الكتاب: موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام إعداد: مجموعة من الباحثين بإشراف الشيخ عَلوي بن عبد القادر السقاف الناشر: موقع الدرر السنية على الإنترنت dorar.net عدد الأجزاء: 10   تم تحميله في/ ربيع الأول 1433 هـ   [الكتاب مرقم آليا] ---------- موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام - الدرر السنية مجموعة من المؤلفين الكتاب: موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام إعداد: مجموعة من الباحثين بإشراف الشيخ عَلوي بن عبد القادر السقاف الناشر: موقع الدرر السنية على الإنترنت dorar.net عدد الأجزاء: 10   تم تحميله في/ ربيع الأول 1433 هـ   [الكتاب مرقم آليا] ـ[موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام]ـ إعداد: مجموعة من الباحثين بإشراف الشيخ عَلوي بن عبد القادر السقاف الناشر: موقع الدرر السنية على الإنترنت dorar.net عدد الأجزاء: 10 تم تحميله في/ ربيع الأول 1433 هـ [الكتاب مرقم آليا] الباب الأول: مقدمة في الفرق • الفصل الأول: الهدف من دراسة الفرق . • الفصل الثاني: أهمية دراسة الفرق ورد شبهة من يريد عدم دراستها. • الفصل الثالث: تعريف الافتراق والفرق بينه وبين الاختلاف. • الفصل الرابع: النهي عن التفرق. • الفصل الخامس: أسباب التفرق. • الفصل السادس: مضار الفرقة في الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة. • الفصل السابع: حصر الفرق في العدد المذكور في حديث الافتراق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 الفصل الأول: الهدف من دراسة الفرق دراستنا للفرق ليس إقراراً أو فرحاً بها، أو شماتة بالآخرين، وإنما ندرسها مع أسفنا الشديد للتفرق الحاصل بين المسلمين، والذي نرجو من وراء هذه الدراسة أن تحقق أهدافاً طيبة في خدمة الإسلام، وفي كسر حدة الخلافات التي مزقت المسلمين وفرقتهم إلى فرق وأحزاب. والتي تهدف كذلك إلى جمع كلمتهم، ولفت أنظارهم إلى مواقع الخلاف فيما بينهم؛ ليبتعدوا عما وقع فيه من سبق من هذه الأمة، فإن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل، فهي نوع من أنواع العلاج لتلك المآسي الحالَّة بالمسلمين، وسبب من الأسباب التي تبذل لينفع الله بها إن شاء؛ لأن معرفة الدواء النافع يتوقف على معرفة الداء. ولا يحتاج المسلمون لجمع كلمتهم، وإعادة مجدهم وعزهم وانتصارهم على جحافل الكفر والطغيان إلا إلى العودة الصادقة والنية الخالصة، فإن الأسس التي قام عليها عز الإسلام والمسلمين فيما سبق لا تزال كما هي قائمة قوية جديدة على مر الأيام والليالي - كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. وتلك الأهداف التي نتطلع إلى تحقيقها كثيرة نذكر أهمها فيما يأتي: 1 - تذكير المسلمين بما كان عليه أسلافهم من العزة والكرامة والمنعة حينما كانوا يداً واحدة، وقلباً واحداً. 2 - لفت أنظارهم إلى الحال الذي يعيشونه، ومدى ما لحقهم من الخسارة بسبب تفرقهم. 3 - توجيه الأمة الإسلامية إلى الوحدة فيما بينهم، وذلك بالتركيز على ذم التفرق وبيان مساوئه، وبيان محاسن اتحاد المسلمين، وجمعهم على طريق واحد. 4 - تبصير المسلمين بأسباب الخلافات التي مزقتهم فيما سبق من الزمان ليجتنبوها بعد أن يتدارسوها فيما بينهم بعزم قوي وصدق نية. 5 - معرفة ما يطرأ على العقيدة الإسلامية الصحيحة من أفكار وآراء هدامة مخالفة لحقيقة الإسلام بعيدة عن طريقه الواضحة. 6 - رصد تلك الحركات والأفكار التي يقوم بها أولئك الخارجون عن الخط السوي والصراط المستقيم؛ لتعرية دورهم الخطر في تفريق وحدة الأمة الإسلامية بتعريف الناس بأمرهم، وجلاء حقيقتهم للتحذير منهم، وبيان ما يقومون به من خدمة تلك الأفكار وترويجها. ذلك أنه ما من بلاء كان فيما سبق من الزمان إلا وهو موجود اليوم في وضوح تام؛ فلكل قوم وارث (1). 7 - حتى تبقى الفرقة الناجية علماً يهتدى به بعيدة عن تلك الشوائب الطارئة على العقيدة. 8 - وصل حاضر هذه الأمة بماضيها، وبيان منشأ جذور الخلافات بينهم والتي أدت إلى تفرقهم فيما مضى من الزمان للتحذير منها، وللرد على أولئك الذين يحاولون دعوة المسلمين إلى قطع صلتهم بماضيهم، والبناء من جديد كما يزعمون. 9 - ثم إن دراستنا للفرق وإن كان يبدو عليها أنها بمثابة جمع لتراث الماضين- فإنه يراد من وراء ذلك دعوة علماء المسلمين إلى القيام بدارسته وفحصه واستخراج الحق من ذلك، واستبعاد كل ما من شأنه أن يخرج بالمسلمين عن عقيدتهم الصحيحة أو يفرق كلمتهم. وهذا فيما أرى هو أنجح الطرق وأقربها إلى إشعار المخالفين بالإنصاف وطلب الحق للاستدلال على خلافهم وخروجهم عن الصواب من كتبهم ومن كلام علمائهم لقطع كل حجة مخالفة بعد ذلك. والتأليف في شأن الفرق يحتاج إلى: إثبات ما نقل عن الفرقة إليها والتأكد من نسبته وأخذ ذلك من مصادره الموثوقة ثم فهمه على الوجه الصحيح ثم نقد آراء تلك الفرقة على وفق منهج أهل السنة والجماعة مع لزوم الإنصاف والصدق والتجرد عن الهوى والعصبية وتعر من ثوبين من يلبسهما ... يلقى الردى بمذمة وهوان ثوب من الجهل المركب فوقه ... ثوب التعصب بئست الثوبان وتحل بالإنصاف أفخر حلة ... زينت بها الأعطاف والكتفان واجعل شعارك خشية الرحمن ... مع نصح الرسول فحبذا الأمران (2) المصدر: مقدمة محقق كتاب الفوائد المجتمعة في بيان الفرق الضالة والمبتدعة لإسماعيل بن عبد الباقي اليازجي تقديم الدكتور يوسف بن محمد السعيد - ص8 - 9   (1) قال ولي الله الدهلوي: "إذا قرأت القرآن فلا تحسب أن المخاصمة كانت مع قوم انقرضوا، بل الواقع أنه ما من بلاء كان فيما سبق من الزمان إلا وهو موجود اليوم بطريق الأنموذج بحكم الحديث: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) الحديث أخرجه الترمذي (جـ 4 ص 475). (2) هذه الأبيات لابن القيم في قصيدته المسماة ((الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية)) (19). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 الفصل الثاني: أهمية دراسة الفرق ورد شبهة من يريد عدم دراستها بيّنّا فيما مضى بعض الأهداف التي ندرس الفرق من أجلها، ونجيب هنا عن شبهة لكثير من الناس ربما يرددها بعضهم منخدعاً بحسن نية، والبعض الآخر يرددها بنية سيئة. وهي: لماذا نشغل أنفسنا بدراسة فرق انتهت، وربما لم يعد لها ذكر على الألسنة ... وقد رد العلماء عليها قديماً وحديثاً وانتهى الأمر؟ والجواب: إن هذا التساؤل قد انطوى على مغالطات خفية ونية سيئة، أو جهل شنيع، وذلك: أولاً: إن هذه الفرق وإن كانت قديمة فليست العبرة بأشخاص مؤسسي تلك الفرق ولا بزمنهم، ولكن العبرة بوجود أفكار تلك الفرق في وقتنا الحاضر. فإننا إذا نظرنا إلى فرقة من تلك الفرق الماضية نجد أن لها امتداداً يسري في الأمة سريان الوباء. وأقرب مثال على ذلك فرقة المعتزلة، أليس أفكارهم لا زالت حية قوية يتشدق بها بعض المغرضين من الذين استهوتهم الحضارة الغربية أو الشرقية، فراحوا يمجدون العقل ويحكمونه في كل الأمور، ويصفون من يعتمد على ما وراء ذلك بالتأخر والانزواء. إنهم يريدون الخروج عن النهج الإسلامي ولكنهم لم يجرءوا صراحة على ذلك، فوجدوا أن التستر وراء تلك الآراء التي قال بها من ينتسب إلى الإسلام خير وسيلة لتحقيق ذلك، فذهبوا إلى تمجيد تلك الأفكار لتحقيق أهدافهم البعيدة. ثانياً: مما هو معلوم أن كل الأفكار والآراء التي سبقت لها أتباع ينادون بتطبيقها، فالنزعة الخارجية وتنطع أهلها في الدين، واستحلال دماء المسلمين لأقل شبهة، وتكفيرهم الشخص بأدنى ذنب - قائمة الآن في كثير من المجتمعات الإسلامية على أشدها، موهمين الشباب ومن قلت معرفته بالدين أن الدين هو هذا المسلك فقط. كذلك نرى الصوفية وقد اقتطعت من المسلمين أعداداً كثيرة، مثقفين وغير مثقفين، جَرَفَهُم التيار الخرافي فراحوا ينادون بالجهل والخرافات، واتباع المنامات، وتحضير الأرواح، ومعرفة المغيبات، وتعظيم الأشخاص والغلو فيهم. وغير ذلك من مسالك الصوفية التي سندرسها بالتفصيل إن شاء الله تعالى. وعلى هذا، فدراستنا هذه وإن كانت في ظاهرها دراسة للماضي، ومراجعة للتاريخ لفرق المبتدعة الذين جَنَوا على ماضي المسلمين إلا أنها دراسة حاضرة كذلك من حيث إنها تكشف جذور البلاء الذي شتت قوى المسلمين وفرقهم شيعاً، وجعل بأسهم بينهم شديداً، بل هي نور يضيء لشبابنا طريقه وسط هذا الظلام الفكري المفتعل، الذي لا يخدم إلا أعداء الإسلام وشانئيه بتوجيه الأنظار إلى تلك الفرق التي تعمل في الظلام لنشر أفكارها، وفرض مخططاتها المعادية للإسلام. ثالثاً: إن دراسة الفرق والدعوة إلى الاجتماع واتحاد كلمة المسلمين -فيه تكثير لعدد الفرقة الناجية بانضمام أولئك الخارجين عن الحق ووقوفهم إلى جانب إخوانهم أهل الفرقة الناجية؛ فيكثر عددهم فيصح فيهم ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من قيام فرقة من المسلمين: ((ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك)) (1) وتَرْكُنا لدراسة الفرق يفوِّت علينا هذا الخير العظيم. رابعاً: أضف إلى ذلك أن ترك الناس دون دعوة إلى التمسك بالدين الصحيح، ودون بيان أضرار الفرق المخالفة، فيه إبطال لما فرضه الشرع من القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الفرق التي ظهرت، ما من فرقة منها إلا وقد قامت مبادئها على كثير من المنكرات، وهي تدعي أنها هي المحقة وما عداها على الضلال، فألبسوا الحق بالباطل، وأظهروا مروقهم وخروجهم وفجورهم عن منهج الكتاب والسنة في أثواب براقة لترويج بدعهم، والدعوة لها.   (1) رواه مسلم (1920). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 خامساً: إن عدم دراسة الفرق والرد عليها وإبطال الأفكار المخالفة للحق، ففيه إفساح المجال للفرق المبتدعة أن تفعل ما تريد، وأن تدعو إلى كل ما تريد من بدع وخرافات دون أن تجد من يتصدى لها بالدراسة والنقد كما هو الواقع؛ فإن كثيراً من طلاب العلم- فضلاً عن عوام المسلمين- يجهلون أفكار فرق يموج بها العالم، وهي تعمل ليلاً ونهاراً لنشر باطلهم، ولعل هذه الغفلة من المسلمين عن التوجه لكشف هذه الفرق المارقة لعله من تخطيط أولئك المارقين الذين نجحوا في حجب الأنظار عنهم وعن مخططاتهم الإجرامية. ولا أدل على ذلك من أنك تجد بعض الأفكار وبعض العبارات يرددها كثير من المسلمين دون أن يعرفوا أن مصدرها إما من المعتزلة (1)، أو من الصوفية (2)، أو البهائية (3)، أو القاديانية (4)، أو الخوارج (5)، أو الشيعة (6)، إلى غير ذلك. ومن المعلوم أن ذلك إنما يعود إلى الجهل بأفكار هذه الطوائف (7).   (1) مثل تقديس المعتزلة للعقل، وجعله هو الحكم الفاصل في كل قضية، وتقديمه على النصوص. (2) مثل إطلاق لفظ العشق على الله أو الرسول صلى الله عليه وسلم كقولهم: ((عاشق النبي يصلي عليه)). (3) مثل تقديس العدد 19. (4) مثل تأويل آيات القرآن بالهوى. (5) مثل تكفير المجتمعات الإسلامية. (6) مثل بغضهم الصحابة، ومثل انتظار محمد بن الحسن العسكري، ومثل المبالغة في حب الحسين ... إلخ. (7) انظر: كتاب مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين وتفرقهم، تأليف محمد العبدة، وطارق عبد الحكيم ص27، 28 وكذا ص36 - 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 المبحث الأول: تعريف الافتراق لغة واصطلاحا الافتراق لغةً: خلاف الجماعة والاجتماع والجمع، قال تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103]، أي: بعد الاجتماع، فالافتراق نقيض الاجتماع، ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) (1) أي: عن مجلسهما فينفصل أحدهما عن الآخر، والافتراق: الانقسام، والفرق: الفلْق، والفلق من الشيء إذا انفلق منه، ومنه قوله تعالى: فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63]، والمفارقة: المباينة، وفارق الشيء مفارقةً وفراقاً: باينه، والاسم الفرقة، وتفارق القوم: فارق بعضهم بعضاً، والفرقة: الطائفة من الناس، والفريق أكثر منه، وفِرَقٌ: جمع فرقة، والفِراق: التفريق بين الشيئين والفصل بينهما، والتفرق والافتراق سواء، ومنهم من يجعل التفرق للأبدان، والافتراق في الكلام، يقال: فرّقتُ بين الكلامين فافترقا وفرّقت بين الرجلين فافترقا، والتفرق والتفرقة: التبديد والتمزيق، يقال: فرّقه تفريقاً وتفرقه أي بدده. وفي الجملة: أن الافتراق في اللغة يدور حول معاني: المفارقة، الانقطاع، التفرق، المفاصلة، الانفصال، الشذوذ، المباينة، الانقسام والتيه، والضياع، والضلال، المقاطعة، التشعب، الخروج عن الجادة وعن الأصل وعن الأكثر وعن الجماعة، التغيير (2). الافتراق في الاصطلاح: يطلق على أمور منها: 1 - التفرق في الدين والاختلاف فيه ومن ذلك قوله تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تفرقوا [آل عمران:103]، وقوله: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ [آل عمران:105]، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [الأنعام:159]، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ((إنما هلك من كان قبلكم من الأمم باختلافهم في الكتاب)) (3).2 - الافتراق عن جماعة المسلمين وهم عموم أمة الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة وهم أهل السنة ومن كان على هديهم بعد ظهور الافتراق فمن خالف سبيلهم في أمر يقتضي الخروج عن أصولهم في الاعتقاد أو الشذوذ عنهم في المناهج أو الخروج على أئمتهم أو استحلال السيف فيهم فهو مفارق, وفيه قوله عليه الصلاة والسلام: ((من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات مات ميتة جاهلية ومن قتل تحت راية عمية يغضب للعصبة ويقاتل للعصبة فليس من أمتي ومن خرج من أمتي على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاش من مؤمنها ولا يفي بذي عهدها فليس مني)) (4). فذكر عليه الصلاة والسلام أصنافاً من المعارضين الخارجين: 1 - المفارقون للجماعة (5). 2 - الخارجون عن الطاعة. 3 - الخارجون عن الأمة بالسيف. 4 - المقاتلون تحت راية عمية وهو الأمر الأعمى الذي لا يستبين وجهه، ومنه قتال العصبية، والفتنة، والقوميات، والشعارات، والحزبيات ونحوها. فالخروج عن أهل السنة والجماعة ولو في أصل واحد من أصول الدين الاعتقادية أو العملية المتعلقة بالقطعيات، أو بمصالح الأمة العظمى أو بهما معاً فإنه يعتبر تفرقاً؛ فالضابط في الافتراق أنه يؤدي إلى الفتن، والتفرق، والقتال، والبغي، والبدع، وبذلك يتضح أن أهل الافتراق هم أهل الأهواء والبدع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والبدعة مقرونة بالفرقة، كما أن السنة مقرونة بالجماعة، فيقال: أهل السنة والجماعة كما يقال: أهل البدعة والفرقة. ثم قال: وإنما المقصود هنا التنبيه على وجه تلازمهما: موالاة المفترقين، وإن كان كلاهما فيه بدعة وفرقة (6). المصدر: تناقض أهل الأهواء والبدع في العقيدة لعفاف بنت حسن بن محمد مختار – 1/ 39 - الضابط في الافتراق: يحكم بالمفارقة على كل من خرج عن سبيل أهل السنة والجماعة في أصل مما عدوه من أصول الدين، أو قاعدة من قواعده أو خالف في فروعٍ كثيرة وجزئيات متعددة مخرجة عن سمة أهل السنة وهديهم؛ كبدع الشعائر والعبادات إذ كثرت، وهذا ما وضحه شيخ الإسلام رحمه الله من جعل العادة التي يتقرب بها إلى الله بدعة كاتخاذ لبس الصوف عبادةً وطريقاً إلى الله. المصدر: تناقض أهل الأهواء والبدع في العقيدة لعفاف بنت حسن بن محمد مختار – 1/ 46   (1) رواه البخاري (2079)، ومسلم (1532). من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه. (2) ((لسان العرب)) لابن منظور، و ((الصحاح)) للجوهري. مادة (فرق). (3) رواه مسلم (2666). من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (4) رواه مسلم (1848). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (5) ((الافتراق مفهومه، أسبابه)) للدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل (ص6). (6) ((الاستقامة)) (1/ 42). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 المبحث الثاني: الفرق بين الافتراق والاختلاف تعريف الاختلاف في اللغة: تدور مادة خلف في اللغة حول أصول ثلاثة: 1 - أن يجيء شيء بعد شيء يقوم مقامه (1)؛ قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً [الفرقان:62] فالليل يجيء بعد النهار ويقوم مقامه، والنهار يجيء بعد الليل ويقوم مقامه. وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ [الأنعام:165] أي: أمة تجيء بعد أمة وتقوم مقامها.2 - عكس قدام (2)؛ قال تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [البقرة:255]، ومنه التأخر لقصور المنزلة، كما في قوله تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [الأعراف:169]. 3 - التغير؛ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: ((لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)) (3)، أي لتغير رائحة فم الصائم بسبب خلو المعدة عند الله أطيب من ريح المسك. والأصل الأول هو المقصود هنا، يقال: اختلف الناس في كذا أي: مختلفون لأن كل واحدٍ منهم ينحّي قول صاحبه ويقيم نفسه مقام الذي نحاه. الاختلاف في الاصطلاح: أُطلقت (4) كلمة الاختلاف في اصطلاح التدوين على العلم الذي يبحث في الاختلافات الشرعية الفقهية خاصة؛ واشتهر عندهم بعلم الخلاف وعُرِّف بأنه (5): علم باحث عن وجوه الاستنباطات المختلفة من الأدلة الإجمالية أو التفصيلية الذاهب إلى كل منها طائفة من العلماء, ثم البحث عنها بحسب الإبرام والنقض. وعُرِّف أيضاً بأنه: علم يعرف من كيفية إيراد الحجج الشرعية ودفع الشبهة وقوادح الأدلة الخلافية بإيراد البراهين القطعية (6).ومن التعاريف: هو منازعة تجري بين المتعارضين لتحقيق جواز إبطال باطل (7).وعرَّفه الراغب بقوله: الخلاف والاختلاف والمخالفة أن يأخذ كل واحد طريقاً غير طريق الأول في فعله أو حاله (8). فالتعريف في الاصطلاح لم يخرج عن المعنى اللغوي ولكنه جاء خاصاً بالمقاصد الشرعية والفقهية على الخصوص فالاختلاف يكون في الفقه، والافتراق في العقيدة، ولذا يظهر إدراك الفرق بين الاختلاف والافتراق حيث يجب أن يُعنى به أهل العلم، حيث نجد بعض الدعاة وبعض شباب الصحوة الذين لم يكتمل فقههم في الدين لا يفرّقون بين مسائل الخلاف ومسائل الافتراق. ومن هنا قد يرتب بعضهم على مسائل الاختلاف مسائل الافتراق وهذا خطأ فاحش أصله الجهل بأصول الافتراق، ومتى يكون؟ وكيف يكون؟ ومن الذي يحكم بمفارقة شخص أو جماعة ما؟ ولذا يجب ذكر بعض الفروق بين الاختلاف والافتراق ومنها (9): 1 - إن الافتراق أشد أنواع الاختلاف بل هو من ثمار الخلاف إذ قد يصل الخلاف إلى حد الافتراق وقد لا يصل، فالافتراق اختلاف وزيادة لكن ليس كل اختلاف افتراق.   (1) ((معجم مقاييس اللغة)) (2/ 210 - 211)، ((التوقيف على مهمات التعاريف)) (ص322 - 323). (2) انظر: ((بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)) لمجد الدين الفيروزآبادي (2/ 561 - 562). (3) رواه البخاري (1894)، ومسلم (1151). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (4) ((مقدمة ابن خلدون)) لابن خلدون (ص421 - 422). (5) ((أبجد العلوم)) لصديق حسن خان (2/ 278). (6) ((الكليات)) (ص710 - 711). (7) ((التوقيف على مهمات التعاريف)) (ص322). (8) ((المفردات في غريب القرآن)) (ص155 - 157). (9) ((الافتراق)) للدكتور ناصر العقل (ص8). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 2 - إن الافتراق غالبا يكون بعد العلم بالبينات كما قال تعالى إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران: 19] وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران: 105].3 - إن الافتراق يؤدي إلى الهلاك لصاحبه ومن يتبعه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا, وفي رواية: فأَهلَكُوا)) (1) - بفتح اللام وفي رواية بضم أوله وكسر اللام - وأما الاختلاف لا يوصل صاحبه إلى التهلكة لكونه لم يقصد الفرقة وإنما حصل ذلك لسوء فهم أو تأويل، أو جهل, قال تعالى: فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ [البقرة:213]، وقال: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ [النحل:64].4 - إن الاختلاف قد يكون عن اجتهاد وعن حسن نية وقد يؤجر المخطئ، بينما الافتراق لا يكون عن حسن نية، وصاحبه لا يؤجر بل هو مذموم وآثم على كل حال. لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد)) (2).5 - إن من الاختلاف ما لا يصل إلى حد الافتراق ولا التنازع في الدين، يقول الشاطبي: ووجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده قد اختلفوا في أحكام الدين، ولم يتفرقوا ولا صاروا شيعاً لأنهم لم يفارقوا الدين وإنما اختلفوا فيما أذن هم من اجتهاد في الرأي والاستنباط من الكتاب والسنة فيما لم يجدوا فيه نصاً (3).أما الافتراق فيؤدي إلى التنازع والقتال والتكفير ومن ثم دخول النار, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)) (4).   (1) رواه البخاري (2410). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. والرواية الأخرى رواها البخاري (5062) بلفظ: (أهلكهم) وليس (أهلكوا). (2) رواه البخاري (7352)، ومسلم (1716). من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه. (3) ((الاعتصام)) للشاطبي (2/ 231 - 232). (4) رواه ابن ماجه (3993)، وأحمد (3/ 120) (12229)، وأبو يعلى (7/ 32)، كلهم بلفظ: (ثنتين وسبعين فرقة)، والطبراني في ((الأوسط)) (8/ 22) واللفظ له. من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال العراقي في ((الباعث على الخلاص)) (16): إسناده صحيح, وقال ابن كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (1/ 27): إسناده جيد قوي على شرط الصحيح. وقال السخاوي في ((الأجوبة المرضية)) (2/ 569): رجاله رجال الصحيح. وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). والحديث روى شطره الأول أبو داود (4596)، والترمذي (2640) وابن ماجه (3991)، وأحمد (2/ 332) (8377). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، بلفظ: ((افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)) والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن صحيح. والحديث روي أيضا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه بلفظ: ((وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا ومن هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي)) رواه الترمذي (2641) وقال: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه .. وقال البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 185): ثابت. وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بلفظ: ((وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة يعني الأهواء كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة)). رواه أبو داود (4597)، وأحمد (4/ 102) (16979)، والطبراني (19/ 376)، والحاكم (1/ 218). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: هذه أسانيد تقام به الحجة في تصحيح هذا الحديث. وصححه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 400) – كما أشار لذلك في المقدمة -. وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده حسن وحديث افتراق الأمة منه صحيح بشواهده. وحسنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). وعوف بن مالك رضي الله عنه بلفظ: ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة وسبعون في النار)). رواه ابن ماجه (3992)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (63). قال ابن كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (1/ 27): إسناده لا بأس به. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 6 - إن كل افتراق اختلاف، وليس كل اختلاف افتراق، فكثير من المسائل التي يتنازع فيها المسلمون هي من المسائل الخلافية، ولا يجوز الحكم على المخالف فيها بالكفر ولا المفارقة ولا الخروج من السنة. 7 - الافتراق مذموم كله والاختلاف ليس كله مذموماً. 8 - الاختلاف يعذر صاحبه إذا كان مجتهداً والافتراق لا يعذر صاحبه، لأنه لا يكون إلا عن اتباع هوى أو ابتداع أو تقليدٍ مذمومٍ. 9 - الافتراق إنما يكون في الأصول الاعتقادية والقطعيات التي لا يسع الخلاف فيها والتي تثبت بنص قاطع، أو بإجماع، أما الاختلاف يكون فيما دون الأصول مما يقبل التعدد والرأي. 10 - إن الافتراق يتعلق به الوعيد وكله شذوذ، أما الاختلاف فليس كذلك. 11 - الافتراق يكون دائماً عن هوى أو بدعة أما الاختلاف فلا يلزم منه ذلك. 12 - الاختلاف قد يكون رحمةً وأهله ناجون إن شاء الله تعالى، والفرقة عذاب وأهلها متوعدون، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: والنزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلى شرٍ عظيم من خفاء الحكم (1). 13 - إن مسائل الاختلاف قد تكون من الأمور المأذون فيها بالاجتهاد، أما مسائل الافتراق فهي في الأمور التي حذر الشارع من الاقتراب منها. 14 - إن أهل الافتراق غالباً يعتمدون على المتشابه من الأدلة كما قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]، أما أهل الاختلاف فعادةً يكون بسبب عدم فهم الدليل أو غير ذلك. 15 - إن أهل السنة لا يذمون من اختلف وقصده الاجتهاد وكان معروفاً بالذكر الجميل والثناء الحسن مع العمل الصالح ونصرة السنة والذب عنها أما المفترق الذي قضى عمره في الصد عن سبيل الله ومحاربة السنة ونشر البدعة فيذمونه ويبدعونه (2). المصدر: تناقض أهل الأهواء والبدع في العقيدة لعفاف بنت حسن بن محمد مختار – 1/ 41   (1) ((مجموع الفتاوى)) (14/ 159). (2) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص322 - 323). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 المبحث الأول: النصوص التي جمعت بين الأمر بالجماعة والنهي عن الفرقة في موضع واحد لقد وردت نصوص عدة تأمر بالجماعة وتثني بالنهي عن الفرقة في موضع واحد مع أن الأمر بالجماعة يستلزم النهي عن الفرقة, والنهي عن الفرقة يستلزم الأمر بالجماعة ولو لم يذكر ذلك فكل من أمر بشيء فقد نهى عن فعل ضده, ومن نهى عن فعل فقد أمر بفعل ضده (1) مما يؤكد وجوب الأمر بالجماعة وترك الفرقة والنهي عنها, ومن هذه النصوص قول الله تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 103] ففي هذه الآية أمرنا الله عز وجل بالجماعة ونهانا عن التفرقة (2) يقول الإمام محمد بن جرير الطبري في تأويل قوله تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وتعلقوا بأسباب الله جميعا يريد بذلك تعالى ذكره: وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به وعهده الذي عهده إليكم في كتابه من الألفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر الله. (3) ويقول الإمام القرطبي رحمه الله في معنى الآية: فإن الله يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة فإن الفرقة هلكة والجماعة نجاة (4). وقال ابن عباس رضي الله عنهما لسماك الحنفي: يا حنفي الجماعة الجماعة!! فإنما هلكت الأمم الخالية لتفرقها, أما سمعت الله عز وجل يقول: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103] (5).وهذا الأمر بالجماعة عام للأمة في كل زمان وكل مكان هذا حالهم أن يكونوا مجتمعين بحبل الله, فالله سبحانه وتعالى أمرهم بأن يعتصموا بحبل الله جميعا، وجميعا: منصوب على الحال أي: كونوا مجتمعين على الاعتصام بحبل الله (6).وفي هذه الآية وبعد أن أمرهم سبحانه بالجماعة والتمسك بها إذ به منعتهم وأمنهم، نهاهم عن الفرقة فقال ولا تفرقوا أي: لا تتفرقوا عن دين الله وعهده الذي عهد إليكم في كتابه من الائتلاف والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إلى أمره (7).يقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة فإنهما حبل الله الذي أمر به, وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة هو خير مما تستحبون في الفرقة (8).   (1) ([32]) انظر ((الفتاوى)) لابن تيمية (11/ 368) و (10/ 300) ((روضة الناظر وجنة المناظر)) لموفق الدين عبدالله بن قدامة المقدسي (25ـ 26). (2) ([33]) انظر ((تفسير ابن كثير)) (1/ 367) 0 ((فتح القدير)) للشوكاني (1/ 367). (3) ([34]) ((تفسير الطبري)) (4/ 21) وذكر المفسرون في المراد بحبل الله ستة أقول: فقيل إن المراد بالحبل: كتاب الله: القرآن، الثاني: إنه الجماعة، الثالث: إنه دين الله وهو الإسلام، الرابع: عهد الله، الخامس: إنه الإخلاص، والسادس: إنه أمر الله وطاعته. وهذا اختلاف في المراد بالحبل في الآية هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد إذ المعنى كله متقارب متداخل. انظر ((زاد المسير في علم التفسير)) لابن الجوزي (1/ 433) وانظر ((تفسير القرطبي (4/ 102. (4) ([35]) انظر ((تفسير القرطبي)) (4/ 102). (5) ([36]) انظر ((تفسير القرطبي)) (4/ 105). (6) ([37]) انظر ((زاد المسير)) لابن الجوزي (1/ 433). (7) ([38]) ((تفسير القرطبي)) (4/ 21) (8) ([39]) ((تفسير الطبري)) (4/ 22)، ((الشريعة)) للآجري (1/ 299). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 ومعنى نهيه تعالى عن الفرقة في قوله: ولا تفرقوا: أي لا تفرقوا في دينكم كما افترقت اليهود والنصارى في أديانهم ولا تفرقوا متابعين للهوى والأغراض المختلفة (1).ويجب أن يعلم المؤمن أن الاجتماع على الحق والبعد عن الفرقة مما أمرنا الله به ورضيه لنا ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ويكره لكم ثلاثا: قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال)) (2).فالله سبحانه حثنا على الاجتماع وأمرنا بلزوم جماعة المسلمين وتألف بعضهم ببعض وهذه إحدى قواعد الإسلام (3). ولكن لا يكون الاجتماع لمجرد الاجتماع, فالأمر بالاجتماع ليس اجتماع على أي شيء أو اجتماع على لا شيء, بل اجتماع على الدين اجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر الله الاجتماع على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والعمل بنصوص الشريعة كلها. وفي هذا رد على كل مدعٍ مطالب باجتماع الأمة لمجرد الاجتماع والسكوت عن باطل المخالف من أهل الأهواء وترك الإنكار عليه في بدعته حتى لا يتعكر صفو هذا الاجتماع أو التقارب المزعوم ورحم الله الإمام القرطبي إذ يبين الأساس الذي ينبغي أن يكون عليه الاجتماع وبه تتحقق وحدة الصف فيقول: فأوجب الله تعالى علينا التمسك بكتابه وسنة نبيه والرجوع إليهما عند الاختلاف وأمرنا بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقادا وعملا وذلك سبب اتفاق الكلمة وانتظام الشتات الذي يتم به مصالح الدنيا والدين والسلامة من الاختلاف. ويسبق الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله القرطبي في هذا المعنى ويبين أن اجتماع الأبدان ليس بمعتبر ولا مقصود بل المقصود والمعتبر الاجتماع على طاعة الله ورسوله الاجتماع على الحق فيقول بعد أن بين أن الأمر بلزوم جماعة المسلمين ليس له إلا معنى واحد ذلك أنه: إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان فلا يقدر أحد أن يلزم جماعة أبدان قوم متفرقين وقد وجدت الأبدان تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين ولأن اجتماع الأبدان لا يصنع شيئا فلم يكن للزوم جماعتهم معنى إلا ما عليهم جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم ومن خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أمر بلزومها (4).   (1) ([40]) انظر ((تفسير القرطبي)) (4/ 103). (2) ([41]) رواه مسلم (1715). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) ([42]) انظر ((صحيح مسلم بشرح النووي)) (12/ 11) بتصرف. (4) ([43]) ((تفسير القرطبي)) (4/ 105). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 ومما ورد في الأمر بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة في موضع واحد قوله تعالى وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153] يقول عبدالله بن عباس رضي الله عنهما في قوله: فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام:153] وقوله: أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] ونحو هذا في القرآن قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة وأخبرهم إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله (1) يقول الإمام الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: وهذا الذي وصاكم به ربكم أيها الناس ... وأمركم بالوفاء به هو صراطه يعني طريقه ودينه الذي ارتضاه لعباده مستقيما قويما لا اعوجاج به عن الحق فاعملوا به واجعلوه لأنفسكم منهاجا تسلكونه ولا تسلكوا طريقا سواه ولا تركبوا منهجا غيره ولا تتبعوا دينا خلافه من اليهودية والنصرانية والمجوسية وغير ذلك من الملل فإنها بدع وضلالات (2) نعم إن الجماعة والائتلاف لا تتحقق إلا بوحدة المعتقد ووحدة المنهج والسلوك عندها يتحقق للأمة الاجتماع على الحق والسير على الصراط المستقيم الذي وصاهم ربهم به   (1) ([44]) انظر ((الرسالة)) له تحقيق أحمد شاكر (475) باختصار وتصرف. (2) ([45]) ((تفسير القرطبي)) (8/ 64). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 والفرقة تقع في الأمة حينما تتعدد المناهج وتتعدد الطرق لذلك بين الله عز وجل لهم أن طريق الحق واحد وأن السبيل إلى الاجتماع واحد وهو السير على الصراط المستقيم أما إن أبو ذلك فإن السبل ستتخطفهم ويتشعبوا في الضلالات والبدع وواقع الأمة الآن شاهد على ذلك. يقول الإمام إسماعيل بن كثير رحمه الله: قوله تعالى: فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ [الأنعام:153] قال: إنما وحد سبيله لأن الحق واحد ولهذا جمع السبل لتفرقها وتشعبها (1) وهذه السبل بين معناها عبدالله بن عباس ترجمان القرآن رضي الله عنه فقال: لا تتبعوا الضلالات (2) وفي الحديث عن عبدالله بن مسعود قال: ((خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطاً، ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن يساره ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها"ثم قرأ هذه الآية)) (3) ويفسر عبدالله بن مسعود رضي الله عنه هذا الحديث وذلك أن رجلا قال لابن مسعود: ما الصراط المستقيم؟ قال تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه وطرفه في الجنة وعن يمينه جواد وعن يساره جواد وثمّ رجال يدعون من مر بهم فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار ومن أخذ على الصراط المستقيم انتهى به إلى الجنة ثم قرأ ابن مسعود: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153] (4).وفي حديث النواس بن سمعان الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران بينهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تتفرقوا، وداع يدعو فوق الصراط، فإذا أراد إنسان فتح شيء من تلك الأبواب قال له: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه, فالصراط: الإسلام, والستور: حدود الله، والأبواب: محارم الله، والداعي على رأس الصراط: كتاب الله تعالى والداعي من فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم)) (5) فانظر رعاك الله أيها المسلم كيف أمرنا الله عز وجل بسلوك هذا الصراط المستقيم والدخول فيه والاجتماع عليه إذ لا يحيد عنه إلا مفارق لهؤلاء المجتمعين عليه من المسلمين فقال: يا أيها الناس ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ولا تفرقوا. نعم جميعا ولا شيء يجمع المسلمين بحق غير الإسلام الانقياد للإسلام والعمل بشرائعه كلها وتطبيق أحكامه على مناحي الحياة وعلى الأفراد سواسية ... فدين الإسلام لا يقبل التجزئة وما حلت النكبات بالأمة وابتلوا وعذبوا بالفرقة إلا لما شابهوا أهل الكتاب في الإيمان ببعض الكتاب وترك البعض. المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص121 - 127   (1) ([46]) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 182). (2) ([47]) ((تفسير القرطبي)) (8/ 65). (3) ([48]) رواه أحمد (1/ 435) (4142)، والدارمي (1/ 78)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 343)، والحاكم (2/ 348). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 131) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال أحمد شاكر في ((المسند)) (6/ 89): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((شرح العقيدة الطحاوية)) (525): صحيح. (4) ([49]) ((تفسير الطبري)) (8/ 65). (5) ([50]) رواه أحمد (4/ 182) (17671)، والحاكم في ((المستدرك)) (1/ 144). وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولا أعرف له علة ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقال ابن كثير في ((تفسيره)) (1/ 43): إسناده حسن صحيح. وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (3887): صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 المبحث الثاني: الأمر بلزوم الجماعة والتحذير من الفرقة تقدم في العنصر الأول أن النصوص سلكت مسلك الجمع بين ذكر الأمر بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة في موضع واحد لتغليظ الأمر في ذلك. وكذلك سلكت النصوص مسلكا آخر حينما أمرت بالجماعة في نصوص ونهت عن الفرقة في نصوص أخرى, وقد سبق أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده والنهي عن شيء يستلزم الأمر بضده. ومن النصوص التي تحث على الجماعة وترغب بلزومها وتبين أجر من لزم ولم يفارق, وتؤكد أن العصمة في وقت الفتن والمحن هو في التمسك بجماعة المسلمين فهي المخرج والمنجي بإذن الله منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد)) (1) فانظر عظم الأجر على لزوم الجماعة بل إن الخير كل الخير فيها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يد الله مع الجماعة ... )) (2) فيد الله مع الجماعة ويد الله على الجماعة ينصرهم ويؤيدهم ويسددهم وهو معهم معية خاصة: معية النصر والتأييد متى ما كانوا مجتمعين على الحق مجتمعين على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومما يبين فضل لزوم الجماعة ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نضر الله عبدا سمع مقالتي هذه فحملها فرب حامل الفقه فيه غير فقيه، ورب حامل الفقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن صدر مسلم: إخلاص العمل لله عز وجل، ومناصحة أولي الأمر ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من روائهم)) (3) ومعنى لا يغل: (بضم الياء وكسر الغين) هو من الأغلال: الخيانة في كل شيء. ويروى يُغل بفتح الياء من الغِل وهو الحقد والشحناء: أي لا يدخله حقد يزيله عن الحق. وروى يُغل بالتخفيف: من الوغول: الدخول في الشر والمعنى: أن هذه الخلال الثلاث تستصلح بها القلوب فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والدغل والشر ... (4)   (1) ([51]) رواه الترمذي (2165)، وأحمد (1/ 18) (114)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 388)، والحاكم (1/ 197). من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. وقال ابن حزم في ((أصول الأحكام)) (1/ 593): لم يخرجه أحد ممن اشترط الصحيح ولكنا نتكلم فيه على علاته. وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/ 26): حسن صحيح. وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (2/ 401): له طرق أخر وهو حديث مشهور جدا. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (2) ([52]) رواه الترمذي (2166). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه. وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/ 28): وإن لم يكن لفظه صحيحا فإن معناه صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (3) ([53]) رواه ابن ماجه (236)، وأحمد (3/ 225) (13374). قال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): صحيح لغيره وهذا إسناد حسن. والحديث روي عن جماعة من الصحابة منهم: عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وجبير بن مطعم والنعمان بن بشير رضي الله عنهم وغيرهم عدة. (4) ([54]) انظر ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (3/ 341). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ولقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأمور الثلاثة متوالية فلا بد من إخلاص العمل لله عز وجل يبتغي وجه ربه تعالى وهذا يدفعه لأن يلتزم أمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فيناصح ولاة الأمر. ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) (1) فجعل قاعدة الدين وما يمثله "النصيحة" والنصيحة وتشجيعهم على الحق إن سلكوه وطاعتهم على ذلك وهذا في حق القادرين عليه. وكذلك تكون النصيحة لهم بلزوم جماعتهم وهذا في حق كل أحد (2) ولا تعني مناصحة ولاة الأمر الخروج عليهم بالسيف وقتالهم، فهذا منهي عنه لما يؤدي إليه من الفرقة والفتنة ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم (3) وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم، قيل: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة)) (4) ولذلك عقب في حديث: ((ثلاث لا يغل عليهن ... )) (5) عقب بعد المناصحة لولاة الأمر بالأمر الثالث وهو لزوم جماعتهم. ولقد أمر الله عز وجل نبيه وأمته تبع له بلزوم الجماعة ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات ... )) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع)) (6)   (1) ([55]) رواه مسلم (55). من حديث تميم الداري رضي الله عنه. والحديث روي عن عدد من الصحابة منهم: أبو هريرة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم. (2) ([56]) انظر ((الفتاوى)) (1/ 19)، ((فتح الباري)) (1/ 138)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب الحنبلي (1/ 222). (3) ([57]) معنى يصلون: أي يدعون: انظر ((صحيح مسلم بشرح النووي)) (12/ 245). (4) ([58]) رواه مسلم (1855). من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه. (5) ([59]) رواه ابن ماجه (236)، وأحمد (3/ 225) (13374). قال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): صحيح لغيره وهذا إسناد حسن. والحديث روي عن جماعة من الصحابة منهم: عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وجبير بن مطعم والنعمان بن بشير رضي الله عنهم وغيرهم عدة. (6) ([60]) رواه الترمذي (2863)، وأحمد (4/ 130) (17209)، والحاكم (1/ 582). من حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، قال محمد بن إسماعيل – البخاري - الحارث الأشعري له صحبة وله غير هذا الحديث. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وحسنه ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (1/ 87)، وابن حجر في ((هداية الرواة)) (3/ 464) – كما أشار لذلك في مقدمته-. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 فبهذه الكلمات الخمس التي أمرنا بها يلتئم شمل الجماعة ويستصلح المجتمع ويؤكد الحبيب المصطفى عليه السلام أن النجاة والعصمة من وقوع الفتن يكون بلزوم الجماعة أما إذا انعدمت الجماعة إمامها في وقت الفتنة فلا خير في الفرق والسبل المتشعبة فتعتزل كلها ولا يلتزم بشيء منها لأن الجماعة غير موجودة. فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: ((كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم. وفيه دخن (1) قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها قلت: يا رسول الله صفهم لنا قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قال فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)) (2) ولقد بوب النووي رحمه الله لهذا الحديث وغيره " باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال، وتحريم الخروج من الطاعة ومفارقة الجماعة" (3) ويقول ابن بطال رحمه الله عن هذا الحديث: " فيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين وترك الخروج على أئمة الجور (4).فتبين لك أيها المسلم أهمية لزوم الجماعة ومدى الحاجة إليها فهي من قواعد الدين, والخطر والشر في الفرقة لذا جاء النهي عن الفرقة والتحذير منها في أكثر من موضع: فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((سمعت رجلا قرأ آية وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها فجئت به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فعرفت في وجهه الكراهية وقال: كلاكما محسن ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)) (5) يقول الإمام أحمد بن حجر العسقلاني رحمه الله: " وفي هذا الحديث الحض على الجماعة والألفة والتحذير من الفرقة والاختلاف" (6) ولقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلافهم لأن كلا القراءتين صحيحة حيث قال: ((كلاكما محسن)) فهو مصيب إذ قرأ ما أقرأه رسول الله ونهاهما عن ذلك فقال:   (1) ([61]) المراد بالدخن: الدخان ويشير إلى كدر الحال وقيل الدخن كل أمر مكروه وفي معنى الدخن قيل هو الحقد وقيل الدغل ويشير إلى أن الخير الذي يجيء بعد الشر لا يكون خيرا خالصا بل فيه كدر. انظر ((فتح الباري)) (1/ 36). (2) ([62]) رواه البخاري (3606)، ومسلم (1847). (3) ([63]) انظر ((صحيح مسلم بشرح النووي)) (12/ 237). (4) ([64]) انظر ((فتح الباري)) لابن حجر (13/ 37). (5) ([65]) رواه البخاري (3476). (6) ([66]) انظر ((فتح الباري)) (13/ 102). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ((ولا تختلفوا)) وعلل سبب النهي بقوله: ((فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)) فلما كان الاختلاف يؤدي إلى الفرقة المؤدية إلى الهلكة كرهه عليه الصلاة والسلام ونهى عنه. بل ونهى عن كل سبب يؤدي إليه: ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه)) (1).وقوله: ((ما ائتلفت عليه قلوبكم)) أي: اجتمعت، فاقرؤوه وأنتم مجتمعون عليه معانيه عندما تخشى عليكم الفرقة ووقوع النزاع بينكم فالواجب القيام عنه لذلك قال" فقوموا عنه" أي تفرقوا لئلا يتمادى بكم الاختلاف إلى الشر (2).ولقد كان صلى الله عليه وسلم يغضب ويشتد غضبه عند اختلاف أصحابه في أمر من أمور الدين خشية ما يؤدي إليه من فرقة وهلكة ففي الحديث عن عبدالله بن عمرو قال: ((هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فسمع أصوات رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا في آيَةٍ فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُعْرَفُ في وَجْهِهِ الْغَضَبُ فقال: إنما أهلك من كان قبلكم من الأمم باختلافهم في الكتاب)) (3).ولقد كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم من أشد الناس تحذيرا من الفرقة ونهيا عنها وبيانا لأضرارها يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ناصحا ومرشدا لرعيته: إياكم والفرقة بعدي (4).ويقول معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما في إحدى خطبه محذرا من الفتنة التي تؤدي للفرقة يقول: إياكم والفتنة فلا تهموا بها فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة وتورث الاستيصال (5).ولقد نصح النعمان بن بشير رضي الله عنه أهل المدينة حينما خلعوا بيعة يزيد بن معاوية في نهاية عام 62هـ وحذرهم من عواقب الفرقة ومضارها وما ينتج عنها من سفك للدماء ودمار للديار فقال لهم رضي الله عنه: إن الفتنة يا نعمان على تفريق جماعتنا وفساد ما أصلح الله من أمرنا؟ فقال له النعمان أما والله لكأني وقد تركت تلك الأمور التي تدعو إليها وقامت الرجال على الركب التي تضرب مفارق القوم وجباههم بالسيوف ودارت رحى الموت بين الفريقين وكأني بك قد ضربت جنب بغلتك إلي وخلفت هؤلاء المساكين ـ يعني الأنصارـ يقتلون في سككهم ومساجدهم وعلى أبواب دورهم فعصاه الناس فلم يسمعوا منه فانصرف وكان الأمر والله كما قال سواء (6) المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص127 - 133   (1) ([67]) رواه البخاري (5061)، ومسلم (2667). (2) ([68]) انظر ((فتح الباري)) (13/ 101) بتصرف. (3) ([69]) رواه مسلم (2666). (4) ([70]) انظر ((البداية والنهاية)) لابن كثير (8/ 127). (5) ([71]) انظر ((البداية والنهاية)) (8/ 132). (6) ([72]) انظر ((البداية والنهاية)) (8/ 216) وقد حدث ما حذر منه النعمان رضي الله عنه في وقعة الحرة في أول عام 63هـ إذ أرسل يزيد بن معاوية لأهل المدينة مسلم بن عقبة المزني فقتل من قتل من أهل المدينة. انظر ((البداية والنهاية)) (8/ 217 - 218). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 المبحث الثالث: بيان حال أهل الفرقة والاختلاف إن الحق أبلج, والباطل لجلج, فالحق هو الحق في كل زمان وكل مكان لا يختلف ولا يتغير ولا يتعدد بل هو واحد وما ذاك إلا لوحدة المصدر الذي يستقى منه, إنه من لدن حكيم خبير. لذلك نجد النصوص حين تذكر الصراط تذكره بصيغة الإفراد لأنه واحد كما قال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153] (1). وبلزوم هذا الصراط تتحقق الجماعة ويلتئم شمل الأمة وبمخالفة هذا الصراط والبعد عنه تحدث الفرقة ويجانب المرء الحق والصواب ويرتكب الباطل, هذا الباطل المتعدد المتلون والذي حذرنا الله تعالى منه. قال ابن كثير رحمه الله في هذه الآية "إنما وحد سبيله لأن الحق واحد ولهذا جمع السبل لتفرقها وتشعبها (2). نعم إنها السبل الضلالات المحدثات إنها متعددة متفرقة وهذا حال أهل الفرقة: من حاد عن الصراط المستقيم فهم في فرقة واختلاف وتنازع وشقاق كل واحد منهم يأخذ شقا وجانبا غير جانب وشق الآخر. ولقد وصفهم الله عز وجل بقوله: ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة: 176]. وقال سبحانه: فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 137] وقال عز وجل عن الكافرين: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [الحج: 53].ففي الآيات السابقة يصف الله تعالى حال المخالفين للحق المفارقين له وأنهم في شقاق: شقاق مع الحق وشقاق مع القائمين به والداعين إليه والشقاق في هذه الآيات يأتي بمعان ثلاث (3):1ـ الشقاق بمعنى الخلاف والمعاداة والمنازعة وأصله من الشق وهو الجانب فكأن كل واحد من الفريقين في شق غير شق صاحبه (4) وهذا حال المجانبين للحق المفارقين له من أهل الكفر من الأديان والملل ومن أهل البدع أصحاب الفرقة فهم في شقاق في خلاف ومعاداة ومنازعة للحق وقد وصفهم الله تعالى بقوله: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ [ص: 2]. أي: الخلاف والعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووصف أهل الكتاب من اليهود والنصارى بقوله: فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [البقرة: 137] أي إنهم إنما هم في عصيان وفراق وحرب لله ولرسوله (5). ووصف أهل البدع أصحاب القلوب المريضة بأنهم واقعون في الشقاق فقال سبحانه: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [الحج: 53]. فيجعل الله عز وجل ما يلقيه الشيطان فتنة وضلالة (6) لطائفتين من الناس هما: أـ الذين في قلوبهم مرض: الشك والنفاق. ب ـ والقاسية قلوبهم: وهم المشركون فإن قلوبهم لا تلين للحق أبدا ولا ترجع إلى الصواب بحال (7).   (1) ([73]) ((تفسير الطبري)) (8/ 65). (2) ([74]) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 182). (3) ([75]) انظر ((غرائب القرآن ورغائب الفرقان)) لنظام الدين الحسن النيسابوري (1/ 441) بهامش ((تفسير الطبري)). (4) ([76]) انظر ((تفسير القرطبي)) (2/ 97) ((فتح القدير)) للشوكاني (1/ 147). (5) ([77]) انظر ((تفسير الطبري)) (1/ 444). (6) ([78]) انظر ((فتح القدير)) (3/ 462). (7) ([79]) انظر ((فتح القدير)) للشوكاني (3/ 462) ((تفسير ابن كثير)) (3/ 224) ((زاد المسير)) (5/ 443) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 ثم سجل على هاتين الطائفتين بأنهم ظالمون فقال: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [الحج: 53]. أي: عداوة شديدة (1) فأهل الفرقة في شقاق وعداء للحق وكذلك هم في شقاق فيما بينهم قد تعددت أقوالهم وتناقضت آراؤهم واختلفوا فيما بينهم وهذا دليل على بطلان دعاويهم لأنهم إنما يتبعون السبل. لذلك وصف أهل الكتاب بقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة: 176] 2ـ المعنى الثاني للشقاق بأنه يأتي بمعنى الشق وهو الصدع (2) أو الفصل في الشيء (3) ويطلق على أهل الفرقة وذلك لأنهم فارقوا الجماعة وشقوا عصا الطاعة (4) فهم في شقاق بهذا الاعتبار. 3ـ والمعنى الثالث للشقاق أن يطلق ويراد به المشقة وهي فعل ما يشق ويصعب فكأن كل واحد من الفريقين يحرص على ما يشق على صاحبه ويؤذيه. وهذا دأب أصحاب الفرقة كما وصفهم سبحانه: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ [الحشر:14] ولقد وصفهم الله عز وجل بوقوع العداوة والبغضاء فيما بينهم لمخالفتهم بعض ما جاء من الحق قال تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [المائدة: 14] ولقد ذكر الله عز وجل ذلك كله تنفيرا من الفرقة وحثا للأمة على الجماعة, لهذا جاء الوعيد الشديد للمفارق للجماعة الخارج عنها يقول سبحانه وتعالى: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء: 115] وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [الأنعام: 159] ولقد وردت النصوص النبوية تتوعد الخارج عن الجماعة المفارق لها بأشد وعيد (5) وقد أورد الإمام مسلم عدة أحاديث في (صحيحه) حول هذا الموضوع بوب لها الإمام النووي تحت قوله: باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج من الطاعة ومفارقة الجماعة (6) وأورد تحتها عدة أحاديث منها: قوله صلى الله عليه وسلم: ((من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية)) (7). وقال أيضا عليه السلام: ((من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتة جاهلية)) (8) وقال: ((من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)) (9) ويقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: " والله ما فارق رجل الجماعة شبرا إلا فارق الإسلام " (10) فهذا مما توعد الله به أهل الفرقة وما ذاك إلا لسوء فعلهم وفي هذا نهي عن الفرقة وردع عن سلوك سبلها أو السير خلف دعاتها ويتعين حينها لزوم الجماعة والتمسك بها هدانا الله للحق وبصرنا به. المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص134 - 138   (1) ([80]) انظر ((فتح القدير)) (3/ 462). (2) ([81]) انظر ((القاموس المحيط)) (1159). (3) ([82]) انظر ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) (2/ 439). (4) ([83]) انظر ((تفسير غرائب القرآن)) للنيسابوري (1/ 441) بهامش ((تفسير الطبري)) ((زاد المسير)) (1/ 151). (5) ([84]) ((شرح صحيح مسلم)) (2/ 236). (6) ([85]) ((صحيح مسلم)) كتاب الفتن باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين (12/ 238 نووي). (7) ([86]) رواه مسلم (1848). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (8) ([87]) رواه البخاري (7054) ومسلم (1849). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (9) ([88]) رواه مسلم (1851). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (10) ([89]) انظر ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (1/ 280). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 المبحث الرابع: التأكيد على أسباب الاجتماع وبيان طرق تأليف قلوب المسلمين لقد سلكت النصوص الواردة في النهي عن الفرقة هذا المسلك للتأكيد على النهي عن الفرقة والأمر بلزوم الجماعة إذ الأمر بالجماعة والنهي عن الفرقة أصل من أصول الإسلام العظيمة وقاعدة من قواعد الدين يقول شيخ الإسلام أحمد بن تيمية: " وهذا الأصل العظيم: وهو الاعتصام بحبل الله جميعا وأن لا يتفرق هو من أعظم أصول الإسلام, ومما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم ومما عظمت به وصية النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عامة وخاصة. (1) ويقول أيضا: وتعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين: تأليف القلوب واجتماع الكلمة وصلاح ذات البين (2) والناظر في أركان الإسلام الخمسة يجد أن هذا الأصل قد تجلى بوضوح في هذه الأركان .... فالركن الأول: شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعقيدة التوحيد هي أعظم ما يجمع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إذ هذه الكلمة ينطقها كل مسلم عربي أو غير عربي. وبوحدة المعتقد تتحقق وحدة الجماعة ومتى ما كان المعتقد خالصا صافيا صائبا كانت الجماعة مجتمعة ملتئمة أما إن دب الخلاف في العقيدة تلاه اختلاف في الجماعة وتفرق. ثم إن وحدة المعتقد ووحدة الجماعة مما رضيه الله لنا ففي الحديث عن رسول صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)) (3). فقرن هنا بين وحدة المعتقد على توحيد الله ووحدة الجماعة على الاعتصام بحبل الله. أما الركن الثاني وهو الصلوات الخمس المفروضة فهي أنموذج أمثل للوحدة بين المسلمين في اتحادهم في عددها وأركانها وشروطها وكيفيتها مما يجمع المسلمين ومما يجتمعون عليه. بالصلاة يعرف المسلم من الكافر إذ هي عمود الدين ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((العهد الذي بيننا بينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) (4) ثم إن في أداء الصلاة جماعة في المسجد مثال واضح لكيفية تأليف القلوب واتحاد الجماعة باتحاد الأبدان في أداء فعل واحد في مكان واحد خلف إمام واحد، لذلك جاء الأمر بتسوية صفوف الصلاة وإتمامها الأول فالأول, والإشارة إلى أن اختلاف الصف في الصلاة سبب لاختلاف القلوب وتنافر النفوس يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم)) (5) أي: إذا تقدم بعضكم على بعض في الصفوف تأثرت قلوبكم ونشأ بينكم الخلف ومنه الحديث الآخر: ((لتسوّن صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)) (6) يريد أن كلا منهم يصرف وجهه عن الآخر ويوقع بينهم التباغض فإن إقبال الوجه على الوجه من أثر المودة والألفة (7)   (1) ([90]) ((الفتاوى)) (22/ 211) وانظر ((الاستقامة)) له (1/ 24). (2) ([91]) ((الفتاوى)) (28/ 33)، و ((شرح صحيح مسلم)) (12/ 11) للنووي. (3) ([92]) رواه مسلم (1715). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (4) رواه الترمذي (2621) والنسائي (463) وابن ماجه (1079) وأحمد (5/ 346) (22987). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. وصححه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 492) كما أشار لذلك في مقدمته. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (5) ([94]) رواه مسلم (432). من حديث أبي مسعود رضي الله عنه. (6) ([95]) رواه البخاري (717)، ومسلم (436). من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (7) ([96]) انظر ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) (2/ 64). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ولقد عاب الله سبحانه على الذين اتخذوا مسجدا ضراراً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان مقصدهم التفريق بين جماعة المسلمين فقال الله عنهم: وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة: 107] قال الإمام أبو عبدالله محمد القرطبي: " قوله: وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ أي يفرقون به جماعتهم ليتخلف أقوام عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهنا يدلك على أن المقصد الأكبر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب والكلمة على الطاعة وعقد الذمام والحرمة بفعل الديانة حتى يقع الأنس بالمخالطة وتصفوا القلوب من وضر الأحقاد (1) وهذا التكاتف والتآلف يتضح أيضا في الركن الثالث من أركان الإسلام وهو الزكاة التي تزكي نفوس أبناء المجتمع المسلم قبل أموالهم تزكيهم غنيهم وفقيرهم وتطهرها تطهر الأغنياء من الجشع والبخل والشح إذ يبذل هذا المال للفقراء حقا مشروعا لهم وتطهر الفقراء من الحقد والحسد الذي قد ينتاب بعض النفوس المحرومة حينما ترى غيرها من الأغنياء في نعمة ورخاء. أما الركن الرابع من أركان الإسلام فهو الصوم فالشهر الواحد الذي يصومه المسلمون في أوقات واحدة: من النهار إلى الليل وامتناعهم عن المفطرات ذاتها وتخلقهم بما حثهم الإسلام عليه حال صومهم ثم تتوجهم هذه الوحدة في هذه العبادة بأداء عبادة أخرى تعطي أنموذجا فريدا للتكافل الاجتماعي في البناء المسلم ووحدة أبنائه وتعاضدهم بأداء زكاة الفطر ليشترك الجميع بأداء صلاة العيد ويشتركون في الفرح بفضل الله ونعمته عليهم بإتمام صوم شهرهم والأغنياء والفقراء في ذلك اليوم عندهم قوت يومهم. كل ذلك حرصا على قيام الجماعة المسلمة على أساس الألفة والمحبة وسدا لباب الضغينة والحقد والحسد والشح الذي يفرق الجماعة ويفتك بالأمة. والركن الخامس في هذا الدين العظيم: شعيرة الحج إلى البيت الحرام قال تعالى: ِ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج: 27 ـ 29] فمن بداية الحج تظهر الوحدة جلية بين المسلمين في وحدة اللباس: لباس الإحرام ووحدة القول: التلبية بالإحرام, والمكان: البيت الحرام ووحدة الفعل: من الطواف بالبيت والتنفل في مشاعر الحج ووحدة بذل المال والعطاء: من تقديم الهدي وهم في ذلك كله موحدون لله عز وجل مخلصون له العمل متجهون إليه لا يقصدون أحدا سواه سبحانه. وهذه الآيات في سورة الحج التي عرضت لشعائر الحج وبضع أحكامه ذكرت بالتوحيد في أوله وفي ثناياه وفي خاتمته (2) لتؤكد أن وحدة العمل ووحدة الجماعة لا تكون إلا بوحدة المعتقد بتوحيد الله رب العالمين. هذه إشارات لما في أركان الإسلام من تحقيق الوحدة والحرص على تحقيق الجماعة بين المسلمين.   (1) ([97]) ((تفسير القرطبي)) (8/ 163) ومسجد الضرار كان قد بناه المنافقون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصد التفريق والإفساد ففضحهم الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدمه فهدمه. (2) ([98]) أوله آية رقم (26) وفي نثاياه آية (31) وخاتمته (34) من سورة الحج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 ولو نظرنا إلى جانب آخر من جوانب هذا الدين العظيم والذي نعمل على تأصيل مبدأ الجماعة والتحذير من الفرقة لوجدنا ذلك في حثه على إقامة الأخوة بين المسلمين على أساس رابط الإيمان بالله وحثه على القيام بواجب هذه الأخوة وأداء حقوقها يقول الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 71].ففي هذه الآية بين الله عز وجل أن أساس الجماعة وسبب الاجتماع هو الإيمان ورباط الأخوة الإيمانية: الأخوة في الدين أعظم رباط وعلى أساسه يكون الولاء أو البراء, فقوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ أي: يوالي بعضهم بعضا فهم يد واحد يأمرون بالإيمان وينهون عن الكفر (1) ويبين الإمام إسماعيل بن كثير رحمه الله أن الولاية بين المؤمنين في هذه الآية هي النصرة والتعاضد فيقول: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ أي: يتناصرون ويتاضدون كما جاء في (الصحيح): ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)) وشبك بين أصابعه (2) وفي (الصحيح) أيضاً: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)) (3) (4) ويضيف العلامة محمد الشوكاني ـ رحمه الله ـ معنى آخر للولاية بين المؤمنين وهي محبة المؤمن لأخيه المؤمن فيقول: قوله بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ أي: قلوبهم متحدة في التوادد والتحابب والتعاطف بسبب ما جمعهم من أمر الدين وضمهم من الإيمان (5) بهذا تكون الجماعة وبهذا يتحقق الاتحاد في الأمة حينما تتناصر وتتعاضد وتكون يدا واحدة حينما تجتمع القلوب وتتعاطف على أساس قوي ورابط أبدي على أساس الإيمان بالله تعالى الذي لا تؤثر عليه دنيا ولا يغيره عرض زائل عندها تستحق الأمة العلو والسيادة والريادة. ويبين عبدالله بن عباس ويؤكد أن الولاء والبراء لا بد أن يقوم على أساس الإيمان بالله تعالى فيقول: أحب في الله وأبغض في الله ووال في الله وعاد في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك ولن يجد عبد حلاوة الإيمان وإن كثر صلاته وصيامه حتى يكون كذلك, وقد صارت مؤاخاة الناس اليوم أو عامتهم في الدنيا وذلك لا يجزئ عن أهله شيئا (6)   (1) ([99]) انظر ((زاد المسير)) لابن الجوزي (3/ 468). (2) ([100]) رواه البخاري (481)، ومسلم (2585). من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (3) ([101]) رواه البخاري (6011)، ومسلم (2586). من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (4) ([102]) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 353). (5) ([103]) ((فتح القدير)) للشوكاني (2/ 381) وانظر ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 105). (6) رواه محمد بن نصر المروزي في ((تعظيم قدر الصلاة)) (1/ 406)، والعدني في ((الإيمان)) (63)، وأورده السيوطي في ((الدر المنثور)) (8/ 87) وقال: وأخرج ابن أبي شيبة، والحكيم الترمذي في ((نوادر الأصول))، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ثم ذكره بنحوه ... وفيه الليث بن أبي سليم قال عنه ابن حجر في ((تقريب التهذيب)) (2/ 48): صدوق اختلط جدا ولم يتميز حديثه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ويؤكد المولى الكريم سبحانه على الأخوة الإيمانية بين المؤمنين والتي بها يسد كل باب يؤدي إلى الاختلاف والفرقة ومن خلالها يلتئم شمل الجماعة وتعم الألفة والمحبة فيقول عز من قائل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 10] يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي عن قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ يقول: هذا عقد عقده الله بين المؤمنين أنه إذا وجد من أي شخص كان في مشرق الأرض ومغربها الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر إنه أخ للمؤمنين أخوة توجب أن يحب له المؤمنين ما يحبون لأنفسهم ويكرهوا له ما يكرهون لأنفسهم. (1) وحرصا على هذه الرابطة المهمة بين المسلمين أمر بالإصلاح بين المسلمين لو طرأ على هذه الرابطة ما يوهنها أو يوجب تفرقها لذلك قال: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ثم يؤكد الله عز وجل رابطة الأخوة الإيمانية السابقة بأن ينهى عن الأسباب التي تؤدي إلى إضعافها من سلوكيات خاطئة تؤثر سلبا على المجتمع المسلم والتي من شأنها أن توغر القلوب وتحرك الضغائن في النفوس فتتفرق القلوب وتهتز هذه الأخوة الإيمانية وتضطرب لذلك قال سبحانه بعد الآية السابقة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ [الحجرات:11 - 12] وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا)) (2) يقول الحافظ أحمد بن حجر رحمه الله عن قوله: ((وكونوا عباد الله إخوانا)) هذا الجملة تشبه التعليل لما تقدم كأنه قال: إذا تركتم هذه المنهيات كنتم إخوانا، ومفهومه إذا لم تتركوها تصيروا أعداء ومعنى كونوا إخوانا: اكتسبوا ما تصيرون به إخوانا مما سبق ذكره وغير ذلك من الأمور المقتضية لذلك إثباتا ونفيا. وقوله: عباد الله: أي يا عباد الله بحذف حرف النداء وفيه إشارة إلى أنكم عبيد الله فحقكم أن تتواخوا بذلك, قال القرطبي: المعنى كونوا كإخوان النسب في الشفقة والرحمة والمحبة والمواساة والمعاونة والنصيحة (3)   (1) ([105]) ((تفسير السعدي)) (7/ 133ـ 134) باختصار يسير. (2) ([106]) رواه البخاري (6066)، ومسلم (2563). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) ((فتح الباري)) (10/ 483). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 ومن حرص الإسلام على الجماعة وعلى الأخوة الإيمانية وإغلاقه لباب الفرقة وسده لسلبها أنه أمر بالانتساب إلى الأسماء المشروعة ونهى عن الانتساب إلى غيرها أو رفع شعارات تدعو إلى الحزبية أو تنادي إلى القومية خاصة إذا كانت هذه الشعارات وهذه الانتماءات ترفع للعصبية والحمية التي من شأنها أن تفرق بين الجماعة المسلمة فتحل هذه الانتماءات والولاءات مكان الأخوة الإيمانية العامة الشاملة لكل مؤمن في مشارق الأرض ومغاربها. ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( ... وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثى جهنم قالوا: يا رسول الله وإن صام وصلى؟ قال: وإن صام وصلى فادعوا الله الذي سماكم: المسلمين، المؤمنين، عباد الله)) (1) ولقد شدد الرسول صلى الله عليه وسلم على من انتمى لغير هذا الدين العظيم أو رفع شعارات أو انتماءات يتحزب لها ويوالي ويعادي عليها فهذا كله من دأب الجاهلية وعاداتها التي أمرنا بتركها والكف عنها ففي الحديث عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: ((كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى جاهلية؟ قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال: دعوها فإنها منتنة)) (2). فعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الانتماءات وهذه الدعاوى من أمور الجاهلية ووصفها بالقبح والخبث مع أنهم انتسبوا رضي الله عنهم إلى أعمال صالحة ومفاخر عظيمة في دين الله: الهجرة والنصرة ومع ذلك لما كانت للعصبية وهمت أن تفرق بين المسلمين وتوقع القتال إذ أخذ كل سلاحه سماها عليه الصلاة والسلام " عوى جاهلية" وهذه التسميات والانتماءات يختلف حكمها بحسبها وهي على ثلاثة أنحاء: 1ـ من هذه الانتسابات ما هو حسن محمود وهو الانتساب إلى اسم شرعي جاء في الكتاب أو في السنة كتسميتنا مسلمين ومؤمنين وعباد الله والمهاجرين والأنصار وكأن ينتسب الرجل إلى عمل مشروع كنسبة الرجل إلى أهل الحديث أو إلى أهل السنة فهذه تسميات وانتماءات محمودة جاء الشرع بها ومدح أهلها. 2ـ ومن هذه الانتسابات ما هو مباح كالانتساب إلى قبيلة أو مصر أو جهة لقصد التعريف فقط ويلحق به والله أعلم الانتساب إلى جهات معينة أو جماعات أو منظمات القصد منها تنظيم العمل وحسن إدارته وتوزيع الجهود لتتكامل فيما بينها لخدمة المجتمع والدعوة إلى دين الله تعالى. 3ـ ومن هذه الانتسابات ما هو مكروه أو محرم كالانتساب إلى الطرق الصوفية أو الفرق الكلامية المذمومة. ويلحق به: إذا كان الانتساب إلى اسم شرعي محمود أو انتساب إلى اسم مباح كقبيلة أو مصر لكن قصد من الانتساب الحمية والعصبية وأفضى إلى الفرقة والخلاف فهذا مذموم منهي عنه (3) نسأل الله عز وجل أن ينعم على الأمة المسلمة بأن يؤلف بين قلوب أفرادها وأن يرحمها ويجمعها على الإيمان به تعالى إذ الجماعة نعمة من الله ورحمة والفرقة عذاب ... المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص138 - 148   (1) ([108]) رواه الترمذي (2863)، وأحمد (4/ 130) (17209)، والحاكم (1/ 582). من حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، قال محمد بن إسماعيل – البخاري - الحارث الأشعري له صحبة وله غير هذا الحديث. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وحسنه ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (1/ 87)، وابن حجر في ((هداية الرواة)) (3/ 464) – كما أشار لذلك في مقدمته-. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (2) ([109]) رواه البخاري (4905)، ومسلم (2584). من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. (3) ([110]) انظر ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 241) بتصرف وزيادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 المبحث الخامس: الفرقة والاختلاف عذاب وعقوبة إن الفرقة والاختلاف عذاب وعقوبة من الله عز وجل للأمة حينما تعصيه, أما الاجتماع والائتلاف فهو رحمة بالأمة ونعمة من الله على عباده المؤمنين. لقد أمر الله عباده المؤمنين أن يلزموا الجماعة ويلتزموا السمع والطاعة, وبين سبحانه أن النجاة تكون بالتمسك والاعتصام بحبله سبحانه الذي هو الجماعة (1) كما قال سبحانه: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103]. ومتى ما عملت الأمة بأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم عاشت بخير واستطاعت أن تبلغ دينها وتعلي كلمته واستطاعت أن تقود البشرية إلى كل خير في الدنيا والآخرة. والمتأمل للقرون الماضية في تاريخ الأمة الإسلامية يجد هذا الأمر جلياً واضحاً أنه متى ما تمسكت الأمة بكتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم واجتمعت على الحق وائتلفت قلوبها قويت هذه الجماعة وسادت وقادت وهذا رحمة من الله بها وما إن تدب الفرقة في صفوف الأمة وتتخلى عن بعض ما أمرت به وتتهاون في تطبيق سنة بينها صلى الله عليه وسلم تضعف وتهون وتصبح لقمة سائغة في أيدي الأعداء وما ذاك إلا لأن الجماعة رحمة من الله بالأمة أما الفرقة فهي عذاب وعقوبة من الله عز وجل يعاقب بها الأمة حينما تعصيه ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الجماعة رحمة والفرقة عذاب)) (2) وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سألت ربي ثلاثا فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة, سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها, وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها, وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها)) (3) وفي الحديث عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنه قال: ((لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا قال: أعوذ بوجهك. أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال أعوذ بوجهك. فلما نزلت: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ قال: هاتان أهون أو أيسر)) (4) قال علي بن خلف بن بطال رحمه الله: "أجاب الله دعاء نبيه في عدم استئصال أمته بالعذاب ولم يجبه في أن لا يلبسهم شيعا أي فرقا مختلفين وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض أي: بالحرب والقتل بسبب ذلك وإن كان ذلك من عذاب الله لكنه أخف من الاستئصال وفيه للمؤمنين كفارة (5).   (1) ([111]) هذه أحد المعاني الواردة (لحبل الله) انظر ((زاد المسير في علم التفسير)) لابن الجوزي (1/ 433). (2) ([112]) رواه عبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (4/ 278) (18472). من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 182): رواه عبد الله، وأبو عبد الرحمن راويه عن الشعبي لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (3109). (3) ([113]) رواه مسلم (2890). من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. (4) ([114]) رواه البخاري (7313). من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (5) ([115]) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (10/ 360). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ويقول عبدالله بن عباس رضي الله عنهما في قوله: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً قال: الأهواء والاختلاف" وقال في قوله: وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ قال: يسلط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب (1) وكما بين الله عز وجل فيما مضى من نصوص أن هذه الفرقة عقوبة وعذاب امتن الله عز وجل على المؤمنين بتأليف قلوبهم وذكرهم نعمته عليهم بأن جمع شملهم ووحد كلمتهم بهذا الدين العظيم وبقيام الأخوة الإيمانية بينهم وقد كانوا في جاهلية وشر وكفر بالله عز وجل وفرقة لا يعلمها إلا الله فجاء الله سبحانه بدينه ونبيه وجمع بينهم, وفي هذا تنبيه للمسلمين على أهمية الجماعة وأنها من نعم الله العظمية وآلائه الجزيلة, وفيه تنفير من الفرقة التي هي عقوبة وعذاب. يقول الله عز وجل: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 103]. يقول الطبري في تأويل قوله سبحانه: وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا يقول: "واذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم التي أنعم بها عليكم حين كنتم أعداء أي: بشرككم يقتل بعضكم بعضا عصبية في غير طاعة الله، ولا طاعة رسوله فألف الله بالإسلام بين قلوبكم فجعل بعضكم لبعض إخوانا بعد إذ كنتم أعداء تتواصلون بألفة الإسلام واجتماع كلمتكم عليه (2) وعن قتادة بن دعامة السدوسي قوله: " كنتم تذابحون فيها يأكل شديدكم ضعيفكم حتى جاء الله بالإسلام فآخى به بينكم وألف به بينكم أما والله الذي لا إله إلا هو إن الألفة لرحمة وإن الفرقة لعذاب (3) وأما قوله: " فأصبحتم بنعمته إخوانا" فإنه يعني فأصبحتم بتأليف الله عز وجل بينكم بالإسلام وكلمة الحق والتعاون على نصرة أهل الإيمان والتآزر على من خالفكم من أهل الكفر إخوانا متصادقين لا ضغائن بينكم ولا تحاسد. وقال رجل لعبد الله بن مسعود: كيف أصبحتم؟ قال: أصبحنا بنعمة الله إخوانا (4) نعم هذه صفة الجماعة المسلمة وحال أفرادها: متحابين بجلال الله متواصلين في ذات الله متعاونين على البر والتقوىولقد نصر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بنصره المؤزر وبالمؤمنين المجتمعين على طاعة الله وطاعة رسوله وهذا مما امتن الله به على نبيه صلى الله عليه وسلم وأنعم الله به على المؤمنين إذ يقول الله تعالى: وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:62 - 63] (5) بالألفة والمحبة بين المسلمين وبرباط الأخوة الإيمانية تتحد الجماعة المسلمة وتقوى وتسود لتنشر هذا الدين العظيم. وأما إذا نزعت ورفعت هذه الألفة حل محلها العداوة والبغضاء ودبت الفرقة والخصومات بين الناس وضعفت الجماعة الإسلامية وعاشت العذاب بالفرقة إلا أن يرحمها ربها بالجماعة. المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص148 - 152   (1) ([116]) انظر: ((تفسير الطبري)) (7/ 142 - 143). (2) ([117]) انظر ((تفسير الطبري)) (4/ 22). (3) ([118]) انظر ((تفسير الطبري)) (4/ 24) وانظر: (تفسير ابن كثير (1/ 368). (4) ([119]) انظر ((تفسير الطبري)) (4/ 22). (5) ([120]) انظر ((تفسير السعدي)) (3/ 186). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 المبحث السادس: الإخبار أن الفرقة واقعة لا محالة ليعلم هذا ويحذر لقد نهى الله عز وجل عن الفرقة أشد النهي وبين سبحانه أنها عذاب وعقوبة تحل بالأمة المسلمة إذا اكتسبت من المعاصي ما تستحق به السخط والعقاب من الله عز وجل ومع التحذير الشديد من الفرقة والأمر اللازم بالجماعة والتمسك بها أخبر المولى الخبير سبحانه أن هذه الفرقة لا بد وأن تدب وأن هذه الأمة ستفترق لا محالة وأن هذا واقع كونا وقدرا وإن كنا نهينا عن الفرقة شرعا ودينا. والإخبار عن وقوع الفرقة في الأمة وأن الله عز وجل شاء ذلك وقدره علينا لا يعني الاستسلام للفرقة والتخبط في سبلها, بل إن الله عز وجل نبه على ذلك وأخبر به ليحذر المسلم منها ولا يسلك مسلكها وينجو من كتب الله له النجاة منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 يقول الله عز وجل: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 118ـ 119].يقول الإمام إسماعيل بن كثير رحمه الله في تفسيرها: " وقوله: وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ أي: لا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم (1).ويقول سبحانه: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ [يونس: 99] أي: لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم بحيث لا يخرج عنهم أحد مجتمعين على الإيمان لا يتفرقون فيه ويختلفون ولكنه لم يشأ ذلك لكونه مخالفا للمصلحة التي أرادها الله سبحانه ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على إيمان جميع الناس أخبره الله بأن ذلك لا يكون لأن مشيئته الجارية على الحكمة البالغة والمصالح الراجحة لا تقتضي ذلك (2) ومثله قول تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [الرعد: 31].فإيمان الناس جميعا وهدايتهم غير مرادة لله عز وجل كونا والفرقة واقعة بينهم لا محالة فمن شاء الله عز وجل له الهداية هداه, ومن شاء له الضلال أضله سبحانه, فهو الملك الحكيم العليم الله عز وجل شأنه (3) ولقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوقوع الفرقة في هذه الأمة فقال: ((والذي نفسي بيده لتفترقن على ثلاث وسبعين فرقة فواحدة في الجنة واثنتان وسبعين في النار" قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: هم الجماعة)) (4).   (1) ([121]) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 446). (2) ([122]) ((فتح القدير)) للشوكاني)) (2/ 474). (3) ([123]) انظر ((تفسير ابن كثير)) (2/ 425) وانظر ((شرح العقيدة الطحاوية)) (2/ 775) ((فتح الباري)) (13/ 296). (4) رواه ابن ماجه (3992)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (63). من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه. قال ابن كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (1/ 27): إسناده لا بأس به. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. والحديث روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ: ((إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة)). رواه ابن ماجه (3993)، وأحمد (3/ 120) (12229)، وأبو يعلى (7/ 32)، كلهم بلفظ: (ثنتين وسبعين فرقة)، والطبراني في ((الأوسط)) (8/ 22) واللفظ له. من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال العراقي في ((الباعث على الخلاص)) (16): إسناده صحيح, وقال ابن كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (1/ 27): إسناده جيد قوي على شرط الصحيح. وقال السخاوي في ((الأجوبة المرضية)) (2/ 569): رجاله رجال الصحيح. وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). وعن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)) رواه أبو داود (4596)، والترمذي (2640) وابن ماجه (3991)، وأحمد (2/ 332) (8377) .. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن صحيح. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه بلفظ: ((وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا ومن هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي)) رواه الترمذي (2641) وقال: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه. وقال البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 185): ثابت. وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بلفظ: ((وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة يعني الأهواء كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة)). رواه أبو داود (4597)، أحمد (4/ 102) (16979)، والطبراني (19/ 376)، والحاكم (1/ 218). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: هذه أسانيد تقام به الحجة في تصحيح هذا الحديث. وصححه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 400) – كما أشار لذلك في المقدمة -. وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده حسن وحديث افتراق الأمة منه صحيح بشواهده. وحسنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 فمما تقدم من نصوص تبين أن الافتراق واقع في الأمة وحال المسلمين الآن خير شاهد على وقوع هذه الفرقة من رفع رايات الحزبية والعصبية للرأي أو الاختلاف في أمور الدين أو بسبب التهالك على أمور الدنيا وما أكثرها. ولقد جاءت هذه النصوص ليس فقط لتخبر وتعلم المسلم بوقوع الفرقة ولكن تخبره ليحتاط فلا يقع فيها وتعلمه بها ليلزم الجماعة ويتمسك بالسنة ويحذر الفرقة. يقول الإمام أبو بكر محمد الآجري رحمه الله: اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الله تعالى قد أعلمنا وإياكم في كتابه أنه لا بد من أن يكون الاختلاف بين خلقه ليضل من يشاء ويهدي من يشاء جعل ذلك الله عز وجل موعظة يتذكر بها المؤمنون فيحذرون الفرقة ويلزمون الجماعة ويدعون المراء والخصومات في الدين ويتبعون ولا يبتدعون. (1) ويقول شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بعد أن ذكر نصوصا كثيرة تخبر بوقوع الافتراق في هذه الأمة قال: وهذا المعنى محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه يشير إلى أن التفرقة والاختلاف لا بد من وقوعهما في الأمة وكان يحذر أمته لينجو منه من شاء الله له السلامة (2).لذلك يخطئ من يتعامل بسلبية وانهزامية مع الأحداث الواقعة في الأمة والفرقة التي تفتك بها منظرا أقدار الله لتقع محتجا أنها واقعة لا محالة فلم العمل؟!! مع أن المصطفى المختار أرشدنا ودفع هذه الشبهة عنا فعن عمران بن حصين قال: ((قال رجل: يا رسول الله أيعرف أهل الجنة من أهل النار؟ قال: نعم. قال: فلم يعمل العاملون؟ قال: كل يعمل لما خلق له أو لما يسر له)) (3).وعن علي رضي الله عنه قال: ((كنا جلوسا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عود ينكث به في الأرض فنكس وقال: ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار أو من الجنة فقال رجل من القوم: ألا نتكل يا رسول الله؟ قال: لا اعملوا فكل ميسر ثم قرأ: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5 - 10] (4). فانظر حينما سألوه: فيم يعمل العاملون؟ وظنوا أن التقدير يدفع إلى الاتكال وترك العمل رد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإيجاب العمل فقال: (اعملوا) نعم يجب على المؤمن أن يعمل بما أمر الله به ويجتهد بأخذ الأسباب الموصلة إلى السلامة في الدنيا والآخرة وهو مع ذلك مؤمن بقدر الله وأنه (كل ميسر لما خلق). المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص152 - 156   (1) ([125]) ((كتاب الشريعة)) (1/ 280). (2) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 143). (3) رواه البخاري (6596)، ومسلم (2649). من حديث عمران بن حصين. (4) رواه البخاري (6605)، ومسلم (2647). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 المبحث السابع: الأصل في البشرية هو الوحدة والجماعة على التوحيد الأصل في البشرية هو الوحدة والجماعة على التوحيد .. والتفرق والاختلاف في الشرك بالله تعالى طارئ حادث. يقول الله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [البقرة: 213]. فيخبر الله عز وجل في هذه الآية أن الناس كانوا أمة واحدة أمة مجتمعة على ملة واحدة ودين واحد فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. يقول عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين (1).وقيل: إن وقت كون الناس أمة واحدة على دين التوحيد يوم استخرج ذرية آدم من صلبه فعرضهم على آدم, يقول أبي بن كعب رضي الله عنه: " كانوا أمة واحدة حيث عرضوا على آدم ففطرهم يومئذ على الإسلام وأقروا له بالعبودية وكانوا أمة واحدة مسلمين كلهم ثم اختلفوا من بعد آدم (2) فالله سبحانه إنما بعث الرسل وأنزل الكتب عند الاختلاف. فالأصل في البشرية هو الاجتماع على التوحيد الخالص لله عز وجل, والأصل أن الناس كانوا مجتمعين على الدين الواحد دين التوحيد وأنه ما إن دب الشرك في الأمة إلا وقارنته الفرقة فاستلزم بعثة الأنبياء والرسل رحمة من الله تعالى بالناس وإعذارا لهم فهو سبحانه كما في الحديث: ((ولا أحد أحب إليه من الله ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين)) (3).   (1) رواه الطبري في ((تفسيره)) (4/ 275)، والحاكم (2/ 596). وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال ابن كثير في ((تفسيره)) (1/ 569): أصح سندًا. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (7/ 854): صحيح ... وإن كان موقوفاً روايةً فهو مرفوعٌ درايةً. (2) رواه الطبري في ((تفسيره)) (4/ 278)، وابن أبي حاتم (2/ 74). (3) رواه البخاري (7416) بلفظ: (( ... ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين ولا أحد أحب إليه المدحة من الله ومن أجل ذلك وعد الله الجنة)). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وفي هذه الآية رد على من زعم أن الأصل في البشرية الشرك والتعدد في الآلهة ثم كان التوحيد. بل الأصل التوحيد ثم كان الشرك ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس: 19].يقول الإمام أبو جعفر محمد الطبري: فإن دليل القرآن واضح على أن الذين أخبر الله عنهم أنهم كانوا أمة واحدة إنما كانوا أمة واحدة على الإيمان ودين الحق دون الكفر بالله والشرك به وذلك أن الله عز وجل قال في السورة التي يذكر فيها يونس: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس:19] فتوعد الله عز وجل ذكره على الاختلاف لا على الاجتماع ولا على كونهم أمة واحدة ولو كان اجتماعهم قبل الاختلاف كان على الكفر ثم كان الاختلاف بعد ذلك لم يكن إلا بانتقال بعضهم إلى الإيمان ولو كان ذلك كذلك لكان الوعد أولى بحكمته الله عز وجل ثناؤه في ذلك الحال من الوعيد لأنها حال إنابة بعضهم إلى طاعته ومحال أن يتوعد في حال التوبة والإنابة ويترك ذلك في حال اجتماع الجميع على الكفر والشرك (1).وقيل: إن المراد بالأمة هو آدم عليه السلام فكان آدم على الحق إماما لذريته (2).وسواء كان معنى الأمة: الدين الخالص لله تعالى أو معناه آدم لما قام بهذا الدين الخالص واجتمع ولده على هذا الدين لحين الاختلاف فهذا يؤكد أن الأصل في البشرية الاجتماع على التوحيد وأن الفرقة حلت بالبشرية حينما تركت هذا الأصل فطرأ الشرك بالله تعالى (3). وفي هذا تنبيه لأولي الألباب أن تحقق الجماعة المسلمة لا يكون إلا على التوحيد لله رب العالمين وفيه تحذير من الإخلال بهذا التوحيد أو الإتيان بما يؤثر فيه أو ينقصه أو يذهبه من شركيات وبدع لأن ذلك سيؤدي إلى الفرقة المذمومة المحذر منها. ولما كانت الجماعة لا تتحقق إلا بالاجتماع على التوحيد الخالص لله تعالى كانت هذه وصية الله لأنبيائه ورسله وهذا ما سيتضح في النقطة الآتية إن شاء الله. المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص156 - 158   (1) انظر: ((تفسير الطبري)) (4/ 280). (2) انظر ((تفسير الطبري)) (2/ 95) ((زاد المسير)) لابن الجوزي (1/ 229). (3) انظر في ذلك: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (20/ 61). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 المبحث الثامن: وصية الله لأنبيائه ورسله بالاجتماع على التوحيد الخالص لله رب العالمين ونبذ الفرقة واطراحها لقد حثَّ الله تعالى على لزوم الجماعة والبعد عن الفرقة بأن بين أن هذا الأصل العظيم هو وصيته سبحانه لأنبيائه ورسله فحري بكل مسلم أن يهتدي ويقتدي بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام عملوا بما وصاهم به ربهم الله عز وجل. يقول الله تعالى: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ [الشورى: 13].ومعنى إقامة الدين: العمل به على ما شرع لكم وفرض. ومعنى " ولا تتفرقوا فيه" أي لا تختلفوا في الدين الذي أمرتم بالقيام به كما اختلف الأحزاب من قبلكم (1).ويقول الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير: " أوصى الله تعالى جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالائتلاف والجماعة ونهاهم عن الافتراق والاختلاف (2). والدين الذي أمر الله سبحانه الأنبياء بالاجتماع عليه والتمسك به هو دين واحد وهو دين الإسلام. ودين الإسلام هو دين الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين يقول الله تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85].وهذا عام في كل زمان ومكان. فنوح وإبراهيم ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى والحواريون؛ كلهم دينهم الإسلام الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له قال الله تعالى عن نوح: فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس: 72] وقال الله تعالى: وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة: 130]. ويقول سبحانه: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ [الأنبياء:92ـ 93]. ويقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون:51ـ 53].ومعنى الأمة هنا: الدين (3) أي دينكم يا معشر الأنبياء دين واحد وملة واحدة وهو الدعوة إلى عبادة الله لا شريك له (4).يقول عبدالله بن عباس قوله تعالى: وإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً يقول: دينكم دين واحد (5).ودين الإسلام الذي تمسك به الأنبياء جميعهم عليهم السلام ودعوا إليه هو توحيد الله والإيمان به وطاعة رسله وقبول شرائعه (6).والوصية بلزوم الجماعة والاجتماع على توحيد الله عز وجل والحذر من سلوك سبل الفرقة ليست وصية خاصة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل هي وصية لازمة لكل مسلم قال الله عز وجل شأنه: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153]. ولقد كان محمد صلى الله عليه وسلم هو أول العاملين بوصية سبحانه له بلزوم الجماعة والحذر من الفرقة لذلك برأه الله سبحانه من الفرقة وأهلها كما سيتضح في الآتي إن شاء الله. المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص158 - 161   (1) انظر: ((تفسير الطبري)) (21/ 513) باختصار وتصرف، وانظر ((تفسير القرطبي)) (16/ 9). (2) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 11). (3) انظر ((الفرقان بين الأولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) ضمن مجموعة التوحيد (2/ 594) وانظر الفتاوى) (3/ 64). (4) انظر ((تفسير القرطبي)) (12/ 86). (5) انظر ((تفسير ابن كثير)) (3/ 39). (6) انظر ((تفسير الطبري)) (17/ 67). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 المبحث التاسع: تبرئة الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الافتراق تبرئة الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الافتراق ذماً للفرقة وتنفيرا منها ونهيا عنها لما كان الأمر بلزوم الجماعة أمراً مؤكدا عليه في نصوص الكتاب والسنة جاء القرآن الكريم ليحث على الجماعة وينفر من الفرقة ويحذر من سلوك سبلها ببيان تبرؤ محمد صلى الله عليه وسلم من كل مفارق لجماعة المسلمين. قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [الأنعام: 159]. فهؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا: هم كل من فارق دين الله وكان مخالفا له فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله, وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق فمن اختلف فيه وكانوا شيعا أي: فرقا كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات فإن الله قد برأ رسوله صلى الله عليه وسلم مما هم فيه. فالصراط المستقيم هو ما جاءت به الرسل من عبادة الله وحده لا شريك له والتمسك بشريعة الرسول المتأخر وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء والرسل برآء منها كما قال تعالى: لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام: 159] (1) ... وكما أن الله برأ نبيه صلى الله عليه وسلم من أهل الفرقة كذلك أعاذه سبحانه من أن يرى عذاب الله وعقوبته بالفرقة تدب في أمته مع أنه سبحانه أخبره أن الفرقة ستقع. كما قال الله تعالى: قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون: 93ـ 94].فيقول الله تعالى في هذه الآية آمراً نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يدعو بهذا الدعاء عند حلول النقم (2): قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: قل يا محمد رب إن تريني في هؤلاء المشركين ما تعدهم من عذابك فلا تهلكني بما تهلكهم به ونجني من عذابك وسخطك فلا تجعلني في القوم المشركين ولكن اجعلني ممن رضيت عنه من أوليائك (3).ولقد أعاذ الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم فلم ير من أمته إلا الجماعة والألفة والطاعة (4).وإن كانت الآية في الاستعاذة من العذاب الذي قد يحل بالمشركين لكن يلحق بهم من هذه الأمة من سلك مسلكهم وكان على نهجهم من أهل الخلاف على الله وعلى رسوله (5). المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص161 - 162   (1) انظر ((فتح القدير)) للشوكاني (4/ 53). (2) انظر ((تفسير ابن كثير)) (3/ 246). (3) انظر ((تفسير الطبري)) (18/ 39). (4) انظر ((تفسير الطبري)) (7/ 145). (5) انظر ((تفسير الطبري)) (7/ 146). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 المبحث العاشر: النهي عن مشابهة المشركين وأهل الكتاب في تفرقهم واختلافهم من شدة عناية الإسلام بتحقيق وحدة الجماعة المسلمة وتماسكها والتحذير من تفرقها حرص على تميز هذه الجماعة واستقلاليتها عن باقي الجماعات الإنسانية لتظل بأفرادها متماسكة متحدة متميزة لذلك نهينا عن التشبه بالكفرة من المشركين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى خاصة فنهينا عن مشابهتهم في أمورهم الدينية والدنيوية جملة وخص بعض الأمور بالنهي عنها كالنهي عن مشابهتهم في أعيادهم أو في طريقة صومهم أو مشابهتهم في أخلاقهم وسلوكياتهم كالحسد والبغي وكتم العلم أو الغلو في الدين وغير ذلك كثير. كل ذلك ليضمن تميز الشخصية المسلمة ويحول دون ذوبانها في شخصيات غيرها وانصهارها بهم مما يورث ضعفها ودخول الفرقة بين صفوفها (1). ودل على هذا النهي نصوص الكتاب والسنة وما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم. يقول الله عز وجل: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الجاثية:16ـ 18].فنهى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون, وأهواؤهم: هو ما يهوونه وما عليه المشركون من هديهم الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل وتوابع ذلك فهم يهوونه وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه, ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين في بعض أمورهم ويسرون به (2).ولقد دلت السنة المطهرة على النهي عن مشابهة الكافرين والإخبار أيضا أن هذا سيقع, ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا وذراعا ذراعا حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن)) (3).وهذا كله خرج منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ مخرج الخبر عن وقوع ذلك والذم لمن يفعله كما كان يخبرعما يفعله الناس بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمات فعلم أن مشابهتها: اليهود والنصارى وفارس والروم مما ذمه الله ورسوله (4).ولقد أكد النهي عن مشابهة الكافرين والتحذير منه الصحابة الكرام رضي الله عنهم بما أخبروا من وقوعه: فيقول عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: لم يكن في بني إسرائيل شيء إلا كائن فيكم (5)   (1) انظر ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 92ـ 94). (2) انظر ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 97ـ 99). (3) رواه البخاري (3456)، ومسلم (2669). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (4) انظر ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 169) (1/ 102) ((فتح الباري)) (13/ 301). (5) رواه محمد بن نصر المروزي في ((السنة)) (86). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 بل إن حذيفة رضي الله عنه يؤكد عدم خصوصية بني إسرائيل بما وقع منهم وأن ما وقع منهم سيقع مثله في هذه الأمة ... فعن الهمام بن الحارث قال: كنا عند حذيفة فذكروا: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44]. وقال رجل من القوم: إنما هذه في بني إسرائيل فقال حذيفة: نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم الحلو ولهم المر! كلا والذي نفسي بيده حتى تحذى السنة بالسنة حذو القذة بالقذة (1) ويقول عبدالله بن عمرو بن العاص: "لتركبن سنة من قبلكم حلوها ومرها (2).ويقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: " إن أشبه الناس سمتا وهيئة ببني إسرائيل أنتم تتبعون آثارهم حذو القذة بالقذة لا يكون فيهم شيء إلا كان فيكم مثله (3) كل هذه النصوص وغيرها جاءت تخبر عن وقوع ذلك ليحذر. ومما خص بالنهي عن مشابهتهم فيه النهي عن الفرقة وقد جاءت النصوص تنهي عن مشابهة الكافرين في الفرقة بطرق ثلاث: 1ـ بيان أن التفرق والاختلاف من أمور الكافرين من المشركين وأهل الكتابين والذين نهينا عن مشابهتهم جملة في أمورهم الدينية والدنيوية. يقول الله عز وجل: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105]. فالله عز وجل ينهى المؤمنون من أن يشابهوا اليهود والنصارى ويتابعوهم في تفرقهم واختلافهم. وهذا النهي ليس هو نهي عن المشابهة فقط بل حقيقته نهي عن التفرق والاختلاف في الدين. يقول عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: قوله: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ ونحو هذا القرآن: أمر الله جل ثناؤه المؤمنين بالجماعة فنهاهم عن الاختلاف والفرقة وأخبرهم إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله (4).ويقول الإمام إسماعيل بن كثير رحمه الله عن الآية: ينهى تبارك وتعالى هذه الأمة أن يكونوا كالأمم الماضين في افتراقهم واختلافهم وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قيام الحجة عليه (5).وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إذا كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)) (6).ومن النصوص الواردة في النهي عن مشابهة الكافرين في تفرقهم قوله سبحانه وتعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:31 - 32]. فنهى الله عز وجل في هذه الآية عن مشابهة أهل الشرك بالله سبحانه الذين بدلوا دينهم وخالفوه ففارقوه وكانوا أحزابا وفرقا كاليهود والنصارى وغيرهم (7).   (1) رواه محمد بن نصر المروزي في ((السنة)) (85). (2) رواه محمد بن نصر المروزي في ((السنة)) (85). (3) رواه محمد بن نصر المروزي في ((السنة)) (84). (4) انظر ((تفسير الطبري)) (4/ 26). (5) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 368). (6) رواه الترمذي (2641)، والحاكم (1/ 218). من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. قال الترمذي: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): حسن. (7) انظر ((تفسير الطبري)) (21/ 28) بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 2ـ الطريق الثاني في النهي عن الفرقة هنا: بيان سبب تفرق أهل الكتاب ليحذر المسلم ولا يسلك سبيلهم. فلقد وردت النصوص الكثيرة التي تذكر اختلاف أهل الكتاب في الدين وتفرقهم عن الحق وأن هذا الاختلاف والتفرق لم يكن عن جهل منهم للحق ولم يكن قصور في التبليغ بل بلغوا وبين لهم أتم البيان وجاءتهم الحجج الواضحات وقامت عليهم البراهين الساطعات بالحق المبين من رب العالمين ولكنهم استكبروا وأعرضوا عن الحق بغيا وعدوانا وظلما, ولقد أعمتهم الدنيا عن رؤية الحق وأطغاهم طلب الملك وحب الرياسة عن العدل واتباع دين الله عز وجل فكان حالهم أن تنكبوا الطريق وحادوا عن الصراط المستقيم ووقعوا في الفرقة والاختلاف (1). يقول المولى الكريم سبحانه: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [البقرة: 213] ونصب بغيا على معنى المفعول له فالمعنى: لم يوقعوا الاختلاف إلا للبغي لأنهم عالمون بحقيقة الأمر في كتبهم (2). ويخبرنا الله تعالى بما أعطى بني إسرائيل من الدلائل والحجج الواضحات والنعم السابغات فيقول: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُون [الجاثية:16 - 17]. فانظر رعاك الله ما أنعم الله على بني إسرائيل وما أعطاهم من الدلائل التي تهديهم إلى الحق وتجمعهم وتعليهم وتوصلهم إلى رضوان الله ومع ذلك أعرضوا وأقبلوا على الدنيا فتنافسوها فأهلكتهم وبغى بعضهم على بعض فاختلفوا وتفرقوا (3) والآيات في هذا الباب كثيرة, وعلى المسلم أن يعتبر بمن كان قبلنا ولا يجعل الدنيا تصده عن دين الله ولا حب الرياسة وإتباع الهوى يلهيه عن ذكر الله, وليعلم أن النجاة في العمل بما أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأن الضلال في الإعراض عن اتبعاهما والخروج عن طاعتهما.   (1) انظر ((تفسير الطبري)) (2/ 196). (2) انظر: ((زاد المسير)) لابن الجوزي (1/ 230). (3) انظر ((تفسير السعدي)) (1/ 261). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 3ـ الطريق الثالث في التحذير من الفرقة: بيان أن الفرقة والاختلاف كانت سبب هلاك الأمم الماضية ولقد جاءت نصوص كثيرة تحذر من الفرقة بالتنبيه على هذا الأمر المهم والتأكيد عليه ليحذر المسلم من ذلك ويعتبر بمن سبق ويلزم الجماعة ففيها العصمة. ففي الحديث عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((سمعت رجلا قرأ آية وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها فجئت به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فعرفت في وجهه الكراهية وقال: " كلاكما محسن ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)) (1).فانظر كيف كره رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلافهم مع أن كلا القِرَاءتين صحيحة حيث قال: كلاكما محسن " فهو مصيب إذ قرأ ما أقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فقد كره اختلافهما ونهاهما عن ذلك فقال: ولا تختلفوا، وعلل سبب النهي بقوله: فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا فما كان الاختلاف يؤدي إلى الفرقة المؤدية إلى الهلكة كرهه صلى الله عليه وسلم ونهى عنه (2) ولقد فقه الصحابة رضي الله عنهم هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلموا أن الفرقة تؤدي إلى الهلكة معتبرين بحال أهل الكتاب السابقين فلقد قدم حذيفة بن اليمان على عثمان رضي الله عنهما وكان حذيفة يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان "يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى (3).يقول شيخ الإسلام أحمد بن تيمية معلقاً على حديث ابن مسعود السابق وأثر حذيفة بعد سوقهما: " فأفاد ذلك بشيئين: أحدهما: تحريم الاختلاف في مثل هذا. والثاني: الاعتبار بمن كان قبلنا والحذر من مشابهتهم. (4) ولقد وردت نصوص كثيرة من السنة النبوية ووقائع متعددة في اختلاف بعض الصحابة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من أمور الدين فيخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم غاضبا مستنكرا لاختلافهم محذرا إياهم مبينا لهم أن هذا الاختلاف كان سبب هلاك الأمم السابقة. فعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: ((هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال: إنما هلك من كان من الأمم باختلافهم في الكتاب)) (5). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: ((أن نفرا كانوا جلوسا بباب النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان! " أبهذا أمرتم؟ أو بهذا بعثتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا؛ إنكم لستم مما ههنا في شيء انظروا الذي أمرتم به فاعملوا به والذي نهيتم عنه فانتهوا عنه)) (6) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر فغضب حتى احمر وجهه حتى كأنما فقئ في وجنتيه الرمان فقال: أبهذا أمرتم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر؛ عزمت عليكم عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه)) (7) ولقد ذكرت روايات عدة ليتبين للقارئ مقدار إنكاره عليه الصلاة والسلام للاختلاف في دين الله؛ لأنه من موجبات الفرقة التي هي من أسباب الهلكة ولأن هذا الاختلاف هو سبب هلاك من قبلنا وسبب ضلالهم. فهل يعتبر سفهاء زماننا الذين يبحثون عن زلات العلماء ويعلنونها ويبحثون عن اختلافات الفقهاء ليبرزوها؟ دون فقه وفهم لأسباب الاختلاف ولا حتى لأنواعه فضلا عن أدبه. وهل يعتبر المسلمون وينظرون إلى أن سبب انحطاطهم وتخلفهم وتسلط الأعداء عليهم هو بسبب تفرقهم إذ الفرقة هي الهلكة والعصمة والنجاة لا تكون إلا بالجماعة والاجتماع على الحق: على طاعة الله ورسوله. وما فتئ أعداء الدين يحيكون الخطط ويدسون الدسائس لإضعاف المسلمين بتفريق جماعتهم وتشتيت كلمتهم كما سيتضح في الآتي إن شاء الله. المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص163 - 171   (1) ([161]) رواه البخاري (3476). (2) ((فتح الباري) (13/ 101). (3) رواه البخاري (4987) (4) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 65). (5) رواه مسلم (2666). (6) رواه ابن ماجه (85)، وأحمد (2/ 195) (6845)، والطبراني في ((الأوسط)) (2/ 79)، وقال صاحب ((الزوائد)) عنه هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن صحيح. وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): صحيح وهذا إسناد حسن. (7) رواه الترمذي (2133)، وأبو يعلى (10/ 433). وقال: وهذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث صالح المري، وصالح المري له غرائب ينفرد بها لا يتابع عليها. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 98) – كا أشار لذلك في مقدمته -، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 المبحث الحادي عشر: التفريق بين المسلمين من غايات وأهداف المنافقين والكافرين ما زال أعداء الدين منذ أن بزغت فجر الرسالة المحمدية يكيدون المكائد للإسلام وأهله, ويحملون الغل والحقد على هذا الدين ويحاولون جاهدين صد الناس عن الحق المبين وإضعاف المسلمين لأنهم يعلمون أن قوة المسلمين تعني إضعافهم وتنحيتهم عن القيادة والسيادة للبشرية ... فعبثا يحاول المسلمون استرضاءهم لأنهم لن يرضوا أبدا مهما قدم المسلمون من تنازلات دنيوية ولن يرضوا إلا بالتنازل عن هذا الدين العظيم يقول الله تعالى: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة: 120] (1).ويقول الله عز وجل ثناؤه: وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 109]. ففي هذه الآية يحذر الله عباده المؤمنين من سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم (2). ومن أساليب الكفار في الصد عن هذا الدين العظيم ومحاولاتهم لإضعاف المسلمين ما يسعون لتحقيقه جاهدين ببث الفرقة والاختلاف في المجتمع المسلم وإفساد ذات البين إذ من أكثر ما يؤزهم الجسد الواحد المسلم البناء المتراص المتحاب ولقد كانت محاولاتهم للتفريق منذ العهد النبوي ويسجل القرآن ذلك لينتبه المسلمون في حاضرهم ويعتبرون بما حصل من أعدائهم في السابق إذ ما زالوا يسعون لتحقيق الهدف نفسه: التفريق بين المسلمين يقول الله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [آل عمران: 99].ففي هذه الآية توبيخ ووعيد من الله تعالى للكفرة من أهل الكتاب على عنادهم للحق وكفرهم بآيات الله وصدهم عن سبيل الله من أراده من أهل الإيمان بجهدهم وطاقتهم (3).وهم في ذلك يلتمسون لسبيل الله الزيغ والتحريف ويريدون رد الإيمان والاستقامة إلى الكفر والاعوجاج ويطلبون العدول عن القصد (4) ويريدون لأهل دين الله الضلال (5).   (1) انظر ((تفسير ابن كثير)) (1/ 155). (2) انظر ((تفسير ابن كثير)) (1/ 146). (3) انظر ((تفسير ابن كثير)) (1/ 365). (4) انظر ((زاد المسير)) لابن الجوزي (1/ 430). (5) انظر ((تفسير الطبري)) (4/ 16). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ويروي محمد بن جرير الطبري رحمه الله سبب نزول هذه الآية: وهو أنه مر شاس بن قيس ـ وكان شيخا قد عسا في الجاهلية عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم ـ على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه فغاضه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد والله مالنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار فأمر فتى شابا من اليهود وكان معه فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم وذكرهم يوم بعاث، وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فهي من الأشعارـ وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ـ ففعل فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا, ثم قال أحدهما لصحابه: إن شئتم والله رددناها الآن جذعة, وغضب الفريقان وقالوا: قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهرة ـ والظاهرة الحرة ـ فخرجوا إليها وتحاور الناس فانضمت الأوس بعضها إلى بعض والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال: ((يا معشر المسلمين الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وألف به بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا)) فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس وما صنع. وهذه المحاولات لإضعاف المسلمين وتفريقهم على مبدأ "فرق تسد" ليست قاصرة على الأعداء من الخارج بل هناك أعداء أخطر منهم أعداء ينخرون في المجتمع من الداخل: إنهم المنافقون الذين ذكرهم الله في كتابه وحذر منهم وبيّن شنيع أفعالهم وفضح مخططاتهم التي يستهدفون بها الإسلام وأهله فكان منهم الإرجاف والتخذيل للمسلمين وبث الخوف من الأعداء بين المجتمع المسلم ليتنازل عن حقه ودينه يقول الله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب: 18]. ويقول أيضا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [آل عمران: 156]. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وهذا الإرجاف والتخذيل وبث الانهزامية في نفوس المسلمين يفعله المنافقون بدافع الحسد والحقد لأبناء المجتمع المسلم وأشد ما يكدرهم وينغص عليهم فرحتهم أن يصيب المسلمين خير يقول الله تعالى: هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:119ـ 120]. وأقصى ما يتمنونه: إخراج المسلمين من الإسلام إلى الكفر حالهم حال أعداء الدين من اليهود والنصارى يقول الله تعالى عنهم: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا [النساء: 89]. ولقد سعى المنافقون جاهدين لإفساد ذات البين والعمل على تفريق جماعة المسلمين وبث الخلاف في كلمتهم وتفكيك وحدتهم شانهم شأن كل عدو حاقد لهذا الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 يقول الله تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:107 - 108] وسبب نزول هذه الآيات الكريمات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب وكان قد تنصر في الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب وكان فيه عبادة في الجاهلية وله شرف في الخزرج كبير فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة واجتمع إلى المدينة المسلمون عليه وصارت للإسلام كلمة عالية وأظهرهم الله يوم بدر شرق اللعين بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها وخرج فارا إلى كفار مكة من مشركي قريش يمالئهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب وقدموا عام أحد فكان من أمر المسلمين ما كان ولما فرغ الناس من أحد ورأى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم فوعده ومناه وأقام عنده وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه, وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته وذكروا إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية فعصمه الله من الصلاة فيه, فقال: ((إنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله)) فلما قفل عليه السلام راجعا إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء الذي أسس من أول يوم على التقوى فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة (1).فانظر رعاك الله وتأمل سبب نزول هذه الآيات وكيف حرص المنافقون على تفريق المسلمين باتخاذ مسجدا ضرارا لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كفرا بالله ومحادة لرسول صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه بعض المؤمنين دون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعضهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيختلفوا بسبب ذلك ويفترقوا (2) يقول عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: " لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء خرج رجال من الأنصار فبنوا مسجد النفاق (3) ويقصد بمسجد النفاق: مسجد الضرار المذكور في الآية.   (1) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 371) وانظر ((أسباب النزول)) للواحدي (219) ((تفسير القرطبي)) (8/ 161) ((السيرة النبوية)) لابن هشام (4/ 128) ط / مكتبة الكليات الأزهرية. (2) انظر ((تفسير الطبري)) (11/ 18). (3) ((تفسير الطبري)) (11/ 19). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وهؤلاء المنافقون رغم أعمالهم الشنيعة وأفعالهم المفضوحة ما زالوا يحاولون الاستتار وإظهار خلاف ما يبطنون لذلك دائما يزعمون الإحسان ويرفعون شعار الإصلاح لتروج أكاذيبهم وتنطوي حيلهم وخدعهم على ضعاف الإيمان وعلى قليلي العلم لذلك زعموا أن قصدهم من بناء هذا المسجد كل خير وإحسان فقالوا: وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى (1) ولكن هيهات أن تنطلي حيل المنافقين وأكاذيبهم على رب العالمين ولا على عباده العالمين بقول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم. لذلك نهى الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم والأمة تبع له في ذلك عن أن يقام في هذا المسجد الضرار أي: يصلي فيه أبدا فقال: لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا. ثم حثه على الصلاة بمسجد قباء الذي أسس من أول يوم بنائه على التقوى: وهي طاعة الله وطاعة رسوله وجمعا لكلمة المؤمنين ومعقلا وموئلا للإسلام وأهله فقال سبحانه: لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ [التوبة: 108] (2) فها هي ذا الحوادث والوقائع منذ القرن الأول للإسلام ومحاولات أعداء الدين في تفريق المسلمين التي سجلها القرآن الكريم كل ذلك نهيا للأمة عن الفرقة وتحذيرا منها فهل يدفع ذلك المسلمين إلى الاتحاد وجمع الكلمة ورأب الصدع؟ وهل تستفيق الأمة من غفلتها؟ وتعمل على توحيد صفوفها إذ في ذلك قوتها وإعلاء لدينها وغيظ ودحر لعدوها أسأل الله ذلك فالمستقبل للأمة مشرق والوعد الرباني محقق كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون)) (3) المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص171 - 178   (1) انظر: ((تفسير الطبري) (11/ 18). (2) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 372) بتصرف. (3) رواه البخاري (7311)، ومسلم (1921). من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 المبحث الثاني عشر: الفرقة من وسائل الشيطان ومكائده التي ينصبها للمسلمين على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة ما يزال الشيطان يعلن العداوة لبني الإنسان منذ أن لُعن وطُرد من رحمة الله سبحانه وتعالى ولقد طلب من الله عز وجل الإنظار وطول الحياة ليضل العباد ويفتنهم عن دينهم. ولقد توعد العدو باتخاذ كافة السبل لذلك قال الله تعالى: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:13ـ 17]. توعد عدو الله بأن يصد الناس عن الصراط المستقيم الذي أمرنا الله بسلوكه وحذرنا المولى سبحانه من الحياد عنه واتخاذ السبل والضلالات مكانه كما قال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153].يقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "إن الصراط محتضر تحضره الشياطين ينادون يا عبدالله هلم هذا الطريق ليصدوا عن سبيل الله فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله هو كتاب الله" (1).   (1) ((تفسير الطبري)) (4/ 21) ((الشريعة)) للاجري (1/ 297). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وما زال الشيطان بآدم عليه السلام حتى أخرجه من الجنة وما زال ببني آدم حتى أوقع بينهم الفرقة والعداوة بصدهم عن الإيمان بالله تعالى وإيقاع الكفر والشرك الذي فرقهم قال تعالى: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس: 19].قال ترجمان القرآن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً: كانوا على الإسلام كلهم (1).ويذكر الإمام عبدالرحمن بن الجوزي رحمه الله كيد الشيطان لآدم عليه السلام ثم كيده لأحد ولدي آدم بقتل أخيه ثم يذكر أن الأمر جرى بعد ذلك على السداد والاستقامة وكانت الأمة واحدة والدين واحد والمعبود واحد كما قال قتادة رحمه الله: " كان بين آدم ونوح ـ عليهما السلام ـ عشرة قرون كلهم على الهدى وعلى شريعة من الحق ثم اختلفوا فكادهم العدو إبليس وتلاعب بهم حتى انقسموا قسمين: كفارا ومؤمنين (2) فكادهم بعبادة الأصنام وإنكار البعث (3) وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: ((ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا كل مال نحلته عبدا حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بما لم أنزل به سلطانا .. )) (4) فالشيطان حريص على تفريق الناس وتحزيبهم بصدهم عن توحيد الله عز وجل الذي يجمعهم وإلقاء الشرك ونشره بينهم فهو كفيل بتفريقهم. يقول ابن الجوزي رحمه الله: اعلم أن الأنبياء جاءوا بالبيان الكافي وقابلوا الأمراض بالدواء الشافي وتوافقوا على منهاج لم يختلف فأقبل الشيطان يخلط بالبيان شبها وبالدواء سما وما زال يلعب بالعقول إلى أن فرق الجاهلية في مذاهب سخيفة وبدع قبيحة فأصبحوا يعبدون الأصنام في البيت الحرام ... فابتعث الله سبحانه وتعالى محمدا صلى الله عليه وسلم فرفع القابح وشرع المصالح فسار أصحابه معه وبعده في ضوء نوره سالمين من العدو وغروره فلما انسلخ نهار وجودهم أقبلت أغباش الظلمات فعادت الأهواء تنشئ بدعا وتضيف سبيلا ما زال متسعا ففرق الأكثرون دينهم وكانوا شيعا ونهض إبليس يلبس ويزخرف ويفرق ويؤلف وإنما يصح له التلصص في ليل الجهل فلو قد طلع عليه صبح العلم افتضح (5).يقول عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: والله ما أظن على ظهر الأرض اليوم أحدا أحب إلى الشيطان هلاكا مني فقيل: وكيف؟ فقال: والله إنه ليحدث البدعة في مشرق أو مغرب فيحملها الرجل إلي فإذا انتهت إلي قمعتها بالسنة فترد عليه كما أخرجها (6)   (1) رواه أبو يعلى (4/ 473)، والطبراني (11/ 309). قال البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) بعد أن رواه عن أبي يعلى (6/ 58): هذا إسناد رواته ثقات. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/ 321): رواه أبو يعلى والطبراني باختصار ورجال أبى يعلى رجال الصحيح. وقال ابن القيم في ((إغاثة اللهفان)) (2/ 292): صحيح. وقال السيوطي في ((الدر المنثور)) (1/ 582)، والشوكاني في ((فتح القدير)) (1/ 317): سنده صحيح. (2) انظر ((كيد الشيطان قبل خلق آدم عليه السلام)) لابن الجوزي (47 - 49) باختصار والتصرف. (3) انظر ((إغاثة اللهفان)) لابن قيم الجوزية (2/ 218). (4) رواه مسلم (2865). من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه. (5) انظر ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (10/ 11) باختصار يسير. (6) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (1/ 55). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ويقول المولى سبحانه محذرا المؤمنين من أن تنطلي عليهم حيل الشيطان ومكائده يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون [المائدة:90ـ 91].فالشيطان حريص على إيقاع العداوة والبغضاء بين المؤمنين ليفترقوا وهو يسلك كل سبيل ليصل إلى هدفه بل إن من الأعمال المحببة إليه التفريق بين الرجل وزوجته وبضعف الأسرة يضعف المجتمع ويضعف أفراده ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا فيقول: ما صنعت شيئا ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته قال: فيدنيه منه ويقول: نِعمَ أنت)) (1). بل إن التفريق بين الناس جماعات وأفرادا هي من مكائده وحبائله منذ قديم الزمان فهاهو ذا يسعى بالتفريق بين يوسف عليه السلام وإخوته إذ يلقي العداوة والبغضاء في نفوس إخوة يوسف لأخيهم يوسف عليه السلام فيقدمون على التخلص منه بإلقائه في البئر يقول تعالى حاكيا عن يوسف: وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف: 100] وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم)) (2).ومعناه: أيس أن يعبده أهل جزيرة العرب ولكنه سعى في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن ونحوها (3).ولذلك حرص الإسلام أشد الحرص على سد هذه الطرق في وجه الشيطان فلا يستطيع أن يلج منها ليفرق بين المؤمنين فاعتنى الإسلام بغرس معنى المحبة الإيمانية في القلوب وجعلها من أوثق عرى الإيمان وصان وحافظ على الحقوق الأخوية بالنهي عن التباغض والتحاسد والتجسس وكل ما يورث عداوة وفرقة بين المسلمين بل جعل شرط كمال الإيمان أن يحب المرء ما يحبه لنفسه ودلنا على كل ما يوطد الحب في الله ليتحقق الجسد الواحد والبناء المتراص المتلاحم الذي يصمد ويتصدى لخطط الشيطان ومكائده في التحريش بين المسلمين (4) يقول الله تعالى: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا [الإسراء: 53] يقول الحافظ إسماعيل بن كثير رحمه الله عن هذه الآية: يأمر تبارك وتعالى عبده ورسوله أن يأمر عباد الله المؤمنين أن يقولوا في مخاطبتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن والكلمة الطيبة فإنهم إن لم يفعلوا ذلك نزغ الشيطان بينهم وأخرج الكلام إلى الفعال ووقع الشر والمخاصمة والمقاتلة فإنه عدو لآدم وذريته من حين امتنع عن السجود لآدم, وعداوته ظاهرة بينة ولهذا نهى أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة فإن الشيطان ينزغ في يده أي: فربما أصابه (5)   (1) رواه مسلم (2813). من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (2) رواه مسلم (2812) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. (3) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (17/ 156). (4) انظر ((تفسير ابن كثير)) (3/ 45). (5) انظر ((تفسير القرطبي)) (3/) 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ولقد دعا الله سبحانه المؤمنين كافة بالدخول في الإسلام وطاعة الله عز وجل والتمسك بها وأمرهم بلزومها وحذرهم من خطوات الشيطان وخطراته التي يوسوس بها ليصدهم عن دين الله ويفرقهم عن صراطه المستقيم فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [البقرة: 208] ولقد تفطن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى مكائد الشيطان وحيله ونبه عليها فقال حينما قتل الخوارج بالنهروان: بؤساً لكم! لقد ضركم من غركم فقالوا: يا أمير المؤمنين ومن غرهم؟ قال: الشيطان وأنفس بالسوء أمارة غرتهم بالأماني وزينت لهم المعاصي ونبأتهم أنهم ظاهرون (1). وبين الإمام شمس الدين محمد بن قيم الجوزية كيد الشيطان وحيله أنه بإلقاء الشبهات فيها وتزيين الآراء والبدع لها فيقول رحمه الله: ومن مكائده أنه يسحر العقل دائما حتى يكيده ولا يسلم من سحره إلا من شاء الله فيزين له الفعل الذي يضره حتى يخيل إليه أنه أنفع الأشياء وينفره من الفعل الذي هو أنفع الأشياء له حتى يخيّل له أنه يضره فلا إله إلا الله كم فتن بهذا السحر من إنسان؟! وكم حال بين القلب وبين الإسلام والإيمان والإحسان؟ وكم جلا الباطل وأبرزه في صورة مستحسنة وشنع الحق وأخرجه في صورة مستهجنة؟ وكم بهرج من الزيوف على الناقدين وكم روج من الزغل على العارفين؟ فهو الذي سحر العقول حتى ألقى أربابها في الأهواء المختلفة والآراء المتشعبة وسلك بهم من سبل الضلال كل مسلك وألقاهم من المهالك في مهلكٍ بعد مهلك (2) أسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه. المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص178 - 184   (1) انظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (7/ 288). (2) ((إغاثة اللهفان)) (1/ 130) باختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 المبحث الأول: الجهل لقد حثّ الله تعالى على العلم وبين منزلة العلماء والثواب العظيم عند الله قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة: 11]. وذم الله تعالى الجهل وحذر منه وبيّن أنه سبب إعراض المعرضين عن دعوة الأنبياء والمرسلين وأن الناس لجهلهم كذبوا بهم يقول تعالى مخبراً عن قول نوح لقومه: وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ [هود: 29]. وذكر سبحانه أن الجهل هو الذي دفع قوم لوط لعمل جريمتهم البشعة من اللواط, يقول تعالى: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل: 55] والجهل أيضا يدفع الناس للشرك بالله قال تعال عن موسى عليه السلام وقومه: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف: 138].ويعتبر ظهور الجهل وانتشاره من علامات قرب وقوع الساعة ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن بين يدي الساعة لأياما ينزل فيها الجهل ويرفع فيها العلم ويكثر فيها الهرج والهرج: القتل)) (1).وقال أيضا: ((إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل ويشرب الخمر ويظهر الزنا)) (2).فرتب عليه السلام على قلة العلم ورفعه وظهور الجهل وكثرته كثرة وقوع المحرمات وانتهاكها ومن أعظمها القتل وهو الهرج وهذا القتل الذي يقع هو: بين المسلمين بعضهم البعض وهو دليل على تفرقهم ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن بين يدي الساعة لهرجا قال: قلت يا رسول الله ما الهرج؟ قال: القتل ... ثم قال: ليس بقتل المشركين ولكن يقتل بعضكم بعضا ... الحديث)) (3) وهذا الجهل الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيقع في الأمة وأنه سيكون من أسباب تفرقها هو جهل بأمرين. أـ الجهل بعلوم الشريعة. ب ـ الجهل باللغة العربية.   (1) رواه البخاري (7063)، ومسلم (2672). من حديث عبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما. (2) رواه البخاري (80)، ومسلم (2671). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (3) رواه ابن ماجه (3213)، وأحمد (4/ 391) (19510)، والحاكم (4/ 498، 565). من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 أـ الجهل بعلوم الشريعة: لما علم الصحابة رضوان الله عليهم خطورة الجهل على مستوى الفرد وعلى الجماعة حرصوا على تعليم الناس أمور دينهم وعلى تلقين أبنائهم أصول الاعتقاد وتوصيتهم بالتمسك بالسنة. فكان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يوصي الناس بتعلم العلم فيقول: عليك بالعلم قبل أن يقبض وقبضه أن يذهب أهله أو قال أصحابه (1) إذ الجهل خطر عظيم يقود الناس إلى البدعة والإحداث في الدين والسير على غير هدى وخير مثال على ذلك ما حدث وعبدالله بن مسعود حاضر وذلك أن أناسا من أهل الكوفة خرجوا إلى الجبانة يتعبدون واتخذوا مسجدا وبنوا بنيانا فأتاهم عبدالله بن مسعود فقالوا: مرحبا بك يا أبا عبدالرحمن لقد سرنا أن تزورنا قال: ما أتيتكم زائرا ولست بالذي أترك حتى يهدم مسجد الجبان إنكم لأهدى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أريتم لو أن الناس صنعوا كما صنعتم من كان يجاهد العدو ومن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ومن كان يقيم الحدود ارجعوا فتعلموا ممن هو أعلم منكم وعلموا من أنتم أعلم منهم قال واسترجع فما برح حتى قلع أبنيتهم وردهم (2). فانظر كيف عزا ابن مسعود رضي الله عنه ما فعلوه إلى الجهل إذ أمرهم بالتعلم فقال: ارجعوا فتعلموا ممن هو أعلم منكم.   (1) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (1/ 87)، وابن بطة في ((الإبانة)) (1/ 333)، وابن وضاح في ((البدع والنهي عنها)) (25)، والمروزي في ((السنة)) (24 - 25). (2) ((شرح السنة)) للبغوي (10/ 54). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وهذا ما فقهه ترجمان القرآن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما وأن أشد ما يفرق الأمة ويوقع بينها اختلاف هو الجهل بدينها فقد خلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم فجعل يحدث نفسه كيف تختلف هذه الأمة ودينها واحد؟ فأرسل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: كيف تختلف هذه ونبيها واحد وقبلتها واحدة ـ زاد سعيد وكتابها واحد ـ قال: فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين! إنما أنزل علينا القرآن فقرأناه وعلمنا فيما أنزل وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن ولا يدرون فيما نزل فيكون لكل قوم فيه رأي فإذا كان لكل قوم فيه رأي اختلفوا فإذا اختلفوا اقتتلوا قال: فزجره عمر وانتهره عليّ فانصرف ابن عباس ونظر عمر فيما قال فعرفه فأرسل إليه وقال: أعد عليّ ما قلته فأعاد عليه فعرف عمر قوله وأعجبه. وما قاله ابن عباس رضي الله عنهما هو الحق فإنه إذا عرف الرجل فيما نزلت الآية أو السورة عرف مخرجها وتأويلها وما قصد بها فلم يتعد ذلك فيها وإذا جهل فيما أنزلت احتمل النظر فيها أو جهل فذهب كل إنسان مذهبا لا يذهب إليه الآخر وليس عندهم من الرسوخ في العلم ما يهديهم إلى الصواب أو يقف بهم دون اقتحام حمى المشكلات فلم يكن بد من الأخذ ببادئ الرأي أو التأويل بالترخص الذي لا يغني من الحق شيئا إذ لا دليل عليه من الشريعة فضلوا وأضلوا. (1) لذلك كان على المجتهد المتصدر للتعليم والفتيا العلم بعلوم الشريعة المتضمن العلم بكتاب الله تعالى وما يلحق به من معرفة أحكامه ومعانيه وفرضه وأدبه وإرشاده وإباحته وناسخه ومنسوخه وعامه وخاصه (2) وعليه أيضا العلم بالسنة النبوية دراية ورواية (3) وكذلك عليه العلم بالإجماع والقياس يقول الإمام الشافعي رحمه الله: على أن ليس لأحد أبدا أن يقول في شيء حل ولا حرم إلا من جهة العلم وجهة العلم الخبر في الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس ... (4) فالواجب على العالمين أن لا يقولوا إلا من حيث علموا .. وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به وأقرب من السلامة له إن شاء الله (5).ومن العلم بعلوم الشريعة العلم بمقاصدها وقواعدها الكلية (6)، ولقد نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك وأخبر أن الأمة ستبتلى بمن يدعي العلم وليس له حظ منه إلا حفظ النصوص دون فهم لمعانيها، واستيعاب لها أو معرفة بمقاصد الشريعة وقواعدها ومتى صدر ـ من هذا شأنه ـ وترأس حدثت الفتنة ووقعت الفرقة يقول النبي صلى الله عليه وسلم واصفا الخوارج: ((إن من ضئضئ هذا قوما يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان)) (7).   (1) انظر ((الاعتصام)) للشاطبي (453). (2) انظر ((الرسالة)) للشافعي (39ـ 41). (3) انظر ((روضة الناظر)) لابن قدامة (190) ((جامع بيان العلم)) لابن عبد البر (2/ 1129). (4) ((الرسالة)) للشافعي (39). (5) ((الرسالة)) للشافعي (41). (6) انظر ((الموافقات)) للشاطبي (1/ 70) (4/ 477) ((روضة الناظر)) لابن قدامة (190). (7) رواه البخاري (7432)، ومسلم (1064). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وانظر ((الموافقات)) للشاطبي (4/ 539). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 ولقد تربى الصحابة رضي الله عنهم على يد محمد صلى الله عليه وسلم على تلقي النصوص وفهمها واستيعابها والعمل بها, يقول عبدالله بن عمر رضي الله عنه: لقد لبثنا برهة من دهر وأحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن تنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فنتعلم حلالها وحرامها وأمرها وزاجرها وما ينبغي أن يوقف عنده منها كما يتعلم أحدكم السورة. ولقد رأيت رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان يقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يعرف حلاله ولا حرامه ولا أمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه وينثره نثر الدقل"ومر علي بن أبي طالب على قاص فقال: " أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا. قال: هلكت وأهلكت (1)   (1) رواه أبو خيثمة في كتاب ((العلم)) (130)، والنحاس في ((الناسخ والمنسوخ)) (ص48 - 49). عن أبي عبد الرحمن الجهني عن علي رضي الله عنه. قال الألباني في ((العلم)): إسناده صحيح على شرط الشيخين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 فيجب على العلماء أن يلموا بعلوم الشريعة وأن يجمعوا الأمة بذلك ومتى ما اختل هذا الأمر وتصدر الناس ورأسهم من يدعي العلم وهو في الحقيقة جاهل بشيء مما مضى فهنا تقع الفتنة في الأمة والاختلاف في الدين ويصاب المجتمع المسلم بالفرقة. ولقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوقوع هذا الأمر وحذرنا من ذلك ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم يقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) (1).ويزيد الشاطبي رحمه الله المسألة تفصيلا ويبين أن من أسباب الفرقة: ترأس الجهلة، وأن الاختلاف المؤدي للفرقة لا يصدر أبدا من العلماء الراسخين في العلم فيقول: فاعلموا أن الاختلاف في بعض القواعد الكلية لا يقع في العاديات الجارية بين المتبحرين في علم الشريعة العاملين بمواردها ومصادرها ثم يذكر أن الاختلاف المؤدي للفرقة والذي يلقي العداوة بين المسلمين إنما يقع حينما: يعتقد الإنسان في نفسه أو يعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين ـ ولم يبلغ تلك الدرجة ـ فيعمل على ذلك ويعد رأيه رأيا وخلافه خلافا ولكن تارة يكون ذلك في جزئي وفرع من الفروع وتارة يكون في كلي وأصل من أصول الدين ـ كان من الأصول الاعتقادية أو من الأصول العملية ـ فتراه آخذا ببعض جزئيات الشريعة في هدم لكيانها حتى يصير منها ما ظهر له بادئ رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا رسوخ في فهم مقاصدها وهذا هو المبتدع وعليه نبه الحديث الصحيح (2).ولقد جاء التحذير من ترؤس الجهلة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر أن ذلك من أشراط الساعة فقال عليه الصلاة والسلام: ((إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر)) (3) والتماس العلم عند الأصاغر لا يكون إلا بترأسهم وتصدرهم للفتيا من جهة, وذهاب العلماء الراسخين أو تنحيتهم من جهة أخرى (4) يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ألا إن الناس لم يزالوا بخير ما أتاهم العلم عن أكابرهم" (5) وقال: "قد علمت متى صلاح الناس ومتى فسادهم: إذا جاء الفقه من قبل الصغير استعصى عليه الكبير وإذا جاء الفقه من قبل الكبير تابعه الصغير فاهتديا" (6) وقال ابن مسعود رضي الله عنه: " لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أكابرهم فإذا جاءهم العلم من قبل أصاغرهم فذلك حين هلكوا" (7)   (1) رواه البخاري (7307)، ومسلم (2673). من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. (2) ((الاعتصام)) للشاطبي (445) باختصار يسير. (3) رواه الطبراني (22/ 361)، واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (1/ 85)، والهروي في ((ذم الكلام)) (5/ 75). من حديث أبي أمية الجمحي رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 140): رواه الطبراني في ((الأوسط)) و ((الكبير)) وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف. قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (695): وهذا إسناد جيد لأن حديث ابن لهيعة صحيح إذا كان من رواية أحد العبادلة عنه وابن المبارك منهم. وصححه في ((صحيح الجامع)) (2207). (4) انظر ((الاعتصام)) للشاطبي (446). (5) رواه ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم)) (1/ 615)، واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (1/ 84). (6) رواه ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم)) (1/ 615). (7) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (1/ 84)، وابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (1/ 617)، والهروي في ((ذم الكلام)) (5/ 77). وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2/ 310): إسناده صحيح ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وليس المراد هنا بالأصاغر صغار السن فقد كان عمر رضي الله عنه يستشير الصغار وكان القراء أهل مشورته كهولا وشبانا (1) ولكن الجهلة الذين يقولون برأيهم وبغير فقه في الكتاب والسنة فيضلون ويضلون وأهل البدع أصاغر في العلم. (2).وقيل الذي يستفتى ولا علم عنده (3).ولقد جاءت نصوص أخرى تحذر من ترؤس هؤلاء الجهلة وتصدرهم لقيادة الأمة إذ بذلك تجتلب المحن والفتن على المسلمين ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين وينطق الرويبضة، قيل وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه في أمر العامة)) (4).إن ترؤس هؤلاء الأصاغر إضاعة للأمانة مؤذن بقرب قيام الساعة ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سأله أعرابي: متى الساعة؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة" قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) (5).يقول ابن حجر: إن إسناد الأمر إلى غير أهله إنما يكون عند غلبة الجهل ورفع العلم وذلك من جملة الأشراط ومقتضاه أن العلم ما دام قائما ففي الأمر فسحة وكأن المصنف أشار إلى أن العلم إنما يؤخذ عن الأكابر (6).وما حدثت الفتنة في الأمة ودبت الفرقة إلا حينما تصدر مثل هؤلاء الناس وقادوهم, وهذا ما حدث في الفتنة على عثمان رضي الله عنه وهذا كان وصف الخارجين عليه المقدمين على قتله, فقد كانوا من الأعراب ومن سفهاء الناس وعامتهم. ولما خرج سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى الخارجين على عثمان ـ وعثمان رضي الله عنه محصورـ فرأى سعد رضي الله عنه رؤساءهم صفق بيديه أحدهما على الأخرى ثم استرجع ثم أظهر الكلام فقال: والله إن أمرا هؤلاء رؤساؤه لأمر سوء (7).، وصدق رضي الله عنه وهل أسوأ من قتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه والذي نتج عن قتله اندلاع الفتن وفشو الفرقة في الأمة الإسلامية. والناظر لأحوال أهل البدع ورؤسائهم المفرقين للأمة شيعا، يجدهم بعيدين عن استيعاب علوم الشريعة جاهلين بفهم معانيها ومعرفة قواعدها ومقاصدها معرضين عن تتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة الصحابة رضي الله عنهم وهذا ما أوقعهم في الاختلاف والفرقة (8).ويبوب الإمام أبو عمر يوسف بن عبد البر رحمه الله فيمن تأول القرآن وتدبره وهو جاهل بالسنة ثم يقول ... أهل البدع أجمع اضربوا عن السنة، وتأولوا الكتاب على غير ما بينت السنة فضلوا وأضلوا نعوذ بالله من الخذلان ونسأله التوفيق والعصمة برحمته (9).   (1) انظر: ((الاعتصام)) (446)، و ((جامع بيان العلم وفضله)) (1/ 619). (2) انظر ((الاعتصام)) للشاطبي (446) ((ذم الكلام)) للهروي (5/ 76) ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) للأباني (2/ 310). (3) انظر ((جامع بيان العلم)) (1/ 612، 618). (4) رواه ابن ماجه (4036)، وأحمد (2/ 291) (7899)، والحاكم (4/ 512). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال ابن كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (1/ 214): إسناده جيد. وقال أحمد شاكر في ((المسند)) (16/ 194): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (5) رواه البخاري (59). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (6) ((فتح الباري)) (1/ 143). (7) انظر ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (3/ 72). (8) انظر ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (76). (9) ((جامع بيان العلم)) (2/ 1199) وانظر ((ميزان الاعتدال في النقد الرجال)) للذهبي (2/ 23). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ولجهل أهل البدع نجدهم عند مناظرتهم لأهل السنة العالمين بقول الله وقول رسوله نجدهم ينقطعون ويحيدون في المناظرة بالمنقول من الكتاب والسنة ويقرون على أنفسهم بذلك وأنهم إنما يجيدون الرأي والنظر والقياس فهذا بشر المريسي، لما ناظر الإمام عبدالعزيز بن يحيى الكناني في مسألة خلق القرآن التي يدعيها بشر وكانت المناظرة بحضرة الخليفة العباسي " المأمون" أظهر بشر من الجهل بالقرآن والسنة الشيء الكثير ولما حاد عن المناظرة بنص التنزيل قال: عندي أشياء كثيرة إلا أنه (أي الإمام عبدالعزيز الكناني) يقول بنص التنزيل وأنا أقول بالنظر والقياس فليدع مناظرتي بنص التنزيل وليناظرني بغيره (1).ولا عجب أن يكون هذا حال أصحاب البدع من الجهل بالكتاب والسنة والبعد عن تلقي العلم من السلف الصالح وتصدرهم قبل استيعابهم لما قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم مع دخول الشبهات إليهم فهذا واصل بن عطاء اعتزل حلقة الحسن البصري وكون له حلقة يرأسها يعلم فيها الناس رأيه فضل وأضل (2).وهؤلاء الخوارج الأزارقة فأول من أظهر البدع الزائدة فيهم رجل يقال له: عبد ربه الكبير وهو بائع رمان وعبد ربه الصغير وهو معلم كتاب (3). وهذا جهم بن صفوان يُسأل عن رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها فيفتي بأن عليها العدة فيخالف كتاب الله بجهله فقد قال تعالى: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً [النساء: 88].لذلك يوصي أبو الدرداء رضي الله عنه هذه الوصية العظيمة فيقول: "تعلموا العلم قبل أن يقبض، وقبضه أن يذهب بأصحابه، العالم والمتعلم شريكان في الخير وسائر الناس لا خير فيهم إن أغنى الناس رجل عالم افتقر إلى علمه فنفع من افتقر إليه، وإن استغنى عن علمه نفع نفسه بالعلم الذي وضع الله عز وجل عنده فمالي أرى علماءكم يموتون وجهالكم لا يتعلمون ولقد خشيت أن يذهب الأول ولا يتعلم الآخر ولو أن العالم طلب العلم لازداد علما وما نقص العلم شيئا ولو أن الجاهل طلب العلم لوجد العلم قائما فمالي أراكم شباعا من الطعام جياعا من العلم (4). تنبيهات:   (1) ((كتاب الحيدة)) للإمام عبدالعزيز الكناني (50). (2) انظر ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (118). (3) انظر ((مقالات الإسلاميين)) لأبي الحسن الأشعري (1/ 172) ((التبصير في الدين)) للاسفراييني (50). (4) ((جامع بيان العلم)) لابن عبد البر (1/ 602). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 1ـ إن من الجهل: عدم العمل بالعلم, ولقد ذم الله سبحانه علماء السوء الذين يقولون ما لا يعملون فقال سبحانه وتعالى أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [البقرة: 44] لذلك كان الصحابة رضي الله عنهم حريصين على العمل الذي علموه يخافون من السؤال يوم القيامة يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: إن أخوف ما أخاف إذا وقفت على الحساب أن يقال لي: وقد علمت فماذا عملت فيما علمت (1).، ويوصينا رضي الله عنه فيقول: لا تكون تقيا حتى تكون عالما ولا تكون بالعلم جميلا حتى تكون به عاملا (2).ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: " تعلموا، تعلموا، فإذا علمتم فاعملوا (3).ويقول الشاطبي: " العلم المعتبر شرعا ـ أعني الذي مدح الله ورسوله أهله على الإطلاق ـ هو العلم الباعث على العمل الذي لا يخلي صاحبه جاريا مع هواه كيفما كان, بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه الحامل له على قوانينه طوعا أو كرها (4).   (1) رواه عبد الرزاق (11/ 253)، وابن أبي شيبة (7/ 112). (2) ((جامع بيان العلم)) (1/ 698). (3) رواه الدارمي (1/ 115)، وابن أبي شيبة (7/ 105). وقال حسين أسد محقق ((سنن الدارمي)): إسناده ضعيف. (4) ((الموافقات)) (1/ 61) وانظر ((فضل علم السلف على علم الخلف)) لعبد الرحمن بن رجب الحنبلي (64 - 69). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ثم إن مخالفة عمل العالم لقوله الذي يدعو إليه قد يصد الناس عن دين الله تعالى خاصة إذا كان عمله ظاهرا لهم, ثم إنه قد يوقعهم في الفتنة من حيث هو عالم فيقتدي بعمله الناس قد يتلبس عليهم من عمله ما هو صحيح موافق للحق بما هو باطل فالله المستعان.2ـ إن من الجهل: عدم فهم الدليل ووضعه في غير موضعه وهذا نتيجة قصور العلم لذلك وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الخوارج بأنهم ((يقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم)) (1).يقول ابن تيمية: وكانت البدع الأولى مثل " بدعة الخوارج " إنما هي من سوء فهمهم للقرآن لم يقصدوا معارضته لكن فهموا منه ما لم يدل عليه" (2).3ـ من الجهل: المنازعة في المسألة قبل استكمال العلم وإحكامه وجمع حواشيه وأطرافه (3).، فيظن المسلم أنه بقراءته للقرآن قد استكمل العلم فيذهب للمنازعة وإنكار ما يجهله فلقد أنكرت أم يعقوب على عبدالله بن مسعود لعنه للواشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله، قالت له: ما هذا؟ قال: "ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الله" قالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدته فقال: والله لئن قرأتيه لقد وجدتيه. وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر: 7] (4).لذلك أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما يفعله المسلم عند الجهل ببعض العلم فقال: ((ما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه)) (5). ولم يقل نازعوا فيه أو اعملوا برأيكم أو ردوا ما جهلتم.4ـ إن من الجهل: أن ينكر الإنسان ما يجهله وما غاب عن علمه خاصة إذا كان مع المخالف فيقع منه التكذيب ببعض الحق ومن الجهل أن يرد بعض الحق الذي يكون مع مخالفه إذا كان مختلطا بالباطل فيؤدي هذا الرد إلى الاختلاف والنزاع (6). 5ـ إن من الجهل: الانشغال والاهتمام بالعلوم الدنيوية التي يتحصل المسلم بها على وظيفة ودخل ويكون انشغاله على حساب تعلمه أمور دينه الأساسية فكثيرا ما نجد من المسلمين من بلغ مراتب عالية في العلوم الدنيوية ولكنه قليل العلم في أمور دينه حتى لا يكاد يفرق بين أركان الصلاة وواجباتها فضلا عن مستحباتها فيكون بذلك لقمة سائغة وبيئة خصبة لتقبل البدع ونشرها إذ لا حصانة لديه من العلم الشرعي الصحيح. لهذا يجب على ولاة الأمر والمربين الحرص على تزويد المناهج الدراسية بالعلوم الشرعية الكفيلة بتزويد المسلم كفايته وحاجته مع تعليمهم العلوم الدنيوية فلا تعارض البتة بين الأمرين (7).   (1) رواه البخاري (6931)، ومسلم (1064). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (2) ((الفتاوى)) (3/ 20). (3) انظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/ 167). (4) رواه البخاري (5939)، ومسلم (2125). (5) رواه أحمد (2/ 181) (6702). وصححه الألباني في ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص218). وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): صحيح وهذا إسناد حسن. (6) انظر ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 151) ((شرح العقيدة الطحاوية)) لابن أبي العز الحفني (1/ 187). (7) انظر ((شرح أصول أهل السنة والجماعة)) للالكائي (1/ 26) ((جامع بيان العلم)) لابن عبد البر (2/ 1135). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 6ـ إن من الجهل: تجزئة الشريعة والأخذ ببعض النصوص بدون بعض أو الزعم بالاستغناء بالقرآن الكريم عن السنة النبوية. يقول الشاطبي رحمه الله: ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد والجهل بمقاصد الشرع وعدم ضم أطرافه بعضها لبضع فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها وعامها المرتب على خاصها .. إلى أن قال: " فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضا كأعضاء الإنسان .. وشأن متبعي المتشابهات أخذ دليل ما؛ أي دليل كان عفوا وأخذاً، وإن كان ثم ما يعارضه من كلي أو جزئي فكأن العضو الواحد لا يعطي في مفهوم أحكام الشريعة حكما حقيقيا فمتبعه متبع متشابه ولا يتبعه إلا من في قلبه زيغ كما شهد الله به (1). وينبغي للمسلم أن يتنبه إلى مخططات أعداء الدين الموجهة للمسلمين من محاولتهم تجزئة الشريعة والحد من العمل بها وتعطيل بعض أحكامها لإضعاف المجتمع المسلم ومحاولتهم الدائمة لتشكيك الناس في السنة النبوية يقولون في أحد مؤتمراتهم التنصيرية في معرض خططهم لمحاربة الإسلام وإضعاف المسلمين والسيطرة عليهم: " وهناك خطان رئيسيان يجب أن توجه على امتدادهما هذه الدراسة المكثفة و" القاهرة" المسلمة تمثلهما. الأول: وهو علم التوحيد والفلسفة التقليدين القديمين اللذين تمثلهما جامعة الأزهر. والثاني: هو الحركة العصرية التي تمس بقدر كبير أو قليل كل مسلم شاب يتلقى تعليما على النمط الغربي والذي كما قلت يكمن في محاولة النفاذ إلى الجذرية التاريخية العملية للإسلام وإمعان النظر في وضع خطة لسياسة جديدة وعلم توحيد جديد وفلسفة جديدة ومجتمع جديد على أساس من القرآن من غير إضافة من التراث مهما كانت. ولقد علم أعداء الدين أهمية العلم الشرعي في بقاء الأمة المسلمة وقوتها وعلموا أيضا خطورة الجهل وكيف أنه أقوى سلاح لتفريق هذه الأمة ومن ثم السيطرة عليها فعمدوا جاهدين إلى نشر الجهل بالدين الإسلامي بين صفوف أبنائه ومحاولة فصل المسلم عن دينه ثم استغلال المسلمين الجهلاء لبث مخططاتهم الاحتلالية ولمد نفوذهم على ثروات المسلمين بل وعقولهم. ولقد سلكوا وسائل عدة لتحقيق هدفهم من نشر الجهل بين المسلمين منها:   (1) ((الاعتصام)) (197 - 198). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ـ استفادوا من فترة احتلالهم لبلاد المسلمين بالتدخل في المناهج التعليمية، ومحاولة إحلال المنهج الغربي ـ كما يدعون ـ مكان المناهج الإسلامية في البلاد المحتلة. ـ عملوا على محاولة استبعاد دراسة القرآن والسنة والتاريخ الإسلامي في البرامج التعليمية العامة (1).،ـ العمل على تشويه عقائد المسلمين وإثارة الشكوك والشبهات حولها (2)، عبر وسائل التربية والتعليم من جهة وعبر وسائل الإعلام من جهة أخرى وكم خدم المستأجرون والمندسون والمنافقون والجهلاء أعداء الدين في تحقيق أهدافه (3).مساندة الحركات الهدامة التي تظهر بصورة الإسلام والإسلام منها براء كالقاديانية التي ما ترعرعت إلا في أحضان الاحتلال الإنجليزي للهند (4)، والبهائية التي تخدم بوضوح مصالح وأهداف الصهيونية والصليبية (5). ولم يقتصر أعداء الدين من نشر الجهل بالدين الإسلامي وتعزيز وجوده بل عمدوا أيضا إلى محاولة تجهيل المسلمين بلغة دينهم لغة القرآن الكريم: " اللغة العربية" وهاك تفصيل ذلك وبيانه. ب ـ الجهل باللغة العربية: من الجهل الذي يؤدي إلى سوء فهم نصوص الشريعة ومن ثم تعدد الآراء وتفرقها هو الجهل باللغة العربية لذا عد تعلم اللغة العربية من العلوم الواجب على المجتهد معرفتها إذ علم اللغة العربية علم لا يحل الاجتهاد في الشريعة إلا بالاجتهاد فيه فالمجتهد بلا بد مضطر إليه (6). يقول الإمام ابن عبد البر رحمه الله: "ومما يستعان به على فهم الحديث ما ذكرناه من العون على كتاب الله عز وجل وهو العلم بلسان العرب ومواقع كلامها وسعة لغتها ... وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى الآفاق أن يتعلموا السنة والفرائض واللحن ـ يعني النحو ـ كما يتعلم القرآن (7).ولقد كان عبدالله بن عمر رضي الله عنهما يضرب ولده على اللحن (8). وما ذاك إلا لأن القرآن الكريم إنما نزل بلسان العرب على الجملة وطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة (9).وكثيرا ما يقع الخطأ والاشتباه في فهم النصوص الشرعية بسبب الجهل بلسان العرب يقول الإمام الشافعي رحمه الله: " ... إن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره: لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرقها ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها (10).   (1) انظر ((احذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام)) لسعد الدين السيد صالح (181) ((دراسات في السيرة النبوية)) لمحمد سرور بن نايف زين العابدين (119، 156). (2) انظر ((أجنحة المكر الثلاث)) لعبد الرحمن حنبكة الميداني (44) وانظر (75، 198، 225، 249) ((دراسات في السيرة النبوية)) (159) ((الشبهات والأخطاء الشائعة في الفكر الإسلامي)) لأنور الجندي (41، 287). (3) انظر ((أجنحة المكر الثلاث)) (274) ((دراسات في السيرة النبوية)) (278). (4) انظر ((أجنحة المكر الثلاث)) (277) ((احذروا الأساليب الحديثة)) (309). (5) انظر ((أجنحة المكر الثلاث)) (274) ((احذروا الأساليب الحديثة)) (314) ((الإسلام والحضارة الغربية)) لمحمد محمد حسين (18، 41، 101). (6) انظر ((الموافقات)) للشاطبي (4/ 4849 بتصرف. (7) ((جامع بيان العلم)) (2/ 1132). (8) ((جامع بيان العلم)) (2/ 1133). (9) انظر ((الموافقات)) للشاطبي (2/ 3759 (2/ 319) وانظر ((الرسالة)) للشافعي (42). (10) ((الرسالة)) (50). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وكم من شبهة دخلت على أهل الفرقة والبدعة لجهلهم بلسان العرب ولقد عد الإمام الشاطبي من المآخذ التي تؤخذ على أهل البدع والتي تعد من سماتهم: تخرصهم على الكلام في القرآن والسنة العربيين مع العُرُوّ عن علم العربية الذي يفهم به عن الله ورسوله: فيفتاتون على الشريعة بما فهموا ويخالفون الراسخين في العلم وإنما دخلوا في ذلك من جهة تحسين الظن بأنفسهم واعتقادهم أنهم من أهل الاجتهاد والاستنباط وليس كذلك كما حكي عن بعضهم أنه سئل عن قول الله عز وجل: رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ [آل عمران:117]، فقال: هو هذا الصرصر، يعني صرار الليل" ثم ذكر رحمه الله أمثلة كثيرة تبين جهلهم بالعربية ثم قال: " فمثل الاستدلالات لا يعبأ بها وتسقط مكالمة أهلها .... إذ هو خروج عن طريقة كلام العرب إلى اتباع الهوى فحق ما حكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال: إنما هذا القران كلام فضعوه مواضعه ولا تتبعوا به أهواءكم، أي: فضعوه على مواضع الكلام ولا تخرجوه عن ذلك فإنه خروج عن طريقه المستقيم إلى اتباع الهوى. وعن الحسن رحمه الله أنه قيل له: أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ويقيم بها منطقة؟ قال: نعم! فليتعلمها، فإن الرجل يقرأ بالآية فيعياه توجيهها فيهلك. وعنه أيضا قال: أهلكتكم العجمة تتأولون القرآن على غير تأويله (1).ويقول الشاطبي أيضا: " ولعلك إذا استقريت أهل البدع المتكلمين أو أكثرهم وجدتهم من أبناء سبايا الأمم ومن ليس له أصالة باللسان العربي، فعما قريب يفهم كتاب الله على غير وجهه (2).ولقد أظهر بشر المريسي القائل بخلق القرآن من جهله باللغة العربية ما أظهره عند مناظرته للإمام عبدالعزيز الكناني في أكثر من موضع, كان جهله بالعربية من أسباب قوله بخلق القرآن. حتى قال الإمام عبدالعزيز عنه: " وإنما دخل الجهل على بشر ومن قال بقوله لأنهم ليسوا من العرب ولا علم لهم بلغة العرب ومعاني كلامها, فتأول القرآن على لغة العجم التي لا تفقه ما تقول وإنها تتكلم بالشيء كما يجري على لسانها وكل كلامهم ينقض بعضه بعضا, ولا يعتقدون ذلك من أنفسهم ولا يعتقده عليهم غيرهم لكثرة خطئهم ولحنهم وادعائهم لذلك وسمعت عبد الملك بن قريب الأصمعي وقد سأله رجل فقال له: أتدغم الفاء في الباء؟ فتبسم الأصمعي ـ وقبض على يدي وكان لي إلفاً صديقا ـ فقال: أما تسمع يا أبا محمد؟ ثم أقبل على السائل وهو متعجب من مسألته فقال: يا هذا أتدغم الفاء في الباء في لغة ماني الساساني .. فأما العرب فلا تعرف هذا (3).إن جهل أصحاب البدع باللغة العربية جعلهم يقولون بأصولهم الاعتقادية البدعية والتي يفارقون بها جماعة المسلمين ويفرقون الأمة ويخالفون نصوص الكتاب والسنة وليس لهم مستند إلا الجهل والرأي والظن (4).فقد جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو بن العلاء فقال: يا أبا عمرو: من العجمة أتيت. يا أبا عثمان إن الوعد غير الوعيد إن العرب لا تعد خلفا ولا عارا أن تعد شرا ثم لا تفعله، ترى إن ذاك كرما وفضلا إنما الخلف أن تعد خيرا ثم لا تفعله (5).   (1) ((الاعتصام)) للشاطبي (191ـ 193). (2) ((الاعتصام)) (447). (3) انظر ((كتاب الحيدة)) (43). (4) انظر قول المعتزلة في إنفاذ الوعيد، والقول بالمنزلة بين المنزلتين. كتاب ((الأصول الخمسة)) للقاضي عبد الجبار المعتزلي (611، 615). (5) ((تاريخ بغداد)) للبغدادي (12/ 175). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 فعلى المسلمين ولاة العناية باللغة العربية حكاية وفهما والحذر مما يحيكه أعداء الدين من المحاولات الأكيدة التي يعملونها لصرف المسلمين عن دينهم وكتاب ربهم بصرفهم عن اللغة العربية بوسائل شتى ودعاوى كاذبة, منها: أن اللغة العربية صعبة التناول والاستعمال ولا تواكب التقدم الحضاري المادي فأخذوا يدعون إلى إحلال اللهجة المحلية العامية مكانها كما دعوا إلى إحلال اللغة الأجنبية من إنجليزية أو فرنسية أو غيرها مكان اللغة العربية وجعل هذه اللغة الأجنبية هي لغة الدراسة واللغة الرسمية في البلاد كما عملوا إلى الدعوة إلى رسم المصحف بالرسم الإملائي الحديث وترك الرسم العثماني بدعوى التسهيل والتيسير وهدفهم صد المسلمين وتجهيلهم بالقرآن الكريم ولغته (1). إن بتنحية اللغة العربية أو إهمالها يتحقق للأعداء هدفان وتضرب الأمة المسلمة بذلك ضربتين هما: 1ـ جهل الناس بدينهم وبفهم كتاب الله تعالى إذ ليس المقصود من نزول القرآن قراءته فقط بل تدبر معانيه والعمل به ولا يكون ذلك إلا لمن يجيد اللغة العربية.2ـ تمزيق الأمة المسلمة، والقضاء على عامل من عوامل وحدة الأمة وتحقيق جماعتها ألا وهو عامل اللغة, فاللغة لغة القرآن الكريم هي من عوامل جمع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها فأنى اتجهت إلى قطر إسلامي ولقيت مسلما حييته بتحية الإسلام العربية " السلام وعليك ... فرد السلام باللسان العربي، وإن سألته عن حاله أجابك بلسان عربي: الحمد لله؛ تسري بينهم الألفة والمحبة وإن اختلفت ألوانهم وأجناسهم فالذي يجمعهم كتاب ربهم القرآن الكريم الذي نزل بلسان عربي مبين (2).وبهذه اللغة العربية لغة القرآن ولغة الدين يكتب الفكر وتكتب ثقافة الأمة أجمع فتتوحد الأمة وتستقل عن غيرها وتتبع كتاب ربها لا تتبع غيره (3). المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص188   (1) انظر ((هامش كتاب الرسالة)) للشافعي تحقيق أحمد محمد شاكر (49). (2) انظر للاستزادة في معرفة أساليب الأعداء في كيدهم للغة العربية: ((أجنحة المكر الثلاثة)) لعبد الرحمن حبنكة الميداني (346) كتاب ((احذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام)) لسعد الدين السيد صالح (116) ((دراسات في السيرة النبوية)) (183). (3) انظر ((الرسالة)) للشافعي (48ـ 49). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 المبحث الثاني: الابتداع وعدم الاتباع إن من أعظم ما فرق الأمة الإسلامية وأوهن جسدها: الابتداع في دين الله تعالى، إذ لو فتح الباب لكل إنسان أن يقول في الدين برأيه، وأن يحدث في الشرع ما يستحسنه بذوقه لتفرقت سبل الضلالات بالجماعة المسلمة ـ وهي الآن كذلك ـلذلك نهينا عن اتباع السبل وأمرنا باتباع الصراط المستقيم كما يقول الله سبحانه وتعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الأنعام: 153 [] ولقد عنون الإمام الآجري الباب الأول من كتابه كتاب (الشريعة): " باب: ذكر الأمر بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة بل الاتباع وترك الابتداع (1).، فهو يرى رحمه الله أنه بلزوم الجماعة يكون الاتباع وإن الفرقة تكون بالابتداع في دين الله. ولقد جاء الأمر الأكيد بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والتحذير من الإحداث في الدين الذي لا يكون إحداثا إلا بترك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم, يقول الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [النساء: 59].   (1) ((كتاب الشريعة)) (1/ 275). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ويقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا [الأحزاب:36].وحذر صلى الله عليه وسلم من الإحداث في الدين فيقول: ((إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)) (1).وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنه ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه السيف كائنا من كان)) (2). والهنات جمع هنة: والمراد بها هنا الفتن والأمور الحادثة (3). فالبدع والمحدثات تفرق الأمة المسلمة وفي حديث آخر بين صلى الله عليه وسلم أن في ترك سنته واتباع البدع تفريق للجماعة فيقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: ((كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم. وفيه دخن قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها قلت: يا رسول الله صفهم لنا قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قال: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)) (4) فذكر صلى الله عليه وسلم من الأحوال التي ستحدث أنه سيأتي أقوام يهدون بغير هديه ويستنون بغير سنته وذكر صلى الله عليه وسلم الدعاة على أبواب جهنم وهم من كان من الأمراء يدعو إلى بدعة أو ضلال كالخوارج والقرامطة (5).   (1) رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42)، وأحمد (4/ 126) (17184). من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 1164): ثابت صحيح. وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 181). وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/ 582)، وابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 136)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (2) رواه مسلم (1852) من حديث عرفجة رضي الله عنه. (3) ((شرح صحيح مسلم للنووي)) (12/ 241). (4) رواه البخاري (3606)، ومسلم (1847). (5) انظر ((شرح صحيح مسلم)) (12/ 237) للنووي ((فتح الباري)) (13/ 36). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وكأن حذيفة رضي الله عنه فهم أن الأحوال السابقة من ترك السنة والعمل بالبدعة والدعوة إليها، كفيل بتمزيق الجماعة المسلمة لذلك سأل لما أمره صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة فقال: " فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ وفي حديث آخر يبين صلى الله عليه وسلم أن هذه البدع وهذا الإحداث في الدين يفرق الأمة المسلمة ويوقعها في الاضطراب فتهتز السلطة والقيادة، والذي من شأنه أن يريق دماء المسلمين لذلك يوصينا صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة على من تولى أمر المسلمين واجتمعت عليه كلمتهم ولو عبدا حبشيا ما دام أنه يسير بهم بكتاب الله تعالى فالعلاج الوحيد لما ستقع فيه الأمة ـ وهي واقعة الآن فيه ـ من الاختلاف والفرقة هو اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين من بعده والابتعاد عن هذه الضلالات المفرقة للجماعة فعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: ((وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال رجل: إن هذه موعظة مودع فبماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبد حبشي فإنه من يعش منكم يرى اختلافا كثيرا وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ)) (1).ولخطورة البدعة يحذرنا منها صلى الله عليه وسلم وينهانا عنها فيقول: ((إياكم والبدع)) (2). وليعلم أن الافتراق من لوازم البدعة والفرقة من سمات أصحابها يقول سبحانه وتعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105]. قال قتادة: يعني أهل البدع (3).يقول الشاطبي رحمه الله: "والفرقة من أخس أوصاف المبتدعة لأنه خرج عن حكم الله وباين جماعة أهل الإسلام (4).ولقد جاء الحكم صريحا فيمن أحدث في الدين فقال عليه الصلاة والسلام: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (5). أي: مردود عليه غير مقبول، لما في هذا الإحداث من خطر بالغ على الدين يقول الإمام ابن القيم: ولهذا اشتد نكير السلف والأئمة لها (6)، وصاحوا بأهلها من أقطار الأرض، وحذروا فتنتهم أشد التحذير وبالغوا في ذلك ما لم يبالغوا مثله في إنكار الفواحش والظلم والعدوان إذ مضرة البدع وهدمها للدين ومنافاتها له أشد (7).ولقد حذر الصحابة من البدع، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن أصدق القيل قيل الله, وإن أحسن الهدي هدي محمد, وشر الأمور محدثاتها (8).وقال ابن مسعود رضي الله عنه: كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار (9).   (1) رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42)، وأحمد (4/ 126) (17184). من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 1164): ثابت صحيح. وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 181). وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/ 582)، وابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 136)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (2) رواه ابن أبي عاصم في ((السنة)) (1/ 20) وحسنه الألباني في ((ظلال الجنة)). (3) انظر ((الاعتصام)) للشاطبي (43). (4) ((الاعتصام)) (90). (5) رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718). من حديث عائشة رضي الله عنه. (6) أي: للبدع. (7) ((تهذيب مدارج السالكين)) لابن القيم هذبه عبد المنعم العزي (208). (8) رواه المروزي في ((السنة)) (90)، وابن وضاح ((البدع والنهي عنها)) (24). (9) رواه المروزي في ((السنة)) (93). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ولقد اشتد نكير ابن مسعود على من أحدث في الدين وابتدع قولا وعملا ومن ذلك أنه جاء رضي الله عنه إلى قوم حلق جلوس في المسجد ينتظرون الصلاة وفي كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى فيقول: كبروا مئة فيكبرون فيقول هللوا مئة فيهللون مئة ويقول سبحوا مئة فيسبحون مئة. فجاءهم رضي الله عنه مع جمع من أصحابه ووقف على إحدى تلك الحلق وقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح. قال فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضع من حسناتكم شيء! ويحكم يا أمة محمد! ما أسرع هلكتكم هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون وهذه ثيابه لم تبل وآنيته لم تكسر والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة. قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا: ((إن قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم)) وأيم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم. ثم تولى. قال عمرو بن سلمة الكوفي: رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج (1).وفي رواية أخرى: أنه ما زال يحصبهم بالحصا حتى أخرجهم من المسجد وهو يقول: لقد أحدثتم بدعة ظلماً أو قد فضلتم أصحاب محمد علماً (2). فانظر كيف أنكر عليهم ابن مسعود بشدة ولم يعذرهم لحسن نيتهم بل قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه, إذ لا تكفي النية الحسنة للفعل ليقبل, بل لا بد من اتباع هدي محمد صلى الله عليه وسلم وسنته ... ويوصي ابن مسعود رضي الله عنه بالاتباع فيقول: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم. ويقول ابن عباس: عليكم بالاستقامة والاتباع, وإياكم والبدع (3).ويقول الزبير بن العوام: السنن السنن فإن السنن قوام الدين (4).   (1) رواه الدارمي (1/ 68 - 69)، وابن أبي شيبة (7/ 553). قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (5/ 11): إسناده صحيح. (2) كتاب ((ما جاء في البدع)) لابن وضاح. (3) ((ذم الكلام)) للهروي (4/ 14). (4) ((السنة)) (111) للمروزي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 ووصايا الصحابة كثيرة متضافرة تأمر بالاتباع وتحذر من الابتداع ولقد سار من بعدهم على نهجهم من التحذير من البدع فأفردوا مصنفات خاصة تأمر بالاتباع ولزوم السنة وتحذر من البدع لخطورتها. حتى لو عدت البدعة بسيطة أو بدا الإحداث في الدين صغيراً, أو كان أمرا فرعياً ميسوراً, فإن لهذا خطره ويجب الحذر منه والنهي عنه. يقول الإمام البربهاري: واحذر صغار المحدثات من الأمو, فإن صغير البدع يعود حتى يصير كبيراً, وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة كان أولها صغيرا يشبه الحق فاغتر بذلك من دخل فيها، ثم لم يستطع الخروج منها فعظمت وصارت دينا يدان بها فخالف الصراط المستقيم فخرج من الإسلام. فانظر رحمك الله كل من سمعت من أهل زمانك خاصة فلا تعجلن ولا تدخلن في شيء منه حتى تسأل وتنظر هل تكلم به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد من العلماء فإن وجدت فيه أثرا عنهم فتمسك به ولا تتجاوز لشيء ولا تختار عليه شيئا فتسقط في النار (1).إن هذا التحذير من البدعة والهلاك الذي يحيط بصاحبها ليس فقط لخطورة البدعة على الفرد بل لخطورتها على الأمة وتقويضها لأركان الدين, ولقد أدرك أعداء الدين خطورة البدع وأهميتها في تفريق الجماعة المسلمة وزعزعة العقيدة الإسلامية التي توحد المسلمين وتجمعهم فعملوا على إشعال البدع بين المسلمين ومساندتها ورعايتها فما خرجت السبئية إلا من أحضان اليهودية، وما ضل جهم بن صفوان إلا بعد مناقشته للسمنية (2).وما المعتزلة ومناهجهم الكلامية إلا من أثر الفلسفة اليونانية. وما زال أعداء الإسلام يواصلون طريقهم في محاولات جادة لإضلال المسلمين وصدهم عن دينهم بالتشكيك في السنة النبوية والطعن في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وإثارة الشبهات حولها (3). وما يقوم به المستشرقون من العمل على إخراج كتب البدع وتحقيقها ونشرها بدعوى إحياء التراث الإسلامي وما نشرت كتب الفلسفة وكتب أهل الاعتزال إلا تحت مسمى حرية الفكر والعقل المزعومة. أخيراً: إنه لا حياة للمسلمين ولا قوة لهم ولا نصر إلا باتباعهم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يقتدوا بالصحابة رضي الله عنهم في موقفهم منهما تسليماً وانقياداً واتباعاً وعلى المسلم أن يوقن أن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وأن شر الأمور محدثاتها فهذا يدحر كل بدعة، يقول ابن القيم: فإن السنة بالذات تمحق البدعة ولا تقوم لها وإذا طلعت شمسها في قلب العبد قطعت من قلبه ضباب كل بدعة وأزالت ظلمة كل ضلالة إذ لا سلطان للظلمة مع سلطان الشمس ولا يرى العبد الفرق بين السنة والبدعة ويعينه على الخروج من ظلمتها إلى نور السنة إلا المتابعة والهجرة بقلبه كل وقت إلى الله بالاستعانة والإخلاص وصدق اللجأ إلى الله والهجرة إلى رسوله بالحرص على الوصول إلى أقواله وأعماله وهديه وسنته فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن هاجر إلى غير ذلك فهو حظه ونصيبه في الدنيا والآخرة والله المستعان (4). المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص209   (1) ((شرح السنة)) (61). (2) السمنية: قوم في الهند دهريون ينكرون من العلم ما سوى الحسيات. انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (2/ 795). (3) انظر: ((صراع الغرب مع الإسلام)) لآصف حسين، ترجمة مازن مطبقاني (92، 115). (4) ((تهذيب مدارج السالكين)) (902)، وانظر: ((الرسالة التبوكية)) لابن القيم (52). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 المبحث الثالث: تقديم الرأي على قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم ... طريق أهل السنة أن لا يعدلوا عن النص الصحيح، ولا يعارضوا بمعقول ولا قول فلان. فهذه طريقة أهل البدع في تلقي النصوص وهم كما وصفهم الفاروق عمر رضي الله عنه أنهم أعداء السنن ويبين رضي الله عنه سبب هذا العداء بين أهل الفرقة والبدعة وبين السنة فيقول: أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين سُئلوا أن يقولوا لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم (1).وفي رواية أخرى: أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلّوا وأضلوا (2).لذلك اشتد نكير أهل السنة - كما قال ابن أبي العز الحنفي - على أصحاب الرأي لهذا المنهج السقيم الذي يهدم الدين ويفرق بين المسلمين يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مبيناً خطورة تقديم الرأي على النص: لا يأتي عليكم زمان إلا وهو أشر مما كان قبله أما إني لا أعني أميراً خيراً من أمير ولا عاماً خيراً من عام، ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفاً ويجيء قوم يفتون برأيهم وفي لفظ آخر: وما ذاك بكثرة الأمطار وقلتها، ولكن بذهاب العلماء ثم يحدث قوم يفتون في الأمور برأيهم فيثلمون الإسلام ويهدمونه (3) ... ويبين الإمام أبو محمد عبد الله بن قتيبة أن منهج أهل السنة المقدّم لنصوص الوحي على كل قول هو الذي يجمع المسلمين بخلاف منهج أهل الرأي والكلام المقدّم لهما على قول الله وقول رسوله فيقول: ولو أردنا رحمك الله أن ننتقل عن أصحاب الحديث ونرغب عنهم إلى أصحاب الكلام ونرغب فيهم لخرجنا من اجتماع إلى تشتت وعن نظام إلى تفرق وعن أنس إلى وحشة وعن اتفاق إلى اختلاف لأن أصحاب الحديث كلهم مجمعون ... لا يختلفون في هذه الأصول (4).   (1) انظر: ((شرح العقيد الطحاوية)) (2/ 498 - 500)، و ((أعلام الموقعين)) (1/ 55). وقال عن هذه الآثار وغيرها: وأسانيد هذه الآثار عن عمر في غاية الصحة. (2) ((أعلام الموقعين)) (1/ 55). (3) ((فتح الباري)) لابن حجر (13/ 21)، و ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 1044). (4) ((تأويل مختلف الحديث)) (64). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وتقدم في المبحث السابق كيف أنكر الصحابة الكرام على من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعارضه برأيه إذ الأمر من الله بالتسليم لقول الله وقول رسوله, والنهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله, والنهي عن رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1]، ويقول سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2] يقول ابن القيم: فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سببا لحبوط أعمالهم فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياستهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه أليس هذا أولى أن يكون محبطا لأعمالهم (1).ويقول: لذلك لم يكن الصحابة رضي الله عنهم يعارضون نصوص الوحي بالرأي بل كانت النصوص أجلّ في صدورهم وأعظم في قلوبهم من أن يعارضوها بقول أحد من الناس ولكنهم كانوا يستشكلون بعض النصوص ويوردون استشكالاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم فيجيبهم عليها وكانوا يسألونه عن الجمع بين النصوص التي ظاهرها التعارض ولم يكن أحد منهم يورد عليه معقولاً يعارض النص ألبتة ولا عرف فيهم أحد – وهم أكمل الأمة عقولاً – عارض نصاً بعقله (2).يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه (3).لذلك كان منهج الصحابة رضي الله عنهم في الفتيا أنه إذا عرضت لأحدهم مسألة وسئل عنها نظر فإن كانت في الكتاب والسنة قضى وإن لم يجد فيها قولاً سأل من هو أعلم منه هل عندك علم من كتاب أو سنة؟ فإن لم يجد جمع أهل العلم واستشارهم فإن اجتمع رأيهم على شيء قضى به (4).وهذا الرأي الذي يصير إليه الصحابة عند عدم وجود النص هو من الرأي المباح إذ الرأي على ثلاثة أقسام (5): القسم الأول: رأي يعين على فهم الكتاب والسنة ورد الأصول إلى الفروع وإلحاق النظير بنظيره وهذا هو الرأي الصحيح الحق الذي لا مندوحة عنه لأحد من المجتهدين. ولقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما يوصيه ويقول: اعرف الأشباه والأمثال وقسْ الأمور. القسم الثاني: الرأي الذي يصار إليه إذا تعذر أن يجد حكماً للواقعة في الكتاب وفي السنة ولم يقل به أحد من الصحابة فحينها يجتهد العالم رأيه. وهذا النوع هو موضع الاشتباه والذي سوّغ الصحابة العمل والفتيا والقضاء به عند الاضطرار إليه, حيث لا يوجد منه بُد, وهذا الرأي لا نعلم مخالفته للكتاب والسنة ولا موافقته لهما فغايته أنه يسوغ العمل به عند الحاجة إليه, من غير إلزام للعمل به ولا إنكار على من خالفه. لقي عمر بن الخطاب رجلاً فقال له ما صنعت؟ قضى علي وزيد بكذا، فقال لو كنت أنا لقضيت بكذا. قال فما منعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لفعلت، ولكني أردك إلى رأي والرأي مشترك. فلم ينقض ما قال علي وزيد. فهذا هو المنهج وهذا هو الأدب واحترام الرأي الآخر إن كان رأياً بشرياً مشتركاً لا يعارض نصاً شرعياً فيحترم هذا الرأي ولا يسفّه ولا يحقّر قائله أو ينقص منه وإن كان مخالف لذلك لم يكن الصحابة يصوّبون آرائهم ويقطعون بأنها الحق فهذا أبو هريرة إذا قال في شيء برأيه قال: هذه من كيسي ... أما إن كان الرأي يخالف نصاً من كتاب أو سنة فلا هوادة في دين الله ولا حرية لهذا الرأي بل هو رأي مذموم مردود، والمعوّل والمقدّم هو قول الله وقول رسوله وهو الحق. القسم الثالث: الرأي المذموم وهو باطل بلا ريب وليس من الدين وهو ما جاءت النصوص بذمه والنهي عنه، وهو ما عابه السلف ومنعوا من العمل والفتيا والقضاء به وهو أنواع وعلى درجات منها: الرأي المخالف للنص وهو أعظمها جرماً وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه ولا تحل الفتيا به وإن وقع فيه من وقع بنوع تأويل وتقليد. الكلام في الدين بالخرص والظن مع التفريط والتقصير في معرفة النصوص وفهمها واستنباط الأحكام منها. الرأي المبتدع وهي البدع المخالفة للسنن. من الرأي المذموم: الانشغال بحفظ المعضلات والأغلوطات ورد الفروع والنوازل بعضها على بعض قياساً دون ردها على أصولها والنظر في عللها واعتبارها أو استعمل فيها الرأي قبل أن تنزل وفرعت وشققت قبل أن تقع ... موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص222   (1) ((أعلام الموقعين)) (1/ 51). (2) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (ص136 - 139) باختصار وتصرف. (3) ((أعلام الموقعين)) (1/ 58). (4) ((أعلام الموقعين)) (1/ 56). (5) انظر: ((أعلام الموقعين)) (1/ 53 - 66 - 85). إذ بسط ابن القيم الحديث عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 المبحث الرابع: الجدل والخصومات في الدين، والتأويل الفاسد إن من العثرات التي وقع فيها أهل الفرقة والشقاق، ومن الثمرات المرة التي جنوها: ما وقعوا فيه من جدل وخصومات في الدين. ما جنوه من التأويل الفاسد للنصوص. وإليك تفصيل ذلك: الجدل والخصومات في الدين: الجدل المنهي عنه هو الكلام فيما لم يؤذن في الكلام فيه كالكلام في المتشابهات من الصفات والأفعال وغيرهما وكمتشابهات القرآن فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [آل عمران:7] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ... )) (1) ولقد جاء القرآن ذاماً أهل البدع أصحاب الفرقة المتبعين للمتشابه الذين يجادلون فيه بغير علم ولا هدى بل يدفعون الحق بالباطل ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة بلا برهان ولا حجة من الله. يقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [غافر:56] وفي آية أخرى يذم الله سبحانه وتعالى حال أهل البدع والضلال المعرضين عن الحق المتبعين للباطل الذين يتركون ما أنزل الله على رسوله ويتبعون أقوال رؤوس الضلالة الدعاة إلى البدع والأهواء والآراء يقول الله سبحانه وتعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ [الحج:3] وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما ضل قوم بعد هدى كانوا إلا أوتوا الجدل, ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف:58])) (2) المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص188 - 235   (1) رواه البخاري (4547) ومسلم (2665) (2) رواه الترمذي (3253) وابن ماجه (48) وأحمد (5/ 252) (22218) وقال الترمذي حسن صحيح إنما نعرفه من حديث حجاج بن دينار وحجاج ثقة مقارب الحديث وأبو غالب اسمه حزور، وحسنه الألباني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 المبحث الخامس: الغلو في الدين، وردود الأفعال لقد جاء الإسلام آمرا بالاعتدال والاقتصاد والوسطية في كل أمر (1)، حتى ميزت هذه الأمة وخصت بذلك، قال سبحانه وتعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة: 143]. وقال سبحانه آمرا بالاستقامة والاعتدال، ناهيا عن الغلو والطغيان: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود: 112]. وحذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغلو ومجاوزة الحد المشروع لنا، فقال عليه الصلاة والسلام ناهيا عن الغلو، مبينا أنه سبب هلاك من قبلنا: ((إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)) (2).وبين عليه السلام أن هذا المتنطع الغالي المتعمق، المجاوز للحد في قوله وفعله (3) هالك لا محالة فيقول: ((هلك المتنطعون)) قالها ثلاثا (4). ويقول سبحانه وتعالى في شأن أهل الكتاب ناهيا إياهم عن الغلو: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً [النساء: 171]. ويقول سبحانه وتعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ [المائدة: 77]. ويبين الإمام الطحاوي اعتدال هذا الدين وبعده عن الغلو فيقول: " ودين الله في الأرض والسماء واحد وهو دين الإسلام. . وهو بين الغلو والتقصير، وبين التشبيه والتعطيل، وبين الجبر والقدر، وبين الأمن والإياس (5). والناظر لأقوال الفرق المبتدعة التي فرقت الأمة بذلك يجدها خرجت بسبب الغلو والتقصير، فالمعطلة غلوا في التنزيه وقصروا في الإثبات، والمشبهة غلوا في الإثبات وقصروا في التنزيه، وكلاهما أخذ ببعض النصوص وترك بعضا، والحق في الاعتدال والجمع بين النصوص.   (1) انظر في ذلك ((الفتاوى)) (3/ 244، 247، 250 – 252)، ((الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية)) (2/ 133). (2) ((سنن النسائي))، كتاب المناسك، باب التقاط الحصى (5/ 278)، سنن ابن ماجة، كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي (2/ 1008)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي له (2/ 640). (3) انظر ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (16/ 220). (4) رواه مسلم (2670). (5) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (2/ 786)، وانظر مستفيدا كتاب ((وسطية أهل السنة بين الفرق)) لمحمد باكريم محمد باعبد الله (ص 303). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 أما الخوارج فغلوا في إثبات الأعمال وعدها من الإيمان حتى كفروا المسلمين بمجرد المعصية، وقابلهم المرجئة فغلوا حتى أخرجوا العمل من الإيمان. فكان الغلو في ردود الأفعال سببا لأن ترد البدعة ببدعة والباطل بباطل. يقول الإمام أبو محمد عبد الله بن قتيبة رحمه الله: ولما رأى قوم من أهل الإثبات إفراط هؤلاء في القدر، وكثر بينهم التنازع حمل البغض لهم واللجاج على أن قابلوا غلوهم بغلو، وعارضوا إفراطهم بإفراط, فقالوا بمذهب جهم في الجبر (1).ويقول ابن أبي العز الحنفي: فصار هؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا يقابلون البدعة بالبدعة، أولئك غلوا في علي وأولئك كفروه؟ وأولئك غلوا في الوعيد حتى خلدوا بعض المؤمنين، وأولئك غلوا في الوعد حتى نفوا بعض الوعيد أعني المرجئة. وأولئك غلوا في التنزيه حتى نفوا الصفات، وهؤلاء غلوا في الإثبات حتى وقعوا في التشبيه، وصاروا يبتدعون من الدلائل والمسائل ما ليس بمشروع ويعرضون عن الأمر المشروع، وفيهم من استعان على ذلك بشيء من كتب الأوائل: اليهود والنصارى والمجوس والصابئين، فإنهم قرؤوا كتبهم فصار عندهم من ضلالتهم ما أدخلوه في مسائلهم ودلائلهم، وغيروه في اللفظ تارة، وفي المعنى أخرى، فلبسوا الحق بالباطل، وكتموا حقا جاء به نبيهم، فتفرقوا واختلفوا. . وسبب ضلال هذه الفرق وأمثالهم عدولهم عن الصراط المستقيم " (2).من الخطأ إذاً: أن ترد البدعة ببدعة، وينقض الباطل بباطل مثله، إنما المنهج في الرد على أهل البدع ما ذكره ابن تيمية حيث يقول: كثير من الناس مع أهل البدع الكلامية والعملية بهذه المنزلة: إما أن يوافقوهم على بدعهم الباطلة، وإما أن يقابلوها ببدعة أخرى باطلة، وإما أن يجمعوا بين هذا وهذا، وإنما الحق في أن لا يوافق المبطل على باطل أصلا، ولا يدفع باطله بباطل أصلا، فيلزم المؤمن الحق وهو ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يخرج منه إلى باطل يخالفه: لا موافقة لمن قاله، ولا معارضة بالباطل لمن قال باطلا، وكلا الأمرين يستلزم معارضة منصوصات الكتاب والسنة بما يناقض ذلك وإن كان لا يظهر ذلك في بادئ الرأي (3).ويذكر أن رد الباطل بباطل، والبدعة ببدعة من طرق استزلال الشيطان لبني آدم فينبغي الحذر منه فيقول: " لا يجوز لأحد أن يغير شيئا من الشريعة لأجل أحد. . فإن الشيطان قصده أن يحرف الخلق عن الصراط المستقيم ولا يبالي إلى أي الشقين صاروا، فينبغي أن يجتنب جميع هذه المحدثات " (4). المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص245 - 247   (1) ((الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية)) (ص 20)، وانظر (ص 22، 40 – 42) منه. (2) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (2/ 799) باختصار. (3) ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 292) وانظر (1/ 254) و (7/ 288). (4) انظر ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 133 – 134) باختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 المبحث السادس: التعصب المذهبي والطائفي، والتقليد للرجال، وتقديم أقوالهم على قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إن من أسباب الفرقة ما يقع فيه بعض المسلمين من الغلو والتعصب في الأشخاص، والتقليد الأعمى لأقوالهم وتقديمها على قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا مما حذرنا الله تعالى منه، وأمرنا أن نعتبر بحال أهل الكتاب الذين غلوا في عيسى عليه السلام، وتعصبوا له ولأتباعه فأدى بهم ذلك إلى انحرافهم عن الصراط المستقيم، يقول الله سبحانه وتعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً [النساء: 171]. يقول ابن كثير: فينهى الله تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء وهذا كثير في النصارى فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلا، أو ضلالا أو رشادا، ولهذا قال تعالى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 31]. ويقول سبحانه وتعالى مبينا سبب ضلال القوم وسبب هذا الغلو: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ [المائدة: 77]. ومعنى الآية: أي لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق، ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه عن حيز النبوة إلى مقام الإلهية. . وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخكم شيوخ الضلال الذين هم سلفكم ممن ضل قديما، وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال إلى طريق الغواية والضلال (1).ولقد جاء النهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المبالغة في المدح والثناء أو رفع الإنسان فوق منزلته، إذ لما جاءه وفد بني عامر قالوا له: أنت سيدنا، فقال: ((السيد الله تبارك وتعالى, قالوا: وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا، فقال: قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان)) (2).   (1) انظر ((تفسير ابن كثير)) (2/ 78). (2) رواه أبو داوود (4806) وصححه الألباني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 فانظر كيف خاف عليه الصلاة والسلام من إضلال الشيطان لعباد الله تعالى بالمبالغة في المديح فيدخل الشيطان على المسلمين من باب تعظيم الرجال والتعصب لهم ولأقوالهم؛ وقد فعل. ولقد عد الإمام الشاطبي رحمه الله: أن التصميم على اتباع العوائد – وهي اتباع ما كان عليه الآباء والأشياخ وأشباه ذلك، وإن فسدت أو كانت مخالفة للحق – عده من أسباب الاختلاف والفرقة، وهذا هو التقليد المذموم الذي ذم الله عز وجل متبعيه حينما قالوا: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ [الزخرف: 22] ثم قال: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف: 24] فنبههم على وجه الدليل الواضح، لكنهم استمسكوا بمجرد تقليد الآباء (1).ويبين عمرو بن العاص رضي الله عنه صورة من صور هذا التقليد المذموم الذي يصد عن اتباع الحق وذلك أن رجلا قال له: ما أبطأ بك عن الإسلام وأنت أنت في عقلك؟ قال عمرو: إنا كنا مع قوم لهم علينا تقدم (يعني أباه ومن هم في طبقته) وكانوا ممن نوازي حلومهم الجبال. فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم فأنكروا عليه، قلدناهم، فلما ذهبوا وصار الأمر إلينا نظرنا وتدبرنا فإذا حق بين، فوقع في قلبي الإسلام (2).إن التقليد والاتباع المحرم المذموم هو أن يتبع غير الرسول فيما خالف فيه الرسول كائنا من كان المخالف (3).وهذا التقليد المذموم والتعصب الأعمى قد جر ويلات كثيرة على الأمة المسلمة، وأوجب أنواعا من الفساد كثيرة (4)، منها: "التفرق والاختلاف المخالف للاجتماع والائتلاف حتى يصير بعضهم يبغض بعضا ويعاديه، ويحب بعضا ويواليه على غير ذات الله، وحتى يفضي الأمر ببعضهم إلى الطعن، والهمز، واللمز. وببعضهم إلى الاقتتال بالأيدي والسلاح، وببعضهم إلى المهاجرة والمقاطعة حتى لا يصلي بعضهم خلف بعض، وهذا كله من أعظم الأمور التي حرمها الله ورسوله، والاجتماع والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله. وكثير من هؤلاء يصير من أهل البدعة بخروجه عن السنة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، ومن أهل الفرقة بالفرقة المخالفة للجماعة التي أمر الله بها رسوله " (5).فكل من نصب شخصا كائنا من كان فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم: 32] (6).ثم ليعلم أن المتعصب لأحد المذاهب الفقهية فيه شبه بأهل البدع، وهو قريب من منهجهم متحل ببعض سماتهم، يقول ابن تيمية رحمه الله: " ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين، كالرافضي، وكالخارجي، فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسنة أنهم مذمومون، خارجون عن الشريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء " (7). المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص248 - 251   (1) انظر ((الاعتصام)) للشاطبي (ص 451). (2) ((المنتقى من منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال)) للذهبي (ص 606). (3) انظر ((الفتاوى)) لابن تيمية (19/ 141). (4) انظرها مبسوطة في ((الفتاوى)) (22/ 210 - 216). (5) انظر ((الفتاوى)) (22/ 210 - 211) باختصار. (6) انظر ((الفتاوى)) (20/ 8)، وانظر (19/ 39 - 40). (7) الفتاوى (22/ 252). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 المبحث السابع: التنازع على السلطة والملك وحب الرئاسة والظهور والبغي أخبرنا الله عز وجل عن أهل الكتاب واختلافهم، وكشف لنا سبحانه عن سبب تفرقهم مع ما عندهم من العلم الذي كان يجب أن يجمعهم، ويحسم الخلاف الذي وقعوا فيه، ولكنهم حقيقة اختلفوا عن علم، وتفرقوا عن عمد، وما ذاك إلا لبغي بعضهم على بعض، يقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران: 19]، وقال سبحانه وتعالى: وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ [الشورى: 14]. قال أبو العالية عن قوله تعالى: إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ بغيا على الدنيا وطلب ملكها وسلطانها، فقتل بعضهم بعضا على الدنيا من بعد ما كانوا علماء الناس (1).وقال الطبري في معناه: " أنهم أتوا ما أتوا من الباطل على علم منهم بخطأ ما قالوه، وأنهم لم يقولوا ذلك جهلا منهم، ولكنهم قالوه واختلفوا فيه تعديا من بعضهم على بعض، وطلب الرياسات والملك والسلطان " (2).فالذي فرق أهل الكتاب هو تنازعهم على السلطة والملك، وحب الرئاسة والظهور والسعي لحصول ذلك ولو بظلم الناس وأخذ أموالهم وقطع رقابهم (3).ولقد حذر عثمان بن عفان رضي الله عنه من ذلك، فقال في آخر خطبة له في جماعة بعد كثرة الفتوحات قال للناس: ". . لا تبطرنكم الفانية، ولا تشغلنكم عن الباقية، وآثروا ما يبقى على ما يفنى، فإن الدنيا منقطعة، وإن المصير إلى الله، واتقوا الله، واحذروا من الله الغير، والزموا جماعتكم لا تصيروا أحزابا " (4).   (1) انظر ((تفسير الطبري)) (3/ 142). (2) انظر ((تفسير الطبري)) (3/ 142). (3) انظر: ((تفسير القرطبي)) (3/ 23) (4/ 29)، ((فتح القدير)) للشوكاني (1/ 213، 326). (4) انظر ((البداية والنهاية)) لابن كثير (7/ 215) باختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 إن التهالك على الدنيا والسعي الحثيث للحصول على المناصب والرئاسة فيها مذموم، إذ يطبع صاحبه على الحسد، والشح ويدفع ساعيه لظلم الناس ليتحقق مطلوبه، والفساد لا يظهر في البلاد والعباد إذا صدر هذا العمل من فئتين من الناس – المفترض فيهم الإصلاح والإخلاص – فإن صدر من الأمراء، وصدر من العلماء وقعت البلية، وعمت الرزية، وتمكن العدو من المسلمين لأن ولاتهم من العلماء والأمراء في شغل شاغل لتحقيق مصالحهم ومطامعهم. فتقع الفرقة في كيان الأمة لأن المصلحين من العلماء والأمراء متفرقون فيما بينهم، مختلفون في مصالحهم فكيف يجمعون الأمة ويسعون لإصلاح الناس؟! إن فاقد الشيء لا يعطيه. لذلك جاء التحذير الشديد من الرسول الرحيم عليه الصلاة والسلام لما سمعت الأنصار بقدوم مال من البحرين تعرضوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الفجر، فتبسم عليه السلام ثم قال: ((أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟ فقالوا: أجل يا رسول الله. قال: فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)) وفي رواية: ((وتلهيكم كما ألهتهم)) (1). ولقد أخبر عليه الصلاة والسلام بوقوع ذلك في هذه الأمة ففي حديث آخر قال: ((إذا فتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أو غير ذلك؟ تنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون – أو نحو ذلك – ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض)) (2).ولقد رتبت الأمور بعضها على بعض في الحديث، إذ الأمر يأتي بالتدريج، قال النووي رحمه الله: " قال العلماء التنافس إلى الشيء المسابقة إليه وكراهية أخذ غيرك إياه، وهو أول درجات الحسد، أما الحسد فهو تمني زوال النعمة عن صاحبها، والتدابر: التقاطع وقد بقي مع التدابر شيء من المودة أو لا يكون مودة ولا بغض، أما التباغض فهو بعد هذا ولهذا رتبت في الحديث " (3). وأما قوله: ((. . ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين. .)) أي ضعفائهم فيجعلون بعضهم أمراء على بعض (4).ولقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن هلاكا سيقع في الأمة عند تنازع ولاتها على الملك، ففي الحديث أنه قال: ((هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش)) (5).والمراد بالغلمة هنا جمع غليم بالتصغير وهو الضعيف العقل والتدبير والدين، ولو كان محتلما (6).فأخبر صلى الله عليه وسلم أن ولايتهم هلاك للأمة، وذلك أنهم يهلكون الناس بسبب طلبهم الملك والقتال لأجله، فتفسد أحوال الناس، ويكثر الخبط بتوالي الفتن (7).ولقد جاء في وصف الخوارج أنهم " حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام " ومن كان هذا وصفه حري به أن يسارع في الفتنة جهلا منه، مع ما قد يجتمع معه من حب الرئاسة والظهور، وهذا كان حال الخارجين على عثمان رضي الله عنه، المثيرين النزاع حول السلطة، المفرقين للأمة، إذ المتتبع لتراجم هؤلاء الخارجين على عثمان رضي الله عنه يجدهم ممن يوصف بالشجاعة والجرأة والإقدام، ومع حب الرئاسة والظهور، وليس بينهم من يوصف بالعلم والفقه (8).   (1) رواه البخاري (6425) ومسلم (2961). (2) رواه مسلم (2962). (3) شرح ((صحيح مسلم)) للنووي (18/ 96). (4) شرح ((صحيح مسلم)) للنووي (18/ 97). (5) رواه البخاري (7058). (6) انظر ((فتح الباري)) (13/ 9). (7) انظر ((فتح الباري)) (13/ 10). (8) انظر حاشية ((العواصم من القواصم)) في ثوبه الجديد، تحقيق في مواقف الصحابة لمحب الدين الخطيب (ص 109 - 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 ومما يدل على أن الخارجين على عثمان رضي الله عنه كان سبب خروجهم طلب الرئاسة والملك، أنه لما بويع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واستقر له الأمر بعد وقعة الجمل، استعمل رضي الله عنه عبد الله بن عباس على البصرة وبلغ ذلك مالكا الأشتر (1) - وهو من الخارجين على عثمان – فغضب وقال: " علام قتلنا الشيخ (2)؟ إذ اليمن لعبيد الله، والحجاز لقثم (3)، والبصرة لعبد الله، والكوفة لعلي " (4)؟! بل إنهم صرحوا بأن خروجهم وشغبهم على عثمان كان طلبا للرئاسة، فقد كان هؤلاء النفر (5) أثاروا الشغب والفتنة في الكوفة، فسيرهم عثمان رضي الله عنه إلى معاوية في الشام، فذكرهم معاوية بالله وبالتقوى لفساد الحال وهتك حرمة الأمة (6)، وبين لهم معاوية كيف أن ولاة الأمر للمسلمين جنة فقال: " أن أئمتكم لكم إلى اليوم جنة (7)، فلا تسدوا عن جنتكم ... ".فقال صعصعة بن صوحان (8): أما ما ذكرت من الجنة، فإن الجنة إذا اخترقت خلص إلينا (9). أي إذا قتلنا ولاتنا صارت الولاية إلينا (10).ولقد كتب معاوية إلى عثمان رضي الله عنه يصفهم فقال: إنه قدم علي أقوام ليست لهم عقول ولا أديان. أثقلهم الإسلام وأضجرهم العدل، ولا يريدون الله بشيء، ولا يتكلمون بحجة، إنما همهم الفتة، وأموال أهل الذمة، والله مبتليهم ومختبرهم، ثم فاضحهم ومخزيهم ... " (11).إن إثارة الشغب والفتنة في الأمة، وظهور الخلافات السياسية بين ولاة أمر المسلمين من شأنه أن يضعف الدولة الإسلامية، ويشجع على ظهور الفرق المبتدعة، فسرعان ما تطل الفتنة برأسها، وترفع البدعة لوائها لتفرق الجماعة المسلمة، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في وصف الخوارج: ((يخرجون على حين فرقة من الناس)) (12).ولقد عاب الصحابة رضي الله عنهم التنازع على السلطة والتقاتل على الملك، فعن سعيد بن جبير (13)   (1) هو: مالك بن الحارث النخعي المعروف بالأشتر، كان من ملوك العرب، وأحد الأشراف والأبطال، وكان ممن ألب على عثمان وحضر حصره في المدينة، شهد الجمل وصفين مع علي بن أبي طالب، توفي عام 37هـ. انظر: ((السير)) (4/ 34)، ((تهذيب التهذيب)) (10/ 11). (2) يقصد به عثمان رضي الله عنه. (3) هو: قثم بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وأخو الفضل وعبد الله وعبيد الله له صحبه، قد أردفه النبي صلى الله عليه وسلم خلفه، وكان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو قليل الرواية. انظر: السير (3/ 440)، تهذيب التهذيب (8/ 361). (4) انظر ((تاريخ الطبري)) (3/ 31) حاشية ((العواصم من القواصم)) لمحب الدين الخطيب (ص 115). (5) منهم: عبد الرحمن بن عديس، ومالكا الأشتر، وحكيم بن جبلة، وابن الكواء اليشكري، وصعصعة بن صوحان العبدي وأخوه زيد، وجندب بن زهير الغامدي وغيرهم، انظر ((تاريخ الطبري)) (2/ 639). (6) انظر ((العواصم من القواصم))، تحقيق محب الدين الخطيب (ص 116). (7) معنى جنة أي سترة، لأنه يمنع العدو أذى المسلمين، ويكف أذى بعضهم عن بعض. انظر ((فتح الباري)) (6/ 116). (8) هو: صعصعة بن صوحان العبدي أبو طلحة، أحد خطباء العرب، وشهد صفين مع علي رضي الله عنه، توفي بالكوفة في خلافة معاوية رضي الله عنه. انظر: الإصابة (3/ 259)، السير (3/ 528). (9) انظر الخبر في الفتنة ووقعة الجمل رواية سيف بن عمر الضبي، جمع أحمد عرموش (ص 38). (10) انظر حاشية ((العواصم من القواصم)) للخطيب (ص 116). (11) انظر ((الفتنة ووقعة الجمل)) (ص 39). (12) رواه البخاري (6163) ومسلم (1064). (13) هو: سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الكوفي أبو محمد وقيل أبو عبد الله، قال الطبري: هو ثقة إمام، حجة على المسلمين قتل في شعبان سنة 95هـ .. انظر: السير (4/ 321)، تهذيب التهذيب (4/ 11). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 فقال خرج علينا عبد الله عمر فرجونا أن يحدثنا حديثا حسنا، قال فبادرنا إليه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن حدثنا عن القتال في الفتنة والله يقول: " قاتلوهم حتى لا تكون فتنة " فقال: " هل تدري ما الفتنة ثكلتك أمك؟ إنما كان محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين، وكان الدخول في دينهم فتنة وليس كقتالكم على الملك " (1).فالرجل أراد أن يحتج بالآية على مشروعية القتال في الفتنة التي تقع بين المسلمين، والتي كان ابن عمر ترك القتال فيها، ولو ظهر أن إحدى الطائفتين محقة والأخرى مبطلة، فأخبره عن الفتنة المأمور بالقتال فيها، وقوله: " وليس كقتالكم على الملك " أي: في طلب الملك، وهو يشير إلى ما وقع بين مروان ثم عبد الملك ابنه وبين ابن الزبير وما أشبه ذلك (2).ولقد ذم أبو برزة الأسلمي (3) رضي الله عنه وأنكر القتال على الملك ولطلب الدنيا فقال: " إني احتسبت عند الله أني أصبحت ساخطا على أحياء قريش، إنكم يا معشر العرب كنتم على الحال الذي علمتم من الذلة والقلة والضلالة، وإن الله أنقذكم بالإسلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم حتى بلغ بكم ما ترون، وهذه الدنيا التي أفسدت بينكم. إن ذاك الذي بالشام والله إن يقاتل إلا على دنيا (4)، وإن هؤلاء الذين بين أظهركم والله إن يقاتلون إلا على دنيا (5)، وإن ذاك الذي بمكة والله إن يقاتل على الدنيا (6) (7). إن المنازعة على الملك والسلطة مذمومة لكل أحد، فما بالك إذا كانت المنازعة من قبل العلماء؟!. إن صلاح العلماء وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر صلاح للأمة، وبالمقابل فإن فسادهم وسوء نياتهم بلاء وفتنة للأمة، لذلك جاء الوعيد الشديد لمن طلب العلم بقصد الرئاسة والظهور، وكان همه الحصول على متاع دنيوي بهذا العلم الرباني، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار)) (8).يقول الإمام الآجري محذرا من هذا المسلك: " فمن طلبه للفخر والرياء، والجدل والمراء، وتأكل به الأغنياء، وجالس به الملوك وأبناء الملوك، لينال به الدنيا فهو ينسب نفسه إلى أنه من العلماء، وأخلاقه أخلاق أهل الجهل والجفاء، فتنة لكل مفتون، لسانه لسان العلماء، وعمله عمل السفهاء (9).يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " لو أن أهل العلم صانوا العلم ووضعوه عند أهله سادوا به أهل زمانهم، ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا لينالوا من دنياهم فهانوا على أهلها " (10).ويبين معاذ بن جبل رضي الله عنه خطورة العلماء طلاب الرئاسة والدنيا فيقول في كل مجلس يجلسه: " هلك المرتابون، إن من ورائكم فتنا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه الرجل والمرأة، والحر والعبد، والصغير والكبير، فيوشك الرجل أن يقرأ في ذلك الزمان فيقول: ما بال الناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن، فيقول: ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع فإنما ابتدع ضلالة " (11). فهذا الرجل الجاهل الذي قرأ القرآن وتحلى بزي العلماء – وليس منهم – يبتدع في دين الله، ويضل عباد الله، كل ذلك طلبا للرئاسة وحب الظهور، فهذا الصنف من الناس من شأنه أن يفرق الأمة بما ينشر بينهم من بدع وضلالات. وليس هذا فقط، بل من شأنه أن يسارع في كل فتنة ويخرج عن كل قول ومذهب؛ متى ما برقت الدنيا أمامه، ووعد بمنصب أو رئاسة (12)، وصدق عبد الله بن المبارك حينما قال: وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها (13) المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص255 - 263   (1) رواه البخاري (7095). (2) انظر ((فتح الباري)) (13/ 47). (3) هو: نضلة بن عبيد الأسلمي أو برزة مشهور بكنيته، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، روى عدة أحاديث، توفي سنة 64هـ. انظر: ((الإصابة)) (6/ 237)، ((السير)) (3/ 40). (4) يقصد به مروان بن الحكم وقصد بيعة ابن الزبير وبايع له أهل الشام. (5) أي: أهل البصرة. (6) يقصد به عبد الله بن الزبير لما بويع بالخلافة. (7) رواه البخاري (7112)، فأبو برزة رضي الله عنه ذم الطوائف الثلاث كلها لأنه كان لا يرى قتال المسلمين أصلا، فكان يرى لصاحب الحق أن يترك حقه لمن نازعه فيه ليؤجر على ذلك ويمدح بالإيثار على نفسه لئلا يكون سببا لسفك الدماء. وهذا رأي ابن عمر رضي الله عنهما أيضا، ولكن الجمهور على أن الفتنة مختصة بها إذا وقع القتال بسبب التغالب في طلب الملك، وأما إذا علمت الباغية فلا تسمى فتنة وتجب مقاتلتها حتى ترجع إلى الطاعة. انظر ((فتح الباري)) (13/ 47، 70). (8) رواه الترمذي (2654)، وقال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وحسنه الألباني في صحيح ((سنن الترمذي)) (2/ 337). (9) انظر ((أخلاق العلماء)) (ص 78). (10) انظر ((أخلاق العلماء)) للآجري (ص 88). (11) كتاب ((الشريعة)) للآجري (1/ 405)، والحلية لأبي نعيم (1/ 232). (12) انظر ((الاعتصام)) للشاطبي (447 – 449). (13) انظر ((شرح العقيدة الطحاوية)) (1/ 235). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 المبحث الثامن: الخروج عن طاعة أولي الأمر (العلماء والأمراء) لقد أمر الله عز وجل بطاعة أولي الأمر، وعد ذلك من طاعته كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ [النساء: 59]، واختلف في المراد بـ " أُوْلِي الأَمْرِ" هنا: فقيل: إنهم الأمراء، وقيل إنهم العلماء والفقهاء (1). والظاهر أن الآية عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء (2). يقول ابن قيم الجوزية مرجحا أن المراد بأولي الأمر: العلماء والأمراء: والقولان ثابتان عن الصحابة في تفسير الآية، والصحيح أنها متناولة للصنفين جميعا، فإن العلماء والأمراء ولاة الأمر الذي بعث الله به رسوله، فإن العلماء، ولاته حفظا وبيانا وذبا عنه، وردا على من ألحد فيه وزاغ عنه. والأمراء ولاته قياما وعناية وجهادا وإلزاما للناس به، وأخذهم على يد من خرج عنه. وهذان الصنفان هما الناس، وسائر النوع الإنسان تبع لهما ورعية" (3). نعم، إن هؤلاء هما الناس، وسائر النوع الإنساني تبع لهما ورعية، ومتى ما اختل هذا الميزان وقعت الفرقة في الأمة، ودب الضعف في كيانها. إن تنحية العلماء عن منصب الولاية والقيادة (4)، والخروج عن قولهم ورأيهم خطر عظيم، وأمارة من أمارات الساعة، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) (5).والمراد بـ " الأمر ": هو جنس الأمور التي تتعلق بالدين كالخلافة والإمارة والقضاء، والإفتاء وغير ذلك (6).ومعنى الحديث: " أن الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده وفرض عليهم النصيحة لهم، فينبغي لهم تولية أهل الدين، فإذا قلدوا غير أهل الدين فقد ضيعوا الأمانة التي قلدهم الله تعالى إياها " (7). وقد يغفل بعض الناس عن أهمية طاعة العلماء، ويقللون من خطر الخروج عن مشورتهم، فنجد كثيرا من يتحدث عن وجوب طاعة الأمراء، وأهميته في تحقق الجماعة واستتباب الأمن في المجتمع، وهذا حق. . ولكنهم يغفلون عن أهمية طاعة العلماء، وحاجة الأمة كلها رؤساء وأمراء وعامة إليهم.   (1) انظر ((تفسير الطبري)) (5/ 150)، ((الرسالة)) للشافعي (ص 79)، ((أخلاق العلماء)) للآجري (ص 20)، كتاب السنة للمروزي (ص 41). (2) انظر ((تفسير ابن كثير)) (2/ 497)، مختصر شعب الإيمان لأبي بكر البيهقي اختصره أبو القاسم عمر القزويني (ص 68). (3) الرسالة التبوكية (ص 50). (4) لا يعني ذلك أن إمام المسلمين والخليفة ينبغي أن يكون أعلم الناس، لا بل تجوز ولاية الرجل مع وجود من هو أعلم منه، لكن يجب عليه لزوم مشورة العلماء الربانيين. انظر اختصار غياث الأمم في التياث [الظلم لأبي المعالي الجويني، اختصار محمد الحسيني (ص32)، الأصول والفروع لابن حزم الأندلسي (2/ 292). (5) رواه البخاري (6496) (6) انظر ((فتح الباري)) (11/ 334). (7) انظر ((فتح الباري)) (11/ 334). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 إن الخروج عن طاعة العلماء الربانيين، وترك مشورتهم مفسد للدنيا والآخرة، ولا يعني هذا تقديسهم أو التعصب لأقوال الرجال، ليس هذا إطلاقا، بل متى ما عارض قولهم قول الله ورسوله رد ولم يقبل، فقولهم معتبر ورأيهم متبع لأنهم يتبعون ما جاء من ربهم ويبينونه للناس، يقول الإمام أحمد بن حنبل واصفا العلماء: " الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم. ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدع، وأطلقوا عقال الفتنة " (1).أما ولي الأمر من الأمراء فطاعتهم واجبة ما دام أنهم يحكمون بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فالله سبحانه قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [النساء: 59]، فلم يقل وأطيعوا أولي الأمر بل عطف طاعتهم على طاعة الرسول إذ أنه لا تجب طاعة أحدهم إلا إذا اندرجت تحت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم (2).فطاعة أولي الأمر إذاً ليست طاعة مفردة مستقلة، بل طاعتهم طاعة مستثناة فيما لهم وعليهم، واجبة لهم ما دام أنهم يحكمون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم (3). ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)) (4).وقال أيضا: ((السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) (5). وقال: ((إنما الطاعة في المعروف)) (6).وقال عليه السلام: ((من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني، وإنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرا، وإن قال بغيره فإن عليه منه)) (7).وكان ما قاله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع قوله: ((إن أمر عليكم عبد مجدع – حسبتها قالت أسود - (8). يقودكم بكتاب الله فأسمعوا له وأطيعوا)) (9). وفي هذه النصوص فوائد وأحكام منها:   (1) الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد بن حنبل، تحقيق عبد الرحمن عميرة (ص 85). (2) انظر الرسالة التبوكية (ص 48) بتصرف. (3) انظر ((الرسالة)) للشافعي (ص 80)، كتاب السنة للمروزي (ص 41)، ((الرسالة التبوكية)) لابن القيم (ص 49). (4) رواه البخاري (693). (5) ورواه البخاري (7144) ومسلم (1839). (6) رواه البخاري (7145) ومسلم (1840). (7) رواه البخاري (2957). (8) القائل ذلك راوي الحديث يحيى بن حصين عن جدته أم الحصين أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك. (9) رواه مسلم (1298). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وجوب طاعة الإمام وأن طاعته من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن من أطاع الأمراء ممتثلا أمر الله ورسوله فأجره على الله، أما إن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذ من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم، وإن منعوه عصاهم، فما له في الآخرة من خلاق (1)، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم ... وذكر منهم: " رجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنياه، إن أعطاه ما يريد وفى له؛ وإلا لم يف له)) (2).إن المرام بالإمام هنا: ليس مقصورا على إمامة المسلمين العامة، بل يشمل كل من ولي أمرا من أمور المسلمين وقام بأمور الناس، وكانت توليته من الإمام العام (3). فيجري عليه الحكم. إن طاعة الإمام ليست طاعة مطلقة أو مستقلة، بل طاعتهم تكون ما أطاعوا الله ورسوله، فالطاعة في المعروف. وبالتالي: لا طاعة للإمام إذا أمر بمعصية الله تعالى، فيحرم على من كان قادرا على الامتناع عن طاعة الإمام إذا أمر بمعصية، تحرم عليه هذه الطاعة (4). إن على المؤمن أن يتقي الله، ولا تأخذه العزة بالإثم، وتأخذه الأنفة من أن يطيع وينقاد لمن ولي أمر المسلمين مهما كان شكله أو نسبه، ما دام أن يحكم بكتاب الله تعالى. إن وجوب طاعة الإمام، والنهي عن الخروج عليه لا تعني المداهنة والمسايرة لهذا الإمام على حساب الدين، ولا تعني السكوت عن المنكر وتحسين فعل الإمام، بل يجب إنكار المنكر، والأمر بالمعروف مع البقاء على الطاعة العامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه يستعمل عليكم أمراء. فتعرفون وتنكرون. فمن كره فقد برئ. ومن أنكر فقد سلم. ولكن من رضى وتابع)) (5). وقال: ((إذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يدا عن طاعة)) (6). فمن كره ذلك المنكر فقد برئ من إثمه وعقوبته، وهذا في حق من لا يستطيع إنكاره بيده ولا لسانه، فليكرهه بقلبه وليبرأ ولا إثم عليه، أما الإثم والعقوبة فتكون على من رضي وتابع (7). مسألة: متى يجوز الخروج على الإمام بالسيف وقتاله وخلعه؟ بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم متى يكون ذلك، إنها في حالة واحدة في حال الكفر بالله عز وجل، ففي الحديث عن عبادة بن الصامت قال: ((دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه. . على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان)) (8).وفي حديث آخر لما ذكر من تغير الأمراء قالوا له: ((يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا)) (9).وفي حديث آخر قوله: (( ... وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم. قيل: يا رسول الله ألا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)) الحديث (10).قال النووي رحمه الله: " لا يجوز الخروج على الخلفاء بمجرد الظلم أو الفسق ما لم يغيروا شيئا من قواعد الإسلام " (11).ويقول ابن حجر عن الوالي الكافر: " إنه ينعزل بالكفر إجماعا، فيجب على كل مسلم القيام في ذلك، فمن قوي على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض " (12). المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص264 - 275   (1) انظر ((الفتاوى)) لابن تيمية (35/ 13). (2) رواه البخاري (7212)، ومسلم (108). (3) انظر ((فتح الباري)) (6/ 116)، (13/ 122). (4) انظر ((فتح الباري)) (13/ 123). (5) رواه مسلم (1854). (6) رواه مسلم (1855). (7) انظر شرح ((صحيح مسلم)) للنووي (12/ 243)، وانظر ((الفتاوى)) لابن تيمية (28/ 277)، (75/ 7). (8) رواه البخاري (7056)، ومسلم (1709). (9) رواه مسلم (1854). (10) رواه مسلم (1855). (11) شرح ((صحيح مسلم)) (12/ 243). (12) ((فتح الباري)) (013/ 123)، وانظر مستزيدا كتاب الطريق إلى الخلافة " اختصار غياث الأمم " للجويني، اختصار محمد الحسيني (40 – وما بعدها). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 المبحث التاسع: التشنيع على أولي الأمر والتقول عليهم، وتأليب الناس ضدهم وتتبع زلاتهم والاحتجاج بها إن من الأسباب التي تفرق الأمة المسلمة وتدعو للخروج على الجماعة وإمامها ما يفعله بعض المغرضين وأصحاب الأهواء، أو الجهال من التشنيع على أولي الأمر ولهم في ذلك طرق كثيرة منها: التقول على أولي الأمر من علماء وأمراء، والكذب عليهم، ولهم في هذا أهداف. محاولة تحقير أولي الأمر والحط من شأنهم بالاحتجاج بزلاتهم، والعمل على هتك سترهم وتصيد أخطائهم، وتضخيمها ونشرها، أو تأويل ما يقع حسب ما يهوون، ووفق ما يخدم مصالحهم. وبيان ذلك بالآتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 التقول على أولي الأمر، والكذب عليهم: لقد دأب أهل الأهواء وأصحاب الفرقة على التقول على أولي الأمر لتأليب الناس ضدهم، ولإعطاء أنفسهم مبررا لخروجهم على الجماعة وعلى إمام المسلمين، فأشعلوا الفتنة وأراقوا دماء المسلمين. ولقد سلك مدبروا الفتنة الخارجون على عثمان رضي الله عنه هذا المسلك فكذبوا على أمير المؤمنين عثمان بن عفان حينما سرقوا خاتمه وزوروا الكتاب باسمه إلى عامله بمصر يأمره بقتل من رجع عنه من ثوار مصر (1).وزوروا كتابا آخر بلسان علي بن أبي طالب إلى ثوار أهل العراق – الذين شرعوا في المسير نحو ديارهم بعد محاورتهم لعثمان واقتناع أغلبهم – يطلب منهم أن يعودوا إلى المدينة (2).ولم يكتف هؤلاء الثوار بذلك بل سعوا إلى التقول والكذب على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكتابة كتاب باسمها تأمر الناس فيه بالخروج على عثمان (3).وبيَّن محب الدين الخطيب أثر التقول على الولاة، وأثر الوشايات الكاذبة في التحريض على الخروج على الإمام، فقال: كان الزاحفون من أمصارهم على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فريقين: رؤساء خادعين على درجات متفاوتة، ومرؤوسين مخدوعين، وهم الكثرة التي يثبت فيها دعايات مغرضة حتى ظنت أن هنالك منفيين مظلومين، ومحرومين سلبوا حقهم (4).إن حب الدنيا والطمع في الرئاسة يدفع أصحاب الأهواء إلى الكذب على ولاة الأمر، وإلى تزييف الحقائق، وتأويل المواقف، كل ذلك ليحصل مرادهم من تأليب الناس على الولاة، ومن تبرير عداوتهم لهم، فانظر كيف أن بعض بني مروان كان يشيع أن عليا رضي الله عنه لم يكن خليفة راشدا، بل كان ممن ينازع على الملك؟! وكذبوا فيما قالوا (5).بل دفع حب الدنيا والموالاة والمعاداة فيها إلى سب علي رضي الله عنه، وسب بعض الصحابة الكرام، والدعوة إلى ذلك، والتجاسر على التقول عليهم (6). فنعوذ بالله من الخذلان، ومن استزلال الشيطان. كما أن من أسباب التقول على الولاة ورؤوس الناس أن هؤلاء الجهال أصحاب الفرقة والضلال إذا سمعوا كلاما مجملا من ولي الأمر زادوا فيه وحملوه ما لا يحتمل، تقول عائشة رضي الله عنها: " يرحم الله عليا، إنه كان لا يرى شيئا يعجبه إلا قال: صدق الله ورسوله. فيذهب أهل العراق يكذبون عليه ويزيدون عليه في الحديث" (7).لذلك كان عمر رضي الله عنه يحتاط لنفسه من ذلك، فيقول للناس: " إني قائل مقالة قدر لي أن أقولها، فمن عقلها ورعاها فليحدث بها حتى تنتهي به راحلته، ومن خشي أن لا يعيها فإني لا أحل له أن يكذب علي " (8). لقد شرط عمر للنقل عنه: الفهم الصحيح لما قاله، والأمانة في النقل فقال: " فمن عقلها ورعاها، فالتقول على الناس عموما إما أن يكون بسبب عدم فهم ما قيل، وتحميل الكلام ما لا يحتمل، وتأويله على هوى فهم السامع لا على مراد القائل. أو يكون بسبب الخيانة في النقل والكذب فيه، وهذا يفسد كثيرا في أحوال الناس العامة، فما بالك إذا كان هذا المنهج يتبع في النقل عن المسؤولين وولاة الأمر؟!.   (1) انظر ((العواصم من القواصم)) (ص 121)، و ((البداية والنهاية)) لابن كثير (7/ 117). (2) انظر ((العواصم من القواصم)) (ص 122). (3) انظر ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (3/ 82)، ((العواصم من القواصم)) (ص 123). (4) انظر حاشية ((العواصم من القواصم)) له (ص 120). (5) انظر مختصر ((سنن أبي داوود)) للحافظ المنذري (7/ 27). (6) انظر مختصر ((سنن أبي داوود)) للحافظ المنذري (7/ 28). (7) ((المسند)) للإمام أحمد (1/ 86)، وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (7/ 280) تفرد به أحمد وإسناده صحيح. (8) انظر ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (ص 77). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 فينبغي لكل مسلم أن يتقي الله عز وجل ويعلم أن قوله من عمله، وأن الله سائله عنه يوم القيامة، فيتقي الله فيما ينقل عن الناس عامة، وعن أولي الأمر والمسؤولين خاصة، ولا يكن ديدنه ومحور حديثه: يقولون إنه قيل كذا وكذا، ويزعمون أنه حصل كذا وكذا؟!!. إن الأمر خطير إن كان كذبا على الأمراء والمسؤولين، فما بالك إذا كان كذبا على العلماء حملة هذا الدين، إن الخطب أشد. إن الكذب على العلماء، والتقول عليهم يراد به أمران: - الأول: إما أن يراد به التشنيع عليهم والطعن فيهم، والحط من قدرهم بين الناس، وحقيقة هذا الطعن: طعن في الدين، إذ العلماء حملته، وتشكيك في تعاليمه: إذ العلماء الربانيون هم ورثة الأنبياء الحاصلون لواء الدعوة لهذا الدين، القائمون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا عيبوا ولمزوا وطعن فيهم فهو طعن في علمهم الذي يحملون ويبلغون. إنها محاولة من أعداء الدين لزعزعة ثقة الناس بالعلماء، ومن ثم فقد المرجعية العلمية في أمور دينهم، ونشر الجهل بذلك بينهم فيسهل تفريقهم وإضعافهم. والثاني: أن يراد بالكذب على العلماء: ترويج القول بالباطن، والتدليس على الناس، ونشر البدعة والضلالة بنسبته إلى إمام مشهور، وعالم موثوق، فلما يسمع الناس أن هذا قول فلان من العلماء يقبلون هذا القول لثقتهم بهذا العالم دون النظر إلى القول نفسه، وبهذا تروج البدعة وتفترق الأمة، وأكثر من يسلك هذا الأسلوب: أصحاب الأهواء والبدع، إذ ينسبون أقوالهم الباطلة للعلماء المشهورين (1).فعلى المسلم أن يتثبت في النقل عن العلماء من مصادرهم وكتبهم، ولا يطير بكل كلمة تقال وتحكى عن عالم أو إمام ويغرر بها، بل عليه أن يتروى ويتثبت (2).ولعل الخطب الآن في العصر الحديث أشد لنفوذ داء الكذب على العلماء، وسرعة انتشاره، لسرعة وسائل الإعلام الحديثة التي يتابعها عامة المسلمين، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: ((ستكون فتنة صماء بكماء عمياء من أشرف لها استشرفت له وإشراف اللسان فيها كوقوع السيف)) (3).   (1) انظر ((منهج كتابة التاريخ الإسلامي)) لمحمد السلمي (ص 251). (2) انظر كتاب ((الاستقامة)) لابن تيمية (1/ 109)، ((الفتاوى)) (26/ 334)، وانظر أمثلة كذب القدرية على الحسن البصري رحمه اله، مختصر ((سنن أبي داوود)) للمنذري (7/ 16 – 17). (3) رواه أبو داود (4264) والطبراني في ((الأوسط)) (8717) وضعفه الألباني، وقال ابن حجر في ((هداية الرواة)) فيه عبدالرحمن بن البيلماني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 من الطرق التي تسلك للتشنيع على أولي الأمر: محاولة تحقيرهم والحط من شأنهم بالاحتجاج بزلاتهم، والعمل على هتك سترهم، وتصيد أخطائهم وتضخيمها ونشرها، أو تأويل ما يقع منهم حسب ما يهوون ووفق ما يخدم مصالحهم، وهاك توضيح ذلك: زلة العالم: مما جاء في التحذير منه عن الأئمة الأعلام: التحذير من زلة وخطأ العالم، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " ثلاث يهدمن الدين: زلة العالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون " (1).ويقول أبو الدرداء رضي الله عنه: " إن مما أخشى عليكم زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، والقرآن حق، وعلى القرآن منار كأعلام الطريق " (2).وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه لا يجلس مجلسا للذكر إلا قال: " الله حكم قسط هلك المرتابون، وكان مما قاله يوما: ". . وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق. قال: قلت (3) لمعاذ: ما يدريني – رحمك الله – أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى! اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال: ما هذه؟! ولا يثنيك ذلك عنه؛ فإنه لعله أن يراجع، وتلق الحق إذا سمعته، فإن على الحق نورا (4). إن في كلام معاذ رضي الله عنه فوائد وقواعد في التعامل مع زلة العالم منها:   (1) انظر ((جامع بيان العلم)) لابن عبد البر (2/ 979). (2) انظر ((جامع بيان العلم)) لابن عبد البر (2/ 979). (3) القائل هنا هو يزيد بن عميرة وكان من أصحاب معاذ وجلسائه وقد حكى هذا الخبر. (4) ((سنن أبي داود))، كتاب السنة، باب من دعا إلى السنة (4/ 202)، وصحح الألباني إسناده في صحيح ((سنن أبي داود)) (3/ 872). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الحذر من زيغة الحكيم وزلته فإنها فتنة، وإن الشيطان حريص على إضلال الناس وتفريقهم بإزلال العالم الحكيم، وإجراء كلمة الباطل على لسانه لترويجها بين المسلمين. يقول ابن تيمية مبينا كيف تكون الفتنة والمحنة للناس بزلة العالم فيقول: " ولكن وقوع مثل هذا التأويل من الأئمة المتبوعين أهل العلم والإيمان صار من أسباب المحن والفتنة، فإن الذين يعظمونهم قد يقتدون بهم في ذلك، وقد لا يقفون عند الحد الذي انتهى إليه أولئك، بل يتعدون ويزيدون زيادات لم تصدر من أولئك الأئمة السادة، والذين يعلمون تحريم جنس ذلك الفعل، قد يعتدون على المتأولين بنوع من الذم فيما هو مغفور لهم، ويتبعهم آخرون فيزيدون في الذم ما يستحلون به من أعراض إخوانهم وغير أعراضهم ما حرمه الله ورسوله، فهذا واقع كثير في موارد النزاع الذي وقع فيه خطأ من بعض الكبار " (1).إن الغرض من التحذير من زيغة العالم وزلته هو عدم اتباعه في هذه الزلة أو الاحتجاج بها، إذ الحجة في قول الله وقول رسوله وإليهما ترد موارد النزاع (2). إن الحق يجب أن يقبل ممن قاله أيا كان، وأن الباطل يجب أن يرد على من قاله أيا كان (3).أما كيف نعرف أن هذا القول من العالم خطأ وزلة؟ فبين معاذ رضي الله عنه ذلك بقوله: " اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال: ما هذه؟ "، وفي رواية أخرى: " هي كلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذه "؟ (4).فزلته ضابطها: أنه يخالف بها جمهور الأمة، والعلماء المجتهدون هم الذين يعرفون ما وافق الحق وما خالفه (5)، وينكرون على العالم زلته، يقول ابن تيمية: " وهنا أصل يجب اعتماده: وذلك أن الله سبحانه عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة، ولم يعصم آحادها من الخطأ، لا صديقا ولا غير صديق، لكن إذا وقع بعضها في خطأ فلابد أن يقيم الله فيها من يكون على الصواب في ذلك الخطأ. وإذا كان فيها من يأمر بمنكر متأولا، فلابد أن يكون فيها من يأمر بذلك المعروف " (6).ويقول الشاطبي رحمه الله: " فإن قيل فهل لغير المجتهدين من المتفقهين في ذلك ضابط يعتمده أم لا؟ فالجواب أن له ضابطا تقريبيا، وهو أن ما كان معدودا في الأقوال غلطا وزللا قليل جدا في الشريعة، وغالب الأمر أن أصحابها منفردون بها، قلما يساعدهم عليها مجتهد آخر، فإذا انفرد صاحب قول عن عامة الأمة، فليكن اعتقادك أن الحق مع السواد الأعظم من المجتهدين، لا من المقلدين " (7).إن زلة العالم لا توجب هجرانه أو الحط من قدره، لذلك قال معاذ: " ولا يثنيك ذلك عنه فإنه لعله أن يراجع "، فهذا هو المنهج في التعامل مع العلماء الأجلاء، وهذه هي وسطية الإسلام واعتدال السلف الصالح، يقول ابن القيم: " معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم، وأن فضلهم وعلمهم لا يوجب قبول كل ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم فيها ما جاء به الرسول فقالوا بمبلغ علمهم، والحق في خلافها لا توجب إطراح أقوالهم جملة وتنقصهم والوقيعة فيهم، فهذان طرفان جائران عن القصد، وقصد السبيل بينهما ... فلا نؤثمهم ولا نعصمهم، ولا نقبل كل أقوالهم ولا نهدرها ...   (1) ((الاستقامة)) (1/ 301)، وانظر الموافقات للشاطبي (4/ 531). (2) انظر ((الاستقامة)) (1/ 300)، ((الموافقات)) للشاطبي (4/ 532)، ((إعلام الموقعين)) (3/ 282، 284). (3) انظر ((إعلام الموقعين)) (1/ 104) في وجوب قبول الحق ممن قاله. (4) انظر ((جامع بيان العلم)) (2/ 981). (5) انظر ((الاستقامة)) (1/ 299) باختصار. (6) انظر ((الاستقامة)) (1/ 299) باختصار. (7) ((الموافقات)) (4/ 534). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 ولا منافاة بين هذين الأمرين لمن شرح صدره للإسلام، وإنما يتنافيان عند أحد رجلين: جاهل بمقدار الأئمة وفضلهم، أو جاهل بحقيقة الشريعة التي بعث الله بها رسوله، ومن له علم بالشرع والواقع يعلم أن الرجل الجليل قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل مأجور لاجتهاده " (1).إنه من الواجب على كل مسلم عدم حكاية الأقوال الضعيفة، أو العمل على نشرها بين المسلمين، فربما سمعها أحد من العامة فاتبعها لجهله، أو عمل بها موافقة لهواه، يقول ابن القيم: " فإذا كنا قد حذرنا زلة العالم، وأمرنا مع ذلك أن لا نرجع عنه، فالواجب على من شرح الله صدره للإسلام إذا بلغته مقالة ضعيفة عن بعض الأئمة أن لا يحكيها لمن يتقلدها، بل يسكت عن ذكرها إن تيقن صحتها، وإلا توقف في قبولها؛ فكثيرا ما يحكى عن الأئمة ما لا حقيقة له، وكثير من المسائل يخرجها بعض الأتباع على قاعدة متبوعة، مع أن ذلك الإمام لو رأى أنها تفضي إلى ذلك لما التزمها (2).إن إثارة هذه الأقوال الضعيفة للعلماء، والتشويش بها على عامة المسلمين، والطعن بها على علمائهم ومذاهبهم من حيل أعداء الدين لتفريق المسلمين، وتشكيكهم في الحق الذي معهم، يقول ابن تيمية: " ومثل هذه المسألة الضعيفة (3) ليس لأحد أن يحكيها عن إمام من أئمة المسلمين، لا على وجه القدح فيه، ولا على وجه المتابعة له فيها، فإن ذلك ضربا من الطعن في الأئمة واتباع الأقوال الضعيفة، وبمثل ذلك صار وزير التتر يلقي الفتنة بين مذاهب أهل السنة حتى يدعوهم إلى الخروج عن السنة والجماعة، ويوقعهم في مذاهب الرافضة وأهل الإلحاد. والله أعلم " (4). ب – من طرق التشنيع على أولي الأمر: ما يقوم به أهل الأهواء وأصحاب الفرقة من هتك ستر أولي الأمر، وتصيد أخطائهم والعمل على تضخيمها ونشرها بين الناس، وهذا أسلوب دنيء يخالف ما أمرنا به من الستر على المسلم وعدم التجسس عليه، وتلمس العذر له إن أخطأ، والعمل على مناصحته لا فضحه. ثم إن هذا التصرف الذي يديره أهل الأهواء، وتلوكه العامة جهلا منها بذلك، من شأنه أن ينشر البغضاء والعداوة في الأمة خاصة إذا كان هذا الأمر صادرا من العامة ضد ولاة أمرها. ثم إنه إذا انتشر هذا الأسلوب وقعت الهوة بين أولي الأمر وبين العامة، وفقدت الثقة بين هؤلاء وهؤلاء، وعمت الفوضى، وتفرقت الأمة وفقدت مرجعيتها، وأصبحت لقمة سائغة لكل خارجي مقاتل، أو عدو مخادع. فيجب على المسلم ألا ينظر للفعل الصادر من أخيه المسلم دون نظر إلى مبرراته، والسؤال عن مقتضاه حتى تتضح له الصورة، مثال ذلك أن نجدة الحروري كتب إلى ابن عباس يسأله عن خلال، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: " إن الناس يقولون: إن ابن عباس يكاتب الحرورية. ولولا أني أخاف أن أكتم علما لم أكتب له " (5).   (1) انظر ((إعلام الموقعين)) (3/ 283) باختصار وتصرف، وانظر الحكم الجديرة بالإذاعة من قول النبي صلى الله عليه وسلم " بعثت بالسيف بين يدي الساعة " لابن رجب الحنبلي (90/ 93). (2) ((إعلام الموقعين)) (3/ 286) باختصار يسير. (3) يقصد بالمسألة: قول من قال: بجواز نكاح الرجل من ابنته من الزنا. انظر ((الفتاوى)) (32/ 86). (4) انظر ((الفتاوى)) (32/ 88). (5) انظر كتاب ((السنة)) للمروزي (ص 142). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 مثال آخر: أن حذيفة بن اليمان كان بالمدائن، وكان يذكر أشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأناس من أصحابه في الغضب، فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان الفارسي فيذكرون قول حذيفة، فيقول سلمان: " حذيفة أعلم بما يقول، فيرجعون إلى حذيفة فيقولون له: قد ذكرنا قولك لسلمان، فما صدقك ولا كذبك. فأتى حذيفة سلمان في مبقلة فقال: يا سلمان، ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال سلمان: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغضب فيقول في الغضب لناس من أصحابه، ويرضى فيقول في الرضى لناس من أصحابه، أما تنتهي حتى تورث رجالا حب رجال، ورجالا بغض رجال، وحتى توقع اختلافا وفرقة؟ ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: ((أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي، فإنما أنا من ولد آدم، أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني رحمة للعالمين، فأجعلها عليهم صلاة يوم القيامة)). والله لتنتهين أو لأكتبن إلى عمر " (1).ويروي البخاري في صحيحه (2) أن رجلا من أهل مصر حج البيت فرأى قوما جلوسا فقال: " من هؤلاء القوم؟ فقالوا: هؤلاء من قريش. قال: فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر. قال: يا ابن عمر إني سائلك عن شيء فحدثني عنه: هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: نعم. فقال: تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد؟ قال: نعم، قال الرجل: هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم، قال: الله أكبر. قال ابن عمر: تعال أبين لك. أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له. وأما تغيبه عن بدر فإنه كانت تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه، وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان, كانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى هذه يد عثمان فضرب بها على يده، فقال: هذه لعثمان. فقال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك ".فالسائل كان ممن يتعصب على عثمان ويعيب عليه، فأراد بالمسائل الثلاث أن يقرر معتقده فيه، ولذلك كبر مستحسنا لما أجابه به ابن عمر، لكن ابن عمر أظهر له العذر عن جميعها لما عرف قصده، وقال له في آخر كلامه: اذهب بها الآن معك " أي: اقرن هذا العذر بالجواب حتى لا يبقى لك فيما أجبتك به حجة على ما كنت تعتقده من غيبة عثمان (3).   (1) رواه أبو داود (4659) وأحمد (5/ 437) (23757) والطبراني (6169)، وصححه الألباني. (2) كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عثمان بن عفان (7/ 54 فتح). (3) انظر ((فتح الباري)) لابن حجر (7/ 59). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 ونجد بعض المسلمين ينتهج نهج هذا المصري من تصيد الأخطاء، واستلالها، دون تلمس للأعذار أو نظر للمحاسن. والعجب كل العجب كيف استزل الشيطان الناس في استباحتهم أعراض العلماء والأمراء والمشهورين من المسلمين، والتساهل في الخوض في سبهم وشتمهم، وغيبتهم، فبعض المجالس (1) لا تدور إلا بما قال هذا العالم أو فعل ذاك الأمير؛ مما قد يكون في أموره الخاصة والتي يستتر بها، وكأنه لا حرمة لهم، أو أن غيبتهم مباحة، بل الأمر يتعدى الغيبة ليصل إلى البهتان، فاحذر أخي المسلم من هذا المزلق، فإنه مؤشر خطير على سوء حال الراعي والرعية. ج- إن سبل الضلال كثيرة، وحيل الشيطان عديدة، لذلك نجد أصحاب الأهواء والفرقة المخالفين للسنة يعمدون إلى ما يصدر من أولي الأمر من أقوال أو أعمال – خاصة إن كانت مجملة أو فيها إيهام – فيعمدون إلى تأويلها تأويلا فاسدا حسب ما يشتهون، ويحاولون الاستدلال بالنصوص وفق ما يخدم مصالحهم، فهذا رجل سائل يأتي عبد الله بن عمر رضي الله عنه ويقول له: يا أبا عبد الرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا إلى آخر الآية، فما يمنعك أن لا تقاتل كما ذكر الله في كتابه؟ فقال: يا ابن أخي أعير بهذه الآية ولا أقاتل أحب إلي من أن أعير بهذه الآية التي يقول الله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]، قال: فإن الله يقول: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ [الأنفال: 39] قال ابن عمر: قد فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان الإسلام قليلا، فكان الرجل يفتن في دينه: إما يقتلوه، وإما يوثقوه، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة. فلما رأى أنه لا يوافقه فيما يريد قال: فما قولك في علي وعثمان؟ قال ابن عمر: ما قولي في علي وعثمان؟ أما عثمان فكان الله قد عفا عنه، فكرهتم أن يعفو عنه، وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه – وأشار بيده – وهذه ابنته أو بنته حيث ترون " (2).فهذا السائل يعتقد أمرا فجاء يسأل لا سؤال استفهام ومعرفة، بل سؤال من اعتقد شيئا ويريد أن يؤيده ويحتج به، فكان السائل يرى قتال من خالف الإمام الذي يعتقد طاعته، وكان ابن عمر يرى ترك القتال فيما يتعلق بالملك، ولذلك لما رأى أن ابن عمر لا يوافقه فيما يعتقده ولا يؤيده على استدلاله، صرح بمراده وقال: " فما قولك في علي وعثمان؟ فرد عليه ابن عمر بذكر مناقبهما ومنزلتهما من النبي صلى الله عليه وسلم والاعتذار عما عابوا به عثمان (3).ومن الأمثلة على تحريف الأقوال وصرفها حسب ما يهواه السامع لا على حسب مراد القائل: أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها أرسلت إلى ابن عمر تقول له: " بلغني أنك تحرم صوم رجب؟ فقال لها ابن عمر: فكيف بمن يصوم الأبد؟! (4).يقول الإمام أبو بكر محمد الطرطوشي (5)   (1) سواء كانت مجالس عادية، أو مجالس وأندية عبر القنوات الفضائية، أو الشبكة العنكبوتية (الإنترنت). (2) رواه البخاري (4650). (3) انظر ((فتح الباري)) (8/ 310). (4) انظر كتاب الحوادث والبدع للطرطوشي (2 141). (5) هو: أبو بكر محمد بن الوليد بن أيوب الفهري الأندلسي الطرطوشي، الفقيه، شيخ المالكية، وعالم الإسكندرية كان إماما عالما، زاهدا ورعا. توفي سنة 520هـ. انظر: ((السير)) (19/ 490)، الوفيات (4/ 262) .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 تعليقا على هذا الأثر: " وقديما حرف العامي على الخاص: هذا ابن عمر كان يكره صوم رجب كله إما حذرا أن يعتقد الجاهل أنه مفروض، وإما حذرا أن يعتقده سنة ثابتة مؤقتة، فقال الناس: حرم ابن عمر صيام رجب، وهذا التحريف ديدن الناس اليوم، والله المستعان " (1).وصدق الإمام الطرطوشي فهذا التحريف ديدن الناس اليوم! لذلك يجب على العلماء والأمراء ورؤوس الناس البعد عن مواطن الشبه، والحذر من الأمر الملتبس وإن كان في نفسه مباحا، حتى لا يلتبس على العامة لجهلهم وقصر نظرهم، أو لسوء ظن بعضهم، فعلى أولي الأمر دفع الريبة عن أنفسهم وإيضاح الموقف وعدم السكوت أو التأجيل، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، وذلك أن صفية بنت حيي زوجه جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة ثم قامت تنقلب، فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة، مر رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: ((على رسلكما، إنما هي صفية بنت حيي, فقالا: سبحان الله يا رسول الله، وكبُر عليهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا)) (2).قال ابن حجر رحمه الله: " وفي الحديث من الفوائد. . التحرز من التعرض لسوء الظن، والاحتفاظ من كيد الشيطان والاعتذار، قال ابن دقيق العيد: وهذا متأكد في حق العلماء ومن يقتدي به، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلا يوجب سوء الظن بهم وإن كان لهم فيه مخلص، لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم " (3).لذلك لما أبصر عمر رضي الله عنه طلحة بن عبيد الله وعليه ثوبان ممشقان (4)، قال له: " ما هذا يا طلحة؟ فقال: يا أمير المؤمنين إنما هو مدر (5)، فقال: إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم، ولو رآك أحد جاهل قال: طلحة يلبس الثياب المصبغة وهو محرم، وإن أحسن ما يلبس المحرم البياض، فلا تلبسوا على الناس " (6). كما أنه ينبغي على أولي الأمر: علماء وأمراء، وعلى المعارضين لهم: أن يفتحوا باب الحوار والنقاش للنظر في سبب الخلاف بينهما ووجه الاعتراض، وطرح كل أوجه النقد ومناقشتها لتجلية الموقف، فإن كان فيه لبس وضح، وإن كان العالم أو الأمير أو الرئيس مخطئا تراجع عن خطئه؛ إذ لا عصمة لأحد من الناس إلا الأنبياء. إن ترك الحوار والاستفهام، وترك التثبت يجلب الفتنة والمحنة للأمة، واعتبر بما حدث مع عثمان رضي الله عنه ومع الخارجين عليه المخالفين لأمره، إذ طلب عثمان رضي الله عنه – وهذا من فقهه وعلمه - في بادئ الأمر أن يستعتبوه، وأن يعرف منهم سبب غضبهم وخروجهم عليه، ويسمعوا له ويفهموا سبب فعله، ولما حدث الحوار بين الطرفين تمهدت الأعذار، وانزاحت العلل، ولم يبق لهؤلاء الخارجين الثائرين شبهة، خاصة من كان من الأتباع المخدوعين المغرر بهم، فما أن سمعوا قول عثمان رضي الله عنه وحجته إلا عرفوا الحقيقة واقتنعوا ورجعوا إلى ديارهم (7). لكن أصابع الفتنة ما زالت تعبث بعقول العامة، وتنشر الفرقة في جسد الأمة مستعملة الكذب والوشايات والتزوير، فما أن قفلت الجموع الثائرة على عثمان رضي الله عنه إلى ديارهم راضية مقتنعة، إلا بعثت الكتب المزورة في أثرها تغريها بالرجوع، فكان ما كان من عودتها وحصارها لأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقتله محصورا شهيدا رضي الله عنه وأرضاه. فهذه الجموع الثائرة لم تنصت لصوت الحق دائما، ولم تتثبت وتتبين في كل مرة، ولم تتحاكم إلى قول الله ورسوله, بل جعلت الهوى لها قائدا والكذب حجة فضلت وأضلت، فالله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله. المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص277 - 291   (1) كتاب الحوادث والبدع (ص 141). (2) رواه البخاري (2035). (3) ((فتح الباري)) (4/ 280). (4) أي مصبوغ بالمشق وهو المغرة وهو صبغ أحمر. انظر ((لسان العرب)) (10/ 345)، النهاية في غريب الحديث (4/ 285). (5) أي مصبوغ بالمدر، والمدر: الطين اليابس، انظر النهاية في غريب الحديث (4/ 267)، ((لسان العرب)) (5/ 162). (6) انظر ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (3/ 220). (7) انظر حاشية ((العواصم من القواصم)) لمحب الدين الخطيب (ص 120). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 المبحث العاشر: التشبه بالكافرين، واتباع سننهم لقد حذرنا الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم من اتباع سنن الكافرين خاصة أهل الكتابين، وأخبرنا أن أمته ستتبع السنن الماضية الضالة، وأنها ستفترق كما افترقوا. وفي هذا بيان أن تقليد الكفرة واتباع طريقتهم وسيرتهم من أسباب الفرقة التي دبت في الأمة، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة "، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)). وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها، شبرا شبرا وذراعا بذراع. فقيل: يا رسول الله كفارس والروم؟ فقال: ومن الناس إلا أولئك)). (1) وفي حديث آخر عن أبي واقد الليثي أنه قال: ((خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها ينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر إنها السنن قلتم – والذي نفسي بيده – كما قالت بنو إسرائيل لموسى: قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف: 138]. لتركبن سنن من كان قبلكم)). (2) ويقول ابن تيمية: " فأخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى وهم أهل الكتاب، ومضاهاة لفارس والروم وهم الأعاجم. وقد كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن التشبيه بهؤلاء وهؤلاء " (3).ولقد جاءت نصوص كثيرة تأمرنا بمخالفة الكفار، وتنهى عن التشبه بهم، ولقد خصت الفرقة بمزيد ذكر في كتاب الله عز وجل حيث جاء النهي عن مشابهة الكافرين في تفرقهم خاصة (4)، يقول الله عز وجل: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105].   (1) رواه البخاري (7319) (2) رواه الترمذي (2180) وأحمد (5/ 218) (21947) والنسائي في ((الكبرى)) (6/ 346) وابن حبان (15/ 94) (6702) والطبراني (3/ 244) وقال الترمذي حسن صحيح، وقال الهيثمي (7/ 24): فيه كثير بن عبد الله وقد ضعفه الجمهور وحسن الترمذي حديثه، وقال الألباني صحيح. (3) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 81، 170). (4) انظر ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 101). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 ويأمر الله عز وجل نبيه بمخالفة الكافرين وعدم اتباع أهوائهم، يقول عز وجل: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الجاثية: 18]، ويقول سبحانه: وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ [الرعد: 37]. والناظر لأحوال الأمة الآن يجد أن الفرقة قد دبت بين المسلمين، وأن البدعة قد فشت فيهم، وأن في كثير منها مشابهة ومضاهاة للكافرين، مثل الغلو في الصالحين، وكتم العلم أو تحريفه كما فعلت اليهود، أو جحد الحق الذي مع المخالف كما فعلت اليهود والنصارى، والغلو في الدين والابتداع فيه من البناء على القبور، واتخاذ العبادات والأعياد التي لم يشرعها الله ولا رسوله (1)، والذي من شأنه أن يحرف الناس عن الصراط المستقيم، ويلجئهم للسبل المفرقة للأمة. وحاضر المسلمين اليوم شاهد على ذلك من ترك أكثرهم نصوص الوحيين وجريهم خلف الكافرين ومتابعة عوائدهم وسننهم سواء كان على مستوى الدولة في السياسة والحكم أو على مستوى الفرد في الأخلاق والسلوك مما يوهن جسد الأمة، ويبث الفرقة والاختلاف فيها كما هو واقع الآن. ولقد بين ابن تيمية رحمه الله الحكمة من النهي عن مشابهة الكافرين، والأمر بمخالفتهم، وأن في ذلك مزيد تمسك بالصراط المستقيم فقال: " وإنما الغرض أن نبين ضرورة العبد وفاقته إلى هداية الصراط المستقيم، وأن ينفتح باب إلى معرفة الانحراف. وقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحكمة، وكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين، فأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر لأمور منها: أن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبا وتشاكلا بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما؛ في الأخلاق والأعمال. ومنها: أن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال، والانعطاف على أهل الهدى والرضوان، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين. وكلما كان القلب أتم حياة، وأعرف بالإسلام – الذي هو الإسلام لست أعني مجرد التوسم به ظاهرا، أو باطنا بمجرد الاعتقادات من حيث الجملة – كان إحساسه بمفارقته اليهود والنصارى باطنا وظاهرا أتم، وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد. ومنها: أن مشاركتهم في الهدي الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التميز ظاهرا بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضالين " (2). وإن صاحب هذا التقليد للكافرين هوى في النفوس كان أدهى وأمر، وأشد تفريقا للأمة، لما في اتباع الهوى من صد عن الصراط المستقيم، كما يتضح بالآتي .. المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص292 - 295   (1) انظر دراسات في الأهواء والفرق والبدع لناصر العقل (ص 357 – 360)، التشبه المنهي عنه في الفقه الإسلام ي لجميل اللويحق (ص 49، 52، 177، 339). (2) انظر ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 92، 94). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 المبحث الحادي عشر: اتباع الهوى لقد أمرنا الله عز وجل بوجوب طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ووصانا سبحانه بلزوم الصراط المستقيم واتباعه، وبين سبحانه أن من خرج عن الصراط المستقيم لما تهواه نفسه فهو تائه ضال بذلك (1). قال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153].إنهما أمران لا ثالث لهما: إما أن يكون المرء متبعا للحق، أو يكون متبعا للهوى، يقول الإمام الشاطبي في معرض ذمه للبدع: " أنه اتباع للهوى لأن العقل إذا لم يكن متبعا للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة، وأنت تعلم ما في اتباع الهوى وأنه ضلال مبين، ألا ترى قول الله تعالى: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص: 26]، فحصر الحكم في أمرين لا ثالث لهما عنده، وهو الحق والهوى، وعزل العقل مجردا إذ لا يمكن في العادة إلا ذلك (2).وبين في موضع آخر أن اتباع الهوى من أسباب الاختلاف ووقوع الفرقة في الأمة فقال: " من أسباب الخلاف: اتباع الهوى، ولذلك سمي أهل البدع " أهل الأهواء " لأنهم اتبعوا أهواءهم، فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها، والتعويل عليها حتى يصدروا عنها، بل قدموا أهواءهم، واعتمدوا على آرائهم، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظورا فيها من وراء ذلك (3). والدليل على ذلك أنك لا تجد مبتدعا ممن ينسب إلى الملة إلا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي فينزله على ما وافق عقله وشهوته، وهو أمر ثابت في الحكمة الأزلية التي لا مرد لها، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ [البقرة: 26]. وإذا دخل الهوى أدى إلى اتباع المتشابه حرصا على الغلبة والظهور بإقامته العذر في الخلاف، وإنما أدى إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء، لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها، وإنما جاء الشرع بحسم مادة الهوى بإطلاق (4)، لذلك لم يأت في القرآن ذكر الهوى إلا في معرض الذم (5). ولقد جاء الأمر صريحا لمحمد صلى الله عليه وسلم باتباع الشرع الحنيف، والنهي عن اتباع الهوى فقال سبحانه: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الجاثية: 18]. والشريعة التي جعله عليها تتضمن ما أمر به، وكل حب وذوق ووجد لا تشهد له هذه الشريعة، فهو من أهواء الذين لا يعلمون، فإن العلم بما يحبه الله إنما هو ما أنزله الله على عباده من هداه.   (1) انظر منهاج السنة النبوية لابن تيمية (1/ 19). (2) ((الاعتصام)) (ص 35). (3) ((الاعتصام)) (ص 447). (4) انظر ((الموافقات)) للشاطبي (4/ 576)، وانظر منه (4/ 536). (5) انظر ((الاعتصام)) (ص 450). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ولهذا كان السلف يعدون كل من خرج عن الشريعة في شيء من الدين من أهل الأهواء، ويجعلون أهل البدع هم أهل الأهواء ويذمونهم بذلك. قال أبو العالية: تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تحرفوا الإسلام يمينا وشمالا، وعليكم بسنة نبيكم والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء " (1).وصدق أبو العالية رحمه الله، فهذه الأهواء المذمومة قد فرقت الأمة، وفككت كيان الجماعة المسلمة، ولقد أخبرنا عن ذلك محمد صلى الله عليه وسلم لنحذر منها، ونجانبها، ونلزم الجماعة المسلمين، ونسلك الصراط المستقيم، ففي الحديث عن معاوية بن أبي سفيان قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فذكر: ((إن أهل الكتاب قبلكم تفرقوا على اثنتين وسبعين فرقة في الأهواء، ألا وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة في الأهواء، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، ألا وإنه يخرج في أمتي قوم يهوون هوى يتجارى بهم ذلك الهوى كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يدع منه عرقا ولا مفصلا إلا دخله)) (2).وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا: ((إن مما أخشى عليكم بعدي بطونكم وفروجكم، ومضلات الأهواء)) (3). ولقد أنكر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما على الرجل الذي قال له: الحمد لله الذي جعل هوانا على هواكم، فقال له ابن عباس: " الهوى كله ضلالة " (4).وها هو ذا عبد الله بن عمر يقول: " ما فرحت بشيء من الإسلام أشد فرحا بأن قلبي لم يدخله شيء من هذه الأهواء " (5). وليعلم أن النهي عن اتباع الهوى نهي يشمل: هوى الشهوات وهو داء العصاة، الذي يقع في العمل بخلاف الاعتقاد الحق كفسق الأعمال ونحوها وهو الاستمتاع بالخلاق. وهوى الشبهات، وهو داء المبتدعة وأهل الأهواء والخصومات، وهو يقع بالاعتقاد الباطل كالبدع ونحوها، وهو الخوض في الباطل. وهما مذكوران في قوله تعالى: كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [التوبة: 69]. ولقد كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه. والدواء لهذين الدائين يكون بالصبر واليقين كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24]. فبالصبر تترك الشهوات، وباليقين تدفع الشبهات " (6).   (1) ((الاستقامة)) لابن تيمية (1/ 253 – 254)، وانظر ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/ 97). (2) كتاب ((السنة)) لابن أبي عاصم (1/ 7)، وصححه الألباني. (3) كتاب ((السنة)) لابن أبي عاصم (1/ 12)، وقال الألباني: إسناده صحيح. (4) كتاب ((الشريعة)) للآجري (1/ 444)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 130). (5) شرح ((أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (1/ 130). (6) انظر ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 118 - 123) باختصار وتصرف، ((إعلام الموقعين)) (1/ 68، 136)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب الحنبلي (2/ 397). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 إن النهي في اتباع الأهواء ليس نهيا عن اتباع أهواء الأمم السابقة، بل يلحق به متابعة أهل الأهواء والبدع في بدعهم، أو مداهنتهم عليها والسكوت عن الإنكار عليهم تحت أي دعوى من الدعاوى الحديثة التي تزعم التقريب أو التأليف بين الفرق، وهي في حقيقتها تطالب بتنازل أهل السنة عن السنة وعن الاتباع، يقول الإمام الشوكاني رحمه الله عن قوله تعالى: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة: 120]. يقول: " وفي هذه الآية من الوعيد الشديد الذي ترجف له القلوب وتتصدع عنه الأفئدة ما يوجب على أهل العلم الحاملين لحجج الله سبحانه والقائمين ببيان شرائعه، ترك الدهان لأهل البدع والمتمذهبين بمذاهب السوء، التاركين للعمل بالكتاب والسنة، المؤثرين لمحض الرأي عليهما، فإن غالب هؤلاء وإن أظهر قبولا، وأبان من أخلاقه لينا لا يرضيه إلا اتباع بدعته، والدخول في مداخله والوقوع في حبائله، فإن فعل العالم ذلك .... فهو إذ ذاك ماله من الله من ولي ولا نصير، ومن كان كذلك فهو مخذول لا محالة، وهالك بلا شك ولا شبهة " (1).والمتأمل لأسباب الفرقة التي تقدم ذكرها، يجد أنها تدور في رحاها بين الجهل وبين اتباع الهوى والظلم، لذلك لا اجتماع للأمة إلا بوحدتها على كتاب الله تعالى وسنة نبيه الكريم، والتزام صراطه المستقيم علما وعملا، حقا وعدلا، وما أحوجنا إلى سؤال الله ذلك. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " الإنسان خلق ظلوما جهولا، فالأصل فيه عدم العلم، وميله إلى ما يهواه من الشر، فيحتاج دائما إلى علم مفصل يزول به جهله، وعدل في محبته وبغضه، ورضاه وغضبه، وفعله وتركه، وإعطائه ومنعه، وأكله وشربه، ونومه ويقظته، فكل ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى علم ينافي جهله، وعدل ينافي ظلمه، فإن لم يمن الله عليه بالعلم المفصل، والعدل المفصل، وإلا كان فيه من الجهل والظلم ما يخرج به عن الصراط المستقيم" (2). المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص296 - 300   (1) ((فتح القدير)) للشوكاني (1/ 135). (2) ((الفتاوى)) (14/ 27)، وانظر ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 409)، ((منهاج السنة النبوية)) (1/ 18 – 20). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 المطلب الأول: ضرر الفرقة على الفرد المفارق لقد جاء النهي الأكيد والتحذير الشديد من الفرقة، كما أن الله عز وجل توعد الساعي في تفريق الأمة، المفارق لجماعتها بالوعيد الشديد مما يلحق به الضرر البالغ، ومن ذلك: أولا: الوعيد الشديد من الله تعالى لأهل الفرقة لقد توعد الله سبحانه المفارق للجماعة المسلمة في نصوص عديدة، يقول الله تعالى: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء: 115] فمن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخالف ما اجتمعت عليه الأمة المحمدية (1)، وخالف طريق المسلمين (2) فقد عرض نفسه للعقاب الشديد من الله عز وجل في قوله تعالى: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء: 115] أي: إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك بأن نحسنها في صدره ونزينها له استدراجا له كما قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: 5] وجعل النار مصيره في الآخرة لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا النار يوم القيامة (3). وقال الله عز وجل متوعدا المفارقين: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 13] فهؤلاء الذين خالفوا الله ورسوله وساروا في شق وتركوا الشرع والإيمان واتباعه في شق، وشقوا العصا وجعلوها فرقتين ... فهؤلاء توعدهم بقوله: فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ هو الطالب الغائب لمن خالفه وناوأه، لا يفوته شيء ولا يقوم لغضبه شيء تبارك وتعالى لا إله غيره ولا رب سواه (4). ويكفي أهل الفرقة أصحاب البدع وعيدا لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم بريء، وهم منه برءاء. يقول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [الأنعام: 159] عن الحسن البصري قال: خرج علينا عثمان بن عفان رضي الله عنه يوما يخطبنا، فقطعوا عليه كلامه، فتراموا بالبطحاء، حتى جعلت ما أبصر أديم السماء، قال: وسمعنا صوتا من بعض حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقيل: هذا صوت أم المؤمنين، قال: فسمعتها وهي تقول: ألا إن نبيكم قد برئ ممن فرق دينه واحتزب، وتلت: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ (5).وعند الطبري أن أم سلمة قالت: ليتق امرؤ أن لا يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء، ثم قرأت: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ (6).   (1) انظر ((تفسير ابن كثير)) (1/ 525). (2) انظر ((تفسير القرطبي)) (5/ 247). (3) انظر ((تفسير ابن كثير)) (1/ 526). (4) انظر ((تفسير ابن كثير)) (2/ 281) بتصرف. (5) انظر ((الاعتصام)) للشاطبي (ص43)، وأم المؤمنين هنا هي أم سلمة رضي الله عنها يفسره الأثر الذي بعده. (6) انظر ((تفسير الطبري)) (8/ 78). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 ولما كان هؤلاء المفارقون بريئين من محمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد منهم بريء توعدهم الله فقال: إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ [الأنعام:159]. أي: أنا الذي إلي أمر هؤلاء المشركين الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا، والمبتدعة من أمتك الذين ضلوا عن سبيلك دونك ودون كل أحد، إما بالعقوبة إن أقاموا على ضلالتهم وفرقتهم دينهم فأهلكهم بها، وإما بالعفو عنهم بالتوبة عليهم والتفضيل مني عليهم, ويوم القيامة يجازي كلا منهم بما فعله في الدنيا، المحسن منهم بالإحسان، والمسيء بالإساءة كما قال: ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (1). ثانيا – تسويد الوجوه يوم القيامة إن الفضيحة أن يأتي أهل الفرقة أصحاب البدع يوم القيامة وقد اسودت وجوههم عقابا لهم لما أحدثوه في دين الله وفرقوا به المسلمين، يقول الله تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [آل عمران: 105 – 106] قال ابن كثير رحمه الله في تفسيرها: "يعني يوم القيامة حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة – قاله ابن عباس رضي الله عنهما" (2). ثالثا – أن شذوذه عن الجماعة شذوذ إلى النار هذا ما توعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم المفارق للجماعة، فإن مفارقته هذه وشذوذه عن الصراط المستقيم إنما هو شذوذ إلى النار والعياذ بالله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله على الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار)). (3) بل إن هذا الذي خلع طاعة إمامه، وفارق جماعة المسلمين قد ارتكب إثما عظيما عند الله, ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فمن خرج عن الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع)) (4).وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: "والله ما فارق رجل الجماعة شبرا إلا فارق الإسلام". (5) رابعا – إن المفارق يأتي يوم القيامة ولا حجة لهولا يسأل عنه لسوء حاله، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له)) (6) وقال: ((ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة وعصى إمامه ومات عاصيا، وأمة أو عبد أبق فمات، وامرأة غاب عنها زوجها قد كفاها مؤونة الدنيا فتبرجت بعده)) (7).   (1) انظر ((تفسير الطبري)) (8/ 79) بتصرف. (2) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 390). (3) رواه الترمذي (2167) والحاكم (1/ 201) (397) قال الترمذي غريب من هذا الوجه، وقال الحاكم استقر الخلاف في إسناد هذا الحديث على المعتمر بن سليمان وله أصل وشواهد، وقال ابن حجر ((إتحاف المهرة)) (8/ 925) ضعيف، وقال الألباني صحيح دون قوله ومن شذ .. (4) رواه أبو داود (4758) والترمذي (2863) وأحمد (5/ 344) (22961) والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي حسن صحيح غريب، وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (8/ 527) صحيح، وصححه الألباني. (5) ((المصنف)) لابن أبي شيبة (7/ 451) و ((السنة)) للخلال (1/ 87) (6) رواه مسلم (1851) عن ابن عمر (7) رواه أحمد (6/ 19) (23988)، والحاكم (1/ 206) (411)، وأبو يعلى (5/ 184) (6906) وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا بجميع رواته ولم يخرجاه ولا أعرف له علة "، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 خامسا – الحرمان من الشرب من حوض رسول الله صلى الله عليه وسلمما أشد عطش الناس يوم القيامة؟! ومن أشد الحرمان أن يحرم العبد المسلم من أن يشرب من حوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم شربة لا يظمأ بعدها أبدا، ويخشى على المبتدعة المفارقين لجماعة المسلمين أن يكونوا ممن يحال بينهم وبين الشرب من الحوض (1).ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إني على الحوض حتى أنظر من يرد علي منكم، وسيؤخذ ناس دوني، فأقول: يا رب مني ومن أمتي، فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم)) (2).وقال صلى الله عليه وسلم: ((أنا فرطكم على الحوض، ليرفعن إلي رجالا منكم حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي رب، أصحابي، فيقول: لا تدري ما أحدثوك بعدك)) (3). سادسا – الموت ميتة جاهليةإن هذا المفارق للجماعة لو مات وهذا حاله فميتته ميتة جاهلية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية)). (4) ويقول صلى الله عليه وسلم: ((من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية)) (5) والمراد بالمفارقة: السعي في حل عقد البيعة التي حصلت للأمير ولو بأدنى شيء، فكنى عنها بمقدار الشبر لأن الأخذ في ذلك يؤول إلى سفك الدماء بغير الحق (6).فهذا وعيد شديد لكل من يسعى لقلب الحكم وحل البيعة بسيفه بالإفساد كالتفجير والتهديد والقتل وإخلال الأمن، أو بلسانه بتأليب الناس على الإمام وتحريضهم للخروج عليه، فمن هذا شأنه ومات على ذلك فحال موته كموت أهل الجاهلية على ضلال وليس له إمام مطاع، لا أنه يموت كافرا بل يموت عاصيا (7).   (1) انظر ((فتح الباري)) (11/ 385، 463)، ((الاعتصام)) للشاطبي (ص54) ((التذكرة)) للقرطبي (ص306)، ((الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع)) لجلال الدين السيوطي (ص15 – 23)، ((النهاية في الفتن والملاحم)) لابن كثير (1/ 236). (2) رواه البخاري (6593)، ومسلم (2293). (3) رواه البخاري (6576)، ومسلم (2297) (4) رواه مسلم (1848) (5) رواه البخاري (7054) ومسلم (1849) (6) انظر ((فتح الباري)) (13/ 6 - 7). (7) انظر ((فتح الباري)) (13/ 7) بتصرف وزيادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 سابعا – البعد عن التوبة، واستدراجه في معصيته لقد حجب الله سبحانه التوبة عن صاحب البدعة المفارق للجماعة (1) الخارج عن الصراط المستقيم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حجز - أو قال حجب - التوبة عن كل صاحب بدعة)) (2).وعن يحيى بن أبي عمرو السيباني (3) قال: "كان يقال: يأبى الله لصاحب بدعة توبة، وما ينتقل صاحب بدعة إلا إلى شر منه" (4).وتصديق ذلك ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخوارج: ((يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، ثم لا يرجعون إليه حتى يرجع السهم إلى فوقه)) (5).ولعل بيان سبب حجب التوبة عنه وبعدها منه في قوله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الافتراق المشهور وذكره لافتراق أمته قال: ((وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)) (6) يقول الإمام الشاطبي رحمه الله شارحا ذلك: "وسبب بعده عن التوبة أن الدخول تحت تكاليف الشريعة صعب على النفس لأنه أمر مخالف للهوى، وصاد عن سبيل الشهوات، فيثقل عليها جدا لأن الحق ثقيل، والنفس إنما تنشط بما يوافق هواها لا بما يخالفه، وكل بدعة فللهوى فيها مدخل، لأنها راجعة إلى نظر مخترعها لا إلى نظر الشارع، فعلى حكم التبع لا بحكم الأصل مع ضميمة أخرى: وهي أن المبتدع لابد له من تعلق بشبهة دليل ينسبها إلى الشارع، ويدعي أن ما ذكره هو مقصود الشارع، فصار هواه مقصودا بدليل شرعي في زعمه، فكيف يمكنه الخروج عن ذلك؟ وداعي الهوى مستمسك بحسن ما يتمسك به, وهو الدليل الشرعي في الجملة (7).ثم ما الذي يصده عن الاستمساك بمنهجه، والازدياد من رأيه، وهو يرى أن أعماله أفضل من أعمال غيره، واعتقاداته أوفق وأعلى؟ أفيفيد البرهان مطلبا؟! كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء [المدثر:31] (8).وينبغي أن نعلم أن هذه النصوص لا تدل على أن لا توبة أصلا للمبتدع المفارق للجماعة، بل قد يتوب ويرجع إلى السنة والجماعة، وقد وقع، فالعموم في الحديث ليس عموما بإطلاق يقتضي الشمول، بل هو عموم عادي يقتضي الأكثرية (9).وأغلب من تحجب عنهم التوبة، وتكون بعيدة المنال عنه: من قد أشرب قلبه بهذه البدعة، وأعجب برأيه وفعله، وظن أنه يتقرب بذلك إلى الله، فأخذ يدعو إلى بدعته وفعله، ويوالي ويعادي على ذلك، فهذا بحق يتجارى به الهوى كما يتجارى الكلب بصاحبه (10).   (1) إن المفارق للجماعة بمعصيته هذه التي تعتبر من البدع هو من ضمن المبتدعة، يقول الشاطبي: "وأما مفارقة الجماعة فبدعتها ظاهرة، لذلك يجازى بالميتة الجاهلية" انظر ((الاعتصام)) (385). (2) كتاب ((السنة)) لابن أبي عاصم (ص21) وفال عنه الألباني "حديث صحيح". (3) هو: يحي بن أبي عمرو السيباني أبو زرعة الحمصي، ابن عم الأوزاعي، ذكره ابن حبان في الثقات، توفي سنة 148هـ. انظر التهذيب (11/ 260). (4) انظر كتاب ((ما جاء في البدع)) لمحمد بن وضاح القرطبي (ص117 – 118). (5) انظر كتاب ((ما جاء في البدع)) لمحمد بن وضاح القرطبي (ص117 – 118). (6) رواه أبو داود (4597) وأحمد (4/ 102) (16979) والطبراني (19/ 376) (16554) والحديث سكت عنه أبو داود، والحاكم في المستدرك (443) وصححه، وقال الألباني في ((صحيح الترغيب)) (51) حسن صحيح. (7) ((الاعتصام)) (ص100). (8) انظر ((الاعتصام)) (ص101) بتصرف. (9) انظر ((الاعتصام)) (ص526). (10) انظر تفصيل ذلك: ((الاعتصام)) للشاطبي (ص100، 523 - 534)، وانظر ما سيأتي (ص246) هامش (3) معنى الكلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 ولقد توعد الله سبحانه هذا المفارق للجماعة المعجب ببدعته توعده باستدراجه على عمله، قال تعالى: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء: 115].فهذا المفارق للجماعة السالك غير طريق الشريعة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، المخالف سبيل المؤمنين يجازيه الله تعالى بأن نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى أي: نحسن فعله في صدره ونزينه له استدراجا له، وكما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: 5] (1). ثامنا – عدم قبول العمل وإحباطهإن هذا المفارق للجماعة، المحدث في دين الله، المخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عمله مردود عليه وإن ظن أنه حسن وصواب، أو كانت نيته حسنة فلا ينفعه ذلك ما دام أنه مخالف للسنة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:)) من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (((2)، فلا يقبل الله منه ما ابتدع وأحدث في دين الله فإنه ضلالة (3).وقيل: إن صاحب البدعة لا يقبل منه عمل بإطلاق على أي وجه وقع، من وفاق السنة أو خلافها، قال ابن عمر رضي الله عنهما عن القدرية: "إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، فوالذي يحلف به عبد الله بن عمر لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما تقبله الله منه حتى يؤمن بالقدر" (4).وكذلك جاء عن عبادات الخوارج حينما ذكر من صلاتهم وصيامهم وعملهم الصالح قال بعد ذلك صلى الله عليه وسلم: ((يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)) (5) ويؤيد هذا القول ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((المدينة حرم من عائر إلى كذا، من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل)) (6).وذلك على رأي من فسر الصرف بالفريضة، والعدل بالنافلة، وهذا شديد جدا على أهل الإحداث في الدين (7).وقيل: بل يرد عمله ولا يقبل إذا كانت بدعته أصلا يتفرع عليه سائر الأعمال، كما إذا ذهب إلى إنكار العمل بخبر الواحد بإطلاق، أو كانت بدعته تخرجه عن الإسلام، أو كان اعتقاده في الشريعة ضعيفا بأن يدعي أنها مكملة أو تابعة لرأيه وعقله (8). تاسعا – الحرمان من شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((رجلان ما تنالهما شفاعتي، إمام ظلوم غشوم، وآخر غال في الدين مارق منه)) (9).   (1) انظر ((تفسير ابن كثير)) (1/ 526)، وانظر كتاب ((الاعتصام)) للشاطبي (ص48). (2) رواه البخاري (2697) ومسلم (1718) (3) انظر ((الاعتصام)) (ص88). (4) رواه مسلم (8). (5) رواه البخاري (3344) ومسلم (1064) (6) رواه البخاري (7300) (7) انظر ((الاعتصام)) للشاطبي (ص85) بتصرف، ((فتح الباري)) (4/ 86). (8) انظر ((الاعتصام)) للشاطبي (ص81 - 88) باختصار وتصرف. (9) رواه ابن أبي عاصم ((السنة)) (ص23) ورواه الطبراني (17251) بلفظ صنفان، وقال الهيثمي في ((المجمع)) (5/ 235) رجاله ثقات، وصححه الألباني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 عاشرا – البعد عن رحمة الله، والوقوع في عذابه تعالىإن أهل الفرقة بعيدون عن رحمة الله تعالى، إذ الرحمة تكون لأهل الاتفاق والائتلاف من الأمة، قال تعالى: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 118 - 119]. فأهل الاختلاف المذكورين في الآية مباينون لأهل الرحمة (1)، معرضون لعذاب الله, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجماعة رحمة، والفرقة عذاب))، فالفرقة وأهلها بعيدون عن رحمة الله، واقعون في عذاب، معرضون أنفسهم لعقوبته تعالى. الحادي عشر – جواز قتل المفارق المفرق للجماعة، وهدر دمهلقد أجاز الشرع الحكيم قتل المفارق لجماعة المسلمين الساعي لتفريقها إذا لم يندفع إلا بذلك، وما ذاك إلا لخطورة فعله على الأمة، بل وجعل دمه هدرا لا دية ولا قصاص فيه (2).قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه ستكون هنات وهنات (3)، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان)). (4) وقال أيضا: ((من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه)) (5). الثاني عشر – تسلط الشيطان عليه وملازمته له إن شأن كل معرض عن الحق، مقبل على هواه مخلد إلى دنياه, شأنه أن يكون وليا للشيطان، تابعا له، يقول الله عز وجل: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف: 175 - 176].قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد)). (6) وقال أيضا: ((يد الله مع الجماعة، فإذا شذ الشاذ منهم اختطفته الشياطين كما يختطف الشاة ذئب الغنم)) (7). فليحذر المفارق للجماعة، الساعي في تفريق كلمة المسلمين، والعامل على شق عصا الطاعة، فليحذر المفارق للجماعة، والساعي في تفريق كلمة المسلمين، والعامل على شق عصا الطاعة، فليحذر من استزلال الشيطان إياه، وتزيينه له عمله، وليعد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليلزم الصراط المستقيم، جماعة المسلمين، وليكن وليا من أولياء الرحمن، وليبعد عن حزب الشيطان.   (1) انظر ((الاعتصام)) (ص442). (2) انظر ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (12/ 241). (3) الهنات جمع هنه وتطلق على كل شيء، والمراد بها هنا: الفتن والأمور الحادثة. انظر شرح ((صحيح مسلم)) (12/ 241). (4) رواه مسلم (1852) (5) رواه مسلم (1852). (6) رواه الترمذي (2165) وأحمد (1/ 26) (177) والنسائي في ((الكبرى)) (5/ 387) وابن حبان (10/ 436) (4576) والحاكم (1/ 197) (387)، قال الترمذي حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقال الحاكم صحيح على شرطهما ومثله قال الذهبي، وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (7/ 120) إسناده صحيح، وصححه الألباني. (7) رواه الطبراني (1/ 186) (492) وقال الهيثمي في ((المجمع)) (5/ 218) فيه عبد الأعلى بن أبي المساور وهو ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الثالث عشر – إن صاحب البدعة الساعي للفرقة تنزع منه العصمة، ويبعد عن الرحمة، ويوكل إلى نفسه قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 102 - 103].فأشعر أن الاعتصام بحبل الله هو تقوى الله حقا، وأن ما سوى ذلك تفرقة لقوله: وَلاَ تَفَرَّقُواْ والفرقة من أخس أوصاف المبتدعة لأن خرج عن حكم الله وباين جماعة أهل الإسلام (1). الرابع عشر – ما يلقى المفارق للجماعة من الذل في الدنيا والغضب من الله قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ [الأعراف: 152]. فالآية وإن كانت في شأن عباد العجل من بني إسرائيل، ولكن قوله: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ عموم فيهم وفيمن أشبههم من حيث كانت البدع كلها افتراء على الله. فكل من ابتدع في دين الله فهو ذليل حقير بسبب بدعته، وإن ظهر لبادي الرأي في عزه وجبروته فهم في أنفسهم أذلاء، وما العز الذي ينالوه إلا بسبب ملازمتهم للسلاطين واللوذ بأهل الدنيا، أما من لم يقدر على ذلك فهو ذليل مستخف ببدعته عن الجمهور (2). ومن ذلة أهل البدع والفرقة ما جاء في النهي عن توقيرهم ومجالستهم ومخالطتهم (3). الخامس عشر – أن هذا المبتدع المفرق لجماعة المسلمين المفارق لصراطه المستقيم عليه إثم من عمل ببدعته وسار على ضلالته إلى يوم الدين، فياله من إثم عظيم ووزر ثقيل؟! (4). قال تعالى: لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ [النحل: 25].وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء)) (5).   (1) انظر ((الاعتصام)) للشاطبي (ص89 - 90). (2) انظر ((الاعتصام)) (ص101 - 102)، وانظر الحكم الجديرة بالإذاعة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة لابن رجب الحنبلي (ص89 - 90). (3) انظر ((الاعتصام)) (ص90). (4) انظر ((الاعتصام)) (ص97). (5) رواه مسلم (1017) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 السادس عشر – أنه يخشى عليه فتنة وسوء الخاتمةجاء رجل إلى مالك بن أنس رحمه الله وسأله: يا أبا عبدالله من أين أحرم؟ قال من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد. فقال: لا تفعل، قال: فإني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر. قال: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة، فقال: وأي فتنة هذه؟ إنما هي أميال أزيدها. قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إني سمعت الله يقول: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63] (1).وهذه الفتنة التي ذكرها مالك رحمه الله تفسير الآية هي شأن أهل البدع وقاعدتهم التي يؤسسون عليها بنيانهم، فإنهم يرون أن ما ذكره الله في كتابه، وما سنه نبيه صلى الله عليه وسلم دون ما اهتدوا إليه بعقولهم (2).لذلك قال عبد الله بن مسعود لمن رآهم في المسجد يذكرون الله بطريقة جماعية قال لهم: "لقد أحدثتم بدعة ظلما أو قد فضلتم أصحاب محمد علما (3). وفي لفظ آخر: "لقد هديتم لما لم يهتد له نبيكم أو أنكم تمسكون بذنب ضلالة (4).وأما ما يخاف عليه من سوء الخاتمة لأن صاحب البدعة الساعي في الفرقة مصر على ما نهى الله عنه، ومن مات مصرا على المعصية فيخاف عليه (5).ويلخص الشاطبي ما تقدم ويزيد فيقول: "فاعلموا أن البدعة لا يقبل معها عبادة من صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا غيرها من القربات، ومجالس صاحبها تنزع منه العصمة، ويوكل إلى نفسه، والماشي إليه وموقره معين على هدم الإسلام، فما الظن بصاحبها، وهو ملعون على لسان الشريعة، ويزداد من الله بعبادته بعدا؟! وهي مظنة إلقاء العداوة والبغضاء، ومانعة من الشفاعة المحمدية، ورافعة للسنن التي تقابلها، وعلى مبتدعها إثم من عمل بها، وليس له من توبة، وتلقى عليه الذلة والغضب من الله، ويبعد عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخاف عليه أن يكون معدودا في الكفار الخارجين عن الملة، وسوء الخاتمة عند الخروج من الدنيا، ويسود وجهه في الآخرة، يعذب بنار جهنم، وقد تبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ منه المسلمون، ويخاف عليه الفتنة في الدنيا زيادة إلى عذاب الآخرة (6). المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص301 - 313   (1) انظر ((الحلية)) لأبي نعيم (6/ 326)، ((الاعتصام)) (ص132). (2) انظر ((الاعتصام)) (ص107). (3) انظر كتاب فيه ((ما جاء في البدع)) لابن وضاح (ص44 - 45). (4) انظر ((الاعتصام)) (ص104). (5) انظر ((الاعتصام)) (ص104). (6) انظر ((الاعتصام)) (ص83). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 المطلب الثاني: ضرر الفرقة على المجتمع المسلم إن ضرر الفرقة عظيم، وخطرها جسيم على المسلمين أجمع، ولعل القارئ لحظ معنا في الفصول الماضية كيف أن شرر الفرقة كان باديا، وضررها كان فاشيا ينهش في جسد الأمة، ومن هذه المضار: أولا – تعطيل الجهاد في سبيل الله، وتسلط الأعداء على الأمة المسلمة لقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالجهاد في سبيله فقال عز من قائل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التوبة:73].وقال سبحانه: انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة: 41]. ولقد جعل الجهاد ذروة سنام الإسلام التي يعلو بها الأمم، كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد)) (1).ثم إن الذل والمهانة تقع على الأمة إذا تركت الجهاد في سبيل الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) (2).يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إن الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل، وشمله البلاء، وديث بالصغار والقماءة، وضرب على قلبه بالأسداد، وأديل الحق منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف، ومنع النصف ... فو الله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا" (3).   (1) رواه الترمذي (2616)، وابن ماجة (3973) وقال الترمذي حسن صحيح، وقال ابن القيم في ((حكم تارك الصلاة)) (34) صحيح، وصححه الألباني. (2) رواه أبو داوود (3462) قال الحافظ في ((البلوغ)) (1/ 172): رواه أبو داود من رواية نافع عنه وفي إسناده مقال، ولأحمد نحوه من رواية عطاء ورجاله ثقات، وصححه ابن القطان وصححه الألباني. (3) ((نهج البلاغة)) المنسوب إلى سيدنا علي بن أبي طالب بشرح محمد عبده (1/ 67) باختصار يسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 إن الأمة القوية والدولة المتماسكة العاملة بأمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هي التي تستطيع أن تقيم الدين وترفع علم الجهاد، ومتى ما شغلت الأمة بهمومها، وانصرفت الدولة إلى تسكين الثائرة بين أبنائها، وتوطيد حكمها، فهي مشغولة عن جهاد عدوها. وحينما تنشغل الأمة بآلامها، وتضعف لتفرقها وتترك جهاد أعداء الدين، فلا ريب أن العدو يتربص بها، ويتسلط عليها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم. وإن ربي قال: يا محمد إني إذ قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا)) (1).ومعنى الحديث: إن الله تعالى لا يسلط العدو على كافة المسلمين حتى يستبيح ما حازوه من البلاد. فالله لا يسلط الكفار على معظم المسلمين وجماعتهم وإمامهم ماداموا بضد هذه الأوصاف المذكورة في قوله: "حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا. فأما إذا وجدت هذه الأوصاف فقد يسلط الكفار على جماعتهم ومعظمهم وإمامهم كما وقع (2).فإن هذه الأمة لما جعل بأسها بينها تفرقت جماعتهم، واشتغل بعضهم ببعض عن جهاد العدو فاستولى (3). وحاضر العالم الإسلامي برهان واقع، وتاريخها الماضي أصدق شاهد؛ أنه متى عز المسلمون دينهم، وأقاموا شرع الله تعالى، وامتثلوا أمره ونهيه علماء وأمراء وعامة، وائتلفوا واجتمعوا صفا واحدا ضد عدوهم فهم الأعلون الغالبون. أما إذا ضعف الامتثال لأمر الشريعة، وتفرقت الأمة واشتغلت بقتال بعضها بعضا، فهنا يتسلط العدو ويغلب وينتصر.   (1) رواه مسلم (2889). (2) انظر ((تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد)) لسليمان بن عبد الوهاب (ص324). (3) انظر ((إبطال التنديد شرح كتاب التوحيد)) لمحمد بن عتيق (ص149). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 يقول ابن كثير واصفا حال الخلافة الإسلامية من عز وجهاد عند اتحاد صف المسلمين في خلافة عمر وعثمان وواليه معاوية رضي الله عنهما، فيقول: "ولم تزل الفتوحات والجهاد قائما على ساقه في بلاد الروم والفرنج وغيرها، فلما كان من أمره وأمر أمير المؤمنين علي ما كان، لم يقع في تلك الأيام فتح بالكلية، لا على يديه ولا على يدي علي، وطمع في معاوية ملك الروم بعد أن كان قد أخشاه وأذله، وقهر جنده ودحاهم، فلما رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب علي؛ تدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب معاوية إليه: "والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لأصطلحن أنا وابن عمي عليك، ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت". فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف وبعث يطلب الهدنة. ثم كان من أمر التحكيم ما كان، وكذلك ما بعده إلى وقت اصطلاحه مع الحسين بن علي فانعقدت الكلمة على معاوية، وأجمعت الرعايا على بيعته. فلم يزل مستقلا بالأمر في هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها وفاته؛ والجهاد في بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية، والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدل، وصفح وعفو (1).هذا هو حال أعداء الإسلام يتربصون بنا الدوائر، فما أن تحل الفرقة بين المسلمين حتى يثوروا ويغزوا بلاد الإسلام، يقول ابن كثير: "ثم دخلت سنة 70هـ فيها ثارت الروم واستجاشوا على من بالشام، واستضعفوهم لما يرون من الاختلاف الواقع بين بني مروان وابن الزبير، فصالح عبدالملك ملك الروم وهادنه على أن يدفع إليه عبدالملك في كل جمعة ألف دينار خوفا منه على الشام (2).   (1) ((البداية والنهاية)) (8/ 118 - 119). (2) ((البداية والنهاية)) (8/ 313). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 فالله المستعان، بعد أن كان ملك الروم يدفع الجزية للمسلمين، صار المسلمون يدفعون له ثمن سكوته وكفه عن بلادهم، فأي ضرر أشد على الأمة من تسلط أعدائها بسبب فرقتها واختلافها فيما بينها، فهل ينظر المسلمون إلى تاريخهم، ويتعظوا بأسلافهم، ويعودوا إلى الاجتماع صفا مرصوصا ويدا واحدة وجماعة متحدة، تعمل بكتاب ربها وتهتدي بسنة نبيها صلى الله عليه وسلم ضد عدوها؟ نسأل الله ذلك. ويعطينا شيخ الإسلام ابن تيمية صورا عدة تظهر تسلط العدو الكافر على الأمة المسلمة حينما تتفرق وتختلف فيقول: "وبلاد الشرق من أسباب بتسليط الله التتر عليها، كثرة التفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها (1).ويقول: "وفي دولة بني بوية ونحوهم كان منهم أصناف المذاهب المذمومة، قوم منهم زنادقة، ومنهم قرامطة كثيرة، ومتفلسفة، ومعتزلة، ورافضة، وهذه الأشياء كثيرة فيهم غالبة عليهم، فحصل في أهل الإسلام والسنة في أيامهم من الوهن ما لم يعرف، حتى استولى النصارى على ثغور الإسلام، وانتشرت القرامطة في أرض مصر والمغرب والمشرق وغير ذلك، وجرت حوادث كثيرة (2).ويقول مبينا سبب هذا التسليط: "وهذا التفريق الذي حصل من الأمة – علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها- هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله كما قال تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [المائدة: 14] (3).نعم، إن الله يعاقب الأمة المسلمة حينما تعصيه, ويعذبها بما يدب بينها من فرقة وتناحر حينما تتهاون في العمل بكتابها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، فهل من عودة إلى الدين والعمل به؟ ليعود للأمة مجدها وسيادتها (4) ثانيا- ذهاب قوة المسلمينإن من مضار الفرقة الجسيمة والتي تقع على الأمة ما يحدث بسببها من ذهاب قوة المسلمين: القوة المعنوية، والقوة المادية، لما تسببه الفرقة من تناحر وتقاتل بين الجماعات المسلمة كما في الحديث: ((حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا)) (5) ولما نزل قوله تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [الأنعام: 65].فاستجاب الله دعاء نبيه وأعاذه من الأمرين الأولين، ولم يجبه في الأمرين الآخرين وهو أن يجعلهم فرقا مختلفين، ويذيق بعضهم بأس بعض بالحروب والقتل (6). إن الفرقة متى ما دبت في الأمة قاتل بعضهم بعضا، وصار كل يريد الغلبة لنفسه، والسيادة لملكه، وتحقيق مصلحة نفسه، حتى لو قتل أخاه المسلم، وسبى أهله واعتدى على أرضه وماله.   (1) ((الفتاوى)) (22/ 154). (2) ((الفتاوى)) (4/ 19). (3) ((الفتاوى)) (3/ 258). (4) انظر ((فتح الباري)) (13/ 296)، (8/ 291). (5) رواه مسلم (2889) (6) انظر ((زاد المسير)) لابن الجوزي (3/ 59). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ولعل المسلم ينظر ويعتبر بما حصل من مفاسد عظيمة جراء الخروج على عثمان رضي الله عنه، ومفارقة الجماعة والإمام؛ فخرج عليه السفهاء الجهلاء حتى قتلوه شهيدا مظلوما رضي الله عنه وأرضاه. ولقد نبه عثمان رضي الله عنه وحذر الذين حاصروه يريدون قتله ونبههم على ضرر الفرقة فقال: "يا أيها الناس لا تقتلوني واستتيبوني، فوالله لئن قتلتموني لا تصلون جميعا أبدا، ولا تجاهدون عدوا جميعا أبدا، ولتختلفن حتى تصيروا هكذا، وشبك بين أصابعه" (1).ولما قتل عثمان قال حذيفة بن اليمان: "والله لئن كان قتله خيرا ليحلبنها لبنا، ولئن كان قتله شرا ليمتصن بها دما (2). وقال عبدالله بن سلام رضي الله عنهم يوم قتل عثمان: "اليوم هلكت العرب" (3). وقال: "والله لا تهرقون محجما من دم إلا ازددتم من الله بعدا" (4).ولقد امتصت الأمة الدماء بقتل عثمان رضي الله عنه، فبعد الرخاء والأمن بدأت الفتن تثور بين المسلمين وفي بلادهم، وبدأ القتال والتفرق يطحن في كيان الأمة، فجاءت وقعة الجمل، وأعقبتها صفين، وقتل من المسلمين خلق كثير، فقتل في الجمل قرابة العشرين ألفا، وفي صفين سبعون ألفا (5). وما توالى على المسلمين من وقائع ونكبات أشد وأنكى. وانظر كيف أشغلت الخلافة الإسلامية في العصور الماضية والحاضرة بقتال الفرق الخارجية الشاقة لعصا الطاعة، وكم من الدماء سفكت لتسكين ثائرتها؟ وكم من الأموال أنفقت لإسكات هذه الفرق؟ إن زعزعة الأمن، وإثارة القلاقل والفتن في المجتمع المسلم تنهك اقتصاده، وتبعثر طاقاته التي من المفترض أن تجتمع لإعمار الأرض بدين الله، والدعوة إلى توحيد المولى سبحانه، والجهاد في سبيله لإقامة الحق ورد الباطل. فهل يكف هؤلاء المبتدعة أصحاب الفرقة عن مساعدة أعداء الإسلام على الإسلام وأهله؟ وليتقوا الله فيما يقومون به ويفعلونه من إذهاب قوة المسلمين، وإضعاف مواردهم. وليعودوا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليسيروا مع الجماعة المسلمة على الصراط المستقيم لتكون صفا واحدا يعلو ويعلو ... ، ويرد كيد الأعداء، ويتذكروا قول المولى عز وجل: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران: 103]. ثالثا: الهزيمة والفشل مما لا شك فيه أن الهزيمة والفشل تصيب الجماعة المتفرقة، المختلفة فيما بينها، والمعترضة على قيادتها، إذ كيف ينتصرون ويغلبون وهم لم ينتصروا بعد على هوى أنفسهم، ولم يغلبوا شيطانهم. ولقد نبه المولى العزيز سبحانه عباده المؤمنين على ذلك، وأمرهم بالاجتماع على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ليتحقق لهم النصر على عدوهم، ولكن إن أبو إلا التفرق والاختلاف فالضرر لاحق بهم من الهزيمة والفشل.   (1) انظر ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (3/ 71). (2) انظر ((الطبقات الكبرى)) (3/ 83). (3) ((الطبقات الكبرى)) (3/ 81). (4) ((الطبقات الكبرى)) (3/ 81). (5) انظر ((تاريخ خليفة خياط)) (ص186، 194). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 45 - 46].فيا أيها المؤمنون أطيعوا ربكم ورسولكم فيما أمركم به ونهاكم عنه، ولا تخالفوهما في شيء، وَلاَ تَنَازَعُواْ أي: لا تختلفوا فتفرقوا وتختلف قلوبكم. فَتَفْشَلُواْ أي: فتضعفوا وتجبنوا. وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ أي: تذهب قوتكم وبأسكم ووحدتكم، وتنقطع دولتكم، ويدخلكم الوهن والخلل (1)، والضعف عن جهاد العدو والانكسار له (2).لذلك يوصيهم الله عز وجل بالصبر فيقول في ختام الآية: وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم في باب الشجاعة والائتمار بما أمرهم الله ورسوله، وامتثال ما أرشدهم إليه ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم، ولا يكون لأحد ممن بعدهم، فإنهم ببركة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته فيما أمرهم فتحوا القلوب والأقاليم شرقا وغربا في المدة اليسيرة، مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم من الروم والفرس والترك والصقالبة والبربر والجيوش وأصناف السودان والقبط وطوائف بني آدم، قهروا الجميع حتى علت كلمة الله وظهر دينه على سائر الأديان، وامتدت المماليك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين سنة فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وحشرنا في زمرتهم إنه كريم تواب (3). إن القوة والنصر مع الوحدة والجماعة: وحدة الرأي، ووحدة القيادة، ووحدة القوة، وإن الهزيمة والفشل مع الفرقة والاختلاف وتعدد القيادات حتى لو كثر العدد. مثال ذلك ما حكاه الإمام ابن كثير رحمه الله يقول: "لما مات علي قام أهل الشام فبايعوا معاوية على إمرة المؤمنين لأنه لم يبق له عندهم منازع، فعند ذلك أقام أهل العراق الحسن بن علي رضي الله عنه ليمانعوا به أهل الشام، فلم يتم لهم ما أرادوه وحاولوه، وإنما كان خذلانهم من قبل تدبيرهم وآراؤهم المختلفة المخالفة لأمرائهم، ولو كانوا يعلمون لعظموا ما أنعم الله به عليهم من مبايعتهم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيد المسلمين، وأحد علماء الصحابة وحلمائهم وذوي آرائهم. وعن الزهري أنه قال: لما بايع أهل العراق الحسن بن علي طفق يشترط عليهم أنهم سامعون مطيعون مسالمون من سالمت، محاربون من حاربت، فارتاب به أهل العراق وقالوا: ما هذا لكم بصاحب؟ فما كان عن قريب حتى طعنوه فأشووه، فازداد لهم بغضا وازداد منهم ذعرا، فعند ذلك عرف تفرقهم واختلافهم عليه" (4). ثم كان ما كان من الصلح مع معاوية وتنازله عن الخلافة له، فرضي الله عنهم وأرضاهم (5). رابعا- خروج الفرق، وفشو الفتن والبدعما أن تتفرق الأمة، وتخالف أمر الله تعالى لها بالتزام الجماعة وسلوك الصراط المستقيم إلا وتقوى الفرق، وتخرج على إمام المسلمين، وتقاتل الجماعة، وتوقد معها الفتنة، وتنشر معها البدعة مما يزيد الأمة وهنا، والمسلمين بلاء، ولقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخوارج: ((أنهم يخرجون في فرقة من الناس)) (6)   (1) انظر ((تفسير الطبري)) (10/ 11)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (3/ 365)، ((تفسير ابن كثير)) (2/ 303). (2) انظر ((تفسير الطبري)) (10/ 12). (3) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 303). (4) ((البداية والنهاية)) (8/ 16 - 17) باختصار، وانظر مثال آخر (8/ 129) منه. (5) ((البداية والنهاية)) (8/ 16 - 17) باختصار، وانظر مثال آخر (8/ 129) منه. (6) رواه مسلم (1064) والبخاري (6163) بلفظ على حين فرقة .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وهذا شأن الفرق المبتدعة، شأن الضلالات والظلمات لا تجسر على الخروج إلا عند ضعف شمس الحق، يقول ابن تيمية رحمه الله: "وتجد الإسلام والإيمان كلما ظهر وقوي كانت السنة وأهلها أظهر وأقوى، وإن ظهر شيء من الكفر والنفاق ظهرت البدع بحسب ذلك، مثل: دولة المهدي، والرشيد ونحوهما ممن كان يعظم الإسلام والإيمان، ويغزو أعداءه من الكفار والمنافقين، كان أهل السنة في تلك الأيام أقوى وأكثر، وأهل البدع أذل وأقل ... وفي دولة أبي العباس المأمون ظهر "الخرمية" (1) ونحوهم من المنافقين، وعرب من كتب الأوائل المجلوبة من بلاد الروم ما انتشر بسببه مقالات الصابئين، وراسل ملوك المشركين من الهنود ونحوهم حتى صار بينه وبينهم مودة. فلما ظهر ما ظهر من الكفر والنفاق في المسلمين (2)، وقوي ما قوي من حال المشركين وأهل الكتاب، كان من أثر ذلك ما ظهر من استيلاء الجهمية والرافضة وغيرهم من أهل الضلال، وتقريب الصابئة ونحوهم من المتفلسفة ... فتولد عن ذلك محنة الجهمية حتى امتحنت الأمة بنفي الصفات والتكذيب بكلام الله ورؤيته، وجرى من محنة الإمام أحمد وغيره ما جرى مما يطول وصفه" (3). خامسا – وقوع العداوة والبغضاء، وذهاب المحبة والألفة: إن من أصول الدين العظيمة، وقواعده المهمة التي هي من جماع الدين ما وصى الله به من تأليف القلوب واجتماع الكلمة وصلاح ذات البين (4). ولكن يأبى أهل الفرقة والبدعة ذلك فما يزالون يهدمون الدين، ويفرقون قلوب المسلمين، ويوقعون بينهم العداوة والبغضاء بما يفعلونه من تفريق المسلمين شيعا وأحزابا، يقول الله تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم: 31 - 32]. ولقد أخبر الله عز وجل عن حال أهل الفرقة والاختلاف من التنازع والشقاق الواقع بينهم، والذي هو مظنة إلقاء العداوة والبغضاء، قال الله تعالى فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 137]. وقال عز وجل: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [الحج: 53].   (1) الخرمية فرقة من غلاة الشيعة. (2) وظهور ذلك يدل على وقوع الفرقة في الأمة لكثرة الطوائف فيها. (3) ((الفتاوى)) (4/ 18 - 19) باختصار، والجهمية أصحاب الجهم بن صفوان. (4) انظر ((الفتاوى)) (28/ 33)، (22/ 211). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 فهؤلاء المفارقين للجماعة، المخالفين للحق في شقاق: عداوة ومنازعة للحق وأهله، وعداوة ومنازعة فيما بينهم، يسعون لشق عصا الطاعة ولصدع الكلمة، وكما وصفهم سبحانه: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ [الحشر: 14]. إن كل هذه العداوة والبغضاء التي بين أهل الفرقة وبين أهل الحق، والتي هي فيما بين المختلفين أنفسهم كلها بسبب تركهم ما أمروا به من الجماعة وإقامة الألفة والمحبة في المجتمع المسلم، يقول الله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [المائدة: 14].يقول ابن تيمية رحمه الله: "فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا، فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب" (1). ويبين الإمام الشاطبي كيف يوقع أهل الفرقة بتفرقهم العداوة والبغضاء في الأمة فيقول: "وقد بين عليه الصلاة والسلام أن فساد ذات البين هي الحالقة، وأنها تحلق الدين، هذه الشواهد تدل على وقوع الافتراق والعداوة عند وقوع الابتداع. وأول شاهد عليه في الواقع قصة الخوارج إذ عادوا أهل الإسلام حتى صاروا يقتلونهم، ويدعون الكفار كما أخبر عنه الحديث الصحيح، ثم يليهم كل من كان له صولة منهم بقرب الملوك، فإنهم تناولوا أهل السنة بكل نكال وعذاب وقتل أيضا، حسبما بينه جميع أهل الأخبار. ثم يليهم كل من ابتدع بدعة فإن من شأنهم أن يثبطوا الناس عن اتباع الشريعة، ويذمونهم ويزعمون أنهم الأرجاس الأنجاس المكبين على الدنيا، ويضعون عليهم شواهد الآيات في ذم الدنيا وذم المكبين عليها، كما يروى عن عمرو بن عبيد أنه قال: "لو شهد عندي علي وعثمان وطلحة والزبير على شراك نعل ما أجزت شهادتهم"وقيل له: كيف حدث الحسن عن سمرة (2).في السكتتين؟ فقال: "ما تصنع بسمرة!! قبح الله سمرة". بل قبح الله عمرو بن عبيد. فهكذا أهل الضلال يسبون السلف الصالح لعل بضاعتهم تنفق، يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة: 32].وأصل هذا الفساد من قبل الخوارج فهم أول من لعن السلف الصالح، وكفر الصحابة رضي الله عن الصحابة، ومثل هذا كله يورث العداوة والبغضاء (3). ولما كانت الفرقة بهذه الخطورة وهذا الضرر كان الصحابة رضي الله عنهم أبعد ما يكون عنها، وأسلم الناس منها كما سيأتي ويتضح في المبحث القادم إن شاء الله. المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص313 - 326   (1) ((الفتاوى)) (3/ 259)، وانظر (13/ 227). (2) الحسن هو الحسن البصري وسمرة هو سمرة بن جندب بن هلال الفزاري، صحابي جليل، معروف بالشجاعة والإقدام، نزل البصرة ومات بها عام 60 هـ وقيل مات بالكوفة. انظر الإصابة (3/ 130) د/دار الفكر، السير (3/ 183). (3) ((الاعتصام)) (ص95) باختصار يسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 المبحث الثاني: سلامة الصحابة رضي الله عنهم من الفرقة لقد اختار الله عز وجل الصحابة رضي الله عنهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتبليغ دينه إلى الناس كافة، وما ذاك إلا لما علم ما في قلوبهم من محبة الحق، والعمل على نصرته، والاجتماع عليه، وبذل الأموال والأنفس في سبيل ذلك، يقول الحسن البصري رحمه الله واصفا الصحابة: "أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه وإقامة دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم" (1).وقد تقدم معنا شيئا عن فضل الصحابة وعن فقههم، ولعله بان لنا موقفهم من الفرقة من خلال الفصول السابقة، وكيف أنهم ذموها وعابوها، فهم أعرف الناس بخطرها وضررها، وكانوا كذلك أبعد الناس عنها وأسلمهم منها، ولا يعني ذلك أنهم رضي الله عنهم لم يختلفوا؛ بل اختلفوا ولكنهم لم يفترقوا، وهذا شأن أهل الرحمة الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 118 - 119]، فهم يختلفون اختلافا لا يضرهم (2).يقول ابن تيمية رحمه الله: "وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59]. وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين" (3).ويقول الإمام إسماعيل الأصبهاني رحمه الله: "فإنا وجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في أحكام الدين فلم يفترقوا، ولم يصيروا شيعا لأنهم لم يفارقوا الدين، ونظروا فيما أذن لهم، فاختلفت أقوالهم وآراؤهم في مسائل كثيرة ... وكانوا مع هذا الاختلاف أهل مودة ونصح، وبقيت بينهم أخوة الإسلام ولم ينقطع منهم نظام الألفة (4). هكذا كان الصحابة رضي الله عنهم متآلفين، مجتمعين، بعيدين عن أهل الفرقة وعن مناهجهم، وهناك نماذج ودلائل عدة على ذلك منها: أولا: ما تقدم من أقوالهم العديدة في أمرهم المسلمين بالجماعة، ونهيهم عن الفرقة، وتحذيرهم من مغبة عواقبها يقول ابن عباس رضي الله عنه لسماك الحنفي: "يا حنفي الجماعة الجماعة!! فإنما هلكت الأمم الخالية لتفرقها، أما سمعت الله عز وجل يقول: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران: 103] ويقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة فإنهما حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة هو خير مما تستحبون في الفرقة".ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه محذرا الأمة: "إياكم والفرقة بعدي". أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه والذي يسير على نفس المنهج يقول: "الاختلاف حالقة الدين وفساد ذات البين، وإياكم والخصومات فإنها تحبط الأعمال، والاختلاف يدعو إلى الفتنة، والفتنة تدعو إلى النار، وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: 46] (5).   (1) انظر كتاب ((الشريعة)) للآجري (4/ 1686). (2) انظر ((الاعتصام)) للشاطبي (ص442). (3) ((الفتاوى)) (42/ 95). (4) الحجة في بيان المحجة (ص241) باختصار، وانظر عامه فهو كلام مفيد. (5) ((ذم الكلام)) للهروي (4/ 9). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وهذا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ينصح الأمة ويحذرها من الفتنة فيقول: "إياكم والفتنة فلا تهموا بها، فإنها تفسد المعيشة، وتكدر النعمة، وتورث الاستيصال" ثانيا: العمل على جمع الكلمة وتوحيد الصف لقد حرص الصحابة رضي الله عنهم على جمع كلمة المسلمين، وتوحيد صفوفها، وسعوا إلى سد باب الفرقة حتى لو كان على حساب مصلحته، فمصلحة المسلمين أولى، وحقن دمائهم أحرى بالعمل لأجله. وخوفا من الفرقة سارع الصحابة رضي الله عنهم بتولية أبي بكر الصديق الخلافة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولإدراكهم أهمية جمع كلمة المسلمين على رجل يتولاهم، اجتمعوا رضي الله عنهم على بيعة أبي بكر رضي الله عنه ولم يقضوا شيئا من أمر تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه حتى أحكموا أمر البيعة (1). لقد كانوا يعلمون أهمية الاجتماع على طاعة الإمام، إذ في الخروج عن أمره ومخالفته زعزعة للأمن وتأليب للناس، وتفريق لجماعة المسلمين لذلك لما حج عثمان رضي الله عنه سنة 29هـ وهو خليفة وأتم الصلاة في منى ولم يقصرها، عاتبه في ذلك عبدالرحمن بن عوف، واعتذر له عثمان رضي الله عنه بأنه قد تزوج بمكة فكان في حكم المقيم لا المسافر، وبأن أناسا من أهل اليمن ظنوا أن الصلاة للمقيم ركعتان، فأتم عثمان رضي الله عنه لذلك. ولما خرج عبدالرحمن بن عوف من عند عثمان لقي عبدالله بن مسعود وخاطبه في ذلك فقال ابن مسعود: "الخلاف شر، قد بلغني أنه صلى أربعا فصليت بأصحابي ركعتين، وأما الآن فسوف يكون الذي تقول "أي نصلي معه أربعا (2).هذا هو منهج العالمين بأمر الله تعالى، المدركين أهمية الجماعة وخطر الفرقة، وأنه أصل من أصول الدين وقاعدة من قواعده الكلية، لا يقدمون عليه أمر جزئي أو فرعي من أمور الدين (3).يقول العلامة صالح بن المهدي المقبلي (4)، مبينا حرص الصحابة على جمع الكلمة، واحتواء الخلاف وتجاوزه من أجل ذلك يقول: "أن أكثر إغضائهم كان لصيانة أخوة الإسلام وحرمة أهله، لا لتساهل في الخلاف، حتى ربما يقضي أحدهم ويترك رأيه خشية شيوع الخلاف"، كقول علي رضي الله عنه: "اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الخلاف، حتى تكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي" (5).ونقم ابن مسعود على عثمان رضي الله عنه ترك القصر وتابعه في الصلاة، فقيل له، فقال: "الخلاف كله شر". فتركوا التنويه بالخلاف محاذرة لتفاقم الشر، لا لأنه مرضي عندهم، بل مراد الله تعالى كما شاع في المتأخرين وانتشر، إنما كان المهم المقدم عند أحدهم أن يكون الناس جماعة أو يموت سالما من الفتنة كما قال علي رضي الله عنه (6).   (1) انظر شرح ((السنة)) للبغوي (10/ 81، 78 - 84). (2) انظر حاشية ((العواصم من القواصم)) لمحب الدين الخطيب (ص89)، وعزاه لـ ((تاريخ الطبري)) (5/ 56 - 57)، ((تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأخبار)) للطبري (1/ 224 - 226) ((مسند عمر بن الخطاب))، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (7/ 154). (3) انظر ((الموافقات)) للشاطبي (4/ 535). (4) وهو: صالح بن مهدي بن علي المقبلي، مجتهد، من أعيان الفقهاء، ولد في قرية مقبل في اليمن، كان على مذهب الإمام زيد، ترك اليمن ورحل إلى مكة فاشتهر وكتب فيها مؤلفاته وتوفي بها، من كتبه: "الإتحاف لطلبة الكشاف" توفي سنة 1108 هـ انظر ((الأعلام)) (3/ 197). (5) رواه البخاري (3707). (6) ((العلم الشامخ)) (ص 486). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ويضرب لنا ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه أروع مثال وأصدقه لحرص الصحابة رضي الله عنهم على جمع الكلمة، والعمل على حقن دماء المسلمين ولو بسفك دمائهم، فلقد ضحى بنفسه ولم ينخلع من الخلافة خشية على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يتركوا بلا إمام، أو تكون سنة للخارجين فينفتح باب شر على الأمة. لقد دخل عبدالله بن عمر رضي الله عنه على عثمان وهو محصور في الدار، وقال: "ما ترى فيما أشار به علي المغيرة بن الأخنس؟ قال ابن عمر: ما أشار به عليك؟ قال: إن هؤلاء القوم يريدون خلعي فإن خلعت تركوني، وإن لم أخلع قتلوني، قال ابن عمر: أرأيت إن خلعت تترك مخلدا في الدنيا؟ قال: لا، قال: فهل يملكون الجنة والنار؟ قال: لا. قال ابن عمر: أرأيت إن لم تخلع هل يزيدون على قتلك؟ قال: لا. قال: فلا أرى أن تسن هذه السنة في الإسلام كلما سخط قوم على أميرهم خلعوه، لا تخلع قميصا قمصكه الله (1).وفي رواية عن عثمان أنه قال: "أما أن أخلع لهم أمرهم فما كنت لأخلع سربالا سربلنيه الله" (2)، وقال: "والله لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أخلع أمة محمد بعضها على بعض (3).وليس هذا فقط؛ بل إنه رضي الله عنه نهى الصحابة عن الدفاع عنه، وقتال من حاصروه حتى لا يراق دم بسببه، فقد جاء زيد بن ثابت إلى عثمان، وقال له: "هذه الأنصار بالباب يقولون إن شئت كنا أنصارا لله مرتين. فيقول له عثمان: أما القتال فلا" (4).وقال رضي الله عنه يوم حصر في الدار: "إن أعظمكم عني غناء رجل كف يده وسلاحه" (5).وقال لأبي هريرة لما طلب منه الإذن بقتال هؤلاء الخارجين عليه المحاصرين له، قال: يا أبا هريرة أيسرك أن تقتل الناس جميعا وإياي؟ قال: لا، قال: فإنك والله إن قتلت رجلا واحدا فكأنما قتل الناس جميعا، فرجع أبو هريرة ولم يقاتل (6).فعثمان رضي الله عنه اختار أهون الشرين، فآثر التضحية بنفسه على توسيع دائرة الفتنة وسفك دماء المسلمين (7). والصحابة حوله امتثلوا أمر الله بطاعة الإمام، وكان رضي الله عنه قد عزم عليهم بحقه في طاعتهم له ألا يقاتلوا، فقال: "أعزم على كل من رأى أن لي عليه سمعا وطاعة إلا كف يده وسلاحه، فإن أفضلكم غناء من كف يده وسلاحه" (8) .. ولقد سار الصحابة رضي الله عنهم على المنهج نفسه الذي رباهم عليه رسول اله صلى الله عليه وسلم من بغض الفرقة، والسعي لجمع الكلمة، والتنازل عن بعض الحقوق، من أجل ذلك، مثاله: أنه لما توفى الحسن بن علي رضي الله عنه وكان قد أوصى أخاه الحسين أن يدفن بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خاف قتالا أو فتنة فليدفن بالبقيع. فلما مات رضي الله عنه لبس الحسين السلاح وتسلح بنو أمية وقالوا: لا ندعه يدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيدفن عثمان بالبقيع، ويدفن الحسن بن علي في الحجرة؟ وخاف الناس وقوع الفتنة والقتال، فأشار سعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وجابر، وابن عمر رضي الله عنهم على ألا يقاتل، فامتثل رضي الله عنه ودفن أخاه قريبا من قبر أمه بالبقيع (9).   (1) ((العلم الشامخ)) (ص486). (2) انظر ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (3/ 66). (3) انظر ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (3/ 72). (4) انظر ((الطبقات)) (3/ 70)، وانظر ((العواصم من القواصم)) لابن العربي (ص125 - 129). (5) انظر ((الطبقات)) (3/ 70)، وانظر ((العواصم من القواصم)) لابن العربي (ص125 - 129). (6) انظر ((الطبقات)) (3/ 70)، وانظر ((العواصم من القواصم)) لابن العربي (ص125 - 129). (7) انظر حاشية ((العواصم من القواصم)) للخطيب (ص129). (8) انظر ((العواصم من القواصم)) (133). (9) انظر ((البداية والنهاية)) لابن كثير (8/ 44). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 رضي الله عنهم وأرضاهم إنهم والله لهم الحكماء والعلماء والمريدون وجه الله بما يشيرون، وبما يجمعون به الأمة. لم تكن الدنيا شغل الصحابة الشاغل، ولم يكونوا يسعون للملك والرئاسة، بل يريدون تبليغ دين الله تعالى، ويسعون في مصلحة المسلمين دون نظر إلى مصالحهم، أو السعي لتحقيق مآربهم، تعرض على أحدهم الدنيا فيردها يبتغي الأجر من الله بتوحيد صف المسلمين وحقن دمائهم، فها هو ذا الحسن بن علي رضي الله عنه يتنازل عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان سنة أربعين، ويسمى هذا العام عام الجماعة لاجتماع كلمة المسلمين على معاوية رضي الله عنه. فالحسن تنازل عن الخلافة حرصا منه على الجماعة المسلمة، وخوفا من أن يراق دم من دماء المسلمين، لذلك لما اجتمع الجيشان ورآهم أمثال الجبال في الحديد من كثرتهم قال: "أضرب بين هؤلاء وهؤلاء في ملك من ملك الدنيا، لا حاجة لي فيه" (1).وخطب رضي الله عنه في أهل العراق بعد وفاة علي بن أبي طالب وقال: إن كل ما هو آت قريب، وإن أمر الله عز وجل لواقع، ماله من دافع، ولو كره الناس، وإني ما أحب أن ألي من أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما يزن مثقال ذرة حبة من خردل يهراق فيه محجمة من دم، قد عرفت ما ينفعني مما يضرني" (2).ولقد ذمه بعض أصحابه وأنصاره على تنازله عن الخلافة لمعاوية، حتى قال له رجل منهم لما قدم رضي الله عنه إلى الكوفة قال له: "السلام عليك يا مذل المؤمنين. فقال: لا تقل هذا!! لست بمذل المؤمنين، ولكني كرهت أن أقتلهم على الملك" (3).وقال له آخر: يا عار المؤمنين!! فقال له: العار خير من النار (4).   (1) كتاب ((الشريعة)) للآجري (5/ 2169). (2) كتاب ((الشريعة)) للآجري (5/ 2169). (3) انظر ((البداية والنهاية)) (8/ 19). (4) انظر ((فتح الباري)) (13/ 65). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 ثبات على المنهج وتصميم على الحق ولو عذل العاذلون، ولام اللائمون، ولم يكن السعي لجمع الكلمة والعمل على حقن الدماء صادر من الحسن بن علي وحده، بل كان هذا موقف الصحابة رضي الله عنهم ففي المقابل كان معاوية ومن معه من الصحابة حريصين أيضا على جمع الكلمة وعقد الصلح، وحقن الدماء، لذلك أرسل معاوية للحسن بن علي رضي الله عنه يطلب منه الصلح ويشترط لنفسه ما شاءه لا عن قلة عدد جيشه بل خوفا من إراقة دماء المسلمين. فروى البخاري عن الحسن البصري قال: "استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها. فقال له معاوية – وكان والله خير الرجلين – أي عمرو، إن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء من لي بأمور الناس، من لي بنسائهم، من لي بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش ... فقال: اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه، وقولا له واطلبا إليه (1).فأتياه فدخلا عليه فتكلما، وقالا له وطلبا إليه، فقال لهما الحسن بن علي: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها. قالا: فإنه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك ويسألك. قال: فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به ... فصالحه. فقال الحسن (2): ولقد سمعت أبا بكرة (3) يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر – والحسن بن علي إلى جنبه – وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: ((إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) (4).يقول الإمام محمد بن الحسين الآجري رحمه الله عن ذلك: "انظروا رحمكم الله وميزوا فعل الحسن الكريم بن الكريم أخ الكريم ابن فاطمة الزهراء مهجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قد حوى جميع الشرف، لما نظر إلى أنه لا يتم ملك من ملك الدنيا إلا بتلف الأنفس وذهاب الدين، وفتنة متواترة وأمور تتخوف عواقبها على المسلمين، صان دينه وعرضه، وصان أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يحب بلوغ ما له فيه حظ من أمور الدنيا، وقد كان لذلك أهلا، فترك ذلك بعد المقدرة منه على ذلك تنزيها منه لدينه، ولصلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولشرفه، وكيف لا يكون ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن ابني هذا سيد، وإن الله عز وجل يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) (5).هذا هو المنهج، وهذا هو موقف الصحابة من الفرقة، موقف ثابت لثبات ما يستندون إليه من قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتبدل أو يتغير، وإن تغير الأشخاص، فالخلافة والملك يعرض على صحابي آخر فيأباه خوفا على الأمة، وخشية إراقة دماء المسلمين، فلقد عرضت الخلافة على عبدالله بن عمر لكنه رفضها وقال: "إني والله لئن استطعت لا يهراق في سبي محجمة دم" (6).ويقال له: لو أقمت للناس أمرهم، فإن الناس قد رضوا بك كلهم.   (1) أي طلب الصلح والتنازل عن الخلافة لمعاوية. (2) الحسن البصري راوي القصة. (3) هو: نفيع بن الحارث وقيا: نفيع بن مروح تدلى في حصار الطائف ببكرة فاشتهر بأبي بكرة مولى النبي صلى الله عليه وسلم ومن فضلاء الصحابة رضوان الله عليهم، توفي سنة 51 هـ وقيل 52هـ. انظر الإصابة (6/ 252)، السير (3/ 5). (4) رواه البخاري (2704). (5) كتاب ((الشريعة)) (5/ 2170)، وانظر ((فتح الباري)) (13/ 61 - 67). (6) انظر ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (4/ 151)، وانظر منه (4/ 149، 152، 169، 171، 182). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 فيقول لهم: "أرأيتم إن خالف رجل بالمشرق؟ قالوا: إن خالف رجل قتل، وما قتل رجل في صلاح أمة؟ فقال: والله ما أحب لو أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أخذت بقائمة رمح، وأخذت بزجه فقتل رجل من المسلمين ولي الدنيا وما فيها (1).وفي موقف آخر لابن عمر رضي الله عنه يظهر حرصه على موافقة الجماعة وعدم الخروج عنها، أو التسبب بالخروج عليها، إذ طلب معاوية بن أبي سفيان منه مبايعة يزيد ابنه بالخلافة بعده، وبين معاوية سبب ذلك قال: "إني خفت أن أذر الرعية من بعدي كالغنم المطيرة ليس لها راع"، فقال له ابن عمر: "إذا بايعه الناس كلهم بايعته ولو كان عبدا مجدع الأطراف" (2).ولما تمت البيعة ليزيد بن معاوية، وشكى الناس منه، وأراد أهل المدينة خلعه، ظهر من حرص الصحابة على جمع الكلمة ووحدة الصف، ما ظهر من تسكين الثائرة، والمناصحة للمخالفين، فلما قيل لأسير (3). رضي الله عنه ما قيل في يزيد قال رضي الله عنه: "يقولون إن يزيد ليس بخير أمة محمد، ولا أفقهها فقها، ولا أعظمها فيها شرفا، وأنا أقول ذلك، ولكن والله لأن تجتمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم أحب إلي من أن تفرق، أرأيتكم بابا لو دخل فيه أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسعهم أكان يعجز عن رجل واحد لو دخل فيه؟ قالوا: لا، قال: أرأيتكم لو أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال: كل رجل منهم لا أهريق دم أخي، ولا آخذ ماله أكان هذا يسعهم؟ قالوا: نعم، قال: فذلك ما أقول لكم" (4) .. ولقد رفض عبدالله بن عمر ورفض النعمان بن بشير وغيرهم من الصحابة رفضوا خلع يزيد بن معاوية، واشتد نكير ابن عمر على من خلعه. وغضب رضي الله عنه، وخاف الفتنة والفرقة من خلعه والخروج عليه، فجمع حشمه وولده فقال: "إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة)) وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله ... وإني لا أعلم أحداً منكم خلعه، ولا تابع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه" (5).بل ولعلمه رضي الله عنه بحرمة الخروج على السلطان وخطورته وضرره على المسلمين يذهب ناصحا لعبد الله بن مطيع ومن معه من أهل المدينة لما أرادوا خلع يزيد بن معاوية، فيذهب إليه ابن عمر فيقول عبدالله بن مطيع: اطرحوا لأبي عبدالرحمن وسادة، فقال ابن عمر: "إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من خلع يدا من طاعة الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)) (6).وكذلك كان أبو أمامة رضي الله عنه حريصا على الجماعة فقال: عن حال الناس والأمراء في خلافة عبدالملك بن مروان قال: "أما والله إني لكاره لأعمالهم، ولكن عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم، والسمع والطاعة خير من الفجور والمعصية (7). ومن حرصهم على الجماعة ووحدة الصف أنه لما طلب من ابن عمر مبايعة عبدالملك بن مروان بين رضي الله عنه أن قوله لا يخرج عن قول جماعة المسلمين، وأنه متى ما بايعه الناس بايعه، وفعلا لما تمت البيعة لعبد الملك لم يتأخر ابن عمر في مبايعته. كل ذلك يبين لنا سلامة الصحابة من الفرقة وحرصهم على الجماعة، فرضي الله عنهم وأرضاهم.   (1) ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (4/ 151) (2) انظر ((البداية والنهاية)) (8/ 80). (3) أسير رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منسوب، انظر الإصابة (1/ 50) دار الفكر، ((الطبقات الكبرى)) (7/ 67). (4) انظر ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (7/ 67) بتصرف يسير. (5) رواه البخاري (7111). (6) رواه مسلم (1851). (7) انظر كتاب ((السنة)) للمروزي (77). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 ثالثا: حرصهم على حسم مادة الاختلاف قبل وقوعه، واستدراكه قبل استفحالهلقد أدرك الصحابة رضي الله عنهم أهمية الجماعة وضرورتها لإقامة هذا الدين، وجعل كلمة الله هي العليا، وعلموا يقينا – كما أخبرهم ربهم – خطر هذه الفرقة إذا دبت في المجتمع المسلم، لذلك حرصوا أشد الحرص على حسم مادة الفرقة والاختلاف بتعلم الناس أصول الاعتقاد، وبيان مسائله التي قد تكون شبهة على بعض الناس، كما كان علي بن أبي طالب يعلم الناس إثبات القدر، وكان عبادة بن الصامت يوصي ابنه بالإيمان بالقدر (1).كما حرص الصحابة رضي الله عنهم على اجتماع الأمة، وعدم حدوث شيء يشوش على العامة أو يوجب اختلافهم، لذلك لما رأى عمر بن الخطاب أبي بن كعب وعبدالله بن مسعود يختلفان في الصلاة في الثوب الواحد، إذ قال أبي: الصلاة في الثوب الواحد حسن جميل، وقال ابن مسعود: إنما كان والثياب قليلة، فخرج عمر مغضبا وقال: "اختلف رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ينظر إليه ويؤخذ عنه، وقد صدق أبي، ولم يأل ابن مسعود، ولكني لا أسمع أحد يختلف فيه بعد مقامي هذا إلا فعلت به كذا وكذا (2).ومن حرصه أيضا رضي الله عنه ما جمع الناس عليه من عدد تكبيرات صلاة الجنازة، فقد كان الصحابة مختلفين منهم من يكبر خمسا، ومنهم من يكبر سبعا، ومنهم من يكبر أربعا (3)، فحسم الفاروق رضي الله عنه مادة الاختلاف وجمع الصحابة على أربع تكبيرات ونهاهم عما سوى ذلك. ومن ذلك أيضا ما وقع بين سلمان الفارسي رضي الله عنه، وحذيفة بن اليمان، حيث كان حذيفة بالمداين فيذكر أشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأناس من أصحابه في الغضب، فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة، فيقول سلمان: حذيفة أعلم بما يقول، فيرجعون إلى حذيفة ويخبرونه بذلك، فجاء حذيفة لسلمان وقال له: وما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال سلمان: "أن رسول الله كان يغضب فيقول في الغضب لناس من أصحابه، ويرضى فيقول في الرضى لناس من أصحابه، أما تنتهي حتى تورث رجالا حب رجال، ورجالا بغض رجال، وحتى توقع اختلافا وفرقة؟ ... والله لتنتهين أو لأكتبن إلى عمر". فرضي الله عنهم وأرضاهم كانوا أعلم الناس وأحرصهم على الجماعة، وأبعدهم عن الفرقة، يوصي بعضهم بعضا، وينبه وينصح بعضهم بعضا بذلك.   (1) كتاب ((الشريعة)) للآجري (2/ 842). (2) انظر ((جامع بيان العلم)) لابن عبد البر (2/ 911، 914). (3) واختلاف الصحابة هذا من اختلاف التنوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 إن مما أوصى به الصحابة ومن بعدهم لحسم مادة الاختلاف، والحد من انتشار الفرقة ما أوصوا به من هجر أصحاب البدع، والنهي عن مجالستهم ومحادثتهم بل حتى السلام عليهم. فهذا عمر بن الخطاب يضرب صبيغ بن عسل (1). لما بدأ يسأل أسئلة تثير الشبهة في نفوس الناس، ولا يكتفي عمر بضربه بل يأمر بهجره وعدم الجلوس معه تأديبا له ومنعا من انتشار شره بين الناس حتى أعلن توبته (2).وكذلك يوصي ابن عباس بهجر القدرية فيقول: "لا تجالسهم ولا تكلمهم" (3).ومن مواقف الصحابة رضي الله عنهم ومحاولتهم استدراك الخلاف واحتوائه قبل فشوه وانتشاره ما حصل في زمن عثمان رضي الله عنه ذلك أن حذيفة بن اليمان قدم عليه، وكان يغازي بأهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في قراءة القرآن، فلما رجع قال لعثمان: "يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى". إذ بلغ اختلافهم أن كفر بعضهم بعضا، فاستشار عثمان الصحابة رضي الله عنه في أن يجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف فكان ذلك (4). فرضي الله عنهم وأرضاهم، وأعاننا الله على السير بهداهم. تنبيه: لا يرد في الذهن أن سلامة الصحابة من الفرقة تعارض بما وقع بين الصحابة يوم الجمل وصفين، بل إن ما وقع يشهد لهم رضي الله عنهم بسلامتهم من الفرقة، وحرصهم رضي الله عنهم على إقامة الحق، واجتهادهم في ذلك. فأما ما حدث في وقعة الجمل ومسير أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما، والزبير ابن العوام وطلحة إلى البصرة إنما كان غرضهم في ذلك أمرين:   (1) هو: صبيغ بن عسل ويقال ابن سهل الحنظلي قدم المدينة زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر وأعد له عراجين النخل فضربه به حتى دمى رأسه، وأقر له عطاءه. انظر الإصابة (3/ 258). (2) انظر ((الشريعة)) للآجري (1/ 481)، شرح أصول اعتقاد أهل ((السنة)) للالكائي (4/ 634)، ولقد نفع ذلك مع صبيع بن عسل إذ أنه دعي بعد ذلك إلى اللحاق بالخوارج الحرورية فرفض وقال: "هيهات! قد نفعني الله بموعظة الرجل الصالح"، يقصد تأديب عمر له. انظر: مصنف عبدالرازق (11/ 426)، ((التنبيه والرد)) للملطي (ص181). (3) انظر كتاب ((الشريعة)) (2/ 875)، وانظر في هجر أهل البدع ((الشريعة)) (5/ 2024، 2524، 2544). (4) انظر ((فتح الباري)) (9/ 18). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 1 - الصلح ولم الشمل وجمع كلمة المسلمين.2 - الطلب بدم أمير المؤمنين عثمان بن عفان (1).وكان قصد علي بن أبي طالب رضي الله عنه الصلح أيضا (2).ولبيان ذلك نذكر ما دار بين القعقاع بن عمرو (3) رضي الله عنه حينما أرسله علي رضي الله عنه إلى طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهما وهم في البصرة، حيث أرسله علي إليهم يدعوهم إلى الألفة والجماعة، يعظم عليهما الفرقة والاختلاف، فذهب القعقاع إلى البصرة فبدأ بعائشة أم المؤمنين فقال: "أي أماه ما أقدمك هذا البلد؟ فقالت: أي بني الإصلاح بين الناس. فسألها أن تبعث إلى طلحة والزبير ليحضرا عندها، فحضرا فقال القعقاع: إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها؟ فقالت: إنما جئت للإصلاح بين الناس، فقالا: ونحن كذلك. قال: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ وعلى أي شيء يكون؟ فوالله لئن عرفناه لنصطلحن. قالا: قتلة عثمان، فإن هذا إن ترك كان تركا للقرآن. فقال: قتلتما قتلته من أهل البصرة وأنتما قبل قتلهم أقرب منكم إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة رجل، فغضب لهم ستة آلاف فاعتزلوكم، وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعه ستة آلاف، فإن تركتموهم وقعتم فيما تقولون، وإن قاتلتموهم فأديلوا عليكم كان الذي حذرتم، وفرقتم من هذا الأمر أعظم مما أراكم تدفعون وتجمعون منه – يعني أن الذي تريدونه من قتل عثمان مصلحة، ولكنه يترتب عليه مفسدة هي أربى منها – وكما أنكم عجزتم عن الأخذ بثأر عثمان من حرقوص بن زهير لقيام ستة آلاف في منعه ممن يريد قتله، فعلي أعذر في تركه الآن قتل قتلة عثمان، وإنما أخر قتل قتلة عثمان إلى أن يتمكن منهم، فقالت عائشة رضي الله عنها: فماذا تقول أنت؟ قال: أقول إن هذا الأمر الذي وقع دواؤه التسكين، فإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير وإدراك الثأر، وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر كانت علامة شر وذهاب هذا الملك، فآثروا العافية ترزقونا، فكونوا مفاتيح خير كما كنتم أولا ... فقالوا: قد أصبت وأحسنت فارجع، فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح الأمر. فرجع إلى علي فأخبره فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح، كره ذلك من كرهه ورضيه من رضيه، وأرسلت عائشة إلى علي تعلمه أنها إنما جاءت للصلح، ففرح هؤلاء وهؤلاء (4).والتقت الطائفتان قرب البصرة وهما على ما فارقا القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس، فاطمأنت النفوس وسكنت، واجتمع كل فريق بأصحابه من الجيشين وباتوا بخير ليلة، وبات قتلة عثمان بشر ليلة، لأنهم علموا أن الفريقين اصطلحوا على دمائهم، وأن في اصطلاح الناس هلاكهم، فباتوا يتشاورون، وأجمعوا على أن نجاتهم في فرقة الطائفتين، فعزموا على أن يثيروا الحرب بين الطائفتين من الغلس، فنهضوا من قبل طلوع الفجر وهم قريب من ألفي رجل (5).   (1) انظر ((البداية والنهاية)) (7/ 230، 239، 241). (2) انظر ((البداية والنهاية)) (7/ 234، 235، 238). (3) القعقاع بن عمرو التميمي،، أحد فرسان العرب وأبطالهم في الجاهلية والإسلام، له صحبه، شهد صفين مع علي رضي الله عنه، توفي نحو 40هـ. انظر الإصابة (3/ 239) دار الفكر، ((الأعلام)) (6/ 48). (4) انظر ((البداية والنهاية)) (7/ 237). (5) المراد بهم قتلة عثمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 ليس فيهم صحابي واحد، فانصرف كل فريق إلى قراباتهم فتهجموا عليهم بالسيوف، فثارت كل طائفة إلى قومهم ليمنعوهم، وقام الناس من منامهم إلى السلاح، فقالوا: طرقتنا أهل الكوفة ليلا، وبيتونا وغدروا بنا، وظنوا أن هذا عن ملأ من أصحاب علي، فبلغ الأمر عليا فقال: ما للناس؟ فقالوا: بيتنا أهل البصرة، فثار كل فريق إلى سلاحه ولبسوا اللأمة وركبوا الخيول، ولا يشعر أحد منهم بما وقع الأمر عليه في نفس الأمر، وكان أمر الله قدرا مقدورا وقامت الحرب على ساق وقدم (1).يقول ابن حزم رحمه الله: "أما أم المؤمنين والزبير وطلحة رضي الله عنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي، ولا خلافا عليه ولا نقضا لبيعته، ولو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته، فصح أنهم إنما نهضوا إلى البصرة لسد الفتق الحادث في الإسلام من قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ظلما، ولم يكن نهوض علي إلى البصرة لقتالهم لكن موافقا لهم على ذلك ليقوي بهم، وتجتمع الكلمة على قتلة عثمان رضي الله عنه، وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا، فلما كان الليل عرف قتلة عثمان أن الإراغة والتدبير عليهم، فبيتوا عسكر طلحة والزبير، وبذلوا السيف فيهم فدفع القوم عن أنفسهم، فردعوا حتى خالطوا عسكر علي، فدفع أهله عن أنفسهم، وكل طائفة تظن ولا تشك أن الأخرى بدأتها بالقتال، فاختلط الأمر اختلاطا لم يقدر أحد على أكثر من الدفاع عن نفسه، والفسقة قتلة عثمان – لعنهم الله- لا يفترون من شب الحرب، وإضرامها فكلتا الطائفتين مصيبة في غرضها، ومقصدها مدافعة عن نفسها (2).فالقتال وقع بقصد أهل الفتنة لا بقصد السابقين الأولين (3). فرضي الله عنهم وأرضاهم. أما ما جرى بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم في صفين، فبين ابن حزم رحمه الله هذا الأمر حينما قال: إن ما حدث كان اجتهاد في الرأي من معاوية رضي الله عنه حيث أنه رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان من ولد عثمان، وله في ذلك مستند (4)، وإنما أخطأ من تقديمه ذلك على البيعة فقط، فله أجر الاجتهاد في ذلك، ولا إثم عليه، فما حرم من الإصابة كسائر المخطئين في اجتهادهم الذين أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم أجرا واحدا وللمصيب أجرين. وأما علي رضي الله عنه فقاتل معاوية لامتناعه عن إنفاذ أوامره في جميع أرض الشام وهو الإمام الواجبة طاعته. وقد علمنا أن من لزمه حق واجب وامتنع من أدائه، وقاتل دونه فإنه يجب على الإمام أن يقاتله، وإن كان متأولا وليس ذلك بمؤثر في عدالته وفضله، ولا بموجب له فسقا بل هو مأجور لاجتهاده ونيته في طلب الخير، فبهذا قطعنا على صواب علي رضي الله عنه وصحة إمامته، وأنه صاحب الحق وأن له أجرين أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وقطعنا أن معاوية رضي الله عنه ومن معه مخطئون مأجورون أجرا واحدا.   (1) انظر ((البداية والنهاية)) (7/ 238، 239). باختصار وتصرف، انظر الفتنة ووقعة الجمل رواية سيف بن عمر الضبي، جمع وتصنيف أحمد عرموش (ص145). (2) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) لأبي محمد بن حزم (4/ 238). (3) انظر ((منهاج السنة)) النبوية لابن تيمية (6/ 339)، وانظر تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل لأبي بكر الباقلاني (553، 557) (4) مستنده: بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عبدالرحمن بن سهل أخا عبدالله بن سهل المقتول بخيبر بالسكوت، وهو أخو المقتول وقال له: كبر ... كبر، وروى: الكبر الكبر، فسكت عبدالرحمن وتكلم محيصة وحويصة ابني مسعودن وهما ابنا عم المقتول لأنهما كانا أسن من أخيه، انظر ((الفصل)) (4/ 241). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 ولو أن معاوية بايع عليا لقوي به على أخذ الحق من قتلة عثمان، فصح أن الاختلاف هو الذي أضعف يد علي عن إنفاذ الحق عليهم، ولولا ذلك لأنفذ الحق عليهم كما أنفذوه على قتلة عبدالله بن خباب إذ قدر على مطالبة قتلته. فعلي رضي الله عنه طلب حقه وقاتل عليه، وقد كان له تركه ليجمع كلمة المسلمين، ومن ترك حقه رغبة في حقن دماء المسلمين فقد أتى من الفضل بما لا وراء بعده، ومن قاتل عليه ولو أنه فلس فحقه طلب، ولا لوم عليه، بل هو مصيب في ذلك، وبالله التوفيق (1). ثم ليعلم أن هذه الفتنة التي وقعت إنما هي بين بعض الصحابة رضي الله عنهم، وهم الذين اجتهدوا ورأوا أن الحق مع إحدى الطائفتين فلحق بها، أما أكثر الصحابة فاعتزلوا الفتنة. يقول الإمام محمد بن سيرين (2) رحمه الله: "هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرات الألوف، فلم يحضرها منهم مائة بل لم يبلغوا ثلاثين (3).ويقول الشعبي (4) رحمه الله: "بالله الذي لا إله إلا هو ما نهض في تلك الفتنة إلا ستة بدريين ما لهم سابع أو سبعة ما لهم ثامن" (5). فكان منهجهم رضي الله عنهم اعتزال الفتنة ولزوم البيت وترك القتال.   (1) انظر ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (4/ 240 – 244). باختصار وتصرف، وانظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة لأبي نعيم الأصبهاني (364 – 371)، ((الفتاوى)) (4/ 268) ((البداية والنهاية)) (8/ 252 – 277). (2) هو: محمد بن سيرين البصري، الأنصاري بالولاء، أبو بكر إمام وقته في علوم الدين بالبصرة، تابعي من أشراف الكتاب، اشتهر بالورع وتعبير الرؤيا، توفي سنة 110هـ. انظر التهذيب (9/ 214)، ((الأعلام)) (6/ 154). (3) انظر ((البداية والنهاية)) (7/ 52). (4) هو: عامر بن شراحيل بن عبد بن ذي كبار، أبو عمر الهمداني الشعبي، كان فقيها عالما، توفي سنة 104هـ. انظر: السير (4/ 294)، الشذرات (1/ 126). (5) انظر ((تاريخ الطبري)) (3/ 6)، تحقيق ((مواقف الصحابة في الفتنة)) لمحمد أمحزون (2/ 167). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والذين قعدوا عن القتال جملة أعيان الصحابة كسعد وزيد وابن عمر وأسامة ومحمد بن مسلمة، وأبي بكرة، وهم يروون النصوص من النبي صلى الله عليه وسلم في القعود عن القتال في الفتنة. وهذا مذهب أهل الحديث وعامة أئمة السنة حتى قال الإمام أحمد: لا يختلف أصحابنا أن قعود علي عن القتال كان أفضل له لو قعد، هذا ظاهر من حاله في تلومه في القتال وتبرمه به، ومراجعة الحسن ابنه له في ذلك، وقوله له: ألم أنهك يا أبت؟ وقوله: لله در مقام قامه سعد بن مالك, وعبدالله بن عمر، إن كان برا إن أجره لعظيم، وإن كان إثما إن خطأه ليسير" (1).وينبه الإمام النووي على أمر مهم فيقول: "قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا تواجه المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار)) (2)، معنى: تواجها ضرب كل واحد وجه صاحبه أي ذاته وجملته، وأما كون القاتل والمقتول من أهل النار فمحمول على من لا تأويل له ويكون قتالها عصبية ونحوها ... واعلم أن الدماء التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم ليست بداخلة في هذا الوعيد، ومذهب أهل السنة والحق إحسان الظن بهم والإمساك عما شجر بينهم، وتأويل قتالهم وأنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية ولا محض الدنيا، بل اعتقد كل فريق أنه المحق ومخالفه باغ، فوجب عليه قتاله ليرجع إلى أمر الله، وكان بعضهم مصيبا وبعضهم مخطئا معذورا في الخطأ لأنه لاجتهاد، والمجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه، وكان علي رضي الله عنه هو المحق المصيب في تلك الحروب. هذا مذهب أهل السنة، وكانت القضايا مشتبهة حتى أن جماعة من الصحابة تحيروا فيها فاعتزلوا الطائفتين، ولم يقاتلوا أو لم يتيقنوا الصواب ثم تأخروا عن مساعدته منهم" (3). ختاما: إن الناظر في حال الصحابة رضي الله عنهم يظهر له ويتبين سلامتهم من الفرقة، فقد كانوا على الجماعة حريصين، ومن الفرقة بعيدين، وفي موقفهم من الفرقة متحدين، لتقديمهم نصوص الوحي، ولاتباعهم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولسلوكهم السبيل الذي دعا إليه محمد صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف: 108]. فهم رضي الله عنهم سائرون على الصراط المستقيم الذي وصاهم به ربهم تعالى، مجانبون في ذلك سبل الضلالة، قال الله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153] إن وحدة الموقف تنتج من وحدة المنهج، فهل تعي الأمة ذلك وتعود لتوحد مناهجها لتتحد مواقفها، وتعود لقول ربها لتلتئم وحدتها بتوحيدها لله رب العالمين قولا وعملا، وتصديقا وتسليما، ويعود كما كان البنيان المرصوص، والجسد الواحد، أسأل الله ذلك. المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص327 - 347   (1) ((الفتاوى)) (4/ 269)، وانظر منه (35/ 33، 36)، ((منهاج السنة النبوية)) (6/ 333). (2) رواه مسلم (2888) ورواه البخاري (31) بلفظ التقى. (3) شرح ((صحيح مسلم)) للنووي (18/ 11). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 تمهيد الواقع أن حصر الفرق في العدد المذكور تفصيلاً ليشمل كل فرقة - فيه إشكال، وذلك أن أصول الفرق لا تصل إلى هذا العدد، وتختلف وجهات نظر العلماء في عدّها أصلية أو فرعية، ثم إن فروع الفرق تصل إلى أكثر من هذا العدد، فهل نعد الأصول مع الفروع؟ أو الأصول فقط؟ أو الفروع فقط؟ كذلك فإن الفرق ليس لظهورها زمن محدد، أي لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم تحديد لنهاية تفرق أمته. وعلى هذا فإن الصواب أن يقال: إن الحديث فيه إخبار عن افتراق أمة محمد صلى الله عليه وسلم دون تحديدهم بزمن بعينه، بحيث لا يصدق إلا على أهله فقط، وإنما أخبر عن افتراق أمته، وأمته صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ... إذاً فلا نحددها بزمن. وينبغي أيضاً أن نعد الفرق في أي عصرٍ ظهرت فيه، بغضِّ النظر عن وصولها إلى العدد المذكور في الحديث أو عدم وصولها، فلا بد أن يوجد هذا العدد على الوجه الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبر به، في عصرنا أو في غير عصرنا (1).   (1) انظر: ((الاعتصام)) (2/ 222) وانظر تعليق محمد محيي الدين عبد الحميد في أول كتاب الفرق بين الفرق، ص7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 المبحث الأول: من هي الفرقة الناجية؟ اختلف العلماء في المراد بها على أقوال، وهي إجمالاً: 1 - قيل: إنها السواد الأعظم من أهل الإسلام.2 - وقيل: هم العلماء المجتهدون الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أمتي لا تجتمع على ضلالة)) (1)، أي لن يجتمع علماء أمتي على ضلالة، وخصهم شيخ الإسلام بعلماء الحديث والسنة.3 - إنهم خصوص من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم في رواية: ((ما أنا عليه اليوم وأصحابي)) (2).   (1) رواه ابن ماجه (3950) بهذا اللفظ ورواه أبو داود والترمذي بألفاظ مقاربة، وصححه الألباني. (2) رواه الطبراني في ((الأوسط)) (5/ 137) (4886) ورواه الترمذي (2641) بلفظ: (ما أنا عليه وأصحابي). وقال: هذا حديث مفسّر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه. وقال البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 185): ثابت. وقال الحافظ العراقي في ((المغني)) (3/ 284): أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو وحسنه ... ولأبي داود من حديث معاوية وابن ماجه من حديث أنس وعوف بن مالك (وهي الجماعة) وأسانيدها جياد. وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 4 - إنهم جماعة غير معروف عددهم ولا تحديد بلدانهم، أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم بإخبار الله له أنهم على الحق حتى يأتي أمر الله. ولعل هذا هو الراجح من تلك الأقوال ونحن نطمع إن شاء الله أن نكون منهم مادمنا على التمسك بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى منهج سلفنا الكرام.5 - وفيه قول خامس، أن الجماعة هم جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير (1).إن المنهج الذي يتبعه شيخ الإسلام ابن تيمية في تحديد النطاق العملي للفرقة في الإسلام، يعتمد بالدرجة الأساسية على نظرته الواسعة للأدلة الشرعية، وفهمه الواسع للكتاب والسنة، وهو عندما يبحث في تحديد مفهوم الفرقة لا يبتعد عن هذين الإطارين، فهو ينظر إلى حديث الافتراق باعتباره حديثاً مشهوراً كثر كلام العلماء حوله، ومع ذلك فإن تحديد الفرقة عند ابن تيمية يتعدى تعداد هذه الفرق إلى بيان الفرقة الناجية، إذ يقول في تعليقه على حديث الافتراق: ((ولهذا وصف الفرقة الناجية بأنها أهل السنة وهم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم، وأما الفرق الباقية فإنهم أهل الشذوذ والتفرق والبدع والأهواء، ولا تبلغ من هؤلاء قريباً من مبلغ الفرقة الناجية، فضلاً عن أن تكون بقدرها)) (2).وينبه شيخ الإسلام على ضرورة التحري في إطلاق تسمية (الفرقة الناجية) جزافاً وبدون دليل، فيقول: ((وأما تعيين هذه الفرق فقد صنف الناس فيهم مصنفات وذكروهم في كتب المقالات، لكن الجزم بأن هذه الفرقة الموصوفة هي إحدى الثنتين والسبعين لا بد له من دليل، فإن الله حرم القول بلا علم عموماً، وحرم القول عليه بلا علم خصوصاً)) (3)، وهذا البيان الذي يقدمه شيخ الإسلام يبين نظرة أهل السنة والجماعة إلى الفرق الأخرى، إذ أن الغالب في تعاملهم معها التحري والتدقيق، في حين أن الفرق الأخرى تطلق هذه المصطلحات جزافاً ودون ورع. ولذلك فكل فرقة من هذه الفرق تدعي أنها هي الفرقة الناجية وأن ما عداها في ضلال وغواية، قال ابن تيمية: ((فكثير من الناس يخبر عن هذه الفرق بحكم الظن والهوى، فيجعل طائفته والمنتسبة إلى متبوعه الموالية له هم أهل السنة والجماعة، ويجعل من خالفها أهل البدع، وهذا ضلال مبين فإن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (4).ويعتني شيخ الإسلام عناية كبيرة في تحديد الفرقة الناجية والأدلة الدالة على ذلك، ومن خلال تناوله لحديث الافتراق، يحرص ابن تيمية على تحديد الفرقة الناجية بالمفهوم الصحيح لها، وذلك بالاستشهاد بالكلام النبوي فيقول: إنه صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن الفرقة الناجية قال: ((من كان مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي، وفي رواية أخرى قال: هم الجماعة)) (5)، وهذا التحديد للفرقة الناجية هو الراجح من خلال النظر إلى الأدلة الشرعية، ويعد شيخ الإسلام أهل السنة هم الفرقة الناجية، وإن كان ذلك لا يعني أن جميع الفرق الأخرى هالكة، فيقول: وهذه الفرقة الناجية (أهل السنة) وهم وسط في النحل، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل (6)، وبعد هذا التقرير يستند إلى الحديث نفسه.   (1) ((الاعتصام)) – بتصرف (2/ 260 - 264)، وقد فصل القول فيها، وانظر ((مجموع الفتاوى)) (3/ 345). (2) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 345 - 346). (3) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 346). (4) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 346). (5) ((منهاج السنة النبوية)) (3/ 456). (6) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 370). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ويمكن الإشارة هنا إلى تفريق شيخ الإسلام بين مصطلحين مشهورين هما مصطلح (النحلة) و (الملة)، فالنحلة لغة: انتحال شيء ونسبته لشخص معين، يقال: انتحل فلان شعر أو قول فلان إذا ادعى أنه قائل، واصطلاحاً تعني انتحال الشيء واعتقاده والدعوة إليه، وغالباً ما يكون في الاعتقاد (1)، وكذلك استعمال ابن تيمية لمصطلح (الملة) والتي تعني الشريعة أو الدين، قال ابن منظور: هي معظم الدين، وجملة ما يجيء به الرسل (2) , وهذا التفريق هو المشهور عند العلماء، وقد استعمل شيخ الإسلام ابن تيمية هذا المصطلح للدلالة على تعبير الفرقة، كما هو متبع عند علماء الملل والنحل. ويقرر شيخ الإسلام أخيراً الفرقة الناجية بنظره فيقول: إن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة، الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله وأعظمهم تمييزا بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها وأهل معرفة بمعانيها واتباعا لها تصديقا وعملا وحبا وموالاة لمن والاها ومعاداة لمن عاداها، الذين يروون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة، فلا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول، بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه (3). نطاق الفرقة: من المسائل المهمة التي نالت اهتمام العلماء تحديد الإطار العلمي للفرقة، دون النظر إلى التفرعات الحاصلة في الفروع، لأن مفهوم الفرقة قد يتشعب عند بعض العلماء بحيث لا يمكن أن يعمم بأي حال من الأحوال، وينبه شيخ الإسلام إلى ذلك بقوله: الجماعة هي الاجتماع، وضدها الفرقة وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم مجتمعين (4)، وهذا التمييز قد نبه إليه قبل قليل عند تناوله لحديث الافتراق، كما أنه نبه على ضرورة عدم تعميم الأحكام فيما يخص مقالات هذه الفرق وشبهاتها، فقال: ومما ينبغي أيضا أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات، منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة (5)، وهذا التقرير حسن منه رحمه الله تعالى، إذ أن هذه الفرق تتفاوت في مقالاتها واعتقاداتها، فلا يمكن إصدار حكم يشملها كلها، ومع ذلك فالأصل الذي ينبغي أن يبنى عليه – في تحديد هذه الفرق - هو اتباع الكتاب والسنة. وعند تعيينه للفرق الإسلامية فإن شيخ الإسلام يتبع منهج السلف في ذلك ولا يحيد عنه، فيقول: وأما تعيين الفرق الهالكة، فأقدم من بلغنا أنه تكلم في تضليلهم يوسف بن أسباط، ثم عبد الله بن المبارك، وهما إمامان جليلان من أجلاء أئمة المسلمين، قالا: أصول البدع أربعة: الروافض والخوارج والقدرية والمرجئة، فقيل لابن المبارك: والجهمية؟ فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة محمد (6)، وهذا التقسيم للفرق هو المشهور بين العلماء، إذ يقسمون الفرق إلى أربعة أصناف، أو خمسة على اختلاف فيما بينهم في عد الجهمية من الفرق الإسلامية. ومن خلال تناول شيخ الإسلام ابن تيمية للعدد المحدد في الفرق نراه يعتمد حديث الافتراق في تقسيم أصول الفرق المتقدمة، فيقسمها بالتساوي وفق الأصول المذكورة: وجعلوا أصول البدع خمسة، فعلى قول هؤلاء يكون كل طائفة من المبتدعة الخمسة اثنا عشر فرقة، وعلى قول الأولين يكون كل طائفة من المبتدعة الأربعة ثمانية عشر فرقة (7)، ولكننا بواقع الحال لا يمكن أن نسلم بهذه القاعدة، إذ أن هذه الفرق تتفاوت في التقسيم، فأكثر فرق تقيسماً هم الشيعة وأقلهم هم المرجئة والجهمية، على تفصيل مذكور في كتب الملل والنحل، ولكن يمكن القول أن هذا هو التقسيم يأخذ هذه الفرق بإطارها العام. المصدر: تحديد الفرقة الناجية لمجيد الخليفة ص16   (1) ((لسان العرب)) (11/ 650)؛ وينظر: ((ابن حزم الأندلسي ومنهجه في دراسة العقائد والفرق الإسلامية)) (ص109). (2) ((لسان العرب)) لابن منظور (1/ 631). (3) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 347). (4) ((العقيدة الواسطية)) (ص46). (5) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 348). (6) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 349). (7) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 350). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 المبحث الثاني: معنى قوله صلى لله عليه وسلم: ((كلها في النار إلا واحدة)) وأما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((كلها في النار)) فقد ذكر الشاطبي ما حاصله: 1 - أن هذه الفرق لا بد أن ينفذ فيها الوعيد لا محالة.2 - أنهم مثل أهل الكبائر تحت المشيئة (1).3 - أن الأولى عدم التعرض لتعيين الفرق غير الناجية بالحكم عليها بالنار، لأن النبي عليه السلام نبه عليها تنبيهاً إجمالياً لا تفصيلياً إلا القليل منهم كالخوارج (2). والذي يظهر لي أن الفرق تختلف في بعدها أو قربها من الحق، فبعضها يصح أن يطلق على أصحابها أنهم أهل بدعة أو معصية وحكمهم حكم أصحاب الكبائر، وبعضها لا يصح وصف أصحابها إلا بالكفر لخروجهم عن الإسلام مثل فرق الباطنية والسبئية والميمونية من الخوارج ... إلخ، ويكون حكمهم حكم الكفار الخارجين عن الملة، ولو تظاهروا بالإسلام.   (1) ((الاعتصام)) (2/ 247 - 248). (2) ذكر الشاطبي في ((الموافقات)). انظر ((أهم الفرق)) (ص12). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 المبحث الثالث: منهج العلماء في عدَّ الفرق لم يوجد لعلماء الفرق قانون يسيرون عليه في عدّهم للفرق الإسلامية، بل سلكوا طرقا عديدة، كل واحد منهم يعدها حسب اجتهاده، وما وصل إليه علمه. وفي هذا يقول الشهر ستاني – رحمه الله-: اعلم أن لأصحاب المقالات طرقاً في تعديد الفرق الإسلامية، لا على قانون مستند إلى أصل ونص. ثم قال: فما وجدت مصنّفين منهم متفقين على منهاج واحد في تعديد الفرق، ومن المعلوم الذي لا مراء فيه أنه ليس كل من تميز عن غيره- بمقالة ما في مسألة ما –عُدّ صاحب مقالة، وإلا فتكاد تخرج المقالات عن حد الحصر والعد. وقال أيضاً: وما وجدت لأحد من أرباب المقالات عناية بتقرير هذا الضابط إلا أنهم استرسلوا في إيراد مذاهب الأمة كيف ما اتفق، وعلى الوجه الذي وجد، لا على قانون مستقر وأصل مستمر (1). والواقع أننا نجد مصداق كلام الشهرستاني عند تتبع العلماء للفرق، وأقرب مثال لذلك أنك تجد أمهات الفرق عند الأشعري عشر أصناف، وعند الشهرستاني نفسه أربع فرق، وعند غيرهما ثمان فرق، وعند آخرين ثلاثاً، وبعضهم يجعلها خمساً، إلى غير ذلك مما يوحي بعدم وجود قانون لعدّ الفرق مستقلة أو تابعة لغيرها؛ إذا كان هَمُّ الأولين فيما يبدو تسجيل ما يجدون من آراء فردية كانت أو جماعية. ولعل بعض هؤلاء العلماء اختلط عليه الأمر فيمن يستحق أن يطلق عليه أنه من أهل ملة الإسلام فيعتبر خلافه، أو لا يعتبره من المسلمين فلا يذكر خلافه، وهذه المسألة تحتاج إلى إيضاح نوجز ما ذكره البغدادي عنها فيما يلي: اختلف المنتسبون إلى الإسلام في الذين يدخلون بالاسم العام في ملة الإسلام، وحاصل الأقوال في هذه المسألة كما يلي: 1 - أن هذه التسمية تشمل كل مقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأن كل ما جاء به حق، كائناً قوله بعد ذلك ما كان. وهذا قول زعيم طائفة الكعبية من المعتزلة أبي القاسم الكعبي. 2 - أنها تشمل كل من يرى وجوب الصلاة إلى جهة الكعبة. 3 - أنها تشمل كل من أقر بالشهادتين ظاهراً ولو كان مضمراً للنفاق والكفر. والواقع: أن تلك الأقوال لا تخلو من إيراد عليها وانتقاد لها، فقول الكعبي الأول، وقول مجسمة خراسان الأخير ينقضه ما وقع من يهود أصبهان من إقرارهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى العرب خاصة لا إلى بني إسرائيل، وكذا قال قوم من موشكانية اليهود- نسبة إلى زعيمهم موشكان- فإنهم أقروا بجميع شرائع الإسلام، ونفوا أن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم نبي إلى كافة البشر، بما فيهم اليهود. ومع ذلك فإنهم ليسوا بمسلمين، ولا تعتبر أقوالهم ضمن أقوال الفرق الإسلامية (2).   (1) ((الملل والنحل)) (1/ 14). (2) انظر: الفرق بين الفرق ص 12 - 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 والصحيح في هذا كله أنه لا يدخل في الإسلام إلا من أقر به ظاهراً وباطناً، والتزم بالإيمان بالشريعة الإسلامية، ثم إذا كان له بعض البدع فإنه ينزل من الإسلام حسب قربه أو بعده عنه، ويعامل على هذا الأساس، ويحترز من تكفير شخص بعينه إلا إذا ظهر كفره من قوله أو فعله أو اعتقاده بعد إقامة الحجة عليه. طريقة بيان الفرق وتعدادها طريقة لا تخلو من التكلف، لأن الأمة لم تنته عند تاريخ كتابة مصنف معين, ومن المصنفين للفِرق الذين حاولوا تعدادها: ابن الجوزي الذي قسم الفرق إلى ستة أصول تندرج تحتها الفروع فقال: فإن قيل وهل هذه الفرق معروفة؟ فالجواب: إنا نعرف الافتراق وأصول الفرق، وأن كل طائفة من الفرق قد انقسمت إلى فرق، وإن لم نحط بأسماء تلك الفرق ومذاهبها وقد ظهر لنا من أصول الفرق: الحرورية والقدرية والجهمية والمرجئة والرافضة والجبرية. وقد قال بعض أهل العلم: أصل الفرق الضالة هذه الفرق الست، وقد انقسمت كل فرقة منها على اثنتي عشرة فرقة فصارت اثنتين وسبعين فرقة (1). وكذا فعل الإسفراييني في (التبصير) والبغدادي في (الفرق بين الفرق) وعباس بن منصور السكسكي في مصنفه: (البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان) ... إن محاولة تعداد الفرق وحصرها في العدد المذكور الوارد في الحديث يعد تكلفاً من أولئك المصنفين لأن الأمة الإسلامية لم تنته عند تاريخ كتابة أي مصنف من تلك المصنفات، ولم يكن المصنفون على علم بما سيجد بعدهم من فرق كالصوفية مثلاً بطرقها المتشعبة حتى بلغت في مصر ستاً وستين طريقة رسمية (2). كما أننا نلاحظ الاختلاف بين هؤلاء في الفرق التي يملؤون بها العدد المذكور. أما الحديث الوارد في افتراق الأمة، فلا خلاف على صحته، وإنما وقع الخلاف في الزيادة الواردة في حديث معاوية رضي الله عنه وإليك نصهما: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)) (3) وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أنه قام فقال: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال: ((ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة)) (4)   (1) ((تلبيس إبليس)) (ص18 - 19). (2) انظر في تعداد الطرق الصوفية بمصر ((الصوفية الوجه الآخر)) لمحمد جميل غازي (ص14). (3) رواه أبو داود (4596)، والترمذي (2640) وابن ماجه (3991)، وأحمد (2/ 332) (8377). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن صحيح. (4) رواه أبو داود (4597)، وأحمد (4/ 102) (16979)، والطبراني (19/ 376)، والحاكم (1/ 218). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: هذه أسانيد تقام به الحجة في تصحيح هذا الحديث. وصححه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 400) – كما أشار لذلك في المقدمة - وحسنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وقد استشكل البعض هذه الزيادة، مع أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمم وأن المرجو أن يكونوا نصف أهل الجنة مع أنهم في سائر الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض حسبما صرحت به الأحاديث فكيف يتمشى هذا؟ لقد أجاب العلماء على هذا الإشكال ومنهم المحقق اليمني: صالح المقبلي (1) حيث ذكر أن البعض ضعَّف حديث افتراق الأمة بسبب الزيادة المشار عليها وتضعيفه لم يكن من جهة السند، وإنما من قبل استشكال معناه فقال: إن عامة المسلمين أكثرهم على رأي أهل السنة والجماعة، ولا يعرفون الآراء المبتدعة. أما الخاصة فمنهم مبتدع يدعو إلى البدعة، وله أتباع ينصرون رأيه ويتوسعون فيه. وهناك فئة من الناس يوافقونهم على البدعة في الظاهر، وإن كانوا في داخل أنفسهم يؤمنون بالحق. وتوجد طائفة أخرى ليسوا من العلماء المحققين ولكنهم عرفوا أشياء من البدعة وحفظوا كثيرا من غثاء المذاهب والآراء وهم يخلطون الحق بالباطل، فهؤلاء ليسوا مثل الخاصة من العلماء ولم يدركوا سلامة العامة. ثم قال: فالقسم الأول من الخاصة مبتدعة قطعاً. والثاني: ظاهره الابتداع. والثالث: له حكم الابتداع. ثم قال: إن من الخاصة قسم رابع هم المتابعون للكتاب والسنة والواقفون عند حدودهما فهؤلاء هم السنية حقاً وهم الفرقة الناجية وإليهم العامة بأسرهم، ومن شاء ربك من أقسام الخاصة الثلاثة المذكورين بحسب علمه بقدر بدعتهم ونياتهم. إذا حققت جميع ما ذكرنا لك لم يلزمك السؤال المحذور، وهو الهلاك على معظم الأمة، لأن الأكثر عددا هم العامة قديما وحديثاً وكذا الخاصة في الأعصار المتقدمة، ولعل القسمين الأوسطين وكذا من خفت بدعته من الأول تنقذهم رحمة ربك من النظام في سلك الابتداع بحسب المجازاة الأخروية. ورحمة ربك أوسع لكل مسلم، لكنا تكلمنا على مقتضى الحديث ومصداقه وأن أفراد الفرق المبتدعة وإن كثرت الفرق فلعله لا يكون مجموع أفرادهم جزءاً من ألف جزء من سائر المسلمين (2). قلت: وبهذه الإجابة يزول الإشكال، وعلى المسلم أن يكون حريصاً في التماس طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وأن يحذر من دعاة الضلال وأرباب الفرق والطرق والجماعة المتحزبة التي اختارت ضيق الطريقة على سعة الإسلام، فدين الله عالمي لا طائفي ولا حزبي ولا طرقي. وهذه الجماعات والطرق والأحزاب ضررها على المسلمين أكثر من نفعها، وقد حذر العلماء من الولوج فيها قديماً وحديثاً. قال الإمام ابن حزم: واعلموا رحمكم الله أن جميع فرق الضلالة لم يجر الله على أيديهم خيراً، ولا فتح بهم من بلاد الكفر قرية، ولا رفع للإسلام راية، وما زالوا يسعون في قلب نظام المسلمين، ويفرقون كلمة المؤمنين، ويسلون السيف على أهل الدين، ويسعون في الأرض مفسدين. ثم ختم تحذيره بنصيحة المسلمين فقال: فالله الله أيها المسلمون تحفظوا بدينكم ... الزموا القرآن وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما مضى عليه الصحابة رضي الله عنهم، والتابعون وأصحاب الحديث عصراً عصراً الذين طلبوا الأثر فلزموا الأثر، ودعوا كل محدثة فكل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة وكل ضلالة في النار (3).   (1) صالح بن مهدي المقبلي ولد سنة 1047هـ في قرية ((المقبل)) من أعمال بلاد كوكبان، يعد من العلماء المجتهدين النابذين للتقليد، ارتحل من اليمن إلى مكة واستقر بها حتى توفي سنة 1108هـ. من مصنفاته: ((حاشية البحر الزخار))، ((الأبحاث المسددة)) وغيرهما. (2) انظر: ((العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشايخ)) (ص512 - 517). بتصرف. (3) انظر: ((الفصل في الملل والهواء والنحل)) (4/ 227). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وقال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد ناصحاً طالب العلم، ومحذراً من الدخول في الحزبية: فيا طالب العلم! بارك الله فيك وفي علمك؛ اطلب العلم، واطلب العمل، وادع إلى الله تعالى على طريقة السلف. ولا تكن خرّاجاً ولاجاً في الجماعات، فتخرج من السعة إلى القوالب الضيقة، فالإسلام كله لك جادة ومنهجاً، والمسلمون جميعهم هم الجماعة، وإن يد الله مع الجماعة، فلا طائفية ولا حزبية في الإسلام. وأعيذك بالله أن تتصدع، فتكون نهاباً بين الفرق والطوائف والمذاهب الباطلة والأحزاب الغالية، تعقد سلطان الولاء والبراء عليها. فكن طالب علم على الجادة؛ تقفو الأثر، وتتبع السنن، تدعو إلى الله على بصيرة، عارفاً لأهل الفضل فضلهم وسابقتهم. وإن الحزبية ذات المسارات والقوالب المستحدثة التي لم يعهدها السلف من أعظم العوائق عن العلم، والتفريق عن الجماعة، فكم أوهنت حبل الاتحاد الإسلامي، وغشيت المسلمين بسببها الغواشي. فاحذر رحمك الله أحزاباً وطوائف طاف طائفها، ونجم بالشر ناجمها، فما هي إلا كالميازيب؛ تجمع الماء كدراً، وتفرقه هدراً؛ إلا من رحمه ربك، فصار على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم (1). المصدر: مقدمة محقق كتاب ذكر مذاهب الفرق الثنتين وسبعين المخالفة للسنة والمبتدعين لعبد الله بن أسعد اليافعي، تحقيق موسى بن سليمان الدويش - ص7   (1) انظر: ((حلية طالب العلم)) (61 - 62)، ((حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية)) (ص87). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الفصل الأول: الأخطار التي تحيط بأهل السنة والجماعة مما لا ريب فيه أن المسلمين عموماً تطبق عليهم خطط وتنفذ فيهم مؤامرات قد أحكم حبكها ولا أظن (أننا) في حاجة إلى ضرب الأمثلة على هذا الواقع فإن كل شيءٍ يشهد بذلك من الاستعمار الفعلي إلى الاستعمار الفكري إلى التفرق الحاصل بين المسلمين في نظرتهم إلى الأخوة فيما بينهم وإلى ولاءاتهم المختلفة بل المتناقضة وإلى الطوق الغليظ الذي وضعوه في أعناقهم من حيث يعلمون أو لا يعلمون وهنا (نعتذر) عن المتابعة والاستفاضة في دراسة جوانب التأثير الذميم النازل بأحوال المسلمين عموماً فقد كتب المصلحون والناصحون والمفكرون ما يشفي ويكفي لو كان السامعون أحياء القلوب إلا أن أكثرهم أصبحوا كما قال الشاعر: لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي وتحقق ما نسب إلى الشافعي رحمه الله في قوله: نعيب زماننا والعيب فينا ... وما لزماننا عيب سوانا نعم (نعتذر) عن الاسترسال في الكتابة عن هذا المجال فإن حديثه ذو شجون وأحداثه تكاد أن تتكلم عن نفسها فالخطب جسيم والحمل عظيم وإذا لم يفق المسلمون اليوم فإن قوارع الدهر وسنن الله في خلقه ستوقظهم عاجلاً أم آجلاً ولنتحسر مع القائل: أمرتهمو أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغدنترك الكلام عن أحوال المسلمين وفرقهم وأحزابهم المتناحرة وولاءاتهم المتناقضة والإهانات التي تواجههم في كل مكان وفي كل يوم على أيدي أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس وسائر ملل الكفر والضلال الذين تداعوا على المسلمين كما تتداعى الأكلة على قصعتها كما أخبر بذلك من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم (1). نترك هذا كله لنتجه بالنصيحة إلى البقية والصفوة من المسلمين الذين بقوا قابضين على مفاهيم كتاب ربهم وسنة نبيهم إلى الذين بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم سيبقون ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله مهما كانت قلتهم ومهما كانت حالهم الذين أدركوا أنهم تتهددهم في دينهم وفي دنياهم بل وفي وجودهم أخطار كثيرة تتطلب جمع الكلمة وصدق المؤازرة ونشر النصيحة صافية نقية في جميع الجوانب وهي كثيرة الجوانب جداً وما لا يدرك كله لا يترك كله فعسى أن يكون في التذكير بها فتح باب خير وعودة وثبات إذ من السهولة العودة إلى ما كان عليه المسلمون في ماضيهم من العزة والمنعة حين تكون النيات خالصة والقلوب متوجهة بصدق ومن تلك الأخطار التي بقيت للمسلمين ما أشير إليه هنا بإيجاز سريع: 1 - محاربة المسلمين في تمسكهم بكتاب ربهم تعالى. 2 - محاربة المسلمين في تمسكهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. 3 - محاولة دق إسفين بين الكتاب والسنة وذلك بدعواهم أنه يجب الأخذ فقط بالقرآن الكريم دون السنة النبوية. 4 - بتشكيكهم في صلاحية تعاليم ديننا الإسلامي في هذا العصر بزعمهم. 5 - بث الدعايات ضد أهل السنة وتشويه ما هم عليه من المعتقدات الصحيحة. 6 - محاربتهم عن طريق تمجيد العقل وتقديسه وجعله مصدر التشريع. 7 - محاربتهم عن طريق التأويلات الفاسدة للنصوص لإبعادهم عن مدلولاتها.   (1) رواه أبو داود (4297)، وأحمد (5/ 278) (22450). من حديث ثوبان رضي الله عنه. بلفظ: ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء - ما يحمله السيل من وسخ - كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)). والحديث سكت عنه أبو داود, وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 8 - محاربتهم عن طريق الحرب النفسية وإدخال اليأس والوهن في قلوبهم. 9 - محاربتهم عن طريق تقوية بعضهم على بعض ليضربوا عصفورين بحجر: أ- إضعافهم مادياً وبشرياً. ب- دوام حاجتهم إليهم. 10 - إحياء البدع على أعلى المستويات بل ومحاولة إخضاع أهل الحق لها بالترهيب والترغيب. 11 - محاولة حصر مفهوم الإسلام وتعاليمه في القيام بالعبادة فقط دون أن يكون له أي شأن في حياة الناس وسلوكهم وسموه في الجانب الروحي حتى ظن كثير من الناس أن أهل السنة والمتمسكين بالدين لا يعرفون ما وراء المسجد شيئاً عن الحياة. 12 - إشغال أهل الحق بفتن مختلفة ونظريات باطلة بقصد صرفهم عن التوجه إلى نقد المخالفين أو بقصد إشغالهم بالردود عليها. 13 - إشغالهم بدعوات التجديد في الدين أي بإحداث البدع وإحداث أمور في الشريعة الإسلامية ما أنزل الله بها من سلطان خصوصاً وهذه الدعوات تصدر عن أناس يجهلون كثيراً من أحكام الشريعة وحكمها. 14 - تأييد كل الدعوات الهدامة والمبادئ المنحرفة كدعوى النبوة ونسخ الشريعة الإسلامية بها مع أنها قضية معلومة من الدين بالضرورة لا يجعلها مسلم سليم الفطرة والعقل ومن أوتي ولو يسيراً من العلم فإن ختم النبوة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثبتت في القرآن الكريم وفي السنة النبوية قال الله تعالى: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] وفي أحاديث كثيرة يبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه آخر الأنبياء لا نبي بعده ومن ادعاها فهو كاذب مفترٍ على الله تعالى وثبت هذا في قلب كل مسلم فجاء أهل الباطل بتأويلاتهم الفاسدة للنصوص وأفرغوها من مدلولاتها الحقيقية وألبسوها معاني زور هي منها براء كزعمهم أن خاتم بمعنى أفضل أو خاتم الأنبياء المشرعين أو أن خاتم بمعنى زينة كزينة الختم في الورق، لقد أفرغوا معنى ختم النبوة من معناه فذهبوا يدعون أنهم أنبياء وأنه يجب على كل مسلم أن يؤمن بهم بعد أن شنعوا على أهل السنة والجماعة وكفروهم لعدم انسياقهم مع هذه الضلالات المعلوم بطلانها من دين الإسلام بالضرورة وشغل أهل السنة بمقارعتهم والردود عليهم وذهبت أوقات وجهود كان ينبغي أن تستغل لرفع راية الإسلام خفاقة لولا تكالب أعداء الإسلام ومخططاتهم الخطيرة ولكن الله متم نوره ولو كره الكافرون إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] وما حفظه الله فإنه لا يستطيع أحد أن يضيعه. ثم وضعوا أمام أهل السنة عراقيل كثيرة في حرب ضروس معهم تمثلت من ضمن ما تمثلت فيه بث الفرقة وقيام الأحزاب التي قامت على الهوى والأنانيات البغيضة غير ملتفتين إلى النصوص المتضافرة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام بالتحذير من هذه المسالك التي يعج بها العالم اليوم خصوصاً العالم الإسلامي الذين لا يريدون أن يتعظوا بغيرهم بل يريدون أن يكونوا هم العظة وهو ما حصل بالفعل حينما اتبعوا سنن من كان قبلهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو فكر أولئك في دخول جحر الضب لوجد من بعض المسلمين اليوم من يريد ذلك وهذا يدل على الانهزامية الكاملة والانبهار بما عند الغرب أو الشرق من مغريات الحياة الدنيا التي يعلمون ظاهراً منها وهم عن الآخرة هم غافلون مصداقاً لما أخبر الله به من أنه سيريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يعلموا أنه الحق وأن ما هم عليه إنما هو ابتلاء وإقامة للحجة عليهم وإلا فليسوا أقرب إلى رضاء الله من خلّص المؤمنين الذين لا يملكون تلك المادة التي يملكها أعداء الإسلام مع أن الواقع يشهد بما عليه حال أهل السنة من ارتفاع الكلمة والعزة حتى بين أظهر أعداء الإسلام فإن مساجدهم عامرة وشعائرهم قائمة قد حفظ الله بهم دينه وأعلى بهم كلمته وذلك بدون شك أنه بسبب تمسكهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم وسيرهم على ما كان عليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وهو الطريق الذي يأمن سالكه من التفرقة في السبل المتشابهة الكثيرة المؤدية إلى الضياع والهلاك والتمسك بهدى الصحابة رضوان الله عليهم أولئك الذين امتازوا بالذكاء ورجاحة العقل والأخذ من فم النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يسمع منه مهما كان صلاحه ورجاحة عقله أولئك هم الجماعة وهم الذين بشرهم نبيهم بأنهم ومن يتبعهم سيبقون ظاهرين على الحق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وإذا كانت دراستنا ومناقشاتنا .. تخص فريقاً من أكرم الناس وهم أهل السنة والجماعة فلنبدأ بالتعريف بهم وإجلاء حقيقتهم وحقيقة مبادئهم والأدلة على ذلك. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 89 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الفصل الثاني: عقيدة فرقة السلف أهل السنة والجماعة تمهيد العقيدة: هي ما يعتقده الشخص في قرارة نفسه ويعقد العزم عليه ويراه صحيحاً سواء أكان صحيحاً في حقيقة الأمر أم باطلاً. ومن هنا فإن عقيدة السلف التي يعتقدونها في قرارة أنفسهم وقد عقدوا العزم على العمل بها هي جملة ما أخذوه عن كتاب الله وسنة نبيه وهو الاعتقاد الصحيح والواقع الحق الذي لا يزيغ عنه إلا هالك بخلاف عقائد غيرهم الذين خلطوا بعلم الكلام وآراء الفلاسفة فجاءت نتاجاً مشوهاً خصوصاً في ما يتعلق بأسماء الله وصفاته وبعضهم لم يقف عند هذا الحد بل تعدى هذا الخطأ إلى أخطاء أخرى تتعلق بالنبوات وبالسمعيات بسبب تأثرهم بالأفكار المنحرفة فإذا بعقائدهم تقوم على خليط من الآراء والأفكار المنحرفة بأدلة متنوعة إما من القرآن الكريم الذي حرفوا معانيه وأولوها لتوافق أهواءهم أو من السنة النبوية التي لا يميزون في قبولها بين الصحيح والضعيف والمكذوب وغيره سواء أكان بسند أم بغير سند ولا يهمهم من الراوي إلا أن يكون على وفق معتقدهم أو من المكاشفات التي يزعمون أن الله يخاطبهم بها أو من الأحلام المنامية أو من التقائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً كما يدعون كذباً وزوراً أو من العلم اللدني الذي يقذفه الله في قلوبهم كما يدعون أو من الخرافات والأساطير التي لا تصلح إلا في سمر العجائز بالليل لأن تلك كلها في ميزان السلف أمور مرفوضة لانقطاع التشريع بموت الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يبق في مفهوم السلف إلا الاجتهاد حول فهم النصوص واستخراج الحق منها. وقد ذكر بعض العلماء أن أهل الأهواء إزاء السنة النبوية ينقسمون إلى فريقين: - فريق لا يتورع عن ردها وإنكارها إذا خالفت مذهبه وما ألفه من أقوال وأفعال ثم يختلق لردها شتى الأعذار الباطلة. - ومنهم فريق آخر يثبتون السنة في ظاهرهم ويعتقدون بصحة النصوص ولكنهم يشتغلون بتأويلها إلى ما يوافق هواهم وينصر معتقداتهم وهؤلاء - الحقيقة ماكرون فإن عملهم هذا هو رد للسنة ولكنه بطريق قد تخفى على غير طلاب العلم. وأحياناً يضرب هؤلاء بالنصوص جانباً بحجة أنها متعارضة مع أنه في الواقع لا يوجد بين النصوص الصحيحة أي تعارض إذا تبين الناسخ والمنسوخ والمتقدم والمتأخر منها فإن لم يتبين ذلك فإنه يمكن الجمع بينها ولا محالة إلا إذا كانت أحاديث موضوعة وصحيحة فحينئذٍ طريقة أهل السنة أنه لا تعارض بين الصحيح والموضوع إذ لا قيمة للموضوع وشبهه إزاء الصحيح لأن عدم فهم النصوص هو الذي أدى إلى تفرق الأمة وسفك دماء بعضهم بعضاً وما نشأ عنه من الاستكبار والبغي والعدوان واستحكام العداوات وكل هذا لا تحتمله الشريعة الإسلامية التي تركنا عليها الرسول صلى الله عليه وسلم ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. إن منهج السلف في مسائل الاعتقاد والاستدلال لها يقوم على إيمانهم بكل ما ثبت دليله من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إيماناً راسخاً ظاهراً وباطناً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 سواء كان ذلك الأمر الذي يعتقدونه من الأمور الغيبية كالإيمان بكل ما أخبر الله به أو أخبر عنه رسوله بأنه قد وقع كالإيمان بخلق الله لآدم من طين وخلق زوجه منه وإهباط الله لهما إلى الأرض بسبب معصيتهما ثم توبة الله عليهما وإنزال الكتب وإرسال الرسل وجميع ما جاء بإثباته النص في سائر الأمور التي قد وقعت من قبلنا أو كان من الأمور التي أخبر الله ورسوله أنها ستقع كالإيمان باليوم الآخر وما يقع فيه من الثواب والعقاب في الحساب والجنة والنار وما فيهما وغير ذلك من أمور العالم الآخر أو كان من الأمور التي تقع في الدنيا التي جاء النص بوقوعها فيها قبل يوم القيامة مثل ما أشار إليه الله في القرآن الكريم أو أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم مثل موقعة بدر وفتح مكة وظهور الدجال ونزول المسيح وغير ذلك. وبصفة عامة الإيمان بكل الأخبار الغيبية التي وقعت أو التي ستقع على حد سواء هي مزية عظيمة تدل على قوة إيمانهم وطمأنينة نفوسهم غير متأولين بعقولهم لرد النصوص كما تفعل الفرق الباطلة الذين لا يؤمنون إلا بما تراه عقولهم مقدمينها على النصوص كالمعتزلة وغيرهم غير ناظرين إلى نقص العقول عن إدراك المغيبات عنها واضطرابها في معرفة الحقائق حينما لا تستند إلى النصوص الشرعية وإلى الوحي الإلهي الذي يخرج الله به من يشاء من الظلمات إلى النور لأن السلف يعلمون تمام العلم أن الدين لا يؤخذ إلا من مصدره ومصدره الشرع الشريف وليس العقول ومختلف الآراء القاصرة. ويعلمون كذلك أنه من الحمق والغباء والضلال البعيد أن يتركوا الطرق الواضحة البينة إلى الطرق المظلمة المحفوفة بالمخاطر. وأن الطريق الواضح هو ما جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تاماً كاملاً الذي لا يقبل الله ديناً سواه الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3] وقوله: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء:65] ولقد جعلوا هذه الآية هي أساس منهجهم وأبرز صفاتهم فكانوا المثل الأول في التسليم لنصوص الشرع لاعتقادهم أن التسليم هو الطريق الذي فيه النجاة وأنه ثمرة الإيمان الحقيقي لحب الله له والثناء على أهله وقد تواصى السلف بالتزام ذلك قولاً وعملاً وصرحوا به ورغبوا فيه الناس نصحاً منهم لله ولرسوله ولعامة المسلمين لمعرفتهم أنه أساس بناء الإسلام لأن من لم يسلم للشرع أمره سلمه إلى الشيطان والبدع والخرافات وشاق الله ورسوله وخالف سبيل المؤمنين وحال المخالفين أقوى شاهد على ما هم فيه من التخبط والاضطراب والضعف. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 130 منهج أهل السنة في تقرير العقيدة يتمثل في الأمور التالية: 1 - التمسك بالكتاب والسنة وعدم التفريق بينهما وتحكيمهما والعمل بهما في كل ما يعرض لهم من قضايا العبادة وغيرها دون رد أو تأويل سواء كانت الأخبار الواردة عن الرسول متواترة أو آحاداً لا فرق فيها بعد صحتها وثبوتها إذ التفريق بينهما إنما هو من سمات أهل البدع. 2 - العمل بما ورد عن الصحابة في قضايا العقيدة والدين وغيرهما والسير على نهجهم وسننهم لأنهم أعرف بالحق من غيرهم. 3 - الوقوف عند مفاهيم النصوص وفهم دلالاتها وعدم الخوض فيما لا مجال للعقل فيه مع الاستفادة من دلالة العقل في حدوده وعدم الخوض فيها بالتأويلات الباطلة. 4 - الإعراض عن البدع وعن أهلها فلا يجالسونهم ولا يسمعون كلامهم ولا شبههم بل يحذرون منهم أشد تحذير خصوصاً من عرف منهم بعناده واتباعه الهوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 5 - لزوم جماعة المسلمين ونبذ التفرق والتحذير منه. هذا هو منهجهم وكان لهذا المنهج مزايا قيمة من أهمها: 1 - أن هذا المنهج هو ما دل عليه كتاب الله تعالى ودلت عليه سنة نبيه عليه الصلاة والسلام ودل عليه عمل الصحابة ومن تبعهم بإحسان. 2 - أن هذا المنهج الذي ساروا عليه كان من أقوى أسباب بقاء عقيدتهم صافية نقية لا تشوبها شوائب الضلال وهي نعمة من الله عليهم لما علمه من حسن نياتهم وصدق عزائمهم. أما أدلتهم على وجوب لزوم ذلك المنهج فهو ما نعرض بعضه فيما يلي: استدلال أهل السنة على وجوب التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ويشتمل على مبحثين هما: 1 - استدلالهم من القرآن الكريم: وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على وجوب التمسك بالقرآن الكريم وأنه لا يخرج عنه مؤمن وأن الدين لا يؤخذ إلا منه ومن سنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم فمن زاغ عنهما خرج إلى الضلالة وفارق هدى الإسلام ومن تلك الآيات البينات: - قوله تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء:65]. - وقوله تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103]. - وقوله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام:153]. - وقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ [السجدة:22]. وهذه الآيات واضحة الدلالة على أن الهدى كله في كتاب الله تعالى وفي هدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأن الواجب على كل مسلم الانقياد والإذعان والتسليم التام دون أي تردد أو شك وذلك لأن كل أمر بان رشده لا يتردد العاقل في قبوله والاعتماد عليه. 2 - استدلالهم من السنة النبوية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة يحث فيها على وجوب التمسك بكتاب الله تعالى وأن من فارقه فلا حظ له من الإسلام. قال صلى الله عليه وسلم: ((مثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر)) (1).وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)) (2) وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: ((خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مرعوب فقال: أطيعوني ما كنت بين أظهركم وعليكم بكتاب الله أحلوا حلاله وحرموا حرامه)) (3).- وجاء في موعظة الرسول صلى الله عليه وسلم بغدير خم قوله: ((أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به)) ثم قال: ((وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي)) (4) وفي رواية أخرى ((كتاب الله وسنتي)) (5).- ومن حديث يرويه العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)) (6).- وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن مثلي ومثل ما بعثني به مثل رجل أتى قومه فقال إني رأيت جيشاً بعيني وإني النذير العريان فالنجاة فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا وكذبت طائفة منهم فأصبحوا على مكانتهم فصبحهم الجيش واستباحهم فذلك مثلي ومثل من أطاعني واتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق)) (7).- وعن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من رغب عن سنتي فليس مني)) (8).   (1) رواه البخاري (5427)، ومسلم (797). من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (2) رواه مسلم (817). (3) رواه الطبراني (18/ 38). من حديث أبي أيوب الأنصاري عن عوف بن مالك رضي الله عنهما. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 62): رواته ثقات. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 170): رواه الطبراني في ((الكبير)) رجاله موثقون. وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (1034): صحيح. (4) رواه مسلم (2408). من حديث يزيد بن حيان رضي الله عنه. (5) رواه الدارقطني في ((سننه)) (4/ 245)، واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (1/ 80)، والبيهقي (10/ 114). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال ابن حزم في ((أصول الأحكام)) (2/ 251): صحيح. ورواه مالك في ((الموطأ)) (2/ 899) مرسلاً. ورواه موصولاً الحاكم (1/ 171)، والبيهقي (10/ 114) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. بلفظ: (تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا ابدا كتاب الله وسنة نبيه). قال الحاكم: احتج البخاري بأحاديث عكرمة، واحتج مسلم بأبي أويس، وسائر رواته متفق عليهم. وهذا الحديث لخطبة النبي صلى الله عليه وسلم متفق على إخراجه في الصحيح. ووافقه الذهبي وقال: وله أصل في الصحيح. وقال الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (40): صحيح. (6) رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42)، وأحمد (4/ 126) (17184)، والحاكم (1/ 176). والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح ليس له علة ووافقه الذهبي. وقال ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 1164): ثابت صحيح. وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 181)، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (7) رواه البخاري (7283)، ومسلم (2283). (8) رواه البخاري (5063)، ومسلم (1401) .. من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 والأحاديث في هذا كثيرة كلها تؤكد وجوب التمسك والعمل بكتاب الله تعالى وأنه هو الصراط المستقيم الذي أوله في الدنيا وآخره في الجنة. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 133 بيان مجمل اعتقادات السلف في سائر أبواب الاعتقاد لقد ألف العلماء في بيان العقيدة السلفية المؤلفات الواسعة ملئت بها المكتبات الإسلامية بين مطولات ومتوسطات ومختصرات مطبوعات ومخطوطات. ومن العجيب أنه على كثرة ما كتب في ذلك فلا يزال الكثير من الناس يجهلون عقيدة هذه الطائفة ويجهلون كثيراً من مبادئها لأسباب كثيرة حسب ما يظهر لي: 1 - بسبب انصراف الناس عن مدارستها بجد. 2 - لعدم وجود من يقدمها للناس في أماكن تجمعاتهم وبالصورة المرضية. 3 - لقوة الدعايات ضد السلف وضد كتبهم. 4 - لعدم تمكينهم وتمكين كتبهم من الانتشار في كثير من بلدان المسلمين لوقوف أعداء السلفية ضدها. ومهما وصل الشخص في علمه بها فإنه دائماً في حاجة إلى تجديد معلوماته ولهذا كلما قرأ الشخص عنها وفي كتب أصحابها ازداد معرفةً واكتسب علماً جديداً وربما يعود هذا إلى كثرة ما كتب عنها وكثرة الأساليب المستخدمة في الكتابة عنها وسعة مفاهيم كتابها وكثرة ردودهم على أهل الباطل المناوئين لهم ودحض كل شبهة توجه لهم ولهذا فإن أهل السنة وعلومهم مثل الجداول وينابيع المياه العذبة متجددة على الدوام ولنا في شهادة المصطفى صلى الله عليه وسلم أكبر شاهد ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. كما أن فرقة السلف أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية، والطائفة المنصورة، وهم خير الفرق وأزكاها ولا تقارن بهم أي فرقة أخرى مهما بلغت في انتسابها إلى الكتاب والسنة. فقد اتضح منهاجهم القويم وشهد لهم النبي العظيم صلى الله عليه وسلم بأنهم على الحق والهدى وأنه لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على الحق وهي فرقة قائمة بذاتها لا تعلق لها بالفرق الأخرى وستبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ظاهرين لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وإنما نذكر ههنا في هذه العجالة على حد ما قيل (وبضدها تتميز الأشياء) كما أن معرفة هذه الطائفة وفهم مبادئها حق الفهم هو العلم والخير كله وبهذه المعرفة يستطيع المسلم الدفاع عن دينه ومبادئه ورد شبهات المبطلين وتفنيدها. فإن من حقق معرفة طريقة السلف أهل السنة والجماعة فقد أمن العثار وسار في طريق الأبرار. ولقد كنت .... أرى أنه يجب أن يرفع قدر أهل السنة أن يدرسوا ضمن الفرق الأخرى المنحرفة لأنهم هم الأساس وهم الدعامة القوية لحفظ السنة وليس فرقة طارئة كسائر الفرق ولكن حصلت القناعة بعد ذلك لإبرازها بالدراسة فقد ذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بلفظ فرقة وطائفة ولا يضيرهم أن يذكروا مع ذكر الفرق المخالفة للحق بل إن ذكرهم يعتبر من إقامة الحجة على كل مخالف. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 94 لقد تميزت عقيدة السلف بقيامها على الكتاب والسنة في كل جزئية منها فكانت تلك العقيدة هي المحجة البيضاء التي تركنا عليها المصطفى صلى الله عليه وسلم سهلة في تطبيقها واضحة في دلالاتها لا يزيغ عنها إلا المبتدعون أصحاب الأهواء الباطلة والاتجاهات الفاسدة. ومما أود التنبيه عليه أن عقيدة السلف قد دونها العلماء بمؤلفات كثيرة بل كتبوا في كل جزئية مجلدات ضخمة كما سبق بيانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 ولذلك فمن غير السهولة أن أذكرها هنا مفصلة وإنما أكتفي بذكرها على طريق الإجمال والإيجاز بحيث يكفي المستعجل فينال بغيته في التعرف على عقيدة السلف إن لم يتمكن من الاطلاع عليها بالتفصيل في مراجعها. وقد عبر عن ذلك الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه (الإبانة عن أصول الديانة) بعد أن رجع إلى مذهب السلف ودان الله به كما عبر عنه أيضاً في كتابه (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) ففي كتابه (الإبانة) (1) قال رحمه الله تعالى: فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون. قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب ربنا عزّ وجلّ، وبسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون. وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه، ورفع درجته وأجزل مثوبته، قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفخم وعلى جميع أئمة المسلمين. وجملة قولنا أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نريد من ذلك شيئاً وأن الله عز وجل إله واحد لا إله إلا هو، فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولداً وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور وأن الله استوى على عرشه كما قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] وأن له وجهاً بلا كيف كما قال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:27] وأن له يدين بلا كيف، كما قال: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] . وكما قال: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] وأن له عيناً بلا كيف، كما قال: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] وأن من زعم أن أسماء الله غيرة كان ضالاً وأن لله علماً كما قال: أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166] وكما قال: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر:11]. ونثبت لله السمع والبصر ولا ننفي ذلك، كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج ونثبت أن لله قوة كما قال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت:15] نقول: إن كلام الله غير مخلوق وإنه لم يخلق شيئاً إلا وقد قال له: كن فيكون، كما قال: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [النحل:40]. وأنه لا يكون في الأرض شيء من خيرٍ وشرٍ إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله عزّ وجلّ وأن أحداً لا يستطيع أن يفعل شيئاً قبل أن يفعله الله.   (1) الباب الثاني ص8 ط. المكتبة السلفية بالمدينة المنورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ولا نستغني عن الله، ولا نقدر على الخروج من علم الله عزّ وجلّ وأنه لا خالق إلا الله وأن أعمال العبد مخلوقة لله مقدورة، كما قال: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئا وهم يخلقون، كما قال: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر:3] وكما قال: لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النحل:20] وكما قال: أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ [النحل:17]، وكما قال: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]. وهذا في كتاب الله كثير وأن الله وفق المؤمنين لطاعته، ولطف بهم، ونظر إليهم، وأصلحهم، وهداهم، وأضل الكافرين، ولم يهدهم، ولم يلطف بهم بالإيمان، كما زعم أهل الزيغ والطغيان، ولو لطف بهم وأصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين، كما قال تبارك وتعالى: مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:178] وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين، ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وأنه خذلهم وطبع على قلوبهم وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره، وأنّا نؤمن بقضاء الله وقدره، خيره وشره، حلوه ومره، ونعلم أن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وأن العباد لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله وأنا نلجأ في أمورنا إلى الله، ونثبت الحاجة والفقر في كل وقت إليه ونقول إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن من قال بخلق القرآن فهو كافر – وندين بأن الله تعالى يُرى في الآخرة بالأبصار كما يُرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن الكافرين محجوبون عنه إذا رآه المؤمنون في الجنة كما قال الله عزّ وجلّ: كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [المطففين:15] وأن موسى عليه السلام سأل الله عزّ وجلّ الرؤية في الدنيا، وأن الله تعالى تجلى للجبل، فجعله دكاً، فأعلم بذلك موسى أنه لا يراه في الدنيا، ونرى بأن لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنا والسرقة وشرب الخمر، كما دانت بذلك الخوارج وزعمت أنهم كافرون ونقول: إن من عمل كبيرة من هذه الكبائر مثل الزنا والسرقة وما أشبههما مستحلاً لها غير معتقد لتحريمها كان كافراً. ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيماناً. وندين بأن الله تعالى يقلب القلوب: ((وأن القلوب بين إصبعين من أصابع الله عزّ وجلّ (1)، وأنه سبحانه يضع السماوات على إصبع والأرضين على إصبع)) (2). كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تكييف. وندين بأن لا ننزل أحداً من أهل التوحيد والمتمسكين بالإيمان جنةً ولا ناراً إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، ونرجوا الجنة للمذنبين، ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين.   (1) رواه الترمذي (2140)، وابن ماجه (3834)، وأحمد (3/ 112) (12128). من حديث أنس رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) و ((صحيح سنن ابن ماجه)). (2) رواه البخاري (7414)، ومسلم (2786). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ونقول: إن الله عزّ وجلّ يخرج قوماً من النار بشفاعة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقاً لما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدلاً عن عدل حتى تنتهي الرواية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونؤمن بعذاب القبر وبالحوض، وإن الميزان حق، والصراط حق، والبعث بعد الموت حق وأن الله عزّ وجلّ يوقف العباد في الموقف ويحاسب المؤمنين وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وندين بحب السلف الذين اختارهم الله عزّ وجلّ لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونثني عليهم بما أثنى به عليهم، ونتولاهم أجمعين ونقول: إن الإمام الفاضل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضوان الله عليه، وأن الله أعز به الدين وأظهره على المرتدين وقدمه المسلمون للإمامة كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة، وسموه بأجمعهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنه وأن الذين قتلوه قتلوه ظلماً وعدواناً، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافتهم خلافة النبوة ونشهد بالجنة للعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، ونتولى سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونكف عما شجر بينهم. وندين الله بأن الأئمة الأربعة خلفاء راشدون مهديون فضلاء لا يوازيهم في الفضل غيرهم. ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا وأن ((الرب عزّ وجلّ يقول: هل من سائل، هل من مستغفر)) (1) وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافاً لما قاله أهل الزيغ والتضليل ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب ربنا تبارك وتعالى وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وإجماع المسلمين، وما كان في معناه. ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها، ولا نقول على الله ما لا نعلم ونقول: إن الله عزّ وجلّ يجيء يوم القيامة كما قال: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22] وأن الله عزّ وجلّ يقرب من عباده كيف شاء كما قال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16] وكما قال: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى َفكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [النجم:8 - 9] ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد وسائر الصلوات والجماعات خلف كل بر وفاجر، كما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يصلي خلف الحجاج, وأن المسح على الخفين سنة في الحضر والسفر خلافاً لقوله من أنكر ذلك. ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى الخروج عليهم، إذا ظهر منهم ترك الاستقامة ,وندين بإنكار الخروج عليهم بالسيف، وترك القتال في الفتنة, ونقر بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ,ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومساءلتهما المدفونين في قبورهم ونصدق بحديث المعراج ونصحح كثيراً من الرؤيا في المنام ونقر أن لذلك تفسيراً ونرى الصدقة عن موتى المسلمين، والدعاء لهم ونؤمن بأن الله ينفعهم بذلك ونصدق بأن في الدنيا سحراً وسحرة، وأن السحر كائن موجود في الدنيا وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة برهم وفاجرهم وتوارثهم ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان.   (1) رواه مسلم (758). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وأن من مات أو قتل فبأجله مات أو قتل وأن الأرزاق من قبل الله عزّ وجلّ يرزقها عباده حلالاً وحراماً وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه خلافاً لقول المعتزلة والجهمية، كما قال الله عزّ وجلّ: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275] وكما قال: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:4 - 6] ونقول: إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله عزّ وجلّ بآيات يظهرها عليهم وقولنا في أطفال المشركين: (إن الله يؤجج لهم في الآخرة ناراً، ثم يقول لهم اقتحموها) كما جاءت بذلك الرواية (1)، وندين الله عزّ وجلّ بأنه يعلم ما العباد عاملون، وإلى ما هم صائرون، وما كان وما يكون، وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين، ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعته ومجانبة أهل الأهواء: وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي منه مما لم نذكره باباً باباً وشيئاً شيئاً إن شاء الله تعالى. ونجد الأشعري قد أكد أيضاً تلك الأمور في كتابه: (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) وفي بيانه لاعتقاد أصحاب الحديث. وقد رغبت أن أثبتها كما جاءت في الكتاب القيم تتميماً للفائدة وتأكيداً لكلامه في الإبانة وأن مصدر هذين الكتابين هو الأشعري رحمه الله تعالى. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 162 هذه حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة (2):   (1) روى أبو يعلى من حديث أنس بن مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأربعة يوم القيامة بالمولود وبالمعتوه وبمن مات في الفترة والشيخ الفاني كلهم يتكلم بحجته فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من النار: ابرز فيقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم ادخلوا هذه فيقول من كتب عليه الشقاء: يا رب أين ندخلها ومنها كنا نفر؟ قال: ومن كتبت عليه السعادة يمضي فيقتحم فيها مسرعا قال: فيقول تبارك وتعالى: أنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 140): فيه ليث بن أبي سليم وهو مدلس، وبقية رجال أبي يعلى رجال الصحيح، وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (8/ 65): له شاهد من حديث الأسود بن لمريع، رواه ابن حبان في صحيحه، والبزار من حديث ثوبان، وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (2468) (2) انظر ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم)) 1،2 ابتداء من (ص151 ج1) تحقيق الدكتور أحمد سعيد الغامدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 جملة ما عليه أهل الحديث والسنة: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون من ذلك شيئاً، وأن الله –سبحانه- إله واحد فرد صمد، لا إله غيره، ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور وأن الله - سبحانه - على عرشه، كما قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] وأنه له يدين بلا كيف، كما قال: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] وكما قال: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] وأنه له عينين بلا كيف، كما قال: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] وأن له وجهاً كما قال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:27] وأن أسماء الله لا يقال: إنها غير الله؛ كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقروا أن لله سبحانه علماً كما قال: أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166] وكما قال: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ٌ [فاطر:11]. وأثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن الله، كما نفته المعتزلة، وأثبتوا لله القوة، كما قال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت:15] وقالوا: إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر، إلا ما شاء الله، وإن الأشياء تكون بمشيئة الله، كما قال عزّ وجلّ: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ [الإنسان:30] وكما قال المسلمون: ما شاء الله كان، وما لا يشاء لا يكون. وقالوا: إن أحداً لا يستطيع أن يفعل شيئاً قبل أن يفعله، أو يكون أحد يقدر أن يخرج عن علم الله، أو أن يفعل شيئاً علم الله أنه لا يفعله. وأقروا أنه لا خالق إلا الله، وأن سيئات العباد يخلقها الله، وأن أعمال العباد يخلقها الله عزّ وجلّ، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئاً. وأن الله وفق المؤمنين لطاعته، وخذل الكافرين، ولطف بالمؤمنين، ونظر لهم، وأصلحهم، وهداهم، ولم يلطف بالكافرين، ولا أصلحهم، ولا هداهم، ولو أصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين. وأن الله –سبحانه- يقدر أن يصلح الكافرين، ويلطف بهم، حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن لا يصلح الكافرين، ويلطف بهم، حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وخذلهم، وأضلهم وطبع على قلوبهم. وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره، ويؤمنون بقضاء الله وقدره، خيره وشره حلوه ومره، ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، إلا ما شاء الله كما قال، ويُلجئون أمرهم إلى الله –سبحانه- ويثبتون الحاجة إلى الله في كل وقت، والفقر إلى الله في كل حال. ويقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في الوقف واللفظ من قال باللفظ أو بالوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال: اللفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال: غير مخلوق. ويقولون: إن الله - سبحانه- يُرى بالأبصار يوم القيامة، كما يُرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، ولا يراه الكافرون، لأنهم عن الله محجوبون، قال الله عزّ وجلّ: كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [المطففين:15] وإن موسى عليه السلام سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا، وإن الله –سبحانه تجلى للجبل، فجعله دكاً، فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا بل يراه في الآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 ولا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب يرتكبه، كنحو الزنا والسرقة، وما أشبه ذلك من الكبائر، وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون، وإنما ارتكبوا الكبائر والإيمان - عندهم - هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم. والإسلام هو: أن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، على ما جاء في الحديث، والإٍسلام عندهم غير الإيمان. ويقرون بأن الله –سبحانه- مقلب القلوب. ويقرون بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنها لأهل الكبائر من أمته، وبعذاب القبر، وأن الحوض حق، والصراط حق، والبعث بعد الموت حق، والمحاسبة من الله عزّ وجلّ للعباد حق، والوقوف بين يدي الله حق ويقرون بأن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، ولا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق، ويقولون أسماء الله هي الله، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار، ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين حتى يكون الله –سبحانه- ينزلهم حيث شاء، ويقولون: أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، ويؤمنون بأن الله –سبحانه- يخرج قوماً من الموحدين من النار، على ما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينكرون الجدل، والمراء في الدين، والخصومة في القدر، والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل، وينازعون فيه من دينهم، بالتسليم للروايات الصحيحة، لما جاءت به الآثار التي رواها الثقات، عدلاً عن عدل، حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقولون: كيف؟ ولا لم؟ لأن ذلك بدعة. ويقولون: إن الله لم يأمر بالشر، بل نهى عنه، وأمر بالخير، ولم يرض بالشر، وإن كان مريداً له ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله –سبحانه - لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ويأخذون بفضائلهم ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم ويقدمون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علياً رضوان الله عليهم ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون أفضل الناس كلهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم. ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الله –سبحانه- ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر؟ كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال الله عزّ وجلّ: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]. ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين، وألا يبتدعوا في دينهم ما لم يأذن به الله. ويقرون أن الله –سبحانه- يجيء يوم القيامة كما قال: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، وأن الله يقرب من خلقه كيف يشاء كما قال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]. ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كل إمام، بر وفاجر، ويثبتون المسح على الخفين سنة، ويرونه في الحضر والسفر. ويثبتون فرض الجهاد للمشركين منذ بعث الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – إلى آخر عصابة تقاتل الدجال، وبعد ذلك. ويرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح، وألا يخرجوا عليهم بالسيف، وألا يقاتلوا في الفتنة، ويصدقون بخروج الدجال، وأن عيسى ابن مريم يقتله. ويؤمنون بمنكر ونكير، والمعراج، والرؤيا في المنام، وأن الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عنهم بعد موتهم تصل إليهم. ويصدقون بأن في الدنيا سحرة، وأن الساحر كافر كما قال الله تعالى، وأن الساحر كائن موجود في الدنيا. ويرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة برهم وفاجرهم وموارثتهم ويقرون أن الجنة والنار مخلوقتان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وأن من مات مات بأجله، وكذلك من قتل قتل بأجله وأن الأرزاق من قبل الله –سبحانه- يرزقها عباده، حلالاً كانت أم حراماً وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه وأن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله بآيات تظهر عليهم وأن السنة لا تُنسخ بالقرآن وأن الأطفال أمرهم إلى الله: إن شاء عذبهم، وإن شاء فعل بهم ما أراد وأن الله عالم ما العباد عاملون، وكتب أن ذلك يكون، وأن الأمور بيد الله. ويرون الصبر على حكم الله، والأخذ بما أمر الله به، والانتهاء عما نهى الله عنه وإخلاص العمل، والنصيحة للمسلمين، ويدينون بعبادة الله في العابدين، والنصيحة لجماعة المسلمين، واجتناب الكبائر والزنا وقول الزور والعصبية والفخر والكبر والإزراء عن الناس والعجب. ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار، والنظر في الفقه مع التواضع والاستكانة وحسن الخلق وبذل المعروف وكف الأذى وترك الغيبة والنميمة والسعاية وتفقد المأكل والمشرب فهذه جملة ما يأمرون به، ويستعملونه ويرونه , وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وبه نستعين، وعليه نتوكل، وإليه المصير. وفي كتب أهل السنة والجماعة تفصيل وأدلة كل مسألة مما تقدم ذكره فارجع إلى كتبهم إن أحببت الاطلاع على تلك التفاصيل. وقد أورد اللالكائي رحمه الله فصلاً طويلاً عن اعتقاد علماء السلف وعدد أسمائهم وذكر مقالاتهم تحت عنوان (سياق ما روي عن المأثور عن السلف في جمل اعتقاد أهل السنة والتمسك بها والوصية بحفظها قرناً بعد قرن). ثم شرع في بيان اعتقادهم (الصحابة فمن بعدهم) في مسائل العقيدة وقد سار على هذا المنهج عدة من المؤلفين السلف رحمهم الله جميعاً. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 169 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 المبحث الأول: الألقاب الصحيحة أطلقت على أهل السنة أسماء وألقاب صحيحة تدل على حالهم وتطابق معتقداتهم هي كالرحيق بالنسبة لكل مؤمن صحيح العقيدة وكالشجى في حلق كل مبتدع مخرف وهي أسماء مشرقة أخذت من أوصافهم التي وردت على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم ومن أحوالهم وسلوكهم. فمن شكك فيها أو ردها فإنما ذلك لمرض في قلبه وعقيدة باطلة في نفسه كما هو شأن أهل الباطل في مقاومتهم دائماً للحق وأهله والتشنيع عليهم وذكرهم بالألقاب والأسماء المنفرة الكاذبة. وأسماء السلف الصحيحة التي أطلقت عليهم هي: 1 - أهل السنة والجماعة. 2 - السلف الصالح. 3 - الفرقة الناجية. 4 - أهل الحديث والسنة. 5 - أهل الأثر. 6 - الطائفة المنصورة. وفيما يلي بيان هذه الأسماء وبيان أحقية السلف بإطلاقها عليهم. 1 - أهل السنة والجماعة أ – التعريف بأهل السنة: 1 - معنى السنة في اللغة: هي الطريقة أو الطرق الواضحة والسلوك الطيب، قال الجوهري: السنن الطريقة يقال: استقام فلان على سنن واحدة، أي على طريقة واحدة. وقال ابن الأثير مبيّناً المعنى اللغوي ومتعرضاً كذلك للمعنى الاصطلاحي في مادة (سنن) قد تكرر في الحديث ذكر السنة وما تصرف منها والأصل فيها الطريقة والسيرة وإذا أطلقت في الشرع فإنما يراد بها ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عنه وندب إليه قولاً وفعلاً مما لم ينطق به الكتاب العزيز ولهذا يقال في أدلة الشرع الكتاب والسنة أي القرآن والحديث. وبما ذكر وغيره يتضح أن معنى السنة في اللغة هي: الطريقة أو الطريق وقد ورد في الحديث ما يؤيد ما سبق في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث وفد مضر: ((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)) (1) وقد دل الحديث على أن السنة تنقسم إلى قسمين إما أن تكون سنة حسنة أو تكون سنة سيئة ولكل واحدة جزاؤها العادل. 2 – معناها في الاصطلاح: تطلق تسمية السنة على كل ما جاء عن المصطفى صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وتقريراته ويطلق على المتمسكين بها أهل السنة وهي تسمية مدح لهم كما يطلق على المخالفين لها أهل البدعة تسمية ذم لهم. ومن كرامة الله لأهل السنة هدايته لهم إلى الانتساب إليها دون غيرها كما هو حال أهل الطرق البدعية فلم ينتسبوا إلى رأي ولا إلى شخص ولا إلى بلد أو قوم أو غير ذلك وهي مزية فيهم قائمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها أما أهل الطرق البدعية فما أكثر انتسابهم إلى مشائخهم أو آرائهم أو بلداتهم وغير ذلك. ولهذا تجد أن الكثير من تلك التسميات والآراء لهم بل والأشخاص المتزعمين لهم يضمحلون ويندثرون مهما بلغوا من القوة والتمكين ومهما تطول بهم المدة , قال الراغب: سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يتحراها ومن الملاحظ أنه مع اتفاق كل المسلمين على هذا المفهوم للسنة فقد وقع بعض التفاوت في مفاهيم علماء كل فن. فالسنة عند المحدثين هي: ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو سيرة سواءً أكان قبل البعثة أو بعدها (2) بينما هي عند العلماء الذين يتتبعون الأحكام الشرعية العامة كالأصوليين يقتصرون في التعريف بها على أنها: ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير.   (1) رواه مسلم (1017). من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه. (2) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي وسيرته قبل البعثة تشمل صفاته الحميدة وتعبده في غار حراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وكالفقهاء الذين يبحثون عن حكم الشرع في أفعال المكلفين من حيث الوجوب أو عدمه حيث فسروا السنة بأنها: خلاف الواجب أي ما يثاب العبد على فعله ولا يعاقب على تركه كفعل المستحبات أو تركها. ويتحصل من أقوال العلماء أن المراد بالسنة عند الإطلاق ما يلي: 1 - يراد بها كل ما أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم. 2 - يراد بها الحديث النبوي. 3 - يراد بها العقيدة. 4 - يراد بها التمسك بالكتاب والسنة وهدي الصحابة في كل الأمور سواء أكانت في الأمور الاعتقادية أو أمور العبادات. 5 - يراد بها ما يقابل البدع وأهل هذا القول – السلف – يفرقون بين السنة والحديث لأن السنة ما يقابل البدعة والحديث ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد يكون الرجل محدثاً ولكنه ليس بسني. ويفهم من هذه الإطلاقات عموماً أن السنة يراد بها ما كان في أمر الدين بدليل قوله تعالى في الحث على التمسك بكل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [الحشر:7]. وقوله تعالى: مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ [النساء:80] وغير ذلك من الآيات. وبدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فعليكم بسنتي)) (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) (2) وقد أطلق على السلف أهل السنة لتمسكهم بها منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ومن تبعهم بإحسان , والقرآن الكريم والسنة النبوية في مجال الاعتقاد والاستدلال لا فرق بينهما في وجوب العمل والتمسك بهما فهما وحيان إلا أن السنة النبوية صدرت على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم من كلام الله عزّ وجلّ وهذا هو اعتقاد أهل السنة كلهم المتمسكون بها حقيقة عدا من انحرف عنها من الطوائف التي تنتسب إلى الإسلام (3). ب- معنى الجماعة: تطلق الجماعة على الطائفة أو الفرق أو الأمة الذين يرتبطون بمنهج واحد وهدف واحد ولم يتفرقوا في الاعتقاد والسلوك وتطلق تسمية أهل السنة والجماعة – وهو المراد – على السلف الصالح من الصحابة وأتباعهم إلى يوم الدين كما تقدم – وأطلقها بعضهم على أهل الحديث ولا ريب أن اقتران اسم أهل السنة بالجماعة يفيد مزية خاصة لأهل السنة إذ هم الجماعة التي حث النبي صلى الله عليه وسلم على الانضمام إليهم والسير في منهجهم حينما أخبر عليه الصلاة والسلام عن هلاك الطوائف إلا واحدة وهي الجماعة وهذا هو الحق والاعتقاد مهما كان من الخلاف وإنما نذكر الخلاف فيما يلي تتمة للبيان. الخلاف في المراد بالجماعة هذه:   (1) رواه أبو داود (4607) والترمذي (2676)، وابن ماجه (42) وأحمد (4/ 126) (17184)، والحاكم (1/ 176). من حديث العرباض بن سارية. والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح ليس له علة ووافقه الذهبي. وقال ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)): ثابت صحيح, (2/ 1164) وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 181)، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (2) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث (7350) كتاب: ((الاعتصام))، باب: إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ. ومسلم (1718). من حديث عائشة رضي الله عنها. (3) كالرافضة والخوارج وغيرهم من المنحرفين وهم يزعمون الانتساب إليها ويخالفونها بالتأويلات والهوى الفاسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 1 - قيل الجماعة هم السواد الأعظم، واختُلف في المقصود بالسواد الأعظم فقيل: هم كثرة الناس وهذا مردود فلا يلزم أن تكون الجماعة التي معها الحق هم الكثرة دائماً والله تعالى يقول: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ [الأنعام:116] خصوصاً إذا فهم من السواد الأعظم العوام وغيرهم. وقيل: السواد الأعظم هم العلماء العاملون بالحق المتبعون للسنة حتى لو كان عالماً واحداً وقوّى هذا القول كثير من العلماء فقد قيل: ........................... ... وواحد كالألف إن أمر عنا 2 - أنهم العلماء المجتهدون في كل عصر إلا أنه يرد على هذا أنه ضيق موسعاً باشتراط الوصول لرتبة الاجتهاد ثم إنه تعريف غير جامع ولا مانع فإن كل فن له علماؤه المجتهدون فيه وعلماء السلف يدخلون دخولاً أولياً في عداد أهل السنة والجماعة الممدوحة.3 - أنهم خصوص الصحابة رضوان الله عليهم ولكنه قول غير راجح مع دخول الصحابة دخولاً أولياً في الجماعة ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يحكم على المسلمين بالهلاك ما عدا الصحابة فقط ولقوله: ((من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)) (1). 4 - أنهم جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أميرٍ واحدٍ وجب على الجميع طاعته إلا أنه يرد على هذا القول أن الحديث لم يرد في باب الإمارة وشأنها وإنما ورد في التحذير من التفرق.5 - أنهم جماعة على الحق أخبر عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم بتلك الصفات دون تعيين لأسمائهم وبلدانهم (2) وهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة. وهذا هو الذي يترجح - والله أعلم - ولأهل السنة والجماعة نصيب من صحة تلك الأقوال كلها. 2 – السلف التعريف بالسلف في اللغة وفي الاصطلاح أ – في اللغة: يقال سلف الرجل آباؤه المتقدمون والجمع أسلاف وسلاف وقد استدل الراغب لمجيء (3) السلف على المتقدم بقوله تعالى: فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ [الزخرف:56] وقوله تعالى: فَلَهُ مَا سَلَفَ [البقرة:275] وقوله تعالى: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22].وقال ابن منظور: قيل: سلف الإنسان من تقدمه بالموت من آبائه وذوي قرابته ولهذا سمي الصدر الأول من التابعين السلف الصالح (4) . وهذا التعريف اللغوي للسلف عام يشمل كل من سبق وتقدم على غيره وهو دون المعنى الاصطلاحي للسلف في المفهوم الحقيقي لهم. والسلف الصالح قد تقدمونا وهم قدوتنا ولهذا فلا منافاة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي من تلك الناحية إلا من حيث الخصوص والعموم كما سيتضح هذا عند ذكر التعريف الاصطلاحي لهم فيما يلي: ب – التعريف الاصطلاحي:   (1) رواه الترمذي (2641). من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، بلفظ: (ما أنا عليه وأصحابي). وقال: هذا حديث مفسّر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه. وقال البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 185): ثابت. وقال الحافظ العراقي في ((المغني)) (3/ 284): أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو وحسنه ... ولأبي داود من حديث معاوية وابن ماجه من حديث أنس وعوف بن مالك وهي الجماعة وأسانيدها جياد. وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (2) في بعض الروايات والآثار أن هذه الجماعة هم أهل الغرب "أي الدلو الكبير وهم العرب" وفي بعضها أنهم أهل الشام ورجحه شيخ الإسلام والذي رجحه عامة العلماء أن هذه الطائفة لا يلزم أن تكون في مكان واحد من الأرض ويمكن أن يكون آخرهم بالشام عند انقضاء الأمر والله أعلم. (3) ((المفردات)) للراغب (239) (4) ((لسان العرب)) (6/ 331). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 اختلف العلماء في المفهوم من إطلاق تسمية السلف على من تطلق وفي أي زمن أطلقت وهل هذا الوصف باق يصح الانتساب إليه أم لا؟ 1 - ذهب المحققون من أهل العلم إلى أن مفهوم السلف عند الإطلاق يراد به الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان وأتباع التابعين من أهل القرون الثلاثة الوارد ذكرهم في الحديث ومن سلك سبيلهم من الخلف وهذا هو الذي اختاره شيخ الإسلام رحمه الله ومن قال بقوله ويظهر هذا في قوله: "مذهب أهل الحديث وهم السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من الخلف (1) إلى آخر كلامه ولفظة أهل الحديث الواردة في كلام شيخ الإسلام يقصد بها عامة من يتمسك بالسنة النبوية وليس المراد ما تعارف عليه الناس اليوم في التخصصات العلمية بدليل قوله في معرض ثنائه على أئمة الحديث: "وإذا كان الأمر كذلك فأعلم الناس بذلك أخصهم بالرسول وأعلمهم بأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته ومدخله ومخرجه وباطنه وظاهره وأعلمهم بأصحابه وسيرته وأيامه وأعظمهم بحثاً عن ذلك وعن نقلته وأعظمهم تديناً به واتباعاً له واقتداء به وهؤلاء هم أهل السنة والحديث حفظاً له ومعرفة بصحيحه وسقيمه وفقهاً فيه وفهماً يؤتيه الله إياه في معانيه وإيماناً وتصديقاً وطاعة وانقياداً واقتداءً واتباعاً مع ما يقترن بذلك من قوة عقلهم وقياسهم ورأياً وأصدق الناس رؤياً وكشفاً".إلى أن يقول: "ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه أو كتابته أو روايته بل نعني بهم كل من كان أحق بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهراً وباطناً واتباعه باطناً وظاهراً وكذلك أهل القرآن وأدنى خصلة في هؤلاء محبة القرآن والحديث والبحث عنهما وعن معانيهما والعمل بما علموه من موجبها ففقهاء الحديث أخبر بالرسول من فقهاء غيرهم" (2). وفي هذا البيان الطيب يتضح أن أهل الحديث هم الذين يعلمونه ويعملون به أما من علمه ولم يعمل به فإنه ليس منهم بل لا فرق بينه وبين أعداء الإسلام من المستشرقين وغيرهم ممن برزت جهودهم في خدمة الحديث وأصحاب المعجم المفهرس أقوى مثال وهم بخلاف أهل الحديث مع كثرة ما دونوه لتتم حجة الله عليهم. 2 - وهناك من خصص لفظ السلف عند الإطلاق بالصحابة فقط. 3 - ومنهم من خص لفظ السلف بالصحابة ومن تبعهم دون غيرهم. 4 - ومنهم من خص السلف بالقرون الثلاثة فقط. ويتضح من هذه التعريفات أنه لا خلاف بين أحد من المسلمين أن الصحابة هم السلف الصالح الأخيار الأبرار وأن أفضل الناس بعد الصحابة هم التابعون لهم بإحسان ثم أتباع التابعين ثم من سار على نهج الجميع دون تقييد بزمن. وأما من خص السلف فقط بالصحابة أو التابعين أو أتباعهم فقط أو خصهم بزمن محدد فهو استحسان منه واجتهاد وليس له دليل فإن السلف ليسوا جماعة بخصوصهم أو في زمن بخصوصه وإنما السلف هم المتمسكون بالكتاب والسنة فإن المدار عليهما والعبرة بهما ولا ريب أن الصحابة لهم القدح المعلى في هذه النسبة لملازمتهم النبي صلى الله عليه وسلم وجودة أفهامهم وذكائهم ولهذا كان ما عملوا به حجة يجب العمل به وما تركوه يجب تركه بخلاف غيرهم بعد القرون الثلاثة وإن كان وصف السلف يشملهم بسبب تمسكهم بالشرع الشريف مع تفوق الصحابة عليهم بالفضل والأسبقية (3). السلف والسلفية:   (1) ((الفتاوى)) (6/ 355). (2) ((الفتاوى)) (4/ 85 – 95). (3) الأسبقية لا تكون مزية إذا لم يصاحبها الالتزام بالكتاب والسنة فقد وجد في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وزمن الصحابة من لم يكن له أدنى فضل أو خير مثل المنافقين والمرتدين الذين سيقول الرسول صلى الله عليه وسلم لهم في يوم القيامة سحقاً سحقاً كما ثبت بذلك النص وعلى هذا فلا تظهر مزيتها إلا مع التحقيق والاتباع والانقياد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وبيان صحة الوصف وجواز الانتساب والاعتزاء إليه والرد على ما أنكر ذلك لم يكن هذا الوصف مجرد لقب أو اسم أو ظهر صدفة على ألسنة الناس. لم يكن كذلك ولكنه نشأ عن أساس ثابت كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها لقد نشأ الاسم عن سلوك عميق لما كان عليه الصحابة ومن بعدهم بإحسان فاستحقوا هذا الاسم نتيجة عمل واقتداء والتزام بكتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام. ولا ريب أن من اتصف بهذا الوصف يستحق أن ينتسب إلى السلفية أو سلف هذه الأمة من الصحابة ومن تبعهم بإحسان. ولا اعتبار لنبز أصحاب الأهواء والبدع وتزهيدهم عن هذه الفرقة الناجية ومن أراد أن يقف على الحق فليقرأ سيرة هذه الجماعة وليقف على البلاء الذي تحملوه في سبيل الدفاع عنها لتبقى جوهرة مكنونة صافية نقية. وفي تاريخ الإمام أحمد بن حنبل وشيخ الإسلام ابن تيمية ومن جاء بعدهم من تلامذتهم وأتباعهم إلى يومنا الحاضر خير شاهد على استحقاق هؤلاء لهذا الاسم السلفية وعلى غبطة الانتساب إليهم الذي هو في النهاية انتساب إلى الإسلام الذي رضيه الله تعالى. وقد ظهر من كلام الشيخ أبي زهرة في كتابه (تاريخ المذاهب الإسلامية) (1) والدكتور مصطفى الشكعة في كتابه (إسلام بلا مذاهب) أن السلفيين هم الذين أطلقوا على أنفسهم هذا الاسم في القرن الرابع ثم تجدد ظهوره على يد الشيخ ابن تيمية في القرن السابع الهجري ثم جدده الشيخ محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر للهجرة وقد أخطأ الحقيقة كما أخطأها الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه (السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي).حيث رد وبعنف على القول بأن السلفية لقب لفئة من الناس واعتبره خطأً وبدعة طارئة على المسلمين بزعمه وقد ظهر خطأه من تسمية كتابه هذا وقد ذهب إلى أن الاقتداء بالسلف ليس معناه اتباع آرائهم وأقوالهم ومواقفهم التي اتخذوها وسلوك طريقتهم وإنما يكون بالرجوع إلى ما احتكموا إليه من قواعد تفسير النصوص وتأويلها وأصول الاجتهاد والنظر في المبادئ والأحكام (2) وهذا حكم قاصر وغير صحيح فإن السلفية ليست فترة زمنية ثم إن تفسيره الاقتداء بالصحابة بهذا التفسير لا يعتبر اتباعاً حقيقياً فإذا لم نتبعهم في آرائهم وفي أقوالهم وفي مواقفهم التي ورثوها عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي سلوكهم وطريقتهم في العبادات وفي المعاملات إذا لم نتبعهم في هذا كما يرى البوطي فماذا بقي لهم من فضل الصحبة والتلقي من النبع الصافي قبل أن تعكره مختلف الآراء والمذاهب والفرق. وأما ما يراه من اتباعهم يكون في الرجوع إلى ما احتكموا إليه عند الاختلاف فهذا أيضاً لا يمنع الاقتداء بهم وتقديم آرائهم على آراء من جاء بعدهم. على أن القواعد التي أشار إليها البوطي وأن الشافعي رحمه الله عملها حيث وضع قواعد أصول الفقه لم تكن قد بينت في الزمن الذي كان قبله فماذا يحكم عليهم البوطي (3) ولو أنه سلم بما اتفق عليه السلف لكان خيراً وأشد تثبيتاً ولأغناه ذلك عن تكلف القواعد والشروط وموقف العقل بالنسبة للنصوص في أخبار الآحاد وأخبار التواتر التي شغلته فإنها كلها مبنية على الاستحسان والاجتهاد على طريقة المتكلمين.   (1) انظر (ص 211). (2) انظر ((وسيطة أهل السنة بين الفرق)) (112). (3) وللدكتور صالح الفوزان جزاه الله خيراً تعقيبات قوية في الرد على أبي زهرة والدكتور سعيد البوطي فيما زعماه عن السلف في كتابه الجيد ((البيان لأخطاء بعض الكتاب)) انظر (ص 127 و 187) وانظر ((وسيطة أهل السنة بين الفرق)) (ص 112) و (ص 113). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 والخلاصة من كل ما سبق أن مذهب السلف والانتساب إليه أمر لا غبار ولا اعتراض عليه وأنه لا يحق لأحد الانتساب إليه إلا إذا كان متبعاً قولاً وفعلاً ظاهراً وباطناً كما كان عليه الصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان, وأما من حاد عنهم إلى كلام الفلاسفة وعلماء الكلام الباطل وإلى اتباع العقل دون الالتفات إلى النص فهو ليس على طريقتهم وإن انتسب إليهم لأنه انتساب غير حقيقي. 3 - الفرقة الناجية: الفرقة في اللغة: اسم يطلق على الطائفة أو الجماعة من الناس. والناجية: وصف لتلك الفرقة بالنجاة دون أن يكون له تعلق بالزمن والمقصود بهم هم أهل الحق ممن تمسكوا بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على مدى الأزمان ولا عبرة بدعاوى المنحرفين أنهم هم تلك الفرقة الناجية. ووصفهم بالناجية لعله أخذ من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه)) (1) أو لأن المتمسك بالوحيين سبيله النجاة أو لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة ... الحديث)) (2) ولا ريب أن من تمسك بكتاب الله وسنة نبيه أنه من الناجين بتوفيق الله له, ينجو من الضلالة والفتن وينجو إذا ما مات على ذلك من عذاب الله وغضبه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تركتكم على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك)) (3). وهذا الاسم – الفرقة الناجية – يشمل كل من اتصف بالعقيدة الصحيحة التي كان عليها الصحابة ومن استن بسنتهم واهتدى بهديهم وربما أخذت التسمية أيضاً من حديث افتراق الأمة حيث أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الفرق كلها هالكة إلا واحدة هي الناجية وهم الصحابة ومن تمسك بهديهم وهذا الوصف لا ينطبق إلا على السلف الذين اتبعوا الصحابة بإحسان. ويجب أن نلاحظ أن السلف حين تسموا بهذه التسمية لا يقصدون من ورائها الشهادة لأنفسهم بالجنة ولا تزكية أنفسهم وإنما المقصود بها إظهار ما هم عليه من التمسك بكتاب الله وسنة رسوله الكريم وهما مصدر النجاة ولا يمنع أن تكون التسمية من باب التفاؤل أو من باب إظهار البراءة من المخالفين كما يرى البعض ولا مانع من ملاحظة كل ذلك. 4 - تسميتهم أهل الحديث والسنة كثير من العلماء يطلق هذه التسمية على السلف أهل السنة كشيخ الإسلام وغيره من رجال العلم. وإذا أطلقوا في تسميتهم فقالوا أهل الحديث والسنة فإنهم لا يريدون التقسيم إنما هما عندهم بمعنى واحد فالسنة هي الحديث والحديث هو السنة حسب ما يظهر من صنيع المحدثين من السلف.   (1) رواه مالك في ((الموطأ)) (2/ 899) مرسلاً. ورواه موصولاً الحاكم (1/ 171)، والبيهقي (10/ 114) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. بلفظ: ((تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنة نبيه)). قال الحاكم: احتج البخاري بأحاديث عكرمة، واحتج مسلم بأبي أويس، وسائر رواته متفق عليهم. وهذا الحديث لخطبة النبي صلى الله عليه وسلم متفق على إخراجه في الصحيح. ووافقه الذهبي وقال: وله أصل في الصحيح. وقال الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (40): صحيح. (2) رواه البخاري (7311)، ومسلم (1921). من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. بلفظ: ((لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون)). (3) رواه ابن ماجه (43) , وأحمد (4/ 126) (17182) بدون لفظ: (المحجة). من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 68): إسناده حسن, وصححه الشوكاني في ((إرشاد الفحول)) (2/ 131) , والألباني في ((صحيح ابن ماجه)). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 ولكن ينبغي الانتباه إلى أن بعض علماء السلف قد يطلق تسمية أهل السنة احترازاً عن غيرهم من أهل البدع فتكون السنة عامة والحديث أخص ويظهر الافتراق في أبواب الاعتقاد عند هذا الاستعمال. وعلى هذا فهناك فرق بين مصطلح أهل السنة وأهل الحديث وإن عبر بأحدهما عن الآخر في أبواب الاعتقاد لما بينهما من التقارب في الغالب وإلا فقد يكون المرء من أهل السنة وليس من أهل الحديث من الناحية الصناعية أي ليس بمحدث وقد يكون من أهل الحديث صناعة وليس هو من أهل السنة فقد يكون مبتدعاً (1). ولاشك في أن هذه التسمية شرف عظيم لرجال العقيدة الصحيحة الحاملين لواء علم الحديث المنتسبين إليه. 5 – أهل الأثر أطلقت الأثرية أو أهل الأثر على أهل السنة والجماعة والمراد بهم كل من تمسك بنصوص الكتاب والسنة ويريدون بالأثر ما أثر عن الله تعالى وعن نبيه صلى الله عليه وسلم من تلك النصوص. وواضح أنهم لا يريدون به ما أصبح معروفاً عند بعض العلماء من تقسيماتهم للحديث إلى أقسام ومنها المأثور أو الأثر وهو ما وقف على الصحابي ولم يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن السلف لا ينطبق عليهم هذا الاصطلاح إذ هم من أحرص الناس على التمسك بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ورفع إليه. وإنما يقصدون بالأثر الحديث عموماً فأهل الأثر أي أهل الحديث الملتزمون بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما ورد عن السلف من الصحابة ومن بعدهم من التابعين لهم بإحسان من آثارهم الصحيحة لأن رد الآثار الصحيحة إنما هو من سمة أهل البدع المتنطعين في دينهم الذين لا يقبلون إلا ما يوافق أهواءهم مع أنهم يقدمون كلام مشايخهم وآبائهم على ما تفيده النصوص حمية وعصبية. ولكنهم يستكبرون عن الآثار التي هي أشرف وأرفع من كلام من جاء بعد الصحابة مهما بلغ في العلم والشرف. 6 - تسميتهم الطائفة المنصورة هذه التسمية للسلف أخذت من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون)) (2) وعن معاوية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر الله)) (3) وفي بعض الروايات: ((لا تزال طائفة من أمتي منصورين ... )) (4) الحديث, وقد فسّر العلماء هذه الطائفة بأنهم كل من تمسك بالكتاب والسنة وعمل الصحابة المجانبين البدع وأهلها وهم أصحاب الحديث الذي يعملون به قولاً وعملاً المجاهدون في سبيل الله تعالى. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن النصر سيكون حليفهم إلى أن تقوم الساعة وهي بشارة عظيمة مفرحة لأهل الحق والواقع يشهد بذلك فكم من المؤامرات والخطط تبيت لهم قديماً وحديثاً ولكن الله تعالى بلطفه يخرجهم منها ويجعل لهم منها فرجاً ومخرجاً لأن الله تعالى قد تكفل بحفظ هذا الدين إلى يوم القيامة وهؤلاء هم حفظته بإذن الله تعالى وقد تكفل الله عزّ وجلّ بنصرة من ينصر دينه وأن يجعل العاقبة الحسنة له في الدنيا والآخرة. وقد يفهم البعض أن هذا الحديث يدل على أن السلطة والحكم لابد أن يكونا بأيدي العلماء من أهل السنة. وهذا فهم خاطئ إذ لا يلزم من كونهم منصورين إلى قيام الساعة أن يكونوا بشكل حكومات ولا بد فإن الله تعالى ينصرهم بهذا وبغيره بلطفه العظيم كما هو الواقع فأحياناً يكون الحكم بأيديهم وأحياناً بأيدي غيرهم ولا يؤثر ذلك في سلوكهم الإيجابي أبداً. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي1/ 96   (1) انظر ((وسطية أهل السنة)) (118). (2) رواه البخاري (7311)، ومسلم (1921). من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. (3) رواه البخاري (7312). من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما. (4) رواه الترمذي (2192)، وابن ماجه (6)، وأحمد (3/ 436) (15634). من حديث قرة بن إياس رضي الله عنه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) و ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 المبحث الثاني: الأسماء والألقاب الباطلة التي ينبز بها أهل الباطل أهل الحق من السلف الصالح لم يتورع أهل الباطل في إطلاق مختلف الأسماء الذميمة والألقاب الباطلة على أهل الحق لينفروا الناس عنهم وعن عقيدتهم الصافية. وهو نفس المسلك الذي كان عليه المشركون تجاه النبي صلى الله عليه وسلم حيث أطلقوا عليه أنه ساحر شاعر مجنون ... إلخ. ورغم تلك الدعايات الكاذبة ضد الرسول صلى الله عليه وسلم وضد أنصاره وأتباعه فإن الحق بقي دائماً يتلألأ فوق رؤوسهم ويجذب الناس إليهم زرافات ووحداناً وبقي الباطل وأهله في تقهقر وذلة. وسوف لا يزال الأمر كذلك. ولأهل السنة أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم وما دام قد ظهر فضل أهل السنة واضحاً جلياً فإن ذامهم يدل على نقصه على حد ما قيل: وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ ... فهي الشهادة لي بأني فاضل كما أن سب الصالحين بغير ذنب فيه زيادة لهم في الأجر وفيه رفع لدرجاتهم عند الله تعالى وقد تلمس المخالفون للسلف حججاً واهية وأقوالاً كاذبة لفقوها ضد السلف وجاؤوا إلى أحسن الصفات عند السلف وجعلوها ذماً لهم، وصدق من قال: وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم ولهذا فقد أصبح من علامات أهل البدع سبهم لأهل السنة والتشهير بهم واختراع الألقاب الباطلة لهم, بل لم يقف نبز أهل الباطل لأهل السنة فحسب بل تعدوا في باطلهم إلى نبز رب العالمين من حيث يشعرون أو لا يشعرون ذلك أن الله تعالى حينما أطلق على نفسه صفات وأوصافاً تمدح بها فإذا بأهل الأهواء يخترعون لها مفاهيم وأسماء باطلة شنيعة تنفر من يسمعها من اعتقادها إذا لم يكن على معرفة بأباطيلهم. والله تعالى وصف نفسه بصفات الكمال المعروفة فجاء هؤلاء وأطلقوا عليها لقب التشبيه والتجسيم والتمثيل قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ [البقرة:140]. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 فإذا بتلك الصفات الحميدة في مكان الذم وكذلك وصف الله نفسه بأن له وجهاً ويدين .. إلخ وسماها هؤلاء تركيباً وتبعيضاً لا يليق بالله تعالى بزعمهم فقالوا: يجب أن ينزه الله عن التركيب والتبعيض ليصلوا إلى نفي صفاته, ووصف الله نفسه بأنه مستوٍ على العرش فسمى هؤلاء هذه الصفة تحيزاً وإثبات جهة محدودة لله تعالى بزعمهم ومن هنا حولوها إلى كلمة (استولى) , ووصف الله نفسه بصفات الأفعال من الكلام والنزول ونحو ذلك ويسمي هؤلاء هذه الصفات أفعالاً لا توجد إلا في المخلوق بزعمهم فقالوا للعامة: يجب أن ننزه الله عن صفات الأفعال التي هي حوادث وسموها أعراضاً والأعراض لا تليق بالله تعالى ومن هنا جاءهم مفهوم الإيمان الحقيقي بالله تعالى وبصفاته كما يزعمون فإذا هو أن ننزه الله تعالى عن التراكيب والتقسيم والأعراض والأغراض والتحيز والجهة وظن الجاهلون أن هؤلاء على شيء وأن ذلك هو ما يقتضيه تنزيه الله ولم يعلموا أن هؤلاء هم من أشد الناس إعراضاً عن الله تعالى وما يليق به ومن أشدهم محادة لرسوله صلى الله عليه وسلم ولسائر المؤمنين وإتماماً لمحاربتهم أهل السنة وتنفير الناس عنهم رأوا لزاماً أن ذلك لا يتم إلا بإطلاق الألقاب الشنيعة والمنفرة على أهل السنة فكان مثلهم كما قيل قديماً (رمتني بدائها وانسلت) فقد ألقوا بالعيوب التي هم أحق بها ألقوا بها على أهل السنة كذباً منهم وزوراً دون رادع من إيمان أو ضمير لكي ينتقص الناس أهل السنة بينما نجدهم قد تعاظموا أنفسهم واستكبروا ولهذا فقد أطروا أنفسهم بأسماء وبألقاب عديدة وزكوا أنفسهم والله تعالى يقول: فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ [النجم:32] ظناً منهم أن الحق وأهله سيندثرون وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [يونس:82] وما تكفل الله بحفظه فلن يضيع أبداً. فمن الأسماء والألقاب التي أطلقها عليهم أهل الباطل نبزاً لهم: 1 - المشبهة - النقصانية - المخالفة – الشكاك وتنبزهم بهذه الألقاب, الجهمية لإثباتهم صفات الله تعالى. 2 - الحشوية – النابتة أو النوابت – المجبرة المشبهة وتنبزهم بهذه الألقاب, المعتزلة والزنادقة وسائر أهل الكلام والخوارج. 3 - المجبرة أو الجبرية وتنبزهم بهما القدرية. 4 - الناصبة أو النواصب – العامة – الجمهور – المشبهة – الحشوية وتنبزهم بها الرافضة. 5 - المشبهة – المجسمة – الحشوية – النوابت – الغثاء – الغثراء وتنبزهم بها الأشاعرة والماتريدية. وبهذا يتضح أن أهل الانحراف قد يتفقون وقد يختلفون في إطلاق بعض الألقاب الباطلة على أهل السنة والهدف بينهم مشترك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 1 - فأما إطلاقهم عليهم مشبهة فقد تصور هؤلاء المبطلون أن السلف حينما أثبتوا تلك الصفات لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته لورودها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تصوروا أن هذا الإثبات يقتضي تشبيه الله بخلقه لأنهم لم يدركوا من دلالات هذه الأسماء إلا ما أدركوه من تعلقها بالمخلوق وفاتهم الفرق الذي لا يعلمه إلا الله بين الخالق والمخلوق. وقد أثبت السلف أن هذا التصور الخاطئ لتلك الطائفة هو الذي جعلهم بحق مشبهة وليس أهل السنة الذين لم يثبتوا فيها أي شبه بين الخالق والمخلوق إلا مجرد التسمية مع معرفة معنى الصفة والتقويض في الكيفية فإن أولئك لم ينفوها عن الله إلا بعد أن شبهوه بخلقه فأي الفريقين أولى بتسمية المشبهة أهل السنة أم أولئك أهل الباطل من الجهمية الذين هم أول من ولج باب التشبيه الخطير ونفى عن الله تعالى ما أثبت لنفسه في كتابه الكريم أو على لسان نبيه العظيم صلى الله عليه وسلم وشبهوه بالمعدومات حين أطلقوا عليه كل صفات السلوب ورموا أنبياء الله تعالى مثل موسى وعيسى ومحمداً عليهم صلوات الله وسلامه بأنهم مشبهة في قول موسى كما حكى الله عنه أنه قال: إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ [الأعراف:155] وفي قول عيسى بن مريم: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116] وفي قول محمد صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا إلى سماء الدنيا)) (1) فإن كان الأنبياء مشبهة فمن هم المنزهة؟ لو كان لهؤلاء عقول سليمة وفطر مستقيمة لما أقدموا على هذا المعتقد الباطل والذي يكاد أن لا يكون له نظير في جرأته وحماقته. 2 - وأما زعمهم أن أهل السنة نقصانية فلقولهم إن الإيمان يزيد وينقص فلا ريب أنهم يكذبون بهذا النبز قول الله عزّ وجلّ وقول نبيه صلى الله عليه وسلم في إثبات زيادة الإيمان ولردهم النصوص الواردة في هذا حيث زعموا أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وأما أهل السنة فإنهم لا يختلف منهم اثنان في أن الإيمان يزيد وينقص يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي كما أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم مثل قوله تعالى وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]. وقوله تعالى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم:76]. وآيات أخرى كثيرة في القرآن الكريم كلها تثبت أن الإيمان يزيد وما قبل الزيادة قبل النقص حتماً. ووردت أحاديث كثيرة أيضاً في هذا تؤكد كلها زيادة الإيمان ونقصه قال صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة وأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان)) (2) وقال صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) (3).   (1) رواه ابن أبي عاصم في ((السنة)) (507). من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه. وقال الألباني في ((ظلال الجنة)) (507): إسناده صحيح على شرط مسلم. (2) رواه البخاري (9)، ومسلم (35) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) رواه مسلم (49). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 والأحاديث في هذا كثيرة وإنما المقصود التنبيه على صحة عقيدة السلف وبطلان عقائد المخالفين في قضية زيادة الإيمان ونقصه وأن تسمية السلف نقصانية تسمية خاطئة سببها الجهل. والسلف كلهم مطبقون على أن الإيمان يزيد وينقص ووردت عنهم روايات كثيرة تؤكد هذا, قال أبو هريرة رضي الله عنه: ((الإيمان يزداد وينقص)) (1). قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ((من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه)) (2) وكان عمر رضي الله عنه يقول لأصحابه: ((هلموا نزدد إيماناً فيذكرون الله عزّ وجلّ)) (3) إلى آخر النصوص المستفيضة عن السلف وعلى هذا فإن السلف أتوا بالكمال المطلوب حسب ما أفادته النصوص فكيف يكونون نقصانية؟ وما النقصانية إلا من نقص عن العمل بالنصوص الشرعية وسرق مدلولاتها الواضحات كالجهمية المشبهة ومن تبعهم, وعلى كل حال فلا عبرة بقول أهل البدع أن السلف نقصانية لأنهم يقولون بزيادة الإيمان ونقصانه فإنهم على الحق في هذا مستندين على ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع سلف هذه الأمة كما ترى أخي القارئ الكريم. ولولا أن المخالفين قد كابروا عقولهم وعاندوا ليتيقنوا من أنفسهم أن الإيمان يزيد وينقص كما يجده كل شخص من نفسه في مختلف الحالات فمن زعم أنه على حد سواء دائماً في اتجاهه ورغبته ورهبته إلى الله فقد افترى على نفسه وأراد أن يغالطها فمن ذا الذي يكون على حالة واحدة طوال وقته ثم أليس كذلك أن من المسلمين به أن الناس يتفاوتون في إيمانهم وتصديقهم أيضاً حسب القرائن وما وقر في القلب من حب الله عزّ وجلّ وتصديق الأنبياء وهل يحق لأحد أن يزعم أن إيمانه وتصديقه مثل إيمان خير أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر أهل بيعة الرضوان وأهل معركة بدر والمؤمنون الذين اتبعوه في ساعة العسرة. إن من زعم ذلك فقد جانب الصواب.   (1) رواه عبد الله بن أحمد في ((السنة)) (1/ 314) , والآجري في ((الشريعة)) (1/ 108). (2) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (4/ 307). (3) رواه الآجري في ((الشريعة)) (1/ 108). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 3 - وأما تسميتهم لأهل السنة مخالفة. فنعم أن أهل السنة مخالفة لأهل الأهواء والبدع بل ومعادية ويكفي أنهم من أشد الناس اتباعاً لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولا قيمة لمخالفتهم أهل الأهواء وما يقصده هؤلاء من أن السلف مخالفة للحق فإنه اتهام باطل هم أحق به وليس أهل السنة فإن القول إذا لم تعضده الأدلة الصريحة الواضحة لا يسمى حقاً ولو زعم قائله أنه حق وهذه المخالفة لأهل البدع هي من أجمل المخالفات بل كانوا يتقربون بها إلى الله تعالى. 4 - أما تسميتهم لأهل السنة بالشكاك من قبل المرجئة فإنها تسمية ظالمة لأن السلف لم يشكوا في دينهم ولا في أخبار ربهم ونبيهم ولا في شيء ثبت بالكتاب والسنة فالمرجئة أولى بهذا النبز لشكهم – بل لردهم – ما أخبر الله به عن نفسه في كتابه الكريم أو على لسان نبيه العظيم ثم هم لا يملكون أي دليل على أن السلف تطرق إليهم الشك فيما يعتقدونه مما ثبت به النص وأما مجرد دعواهم أن السلف شكاك فليس بدليل كما أن زعمهم أن السلف يشكون في إيمانهم بسبب تجويزهم الاستثناء فيه فهذا بسبب عدم معرفتهم المقصود بكلام السلف حينما أجازوا الاستثناء وذلك أنهم لم يجيزوه على سبيل الشك في إيمانهم ولكنهم أجازوه على سبيل التواضع وعدم تزكية النفس المنهي عنه ثم لعلمهم أن الإيمان يشتمل الإتيان بكل الأعمال المأمور بها واجتناب كل الأعمال المنهي عنها وهذا باب واسع فخافوا أن يثبتوه على وجه الجزم ويكونون قد قصروا في جانب منه وبهذا يتضح أنه لا وجه لتسميتهم بالشكاك وربما يكون تجويزهم الاستثناء على سبيل التواضع لله تعالى ولا مانع من حصول كل ذلك (1). 5 - وأما بالنسبة لنبزهم لأهل السنة بأنهم حشوية: فهو بمعنى أنهم حشو الناس أي لا قيمة لهم أو بمعنى أنهم يروون الأحاديث لا يميزون بين صحيحها وسقيمها سواء أكانت صحيحة أو ضعيفة أو موضوعة أو متعارضة أو بمعنى أنهم مجسمة لله تعالى بسبب إثباتهم صفات الله تعالى وعدم نفيها أو تأويلها فانظر أخي القارئ إلى هذه الجرأة للمعتزلة ومن شايعهم كيف يفترون الكذب على السلف ثم إذا كان خيرة الناس لا قيمة لهم ولا اعتبار بكلامهم فلمن تكون القيمة والاعتبار؟ ألمن اتبعوا أهواءهم وحاربوا الله وردوا كلامه بشبهات ملاحدة الفلاسفة وأهل الكلام الباطل؟ أم لمن اتبع هدي الله تعالى وآمن به ظاهراً وباطناً؟ ولكن ما الذي يضير أهل السنة من السلف احتقار هؤلاء لهم بعد أن أكرمهم الله وأثنى عليهم في كتابه الكريم وأثنى عليهم نبيه ووصفهم بالطائفة المنصورة القائمة على الحق إلى أن تقوم الساعة. أما زعمهم أن السلف يروون الأحاديث كيفما اتفق فهي دعوى تدل على ضحالة معرفتهم بطريقة المحدثين وما امتازوا به من خدمة السنة من فحص الأحاديث وغربلتها كما يغربل الدقيق أو أشد. وفحصهم كذلك لرجال الأسانيد فرداً فرداً حتى ليخيل للقارئ والسامع أنه ما من راوٍ للحديث إلا وكأنه قد عاش مع أهل السنة أهل الحديث في منزل واحد ومن تتبع طريقة السلف في رواية الأحاديث عرف عظم احتياطهم ومدى الجهود المباركة التي خدموا بها سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وأما تجسيم الله تعالى فحاشا أن يكون السلف مجسمة بل هم أعداء المجسمة والمحاربين لهم فإن مذهب السلف هو الابتعاد عن إطلاق مثل هذه العبارات على الله تعالى لا نفياً ولا إثباتاً حتى يستفسروا من قائلها لأنها تحمل معنى حقاً ومعنى باطلاً وعلى حسب ما يريد المتكلم بهذا يحكم السلف. وعن تسمية أهل الباطل لأهل السنة حشوية يقول شيخ الإسلام رحمه الله في رده وذبه عنهم:   (1) انظر: ((وسطية أهل السنة بين الفرق)) (ص130). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 فقد تبين أن الذين يسمون هؤلاء وأئمتهم حشوية هم أحق بكل وصف مذموم يذكرونه وأئمة هؤلاء أحق بكل علم نافع وتحقيق وكشف حقائق واختصاص بعلوم لم يقف عليها هؤلاء الجهال المنكرون عليهم المكذبون لله ورسوله. فإن نبزهم بالحشوية إن كان لأنهم يروون الأحاديث بلا تمييز فالمخالفون لهم أعظم الناس قولاً لحشو الآراء والكلام الذي لا تعرف صحته بل يعلم بطلانه. وإن كان لأن فيهم عامة لا يميزون. فما من فرقة من تلك الفرق إلا من أتباعها من هو من أجهل الخلق وأكفرهم. وعوام هؤلاء هم عمار المساجد بالصلوات وأهل الذكر والدعوات والحجاج البيت العتيق والمجاهدون في سبيل الله وأهل الصدق والأمانة وكل خير في العالم فقد تبين لك أنهم أحق بوجوه الذم وأن هؤلاء أبعد عنها وإن الواجب على الخلق أن يرجعوا إليهم فيما اختصهم الله به من الوراثة النبوية التي لا توجد إلا عندهم (1). 6 - وأما نبزهم لأهل السنة بأنهم نوابت بمعنى أن أهل السنة يشبهون نوابت الأشجار الصغيرة. أي أنهم صغار في العلم والمعرفة كصغار النوابت من الأعشاب التي لم تكتمل قوتها ونضجها. أو أنهم نوابت شر نبتوا في الإسلام مبتدعين فيه مغيرين له بزعمهم, فإن هذا النبز من الافتراءات الكاذبة على أهل السنة الذين هم أساس العقيدة وحماتها الذين تربوا على فهمها والعمل بها ولم يعرفوا أو يعملوا بغيرها مما جاءت به الفلسفات الإلحادية وعلم الكلام الباطل, والحقيقة أن نبزهم لأهل السنة بهذا الاسم يصدق عليه أنه من باب قلب الحقائق والمغالطات المكشوفة. فإن الأحق بتسمية النوابت هم أهل الكلام المذموم والفلسفات الباطلة الذين نبتوا دون علم مسبق بالكتاب والسنة وإنما نبتوا على علم الكلام وأنواع الفلسفات المنحرفة التي لم تعرف عند المسلمين إلا بعد أن نبت هؤلاء فيهم. وتسلطوا على معاني النصوص فعطلوها عن مدلولاتها وقالوا: إن الله ليس له سمع ولا بصر ولا علم ولا استواء، إلى آخر أوصافهم السلوبية التي مفادها في النهاية إنكار وجود الله تعالى الذي تضمنه قولهم: أن الله ليس فوق ولا تحت ولا يمين ولا يسار ولا يحس ولا يشم ولا يشار إليه .. إلخ. مما جرأ الملاحدة على القول بأنه لا فرق بين المنكرين لوجود الله تعالى والواصفين له بتلك الصفات الجهمية الاعتزالية التي تدل أخيراً على إنكار وجوده سبحانه وأنه لا مكان له إلا في الذهن وافتراضاته الخيالية إذ أن شيئاً ليس هو فوق ولا تحت ولا يمين ولا يسار ولا يحس ولا يشم ولا يشار إليه أمر لا يقبله عقل ولا يقره منطق. 7 - أما نبزهم لأهل السنة بأنهم جبرية أو مجبرة أو قدرية فإنه بالتأمل في مذهب القدرية والجبرية وأهل السنة, يتبين الحق من يستحق اسم الجبرية أهل السنة أم المبتدعة من خلال معرفة ما يلي: 1 - مذهب القدرية المحتجون بالقدر على الله تعالى وهم المشركون. 2 - مذهب الجبرية. 3 - مذهب أهل السنة. - فالقدرية المحتجون بالقدر هم الذين يزعمون رضى الله عن كل عمل يعملونه ويحتجون على الله بالقدر والمشيئة فيقولون قدر الله علينا فكيف يعاقبنا؟. قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ [النحل:35] الآية. ومقصودهم أن الله تعالى لو كان يكره ما هم عليه من الشرك والسلوك لغيّر ذلك وعاقبهم ولكنه قد شاءه ورضيه وبذلك فلا عقوبة عليهم لأن الله قدره عليهم وجبرهم عليه لمشيئته النافذة له.   (1) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 87). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وفي مقابل هؤلاء جاءت فرقة أخرى تنفي أن يكون لله تعالى أي أثر في فعل الإنسان تركاً أو فعلاً بل الإنسان هو الذي يخلق فعله كما يريد. وقد وصل الغلو بهؤلاء إلى القول: "بأن الله لا يعلم الأشياء قبل وقوعها وإن ما يفعله العباد أيضاً" لا يعلم به إلا بعد وقوعه فلا تأثير له في أي فعل يفعله العبد وهذا مذهب غلاة القدرية وقد انقرضوا فيما يذكره عنهم العلماء إلا أن المتأخرين منهم يثبتون علم الله بالأشياء قبل وقوعها ولكنه لا يتدخل في أعمال البشر بل هم الذين يخلقونها كما يريدون فهؤلاء القدرية (المعتزلة) هم نفاة القدر عن الله تعالى وهم ومن سبقهم على ضلال. وأما الجبرية: فهم على النقيض من مذهب القدرية في أفعال العباد لأن المعتزلة القدرية لا يقولون بأن الله قدر على العبد فعله ولا جبره عليه فسلبوا عنه القدرة. بينما الجبرية على النقيض من ذلك يقولون كل عمل يعمله العبد فإنه مقدر عليه من الله ومجبور على فعله فهو كالريشة في مهب الريح فإن الله هو الفاعل الحقيقي بقوته وليس للعبد إلا نسبة الفعل إليه عن طريق المجاز، كما يقال تحركت الشجرة ونحو ذلك فسلبوا عن العبد القدرة والمشيئة التي أخبر الله تعالى عنها وجعلوا العبد أشبه ما يكون بالجماد المسير من غيره وإذا كان مذهب القدرية والجبرية هو ما تقدم فإن مذهب السلف بخلاف ذلك كله ومعنى هذا أنهم لا تصح تسميتهم لا قدرية ولا جبرية. فإن معتقد أهل الحق أهل السنة والجماعة أن أفعال العباد تنسب إليهم حقيقة فإذا صلى أو صام أو سرق أو زنى فهو فعله حقيقة وأيضاً بمشيئته التي لا تخرج عن إطارها العام عن مشيئة الله تعالى لها وخلقه لها كوناً ولو شاء الله لما تمكن العبد من أي فعل فالله هو الخالق الحقيقي لها والعبد هو الفاعل الحقيقي لها بتمكين الله له مع ملاحظة الفرق بين مشيئة الله الكونية والشرعية. ويتضح من خلال ما تقدم ما يذكره أهل السنة من أن الجبرية أصابوا في قولهم أن الله هو الخالق لأفعال العباد بقدرته الكونية وأن القدرية أصابوا أيضاً في قولهم أن العبد هو المتسبب في فعله وبقدرته وهو مسؤول عنه ولكن الخطأ في قول الجبرية يكمن في زعمهم أن العبد لا فعل له ولا قدرة له وإنما هو مجبور والفاعل هو الله تعالى وأما الخطأ في قول القدرية فيكمن في قولهم أن العبد هو الذي يخلق فعله بقدرته وإرادته دون أن يكون لله تعالى تدخل في ذلك والحق في ذلك كله هو ما هدى الله إليه أهل طاعته كما سبق مستدلين بقوله تعالى: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ [الإنسان:30] وقوله تعالى: وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253] وغير ذلك من الآيات. 8 - وأما نبزهم للسلف بأنهم ناصبة فقد كذب الرافضة وافتروا أن يكون أي شخص من السلف قد نصب العداوة لأهل البيت أو للرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ابتداءً بعلي رضي الله عنه ثم جميع أهل البيت وهذا النبز دلالة قاطعة على جهل الرافضة بمذهب السلف في أهل البيت لأنهم لم يقرؤوا لهم ولم يطلعوا على كلامهم ومعتقدهم فيهم فأيهما أولى بهذا النبز الرافضة الذين نصبوا العداوة لكل المسلمين ابتداءً بالصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان وبأهل البيت الذين لاقوا المصائب المتتالية عليهم بسبب مؤامرات الرافضة وخذلانهم لهم في أكثر من موقف والشواهد على هذا أكثر من أن تحصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 أيهما أولى بهذا النبز هؤلاء أم السلف الذين يترضون عن كل واحد من أهل البيت ما دام صالحاً ويفضلونه على غيره بتلك الصفة ويقدمونه ولا يتبرؤون من أحد من المسلمين ما دام على الإسلام والتزام القرآن والسنة وقاعدة الرافضة "لا ولاء إلا ببراء" من أكبر الأدلة على بغضهم خيرة الصحابة الكرام وجرأتهم على تكفيرهم مخالفة لما ثبت من فضلهم في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. 9 - وأما نبزهم لمن عداهم من السلف وسائر المسلمين بالعامة فهو لقب تشنيع في مقابل تسميتهم لأنفسهم الخاصة وهذه التزكية الكاذبة لأنفسهم شابهوا فيها اليهود الذين سموا أنفسهم شعب الله المختار وسموا من عداهم بالجوييم فهل هؤلاء الباطنية هم خاصة الله بينما أحباءه ومتبعي أمره ونهيه هم العامة؟ الذين لا اعتبار بهم ولا قيمة لهم؟ بل أيهما العامل رجل متبع للنصوص الثابتة الموافقة للحق والعقل أم رجل متبع لهواه متدين بالخرافة يصدق ما لا يصدقه عاقل من الغلو في أشخاص مثلهم مثل غيرهم من البشر الذين قال الله فيهم إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] وهذه التسمية لمن عداهم بالعامة هي مثل تسميتهم لمن عداهم بالجمهور ومن العجيب أن يحكموا على كل المسلمين بصفة واحدة بينما يقابل تلك التسمية تسمية واحدة لهم "الخاصة" الدالة على تعاليهم وغرورهم وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته لا تجتمع على ضلالة فكيف اجتمع المسلمون كلهم على الضلالة ولم يخرج عنها إلا هؤلاء الروافض الذين يكفرون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويتهمون أم المؤمنين وينتظرون مهدياً خرافياً يأتي بقرآن غير القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ويزعمون أن الأئمة يعلمون الغيب ولا يموتون إلا باختيارهم إلى غير ذلك من العقائد التي جمعها الكليني في كتابه الذي يقدسونه (الكافي) وغيره من كتبهم التي تدل على تطاولهم على سائر المسلمين دون أي دليل من عقل أو نقل غير ما زين لهم من سوء معتقداتهم المعبرة عن جهلهم وبعدهم عن سبيل المؤمنين وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا [النساء:38]. 10 - وأما نبزهم لأهل السنة بأنهم مجسمة لإثباتهم صفات الله تعالى كما جاءت في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة. فهو نبز أبان عن جهلهم بحقيقة عقيدة السلف وأبان عن قصورهم في الفهم السليم لنصوص الوحيين فإن لفظ التجسيم عند السلف هو من الألفاظ التي يجب التحرز منها عند إطلاقها على الله تعالى ولا بد أن نسأل من أطلقها عن مراده بالجسم فإن أراد بإطلاق الجسم على الله معناه في لغة العرب من أنه يوصف بصفات ويرى بالأبصار ويتكلم ويسمع ويبصر ويرضى ويغضب وأنه مستو وأنه تصح الإشارة إليه ويصح أن يسأل عنه بأين وأن له وجهاً ويدين فإطلاق الجسم بهذا المعنى صواب مع أن القائل مخطئ في إطلاق هذه العبارة التي أحدثها علماء الكلام وليكتف بالألفاظ الشرعية مثل ليس كمثله شيء وله المثل الأعلى وقل هو الله أحد وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وإن أراد بإطلاقه نفي الجسم عن الله تعالى أنه ليس جسماً مثل سائر الأجسام التي تتكون من أجزاء متفرقة فهو صواب فإن الله تعالى ليس كمثله شيء ومع تصويبه فإنه مخطئ في إطلاق هذه العبارة التي أحدثها علماء الكلام فإنه لم يعهد عن السلف أن أطلقوا لفظ الجسم على الله لا نفياً ولا إثباتاً فإن كان ولا بد من إطلاقها فلتكن بالألفاظ الشرعية التي تدل على تنزيه الله تعالى على الإطلاق مثل ليس كمثله شيء وقل هو الله أحد وله المثل الأعلى وغير ذلك من الألفاظ العامة المشتملة على التنزيه الصحيح كما تقدم وأما إن أريد بهذا الإطلاق نفي الجسمية عن الله تعالى بمعنى نفي صفاته الثابتة بالكتاب والسنة كالاستواء والنزول والوجه والسمع والبصر إلى آخر صفاته عزّ وجلّ – وهو ما يهدف إليه علماء الكلام فهذا النفي باطل بهذا المعنى لأن إثبات هذه الصفات لا يلزم منه وقوع التشبيه الذي حذره هؤلاء المبطلون بزعمهم فإن تصور إثبات الصفات أنه يقتضي التشبيه هو نفس التشبيه المذموم فإن النافي للصفات لم ينفها إلا بعد أن أصبح مشبهاً فيها فوقع في الخطأ الذي جره إلى خطأ أكبر منه وهو إثبات ذات خالية عن الصفات وهو أمر لا يمكن وقوعه إلا في تخيلات الذهن وهي تخيلات فاسدة وأما في خارج الذهن فلا يمكن وجودها. وفي هذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله:"فمن قال أنه جسم وأراد أنه مركب من الأجزاء فهذا قوله باطل وكذلك إن أراد أنه يماثل غيره من المخلوقات فقد علم بالشرع والعقل" أن الله ليس كمثله شيء في شيء من صفاته، فمن أثبت لله مثلاً في شيء من صفاته فهو مبطل, ومن قال أنه جسم بهذا المعنى فهو مبطل ومن قال أنه ليس بجسم بمعنى أنه لا يرى في الآخرة ولا يتكلم بالقرآن وغيره من الكلام ولا يقوم به العلم والقدرة وغيرهما من الصفات ولا ترفع الأيدي إليه في الدعاء ولا عرج بالرسول صلى الله عليه وسلم إليه ولا يصعد إليه الكلم الطيب ولا تعرج الملائكة والروح إليه فهذا قوله باطل وكذلك كل من نفى ما أثبته الله ورسوله وقال إن هذا تجسيم فنفيه باطل وتسمية ذلك تجسيماً تلبيس منه فله إن أراد أن هذا في اللغة يسمى جسماً فقد أبطل وإن أراد أن هذا يقتضي أن يكون جسماً مركباً من الجواهر الفريدة أو من المادة والصورة أو إن هذا يقتضي أن يكون جسماً والأجسام متماثلة, قيل له, أكثر العقلاء يخالفونك في تماثل الأجسام المخلوقة وفي أنها مركبة فلا يقولون أن الهواء مثل الماء ولا أن الحيوان مثل الحديد والجبال فكيف يوافقونك على أن الرب تعالى يكون مماثلاً لخلقه إذا أثبتوا له ما أثبت له الكتاب والسنة والله تعالى قد نفى المماثلات في بعض المخلوقات وكلاهما جسم كقوله تعالى وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38]. مع أن كلاهما بشر فكيف يجوز أن يقال إذا كان لرب السماوات علم وقدرة أن يكون مماثلاً لخلقه والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله (1).   (1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (17/ 317). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 ومن قال إن السلف مجسمة فقد افترى عليهم لأنهم من أبعد الناس ومن أشدهم تحذيراً من إطلاق العبارات التي فيها حق وصواب وانحراف وبطلان ومنها إطلاق الجسمية على الله تعالى فإن السلف يمنعون منعاً قاطعاً من إطلاقها على الله تعالى ولكن في حال إطلاقها يقيدونها بما سبق أن عرفته فكيف يصح وصفهم بعد هذا بأنهم مجسمة؟ وهل يصح أن يوصف النافي للشيء بأنه مثبت له؟. 11 - وأما نبزهم لهم بأنهم غثاء وغثراء فهو بمعنى أن أهل السنة هم كالغثاء الذي يحمله السيل عند انحداره وكما ورد في الحديث ((ولكنكم غثاء كغثاء السيل)) (1). والغثراء بمعنى سفلة الناس وأراذلهم والمعنى بهذا النبز الباطل أن أهل السنة هم سفلة الناس الذين هم كزبد السيل أي لا خير فيهم ولا نفع. وهذه مغالطة ظاهرة وظلم واضح ويستطيع أي شخص أن يتبين صحة هذا حينما يتصور أن الناس بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ظلوا على الهدى الذي تركهم عليه المصطفى إلى أن نبتت الدعوات الهدامة والآراء الضالة بسبب ترجمة كتب اليونان واستعلاء الأهواء فأي الفريقين يستحق هذا اللقب الذين بقوا على الحق ولا يزالون عليه وهو الأصل في المسلمين أم الذين انحرفوا وأخذوا بآراء اليونان وفلاسفتهم؟ وقد دخل الصحابي عائذ بن عمرو على عبيد الله بن زياد فقال أي بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن شر الرعاء الحطمة فإياك أن تكون منهم فقال له اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال عائذ رضي الله عنه: وهل كانت لهم نخالة إنما النخالة كانت بعدهم وفي غيرهم (2). 12 - وقد نبزوهم أيضاً بتسميتهم زوامل أسفار تشبيهاً لهم بالجمال التي يحمل عليها وأصحاب أقاصيص وحكايات وأخبار وكل هذه الأوصاف هم منها براء. وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ ... فهي الشهادة لي بأني فاضل وفي الرد عليهم يقول أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني رحمه الله "وفي الحقيقة ما ثلموا إلا دينهم ولا سعوا إلا في هلاك أنفسهم وما للأساكفة وصوغ الحلي وصناعة البز وما للحدادين وتقليب العطر والنظر في الجواهر أما يكفيهم صدأ الحديد ونفخ في الكير وشواظ الذيل والوجه وغيرة في الحدقة وما لأهل الكلام ونقض حملة الأخبار " (3). وهذا النقد يذكر القارئ بالمقالة المشهورة بين عامة الناس "رحم الله امرأ عرف قدره فوقف عنده". ويصدق كلام السمعاني في اقتحام هؤلاء لما لا يحسنونه ما قرروه في عقائدهم من المتناقضات والجهل الشنيع من حيث ظنوا أنهم وصلوا إلى العلم الغزير فكانوا مثل التي نقضت غزلها بعد إحكامه في كل مرة أو من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً وقد قال عنهم من تبين له خطر ما هم عليه من العقائد الفاسدة: يا ليتني أموت على دين أمي أو نحوه من الكلام الذي يتحسر فيه على ما فات من سني عمره التي قضاها في الاشتغال بعلم الكلام وفلسفة اليونان. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 111   (1) رواه أبو داود (4297) , وأحمد (5/ 278). من حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم, والحديث سكت عنه أبو داود. وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (2) رواه مسلم (1830). (3) ((الانتصار لأصحاب الحديث)) (ص2). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الفصل الرابع: أقوال السلف في وجوب التمسك بالسنة والحذر من البدع تمهيد وردت عن السلف الكرام أقوال كثيرة في الحث على التمسك بكتاب الله تعالى وأن الهدى والخير والفلاح كله في ذلك وأنه يجب على كل المسلمين الرجوع إلى كتاب الله والتمسك به في كل أحوالهم واختلافاتهم كما قال الله سبحانه وتعالى: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]. وهذا هو منهج كل من جاء بعد السلف الكرام من التابعين ومن تبعهم من علماء المسلمين وعامتهم وفي كتب شيخ الإسلام رحمه الله وتلميذه ابن القيم وغيرهما كالطبري وابن كثير وأهل الحديث كالشيخين وغيرهما ممن تزخر بأقوالهم المكتبات الإسلامية في كتبهم من الأقوال والشروحات ما لا مزيد عليه في وجوب التمسك بكتاب الله والعمل به والرجوع إليه. وعلى هذا "فقد اتفق المسلمون سلفهم وخلفهم من عصر الصحابة إلى عصرنا هذا أن الواجب عند الاختلاف في أي أمر من أمور الدين بين الأئمة والمجتهدين هو الرد إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام الناطق بذلك الكتاب العزيز فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59] ومعنى الرد إلى الله سبحانه الرد إلى كتابه ومعنى الرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم الرد إلى سنته بعد وفاته وهذا مما لا خلاف فيه بين جميع المسلمين" (1). - وهم يؤكدون أن الخير كله فيها وأن الشر كله في الابتعاد عنها وفي الابتداع الذي يسببه اتباع الهوى والبعد عن السنة والسير خلف التأويلات الباطلة التي هلك بسببها الكثير ممن جرفتهم التيارات المنحرفة ومن تلك الأقوال.- قال عبد الله بن مسعود "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم" (2).- وعن معاذ بن جبل من كلام له رضي الله عنه قال: "فإياكم وما ابتدع فإنما ابتدع ضلالة" (3).- وقال حذيفة: اتقوا الله يا معشر القراء خذوا طريق من قبلكم فوالله لئن سبقتم لقد سبقتم سبقاً بعيداً وإن تركتموه يميناً وشمالاً فقد ضللتم ضلالاً بعيداً" (4).- وعن عبد الله بن مسعود قال: يجيء قوم يتركون من السنة مثل هذا يعني الإصبع فإن تركتموهم جاؤوا بالطامة الكبرى وإنه لم يكن أهل كتاب قط إلا كان أول ما يتركون السنة وإن آخر ما يتركون الصلاة ولولا أنهم يستحيون لتركوا الصلاة (5).- وعن عبد الله بن الديلمي قال: إن أول ذهاب الدين ترك السنة يذهب الدين سنة سنة كما يذهب الحبل قوة قوة (6).- وعن حسان بن عطية قال: ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة (7) - وعن عمر بن عبد العزيز قال: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله عزّ وجلّ واستكمال لطاعته وقوة على دين الله ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في رأي من خالفها فمن اقتدى بما سنوا فقد اهتدى ومن استبصر بها بصر ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله عزّ وجلّ ما تولاه وأصلاه جهنم وساءت مصيرا (8). - وأقوالهم في هذا الصدد كثيرة وإنما تلك أمثلة يكتفي بها طالب الحق الحريص على سلامة دينه من غوائل أقوال أهل الباطل الذين يقدمون البدع على السنة ويحلونها محلها ويعتبرونها ديناً يجب اتباعه.   (1) ((شرح الصدور بتحريم رفع القبور)) (ص 596) من ((الجامع الفريد)). (2) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (1/ 86). (3) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (1/ 89). (4) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (1/ 90). (5) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (1/ 91). (6) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (1/ 93). (7) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (1/ 93). (8) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (1/ 93). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 استدلالهم على وجوب العمل بما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم: يعمل السلف بما ثبت عن الصحابة رضوان الله عليهم امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم فإن الصحابة أفقه وأعرف بما يقولون وقد زكاهم الله ورسوله وبذلك تعتبر أقوالهم وأفعالهم سنة يجب العمل بها وخصوصاً الخلفاء الراشدين منهم. ومما ورد في وجوب العمل بما صح عن الصحابة:- جاء عن العرباض بن سارية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها عضوا عليها بالنواجذ)) (1).- وعن خصوص أبي بكر وعمر رضي الله عنهما جاء قوله صلى الله عليه وسلم: ((اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)) (2) وهذا يدل على مزيد فضلهما ووجوب الاقتداء بهما. وعلى هذا أجمع السلف وهو من أسس عقائدهم وقد مدح الله السلف الكرام من الصحابة ومن سار على نهجهم بقوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ [التوبة:100] فهم السابقون الأولون وأصحاب الشرف العظيم في وقوفهم إلى جانب نبيهم في ساعة العسرة وفدائهم له بأموالهم وأنفسهم وهم أول المجاهدين في سبيل الله من هذه الأمة. وكانت نسبتهم في البداية بالنسبة إلى نسبة الكفار كنسبة الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود فإن الأرض كلها على الشرك وعبادة الأصنام. فاستعذبوا العذاب في سبيل نشر النور إرضاءً لله تعالى وقرباً إليه ولا يوجد مسلم على ظهر الأرض إلا وهو مدين للصحابة بالشكر والتقدير على نصرتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى فتوحاتهم التي عمت أكثر البقاع في عهودهم المجيدة.   (1) رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42)، وأحمد (4/ 126) (17184)، والحاكم (1/ 176). والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح ليس له علة ووافقه الذهبي. وقال ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 1164): ثابت صحيح. وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 181)، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (2) رواه الترمذي (3662)، وابن ماجه (97)، وأحمد (5/ 382) (23293)، والحاكم (3/ 80). من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال الحاكم: هذا حديث من أجلّ ما روي في فضائل الشيخين، وقد أقام هذا الإسناد عن الثوري ومسعر يحيى الحماني وأقامه أيضاً عن مسعر ووكيع وحفص بن عمر الأيلي ثم قصر بروايته عن ابن عيينة الحميدي وغيره وأقام الإسناد عن ابن عيينة إسحاق بن عيسى بن الطباع فثبت بما ذكرنا صحة هذا الحديث وإن لم يخرجاه وقد وجدنا له شاهداً بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وتلك الحقيقة يعيها كل مسلم إلا من فسدت فطرته وانحرف واتبع هواه كالرافضة الذين ذهبوا يسبونهم ويكفرونهم مضادة للآية الكريمة: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [الحشر:10] ولهذا فقد كان ابن حزم رحمه الله حينما يدحض النصرانية ويثبت لهم تحريف كتابهم يستدلون عليه أن المسلمين أيضاً أثبتوا أن في القرآن تحريفاً وزيادةً ونقصاً فيقول لهم لا تحتجوا بكلام الرافضة واحتجوا بكلام المسلمين أو نحو ذلك لمعرفته التامة بأنه لا يمكن أن يقدم مسلم يؤمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً أن يدعي بأن هذا القرآن الموجود بين أيدينا قد تخلى الله عن وعده بحفظه أو أنه سلط عليه من يغيره ويبدله فإن من اعتقد حدوث هذا فقد خرج عن الإسلام إن كان يدعيه وكفر به. وقوف السلف عند حدود النص أما بالنسبة لوقوف السلف عند حدود النص وعدم الخوض فيما لا مجال للعقل فيه فهذا دليل من أقوى الأدلة على عمق فهمهم وقوة ذكائهم وحرصهم على ما ينفعهم في دينهم, به يظهر صدق متابعتهم لنبيهم عليه الصلاة والسلام وحرصهم على إقامة سنته والبعد عن ما يكدرها فقد علموا أن العقل من أكبر نعم الله على عباده وأن الله جعله عوناً لصاحبه وربط الله به كثيراً من القضايا ونوّه به وبعلو شأنه ولكن السلف مع هذا يعلمون علم اليقين أن العقل له حد ينتهي إليه فإذا تجاوزه انقلب إلى الجهل والحمق سنة الله في خلقه وإن تكلف الأمور التي لا سبيل لمعرفتها إلا عن طريق النص يعتبر تعدياً وظلماً وقد يجر إلى القول على الله بغير علم والكذب عليه مع أنهم ليسوا في حاجة إلى ذلك فإن السنة واضحة ونهج من سبقهم فيها واضح وقد يجر كذلك إلى إحداث البدع وهو الأمر الذي ينفر منه السلف أشد نفور ويحذرون منه أشد تحذير فطالما جر عدم الوقوف عند النصوص إلى إحداث البدع والخرافات بل وإماتة كثير من السنن كما هو الحال عند أصحاب الأهواء وعباد العقول وتقديمهم لها على النصوص,. وكم من الفظائع والمآسي ارتكبت بسبب عدم فهم النصوص كما يحدثنا عنها التاريخ بل وإن تكفير أهل البدع بعضهم بعضاً ودليلهم واحد لهو أقوى الأدلة على مضار عدم فهم النصوص إذ إنه لا يوجد أي نص يؤدي إلى تكفير العاملين به بعضهم بعضاً وهو أمر معروف بداهة. إعراض السلف عن أهل البدع أما إعراضهم عن أهل البدع وعن مخالطتهم فقد أصبح أمراً معلوماً بالضرورة عند أهل السنة فقد حذروا من مجالسة أهل البدع والاستماع إليهم لعلمهم أن أصحاب البدع يوردون شبهات يضللون بها العامة قال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ [الأنعام:68]. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وقال تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ [النساء:140].وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)) (1). وفي رواية: ((وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة)) (2). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (3) وقال صلى الله عليه وسلم: ((من رغب عن سنتي فليس مني)) (4). وهذه الآيات والأحاديث كلها تدل على وجوب الإعراض عن المبتدعين وعن أقوالهم وما يحدثونه في دينهم بأهوائهم التي يقدمونها على السنة ومن هنا كانت نفرة أهل السنة عن أهل البدع اتباعاً لأمر الله وأمر المصطفى صلى الله عليه وسلم ونصحاً لأنفسهم ولغيرهم.   (1) رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42)، وأحمد (4/ 126) (17184)، والحاكم (1/ 176). والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح ليس له علة ووافقه الذهبي. وقال ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 1164): ثابت صحيح. وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 181)، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (2) رواه مسلم (867). من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (3) رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718). من حديث عائشة رضي الله عنها. (4) رواه البخاري (5063)، ومسلم (1401). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وقد أكد السلف التحذير من أهل البدع ووجوب البعد عنهم.- قال ابن مسعود رضي الله عنه: وستجدون أقواماً يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم عليكم بالعلم وإياكم والبدع والتنطع والتعمق وعليكم بالعتيق (1).- عن مجاهد قال: قيل لابن عمر: إن نجده يقول كذا وكذا فجعل لا يسمع منه كراهية أن يقع في قلبه منه شيء (2). وعن تحذيرهم من سماع كلام القدرية جاء عن أبي أمامة الباهلي قال: "ما كان شرك قط إلا كان بدؤه تكذيب بالقدر ولا أشركت أمة قط إلا بدؤه تكذيب بالقدر وإنكم ستبلون بهم أيتها الأمة فإن لقيتموهم فلا تمكنوهم من المسألة فيدخلوا عليكم الشبهات" (3) - وعن تحذيرهم من الدخول في الخصومات مع أهل الأهواء جاء رجل إلى الحسن البصري فقال: "يا أبا سعيد إني أريد أن أخاصمك. فقال الحسن: إليك عني فإني قد عرفت ديني إنما يخاصمك الشاك في دينه" (4) - وعن بغض أهل الأهواء وحب الابتعاد عنهم قال أبو الجوزاء: "لئن يجاورني قردة وخنازير أحب إلي من أن يجاورني أحد منهم" (5). يعني أهل الأهواء.- وكان الحسن يقول: "لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم" (6).وكان ابن طاوس جالساً فجاء رجل من المعتزلة قال: فجعل يتكلم قال فأدخل ابن طاوس إصبعيه في أذنيه وقال لابنه: أي بني أدخل إصبعيك في أذنيك واشدد ولا تسمع من كلامه شيئاً. قال معمر راوي الخبر يعني أن القلب ضعيف (7).وروى الدارمي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: "إذا رأيت قوماً يتناجون في دينهم بشيء دون العامة فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة" (8).وكان الشافعي ينهى النهي الشديد عن الكلام في الأهواء ويقول: "أحدهم إذا خالف صاحبه قال كفرت والعلم فيه أنما يقول أخطأت" (9). وقال علي بن المديني: "من قال فلان مشبه علمنا أنه جهمي ومن قال فلان مجبر علمنا أنه قدري ومن قال فلان ناصبي علمنا أنه رافضي" (10). وقد رويت عن السلف من النصوص الكثيرة ما لا يحتمل المقام ذكرها هنا وكلها تهدف إلى أمر واحد هو اجتناب أهل البدع والتحذير منهم امتثالاً لقول الله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68]. وقوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء:140]. وفي عدم مجالستهم حماية للعقيدة وحماية لقلوبهم لئلا تميل إلى شيء من شبهات أهل الباطل وحتى لا تنتشر أفكارهم بين الناس وفيه كذلك قيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن أهل البدع إن لم يجدوا من يرد عليهم تمادوا في باطلهم وضعف في نفوس الناس الإحساس بوجوب تغيير المنكر بل يستمرئون بعد ذلك وقد يعترض البعض فيقول إن مجالستهم ومناظرتهم فيها إقامة للحجة عليهم ودعوة لهم للرجوع أو يقول قد ناظر بعض السلف أهل الباطل كما فعل ابن عباس مع الخوارج وعمر بن عبد العزيز معهم أيضاً والمناظرة المشهورة لعبد العزيز الكناني مع بشر المريسي وغير ذلك والجواب والله أعلم أن مناظرة السلف لأهل البدع تعتبر بالجملة قليلة ولا يناظرونهم إلا إذا رأوا أن المصلحة تقتضي ذلك وفي مجامع عامة وعلنية. وهي أيضاً لا تكون إلا مع من يرجى منه الرجوع أما المعاندين منهم المصرين على بدعهم الداعين إليها فإنهم كانوا يحذرونهم ويحذرون منهم وهذا من باب الحزم وإنكار المنكر والبعد عن الشر قبل الوقوع فيه فإن مجالسة أهل البدع والاستماع لكلامهم قد يجذب الشخص إليهم وقد يتشوش فكره بكلامهم فإذا حسم الشر من أوله كان أضمن لسلامته ومن هنا فإنه يجب الحذر من قراءة كتب المخالفين والاستماع لخطبهم وكلامهم قبل أن يحصن الشخص نفسه بالقراءة عنهم ومرد شبهاتهم. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن من وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه)) (11). المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 138   (1) ((البدع والنهي عنها)) لابن وضاح ص 59. (2) انظر ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (1/ 128). (3) انظر ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (1/ 128). (4) أخرجه اللالكائي (1/ 128). (5) ابن سعد في ((الطبقات)) (7/ 224). (6) أخرجه اللالكائي (1/ 133). (7) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (1/ 135). (8) أخرجه اللالكائي (1/ 135). (9) أخرجه اللالكائي (1/ 146). (10) أخرجه اللالكائي (1/ 147). (11) رواه البخاري (52) ومسلم (1599). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الفصل الخامس: لزوم السلف جماعة المسلمين وتحذيرهم من التفرق وأدلتهم على ذلك أما لزومهم جماعة المسلمين وتحذيرهم من التفرق فهذا أحد الأسس التي قامت عليها عقيدتهم امتثالاً لأمر الله تعالى وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم فقد استفاضت الأدلة من كتاب الله عزّ وجلّ ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم على وجوب لزوم الجماعة والحذر من التفرق وما يؤدي إليه مهما كان نوعه. وفي كتاب الله تعالى وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ما يوضح ويؤكد هذا الجانب بمزيد من العناية والبيان. 1 - الأدلة من كتاب الله تعالى: - قال الله تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103]. - وقال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام:159] - وقال الله تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105] - قال الله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام:153] وهذه الآيات وغيرها مما جاء في معناها واضحة الدلالة والمراد, وكلها تهدف إلى منع التفرق في الآراء والمعتقدات التي لا يتصف بها قوم إلا كانوا في طريقهم إلى الفضل رغم وضوح هذه الأدلة ورغم حاجة الأمة الإسلامية إلى العمل بمفهوم هذه الآيات البينات إلا أن المسلمين في عصرنا هذا لم يستفيدوا منها بل كان بعضهم قريباً من حال الذين أخبر الله عنهم أنهم ازدادوا بمجيء البينات اختلافاً وفرقة وبعداً عن منهج الله تعالى. قال تعالى: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:4]. فما أكثر ما يجتمع المسلمون في شكل مؤتمرات وندوات ولقاءات ويكون شعارهم هو العمل بهذه الآية: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103] ولكنهم يخرجون وهم على أشد ما يكونون من الاختلاف والتنافر وما أكثر ما يقرأ المسلمون هذه النصيحة الإلهية: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105]. وما أكثر ما يقرؤون غيرها من الآيات ولكن لماذا لم يستفيدوا منها؟ والجواب: أنهم حينما يجتمعون يكون كل فريق وحزب في غاية الإصرار على أن حبل الله الذي يجب التمسك به هو ما هو عليه وحزبه ويجب على الآخرين الانضواء تحت رايتهم والسير على نهجهم وكل يرى نفس هذا الرأي وبالتالي يكون اجتماعهم لتعميق هذه الفرقة فلا يستفيدون من تلاوة هذه الآيات شيئاً لعدم إخضاع رغباتهم وأهوائهم لتحكيمها ولعدم رضاهم بالرجوع إلى الحق الذي هدى الله إليه سلف هذه الأمة وصلح عليه أمرهم وما دام كل حزب وكل فرقة تستدل بالآيات على أن الآخرين مفارقين للحق وأن الحق هو بأيديهم فقط وما داموا كذلك فلا أمل في عودة الوحدة الإسلامية. ومن عجيب أمر أهل الأهواء أن البينات التي تفصل النزاعات أصبحت هي بمفاهيم هؤلاء البدعية مصدر الاختلاف والنزاع بسبب عدم التسليم لمفهومها الصحيح وإلا فهي ليست كذلك وحبل الله وصراطه المستقيم واحد لا تعدد فيه وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام:153] فكيف يتعدد الحق؟ وكيف تصبح كل تلك الفرق والطوائف المبتعدة عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وعن سبيل المؤمنين؟ كيف يصبحون كلهم على حق؟. 2 - الأدلة من السنة النبوية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وكما تعددت الأدلة من كتاب الله تعالى على النهي عن التفرق وعلى وجوب التمسك بالجماعة تعددت الأدلة كذلك من السنة النبوية على هذا الجانب الهام في العقيدة الإسلامية. ومما ورد في ذلك:1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يرضى لكم ثلاثاً أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم)) (1) 2 - عن حذيفة رضي الله عنه قال: ((كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر قال: نعم. قلت: وهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن. قلت: وما دخنه قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر قلت: فهل بعد الخير من شر قال: نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها قلت: يا رسول الله صفهم لنا قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلت فما تأمرني إن أدركني ذلك قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)) (2) - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية .. )) الحديث (3).- وعن عرفجة بن شريح الأشجعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنه ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان)) (4) - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وإني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والمارق من الدين التارك للجماعة)) (5) - وهذه الأحاديث وغيرها مما وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها تؤكد على وجوب لزوم الجماعة والتحذير من التفرق ولو تمسك بها المسلمون وحققوها لكانوا على الخير الذي مضى عليه السلف الكرام من الصحابة ومن تبعهم بإحسان ولعاد للمسلمين سؤددهم وكرامتهم التي فقدت في عصرنا الحاضر بسبب التفرق وعدم الإذعان لتعاليم الشريعة السمحاء ومع ذلك لا يزال الخير إن شاء الله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة ما داموا متمسكين بالحق قولاً وعملاً والله تعالى يقول: إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11] المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 147   (1) رواه مسلم (1715)، وأحمد (2/ 367) (8785) واللفظ له. (2) رواه البخاري (3606)، ومسلم (1847). (3) رواه مسلم (1848). (4) رواه مسلم (1852). (5) رواه البخاري (6878)، ومسلم (1676). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 الفصل السادس: الثناء على السلف رحمهم الله تعالى 1 - الثناء على الصحابة الكرام من كتاب الله تعالى أثنى الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم وأثنى رسوله صلى الله عليه وسلم على الصحابة الكرام وأن لهم محاسن وفضائل لا يمكن أن يلحقهم فيها من جاء بعدهم فهم خير البشر بعد الأنبياء والمرسلين وزمنهم أفضل الأزمان ورضي الله عنهم فوق كل اعتبار لا ينتقصهم إلا ضال منافق لا يعرف الإسلام وكلهم عدول. وينقسمون إلى قسمين إلى مهاجرين وإلى أنصار رضي الله عنهم جميعاً هذا هو تقسيم أهل الحق لهم أما غيرهم من أهل الباطل فيقسمونهم إلى قسمين مرتدين وهم سائر الصحابة وغير مرتدين وهم عدد لا يتجاوز أصابع اليد. - ومن ثناء الله سبحانه وتعالى على الصحابة في كتابه العزيز. قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100] - وقوله تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا [الفتح:29] - وقوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18] - وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [الأنفال:72] - وقوله تعالى: لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد:10] - وقوله تعالى: لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [المجادلة:8 - 10] وهذه الآيات الكريمات كلها تدل على فضل الصحابة رضوان الله عليهم من المهاجرين والأنصار ومن السابقين إلى الإسلام قبل الفتح ومن جاء بعدهم على طريقتهم مع تفضيل السابقين بمزيد فضل – وكلهم على فضل – وفيها بيان ما أعد الله لهم من ثواب ونعيم في الآخرة وبيان ما امتازوا به من الشدة على الكفار والرحمة فيما بينهم بل أن شدتهم هي في حقيقتها رحمة بالكفار لكي يدخلوا في الإسلام ويخرجوا من الظلمات إلى النور وهي صفات عظيمة, المسلمون اليوم في أحوج ما يكونون للإنصاف بها بعد أن انعكس الأمر لدى الكثير منهم حيث صاروا أشداء فيما بينهم رحماء مع مخالفيهم وقد أخبر سبحانه عن رضاه عن الصحابة جميعاً وبالأخص أصحاب بيعة الرضوان وأثنى على الأنصار وبين صفتهم التي لا يصل إليها إلا الموفق في الكرم والإيثار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وبين أن فريقاً من المؤمنين جاؤوا من بعدهم دائماً يتوسلون إلى الله تعالى أن يغفر لهم ولإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان وهي صفة عظيمة تدل على فطر سليمة ونفوس طاهرة وقد اتصف السلف بهذه الصفة الطيبة وحققوها في أكمل صورها كما اتصف مبغضوهم بعكسها تماماً فقد ظهر حثالة البشر من الرافضة النواصب والخوارج وسائر من ألحد وخرج عن هدي السلف ظهر هؤلاء يسبون الصحابة ويفترون عليهم وعلى سائر السلف مما يدل على أنهم ليسوا على طريق هؤلاء الكرام الذين يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان وبدلاً من قيامهم بهذا الواجب من الاستغفار لهم ذهبوا يكيلون التهم ويدعون عليهم ويستهزئون بهم محادة لله تعالى وهذه دلالة قاطعة على جهل هؤلاء بسيرة السلف الصالح بل وبأمر الله تعالى في هذا. 2 - ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم ثناءً عاطراً على الصحابة الكرام ويكفيهم فخراً أنه كان راضياً عنهم محباً لأخلاقهم خصوصاً أولئك الذين نصروه في ساعة العسرة باذلين أموالهم وأنفسهم وأولادهم حباً فيه وفي رفع هذا الدين العظيم حتى أتم الله لهم ودخل الناس في دين الله أفواجاً فلهم الفضل بعد الله على سائر البشر, وسائر الناس مدينون لهم بالشكر والتقدير إذ لولا فضل الله ثم قيام أولئك بنصرة الإسلام لما وصل إلى ما وصل إليه ولهذا فكل منتسب إلى الإسلام مدين لهم بالشكر والتقدير ومن ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم:- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)) (1) وذلك لامتياز عبد الرحمن بن عوف بالأسبقية إلى الإسلام وتأخر خالد إلى ما بعد بيعة الرضوان فإن حال الذين أسلموا بعد الحديبية وإن كان قبل فتح مكة لكنهم ليسوا على درجة من سبقهم في الفضل وفي مضاعفة الحسنات لهم فإن نصف مد منهم أجره أعظم من أجر من تصدق بمثل أحد ذهباً لو حصل ذلك فكيف بحال من ظهر في قرون الشر وصار ينتقص كل أولئك الصحابة.- وورد في (الصحيحين) عن عمران بن حصين وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)). قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة (2) - وفي (صحيح مسلم) عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد من الذين بايعوا تحتها)) (3) كما أثنى الله تعالى وأثنى رسوله صلى الله عليه وسلم على بعض الصحابة بخصوصهم مثل أبي بكر وعمر وعلي وعثمان وابن مسعود وأبو عبيدة وأبو ذر ومعاذ بن جبل وغيرهم ممن صحت فيه النصوص. وأجمع علماء الإسلام على عدالتهم وفضلهم والمفاضلة بينهم من دون انتقاص أحد منهم وإنما هو تفضيل كتفضيل بعض الأعضاء على البعض الآخر منها وتلك المفاضلة بين الصحابة تعود إلى الأسبقية في صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم الإيمان والبذل في سبيل الله إرضاء الله ثم لنبيه الكريم في الدفاع عنه وعما جاء به من الحق وإذا كان هذا حال الصحابة فما هو حال من لا يساوي شيئاً بالنسبة لهم. 3 - ثناء السلف عليهم- وبهذا المعنى ورد أنه قيل لعائشة رضي الله عنها أن ناساً يتناولون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أبا بكر وعمر فقالت: وما تعجبون من هذا انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا يقطع عنهم الأجر (4). - وقد وصفهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بقوله: إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن وما رأوه سيئاً فهو عند الله سيء (5) ... المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 152   (1) رواه البخاري (3673)، ومسلم (2541). (2) رواه البخاري (2652)، ومسلم (2533). (3) رواه مسلم (2496). من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أخبرتني أم مبشر رضي الله عنها أنها سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة رضي الله عنها ثم ذكرت الحديث. (4) انظر ((العقيدة الطحاوية)) (530). (5) رواه أحمد (1/ 379) (3600)، والطبراني (9/ 112). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 177): رواه أحمد والبزار والطبراني ورجاله موثقون. وقال الألباني في ((السلسلة الضعيفة والموضوعة)) (532): والأصح وقفه على ابن مسعود. وقال في (533): لا أصل له مرفوعا وإنما ورد موقوفاً على ابن مسعود رضي الله عنه. وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 المبحث الأول: الجهود الحربية أما جهودهم الحربية فإن التاريخ مليء بذكرها غني بأحداثها لا يجهل أي مسلم ذلك ابتداءً بجهودهم الحربية بين يدي نبيهم صلى الله عليه وسلم في معارك عديدة كبدر وأحد والخندق وسائر الغزوات التي خاضوا غمارها, لا يطلبون منها إلا رضى ربهم ونبيهم ولم ينتقل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه إلا وقد قرت عينه وانشرح صدره ومات وهو عنهم راض. ولم تنقطع المعارك الحربية والفتوحات بوفاته صلى الله عليه وسلم بل اشتدت وتعددت على يد خلفائه الميامين ابتداءً بأبي بكر رضي الله عنه وما قام به من جهود عظيمة في محاربة المرتدين ومن بعدهم من الكفار وجعل الله في أيامه خيراً عظيماً ونفعاً بليغاً أعاد الجزيرة إلى دولة إسلامية واحدة ثم انتقل إلى البلاد الأخرى يفتحها البلد تلو البلد. وبعد وفاته وانتقال الخلافة إلى عمر رضي الله عنه ازدادت رقعة الدولة الإسلامية وأوصلها بجهوده بعد نصر الله إلى ما يسمى في عصرنا الحاضر بالإمبراطورية وكذا في عهد الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه ثم تتابعت الفتوحات على يد معاوية رضي الله عنه وبلغت الدولة الإسلامية قمة مجدها وازدهارها وجاءت الدولة العباسية وسلكت نفس الاتجاه إلى أن جاءت أيضاً الدولة العثمانية وكانت لها جهود رائعة في انتشار الإسلام ونشره وكان علماء السلف هم المحركون لتلك الأحداث بخطبهم الحماسية وإثارة روح التضحية في سبيل الله تعالى بل والمشاركة الجادة في خوض المعارك ولا يغيب عن ذهن القارئ ما فعله شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره في وقوفهم ضد التتار وانتصارهم عليهم فحفظ الله بهم الدين لما ادخره لهم من جزيل الأجر والثواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 المبحث الثاني: جهودهم في خدمة العقيدة ولا ريب أن العقيدة الإسلامية صافية نقية محجة بيضاء ولهذا ما إن ظهرت البدع والفتن التي أراد أهلها – بسوء نية – التشويش على صفائها وطمس نورها إلا ووقف السلف بكل حزم وشجاعة ويقين لردها والإنكار عليها وعلى أهلها لا تأخذهم في الله لومة لائم فحفظ الله بهم الدين وأتم بهم النعمة ولولا فضل الله ثم تلك الجهود التي بذلوها لاختلط الحق بالباطل وقال من شاء في الدين بما شاء ولانتشرت البدع والخرافات الباطلة إلى أن يصبح المسلمون في دينهم كما أصبح عليه من قبلهم ولكن الله لم يرض بهذا فقد تكفل بحفظ دينه الذي ارتضاه إلى يوم القيامة وسخر له رجالاً خدموه يبتغون فضل الله ورضوانه ما كانت تأخذهم في الله لومة لائم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته. فقد كان السلف من الرعيل الأول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخلص الناس وأشدهم حفاظاً على شعائر الإسلام, كانوا أشداء على الكفار رحماء بينهم يتناصحون ويرشدون لا يقر لأحدهم قرار إذا رأى منكراً أو بدعة من قريب أو من بعيد لا يداهنون أحداً ولا يرهبون إلا ربهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ولو بدأنا التعرف على جهودهم في زمن الخليفة الراشد أبي بكر رضي الله عنه لرأينا مدى اهتمامه بالحفاظ على العقيدة الإسلامية صافية نقية وما محاربته لأهل الردة وإرجاعهم إلى الدين إلا مظهر من مظاهر اهتمامه بخدمة العقيدة بل وما كانت هجرته إلى المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أحد الشواهد على ذلك فلقد ترك المال والبنين والأهل والأحبة ليفر إلى البلد الذي يأمن فيه على عقيدته وما إنفاقه في سبيل الله وإعتاقه الرقاب إلا لوجه الله وخدمة عقيدته الحنيفية ولقد أسلم على يده أفذاذ كانوا مفخرة الإسلام والمسلمين ويطول الشرح لو أردنا استقصاء أعماله التي قدمها مبتغياً بها وجه الله وخدمة دينه. وكذلك الحال مع الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي اقض مضاجع أعداء الإسلام وأعلى الله به كلمة الحق وظهر المسلمون على أعدائهم ودخل الناس في دين الله أفواجاً وكانت درته سيفاً مسلطاً على رقاب أهل البدع وكانت سيرته العطرة وأخباره المشرقة مثار دهشة وإعجاب العالم أجمع كان شديداً في الحق لا تأخذه في الله لومة لائم شديد على أهل البدع يضربهم بالدرة مؤدباً لرعيته بأقواله وأفعاله. دخل عليه شاب طويل الثوب وعمر يجود بنفسه فسلم عليه فلما خرج ناداه عمر فرجع إليه الشاب فقال له: يا بني أقصر من ثوبك فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك (1) أو كلاماً نحو هذا ولم يشغله ما هو فيه من سكرات الموت حتى عن التنبيه على هذه المسألة فما الظن بغيرها؟ وقد ضرب رجلاً اسمه صبيغ حتى أدمى رأسه لأنه كان مغرماً بالسؤال عن المتشابهات (2) وهدد أبا موسى الأشعري حين استأذن ثلاثاً وانصرف قائلاً له لماذا استأذنت ثلاثاً وانصرفت فقال له: هكذا سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: وكان أبو موسى صادقاً وعمر يعرفه بالصدق ولكنه أراد أن يحد ويؤدب من عسى أن تسول له نفسه التقول على الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له: هات شاهداً وإلا فعلت وفعلت بك (3)، وكان مهاباً رغم تواضعه الجم تهابه الناس وتهابه الشياطين كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لا يسلك وادياً أو فجاً إلا وسلك الشيطان فجاً آخر (4) وأخباره لا تستقصيها هذه العجالة رضي الله عنه. وبعد وفاته واستشهاده خلفه عثمان رضي الله عنه فأبلى في الإسلام وفي خدمته وفي الفتوحات ونشر الإسلام وخدمة العقيدة الحنيفية ما طفحت به المراجع التاريخية. ومن أجل خدماته للإسلام كرمه الواسع ابتغاء مرضات الله تعالى وإنفاقه الذي فاق التصور ثم فتوحاته ونشر الإسلام ولا ينسى القارئ أجل خدمة قام بها عثمان في شأن كتاب الله تعالى إلى أن استشهد على يد البغاة عاقبهم الله بما يستحقون.   (1) رواه البخاري (3700). (2) رواه الدارمي (1/ 66)، والآجري في ((الشريعة)) (ص71)، واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (4/ 635). وقال محققه حسين أسد: رجاله ثقات غير أنه منقطع سليمان بن يسار لم يدرك عمر بن الخطاب. (3) رواه مسلم (2154). من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (4) روى البخاري (3294) من حديث سعد بن أبي وقاص قوله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك)) وهو عند مسلم أيضا (2396) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 ثم خلفه علي رضي الله عنه على نفس الأهداف في خدمة الدين ورفع رايته ومحاربة أهل الكفر وأهل البدع بأقواله وأفعاله حتى لقي ربه ثم جاءت الدولة الأموية وكان لأول ملوكهم معاوية رضي الله عنه وهو من خير البشر بعد الأنبياء والمرسلين خدماته الجليلة للإسلام والمسلمين فقد فُُتحت البلدان الكثيرة في عهده وعهد خلفائه وانتشر الإسلام انتشاراً واسعاً وكان رضي الله عنه محارباً لكل محدث في الدين حماية للعقيدة الإسلامية أن تدنس بالشبهات. ونبغ في عهد الدولة الأموية ثم العباسية علماء أجلاء خدموا الدين وقدموا أنفسهم في سبيل الحفاظ على صفائه ونقائه. ولم يخل عهد من العهود إلا وفيه جهابذة من علماء السنة ومن المحافظين على بقاء ونقاء الإسلام إلى يومنا الحاضر ولله الحمد فلا ننسى تلك المواقف المشرفة لعلماء السلف في خدمة الدين الإسلامي. أمثال الإمام المبجل إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل والعز بن عبد السلام وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم إلى أن جاء في العهد القريب الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي جدد الله به كثيراً من السنن التي كادت أن تندثر وأذل به كثيراً من أهل البدع التي انتشرت وأخذت حيزاً واسعاً في عقول المسلمين ويطول جداً ذكر علماء السنة وذكر جهودهم في خدمة العقيدة فقد كُتبت المطولات العديدة في هذا الشأن ومن الصعوبة حصرها جميعاً أو حصر جهود مؤلفيها في وقفاتهم التي أصبحت نموذجاً يحتذى به ومشعلاً يستضاء به تلك الجهود التي قمع بها فتن المارقين أصحاب البدع ومختلف الفرق من جهمية ومعتزلة أشعرية وماتريدية وخوارج ومرجئة من بدء ظهورهم إلى يومنا الحاضر فأدوا الأمانة الملقاة على عواتقهم وابرؤوا ذممهم ونصحوا الأمة فحذروا وبينوا وألفوا الكتب والمقالات وكم لهم من محاضرات ومناظرات دحضوا فيها شبه الضالين وأقاموا الحجة على كل السامعين فانقلبوا بنعمة من الله تعالى وما هذه المؤلفات العديدة التي تزخر بها المكتبات الإسلامية إلا ثمرة من ثمار جهودهم وأقوى الشواهد على بلائهم. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 158 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 تمهيد المتتبع لمنهج السلف يجد أن الله تعالى قد هداهم إلى الوسط في عقيدتهم فلا إفراط ولا تفريط قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] أي خياراً عدولاً وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((خير الأمور أوسطها)) (1).وقد ميز الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه المزية العظيمة وشرفهم بها وهداهم إلى الحق فلا تجد عند المتمسكين بهدي الكتاب والسنة إفراطاً ولا تفريطاً (2)، لأنهما أشد مصادر الهلاك والضلال وبسببهما انتشرت البدع والخرافات بل وعبادة غير الله تعالى والشرك به بتزيين الشيطان وخدعه المتنوعة كما وقع لقوم نوح في ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر, وكما وقع لغيرهم من بعدهم من الأمم. وتظهر وسطية أهل السنة في جميع مسائل الاعتقاد سواء ما يتعلق منها بذات الله عزّ وجلّ أو بصفاته. ويتبين فيما يلي: وسطيتهم بين الأمم الكافرة أصحاب الديانات الوضعية. وسطيتهم بين الفرق التي تنتسب إلى الإسلام.   (1) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (5/ 261). وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) مرسل، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (3177). (2) الإفراط هو مجاوزة الحد في الشيء والتفريط هو التقصير في الشيء وتضييعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 المطلب الأول: وسطيتهم بالنسبة للإيمان بذات الله تعالى فإن الله تعالى في عقيدة أهل السنة لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء فذاته بخلاف ما يتصور العقل، له ذات تليق بجلاله وله صفات تليق بجلاله وله أسماء تليق بجلاله حتى ولو كانت صفاته وأسماؤه قد أطلقت على المخلوق فإن العقل يدرك تماماً أن مجرد الاتفاق في التسمية لا يدل على المماثلة وهو واضح في المخلوقات تمام الوضوح فكيف بالخالق سبحانه وتعالى ولقد ضلت سائر الملل عن هذا المنهج فبعضهم وصف ذات الله تعالى بأنها كذوات خلقه وهم اليهود والمشبهة, وبعضهم وصفوا غير الله تعالى بذات الله كالنصارى حينما ادعوا أن المسيح ابن الله وأنه إله، واليهود وصفوه عزّ وجلّ بأنه قد كبر وشاخ ولم يعد قادراً على تصريف الأمور إلا بمشورة موسى عليه السلام (1) كما تدل على ذلك التوراة ونصوص التلمود وتصريح زعماء إسرائيل ووصفوه بالنقص وألحقوا العيوب به فلا فرق بينه وبين خلقه تعالى في مفاهيم المنحرفة. ولكن عند المسلمين هو سبحانه: أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. وقرروا أن الكلام في الصفات فرع عن معرفة الذات فكما أن ذاته لا تشبه ذوات المخلوقين وهذا المفهوم السهل الواضح وهو ما عناه الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ولولا ظهور الشبهات واستحواذ الشياطين على عقول المخالفين لكان تصور ما تقدم يكفي لردهم إلى الحق.   (1) وذلك حينما صرحت رئيسة وزراء إسرائيل في حرب الأيام الستة بقولها إن أمريكا هي إله إسرائيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 المطلب الثاني: وسطيتهم بالنسبة للإيمان بالأنبياء وأهل السنة وسط في ما يتعلق بأنبياء الله تعالى فهم يؤمنون بأنهم بشر مثل سائر البشر شرفهم الله بوحيه ورسالته وأنهم أطهر الناس وأعقل الناس ولكن لا يرفعونهم فوق مرتبتهم ولا ينزلونهم عن قدرهم, ويؤمنون أنهم لا يعلمون الغيب ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً إلا بإذن الله. بينما تجد التوراة مملوءة بذكر عيوب أنبياء الله وأنهم حسب إفك كتاب التوراة من أحرص الناس على المال وأشدهم طلباً ولو كان سبيل ذلك تقديم العرض كما يكذبون على خليل الله إبراهيم وزوجته سارة وأنهم - وحاشاهم- زناة كما يكذبون على لوط ويعقوب وداود وسليمان وغيرهم وبينما تجد هذا البهت عند اليهود تجد أن النصارى قابلوهم بالضد فادعوا لبعض الأنبياء وغيرهم الألوهية كعيسى عليه الصلاة والسلام وأمه وروح القدس. ثم غلوا في علمائهم فأنزلوهم منزلة الخالق في التشريع والتحليل والتحريم كما أخبر الله عنهم وبرأ الله المسلمين من ذلك كله وأهل السنة والجماعة في قمة التوسط في نظرتهم إلى علمائهم على حد قول الشاعر: ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم وما أكثر ما كان يقول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)) (1) كما نجد في القرآن الكريم أكثر من آية يوجه الله الخطاب فيها إلى أهل الكتاب ويذمهم بسبب غلوهم في الأنبياء وفي عبادتهم التي قامت على الإفراط والتفريط اتباعاً لما تمليه عليهم الشياطين.   (1) رواه البخاري (3445). من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 المطلب الثالث: وسطيتهم في عبادة الله تعالى سلك أهل السنة مسلكاً صحيحاً يؤيده الكتاب والسنة حيث عبدوا الله بما شرع لهم في كتابه أو في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لا يزيدون في عبادتهم ولا ينقصون كما شرع لهم ربهم، ولا يشرعون لأنفسهم عبادة لم يؤيدها الدليل في كل جزئية من أمور العبادة البدنية أو القولية بينما تجد من خرج عن هدى الإسلام قد جعل إلهه هواه وأهل الكتاب هم القمة في هذه الصفة الذميمة. فاليهود –وهم أهل تفلت وتحريف واستكبار- نجدهم من أشد الناس ابتعاداً عن العبادة حسب ما شرع الله لهم ومن أشد الناس كسلاً عنها، فقد أمرهم الله أن يدخلوا الباب سجداً فدخلوه زحفاً على أعقابهم وأمرهم أن يقولوا حطة فقالوا حنطة بل وأمرهم أن يدخلوا فلسطين فقالوا لموسى: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] بل وأمرهم الله تعالى أن يعبدوه فعبدوا العجل والحية نخشتان وآلهة أخرى. ولهذا وصفهم موسى عليه الصلاة والسلام بأنهم أصلاب غلاظ الرقبة عصاة أصحاب عناد واستكبار وحب للفتن. ووضعهم اليوم في فلسطين مع جيرانهم أقوى شاهد على هذا السلوك البغيض منهم فإنهم لا يعيشون إلا في الفتن وتأجيجها وفي التفنن في المؤامرات. وأما النصارى فهم بضد اليهود غلوا في العبادة والتقرب إلى الله حتى خرجوا عن منهج الله وأمره بتزيين الشيطان لهم, وحرموا على أنفسهم ما أحل لهم وابتدعوا رهبانية لم يستطيعوا القيام بها. وقد وصف الله هذا السلوك الأحمق بقوله تعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:27] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 المطلب الرابع: وسطيتهم في صفات الله تعالى بين أصحاب الأديان المحرفة من أصول أهل السنة والجماعة في باب الصفات: - وجوب الإيمان واليقين بجميع أسماء الله وصفاته كما وردت بألفاظها الشرعية نفياً وإثباتاً بينما نجد المشركين وأهل الكتاب في غاية البعد عن التزام ذلك. - وأن لا يوصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه في كتابه الكريم أو على لسان نبيه العظيم ولا يجوزون اختراع أسماء أو صفات لله تعالى لم ترد في الوحيين. - الإيمان بمعاني الصفات وقطع الطمع عن البحث في كيفياتها. - الإيمان بأن القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر. - الإيمان بأن الكلام في الصفات فرع عن معرفة الذات. وهذه الأمور المجملة عن عقيدتهم في هذا الجانب هو الذي يتفق ونصوص الشرع, ويرتاح العقل إلى قبوله، فهو أمر منطقي لا تكلف فيه ولا هضم وهو الذي عاد إليه المتنطعون من أصحاب علم الكلام وأقروا به وأذعنوا وندموا على مخالفتهم له (1) بسبب تشبعهم بفلسفة اليونان وحكمائهم الجاهلين. وهذه العقيدة سهلة وواضحة بعيدة عن التصورات الباطلة ولهذا فقد أراحوا أنفسهم من الدخول في ظلمات الشكوك والتخيلات التي لا تقف عند حد فتجدهم يعبرون عن معتقدهم في هذا الباب بأنهم يؤمنون بكل ما أخبر الله عنه في كتابه أو أخبر عنه نبيه صلى الله عليه وسلم من صفات عليا. ويعرفون معنى كل صفة ويفوضون في الكيفيات ويعلمون أن صفات الله لا تشبه صفات خلقه معتمدين قوله عزّ وجلّ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] وينفون عنه كل صفة تشعر بالذم أو لم ترد في الكتاب ولا في السنة ويتوقفون في إطلاق الأسماء والصفات عليه جل وعلا إذا لم ترد في الكتاب والسنة. وهذا بخلاف ما عليه غيرهم من أهل الكلام ممن ينتسبون إلى الإسلام وممن لا ينتسبون إليه مثل اليهود والنصارى فإن اليهود: وصفوا الله تعالى بصفات النقص والذم ومثلوه بخلقه وقد أخبر عزّ وجلّ عنهم أنهم وصفوه بالبخل قال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] ووصفوه بالفقر كما قال تعالى عنهم لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء [آل عمران:181] ووصفوه في التوراة وفي التلمود بأنه يتعب ويندم ويبكي ويلهو مع حواء ويعقد شعرها ويلعب مع السمكة الكبيرة وأنه يقرأ التوراة كل يوم وقبل النوم وأنه لا يعرف الأشياء إلا بعد وقوعها وأنه مثل الأخطبوط وأنه يكتب بالقلم ووصفوه بالنسيان الكثير والوقوع في الأخطاء والتوبة منها وغير ذلك من الصفات التي ملئت بها التوراة مما لا يتسع المقام لبسطه هنا. ولم ينتشر التشبيه والتجسيم إلا من قبل اليهود المفترين، وأما النصارى فإنهم في صفات الله تعالى على وفق ما عليه الوثنيون لأن النصرانية التي أحدثها بولس هي عين الوثنية ولهذا راقت في نظر قسطنطين وسائر الوثنيين من أباطرة الرومان فتظاهروا بأنهم على النصرانية. وقد مدحوا بعض من يؤلهونهم بكل صفات الله تعالى وتقدس كما ادعوا في المسيح عليه السلام وادعوا أن لله ولداً وصاحبة –المسيح وأمه- وأن المسيح يجلس إلى جوار أبيه وأنه وحيد الله تعالى وغير ذلك من عقائدهم الباطلة التي تبرأ منها المسيح ومن معتقديها في الدنيا والآخرة كما بين الله تعالى ذلك في كتابه الكريم.   (1) كالجويني والرازي وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 تمهيد تعددت الفرق الإسلامية وتباينت مفاهيمهم وادعت كل طائفة أنها هي التي على الحق وغيرها على الباطل. وقد تقدم أنه لا عبرة بادعاء أي طائفة وأن العبرة إنما هي بعرضها على الكتاب والسنة فما وافقهما فهو على الحق وما خالفهما فهو على الباطل كائناً المخالف من كان, وكان لأهل السنة بتوفيق الله موقفهم المتميز بين تلك الفرق كلها. وسيجد القارئ إن شاء الله ما يوضح له الحق ويبين له وسطية أهل السنة في مسائل العقيدة بالنسبة للفرق الأخرى ممن ينتسبون إلى الإسلام من خلال ما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 المطلب الأول: وسطيتهم بالنسبة لأسماء الله تعالى وصفاته بين الفرق المنتسبة إلى الإسلام موضوع الأسماء والصفات من أهم مواضيع العقيدة ومن أكثرها مجالاً لخلافات الناس ولقد كانت من أسهل المواضيع ومن أقلها إشكالاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن خلفائه الكرام ولهذا لم يبحثوها ولم يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها لعلمهم التام وعقولهم الراجحة ومعرفتهم أن الكلام في الصفات فرع عن معرفة الذات حتى إذا ما ظهر قرن الشيطان من وراء علوم اليونان وفلسفاتهم وعلوم الكلام ومتاهاته. فإذا بها كما وصف المتنبي شعره ولغته (ويسهر الخلق جراها ويختصم). وأخذ الخلاف فيها أشكالاً عديدة ووقعت الفتن التي لا يعلم مداها إلا الله وحده ولا يزال المسلمون يجترون آثارها إلى اليوم في مناقشات ومجادلات عقيمة سخيفة لا تسمن ولا تغني من جوع ولا يزداد بها الشخص إلا جهلاً وضلالاً وبعداً عن الفهم الصحيح لحقيقة الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته، وتظهر وسطية أهل السنة في باب الأسماء والصفات بمقارنة عقيدتهم بعقائد المخالفين من الفرق ذلك أن أهل السنة يؤمنون بأن لله أسماء وصفات حسنى وصف بها نفسه في كتابه الكريم وعلى لسان نبيه العظيم آمن بها السلف كما وردت من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل. - والمعتقد الأسلم والأعلم والأحكم التي حاد عنها أصحاب الأهواء والبدع عقوبة لهم على تركهم الكتاب والسنة وطريق المؤمنين وتقديمهم لأفكار الملاحدة من عتاة الحضارة اليونانية والهندية وغيرها وإذا نظرنا إلى عقائد أصحاب الأهواء والانحراف فسنجد أن بينهم وبين عقائد أهل السنة تفاوتاً بعيداً وتعارضاً صارماً، أما أهل التعطيل، فقد كان إيمانهم بصفات الله تعالى على أسوأ الاضطراب فقد نفوا عن الله تعالى اتصافه بالأسماء أو بالصفات بحجة تنزيه الله تعالى عن التشبيه كما قرره زعيمهم الجهم بن صفوان في أن إثبات أي صفة أو اسم لله تعالى فيه مشابهة لله بخلقه وهو كفر حسب زعمه فيجب عدم إثباته. ومذهب الجهمية هذا كان أصرح من مذهب المعتزلة الذين أثبتوا أسماء الله تعالى ولكنهم نفوا صفاته ونفوا أن تدل الأسماء على معان ومدلولات وقد أرجعوا الصفات إلى الذات فقالوا سميع بذاته عليم بذاته ... إلخ. وهذا الموقف الباطل يلحقهم بالجهمية إذ أن النتيجة واحدة وهي نفي الصفات ومدلولاتها. وأما الأشاعرة فقد تناقض موقفهم حيث أثبتوا الأسماء وبعض الصفات ثم أولوا أو نفوا بعضها الآخر أو أرجعوها إلى الإرادة والمشيئة لا غير ومعلوم أن ما نفوه عن الله تعالى يعتبر تعطيلاً ويلزمهم أن يقولوا فيما نفوه مثل قولهم فيما أثبتوه وإلا كان إثباتهم ونفيهم تحكماً بلا دليل صحيح ومن هنا كان هؤلاء محل نقمة جميع الفرق عليهم أهل السنة والمعتزلة والجهمية وإذا كان من تقدم ذكرهم عطلوا الله تعالى عن ما يستحقه من معاني الأسماء الحسنى والصفات العليا فقد قابلهم فريق آخر من أصحاب الأهواء وهم المشتبهة ومذهبهم أن الله عزّ وجلّ في صفاته وأسمائه مثل الإنسان تماماً وذهب غلاتهم كهشام بن الحكم الرافضي وهشام بن الحكم الجواليقي ومقاتل بن سليمان وداود الجواربي وغيرهم إلى وصف الله عزّ وجلّ بأوصاف يتنزه عنها جل وعلا افتروا فيها على الله تعالى وطرقوا باباً حجبه الله عن الخلق وكل تلك الآراء مجانبة للحق بعيدة عن الصواب لأنها قامت على غير أساس ثابت كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ [إبراهيم:26]. بسبب إعراضهم عن الحق الذي هدى الله إليه السلف وبسبب تشبعهم بعلم الكلام والفلسفة والمنطق وظنهم أنهم على شيء وأنهم أوتوا علماً غزيراً وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ [السجدة: 22] ومعلوم بالعقل أن الله تعالى لو سأل الشخص وقال له لماذا أثبتَّ لي الأسماء والصفات فأجابه بأني آمنتُ بها كما نطقتُ بها لكان هو الجواب الحق وهو أمر بدهي ولولا تنطع أصحاب الأهواء لما توقف أحد عن الإيمان بهذا فإن الله تعالى أعلم بنفسه وبما وصفها به من صفات عليا وأسماء حسنى وله المثل الأعلى. فأهل السنة أثبتوا الأسماء والصفات دون أن ينساقوا إلى التشبيه بل لم يخطر في أذهانهم أن إثبات الأسماء والصفات يستلزم المشابهة والمماثلة لمعرفتهم أن الاتفاق في التسميات لا يلزم منه الاتفاق في الذات كما أنهم لم يعطلوا الله تعالى عن دلائل أسمائه وصفاته التي وصف بها نفسه بل أثبتوا من الأسماء والصفات ودلائلها كما يليق به تعالى وهو المسلك الحق الذي يجب اتباعه ونبذ ما عليه المعطلة والمشبهة أهل الإفراط والتفريط, ومثل وسطية أهل السنة والجماعة في هذا الباب وسطيتهم كذلك في الأمور الأخرى مثل ما يتعلق بأهل المعاصي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 المطلب الثاني: وسطيتهم في الحكم على أصحاب المعاصي وتظهر وسطية أهل السنة في أصحاب المعاصي من خلال معرفة حكمهم عليهم في الدنيا والآخرة وحكم المخالفين عليهم في الدنيا والآخرة أيضاً. فما هو حكم أصحاب المعاصي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم عند أهل السنة؟ والجواب: عند أهل السنة حكم العاصي في الدنيا أنه لا يخرج عن اسم الإسلام ويقال له مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وأما في الآخرة فحكمه إلى الله تعالى إن شاء غفر له وإن شاء عاقبه ولا يخلد في النار مثل سائر الكفار إن دخلها، وهذا هو الذي تجتمع عليه النصوص من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. أما غير أهل السنة فكانوا بين إفراط وتفريط في الحكم على العاصي فقد حكم عليه بعضهم كالخوارج بأنه كافر في الدنيا ومخلد في الآخرة في النار أو هو في منزلة بين المنزلتين في الدنيا فلا هو مؤمن ولا هو كافر ولكنه في الآخرة مخلد في النار، وهذا حكم المعتزلة وقابلت الجميع المرجئة فحكموا بإيمانه إيماناً كاملاً في الدنيا وهو في الآخرة مع النبيين الصديقين والشهداء. وحجة الجميع تتفق في أنهم يرون أن الإيمان كشيء واحد لا يتبعض فلا يزيد ولا ينقص فإما يكون الشخص عاصياً –والعاصي ليس بمؤمن- وإما أن يكون طائعاً –وهو المؤمن- وحكم الكافر والمؤمن معروفان في الإسلام. وبالتأمل في موقف أهل السنة من أصحاب الذنوب وموقف من سواهم ممن ذكرنا تتضح بجلاء وسطية أهل السنة وصدق قول الله تعالى فيهم: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 المطلب الثالث: وسطيتهم في الإيمان بالقدر كما تظهر وسطيتهم في كل الأمور العقدية الأخرى التي خالف فيها أصحاب الأهواء والبدع ومنها قضية الإيمان بالقدر فإن قضية القدر من المسائل الشائكة التي يجب فيها التسليم والرضا. وكان لأهل السنة موقفهم الذي يعضده النقل معاً فقد تأكد في مذهبهم أن القدر سر الله تعالى وأن الواجب على المسلم الإيمان به دون تعمق لما وراء الأدلة وترك الاحتجاج به على فعل المعاصي والإيمان بتقدير الله تعالى لكل الأمور بمشيئته، وأن الله هو الخالق لكل شيء بما فيها أفعال العباد ولكنها لا تسمى فعل الله بل هي أفعال العباد والله هو الذي أقدرهم على فعلها ولو شاء لما فعلوها كما قال تعالى: وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ [البقرة:253] وهي مشيئته الكونية العامة وهذا بخلاف ما تقوله الجبرية الذين يرون أن الله هو الخالق لها ثم يضيفون قولهم الخاطئ أن العباد لا قدرة لهم على الفعل وإنما هم كريشة في مهب الريح وأن الخالق والفاعل معاً هو الله تعالى, ومن هنا نشأ خطأهم، وكذلك خطأ القدرية الذين زعموا أن العبد هو الخالق لفعله وقدرته وإرادته دون أي تدخل من الله تعالى, ومن هنا وصفوا بأنهم يثبتون خالقين مع الله تعالى مشابهة للمجوس، وأهل السنة توسطوا في ذلك كما عرفت سابقاً فأثبتوا مشيئة الله الكونية والشرعية وقدرة الله على كل شيء وأثبتوا أن العبد له قدرة ومشيئة لا تخرج عن مشيئة الله تعالى وقدرته وهو الفاعل للفعل حقيقة. وموقف القدرية والجبرية الخاطئ يعود إلى عدم فهمهم لإرادة الله ومشيئته فهماً صحيحاً على الطريقة التي سار عليها السلف وهي الإيمان بأن لله مشيئة وإرادة لا يخرج أي شيء عنهما فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ثم يعود كذلك إلى عدم تفريقهم بين الإرادة والمحبة, ذلك أن الإرادة إما أن تكون كونية وهي الإرادة العامة لجميع الموجودات ودليلها قوله عزّ وجلّ: وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253] وإما أن تكون الإرادة شرعية وهي التي تتعلق بمحبة الله تعالى ورضاه عن الشيء كقوله تعالى: وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء:27] وأهل السنة يؤمنون أن الإرادة الكونية هي التي تعلقت بكل شيء حتى معصية العاصي فلا يلزم منها التفرقة بين ما يحبه الله وما لا يحبه. أما الإرادة الشرعية فهي التي تعلقت بمحبته ورضاه فهو وإن كان قدَّر وقوع الشر كوناً لكنه في الإرادة الشرعية لم يرضه ولم يحبه فهو لا يحب الظالمين ولا الفاسقين ولا العاصين. أما بالتأمل في مذهب المخالفين فنجد أن المعتزلة لا يفرقون بين الإرادتين الكونية والشرعية فيعتقدون أن كل ما أراده الله فقد أحبه. وبذلك توصلوا إلى أن المعاصي لا يريدها الله تعالى ولا يحبها وبالتالي فلم يأمر بها ولا إرادة له في وقوعها وإلا لكان مريداً للمعاصي وبالتالي فلا يعاقِب عليها حسب زعمهم. بينما ذهبت الجبرية إلى عدم التفريق بين الإرادتين أيضاً ولكنهم ناقضوا المعتزلة فقالوا كل ما يقع من أفعال خيِّرة كانت أم شريرة طاعة أم معصية كلها بإرادة الله تعالى ومحبته ورضاه وإلا لما وقعت فاحتجوا بالقدر على أفعالهم كالمشركين الذين احتجوا بمشيئة الله ورضاه على وقوعهم في الشرك وفي التحليل والتحريم. وبالتأمل في مذهب أهل السنة والمخالفين لهم يتضح تماماً وسطية أهل السنة بين غلو القدرية والجبرية وعدم وقوف القدرية والجبرية عند الحق الذي هدى الله إليه أهل السنة بلطفه وكرمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 المطلب الرابع: وسطيتهم في موقفهم من الصحابة رضي الله عنهم وكما توسط أهل السنة في تلك المعتقدات السابقة توسطوا أيضاً في قضية أخرى تتعلق بالصحابة رضوان الله عليهم وقبل بيان هذا الجانب أقول أن العقل لا يكاد يتصور أن يمس جانب الصحابة بأدنى أذى احتراماً لهم وتوقيراً واعترافاً بجميل ما قدموه للبشرية جمعاء وأياً كان الحال فقد وقعت الخصومة فيهم بين مختلف الطوائف التي تنتسب إلى الإسلام وكان لأهل السنة موقفاً مشرفاً منهم كانوا به وسطاً فيهم فكيف تم ذلك؟ وقف أهل السنة بالنسبة للصحابة بين غلو الغالين وتقصير المخالفين وقد تميز موقفهم منهم بأمور كثيرة منها: 1 - أن الصحابة هم خير البشر بعد محمد صلى الله عليه وسلم. 2 - الاعتراف بكل ما ذكر عنهم من الفضائل في القرآن والسنة وأقوال أهل العلم. 3 - السكوت عما شجر بينهم من اختلاف وفتن داخلية ولا نذكرهم إلا بخير. 4 - الشهادة بالجنة لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بها أو جاءت في القرآن. 5 - الاعتراف بأنهم كلهم على فضل ولكنهم يتفاضلون فيما بينهم وأن أفضلهم على الإطلاق أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم جميعاً دون انتقاص لفضل كل منهم وأن خلافة كل واحد منهم ثابتة على النهج الصحيح وأن من أسلم قبل الفتح وبيعة الرضوان أفضل ممن أسلم بعد ذلك. 6 - الاقتداء بهم والتحلي بفضائلهم واقتفاء آثارهم. 7 - لا نرفع أحداً منهم فوق منزلته ولا ندعي له فضائل لم تثبت وهم في غنى عن مدحهم بما لم يثبت لهم. 8 - الإيمان بأن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم طاهرات مطهرات وأنهن أمهات المؤمنين ويؤمنون بوجوب محبة أهل البيت ويقدمونهم وفق وصية النبي صلى الله عليه وسلم بهم دون إفراط ولا تفريط. 9 - لا يدّعون عصمة أي شخص كائناً من كان مع الاعتقاد أن من جاء بعدهم لا يصل إلى جزيل ما أعد الله لهم من الثواب لأن مُدَّ أحدهم خير من إنفاق مثل جبل أحد ذهباً من غيرهم. 10 - لا يكفرون أحداً من الصحابة ولا اعتبار للمرتدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. 11 - يتولون الصحابة كلهم ويترضون عنهم بخلاف الرافضة وغيرهم من الفرق الضالة وبهذه المزايا التي اتسم بها أهل السنة كانوا وسطاً فيما يتعلق بجانب الصحابة وستتضح وسطيتهم من خلال ما تلاحظه في مواقف المخالفين لهم فيما يأتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 فالخوارج كفّروا الصحابي الجليل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكفروا كل من شارك في قضية التحكيم وتبرؤوا منهم بل وأوجبوا لهم النار كما تبرؤوا من الحسن والحسين وكفروا الخليفة ذي النورين أيضاً رضي الله عنه وكذا طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم جميعاً وهذا الموقف منهم غاية في الغلو المذموم وجرأة ممقوتة على هؤلاء الأخيار وقد تبعهم في هذا الموقف الشنيع بعض كبار المعتزلة كواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد حيث قالوا بفسق أصحاب الجمل وعلي ومعاوية ومن معهم من أهل صفين ومن عثمان كذلك رضي الله عنه، وهذا قول عمرو بن عبيد وأما شيخه واصل بن عطاء فقد قال بفسق أحد الفريقين دون تعيين كما تتبرأ المعتزلة من معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما وبالجملة فإن المعتزلة كان موقفهم من الصحابة قريب من مواقف الخوارج في غلوهم متناسين ما قدمه أولئك الفضلاء من خيرٍ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بل غلبوا ما تصوروه عنهم من بعض المواقف التي لم يفهموا تفسيرها أو كانت تخالف آراءهم الاعتزالية فوقفوا منهم تلك المواقف الشنيعة وخالفوا ما أمرهم الله به من الاستغفار والترحم والترضي على من سبق بالإيمان فضلاً عن خيرة الناس بعد الأنبياء والمرسلين. وأما الرافضة فقد كان موقفهم من صحابة نبي الله صلى الله عليه وسلم سبة وعاراً فقد وصلوا في حمقهم وغبائهم أن شتموا الصحابة بل وتقربوا بسبهم إلى الله تعالى ولهذا كان النصارى أعقل منهم حين قيل لهم من خير أهل ملتكم؟ فقالوا أصحاب عيسى وكان اليهود أعقل منهم حين قيل لهم من خير أهل ملتكم؟ قالوا أصحاب موسى أما الرافضة فإنهم لو قيل لهم من شر أهل ملتكم لقالوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, عليه ولهذا نجد كثيراً من المسلمين الذين هم على الفطرة يترضون عن جميع الصحابة وما أن يدخل الشخص في مذهبهم إلا وأصبح لعن الصحابة وخصوصاً من شهد له الله تعالى بصحبة نبيه من أول التزاماته العقدية. فما الذي سيجنيه المسلمون من شخص يزعم أنه مسلم وهو عدو مبين لسلف هذه الأمة مقتدياً بابن سبأ والحاقدين من أصحاب الديانات التي قضى عليها الفتح الإسلامي على أيدي الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وإذا كان موقفهم تجاه الصحابة كله موقف عداء وبغض وشتم فإن موقفهم تجاه أهل البيت وعلي بخصوصه أشد شناعة وعداوة وإن كان ظاهرهم أنهم يحبونهم ويتشيعون لهم ذلك أن التاريخ كله يشهد بأن أكثر المآسي وأفدحها التي وقعت لأهل البيت كان وراءها عقول الرافضة وسيوفهم ابتداء بأمير المؤمنين علي رضي الله عنه وابنه الحسين ومن جاء بعده من أهل البيت الذين استدرجهم الرافضة للخروج على الدولة الأموية ثم خذلانهم في أحرج المواقف كما وقع لمسلم بن عقيل والحسن بن علي وزيد بن علي بن الحسين وابنه يحيى وغيرهم. ولقد غلا الرافضة غلواً فاحشاً في حق علي رضي الله عنه ورفعوه إلى منزلة أحرق من قال بها في حياته وهي تأليههم له. فقد فضلوه على سائر الصحابة وادعوا أنه سيرجع قبل يوم القيامة وأنه خير الأوصياء وأنه لم يجمع القرآن كما أنزل إلا هو. وأن أهل بيته كلهم من الأئمة المعصومين عن الذنوب والخطايا وأنهم يعلمون الغيب وأنهم لا يموتون إلا بإذنهم وإرادتهم وأنهم أفضل من الأنبياء والمرسلين وعندهم الجفر والجامعة ومصحف فاطمة وأنهم يوحى إليهم وغير ذلك من غلوهم الفاحش المدون في كتبهم يتوارثونه خلفاً عن سلف كما في كتابهم الكافي للكليني وغيره. وفي المقابل صبوا جام غضبهم على الخلفاء الثلاثة وأم المؤمنين عائشة وحفصة وسائر الصحابة وأنهم حسب افترائهم ارتدوا عن الإسلام وخصوصاً من حضر غدير خم لعدم مبايعتهم علي بن أبي طالب بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ولولا أن الحديث لا يتطلب تفصيل هذه الافتراءات والأباطيل لكان إثبات ذلك عنهم من مراجعهم من أيسر الأمور فليرجع إليها الباحث عن الحق النهم بالمعرفة ليقف على كل ضلالات الرافضة وخروجهم عن الحق وليظهر له توسط أهل السنة والجماعة في موقفهم من كل صحابة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وفيما تقدم إشارة كافية للبيب (1). المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 176   (1) ارجع لمزيد من التفصيل كتاب وسطية أهل السنة بين الفرق د. محمد باكريم وإلى ما يخص فرقة الرافضة ضمن هذه الموسوعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 الفصل التاسع: علامات وسمات الفرقة الناجية وعلامات وسمات الفرق الهالكة (مزايا العقيدة السلفية وأصحابها) امتازت عقيدة السلف بمزايا عظمية ميزتهم عن جميع العقائد التي قامت على الهوى وما أفرزته العقول البشرية. لأن العقيدة السلفية مصدرها غير مصدر العقائد البدعية فلا بد أن يحصل بينهم التمايز وإضافة إلى أنها قامت على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فإنها لم تدنس بعلم الكلام والمنطق وسائر ما أفرزته عقول فلاسفة اليونان وغيرهم, بل هي عقيدة نقية تملأ النفوس يقيناً وطمأنينة وأتباعها يعظمون كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يجتمعون عليها ولا يتفرقون في ثبات عظيم كثبات عقيدتهم الناصعة التي رضيها الله عزّ وجلّ وهدى أحباءه إليها. فقد انعكست هذه العقيدة بصفائها على معتنقيها فصاروا أثبت الناس على الحق بخلاف أهل الأهواء الذين تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه وسبب ثباتهم يعود إلى يقينهم بصحة ما هم عليه واقتناعهم به, وهم من أكثر الناس اتفاقاً وأقلهم اختلافاً لأن هدفهم أصبح واحداً وتفكيرهم واحداً وهذا التوحد سببه تمسكهم بعقيدة واحدة, وثقتهم أن السلف من قبلهم كانوا على الحق والصراط المستقيم فاحتذوا أثرهم وسلكوا مسالكهم وأخلصوا في نشر عقيدتهم فملأت الدنيا نوراً وأخرج الله بهم أقواماً من الظلمات إلى النور ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام وكانوا أمة وسطاً عدولاً يستحقون ثناء الله وثناء رسوله عليهم وكانوا من أحرص الناس على اجتماع الكلمة وعدم التفرق في الآراء والأفكار ولا أدل على هذا من أن بعضهم كان إذا اختلف مع آخر في قضية واشتد الخلاف بينهم وخشي أن تكون فتنة كان يترك خلافه لأخيه حباً في اجتماع الكلمة وكراهية للتفرق كما يذكر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ولهذا استحقوا أن يسموا أهل السنة والجماعة وهما وصفان يدلان على أفضليتهم وحسن ما هم عليه من السلوك الحميد والمعتقد السليم. وإذا كنا نذكر سماتهم هنا وسمات غيرهم من أهل الأهواء فإنما ذلك على حد ما قال الشاعر: (وبضدها تتميز الأشياء) والناظر في مذهب السلف والخلف يجد لكل منهم علامات تميزهم نابعة عن اعتقاد كل منهم لأنه كما يقال: (كل إناء بالذي فيه ينضح). فلأهل السنة علامات وصفات ولغيرهم من المخالفين علامات وصفات ولا تشكل على طالب العلم التمييز بينها. فإن المتتبع لسلوك السلف سيجد أنهم تميزوا بصفات كثيرة منها: أنهم أعرف الأمة بالحق. وأرحم الأمة بالخلق. وأرحم الناس بخصومهم من بعضهم البعض. ومن أشد الناس رجوعاً إلى الحق وانقياداً له ووقوفاً عنده. ومن أشدهم رحابة صدر ودماثة خلق وتسامح وإنصاف في حال قدرتهم على المخالفين لهم. ومن أكثرهم تواضعاً وتلطفاً وأبعدهم عن السباب والفحش وسيء الأخلاق. لا يشمتون بأحد ولا يظهرون الاستهزاء إلا بالقدر الذي يتبين به غرضهم من الرد على المخالفين إن كان ذلك ضرورياً. ولقد كانت لهم مواقف تشهد بنبل أخلاقهم وحبهم للتسامح والشفقة على المخالفين يتمثلون ما كان عليه نبيهم الكريم من الصبر حينما كان يؤذيه قومه وهو يقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) (1) والأمثلة على هذا كثيرة سجلها التاريخ لهم وتاريخ الصحابة مليء بالأمثلة المشرفة ومن ذلك: - مواقفهم في سقيفة بني ساعدة. - مواقفهم تجاه أهل الذمة. - مواقفهم في حال الحرب مع المخالفين. - مواقفهم في الحفاظ على العهود والمواثيق.   (1) رواه البخاري (3477). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وكان نصيب الخلفاء الراشدين من تلك الصفات القمة والحظ الأعلى ومن اطلع على تاريخهم عرف ذلك فهذا الخليفة الصديق صاحب النبي صلى الله عليه وسلم كان من أشد الناس شفقة ورحمة بالمخالفين له وفي غاية التسامح مع كل من أساء إليه يبادر بالعفو إذا ذُكّر به مهما كان الحال. وقصته مع مسطح خير دلالة على ذلك فإنه حين غضب عليه لمشاركته مع أصحاب الإفك وكان ينفق عليه آلى على نفسه أن لا يُنفق عليه بعدها فلما أنزل الله تعالى: وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور:22] فرجع ينفق عليه حباً في مغفرة الله. ومواقف أخرى عديدة كلها تدل على تأصل هذه الصفة في نفسه، ومثل موقفه حين تشاجر مع عمر وشكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم على عمر واحمر وجهه وأخذ يعاتبه حتى أشفق أبو بكر على عمر وهدّأ من غضب الرسول صلى الله عليه وسلم شفقة بعمر رضي الله عنهما. وكذلك عمر الفاروق رضي الله عنه فقد كان من أشد الناس رحمة على رعيته وأبنائه، وكل المسلمين كانوا عنده كأنهم رجل واحد يتعهد فقراءهم فيواسيهم ويرشد ضالهم ويعلمه وقصته مع المرأة التي باتت تعلل بنيها بالماء فوق النار توهمهم أن بها أكلا ليناموا فلما وقف عليها عمر رضي الله عنه وسألها عن حالها وشكت فقرها فذهب وجاء بالدقيق والسمن وكان ينفخ النار والدخان يخرج من خلال لحيته حتى أنضج لهم الطعام ولم ينصرف إلا والأطفال يلعبون فرحين من الشبع. وكان من رحمته برعيته أنه كان يبذل النصيحة ويرشد المخطئ حتى في أحرج المواقف فقد دخل عليه رجل يعوده حين طعنه أبو لؤلؤة المجوسي فلما خرج الشاب رأى عمر أن ثوبه طويل فاستدعاه وهو في تلك الحال التي كان يجود بنفسه فيها وقال له: ارفع ثوبك يا ابن أخي فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك. وما فعله مع صبيغ من تأديبه لإرجاعه إلى الحق وغير ذلك من المواقف التي تدل على رحمته وحبه للمسلمين. وكذلك عثمان رضي الله عنه وما كان يتصف به من الرقة والحياء والكرم أمر مشهور في كتب التاريخ فقد كان سريع العفو لا ينتقم لنفسه محباً للعافية تجاه رعيته فقد واساهم في زمن المجاعة ابتغاء مرضاة الله بقافلة من الشام وقعد لتمريض زوجته رضي الله عنهما بل عفا عن البغاة الذين أتوا للنقمة عليه في المدينة. ومثلهم علي رضي الله عنه وما ميزه به الله من الأخلاق الطيبة والرحمة بالمساكين والعطف على رعيته وتقديم نفسه في المعارك حماية للمسلمين ودفاعاً عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وإذا تجاوزنا الحديث عن بقية الصحابة الكرام ومآثرهم العظيمة وانتقلنا إلى علماء السلف من المسلمين فإننا نجدهم من أرحم الناس وأشدهم شفقة على المخالفين وأنصحهم لهم ويأتي في أول هؤلاء إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله وتاريخه مع القائلين بخلق القرآن وما لقيه من الآلام التي تنفطر لها القلوب خير شاهد على ذلك وعلى محبته للمسلمين ولقد ابتلي بالضراء فكان أصلب من الرواسي وابتلي بالسراء فكان شديد الحلم والتواضع لم تخضعه نقمة ولم تستخفه نعمة. وتاريخ السلف غني بالرجال الأفذاذ فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية كان من أحرص الناس على بيان الحق ومن أشدهم عفواً عمن ظلمه لم يبال بالسجن والإهانات التي وجهت له من قبل المخالفين الحاقدين عليه وطالما تمكن من الانتصاف منهم ولكنه كان يبادر إلى العفو عنهم ولا يطلب منهم إلا معرفة الحق والتبصر في الدين قال رحمه الله عن إنصاف أهل السنة وشفقتهم بمخالفيهم: (أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم وإن كان ذلك المخالف يكفرهم لأن الكفر حكم شرعي فليس الإنسان أن يعاقب بمثله كمن كذب عليك وزنى بأهلك فليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله لأن الكذب والزنى حرام لحق الله وكذلك التكفير حق لله فلا يكفر إلى من كفره الله ورسوله) (1). وإذا تجاوزنا تاريخ تلك الحقبة ورجالاتها إلى رجال العصور الأخيرة من السلف فسنجد رجالاً كانوا مثال الأخلاق الفاضلة وحب الخير للناس جميعاً ومن أشدهم رحمة بكل المسلمين حتى المخالفين منهم وفي أول هؤلاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الذي بذل نفسه لخدمة العقيدة وتفهيم الناس بدينهم الصحيح. وكذا من سار على طريقته مثل الشيخ عبد الله القرعاوي رحمه الله، الذي أخرج الله به أقواماً من الظلمات إلى النور ومن الشرك إلى التوحيد ومن الخرافات الجاهلية إلى الحقائق الإسلامية في منطقة جيزان ففتح الله به القلوب ونور به البصائر وكان رحمة من الله تمكن حبه في القلوب وتمكنت دعوته في النفوس ولن تزال أبداً إن شاء الله قوة راسخة. هذه نماذج سقتها على عجل مكتفياً بمن تقدم ذكرهم كأمثلة مشرفة لسلف هذه الأمة وما امتازوا به من حميد الصفات وهناك مئات الأمثلة التي لا تكاد تحصى إلا بالكلفة. ومن المعلوم أن هذا التسامح ليس هو تسامح العاجزين فقد كانوا فرسان الوغى وليوث الحروب لا يخافون إلا ربهم من فوقهم وإنما هو تسامح الواقف عند الحق المقدم له الراضي به, أما بالنسبة لسمات أهل البدع من الفرق الهالكة فقد اتصفوا بأسوأ الصفات التي أبانت عن سوء معتقداتهم لعدم تحليهم بآداب السنة الغراء وهو أمر بدهي فإن المخالف لها لا بد أن يركب هوى نفسه والهوى من أخطر المطايا وأسرعها إلى الهلاك ومخالفة الشرع. وبتتبع الصفات التي يتصف بها هؤلاء تجد أنها كثيرة ومنها: بغي بعضهم على بعض والتطاول في السباب. اختلافهم لأتفه الأسباب وكثرة تفرقهم. اتباعهم لما يهوون حسبما تمليه عليهم رغباتهم وتكفير بعضهم البعض وتكفير كل طائفة لما عداها. تتبعهم المتشابه وإثارة الخلافات حوله. بغضهم لأهل السنة واختراع الألقاب الباطلة لهم تنفيراً عنهم. بغض مذهب السلف وتسميته بالأسماء والألقاب الباطلة. قبولهم للروايات الكاذبة وعدم تحريهم النصوص الصحيحة. قبولهم للأخبار التي لا يصدقها العقل ولا تعضدها حجة. عدم اهتمامهم –كما يجب بالسنة النبوية- وتسلطهم عليها بالتأويل أو الرد بحجة أنها غير ملزمة مثل القرآن. وغير ذلك من الصفات التي عرفت عنهم قديماً وحديثاً.   (1) ((الرد على البكري)) (258). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 فالخوارج وهم أول الفرق الهالكة خروجاً تجد أنهم يتصفون بالجفاء والخروج عن الدين وضيق الأفق وتكفير المخالفين لهم واستحلال دمائهم وأموالهم فكانوا يقتلون المصلين في المساجد حينما يغيرون عليهم محكمين بزعم أنهم كفار وأن جهادهم قربة إلى الله، وقد كفروا خيرة الناس بعد الأنبياء والمرسلين من عظماء الصحابة رضوان الله عليهم مثل علي بن أبي طالب وعثمان وأبي موسى الأشعري ومعاوية وعمرو بن العاص والحسن والحسين وغيرهم من فضلاء الصحابة ومن سار المسلمين. وكفروا الناس بالمعاصي واستحلوا دماءهم بها وأوجبوا الخروج على الحكام لأتفه الأسباب فسفكوا من الدماء ما لا يعلمه إلى الله وحده وتفرقوا فيما بينهم تفرقاً لا يكاد يكون له نظير إذ كان أقل خلاف يحصل بينهم يختلفون ويتقاتلون لا يرعون في بعضهم إلاًّ ولا ذمة. فكانوا أشبه ما يكونون بالوحوش المسعورة لقي الناس منهم الأمرين وشغلوا الناس حكاماً ومحكومين وأذاقوهم الفتن المتلاحقة والويلات المتعاقبة، وما ذلك إلا لبعدهم عن هدي الكتاب والسنة وطريق سلف هذه الأمة وهو طريق من تركه ضل وارتكب الظلم وفعل المحرمات وخرج عن الحق وتلقفته السبل التي أخبر عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم لأنه حينئذ يصبح مثل البهيمة التائهة أو الجمل الذي لا خطام له. وبعد الخوارج نجد مثالاً آخر من تلك الطوائف وهم الرافضة الضالة الذين وقفوا أسوأ المواقف من الصحابة وسائر أهل السنة كما لا يخفى على طالب العلم. ثم نبغت المعتزلة الذين تشبعوا بآراء الخوارج وبعلم الكلام وآراء الشيعة فإذا بهم يملؤون كتبهم سباباً لأهل السنة والمتمسكين بها وإذا بهم يحرضون الحكام عليهم ليشفوا غيظ صدورهم وما فعله ابن أبي دؤاد بإمام أهل السنة وغيره من علماء المسلمين المخالفين لآراء هذه الفرقة الضالة لهو أقوى مثال على ذلك. ثم توالت الأمثلة على مر العصور فظهرت المرجئة والقدرية والأشعرية وغيرها من الطوائف الكثيرة الذين اتصفوا بضيق الأفق والشدة على كل من خالف آراءهم حتى وإن كان في المسائل البسيطة الاجتهادية، فكان المعتزلة لا يرجعون إلى كتاب ولا إلى سنة في مسائل الصفات ولا في أحكامهم على المخالفين لهم وإنما يأخذون ما تمليه عليهم عقولهم إضافة إلى الشبهات التي تلقفوها من علماء الكلام. ولذلك تقرر في مذهبهم أنه إذا تعارض العقل والنقل فإنه يقدم العقل ويؤول النص أو يترك. مع أنه في الواقع الصحيح لا تعارض أبداً بين العقل السليم والنص الصحيح وكذلك الجهمية وهم مشائخ المعتزلة الذين أسسوا كثيراً من الشبهات وفتحوا أبواب الجدل والخوض في مسائل العقيدة فضلوا وأضلوا وفرقوا الأمة وكانوا من أسوأ الناس أخلاقاً وفظاظة على المخالفين لهم ولعل القارئ قد سمع عن هذا النمط من المنحرفين وما يقولونه عن أهل الحق. ولعل القارئ أيضاً لا يخالفني في أن الكوثري في وسط أهل البدع والخرافات شيخ الإسلام رحمه الله في وسط أهل السنة والجماعة وكم للكوثري ولمشائخه ومن سار على نهجه من أفكار خاطئة وكم له من الردود والسباب والشتائم لأهل السنة ولعقيدتهم الصافية وقد صب جام غضبه على مشاهير أهل السنة على مدار تاريخهم وأطلق عليهم عدة ألقاب باطلة هم منها براء، جاءت منه على طريقة أهل البدع في التسرع إلى التكفير والسخرية بالصالحين لغلبة الهوى عليهم وضيق أفهامهم. وقد رد عليه علماء السلف قديماً وحديثاً ردوداً كالصواعق وبينوا أخطاءه بالدليل من الكتاب والسنة وإجماع الأمة مجانبين التجني عليه أو على غيره- كما هي عادتهم- في رأفتهم بالمخالفين وبالتالي دعوتهم بالتي هي أحسن. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف أهل الأهواء والبدع: ((إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه أولئك الذين سماهم الله فاحذروهم)) (1) وقد تحدث علماء السلف عن سمات الفرق الهالكة وأسباب تفرقهم وما أحدثوه في الدين تحدثوا من باب النصيحة والتحذير. فقد سأل عمرو بن قيس الحكم بن عتبة: ((ما اضطر الناس إلى هذه الأهواء أن يدخلوا فيها؟ قال الخصومات)) (2) وقال الفضيل بن عياض: ((لا تجادلوا أهل الخصومات فإنهم يخوضون في آيات الله)) (3) وفي مصنف عبد الرزاق أن رجلاً قال لابن عباس: الحمد لله الذي جعل هوانا على هواكم. فقال: كل هوى ضلالة)) (4).وعن أبي قلابة قال: ((ما ابتدع قوم بدعة إلا استحلوا السيف)) (5).وقال علي بن المديني: ((من قال فلان مشبه علمنا أنه جهمي ومن قال فلان مجبر علمنا أنه قدري ومن قال فلان ناصبي علمنا أنه رافضي)) (6). وأقوالهم في هذا كثيرة جداً وما قصدناه هو الإشارة التي يفهم بها اللبيب. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 194   (1) رواه البخاري (4547) ومسلم (2665) (2) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (1/ 82). (3) رواه الدرامي (406). (4) ((المصنف)) لأبن أبي شيبة (11/ 126). (5) ((الشريعة)) للآجري (1/ 46). (6) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (1/ 147). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 المبحث الأول: أشهر الأئمة لقد يسر الله تعالى لحفظ دينه رجالاً وهبوا أنفسهم لخدمة هذه العقيدة المباركة ويسر لهم الأمور ورزقهم الذكاء والإخلاص فنبغ منهم العلماء الفطاحل أصحاب البيان والسحر الحلال فكانوا جنوداً أوفياء لدينهم ما إن تظهر فتنة إلا ودفنوها ولا صاحب بدعة أو هوى إلا وحذروا منه فأقام الله بهم حجته على الناس، ومن الصعوبة بمكان حصرهم هنا وإنما نذكر ما يتيسر ذكره منهم كمثال على الثراء الفكري عند علماء السلف ومن هؤلاء: أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري. سفيان بن عيينة. مسلم بن الحجاج. ابن عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي. أحمد بن حنبل. علي بن المديني. أبو ثور إبراهيم بن خالد. أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم. أبو جعفر محمد بن جرير الطبري. الأئمة الأربعة (أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل). ابن كثير. ابن خزيمة. ابن القيم. سهل بن عبد الله التستري. ابن تيمية. وغيرهم الكثير ممن أثروا المكتبات الإسلامية بمؤلفاتهم القيّمة التي تشهد بإخلاصهم وتوفيق الله وعونه لهم ولا نزكي على الله أحداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 المبحث الثاني: أهم مؤلفات علماء السنة في بيان العقيدة السلفية والرد على المخالفين وقد ألّف علماء السلف في بيان عقيدتهم وإيضاحها والرد على المخالفين، المؤلفات الكثيرة مدعومة بنصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة وهي من الكثرة بحيث لا يكاد أحد يستطيع حصرها. ومن أجلّ علماء السلف ومؤلفيهم الإمام المبجل أحمد بن حنبل رحمه الله وله مؤلفات في بيان عقيدة السلف والذب عنها، منها ما دونه بنفسه ومنها ما دونه تلامذته في مؤلفاتهم. ومن كتبه في الحديث المسند وقد جمع فيه أحاديث كثيرة بيّن فيها عقيدة السلف ضمن تلك الأحاديث التي أوردها، وكتب في بيان العقيدة الكتب الآتية: (السنة)، (الإيمان)، (الرد على الزنادقة)، (فضائل الصحابة). ومنهم الإمام البخاري رحمه الله وقد أودع في (صحيحه) كثيراً من بيان عقيدة السلف وكذا كتابه (خلق أفعال العباد) و (الأدب المفرد) ومنهم الإمام مسلم رحمه الله وقد أودع في (صحيحه) أيضاً كثيراً من أبواب العقيدة، ومنهم: ابن ماجه في (سننه). أبو بكر بن الأثرم في كتابه (السنة). عبد الله بن مسلم بن قتيبة في كتابه (الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية). عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه (الرد على الجهمية) وكتابه (الرد على بشر المريسي). ابن أبي عاصم في كتابه (السنة). عبد الله ابن الإمام أحمد في كتابه (السنة). محمد بن نصر المروزي في كتابه (السنة). الإمام الطبري في كتابه (صريح السنة). الخلال في كتابه (السنة). ابن خزيمة في كتابه (التوحيد وإثبات صفات الرب عزّ وجلّ). الطحاوي في كتابه (العقيدة الطحاوية). الأشعري بعد رجوعه إلى مذهب السلف في كتابه (الإبانة عن أصول الديانة) والمقالات. عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتابه (الرد على الجهمية). الحسن بن علي البربهاري في كتابه (السنة). الآجري في كتابه (الشريعة) وكتابه (التصديق بالنظر إلى الله تعالى). أبو حمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأصفهاني في كتابه (العظمة). الدارقطني في كتابه (أحاديث النزول) كتاب (الصفات). ابن بطه – عبيد الله بن محمد بن حمدان بن بطة العكبري في كتابه (الإبانة – الصغرى والكبرى). ابن منده أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن يحيى بن منده في كتابه (الرد على الجهمية)، (الإيمان)، (التوحيد) بتحقيق د. علي ناصر فقيهي. ابن أبي زمنين في كتابه (أصول السنة). اللالكائي أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي في كتابه (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) بتحقيق زميلي د. أحمد سعد حمدان الغامدي. قوّام السنة أبي القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الأصفهاني في كتابه (الحجة في بيان المحجة) بتحقيق الزميل د. محمد ربيع ود. محمد أبو رحيم. أبو المظفر السمعاني في (تفسيره). الإمام مالك. ربيعة الرأي. سفيان الثوري. شيخ الإسلام ابن تيمية صاحب الباع الطويل في بيان عقيدة السلف وكتبه كثيرة مشهورة وقد احتوت الفتاوي على كثير منها. ابن قيم الجوزية وله عدة مؤلفات مشهورة. الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأهم مؤلفاته كتاب (التوحيد) المتداول بين طلبة العلم وكتاب (كشف الشبهات) وغيرهما من الرسائل التي كتبها وكذا الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي رحمه الله. وفي عصرنا الحاضر كتب كثير من الفضلاء في بيان السنة والرد على المخالفين مثل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وكذا الألباني رحمه الله وما ذكر سابقاً فإنما هو من باب التمثيل إذ أن حصر كتب السلف يكاد أن يكون مستحيلاً جمعه في هذه العجالة فالمكتبة الإسلامية ثرية بمؤلفات متنوعة بين الضخم والمختصر والنثر والنظم والأسئلة والأجوبة ولا يزال الخير في أهل السنة إن شاء الله إلى قيام الساعة كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم. رحم الله جميع علماء السلف ونفع بمؤلفاتهم جميع أهل الأرض إنه على كل شيء قدير. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 204 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الفصل الحادي عشر: تنبيهات مهمة على مسائل في العقيدة وفي الختام ننبه إلى ما وقع فيه بعض الناس من إطلاق عبارات ومفاهيم لا تتفق مع عقيدة السلف ومنهجهم بزعم أنها هي العقيدة الصحيحة السلفية. متأثرين فيها بشتى المذاهب المخالفة ومؤثرين في غيرهم ممن قلت معرفتهم بحقيقة مذهب السلف وكل ذلك ناتج عن جهل بحقيقة معاني تلك الكلمات وتلك المفاهيم وهي كثيرة بحيث لا يستوعبها وقت كتابة هذه العجالة ولكن أشير إلى أهمها ولأهميتها وخفائها أيضاً أحببت أن أنبه إليها إخواني طلاب العلم وكل من يراها نصيحة لهم ودفاعاً عن العقيدة تتمة لدراسة فرقة السلف الطائفة المنصورة جمعتها من شتى المصادر. ومن الملاحظ أن بعض هؤلاء الذين يخطئون في جوانب من العقيدة بعضهم على مستوى من المعرفة والثقافة ولكن الكمال لله تعالى والتذكير ينفعهم وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55] فقد يكون للشخص أخطاء في جوانب ولكنه في جوانب أخرى لا يشق له غبار. والمشكلة ليس الوقوع في الخطأ – فهذا شأن الإنسان – ولكن الخطأ هو الإصرار على الخطأ لأن الإصرار على الخطأ ليس من سمة طلاب العلم بل علامتهم وشعارهم دائماً وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114] والحكمة ضالة المؤمن فإن من طلب الزيادة في العلم زاده الله ومن أصر على ما عنده من المعرفة فقط فكأنه يقول بلسان حاله لا أريد زيادة على ما عندي والله تعالى يقول: وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85] وفيما يلي بيان ما تقدمت الإشارة إليه: - الزعم بأن التفويض في الصفات هو مذهب السلف وذلك أن عقيدة السلف في هذا هي الالتزام التام بما جاء في كتاب الله تعالى أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وفي الوحيين كل النصوص تؤكد على الإثبات في الصفات لا على التفويض وهو ما كان عليه الصحابة في اعتقادهم في باب الصفات وما كان عليه سائر التابعين ومن تبعهم بإحسان وسائر من كتب من السلف في العقيدة من المتقدمين والمتأخرين لم يخالف إلا من خرج عن هديهم. - ومن المزاعم الباطلة أيضاً قول البعض أن السلف يمرون الصفات كما جاءت دون فهم معانيها وهذا غير صحيح فإن السلف إنما يريدون بإمرارها كما جاءت في الكيفيات لا في معانيها فإن كيفية الصفات من الأمور المجهولة والسؤال عنها بدعة أما المعاني فواضحة ومعقولة. - الزعم بأن الله تعالى في كل مكان واستدلالهم بآيات معية الله لخلقه وتفسيرهم لها بأنها المعية الذاتية لله تعالى عن ذلك, فإن السلف فسروا هذه المعية من الله تعالى بأنها إحاطة علمه عزّ وجلّ بجميع ما يجري فلا يخفى عليه شيء وذاته تعالى فوق عرشه وهو مع كل مخلوق بعلمه وإحاطته. - الزعم بأن السلف يعتقدون أن الله في السماء أي في داخلها أو أنها تحيط به أو أنه بإحدى السماوات تحوزه تعالى الله عن ذلك فإن هذا ليس من أقوال السلف بل هو من أقوال أهل البدع لأن معنى أن الله في السماء أي في مطلق العلو فوق عباده وفوق عرشه هكذا عقيدة السلف كما قال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]. - الزعم بأن السلف مجسمة أو حشوية أو مشبهة أو جبرية أو قدرية أو نابتة أو غثاء أو غثراء أو غير ذلك من الألقاب التي أطلقت على السلف نبزاً لهم فإن مذهب السلف هو بخلاف ذلك كله كما اتضح في دراستنا السابقة. - الزعم بأن آيات الصفات من المتشابه قول لأهل البدع لا لأهل السنة الذين يعتقدون أنها من المحكم المعروف المعنى. - القول بأن الأشاعرة هم أهل السنة والجماعة أو أنه لا فرق بينهم وبين أهل السنة هذا قول من يجهل الفرق بينهم في قضية الصفات وغيرها من القضايا التي خالفوا فيها السلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 لأن أهل السنة يثبتون كل الصفات من غير تأويل ولا تحريف ولا تكييف ولا تمثيل والأشاعرة لا يثبتون الصفات كلها كما هو معلوم من مذهبهم بل يؤولون أكثرها بحجة التنزيه وهو اعتقاد فاسد لا يقره أهل السنة والجماعة. - القول بأن الأشاعرة هم المتمسكون بمذهب الأشعري رحمه الله، وهذا الخطأ نشأ من عدم اعتراف هذه الطائفة برجوع الأشعري رحمه الله إلى مذهب أهل السنة والجماعة كما صح عنه ذلك وكما قرره في كتبه كالإبانة والمقالات وغيرها وقد صرح بما لا خفاء به بأنه على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل الشيباني رحمه الله تعالى. - قول بعض أهل البدع ننزه الله عن التشبيه والتمثيل والتركيب والتبعيض وحلول الحوادث والجسم وتعدد القدماء .. إلخ. كلها من كلمات أهل البدع ولا شك أن السلف ينفون عن الله تعالى كل صفة لم ترد في الكتاب أو في السنة وبالنسبة لإطلاق بعض العبارات المجملة فإنهم يستفسرون من قائلها وماذا يقصده من كلامه مثل الجسم وغيره من الألفاظ المجملة ثم يحكمون عليه تبعاً لذلك. - تقسيم أهل السنة والجماعة إلى سلف وخلف وإن جميعهم يسمون بالسلف وبأهل السنة والجماعة. هذا خلط غير صحيح وجمع بين نقيضين فإن الخلف مؤولة الصفات وليسوا هم السلف المثبتة لها ويلتحق بهذا أيضاً ما أصله أهل البدع بقولهم مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم وهو تقسيم باطل وتفضيل للمؤولة والمحرفة على السلف أصحاب السنة والجماعة الذين مذهبهم أسلم وأعلم وأحكم. - الزعم بأنه يجب التأويل خصوصاً في بعض النصوص وأن من لم يؤولها وقع في الخطأ وأن من منع التأويل فإنه سيضطر هنا إليه وإلا كان كلامه باطلاً بزعمهم، وكذلك فإن من منع التأويل مطلقاً وقال به هنا كان دليلاً على تناقضه فيما يزعم هؤلاء الخلف ومن أمثلة ذلك: 1 - قوله تعالى: مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ [المجادلة:7]. 2 - وقوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16]. 3 - وقوله تعالى: وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ [القمر:13 - 14] 4 - وقوله تعالى: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]. 5 - وقوله تعالى: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ [الأنعام:158]. كما استدل المخالفون للسلف على وجوب التأويل بأحاديث من السنة النبوية زاعمين أن من لم يؤولها فإنه لا يكون سلفياً.1 - مثل قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال: ((ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه)) (1).2 - ومثله الحديث الآخر أن الله تعالى قال: ((ومن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)) (2).3 - ((الحجر الأسود يمين الله في الأرض)) (3) وقد زعم المخالفون للسلف أننا لو لم نؤول هنا لأصبحنا ملاحدة نؤمن بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود كما يزعمون.4 - حديث نزول الله تعالى في ثلث الليل الأخير إلى السماء الدنيا (4).   (1) رواه البخاري (6502). (2) رواه البخاري (7405) ومسلم (2675). (3) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (6/ 328) وقال منكر، وقال ابن تيمية في ((تلبيس الجهمية)) (6/ 137) ليس بثابت، وقال الألباني في ((الضعيفة)) (2685) موضوع. (4) رواه البخاري (1145) ومسلم (758) وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وقد زعم المخالفون للسلف أن تلك الآيات والأحاديث مما يتوجب فيها التأويل فقوله تعالى: إِلا هُوَ مَعَهُمْ [المجادلة:7] أي بعلمه لا بذاته وهذا المعنى للمعية هو الذي سماه المخالفون تأويلاً وهي تسمية غير صحيحة فإن معنى وهو معكم أي مطلع عليكم شهيد عليكم ومهيمن وعالم بكل ما تأتون وما تذرون ولا يمكن أن تفسر المعية في هذه الآية بغير هذا التفسير والمنزه الله تعالى لا يمكن أن يفهم منها معية ذاته جل وعلا إلا إذا أراد التعطيل أو التشبيه أو القول بوحدة الوجود. وأما الآية الثانية: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16] أي وملائكتنا وقدرتنا وعلمنا أقرب إليه من حبل وريده وقد وصف المخالفون هذا المعنى بأنه لجوء إلى التأويل وهو فهم غير صحيح فإنه ليس بتأويل بل هو على ظاهره صحيح فإن الملائكة يعملون بقدرته وإرادته وهم جنود له تعالى مطيعون ولهذا عبر بكلمة (نحن) المفيدة للتعظيم وإحاطة علمه تعالى بكل شخص ومخلوق صغيراً كان أو كبيراً. وأما الآية الثالثة تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] أي بحفظنا ورعايتنا لها وبمرأى منا وليس هذا من قبيل التأويل كما زعم المخالف بل هو المعنى الحقيقي ولهذا قال تعالى: بِأَعْيُنِنَا ولم يقل في أعيننا أي تجري على مرآه عزّ وجلّ وحفظه. وأما قوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22] فهو مجيء حقيقي ولا نحتاج إلى أي تأويل له للأدلة الأخرى من القرآن الكريم والسنة النبوية فمن أوله إلى مجيء أمره أو مجيء ملك كبير ونحو ذلك فقد خالف الحق ومذهب السلف إذ لا مانع من مجيء الله تعالى. وأما الآية: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام:158] فإن الجواب عنها هو كالجواب في وَجَاءَ رَبُّكَ فالإتيان والمجيء والنزول كلها صفات حقيقية نعرف معانيها ونتوقف في معرفة كيفياتها ولا نحتاج إلى أي تأويل لها. أما بالنسبة لما استدلوا به من السنة النبوية وأنه لابد فيه من التأويل وإلا لما كنا على السلفية بزعمهم فهو تكلف منهم وتقوية لمذهبهم في حب التأويل: 1 - أما الحديث الأول: فمعناه كما يفيده كلام العلماء أن العبد إذا أحب الله تعالى من خالص قلبه فإن عمله كله لا يكون إلا لله فلا يستعمل أعضاءه كلها إلا لله وفي مرضاته عزّ وجلّ فلا يسمع ولا يبصر ولا يبطش بيده ولا يمشي برجله إلا وفق ما أراده الله منه وبالتأويل يوفقه الله ويستجيب له وهذا هو المعنى الحقيقي وليس بتأويل كما يدعي غير السلف ولا حاجة إلى ركوب التأويل ما دام المعنى في غاية الوضوح. 2 - وأما الحديث الثاني: وهو قرب الله تعالى فقد وصف الله نفسه بالقرب فقال: فإني قريب وقربه صفة لا نعرف كيفيتها ولكنها ثابتة لمن تقرب إلى الله تعالى ومع أن الكون كله في قبضة الله تعالى ليس فيه قريب ولا بعيد لكنه عزّ وجلّ يكون إلى أوليائه أكثر قرباً وعناية وهو فوق عرشه ويقرب من عبده حسب مشيئته وإرادته عزّ وجلّ في زيادة العناية به. وإذا تصورنا هذا المفهوم فإنه لا حاجة بنا إلى التأويل فراراً من إثبات هذا القرب إذ لا يعقل أن يتصور أن الله يكون قريباً من كل خلقه بذاته عزّ وجلّ. 3 - وأما الحديث الثالث: فقد أراح الله منه فإنه حديث غير صحيح كما ذكره علماء الحديث وعلى فرض صحته فإنه لا يحتاج إلى تأويل إذ معناه يتضح في تمام الحديث بقوله:"فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 والمعنى واضح في قوله "فكأنما" أي ليس المراد أن الحجر الأسود هو صفة لله تعالى أو يد له عزّ وجلّ بل من قبله فله من الأجر مثل الذي يقبل يد الله تعالى وهذا المفهوم لا يحتاج معه إلى التأويل إذ لا محذور فيه فهو افتراض المقصود به حصول الأجر العظيم وما دام الحديث غير صحيح فلا حاجة إلى تكلف الجواب عنه. 4 - وأما حديث النزول: فمعناه ينزل جل وعلا حقيقة على صفة لا نعرفها ولا نكيفها مهما اختلفت الأوقات من بلد لبلد فكما أننا لا نعرف كيفية الصفات فكذلك كيفية النزول ولهذا فلسنا بحاجة إلى تأويل نزول الله تعالى بنزول أمره وقدرة الله عزّ وجلّ فوق ما يتصوره العقل فهو يرزق خلقه ويميتهم بمشيئته ويحاسبهم في وقت واحد كما أنه لا يمر وقت إلا وأمره وقضاؤه عزّ وجلّ نازل فلماذا نقصر نزول أمره على تلك الأوقات فقط لو لم يكن نزولاً حقيقياً لا يعلم كيفيته إلا هو عزّ وجلّ. - من الأخطاء في العقيدة كذلك قولهم عن الله تعالى: أنه الموجود الحق" لأن الموجود ليس من أسماء الله تعالى, أو قولهم:"المنفرد بالوجود الحقيقي" لأنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة أنهما من صفاته تعالى. وقولهم "واجب الوجود" أو العقل الأول أو الهيولى على إنما أسماء الله تعالى لأنها أسماء مبتدعة لله تعالى لم ترد في الشرع الشريف فلا نطلقها لا نفياً ولا إثباتاً وفي غيرها من أسماء الله تعالى ما يغني عنها. - "لا معبود سوى الله" جملة ناقصة صوابها "لا معبود بحق إلا الله" لأنه قد عبد غير الله وإله. - فلان شهيد. لفظ لا يجوز الجزم به لأن الشهادة علمها إلى الله تعالى ولا يشهد لأحد بجنة أو بنار إلا من ورد النص فيه. وقد تساهل الناس في أمر الشهادة حتى صاروا يقولون شهيد الحب شهيد الوطن شهيد الواجب شهيد الكرة ... إلخ. وهو تساهل يدل على جهل عظيم بمنزلة الشهداء عند الله تعالى. - بعضهم يعبر عن توحيد الله عزّ وجلّ بأنه خالق الكون ومدبره .. إلخ. والحقيقة أن هذا هو توحيد الربوبية الذي لا يدخل الشخص بالإقرار به في توحيد الألوهية حتى يقر بتوحيد الألوهية وإفراد الله تعالى بعبادته لا شريك له الذي بعث الله رسله من أجله لا من أجل تقرير توحيد الربوبية الذي تقر به الفطر والعقول السليمة على مر الدهور. - الزعم بأن السلفية ليست مذهباً معروفاً كلام باطل وتجاهل لطائفة أهل السنة والجماعة كما ذكرنا سابقاً. - رد أخبار الآحاد في مسائل الاعتقاد هو مذهب أهل البدع أما أهل السنة والجماعة فيتقبلون أخبار الآحاد ويعملون بها في كل أمر ما دامت قد ثبتت صحتها عن النبي صلى الله عليه وسلم. - التوسل بالجاه أو بالذات لأي كائن – غير الله تعالى – يعتبر شركاً لا يجوز فعله ومن نسب إلى السلف جواز التوسل بالجاه أو بالذات فقد أخطأ فهم عقيدتهم. - القول بأن رؤية الله تعالى في الآخرة تستلزم التحيز لله عزّ وجلّ كلام باطل وهو ليس من أقوال السلف الذين يؤمنون برؤية الله تعالى على كيفية لا نحيط بها استناداً إلى نصوص رؤيته تعالى حقيقة إذ لا مانع من رؤيته لا نصاً ولا عقلاً. - نفي الجهة عن الله تعالى مطلقاً أو إثبات أنه في كل جهة بذاته هو معتقد فاسد فإن الله تعالى أخبر عن نفسه أنه في جهة الفوقية المطلقة ولا يلزم منه التحيز أو كونه بذاته في كل مكان فإنه مما يتنزه الله عنه. - تجويز التوسل بذات أحد من البشر سواء أكانوا من الرسل عليهم الصلاة والسلام أو غيرهم بدعة منكرة لم يجوزها السلف اتباعاً للنصوص الناهية عن ذلك. - القول بالتفريق بين الحقيقة والشريعة ليس من أقوال السلف بل هو من اختراعات غلاة الصوفية وذلك أن أي شيء يخالف الشريعة يجب نبذه وعدم الالتفات إليه فضلاً عن قبول معارضته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 - اعتقاد أنه لا فرق بين الإرادة والمشيئة الإلهية خطأ لأن الإرادة تنقسم إلى إرادة كونية: تتعلق بكل شيء مما يحبه الله أو لا يحبه وإرادة شرعية: تتعلق بما يحبه الله ويرضاه بينما المشيئة تتعلق فقط بالإرادة الكونية من حيث العموم. - تنشر بعض الصحف بين آونة وأخرى أخباراً كاذبة فيها تهويل يجذب القراء مثل ما تزعمه بعض الصحف عن علماء الآثار من أنهم يجدون أحياناً جماجم تدل على أن الإنسان كان يشبه القرد تماماً وهذه تقوية لنظرية الملحد داروين أو أن القيامة ستقوم في وقت كذا وكذا من السنين، أو أنه وجد في بلد كذا جنين يقرأ القرآن بصوت مسموع وهو في بطن أمه أو أن الدابة ستخرج وقت كذا وغير ذلك من الأخبار التي تدل على أن مصدرها ملاحدة يريدون ترويع الناس لمصالح لهم ومعلوم أن من ادعى علم الغيب فإنه كاذب وكافر بجميع الأديان حاشا الأنبياء الذين يطلعهم الله على ما يشاء من المغيبات. - قول بعض الناس بالله وبك أو على الله وعليك أو غير ذلك من الألفاظ التي فيها التشريك بين الله وبين غيره هي من الأمور المنهي عنها والتي لا يقرها السلف وأما إذا أدخلت "ثم" مكان "الواو" فلا حرج. قول علماء الكلام الكلام غير المتكلم به"، أو القول غير القائل أو "العلم غير العالم" أو "القدرة غير القادر" إلى غير ذلك من العبارات التي نسجوها على هذا النحو كل ذلك كلام باطل ليس من مذهب السلف فإن مراد هؤلاء أن تلك الصفات مباينة لله تعالى ومنفصلة عنه وأنه لا يصح وصفه بأية صفة لأن الصفات مغايرة له حسب زعمهم ومن هنا تسلطوا على نفي كل صفات الله تعالى واعتبروها تركيباً لا يجوز على الله تعالى ففرقوا بين الله تعالى وبين صفاته بتعمقهم في علم الكلام المذموم ظانين أنه علم غزير.- القول بوجوب الموازنة قول يخالف طريقة السلف (1) وذكر الموازنة فيه محاذير كثيرة فإن المخالف لا ينظر إلى ما يذكر عن أهل البدع من المساوئ بل يقف عند ذكر المحاسن ويضخم أمرها ويستدل بها على صحة ما هو عليه من المبادئ والعقائد كما أن السلف لم يكونوا يستجيزون الثناء على أهل البدع ولهذا فإن ترك ذكر المحاسن يعتبر عقوبة جيدة لأهل البدع. فإنه قد يكون لهم أخطاء تذهب بجميع حسناتهم فلا فائدة من ذكر الحسنات بعد ذلك وقد يكون ما نذكره عنهم من الحسنات ليست هي حسنات حقيقية بل قد تكون سيئات عند الله تعالى. ثم إن في الثناء على الفساق تغرير بمن لا يعرفهم ولم يذكر الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم أي حسنات أو ثناء على الكفار بل ذم كفرهم وأعمالهم المخالفة. أما إذا كان الشخص من أهل السنة والجماعة ولكنه أخطأ في بعض الأمور الاجتهادية فلا حرج من مدحه والثناء عليه مع التنبيه على خطئه إن أخطأ وكذا ذكر الآراء التي يخالفون فيها مع تفنيدها لا حرج فيه. - السلف لا يفرقون بين الطائفة المنصورة والفرقة الناجية ومن فرق بينهما فقد جانب الصواب والمفرق إما أن يكون جاهلاً أو في قلبه شيء من بغض السلف وكيف تكون منصورة وهي غير ناجية وكيف تكون ناجية وهي غير منصورة لأن الله تعالى لا يجعل النصر في النهاية إلا لجنده الذين رضي عنهم أما الباطل فله صولة ثم يضمحل وصاحبه لا يكون ناجياً ولا منصوراً. - السلف لا يحبون إطلاق كلمة (الصحوة الإسلامية) مع أن هذه العبارة قد انتشرت كثيراً على ألسنة الناس وسبب كراهتهم لها أنها تشعر السامع أن المسلمين كانوا في غفوة تامة وليس لهم دعوة إلى الله ولا جهاد في سبيله ولم يعرفوا الإسلام إلا بعد أن نبغ دعاة هذه العبارة وحركتهم التي يزعمون أنها صحوة جديدة في الإسلام.   (1) أن تذكر حسنات المخالفين وسيئاتهم لتوازن بينهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 - ليس من عقيدة السلف الاحتفاء بأعياد الميلاد ولا رأس السنة الميلادية أو الهجرية ولا يعترفون إلا بعيدين كبيرين هما عيد الفطر وعيد الأضحى وعيد ثان صغير هو يوم الجمعة ومن نسب إليهم غير ذلك فقد جانب الصواب. - ليس من عقيدة السلف الاعتراف بما يسمى (تقارب الأديان) لأن هذه خدعة جديدة ويهدفون من ورائها الإيحاء للناس بصحة أديان الطوائف المعادية للإسلام وبالتالي الهجوم على الإسلام وأهله. - كلمة الأديان السماوية إطلاق غير دقيق فإن السماء ليس لها أديان ولا ترسل رسلاً ولا تنزل كتباً ولا يوجد بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلا دين إلهي واحد فيجب إسناد الكتب وإنزالها ثم نسبة الدين الصحيح إلى الله تعالى وإن كان بعضهم يتجوز ذلك بحجة أن المقصود واضح وهو الله تعالى. ليس من عقيدة السلف الزعم بأن الإكثار من قراءة سورة (تبت يدا) غير مناسب لأن فيها تعريضاً بالنبي صلى الله عليه وسلم ولو أن هذه الخرافة صدرت عن العوام والجهال لما كان لذكرها ضرورة ولكني سمعت بعض أهل العلم ممن نقرأ لهم بعض مؤلفاتهم والله المستعان يحذر من تعمد القراءة بسورة تبت يدا مراعاة لخاطر النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقولون بل ويزعمون في تخويفهم لمن يتعمد ذلك أنه يصاب بالشلل وهو كلام باطل يجب التوبة منه والاستغفار من اعتقاده وكذا الزعم بأن من قرأ سورة (قريش) دائماً فإنه يصبح غنياً وإن كان جائعاً يصبح شبعاناً وهي خرافات تنافي الاعتقاد الصحيح. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 209 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 المبحث الأول: تعريف الأشاعرة الأشاعرة فرقة كلامية كبرى, تنسب لأبي الحسن الأشعري المتوفى سنة (324هـ) ظهرت في القرن الرابع وما بعده. بدأت أصولها بنزعات كلامية خفيفة أخذها الأشعري عن ابن كلاب تدور على مسألة كلام الله تعالى وأفعاله الاختيارية, مع القول بالكسب الذي نشأت عنه نزعة الجبر والإرجاء, ثم تطورت وتعمقت وتوسعت في المناهج الكلامية حتى أصبحت من القرن الثامن وما بعده فرقة كلامية, عقلانية, فلسفية, مقابرية, مرجئة جبرية. المصدر: الفرق الكلامية لناصر العقل- ص49 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 المبحث الثاني: التعريف بأبي الحسن الأشعري • المطلب الأول: المراحل الاعتقادية التي مر بها أبو الحسن الأشعري . • المطلب الثاني: سياق الأدلة على إثبات المرحلة الثالثة الأخيرة للأشعري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 المطلب الأول: المراحل الاعتقادية التي مر بها أبو الحسن الأشعري المرحلة الأول: المرحلة الاعتزالية: وهذه المرحلة كان سببها ملازمته لشيخه أبي علي الجبائي زوج أمه واستمر على الاعتزال إلى سن الأربعين، ثم فارقه لما لم يجد إجابات كافية في مسألة الصلاح والإصلاح على الله تعالى، وقيل إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مناماً وأمره أن يروي العقائد المروية عنه لأنها الحق، ولهذا اعتمد الأدلة النقلية في تقرير العقائد (1). المرحلة الثانية: المرحلة الكلابية: عاش أبو الحسن الأشعري في آخر المرحلة الاعتزالية حيرة كبيرة، وقد اختفى مدة عن الناس خالياً بنفسه ليعرف الحق، ومال إلى طريقة ابن كلاب وابن كلاب جاء في زمان كان الناس فيه صنفين: فأهل السنة والجماعة يثبتون الصفات كلها الذاتية والفعلية، والجهمية ينكرونها، فجاء ابن كلاب وأثبت الصفات الذاتية ونفى ما يتعلق منها بالمشيئة، فلذلك قرر الأشعري هذه العقيدة. وقد يمثل هذه المرحلة كتابة (اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع) (2). والأشعرية تعد هذه المرحلة آخر مراحل أبي الحسن الأشعري، وسيأتي بعد قليل بيان خطأ هذا الادعاء إن شاء الله تعالى. المرحلة الثالثة: المرحلة السنية: هذه المرحلة يمثلها كتاب (الإبانة) الذي بين في مقدمته مؤلف أبو الحسن الأشعري أنه ينتسب إلى الإمام أحمد بن حنبل في الاعتقاد. ويمثله كذلك رسالته إلى أهل الثغر (3) و (مقالات الإسلاميين). المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف - 1/ 29   (1) انظر: ((تبيين كذب المفتري)) (ص: 40 - 41) ((وطبقات الشافعية الكبرى)) (2/ 246). (2) انظر: ((وفيات الأعيان لابن خلكان)) (2/ 446) - ((والخطط للمقريزي)) (3/ 308). (3) ((مع بقاء تأويل له في صفتي الغضب والرضا عند ذكره للإجماع التاسع في رسالته هذه)) (ص: 231). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 المطلب الثاني: سياق الأدلة على إثبات المرحلة الثالثة الأخيرة للأشعري هذه المرحلة الأخيرة، وهي مرحلة العودة على السنة وترك الطريقة الكلابية، يدل على ثبوتها أمور: أولا: أنها مرحلة قد أثبتها المؤرخون وعلى رأسهم الحافظ ابن كثير وهو من هو في التاريخ وسعة الاطلاع. فقال: "ذكروا للشيخ أبي الحسن الأشعري ثلاثة أحوال: أولها: حال الاعتزال التي رجع عنها لا محالة. الحال الثاني: إثبات الصفات العقلية السبع وهي: الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام. وتأويل الخبرية كالوجه واليدين والقدم والساق ونحو ذلك. الحال الثالث: إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جرياً على منوال السلف، وهي طريقته في (الإبانة) التي صنفها آخراً" (1) اهـ. وأشار إليها الذهبي في (السير) فقال: "قلت: رأيت لأبي الحسن أربعة تواليف في الأصول، يذكر فيها قواعد مذهب السلف في الصفات، وقال فيها: تمر كما جاءت، ثم قال: وبذلك أقول وبه أدين ولا تؤول" (2) اهـ. بل ونص عليها في كتابه (العرش) قائلاً: "ولد الأشعري سنة ستين ومائتين، ومات سنة أربع وعشرين وثلاثمائة بالبصرة رحمه الله، وكان معتزليا ثم تاب، ووافق أصحاب الحديث في أشياء يخالفون فيها المعتزلة، ثم وافق أصحاب الحديث في أكثر ما يقولونه، وهو ما ذكرناه عنه من أنه نقل إجماعهم على ذلك، وأنه موافق لهم في جميع ذلك، فله ثلاثة أحوال: حال كان معتزلياً، وحال كان سنياً في بعض دون البعض، وحال كان في غالب الأصول سنياً، وهو الذي علمناه من حاله." (3). وأشار إلى هذا قبلهما شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: "إن الأشعري وإن كان من تلامذة المعتزلة ثم تاب، فإنه تلميذ الجبائي، ومال إلى طريقة ابن كلاب، وأخذ عن زكريا الساجي أصول الحديث بالبصرة. ثم لما قدم بغداد أخذ عن حنبلية بغداد أموراً أخرى، وذلك آخر أمره كما ذكره هو وأصحابه في كتبهم" (4) اهـ. وقال العلامة الآلوسي: "فقلت: يا مولاي يشهد لحقية مذهب السلف في المتشابهات، وهو إجراؤها على ظواهرها مع التنزيه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] إجماع القرون الثلاثة الذين شهد بخيرتهم خير البشر صلى الله عليه وسلم. ولجلالة شأن ذلك المذهب ذهب إليه غير واحد من أجلة الخلف ... ومنهم: الإمام أبو الحسن الأشعري، فإن آخر أمره الرجوع إلى ذلك المذهب الجليل، بل الرجوع إلى ما عليه السلف في جميع المعتقدات. قال في كتابه (الإبانة) الذي هو آخر مؤلفاته بعد كلام طويل: "الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله تعالى وجهه قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون" اهـ. وهو ظاهر في أنه سلفي العقيدة. وكيف لا؟! والإمام أحمد علم في ذلك، ولهذا (نعص لميه) (5) من بين أئمة الحديث. ويعلم من هذا أن ما عليه الأشاعرة غير ما رجع إليه إمامهم في آخر أمره من أتباع السلف الصالح، فليتهم رجعوا كما رجع، واتبعوا ما اتبع" (6) اهـ.   (1) ((طبقات الفقهاء الشافعيين)) (1/ 210)، ونقله عنه المرتضى الزبيدي في ((إتحاف السادة المتقين)) (2/ 4)، ولم يتعقبه. (2) ((سير أعلام النبلاء)) (15/ 86). (3) ((كتاب العرش للذهبي)) (ص: 302 - 303). (4) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 228). (5) هكذا في المطبوع. (6) ((غرائب الاغتراب ونزهة الألباب في الذهاب والإقامة والإياب)) (ص: 385 - 386). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 ثانياً: أن ما قرره أبو الحسن الأشعري في (الإبانة) و (مقالات الإسلاميين) و (رسالة إلى أهل الثغر) من مسائل المعتقد ومنه صفات الله تعالى موافق لمعتقد السلف، ومخالف لما عليه الأشاعرة؛ إذ أنه قد أثبت الصفات لله تعالى على ظاهرها، ومنع من تأويلها، وعد من تأولها مبتدعة وجهمية، كما سبق نقل كثير من كلامه في ثنايا هذا الكتاب، وهذا يمنع تماماً أن يكون قد قرر فيه التفويض الذي يزعمه الأشعرية، بل إنه صرح بأن الصفات حقيقة، وأوجب الأخذ بالظاهر، وبين أن آيات الصفات مفهومة معلومة، ورد على من تأولها وأخرجها عن حقيقتها. وهذا يؤكد أنها تمثل مرحلة مغايرة عن مرحلته الكلابية. ومما يؤكد هذا: قول بعض الطاعنين في أبي الحسن الأشعري أنه إما ألف (الإبانة) وقاية لأهل السنة ... !! فقد قال أبو علي الأهوازي: "وللأشعري كتاب في السنة قد جعله أصحابه وقاية لهم من أهل السنة، يتولون به العوام من أصحابنا، سماه كتاب (الإبانة) صنفه ببغداد لما دخلها، فلم يقبل ذلك منه الحنابلة وهجروه. وسمعت أبا عبدالله الحمراني يقول: لما دخل الأشعري إلى بغداد جاء إلى البربهاري، فجعل يقول: "رددت على الجبائي، وعلى أبي هاشم ونقضت عليهم وعلى اليهود والنصارى وعلى المجوس، فقلت وقالوا"، وأكثر الكلام في ذلك، فما سكت، قال البربهاري: "ما أدري مما قلت قليلاً ولا كثيراً، ما نعرف إلا ما قال أبو عبدالله أحمد بن حنبل".فخرج من عنده وصنف كتاب (الإبانة)، فلم يقبلوه منه، ولم يظهر ببغداد إلى أن خرج منها" (1) اهـ. وظاهر هذا يدل على أن كتاب (الإبانة) ليس على طريقة الأشاعرة، ولذلك ظن بعض الطاعنين فيه أنه إما ألفه إرضاءاً لهم، ووقاية لنفسه من إنكارهم عليه، وهذا الظن وإن لم يكن صحيحاً، إلا أنه يثبت أن منهج الأشعري في (الإبانة) موافق لأهل السنة، ومخالف للكلابية والأشعرية، وهو بيت القصيد. والعجيب هنا أن الكوثري على شدة تعصبه وحقده على السنة والجماعة، وعلى شدة مجازفاته وافتراءاته الكثيرة، اعترف بأن كتاب (الإبانة) للأشعري ينقض مذهب الاشاعرة، ولهذا ادعى أن الأشعري ألفه محاباة لأهل السنة ولإمامهم البربهاري حينئذ. فقال في مقدمته لكتاب (الإنصاف) للباقلاني: "وأما (الإبانة) التي كان قدمها إلى البربهاري في أوائل انتقاله إلى معتقد السنة، فتحتوي على بعض آراء غير مبرهنة، جارى فيها النقلة ليتدرج بهم إلى الحق، لكنه لم ينفع ذلك – على تلاعب الأقلام فيها -، فاستقر رأيه – بعد عهدي الإفراط والتفريط – على ما نقله هؤلاء عنه من الآراء المعتدلة على خلاف مزاعم ابن كثير" (2) اهـ. وقال الإمام القاضي كمال الدين أبو حامد محمد بن درباس المصري الشافعي (659هـ) في رسالته (الذب عن أبي الحسن الأشعري): "فاعلموا معشر الإخوان ... بأن كتاب (الإبانة عن أصول الديانة) الذي ألفه الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، هو الذي استقر عليه أمره فيما كان يعتقده، وبما كان يدين الله سبحانه وتعالى بعد رجوعه عن الاعتزال بمن الله ولطفه وكل مقالة تنسب إليه الآن مما يخالف ما فيه، فقد رجع عنها، وتبرأ إلى الله سبحانه وتعالى منها.   (1) نقله شيخ الإسلام ابن تيمية في ((الفتاوى الكبرى)) (5/ 341). (2) مقدمة كتاب ((الإنصاف)) (ص: 11). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 كيف، وقد نص فيه على أنه ديانته التي يدين الله سبحانه بها، وروى وأثبت ديانة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث الماضي، وقول أحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين، وأنه ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله. فهل يسوغ أن يقال: إنه رجع إلى غيره؟ فإلى ماذا يرجع تراه! يرجع عن كتاب الله وسنة نبي الله، خلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون، وأئمة الحديث الماضين، وقد علم أنه مذهبهم ورواه عنهم!! هذا لعمري ما لا يليق نسبته إلى عوام المسلمين، كيف بأئمة الدين ... !! "، إلى أن قال: "وقد ذكر هذا الكتاب، واعتمد عليه وأثبته عن الإمام أبي الحسن رحمه الله، وأثنى عليه لما ذكره فيه، وبرأه من كل بدعة نسبت إليه، ونقل منه إلى تصنيفه: جماعة من الأئمة الأعلام من فقهاء الإسلام، وأئمة القراء، وحفاظ الحديث وغيرهم" ثم ذكر جماعة منهم (1) اهـ. ثالثاً: أنه قد بين في (مقالات الإسلاميين) أن الكلابية فرقة مباينة لأهل الحديث، ونقل أقوالهم، في كثير من المسائل، ولم يجعلهم في جملة أهل الحديث، وقد سبق نقل أقواله، ولو كان كلابياً لما فرق بينهم وبين أهل الحديث، ولجمعهم في مصطلح واحد، إما أن يدخلهم تحت مصطلح أهل الحديث، أو تحت الكلابية. رابعاً: مما يؤكد هذا أن الأشاعرة المتأخرين لا ينقلون في كتبهم شيئاً مما ذكره الأشعري في كتبه الموجودة وهي (مقالات الإسلاميين) و (رسالة إلى أهل الثغر) و (الإبانة)، وحاولوا عبثاً أن ينكروا نسبة كتاب (الإبانة) المطبوع المتداول إليه، وما ذاك إلا لعلمهم أنه ينقض عليهم أصولهم، وقد سبق إثبات كونه كلامه غير محرف ولا معبوث به. بل يكفي في إبطال دعواهم ما سطره في (مقالات الإسلاميين) و (رسالة إلى أهل الثغر)، وما نقله ابن عساكر في (تبيين كذب المفتري) والبيهقي في (الأسماء والصفات)، والذهبي في (العلو) من كتاب (الإبانة) فضلاً عما نقله ابن تيمية وابن القيم منه في كتبهم التي سبق الإشارة إليها. خامساً: أن أبا الحسن الأشعري ذكر في أول كتاب (الإبانة): أنه سائر على درب الإمام أحمد ووصفه بأنه إمام أهل السنة، ولم ينتسب قط لابن كلاب ولا اعتزى إليه في شيء من كتبه الموجودة. ومعلوم أن ابن كلاب كان مبايناً لطريق الإمام أحمد، وأن الإمام أحمد كان ينهى عن الكلابية وعن كبارهم كالحارث المحاسبي وأصحابه، ويصفهم بالجهمية، كما سبق تقريره، وهذا مشهور مستفيض عنه، فلو كان الأشعري على طريق ابن كلاب لما انتسب إلى الإمام أحمد، مع علمه بنهيه عن ابن كلاب وتحذيره ومن طريقته. المصدر: الأشاعرة في ميزان أهل السنة لفيصل الجاسم - ص 715 المطلب الثالث: الرد على ما أورده نفاة المرحلة الأخيرةأما ما أورده المؤلفان (2) على هذا من أن كثيراً ممن ترجم لأبي الحسن لم يذكروا المرحلة الأخيرة. فالجواب أن يقال: إن هذا قد يكون بسبب جهلهم بذلك. والقاعدة تقول: إن المثبت مقدم على النافي، ومن علم حجة على من لم يعلم. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا: "فإن قيل إن ابن فورك وأتباعه لم يذكروا هذا، قيل: له سببان:   (1) ((رسالة الذب عن أبي الحسن الأشعري)) لابن درباس (ص: 107). (2) يقصد بهما المؤلفان لكتاب ((أهل السنة الأشاعرة شهادة علماء الأمة وأدلتهم)). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 أحدهما: أن هذا الكتاب – أي: (الإبانة) للأشعري – ونحوه، صنفه ببغداد في آخر عمره، لما زاد استبصاره بالسنة، ولعله لم يفصح في بعض الكتب القديمة بما أفصح فيه وفي أمثاله، وإن كان لم ينف فيها ما ذكره هنا في الكتب المتأخرة، ففرق بين عدم القول، وبين القول بالعدم. وابن فورك قد ذكر فيما صنفه من أخبار الأشعري تصانيفه قبل ذلك، فقال – أي: ابن فورك -: " ... وبقي إلى سنة أربع وعشرين وثلاثمائة"، قال: "فأما أسامي كتبه إلى سنة عشرين وثلاثمائة، فإنه ذكر في كتابه الذي سماه (العمد في الرؤية) أسامي أكثر كتبه" ... ثم قال: "وقد عاش بعد ذلك إلى سنة أربع وعشرين وصنف فيها كتباً" ذكر منها أشياء. قال ابن عساكر بعد أن ذكر كلام ابن فورك: "وهذا آخر ما ذكره ابن فورك من تصانيفه، وقد وقع إلى أشياء لم يذكرها في تسمية تواليفه، فمنها ... " (1) اهـ. المصدر: الأشاعرة في ميزان أهل السنة لفيصل الجاسم - ص 723 المطلب الرابع: أسباب انتقال الأشعري لمذهب أهل السنة وتركه للطريقة الكلابية كان من أسباب انتقاله إلى السنة، وتركه للمذهب الكلابي التقاؤه بمحدث البصرة الحافظ زكريا الساجي، وهو الذي أخذ عنه معتقد أهل السنة. قال الذهبي في ترجمة الساجي: "وكان من أئمة الحديث، أخذ عنه أبو الحسن الأشعري مقالة السلف في الصفات، واعتمد عليها أبو الحسن في عدة تآليف" (2) اهـ. وقال في (العلو): "وكان الساجي شيخ البصرة وحافظها، وعنه أخذ أبو الحسن الأشعري الحديث ومقالات أهل السنة" (3) اهـ. وقد سبق نقل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وقوله: "وأخذ زكريا الساجي أصول الحديث بالبصرة، ثم لما قدم بغداد أخذ عن حنبلية بغداد أموراً أخرى، وذلك آخر أمره كما ذكره هو وأصحابه في كتبهم" اهـ. وقال أيضاً في موضع آخر: "ومذهب أهل السنة الذي يحكيه الأشعري في مقالاته عن أهل السنة والحديث، أخذ جملته عن زكريا بن يحيى الساجي الإمام الفقيه عالم البصرة في وقته، وهو أخذ عن أصحاب حماد وغيرهم، فيه ألفاظ معروفة من ألفاظ حماد بن زيد كقوله: "يدنو من خلقه كيف شاء"، ثم أخذ الأشعري تمام ذلك عن أصحاب الإمام أحمد لما قدم بغداد، وإن كان زكريا بن يحيى وطبقته هم أيضاً من أصحاب أحمد كذلك. وقد ذكر أبو عبدالله ابن بطة في (إبانته الكبرى) عن زكريا بن يحيى الساجي جمل مقالات أهل السنة، وهي تشبه ما ذكره الأشعري في (مقالاته)، وكان الساجي شيخ الأشعري الذي أخذ عنه الفقه والحديث والسنة، وكذلك ذكر أصحابه" (4) اهـ. المصدر: الأشاعرة في ميزان أهل السنة لفيصل الجاسم - ص 725   (1) ((نقض التأسيس)) (ص: 90 - 91). (2) ((سير أعلام النبلاء)) (14/ 198). (3) ((العلو)) (ص: 205). (4) ((نقض التأسيس)) (ص: 123). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 المبحث الثالث: ظهور علم الكلام للحديث عن نشأة الأشاعرة وكيف ظهرت هذه الطائفة، لابد من الحديث أولاً عن الظروف والملابسات التي أدت إلى ظهور هذا المذهب على خشبة تاريخ الفرق الإسلامية، إذ أنها من أكثر الفرق الكلامية انتشاراً إلى يومنا هذا، رغم اندثار واندراس كثير من الفرق القديمة وللوقوف على معالم هذه الطائفة لابد من الوقوف على عوامل نشأتها وسنبدأ من علم الكلام. تعريف علم الكلام: علم الكلام: "علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه" (1).قال ابن خلدون: "هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية" (2).وعرف أيضاً بأنه: "علم يبحث فيه عن ذات الله تعالى وصفاته وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد على قانون الإسلام" (3).وكذلك عرفه طاش كبري زاده، بأنه "علم يقتدر معه على إثبات الحقائق الدينية بإيراد الحجج عليها ودفع الشبه عنها" (4). ومثله تعريف صديق خان. "انظر (أبجد العلوم) 2/ 589".وعرف أيضاً بأنه: "باب من الاعتبار في أصول الدين يدور النظر منه على محض العقل في التحسين والتقبيح والإحالة والتصحيح والإيجاب والتجويز والاقتدار والتعديل والتحوير والتوحيد والتفكير" (5). وسمي علم الكلام بهذا الاسم لعدة أسباب منها: - أن مسألة الكلام هي من أشهر مباحثه التي وقع فيها نزاع وجدل بين المتكلمين، والمقصود من مسألة الكلام هي مسألة خلق القرآن التي تبنتها المعتزلة، ونفوا صفة الكلام عن الله تعالى وأكثروا فيها القيل والقال. - وقيل لأن العادة جرت عند المتكلمين الباحثين في أصول الدين أن يعنونوا لأبحاثهم بـ"الكلام في كذا ... إلخ".- وقيل لأن الكلام والمجادلة والقيل، والقال قد كثر فيه وأصبح سمة لأهله (6). نشأة علم الكلام: من خلال استعراض كتب العقيدة والفرق الإسلامية، يتضح أن الكلام في العقيدة ظهر في أواخر عصر الصحابة رضي الله عنهم، ولم يكن بعد قد اتضحت معالمه، وأصبح هو الأصل في تقرير العقيدة، ولكن ضل الكلام في هذه الحقبة في بعض جوانب العقيدة دون البعض وموافقة أغلب المتكلمين لأهل السنة في سائر أبواب العقيدة، حتى إذا اجتمعت هذه الأصول التي تكلم فيها المتكلمون ولملم شتاتها ظهر علم الكلام الذي يمثل الشق والطرف المخالف لأهل السنة في إثبات وتقرير العقائد ابتداء على أيدي المعتزلة. وأول ما يطلعنا في كتب العقائد والفرق، الكلام في القدر.   (1) الإيجي ((المواقف في علم الكلام)) (ص: 7). (2) ابن خلدون ((المقدمة)) (ص: 458). (3) الجرجاني ((التعريفات)) (ص: 162). (4) ((مفتاح السعادة)) (2/ 150). (5) عامر النجار ((الخوارج عقيدة وفكر وفلسفة)) (ص: 24). (6) د/ حسن شبانه ((العقيدة الإسلامية بين السلف والمتكلمين)) (ص: 25). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 فقد روى مسلم، بسنده عن يحيى بن يعمر، قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة، معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبدالرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوافق لنا عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: يا أبا عبدالرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف قال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني، والذي يحلف به عبدالله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم ساق حديث جبريل الطويل المعروف المشهور وسؤاله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان والساعة. يقول الشهرستاني: "أما الاختلافات في الأصول فحدثت في آخر أيام الصحابة بدعة معبد الجهني وغيلان الدمشقي، ويونس الأسواري، في القول بالقدر، وإنكار إضافة الخير والشر إلى القدر (1).ثم ظهر القول بخلق القرآن ونفي الصفات على يد الجعد بن درهم، قال بن كثير: "كان الجعد بن درهم من أهل الشام وهو مؤدب مروان الحمار – مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية – ولهذا يقال له: مروان الجعدي – فنسب إليه -، وهو شيخ الجهم بن صفوان، الذي تنسب إليه الطائفة الجهمية الذين يقولون أن الله في كل مكان بذاته" (2).وقد روى الإمام البخاري – رحمه الله – في (خلق أفعال العباد) أن خالد بن عبدالله القسري، قام بواسط في يوم أضحى وقال: "ارجعوا فضحوا تقبل الله منكم فإني مضح بالجعد بن درهم زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله علواً كبيراً عما يقول الجعد بن درهم ثم نزل فذبحه" (3)، وكان كذلك عام 188هـ تقريباً (4). وفي مقابل غلو الخوارج برز قرن المرجئة والكلام في الإيمان وظهر الكلام في الإرجاء، وإخراج العمل عن مسمى الإيمان، وأول من أظهر هذا القول، ذر ابن عبدالله الهمداني. روى أن إبراهيم النخعي أنه كان يقول لذر: ويحك يا ذر ما هذا الدين الذي جئت به، قال ذر: ما هو إلا رأي رأيته. قال: ثم سمعت ذراً يقول: إنه لدين الله الذي بعث به نوح (5). وقيل أول من أحدث الإرجاء وتكلم في مسألة الإيمان قيس الماصر، نقل الحافظ ابن حجر ذلك عن الأوزاعي قال: أول من تكلم في الإرجاء رجل من أهل الكوفة يقال له قيس الماصر.   (1) ((الملل والنحل)) (ص: 28). (2) ((البداية والنهاية)) ابن كثير (15/ 11). (3) ((خلق أفعال العباد)) (ص: 12). (4) انظر ((الأعلام)) (2/ 120). (5) عبدالله بن الإمام أحمد ((السنة)) (ص: 84). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وقيل أول من أحدثه حماد بن أبي سليمان، شيخ أبي حنيفة، وتلميذ إبراهيم النخعي، ثم تبعه أهل الكوفة وغيرهم، ذكر ذلك شيخ الإسلام بن تيمية. قال البغدادي: ثم حدث في زمان المتأخرين من الصحابة خلاف القدرية في القدر والاستطاعة من معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، والجعد بن درهم، وتبرأ منهم المتأخرون من الصحابة كعبدالله بن عمر، وجابر بن عبدالله، وأبي هريرة، وابن عباس، وأنس بن مالك، وعبدالله بن أبي أوفى، وعقبة بن عامر الجهني، وأقرانهم، وأوصوا أخلافهم بأن لا يسلموا على القدرية ولا يصلوا على جنائزهم، ولا يعودوا مرضاهم، ثم اختلفت الخوارج بعد ذلك فيما بينها (1).ثم تأتي البدايات الأولى لوعيدية المعتزلة، والقول بالمنزلة بين المنزلتين، يقول البغدادي: ثم حدث في أيام الحسن البصري خلاف واصل بن عطاء الغزالي، في القدر وفي المنزلة بين المنزلتين وانضم إليه عمر بن عبيد بن باب في بدعته فطردهما الحسن من مجلسه فاعتزلا إلى سارية من سواري مسجد البصرة فقيل لهما ولأتباعهما "معتزلة" لاعتزالهم قول الأمة في دعواهم أن الفاسق من أمة الإسلام لا مؤمن ولا كافر (2). وقال الشهرستاني في معرض الحديث عن البدع والمحدثات التي كانت في أواخر عصر الصحابة أولها بدعة القدر كما مر معنا قال: "ونسج على منوالهم واصل بن عطاء الغزال وكان تلميذ الحسن البصري، وتلمذ له عمر بن عبيد، وزاد عليه في مسائل القدر ... والوعيدية من الخوارج، والمرجئة من الجبرية، والقدرية، ابتدءوا بدعتهم في زمان الحسن واعتزل واصل عنهم، وعن أستاذه بالقول منه بالمنزلة بين المنزلتين، فسمي هو وأصحابه معتزلة، وقد تلمذ له زيد بن علي وأخذ الأصول فلذلك صارت الزيدية كلهم معتزلة". وهكذا بدأ الكلام في مسائل الاعتقاد وإن كان مفرق لكنه أشبه ما يكون بالسيل يبدأ قطرات ثم ما يلبث أن يتجمع ثم يطبق بعد ذلك الأرض. وهكذا انتقل علم الكلام إلى طور جديد أكثر تطوراً وأكثر فاعلية ووضوح، على يد الجهم بن صفوان الذي جمع شتات الأقوال السابقة، وأخرجها من مخرج واحد، وصبها في بوتقة واحدة. قال الذهبي – رحمه الله -: "عن الجهم أبو محرز الراسبي مولاهم السمرقندي الكاتب رأس الضلالة ورأس الجهمية كان صاحب ذكاء وجدل ... وكان ينكر الصفات وينزه الباري عنها بزعمه ويقول بخلق القرآن ويقول بأن الله في كل مكان" (3).يقول الدكتور سفر الحوالي: "أما الجهم بن صفوان فهو رأس الضلالات وأس البليات جعله الله فتنة الناس، وسبباً للإضلال، كما جعل السامري في بني إسرائيل، وحسبنا أن نعلم أن هذا الرجل الذي كان من شواذ المبتدعة في مطلع القرن الثاني قد ترك من الأثر في الفرق الإسلامية الاثنين والسبعين، ما لا يعادله أثر أحد غيره، هذا مع أنه ليس بإمام يحتج بقوله ولا عالم يعتد بخلافة ولا شهد له أحد بخير" (4).روى اللالكائي، بسنده عن أحدهم: "قرأت في دواوين هشام بن عبدالملك، إلى عامله بخرسان نصر بن سيار، أما بعد فقد نجم قبلك رجل من الدهرية من الزنادقة يقال له جهم بن صفوان فإن أنت ظفرت به فاقتله وإلا فادسس إليه من الرجال غيلة ليقتلوه" (5).ونقل الحافظ بن حجر عن ابن أبي حاتم، أن سلم بن أحواز، عامل نصر بن سيار على مرو، لما قبض على جهم قال: "يا جهم إني لست أقتلك لأنك قاتلتني، أنت عندي أحقر من ذلك، ولكن سمعتك تتكلم بكلام باطل أعطيت لله عهداً أن لا أملك إلا قتلك فقتله" (6).   (1) ((الفرق بين الفرق)) (39 - 40). (2) ((الفرق بين الفرق)) (ص: 41). (3) ((سير أعلام النبلاء)) (6/ 26 - 27). (4) ((ظاهرة الإرجاء)) (2/ 390 - 391). (5) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (3/ 381). (6) ((فتح الباري)) (13/ 346). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وبظهور الجهم بن صفوان، تحول علم الكلام من طور الإنشاء إلى طور أكثر تناسق، بل إلى طور الظاهرة، وذلك للأثر السيىء الذي تركه الجهم بن صفوان في الفرق الإسلامية المختلفة، حتى تأثرت هذه الفرق به في قليل أو كثير من أصوله، ولا سيما في الصفات حتى المنتسبون للسنة من أهل الكلام، فهم على أصوله في كثير من أصول الاعتقاد. المصدر: الفروق في العقيدة بين أهل السنة والأشاعرة لصادق عبده السفياني - ص 47 تطور الظاهرة الكلامية إن الظواهر المختلفة لا تستقر ولا تترعرع إلا بعد أن تمر بمراحل مختلفة، وأطوار عديدة متغيرة، وأزمان متباعدة. ولقد انتقل علم الكلام بهذه المراحل، والأطوار جميعاً حتى صار ظاهرة تحمل العامة على مقتضاه، وتمثل هذه المرحلة منعطفاً خطيراً في عقيدة الأمة، وذلك لاضطلاع الخلافة الإسلامية عليها، وهو سبق خطير ليس له نظير قبله في تاريخ خلفاء الأمة، وكان ذلك في زمن المأمون العباسي، وهذه هي مرحلة الاستقرار الأول لعلم الكلام. يقول الشهرستاني: "ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة حين نشرت أيام المأمون، فخلطت مناهجها بمناهج علم الكلام، وأفردتها فناً من فنون العلم، وسمتها علم الكلام، إما لأن أظهر مسألة تكلموا فيها وتقاتلوا عليها هي مسألة الكلام، فسمي النوع باسمها، وإما لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فناً من فنون علمهم بالمنطق، والمنطق والكلام مترادفان" (1). يقول شيخ الإسلام – ملاحظاً هذا التطور-: في أواخر عصر التابعين حدث ثلاثة أشياء الرأي، والكلام، والتصوف، فكان جمهور الرأي في الكوفة، وكان جمهور الكلام والتصوف في البصرة. ومر علم الكلام بمراحل مختلفة يمكن ذكرها فيما يلي: المرحلة الأولى – وهي مرحلة قدامى المتكلمين، كواصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وأبي الهذيل العلاف، وإبراهيم النظام، وغيرهم. وقد تميزت هذه المرحلة بالتأثر بالمصطلحات اليونانية، وخاصة عند المتأخرين منهم كالعلاف، حيث ترجمت كتب الفلسفة اليونانية، وقد كانت المباحث الكلامية في هذه المرحلة متناثرة حسب موضوعاتها التي يتفق الكلام فيها دون وضع قواعد صريحة لهذا العلم، كما خلت هذه المرحلة من الاستعانة بعلم المنطق الأرسطي. المرحلة الثانية – وهي المرحلة التي دخل فيها الأشاعرة معترك الكلام في مقابل المعتزلة، وتعد هذه المرحلة أكثر تطوراً، نظراً لوضع قواعد علم الكلام ومقدماته التي يحتاج إليها الدارس مثل إثبات الجوهر – الفرد وغيره -. المرحلة الثالثة – حيث تتميز هذه المرحلة بمناقشة كلام الفلاسفة وإدخال ذلك في علم الكلام كما تتميز أيضاً باستعمال المنطق الأرسطي في مقدمات علم الكلام ودراسة أدلته وبراهينه. المرحلة الرابعة – تتميز بالخلط بين مذاهب الفلسفة والكلام واشتباه الأمر فيها على الكاتب والقارئ جميعاً. ثم التقليد المحض لتلك الآراء من غير نظر في أصولها (2).   (1) ((الملل والنحل)) (ص: 29). (2) محمد العبد، وطارق عبدالحليم، ((المعتزلة بين القديم والحديث)) (ص: 37 - 39)، ((أبجد العلوم لصديق خان)) (ص: 450 - 541). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وهناك أسباب كامنة وراء تفش الظاهرة الكلامية منها:- تسامح المسلمين: فلقد كانت شروط الفتح الإسلامي تسمح ببقاء بذور الحضارات المختلفة عند طوائف كبيرة من الأهالي الذين واصلوا التمتع بعاداتهم وقوانينهم على شريطة أن يعطوا الجزية، وكان طبيعياً أن تتأسس الروابط والعلاقات بين الفاتحين وأهل البلاد في وقت مبكر سواء أكان ذلك بسبب الحوار أم بسبب اعتناق الإسلام، وكان قد التحق بالإسلام طوائف وفئام من كل ملة، دخلوا حاملين لما كان عندهم من فلسفات وديانات راغبين أن يصلوا بين الإسلام وبين تلك الأديان والفلسفات، فثارت الشبهات بعد ما هبت على الناس أعاصير الفتن (1)، ولاشك أن هذا التمازج والاختلاط والتوسع في الفتوحات مع السماح ببقاء بذور ورواسب الحضارات السابقة كان له الأثر في نشأة علم الكلام ولم يستطع المصلحون أن يواجهوا تلك الفتنة وإخمادها بل على العكس من ذلك.- ما إن فتحت البلدان على المسلمين، وتوسعت الرقعة التي يظلها الإسلام بظله، حتى تأثر المسلمون بما وفد عليهم من عوامل ومؤثرات، وحتى اختلطوا بأبناء الأمم المفتوحة الذين كانوا متأثرين بسابق حضارتهم، وما تحمله ثقافتهم ودياناتهم من أفكار ومعتقدات بل ومناهج نظر وبحث، تختلف باختلاف تلك الأمم، إلى جانب أن الكثير من أبناء الأمم قد دخلوا الإسلام حاملين ذلك التراث المثقل بركام التصورات القديمة، والمناهج الضالة فكانوا كبذور فتنة ألقيت في تربة الإسلام (2)، فتأثر بهم من تأثر من أبناء المسلمين وركبوا من المناهج مراكب الوافدون، فجاءت الثمار تحمل مناهج استدلال غير المنهج الذي عرفه السلف من الصحابة والتابعين، ولا يغيب عن أذهاننا أن بعض من دخل في الإسلام لم يدخل إلا لبث الشبهات وزلزلة العقائد ودس المناهج الضالة، والمتأمل في رؤوس الضلالة ورواد البدعة سيجد أن أغلبهم من بقايا الديانات والفلسفات التي سحقها الإسلام مثل اليهودية والنصرانية والمجوسية.- وهناك سبب آخر من أهم أسباب انتشار الظاهرة الكلامية، ذلك السبب هو حركة التعريب – الترجمة – لكتب الفلسفة والمنطق، وهي من أعظم أبواب الشر التي فتحت في زمن المأمون، فكثر تعريب كتب فلاسفة اليونان الأوائل مما كان له أسوأ الأثر في تكدير صفو العقيدة، وبلبلة الناس وشغلهم بالمنطق الإغريقي عن الكتاب والسنة حيث ترجمت العديد من الكتب مثل كتاب (الطبيعة) وكتاب (ما بعد الطبيعة) لأرسطو، وترجم كتاب (كليلة ودمنة) وكثير من كتب الكيمياء والطب والنجوم مثل (المجسطي)، وكتاب (الحكم الذهبية) لفيثاغورث، ومصنفات أبقراط وجالينوس وكتاب (طيماوس) لأفلاطون، و (السياسة) له أيضاً، وكتاب (النواميس)، و (جوامع المحاورات) له أيضاً (3).   (1) عامر النجار ((الخوارج)) (ص: 65). (2) محمد العبده وطارق عبدالحليم ((المعتزلة بين القديم والحديث)) (ص: 11 - 12). (3) عامر النجار ((الخوارج)) (ص: 73 - 74). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 ولعل السر يكمن في أن أغلب المترجمين كانوا غير المسلمين، مثل يحيى البطريق، وجورجس بن جبرائيل، وتيادورس، وعبدالمسيح بن ناعمة الحمصي، وقسطا ابن لوقا البعلبكي، وحنين بن إسحاق وغيرهم. قال الإمام السفاريني: "قال العلماء إن المأمون لما هادن بعض ملوك النصارى أظنه صاحب قبرص، طلب منه خزانة كتب اليونان، وكانت عندهم مجموعة في بيت لا يظهر عليه أحد، فجمع الملك خواصه من ذوي الرأي واستشارهم في ذلك فكلهم أشاروا بعدم تجهيزها إليه إلا مطران واحد فإنه قال جهزها إليهم فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا أفسدتها وأوقعت بين علمائها، وحدثني من أثق به أن شيخ الإسلام ابن تيمية – روح الله روحه – كان يقول: ما أظن أن الله يغفل عن المأمون ولابد أن يقابله على ما اعتمده مع هذه الأمة من إدخال هذه العلوم الفلسفية بين أهلها" (1).وفي هذه الأثناء مد أهل البدعة رواق بدعتهم وتنفذوا على البلاد والعباد وصارت المنابر والحلق والقضاء حكراً عليهم وضيق على أهل السنة ونالهم العنت الشديد (2). وهكذا ظل علم الكلام يترقى في مراحله المذكورة سابقاً حتى صارت مباحثه مختلطة بالمباحث الفلسفية البحتة وصار هو الطريق المعبر عن عقيدة المسلمين على ما فيه من أغماض وتعقيد وتكلف يصعب على العلماء أنفسهم فهم أغلب مباحثه ومصطلحاته، هذا عابه السلف وإن لهم منه موقف. المصدر: الفروق في العقيدة بين أهل السنة والأشاعرة لصادق عبده السفياني - ص 58 موقف السلف الصالح من علم الكلام: لقد كان موقف السلف الصالح من علم الكلام موقفاً حازماً هو المنع من تعاطي هذا العلم والاشتغال به ومجالسة أصحابه أو حتى الرد عليهم وذلك أنهم نظروا إلى منهج الرسالة من الكتاب والسنة، فوجدوه قد انتهج منهجاً خاصاً في تقرير العقيدة الإسلامية، فاتجه إلى العقل الإنساني والفطرة البشرية يخاطب ما جبلت عليه من حقائق تجعل الإيمان بوجود الخالق وضرورة عبادته وحده أمراً بديهياً، لا حاجة فيه إلى الجدل والسفسطة، وأن الإسلام مبناه على الخضوع والاستسلام. ثم نظروا إلى الأصول والمحاضن التي نشأ فيها علم الكلام، فوجدوا أن علم الكلام ترعرع في بيئة وثنية خالية من التوحيد، أساسه الفلسفة اليونانية، وبيئة المجتمع الإغريقي الإباحي المنحل، فأطلقوا صيحات الإنذار إشفاقاً على هذه الأمة من أن تأخذ مأخذ الأمم السابقة فكثرت أقوالهم في التحذير من علم الكلام، وهذه الورقات مع ما سبق طرحه من الأمر بلزوم السنة يعطنا صور واضحة متكاملة عن حرص السلف الصالح الكرام على هذه الأمة، وإليك نماذج من أقوالهم المحذرة من علم الكلام. يقول الإمام أحمد في رسالته للخليفة المتوكل في أمر القرآن: "ولست بصاحب كلام ولا أرى الكلام في شيء من هذا، إلا ما كان في كتاب الله – عز وجل – أو في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه أو عن التابعين فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود" (3).   (1) ((لوامع الأنوار)) (1/ 9). (2) أحمد القاضي ((مذهب التفويض في نصوص الصفات)) (ص: 35). (3) الإمام أحمد ((المسائل والرسائل)) (2/ 398). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وعن صالح بن أحمد بن حنبل قال: كتب رجل إلى أبي فسأله عن مناظرة أهل الكلام والجلوس معهم فأملى علي جوابه."أحسن الله عاقبتك ودفع عنك كل مكروه ومحذور، الذي كنا نسمع وأدركنا عليه من أدركنا من أهل العلم أنهم كانوا يكرهون الكلام والخوض مع أهل الزيغ وإنما الأمر بالتسليم والانتهاء إلى ما في كتاب الله – جل وعلا" (1).وقال: "لا يفلح صاحب كلام أبداً ولا أرى أحداً نظر في الكلام إلا في قلبه دغل" (2).وعن الإمام الشافعي – رحمه الله – قال: "إياكم والنظر في الكلام فإن الرجل لو سئل عن مسألة الفقه فأخطأ فيه كان أكثر شيء أن يضحك منه عليه، ولو سئل عن مسألة في الكلام فأخطأ فيها نسب إلى البدعة لقد رأيت أهل الكلام يكفر بعضهم بعضا، ورأيت أهل الحديث يخطئ بعضهم بعضا، والتخطئة أهون من الكفر" (3).وقال أيضاً: "لأن يبتلى المرء بكل ذنب نهى الله عنه ما عدا الشرك، خير له من الكلام" (4).وقال أيضاً: "لقد اطلعت من أصحاب الكلام على شيء ما ظننت أن مسلماً يقول ذلك" (5).وقال أيضاً: "حكمي على أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، فيقال هذا جراء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام" (6).وقال الإمام مالك: "إياكم والبدع، قيل: يا أبا عبدالله ما البدع؟، قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته، وكلامه، وعلمه، وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة وتابعيهم" (7).وقال أيضاً: "كلما جاءنا رجل أجدل من رجل، تركنا ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لجدله" (8).وقال أبو يوسف – من الحنفية -: "من طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب الدين بالكلام تزندق" (9).وقال أبو محمد البربهاري: "واعلم أنها لم تكن زندقة، ولا كفر، ولا شكوك، ولا بدعة، ولا ضلالة، ولا حيرة في الدين، إلا من الكلام، وأهل الكلام" (10).وقال أيضاً: "وإذا أردت الاستقامة على الحق، وطريق السنة قبلك، فاحذر الكلام، وأصحاب الكلام" (11).وقال الإمام الدارمي – بعد ذكره لمقتل الجعد بن درهم، عن أهل الكلام -: "ثم لم يزالوا بعد ذلك مقموعين، أذلة مدحورين، حتى كان الآن بأخرى، حيث قلت الفقهاء، وقبض العلماء، ودعا إلى البدع دعاة الضلال، فشد ذلك طمع كل متعوذ في الإسلام من أبناء اليهود والنصارى وأنباط العراق، ووجدوا فرصة للكلام فحدوا في هدم الإسلام، وتعطيل ذي الجلال والإكرام، وإنكار صفاته وتكذيب رسله وإبطال وحيه، إذ وجدوا فرصتهم وأحسوا من الرعاع جهلاً، ومن العلماء قلة، فنصبوا عندها الكفر للناس إماماً، بدعوتهم إليه وأظهروا لهم أغلوطات من المسائل، وعمايات من الكلام ليغالطوا بها أهل الإسلام" (12). هذا كلام أهل العلم الأساطين الأثبات، أخذنا منه قطرة من فيض عطائهم، وكلامهم في التحذير من علم الكلام والاشتغال به. فيا ترى ما هو قول هذا الفن ممن اشتغل حياته بتحصيله والنظر فيه والاستدلال بموجبه إليك بعضاً من كلامهم.   (1) ((المسائل والرسائل)) (2/ 398). (2) عامر النجار ((الخوارج)) (ص: 22). (3) الرازي ((مناقب الإمام الشافعي)) (ص: 60). (4) اللالكائي ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (1/ 165). (5) اللالكائي ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (1/ 165). (6) ابن أبي العز ((شرح الطحاوية)) (ص: 210). (7) عامر النجار ((الخوارج)) (ص: 23). (8) اللالكائي ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (1/ 163). (9) اللالكائي ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (1/ 166). (10) ((شرح السنة)) (ص: 44 – 45). (11) ((شرح السنة)) (ص: 64 - 65). (12) رواه مسلم (2670) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 يقول أبو حامد الغزالي: فإن قلت: فعلم الجدل والكلام مذموم كعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب إليه؟ فاعلم أن الناس في هذا غلواً وإسرافاً، في أطراف فمن قائل إنه بدعة وحرام وأن العبد إن يلقى الله بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام، ومن قائل إنه فرض إما على الكفاية وإما على الأعيان وأنه أفضل الأعمال وأعلى القربات، فإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال عن دين الله، وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع أئمة الحديث من السلف .. وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا، لا ينحصر ما نقل عنهم من التشديد فيه قالوا ما سكت عنه الصحابة مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح في ترتيب الألفاظ من غيرهم – إلا لما يتولد من الشر -.وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((هلك المتنطعون)) (1).، أي المتعمقون في البحث والاستقصاء واحتجوا أيضاً بأن ذلك لو كان من الدين لكان أهم ما يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلم طريقه ويثني على أربابه ... فإن قلت فما المختار عندك؟ فأجاب: فيه منفعة وفيه مضرة فهو في وقت الانتفاع حلال أو مندوب أو واجب كما يقتضيه الحال وهو باعتبار مضرته في وقت الاستقرار ومحله حرام، فأما مضرته فإثارة الشبهات وتحريف العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم وذلك مما يحصل بالابتداء ورجوعها بالدليل مشكوك فيه ويختلف فيه الأشخاص فهذا ضرورة في اعتقاد الحق وله ضرر في تأكيد اعتقاد البدعة وتثبيتها في صدروهم. بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه لكن هذا الضرر بواسطة التعب الذي يثور من الجدل، أما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه وهيئتها فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف ولعل التخبيط والتضليل أكثر من الكشف والتعريف، وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخرى سوى نوع الكلام وتحقيق أن الطريق إلى المعرفة في هذا الوجه مسدود ولعمري لا ينفعك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور ولكن على الندور (2).أما كبير المتكلمين الذي يدور على مقالاته مذاهبهم أوحد زمانه في المعقول والمنقول أبو عبدالله الفخر الرازي، فقد أوصى عند موته كما في كتاب (عيون الأنباء) فقال: "وكنت أكتب في كل شيء شيئاً، لا أقف على كميه وكيفيه سواء كان حقاً أو باطلاً غثاً أو سميناً .. ولقد اختبرت الطريق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله تعالى ويمنع عن التعميق في إيراد المعارضات والمناقصات، وماذاك إلا العلم بأن العقول البشرية تتلاشي، وتضمحل في تلك المضايق العميقة والمناهج الخفية .. وأقول ديني متابعة محمد سيد المرسلين وكتابي هو القرآن العظيم وتعويلي في طلب الدين عليهما" (3).وأما الإمام الجويني، فإنه ندم على ما كان منه من تضييع عمره في تحصيل علم الكلام ونهى أصحابه عن الخوض فيه فقال: "يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ إلى ما بلغ ما اشتغلت به، وقال عند موته: لقد خضت البحار الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته، فالويل لابن الجويني ها أنا أموت على عقيدة أمي – أو قال – على عقيدة عجائز نيسابور (4)، وقال: اشهدوا علي أني رجعت عن كل مقالة يخالف فيها السلف" (5).ولقد اقتصرنا في سرد أقوال بعض المتكلمين وتركنا آخرين لكفاية ما ذكرنا، فرجوع هؤلاء الأكابر وقضاؤهم على النظر المتعمق فيه بما سمعت، بعد أن أفنوا فيه أعمارهم من أوضح الحجج على من دونهم (6) وبطلان مأخذهم واشتغالهم بعلم الكلام واستدلالهم بموجبه. ومن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه حجبه مرامه عن خالص التوحيد وصافي المعرفة وصحيح الإيمان فيتذبذب بين الكفر والإيمان والتصديق والتكذيب والإقرار والإنكار موسوساً تائهاً شاكاً لا مؤمناً مصدقاً ولا جاحداً مكذباً (7). المصدر: الفروق في العقيدة بين أهل السنة والأشاعرة لصادق عبده السفياني - ص 63   (1) ((الرد على الجهمية)) (ص: 22)، بتحقيق بدر البدر. (2) ((إحياء علوم الدين)) (1/ 94 - 97). وانظر ابن أبي العز ((شرح الطحاوية)) (ص: 204 – 205). (3) عبدالرحمن المعلمي ((القائد إلى تصحيح العقائد)) (ص: 74 - 75). (4) ابن أبي العز الحنفي ((شرح الطحاوية)) (ص: 209). (5) ابن أبي العز الحنفي ((شرح الطحاوية)) (ص: 70). (6) المعلمي ((القائد إلى تصحيح العقائد)) (ص: 75). (7) ((العقيدة الطحاوية)) (ص: 21 - 22) تعليق الشيخ بن باز – رحمه الله -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 المبحث الرابع: نشأة المذهب الأشعري وانتشاره لتحديد نشأة الأشعرية لا ينفك الأمر من حالين: الحالة الأولى: النظر إلى حقيقة المذهب الذي تميز به الأشاعرة عن غيرهم، فهنا لا ترتبط النشأة بأبي الحسن الأشعري، وإنما ترتبط بابن كلاب ومدرسته الكلابية. الحالة الثانية: النظر إلى التسمية، فلا شك أن التسمية بالأشاعرة أو المذهب الأشعري مرتبطة بأبي الحسن الأشعري وتلامذته من بعده. ويتضح الفرق بالنسبة لمن كان معاصرا للأشعري وتتلمذ على ابن كلاب أو تلامذته دون الأشعري وتلامذته مع أنه يقول بقول ابن كلاب الذي هو قول الأشعري، فمثل هذا أشعري الاعتقاد لكنه لا ينسب إلا إلى ابن كلاب، وفي خراسان وغيرها من بلاد الإسلام النائية قد توجد مثل هذه النماذج، ولذلك لما عرض شيخ الإسلام ابن تيمية لنشأة المذهب الكلابي في كلام الله ربطه بابن كلاب ومدرسته، فقال: "وكان ... قد نبغ في أواخر عصر أبي عبدالله (أحمد ابن حنبل) من الكلابية ونحوهم؛ أتباع أبي محمد عبدالله بن سعيد ابن كلاب البصري، الذي صنف مصنفات رد فيها على الجهمية والمعتزلة وغيرهم، وهو من متكلمة الصفاتية، وطريقته يميل فيها إلى مذهب أهل الحديث والسنة، لكن فيها نوع من البدع، لكونه أثبت قيام الصفات بذات الله ولم يثبت قيام الأمور الاختيارية بذاته، ولكن له في الرد على الجهمية – نفاة الصفات والعلو – من الدلائل والحجج وبسط القول ما بين به فضله في هذا الباب، وإفساده لمذاهب نفاة الصفات بأنواع من الأدلة والخطاب، وصار ما ذكره معونة ونصيرا وتخليصا من شبههم لكثير من أولي الألباب، حتى صار قدوة وإماما لمن جاء بعده من هذا الصنف الذين أثبتوا الصفات، وناقضوا نفاتها، وإن كانوا قد شاركوهم في بعض أصولهما الفاسدة، التي أوجبت فساد بعض ما قالوه من جهة المعقول ومخالفته لسنة الرسول". "وكان ممن اتبعه الحارث المحاسبي وأبو العباس القلانسي، ثم أبو الحسن الأشعري، وأبو الحسن بن مهدي الطبري، وأبو العباس الصبغي، وأبو سليمان الدمشقي، وأبو حاتم البستي، وغير هؤلاء، المثبتين للصفات المنتسبين إلى السنة والحديث، المتلقبين بنظار أهل الحديث". "وسلك طريقة ابن كلاب – في الفرق بين الصفات اللازمة كالحياة، والصفات الاختيارية، وأن الرب يقوم به الأول دون الثاني – كثير من المتأخرين، من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد، كالتميميين أبي الحسن التميمي، وابنه أبي الفضل التميمي، وابن ابنه رزق الله التميمي، وعلى عقيدة الفضل التي ذكر أنها عقيدة أحمد اعتمد أبو بكر البيهقي فيما ذكره من مناقب أحمد بن الاعتقاد"."وكذلك سلك طريقة ابن كلاب هذه أبو الحسن بن سالم وأتباعه "السالمية" والقاضي أبو يعلى وأتباعه كابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني، وهي طريقة أبي المعالي الجويني، وأبي الوليد الباجي، والقاضي أبي بكر بن العربي، وغيرهم، لكنهم افترقوا في القرآن، وفي بعض المسائل على قولين – بعد اشتراكهم في الفرق الذي قرره ابن كلاب –" (1). فالأصل الذي قرره ابن كلاب قال به هؤلاء كلهم، وفيهم الأشاعرة وغيرهم ممن لا ينسب إليهم كالسالمية وبعض الحنابلة. ومع مرور الزمن بدأت تنقرض النسبة إلى ابن كلاب لتحل محلها النسبة إلى الأشعري، والسؤال الذي يطرح هنا هو: إذا كان قول ابن كلاب هو الأصل فلماذا لم ينسب إليه مذهب الأشاعرة وإنما نسب إلى أبي الحسن الأشعري؟ ويمكن الجواب عن هذا السؤال من خلال الأمور التالية:   (1) الكلابية، ((مجموع الفتاوى)) (12/ 366 - 368). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 1 - أن أبا الحسن الأشعري لم يكن صورة طبق الأصل لابن كلاب ومدرسته، وأتباعه له في أصل معين لا يعني أنه في جميع آرائه وأقواله كان متابعا له، فمثلا مع أن الأشعري قال بنفي حلول الحوادث بذات الله وهو ما يسمى بالصفات الاختيارية القائمة بالله، وهذا هو الأصل الذي قال به ابن كلاب ومدرسته، إلا أن الأشعري خالف ابن كلاب في جوانب من مسألة الكلام التي هي أهم المسائل، فإنه قال بأزلية الأمر والنهي، أما ابن كلاب فقال بحدوث ذلك، وعدم التطابق بين آراء الرجلين له دلالته في تحديد نسبة المذهب إلى أحدهما، خاصة وأن مسألة الكلام من أهم المسائل التي تميز المذهب الأشعري لأن غيرها من المسائل قد شارك غير الأشاعرة القول فيها.2 - أن ابن كلاب جاء في وقت محنة أهل السنة من جانب المعتزلة، ولما زالت المحنة برز في مجتمع الإسلام كعلم من أعلام أهل السنة الإمام أحمد ابن حنبل، أما ابن كلاب ومن اتبعه فردودهم على المعتزلة والجهمية وإن كانت قوية إلا أنهم شابوها بشيء من البدع، فإذا أضيف إلى ذلك تحذير أئمة أهل السنة كالإمام أحمد وغيره من هؤلاء، فلا شك أن قدرة ابن كلاب في التأثير على الناس ستكون محصورة في نطاق معين لا تتعداه، وهذا ما حدث (1). أما أبو الحسن الأشعري فقد جاء بعد هدوء العاصفة، وركون الناس إلى أن مذهب أهل السنة هو الغالب المسيطر، لذلك لما قام الأشعري في الرد على المعتزلة كانت الأوضاع مهيأة لاشتهاره وتبني مجموعة من الأعلام لمذهبه.3 - من الأمور المهمة قصة انتقال الأشعري عن الاعتزال إلى مذهب السلف فمن المعلوم أنه قد بلغ مكانة ومنزلة في مذهب المعتزلة حتى صار صنوا لأحد أعلامها، ينوب عنه في الدروس والمناقشات الاعتزالية، وحتى صار يؤلف الكتب لدعم مذهبهم، وهي كتب صارت معتمدة في مذهبهم حتى قال الأشعري عن أحدها بعد أن نقضه ورد عليه: "إنه لم يرق لهم كتاب مثله" (2)، وفي ظل هذه الأوضاع التي تنبئ عن وجود نهضة اعتزالية – تعيد إليها سابق عزها – إذا بالعالم الإسلامي يفاجأ بهذا القرار الخطير يتخذه أشهر أعلام المعتزلة معلنا رجوعه التام عن جميع أقوال المعتزلة، ويتبع ذلك بكشف ضلالاتهم، والرد عليم بأسلوب كلامي قوي يوازي ما عند المعتزلة من قدرة وأساليب. والمفاجأة إذا وقعت بهذا المستوى ينسى الناس معها تفاصيل الأمور، من مثل أن الأشعري لم يكن رجوعه إلى مذهب السلف كاملا، وأن لديه بعض البقايا من أصول المعتزلة – وتنحصر القضية في رد العدو الأكبر "المعتزلة" ولا شك أن الرد عليهم وكشف ضلالاتهم في ذلك الوقت جهاد وأي جهاد، يقول ابن عساكر - فيما رواه عن ابن عذرة – في قصة رجوع الأشعري وصعوده المنبر وإعلان ذلك على الملأ: "ودفع الكتب إلى الناس فمنها كتاب (اللمع) وكتاب أظهر فيها عوار المعتزلة سماه بكتاب (كشف الأسرار وهتك الأستار) وغيرهما، فلما قرأ تلك الكتب أهل الحديث والفقه من أهل السنة والجماعة أخذوا بما فيها، وانتحلوه، واعتقدوا تقدمه، واتخذوه إماما، حتى نسب مذهبهم إليه، قال لي أبو بكر – أي ابن عذرة – فصار عند المعتزلة ككتابي أسلم وأظهر عوار ما تركه فهو أعدى الخلق إلى أهل الذمة، وكذلك الأشعري أعدى الخلق على المعتزلة، فهم يشنعون عليه من الأشانيع وينسبون إليه الأباطيل" (3).   (1) انظر: ((دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية)) عرفان عبدالحميد (ص: 147 - 148). (2) ((تبيين كذب المفتري)) (ص: 131). (3) ((تبيين كذب المفتري)) (ص: 131). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 4 - ومن أسباب نسبة المذهب إلى الأشعري كثرة مؤلفاته، ورسائله، فمؤلفاته قد تزيد على ثلاثمائة كتاب، وكما أن الأسئلة كانت تأتيه من الآفاق ويكتب في ذلك رسائل مختلفة، وسرعان ما تشتهر وتنتشر بين الناس، وهذا بخلاف ابن كلاب الذي كانت مؤلفاته قليلة، ولم تكن تلقى قبولا بسبب موقف أئمة أهل السنة منه، بل وصل الأمر إلى أن يتستر بالكلابية بما عندهم كما حدث لتلامذة ابن خزيمة الموافقين لابن كلاب، فإنهم لم يستطيعوا أن يظهروا ما عندهم فضلا عن أن ينشروه أو يدّرسوه.5 - وأخيرا يأتي دور تلاميذ الأشعري، ومن جاء بعدهم من تلامذتهم في ترسيخ نسبة المذهب إليه في دروسهم وكتبهم، إضافة إلى دورهم في نشره والدفاع عنه، يقول القاضي عياض عن الأشعري: "فلما كثرت تواليفه، وانتفع بقوله، وظهر لأهل الحديث والفقه ذبه عن السنن والدين، تعلق بكتبه أهل السنة وأخذوا عنه، وتفقهوا في طريقه، وكثر طلبته وأتباعه لتعلم تلك الطرق في الذب عن السنة، وبسط الحجج والأدلة في نصر الملة، فسموا باسمه، وتلاهم أتباعهم وطلبتهم فعرفوا بذلك، وإنما كانوا يعرفون قبل ذلك بالمثبتة، سمة عرفتهم بها المعتزلة؛ إذ أثبتوا من السنة والشرع ما نفوه، فبهذه السمة أولا كان يصرف أئمة الذب عن السنة من أهل الحديث كالمحاسبي، وابن كلاب، وعبدالعزيز بن عبدالملك المكي، والكراسي، إلى أن جاء أبو الحسن، وأشهر نفسه، فنسب طلبته والمتفقهة عليه في علمه ونسبه، كما نسب أصحاب الشافعي على نسبه وأصحاب مالك وأبي حنيفة وغيرهم من الأئمة إلى أسماء أئمتهم الذين درسوا كتبهم، وتفقهوا بطرقهم في الشريعة، - وهم لم يحدثوا فيها ما ليس منها – فكذلك أبو الحسن، فأهل السنة من أهل المشرق والمغرب بحججه يحتجون، وعلى منهاجه يذهبون، وقد أثنى عليه غير واحد منهم، وأثنوا على مذهبه وطريقه" (1). المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 2/ 493   (1) ((ترتيب المدارك)) (5/ 25) – ط مغربية -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 المبحث الخامس: أسباب انتشار المذهب الأشعري لا شك أن مذهب الأشاعرة انتشر في أنحاء العالم الإسلامي، حتى كاد يستقر في بعض الأزمنة أن مذهبهم هو مذهب أهل السنة والجماعة، ومع أن هناك مواقف لكثير من العلماء من المذهب الأشعري إلا أن هذه المواقف كثيرا ما تأخذ شكل صراعي مذهبي تنتقل بسببه القضية إلى إطار آخر، ومن ثم يكثر الخصام وتتعدد الاتهامات، ويحمل كل فريق على الآخر، ثم قد يصاحب البعض الهوى والتعصب المذهبي، فيزاد في الكلام وينقص، ويحمل على غير محامله، ويسيىء كل طرف الظن بالطرف الآخر، ولذلك قلما تنتهي مناقشة من هذه المناقشات إلى اتفاق على رأي واحد يكون مبنيا على أسس سليمة من مذهب ومنهج أهل السنة والجماعة حيث يدعي الطرفان أنهم لا يخالفونه. وهذا تفسير لما حدث، وإلا فالواجب أن يكون رائد كل مسلم الوصول إلى الحق بالأدلة الصحيحة. ومذهب أهل السنة والجماعة إنما هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، ومن ثم فعلى كل عالم أن لا يجعل الانتساب إلى طائفة أو جماعة - غير أهل السنة – شعارا له يفاصل عليه ويوالي ويعادي من أجله. وقد يقول القائل: إذا كان مذهب الأشاعرة فيه ما فيه من هنات وعليه ما عليه من ملاحظات فلماذا انتشر في العالم الإسلامي؟ ولماذا تبناه جمهرة من جلة العلماء من أهل الفقه والحديث؟ يجيب على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية من وجوه: "أحدها: كثرة الحق الذي يقولونه، وظهور الآثار النبوية عندهم. الثاني: لبسهم ذلك بمقاييس عقلية، بعضها موروث عن الصابئة، وبعضها مما ابتدع في الإسلام، واستيلاء ما في ذلك من الشبهات عليهم، وظنهم أنه لم يمكن التمسك بالإثارة النبوية من أهل العقل والعلم إلا على هذا الوجه. الثالث: ضعف الإثارة النبوية الدافعة لهذه الشبهات، والموضحة لسبيل الهدي عندهم. الرابع: العجز والتفريط الواقع في المنتسبين إلى السنة والحديث، تارة يروون مالا يعلمون صحته، وتارة يكونون كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، ويعرضون عن بيان دلالة الكتاب والسنة على حقائق الأمور" (1). أما أهم أسباب انتشار مذهب الأشاعرة في العالم الإسلامي فيمكن تلخيصها في الأمور التالية:1 - أفول نجم المعتزلة، مع ظهور المذهب الأشعري كخصم لمذهبهم (2).2 - نشأة المذهب في حاضرة الخلافة العباسية "بغداد"، ولا شك أن أنظار الناس في شتى الأقطار تتجه في الغالب إلى دار الخلافة، ففيها الفقهاء والمحدثون والمقرئون، كما أنها من أهم البلدان التي يرحل إليها العلماء ليسمعوا الروايات أو يحدثوا فيها بمروياتهم، فلما نشأ المذهب الأشعري في بغداد وهي على هذه الحالة كثر المتلقون لهذا المذهب، الناقلون له إلى كل مكان، وهذا – مثلا – بخلاف مذهب الماتريدي الذي نشأ في زمن الأشعري لكنه كان في بلاد ما وراء النهر فلم ينتشر كانتشار المذهب الأشعري (3).   (1) ((مجموع الفتاوى)) (12/ 33). (2) انظر ((علم الكلام: الأشاعرة)) (ص: 68). (3) انظر ((علم الكلام: الأشاعرة)) (ص: 28). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 3 - تبني بعض الأمراء والوزراء لمذهب الأشاعرة واحتضان رجالهم له، ومن أبرز هؤلاء: أ- الوزير نظام الملك الذي تولى الوزارة لسلاطين السلاجقة، فتولى الوزارة لألب أرسلان وملكشاة مدة ثلاثين سنة، من سنة 455 - 485هـ والسلاجقة جاءوا على أثر البويهيين الشيعة الذين كانوا يوالون الدولة الفاطمية الباطنية، ولما استولى السلاجقة على بغداد وقضوا عليهم سنة 447هـ لم تمض سنوات قليلة حتى حدثت فتنة البساسيري – أحد القواد الأتراك الموالين لبني بويه – وكان ذلك سنة 450هـ، وكان من آثارها أن احتل بغداد وأعلن الخطبة للخليفة المستنصر بالله العلوي العبيدي، وأمر بأن يؤذن بحي على خير العمل، وعزل الخليفة العباسي القائم بأمر الله وكتب عليه عهدا أن لا حق له في الخلافة ولا لبني العباس وأرسل العهد إلى الخليفة الفاطمي في القاهرة، وقد استمرت فتنة البساسيري سنة كاملة حتى قضى عليها السلاجقة وأعيد الخليفة العباسي. لذلك جاءت دولة السلاجقة لتنصر أهل السنة ضد أهل الرفض والبدعة، والوزير نظام الملك من أعظم وزرائهم أثرا وخطرا وكانت له جهود عظيمة في حرب الحركات الباطنية والإسماعيلية وتحدث عنها طويلا في كتابه المشهور (سياست نامة) أو (سير الملوك) (1)، ومن أهم آثاره المدارس النظامية التي أنشئت في مدن عديدة منها: البصرة، وأصفهان، وبلخ، وهراة، ومرو، والموصل، وأهمها وأكبرها المدرسة النظامية في نيسابور وفي بغداد، وقد جعلهما أوقافهما وقفا على أصحاب الشافعي أصلا وفرعا (2)، وكان نظام الملك معظما للصوفية وللقشيري والجويني وغيرهما من أعلام الأشعرية، وقد كان هؤلاء يلقون دروسهم في هذه المدارس على المذهب الشافعي، ويدرسون أصول العقيدة الأشعرية، فكان لذلك دور عظيم في نشرها (3).ب- المهدي بن تومرت، مهدي الموحدين، توفي سنة 524هـ، فقد دعا إلى المذهب الأشعري وتبناه وكان له دور عظيم في نشره (4).ج- نور الدين محمود بن زنكي، الذي جاهد الصليبيين، وقد ولد سنة 511هـ وتوفي سنة 569هـ (5)، وكان من آثاره أنه بني أكبر دار للحديث في دمشق ووكل مشيختها إلى ابن عساكر صاحب (تبيين كذب المفتري) (6)، كذلك أنشأ في حلب سنة 544هـ المدرسة النفرية النورية، وكانت للشافعية، وتولى التدريس فيها قطب الدين مسعود بن محمد النيسابوري (7) وكان أحد أساتذة المدرسة النظامية في نيسابور، وكان أحد أعلام أهل الكلام على المذهب الأشعري، وفي عهد نور الدين بدأت صلة قطب الدين مسعود بصلاح الدين الأيوبي، وتوثقت فيما بعد – كما سيأتي -.   (1) (ص: 234 – وما بعدها -)، وانظر عن فتنة البساسيري: ((الكامل)) (9/ 640 - 650) و ((التاريخ الفارقي)) (ص: 152)، و ((تاريخ دولة آل سلجوقي)) (ص: 16 - 20)، و ((زبدة التواريخ للحسيني)) (ص: 59 - 63)، و ((سياسة الفاطميين الخارجية)) (ص: 179). (2) انظر: ((المنتظم)) (9/ 65 - 66)، و ((تاريخ الفكر الفلسفي)) – ((أبو ريان)) (ص: 213). (3) انظر: ((المنتظم)) (9/ 65)، و ((طبقات السبكي)) (4/ 316). (4) انظر: ((المعجب صك)) (275)، و ((الخطط للمقريزي)) (2/ 358)، و ((ظهر الإسلام)) (4/ 97 - 98). (5) انظر: في ترجمته: ((الكواكب الدرية في السيرة النورية لابن قاضي شهبة)) (ص: 15) وما بعدها، ((والروضتين / وما بعدها والتاريخ الباهر)) (ص: 95) وما بعدها. (6) انظر: ((التاريخ السياسي والفكري)) (ص: 261). (7) انظر: ((التاريخ السياسي والفكري)) (ص: 252). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 ولا شك أن لهذه المدارس، والمدارس النظامية، متمثلة بأولئك العلماء الذين درسوا فيها أثرا عظيما في مقاومة التيار الباطني الإسماعيلي، ومعلوم أن من أعظم آثار نور الدين وصلاح الدين القضاء على الدولة الفاطمية الباطنية في مصر، حيث حلت محلها دولة سنية حكمها صلاح الدين الأيوبي نائبا لنور الدين ثم مستقلا بعد وفاته – رحمهم الله -.د- صلاح الدين الأيوبي:، يقول المقريزي: "وأما العقائد فإن السلطان صلاح الدين حمل الكافة على عقيدة أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري تلميذ أبي علي الجبائي، وشرط ذلك في أوقافه التي بديار مصر كالمدرسة الناصرية بجوار قبر الإمام الشافعي من القرافة، والمدرسة الناصرية التي عرفت بالشريفية" (1). ثم يقول عن المذهب الأشعري: "فلما ملك السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ديار مصر كان هو وقاضيه صدر الدين عبدالملك بن عيسى بن درباس الماراني على هذا المذهب قد نشآ عليه منذ كانا في خدمة السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق، وحفظ صلاح الدين في صباه عقيدة ألفها له قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري، وصار يحفظها صغار أولاده، فلذلك عقدوا الخناصر وشدوا البنان على مذهب الأشعري، وحملوا في أيام دولتهم كافة الناس على إلتزامه، فتمادى الحال على ذلك جميع أيام الملوك من بني أيوب، ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك" (2)، وإذا كان قطب الدين مسعود قد ألف لصلاح الدين عقيدة (3)، فإن الفخر الرازي قد ألف كتابه المشهور (أساس التقديس) – الذي نقضه شيخ الإسلام ابن تيمية – للملك العادل محمد بن أيوب بن شادي أخو صلاح الدين. المتوفى سنة 615هـ (4). أما ابنه الأشرف بن العادل فقد مال إلى الحنابلة وأهل السنة في العقيدة، وجرت بينه وبين العز بن عبدالسلام – وهو أشعري – مناقشة ومحنة طويلة (5). 4 - ومن أسباب انتشار المذهب الأشعري أن جمهرة من العلماء اعتمدوه ونصروه، وخاصة فقهاء الشافعية والمالكية المتأخرين، والأعلام الذين تبنوه: الباقلاني، وابن فورك، والبيهقي، والإسفراييني، والشيرازي، والجويني، والقشيري، والبغدادي، والغزالي، والرازي، والآمدي، والعز ابن عبدالسلام، وبدر الدين ابن جماعة، والسبكي، وغيرهم كثير، ولم يكن هؤلاء أشاعرة فقط، بل كانوا مؤلفين ودعاة إلى هذا المذهب، ولذلك ألفوا الكتب العديدة، وتخرج على أيديهم عدد كبير من التلاميذ. كما انتشر في أنحاء عديدة بواسطة هؤلاء، ففي الحجاز انتقل إليه المذهب الأشعري بواسطة أبي ذر الهروي (6)، كما انتقل عن طريقه إلى المغرب عن طريق المغازبة الذين كانوا يأتون إلى الحج، وكان ممن له أثر في نشره في المغرب بين المالكية أبو بكر الأبهري، والباقلاني وتلامذته (7)، والباجي وابن العربي (8) وغيرهم، كما دافع كل من ابن أبي زيد القيرواني، وأبي الحسن القابس عن الأشعري (9).ويذكر المقريزي أنه قد انتشر في العراق نحو سنة 380هـ، وانتقل منه إلى الشام (10)، وممن انتشر على يديه في الشام أبو الحسن عبدالعزيز بن محمد الطبري المعروف بالدمل (11). وفي العصور المتأخرة كان لتبني كثير من دور العلم والجامعات عقيدة ومذهب الأشاعرة دور في نشره، ومن أهمها الجامع الأزهر في مصر مع ما له من مكانة علمية في العالم الإسلامي. هذه أهم أسباب انتشار المذهب الأشعري، وهي تدل على مدى تغلغل هذا المذهب بين الناس، وإن كانت الجمهرة الغالبة للمسلمين تؤمن بهذا الدين وعقيدته بإجمال وتعظم السلف ومنهجهم، لأنها لا تعرف المداخل الكلامية والقضايا العقلية التي يعتمدها أهل الكلام. المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 2/ 497   (1) ((الخطط للمقريزي)) (2/ 343). (2) ((الخطط)) (2/ 358)، وانظر ((خبيئة الأكوان)) (ص: 48)، و ((نظريات شيخ الإسلام، للاووست)) (1/ 141 - 142)، و ((ابن تيمية لأبي زهرة)) (ص: 25). (3) انظر ((سيرة صلاح الدين لابن شداد)) (ص: 7)، و ((طبقات السبكي)) (7/ 297). (4) انظر ((أساس التقديس)) (ص: 3)، و ((سير أعلام النبلاء)) (22/ 120). (5) انظر: ((طبقات السبكي)) (8/ 218)، و ((التاريخ السياسي والديني)) (ص: 298). (6) انظر: ((صون المنطق)) (1/ 122)، و ((درء التعارض)) (1/ 27، 2/ 101). (7) انظر: ((تبيين كذب المفتري)) (ص: 120، 121، 410)، و ((التطور المذهبي بالمغرب)) (ص: 28 - 30). (8) انظر: ((نشأة الفكر الفلسفي)) – النشار (1/ 284). (9) انظر: ((تبيين كذب المفتري)) (ص: 123 - 124)، ولأبي نصر السجزي في ((رسالة من أنكر الحرف والصوت)) وتعليق مهم على ذلك (ص: 298 - 304). (10) انظر: ((الخطط)) (2/ 358). (11) انظر: ((التبيين)) (ص: 195). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 المبحث السادس: تطور مذهب الأشاعرة من الأمور المسلمة لدى الأشاعرة وغيرهم أن أقوال الأشاعرة تعددت واختلفت في مسائل عديدة من مسائل العقيدة، وكل علم من أعلامهم حوت مؤلفاته ورسائله آراء توصل إليها إما باجتهاده أو تقليدا لأحد أعلام عصره أو مدرسته ممن تلقى على يديه العلوم والمعارف، فأصبح ذا منهج مستقل، ثم قد يرجع عن بعض أقواله في مؤلف أومؤلفات أخرى فتكثر الأقوال وتتعدد المناهج. ويعتبر الأشاعرة مثل هذا الاختلاف أو التعدد في الأقوال اجتهادا داخل المذهب لا يؤثر عليه، ويجددون التفسير المناسب لمثل ذلك، فيقولون مثلا في بعض الصفات الخبرية، قال قدماء أصحابنا أو شيوخنا بإثباتها مع التفويض ونفي التشبيه، ثم يذكرون القول الثاني بالتأويل تنزيها لله عن مشابهة المخلوقات، والقولان - عندهم - صحيحان ولا تعارض بينهما، والعجيب أن يتلقى الأشاعرة بعضهم عن بعض مثل هذا، لا يتوقفون عنده، ولا يثيرهم ما فيه من تناقض. والحق أن التطور في المذهب الأشعري لم يكن في مسألة من المسائل بحيث لا يؤبه له، ولا يلفت النظر، بل كان تطورا في الأصول والمناهج، ويتعدى ذلك إلى مسائل عديدة في العقيدة، وقد كان أبرز مظاهر التطور في المذهب الأشعري ما يلي: أ - القرب من أهل الكلام والاعتزال. ب - الدخول في التصوف، والتصاق المذهب الأشعري به. جـ- الدخول في الفلسفة، وجعلها جزءا من المذهب. هذه أهم الخطوط العامة لما وقع من التطور فيه، وقد تكون هناك تطورات جزئية، لكنها تدخل ضمن أحد هذه الأمور، وهناك بعض الظواهر في المذهب الأشعري قد تلفت نظر المطلع، وذلك مثل ظاهرة ارتباط المذهب الشافعي الفقهي بالمذهب الأشعري، ومثله المالكي، ولكن هذه لا تعدو أن تكون دعوى يدعيها بعض المتحمسين للمذهب الأشعري، وأقرب الأمثلة على ذلك السبكي في (طبقات الشافعية)، فقد حاول أن يجعل من كتابه هذا ما يمكن أن يسمى بـ (طبقات الأشعرية)، ويلاحظ ذلك من يطلع على التراجم في هذا الكتاب وأسلوبه في عرض كل ترجمة، ولا شك أن المدارس النظامية وبعض أعلام الشافعية كان لهم أثر فيما يلمس من تبني جمهرة كبيرة من فقهاء الشافعية للمذهب الأشعري، ولكن ليس بهذه الصورة التي يدعيها هؤلاء، كما أنه ليس كل الحنابلة مثبتة على وفق مذهب السلف، بل فيهم أعداد مالت إلى مذهب الأشاعرة أو إلى ما هو أشد غلوا منه. 1 - إن الانحراف يبدأ في الغالب صغيرا، ثم يكبر، والمتتبع لأغلب المقالات، يجدها تبدأ صغيرة ثم يزداد انحرافها وغلوها مع الزمن، والمذهب الأشعري لما أن حوى منذ البداية انحرافا معينا سواء كان بالدخول في علم الكلام، أو تبني بعض آراء المعتزلة - وهذا كله مما يخالف مذهب السلف ومنهجهم - أصبح قابلا للزيادة في هذا الانحراف من خلال التمادي في علم الكلام والتزام لوازم الأقوال الفاسدة، والاستسلام لبعض شبهات أهل الضلال، وعدم القدرة على رد باطلهم إلا بالتزام بعض الأقوال الفاسدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 2 - كثرة مؤلفات مؤسسة أبي الحسن الأشعري، مع ما صاحب ذلك من كونه نشأ وعاش زمنا طويلا في ظل مذهب المعتزلة، وكان من آثار ذلك عدم استطاعته التخلص من المنهج الكلامي في عرض العقيدة، بل زاد على ذلك بأن التزم بعض أصولهم، وهذا كله بعد رجوعه، وقد كان من المفترض أن يكون رجوعه كاملا عن منهجهم وعقيدتهم إلى منهج وعقيدة السلف، لكن الذي وقع أنه ترك الاعتزال وتبنى مذهب الكلابية، فإذا أَضيف إلى ذلك كثرة مؤلفاته ورسائله التي ألفها بعد رجوعه واستخدامه في غالبها الأسلوب العقلي الكلامي، كما هو واضح في مثل كتابه (اللمع) وفي ما حواه كتاب ابن فورك (مجرد مقالات أبي الحسن الأشعري)، مع تأخر كتابه (الإبانة)، وكونه كتابا واحدا في مقابل عشرات الكتب المنتشرة، فهذا يفسر ما وقع من تطور في مذهب الأشاعرة، مع قناعة أعلامهم بأنهم لم يخالفوا أقوال شيخهم الأشعري مخالفة أصولية. 3 - إن المذهب لم يبن منذ البداية على منهج مؤصل؛ حيث لم يحدد له أصول واضحة في الاعتقاد أو كيفية التعامل مع النصوص، والأشعري في (الإبانة) كان صاحب منهج يختلف عن منهجه في كثير من كتبه، لذلك فالمذهب منذ البداية نشأ على التذبذب بين موافقة مذهب السلف، والرد على المعتزلة، وتأييد العقيدة بعلم الكلام، ولو نشأ المذهب واضح المعالم في الاستدلال للعقيدة أو الرد على المخالفين لكان ذلك مانعا من اجتهاد يأتي فيما بعد يؤدي إلى الانحراف، وهذا ما حدث بالنسبة لما كتبه أعلام السلف في ردودهم على الجهميةو المعتزلة، فعلى الرغم من المناقشات العقلية، والإلزامات القوية للخصوم، في مؤلفات الأئمة مثل الإمام أحمد، والكناني، والدارمي، وابن قتيبة، وغيرهم، لم تؤد هذه الردود- التي بقيت وحفظت - إلى شيء من الانحراف، بل على العكس كان لها دور في دعم مذهب السلف وإسكات خصومهم. 4 - رفض أهل السنة للمذهب الأشعري منذ البداية مما كان سببا في جعله مذهبا منعزلا عنهم، ولقد كان رفض أئمة الحديث والسنة له الأثر النفسي والواقعي في حياة الناس، حرص المتأخرون على الدفاع عن مذهبهم وعقيدتهم الأشعرية ودعمها بالأدلة، وبيان بعدها عن التشبيه والتجسيم الذي قد يصمون به أهل الإثبات، والمعارضة القوية من جانب علماء السلف لمذهب الأشاعرة ورمي معتنقيه - أحيانا - بأنهم نفاة ومعتزلة، يؤدي إلى ردود فعل نفسية من جانب هؤلاء فيؤدي إلى اتساع دائرة البعد بين الفريقين. 5 - ومن الأسباب أيضا فشو التقليد في أصول العقيدة وفروع الأحكام فقد يقلد شيخه في إحدى المسائل؛ ظنا منه أنه - وهو العالم المشهور- ما قال بها إلا هي حق، ثم يضطر في النهاية إلى التزام لوازم هذه المسألة، وقد تكون لوازم باطلة، لكنه التزمها التزاما لأصلها الذي أخذه تقليدا، وقد يكون شيخه قال بهذه المسألة بناء على وجه معين وهو يرفض لوازمها لو ألزمها. 6 - وهناك أسباب أخرى مثل الهوى، والتعصب لطائفة أو لمذهب، وحرص أهل الباطل على التفريق بين المسلمين بإثارة الفتن بينهم، وغيرها. المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 2/ 511 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 المبحث السابع: بيان درجات التجهم ومنزلة الأشعرية فيه درجات التجهم، ومنزلة الأشاعرة في التجهم، ومعرفة أصنافهم: فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الجهمية على ثلاث درجات فذكرهم ... (1) وفيما يلي ملخص ما ذكره: الدرجة الأولى: الجهمية الغلاة، وهم الذين ينفون أسماء الله وصفاته ويجعلون إطلاق الأسماء من باب المجاز. الدرجة الثانية: الجهمية الذين يقرون بأسماء الله الحسنى في الجملة ويجعلون كثيراً منها على المجاز، وينفون صفات الله، وهذا النوع من التجهم هو تجهم المعتزلة ونحوهم، وهم الجهمية المشهورون. ولا خلاف بيننا وبين الأشاعرة في عدم عد هؤلاء من أهل السنة والجماعة. الدرجة الثالثة: طائفة من الصفاتية المثبتين المخالفين للجهمية، ولكن فيهم نوع من التجهم، وأطلق عليهم: الجهمية لاشتراكهم في رد طائفة من الصفات، وأهل هذه الدرجة على مراتب ثلاث: أهل المرتبة الأولى منهم: من يقر بالصفات الخبرية الواردة في القرآن دون الحديث. وأهل المرتبة الثانية منهم: الذين يقرون بالصفات الواردة في الأخبار أيضاً في الجملة مع نفيهم وتعطيلهم لبعض ما ثبت بالنصوص، وذلك كأبي محمد بن كلاب ومن تبعه بعد ذلك كأبي الحسن الأشعري. وأهل المرتبة الثالثة: تنتسب إلى أهل المرتبة الثانية إلا أنهم قاربوا المعتزلة الجهمية أكثر في النفي وخالفوا من انتسبوا إليه، وفيهم من يتقارب نفيه وإثباته مع كثرة تناقضهم، ومنهم الرازي والغزالي. ويفصل شيخ الإسلام ابن تيمية أكثر في بيان مخالفة كثير من الأشعرية لمذهب أبي الحسن الأشعري فقال: "ولا ريب أن أئمة الاشعرية وهم الذين كانوا أهل العراق: كأبي الحسن الكبير وأبي الحسن الباهلي وأبي عبدالله بن مجاهد وصاحبه القاضي أبي بكر، وأبي علي بن شاذان، ونحوهم، لم يكونوا في النفي كأشعرية خراسان مثل أبي بكر بن فورك ونحوه، بل زاد أولئك في النفي أشياء على مذهب أبي الحسن ونقصوا من إثباته أشياًء" (2). وهذا ما سيأتي بيانه عند ذكر قاعدتي الإثبات والنفي عند الأشاعرة إن شاء الله. ومصداق ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية ما ذكره إمام الحرمين عبدالملك الجويني الخراساني حيث قال: "ذهب بعض أئمتنا إلى أن اليدين والعين والوجه صفات ثابتة للرب تعالى، والسبيل إلى إثباتها السمع دون قضية العقل، والذي يصح عندنا حمل اليدين على القدرة وحمل العين على البصر وحمل الوجه على الوجود" (3).وإذا تتبعنا ما قاله الأشعري والباقلاني وجدناهما قد أثبتا هذه الصفات لله تعالى، وذلك كما في (الإبانة) لأبي الحسن الأشعري و (التمهيد) للقاضي أبي بكر الباقلاني (4) ولذلك قال الجويني في مطلع حديثه: "ذهب بعض أئمتنا". والمقصودون بالحكم في هذا الكتاب هم أهل المرتبتين الثانية والثالثة من الدرجة الثالثة من درجات الجهمية. فبالنظر إلى معنى اصطلاح أهل السنة العام – أي ما يقابل الشيعة – فالأشاعرة من أهل السنة والجماعة لقولهم بخلافة الأربعة رضي الله عنهم. وأما بالنظر إلى المعني الأخص – أي السنة المحضة – فهم على ثلاث مراتب: فمن كان منهم على اعتقاد الأشعري في مرحلته الأخيرة السنية فمعدود في أهل السنة والجماعة. ومن كان أكثر إثباتاً وإنما أثر عنه نفي يسير كالبيهقي مثلاً فهو أقرب إلى أهل السنة. ومن لم يقل بذلك وأظهر مع ذلك مقالة تناقض اعتقاد الأشعرية في آخر مراحله فهو إلى الجهمية أقرب منه إلى أهل السنة المحضة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "أقرب هؤلاء الجهمية: الأشعرية ... وكانوا (أي السلف) يقولون: إن المعتزلة مخانيث الفلاسفة، والأشعرية مخانيث المعتزلة، وكان يحيى بن عمار يقول: المعتزلة الجهمية: الذكور، والأشعرية الجهمية: الإناث. ومرادهم: الأشعرية الذين ينفون الصفات الخبرية .... وأما من قال منهم بكتاب (الإبانة) الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يظهر مقالة تناقض ذلك، فهذا يعد من أهل السنة. ولكن الانتساب إلى الأشعرية بدعة لا سيما وذلك يوهم حسن الظن بكل من انتسب هذه النسبة، وينفتح بذلك أبواب شر" اهـ (5). المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف – 1/ 46   (1) ((التسعينية ضمن الفتاوى الكبرى الفقهية)) (6/ 370 - 372). (2) ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية)) (2/ 344). (3) ((الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد)) (ص: 146). (4) قال في كتابه ((تمهيد الأوائل)) (ص: 295) "باب في أن لله وجهاً ويدين" ثم سرد أدلته ورد على من أول الصفتين من (ص: 295 - 298). (5) ((الرسالة المدنية))، من (ص: 36 إلى 39). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 الفصل الثاني: ترجمة لأهم أعلام الأشاعرة مع بيان منهجهم أبو الحسن الطبري: توفي بحدود سنة 380هـ. قال عنه السبكي: " كان من المبرزين في علم الكلام، والقوامين بتحقيقه، ... وكان مفتنا في أصناف العلوم"، وذكر الأسنوي عن أبي عبد الله الأسدي أنه قال في كتاب (مناقب الشافعي):" كان شيخنا وأستاذنا أبو الحسن بن مهدي حافظا للفقه والكلام والتفاسير والمعاني وأيام العرب، فصيحا مبارزا في النظر ما شوهد في أيامه مثله، مصنفا للكتب في أنواع العلم، صحب أبا الحسن الأشعري في البصرة مدة"، ولم يؤرخ ولادته ولا وفاته، إلا أن الصفدي ذكر أنه توفي في حدود سنة 380هـ. عقيدته: بما أن علي بن محمد الطبري يعتبر من تلامذة الأشعري فهو يمثل مرحلة متوسطة بين الأشعري والباقلاني، وعرض عقيدته وآرائه يفيد في بيان مستوى النقلة من المؤسس الأول إلى أتباعه من بعده، وكيف تلقى تلاميذ الأشعري أقواله، وهل تابعوه فيها من خلال المرحلة الأولى من رجوعه أم المرحلة الأخيرة؟ 1 - كتب أبو الحسن الطبري في بداية كتابه ما يبين سبب تأليفه حين قال: " أما بعد فإنك كتبت إليّ شكوى مافشا بالناحية من معتقد الفرقة المنتسبة إلى الحديث، المنتحلة الأثر، حتى مالوا إلى قوم من ضعفة المسلمين بمعاهدتهم بالتلبيس والتمويه"، ثم يصف هؤلاء الذين يوردون الأخبار فقط بأنهم: "تقصر معرفتهم عن استخراج تأويلها ... لقلة عنايتهم بمعرفة مصادر الكلام وموارده، وظاهره وباطنه، ومجازه وحقيقته واستعارته، وما يجوز إطلاقه في القديم ومالا يجوز إطلاقه"، ثم يقول عنهم:" قد قنع الواحد منهم من العلم برسمه، ومن الحديث بجمعه واسمه، فأبعد غاية هذه الطائفة أن يكتبوا أجزاء من الحديث وأجلادا من القصص ثم يقبلوا على تفسيرها بغير ما أذن الله بها". ثم يذكر تأثير هؤلاء بأنهم: " يتقربون إلى الرعاع والهمج من أهل الحديث بذلك، وإن من عدل عن هذا المنهج والسير فقد خالف المشايخ والقدماء والأسلاف من العلماء". ثم يذكر نماذج من الأحاديث التي يوردونها، ويبين أنه لابد من تفسيرها بـ: " ما يوافق المعقول من الأصول، والمعمول به من اللغات". فأبو الحسن الطبري في هذه المقدمات يعرض بأهل الحديث ويستخدم المنهج العقلي في تأويل النصوص الدالة على الإثبات دون أن يفرق بين الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة والأحاديث الثابتة، بل واضح من كلامه أن حذره من التشبيه أكثر من حذره من التعطيل. 2 - يحتج على إثبات الصانع بخلق الإنسان من نطفة ثم من علقة، ثم يحتج على الوحدانية بدليل التمانع، وهذه نفسها أدلة الأشعري، ويقول: إن الله ليس بجسم ويحتج لذلك بأن الله لم يسم نفسه به ولا اتفق المسلمون عليه، ويعلل منع إطلاقه بأن حقيقة منع إطلاقه بأن حقيقة الجسم أن يكون طويلا عريضا عميقا وهذا يخالف وصف الله بأنه واحد. 3 - أما مذهب أبي الحسن الطبري في الصفات فقد فصله في كتابه، ويمكن تلخيص ذلك فيما يلي: أ - بالنسبة للصفات الخبرية فهو يثبتها مع نفي أي دلالة فيها على التجسيم أو التبعيض - على حد زعمه - فمثلا حين يتكلم على صفة اليدين وقوله تعالى: وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67]، إن الطي أريد به الفناء والذهاب، ويذكر أدلة ذلك من الشعر ثم يقول: " ومن الناس من يقول: مطويات بيمينه أي ذاهبات بقسمه لأنه أقسم ليفنيها". ويقول: إن الله راء بلا عين، ويرد على أدلة من يسميهم بالمشبهة الذين أثبتوا لله عينا ويتأول النصوص الواردة في ذلك من الكتاب والسنة، كما يتأول " القدم" ويذكر له عدة تأويلات ولا يثبت هذه الصفة كما يليق بالله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 ب - يثبت أبو الحسن الطبري صفة الاستواء والعلو لله تعالى، يقول: " اعلم عصمنا الله وإياك من الزيغ برحمته أن الله سبحانه في السماء فوق كل شيء، مستو على عرشه بمعنى أنه عال عليه، وبمعنى الاستواء الاعتلاء، كما يقول: استويت على ظهر الدابة، واستويت على السطح يعني علوته، واستوت الشمس على رأسي واستوى الطير على قمة رأسي بمعنى علا في الجو فوجد فوق رأسي، والقديم جل جلاله عال على عرشه لا قاعد ولا قايم ولا مماس له ولا مباين، والعرش ما تعقله العرب وهو السرير، يريد بذلك أيضا على أنه في السماء عال على عرشه قوله سبحانه: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ [الملك: 16]، وقوله تعالى: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران: 55]، وقوله: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 50]، وقوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10]، وقوله: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة: 5] "، ثم رد على البلخي وغيره من المعتزلة في تأويلهم الاستواء بالاستيلاء واحتجاجهم بقولهم: استوى بشر على العراق - وغيره - فقال: " فيقال لهم: ما أنكرتم أن يكون عرش الله جسما مجسما، خلقه وأمر ملائكته بحمله، وتعبدهم بتعظيمه كما خلق في الأرض بيتا وامتحن بني آدم بالطواف - حوله وبقصده من الآفاق، ويدل على ذلك قوله تعالى: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر: 75]، وقال في موضع آخر: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة: 17]، ففي كل هذا دلالة أن العرش ليس بالملك وأنه سرير"، ثم قال: "ومما يدل على أن الاستواء ها هنا ليس بالاستيلاء أنه لو كان كذلك لم يكن ينبغي أن يخص العرش بالاستيلاء عليه دون سائر خلقه، وليس للعرش مزية على ما (وصفت) "، فبان بذلك فساد قوله، ثم يقال له أيضا: "إن الاستواء ليس هو بالاستيلاء في قول العرب: استوى فلان على كذا أي استولى عليه، إذا تمكن منه بعد أن لم يكن متمكنا، فلما كان الباري سبحانه لا يوصف بالتمكن بعد أن لم يكن متمكنا لم يصرف معنى الاستواء إلى الاستيلاء، وحدثنا الشيخ أبو عبد الله الأزدي الملقب بنفطويه قال: حدثنا أبو سليمان، قال كنا عن ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله ما معنى قوله سبحانه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]، قال: إنه مستو على عرشه كما أخبر، فقال له الرجل: إنما معنى استوى استولى فقال له ابن الأعرابي: ما يدريك ما هذا، العرب لا تقول استوى على العرش حتى يكون فيه مضاد له، فأيهما غلب قيل: قد استولى عليه، والله سبحانه لا مضاد له، وهو مستو على عرشه كما أخبر، والاستيلاء يكون بعد المغالبة" ثم يقول: " فإن قيل فما تقول في قوله سبحانه: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك: 16]، قيل له معنى ذلك أنه فوق السماء على العرش، كما قال: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ [التوبة: 2]، أي على الأرض ... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وكلامه في ذلك طويل حيث رد على الذين يقولون: إن الله في كل مكان، كما رد على من تأول رفع المسلمين أيديهم إلى السماء عند الدعاء بأن ذلك لأن أرزاقهم في السماء أو لأن الملائكة الحفظة في السماء، فقال: "بأن ذلك لو جاز لجاز أن تخفض أيدينا في الأرض نحو الأرض من أجل أن الله تعالى يحدث فيها النبات والأقوات والمعايش وأنها قرار، ومنها خلقوا وإليها يرجعون، ولأنه يحدث فيها آيات كالزلازل والرجف والخسف، ولأن الملائكة معهم في الأرض، الذين يكتبون أعمالهم، فإذا لم يجب خفض الأيدي نحو الأرض لما وصفنا لم تكن العلة في رفعها نحو السماء ما وصفه البلخي، وإنما أمرنا الله تعالى برفع أيدينا قاصدين إليه برفعهما نحو العرش الذي هو مستو عليه كما قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] ". هذا رأي الطبري في مسألة العلو والاستواء، وهذه النصوص تدل على استقرار هذه المسألة وفق مذهب السلف عند تلامذة الأشعري، وهذا ما سنجده أيضا عند الباقلاني - كما سيأتي -. جـ- يتأول أبو الحسن الطبري النصوص الواردة في الضحك والعجب، والفرح، ففي صفة الضحك الواردة في الأحاديث يذكر المعاني المجازية للضحك مثل قول العرب ضحكت الأرض إذا تبدى نباتها، وضحك طلع النخل إذا بدا كافوره، ويقال هذا طريق ضاحك أي ظاهر واضح، ثم يقول: "فمرجع الضحك في هذا كله إلى البيان، ومعنى الخبر والله أعلم بالمراد: يضحك الله أي يبين الله ثواب هذين الرجلين المقتولين ... فإذا وجدنا للضحك معنى صحيحا تعرفه العرب في لغتها غير الكشر عن الأسنان عند حلول التعجب منه كانت إضافة ذلك إلى ربنا سبحانه أولى مما أضافت إليه المشبهة، نعوذ بالله من الحيرة في الدين وهو ولي المعونة"، وهذا تأويل واضح لهذه الصفة، وفي صفة العجب يذكر عدة تأويلات منها: أن معنى عجب ربك أي عظم عنده، وقيل معناه رضي وأثاب، وقيل: جازاه على عجبه، ولا يذكر إثبات هذه الصفة كما يليق بجلال الله وعظمته، كما يؤول الفرح بالرضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 د- أما الصفات الاختيارية التي تقوم بالله تعالى كالنزول والمجيء والإتيان فيتأولها ولا يثبتها كما يليق لله وعظمته، وهذا بناء على نفي حلول الحوادث، يقول عن النزول: "ولا يجوز حمل ذلك على النزول والنقلة ... لما فيه من تفريغ مكان وشغل آخر، والقديم قد جل أن يكون موصوفا بشيء من ذلك، كذلك وقد حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام: 76] "، واحتجاجه بهذه الآية هنا هو احتجاج جمهور الأشاعرة الذين يزعمون أن إبراهيم عليه السلام استدل بتغير وتحرك النجم على أنه لا يصلح أن يكون إلها، وبنوا على ذلك نفي حلول الحوادث بذات الله تعالى. ويقول أبو الحسن الطبري عن الإتيان والمجيء، "فإن قيل: فما تقول في قوله تعالى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 26]، وفي قوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:] 2 وفي قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة: 210]، وفي قوله تعالى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:26]، وفي قوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر: 22]، وفي قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة: 210]، قيل له: إن الله سبحانه قد صح أنه لا يجوز وصفه بالإتيان والمجيء الذي بمعنى الانتقال والزوال، إذ كان ذلك من صفات الأجسام تعالى الله أن يكون جسما أو عرضا، وكلام العرب واسع له ظهر وبطن لاتباع العرب في المجازات وطرق الكلام. ومعنى البيان في قوله: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ [النحل: 26]، الاستئصال في الهلاك والدمار بإرساك العذاب ... وأما قوله: وَجَاءَ رَبُّكَ، فمعناه جاء حكم ربك وأمر ربك، ألا ترى أن الخاص والعام يقول: ضرب الأمير زيدا، وإن كان الأمير لم يباشر زيدا بالضرب، بل كان ذلك بأمره وحكمه عليه، وقد قال الله تعالى في قصة لوط فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ [القمر: 37]، وإن كان الطمس للأعين للملائكة بأمر الله، وأما قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة:210]، فمعناه هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالحساب في ظلل من الغمام، يراد به بظلل من الغمام، وأن الفاء بمعنى الباء ... "، هذا هو مذهبه في تأويل هذه الصفات. 4 - يثبت أبو الحسن الطبري الرؤية ويرد على المعتزلة المنكرين لها، لكن الملاحظ أنه أورد سؤالا حولها يتعلق بأنه يلزم من إثباتها المقابلة، فأجاب بما يدل على أنه يقول بأنه لا يلزم من الرؤية المقابلة، ومما قاله - وهو يرد على المعتزلة - "وقد زعمتم أن معنى ترون ربكم: تعلمون ربكم، ولم تلزموا أنفسكم أنكم تعلمونه مقابلا لكم". 5 - هذه أقوال أحد تلامذة الأشعري، ممن جاء قبل الباقلاني المؤسس الثاني للمذهب الأشعري، وهذه النصوص التي نقلت من كلام أبي الحسن الطبري تمثل مرحلة جاءت بين علمين مهمين من أعلام الأشاعرة. المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 2/ 516 الباقلاني: ت 403 هـ. حياته: هو الإمام القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر قاسم البصري، ثم البغدادي، ابن الباقلاني، لم يعرف تاريخ ولادته، كان من أهل البصرة، وسكن بغداد، وقد كانت وفاته سنة 403 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 مجمل عقيدته ومنهجه، ودوره في تطوير المذهب الأشعري:1ـ يبتدئ الباقلاني كتبه بالحديث عن المقدمات حول حقيقة العلم ومعناه، فيذكر أن حده "معرفة المعلوم على ما هو به" (1)، ثم يقسم العلوم إلى قسمين: علم الله القديم، وعلم الخلق، ويقسم علم الخلق إلى علم اضطرار وعلم نظر واستدلال، ثم يشرح ذلك، ثم يذكر الاستدلال فيعرفه، ثم يعرف الدليل ويقسمه إلى ثلاثة أقسام: عقلي، وسمعي شرعي، ولغوي. ثم يذكر أقسام المعلومات وأنها قسمان: معدوم وموجود ولا ثالث لهما. ثم يقسم الموجودات ويقول: إنها ضربين: قديم لم يزل ومحدث لوجوده على أول، ثم يقسم المحدثات إلى ثلاثة أقسام: جسم مؤلف، وجوهر منفرد، وعرض موجود بالأجسام والجواهر. فالباقلاني يقول بالجوهر الفرد ويدلل على إثباته بـ "علمنا بأن الفيل أكبر من الذرة، فلو كان لا غاية لمقادير الفيل ولا لمقادير الذرة لم يكن أحدهما أكثر مقادير من الآخر، ولو كان كذلك لم يكن أحدهما أكبر من الآخر". كما يرى الباقلاني أن الأعراض لا يصح بقاؤها فهي لا تبقى زمانين. 2ـ ويرى أن أول الواجبات النظر فيقول: "أول ما فرض الله عز وجل على جميع العباد: النظر في آياته والاعتبار بمقدوراته والاستدلال عليه بآثار قدرته، وشواهد ربوبيته؛ لأنه سبحانه غير معلوم باضطرار، ولا مشاهد بالحواس، وإنما يعلم وجوده وكونه على ما تقتضيه أفعاله بالأدلة القاهرة، والبراهين الباهرة". 3ـ يذكر دليل حدوث العالم، ويستدل لذلك بدليل حدوث الأجسام ويبنيه على دليل ثبوت الأعراض، فيذكر دليل ثبوت الأعراض، ثم يذكر أنها حادثة، ويستدل على ذلك ببطلان الحركة عند مجيء السكون، ثم يذكر دليل حدوث الأجسام وهو أنها لم تسبق الحوادث، ولم توجد قبلها، وما لم يسبق المحدث، ويفصل القول في ذلك. والباقلاني يرى ضرورة دليل حدوث الأجسام، وأن الأشعري لا يرى هذا الدليل ضرورياً وأن الرسل لم تدع إليه، وذلك في (رسالته إلى أهل الثغر)، لكن الباقلاني في شرحه لـ (اللمع) - للأشعري - يفسر كلامه في إثبات الصانع واستدلاله على ذلك بالنطفة وتغيرها وانتقالها من حال إلى حال فيقول: "اعلم أن هذا الذي ذكره هو المعول عليه في الاستدلال على حدوث الأجسام ... " (2)، ويرى الباقلاني أن الخليل عليه السلام احتج بهذا الدليل في قوله: هَذَا رَبِّي [الأنعام:76]، والآيات بعدها. 4ـ ويحتج لإثبات الصانع بأن الكتابة لا بد لها من كاتب، ولا بد للصورة من مصور، وللبناء من بان، ويستدل أيضاً بوجود المحدثات متقدمة ومتأخرة مع صحة تأخر المتقدم وتقدم المتأخر، كما يحتج لإثبات وحدانيته بدليل التمانع ويحتج له بقوله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء: 22]. 5ـ أما رأيه في الصفات فيمكن توضيحه كما يلي:   (1) ((التمهيد)) (ص 6) و ((الحرة)) (ص13). (2) ((شرح اللمع)) عن ((الدرء)) لابن تيمية (8/ 315) وانظر ((التمهيد)) (ص 48،49، 301)، ((الحرة)) (ص30). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 أـ يثبت الباقلاني الصفات عموماً ولا يقتصر على إثبات الصفات السبع، ويقسم الصفات إلى صفات ذات وصفات فعل فيقول: " صفات ذاته هي التي لم يزل ولا يزال موصوفاً بها، وهي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والبقاء والوجه والعينان واليدان، والغضب والرضى، وهما الإرادة على ما وصفناه - وهي الرحمة والسخط والولاية والعداوة والحب والإيثار والمشيئة - وإدراكه تعالى لكل جنس يدركه الخلق من الطعوم والروائح والحرارة والبرودة وغير ذلك من المدركات، وصفات فعله هي الخلق والرزق، والعدل، والإحسان والتفضل والإنعام، والثواب والعقاب، والحشر والنشر، وكل صفة كان موجوداً قبل فعله لها، غير أن وصفه لنفسه بجميع ذلك قديم، لأنه كلامه الذي هو قوله: إني خالق رازق باسط، وهو تعالى لم يزل متكلماً بكلام غير محدث ولا مخلوق". ويتبين من ذلك أنه يثبت الصفات لله تعالى، ولا يفرق بين الصفات العقلية والصفات الخبرية. ب ـ يستدل للصفات السبع وهي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة بأدلة نقلية وعقليه؛ ففي (التمهيد) يقتصر على الأدلة العقلية لهذه الصفات، أما في (رسالة الحره) فيحتج بالأدلة من القرآن وبأدلة العقول. جـ ـ يؤول صفات الغضب والرضى بأن المقصود بهما: إرادته لإثابة المرضي عنه وعقوبة المغضوب عليه، وهو بذلك يقول بقول الأشعري - كما سبق -. د ـ يرى أن صفة البقاء من صفات الذات لله، وأنه ليس باقياً ببقاء، فهي صفة نفسية وليست صفة زائدة على الذات. هـ ـ يثبت الصفات الخبرية لله تعالى كالوجه واليدين والعينين، يقول: "وأخبر أنه ذو الوجه الباقي بعد تقضي الماضيات، كما قال عز وجل: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، وقال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27]، واليدين اللتين نطق بإثباتهما له القرآن في قوله عز وجل: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64]، وقوله: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] ، وإنهما ليستا بجارحتين، ولا ذوي صورة وهيئة، والعينين اللتين أفصح بإثباتهما من صفاته القرآن، وتواترت بذلك أخبار الرسول عليه السلام، فقال عز وجل: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه: 39]، تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14]،وإن عينه ليست بحاسة من الحواس، ولا تشبه الجوارح والأجناس"، وفي (التمهيد) يستدل ببعض هذه الأدلة، ثم يرد على من أول اليدين بالقدرة أو النعمة فيقول: " يقال لهم: هذا باطل، لأنه قوله: " بيدي" يقتضي إثبات يدين هما صفة له، فلو كان المراد بهما القدرة، لوجب أن يكون له قدرتان وأنتم فلا تزعمون أن للباري سبحانه قدرة واحدة، فكيف يجوز أن تثبتوا له قدرتين؟ وقد أجمع المسلمون، من مثبتي الصفات والنافين لها على أنه لا يجوز أن يكون له تعالى قدرتان، فبطل ما قلتم، وكذلك لا يجوز أن يكون الله تعالى خلق آدم بنعمتين؛ لأن نعم الله تعالى على آدم وعلى غيره لا تحصى ... "، وكلام الباقلاني يدل على أنه في زمنه لم يكن أحد يؤول اليدين بالقدرة إلا المعتزلة، ولهذا قال لهم: "وأنتم لا تزعمون أن للباري قدرة واحدة"، وعلى ذلك فالتأويل لهذه الصفات - أعني صفة الوجه واليدين والعين - عند الأشعرية جاء بعد الباقلاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وـ كما يثبت الباقلاني صفة العلو والاستواء لله تعالى، ويرد على الذين يؤولون الاستواء بالاستيلاء، وعلى الذين يقولون إن الله في كل مكان، يقول: " فإن قالوا: فهل تقولون إنه في كل مكان؟ قيل: معاذ لله، بل هومستو على العرش، كما أخبرّ في كتابه فقال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]، وقال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، وقال: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ [الملك: 16]، ولو كان في كل مكان لكان في جوف الإنسان وفمه وفي الحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها تعالى عن ذلك، وأوجب أن يزيد بزيادة الأماكن إذا خلق منها ما لم يكن خلقه، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى وراء ظهورنا وعن أيماننا وشمائلنا، وهذا ما قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله"، ثم يرد على من اعترض بالنصوص الدالة على أن الله في السماء إله وفي الأرض إله، وأنه مع المؤمنين وغيرها من النصوص الدالة على المعية، ويبين أنه لا دلالة فيها. ثم يقول: " ولا يجوز أن يكون معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه عليه، كما قال الشاعر: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق لأن الاستيلاء هو القدرة والقهر، والله تعالى لم يزل قادراً قاهراً، عزيزاً مقتدراً، وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [لأعراف: 54]، يقتضي استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن فبطل ما قالوه". والباقلاني وإن كان يثبت الاستواء والعلو إلا أنه يرى عدم إطلاق الجهة على الله تعالى، يقول: "يجب أن يعلم أن كل ما يدل على الحدوث أو على سمة النقص فالرب تعالى يتقدس عنه، فمن ذلك: أنه تعالى متقدس عن الاختصاص بالجهات والانصاف بصفات المحدثات، وكذلك لا يوصف بالتحول والانتقال، ولا القيام ولا القعود، لقوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]، وقوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الاخلاص: 4]، ولأن هذه الصفات تدل على الحدوث، والله تعالى تقدس عن ذلك، فإن قيل: أليس قد قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]، قلنا: بلى، قد قال ذلك، ونحن نطلق ذلك وأمثاله على ما جاء في الكتاب والسنة لكن ننفي عنه أمارة الحدوث، ونقول: استواؤه لا يشبه استواء الخلق، ولا نقول: إن العرش له قرار ولا مكان، لأن الله تعالى كان ولا مكان، فلما خلق المكان لم يتغير عما كان"، ثم ينقل عن أبي عثمان المغربي أنه قال: " كنت أعتقد شيئاً من حديث الجهة، فلما قدمت بغداد وزال ذلك عن قلبي، فكتبت إلى أصحابنا: إني قد أسلمت جديداً". ولفظ الجهة -كما سيأتي - لفظ مجمل. زـ أما رأيه في كلام الله تعالى فهو يقول: " اعلم أن الله تعالى متكلم، له كلام عند أهل السنة والجماعة، وأن كلامه قديم، ليس بمخلوق ولا مجعول ولا محدث، بل كلامه قديم، صفة من صفات ذاته، كعلمه وقدرته وإرادته ونحو ذلك من صفات الذات، ولا يجوز أن يقال: كلام الله عبارة ولا حكاية ... "، ويقول: " ويجب أن يعلم أن كلام الله تعالى مكتوب في المصاحف على الحقيقة"، و"مسموع لنا على الحقيقة لكن بواسطة وهو القاري"، وحقيقة الكلام عنده - على الإطلاق في حق الخالق والمخلوق - " إنما هو المعنى القائم بالنفس، لكن جعل لنا دلالة عليه تارة بالصوت والحروف نطقاً، وتارة بجمع الحروف بعضها إلى بعض كتابة دون الصوت ووجوده، وتارة إشارة ورمزاً دون الحرف والأصوات ووجودهما "، وكلام الله عنده ليس بحروف ولا أصوات، ولا يحل في شيء من المخلوقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 هذه خلاصة أقوال الباقلاني في كلام الله، ولكن إذا كان الكلام هو المعنى القائم في النفس، فالكلام النازل علينا كلام من؟، سبق قبل قليل أن الباقلاني يقول: إن كلام الله مكتوب في المصاحف على الحقيقة، ومتلو بالألسن على الحقيقة، لكنه بعد ذلك يقول كلاماً خطيراً حيث يزعم ... إن كلام النازل كلام جبريل، يقول الباقلاني: " ويجب أن يعلم أن كلام الله تعالى منزل على قلب النبي نزول إعلام وإفهام لا نزول حركة وانتقال"، ثم يقول بعد كلام: "والنازل على الحقيقة المنتقل من قطر إلى قطر قول جبريل عليه السلام، يدل على ذلك قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ الأيات: [الحاقة 38 - 43]، وقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ... الآيات: [التكوير:15 - 29]، يقول الباقلاني معلقاً على هذا: "هذا إخبار من الله تعالى بأن النظم العربي الذي هو قراءة كلام الله تعالى قول جبريل لا قول شاعر ولا قول كاهن"، ثم يقول - بعد كلام- "فحاصل هذا الكلام أن الصفة القديمة كالعلم والكلام ونحو ذلك من صفات الذات، لا يجوز أن تفارق الموصوف، لأن الصفة إذا فارقت الموصوف اتصف بضدها، والله تعالى متنزه عن الصفة وضدها، فافهم ذلك، فجاء من ذلك أن جبريل عليه السلام علم كلام الله وفهمه، وعلمه الله النظم العربي الذي هو قراءته، وعلم هو القراءة نبينا، وعلم النبي أصحابه ... لكن المقروء والمتلو هو كلام الله القديم الذي ليس بمخلوق ولا يشبه كلام الخلق ". وهذا كلام عجيب، ولا شك أن الباقلاني متابع في هذا الأصل لشيوخه الأشاعرة. ح ـ أما مسألة الصفات الاختيارية القائمة بالله تعالى، وهي المسماة بمسألة حلول الحوداث، فالباقلاني ينفيها بقوة، ويدل على ذلك: 1ـ قوله في النص السابق لما ذكر الصفات الفعلية قال: غير أن وصفه لنفسه بجميع ذلك قديم، لأنه كلامه الذي هو قوله: إني خالق، رازق، باسط، وهو تعالى لم يزل متكلماً بكلام غير محدث ولا مخلوق" فهو لا يرى أن الصفات الفعلية تقوم بالله، بل يجعل أمر الله وقوله أزلياً، وهو كلامه، أما المخلوق فهو منفصل عن الله لا يقوم به. 2ـ قوله عن صفات الله: "إنه لا يجوز حدوثها له، لأن ذلك يوجب أن تكون من جنس صفات المخلوقين، وأن تكون ذات أضداد كصفات المخلوقين، وأن يكون الباري سبحانه قبل حدوثها موصوفاً بما يضادها وينافيها من الأوصاف، ولو كان ذلك كذلك، لوجب قدم إضدادها، ولاستحال أن يكون القديم سبحانه موصوفاً بها في هذه الحال، وأن يوجد منه من ضروب الأفعال ما يدل على كونه عالماً قادراً حياً، وفي بطلان ذلك دليل على قدم هذه الصفات وأن الله سبحانه لا يجوز أن يتغير بها ويصير له حكم لم يكن قبل وجودها، إذ لا أول لوجودها" ويقول في كلامه عن نفي السنة والنوم عن الله عز وجل: "والمعتمد في هذا أنه سبحانه ذكر السنة والنوم تنبيهاً على أن جميع الأعراض ودلالات الحدوث لا تجوز عليه". 3ـ ويقطع في هذه المسألة عند كلامه عن كلام الله والرد على القول بخلق القرآن فيقول: "ويستحيل من قولنا جميعاً أن يفعله في نفسه تعالى لأنه ليس بمحل للحوادث". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 4ـ ومن ذلك قوله في صفة المجيء والإتيان فقد ذكر فيهما عدة أقوال، وكلها ذكر فيها ما يدعم قوله في نفي حلول الحوادث بذات الله تعالى، يقول عن المخالفين المعترضين على آيات القرآن: "واعترضوا أيضاً (بـ) قوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً [الفجر: 22]، وقوله: يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة:210]، قالوا: والمجيء والإتيان حركة وزوال وذلك عندهم محال في صفته، فالجواب عن هذا عند بعض الأمة: أنه يجيء ويأتي بغير زوال ولا انتقال ولا تكييف، بل يجب تسليم ذلك على ما ورد وجاء به القرآن، والجواب الآخر أنه يفعل معنى يسميه مجيئاً وإتياناً، فيقال: جاء الله، بمعنى أنه فعل فعلاً كأنه جائياً، كما يقال: أحسن الله وأنعم وتفضل، على معنى أنه فعل فعلاً استوجب به هذه الأسماء، ويمكن أن يكون أراد بذلك إتيان أمره وحكمه والأهوال الشديدة التي توعدهم بها وحذرهم من نزولها، ويكون ذلك نظيراً لقوله عز وجل: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر: 2]، ولا خلاف في أن معنى هذه الآية: أنها أمره وحكمه إياهم، وعقوبته ونكاله، وكذلك قوله: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ [النحل: 26]. فهذه ثلاثة أقوال في معنى المجيء والإتيان: أحدهما: التسليم بهاتين الصفتين بشرط نفي ما يدل على قيام الحوادث بالله بحيث تكون بغير زوال ولا انتقال. والثاني: جعلهما من صفات الفعل المنفصلة عن الله لا تقوم به مثل خلقه الخلق وإحسانه إليهم، وهذا يوافق ما نسب إليه من قوله عن الاستواء: إنه فعل فعله الله في العرش سماه استواء، وقد سبقت الإشارة إليه، والثالث: التأويل كما هو مذهب متأخري الأشعرية. 5ـ والباقلاني ممن يقول بالأحوال، ولكنه يخالف أبا هاشم الجبائي المعتزلي - أول من قال بالحال - في قوله: إن الحال لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة، بل يرى أنها معلومة، ويرد ردوداً طويلة على الجبائي، ويقول بعد تقريره أن الحال لابد أن تكون معلومة: "وإن كانت هذه الحال معلومة، وجب أن تكون إما موجودة أو معدومة، فإن كانت معدومة استحال أن توجب حكماً وأن تتعلق بزيد دون عمرو، ويالقديم دون المحدث، وإن كانت موجودة وجب أن تكون شيئاً وصفة متعلقة بالعالم، وهذا قولنا الذي نذهب إليه إنما يحصل الخلاف في العبارة وفي تسمية هذا الشيء علماً أو حالاً، وليس هذا بخلاف في المعنى فوجب صحة ما نذهب إليه في إثبات الصفات"، وقد عرف الشهرستاني الحال عند القاضي بأنها: " كل صفة لموجود لا تتصف بالوجود فهي حال، سواء كان المعنى الموجب مما يشترط في ثبوته الحياة أو لم يشترط ككون الحي حياً وعالماً وقادراً وكون المتحرك متحركاً والساكن ساكناً والأسود والأبيض إلى غير ذلك ". والباقلاني بذلك يعتبر من أوائل من قال بالحال من الأشاعرة، ومن المعلوم أن أبا الحسن الأشعري ممن ينكر الأحوال، والباقلاني يثبت الصفات ويقول بالأحوال إلا أنه يخص الأحوال بالأمور التي تتصف بالوجود كالعرضية واللونية والاجتماع والافتراق والقادرية والعالمية وغيرها مما به تتفق المتماثلات، وتختلف المختلفات، على أنه قد ذكر رجوعه عن القول بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 6ـ أما رأيه في القدر فهو لا يختلف عن رأي الأشاعرة فهو يثبت القدر من الله تعالى وأن الله خالق كل شيء، كما أنه يقول بالموافاة وأن الله رضي في الأزل عمن علم أنه يموت مؤمناً وإن عاش أكثر عمره كافراً، وسخط في الأزل عمن علم أنه يموت كافراً وإن كان أكثر عمره مؤمناً، وهذا بناء على أنه ينفي حلول الحوادث بذات الله تعالى، أما الاستطاعة والقدرة فلا تكون إلا مع الفعل، لكن الباقلاني خالف شيخه الأشعري بأن قال: إن قدرة العبد مؤثرة، يقول: "فإن قالوا: إن قلتم إن القادر منا على الفعل لا يقدر عليه إلا في حال حدوثه، ولا يقدر على تركه وفعل ضده، لزمكم أن يكون في حكم المطبوع المضطر إلى الفعل، قيل لهم: لا يجب ما قلتم لأنه ليس ها هنا مطبوع على كون شيء أو تولد عنه، أما المضطر إلى الشيء فهو المكره المحمول على الشيء الذي يوجد به، شاء أم أبى، والقدر على الفعل يؤثره ويهواه ولا يستنزل عنه برغبة ولا رهبة فلم يجز أن يكون مضطراً مع كونه مؤثراً مختاراً ... "، وهذا يوافق ما ذكره عنه الشهرستاني، كما أنه ينفي تعليل أفعال الله كقول الأشاعرة، ويقول بالكسب، كما أنه يقول بإنكار الضرورة بين العلة والمعلول، ويرى إنكار السببية، وربط الأمر كله بالله، فالإحراق لا يكون بالنار وإنما يقع عندها لا بها، وهذا مبدأ السببية الذي اشتهر إنكاره عند الأشاعرة. 7ـ يثبت الرؤية بالنصوص الواردة، والله يرى لأنه موجود، ولكنه مع أنه يقول بالعلو والاستواء إلا أنه يلمح إلى أن الله تعالى يرى وليس حالاً في مكان أو مقابلاً أو خلفاً، أو عن يمين أو عن شمال، وهذه عبارات استخدمها نفاة العلو ممن يقول بالرؤية. 8 ـ أما الإيمان فهو عنده التصديق بالله تعالى، وهو العلم. والتصديق يوجد بالقلب، ويستدل لذلك بإجماع أهل اللغة قاطبة، وبأن الإيمان قبل بعثة النبي هو التصديق، كما يستدل بقوله تعالى: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف: 17] وبقولهم: فلان يؤمن بالشفاعة أي يصدق، ويرى أن "ما يوجد من اللسان وهو الإقرار، وما يوجد من الجوارح وهو العمل، فإنما ذلك عبارة في القلب ودليل عليه". ولا ينكر الباقلاني أن يطلق القول على الإيمان بأنه عقد بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان، ويفسر ذلك بأن المقصود به الإيمان الذي ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة، كما أنه لا ينكر أن يطلق على الإيمان أنه يزيد وينقص على أن يرجع ذلك إما إلى القول والعمل دون التصديق، أو إلى الثواب والجزاء والمدح والثناء دون التصديق الذي إذا انخرم منه شيء بطل الإيمان. 9ـ أما الإمامة فيذهب فيها إلى ما يذهب إليه السلف، وله في (التمهيد) بحوث طويلة في الدفاع عن الصحابة، وخاصة عثمان وعلياً رضي الله عنهما، كما أنه يثبت إمامة الخلفاء الأربعة على الترتيب، ويرد على الرافضة ودعاواهم الباطلة. 10ـ ومن الأمور التي ركز عليها الباقلاني مسألة المعجزات، والفرق بينها وبين الكرامات والسحر، وقد فصل رأيه في ذلك في كتابه المتعلق بهذا الموضوع. ويمكن تلخيص رأيه فيها بما يلي: أـ أن الدلالة على صدق الرسول لا تتم إلا بالمعجزة، "فمتى أهله الله لهذه المنزلة وأحلّه في هذه الرتبة وألزم الأمم العلم بنبوته والتصديق بخبره، لم يكن بد له من آية تظهر على يده ما يفصل بها المكلفون لصدقه بينه وبين الكاذب المتنبئ، وإلا لم يكن لهم إلا فعل العلم بما كلفوه من صدقه وتعظيمه، والقطع على ثبوت نبوته وطهارة سريرته سبيل ... وقد اتفق على أنه لا دليل يفصل بين الصادق والكاذب في إدعاء الرسالة إلا الآيات المعجزة "، ومعنى هذا إن الدلائل الأخرى العديدة للنبوات - غير المعجز الخارق للعادة - لا يثبت بها صدق الأنبياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 ب ـ والمعجز لا يكون معجزاً "حتى يكون مما ينفرد الله عز وجل بالقدرة عليه ولا يصح دخوله تحت قدر الخلق من الملائكة والبشر والجن، ولابد أن يكون ذلك من حقه وشرطه "، ويعرض الباقلاني للرأي الآخر لبعض أصحابه الأشاعرة وجمهور القدرية وهو جواز أن يكون المعجز مما ينفرد الله بالقدرة عليه، كما يجوز أن يكون مما يدخل جنسه تحت قدر العباد، ومثال الأول: اختراع الأجسام وإبداع الجوارح والأسماع والأبصار، ورفع العمى، والزمانة وغيرهما من العاهات والضرب الآخر: شيء يقع مثله وما هو من جنسه تحت قدرة العباد، غير أنه يقع من الله على وجه يتعذر على العباد مثله، وذلك نحو تفريق أجزاء الجبال الصم، ورفعها إلى السماء، وتغييض ماء البحار، وحنين الجذع، ونظم القرآن ... ، ويرى الباقلاني أن هذا القول ليس ببعيد، لكنه يقيد ذلك بأن يمنعوا وأن يرفع عنهم القدرة على فعل مثل ذلك الذي جاء به النبي، ويمثل لذلك بأن النبي لو قال: "آيتي وحجتي أنني أقوم من مكاني وأحرك يدي، وأنكم لا تستطيعون مثل ذلك، فإذا منعوا من فعل مثل ما فعله، كانت الآية له خرق العادة بخلق المنع لهم من القيام وتحريك الجوارح ورفع قدرهم على ذلك مع كونه معتاداً من أفعالهم". جـ ـ أما شروط المعجزة عنده فهي: 1ـ أن تكون مما ينفرد الله بالقدرة عليه. 2ـ أن يكون ذلك الذي يظهر على أيديهم خارقاً للعادة. 3ـ أن يكون غير النبي (ممنوعاً من إظهار ذلك على يده). 4ـ أن يقع عند تحدي النبي وادعائه النبوة وأن ذلك آية له. د ـ ولكن كيف يفرق بين المعجزة وبين حيل المشعوذين وأصحاب الخوارق الشيطانية؟ يجيب الباقلاني بما أجاب به سابقاً، من أن معجزات الرسل لا يصح أن يقدر عليها إلا الله تعالى مثل إحياء الموتى واختراع الأجسام. وكذلك بالنسبة لما يأتي به الساحر، ولكنه يقول: "إن الساحر إذا احتج بالسحر وادعى به النبوة أبطله الله تعالى عليه بوجهين: أحدهما: أنه إذا علم ذلك في حال الساحر وأنه سيدعي به النبوة أنساه عمل السحر جملة. والثاني: أن يجند خلق من السحرة يفعلون مثل فعله ويعارضونه بأدق مما أورده فينتقض بذلك ما ادعاه، أما الفرق بين المعجزة والكرامة فليس موجوداً في المطبوعة الناقصة من البيان، ولكن الباقلاني، ذكر ذلك في رسالته لأحد العلماء، وذكر فيها أن الفرق هو أن الأمر الخارق للنبي مقرون بالتحدي والاحتجاج، وأن صاحب الكرامة لا يدعي النبوة بكرامته ولو علم الله أنه يدعي بها النبوة لما أجراها على يديه". دور الباقلاني في تطور المذهب الأشعري: يعتبر الباقلاني المؤسس الثاني للمذهب الأشعري؛ والباقلاني تلميذ لتلامذة الأشعري فهو قريب العهد به، وعلى الرغم من أن تلامذة الأشعري كانوا أقوياء وذوي تأثير واسع إلا أن أحداً منهم لم يبلغ ما وصل إليه الباقلاني، ولعل الفترة التي عاشها الأشعري وتلامذته كان السائد فيها المذهب الكلابي، فكان المذهبان متداخلين، والأشعري وغيره من معاصريه كانوا تلامذة لابن كلاب، وتلامذة هؤلاء لم يتميزوا كأشاعرة وإنما كانوا كلابية لأن تتلمذهم لم يكن مقتصراً على الأشعري، وإنما كان عليه وعلى غيره من الكلابية، وهذا حسب الأغلب فقط. فلما جاء الباقلاني جرد نفسه لنصرة أبي الحسن الأشعري ومذهبه، والعمل على دعمه بأوجه جديدة من الحجاج والمناظرات، وقد تمثل ذلك بعد طرق أهمها: 1ـ أن الباقلاني ربط اسمه بالأشعري، فصار علماً عليه يذكر في نسبه فيقال: أبو بكر بن الطيب الباقلاني الأشعري، وهذا موجود في الكتب التي ترجمت له، وفي صور عناوين مخطوطات كتبه، ولحماسة في الانتساب إلى الأشعري ونصرة مذهبه عده الأشاعرة المجدد على رأس المئة الرابعة بعد الأشعري الذي يعتبرونه مجدد المئة الثالثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 2ـ مع انتسابه إلى الأشعري وطد علاقته بالحنابلة، تبعاً لأبي الحسن الأشعري الذي أعلن في (الإبانة) رجوعه إلى قول الإمام أحمد، وقد وصل الأمر بالباقلاني إلى أنه كان يكتب أحياناً في أجوبته: محمد بن الطيب الحنبلي، كما كان يكتب: الأشعري؛ لأن الأشعري وأصحابه كانوا منتسبين إلى الإمام أحمد وأمثاله من أئمة السنة. وكانت علاقة الباقلاني بالتميميين الحنابلة قوية، ويذكر ابن عساكر وغيره نماذج لهذه العلاقات الوطيدة بينهم، وقد استفاد الباقلاني من ذلك سمعة طيبة عند الحنابلة مع أنه أشعري جلد، كما أن بعض الحنابلة كالتميميين مالوا إلى بعض أقوال الأشاعرة، ولا شك أن علاقتهم بالباقلاني صاحب البلاغة والفصاحة والحجج المنطقية كان لها تأثير في ذلك. 3ـ حرص الباقلاني على مناقشة المبتدعة من المعتزلة وغيرهم، ومناظرتهم مناظرة علنية أمام السلاطين، ولذلك لما جاء خطاب عضد الدولة يدعوه إلى مجلسه في شيراز قال شيخ الباقلاني أبو الحسن الباهلي - وفي رواية أبو بكر بن مجاهد - وبعض أصحابه: هؤلاء قوم كفرة، فسقة، لأن الديلم كانوا روافض، لا يحل لنا أن نطأ بساطهم وليس غرض الملك من هذا إلا أن يقال: إن مجلسه مشتمل على أصحاب المحابر كلهم، ولو كان خالصاً لله لنهضت، قال القاضي (الباقلاني): فقلت لهم: كذا قال ابن كلاب، والمحاسبي، ومن في عصرهم: إن المأمون فاسق، لا يحضر مجلسه، حتى ساق أحمد بن حنبل إلى طرسوس، وجرى عليه بعده ما عرف، ولو ناظروه لكفوه عن هذا الأمر، وتبين لهم ما هم عليه من الحجة، وأنت أيضاً أيها الشيخ تسلك سبيلهم حتى يجري على الفقهاء ما جرى على أحمد، ويقولون بخلق القرآن، ونفي الرؤية، وها أنا خارج إن لم تخرج، فقال الشيخ: إذا شرح الله صدرك لهذا فاخرج، فخرجت مع الرسول إلى شيراز، وكان من نتيجة ذلك تلك المناظرات مع المعتزلة في مجلس عضد الدولة، ولما انتصر عليهم قربه الملك وأمره أن يعلم ولده، فألف له (التمهيد)، كما أن عضد الدولة أرسله إلى ملك الروم وجرت له مناظرات عديدة مع النصارى اشتهرت حكاياتها عند الناس. فالباقلاني حين عزم على مناقشة المعتزلة، ومناظراتهم كان ذلك بناء على منهج اختطه لنفسه، ورأى أنه وسيلة لازمة لمقاومة مخالفيه من أهل البدع، ولذلك نعى على شيوخه كابن كلاب والمحاسبي حين تركوا المأمون ومن معه من أهل الاعتزال يفرضون على الناس مقالتهم الاعتزالية، وحين يضرب الباقلاني المثل بهذين كان يقصد أن تمكنهما من علم الكلام يعطيهما قدرة على مناقشة المعتزلة أصحاب الكلام والجدل العقلي فهو يرى أن الواجب عليهما أكبر من غيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 4ـ كان للباقلاني دور واضح في تطوير المذهب الأشعري، ويكاد يجمع جميع الباحثين على أن له دوراً في ذلك، يقول ابن خلدون: "وكثر أتباع الشيخ أبي الحسن الأشعري، واقتفى طريقته من بعده تلميذه، كابن مجاهد وغيره، وأخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلاني، فتصدر للإمامة في طريقتهم، وهذبها، ووضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار، وذلك مثل إثبات الجوهر الفرد، والخلاء، وإن العرض لا يقوم بالعرض، وأنه لا يبقى زمانين، وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم، وجعل هذه القواعد تبعاً للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف تلك الأدلة عليها، وأن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول" ثم يعقب ابن خلدون مشيراً إلى الظروف التاريخية للقول بهذه الأمور، فيقول: "وجملت هذه الطريقة وجاءت من أحسن الفنون النظرية والعلوم الدينية، إلا أن صور الأدلة فيها جاءت بعض الأحيان على غيرالوجه القناعي لسذاجة القوم، ولأن صناعة المنطق التي تسير بها الأدلة وتعتبر بها الأقيسة لم تكن حينئذ ظاهرة في الملة، ولو ظهر منها بعض الشيء، لم يأخذ به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة لعقائد الشرع بالجملة فكانت مهجورة عندهم لذلك"، ويرى الدكتور إبراهيم مدكور أنه يعتبر: "الخليفة للأشعري، وأنه تأثر بالمعتزلة، فاعتنق نظرية الجوهر الفرد كما اعتنقها الأشعري، ودعمها وعمقها، وقال بفكرة الأحوال، وحاول أن يسوي بين الحال والصفة، ولا شك في أنه يعد أول من ثبت دعائم المذهب الأشعري، وأضاف إليه أسساً عقلية، وإن قال بمبدأ له خطره وهو: إن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول". ويشير محققا (التمهيد) - أبو ريدة ومحمود الخضيري - إلى جوانب من دور الباقلاني في تطوير مذهب الأشاعرة، فيقولان: "أما القيمة الكبرى لعمل الباقلاني فهي .. كانت في التنهيج وفي بناء مذهب الأشاعرة الكلامي والاعتقادي بناء منظماً لا من حيث الطريقة المنطقية الجدل فحسب، بل من حيث وضع المقدمات التي تبني عليها الأدلة، ومن حيث ترتيب هذه المقدمات بعضها بعد بعض على نحو يدل على امتلاك ناصية الجدل وعلى طول اعتبار في أصول الاستدلال"، ثم يذكران قول ابن خلدون، وقبل ذلك ذكرا أن الباقلاني لم يكن "مجرد مواصل لحمل تراث الأشاعرة المتقدمية عليه، بل قد تم على يديه توضيح بعض النقط، وتحديد بعض المفهومات، مما أدى إلى تعديل مذهب الأشعري من بعض الوجوه وإلى تقريبه من رأي المعتزلة، وهذا ما لم يغفله بعض العلماء المتقدمين"، ثم ذكرا نماذج لتعليقات الغزالي والشهرستاني على مخالفة الباقلاني لشيخ الأشاعرة في مسائل: صفة البقاء، والحال، وتأثير القدرة الحادثة، وقد سبق ذكر ذلك عند شرح عقيدة الباقلاني وأقواله. ويذكر أحمد صبحي أن الأشعري كان يعتمد على النقل كثيراً، لكن أتباعه عدلوا " ابتداء من الباقلاني عن الاستشهاد بدليل النقل إلا فيما ندر، مغلبين أدلة العقل .. وجاء الباقلاني ليختط منهجاً مغايراً لمنهج الأشعري دفاعاً عن المذهب، إذ وضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة كالحديث عن العلم وأقسامه، وعن الموجود قديمه وحديثه، وعن الجوهر والعرض والجسم". وهذا ما سار عليه الأشاعرة من بعده، وواضح أن الباقلاني يستشهد بالأدلة النقلية في كتبه ولكن مناقشاته العقلية تطغى عليه كثيراً، حتى وهو يعرض أن يستشهد بالنصوص. ويرى بروكلمان أن الباقلاني أتى بآراء جديدة أخذها عن الفلسفة اليونانية، أما مكارثي فيرى أنه يتصف ببعض الأصالة في مناقشته للبيان والمعجز، وأنه عمل كثيراً على نشر المذهب الأشعري، كما يرى فتح الله خليف أنه أدخل بعض التعديلات على مذهب الأشعري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 والمسألة التي اشتهر بها الباقلاني وهي أن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول لم نجد لها نصاً صريحاً فيما وصل من كتب الباقلاني، ولكن ابن خلدون ذكرها، ثم تناقلها عنه الباحثون، وقد حاول النشار، وتبعه محمد عبد الستار نصار أن يوجدا ما يدعم هذا القول في بعض مقدمات (التمهيد)، والذي يترجح أنها بنيت على قوله بوجوب المعجزات لثبوت نبوة الأنبياء لأن بطلان المعجزة يؤدي إلى بطلان نبوة الأنبياء، أو أنها بنيت على قوله بالجوهر الفرد وأن بطلانه يؤدي إلى بطلان دليل حدوث الأجسام. ويتضح من خلال عرض عقيدة وأقوال الباقلاني، وأقوال الباحثين في ذلك أن الباقلاني قد طور المذهب الأشعري من خلال: 1ـ الميل في المناقشات إلى العقل، وضعف الاعتماد على النقل، وإن كان الأمر لم يصل إلى إهماله. 2ـ وضع المقدمات العقلية لمباحث العقيدة وعلم الكلام، مثل مباحث الجوهر والعرض، وأقسام العلوم، والاستدلال، والكلام عن الموجودات وأنواعها. 3ـ الميل إلى بعض أقوال المعتزلة وخاصة في بعض الصفات، وإذا كان الأشعري أخذ يبعد عن الاعتزال في آخر كتبه، فالباقلاني أعاد المنهج الأشعري ليقرب من أهل الكلام. 4ـ تقعيد بعض القواعد الكلامية، التي أصبحت فيما بعد أصول الأشاعرة مثل القول بالجوهر الفرد، وأن العرض لا يبقى زمانين، وأنه لا يقول بالعرض. 5 ـ التركيز على مبدأ إنكار العلة والسببية التي جعلها الله في الأشياء. كذلك القول في مسألة المعجزات والفرق بينها وبين السحر والكرامات والحيل. المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 2/ 526 ابن فورك: ت 406 هـ: هو محمد بن الحسن بن فورك، أبو بكر الأنصاري، الأصبهاني، ولا يعرف تاريخ ولادته، لكن المعروف عنه أنه أقام أولاً بالعراق ودرس بها مذهب الأشعري على أبي الحسن الباهلي - تلميذ أبي الحسن الأشعري، ثم ذهب إلى الري فسعت به الكرامية، ثم راسله أهل نيسابور فبنيت له فيها دار ومدرسة، وصار يدرس فيها وتخرج عليه جمهرة كبيرة من الفقهاء، وقد ذكر قصة له في سبب اشتغاله بعلم الكلام. وفي آواخر عمره أنهى إلى السلطان محمود بن سبكتكين أنه يعتقد أن نبينا محمداً ليس نبياً اليوم، وأن رسالته انقطعت بموته، وقد امتحن وجرت له مناظرات مع محمود بن سبكتكين، وممن نسب إليه هذا القول ابن حزم حيث قال في الفصل: " حدثت فرقة مبتدعة تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب (ليس هو الآن رسول الله) ولكنه كان رسول الله، وهذا قول ذهب إليه الأشعرية، وأخبرني سليمان بن خلف الباجي - وهو من مقدميهم اليوم - أن محمد بن الحسن ابن فورك الأصبهاني على هذه المسألة قتله بالسم محمود بن سبكتكين، صاحب ما دون وراء النهر من خراسان - رحمه الله-"، ثم ذكر ابن حزم السبب الذي أدى إلى هذه المقالة، وقد نفى السبكي بشدة نسبة هذه المقالة وشنع على ابن حزم والذهبي بسببها، وقال إن ابن فورك لما سأله ابن سبكتكين كذب الناقل، وإن السلطان عندما وضح له الأمر أمر بإعزازه وإكرامه، فلما أيست الكرامية دست له السم، وقول ابن حزم سبق نقله قريباً وقد نسبه إلى الباجي، أما الذهبي فقال: "ونقل أبو الوليد الباجي أن السلطان محموداً سأله عن رسول الله فقال: كان رسول الله، وأما اليوم فلا، فأمر بقتله بالسم"، وهذه المسألة من المسائل التي كانت سبباً في محنة الأشعرية زمن القشيري والجويني، وقد رد القشيري نسبتها إلى الأشعرية وبين بطلان نسبتها إليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 والذي يظهر أنه قد وقعت بين ابن فورك وابن سبكتكين مناظرات في موضوعات متعددة ولذلك ذكر ابن رجب مناظرة بينهما حول العلو، فروى في أثناء ترجمته لأبي الحسن العكبري أنه قال: "سمعت أبا مسعود أحمد بن محمد البجلي الحافظ قال: دخل ابن فورك على السلطان محمود، فتناظرا، قال ابن فورك لمحمود، لا يجوز أن تصف الله بالفوقية، لأنه يلزمك أن تصفه بالتحتية، لأنه من جاز أن يكون له فوق جاز أن يكون له تحت. فقال محمود: ليس أنا وصفته بالفوقية، فتلزمني أن أصفه بالتحتية، وإنما هو وصف نفسه بذلك، قال: فبهت". ومن أبرز شيوخ ابن فورك إضافة إلى أبي الحسن الباهلي: عبد الله بن جعفر الأصبهاني الذي سمع منه مسند أبي داود الطيالسي، وابن خرزاد الأهوازي. منهج ابن فورك ودوره في تطور المذهب الأشعري: يعتبر ابن فورك من المعاصرين للباقلاني المتوفى سنة 403هـ، وكلاهما تتلمذ على يد أبي الحسن الباهلي، تلميذ أبي الحسن الأشعري، ولكن شيوخ الباقلاني في مسائل الكلام أكثر، كما أن عناية ابن فورك بالحديث أكثر، ويكفي أن أحد تلامذته الإمام البيهقي. وإذا كان قد مضى تفصيل مذهب وأقوال الباقلاني، فسيقتصر البحث هنا في عقيدة ومنهج ابن فورك على عرض مقارنة بينه وبين الباقلاني، إذ هما يمثلان مرحلة واحدة في مسيرة مذهب الأشاعرة. فمن المسائل التي يوافق فيها ابن فورك الباقلاني: 1ـ الاستدلال بدليل حدوث الأجسام المسمى دليل الأعراض، وهو دليل المتكلمين المشهور، وقد أشار إليه ابن فورك عرضاً في كتابه (مشكل الحديث) فقال: "إن الخلق عرفوا الله سبحانه وتعالى بدلالاته المنصوبة، وآياته التي ركبها في الصور، وهي الأعراض الدالة على حدوث الأجسام، واقتضائها محدثاً لها من حيث كانا محدثين". 2ـ نفي الصفات الاختيارية القائمة بالله تعالى، وهي المسألة المسماة بحلول الحوادث، وقد جاءت الإشارة إلى هذه المسألة عند ابن فورك في عدة مواضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 3ـ يثبت ابن فورك من الصفات الخبرية: الوجه، واليدين، والعين، ويمنع من تأويلها، وينفي عنها أن تكون جارحة أو دالة على تجسيم أو أجزاء، وهذا ما يقوله الباقلاني - إلا أننا نرى ابن فورك يتأول ما عدا هذه الصفات الخبرية، فيتأول ما ورد من اليد، ويمين الرحمن، والكف، والقبضة، والقدم، والأصابع، والساق، ولم يجعلها مع اليدين والوجه والعين نسقاً واحداً في الإثبات مع عدم التمثيل، بل أوّل هذه ومنع تأويل تلك، وكأن ابن فورك شعر بالتناقض هنا فأورد سؤالاً وأجاب عليه حيث قال بعد إثباته صفة الوجه لله تعالى، ورده على المعتزلة الذين يتأولونه بأن معناه: أنه هو، وإن وجه الشيء قد يكون نفسه - قال: "فإن قال قائل: فإنه لا يعقل وجه، الجارحة أو بعض، أو نفس الشيء؟ قيل: في هذا جوابان: أحدهما: أنه إثبات وجه بخلاف معقول الشاهد، كما أن إثبات من أضيف إليه الوجه إثبات موجود بخلاف معقول الشاهد، والثاني: أن الوجه على الحقيقة لا يكون نفس الشيء، لما بينا أن ذلك لا يوجد في اللغة حقيقة أيضاً، وأما إطلاق البعض على الوجه الذي هو جارحة فتوسع عندنا، وإن كان حقيقة أيضاً ... واعلم أن أحد أصولنا في هذا الباب أنه كلما أطلق على الله عز وجل من هذه الأوصاف والأسماء التي قد تجري على الجوارح فينا، فإنما يجري ذلك في وصفه على طريق الصفة، إذا لم يكن وجه آخر يحمل عليه، مما يسوغ فيه التأويل، وذلك لصحة قيام الصفة بذاته، فإن قيامها مما لا يقتضي انتقاض توحيده وخروجه عما يستحقه من القدم والإلهية، فأما وصفه بذلك على الحد الذي يتوهمه المشبهة الممثلة لربها بالخلق في إثبات الجوارح والآلات، فخلاف الدين والتوحيد، وحملها على ما ذهبت إليه المعتزلة فيه إبطال فائدتها، وإخراجها عن كونها معقولة مفيدة على وجه الحق ... "، ثم يورد سؤالاً آخر فيقول: "فإن قيل: فلم لا تقولون على هذا الوصف: "قدم" صفة و "صورة" صفة، لأن الإضافة قد حصلت في الخبر إليه على هذا الوجه؟ فقيل: "على صورته" وقيل: "قدمه"؟ قيل: إنما لم يحمل ذلك على الصفة لامتناع المعنى فيه، وإن الصفة ليست مما يوصف بالوضع في الأماكن، وقد وجدنا لذلك تأويلاً صحيحاً قريباً، يمنع هذه الشبهة، وهو ما ذكرنا قبل أن قدم المتجبر على الله عز وجل، يضعها على النار على استحقاق العقوبة على عتوه على الله .. وإنما حملنا ما أطلق من ذكر الوجه واليدين والعين على الصفة من حيث لم يوجد في واحد منها ما يستحيل ويمتنع، وليس كل ما أضيف إليه فهو عن طريق الصفة، بل ذلك ينقسم على أقسام: منها بمعنى الملك، ومنها بمعنى الفعل، ومنها بمعنى الصفة، وإنما يكشف الدليل، ويميز القرائن مواقعها على حسب ما بينا ورتبنا، فاعلمه إن شاء الله"، وواضح من منهجه هذا أن الصفة إذا كان لها وجه آخر تحمل عليه وجب حملها، بحيث لا تكون صفة لله تعالى، ومن تأمل تأويلاته لبعض الصفات الخبرية لا يجد بينها وبين تأويلات مخالفي ابن فورك لصفة اليدين والوجه والعين كبير فرق. 4ـ يؤول ابن فورك صفات النزول، والإتيان، والمجيء، والضحك، والعجب، والغضب، والفرح، وغيرها، وهذا ما نجده مماثلاً له عند الباقلاني، وهذا كله بناءً على أصلهما الذي هو أصل الأشاعرة وهو نفي ما يقوم بالله من الصفات الاختيارية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 5ـ يثبت صفة الكلام على مذهب الأشاعرة، ويشرح بعض الأمور المتعلقة به، فيقول: "فأما كلام الله الذي هو صفة من صفات ذاته، غير بائن منه: فكلام واحد، شيء واحد، يفهم منه ويسمع مالا يحصى ولا يعد من الفوائد والمعاني، ونظير ذلك ما نقول: إن علمه واحد، ولكنه يحيط بمعلومات لا تتناهى، والذي تقع عليه الكثرة والقلة من المعلومات دون العلم ... "، وما نسمعه من كلام الله هو عبارة عنه، وكلام الله ليس بحرف ولا صوت، يقول: "اعلم أن كلام الله تعالى ليس بحرف ولا صوت عندنا، وإنما العبارات عنه تارة تكون بالصوت والعبارات هي الدالة عليه، وأمارات له تظهر للخلق، ويسمعون عنها كلام الله فيفهمون المراد، فيكون ما سمع موسى عليه السلام من الأصوات مما سمع يسمى كلام الله عز وجل، ويكون ذلك في نفسه غير الكلام، ويحتمل أن يكون معناه: أن يسمي العبارة كلام الله، كما يسمي الدلالة على الشيء باسمه، وكما يسمي الواقع عن القدرة قدرة، والكائن عن الرحمة رحمة"، ويقول في موضع آخر "وقد بينا فيما قبل أن معنى ذلك راجع إلى العبارات والدلالات، التي هي الطريق إلى الكلام وبها يفهم مراده منه، لا أنه تعالى قوله إذا تكلم الله بالوحي، أنه يتجدد له كلام، ولكنه يتجدد إسماع وإفهام بخلق عبارات ونصب دلالات، بها يفهم الكلام، ثم يقال على طريق السعة والمجاز لهذه العبارات كلام من حيث أنها دلالات عليه ... واعلم أنه لا يصح على أصلنا في قولنا: إن كلام الله غير مخلوق ولا حادث بوجه أن يقول: إن الله يتكلم كلاماً بعد كلام، لأن ذلك يوجب حدوث الكلام، وإنما يتجدد الإسماع والإفهام، ونصب العبارات وإقامة الدلالات على الكلام الذي لم يزل موجوداً وحدوث الدلالة والعبارة لا يقتضي حدوث المدلول المعبر عنه، كما أن حدوث الذكر والدعاء لا يقتضي حدوث المذكور والمدعو". هذه بعض المسائل التي اتفق فيها الباقلاني وابن فورك، على أن ابن فورك تميز عن الباقلاني بما يلي: 1ـ الاستدلال بالسنة في دقائق مسائل الأسماء والصفات، مع أن له رأياً في أخبار الآحاد وأنها لا تفيد اليقين والعلم، لكنه يرى جواز ذكرها لإفادتها غلبة الظن، فهي من باب الجائز الممكن، يقول: "وأما ما كان من نوع الآحاد مما صحت الحجة به من طريق وثاقة النقلة، وعدالة الرواة، واتصال نقلهم، فإن ذلك - وإن لم يوجب العلم والقطع - فإنه يقتضي غالب ظن وتجويز حكم، حتى يصح أن يحكم أنه من باب الجائز الممكن، دون المستحيل الممتنع، والسبيل الأمثل فيها تخريجها وتأويلها، وليس إنكارها كما فعلت المعتزلة، ولا اعتقاد التشبيه بها كما فعلت المشبهة". والمطلع على كتاب ابن فورك في مشكل الحديث يلحظ أمرين عجيبين: أحدهما: البحث عن أوجه التأويل لكل حديث، والتكلف في ذلك، وهو يعتقد أن هذه مهمة طائفة من أهل الحديث، فقد قسمهم إلى فرقتين: فرقة هم أهل النقلة والرواية، وحصر أسانيدها، وتمييز صحيحها من سقيمها، وفرقة منهم يغلب عليهم تحقيق طرق النظر والمقاييس، والإبانة عن ترتيب الفروع على الأصول ونفي شبه الملبسين عنها، فالفرقة الأولى للدين كالخزنة للملك والفرقة الأخرى كالحرس الذين يذبون عن خزائن الملك، وواضح أن ابن فورك في كتابه جعل مهمته هدف الفرقة الثانية، ولذلك ذكر فيه ما يراه من مشكل الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 والأمر الآخر: خلطه فيما يورده بين الأحاديث الصحيحة، والضعيفة والموضوعة، حيث جعلها نسقاً واحداً في الدلالة وضرورة التأويل، وإذا أشار إلى ضعف بعض الروايات لا يكتفي بذلك في ردها وبيان عدم الحاجة إلى بحث ما دلت عليه من الصفة لله تعالى، وإنما يشير إلى ضعفها - إن أشار - بكلمات ثم يجلب بخيله ورجله في تأويلها. ومن الأمثلة على ذلك - وهي كثيرة - تأويله لرواية ((الحجر الأسود يمين الله في أرضه، يصافح بها من شاء من خلقه)) (1)، فإنه قال - دون أن يتعرض لإسناده، وهل هو مرفوع أو موقوف -: "وقد تأول أهل العلم ذلك على وجهين من التأويل: أحدهما: أن المراد بذلك الحجر أنه من نعم الله على عباده، بأن جعله سبباً يثابون على التقرب إلى الله تعالى بمصافحته، فيؤجرون على ذلك، وقد بينا أن العرب تعبر عن النعم باليمين واليد .. وزعم بعضهم: أن هذا تمثيل وأصله أن الملك إذا صافح رجلاً، قبل الرجل يده، فكان الحجر لله تعالى بمنزلة اليمين للملك ليستلم ويلثم، وقد روى في الخبر أن الله عز وجل لما أوجده أخذ الميثاق من بني آدم وأشهدهم على أنفسهم الست بربكم؟ قالوا: بلى، جعل ذلك في الحجر الأسود، فلذلك يقال عنده: إيماناً بك ووفاءً بعهدك. ويحتمل وجهاً آخر: وهو أن يكون قوله ((الحجر يمين الله في أرضه))، إنما إضافة إليه على طريق التعظيم للحجر، وهو فعل من أفعال الله عز وجل سماه يميناً، ونَسَبهُ إلى نفسه وأمر الناس باستلامه ومصافحته، ليظهر طاعتهم بالائتمار وتقربهم إلى الله عز وجل، فيحصل لهم بذلك البركة والسعادة". ولو أن ابن فورك بين درجته وضعفه - أو ضعف المرفوع منه - ثم بين وضوح دلالته وأن نص الحديث يدل على أن الحجر ليس يمين الله حقيقة والتي هي صفته القائمة به لأنه قال: "في الأرض"، لما احتاج إلى هذه التأويلات. وأحياناً يستعين ببعض الروايات الشاذة أو الضعيفة، فمثلاً حين أوّلَ أحاديث النزول بعدة تأويلات قال: "وقد روى لنا بعض أهل النقل هذا الخبر عن النبي بما يؤيد هذا الباب، وهو بضم الياء من "ينزل" وذكر أنه قد ضبطه عمن سمعه عنه من الثقات الضابطين"، والروايات المتواترة جاءت بما هو مشهور، فكيف تمسك بهذه الرواية الشاذة، والمجهول رواتها؟ وفي تأويله للإتيان في قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة: 210]، ذكر رواية عن مجاهد أنه قال: يأتيهم بوعده ووعيده. مع أن المأثور عن مجاهد عكس هذا. 2ـ وابن فورك يؤول الاستواء والعلو، خلافاً للباقلاني الذي يثبتهما، وقد سبق نقل كلامه في ذلك، ولأهمية قول ابن فورك في هذه المسألة في تتبع تطور المذهب الأشعري نعرض لأقواله فيها، يقول عن الاستواء في معرض رده على ابن خزيمة في كتابه (التوحيد): "ثم ذكر صاحب التصنيف بابا ترجمه باستوائه على العرش، وأوهم معنى التمكين والاستقرار، وذلك منه خطأ، لأن استواءه على العرش سبحانه ليس على معنى التمكين والاستقرار، بل هو في معنى العلو بالقهر والتدبير، وارتفاع الدرجة بالصفة على الوجه الذي يقتضي مباينة الخلق"، وفي موضع آخر حين رد على أحمد بن إسحاق الصبغي - صاحب ابن خزيمة - أحال على تأويله للاستواء فيما سبق - والذي نقلناه قبل قليل -.   (1) رواه الخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد)) (6/ 326) من حديث جابر, وقال البغدادي: منكر, وكذا قال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (223). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 أما العلو: فله في تأويله أقوال كثيرة: أـ يقول في حديث الجارية حين قال لها رسول الله ((أين الله؟ قالت في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة)) (1).، يقول ابن فورك: "إن ظاهر اللغة تدل من لفظة أين أنها موضوعة للسؤال عن المكان، ويستخبر بها عن مكان المسؤول عنه بأين .. غير أنهم قد استعملوها عن مكان المسؤول عنه في غير هذا المعنى توسعاً أيضاً تشبيهاً بما وضع له، وذلك أنهم يقولون - عند استعلام منزلة المستعلم عند من يستعمله -: أين منزلة فلان منك، وابن فلان من الأمير، واستعملوه في استعلام الفرق بين الرتبتين بأن يقولوا: أين فلان من فلان، وليس يريدون المكان والمحل من طريق التجاوز في البقاع، بل يريدون الاستفهام عن الرتبة والمنزلة، وكذلك يقولون: لفلان عند فلان مكان ومنزلة، ومكان فلان في قلب فلان حسن، ويريدون بذلك المرتبة والدرجة في التقريب والتبعيد، والإكرام والإهانة، فإذا كان ذلك مشهوراً في اللغة احتمل أن يقال: إن معنى قوله ((أين الله))؟ استعلام لمنزلته وقدره عندها وفي قلبها، وأشارت إلى السماء، ودلت بإشارتها على أنه في السماء عندها على قول القائل - إذا أراد أن يخبر عن رفعة وعلو منزلة -: فلان في السماء، أي هو رفيع الشأن، عظيم المقدار، كذلك قولها في السماء على طريقة الإشارة إليها، تنبيهاً عن محله في قلبها ومعرفتها به وإنما أشارت إلى السماء لأنها كانت خرساء، فدلت بإشارتها على مثل دلالة العبارة، على نحو هذا المعنى، وإذا كان كذلك لم يجز أن يحمل على غيره مما يقتضي الحد والتشبيه والتمكين في المكان والتكييف"، وبعد أن يقرر ابن فورك مذهبه هذا وتأويله - العجيب - لهذا الحديث، يذكر قولاً آخر لبعض الأشاعرة فيقول: "ومن أصحابنا من قال: إن القائل إذا قال: إن الله في السماء، ويريد بذلك أنه فوقها من طريق الصفة، لا من طريق الجهة، على نحو قوله سبحانه َمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك: 17]، لم ينكر ذلك"، وقد يكون قصد ببعض أصحابه: الباقلاني، الذي صرح بنفي الجهة - وقد سبقت الإشارة إلى ذلك. ب ـ قال في معرض رده على المعتزلة الذين يذهبون إلى أن الله في كل مكان، وبيانه أن المسلمين يطلقون أن الله فوق خلقه، وأن "في" في قوله تعالى: أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ بمعنى "على" غير أنه يعقب قائلاً: "واعلم أنا إذا قلنا: إن الله عز وجل فوق ما خلق، لم يرجع به إلى فوقية المكان، والارتفاع على الأمكنة بالمسافة، والإشراف عليها بالممارسة منها، بل قولنا إنه فوقها يحتمل وجهين: أحدهما: أنه يراد به أنه قاهر لها، مسؤول عليها، إثباتاً لإحاطة قدرته بها، وشمول قهره لها، وكونها تحت تدبيره، جارية على حسب علمه ومشيئته. والوجه الثاني: أن يراد أنه فوقها على معنى أنه مباين لها بالصفة والنعت، وأن ما يجوز على المحدثات من العيب والنقص والعجز والآفة والحاجة، لا يصح شيء من ذلك عليه، ولا يجوز وصفه به، وهذا أيضاً متعارف في اللغة أن يقال: فلان فوق فلان، ويراد بذلك رفعة المرتبة والمنزلة، والله عز وجل فوق خلقه على الوجهين جميعاً". وإنما يمتنع الوجه الثالث: وهو أن يكون على معنى التحيز في جهة الاختصاص ببقعة دون بقعة، وإذا قلنا: إنه فوق الأشياء على هذا الوجه قلنا أيضاً في تأويل إطلاق القول بأنه فيها على مثل هذا المعنى".   (1) رواه مسلم (537) , من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 جـ ـ ويقول في رده على ابن خزيمة: "واعلم أنه ليس ينكر قول من قال: إن الله في السماء، لأجل أن لفظ الكتاب قد ورد به وهو قوله: أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك: 16]، ومعنى ذلك: أنه فوق السماء لا على معنى فوقية المتمكن في المكان، لأن ذلك صفة الجسم المحدود المحدث، ولكن بمعنى ما وصف به أنه فوق من طريق الرتبة والمنزلة والعظمة والقدرة، ثم ذكر هذا القائل (ابن خزيمة) في ذلك قوله عز وجل: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10]، وقوله: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158] وهذا منه غلط، من قبل (أن) صعود الكلم الطيب إليه على معنى صعود من سفل إلى علو، لاستحالة ذلك في الكلام لكونه عرضاً لا يبقى، وكذلك العمل الصالح وإنما معنى صعود الكلام إليه قبوله، ووقوعه منه موضع الجزاء والثواب، وقوله: (يرفعه) لا على معنى رفع من مكان إلى مكان، ولكن رفع له على معنى أنه قد تقبل، وأن الكلام إذا اقترن به العمل الصالح قُبلاً دون أن ينفرد الكلام من العمل. وأما قوله تعالى في قصة عيسى بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، فمعناه: رفعه إلى الموضع الذي لا يعبد فيه إلا الله، ولا يذكر فيه غيره، لا على معنى أنه ارتفاع إليه كما يرتفع الجسم من سفل إلى جسم في علو، بأن تقرب منه بالمسافة والمساحة". د ـ ويشير في مواضع أخرى إلى تأويله للعلو والفوقية. هذا في كتابه الذي وصل إلينا كاملاً، وقد ذكر شيخ الإسلام - نقلاً عن كتابه في أصول الدين - ما يدل على إثبات العلو والاستواء، وأنه قال فيه: "وإن سألت أين هو فجوابنا: أنه في السماء كما أخبر في التنزيل عن نفسه بذلك فقال - عز من قائل – أأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك: 16]، وإشارة المسلمين بأيديهم عند الدعاء في رفعها إليه، وإنك لو سألت صغيرهم وكبيرهم فقلت: أين الله؟ لقالوا: إنه في السماء ولم ينكروا لفظ السؤال بأين، لأن النبي سأل الجارية التي عرضت للعتق فقال: أين الله؟ فقالت: في السماء: مشيرة بها، فقال النبي: ((اعتقها فإنها مؤمنة)) (1)، ولو كان ذلك قولاً منكراً لم يحكم بإيمانها ولأنكره عليها، ومعنى ذلك أنه فوق السماء، لأن في معنى فوق، قال الله تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ [التوبة: 2] أي فوقها، وقال عن الاستواء"فإن قال: فعلى ما هو اليوم؟ قيل له: مستو على العرش كما قال سبحانه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] ". قال ابن تيمية معلقاً: "فيشبه - والله أعلم - أن يكون اجتهاده مختلفاً في هذه المسائل كما اختلف اجتهاد غيره، فأبو المعالي كان يقول بالتأويل ثم حرمه، وحكى إجماع السلف على تحريمه ... ". ومما سبق يمكن تلخيص دور ابن فورك في تطور المذهب الأشعري بما يلي: 1ـ العناية بالحديث والاهتمام به، مع البقاء على منهج وطريقة أهل الكلام وتأويلاتهم، وبذلك خف الحاجز الذي كان يفصل بين أهل السنة من أهل الحديث الذين يثبتون ما دلت عليه النصوص، وأهل الكلام الذين كانوا بعيدين عن الاهتمام بعلم الحديث رواية ودراية، وهذا المنهج الذي سلكه ابن فورك هو ما سنجده بشكل أقوى وأوضح عند البيهقي. 2ـ الغلو في التأويل، وكأنه صار هو الأصل، والإثبات هو القليل. 3ـ تأويل صفة الاستواء والعلو، وهذا تطور خطير وكبير في المذهب الأشعري، وإن كان - كغيره من الأشاعرة - قد أثر عنه المنع من تأويلها. المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 2/ 555 عبد القاهر البغدادي - ت 429هـ   (1) رواه مسلم (537) , من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 هو عبد بن طاهر بن عبد الله، أبو منصور البغدادي، التميمي، لم يحدد تاريخ ولادته، لكن المعروف عنه أنه ولد في بغداد ونشأ بها، ثم رحل مع أبيه إلى نيسابور، حيث تتلمذ على يد أبي إسحاق الإسفراييني، وكان من أبرز شيوخه، ومنهم أيضاً، إسماعيل بن نجيد، وأبو عمرو محمد بن جعفر بن مطر، وأبو بكر الإسماعيلي، وأبو أحمد بن عدي وغيرهم. وقد مدحه العلماء - خاصة علماء الأشاعرة - كابن عساكر والرازي والسبكي، وقال فيه شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني: "كان من أئمة الأصول، وصدور الإسلام، بإجماع أهل الفضل والتحصيل، بديع الترتيب، غريب التأليف والتهذيب، تراه الجلة صدراً مقدماً، وتدعوه الأئمة إماماً مُفخّماً، ومن خراب نيسابور اضطرار مثله إلى مفارقتها"، قال السبكي " قلت: فارق نيسابور بسبب فتنة وقعت بها من التركمان"، وكان استقراره آخر أمره في إسفراين حيث لم يبق فيها إلا يسيرا، فمات بها سنة 429هـ ودفن بجانب شيخه أبي إسحاق الإسفراييني. منهج البغدادي ودوره في تطور المذهب الأشعري: البغدادي أحد أعلام الأشاعرة في نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس حيث كانت وفاته سنة 429هـ، وهو يمثل تقريباً مرحلة كل من الباقلاني - ت 403هـ- وابن فورك - ت 406هـ- وإن تأخر عنهما قليلاً، لكنه مثلاً يلتقي مع ابن فورك بكونهما شيخين للبيهقي، كما أنه يذكره في كتابه (أصول الدين)، ويذكر الباقلاني أيضاً، ويصفه بقوله: "قال قاضينا"، كما أن البغدادي ذكر أنه أدرك أبا عبد الله بن مجاهد، تلميذ أبي الحسن الأشعري. والبغدادي يميزه كتبه خاصة "أصول الدين" إنه ينقل أقوال أصحابه من الكلابية والأِشعرية، ويذكر الخلاف بينهم إن وجد، لذلك فقد يتبادر إلى الناظر أنه مقلد للأشاعرة، وممن رأى هذا الرأي عبد الرحمن بدوي الذي قال: "لقد كان عبد القاهر البغدادي - بحسب ما لدينا من مؤلفاته - عارضاً لآراء الأشاعرة أكثر من مفكراً أصيلاً، ذا آراء انفرد بها، أو براهين جديدة ساقها"، وهذا الكلام فيه شيء من الحق لكن البغدادي - كما سيأتي - له ترجيحات خاصة تعتبر بمثابة منعطف في تطور المذهب الأشعري، صحيح أنه في غالب المسائل مقلد لشيوخه، لكن ليس فيها كلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 والبغدادي لا يخالف من سبقه من الأشاعرة في مسائل العقيدة والكلام، فيرى أن أول الواجبات النظر، وأخبار الآحاد - إذا رواها الثقات - تقبل إذا كانت تحتمل تأويلاً يوافق المعقول، كما أنه يقول بالجزء الذي لا يتجزأ، وهو الجوهر الفرد، ويستدل له، كما يقول بأن الأعراض لا تبقى زمانين، كما أنه يحتج بدليل الأعراض وحدوث الأجسام ويحتج له ويطيل الكلام حوله، كما أنه ينفي ما يقوم بالله من الصفات الاختيارية، وهي مسألة حلول الحوادث، ولذلك تأوّل صفات المحبة، والرحمة، والغضب، والفرح، والضحك، كما أنه قال بكلام الله الأزلي وأنه قائم بالله وأنه أمره ونهيه وخبره ووعده ووعيده، ويربط ذلك بمسألة حلول الحوادث، لكنه لما ذكر ما وقع من الخلاف بين الكلابية والأِشعرية في أزلية الأمر والنهي، ذكر قوليهما دون ترجيح، أما الإيمان فهو عنده الطاعات فرضها ونفلها كما هو قول أهل الحديث والسنة، ويرجح هذا بعد ذكره لأقوال كل من الأشعري وابن كلاب، أما الاستثناء في الإيمان، فقد رتب الخلاف فيه ترتيباً حسناً على الخلاف في حقيقة الإيمان، وبما أنه رجح مذهب أهل الحديث فقد قال: "وكل من وافى ربه على الإيمان فهو مؤمن، ومن وافاه بغير الإيمان الذي أظهره في الدنيا، علم في عاقبته أنه لم يكن قط مؤمناً"، وهذا الكلام ليس هو قول أهل الحديث الذين يجيزون الاستثناء في الإيمان إذا لم يكن شقاً، أما الموافاة فهي من مسائل مذهب الأشاعرة بناءً على قولهم في منع حلول الحوادث، وأن غضب الله أو رضاه أزلي، فالكافر إذا مات على الكفر فهو مغضوب عليه غير مرضي عنه ولو عاش أغلب عمره مؤمناً، وعكسه المؤمن، أما مسألة القدر، فقد قال بالكسب وسار فيه على خطأ شيوخه في ذلك مع التجديد في العرض والاستدلال، أما ما يتعلق بالمعجزات وشروطها، فأقواله فيها جاءت على وفق ما ذهب إليه الباقلاني. هذه خلاصة سريعة لبعض رؤوس المسائل التي وافق فيها شيوخه الأشاعرة أما الجوانب البارزة في منهجه، كمعالم على تطور المذهب الِأشعري فأهمها: 1ـ مخالفته صراحة لبعض أقوال شيخ الأشاعرة أبي الحسن الأشعري، فهو يعرض الأقوال ومنها قول الأشعري، ثم يرجح قولاً آخر قال به غيره كابن كلاب أو القلانسي، أو غيرهما، ومن ذلك مسألة إيمان المقلد، ومعنى "الإله"، والوقف على قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 7]، ومخالفة البغدادي - في هذه المسائل أو غيرها - للأشعري له أهمية في تصور مدى المتابعة والتقليد لشيخهم في ذلك الزمن القريب من اِلأشعري، إذ أن الفرق بين وفاتيهما يتجاوز القرن بقليل، وهذه مدة زمنية قليلة نسبياً. 2ـ تبني دليل حدوث الأجسام بقوة، وهو من أدلة المعتزلة، وقد قال به بعض الأشاعرة قبل البغدادي، لكن شيخهم أبا الحسن الأِشعري رأى أنه دليل لم تدع إليه الرسل - كما سبق شرح ذلك - فالبغدادي لما عرض هذا الدليل عرضه وكأنه دليل مسلم لا يجوز الاعتراض عليه، بل قال: "وكل قول لا يصح معه الاستدلال على حدوث الأجسام وعلى حدوث الجواهر فهو فاسد"، وهذا الجزم بالقول بصحة هذا الدليل هو ما نجده إحدى مسلمات مذهب الأشاعرة فيما بعد. 3ـ تأييد القول بتجانس الأجسام كلها، وأن اختلافها في الصورة، ـ وهذا قد قال به بعض المعتزلة، وبنوا عليه نفي صفات الله حين قالوا: إثبات الصفات تجسيم والأجسام متماثلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 4ـ أما مسألة الاستواء، فقد سبق بيان أن الباقلاني ومن قبله قالوا بإثباته بلا تأويل، وردوا على من أوّله بالاستيلاء، وأن ابن فورك مال فيه إلى التأويل، أما البغدادي فقد قال بالتأويل، مع أنه رد على المعتزلة الذين أولوا الاستواء بالاستيلاء وقال: "زعمت المعتزلة أنه بمعنى استولى كقول الشاعر: قد استوى بشر على العراق، أي استولى، وهذا تأويل باطل؛ لأنه يوجب أنه لم يكن مستولياً عليه قبل استوائه عليه"، ثم عرض أقوال أصحابه الأشاعرة فقال: "واختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: إن آية الاستواء من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، وهذا قول مالك بن أنس وفقهاء المدينة والأصمعي ... ومنهم من قال: إن استواءه على العرش فعل أحدثه في العرش ثم سماه استواء، كما أحدث في بنيان قوم سماه إتياناً، ولم يكن ذلك نزولاً ولا حركة، وهذا قول أبي الحسن الأشعري ... ومنهم من قال: إن استواءه على العرش كونه فوق العرش بلا مماسة، وهذا قول القلانسي وعبد الله بن سعيد، ذكره في كتاب (الصفات) "، وبعد عرضه لهذه الأقوال يرجح فيقول: "والصحيح عندنا تأويل العرش في هذه الآية على معنى الملك، كأنه أراد أن الملك ما استوى لأحد غيره وهذا التأويل مأخوذ من قول العرب: ثّلّ عرشُ فلان إذا ذهب ملكه ... فصح بهذا تأويل العرش على الملك في آية الاستواء على ما بيناه"، ويقول في موضع آخر حول معنى آية الاستواء: " معناه عندنا على الملك استوى، أي استوى الملك للإله، والعرش هاهنا بمعنى الملك ... ". أما مسألة العلو فهو من نفاته، ولذلك بوب لإحدى المسائل بقوله: "المسألة السابعة من الأصل الثالث في إحالة كون الإله في مكان دون مكان "، ثم ذكر أقوال الكرامية والمعتزلة والحلولية، ثم قال: "ودليلنا على أنه ليس في مكان بمعنى المماسة قيام الدلالة على أنه ليس بجوهر ولا جسم ولا ذي حد ونهاية، والمماسة لا تصح إلا من الأجسام والجواهر التي لها حدود"، ثم ذكر أنه أفرد هذه المسألة في كتاب مفرد، وفي موضع آخر يذكر أن الله كان ولا مكان وهو الآن على ما كان. فالبغدادي من نفاة العلو ومؤولة الاستواء، وبهذا يتبين أن القول بذلك في المذهب الأشعري جاء قبل الجويني. 5ـ وأبرز تطور جاء على يد البغدادي هو قوله في الصفات الخبرية، وقد سبق ذكر أن الباقلاني وابن فورك ومن قبلهما أثبتوا لله الوجه واليدين والعين ومنعوا من تأويلها، وابن فورك - مثلاً - وإن قال بتأويل بعض الصفات الخبرية، كالقدم والإصبع واليمين - كما مر - إلا أن هذه الصفات - صفات الوجه واليدين والعين- لم يؤولها ولم يسلك فيها ما سلكه في غيرها بل نص على القول بالإثبات والمنع من التأويل، أما البغدادي فإنه قال: "المسألة الثالثة عشرة من هذا الأصل في تأويل الوجه والعين من صفاته"، ثم ذكر قول المشبهة ثم قال: "وزعم بعض الصفاتية أن الوجه والعين المضافين إلى الله تعالى صفات له، والصحيح عندنا أن وجهه ذاته، وعينه رؤيته للأشياء، وقوله: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27]، معناه ويبقى ربك، ولذلك قال: ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ، بالرفع لأنه نعت الوجه، ولو أراد الإضافة لقال ذي الجلال والإكرام، بالخفض ... "، ثم ذكر المسألة الرابعة عشرة في تأويل اليد المضافة إلى الله تعالى، وبعد أن أبطل مذهب المشبهة قال: "وزعم بعض القدرية أن اليد المضافة إليه بمعنى القدرة، وهذا التأويل لا يصح على مذهبه مع قوله: إن الله تعالى قادر بنفسه بلا قدرة، وقد تأول بعض أصحابنا هذا التأويل، وذلك صحيح على المذهب، إذا أثبتنا لله القدرة، وبها خلق كل شيء، ولذلك قال في آدم عليه السلام خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75]، ووجه تخصيصه آدم بذلك أن خلقه بقدرته لا على مثال له سبق، ولا من نطفة، ولا نقل من الأصلاب إلى الأرحام، كما نقل ذريته من الأصلاب إلى الأرحام، وزعم بعض أصحابنا أن يديه صفتان، وزعم القلانسي أنهما صفة واحدة "، وكلامه هذا يدل على تأويل صريح لهذه الصفات، وقد بنى تأويله هذا على أن الله واحد فقال بعد ذكر بعض الصفات الخبرية ناسياً إثباتها إلى المشبهة: " ودليلنا على أن الله واحد في ذاته، ليس بذي أجزاء وأبعاض أنه قد صح أنه حي، قادر، عالم، مريد فلو كان ذا أجزاء وأبعاض لم يخل أن يكون في كل جزء منه حياة وقدرة وعلم وإرادة، أو تكون هذه الصفات في بعض أجزائه ... "، ثم قال: "وأما قوله: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27]، فمعناه ويبقى ربك ... (ثم ذكر التعليل السابق، ثم قال:) واليد المضافة إلى الله تعالى صفة له خاصة وقدرة له بها فعله"، كما أنه أوّل القدم والإصبع. وبهذا يتبين أن البغدادي قال بتأويل الصفات الخبرية في وقت مبكر، وأن الجويني - المولود سنة 419 هـ والمتوفى سنة 478هـ - الذي اشتهر عنه أنه أول من أوّل الصفات الخبرية قد سبق إلى ذلك من جانب بعض أع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 المبحث الأول: حقيقة توحيد الربوبية عند الأشاعرة يطلق الأشاعرة على هذا النوع من التوحيد: توحيد الذات والأفعال – وسيأتي بعد قليل إن شاء الله شرح مرادهم بعد بيان المراد بكلمة الرب ومعنى الربوبية .... المسألة الأولى: مدلول كلمة الرب من حيث هي اسم لله تعالى: قال إبراهيم الباجوري في شرحه لبيت من (جوهرة التوحيد): "قوله: (ربه): أي خالقه أو مالكه أو نحو ذلك من معاني الرب المنظومة في قول الشيخ السجاعي: قريب محيط مالك ومدبر ... مرب كثير الخير والمول للنعم وخالقنا المعبود جابر كسرنا ... ومصلحنا والصاحب الثابت القدم وجامعنا والسيد احفظ فهذه ... معان أتت للرب فادع لمن نظم (1) وهذه المعاني واضحة، ومرادهم بالقديم هنا الإخبار عن الله تعالى بأنه موجود وجوداً أزلياً، وليس مقصودهم القدم النسبي الذي بمعنى طول مدة الوجود التي لا تستلزم الأزلية (2). المسألة الثانية: عموم وخصوص ربوبية الله لخلقه: والمقصود بالربوبية العامة: خلق الله عز وجل لمخلوقاته وهدايتهم لما يصلحهم في حياتهم مع بقائهم تحت قهره وملكه، وهذه واضحة في النظم السابق. وأما الربوبية الخاصة: وهي التي تتعلق بدلالة المكلفين وإرشادهم للدين الحق مع توفيقهم للعمل الصالح – فهذه أيضاً معلومة عند الأشاعرة، وقد نصوا عليها عند كلامهم في مسألة خلق أفعال العباد، فمن أقوالهم في الهداية الخاصة قول الرازي: "واعلم أنه سبحانه هادٍ من حيث إنه خص من أراد من عباده بمعرفته وأكرمه بنور توحيده كما قال: وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [يونس: 25] " اهـ. المسألة الثالثة: تعريف توحيد الربوبية: كما تقدم فإن الأشاعرة اصطلحوا على تسمية هذا التوحيد بتوحيد الذات والأفعال، فإنهم يثبتون وحدانية في الذات والصفات والأفعال، والوحدانية الأولى والثالثة هما المرداتان هنا، فقالوا عن وحدانية الذات إنها تنفي عن الذات "تركبها من أجزاء ... وتعددها بحيث يكون هناك إله ثان فأكثر" فهذا ما تنفيه وحدانية الذات. قالوا: "ووحدة الأفعال بمعنى: أنه لا تأثير لغيره في فعل من الأفعال" (3) فيستحيل: "أن يكون لغير الله فعل من الأفعال على وجه الإيجاد" (4).وقد وضح مقصودهم بتوحيد الذات والأفعال، إلا أن تعبيرهم بكلمة (لا تأثير) فيه شيء من الإجمال ومبالغة ستأتي مناقشتهم فيها إن شاء الله في مسألة الأسباب والمسببات. وكذلك تعبيرهم بكلمة: "تركبها من أجزاء" فيه إجمال متضمن لباطل وحق، فلزم الاستفصال؛ فنفيهم للصفات الذاتية كالوجه واليدين – بدعوى التركيب – نفي باطل لأنه معارض لأدلة من الكتاب والسنة تثبتها، ولا يجوز أن يقال في ما ثبت لله بالأدلة من الصفات إنه تركيب. وأما نفيهم لأن يكون الله متركباً من أجزاء منفردة أو يقبل التقسيم والتفريق المستلزمين للحاجة والافتقار فهذا نفي صحيح، إذ يجب نفي هذه الأمور عن الله، إذ هو الحي القيوم الغني بذاته عمن سواه (5). المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف – 1/ 307   (1) ((تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد)) (ص: 17 - 18). (2) انظر: ((شرح الأسماء الحسنى للرازي)) (ص:358 - 359). (3) ((تحفة المريد)) (ص: 59) – وانظر ((شرح أم البراهين)) (ص: 28). (4) ((تحفه المريد)) (ص: 60). (5) انظر: ((تفسير سورة الإخلاص: لشيخ الإسلام ابن تيمية)) (ص: 150)، و ((الفتاوى له)) (6/ 344). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 المبحث الثاني: مقتضيات الإقرار لله تعالى بالربوبية عند الأشاعرة المراد هنا: الإشارة إلى موقف الأشاعرة من تلك المقتضيات: فالأول من تلك المقتضيات، وهو أن يعتقد العبد انفراد الله تعالى بالنفع والضر والرزق والإحياء والإماتة وجميع أفعاله وألا يشرك في ذلك بالله أحداً، فهذا كله يقر به الأشعرية ولا يخالفونه وكتبهم مليئة بهذا الكلام عند ذكر توحيد الأفعال. إلا أنه ظهر في المتأخرين منهم ما يقدح في هذا الذي يقولونه، وقد فشا في العصور المتأخرة الشرك بالله تعالى في توحيد الربوبية لاعتقاد كثيرين أن غير الله تعالى يملك الضر والنفع حتى الأموات، فأوجب لهم ذلك الشرك في عبادته فصاروا يستغيثون بهم ويلجأون إليهم ويطلبون منهم الذرية وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله، فجمعوا بين الشرك في الربوبية والشرك في العبادة – وهذا أمر واضح جلي يعرفه القاصي والداني في كثير من بلاد المسلمين، وزين لهم بعض الأكابر هذا الأمر بشبهات وتلبيسات بتسمية الأمور بغير أسمائها كتسميتهم الاستغاثة بالتوسل، ويسمون شبهاتهم بشواهد الحق وإنما هي شواهد الباطل، وهذا كله يقع مع كثرة كتبهم المبينة لإفراد الله تعالى في ربوبيته وأفعاله.!! مع ملاحظة أخرى، وهي أن الأشاعرة يجعلون الأفعال من تعلقات القدرة والإرادة دون قيامها بالله!، والواجب إثبات قيام هذه الأفعال بالله لأنها من مقتضيات الربوبية، ولذلك قال ابن القيم: "فإن قيام الأفعال به هو معنى الربوبية وحقيقتها، ونافي هذه المسألة نافٍ لأصل الربوبية، جاحد لها رأساً" (1). اهوأما الثاني من تلك المقتضيات وهو إثبات رب مباين للعالم، وذلك بإثبات العلو لله رب العالمين، فهذا مما خالف فيه الأشاعرة، وهذه المسألة من أكبر المسائل التي خالفوا فيها أهل السنة والجماعة بدعوى تنزيه الله تعالى عن الجهة والتحيز! حتى غلا بعضهم فقال: "يستحيل على الله تعالى أن يكون في جهة للجرم بأن يكون فوق العرش مثلاً أو تحته أو يمينه أو شماله أو أمامه أو خلفه ... (و) يستحيل على الله تعالى أن تكون له جهة في نفسه بأن يكون له يمين أو شمال أو فوق أو تحت أو قدام أو خلف! " (2) وهذا الكلام لازمه أن لا يوجد الرب سبحانه وتعالى وتقدس لولا أنهم يثبتون وجوده سبحانه، والسلف لا يرون لازم المذهب لازماً. وستأتي مناقشتهم في شبهتهم التي ذكروها لنفي العلو إن شاء الله تعالى. وأما الثالث من مقتضيات الربوبية وهو التوصل بالإقرار بها إلى إفراد الله تعالى في الألوهية، فهذا النوع – وهو توحيد العبادة – يسلمون به في الجملة، إلا أن الملاحظ خلو كتبهم من تقرير هذا النوع من التوحيد، بل وجد من المتأخرين من يخالف في توحيد العبادة على ما سبق بيانه المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف – 1/ 310   (1) ((مدار السالكين)) لابن القيم (3/ 414). (2) ((شراح أم البراهين)) (ص: 24). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 المبحث الثالث: منزلة توحيد الربوبية عند الأشاعرة أما الأشاعرة فقد اختلفت عباراتهم في أول واجب على المكلف بعد أن اتفقوا على أن الأمر بعبادته ليس أول واجب. فحكى الاشاعرة عن الأشعري القول بأن أول واجب على المكلف هو المعرفة. والمعرفة عندهم معناها معرفة وجود الله وتفرده بخلق العالم. فحكى الاشاعرة عن الأشعري القول بأن أول واجب على المكلف هو المعرفة (1). والمعرفة عندهم معناها معرفة وجود الله وتفرده بخلق العالم. وعند الباقلاني أول واجب: النظر (2) فقال: "أول ما فرض الله عز وجل على جميع العباد النظر في آياته ... والثاني من فرائض الله عز وجل على جميع العباد الإيمان به والإقرار بكتبه ورسله" .. الخ (3).وأول واجب على المكلف عند الجويني القصد إلى النظر فقال: "أول ما يجب على العاقل البالغ باستكمال سن البلوغ أو الحلم شرعاً، القصد إلى النظر الصحيح ... " (4).وقال شارح الجوهرة محاولاً الجمع بين هذه الأقوال: "والأصح أن أول واجب قصداً: المعرفة، وأول واجب وسيلةً قريبةً: النظر، ووسيلةً بعيدة: القصد إلى النظر" (5)، فظهر من هذا أن النزاع بينهم لفظي. والمراد بالنظر عندهم: "ترتيب أمرين معلومين ليتوصل بترتيبهما على علم مجهول" (6). وواضح أن هذا من المقاييس العقلية، وليس المراد مجرد النظر في آيات الله المستلزم معرفة المراد دون توسط أي حد وسط، كما هو في القياس، وسيأتي بحث إثبات وجود الله تعالى وبيان صعوبته والإشكالات الواردة عليه، وما فيه من لوازم باطلة – إن شاء الله -.ولما عدد شارح الجوهرة المطالب السبعة التي يتوصل بها إلى إثبات وجود الله تعالى قال: "وهذه المطالب السبعة لا يعرفها إلا الراسخون في العلم! " ثم قال:"قال السنوسي: وبها ينجو المكلف من أبواب جنهم السبعة! " (7) اهـ ولم يتعقبه بشيء!، كأنه يقره على مقالته. فانظر كيف جعل السنوسي عاقبة ترك هذه المطالب على المكلف سواء كان من العوام أو من العلماء الراسخين في العلم!، وانظر اعتراف الباجوري بأنه لا يعلمها إلا الراسخون في العلم!، فيكونون على هذا هم الناجين فقط دون سواهم!، ويكون العوام، وهم أكثر المسلمين ليسوا بناجين من النار، بل حتى العلماء الذين ليسوا براسخين في العلم!. وفي هذا تحجير لواسع وتضييق لرحمة الله، وابتداع لقول لم يسبقوا إليه. المناقشة: 1 - قولهم إن أول واجب على المكلف هو النظر الصحيح المفضي إلى معرفة الله يناقض أمرين: أولهما: أن الإقرار بمعرفة الله أمر مركوز في الفطر. وثانيهما: الأمر بعبادة الله أولاً. أما كون الإقرار بالله مركوزاً في الفطر فقد تقدم دليله في الفصل السابق.   (1) انظر: ((شرح جوهرة التوحيد)) (ص: 37). (2) وقد حكى عنه أن أول واجب هو أول النظر، أي المقدمة الأولى، وليس هناك كبير فرق انظر: ((شرح الجوهرة)) (ص: 37). (3) ((الإنصاف للباقلاني)) (ص: 33). (4) ((الإرشاد)) (ص: 25). (5) ((شرح جوهرة التوحيد للباجوري)) (ص: 38). (6) ((شرح الجوهرة)) (ص: 37) وانظر ((الإرشاد للجويني)) (ص: 25). (7) ((شرح جوهرة التوحيد)) (ص: 42). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وتقدمت الإجابة عن اعتراضاتهم كذلك. وهنا لابد من الإشارة إلى اعتراف بعض حذاق علماء الأشاعرة بهذا الإقرار الفطري وهو: الشهرستاني حيث قال في كتابه (نهاية الإقدام في علم الكلام): "وأنا أقول: ما شهد به الحدوث أو دل عليه دليل الإمكان بعد تقديم المقدمات دون ما شهدت به الفطرة الإنسانية من احتياج في ذاته إلى مدبر هو منتهى الحاجات فيرغب إليه ولا يرغب عنه، ويستغني به ولا يستغني عنه، ويتوجه إليه ولا يعرض عنه، ويفزع إليه في الشدائد والمهمات فإن احتياج نفسه أوضح له من احتياج الممكن الخارج إلى الواجب، والحادث إلى المحدث" (1). فاعتراف الشهرستاني بدليل الفطرة وأن منزلته في الاستدلال فوق الاستدلال بدليل الحدوث والإمكان، وعلل ذلك بأن أصل دليل الفطرة مركوز في النفس لذلك كان أقوى من الدليل الذي يطلب من خارج – وهو واضح – وسيأتي ذكر اعترافات أخرى من غيره في الباب الرابع إن شاء الله. وأما الأمر الثاني الذي ناقضوه بقولهم هذا فهو أن المعروف بالكتاب السنة والإجماع أن أول ما يجب على المكلفين هو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وقد مضى تحقيق هذه المسألة في الباب الأول – ولكن لا بأس من الإشارة هنا إلى بعض الأدلة: فمن الكتاب قول الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: 36] وقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]، وهذا صريح في أن الرسل ما بعثوا إلا لعبادة الله وحده، وأفاد هذا الحصر الآية الثانية. وأما من السنة فقول الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه إلى أهل اليمن: ((فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)) (2). وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)) (3).وقد وردت في حديث معاذ جملة وهي: ((فإذا عرفوا الله)) فتمسك بها من قال إن أول واجب هو المعرفة (4)، والجواب كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "إن الأكثر رووه بلفظ: ((فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك)) (5). ومنهم من رواه بلفظ: ((فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله، فإذا عرفوا ذلك)) (6)، ومنهم من رواه بلفظ: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله)) (7)، .... ووجه الجمع بينهما أن المراد بالعبادة: التوحيد، والمراد بالتوحيد: الإقرار بالشهادتين، والإشارة بقوله "ذلك" إلى التوحيد: وقوله ((فإذا عرفوا الله)) أي عرفوا توحيد الله، والمراد بالمعرفة: الإقرار والطواعية (8)، فبذلك يجمع بين الألفاظ المختلفة في القصة الواحدة .. " (9). اهـ.   (1) ((نهاية الإقدام في علم الكلام)) (ص: 125). (2) رواه مسلم (19). (3) رواه البخاري (2946) , ومسلم (33) (21) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (4) ونسب هذا القول إلى إمام الحرمين كما في ((فتح الباري)) (12/ 361). (5) رواه مسلم (19). (6) رواه البخاري (7372). (7) رواه البخاري (1458) , ومسلم (19). (8) أي التوحيد الذي فسره بالإقرار بالشهادتين لا النظر ولا معرفة الوجود فقط كما زعم الجويني، وهو واضح. (9) ((فتح الباري)) (13/ 367). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وعلى هذا فإن دلالة هذا الحديث على المطلوب واضحة، فلو كانت المعرفة هي أول واجب على المكلف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إليها أولاً، ولما أمر بتوحيد الله في عبادته أولاً، لأنه لا يعقل أن يؤمر بعبادة الله من لا يقر به، وقد تقدم أن الإقرار به ومعرفته فطرية. وأما الحديث الثاني فدلالته أيضاً واضحة، ولكن أنقل هنا كلاماً لأبي المظفر السمعاني رحمه الله فقال بعد ذكره لهذا الحديث: "ومثل هذا كثير، ولم يرد أن دعائهم إلى النظر والاستدلال، وإنما يكون حكم الكافر في الشرع أن يدعى إلى الإسلام، فإن أبي وسأل النظرة والإمهال لا يجاب إلى ذلك، ولكنه إما أن يسلم أو يعطى الجزية أو يقتل، وفي المرتد إما أن يسلم وإما أن يقتل، وفي مشركي العرب على ما عرف. وإذا جعلنا الأمر على ما قاله أهل الكلام لم يكن الأمر على هذا الوجه، ولكن ينبغي أن يقال له - أعني الكافر – عليك النظر والاستدلال لتعرف الصانع بهذا الطريق، ثم تعرف الصفات بدلائلها، وطرقها، ثم مسائل كثيرة إلى أن يصل الأمر إلى النبوات، ولا يجوز على طريقهم الإقدام على هذا الكافر بالقتل والسبي إلا بعد أن يذكر له هذا ويمهل، لأن النظر لا يكون إلا بمهلة، خصوصاً إذا طلب الكافر ذلك، وربما لا يتفق النظر والاستدلال في مدة يسيرة فيحتاج إلى إمهال الكافر مدة طويلة تأتي على سنين ليتمكنوا من النظر على التمام والكمال، وهو خلاف إجماع المسلمين" (1). 2 - ويقال للأشعرية ثانياً: قولكم إن النظر أول ما يجب على المكلف فيه مناقشة أيضاً من جهتين أخريين: أولاهما: في نوع هذا النظر. وثانيتهما: في إيجابه على كل المكلفين.   (1) رسالة (("الانتصار لأهل الحديث)) له – ضمن كتاب ((صوت المنطق والكلام)) للسيوطي (ص: 172) ونقله عنه أبو القاسم التيمي بإسناده عنه في كتابه ((الحجة في بيان المحجة)) (2/ 119). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 أما الجهة الأولى: فقد تقدم مرادهم بهذا النظر – وسيأتي إيضاح طريقه إن شاء الله، وقد صرحوا هم بأن طريقة النظر طريقة معتاصة على الفهم حيث لا يعلمها إلا الراسخون في العلم! وهنا لابد من وقفات: الأولى: إن هذه الطريقة لم تنقل عن السلف مع اشتمالها على طرق محرمة كما قال الإمام أبو المظفر السمعاني: "وإنما أنكرنا طريقة أهل الكلام فيما أسسوا فإنهم قالوا: أول ما يجب على الإنسان النظر المؤدي إلى معرفة الباري عز وجل. وهذا قول مخترع لم يسبقهم إليه أحد من السلف وأئمة الدين." اهـ (1)، فتراه أنكر عليهم طريقتهم لاشتمالها على ما لم ينقل عن السلف من أن أول واجب على المكلف النظر، وهي كذلك تستلزم لوازم باطلة كنفي صفات الباري الاختيارية – وقد التزموا ذلك – بدعوى أنها لو ثبتت للزم قيام الحوادث به، وهذا يؤدي إلى تعطيل إثبات وجوده، الذي تم بإثبات أن كل ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث! الثانية: وطريقتهم هذه في الأصل قد أخذوها من المعتزلة كما قال أبو جعفر السمناني وهو من رؤوس الأشاعرة: "إن هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة وتفرع عليها أن الواجب على كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه، وأنه لا يكفي التقليد في ذلك. (2) " فإنهم قد أخذوها عنهم وحاولوا أن يخالفوهم في أصول أخرى كإثبات صفات المعاني فتناقضوا وحاولوا أن يخرجوا من هذا المضيق فأثبتوها كلها أو جلها – بطريقة لا تخلوا من مخالفة لأهل السنة كما سيأتي إن شاء الله. الثالثة: إن النظر الذي ذكر في القرآن ليس هو النظر الذي تواضع عليه هؤلاء المتكلمون، وإنما النظر فيه بذكر الآيات التي هي العلامات الدالة على ما هي آيات له، من غير حاجة إلى توسط حد كما هو في المقاييس العقلية، وقد تخلص بعضهم فقال إنه يصح الاستدلال بالدليل الإجمالي، "وهو المعجوز عن تقريره وحل شبهه" (3)، ومرادهم أن يعجز الإنسان بذكره على الوجه المعتبر عند المنطقيين (4). وقد ترتب على إيجابهم النظر على جميع المكلفين اختلافهم في حكم التقليد في معرفة العقائد على ستة أقوال:- أولها: الحكم بكفر المقلد مطلقاً. وثانيها: الحكم بعصيانه مطلقاً. وثالثهما: الحكم بعصيان من قلد وفيه أهلية للنظر. ورابعها: صحة إيمان من قلد القرآن والسنة القطعية!! - فيما عدا الصفات النقلية. وخامسها: صحة إيمان المقلد مطلقاً، لأن النظر شرط كمال. وسادسها: صحة إيمان المقلد مع تحريم النظر، وحملوه على المخلوط بالفلسفة. وأقوى هذه الأقوال عند المتأخرين القول الثالث (5). ويلاحظ أن كل تلك الأقوال مبنية على أساس منهار وهو أن المعرفة نظرية لا فطرية!. وزعمهم بأن من تابع القرآن والسنة في المعرفة يكون مقلداً ناشئ من ظنهم أنهما دليلان لفظيان خبريان لا يتضمنان براهين عقلية وهذا ظن باطل – والتحقيق هو أن النظر يجب على من لم يحصل العلم والإيمان إلا به، على أن يكون هذا النظر صحيحاً غير ملتزم لباطلً. الجهة الثانية من المناقشة: في إيجابهم النظر على كل مكلف من ذكر وأنثى:   (1) الانتصار لأهل الحديث – ضمن ((صوت المنطق والكلام للسيوطي)) (ص: 171)، ونقله عنه أبو القاسم التيمي في ((الحجة في بيان المحجة)) (2/ 117 - 118). (2) نقله عن الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/ 361). (3) ((شرح جوهرة التوحيد)) (ص: 21). (4) والتفريق بين الدليل الجملي والتفصيلي لم يرتضه بعض الأشاعرة – كالرازي – باعتبار أن الدليل إذا كان متركباً من عشر مقدمات –مثلاً- فإنه لا يقبل الزيادة لأنها كافية، ولا يقبل النقصان لأنه يؤدي إلى التقليد في بعض المقدمات! انظر ((المحصول في أصول الفقه للرازي)) (6/ 76 - 77). (5) انظر ((شرح جوهرة التوحيد)) (ص: 34 - 35). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 1 - فإنا نسلم بأن النظر الوارد الأمر به في الآيات القرآنية واجب، فأما إيجابه على كل أحد فلا نسلم به بل ولا نسلم بأنه أول الواجبات، مع التفريق بين النظر الصحيح – فهو المأمور به -، وبين النظر المفضي إلى الباطل – فلا تدل عليه الآية. فالذي يلاحظ من القرآن هو أن النظر يجب على من لم يحصل له الإيمان إلا به، فمثال ذلك قول الله تعالى: أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 185]، فهذه الآية والتي قبلها جاءت بعد قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف: 182 - 183]. ومثل هذه الآية قوله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ [الروم: 8]، فهذه جاءت بعد قوله: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم: 5 - 6].فمن آيتي الأعراف والروم السابقتين يعلم أن النظر واجب على المكذبين والذين لا يعلمون وكل من كان لا يقوم بالواجب عليه من عبادة الله إلا بعد النظر، فظهر من هذا أن هذا الوجوب جاء من جهة أنه واجب على كل من لا يؤدي واجباً إلا به، وعلق شيخ الإسلام على هذا القول بأنه: "أصح الأقوال" (1).2 - وقولهم عن أول واجب على المكلف هو النظر يشمل كل المكلفين، وبما أنه واجب فيلزم أن الشخص حال الاشتغال به يكون مقيماً على الطاعة ولو كان على غير ملة الإسلام! ولهذا ألزمهم أبو المظفر السمعاني قوله: "وينبغي على قولهم: إذا مات في مدة النظرة والمهلة قبل قبول الإسلام أنه ما مطيعاً له مقيماً على أمره، لابد من إدخاله الجنة كما يدخل المسلمين، وقد جعلوا غير المسلم مطيعاً لله مؤتمراً بأمره في باب الدين وأوجبوا إدخاله الجنة، وقد قال تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [عمران: 85]." اهـ (2). المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف – 1/ 314   (1) ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 8). (2) ((الانتصار لأهل الحديث)) للسمعاني – ضمن كتاب ((صون المنطق للسيوطي)) (ص: 173) مختصراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 المبحث الأول: التوحيد عند الأشاعرة هذا من أهم الأبواب التي غلط فيها أهل الكلام – وفيهم الأشاعرة – وصار كلامهم فيه مشتملا على قليل من الحق وكثير من الباطل، ولاشك أن أسس الإسلام وقاعدته توحيد الله وحده لا شريك له. والتوحيد والواحد والأحد عند الأشاعرة يشمل ثلاثة أمور: 1 - أن الله واحد في ذاته لا قسيم له. 2 - وأنه واحد في صفاته لا شبيه له.3 - وأنه واحد في أفعاله لا شريك له (1).وأشهرها عندهم وأقواها دلالة على التوحد النوع الثالث، وبه يفسرون معنى "لا إله إلا الله". والألوهية – عندهم – هي القدرة على الاختراع والخلق، فمعنى لا إله إلا الله لا خالق إلا الله (2) ...... فسر الأشاعرة معنى التوحيد والواحد بهذه الأصول الثلاثة، وقد بين شيخ الإسلام ما في قولهم من الحق والباطل كما يلي:   (1) انظر في ذلك من كتب الأشاعرة: ((مجرد مقالات الأشعري)) لابن فروك (ص: 55)، ورسالة الحرة للباقلاني – المطبوعة باسم ((الإنصاف)) – (ص: 33 - 34)، و ((الاعتقاد للبيهقي)) (ص: 63)، و ((شرح أسماء الله الحسنى)) للقشيري (ص: 215)، و ((الشامل)) (ص: 345 - 348)، و ((الإرشاد)) (ص: 52)، و ((لمع الأدلة)) (ص: 86)، و ((إحياء علوم الدين)) (1/ 33)، و ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص: 49)، و ((نهاية الإقدام)) (ص: 90) وغيرها. (2) انظر: ((أصول الدين للبغدادي)) (ص: 123)، و ((الملل والنحل للشهرستاني)) (1/ 100)، و ((مجرد مقالات الأشعري)) (ص: 47). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 1 - قولهم: إن الله واحد في ذاته لا قسيم له: ويفسرونه بأن معناه أنه لا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتعدد ولا يتركب، وهذا الكلام مجمل، فإن قصد به أن الله تعالى أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد، وأنه يمتنع أن يتفرق أو يتجزأ أو يكون قد ركب من أجزاء فهذا حق، لكن إن قصد به نفي علوه ومباينته لخلقه، وأنه لا يشار إليه ولا ينزل كما يشاء فهذا باطل (1)، فأي الأمرين يقصد هؤلاء، يقول شيخ الإسلام عنهم: "ليس مرادهم بأنه لا ينقسم ولا يتبعض أنه لا ينفصل بعضه عن بعض، وأنه لا يكون إلهين اثنين، ونحو ذلك مما يقول نحوا منه النصارى والمشركون، فإن هذا مما لا ينازعهم فيه المسلمون، وهو حق لا ريب فيه، وكذلك كان علماء السلف ينفون التبعيض عن الله بهذا المعنى، وإنما مرادهم بذلك أنه لا يشهد ولا يرى منه شيء دون شيء، ولا يدرك منه شيء دون شيء، بحيث إنه ليس له في نفس حقيقة عندهم قائمة بنفسها يمكنه هو أن يشير منها إلى شيء دون شيء، أو يرى عباده منها شيئاً دون شيء، بحيث إذا تجلى لعباده يريهم من نفسه المقدسة ما شاء، فإن ذلك غير ممكن عندهم، ولا يتصور عندهم أن يكون العباد محجوبين عنه بحجاب منفصل عنهم يمنع أبصارهم عن رؤيته، فإن الحجاب لا يحجب إلا ما هو جسم منقسم، ولا يتصور عندهم أن الله يكشف عن وجهه الحجاب ليراه المؤمنون، ولا أن يكون على وجهه حجاب أصلاً، ولا أن يكون بحيث يلقاه العبد أو يصل إليه أو يدنو منه أو يقرب إليه في الحقيقة، فهذا ونحوه هو المراد عندهم بكونه لا ينقسم، ويسمون ذلك نفي التجسيم، إذ كل ما ثبت له ذلك كان مجسما منقسما مركبا، والبارئ منزه عندهم عن هذه المعاني" (2)، وجماع المعاني التي قصدوها بقولهم هذا أنه تعالى عن قولهم ليس قائماً بنفسه، ولا بائنا من خلقه ولا على العرش استوى، وأنه لا يشار إليه في جهة العلو. وهذا ما يعبرون عنه بنفي الجسمية، والتحيز، والجهة، والرازي صرح بأن كل متحيز فهو منقسم، وكل منقسم فهو ليس بأحد (3)، وهكذا صار حقيقة التوحيد والواحد والأحد عند هؤلاء نفي صفات الله الخبرية، ونفي علوه على عرشه.2 - أما قولهم في تفسير التوحيد بأن معناه – أيضاً – أنه واحد في صفاته لا شبيه له، فيرى شيخ الإسلام أن هذه الكلمة أقرب إلى الإسلام، لكنهم أجملوها، حيث جعلوا في مسمى التشبيه، وهذا من بدع أهل الكلام، إذ لم يرد في كتاب الله ولا سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ولا أقوال السلف أن يجعل نفي الصفات أو بعضها من التوحيد (4)، مع أن أهل الكلام مضطربون في هذا، لأن كل طائفة تجعل ما تنفيه من الأسماء أو الصفات من التشبيه الذي يجب تنزيه الله عنه، فالأشاعرة أدخلوا في مسمى التوحيد هذا نفي كثير من الصفات – أي ما عدا فالأشاعرة أدخلوا في مسمى التوحيد هذا نفي كثير من الصفات – أي ما عدا الصفات السبع التي لم يثبت غيرها متأخروهم – والمعتزلة أدرجوا في ذلك نفي جميع الصفات، والجهمية نفوا الأسماء والصفات جميعا، وزاد الغلاة من القرامطة والباطنية فقالوا لا يوصف بالنفي والإثبات، لأن القول بأحدهما يقتضي تشبيها، وهكذا (5).   (1) انظر: ((التدمرية)) (ص: 184 - 185)، ت السعوي. وانظر: ((تفسير سورة الإخلاص – مجموع الفتاوى)) (17/ 449 - 4450). (2) ((التسعينية)) (ص: 203 - 204). وانظر ((نقض التأسيس)) – المطبوع (1/ 474 - 475). (3) انظر: ((أساس التقديس)) للرازي (ص: 17) – ط الحلبي. (4) انظر: ((التسعينية)) (ص: 204). (5) انظر: ((التدمرية)) (ص: 182 - 183). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 3 - أما الثالث فقولهم: إن من معاني التوحيد أنه تعالى: واحد في أفعاله لا شريك له، وأن الله رب كل شيء وخالقه، ويقول شيخ الإسلام عن هذا المعنى: "وهذا معنى صحيح، وهو حق، وهو أجود ما اعتصموا به من الإسلام في أصولهم، حيث اعترفوا فيها بأن الله خالق كل شيء ومربيه ومدبره" (1)، والخطأ الذي وقع فيه الأشاعرة هنا هو أنهم فهموا أن هذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأنه المقصود بشهادة أن لا إله إلا الله، ومن المعلوم أن هذا التوحيد أقر به المشركون، ولم ينكره أحد من بني آدم "ولكن غاية ما يقال: إن المعتزلة وغيرهم جعلوا بعض الموجودات خلقاً لغير الله، كأفعال العباد، ولكنهم يقرون بأن الله خالق العباد وخالق قدرتهم وإن قالوا: إنهم خالقوا أفعالهم" (2). هذه معاني التوحيد عند الأشاعرة، ومما سبق يتبين ما في ظاهر العبارات من الحق، وما قصدوه من الباطل، مع ما وقعوا فيه من التقصير.   (1) ((التسعينية)) (ص: 207). (2) انظر: ((التدمرية)) (ص: 180 - 181)، و ((التسعينية)) (ص: 207). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 ب- أتباعهم لمن سبقهم من الجهمية والمعتزلة في تعريف التوحيد: وهذا من منهج شيخ الإسلام العام في ردوده على الأشاعرة، حيث إنه كثيرا ما يرجع أقوال هؤلاء إلى أصولها الفلسفية والاعتزالية، ولذلك فهو هنا حين رد على الرازي الذي نفى الصفات بناء على أن الله أحد، واحد، أرجع أقواله إلى أقوال المعتزلة فقال: "هذا الاستدلال هو معروف قديماً من استدلال الجهمية النافية، فإنهم يزعمون أن إثبات الصفات ينافي التوحيد ويزعمون أنهم هم الموحدون، فإن من أثبت الصفات فهو مشبه ليس بموحد، وأنه يثبت تعدد القدماء، ولا يجعل القديم واحدا، فالجهمية من المتفلسفة والمعتزلة وغيرهم يبنون على هذا، وقد يسمون أنفسهم الموحدين، ويجعلون نفي الصفات داخلا في مسمى التوحيد" (1)، ثم ذكر شيخ الإسلام أن أئمة السلف كالإمام أحمد وغيره ردوا على هؤلاء، وبينوا ما في أقوالهم من التلبيس والباطل، يقول الإمام أحمد – رحمه الله -: "فقالت الجهمية لنا لما وصفنا هذه الصفات: إن زعمتم أن الله ونوره، والله وقدرته، والله وعظمته، فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته؟ قلنا: لا نقول: إن الله لم يزل وقدرته، ولا نقول ولم يزل ونوره، ولكن نقول: لم يزل بقدرته، ونوره، لا متى قدر، ولا كيف قدر. فقالوا: لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا: قد كان الله ولا شيء، قلنا نحن نقول: قد كان الله ولا شيء ولكن إذا قلنا: إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلها واحدا بجميع صفاته، وضربنا لهم مثلا في ذلك قولنا: أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار، واسمها اسم شيء واحد، وسميت نخلة بجميع صفاتها؟ فكذلك الله – وله المثل الأعلى – بجميع صفاته إله واحد، لا نقول: إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق قدرته، والذي ليس له قدرة هو عاجز، ولا نقول قد كان في وقت من الأوقات ولا يعلم، والذي لا يعلم هو جاهل، ولكن نقول: لم يزل الله عالما قادراً مالكا، لا متى ولا كيف. قال: وسمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا [المدثر: 11]، وقد كان الذي سماه وحيدا له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة، وقد سماه وحيدا بجميع صفاته وكذلك الله – وله المثل الأعلى – بجميع صفاته واحد" (2).فهؤلاء الذين واجههم الإمام أحمد – رحمه الله – هم شيوخ لمن جاء بعدهم، من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة الذين يزعمون أن الواحد هو الذي لا صفة له ولا قدرة، وابن سينا الفيلسوف يعبر عن ذلك بقوله "إن واجب الوجود واحد من كل وجه، ليس فيه أجزاء حد ولا أجزاء كم، أو يقال: ليس فيه كثرة حد ولا كثرة كم، ويقال ليس فيه تركيب المحدود من الجن والفصل، ولا تركيب الأجسام، ومقصود هذه العبارات أنه ليس لله صفة ولا له قدرة" (3)، والمعتزلة يسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد، وجعلوا التوحيد أحد أصولهم الخمسة، ويبنون ذلك على أن القديم ليس معه في القدم غيره، فلو كان له صفات، للزم تعدد القدماء مع الله تعالى. فجعلوا حقيقة التوحيد نفي الصفات (4). فلما جاءت الأشعرية تلقفوا هذا الأصل عن هؤلاء، وجعلوا من مقتضيات التوحيد نفي ما ينفونه من الصفات كالعلو والاستواء، والوجه واليدين وغيرها.   (1) انظر: ((نقض التأسيس)) – المطبوع – (1/ 463). (2) ((نقض التأسيس)) – المطبوع – (1/ 463 - 464)، و ((كلام الإمام أحمد في الرد على الزنادقة والجهمية)) (ص: 91 - 92) – ضمن عقائد السلف. (3) ((نقض التأسيس)) – المطبوع – (1/ 465). (4) انظر: ((نقض التأسيس)) – المطبوع – (1/ 465). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وكل طائفة تجعل ما تنفيه من الصفات من مقتضيات التوحيد، وهذا اضطراب وتناقض ظاهر. ج- الرد على الأشاعرة في قولهم في مسمى التوحيد: وقد جاءت ردود شيخ الإسلام عليهم في ذلك كما يلي: 1 - بيان ما في أقوالهم من الحق والباطل – وقد تقدم بيان ذلك قريبا -.2 - أن هؤلاء الأشاعرة اتبعوا المعتزلة والجهمية في ذلك، مع أن شيخهم ابن كلاب ينكر قول من يقول: إن الواحد لا صفة له، فإنه قال بعد بيانه: أن الله بائن من خلقه، ليس داخلا في خلقه، ولا خلقه داخلون فيه: "فإن قالوا: فيعتقبه الطول والعرض؟ قيل لهم: هذا محال، لأنه واحد لا كالآحاد، عظيم لا تقاس عظمته بالمخلوقات، كما أنه كبير عليم، لا كالعلماء، كذلك هو واحد عظيم لا كآحاد العظماء، فإن قلت: العظيم لا يكون إلا متحيزا؟ قيل لك: والعليم لا يكون إلا متحيزا، وكذلك السميع والبصير، لأنك تقيس على المخلوقات" (1)، يقول شيخ الإسلام معقبا: "وكان كثير من متكلمة الصفاتية من أصحاب الأشعري ونحوهم فسروا الواحد، والتوحيد، بنحو تفسير المعتزلة وغيرهم من الجهمية، ولم يفسروه بما ذكره ابن كلاب ولا بغير ذلك" (2). ولاشك أن أئمة الأشاعرة المتقدمين كالأشعري وغيره يثبتون لله صفات العلو والاستواء والصفات الخبرية، ولا تقتضي عندهم تشبيها، كما أن إثباتها لا يعارض ما يقولون به من التوحيد لله تعالى.3 - أن قولهم: إن الواحد هو الذي لا ينقسم ولا يتجزأ وليس بجسم، ليس معروفا في لغة العرب، بل المعروف في لغة العرب أنهم يطلقون على كثير من المخلوقات أنه واحد وهو جسم، بل "لا يوجد في لغة العرب، بل ولا غيرهم من الأمم استعمال الواحد، الأحد، الوحيد إلا فيما يسمونه هم جسما ومنقسما كقوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا [المدثر: 11]، وقوله تعالى: وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء: 11]، وقوله وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ [الكهف: 32] – إلى قوله - قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ [الكهف: 37]، وقوله: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ [البقرة: 266]، وقوله تعالى: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49] ... والعرب وغيرهم من الأمم يقولون: رجل ورجلان اثنان، وثلاثة رجال، وفرس واحد وجمل واحد، ودرهم واحد، وثوب واحد ... فلفظ الواحد وما يتصرف منه في لغة العرب وغيرهم من الأمم لا يطلق إلا على ما يسمونه هم جسما منقسما لأن ما لا يسمونه هم جسما منقسما ليس هو شيئا يعقله الناس، ولا يعلمون وجوده حتى يعبروا عنه" (3)، وفي موضع آخر يذكر شيخ الإسلام نصوصا عديدة من الكتاب والسنة، ويعلق عليها. فيقول في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء: 1]: "ومعلوم أن النفس الواحدة التي خلق منها زوجها هو آدم، وحواء خلقت من ضلع آدم القصيراء، من جسده خلقت، لم تخلق من روحه، حتى يقول القائل الوحدة هي باعتبار النفس الناطقة التي لا تركيب فيها. وإذا كانت حواء خلقت من جسد آدم، وجسد آدم جسم من الأجسام، وقد سماها الله نفسا واحدة، علم أن الجسم قد يوصف بالوحدة" (4).   (1) نقلاً عن ((نقض التأسيس)) – المطبوع – (1/ 468). (2) نقلاً عن ((نقض التأسيس)) – المطبوع – (1/ 468 - 469). (3) ((درء التعارض)) (7/ 114 - 116). (4) ((نقض التأسيس)) – المطبوع – (1/ 488). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 ويقول معلقا على استدلال الإمام أحمد – وقد سبق نقله قريبا -: "وأبلغ من ذلك ما ذكره الإمام أحمد وغيره من قوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا [المدثر: 11]، فإن الوحيد مبالغة في الواحد، فإذا وصف البشر الواحد بأنه وحيد في صفة فإنه واحد أولى، ومع هذا فهو جسم من الأجسام" (1)، ثم يذكر بعد ذكر نصوص القرآن نصوص عديدة من السنة، منها أحاديث الصلاة في الثوب الواحد، مثل ما ورد في الصحيح أن النبي –صلى الله عليه وسلم- ((سئل: أيصلي الرجل في الثوب الواحد؟ فقال: أو لكلكم ثوبان)) (2)، وحديث نهى أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء (3)، وحديث أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يصلي في واحد (4)، وحديث مروره- صلى الله عليه وسلم- بقبرين فقال: ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)) (5) وغيرها من الأحاديث كثير (6)، وهي تدل على استخدام لفظ الواحد فيما هو جسم خلافا لما يزعمه هؤلاء. وإذا كان الأمر كذلك من أن الغالب في اللغة أن اسم الواحد يتناول ما ليس هو الواحد في اصطلاحهم "لم يجز أن يحتج بقوله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة: 163] وقوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1]، ونحو ذلك مما أنزله الله بلغة العرب، وأخبرنا فيه أنه واحد، وأنه إله واحد – على أن المراد ما سموه هم في اصطلاحهم واحدا مما ليس معروفا في لغة العرب، بل إذا قال القائل: دلالة القرآن على نقيض مطلوبهم أظهر، كان قد قال الحق، فإن القرآن نزل بلغة العرب، وهم لا يعرفون الواحد في الأعيان إلا ما كان قديما بنفسه، متصفا بالصفات، مباينا لغيره، مشارا إليه. وما لم يكن مشارا إليه أصلا، ولا مباينا لغيره، ولا مداخلا له، فالعرب لا تسميه واحدا ولا أحدا، بل ولا تعرفه، فيكون الاسم الواحد والأحد دل على نقيض مطلوبهم منه، لا على مطلوبهم" (7).وشيخ الإسلام بهذه الأدلة الكثيرة إنما يقرر قاعدة من القواعد المهمة في باب الصفات وغيرها، وهي أن تفسير النصوص – في الصفات وغيرها – إنما يرجع فيه إلى لغة الذين خوطبوا به أول مرة، وماذا فهموا من النصوص، أما أن تنشأ مصطلحات جديدة وتحمل النصوص عليها فهذا مخالف لما هو متواتر من أن القرآن هدى للناس وفيه البيان التام. وهذه من المسائل الكبرى في الخلاف بين مذهب السلف وغيرهم من أهل البدع، لأنه إذا وقع خلاف حول نص من النصوص، فقال قائل: هذا يدل على إثبات الصفات لله، وقال الآخر: لا يدل، فمن الذي يفصل في المسألة، ويبين الحق فيها، وكل يدعي أن الحق معه؟ أهل البدع من النفاة يرجعون في ذلك إلى عقولهم، أو على أقوال شيوخهم، أو إلى شواذ اللغة، أو إلى مصطلحات أهل الفلسفة التي تلقوها عن غير المسلمين.   (1) ((نقض التأسيس)) – المطبوع – (1/ 488). (2) ((نقض التأسيس)) (1/ 489) والحديث رواه البخاري (358). (3) رواه البخاري (359) ومسلم (516). (4) رواه البخاري (355) ومسلم (517). (5) رواه البخاري (1361) ومسلم (292). (6) انظر: ((نقض التأسيس)) – المطبوع – (1/ 489 - 492). (7) ((درء التعارض)) (7/ 117). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 أما السلف فيرجعون إلى النصوص الأخرى من الكتاب والسنة التي تبين هذا النص وتوضحه، ويرجعون إلى لغة العرب وفهم الصحابة والسلف من خير القرون، وما قالوه في بيان معنى هذا النص، ولذلك يقول شيخ الإسلام – في معرض رده على الرازي حول استدلاله بالواحد والأحد على نفي الصفات-: "إن الاستدلال بالقرآن إنما يكون على لغة العرب التي أنزل بها، وقد نزل بلغة قريش كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: 4] وقال: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ [الشعراء: 195] فليس لأحد أن يحمل ألفاظ القرآن على غير ذلك من عرف عام واصطلاح خاص – بل ولا يحمله إلا على معاني عنوها بها، إما (أخص) من المعنى اللغوي أو أعم، أو مغايرا له، لم يكن له أن يضع القرآن على ما وضعه هو، بل يضع القرآن على مواضعه التي بينها الله لمن خاطبه بالقرآن بلغته، ومتى فعل غير ذلك كان ذلك تحريفا للكلام عن مواضعه، ومن المعلوم أنه ما من طائفة إلا وقد تصطلح على ألفاظ يتخاطبون بها، كما من المتكلمين من يقول: الأحد هو الذي لا ينقسم، وكل جسم منقسم، ويقول: الجسم هو مطلق المتحيز القابل للقسمة، حتى يدخل في ذلك الهواء وغيره، لكن ليس له أن يحمل كلام الله وكلام رسوله إلا على اللغة التي كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يخاطب بها أمته، وهي لغة العرب عموما ولغة قريش خصوصا"، ثم يطبق هذا على المثال المطروح فيقول: "ومن المعلوم المتواتر في اللغة، الشائع بين الخاص والعام أنهم يقولون: درهم واحد، ودينار واحد، ورجل واحد، وامرأة واحدة، وشجرة واحدة، وقرية واحدة، وثوب واحد، وشهرة هذا عند أهل اللغة شهرة سائرة ألفاظ العدد، فيقولون: رجل واحد، ورجلان اثنان، وثلاثة رجال، وأربعة رجال. وهذا من أظهر اللغة وأشهرها وأعرفها، فكيف يجوز أن يقال: إن الوحدة لا يوصف بها شيء من الأجسام، وعامة ما يوصف بالوحدة في لغة العرب إنما هو جسم من الأجسام؟ " (1).فهذه الاصطلاحات الحادثة، التي يحدثها الناس أو أرباب العلوم المختلفة في كل عصر، هي اصطلاحات لهم – ولا مشاحة في أن يتفق أهل فن أو علم على اصطلاح معين يتعارفون عليه – ولكن الخطأ أن يجعل هذا المصطلح الحادث هو المرجع في تفسير النصوص التي نزلت وتلاها الناس وفسروها وفهموها في زمن سابق قبل أن تنشأ تلك المصطلحات الحادثة، فكيف إذا كانت هذه المصطلحات تصادم المعنى الحق الذي دلت عليه النصوص، وقد أورد شيخ الإسلام اعتراضا حول موضوع الواحد مضمونه: أنه قد يقال: إنه يجوز أن يستعمل لفظ الواحد فيما قصده المتكلمون عن طريق المجاز أو المشترك اللفظي أو غيره وقد أجاب بقوله: "هب أنه يجوز لمن بعدهم أن يستعمل ذلك، لكن نحن نعلم أنهم (أي العرب الذين نزل بلغتهم القرآن) لم يستعملوه في ذلك، لأنهم لم يكونوا يثبتون هذا المعنى" (2)، ثم يحسم شيخ الإسلام بيان انتفاء دلالة النص على ما ادعاه هؤلاء في مسمى التوحيد من وجوه عشرة مهمة (3) قال في آخرها: "فتبين أن لفظ التوحيد والواحد والأحد في وضعهم واصطلاحهم غير التوحيد والواحد والأحد في القرآن والسنة والإجماع وفي اللغة التي جاء بها القرآن، وحينئذ فلا يمكنهم الاستدلال بما جاء في كلام الله ورسله وفي لفظ التوحيد على ما يدعونه هم، لأن دلالة الخطاب إنما تكون بلغة المتكلم وعادته المعروفة في خطابه، لا بلغة وعادة واصطلاح أحدثه قوم آخرون، بعد انقراض عصره وعصر الذين خاطبهم بلغته وعادته ... " (4).   (1) ((نقض التأسيس)) – المطبوع – (1/ 492 - 493). (2) ((درء التعارض)) (7/ 119). (3) انظرها في ((درء التعارض)) (7/ 120 - 121). (4) انظرها: في ((درء التعارض)) (7/ 122 - 223). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وهذا ينطبق على مسألة الواحد والتوحيد وعلى غيرها مما جاء به القرآن الكريم مما يتعلق بأسماء الله وصفاته.4 - أن لفظ "الأحد" لم يجئ اسما في الإثبات إلا لله تعالى، أما في حق غيره فلم يستعمل إلا مع الإضافة، أو في غير الموجب، كالنفي والشرط والاستفهام، فاستعماله في الإثبات لله كقوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1]، أما استخدامه في حق غير الله مضافا فكقوله تعالى: قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا [يوسف: 36]، وفي النفي كقوله: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49]، والشرط كقوله: وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ [التوبة: 6]، والاستفهام كما تقدم قريبا في حديث: أيصلي الرجل في الثوب الواحد؟، ويقال: هل عندك أحد؟. ونكتة الرد هنا أن لفظ الأحد لم يستعمل فيما ادعاه هؤلاء لا في النفي ولا في الإثبات، ولو فرض أن معناه – ما ليس بجسم كما يزعم هؤلاء – لوقع تناقض عظيم؛ فإنه يقال: إذا كان في الإثبات معناه إن الله أحد أي ليس بجسم، فهل يكون في النفي كذلك؟ هل يقال: إن معنى قوله تعالى: وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 4] لم يكن ما ليس بجسم كفوا له، ومعنى قوله تعالى: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف: 26]: لا يشرك في حكمه ما ليس بجسم، ومعنى قوله: لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ [الجن: 22] أي لن يجيرني من الله ما ليس بجسم؟ هل يكون مفهوم هذه النصوص أنه قد يكون ما هو جسما كفوا له، وقد يشرك في حكمه ما هو جسم وهكذا؟. هل يقول هذا عاقل، وهل يمكن أن تكون النصوص قد جاءت بمثل هذا التناقض والباطل (1).5 - أن قولهم باطل من جهة العقل أيضا، يقول شيخ الإسلام: "أما العقل فهذا الواحد الذي وصوفه يقول لهم فيه أكثر العقلاء وأهل الفطر السليمة: إنه أمر لا يعقل، ولا له وجود في الخارج، وإنما هو أمر مقدر في الذهن، ليس في الخارج شيء موجود لا يكون له صفات ولا قدر، ولا يتميز منه شيء عن شيء، بحيث يمكن أن لا يرى ولا يدرك ولا يحاط به وإن سماه المسمى جسما، وأيضا فإن التوحيد إثبات لشيء واحد، فلابد أن يكون له في نفسه حقيقة ثبوتية يختص بها، ويتميز بها عما سواه، حتى يصح أنه ليس كمثله شيء في تلك الأمور الثبوتية، ومجرد عدم المثل إذا لم يفد ثبوت أمر وجودي كان صفة للعدم، فنفي المثل والشريك يقتضي ما هو على حقيقة يستحق بها واحدا" (2)، فهؤلاء ظنوا أن ما يتصورونه في أذهانهم موجود في الخارج، وهذا من الأخطاء الكبرى التي وقع فيها أهل الكلام والتصوف والفلسفة ونبه شيخ الإسلام عليها كثيرا، مثل قول غلاة الصوفية إن الوجود واحد، وإن وجود الله هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، ومثل قول الفلاسفة بالجواهر والمجردات العقلية، حيث يزعمون أن الحقائق الموجودة في الخارج كالإنسان والفرس مكونة من المادة الكلية والصورة الجوهرية، ويزعمون أنهما جوهران عقليان، وهذا كله في الزهن، لأن الموجود لا يوجد إلا معينا، فيقال وجود الواجب وهو الله ووجود الممكن كفلان وفلان، وكذلك هذه العقليات المجردة إنما تتصور في الأذهان، أما في الحقيقة والواقع فليس إلا الموجودات بأعيانها (3).   (1) انظر: ((تفسير سورة الإخلاص، مجموع الفتاوى)) (17/ 235)، و ((درء التعارض)) (7/ 121)، و ((نقض التأسيس)) – المطبوع – (1/ 493 - 494)). (2) ((نقض التأسيس)) – المطبوع – (1/ 483). (3) انظر: ((درء التعارض)) (7/ 124 - 127). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 6 - كما أن قول هؤلاء معارض للشرع، يقول شيخ الإسلام في بيان بطلان قولهم لغة وعقلا وشرعا: "وأما الشرع فنقول: مقصود المسلمين أن الأسماء المذكورة في القرآن والسنة وكلام المؤمنين المتفق عليه بمدح أو ذم تعرف مسميات تلك الأسماء، حتى يعطوها حقها، ومن المعلوم بالاضطرار أن اسم الواحد في كلام الله لم يقصد به سلب الصفات وسلب إدراكه بالحواس ولا نفي الحد والقدر ونحو ذلك من المعاني التي ابتدع نفيها الجهمية وأتباعهم ولا يوجد نفيها في كتاب ولا سنة ولا عن صاحب ولا أئمة المسلمين" (1). وبعد أن ينقل شيخ الإسلام نصا للدارمي في نقضه على المريسي يقول: "وهذا النفي الذي يذكره النفاة ويفسرون به اسم الله "الواحد" وغير ذلك هو عند أهل السنة والجماعة مستلزم العدم، مناف لما وصف به نفسه في كتابه من أنه الأحد، الصمد، وأنه العلي، العظيم، وأنه الكبير المتعال، وأنه استوى على العرش، وأنه يصعد إليه، ويوقف عليه، وأنه يرى في الآخرة كما ترى الشمس والقمر، وأنه يكلم عباده، وأنه السميع البصير" (2)، فمصادمة قولهم لهذه النصوص الشرعية الكثيرة – مع أنه أيضا لا يقوم على دليل صحيح – دليل على فساد قولهم. 7 - تأصيل القول في مسألة الفرق بين التشبيه والتمثيل ومدلولهما عند الإطلاق، يقول شيخ الإسلام: "وقد تنازع الناس هل لفظ "الشبه" و"المثل" بمعنى واحد أو معنيين، على قولين: أحدهما: أنهما بمعنى واحد، وأن ما دل عليه لفظ المثل مطلقا ومقيدا يدل عليه لفظ الشبه، وهذا قول طائفة من النظار.   (1) ((نقض التأسيس)) – المطبوع – (1/ 484). (2) ((نقض التأسيس)) – المطبوع – (1/ 487). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 والثاني: أن معناهما مختلف عند الإطلاق لغة وشرعا وعقلا، وإن كان مع التقييد والقرينة يراد بأحدهما ما يراد بالآخر وهذا قول أكثر الناس. وهذا الاختلاف مبني على مسألة عقلية (وهي) (1): أنه هل يجوز أن يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه؟ وللناس في ذلك قولان، فمن منع أن يشبه من وجه دون وجه قال: المثل والشبه واحد، ومن قال: إنه قد يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه، فرق بينهما عند الإطلاق" (2)، وقد رجح شيخ الإسلام الثاني بقوله: "وهذا قول جمهور الناس؛ فإن العقل يعلم أن الأعراض مثل الألوان، تشتبه في كونها ألوانا مع أن السواد ليس مثل البياض، وكذلك الأجسام والجواهر عند جمهور العقلاء تشتبه في مسمى الجسم والجوهر، وإن كانت حقائقها ليست متماثلة، فليست حقيقة الماء مماثلة لحقيقة التراب، ولا حقيقة النبات مماثلة لحقيقة الحيوان، ولا حقيقة النار مماثلة لحقيقة الماء، وإن اشتركا في أن كلا منهما جوهر وجسم وقائم بنفسه، وأيضا فمعلوم في اللغة أنه يقال: هذا يشبه هذا، وفيه شبه من هذا، إذا أشبهه من بعض الوجود وإن كان مخالفا له في الحقيقة. قال الله تعالى: وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً [البقرة: 25]، وقوله: مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء [آل عمران: 7]، وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة: 118] فوصف القولين بالتماثل، والقلوب بالتشابه لا بالتماثل؛ فإن القلوب وإن اشتركت في هذا القول فهي مختلفة لا متماثلة، وقال النبي –صلى الله عليه وسلم- ((الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس)) (3)، فدل على أنه يعلمها بعض الناس، وهي في نفس الأمر ليست متماثلة، بل بعضها حرام، وبعضها حلال" (4). وهذا الذي رجحه شيخ الإسلام من أن هناك فرقا بين التشبيه والتمثيل، وأنه يجوز أن يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه كثيرا ما يقرره في كتبه، ويذكر له بعض الأدلة (5)، ويذكر أن لفظ التماثل أخص من لفظ التشابه وذلك في معرض رده على الرازي حول تعريف المتشابه (6)، ويرى أن سبب اضطراب أهل الكلام في مسألة الصفات ما يثبت منها وما ينفي، مرجعه إلى أنهم جعلوا مسمى التشبيه والتمثيل واحدا (7).8 - أن التشبيه على قول بعض المتكلمين: إن التشبيه هو التمثيل، ثم تعريفهم للمتماثلين بأنهما: "ما سد أحدهما مسد صاحبه، وقام مقامه، وناب منابه" (8)، وقد يفسرونه بأنه "يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجب له ما يجب له" (9)، التشبيه بهذا المعنى لا يقول به عاقل، لأنه يعلم بضرورة العقل امتناعه (10)، ولأن "كل موجودين فلابد أن يكون بينهما نوع مشابهة، ولو من بعض الوجوه البعيدة، ورفع ذلك من كل وجه رفع للوجود" (11).   (1) في مطبوعة الجواب الصحيح وهو، ولعل الصواب ما أثبته. (2) ((الجواب الصحيح)) (2/ 233) - ط المدني. (3) رواه البخاري (52) , ومسلم (1599). (4) ((الجواب الصحيح)) (2/ 233 - 234). (5) انظر: ((الرسالة الأكملية – مجموع الفتاوى)) – (6/ 113). (6) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (1/ 261). (7) انظر: ((درء التعارض)) (5/ 188). (8) ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (1/ 476). (9) ((التدمرية)) (ص: 116) – ت السعوي. (10) انظر: ((التدمرية)) (ص: 117). (11) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 82). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وفي موضع آخر يعلل شيخ الإسلام الفرق بقوله: "التشابه الذي هو التماثل لا يكون بالموافقة في بعض الصفات، بل الموافقة في جميع الصفات الذاتية التي يقوم بها أحدهما مقام الآخر، وأما التشابه في اللغة فإنه قد يقال بدون التماثل في شيء من الحقيقة، كما يقال للصروة المرسومة في الحائط: إنها تشبه الحيوان، ويقال: هذا يشبه هذا في كذا وكذا، وإن كانت الحقيقتان مختلفتين، ولهذا كان أئمة أهل السنة ومحققوا أهل الكلام يمنعون من أن يقال: لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه؛ فإن مقتضى هذا كونه معدوما" (1)، "وهذا معلوم بالفطرة البديهية التي لا يتنازع فيها العقلاء الذين يفهمونها" (2). ومع تقرير شيخ الإسلام لهذه المسألة، إلا أنه يبين أن المتكلمين الذي يصرحون بنفي التشبيه مطلقا طائفتان: طائفة: يطلقون القول بنفي التشبيه، ويقصدون أن الله لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه – وهذا الذي صرح به النفاة من الجهمية – فهؤلاء يقتضي قولهم أن يكون معدوما لأنه ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك وقدر مميز. وطائفة أخرى: يطلقون القول بنفي التشبيه، ويقصدون به التمثيل، فهؤلاء متفقون على نفي التماثل بوجه من الوجوه، وهو قول صحيح قد دل عليه القرآن، والعقل أيضاً، فالخلاف مع هؤلاء لفظي حيث سموا التمثيل تشبيها (3).   (1) ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (1/ 447). (2) ((نقض التأسيس)) – مخطوط (3/ 255)، وقد أحال في تفصيل القول في ذلك على بعض كتبه كالأجوبة المصرية، وجواب المسألة الصرخدية. (3) انظر: ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (1/ 477). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وعلى قول هاتين الطائفتين يكون لفظ "التشبيه" من الألفاظ المجملة، التي قد تحتمل أكثر من معنى، ومن ثم فقبل الإثبات والنفي لابد من الاستفصال عن المعنى الذي يقصده القائل. ولكن "لفظ" "الشبه" فيه إجمال وإبهام، فما من شيئين إلا وهما متفقان في أمر من الأمور، ولو في كونهما موجودين، وذلك الذي اتفقا فيه لا يمكن نفيه إلا بنفي كل منهما، فإذا قيل: هذا لا يوافق هذا بوجه من الوجوه، ولا يواطئه بوجه من الوجوه، كان هذا ممتنعا، وكذلك إذا أريد بقول القائل: "لا يشبهه بوجه من الوجوه" هذا المعنى، بخلاف ما إذا أراد المماثلة والمساواة والمكافأة، أو أراد ذلك بلفظ المشاركة والموافقة والمواطأة، فإنه سبحانه لا يماثله شيء بوجه من الوجوه، ولا شريك له بوجه من الوجوه" (1). ويقول أيضاً: "إن ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك، ونفي (2) ذلك القدر المشترك ليس هو نفس (3) التمثيل والتشبيه الذي قام الدليل العقلي والسمعي على نفيه، وإنما التشبيه الذي قام الدليل على نفيه ما يستلزم ثبوت شيء من خصائص المخلوقين لله سبحانه وتعالى، إذ هو سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله" (4)، وهذه المسألة مرتبطة بمسألة ما بين أسماء الله وصفاته وأسماء المخلوقين وصفاتهم من الاتفاق: هل هو من قبيل المشترك اللفظي أو المتواطئ؟ وهي مسألة اهتم بها شيخ الإسلام كثيرا. وسيأتي إن شاء الله مزيد بيان لها في المبحث التالي عند الكلام على الأسماء والصفات.9 - أن القرآن الكريم ورد بنفي التمثيل وما في معناه كالند والشريك والكفو، أما التشبيه فلم يرد نفيه ولا ذمه في الكتاب والسنة، ويرى شيخ الإسلام أن السبب ما في لفظ التشبيه من الإجمال والاشتراك والإبهام بخلاف لفظ التمثيل (5)، ويشرح ذلك بشكل مفصل فيقول: "إن نفي التشبيه من كل وجه هو التعطيل والجحود لرب العالمين، كما عليه المسلمون متفقون، كما أن إثباته مطلقا هو الأنداد لرب العالمين، لكن من الناس من لا يفهم هذا ولا يعتقد أن لفظ التشبيه يدل على التمثيل المنفي عن الله؛ إذ لفظ التشبيه فيه عموم وخصوص ... ومن هنا ضل فيه أكثر الناس؛ إذ ليس له حد محدود. وما هو (6) منتف بالاتفاق بين المسلمين، بل بين أهل الملل كلهم، بل بين جميع العقلاء المقرين بالله، معلوم بضرورة العقل، ومنه ما هو ثابت بالاتفاق بين المسلمين، بل بين أهل الملل كلهم، بل بين جميع العقلاء (المقرين) (7) بالصانع، فلما كان لفظ التشبيه يقال على ما يجب انتفاؤه وعلى ما يجب إثباته لم يرد الكتاب والسنة به مطلقا، لا في نفي ولا إثبات، ولكن جاءت النصوص في النفي بلفظ المثل والكفو والند والسمي، ... و ... الله ليس كمثله شيء بوجه من الوجوه، فيجب أن ينفي عنه المثل مطلقا ومقيدا، وكذلك الند والكفو والشريك، ونحو ذلك من الأسماء التي جاء القرآن بنفيها، و ...   (1) ((درء التعارض)) (7/ 183). (2) كذا في درء التعارض، ولعل الصواب (نفس) أو (نفي) في كليهما. (3) كذا في درء التعارض، ولعل الصواب (نفس) أو (نفي) في كليهما. (4) ((درء التعارض)) (7/ 327). (5) انظر: ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (1/ 109). (6) كذا في المخطوطة، ولعل صحة العبارة (منه ما هو). (7) في المخطوط (للتقرير)، ولعل الصواب ما أثبته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 من أدلة ذلك أن الله تعالى لما نفي المثل عن نفسه بقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]، والسمي بقوله هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: 65]، والند بقوله فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً [البقرة: 22]، والكفو بقوله وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 4]، والشريك والعديل والمساوي بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: 18]، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ [الأنعام: 1]، إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 97 - 98]، فلا يخلو أما أن يكون النفي من ذلك مختصا بالمماثل من كل وجه، وهو المكافئ له من كل وجه فقط والمساوي والمعادل والمكافئ له من كل وجه، أو يكون النفي عاما في المماثل ولو من بعض الوجوه، والمكافئ ولو من بعض الوجوه، ولا يجوز أن يكون النفي مختصا بالقسم الأول لأن هذا لم يعتقده أحد من البشر، وهو سبحانه ذم ونهى عما هو موجود في البشر، ولأن النبي –صلى الله عليه وسلم- ((قال له رجل ما شاء وشئت. فقال: أجعلتني لله ندا، بل ما شاء الله وحده)) (1)، فثبت أن هذه الأسماء المنفية تعم المثل والكفو والند والشريك والعديل ولو من بعض الوجوه، وهذا هو الحق؛ وذلك لأن المخلوقات وإن كان فيها شبه من بعض الوجوه في مثل معنى الوجود والحي والعليم والقدير، فليس مماثلة بوجه من الوجوه ولا مكافئة، بل هو سبحانه له المثل الأعلى في كل ما يثبت له ولغيره، ولما ينفي عنه وعن غيره، لا يماثله غيره في إثبات شيء ولا في نفيه، بل المثبت له من الصفات الوجودية المختصة بالله، التي تعجز عقول البشر عن معرفتها، وألسنتهم عن صفتها ما لا يعلمه إلا الله مما لا نسبة إلى ما علموه من الأمر المشتبه المشترك، إليه. والمنفي عنه لابد أن يستلزم وصفا ثبوتيا كما قررنا هذا في غير هذا الموضع (2)، ومنافاته لذلك المنفي وبعده عنه، ومنافاة صفاته الوجودية، له فيه من الاختصاص الذي لا يشركه فيه أحد ما لا يعلمه أيضا إلا هو، بخلاف لفظ التشبيه، فإنه يقال على ما يشبه غيره ولو من بعض الوجوه البعيدة، ومما يجب القول به شرعا وعقلا بالاتفاق، ولهذا (لما) عرف الأئمة ذلك، وعرفوا حقيقة قول الجهمية، وأن نفيهم لذلك من كل وجه مستلزم لتعطيل الصانع وجحوده، كانوا يبينون ما في كلامهم من النفاق والتعطيل، ويمتنعون عن إطلاق لفظهم العليل لما فهموه من مقصودهم، وإن لم يفهمه أهل الجهل والتضليل" (3). ومع أن التشبيه لم يرد نفيه في الكتاب والسنة إلا أن السلف رحمهم الله كانوا ينظرون إلى المعاني لا إلى الألفاظ، ولذلك لما وجدت بعض الفئات التي بالغت في الإثبات فشبهت الله بخلقه، - وسموا مشبهة – بادر السلف على ذم المشبهة وقرنوا الذم لهم بذم المعطلة، ولم يمنع السلف من هذا ما وصفهم به أعداؤهم النفاة من أن إثباتهم للصفات يجعلهم مشبهة، لأن مذهبهم في الصفات وسط بين تعطيل هؤلاء وتشبيه أولئك.   (1) رواه النسائي في الكبرى (10825) وأحمد (1/ 224 (1964) من حديث ابن عباس قال ابن القيم في ((الجواب الكافي)) (ص 102) ثابت وصحح إسناده أحمد شاكر في ((المسند)) (3/ 296) وحسن إسناده الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) 1/ 266. (2) انظر مثلاً: ((التدمرية)) – القاعدة الأولى – (ص: 75) وما بعدها. ت السعوي. (3) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 258 - 261). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وشيخ الإسلام لما قرر أن لفظ التشبيه لم يرد نفيه في القرآن والسنة وإنما قصد بيان أن ما ادعاه هؤلاء – في تعريفهم للتوحيد من أن من معانيه أن الله واحد في صفاته لا شبيه له، وأدخلوا في ذلك نفي علوه واستوائه وصفاته الخبرية – غير صحيح، لأن القرآن والسنة وردا بإثبات ذلك، والقول بأن إثبات هذه الصفات يقتضي تشبيها ينسحب إلى غيرها من الصفات التي يثبتها هؤلاء، كالعالم والقدرة والحياة والسمع والبصر، بل ينسحب إلى الأسماء الثابتة لله سبحانه وتعالى، فالأخذ بظاهر هذه العبارة – أنه واحد في صفاته لا شبيه له – يؤدي إلى نفي جميع الصفات والأسماء عن الله تعالى، لأن ما من موجودين إلا وبينهما قدر مشترك وقدر مميز، وأقرب مثال على ذلك الوجود، فالله موجود والمخلوق موجود، والوجود له معنى مشترك يصدق على وجود الله ووجود المخلوق، وإن كان وجود المخلوق ليس كوجود الله لأن المخلوق ممكن، حادث، قابل للعدم. فهل يمكن القول بأن الله موجود بدون فهم معنى الوجود؟ إلا أن يقال بأننا خوطبنا بألغاز لها معاني أخر لا نفهمها، ولم يدل عليها الخطاب، وهو ما آل إليه أمر غلاة الصوفية والباطنية والقرامطة وغيرهم من الملاحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 فما قرره شيخ الإسلام في هذا الباب من أن لفظ الشبه والتشبيه لفظ مجمل، ولذلك لم يرد نفيه في الكتاب والسنة، إنما هو دفاع عن الصفاتية – من هؤلاء الأشاعرة وغيرهم – في مقابل المعتزلة والجهمية والقرامطة وغيرهم.10 - ومذهب السلف – رحمهم الله تعالى – مشهور في الرد على نفاة الصفات أو بعضها، يقول شيخ الإسلام عن الأشاعرة بعد كلامه عن المعتزلة الذين جعلوا نفي الصفات كالعلم والقدرة من التوحيد والتنزيه عن التشبيه والتجسيم-: "ثم هؤلاء مضطربون فيما ينفونه من ذلك، لكن وافقوا أولئك على أن ما نفوه من التشبيه وما نفوه من المعنى الذي سموه تجسيما هو التوحيد الذي لا يتم الدين إلا به، وهو أصل الدين عندهم، وكل من سمع ما جاءت به الرسل يعلم بالاضطرار أن هذه الأمور ليست مما بعث الله به رسوله، ولم يكن الرسول يعلم أمته هذه الأمور ولا كان أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عليها، فكيف يكون هذا التوحيد الذي هو أصل الدين لم يدع إليه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- والصحابة والتابعون، بل يعلم بالاضطرار أن الذي جاء به الرسول من الكتاب والسنة يخالف هذا المعنى الذي سماه هؤلاء الجهمية توحيدا، ولهذا ما زال سلف الأمة وأئمتها ينكرون ذلك" (1)، ثم ساق شيخ الإسلام عددا من الروايات المشهورة عند أئمة السلف في ذمهم لأهل الكلام وأهل البدع الذين يخوضون في أسماء الله وصفاته ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون (2).أما مسألة نفي التشبيه بإطلاق، فإمام أهل السنة أحمد بن حنبل – رحمه الله – بين ذلك في الرد على الزنادقة – كما نقل شيخ الإسلام ابن تيمية عنه معلقا على بعض أقواله، قال شيخ الإسلام: "ولهذا قال الإمام أحمد: "فقلنا إن الشيء لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء، فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئا" (3)، فبين الإمام أحمد أنه يعلم بالمعقول الصريح الذي يشترك فيه العقلاء أن ما لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه لا شيء، كما نقل الناس أن جهما يقوله، ولهذا قال: فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئان أي لجميع العقلاء، فإن هذا لا يختص أهل السمع والكتاب، بل يشترك فيه العقلاء كلهم. فهذا سؤال عن كونه موجودا، ثم سألهم عن كونه معبودا فإن هذا يختص به من يوجب عبادة الله، وهم المسلمون قديما وحديثا، قال: "فإذا قيل له: فمن تعبدون؟ قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق، فقلنا: هذا الذي يدبر أمر الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة؟ قالوا: نعم، قلنا: قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئا، إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون" (4)، فهنا جعل الكلام من المسلمين الذين يعبدون الله تعالى, والعبادة متضمنة لقصد المعبود وإرادته، والقصد والإرادة مستلزم لمعرفته والعلم به.   (1) ((التسعينية)) (ص: 304). (2) انظر: ((التسعينية)) (ص204 - 207). (3) ((كلام الإمام أحمد في الرد على الزنادقة والجهمية)) (ص: 68) – ضمن عقائد السلف وفيه "فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يؤمنون بشيء". (4) ((كلام الإمام أحمد في الرد على الزنادقة والجهمية)) وفيه "قد عرف المسلمون أنكم لا تؤمنون بشيء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 فلما قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق ثم قالوا: هو مجهول لا يعرف بصفة، كان قولهم هو مجهول لا يعرف بصفة تبين للمسلمين الذين يعبدون، أنهم لا يثبتون شيئا يعبدونه، وإنما هم منافقون في ذلك، لأن ما لا يعرف بصفة يمتنع أن يقصد فيعبد، فعرف المسلمون بطلان قولهم: يعبدون الله ويثبتونه، كما عرف أهل العقل بطلان كونهم يقرون بوجوده ويثبتونه، وهم الذين أنكروا أن يعرف بصفة، فأنكروا صفاته مطلقا وأنكروا أن يشبه بالأشياء بوجه من الوجوه، فأنكروا بذلك وجوده" (1). وكلام الإمام أحمد يدل على مبلغ علم ووعي أئمة السلف رحمهم الله، ومعرفتهم بمداخل أئمة البدع الذين يزخرفون أقوالهم بعبارات التنزيه، وهم يقصدون من وراء ذلك أن يصلوا إلى ما يهدفون إليه من نشر البدع والتعطيل. والإمام أحمد لما قرئ عليه كتاب (المحنة) – زمن المأمون – وبلغ قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]، وهو خالق كل شيء، قال الإمام أحمد عند قوله ليس كمثله شيء: وهو السميع البصير. فقال إسحاق ابن إبراهيم – عامل الخليفة – ما أردت بهذا؟ فقلت: كتاب الله عز وجل ولم أزد في كتابه شيئا كما قال ووصف تبارك وتعالى (2). قال أحد مترجمي الإمام أحمد معلقا: "قلت: انظر كيف فتح الله على الإمام أحمد بإقامة حجته في إثبات الصفات من الآية التي احتجوا عليها بها، فكان الذي استدلوا به دليلا له لا عليه رضي الله عنه" (3).فالإمام أحمد كان يحذر من التعطيل ومن التشبيه معا، وقد نقل شيخ الإسلام عن الطبري أنه ذكر في تاريخه – قال شيخ الإسلام: لكن أرسل ذلك والله أعلم بحقيقته (4) – ("أنه لما قرأ على علماء بغداد من المحنة كتاب المأمون الذي دعا الناس فيه إلى التجهم، فيه: (لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه). أقر بذلك من أقر به، وأما أحمد فقال: لا أقول: لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه (5)، وهذا يبين كمال علمه ومعرفته بالأقوال المنافية لدين الإسلام، واحترازه منها، مع أن كثيرا من الناس يطلق هذه العبارة، ويريد بذلك نفي المماثلة، ومقصوده صحيح، وقد يريد ما يجمع الحق والباطل، أو يريد تنزيها مطلقا لا يحصل معناه" (6).وقد أعاد شيخ الإسلام في (درء التعارض) ذكر رواية الطبري حول المحنة – ولم يذكر أنها مرسلة – وقال معلقا: "والمقصود أنه ذكر في كتابه: (لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه)، فوافقه من لم يعرف حقيقة هذه الكلمة، وذكر عن أحمد أنه قال: لا يشبه الأشياء، وليس كمثله شيء، ونحو ذلك، أو كما قال، وأما قوله: "بوجه من الوجوه" فامتنع منها، وذلك لأنه عرف أنه مضمون ذلك التعطيل المحض، فإنه يقتضي أنه ليس بموجود ولا شيء ولا حي ولا عليم، ولا قدير، ويقتضي إبطال جميع أسمائه الحسنى، وهذا النفي حقيقة قول القرامطة، والله تعالى ليس كمثله شيء بوجه من الوجوه، بل هو سبحانه في كل ما هو موصوف به مختص بما لا يماثله فيه غيره وله المثل الأعلى" (7).   (1) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 263 - 264). (2) انظر: ((سيرة الإمام أحمد بن حنبل، لولده صالح)) (ص: 49)، و ((ذكر محنة الإمام أحمد))، لحنبل بن إسحاق بن حنبل (ص: 38) – وفي المطبوعة سقط -، و ((مناقب الإمام أحمد)) لابن الجوزي (ص: 387)، و ((محنة الإمام أحمد بن محمد بن حنبل)) لعبد الغني المقدسي (ص: 42 - 44). (3) ((الجوهر المحصل في مناقب الإمام أحمد))، تأليف محمد بن محمد بن أبي بكر السعدي الحنبلي المتوفى سنة 900هـ (ص: 69). (4) كأن شيخ الإسلام ابن تيمية استنكر انفراد الطبري بها، إذ لم يذكرها مترجموه، حتى الذين أفردوا كتبا لترجمته أو لمحنته. (5) انظر: ((تاريخ الطبري)) (8/ 639). (6) ((نقض التأسيس)) – (مخطوط 3/ 264). (7) ((درء التعارض)) (5/ 183). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 فهذه الملاحظات الدقيقة التي يبديها أئمة السلف معلقين على مثل هذه العبارات لأجل ما فيها من الإيهام – تدل على حرصهم الشديد على تصفية العقيدة من أكدار التعطيل والتشبيه، وهذا يدل على ما في مثل عبارة الأشاعرة – حين يقولون: إن الله واحد في صفاته لا شبيه له، وخاصة إذا أبانوا عن مقصودهم بها وأنه إنكار علو الله واستوائه وتأويل بقية صفاته عدا الصفات السبع التي أثبتوها – من الإجمال والإيهام والضلال.11 - وأئمة الأشاعرة أقروا بأن إطلاق مثل هذه العبارات غير دقيق، وأن القول بنفي التشبيه مطلقا يؤدي إلى إنكار صفات الله تعالى، يقول الجويني في نفي أن الله يشبه الحوادث أو يشبهه شيء منها: "والكلام في هذا الباب من أعظم أركان الدين، فقد غلطت طائفة في النفي فعطلت، وغلت طائفة في الإثبات فشبهت، فأما الغلاة في النفي فقالوا: الاشتراك في صفة من صفات الإثبات يوجب الاشتباه، وقالوا عن هذا: القديم سبحانه لا يوصف بالوجود، بل يقال: ليس بمعدوم، وكذلك لا يوصف بأنه قادر، عالم، حي، بل يقال: ليس بعاجز، ولا جاهل، ولا ميت، قال: وهذا مذهب الفلاسفة والباطنية، فأما الغلاة في الإثبات فاعتقدوا ما يلزمهم القول بمماثلة القديم الحوادث" (1)، ثم قال الجويني: "فأما الرد على الفلاسفة فمن أوجه: أحدها: الاتفاق على أن السواد يشارك البياض في بعض صفات الإثبات من الوجود، والعرضية، واللونية، ثم هما مختلفان، وكذلك الجوهر والعرض، والقديم والحادث، لا يمتنع اشتراكهما في صفة واحدة مع اختلافهما في سائر الصفات، ويقال لهم: أتثبتون الصانع المدبر أم لا تثبتونه؟، فإن أثبتوه لزمهم من الحكم بإثباته ما حاذروه فإن الحادث ثابت، فاستويا في الثبوت" (2).فالجويني مع أنه يقول بتماثل الأجسام، وأن الاختلاف إنما هو في الأعراض، ومع ما في القول بتماثل الأجسام وأن الثلج مماثل للنار من كل وجه، والخبز مماثل للحديد من كل وجه، من مخالفة الحس والعقل (3)، إلا أن قوله بأن القديم والحادث يستويان في الثبوت، ورده على الغلاة الذين قالوا: الاشتراك في صفة من صفات الإثبات يوجب الاشتباه: "تصريح بأن المختلفين يستويان ويشتركان في بعض الصفات، فكيف يمكن أن يقال مع هذا: إن المختلفين لا يشتبهان من بعض الوجوه، وقد صرح بتساويهما في بعض الأشياء؟ ... " (4).   (1) ((درء التعارض)) (5/ 186 - 187)، والنص لم أجده في الإرشاد كما قد توحي به عبارة شيخ الإسلام في أول الكلام، وللجويني كلام طويل في هذه الموضوعات – في ((الشامل))، انظر: (ص: 287 - 342). (2) ((درء التعارض)) (5/ 188 - 189). (3) انظر: ((درء التعارض)) (5/ 192). (4) انظر: ((درء التعارض)) (5/ 193). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 فالجويني هنا يرد على نفسه وعلى إخوانه الأشاعرة الذين قالوا: إن القول بإثبات علو الله واستوائه على العرش يقتضي أن يكون جسما والأجسام متماثلة. ومن ثم فسروا التوحيد بنفي التشبيه عن الله وفسروه بتلك التفسيرات الباطلة، فهم بين أمرين، إما أن يقولوا بأن إثبات السمع والبصر والحياة والقدرة لله تعالى يقتضي تشبيها مثل العلو واليدين، أو يقولوا بأن إثبات العلو والاستواء واليدين والوجه لله لا يقتضي تشبيها مثل السمع والبصر والحياة. ويقول الرازي عن هذا الموضوع: "فإن قيل المشاركة في صفات الكمال يقتضي المشاركة في الإلهية. قلنا: المشاركة في بعض اللوازم البعيدة مع حصول المخالفة في الأمور الكثيرة لا تقتضي المشاركة في الإلهية. قال: ولهذا المعنى قال الله تعالى: وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ [النحل: 60]، وقال –صلى الله عليه وسلم- ((تخلقوا بأخلاق الله)) (1) (2)، قال شيخ الإسلام معلقا على هذا الكلام: "ومن المعلوم أن المشابهة هي المشاركة في صفات الكمال – التي هي العلم والقدرة – أعظم من المشابهة والمشاركة في مجرد مسمى الوجه" (3).ثم ينقل شيخ الإسلام عن الرازي أنه قال في نهاية العقول، في مسألة تكفير المخالفين من أهل القبلة في حجة من كفر المشبهة، قال: "ورابعها: أن الأمة مجمعة على أن المشبه كافر ثم (إن) المشبه لا يخلو إما أن يكون هو الذي يذهب إلى كون الله مشبها بخلقه من كل الوجوه، أو ليس (كذلك). والأول باطل؛ لأن أحدا من العقلاء لم يذهب إلى ذلك (4)، ولا يجوز أن يجمعوا على تكفير من لا وجود له، بل المشبه الذي يثبت الإله على صفة بشر بها معها بخلقه (5)، والمجسم كذلك لأنه إذا أثبت جسما (بحيز) معين فإنه يشبهه بالأجسام المحدثة، فثبت أن المجسم مشبه، وكل مشبه كافر بالإجماع، فالمجسم كافر" (6)، ثم قال الرازي في الجواب عن ذلك لأنه – أي الرازي – نصر عدم تكفير أهل القبلة: "قوله: المجسم مشبه، والمشبه كافر، قلنا: إن عنيتم بالمشبه من يكون قائلا بكون الله تشبهيا بخلقه من كل الوجوه، فلا شك في كفره، لكن المجسمة لا يقولون بذلك، فلا يلزم قولهم بالتجسيم قولهم بذلك، ألا ترى أن الشمس والقمر والنمل والبق أجسام، ولا يلزمنا اعترافنا باشتراكهما في الجسمية كوننا مشبهين للشمس والقمر والنمل والبق، وإن عنيتم بالمشبه من يقول بكون الله شبيها بخلقه من بعض الوجوه فهذا لا يقتضي الكفر لأن المسلمين اتفقوا على أنه موجود وشيء وعالم وقادر، والحيوانات أيضا كذلك، وذلك لا يوجب الكفر، وإن عنيتم بالمشبه من يقول الإله جسم مختص بالمكان، فلا نسلم انعقاد الإجماع على تكفير من يقول بذلك، بل هو دعوى للإجماع في محل النزاع فلا يلتفت إليه" (7).قال شيخ الإسلام معلقا على كلام الرازي السابق بعد نقله: "وهذا تصريح منه بأن القول بكون الله شبيها بخلقه من بعض الوجوه داخل في قول كل المسلمين، ولا ريب أن كل موجودين فلابد أن يتفقا في شيء يشتركان فيه، وأن أحدهما أكمل فيه وأولى به من الآخر، وإلا فإذا قدر أنهما لا يتفقان في شيء أصلا ولا يشتركان فيه لم يكونا موجودين، وهذا معلوم بالفطرة البديهية التي لا يتنازع فيها العقلاء الذين يفهمونها" (8). فهؤلاء أئمة الأشاعرة يعترفون بهذه الحقيقة البدهية، والعجب أنهم ينسون ذلك حين يتعرضون لبعض مسلماتهم الأخرى – كنفي العلو، أو بعض الصفات – فيصمون من يقول بها ويثبتها بالتشبيه والتجسيم، ويجعلون مذهبهم النافي لها هو التوحيد!. المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 946   (1) موضوع، قال ابن تيمية في ((تلبيس الجهمية)) (6/ 518): لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم بل هو من باب الموضوعات, وقال الألباني في ((السلسلة)) (2822): لا أصل له. (2) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 254 – 254)، و ((كلام الرازي في أساس التقديس)) (ص: 86 - 87). (3) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 254). (4) في نهاية العقول: لم يذهب إلى كون الله تعالى مشبها لخلقه من كل الوجوه. (5) كذا في نقض التأسيس. وفي نهاية العقول: على صفة تشبه فعلها لخلقه. (6) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 254.) والنص في ((نهاية العقول)) (291 - أ). (7) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 254 - 255)، والنص في ((نهاية العقول)) (293 - أ). (8) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 255). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 المبحث الثاني: عدم وضوح المنهج الأشعري في توحيد الألوهية وأسباب ذلك أن منهج الأشاعرة في توحيد الألوهية غير واضح المعالم وذلك لأسباب خمسة وهي: السبب الأول: تعريف كلمة (إله) عند الأشعرية: فإنه قد عرف كثير من الأشعرية كلمة (إله) بأنه القادر على الاختراع، فمن ذلك ما نسبه البغدادي إلى أبي الحسن الأشعري فقال: "واختلف أصحابنا في معنى الإله: فمنهم من قال إنه مشتق من الألهية، وهي: قدرته على اختراع الأعيان، وهو اختيار أبي الحسن الأشعري" (1)، ثم اختار البغدادي القول بأنه غير مشتق! وقد حكى الرازي هذا القول ذاكراً دليله دون أن يسمي قائله، فقال في صدد حكاية مذاهب الناس في أصل اشتقاق اسم الله تعالى (الله) قال: "القول السابع: الإله من له الإلهية، وهي القدرة على الاختراع، والدليل عليه أن فرعون لما قال: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 23]: قال موسى في الجواب: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الشعراء: 24] فذكر في الجواب عن السؤال الطالب لماهية الإله: القدرة على الاختراع، ولولا أن حقيقة الإلهية هي القدرة على الاختراع لم يكن هذا الجواب مطابقاً لذلك السؤال" (2). والجواب من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: إن فرعون كان متظاهراً بإنكار وجود رب العالمين – بل كان يدعي أنه رب العالمين بقوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 2] وقال تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ [الزخرف: 54] وقال: فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر: 37]، ولذلك كان سؤاله بقوله: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ سؤالاً عن وصف الرب تعالى وليس سؤالاً عن الماهية، إذ السؤال عن ماهية الشيء فرع الإقرار به، - وهو لا يقر بالله متظاهراً – فمن لم يقر بشيء لا يسأل عن ماهيته (3)، فمن سأل عن ماهية الإنسان فقال: ما الإنسان؟ فإن ذلك فرع إقراره بوجوه، وكذلك هنا (4). ولذلك فإن فرعون لم يكن قد سأل عن حقيقة الإلهية إنما سأل عن وصف الرب الذي يتظاهر بإنكاره. ويوضح هذا آية أخرى وهي: قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى [طه: 49]، ومعلوم أن "مَنْ" لا يسأل بها عن ماهية الشيء وحقيقته، وإنما حقيقة معنى الإلهية هي: استحقاق الله للعبادة بما له من صفات الكمال وتنزهه عن صفات النقص، وقد دلت الأدلة على ذلك. الوجه الثاني: إنه لو كان معنى إله: القادر على الاختراع كان معنى لا إله إلا الله أي: لا خالق إلا الله ولا قادر على الاختراع إلا هو، وهذا المعنى كان يقول به المشركون، ولذلك يحتج الله عليهم بمعرفتهم هذه بقوله: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22] أي تعلمون أنه لا رب لكم غيره، كما نقل ذلك عن جمع من المفسرين (5).فلو كان المعنى ما ذكره هؤلاء المتكلمون لما استقام الإنكار على المشركين الذين يقرون بأن الله هو خالقهم وخالق كل شيء. وإنما كان شركهم في الألوهية (6).الوجه الثالث: إن هذا القول غير معروف عند أهل اللغة، ولذلك لم يحتج من قال بهذا القول بشاهد من شواهد لغة العرب ولا بنقل إمام معتبر من أئمة اللغة (7). المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف – 1/ 154   (1) ((أصول الدين للبغدادي)) (ص: 123). (2) ((شرح أسماء الله الحسنى للرازي)) (ص124). (3) انظر ((تفسير ابن كثير)) (3/ 332). (4) ((مجموع الفتاوى لابن تيمية)) (16/ 334). (5) ((جامع البيان للطبري)) (1/ 1/163). (6) انظر ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 76). (7) انظر ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 76). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وليس المراد (بالإله) هو القادر على الاختراع كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين حيث ظن أن الإلهية هي القدرة على الاختراع دون غيره وأن من أقر بأن الله هو القادر على الاختراع دون غيره فقد شهد أن لا إله إلا هو المصدر: الرسالة التدمرية - مجمل اعتقاد السلف لأحمد بن عبدالحليم ابن تيمية - ص108 التوحيد عند المتكلمين: يقولون: إن معنى إله: آله، والآله: القادر على الاختراع؛ فيكون معنى لا إله إلا الله: لا قادر على الاختراع إلا الله والتوحيد عندهم: أن توحد الله، فتقول: هو واحد في ذاته، لا قسيم له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وواحد في صفاته لا شبيه له، ولو كان هذا معنى لا إله إلا الله؛ لما أنكرت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم دعوته ولآمنت به وصدقت؛ لأن قريشاً تقول: لا خالق إلا الله، ولا خالق أبلغ من كلمة لا قادر، لأن القادر قد يفعل وقد لا يفعل، أما الخالق؛ فقد فعل وحقق بقدرة منه، فصار فهم المشركين خيراً من فهم هؤلاء المتكلمين والمنتسبين للإسلام؛ فالتوحيد الذي جاءت به الرسل في قوله تعالى: مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 59]؛ أي من إله حقيقي يستحق أن يعبد، وهو الله ومن المؤسف أنه يوجد كثير من الكتاب الآن الذين يكتبون في هذه الأبواب تجدهم عندما يتكلمون على التوحيد لا يقررون أكثر من توحيد الربوبية، وهذا غلط ونقص عظيم، ويجب أن نغرس في قلوب المسلمين توحيد الألوهية أكثر من توحيد الربوبية، لأن توحيد الربوبية لم ينكره أحد إنكاراً حقيقياً، فكوننا لا نقرر إلا هذا الأمر الفطري المعلوم بالعقل، ونسكت عن الأمر الذي يغلب فيه الهوى هو نقص عظيم، فعبادة غير الله هي التي يسيطر فيها هوى الإنسان على نفسه حتى يصرفه عن عبادة الله وحده، فيعبد الأولياء ويعبد هواه، حتى جعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي همه الدرهم والدينار ونحوهما عابداً، وقال الله عز وجل أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية: 23] المصدر: القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 70 ما الجواب عن قول من قال: بأن معنى الإله القادر على الاختراع ونحو هذه العبارة قيل: الجواب من وجهين: أحدهما: أن هذا قول مبتدع لا يعرف أحد قاله من العلماء ولا من أئمة اللغة وكلام العلماء وأئمة اللغة هو معنى ما ذكرنا كما تقدم فيكون هذا القول باطلا الثاني: على تقدير تسليمه فهو تفسير باللازم للإله الحق فإن اللازم له أن يكون خالقا قادرا على الاختراع ومتى لم يكن كذلك فليس بإله حق وإن سمي إلها وليس مراده أن من عرف أن الإله هو القادر على الاختراع فقد دخل في الإسلام وأتى بتحقيق المرام من مفتاح دار السلام فإن هذا لا يقوله أحد لأنه يستلزم أن يكون كفار العرب مسلمين ولو قدر أن بعض المتأخرين أرادوا ذلك فهو مخطئ يرد عليه بالدلائل السمعية والعقلية المصدر: تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد لسليمان بن عبدالله آل الشيخ - ص60 وهذا التفسير الذي ذكره أولئك الأشعرية له مفاسد كثيرة، منها أن هذا التفسير يصير توحيد الربوبية هو أول الواجبات، مما يؤدي إلى عدم الاعتناء بتوحيد الألوهية اعتناءاً جيداً، بل يؤدي إلى عدم معرفته حق المعرفة، إذ يتصور كثير من عوامهم بل من نسب إلى العلم من المتأخرين منهم أن شرك المتقدمين كان لاعتقادهم بعض صفات الربوبية في الأصنام والأوثان، فغفل كثير منهم عن حقيقة الشرك وبعض مظاهره، فوقعوا في الشرك بالله من الاستغاثة بغير الله والذبح لغيره وغير ذلك. أما على قولهم الثاني وهو أن اسم الله غير مشتق فإنه يزيد المسألة غموضاً أكثر وعدم وضوح للمنهج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 السبب الثاني: من الأسباب الداعية إلى القول بأن توحيد الألوهية غير واضح في المنهج الأشعري، هو أن كتبهم المصنفة في العقائد – على كثرتها – لم تفرد هذا الموضوع بالبحث، وهذا إن عذر فيه المتقدمون فلا يعذر المتأخرون في تركه إذ الحاجة إلى البيان فيه والتحذير مما يضاده قائمة. والحقيقة غير المرضية هي أن كثيراً ممن يقع في الشرك بل ومن يبرر للعوام فعلهم الشركي معدود في علماء الأشعرية – كما سيأتي بيانه إن شاء الله السبب الثالث: ومما يؤكد عدم وضوح هذا المنهج: أنهم قد يردون على أهل الملل ردوداً قاصرة عن بيان الحقيقة وإبرازها وإبطال الباطل في بعض المسائل، فمن ذلك ردهم على الصابئة المشركين الذين يعبدون الروحانيات الطاهرة لتقربهم إلى الله – بزعمهم – إذ هم لا يمكنهم التقرب إلى الله لكثرة ذنوبهم وعيوبهم، وهم كذلك لا يقرون بوجود واسطة بين الخالق والخلق لتبليغ الرسالة وهم الرسل (1).فأقام الشهرستاني مناظرة بينهم وبين الحنفاء أتباع الرسل ليثبت أن اتخاذ الأنبياء واسطة أولى من اتخاذ تلك الروحانيات العلوية واسطة! (2) وهذه المحاولة خطأ كبير، إذ تبين مدى عدم معرفة ما بعث الله به رسوله من التوحيد والتحذير من الشرك وذلك: أن الحنفاء لم يتخذوا الرسل وسائط في الخلق والتدبير والرزق والإحياء والإماتة وسماع الدعاء وإجابة الداعي، فهم إنما يثبتون هذه الأمور لله ويعبدونه ولا يعبدون أحداًَ سواه، بخلاف الصابئة الذين يعبدون تلك الروحانيات العليا لتقربهم إلى الله، وفرق بين من يزعم أنه يتوصل إلى الحق دون حاجة للرسل ثم يعبد غير الله، وبين من يأخذ الحق عن طريق الرسل الذين هم واسطة بين الله تعالى وخلقه في تبليغ الرسالة، ثم يقوم لله بالعبادة ويفرده بها. السبب الرابع: ومن الأسباب الداعية إلى القول بأن المنهج الأشعري غير واضح في توحيد الألوهية هو زعمهم أن أول واجب على المكلف: المعرفة، أو النظر، أو القصد إلى النظر المؤدي إلى إثبات وجود الله تعالى، ومن ثم إثبات وحدانيته في الذات والأفعال. وهذا أطبق عليه المتقدمون والمتأخرون منهم، فلذلك اشتغلوا بتحقيق ما زعموه أول واجب على المكلف برد الشبهات والشكوك وتفنيدها وإيراد الاعتراضات ودفعها بطرق منطقية صعبة، لذلك لا يجد الباحث لهم تصنيفاً مستقلاً يوضح منهجهم في هذا التوحيد. وهذا لا يعني الطعن فيهم كلهم – وإنما هم على مراتب: المرتبة الأولى: وهم المتقدمون، فإنه لا يمكن أن يقال عنهم إنهم خالفوا في توحيد الألوهية. والأدلة على هذا الأمر إجمالاً هي: 1 - لم ينقل عن الأئمة الأعلام من أهل السنة الرد على الأشاعرة في مسائل توحيد الألوهية، مما يدل على عدم وجود مخالفة منهم، إذ لو وجدت لما تأخر الأئمة في الرد عليهم. 2 - وجود تعريفات لبعض علماء الأشاعرة للتوحيد تفيد دخول توحيد الألوهية فيه صراحة. 3 - إيراد الأئمة لمقدمات يسلم بها المخالف خاصة في مسألة كلام الله أنه غير مخلوق، حيث وردت الاستعاذة بكلمات الله – ومعلوم أنه لا يستعاذ بمخلوق – فلا شك أن الأشاعرة يسلمون بهذه الطريقة كما هو ظاهر من صنيع البيهقي. 4 - تنصيص بعض علماء الأشاعرة على أنواع من العبادات كالدعاء والرجاء والخوف والخشية، وبينوا أنها لا تكون إلا لله. وتنصيص بعضهم على صور اتخاذ المشركين للأصنام شفعاء، مما يدل على فهمهم للشرك في الألوهية. 5 - إنكار بعض علماء الأشاعرة ما وقع فيه الناس في أزمنتهم من التعلق بالخلق والتبرك بالحيطان والأعمدة وتعظيم قبور الأكابر وبيانهم أن ذلك من الشرك.   (1) انظر ((مقالتهم في الملل والنحل للشهرستاني)) (2/ 6 - 7). (2) انظر ((المناظرة في الملل والنحل)) (2/ 14 - 44). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 المرتبة الثانية: وهم الذين أثر عنهم الوقوف في بعض مظاهر الشرك. وهؤلاء وإن لم ينص الرازي على أعيانهم في عصره، إلا أنه في عصر السبكي والهيتمي يمكن نسبة هذا الأمر إلى الأشاعرة، حيث إنهما دافعا عن بعض الشرك ووسائله التي وقع فيها العوام ويظهر هذا الأمر بجلاء ووضح في عصر دحلان وقبله بقليل إلى يومنا هذا حيث الشرك الصريح والله المستعان. المرتبة الثالثة: وهم الذين لم يؤثر عنهم الوقوع في ذلك لكن مع بقاء نسبتهم إلى التصوف – فهؤلاء يؤخذ عليهم سكونهم عن بيان الحق لأتباعهم وانتسابهم إلى التصوف. وينبغي أن يعلم أن أهل المرتبة الأولى يؤخذ عليهم كذلك طريقة استدلالهم بالآيات الواردة لتقرير الألوهية على أنها للربوبية ... وتفسيرهم للإله بأنه القادر على الاختراع من جهة أنه مخالف للحق، ولما يخشى أن يكون فعلهم هذا سبباً في جهل كثير من المتأخرين لحقيقة توحيد الألوهية ووقوعهم فيما يناقضه. السبب الخامس: ومن الأسباب الداعية إلى القول بعدم وضوح المنهج الأشعري في توحيد الألوهية: حملهم الآيات الواردة في توحيد الألوهية على أنها في توحيد الربوبية، ويتضح هذا الخطأ بالآتي: 1 - إن الذين نزلت فيهم الآيات ما كانوا ينكرون ربوبية الله – كما تقدم. 2 - قد صرح أهل العلم بأن الآيات نزلت فيمن كانوا يعبدون غير الله، وسيأتي ذكر قول الرازي – إن شاء الله- في أن الذاهبين إلى عبادة غير الله كثرة وأنه لا يعرف من قال بوجود خالقين متساويين للعالم. المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف – 1/ 154 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 المبحث الثالث: اعتراضات المتأخرين من الأشاعرة على إدخال توحيد الألوهية ضمن أنواع التوحيد اعترض المتأخرون من الأشاعرة على تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية، وسبب هذا الاعتراض يرجع إلى الأشاعرة ألفوا القول بأن أول واجب على المكلف هو توحيد الربوبية، ثم إنهم رتبوا على هذا القول أمراً وهو: أنه لا يتصور وقوع الشرك إلا إذا اعتقد الإنسان ربوبية غير الله تعالى، كما سيأتي في عرض شبههم إجمالاً – إن شاء الله. وقد اعترض كثير منهم في كتبهم على هذا التقسيم، وسأكتفي بنقل عبارات أحدهم مع الرد عليها – إن شاء الله – فمن هؤلاء: أحمد زيني دحلان ويمكن تقسيم ما أورده من شبهات إلى أربعة أنواع، فإنه قد قال: "وأما جعلهم التوحيد نوعين: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية فباطل أيضاً" (1) ثم ساق شبهه. الشبهة الأولى: قال: "فإن توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية، ألا ترى إلى قوله تعالى: أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُواْ بَلَى [الأعراف: 172] ولم يقل: ألست بإلهكم!، فاكتفى منهم بتوحيد الربوبية" (2).   (1) ((الدرر السنية في الرد على الوهابية)) (ص: 40). (2) ((الدرر السنية في الرد على الوهابية)) (ص: 40). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 الجواب، والرد عليه من ثلاثة أوجه: الوجه الأول (1): إن هذه الآية غاية ما تفيده أنه عند إفراد الربوبية تدخل فيها الألوهية، باعتبار أن الاسم يدل على المعنى إما مطابقة أو تضمناً أو التزاماً (2)، فيلزم من كونه رباً أن يكون إلهاً معبوداً مطاعاً، فالدلالة لزومية هنا، ولهذا كان يحتج الله على المشركين باعترافهم بتوحيد الربوبية ليثبتوا توحيد الألوهية، ولذلك فهذه الآية لا تفيد حصر التوحيد في الربوبية، وإذا سُلم أنها دالة على توحيد الربوبية فقط فإنها لا تنفي غيره، وقد وردت أدلة أخرى دالة على الألوهية فيجب الأخذ بها، كقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 21 - 23] فتضمنت الآيتان توحيدي الألوهية والربوبية أما الألوهية ففي جانبي الإثبات والنفي المذكورين وهما: اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ وفَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً، وأما الربوبية ففي تقرير الله تعالى أنه خالقهم وخالق كل الناس، والمنعم عليهم بأنواع النعم – ثم قررهم بقوله: وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ أي وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم غير الله تعالى فكيف تشركون به في العبادة؟! (3).ومن الآيات الدالة كذلك على نوعي التوحيد: قول الله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [يوسف: 106] قال مجاهد في تفسير الآية "إيمانهم: قولهم: الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا، فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره" (4) – وقال قتادة: "إنك لست تلقى أحداً إلا أنبأك أن الله ربه وهو الذي خلقه ورزقه وهو مشرك في عبادته (5). وقال ابن زيد: "ليس أحد يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله، ويعرف أن الله ربه وأن الله خالقه ورازقه، وهو يشرك به. ألا ترى كيف قال إبراهيم عليه السلام: قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 75، 76، 77]، وقد عرف أنهم يعبدون رب العالمين مع ما يعبدون، قال: فليس أحد يشرك به إلا وهو مؤمن به. ألا ترى كيف كانت العرب تلبي تقول: "لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، المشركون كانوا يقولون هذا" اهـ (6).الوجه الثاني: إن الآية وهي قوله: أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ يحتمل أن تكون كنظائرها التي تقدمت في إلزام الله تعالى للناس باعترافهم بالربوبية ليفردوه بالعبادة – ولذلك قال الشيخ محمد بشير السهسواني: "إن الإقرار بتوحيد الربوبية مع لحاظ قضية بدهية، وهي: أن غير الرب لا يستحق العبادة يقتضي الإقرار بتوحيد الألوهية عند من له عقل سليم وفهم مستقيم، فيكون الإقرار المذكور حجة عليهم، كما احتج الله تعالى على المشركين بتوحيد الرازق ومالك السمع والأبصار ... على وحدانية الألوهية" (7).الوجه الثالث: (8)   (1) انظر هذا الوجه في ((صيانة الإنسان)) (ص: 442). (2) انظر: ((أنواع الدلالات وتعريفاتها)) (ص: 382). (3) انظر ((جامع البيان للطبري)) (1/ 1/160 - 164). (4) ((جامع البيان للطبري)) (8/ 13/77 - 78). (5) ((جامع البيان للطبري)) (8/ 13/78). (6) ((جامع البيان للطبري)) (8/ 13/78 - 79). (7) ((صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان)) (ص: 443). (8) انظر هذه الوجه في ((صيانة الإنسان)) (ص: 447) .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 أن يكون المراد بالرب في الآية: المعبود – كما في قول الله تعالى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ [التوبة: 31]، ومن المعلوم أن أهل الكتابين ما كانوا يقولون إن أحبارهم ورهبانهم يخلقون ويرزقون ونحو ذلك، ولذلك نبه الله عليهم في آخر الآية نفسها بالذي أمرهم به وهو: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31]. نعم إن الشرك في الألوهية الذي وقعوا فيه باتخاذ القبور مساجد ونحو ذلك متضمن للشرك في بعض مسائل الربوبية – لا أصل الربوبية كله – وذلك كالطاعة المطلقة للأحبار والرهبان التي هي شرك في التشريع كما قال الله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21] ولذلك فالآية دالة على نوعي التوحيد بالمفهوم لا على نوع واحد فضلاً عن حصره فيه. الوجه الرابع: قال الشيخ السهسواني: "الاحتمال الثاني: أن في الآية اختصاراً والمقصود: ألست بربكم وإلهكم، يدل عليه أثر ابن عباس رضي الله عنهما: "إن الله لما مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وتكفل لهم بالأرزاق" (1) وفي أثر أبي بن كعب رضي الله عنه – (فذكره وفي آخره): "اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري فلا تشركوا بي شيئاً، فإني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي، قالوا: نشهد أنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك، فأقروا له يؤمئذ بالطاعة"." (2) اهـ. وإذا كان كذلك فإنه لا يفهم أن الآية دالة على الربوبية فقط وأنه يكتفي بالتوحيد فيها فقط. كيف والأدلة دالة على أن الإقرار بالربوبية فقط لا يكفي وإنما لابد من الإقرار بتوحيد الألوهية مع توحيد الربوبية. الشبهة الثانية: قال أحمد دحلان: "ومن المعلوم أن من أقر لله بالربوبية فقد أقر له بالألوهية إذ ليس الرب غير الإله، بل هو الإله بعينه، وفي الحديث: إن الملكين يسألان العبد في قبره فيقولان له من ربك؟ ولم يقولا له: من إلهك؟ فدل على أن توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية" (3). الجواب: كلامه غير مستقيم في قوله: "من أقر لله بالربوبية فقد أقر له بالألوهية" إذ يناقض ما حكاه الله عن المشركين بقوله: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] فهم قد أقروا بنص القرآن لله بأنه ربهم ثم أشركوا به في ألوهيته. وقد تقدم ذكر قوله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [يوسف: 106] ونقل أقوال الأئمة الذي يفيد أن المشركين كانوا يقرون لله تعالى بالربوبية ويشركون به في الألوهية أي العبادة. فلو قال دحلان: من أقر لله بالربوبية يلزمه أن يقر له بالألوهية، لاستقام كلامه، ولكن كلامه لا يصدق إلا على المؤمنين فلا يعتبر قضية عامة، إذ الواقع بخلافها. ثم إن قوله "ليس الرب غير الإله بل هو الإله بعينه" فكلام صحيح في واقع الأمر وفي اعتقاد الموحدين، ولكن فيه تلبيس، ولكشفه فإنه لابد من بيان ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن الإله هو الرب نفسه في واقع الأمر – فهذه القضية صحيحة لا شك فيها.   (1) أثر ابن عباس الموقوف – أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره ((جامع البيان)) (6/ 9/112). (2) ((صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان للسهسواني)) (ص: 446). (3) ((الدرر السنية في الرد على الوهابية)) (ص: 40). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 الحالة الثانية: أن الإله هو الرب نفسه في اعتقاد الموحدين المؤمنين كما عليه في نفس الأمر – وهذه قضية صحيحة لا شك فيها أيضاً. الحالة الثالثة: أن الإله هو الرب نفسه في اعتقاد المشركين، وهذا هو محل النزاع، فإن الإله الحق في نفس الأمر واعتقاد الموحدين هو الرب نفسه، إلا أن المشركين كانوا يتخذون غير الله آلهة مع اعترافهم بأن الله هو الرب الخالق المالك المدبر، فلذلك لا يصح كلام دحلان ولا ينطبق على هذه الحالة، وبه يتبين وجه تلبيسه، ثم إن كثيراً ممن ينتسب إلى الإسلام ممن وقع في الشرك يقر لله تعالى بالربوبية والألوهية، ولكنه يأتي بما يخالف إقراره فيقع في بعض أنواع الشرك ويسميها بغير اسمها، وهذا لا يغير من الحقيقة شيئاً كالذي يشرب الخمر ويسميها بغير اسمها (1). وأما احتجاجه بحديث سؤال الملكين: "من ربك؟ " وقوله بعده: "فدل على أن توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية"، فجوابه كما تقدم أن الرب المقصود به الإله، ويقويه رواية البخاري: "إذا أقعد المؤمن في قبره أتي، ثم شهد: أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" فهذه الرواية تفسر الرواية الأخرى الواردة بلفظ "من ربك"، إذ المقصود توحيد الألوهية المتضمن لتوحيد الربوبية لا توحيد الربوبية فقط. ويقويه كذلك أنه قد علم بأدلة قطعية أنه ليس كل من أقر لله بالربوبية فقد أقر له بالألوهية – إذ قد خالف في هذا المشركون بالله غيره في العبادة. الشبهة الثالثة: قال دحلان بعد كلام مليء بالتهم الباطلة: "وهل للكافر توحيد صحيح؟ فإنه لو كان للكافر توحيد صحيح لأخرجه من النار، إذ لا يبقى فيها موحد" (2) الجواب: ما قال أحد من أهل السنة إن من أشرك في الألوهية وأقر لله بالربوبية يكون وتوحيده صحيحاً ويوجب له دخول الجنة، كيف وقد قال الله تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة: 72] فالآية فيها الإطلاق، أي من يشرك بالله شركاً أكبر في الألوهية أو الربوبية يدخل النار. وأما أن يفهم دحلان أن من أقر لله تعالى بالربوبية يكون توحيده صحيحاً فهذا إنما يلزمه هو بناءً على أصله من أن توحيد الربوبية هو الغاية العظمى، وهي التي بالغ فيها سلفه الأشاعرة في تحقيقها (3)، ولذلك ظن دحلان أن من أقر لله بالربوبية يكون له توحيد صحيح، وأما أهل السنة فلا يقولون بهذا القول، ومستندهم في ذلك قول الله تعالى وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [يوسف: 106] فسماهم الله تعالى مشركين وإن كانوا قد آمنوا بأنه ربهم وخالقهم! الشبهة الرابعة: قال دحلان: "فهل سمع المسلمون في الأحاديث والسير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدمت عليه أجلاف العرب ليسلموا على يده يفصل لهم توحيد الربوبية والألوهية ويخبرهم أن توحيد الألوهية هو الذي يدخلهم في دين الإسلام أو يكتفي منهم بمجرد الشهادتين وظاهر اللفظ ويحكم بإسلامهم؟، فما هذا الافتراء والزور على الله ورسوله، فإن من وحد الرب فقد وحد الإله، ومن أشرك بالرب أشرك بالله، فليس للمسلمين إله غير الرب، فإذا قالوا: لا إله إلا الله، إنما يعتقدون أنه هو ربهم فينفون الإلهية عن غيره كما ينفون الربوبية عن غيره أيضاً، ويثبتون له الوحدانية في ذاته وصفاته وأفعاله" (4). الجواب من وجهين:   (1) انظر ((صيانة الإنسان)) (447 - 448)، و ((رسالة الشرك ومظاهره)) (ص:90). (2) ((الدرر السنية)) ص: 40 - 41). (3) انظر قولهم في ((مسألة الواجب على المكلف)) (ص: 314 - 354). (4) ((الدرر السنية في الرد على الوهابية)) (ص: 41). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الوجه الأول: يقال له من باب المعارضة، وهل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الوحدانية تكون في الذات والصفات والأفعال، كما نص الأشاعرة على أن هذه هي أنواع التوحيد، وكما نص دحلان نفسه عليها في كلمته المنقولة سابقاً؟! الوجه الثاني: إن دعواه – كما يفهم من سؤاله الإنكاري – أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يفصل لأجلاف العرب نوعي التوحيد – لا تخلو من أحد احتمالين:- الاحتمال الأول: إما أن يريد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما بين لهم معنى التوحيد، فهذا باطل، يعلم بطلانه بالضرورة من دين الإسلام. ويمكن أن يعلم بيان الرسول صلى الله عليه وسلم للتوحيد، بنهيه عن الشرك وتحذيره منه وبيان خطره وقبحه، وبإقامة الأدلة والحجج على وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة بأنواع من الأدلة، كبيان ربوبية الله تعالى وإنعامه وتقرير المشركين بذلك، وبيان ضعف وعجز من يعبد من دون الله ... إلخ وبيانه وسائل الشرك وذرائعه ونهيه وتحذيره منها فكيف بعد هذا كله يقال إن الرسول صلى الله عليه وسلم ما بين نوعي التوحيد معنى؟!. الاحتمال الثاني: أو يريد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما نص لفظاً أن التوحيد ينقسم إلى الربوبية والألوهية. فهذا أحق، ولكن لا يلزم منه ألا يكون قد بين معنى التوحيد، وإذا كان اعتراضه مجرد اعتراض على تقسيم التوحيد فيعترض كذلك على الأشاعرة في تفسيمهم القاصر للتوحيد إلى وحدانية في الذات والصفات والأفعال! كيف والأدلة دالة على شمول تقسيم أهل السنة للتوحيد. وبهذا يعلم أنه ما افترى أهل السنة على الله ورسوله كذباً في تقسيمهم للتوحيد، وأما دعوه أنه يكفينا ظاهر التلفظ بالشهادتين للحكم بإسلام الشخص، فكلام صحيح، ولكن ماذا يقال: لو قالها وأتى بما يناقضها أفلا يبين له ذلك! فهذا أمر لاخفاء فيه، كيف وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض حدثاء الإسلام عندما طلبوا شجرة ليعلقوا فيها أسلحتهم – ذات أنواط – قال لهم: "الله أكبر، إنها السنن، قلتم كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: 138]. ولذلك فقوله: "ليس للمسلمين إله غير الرب ... " فكلام صحيح، ولكن المشكلة هي وقوعهم في بعض أنواع الشرك – وإن سموها بغير اسمها، إذ تغيير الأسماء لا يغير من الحقائق الشرعية شيئاً – فقيامهم ببعض التعبد لغير الله يعد تأليهاً لغير الله. المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف – 1/ 174 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 المبحث الرابع: الشبهات الرئيسة للمتأخرين من الأشاعرة في بعض مظاهر الشرك ويمكن تقسيمها إلى شبهتين رئيستين: الشبهة الأولى: محاولة تغيير بعض الحقائق الشرعية، وهذه تظهر في أمرين: الأول: تسميتهم الاستغاثة بغير الله توسلاً به! الثاني: تفسيرهم للآيات الواردة بالدعاء في القرآن بالعبادة لا الطلب، وفرق بين دعاء المسألة ودعاء العبادة. الأمر الأول: مما فيه قلب الحقائق الشرعية: قال دحلان: "فالتوسل والتشفع والاستغاثة كلها بمعنى واحد" (1) - ونقل عن ابن حجر الهيتمي قوله: "ولا فرق في التوسل بين أن يكون بلفظ التوسل أو التشفع أو الاستغاثة أو التوجه!. (2) " اهـ. الجواب: لا شك في وجود فرق بين التوسل والاستغاثة لغة وشرعاً - فالتوسل من الوسيلة، وهي تتضمن: التوصل، والرغبة، والقربة (3). وهي في الشرع لابد من تقييدها بالكتاب والسنة - شأن كل الحقائق الشرعية - وفي مسألتنا هذه: وهي التوسل إلى الله بالأشخاص: يجب أن يكون وفق الشرع، وهو أن يتوسل إلى الله تعالى بدعاء الشخص فيكون شفيعاً له في مسألته، ويدل له حديث الأعمى الذي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا رسول الله ادع الله أن يعافيني، فقال: إن شئت دعوتُ وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال لا: بل ادع الله لي، فأمره أن يتوضأ وأن يصلي ركعتين وأن يدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضى، اللهم فشفعني فيه وشفعه فيَّ)) (4).وهو ظاهر في الدعاء لأمور: (5) 1 - إنه لو لم يكن توسلاً بالدعاء لما احتاج الرجل أن يأتيه ويطلب منه الدعاء، بل كان يمكنه أن يفعل ذلك دون أن يأتيه. 2 - إن الحديث من أوله إلى آخره في الدعاء، فالرجل جاء طالباً الدعاء وخيره الرسول صلى الله عليه وسلم بين الصبر وبين أن يدعو له فاختار الدعاء، والراوي وإن اختصر الحديث فلم يذكر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له إلا أنه هو المفهوم من الحديث لأمرين: الأول: وعده صلى الله عليه وسلم بالدعاء له إن اختاره وهو أوفى الناس بوعده. الثاني: آخر الحديث وفيه: ((اللهم فشفعني فيه وشفعه فيَّ)) فقوله: ((فشفعه فيَّ)) أي بدعائه صلى الله عليه وسلم لي، وقوله: ((فشفعني فيه)) أي: أسألك اللهم أن تستجيب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لي، فهذا هو وجه كونه شفيعاً له. وهذا يوضح التقدير في الحديث: ((أتوجه إليك بنبيك)) أي: بدعائه، وكذا قوله: ((أتوجه بك)) أي بدعائك.3 - عدول الصحابة عن التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته إلى التوسل بالعباس - رضي الله عنه - كما قال عمر - رضي الله عنه - ((اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك فاسقنا)) (6)   (1) ((الدرر السنية)) (ص: 14). (2) ((الدرر السنية لدحلان)) (ص: 17)، وانظر ((مفاهيم يجب أن تصحح)) (ص: 54)، وكتاب الهيتمي هو: ((الجوهر المنظم في زيارة النبي المعظم)). (3) انظر ((المفردات للراغب)) (ص: 187) - و ((القاموس المحيط)) (ص: 1379). مادة (وسل). (4) رواه الترمذي (3578) , وابن ماجه (1385) , قال الترمذي: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه, وقال البيهقي في ((دلائل النبوة)) (6/ 166): روي بإسناد صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)). (5) انظر ((قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة)) في (ص: 115 - 259 - 260). و ((التوسل للألباني)) (ص: 76 - 83). (6) رواه البخاري (1010) .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 , فلو كان التوسل بالمكانة أو الجاه مشروعاً لما عدلوا عن التوسل به صلى الله عليه وسلم ومن ادعى جواز التوسل بذاته رده سياق الحديث، وعلى فرض صحة دعواه فإن ذلك لا يمكن إثباته حال الغيبة أو الموت للفرق الواضح بينهما - على فرض مشروعيته - وبين الاستغاثة بذلك الشخص. يوضحه: أن الاستغاثة هي طلب الغوث (1)، فالمستغيث طالب للغوث من المستغاث به، والاستغاثة تكون على ضربين: (1) أن يكون المستغاث منه ممكناً للخلق أن يغيثوا منه. (2) أن لا يكون ذلك في قدرة أحد إلا الله تعالى. فالأول: واضح لا إشكال فيه ولا خلاف في جوازه. وأما الثاني فإنّ الإنسان إذا استغاث بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله يكون قد أشرك بالله تعالى، إذ إجابة المضطرين على هذا النحو من خصائص ربوبية الله تعالى كما قال: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ [النمل: 62]، وقال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 4 - 5]، وقال تعالى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 13 - 14].فقد حكم الله بضلال من يدعو من لا يستجيب له، ثم بين أن له الملك وحده، وأن غيره لا يملك شيئاً فوجب إذاً أن يدعى الله وحده، ثم حكم أن المدعوين من دونه لا يسمعون إما لموتهم أو نحو ذلك، ولو سمعوا ما استجابوا وقد سمى الله ذلك شركاً (2).فعلى هذا تكون الاستغاثة المنفية عن غير الله نوعين (3): الأولى: الاستغاثة بالميت مطلقاً في كل شيء. والثانية: الاستغاثة بالمخلوق الحي فيما لا يقدر عليه إلا الخالق. ومما تقدم يعرف الفرق بين التوسل بدعاء الشخص وبين الاستغاثة به، فالمستغاث به مطلوب مدعو، وأما المتوسل به فهو غير مطلوب ولا مدعو، وإنما يطلب به، والمستغيث كذلك طالب من المستغاث به، بخلاف توسله بالشخص فإنه طالب به لا منه، وإنما يطلب من الله تعالى وحده ويفرده بالدعاء والمسألة في أن يقبل شفاعة المتوسل به (4). الأمر الثاني: مما فيه قلب الحقائق: فإنهم ذكروا أن الدعاء الوارد في الآيات إنما هو عبادة لا طلب ومسألة، وفرق بين العبادة والمسألة (5) ومقصودهم من هذا التفريق: أن دعاء المسألة لا شرك فيه، ولو كان السائل ينادي ميتاً أو غائباً أو جماداً، إذ الدعاء - الذي هو الطلب - ليس من العبادة! والجواب من وجهين: الوجه الأول: لا شك أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة ودعاء مسألة - والإضافة هنا بيانية أي الدعاء الذي هو عبادة، والدعاء الذي هو السؤال والطلب، والفرق بينهما هو كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ...   (1) انظر ((الدر النضيد للشوكاني)) (ص: 144) ضمن الرسائل السلفية. (2) انظر ((الرد على شبهات المستغيثين بغير الله)) لأحمد بن إبراهيم بن عيسى النجدي ((ص: 41 - 42). (3) انظر ((القول الفصل النفيس في الرد على ابن جرجيس)) (ص: 179)، وانظر ((تطهير الاعتقاد)) (ص: 25). (4) انظر ((الاستغاثة والرد على البكري)) (ص: 190) و ((غاية الأماني في الرد على النبهاني)) (2/ 291). (5) انظر هذه الشبهة في ((الدرر السنية)) (ص: 34) و ((رسالة قوة الدفاع والهجوم)) (ص: 22). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 دعاء العبادة يكون الله هو المراد به، فيكون الله هو المراد، ودعاء المسألة يكون (الله هو) المراد منه، كما في قول المصلي: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] فالعبادة إرادته، والاستعانة وسيلة إلى العبادة، (فإرادة العبادة): إرادة المقصود، وإرادة الاستعانة: إرادة الوسيلة إلى المقصود، ولهذا قدم قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وإن كانت لا تحصل إلا بالاستعانة، فإن العلة الغائية مقدمة في التصور والقصد، وإن كانت مؤخرة في الوجود والحصول، وهذا إنما يكون لكونه هو المحبوب لذاته" (1). ودعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، ودعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، وذلك يتضح بالآتي: وهو أن دعاء المسألة: طلب الداعي ما ينفعه، وطلبه كشف ما يضره أو دفعه عنه قبل وقوعه، والضر والنفع مالكهما هو الله سبحانه، ومالك الضر والنفع هو المعبود لا غيره، ولهذا عاب الله تعالى من يعبد ما لا يملك ضراً ولا نفعاً وبهذا يظهر أن العابد لابد أن يكون راجياً من معبوده نفعاً وطالباً منه كشف الضر أو دفعه ويفزع إليه في ذلك - وهذا من تمام عبوديته - فإذاً إن عبوديته لله تستلزم أن يسأل الله تعالى ويدعوه، وفي سؤاله لله تعالى قد جمع أنواعاً من العبادة: منها: إسلام الوجه له تعالى ورغبته إليه والاعتماد عليه والخضوع والتذلل له وحده، لهذا كان دعاء المسألة متضمناً لدعاء العبادة (2). وعليه بطل قولهم في أن دعاء المسألة ليس بعبادة. الوجه الثاني: هذا الذي ذكروه من أن الدعاء ليس بعبادة قول مخالف لكتاب الله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقول الأئمة ولقول المتقدمين من الأشاعرة ومنهم الرازي الذي صرح بأن الدعاء هو أعظم العبادات. ثم إن الله نص على أن دعوة المشركين لشركائهم دعاء مسألة من الشرك به، وذلك بعد بيانه أنه مالك كل شيء وأن من دونه لا يملكون شيئاً فقال: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر 13 - 14]- قول: لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ صريح في أن الدعاء كان دعاء مسألة، ثم وصفه بكونه شركاً بقوله: يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وهذا رد على زعم من يقول إن دعاء المسألة ليس بعبادة (3). الشبهة الثانية: دعوهم أن الإنسان إذا دعا غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله لا يكون مشركاً إلا إذا اعتقد أن لغير الله تأثيراً أو اعتقد الألوهية لغير الله. فمن أقوالهم في هذه المسألة: "فالذي يقدح في التوحيد هو اعتقاد التأثير لغير الله أو اعتقاد الألوهية واستحقاق العبادة لغير الله، وأما مجرد النداء من غير اعتقاد شيء من ذلك فلا ضرر فيه" (4). والجواب: هذه الشبهة تدور حول مسألتين: الأولى: أن ذلك الدعاء لا يكون شركاً إلا إذا صاحبه اعتقاد التأثير لغير الله. الثانية: أو إذا صاحبه اعتقاد الألوهية واستحقاق العبودية لغير الله.   (1) ((النبوات)) (ص: 136) وما بين العلامتين () فزيادة مني للإيضاح. (2) ((الرد على شبهات المستغيثين بغير الله)) - للشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى (ص: 47). (3) انظر ((الرد على شبهات المستغيثين بغير الله)) (ص: 41). (4) ((الدرر السنية)) (ص35) وانظر ((شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق)) (ص: 150) و ((رسالة قوة الدفاع والهجوم)) (ص: 18) و ((مفاهيم يجب أن تصحح)) (ص: 21 - 25، 95). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 أما الأولى: فالجواب عليها من وجهين: الوجه الأول: لا نسلم أن من لجأ إلى غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله أنه لم يعتقد فيه التأثير - وإلا فما الذي ألجأه إلى أن يستغيث به ويدعوه؟ وقد تقدمت أدلة وافية تفيد أن من أسباب الشرك: الغلو في الصالحين - وإساءة الظن برب العالمين، (1) فبمجموع الأمرين يقع الشرك فالذي دعا غير الله تعالى رائده في ذلك: اعتقاده في مدعوه التأثير وظنه أن الله لا يستجيب له لكثرة ذنوبه ومعاصيه. وخير من قول دحلان قول الشيخ محمد عبده: "فالإشراك اعتقاد أن لغير الله أثراً فوق ما وهبه الله من الأسباب الظاهرة، وأن لشيء من الأشياء سلطاناً على ما خرج عن قدرة المخلوقين، وهو اعتقاد من يعظم سوى الله مستعيناً به فيما لا يقدر العبد عليه كلاستنصار في الحرب بغير قوة الجيوش، والاستشفاء من الأمراض بغير الأدوية التي هدانا الله إليها، والاستعانة على السعادة الأخروية أو الدنيوية بغير الطرق والسنن التي شرعها الله لنا، هذا هو الشرك الذي كان عليه الوثنيون ومن ماثلهم، فجاءت الشريعة الإسلامية بمحوه ورد الأمر فيما فوق القدرة البشرية والأسباب الكونية إلى الله وحده" (2)، فهذا إثبات واضح للتلازم الذي ذكرناه. الوجه الثاني: إنه لو سلم - جدلاً - أن المستغيث بغير الله تعالى قصده أن يتخذ مدعوه واسطة بينه وبين الله دون أن يعتقد تأثيره - فهذا باطل أيضاً، إذ هذا هو قصد المشركين الأوائل الذين أقروا لله تعالى بالوحدانية في الربوبية واتخذوا وسطاء بينهم وبين الله تعالى (3) كما قال الله عنهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3]. وقال: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ [يونس: 18].وقد تقدم قول الرازي في صور اتخاذ الشفعاء عند الله، وإنكاره ما رآه من أهل زمانه من تعظيم قبور الأكابر، وعده له نظير ما فعل عباد الأصنام، ويضاف إليه كذلك قول التفتازاني - فإنه بعدما ذكر التوحيد بدأ يعدد أصناف المشركين الذين يعتقدون وجود تأثير للكواكب ونحوها - فذكر منهم عباد الأصنام وأن عبادها لا يعتقدون فيها كونها مؤثرة مدبرة فقال: "وأما الأصنام فلا خفاء في أن العاقل لا يعتقد فيها شيئاً من ذلك - (قال) فلهم في ذلك تأويلات باطلة" فذكر خمسة تأويلات، فقال عن التأويل الخامس: "الخامس: أنه لما مات منهم من هو كامل المرتبة عند الله تعالى اتخذوا تمثالاً على صورته وعظموه تشفعاً إلى الله تعالى وتوسلاً" (4). وأما المسألة الثانية من الشبهة وهي: أن الإنسان يعتبر مشركاً كذلك إذا اعتقد الألوهية واستحقاق العبادة لغير الله. فالجواب: قد تقدم معنى الألوهية، ومعنى العبادة - وبه يظهر أن من صرف شيئاً منها لغير الله يعتبر مشركاً. ومن كلامهم يظهر مدى تقصيرهم في معرفة العبادة - فهم لا يعدون الدعاء من العبادة، وهذا قد وقع فيه المتأخرون، وإلا فقد تقدم النقل عن بعض كبار الأشاعرة في أن الدعاء هو أعظم أنواع العبادة. وعليه فإنه يقال: إن من دعا غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله يكون قد اعتقد الألوهية لغير الله تعالى فعلاً وإن لم يسمها بذلك لفظاً. المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف - 1/ 185   (1) انظر مثلاً قول محمد النور في كتابه ((طبقات ود ضيف الله)) (ص: 273) فإنه قال عن أحد المشايخ: (ولقد أعطاه الله الدرجة الكونية وهو لغة: كن فيكون!) اهـ. فهذا يدل على أن أولئك المريدين لجأوا إلى أولئك المشايخ! بالدعاء والخشية وغير ذلك، لاعتقادهم فيهم أوصاف الربوبية، التي عبر عنها هؤلاء باعتقاد التأثير. (2) ((رسالة التوحيد)) للشيخ محمد عبده (ص: 75). (3) ((انظر الصواعق المرسلة الشهابية لابن سحمان)) (ص: 128، 135) وانظر ((كشف الشبهات في التوحيد)) للشيخ محمد بن عبدالوهاب (ص: 15). و ((القول الفصل النفيس في الرد على المفتري داود بن جرجيس)) تأليف الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ص: 38 - 39). (4) ((شرح المقاصد)) (4/ 41 - 42). انظر ((التنبيه المتقدم)) (ص: 11). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 المبحث الخامس: الدليل المعتمد في إثبات استحقاق الله تعالى للعبودية دون ما سواه يرى الأشاعرة أن الدليل المعتمد في هذه المسألة هو الدليل النقلي فقط، بمعنى أن العقل لا يعلم به حسن توحيد العبادة، ومن أقوالهم في ذلك: قال التفتازاني بعد حكاية مقالات المشركين ومذاهبهم: "وبالجملة فنفي الشركة في الألوهية ثابت: عقلاً وشرعاً، وفي استحقاق العبادة: شرعاً وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ." اهـ (1). ويعني بنفي الشركة في الألوهية عدم وجود رب آخر، أي أن صانع العالم واحد، كما هو معروف في مباحثهم – وهو الظاهر من صنيعه إذ أورد قوله هذا بعد مبحث إثبات أن صانع العالم واحد. أما توحيد العبادة فلا يثبت إلا بالنص كما قال: "وبالجملة فنفي الشركة .... ثابت ... في استحقاق العبادة: شرعاً". ومقصوده نفي تحسين العقل له. ويرجع السبب في اختيار الأشاعرة لهذه الطريقة في إثبات استحقاق الله للعبادة ونفي الشرك عنه فيها لأمرين: الأول: أن العقل ليس له مدخل في التحسين والتقبيح. الثاني: وهو أن العذاب على مخالفة التوحيد في العبادة لا يثبت إلا بعد إقامة الحجة الرسالية. والجواب: 1 - إن للعقل مدخلاً في معرفة حسن التوحيد وقبح الشرك – وذلك للأدلة التي تقدمت في تقرير الله تعالى للمشركين بإثباتهم الربوبية ليثبتوا له الألوهية، فلو لم يكن ذلك يعلم بالعقل لما قررهم، ولاكتفى بأمرهم بالتوحيد ونهيهم عن الشرك. 2 - وأما مسألة ترتب العقاب والعذاب على ترك التوحيد فهذا حقاً لا يثبت إلا بعد قيام الحجة الرسالية لعموم قوله الله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15] – وقد تقدم الكلام على هذه المسألة بما أغنى عن الإطالة فيها في هذا الموضوع. وقد يفهم من صنيع التفتازاني بإيراده الآية: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31]. أن الدليل منحصر في الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك دون أن يكون للعقل مدخل في معرفة حسن التوحيد وقبح الشرك. وجوابه: إن الآية لا تدل على ذلك بأي نوع من أنواع الدلالات، كيف وقد قام الدليل على خلافه، فمن ذلك قول الله تعالى: ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 28]. فالمثل المضروب قياس عقلي – وهو قياس الأولى – ثم ختمه بقوله لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فهذا يؤكد أن للعقل مدخلاً في معرفة حسن التوحيد وقبح الشرك. ويبدو أن موقف الرازي أفضل من هذا بكثير إذ هو يرى أن العقل يشهد بأن العبادة وهي غاية التعظيم لا تليق إلا بمن له غاية الإنعام والإحسان، وهذا هو تحسين العقل فقال: "ولما كان الباري سبحانه وتعالى هو المعبود في الحقيقة لا جرم سمي إلهاً، وكيف لا يقول: إنه مستحق للعبادة، وقد بين أنه تعالى هو المنعم على جميع خلقه بوجوده الإنعامات، والعبادة غاية التعظيم، والعقل يشهد بأن غاية التعظيم لا يليق إلا بمن صدر عنه غاية الإنعام والإحسان، وإليه الإشارة بقوله سبحانه وتعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ [البقرة: 28] .... (إلى أن قال): "إنه تعالى إنما استحق أن يكون معبوداً للخلق لأنه خالقهم ومالكهم، وللمالك أن يأمر وينهى، وأيضاً أصناف نعمه على العبد خارجة عن الحد والإحصاء كما قال تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا [النحل: 18]، وشكر النعمة واجب" (2).وهذا الكلام أحسن من كلام التفتازاني إذ هو أقرب إلى ما تدل عليه الأدلة والله أعلم (3). المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف – 1/ 197   (1) ((شرح المقاصد)) للتفتازاني (4/ 42). (2) ((شرح أسماء الله الحسنى)) للرازي (ص: 125). (3) وقد يذكر الرازي في بعض كتبه غير هذا، فانظر – مثلاً – ((المحصول في أصول الفقه)) له (1/ 147 - 157). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 المبحث السادس: منع المتأخرين من الأشاعرة حمل الآيات التي نزلت في المشركين على من عمل عملهم ممن انتسب إلى الإسلام فمن أقوالهم قول دحلان: "وتمسك (1) في تكفير المسلمين بآيات نزلت في المشركين فحملها على الموحدين" (2). والجواب: هذه الشبهة مبناها على أن الشرك لا يتم إلا إذا اعتقد الإنسان التأثير لغير الله تعالى، ويعنون به الشرك في الربوبية، وقد تقدم الرد على هذا الزعم سابقاً بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وإذا ألزموا بعبارات صريحة مفادها أن المستغيث بغير الله يعتقد تأثير من استغاث به حملوا ذلك على المجاز. وقالوا إنه لا يتصور من مسلم ذلك، وجعلوا القرينة الصارفة للمجاز هي: إقرار من فعل ذلك الفعل بالشهادتين (3). فالكلام معهم إذاً في مسألتين: الأولى: الأدلة على تعميم الآيات. الثانية: رد شبهة المجاز العقلي. المسألة الأولى: الأدلة على تنزيل الآيات التي نزلت في المشركين على من أشبه حالتهم اليوم:   (1) ويعني به الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، وأحمد دحلان قد افترى على الشيخ بهذا الكلام فإنه لم يحمل قط الآيات التي نزلت في المشركين على الموحدين، ولكن الأمر هو في أناس عملوا أعمال المشركين فدخلوا في عموم الآيات، وأما قضية التكفير فللشيخ رحمه الله تفصيل حسن ذكره وبينه الشيخ صالح العبود في كتابه: ((عقيدة الشيخ محمد بن عبدالوهاب السلفية)) من (ص: 206 إلى 215). (2) ((الدرر السنية)) لدحلان (ص: 51) و ((انظر رسالة قوة الدفاع والهجوم)) (ص: 22). (3) انظر ((الدرر السنية)) (ص: 16 - 17) و ((شواهد الحق)) للنبهاني (ص: 150) ((رسالة قوة الدفاع والهجوم)) (ص: 16 - 17). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 والأدلة في هذا المجال كثيرة جداً – فمنها: قول الله تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذكرم بِهِ وَمَن بَلَغَ [الأنعام: 19] والخطاب من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لقومه إن الله قد أوحى إلي هذا القرآن لأنذكرم به وأنذر من بلغه غيركم من المشركين فقوله: وَمَن بَلَغَ يشمل من كان في عصره ومن جاء بعد ذلك. ومن قال بخلاف ذلك فقد عطل الرسالة. ومنها قول الرسول صلى الله عليه وسلم ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد يحذر ما صنعوا)) (1). فتحذير الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من فعل اليهود والنصارى يدل على أن من عمل عملهم فقد شابههم ويعمه الحكم الذي ورد فيهم من اللعن. والأدلة في هذه المسألة كثيرة جداً، والمتتبع لآيات الكتاب يجدها وردت بألفاظ عامة، فوجب حملها على عمومها، كيف وإذا كان جماهير أهل العلم – بمن فيهم الأشعرية – يرون أن اللفظ العام إذا ورد بسبب خاص أنه يعم حكمه (2)، فكيف بهذه المسألة التي عم بها البلاد ووقع فيها طوائف من الخلق! وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لمن طلب منه أن يجعل لهم ذات أنواط: ((قلتم كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة)) (3). فهذا واضح في تعميم الحكم على من أشبه عمله عمل المشركين. فقصر الآيات على من نزلت فيهم يعد جهلاً بحقيقة الرسالة ومقصودها وبحكمة التكليف (4). المسألة الثانية: شبهة المجاز العقلي: ومقصودهم أن من دعا غير الله تعالى فإنه لا يعتقد تأثيره، فإذا ورد لفظ صريح وصفوه بأنه موهم فقالوا: "فإن قال قائل: إن شبهة هؤلاء المانعين للتوسل أنهم رأوا بعض العامة يأتون بألفاظ توهم أنهم يعتقدون التأثير لغير الله تعالى، ويطلبون من الصالحين أحياءً وأمواتاً أشياءً جرت العادة بأنها لا تطلب إلا من الله تعالى ... (إلى أن قال) مع أن تلك الألفاظ الموهمة يمكن حملها على المجاز ... " (5). الجواب: 1 - إن الألفاظ التي يقولها هؤلاء المشار إليهم ليست موهمة بل هي صريحة، يعرف ذلك كل من خالطهم ورأى عملهم وسمع قولهم، وإنما عبر بقوله موهمة ليتسنى له القول بالمجاز العقلي! 2 - لقد تقدمت الإجابة عن مسألة اعتقاد التأثير – مع أنه لا يتصور فيمن رأيناه يعمل هذه الأعمال الشركية عدم اعتقاد التأثير! ثم إنه على فرض عدم وجوده فخضوعه وتذلله ورجاؤه وغير ذلك من أنواع العبودية التي لا ينبغي إلا لله يصرفها للذي يدعوه من دون الله، وذلك وحده كاف في إثبات الشرك.3 - قد تقدم أن أقوال المشار إليهم صريحة ونص في مسائل الشرك، ومعلوم أن المجاز لا يدخل على النص، فإن أدخل ترتبت مفاسد كثيرة منها: عدم التمكن من الحكم بالردة على أحد ممن يفعل ما يرتد به (6)! 4 - ثم على فرض أن أقوالهم ليست نصاً فهي ظاهر، ويجب حمل الشيء على ظاهره إلا أن يدل على حمله خلاف ظاهره – ومعلوم أن الاطلاع على بواطن الناس ومقاصدهم مما لا سبيل لنا إلى العلم به فيبقى إجراء أقوالهم على ظاهرها هو المتعين – خاصة وقد ثبت التلازم بين اعتقاد التأثير والعبودية – وقد قال عمر رضي الله عنه قولة مشهورة في هذا الأمر فقال: ((إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً أمناه وقريناه وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسب سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة!)) (7).5 - إن المدافع عن أقوال هؤلاء العوام لا يمكنه أن يدافع عن أعمالهم، فإذا سلم له الدفاع عن أقوالهم فلا يمكنه أن يدافع عن أعمالهم كالذبح لغير الله والنذر لغيره ونحو ذلك فالأعمال لا يدخلها مجاز (8). وقد وقع ذلك كله من كثير من العوام. المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف – 1/ 202   (1) رواه البخاري (435,436) , ومسلم (531) من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما. (2) انظر ((شرح الكوكب المنير)) (3/ 177 - 178). (3) رواه الترمذي (2180) , والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 346) , من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه, قال الترمذي حسن صحيح, وقال ابن القيم في ((إغاثة اللهفان)) (2/ 418): ثابت, وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)) , وقال في ((جلباب المرأة)) (203): إسناده صحيح على شرط الشيخين. (4) انظر ((تحفة الطالب والجليس في كشف شبه ابن جرجيس)) للشيخ عبداللطيف (ص: 58، 87). (5) ((الدرر السنية)) لدحلان (ص: 15) وانظر ((شواهد الحق للنبهاني)) (ص: 150). (6) انظر ((صيانة الإنسان)) (ص: 214) و ((الصواعق المرسلة الشهابية)) لابن سحمان (ص: 136). (7) رواه البخاري (2641). (8) انظر ((صيانة الإنسان)) (ص: 214 - 215). و ((الصواعق المرسلة الشهابية)) لابن سحمان (ص: 137). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 المبحث السابع: تبرير متأخري الأشاعرة بعض صور الشرك بأدلة عقلية وهذه الأدلة العقلية أقيسة .. القياس الأول: وهو قياس الميت على الحي في الطلب منه والاستغاثة!: القياس الثاني: قياس الواسطة في العبادة على الواسطة في الرسالة! القياس الأول: وهو قياس الميت على الحي في الطلب منه والاستغاثة!:عقد النبهاني في كتابه (شواهد الحق) عدة فصول لإثبات دعوته في جواز الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم – مطلقاً حياً وميتاً وفي أي أمر من الأمور! – فعقد الفصل الأول، وسرد أدلةً فيه طلب الصحابة منه أن يدعو الله لهم بالسقيا (1) وسماه هو استغاثة (2)، ثم إنه في الفصل الثاني سرد أحاديث الشفاعة ليثبت جواز الاستغاثة به في الآخرة (3)، ثم قال مستدلاً على جوازها مطلقاً:" ... ودلالة ذلك على جواز الاستغاثة به وحسنها ونفعها بعد مماته أيضاً لوقوعها في حياته الدنيوية والأخروية" (4)، ثم أكد هو وغيره هذه المسألة بذكر حياة الأنبياء في قبورهم (5). والجواب: 1 - قد تقدم سابقاً أن الميت لا يسأل مطلقاً ولا يستغاث به، وأما الحي فيستغاث به فيما يقدر عليه، وعليه فلو سلم لهم قياسهم هذا لما صح لهم الاستدلال به على سؤال الموتى كل شيء – فإن كان المخلوق حياً لا يستطيعه فقياسهم يقتضي ألا يستطيعه ميتاً.2 - ثم إن الصواب هو عدم صحة قياس حياة البرازخ على الحياة الدنيا لاختلافهما، ولو استقام ذلك فليتخذوا الرسول صلى الله عليه وسلم إماماً يقتدي به في الصلاة! أوليستفتوه في المسائل وهكذا ... (6)! 3 - ثم إن كون الأنبياء أحياءً في قبورهم: لا يسوغ للناس أن يستغيثوا بهم حتى على فرض سماعهم كل شيء، - مع أنه لا سبيل إلى إثباته -. وإن سمى القائمون بهذا الفعل عملهم توسلاً، أي أنهم يدعونهم ليشفعوا لهم عند الله ويتوسلوا لهم – فيجعلون عملهم نوعاً من الأسباب التي يقبل بها الدعاء، فهذا خطأ لإنه لا يوجد دليل في الشرع لإثبات أن هذا النوع من العمل سبب في إجابة الدعاء (7)، ثم على فرض أن ما ذكره هؤلاء هو مقصود عباد القبور فإنهم يطالبون الفرق بينهم وبين شرك الأوائل تقدم نقل صور شركهم عن الرازي والتفتازاني وغيرهما من الأئمة، ولن يجدوا فرقاً. القياس الثاني: وهو قياس الواسطة في العبادة على الواسطة في تبليغ الرسالة: قالوا: "إن مراعاة جانب الله تعالى والمحافظة على توحيده إنما تكون بتعظيم من عظمه الله تعالى وتحقير من حقره الله تعالى، وقد جعلهم الله سبحانه وتعالى وسائط لنا في تبليغ شرائع دينه، فوسطناهم له عز وجل لقضاء حوائجنا تبعاً له في توسيطهم لنا في تبليغ شرائعه، والاحتفاظ لأنفسنا عن أن تكون أهلاً لطلب حوائجنا منه سبحانه وتعالى بلا وساطة لكثرة ذنوبنا ووفرة عيوبنا" (8).   (1) انظر ((شواهد الحق)) من (ص: 112 - 126). (2) وهذه من أخطاء القوم فإن الصحابة رضوان الله عليهم لم يستغيثوا بالرسول صلى الله عليه وسلم لينزل لهم الغيث وإنما طلبوا منه أن يدعو الله لهم ليغيثهم. (3) انظر ((شواهد الحق)) من (ص: 126 إلى 135). (4) ((شواهد الحق)) (ص: 126). (5) انظر ((الدرر السنية)) (ص: 14) و ((مفاهيم يجب أن تصحح)) (ص: 159 - 176). (6) انظر ((صيانة الإنسان)) (ص: 26). (7) انظر ((قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة)) (ص: 99، 274)، و ((القول الفصل النفيس في الرد على المفتري داود بن جرجيس)) للشيخ عبدالرحمن بن حسن (ص: 66). (8) ((شواهد الحق)) (ص: 52) ونقله محمد عثمان عبده البرهاني في كتابه: ((انتصار أولياء الرحمن على أولياء الشيطان)) (ص: 191). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 والجواب: إن هذا القياس هو قياس عباد الأصنام والأوثان وغيرها نفسه الذين زعموا أن ذنوبهم كثيرة وأنهم لا يصلون إلى مرادهم إلا بتوسط الأكابر والأعلى منزلة عند الله (1) قال تعالى: أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3]. وقياسهم هذا فاسد الاعتبار إذ هو قياس في مقابلة نصوص كثيرة حرمت هذا العمل وبينت أنه فعل المشركين كقوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: 18]، فدلت الآية على أن اتخاذ وسطاء في الدعاء والعبادة قدحٌ في علم الله تعالى وأنه شرك يتنزه الله عنه. وقال تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ ... [الرعد: 33] فدلت الآية على أن هذا العمل فيه قدح في الربوبية إذ فيه إثبات لقيام غير الله بشئون الخلق، وفيها بيان أنه قدح في علم الله. وقد حسم الله تعالى مادة هذا الشرك بقوله: قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء: 56 - 57]. وقال قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 22 - 23]. ولاشك أن واسطة المرسل بين الله وخلقه هي في تبليغ الرسالة من الله لخلقه ليقوموا لله رب العالمين بالعبادة ويتركوا عبادة غيره، لا أن يعبد الرسل أنفسهم، قال الله تعالى مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران: 79].وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كل ما يؤدي إلى تشريكه بالله كقوله لمن قال له: ((ما شاء الله وشئت فقال: أجعلتني لله نداً، قل: ما شاء الله وحده)) (2)، وكذلك كان ينهى عن اتخاذ قبره عيداً أو وثناً يعبد. فكل ذلك وغيره يدل على الفرق بين الواسطة في الرسالة والواسطة في العبادة (3). هذا وقد أعرضت عن أدلة أخرى يحتج بها من غرق في التصوف كالاحتجاج بالأحاديث الموضوعة والمنامات والإلهامات – إذ يكفي أن يقال عنها كلها: إنها مردودة – فأما الأحاديث الموضوعة فمردودة مطلقاً، وأما المنامات والإلهامات فإنه لا يثبت بها شرع مطلقاً، ولا تقبل إلا إذا جاءت موافقة للشرع، والأمر فيها كما قال في مراقي السعود: وينبذ الإلهام بالعراء ... أعني به إلهام الأولياء (4) قال شارحه عن الإلهام: "وليس بحجة لعدم ثقة من ليس معصوماً بخواطره لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان فيها" (5) اهـ. وقال: "وكذا من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم يأمره وينهاه لا يجوز اعتماده ... لعدم ضبط الرائي" (6) اهـ. المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف – 1/ 202   (1) انظر ذلك في ((أصل الشرك في بني آدم)) (ص: 95). (2) رواه أحمد (1/ 283) (2561) , والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 245) من حديث ابن عباس رضي الله عنه, بلفظ: (عدلاً) بدلاً من (نداً) والبخاري في ((الأدب المفرد)) (1/ 290) , قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/ 200): إسناده حسن, وقال أحمد شاكر في تحقيقه لـ ((مسند أحمد) (5/ 85): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)). (3) وانظر ((الواسطة بين الحق والخلق)) لشيخ الإسلام ((ضمن مجموعة التوحيد)) (1/ 116 - 121) و ((القول الفصل النفيس)) للشيخ عبدالرحمن بن حسن (ص: 91 - 184) و ((صيانة الإنسان)) (ص: 177 - 179) و ((الصواعق المرسلة الشهابية)) لابن سحمان (ص: 124 - 154). (4) ((مراقي السعود – مع شرحها نشر البنود – في أصول الفقه)) (2/ 261). (5) ((نشر البنود شرح مراقي السعود)) (2/ 262). (6) ((نشر البنود شرح مراقي السعود)) (2/ 262). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 المبحث الثامن: صلة الأشعرية بالصوفية، وأثر هذه الصلة يظهر من كتب الأشعرية والصوفية أن بينهما صلة قديمة، فقد ذكر أبو المظفر الإسفراييني في كتابه (التبصير في الدين) فصلاً بعنوان: "من فصول المفاخر لأهل الإسلام وبيان فضائل أهل السنة والجماعة وبيان ما اختصوا به من مفاخرهم" (1) فعدد العلوم التي يفضلون بها غيرهم فذكر منها: التصوف فقال: "وسادسها علم التصوف والإشارات وما لهم فيها من الدقائق والحقائق لم يكن قط لأحد من أهل البدعة فيه حظ بل كانوا محرومين مما فيه من الراحة والحلاوة والسكينة والطمأنينة .... " (2). ثم إن الحافظ ابن عساكر ذكر طبقات الآخذين عن الأشعري والمنتسبين إليه. وهي خمس طبقات، وفي كل طبقة يوجد من ينتسب إلى الصوفية، وسأكتفي بذكر واحد فقط في كل طبقة: فمن جملة من ذكر في الطبقة الأولى الآخذين عن أبي الحسن الأشعري: أبو عبدالله محمد بن خفيف. وفي الطبقة الثانية وهم من تلقى الأشعرية عن أصحاب الأشعري – ذكر أبا علي الدقاق. وفي الطبقة الثالثة: ذكر أبا ذر الهروي. ثم ذكر في الطبقة الرابعة: أبا القاسم القشيري. ثم ذكر في الطبقة الخامسة: أبا حامد الغزالي (3).ولاشك أن هؤلاء الخمسة الذين ذكرهم ابن عساكر فيهم من كان أكثر إثباتاً للصفات من غيره كابن خفيف وأبي ذر الهروي – وأكثر المذكورين من هؤلاء كان قد قيد علمه بالكتاب والسنة في الجملة فلم يكن كبقية الصوفية – وفي ذلك يقول ابن خفيف: "إني أحببت أن أذكر عقود أصحابنا المتصوفة فيما أحدثته طائفة نسبوا إليهم ما قد تخرصوا من القول بما نزه الله تعالى المذهب وأهله من ذلك ... " (4) إلى أن أتى لموضع أشار فيه ابن جرير الطبري إلى أن الصوفية يقولون برؤية الله في الدنيا والآخرة (5). قال ابن خفيف معلقاً على قول الطبري: "ونسب هذه المقالة إلى الصوفية قاطبة لم يخص طائفة، فبين أن ذلك على جهالة منه بأقواله المخلصين منهم" ... إلى أن قال بعد أن بين الصواب: "هذا قولنا وقول أئمتنا دون الجهال من أهل الغباوة فينا" (6).ومع هذا القول – وهو التفريق بين طوائف الصوفية – إلا أن الأمر قد تغير عند أبي حامد الغزالي الذي جمع في كتابه (إحياء علوم الدين) بين قواعد عقائد الأشعرية وبين جمل غامضة آيلة إلى وحدة الوجود، ويرى أن مرتبة الوحدة هي أعلى المراتب وأنه لا يجوز كشفها في كتاب إذ إفشاء سر الربوبية كفر (7).!!   (1) ((التبصير في الدين)) للإسفراييني (ص: 187). (2) ((التبصير في الدين)) للإسفراييني (ص: 192). (3) ((تبين كذب المفتري)) (ص: 291). (4) ((الفتوى الحموية الكبرى)) (ص: 81) وهي ضمن ((مجموع الفتاوى)) (5/ 78). (5) كلام الطبري نصه هكذا ... "وقال جماعة متصوفة – وممن ذكر عنه مثل ذلك ابن أخت عبدالواحد: الله جل وعز يرى في الدنيا والآخرة، وزعموا أنهم قد رأوه وأنهم يرونه كلما شاءوا" ((تبصير أولى النهى)) (ق23/ب). وكلامه ليس نصاً في نسبة ما ذكره إلى الصوفية قاطبة. (6) ((الفتوى الحموية الكبرى)) (ص: 82) وهي في ((مجموع الفتاوى)) (5/ 79). (7) انظر ((قواعد العقائد في إحياء علوم الدين)) (1/ 89 - 114)، و ((وحدة الوجود)) في الكتاب نفسه (4/ 91، 262 - 263). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 ثم مع تقدم الزمن كثر الجهل وانتشرت الصوفية وكثرت طوائفها، فتجد الشخص الواحد ينتمي إلى أبي الحسن الأشعري عقيدة وإلى الشافعي – مثلاً – مذهباً وإلى الصوفية طريقة وسلوكاً – وقد يحدد طريقته -، فلما كثر الجهل وفشا في الناس الشرك بالله في الاستغاثة والنذر والذبح وغير ذلك أنكر كبار أهل العلم ذلك وبينوا بطلانه وذرائعه التي أوقعت كثيراً من الناس فيه – ومن أولئك شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه ثم الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمهم الله جميعاً، فظهر من علماء الأشاعرة من يدافع عن العوام بحجة أن فعلهم: توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو الولي!! وفيما يلي طائفة من علماء الأشاعرة الذين ارتبطوا ارتباطاً وثيقاً بالصوفية أو دافعوا عن أفعالهم: 1) السبكي: وقد ألف كتابه: (شفاء السقام في زيارة خير الأنام)، يرد به على شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة شد الرحال، وقد رد عليه الحافظ ابن عبدالهادي في كتابه: (الصارم المنكي). 2) ابن حجر الهيتمي: وقد ألف كتابه: (الجوهر المنظم في زيارة النبي المعظم) – يرد به على شيخ الإسلام ابن تيمية كذلك. فهذان العالمان الأشعريان قد تكلما في مسألة هي من أكبر ذرائع الشرك، بل قد ذكرا جواز المجيء إلى القبر النبوي لطلب الاستغفار والتشفع والاستغاثة به (1).3) ابن عاشر: وقدر أشار في نظمه: المرشد المعين (2): إلى ارتباط الأشعرية بالصوفية فقال: وبعدُ فالعونُ من اللهِ المجيد ... في نظم أبيات للأمي تفيد في عقد الأشعري وفقه مالك ... وفي طريقة الجنيد السالك ثم قال شارحه: "أخبر أن نظمه هذا جمع مهمات العلوم الثلاثة وهي: العقائد والفقه والتصوف، المتعلقة بأقسام الدين الثلاثة وهي: الإيمان والإسلام والإحسان. (3) " اهـ.4) الباجوري، وقد ذكر في آخر شرحه تحفة المريد على جوهرة التوحيد شيئاً من مبادئ التصوف، وقد نقل كلاماً غريباً هو فتح لباب دعاء الموتى والاستغاثة بهم لقضاء الحوائج فقال: "قال الشعراني، ذكر لي بعض المشايخ أن الله تعالى يوكل بقبر الولي ملكاً يقضي الحوائج، وتارة يخرج من قبره ويقضيها بنفسه!!." (4) اهـ. ولم يتعقبه بشيء – إلا محشي الكتاب فقد تعقبه – فهذا الكلام فتح صريح للشرك.5) محمد الأمير وهو صاحب الحاشية المشهورة على شرح جوهرة التوحيد، وقد ذكر عن نفسه بعد فراغه من حاشيته على شرح الجوهرة التي هي في عقيدة الأشاعرة أنه مالكي المذهب شاذلي الطريقة فقال: "يقول من لا قول له: محمد الأمير المصري الأزهري المالكي الشاذلي: وافق الكمال ليلة ... " (5) الخ.   (1) قال السبكي في كتابه: ((شفاء السقام)) (160 - 161): "اعلم أنه يجوز ويحسن التوسل والاستغاثة والتشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه سبحانه وتعالى ..... وجواز ذلك من الأمور المعلومة لكل ذي دين .... حتى جاء ابن تيمية فتكلم في ذلك بكلام ليس فيه على الضعفاء الأغمار ... وحسبك أن إنكار ابن تيمية للاستغاثة والتوكل قول لم يقله عالم قبله"!! اهـ. (2) ((المرشد المعين)) (ص: 6) مع شرحه الحبل المتين. (3) ا ((لحبل المتين شرح المرشد المعين)) (ص: 7). (4) ((تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد)) (ص: 153). (5) ((حاشية الأمير على شرح جوهرة التوحيد)) (ص: 160). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 6) أحمد دحلان وهو شافعي المذهب، أشعري العقيدة، ألف كتابه: (الدرر السنية في الرد على الوهابية) فيه مسائل خطيرة شنيعة في الشرك في الألوهية كما سيأتي عند عرض الشبهات إن شاء الله.7) النبهاني، وهو شافعي المذهب، شاذلي الطريقة، أشعري العقيدة، ألف كتابه (شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق) ونص فيه على أن الأشعرية والماتريدية مذهبان لأهل السنة! (1):- وقد حشد في كتابه المذكور أقوالاً شنيعة صريحة في الشرك في الألوهية.8) محمد الطاهر يوسف – وهو صوفي أشعري معاصر – ألف رسائل منها: "رسالة قوة الدفاع والهجوم"، قال في مقدمة رسالته: "رسالة قوة الدفاع عن أولياء الله والنبي المعصوم، والهجوم على أنصار فرق الشيطان المرجوم، وهم أنصار الفرق المعتزلة عن السنة المحمدية (2) والمستخفة والمستنقصة لقدر سيدنا محمد خير البرية صلى الله عليه وسلم والمكفرة لأولياء الله أهل المقامات العلية رضوان الله عليهم بكرة وعشية. تأليف عبيد ربه محمد بن الطاهر بن يوسف الفاني، المالكي الأشعري التجاني" (3).9) محمد علوي المالكي – وهو معاصر -، الذي صنف كتاباً سماه: (مفاهيم يجب أن تصحح)، قال في كتابه المذكور: (التصوف ذلك المظلوم المتهم قليل من ينصفه ... ) (4) وقال: "الأشاعرة هم أئمة أعلام الهدى من علماء المسلمين" (5). فما تقدم نماذج من ارتباط الأشعرية بالصوفية – والأمثلة كثيرة، والمقصود التمثيل – وكما تقدم فإن الواقع اليوم شاهد على هذه العلاقة. الأول: ما علاقة الأشعرية الصوفية المتقدمة مع الأشعرية الصوفية المتأخرة؟ والسؤال الثاني: هل ينسب ما وقع فيه الصوفية اليوم في بعض صور الشرك إلى الأشعرية كلها – ولو كان ذلك في بعضهم؟ أما الجواب عن السؤال الأول: فهو كما تقدم أن المتقدمين من هؤلاء الصوفية المنتسبين إلى الأشعرية لم يكن تصوفهم كتصوف الملاحدة والباطنية ودعاة وحدة الوجود والاتحاد والحلول، بل لا يعرف عنهم الوقوع في شرك العبادة كما حصل عند المتأخرين، فالعلاقة إذاً في الاسم العام. ثم حصل التدرج في الضلال كما في مرحلة الغزالي ثم من جاء بعده على أن استقر الأمر على ما هو عليه في العصور المتأخرة التي نعيشها حيث الشرك الصريح في العبادة، فإذا ألف أشعري كتاباً على نهج الأشعرية ذيل كتابه بالتصوف، وقد يوجد منه نقد لبعض الأخطاء الجسيمة في الربوبية والبدع إجمالاً ولا ينبه على الخطأ في الألوهية (6)، وقد يؤلف آخر مدافعاً عن ما يفعله الناس من الشرك من الألوهية باسم التوسل والتبرك! والبدع كالموالد وغير ذلك، ثم ينص على بعض الفضلاء من الصوفية كالجنيد وعبدالقادر الجيلاني ويفر من ذكر الحلاج وابن الفارض!! وغيرهما دون ذم أو مدح، مع وجود تأثيرها على الصوفية في هذه العصور .. !! وإن كان يوجد قليل ممن رأيتهم – وقد يوجد غيرهم – ممن لا يقع في شرك العبادة، وسيأتي الكلام عليهم في الجواب عن السؤال الثاني إن شاء الله. الجواب عن السؤال الثاني:   (1) انظر ((شواهد الحق)) في (ص: 72). (2) وهو بهذا يعرض بأنصار السنة المحمدية بالسودان – إذ الكتاب طبعه مؤلفه في الرد عليهم وقد افترى عليهم كثيراً – كما يظهر في مقدمته المنقولة أعلاه. (3) ((رسالة قوة الدفاع والهجوم)) (ص: 1)، وهي كذلك في آخر صفحة من الكتاب. (4) في (ص: 35) – تحت عنوان: دعوة أئمة التصوف إلى العمل بالشريعة! (5) في (ص: 38) تحت عنوان: حقيقة الأشاعرة! (6) انظر مثالاً لهذا في)) شرح جوهرة التوحيد للباجوري ((من (ص: 209 إلى آخر الكتاب). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وهو أنه لا يمكن نسبة صور الشرك التي ظهر بعضها إلى كل الأشعرية المتقدمين منهم والمتأخرين، إذ المتقدمون على خلاف هذا الأمر ولكن تبقى مسألة التبني العام للصوفية – كما ذكر الإسفراييني – مؤثرة في قبول ما عليه التصوف عند المتأخرين! أما المتأخرون فهم قسمان: قسم صرح بالقول بجواز بعض صور الشرك كالنذر لغير الله والطواف بقبور الصالحين والاستغاثة بغير الله، كما سيأتي النقل عنهم عند عرض شبههم إن شاء الله. وقسم لم يصرح بذلك – وقد رأيت بعضهم – وهم قليل جداً – ولكنهم لم يجاهروا بالإنكار قولاً ولا فعلاً مع سماعهم نسبة التصوف بجميع طوائفه إلى الأشعرية وإخوانهم الماتريدية. ولا شك أن أمثال هؤلاء داخلون في عموم الوعيد المذكور في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران: 187] – كيف وقد ينتسب بعضهم إلى التصوف فيشتغل ببعض البدع غير المكفرة – فيزداد إيهامه للناس بنسبته إلى التصوف فيغتروا به فيستحسنوا عندئذ ما هم عليه من الشرك. فخلاصة الأمر هو أن المتقدمين من الأشاعرة لم يظهر منهم ما يخالف توحيد الألوهية، بل ثبت أن بعضهم أنكر بعض مظاهر الشرك التي تحدث عند القبور كالرازي وأبي شامة – أما الأشعرية المتأخرة فيمكن نسبة بعض المخالفات إليهم إما وقوعاً منهم فيها أو سكوتاً عنها إذا رأوا غيرهم يقع فيها، ومثل هذا يعد تغيراً وزيادة انحراف في المنهج الأشعري تجب مراعاته إذ تغير الفرق أمر وارد، فيجب الإنكار اليوم على الأشعرية في هذه المسألة كما أنكر عليهم سلفاً ما تكلموا فيه من مسائل الصفات. المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف – 1/ 162 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 المبحث الأول: المسائل المتعلقة بالأسماء الحسنى عند الأشاعرة إثبات أسماء الله تعالى الواردة من مسلمات الأشاعرة، وقد حرصوا على التأليف فيها، وإن كان ذلك – في الغالب – بسبب ما حدث بين الأشاعرة والتصوف من ارتباط، وعناية الصوفية بأسماء الله – وما يزعمون من أسرارها – معروف. وممن كتب في أسماء الله ومعانيها من الأشاعرة:1 - أبو سليمان الخطابي، ضمن كتابه (شأن الدعاء) (1).2 - الحليمي، ضمن كتابه (المنهج في شعب الإيمان) (2).3 - البيهقي، في كتابه (الأسماء والصفات) (3). وقد اعتمد في شرحه على الكتابين السابقين. 4 - القشيري في كتابه (شرح أسماء الله الحسنى). 5 - الغزالي في كتابه (المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحنسى). 6 - الرازي في كتابه (لوامع البينات، شرح أسماء الله تعالى والصفات).وهذه كلها مطبوعة، وللقرطبي كتاب مشهور في الأسماء والصفات لا يزال مخطوطا، كما أن لكل من أبي بكر بن العربي, والواحدي كتابا في هذا الموضوع. كما أن بعض الأشاعرة قد يشيرون إلى معاني أسماء الله في كتبهم (4). وليس للأشاعرة أقوال متميزة فيما يتعلق بأسماء الله تعالى في الجملة، وما يقع من خلاف في بعض مسائلها قد يشاركهم فيه غيرهم، ولذلك فلا داعي للاطالة في مباحث هذه المسألة، ويمكن الإشارة إلى أمرين: أحدهما: ما وافق فيه جمهور الأشاعرة جمهور السلف، ومن ذلك قولهم:1 - أن أسماء الله تعالى توقيفية، وقد ذكر ذلك غالب الأشاعرة، وخالف فيه الباقلاني (5). بل بعض من ذكر أنها توقيفية خالف في ذلك عمليا فذكر بعض الأسماء التي لم ترد في الشرع – كما سيأتي -.2 - أن أسماء الله تعالى ليست جامدة، ولذلك حرص العلماء على شرحها، وبيان معانيها وذكر ما دلت عليه من صفات الله تعالى، وقد رد شيخ الإسلام وأغلظ على ابن حزم الذي زعم أن أسماء الله بمنزلة أسماء الأعلام التي لا تدل على معنى (6).3 - أن أسماء الله تزيد على التسعة والتسعين، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة، خلافا لابن حزم وطائفة. وما ورد من ذكر تعداد التسعة والتسعين فهو من إدراج بعض الرواة (7). والحديث بأصله، وبزياداته – لو صحت – لا تعارض ذلك، وقوله ((من أحصاها)) المقصود به أن هذه الأسماء من أحصاها دخل الجنة، وليس معناه أنه ليس له اسم إلا هذه، كما هو واضح (8). وثانيهما: أن بعض الأشاعرة خالفوا جمهور السلف في بعض المسائل، ومن ذلك:1 - أن بعض الأشاعرة أطلقوا بعض الأسماء لله وإن لم ترد بها نص ولا إجماع، وذلك كاسم القديم، والذات وغيرها (9). وقد ناقش شيخ الإسلام هؤلاء ذاكرا الخلاف في ذلك فقال: إن المسلمين في أسماء الله تعالى على طريقتين: كثير منهم يقول: إن أسماءه سمعية شرعية، فلا يسمى إلا بالأسماء التي جاءت بها الشريعة، فإن هذه عبادة، والعبادات مبناها على التوقف والاتباع.   (1) (ص: 23 - 113). (2) (1/ 187 - 210). (3) (ص: 3 - 95). (4) كالجويني في ((الإرشاد)) (ص: 143 - 155)، والبيهقي في ((الاعتقاد)) (ص: 54 - 69)، وفي ((الجامع لشعب الإيمان)) (1/ 283 - 335) – ت عبدالعلي حامد، و ((المجرد)) لابن فروك – (ص: 42 - 57). (5) انظر: ((المقصد الأسنى للغزالي)) (ص: 167)، و ((شأن الدعاء)) (ص: 111)، و ((لوامع البينات للرازي)) (ص: 36)، وانظر: ((المجرد)) لابن فورك (ص: 42). (6) انظر: ((شرح الأصفهانية)) (ص: 76 - 77) – ت مخلوف -. (7) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 379 - 382، 22/ 481 - 486)، ((ودرء التعارض)) (3/ 332). (8) انظر: ((شأن الدعاء)) (ص: 24 - 25)، و ((فتح الباري)) (11/ 220)، و ((بدائع الفوائد)) (1/ 188). (9) انظر: ((المنهاج في شعب الإيمان)) (1/ 188)، و ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص: 9). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 ومنهم من يقول: ما صح معناه في اللغة، وكان معناه ثابتا له لم يحرم تسميته به، فإن الشارع (لم) يحرم علينا ذلك فيكون عفوا. والصواب القول الثالث: وهو أن يفرق بين أن يدعى بالأسماء، أو يخبر بها عنه؛ فإذا دعى لم يدع (إلا) بالأسماء الحسنى كما قال تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ [الأعراف: 180]، وأما الإخبار عنه فهو بحسب الحاجة، فإذا احتيج في تفهيم الغير المراد إلى أن يترجم أسماؤه بغير العربية، أو يعبر باسم له معنى صحيح لم يكن ذلك محرما" (1)، ويقول في موضع آخر بعد ترجيح ما ذكره في القول الثالث قال: "وإما إذا احتيج إلى الإخبار عنه مثل أن يقال: ليس هو بقديم ولا موجود، ولا ذات قائمة بنفسها، ونحو ذلك، فقيل في تحقيق الإثبات: بل هو سبحانه قديم، موجود، وهو ذات قائمة بنفسها، وقيل: "ليس بشيء" فقيل: بل هو شيء. فهذا سائغ وإن كان لا يدعى بمثل هذه الأسماء التي ليس فيها ما يدل على المدح كقول القائل: يا شيء ... " (2). فهذا التفريق الدقيق الذي ذكره شيخ الإسلام بين الدعاء والإخبار هو الذي يفصل في الأمر، والمتكلمون إنما ذكروا بعض الأسماء التي لم ترد بسبب خوضهم في علوم الكلام واصطلاحات الفلاسفة فاضطروا إلى مجاراتهم حتى لا ينفوا عن الله ما هو ثابت له لأجل أنه اصطلاح حادث. 2 - من المسائل المشهورة في هذا الباب مسألة: هل الاسم هو المسمى أو غيره، والمعروف أن الجهمية حرصوا على تقرير أن الاسم غير المسمى ليسلم لهم مذهبهم الفاسد القائل بخلق القرآن. فقابلهم البعض فقالوا: بل الاسم هو المسمى، حتى لا يقال: إن أسماء الله غير الله، وهذا قول بعض المنتسبين إلى السنة. وقد ذكر شيخ الإسلام عدة أقوال في هذه المسألة، وهي:1 - أن الاسم غير المسمى، وهذا قول الجهمية، الذين يقولون: إن أسماء الله غير الله، وما كان غيره فهو مخلوق (3).2 - التوقف والإمساك عن إطلاق مثل هذه العبارات نفيا وإثباتا، وأن كلا من الإطلاقين بدعة، وقد ذكر هذا الخلال عن إبراهيم الحربي وغيره، وكما ذكره أبو جعفر الطبري في صريح السنة (4)، وعده من الحماقات.3 - أن الاسم هو المسمى، وهذا قول كثير من المنتسبين إلى السنة، مثل أبي بكر عبدالعزيز، وأبي القاسم الطبري، واللالكائي (5)، وأبي محمد البغوي في شرح السنة (6). وغيرهم. وهو أحد قولي أصحاب أبي الحسن الأشعري (7)، اختاره أبو بكر بن فورك وغيره. 4 - والقول الثاني – وهو المشهور عن أبي الحسن الأشعري – أن الأسماء ثلاثة أقسام: تارة يكون الاسم هو المسمى، كاسم الموجود.   (1) ((الجواب الصحيح)) (3/ 203) – ط المدني. (2) ((مجموع الفتاوى)) (9/ 301)، وانظر: ((درء التعارض)) (1/ 297 - 298)، و ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/ 182). (3) انظر: ((المقالات)) للأشعري (ص: 172). (4) (ص: 26 - 27)، ونسب الأشعري هذا القول إلى بعض أصحاب ابن كلاب، ((المقالات)) (ص: 172). (5) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (2/ 204) وما بعدها. (6) (5/ 29). (7) ذكر الأشعري عن أهل الحديث أنهم يقولون: إن أسماء الله لا يقال هي غيره، وأنهم يقولون: أسماء الله هي الله. ((المقالات)) (ص: 172، 290، 293). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وتارة يكون غير المسمى، كاسم الخالق. وتارة لا يكون هو ولا غيره كاسم العليم والقدير (1).5 - أن الاسم للمسمى، كما يقوله أكثر أهل السنة، فهؤلاء وافقوا الكتاب والسنة والمعقول لقوله تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [الأعراف: 180] وقال: أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [الإسراء: 110]. وهؤلاء إذا قيل لهم: هل الاسم هو المسمى أو غيره؟ "فصلوا فقالوا: ليس هو نفس المسمى، ولكن يراد به المسمى، وإذا قيل: إنه غيره بمعنى أنه يجب أن يكون مباينا. فهذا باطل؛ فإن المخلوق قد يتكلم بأسماء نفسه فلا تكون بائنة منه، فكيف بالخالق، وأسماؤه من كلامه، وليس كلامه بائنا عنه، ولكن قد يكون الاسم نفسه بائنا، مثل أن يسمى الرجل غيره باسم، أو يتكلم باسمه، فهذا الاسم نفسه ليس قائما بالمسمى، لكن المقصود به المسمى، فإن الاسم مقصوده إظهار المسمى وبيانه" (2).فالأشاعرة لهم قولان ضعيفان (3) وقد ناقشهما شيخ الإسلام وبين ضعفهما: ومن ردوده على من قال منهم: إن الاسم هو المسمى قوله: "قلت لو اقتصروا على أن أسماء الشيء إذا ذكرت في الكلام فالمراد بها المسميات – كما ذكروه في قوله يَا يَحْيَى [مريم: 12] ونحو ذلك – لكان ذلك معنى واضحا، لا ينازعه فيه من فهمه، لكن لم يقتصروا على ذلك، ولهذا أنكر قولهم جمهور الناس من أهل السنة وغيرهم لما في قولهم من الأقوال الباطلة، مثل دعواهم أن لفظ اسم الذي هو "ا، س، م" معناه ذات الشيء ونفسه، وأن الأسماء – التي هي الأسماء – مثل زيد وعمرو هي التسميات، ليست هي أسماء المسميات، وكلاهما باطل مخالف لما يعلمه جميع الناس من جميع الأمم ولما يقولونه ... وأيضا فهم تكلفوا هذا التكليف ليقولوا: إن اسم الله غير مخلوق، ومرادهم أن الله غير مخلوق وهذا مما لا تنازع فيه الجهمية والمعتزلة؛ فإن أولئك ما قالوا الأسماء مخلوقة إلا لما قال هؤلاء هي المسميات. فوافقوا الجهمية والمعتزلة في المعنى، ووافقوا أهل السنة في اللفظ، ولكن أرادوا به ما لم يسبقهم أحد إلى القول به من أن لفظ اسم وهو "ألف، سين، ميم" معناه إذا أطلق هو الذات المسماة، بل معنى هذا اللفظ هي الأقوال التي هي أسماء الأشياء، مثل زيد وعمرو، وعالم وجاهل، لفظ الاسم لا يدل على أن هذه الأسماء هي مسماة ... (4) " إلى آخر مناقشته لهم. ثم ذكر أن أهل القول الثاني من الأشاعرة – الذي قسموا الأسماء إلى ثلاثة أقسام – "غلطوا من وجه آخر؛ فإنه إذا سلم لهم أن المراد بالاسم الذي هو "ألف، سين، ميم" هو مسمى الأسماء فاسمه الخالق هو الرب الخالق نفسه، ليس هو المخلوقات المنفصلة عنه، واسمه العليم هو الرب العليم، الذي العلم صفة له، فليس العلم هو المسمى، بل المسمى هو العليم، فكان الواجب أن يقال على أصلهم: الاسم هنا هو المسمى وصفته، وفي الخالق الاسم هو المسمى وفعله، ثم قولهم: إن الخلق هو المخلوق، وليس الخلق فعلا قائما بذاته، قول ضعيف، مخالف لقول جمهور المسلمين" (5).   (1) ذكر هذا القول والذي قبله البيهقي في ((الجامع لشعب الإيمان)) (1/ 336 - 337)، وانظر: ((الاعتقاد)) (ص: 71 - 72). (2) قاعدة في الاسم والمسمى – ((مجموع الفتاوى)) (6/ 207)،. ولشارح الطحاوية تلخيص جيد للمذهب الحق في هذه المسألة انظره (ص: 131) – ط الرابعة – المكتب الإسلامي. (3) نسب ابن فورك في ((المجرد)) على الأشعري أنه يقول: أن الاسم غير المسمى، مع مخالفته ورده على الجهمية، انظر: ((المجرد)) (ص: 38 - 39). (4) ((قاعدة في الاسم والمسمى – مجموع الفتاوى)) (6/ 191 - 192). (5) ((قاعدة في الاسم والمسمى – مجموع الفتاوى)) (6/ 201 - 202). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وبهذا يتبين أن القول الخامس هو القول الراجح وأن الاسم للمسمى، وأنه لابد من الاستفصال عن المقصود لمن قال: الاسم هو المسمى أو غيره.3 - يلاحظ على كتب الأشاعرة التي شرحت أسماء الله تعالى أنها مع أنها تثبت هذه الأسماء وما دلت عليه من الصفات، إلا أنها عند تفصيل القول في هذه الصفات تشرحها بما يوافق معتقدها، فإذا كان الاسم دالا على صفة يؤولونها نفوا دلالة الاسم على هذا المعنى الذي ينفونه وإن كان موافقا لمذهب السلف، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومن أبرزها –مثلا- اسم تعالى: "العلي" فكل من شرح هذا الاسم من الأشاعرة المتأخرين فسروه بعلو الشرف والمكانة، وغيرها، ونفوا دلالته على إثبات علو الله على خلقه، ونصوا على نفي هذا المعنى عند شرحهم له (1).وقد ذكر شيخ الإسلام أن الكلام في تفسير أسماء الله وصفاته وكلامه فيه من الغث والسمين ما لا يحصيه إلا الله (2). ولذلك فقد ناقض الأشاعرة في بعض الأسماء التي أولوها، ومن ذلك: أ- اسمه تعالى "النور" فقد أطال – رحمه الله – في مناقشة الأشاعرة الذين نفوا هذا الاسم عن الله، وأولوه بأن المقصود الهادي، أو منور السموات أو غيرها، وبين أن إثبات هذا الاسم لله تعالى كما يليق بجلاله وعظمته، وأنه تعالى نور هو مذهب السلف رحمهم الله تعالى. وقد كانت ردوده على من تأويل هذا الاسم كالرازي (3) وغيره كما يلي:1 - أن أئمة السلف أثبتوا هذا الاسم لله تعالى، كالإمام أحمد، والدارمي وابن خزيمة وغيرهم (4).2 - أن هذا هو قول الصفاتية كابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابهما، وقد أيد شيخ الإسلام ذلك بنصوص من أقوال ابن كلاب (5)، والأشعري في (الإبانة) (6).3 - أن الرازي اتبع في تأويله الجويني، والجويني هو الذي غير المذهب الأشعري وقربه من مذهب المعتزلة (7)، وقد فسر الجويني النور بالهادي (8).   (1) انظر حول هذا الاسم: ((شأن الدعاء للخطابي)) (ص: 66)، و ((شرح أسماء الله)) للقشيري (ص: 150)، و ((المقصد الأسنى)) للغزالي (ص: 108). (2) في ((أساس التقديس)) (ص: 79 - 80) ط الحلبي. (3) في ((أساس التقديس)) (ص: 79 - 80) – ط الحلبي -. (4) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط (3/ 24 - 25، 36 - 39). (5) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 29 - 32)، وانظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 379). (6) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 40)، وهو في ((الإبانة)) (ص: 117) – ت فوقية-. (7) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 35). (8) في ((الإرشاد)) (ص: 155)، وانظر ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 35). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 4 - أن زعم هؤلاء أن تفسير النور بالهادي مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما – جوابه من وجوه-:- أنها من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وهي رواية ضعيفة معروفة بالانقطاع (1).- أن الثابت عن ابن عباس إثبات النور لله (2).- ما ورد عن ابن عباس – إن ثبت – فقط يكون رواية بالمعنى، أو ورد عنه، لكنه لم يكن يقصد نفي أن الله نور، وإنما قصد – كعادة السلف في تفسيرهم – ذكر بعض صفات المفسر من الأسماء، أو بعض أنواعه، فهو من اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد (3).5 - بل ذكر شيخ الإسلام أن إثبات أن الله نور هو قول قدماء الجهمية كالمريسي وغيره – الذي هو إمام الرازي في تأويلاته – ولذلك لما سألهم الإمام أحمد عن الله، قالوا: هو نور كله، يقول شيخ الإسلام: "إن كونه نورا أو تسميته نورا مما لم يكن ينازع فيه قدماء الجهمية وأئمتهم الذين ينكرون الصفات (4) "، ثم نقل كلام الإمام أحمد، ثم قال: فإذا "كان أئمة المؤسس وقدماء أهل مذهبه يقولون: إنه نور، فكيف يدعي الإجماع على خلاف ذلك" (5).6 - كما رد على المؤولة بوجوه أخرى، وبأدلة من الكتاب والسنة (6).ب- اسمه تعالى "الصمد": حيث أنكر الرازي (7) التفسير المأثور عن السلف من أنه الذي لا جوف له، لأنه – على زعمه – صفة الأجسام الغليظة ثم تأول هذا الاسم، وقد رد عليه شيخ الإسلام من نحو سبعة وثلاثين وجها، ناقلا أقوال السلف وأئمة التفسير في معنى هذا الاسم، كما انتقد تفسير بعض الأشاعرة للصمد بأنه الذي يصمد إليه في الحوائج، ونفيهم للمعنى الثاني الذي هو أشهر من هذا وهو أنه الذي لا جوف له، وذلك مثل الغزالي (8)، والخطابي (9)، والقشيري (10)، وغيرهم (11).ج- كما انتقد شيخ الإسلام ما ذكره الأصفهاني في عقيدته من تسمية الله بـ "مريد ومتكلم" (12)، كما رد على الباقلاني الذي نفي أن يكون من أسمائه الدليل (13)، كما وافق الخطابي على أن الراجح في "الدهر": أنه ليس من أسماء الله، وإن كان في ذلك قولان مشهوران للحنابلة (14). المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1039   (1) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 41 - 42)، وانظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 398، 393). (2) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – ((3/ 43). (3) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 390 - 391). (4) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 26). (5) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 28). (6) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 392 - 394). (7) في ((أساس التقديس)) (ص: 94 - 95) – ط الحلبي. (8) ((المقصد الأسنى)) (ص: 134)، وهو ما رجحه الزجاج في ((تفسير أسماء الله)) (ص: 85). (9) ((شأن الدعاء)) (ص: 85). (10) ((شرح أسماء الله الحسنى)) (ص: 218)، وقد ذكر أن من الأقوال في الصمد أنه الذي لا جوف له، ولكنه صحح أنه الذي يصمد إليه في الحوائج. (11) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 93 - 94). (12) انظر: ((شرح الأصفهانية)) (ص: 5) – ت مخلوف -، وممن سماه أيضا بالمريد والمتكلم الغزالي في ((المقصد الأسني)) (ص: 165). (13) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (22/ 483 - 484). (14) انظر: ((شأن الدعاء)) (ص: 107 - 109)، والقولان المشهوران وأحدهما: قول أبي عبيد وأكثر العلماء أن حديث ((لا تسبوا الدهر ... )) خرج الكلام فيه لرد ما يقوله أهل الجاهلية ومن أشبههم، حيث يسبون الدهر والزمان ويقصدون من فعل ذلك الأمور فيرجع السب على الله تعالى. والثاني: قول نعيم بن حماد وطائفة معه من أهل الحديث والصوفية أن الدهر من أسماء الله ومعناه القديم الأزلي. انظر: ((غريب الحديث)) لأبي عبيد (2/ 145 - 148) وقال بعد أن ذكر الوجه الأول: لا أعرف وجها غيره، وانظر: ((مجموع الفتاوى)) (2/ 493 - 494)، و ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (1/ 124 - 126). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 المبحث الثاني: المسائل المتعلقة بالصفات عند الأشاعرة • المطلب الأول: صفتا السمع والبصر: . • المطلب الثاني: صفة العلم (1):. • المطلب الثالث: كلام الله. • المطلب الرابع: بين اللفظية والأشاعرة. • المطلب الخامس: الحقيقة والمجاز. • المطلب السادس: الصفة النفسية. • المطلب السابع: الصفات السلبية. • المطلب الثامن: أسماء الله وصفاته التي تسمى واتصف بمثلها المخلوقون هل هي من قبيل المشترك أو المتواطئ أو المشكك؟. • المطلب التاسع: هل الصفة هي الموصوف أو غيره؟. • المطلب العاشر: قاعدة التنزيه في الصفات عند الأشاعرة. • المطلب الحادي عشر: التفصيل في النفي مع الإجمال في الإثبات.   (1) الأدلة النقلية على إثبات صفة العلم كثيرة، أما أدلة العقل فقد قررها شيخ الإسلام بعدة طرق، انظر: ((درء التعارض)) (10/ 113 - 126)، و ((شرح الأصفانية)) (ص: 24 - 26)) - ت مخلوف -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 المطلب الأول: صفتا السمع والبصر: قال الأشاعرة في تعريف صفة البصر: "صفة أزلية قائمة بذاته تعالى تتعلق بالموجودات الذوات وغيرها" (1). وقالوا في تعريف صفة السمع: "صفة أزلية قائمة بذاته تعالى تتعلق بالموجودات والأصوات وغيرها كالذوات" (2).وهذه الطريقة سلكها السنوسي- فإنه قال: "والسمع والبصر المتعلقان بجميع الموجودات (3) ". وللسعد التفتازاني طريقة أخرى، وهي أن متعلق البصر المبصرات، ومتعلق السمع المسموعات (4).فعلى طريقة السنوسي يكون متعلق سمع الله وبصره واحداً، فهو يسمع ما نسمع جنسه وما نبصر جنسه، ويبصر ما نبصر جنسه وما نسمع جنسه (5).وحال الباجوري أن يوفق بين الطريقتين فقال موجهاً طريقة السعد: "ويحتمل أن مراده المبصرات في حق الله تعالى، وهي الموجودات الذوات وغيرها" (6) فتصير طريقته كطريقة السنوسي! ثم إن الأشاعرة أثبتوا للسمع والبصر ثلاثة تعلقات:- (7) التعلق التنجيزي القديم: وهو التعلق بذات الله تعالى وصفاته. والتعلق الصلوحي القديم: وهو التعلق بالموجودات قبل وجودها. والتعلق التنجيزي الحادث: وهو التعلق بالموجودات بعد وجودها. المناقشة: ظهر من تعريف الأشاعرة لصفتي السمع والبصر الأمران الآتيان:- الأول: اتحاد معلق السمع والبصر على طريقة السنوسي، بل وعلى طريقة السعد بجمع الباجوري. الثاني: إنكار كون السمع والبصر صفتين ذاتيتين فعليتين فهما ذاتيتان فقط. فقولهم باتحاد متعلق الصفتين لازمه اتحاد الصفتين، بل يلزم اندراجهما في صفة العلم إذ أثبتوا للجميع انكشافاً، ولكنهم يجيبون على ذلك بما يأتي:- 1 - إن السمع والبصر ثابتان بالشرع فقط، بخلاف العلم فإنه ثابت بالعقل.2 - إن المدلول لغة للسمع غير المدلول لغة للبصر، وكذلك يقال في العلم، فإذا ثبت تغايرها لغة كانت متغايرة شرعاً (8). والجواب من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: التفريق بين الصفات باعتبار الدليل فقط غير مسلم، ذلك لأن الدليل لا يقام إلا إذا تصور المستدل المستدل عليه، وأن الدليل دال عليه، فإذا كان السمع والبصر متحدين تعلقاً ويندرجان في تعلق العلم كانت الأدلة المتنوعة التي ذكروها دليلاً على شيء واحد لا على عدة أشياء، فيعود الإلزام السابق - وهو أن السمع والبصر راجعان إلى معنى العلم فلا تثبت بذلك صفتا السمع والبصر - وقد صرح بعض الأشاعرة بالتزام ذلك، فقال المكلاتي:"وقد تردد جواب أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه في ذلك، فتارة قال: إن كونه سميعاً بصيراً هما صفتان زائدتان على كونه عالماً، وإلى هذا المذهب ذهب القاضي. وأبو المعالي وجماعة من الأشعرية، وتارة صرف كونه سميعاً بصيراً إلى كونه عالماً، وإلى هذا ذهب أبو حامد وجماعة من الأشعرية وهذا المختار عندنا" (9)!   (1) ((تحفة المريد)) (ص: 73). (2) ((تحفة المريد)) (ص: 73). (3) ((أم البراهين)) للسنوسي مع شرحها (ص: 18). (4) انظر ((شرح المقاصد)) للتفتازاني (4/ 138 - 139) و ((انظر تحفة المريد)) (ص: 73). وانظر: ((التنيبه)) في (ص: 11). (5) انظر ((الشرح الجديد على جوهرة التوحيد)) للعدوي (ص: 57). (6) ((تحفة المريد)) (ص: 74). (7) انظر ((تحفة المريد)) (ص: 86) و ((شرح أم)) البراهين (ص: 18). (8) انظر ((تحفة)) المريد (ص: 86). (9) ((لباب العقول)) للمكلاتي (ص: 213 - 214). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 ثم يقال لهم: إذا عادت الصفتان إلى العلم - وقد أثبتم اتحاد متعلق العلم والكلام، عادت الصفات الأربع إلى صفة واحدة فيحصل بهذا زيادة تقارب مع المعتزلة! الوجه الثاني: يقال للأشاعرة: إذا كنتم متبعين للشرع حقاً في إثبات صفتي السمع والبصر فأين الدليل النقلي الذي يدل على اتحاد متعلقهما؟ ولا دليل لهم-. ثم هذه ثلاثة أدلة عامة تثبت التمييز بين صفتي السمع والبصر (1): 1 - ظاهر القرآن يدل على أن متعلق السمع ما من شأنه أن يسمع - وهو القول، قال الله تعالى: لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء [آل عمران: 181]، وقال: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة: 1].2 - إن الصحابة رضوان الله عليهم فهموا أن السمع هو إدراك المسموعات، فمن ذلك قول عائشة رضي الله عنها: ((سبحان الذي وسع سمعه الأصوات)) (2)، ولم نقل الأصوات والمبصرات .. وهم أعرف الناس بربهم، وأعرف باللغة، مما يؤكد أن الأشاعرة لم يوافقوا اللغة ولا السلف ولا القرآن في ذلك.3 - قد ورد الجمع بين السمع والبصر في جملة واحدة مما يدل على الفرق، كما في قوله تعالى: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46]، والمعنى: أسمع القول وأرى العمل وإلا لما كانت فائدة من الجمع، قال ابن كثير في معنى الآية: " ... فإنني معكما أسمع كلامكما وكلامه، وأرى مكانكما ومكانه" (3). ولما ناقش الدارمي بشراً المريسي قال: " .. ميز الله في كتابه السمع من البصر فقال: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46]، إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ [الشعراء: 15]، وقال: لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران: 77] ففرق بين الكلام والنظر دون السمع، فقال عند السماع والصوت: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة: 1]، ولَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء [آل عمران: 181]، ولم يقل قد رأى الله قول التي تجادلك في زوجها، وقال في موضع الرؤية: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء: 218 - 219]، وقال وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ [التوبة: 105]، ولم يقل: يسمع تقلبك ويسمع الله عملكم، لم يذكر الرؤية فيما يسمع، ولا السماع فيما يرى، لما أنهما عنده خلاف ما عندك" (4).   (1) انظر هذه الأدلة الثلاثة العامة في ((الشرح الجديد على جوهرة التوحيد)) للعدوي (ص: 57). (2) رواه البخاري تعليقا (7385) , والنسائي (6/ 168) (3460) , وابن ماجه (188) بلفظ: (الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات .. ) والحديث صححه ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (1/ 163) , وابن حجر في ((تغليق التعليق)) (5/ 339) , والألباني في ((صحيح النسائي)) و ((صحيح ابن ماجه)). (3) ((تفسير ابن كثير)) (3/ 154) وانظر ((تفسير الطبري)) (9/ 16/170). (4) ((النقض على بشر)) المريسي (ص: 22 - 23). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الوجه الثالث في مناقشة الأشاعرة: تفريقكم بين صفتي السمع والبصر باعتبار الدلالة اللغوية هو استدلال عليكم لا لكم، إذ السمع في اللغة: إدراك المسموعات، والبصر: إدراك المبصرات كما هو معلوم ضرورة، فتبين أنهم مخالفون للوضع اللغوي كذلك. وأما كون السمع والبصر صفتين ذاتيتين فعليتين، فإن الأشاعرة لا ينازعون في كونهما ذاتيتين، وإنما الكلام معهم في كونهما فعليتين أيضاً، وهم لا ينفون وجود تعلق بين السمع والمسموعات والبصر والمبصرات بعد حدوثها، فيقال لهم عندئذ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذا التعلق إما أن يكون وجوداً وإما أن يكون عدماً، فإن كان عدماً فلم يتجدد شيء، فإن العدم لا شيء، وإن كان وجوداً بطل قولهم" - إذ هو الفعل عينه الذي فروا من إثباته بدعوى تنزيه الله من حلول الحوادث به - "وأيضاًَ فحدوث تعلق هو نسبة وإضافة من غير حدوث ما يوجب ذلك ممتنع، فلا تحدث نسبة وإضافة إلا بحدوث أمر وجودي يقتضي ذلك" (1).ومن الأدلة الدالة على إثبات السمع والبصر الفعليين؛ ففي الرؤية والنظر قوله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 105]. فالسين من قوله: فَسَيَرَى اللهُ تمحض الفعل المضارع للاستقبال، وهذا يدل على أنه يرى أعمالهم بعد نزول الآية. ومن ذلك قول الله تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس: 14]. فاللام في قوله لِنَنظُرَ هي لام كي الدالة على التعليل "وهذا يقتضي أن ما بعدها متأخر عن المعلول، فنظره كيف يعملون هو بعد أن جعلهم خلائف" (2).وأما في السمع فكقوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة: 1]. فأخبر الله أنه يسمع - بصيغة المضارع الدالة على الحال - تحاور المجادلة مع الرسول - صلى الله عليه وسلم- حين كانت تجادل وتشتكي إلى الله. وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد يسمع الله لكم)) (3)، فقوله: ((يسمع الله لكم)) إثبات لسمع يتضمن سمع القول وسمع قبوله وإجابته، وقد وقعت هذه الجملة جزاءً وجواباً للحمد، ومعلوم أن جواب الشرط والأمر يقع بعدهما، فدل ذلك على أن السمع هنا واقع بعد القول، وهذا إثبات للفعل (4). المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف - 2/ 502   (1) ((رسالة في الصفات الاختيارية)) لشيخ الإسلام ابن تيمية ضمن ((جامع الرسائل)) (2/ 18). (2) ((رسالة في الصفات الاختيارية)) لشيخ الإسلام ابن تيمية ضمن ((جامع الرسائل)) (2/ 16). (3) رواه مسلم (404) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (4) ((انظر رسالة في الصفات الاختيارية)) لشيخ الإسلام ابن تيمية ضمن ((جامع الرسائل)) (2/ 16). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 أشار شيخ الإسلام إلى الخلاف فيهما (أي: السمع والبصر) فقال: "وأما السمع والبصر والكلام فقد ذكر الحارث المحاسبي عن أهل السنة في تجدد ذلك عند وجود المسموع المرئي قولين (1).والقول بسمع وبصر قديم يتعلق بها عند وجودها قول ابن كلاب وأتباعه والأشعري، والقول بتجدد الإدراك مع قدم الصفة قول طوائف كثيرة كالكرامية وطوائف سواهم، والقول بثبوت الإدراك قبل حدوثها وبعد وجودها قول السالمية، كأبي الحسن بن سالم وأبي طالب المكي، والطوائف الثلاثة تنتسب إلى أئمة السنة كالإمام أحمد، وفي أصحابه من قال بالأول، ومنهم من قال بالثاني، والسالمية تنتسب إليه" (2).وقد شرح شيخ الإسلام المذهب الحق في ذلك فقال: "وقد دل الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة ودلائل العقل على أنه سميع بصير، والسمع والبصر لا يتعلق بالمعدوم، فإذا خلق الأشياء رآها سبحانه، وإذا دعاه عباده سمع دعاءهم وسمع نجواهم، كما قال تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة: 1] أي تشتكي إليه وهو يسمع التحاور - والتحاور تراجع الكلام - بينها وبين الرسول، قالت عائشة: ((سبحان الذي وسع سمعه الأصوات لقد كانت المجادلة تشتكي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في جانب البيت وإنه لخيفى على بعض كلامها فأنزل الله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة: 1])) (3). وقال تعالى لموسى وهارون: قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46] وقال: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف: 80] " (4).فالله تعالى إذا خلق العباد فعملوا وقالوا، فلابد من القول أنه تعالى يرى أعمالهم ويسمع أقوالهم، ونفى ذلك تعطيل لهاتين الصفتين، وتكذيب لنصوص القرآن (5). خاصة وأن فهم هؤلاء الأشاعرة لصفة السمع والبصر ليس هو فهم السلف - الذي يقولون إنه يطلق بمعنى ما به يسمع ويبصر - بل يفسرونهما بمجرد الإدراك فقط.   (1) انظر: ((فهم القرآن للمحاسبي)) (ص:344 - 346). (2) ((رسالة في تحقيق مسألة علم الله - جامع الرسائل -)) (1/ 181 - 182). (3) رواه البخاري تعليقا (7385) , والنسائي (6/ 168) (3460) , وابن ماجه (188) بلفظ: (الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات .. ) والحديث صححه ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (1/ 163) , وابن حجر في ((تغليق التعليق)) (5/ 339) , والألباني في ((صحيح النسائي)) و ((صحيح ابن ماجه)). (4) ((الرد على المنطقيين)) (ص: 465). (5) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 288). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وقد بين شيخ الإسلام في رده على الأشاعرة أن بعض أئمتهم كالرازي اعترفوا بأنه لا مانع من التزام القول بحلول الحوادث هنا، وهذا نموذج لمنهج شيخ الإسلام العام في رده على الأشاعرة حين يذكر ردود بعضهم على بعض - وقد سبق تفصيل ذلك في منهجه العام في رده عليهم -.فإن شيخ الإسلام وهو يرد على الجويني في مسألة حلول الحوادث (1)، ألزمه ذلك في مسألة السمع والبصر فقال: "ما ذكره (أي الجويني) أن المعتزلة قصدهم من طرد الدليل في هذه المسألة (أي مسألة حلول الحوادث) أنه إذا لم يمتنع تجدد أحكام للذات من غير أن يدل على الحدوث، لم يبعد مثل ذلك في اعتوار الأعراض على الذات" (2) - قال ابن تيمية - يلزمه مثل ذلك في تجدد حكم السمع والبصر، فإنه إنما يتعلق بالموجود دون المعدوم، وأما أن يكون الرب بعد أن خلق الموجودات كحاله قبل وجودها في السمع والبصر، أو لا يكون. فإن كان حاله قبل كحاله بعد، وهو قبل لم يكن يسمع شيئا ولا يراه فكذلك بعد، لاستواء الحالين، فإن قيل: إن حاله بعد ذلك خلاف حاله قبل، فهذا قول بتجدد الأحوال والحوادث، ولا حيلة في ذلك، ولا يمكن أن يقال في ذلك ما قيل في العلم، لأن العلم يتعلق بالمعدوم، فأمكن المفرق أن يقول حاله قبل وجود المعلوم وبعده سواء" (3).وقول ابن تيمية هنا في "العلم" ليس رجوعا عن قوله السابق: إن الله يعلم الشيء كائنا بعد وجوده، مع علمه السابق وإنما قصد هنا أن مسألة السمع والبصر أكثر وضوحا من مسألة العلم ن لأن العلم يتعلق بالمعدوم، أما السمع والبصر فيتعلقان بالمسموع والمبصر من الموجودات، فلو احتج محتج على جواز تعلقهما بالمعدوم حتى لا يقال عند وجود المبصر والمسموع إنه تعالى حلت به الحوادث - على صفة العلم لم تقبل حجته، لأن العلم يجوز أن يتعلق بالمعدوم قبل وجوده ففارق السمع والبصر في ذلك، فابن تيمية قطع الاحتجاج بالعلم أولاً، مع أن التحقيق في مسألة العلم أنه لو احتج بها لم يكن له بها حجة، لأن القول بأن علمه تعالى بالشيء بعد وجوده هو نفس علمه به قبل وجوده قول غير صحيح، والدليل على ما قصده ابن تيمية أن الرازي في غالب كتبه سار على طريقة الأشاعرة في أن علم الله واحد لا يتغير مع وجود المعلوم (4)، إلا أنه في صفة السمع والبصر لم يحتج بالعلم، بل اعترف بضعف جواب المعترضين وقال: إن قول الكرامية بحلول الحوادث ليس محالا. وذلك أن شيخ الإسلام قال بعد الكلام السابق: "وقد ذكر هذا الإلزام أبو عبدالله الرازي والتزم قول الكرامية، بعد أن أجاب بجواب ليس بذلك؛ فإن المخالف احتج عليه بأن السمع والبصر يمتنع أن يكون قديما لأن الإدراك لابد له من متعلق، وهو لا يتعلق بالمعدوم، فيمتنع ثبوت السمع والبصر للعالم قبل وجوده، إذ هم لا يثبتون أمرا في ذات الله به يسمع ويبصر، بل السمع والبصر نفس الإدراك عندهم، ويمتنع أن يكون حادثا لأنه يلزم أن يكون محلا للحوادث، ويلزم أن يتغير وكلاهما محال، وقال - أي الرازي - في الجواب (5):   (1) وعلاقتها بصفة الكلام، انظر: ((التسعينية)) (ص: 196) وما بعدها. (2) ((التسعينية)) (ص: 202)، و ((كلام الجويني في الإرشاد)) (ص: 45). (3) ((التسعينية)) (ص: 202). (4) وإن كان قد مال في بعض كتبه - كـ ((المطالب العالية))، و ((شرح الإرشادات)) - إلى جواز التغير، فإنه قال في ((شرح الإرشادات)) (1/ 76): بأن التغير في العلم تغير في الإضافة وذلك غير ممتنع، وقال في المطالب العالية عن الزركان ص: 309: "المذهب الصحيح هو قول أبي الحسين البصري وهو أن يتغير العلم عند تغير المعلوم". (5) في ((نهاية العقول)) (160 - ب) .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 "لم لا يجوز أن يكون الله سميعا بصيرا بسمع قديم وبصر قديم، ويكون السمع والبصر يقتضيان التعلق بالمرئي والمسموع بشرط حضورهما ووجودهما، قال: وهذا هو المعني بقول أصحابنا في السمع والبصر: إنه صفة متهيئة لدرك ما عرض له، فإن قال قائل: فحينئذ يلزم تجدد التعلقات. قلنا: وأي بأس بذلك إذا لم يثبت أن التعلقات أمور وجودية في الأعيان، فهذا هو تقرير المذهب، ثم (لئن) سلمنا فساد هذا القسم فلم لا يجوز أن يكون محدثا في ذاته على ما هو مذهب الكرامية. وقوله: يلزم أن يكون محلا للحوادث، قلنا: إن عنيتم حدوث هذه الصفات في ذاته تعالى بعد أن لم تكن حادثة فيها فهذا هو المذهب، فلم قلتم: إنه محال، وإن عنيتم شيئا آخر فبينوه لنتكلم عليه، هذا هو الجواب عن قوله: يلزم وجود التغير في ذات الله. قال شيخ الإسلام معلقا على قول الرازي هذا: "قلت: وقد اعترف في هذا الموضع بضعف الجواب الأول، وذلك أن قول القائل: صفة متهيئة لدرك ما عرض عليه ... عند وجود هذا الدرك هل يكون سامعا مبصرا لما لم يكن قبل ذلك سامعا له مبصرا، أم لا يكون، فإن لم يكن كذلك لزم نفي أن يسمع ويبصر، وإن كان سمع ورأى ما لم يكن سمعه ورآه فمن المعلوم بالاضطرار أن هذا أمر وجودي، قائم بذات السامع والرائي، وأنه ليس أمرا عدميا، ولا واسطة بين الوجود والعدم" (1).فالأشاعرة فسروا السمع والبصر بالإدراك، ثم جعلوه ثابتا في العدم، ثم قالوا إنه لا يتعلق إلا بالموجود، وجعلوا تعلقه بالموجود عدماً محضاً، وهذه أقوال فاسدة (2). ولاشك أن اعتراف الرازي مهم جدا لأنه بين إلى أي حد كانت قناعة الأشاعرة بمنهجهم في إثباتهم لهذه الصفات. المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود - 3/ 1049   (1) ((التسعينية)) (ص: 202 - 203). (2) انظر: ((التسعينية)) (ص: 203). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 المطلب الثاني: صفة العلم (1): يقول شيخ الإسلام موضحا الخلاف في علم الله وتعلقه بالمستقبل: "الناس المنتسبون على الإسلام في علم الله باعتبار تعلقه بالمستقبل على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يعلم المستقبلات بعلم قديم لازم لذاته، ولا يتجدد له عند وجود المعلومات نعت ولا صفة، وإنما يتجدد مجرد التعلق بين العلم والمعلوم، وهذا قول طائفة من الصفاتية من الكلابية والأشعرية، ومن وافقهم من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة، وهو قول طوائف من المعتزلة وغيرهم من نفاة الصفات، لكن هؤلاء يقولون: يعلم المستقبلات ويتجدد التعلق بين العالم والمعلوم، لا بين العلم والمعلوم. وقد تنازع الأولون: هل له علم واحد أو علوم متعددة؟ على قولين: والأول قول الأشعري وأكثر أصحابه، والقاضي أبي يعلى وأتباعه، ونحو هؤلاء والثاني قول أبي سهل الصعلوكي. والقول الثاني: أنه لا يعلم المحدثات إلا بعد حدوثها، وهذا أصل قول القدرية الذين يقولون: لم يعلم أفعال العباد إلا بعد وجودها وأن الأمر أنف، لم يسبق القدر لشقاوة ولا سعادة، وهم غلاة القدرية .... والقول الثالث: أنه يعلمها قبل حدوثها، ويعلمها بعلم آخر حين وجودها" (2). وهذا قول السلف، وهو قول أبي البركات صاحب المعتبر من الفلاسفة، وقول الرازي في المطالب العالية، وهو مخالف لما ينسب إلى الجهم الذي يقول بتجدد علم قبل الحدوث، والذي في القرآن أن التجدد يكون بعد الوجود (3). يقول شيخ الإسلام: "لا ريب أنه يعلم ما يكون قبل أن يكون، ثم إذا كان: فهو يتجدد له على آخر؟ أم علمه به معدوما هو علمه به موجودا؟ هذا فيه نزاع بين النظار" ثم قال عن القول الأول – وهو أنه يتجدد له علم آخر – "وإذا كان هو الذي يدل عليه صريح المعقول، فهو الذي يدل عليه صحيح المنقول، وعليه دل القرآن في أكثر من عشر مواضع، وهو الذي جاءت به الآثار عن السلف" (4).فقول الأشاعرة إنه لا يتجدد له عند وجود المعلومات نعت ولا صفة هذا بناء على نفيهم لحلول الحوادث، لأنه يلزم من ذلك التغير في ذات الله، وقد ذكر شيخ الإسلام أن "التغير" من حجج الفلاسفة على نفي علم الله وأنهم قالوا: "العلم بالمتغيرات يستلزم أن يكون علمه بأن الشيء سيكون غير علمه بأنه قد كان، فيلزم أن يكون محلا للحوادث" (5). قال شيخ الإسلام: "وهم ليس لهم على نفي هذه اللوازم حجة أصلا – لا بينة ولا شبهة – وإنما نفوه لنفيهم الصفات، لا لأمر يختص بذلك" ثم قال: "بخلاف من نفي ذلك (أي التغير) من الكلابية ونحوهم، فإنهم لما اعتقدوا أن القديم لا تقوم به الحوادث قالوا: لأنها لو قامت به لم يخل منها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث" (6)، ثم بين شيخ الإسلام أن الرازي والآمدى بينا فساد المقدمة الأولى – وهي أنه لو قامت به الحوادث لم يخل منها – وأن الفلاسفة وكثيرا من النظار منعوا المقدمة الثانية المبنية على منع حوادث لا أول لها، وقالوا إن القديم تحله الحوادث، وجوزوا حوادث لا أول لها (7).   (1) الأدلة النقلية على إثبات صفة العلم كثيرة، أما أدلة العقل فقد قررها شيخ الإسلام بعدة طرق، انظر: ((درء التعارض)) (10/ 113 - 126)، و ((شرح الأصفانية)) (ص: 24 - 26)) – ت مخلوف -. (2) ((رسالة في تحقيق علم الله جامع الرسائل)) (1/ 177 - 179) – ت رشاد سالم. (3) انظر: ((رسالة في تحقيق علم الله جامع الرسائل)) (1/ 179 - 181) – ت رشاد سالم -. (4) ((درء التعارض)) (10/ 17). (5) ((الرد على المنطقيين)) (ص: 463). (6) ((الرد على المنطقيين)) (ص: 463). (7) ((الرد على المنطقيين)) (ص: 463 - 464). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 أما شبهة التغير في مسألة العلم – التي جاء بها الفلاسفة – المبنية على المقدمتين السابقتين: ما قامت به الحوادث لم يخل منها – وما لم يخل من الحوادث فهو حادث – فللنظار في جوابها طريقان: أحدهما: منع المقدمة الأولى بالنسبة للعلم وأنه لا يلزم منه حلول الحوادث، وهذا قول الأشاعرة الذين قالوا: "إن العلم بأن الشيء سيكون هو عين العلم بأنه قد كان، وأن المتجدد إنما هو نسبته بين المعلوم والعلم، لا أمر ثبوتي" (1).والثاني: منع المقدمة الثانية، وهي أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، فهؤلاء قالوا: "لا محذور في هذا، وإنما المحذور في أن لا يعلم الشيء حتى يكون، فإن هذا يستلزم أنه لم يكن عالما، وأنه أحدث بلا علم، وهذا قول باطل" (2)، وهذا قول هشام بن الحكم وابن كرام والرازي وطوائف غير هؤلاء.   (1) ((الرد على المنطقيين)) (ص: 464). (2) ((الرد على المنطقيين)) (ص: 464). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 ومما سبق يتبين حقيقة الخلاف، وعلاقته بمسألة حلول الحوادث التي جعل الأشاعرة منعها أحد أصولهم التي لا يتنازلون عنها، ومما سبق أيضا يتبين المذهب الحق في ذلك، وأن الله يعلم الشيء كائنا بعد وجوده مع علمه السابق به قبل وجوده، وأن علمه الثاني والأول ليس واحدا، وهذا هو الذي دل عليه القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة: 143]، وقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 142]، وقوله وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ – إلى قوله - وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [العنكبوت: 3 - 11] وقوله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد: 31]، وغيرها. يقول شيخ الإسلام حول هذه الآيات: "وعامة من يستشكل الآيات الواردة في هذا المعنى، كقوله: إِلاَّ لِنَعْلَمَ وحَتَّى نَعْلَمَ، ويتوهم أن هذا ينفي علمه السابق بأن سيكون، وهذا جهل؛ فإن القرآن قد أخبر بأنه يعلم ما سيكون في غير موضع، بل أبلغ من ذلك أنه قدر مقادير الخلائق كلها، وكتب ذلك قبل أن يخلقها، فقد علم ما سيخلقه علما مفصلا، وكتب ذلك، وأخبر بما أخبر به من ذلك قبل أن يكون، وقد أخبر بعلمه المتقدم على وجوه، ثم لما خلقه علمه كائنا مع علمه الذي تقدم أنه سيكون، فهذا هو الكمال، وبذلك جاء القرآن في غير موضع، بل وإثبات رؤية الرب له بعد وجوده، كما قال تعالى: وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 105]، فأخبر أنه سيرى أعمالهم ... " (1).ثم ذكر شيخ الإسلام أقوال المفسرين في قوله إِلاَّ لِنَعْلَمَ [البقرة: 143] فقال: "وروى عن ابن عباس في قوله: إِلاَّ لِنَعْلَمَ أي لنرى، وروى لتميز وهكذا قال عامة المفسرين: إلا لنرى ونميز، وكذلك قال جماعة من أهل العلم، قالوا: لنعلمه موجودا واقعا بعد أن كان قد علم أنه سيكون، ولفظ بعضهم قال: العلم على منزلتين: علم بالشيء قبل وجوده، وعلم به بعد وجوده، والحكم للعلم به بعد وجوده لأنه يوجب الثواب والعقاب، قال فمعنى قوله لِنَعْلَمَ أي لنعلم العلم الذي يستحق به العامل الثواب والعقاب، ولا ريب أنه كان عالما سبحانه بأنه سيكون، لكن لم يكن المعلوم قد وجد، وهذا كقوله: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ [يونس: 18]، أي بما لم يوجد، فإنه لو وجد لعلمه، فعلمه بأنه موجود ووجوده متلازما، يلزم من ثبوت أحدهما ثبوت الآخر، ومن انتفائه انتفاؤه" (2).فالعقل والقرآن يدلان على أن علمه تعالى بالشيء بعد فعله قدر زائد عن العلم الأول (3). وتسمية ذلك تغيرا أو حلولا لا يمنع من القول به ما دام دالا على الكمال لله تعالى من غير نقص، وما دامت أدلة الكتاب والسنة تعضده. المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1054   (1) ((الرد على المنطقيين)) (ص: 464 - 465). (2) ((الرد على المنطقيين)) (ص: 466 - 467). (3) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (16/ 304). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وقال الأشعري في أحد قوليه لا يقال (أي عن علم الله) هو الله ولا هو غير الله، وقال في قول له آخر وافقه عليه الباقلاني وجمهور أصحابه: "إن علم الله تعالى هو غير الله وخلاف الله وأنه مع ذلك غير مخلوق لم يزل" "الفصل 2/ 126". أما قولهم في أن ليس لله تعالى علم فمخالف للقرآن وما خالف القرآن فباطل، ولا يحل لأحد أن ينكر ما نص الله تعالى عليه، وقد نص الله تعالى على أن له علماً فمن أنكره فقد أنكر على الله تعالى، وأما اعتراضاتهم التي ذكرنا ففاسدة كلها وسنوضح فسادها إن شاء الله تعالى في إفسادها لقول الجهمية والأشعرية، لأن هذه الاعتراضات هي اعتراضات هاتين الطائفتين وبالله التوفيق "الفصل 2/ 127". قول من قال أن علم الله تعالى هو غير الله تعالى وخلافه وأنه ما يزل مع الله تعالى. هذا قول لا يحتاج في رده إلى أكثر من أنه شرك مجرد وإبطال للتوحيد، لأنه إذا كان مع الله تعالى شيء غيره لم يزل معه، فقط بطل أن يكون الله تعالى كان وحده بل قد صار له شريك في أنه لم يزل: وهذا كفر مجرد ونصرانية محضة مع أنها دعوى ساقطة بلا دليل أصلاً، وما قال بهذا أحد قط من أهل الإسلام قبل هذه الفرقة المحدثة بعد الثلاث مئة عام، فهو خروج عن الإسلام وترك للإجماع المتيقن. وقد قلت لبعضهم: إذا قلتم إنه لم يزل مع الله تعالى شيء آخر هو غيره وخلافه، ولم يزل معه فلماذا أنكرتم على النصارى في قولها إن الله ثالث ثلاثة، فقال لي مصرحاً: ما أنكرنا على النصارى إلا اقتصارهم على الثلاثة فقط ولم يجعلوا معه تعالى أكثر من ذلك فأمسكت عنه أن صرح بأن قولهم أدخل في الشرك من قول النصارى، وقولهم هذا رد لقول الله عز وجل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1]، فلو كان مع الله غير الله لم يكن الله أحد. وما كنا نصدق من أن ينتمي إلى الإسلام يأتي بهذا لولا أنا شاهدناهم وناظرناهم ورأينا ذلك صراحاً في كتبهم ككتاب السمناني قاضي الموصل في عصرنا هذا وهو من أكابرهم وفي كتاب (المجالس) للأشعري وفي كتب لهم آخر "الفصل 2/ 135". ووجدنا المتأخرين من الأشعرية كالباقلاني وابن فورك وغيرهما قالوا: إن هذه الأسماء ليست أسماء الله تعالى، ولكنها تسميات له وأنه ليس لله إلا اسم واحد. لكنه قول إلحاد ومعارضة الله عز وجل بالتكذيب بالآيات التي تلونا ومخالفة لرسول الله فيما نص عليه من عدد الأسماء وهتك لإجماع أهل الإسلام عامهم وخاصهم قبل أن تحدث هذه الفرقة. وهذا لا يجوز البتة لأنه لم يصح به نص البتة، ولا يجوز أن يسمى الله تعالى بما لم يسم به نفسه، وقد قال تعالى وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس: 39] فصح أن القديم من صفات المخلوقين، فلا يجوز أن يسمى الله تعالى بذلك، وإنما يعرف القديم في اللغة من القديمة الزمانية أي أن هذا الشيء أقدم من هذا بمدة محصورة، وهذا منفي عن الله تعالى وقد أغنى الله عز وجل عن هذه التسمية بلفظة أول، فهذا هو الاسم الذي لا يشاركه تعالى فيه غيره وهو معنى أنه لم يزل "الفصل 2/ 151 - 152". وقد رأيت لابن فورك وغيره من الأشعرية في الكلام في هذا الحديث أنهم قالوا في معنى قوله عليه السلام أن الله خلق آدم على صورته، إنما هو على صفة الرحمن من الحياة والعلم والاقتدار واجتماع صفات الكمال فيه وأسجد له ملائكته كما أسجدهم لنفسه وجعل له الأمر والنهي على ذريته كما كان لله كل ذلك. هذا نص كلام أبي جعفر السمعاني عن شيوخه حرفاً حرفاً، وهذا كفر مجرد لا مرية فيه لأنه سوى بين الله عز وجل وآدم في الحياة والعلم والاقتداء واجتماع صفات الكمال فيهما، والله يقول لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]. ثم لم يقنعوا بها حتى جعلوا سجود الملائكة لآدم كسجودهم لله عز وجل، ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن سجودهم لله تعالى سجود عبادة ولآدم سجود تحية وإكرام، ومن قال: إن الملائكة عبدت آدم كما عبدت الله عز وجل فقد أشرك "الفصل 2/ 168". المصدر: موقف ابن حزم من المذهب الأشعري لعبد الرحمن دمشقية - ص 33 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 المطلب الثالث: كلام الله • المسألة الأولى: نشأة قول الأشاعرة في كلام الله، وأسبابه . • المسألة الثانية: الرد عليهم في قولهم بالكلام النفسي. • المسألة الثالثة: هل كلام الله بحرف وصوت؟. • المسألة الرابعة: القرآن العربي كلام الله وغير مخلوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 المسألة الأولى: نشأة قول الأشاعرة في كلام الله، وأسبابه قلما يعرض شيخ الإسلام لمسألة الكلام وأقوال الكلابية والأشاعرة فيه إلا ويعرض لنشأة مذهبهم في ذلك، تلك النشأة التي أصبحت تمثل مذهبا خاصا بهم، تميزوا به عن غيرهم. وقد بين شيخ الإسلام أن قول الأشاعرة في كلام الله جزء من مذهبهم في الصفات الاختيارية القائمة بالله، والتي نفوها لأجل دليل حدوث الأجسام والأعراض الذي استدلوا به على حدوث العالم - وقد سبق شرحه عند الكلام على توحيد الربوبية، وعلى ما نفوه من الصفات - وأول من ابتدع مقالة نفي الصفات الفعلية القائمة بالله ومقالة القول بقدم كلام الله وأنه معنى واحد ليس بحرف ولا صوت ابن كلاب، وتبعه على ذلك الأشاعرة. فإن الناس قبل ابن كلاب كانوا في الصفات على قولين: - قول أهل السنة الذين يثبتون جميع الصفات، كالعلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام والوجه واليدين والعين والمجيء والنزول والاستواء والغضب والمحبة وغيرها، دون أن يفرقوا بين صفات الذات، وصفات الفعل المتعلقة بمشيئته وقدرته. - وقول الجهمية والمعتزلة الذين ينفون جميع هذه الصفات دون تفريق. - ولم يكن هناك قول ثالث غيرهما حتى جاء ابن كلاب فأثبت لله الصفات المعنوية والذاتية كالعلم والإرادة والكلام والوجه واليدين، ونفي ما يتعلق بمشيئته وإرادته مما يقوم بذاته، من الصفات الاختيارية. وتبعه على ذلك الأشعري وجمهور الأشاعرة. وكذلك كانوا في كلام الله على قولين: - قول المعتزلة والجهمية الذين يقولون إن كلام الله مخلوق خلقه في غيره. ولذلك قالوا بخلق القرآن. - قول أهل السنة الذين يثبتون صفة الكلام وأن الله يتكلم إذا شاء متى شاء، وأنه كلم موسى، ويكلم عباده يوم القيامة، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهذا شامل لحروفه ومعانيه، وأن نوع الكلام قديم وجنسه حادث بناء على أن الله يتكلم بمشيئته وإرادته. - ولم يكن هناك قول ثالث حتى جاء ابن كلاب فابتدع القول بأن كلام الله قديم، وأنه معنى واحد، وأنه لا يتعلق بمشيئة الله وإرادته. يقول شيخ الإسلام في جواب سؤال عن أن القول بأن كلام الله قديم، لا بصوت ولا حرف إلا معنى قائم بذات الله، هو قول الأشعرية - فقال: "هذا صحيح ولكن هذا القول أول من قاله في الإسلام عبدالله بن كلاب، فإن السلف والأئمة، كانوا يثبتون لله تعالى ما يقوم به من الصفات، والأفعال المتعلقة بمشيئته وقدرته. والجهمية تنكر هذا وهذا، فوافق ابن كلاب السلف على القول بقيام الصفات القديمة، وأنكر أن يقوم به شيء يتعلق بمشيئته وقدرته ... " (1)، ثم ذكر أن الأشعري وافق ابن كلاب على قوله. وابن كلاب والأشعري إنما ابتدعا هذا القول - في كلام الله وفي الصفات الاختيارية - لتقصيرهما في علم السنة، وتسليمهما للمعتزلة أصولا فاسدة، فصارا يوافقان المعتزلة في بعض أصولهم وإن لم يكونا موافقين لهم بإطلاق (2).   (1) ((المسألة المصرية في القرآن - مجموع الفتاوى -)) (12/ 178). (2) انظر: ((الاستقامة)) (1/ 212). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وقد نقل شيخ الإسلام نصا لأبي نصر السجزي في رسالته المعروفة إلى أهل زبيد - والتي تسمى باسم: الرد على من أنكر الحرف والصوت - بين فيه نشأة قول ابن كلاب ومن اتبعه في كلام الله فقال: "اعلموا - أرشدنا الله وإياكم - أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب والقلانسي والأشعري وأقرانهم - الذين يتظاهرون بالرد على المعتزلة، وهم معهم، بل أخس منهم في الباطن - من أن الكلام لا يكون إلا حرفا وصوتا، ذا تأليف واتساق، وإن اختلفت به اللغات، وعبر عن هذا المعنى الأوائل الذين تكلموا في العقليات وقالوا: الكلام حروف منسقة،، وأصوات مقطعة، وقالت (العرب) - يعني علماء العربية -: الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، فالاسم مثل زيد وعمرو، والفعل مثل جاء وذهب، والحرف الذي يجيء لمعنى مثل هل وبل وقد، وما شاكل ذلك، فالإجماع منعقد بين العقلاء على كون الكلام حرفا وصوتا. فلما نبغ ابن كلاب وأضرابه، وحاولوا الرد على المعتزلة من طريق مجرد العقل، وهم لا يخبرون أصول السنة، ولا ما كان السلف عليه، ولا يحتجون بالأخبار الواردة في ذلك، زعما منهم أنها أخبار آحاد وهي لا توجب علما، وألزمتهم المعتزلة أن الاتفاق حاصل على أن الكلام حرف وصوت، ويدخله التعاقب والتأليف ... قالوا: فعلم بهذه الجملة أن الكلام المضاف إلى الله تعالى خلق له، أحدثه وأضافه إلى نفسه، كما نقول: خلق الله، وعبدالله، وفعل الله. فضاق بابن كلاب وأضرابه النفس عند هذا الإلزام لقلة معرفتهم بالسنن، وتركهم قبولها، وتسليمهم العنان إلى مجرد العقل. فإلتزموا ما قالته المعتزلة، وركبوا مكابرة العيان, خرقوا الإجماع المنعقد بين الكافة: المسلم والكافر، وقالوا للمعتزلة: الذي ذكرتموه ليس بحقيقة الكلام، وإنما سمى ذلك كلاما على المجاز لكونه حكاية أو عبارة عنه، وحقيقة الكلام: معنى قائم بذات المتكلم، فمنهم من اقتصر على هذا القدر، ومنهم من احترز عما علم دخوله على هذا الحد، فزاد فيه: "تنافي السكوت والخرس والآفات المانعة فيه من الكلام، ثم خرجوا من هذا إلى أن إثبات الحرف والصوت في كلام الله تجسيم، وإثبات اللغة تشبيه، وتعلقوا بشبه منها قول الأخطل: إن البيان من الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا (1)   (1) لم أجده في ديوانه - صنعة السكرى -، وكثيرا ما يورده الأشاعرة في كتبهم. انظر ((التمهيد للباقلاني)) (ص: 251) - ت مكارئي، و ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (ص: 75)، و ((غاية المرام)) (ص: 97)، وذكر المحقق في الحاشية أن بعض طابعي ديوان الأخطل أضافوا هذا البيت إلى ما نسب إليه. وانظر الرد على ((من أنكر الحرف والصوت)) (ص: 92 - 93) - حاشية المحقق. وقال شيخ الإسلام في ((الإيمان)) (ص: 132) - ط المكتب الإسلامي: "من الناس من أنكر أن يكون هذا من شعره، وقالوا: أنهم فتشوا دواوينه فلم يجدوه. وهذا يروى عن أبي محمد الخشاب. وقال بعضهم: لفظه: إن البيان لفي الفؤاد ... "، وانظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 296 - 297). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 فغيره وقالوا: إن الكلام من الفؤاد (1) " (2).ثم نقل شيخ الإسلام نصوصا أخرى للسجزي وللكرجي، ولأبي حامد الإسفراييني الذي اشتهر عنه مخالفة ابن كلاب والأشاعرة في مسألة كلام الله، التي تطرق إليها في أصول الفقه عند الكلام على صيغ الألفاظ، وأن الأمر هل هو أمر لصيغته أو لقرينة تقترن به (3). ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقا على هذه النصوص التي نقلها، مبينا الأصل والسبب الذي حدا بابن كلاب والأشعري إلى أن يقولا في كلام الله ما قالا، قال-: "وإنما اضطر ابن كلاب والأشعري ونحوهما إلى هذا الأصل، أنهم لما اعتقدوا أن الله لا تقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته، لا فعل ولا تكلم ولا غير ذلك، وقد تبين لهم فساد قول من يقول: القرآن مخلوق، ولا يجعل لله تعالى كلاما قائما بنفسه، بل يجعل كلامه ما خلقه في غيره، وعرفوا أن الكلام لا يكون مفعولا منفصلا عن المتكلم، ولا يتصف الموصوف بما هو منفصل عنه، بل إذا خلق الله شيئا من الصفات والأفعال بمحل كان ذلك صفة لذلك المحل، لا لله، ... وهذا التقرير مما اتفق عليه القائلون بأن القرآن غير مخلوق من جميع الطوائف، مثل أهل الحديث والسنة، ومثل الكرامية والكلابية وغيرهم، ولازم هذا أن من قال: القرآن العربي مخلوق، أن لا يكون القرآن العربي كلام الله، بل يكون كلاما للمحل الذي خلق فيه ... والمقصود هنا: أن عبدالله بن سعيد بن كلاب وأتباعه وافقوا سلف الأمة وسائر العقلاء على أن كلام المتكلم لابد أن يقوم به، فما لا يكون إلا بائنا عنه لا يكون كلامه، كما قال الأئمة: كلام الله من الله ليس ببائن منه، وقالوا: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فقالوا: "منه بدأ" ردا على الجهمية الذين يقولون: بدأ من غيره. ومقصودهم أنه هو المتكلم به كما قال تعالى: تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر: 1] وقال تعالى: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [السجدة: 13] وأمثال ذلك. ثم إنهم - مع موافقتهم للسلف والأئمة والجمهور على هذا - اعتقدوا هذا الأصل، وهو أنه لا يقوم به ما يكون مقدورا له متعلق بمشيئته، بناء على هذا الأصل الذي وافقوا فيه المعتزلة، فاحتاجوا حينئذ أن يثبتوا ما لا يكون مقدورا مرادا، قالوا: والحروف المنظومة والأصوات لا تكون إلا مقدورة مرادة، فأثبتوا معنى واحدا، لم يمكنهم إثبات معان متعددة، خوفا من إثبات ما لا نهاية له، فاحتاجوا أن يقولوا معنى واحدا، فقالوا القول الذي لزمته تلك اللوازم التي عظم فيها نكير جمهور المسلمين، بل جمهور العقلاء عليهم. وأنكر الناس عليهم أمورا: - إثبات معنى واحد، هو الأمر والخبر. - وجعل القرآن العربي ليس من كلام الله الذي تكلم به، وأن الكلام المنزل ليس هو كلام الله. - وإن التوراة والإنجيل والقرآن إنما تختلف عباراتها، فإذا عبر عن التوراة بالعربية كان هو القرآن. - وإن الله لا يقدر أن يتكلم، ولا يتكلم بمشيئته واختياره، - وتكليمه لمن كلمه من خلقه - كموسى وآدم - ليس إلا خلق إدراك ذلك المعنى لهم، فالتكليم هو خلق الإدراك فقط. ثم منهم من يقول: السمع يتعلق بذلك المعنى وبكل موجود، فكل موجود يمكن أن يرى ويسمع، كما يقوله أبو الحسن. ومنهم من يقول: بل كلام الله لا يسمع بحال، لا منه ولا من غيره؛ إذ هو معنى، والمعنى يفهم ولا يسمع، كما يقوله أبو بكر ونحوه.   (1) في ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (ص: 92). إن الكلام من الفؤاد وإنما جعل اللسان على الكلام دليلا (2) ((درء التعارض)) (2/ 83 - 86)، وقارن بـ ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (ص: 87 - 92). ط على الآلة الكاتبة. (3) انظر: ((درء التعارض)) (2/ 95 - 108). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 ومنهم من يقول: إنه يسمع ذلك المعنى من القارئ مع صوته المسموع منه، كما يقول ذلك طائفة أخرى. وجمهور العقلاء يقولون: إن هذه الأقوال معلومة الفساد بالضرورة، وإنما الجأ إليها القائلين بها ما تقدم من الأصول التي استلزمت هذه المحاذير، وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم ... " (1). فهذه الأصول الفاسدة - مع معدم المعرفة التامة بأصول السنة - هي التي أوقعت الكلابية والأشعرية في هذه البدعة الكبرى في كلام الله، كما شرحه قبل قليل السجزي المتوفى سنة 444هـ، ثم بينه وزاده تحقيقا شيخ الإسلام ابن تيمية. ومما سبق يتبين أن هذا القول بقدم القرآن وأنه معنى واحد أول من ابتدعه ابن كلاب (2)، وأن الذين اتبعوه في أقواله في كلام الله - بناء على نفي الصفات الاختيارية القائمة بالله - طائفتان. الطائفة الأولى: الأشاعرة ومن اتبعهم، وهؤلاء قالوا بقول ابن كلاب تماماً، ولم يخالفوه إلا في ثلاث مسائل: أ- إحداها: مسألة أزلية الأمر والنهي، أي هل كان في الأزل آمرا وناهيا؟ أو صار آمرا ناهيا بعد أن لم يكن، أي عند وجود المأمور والمنهي. الأولى - وهو القول بأزلية الأمر والنهي هو قول الأشعري، والثاني قول ابن كلاب (3).ب- والثانية: أن الكلام مع القول بقدمه وأزليته وأنه معنى واحد: هل هو صفة واحدة، أو خمس صفات، الأول هو قول الأشعري، والثاني قول ابن كلاب (4). ج- والثالثة: أن القرآن حكاية عن كلام الله عند ابن كلاب، وعبارة عنه عند الأشعري. والطائفة الثانية: السالمية ومن اتبعهم، جعلوا الأزلية للحروف والأصوات، ليجمعوا بين: موافقة ابن كلاب على نفي أن تقوم بالله الصفات الاختيارية، وموافقة الجمهور على أن الكلام ألفاظ ومعاني (5). وابن كلاب ومن اتبعه من هاتين الطائفتين مخالفون لأقوال جمهور السلف وأئمة الحديث والسنة، بل وجمهور العقلاء. ومما سبق من بيان نشأة قول الأشاعرة في كلام الله وأسبابه والأصول التي قادتهم إلى أقوالهم يتبين ما يلي: 1 - أن قولهم هذا مبتدع في الإسلام، خالفوا فيه إجماع الناس. 2 - أن ادعاء الأشاعرة أن قولهم موافق لقول السلف غير صحيح؛ لأن مذهب السلف كان معروفا قبل ابن كلاب، ولما ابتدع مقالته تلك اشتد نكير جماهير السلف عليه وعلى أتباعه. 3 - أن أتباع ابن كلاب انقسموا إلى طائفتين: الأشعرية، والسالمية، وكل طائفة تطعن في قول الطائفة الأخرى. وهذا يدل على بطلانهما جميعا.4 - بطلان دعوى الإجماع التي ادعوها على صحة قولهم (6).   (1) ((درء التعارض)) (2/ 111 - 115). (2) انظر في ذلك: ((شرح الأصفهانية)) (ص: 324 - 325) - ت السعوي، و ((مجموع الفتاوى)) (12/ 301 - 302)، و ((شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى -)) (5/ 533، 552 - 553). (3) انظر ((الكيلانية - مجموع الفتاوى)) (12/ 376). (4) انظر: ((الكيلانية - مجموع الفتاوى -)) (12/ 376)، وانظر أيضا: في مذهب الكلابية والأشعرية في كلام الله: ((درء التعارض)) (2/ 172 - 173، 304 - 307)، ((شرح الأصفهانية)) (ص: 27) - ت مخلوف، ((التسعينية)) (ص: 85 - 87)، ((مجموع الفتاوى)) (6/ 251، 7/ 662، 12/ 245، 526)، ((جواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى)) (17/ 53، 86 - 87)، ((الكيلانية - مجموع الفتاوى)) (12/ 392). (5) انظر في قول هذه الطائفة ومناقشتها: ((منهاج السنة)) (2/ 101 - 102) - ط الرياض الحديثة، و ((الكيلانية - مجموع الفتاوى)) (12/ 370 - 371)، ((التسعينية)) (ص: 96 - 101)، ((منهاج السنة)) (3/ 105) - ط بولاق، ((شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى -)) (5/ 556 - 557)، و ((مجموع الفتاوى)) (9/ 284). (6) أطال شيخ الإسلام في مناقشة هذه الدعوى، فناقشها في ((التسعينية))، الأوجه: ((8/ 11، 26 - 29))، انظر الصفحات (147 - 151، 169 - 172). وهي مناقشات مهمة جدا ناقض فيها أيضا منهج الأشاعرة وأهل الكلام في دعواهم الإجماع على أقوالهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 المسألة الثانية: الرد عليهم في قولهم بالكلام النفسي أثبت الأشاعرة بإجمال صفة الكلام لله، وقالوا خلافا للمعتزلة والجهمية وغيرهم من النفاة إن هذه الصفة ثابتة، قائمة بالله تعالى، ولكنهم فسروها بأنها معنى يقوم بذات الله، لازم له أزلا وأبدا، وسموا هذا المعنى بالكلام النفسي وقالوا إن هذا المعنى القائم بالذات لا ينقسم إلى سر وعلانية، ولا يكون منه شيء في نفس الرب وشيء منه عند الملائكة، بل أسماع الملائكة أو غيرهم لكلامه إنما هو خلق إدراك لهم فقط (1). فحصروا الكلام بما يقوم بالنفس، وأنه لازم للذات لا ينفك عنها، وأن الألفاظ والحروف ليست كلاما. وقد احتجوا لأقوالهم بعدة حجج منها: 1 - قوله تعالى: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ [المجادلة: 8]. 2 - وقوله تعالى: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً [الأعراف: 205]. 3 - قوله تعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الملك: 13]. فسمى الإسرار قولا. 4 - وقوله تعالى: آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا [عمران: 41]. - وقول عمر – رضي الله عنه – (زورت في نفسي مقالة أردت أن أقولها). 6 - وقول الأخطل السابق: إن الكلام لفي الفؤاد ... .. هذه أهم حججهم على الكلام النفسي، وقد ناقش شيخ الإسلام هذه الحجج، وبين أنه لا دليل لهم فيها:   (1) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 52). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 1 - أما قوله تعالى: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ [المجادلة: 8] فعنه جوابان: أحدهما: أن المراد أنهم قالوه بألسنتهم سرا، وحينئذ فلا حجة لهم فيه. وهذا هو الذي ذكره المفسرون، حيث كانوا يقولون: سام عليك، فإذا خرجوا يقولون في أنفسهم، أي يقول بعضهم لبعض: لو كان نبيا عذبنا بقولنا له ما نقول (1).والثاني: أنه قيده بالنفس، وهذا على أن المقصود أنهم قالوه بقلوبهم، وإذا قيد القول بالنفس كان دلالة المقيد خلاف دلالة المطلق، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم أو تعمل)) (2)، وهذا رد عليهم مطلقا لأنه قال "ما لم تتكلم" فدل على أن حديث النفس ليس هو الكلام المطلق.2 - وأما قوله تعالى: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً [الأعراف: 205] فالمقصود الذكر باللسان لأنه قال "تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول"، ومن استقراء النصوص يتبين أن الذي يقيد بالنفس لفظ "الحديث"، مثل الحديث السابق: "وما حدثت به أنفسها"، أما لفظ "الكلام" فلم يعرف أنه أريد به ما في النفس فقط (3).3 - أما قوله: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ [الملك: 13] واحتجاجهم على أن القول المسر في القلب دون اللسان لقوله تعالى في آخر الآية إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، فـ "هذه حجة ضعيفة جدا؛ لأن قوله وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ يبين أن القول يسر به تارة، ويجهر به أخرى، وهذا إنما هو فيما يكون في القول الذي هو بحروف مسموعة، وقوله بعد ذلك: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإنه إذا كان عليما بذات الصدور فعلمه بالقول المسر والمجهور به أولى" (4).4 - أما قوله تعالى: آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا [آل عمران: 41] فقد ذكر في مريم ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [مريم: 10] و"لم يستثن شيئا، والقصة واحدة، وهذا يدل على أن الاستثناء منقطع، والمعنى: آيتك ألا تكلم الناس، لكن ترمز لهم رمزا" (5).5 - أما قول عمر في قصة السقيفة "زورت في نفسي مقالة" فهي حجة عليهم، لأن التزوير: إصلاح الكلام وتهيئته، "فلفظها يدل على أنه قدر في نفسه ما يريد أن يقوله ولم يقله، فعلم أنه لا يكون قولا إلا إذا قيل باللسان، وقبل ذلك لم يكن قولا، لكن كان مقدرا في النفس، يراد أن يقال، كما يقدر الإنسان في نفسه أنه يحج وأنه يصلي، وأنه يسافر، إلى غير ذلك، فيكون لما يريده من القول والعمل صورة ذهنية مقدرة في النفس، ولكن لا يسمى قولا وعملا إلا إذا وجدت في الخارج ... (6) " وهذا يدل عليه الحديث السابق: إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل.   (1) انظر: ((الإيمان)) (ص: 129) – ط المكتب الإسلامي، و ((مجموع الفتاوى)) (15/ 35). (2) رواه البخاري (6664) , ومسلم (127) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) انظر: ((الإيمان)) (ص: 130). (4) ((مجموع الفتاوى)) (15/ 36)، وانظر: ((الإيمان)) (ص: 130). (5) ((الإيمان)) (ص: 131). (6) ((الإيمان)) (ص: 131 - 132)) – ط المكتب الإسلامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 6 - أما البيت المنسوب للأخطل، ففيه ما فيه من ناحية صحة نسبته إليه، حتى ألفاظ البيت حرفت لتوافق مقصود من استشهد به من أهل الكلام، وقد تعجب شيخ الإسلام من هؤلاء الذين يحتجون بهذا البيت الذي قاله نصراني، ولم يثبت عنه – فقال: "ولو احتج في مسألة بحديث أخرجاه في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم لقالوا: هذا خبر واحد، ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه وتلقيه بالقبول، وهذا البيت لم يثبت نقله عن قائله بإسناد صحيح لا واحد وأكثر من واحد، ولا تلقاه أهل العربية بالقبول، فكيف يثبت به أدنى شيء من اللغة، فضلا عن مسمى الكلام" (1)، وقد أطال شيخ الإسلام في المناقشة بما يشفي ويكفي (2). هذه أدلة الأشاعرة النقلية واللغوية على قولهم بالكلام النفسي، مع بيان بطلان استدلالهم فيها، وبيان أنها في الرد عليهم أقرب من أن تكون دليلا لهم. وشيخ الإسلام لم يقتصر على مثل هذه الردود، وإنما ناقش حقيقة مذهبهم في الكلام النفسي، وأن قولهم فيه باطل، وقد جاءت هذه المناقشة المهمة في التسعينية من خلال عدد من الأوجه (3)، ويمكن تلخيص مناقشاته هذه بما يلي: اعترض على دعوى الأشاعرة بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس فقيل لهم: أنتم قلتم إن الكلام هو الخبر والأمر والنهي، وأن ذلك كله معنى يقوم بالنفس، فيقال لكم إذا كان الكلام عندكم لا صيغة له فما الفرق بين الخبر والعلم، وبين الأمر والنهي والإرادة؟ لأن الخبر – بدون صيغة وألفاظ – ليس غير العلم الذي يقوم بالنفس، وكذا الأمر والنهي – بغير صيغة ولفظ الأمر والنهي – وليس غير الإرادة التي تقوم بالنفس. وإذا صح هذا كان إثباتكم للكلام النفسي على أنه الخبر والأمر والنهي إنما يرجع إلى صفتي: العلم والإرادة، والنتيجة أن قولكم يؤدي إلى إنكار صفة الكلام، لأن ما أثبتموه من الكلام النفسي لم يكن غير العلم والإرادة. أجاب الأشاعرة عن ذلك – كما يعبر عنهم الرازي – بما يلي: أ- أجاب بعضهم بأن الخبر يؤول إلى العلم، بناء على أن بعض الناس قال في الكلام إن الأمر والنهي يؤول إلى الخبر، وإذا كان كذلك فلم لا يؤول الخبر أيضا إلى العلم. ولكن شيخ الإسلام ضعف هذا الجواب بناء على أن الإنسان يجد في نفسه فرقا بين الطلب والخبر (4).ثم إنه أجاب عن ذلك بأن الرازي والأشاعرة إذا كانوا قد أجابوا عن مسألة الأمر والنهي بأن الله قد يأمر بما لا يريد – ومعهم في هذا حق بالنسبة للإرادة الكونية – إلا أنهم لم يمكنهم أن يقولوا: إن الله أخبر بما لا يعلمه، أو بما يعلم ضده، بل علمه من لوازم خبره، ولهذا أخبر الله تعالى عن رسوله بأن القرآن لما جاءه، جاءه العلم فقال تعالى: فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران: 61] وقال: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ [البقرة: 120]، وهذا مما احتج به الأئمة على تكفير من قال بخلق القرآن، لأن الله أخبر أن هذا الذي جاءه من العلم، وقول المعتزلة يستلزم أن يكون علم الله مخلوقا (5).   (1) ((الإيمان)) (ص: 132). (2) انظر: ((الإيمان)) (ص: 132 - 134). (3) انظر: ((التسعينية الوجه الثاني عشر إلى الوجه الخامس والعشرين)) (ص: 151 - 169). (4) انظر: ((التسعينية)) (ص: 152 - 154) – الوجه الخامس عشر. (5) انظر: ((التسعينية)) (ص: 154). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 أما دعوى أن الإنسان قد يحكم أو يخبر بخلاف علمه – وهي حجة الرازي التي سبقت – فإن شيخ الإسلام رد عليها من وجوه: أحدها: أن الأشاعرة أنفسهم قد أقروا بفسادها؛ وذلك "أنهم يحتجون على وجوب الصدق لله بأن الكلام النفساني يمتنع فيه الكذب لوجوب العلم لله، وامتناع الجهل، وهذا الدليل قد ذكره جميع أئمتهم حتى الرازي ذكره – لكن قال: إنما يدل على صدق الكلام النفساني لا على صدق الحروف الدالة عليه – وإذا جاز أن يتصف الحي بحكم نفساني لا يعلمه ولا يعتقده ولا يظنه، بل يعلم خلافه، امتنع حينئذ أن يقال: الحكم النفساني مستلزم للعلم، أو أنه يمتنع أن يكون بخلاف العلم فيكون كذبا. وهذا الذي قالوه تناقض في عين الشيء، ليس تناقضا من جهة اللزوم ... " (1)، ووجه التناقض واضح فإنهم لما أرادوا أن يقولوا أن الخبر قد يغاير العلم استدلوا بأن الإنسان قد يحكم ويخبر بخلاف علمه مما هو كذب، فيكون خبره مخالفا لعلمه، ثم قالوا في الاستدلال على أن الله صادق أن الكلام النفساني يمتنع فيه الكذب لوجوب العلم لله وامتناع الجهل، وعليه فيمتنع أن يكون في خبر الله ما يخالف علمه، وهذا يناقض القول السابق بأن الإنسان قد يخبر بخلاف علمه. وإذا علم أن أصل المسألة إنما يتعلق بخبر الله وعلمه لا خبر الإنسان وعلمه بأن تناقضهم، ولم يفدهم شيئا كون ذلك قد يقع للإنسان، لأنهم إنما احتجوا بذلك ليتوصلوا به إلى صحة مغايرة الخبر للعلم بالنسبة لله، وهم يقولون إن خبر الله لا يخالف علمه. الثاني- تناقضهم أيضا في مسألة الإيمان، فإنهم يقولون – كما يقول الجويني – "عن حقيقة الإيمان التصديق بالله تعالى، فالمؤمن بالله من صدقه، ثم التصديق على التحيق كلام النفس، ولا يثبت كلام النفس إلا مع العلم، فإنا أوضحنا أن كلام النفس يثبت على حسب الاعتقاد" (2)، قال شيخ الإسلام مبينا تناقضهم: "وهذا تصريح بأنه لا يكون (أي الإيمان والتصديق) مع عدم العلم، ولا يكون على خلاف المعتقد، وهذا يناقض ما أثبتوه به كلام النفس وادعوا أنه مغاير للعلم" (3)، ويلاحظ هنا أن الجويني صرح بأن التصديق – على التحقيق – كلام النفس، ثم صرح بأنه لا يكون كلام النفس إلا مع العلم. وهذا مناقض تماما لما ذكروه في الكلام النفسي. ولبعض الأشاعرة تناقض آخر في مسألة الإيمان، حيث صرح أبو إسحاق بأن الإيمان هو التصديق، وأن ذلك لا يتحقق إلا بالمعرفة والإقرار، وإذا كان من المعلوم أن الإقرار إنما يكون باللسان، كان هذا مناقضا لما ادعوه من أن الكلام مجرد ما يقوم بالنفس (4).الثالث: أن دعواهم – في مغايرة الخبر للعلم – بأن الإنسان قد يخبر بخلاف علمه مما هو كذب "يهدم عليهم إثبات العلم بصدق الكلام النفساني القائم بذات الله، وإذا فسد ذلك لم ينفعهم إثبات كلام له يجوز أن يكون صدقا أو كذبا، بل لم ينفعهم إثبات كلام لم يعلموا وجوده إلا وهو كذب؛ فإنهم لم يثبتوا الخبر النفساني إلا بتقدير الخبر الكذب، فهم لم يعلموا وجود خبر نفساني إلا ما كان كذبا، فإن أثبتوا لله ذلك كان كفرا باطلا خلاف مقصودهم وخلاف إجماع الخلائق، إذ أحد لا يثبت لله كلاما لازما لذاته هو كذب، وإن لم يثبتوا ذلك لم يكن لهم طريق إلى إثبات الخبر النفساني بحال، لأنا حينئذ لم نعلم وجود معنى نفسانيا صدقا غير العلم ونحوه لا شاهدا ولا غائبا" (5).   (1) ((التسعينية)) (ص: 155)، وانظر: ((الفرقان بين الحق والباطل – مجموع الفتاوى)) (13/ 129). (2) ((الإرشاد للجويني)) (ص: 397)، وهو في ((التسعينية)) (ص: 157). (3) ((التسعينية)) (ص: 157)، وانظر بقية المناقشة إلى (ص: 162). (4) انظر: ((التسعينية)) (ص: 160 - 161). (5) ((التسعينية)) (ص: 162)، وانظر ((ص: 163). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 الرابع: أن الله تعالى قال: فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] "فنفى عنهم التكذيب وأثبت الجحود، ومعلوم أن التكذيب باللسان لم يكن منتفيا عنهم التكذيب وأثبت الجحود، ومعلوم أن التكذيب باللسان لم يكن منتفيا عنهم، فعلم أنه نفى عنهم تكذيب القلب، ولو كان المكذب الجاحد علمه يقوم بقلبه خبر نفساني لكانوا مكذبين بقلوبهم، فلما نفى عنهم تكذيب القلوب علم أن الجحود الذي هو ضرب الكذب، والتكذيب بالحق المعلوم – ليس هو كذبا في النفس ولا تكذيبا فيها، وذلك يوجب أن العالم بالشيء لا يكذب به ولا يخبر في نفسه بخلاف علمه" (1)، وقد اعترض على هذا باعتراض أجاب عنه شيخ الإسلام (2).ولشيخ الإسلام مناقشات وأوجه أخرى في الرد (3). وبهذه الأوجه يتبين أن ما ادعاه الأشاعرة من أن الخبر يغاير العلم غير صحيح بالنسبة لله، وإذا ثبت هذا تبين أن إثباتهم للكلام النفسي ليس شيئا غير صفة العلم، فأين صفة الكلام التي أثبتوها مغايرة لصفة العلم؟. ب- أما بالنسبة لقولهم في مغايرة الأمر والنهي للإرادة بأن الله قد يأمر بما لا يريد، فقد أجاب شيخ الإسلام عن ذلك بأجوبة منها: الأول: أنه احتج بإرادة الكائنات، وهذا في الإرادة الشاملة لكل موجود المنتفية عن كل معدوم وهي الإرادة الكونية القدرية، وهذه ليست الإرادة التي هي مدلول الأمر والنهي، لأن هذه مستلزمة للمحبة والرضا. وقد جاءت النصوص بالتفريق بين الإرادتين، فالكونية مثل قوله تعالى: فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء [الأنعام: 125] والثانية مثل قوله تعالى: مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 6]، وغيرها كثير (4). الثاني: أن احتجاج الرازي بإرادة الكائنات – وهي الإرادة الكونية – وأن الله قد يأمر بما لا يريد – معارض بأن النهي مستلزم لكراهة المنهي عنه، كما أن الأمر مستلزم لمحبة الأمور به، والمكروه لا يكون مرادا – شرعا -. والمنهي عنه إذا وقع – يعتوره أمران: - أنه مراد إرادة كونية شاملة. - وأنه غير مراد الإرادة الدينية، بل هو مكروه. فالإرادة المنفية عن المكروه الواقع غير الإرادة اللازمة له، وكل منهي عنه وإن كان مرادا فهو مكروه والكراهة مستلزمة له، فإجابة الرازي بأن إرادة الكائنات فيها ما هو منهي مردودة بأن ما كان منها منهيا عنه فهو مكروه، فلزمت الكراهية النهي وإن كان مرادا كونا وهذا يضعف احتجاجه بأن الله قد ينهي عما يريد. وقد أجاب الرازي بقوله: لا نسلم أنها مكروهة، بل هي منهي عنها. ولكن هذا الجواب مخالف لإجماع المسلمين بل لما علم بالضرورة من الدين، والله تعالى يقول: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء: 38].الثالث: أن الرازي لما طولب بالفرق بين الطلب والإرادة ذكر وجهين ضعيفين، ذكرهما شيخ الإسلام وناقشهما (5). ومع ذلك فإن شيخ الإسلام قد ذكر أن تفريق الأشاعرة بين الخبر والعلم ليس عندهم فيه أي دليل صحيح، بخلاف تفريقهم بين الأمر والنهي وبين الإرادة، بأن الله قد يأمر بما لا يريد، مع ما في هذا الدليل مما سبق بيانه.   (1) ((التسعينية)) (ص: 165). (2) انظر: ((التسعينية)) (ص: 165 - 166). (3) انظر: ((التسعينية)) (ص: 166 - 169). (4) انظر: ((التسعينية)) (ص: 151). (5) انظر: ((التسعينية)) (ص: 151 - 152). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وبما سبق من مناقشة أدلة الأشاعرة على الكلام النفسي، وما تلاه من اعتراض عليهم بأنه لا فرق بين الخبر والعلم، ولا بين الأمر والنهي والإرادة، ما داموا حصروا الكلام بأنه ما قام بالنفس فقط، فصفتا العلم والإرادة تقوما مقامه. الرد عليهم في قولهم بقدم الكلام وأن الله لا يتكلم بمشيئته: وهذا مبني – كما سبق – على نفيهم لقيام الصفات الاختيارية بالله، فقالوا بقدم الكلام ومنعوا أن يكون الله يتكلم إذا شاء متى شاء، ومذهب أهل السنة والجماعة إن الله لم يزل متكلما إذا شاء، وأن كلام الله لآدم أو لموسى أو للملائكة، كل في وقت تكليمه ومناداته، أي أنه تعالى لم يناد موسى قبل خلقه ومجيئه عند الشجرة، وإن كانت صفة الكلام أزلية، وقد بنى أهل السنة مذهبهم على مقدمتين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 - على أن الأمور الاختيارية تقوم بالله. - وعلى أن كلام الله لا نهاية له كما قال تعالى: قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف: 109] وقوله: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [لقمان: 27] (1).وقد ذكر السلف – توضيحا لمذهبهم، وتمييزا له عن مذهب الكلابية والأشعرية ومن اتبعهم – أن الله يوصف بالسكوت، وأنه إذا شاء تكلم وإذا شاء سكت، وكان من أشهر ما وقع في ذلك قصة ابن خزيمة مع الكلابية – وكان ممن اعتنق مذهبهم بعض تلامذته – فجرت فصول ذكرها الحاكم في تاريخ نيسابور، ونقلها وعلق عليها شيخ الإسلام (2)، وأشار أبو إسماعيل الأنصاري إلى هذه القصة في مناقب أحمد بن حنبل، ومما قاله فيها: "وجاءت طائفة فقالت: لا يتكلم بعد ما تكلم، فيكون كلامه حادثا" (3)، ثم قال بعد ذكره لموقف أبي بكر بن خزيمة من هؤلاء: "فطار لتلك الفتنة ذلك الإمام أبو بكر، فلم يزل يصيح بتشويهها، ويصنف في ردها كأنه منذر جيش، حتى دون في الدفاتر، وتمكن في السرائر ولقن في الكتاتيب، ونقش في المحاريب: إن الله متكلم، إن شاء الله تكلم وإن شاء سكت، فجزى الله ذلك الإمام وأولئك النفر الغر عن نصرة دينه وتوقير نبيه خيرا" (4).ويلاحظ التنصيص على ألفاظ واضحة البيان في مخالفة مذهب الكلابية والأشعرية، ومن ذلك قول ابن خزيمة – كما قصته مع الكلابية -: "الذي أقول به إن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله غير مخلوق، ومن قال: إن القرآن أو شيئا منه، ومن وحيه وتنزيله مخلوق، أو يقول: إن الله لا يتكلم بعدما كان يتكلم به في الأزل ... فهو عندي جهمي يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه" (5).وذكر عن ابن خزيمة أيضا أنه قال: "زعم بعض جهلة هؤلاء الذين نبغوا في سنتنا هذه أن الله لا يكرر الكلام فهم لا يفهمون كتاب الله ... " (6).ولهذا لما كان مذهب الأشاعرة بنفي ما يقوم بالله من الصفات الاختيارية بناء على نفي حلول الحوادث، ومن ثم منعوا أن يقال: إن الله يتكلم إذا شاء متى شاء كلاما قائما به، وإنه يتكلم شيئا بعد شيء – أجابهم شيخ الإسلام بقوله: "قلنا من أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل، وهو قول لازم لجميع الطوائف .... " (7).   (1) انظر: ((منهاج السنة)) (2/ 98) – ط مكتبة الرياض الحديثة. (2) في ((درء التعارض)) (2/ 9 - 10، 78 - 83)، و ((مجموع الفتاوى)) (6/ 169 - 177). (3) ((درء التعارض)) (2/ 76 - 77). (4) عن ((درء التعارض)) (2/ 77 - 78)، و ((شرح الأصفهانية)) (ص: 202 - 203) – ت السعوي. (5) ((درء التعارض)) (2/ 79)، و ((مجموع الفتاوى)) (6/ 170). (6) ((درء التعارض)) (2/ 79)، و ((مجموع الفتاوى)) (6/ 171). (7) ((منهاج السنة)) (2/ 298)) - ط دار العروبة المحققة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 والنصوص الدالة على إثبات صفة الكلام لله – على وفق مذهب السلف – كثيرة جدا، بل إن فيها أن الله قد يوصف بالسكوت، ومن هذه الأدلة:1 - قوله تعالى: فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [النمل: 8] وقوله: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص: 30] وقوله: هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى [النازعات: 15 - 16] وقال: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه: 11 - 12]، قال شيخ الإسلام معلقا على هذه النصوص: "وفي هذا دليل على أنه حينئذ نودي، ولم يناد قبل ذلك، ولما فيها من معنى الظرف" (1).2 - ومن ذلك قوله تعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 65]، وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص: 74] فإنه وقت النداء بظرف محدود، فدل على أن النداء يقع في ذلك الحين دون غيره من الظروف، وجعل الظرف للنداء لا يسمع النداء إلا فيه" (2).3 - "ومثل هذا قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30] وقوله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ [البقرة: 34] وأمثال ذلك مما فيه توقيت بعض أقوال الرب بوقت معين، فإن الكلابية ومن وافقهم من أصحاب الأئمة الأربعة يقولون: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، بل الكلام المعين لازم لذاته كلزوم الحياة لذاته" (3). وهذه النصوص واضحة الدلالة في الرد عليهم، لأنه إذا كانت دالة على أن الله تكلم بالكلام المذكور، في ذلك الوقت، فكيف يقال إنه كان أزليا أبديا، وهل يمكن أن يقال أنه لم يزل ولا يزال قائلا يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ، اسْجُدُواْ لآدَمَ، اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا [هود: 48]؟ (4).4 - أما الأحاديث في ذلك كثيرة، منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم صلاة الصبح بالحديبية: ((أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟، قالوا الله ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر .. )) (5)، وحيث ((إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كالسلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير ... )) (6)، وفي لفظ آخر أكثر صراحة: ((إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا .. )) (7)، فكيف يفسرون مثل هذه النصوص من الكتاب والسنة بأن المقصود من كلام الله لهم خلق إدراك لهم يسمعون به الكلام القديم (8)؟، ولا شك أن ذلك تأويل وتحريف للنصوص مثل تأويل بقية الصفات التي أولها النفاة ومن يوافقهم من هؤلاء.5 - أما الأحاديث التي فيها ذكر السكوت، فمنها حديث: ((ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو ... ))   (1) ((مجموع الفتاوى)) (12 - 131). (2) ((مجموع الفتاوى)) (12 - 131). (3) ((مجموع الفتاوى)) (13 - 131). (4) انظر: ((منهاج السنة)) (3/ 104 - 105) – ط بولاق. (5) رواه البخاري (846) , ومسلم (71) , من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه. (6) رواه البخاري (4701). (7) رواه أبو داود (4738) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, وسكت عنه. وصححه ابن تيمية في ((العقيدة الأصفهانية)) (68) , والألباني في ((صحيح أبي داود)). (8) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 180). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 (1) وحديث: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها)) (2). قال شيخ الإسلام معلقا على هذه الأحاديث: "فثبت بالسنة والإجماع أن الله يوصف بالسكوت. لكن السكوت يكون تارة عن التكلم، وتارة عن إظهار الكلام وإعلامه، كما قال في الصحيحين عن أبي هريرة: ((يا رسول الله: أرأيتك سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب ... )) (3) إلى آخر الحديث، فقد أخبره أنه ساكت، وسأله ماذا تقول؟ فأخبره أنه يقول في حال سكوته، أي سكوته عن الجهر والإعلان. لكن هذان المعنيان المعروفان في السكوت، لا تصح على قول من يقول: إنه متكلم كما إنه عالم، لا يتكلم عند خطاب عباده بشيء، وإنما يخلق لهم إدراكا ليسمعوا كلامه القديم، سواء قيل: هو معنى مجرد، أو معنى وحروف، كما هو قول ابن كلاب والأشعري، ومن قال بذلك من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية من الحنبلية وغيرهم، فهؤلاء إما أن يمنعوا السكوت – وهو المشهور من قولهم – أو يطلقوا لفظه ويفسروه بعدم خلق إدراك للخلق يسمعون به الكلام القديم، والنصوص تبهرهم، مثل قوله: إذا تكلم الله بالوحي ... " (4) والله تعالى فرق بين إيحائه وتكليمه كما في قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء [الشورى: 51]، وغيرها، وكذا تكليم عباده يوم القيامة، وغير ذلك من النصوص، وكلها تدل على تجديد تكليم من جهته تعالى (5).وقد حاول بعض الحنابلة – كالقاضي أبي يعلى وابن الزاغوني – أن يفسروا قول الإمام أحمد: "لم يزل الله متكلما إذا شاء" بما يوافق مذهبهم الكلابي، وقد ناقش شيخ الإسلام هذه المسألة وبين خطأ هؤلاء في تفسيرهم لكلام الإمام أحمد، مبينا أن تفسير هؤلاء – وغيرهم – للسكوت بأنه عدم خلق إدراك لغيره – غير معقول (6). وجمهور الأشاعرة يمنعون من أن يوصف الله بالسكوت ويجعلون ذلك من حججهم على قولهم بأن كلام الله قديم، فإن لهم في ذلك حجتين:   (1) رواه الترمذي (1726) , وابن ماجه (3367) من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه, قال الترمذي: غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه, وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/ 185): معنى هذا الحديث ثابت في الصحيح, وحسنه الألباني في ((صحيح الترمذي)) و ((صحيح ابن ماجه)). (2) رواه الدارقطني (4/ 183) (42) , والطبراني في ((الكبير)) (22/ 221) (589) , والبيهقي (10/ 12) كلهم من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه, قال ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (2/ 965): غريب ومكحول لم يسمع من أبي ثعلبة, وقال الذهبي في ((المهذب)) (8/ 3976): موقوف ومنقطع، لم يلق مكحول أبا ثعلبة, وضعفه الألباني في ((غاية المرام)) (4). (3) رواه البخاري (744) , ومسلم (598). (4) مجموع ((الفتاوى)) (6/ 179،180) وانظر: ((الفرقان بين الحق والباطل – مجموع الفتاوى –)) (13/ 131). (5) انظر: ((درء التعارض)) (4/ 128 - 129). (6) انظر: تفصيل ذلك في ((مجموع الفتاوى)) (6/ 157 - 163)، و ((شرح الأصفهانية)) (ص: 204 - 205) – ت السعوي – ط على الآلة الكاتبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 "الحجة الأولى: أنه لو لم يكن الكلام قديما للزم أن يتصف في الأزل بضد من أضداده، إما السكوت وإما الخرس، ولو كان أحدهما قديما لامتنع زواله وامتنع ان يكون متكلما فيما لا يزال، ولما ثبت أنه متكلم فيما لم يزل ثبت أنه لم يزل متكلما، وأيضا فالخرس آفة ينزه الله عنها. والحجة الثانية: أنه لو كان مخلوقا لكان قد خلق إما في نفسه، أو في غيره،، أو قائما بنفسه، والأول ممتنع، لأنه يلزم أن يكون محلا للحوادث والثاني باطل، لأنه يلزم أن يكون كلاما للمحل الذي خلق فيه، والثالث باطل لأن الكلام صفة والصفة لا تقوم بنفسها، فلما بطلت الأقسام الثلاثة تعين أنه قديم" (1).والحجة الثانية هي الحجة المشهورة التي بنوا عليها مذهبهم في كلام الله وفي الصفات الاختيارية وهي مسألة حلول الحوادث التي منعوها (2).وهاتان الحجتان هما من حجج الأشاعرة القديمة جاءت على يد الأشعري (3). وتلقفها أتباعه من بعده. وقد ناقش شيخ الإسلام هاتين الحجتين بتفصيل ووضوح، وبين ما فيهما من حق وهو الدلالة على إثبات صفة الكلام لله وقدم نوعه، وما فيهما من باطل وهو الزعم بأنها تدل أن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته (4). ونقاش شيخ الإسلام لذلك طويل ومهم، ويمكن تلخيصه بما يلي:   (1) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 291). (2) انظر: ((التسعينية)) (ص: 101 - 102)، و ((مجموع الفتاوى)) (6/ 519). (3) انظر: ((الإبانة)) (ص: 66 - 67، 72) – ت فوقية، و ((اللمع)) (ص: 17) – ت مكارئي. (4) انظر: هذه المناقشة في ((مجموع الفتاوى)) (6/ 292 - 329). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 أ- أما الحجة الأولى: للأشاعرة – وهي أن ضد الكلام الخرس والسكوت – وأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده ... فيقال فيها ما يلي:1 - أن أصحابهم المتأخرين – كالرازي والآمدي – خالفوهم في هذا (1).2 - أن القاعدة الكلية التي ذكروها، وهي "أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده – باطلة، لأن هذه لا يجوز أن تدعى إلا في حق الله خاصة، أما المخلوق فإنه إذا كان قابلا للشيء كان وجود القبول فيه من غيره وهو الله تعالى، وإحداث الله لذلك القبول لا يجوز أن يكون مقارنا للقابل، بل يجوز أن يتوقف على شروط يحدثها الله، وعلى موانع يزيلها، فوجود القبول هنا ليس منه (أي من المخلوق) فلم تكن ذاته كافية فيه، وأما الرب تعالى فلا يفتقر شيء من صفاته وأفعاله على غيره، بل هو الأحد الصمد المستغني عما سواه ... " (2)، وقد شرح هذا بالنسبة لله فقال: "تقرير الحجة بأن يقال: لأن الرب تعالى إذا كان قابلا للاتصاف بشيء لم يخل منه أو من ضده، أو يقال: بأنه إذا كان قابلا للاتصاف بصفة كمال لزم وجودها له؛ لأن ما كان الرب قابلا له لم يتوقف وجوده له على غيره، فإن غيره لا يجعله لا متصفا ولا فاعلا، بل ذاته وحدها هي الموجبة لما كان قابلا له" (3).وإذا تقررت هذه الحجة فإنها تكون دالة على قدم صفة الكلام، وأنه تعالى لم يزل متكلما، بل تكون دالة على قدم جميع صفاته، وأن ذاته مستلزمة لجميع صفات الكمال – مما لا نقص فيه بوجه من الوجوه – ومن ذلك صفة الكلام لأن من يتكلم أكمل ممن لا يتكلم (4).ويقرر شيخ الإسلام – هذه الحجة على وفق مذهب السلف فيقول: "يقال: إما أن يكون قادرا على الكلام أو غير قادر، فإن لم يكن قادرا فهو الأخرس، وإن كان قادرا ولم يتكلم فهو الساكت" ثم بين أن الكلابية لا يمكنهم أن يحتجوا بهذه الحجة لأن الكلام عندهم ليس بمقدور – ثم أكمل الحجة فقال: "لكن (هل) مدلولها قدم كلام معين بغير قدرته ومشيئته؟ أم مدلولها أنه لم يزل متكلما بمشيئته وقدرته؟ والأول قول الكلابية، والثاني قول السلف والأئمة وأهل الحديث والسنة، فيقال: مدلولها الثاني لا الأول؛ لأن إثبات كلام يقوم بذات المتكلم بدون مشيئته وقدرته غير معقول ولا معلوم، والحكم على الشيء فرع عن تصوره. فيقال للمحتج بها: لا أنت ولا أحد من العقلاء يتصور كلاما يقوم بذات المتكلم بدون مشيئته وقدرته، فكيف تثبت بالدليل المعقول شيئا لا يعقل؟ " (5). وبهذا تكون هذه الحجة دليلا على إثبات صفة الكلام لله وقدم نوعه وأن الله يتكلم إذا شاء متى شاء خلافا للأشعرية.3 - أن دعوى أنه "لو لم يتصف بالكلام لاتصف بالخرس والسكوت إنما يعقل في الكلام بالحروف والأصوات، فإن الحي إذا فقدها لم يكن متكلما فإما أن يكون قادرا على الكلام ولم يتكلم، وهو الساكت، وإما أن لا يكون قادرا عليه، وهو الأخرس. وإما ما يدعونه من "الكلام النفساني" فذاك لا يعقل أن من خلا عنه كان ساكتا أو أخرس، فلا يدل بتقدير ثبوته (على) أن الخالي عنه يجب أن يكون ساكتا أو أخرس" (6)، وإذا كان الكلام النفساني الذي ادعوه غير متصور، فالسكوت والخرس إنما يتصور إذا تصور الكلام، وهؤلاء – في الكلام – يشبهون النصارى في الكلمة (7).   (1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 293). (2) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 294). (3) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 293). (4) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 294). (5) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 294 - 295). (6) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 295). (7) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 296). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 4 - أن المعتزلة اعترضوا عليهم هنا ولم يستطيعوا أن يجيبوهم بجواب صحيح، وذلك أنهم قالوا للكلابية والأشعرية: القول في الكلام كالقول في الفعل، فإننا إذا كنا – نحن وأنتم – قد اتفقنا على أن الله تعالى لم يكن فاعلا في الأزل، ثم صار فاعلا، ولم نقل – لا نحن ولا أنتم – إنه كان في الأزل عاجزا أو ساكتا، فإذا كان لا يلزم من عدم فعله في الأزل أن يوصف بضده من العجز والسكوت، فكذلك يقال في صفة الكلام، إذا قيل: لم يكن متكلما – على مذهب المعتزلة – لا يوصف بضد الكلام وهو السكوت أو الخرس. ومناقشة الأشاعرة للمعتزلة هنا مناقشة ضعيفة ولهذا عدل بعض متأخري الأشعرية كالجويني إلى الحجة الثانية (1).أما السلف فلا يلزمهم اعتراض المعتزلة لأنهم يقولون الكلام كالفعل، وإن الله لم يزل خالقا فاعلا كما أنه لم يزل متكلما (2)، كما سبق بيانه في مسألة حوادث لا أول لها. ب- وأما الحجة الثانية: للأشاعرة وهي إنه لو كان مخلوقا لكان إما خلقه في نفسه أو في غيره أو لا في محل، والأول يلزم منه أن يكون محلا للحوادث وهو باطل، والثاني يلزم منه أن يكون صفة لذلك المحل وهو باطل، والثالث ممتنع لأن الصفة لا تقوم بنفسها – فشيخ الإسلام بين أن هذه الحجة – أيضا – صحيحة، ولكنها تدل على صحة مذهب السلف وفساد مذهب الكلابية والأشعرية، والمعتزلة.   (1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 297). (2) انظر: ((مجموع الفتاوى)) 6/ 298 - 299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 أما مذهب المعتزلة فواضح فساده من جهة أنه لو خلقه في محل لكان صفة لذلك المحل، وإن كان الأشاعرة متناقضين هنا، لأنهم لم يطردوها ولذلك تسلط عليهم المعتزلة بأنهم يصفونه بأنه خالق ورازق ومحيي ومميت، وعادل محسن، من غير أن يقوم به شيء من هذه المعاني، بل يقوم بغيره، لأن الأشاعرة – كما سبق في مسألة حلول الحوادث – يقولون الخلق هو المخلوق، فكيف يقولون إن الله يوصف بأنه خالق ورازق من غير أن تقوم بالله صفة، وإنما المقصود ما يخلقه الله من الخلق والرزق – ولا يقولون إن الله متكلم، من غير أن تقوم به صفة الكلام والمقصود الكلام الذي خلقه في غيره؟ ولماذا لم يجعلوا هذا مثل هذا. وليس للأشاعرة جواب صحيح على هذا الاعتراض، وهو من التناقضات العديدة التي يزخر بها مذهب الأشاعرة. أما أهل السنة والسلف فإن الفعل عندهم غير المفعول، ويقولون إن الفعل يقوم به كالكلام. ومن ثم جعلوا هذه القاعدة حجة على الفريقين: المعتزلة والأشاعرة (1).أما الاحتمال الأول – وهو أنه لو خلقه في نفسه لكان محلا للحوادث – فأهل السنة والجمهور يمنعون أن يسمى كل حادث مخلوقا، بل كلام الله المحدث كما قال تعالى: مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ [الأنبياء: 2]، لا يقال عنه إنه مخلوق، لأن الله يتكلم إذا شاء متى شاء بكلام بعد كلام، وكذا ما يقوم بذاته بقدرته ومشيئته، فهناك فرق بين هذه الصفات، وبين ما يكون بائنا عنه من المخلوقات، لأنها لابد لها من خلق، أما صفة الخلق أو الكلام أو غيرهما، القائم بذاته فإنه لا يفتقر إلى خلق، بل هو حصل بمجرد قدرته ومشيئته (2).ولذلك يرى شيخ الإسلام أن هذه الحجة لا داعي فيها لهذا الاحتمال – وهو أنه خلقه في نفسه – بل يقال: "لو خلقه لكان إما أن يخلقه في محل فيكون صفة له، أو يخلقه قائما بنفسه وكلاهما ممتنع، ولا يذكر فيها: إما خلقه في نفسه، لأن كونه مخلوقا يقتضي أن له خلقا، والخلق القائم به لو كان مخلوقا لكان له خلق، فيلزم أن يكون كل خلق مخلوقا، فيكون الخلق مخلوقا بلا خلق وهو ممتنع" (3).وهذا على أصل السلف والجمهور الذين لا يسمون كل محدث مخلوقا وأما من يجعل كل حادث مخلوقا، فيمكن أن يرد هذا الاحتمال – الأول – فيقال: إذا أحدثه فإما أن يحدثه في نفسه أو خارجا عن نفسه، أو لا في محل. والثاني والثالث ممتنعان بإطلاق. ويبقى الأول – وهو احتمال أن يحدثه في نفسه، والأشاعرة يمنعونه لبطلان حلول الحوادث عندهم، وأهل السنة يقولون به لأنهم يجوزون أن تقوم بالله الصفات الاختيارية، وإن سماها هؤلاء أو غيرهم حوادث – ومن ثم يرجع الكلام إلى ما سبق تفصيله في مسألة "حلول الحوادث" (4).ولو قالوا – كما سبق مثاله في حججهم على نفي حلول الحوادث، مع مناقشته – لو قالوا هنا: الفرد من أفراد الكلام هل هو نقص أو كمال؟ فإن كان نقصا فهو ممتنع، وإن كان كمالا فهو ناقص قبله – فيقال لهم: "هو كمال وقت وجوده، ونقص قبل وجوده، مثل مناداته لموسى كانت كمالا لما جاء موسى، ولو ناداه قبل ذلك لكان نقصا، والله منزه عنه ... " (5).وقد اعترف الرازي – أحد أئمة الأشاعرة – بأن حلول الحوادث لازم لجميع الطوائف فقال: " هل يعقل أن يكون محلا للحوادث؟ قالوا: إن قول لم يقل به أحد إلا الكرامية.   (1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 317 - 318)، وانظر: ((الكيلانية – مجموع الفتاوى –)) (ص: 436)، و ((التسعينية)) (ص: 102 - 105)، و ((منهاج السنة)) (2/ 292) – ط العروبة المحققة. (2) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 320). (3) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 321). (4) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 326) وما بعدها. (5) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 326). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وأنا أقول: إن هذا قول قال به أكثر أرباب أهل المذاهب، أما الأشعرية: فإنهم يدعون الفرار من هذا القول إلا أنه لازم عليهم من وجوه .... " (1). ولما جاء إلى صفة الكلام، بين أنه ليس هناك فرق معقول بين الطلب والإرادة – وهذا رد على مسألة الكلام النفسي – كما سبق – ثم بين أن الذين زعموا أن هذا الكلام – النفسي – قديم – هو قول بعيد، وذكر أدلة كون هذا القول بعيدا – وهي أدلة إلزامية قوية – ثم ذكر أدلة من قال بقدمه ورد عليها (2). هذا هو الرازي الذي يعتبرونه أعظم أئمتهم ومحققيهم يقول بما يدل على بطلان مذهب الأشاعرة، وصحة مذهب أهل السنة، في مسألة من أهم المسائل وأعظمها، وبها تميز المذهب الأشعري عن غيره. وإذا كان الرازي قد يتناقض في هذا الباب – فتارة يوافق الأشاعرة وتارة يرد عليهم – فإن غير الرازي كأبي حامد الإسفراييني، وأبي محمد الجويني – والد إمام الحرمين – وغيرهما كانوا يخالفون الأشاعرة ويقولون إن مذهب الشافعي والإمام أحمد وسائر علماء الأمصار مخالف لما عليه هؤلاء الأشاعرة في كلام الله (3). الرد على الأشاعرة في قولهم: إن كلام الله معنى واحد: وقولهم: هو الأمر بكل مأمور والخبر عن كل مخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وقولهم إن الأمر والنهي صفات للكلام، لا أنواع له، ولذلك فلا فرق بين القرآن والتوراة، ولا بين آية وآية أخرى دلت على معنى مختلف. وهذا من أعجب ما في مذهب الأشاعرة وأشده غرابة، حيث إنه مخالف لبدائه العقول، ولواقع الأمر أيضا، ولا شك أن أعلام الأشاعرة – وفيهم الأئمة والقضاة والفقهاء – لم يكونوا ليقبلوا الإقرار بمثل هذا لولا أن هناك أصولا عقلية سلموها تسلطت على رؤوسهم ورقابهم لم يستطيعوا منها فكاكا ولا لها دفعا. فأصبحوا يسلمون بمثل هذه الأقوال المخالفة للعقل والنقل والفطر، ويبحثون لها عن تعليلات وتبريرات وتخريجات لا تغني شيئا. ولذلك اعترف بعض أعلامهم بما في المذهب الأشعري من إشكالات، حتى قال العز بن عبدالسلام لما سئل في مسألة القرآن: "كيف يعقل شيء واحد هو أمر ونهي وخبر واستخبار؟ فقال أبو محمد: ما هذا بأول إشكال ورد على مذهب الأشعري" (4). وسترد أمثلة أخرى إن شاء الله تعالى. ومناقشة قول الأشاعرة – في زعمهم أن كلام الله معنى واحد – واضحة جدا، ويمكن إجمال ردود شيخ الإسلام عليهم في ذلك بما يلي:1 - أن هذا القول انفردوا به عن سائر الفرق، كما ذكره الرازي (5)، سواء قالوا – كما هو قول جمهورهم – إنه معنى واحد، أو قالوا إنه خمسة معان، كما هو قول بعضهم.   (1) ((المطالب العالية للرازي)) (2/ 106). (2) انظر: ((المطالب العالية للرازي)) (3/ 204 - 207). (3) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/ 557 - 558). (4) انظر: ((التسعينية)) (ص: 261). (5) انظر: ((التسعينية)) (ص: 175). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 فالذين قالوا هو معنى واحد قالوا: ذلك المعنى هو معنى كل أمرٍ أمر الله به، سواء كان أمر لتكوين، أو أمر تشريع، وسواء أمرا ورد في القرآن أو ورد في التوراة، وكذلك هو معنى كل نهي نهى الله عنه، وهو معنى كل خبر أخبر الله به. والذين قالوا إنه خمسة معان يقولون الأمر الواحد هو الأمر بالصلاة والزكاة، والحج، والسبت – الذي لليهود – وهو الأمر بالناسخ والمنسوخ، وبالأقوال وبالأفعال، وبالعربي والعبراني، كل ذلك أمر واحد، ومثله النهي ومثله الخبر، حيث يقولون: إن ما أخبر الله به في آية الكرسي وسورة الإخلاص، وقصص الأنبياء والكفار، وصفة الجنة والنار، كل ذلك خبر واحد (1).يقول شيخ الإسلام معلقا على هذا: "ومن المعلوم أن مجرد تصور هذا القول يوجب العلم الضروري بفساده، كما اتفق على ذلك سائر العقلاء، فإن أظهر المعارف أن الأمر ليس هو الخبر، وأن الأمر بالسبت هو الأمر بالحج، وأن الخبر عن الله ليس هو الخبر عن الشيطان الرجيم" (2)، ولا شك أيضا أن معنى آية الكرسي ليس هو معنى آية الدين، كما أن معاني قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] ليست هي معاني تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد: 1] (3).وكذلك أيضا فإن "المعاني التي أخبر الله بها في القرآن في قصة بدر وأحد والخندق، ونحو ذلك لم ينزلها الله على لسان موسى بن عمران، كما لم ينزل على محمد تحريم السبت، ولا الأمر بقتال عباد العجل فكيف يكون كلام الله معنى واحدا" (4). ومن المعلوم أن التوراة إذا عربت لم تكن هي القرآن، كما أن آية الكرسي ليست معنى آية الدين (5). وهذا واضح جدا، ويلاحظ أن الأشاعرة يلتزمون هذه اللوازم الفاسدة فيقولون: إن كلام الله معنى واحد، فلا يفرقون بين آية الدين وآية الكرسي، ولا بين القرآن والتوراة، بل كل ذلك معنى واحد لا يتبعض ولا يتجزأ، ولا يتكلم الله بشيء منه دون شيء إلا على معنى خلق إدراك للخلق فقط – كما سبق -.بل إن شيخ الإسلام يرى أنه يلزم على قولهم أن تكون الحقائق الموجودة كالملائكة والجن، والجنة والنار – شيئا واحدا، لأن معاني الكلام تتبع الحقائق الخارجة، وهذا لازم لا محيد لهم عنه (6).2 - يقال للأشاعرة: موسى لما كلمه الله، فأهم كلامه كله أو بعضه؟ إن قلتم: كله، فقد صار موسى يعلم علم الله، وهذا من أعظم الباطل، وإن قلتم بعضه: فقد تبعض كلام الله وأنتم تقولون: إنه لا يتبعض. وفي هذا إبطال لقولكم (7). وأيضا فإن الله فضل موسى بالتكليم على غيره ممن أوحى إليهم، كما فرق تعالى بين التكليم والوحي، وهذا يدل على أن الكلام ليس معنى واحدا، لأنه – حينئذ – لا يكون هناك فرق بين التكليم الذي خص به موسى، والوحي العام الذي يكون لغيره. وهذا بين (8).وكذلك قولهم إن القرآن عبارة عن كلام الله، فإن كان عبارة عن كلام الله كله فهو باطل، وإن كان عبارة عن بعضه فهو مبطل لقولكم (9).   (1) انظر: ((التسعينية)) (ص: 175). (2) ((التسعينية)) (ص: 175، 177). (3) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/ 122، 267)، و ((منهاج السنة)) (3/ 104) – ط بولاق، و ((جواب أهل العلم والإيمان – مجموع الفتاوى)) (17/ 17). (4) ((منهاج السنة)) (3/ 104) – ط بولاق. (5) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/ 558)، و ((الدرء)) (1/ 267، 112 - 113). (6) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/ 558)، و ((الدرء)) (1/ 267، 112 - 113). (7) انظر: ((التسعينية)) (ص: 177). (8) انظر: ((منهاج السنة)) (3/ 105) – ط بولاق، و ((مجموع الفتاوى)) (9/ 283، 12/ 130). (9) انظر: ((منهاج السنة)) (3/ 105) – ط بولاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 3 - إلزامهم أن يقولوا في الصفات ما قالوه في الكلام، وبالعكس، وذلك أنه إذا جاز أن يجعلوا الحقائق المتنوعة – كآية الدين، وآية الكرسي، وقصة موسى، وقصة نوح، والأمر بالصلاة، والأمر بالسبت، والنهي عن الزنا وعن الربا، والقرآن والتوراة، والإنجيل – شيئا واحدا، فيلزمهم أن يجوزوا أن يكون العلم والقدرة والكلام والسمع والبصر والحياة والإرادة، صفة واحدة، أو أن يقولوا في الكلام ما يقولونه في الصفات من أن العلم غير القدرة والإرادة غير الحياة، وإن كانت صفات قائمة بالله تعالى. وقد أسهب شيخ الإسلام في شرح هذا الإلزام وبين أنه لا محيد للأشاعرة عنه، وأن أئمتهم اعترفوا به (1).وممن اعترف بذلك الآمدي، حيث قال بعد أن ذكر هذا الاعتراف – وهو الإلزام بالصفات – وذكر جواب أصحابه الأشاعرة عنه – قال معلقا على جواب شيوخه: "وفيه نظر" (2)، ثم قال: "والحق أن ما أوردوه من الإشكال على القول باتحاد الكلام وعود الاختلاف إلى التعلقات والمتعلقات مشكل، وعسى أن يكون عند غيري حله، ولعسر جوابه فر بعض أصحابنا إلى القول بأن كلام الله القائم بذاته خمس صفات مختلفة، وهي الأمر والنهي والخبر والاستخبار والنداء" (3).وقد علق شيخ الإسلام على كلام الآمدي بأن القول بأن الكلام خمس صفات أو سبع أو تسع أو غير ذلك من العدد لا يزيل ما تقدم من الأمور الموجبة لتعدد الكلام (4).ولشيخ الإسلام مناقشات متنوعة لهذا الإلزام وبيان تناقضهم من وجوه عديدة (5). وقياسهم لوحدة الكلام بوحدة المتكلم مردود أيضا من وجوه عديدة (6).4 - وهناك إلزام آخر لهم، وهو أنه يقال لهم ما يقولون هم لمن قال إن القرآن حروف وأصوات قديمة أزلية، وإن الباء ليست قبل السين، وهكذا، وقد نقل شيخ الإسلام نصا مهما للباقلاني من كتابه – (النقض) – رد فيه على هؤلاء (7)، ثم قال: "هذا بعينه وارد عليك فيما أثبته من المعاني، وهو المعنى القائم بالذات، فإن الذي نعلمه بالضرورة في الحروف نعلم نظيره بالضرورة في المعاني، فالمتكلم منا إذا تكلم ببسم الله الرحمن الرحيم، فهو بالضرورة ينطق بالاسم الأول لفظا ومعنى، قبل الثاني، فيقال في هذه المعاني نظير ما قاله في الحروف ... " (8).ولشيخ الإسلام في (درء التعارض) مناقشة أخرى مماثلة، فإن من قال باجتماع المعاني يلزمه ما يلزم من قال باجتماع الحروف وعدم تعاقبها (9). 5 - أن النصوص قد وردت بما يدل على تعدد الكلام وبطلان قول من زعم أنه معنى واحد، ومنها: أ- الآيات الواردة بأن الله كلمات، ومنها قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ [الأنعام: 115] وقوله: مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [لقمان: 27] وقوله: يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ [الأنفال: 7] وغيرها كثير جدا.   (1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/ 122 - 123). (2) انظر: ((درء التعارض)) (4/ 118). (3) ((درء التعارض)) (4/ 119)، وهو في أبكار الأفكار 1/ 95 - ب-96 - أ. (4) انظر: ((درء التعارض)) (4/ 119) وما بعدها. (5) انظر: ((التسعينية)) (ص: 176 - 177 والوجه 33)، و (ص: 179 الوجه 38)، و (ص: 180 - 181 الوجه 43)، و (ص: 186 الوجه 52)، من أوجه مناقشة الرازي. وانظر (مجموع الفتاوى)) (9/ 283)، و ((التسعينية)) أيضا (ص: 191). (6) انظر: ((التسعينية)) (ص: 181 - 187) (الأوجه 44 - 53) من أوجه الرد على الرازي. (7) انظر: ((التسعينية)) (ص: 188). (8) انظر: ((التسعينية)) (ص: 188). (9) انظر: ((درء التعارض)) (4/ 111 – 115). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 ب- كما وردت أحاديث كثيرة، فيها الاستعادة بكلمات الله التامات. ج- ومنها ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ جزءا من أجزاء القرآن)) (1).فكيف يقال – مع هذه النصوص – إن كلام الله لا يكون إلا معنى واحدا؟ (2) 6 - أن الأدلة دلت على أن القرآن بعضه أفضل من بعض وهذا أصح القولين لأهل السنة. وهذا يدل على أن كلام الله ليس معنى واحد. ولشيخ الإسلام مناقشات مطولة في هذا الموضوع (3).7 - ما في كلام هؤلاء من شبه بأقوال النصارى. وهذا يدل على بطلانه (4).8 - أن أئمة الاشاعرة اعترفوا بفساد قول ابن كلاب والأشعري في كلام الله، ومن هؤلاء: أبو حامد الإسفراييني، وأبو محمد الجويني، وأبو الحسن الكرجي، والعز بن عبدالسلام وغيرهم (5)، والإسفراييني كانت له مواقف مشهورة في الإنكار على الباقلاني وأقواله في كلام الله (6).وقد حاول الرازي أن يستدل لمذهب الأشاعرة في كلام الله وأنه بمعنى واحد بصفة العلم وأن علم الله لا نهاية له وهو واحد، ولكن شيخ الإسلام رد عليه من كلامه، وبين بطلان كلامه وتناقضه (7). المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1261 جمهور الأشاعرة التزموا بأن كلام الله معنى واحد قديم، وذهب قليل منهم إلى أنه متعدد بتعدد الكلام (8)، وهذا القول الأخير اختاره المكلاتي. أما الذين قالوا: إنه معنى واحد فقد انقسموا إلى ثلاث فرق:-الأولى قالت: إنه واحد وهو مع ذلك في الأزل أمر ونهي وخبر، وهذا القول قاله إمام الحرمين واختاره السعد (9).الثانية قالت: إنه واحد وهو في الحقيقة راجع على الخبر، واختاره الرازي (10).الثالثة قالت: إنه واحد ولا قسمة فيه في الأزل – وإنما يصير أمراً ونهياً وخبراً وفيما لا يزال (11).   (1) رواه مسلم (811). (2) انظر: ((التسعينية)) (ص: 210 - 217)، حيث أورد بعض اعتراضات الأشاعرة على الاستدلال بأن الكتاب والسنة نطقا بأن لله كلمات، كما أورد ص: 218 اعتراضا من الأشاعرة على حديث إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء وأجاب عنه. (3) انظر: ((الردء التعارض)) (7/ 271 - 273)، ((وجواب أهل العلم والإيمان – مجموع الفتاوى)) (ص: 10 - 74، 147 - 172). (4) انظر: ((التسعينية)) (ص: 225، 331). (5) انظر: ((التسعينية)) (ص: 236 - 238). (6) انظر: ((التسعينية)) (ص: 238)، و ((درء التعارض)) (2/ 95 - 99). (7) انظر: ((التسعينية)) (ص: 219 - 223). (8) انظر ((لباب العقول)) (ص: 282). (9) انظر ((شرح المقاصد للتفتازاني)) (ص: 512). (10) انظر ((محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين)) للرازي (ص: 185) و ((معالم أصول الدين)) (ص: 65). (11) انظر ((لباب العقول)) (ص: 282). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 أما قولهم: إن الكلام معنى واحد فقالوه فراراً من القول بالتعدد لأنه من صفات المحدثين لا الخالق. وهذا الذي قالوه حكم مجرد عن الدليل والبرهان، فإن في القرآن ما يدل صراحة على إثبات كلمات لله تعالى كقوله: قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف: 109]، فأثبت كلمات لله تعالى (1)، إلا أنهم يجيبون عن ذلك بأن الكثرة راجعة إلى التعلقات لا إلى أصل الكلام، وهذا مصادرة للمطلوب وإعراض عن ظاهر الكلام "إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة" (2) كما خاصموا المعتزلة. وهذا وقت الشروع في الرد على أقوالهم: فقول من قال إنه معنى واحد وهو مع ذلك في الأزل أمر ونهي واستخبار قول متهافت وفي غاية الضعف، إذ أن الأقسام الماضية مختلفة في حدودها – فالأمر مثلاً: طلب الفعل واقتضاؤه بالقول على وجه الاستعلاء (3)، وأما النهي: فهو طلب الترك واقتضاؤه بالقول على وجه الاستعلاء (4)، ومعلوم أن الخبر ليس فيه طلب ولا اقتضاء ضرورة، فإذا كان الأمر كذلك استحال جعل تلك الأقسام شيئاً واحداً (5).وأما اختيار الرازي من أن الجميع راجع للخبر باعتبار أن الأمر في الأزل إخبار باستحقاق فاعله الثواب وتاركه العقاب، والنهي، يكون بالعكس، فقول ساقط أيضاً إذ ما قاله هو لازم الأمر ولازم النهي وليس هو حقيقة الأمر ولا حقيقة النهي (6) فاستلزام الشيء للشيء ليس دليلاً على اتحادهما – وكذلك يقال له: إن الأصوليين ذكروا عن الخبر المجرد بقطع النظر عن قائله كونه محتملاً للصدق والكذب (7)، ولم يذكروا ذلك في بقية أقسام الكلام فدل على تغايرها وأن القول باتحادها قلب للحقائق، ثم كذلك ما رده من الأمر والنهي إلى الخبر غير شامل لأمر الندب والنهي التنزيهي، فالأول ليس فيه إخبار عن العقاب على تركه، والثاني ليس فيه إخبار عن العقاب على فعله، ثم إنه لم يتخلص من التعدد إلا إذا قال إن الكلام خبر واحد وليس أخباراً كثيرة! (8).وأما القول الثالث، وهو أن الكلام ليست له أقسام في الأزل، وإنما يصير أمراً ونهياً واستخباراً فيما لا يزال، فقول ساقط كذلك، إذ الكلام جنس، والجنس موجود بالقوة، أي أن وجوده كلي في الأذهان فقط، ولا يتحقق في الخارج إلا بأنواعه، والأشاعرة ممن يقول إن الجنس موجود في الأذهان فقط، فلزم على هذا أحد أمرين؛ إما أن يقولوا إنه غير متصف بالكلام أزلاً إذا اختاروا أن الأقسام كلها – الأمر والنهي والخبر والاستخبار – تكون فيما لا يزال، لأن الجنس غير موجود بهذا الاعتبار وإنما الموجود حقيقة أنواعه، أو يقولوا إن الكلام له أنواع وإنه ليس معنى واحداً، وهذا الأمر لازم لهم (9). ثم إن هؤلاء القائلين بأن كلام الله معنى واحد يلزمون بأشياء وهي:   (1) انظر ((الفصل لابن حزم)) (36/ 12). (2) قاله الباجوري في ((تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد)) (ص: 74). (3) انظر ((شرح الكوكب المنير)) (3/ 10) على خلاف بين الأصوليين في الاستعلاء، انظر ((شرح اللمع للشيرازي)) (1/ 149) و ((المستصفى)) للغزالي (1/ 411) و ((الإحكام)) للآمدي (1/ 137) و ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (ص:80). (4) انظر ((شرح اللمع للشيرازي)) (1/ 293) والخلاف فيه كسابقه انظر ((شرح الكواكب المنير)) (3/ 77) و ((الإحكام)) للآمدي (2/ 187) و ((المستصفى)) (2/ 24) و ((إرشاد الفحول)) (ص: 96). (5) انظر ((لباب العقول)) للمكلاتي (ص: 285). (6) انظر ((شرح المقاصد)) للتفتازاني (4/ 163). (7) انظر ((شرح الكوكب المنير)) (3/ 77) فما بعدها. (8) انظر ((حاشية عصام على شرح التفتازاني على النسفية)) (ص: 294). (9) انظر ((لباب العقول)) (ص: 283). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 الإلزام الأول: هل سمع موسى عليه السلام كل كلام الباري أم سمع بعضه؟ وإليك هذه المحاورة التي دارت بين الإمام السجزي وأحد الأشاعرة فإنها كافية لإثبات هذا الإلزام: قال له الإمام: " ... ما تقول في موسى عليه السلام حيث كلمه الله؟ أفهم كلام الله مطلقاً أم مقيداً؟ فتلكأ قليلاً، ثم قال: ما تريد بهذا؟ فقلت: دع إرادتي، وأجب بما عندك، فأبي وقال ما تريد بهذا؟ فقلت: أريد أنك إن قلت إن عليه السلام فهم كلام الله مطلقاً، اقتضى أن لا يكون لله كلام من الأزل إلى الأبد وقد فهمه موسى وهذا يؤول إلى الكفر، فإن الله تعالى يقول: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء [البقرة: 255] ولو جاز ذلك لصار من فهم كلام الله عالماً بالغيب وبما في نفس الله تعالى، وقد نفى الله تعالى ذلك بما أخبر به عن عيسى عليه السلام أنه يقول: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [المائدة: 116]، وإذا لم ينجز إطلاقه وألجئت إلى أن تقول أفهمه الله ما شاء من كلامه، دخلت في التبعيض الذي هربت منه، وكفرت من قال به، ويكون مخالفك أسعد منك، لأنه قال بما اقتضاه النص الوارد من قبل الله عز وجل ومن قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت أبيت أن تقبل ذلك وادعيت أن الواجب المصير إلى حكم العقل في هذا الباب، وقد ردك العقل إلى موافقة النص خاسئاً، فقال هذا يحتاج إلى تأمل وقطع الكلام" (1). قلت: وإن قالوا: إن الله لم يسمعه كل كلامه لأنه كان برفع الحجاب عن موسى عليه السلام، فيلزمهم أن يقولوا إن الله لم يكن متكلماً حقيقة – وهذا هو اللازم من قولهم لزوماً انفكاك لهم عنه. الإلزام الثاني: إذا كان الكلام واحداً واختلافه بحسب التعبير عنه فإن عبر عنه بالعربية كان قرآناً وبالعبرية كان توراة وهكذا ... يلزم منه اتحادهما معنى – ويظهر ذلك بالترجمة، وهذا خلاف المعلوم بالضرورة من دين الإسلام ويكذبه الواقع، ويلزم كذلك في الكتاب الواحد كالقرآن أن تكون آياته متحدة المعنى، فآية الدين هي آية تحريم الزنا والخمر – وهكذا – وهذا معلوم البطلان بالضرورة (2). الإلزام الثالث: هو من أخطر الإلزامات التي يمكن إيرادها عليهم: إذا كنتم تقولون عن أنواع الكلام راجعة إلى معنى واحد، وإن تنوعه بحسب تنوع متعلقاته لا بتنوعه في ذاته، فهلا قلتم ذلك في بقية الصفات – القدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر – إنها كلها راجعة إلى صفة واحدة، وإن تنوعها بحسب تنوع متعلقاتها لا أنها متنوعة في ذاتها، فهي لما تتعلق بالموجود إيجاداً تسمى قدرة، وبالمجود تخصيصاً: إرادة، وبكل معدوم وموجود انكشافاً: علماً، وبالموجودات إدراكاً: سمعاً أو بصراً؟ فيرجع الجمع إلى صفة واحدة. فإن لم تلتزموا هذا فالتزموا كذلك تنوع الكلام.   (1) ذكره بكامله شيخ الإسلام ابن تيمية في ((درء تعارض العقل والنقل)) (20/ 90 - 91) ولعله أخذه من كتاب السجزي: ((الإبانة)) في الرد على الزائغين في مسألة القرآن. ولكن أورد أبو نصر نفسه في رسالته إلى أهل زبيد في ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (ص: 114) كلاما قريباً من الذي نقلته هنا. (2) انظر ((درء تعارض العقل والنقل)) (4/ 112 - 113) و ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/ 115). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 ثم إنه يقال لكم: إذا كان يمكن إرجاع كل تلك الصفات إلى صفة واحدة، فلم لا يجوز إرجاع ذلك كله إلى الذات من غير احتياج إلى الصفات؟ فيلزم الوقوع صراحة في مذهب المعتزلة. وعندما حكى الآمدي هذا الإشكال ذكر إجابات أصحابه فلم يرتضها وحاول أن يجيب ولكنه اعترف بعجزه، وأن ما أورد تشكيك وشبهات (1).ثم إن الشهرستاني كذلك أورد هذا الإشكال واعترف بعدم إمكانية الإجابة عليه عقلاً حتى قال عن هذا الإيراد: " .. ثم هل تشترك هذه الحقائق والخصائص في صفة واحدة أم في ذات واحدة؟ فتلك الطامة الكبرى على المتكلمين، حتى فر القاضي أبو بكر الباقلاني رضي الله عنه منها إلى السمع، وقد استعاذ بمعاذ والتجأ إلى ملاذ والله الموفق" (2) ثم لم يعقب بشيء. (3) ولو فر حقيقة إلى السمع لوجد فيه أن الكلام صفة ذات وفعل لله تعالى، وذلك أن الكلام صفة ذاتية لله تعالى، وهو يتكلم متى شاء وبما شاء، فقد كلم رسلاً له من الملائكة والناس كلاماً سمعوه منه بصوته في هذه الدنيا، وصرح بالنداء في مواضع من كتابه كقوله: وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [مريم: 52]، ولوجد كذلك نداء الله تعالى لأهل الجنة إذا دخلوها، ولوجد تكليم الله تعالى للناس في الآخرة عند الحساب، ولوجد أكثر مما ذكر (4)، ولا ينكره من اعتمد الكتاب والسنة في اعتقاده. والمتأخرون من الأشاعرة يذكرون في كتبهم عشرين صفة وهي: صفة نفسية، وسبع صفات معاني ومثلها معنوية, وخمس سلبية، فأما المعاني فقد تقدمت، ويعبرون عن ذلك كله بالواجب في حق الله. وأما المستحيل في حقه فأضداد ما مضى من العشرين صفة. المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف - 2/ 517 نقد احتجاجهم بالأخطل النصراني واحتج بعضهم بقول الأخطل النصراني لعنه الله إذ يقول: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلاً فجوابنا على هذا الاحتجاج أن نقول: ملعون ملعون قائل هذا البيت وملعون ملعون من جعل قول هذا النصراني حجة في دين الله عز وجل وليس هذا من باب اللغة التي يحتج فيها بالعربي وإن كان كافراً وإنما هي قضية عقلية فالفعل والحس يكذبان هذا البيت وقضية شرعية. فالله عز وجل أصدق من النصراني اللعين إذ يقول عز وجل يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران: 167] فقد أخبر عز وجل بأن من الناس من يقول بلسانه ما ليس في فؤاده بخلاف قول الأخطل لعنه الله إن الكلام لفي الفؤاد واللسان دليل على الفؤاد. فأما نحن فنصدق الله عز وجل ونكذب الأخطل ولعن الله من يجعل الأخطل حجة في دينه "الفصل 3/ 219". وقال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الحجرات: 2] فهذا نص جلي وخطاب للمؤمنين بأن إيمانهم يبطل جملة وأعمالهم تحبط برفع أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم دون جحد كان منهم أصلا "الفصل 3/ 220". ومن العجب قولهم: إن الصلاة والصيام والزكاة ليست إيماناً لكنها شرائع الإيمان "الفصل 3/ 221". وهذه تسمية لم يأذن الله تعالى بها ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم بل الإسلام هو الإيمان وهو الشرائع، والشرائع هي الإيمان والإسلام وبالله التوفيق "الفصل 3/ 222". المصدر: موقف ابن حزم من المذهب الأشعري لعبد الرحمن دمشقية - ص 44   (1) انظر ((غاية المرام في علم الكلام)) (ص: 117 - 118). (2) ((نهاية الإقدام في علم الكلام)) (ص: 236 - 237). (3) انظر مثل هذا الإيراد عند شيخ الإسلام ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (6/ 522 - 523 - 9/ 283). (4) انظر ما ساقه البخاري من أدلة في كتاب ((التوحيد)) من صحيحه (من الباب رقم: 30 إلى الباب رقم: 38)، وانظر كذلك ((التوحيد)) لابن خزيمة (1/ 328 - 404). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 المسألة الثالثة: هل كلام الله بحرف وصوت؟ وقد سئل شيخ الإسلام عن القرآن: هل هو حرف وصوت؟ فأجاب بأن إطلاق هذا الجواب – نفيا وإثباتا – من البدع المولدة، الحادثة بعد المئة الثالثة، ثم قال: "والصواب الذي عليه سلف الأمة، كالإمام أحمد والبخاري صاحب الصحيح في كتاب (خلق أفعال العباد)، وغيره، وسائر الأئمة قبلهم وبعدهم – أتباع النصوص الثابتة، وإجماع سلف الأمة وهو أن القرآن جميعه كلام الله، حروفه ومعانيه، ليس شيء من ذلك كلاما لغيره ... وأن الله يتكلم بصوت كما جاءت به الأحاديث الصحاح ... " (1). وهذا من دقة السلف رحمهم الله في مسائل العقيدة، وخاصة ما يتعلق منها بالله وصفاته. حيث إنهم لا يبتدعون كلاما جديدا، بل يصفون الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولما لم يرد إطلاق أن القرآن بحرف وصوت لم يطلقوه عليه كما يفعله البعض، وإنما يقولون: القرآن كله حروفه ومعانيه كلام الله، كما يقولون إن الله نادى موسى، والنداء لا يكون إلا بصوت، والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن الله ينادي بصوت. ومن المعلوم أن الكلام إذا أطلق فإنه يشمل الحروف والمعاني وهذا هو الذي فهمه السلف من صفة الكلام لله تعالى – على ما يليق بجلاله وعظمته -.ولكن لما وجد – في أهل البدع – من ينكر الحرف والصوت لينكروا كلام الله، بين السلف أن كلام الله شامل للحروف والمعاني، وأنه تعالى يتكلم بصوت، كما يصفونه بما ورد من التكليم والمناداة والمناجاة (2).وقد وردت نصوص فيها ذكر الحرف في كلام الله، وهو القرآن، ومن ذلك حديث: ((إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف)) (3)، وحديث ((أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته)) (4)، وحديث ((أقرأني جبريل على حرف ... )) (5). وحديث: ((إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف)) (6) وحديث: ((من قرأ حرفا من كتاب الله ... )). (7) وغيرها. المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1295 اتفق الأشاعرة على أن كلام الله تعالى ليس بحرف ولا صوت (8)، ولهم شبهات وهي: المشبهة الأولى: قالوا إن الحروف متعاقبة يعقب بعضها بعضاً وكذلك الأصوات، فلو كان كلام الله بحرف وصوت لكان حادثاً، والله منزه عن الحوادث، فلزم أن يكون كلامه بلا حرف ولا صوت (9). والجواب:   (1) ((مجموع الفتاوى)) (12/ 243 - 244). (2) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 518). (3) رواه (مسلم) (821) من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه. (4) رواه مسلم (806) , من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. (5) رواه البخاري (3219) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. (6) رواه البخاري (4992) , ومسلم (818) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (7) رواه الترمذي (2910) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه, وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)) و ((مشكاة المصابيح)) (2079). (8) انظر ((الإنصاف)) للباقلاني (ص:149) و ((التبصير)) للإسفراييني (ص: 167)، ((ولمع الأدلة)) للجويني (ص: 92)، و ((تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد)) (ص: 72). (9) انظر ((مشكل الحديث)) لابن فورك (ص: 202) و ((الإنصاف)) للباقلاني (ص: 149) و ((التبصير)) للإسفراييني (ص: 167). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 1 - تعارض الأشاعرة هنا بما سبق أن أورد عليهم في صفات الأفعال إذ يلزمهم القول بقيام الصفات الاختيارية بذات الباري وهم يسمون مثل هذا بحلول الحوادث. ووجه الإلزام أنه ما من شك أن كل مخلوق فهو كائن في وقت مخصوص بعد أن لم يكن فيقال عندئذ: ما الذي أوجب حدوثه في ذلك الوقت المخصوص؟ فإن قالوا الإرادة الأزلية هي التي خصصت ذلك! فيقال لهم: إن الإرادة صالحة لذلك أزلاً، فما من وقت يقدر إلا والإرادة صالحة للإيجاد فيه، قالوا: إن الإرادة وإن كانت صالحة أزلاً للتخصيص إلا أنها تعلقت تنجيزياً في وقت مخصوص بذلك المخلوق المراد. فيقال لهم: هذا التعلق إن كان شيئاً عدمياً فهو ليس بشيء، فلم يحدث شيء إذا، فيلزم عدم وجود شيء أصلاً، وإن كان التعلق وجودياً فهذا هو الفعل الاختياري الذي فررتم منه، فصح إذا أن الله يفعل ما شاء متى ما شاء – فإذا ثبت هذا كان لا محذور من وجود التعاقب في الكلام.2 - ثم إن قولهم: يلزم من القول: بالتعاقب الحدوث، وأن كل حادث فهو مخلوق، فقول لا يسلم فيهم، إذ هذا الكلام مبني على القياس الشمولي – وهو لا يجوز في المطالب الإلهية – فإنه وإن ثبت تعاقب في الكلام لكن لا يلزم ثبوت المساواة والمماثلة – بدليل "أن الله سبحانه وتعالى يتولى الحساب بين خلقه يوم القيامة في حالة واحدة، وعند كل واحد منهم أن المخاطب في الحال هو وحده" (1) فثبت من هذا عدم تحقق المماثلة. 3 - وإيرادهم الذي ذكروه هو خلاف مجرد للأدلة الكثيرة كقوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] ففي هذه الآية إثبات تعلق الكلام بالمشيئة. وعلقه بإذا الدالة على المستقبل. الشبهة الثانية: (2) قالوا إن الحروف تحتاج إلى مخارج: الحلق واللسان والشفة، ولابد من اصطكاك الهواء بالمخارج ونحو ذلك ليحدث الصوت، وهذه صفات الخلق لا صفات الخالق، فوجب تنزيه الله عنها. والجواب (3): قولهم إنه لا يعقل حرف ولا صوت إلا بمخارج منقوض بتكلم السموات والأرض: قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت: 11] وتكلم الجوارح: أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت: 21]. إلى غير ذلك مما تواتر نقله، فإذا بطلت هذه المقدمة فسدت النتيجة. ويجاب عليهم ثانياً: بأن هذا قياس للخالق على المخلوق – وهو ممنوع – كما قال الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11]. ويلزمهم على قولهم هذا ما أورده عليهم المعتزلة من أنه يلزم من إثبات صفة البصر إثبات ما للخلق من الحدقة وغيرها، وهم لا يسلمون بلزوم هذا الاشتراك فلزمهم كذلك. الشبهة الثالثة (4): قالوا: إذا قلتم إن الحروف والأصوات قديمة لزم أن يكون كل كلام قديماً كذلك، وإذا قلتم إنها حادثة رجع الكلام إلى ما قلناه أولاً، وإذا قلتم إن كلام الله بحروف وأصوات قديمة وأن الخلق يتكلمون بحرف وصوت حادث لزم أن يكون ما في المصحف ليس كلاماً لله لأنه مكتوب بحروف حادثة، وإذا قرئ فبصوت حادث كذلك.   (1) ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) للسجزي (ص: 168). (2) انظر ((الإنصاف)) للباقلاني (ص: 173)، و ((قواعد العقائد)) للغزالي (ص: 182 - 184)، وانظر ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص: 273). (3) انظر: ((الرد على الزنادقة والجهمية)) للإمام أحمد (ص: 35). و ((الرد على من أنكر الحرف)). (4) انظر هذه الشبهة في ((الإنصاف)) للباقلاني (ص: 173). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 الجواب: لا يلزم إذا قلنا إن صوت الباري وحروفه غير مخلوقة أن تكون كل الأصوات والحروف غير مخلوقة، لأن الصوت الذي يحصل به إنشاء الكلام ليس مثل الصوت الذي يحصل به أداؤه وتبليغه – يوضحه الآتي: لو أن شخصاً أنشد شعراً لأحد فحول الشعراء كلبيد مثلاً: فإنه يقال: إن الشعر شعر لبيد، الذي تكلم به بصوته، إلا أن هذا الشخص أداه بصوته، وهو فعله، وليس صوت هذا الشخص هو صوت لبيد وهذا معلوم ضرورة – فإذا علم هذا الفرق بين المخلوقين، فأولى أن يكون هذا الفرق بين الخالق والمخلوق ثابتاً، وما قيل في الصوت يقال في الحرف (1).ولا يجوز إطلاق القول بأن الحروف قديمة، ذلك لأن الحروف صفة للكلام، فهي وإن كانت واحدة بالنوع إلا أن أعيانها ليست كذلك، والكلام إذا أطلق لا يكون إلا بحرف وصوت، فكلام الله ما قام به وهو ليس مخلوقاً، ففي هذه الحالة لا تكون الحروف مخلوقة. وأما كلام الخلق فهو ما قام بهم وهو مخلوق، إذ هو صفة لهم فحروفهم وأصواتهم إذاً مخلوقة (2).وأما قولهم إن المصحف مكتوب بحروف حادثة وإذا قرئ فبصوت حادث فيلزم أن يكون ما في المصحف ليس كلاماً لله فجوابه: إن الحروف تطلق ويراد بها الصوت المقطع، وقد يراد بها المداد أو شكله (3). ولا شك أن المداد مخلوق وشكله كذلك إذ هو فعل الإنسان، ولكن لا يلزم من هذا أن يكون ما في المصحف ليس كلاماً لله – يوضحه: أن الأشياء إما أعيان قائمة بذاتها، أو أشياء قائمة بالأعيان، فالأشياء القائمة بنفسها – وهي الأعيان كالسماء – لها أربع مراتب: وجودها الخارجي بنفسها، ووجودها الذهني، ووجودها اللفظي اللساني، ووجودها الرسمي الكتابي، ولاشك أن كل مرتبة تختلف عن الأخرى. أما الأشياء التي لا تكون قائمة بنفسها وإنما تقوم بغيرها – فهذه قد تكون لها المراتب الأربع المذكورة سابقاً كالألوان، وقد تكون لها ثلاث مراتب فقط كالكلام فله وجود خارجي: وهو ما قام باللسان، ووجود ذهني هو ما قام بالقلب، ووجود رسمي هو ما ظهر بالكتابة (4).وعليه فإن المرتبة اللفظية للكلام هي المرتبة الخارجية عينها ولذلك فإن كلام الله غير مخلوق حيث ما تصرف، فإذا كتب كان هو كلامه، وأما الحبر والمداد وشكله فمخلوق، وإذا قرئ فسمع كان المسموع كلامه مسموعاً من المبلغ عنه لا مسموعاً من الله (5). ثم فيما يلي أربعة إلزامات على الأشاعرة في قولهم إن كلام الله بلا حرف وصوت موجهة إليهم بطريقة السؤال:-   (1) انظر ((مجموع الفتاوى)) (12/ 73 - 74) و ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 435). (2) انظر ((مجموع الفتاوى)) (12/ 64 - 65). (3) انظر ((مجموع الفتاوى)) (12/ 69 - 70) و ((درء التعارض)) (4/ 133). (4) انظر ((مجموع الفتاوى)) (12/ 112) و (مختصر الصواعق) (2/ 435). (5) انظر ((مجموع الفتاوى)) (12/ 139). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 الإلزام الأول: إذا كان الكلام نفسياً بلا حرف ولا صوت فما الذي سمعه موسى عليه السلام؟ أجابوا: بأن الله أزال عنه الحجاب وأسمعه الكلام القديم ثم أعاد الحجاب (1).وهذا القول صريح منهم بأن الله تعالى لا يتكلم، وإنما الذي فعله هو رفع الحجاب، ورفع الحجاب ليس تكليماً، وقد أكد الله أنه تكلم فقال: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] فأكد قوله بالمصدر ليفيد الحقيقة. ثم إنه يقال لهم ما شفيتم عليلاً إذ فررتم من الحقيقة وهي هل يمكن سماع غير الأصوات؟ وهنا اضطربوا فالتزام الغزالي: أنه سمعه بلا حرف ولا صوت كما أنه يرى في الآخرة بلا كم ولا كيف (2)، وهذه الموازنة غلط بين إذ هو قد أثبت رؤية ذاته ولم يلتزم أن تكون ذاته ذات كم وكيف فكان عليه أن يثبت صوتاً لا يشبه أصوات الخلق كما وازن، وإلا فلا فائدة في موازنته ولا مناسبة. مع أن استعماله لتلك العبارات لم يكن معروفاً عند السلف – وأيضاً فإنه لم يأت ببرهان يفيد أنه يمكن سماع غير الأصوات فلجأ إلى أن ذلك عن طريق خرق العادة – ولم يأت ببرهان على ما ادعاه – بل ناقض صريح الآية في تكليم الله تعالى لموسى عليه السلام كما تقدم قريباً. والتزم الإسفراييني أن موسى عليه السلام سمع صوتاً تولى الباري خلقه من غير كسب للعباد؟ (3) قلت: وهذا رجوع صريح لمذهب المعتزلة. ولهم قول ثالث: وهو أنه سمعه بصوت من جميع الجهات على خلاف ما هو العادة (4). ولم يبينوا هل الصوت الذي سمعه هو صوت الباري أو لا؟ والذي يظهر أنهم لا يثبتونه صوتاً للباري لأنهم اتفقوا على أن كلامه نفسي فقط والفرق بين هذا القول والقول الثاني: هو أن القول الثاني: خص الصوت المخلوق بجهة معينة، والقول الثالث: لم يخص الصوت المخلوق بجهة معينة، وهذا كله محض افتراء وتمويه والتزام للجهالة إذ القول الثالث مآله إلى أن الكلام لم يقم بمتكلم أصلاً، وهو مع ذلك مناقض للآية في تحديد جهة الكلام التي سمع منها موسى عليه السلام كلام الله بلا واسطة، قال تعالى: نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ [القصص: 30]. الإلزام الثاني: وهو إذا كان الكلام نفسياً فقط بلا حرف ولا صوت، فما الفرق بين مراتب الوحي الثلاث؟ وبتعبير أوضح، ما مزية موسى عليه السلام الذي اصطفاه الله بكلامه على من سمع الوحي بواسطة الملك أو كان إلهاماً؟ وليس لهم جواب يشفي في هذا الموضوع – فغاية ما قالوه هو قول الباقلاني: "إن الله تعالى يسمع كلامه لخلقه على ثلاث مراتب: تارة يسمع من شاء كلامه بغير واسطة لكن من وراء حجاب – ونعني بالحجاب للخلق لا للحق – كموسى عليه السلام، أسمعه كلامه بلا واسطة لكن حجبه عن النظر إليه، وتارة يسمع كلامه من شاء بواسطة مع عدم النظر والرؤية أيضاً من ملك أو رسول أو قارئ ... وتارة يسمع كلامه من شاء من الخلق بغير واسطة ولا حجاب كتكليمه لنبينا عليه السلام ليلة المعراج ... " (5). وهذا كله مع التزامه بنفي الحرف والصوت، فظهر أن تقسيمه السابق لم يفد شيئاً.   (1) ((تحفة المريد)) (ص: 74) وانظر ((شرح المقاصد)) (4/ 156). (2) انظر ((شرح المواقف)) (4/ 156). (3) انظر ((شرح المواقف للجرجاني)) (4/ 156). (4) انظر ((شرح المواقف)) (4/ 156). (5) ((الإنصاف)) للباقلاني (ص: 145 - 146). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 الإلزام الثالث: إذا كان الكلام نفسياً بلا حرف ولا صوت، وإنما هو شيء قديم، فما الفرق بينه وبين الإرادة والعلم؟ وليس لهم إلا أن يقولوا: إن تعلق الكلام تعلق دلالة، وتعلق العلم تعلق انكشاف، وتعلق الإرادة تعلق تخصيص بالمراد، وأيضاَ فإن دليل الكلام السمعي والإرادة والعلم عقلي، وإن المعنى لغة لكل واحدة يختلف عن الأخرى (1). والجواب: إنه إذا رجعتم إلى اللغة لزمكم أن تثبتوا الصفات كما دل على ذلك الوضع اللغوي، ففي اللغة لا يفهم متكلم إلا من قام به الكلام وتكلم به حقيقة، وإن كانت الحقائق تختلف بين الخالق والمخلوق. والتفريق بين الصفات من حيث نوع الدليل فيه اضطراب واضح، إذ أنه لا يمكن إقامة الدليل على شيء معين إلا بعد تصور ذلك الشيء المعين، وأن الدليل يدل عليه. وهم لم يتصوروا شيئاً من ذلك على وجهه سوى أنهم قالوا: إن تعلق الكلام تعلق دلالة، ولم يلتزموا هذا في تعريف الكلام بأنه يكون بحرف وصوت فأين الدلالة؟ وسيأتي إلزام خطير في المقصد الرابع – الإلزام الثالث منه – إن شاء الله تعالى. الإلزام الرابع: إذا كان الكلام بلا حرف ولا صوت يقوم بالمتكلم، فما المراد بالخرس؟ (2).أجابوا بأن الخرس آفة باطنية تمنع من الكلام النفسي (3).وهذا الجواب في غاية السقوط، فهم لم يعرفوا الخرس كما هو في اللغة ويلزمهم على هذا أن يقولوا إن الأخرس متكلم، لأنه لاشك متصور للكلام إلا أنه قامت به آفة فلم يتكلم كلاماً مسموعاً – وفي هذا قلب واضح للحقائق اللغوية والشرعية (4).وكل هذا التزموه لاختراعهم قولاً لم يسبقوا إليه قط لا من السلف ولا من المبتدعة قبلهم، وفي هذا يقول الإمام الحافظ أبو نصر السجزي: "لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب والقلانسي والصالحي والأشعري وأقرانهم ... في أن الكلام لا يكون إلا حرفاً وصوتاً ذا تأليف واتساق وإن اختلفت به اللغات" (5). وقد نقل الشهرستاني قولاً قريباً من هذا ولم يتعقبه بشيء (6) – مما يدل أنه قد أقر بخرق الأشاعرة للإجماع. المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف - 2/ 517   (1) انظر ((تحفة المريد)) (ص: 86). (2) انظر ((مجموع الفتاوى)) (6/ 296). (3) انظر ((تحفة المريد)) (ص: 72). (4) انظر ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) للسجزي (ص: 146) و ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) ابن تيمية (6/ 296). (5) قاله في رسالته إلى أهل زبيد في ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (ص:80 - 81)، ونقله عنه شيخ الإسلام في ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/ 83). (6) انظر ((نهاية الإقدام في علم الكلام)) للشهرستاني (ص:313 - 317). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 المسألة الرابعة: القرآن العربي كلام الله وغير مخلوق مذهب السلف في كلام الله تعالى، وفي القرآن، وأنه كلام الله غير مخلوق، واضح تمام الوضوح، وردودهم على المعتزلة في ذلك مشهورة، أكثر من أن تحصر. كما أنه قد اشتهر عنهم قولهم إن القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود، ومعناه أن الله هو المتكلم به، فمنه بدأ، لا من بعض المخلوقات، وإليه يعود في آخر الزمان حين يرفع من المصاحف والصدور. فلما جاءت الكلابية والأشعرية وابتدعوا في كلام الله ما ابتدعوا، كان مذهبهم الذي تمسكوا به: أن كلام الله إنما هو معنى قائم بذاته وأن حروف القرآن ليست من كلام الله. ولكن الأئمة من هؤلاء كابن كلاب والأشعري كانوا يقولون – مع ذلك ومع قولهم إن القرآن حكاية أو عبارة عن كلام الله -: إن القرآن محفوظ بالقلوب حقيقة، متلو بالألسن حقيقة، مكتوب في المصاحف حقيقة، ومن ثم كانوا يعترفون بأن هذا القرآن كلام الله، ويحترمونه. فجاء بعد ذلك أقوام – من أتباعهم – فقالوا – في القرآن إنه "معنى قائم بذات الله فقط، وأن الحروف ليست من كلام الله، بل خلقها الله في الهواء، أو صنفها جبريل، أو محمد، فضموا إلى ذلك، أن المصحف ليس فيه إلا مداد وورق، وأعرضوا عما قاله سلفهم من أن ذلك دليل على كلام الله فيجب احترامه – لما رأوا أن مجرد كونه دليلا لا يوجب الاحترام، كالدليل على الخالق المتكلم بالكلام؛ فإن الموجودات كلها أدلة عليه، ولا يجب احترامها، فصار هؤلاء يمتهنون المصحف حتى يدوسوه بأرجلهم، ومنهم من يكتب أسماء الله بالعذرة، اسقاطا لحرمة ما كتب في المصاحف والورق من أسماء الله وآياته. وقد اتفق المسلمون على أن من استخف بالمصحف، مثل أن يلقيه في الحش أو يركضه برجله، إهانة له، أنه كافر مباح الدم. فالبدع تكون في أولها شبرا، ثم تكثر في الأتباع حتى تصير أذراعا وأميالا وفراسخ" (1). ولاشك أن هذا الغلو والكفر الذي وقع فيه هؤلاء لا يرتضيه جمهور الأشاعرة، ولكن التعصب في بعض الأوقات قد يجر بعض الناس إلى مواقف وأقوال لا تليق، إظهارا لمذهبهم، وإبرازا لقناعتهم به. والأشعري يطلق على القرآن أنه كلام الله، ولكنه يقول إنه القرآن العربي مخلوق، خلقه الله في الهواء أو الجسم. وأما إطلاق أن هذا القرآن العربي كلام جبريل – عليه السلام – أو محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جاء من المنتسبين إليه ولم يكن قولا للأشعري (2).ثم إن ابن كلاب كان يقول بأن القرآن حكاية عن كلام الله، فلما جاء الأشعري زاد فيه قليلا وقال: لا يجوز أن يقال إنه حكاية، لأن الحكاية قد تكون مطابقة للمحكي، كما يقال: حكى فلان الكلام بلفظه وهذا يناسب قول المعتزلة. والقرآن العربي ليس مطابقا لكلام الله القائم بنفسه، ومن ثم فالأولى عنده – أي عند الأشعري – أن يقال: هو عبارة عن كلام الله، لأن الكلام ليس من جنس العبارة (3). ويلاحظ مما سبق تطور أقوال الكلابية والأشعرية في القرآن: - فالأولون كانوا يحترمونه، ثم خف احترامهم له إلى حد الامتهان، عند بعضهم. - والأولون كانوا يطلقون أن القرآن كلام الله، وأنه مخلوق خلقه الله في الهواء أو في الجسم، فجاء المتأخرون ليقولوا – صراحة – هو كلام جبريل أو محمد.   (1) ((مجموع الفتاوى)) (8/ 425). (2) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/ 557). (3) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/ 272)، و ((التسعينية)) (ص: 87، 237 - 238، 266)، ((ودرء التعارض)) (2/ 107). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 - كما أن التطور من التعبير بالحكاية إلى العبارة، فيه ما فيه، وإن كان كل منهما باطلا. والذي استقر عليه المذهب الأشعري، وقال به جمهورهم أن القرآن العربي مخلوق، وليس هو كلام الله – مع اختلاف فيما بينهم في بعض التفاصيل (1) – وهم قالوا هذا بناء على مذهبهم في الكلام النفسي الذي يقوم بالله ولا ينفصل عنه، بل هو – على زعمهم – لازم له أزلا وأبدا. والأشاعرة – مع قولهم بالكلام النفسي – وإن كانوا يوافقون أهل السنة في الرد على المعتزلة، إلا أنهم يخالفون مذهب السلف – في مسألة القرآن – في أمرين مهمين: أحدهما: قولهم إن نصف القرآن من كلام الله، والنصف الآخر ليس كلام الله عندهم، أي أن المعنى كلام الله أما القرآن العربي فليس كلام الله، وإنما خلقه الله في الهواء أو في اللوح المحفوظ، أو أحدثه جبريل، أو محمد صلى الله عليه وسلم. ومعنى ذلك أنهم في هذا النصف العربي موافقون لمذهب المعتزلة، لكن المعتزلة يقولون هو كلام الله، وهو مخلوق، وهؤلاء يقولون: هو مخلوق وليس كلام الله. وكل منهم وقع في البدعة. والثاني: قولهم إن القرآن المنزل إلى الأرض ليس هو كلام الله، فما نزل به جبريل من المعنى واللفظ، وما بلغه محمد صلى الله عليه وسلم لأمته من المعنى واللفظ ليس هو كلام الله، لا حروفه ولا معانيه، بل هو مخلوق عندهم، وإنما يقولون: هو عبارة عن كلام الله القائم بالنفس، لأن العبارة لا تشبه المعبر عنه (2). هذه خلاصة مذهب الأشاعرة في القرآن، كما عرضها شيخ الإسلام، ولعل تصورها، مع ما سبق من مناقشات لأقوالهم في الكلام النفسي، وفي قولهم إنه معنى واحد – كاف في بيان بطلانها، ومع ذلك فقد رد عليهم شيخ الإسلام، ويمكن بيان مناقشته لهم من خلال ما يلي: 1 - لا شك أن قول الأشاعرة في القرآن العربي قد بنوه على أن الكلام عندهم معنى قائم بالنفس، قديم أزلي، لا يتعلق بمشيئة الله وقدرته، وأنه ليس بحرف ولا صوت، لذلك قالوا في هذا القرآن الذي يتلى إنه مخلوق، خلقه الله في الهواء أو في اللوح المحفوظ، أو إنه أحدثه جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم، وليس هو كلام الله. ولاشك أن الأساس الذي بنوا عليه مذهبهم هذا باطل – كما سبق بيانه -: - فالكلام هو اللفظ والمعنى، ولا يسمى كلاما مادام قائما بالنفس. - كما أن النصوص دلت على أن الله يتكلم بمشيئته وقدرته، وأن كلامه مثل فعله، وهذا ثابت لله وإن سماه هؤلاء حلولا. وإذا تبين بطلان هذه الأسس التي بنوا عليها مذهبهم، علم أن قولهم في القرآن مخالف لنصوص الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة.   (1) انظر: ((جواب أهل العلم والإيمان – مجموع الفتاوى –)) (17/ 69 - 70). (2) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/ 272 - 273، 376 - 379). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 2 - أما احتجاجهم على أن القرآن من جبريل أو محمد بقوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة: 40، التكوير: 19] – والرسول في آية الحاقة هو محمد صلى الله عليه وسلم، وفي آية التكوير هو جبريل عليه السلام – فهو احتجاج غريب، خاصة وأن النصوص الأخرى واضحة الدلالة في أنه منزل من عند الله وأنه كلام الله. وقد رد عليهم شيخ الإسلام في استدلالهم بما يلي: أ- أنه: "أضافه إلى الرسول من البشر تارة، وإلى الرسول من الملائكة تارة، باسم "الرسول"، ولم يقل: إنه لقول ملك، ولا نبي؛ لأن لفظ الرسول يبين أنه مبلغ عن غيره، لا منشئ له من عنده وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [النور: 54، العنكبوت: 18]، فكان قوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ بمنزلة قوله: لتبليغ رسول، أو مبلغ من رسول كريم، أو جاء به رسول كريم، وليس معناه أنه أنشأه أو أحدثه أو أنشأ شيئا منه وأحدثه رسول كريم، إذ لو كان منشئا لم يكن رسولا فيما أنشأه وابتدأه، وإنما يكون رسولا فيما بلغه وأداه، ومعلوم أن الضمير عائد إلى القرآن مطلقا" (1).ب- "وأيضا فلو كان أحد الرسولين أنشأ حروفه ونظمه امتنع أن يكون الرسول الآخر هو المنشئ المؤلف لها، فبطل أن تكون إضافته إلى الرسول لأجل إحداث لفظه ونظمه" (2).ولو صح قول هؤلاء لجاز أن يقال إنه قول البشر، وهذا قوله الوحيد الذي فضحه الله وأصلاه سقر، ولو قالوا: الوحيد جعل الجميع قول البشر، ونحن جعلنا الكلام العربي قول البشر، وأما معناه فهو كلام الله، فيقال لهم: هذا نصف قول الوحيد، والقرآن الذي يتلى هو الذي كان يفهم منه المشركون أنه كلام الله دون أن يفرقوا بين ألفاظه ومعانيه (3).ج- ودلالة الآيتين واضحة، لأنه لما كان المبلغ للقرآن ملكا وليس شيطانا، أخبر تعالى أنه تبليغ ملك كريم، وكذلك الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لأنه هو المبلغ لهذا القرآن للناس، وإن هذا الرسول ليس شاعراً ولا كاهناً وإنما هو رسول كريم (4).وكثيرا ما يركز شيخ الإسلام على بيان أن الكلام كلام لمن اتصف به مبتدئا منشئا لا لمن تكلم به مبلغا مؤديا. وهذا واضح، فإن من قرأ حديثا للرسول صلى الله عليه وسلم، أو قصيدة لشاعر، فإنه لا يقول عاقل إن الحديث أو القصيدة هي من إنشاء راويها (5).   (1) ((مجموع الفتاوى)) (12/ 265 - 266)، وانظر أيضا: ((الكيلانية – مجموع الفتاوى –)) (12/ 377 - 378). (2) ((مجموع الفتاوى)) (12/ 266)، وانظر: ((مجموع الفتاوى)) (2/ 50، 12/ 308)، ((والكيلانية – مجموع الفتاوى)) (12/ 377). (3) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/ 266 - 267، 307)، ((ودرء التعارض)) (1/ 258). (4) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/ 270). (5) انظر: ((الكيلانية – مجموع الفتاوى)) (12/ 378)، و ((درء التعارض)) (1/ 256 - 257). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 ومن هذه الأدلة قوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ [النحل: 98 - 103].فقوله قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ يدل على نزول القرآن من ربه، والقرآن اسم للقرآن العربي لفظه ومعناه، كما أن قوله وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، وهم كانوا يقولون إنما يعلمه بشر، ولم يكونوا يقصدون أنه يعلمه معانيه فقط، لقوله بعد ذلك: بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ والله تعالى أبطل قول الكفار، لأن لسان الذي يضيفون إليه القرآن أعجمي، والقرآن بلسان عربي مبين (1).ومن الأدلة – أيضا – قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا إلى قوله – أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [الأنعام: 112 - 114]. والكتاب اسم للقرآن العربي بالضرورة والاتفاق، وهذا يرد على الكلابية والأشعرية، وقوله: وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً يتناول نزول القرآن العربي على كل من الأقوال التي تفرق بين كتاب الله وكلام الله، أو بين القرآن "المعنى"، والقرآن "اللفظ". لأن الله سمى مجموع اللفظ والمعنى كتاب وقرآنا وكلاما (2). والقرآن الكريم يجب أن يعلم فيه أصلان عظيمان: أحدهما: "أن القرآن له بهذا اللفظ والنظم العربي اختصاص لا يمكن أن يماثله في ذلك شيء أصلا، أعني خاصة في اللفظ، وخاصة فيما دل عليه من المعنى، ولهذا لو فسر القرآن ولو ترجم، فالتفسير والترجمة قد يأتي أصل المعنى أو يقربه، وأما الإتيان بلفظ يبين المعنى كبيان لفظ القرآن فهذا غير ممكن أصلا، ولهذا كان أئمة الدين على أنه لا يقرأ بغير العربية، لا مع القدرة عليها، ولا مع العجز عنها ... ".الأصل الثاني: أن القرآن إذا ترجم أو قرئ بالترجمة فله معنى يختص به لا يماثله فيه كلام أصلا، ومعناه أشد مباينة لفظه ونظمه لسائر اللفظ والنظم، والإعجاز في معناه أعظم بكثير من الإعجاز في لفظه ... " (3). ومعلوم أن الإعجاز شامل للفظ والمعنى. 4 - أن قول الأشاعرة في القرآن يقرب كثيرا من قول المعتزلة، وقد اعترف بذلك بعض علمائهم وذكروا أنه بالنسبة للقرآن العربي لا فرق فيه بين القولين. فالأشاعرة يوافقون المعتزلة في إثبات خلق القرآن العربي، ولكنهم يفارقونهم من وجهين:   (1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/ 123 - 124). (2) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/ 124 - 126). (3) ((التسعينية)) (ص: 215). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 أحدهما: أن المعتزلة يقولون: المخلوق كلام الله، والأشاعرة يقولون: إنه ليس كلام الله، لكن يسمى كلام الله مجازا، وهذا قول جمهورهم، ومن قال من متأخريهم إنه يطلق على المعنى وعلى القرآن العربي بالاشتراك اللفظي فإنه ينتقض عليهم أصلهم في إبطال قيام الكلام بغير المتكلم به. وعند المفاضلة بين قولي المعتزلة والأشاعرة هنا يلحظ أن الأشاعرة لا يقولون عن القرآن العربي هو كلام الله حقيقة، أما المعتزلة فيقولون هو كلام الله حقيقة – مع اتفاقهم على أنه مخلوق، فقول الأشاعرة شر من قول المعتزلة، لأنهم زادوا عليهم بالقول أن القرآن العربي ليس كلام الله. والثاني: أن الأشاعرة يثبتون لله كلاما هو معنى قائم بذاته، والمعتزلة يقولون: لا يقوم به كلام. ومن هذا الوجه فالأشاعرة خير من المعتزلة. وإن كان جمهور الناس يقولون: إن إثبات الأشاعرة للكلام النفسي، وقولهم إنه معنى واحد هو الأمر والنهي والخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة – يؤدي في النهاية إلى أن يثبتوا لله كلاما حقيقة غير المخلوق (1). وبهذا يصبح قول الأشاعرة في القرآن أشد بطلانا وفسادا من أقوال المعتزلة الذين أجمع السلف على تبديعهم والإنكار عليهم، وهذا ما يفسر هجوم أئمة السلف – في كل عصر – على الكلابية والأشعرية فإنهم كانوا يعرفون حقيقة مذهب هؤلاء، وما يؤدي إليه من انحراف. المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1297   (1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/ 121 - 122، 132 - 133، 15/ 222)، و ((التسعينية)) (ص: 235 - 236). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 المطلب الرابع: بين اللفظية والأشاعرة والمقصود باللفظية الذين يقولون: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، وهذه الفئة نشأت قبل الأشاعرة. وقد كان موقف الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف منهم أنهم جعلوهم جهمية، وجعلوا الجهمية ثلاث طوائف: - من قال إن القرآن مخلوق. - واللفظية الذين يقولون تلاوة القرآن، واللفظ بالقرآن مخلوق. - والواقفة الذين لا يقولون القرآن مخلوق ولا غير مخلوق. فلما انتشر هذا بين أهل السنة نشأ في مقابل "اللفظية" طائفة مقابلة لهم قالوا: لفظنا بالقرآن غير مخلوق، وتلاوتنا له غير مخلوقة، ولكن الإمام أحمد بدع هؤلاء وأمر بهجرهم. واستقر مذهب السلف على تبديع الطائفتين، وصار من أصول مذهبهم في القرآن أنه كلام الله غير مخلوق، ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق، أو قال غير مخلوق فهو مبتدع، وكذلك من وقف فيه فهو مبتدع. وموقف السلف مبني على ما في مسألة "اللفظ" و"التلاوة" من الإجمال؛ إذ قد يراد به المقروء والمتلو، وقد يراد به صوت القارئ وفعله. فمنعوا من إطلاق الأمرين لذلك. فلما جاء الأشعري ومن معه – بما معهم من المذهب في الكلام النفسي وأن القرآن العربي مخلوق – وأرادوا موافقة السلف في الإنكار على الطائفتين من طوائف "اللفظية"، ذكروا قول السلف هذا (1)، ولكنهم فسروا مقصودهم باللفظ تفسيرا آخر، وهو أنهم قالوا إن قصد السلف باللفظ: النبذ والطرح، ولم يكن قصدهم التلاوة، وهذا تفسير الأشعري وابن الباقلاني، والقاضي أبي يعلى وابن الزاغوني وغيرهم (2). والأشاعرة فسروا كلام السلف بهذا التفسير ليسلم لهم مذهبهم في القرآن العربي وأنه مخلوق، لأنهم بهذا موافقون لمن يقول لفظي بالقرآن مخلوق، ويقصد به التلاوة. ولاشك أن هؤلاء مخطئون فيما ظنوه، والإمام أحمد وغيره لم ينكروا إطلاق اللفظ لأن المقصود به الطرح، وإنما لأن اللفظ يقصد به التلاوة والقراءة، والمسلمون يقولون تلوت القرآن وقرأته. ثم إن اللفظ وارد في الكلام، فيقال: لفظت الكلام وتلفظت به كما قال تعالى: مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18]، وأهل السنة ربطوا بين اللفظ والتلاوة فقالوا: من قال لفظي بالقرآن وتلاوتي أو قراءتي مخلوقة فهو جهمي، ومن قال: إنه غير مخلوق فهو مبتدع (3).ومسألة اللفظ شرحها شيخ الإسلام وبين ما فيها من اللبس، مع بيان ما جرى بين علماء السنة فيها، وفصل وجه الحق فيها، وبين وجه إنكار السلف على الطائفتين، وما في هذه الألفاظ من الإجمال (4).   (1) انظر: ((مقالات للأشعري)) (ص: 292) – ت ريتر، و ((الكيلانية – مجموع الفتاوى)) (12/ 362)، و ((مجموع الفتاوى)) (6/ 527). (2) انظر: ((الكيلانية – مجموع الفتاوى –)) (12/ 362)، و ((درء التعارض)) (1/ 268). (3) انظر: ((المسألة المصرية في القرآن – مجموع الفتاوى –)) (12/ 209 - 210). (4) انظر: في مسألة "اللفظ" ((درء التعارض)) (1/ 256 - 271)، و ((التسعينية)) (ص: 234 - 235)، و ((مجموع الفتاوى)) (12/ 306 - 307، 573 - 574)، و ((المسألة المصرية – مجموع الفتاوى)) (12/ 206 - 210)، و ((مسألة الأحرف – مجموع الفتاوى)) (12/ 74 - 75)، و ((الكيلانية – مجموع الفتاوى)) (12/ 359 - 364، 374، 408 - 433)، و ((جواب أهل العلم والإيمان – مجموع الفتاوى)) (17/ 34 - 36). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 كما عرض شيخ الإسلام لمسألة أخرى متعلقة بذلك وهي مسألة الحروف عموما في كلام الله وكلام غيره – هل يقال إن الحروف مخلوقة لأنها من كلام الآدميين، أو يقال: إنها ليست مخلوقة لأنها من كلام الله، كل قول من هذين قال به طوائف. والصواب في ذلك أن يقال ما قاله الأئمة كأحمد وغيره: "إن كلام الإنسان كله مخلوق حروفه ومعانيه، والقرآن غير مخلوق حروفه ومعانيه" (1). والخلاصة أن مذهب الأشاعرة في القرآن العربي موافق لأقوال اللفظية الذين يقولون ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، وهؤلاء عدهم أئمة السنة من الجهمية. هذه أهم مباحث "كلام الله" عند الأشاعرة، ومن ذلك يتبين أن الأشاعرة وإن أثبتوا صفة الكلام بإجمال، إلا أنهم ضلوا فيه وخالفوا الكتاب والسنة وأقوال السلف – في أمور أهمها: 1 - قولهم بالكلام النفسي، وأنه لازم لذات الله تعالى. 2 - قولهم بأن كلام الله قديم وأن الله لا يتكلم إذا شاء متى شاء، وأن موسى لم يسمع كلام الله – وقت تكليمه – وإنما سمع الكلام الأزلي، أو أن الله خلق له الإدراك. 3 - قولهم بأن كلام الله معنى واحد، لا يتجزأ ولا يتبعض، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وأن الخبر والأمر والنهي شيء واحد. 4 - قولهم بأن القرآن العربي مخلوق، وما في هذا من موافقة للمعتزلة، واللفظية وغيرهم من الجهمية. ولا شك أن هذه المسائل المتعلقة بكلام الله عظيمة جدا، ومذهب الأشاعرة فيها كان ضلالا وانحرافا واضحا عن مذهب السلف والأئمة. المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1305   (1) ((الكيلانية – مجموع الفتاوى –)) (12/ 450)، وانظر ((– مناظرة حول الواسطية – مجموع الفتاوى)) (3/ 173)، و ((مسألة الأحرف – مجموع الفتاوى)) (12/ 37 - 116)، و ((الكيلانية – مجموع الفتاوى –)) (12/ 413 - 414، 441 - 453)، و ((مجموع الفتاوى)) (12/ 571 - 573). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 المطلب الخامس: الحقيقة والمجاز يشبه هجوم شيخ الإسلام على "المجاز" هجومه على المنطق اليوناني، من حيث الدوافع والأسباب وقوة الهجوم، ثم الأثر الذي ترتب عليه، خاصة أثره فيمن جاء بعده من الموافقين والمخالفين. وإذا كان أي باحث في المنطق والفلسفة – المسماة بالإسلامية – لا يمكن أن يغفل أثر ما كتبه شيخ الإسلام في ذلك دفاعا عن مذهب السلف، فكذلك أي باحث في باب المجاز وما يتعلق به لا يمكنه إلا أن يشير على مذهب شيخ الإسلام وموقفه منه. وقد أشار إلى هذا أحد الباحثين، ممن أفرد للمجاز كتابا مطولا، بلغ جزأين كبيرين – فقال في مقدمة كتابه بعد عرض مختصر لتاريخ القول بالمجاز بين مثبتيه ونفاته: "والمتابع لسير النزاع بين الفريقين يرى أن الخلاف بينهما كان هادئا طوال القرون الأولى، حتى النصف الثاني من القرن السابع، والربع الأول من القرن الثامن، فقد اتجه الخلاف إلى الشدة والعنف – ولكن من جانب منكريه وحدهم، دون مجوزيه – فقد برز على الساحة الإمام أبو العباس أحمد ابن عبدالحليم بن عبدالسلام ابن تيمية "661 - 728هـ" وقد وهبه الله ذاكرة واعية، وقلبا ذكيا، ولسانا فصيحا، وقلما جريئا، وتبني مذهب السلف من حيث الجملة، وتصدي لأقاويل كثير من الفرق ولم يترك مجالات من مجالات الفكر الإسلامي إلا وكان له فيه قصب السبق، وكان مما أدلى فيه بدلوه موضوع المجاز، فاختار مذهب المنع ... ومن يقرأ كتابه: (الإيمان) يجد نفسه أمام صخرة عاتية، لا تعمل فيها المعاول إذا أريد النيل منها ... " (1). وعلى الرغم من أن المؤلف رد على شيخ الإسلام واشتد في الرد أحيانا إلا أنه ذكر السبب الصحيح لموقف شيخ الإسلام من المجاز، فقال "إن الضرورات والظروف التي جعلت الإمام يقف تلك الوقفة من المجاز في كتابه (الإيمان)، وفي رسالته المدنية، هي في الواقع ظروف جد خطيرة ومن يقف على خطورتها يسوغ للشيخ الإمام وقوفه ضدها، والعمل بكل طاقة على دفعها وكف شرها، ولو أدى ذلك إنكار المجاز، إذ ليس هو عقيدة أو معلوما من الدين بالضرورة، وإنما هو مذهب قولي، وهو فن من فنون البيان لا يفسق منكره ولا يذم. ومجمل ما يمكن تصوره هو كثرة التأويلات التي تعدى بها قائلوها على النصوص الشرعية، وتجاوزوا بها مرحلة المعقول المقبول، إلى المدخول المنحول، الذي يكاد يذهب بكل الحقائق التي جاء بها الإسلام وأقرها. فلم تكن المسألة مسألة تأويل مجازي، وإلا لهان الخطب، وإنما طم شرها وعم، وأغرب قائلوها كل الأغراب، حتى صارت بعض الألفاظ ليس لها مدلول محقق في خضم تلك التأويلات العمياء. ومنشأ تلك التأويلات هو الفرق الكلامية والاعتقادية، والفلاسفة، وغلاة الصوفية، وقد وقف الإمام – رحمه الله – من تحريفات الفرق والمتكلمين وقفات جادة وطويلة وشاقة ... " (2). ولا شك أن شيخ الإسلام ما كان ليعترض على المجاز أو غيره من العلوم الحادثة لو أنها بقيت مثل كثير من العلوم والفنون التي أفردت بمؤلفات خاصة بها – وصار لأصحاب كل فن اصطلاح خاص بهم – ولكن لما أخذ المعتزلة وغيرهم – ومن عني منهم باللغة وفنونها – يبتدعون هذا المصطلح ليتوصلوا به إلى تصحيح عقائدهم الفاسدة، ودعمها بما يدعونه من الأدلة، بناء على مصطلح المجاز أو غيره، كان لابد من الوقوف أما هذه المصطلحات وبيان فسادها أصلا وفرعا. وهذا ما فعله شيخ الإسلام بالنسبة لطاغوت المجاز.   (1) ((المجاز في اللغة والقرآن الكريم)) – المطعمني (1/ح – ط). (2) ((المجاز في اللغة والقرآن الكريم)) (2/ 890). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 ولهذا يقول شيخ الإسلام في معرض رده على الآمدي ودعواه أن الخلاف بين مثبتي المجاز ونفاته، نزاع لفظي: "يقال: هو قد سلم أن النزاع لفظي، فيقال: إذا كان النزاع لفظيا، وهذا التفريق اصطلاح حادث لم يتكلم به العرب، ولا أمة من الأمم، ولا الصحابة والتابعون، ولا السلف – كان المتكلم بالألفاظ الموجودة التي تكلموا بها ونزل بها القرآن أولى من التكلم باصطلاح حادث لو لم يكن فيه مفسدة، وإذا كان فيه مفاسد، كان ينبغي تركه لو كان الفرق معقولا، فكيف إذا كان الفرق غير معقول، وفيه مفاسد شرعية، وهو إحداث في اللغة – كان باطلا عقلا، وشرعا، ولغة. أما العقل فإنه لا يتميز فيه هذا عن هذا. وأما الشرع فإن فيه مفاسد يوجب الشرع إزالتها. وأما اللغة فلأن تغيير الأوضاع اللغوية غير مصلحة راجحة، بل مع وجود المفسدة. فإن قيل: وما المفاسد؟ قيل: من المفاسد أن لفظ المجاز المقابل للحقيقة، سواء جعل من عوارض الألفاظ أو من عوارض الاستعمال، يفهم ويوهم نقص درجة المجاز من درجة الحقيقة، لا سيما ومن علامات المجاز صحة إطلاق نفيه، فإذا قال القائل: إن الله تعالى برحيم ولا برحمن، لا حقيقة، بل مجاز، إلى غير ذلك مما يطلقونه على كثير من أسمائه وصفاته وقال: "لا إله إلا الله" مجاز لا حقيقة، كما ذكر هذا الآمدي من أن العموم المخصوص مجاز ... ومعلوم أن هذا الكلام من أعظم المنكرات في الشرع، وقائله إلى أن يستتاب – فإن تاب وإلا قتل – أقرب منه إلى أن يجعل من علماء المسلمين ... " (1).ثم ذكر شيخ الإسلام أن من هذه المفاسد: "جعل عامة القرآن مجازا كما صنف بعضهم مجازات القراءات، وكما يكثرون من تسمية آيات القرآن مجازا، وذلك يفهم ويوهم المعاني الفاسدة، هذا إذا كان ما ذكروه من المعاني صحيحا، فكيف وأكثر هؤلاء يجعلون ما ليس بمجاز مجازا؟ وينفون ما أثبته الله من المعاني الثابتة، ويلحدون في أسماء الله وآياته، كما وجد ذل للمتوسعين في المجاز من الملاحدة أهل البدع" (2). والخلاف في المجاز مشهور، وأشهر الأقوال فيه ثلاثة: 1 - قيل بوجوده في اللغة والقرآن، وهو قول كثير من المتأخرين. 2 - وقيل بوجوده في اللغة دون القرآن، وهذا قول داود الظاهري وابنه محمد، وابن حامد، وأبي الحسن الجزري، وأبي الفضل التميمي، ومحمد بن خويز منداد ومنذر بن سعيد البلوطي وغيرهم.3 - وقيل بعدم وجوده في اللغة والقرآن. وهو قول أبي إسحاق الإسفراييني وغيره (3). وليس المقصود مناقشة هذه الأقوال واستقصاء أدلتها، والترجيح بينها، وإنما المقصود بينا منهج شيخ الإسلام في ذلك، ويمكن تلخيصه من خلال ما يلي: 1 - الذي دفع شيخ الإسلام إلى بحث المجاز وإنكار وجوده في القرآن وفي اللغة، أمران:   (1) ((الحقيقة والمجاز – مجموع الفتاوى)) (20/ 454 - 456). (2) ((الحقيقة والمجاز – مجموع الفتاوى)) (20/ 458). (3) انظر: ((الإيمان)) (ص: 85) – ط المكتب الإسلامي، و ((رسالة منع جواز المجاز للشنقيطي)) (ص: 7 - 8). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 أحدهما: القول بالمجاز في أسماء الله وصفاته، وما سببه ذلك من الإلحاد. والثاني: قول المرجئة أن القول بأن الأعمال من الإيمان مجاز (1).2 - تقريره أن تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز حادث في كلام المتأخرين بعد القرون الثلاثة، لم يتكلم به أحد من الصحابة ولا التابعين. لا الأئمة المشهورين. وأن الغالب أن هذا حادث من جهة المعتزلة ونحوهم من المتكلمين (2).3 - أن التقسيم إلى حقيقة ومجاز لا حقيقة لهن إذ ليس لمن فرق بينهما فرق معقول يمكن التمييز به بين نوعين، والتعريفات التي ذكروها لكل منهما غير دقيقة (3).4 - مناقشة الأمثلة والأدلة التي يذكرونها ويحتجون بها على وجود المجاز في القرآن، والكلام حول كل واحد منها وتوجيهه (4). 5 - أن أخطر القضايا – في هذه المسألة – القول بأن بعض كلام الله تعالى مجاز، وقد بين شيخ الإسلام أن صرف الكلام عن حقيقته إلى المجاز لابد فيه من أمور أربعة، يقول شيخ الإسلام في مناظرته لأحد الأشاعرة: "قلت له: إذا وصف الله نفسه بصفة، أو وصفه بها رسوله، أو وصفه بها المؤمنون – الذين اتفق المسلمون على هدايتهم ودرايتهم – فصرفها عن ظاهرها اللائق بجلال الله سبحانه، وحقيقتها المفهومة منها، إلى باطن يخالف الظاهر، ومجاز ينافي الحقيقة، لابد فيه من أربعة أشياء: أحدها: أن ذلك اللفظ مستعمل بالمعنى المجازي؛ لأن الكتاب والسنة وكلام السلف جاء باللسان العربي، ولا يجوز أن يراد بشيء منه خلاف لسان العرب، أو خلاف الألسنة كلها، فلا أن يكون ذلك المعنى المجازي مما يراد به اللفظ، وإلا فيمكن كل مبطل أن يفسر أي لفظ بأي معنى سنح له، وإن لم يكن له أصل في اللغة. الثاني: أن يكون معه دليل يوجب صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه، وإلا فإذا كان يستعمل في معنى بطريق الحقيقة، وفي معنى بطريق المجاز، لم يجز حمله على المجاز بغير دليل يوجب الصرف بإجماع العقلاء، ثم إن ادعى وجوب صرفه عن الحقيقة فلابد له من دليل قاطع عقلي أو سمعي يوجب الصرف، وإن ادعى ظهور صرفه عن الحقيقة فلابد من دليل مرجح للحمل على المجاز. الثالث: أنه لابد من أن يسلم ذلك الدليل – الصارف – عن معارض، وإلا فإذا قام دليل قرآني أو إيماني يبين أن الحقيقة مرادة امتنع تركها، ثم إن كان هذا الدليل نصا قاطعا لم يلتفت إلى نقيضه، وإن كان ظاهرا فلابد من الترجيح. الرابع: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلام، وأراد به خلاف ظاهره وضد حقيقته فلابد أن يبين للأمة أنه لم يرد حقيقته، وأنه أراد مجازه سواء عينه، أو لم يعينه، لا سيما في الخطاب العلمي الذي أريد منهم فيه الاعتقاد والعلم، دون عمل الجوارح؛ فإنه سبحانه وتعالى جعل القرآن نورا وهدى وبيانا للناس وشفاء لما في الصدور، وأرسل الرسل ليبين للناس ما نزل إليهم، وليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. ثم هذا الرسول الأمي العربي بعث بأفصح اللغات وأبين الألسنة والعبارات، ثم الأمة الذين أخذوا عنه كانوا أعمق الناس علما، وأنصحهم للأمة، وأبينهم للسنة، فلا يجوز أن يتكلم هو وهؤلاء بكلام يريدون به خلاف ظاهره إلا وقد نصب دليلا يمنع من حمله على ظاهره ... " (5).ثم طبق شيخ الإسلام هذه على صفة "اليد" لتكون أنموذجا يحتذى عليه، وناقض ذلك مناقشة عظيمة، ونافعة، بين في آخرها أن هذا الأشعري الذي ناقشه أظهر التوبة وتبين له الحق (6). المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1170   (1) انظر: ((الإيمان)) (ص: 83) – ط المكتب الإسلامي. (2) انظر: ((الإيمان)) (ص: 83 - 84)، و ((انظر الحقيقة والمجاز – مجموع الفتاوى)) (20/ 451 - 454). (3) انظر: ((الإيمان)) (ص: 92 - 102). (4) انظر: ((الإيمان)) (ص: 103 - 107)، و ((الحقيقة والمجاز – مجموع الفتاوى)) (20/ 462 - 497). (5) ((الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز – مجموع الفتاوى –)) (6/ 360 - 361). (6) انظر: ((الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز – مجموع الفتاوى –)) (6/ 362 - 372). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 المطلب السادس: الصفة النفسية ويقصدون بها الوجود – على نزاع بينهم هل الوجود هو الموجود ذاته أو هو قدر زائد على الموجود؟ واختار جمهورهم القول بأنه صفة نفسية بمعنى أن الوصف به يدل على الذات نفسها لا على صفة وجودية زائدة (1).والتعبير بالنفسية فيه جراءة على الله كما قال الشيخ محمد الأمين: "ولا يخفى على عالم بالقوانين الكلامية والمنطقية أن إطلاق النفسية على شيء من صفاته جل وعلا أنه لا يجوز وأن فيه من الجراءة على الله جل وعلا ما الله عليم به، وإن كان قصدهم بالنفسية في حق الله الوجود فقط وهو صحيح، لأن الإطلاق الموهم للمحذور في حقه تعالى لا يجوز وإن كان المقصود به صحيحاً، لأن الصفة النفسية في الاصطلاح لا تكون إلا جنساً أو فصلاً. فالجنس كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان، والفصل كالنطق بالنسبة إلى الإنسان. ولا يخفى أن الجنس في الاصطلاح: قدر مشترك بين أفراد مختلفة الحقائق، كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان والفرس والحمار، وأن الفصل صفة نفسية لبعض أفراد الجنس ينفصل بها عن غيرها من الأفراد المشاركة له في الجنس كالنطق بالنسبة إلى الإنسان، فإنه صفته النفسية التي تفصله عن الفرس – مثلاً – المشارك في الجوهرية والجسمية والنمائية والحساسية. ووصف الله جل وعلا بشيء يراد به اصطلاحاً ما بينا لك من أعظم الجراءة على الله تعالى كما ترى. لأنه جل وعلا واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، فليس بينه وبين غيره اشتراك في شيء من ذاته ولا من صفاته حتى يطلق عليه ما يطلق على الجنس والفصل سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً" (2). الصفات المعنوية: وهي المعبر عنها بقولهم: كونه قادراً ومريداً وعالماً وحياً وسميعاً ومتكلماً. ومعنى الكون هنا: الثبوت. وحقيقة الصفات المعنوية هي: أنها لا توصف بكونها موجودة ولا معدومة (3).وقد اختلف فيها الأشاعرة فإنه: "قال بها من أثبت الحال وهو القاضي الباقلاني ومن وافقه، وقال الإمام الأشعري والجمهور بنفي الحال، والمعنوية عندهم راجعة للمعاني" (4).ولا شك أن إثبات الصفات المعنوية فرع إثبات الأحوال، فالأشياء المعقولة ثلاثة: الموجودات، والمعدومات، والأمور الاعتبارية التي تنقسم قسمين؛ أمور اعتبارية انتزاعية، وأمور اعتبارية اختراعية، فالقسم الأول ما كان منتزعاً من الهيئة الثابتة في الخارج ولا تتوقف على فرض الفارض ولا اعتبار المعتبر، كقيام البياض بزيد، والقسم الثاني يخترعه الشخص فيتوقف على الاعتبار والفرض كبحر من زئبق، وأما على رأي مثبتة الأحوال فالأشياء المعقولة أربعة، الثلاثة المتقدمة، والأحوال، وهي عندهم ما كان لها ثبوت ولكنها لم تصل إلى درجة الموجودات ولم تنحط إلى درجة المعدومات (5).بعد هذا البيان يعلم أن إثبات الصفات المعنوية شيء خيالي متوهم، وليس شيئاً متحققاً في الخارج، فوجودها ذهني فقط، وأيضاً هي متوقفة على إثبات الأحوال وفيها رفع النقيضين، وهو محال. قال الشيخ محمد الأمين: "والتحقيق الذي لا شك فيه أن هذا الذي يسمونه الحال المعنوية لا أصل له، وإنما هو مطلق تخييلات يتخيلونها؛ لأن العقل الصحيح حاكم حكماً لا يتطرقه شك بأنه لا واسطة بين النقيضين ألبته فالعقلاء كافة مطبقون على أن النقيضين لا يجتمعان ولا يترفعان ولا واسطة بينهما ألبتة، فكل ما هو غير موجود فإنه معدوم قطعاً، وكل ما هو غير معدوم فإنه موجود قطعاً، وهذا مما لا شك فيه كما ترى" اهـ (6) وقد صرح بعض علماء الأشاعرة بأن إثبات واسطة بين الوجود والعدم أمر متعذر متكلف فقال المقري: والسبع لازمت صفات تسمى ... بمعنوية إليها تنمى كون الإله عالماً قديراً ... حياً مريداً سامعاً بصيرا وذا كلام والمقال حال ... بعدها على ثبوت الحال المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف - 2/ 540   (1) انظر ((تحفة المريد)) (ص: 54). مع ملاحظة أن التفصيل الصحيح هو أن يقال: إن وجود الله ليس زائداً على الذات منفكاً عنه بحيث يرى الوجود ويرى الموجود، ولكن الذهن يفهم معنى الوجود ويفهم معنى الموجود – أي أن التفريق هنا ذهني فقط لا خارجي، وبهذا يندفع الإشكال في التفريق بين الماهية والوجود. ولا يلزم كذلك استواء وجود الله ووجود المخلوق – فوجود الله غير مسبوق بالعدم ولا يلحقه زوال ولا نقص. ووجود المخلوق بإيجاد الله، وهو مسبوق بالعدم وناقص ومحتاج في بقائه إلى الله. (2) ((أضواء البيان)) (2/ 306). (3) انظر ((شرح أم البراهين)) (ص: 20). (4) ((شرح أم البراهين)) (ص: 21). (5) انظر ((تحفة المريد)) (ص: 77). (6) ((أضواء البيان)) (2/ 310). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 المطلب السابع: الصفات السلبية وهي التي لا تدل بدلالة المطابقة على معنى وجودي، وإنما تدل على سلب ما لا يليق بالله تعالى وهي خمس صفات: القدم، والبقاء، والقيام بالنفس، ومخالفة الحوادث، والوحدانية. والمراد بالقدم هنا: القدم الذاتي وهو عدم افتتاح الوجود، ولاشك أنه يطلق القدم كذلك على القدم الإضافي – وكما تقدم – فهم يريدون بالقدم هنا: المعنى الأول الموافق لصفة: الأولية من اسم الله: الأول. وأما البقاء فهو عدم اختتام الوجود. والقيام بالنفس هو: عدم افتقاره تعالى لمحل يقوم به، ولا إلى موجد. والمخالفة للحوادث هي سلب الجريمة والعرضية والكلية والجزئية ولوازمها عنه تعالى. والواحدانية المراد منها: وحدة الذات والصفات والأفعال (1). وما ذكروه في الصفات الثلاث الأخيرة عبارات مجملة متضمنة في الغالب على باطل. المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف - 2/ 544   (1) انظر ((تحفة المريد)) (ص: 54، 55، 57، 58، 59). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 المطلب الثامن: أسماء الله وصفاته التي تسمى واتصف بمثلها المخلوقون هل هي من قبيل المشترك أو المتواطئ أو المشكك؟ من المعلوم أن الله سمى نفسه بأسماء، وسمى عباده بأسماء مختصة بهم توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص، كما وصف نفسه بصفات، ووصف عباده بصفات مختصة بهم، توافق تلك الصفات إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص، وليست صفات الله كصفات الخلق ولا أسماؤه كأسمائهم. ومن الأمثلة على ذلك أن الله سمى نفسه حيا فقال: اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255]، وسمى بعض عباده حيا فقال: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [الروم: 19]، ليس هذا الحي مثل هذا الحي، وسمى نفسه سميعا بصيرا فقال: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء: 58]، وسمى بعض خلقه سميعا بصيرا فقال: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان: 2] وليس السميع كالسميع ولا البصير كالبصير، وسمى نفسه بالملك فقال: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ [الحشر: 23] وسمى بعض عباده بالملك فقال: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي [يوسف: 50].وكذلك سمى صفاته بأسماء، وسمى صفات عباده بنظير ذلك فقال في صفة العلم وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء [البقرة: 255] وقال عن المخلوق: فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ [غافر: 83] وليس العلم كالعلم، وكذلك وصف نفسه بالمشيئة ووصف عبده بالمشيئة فقال: لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 28 - 29] وكذلك وصف نفسه بالمحبة ووصف عبده بالمحبة فقال: فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54]، ووصف نفسه بالمناداة فقال: وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم: 52] ووصف عبده بالمناداة فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الحجرات: 4]، ووصف نفسه بالتكليم في قوله: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] ووصف عبده بالتكليم في مثل قوله: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ [يوسف: 54]، وغيرها كثير (1). فهل إطلاق هذه الأسماء والصفات على الله وعلى المخلوق هو من باب المشترك اللفظي، أو باب المتواطئ أو المشكك؟.   (1) انظر: ((التدمرية)) (ص: 21 - 30)) – ت السعوي -، و ((الجواب الصحيح)) (3/ 148 - 149). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 والفرق بين المشترك اللفظي والمتواطئ أو المشكك كبيرا جدا، لأن معنى المشترك اللفظي أن اللفظ واحد ولكن المعاني والمدلولات التي يصدق عليها هذا اللفظ متباينة لا يجمع بينها معنى مشترك، فالعين تطلق على الباصرة وعلى الذهب وعلى الجارية وليس بين هذه الأمور أي معنى يجمعها سوى لفظ "عين" الذي يطلق على كل منها، وكذا المشتري يطلق على مشتري السلعة، ويطلق على الكوكب المسمى بالمشتري، وليس بينهما أي معنى مشترك سوى أن لفظ "المشتري" جمع بينهما لفظا. فإذا قيل: الله سميع، والمخلوق سميع، فهل السميع هنا من باب المشترك اللفظي؟ ونحن إذا فهمنا معنى السميع بالنسبة للمخلوق فهل يقول قائل: إن السميع بالنسبة لله قد يكون له معنى آخر بعيد جدا، كالبعد الذي بين معنى الكوكب والمبتاع للسلعة.؟، لاشك أن هذا القول يؤدي على تعطيل أسماء الله وصفاته عن معانيها اللائقة به تعالى. أم المتواطئ فهو معنى كلي على أعيان متعددة، كالإنسان، فهو معنى كلي يدل على جميع بني الإنسان بالسوية، فيصدق على زيد وعمرو ومحمد وأحمد من الناس، لكن هذا المعنى الكلي الذي يجمعهم لا يعني أن حقيقة زيد هو حقيقة عمرو، بل كل له حقيقته الخاصة وإن كان يجمعهم معنى "الإنسان". والمشكك جزء من المتواطئ العام، لأنه يدل على أشياء متعددة لأمر عام مشترك بين أفرادها، لكنه في بعضها أقوى أو أشد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 وقد بين شيخ الإسلام أن هذا التوافق بين أسماء الله وصفاته وأسماء المخلوقين وصفاتهم لا يجوز أن يكون من باب المشترك اللفظي، بل هو من باب المتواطئ أو المشكك؛ لأن هناك معنى كليا يفهم من مطلق صفة السمع أو البصر أو الحياة أو الوجود، وإن كان سمع الله وبصره وحياته ووجوده، يخصه لا يشاركه فيه أحد من الخلق، كما أن سمع المخلوق وبصره وحياته ووجوده يخصه. ومع تجويز شيخ الإسلام أن تكون من باب المتواطئ أو المشكك، إلا أنه يتعمق في ذكر الفرق بينهما، ولذلك فهو يرى أن القول بأنه من المتواطئ واضح في هذا الباب، وأن القول بأن المعنى الذي هو مدلول اللفظ العام ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، لا مانع منه ما دامت حقيقة كل قسم تخصه لا يشركه فيه غيره، وأما الذي ظنه بعض الناس من أنه يخلص من هذا الاشتراك بجعل لفظ "الوجود" أو غيره من باب التشكيك، لكون واجب الوجود أكمل، كما يقال في لفظ السواد المقول على سواد القار وسواد الحدقة، ولفظ البياض المقول على بياض الثلج وبياض العاج فإن شيخ الإسلام يجيب عن هذا بقوله: "ولا ريب أن المعاني الكلية قد تكون متفاضلة في مواردها، بل أكثرها كذلك: وتخصيص هذا القسم بلفظ المشكك أمر اصطلاحي، ولهذا كان من الناس من قال: هو نوع من المتواطئ؛ لأن واضع اللغة لم يضع اللفظ العام بإزاء التفاوت الحاصل لأحدهما، بل بإزاء القدر المشترك"، ثم يقول شيخ الإسلام: "وبالجملة، فالنزاع في هذا لفظي، فالمتواطئة العامة تتناول المشككة، وأما المتواطئة التي تتساوى معانيها فهي قسيم المشككة، وإذا جعلت المتواطئة نوعين: متواطئا عاما وخاصا، كما جعل الإمكان نوعين عاما وخاصا زال اللبس" (1).والقول بأن هذا التوافق ليس من قبيل المشترك اللفظي هو قول جماهير المسلمين، يقول شيخ الإسلام: "إن مذهب عامة الناس، بل عامة الخلائق من الصفاتية كالأشعرية والكرامية وغيرهم، أن الوجود (ليس) مقولا بالاشتراك اللفظي فقط، وكذلك سائر أسماء الله التي سمي بها، وقد يكون لخلقه اسم كذلك، مثل الحي والعليم والقدير؛ فإن هذه ليست مقولة بالاشتراك اللفظي فقط، بل بالتواطؤ، وهي أيضا مشككة؛ فإن معانيها في حق الله تعالى أولى، وهي حقيقة فيهما، ومع ذلك فلا يقولون: إن ما يستحقه الله تعالى من هذه الأسماء إذا سمي بها مثل ما يستحقه غيره، ولا أنه في وجوده وحياته وعلمه وقدرته مماثلا لخلقه، ولا يقولون أيضا إن له أو لغيره في الخارج وجودا غير حقيقتهم الموجودة في الخارج؛ بل اللفظ يدل على قدر مشترك (إذا) أطلق وجرد عن الخصائص التي تميز أحدهما" (2)، ثم بين أن هذا لا يستعمل في اسما الله فقط ولا في اللغة أيضا، وإنما يذكر في مواضع تجرد عن الخصائص لأجل المناظرة فيقدر الأمر تقديرا (3). ومع أن هذا هو قول جماهير الصفاتية وغيرهم إلا أن بعض من خاض في الفلسفة والمنطق كالرازي والآمدى والشهرستاني ظنوا – في بعض أقوالهم – أنه يجب أن يكون ما بين أسماء الله وأسماء المخلوقين من توافق مقولا بالاشتراك اللفظي، وقد بين شيخ الإسلام أن الذي دفعهم إلى هذا القول شبهتان: إحداهما: شبهة الوقوع في التشبيه والتركيب.   (1) ((منهاج السنة)) (3/ 586) – ط جامعة الإمام، وانظر: ما قبل ذلك 2/ 118 - 119. (2) ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (2/ 378). (3) انظر: ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (2/ 379). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 والثانية: ظن ثبوت الكليات المشتركة في الخارج. أما الشبهة الأولى فيقول شيخ الإسلام: إن كثيرا من الناس "تنازعوا في الأسماء التي تسمى الله بها وتسمى بها عباده كالموجود والحي والعليم والقدير، فقال بعضهم: هي مقولة بالاشتراك اللفظي حذرا من إثبات قدر مشترك بينهما، لأنهما إذا اشتركا في مسمى الوجود لزم أن يمتاز الواجب عن الممكن بشيء آخر فيكون مركبا، وهذا قول بعض المتأخرين كالشهرستاني والرازي في أحد قوليهما، وكالآمدي مع توقفه أحيانا" (1)، ثم رد على الرازي والآمدي حين ظنا أن الأشعري وغيره ممن ينفي الأحوال ويقول إن وجود كل شيء عين حقيقته – يقولون بهذا القول وأنها مقولة بالاشتراك اللفظي، وزعما أن هذا لازم لهم، لأنهم لو قالوا هو متواطئ لكان بينهما قدر مشترك، فيمتاز أحدهما عن الآخر بخصوص حقيقته، والمشترك ليس هو المميز، فلا يكون الوجود المشترك هو الحقيقة المميزة. وبين أن هذا غلط عليهم (2).هذه شبهة التركيب، أما شبهة التشبيه فإنهم قالوا: إذا قلنا موجود وموجود، وحي وحي، لزم التشبيه (3).وأما الشبهة الثانية: فبسببها غلط الرازي وغيره "فإنه ظن أنه إذا كان هذا موجودا وهذا موجودا، والوجود شامل لهما، كان بينهما وجود مشترك كل في الخارج، فلابد من مميز يميز هذا عن هذا، والمميز إنما هو الحقيقة فيجب أن يكون هناك وجود مشترك وحقيقة مميزة" (4). وهذه مبنية على مسألة طالما غلط فيها أهل المنطق والفلسفة وأتباعهم، وهي مسألة الكليات المطلقة التي تكون في الأذهان، وتوهمهم أنها قد تكون موجودة في الأعيان فبهاتين الشبهتين: شبهة التشبيه، وشبهة الكليات الذهنية قال بعض هؤلاء الأشاعرة: إن الوجود وغيره إذا أطلق على الخالق والمخلوق كان من قبيل المشترك اللفظي. وقد رد عليهم شيخ الإسلام من وجوه أهمها: 1 - أن القول الذي يقول به جماهير الناس: جمهور المعتزلة، والمتكلمة الصفاتية من الأشعرية والكرامية والسالمية، وأتباع الأئمة الأربعة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، وأهل الحديث، والصوفية، أن هذه الأسماء حقيقة للخالق تعالى، وإن كانت تطلق على خلقه حقيقة. وأما الأقوال الأخرى فهي باطلة: مثل قول من يقول: إنها حقيقة في الخالق مجاز في المخلوق، وهو قول أبي العباس الناشىء. ومثل قول من يقول بالعكس، أي أنها حقيقة في المخلوق مجاز في الخالق، كما هو قول غلاة الجهمية والقرامطة والباطنية الذين ينفون عن الله الأسماء الحسنى بل ويقولون: إن الله ليس بحي ولا عالم ولا جاهل (5) ...   (1) ((منهاج السنة)) (2/ 581) - ط جامعة الإمام -. (2) انظر: ((منهاج السنة)) (2/ 581 - 582) – ط جامعة الإمام. (3) انظر: ((منهاج)) السنة (2/ 584). (4) ((منهاج السنة)) (2/ 585) – ط جامعة الإمام. (5) انظر: في هذه الأقوال: ((الجواب الصحيح)) (3/ 150)، و ((الرد على المنطقيين)) (ص: 155 - 157)، و ((مجموع الفتاوى)) (5/ 196 - 197، 207)، و ((درء التعارض)) (5/ 184 - 185)، و ((منهاج السنة)) (2/ 582 - 583) – ط جامعة الإمام -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 والصواب أنها حقيقة فيهما، ولا معنى لهذا القول إلا بإثبات المعنى المشترك في كل اسم أو صفة، ثم إن وجود الخالق يخصه ووجود المخلوق يخصه، وهكذا بقية الصفات، وكل من قال بالمشتري اللفظي فقد جانب قول أهل الحق، ولزمه أن يقول بواحد من تلك الأقوال الفاسدة.2 - أن كل موجودين فلابد بينهما من قدر مشترك وقدر مميز، وهذه مسألة التشبيه والتمثيل، وقد سبق تفصيل القول فيها، مع بيان اعتراف الأشاعرة، بل وتقريرهم أن، إثبات الصفات لله كالوجود والسمع والبصر والحياة وغيرها، لا يقتضي أن يكون الله مشابها لخلقه (1).3 - أن هؤلاء الذين يقولون بالمشترك اللفظي متناقضون، لأنهم مع قولهم إن الوجود مقول بالاشتراك اللفظي إلا أنهم يجعلونه "ينقسم إلى واجب وممكن، أو قديم ومحدث، كما تنقسم سائر الأسماء العامة الكلية لا كما تنقسم الألفاظ المشتركة كلفظ سهيل المقول على "سهيل" الكوكب، وعلى سهيل بن عمرو، فإن تلك لا يقال فيها: إن هذا ينقسم إلى كذا وكذا، ولكن يقال: إن هذا اللفظ يطلق على هذا المعنى، وعلى هذا المعنى، وهذا أمر لغوي لا تقسيم عقلي، وهناك (أي في المتواطئ) تقسيم عقلي: تقسيم المعنى الذي هو مدلول اللفظ العام، ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام" (2). وتناقضهم في هذا واضح جدا لأن التقسيم لا يكون في الألفاظ المشتركة إن لم يكن المعنى مشتركا (3).4 - أنه لو لم تكن هذه الأسماء متواطئة لأدى ذلك إلى عدم فهم المعاني المرادة في كل سياق، لأنه إذا قيل: إنها من باب المشترك اللفظي، كان ورود هذا الاسم في موضع له معنى. فإذا ورد في موضع آخر وأراد به المعنى الآخر – الذي يختلف عن الأول تماما – فإنه لا يفهم ذلك المعنى إلا بدليل يدل عليه (4)، فإذا قيل المخلوق موجود، ثم قيل والله تعالى موجود، فالقول أن الوجود مقول بالاشتراك اللفظي يقتضي أن معنى الوجود في العبارة الثانية له معنى آخر بعيد عن مدلول اللفظ الأول، ولابد من دليل يدل على المعنى المقصود منه، وهذا لو طبق يؤدى إلى تخبط عجيب في فهم مدلول الألفاظ والعبارات. 5 - أن القول بالاشتراك اللفظي يؤدي إلى موافقة الملاحدة والقرامطة، "فإنهم إذا جعلوا أسماء الله تعالى كالحي والعليم والقدير والموجود ونحو ذلك مشتركة اشتراكا لفظيا، لم يفهم منها شيء إذا سمي بها الله، إلا أن يعرف ما هو ذلك المعنى الذي يدل عليه إذا سمي بها الله، لا سيما إذا كان المعنى المفهوم منها عند الإطلاق ليس هو المراد إذا سمي بها الله.   (1) انظر: ((مبحث توحيد الألوهية والربوبية)) (ص: 948 - 956). (2) ((منهاج السنة)) (2/ 586) – ط جامعة الإمام -، وانظر: ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى)) (5/ 322). (3) انظر: ((درء التعارض)) (5/ 325). (4) انظر: ((درء التعارض)) (5/ 326). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 ومعلوم أن اللفظ المفرد إذا سمي به مسمى لم يعرف معناه حتى يتصور المعنى أولا، ثم يعلم أن اللفظ دال عليه، فإذا كان اللفظ مشتركا فالمعنى الذي وضع له في حق الله لم نعرفه بوجه من الوجوه، فلا يفهم من أسماء الله الحسنى معنى أصلا، ولا يكون فرق بين قولنا: حي، وبين قولنا: عليم، وبين قولنا: جهول، أو "ديز" أو "كجز"، بل يكون بمنزلة ألفاظ أعجمية سمعناها ولا نعلم مسماها، أو ألفاظ مهملة لا تدل على معنى، كديز وكجز ونحو ذلك. وهذا هو لب المسألة، لأن القول بالمشترك اللفظي يؤدي إلى اعتقاد أن هذه الأسماء أو الصفات بالنسبة لله تعالى لها معان أخرى بعيدة عن المعاني التي دلت عليها هذه النصوص التي وردت بها، "وإذا لم تكن أسماؤه متواطئة لم يفهم العباد من أسمائه شيئا أصلا، إلا أن يعرفوا ما يخص ذاته، وهم لم يعرفوا ما يخص ذاته، فلم يعرفوا شيئاً" (1)، وهذا هو الإلحاد في أسمائه وآياته. 6 - والذين قالوا بالمشترك اللفظي طبقوه أو التزموه في لفظ الوجود بالنسبة لله وبالنسبة للمخلوق، فقالوا: يشتركان في الوجود، ويمتاز أحدهما عن الآخر بحقيقته. وهنا يجيبهم شيخ الإسلام بأن القول في الحقيقة كالقول في الوجود، "فإن هذا له حقيقة، وهذا له حقيقة، كما أن لهذا وجودا ولهذا وجودا، وأحدهما يمتاز عن الآخر بوجود المختص به، كما هو ممتاز عنه بحقيقته التي تختص به. فقول القائل: إنهما يشتركان في مسمى الوجود، ويمتاز كل واحد منهما بحقيقته التي تخصه كما لو قيل: هما مشتركان في مسمى الحقيقة ويمتاز كل منهما بوجوده الذي يخصه. وإنما وقع الغلط لأنه أخذ الوجود مطلقا لا مختصا، وأخذت الحقيقة مختصة لا مطلقة، ومن المعلوم أن كلا منهما يمكن أن يوجد مطلقا، ويمكن أن يوجد مختصا، فإذا أخذا مطلقين تساويا في العموم، وإذا أخذا مختصين تساويا في الخصوص، وأما أخذ أحدهما عاما والآخر مختصا فليس هذا بأولى من العكس" (2).   (1) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 210). (2) ((منهاج السنة)) (2/ 587 - 588) – ط جامعة الإمام – وانظر: ((درء التعارض)) (5/ 116 - 118). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وهذا المنهج الإلزامي الدقيق كثيرا ما يستخدمه شيخ الإسلام، ومن ذلك قوله في مسألة الصفات التي أولها الأشاعرة، مثل صفة المحبة التي أولوها بإرادة الإنعام، لأنهم قالوا: إن المحبة ميل القلب إلى المحبوب وهذه صفة المخلوق، ولا يجوز أن تكون صفة لله، فهنا يقال لهم: يلزمكم في تأويلكم نظير ما لزمكم في المعنى الذي فررتم منه، فإنه يقال لكم في قولكم: إن المحبة إرادة الإنعام: ونحن لا نعلم من الإرادة إلا ميل النفس إلى المراد. فافعلوا في الإرادة ما فعلتم في المحبة فأولوها، أو فافعلوا في المحبة ما فعلتم في الإرادة فأثبتوها، وهكذا بقية الصفات.7 - أما مسألة الكليات المشتركة التي تكون في الأذهان – وتوهم بعض الفلاسفة وأتباعهم أنها قد تكون موجودة في الأعيان – فإن شيخ الإسلام ناقشها طويلا (1)، وبين أثناء ذلك أن حجج هؤلاء مدارها على أن المطلق المشترك الكلي موجود في الخارج، قال: "وهذا هو الموضع الذي ضلت فيه عقول هؤلاء، حيث اعتقدوا أن الأمور الموجودة المعينة اشتركت في الخارج في شيء، وامتاز كل منها عن الآخر بشيء، وهذا عين الغلط" (2). وفي (منهاج السنة) قال مجيبا عن هذا الاشتباه والغلط الذي وقع فيه الرازي والآمدي وغيرها: "وأما حل الشبهة فهو أنهم توهموا أنه إذا قيل: إنهما مشتركان في مسمى الوجود، يكون في الخارج وجود مشترك هو نفسه في هذا، وهو نفسه في هذا، فيكون نفس المشترك فيهما، والمشترك لا يميز، فلابد له من مميز. وهذا غلط؛ فإن قول القائل: يشتركان في مسمى الوجود، أي: يشتبهان في ذلك ويتفقان فيه، فهذا موجود، وهذا موجود، ولم يشرك أحدهما الآخر في نفس وجوده البتة. وإذا قيل: يشتركان في الوجود المطلق الكلي، فذاك المطلق الكلي لا يكون مطلقا كليا إلا في الذهن، فليس في الخارج مطلق كلي يشتركان فيه، بل هذا له حصة منه، وهذا له حصة منه، وكل من الحصتين ممتازة عن الأخرى (3) "، ثم قال بعد مناقشة أهل المنطق: "فمسألة الكليات والأحوال وعروض العموم لغير الألفاظ، من جنس واحد، ومن فهم الأمر على ما هو عليه، تبين له أن ليس في الخارج شيء هو بعينه موجود في هذا وهذا. وإذا قال: نوعه موجود، أو الكلي الطبيعي موجود، أو الحقيقة موجودة، أو الإنسانية من حيث هي موجودة، ونحو هذه العبارات، فالمراد به أنه وجد في هذا نظير ما وجد في هذا أو شبهه أو مثله، ونحو ذلك. والمتماثلات يجمعها نوع واحد، وذلك النوع هو الذي بعينه يعم هذا ويعم هذا، لا يكون عاما مطلقا إلا في الذهن، وأنت إذا قلت: الإنسانية موجودة في الخارج، والكلي الطبيعي موجود في الخارج، كان صحيحا: بمعنى أن تصوره الذهن كليا يكون في الخارج، لكنه إذا كان في الخارج لا يكون كليان كما أنك إذا قلت: زيد في الخارج، فليس المراد هذا اللفظ، ولا المعنى القائم في الذهن، بل المراد المقصود بهذا اللفظ موجود في الخارج" (4).   (1) انظر مثلا: ((درء التعارض)) (5/ 89 - 175)، وقد ذكر في ((منهاج السنة)) (2/ 595) – ط جامعة الإمام -، أنه أفرد موضوع "الكليات" بمؤلف مختص بها لعموم الحاجة ولإزالة الشبهة، وقد ذكرها ابن القيم في ((أسماء مؤلفات ابن تيمية)) (ص: 24). (2) ((درء التعارض)) (5/ 112). (3) ((منهاج السنة)) (2/ 588 - 589) – ط جامعة الإمام -. (4) ((منهاج السنة)) (2/ 592). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 ثم طبق شيخ الإسلام كلامه في مسألة الكليات على شبهة التشبيه التي أوقعت هؤلاء بقولهم بالمشترك اللفظي في مسألة الله وصفاته وما وافقها من أسماء المخلوقين وصفاتهم فقال: "وبهذا يتبين غلط النفاة في لفظ التشبيه؛ فإنه يقال: الذي يجب نفيه عن الرب تعالى اتصافه بشيء من خصائص المخلوقين، كما أن المخلوق لا يتصف بشيء من خصائص الخالق، أو أن يثبت للعبد شيء يماثل فيه الرب، وأما إذا قيل: حي وحي وعالم وعالم، وقادر وقادر، أو قيل: لهذا قدرة ولهذا قدرة، ولهذا علم، ولهذا علم، كان نفس علم الرب لم يشركه في العبد، ونفس علم العبد لا يتصف به الرب، تعالى عن ذلك، وكذلك في سائر الصفات، بل ولا يماثل هذا هذا، وإذا اتفق العلماء في مسمى العلم، والعالمان في مسمى العالم، فمثل هذا التشبيه ليس هو المنفي، لا بشرع ولا بعقل، ولا يمكن نفي ذلك إلا بنفي وجود الصانع" (1).وليس هذا خاصا بالصفات التي أثبتها الأشاعرة، بل يشمل غيرها من الصفات كالنزول والاستواء والمجيء، فإثباتها لله، مع أن المخلوق قد يوصف بالنزول والاستواء والمجيء لا يقتضي المشابهة، والقول بأن ذلك من قبيل المشترك اللفظي يعطل هذه الصفات عن معانيها (2).وقد بين شيخ الإسلام أن الآمدي – في مسألة الكليات المشتركة ووجودها في الأذهان – قد بين في كتابه (أحكام الأحكام) ما يناقضها، يقول: "والآمدي قد بين فساد هذا (أي المشترك الكلي وكونه قد يوجد في الأعيان) في غير موضع من كتبه، مثل كلامه في الفرق بين المطلق والمقيد والكلي والجزئي، وغير ذلك، وزيف ظن من يظن أن الكلي يكون جزءا من المعين، وبين خطأ من يقول ذلك كالرازي وغيره، فلو رجع إلى أصله الصحيح الذي ذكره في الكلي والجزئي والمطلق والمعين، لعلم فساد هذه الحجة، ولكن لفرط التباس أقوالهم وما دخلها من الباطل الذي اشتبه عليهم وعلى غيرهم، تزلق أذهان كثير من الأذكياء في حججهم، ويدخلون في ضلالهم من غير تفطن لبيان فسادها، كالرازي والآمدي ونحوهما: تارة يمنعون وجود الصور الذهنية، حتى يمنعوا ثبوت الكلي في الذهن، وتارة يجعلون ذلك ثابتا في الخارج" (3).ثم ذكر شيخ الإسلام أن الآمدي في دقائق الحقائق أثبت المشترك الكلي في الخارج (4)، وفي أحكام الأحكام نفاها ورد على الرازي (5)، كما ذكر بأن الرازي نفاها أيضا في الملخص (6)، وبيان هذا التناقض الذي وقع فيه هؤلاء هو جزء من منهج شيخ الإسلام في ردوده عليهم (7). 8 - وإضافة إلى ما سبق من ردود فإن شيخ الإسلام يبين هذه المسألة ويوضحها من خلال بيان منهج السلف في الصفات، القائم على إثبات هذه الصفات لله تعالى كما وردت من غير تمثيل ولا تكييف، ولا تحريف ولا تعطيل، ونظرا لأن هؤلاء إنما أوقعهم بالقول بالمشترك اللفظي الخوف من التشبيه، فقد أوضح شيخ الإسلام المسألة وبينها وضرب لذلك بعض الأمثلة المهمة: (أ) فقد بين أن الأسماء والصفات نوعان:   (1) ((منهاج السنة)) (2/ 595 - 596) – ط جامعة الإمام -. (2) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (5/ 200 وما بعدها). و ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى)) (5/ 323 وما بعدها). (3) ((درء التعارض)) (5/ 120). (4) انظر: ((درء التعارض)) (5/ 108 - 111). (5) انظر: ((درء التعارض)) (5/ 120 - 125)، وكلام الآمدي في ((الأحكام)) ((2/ 183 - 184)) – ت عبدالرزاق عفيفي-. (6) انظر: ((درء التعارض)) (5/ 125 - 126)، وانظر أيضا: 4/ 248 - 261. (7) انظر ((درء التعارض)) (5/ 125 - 126)، وانظر أيضا: 4/ 248 - 261، ((الصفدية)) (1/ 99 - 103)، و ((مسألة الأحرف – مجموع الفتاوى)) (12/ 96 - 97)، و ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (2/ 378 - 382)، و ((منهاج السنة)) (4/ 151 - 152) – ط بولاق -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 نوع يختص به الرب، مثل الإله، ورب العالمين، ونحو ذلك، فهذا لا يثبت للعبد بحال، ومن هنا ضل المشركون الذين جعلوا لله أندادا. والثاني: ما يوصف به العبد في الجملة، كالحي والعالم والقادر، فهذا لا يجوز أن يثبت للعبد مثل ما يثبت للرب أصلا، فإنه لو ثبت له مثل ما يثبت له للزم أن يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويجب له ما يجب له، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، وذلك يستلزم اجتماع النقيضين (1). وقد سبق تفصيل هذا في مبحث الألوهية والربوبية. (ب) وبالنسبة للنوع الثاني مما يتفقان فيه، فهل يلزم منه التماثل؟ يوضح شيخ الإسلام ذلك ببيان أن هذه الأمور لها ثلاث اعتبارات: أحدها: ما يختص به الرب، فهذا ما يجب له ويجوز ويمتنع عليه ليس للعبد فيه نصيب. والثاني: ما يختص بالعبد، كعلم العبد وقدرته وحياته، فهذا إذا جاز عليه الحدوث والعدم لم يتعلق بذلك بعلم الرب وقدرته وحياته، فإنه لا اشتراك فيه. والثالث: المطلق الكلي، وهو مطلق الحياة والعلم والقدرة، فهذا المطلق ما كان واجبا له كان واجبا فيهما، ما كان جائزا عليه كان جائزا عليهما، وما كان ممتنعا عليه كان ممتنعا عليهما، فالواجب أن يقال: هذه صفة كمال حيث كانت، فالحياة والعلم والقدرة صفة كمال لكل موصوف والجائز عليهما اقترانهما بصفة أخرى كالسمع والبصر والكلام، فهذه الصفات يجوز أن تقارن هذه في كل محل – اللهم إلا إذا كان هناك مانع من جهة المحل لا من جهة الصفة -. وأما الممتنع عليهما، فيمتنع أن تقوم بهذه الصفات إلا بموصوف قائم بنفسه، هذا ممتنع عليهما في كل موضع فلا يجوز أن تقوم صفات الله بأنفسها، بل بموصوف، وكذلك صفات العباد لا يجوز أن تقوم بأنفسها، بل بموصوف" (2). وهذا المطلق الكلي الذي هو النوع الثالث، هو الذي من خلاله نفهم ما خطوبنا به، ولذلك فنحن نعلم مثلا أنه إذا وصف أحد بصفة، فإن هذه الصفة لابد أن تقوم بالموصوف، كما أننا نفرق بين صفة الحياة، والعلم والكلام، من غير أن يرتبط ذلك بتخصيص الموصوف بها، هل هو الخالق أو العبد، ولولا ذلك لكانت معرفتنا بأسماء الله وصفاته وآياته ألغازا وألفاظا أعجمية لا تفهم، ومن أراد أن يلتزم نفي التشبيه بنفي أي نوع من أنواع التشابه الذي يرد في المطلق الكلي فلابد أن يؤدي به الأمر إلى نفي وجود الخالق، ومتى أقر بوجود الخالق وأنه غير هذه المخلوقات لزمه شيء من هذا. (ج) ومن الأصول التي قررها السلف وركز عليها شيخ الإسلام أن القول في الصفات كالقول في الذات، يحتذى حذوه، فكما أن لله ذاتا لا تشبه ذوات المخلوقين، فكذلك له صفات لا تشبه صفات المخلوقين، وإذا كان إثبات الذات لله إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية، وهذا أصل عظيم، مقنع جدا لمن تدبره، وهو مرتبط بما سبق من صفات المخلوق تخصه كما أن له ذاتا تخصه، وكذلك ربنا تبارك وتعالى له صفات تخصه وتليق به كما أن له ذاتا تخصه، ولا يخلط بينهما إلا مشبه ممثل، أو معطل ملحد في أسمائه وصفاته يريد أن يجعل ذلك سلما لتعطيله وتحريفه (3). (د) ضرب المثل بنعيم أهل الجنة، وبالروح:   (1) ((منهاج السنة)) (2/ 596) – ط جامعة الإمام -، وانظر: ((الجواب الصحيح)) (2/ 232). (2) ((منهاج السنة)) (2/ 597 - 598) – ط جامعة الإمام -. (3) انظر في بيان هذا الأصل: ((التدمرية)) (ص: 43 - 46) – ت السعوي -، و ((الفتوى الحموية – مجموع الفتاوى)) (5/ 114)، و ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى)) (5/ 330، 351) ـ، و (0مجموع الفتاوى)) (6/ 355، 12/ 575)، و ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (2/ 76). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وهذان المثلان يكثر ورودهما في مناقشات شيخ الإسلام للأشاعرة ولغيرهم، وفي بيانه للمنهج الحق في الصفات، البعيد عن التأويل والتفويض والتمثيل والتشبيه. يقول شيخ الإسلام مستدلا لهذه المسألة: "بل أبلغ من ذلك أن الله أخبر أن في الجنة من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح ما ذكره في كتابه، كما أخبر أن فيها لبنا، وعسلا، وخمرا، ولحما، وحريرا، وذهبا، وفضة، وحورا، وقصورا، ونحو ذلك، وقد قال ابن عباس: (ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء)، فتلك الحقائق التي في الآخرة ليست مماثلة لهذه الحقائق التي في الدنيا، وإن كانت مشابهة المخلوق، فكيف يجوز أن يظن أن فيما أثبته الله تعالى من أسمائه وصفاته مماثلا لمخلوقاته وأن يقال: ليس ذلك بحقيقة، وهل يكون أحق بهذه الأسماء الحسنى والصفات العليا من رب السموات والأرض؟ مع أن مباينة المخلوقات أعظم من مباينة كل مخلوق" (1). وفي موضع آخر شرح ذلك فقال: "إنه يعلم الإنسان أنه حي عليم قدير سميع بصير متكلم، فيتوصل بذلك إلى أن يفهم ما أخبر الله به عن نفسه من أنه حي عليم قدير سميع بصير متكلم، فإنه لو لم يتصور لهذه المعاني من نفسه ونظره إليه لم يمكن أن يفهم ما غاب عنه، كما أنه لولا تصوره لما في الدنيا من العسل واللبن والماء والخمر والحرير والذهب والفضة، لما أمكنه أن يتصور ما أخبر به من ذلك من الغيب، لكن لا يلزم أن يكون الغيب مثل الشهادة فقد قال ابن عباس ... "وذكر قوله السابق، وشرح الفرق بين نعيم الجنة والدنيا وأن نعيم الجنة لا يفسد ولا يتغير، ثم قال: "فإذا كان ذلك المخلوق يوافق ذلك المخلوق في الاسم، وبينهما قدر مشترك وتشابه، علم به معنى ما خوطبنا به، مع أن الحقيقة ليست مثل الحقيقة، فالخالق جل جلاله أبعد عن مماثلة مخلوقاته، مما في الجنة لما في الدنيا. فإذا وصف نفسه بأنه حي عليم سميع بصير قدير، لم يلزم أن يكون مماثلا لخلقه، إذ كان بعدها عن مماثلة خلقه أعظم من بعد مماثلة كل مخلوق لكل مخلوق ... " (2).وهذا المثل واضح جدا، مبين للمسألة، وقد وفق شيخ الإسلام في عرضه وشرحه، وهو مما يسلم به مؤولة الصفات، لأنهم يثبتون البعث والجنة والنار، وقد سبق في موضوع تسلط الفلاسفة والقرامطة على المتكلمين بيان أن هؤلاء الملاحدة وصموهم بالتناقض لكونهم أولوا نصوص الصفات ولم يؤولوا نصوص المعاد والجنة والنار، ومعلوم أن الملاحدة طردوا الأمرين نفيا، وأهل السنة طردوهما إثباتا، وهؤلاء تناقضوا، وشيخ الإسلام بينما يضرب هذا المثل – مثل نعيم الجنة – كأنه يريد أن يقرن بين مسألة دلالة النصوص وأنها واحدة في الصفات والمعاد، - وقد شرحها في عرضه لتسلط الملاحدة – ومسألة ما يفهم من النصوص، وأن نصوص النعيم إذا كانت تفهم لأنها تشبه نعيم الدنيا مع ما بينهما من الاختلاف في الحقيقة والكيفية، فكذلك نصوص الصفات تفهم وتعلم ولا تقتضي موافقتها في الاسم لصفات العباد أن تكون مثلها أو مشابهة لها (3).وكذلك مثل الروح، فإنها "إذا كانت موجودة، حية، عالمة، قادرة، سميعة بصيرة، تصعد وتنزل، وتذهب وتجيء، ونحو ذلك من الصفات، والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها؛ لأنهم لم يشاهدوا لها نظيرا، والشيء إنما تدرك حقيقته: إما بمشاهدته، أو بمشاهدة نظيره، فإذا كانت الروح متصفة بهذه الصفات مع عدم ماثلتها لما يشاهد من المخلوقات، فالخالق أولى بمباينته لمخلوقاته، مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته، وأهل العقول أعجز عن أن يحدوه أو يكيفوه منهم عن أن يحدوا الروح أو يكيفوها ... " (4). المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1070   (1) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 208). (2) ((مجموع الفتاوى)) (9/ 295 - 296). (3) انظر: في شرح هذا المثل – مثل نعيم الجنة – ((التدمرية)) (ص: 46 - 50) – المحققة، و ((الحموية – مجموع الفتاوى)) (5/ 115)، و ((منهاج السنة)) (2/ 157 - 159) – ط جامعة الإمام -، و ((مجموع الفتاوى)) (5/ 257 - 258، 6/ 123 - 125، 11/ 482 - 483)، و0 (تفسير سورة الإخلاص – مجموع الفتاوى)) (17/ 326)، و ((التسعينية)) (ص: 122)، و ((الصفدية)) (1/ 288 - 289)، و ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى)) (5/ 348). (4) ((التدمرية)) (ص: 56) – المحققة-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 المطلب التاسع: هل الصفة هي الموصوف أو غيره؟ هذه المسألة شبيهة بمسألة: هل الاسم هو المسمى أو غيره، وكل ذلك من الألفاظ المجملة التي كان للسلف – رحمهم الله – فيها موقف واضح محدد، وهو أنه لا ينبغي إطلاق النفي ولا الإثبات، بل لابد من الاستفصال. والمهم هنا قبل عرض الخلاف في ذلك وبيان الراجح، توضيح منشأ بحث هذه المسألة: أي مسألة هل الصفة هي الموصوف أو غيره، والتي يعبر عنها أحيانا بالقول: هل الصفات هي الذات أو غيرها، والذي يظهر أن ذلك نشأ من خلال ردود أهل الكلام على النصاري: أ- فالنصارى قالوا: إن كلمة الله التي بها خلق كل شيء تجسدت بإنسان، فكان من ردود أهل الإسلام عليهم – لبيان باطلهم – أن بينوا تهافت قولهم: إن كلمة الله بها خلق كل شيء، لأن الخالق هو الله، وهو خلق الأشياء بقوله "كن" وهو كلامه، فالخالق لم يخلق به الأشياء، فالكلام الذي به خلقت الأشياء ليس هو الخالق لها، بل به خلق الأشياء، فضلال هؤلاء أنهم جعلوا الكلمة هي الخلق. والكلمة مجرد الصفة، والصفة ليست خالقة، وإن كانت الصفة مع الموصوف فهذا هو الخالق، ليس هو المخلوق به، والفرق بين الخالق للسموات والأرض والكلمة التي بها خلقت السموات والأرض أمر ظاهر معروف، كالفرق بين القدرة والقادر ... (1) فهؤلاء النصارى جعلوا الصفة غير الموصوف، وجعلوها خالقة، بل جعلوها حلت في أحد المخلوقات. ب- وكان من آثار مناقشة أهل الكلام – وخاصة المعتزلة – للنصارى أن تطرقوا لهذا الموضوع كثيرا، فنشأت شبهة تعدد القدماء، وأن إثبات صفة لله يلزم منه أن تكون قديمة، وإذا كانت غير الموصوف لزم تعدد القدماء، فظنوا – أي المعتزلة – أن تحقيق التوحيد، والخلوص من شرك النصارى لا يتم إلا بنفي جميع الصفات عن الله تعالى وبنوا ذلك على: - أن الصفة غير الموصوف، وغير الذات. - وأن الصفة لله لابد أن تكون قديمة. والنتيجة أن إثبات الصفات لله يلزم منه تعدد القدماء، وهو باطل (2). والعجيب أن هؤلاء المعتزلة – هم أرباب الكلام والبحث في المعقولات – لم تستوعب عقولهم أن الذات لا يمكن أن تنفك عن صفاتها، ومن ثم فلا شبهة ولا تعدد. ج- فلما جاءت الأشعرية وغيرهم اهتموا ببحث هذه المسألة، وصاروا يستخدمون عبارات معينة عن بيان قدم الذات والصفات، كأن يقولوا: الرب قديم، وصفته قديمة، ولا يقولون: الرب وصفاته قديمان لما في العطف والتثنية من الإشعار بالتغاير، أو يقولون: الرب بصفاته قديم، وهكذا. كما بينوا أن الصفات لا يقال هي الذات ولا غيره، حذرا من هذه الشبهة التي وقع فيها المعتزلة.   (1) انظر: ((الجواب الصحيح)) (2/ 266، 292، 3/ 54 - 55). (2) انظر: تفصيل مذهب المعتزلة في ((المحيط بالتكليف)) (ص: 177 وما بعدها)، ط مصر، و ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 195 - 197)، و ((المختصر في أصول الدين)) (1/ 182 - 183) ضمن رسائل العدل والتوحيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 وخلاصة الأقوال في الصفة هل هي الموصوف أو غيره هي:1 - قول من يقول: الصفة غير الموصوف، أو الصفات غير الذات، وهذا قول المعتزلة والكرامية، والمعتزلة تنفي الصفات، والكرامية تثبتها (1).2 - قول من يفرق بين الأمرين، ولا يجمع بينهما، فيقول: أنا أقول مفرقا: إن الصفة ليست هي الموصوف، وأقول: إنها ليست غير الموصوف ولكن لا أجمع بين السلبين فأقول: ليست الموصوف ولا غيره، لأن الجمع بين النفي فيه من الإيهام ما ليس في التفريق، وهذا قول أبي الحسن الأشعري، الذي يقول على هذا: الموصوف قديم، والصفة قديمة، ولا يقول عند الجمع: قديمان، كما لا يقال عند الجمع: لا هو الموصوف ولا غيره (2).3 - جاء بعد الأشعري من الأشاعرة من يجوز الجمع بين السلبين، وصاروا يقولون: ليست الصفة هي الموصوف ولا غيره، كما صاروا يجوزون إطلاق القول بإثبات قديمين، وصار هؤلاء يردون على المعتزلة الذين قالوا لهم يلزم من ذلك إثبات قديمين بعدة ردود منها "أن كونهما قديمين لا يوجب تماثلهما كالسواد والبياض اشتراكا في كونهما مخالفين للجوهر، ومع هذا لا يجب تماثلهما وأنه ليس معنى القديم معنى الإله ... ولأن النبي محدث وصفاته محدثة، وليس إذا كان الموصوف نبيا وجب أن يكون صفاته أنبياء لكونها محدثة، كذلك لا يجب إذا كانت الصفات قديمة والموصوف بها قديما أن تكون آلهة لكونها قديمة" (3)، وهذا قول الباقلاني (4)، والقاضي أبي يعلى (5). 4 - أن هذا الكلام فيه إجمال، وأن لفظ "الغير" فيه إجمال، ومن ثم فلابد من التفصيل، وهؤلاء لا يقولون عن الصفة: إنها الموصوف ولا يقولون: إنها غيره، ولا يقولون: ليست هي الموصوف ولا غيره. ويلاحظ أن المقصود ليس إثبات قول ثالث كما هو قول الباقلاني والقاضي أبي يعلى الذين قالوا ليست الصفة هي الموصوف ولا غيره – فإن هذا قول ثالث، بل المقصود أنه لا ينبغي الإطلاق: نفيا وإثباتا، وهم تركوا إطلاق اللفظين لما في ذلك من الإجمال. وهذا قول جمهور أهل السنة، كالإمام أحمد وغيره، كما أنه قول ابن كلاب (6). وهؤلاء قالوا: لفظ "الغير" فيه إجمال" - فقد يراد به المباين المنفصل، ويعبر عنه بأن الغيرين ما جاز وجود أحدهما وعدمه، أو ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود.- وقد يراد بالغير ما ليس هو عين الشيء، ويعبر بأنه ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر (7). وهناك فرق بين الأمرين، وعلى هذا فيفصل الأمر:   (1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/ 336). (2) انظر: ((رسائل إلى أهل الثغر)) (ص: 70 - 71) (وقد نسب إليه ابن فورك في المجرد ص: 38، أنه يقول: لا يقال لصفاته هي هو ولا غيره) وانظر أيضاً: ((الرسالة الأكملية)) – ((مجموع الفتاوى)) (6/ 96)، و ((جواب أهل العلم والإيمان – مجموع الفتاوى)) (17/ 160)، و ((درء التعارض)) (5/ 49). (3) ((درء التعارض)) (5/ 50)، وقارن بـ ((التدمرية)) (ص: 118) – المحققة. (4) انظر ((التمهيد)) (ص: 206 - 207، 210 - 212))، و ((رسالة الحرة)) (المطبوعة باسم الإنصاف) (ص: 38). (5) انظر: ((المعتمد)) (ص: 46). (6) انظر: ((جواب أهل العلم والإيمان)) (17/ 159 - 160)، و ((درء التعارض)) (2/ 270، 5/ 49)، وانظر: ((مقالات الأشعري)) (ص: 169 - 170) – ريتر. (7) انظر: ((درء التعارض)) (1/ 281)، و ((جواب أهل العلم والإيمان – مجموع الفتاوى)) 17/ 160 - 161، و ((المسألة المصرية في القرآن – مجموع الفتاوى)) (12/ 170)، و ((السبعينية)) (ص: 96 - 97) – ط الكردي -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 1 - فإذا قيل: هل الصفات هي الموصوف أو غيره؟ قيل: إن أريد بالغير الأول، وهو ما جز مفارقة أحدهما الآخر، فليست الصفة غير الموصوف، وإن أريد بالغير المعنى الثاني – وهو ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر – فالصفة غير الموصوف. فمن قال: عن الصفة هي الموصوف، قاصدا بذلك أنها ليست غيره بالمعنى الأول للفظ الغير، فقوله صحيح، وكذا إن قال: الصفة غير الموصوف قاصدا بالغير المعنى الثاني فكلامه صحيح أيضا. وعكس الأمرين باطل، والسلف يقولون بهذا التفصيل، ومن المعلوم أن الموصوف لا تنفك عنه صفاته. 2 - وإذا قيل: هل الصفات زائدة على الدليل، أو هل الصفات هي الذات أو غيرها؟ قالوا: إن أريد بالذات المجردة التي يقر بها نفاة الصفات فالصفات زائدة عليها، وهي غير الذات، وإن أريد بالذات الذات الموجودة في الخارج فتلك لا تكون موجودة إلا بصفاتها اللازمة والصفات ليست زائدة على الذات، ولا غيرها بهذا المعنى. ومن ذلك يتضح خطأ وصواب من أطلق القول بأن الصفات غير الذات أو هي الذات (1)، على حسب ما لفظ الغير، والذات من الإجمال. وبذلك يتبين أرجحية مذهب السلف حين لم يطلقوا الأمرين في ذلك، بل فصلوا واستفصلوا عن المرادن فإن كان حقا قبلوا وإن كان باطلا ردوه (2). المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1090   (1) لشيخ الإسلام ملاحظة دقيقة هنا، وهي أنه يجب أن يفرق بين قول القائل: إن الصفات غير الذات وقوله: إنها غير الله، لأن لفظ "الذات" يشعر بمغايرته للصفة، بخلاف اسم "الله" تعالى فإنه متضمن لصفات كماله، وعلى ذلك فإنه لا يقال: إن الصفات غير الله، لما في ذلك من الإيهام. أما القول إنها غير الذات فقد يكون صحيحا، لما في التعبير بالذات من الإشعار بأن المقصود الذات المجردة دون صفاتها. انظر: ((الجواب الصحيح)) (3/ 308)، و ((الصفدية)) (1/ 108 - 109) و ((درء التعارض)) (10/ 72). (2) انظر في هذه المسألة: ((التسعينية)) (ص: 108 - 109)، و ((الدرء)) (2/ 230 - 231، 3/ 20 - 25، 5/ 37 - 50، 338، 9/ 136، 10/ 120، 231، 235). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 المطلب العاشر: قاعدة التنزيه في الصفات عند الأشاعرة الأصل الذي بني عليه التنزيه وهو: مخالفة الحوادثعدد الأشاعرة من الصفات السلبية: المخالفة للحوادث، ولما أرادوا بيان المستحيل في حق الله تعالى، ذكروا أن ضد المخالفة للحوادث المماثلة للحوادث، وحصروا المماثلة في عشر صور وهي: الجسم، والجوهر، والعرض، والمكان، والجهة والتحيز، والتقيد بالزمان، وحلول الحوادث به، والصغر والكبر، والأغراض (1). فقال الأشاعرة بوجوب نفي هذه الصفات عن الله تعالى. وكل ما ذكروه من صور المماثلة ألفاظ لم يرد ذكرها في الكتاب، وفي بعضها إجمال يشتبه من الكلام ويدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين" (2). وما كان محدثاً من الألفاظ وجب استفصال صاحبه، فإن كان معنى ما ذكره صحيحاً قبل المعنى وطولب باستعمال ما جاء به الشراع من اللفظ، وإن كان باطلاً رد عليه. وإن الذي ذكره الأشاعرة فيه حق وباطل، فلا يجوز إطلاق النفي وإما يقر الحق وينفي الباطل على ضوء ما سبق.   (1) انظر ((الإرشاد)) (للجويني) (58 - 68) و ((أم البراهين)) للسنوسي مع شرحها (23 - 25) و ((تحفة المريد)) (ص: 96). (2) ((الرد على الزنادقة والجهمية)) للإمام أحمد (ص: 6). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 فقولهم بنفي الجهة والمكان والحيز: هو إنكار أن يكون الله تعالى حالاً أو متحداً بشيء من خلقه، وإنكار أن يكون أسفل أو فوق المخلوقات، فنفيهم لأن يكون الحق عالياً على الخلق نفي باطل، وأما نفيهم للاتحاد، والحلول، والسفل، فنفي صحيح. وحقيقة أمرهم أنهم يريدون أن يتوصلوا بنفي ذلك عن الله علوه على خلقه واستوءه على عرشه، فيقال لهم: لفظ الجهة أصله من الوجهة (1) كما في عدة ووعدة – كما في قول الله تعالى: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 148].والجهة قد تكون أمراً وجودياً إما جسماً أو عرضاً في جسم – وهي الأمكنة الوجودية -: مثل داخل العالم، فإن الشمس وسائر النجوم والكواكب ونحوها كلها في جهات وجودية، وهو ما فوقها وما تحتها. ومثل هذا هو الذي يطلقه الرازي ولا يقر بغيره (2) إلا أنه يقال له: وقد تكون الجهة عدمية مثل: ما وراء العالم، فإن العالم ليس في جهة وجودية، إذ لو كانت هناك جهة وجودية لكانت من جملة العالم أيضاً، والكلام إنما هو في جهة جميع المخلوقات، فإن لم نقل بالجهة العدمية أفضى ذلك إلى التسلسل الممتنع – وعلى هذا فجهة العالم جهة عدمية. وعلى التفصيل السابق يقال لمن يقول: يلزم من القول بعلو الله تعالى واستوائه على عرشه أن يكون في جهة: إما أن تكون الجهة أمراً وجودياً أو أمراً عدمياً، فإن كانت أمراً وجودياً فإنه يقال: لا يوجد إلا الخالق والمخلوقات – وليس شيء موجود مباين للخالق إلا المخلوقات، فإن كان مبايناً لها فكيف تكون محتوية عليه؟ فإن قالوا: يلزم من هذا إثبات الحد لله تعالى، قلنا ما المانع من إثباته على هذا الوجه، كما قال الأئمة فقد "سئل عبدالله بن المبارك بم نعرف ربنا؟ قال: بأنه على العرش، بائن من خلقه. قيل: بحد؟ قال: بحد" (3) وقال أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي: "والله تعالى له حد لا يعلمه أحد غيره، ولا يجوز لأحد أن يتوهم لحده غاية في نفسه". (4) وهذه اللفظة وإن لم ترد في الكتاب ولا في السنة، إلا أن النافين لها أرادوا أن ينفوا علو الله على خلقه، فلم ينفها الأئمة الأعلام لهذا السبب وذكروا لها معنى صحيحاً (5).وأما إن أريد بالجهة أمر عدمي فهو ظاهر جداً – إذ الأمر العدمي لا شيء – وما كان في جهة عدمية فليس هو في شيء، فلا فرق بين أن يقال: هذا ليس في شيء، وبين أن يقال هو في أمر عدمي – أي الجهة العدمية – فعلى هذا فالله تعالى مباين لمخلوقاته عال عليهم، وما ثم موجود في العلو إلا هو – إذ لا موجود إلا الخالق والمخلوقات – فالله في علوه وحده، فإن لم يكن معه غيره في علوه فكيف يقال: إنه يحصره أو يحيط به شيء (6).   (1) انظر: ((القاموس المحيط)) (ص: 1620 – مادة وجه) و ((المعجم الوسيط)) (2/ 1016) (وجه، الوجهة). (2) انظر ((أساس التقديس)) (ص/ 47 - 48). و ((المطالب العالية)) له (2/ 17). (3) أخرجه عنه الدارمي في ((الرد على بشر المريسي)) (ص: 24). (4) أخرجه عنه الدارمي في ((الرد على بشر المريسي)) (ص: 23). وقال القاضي عياض: "فمن قال بإثبات جهة فوق من غير تحديد ولا تكييف من المحدثين والفقهاء والمتكلمين تأول "في السماء"، ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (5/ 24 - 25). (5) وانظر ما نقله الذهبي عن أبي القاسم التيمي في ((سير أعلام النبلاء)) (20/ 85 - 86). (6) انظر ((نقض التأسيس)) (2/ 117 - 119) و ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 253 - 255) و (5/ 58 - 59) و ((تفسير سورة الإخلاص)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 148 - 150). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وبهذا الاعتبار الأخير أي الجهة العدمية لا يجوز أن ينفي عن الله تعالى الجهة إذ المقصود منها واضح – ولكننا نعبر عنها بما ورد في الشرع من العلو والاستواء. ومثل ما تقدم من الكلام في الجهة، الكلام في الحيز، فيعبرون بقولهم: يستحيل أن يكون الله متحيزاً، فجوابهم: إنهم إذا أطلقوا نفي التحيز يجمعون بين التحيز الوجودي والعدمي، فالتحيز الوجودي هو المفهوم من اللغة، فإذا قيل عن شيء إنه متحيز فمعناه أنه يوجد شيء يحوز غيره (1)، والله تعالى لا يحوزه شيء، إذ ما تم إلا الخالق والمخلوق، وقد علم بصريح العقل أن الله لا يحل في خلقه ولا يحله شيء من خلقه – فإذا كان ذلك كذلك واستحال أن يوصف بجهة السفل – كما يوافق الأشعرية على ذلك – لم يبق إلا أن يوصف بالعلو. وأما التحيز العدمي – فهذا ما يطلقونه – كما هو الشأن في العالم، فقد يقولون إن العالم متحيز – مع أنه ليس داخلاً في عالم آخر – وعليه فإن الحيز هنا أمر عدمي – والعدم ليس بشيء، فإذا كان ذلك كذلك فإن الله تعالى – بهذا الاعتبار – منحاز عن خلقه (2). ولكن كما تقدم وجب إطلاق كلمة الاستواء والعلو – لا الحيز – ولكنهم لما أرادوا بنفيها نفي الحق الثابت، يمنع نفيها النفي المطلق – والله أعلم. ولكن الأشعرية كغيرهم من المتأولة يطلقون في شأن الباري نفياً غريباً أشبه بإنكار وجوده فيقولون: "ليس فوق العرش أو تحته أو يمينه أو شماله أو أمامه أو خلفه ... " (3) ويعبرون كذلك بأنه لا داخل ولا خارجه (4).   (1) انظر ((القاموس المحيط)) (55/ 655) مادة (حوز)، و ((المعجم الوسيط)) (1/ 206) (حوز، الحيز). (2) انظر ((نقض التأسيس)) (2/ 117 - 119) و ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 253 - 254) و (5/ 58 - 59) و ((تفسير سورة الإخلاص)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 148 - 150). (3) ((شرح أم البراهين)) (ص: 24). (4) انظر ((المواقف في علم الكلام)) (ص: 272). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 والجواب: إن قولهم هذا فيه محذوران:-الأول- الجمع بين نقيضين، فيستحيل أن يكون الشيء الموجود لا داخل العالم ولا خارجه، فإن قيل: إن هذا من رفع الضدين، وهو جائز، وليس من نفي النقيضين إذ شرطهما أن يكون أحدهما سلباً والآخر إيجاباً، فنقيض كلمة: "داخل": لا داخل، وليس كلمة "خارج" فجوابه: إن الاصطلاح لا يغير حقائق الأشياء فإن كلمة "لا داخل" تساوي كلمة "خارج" في المعنى ضرورة أنه ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق، والمخلوق هو العالم، فإذا قيل ليس داخل العالم لزم أن يكون خارجه، وإذا سلم جدلاً بهذا الاصطلاح فإنه لا يسلم عندئذ بأن كل ضدين يجوز رفعهما كما في مسألتنا هذه – ويقويه: أن الموجود باتفاق إما أن يكون واجباً بنفسه أو ممكناً، ويستحيل أن يكون الشيء الواحد ممكناً واجباً من جهة واحدة، أو لا واجباً ولا ممكناً، فثبت أنهما لا يرتفعان ولا يجتمعان مع أنهما لم يتقابلا بالسلب والإيجاب (1).الثاني- يلزم من هذا القول تشبيه الله جل وعلا بالممتنعات والمعدومات، لأنها يصدق عليها: لا داخل العالم ولا خارجه، فيكونون قد فروا من شيء توهموه شراً إلى ما هو شر منه (2).ثم إن هذا القول الذي صرح به المتأخرون من أن الله ليس في السماء كان يحاوله سلفهم ولم يصرحوا به كما قال عبدالرحمن بن مهدي عن الجهمية: "يدورون على أن يقولوا ليس في السماء شيء" (3)، وقال حماد بن زيد: "إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء" (4)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا الذي كانت الجهمية يحاولونه قد صرح به المتأخرون منهم، وكان ظهور السنة وكثرة الأئمة في عصر أولئك يحول بينهم وبين التصريح به، فلما بعد العهد وخفيت السنة وانقرضت الأئمة، صرح الجهمية النفاة بما كان سلفهم يحاولونه ولا يتمكنون من إظهاره" (5).ويستطرد الأشاعرة في إيراد شبههم العقلية – التي هي في الحقيقة وساوس وشكوك ومعارضات لنصوص الكتاب والسنة، فقالوا: إثبات علو الله تعالى واستوائه على عرشه إثبات للمكان له – وكل ما كان له مكان فإما أن يكون أكبر منه أو أصغر منه أو مساوياً له فيكون جسماً – وأيضاً: فالمستوي على الشيء يكون محتاجاً إليه ... ورتبوا على هذا منع الإشارة إليه (6).والجواب: إن الألفاظ التي أتوا بها من الجسمية والمكان ألفاظ لم ترد في الكتاب والسنة، والواجب عدم المسارعة بنفيها أو إثباتها، إذ أكثر من يقول بنفيها عن الله يريد بأنه ليس مستوياً على العرش وليس له علو ذاتي على الخلق، فعلى هذا إن أريد بالمكان: العلو واستواؤه على العرش، قلنا: إن هذا النفي باطل، ولكننا لا نسمي ذلك مكاناً، وإن أريد بالمكان غير ذلك فنبرأ إلى الله تعالى من إثباته له، وكذلك يقال في لفظ الجسم: فإن أريد به ما يصح أن يرى وأنه متصف بصفات الذات والفعل، فلا يجوز نفيه عن الله، إلا أن الواجب مراعاة الألفاظ الشرعية.   (1) انظر ((التدمرية)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 64) و (ص: 155) وانظر ((شرح النونية للهراس)) (1/ 176 - 177). (2) انظر ((التدمرية)) (ص: 19) و (ص: 42). (3) ((السنة)) للإمام عبدالله بن أحمد (1/ 157) (رقم / 147). (4) ((السنة)) لعبدالله بن أحمد (1/ 118) (رقم / 41) ونقله الذهبي عنه كذلك وجادة بإسناد ابن أبي حاتم في ((سير أعلام النبلاء)) (7/ 461). (5) ذكره عنه ابن القيم في ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (ص: 136). (6) انظر هذه الشبهة في كتاب ((أساس التقديس)) للرازي (ص: 28). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وإن أريد أنه مركب من أجزاء، والمركب مفتقر إلى جزئه كالأبدان أو غير ذلك من المعاني الدالة على النقص، فلا يجوز إثباته لله تعالى لا معنى ولا لفظاً (1).وليعلم أنه لا مانع من التزام القول بأنه يشار إليه، وقد أشار إليه نبي الهدى صلى الله عليه وسلم لما وعظ الناس في حجة الوداع فقال لهم بعد الوعظ: ((فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بأصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء وينكثها إلى الناس، اللهم اشهد اللهم اشهد)) (2). ثلاث مرات – وأشار إليه كذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه – كما تقدم النقل عنه. وأما اللوازم التي ذكروها من أن إثبات الاستواء له يقتضي أن يكون في مكان – وقد تقدم الرد عليه – وأن ما كان له مكان لزمه أحد ثلاثة أمور: إما أن يكون أكبر منه أو أصغر أو مساوياً، فجوابه: إن القول بأنه يكون أصغر أو مساوياً قول باطل، وأما كونه أكبر فهذا نلتزمه فالله أكبر من كل شيء ذاتاً وعظمة وجلالاً وكمالاً، ولا ندخل في ذلك متوهمين بآرائنا ولا مكيفين ولا محددين. مع ملاحظة أنهم استخدموا للتوصل إلى هذا الإلزام قياساً شموليا وهو لا يجوز استعماله في المطالب الإلهية (3).وأما القول بأنه لو كان مستوياً على العرش لكان محتاجاً إليه فخطأ أيضاً لأن هذا مبني على قياس الخالق على المخلوق فإن القائس توهم حاجة الباري إلى العرش كاحتياج المستوي على الفلك والأنعام إليها، هذا باطل فإن الله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] فكما أخبر أن له قدرة وعلماً وسمعاً وبصراً ولم يلزم من إثباتها للخالق أن تكون مماثلة لما للخلق، فكذلك لا يلزم في الاستواء فالله هو الغني عن الخلق وهو الخالق للعش ولغيره فكل ما سواه مفتر إليه (4). ومن الألفاظ التي ذكرها الأشاعرة في صور المماثلة للحوادث: لفظ الصورة والغرض، والجوهر، والعرض: أما لفظ الصورة فمما يحتمل معنى صحيحاً ويحتمل معاني باطلة: أما المعنى الصحيح فإن الصورة في اللغة بمعنى: الصفة (5) ولا شك في أن الله جل وعلا صفة وكيفية يعلمها هو، ومما ورد في إثباتها: الحديث الطويل في الموقف يوم القيامة وفيه: ((فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون)) (6). وأما المعاني الباطلة للصورة: فكالشيء المنطبع على الأوراق ونحوها كما في التصوير المسمى (بالفوتوغرافي) وكالشيء المنعكس من الجسم المصقول كالمرآة، فهذه كلها معاني باطلة لا يجوز إثباتها لله تعالى، فإن الله ليس بصورة وإنما هو حي قائم بنفسه، وهو له سبحانه صورة بمعنى الصفة والكيفية التي اختص بعلمها وكمالها. والله أعلم. وأما نفي الغرض فيريدون منه نفي الحكمة عن الله، وقد تقدم بحث إثبات الحكمة، والمنع من إطلاق لفظ الغرض، بما أغني عن إعادته في هذا الموضع. وأما لفظ الجوهر والعرض فلفظان مجملان كذلك؛ فإن أريد بالجوهر: الجوهر الفرد، ثم الزعم بأن الأجسام كلها متركبة من الجواهر المفردة، وهذا يقتضي تماثلها، فهذا المعنى باطل لأن الله ليس كمثله شيء، وإن أريد بالجوهر: المتحيز وهو بمعنى الجسم في اصطلاحهم، فإنه قد تقدم تفصيل لفظي التحيز والجسم وإن أريد بالجوهر: ما هو قائم بنفسه بشرط كونه لا يماثله شيء في ذلك، فهذا المعنى لا ينفي عن الله مع المطالبة بالألفاظ الشرعية كالقيوم (7).وأما لفظ العرض فإن أريد به الصفات التي يتصف بها فإنه لا ينفي هذا اللفظ، وإن كان إطلاقه لا يخلو من محذور لأنه في اللغة إذا قيل: عرض فالمراد ما يعرض من الأمراض ومنه الناقة العارضة (8)، وإن أريد بالعرض ما يقوم بغيره ثم قيل: الله ليس بعرض، فهذا النفي صحيح لأن الله قائم بنفسه وليس قائماً بغيره ولكن الملاحظ أن الذين ينفون الصفات يطلقون عليها أعراضاً، فيتوصلون بنفي العرض ما ثبت بالكتاب والسنة من صفات الله، فلذا وجب استفصالهم فيها (9). والله أعلم. المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف - 2/ 545   (1) انظر ((تفسير سورة الإخلاص)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 127) و ((التدمرية)) له (ص: 35). (2) رواه مسلم (1218) من حديث جابر بن عبد الله. (3) انظر، ((نقض الدارمي على بشر المريسي)) (ص:85)، و ((بيان تلبيس الجهمية)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 156 - 160). (4) انظر: ((التدمرية) (ص: 81 - 83). (5) انظر: ((القاموس المحيط)) (ص: 548). مادة: (صور). (6) رواه البخاري (7437) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (7) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (4/ 150، 164، 184). (8) انظر: ((القاموس المحيط)) (ص: 832). مادة: (عرض). (9) انظر: ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية)) (6/ 90 - 91). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 المطلب الحادي عشر: التفصيل في النفي مع الإجمال في الإثبات فالصفات الثبوتية الوجودية سبع صفات وهي: المعاني، وأما بقية الصفات الثبوتية الأخرى فهي إما صفات اعتبارية أو سلبية أو لا توصف بالوجود ولا بالسلب – على حد اصطلاحهم – فالأولى هي الوجود، والثانية أي السلبية خمس، وقد علمت، والثالثة هي المعنوية – وقد تنازعوا في إثباتها كما تقدم -. كما تنازعوا في إثبات صفتي الإدراك والتكوين، فهم بالجملة قد اتفقوا على سبع صفات وجودية وهي المعاني. فيبقى بعد ذلك ما يسمونه بالمستحيل في حق الله تعالى – ولولا أن المقصود هنا إثبات أن هذا الباب مبني على السلوب لما سقت كلامهم فإنهم قد قالوا: "مما يستحيل في حقه تعالى ... وهي: العدم والحدوث طروء العدم والمماثلة للحوادث بأن يكون مجرماً – أي تأخذ ذاته العلية قدراً من الفراغ – أو يكون عرضاً يقوم بالجرم أو يكون في جهة للجرم "أي يستحيل على الله تعالى أن يكون في جهة للجرم بأن يكون فوق العرش مثلاً أو تحته أو يمينه أو شماله أو أمامه أو خلفه) أو له هو جهة ( ... أي في نفسه بأن يكون له يمين أو شمال أو فوق أو تحت أو قدام أو خلف) أو يتقيد بمكان أو زمان أو تتصف ذاته العلية بالحوادث أو يتصف بالصغر أو الكبر أو يتصف بالأغراض في الأفعال أو الأحكام – وكذا يستحيل عليه تعالى أن لا يكون قائماً بنفسه بأن يكون صفة يقوم بمحل أو يحتاج إلى مخصص - وكذا يستحيل عليه تعالى أن لا يكون واحداً بأن يكون مركباً في ذاته أو يكون له مماثل في ذاته أو في صفاته أو يكون معه في الوجود مؤثر في فعل من الأفعال، وكذا يستحيل عليه تعالى العجز عن ممكن ما وإيجاد شيء في العالم مع كراهيته لوجوده أي عدم إرادته له تعالى أو مع الذهول أو الغفلة أو بالتعليل أو بالطبع، وكذا يستحيل عليه تعالى الجهل وما في معناه "كالشك والظن والوهم والذهول والغفلة والنسيان ... " والموت والصمم والعمى والبكم "وما في معناه بأن يكون كلامه بحروف وأصوات". (1) " اهـ وذكروا أموراً أخرى وما نقلته كاف لإثبات هذه الدعوى. نقد طريقتهم في التنزيه: 1 - التفصيل في النفي عليه ملاحظة من جهتين: الأولى/ هذه الطريقة غير الطريقة المذكورة في القرآن والسنة. الثانية/ إن مطلق النفي قد لا يتضمن مدحاً. وقد تقدم الكلام على هذه والتي قبلها. 2 - في طريقتهم للتنزيه أتوا بعبارات موهمة مجملة يلزم من نفيها نفي الباطل والحق معاً، وقد تبين ذلك بعد مناقشتهم فيما أتوا به منها في الفرع الأول السابق.3 - إن طريقة التنزيه عند الأشاعرة مأخوذة من مسألة مخالفة الحوادث، بل عدوا في الصفات السلبية صفة المخالفة للحوادث، وهي مبنية على أن إثبات بعض الصفات يستلزم الجسمية، وهذه الطريقة غير مستقيمة لوجوه (2):- فكل خير في أتباع من سلف ... وكل شر في ابتداع من خلف الوجه الثاني: إن هذه الطريقة تحكم على صاحبها بالتناقض، فهو يثبت سبع صفات ويدعي أنها لا تماثل صفات الخلق، وينفي ما عداها بدعوى مماثلة الخلق، مع أنه يلزمه أن يسلك هذه الطريقة في جميع الصفات التي أثبتها والتي نفاها. الوجه الثالث: إن هذه الطريقة التي سلكها الأشاعرة في التنزيه – وقد كانوا أخذوها عن المعتزلة الذين ينفون بها الأسماء والصفات كلها – سلكوها كذلك في رد النقائص كالحزن والبكاء في ردهم على اليهود، فصاروا على هذا الأصل هم ومثبتة النقائص خصماء للمعتزلة فيرد المعتزلة على الطائفتين بهذه الطريقة نفسها. الوجه الرابع: إن هذه الطريقة قد تستخدم في نفي ما علم فساده بالضرورة من دين الإسلام وبصريح العقل كالبكاء والحزن، فاستخدام هذه الطريقة – طريقة التجسيم والتحيز – استخدام لا يخلو من اعتراض واشتباه وخفاء، فكيف يستخدم دليل خفي على ما هو جلي واضح؟! المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف - 2/ 555   (1) ((أم البراهين)) مع شرحها من (ص: 22 إلى 32)، وما بين القوسين الكبيرين مأخوذ من الشرح. (2) انظر هذه الوجوه في ((التدمرية)) من (ص: 132 إلى 134). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 المطلب الأول: الأدلة العقلية ومنزلتها من الاستدلال يولي الأشاعرة لدليل العقل اهتماماً كبيراً، فهو إما أن يكون المستقل في إثبات الشيء وإما أن يكون شرطاً، ويتضح ذلك في أمرين كليين ذكرهما الأشاعرة وهما: الأول: قالوا: بعض المسائل لا يصح الاستدلال لها إلا بدليل العقل، وهي التي تتوقف عليها الرسالة كالقدرة والعلم والإرادة ... فلو استدل فيها بدليل النقل ابتداءً لحصل الدور. وقد مضت مناقشة هذا الادعاء بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. الثاني: وقالوا: بعض المسائل لا يصح الاستدلال لها إلا بدليل النقل، ولكن بشرط عدم المعارض العقلي. وسيأتي إيضاحه إن شاء الله ولكن يلاحظ أن هذا الشرط الذي شرطوه: لم يلتزموه في المسائل التي أدلتها عقلية محضة بدعوى أن انتفاء المعارض في الدليل العقلي معلوم بداهة وضرورة! وخلاصة الأمر: إن الأدلة العقلية لها أعلا المنازل عند الأشاعرة. ومثل هذا يعد مخاطرة شديدة، يوقع في المضايق والإشكالات والاعتراض على الشرع! المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف - 2/ 560 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 المطلب الثاني: أنواع الأدلة العقلية: قياس الغائب على الشاهد: هذا النوع من القياس وإن كان قد رده الأشاعرة في إثبات الصفات إلا أن الملاحظ استخدامهم له في النفي. فقد صرح الإيجي في كلامه عن المسالك الضعيفة بضعف هذا القياس، فقال: "المقصد الخامس: وههنا طريقان ضعيفان" الأول: قالوا ما لا دليل عليه فيجب نفيه. الثاني: قياس الغائب على الشاهد، ولابد من إثبات علة مشتركة، وهو مشكل الجواز كون خصوصية الأصل شرطاً، أو الفرع مانعاً ... " (1) اهـ. إلا أنه يلاحظ استخدامهم له في نفي ما ثبت لله جل وعلا من الصفات. ومن أمثلة ذلك:1 - قولهم في نفي الصوت عن الله جل وعلا – إذ قد لاحظوا أن الأصوات في الشاهد تحتاج إلى مخارج من الحلق واللسان والشفاة، ولابد من الاصطكاك ليحدث الصوت – قالوا: فإذا ثبت هذا، فإنه إن أثبت لله صوت لزم وجود هذه المخارج (2)! فهذا قياس باطل تقدمت الإجابة عنه. 2 - قولهم في نفي صفة الاستواء: إنه لو كان مستوياً على العرش لكان محتاجاً إليه، لأنهم لم يعقلوا في الشاهد إلا هذا الاستواء الذي يكون المستوي فيه محتاجاً إلى ما يستوي عليه. والأمثلة كثيرة جداً في النفي كلها دالة على تناقض الأشاعرة في هذا الدليل. قياس الشمولوهذا القياس يستخدم لإثبات حكم لجزئي معين لوجود مشترك كلي متناول له ولغيره (3) ويستخدم فيه أداة "كل" الدالة على العموم والشمول. وقد استخدم الأشاعرة هذا القياس في الإثبات وفي النفي. ففي الإثبات كقولهم لإثبات صفة الإرادة: "الله صانع للعالم بالاختياري، وكل من كان كذلك تجب له الإرادة، فالله تجب له الإرادة." (4).ومثاله في النفي: كل ما كان بجهة جازت عليه الحركة والسكون، وكل ما جازت عليه الحركة والسكون حادث، فإذا كان الله في جهة كان حادثاً – وهو محال – فثبت أنه ليس في جهة (5). والمناقشة: استخدام هذا القياس في إثبات الصفات استخدام لا يخلو من خطأ – إذ مؤداه ثبوت الإرادة للخالق كثبوتها للمخلوق – وهذا خطأ، فإن الصفة للخالق أكمل منها عند المخلوق، ولا اشتراك في حقيقتهما أبداً، والله عز وجل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]. فلا يجوز إدخاله وغيره في قضية كلية تستوي فيها أفرادها. ولذا فلو استخدموا قياس الأولى على قاعدة الكمال لكان استخداماً موافقاً للطريقة الشرعية، ونظمها هكذا: الإرادة صفة كمال في حق المخلوق، والخالق يمكن أن يتصف بها، فالخالق إذاً أولى أن يتصف بها على الوجه الأكمل، ويوضح إمكان اتصافه بها أن المخلوق المحدث قد اتصف بها وهي كمال فيه، ولم يستفد كماله هذا إلا من خالقه، ولا شك أن الله الذي جعل غيره كاملاً هو أحق بهذا الكمال منه، وثبوت هذا الكمال له لا يتوقف على غيره (6).   (1) ((المواقف في علم الكلام)) للإيجي (ص: 37). (2) انظر ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص: 273). (3) انظر معناه في ((الرد على المنطقيين)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 119) ونصه فيه: "هو انتقال الذهن من المعين إلى المعنى العام المشترك الكلي المتناول له ولغيره والحكم عليه بما يلزم المشترك الكلي" اهـ. (4) ((تحفة المريد)) (ص: 66). (5) انظر مثل هذا على سبيل المثال في ((لباب العقول للمكلاتي)) (ص: 181). (6) انظر: ((ابن تيمية السلفي)) للهراس (ص: 66 - 113). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 واستخدامهم لهذا القياس في النفي خطأ كذلك، إذ فيه إدخال الله جل وعلا مع غيره في قضية كلية تستوي أفرادها والله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11].وبهذا يعلم أن كل الشبهات التي أوردها الأشاعرة وغيرهم من علماء الكلام على أهل السنة في إثباتهم للصفات الخبرية الفعلية والذاتية – مبنية على هذا الأصل، وبه يعلم أن كل معطل ممثل، فإنه ما عطل المعطل إلا لاعتقاده أن ما نفاه لو أثبته للزم منه التشبيه والتمثيل، فيكون قد انقدح في نفسه هذا التشبيه أولاً ثم عطل ثانياً (1). ومما وجه من نقد على هذا القياس – بجانب الخطأ السابق – مسائل صناعية في الاستدلال وهي:1 - إنهم اشترطوا لصحة القياس وإفادته للمطلوب: قضية كلية. وعندئذ يقال لهم: هل العلم بهذه القضية الكلية بدهي أو نظري؟ فإن كان بدهياً فأولى أن يكون كل واحد من أفرادها بدهياً، لأنها تسبق إلى الذهن مباشرة، وعلى هذا أمكن أن يقال عن هذا القياس: إن فيه تطويلاً وإتعاباً للذهن. (2) وإن كان نظرياً احتاج إلى علم بدهي فيفضي إلى الدور أو التسلسل (3).2 - الكليات تتحقق في الأذهان لا في الأعيان. وقياس الشمول على هذا لا يعلم به موجود معين أصلاً، لأنه لا يعلم به إلا الكليات، فاستخدامه – مثلاً – لإثبات وجود الله خطأ، لأنه يدل على وجود موجود مطلق، وهو الأمر الكلي المشترك بينه وبين غيره، فلا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، مع أن الله وهو واجب الوجود – يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وعليه فهذا الدليل وحده لا يعلم به وجود الله (4). المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف - 2/ 561   (1) انظر: ((الرسالة التدمرية)) (ص: 50). (2) انظر: ((الرد على المنطقيين)) (ص: 107، وص: 248). (3) انظر: ((الرد على)) المنطقيين (ص: 107). (4) انظر: ((الرد على المنطقيين)) (ص: 124 - 125). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 المطلب الثالث: الأدلة النقلية ومنزلتها من الاستدلال التفريق بين الأدلة النقلية: يفرق الأشاعرة بين ما يجوز الاستدلال به من الأدلة النقلية السمعية وما لا يجوز، فإن ما يستدل له بالأدلة النقلية ينقسم قسمين: قسم يجوز أن يحتج له بالأدلة النقلية المتواترة والآحادية، وهذا في الأسماء الحسنى فإنهم عدوها توقيفية، "ويتوقف جواز إطلاقها عليه تعالى على ورودها في كتاب أو سنة صحيحة أو حسنة أو إجماع – لأنه غير خارج عنها" (1) وقسم يحتج له بالأدلة القطعية وهي الكتاب والسنة المتواترة على سبيل التأكيد للدليل العقلي – وذلك في صفات: الحياة والقدرة والإرادة والعلم – على خلاف بينهم في صفة الكلام (2)، ولا يحتج بدليل السنة الآحادي مطلقاً في باب العقيدة كلها – ما عدا ما تقدم في الأسماء الحسنى -. قال الرازي: "أما التمسك بخبر الواحد في معرفة الله تعالى فغير جائز" (3).وما ذكروه من صحة الاحتجاج بالأدلة السمعية كلها على الأسماء الحسنى فكلام صحيح. وأما كلامهم بأن بعض الصفات لا يحتج لها بالأدلة السمعية فمبني على أن الأدلة السمعية خبرية فقط لا تشتمل على الأدلة والبراهين العقلية، وهذا خطأ قد مضى بيانه وتقويمه. وأما ردهم للاحتجاج بخبر الآحاد فخطأ، ترده الأدلة المذكورة في فصل أهل السنة والجماعة (4). وأما شبهاتهم التي أوردوها فإنه قد ذكر الرازي خمسة أوجه قاضية بإفادة خبر الواحد الظن لا العلم – وسأذكرها واحدة واحدة مع المناقشة إن شاء الله تعالى: الوجه الأول/ ذكر الرازي: أن أخبار الآحاد: مظنونة للإجماع على عدم عصمة الرواة فيتحمل عليهم إذاً الخطأ والكذب، فيكون صدقهم مظنوناً لا معلوماً – وما كان كذلك فلا يجوز التمسك به لقول الله تعالى: إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [يونس: 36]، وقوله: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36] إلى آخره ما ذكره (5). والجواب: إن ما ذكره الرازي من الجواز العقلي القاضي بجواز الكذب والخطأ على الرواة – كلام كلي لم يستثن فيه الرازي الصحابة، وهذا خطأ فاحش إذ قد أجمع المسلمون - عدا الروافض والخوارج – على عدالة جميع الصحابة وصدقهم، أما احتمال الخطأ منهم فوارد، ولكن قد علم حرص الصحابة وتوقيهم للرواية، أفيقال بعد هذا كله ما قاله الرازي فيهم؟ ثم إنه لو فرض أن أحدهم أخطأ في حديث، فهل يجوز لبقية الصحابة أن يسكت عنه؟ هذا محال. وهكذا يقال في عصور الرواية الأخرى. ثم إنه يقال للرازي: إن كل الأئمة الذين لهم خبرة بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأمضوا أكثر أعمارهم فيه جزموا بصحة كثير من الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة أحاديث الصفات، فإنه إذا سلم للرازي كلامه هذا في بعض الأخبار، فإنه لا يسلم له ذلك في أحاديث الصفات التي هي إما متواترة أو مشهورة متلقاة بالقبول كما مر.   (1) ((تحفة المريد)) (ص: 90). (2) أشار إلى هذا الغزالي في كتابه: ((الاقتصاد)) (ص: 102) بقوله: "ونفس الكلام فيما اخترناه لا يمكن إثباته بالشرع" والمتأخرون يعدون الكلام من الصفات السمعية. (3) ((أساس التقديس)) للرازي (ص: 168). (4) انظر ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) للسجزي (ص: 185 - 191). (5) انظر ((أساس التقديس)) (ص: 168). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وبعد هذا يعلم خطأ استدلاله بالآيات في عدم الأخذ بالظن. إذ الظن فيها هو ما كان على سبيل التوهم غير المستند إلى دليل صحيح، ولذلك فهو نفسه لا يأخذ بها لرد الأحكام الفرعية العملية مع قوله بظنيتها، ومهما فسر الظن الوارد في الآيات فإن أخبار الصفات لا تدخل فيها، إذ هي إما متواترة أو مشهورة متلقاة بالقبول، فخرجت عن كونها ظناً ... الوجه الثاني للرازي: ذكر بأن أجل طبقات الرواية وهم الصحابة لا تفيد روايتهم القطع، فأولى ألا تفيد رواية غيرهم، ثم ساق أمثلة تبين أنه لا يمكن القطع برواية الصحابة منها أن عمر طعن في خالد وابن مسعود وأبا ذر بالغا في الطعن في عثمان، وكذلك عائشة طعنت فيه ... الخ (1). والجواب: إن إطلاق الرازي عبارة (الطعن) يوهم أن ذلك كان بالقدح في العدالة – وليس الأمر كذلك –وإنما هي قضايا مخصوصة حصل فيها اختلاف في وجهات النظر والاجتهاد (2)، فاعتبار مثل هذه القضية الخاصة قضية كلية يؤخذ بها، كلام لا يسلم له، إذ الواقع يبين أنه قد أخذ بعضهم عن بعض. ثم إن الرازي في كل ما سرده من أمثلة في التشكيك في بعض الروايات لم يأت بمثال واحد يفيد التشكيك في صحة أحاديث الصفات، ولو وجد لما قصر في ذلك إذ هو الذي يريده. فلما كان ذلك كذلك علمنا يقيناً أن أحاديث الصفات متلقاة بالقبول عند سلف الأمة، حتى نشأ أهل البدع فطعنوا فيها لما لم يجدوا طريقاً على تأويلها. الوجه الثالث عند الرازي: قال الرازي: "إن جماعة من الملاحدة وضعوا أخباراً منكرة موضوعة واحتالوا في ترويجها، والمحدثون لسلامة قلوبهم ما عرفوها بل قبلوها، وأي منكر فوق وصف الله تعالى بما يقدح في ربوبيته؟ " (3). والجواب:   (1) انظر ((أساس التقديس)) (ص: 169 - 170). (2) ولا يخلو ما أورده الرازي عن أمرين: الأول/ إن بعض ما ذكره لم يثبت – كما ذكر الدارمي في رده على بشر (ص: 132). الثاني/ وإن الذي ثبت منها فهو يحتمل أموراً منها: أن بعض ما تشكك فيه بعضهم كان الظن وجود ما يعارضه من الشرع، فلم يكن شكهم مبنياً على قاعدة الرازي: "مخالفة العقول"، ومنها: أنهم كانوا يطلقون كلمة "كذب" بمعنى أخطأ. ومع ذلك كله فالأمثلة محدودة، وانظر ((الأنوار الكاشفة)) للمعلمي (ص: 170 - 172) و (277 – 278) وغير ذلك. (3) ((أساس التقديس)) (ص: 170). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 هذا الوجه الذي ذكره الرازي لباب الزندقة، إذ هو يقود إلى التشكيك في هذا الدين، إذ كيف يغفل المحدثون التنبيه إلى أحاديث تطعن في الرب سبحانه وتعالى؟ ولذلك فهنا وقفتان في كلام هذا الرازي: الوقفة الأولى/ إن الرازي قد ادعى دعوى عريضة بأن جماعة من الملاحدة وضعوا أخباراً منكرة ولم يبين واحداً منها، ولم يقم دليلاً على دعواه – ونحن وإن كنا نوافقه على وضع الملاحدة لبعض الأحاديث، إلا أننا لا نوافقه أن المحدثين لم يعرفوها، بل إن المتتبع لأحوال الأئمة وطرقهم في معرفة الأحاديث الموضوعة يتضح له بلا لبس ولا شك أن الأحاديث المنكرة الموضوعة قد بينت وصنفت فيها مصنفات، والظاهر أن الرازي أخذ هذه الشبهة من الجهمية. فإن الجهمي الذي رد عليه الدارمي قد أورد هذه الشبهة فرد عليه الدارمي بقوله: "أوليس قد ادعيت أن الزنادقة قد وضعوا اثني عشر ألف حديث دلسوها على المحدثين؟ فدونك أيها الناقد البصير الفارس النحرير فأوجدنا منها اثني عشر حديثاً، فإن لم تقدر عليها، فلم تمتحن العلم والدين في أعين الجهال بخرافتك هذه؟ لأن هذا الحديث إنما هو دين الله بعد القرآن، وأصل كل فقه، فمن طعن فيه فإنما يطعن في دين الله" (1).الوقفة الثانية: قول الرازي: "والمحدثون لسلامة قلوبهم ما عرفوها، بل قبلوها" وهذا طعن قبيح في الأئمة الأعلام الذين شهدت لهم الأمة بالعلم والديانة كالسفيانين ومالك وأحمد والشفاعي وابن المبارك والليث وغيرهم من أساطين الحديث وأركان الرواية الذين ملأوا الدنيا علماً وفضلاً، وقد تهيب الرازي أن يقول إنهم جاهلون وإنما قال: "لسلامة قلوبهم" وهل سيلم القلب يقبل رواية تقدح في الربوبية؟! ولذلك هو قد صرح في الوجه الرابع بعدم عقلهم إذ أورد ذلك بصيغة التساؤل فقال: "فما كان فيهم عاقل؟ ... إن هذا من العجائب! " (2) كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ثم إن قول الرازي: "بل قبلوها" يفيد قطعاً أنه يعني أحاديث الصفات التي يتوهم الرازي وأمثاله أنها تقدح في الربوبية، ولكننا عندئذٍ لا نسلم له بأنها موضوعة ومنكرة ولذلك لا يضر قوله: "ما عرفوها" بل هم قد عرفوها ونصوا على صحتها وقبولهم والقول بمقتضاها كما تقدم عنهم سابقاً. وبهذا يظهر جلياً أن الرازي حكم عقله في هذه المسائل دون الرجوع إلى الحقائق المقررة عند سلف هذه الأمة فيها مما أوقعه في الخطأ. الوجه الرابع: قال الرازي: "إن هؤلاء المحدثين يخرجون الروايات بأقل العلل؛ إنه كان قائلاً إلى حب علي فكان رافضياً فلا تقبل روايته، وكان معبد الجهني قائلاً بالقدر فلا تقبل روايته، فما كان فيهم عاقل يقول إنه وصف الله تعالى بما يبطل إلهيته وربوبيته فلا تقبل روايته، إن هذا من العجائب! " (3).   (1) ((نقض الدارمي على بشر المريسي)) (ص: 137). (2) انظر ((أساس التقديس)) (ص: 171). (3) ((أساس التقديس)) (ص: 171). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 والجواب: ينظر أولاً في الأحاديث التي يزعم الرازي أنها تطعن في الرب، فإن كانت حقيقة تطعن في ذات الرب تعالى فإن أئمة الحديث كلهم عقلاء والحمد لله، وردوا مثل هذه الأحاديث وطعنوا في رواتها ولم يقبلوا حديثهم، ويعرف ذلك من وقف على كتبهم وأقوالهم في الجرح والتعديل والموضوعات والعلل، فمن ذلك: ما وضعه محمد بن شجاع الثلجي: ((أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل يا رسول الله مما ربنا؟ قال: من ماء مرور لا من أرض ولا من سماء، خلق خيلاً فأجراها فعرقت فخلق نفسه من ذلك العرق)) (1) قال ابن قتيبة: "ولما رأى قوم من الناس إفراط هؤلاء في النفي عارضوهم بالإفراط في التمثيل، فقالوا بالتشبيه المحض بالأقطار والحدود، وحملوا الألفاظ الجائية في الحديث على ظاهرها وقالوا بالكيفية فيها، وحملوا من مستشنع الحديث: عرق الخيل وحديث عرفات وأشباه هذه من الموضوع ما رأوا أن الإقرار به من السنة وفي إنكاره الريبة، وكلا الفريقين غالط وقد جعل الله التوسط منزلة العدل، ونهى عن الغلو فيما دون صفاته من أمر ديننا فضلاً عن صفاته، ووضع عنا أن نفكر فيه كيف كان وكيف قدر وكيف خلق، ولم يكلفنا ما لم يجعله في تركيبنا ووسعنا" (2). فهذا مثال يدل على معرفة الأئمة لا يقدح في ذات الرب تعالى. والأمثلة كثيرة، فلتراجع في كتب الموضوعات. وأما إن كانت تلك الأحاديث مما يتوهم الرازي أنها تطعن في ذات الرب وليست كذلك، كأحاديث النزول والضحك وغير ذلك فالجواب: إنها ليست مما يطعن في ذات الرب، فإن منها المتواتر كحديث النزول إلى سماء الدنيا، ومنها الآحاد المتلقاة بالقبول عند الأئمة، فعلى هذا يكون العاقل من قبلها. ومن لم يقبلها فليس بعاقل. وأما قوله: "إن هؤلاء المحدثين يخرجون الروايات بأقل العلل": فكلام يرجع عليه بالرد، إذ يفيد عناية المحدثين بهذا الشأن، فما كان يطعن في الرب سبحانه فبطلانه ظاهر وليس من العلل الخفية، أما أحاديث الصفات الصحيحة المتلقاة بالقبول فقد خبرها المحدثون ومحصوها ولم يجدوا لها علة، وتلقوها بالقبول. ومع هذا فكلام الرازي ليس على إطلاقه فالعلل بعضها قادح يرد بها الحديث، وبعضها ليس بقادح فلا يرد لأجلها الحديث – والله أعلم -. الوجه الخامس: قال الرازي: "إن الرواة الذين سمعوا هذه الأخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم وما كتبوها عن لفظ الرسول، بل سمعوا شيئاً في مجلس، ثم إنهم رووا تلك الأشياء بعد عشرين سنة أو أكثر، ومن سمع شيئاً في مجلس مرة واحدة، ثم رواه بعد العشرين والثلاثين لا يمكنه رواية تلك الألفاظ بأعيانها، وهذا كالمعلوم بالضرورة، وإذا كان الأمر كذلك كان القطع حاصلاً بأن شيئاً من هذه الألفاظ ليس من ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم بل ذلك من ألفاظ الراوي، وكيف يقطع أن هذا الراوي سمع مما جرى في ذلك المجلس ... (3) " اهـ. والجواب: إن الرازي يضع مقدمات ظنية ثم يجعل النتيجة قطعية وهذا يخالف ما يدعيه من التحقيق والتدقيق، فمن ذلك قوله: وما كتبوها عن الرسول" فمن أين له القطع بأنهم جميعاً ما كانوا يكتبون؟   (1) ينظر ((الموضوعات)) لابن الجوزي 1/ 149. (2) ((الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية)) لابن قتيبة (ص: 52 - 53). (3) ((أساس التقديس)) (ص/ 171). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 ثم لو سلم له عدم الكتابة فالجواب: إن الله قد أعطاهم قوة على الحفظ وهذا معلوم عند المحدثين، فمن ذلك ما جرى لأبي هريرة رضي الله عنه، قال أبو الزعيزعة كاتب مروان بن الحكم: "إن مروان دعا أبا هريرة فأقعدني خلف السرير، وجعل يسأله، وجعلت أكتب، حتى إذا كان كان عند رأس الحول، دعا به فأقعده وراء الحجاب فجعل يسأله عن ذلك، فما زاد ولا نقص ولا قدم ولا أخر".وقوله كذلك: "رووا تلك الأشياء بعد عشرين سنة أو أكثر" فهذه أيضاً مقدمة ظنية ليس له عليها دليل، وقد علم بالإجماع أن بعض الصحابة قد بلغ قومه في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم من كان يتناوب لسماع الحديث ليحدث به صاحبه في حالة غيابه كما جرى لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وجاره (1) ثم إنه لو سلم له هذا القول، فليس طول الزمان موجباً لتغيير اللفظ إن كان صاحبه مازال حافظاً، ولذلك فالرازي نفسه يشعر بضعف حجته حيث قال: "وهذا كالمعلوم بالضرورة"، ولم يقل معلوم بالضرورة. ثم قوله: "ومن سمع شيئاً في مجلس مرة واحدة": فيقال له وهل تجزم بأن الحديث لا يحدث به الرسول صلى الله عليه وسلم إلا في مجلس مرة واحدة؟ ثم لو فرض ذلك فما الذي يضير إذا كان من سمعه حجة ثبتاً متقناً حافظاً؟ ولحفظ الحديث أسباب قد وجدت وهي: (2) 1 - قوة الذاكرة عند المتقدمين. 2 - تأييد الله تعالى وإرادته لظهور هذا الدين، ولا يكون إلا بحفظ أصليه وهما الكتاب والسنة. 3 - هيبة الصحابة وتعظيمهم لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم – فكانوا يحتاطون في الرواية خشية الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.4 - رغبتهم في حصول دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم – لهم بقوله ((نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وحفظها)) (3).5 - ومع هذا كله فقد ثبت أن بعض الصحابة قد كتب شيئاً من الحديث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد عهده بقليل – فمن ذلك: الصحيفة لهمام بن منبه عن أبي هريرة – والصحيفة الصادقة لعبدالله بن عمرو بن العاص، وغير ذلك كثير (4). والمقصود: أن الرازي يضع مقدمات ظنية ثم يدعي قطعية النتيجة بقوله: "وإذا كان الأمر كذلك كان القطع حاصلاً بأن شيئاً من هذه الألفاظ ليس من ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم"، والجواب عن هذا:- 1 - إن هذا الذي قطع الرازي بصحته وجزم، مستنتج من مقدمات ظنية الحق بخلافها وهي لا تؤدي إلى اليقين والقطع.   (1) انظر صحيح البخاري (89). (2) انظر: ((القرآنيون وشبهاتهم حول السنة)) (ص: 246 - 247). (3) رواه الترمذي (2658) , وابن ماجه (232) , قال الترمذي: حسن صحيح, وصححه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 364) , وقال أحمد شاكر في تحقيقه لـ ((مسند أحمد)) (6/ 96): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)). (4) انظر ما ذكره الدارمي في رده على المريسي (ص: 127) – ففيه ذكر بعض من كتب من الصحابة. وانظر ((دراسات في الحديث النبوي)) للأعظمي (1/ 92 - 142). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 2 - ثم إنه يقال كيف يحصل التبديل في لفظ "الضحك" و"الغضب" و"الأصابع" وغير ذلك – فهل هذا مما يحصل فيه اللبس والخطأ؟ وفيما يلي أحاديث من صحيفة وهب بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه – التي وجدت وطبعت، وقد سردها الإمام أحمد بكاملها في مسنده (1) فاستقرأتها واخترت منها سبعة أحاديث موضوعها في الصفات تدل قطعاً على عدم التغيير:1 - ((لما قضى الله الخلق كتب في كتاب عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي)) (2) وفيه صفات: قضاء الخلق، والاستواء، والرحمة والغضب.2 - (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)) (3) , وفيه صفة المحبة.3 - ((يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم ينقص مما في يمينه. قال: وعرشه على الماء، وبيده الأخرى القبض والبسط يرفع ويخفض)) (4) , ففي هذا الحديث إثبات اليدين لله وأنه يفعل بهما: الإنفاق باليمين، وبالأخرى يرفع ويخفض.4 - ((تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغرتهم، فقال الله للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتليء حتى يضع الله عز وجل قدمه، فتقول: قط، قط، فهنالك تمتليء ويزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحداً، وأما الجنة فإن الله تعالى ينشئ لها خلقاً)) (5) , وفيها من الصفات لله: صفة الكلام والقدم.5 - ((لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في)) (6). وفيه إثبات صفة الفرح لله تعالى.6 - ((اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله)) (7) , وفيه إثبات صفة الغضب.7 - ((يضحك الله لرجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: يقتل هذا فيلج الجنة، ثم يتوب الله على الآخر فيهديه إلى الإسلام، ثم يجاهد في سبيل الله فيستشهد)) (8) , وفيه صفة الضحك. ثم إن الرازي أتى بكلام ممجوج يدل على الطعن في الصحابة قال: "بل ذلك من ألفاظ الراوي" فالذين سمعوا من الرسول صلى الله عليه وسلم هم الصحابة – فاتهامهم بالتغيير طعن فيهم، بل يزداد الأمر سوءاً إذا كان ذلك في أصل الدين في إلهية الرب سبحانه وربوبيته، إذ حاصله أن الصحابة لم يعتقدوا الاعتقاد السليم!.   (1) انظر ((مسند الإمام أحمد)) (2/ 312 - 318). (2) رواه البخاري (3194) , ومسلم (2751) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) رواه البخاري (6507) , ومسلم (2683) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. (4) رواه البخاري (7419) , ومسلم (993) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (5) رواه البخاري (4850) , ومسلم (2846) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (6) رواه مسلم (2747) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (7) رواه البخاري (4073) , ومسلم (1793) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (8) رواه مسلم (1890) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وقوله: "وكيف يقطع أن هذا الراوي سمع مما جرى في ذلك المجلس" فجوابه: إنا لا نشك أن الصحابي إذا صرح بسماعه من الرسول صلى الله عليه وسلم – فإنه كما قال، وإن أتى بعبارة محتملة للسماع كقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأصل فيه أنه سمعه منه، ولكن قد يكون بعض الصحابة – خاصة صغارهم – يروي ذلك عن صحابي آخر، وهذا لا مطعن فيه إذ الجميع قد ثبتت عدالتهم بالإجماع. وبالله التوفيق. فقد ظهر مما تقدم أن الرازي وأمثاله من أساطين الأشاعرة كالغزالي والجويني لم يكونوا على خبرة بالسنة فمثال ذلك قول الجويني: ومما تتمسك به الحشوية: مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله خلق آدم على صورته)) (1) وهذا الحديث غير مدون في الصحاح" (2). مع العلم بأنه متفق عليه! – وكقول الغزالي: "وظواهر أحاديث التشبيه أكثرها غير صحيحة" (3). فإن كان مراده بأحاديث التشبيه الأحاديث التي فيها تمثيل الخالق بخلقه فكلها باطلة موضوعة ولا يقال أكثرها غير صحيحة!، وإن كان يريد ما يفهمه ويتوهمه تشبيهاً من أحاديث الصفات الصحيحة فهي كلها صحيحة، وقد فهم منها السلف فهماً صحيحاً. وما تقدم نقله عن الجويني والغزالي يدل على عدم اعتمادهم كثيراً على الحديث في هذا الباب – بل ويدل على عدم خبرتهما به في الجملة، وقد صرح الحافظ ابن حجر في التخليص الحبير بعدم خبرة هذين الإمامين في الحديث فقال عن الجويني، "ونقل الرافعي عن إمام الحرمين في النهاية أنه قال: "في قلبي من الطمأنينة في الاعتدال شيء وهو من المواضع العجيبة التي تقضي على هذا الإمام بأنه كان قليل المراجعة لكتب الحديث المشهورة فضلاً عن غيرها" (4).وقال نحو هذه العبارة في موضع آخر (5)، ثم قال عنه وعن تلميذه الغزالي: "قال إمام الحرمين "رأيت في كتاب معتمد أن عائشة روت ذلك"، وتبعه الغزالي فقال: "قيل: إن عائشة روت ذلك"، وهذا دليل على عدم اعتنائهما بالحديث، كيف يقال ذلك في حديث سنن أبي داود التي هي أم الأحكام! "، وله عبارة فيهما نحو هذا في موضع آخر (6)، بل إن الغزالي نفسه قد حكم على نفسه فقال: "وبضاعتي في الحديث مزجاة" (7).أما الرازي فهو مثلهم في عدم المعرفة بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم والخبرة بمذهب السلف، فلذلك يتخبط هو وغيره ويرمون من يقول بمقتضى الأحاديث بأنه مشبه أو مجسم – مع العلم بأنهم جميعهم يحتجون بأقوال ساقطة سلفهم فيها فلاسفة ملاحدة أو منجمون مشركون – وفي الرازي يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن العجب أن هذا الرجل المحاد لله ولرسوله عمد إلى الأخبار المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي توارثها عنه أئمة الدين وورثة الأنبياء والمرسلين، واتفق على صحتها جميع العارفين، فقدح فيها قدحاً يشبه قدح الزنادقة المنافقين، ثم يحتج في أصول الدين بنقل أبي معشر أحد المؤمنين بالجبت والطاغوت أئمة الشرك والضلال نعوذ بالله من شرورهم وأقوالهم والله المستعان على ما يصفون" (8).   (1) رواه البخاري (6227) , ومسلم (2612) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) ((الإرشاد للجويني)) (ص: 152 - 153). (3) ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص: 103). (4) ((التلخيص الحبير)) (1/ 256 - 257). (5) ((التلخيص الحبير)) (2/ 50). (6) ((التلخيص الحبير)) (1/ 275). (7) انظر: ((قانون التأويل)) (ص: 16)، وانظر ((الرد على المنطقيين)) (ص: 483) لشيخ الإسلام ابن تيمية، و ((نقض المنطق)) له (ص: 53). و ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 5). (8) ((نقض التأسيس (1/ 459). ولكن بين شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه هذا وغيره أن الرازي قد تاب آخر حياته .. انظر ((نقض التأسيس)) (1/ 447)، وانظر كذلك ما ذكرته في الباب الرابع من توبته (ص: 689). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 بيان حقيقة موقفهم من الأدلة النقلية كلها خاصة المتأخرين: وقد يظهر للناظر لأول النظر أن الأشاعرة بتقسيمهم للمسائل حسب الدليل يفيد أن منها ما يثبت بالشرع فقط، ولكن ليعلم أن العقل أصل حتى لهذا النوع عندهم، إذ أن إقامة الدليل النقلي على المسائل السمعية متوقفة على حكم العقل بالجواز أو عدم المعارض، وفي هذا يقول الغزالي: "وأما المعلوم بمجرد السمع فتخصيص أحد الجائزين بالوقوع فإن ذلك من مواقف العقول، وإنما يعرف من الله بوحي وإلهام، ... ثم كل ما ورد السمع به ينظر: فإن كان العقل مجوزاً له وجب التصديق به قطعاً إن كانت الأدلة السمعية قاطعة ... فإن توقف العقل في شيء من ذلك فلم يقض فيه باستحالة ولا جواز وجب التصديق أيضاً" (1). وهو قد تابع شيخه أبا المعالي على هذا، وشيخه قد تابع الباقلاني الذي تبع الأشعري في كتابه (اللمع) (2).وبهذا يظهر الموقف السيئ للأشاعرة من الأدلة النقلية – والله المستعان – وقد ازداد هذا الموقف سوءاً عند الرازي بصورة تجعل الدليل النقلي لا يستدل به لا أصالة ولا تبعاً، فهو يقول: "قيل: الدلائل النقلية لا تفيد اليقين: لأنها مبنية على نقل اللغات ونقل النحو والتصريف، وعدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم الإضمار وعدم النقل وعدم التقديم والتأخير وعدم التخصيص وعدم النسخ وعدم المعارض العقلي. وعدم هذه الأشياء مظنون لا معلوم، والموقوف على المظنون مظنون، وإذا ثبت هذا ظهر أن الدلائل النقلية ظنية وأن العقلية قطعية، والظن لا يعارض القطع." (3) اهـ. وتقرير اعتراض الرازي كالآتي: إن الدليل النقلي لفظي، وهو مبني على أمور ظنية، والمبني على الظن ظني لا يفيد اليقين، فصح أن الأدلة النقلية ظنية لا تفيد القطع. وما ذكره الرازي آخر كلامه نتيجة لمقدمتيه؛ الأولى منهما هي محل المناقشة وهي "وهو مبني على أمور ظنية"، وأما الثانية وهي: "والمبني على الظن ظني" فلا حاجة لمناقشته فيها لظهورها، ولأنه إذا بطلت المقدمة الأولى فسدت نتيجته. وأما الأمور الظنية التي ذكرها فهي وجودية وعدمية: 1 - أما الأمور الوجودية الظنية فهي: إن إفادة الدليل النقلي للقطع على مدلولاته متوقفة على القطع بصحة نقل ألفاظ اللغة ومدلولاتها، وصحة نقل النحو حتى يتحقق مدلول الهيئة التركيبية للألفاظ، وصحة نقل الصرف لمعرفة معاني هيئات المفردات، وكلها يتوقف القطع بها على العلم بتواتر نقل العربية لغة ونحواً وصرفاً، وهو شيء مظنون، إذ لا يمتنع من القليلين الإقدام على الكذب. 2 - وأما الأمور الظنية العدمية فهي: إن الاستدلال بالأدلة النقلية متوقف على عدم المجاز والإضمار والتخصيص والاشتراك والمعارض العقلي ... الخ ومبناها على الاستقراء وهو ظني. فعلى هذا فإن الدليل اللفظي مبني على أمور ظنية فيكون ظنياً لأن المتوقف على المظنون مظنون (4). والجواب:   (1) ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص: 103). (2) انظر: ((اللمع للأشعري)) (ص: 61) و ((التمهيد)) للباقلاني ((ص38 - 152 - 153) و ((الإرشاد للجويني)) (ص358 - 359). (3) ((معالم أصول الدين)) (ص: 24). وانظر ((المطالب العالية)) (9/ 113 - 118) وفيه نسب هذه المقالة إلى نفسه – ولم يصدرها بقيل كما في المعالم – فإنه قال في ((المطالب العالية)) (9/ 118) بعد أن ذكر أدلته: "فهذا تقرير البحث عن قولنا: التمسك بالدلائل اللفظية في المطالب اليقينية لا يجوز" اهـ. (4) انظر هذا التقرير في ((المحصول في أصول الفقه للرازي)) (1/ 390 - 480). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 أولاً في الأمور الظنية الوجودية:1 - لا يسلم للرازي دعوى عدم التواتر في كل ما ذكره، إذ أكثر معاني ألفاظ الأدلة معلومة بالتواتر كلفظ: السماء، والأرض، والله، وأحد، ... الخ، وفي النحو كقاعدة رفع الفاعل ونصب المفعول ... الخ، وفي الصرف كقاعدة أن مثل ضرب فعل ماض، ويضرب فعل مضارع ... الخ فهذه كلها قطعية، والتراكيب المؤلفة منها تكون قطعية كذلك (1)، كقول الله تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 3]. وقوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1].2 - إنه لا داعي إلى هذه المقدمات التي ذكرها الرازي، إذ الذين أنزل فيهم القرآن كانوا عرباً فصحاء لا يحتاجون إلى صناعة النحو والصرف، ولا يحتاجون إلى نقل غيرهم في فهم كلام الله. خاصة إذا أضيف إلى ذلك أن أكثر الألفاظ لا يحتاج فيها إلى نقل. والصحابة قد فسروا القرآن. وأخذ ذلك عنهم التابعون خاصة في صفات الله كما تقدم، فهل بعد هذا يقال بما ذكره الرازي خاصة وأنه قد علم مراد المتكلم من سياقه وبيانه (2). خاصة وأن الرازي في المحصول قد أقر بقلة الألفاظ الغريبة المنقولة نقل الآحاد (3). ثانياً: في الأمور الظنية العدمية:1 - إن الرازي ذكر عشرة أمور عدمية يتوقف عليها القطع بدلالة النص، وكلها خلاف الأصل. وما كان كذلك فلا يعارض به ما وافق الأصل، وقد رد التفتازاني على الرازي بقوله: "الأمور التي يتوقف الدليل على عدمها كلها خلاف الأصل، والعاقل لا يستعمل الكلام في خلاف الأصل إلا عند قرينة تدل عليه، فاللفظ عند عدم قرينة خلاف الأصل يدل على معناه قطعاً" (4).2 - لو سلم عدم قطعية دلالة الدليل لاحتمال وجود أمور ظنية فيقال له: إن القرائن إذا انضمت إلى الظني فإنها ترفعه إلى القطعي، وذلك كالتواتر، فهو خبر انضمت إليه قرينة دلت على قطعيته، وهي بلوغ رواته حداً يمتنع تواطؤهم على الكذب، فكذلك دلالة الدليل إذا انضمت إليها قرينة تقديم الأصل لعدم وجود قرينة خلاف الأصل فإنها تكون قطعية، وإلا لزم بطلان فائدة التخاطب أصلاً (5). هذا وقد أقر الرازي في المحصول بشيء من هذا، حيث ذكر بأن الأدلة اللفظية إذا اقترنت بها قرائن تفيد اليقين (6).والرازي في سلوكه هذا المنهج تلزمه لوازم خطيرة، ذكرها ابن القيم (7) وسأقتصر على بعضها إن شاء الله فمنها: 1 - إن القول بظنية دلالة الأدلة النقلية يلزم منه الطعن في بيان المتكلم بالقرآن وهو الله عز وجل، وفي بيان الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن خرج من هذا بأن القدح حاصل بعدم فهمهم لأدلة القرآن والسنة، ولو كانت الأدلة غير واضحة الدلالة لطعن فيها المشركون، كيف والأدلة دالة على حسن القرآن وتيسير فهمه ووضوحه وكونه أنزل هدى للناس.2 - إن هذا الذي ذكره الرازي يلزم منه عدم التيقن بالبعث والنشور والجزاء، إذ هذه أدلتها نقلية فقط كما يقرر الأشاعرة (8)، واليقين عنده في الأدلة العقلية فحسب فكيف على أصله هذا يقطع بأمور الآخرة! التي أدلتها نقلية فقط وهي مع ذلك ظنية كما زعم! مع أن الواجب القطع والجزم بأمور الآخرة! 3 - إن هذا الذي ذكره الرازي يلزم منه بطلان فائدة التخاطب، إذ لا يمكن أن يفهم أحد مراد أحد، لجواز وجود ما ذكره الرازي من الأمور الظنية، ويكون ما ذكره الرازي نفسه من الإيراد على الأدلة النقلية السمعية على هذا غير قطعي المعنى، فندعي عدم إفادة كلامه للقطع وإنما الظن، ولا يخفى ما تؤدي إليه مثل هذه الخيالات والتوهمات. المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف - 2/ 566   (1) انظر ((شرح التلويح على التوضيح)) للتفتازاني (1/ 128). (2) انظر ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (2/ 645). (3) انظر ((المحصول في أصول الفقه)) للرازي (1/ 216 - 217). (4) ((شرح التلويح على التوضيح)) (1/ 129). (5) انظر ((شرح التلويح على التوضيح)) (1/ 129) – وللاستقصاء انظر ((الصواعق المرسلة لابن القيم)) (2/ 633 - 793)، في رده على الرازي. (6) انظر ((المحصول في أصول الفقه)) للرازي (1/ 408). (7) انظر ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (2/ 633 - 793). (8) انظر ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (ص: 103). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 المطلب الرابع: توهم التعارض بين الأدلة النقلية والعقلية وما يسلكونه من الطرق عندئذ المسألة الأولى: سبب توهم التعارض: هذا السبب يرجع على ما توهموه من إفادة ظاهر الأدلة النقلية للتجسيم والتحيز - وقد نوقشوا فيه المسألة الثانية: الحكم عند حدوث التعارض المتوهم: وللرازي قانون كلي في هذا الموضوع آثرت ذكره بحسب مقدماته ثم مناقشته على التفصيل إن شاء الله - فقال في كتابه (أساس التقديس):"الفصل الثاني والثلاثون: في أن البراهين العقلية إذا صارت معارضة بالظاهر النقلية فكيف يكون الحال فيها؟: اعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء، ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك، فهناك لا يخلو الحال من أحد أمور أربعة" (1) ثم ذكرها .... وقبل أن يذكر الاحتمالات الأربعة، يناقش فيما جاء به من مسائل في هذه المقدمة. فلاشك أن هذه المقدمة مبنية على أنه يمكن وقوع التعارض بين الأدلة العقلية والنقلية فجوابه: إنا لا نسلم وقوع تعارض بين البراهين العقلية الصريحة والبراهين النقلية الصحيحة - إذ أنه تنزيل من عزيز حكيم، وقد أتم كلماته صدقاً وعدلاً، فيبقى بعد هذا احتمال التعارض راجعاً إلى توهم غير الصريح من المعقول صريحاً، أو من عدم فهم النص إن كان صحيحاً (2).وقد ذكر الشاطبي خمسة أوجه تدل على أن الأدلة الشرعية لا تنافي قضايا العقول، وسأوردها بشيء من التصرف (3):- الأول: إن الأدلة السمعية لو نافت قضايا العقول لم تكن أدلة للعباد لا على الأحكام الإلهية ولا على الأحكام التكليفية، وقد علم باتفاق العقلاء أن الأدلة الشرعية إنما نصبت لتتلقاها عقول المكلفين فيعملوا بمقتضاها، فلو نافتها لما تلقتها فضلاً عن أن تعمل بمقتضاها. الثاني: إنه لو فرض أن الأدلة الشرعية منافية لقضايا العقول ومعارضة لها لكان الكفار أول من ردها به - وقد علم بالاتفاق أنهم ما وجدوا ما يقدحون به مع شدة حرصهم على الطعن في هذا الدين، وإنما لجأوا إلى سب الرسول صلى الله عليه وسلم واتهامه بأنه ساحر أو مجنون ونحو ذلك - فلما لم يوجد منهم ما يقدح في دلالة الأدلة الشرعية دل على أنهم عقولهم وعرفوا جريانها على مقتضى العقول. الثالث: إنه لو فرض وقوع التنافي والتعارض بين الأدلة الشرعية وقضايا العقول للزم سقوط التكليف عن جميع الناس - وبيان ذلك: أن الاستقراء دل على أن التكليف يعتبر فيه تمكن العقل من التصديق بالأدلة الصحيحة، ويوضحه أن الشرع لم يلزم تكليف المعتوه والصبي والنائم - لعدم وجود مقتضى التصديق - وهو العقل - ويساويه كذلك لو كانت الأدلة غير صحيحة، فلزوم تكليف العاقل بها كلزوم تكليف غير العاقل بما لا يصدقه أشد من تكليف من لا يتمكن من الحكم بالصدق أو عدمه. الرابع: إن الأدلة الشرعية لو نافت قضايا العقول لكان الأمر بالتصديق بها تكليفاً بما لا يطاق، إذ العقل لا يصدق ما لم يكن صدقاً وما لا يتصوره، فلما كان ذلك باطلاً لزم ألا تخالف الأدلة الشرعية قضايا العقول. الخامس: إن الاستقراء دل على أن الأدلة الشرعية جارية على مقتضى العقول بحيث تصدقها العقول الراجحة وتنقاد لها. وعبارة الرازي المتقدمة تفصح عن حقيقة مذهبه القاضي بتحكيم العقل على الشرع وهذا يناقض ما أطبق عليه الأشاعرة من عدم تحسين العقل وتقبيحه. - وستأتي مناقشة الرازي في كلمته (الظواهر النقلية) عند مسألة التأويل إن شاء الله.   (1) ((أساس التقديس)) (ص: 172). (2) انظر: ((درء التعارض)) (1/ 173). (3) انظر هذه الأوجه في ((الموافقات)) للشاطبي (3/ 27 - 28). وقد تصرفت في عبارته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 ثم قال الرازي مبيناً للأحوال الأربعة:"إما أن يصدق مقتضى العقل والنقل فيلزم تصديق النقيضين وهو محال، وإما أن يبطل فيلزم تكذيب النقيضين وهو محال، وإما أن يصدق الظواهر النقلية ويكذب الظواهر العقلية - وذلك باطل - لأنه لا يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية إثبات الصانع وصفاته، وكيفية دلالة المعجزة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وظهور المعجزات على محمد صلى الله عليه وسلم، ولو جوزنا القدح في الدلائل العقلية القطعية صار العقل متهماً غير مقبول القول، ولو كان كذلك لخرج أن يكون مقبول القول في هذه الأصول، وإذا لم تثبت هذه الأصول خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة، فثبت أن القدح في العقل (1) لتصحيح النقل يفضي إلى القدح في العقل والنقل معاً وأنه باطل، ولما بطلت الأقسام الثلاثة (2) لم يبق إلا أن يقطع بمقتضى الدلائل العقلية" (3). والمناقشة من وجهين: الوجه الأول: إن المقارنة التي قام بها الرازي غير صحيحة حيث إنه قابل بين الأدلة النقلية والأدلة العقلية، والصواب أن تكون المقابلة بين الأدلة الشرعية وبين الأدلة البدعية. وبيان ذلك: أن الدليل الشرعي قسمان: قسم شرعي سمعي عقلي، بمعنى أن المستدل عليه أثبته الشرع ودل عليه بأدلة عقلية، وهذا القسم هو أكثر الأدلة النقلية، المشتملة على الأمثال المضروبة وغيرها في القرآن والسنة، الدالة على توحيد الله تعالى وصدق رسله وعلى المعاد - ويدخل فيه ما أباحه الشرع ونبه عليه (4).وقسم شرعي سمعي، بمعنى أن الشيء المستدل عليه في هذا القسم "لا يعلم إلا بمجرد خبر الصادق، فإنه إذا أخبر بما لا يعلم إلا بخبره كان ذلك شرعياً سمعياً" (5) فعلى هذا التقسيم لم يبق دليل صحيح إلا ودخل في هذا التقسيم، ثم يبقى ما عداه بدعياً - وبالله التوفيق. الوجه الثاني: بعد العلم بأقسام الأدلة الشرعية، فإنه يكون مناط الترجيح - على فرض وقوع التعارض - بين قطعية دلالة الدليل وظنيته، لا على كونه سمعياً أو عقلياً. والقسمة العقلية لوقوع التعارض تكون هكذا: إذا تعارض دليلان شرعيان سواء كانا عقليين، أو سمعيين، أو كان أحدهما سمعياً والآخر عقلياً، فإما أن يكون قطعيين، أو ظنيين، أو أحدهما ظنياً والآخر قطعياً من حيث الدلالة. والصورة الأولى: وهي أن يكون الدليلان قطعيين ممتنعة الوقوع. وأما الصورة الثانية: وهي أن يكون الدليلان ظنيين، فإنه يصار إلى طلب ترجيح أحدهما على الآخر - في حالة تعذر الجمع - بأي نوع من أنواع الترجيحات الصحيحة المعتبرة، ويقطع النظر عن كون الدليل الشرعي سمعياً كان أو عقلياً. فإن لم يوجد مرجح قدم السمعي. وأما الصورة الثالثة: وهي أن يكون أحد الدليلين قطعياً والآخر ظنياً، فإنه يقدم القطعي على الظني لرجحانه - وهو واضح (6). فالرازي جعل مناط تقديم الدليل عند التعارض كون العقل أصلاً للنقل، ولم يجعل مناط التقديم قطعية الدليل أو رجحانه. فعلى هذا فاته أمران:   (1) والرازي لا يريد بقوله هنا: العقل: الغريزة التي فينا لأنه شرط في كل علم عقلي وسمعي وما كان شرطاً في شيء يمتنع أن يكون منافياً له ... وإنما يريد به هنا: العلوم التي استفدناها بتلك الغريزة. وبهذا المعنى فإنه لا يريد يكون العقل أصلاً أنه أصل في ثبوت السمع في نفس الأمر، وإنما يريد به كونه أصلاً في علمنا بصحته، وهذا موضع المناقشة معه. (2) في الأصل: الأربعة - والصواب ما أثبته. (3) ((أساس التقديس)) (ص: 172 - 173). (4) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لشيخ الإسلام (1/ 198 - 200). (5) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لشيخ الإسلام (1/ 199). (6) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 79 - 80). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 الأول: تقديم دلالة القطعي على الظني. الثاني: تقديم دلالة الأرجح. ثم إن الرازي جزم بتقديم الدليل العقلي على الدليل النقلي مطلقاً عند التعارض! باعتبار الأمور الآتية: الأول: إن الأدلة العقلية أصل في معرفة صحة الأدلة النقلية! الثاني: إن القدح في الدليل العقلي قدح فيه وفي النقلي! والجواب: إن الرازي نص على أن الأدلة العقلية التي هي أصل في معرفة صحة الأدلة النقلية تنحصر في إثبات الصانع وصفاته، ودلالة المعجزة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فعلى هذا فإن دعواه أعم من الدليل، فإن دليله دال على أن بعض الأدلة العقلية هي أصل في معرفة الشرع فتقدم، ودعواه: تقديم كل الأدلة العقلية، فلا يدل دليله على الدعوى كلها وإنما على بعضها - وهذا الجواب تسليمي. (1) وإما الجواب الإنكاري: فيقال:- ما هي الأدلة النقلة التي تخالف الأدلة العقلية المثبتة لوجود الله والرسالة؟ والمتفق عليه بين الأشاعرة أن الأدلة الدالة على صفات الأفعال اللازمة والمتعدية، إنما تدل على قيام الحوادث بذات الباري، وهذا يخالف ويناقض دليل الحدوث المقام لإثبات وجود الباري!. وأيضاً فالأدلة الدالة على الصفات المتقدمة وعلى صفات الذات الخبرية إنما تدل على التركيب والجسمية - وهذا ينافي الوحدانية في زعمهم. وجواب كلامهم: هو أن ما توهموه من أدلة عقلية هي في الحقيقة أوهام وشبهات وخيالات باطلة لا يعارض بها الكتاب والسنة، مع العلم بأنه قد قام الدليل على صحة السمع للإجماع على عصمة المبلغ، وأنه لا يمكن الشهادة بصحة كل الأمور العقلية، وقد تقدمت مناقشة عباراتهم المجملة هذه - من الجسمية والتركيب - سابقاً. وبالله التوفيق. والصواب: إنه لا يمكن إثبات وجود الباري إلا بإبطال ما سلكوه من دليل الحدوث (2) وقد تقدم هذا أيضاً مفصلاً في مبحث إثبات وجود الله عندهم. مع أننا لا نسلم ابتداءً أن الدليل العقلي يكون أصلاً للدليل النقلي - فإنه قد تقدم أن إثبات وجود الله تعالى أمر فطري فطر الله عليه الخلق، فماذا بقى بعد هذا من الأدلة التي يقال إنها أصل للدليل النقلي؟ والغريب أن الرازي أطلق كذلك القول بأن الأدلة العقلية أصل! مع أن الأدلة العقلية منها ما هو فاسد ومنها ما هو صحيح! ثم أما المسألة الثانية: وهي أن القدح في الدليل العقلي قدح فيه وفي النقلي فقول متناقض أيضاً، إذ أنه يلزم كذلك من القدح في الدليل النقلي القدح في الدليل العقلي - فإن العقل قد شهد بصحة السمع، فإذا طعن فيه ثانية كان ذلك دليلاً على الطعن في شهادته بصحته أولاً (3).وإذا قيل: إن صحة النقلي مشروطة بتصحيح العقلي له أو معلقة به، فقول مآله إلى الكفر - والعياذ بالله - إذ هو يساوي القول: بأن الإنسان يؤمن بالرسول - صلى الله عليه وسلم ما لم يظهر له ما يناقض العقل! - وهذا كله من الارتياب والشك الموجب لكفر صاحبه (4). المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف - 2/ 588   (1) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 173). (2) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 194). (3) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 170 - 171). (4) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 170 - 171). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 المطلب الخامس: المسلكان المأخوذان تجاه الأدلة النقلية عند التعارض • المسلك الأول: مسلك التفويض: . • المسلك الثاني: مسلك التأويل .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 المسلك الأول: مسلك التفويض: ويعنون بذلك: تفويض المعنى المراد من النص الموهم للتشبيه - على حد زعمهم - وهذا التفويض إنما يكون بعد التأويل الإجمالي - وهو: "صرف اللفظ عن ظاهره" (1) ويدل لذلك قول صاحب الجوهرة: "ورم تنزيها" بأن تعتقد أن ظاهره غير مراد، ثم تكف عن بيان المعنى المراد، قالوا: وهذه هي طريقة السلف وهي أسلم. ولهم حجتان في ذلك (2): الأولى: قول الله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ [آل عمران: 7] على قراءة الوقف على اسم الجلالة. الثانية: اتفاق السلف على أنها تمر كما جاءت كما في قول الإمام مالك رحمه الله: "الاستواء معلوم والكيف مجهول ... " وكقول بقية السلف: أمروها كما جاءت (3). المناقشة: هذا المسلك مبني على أمرين: الأول: دعوى أن الاتفاق حاصل على عدم إرادة الظاهر، إذ الظاهر يوهم التشبيه! الثاني: آية آل عمران دالة على صحة التفويض - وهو الإمساك عن المعنى المراد. والإجابة عن الأمر الأول: الأولى: لا نسلم أن ظاهر آيات وأحاديث الصفات يفيد التشبيه، بل هي تدل على إثبات الصفات على الوجه اللائق بالله تعالى، ويتبين ذلك بالآتي: إن الأشاعرة قد سلموا أن الله تعالى حي بحياة وعليم بعلم وقدير بقدرة ... إلى بقية صفات المعاني السبع، وقالوا: إن ظاهرها على ما يليق بالله تعالى فيقال لهم: ويلزمكم كذلك طرد هذه القاعدة في بقية الصفات كالاستواء والعلو والوجه واليدين والغضب وغيرها، فهي ثابتة لله حقاً، على الوجه اللائق بالله وليس ظاهرها كما هي ثابتة عند البشر (4). الثانية: إن القول بأن نصوص الصفات ظاهرها غير مراد يلزم منه لوازم باطلة وهي:1 - أن يكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم - قد تكلم بالباطل، ولم يأت نص واضح جلي يفيد غير ما ذكر في الكتاب والسنة (5).2 - إنه يكون قائل هذه المقالة قد مثل أولاً، إذ هو قد اعتقد أن ظاهرها التمثيل والتشبيه، ثم عمد إلى النص فعطله عن دلالته على الحق وعطل الصفة الثابتة في نفس الأمر لله تعالى (6). الثالثة: إن القول بتفويض المعنى ثم الزعم بأن ظاهر النصوص غير مراد تناقض واضح - فلا يعقل الادعاء بأن المعنى مما لا يعلمه إلا الله! مع الزعم بأن الظاهر غير مراد - إذ الذي لا يعلمه إلا الله لا يكون ظاهراً لنا. الرابعة: ثم الجواب عما تمسكوا به قد تبين بطلانه على ضوء ما تقدم في مبحث أهل السنة والجماعة. ويظهر الجواب اختصاراً بالآتي: 1 - إن الأئمة مع قولهم أمروها كما جاءت، صرحوا بأن ظواهر النصوص مرادة مع قطع الطمع عن إدراك الكيفية، وهذا يتعارض مع زعم الأشاعرة بأن الظاهر غير مراد. وكل ما ذكر من أقوال الصحابة والتابعين والأئمة الأعلام يرد هذا الزعم. 2 - إنا قد بينا سابقاً أن مراد السلف بقولهم (أمروها كما جاءت بلا تفسير) يراد به أحد معنيين: الأول: أمروها بلا تفسير مبتدع وهو تفسير الجهمية. الثاني: أمروها بلا تفسير للكيفية - وهو قول الإمام مالك نفسه: (والكيف مجهول). وأما الاستدلال بالآية فخطأ بين - ويتضح ذلك بالآتي:   (1) ((جوهرة التوحيد مع شرحها)) (ص: 91). (2) انظر: ((الحجتين في تحفة المريد)) (91 - 92). (3) قول مالك في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (3/ 398 - رقم 664) وهو كذلك عند البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص: 408) قال ابن حجر "وأخرج البيهقي بسند جيد عن عبدالله بن وهب قال كنا عند مالك ... " الخ ((فتح الباري)) (13/ 417). (4) انظر: ((التدمرية)) (ص: 77 - 78). (5) انظر: ((التدمرية)) (ص: 79). (6) انظر: ((التدمرية)) (ص: 80). وانظر (ص: 671) كلام الرازي الدال على استلزام التعطيل للتمثيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 الأول: إن المراد بالتأويل على قراءة الوقف: معرفة الحقيقة التي يؤول إليها الخبر كما قد بين سابقاً - إذ الوقف التام يفيد أن ذلك مما لا يعلمه إلا الله، لأن حقائق الصفات وكيفيتها مما لا يظهر للخلق - أما على قول الأشاعرة فإنه لا تظهر فائدة من الوقف، إذ هم زعموا أن لها ظاهراً يعلمه البشر ولكنه غير مراد - وإنما المراد شيء آخر!، فشرعوا في تعيينه ظناً، وهذا ينافي التسليم التام الذي وصف الله به المؤمنين في الآية نفسها وهو قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [آل عمران: 7].الثاني: لو سلم لهم قولهم هذا للزم طرده في كل نصوص الصفات الدالة على صفات المعاني وغيرها - إذ لا موجب للتفريق إلا التحكم، فما كان جواباً لهم عن نصوص صفات المعاني فليجيبوا به عن نصوص بقية الصفات (1).الثالث: القول بأن التأويل هنا المراد به حقائق الأشياء قول لا يعارض قول من لم ير الوقف على اسم الجلالة - إذ التأويل يكون على الثاني بمعنى التفسير الذي هو شرح الكلمات والألفاظ - ومن المعلوم أن الشيء قد يعلم معناه العام ولكن لا تعلم حقيقته وكنهه كما في نعيم الجنة، فالجمع بين أقوال السلف في معنى الآية أقوى من القول بتعارضها كما هو مقرر (2).الرابع: إن الأشاعرة لهم مذهبان: ويدعون صحتهما - وهما التأويل والتفويض - فلو كانت الآية دالة على تفويض المعنى والكيفية مطلقاً لما كانت حاجة للقول بالتأويل، والعجب أنهم قد احتجوا بالآية نفسها على جواز التأويل باعتبار قراءة الوصل، فلو أرادوا الجمع الصحيح كان عليهم أن يقولوا إن لها معاني صحيحة إلا أن حقائقها غير معلومة لنا، أما القول بأن لها معنى أو لبعضها معنى ثم الزعم بأنه لا يعرف لها معنى فتناقض واضح (3) ولكنهم يخرجون عن هذا بأن الظاهر المنفي هو ما ثبت للمخلوقين - وهنا لا يسلم لهم ذلك، وتلزمهم اللوازم السابقة، ويلزم منه التلبيس في المراد بالظاهر. والأشاعرة عندهم نوع من التفويض أطلقوه بمعناه الصحيح - وهو تفويض حقيقة الصفات وكنهها - إلا أن هذا التفويض مجاله صفات المعاني السبع فقط - فمن ذلك أن الباجوري لما أخذ يبين الفرق بين كل صفة من صفات المعاني قال: "والمدلول لغة لكل واحدة غير المدلول للأخرى، فوجب حمل ما ورد على ظاهره حتى يثبت خلافه ... وإذا ثبت أنها متغايرة لغة كانت متغايرة شرعاً، وبالجملة: فكنه كل واحدة غير كنه الأخرى ونفوض علم ذلك لله تعالى" (4) اهـ. وهذا النوع من التفويض محل إجماع بينهم، لا خلاف بينهم فيه كسابقه عندهم. ولو أن الأشاعرة سلكوا هذا النوع الثاني من التفويض لكان أسلم وأعلم وأحكم لهم - إلا أنهم تناقضوا تناقضاً بيناً فادعوا أن صفات المعاني السبع ثابتة حقيقة لله، وأن النصوص الدالة عليها معلومة علماً صحيحاً من حيث المعنى والمفهوم إلا أن حقائقها غير معلومة - ثم ادعوا في بقية النصوص الدالة على غير هذه الصفات أنها دالة على معنى غير صحيح ظاهراً - فيجب صرفها - وأن تحديد المراد منها غير معلوم!!، وهذا تناقض ظاهر. المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف - 2/ 596 اهتم شيخ الإسلام ابن تيمية ببيان الحق في هذه المسألة (مسألة التفويض)، وذكر فيما ذكر - في مناسبات مختلفة - مجمل حجج الذين زعموا أن مذهبهم هو التفويض، وأهمها:   (1) انظر: ((الرسالة التدمرية)) (ص: 80). (2) انظر: ((رسالة معرفة المحكم والمتشابة)) (ص: 102). (3) انظر: ((التدمرية)) (ص: 114 - 115). (4) ((تحفة المريد)) (ص: 86). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 1 - ما أثر عن كثير من السلف أنهم قالوا في الصفات: "أمروها كما جاءت"، قالوا: وهذا يدل على أن مذهبهم فيها الإيمان والتسليم وإمرارها كما جاءت وعدم الخوض في تأويلها، والوقوف عن تفسيرها.2 - قول الإمام مالك - وغيره: "الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة" (1) قالوا: ومعنى قوله إنه معلوم أي إنه وارد في القرآن، ونفيه للكيف وإيجاب الإيمان به دليل على أنهم يسلمون ورود نصوص الصفات ويفوضون معانيها إلى الله تعالى. 3 - أن السلف لم يكونوا يفهمون من النصوص ما يستلزم التجسيم وأن ذاته تعالى فوق العرش، قالوا فلما جاء المتأخرون وصاروا يفهمون منها مثل هذا وجب التأويل. 4 - ثم إنهم احتجوا بالوقف على قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ [آل عمران: 7]. قالوا وهذا دليل على التفويض. وقد رد شيخ الإسلام على ذلك كما يلي:1 - أما قول السلف في الصفات "أمروها كما جاءت" فمعناه عندهم الإيمان بها وإثباتها، والرد على المعطلة الذين أنكروها أو خاضوا في تأويلها، فقول السلف هذا "يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظ دالة على معان، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أمروها لفظها، مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت حقيقة، وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت، ولا يقال حينئذ: بلا كيف، إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول" (2). والسلف من الصحابة والتابعين كان اهتمامهم الأول والأخير منصبا على القرآن والحديث، فهل كانوا عندما يتلون القرآن ويعلمونه، ويروون السنة ويتناقلونها ويحدثون بها، يفرقون بين آية وآية، وحديث وحديث؟ ويقولون للناس: هذه آمنوا بألفاظها مجردة، وهذه لا مانع من فهم معانيها؟ ومعلوم أنه كان يتلقى ذلك عنهم أصناف الناس وطبقاتها وغيرها، بل كانوا يردون على المعطلة وأهل الكلام ما كانوا يخوضون فيه من ذلك، ولذلك قالوا: أمروها كما جاءت، وواضح أن قصدهم الرد على هؤلاء النفاة، ولو كان قصدهم التفويض الذي أراده المتأخرون النفاة لقالوا - موضحين أمروا ألفاظها، مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، ولو كان الأمر كذلك كان نفي الكيف عنها مع مثل هذا القول لغو.   (1) هذا القول روي عن الإمام مالك: رواه الدارمي في ((الرد على الجهمية)) (ص: 55 - 56) - ت البدر - واللالكائي في ((شرح السنة)) (3/ 398)، ورقمه (664)، والصابوني في ((عقيدة السلف)) (24 - 26) - ت البدر، والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص: 408) من طريقين، وابن عبدالبر في ((التمهيد)) (7/ 138، 151) وأبو نعيم في ((الحلية)) (6/ 325 - 326). وجود ابن حجر في ((الفتح)) (13/ 406 - 407) أحد إسنادي البيهقي. (2) ((الفتوى الحموية - مجموع الفتاوى)) (5/ 41 - 42). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 على أن شيخ الإسلام يشير في سياق مناقشته لهذه الدعوى إلى ناحية مهمة في منهج السلف وتعاملهم مع النصوص ربما غفل عنها من يتصدى لمثل هذا الموضوع - وهي تدل على ما حبا الله هذا الإمام من فهم قوي وبصر نافذ واطلاع واسع - وذلك أنه ذكر أن عبارة: تمر كما جاءت، أو نحوها، قد قالها الإمام أحمد في غير أحاديث الصفات، وإذا ثبت هذا بطل احتجاج هؤلاء الذين يدعون أن قصد السلف من مثل هذه العبارة: تفويض نصوص الصفات. يقول شيخ الإسلام عن الإمام أحمد وغيره - بعد بيانه أنهم لم يقولوا بأن القرآن لا يفهم معناه، وإنما قالوا كلمات صحيحة، مثل: أمروها كما جاءت، ونهوا عن تأويلات الجهمية-: "ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك. وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات: تمر كما جاءت (1)، وفي أحاديث الوعيد مثل قوله: ((من غشنا فليس منا)) (2) وأحاديث الفضائل (3)، ومقصوده بذلك أن الحديث لا يحرف كلمه عن مواضعه كما يفعله من يحرفه، ويسمى تحريفه تأويلا بالعرف المتأخر" (4). وهذا يدل على أن السلف كانوا يتعاملون مع النصوص على حد سواء لا يفرقون بين نصوص الصفات وغيرها، وحينما يأتي أحد من أهل الأهواء من المعطلة، أو الرافضة، أو المرجئة أو غيرهم ليتأول بعض النصوص التي تخالف مذهبه، يكون جواب السلف أن هذه النصوص تروى كما جاءت، ولا يدخلون في تأويلات وانحرافات هؤلاء. 2 - أما قول الإمام مالك في الاستواء فهو موافق لمذهب السلف - رحمهم الله تعالى، وهو حجة على أهل التفويض، يقول شيخ الإسلام: "فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، موافق لقول الباقين: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإنما نفوا علم الكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصفة، ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه - على ما يليق بالله - لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ولما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف؛ فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوما، بل مجهولا بمنزلة حروف المعجم. وأيضا: فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، وإنما يحتاج على نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات. وأيضا: فإن من ينفي الصفات الخيرية - أو الصفات مطلقا - لا يحتاج إلى أن يقول: "بلا كيف"، فمن قال: أن الله ليس على العرش لا يحتاج أن يقول بلا كيف، فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا: "بلا كيف" (5). فالإمام مالك وشيخه ربيعة بينا أمرين: أن الاستواء معلوم وأن الكيف مجهول، وهذا حقيقة مذهب السلف، يؤمنون بالصفات الواردة، ويفهمون ما دلت عليه من المعاني اللائقة بالله تعالى، أما الكيفية فيفوضونها لعالمها.   (1) انظر مثلا قوله عن الحرورية والمارقة لما سئل عنهم هل يكفرون أو يرى قتالهم؟ قال: "اعفني من هذا، وقل كما جاء فيهم في الحديث". ((مسائل الإمام أحمد)) لابن هاني (2/ 158، رقم 1884). (2) رواه البخاري (7070) , ومسلم (98) , من حديث ابن عمر رضي الله عنه, وروي عن أبي هريرة, وأبي موسى رضي الله عنهما. (3) لما سئل الإمام أحمد عن أحاديث جاءت في علي في الفضائل. قال: على ما جاءت، لا نقول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خيرا. ((مسائل ابن هاني)) (2/ 169 - رقم 1934). (4) ((الإكليل في المتشابه والتأويل - مجموع الفتاوى)) (13/ 295). (5) ((الحموية - مجموع الفتاوى)) (5/ 41). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 ولهذا لما ذكر شيخ الإسلام تلقي الناس قوله الإمام مالك بالقبول، ذكر اعتراضا وأجاب عنه. قال: "فإن قيل: معنى قوله "الاستواء معلوم، أن ورود هذا اللفظ في القرآن معلوم، كما قاله بعض أصحابنا الذين يجعلون معرفة معانيها من التأويل الذي استأثر الله بعلمه. قيل: هذا ضعيف، فإن هذا من باب تحصيل الحاصل، فإن السائل قد علم أن هذا موجود في القرآن، وقد تلا الآية. وأيضا فلم يقل: ذكر الاستواء في القرآن، ولا أخبار الله بالاستواء، وإنما قال: الاستواء معلوم، فأخبر عن الاسم المفرد أنه معلوم، لم يخبر عن الجملة. وأيضا فقد قال: "والكيف مجهول" فلو أراد ذلك لقال: معنى الاستواء مجهول، أو تفسير الاستواء مجهول، أو بيان الاستواء غير معلوم، فلم ينف إلا العلم بكيفية الاستواء، لا العلم بنفس الاستواء، وهذا شأن جميع ما وصف الله به نفسه، لو قال في قوله: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46]: كيف يسمع، وكيف يرى؟ لقلنا: السمع والرؤيا معلوم والكيف مجهول، ولو قال: كيف كلم موسى تكليما؟ لقلنا: التكليم معلوم والكيف غير معلوم. وأيضاً فإن من قال هذا من أصحابنا وغيرهم من أهل السنة يقرون بأن الله فوق العرش حقيقة، وأن ذاته فوق ذات العرش، لا ينكرون معنى الاستواء، ولا يرون هذا من المتشابه الذي لا يعلم معناه بالكلية. ثم السلف متفقون على تفسيره بما هو مذهب أهل السنة، قال بعض: ارتفع على العرش، علا على العرش، وقال بعضهم عبارات أخرى، وهذه ثابتة عن السلف، قد ذكر البخاري في صحيحه بعضها في آخر كتاب (الرد على الجهمية) (1) " (2).وتفاسير السلف لمعاني صفات الله تعالى يدل بشكل قاطع على أن ما يقصدونه بإمرار الصفات تفويض الكيفية التي لا يعلمها إلا الله تعالى، أما المعاني فإنهم كانوا يفهمونها (3). 3 - أما قولهم إن السلف لم يكونوا يفهمون من النصوص ما يدل على التجسيم، ولا أن ذاته تعالى فوق العرش - وهذا في مسألة العلو الاستواء - فقد رد عليهم شيخ الإسلام من وجوه منها: أ- "أحدها: أن يقال: فعلى هذا التقدير لا يكون المفهوم الظاهر من هذه النصوص إثبات العلو على العالم والصفات، ولا يجوز أن يقال: ظواهر هذه النصوص غير مراد، ولا أنه قد تعارضت الدلائل النقلية والعقلية، فإنه إذا قدر أنها لا تدل على الإثبات - لا دلالة قطعية ولا ظاهرة - بطل أن يكون في ظاهرها ما يفهم منه الإثبات. ومن المعلوم أن هذه خلاف قول الطوائف كلها من المثبتة والنفاة حتى من الفلاسفة القائلين بقدم العالم وإنكار معاد الأبدان، فإنهم معترفون بما اعترف به سائر الخلق من أن الظاهر المفهوم منها هو إثبات الصفات ... (4).   (1) ذكر ابن حجر في ((الفتح)) (13/ 344) عند كلامه على عنوان "كتاب التوحيد" أن المستملي زاد: "الرد على الجهمية وغيرهم"، وأنه وقع لابن بطال وابن التين: "كتاب رد الجهمية"، وغيرهم: "التوحيد". وعبارات السلف في الاستواء ورد في باب (وكان عرشه على الماء) من هذا الكتاب. ((الفتح)) (13/ 403). (2) ((الإكليل في المتشابه والتأويل - مجموع الفتاوى)) (5/ 309 - 310). (3) انظر: ((شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى)) (5/ 365 - 413)، و ((تفسير سورة الإخلاص - مجموع الفتاوى)) (17/ 373 - 374)) ـ و ((نقض التأسيس)) - مخطوط - (2/ 236). (4) انظر: ((درء التعارض)) (7/ 107 - 108). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 ب- "الوجه الثاني: أن يقال: التفاسير الثابتة المتواترة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان تبين أنهم إنما كانوا يفهمون منها الإثبات، بل والنقول المتواترة المستفيضة عن الصحابة والتابعين في غير التفسير موافقة للإثبات، ولم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين حرف واحد يوافق قول النفاة، ومن تدبر الكتب المصنفة في آثار الصحابة والتابعين بل المصنفة في السنة، من: كتاب (السنة والرد على الجهمية)، للأثرم، ولعبدالله ابن أحمد، وعثمان بن سعيد الدارمي، ومحمد بن إسماعيل البخاري .... (وذكر شيخ الإسلام عددا كبيرا من أئمة السنة وكتبهم) ... - رأى في ذلك من الآثار الثابتة المتواترة عن الصحابة والتابعين ما يعلم معه بالإضطرار أن الصحابة والتابعين كانوا يقولون بما يوافق مقتضى هذه النصوص ومدلولها، وأنهم كانوا على قول أهل الإثبات المثبتين لعلو الله نفسه على خلقه، المثبتين لرؤيته، القائلين بأن القرآن كلامه ليس بمخلوق بائن عنه. وهذا يصير دليلا من وجهين: أحدهما: من جهة إجماع السلف، فإنه يمتنع أن يجمعوا في الفروع على خطأ، فكيف في الأصول. الثاني: من جهة أنهم كانوا يقولون بما يوافق مدلول النصوص ومفهومها، لا يفهمون منها ما يناقض ذلك ... (1). ومما سبق يتبين أن السلف فهموا من نصوص العلو والاستواء الإثبات، وهذا يبطل قول القائلين بأنهم كانوا مفوضة.4 - أما احتجاجهم بآية آل عمران والوقوف على قوله: إِلاَّ اللهُ - فمعلوم أن هؤلاء المتكلمين رجحوا القراءة الأخرى بالوصل ليجيزوا لأنفسهم التأويل باصطلاحهم المتأخر، ومعلوم أن من وقف على لفظ الجلالة فإنهم قصدوا التأويل الذي هو الحقيقة والمآل، ومعلوم أن كيفية أسماء الله وصفاته هي في ذاته لا يعلمها إلا الله، وهو من باب تفويض الكيفية التي هي جزء من مذهب السلف في الصفات (2)، وقد سبق - في الفرع السابق - تفصيل القول في مسألة التأويل -. ومسألة التفويض مبنية على مسألة المتشابه، وما يتعلق بها مثل ما سبق تفصيل القول فيه من أنه لا يجوز أن يكون في كتاب الله تعالى ما لا سبيل لنا إلى العلم به. والتفويض الذي زعمه هؤلاء يؤدي إلى أن لا نفهم كتاب الله ولا نفرق بين آية وآية، وإنما نتلوه كالأعاجم الذين لا يعرفون العربية مطلقا، وهذا مآله إلى الضلال والإلحاد. ولشيخ الإسلام ردود أخرى - مجملة - على أهل التفويض - ومن ذلك ما ذكره في أثناء ردوده على القائلين بتعارض العقل والنقل، وأن غاية ما ينتهون إليه في كلام الله ورسوله: هو التأويل أو التفويض، قال رادا عليهم: "وأما التفويض: فإن من المعلوم أن الله تعالى أمرنا أن نتدبر القرآن، عن فهمه ومعرفته وعقله؟ وأيضا: فالخطاب الذي أريد به هدانا والبيان لنا، وإخراجنا من الظلمات إلى النور، إذا كان ما ذكر فيه من النصوص ظاهره باطل وكفر، ولم يرد منا أن نعرف لا ظاهره، ولا باطنه، أو أريد منا أن نعرف باطنه من غير بيان في الخطاب لذلك، فعلى التقديرين لم نخاطب بما يبين فيه الحق، ولا عرفنا أن مدلول هذا الخطاب باطل وكفر. وحقيقة قول هؤلاء في المخاطب لنا: أنه لم يبين الحق، ولا أوضحه، مع أمره لنا أن نعتقده، وأن ما خاطبنا به وأمرنا بإتباعه والرد إليه لم يبين له الحق، ولا كشفه، بل دل ظاهره على الكفر والباطل، وأراد منا أن لا نفهم الحق، ولا كشفه، بل دل ظاهره على الكفر والباطل، وأراد منا أن لا نفهم منه شيئا، أو أن نفهم منه ما لا دليل عليه فيه - وهذا كله مما يعلم بالاضطرار تنزيه الله ورسوله عنه، وانه من جنس أقوال أهل التحريف والإلحاد" (3)، ثم ذكر أن هذا كان سببا في استطالة الملاحدة على هؤلاء في مسائل المعاد وغيرها. والقائلون بالتفويض قسمان: قسم يقول: إن الرسول كان يعلم معاني النصوص المتشابهة، ولكنه لم يبين للناس مراده منها، ولا أوضحه للناس. قسم يقول: إن الرسول كان يعلم معاني النصوص المتشابهة، ولكنه لم يبين للناس مراده منها، ولا أوضحه للناس. وقسم يقول:- وهؤلاء هم أكابر أهل الكلام الذين يميلون لأقوال الفلاسفة - يقولون: إن معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة لا يعلمه إلا الله، وأن معناها الذي أراده الله بها هو ما يوجب صرفها عن ظواهرها، وعلى قول هؤلاء فالأنبياء والرسل لم يكونوا يعلمون معاني ما أنزل الله إليهم. ولا شك أن هذا ضلال مبين وقدح في القرآن وفي الأنبياء (4). المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود - 3/ 1177   (1) انظر: ((درء التعارض)) (7/ 108 - 109). (2) انظر: ((درء التعارض)) (1/ 205 - 206). (3) ((درء التعارض)) (1/ 201 - 202). (4) انظر: ((درء التعارض)) (1/ 204 - 205). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 المسلك الثاني: مسلك التأويل. والمراد به: حمل اللفظ على خلاف ظاهره إلى معنى آخر مراد (1) فعلى هذا يجتمع التفويض والتأويل عند الأشاعرة في صرف الظاهر، ويفترقان في أن التأويل يتم فيه تحديد المعنى المراد، وأما التفويض فلا يتم فيه هذا التحديد وإنما يفوض علمه إلى الله تعالى، فعلى هذا فهو تأويل إجمالي، والأول تفصيلي. ثم إن الأشاعرة وصفوا طريقة التأويل – وهي طريقة المتأخرون – بأنها أعلم وأحكم" لما فيها من مزيد الإيضاح والرد على الخصوم وهي الأرجح، وأما طريقة السلف وهي التفويض فأسلم لما فيها من السلامة من تعيين معنى قد يكون غير مراد له تعالى" (2). والموجب لتأويل النصوص عندهم هو أنها تشعر وتوهم إثبات الجهة أو الجسمية أو الصورة أو الجوارح – فلذلك يوردون على أهل السنة إيرادين: الأول: يبينون فيه أن تلك النصوص موهمة للتشبيه فوجب تأويلها. الثاني: وهو مسلك إلزام وهو كما قال الجويني: "ومما يجب الاعتناء به معارضة الحشوية بآيات يوافقون على تأويلها، حتى إذا سلكوا مسلك التأويل عورضوا بذلك السبيل فيما فيه التنازع" (3) اهـ. والجواب عن ذلك هو: إن الإيراد الأول لا حاجة إلى الرد عليه هنا، إذ الموجب لهذا التأويل قد تقدمت الإجابة عليه مع العلم بأن النصوص التي أولوها هي إما نص وإما ظاهر راجح – وكلاهما لا يحتمل التأويل باتفاق – ولكنهم يتكلفونه تكلفاً يصيره تحريفاً لا تأويلاً سائغاً. وأما الإيراد الثاني: وهو الإلزام والمعارضة، فلم تتقدم إجابة عليه، فلزم ذكره والجواب عنه. وقد ذكروا فيما وقفت عليه: المثال الأول: قال الجويني: "فمما يعارضون به قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ [الحديد: 4] فإن راموا إجراء ذلك على الظاهر حلوا عقد إصرارهم في جمل الاستواء على العرش على كون عليه، والتزموا فضائح لا يبوء بها عاقل، وإن حملوا قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ [الحديد: 4] وقوله: مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ [المجادلة: 7] على الإحاطة بالخفيات فقد تسوغوا التأويل" (4). يفهم من كلام الجويني – في إلزامه القائلين بظاهر الآية – أنه فهم من المعية ما ينافي الاستواء ويقتضي المخالطة والحلول. والجواب من أوجه: الوجه الأول: لا يلزم من إثبات المعية الحقيقية أن يكون الله مختلطاً بخلقه وذلك: أن الله تعالى جمع بين الاستواء والمعية في آية واحدة فقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد: 4] فوجب التصديق بخبر الله تعالى، ويوضحه:   (1) انظر: ((تحفة المريد)) (ص: 91). (2) ((تحفة المريد)) (ص: 91). (3) ((الإرشاد)) (ص: 150). (4) ((الإرشاد للجويني)) (150). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 الوجه الثاني: إن المعية في اللغة مطلق المصاحبة – فهذا هو القدر المشترك في موارد المعية – فإنها قد تقتضي النصر والتأييد كما في قول الله تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا [التوبة: 40] وقد تقتضي العلم كما في آية الحديد – وآية المجادلة. فالأولى إفادة علو الله على خلقه، وعلمه بعباده وبصره بعملهم، والثانية أفادت علم الله تعالى بعباده، فإن الله بدأها بالعلم وختمها به فقال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة: 7].فإذا كان ذلك كذلك وعلم أن الاستواء على العرش وعلو الله تعالى على خلقه ثابت بالكتاب والسنة والإجماع والفطرة تعين حمل المعية على المعنى السابق دون مخالطة أو حلول (1) وقد أجمع أهل السنة والجماعة على هذا الأمر. فإذا تبين هذا علم أن قول الجويني: "والتزموا فضائح لا يبوء بها عاقل" غير لازم. ثم إن قوله: "إن حملوا قوله – "وذكر الآيتين" على الإحاطة بالخفيات فقد تسوغوا التأويل" فجوابه من وجهين: الأول: لا نسلم أن تفسيرنا للمعية بالمعنى السابق تأويل لها، بل إن المعنى المذكور هو ظاهر الآية (2) كما تقدم مستوفى. الثاني: لو سلمنا أن هذا الذي ذهبنا إليه تأويل فهو تأويل صحيح مستفاد من الكتاب والسنة، لا بأوهام وتصورات باطلة لظاهر كلام الله – فإذا سلمنا ذلك التأويل فإنه لا يلزمنا أن نسوغ التأويل لكل نص، إذ نصوص الصفات هي إما نص في الموضوع أو ظاهر ظهوراً راجحاً (3). الثالث: لو ساغ تأويل نصوص الصفات التي أثبتها أهل السنة مما لا يثبته الأشاعرة، لساغ تأويل نصوص الصفات المتفق عليها، فلما لم يلزم هذا كان الأولى ألا يلزم ذلك – خاصة وأن المقتضي للتأويل عند الأشاعرة ما توهموه من الجسمية وغيرها، وقد تقدمت الإجابة عنه. وقد ذكر الغزالي أن الإمام أحمد منع التأويل إلا في ثلاثة ألفاظ فقال: "سمعت بعض أصحابه يقول: إنه حسم باب التأويل إلا لثلاثة ألفاظ: قوله صلى الله عليه وسلم ((الحجر الأسود يمين الله في الأرض)) (4) وقوله صلى الله عليه وسلم ((إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن)) (5) " اهـ. فالجواب الإجمالي من وجهين:   (1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (5/ 102). و ((القواعد المثلى)) (ص: 53 - 56). (2) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (5/ 103). (3) انظر: ((التدمرية)) (ص: 69 - 78). (4) قال الخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد)) (6/ 326) , والألباني في ((السلسلة)) (223): منكر, وروي عن ابن عباس موقوفا عليه، والوقف أشبه وإن كان في سنده ضعيف جدا، فإن إبراهيم هذا وهو الخوزي متروك كما قال أحمد والنسائي، لكن روي الحديث بسند آخر ضعيف عن ابن عمرو رواه ابن خزيمة (2737) والطبراني في " الأوسط " (1/ 33 / 2)، وقال: تفرد به عبد الله بن المؤمل ولذا ضعفه البيهقي في ((الأسماء)) (ص: 333). (5) رواه أحمد (2/ 541) (10991) , والطبراني في ((الأوسط)) (5/ 57) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, وصححه الألباني في ((السلسلة)) (3367) , والوادعي في ((الصحيح من دلائل النبوة)) (543). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 الوجه الأول: إن الغزالي: قال "سمعت بعض أصحابه" ولم يسمه – فهو مجهول حالاً وعيناً لإبهامه – وخبر المجهول غير مقبول – ثم إنا لا نعلم من أصحاب أحمد من عاش إلى زمان الغزالي، فإذا كان مراد الغزالي أنه من أصحاب أصحاب أحمد، أو أنه من طبقة بعد تلك، فالقدح يكون متوجهاً من جهة جهالة الراوي، ومن جهة الانقطاع بين حاكي القول والإمام أحمد رحمه الله. الوجه الثاني: لو سلمنا أن الذي ذكر ما ذكر ثقة فإنه معارض بأقوال جميع من روي عن الإمام أحمد عقيدته – ولذلك علق شيخ الإسلام على هذه الحكاية بقوله: "هذه الحكاية كذب على أحمد" (1) أما الجواب التفصيلي فهو بالكلام عن الأحاديث التي أوردها: الحديث الأول: ((الحجر الأسود يمين الله في الأرض)) فإن هذا الحديث قد روي مرفوعاً وموقوفاً، فإنه قد روي عن أنس وجابر رضي الله عنهما مرفوعاً بأسانيد لا تصح (2) وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما مرة مرفوعاً ومرة موقوفاً ولم يصح مرفوعاً. وأما الموقوف فإنه لا يخلو من ضعف. ولذلك فإنه لا يصلح إيراده للاعتراض. ولو سلم أن هذا الأثر صحيح وأن له حكم الرفع – فيقال في الجواب: إن الحديث لا يدل على أن الحجر صفة من صفات الله تعالى حتى يقال إن من لم يقل بذلك كان مؤولاً وبيان ذلك من وجهين: الأول: إن أول الحديث قال فيه ((يمين الله في الأرض)) فقيد اليمين بقوله: ((في الأرض)) واللفظ المقيد غير المطلق – (3) ومجرد الإضافة لا تقتضي أن المضاف يكون صفة – فقد تقدم أن الأشياء المضافة على ثلاثة أنواع: ومنها إضافة الأعيان المنفصلة القائمة بذاتها إلى الله تعالى كبيت الله وناقة الله – فهي مخلوقة – والحجر الأسود كذلك عين منفصلة قائمة بذاتها، فهو مخلوق. وما كان كذلك لا يقال فيه إن ظاهره التشبيه وإنه لابد من تأويله. الثاني: إن الحديث ورد في آخره: ((فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه)) فشبه مصافحة الحجر الأسود بمصافحة الله – ومعلوم قطعاً أن المشبه غير المشبه به. فقد تبين من الوجهين أن الحديث لا يوهم تمثيلاً حتى يقال إنه يحتاج إلى تأويل، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله لا يجوز أن ينسب إليه أنه يتكلم بكلام يحتمل التمثيل ولا يبين للأمة ما يتقون (4). وأما الحديث الثاني: فهو ((إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن)) (5) , وأكد الرازي قول الغزالي بأنه يحتاج إلى تأويل فقط مؤكداً ومعللاً: "وهذا لابد فيه من التأويل، لأنا نعلم بالضرورة أنه ليس في صدورنا أصبعان بينهما قلوبنا" (6) اهـ.   (1) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 398). (2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "روي عن النبي صلى الله عليه وسلم – بإسناد لا يثبت" ((مجموع الفتاوى)) (6/ 397). (3) انظر: ((درء التعارض)) (3/ 384). و ((مجموع الفتاوى)) (6/ 397). و ((التدمرية)) كذلك (ص: 71). (4) انظر: ((تأويل مختلف الحديث)) لابن قتيبة (ص: 201). و ((درء تعارض العقل والنقل)) (3/ 384). و ((التدمرية)) (ص: 2) و ((القواعد المثلى)) (ص: 50). (5) رواه مسلم (2654) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. (6) ((أساس التقديس)) للرازي (ص: 82). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 والجواب: لاشك أن هذا الحديث صحيح فهو مخرج في صحيح مسلم وقد قال أهل السنة بما دل عليه هذا الحديث من إثبات الأصابع للرحمن (1) وأما ما توهمه الرازي من أن اللفظ يوهم حلول الأصابع في الصدر فخطأ بين: وذلك أن لفظه "بَيْنَ" لا تقتضي الحلول والمماسة – فإن الله تعالى يقول: وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ [البقرة: 164] ومعلوم أن السحاب ليس مماساً لهما (2). فظهر من هذا خطأ الرازي والغزالي وغيرهما في توهمهما أن كل شيء كان بين شيئين يكون مماساً لهما. وأما الحديث الثالث وهو:   (1) انظر: ((السنة لعبدالله)) بن أحمد (1/ 264)، و ((التوحيد)) لابن خزيمة (1/ 178). (2) انظر: ((القواعد المثلى)) (ص: 51). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 ((إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن)) هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وإسناده صحيح (1) ((والنفس)) الفرج من الكرب (2) وهو اسم مصدر من نَفَّس يُنَفِّس كفرج يفرج تفريجاً وفرجاً، فكأنه قال: أجد تنفيس ربكم من قبل اليمن وبهذا يتضح هذا المعنى ويندفع قول من رأى أن ظاهر هذا النص يوهم التمثيل. ويزيده وضوحاً تخصيصه صلى الله عليه وسلم هذا النفس باليمن – ومعلوم قطعاً أنه ليس لليمن اختصاص بصفات الله تعالى (3). وللناس قولان في المراد باليمن: فالأول: قيل: إنهم الأنصار: فقد قال ابن قتيبة: "معنى هذا أنه قال: كنت في شدة وكرب وغم من أهل مكة، ففرج الله عني بالأنصار، يعني أنه يجد الفرج من الأنصار – وهم من اليمن – فالريح من فرج الله وروحه كما كان الأنصار من فرج الله تعالى" (4) اهـ. والقول الثاني: وهو الأصح أنهم أهل اليمن المعروفون، لأن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: 54]، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل عنهم فقال ((هم قومك يا أبا موسى)) (5) , أو: ((هم قوم هذا يعني أبا موسى الأشعري)) (6) , – وفي رواية قال: ((هم أهل اليمن)) (7) , – وهذا القول قول مجاهد ومحمد بن كعب القرظي واختاره ابن جرير الطبري فقال: "وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، ما روي به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم أهل اليمن قوم أبي موسى الأشعري ... فجاء (الله) بهم على عهد عمر، فكان موقعهم من الإسلام وأهله أحسن موقع، وكانوا أعوان أهل الإسلام وأنفع لهم ممن كان ارتد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من طغام الأعراب وجفاة أهل البوادي الذي كانوا على الإسلام كلاً لا نفعاً" (8) اهـ وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً (9).   (1) رواه أحمد (2/ 541) (10991) , والطبراني في ((الأوسط)) (5/ 57) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, وصححه الألباني في ((السلسلة)) (3367) , والوادعي في ((الصحيح من دلائل النبوة)) (543). (2) انظر: ((لسان العرب)) (6/ 236). مادة (نفس). (3) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 398). (4) ((تأويل مختلف الحديث)) (ص: 198). (5) رواه الحاكم (2/ 342) , وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي. (6) رواه الطبراني (1016) , وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (6/ 387) , قال الخطيب البغدادي ((تاريخ بغداد)) (2/ 38):-فيه- محمد بن إسماعيل الصايغ قال عبد الرحمن بن أبي حاتم صدوق. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 19): رجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (3386): عياض مختلف في صحبته وروي موصولا نحوه بإسناد صحيح وله شواهد. (7) رواه ابن أبي حاتم في ((التفسير)) (5/ 12) , من حديث جابر بن عبد الله, وحسن إسناده الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 19) , وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (7/ 1104): إسناده جيد. (8) ((جامع البيان)) (4/ 6/285 - 286). (9) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 398). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 وبهذا الإيضاح يعلم أن النص واضح في المعنى المراد به، وليس مما يحتاج فيه إلى تأويل بدعوى معارضته العقول. وحكى الرازي قولاً آخر للإمام أحمد مستدلاً به على تسويغه التأويل فقال: "حكي أن المعتزلة تمسكوا في خلق القرآن بما روي عنه عليه السلام أنه يأتي سورة البقرة وآل عمران كذا وكذا يوم القيامة كأنها غمامتان، فأجاب أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: وقال: يعني ثواب قارئهما، وهذا تصريح بالتأويل" (1). والجواب: إن الحديث لاشك في صحته ولفظه هكذا: ((يؤتى بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا، تقدمهم سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما ظلتان سوداوان أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن صاحبهما)) (2).وما ذكره عن الإمام أحمد بن حنبل من معنى الحديث فصحيح – (3) إلا أن هذا الحديث واضح المعنى ولا يوهم باطلاً حتى يقال إنه يحتاج إلى تأويل!!. ويوضحه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((تحاجان عن صاحبهما)) ولا شك فصاحب القرآن هو العامل به – وهذا أمر واضح ويدل له أول الحديث ((وأهله الذين كانوا يعملون به)) ولذلك فإن الذي يأتي يوم القيامة هو عمله ثواباً له. وقال الترمذي: "ومعنى هذا الحديث عند أهل العلم أنه يجيء ثواب قراءته، كذا فسر بعض أهل العلم هذا الحديث، وما يشبه هذا من الأحاديث أنه يجيء ثواب قراءة القرآن، وفي حديث النواس (بن سمعان) عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ما فسروا، إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وأهله الذين يعملون به في الدنيا)) ففي هذا دلالة أنه يجيء ثواب العمل" (4) اهـ وقد يكون أحسن منه قول من قال: يجيء العمل نفسه في صورة لا ثواب العمل: قال شيخ الإسلام ابن تيمية، "فلما أمر بقراءتهما، وذكر مجيئهما يحاجان عن القارئ: علم أنه أراد بذلك قراءة القارئ لهما، وهو عمله، وأخبر بمجيء عمله الذي هو التلاوة لهما في الصورة التي ذكرها، كما أخبر بمجيء غير ذلك من الأعمال" اهـ. ثم إن قولهم: إن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم فقول متناقض يتضح بثلاثة أوجه من الرد: الوجه الأول: تعليلهم لطريقة السلف في كونها أسلم بأنهم أولوا تأويلاً إجمالياً باعتقادهم أن ظاهرها غير مراد إلا أنهم أمسكوا عن تحديد المراد بالكف عن التأويل!، فكلام خطأ على السلف فهم قد اعتقدوا ظاهرها الشرعي كما تقدم النقل عنهم. وفي قولهم: إن السلف كفوا عن التأويل يفيد أن المتكلمين خرقوا هذا الإجماع، وهذا هو الذي دفع الجويني آخراً إلى الإقرار والرجوع إلى طريقة السلف وهي الكف عن التأويل كيف والسلف فيهم الصحابة الذين ورثوا العلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم!.الوجه الثاني: قولهم: إن طريقة السلف أسلم يستلزم أن تكون أعلم وأحكم، فالسلامة لا تكون إلا بالعلم والحكمة، فلو انتفيا لم تكن سلامة. فمن أراد السلامة لزمه أن يعلم أسبابها وأن يسلك تلك الأسباب بحكمه (5).   (1) ((أساس التقديس)) (ص: 81) الوجه الرابع. (2) رواه مسلم (805). (3) انظر: ((رده على الزنادقة والجهمية)) (ص: 42). (4) ((جامع الترمذي)) (5/ 160 - 161)، و ((تحفة الأحوذي)) (8/ 155). (5) انظر: ((فتح رب البرية بتلخيص الحموية)) لابن عثيمين (ص: 58) ضمن رسائل في العقيدة له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 الوجه الثالث: وقولهم إن طريقة الخلف أعلم وأحكم لما فيها من مزيد الإيضاح فكلام خطأ أيضاً إذ لم يعهد في طريقة المتكلمين إلا الشك والحيرة والاضطراب والتناقض، وما فيها من صواب فقد دل عليه الشرع بأيسر سبيل وأوضحه. مع أن هذه العبارة فيها قدح في طريقة السلف بأنها لم تكن واضحة تماماً حتى جاء هؤلاء المتكلمون فأوضحوا الطريق. فهل يوجد قدح أبلغ من هذا؟! والقول الحق: إن طريقة السلف هي الأسلم والأعلم والأحكم (1). المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف - 2/ 601 ابتدع المتأخرون معنى للتأويل لم يكن معروفا عند السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وقالوا: هو صرف اللفظ من الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، ثم فسروا التأويل الوارد في آية آل عمران: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران: 7]، بهذا المصطلح الذي أحدثوه، ومن ثم أضفوا الشرعية على تأويلاتهم لنصوص الصفات أو بعضها. وقد أولى شيخ الإسلام هذه المسألة اهتماما كبيرا، وعرض لها في مناسبات عديدة من كتبه، وانطلق في ذلك من بيان معاني التأويل الواردة في الكتاب والسنة وأقوال السلف، حيث أوضح من خلال التتبع الدقيق لموارد لفظة "التأويل" في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، وأئمة السلف (2)، وانتهى من ذلك إلى أن التأويل ورد عندهم بمعنيين: أحدهما: أنه بمعنى المرجع والمصير، والحقيقة التي تؤول إليها الشيء. والثاني: أنه بمعنى التفسير (3).أما المعنى الثالث الذي اصطلح عليه المتأخرون وهو صرف اللفظ من الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، فليس معروفا عندهم، يقول شيخ الإسلام بعد ذكر المعاني السابقة: "والمقصود هنا أن السلف كان أكثرهم يقف عند قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ بناء على أن التأويل هو الحقيقة التي استأثر الله بعلمها، لا يعلمها إلا هو، وطائفة كمجاهد وابن قتيبة (4) وغيرهما قالوا: بل الراسخون يعلمون التأويل، ومرادهم بالتأويل المعنى الثاني وهو التفسير، فليس بين القولين تناقض في المعنى. وأما التأويل بمعنى صرف اللفظ عن مفهومه إلى غير مفهومه لهذا لم يكن هو المراد بلفظ التأويل في كلام السلف، اللهم إلا أنه إذا علم أن المتكلم أراد المعنى الذي يقال إنه خلاف الظاهر جعلوه من التأويل الذي هو التفسير، لكونه تفسير للكلام وبيانا لمراد المتكلم به، أو جعلوه من النوع الآخر الذي هو الحقيقة الثابتة في نفس الأمر التي استأثر الله بعلمها لكونه مندرجا في ذلك لا لكونه مخالفا للظاهر. وكان السلف ينكرون التأويلات التي تخرج الكلام عن مراد الله ورسوله التي هي من نوع تحريف الكلم عن مواضعه، فكانوا ينكرون التأويل الباطل الذي هو التفسير الباطل، كما ننكر قول من فسر كلام المتكلم بخلاف مراده ... " (5). وقد أراد شيخ الإسلام من هذا الكلام. تقرير عدة أمور:   (1) انظر: ((فتح رب البرية)) لابن عثيمين (ص: 58 - 60). (2) انظر مثلا: ((تفسير سورة الإخلاص – مجموع الفتاوى –)) (17/ 364 - 372)، و ((نقض التأسيس – مخطوط –)) (2/ 241 - 247). (3) انظر: ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى –)) (5/ 347 - 350)، و ((الفتوى الحموية – مجموع الفتاوى)) (5/ 35 - 36)، و ((مجموع الفتاوى)) (4/ 68 - 69) و ((الدرء)) (1/ 14 - 15)، و ((الإكليل في المتشابه والتأويل – مجموع الفتاوى)) (13/ 288 - 289)، و ((نقض التأسيس)) – مخطوط (3/ 2 - 4). (4) انظر: ((تأويل مشكل القرآن)) (ص: 98 - 101). (5) ((الصفدية)) (1/ 291). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 1 - أنه لا يجوز حمل النصوص على مصطلح حادث، بل لابد من الرجوع أولا إلى الاستعمالات الواردة لهذا اللفظ وقت النزول. ولفظ التأويل لم يرد في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة إلا بهذين المعنيين، فحمل لفظ التأويل – في آية آل عمران – على غيرهما باطل.2 - أن القراءتين الوردتين في الآية صحيحتان (1)، ولا تعارض بينهما، وكل قراءة محمولة على معنى من معاني التأويل الوارد. ففي قراءة الوقف على لفظ الجلالة – وهي قراءة الجمهور – يكون معنى التأويل حقيقة الشيء في قراءة الوصل يكون معناه التفسير.3 - أن التأويل هو بيان مراد المتكلم، وليس هو بيان ما يحتمله اللفظ في اللغة (2)، ولذلك فقد يوجد في كلام السلف تفسير الآية على خلاف ظاهرها – مما قد يقال بأنه صرف للفظ عن ظاهره – ولكن هذا من باب بيان مراد المتكلم وتفسير كلامه، بضم النظائر إلى بعضها، وتفسير بعض النصوص بنصوص أخرى، توضح المراد منها، وتزيل ما قد يشتبه منها على بعض الناس. وشيخ الإسلام كثيرا ما يركز على "أن الرسول بلغ البلاغ المبين، وبين مراده، وأن كل ما في القرآن والحديث من لفظ يقال فيه إنه يحتاج إلى التأويل الاصطلاحي الخاص الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، فلابد أن يكون الرسول قد بين مراده بذلك اللفظ بخطاب آخر، لا يجوز عليه أن يتكلم بالكلام الذي مفهومه ومدلوله باطل، ويسكت عن بيان المراد بالحق، ولا يجوز أن يريد من الخلق أن يفهموا من كلامه ما لم يبينه لهم ويدلهم عليه لا مكان معرفة ذلك بعقولهم، وأن هذا قدح في الرسول الذي بلغ البلاغ المبين الذي هدى الله به العباد وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، وفرق الله به بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين الرشاد والغي، وبين أولياء الله وأعدائه، وبين ما يستحقه الرب من الأسماء والصفات وما ينزه عنه من ذلك ... فمن زعم أنه تكلم بما لا يدل إلا على الباطل، لا على الحق ولم يبين مراده، وإنه أراد بذلك اللفظ المعنى الذي ليس بباطل، وأحال الناس في معرفة المراد على ما يعلم من غير جهته بآرائهم فقد قدح بالرسول" (3).   (1) انظر: ((المكتفي في الوقف والابتداء)) لأبي عمرو الداني (ص: 194 - 197)، و ((منار الهدى في بيان الوقف والابتداء)) للأشموني (ص: 70). (2) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 172). (3) انظر: ((درء التعارض)) (1/ 22 - 23)، وانظر تفصيلا مهما لهذه المسألة في ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 162 - 177)، ويلاحظ أن هذا الجزء بدأه بالرد على ما زعمه الرازي من أن جميع الفرق مقرون بأنه لابد من التأويل، ثم ذكر تسعة أمثلة من القرآن وعشرة من السنة، فعقب شيخ الإسلام – بعد مناقشة كل واحد منها – بقوله عن الرازي: "قلت قد ذكر تسعة عشر حرفا على عدد خزنة جهنم وليس فيها ما يوجب التأويل .. " (3/ 162). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 وأهل الكلام الباطل ينظرون إلى النص بحد ذاته، ويعلمون فيه آراءهم واجتهاداتهم ومسلماتهم العقلية، دون أن ينظروا إلى مراد المتكلم وقصده من هذا الكلام، ودون أن يرجعوا إلى النصوص الأخرى التي قد تكون نصا في بيان المراد. ولذلك فإنهم حين يلحظون من كلامهم غلوا في صرف الألفاظ والنصوص عن معانيها، أو يوجه إليهم استشكال وتساؤل عن أسباب هذا التأويل – الذي هو في الحقيقة تحريف وتعطيل – يلجأون إلى جواب غير مقنع – وإخاله غير مقنع لهم أنفسهم لكنهم اضطروا إليه – وهو قولهم أن فائدة إنزال النصوص المثبتة للصفات اجتهاد أهل العلم في صرفها عن مقتضاها بالأدلة المعارضة لها، لتنال النفوس الثواب، وتنهض إلى التفكر والاستدلال بالأدلة العقلية، الموصلة إلى الحق على حد زعمهم (1). وعليه فالهدى والنور والبيان الذي جاء به الكتاب والسنة لا يتم إلا بتحريف نصوصهما بما يوافق معقولات الفلاسفة والجهمية وأهل البدع والكلام والباطل!، وقد ضرب شيخ الإسلام بمثال، أطال في شرحه (2).والخلاصة أن الأقوال في التأويل، وفي تفسير آية آل عمران على كلا القراءتين، ليس في ذلك كله ما يبرر مذهب النفاة الذين حرفوا كثيرا من النصوص باسم "التأويل" (3). الأمر الثاني: القرائن المتصلة بالخطاب التي تدل على أن النص ليس على ظاهره هل يعتبر تأويلا؟ وما الشيء الذي يؤول والذي لا يؤول؟ هذه المسألة من المسائل التي كثير الخوض فيها دون ضابط أو منهج صحيح، ولذلك ضل فيها طائفتان: طائفة: ظنت أنه إذا كان بعض نصوص الصفات ليس على ظاهره، مثل حديث: عبدي مرضت، ونحوه، فهو دليل على جوز التأويل لكل نص وارد في الصفات دل ظاهره على التشبيه أو خالف المعقول مثلا، ولو كان ثبتوه ودلالته قطعيين – وهذا قول طوائف أهل الكلام – مع تفاوتهم في ذلك -. وطائفة: عكست الأمر فظنت إنه إذا كان لا يجوز التأويل في نصوص الصفات، فكذلك النصوص الأخرى يجب حملها على ظاهرها، ولو دلت القرائن على أن هذا الظاهر الفاسد منتف، وهؤلاء كثيرا ما يخلطون بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة. وكل من الطائفتين لم يوفق إلى الحق والصواب، بل وقع في البدعة وخالف النصوص الدالة على إثبات الصفات لله من غير تمثيل ولا تعطيل. وسبب ذلك أنهم لم يفرقوا في النصوص بين ما هو من الصفات وما ليس منها، وإنما خلطوا الأمر إما إثباتا أو نفيا وتعطيلا.   (1) انظر: ((درء التعارض)) (5/ 365). (2) انظر: ((درء التعارض)) (5/ 366 - 368). (3) من الدراسات الجديدة في هذا الموضوع، ما كتبه الدكتور محمد السيد الجليند بعنوان: ((الإمام ابن تيمية وقضية التأويل))، انظر: (ص: 29 وما بعدها)، وهي دراسة قائمة على فهم صحيح لمنهج شيخ الإسلام. والمشكلة أن كثيرا من الدارسين في أقسام الفلسفة قد يتعرضون في كتبهم وبحوثهم لآراء شيخ الإسلام ولكن بدون فهم لحقيقة مذهبه ومنهجه، ولذلك تأتي أقوالهم تحمل كثيرا من الأخطاء العلمية والمنهجية بحق مذهب السلف وبحق المدافعين عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 وقد اهتم شيخ الإسلام بهذا الأمر، وميز تمييزا واضحا بين النصوص الدالة على الصفات، والنصوص التي ليست منها، إما لعدم ثبوتها، أو لأن القرائن دلت على أنها ليست من الصفات. بل قد قال شيخ الإسلام جازما: "وأما الذي أقوله الآن وأكتبه – وإن كنت لم أكتبه فيما تقدم من أجوبتي، وإنما أقوله في كثير من المجالس – أن جميع ما في القرآن من آيات الصفات فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها. وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مئة تفسير، فلم أجد – إلى ساعتي هذه – عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئا من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف" (1). فالشأن أن تكون من آيات الصفات أو أحاديث الصفات، أما النصوص الأخرى التي قد تدل على الصفة، لكن ليست نصا فيها، فخلاف علماء أهل السنة فيها لا يجعل قول من لم يثبت بها صفة دليلا على تأويل الصفات، لأن النص نفسه ليس صريحا في ذلك. وقد أورد شيخ الإسلام عددا من الأمثلة على ذلك، وقبل إيراد نماذج منها يحسن ذكر ما قال في مقدمة أحدها، فقد أورد – رحمه الله – مسألة قربه تعالى من عباده، والخلاف في ذلك، ثم قال: "وإذا كان قرب عباده من نفسه، وقربه منهم، ليس ممتنعا عند الجماهير من السلف وأتباعهم من أهل الحديث، والفقهاء، والصوفية، وأهل الكلام، لم يجب أن يتأول كل نص فيه ذكر قربه من جهة امتناع القرب عليه، ولا يلزم من جواز القرب عليه أن يكون كل موضع ذكر فيه قربه يراد به قربه بنفسه، بل يبقى هذا من الأمور الجائزة، وينظر في النص الوارد، فإن دل على هذا حمل عليه، وإن دل على هذا حمل عليه، كما تقدم في لفظ الإتيان والمجيء: إن كان في موضع قد دل عندهم على أنه هو يأتي، ففي موضع آخر دل على أنه يأتي بعذابه، كما في قوله تعالى: فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِد [النحل: 26] وقوله تعالى: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر: 2]. فتدبر هذا؛ فإنه كثيرا ما يغلط الناس في هذا الموضع، إذا تنازع النفاة والمثبتة في صفة، ودلالة نص عليها: يريد المريد أن يجعل ذلك اللفظ – حيث ورد – دالا على الصفة وظاهرا فيها. ثم يقول النافي: وهناك لم تدل على الصفة فلا تدل هنا. وقد يقول بعض المثبتة: دلت هنا على الصفة فتكون دالة هناك، بل لما رأوا بعض النصوص تدل على الصفة، جعلوا كل آية فيها ما يتوهمون أنه يضاف إلى الله تعالى – إضافة صفة – من آيات الصفات، كقوله تعالى: فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ [الزمر: 56]. وهذا يقع فيه طوائف من المثبتة والنفاة، وهذا من أكبر الغلط؛ فإن الدلالة في كل موضع بحسب سياقه، وما يحف به من القرائن اللفظية والحالية، وهذا موجود في أمر المخلوقين، يراد بألفاظ الصفات منهم في مواضع كثيرة غير الصفات"، ثم ذكر مثالين نافعين لذلك. المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1144   (1) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 394). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 أمثلة من القرآن ذكروا فيها التأويل: 1 - قال تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ [البقرة: 115]، يقول شيخ الإسلام عن صفة الوجه: "لما كان إثبات هذه الصفة مذهب أهل الحديث، والمتكلمة الصفاتية: من الكلابية، والأشعرية، والكرامية، وكان نفيها مذهب الجهمية: من المعتزلة وغيرهم، ومذهب بعض الصفاتية من الأشعرية وغيرهم، صار بعض الناس من الطائفتين كلما قرأ آية فيها ذكر الوجه جعلها من موارد النزاع، فالمثبت يجعلها من الصفات التي لا تتأول بالصرف، والنافي يرى أنه إذا قام الدليل على أنها ليست صفة فكذلك غيرها، مثال ذلك قوله تعالى: وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ [البقرة: 115] أدخلها في آيات الصفات طوائف من المثبتة والنفاة، حتى عدها أولئك – كابن خزيمة – مما يقرر إثبات الصفة (1)، وجعل (النفاة) تفسيرها بغير الصفة حجة لهم في موارد النزاع" (2).ثم ذكر قصته في المناظرة التي عقدت له فقال: "ولهذا لما اجتمعنا في المجلس المعقود – وكنت قد قلت: أمهلت كل من خالفني ثلاث سنين إن جاء بحرف واحد عن السلف يخالف شيئا مما ذكرته كانت له الحجة، وفعلت وفعلت، وجعل المعارضون يفتشون الكتب فظفروا بما ذكره البيهقي في كتاب (الأسماء والصفات) في قوله تعالى: وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ [البقرة: 115]، فإنه ذكر عن مجاهد والشافعي أن المراد: قبلة الله (3) – فقال أحد كبرائهم – في المجلس الثاني – وقد أحضرت نقلا عن السلف بالتأويل، فوقع في قلبي ما أعد، فقلت: لعلك قد ذكرت ما روي في قوله تعالى: وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ [البقرة: 115] قال: نعم، قلت: المراد بها قبلة الله، فقال: قد تأولها مجاهد والشافعي وهما من السلف. ولم يكن هذا السؤال يرد عليّ، فإنه لم يكن شيء مما ناظروني فيه صفة الوجه، ولا أثبتها، لكن طلبوها من حيث الجملة، وكلامي كان مقيدا كما في الأجوبة، فلم أر إحقاقهم في هذا المقام، بل قلت: هذه الآية ليست من آيات الصفات أصلا، ولا تندرج في عموم قول من يقول: لا تؤول آيات الصفات. قال: أليس فيها ذكر الوجه؟ فلما قلت: المراد بها قبلة الله، قال: أليست هذه من آيات الصفات؟ قلت: لا، ليست من موارد النزاع، فإني إنما أسلم أن المراد بالوجه – هنا – القبلة، فإن الوجه هو الجهة في لغة العرب، يقال: قصدت هذا الوجه، وسافرت إلى هذا الوجه، أي: إلى هذه الجهة ... " – وبعد أن زاد هذا شرحا، قال: في كلام مهم جدا: "ولكن من الناس من يسلم أن المراد بذلك جهة الله، أي قبلة الله، ولكن يقول: هذه الآية تدل على الصفة وعلى أن العبد يستقبل ربه ... ويقول: إن الآية دلت على المعنيين، فهذا شيء آخر ليس هذا موضعه. والغرض أنه إذا قيل: فثم قبلة الله، لم يكن هذا من التأويل المتنازع فيه الذي ينكره منكروا تأويل آيات الصفات، ولا هو مما يستدل به عليهم المثبتة، فإن هذا المعنى صحيح في نفسه، والآية تدل عليه، وإن كانت دالة على ثبوت صفة فذاك شيء آخر، ويبقى دلالة (قوله) فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ على فثم قبلة الله، هل هو من باب تسمية القبلة وجها باعتبار أن الوجه والجهة واحد؟ أو باعتبار أن من استقبل وجه الله فقد استقبل قبلة الله؟ فهذا فيه بحوث أخرى، ليس هذا موضعها" (4).   (1) انظر: ((التوحيد)) (1/ 25) – المحققة. (2) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 15). (3) انظر: 00الأسماء والصفات للبيهقي)) (ص: 309). (4) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 15 - 17)، و ((قارن بالمناظرة حول الواسطية –مجموع الفتاوى –)) (3/ 193). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 وفي نقض التأسيس أشار إلى ما ذكره هنا، مع زيادة في الشرح والتوضيح، وقال في أثناء ذلك: "فهذا القول ليس عندنا من باب التأويل الذي هو مخالفة الظاهر أصلا، وليس المقصود نصر هذا القول، بل بيان توجيهه وأن قائليه من السلف لم يكونوا من نفاة الصفة، ولا من يقول: ظاهر الآية ممتنع ... " (1)، ثم ذكر ثلاث احتمالات في هذه الآية: أحدها: أنها دالة على الصفة، وحينئذ تقر على ظاهرها، ولا محذور فيه، ومن يقول بهذا لا يقول إن وجه الله هو نفسه في الأجسام المستقبلة ولا يقول هذا أحد من أهل السنة، و"ثم" إشارة إلى البعيد. والثاني: أن ظاهرها أن الذي ثم هو القبلة المخلوقة فقط، وفي هذه لا تكون الآية مصروفة عن ظاهرها، وتوجيه ذلك أن "ثم" إشارة إلى مكان موجود، والله تعالى فوق العالم ليس هو في جوف الأمكنة. والثالث: أن يقال ظاهرها يحتمل الأمرين، وحينئذ فقول مجاهد لا ينافي ذلك (2).ولكن ما الذي يرجحه شيخ الإسلام – مع قوله إن قول مجاهد " فثم قبلة الله" ليس تأويلا ولا حجة فيه للنفاة -؟، سبق قبل قليل نقل قوله في (مجموع الفتاوى): "ولكن من الناس من يسلم أن المراد بذلك جهة الله أي قبلة الله، ولكن يقول: هذه الآية تدل على الصفة ... "، وزاده في نقض التأسيس بيانا فقال في أحد وجوه الرد على الرازي: "الوجه الثالث: أن يقال: بل هذه الآية دلت على الصفة كغيرها، وذلك هو ظاهر الخطاب وليست مصروفة عن ظاهرها، وإن كانت مع ذلك دالة على استقبال قبلة مخلوقة، ونجزم بذلك فلا نسلم أنها مصروفة عن ظاهرها، ولفظ "الوجه" هو صفة الله، فما الدليل على وجوب تأويلها، وقوله فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ فيه الإشارة إلى وجه الله بأنه ثم، والله تعالى يشار إليه كما تقدم تقرير هذا" (3). ويجب أن لا يغيب عن البال – في خضم هذه المناقشات – أن الخلاف ليس في إثبات صفة "الوجه" لله تعالى، لأن هذه الصفة ثابتة بنصوص أخرى صريحة قطعية، لا مجال فيها لأي احتمال – وقد أثبتها متقدموا أئمة الأشاعرة – ولكن الكلام هنا يدور حول أحد النصوص الواردة وهو قوله تعالى: فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ هل هو دال على صفة أم لا؟.   (1) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 79). (2) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 79 - 82). (3) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 86). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 والخلاصة أن دلالة مثل هذه الآية محتملة، وهي لا تخالف النصوص الأخرى المثبتة لصفة الوجه، وليس فيما قاله مجاهد – تفسيرا لها – حجة للنفاة على جواز التأويل، وسواء دلت على الصفة أو لم تدل فليس للنفاة فيها حجة أصلا.2 - ومن الأمثلة أيضا قوله تعالى: أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ [الزمر: 56]، يقول شيخ الإسلام في معرض رده على الرازي – الذي يذكر بعض النصوص التي تحتاج إلى تأويل، ويحتج بها على جواز التأويل -: "يقال: من أين في ظاهر القرآن إثبات جنب واحد صفة لله، ومن المعلوم أن هذا لا يثبته جميع مثبتة الصفات الخبرية، بل كثير منهم ينفون ذلك، بل ينفون قول أحد منهم بذلك (1) "، ثم نقل كلام الدارمي في نقضه على المريسي – ورده عليه في احتجاجه بهذه الآية – وأنه قال: "وادعى المعارض زورا على قوم أنهم يقولون في تفسير قول الله تعالى: أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ [الزمر: 56] قال: يعنون بذلك الجنب (الذي) هو العضو، وليس على ما يتوهمونه، قال: فيقال لهذا المعارض: ما أرخص الكذب عندك، وأخفه على لسانك، فإن كنت صادقا في دعواك فأشر بها إلى أحد من بني آدم قاله، وإلا فلم تشنع بالكذب على قوم هم أعلم بالتفسير منك، وأبصر بتأويل كتاب الله منك ومن إمامك؟، إنما تفسيرها عندهم: تحسر الكافرين على ما فرطوا في الإيمان والفضائل التي تدعو إلى ذات الله، واختاروا عليها الكفر والسخرية بأولياء الله فسماهم الساخرين، فهذا تفسير الجنب عندهم، فمن أنبأك أنهم قالوا: جنب من الجنوب، فإنه لا يجهل هذا المعنى كثير من عوام المسلمين فضلا عن علمائهم ... " (2)، ثم عقب شيخ الإسلام بتوجيه آخر يدل على أنها ليست صفة، ونقل كلام ابن بطة والقاضي أبي يعلى (3).وقد عقب شيخ الإسلام على ما مضى – رادا على الرازي الذي زعم أن ظاهر القرآن يلزم منه أن لله جنبا واحدا عليه أيد كثيرة ... (4) -، فقال: "وأين في ظاهر القرآن أنه ليس لله جنب واحد بمعنى الشق، ولكن قد يقال: القرآن فيه إثبات جنب الله تعالى، وفيه إثبات التفريط فيه، فثبوت نوع من التوسع والتجوز فيما جعل فيه لا يوجب ثبوت التوسع والتجوز فيه كما في قوله تعالى: بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك: 1]، فإن هناك شيئين: اليد وكون الملك فيها، ولهذا تنازعوا في إثبات ذلك صفة لله" (5).وما أشار إليه شيخ الإسلام من صفة "اليد" أوضحه في مكان آخر فقال رادا على نفاة هذه الصفة: "ومن ذلك أنهم إذا قالوا: بيده الملك، أو عملته يداك، فيهما شيئان: أحدهما: إثبات اليد، والثاني: إضافة الملك والعمل إليها. والثاني يقع فيه التجوز كثيرا، أما الأول فإنهم لا يطلقون هذا الكلام إلا لجنس له "يد" حقيقة، ولا يقولون: يد الهوى، ولا يد الماء، فهب أن قوله: بيده الملك، قد علم منه أن المراد بقدرته، لكن لا يتجوز بذلك إلا لمن له يد حقيقة" (6). ولعله اتضح معنى قوله في نص – نقض التأسيس – عن قوله بِيَدِهِ الْمُلْكُ: "ولهذا تنازعوا في إثبات ذلك صفة لله" أن المقصود بذلك أن من قال إن المراد بذلك بقدرته قد لا يحتج بهذه الآية على إثبات هذه الصفة لله، ولكن ها هنا أمران:   (1) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 11). (2) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 11 - 12)، و ((النص في الرد على المريسي)) للدارمي (ص: 539 - 540) ضمن ((عقائد السلف)). (3) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 12 - 14). (4) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 8 - 11). (5) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 11). (6) ((الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز)) – مجموع الفتاوى – (6/ 370). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 أحدهما: أن إثبات صفة اليدين قد دلت عليه أدلة قطعية، لا مجال فيها لأي تأويل. الثاني: أن قوله بِيَدِهِ الْمُلْكُ وإن قيل إن معناه بقدرته، غلا أن الآية تدل على إثبات اليد لله، لأنه لا يتجوز بذلك إلا لمن له يد حقيقة. والخلاصة أن آية علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ من قال إن المقصود هو التحسر على التفريط في الإيمان والأعمال الصالحة، فليس قوله هذا تأويلا لصفة من الصفات، حتى يكون حجة لنفاة الصفات. وكذلك من اثبت بهذه الآية الصفة، فإنه أثبت صفة الجنب لله، وأثبت التفريط فيه، مثل قوله: بِيَدِهِ الْمُلْكُ، وقال: إنه لا يتجوز بذلك إلا لمن له جنب. والله أعلم.3 - ومن الأمثلة قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ [القلم: 42] فإنه الصحابة والتابعين قد تنازعوا في هذه الآية، هل المقصود بها الكشف عن الشدة، أو المراد أن الرب تعالى يكشف عن ساقه، "ولم تتنازع الصحابة والتابعون فيما ذكر من آيات الصفات إلا في هذه الآية، بخلاف قوله لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75]، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27] ونحو ذلك، فإنه لم يتنازع فيه الصحابة والتابعون، وذلك أنه ليس في ظاهر القرآن أن ذلك صفة لله تعالى لأنه قال يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ولم يقل عن ساق الله، ولا قال يكشف الرب عن ساقه، وإنما ذكر ساقا نكرة غير معرفة ولا مضافة، وهذا اللفظ بمجرده لا يدل على أنها ساق الله، والذين جعلوا ذلك من صفات الله تعالى أثبتوه بالحديث الصحيح المفسر للقرآن، وهو حديث أبي سعيد الخدري المخرج في الصحيحين (1) الذي قال فيه: ((يكشف ربنا عن ساقه)) (2)، وقد يقال أن ظاهر القرآن يدل على ذلك من جهة أنه أخبر أنه يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود، والسجود لا يصلح إلا لله، فعلم أنه هو الكاشف عن ساقه، وأيضا فحمل ذلك على الشدة لا يصح، لأن المستعمل في الشدة أن يقال: كشف الله الشدة، أي أزالها، كما قال فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ [الزخرف: 50] وقال: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ [الأعراف: 135] وقال: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون: 75]، وإذا كان المعروف من ذلك في اللغة أنه يقال: كشف الشدة: أي أزالها، فلفظ الآية يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وهذا يراد به الإظهار والإبانة" (3). وشيخ الإسلام يرجح دلالة الآية على الصفة، خاصة مع دلالة الحديث الواضحة، ومع ذلك فمن قال من السلف إن المراد بها الكشف عن الشدة، فليس قولهم تأويلا، ثم إنهم يثبتون هذه الصفة بالحديث الصحيح، فلو كان قصدهم التأويل – لذات التأويل – كما يدعي النفاة، لكان تأويلهم للحديث أولى، لكن لما أنهم لم يفرقوا بين دلالة الكتاب والسنة الصحيحة على إثبات الصفات، أثبتوا هذه الصفة بالسنة مع ترجيحهم أن الآية لها معنى آخر. فالنتيجة واحدة. المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة – 3/ 1150   (1) بهذا اللفظ رواه البخاري, ولم يروه مسلم. (2) رواه البخاري (4919) ,. (3) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 15 - 16). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 المطلب السادس: هل قال الإمام أحمد بالتأويل؟ القول بأن الإمام أحمد قال بالتأويل تلقفته طائفتان: إحداهما: طائفة من الحنابلة الذين مالوا إلى شيء من بدع أهل الكلام، حيث جعلوا مثل هذا النقل عن الإمام أحمد حجة لهم في مخالفتهم لما هو مشهور عن جمهور أصحابه المتبعين لمذهب السلف والأخرى: طائفة من الأشاعرة وغيرهم، ليستدلوا بمثل هذا النقل على صحة مذهبهم في تأويل بعض الصفات، وأنهم غير مخالفين لمذهب السلف. والذي روى عن الإمام أحمد في هذه المسألة لا يتعدى أحد نقلين: أحدهما: ما نقله الغزالي – في معرض حديثه عن الإمام أحمد ومنعه من التأويل – قال الغزالي: "سمعت بعض أصحابه يقول: إنه حسم باب التأويل إلا لثلاثة ألفاظ: قوله صلى الله عليه وسلم: ((الحجر الأسود يمين الله في أرضه)) (1)، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن) (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن ... )) (3) وقد نقل الرازي هذا عن الغزالي مع تبديل في أحد الأحاديث (4).الثاني: ما نقله حنبل في المحنة، عن الإمام أحمد، يقول: احتجوا عليّ يوم المناظرة، فقالوا: تجيء يوم القيامة سورة البقرة، وتجيء سورة تبارك؟ قال: فقلت لهم: إنما هو الثواب، قال الله جل ذكره: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22]، وإنما تأتي قدرته، القرآن أمثال ومواعظ، وأمر ونهي، وكذا وكذا" (5)، وأحال القاضي أبو يعلى في إبطال التأويلات على رواية حنبل فقال: "وقد قال أحمد في رواية حنبل في قوله وَجَاء رَبُّكَ قال قدرته" (6). ونقل هذه الرواية عن القاضي أبي يعلى بعض الحنابلة، منهم ابن الجوزي في تفسيره (7)، وفي كتابه (الباز الأشهب) (8) – الذي نصر فيه مذهب أهل التعطيل -، كما نسبه البيهقي إلى الإمام أحمد (9).   (1) رواه ابن عدي في الكامل)) (1/ 342) والخطيب في تاريخ بغداد (6/ 326) من حديث جابر وقال الخطيب: منكر وقال ابن تيمية في ((درء التعارض)): معروف من كلام ابن عباس، وروي مرفوعاً وفي رفعه نظر. (2) رواه مسلم (2654). (3) ((إحياء علوم الدين)) (1/ 103) والحديث رواه البزار في ((البحر الزخار)) (9/ 150) الطبراني في ((الكبير)) (7/ 52) (6358) والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (2/ 391) قال البزار: هذا أحسن طريقاً يروى في ذلك. وصحح إسناده الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (3367). (4) انظر: ((أساس التقديس للرازي)) (ص: 81)) حيث أبدل حديث أنا جليس من ذكرني بحديث قلوب العباد الذي ذكره الغزالي. (5) ((الجوهر المحصل في مناقب الإمام أحمد)) (ص: 85)، وانظر (ص: 82)، وانظر: ((الاستقامة)) (1/ 74). (6) ((إبطال التأويلات))، (ص: 61) – مخطوط. (7) ((زاد المسير)) (البقرة: 21)، (1/ 255)، وفي سورة الفجر آية: 22 أحال على آية البقرة. (8) (ص: 61)، وهو نفسه ((دفع شبه التشبيه)) والنص فيه (ص: 45)، وأن كان الباز فيه بعض الزيادات. والعجب أن محققي الكتابين – الكوثري، ومحمد منير – يشربان من عين واحدة، هي عين التعطيل وقد رد على ابن الجوزي في دعواه نسبة التأويل إلى الإمام أحمد صاحب رسالة: ((ابن الجوزي بين التفويض والتأويل)) (ص: 138 - 143) – ط على الآلة الكاتبة. (9) كما ذكره ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (10/ 327) – وقد سبقت الإشارة إلى ذلك (ص: 584). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 والعجيب أن هؤلاء المعطلة – يعظم عندهم مثل هذين النقلين – مع ما فيهما من كلام كما سيأتي – وأما النصوص المتواترة المشتهرة عن الإمام أحمد في إثبات الصفات، والرد على الجهمية وأتباعهم، والتحذير من الخوض في علم الكلام وتأويل الصفات – فهذه لا حاج فيها عندهم على مذهب هذا الإمام الموافق لمذهب السلف، وغاية ما يقولون فيها أن الإمام أحمد إنما أراد بها التفويض!.ومع ذلك فلا حجة لهم فيما نقوله عن هذا الإمام، وبيان ذلك كما يلي: أما النقل الأول – الذي ذكره الغزالي والرازي – فقد قال فيه شيخ الإسلام "هذه الحكاية كذب على أحمد، لم ينقلها أحد عنه بإسناد، ولا يعرف أحد من أصحابه نقل ذلك عنه، وهذا الحنبلي الذي ذكر عنه أبو حامد مجهول لا يعرف: لا علمه بما قال، ولا صدقه فيما قال" (1)، والدليل على ذلك اختلاف نقل الرازي عن نقل الغزالي، وله احتمالات: أن يكون الرازي غلط في النقل عن الغزالي، أو أن الغزالي نقل في كتاب آخر – غير (الإحياء) – خلاف ما ذكره في (الإحياء)، قال شيخ الإسلام: "وعلى التقديرين فيعلم أن هذا النقل الذي نقله غير مضبوط" (2). وقال أيضا عن الغزالي، وعدم علمه بالحديث وشهادته على نفسه بأن بضاعته فيه مزجاة: "ولهذا في كتبه من المنقولات المكذوبة الموضوعة ما شاء الله، مع أن تلك الأبواب يكون فيها من الأحاديث الصحيحة ما فيه كفاية وشفاء، ومن ذلك هذا النقل الذي نقله عن أحمد، فإنه نقله عن مجهول لا يعرف، وذلك المجهول أرسله إرسالا عن أحمد، ولا يتنازع من يعرف أحمد وكلامه أن هذا كذب مفترى عليه، ونصوصه المنقولة عنه بنقل الإثبات والمتواتر عنه يرد هذا الهذيان الذي نقله عنه ... " (3). ثم إن هذه الأحاديث التي أوردها الغزالي والرازي ليس فيها ما يوجب التأويل؛ لأن دلالاتها واضحة، فزعمهم أنها – أو غيرها من الأحاديث – بحاجة إلى التأويل، أو أن الإمام أحمد قد تأولها، لا يفيدها شيئا في هذا الباب ولهذا ناقش شيخ الإسلام هذه الأحاديث وغيرها، وبين ما فيها، -وقد سبق قبل قليل نقل كلامه فيها -. وخلاصة القول: 1 - أن هذا النقل غير صحيح، ولم يورده أحد في مسائل وكلام الإمام أحمد. 2 - أن النقول الكثيرة عن الإمام أحمد تدل على إثباته ومنعه من التأويل. 3 - أن هذه الأحاديث لا حجة فيها لهم، لأن ما فهموه من الظواهر الفاسدة، قد دلت النصوص نفسها على أنه غير وارد. أما النقل الثاني – الذي أورده حنبل في سياق المحنة – فقد ذكر شيخ الإسلام – أن الحنابلة اختلفوا في هذه الرواية على خمس طرق: 1 - "قال قوم: غلط حنبل في نقل الرواية، وحنبل له مفاريد ينفرد بها من الروايات في الفقه. والجماهير يرون خلافه. وقد اختلف الأصحاب في مفاريد حنبل التي خالفه فيها الجمهور، هل تثبت روايته؟ على طريقين، فالخلاف وصاحبه قد ينكرانها، ويثبتها غيرهما كابن حامد. 2 - وقال قوم منهم: إنما قال ذلك إلزاما للمنازعين له، فإنهم يتأولون مجيء الرب بمجيء أمره، قال: فكذلك قالوا: مجيء كلامه مجيء ثوابه. وهذا قريب. 3 - وقال قوم منهم: بل هذه الرواية ثابتة في تأويل ما جاء من جنس الحركة والإتيان والنزول، فيتأول على هذه الرواية بالقصد والعمد لذلك، وهذه طريقة ابن الزاغوني وغيره.   (1) ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى)) (5/ 398)، وانظر: ((درء التعارض)) (7/ 149 - 150). (2) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 94). (3) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 100). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 4 - وقال قوم: بل يتأول بمجيء ثوابه. وهؤلاء جعلوا الرواية في جنس الحركة، دون بقية الصفات.5 - وقال قوم – منهم ابن عقيل وابن الجوزي -: بل يتعدي الحكم من هذه الصفة إلى سائر الصفات التي تخالف ظاهرها، للدليل الموجب لمخالفة الظاهر" (1). ويلاحظ أن الأقوال الثلاثة الأخيرة تصحح نسبة التأويل إلى الإمام أحمد، وتجعل ذلك حجة لها على مذهبها المائل إلى الأشاعرة كما هو قول ابن الزاغوني وغيره، أو ما هو أشد غلوا منهم في التعطيل والنفي كما هو المشهور من مذهب ابن عقيل وابن الجوزي. وقد نفى شيخ الإسلام بشكل قاطع ما نسب إلى الإمام أحمد من التأويل وقال: "لا ريب أن المنقول المتواتر عن أحمد يناقض هذه الرواية، ويبين أنه لا يقول إن الرب يجيء ويأتي وينزل أمره، بل هو ينكر على من يقول ذلك (2) " وقال: "والصواب أن جميع هذه التأويلات مبتدعة، لم يقل أحد من الصحابة شيئا منها ولا أحد من التابعين لهم بإحسان، وهي خلاف المعروف المتواتر عن أئمة السنة والحديث، كأحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة" (3). وهذه رسائل وأقوال الإمام أحمد مشهورة معروفة، وما من مسألة من مسائل أصول الدين إلا وله فيها كلام، ولم يرد فيها ما يخالف مذهب السلف، ولذلك عده الناس إماما لأهل السنة بسبب ما ابتلي به من المخالفين من أهل الأهواء الذين ناظرهم وبين بطلان أقوالهم، وهو في ذلك متبع لمن قبله من أئمة السلف (4).وإذا كان هذا هو المتواتر عن الإمام أحمد فلابد من النظر إلى رواية حنبل – في المحنة – على أنها رواية فردة خالفت المشهور عنه، ولهذا قال القاضي أبو يعلى بعد ذكره لرواية حنبل، وتغليط ابن شاقلا له: "وقد قال أحمد في رواية أبي طالب، هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ [البقرة: 210]، وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] من قال إن الله لا يرى فقد كفر، وظاهر هذا أن أحمد أثبت مجيء ذاته لأنه احتج بذلك على جواز رؤيته، وإنما يحتج بذلك على جواز رؤيته إذا كان الإتيان والمجيء مضافا إلى الذات" (5). وخلاصة الجواب عن رواية حنبل – في المحنة -: 1 - إما أن يقال هذه من مفاريده وقد خالفت المتواتر والمشهور عنه. 2 - وعلى فرض ثبوت هذه الرواية فيقال: أن الإمام قال هذا إلزاما لخصومه وقد قال شيخ الإسلام على هذا الاحتمال: "وهذا قريب". وشرحه في موضع آخر فقال: "ومنهم من قال: بل أحمد قال ذلك على سبيل الإلزام لهم، يقول: إذا كان أخبر عن نفسه بالمجيء والإتيان، ولم يكن ذلك دليلا على أنه مخلوق، بل تأولتم ذلك على أنه جاء أمره، فكذلك قولوا: جاء ثواب القرآن، لا أنه نفسه هو الجائي، فإن التأويل هنا ألزم، فإن المراد هنا الإخبار بثواب قارئ القرآن، وثوابه عمل له، لم يقصد به الإخبار عن نفس القرآن.   (1) ((الاستقامة)) (1/ 75 - 76). (2) ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى –)) (5/ 401). (3) ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى –)) (5/ 409). (4) انظر: ((نقض التأسيس – مخطوط –)) (3/ 97 - 103). (5) ((إبطال التأويلات – مخطوط –)) (ص: 61 - 62). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 فإذا كان الرب قد أخبر بمجيء نفسه، ثم تأولتم ذلك بأمره، فإذا أخبر بمجيء قراءة القرآن فلأن تتأولوا ذلك بمجيء ثوابه بطريق الأولى والأحرى. وإذا قاله على سبيل الإلزام لم يلزم أن يكون موافقا لهم عليه، وهو لا يحتاج على أن يلتزم هذا؛ فإن هذا الحديث له نظائر كثيرة في مجيء أعمال العباد، والمراد مجيء قراءة القارئ التي هي عمله، وأعمال العباد مخلوقة، وثوابها مخلوق، ولهذا قال أحمد وغيره من السلف: إنه يجيء ثواب القرآن (1)، والثواب إنما يقع على أعمال العباد، لا على صفات الرب وأفعاله" (2). والخلاصة: 1 - أن هذا مخالف لما تواتر عن الإمام أحمد من المنع من التأويل. 2 - أن حنبل تفرد بهذه الرواية.3 - وعلى فرض صحتها فالإمام قالها إلزاما لخصومه المعتزلة (3). هذه خلاصة مباحث "التأويل" تبين سلامة منهج أهل السنة في الصفات، كما شرحه شيخ الإسلام ورد على المجيزين للتأويل، ولا شك أن هذا الباب لما فتحه المتكلمون – وقد يكون عند بعضهم عن حسن نية – ولج منه أهل الإلحاد من القرامطة والباطنية والفلاسفة وغيرهم ليتوصلوا به إلى تعطيل الشرائع، والأمر والنهي، وإنكار المعاد وما فيه، وهذا وحده كاف لوجوب سد هذا الباب الخطير. ويمكن ذكر نموذج واحد لمقالات هؤلاء الذين فتحوا باب التأويل، يقول شيخ الإسلام: "ولهذا قال كثير منهم – كأبي الحسين البصري، ومن تبعه كالرازي والآمدي وابن الحاجب – أن الأمة إذا اختلفت في تأويل الآية على قولين، جاز لمن بعدهم إحداث قول ثالث، بخلاف ما إذا اختلفوا في الأحكام على قولين. فجوزوا أن تكون الأمة مجتمعة على الضلال في تفسير القرآن والحديث وأن يكون الله أنزل الآية، وأراد بها معنى لم يفهمه الصحابة والتابعون، ولكن قالوا: إن الله أراد معنى آخر. وهم لو تصوروا هذه المقالة لم يقولوا هذا فإن أصلهم أن الأمة لا تجتمع على ضلالة" (4). ومن تدبر هذا وأمثاله عرف ما فيه وما له من آثار. المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1163   (1) انظر الكلام على مجيء سورة البقرة وآل عمران في ((نقض التأسيس – مخطوط –)) (3/ 116 - 1126). (2) ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى)) (5/ 400). (3) انظر أيضا: ((مجموع الفتاوى)) (16/ 404، 421 - 422)، حيث نقل كلام ابن الزاغوني، وانظر أيضا (6/ 156 - 166). (4) ((الفرقان بين الحق والباطل – مجموع الفتاوى)) (13/ 59). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 المطلب السابع: قاعدة: القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر هذا الأصل أو هذه القاعدة – من أعظم الأصول والقواعد في باب الأسماء والصفات، ومن أهمها في بيان تناقض الخصوم من أهل الكلام – على مختلف طبقاتهم ودرجاتهم في هذا الباب – كما أنها مشتملة على جوانب عظيمة في إقناع من يتردد في صحة مذهب السلف، أو يخالطه شك أو شبهة مما ينثره أهل الكلام في كتبهم ومقالاتهم. وهذه القاعدة لم يفصل القول فيها أحد – فيما أعلم – قبل شيخ الإسلام، وإن كان قد ألمح إليها بعض الأشاعرة – إحساسا منه بالتناقض – أو بعض أهل السنة اقتناعا منه بتناقض خصومه -، أما الكلام فيها بهذه القوة والوضوح والإقناع فقد كان مما وفق الله هذا الإمام إليه، وهو سبحانه وتعالى المتفضل على عباده بما يشاء، فله الحمد والمنة. وقبل الدخول في تفاصيل هذا الأصل – أو هذه القاعدة – يمكن إجمال ما اشتملت عليه من الأصول والقواعد بما يلي: 1 - أن من نفى بعض الصفات وأثبت البعض الآخر، لزمه فيما أثبته نظير ما يلزمه فيما نفاه. 2 - وأن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، لأنه قد يكون ثبت بدليل آخر غير هذا الدليل. 3 - أن كل من أول صفة لزمه فيما أوله نظير ما ظن أنه يلزمه فيما فر منه. 4 - أن دلالة السمع والعقل على الصفات واحدة: أ- فإذا كان السمع قد دل على الصفات السبع، فقد دل أيضاً على غيرها، ووجه الدلالة وقوة النص واحدة. ب- وإذا دل العقل على الصفات السبع، فيمكن أن يدل العقل على غيرها، مما ينفيه هؤلاء. 5 - أنه يقال للأشعري نظير ما يقوله هو للمعتزلي في مسألة الأسماء. 6 - أن هذا الأصل يمكن أن يرد به على جميع النفاة. أ- الأشعري الذي يثبت بعض الصفات دون بعض. ب- والمعتزلي الذي يثبت الأسماء وينفي الصفات. ج- والجهمي الذي ينفي الأسماء والصفات ولكن يقر بأن الله شيء وأنه موجود. د- والغلاة: الذين يسلبون النقيضين. وقد استخدم شيخ الإسلام هذا الأصل في الرد على هؤلاء جميعا، وبين تناقضهم. وبالنسبة للأشاعرة – الذين هم مدار هذا البحث – فيمكن بيان منهجهه في تقرير هذا الأصل بذكر أحد ردوده العامة، ثم ذكر عدد من الأمثلة التي أوردها شيخ الإسلام في مناقشته لهم معتمدا على الأصل: سبق – في مبحث الأسماء – أن الأشاعرة وإن أثبتوا أسماء الله بإجمال، إلا أنهم يتأولون – في بعض هذه الأسماء – ما تدل عليه من الصفات، فمثلا يثبتون من أسمائه تعالى: الرحيم، والعلي، والودود، ولكنهم حينما يفسرونها يتأولونها كما يتأولون صفة الرحمة، والعلو، والمحبة، وغيرها. أما العليم والقدير فلا يتأولونه، كذلك هم في الصفات يثبتون السمع والبصر والكلام والإرادة، ويتأولون غيرها كالرحمة والرضا والغضب وغيرها. فشيخ الإسلام بين تناقضهم في ذلك كله فقال، "من أقر بفهم بعض معنى الأسماء والصفات دون بعض، فيقال له: ما الفرق بين ما أثبته وبين ما نفيته، أو أمسكت عن إثباته ونفيه؟ فإن الفرق: - إما أن يكون من جهة السمع. - أو من جهة العقل بأن أحد المعنيين يجوز أو يجب إثباته دون الآخر. وكلا الوجهين باطل بأكثر المواضع. أما الأول: فدلالة القرآن على أنه: رحمن، رحيم، ودود، سميع بصير، عليّ، عظيم، كدلالته على أنه: عليم، قدير، ليس بينهما فرق من جهة النص، وكذلك ذكره لرحمته، ومحبته، وعلوه، مثل ذكره لمشيئته وإرادته. وأما الثاني: فيقال من أثبت شيئا ونفى آخر: لم نفيت مثلا حقيقة رحمته، ومحبته، وأعدت ذلك إلى إرادته؟. فإن قال: لأن المفهوم من الرحمة رقة تمتنع على الله. قيل له: والمعنى المفهوم من الإرادة في حقنا هي ميل يمتنع على الله. فإن قال: إرادته ليست من جنس إرادة خلقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 قيل له: ورحمته ليست من جنس رحمة خلقه، وكذلك محبته. وإن قال – وهو حقيقة قوله -: لم أثبت الإرادة وغيرها بالسمع، وإنما أثبت العلم والقدرة والإرادة بالعقل، وكذلك السمع والبصر والكلام – على أحد الطريقتين-؛ لأن العقل دل على القدرة، والإحكام دل على العلم، والتخصيص دل على الإرادة. قيل له: الجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الإنعام، والإحسان، وكشف الضر، دل أيضا على الرحمة، كدلالة التخصيص على الإرادة. والتقريب والإدناء وأنواع التخصيص التي لا تكون إلا من المحب، تدل على المحبة، ومطلق التخصيص يدل على الإرادة، وأما التخصيص بالإنعام فتخصيص خاص، والتخصيص بالتقريب والاصطفاء تقريب خاص. وما سلكه في مسلك الإرادة يسلك في مثل هذا. الثاني: يقال له: هب أن العقل لا يدل على هذا، فإنه لا ينفيه إلا بمثل ما ينفي به الإرادة. والسمع دليل مستقل بنفسه، بل الطمأنينة إليه في هذه المضايق أعظم، ودلالته أتم. فلأي شيء نفيت مدلوله، أو توقفت، وأعدت هذه الصفات كلها إلى الإرادة، مع أن النصوص لم تفرق؟ فلا يذكر حجة إلا عورض بمثلها في إثباتها الإرادة زيادة على الفعل" (1). ثم ذكر شيخ الإسلام نموذجا لما يمكن أن يكون من مناقشة بين الأشعري والجهمي المعتزلي الذي ينكر صفة الإرادة فقال."الثالث: يقال له (أي للأشعري) إذا قال الجهمي (والمعتزلي): الإرادة لا معنى لها إلا عدم الإكراه، أو نفس الفعل والأمر به، وزعم أن إثبات إرادة تقتضي محذورا – إن قال بقدمها، ومحذورا إن قال بحدوثها (2) .... كان جوابه (أي جواب الأشعري للمعتزلي الجهمي): أن ما ادعى إحالته من ثبوت الصفات ليس بمحال، والنص قد دل عليها، والعقل أيضا. فإذا أخذ الخصم (أي المعتزلي) ينازع في دلالة النص أو العقل جعله مسفسطا أو مقرمطا (أي حكم الأشعري على المعتزلي بذلك). (فيقول أهل السنة للأشعري:) وهذا بعينه موجود في الرحمة، والمحبة، ... " (3). وقد أكمل شيخ الإسلام المناقشة لبيان بطلان مذهب المعتزلة والجهمية وغيرهم، ثم ذكر كلاما مجملا مهما، فقال: "ونكتة هذا الكلام: أن غالب من نفي وأثبت شيئا مما دل عليه الكتاب والسنة، لابد أن يثبت الشيء لقيام المتقضي وانتفاء المانع، وينفي الشيء لوجود المانع، أو لعدم المقتضى، أو يتوقف إذا لم يكن له عنده مقتض ولا مانع: فيبين له أن المقتضى فيما نفاه قائم، كما أنه فيما أثبته قائم، إما من كل وجه، أو من وجه يجب به الإثبات، فإن كان المقتضى هناك حقا فكذلك هنا، وإلا قدره ذاك المقتضى من جنس درء هذا. وأما المانع فيبين أن المانع الذي تخيله فيما نفاه من جنس المانع الذي تخيله فيما أثبته؛ فإذا كان ذلك المانع المستحيل موجودا على التقديرين لم ينج من محذوره بإثبات أحدهما ونفي الآخر، فإنه إن كان حقا نفاهما، وإن كان باطلا لم ينف واحدا منهما، فعليه أن يسوي بين الأمرين في الإثبات والنفي، ولا سبيل إلى النفي فتعين الإثبات. فهذه نكتة الإلزام لمن أثبت شيئا وما من أحد إلا ولابد أن يثبت شيئا، أو يجب عليه إثباته" (4). ثم ضرب شيخ الإسلام مثالا في الرد على متأخري الأشعرية – سبق نقله عند الكلام على شبهة التركيب -.   (1) ((الإكليل في المتشابه والتأويل – مجموع الفتاوى)) (13/ 298 - 300). (2) أي المعتزلي، لأن القول بقدم الصفة – كالإرادة – يلزم منه تعدد القدماء، والقول بحدوثها يلزم منه حلول الحوادث، وكلاهما ممتنع عندهم، انظر ((الإكليل – مجموع الفتاوى)) (13/ 300). (3) ((الإكليل في المتشابه والتأويل – مجموع الفتاوى –)) (13/ 300 - 301). (4) ((الإكليل في المتشابه والتأويل – مجموع الفتاوى –)) (13/ 302). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 وبعد هذه المقدمة العامة يمكن ذكر نماذج من تطبيق شيخ الإسلام لهذا الأصل في ردوده ومناقشاته للأشاعرة، ومنها: 1 - إذا كان التجسيم لازما لبعض الصفات فهو لازم للصفات التي أثبتموها، وبالعكس، أي إذا لم يكن التجسيم لازما للصفات التي أثبتموها، فلا يلزم في الصفات التي نفيتموها، وهكذا. والنتيجة أنكم إما أن تثبتوا جميع الصفات لأنها لا تستلزم التجسيم، أو تنفوها كلها لاستلزامها التجسيم. وهذا وارد في جميع الصفات التي نفاها متأخرو الأشاعرة كصفة الرضا، والغضب، والرحمة، والوجه، واليد، والاستواء، والمجيء وغير ذلك. وقد بدأ شيخ الإسلام تقرير هذا بأن نفاة الصفات من المعتزلة والجهمية والقرامطة والباطنية ومن وافقهم من الفلاسفة، يقولون: "إذا قلتم: إن القرآن غير مخلوق، وإن لله تعالى علما، وقدرة، وإرادة، فقد قلتم بالتجسيم؛ فإنه قد قام دليل العقل على أن هذا يدل على التجسيم؛ لأن هذه معاني لا تقوم بنفسها، لا تقوم إلا بغيرها، سواء سميت صفاتا أو أعراضا، أو غير ذلك، قالوا: ونحن لا نعقل قيام المعنى إلا بجسم، فإثبات معنى يقوم بغير جسم غير معقول" (1).   (1) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 44 - 45). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 هذه خلاصة شبهة واستدلال نفاة جميع الصفات، دون تفريق بين صفات المعاني وغيرها. وحينئذ فإن الأشعري سيرد عليهم بإثباتهم لأسماء الله وعدم استلزامها للتجسيم، فكذلك هذه الصفات التي أثبتها. فهو يقول: "بل هذه المعاني يمكن قيامها بغير جسم، كما أن عندنا وعندكم إثبات عالم، قادر، ليس بجسم" (1).وهذا جواب صحيح، ولذلك فالمثبت لجميع الصفات الواردة سيقول للأشعري معلقا على جوابه السابق لنفاه جميع الصفات: "الرضا، والغضب، والوجه، واليد، والاستواء والمجيء (وغيرها كذلك)، فأثبتوا هذه الصفات أيضا، وقولوا: إنها تقوم بغير جسم" (2).وحينئذ سيعترض الأشاعرة قائلين: "لا يعقل رضا وغضب إلا ما يقوم بقلب هو جسم، ولا نعقل وجها ويدا إلا ما هو بعض من جسم" (3).وحينئذ فيجيبهم أهل السنة بقولهم: "ولا نعقل علما إلا ما هو قائم بجسم، ولا قدرة إلا ما هو قائم بجسم، ولا نعقل سمعا وبصرا وكلاما إلا ما هو قائم بجسم، فلم فرقتم بين المتماثلين؟ وقلتم: إن هذه يمكن قيامها بغير جسم، وهذه لا يمكن قيامها إلا بجسم، وهما في المعقول سواء" (4).وهذا مما لا محيد للأشاعرة عنه، لأنه لا فرق بين ما نفوه وما أثبتوه، وقد صاغها شيخ الإسلام في مكان آخر بعبارة أخرى فقال: "إن من نفى شيئا من الصفات لكون إثباته تجسيما وتشبيها، يقول له المثبت: قولي فيما أثبته من الصفات والأسماء كقولك فيما أثبته من ذلك، فإن تنازعا في الصفات الخبرية، أو العلو، أو الرؤية أو نحو ذلك وقال له النافي: هذا يستلزم التجسيم والتشبيه؛ لأنه لا يعقل ما هو كذلك إلا الجسم، قال المثبت: لا يعقل ما له حياة وعلم وقدرة وسمع وبصر وكلام وإرادة إلا ما هو جسم، فإذا جاز لك ان تثبت هذه الصفات وتقول: الموصوف بها ليس بجسم، جاز لي مثل ما جاز لك من إثبات تلك الصفات مع أن الموصوف بها ليس بجسم، فإذن جاز أن يثبت مسمى بهذه الأسماء ليس بجسم. فإن قال له: هذه معان وتلك أبعاض، قال له: الرضا والغضب والحب والبغض معان، واليد والوجه – وإن كان بعضا – فالسمع والبصر والكلام أعراض لا تقوم إلا بجسم، فإن جاز لك إثباتها مع أنها ليست أعراضا ومحلها ليس بجسم، جاز لي أن أثبت هذه مع أنها ليست أبعاضا" (5).ولكن الأشاعرة يعترضون ويقولون: "الغضب هو غليان دم القلب لطلب الانتقام، والوجه هو ذو الأنف والشفتين واللسان والخد، أو نحو ذلك" (6). فيجيبهم المثبتة بقولهم: "إن كنتم تريدون غضب العبد ووجه العبد، فوزانه أن يقال لكم: ولا يعقل بصر إلا ما كان بشحمه، ولا سمع إلا ما كان بصماخ، ولا كلاما إلا ما كان بشفتين ولسان، ولا إرادة إلا ما كان لاجتلاب منفعة أو استدفاع مضرة، وأنتم تثبتون لله السمع والبصر والكلام والإرادة على خلاف صفات العبد، فإن كان ما تثبتونه مماثلا لصفات العبد لزمكم التمثيل في الجميع، وإن كنتم تثبتونه على الوجه اللائق بجلال الله تعالى من غير مماثلة بصفات المخلوق، فأثبتوا الجميع على هذا الوجه المحدود، ولا فرق بين صفة وصفة، فإن ما نفيتموه من الصفات فيه نظير ما أثبتموه. فإما أن تعطلوا الجميع، وهو ممتنع، وإما أن تمثلوه بالمخلوقات وهو ممتنع، وإما أن تثبتوا الجميع على وجه يختص به لا يماثله فيه غيره، وحينئذ فلا فرق بين صفة وصفة، فالفرق بينهما بإثبات أحدهما ونفي الآخر فرارا من التشبيه والتجسيم قول باطل، يتضمن الفرق بين المتماثلين، والتناقض في المقالتين" (7).   (1) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 45). (2) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 45). (3) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 45). (4) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 45). (5) ((درء التعارض)) (1/ 127 - 128). (6) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 45). (7) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 45 - 46). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 ولا تحتاج هذه المناقشة إلى تعليق، لأن التناقض واضح في تفريقهم بين ما يلزم منه تجسيم وتشبيه وبين مالا يلزم منه ذلك، لأن هذه الصفات كلها يتصف بها المخلوق، فإن لزم في بعضها التشبيه لزم في الباقي، وإن لم يلزم في بعضها لم يلزم في الباقي. ولذلك فإن الأشاعرة يرجعون في التفريق إلى دليل العقل، فيقولون: ما دل عليه العقل وجب إثباته، وما لم يدل عليه العقل فيجب نفيه، أو على الأقل التوقف فيه. يقول الأشعري – معللا تفريقه بين إثبات الصفات السبع ونفي ما عداها -: "تلك الصفات أثبتها بالعقل، لأن الفعل الحادث دل على القدرة، والتخصيص دل على الإرادة، والإحكام دل على العلم، وهذه الصفات مستلزمة للحياة، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام، أو ضد ذلك" (1). وهناك يذكر شيخ الإسلام أن لسائر أهل الإثبات ثلاثة أجوبة: أحدها: أن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، وهذا مبني على مسألة واضحة جدا يقر بها كل عاقل، وهي أن عدم العلم ليس علما بالعدم (2)، فعدم علمي بوجود كتاب، أو مدينة من المدن المغمورة، أو وجود شخص ما - لا يعني أن هذه الأمور غير موجودة، بل قد تكون موجودة وقد يكون علمها غيري، فعدم علمي بها ليس علما بعدمها، وهذا لو أنكره إنسان لعد من أجهل الناس. ولذلك فإنه يقال لهؤلاء الأشاعرة: عدم الدليل المعين، الذي هو دليل العقل، والذي قلتم إنه لم يدل على ما عدا الصفات السبع، لا يستلزم عدم المدلول المعين الذي هو باقي الصفات، "فهب أن ما سلكته من الدليل العقلي لا يثبت ذلك، فإنه لا ينفيه، وليس لك أن تنفيه بغير دليل، لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت" (3).الثاني: أن يقال: إذا كان دليل العقل لم يثبت هذه الصفات، - وعدم إثباته لها ليس دليلا على نفيها – فإن هناك دليلا آخر دل عليها، وهو دليل السمع "ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم" (4).وهذا الوجه الثاني مترتب على الوجه الأول، ولذلك جمع بينهما في وجه واحد في التدمرية، وأفردهما عن بعض في (مجموع الفتاوى) (5).الثالث: "أن يقال: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبت به تلك من العقليات، فيقال: نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة كدلالة التخصيص على المشيئة، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم، وعقاب الكافرين يدل على بغضهم، كما قد ثبت بالشاهد والخبر من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه، والغايات المحمودة في معقولاته ومأموراته – وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة – تدل على حكمته البالغة كما يدل التخصيص على المشيئة وأولى، لقوة العلة الغائية، ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته من النعم والحكم وأعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة" (6).   (1) ((التدمرية)) (ص: 33) – المحققة. (2) انظر: ((الرد على المنطقيين)) (ص: 100). (3) ((التدمرية)) (ص: 33 - 34) – المحققة، وانظر في تقرير هذا الوجه: ((شرح الأصفهانية)) (ص: 9) – ت مخلوف – و ((درء التعارض 4/ 59 - 60)، ((التسعينية)) (ص: 242 - 243، 258). (4) ((التدمرية)) (ص: 34) – المحققة. (5) ((قارن التدمرية)) (ص: 33 - 34) – المحققة، ((بمجموع الفتاوى)) (6/ 46). (6) ((التدمرية)) (ص: 34 - 35) – المحققة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 ولا فرق بين استدلالهم بالعقل على الإرادة والعلم، وبين استدلال غيرهم به على الحب والبغض، والحكمة والرحمة وغيرها. وهذه الوجوه الثلاثة مبينة أن احتجاجهم بدليل العقل على الصفات السبع لا يدل على نفي ما عداها من الصفات الثابتة. ولكن لو عاد الأشعري وقال: صحيح أنني أثبت هذه الصفات بالعقل، ولكني أيضا نفيت ما عداها بالعقل لأنها تستلزم التجسيم. وحينئذ يعود الكلام إلى ما ذكر أولا في بداية هذه المناقشة ويقال له: "القول في هذه الصفات التي تنفيها كالقول في الصفات التي أثبتها، فإن كان هذا مستلزما للتجسيم فكذلك الآخر، وإن لم يكن مستلزما للتجسيم فكذلك الآخر" (1)، فدعواه التفريق بينهما باطل وهو متناقض كما تقدم. هذا هو أهم الأمثلة التي ذكرها شيخ الإسلام، وهو مثال شامل لجميع الصفات التي نفاها الأشاعرة (2). وهناك أمثلة أخرى ترجع إلى ما سبق ومنها: 2 - تطبيقه في صفة النزول: يقول شيخ الإسلام في شرح حديث النزول بعد تقريره لهذا الأصل وهو أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر: "ومثال ذلك أنه إذا قال: النزول والاستواء ونحو ذلك، من صفات الأجسام؛ فإنه لا يعقل النزول والاستواء إلا لجسم مركب، والله سبحانه منزه عن هذه اللوازم، فيلزم تنزيهه عن الملزوم، أو قال: هذه حادثة، والحوادث لا تقوم إلا بجسم مركب، وكذلك إذا قال: الرضا والغضب والفرح والمحبة ونحو ذلك من صفات الأجسام. فإنه يقال له: وكذلك الإرادة، والسمع، والبصر، والعلم، والقدرة – من صفات الأجسام، فإنا كما لا نعقل ما ينزل، ويستوي، ويغضب، ويرضى، إلا جسما، لم نعقل ما يسمع، ويبصر، ويريد، ويعلم، ويقدر، إلا جسما. فإذا قيل: سمعه ليس كسمعنا، وبصره ليس كبصرنا، وإرادته ليست كإرادتنا، وكذلك علمه وقدرته. قيل له: وكذلك رضاه ليس كرضانا، وغضبه ليس كغضبنا، وفرحه ليس كفرحنا، ونزوله واستواؤه ليس كنزولنا واستوائنا ... " (3) ثم أكمل الكلام بمثل ما سبق (4). 3 - في نفيهم العلو:   (1) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 46 - 47). (2) انظر أيضا في تقرير هذا الأصل: ((درء التعارض)) (1/ 99 - 100)، ((الرسالة الأكملية – مجموع الفتاوى)) (6/ 75)، ((شرح الأصفهانية)) (ص: 27 - 28، 384) – ت السعوي، و ((الفرقان بين الحق والباطل – مجموع الفتاوى)) (13/ 165)، و ((منهاج السنة)) (2/ 84) – ط دار العروبة المحققة، و ((مجموع الفتاوى)) (6/ 40 - 41). (3) ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى)) (5/ 352) (4) انظر: ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى)) (5/ 35). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 من شبه الأشاعرة في نفي العلو أنه يلزم منه أن يكون الله مركبا، منقسما، ذا قدر: وكان من مناقشة شيخ الإسلام أن ألزمهم ذلك بإثباتهم للصفات فقال: "وإذا جاز أن يقولوا: إن الموصوف الذي له صفات متعددة هو واحد غير متكثر ولا مركب ولا ينقسم، جاز أيضا أن يقال: إن الذي له قدر هو واحد غير متكثر ولا مركب ولا ينقسم، وإن كان في الموضعين يمكن أن يشار إلى شيء منه، ولا يكون المشار إليه هو عين الآخر" (1).ثم إن شيخ الإسلام ألزم الأشاعرة في إثبات علو الله وقيامه بنفسه بما أثبتوه أيضا من الصفات التي لا يجعلونها أعراضا وينكرون على من ألزمهم بذلك فكذلك يقال لهم: إذا ثبت أن الله تعالى بائن من خلقه قائم بنفسه لا يلزم أن يكون جسما مركبا، يقول شيخ الإسلام: "فيقال إذا كان القائم بغيره من الحياة والعلم والقدرة وإن شارك سائر الصفات في هذه الخصائص "ولم يكن عندك عرضا، فكذلك القائم بنفسه وإن شارك غيره من القائمين بأنفسهم فيما ذكرته، لم يجب أن يكون جسما مركبا منقسما، ولا فرق بين البابين بحال؛ فإن المعلوم من القائم بنفسه أنه جسم، ومن القائم بغيره أنه عرض، وأن القائم بنفسه لابد أن يتميز منه شيء عن شيء، والقائم بغيره لابد أن يحتاج على محله، فإذا أثبت قائما بغيره يخالف ما علم من حال القائم بنفسه في ذلك، فكذلك لزمه أن يثبت قائما بنفسه يخالف ما علم من حال القائمين بأنفسهم" (2).ومثل ذلك ما يقال من أن اختصاص الله تعالى بالوصف كاختصاصه بالقدر، فكيف يفرق بينهما من ينكر العلو والاستواء لاستلزامه القدر (3) .... 4 - في حديث الصورة: ((خلق الله آدم على صورته)) (4).ذكر شيخ الإسلام في رده على من تأوله فقال: "المحذور الذي فروا منه لتأويل الحديث على أن الصورة بمعنى الصفة، أو الصورة المعنوية، أو الروحانية، ونحو ذلك، يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما فروا منه، وإذا كان مثل هذا لازما على التقديرين لم يجز ترك مقتضى الحديث ومفهومه لأجله، ولم يكن أيضا محذورا بالاتفاق ... " (5). 5 - القول في نصوص الصفات كالقول في نصوص المعاد: أي أن النصوص التي ثبتت بها الصفات هي مثل النصوص التي ثبت بها المعاد، فتفريق الأشاعرة – وغيرهم – بينهما بإثبات هذا ونفي هذه تناقض، بل يلزمهم أن يقروا بكل ما ورد من الصفات كإقرارهم بنصوص المعاد، خاصة وأن نصوص الصفات أكثر (6). المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1186   (1) ((نقض التأسيس)) – مطبوع (2/ 66). (2) ((نقض التأسيس)) – مطبوع (2/ 67). (3) انظر: ((نقض التأسيس)) (2/ 199)، وانظر: ((درء التعارض)) (3/ 372 - 385). (4) رواه البخاري (6227) , ومسلم (2612) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (5) ((نقض التأسيس)) – (مخطوط 3/ 273). (6) انظر: ((الفتوى الحموية – مجموع الفتاوى)) (5/ 33). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 المطلب الثامن: الرد عليهم في نفيهم للصفات الاختيارية ومسألة الصفات الاختيارية، أو الفعلية، هي التي يسميها المعتزلة والأشاعرة مسألة حلول الحوادث (1)، وأهم ما يميزها بالنسبة للمذهب الأشعري إجماع متقدمي الأشاعرة ومتأخريهم عليها، لأنها كانت الأساس الذي قام عليه المذهب الكلابي، ثم الأشعري. وهذا بخلاف الصفات الخبرية، أو العلو، فإن الخلاف فيها قائم بين المتقدمين والمتأخرين. والصفات الاختيارية هي – كما يقول شيخ الإسلام – "الأمور التي يتصف بها الرب عز وجل، فتقوم بذاته بمشيئته وقدرته، مثل كلامه، وسمعه وبصره، وإرادته، ومحبته، ورضاه، ورحمته، وغضبه، وسخطه، ومثل خلقه، وإحسانه، وعدلة، ومثل استوائه، ومجيئه، وإتيانه، ونزوله، ونحو ذلك من الصفات التي نطق بها الكتاب العزيز والسنة" (2) ..... مقدمات في بيان الخلاف حول الصفات الإختيارية ومنشئه: ذكر شيخ الإسلام خلاصة أقوال الطوائف في هذه المسألة فقال: "وأما مسألة قيام الأفعال الاختيارية به: فإن ابن كلاب والأشعري وغيرهما ينفونها، وعلى ذلك بنوا قولهم في مسألة القرآن، وبسبب ذلك وغيره تكلم الناس فيهم في هذا بما هو معروف في كتب أهل العلم، ونسبوهم إلى البدعة وبقايا بعض الاعتزال فيهم. وشاع النزاع في ذلك بين عامة المنتسبين إلى السنة من أصحاب أحمد وغيرهم. وقد ذكر أبو بكر عبدالعزيز في كتاب (الشافي) عن أصحاب أحمد في معنى أن القرآن غير مخلوق قولين، مبنيين على هذا الأصل: أحدهما: أنه قديم، لا يتعلق بمشيئته وقدرته. والثاني: أنه لم يزل متكلما إذا شاء. وكذلك ذكر أبو عبدالله بن حامد قولين. وممن كان يوافق على نفي ما يقوم به من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته – كقول ابن كلاب – أبو الحسن التميمي وأتباعه – والقاضي أبو يعلى وأتباعه، كابن عقيل، وأبي الحسن بن الزاغوني وأمثالهم، وإن كان في كلام القاضي ما يوافق هذا تارة، وهذا تارة. وممن كان يخالفهم في ذلك أبو عبدالله بن حامد، وأبو بكر عبدالعزيز وأبو عبدالله بن بطه، وأبو عبدالله بن منده، وأبو نصر السجزي، ويحيى ابن عمار السجستاني، وأبو إسماعيل الأنصاري وأمثالهم. والنزاع في هذا الأصل بين أصحاب مالك، وبين أصحاب الشافعي، وبين أصحاب أبي حنيفة، وبين أهل الظاهر أيضا: فداود بن علي صاحب المذهب وأئمتهم على إثبات ذلك، وأبو محمد بن حزم على المبالغة في إنكار ذلك. وكذلك أهل الكلام: فالهشامية والكرامية على إثبات ذلك، والمعتزلة على نفي ذلك ... وكذلك المتفلسفة: فحكوا عن أساطينهم – الذين كانوا قبل أرسطو – أنهم كانوا يثبتون ذلك، وهو قول أبي البركات صاحب "المعتبر"، وغيره من متأخريهم، وأما أرسطوا وأتباعه – كالفارابي وابن سينا – فينفون ذلك، وقد ذكر أبو عبدالله الرازي عن بعضهم أن إثبات ذلك يلزم جميع الطوائف وإن أنكروه، وقرر ذلك. وكلام السلف والأئمة، ومن نقل مذهبهم، في هذا الأصل كثير، يوجد في كتب التفسير والأصول ... " (3). ومن خلال هذا العرض المفصل لأقوال الطوائف في هذه المسألة يتبين أن الخلاف فيها ليس مع الأشاعرة فقط، كما أن القائلين بها ليسوا أهل السنة فقط، وإنما وافقهم عليها – ولو بشكل مجمل – كثير من أتباع الطوائف المختلفة. ومنشأ الخلاف في هذه المسألة من جهتين: الجهة الأولى: المضافات إلى الله وأنواعها، وقد ذكر شيخ الإسلام أن المضافات إلى الله في الكتاب والسنة ثلاثة أقسام:   (1) انظر: ((درء التعارض)) (2/ 10). (2) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 217). (3) انظر: ((درء التعارض)) (2/ 18 - 20) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 أحدها: إضافة الصفة إلى الموصوف، مثل علم الله، وقدرة الله سواء كان إضافة إسمية مثل استخيرك بعلمك، أو بصيغة الفعل مثل عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ [البقرة: 187]، أو الخبر الذي هو جملة إسمية مثل: وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 282]. الثاني: إضافة المخلوقات، مثل: بيت الله، ناقة الله، رسول الله. الثالث: ما فيه معنى الصفة والفعل، مثل قوله: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] وقوله: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] وقوله: فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ [البقرة: 90] وغيرها. فالقسم الأول: لم يختلف أهل السنة والجماعة في أنه قديم وغير مخلوق، وقد خالفهم بعض أهل الكلام في ثبوت الصفات لا في أحكامها. والقسم الثاني: لا خلاف بين المسلمين في أنه مخلوق. أما القسم الثالث – وهو ما فيه معنى الصفة والفعل – فالناس فيه على قولين: القول الأول: قول المعتزلة، والكلابية، والأشعرية، وغيرهم، أن هذا القسم لابد أن يلحق بأحد القسمين قبله، فيكون: إما قديما قائما به أزليا، وإما مخلوقا منفصلا عنه. ثم هؤلاء فريقان: فريق: يرى امتناع قيام الصفات به، وهؤلاء هم المعتزلة، قالوا: القرآن مخلوق، وليس لله مشيئة ولا حب ولا بغض. وفريق:- وهم الصفاتية – الذين يرون قيام الصفات به، ويقولون: له مشيئة، وكلام قديم، واختلفوا في حبه وبغضه، وأسفه ورحمته وسخطه ونحو ذلك هل هو بمعنى المشيئة أو صفات أخرى غير المشيئة؟ على قولين. ثم هؤلاء اختلفوا في الاستواء والنزول والمجيء وغير ذلك من أنواع الأفعال التي هي أنواع جنس الحركة على أحد قولين: أ- إما أن يجعلوها من باب النسب والإضافات المحضة، بمعنى أن الله خلق العرش بصفة النحت فصار مستويا عليه، وأنه يكشف الحجب التي بينه وبين خلقه فيصير جائيا إليهم ... مثل قول الأشعري عن الاستواء إنه فعل فعله في العرش سماه استواء. ب- أو يقول هذه أفعال محضة في المخلوقات من غير إضافة ولا نسبة. القول الثاني: وهو قول الكرامية وكثير من الحنبلية وأكثر أهل الحديث ومن اتبعهم من الفقهاء والصوفية وجمهور المسلمين وأكثر كلام السلف يدل على هذا القول، وهو: أن هذه الصفات الفعلية ونحوها، المضافة إلى الله تعالى، قسم ثالث، ليست من المخلوقات المنفصلة عنه، وليست بمنزلة الذات والصفات القديمة الواجبة التي لا تتعلق بها مشيئته لا بأنواعها، ولا بأعيانها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 وقد يقول هؤلاء: إنه يتكلم إذا شاء، ويسكت إذا شاء، ولم يزل متكلما بمعنى إنه لم يزل يتكلم إذا شاء، ويسكت إذا شاء، وكلامه منه ليس مخلوقا، وكذلك يقولون: وإن كان له مشيئة قديمة فهو يريد إذا شاء، ويغضب ويمقت ويقر هؤلاء – أو أكثرهم – بما جاء من النصوص على ظاهره مثله قوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى [الأعراف: 54] إنه استوى عليه بعد أن لم يكن مستويا عليه، وإنه يدنو إلى عباده ويقرب منهم، وينزل إلى سماء الدنيا ويجيء يوم القيامة بعد أن لم يكن جائيا. ثم هؤلاء اختلفوا: هل يقال: تحل الحوادث بذاته؟ فمنهم من يطلقه، ومنهم من لا يطلق ذلك إما لعدم ورود الأثر به، أو لإيهام معنى فاسد ... (1).وببيان هذه المسألة العظيمة، مسألة المضاف إلى الله تعالى يتبين كيف وقع كثير من الطوائف في الانحراف في هذا الباب (2). الجهة الثانية: التي نشأ بسببها الخلاف في الصفات الفعلية أو الاختيارية هي: أن الخلق هل هو المخلوق أو غيره؟ وبيان ذلك أنه إذا كان من المتفق عليه بين جميع الطوائف أن الله تعالى هو الذي خلق السموات والأرض، كما اتفقوا على أن هذه المخلوقات وجدت مخلوقة منفصلة عنه. إلا أنهم اختلفوا في أنه تعالى لما خلقها هل قامت به صفة الخلق، أو أن الخلق هو نفس المخلوق من غير أن تقوم به صفة؟ وارتباط هذه المسألة بحلول الحوادث أو الصفات الاختيارية واضح جدا؛ لأن من المعلوم أن السموات والأرض أو غيرها من المخلوقات ليست مخلوقة منذ الأزل، بل هي حادثة، فحين خلقها الله لابد أن تكون قد تجددت له صفة لم تكن موجودة من قبل، فبخلقه السماء قامت به صفة الخلق لها لأن السماء لم تكن مخلوقة من قبل، ومعنى ذلك حسب تعبير أهل الكلام أن الله حلت به الحوادث التي لم تكن موجودة من قبل. فالذين يقولون بنفي الصفات الاختيارية ومنع حلول الحوادث أجابوا عن ذلك بأن قالوا إن الخلق هو المخلوق، والفعل هو المفعول، ومعنى ذلك أن صفة الخلق أو الفعل لا تقوم بالله تعالى ويفسرون أفعاله المتعدية مثل قوله: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [الأنعام: 1] وأمثاله أن ذلك وجد بقدرته من غير أن يكون منه فعل قام بذاته، بل حاله قبل أن يخلق وبعد ما خلق سواء، لم يتجدد عندهم إلا إضافة نسبة وهي أمر عدمي لا وجودي، كما يقولون في كلامه واستوائه. وهذا قول الأشاعرة (3). أما جمهور أهل السنة فيفرقون بينها ويقولون: الخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول، فيثبتون صفة الخلق والفعل قائمة بالله، ويقولون بوجود المخلوق والمفعول المنفصل عن الله تعالى، ويقولون بإثبات الصفات الاختيارية التي تقوم بالله وتتعلق بمشيئته.   (1) انظر فيما سبق ((مجموع الفتاوى)) (6/ 144 - 151). (2) انظر في مسألة المضافات إلى الله ((الجواب الصحيح)) (1/ 241 - 245)، و ((درء التعارض)) (7/ 263 - 266)، و ((شرح الأصفهانية)) (ص: 66 - 67)) – مخلوف، و ((جواب أهل العلم والإيمان – مجموع الفتاوى)) (17/ 150 - 152)، و ((مجموع الفتاوى)) (9/ 290 - 291). (3) انظر: ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى)) (5/ 378 - 379، 528 - 529). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 وهذا مع أن النصوص المتواترة من الكتاب والسنة قد دلت عليه فقد دل عليه صريح المعقول، "فإنه قد ثبت بالأدلة السمعية والعقلية أن كل ما سوى الله تعالى مخلوق، محدث، كان بعد أن لم يكن، وأن الله انفرد بالقدم والأزلية، وقد قال تعالى: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [السجدة: 4]، فهو حين خلق السموات ابتداء: إما أن يحصل منه فعل يكون هو خلقا للسموات والأرض، وأما أن لا يحصل منه فعل، بل وجدت المخلوقات بلا فعل، ومعلوم أنه إذا كان الخالق قبل خلقها، ومع خلقها سواء، وبعده سواء لم يجز تخصيص خلقها بوقت دون وقت بلا سبب يوجب التخصيص. وأيضا: فحدوث المخلوق بلا سبب حادث ممتنع في بداية العقول، وإذا قيل الإرادة والقدرة خصصت: نسبة الإرادة القديمة إلى جميع الأوقات سواء، وأيضا فلا تعقل إرادة تخصص أحد المتماثلين إلا بسبب يوجب التخصيص، وأيضا فلابد عند وجود المراد من سبب يقتضي حدوثه، وإلا فلو كان مجرد ما تقدم من الإرادة والقدرة كافيا للزم وجوده قبل ذلك، لأنه مع الإرادة التامة والقدرة التامة يجب وجود المقدور" (1). وقد سبق تقرير هذا عند الكلام عن مسألة دليل حدوث الأجسام والتسلسل ومسألة حوادث لا أول لها. والذين قالوا بأن الخلق هو المخلوق من الأشاعرة وغيرهم – عمدتهم في ذلك: أنه لو كان الخلق غير المخلوق: لكان إما قديما وإما حادثا: فإن كان قديما لزم قدوم المخلوق، وهو محال، وإن كان حادثا لزم أن تقوم به الحوادث، ثم ذلك الخلق يفتقر إلى خلق آخر ويلزم التسلسل وهو باطل. فأجابهم الجمهور – كل طائفة بحسب أصلها-: فطائفة قالت: الخلق قديم، وإن كان المخلوق حادثا، وهذه مسألة التكوين التي قال بها الأحناف والماتريدية، وهؤلاء يقولون القول في الخلق كالقول في الإرادة، فإذا كنتم تسلمون أن الإرادة قديما أزلية، والمراد حادث، فكذلك نحن نقول في الخلق. وطائفة قالت: بل الخلق حادث في ذاته، ولا يفتقر إلى خلق آخر، بل يحدث بقدرته، وهؤلاء يقولون: إذا كان المخلوق يحصل بقدرته بعد أن لم يكن، والمخلوق منفصل فالمتصل به أولى. وهذا قول الكرامية والهشامية. وطائفة قالت: هب أنه يفتقر إلى فعل قبله فلم قلتم إن ذلك ممتنع، وقولكم: هذا تسلسل، يقال: ليس هذا تسلسلا في الفاعلين والعلل الفاعلة، وإنما هو تسلسل في الآثار، وهو حصول شيء بعد شيء، والسلف على إثباته، فإنهم يقولون إن الله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء، وقد قال تعالى: قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف: 109] فكلمات الله لا نهاية لها، وهذا تسلسل جائز كالتسلسل في المستقبل لأن نعيم الجنة لا نفاد له (2). وقد سبق توضيح هذا في مسألة التسلسل، وأهل السنة يقولون: الخلق والتكوين حادث إذا أراد الله خلق شيء وتكوينه، والله تعالى ذكر وجود أفعاله شيئا بعد شيء، فهو خلق السموات والأرض، ثم استوى على العرش، وكذا رضاه ومحبته وكلامه وغيرها من الصفات المتعلقة بمشيئته وإرادته (3).   (1) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 230 - 231). (2) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 231 - 232)، و ((منهاج السنة)) (2/ 306) – ط العروبة – المحققة. (3) انظر: ((منهاج السنة)) – ط العروبة – المحققة (2/ 306 - 307)، وانظر في موضوع هل الخلق هو المخلوق أو غيره مع بيان الراجح: ((درء التعارض)) (1/ 238 - 239، 2/ 2464، 4/ 60، 9/ 579، 10/ 22)، و ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 380)، و ((مجموع الفتاوى)) (6/ 148 - 149، 229 - 230، 16/ 376 - 377)، و ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى)) (5/ 528 - 536). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 فهذه الطوائف الثلاث ردت على ما يقوله الأشاعرة من أن الخلق هو المخلوق، وقول الطائفة الثالثة هو قول أهل السنة الموافق للسمع والعقل. الفرع الثاني: الأدلة على إثبات الصفات الاختيارية: وهي أدلة كثيرة جدا من الكتاب والسنة وأقوال السلف، تدل على اتصاف الله تعالى بهذه الصفات. وقد أفرد لذلك شيخ الإسلام قرابة مجلد كامل من مجلدات (درء تعارض العقل والنقل) (1)، واشتمل ذلك على: أ- أدلة كثيرة من كتاب الله تعالى (2).ب- وأدلة من الأحاديث الصحيحة (3).ج- وأدلة من أقوال أئمة السلف وغيرها (4). وهذه الأدلة صريحة في إثبات الصفات الاختيارية القائمة به "كالاستواء إلى السماء، والاستواء على العرش، والقبض، والطي، والإتيان، والمجيء، والنزول، ونحو ذلك، بل والخلق، والإحياء، والإماتة، فإن الله تعالى وصف نفسه بالأفعال اللازمة كالاستواء، وبالأفعال المتعدية كالخلق، والفعل المتعدي مستلزم للفعل اللازم، فإن الفعل لابد له من فاعل، سواء كان متعديا إلى مفعول، أو لم يكن، والفاعل لابد له من فعل، سواء كان فعله مقتصرا عليه أو متعديا إلى غيره، والفعل المتعدي إلى غيره لا يتعدى حتى يقوم بفاعله، إذ كان لابد له من الفاعل، وهذا معلوم سمعا وعقلا: أما السمع فإن أهل العربية التي نزل بها القرآن، بل وغيرها من اللغات متفقون على أن الإنسان إذا قال: "قام فلان وقعد" وقال: "أكل فلان الطعام وشرب الشراب"، فإنه لابد أن يكون في الفعل إلى المفعول به ما في الفعل اللازم وزيادة، إذ كلتا الجملتين فعلية، وكلاهما فيه فعل وفاعل، والثانية امتازت بزيادة المفعول ... فقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الحديد: 4] تضمن فعلين: أولهما متعد إلى المفعول به، والثاني مقتصر لا يتعدى، فإذا كان الثاني – وهو قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى – فعلا متعلقا بالفاعل، فقوله خَلَقَ كذلك بلا نزاع بين أهل العربية .... وأما من جهة العقل: فمن جوز أن يقوم بذات الله تعالى فعل لازم له كالمجيء والاستواء، ونحو ذلك، لم يمكنه أن يمنع قيام فعل يتعلق بالمخلوق كالخلق والبعث والإماتة والإحياء، كما أن من جوز أن تقوم به صفة لا تتعلق بالغير كالحياة، لم يمكنه أن يمنع قيام الصفة المتعلقة بالغير كالعلم والقدرة والسمع والبصر، ولهذا لم يقل أحد من العقلاء بإثبات أحد الضربين دون الآخر ... وإذا كان كذلك كان حدوث ما يحدثه الله تعالى من المخلوقات تابعا لما يفعل من أفعاله الاختيارية القائمة بنفسه، وهذه سبب الحدوث، والله تعالى حي قيوم لم يزل موصوفا بأنه يتكلم بما شاء، فعال لما يشاء، وهذا قد قاله العلماء الأكابر من أهل السنة والحديث، ونقوله عن السلف والأئمة وهو قول طوائف كثيرة من أهل الكلام والفلسفة المتقدمين والمتأخرين، بل هو قول جمهور المتقدمين من الفلاسفة" (5). المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1209   (1) من بداية الجزء الثاني إلى (ص: 342). (2) ((درء التعارض)) (2/ 115) وما بعدها، وانظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 222 - 224). (3) ((درء التعارض)) (2/ 124) وما بعده. (4) ((درء التعارض)) (2/ 20 - 115). (5) ((درء التعارض)) (2/ 3 - 5). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 المطلب التاسع: أدلة نفاة الصفات الاختيارية ومناقشتها لما كان متأخرو الأشعرية حاولوا استقصاء أدلة من سبقهم من نفاة الصفات الاختيارية القائمة بالله تعالى، جعل شيخ الإسلام ردوده منصبة على ما كتبه هؤلاء المتأخرون، مستخدما منهجه الفريد في المناقشة وهو ردود بعضهم على بعض، ثم إضافة ما يراه من أدلة أخرى تثبت بطلان مذهب النفاة. ولما كان الآمدي والرازي هما أبرز المتأخرين الذين كتبوا كتبا مطولة في عقائد الأشاعرة، وصار من بعدهما يعتمد على أقوالهم – ذكر شيخ الإسلام – في مناقشة هذه المسألة – ما ذكره إبطالا لحجج من سبقهما، أو حججا جديدة أتوا بها. ويلاحظ هنا أن هذه المسألة قد اتفق على نفيها متقدمو الأشعرية ومتأخروهم، ولكن لما أن المتأخرين أبطلوا أدلة المتقدمين وزيفوها أورد ذلك شيخ الإسلام، فيكون من باب رد المتأخرين على المتقدمين. كما أن شيخ الإسلام في مسألة العلو والاستواء والصفات الخبرية لما كان المتقدمون يثبتونها وينكرها المتأخرون، رد على هؤلاء المتأخرون بأقوال شيوخهم المتقدمين. عكس المسألة التي معنا. ويمكن ذكر نماذج من ردود المتأخرين على نفاة حلول الحوادث. يقول شيخ الإسلام: "وفحول النظار كأبي عبدالله الرازي، وأبي الحسن الآمدي وغيرهما ذكروا حجج النفاة لحلول الحوادث وبينوا فسادها. فذكروا لهم أربع حجج. إحداهما: الحجة المشهورة وهي: أنها لو قامت به لم يخل منها ومن أضدادها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث. ومنعوا المقدمة الأولى. والمقدمة الثانية. ذكر الرازي وغيره فسادها" (1)، كما أن الآمدي قال: "وقد احتج أهل الحق على امتناع قيام الحوادث به بحجج ضعيفة: الأولى ... " (2)، وذكر الحجة السابقة ثم زيفها وذكر الاعتراضات عليها، وانظر تعليقات شيخ الإسلام على كلام الآمدي (3)، حيث قال في آخرها: "وهذه الحجة التي صدر بها الآمدي وزيفها هي الحجة التي اعتمد عليها الكلابية والأشعرية ومن وافقهم من السالمية ... " (4). الثانية:- من حجج النفاة – "أنه لو كان قابلا لها في الأزل لكان القبول من لوازم ذاته، فكان القبول يستدعي إمكان القبول، ووجود الحوادث في الأزل محال. وهذه أبطلوها هم بالمعارضة بالقدرة: بأنه قادر على إحداث الحوادث، والقدرة تستدعي إمكان المقدور، ووجود المقدور وهو الحوادث في الأزل محال" (5).وقد أورد هذه الحجة الآمدي، وزيفها (6)، وعلق على ذلك شيخ الإسلام (7)، كما أوردها الرازي، ورد عليه الأرموي (8)، كما نقضها شيخ الإسلام من وجوه (9).   (1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 247). (2) انظر: ((درء التعارض)) (4/ 27). (3) انظر: ((درء التعارض)) (4/ 27 - 40). (4) انظر: ((درء التعارض)) (4/ 40)، وانظر أيضا: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 238 - 239). (5) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 247). (6) انظر: ((درء التعارض)) (4/ 62 - 63). (7) انظر: ((درء التعارض)) (63/ 71). (8) انظر: ((درء التعارض)) (2/ 212 - 216) مع تعليق شيخ الإسلام. (9) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 247 - 249). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 الحجة الثالثة: للنفاة: "أنهم قالوا: لو قامت به الحوادث للزم تغيره والتغير على الله محال. وأبطلوا هم هذه الحجة – الرازي وغيره – بأن قالوا: ما تريدون بقولكم: لو قامت به تغير، أتريدون بالتغير نفس قيامها به أم شيئا آخر؟ فإن أردتم الأول كان المقدم هو الثاني، والملزوم هو اللازم، وهذا لا فائدة منه، فإنه يكون تقدير الكلام: لو قامت به الحوادث لقامت به الحوادث، وهذا كلام لا يفيد، وإن أردتم بالتغير معنى غير ذلك فهو ممنوع، فلا نسلم أنها لو قامت به لزم "تغير" غير حلول الحوادث. فهذا جوابهم" (1).وقد أوضح شيخ الإسلام وجه الرد على النفاة ببيان ما في لفظ "التغير" من الإجمال، وأن التغير المعروف في اللغة العربية لا يراد به مجرد كون المحل قامت به الحوادث، ولذلك فالناس لا يقولون للشمس والقمر والكواكب إذا تحركت: إنها تغيرت، ولا يقولون للإنسان إذا تكلم ومشى تغير .. وإنما يقولون لمن استحال من صفة إلى صفة، كالشمس إذا زال نورها ظاهرا لا يقال تغيرت، فإذا أصفرت قيل تغيرت .. (2).الحجة الرابعة: للنفاة – وهي مرتبطة بالحجة السابقة، حيث قالوا: حلول الحوادث أفول والخليل قد قال قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام: 76]، والآفل هو المتحرك، أو المتغير (3).وقد ذكر هذه الحجة – مع التي قبلها – الآمدي وزيفها، انظر كلامه مع تعليق شيخ الإسلام (4)، كما أن شيخ الإسلام بين الحق في الآية التي استدلوا بها (5) – وقد سبق الكلام حولها عند بحث موضوع دليل حدوث الأجسام -. فهذه أهم حجج النفاة لحلول الحوادث بين الأشاعرة أنفسهم فسادها وهي فاسدة في نفس الأمر، لأنها مصادمة لأدلة الكتاب والسنة والمعقول. ولكن إذا كان كحل من الرازي والآمدي قد أبطلا حجج النفاة فهل رجعا إلى الحق وقالا بقول أهل السنة الذي قال فيه الرازي: إنه لازم لجميع الطوائف؟.والجواب أنهما لما أبطلا الحجج كلها اعتمدا على حجة واحدة وهي "حجة الكمال والنقصان"، وخلاصتها: أن هذه الصفات "إن كانت صفات نقص وجب تنزيه الرب عنها، وإن كانت صفات كمال فقد كان فاقدا لها قبل حدوثها وعدم الكمال نقص، فيلزم أن يكون ناقصا، وتنزيهه عن النقص واجب بالإجماع" (6). وقد رد شيخ الإسلام على هذه الحجة – في أماكن متعددة من كتبه – من وجوه عديدة: منها:1 - "أن يقال القول في أفعاله القائمة به الحادثة بمشيئته وقدرته كالقول في أفعاله التي هي المفعولات المنفصلة التي يحدثها بمشيئته وقدرته، فإن القائلين بقدم العالم أوردوا عليهم هذا السؤال فقالوا: الفعل إن كان صفة كمال لزم عدم الكمال له في الأزل، وإن كان صفة نقص لزم اتصافه بالنقائص. فأجابوهم بأنه ليس صفة نقص ولا كمال" (7). وهذا نقض لحجتهم وإلزام لا محيد لهم عنه، لأن كلاً من الأمرين حادث بقدرته ومشيئته، فحكمها بالنسبة للكمال والنقصان واحد.2 - أن يقال: "إذا عرض على العقل الصريح ذات يمكنها أن تتكلم بقدرتها وتفعل ما تشاء بنفسها، وذات لا يمكنها أن تتكلم بمشيئتها ولا تتصرف بنفسها البتة، بل هي بمنزلة الزَّمِنِ الذي لا يمكنه فعل يقوم به باختياره، قضى العقل الصريح أن هذه الذات أكمل، وحينئذ فأنتم الذين وصفتم الرب بصفة النقص، والكمال في اتصافه بهذه الصفات، لا في نفي اتصافه بها" (8).3 - أن يقال: "الأفعال التي حدثت بعد أن لم تكن، لم يكن وجودها قبل وجودها كمالا، ولا عدمها نقصا، فإن النقص إنما يكون إذا عدم ما يصلح وجوده، وما به يحصل الكمال، وينبغي وجوده، ونحو ذلك، والرب تعالى حكيم في أفعاله، وهو المقدم والمؤخر، فما قدمه كان الكمال في تقديمه، وما أخره كان الكمال في تأخيره، كما أن ما خصصه بما خصصه به من الصفات فقد فعله على وجه الحكمة وإن لم نعلم نحن تفاصيل ذلك، واعتبر ذلك بما يحدثه من المحدثات" (9). ومثال ذلك تكليم الله لموسى عليه السلام ونداؤه له: "فنداؤه حين ناداه صفة كمال ولو ناداه قبل أن يجيء لكان ذلك نقصا، فكل منها كمال حين وجوده ليس بكمال قبل وجوده ... " (10). المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1209   (1) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 249). (2) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 249 - 250). (3) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 252). (4) انظر: ((درء التعارض)) (4/ 71 - 82). (5) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 253 - 257)، و ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى)) (5/ 542 - 551)، و ((درء التعارض)) (6/ 216 - 222). (6) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 241)، وانظر: ((درء التعارض)) (2/ 210 - 211، 4/ 3، 82)، و ((الرسالة الأكملية – مجموع الفتاوى)) (6/ 105). (7) ((درء التعارض)) (4/ 3)، وانظر أيضا: ((الأكملية – مجموع الفتاوى)) (6/ 105)، و ((مجموع الفتاوى)) (6/ 242). (8) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 242)، وانظر: ((درء التعارض)) (4/ 7 - 10). (9) ((درء التعارض)) (4/ 10). (10) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 241). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 المطلب العاشر: الصفات الاختيارية تفصيلا لم يكتف شيخ الإسلام بالمناقشات المجملة حول الصفات الاختيارية القائمة بالله تعالى، وإنما ناقشها صفة، صفة، ويمكن الإشارة إلى بعض هذه الصفات ... وأهم هذه الصفات: أولا: صفة الاستواء: هذه الصفة يرد بحثها في موضعين: أ- في هذا الموضع، وهو الصفات الاختيارية القائمة بالله تعالى، لأنه تعالى استوى على العرش بعد خلقه، فهو متعلق بمشيئته وإرادته. ب- وفي موضوع "العلو"، لأن من أهم أدلة العلو الاستواء على العرش. ويلاحظ أن العلو من الصفات العقلية المعلومة بالعقل السمع. أما الاستواء فهو من الصفات المعلومة بالسمع فقط (1). وبهذا يكون الاستواء جزءا من أدلة العلو السمعية. ولذلك فإن الأشاعرة تأولوا الاستواء بأحد تأويلين: أ- بالاستيلاء، وهذا تأويل نفاة العلو من متأخري الأشاعرة. ب- أو بأنه فعل فعله الله في العرش سماه استواء، وهذا قول الأشعري وكثير من أصحابه الذين يثبتون العلو كأن ينفون قيام الصفات الفعلية به. وقولهم هذا ليس خاصا بالاستواء، بل يشمل جميع الصفات الدالة على هذا المعنى كالنزول والمجيء والإتيان. ومعنى الاستواء عند هؤلاء أن الله "يحدث في العرش قربا فيصير مستويا عليه من غير أن يقوم به نفسه فعل اختياري، سواء قالوا: الفعل هو المفعول أو لم يقولوا، وكذلك النزول ... " (2). وهذا بسبب أصلهم في منع حلول الحوادث، ومعنى هذا القول أن الاستواء أو النزول أو المجيء ليس إلا نسبة وإضافة بين المخلوق والخالق من غير صفة فعل تقوم بالخالق نفسه (3). ومذهب السلف وأئمة السنة أن هذه الصفات الفعلية تقوم بذات الله تعالى كما دلت عليها النصوص. فمتقدمو الأشاعرة أثبتوا الاستواء دالا على العلو فقط ولذا جعلوه من صفات الذات. ولم يثبتوه صفة فعل تقوم بالله. أما متأخروهم فقد نفوا دلالته على الأمرين (4). ومنهج شيخ الإسلام في تقرير هذه الصفة – الاستواء – والرد على متأوليها، هو كما يلي – باختصار -:   (1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (5/ 121 - 122)، و ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى)) (5/ 523)، و ((نقض التأسيس)) – مخطوط (1/ 39، 3/ 271). (2) ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى)) (5/ 437). (3) انظر في مذهب الأشاعرة ومخالفتهم لمذهب المسلف في ذلك: ((التبيان في نزول القرآن –مجموع الفتاوى)) (12/ 250 - 251)، و ((درء التعارض)) (6/ 321 - 322)، و ((مجموع الفتاوى)) (16/ 393 - 395)، و ((منهاج السنة)) (2/ 513) - ط دار العروبة المحققة. و ((الاستقامة)) (1/ 162)، و ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى)) (5/ 386)، و ((نقض التأسيس)) – مطبوع ((1/ 565، 2/ 206، 216). (4) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (16/ 395 - 397). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 1 - بين أدلة إثبات صفة الاستواء لله وأقوال السلف في معناه، وأنه مخالف لأقوال هؤلاء المتأولين. وقد أكثر شيخ الإسلام من النقول عن الأئمة – على اختلاف طبقاتهم وبلدانهم – التي يثبتون فيها صفة الاستواء لله تعالى ويردون على من تأوله بالاستيلاء أو غيره. وغالب هذه النقول ذكرها شيخ الإسلام في إثبات صفة العلو لله تعالى ولعل الإشارة إليها هنا – مع ذكر مصادرها – يغني عن إعادتها هناك (1).2 - الرد على من أول استوى بمعنى استولى من عدة وجوه (2).3 - الرد على متأخري الأشعرية بأقوال متقدميهم الذين أثبتوا الاستواء وردوا على من تأوله بالاستيلاء (3). 4 - بقي مما يتعلق بالاستواء مسألتان: أحداهما: هل يلزم من إثبات الاستواء على العرش أن يكون الله جسما؟ وقد أجاب شيخ الإسلام عن ذلك بأن مثبتي الاستواء اختلفوا: - فمنهم من يقول: هو فوق العرش وليس بجسم، وهذا قول ابن كلاب والأشعرية القدماء. - ومنهم من يقول: هو فوق العرش وهو جسم.- ومنهم من يقول: هو فوق العرش ولا أقول هو جسم ولا ليس بجسم، ثم من هؤلاء من يسكت عن هذا النفي والإثبات، ومنهم من يستفصل عن المراد بالجسم، فإن فسر بما ينزه الرب عنه نفاه، وإن فسر بما يتصف الرب به أثبته (4). وشيخ الإسلام يرجح هذا القول الأخير الذي هو الاستفصال كما هو منهجه عموما في مثل هذه المسائل. والمسألة الثانية: مسألة "الحد"، وهل يقال إن استواء الله تعالى على العرش بحد، أو بغير حد، وهذه مرتبطة بالمسألة السابقة، وقد أورد شيخ الإسلام الخلاف في ذلك بين مثبتي الاستواء؛ وأن منهم من قال بالحد، ومنهم من منع إطلاقه. وإن كان الذي ورد في عامة كتب السلف إطلاق الحد لبيان بينونة الله عن خلقه والرد على الجهمية والحلولية وغيرهم.   (1) أهم هذه النقول ما ذكره في ((نقض التأسيس)) – مخطوط (1/ 15، 102 - 121)، و ((درء التعارض)) (6/ 191 - 297)، وانظر أيضا: ((الدرء)) (2/ 20 - 21، 6/ 115 - 119)، ((مجموع الفتاوى)) (5/ 310 - 314، 6/ 398 - 399)، و ((التسعينية)) (ص: 122، 127 - 131)، ((شرح حديث النزول)) (5/ 518 - 522). (2) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (5/ 144 - 149) حيث أبطل تأويله من اثني عشر وجها، وانظر أيضا: ((التدمرية)) (ص: 81 - 84) – المحققة، و ((درء التعارض)) (1/ 278 - 279)، و ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 238 - 240)، و ((الفتوى الحموية – مجموع الفتاوى)) (5/ 29 - 41)، و ((مجموع الفتاوى)) (16/ 395 - 403)، و ((تفسير سورة الإخلاص – مجموع الفتاوى)) (17/ 347 - 349). (3) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (5/ 317 - 320، 16 - 91)، و ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (1/ 82 - 84، 2/ 102 - 103، 182 - 184)، و ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (2/ 9 - 10)، و ((درء التعارض)) (6/ 193 - 207). (4) انظر: ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى –)) (5/ 418 - 419)، و ((نقض التأسيس – مطبوع –)) (1/ 396 - 397، 2/ 63، 106 - 111)، و ((درء التعارض)) (4/ 209 - 211، 6/ 289 - 290). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 وقد ذكر شيخ الإسلام في معرض رده على الرازي لما اعترض بأنه يلزم من إثبات العلو والاستواء لله إثبات الحد والنهاية وأن هذا تجسيم – ذكر أن الكلام في هذه الحجة في مقامين: المقام الأول: "قول من يقول: هو فوق العرش وليس له حد ولا مقدار ولا هو جسم، كما يقول ذلك كثير من الصفاتية، من الكلابية، وأئمة الأشعرية وقدمائهم، ومن وافقهم من الفقهاء والطوائف الأربعة غيرهم، وأهل الحديث، والصوفية، وغير هؤلاء. وهم أمم لا يحصيهم إلا الله، ومن هؤلاء أبو حاتم ابن حبان، وأبو سفيان الخطابي، البستاني ... " (1) والقاضي أبو يعلى كان ينكر الحد ثم رجع إلى الإقرار به (2). وممن نفي الحد أبو نصر السجزي (3).فهؤلاء الذين ينفون الحد والمقدار والجسم ونحو ذلك من الصفاتية الذين يثبتون الاستواء على العرش يقولون إذا كان هو نفسه فوق العرش لا يلزم أن يوصف بالحد أو تناهي المقدار (4).والمقام الثاني: "كلام من لا ينفي هذه الأمور التي يحتج بها عليه نفاة العلو على العرش ... بل قد يثبتها أو يثبت بعضها لفظا أو معنى، أو لا يتعرض لها بنفي ولا إثبات، وهذا المقام هو الذي يتكلم فيه سلف الأمة وأئمتها، وجماهير أهل الحديث، وطوائف من أهل الكلام والصوفية وغيرهم. وكلام هؤلاء أسد في العقل والدين، حيث ائتموا بما في الكتاب والسنة، وأقروا بفطرة الله التي فطر عليها عباده، فلم يغيروا، وجعلوا كتب الله التي بعث بها رسله هي الأصل في الكلام، وأما الكلام في المجمل والمتشابه الذي يتكلم فيه النفاة، ففصلوا مجمله، ولم يوافقوهم على لفظ مجمل قد يتضمن نفي معنى حق، ولا وافقوهم أيضا على نفي المعاني التي دل عليها القرآن والعقل، وإن شنع النفاة على من يثبت ذلك، أو زعموا أن ذلك يقدح في أدلتهم وأصولهم" (5).وقد أثبت الحد الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة كما ذكر ذلك الدارمي في نقضه على المريسي، والقاضي أبو يعلى في إبطال التأويلات، والخلال في كتاب السنة، والهروي في ذم الكلام. وغيرهم (6).وهم لما أثبتوا "الحد" قالوا: له حد لا يعلمه إلا هو، كما بينوا مع ذلك أن العباد لا يحدونه ولا يدركونه، وهذا الذي قصده الإمام أحمد لما قال: "نحن نؤمن بالله عز وجل على عرشه كيف شاء، وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد ... " (7). وإلا فهو قد قال في رواية أخرى عنه: لله تعالى حد لا يعلمه إلا هو (8). فما نفاه الإمام أحمد قصد به الصفة التي يعلمها الخلق، وما أثبته قصد به ما يتميز به عن عباده، ويبين به عنهم، وهذا هو الذي قصده بقوله: له حد لا يعلمه إلا الله وهو الذي قصده من أطلق هذا من السلف. وقد أخطأ من ظن من الحنابلة أو غيرهم أن للإمام أحمد في ذلك روايتين، بل كلامه متسق غير متناقض وكل رواية موافقة للأخرى (9).   (1) ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (2/ 169). (2) انظر: ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (2/ 171 وما بعدها) وقارن بـ ((إبطال التأويلات)) للقاضي أبي يعلى – مخطوط – (ص: 315 وما بعدها). (3) انظر: ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (1/ 446)، وكلام السجزي في كتابه ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) – (ص: 157 - 1589 – ط على الآلة الكاتبة. (4) انظر: ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (2/ 174 - 175). (5) ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (2/ 180). (6) انظر: ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (1/ 426 - 440)، حيث نقل نصوص كلامهم، وقارن بـ ((النقض على المريسي)) للدارمي (ص: 381 وما بعدها) – ضمن ((عقائد السلف))، و ((إبطال التأويلات)) (316 - 317). (7) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 163). (8) انظر: ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (1/ 430) وما بعدها. (9) انظر: ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (1/ 433 - 438، 2/ 163 - 174). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 وقد اعترض "الخطابي" على إثبات "الحد" بأن صفة "الحد" لم ترد في الكتاب والسنة، ولكن شيخ الإسلام رد عليه من وجوه وبين أن السلف لم يقصدوا بذلك الصفة مطلقا، ولم يقولوا: له صفة هي "الحد", والحد إنما هو ما يتميز به الشيء عن غيره من صفته وقدره، والسلف قصدوه بذلك الرد على الجهمية الذين قالوا: ليس له حد، وقصدوا بذلك أنه لا يباين المخلوقات ولا يكون فوق العالم لأن ذلك مستلزما للحد، فلم استفصل الأمر على أئمة السلف بذكر هذا اللازم وقيل لهم: بحد قالوا: بحد. ومقصودهم بذلك واضح جدا (1). هذه ملامح من منهج شيخ الإسلام في تقرير هذه الصفة والرد على من تأولها. ثانيا: صفة "النزول":القول في هذه الصفة كالقول في صفة الاستواء وغيرها من الصفات الفعلية، ومذهب الأشاعرة فيها واحد، ومعنى النزول عندهم: أن الله يخلق أعراضا في بعض المخلوقات يسميها نزولا، وهذا بناء على أصلهم في نفي قيام الحوادث به (2)، وبعضهم يقول في النزول إنه من صفات الذات وإنه أزلي كما يقولون أيضا مثل ذلك في الاستواء والمجيء والغضب والفرح والضحك ونحوها (3). فالقول في صفة النزول كالقول في صفة الاستواء. والسلف رحمهم الله تعالى أثبتوا هذه الصفة كما وردت، وردوا على من تأولها بنزول أمره أو رحمته أو ملك أو غير ذلك. وأقوالهم في ذلك مشهورة متواترة (4). ومن الأمور المتعلقة بصفة النزول:1 - بطلان قول من تأوله بنزول رحمته وأمره أو ملك أو غير ذلك، وقد ذكر شيخ الإسلام في إبطال هذه التأويلات وجوها عديدة (5). 2 - ومما يتعلق بالنزول والمجيء والإتيان وغيرها مسألة "الحركة" وهل يوصف الله بها أم لا؟، وقد ساق شيخ الإسلام الخلاف في ذلك فقال: "واختلف أصحاب أحمد وغيرهم من المنتسبين إلى السنة والحديث في النزول والإتيان والمجيء وغير ذلك، هل يقال: إنه بحركة وانتقال، أم يقال: بغير حركة وانتقال، أم يمسك عن الإثبات والنفي؟ على ثلاثة أقوال ذكرها القاضي أبو يعلى في كتاب: (اختلاف الروايتين والوجهين): فالأول: قول أبي عبدالله بن حامد وغيره. والثاني: قول أبي الحسن التميمي وأهل بيته. والثالث: قول أبي عبدالله بن بطة وغيره. ثم هؤلاء فيهم من يقف عن إثبات اللفظ مع الموافقة على المعنى وهو قول كثير منهم كما ذكر ذلك أبو عمر بن (عبدالبر) وغيره. ومنهم من يمسك عن إثبات المعنى مع اللفظ، وهم في المعنى منهم من يتصوره مجملا، ومنهم من يتصوره مفصلا إما مع الإصابة أو مع الخطأ ... " (6). وخلاصة مذهب أئمة السلف في إطلاق لفظ "الحركة"، مع اتفاق الجميع على إثبات المعنى الذي دلت عليه هذه النصوص – أنهم على ثلاثة أقوال:   (1) انظر: ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (1/ 441 - 446). (2) انظر: ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى –)) (5/ 386). (3) انظر: ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى –)) 5/ 410 - 411. (4) انظر: ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى –)) (5/ 322، 374 - 375، 387 - 395)، و ((منهاج السنة)) (2/ 511 - 513)) – ط دار العروبة – المحققة. (5) انظر: ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى –)) (5/ 369 - 373، 415 - 418). (6) ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى –)) (5/ 402). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 - منهم من يصرح بلفظ الحركة. وممن نقل مذهب الأئمة المتقدمين والمتأخرين حرب الكرماني، والدارمي الذي قال: إن الحركة من لوازم الحياة، وذكر حرب أنه قول من لقيه من أئمة السنة كأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية، وعبدالله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور.- وطائفة أخرى من أئمة السلف كنعيم بن حماد، والبخاري، وأبي بكر ابن خزيمة، وابن عبدالبر، وغيرهم، يثبتون المعنى الذي يثبته هؤلاء، ويسمون ذلك فعلا، ولكن من هؤلاء من يمنع إطلاق لفظ الحركة لكونه لم يؤثر (1).وقد رجح شيخ الإسلام أن المأثور عن الإمام أحمد "إنكار نفي ذلك ولم يثبت عنه إثبات لفظ الحركة، وإن أثبت أنواعا قد يدرجها المثبت من جنس الحركة، فإنه لما سمع شخصا يروي حديث النزول، ويقول: ينزل بغير حركة ولا انتقال، ولا بغير حال، أنكر أحمد ذلك، وقال: قل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو كان أغير على ربه منك" (2).أما العقيدة التي كتبها حرب بن إسماعيل – وفيها تصريحه بالحركة – فقد قال عنها شيخ الإسلام: "ليست هذه العقيدة ثابتة عن الإمام أحمد بألفاظها، فإني تأملت لها ثلاثة أسانيد مظلمة برجال مجاهيل، والألفاظ هي ألفاظ حرب ابن إسماعيل، لا ألفاظ الإمام أحمد ... " (3).ولعل ما يرجحه شيخ الإسلام في ذلك ما قاله في مثل هذه الألفاظ: "والأحسن في هذا الباب مراعاة ألفاظ النصوص" (4). 3 - ومن المسائل المتعلقة بالنزول: هل يخلو منه العرش أم لا؟ وقد ذكر شيخ الإسلام أن في ذلك ثلاثة أقوال: - طائفة ممن يدعي السنة يظن خلو العرش منه، وقد صنف أبو القاسم عبدالرحمن ابن أبي عبدالله بن محمد ابن منده في ذلك كتابا. - وطائفة تقف، لا تقول يخلو، ولا لا يخلو، وتنكر على من يقول ذلك. وهذا قول الحافظ عبدالغني المقدسي.- والصواب: قول جمهور السلف إنه ينزل ولا يخلو منه العرش (5). وقد رد شيخ الإسلام على قول عبدالرحمن ابن منده وأطال في ذلك (6). كما أبطل قول من زعم أنه يكون تحت العرش (7).4 - كما أجاب شيخ الإسلام على اعتراض من اعترض على النزول باختلاف الليل والنهار والبلدان والفصول في التقدم والتأخر والطول والقصر، وبين أن الكلام في ذلك وفي غيره – مثل مسألة خلو العرش منه – مبنية على قياس خاطئ وهو تشبيه الله بخلقه، وهذا باطل لأن القول في الصفات كالقول في الذات فكما أن لله ذاتا لا تشبه ذوات المخلوقين فكذلك له صفات لا تشبه صفات المخلوقين (8). المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1213   (1) انظر: ((درء التعارض)) (2/ 7 - 8). (2) ((الاستقامة)) (1/ 72 - 83). (3) ((الاستقامة)) (1/ 73). (4) ((مجموع الفتاوى)) (16/ 423)، وانظر في موضوع "الحركة" والأقوال فيه – ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى –)) (5/ 426، 565 – 575)، و ((مجموع الفتاوى)) (6/ 11، 8/ 21 - 29)، و ((الدرء)) (4/ 25). (5) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 31 - 132). (6) انظر: ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى)) (5/ 380 - 396)، وانظر أيضا (5/ 366 - 368، 375 - 385، 414 - 415، 459 - 460). (7) انظر: ((درء التعارض)) (7/ 7)، و ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى)) (5/ 475 - 476). (8) انظر: ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى –)) (5/ 418 وما بعدها، 467 - 480)، و ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (2/ 228 - 230). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 المطلب الحادي عشر: الصفات الخبرية ويقصد بها الصفات التي ثبتت عن طريق الخبر من الكتاب والسنة كالوجه واليدين والعين، وغيرها كاليمين والقبضة، والأصابع، والحقو والساق. والملاحظ في مذهب الأشاعرة تفريقهم بين الصفات السمعية القرآنية والحديثية، فأكثر متقدميهم أو كلهم يثبت الصفات الواردة في القرآن كالوجه واليدين والعين. أما ما لم يرد إلا في الحديث فأكثرهم لا يثبتها، ثم منهم من يؤولها ومنهم من يفوض معناها (1). أما متأخرو الأشاعرة فأكثرهم يتأول جميع الصفات الخبرية، ومن أثبتها منهم – سواء كانت عنده قولا واحدا، أو قولا ثانيا – فوض معناها. وبعض الأشاعرة يجعل هذه الصفات معنوية كصفات العلم والحياة والقدرة، ولا يفرقون بينهما إلا أن هذه ثبتت بالعقل والسمع، وتلك طريقها السمع فقط. وأهل السنة لا يلتزمون هذا الاصطلاح فلا يسمون هذه بالصفات الخبرية لأن من الصفات المعنوية ما لا يعلم إلا بالخبر (2). المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1224 أن الرازي استدل على وجوب تأويل الصفات الخبرية لاختلاف النصوص حيث ورد فيها: "بيده"، "أيدينا"، "بيدي"، "بأعيننا"، "على عيني" وقد رد عليه شيخ الإسلام بقوله: "إن دعواه أن لله أعينا كثيرة باطل، وذلك وإن كان قد قال: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14] وقال: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا [هود: 37] وقال: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور: 48] وقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس: 71] وقد قال في قصة موسى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ [طه: 39 - 40] فقد جاء هذا بلفظ المفرد في الموضعين، فلم يكن دعواه الظهور في معنى الكثرة لكونه جاء بلفظ الجمع بأولى من دعوى غيره الظهور في معنى الإفراد لكونه قد جاء بلفظ المفرد في موضعين، بل قد ادعى الأشعري فيما اختاره ونقله عن أهل السنة والحديث هو وطوائف معه إثبات العينين لأن الحديث ورد بذلك، وفيه جمع بين النصين، كما في لفظ اليد بل (لو) قال القائل: الظاهر في العين للمفرد أو المثنى دون المجموع لتوجه قوله، وذلك أن قوله "بأعيننا" في الموضعين مضاف إلى ضمير الجمع والمراد به الله وحده بلا نزاع، ومثل هذا كثير في القرآن يسمى الرب نفسه من الأسماء المضمرة بصفة الجمع على سبيل التعظيم لنفسه كقوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا [الفتح: 1] وقوله: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف: 32] فلما كان المضاف إليه لفظه لفظ الجمع جاء المضاف كذلك فقيل: بأعيننا، وفي قصة موسى لما أفرد المضاف إليه أفرد المضاف فقال "ولتصنع على عيني"، وجعلوا أن هذا هو الأصل والحقيقة، فإن الله واحد، سبحانه، ومن احتج بما ذكره الله عن نفسه بلفظ الجمع على العدد، فهو ممن تمسك بالمتشابه وترك المحكم، كما فعل نصارى نجران ... وهذا الكلام يقال في لفظ "أيدينا" مع قوله: مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] وقوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64]، فإن صيغة المضاف إليه هناك صيغة جمع بخلاف صيغة المضاف إليه في بقية الآيات، فجاء على لفظ المضاف إليه.   (1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/ 32). (2) انظر: ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (1/ 76). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 ومما يوضح الأمر في ذلك أن من لغة العرب الظاهرة التي نزل بها القرآن استعمال لفظ الجمع في موضع التثنية في المضاف إذا كان متصلا بالمضاف إليه، والمعنى ظاهر، كقوله تعالى: إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا [التحريم: 4] وليس لكل منهما إلا قلب، فالمعنى قلباكما، لكن النطق بلفظ الجمع أسهل، والمعنى معروف أنه ليس لكل منهما إلا قلب، وكذلك قوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا [المائدة: 38] والمعنى فاقطعوا أيمانهما، إذ لا يقطع من كل واحد إلا يده اليمنى، لكن وضع الجمع موضع التثنية لسهولة الخطاب وظهور المراد ... وإذا كان كذلك قيل: لفظ "أعيننا" ولفظ "أيدينا" مع كون المضاف إليه ضمير جمع أولى بالحسن مما إذا كان المضاف ضمير تثنية، فإذا كان من لغتهم ترك استحسان "قلباكما" و"يديهما" فلأن يكون في لغتهم ترك استحسان "بعيننا" أو "بعينيا"، ومما عملت يدنا، أو يدانا أولى وأحرى ... " (1).ثم إن شيخ الإسلام بين أن التثنية وردت في القرآن في صفة اليدين بشكل صريح لا يحتمل المجاز مطلقا، وهو قوله تعالى: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] فدلالة هذه الآية على الصفة أصرح من الأدلة الآية الأخرى وهي قوله تعالى: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس: 71] وقد عقد مقارنة بين الآيتين، بين فيها – من وجوه عديدة – أنه لا يصح تأويل آية سورة "ص" بحال (2).أما لفظ التثنية في العين فلم يرد في القرآن، ولكن جاء في الحديث ما يدل عليه، ونسبه الأشعري إلى أهل السنة، ولكن هذه الصفة ثابتة قد دلت عليها النصوص (3).وكذلك صفة الوجه ثابتة دلت عليها نصوص الكتاب والسنة (4).ومثلها كل صفة وردت في الكتاب والسنة الصحيحة، مثل: الأصابع (5)، والقدم (6)، والساق (7)، والحقو (8)، والصورة (9)، وغيرها. المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1225   (1) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 16 - 19). (2) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 20 - 22)، وانظر: ((التدمرية)) (ص: 73 - 76)، و ((الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز – مجموع الفتاوى –)) (6/ 362 - 372)، و ((درء التعارض)) (7/ 267)، و ((الرسالة الأكملية – مجموع الفتاوى –)) (6/ 92). (3) انظر: ((الجواب الصحيح)) (3/ 144)، و ((الواسطية – مجموع الفتاوى –)) (3/ 133)، و ((الحموية – مجموع الفتاوى –)) (5/ 90 - 91)، وانظر ((مقالات الإسلاميين للأشعري)) (ص: 290) – ت ريتر، و ((الأبانة)) (ص: 18) – فوقية. (4) انظر: ((الواسطية – مجموع الفتاوى –)) (3/ 133)، و ((الحموية – مجموع الفتاوى –)) (5/ 98 - 99)، و ((الرد الأقوم على ما في نصوص الحكم – مجموع الفتاوى)) (2/ 433)، و ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (1/ 35 - 39). (5) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 115 - 116، 142). (6) انظر: ((الواسطية – مجموع الفتاوى –)) (3/ 193)، و ((الحموية – مجموع الفتاوى –)) (5/ 44، 75). (7) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 15 - 16). (8) أطال شيخ الإسلام في مناقشة الرازي حول هذه الصفة. وبين أنها مثل غيرها من الصفات تثبت كما وردت. انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 127 - 142). (9) وقد أطال في الكلام على حديث الصورة، ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (3/ 202 - 514). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 المطلب الثاني عشر: العلو هذه الصفة من أظهر الصفات التي جاءت بها النصوص مستفيضة متواترة من الكتاب والسنة، كما دلت عليها العقول والفطر السليمة، وقد أجمع على إثباتها سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وسطر أئمة السلف – في كتبهم وردودهم على الجهمية المعطلة – ما فيه بيان الحق من الضلال في هذا الباب والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وليس العجب في أن يوجد من ينكر هذه الصفة من الجهمية أو المعتزلة أو غيرها ممن عرفوا بالزيغ والإلحاد في أسماء الله وصفاته وآياته، ولكن العجب أن يقلدهم في ذلك جماعات من العلماء الفضلاء، الذين يعتبرون من أئمة الفقهاء والعلماء والقضاة. ولو كانت أدلة العلو دليلين أو ثلاثة أو خمسة أو لو كان القائل به عددا محدودا من علماء السلف، لكان لهؤلاء بعض العذر في موقفهم مما قد يقال فيه: إن الأمر التبس عليهم. أما أن تكون أدلة العلو بهذه الكثرة والوضوح والقطعية في الثبوت والدلالة، وأن تتوافق الأدلة النقلية – التي زادت على ألف دليل – مع أدلة العقل والفطرة، ثم بعد ذلك يأتي إجماع السلف على إثباتها، ويوافقهم على ذلك أئمة أهل الكلام المتقدمين من الكلابية والأشعرية وغيرهم – فهذا ما لا يجد له المسلم المنصف أي تفسير أو تبرير إلا أن باعثه التقليد والتعصب لشيوخهم النفاة. وقد أولى شيخ الإسلام ابن تيمية هذه المسألة اهتماما كبيرا، وأطال النفس جدا في بيان أدلتها والرد على نفاتها ومناقشتهم، ولا يكاد يخلو كتاب من كتبه العقدية من عرض لها إثباتا أو ردا على الخصوم فيها. وقد وصل إلينا – والحمد لله – قسط كبير منها، بلغ مئات الصفحات، خاصة في كتابين من أهم كتبه، وهما:1 - (درء تعارض العقل والنقل)، حيث أفرد لمسألة العلو الجزء السادس بأكمله وجزءا من الجزء السابع (1). 2 - (نقض تأسيس الجهمية)، والذي يسمى أحيانا نقض أساس التقديس، أو بيان تلبيس الجهمية، وقد شمل البحث في العلو جزءا من الجزء الأول المطبوع، والجزء الثاني – المطبوع أيضا – بكامله. إضافة إلى مواضع أخرى عديدة في (منهاج السنة)، و (مجموع الفتاوى) وغيرها. ..... ويمكن الإشارة بإجمال إلى منهجه في معالجة هذه المسألة، وذلك من خلال الأمور التالية: أولا: الأقوال في العلو: يطلق كثير من أهل الكلام على مسألة العلو والفوقية: الجهة، حتى صارت شبه علم عليها، مع أن "العلو" و"الفوقية" مصطلح شرعي وردت به النصوص، و"الجهة" اصطلاح حادث، ولفظ مجمل، قد يراد بنفيه أو إثباته ما هو حق وما هو باطل. أما الأقوال في "العلو" فذات شقين: أ- الأقوال في علو الرب تبارك وتعالى وفوقيته، وبينونته عن خلقه. ب- الأقوال في ما يعتبره أهل الكلام من لوازم القول بالعلو مثل "الجهة" "والتحيز" و"الجسم" ونحوه. أما الأول: فقد وقع الخلاف فيه بين الطوائف على أقوال: 1 - قول من ينكر العلو مطلقا، ويقول: ليس فوق العالم شيء أصلا ولا فوق العرش شيء، وهذا قول الجهمية والمعتزلة وطوائف من متأخري الأشعرية، والفلاسفة النفاة، والقرامطة الباطنية وغيرهم. وهؤلاء قسمان:   (1) من أوله إلى (ص: 140). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 قسم يقول: ليس داخل العالم ولا خارجا عنه، ولا حالا فيه وليس في مكان من الأمكنة. فهؤلاء ينفون عنه الوصفين المتقابلين. وهذا قول طوائف من متكلميهم ونظارهم. وقسم منهم يقول: إنه في كل مكان بذاته، كما يقول ذلك طوائف من عبادهم ومتكلميهم، وصوفيتهم وعامتهم (1)."وكثير منهم يجمع بين القولين: ففي حال نظره وبحثه يقول بسلب الوصفين المتقابلين فيقول: لا هو داخل العالم ولا خارجه، وفي حال تعبده وتألهه يقول بأنه في كل مكان، ولا يخلو منه شيء حتى يصرحون بالحلول في كل موجود – من البهائم وغيرها – بل بالاتحاد بكل شيء، بل يقولون بالوحدة التي معناها أنه عين وجود الموجودات"، ثم يعلل شيخ الإسلام سبب هذا التناقض فيقول: "وسبب ذلك أن الدعاء والعبادة والقصد والإرادة والتوجه يطلب موجودا، بخلاف النظر والبحث والكلام؛ فإن العلم والكلام والبحث والقياس والنظر يتعلق بالموجود والمعدوم، فإذا لم يكن القلب في عبادة وتوجه ودعاء سهل عليه النفي والسلب، وأعراض عن الإثبات، بخلاف ما إذا كان في حال الدعاء والعبادة فإنه يطلب موجودا يقصده، ويسأله ويعبده، والسلب لا يقتضي إلا النفي والعدم، فلا ينفي في السلب ما يكون مقصودا معبودا" (2). وهذا تحليل دقيق جدا، غاص شيخ الإسلام من خلاله في ثنايا النفس البشرية وطبيعتها، وهو يفسر ما يلاحظه المطلع والباحث في كتب العقائد الكلامية من وجود أنواع من التناقض عند كثير من هؤلاء المتكلمين والفلاسفة، ومن أمثلة ذلك: أ- جمعهم بين علم الكلام الفلسفي، والتصوف. ب- تعويلهم على العقل في كثير من مباحث أصول الدين، حتى أنهم يقدمونه على النصوص، ثم في الوقت نفسه يعولون على الكشوفات والمشاهدات الصوفية عندهم أو عند أشياخهم. ج- وفي العلو قد يقولون لا داخل العالم ولا خارجه، ثم يقولون هو في كل مكان. د- وفي توحيد الربوبية قد يبالغ في إثباته إلى حد نفي كثير من الصفات الثابتة لله لأجل تحقيقه كما يزعم، ثم هو يناقض هذا التوحيد حين يرد في خاطره أو يعتقد أن النجوم أو القبور أو غيرها لها تأثير في الضر والنفع والرزق وغيرها. وإنما طال القول في بيان مذهب هؤلاء لدخول كثير من متأخري الأشعرية النفاة فيهم. فهذان قولان، قد يجمع بينهم بعضهم.2 - قول من يقول: "هو فوق العرش، وهو في كل مكان ويقول: أنا أقر بهذه النصوص وهذه، لا أصرف واحدا منها عن ظاهره وهذا قول طوائف ذكرهم الأشعري في المقالات الإسلامية (3)، وهو موجود في كلام طائفة من السالمية والصوفية، ويشبه هذا ما في كلام أبي طالب المكي ... " (4)، وهؤلاء غالطون وإن زعموا أنهم يجمعوا بين نصوص العلو والمعية. 3 - قول سلف الأمة وأئمتها، أئمة أهل العلم والدين، وهؤلاء آمنوا بجميع ما جاء في الكتاب والسنة، وأثبتوا علو الله تعالى وفوقيته، وأنه تعالى فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، وهم بائنون منه، وهو أيضا مع العباد بعلمه، ومع أوليائه وأنبيائه بالنصر والتأييد. والخلاصة أن الأقوال في مباينة الله لخلقه أربعة: 1 - منهم من يقول بالحلول والاتحاد فقط، كقول ابن عربي وأمثاله. 2 - ومنهم من يثبت العلو نوعا من الحلول وهو الذي يضاف إلى السالمية أو بعضهم، وفي كلام أبي طالب وغيره ما قد يقال إنه يدل على ذلك.   (1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (5/ 122 - 123، 272). (2) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 272 - 273)، وانظر: ((درء التعارض)) (5/ 169)، و ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (2/ 5 - 6، 505، 512). (3) انظر: ((مقالات الإسلاميين)) (ص: 215 - 299) – ت ريتر (4) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 124). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 3 - ومنهم من لا يثبت لا مباينة ولا حلولا ولا اتحادا، كقول المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم.4 - والقول الرابع إثبات مباينة (الخالق) للمخلوق بلا حلول، وهذا قول سلف الأمة وأئمتها ... " (1). ويمكن أن يضاف إلى ذلك قولان آخران: أحدهما: قول من يجمع بين قول الصوفية الحلولية، وقول المعتزلة بأنه لا داخل العالم ولا خارجه – كما سبق -.والثاني: قول من يتوقف في هذا الأمر، فلا يقول بإثبات علوه على العرش ولا نفيه، بل يقول إن الله تعالى واحد في ملكه وهو رب كل شيء ويسكت عما سوى ذلك. وقد رد شيخ الإسلام على هؤلاء (2). وأما الثاني – وهو في إطلاق الجهة والتحيز، والجسم – ففيه أقوال:1 - قول من يقول: "لا أقول إنه متحيز ولا غير متحيز، ولا في جهة ولا في غير جهة، بل أعلم أنه مباين للعالم وأنه يمتنع أن يكون لا مباينا ولا مداخلا" (3)، وهذا قول كثير من أهل الكلام والحديث. 2 - "قول من يقول: بل أقول: إنه ليس بمتحيز ولا في جهة، وأقول مع ذلك: إنه مباين للعالم. وهذا قول من يقول: إنه فوق العالم وليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز، كما يقول ذلك من يقوله من الكلابية والأشعرية والكرامية ومن وافقهم من أتباع الأئمة الأربعة وأهل الحديث والصوفية. فإذا قيل لهؤلاء: إثبات مباين ليس بمتحيز مخالف لضرورة العقل قالوا: إثبات موجود لا محايث ولا مباين أظهر فسادا في ضرورة العقل من هذا ... " (4).3 - "قول من يلتزم أنه متحيز، أو في جهة، أو أنه جسم، ويقول: لا دلالة على نفي شيء من ذلك، وأدلة النفاة لذلك أدلة فاسدة، فإنهم متفقون على أن نفي ذلك ليس معلوما بالضرورة، وإنما يدعون النظر، ونفاة ذلك لم يتفقوا على دليل واحد، بل كل واحد منهم يطعن في دليل الآخر ... " (5)، وهذا قول الكرامية وبعض أهل الحديث ومن وافقهم.4 - "جواب أهل الاستفصال: وهم الذين يقولون: لفظ "التحيز" و"الجهة" و"الجوهر" ونحو ذلك، ألفاظ مجملة، ليس لها أصل في كتاب الله ولا في سنة رسول الله، ولا قالها أحد من سلف الأمة وأئمتها في حق الله تعالى، لا نفيا ولا إثباتا، وحينئذ فإطلاق القول بنفيها أو إثباتها ليس من مذهب أهل السنة والجماعة بلا ريب، ولا عليه دليل شرعي، بل الإطلاق من الطرفين مما ابتدعه أهل الكلام الخائضون في ذلك. فإذا تكلمنا معهم بالبحث العقلي استفصلناهم عما أرادوه بهذه الألفاظ ... " (6) فإن كان حقا قبل – ولا يمنع من قبوله تسميته بهذه المصطلحات الحادثة – وإن كان باطلا رد. ومن خلال ما سبق من عرض الخلاف حول المسألتين يتبين مذهب الأشاعرة، القدماء منهم والمتأخرين، كما يتبين مذهب السلف رحمهم الله تعالى.   (1) ((درء التعارض)) (10/ 287). (2) انظر: ((القاعدة المراكشية)) (ص: 23 - 24 وما بعدها)، ط دار طيبة. (3) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 302). (4) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 303)، وانظر بقية الإجابة والمناقشة إلى (ص: 304)، وانظر أيضا: (ص: 272) من هذا الجزء. (5) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 304). (6) ((مجموع الفتاوى)) (305)، وانظر: ((نقض التأسيس)) – مطبوع (2/ 13 - 14). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 ثانيا: أدلة أهل السنة على إثبات العلو: إثبات علو الله تعالى معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين (1).وسياق الأدلة مما يصعب حصره، وقد ذكر شيخ الإسلام أنها تبلغ مئين، وأن الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين متواترة موافقة لذلك (2).ونقل شيخ الإسلام عن بعض أكابر أصحاب الشافعي أنه قال: "في القرآن ألف دليل أو أزيد تدل على أن الله تعالى عال على الخلق، وأنه فوق عباده، وقال غيره: فيه ثلاثمائة دليل تدل على ذلك ... " (3).وقد ذكر ابن القيم في (نونيته) أكثر من عشرين نوعا من الأدلة، وكل نوع تحته عدد من الأدلة (4)، كما ذكر في الصواعق ثلاثين دليلا من أدلة العقل والفطرة (5) – وهي كلها ملخصة مما ذكره شيخه في مناقشاته. وخلاصة هذه الأدلة: أ- أما أدلة الكتاب والسنة، فمنها نصوص: الاستواء: والنزول، والرؤية (6)، وصعود الأعمال إليه، وعروج الملائكة إليه، وأنه في السماء، ونزول القرآن، وتنزل الملائكة، والمعراج، والسؤال عنه بالأين، والتصريح بالفوق، وغيرها كثير جدا. ب- أما أدلة العقل والفطرة، فقد ذكر شيخ الإسلام الخلاف في العلو هل يعلم بالعقل أو بالسمع، وذكر أن قول الجماهير أنه يعلم بالعقل وبالسمع. وهذا قول الكلابية وطريقة أكثر أهل الحديث. وممن قال إنه يعلم بالسمع أبو الحسن الأشعري وبعض أصحابه، ولكن هؤلاء يثبتون العلو بالسمع ويبطلون أدلة نفاته. يقول شيخ الإسلام: "والعقل دل على أن الله تعالى فوق العالم، وهذه طريقة حذاق أهل النظر من أهل الإثبات، كما هو طريق السلف والأئمة، يجعلون العلو من الصفات المعلومة بالعقل، وهذه طريقة أبي محمد بن كلاب وأتباعه، كأبي العباس القلانسي، والحارث المحاسبي، وأشباههما من أئمة الأشعرية، وهي طريقة محمد بن كرام وأتباعه، وطريقة أكثر أهل الحديث والفقه والتصوف، وإليها رجع القاضي أبو يعلى، وأمثاله.   (1) انظر: ((درء التعارض)) (7/ 27). (2) انظر: ((درء التعارض)) (2/ 26)، وانظر: ((القاعدة المراكشية)) (ص: 35) -ط دار طيبة. (3) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 121)، وانظر: ((الصواعق المرسلة)) – الأصل – (4/ 1279)، و ((النونية)) لابن القيم (1/ 486)، مع شرح ابن عيسى. (4) انظر: ((النونية)) (1/ 396 وما بعدها)، مع شرح ابن عيسى. (5) انظر: ((الصواعق المرسلة)) – الأصل – (4/ 1279 - 1340). (6) انظر: جانبا من الرد على الرازي وتناقضه حول الرؤية والعلو في ((نقض التأسيس)) – مطبوع (2/ 77 - 90). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 ولكن طائفة من الصفاتية من أصحاب الأشعري ومن وافقهم من أصحاب أحمد وغيرهم، يظنون أن العلو من الصفات الخبرية كالوجه واليدين ونحو ذلك، وأنهم إذا أثبتوا ذلك أثبتوه لمجيء السمع به فقط، ولهذا كان من هؤلاء من ينفي ذلك ويتأول نصوصه، أو يعرض عنها، كما يفعل ذلك في نصوص الوجه واليد. ومن سلك هذه الطريقة فإنه يبطل الأدلة التي يقال: إنها نافية لهذه الصفة، كما يبطل ما به ينفون صفة الاستواء والوجه واليد، ويبين أنه لا محذور في إثباتها، كما يقول مثل ذلك في الاستواء والوجه واليد، ونحو ذلك من الصفات الخبرية. وهؤلاء كلامهم أمتن من كلام نفاة الصفات الخبرية نقلا وعقلا ... " (1).ولاشك أن الراجح أن العلو معلوم بدليل العقل والفطرة، وقد قرر ذلك شيخ الإسلام بطرق منها: (2) 1 - أن هذا أمر مستقر في فطر بني آدم، معلوم لهم بالضرورة. 2 - أن قصدهم لربهم عند الحاجات التي لا يقضيها إلا هو، وذلك في دعاء العبادة ودعاء المسألة – إنما يكون إلى جهة العلو، فهو كما أنهم مضطرون إلى دعائه ومسألته هم مضطرون إلى أن يوجهوا قلوبهم إلى العلو إليه، لا يتوجهون إلى غيره من الجهات. 3 - وهذا أيضا متفق عليه بين العقلاء السليمي الفطرة، وكل منهم يخبر عن فطرته من غير مواطأة من بعضهم البعض، ويمتنع في مثل هؤلاء أن يتفقوا على تعمد الكذب عادة.   (1) ((درء التعارض)) (7/ 131 - 132)، وانظر أيضا: ((درء التعارض)) (6/ 208 - 209، 9/ 16)، و ((مجموع الفتاوى)) (16/ 407)، و ((جواب أهل العلم الإيمان – مجموع الفتاوى –)) (17/ 51 - 52)، و ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (1/ 29، 3/ 271). (2) انظر: ((قواعد مهمة وبراهين قوية لأهل الإثبات في نقض التأسيس)) – مطبوع – (1/ 317 - 369). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 4 - ومنها الطرق النظرية مثل قولهم: كل موجودين فإما أن يكون أحدهما مباينا للآخر أو مداخلا له، وإذا ثبت أنه ليس مداخلا له فلابد أن يكون مباينا له، وهكذا.5 - ومنها أنه إذا ثبت أن العالم كرة، وأن الله لابد أن يكون مباينا لخلقه، والعلو المطلق فوق الكرة، فيلزم أن يكون في العلو (1).وكثيرا ما يربط شيخ الإسلام مناقشاته بأمور عملية واقعية، ولذلك فهو يورد قصة أبي المعالي الجويني مع أبي جعفر الهمذاني لما اعترض عليه وهو يقرر نفي العلو، فقال له الهمذاني: دعنا مما تقول، ما هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، ما قال عارف قط يا الله إلا وجد من قلبه معنى يطلب العلو، لا يلتفت بمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة من قلوبنا. فصرخ أبو المعالي، ووضع يده على رأسه وقال: حيرني الهمذاني، أو كما قال، ونزل (2).ومن عجيب ما جرى لشيخ الإسلام ابن تيمية نفسه مع هؤلاء النفاة ما حكاه بقوله: ولقد كان عندي من هؤلاء النافين لهذا من هو من مشايخهم، وهو يطلب مني حاجة، وأنا أخاطبه في هذا المذهب كأني غير منكر له، وأخرت قضاء حاجاته حتى ضاق صدره، فرفع رأسه إلى السماء، وقال: يالله، فقلت له: أنت محق، لمن ترفع طرفك؟ وهل فوق عندك أحد؟ فقال: أستغفر الله، ورجع عن ذلك لما تبين له أن اعتقاده يخالف فطرته، ثم بينت له فساد هذا القول، فتاب من ذلك، ورجع إلى قول المسلمين المستقر في فطرهم" (3). أما أقوال السلف في هذا الباب فكثيرة جدا، وسترد الإشارة إليها عند الرد على زعم الرازي أنه لم يقل بالجهة سوى الحنابلة والكرامية. ثالثا: حجج النفاة واعتراضاتهم، والرد عليها: ليس النفاة العلو دليل نقلي واحد على ما يدعونه، سوى أثر مكذوب رواه ابن عساكر فيما أملاه في نفي الجهة عن شيخه ابن عبدالله العوسجي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الذي أين الأين فلا يقال له: أين))، وقد حكم شيخ الإسلام بأنه مكذوب، وكثيرا ما يشير إليه باسم: حديث عوسجة (4). ولما لم يكن للنفاة دليل من الكتاب والسنة عولوا على ما زعموه من أدلة العقل، والاعتراض على أدلة السلف المثبتة له. ومجمل أدلة النفاة هي: 1 - حججهم العقلية المعروفة مثل: التجسيم، والتركيب، والانقسام، والتجزء والتناهي، والتحيز، حيث قالوا: هذه لازمة لمن قال بالجهة والله منزه عنها. 2 - اعتراضوا على أدلة السمع كلها بأنها معارضة بالعقل، والعقل عندهم مقدم على النقل عند التعارض. 3 - أما دليل أن كل موجودين لابد أن يكون أحدهما داخلا في الآخر أو بائنا منه، وأنه لا يجوز أن يكون لا داخلا ولا بائنا – فقد اعترضوا عليه بأن هذا من حكم الوهم والخيال، وإلا فالقسم الثالث صحيح في القسمة العقلية، واستدلوا عليه بوجود العقول والكليات المطلقة.   (1) انظر: ((درء التعارض)) (7/ 3 - 5، 135 - 134)، و ((نقض التأسيس)) – مطبوع – ((1/ 110) (2/ 21 - 22، 78، 103 - 104، 48 - 481)، ومن المخطوط (1/ 26 - 27)، و ((مجموع الفتاوى)) (5/ 152، 275 - 276)، و ((درء التعارض)) (6/ 11 - 13)، و ((منهاج السنة)) (2/ 517) – ط دار العروبة – المحققة. (2) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (4/ 44، 61، 5/ 259)، و ((الاستقامة)) (1/ 167)، و ((منهاج السنة)) (2/ 515 - 517) – ط دار العروبة – المحققة، و ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (1/ 27 - 27). وقد سبقت الإشارة إلى قصة الجويني والهمذاني – مع بعض مصادرها – في ((ترجمة الجويني)) (ص: 619). (3) ((درء التعارض)) (6/ 243 - 244). (4) انظر: ((درء التعارض)) (5/ 255، 6/ 5)، و ((التسعينية)) (ص: 263)، و ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (1/ 571)، ولم أجد هذا الحديث الموضوع، ولعله لم يرد إلا في كتاب ابن عساكر في نفي الجهة كما أشار شيخ الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 4 - أنه قد لو كان بدهياً لامتنع اتفاق الجمع العظيم على إنكاره وهم من سوى الحنابلة والكرامية. 5 - أما التوجه عند الدعاء إلى العلو فلأن السماء قبلة الدعاء وهو منقوض بوضع الجبهة على الأرض. 6 - كما اعترضوا بكون العالم كرة، ولا فرق بين الفوق والتحت. وقد ناقش شيخ الإسلام ذلك كما يلي: 1 - أما حججهم التي ذكروها من لزوم التجسيم والتركيب والتناهي والتحيز وغيرها فقد سبق الجواب عنها وبيان ما فيها من الإجمال وذلك في المسألة الأولى ضمن مسائل هذا المبحث، وقد استقصى شيخ الإسلام حججهم هذه كما ذكرها الرازي في كتابين من كتبه هما: (الأربعين)، و (أساس التقديس)، ورد عليها كلها في منهجه المعروف من حكاية الأقوال، ثم مناقشتها وبيان تناقض الخصوم، وردود بعضهم على بعض. وإذا تبين بطلان هذه الحجج – التي سموها براهين – وجب الرجوع إلى ما يدل عليه السمع والعقل (1). 2 - أما اعتراضه على أدلة السمع المثبتة بأنها معارضة بالأدلة العقلية، فهذه أيضا سبق تفصيلها في المنهج العام في الرد على الأشاعرة وقد أفرد شيخ الإسلام مسألة العلو – وبين كيف عارض الرازي أدلتها النقلية بأدلة العقول – ثم رد عليه من وجوه عديدة منها: أ- أن القول بأن الله فوق العالم معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، كالعلم بالأكل والشرب في الجنة، والعلم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، ونصوص العلو متواترة مستفيضة وثبوتها أعظم من ثبوت كثير مما يقر به هؤلاء كأحاديث الرجم، والشفاعة، والحوض، والميزان، وسجود السهو وغيرها (2).ب- أن نصوص العلو صريحة لا تقبل التأويل، بل التأويلات في ذلك من جنس تأويلات القرامطة والباطنية وهي معلومة الفساد ضرورة (3). ج- "أن يقال: لا نسلم أنه عارض ذلك دليل عقلي أصلا، بل العقليات التي عارضتها هذه السمعيات هي من جنس شبه السوفسطائية التي هي أوهام وخيالات غير مطابقة، وكل من قالها لم يخل من أن يكون مقلدا لغيره، أو ظانا في نفسه، وإلا فمن رجع في مقدماتها إلى الفطر السليمة واعتبر تأليفها، لم يجد فيما يعارض السمعيات برهانا مؤلفا من مقدمات يقينية تأليفا صحيحا. وجمهور من تجده يعارض بها أو يعتمد عليها، إذا بينت له فسادها وما فيها من الاشتباه والالتباس، قال: هذه قالها فلان وفلان، وكانوا فضلاء، فكيف خفي عليهم مثل هذا؟ فينتهون بعد إعراضهم عن كلام المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وإجماع السلف الذين لا يجتمعون على ضلالة، ومخالفة عقول بني آدم التي فطرهم الله عليها – إلى تقليد رجال يقولون: إن هذه القضايا عقلية برهانية، وقد خالفهم في ذلك رجال آخرون من جنسهم، مثلهم وأكثر منهم ... " (4).ثم ذكر بقية الأوجه (5). والقول بتقديم العقل على السمع من أصول البلايا التي بلى بها أهل الكلام، حيث أصبحت عندهم كالمخرج عندما يضايقهم أئمة السنة بالنصوص.   (1) انظر: ((أساس التقديس)) للرازي (ص: 45 - 61) – ط الحلبي، و ((الأربعين للرازي)) (ص: 106 - 113)، وانظر: الرد على هذه الحجج مستوفى في ((درء التعارض)) (6/ 286 - 344)، و ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (2/ 45 - 319). وقد ذكر في الأربعين ست حجج، وفي أساس التقديس ثمانية براهين، وقد رد شيخ الإسلام على كل واحد منها من وجوه عديدة. (2) انظر: ((درء التعارض)) (7/ 26 - 27). (3) انظر: ((درء التعارض)) (7/ 37). (4) انظر: ((درء التعارض)) (7/ 37 - 38)، وانظر: بقية المناقشة وهي مهمة جدا. (5) انظر: ((درء التعارض)) (7/ 39، 41، 130، 134، 137). وانظر أيضا: ((القاعدة المراكشية)) (ص: 43 - 44) – ط دار طيبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 3 - أما زعمهم أن دليل العقل والفطرة إنما هو من حكم الوهم والخيال وأن حكم الوهم والخيال إنما يقبل في الحسيات لا في العقليات ثم استشهادهم بالكليات وبالنفوس – فقد أجاب عنه شيخ الإسلام في مناسبات مختلفة، ومن ردوده عليهم قوله بأن هذا باطل من وجوه: أحدها: أنه إذا جاز أن يكون في الفطرة حكمان بديهان، أحدهما مقبول والآخر مردود، كان هذا قدحا في مبادئ العلوم كلها، وحينئذ لا يوثق بحكم البديهة. الثاني: أنه إذا جوز ذلك، فالتمييز بين النوعين: إما أن يكون بقضايا بديهية، أو نظرية مبنية على البديهية، وكلاهما باطل ... فإذا جاز أن تكون البديهيات مشتبهة: فيها حق وباطل، كانت النظريات المبنية عليها أولى بذلك، وحينئذ فلا يبقى علم يعرف به حق وباطل، وهذا جامع كل سفسطة ... الثالث: أن قول القائل: إن الوهم يسلم للعقل قضايا بديهية تستلزم إثبات وجود موجود، تمتنع الإشارة الحسية إليه – ممنوع. الرابع: أنه بتقدير التسليم تكون المقدمة جدلية؛ فإن الوهم إذا سلم للعقل مقدمة، لم ينتفع بتلك القضية، إلا أن تكون معلومة له بالبديهية الصحيحة، فإذا لم يكن له سبيل إلى هذا انسدت المعارف على العقل، وكان تسليم الوهم إنما يجعل القضية جدلية لا برهانية. وهذا وحده لا ينفع في العلوم البرهانية العقلية. الخامس: أن قول القائل: إن الحكم الوهم والخيال إنما يقبل في الحسيات دون العقليات، إنما يصح إذا ثبت أن في الخارج موجودات لا يمكن أن تعرف بالحس بوجه من الوجوه، وهذا إنما يثبت إذا ثبت أن في الوجود الخارجي مالا يمكن الإشارة الحسية إليه. وهذا أول المسألة فإن المثبتين يقولون: ليس في الوجود الخارجي إلا ما يمكن الإشارة الحسية إليه، أو لا يعقل موجود في الخارج إلا كذلك ... السادس: أن يقال: إن أردتم بالعقليات ما يقوم بالقلب من العلوم العقلية الكلية ونحوها، فليس الكلام هنا في هذه، ونحن لا نقبل مجرد حكم الحس ولا الخيال في مثل هذه العلوم الكلية العقلية، وأن أردتم بالعقليات موجودات خارجة، لا يمكن الإشارة الحسية إليها، فلم قلتم: إن هذا موجود؟ فالنزاع في هذا، ونحن نقول: إن بطلان هذا معلوم بالبديهة" (1) ... إلى آخر الأوجه (2). ويلاحظ أن شيخ الإسلام بدأ من الوجه الخامس يناقش المسألة التي اعتمد عليها الرازي – ومن وافقه – في هذا الباب، حيث اتبعوا ابن سينا وغيره من الفلاسفة في مسألة الكليات الذهنية التي زعموا أنها موجودة في الخارج. وهذه من المسائل التي تخبط بسببها المتكلمون في كثير من قضايا العقيدة ودلائلها. وهي من الباطل الذي لا حقيقة له، إذا ليس كل ما في الأذهان يكون موجودا في الأعيان، وهذه الكليات المطلقة توجد مطلقة في الأذهان فقط، أما في الأعيان فلا توجد إلا مقيدة، وقد سبقت الإشارة إلى هذا.   (1) ((درء التعارض)) (6/ 15 - 17). (2) انظر: ((درء التعارض)) (6/ 17 - 18). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 ولما تكلم شيخ الإسلام عن هذه المسألة – في موضع آخر – ضرب مثالا عليه في مسألة العلو عند هؤلاء النفاة، "ولكن طائفة من أهل الجدل والحكمة السوفسطائية، يستدلون على إمكان الشيء في الخارج بإمكانه في الذهن، كما يوجد مثل ذلك في كلام كثير من أهل الكلام والفلسفة. والرازي والآمدي ونحوهما لا مباين للعالم ولا مجانب بأن يقولوا: القسمة العقلية تقتضي أن كل موجود فإما مباين لغيره أو مجانب له، وإما لا مباين ولا مجانب، أو كل موجود فإما داخل في غيره وإما خرج عنه وإما لا داخل ولا خارج. ويجعلون مثل هذا التقسيم دليلا على إمكان كل من الأقسام في الخارج، وقد يسمون ذلك برهانا عقليا، وهو من أفسد الكلام ... " (1).ومثل هذا احتجاجهم بأن الفلاسفة وطائفة من المتكلمين من المعتزلة والشيعة والأشعرية – أثبتوا النفس، وقالوا: إنها لا داخل البدن ولا خارجه، ولا مباينة له ولا حالة فيه. وبطلان هذا مثل بطلان وجود الكليات في الخارج (2).وكثيرا ما يختلط الأمر عند هؤلاء فيظنون أن الفرق بين الغيب والشهادة هو الفرق بين المحسوس وبين المعقول، وهذا أحد مداخل ملاحدة الباطنية والصوفية وغيرهم. والحق أن الغيب ليس غير المحسوس بل الغيب يمكن إحساسه، والله تعالى أعظم الغيب وهو يرى (3).وأكبر دليل على فساد ما زعمه هؤلاء من صحة قولهم بإمكان موجود لا مباين ولا محايث، أو لا داخل العالم ولا خارجه – أنهم عجزوا عن الرد على الحلولية من النصارى والصوفية، وقد أفرد شيخ الإسلام لبيان ذلك فصلا طويلا (4)، ومما قاله: "ولهذا كان الحلولية والاتحادية منهم، الذين يقولون: إنه في كل مكان، يحتجون على النفاة منهم الذين يقولون: ليس مباينا للعالم ولا مداخلا له، بأنا قد اتفقنا على أنه ليس فوق العالم، وإذا ثبت ذلك تعين مداخلته للعالم، إما أن يكون وجوده وجود العالم، أو يحل في العالم، أو يتحد به، كما قد عرف من مقالاتهم. والذين أنكروا الحلول والاتحاد من الجهمية، ليست لهم على هؤلاء حجة إلا من جنس حجة المثبتة عليهم، وهو قول المثبتة: إن ما لا يكون لا مداخلا ولا مباينا، غير موجود، فإن أقروا بصحة هذه الحجة بطل قولهم، وإن لم يقروا بصحتها أمكن إخوانهم الجهمية الحلولية أن لا يقروا بصحة حجتهم، إذ هما من جنس واحد" (5)، ثم ذكر شيخ الإسلام نموذجا على ذلك، وهو رد الرازي على حلولية النصارى، حيث علق شيخ الإسلام بعد نقل كلام الرازي في الرد عليهم (6) بقوله: "قلت ما ذكره الرازي من إبطال الحلول بإلزام النصارى كلام صحيح، لكن هذا إنما يستقيم على قول أهل الإثبات المثبتين لمباينته للعالم، فأما على قول الجهمية النفاة فلا تستقيم هذه الحجة ... " (7).وذلك أنه يلزم من تجويز إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه تجويز قول الحلولية، ولا يمكن أن يوجد في النفاة من يرد على الحلولية ردا مستقيما، بل إن لم يوافقهم كان معهم بمنزلة المخنث – كما يعبر شيخ الإسلام (8).وقد سبقت الإشارة إلى ما بين هذين المذهبين – النفاة والحلولية – من توافق، إلى حج أن الواحد منهم قد يتلبس بالمذهبين في وقت واحد، حسب حالته.   (1) ((درء التعارض)) (3/ 365 - 366). (2) انظر: ((درء التعارض)) (6/ 161)، وانظر: ((مجموع الفتاوى)) (5/ 292 - 295). (3) انظر: ((درء التعارض)) (5/ 171 - 173)، وانظر: مناقشة أخرى مطولة ومهمة في ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (2/ 502 - 558). (4) انظر: ((درء التعارض)) (6/ 137 - 186). (5) انظر: ((درء التعارض)) (6/ 148 - 149). (6) انظر: ((درء التعارض)) (6/ 149 - 151). (7) انظر: ((درء التعارض)) (6/ 151). (8) انظر: ((درء التعارض)) (6/ 173). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 وكثير من النفاة يعظم ملاحدة الصوفية كابن عربي وابن سبعين وابن الفارض، بل إن أحد أفضل المتكلمين من نفاة العلو "يعتقد في مثل هذا أنه كان من أفضل أهل الأرض، أو أفضلهم ويأخذ ورقة فيها شر مذهبه، يرقي بها المريض، كما يرقي المسلمون بفاتحة الكتاب، كما أخبرنا بذلك الثقاة، وهم يقدمون تلك الرقية على فاتحة الكتاب .... " (1).ويركز شيخ الإسلام على أن هؤلاء جميعا ينطلقون من تلك المناظر المشهورة التي جرت بين الجهم والسمنية وقد ذكرها الإمام أحمد (2)، فالجهم لما احتج عليهم بالروح بأن الروح لا ترى ولا تسمع ولا تحس ولا تجس، طبق ذلك على الله تعالى، فقال: وكذلك هو موجود ولا يرى ولا يسمع ولا يوصف بصفة. ومن هذه المناظرة انطلق المبطلون: - نفاة الأسماء والصفات من الجهمية وغيرهم. - ونفاة العلو القائلون بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه. - والحلولية القائلون بأن الله في كل مكان. فصاروا ينطلقون مما انطلق منه الجهم، والذين تفلسفوا كالرازي وغيره اعتمدوا على مثل هذا تماما وذلك حين احتجوا بالكليات التي لا توجد إلا في الأذهان، وبالنفوس المفارقة التي قال بها الفلاسفة وغيرهم. وهذا يبين ما بين أهل الباطل من ترابط، وكيف يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا. وقد بين شيخ الإسلام الجواب الصحيح لهؤلاء السمنية، وكيف عدل الجهم عن ذلك، وشبه حجته بحجة الرازي على نفي العلو واحتجاجه بما يقوله الفلاسفة في المعقول والنفوس (3).وكثيرا ما يعتمد هؤلاء المتكلمون على شبه الفلاسفة (4). 4 - أما دعوى أنه لو كان بديهيا لامتنع اتفاق الجمع العظيم على إنكاره، وهم من سوى الحنابلة والكرامية. فجوابه من وجوه: أحدها: أن العكس هو الصحيح، فإن أمم الأرض جميعا يقولون بأن الله فوق العالم، والذين خالفوا ذلك فئات قليلة من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة والأشاعرة، تلقاه بعضهم عن بعض تقليدا. ومسألة العلو ليست من المسائل الصغيرة – التي قد تعرفها أمة أو أتباع نبي دون غيرهم – بل هي من المسائل الكبار المتعلقة بأصل التوحيد وهي مما ينفصل فيه أهل الإيمان عن الإلحاد، ولذلك اتفق الأنبياء جميعا عليها كما اتفقوا على التوحيد (5).ولتواتر النصوص الواردة في إثبات العلو لم يستطع – الأشاعرة المتأخرون ولا غيرهم – إنكارها أو معارضتها، وإنما صاروا يعبرون عن المعاني التي يريدونها من نفي العلو بعبارات ابتدعوها، ويكون فيها اشتباه وإجمال، مثل أن يقولوا: إن الله ليس بمتحيز ولا في جهة، وغيرها من العبارات المحتملة للحق والباطل، وهم قصدوا بها رد الحق (6). ولو كانت دعواهم كما صورهم الرازي أنه لم يخالف فيها الإ الحنابلة والكرامية لما تدسسوا إلى آرائهم وأقوالهم بمثل هذه الأساليب حين يتعاملون مع مئات النصوص الواردة المثبتة للعلو.   (1) انظر: ((درء التعارض)) (6/ 170). (2) ((الرد على الزنادقة)) (ص: 64 - 57) – ضمن عقائد السلف، وخلاصتها أن جماعة من السمنية أرادوا أن يناظروا الجهم – وكان مشهورا بالخصومات والكلام – فاحتجوا عليه بأنه إذا لم ير إلهه ولم يسمعه ولم يشمه ولم يحسه – فهو غير موجود. فتحير الجهم وبقي أربعين يوما لا يدري من يعبد، ثم استدرك حجة النصارى في عيسى فأخذها، ورد على السمنية بالروح وأنها لا ترى ولا تسمع ولا تشم .... (3) انظر: ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (1/ 318 - 325)، و ((درء التعارض)) (5/ 165 - 175)، و ((التسعينية)) (ص: 32 - 39). (4) انظر: مثالا على ذلك في ((نقض التأسيس)) – مطبوع (1/ 103 - 121). (5) انظر: ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (2/ 9). (6) انظر: ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (2/ 9). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 وقد رد شيخ الإسلام على هذه الدعوى بنقل النصوص العديدة لعشرات الأئمة والعلماء من السلف وممن جاء بعدهم من مختلف الطوائف: من الفقهاء: المالكية، والشافعية، والحنفية، والحنبلية، والظاهرية، وأهل الحديث، والصوفية والشيعة وأهل الكلام والفلسفة غيرهم. فكيف يقال مع هذا إنه لم يقل بالعلو إلا الحنابلة والكرامية؟.ومن هؤلاء الأئمة الذين أثبتوا العلو ونقلت أقوالهم: عبدالله بن المبارك، وربيعة، والإمام مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو حنيفة، والبخاري، والفضيل ابن عياض، وسليمان بن حرب، وابن خزيمة، والصابوني، والحاكم، وابن عبدالبر، وابن أبي زمنين، وأبو نصر السجزي، وأبو عمر الطلمنكي، ونصر المقدسي، وأبو نعيم الأصبهاني، وأبو أحمد الكرخي، وأبو محمد المقدسي، وابن أبي حاتم، والخلال، وعبدالله بن الإمام أحمد، والقرطبي، والبيهقي، وابن رشد، وغيرهم كثير جدا، وأقوالهم ونصوصهم مدونة يثبتون فيها هذه الصفة ويردون على من تأولها (1). فكيف يدعي الرازي أنه لم يثبت العلو سوى الحنابلة والكرامية؟.الثاني: أن من المخالفين للرازي – ولمتأخري الأشعرية كالجويني والغزالي، والآمدي – شيوخهم المتقدمين من أئمة الأشاعرة، كابن كلاب، والقلانسي، والمحاسبي، وأبي الحسن الأشعري، وتلاميذه كابن مجاهد، وأبي الحسن الطبري، والباقلاني، وابن فورك – في أحد قوليه – والقاضي أبي يعلي، والقرطبي، والخطابي، وغيرهم ممن جاءت نصوصهم صريحة واضحة في إثبات العلو والرد على الجهمية (2).فهؤلاء المتأخرون النفاة من الأشاعرة مخالفون لأقوال شيوخهم، وقد علق شيخ الإسلام على ذلك – بعد نقله أقوال أولئك في إثبات العلو وغيره من الصفات – بقوله: "فإذا كان قول ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه، وهو الذي ذكروا أنه اتفق عليه سلف الأمة وأهل السنة، أن الله فوق العرش، وأن له وجها ويدين، وتقرير ما ورد في النصوص الدالة على أنه فوق العرش، وأن تأويل "استوى" بمعنى استولى هو تأويل المبطلين ونحو ذلك – علم أن هذا الرازي ونحوه هم مخالفون لأئمتهم في ذلك، وأن الذي نصره ليس هو قول ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه، وإنما هو صريح قول الجهمية والمعتزلة ونحوهم، وإن كان قد قاله بعض متأخري الأشعرية كأبي المعالي ونحوه" (3).   (1) انظر: أقوال هؤلاء في ((درء التعارض)) (6/ 78 - 82، 212 - 226، 250 - 267)، ((ومجموع الفتاوى)) (5/ 136 - 143، 175 - 183، 256 - 261، 314 - 317)، و ((القاعدة المراكشية)) (ص: 55 - 57، 62 - 79) – ط دار طيبة، و ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (2/ 35 - 45) – مخطوط – (1/ 61 - 65). (2) انظر نصوص أقوالهم في: ((درء التعارض)) (2/-12 - 13، 6/ 119 - 134، 193 - 212، 242 - 243)، و ((مجموع الفتاوى)) (5/ 152، 13/ 174، 16/ 89 - 91)، و ((منهاج السنة)) (2/ 251 - 252) – ط دار العروبة – المحققة – و ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (1/ 127، 2/ 14 - 35، 433 - 439)، - مخطوط – (1/ 55 - 82، 2/ 109 - 111، 181 - 182)، وغيرها كثير جدا. (3) ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (2/ 35). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 الثالث: "أن يقال حول قوله باتفاق الجمع العظيم على إنكار العلو – "لم يطبق على ذلك إلا من أخذه بعضهم عن بعض، كما أخذ النصارى دينهم بعضهم عن بعض، وكذلك اليهود والرافضة وغيرهم. فأما أهل الفطر التي لم تغير فلا ينكرون هذا العلم، وإذا كان كذلك فأهل المذاهب الموروثة لا يمتنع أطباقهم على جحد العلوم البديهية، فإنه ما من طائفة من طوائف الضلال – وإن كثرت – إلا وهي مجتمعة على جحد بعض العلوم الضرورية" (1).أما دعوى التواطؤ فمردودة بأن الفطر التي لم تتواطأ يمتنع اتفاقها على جحد ما يعلم بالبديهة، وقد يوافق بعض الناس – أو بعض عامتهم – على إنكار الجهة والتحيز والمكان، حين يقصد بنفيها ما هو معنى صحيح مثل نفي أن الله محصور في خلقه، أو مفتقر إلى مخلوق، إلى غير ذلك من المعاني التي يجب نفيها عن الله تعالى. أما لو قصد بذلك أن الله ليس فوق السموات، وأنه ليس وراء العالم إله موجود، فهذا لا يوافق عليه أحد بفطرته، وإنما يوافق عليه من قامت عنده شبهة من شبه النفاة (2).5 - أما الاعتراض على رفع الأيدي، وأن القلوب مفطورة عند دعائها ومسألتها – على التوجه إلى الله في العلو – بأن ذلك لأن السماء قبلة للدعاء وأن هذا منقوض بوضع الجبهة على الأرض، أو غير ذلك من التعليلات الهزيلة (3) – والحمد لله (4).وقد ركز شيخ الإسلام في هذه الأوجه على بيان أن الاستدلال برفع الأيدي والأبصار إلى السماء عند الدعاء، إنما هو حجة أهل الإثبات من السلف والخلف، وأن من هؤلاء الأشعري وأئمة أصحابه، وقد نقل شيخ الإسلام كلامهم في ذلك (5)، فالرازي في الحقيقة إنما يعترض على شيوخه الأشاعرة، وهم باستدلالهم يردون عليه. والإشارة إلى الله في العلو باليد والأصابع أو العين أو الرأس، قد تواترت به السنن عن الرسول صلى الله عليه وسلم (6). والنهي عن رفع البصر في الصلاة لأنه من باب الخشوع الذي أثنى الله على أهله، ولو كان الله ليس فوق، بل هو في السفل كما هو في الفوق لم يكن رفع البصر إلى السماء ينافي الخشوع، بل كان يكون بمنزلة خفضها (7).والناس على اختلاف عقائدهم وأديانهم يشيرون عند الدعاء إلى السماء لأن هذا شيء يجدونه في فطرهم (8).ودعوى أن السماء قبلة للدعاء كالكعبة قبلة للصلاة، باطل معلوم بالاضطرار بطلانه من وجوه: منها أن المسلمين مجمعون على أن قبلة الداعي هي قبلة الصلاة، ومنها: أن كون السماء أو العرش قبلة لا يثبت بغير الشرع، وليس في النصوص أي دليل على ذلك، ومنها أن القبلة أمر يدخله النسخ، ولذلك تحولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، ولو كانت القبلة هي العرش أو السماء لجاز تغييرها وتبديلها، ولجاز أن يدعو الإنسان ربه إلى سائر الجهات، وهذا فضلا عن أنه باطل، فإن العباد مفطورون على أن لا يتوجهوا إلا إلى جهة العلو.   (1) ((درء التعارض)) (6/ 267 - 268). (2) انظر: ((درء التعارض)) (6/ 271 - 272)، وانظر أيضا (6/ 191 - 193). (3) من ذلك ما زعمه الرازي من الرفع إلى السماء لأن الأنوار تنبعث من جانب السموات، أو لأن الحياة متوقفة على الهواء وهو دائما فوق الأرض. أو لأن الغيث ينزل من السماء: انظر: ((أساس التقديس)) (ص: 76 - 77). وهي تعليلات هزيلة جدا ومع ذلك فقد ناقشها شيخ الإسلام ضمن غيرها في الأوجه الأربعين التي ذكرها. (4) (2/ 431 - 502). (5) انظر: ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (2/ 433 - 439). (6) انظر: ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (2/ 439 - 445). (7) انظر: ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (3/ 445)، وانظر الرسالة العرشية – ((مجموع الفتاوى)) – (5/ 576 - 580). (8) انظر: ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (2/ 446 - 447). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 ومنها: أن القبلة ما يستقبله الإنسان بوجهه، أما ما يرفع الإنسان إليه يده أو رأسه أو بصره، فهذا باتفاق الناس لا يسمى قبلة، ومعلوم أن مستقبل القبلة يستدبر ما يقابلها، أما الداعي فإنه لا يكون مستقبلا للسماء مستدبرا للأرض، بل يكون مستقبلا لبعض الجهات. إلى غيرها من الأوجه (1).ووضع الجبهة على الأرض يفعله الناس لكل من يعظمونه، ولهذا يسجد المشركون لأصنامهم. وهذا بين (2). فتبين من هذه الأوجه وغيرها سلامة احتجاج السلف على العلو بما فطر الناس عليه من رفع أيديهم إلى السماء عند الدعاء والحاجة. 6 - أما اعتراضهم بأن العالم كرة، وأن الله إذا كان في جهة فوق لكان أسفل بالنسبة لسكان الوجه الآخر. فشيخ الإسلام لا ينازع في استدارة الفلك – كما قد ينازع فيه بعض الجهال (3) -، وقد أجاب عن هذا الاعتراض بعدة أوجه: منها: أن القائلين بأن العالم كرة يقولون أن السماء عالية على الأرض من جميع الجهات، والأرض تحتها من جميع الجهات. والجهات قسمان: حقيقية: ولها جهتان العلو السفل فقط، فالأفلاك وما فوقها هو العالي مطلقا، وما في جوفها هو السافل مطلقا. وإضافية: وهي الجهات الست بالنسبة للحيوان، فما حاذى رأسه كان فوقه وما حاذى رجليه فهو تحته، وما حاذى جهته اليمنى كان عن يمينه. وهكذا. ويتضح الفرق بينهما فيما لو علق رجل، فجعلت رجلاه إلى أعلى، ورأسه إلى أسفل، فبالنسبة للجهة الحقيقية لم يتغير عليه شيء إذ لا تزال السماء فوقه والأرض تحته، أما بالنسبة للإضافة فإن الأرض فوق رأسه (4)."وإذا كان كذلك فالملائكة الذين في الأفلاك من جميع الجوانب، هم باعتبار الحقيقة، كلهم فوق الأرض، وليس بعضهم تحت بعض، ولا هم تحت شيء من الأرض، أي الذين في ناحية الشمال ليسوا تحت الذين في ناحية الجنوب وكذلك من كان في ناحية برج السرطان ليس تحت من كان في ناحية برج العقرب وإن كان بعض جوانب السماء تلي رؤوسنا تارة وأرجلنا أخرى، وإن كان فلك الشمس فوق القمر، وكذلك السحاب وطير الهواء، هو مع جميع الجوانب فوق الأرض وتحت السماء، ليس شيء منه تحت الأرض، ولا من هذا الجانب تحت من هذا الجانب ... (فـ) علم أنه لا يلزم من كون الخالق فوق السماوات، أن يكون تحت شيء من المخلوقات، وكأن من احتج بمثل هذه الحجة إنما احتج بالخيال الباطل الذي لا حقيقة له ... " (5)."وإذا كانت المخلوقات التي في الأفلاك والهواء والأرض لا يلزم من علوها على ما تحتها أن تكون تحت ما في الجانب الآخر من العالم، فالعلي الأعلى – سبحانه – أولى أن لا يلزم من علوه على العالم أن يكون تحت شيء منه" (6).   (1) انظر: ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (2/ 452 - 464). (2) انظر: مناقشة ذلك من خمسة أوجه في ((الدرء)) (7/ 21 - 25). (3) انظر: ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (2/ 215). (4) انظر: ((درء التعارض)) (6/ 327 - 328). (5) ((درء التعارض)) (6/ 328 - 329) بتصرف يسير. (6) ((درء التعارض)) (6/ 330). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 وقد سبق – عند ذكر أدلة أهل السنة العقلية على العلو – أن كون العالم كرة من أدلة العلو. ومنها: أنه لا يسلم لزوم السفول، وإن سلم لزومه فلابد من دليل ينفي به ذلك، ولا يلزم من ذلك نقص، لأن الأفلاك موصوفة بالعلو على الأرض – مع لزوم ما ذكر من السفول تحت سكان الوجه الآخر – وليس ذلك نقصا فيها. وإذا كان هذا في المخلوقات فالخالق أولى أن يتنزه عنه حين يوصف بالعلو عليها كلها (1).أما دعوى أنه يلزم أن يكون الله فلكا محيطا بالعالم حتى يكون عاليا عليه فيقال: "على هذا التقدير إذا كان محيطا لم يكن سافلا البتة، بل يكون عاليا، وعلى هذا فإذا كان هو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وهو الباطن الذي ليس دونه شيء، ولو أدلى المدلي بحبل لهبط عليه – كان محيطا بالعالم عاليا عليه مطلقا ولم يلزم من ذلك أن يكون فلكا ولا مشابها للفلك، فإن الواحد من المخلوقات تحيط قبضته بما في يده من جميع جوانبها، وليس شكلها شكل يده، بل ولا شكل يده شكلها" (2). ثم إن العلو لا يشترط فيه الإحاطة، وإن كانت الإحاطة لا تناقضه والناس يعلمون أن الله فوق العالم، ـ وإن لم يعلموا أنه محيط به، وإذا علموا أنه محيط به لم يكن ذلك ممتنعا عندهم."والله تعالى ليس مثل الأفلاك، ولا يلزم إذا كان فوق العالم ومحيطا به أن يكون مثل فلك، فإنه العظيم الذي لا أعظم منه" (3). "والمقصود: أنه إذا كان الله أعظم وأكبر وأجل من أن يقدر العباد قدره، أو تدركه أبصارهم، أو يحيطون به علما، وأمكن أن تكون السموات والأرض في قبضته لم يجب – والحال هذه – أن يكون تحت العالم، أو تحت شيء منه، فإن الواحد من الآدميين إذا قبض قبضة أو بندقة أو حمصة أو حبة خردل وأحاط بها بغير ذلك، لم يجز أن يقال: إن أحد جانبيها فوقه، لكون يده لما أحاطت بها كان منها الجانب الأسفل يلي يده من جهة سفلها، ولو قدر من جعلها فوق بعضه بهذا الاعتبار، لم يكن هذا صفة نقص، بل صفة كمال. وكذلك أمثال ذلك من إحاطة المخلوقات ببعض المخلوقات، كإحاطة الإنسان بما في جوفه، وإحاطة البيت بما فيه، وإحاطة السماء بما فيها من الشمس والقمر والكواكب، فإذا كانت هذه المحيطات لا يجوز أن يقال: إنها تحت المحاط وإن ذلك نقص، مع كون المحيط يحيط به غيره – فالعلي الأعلى المحيط بكل شيء، الذي تكون الأرض جميعا قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه، كيف يجب أن يكون تحت شيء مما هو عال عليه أو محيط به، ويكون ذلك نقصا ممتنعا؟ " (4). والخلاصة: 1 - أن كون العالم كرة دليل على العلو، لأنه ليس هناك إلا علو مطلق أو سفل، وهو مركز الأرض، وهذا بالنسبة لجميع سكان الأرض، وإذا ثبت أن الله بائن من خلقه فهو في جهة العلو مطلقا. 2 - أن الأرض والسموات إذا كان الله يقبضها بيده، فتصور أن يكون تحت شيء منها تصور فاسد، لم يقدر صاحبه حق قدره. فكل ما يفترضه المفترض من لزوم أن يكون الله محيطا بالمخلوقات، أو أنه فلك، أو غير ذلك من التصورات فهي إما تصورات فاسدة، كتصور أنه فلك أو أنه لا يلزم منها نقص ينافي كمال ربوبية الله تعالى ككون الله تعالى محيطا بخلقه. ولشيخ الإسلام في ذلك مناقشات مطولة بين من خلالها أن ثبوت العلو الذي جاءت به النصوص وفطرت عليه العقول – لا يلزم منه شيء من هذه اللوازم التي ذكرها نفاته (5). ومن ذلك أن لقائل أن يقول: ما فائدة أن يتوجه الإنسان عند الدعاء إلى العلو، ولماذا لا يتجه إلى إحدى الجهات الأخرى من يمين أو شمال ما دامت نهايته العلو نفسه؟ يقول شيخ الإسلام – بعد توضيحه لبعض الأمور-: "وإذا كان مطلوب أحدهما ما فوق الفلك لم يطلبه إلا من الجهة العليا، لم يطلبه من جهة رجليه أو يمينه أو يساره لوجهين: أحدهما: أن مطلوبه من الجهة العليا أقرب إليه من جميع الجهات، فلو قدر رجل أو ملك يصعد إلى السماء أو إلى ما فوق، كان صعوده مما يلي رأسه أقرب إذا أمكنه ذلك، ولا يقول عاقل: إنه يخرق الأرض ثم يصعد من تلك الناحية، ... الوجه الثاني: أنه إذا قصد السفل بلا علو كان ينتهي قصده إلى المركز، وإن قصده أمامه أو وراءه أو يمينه أو يساره من غير قصد العلو كان منتهى قصده أجزاء الهواء، فلابد له من قصد العلو ضرورة، سواء قصد من ذلك هذه الجهات أو لم يقصدها، ولو فرض أنه قال: أقصده من اليمين مع العلو، أو من السفل مع العلو، كان هذا بمنزلة من يقول: أريد أن أحج من المغرب، فأذهب إلى خراسان ثم أذهب إلى مكة ... " (6). المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1228   (1) انظر: ((درء التعارض)) (6/ 330 - 333). (2) انظر: ((درء التعارض)) (6/ 335). (3) ((درء التعارض)) (6/ 339). (4) ((درء التعارض)) (6/ 339). (5) انظر: ((درء التعارض)) (6/ 326 - 340)، و ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (2/ 211 - 230)، و ((رسالة في الهلال – مجموع الفتاوى)) (25/ 196 - 197). (6) ((الرسالة العرشية - مجموع الفتاوى –)) (6/ 568 - 569). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 المبحث الرابع: منشأ ضلال الأشاعرة في باب الصفات • المطلب الأول: معنى المتشابه، وهل الصفات أو بعضها منه؟ . • المطلب الثاني: منهج الأشاعرة في النفي في باب الصفات. • المطلب الثالث: أن الصفات ليست من المتشابه. • المطلب الرابع: أيهما الأصل العقل أم الشرع؟. • المطلب الخامس: نقد القاعدة الكلية للرازي. • المطلب السادس: فكرة التفريق بين العقائد والأحكام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 المطلب الأول: معنى المتشابه، وهل الصفات أو بعضها منه؟ مما يلاحظ أن أهل الكلام - وفيهم الأشاعرة - مع اهتمامهم بالعقل وأدلته، وتقديمها على أدلة السمع عند التعارض، إلا أنهم يحاولون أن يجدوا لبعض أصولهم العقلية ومنطلقاتهم الكلامية، أدلة من السمع، وقد سبق ذكر مثالين على ذلك: أحدهما: استدلالهم على دليل حدوث الأجسام - الذي كان سببا في كثير من ضلالات المتكلمين في الصفات - استدلالهم عليه بقصة الخليل وقوله: فَل لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام: 76]- والثاني: احتجاجهم على نفي العلو وبعض الصفات بنفي التجسيم، وقد استدلوا على نفيه بقوله تعالى في قصة موسى وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ [الأعراف: 148]. وفي هذه المسألة يرد مثال ثالث على هذا المنهج الذي أرادوا أن يدعموا به مذهبهم في نفي الصفات أو بعضها؛ وذلك أنهم كثيرا ما يحتجون على تأويلهم للصفات، أو تفويضهم لها بأنها من المتشابه، ويستدلون على ذلك بالآية المشهورة من سورة آل عمران، وهي قوله تعالى: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [آل عمران: 7]، ويبنون احتجاجهم بها على أن الصفات من المتشابه، ويقررون ذلك بأمرين: إما بالاستدلال بها على أن مذهب السلف هو التفويض الكامل، الشامل للمعنى وللكيفية، وذلك عند ردهم على من يثبت الصفات ويحتج بما تواتر من إثبات السلف - رحمهم الله - لها. فيحتجون بهذه الآية على قراءة الوقف على "إلا الله". وهذا التفويض الذي جعلوه مذهبا للسلف يقصدون منه أنهم - أي السلف - جعلوا هذه الصفات من المتشابه، وأثبتوها ألفاظا مجردة لا تدل على معان ولا يفهم منها شيء. وهدفهم النهائي من ذلك أن يجعلوا تأويلهم للصفات وصرفها عن ظواهرها اللائقة بالله، موافقا ضمنا لما يدعونه من تفويض السلف، إذ على كلا الحالتين لا تدل النصوص على الصفات اللائقة بجلال الله وعظمته. وإما - وهذا هو الأمر الثاني - أن يستدلوا بالآية على جواز التأويل - الذي هو عند المتأخرين صرف اللفظ من الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح - ويقولون: إن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابهات - ومنها على زعمهم الصفات - وهذا على قراءة مجاهد وغيره بعطف "والراسخون في العلم" على ما قبله. والمحكم والمتشابه من مباحث علوم القرآن المشهورة، وقد تعددت الأقوال في تحديد المقصود بالمحكم والمتشابه المذكورين في آية آل عمران (1). أما الإحكام العام الذي دل مثل قوله تعالى: الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [هود: 1]، والتشابه العام الذي دل عليه مثل قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ [الزمر: 23] وغيرها. فهو شامل لجميع القرآن، لأن القرآن كله محكم، ويشبه بعضه بعضا في ذلك. وهذان المعنيان لم يخالف فيهما أحد.   (1) انظر: ((البرهان)) (2/ 68) و ((الإتقان)) (3/ 3 - 5)، و ((مناهل العرفان)) (2/ 168 - 171)، و ((اللآلي الحسان في علوم القرآن)) تأليف موسى لاشين (ص: 157 - 158)، و ((تفسير سورة الإخلاص - مجموع الفتاوى)) (17/ 418 - 424). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 ومسألة المحكم والمتشابه اكتسبت أهمية خاصة عند كثير من المتأخرين، لما دخل فيهما من موضوعات مهمة كانت مثار خلاف وجدل بين العلماء. والملاحظ أن ما كتبه الفخر الرازي في تفسيره (1)، وفي كتابه (أساس التقديس) (2) حول المحكم والمتشابه وما يتعلق بهما - أصبح مرجعا أساسا لكثير ممن أتى بعده، وإن كان قد سبق إلى ذلك بعض الأشاعرة (3) والمعتزلة (4). وليس المقصود تتبع مباحث المحكم والمتشابه، لأن هذه لها مناسبات أخرى، وإنما المقصود بيان أن أهم الأمور التي ركز عليها الرازي في ذلك أربعة أمور: 1 - أنه لابد من قانون أصلي لمعرفة المحكم والمتشابه، ثم بين أنه لا يجوز ترك الظاهر الذي دلت عليه الآية والخبر إلا بدليل منفصل، ثم ذكر أن هذا الدليل المنفصل إما لفظي وإما عقلي. أما الدليل اللفظي المنفصل فإذا عارض دليل آخر فليس ترك أحدهما لإبقاء الآخر أولى من العكس. ثم رد الرازي على زعم أن الدليل اللفظي قد يكون قاطعا فيجب تقديمه لذلك: بأن "الدلائل اللفظية لا تكون قطعية لأنها موقوفة على نقل اللغات، ونقل وجوه النحو والتصريف، وعلى عدم الاشتراك، والمجاز، والتخصيص، والإضمار، وعدم المعارض النقلي والعقلي. وكل واحد من هذه المقدمات مظنونة، والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنونا، فثبت أن شيئا من الدلائل اللفظية لا يمكن أن يكون قطعيا (5). كما رد على من قال إن أحد الظاهرين أقوى فيعول عليه بأنه "على هذا التقدير يصير ترك أحد الظاهرين لتقرير الظاهر الثاني مقدمة ظنية، والظنون لا يجوز التعويل عليها في المسائل العقلية القطعية" (6).ولما أبطل التعويل على الدليل اللفظي عول على الدليل العقلي المنفصل فقال: "فثبت بما ذكرنا أن صرف اللفظ عن ظاهره إلى معناه المرجوح لا يجوز إلا عند قيام الدليل العقلي القاطع على أن ظاهره محال ممتنع، فإذا حصل هذا المعنى فعند ذلك يجب على المكلف أن يقطع بأن مراد الله تعالى من هذا اللفظ ليس ما أشعر به ظاهره. ومن لم يجوزه فوض علمه إلى الله تعالى" (7). وخلاصة رأى الرازي أن الآية والخبر تصير متشابهة ويجب عدم اعتقاد ظاهرها بتأويل أو تفويض - إذا عارضها الدليل العقلي القاطع. 2 - ومن الأمور التي ركز عليها الرازي إدخاله الصفات في المتشابه، ومعلوم أن كتابه (أساس التقديس) خصصه لمناقشات نصوص الصفات وتأويلها، وقد ناقش فيه بإسهاب موضوع المحكم والمتشابه ناصرا مذهبه الذي سار عليه.3 - ومن الأمور التي ذكرها أن الحكمة من إنزال المتشابه مراعاة أحوال العوام في أول أمرهم فيخاطبون بما يدل على التجسيم والتحيز والجهة لأن ذلك يناسب ما تخيلوه وتوهموه. فهذا الذي يخاطبون به من باب المتشابهات، ثم يكشف لهم آخر الأمر استحالة هذه الأمور، الذي هو المحكمات (8).4 - أنه قرر مذهب السلف بقوله: "حاصل هذا المذهب أن هذه المتشابهات يجب القطع فيها بأن مراد الله تعالى منها شيء غير ظواهرها، ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى، ولا يجوز الخوض في تفسيرها" ثم قرر مذهب المتكلمين بقوله: "وقال جمهور المتكلمين: بل يجب الخوض في تأويل تلك المتشابهات" (9). ثم لما ذكر حجج مذهب السلف من الوقف على قوله وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ، إجماع الصحابة على عدم التأويل، قال عن المتكلمين أن حجتهم: "أن القرآن يجب أن يكون مفهوما، ولا سبيل إليه في الآيات المتشابهة إلا بذكر التأويل فكان المصير إليه حتما" (10) المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود - 3/ 1122   (1) (7/ 166 وما بعدها). (2) (ص: 178 - 192) - ط الحلبي. (3) كالجويني في ((الشامل)) (ص: 550 - 553)، فقد تعرض لذلك عند حديثه عن صفة الاستواء. (4) كعبد الجبار الهمذاني المعتزلي في كتاب ((متشابه القرآن))، (ص: 5 وما بعدها)، وقد نص على أنه يجب أن يرتب المحكم والمتشابه جميعا على أدلة العقل. انظر (ص: 7)، وقد أخذ الرازي بقوله هذا. (5) ((أساس التقديس)) (ص: 182) - ط الحلبي، وانظر ((متشابه القرآن)) (ص: 841 - 842). (6) ((أساس التقديس)) (ص: 182) - ط الحلبي. (7) ((أساس التقديس)) (ص: 182) - ط الحلبي. (8) ((أساس التقديس)) (ص: 192) - ط الحلبي. (9) ((أساس التقديس)) (ص: 182 - 183). (10) ((أساس التقديس)) (ص: 187) - ط الحلبي، و (ص: 240) - ت السقا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 المطلب الثاني: منهج الأشاعرة في النفي في باب الصفات إن الحديث عن منهج الأشاعرة في باب الصفات يعد حديثا شائكا ومتشعبا, نظرا لما مر به هذا المذهب من مراحل عديدة أثناء تطوره .......... والملاحظة الأولية التي يخرج بها الناظر في منهج الأشاعرة في باب الصفات, أن هذه المسألة لها خصوصية نظرا لتفاوت واضطراب أقوالهم فيها. وخلاصة هذه الأقوال: - أن هناك صفات اتفقوا على إثباتها, وهي الصفات السبع التي يسمونها بصفات المعاني - وهناك صفات اتفقوا على نفيها, وهي الصفات الاختيارية المتعلقة بمشيئة الله عز وجل وقدرته. - وهناك صفات اختلفوا فيها مثل الصفات الخبرية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " أهل الإثبات للصفات لهم فيما زاد على الثمانية ثلاثة أقوال معروفة: أحدها: إثبات صفات أخرى, كالرضى والغضب والوجه واليدين والاستواء, وهذا قول ابن كلاب والحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي والأشعري وقدماء أصحابه, كأبي عبد الله ابن مجاهد وأبي الحسن بن مهدي الطبري, والقاضي أبي بكر بن الطيب وأمثالهم, وهو قول أبي بكر بن فورك, وقد حكى إجماع أصحابه على إثبات الصفات الخبرية, كالوجه واليد, وهو قول أبي القاسم القشيري, وأبي بكر البيهقي, كما هو قول القاضي أبي يعلى, وابن عقيل والشريف أبي علي, وابن الزاغوني, وأبي الحسن التميمي وأهل بيته, كابنه أبي الفضل, ورزق الله وغيرهم, كما هو قول سائر المنتسبين إلى أهل السنة والحديث, وليس للأشعري نفسه في إثبات صفة الوجه واليد والاستواء وتأويل نصوصها قولان, بل لم يختلف قوله أنه يثبتها ولا يقف فيها بل يبطل تأويلات من ينفيها, ولكن أبو المعالي وأتباعه ينفونها, ثم لهم في التأويل والتفويض قولان: فأول قول أبي المعالي التأويل, كما ذكره في (الإرشاد) وآخرهما التفويض , كما ذكره في (الرسالة النظامية) وذكر إجماع السلف على المنع من التأويل وأنه محرم. وأما أبو الحسن وقدماء أصحابه فهم من المثبتين لها. وقد عد القاضي أبوبكر في (التمهيد) و (الإبانة) له الصفات القديمة: خمس عشرة صفة, ويسمون هذه الصفات الزائدة على الثمانية الصفات الخبرية. وكذلك غيرهم من أهل العلم والسنة, مثل محمد بن جرير الطبري وأمثاله, وهو قول أئمة أهل السنة والحديث من السلف وأتباعهم, وهو قول الكرامية والسالمية وغيرهم. وهذا القول هو القول المعروف عند متكلمة الصفاتية, لم يكن يظهر بينهم غيره, حتى جاء من وافق المعتزلة على نفيها وفارق طريقة هؤلاء" (1). فهذا النص من شيخ الإسلام ابن تيمية يبين لنا موقف المذهب الأشعري في الصفات الزائدة على الثمانية التي يثبتونها باتفاق, وأن قدماءهم كالأشعري المؤسس وتلاميذه وكبار أتباعه يثبتون صفات زائدة على الثمانية, وأن الاقتصار على الثمانية وتأويل أو تفويض ما سواها إنما هو منهج بدأ على يد أبي المعالي الجويني ومن جاء بعده, وهو الذي استقر عليه المذهب إلى الآن. وقال أيضا: "والذي كان أئمة السنة ينكرونه على ابن كلاب والأشعري بقايا من التجهم والاعتزال مثل اعتقاد صحة طريقة الأعراض وتركيب الأجسام, وإنكار اتصاف الله بالأفعال القائمة التي يشاؤها ويختارها وأمثال ذلك من المسائل" (2) وأما المتأخرون من الأشعرية فقد "مالوا إلى نوع التجهم, بل الفلسفة, وفارقوا قول الأشعري وأئمة أصحابه الذين لم يكونوا يقرون بمخالفة النقل للعقل, بل انتصبوا لإقامة أدلة عقلية توافق السمع" (3)   (1) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (3/ 380 - 382). (2) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 97). (3) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 97). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 والأصل الآخر الذي اتفق عليه أيضا قدماؤهم ومتأخروهم نفي الصفات الاختيارية عن الله عز وجل ويعبرون عنها بنفي حلول الحوادث بذات الله عز وجل وذلك مثل صفة الكلام, والرضى والغضب, والفرح, والمجيء, والنزول, ونحوها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فلما كان من أصل ابن كلاب ومن وافقه, كالحارث المحاسبي, وأبي العباس القلانسي, وأبي الحسن الأشعري, والقضاة: أبي بكر بن الطيب وأبي يعلى بن الفراء وأبي جعفر السمناني, وأبي الوليد الباجي وغيرهم من الأعيان كأبي المعالي الجويني وأمثاله, وأبي الوفاء بن عقيل, وأبي الحسن ابن الزاغوني وأمثالهما: أن الرب لا يقوم به ما يكون بمشيئته وقدرته, ويعبرون عن هذا بأنه لا تحله الحوادث ووافقوا في ذلك للجهم بن صفوان, وأتباعه من الجهمية والمعتزلة, صاروا فيما ورد في الكتاب والسنة من صفات الرب على أحد قولين: إما أن يجعلوها كلها مخلوقات منفصلة عنه فيقولون: كلام الله مخلوق بائن عنه, لا يقوم به كلام وكذلك رضاه, وغضبه, وفرحه, ومجيئه, وإتيانه, ونزوله وغير ذلك, هو مخلوق منفصل عنه, لا يتصف الرب بشيء يقوم به عندهم. وإذا قالوا هذه الأمور من صفات الفعل: فمعناه أنها منفصلة عن الله بائنة, وهي مضافة إليه, لا أنها صفات قائمة به. ولهذا يقول كثير منهم: إن هذه آيات الإضافات, وأحاديث الإضافات وينكرون على من يقول: آيات الصفات وأحاديث الصفات. وإما أن يجعلوا جميع هذه المعاني قديمة أزلية, ويقولون: نزوله ومجيئه, وإتيانه, وفرحه, وغضبه, ورضاه ونحو ذلك, قديم أزلي, كما يقولون: إن القرآن قديم أزلي. ثم منهم من يجعله معنى واحدا, ومنهم من يجعله حرفا, أو حروفا وأصواتا قديمة أزلية, مع كونه مرتبا في نفسه, ويقولون: فرق بين ترتيب وجوده وترتيب ماهيته" (1). أما الصفات التي أجمع الأشاعرة على إثباتها فهي صفات المعاني السبع: الحياة, والعلم, والقدرة, والإرادة, والسمع, والبصر, والكلام. وأثبتوا هذه الصفات, لأن العقل دل عليها دون غيرها. ولما كانت الشبهة الرئيسة للأشاعرة في نفي الصفات الاختيارية عن الله عز وجل هي شبهة حلول الحوادث بذات الله عز وجل, ورأوا أن العقل بزعمهم يدل على ثبوت سبع صفات فقط, وجدوا أن هذه الصفات- ما عدا صفة الحياة – يلزم من إثباتها حلول الحوادث بذات الله عز وجل فادعوا بأنهم وجدوا الحل لهذه المعضلة بأن قالوا بأزلية هذه الصفات, وأنها لا زمة لذات الله عز وجل أزلا وأبدا, ولا يتجدد لله عند وجود هذه المخلوقات نعت ولا صفة وإنما يتجدد مجرد التعلق بين العلم والمعلوم, وبين القدرة والمقدور وهكذا في بقية الصفات المصدر: النفي في باب صفات الله عز وجل بين أهل السنة والجماعة والمعطلة لأرزقي سعيداني – ص 629   (1) ((شرح حديث النزول)) ص: (225 - 227) , وانظر ((مجموع الفتاوى) (6/ 51 - 52، 54). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 وقد ناقش شيخ الإسلام موضوع المحكم والمتشابه، ورد على الرازي وغيره ممن غلط في جعل الصفات من المتشابه، أو جعل ما خالف العقل فهو متشابه، أو غير ذلك من الأمور التي خاض فيها أهل الكلام. وما كتبه شيخ الإسلام في ذلك كثير، وأهمه ما ذكره في ثلاثة من كتبه: أحدها: ما ذكره في نقضه لأساس التقديس للرازي – وقد يسمى كتاب الرازي (تأسيس التقديس) – وقد أطال شيخ الإسلام في ذلك، وناقض الرازي في كل ما كتبه، على طريقته في استيعاب مناقشة فصول هذا الكتاب، ولكن – للأسف الشديد – انتهت المخطوطة الموجودة قبل إتمام مباحث هذا الموضوع (1).الثاني: في تفسير سورة الإخلاص، وقد بلغت مباحث المحكم والمتشابه فيها أكثر من ستين صفحة (2).الثالث: في الرسالة التي أفردها في هذا الموضوع بعنوان: الإكليل في المتشابه والتأويل (3). وخلاصة منهج شيخ الإسلام وهدفه من هذه المناقشة الدفاع عن عقيدة السلف في الأسماء والصفات وغيرها، والرد على المتكلمين الذين جعلوا من مسائل المحكم والمتشابه مدخلا لتأويل نصوص الصفات وتحريفها لتوافق عقائدهم وأصولهم الفاسدة، ويمكن تلخيص منهجه من خلال الأمور التالية:   (1) انظر: الجزء الثاني من مخطوطة – ((نقد التأسيس)) (ص: 199 إلى 360) حيث ينقطع الكلام بشكل مفاجئ، وهو رد على الصفحات (173 - 182) من أساس الرازي. وبقي من (ص: 183 - 192) من أساس الرازي ساقط في مخطوط نقضه لشيخ الإسلام. (2) طبع ((تفسير سورة الإخلاص)) مستقلا، وهو ضمن مجموع الفتاوى (جـ 17)، و ((بحوث المحكم والمتشابه)) (ص: 381 - 443) من هذا الجزء. (3) ضمن ((مجموع الفتاوى)) (ج13/ 270 - 313). وضمن ((مجموعة الرسائل الكبرى)) (2/ 5 - 36). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 الأمر الأول: تحقيق مسألة: هل يجوز أن يشتمل القرآن على ما لا يعلم معناه؟:وهي مسألة مهمة تبنى عليها مسألة المتشابه، ولذلك أطال شيخ الإسلام الكلام حولها، خاصة في تعليقه أو مناقشته للرازي، الذي ذكر هذه المسألة في أساسه قبل حديثه عن المتشابه فقال ذاكرا الخلاف فيها: "اعلم أن كثيرا من الفقهاء والمحدثين والصوفية يجوزون ذلك. والمتكلمون ينكرونه" (1). ثم ذكر حجج المتكلمين الكثيرة، أعقبها بذكر حجج مخالفيهم، ثم قال: "هذا ما عندي من كلام الفريقين في هذا الباب وبالله التوفيق" (2).وقد رجح شيخ الإسلام أدلة من يقول إنه لا يجوز أن يكون في القرآن مالا سبيل لنا إلى العلم به، وزاد على الأدلة التي أوردها الرازي أدلة أخرى كثيرة (3)، وإن كان قد تعقبه في بعض أدلته – مثل بعض الأدلة العقلية التي أوردها – لأنها لا تتفق مع أصوله الأشعرية (4). وشيخ الإسلام هنا لا يعارض استدلاله وإنما يبين تناقضه. يقول شيخ الإسلام بعد ذكره لهذه الحجج – رادا على الرازي -: "هذه الحجج كما أنها دالة على فساد قول من قال: إن في القرآن ما لا سبيل لأحد إلى فهمه، بل معرفة معناه، فهي أيضا دالة على فساد قول هؤلاء المتكلمين، نفاة الصفات أو بعضها، فهي حجة على فساد قول الطائفتين، وذلك أن هؤلاء النفاة يقولون: إن التوحيد الحق الذي يستحقه الله تعالى ويجب أن يعرف به ويمتنع وصفه بنقيضه ليس هو في القرآن، ولم يدل عليه القرآن. ودلالة الخطاب المعروفة، وهو كون الرب ليس بداخلا العالم ولا خارجه، ولا يشار إليه، ولا يقرب من شيء ولا يقرب منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، ولا يحجب العباد عنه شيء، ولا عنده شيء دون شيء، بل جميع الأشياء سواء، ولا يحتجب عنهم بشيء، وأنواع ذلك، فمن المعلوم أن القرآن لم يدل على شيء من ذلك، ولا بينه، بل إنما دل على نقيضه، وهو إثبات الصفات (التي) تدل على أنه يقرب من غيره ويدنو إليه، ويقرب العبد منه ويدنو إليه، وعلى أنه عال على جميع الأشياء، فوقها، وأنه ينزل منه كلامه، وتنزل الملائكة من عنده وتعرج إليه، وأمثال ذلك، وهم متفقون على أن ظاهر القرآن إنما يدل على الإثبات الذي هو عندهم تجسيم باطل بل كفر. وغيرهم يقول: بل دلالة القرآن على ذلك نصوص صريحة، بل ذلك معلوم بالاضطرار من القرآن والرسول" (5).وهؤلاء المتكلمون النفاة أرادوا أن يتوصلوا بقولهم الذي وافقهم عليه شيخ الإسلام – إلى تأويل النصوص إلى معان أخرى باطلة، وقد احتجوا بالآية وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران: 7] على قراءة العطف وفسروا التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم بأنه صرف اللفظ من الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح. وهذا خطأ عظيم لأن التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم – على قراءة الوصل – هو التفسير، وهذا قد لا يعلمه بعض الناس لكن الراسخون في العلم يعلمونه، "فمن قال إن القرآن يجوز أن يشتمل على مالا سبيل لبعض الناس على العلم به فقد أصاب، وذلك لعجزه، لا عن نقص في دلالة القرآن، فكثير من الناس لا سبيل له على أن يعلم كثيرا من العلوم كالطب والنجوم والتفسير والحديث، وإن كان غيره يعلم ذلك، وإن أراد أنه لا سبيل لأحد إلى معرفة تفسيره فقد غلط.   (1) ((أساس التقديس)) للرازي (ص: 173) – ط الحلبي. (2) ((أساس التقديس)) للرازي (ص: 177)، وانظر (ص: 173 - 177). (3) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 200 - 214)، وانظر: ((أدلة أخرى عديدة في تفسير سورة الإخلاص – مجموع الفتاوى)) (17/ 395 - 414). (4) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 213 - 214). (5) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 215). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 وإن قال: لا سبيل لأحد إلى معرفة حقيقته وكيفيته وهيئته ونحو ذلك فقد أصاب، فينبغي أن يعرف الفصل في هذا الباب حتى يظهر الخطأ من الصواب" (1).وقد أوضح شيخ الإسلام قبل ذلك ما في قول القائل: مالا سبيل لنا إلى العلم به من الإجمال (2).بقي الكلام في أدلة الفريق الثاني المجوزين لوجود ما لا سبيل لنا إلى العلم به، وقد ساق الرازي أدلتهم، ثم سكت عن الترجيح بين القولين، ولذلك رد عليه شيخ الإسلام قائلا: "قلت: ذكر القولين ولم يرجح أحدهما، ولم يذكر جواب أحدهما عن حجة الآخرين فبقيت المسألة على الوقف والحيرة والشك. وكذلك لما ذكر بعد هذا تقرير قول من جزم بالتأويل، فإنه هنا ذكر الخلاف في جواز ورود ما أمكن فهم معناه، وهناك ذكر قول من أوجب وقوع ذلك وجزم بالتأويل، وقد ذكر حجة كل قوم، ولم يذكر لهم جوابا عن حجة الآخرين (3) فبقيت المسألة مما تكافأت فيها الأدلة (عنده)، وأما في تفسيره فرجح المنع من التأويل، كما رجح أبو المعالي في آخر قوليه، وكما رجحه أبو حامد في آخر قوله" (4)، ثم نقل كلام الرازي في تفسيره (5) وسبب هذه الحيرة والتوقف عند الرازي – كما يرى شيخ الإسلام – "أن كلا القولين اللذين حكاهما عن المتكلمين والذي حكاه عن السلف قول باطل. والذي حكاه عن السلف ليس قولهم ولا قول أحد منهم، ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين" (6).وبهذا يتبين أن خلاصة رأي شيخ الإسلام أنه لابد لكل ما أنزل الله تعالى من معنى يمكن فهمه، وليس هناك فرق بين آيات الصفات وآيات الأحكام. وكثير من الصحابة والتابعين كانوا يعملون تفسير القرآن، ولا توجد آية ليس لهم فيها تفسير يوضح معناها. وتفسيرهم وفهمهم للنصوص هو الذي يرجع إليه عند الاختلاف. أما ما يدعيه أصحاب التأويلات المحرفة من أن تأويلاتهم هي المعاني الصحيحة للآيات التي أولوها، فهذا خطأ منهم (7).وفي رسالة الإكليل بين شيخ الإسلام "أن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله، ولا قال هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه، ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين: إن في القرآن آيات لا يعلم معناها ولا يفهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أهل العلم والإيمان جميعهم، وإنما قد ينفون علم بعض ذلك عن بعض الناس، وهذا لا ريب فيه"، ثم بين سبب الكلام في هذه المسألة فقال: "وإنما وضع هذه المسألة المتأخرون من الطوائف بسبب الكلام في آيات الصفات وآيات القدر وغير ذلك، فقبلوها: "هل يجوز أن يشتمل القرآن على ما لا يعلم معناه، و (أنا) تعبدنا بتلاوة حروفه بلا فهم" فجوز ذلك طوائف متمسكين بظاهر الآية، وبأن الله يمتحن عباده بما شاء. ومنعها طوائف ليتوصلوا بذلك إلى تأويلاتهم الفاسدة التي هي تحريف الكلم عن مواضعه. والغالب على كلا الطائفتين الخطأ، أولئك يقصرون في فهم القرآن بمنزلة من فيه: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ [البقرة: 78]، وهؤلاء معتدون بمنزلة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ... " (8).   (1) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 200). (2) ((نقض التأسيس)) (2/ 199). (3) انظر: حجة الفريقين حول جواز التأويل في ((أساس التقديس)) للرازي (ص: 182 - 187)، ومن المؤسف أن مخطوطة نقض هذا الفصل انتهت بعد صفحات يسيرة من بداية مناقشتها. (4) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 221 - 222). (5) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 222)، وقارن بـ ((تفسير الرازي)) (7/ 170). (6) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 222). (7) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 223). (8) ((الأكليل في المتشابه والتأويل – مجموع الفتاوى)) (13/ 285 - 286). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 وهذه مشكلة المتكلمين دائما يظنون أن قول هذه الطائفة – وقد يكون لها وجود – هو مذهب السلف، وهو ما يعبرون عنه بالتفويض وهذا من الأخطاء الكبرى التي انتشرت وارتكبت في حق السلف، وهم منها برآء. بقيت الإشارة إلى أن الرازي لما لم يرجح بين القولين حول مسألة اشتمال القرآن على مالا سبيل لنا إلى العلم به – انتقده شيخ الإسلام على توقفه وحيرته وشكه تم رد على أدلة المجوزين التي أوردها الرازي وسكت عنها. وأهم هذه الأدلة: أ- قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ [آل عمران: 7] والوقف لازم. ب- الحروف المقطعة المذكورة أوائل السور. ج- خبر: "أن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمها إلا العلماء بالله .... " (1).   (1) انظر: ((أساس التقديس)) للرازي (ص: 176) – ط الحلبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 وخلاصة ردود شيخ الإسلام عليها كما يلي: أ- أما الآية فقد بين أن فيها قراءتين مشهورتين، قال: "ونحن نسلم قراءة من قرأ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ لكن من أين لهم أن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله هو المعنى الذي عني به المتكلمون، وهو مدلول اللفظ الذي قصد المخاطب إفهام المخاطب إياه. وهو سبحانه وتعالى لم يقل وما يعلم معناه إلا الله، ولا قال وما يعلم تفسيره إلا الله، ولا قال وما يعلم مدلوله ومفهومه إلا الله، ولا ما دل عليه إلا الله. قال: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ ولفظ التأويل له في القرآن معنى، وفي عرف كثير من السلف وأهل التفسير معنى، وفي اصطلاح كثير من المتأخرين له معنى، وبسبب تعدد الإصطلاحات والأوضاع فيه حصل اشتراك غلط بسببه كثير من الناس في فهم القرآن وغيره" (1)، وبعد كلام طويل حول التأويل وأنوعه قال: "وإذا عرف معنى لفظ التأويل ظهر فساد احتجاج هؤلاء بقوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ فإن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله ليس هو أن لا يفهم أحد من اللفظ، بل يفهمونه وإن كان تأويله لا يعلمه إلا الله" (2)، ثم ذكر عددا من أقوال السلف في الآية تبطل حجة هؤلاء ثم قال: "فابن إسحاق ذكر مثل ابن عباس والضحاك وغيرهم الذين يقولون بالقراءتين. يقولون: له تأويل لا يعلمه إلا الله، وتأويل يعلمه الراسخون، وكذلك عامة أهل العربية الذين قالوا ما يعلم تأويله إلا الله، كالفراء وأبي عبيد وثعلب وابن الأنباري، هم يتكلمون في متشابه القرآن كله وفي تفسيره (و) معناه. (و) ليس في القرآن آية قالوا لا يعلم أحد تفسيرها ومعناها، فيجب أن يكون التأويل الذي اختص الله به عندهم غير ما تكلموا فيه من تفسير الآيات المتشابهة. وقوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ قد يقال فيه إن المنفي هو عموم السلب لا سلب العموم، أي وما يعلم جميع التأويل إلا الله، وأما بعضه فيعلمه الراسخون كما قال ابن عباس: "وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، من ادعى علمه فهو كاذب" (3)، فقول الجمهور هو القراءة الصحيحة، وهو أنه لا يعلم غير الله جميع التأويل، كقوله: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31] أي مجموعهم، وإلا فكثير من الناس يعلم بعض جنود ربنا. وبكل حال تفسيره (و) معناه ليس داخلا في التأويل الذي اختص الله به سواء سمى تأويلا أو لم يسم" (4). والخلاصة أن قراءة الوقف على "إلا الله" لها وجهان:   (1) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 223 - 224). (2) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 224 - 225). (3) أثر مشهور عن ابن عباس وأوله (التفسير على أربعة أوجه .... ) رواه ابن جرير (1/ 75) (71) وذكر ابن جرير أنه روي نحوه مرفوعا، لكن بسند فيه نظر، وساقه بعد الأثر السابق، وذكر ابن كثير في آخر مقدمة تفسيره (1/ 18) – ط الشعب: أن ابن جرير قصد بذلك أن فيه الكلبي وهو ضعيف، وانظر: تعليق شاكر على هذا الحديث في ((تفسير الطبري)) (1/ 76). (4) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 247). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 - أما أن يكون المقصود بالتأويل الحقيقة التي تؤول إليها الأمور.- أو يكون المقصود به جميع التأويل الذي هو التفسير، ويدل له قول ابن عباس حيث صرح بأن من التفسير ما لا يعلمه إلا الله، كما أوضح ذلك شيخ الإسلام، وبهذا – مع الكلام الذي سيأتي عن الحروف المقطعة أوائل السور – يظهر الجواب عما استشكله الشنقيطي في هذا المقام والله أعلم (1).   (1) قال الشنقيطي في ((أضواء البيان)) (1/ 237): "وقال بعض العلماء: والتحقيق في هذا المقام ... " وذكر الجمع المشهور في آية آل عمران، وأن من قال: الواو عاطفة جعل معنى التأويل التفسير ومن قال هي استئنافية جعل التأويل هو حقيقة ما يؤول إليه الأمر، ثم قال الشنقيطي – رحمه الله – "وهو تفصيل جيد لكن يشكل عليه أمران، الأول قول ابن عباس: التفسير على أربعة أنحاء ... والثاني الحروف المقطعة". وقارن ما نقله الشنقيطي بما في ((تفسير ابن كثير)). سورة آل عمران آية 7، (1/ 347) – ط الحلبي – ومطبعة الاستقامة، 1376هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 ب- أما الحروف المقطعة أوائل السور فقد أجاب شيخ الإسلام عن دعوى أنها من المتشابه بعدة أجوبة: أحدها: "أن هذه ليست كلاما منظوما فلا يدخل في مسمى الآيات، وعامة أهل مكة والمدينة والبصرة لا يعدون ذلك آية، ولكن الكوفيون يعدونها آية، وبكل حال فهي أسماء حروف ينطق بها غير معربة، مثل ما ينطق بألف، باء، تاء، وبأسماء العدد، واحد، اثنان، ثلاثة ... " (1).الثاني: أن السلف قد تكلموا في معانيها، وكلامهم في ذلك كثير مشهور، وقد ساق شيخ الإسلام بعض أقوالهم (2).الثالث: "أن يقال: نحن نسلم أن كثيرا من الناس وأكثرهم لا يعرفون معنى حروف الهجاء التي في أوائل السور فهذا صحيح، لا نزاع فيه، وإن قيل: إن أحدا من الناس لا يعرف ذلك وإن الرسول نفسه لم يكن يعرف ذلك، فمن أين لهم هذا؟ فهذا النفي لابد له من دليل" (3).ج- أما حديث "إن من العلم كهيئة المكنون ... " فليس له إسناد يقوم به، وعلى تقدير صحته فهو حجة عليهم لأن فيه أن أهل العلم بالله يعلمونه (4).وبهذا يتبين ضعف حجة هؤلاء الذين يجوزون أن يكون في كلام الله مالا سبيل لنا إلى العلم به، ولذلك قال شيخ الإسلام في تفسير سورة الإخلاص ما يعتبر تلخيصا لما سبق: "والمقصود هنا أنه لا يجوز أن يكون الله أنزل كلاما لا معنى له، ولا يجوز أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم وجميع الأمة لا يعلمون معناه كما يقول ذلك من يقوله من المتأخرين، وهذا القول يجب القطع بأنه خطأ، سواء كان مع هذا تأويل القرآن لا يعلمه الراسخون، أو كان للتأويل معنيان: يعلمون أحدهما، ولا يعلمون الآخر، وإذا دار الأمر بين القول بأن الرسول كان لا يعلم معنى المتشابه من القرآن، وبين أن يقال: الراسخون في العلم يعلمون، كان هذا الإثبات خيرا من ذلك النفي، فإن معنى الدلائل الكثيرة من الكتاب والسنة وأقوال السلف على أن جميع القرآن مما يمكن علمه وفهمه وتدبره، وهذا مما يجب القطع به ... " (5) وقد قال كثير من السلف إنهم يعلمون تأويل القرآن، وهذا معروف مشهور (6). الأمر الثاني: من أمور بيان شيخ الإسلام في مسألة المحكم والمتشابه – أنه إذا تبين رجحان قول من قال: إن كلام الله يمكن معرفة تفسيره والعلم به، وإنه ليس هناك في كلام الله ما لا سبيل لنا إلى العلم به – فما المقصود بالمتشابه المذكور في آية آل عمران؟ يذكر شيخ الإسلام أن في ذلك قولين:   (1) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 248). (2) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 248 - 249). أما اختيار شيخ الإسلام وترجيحه فقد حكاه عنه ابن كثير في تفسيره – سورة البقرة. آية رقم (1) الم – انظره في طبعات هذا التفسير كلها – سوى طبعة الشعب المحققة، ذات الثمانية أجزاء – فإنه ساقط منها. وهذا من عيوبها التي تجعلها لا يوثق بها. (3) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 249 - 250). (4) انظر: تفصيل قوله حول هذا الحديث في ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 250 - 251)، وقارن بما سبق (ص: 749). (5) ((تفسير سورة الإخلاص – مجموع الفتاوى –)) (17/ 390، 399). (6) انظر: ((تفسير سورة الإخلاص – مجموع الفتاوى –)) (17/ 390 - 391). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 أحدهما: أنها آيات بعينها تتشابه على كل الناس. والثاني:- وهو الصحيح – أن التشابه أمر نسبي، فقد يتشابه عند هذا ما لا يتشابه عند غيره، ولكن ثم آيات محكمات لا تشابه فيها على أحد. وتلك المتشابهات إذا عرف معناها صارت غير متشابهة، بل القول كله محكم كما قال: أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَت [هود: 1] (1).وقد أطال شيخ الإسلام في تقرير هذا الذي رجحه وصححه، وذكر له أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، مدللا على وقوعه ووجوده عند بعض الناس (2)، وهذا التشابه النسبي أو الإضافي ليس له ضابط فهو من جنس الاعتقادات الفاسدة، ولذلك تعددت التأويلات وتفاوتت فالفلاسفة والباطنية لهم تأويلات لنصوص الكتاب، والجهمية والمعتزلة يبطلون تأويلات الفلاسفة والباطنية ويجعلون الآيات التي أولوها تأويلات قرمطية وفلسفية – آيات محكمة، لكنهم يؤولون نصوصا أخرى يقولون إنها متشابهة، والأشاعرة يقولون إن هذه الآيات التي أولها المعتزلة هي آيات محكمة لا يجوز تأويلها، ثم يتأولون آيات أخرى. وهكذا. فكل طائفة تدعي أن المحكم ما وافق قولها والمتشابه ما خالفه (3).والإمام أحمد – رحمه الله – ألف رسالته المشهورة في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله (4)، ثم إنه لما رد على هؤلاء في استدلالاتهم الباطلة، لم يقل هذه الآيات من المتشابه وسكت عنها، وإنما رد عليهم وبين أحكامها، وفسرها، وذمهم على أنهم تأولوها على غير تأويلها الصحيح (5). وهذا الترجيح الذي رجحه شيخ الإسلام في المتشابه مبني على الأمر السابق وهو أن القرآن مما يعلم معناه، وأن آياته ليس فيها ما لا سبيل إلى العلم به. الأمر الثالث: هل ما خالف الدليل العقلي هو المتشابه؟:   (1) ((الفرقان بين الحق والباطل –مجموع الفتاوى)) (13/ 144). (2) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 260 - 267)، وانظر: ((الصواعق المرسلة)) (1/ 213) – ت دخيل الله. (3) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 267 - 273، 305 - 307). (4) انظر: ((الرد على الزنادقة والجهمية – ضمن مجموع عقائد السلف –)) (ص: 52). (5) انظر: ((الفرقان بين الحق والباطل – مجموع الفتاوى)) (13/ 144)، و ((تفسير سورة الإخلاص – مجموع الفتاوى)) (17/ 280 - 383). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 سبق في بداية هذه المسألة – مسألة المحكم والمتشابه – ذكر أن من حجج الرازي الذي قصد بها دعم مذهب الأشاعرة، أنه لا يجوز ترك ظاهر النص إلا بدليل، ثم ذكر أن الدلائل اللفظية لا تكون قطعية لأنها موقوفة على عشرة أمور. ولذلك عول على الدليل العقلي وأن ما خالفه فهو من المتشابه ويجب تأويله بما يوافقه. ومسألة العقل والنقل سبق الحديث عنها، وتبين أن القول بتعارضهما، أو تقديم العقل عند توهم التعارض بينه وبين الشرع، من أعظم الباطل. وقد رد شيخ الإسلام على كلام الرازي السابق – حول التعويل على الدليل العقلي لتمييز المحكم من المتشابه وأن الأدلة اللفظية ليست قطعية – من وجوه عديدة (1)، تعقب فيها عبارات الرازي التي أوردها في أساسه وبين فيها خطأه وتناقضه، مبينا أن كلامه هذا يؤدي إلى عدم الاستدلال بالسمع أصلا – وهو ما صرح به في بعض كتبه – لأن الاحتجاج به موقوف عنده على نفي المعارض العقلي (2)، ولذلك يقول شيخ الإسلام في أحد الأوجه: "إنك صرحت هنا وفي غير هذا الموضع أن شيئا من الدلائل اللفظية لا يفيد العلم، وحينئذ فالظاهر سواء عارضه دليل عقلي أو لم يعارضه لا يحصل به علم عندك، فإذا أقر الظاهر فإنما يفيد عندك الظن. (و) الظن لا يجوز التمثيل به في الأصول، فكل آية دلت على مسألة أصولية لا يجوز الاحتجاج بها عندك، بل يجب أن يكون من المتشابه، وعلى هذا فليس القرآن في الباب منقسما عندك إلى محكم ومتشابه، ومع هذا أنه مناقض لما تقرره فهو مخالف لصريح القرآن والسنة والإجماع، وهو باطل عقلا وشرعا" (3).على أن قول الرازي مناقض لنص آية المتشابه لأن الله سبحانه وتعالى أخبر أن من الكتاب آيات محكمات هن الأصل الذي يبنى ويرد إليه المتشابه، والرازي جعل الأصل الذي يرد إليه: العقل، بل إنه جعل القرآن كله محكمه ومتشابهه يرد إلى هذا الأصل وما خالفه فهو متشابه (4).وهذه الأدلة العقلية التي يعول عليها الرازي وأصحابه، والتي أولوا من أجلها نصوص الصفات التي دل عليها القرآن هي "أقوال باطلة لا تفيد عند التحقيق لا علما ولا ظنا، بل جهلا مركبا" (5).والقول بأن الدلائل اللفظية لا تفيد القطع هو من أعظم السفسطة، ولذلك لا يعرف هذا القول عن طائفة معينة معروفة من طوائف بني آدم لأنه يؤدي إلى القدح بلغة التخاطب بين الناس التي بها يكلم بعضهم بعضا ويفهم بعضهم عن بعض، وعامة أمور وأحوال بني آدم مبنية على هذا، من بداية تمييز الطفل وفهمه عن والديه، إلى آخر أمور البيع والشراء والنكاح والطلاق وقضاء مختلف الحوائج، ووصف بعضهم لما جرى لبعض ... الخ "ثم إذا كان هذا البيان والدلالة موجودا في كلام العامة الذين لا يعدون من أهل العلم، فأهل العلم أولى بأن يبينوا مرادهم، وبأن يفهم مرادهم من خطابهم، وإذا كان هذا في العلماء الذين ليسوا بأنبياء، والأنبياء أولى إذا كلموا الخلق وخاطبوهم أن يبينوا مرادهم، وأن يفهم الناس ما بينوه بكلامهم، ثم رب العالمين أولى أن يكون كلامه أحسن الكلام وأتمه بيانا، وقد قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم:4] (6).ودعوى الرازي أن دلائل القرآن موقوفة على عشرة مقدمات ظنية باطل من وجوه (7)،   (1) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 303 - 357). (2) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 308). (3) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 309)، وانظر في الصفحة نفسها نموذجا آخر لتناقض الرازي. (4) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط (3/ 309 - 310). (5) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 312). (6) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 317). (7) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 321) وما بعدها .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 ولو كان كما زعم لما صار القرآن نورا وهدى وإذا كان بعض الناس قد يحتاج لبعض هذه المقدمات لفهم بعض الآيات – وهذا مما لا ينكر لأنه قد يوجد من هو حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة – إلا أن تعميم ذلك لجميع الناس ولعموم الآيات هو من أظهر البهتان (1).وقول الرازي أن المعول عليه في تحديد المتشابه مخالفة دليل العقل أدى به إلى مقالته الأخرى الباطلة حين ذكر من حكم إنزال المتشابه مخاطبة العوام بما يناسبهم مما ظاهره التجسيم والتشبيه، ليناسب ما توهموه أو تخيلوه، وإنه يجب أن يكشف لهم في النهاية عن أحكام هذه الآيات بتأويلها بما يوافق العقول، يقول شيخ الإسلام عن الرازي، إنه "جعل هو المتشابه ما خالف الدليل العقلي، والمحكم ما لم يخالف الدليل العقلي، فجعل الإحكام هو عدم المعارض العقلي، لا صفة في الخطاب، وكونه في نفسه قد أحكم وبين وفصل، مع أن المعارض العقلي لا يمكن الجزم بنفيه إذا جوز وقوعه في الجملة، ولهذا استقر أمره على أن جميع الأدلة السمعية القولية متشابهة لا يحتج بشيء منها في العمليات، فلم يبق على قوله لنا آيات محكمات وهن أم الكتاب بحيث يرد المتشابه إليها، ولكن المردود إليه هو العقلي، فما وافقه أو لم يخالفه فهو المحكم، وما خالفه فهو المتشابه، وهذا من أعظم الإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته، ولهذا استقر قوله في هذا الكتاب (2) على رأي الملاحدة الذين يقولون إنه أخبر العوام بما يعلم أنه باطل لكون عقولهم لا تقبل الحق، فخاطبهم بالتجسيم (3) مع علمه أنه باطل، وهذا مما احتج به الملاحدة على هؤلاء في المعاد، وقالوا خاطبهم أيضا بالمعاد كما خاطبهم بالتجسيم، وهؤلاء جعلوا الفرق أن المعاد علم بالاضطرار من دين الرسول" (4). المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1127   (1) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 328 - 329). (2) أي أساس التقديس. (3) انظر: ((أساس التقديس)) للرازي (ص: 192). (4) انظر: ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (2/ 274 - 275). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 المطلب الثالث: أن الصفات ليست من المتشابه وهذا هو محك الخلاف ونتيجته، ولو أن الكلام في المحكم والمتشابه سلم من إقحام الصفات فيه وطلب تأويلها وتحريف نصوصا تذرعا بأنها من المتشابه، كما فعل أهل البدع والكلام – لبقي الخلاف فيه مثل غيره من مسائل علوم القرآن كأول ما نزل وآخر ما نزل، والمكي منه والمدنى، وغيرها – قابلا لتعدد الآراء واختلافها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 ومع أن الكلام في الأمر الأول – المتعلق بمنع قول أن في القرآن ما لا سبيل لنا إلى العلم – شامل لموضوع الصفات، حيث أدخلوا أسماء الله وصفاته – أو بعض ذلك – في المتشابه، وبعضهم أعتقد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله – وقد جاءت مناقشة شيخ الإسلام لمن توهم ذلك من المتكلمين وغيرهم من خلال وجهين: أحدهما: مناقشة من قال: إن الصفات من المتشابه، وإنه لا يفهم معناه، يقول شيخ الإسلام: "نقول: أما الدليل على بطلان ذلك فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة، لا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية، ونفي أن يعلم أحد معناه وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، ولا قالوا إن الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه، وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة، قالوا في أحاديث الصفات: "تمر كما جاءت"، ونهوا عن تأويلات الجهمية – وردوها وأبطلوها – التي مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه. ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك، وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات: تمر كما جاءت ... " (1) وسيأتي مزيد إيضاح لكلام الإمام أحمد عند الحديث عن مسألة "التفويض".والسلف رحمهم الله تواتر عنهم الرد على تأويلات أهل الكلام، التي هي صرف للنصوص عن ظاهرها إلى ما يخالف ظاهرها، ثم إنهم – رحمهم الله – أثبتوا هذه الصفات ولم يتوقفوا فيها. فكيف يقال إنها عندهم من المتشابه؟ (2).ومن أدلة شيخ الإسلام على أن الصفات ليست من المتشابه الذي لا يعلم معناه قوله بعد إيراد عدد كبير من نصوص الأسماء والصفات: "فيقال لمن ادعى هذه أنه متشابه لا يعلم معناه: أتقول هذا في جميع ما سمى الله ووصف به نفسه، أم في البعض؟ فإن قلت: هذا في الجميع كان هذا عنادا ظاهرا وجحدا لما يعلم بالاضطرار منه دين الإسلام، بل كفر صريح، فإنا نفهم من قوله: إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال: 75] معنى، ونفهم من قوله: إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 20] معنى ليس هو الأول، ونفهم من قوله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156] معنى ونفهم من قوله: إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [إبراهيم: 47] معنى، وصبيان المسلمين، بل كل عاقل فيهم يفهم هذا" (3)، ثم رد على من زعم أن أسماء الله أعلام جامدة كبعض من ابتدع من أهل المغرب، ولعله يقصد ابن حزم (4). وقد سبقت الإشارة إلى هذا في مبحث الأسماء. والثاني: إنه لو قيل: إن الصفات من المتشابه، أو فيها ما هو من المتشابه، كما نقل عن الإمام أحمد تسمية ما استدل به الجهمية النفاة متشابها – فيقال "الذي في القرآن أنه لا يعلم تأويله إلا الله، إما المتشابه، وإما الكتاب كله ... ونفي علم تأويله ليس نفي علم معناه كما قدمناه في القيامة (5) وأمور القيامة، وهذا الوجه قوي إن ثبت حديث ابن إسحاق في وفد نجران أنهم احتجوا على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "إنا" و "نحن" ونحو ذلك (6)،   (1) ((الأكليل في المتشابه والتأويل – مجموع الفتاوى –)) (13/ 294 - 295). (2) ((الأكليل في المتشابه والتأويل – مجموع الفتاوى –)) (13/ 296). (3) ((الأكليل في المتشابه والتأويل – مجموع الفتاوى –)) (13/ 297). (4) ((الأكليل في المتشابه والتأويل – مجموع الفتاوى –)) (13/ 297 - 305). (5) ((الأكليل في المتشابه والتأويل – مجموع الفتاوى –)) (13/ 280 - 281). (6) انظر: ((سيرة ابن هشام)) (2/ 224)، و ((الروض الأنف)) (5/ 10) .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 ويؤيده أيضا أنه قد ثبت أن في القرآن متشابها وهو ما يحتمل معنيين، وفي مسائل الصفات ما هو من هذا الباب كما أن ذلك في مسائل المعاد وأولى، فإن المتشابه بين الله وخلقه أعظم من نفي المتشابه بين موعود الجنة وموعود الدنيا. وإنما نكتة الجواب هو ما قدمناه أولا أن نفي علم التأويل ليس نفيا لعلم المعنى" (1)، ثم زاده شيخ الإسلام تقريرا وشرحا بشواهد الكتاب والسنة وكلام الصحابة وسائر السلف والأئمة الذين تكلموا في نصوص الصفات وغيرها، وفسروها بما يوافق دلالتها وبيانها، وحرص عبدالله بن مسعود على تعلم التفسير، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس، وتعلم جميع الصحابة التفسير مع التلاوة، وأقوال الأئمة، كل ذلك أدلة واضحة لمن هداه الله على إثباتها للصفات التي دلت عليها النصوص، مع نفي العلم بالكيفية. وبهذا يتبين أنه على القول بأن الصفات ليست من المتشابه مطلقا، أو القول بأنها من المتشابه – بالمعنى السابق – ليس لأهل الكلام ولا لغيرهم دليل على زعمهم أنه يلزم فيها تفويض السلف للمعنى والكيفية، أو تأويلها بما يوافق عقولهم الفاسدة. المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1140   (1) ((الإكليل في المتشابه والتأويل – مجموع الفتاوى –)) (13/ 306)، وانظر ((ظاهرة التأويل وصلتها باللغة)) (ص: 117 - 118). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 المطلب الرابع: أيهما الأصل العقل أم الشرع؟ ما هو مصدر التأويل؟ وما الذي سوغ إثبات الصفات السبع وتأويل غيرها؟ وما الحجة التي دفعت إلى اعتماده قبل الشرع؟ يجيبنا الباقلاني والأشاعرة بأن العقل دل على إثبات وجود الله، ووافقه الماتريدية الذين جعلوا العقل مصدر التلقي والحجة التي يقيمها الله على العباد ولو لم يرسل الرسل، إذ الرسل عندهم قد أتوا لبيان مكملات الدين لا لبيان أصله فإن أصله يعرف بالعقل (1). فالأدلة العقلية مقدمة عندهم على الأدلة الشرعية في مسائل الاعتقاد وهذا باطل لما يلي.- نص الشافعي "على أن العلم بالصفة قبولا ورداً وتأويلاً مما لا يدرك بالعقل" (2). وقال أبو حنيفة "لا ينبغي أن ينطق في الله بشيء من ذاته ولكن يصفه بما وصف به نفسه، ولا يقول فيه برأيه شيئا" (3). - أن التأويلات آراء واحتمالات، والاحتمال في العقائد محرم. - أن المؤولة من الأشاعرة والماتريدية يستاؤون من تأويل المعتزلة لنصوص عذاب القبر من عذاب حقيقي إلى آلام نفسانية معتبرين ذلك من ضلالات المعتزلة، ويطالبونهم بالرجوع عن التأويل، فهاهم هنا يقدمون الأدلة النقلية على الأدلة العقلية ويطالبون المعتزلة أن يحذوا حذوهم، ويحكمون بكفر من يتأول عذاب القبر إلى عذاب مجازي، مع أنهم يقدمون الأدلة العقلية على النقلية في صفات الله، ويستبيحون لأنفسهم الحكم على بعض صفات الله بالمجاز ويعدلون بها عن حقائقها بغير علم ولا هدى وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ [القصص: 50] علماً بأن الخوض في ذات الله أعظم شأناً من تأويل ما دون ذلك. فما هو مستندهم في تقديم عقولهم في الصفات وتأخيرها في مسائل القبر مع أن كلا المسألتين من الغيب الذي لا نعلم عنه شيئاً إلا بنص من كتاب أو سنة؟. ولهذا لما أنكرت الأشاعرة على الفلاسفة إنكارهم عذاب القبر قال لهم الفلاسفة "قولنا في عذاب القبر كقولكم في صفات الله" بمعنى أننا وأياكم في التأويل سواء، فلماذا تبيحون لأنفسكم التأويل في صفات الله وتحرمون علينا تأويل عذاب القبر والصراط والميزان؟ وهم في مسائل البدعة يميلون إلى التحسين والتقبيح العقليين فيقولون ما رأيناه من البدع حسناً فهو عند الله حسن. وهذا تأثر واضح بالمعتزلة الذين يجعلون الرأي في الدين أصلا يعتمدون عليه. المصدر: شبهات أهل الفتنة وأجوبة أهل السنة لعبد الرحمن دمشقية - ص 197   (1) ((المسايرة)) (ص: 97) و ((شرح الفقه الأكبر)) (ص: 97) ((إشارات المرام)) (ص: 75 و 98). (2) ((سير أعلام النبلاء)) (10/ 80). (3) ((الدليل القويم)) (ص: 161). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 المطلب الخامس: نقد القاعدة الكلية للرازي وذهب الرازي إلى تقديم الدليل العقلي على الأدلة الشرعية وحجته أن العقل أصل في إثبات الشرع فإذا خالف الدليل الشرعي الدليل العقلي وجب تقديم الدليل العقلي عليه ووجب تأويل الدليل الشرعي بما يوافق الدليل العقلي (1). وذهب الغزالي إلى أن العقل حاكم لا يكذب قط، وأن من كذب العقل فقد كذب الشرع. ولولا صدق العقل لما عرف النبي من المتنبي (2). وهذا دعوة بالناس إلى مذهب المعتزلة بعدما أبعدهم الأشعري عنه. ولنضرب على ذلك مثالا: فالمعتزلة أنكروا عذاب القبر وبرهنوا لذلك بحجة عقلية جعلتهم يؤولون نصوص الكتاب والسنة فقالوا إننا نشق عن الميت بعد دفنه فلا نرى أثراً لأي تعذيب. وقد حكمت عقولنا بما رأت عيوننا. وبمقتضى تقديم الرازي للعقل يصيرون معذورين فيما تأولوه. وهذا يؤكد أن قانون الرازي يمثل منعطفاً اعتزالياً آخر. - أن من وصية الله فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59] ولم يقل فردوه إلى عقولكم. فإن هذه العقول تتفاوت، فمرة تثبت سبع صفات ثم تكتشف عقول المتأخرين ست صفات إضافية فيصير المجموع 13 ويكتشف آخرون سبعة أخرى فيصير المجموع 20 صفة ومنها ما يثبت صفة من الصفات فيأتي عقل آخر ويجعل إثباتها كفراً. وهكذا فالعقول تتخبط ولا تستقر على شيء، بينما أدلة الشرع ثابتة متناسقة لا تتغير. - إساءة استخدام العقل ويقف الأشاعرة من العقل موقفاً متناقضاً: - ففي مسألة رؤية الله تعالى يساوون بين العقل والنقل. - وفي التحسين والتقبيح العقليين يقدمون النقل على العقل "خلافاً للمعتزلة" ويقولون بأنه يجب أن تكون التكاليف ومسألة البعث والجزاء شرعية لا عقلية. - أما مسائل الصفات فإنهم جعلوها عقلية بالدرجة الأولى. وهذا اضطراب منهجي وتناقض صارخ. فإن من يتورع عن تقديم العقل في مسائل الحلال والحرام والبعث والنشور يجب أن يكون أكثر ورعاً في مسائل الاعتقاد والصفات الآلهية. المصدر: شبهات أهل الفتنة وأجوبة أهل السنة لعبد الرحمن دمشقية - ص 198   (1) ((محصول أفكار المتقدمين والمتأخرين)) (ص: 113) ((أساس التقديس)) (ص: 172) ((معالم أصول الدين)) (ص: 9) ((المطالب العالية)) مخطوط (ص: 319). (2) ((قانون التأويل)) (ص: 9). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 المطلب السادس: فكرة التفريق بين العقائد والأحكام ثم جاء الأشاعرة وظنوا أنهم توسطوا فقالوا. نقول بأنه لا يجوز الاستدلال بخبر الواحد في العقائد لأنه ظني الدلالة ولا يفيد العلم، لكننا نأخذ به في الأحكام. فوقعوا في تناقض عظيم لما يلي: 1) أنهم أتوا بتفريق لم يسبقهم إليه أحد من السلف ولا يخلو من تناقضات واعتراضات كثيرة. فالأئمة الذين شددوا على وجوب الأخذ بخبر الواحد الثقة كالشافعي وأحمد ومالك وغيرهم: لم يفرقوا في قبوله بين العقيدة والأحكام. وإنما طرأت فكرة التفريق عند الأشاعرة. أ- فقالوا إن خبر الواحد ظني لا يفيد العلم وإنما يفيد العمل. - أن الظن مذموم بعمومه في الشرع كما قال تعالى وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [النجم: 28] فجعلوه مغنياً من الحق في الأحكام غير مغن في الحق في العقائد؟. - أن الظن وهم خرص كما قال تعالى إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ [الأنعام: 148] لا منزلة له في الدين لا في العقائد ولا في الأحكام. - أن المشركين اتبعوا الظن في العقائد والأحكام. فقالوا في العقائد لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا [الأنعام: 148] وفي الأحكام وَلاَ حَرَّمْنَا [الأنعام: 148] فأجابهم الله إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ [الأنعام: 148] فالظن لا يعمل به لا في العقائد ولا في الأحكام. بالدليل من هذه الآية. ب- قولهم أنه يفيد العمل ولا يفيد العلم قول ضعيف. فإن العمل بالشيء فرع عن العلم به. 2) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوفد آحاد الصحابة إلى الأمصار والقرى يعلمونهم العقائد والأحكام. فلو كان خبرهم لا يفيد العلم لما أرسلهم. 3) أن موقفهم هذا أدى إلى الطعن في أكثر أحاديث الشيخين اللذين اتفقت الأمة على صحتها وتلقتها بالقبول. وهؤلاء يثيرون الشك في أوثق مصدرين لهذه الأمة بعد كتاب الله عز وجل. ولم يستفيدوا من هذه الوسوسة إلا التشويش والتهويل على أهل السنة. وفتح ثغرة أمام المستشرقين والطاعنين بالسنة، وإلا فقد رأيناهم في مسائل التوسل والاستغاثة بالأموات يحتجون بما هو أدنى من خبر الواحد، رأيناهم يحتجون بالضعيف بل وبالموضوع من الروايات. 4) أن أهل الحديث أجازوا العمل بالحديث الضعيف في حدود ضيقة. ومنعوه في جوانب أخرى وليس ذلك إلا لعدم صحته. وأما هؤلاء فقد جعلوا حديث الواحد الصحيح شبيهاً به. فمع وصفهم له بأنه "صحيح" إلا أنهم ينزلونه منزلة الحديث الضعيف فصار بذلك صحيح مجازاً ضعيف حقيقة!. 5) أن أهل الحديث كأحمد ومالك والشافعي أولى بالحكم على خبر الواحد من أهل الكلام والجدل الذين هم أبعد الناس عن فن الحديث، ورأيهم في خبر الواحد هو الأولى بالأخذ وليس رأي أتباع المعتزلة والجهمية. أو أعدائهما ممن يلتزمون منهجهما في الكلام والمنطق. 6) أنهم لم ينقذوا الأمة من معرض التجهم والفلسفة والاعتزال، وإنما قاموا فقط بتعديل طفيف على انحراف المعتزلة من غير أن يقضوا عليه. وشككوا في غالب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 7) أنهم قد فتحوا بهذه البدعة ثغرة على الدين نفذ منها المستشرقون وطعنوا في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ونسبوا الإسلاميين إلى التناقض حين جعلوا الصحيح ظنياً. وهؤلاء لا يقدرون على الإجابة على شبهات المستشرقين وإنما يقدر عليها من سلم من أحكام أهل الكلام المتناقضة وأثبت خبر الواحد على طريقة أحمد والشافعي.- فثبت أن هذه البدعة لم ترفع الشك ولم تدفع وسوسة ووهم التجسيم بل أثبتتهما كلاهما وفتحت باباً للطعن في هذا الدين. والذي يدفع وهم الوسوسة هو الاستعاذة بالله. وتذكر آيات التنزيه. فإن الإنسان قد يتعرض لوساوس من نوع آخر كما قال أحد الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم ((إني أحدث نفسي بالشيء لو خر إلى السماء أحب إليه من أن يتكلم به. قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك صريح الإيمان)) (1). أي أن إنكاره والخوف منه صريح الإيمان. - والقيد الذي أفاده قول الشافعي "خبر الواحد العدل" يفيد بأنه ليس كل خبر واحد يقبل مطلقاً وإنما خبر الواحد الثقة العدل الضابط المتصل السند. وإلا فالخبر ثلاثة أنواع: = ما اتصل سنده وثبتت روايته. فهذا حجة ومقبول. = ما انقطع إسناده وضعفت روايته فهذا مردود. = ما لا أصل لسنده وعرف وضعه وكذبه. فهذا تحرم روايته والأخذ به. وأبو بكر بن فورك يكثر من الإتيان بهذين النوعين الأخيرين من خبر الواحد ويتعسف تأويلها، وقد كان ضعف سندها كافٍ في ردها من غير ضرورة إلى هذا الاعتساف. فالحقيقة أن ما صح سنده فهو قطعي الثبوت سواء أكان متواتراً أو آحاداً. وهذا وسط بين من نفوا خبر الواحد. ومن تناقضوا بين نفيه وإثباته من جهة، وبين من أثبتوه كله من غير نظر إلى سلامته من العلل القادحة فيه. المصدر: شبهات أهل الفتنة وأجوبة أهل السنة لعبد الرحمن دمشقية - ص 231   (1) رواه أحمد (2/ 397) (9145) , قال الألباني في ((كتاب السنة)) (654): إسناده صحيح على شرط مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 المبحث الخامس: دليل الأعراض وحدوث الأجسام عند فرق المبتدعة • المطلب الأول: شرح دليل الأعراض وحدوث الأجسام عند الكلابية والأشعرية . • المطلب الثاني: الرد على استدلال المبتدعة بقصة إبراهيم الخليل عليه السلام على مذهبهم. • المطلب الثالث: الرد الإجمالي على استدلال المبتدعة بقصة إبراهيم الخليل عليه السلام على مذهبهم. • المطلب الرابع: الرد التفصيلي على استدلال المبتدعة بقصة إبراهيم الخليل عليه السلام على مذهبهم. • المطلب الخامس: الرد على استدلال المبتدعة بقول إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: هَذَا رَبِّي [الأنعام: 76] على شرعية دليل الأعراض وحدوث الأجسام:. • المطلب السادس: الرد على استدلال المبتدعة بقول الخليل عليه السلام: لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام: 76] على نفي قيام الصفات الاختيارية بذات الله تعالى .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 المطلب الأول: شرح دليل الأعراض وحدوث الأجسام عند الكلابية والأشعرية الكلابية هم أسلاف الأشعرية؛ فالأشعرية تبعوا أبا الحسن الأشعري في طوره الثاني؛ عندما كان موافقا لابن كلاب، متبعاً لمذهبه، سالكاً لطريقته. وقد اندمجوا فيهم - فيما بعد -، حتى آل الأمر بعد انتشار مذهب الأشعرية إلى أن يطلق اسم كل طائفة من الطائفتين على الأخرى ... - فالتوافق والتطابق حاصل بينهما -، وإن كان الغالب في التسمية للأشعرية. ويعزى السبب في ذلك إلى: 1 - الارتباط الواضح في النشأة، بين الأشعرية والكلابية. 2 - نشاط من تبع الأشعري في طوره الثاني في نشر مذهبهم. ولا ريب أن منهج المعتزلة العقلي، قد أثر بنحو مباشر أو غير مباشر، على هاتين الفرقتين من فرق المبتدعة، نتيجة كثرة احتكاك أصحابهما بالمعتزلة؛ فقد تصدى أصحاب هاتين الفرقتين للمعتزلة، في محاولة منهم للرد عليها، وبيان فساد أقوال معتنقيها. لكن أصحاب هاتين الفرقتين لم تكن لديهم حصانة كافية من الكتاب والسنة، فلم يخرجوا من المعمعة سالمين، كما خرج أئمة السلف وعلماؤهم. بل اضطرتهم حجج المعتزلة العقلية والكلامية إلى أن يسلموا لهم بعض أصولهم، وأن يلتزموا لوازم هذه الأصول، متنازل بذلك عن جزءٍ كبيرٍ من الحق الذي كان معهم قبل أن يناظروهم. ونتيجة تسليمهم للمعتزلة ببعض أصولهم العقلية، بدأت بوادر الاختلاف والانحراف في مذهبهم، مما أبعدهم أكثر من ذي قبل عن مذهب السلف الصافي. وكان من الأصول التي سلم الكلابية والأشاعرة للمعتزلة مضمونها، والتزموا لوازمها الفاسدة: دليل الأعراض وحدوث الأجسام. فالمعتزلة إذا: هم مصدر دليل الأعراض وحدوث الأجسام - بالنسبة للكلابية والأشاعرة - ومنهم أخذوه وعنهم تلقوه (1).فإنهم وافقوهم على "صحة دليل حدوث الأجسام، فلزمهم أن يقولوا بحدوث ما لا يخلو من الحوادث، ثم قالوا: وما يقوم به الحوادث لا يخلو منها" (2).يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مخاطباً الأشاعرة، ومبيناً لهم موافقتهم المعتزلة على هذه الأصول الباطلة: "وأنتم شركاؤهم في هذه الأصول كلها، ومنهم أخذتموها، وأنتم فروخهم فيها، كما يقال: الأشعرية مخانيث المعتزلة، والمعتزلة مخانيث الفلاسفة، لكن لما شاع بين الأمة فساد مذهب المعتزلة، ونفرت القلوب عنها، صرتم تظهرون الرد عليهم في بعض المواضع، مع مقاربتكم، أو موافقتكم لهم في الحقيقة" (3).وهذه الموافقة تفطن لها ابن رشد: حيث ذكر أنه لم يقف على كتب للمعتزلة توضح طرقهم في إثبات الصانع، وإن كان يرى أنها لا تعدو أن تكون من جنس طرق الأشاعرة .. يقول ابن رشد: "وأما المعتزلة: فإنه لم يصل إلينا في هذه الجزيرة من كتبهم شيء نقف منه على طريقهم التي سلكوها في هذا المعنى، ويشبه أن تكون طرقهم من جنس طرق الأشعرية" (4). فأكثر الأشاعرة: سلكوا طريقة الأعراض وحدوث الأجسام. والملاحظ عليهم أنهم منقسمون في دليل الأعراض إلى طائفتين: 1 - طائفة: ترى صحة دليل الأعراض وحدوث الأجسام، لكنها لا توجبه، ولا تعارض به جميع نصوص الصفات؛ فتراهم يثبتون الصفات الخبرية التي لا تتعلق بمشيئة أو قدرة، ويثبتون علو الله تبارك وتعالى على خلقه، مع نفيهم قيام الأفعال الاختيارية في ذاته جل وعلا. وهؤلاء هم متقدموا الكلابية والأشعرية؛ كابن كلاب، والأشعري، وغيرهما.   (1) انظر: ((نقض أساس التقديس)) لابن تيمية - مطبوع - (1/ 257). و ((درء تعارض العقل والنقل)) له (7/ 237). (2) ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (3/ 354). وانظر ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 224). (3) ((التسعينية)) لابن تيمية (ص: 272). (4) ((الكشف عن منهاج الأدلة)) لابن رشد (ص: 64 - 65). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 2 - طائفة: ترى صحة دليل الأعراض وحدوث الأجسام، وتوجبه، وتحصر إثبات الصانع به. وهؤلاء على قسمين: أ- قسم رأوا أن هذا الدليل لا يقوى على معارضة جميع نصوص الصفات، فأثبتوا الصفات الخبرية التي لا تتعلق بمشيئة أو قدرة، وأثبتوا علو الله على خلقه. وخير من يمثل هذا القسم: أبو بكر الباقلاني. ب- قسم رأوا أن هذا الدليل يعارض النصوص؛ فنفوا لأجله الصفات الخبرية جلها أو جميعها - على اختلاف بينهم، ونفوا العلو، مع نفيهم للصفات الاختيارية أيضا. هؤلاء هم بعض متقدمي الأشعرية؛ كابن فورك، والبغدادي، والجويني، ومن أتى بعدهم من متأخري الأشعرية. والملاحظ على كلتا الطائفتين: اتفاقهما على نفي الصفات الاختيارية، مستندين في ذلك إلى هذا الدليل. وقد استدلوا جميعاً على حدوث الأجسام بكونها لا تخلو من الحوادث، وما لم يخل من الحوادث، أو ما لم يسبق الحوادث، فهو حادث. فهذا إمامهم ورأسهم: ابن كلاب؛ عبدالله بن سعيد بن محمد بن كلاب، أبو محمد القطان البصر، صنف في الرد على الجهمية والمعتزلة مصنفات كثيرة، بين فيها تناقضهم، وكشف كثيراً من عوارهم، لكنه كان أول من تأثر بهم في هذا الدليل، فاقتفى أثرهم في هذا الأصل الذي هو ينبوع البدع. إلا أن الملاحظ عليه أنه لم يسلم لهم تسمية صفات الله تعالى أعراضاً؛ لأنها - على حد قوله - "قديمة باقية لا تعرض ولا تزول" (1)، والعرض لا يبقى زمانين (2). وسيأتي - إن شاء الله تعالى - بيان أثر هذا الدليل على مذهبه في الصفات. والاعتماد في بيان ذلك على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وبعض كتب المقالات والفرق؛ لأنني لم أقف على شيء من مؤلفاته. وممن تأثر - من الأشاعرة - بهذا الدليل، وأورده في تصانيفه: الباقلاني: فقد تلقف دليل المعتزلة، واستدل على حدوث الأجسام بعدم انفكاكها عن بعض الأكوان: كالحركة والسكون .. فالموجودات كلها عند الباقلاني على ضربين: قديم لم يزل، ومحدث لوجوده أول؛ لم يكن، ثم كان (3).والمحدثات عنده ثلاث أقسام: جسم، وجوهر، وعرض (4).فالجسم هو المؤلف المركب (5).والجوهر هو الذي له حيز - مكان - وله قيام بذاته، ويقبل من كل جنس من أجناس الأعراض عرضاً واحداً (6)؛ فلا يقبل من الألوان: البياض والسواد معا في زمان مكان واحد، ولا الحياة والموت معا، .. إلخ. والعرض هو الذي يعرض في الجواهر والأجسام، ويحدث في محل، ولا يصح قيامه بذاته؛ كاللون، والحركة، والسكون، والاجتماع، والافتراق، والاتصال، والانفصال. ويستحيل بقاؤه زمانين؛ ويبطل في ثاني حال (7).و "جميع العالم العلوي والسفلي لا يخرج عن هذين الجنسين؛ أعني الجواهر والأعراض، وهو محدث بأسره" (8). وقد دلل على حدوث العالم بحدوث الأعراض والأجسام ...   (1) نقل عن ذلك شيخ الإسلام في ((مجموع الفتاوى)) (6/ 36). (2) انظر: ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (12/ 316). و ((شرح حديث النزول)) له (ص: 157). (3) انظر: ((تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل)) للباقلاني (ص: 36). و ((الإنصاف)) له (ص: 26 - 27). (4) انظر: ((تمهيد الأوائل)) للباقلاني (ص: 37). و ((الإنصاف)) له (ص: 27). (5) انظر: ((تمهيد الأوائل)) للباقلاني (ص: 37). و ((الإنصاف)) له (ص: 27). (6) انظر: ((تمهيد الأوائل)) للباقلاني ((ص: 37). و ((الإنصاف)) له (ص: 27)، وانظر أيضاً ((الدليل القويم)) للعبدري (ص: 14). (7) انظر: ((تمهيد الأوائل)) للباقلاني (ص: 38). و ((الإنصاف)) له (ص: 27). و ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 329) - حيث نقل اتفاق الأشاعرة على ذلك -. و ((الدليل القويم)) للعبدري (ص: 14 - 15). (8) ((تمهيد الأوائل)) للباقلاني (ص: 41). و ((الإنصاف)) له (ص: 28). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 وطريقته في ذلك تستند إلى مقدمة كبرى، ومقدمتين ثانويتين، ونتيجة: 1 - مقدمة كبرى: "ما لم يسبق الحوادث فهو حادث". 2 - مقدمتان ثانويتان هما: أ- الأعراض حوادث. ب- الأجسام لم تسبق الحوادث. وهذا الطريقة مبنية على ثلاثة براهين يلزم إثباتها: 1 - إثبات الأعراض، وإثبات حدوثها. 2 - إثبات أن الأجسام لم تسبق الحوادث. 3 - إثبات أن الأجسام حادثة لأنها لم تسبق الحوادث.1 - أما الأعراض: فقد حاول إثباتها بدليل الحركة والسكون، فقال: "والدليل على إثبات الأعراض تحرك الجسم بعد سكونه، وسكونه بعد حركته. ولابد أن يكون ذلك كذلك لنفسه أو لعلة. فلو كان متحركاً لنفسه ما جاز سكونه، وفي صحة سكونه بعد تحركه دليل على أنه متحرك لعلة؛ هي الحركة" (1)."والأعراض حوادث، والدليل على حدوثها: بطلان الحركة عند مجيء السكون؛ لأنها لو لم تبطل عند مجيء السكون لكانا موجودين في الجسم معاً، ولوجب لذلك أن يكون متحركاً ساكناً معاً، وذلك مما يعلم فساده ضرورة" (2). فالأعراض طارئة حادثة - كما ادعى الباقلاني -، والدليل على ذلك انقطاع السكون حين الحركة، وتوقف الحركة عند السكون.2 - وأما الأجسام: فقد دلل على أنها لم تسبق الأعراض، بعدم انفكاكها عنها؛ إذ لا أجسام ولا جواهر بدون أعراض، فهي بالتالي لم توجد قبلها، ولم تسبقها (3)."والدليل على أن الجسم لا يجوز أن يسبق الحوادث: أنا نعلم باضطرار أنه متى كان موجوداً، فلا يخلو أن يكون متماس الأبعاض مجتمعاً، أو متبايناً مفترقاً؛ لأنه ليس بين أن تكون أجزاؤه متماسة أو متباينة منزلة ثالثة: فوجب أن لا يصح أن يسبق الحوادث" (4).3 - فالأجسام حادثة: لأنها "لم تسبق الحوادث، ولم توجد قبلها، وما لم يسبق المحدث: محدث" (5)؛ فالجسم "لا ينفك من الأولوان، ومعاني الألوان من الاجتماع والافتراق، وما لا ينفك من المحدثات، ولم تسبقه كان محدثا. ولأنه إذا لم يسبقه كان موجوداً معه في وقته أو بعده، وأي ذلك وجد وجب القضاء على حدوثه، وأنه معدوم قبل وجودها" (6).فأي الأمرين - وجود الأجسام مع الحوادث، أو وجودهما بعدها - ثبت، وجب به القضاء على حدوث الأجسام (7). ويمكن تلخيص طريقته هكذا: العالم كله محدث؛ لأنه مؤلف من جواهر وأعراض. والأعراض حوادث، ودليل ذلك: بطلان الحركة عند مجيء السكون. والأجسام حادثة؛ لأنها لم تسبق الحوادث، وما لم يسبق الحوادث: محدث مثلها. فالعالم إذا حادث بأسره لأنه لا يخلو عن الحوادث. والباقلاني في هذه الطريقة مقتف لآثار المعتزلة حذو القذة بالقذة، إلا أنه أورد أمراً لم يورده المعتزلة، وهو قوله: "الأعراض لا تبقى زمانين" (8).   (1) ((تمهيد الأوائل)) للباقلاني (ص: 38). وانظر ((الإنصاف)) له (ص: 28). (2) ((تمهيد الأوائل)) للباقلاني (ص: 41). وانظر ((الإنصاف)) له (ص: 28). (3) ((تمهيد الأوائل)) للباقلاني (ص: 41). (4) ((تمهيد الأوائل)) للبقلاني (ص: 42). (5) ((تمهيد الأوائل)) للباقلاني (ص: 41). (6) ((الإنصاف)) للباقلاني (ص: 28). (7) انظر ((تمهيد الأوائل)) (ص: 42 - 43). (8) انظر ((تمهيد الأوائل)) (ص: 38). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 وهذا لغاية في نفسه، سيأتي بيانها - إن شاء الله تعالى - عند توجيه استدلال المبتدعة بهذا الدليل على مذهبهم في الصفات. وقد أتى بعد الباقلاني: عبد القاهر البغدادي، الذي قال بنحو قول سلفه، ونقل اتفاق الأشاعرة على هذا الدليل (1).ودلل على حدوث العالم بحدوث الأجسام؛ مدعياً دعوى سلفه الباقلاني: أنها - أي الأجسام - لا تخلو من الأعراض الحادثة فيها، ولا تسبقها (2)، "فإذا صح أن الأجسام لم تسبق الأعراض الحادثة وجب حدوثها؛ لأن ما لم يسبق الحوادث كان محدثا، كما أن ما لم يسبق حادثا واحداً كان محدثاً" (3). واستندت طريقته إلى مقدمة كبرى، ومقدمتين ثانويتين، ونتيجة - كطريقة سلفه الباقلاني: 1 - مقدمة كبرى: "ما لم يسبق الحوادث فهو حادث". 2 - مقدمتان ثانويتان هما: أ- الأعراض حوادث. ب- الأجسام لم تسبق الحوادث.3 - نتيجة: الأجسام حادثة (4). وقد: 1 - أثبت الأعراض وأثبت حدوثها. 2 - أثبت أن الأجسام لا تخلو من الحوادث، ولا تسبقها.3 - توصل إلى نتيجة مفادها: أن الأجسام حادثة لأنها لم تسبق الحوادث، مقتفياً في ذلك آثار سلفه الباقلاني، مورداً نحو من أدلته التي أوردها (5).وقد تبع الباقلاني في إيراده أمراً لم تورده المعتزلة، وهو قوله: "الأعراض لا تبقى زمانين" (6).وكذا قال بنحو هذه الأقوال: الإسفراييني؛ فزعم أن الأجسام حادثة؛ لأنها لا تخلو من الحوادث، "وما لا يخلو من الحوادث لا يستحق أن يكون محدثا، وما لا يستحق أن يكون محدثا كان محدثاً مثلها" (7)؛وقد ادعى الإسفراييني أن أهل السنة والجماعة - يقصد الأشاعرة - على هذا المعتقد (8).واستدل على حدوث الأعراض، وحدوث الأجسام بأدلة قريبة من أدلة أسلافه (9). ثم أتى بعده أبو المعالي الجويني ... ولا بأس من التوقف عنده قليلاً لبيان موقفه من دليل الأعراض؛ لما لأقواله من وزن واعتبار عند أتباع الطائفة الأشعرية، إذ يعد الجويني من أكابر أئمة الأشاعرة المتأخرين، وأقواله مسلمة لديهم لا تقبل تمحيصاً، ولا مراجعة. فالجويني سلك مسلك المعتزلة في دليل الأعراض، وعليه بنى أصل دينه. فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن طريقة أبي المعالي الجويني: "مأخوذة في الأصل عن المعتزلة نفاة الصفات" (10)، وعليها بنوا أصل دينهم، "وجعلوا صحة دين الإسلام موقوفا عليها، وذلك أنه موقوف على الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، والإيمان به موقوف على معرفة المرسل، وزعموا أن المرسل لا يعرف إلا بها" (11). وقد قسم الجويني الموجود إلى قديم وحادث."فالقديم: هو الموجود الذي لا أول لوجوده، والحادث: هو الموجود الذي له أول" (12). والموجودات الحادثة تنقسم بالضرورة إلى قسمين: ما لا يفتقر إلى محل يحله، وهو الجوهر. وما يفتقر إلى محل يحله، وهو العرض. ثم ذكر حد الجوهر، وحقيقة العرض: فعرف الجوهر بأنه: - المتحيز، - أو كل ذي حجم متحيز؛ أي له حظ من المساحة،   (1) انظر ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 329). (2) انظر ((أصول الدين)) للبغدادي (ص: 59) .. و ((الفرق بين الفرق)) (ص: 329). (3) ((أصول الدين)) للبغدادي (ص: 59 - 60). (4) انظر ((أصول الدين)) للبغدادي (ص: 33 - 60). (5) انظر ((أصول الدين)) للبغدادي (ص: 33 - 60). (6) انظر ((أصول الدين)) للبغدادي (ص: 50 - 52). (7) ((التبصير في الدين)) للإسفراييني (ص: 154). (8) انظر: ((التبصير في الدين)) للإسفراييني (ص: 153). (9) انظر: ((التبصير في الدين)) للإسفراييني (ص: 153 - 154). (10) كتاب ((الصفدية)) لابن تيمية (1/ 274). (11) كتاب ((الصفدية)) لابن تيمية (1/ 274). (12) ((لمع الأدلة)) للجويني (ص: 87). و ((الشامل في أصول الدين)) له (ص: 68). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 - أو ما يقبل العرض. والحيز عنده: هو الجهة أو الناحية (1). وعرف العرض بأنه: - ما يقوم بالجوهر، أو ما يطرأ على الجواهر: كالألوان، والطعوم، والروائح، والعلوم، والإرادات الحادثة وأضدادها، والحياة والموت. أو ما يستحيل عليه البقاء؛ فلا يبقى وجوده (2).ولما كانت الأعراض تشمل الأكوان، فقد عرض الجويني لمعنى الكون، فذكر أنه: "ما يشمل: الحركة، والسكون، والاجتماع، والافتراق" (3). وقد بني الجويني كلامه - في شرحه لدليل الأعراض - على مقدمتين: الأولى: العالم حادث. الثانية: كل حادث لابد له من محدث. وبدأ بالمقدمة الأولى: أعني مسألة حدوث العالم، ليتوصل من خلالها إلى إثبات الصانع. وذكر "أن القول في حدوث العالم ينبني على تقديم أصول، وشرح فصول، وإيضاح عبارات واصطلاحات بين المتكلمين، ولا نتوصل إلى أغراضهم إلا بعد الوقوف على مراميهم ومعاني كلامهم" (4). وقد استعان بآراء من كان قبله، دون الإشارة على أسمائهم، ذاكراً أن العالم عندهم له مفهومان:1 - أحدهما: كل موجود سوى الله تعالى؛ ونسبه إلى سلف الأمة (5).2 - الثاني: عبارة عن الجواهر والأعراض. ونسبه إلى خلف الأمة (6). أما طريقة في إثبات حدوث العالم: فهي مستنده إلى إثبات عدة أمور: أ- إثبات الأعراض، وإثبات حدوثها. ب- إثبات قيام الأعراض بالجواهر، وإثبات استحالة تخلي الجواهر عن الأعراض. ج- إثبات امتناع حوادث لا أول لها. د- ويترتب على هذه الأمور: إثبات أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. وقد ذكر الجويني أن إثبات الأعراض، وإثبات قيام الأعراض بالجواهر: "من أهم الأغراض في إثبات حدوث العالم" (7). أولا: إثبات الأعراض: ذكر الجويني أن العاقل إذا رأى جوهرا ساكناً، ثم رآه متحركا، يدرك التفرقة بين حالتي الحركة والسكون لهذا الجوهر."وتلك التفرقة لا تخلو: إما أن ترجع إلى ذات الجوهر. أو إلى معنى زائد على الجوهر؟ استحال أن يقال: ترجع التفرقة إلى ذات الجوهر؛ لأن الجوهر في الحالتين متحد، والشيء لا يخالف نفسه، فلا يقع الافتراق إلا بين ذاتين، فصح ووضح بذلك أن التفرقة راجعة إلى معنى زائد على الجوهر، وذلك هو العرض الذي ادعيناه" (8). ثانياً: إثبات حدوث الأعراض: ذكر الجويني "أنا نرى الأعراض المتضادة تتعاقب على محالها - الجواهر -، فنستيقن حدوث الطارئ منها، من حيث وجدت، ونعلم حدوث السابق منها من حيث عدمت" (9). فالجوهر يكون ساكناً، ثم تطرأ عليه الحركة؛ فحدوث الحركة مستيقن؛ لأنه طارئ. وحدوث السكون معلوم بسبب انعدامه، ولو كان قديماً، لاستحال عدمه. والغرض من إثبات حدوث الأعراض (10): - بيان استحالة قيام العرض بنفسه. - بيان استحالة قيام العرض بالعرض. - بيان استحالة انتقال العرض بل تنعدم. - بيان استحالة انعدام القديم.   (1) انظر: ((لمع الأدلة)) للجويني (ص: 87). و ((الإرشاد)) له (ص: 40). و ((الشامل في أصول الدين)) له (ص: 68). (2) انظر: ((لمع الأدلة)) للجويني (ص: 87). و ((الإرشاد)) له (ص: 40). و ((الشامل في أصول الدين)) له (ص: 68). (3) ((الإرشاد)) للجويني (ص: 40). (4) ((الشامل في أصول الدين)) للجويني (ص: 34). (5) انظر: ((الشامل في أصول الدين)) للجويني (ص: 31). و ((لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة)) له (ص: 86). (6) انظر: ((الشامل في أصول الدين)) للجويني (ص: 31). و ((لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة)) له (ص: 86). (7) ((الإرشاد)) للجويني (ص: 41). (8) ((لمع الأدلة)) للجويني (ص: 88). وانظر ((الإرشاد)) له (ص: 40 - 41). (9) ((لمع الأدلة)) للجويني (ص: 89)، وانظر ((الإرشاد)) له (ص: 41). (10) انظر ((الإرشاد)) للجويني (ص: 41). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 ثالثا: إثبات استحالة تعري الجواهر عن الأعراض: الجوهر: لا يخلو عن كل جنس من الأعراض. والعرض: إما أن يقدر له ضد، أو يقدر أنه لا ضد له؛ فالحركة ضدها السكون، والاجتماع ضده الافتراق، واللبث ضده الزوال، وهكذا. فلو قدر أن للعرض ضدا: فلا يخلو الجوهر عن أحد الضدين. أما إذا قدر أن ليس ضد للعرض؛ فالجوهر لا يخلو عن قبول واحد من جنسه، وهذا مستحيل باتفاق الأشاعرة (1). ويعلم ببديهة العقول: استحالة تعري الأجسام عن الاتصاف بالسكون، والحركة، والتأثير في المحال، والزوال، والانتقال، وكلها أعراض."وكل ذلك يوضح استحالة تعري الجواهر عن الأعراض" (2). وثمة دليل آخر على استحالة تعري الجواهر عن الأعراض، وهو دليل اضطراري مفاده أن الجواهر الشاغلة للأحياز: لا تخلو عن الاجتماع والافتراق، وهذا مما يعلم بديهة. يقول الجويني: "والدليل على استحالة تعري الجواهر عن الأعراض: أن الجواهر شاغلة للأحياز، والجواهر الشاغلة للأحياز، غير مجتمعة ولا متفرقة بحال، بل باضطرار يعلم أنها لا تخلو عن كونها مجتمعة أو متفرقة" (3). فالجواهر ليست ملازمة لحال واحدة أبداً، بل لا تخلو عن اجتماع، أو افتراق."وذلك يقضي باستحالة خلوها عن الاجتماع والافتراق" (4). رابعاً: إثبات استحالة حوادث لا أول لها: هذا الكلام مبني على قولهم: "ما لا يسبق الحوادث، أو ما لا يخلو عن الحوادث، فهو حادث". فقد زعموا أن الأجسام لا تخلو من كل جنس من أجناس الحوادث؛ إذ القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث؛ لامتناع حوادث لا أول لها. وقد أثبتوا امتناع حوادث لا أول لها بالطريقة التالية: قالوا: حقيقة الحادث: ما له أول. ولما كان حقيقة كل حادث ما له أول، كان حقيقة كل الحوادث - مهما كثرت - ما لها أول (5)."وهكذا كالجوهر؛ فإن حقيقة الجوهر: كونه متحيزا، فبالكثرة لا يخرج عن حقيقته، ويكون الكل متحيزا. فكذلك ههنا: إذا ثبتت الأعراض، وثبت حدوثها، وثبت استحالة تعري الجواهر عنها، وبطل قول الدهري: بأن الحوادث لا أول لها: فيترتب على ذلك أن الجواهر لا تسبق الأعراض الحادثة، وما لا يسبق الحوادث حادث على الاضطرار، من غير حاجة إلى نظر وافتكار" (6). وقد احتاجوا في إثبات امتناع حوادث لا أول لها إلى الرد على الدهري في قوله: عن الحوادث لا أول لها ... وسلكوا في الرد على ذلك: "برهان التطبيق": وخلاصته أن ما لا يتناهى إذا فرض فيه سلسلتان؛ سلسلة من الطوفان على ما لا نهاية في القدم أيضا. ثم يطبق بينهما، فكلما طرح من السلسلة الأولى واحد، طرح من السلسلة الثانية مقابله؛ واحد أيضا، وهكذا. وهذا لا يخلو الحال من أحد ثلاثة أمور: 1 - إما أن يفرغا معا، وهذا خلاف الفرض، ويلزم منه مساواة الناقص للزائد.   (1) انظر ((الإرشاد)) للجويني (ص: 44). (2) ((لمع)) الأدلة للجويني (ص: 89). وانظر ((الإرشاد)) له (ص: 44). (3) ((لمع الأدلة)) للجويني (ص: 89). (4) ((لمع الأدلة)) للجويني (ص: 89). (5) ((انظر لمع الأدلة)) للجويني (ص: 90). (6) ((لمع الأدلة)) للجويني ((ص: 90). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 2 - ألا يفرغا. وهو الفرض في القضية "حوادث لا أول لها". وهو باطل أيضا؛ لأنه يلزم منه المساواة بين مختلفين، وهذا مستحيل؛ لتحقيق الزيادة في أحدهما.3 - أن يفرغ أحدهما قبل الآخر. فإذا فرغت السلسلة الثانية، لزم أن تفرغ السلسلة الأولى أيضاً؛ لأن بينهما قدراً متناهيا "ما بين الطوفان إلى الهجرة"، والزائد على الشيء بقدر متناه، يكون متناهياً أيضاً (1).وقد مثل الجويني لهذا الدليل بقوله: "مثال إثبات حوادث لا أول لها: قول القائل لمن يخاطبه: لا أعطيك درهما، إلا وأعطيك قبله ديناراً، ولا أعطيك ديناراً إلا وأعطيك قبله درهماً؛ فلا يتصور أن يعطي على حكم شرطه ديناراً ولا درهما" (2). خامساً: إثبات أن كل حادث لابد له من محدث: وطريقة إثبات صحة ذلك عند الجويني: "أن الحادث جائز الوجود؛ إذ يجوز تقدير وجوده بدلا عن عدمه، ويجوز تقدير عدمه بدلا عن وجوده. فلما اختص بالوجود الممكن بدلاً عن العدم الجائز، افتقر إلى مخصص؛ وهو الصانع تعالى" (3).فلما استوى الحادث في جواز وجوده، وجواز عدمه، كان لابد من مرجح يرجح أحدهما على الآخر؛ يرجح الوجود، أو يرجح العدم، وهذا مستبين على الضرورة (4). وهذا المرجح المخصص لا يخلو أن يكون واحداً من ثلاثة: إما علة موجبة لمعلولها. - وإما طبيعة. - وإما فاعلاً مختاراً. فكون المرجح المخصص علة موجبة لمعلولها: باطل؛ لأن العلة التامة يجب أن يقارنها معلولها. والعلة التامة بين حالتين؛ إما أن تكون قديمة، وإما أن تكون حادثة. فلو كانت قديمة: للزم قدم المعلول، وهو العالم؛ وهذا باطل؛ إذ الأدلة على حدوثه كثيرة. ولو كانت حادثة: لافتقرت إلى محدث مخصص، والمحدث يفتقر إلى آخر، وهكذا، حتى ينتهي الأمر إلى إثبات حوادث لا أول لها - وهو التسلسل (5) - وقد تقدم برهان بطلانه. وكون المرجح المخصص طبيعة: باطل أيضاً. فيستحيل "أن يكون مخصص العالم طبيعة؛ كما صار إليه الطبائعيون" (6)؛ لأن تلك الطبيعة لا تخلو: إما أن تكون قديمة، أو حادثة."فإن كانت قديمة، لزم قدم آثارها؛ فإن الطبيعة عند مثبتها لا اختيار لها، وهي موجبة آثارها عند ارتفاع الموانع. وقد صح حدوثها" (7)، فإن كانت الطبيعة قديمة لزم قدم آثارها، وقد وضح حدوث العالم."وإن كانت الطبيعة حادثة، افتقرت إلى طبيعة أخرى، ثم الكلام في تلك الطبيعة، كالكلام في تلك الطبيعة، كالكلام في هذه الطبيعة، وينساق هذا القول إلى إثبات حوادث لا أول لها، وقد تبين بطلان ذلك" (8)."فوضح بذلك أن مخصص العالم: صانع، مختار، موصوف بالاقتدار والاختيار" (9). وبهذه البراهين والدعاوى توصل الجويني إلى إثبات حدوث العالم متبعا في ذلك طريقة أسلافه من المعتزلة، ومن اتبعهم .. وقد أثبت ذلك بإثبات حدوث الأجسام، مستنداً إلى أصل الأصول في هذا الدليل - عندهم-؛ وهو: "ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث"، أو "ما لا يسبق الحوادث فهو حادث" .... وقد سلك المتأخرون في ذلك مسلك المتقدمين، وتلخصت طريقتهم بأن: العالم ينقسم إلى جواهر وأعراض.   (1) انظر: في تحرير ذلك: ((المواقف)) للإيجي (ص: 90). و ((الأربعين)) للرازي (ص: 15). و ((شرح المقاصد)) للتفتازاني (2/ 120 - 122). (2) ((الإرشاد)) للجويني (ص: 47). (3) ((لمع الأدلة)) للجويني (ص: 91). (4) انظر ((الإرشاد)) للجويني (ص: 49). (5) انظر ((الإرشاد)) للجويني (ص: 49 - 50). (6) ((لمع الأدلة)) للجويني (ص: 91). (7) ((لمع الأدلة)) للجويني (ص: 91). وانظر ((الإرشاد)) للجويني (ص: 50). (8) ((لمع الأدلة)) للجويني (ص: 92). (9) ((لمع الأدلة)) للجويني (ص: 92). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 وأن الأعراض لا تبقى زمانين متتاليين، بل يطرأ عليها التغير والتحول؛ فهي حادثة. والجواهر لا تتعرى عن الأعراض؛ بل هي ملازمة لها. نتيجة: 1 - ما دامت الجواهر لا تنفك عن الأعراض؛ فهي حادثة بحدوثها؛ لأن ما لازم الحادث، فهو حادث. 2 - ما دام العالم مكونا من الجواهر والأعراض - وقد ثبت حدوثها -؛ فالعالم حادث، وكل حادث لابد له من محدث. فالنتيجة التي توصل إليها هؤلاء - أعني الأشاعرة - بعد كل هذه المقدمات، كالنتيجة التي سبقهم إليها أسلافهم من الجهمية والمعتزلة؛ وهي الاستدلال على حدوث العالم بحدوث ما فيه من جواهر وأعراض، ومن ثم الاستدلال بحدوث العالم على وجود الله سبحانه وتعالى. المصدر: الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات والرد عليها من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية لعبد القادر عطا - 1/ 377 وجه استدلال الكلابية والأشعرية بدليل الأعراض وحدوث الأجسام على مذهبهم في الصفاتسبق الكلام عن تلقف الكلابية والأشعرية لدليل الأعراض وحدوث الأجسام، وتلقيهم له عن الجهمية والمعتزلة، وقولهم - مثل أسلافهم-: الأجسام لا تخلو من الحوادث، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث؛ لأن ما لا يخلو من الحوادث ولا يسبقها، يكون معها، أو بعدها. وما كان من الحادث، أو بعده، فهو حادث، وطريقتهم في ذلك قريبة من طريقة الجهمية والمعتزلة (1).بيد أنهم خالفوا الجهمية، والمعتزلة - أسلافهم في هذا الباب - في تسمية الصفات أعراضاً؛ فنفوا أن تسمى كذلك، زاعمين أن العرض لا يبقى زمانين، أما صفات الله الذاتية الأزلية فهي باقية (2).وقد نقل الرازي اتفاق الأشعرية جميعاً على أن: "العرض لا يبقى زمانين" (3)، وتبعه الإيجي على نقل هذا الإجماع (4). والكلابية والأشعرية قالوا بإبطال حوادث لا أول لها؛ زاعمين أن القوال بحوادث لا أول لها يستلزم التسلسل. وقولهم بامتناع حوادث لا أول لها: حدا بهم في الحقيقة إلى نفي الأفعال القائمة بذات الله تعالى، والمتعلقة بمشيئته واختياره (5).فالنزول، والاستواء، والمجيء، والإتيان والرضى، والغضب، والفرح، والضحك، .. إلخ: كلها عند هؤلاء لا تقوم بالله تعالى متعلقة بمشيئته - جل وعلا - وقدرته (6). وهم وإن خالفوا المعتزلة في جواز قيام الصفات بالله تعالى، وفي تسمية الصفات أعراضاً - فقالوا: نحن نقول بقيام الصفات بالله تعالى، ولا نسميها أعراضاً؛ لأن صفات الله عندنا باقية بخلاف الأعراض القائمة بالمخلوقات - إلا أنهم سموا الصفات الاختيارية المتعلقة بمشيئة الله تعالى وإرادته حوادث، وقالوا بنفيها، طرداً لدليل الأعراض وحدوث الأجسام، فقالوا: لو قامت به، للزم ألا يخلو منها؛ لأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث.   (1) انظر ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (9/ 132). وكتاب ((النبوات)) له (ص: 198). (2) انظر: ((شرح حديث النزول)) لابن تيمية (ص: 157 - 158). و ((مجموع الفتاوى)) له (12/ 316). و ((النبوات)) له (ص: 202). و ((نقض أساس التقديس)) - مطبوع - له (1/ 102). و ((درء تعارض العقل والنقل)) له (1/ 306، 3/ 434). (3) نقل ذلك في كتابه ((محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من الحكماء والمتكلمين)) (ص: 265). (4) نقل ذلك في كتابه ((المواقف في علم الكلام)) (ص: 101). (5) انظر: كتاب ((الصفدية)) لابن تيمية (1/ 129). و ((رسالة في الصفات الاختيارية)) له - ضمن ((جامع الرسائل والمسائل)) (2/ 6 - 10). و ((درء تعارض العقل والنقل)) له (8/ 173). (6) انظر ((شرح حديث النزول)) لابن تيمية (ص: 63). - وانظره ((ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (5/ 411). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 فصرحوا - إذا - بامتناع قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى. وقد استندوا في ذلك إلى أصلهم: ما يقبل الحوادث لم يخل منها، وما لم يخل من الحوادث كان حادثاً (1). ولهم مع هذه الصفات - أعني الاختيارية المتعلقة بمشيئة الله تعالى وإرادته - مسلكان؛ منهم من سلكهما معاً، ومنهم من سلك أحدهما .. وهذان المسلكان هما (2): "الأول": إثبات هذه الصفات، على أنها صفة أزلية قديمة مع الله تعالى، لا تتعلق بمشيئة الله وإرادته؛ فلا يتجدد له فيها حال كما يشاء. فالرضى - مثلاً ليس بفعل يتعلق بمشيئة الله - عند هؤلاء - بمعنى أنه يرضى متى شاء على من شاء، بل هو أزلي من صفات الذات. "الثاني" جعل مقتضى الصفة مفعولاً منفصلاً عن الله، لا يقوم بذاته .. فالنزول - مثلاً - ليس فعلاً لازماً - عند هؤلاء -، بل يجعلونه كأفعاله المتعدية؛ من الخلق والإحسان، مفعولاً منفصلاً عنه، ويزعمون أن الله يخلق أعراضاً في بعض المخلوقات يسميها نزولاً. وصفة الخلق - التي أحالوا الأفعال اللازمة عليها، وجعلوها مثلها - لا يثبتونها على أنها فعل يقوم بالله تعالى يتعلق بمشيئته وقدرته - جل وعلا -، بل هي مفعول منفصل عنه أيضاً؛ لأن الله - بزعمهم - خلق الخلق، فلم تحل بذاته حوادث؛ إذ الخلق هو المخلوق. وهذا الأصل: "الخلق هو المخلوق"، أو "الفعل هو المفعول": معناه: أن صفة الخلق، أو الفعل: لم تقم بالله، ولا تقوم به جل وعلا. ويقولون: إنه لو كان الخلق غير المخلوق: لكان؛ إما قديماً، وإما حادثاً. فإن كان قديماً لزم قدم المخلوق. وإن كان حادثاً، لزم أن تقوم به الحوادث. ثم ذلك الخلق يفتقر إلى خلق آخر، .. وهكذا؛ يلزم التسلسل، وهو باطل. وهم "يفسرون أفعاله - تعالى - المتعدية؛ مثل قوله تعالى: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [الأنعام: 1]، وأمثاله: أن ذلك وجد بقدرته القديمة، وإرادته القديمة، من غير أن يكون منه فعل قام بذاته .. فالقدرة القديمة، والإرادة القديمة، من غير أن يكون منه فعل قام بذاته .. فالقدرة القديمة، والإرادة القديمة هي المقتضية لحدوث كل ما حدث في وقت حدوثه، من غير تجدد أمر وجودي، بل حاله قبل أن يخلق، وبعد ما خلق سواء، لم يتجدد عندهم إلا إضافة ونسبة، وهي أمر عدمي لا وجودي" (3). وهذه النسبة أو الإضافة؛ كقول القائل: بيت الله، وناقة الله: إضافة تشريف، وانتساب إلى الله تعالى، من غير أن تقوم بذاته تعالى صفة. ويعد ابن كلاب أول من قال بهذا الأصل - الخلق هو المخلوق -، بعد تلقية له عن المعتزلة كما تقدم. وعنه أخذه تلاميذه، وعنهم أخذ أبو الحسن الأشعري الذي تكونت من أتباعه نواة مذهب الأشعرية. المصدر: الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات والرد عليها من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية لعبد القادر عطا - 2/ 5   (1) انظر: ((شرح حديث النزول)) لابن تيمية (ص: 158). و ((مجموع الفتاوى)) له (12/ 316). وكتاب ((الصفدية)) له (1/ 129). و ((الاستقامة)) له (1/ 16). و ((درء تعارض العقل والنقل)) له (1/ 354 - 355، 5/ 186، 245 - 246، 9/ 72). و ((الفتاوى المصرية)) له (6/ 443، 444، 552 - 556، 645). و ((رسالة في الصفات الاختيارية له - ضمن جامع الرسائل والمسائل)) (2/ 4، 6، 7 - ). و ((الرسالة الأكملية في ما يجب لله من صفات الكمال)) له (ص: 4). و ((منهاج السنة النبوية)) له (2/ 108). و ((شرح العقيدة الأصفهانية)) له (ص: 70). (2) انظر: ((شرح حديث النزول)) لابن تيمية (ص: 63 - 64). وانظره ضمن ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (5/ 411 - 412). و ((الفتاوى المصرية)) له (6/ 443). و ((رسالة في الصفات الاختيارية)) له - ضمن جامع الرسائل والمسائل)) (2/ 4). (3) ((شرح حديث النزول)) (ص: 42). وانظره ضمن ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (5/ 378) - وانظر كتاب ((الصفدية)) له (2/ 101). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 المطلب الثاني: الرد على استدلال المبتدعة بقصة إبراهيم الخليل عليه السلام على مذهبهم ومن الآيات التي زعموا أنها نص في ذلك، واستدلوا بها على تصحيح دليلهم؛ دليل الأعراض وحدوث الأجسام، وبنوا عليها مذهبهم في نفي الصفات الاختيارية عن الله جل وعلا، ونفي أن يكون الله – تعالى – جسماً: تلك التي تحدثت عن الخليل إبراهيم عليه السلام، وعن مناظرته لقومه .. وهي قوله تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 76 – 79]. وقد أخذ المبتدعة أصحاب دليل الأعراض وحدوث الأجسام بهذه الآيات؛ سيما قول الخليل عليه السلام: لا أُحِبُّ الآفِلِينَ، زاعمين أن إبراهيم عليه السلام قد عول على الاستدلال بالتغير على الحدوث .. وزعم المبتدعة أن الأفول: هو الحركة التي لم يخل الجسم منها .. وأن قول الخليل عليه السلام: لا أُحِبُّ الآفِلِينَ: دليل – بزعمهم – على نفي أن يكون الله يأفل ويتغير ويزول؛ فيتحرك من مكان إلى مكان .. وقد ختموا استدلالهم الفاسد هذا، بزعمهم أن الله تعالى صدق خليله عليه السلام في استدلاله بدليل الأعراض وحدوث الأجسام، بقوله: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام: 83]. فقد بنوا إذا على قصة الخليل عليه السلام: 1 - تصحيح دليل الأعراض، وجعله من الحجج الشرعية – بزعمهم – على إثبات الصانع جل وعلا .. 2 - نفي الصفات الاختيارية عن الله جل وعلا؛ لئلا يكون الرب تبارك وتعالى محلاً للحوادث؛ فيكون حادثاً – بزعمهم. 3 - نفي الجسمية عن الله جل وعلا؛ لحدوث الأجسام جميعها .. - والحق أن هذه القصة ليست حجة لهم، بل هي حجة عليهم .. ومزاعمهم كلها التي بنوها على هذه القصة لا تمت إلى الحقيقة بصلة .. وبتقسيم هذا المبحث إلى مطلبين: يتضح الردود على استدلالهم بهذه القصة، ويبدو انحرافهم عن الجادة فيما أسسوه عليها بيناً جلياً. المصدر: الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات والرد عليها من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية لعبد القادر عطا – 2/ 429 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 المطلب الثالث: الرد الإجمالي على استدلال المبتدعة بقصة إبراهيم الخليل عليه السلام على مذهبهم يتلخص الرد الإجمالي: على استدلال المبتدعة بقصة الخليل إبراهيم عليه السلام على تصحيح دليلهم، وعلى نفي الصفات الاختيارية عن الله جل وعلا، ونفي أن يكون جسماً، فيما يأتي:1 - إن مبدأ معرفة الأنبياء عليهم السلام لربهم جل وعلا، ولشرائعه تبارك وتعالى تكون عن طريق الوحي، لا بالنظر (1). يدل على ذلك قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا [الشورى: 52]، وقوله تبارك وتقدس: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى: 7]، وغير ذلك من الآيات .. 2 - إن قصة المناظرة كانت بعد بعثة إبراهيم الخليل عليه السلام. وقد كان الخليل عليه السلام وقتها عارفاً بربه جل وعلا .. ولم يكن المقام مقام استدلال بالمحدث على المحدث كما زعم المبتدعة، بل كان مقام لقومه، وإبطال لعبادتهم الكواكب من دون الله تعالى ... يدل على ذلك قوله تعالى قبل ذكر قصة المناظرة: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام: 75]، ثم قال بعدها: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الأنعام: 76] ... الآيات. والفاء للعطف والترتيب .. وهذا يدل على أن الخليل عليه السلام ناظر قومه، وبين لهم بطلان عبادتهم للكواكب بعد أن رأى ملكوت السموات والأرض، أو بعد مناقشة لأبيه آزر بشأن عدم صلاحية الأصنام للعبادة. - وهذا الفهم يعضده أمران، هما: أ- في قول الله تبارك وتعالى: نُرِي: إشارة إلى سبق معرفة إبراهيم بربه جل وعلا، ومعناها: أن الله هو الذي أرى إبراهيم الخليل عليه السلام ملكوت السموات والأرض قبل مناظرته لقومه، لا أن إبراهيم عليه السلام أنشأ استدلالاً فيما بعد ليتوصل إلى إثبات الصانع؛ كزعم المبتدعة .. ب- في قول الله تعالى: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ: إشارة إلى أن اليقين قد حصل لإبراهيم الخليل عليه السلام قبل مناظرته لقومه .. واليقين: هو العلم، وزوال الشك (2). والذي حصل له العلم بربه، وزال الشك عنه، هل يحتاج على الاستدلال ليتوصل إلى معرفة ربه؟! .. أم إنه تهيأ لمناظرة قومه، وإقامة الحجة عليهم؟ 3 - إن دليل الأعراض وحدوث الأجسام ليس طريقة الخليل عليه السلام، ولا طريقة إخوانه المرسلين عليهم أفضل الصلوات والتسليم .. فلم يكن نبي من أنبياء الله عليهم السلام يدعو أحداً من أمته على الاستدلال على وجود الله تعالى بالجواهر والأعراض، والحركة والسكون، وغير ذلك من الألفاظ المجملة، والمعاني المبهمة التي ما أنزل الله بها من سلطان .. بل هذا الدليل، وما يشتمل عليه من طريقة أعداء المرسلين، وطريقة أعداء الخليل عليه السلام بالذات .. فقد تقدم أن من ابتدع هذا الدليل في الإسلام، تلقاه عن الصابئة المبدلين، وهم أعداء الخليل الذين بعث فيهم صلى الله عليه وسلم حينما عبدوا الكواكب من دون اللهِ، وهم المعنيون بالمناظرة هذه .. 4 - إن الخليل عليه السلام كإخوانه من الأنبياء والمرسلين، لم يكن ينفي عن الله تعالى صفاته، لا بعضها، ولا كلها .. بل كان مثبتاً للصفات، موقناً أن معبوده جل وعلا متصف بصفات الكمال، منكراً على من عبد من لا يسمع، ولا يبصر، ولا يغني عن عابديه شيئاً ..   (1) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (2/ 1). (2) انظر: ((الصحاح للجوهري)) (6/ 2219). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 فهو – عليه السلام – الذي قال لآبيه: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا [مريم: 42]. وهو – عليه السلام – الذي قال لقومه يعيب عليهم ما لا يسمع ولا يبصر، ولا ينفع ولا يضر: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [الشعراء: 72 - 73]. فاحتج على نفي إلهية ما سوى الله بكونهم لا يسمعون، ولا يبصرون، ولا ينفعون، ولا يضرون. وهذه صفات ذاتية بالنظر إلى أصلها، فعلية بالنظر إلى تجدد آحادها .. وهي حجة على المبتدعة من قول إبراهيم الخليل عليه السلام نفسه الذي استدلوا بقصته على مذهبهم .. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ما ذكره الله عن إبراهيم – عليه السلام – يدل على أنه كان يثبت ما ينفونه عن الله؛ فإن إبراهيم قال: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء [إبراهيم: 39]؛ والمراد: أنه يستجيب الدعاء؛ كما يقول المصلي: سمع الله لمن حمده. وإنما يسمع الدعاء ويستجيبه بعد وجوده لا قبل وجوده؛ كما قال تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة: 1]؛ فهي تجادل وتشتكي حال سمع الله تحاورهما وهذا يدل على أن سمعه كرؤيته المذكورة في قوله: وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 105]، وقال: ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس: 14]؛ فهذه رؤية مستقلة ونظر مستقل. وقد تقدم أن المعدوم لا يرى ولا يسمع منفصلا عن الرائي السامع باتفاق العقلاء فإذا وجدت الأقوال والأعمال سمعها ورآها. والرؤية والسمع أمر وجودي لا بد له من موصوف يتصف به؛ فإذا كان هو الذي رآها وسمعها، امتنع أن يكون غيره هو المتصف بهذا السمع وهذه الرؤية، وأن تكون قائمة بغيره، فتعين قيام هذا السمع وهذه الرؤية به بعد أن خلقت الأعمال والأقوال. وهذا قطعي لا حيلة فيه" (1). فالمقصود أن الخليل عليه السلام قد أثبت الصفات الاختيارية لله تعالى، ومنها السمع والبصر .. وعلى هذا فلا حجة في قول المبتدعة إن ما ورد في قصة مناظرة إبراهيم عليه السلام لقومه؛ من قوله لما احتجب الكوكب: لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام: 76] دليل على نفي قيام الصفات الاختيارية بذات الله تعالى – بزعمهم. وتفنيد استدلالهم هذا سيأتي بشكل أوسع في المطلب الثاني التفصيلي – إن شاء الله. 5 - إن الخليل عليه السلام لو قصد الاستدلال بالأعراض على نحو استدلال المتكلمين، لما قال: هَذَا رَبِّي أولاً، ولما فرق بين النجم والشمس والقمر، ولكان دليله على حدوث النجم يدل بعينه على حدوث سائر الأجسام؛ لأنه يكون قد أقام الحجة على الخصم بحدوث الأجسام حين أبطل ربوبية النجم .. فلم أعاد الاستدلال عند رؤية القمر، ثم أعاده ثالثة عند رؤية الشمس؟ 6 - إن استدلال المبتدعة بقول الله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام: 83] على تصحيح دليل الأعراض وحدوث الأجسام، وشرعيته؛ بزعمهم أن الله تعالى في هذه الآية قد صدق خليله عليه السلام في استدلاله بدليل الأعراض وحدوث الأجسام: مجانب للصواب. فالله تعالى قال: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ، ولم يقل على نفسه ..   (1) ((رسالة في الصفات الاختيارية لابن تيمية – ضمن جامع الرسائل)) (2/ 54 - 55). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 فعلم أن هذه المباحثة إنما جرت بين إبراهيم عليه السلام، وقومه؛ لأجل أن يرشدهم إلى الإيمان والتوحيد، لا لأجل أن يطلب إبراهيم عليه السلام المعرفة لنفسه."ولهذا قال الخليل في تمام الكلام: إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 78 – 79]. فقوله: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: يبين أنه إنما يعبد الله وحده، فله يوجه وجهه؛ فإنه إذا توجه قصده إليه، تبع قصده وجهه؛ فالوجه موجه حيث توجه القلب؛ فصار قلبه ووجهه متوجهاً إلى الله تعالى ولهذا قال: وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لم يذكر أنه أقر بوجود الصانع؛ فإن هذا كان معلوماً عند قومه، لم يكونوا ينازعونه في وجود فاطر السموات والأرض، وإنما كان النزاع في عبادة غير الله واتخاذه رباً" (1). "فعلم مما تقدم أن الخليل عليه السلام لم يكن مستدلاً بدليل الأعراض وحدوث الأجسام على إثبات الصانع، بل كان محاججاً لقومه، منكراً عليهم عبادتهم الكواكب من دون الله تعالى. المصدر: الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات والرد عليها من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية لعبد القادر عطا – 2/ 431   (1) ((رسالة في الصفات الاختيارية لابن تيمية – ضمن جامع الرسائل)) (2/ 52، 53). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 المطلب الرابع: الرد التفصيلي على استدلال المبتدعة بقصة إبراهيم الخليل عليه السلام على مذهبهم هذه القصة التي قصها الله تبارك وتعالى علينا من أحسن القصص؛ كما قال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف: 3]. وفيها أحسن مناظرة وأبينها ... قص الله علينا كيف أظهر حجة خليله، ودحض حجة أعدائه؛ فبين بطلان إلهية ما يعبدون من كواكب، ونجوم، وشمس، وقمر: بأفول ذلك، واحتجابه .. وقد أخبر الخليل عليه السلام قومه في هذه المناظرة أن الإله الحق لا يليق به أن يغيب ويحتجب، بل لابد أن يكون شاهداً غير غائب، ككونه غالباً قاهراً غير مغلوب ولا مقهور، نافعاً لعباده، يملك لعباده الضر والنفع، فيسمع كلامه، ويرى مكانه، ويهديه ويرشده، ويدفع عنه ما يؤذيه ويضره. وذلك ليس إلا لله وحده، المعبود بحق، وكل معبود سواه باطل .. - فهذه القصة التي قصها الله تعالى علينا في كتابه الكريم من أعظم سبل الاعتبار لتحقيق التوحيد (1). وقد ضل في هذه القصة – كما تقدم – طوائف من المتكلمين؛ من جهمية، ومعتزلة وأشعرية، وماتريدية، وغيرهم. وأصل ضلالتهم (2): 1 - أنهم اعتقدوا أن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لما قال: هَذَا رَبِّي: عن الكوكب، والقمر، والشمس، أراد أن هذا هو الذي خلق السموات والأرض، وأنه رب العالمين. ومرادهم من ذلك تصحيح دليل الأعراض وحدوث الأجسام عندهم؛ لأن الخليل بزعمهم استدل بحركة الكواكب، وتغيرها على حدوثها، وبالتالي على وجود المحدث لها؛ لأن كل محدث لابد له من محدث .. 2 - أنهم اعتقدوا أن الخليل عليه السلام بقوله: لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام: 76] قد استدل على حدوث الكواكب بتحركها وتغيرها؛ لأن كل متحرك محدث، والمحدث لا يصلح أن يكون رباً .. ومرادهم من ذلك نفي قيام الأفعال الاختيارية بذات الله تعالى؛ لأنها حوادث، وما قامت به الحوادث كان محلاً لها، وما كان محلاً للحوادث فهو حادث، والمحدث لا يصلح أن يكون رباً .. المصدر: الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات والرد عليها من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية لعبد القادر عطا – 2/ 438   (1) انظر: ((بغية المرتاد)) لابن تيمية (ص: 358). (2) انظر: ((بغية المرتاد)) لابن تيمية (ص: 359). و ((منهاج السنة النبوية)) له (2/ 193). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 المطلب الخامس: الرد على استدلال المبتدعة بقول إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: هَذَا رَبِّي [الأنعام: 76] على شرعية دليل الأعراض وحدوث الأجسام: الخليل عليه السلام لم يرد من قوله عن الكوكب، والقمر، والشمس: هَذَا رَبِّي: أن هذا هو الذي خلق السموات والأرض، وأنه رب العالمين. ومن تدبر قصته عليه السلام علم أنها تدل على نقيض مذهب المبتدعة .. - فهذه القصة التي جرت بين إبراهيم عليه السلام وقومه: إنما هي في إثبات انفراد الله تعالى بالألوهية، لا في إثبات أنه جل وعلا الصانع، وخالق هذا الكون .. فمن غير المعقول أن يعتقد إبراهيم عليه السلام أن الكوكب أو القمر هو خالق السموات والأرض، أو أن الشمس هي الخالقة لأنها أكبر – كما افترى المبتدعة عليه. هذا لا يعتقده عاقل .. ولم يكن قصد الخليل عليه السلام من قوله: هَذَا رَبِّي: أن هذا الذي أشار إليه؛ من كوكب، أو شمس، أو قمر: أنه رب العالمين، وأنه الصانع لهذا الكون؟! حاشاه من قول ذلك – عليه السلام – بل هو أجل من أن يقول لمثل هذه الكواكب: إنه رب العالمين (1). فلم يكن بصدد إثبات الصانع، بل كان مناظراً لقومه، مستدلاً عليهم، مبيناً فساد معتقدهم في ألوهية الكواكب، وإشراكها مع الله في العبادة .. فكان عليه السلام – إذا – بصدد الاستدلال على نفي الشريك، وإبطال عبادة ما سوى الله تعالى؛ لأن قومه كانوا مقرين بالصانع، ولكنهم كانوا يشركون في عبادته غيره (2).يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالقوم لم يكونوا جاحدين لرب العالمين، ولا كان قوله – عليه السلام – هَذَا رَبِّي: هذا هو الذي خلق السموات والأرض؛ على أي وجه قاله؛ سواء قاله إلزاماً لقومه، أو تقديراً، أو غير ذلك. ولا قال أحد قط من الآدميين إن كوكباً من الكواكب، أو إن الشمس والقمر أبدعت السموات كلها. ولا يقول هذا عاقل. بل عباد الشمس والقمر والكواكب يعبدونها كما يعبد عباد الأصنام الأصنام؛ كما يعبد عباد الأنبياء والصالحين لهم ولتماثيلهم، وكما يعبدون آخرون للملائكة، وآخرون يعبدون الجن لما يرجون بعبادتها من جلب منفعة، أو دفع مضرة لا لاعتقادهم أنها خلقت العالم" (3).فالمقصود أن قوم إبراهيم عليه السلام كانوا يقرون بربوبية رب العالمين، ويثبتونه جل وعلا؛ فأي حاجة دعت الخليل عليه السلام إلى إقامة الحجة على قومه لإثبات ما هو ثابت مستقر عندهم (4).وإنما كان قوم إبراهيم – كما مر – يشركون بعبادة هذه الكواكب والأصنام؛ لما يرجون بعبادتها من جلب نفع، أو دفع ضر (5). ودليل إقرار قوم إبراهيم عليه السلام بربوبية رب العالمين، وأنه الصانع، الخالق للسموات والأرض جل وعلا: موجود في آيات قرآنية، منها:   (1) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (1/ 315). (2) انظر ((شرح حديث النزول)) لابن تيمية (ص: 167). (3) ((الرد على المنطقيين)) لابن تيمية (ص: 305، 306) وانظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) له (1/ 311 – 313، 2/ 216)، و ((بغية المرتاد)) له (ص: 360). و ((منهاج السنة النبوية)) له (2/ 294). و ((رسالة في الصفات الاختيارية له – ضمن جامع الرسائل)) (2/ 51، 52، 53). (4) انظر: ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) لابن حزم 4/ 17. و ((مجموع فتاوى)) ابن تيمية (5/ 548 – 550، 6/ 548، 549). (5) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (4/ 77، 8/ 356). و ((شرح حديث النزول)) له (ص: 166). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 قول الخليل مخاطباً قومه: قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 75 - 77]: فاستثنى رب العالمين الذي كانوا يعبدونه، ويقرون بربوبيته، ولكن يشركون معه في العبادة غيره .. وكذا قول الخليل عليه السلام، ومن معه من المؤمنين يخاطبون قومهم: إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة: 4]. فمحل النزاع بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان كان في إفراد الله تعالى بالعبادة وحده، وهذا ما كان يفتقر إليه مشركوا قوم إبراهيم عليه السلام .. فلم يكن الخليل عليه السلام جاهلاً بخالق السموات والأرض، ولم يكن قومه جاحدين له؛ حتى يقال إنه استدل على الصانع، أو نحو ذلك. وسبب لجوء الخليل عليه السلام على هذه المناظرة لإقامة الحجة على قومه، وإلزامهم بعبادة الله وحده: هو هذه الجذور المتأصلة عندهم، والعقيدة المتوارثة خلفاً عن سلف في عبادة الكواكب والنجوم .. فقد وجد الخليل عليه السلام أن انتزاع هذه العقيدة من الصعوبة بمكان؛ لذلك رأى أن الحجة لابد أن تكون قوية وحكيمة حتى تكون أدعى للقبول .. ولا شك أن الاستدلال الذي يجمع بين القول والحس أقوى من الاستدلال القولي المجرد عن الحس .. لذلك كان انتظار أفول هذه الأجرام، والاستدلال بذلك على عدم صلاحيتها للألوهية أدعى لإجابة قوم إبراهيم عليه السلام من مجرد القول (1). فالذي يأفل، ولا يملك أن يمنع نفسه من الاحتجاب والمغيب عن أعين عابديه، لا يصلح للعبادة. فإذا كان لا يملك أن يمنع نفسه عن المغيب، فكيف يملك لعابده نفعاً أو ضراً؟! .. فقول الخليل عليه السلام عن الكوكب، أو الشمس، أو القمر: هَذَا رَبِّي: من نوع الاستفهام الإنكاري، والمعنى: أهذا الذي تزعمون أنه ربي؟، أو أهذا الذي تعتقدونه رباً لي؟ وهذا أسلوب معروف في لغة العرب؛ من ذلك قول الله تبارك وتعالى: أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء: 34]: أي أفهم الخالدون (2).ولو كان على إبراهيم عليه السلام بقوله: هَذَا رَبِّي: أي هذا رب العالمين؛ لكانت قصة إبراهيم عليه السلام حجة عليهم؛ لأنه حينئذ لم تكن الحركة عنده مانعة من كونه رب العالمين، وإنما المانع هو الأفول" (3). فعلم مما تقدم فساد استدلال المبتدعة بقصة الخليل عليه السلام على تصحيح دليل الأعراض وحدوث الأجسام، وإبعادهم النجعة في فهمهم لقوله عليه الصلاة والسلام: هَذَا رَبِّي .. فليس المراد به أن هذا رب العالمين، أو أنه خالق السموات والأرضين. المصدر: الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات والرد عليها من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية لعبد القادر عطا – 2/ 440   (1) انظر: ((روح المعاني)) للألوسي (7/ 199). (2) انظر: ((جامع البيان)) للطبري (7/ 250). و ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (7/ 26). وانظر أيضاً: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (1/ 110، 111، 311). (3) ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (2/ 196). وانظر. ((درء تعارض العقل والنقل)) له (2/ 216). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 المطلب السادس: الرد على استدلال المبتدعة بقول الخليل عليه السلام: لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام: 76] على نفي قيام الصفات الاختيارية بذات الله تعالى. زعم المبتدعة أن الخليل عليه السلام بقوله: لا أُحِبُّ الآفِلِينَ استدل على حدوث الكواكب بتحركها وتغيرها؛ لأن كل متحرك محدث .. ثم نفى صلاحيتها لأن تكون صانعة للعالم بكونها محدثة، والمحدث لا يصلح أن يكون رباً .. - وقد تقدم أن مراد المبتدعة من ذلك نفي قيام الأفعال الاختيارية بذات الله تعالى؛ لأنها حوادث، وما قامت به الحوادث كان محلاً لها، وما كان محلاً للحوادث فهو حادث، والمحدث لا يصلح أن يكون رباً .. - فهذا مما أبعدوا فيه النجعة، وجانبوا فيه جادة الصواب .. ولا يسعفهم في ذلك برهان، لا من اللغة، ولا من واقع الحال .. - أما من اللغة: فالأفول باتفاق أهل العلم والتفسير: هو المغيب، والاختفاء، والاحتجاب .. وهذا أمر متواتر ضروري في التفسير واللغة (1).- فلا يعرف في لغة العرب إطلاق الأفول على الحركة والانتقال (2). فهذا المعنى لم تعرفه العرب كما هو مبين في كتب ومعاجم اللغة .. - وكذا لم تعرف العرب أن الأفول هو التغير. فلا يسمى المتحرك، أو المتغير في اللغة آفلاً .. - ولا يقال لمن تحرك، أو جاء، أو ذهب، أو صعد، أو نزل، أو أتى إنه آفل .. - ولا يقال للتغير الذي هو تحول عن حال إلى حال؛ كاستحالة لون الإنسان إلى الاصفرار عند المرض، واستحالة لون الشمس إلى الاصفرار عند تضيفها للغروب: إن ذلك أفول .. - وإنما المعروف أن الأفول: هو الغياب والاحتجاب .. وهذا من المتواتر المعلوم بالاضطرار من لغة العرب .. - يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن استدلال المبتدعة بقول إبراهيم الخليل عليه السلام: لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام: 76] على حدوث الكواكب بتحركها وتغيرها؛ لأن كل متحرك محدث – بزعمهم – وزعمهم أن الأفول: هو الحركة والتغير: "إن هذا خلاف إجماع أهل اللغة والتفسير. بل هو خلاف ما علم بالاضطرار من الدين، والنقل المتواتر للغة والتفسير. فإن الأفوال: هو المغيب. يقال أفلت الشمس تأفل، وتأفل أفولا: إذا غابت. ولم يقل أحد قط إنه هو التغير، ولا أن الشمس إذا تغير لونها يقال إنها أفلت، ولا إذا كانت متحركة في السماء يقال إنها أفلت. ولا أن الريح إذا هبت يقال إنها أفلت. ولا أن الماء إذا جرى يقال إنه أفل. ولا أن الشجر إذا تحرك يقال إنه أفل. ولا أن الآدميين إذا تكلموا، أو مشوا، وعملوا أعمالهم يقال إنهم أفلوا. بل ولا قال أحد قط إن من مرض، أو اصفر وجهه، أو احمر يقال إنه أفل. فهذا القول من أعظم الأقوال افتراء على الله، وعلى خليل الله، وعلى كلام الله عز وجل، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله، وعلى أمة محمد جميعاً، وعلى جميع أهل اللغة، وعلى جميع من يعرف معاني القرآن" (3).   (1) انظر: ((بغية المرتاد)) لابن تيمية (ص: 359). (2) انظر من كتب ابن تيمية: ((منهاج السنة النبوية)) (2/ 195). و ((رسالة في الصفات الاختيارية ضمن جامع الرسائل)) (2/ 50). و ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 313، 314، 2/ 216، 4/ 76 – 77، 8/ 355). و ((شرح حديث النزول)) (ص: 165، 166). (3) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (6/ 284، 285). وانظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) له (6/ 109 – 110، 313، 314، 2/ 216، 4/ 76، 77، 8/ 355). و ((شرح حديث النزول)) له (ص: 166). و ((منهاج السنة النبوية)) له (2/ 195). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 فالأفول – إذاً – باتفاق أهل اللغة جميعاً، وعلماء التفسير، وكل من يعرف معاني القرآن: هو المغيب، والاختفاء، والاحتجاب. يقول الأزهري – وهو أحد علماء اللغة -: "يقال: أفلت الشمس تأفل وتأفل أفلا وأفولا، فهي آفلة، وكذلك القمر يأفل إذا غاب قال الله تعالى: فَلَمَّا أَفَلَ [الأنعام: 76 - 77]: أي غاب وغرب" (1). وقال ابن فارس: "أفلت الشمس: غابت ونجم أفل وكل شيء غاب فهو آفل .. - إلى أن قال:- وإبراهيم عليه السلام قال: لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام: 76]؛ حين غابت الكواكب واحتجبت" (2).ولم يشذ عن هذا أحد من أهل اللغة (3). فعلم أن اللغة تدحض حججهم .. بل إن من يعرف معاني القرآن ليجزم أن معنى الأفول هو الغياب والاحتجاب، وليس معناه التحرك والتغير (4). وأما من واقع الحال: فلم يكن قصد الخليل إبراهيم عليه السلام الاستدلال بالحركة والسكون على أن هذه الكواكب حادثة لا تصلح للألوهية – كما زعم المبتدعة. لذلك لما رآها تتحرك لم يقل: لا أُحِبُّ الآفِلِينَ، وإنما قال ذلك عندما غابت واحتجبت .. فمعلوم أن القمر لما بزغ، كان في بزوغه متحركاً إلى أن غاب .. وكذلك الشمس لما بزغت، كانت في بزوغها متحركة إلى أن غابت .. فلو كان إبراهيم عليه السلام يقصد الاستدلال بالحركة التي يسميها المبتدعة – تغيراً – لكان قد قال ذلك – لا أُحِبُّ الآفِلِينَ – حين رأى القمر، أو الشمس بازغين، ولما انتظر أفولهما، "بل كان نفس الحركة التي يشاهدها حين تطلع إلى أن تغيب هي الأفول" (5).يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مخاطباً المبتدعة الذين استدلوا بالأفول على الحدوث: "إن قصة الخليل عليه السلام حجة عليكم؛ فإنه لما رأى كوكباً وتحرك إلى الغروب فقد تحرك، ولم يجعله آفلاً. فلما رأى الشمس بازغة علم أنها متحركة، ولم يجعلها آفلة. ولما تحركت إلى أن غابت، والقمر إلى أن غاب لم يجعله آفلاً" (6). فلو كانت الحركة التي ظهرت في الشمس – مثلاً – حين بزوغها هي الدليل على الحدوث، لكان الخليل عليه السلام من حين بزغت استدل بتلك الحركة على حدوثها، ولما انتظر إلى أن غابت .. فدل ذلك على أن الحركة ليست دليلاً على نفس مطلوبه، بل الأفول هو الدليل .. فعلم بذلك أن ما ذكر من التغير والحركة والانتقال لم يناف مقصود إبراهيم عليه السلام، وإنما نافاه التغيب والاحتجاب (7).   (1) ((تهذيب اللغة)) للأزهري (15/ 378). (2) ((معجم مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/ 119). (3) انظر: ((الصحاح للجوهري)) (4/ 1623). و ((القاموس المحيط للفيروز آبادي)) (ص: 1242). و ((لسان العرب)) لابن منظور (11/ 18). و ((المعجم الوسيط)) (ص: 21) وغير ذلك كثير. (4) انظر مثلا: ((معالم التنزيل)) للبغوي (2/ 90، 91). و ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (2/ 151). و ((روح المعاني للألوسي)) (7/ 199) وغير ذلك. (5) ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (2/ 196). (6) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (6/ 285). وانظر من كتب ابن تيمية: المصدر نفسه (6/ 253) و ((بغية المرتاد)) (ص: 360) ((ومنهاج السنة النبوية)) (2/ 196) و ((شرح حديث النزول)) (ص: 166) و ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 313، 314، 2/ 216، 4/ 77، 8/ 356). و ((رسالة في الصفات الاختيارية ضمن جامع الرسائل)) (2/ 50 - 51). (7) ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (4/ 77). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 - ومن الأمور التي ينبغي التنبيه عليها في هذا الباب: أن ما استدل به المبتدعة من نفي التغير – الحركة، والسكون – الذي سموه أفولاً، على تعطيل الباري جل وعلا عن صفاته الاختيارية: هو على نقيض مطلوبهم، لا على تعيين مرادهم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فإن كان إبراهيم – عليه السلام – إنما استدل بالأفول على أنه ليس رب العالمين؛ كما زعموا: لزم من ذلك أن يكون ما يقوم به الأفول؛ من كونه متحركاً، منتقلاً، تحله الحوادث، بل ومن كونه جسماً متحيزاً: لم يكن دليلاً عند إبراهيم على أنه ليس برب العالمين وحينئذ: فيلزم أن تكون قصة إبراهيم حجة على نقيض مطلوبهم، لا على تعيين مطلوبهم. وهكذا أهل البدع لا يكادون يحتجون بحجة سمعية، ولا عقلية، إلا وهي عند التأمل حجة عليهم لا لهم" (1).فقيام الحركة والانتقال بالكوكب، أو القمر، أو الشمس: لم يناف مقصود إبراهيم عليه السلام، لذلك لم ينف محبة من قامت به هذه الصفة، وإنما نفى محبة من أفل؛ فعلم أن التغيب ينافي مقصود الخليل عليه السلام؛ "فإن كان مقصوده نفي كونه رب العالمين، كان ذلك حجة عليهم لا لهم. وكانوا قد حكوا عن إبراهيم أنه لم يجعل التغير والحركة والانتقال مانعة من كون الموصوف بذلك رب العالمين، فما ذكروه لو صح كان حجة عليهم لا لهم. وبكل حال: فإبراهيم لم يجعل الحركة والانتقال مانعة من حب المتصف بذلك، كما جعل الأفول مانعاً فعلم أن ذلك ليس من صفات النقص التي تنافي كون المتصف بها معبوداً عند إبراهيم" (2).يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولقائل أن يقول: إن كان الخليل صلى الله عليه وسلم احتج بالأفول على نفي كونه رب العالمين، لزم أنه لم يكن ينفي عنه حلول الحوادث؛ لأن الأفول هو المغيب والاحتجاب باتفاق أهل التفسير واللغة، وهو مما يعلم من اللغة اضطراراً. وهو حين بزغ قال: هَذَا رَبِّي، فإذا كان من حين بزوغه إلى حال أفوله لم ينف عنه الربوبية، دل على أنه لم يجعل حركته منافية لذلك، وإنما جعل المنافي: الأفول" (3). - فالخليل عليه السلام لم ينف الربوبية عن الكوكب، أو القمر، أو الشمس: حال حركتهم وانتقالهم من مكان إلى مكان، وإنما نفى ذلك وقت غيابهم واحتجابهم .. فدل ذلك على أن رب العالمين تقوم به الأفعال الاختيارية، لا كما زعم نفاتها .. هذا لو سلمنا للمبتدعة أن إبراهيم عليه السلام كان بصدد إثبات رب العالمين. غير أن الواقع أن الخليل عليه السلام كان يحتج بالأفول على أن من يتصف به لا يصلح أن يتخذ رباً يشرك به، ويدعى من دون الله. وهكذا تبين لنا أن طريقة الخليل عليه السلام إنما كانت لنفي ألوهية الكواكب، ونفي عباداتها من دون الله تعالى، لا لإثبات حدوث العالم بدليل الحركة والسكون، ولا للاستدلال على حدوث الأجسام بتغيرها وأفولها .. واتضح أن قصة الخليل عليه السلام حجة على المبتدعة؛ سيما أولئك الذين يستندون إليها في نفي قيام أفعال الله الاختيارية بذاته جل وعلا .. المصدر: الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات والرد عليها من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية لعبد القادر عطا – 2/ 444   (1) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (6/ 254). (2) ((درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية)) (4/ 77، 78). (3) ((درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية)) (2/ 216). وانظر: ((رسالة في الصفات الاختيارية له – ضمن جامع الرسائل)) (2/ 51). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 المطلب الأول: بيان موافقة أبي الحسن الأشعري للسلف في إثبات الصفات الخبرية لله تعالى كالوجه واليدين والعينين وإبطال تأويلها لم يختلف قول أبي الحسن الأشعري في إثبات الصفات الخبرية لله تعالى التي في القرآن، وقد ذكر ذلك في مواضع كثيرة من كتبه: فقال في "مقالات الإسلاميين": "وقال أهل السنة وأصحاب الحديث: ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وأنه على العرض كما قال عز وجل: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]، ولا نقدم بين يدي الله في القول، بل نقول استوى بلا كيف. وأنه نور كما قال تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور: 35]. وأن له وجهاً كما قال الله: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27]. وأن له يدين كما قال تعالى: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75]. وأن له عينين كما قال تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14]. وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال تعالى: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22]. وأنه ينزل على السماء الدنيا كما جاء في الحديث. ولم يقولوا شيئاً إلا ما وجدوه في الكتاب، أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" (1) اهـ. وقال في موضع آخر في سياق الاختلاف في العين والوجه واليد ونحوها: "وقال أصحاب الحديث: لسنا نقول في ذلك إلا ما قال الله عز وجل، أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقول: وجه بلا كيف، ويدان وعينان بلا كيف" (2) اهـ. وقال أيضاً: "هذه حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة جملة ما عليه أهل الحديث والسنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون من ذلك شيئاً ..... "، إلى أن قال: وأن الله سبحانه على عرشه كما قال تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]. وأن له يدين بلا كيف كما قال تعالى: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75]، وكما قال سبحانه: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64]. وأن له عينين بل كيف كما قال تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14].وأن له وجهاً كما قال تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 27] (3) اهـ. وقال في (الإبانة): "فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة: فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافعة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون. قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها، التمسك بكتاب الله ربنا عز وجل، وبسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما روي عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل – نصر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته – قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفهم. وجملة قولنا: .. " ثم ذكر أموراً إلى أن قول: "وأن له سبحانه وجهاً بلا كيف، كما قال تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 27].   (1) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 284). (2) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 290). (3) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 345). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 وأن له سبحانه يدين بلا كيف، كما قال سبحانه: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75]، وكما قال سبحانه: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64].وأن له سبحانه عينين بلا كيف، كما قال سبحانه: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14] (1) اهـ. وقال أيضاً: "الباب السادس الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين: قال الله تبارك وتعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88]، وقال تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 27]، فأخبر أن له سبحانه وجهاً لا يفنى، ولا يلحقه الهلاك. وقال تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14]، وقال تعالى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا [هود: 37]، فأخبر تعالى أن له وجهاً وعيناً ولا تكيف ولا تحد. وقال تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور: 48]، وقال تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه: 39]، وقال تعالى: وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء: 134]، وقال لموسى وهارون عليهما أفضل الصلاة والسلام: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46]. فأخبر تعالى عن سمعه وبصره ورؤيته ... "، على أن قال: "مسألة: فمن سألنا فقال: أتقولن إن لله سبحانه وجهاً؟ قيل له: نقول ذلك، خلافاً لما قاله المبتدعون، وقد دل على ذلك قوله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 27]. مسألة: قد سئلنا: أتقولون إن لله يدين؟ قيل: نقول ذلك بلا كيف، وقد دل عليه قوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10]، وقوله تعالى: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75].وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذريته)) (2) فثبتت اليد بلا كيف" (3) اهـ. وقال في إثبات صفتي الرضا والغضب لله تعالى: "وإذا كنا متى أثبتناه غضباناً على الكافرين فلابد من إثبات غضب، وكذلك إذا أثبتناه راضياً عن المؤمنين فلابد من إثبات رضى، وكذلك إذا أثبتناه حياً سميعاً بصيراً فلابد من إثبات حياة وسمع وبصر" (4) اهـ كما أنه أبطل تأويل الصفات الخبرية ورد على أهلها في مواضع كثيرة، وبين أن تأويل الصفات الخبرية هو قول المعتزلة وأهل الضلال: فقال في (مقالات الإسلاميين): "باب قول المعتزلة في "وجه الله": واختلفوا هل يقال لله وجه أم لا وهم ثلاث فرق: فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن لله وجهاً هو هو والقائل بهذا القول أبو الهذيل. والفرقة الثانية منهم يزعمون أنا نقول وجه توسعاً ونرجع إلى إثبات الله لأنا نثبت وجهاً هو هو ... , الفرقة الثالثة منهم ينكرون ذكر الوجه أن يقولوا لله وجه" (5) اهـ. وقال في موضع آخر: "قولهم في العين واليد: وأجمعت المعتزلة بأسرها على إنكار العين واليد وافترقوا في ذلك على مقالتين: فمنهم من أنكر أن يقال: لله يدان وأنكر أن قال أنه ذو عين وأن له عينين، ومنهم من زعم أن لله يداً وأن له يدين، وذهب في معنى ذلك إلى أن اليد نعمة، وذهب في معنى العين إلى أنه أراد العلم وأنه عالم، وتأويل قول الله عز وجل: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه: 39]، - أي: بعلمي-" (6) اهـ.   (1) ((الإبانة للأشعري)) (ص43 - 44). (2) رواه أبو داود (4703) والترمذي (3075) سكت عنه أبو داود [وقد قال في رسالته لأهل مكة: كل ما سكت عنه فهو صالح] وقال الترمذي: حسن صحيح وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)) (3076). (3) ((الإبانة للاشعري)) (104 - 106). (4) ((الإبانة للأشعري)) (ص: 117). (5) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 265). (6) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 271). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 وقال: "الاختلاف في العين والوجه واليد ونحوها: واختلفوا في العين واليد والوجه واليد والوجه على أربع مقالات: فقالت المجسمة: له يدان، ورجلان، ووجه، وعينان، وجنب يذهبون على الجوارح والأعضاء. وقال أصحاب الحديث: لسنا نقول في ذلك إلا ما قاله الله عز وجل أو جاءت به الرواية من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقول: وجه بلا كيف ويدان وعينان بلا كيف ... وقالت المعتزلة بإنكار ذلك إلا الوجه، وتأولت اليد بمعنى النعمة، وقوله: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14] – أي: بعلمنا-" (1) اهـ. وقال في سياق أقوال المعتزلة: "وكان غيره من المعتزلة يقول أن وجه الله سبحانه هو الله، ويقول أن نفس الله سبحانه هي الله، وأن الله غير لا كالأغيار، وأن له يدين وأيدياً بمعنى نعم، وقوله تعالى أعين وأن الأشياء بعين الله أي بعلمه، ومعنى ذلك أنه يعلمها، ويتأولون قولهم أن الأشياء في قبضة الله سبحانه أي في ملكه، ويتأولون قول الله عز وجل: لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ [الحاقة: 45]، أي بالقدرة. وكان سليمان ابن جرير يقول أن وجه الله هو الله (2) اهـ. وقال في (الإبانة): "الباب الأول: في إبانة قول أهل الزيغ والبدعة" ثم ساق كثيراً من أقوالهم إلى أن قال: "ودفعوا أن يكون لله وجه مع قوله عز وجل: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 27]، وأنكروا أن له يدان مع قوله سبحانه: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75]، وأنكروا أن يكون له عينان مع قوله سبحانه: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14]، وقوله: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه: 39] (3) اهـ. وقال في موضع آخر: "ونفى الجهمية أن يكون لله تعالى وجه كما قال، وأبطلوا أن يكون له سمع وبصر وعين" (4) اهـ. وليس المنفي عند المعتزلة هو الوجه المجازي، بل الوجه الحقيقي، إذ جميع المعتزلة يثبتون الوجه المضاف إليه الله تعالى في كتابه ولا ينكرونه، ولو أنكروه لكفروا، وإنما ينفون أن يكون وجهاً حقيقة، ولو لم يكن كذلك لم يكن للخلاف بين أهل الحديث والمعتزلة معنى، إذا كان الجميع يثبتون وجهاً مضافاً إلى الله، وليس وجهاً حقيقة، بل وجهاً مجازياً!!! وكل الصفات التي يحكي الأشعري نفيها عن المعتزلة فعلى هذا المنوال. وهذا كما ترى ظاهر في أن إنكار أن كون صفات الله تعالى كالوجه واليد والنزول ونحوها حقيقة، إنما هو قول المعتزلة، لا قول أهل السنة كما يزعمه المؤلفان. وقال الأشعري أيضاً في رد تأويل الصفات: "مسألة: قد سئلنا أتقولون إن لله يدين؟   (1) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 290). (2) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 205). (3) ((الإبانة للأشعري)) (ص: 41). (4) ((الإبانة للأشعري)) (ص: 104). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 قيل: نقول ذلك بلا كيف، وقد دل عليه قوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10]، وقوله تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75].وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذريته)) (1) فثبتت اليد بلا كيف. وجاء في الخبر المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن الله تعالى خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس شجرة طوبى بيده)) (2)، أي بيد قدرته سبحانه. وقال تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64]، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((وكلتا يديه يمين)) (3). وقال تعالى: لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ [الحاقة: 45]. وليس يجوز في لسان العرب، ولا في عادة أهل الخطاب، أن يقول القائل: عملت كذا بيدي، ويعني به النعمة، وإذا كان الله عز وجل إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري مفهوماً في كلامها، ومعقولاتً في خطابها، وكان لا يجوز في خطاب أهل اللسان أن يقول القائل: فعلت بيدي، ويعني النعمة؛ بطل أن يكون معنى قوله تعالى بِيَدَيَّ [ص: 75]، النعمة، وذلك أنه لا يجوز أن يقول القائل: لي عليه يدي، بمعنى لي عليه نعمتي، ومن دافعنا عن استعمال اللغة ولم يرجع إلى أهل اللسان فيها دوفع عن أن تكون اليد بمعنى النعمة؛ إذ كان لا يمكنه أن يتعلق في أن اليد النعمة إلا من جهة اللغة، فإذا دفع اللغة لزمه أن لا يفسر القرآن من جهتها، وأن لا يثبت اليد نعمة من قبلها؛ لأنه إن روجع في تفسير قوله تعالى: بِيَدَيَّ [ص: 75]، نعمتي فليس المسلمون على ما ادعى متفقين، وإن روجع إلى اللغة فليس في اللغة أن يقول القائل: بيدي يعني بنعمتي، وإن لجأ إلى وجه ثالث سألناه عنه، ولن يجد له سبيلاً. مسألة: ويقال لأهل البدع: ولم زعمتم أن معنى قوله: بِيَدَيَّ [ص: 75]، نعمتي أزعمتم ذلك إجماعاً أو لغة؟ فلا يجدون ذلك إجماعاً ولا في اللغة. وإن قالوا: قلنا ذلك من القياس. قيل لهم: ومن أين وجدتم في القياس أن قوله تعالى بِيَدَيَّ [ص: 75]، لا يكون معناه إلا نعمتي؟ ومن أين يمكن أن يعلم بالعقل أن تفسير كذا وكذا مع أنا رأينا الله عز وجل قد قال في كتابه العزيز، الناطق على لسان نبيه الصادق: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: 4]، وقال تعالى: لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ [النحل: 103]، وقال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: 3]، وقال تعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ [النساء: 82]، ولو كان القرآن بلسان غير العرب لما أمكن أن نتدبره، ولا أن نعرف معانيه إذا سمعناه، فلما كان من لا يحسن لسان العرب لا يحسنه، وإنما يعرفه العرب إذا سمعوه على أنهم إنما علموه؛ لأنه بلسانهم نزل، وليس في لسانهم ما ادعوه" (4) اهـ. وقال الذهبي في السير: "قلت رأيت لأبي الحسن أربعة تواليف في الأصول يذكر فيها قواعد مذهب السلف في الصفات، وقال فيها: تمر كما جاءت ثم قال: وبذلك أقول وبه أدين ولا تؤول" (5) اهـ. المصدر: الأشاعرة في ميزان أهل السنة لفيصل الجاسم- ص 310   (1) رواه أبو داود (4703) والترمذي (3075) سكت عنه أبو داود [وقد قال في رسالته لأهل مكة: كل ما سكت عنه فهو صالح] وقال الترمذي: حسن صحيح وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)) (3076). (2) رواه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة (41) والبيهقي في االأسماء والصفات (692) دون آخره. قال ابن القيم في ((حادي الأرواح)) (98): المحفوظ أنه موقوف. (3) رواه مسلم (1827) من حديث عبد الله بن عمرو. (4) ((الإبانة)) للأشعري (ص106 - 108). (5) ((سير أعلام النبلاء)) (15/ 86). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 المطلب الثاني: بيان موافقة أبي الحسن الأشعري للسلف في عدم التفريق بين صفة وأخرى قال في "مقالات الإسلاميين": "وقال أهل السنة وأصحاب الحديث: ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وأنه على العرش كما قال عز وجل: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]، ولا نقدم بين يدي الله في القول، بل نقول استوى بلا كيف. وأنه نور كما قال تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور: 35]. وأن له وجهاً كما قال الله: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27]. وأنه له يدين كما قال: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75]. وأن له عينين كما قال: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14]. وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22]. وأنه ينزل إلى السماء الدنيا كما جاء في الحديث. ولم يقولوا شيئاً إلا وجوده في الكتاب، أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" (1) اهـ. وقال في (الإبانة): "الباب السادس الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين: قال الله تبارك وتعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88]، وقال تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 27]، فأخبر أن له سبحانه وجهاً لا يفنى، ولا يلحقه الهلاك. وقال تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14]، وقال تعالى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا [هود: 37]، فأخبر تعالى أن له وجهاً وعيناً، ولا تكيف ولا تحد. وقال تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ [الطور: 48]، وقال تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه: 39]، وقال تعالى: وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء: 134]، وقال لموسى وهارون عليهما أفضل الصلاة والسلام: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46]، فأخبر تعالى عن سمعه وبصره ورؤيته ... " (2) اهـ. المصدر: الأشاعرة في ميزان أهل السنة لفيصل الجاسم- ص 345   (1) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 248). (2) ((الإبانة للأشعري)) (ص104). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 المطلب الثالث: بيان بطلان أن يكون للأشعري قولان في الصفات وبيان خطأ من حكى عنه ذلك لقد ادعى كثير من متأخري الأشاعرة أن للأشعري قولين في الصفات: التأويل والتفويض، واستقر هذا القول عند الأشعرية حتى أصبح قضية مسلمة لا تقبل الجدال. ولكن التحقيق يأبى ذلك، إذ أن المتأمل في كتب الأشعري الموجودة ككتاب (الإبانة)، وكتاب (رسالة إلى أهل الثغر)، وكتاب (مقالات الإسلاميين) يجدها متفقة جميعها على قول واحد، وإبطال كل ما سواه، وهذا القول هو إثبات جميع الصفات لله تعالى على ظاهرها، ونفي وإبطال التعرض لها بتأويل، أو تحريف وهذه الكتب تمثل المرحلة الأخيرة التي استقر عليها مذهبه الذي توفي عليه. وبناءاً عليه فإنه من حكى عنه قولين، بمعنى رأيين سائغين يجوز القول بأحدها فقد غلط عليه، إذ ليس عنده ما يثبت ذلك إلا كلام بعض متأخري الأشاعرة مع مخالفته صراحة لما هو مسطر في كتبه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "بل أبو المعالي الجويني ونحوه ممن انتسب إلى الأشعري، ذكروا في كتبهم من الحجج العقليات النافية للصفات الخبرية ما لم يذكره ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابهما، كالقاضي أبي بكر بن الطيب وأمثاله، فإن هؤلاء متفقون على إثبات الصفات الخبرية، كالوجه واليد والاستواء، وليس للأشعري في ذلك قولان، بل لم يتنازع الناقلون لمذهبه نفسه في أنه يثبت الصفات الخبرية التي في القرآن، وليس في كتبه المعروفة إلا إثبات هذه الصفات، وإبطال قول من نفاها وتأول النصوص، وقد رد في كتبه على المعتزلة الذين ينفون صفة اليد والوجه والاستواء، ويتأولون ذلك بالاستيلاء، ما هو معروف في كتبه لمن يتبعه، ولم ينقل عنه أحد نقيض ذلك، ولا نقل أحد عنه تأويل هذه الصفات قولين. ولكن، لأتباعه فيها قولان، فأما هو وأئمة أصحابه فمذهبهم إثبات هذه الصفات الخبرية، وإبطال ما ينفيها من الحجج العقلية، وإبطال تأويل نصوصها. وأبو المعالي وأتباعه نفوا هذه الصفات موافقة للمعتزلة والجهمية، ثم لهم قولان: أحدهما تأويل نصوصها، وهو أول قولي أبي المعالي كما ذكره في (الإرشاد)، والثاني: تفويض معانيها إلى الرب، وهو آخر قولي أبي المعالي، كما ذكره في (الرسالة النظامية)، وذكر ما يدل على أن السلف كانوا مجمعين على أن التأويل ليس بسائغ ولا واجب، ثم هؤلاء منهم من ينفيها ويقول: إن العقل الصريح نفى هذه الصفات، ومنهم من يقف ويقول: ليس هنا دليل سمعي ولا عقلي لا على إثباتها، ولا على نفيها، وهي طريقة الرازي والآمدي. وأبو حامد تارة يثبت الصفات العقلية متابعة للأشعري وأصحابه، وتارة ينفيها أو يردها إلى العلم، موافقة للمتفلسفة، وتارة يقف، وهو آخر أحواله، ثم يعتصم بالسنة ويشتغل بالحديث وعلى ذلك مات" (1) اهـ. المصدر: الأشاعرة في ميزان أهل السنة لفيصل الجاسم - ص 737   (1) ((درء التعارض)) (5/ 248). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 المطلب الرابع: اضطراب المنهج الأشعري وتناقضه في بعض مسائل توحيد الألوهية: إن الاهتمام الكبير الذي أولاه الأشاعرة لمسألة إثبات وجود الله تعالى وزعمهم أنه هو الغاية خطأ كبير وترتب عليه خلل ويظهر في الأمور الآتية: 1 - عدم التحقيق الدقيق لمسائل توحيد الألوهية، وحمل الآيات الواردة لتقريره على أنها لتقرير الربوبية تقصيراً وقلباً للحقائق الشرعية. 2 - ظن كثير من المتأخرين من الأشعرية أن الشرك لا يتحقق وقوعه إلا إذا ظهر اعتقاد الإنسان تأثيراً لغير الله تعالى. وهذا تقصير في معرفة كل أنواع الشرك وقد وقع كثير من الناس في هذه الأزمة المتأخرة في بعض مظاهر الشرك كالنذر لغير الله والطلب من الأموات والأحياء ما لا يقدرون عليه – بل وصل الأمر ببعضهم إلى الاعتقاد بأن بعض الناس له تأثير في كثير من الأمور، فأطلقوا عليهم أوصافاً فيها بعض خصائص الربوبية كالغوث والقطب، ووصفوا بعضهم بأنهم يعلمون الغيب. 3 - التقصير في معرفة بعض أنواع العبادة لدى كثير من المتأخرين – كالدعاء، ويطلقون عليه أنه عادة وليس بعبادة، مما دفعهم لأن يصرفوه لغير الله تعالى. 4 - وظهر لهؤلاء المتأخرين تناقض غريب في مسألة الاستغاثة بغير الله وطلب قضاء الحوائج من غيره، مع وصفهم لمن يدعونه بالغوث الأعظم!، والقول بأن الله قد أعطاه حق التصرف!، وقد مضى أن هذا الاعتقاد ظهر في كثير من المتأخرين ولم يكن عند متقدميهم، وهذا كله مع تنصيصهم بأن المؤثر هو الله!!، ولما ألزموا قالوا: إن تأثير غيره مجازي فراراً من التناقض، ولكن مثل هذا الهروب لا يخفى على أحد، فأين الدليل على وجود مثل هذه الأوصاف – التي هي من خصائص الربوبية – في الخلق. اضطرابه وتناقضه في بعض مسائل توحيد الربوبية إن الأشعرية يقرون بأنه لا خالق إلا الله، ولكنهم غلوا غلواً شديداً فقالوا: إنه لا فاعل على الحقيقة إلا الله، وأما أعمال غيره فمجازية!! ثم نفوا الحكمة التي تعود إلى الله تعالى، ونفوا التحسين والتقبيح العقلييين مطلقاً زعماً منهم أن إثبات ذلك ينافي المشيئة والاختيار، فالكلام إذاً في ثلاث مسائل لبيان اضطرابهم هنا. المسألة الأولى: تتعلق بأفعال العباد. وتناقضهم فيها يظهر في أمرين: الأمر الأول: هو أنهم أثبتوا كسباً للعباد غير معقول، حيث أثبتوا للعبد قدرة تقارن الفعل ولا تؤثر فيه، فألزمهم الناس القول بالجبر، وأن المسألة إذا كانت مجرد مقارنة فلم لا يقال إن المقارن للعمل: الرؤية أوالسماع أو نحو ذلك (1). الأمر الثاني: وهذا قد ظهر في كثير من المتأخرين، وهو إثبات تأثير للعباد في أمور لا قدرة لهم عليها، وهذا الإثبات إما أن يكون صريحاً كإثبات الغوث الأعظم وصفاً لبعض البشر، وإما أن يكون لازماً كما في الاستغاثة بالميت أو بالحي فيما لا يمكنه الغوث منه، وهذا مع قولهم إنه لا مؤثر إلا الله!!. المسألة الثانية: تتعلق بالحكمة. فإنهم ذكروا بأن أفعال الله لا تخلوا عن الحكم ولكنها حكم، غير مقصودة فنفوا القصد، مع أنهم أثبتوا هذا القصد شرطاً لإثبات صفة العلم لله، لأن الفعل المتقن إن لم يكن بالقصد والاختيار فإنه لا يدل على علم فاعله، بخلاف الفعل المتقن المقصود، فنفيهم للقصد في الحكمة، وإثباتهم له في العلم تناقض واضح (2). وكذلك: من نفى الحكمة واثبت التعليل والقياس فقد تناقض! وسيأتي إن شاء الله كذلك أن من نفاها يلزمه أن يقول بتجويز تصديق الله تعالى لمدعي النبوة الكاذب. المسألة الثالثة: وهي تتعلق بالتحسين والتقبيح.   (1) وقد نص الرازي على الجبر في عدة مواضع من ((المطالب العالية)) (8/ 16 – 21 – 43– 66). (2) انظر ((المطالب العالية)) للرازي (3/ 117 - 118). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 والمراد بها هنا استخدامها من جهة الاستدلال بقياس الأولى، فكل صفة نقص يتنزه عنها المخلوق فأولى أن يتنزه عنها الخالق كالكذب. وقد حصل للأشاعرة اضطراب نتيجة لهذه المسألة في أمرين، الثاني منهما متفرع عن الأول. فالأمر الأول: وهو هل يمتنع الكذب على الله في كلامه أو لا؟ اتفق الأشاعرة على أنه يمتنع عليه الكذب – وذكروا وجوهاً في بيان امتناع الكذب في كلامه، ومن هذه الأوجه كما قال الإيجي: "أنه نقص، والنقص على الله محال، وأيضاً فيلزم أن نكون أكمل منه في بعض الأوقات" (1) وهذه الإجابة سديدة لكنها لا تتفق مع الأصل الذي قرروه، ولذلك اعترف الإيجي بمناقضة هذه الإجابة لأصل التحسين والتقبيح فقال: "واعلم أنه لم يظهر لي فرق بين النقص في الفعل وبين القبح العقلي، فإن النقص في الأفعال هو القبح العقلي بعينه!!، وإنما تختلف العبارة! (2) " اهـ. ثم إن لهم وجهين آخرين ذكروهما سيأتي ذكرهما في تناقضهم في صفة الكلام إن شاء الله تعالى.   (1) ((المواقف في علم الكلام)) للإيجي (ص: 296). (2) ((المواقف في علم الكلام)) للإيجي (ص: 296). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 الأمر الثاني: وهو متفرع على الأمر الأول، وهو في إثبات النبوات: لقد تقدم أن الأشاعرة قد أطالوا المقدمات ليصلوا إلى أهم المطالب عندهم وهو إثبات وجود الله تعالى وهذه المقدمات الطويلة تتعلق بتعريف العلم وأنواعه وطرق تحصيله واكتسابه، ثم الكلام عن الجواهر والأعراض وإثباتها بمقدمات طويلة. ثم بعد إثبات وجود الله يقيمون الأدلة على وحدانيته في الذات والصفات والأفعال. ثم بعد هذه المقدمات يأتون إلى مسألة تعد رابطة بين تلك المسائل العقلية وبين الشرع – ألا وهي إثبات النبوات، وطريق إثباتها: المعجزات فقط (1).وقد ذكروا عن كيفية حصولها: أن المعجزة: "فعل الفاعل المختار يظهرها على من يريد تصديقه بمشيئته لما تعلق به مشيئته" (2).وأما كيفية دلالتها فهي عندهم" إجراء الله عادته بخلق العلم بالصدق عقيبه، فإن إظهار المعجز على يد الكاذب وإن كان ممكناً عقلاً فمعلوم انتفاؤه عادة كسائر العاديات" (3) ولهم تناقضان في هذا الأمر – وهما: التناقض الأول: بعد الضجة الكبرى التي أقامها هؤلاء المتكلمون الأشاعرة في أنه لابد من القواطع العقلية في المسائل الاعتقادية، وحكموا على الأدلة النقلية كلها أو بعضها على أنها ظواهر لفظية لا تفيد اليقين، إذا بهم يصلون إلى مسألة عظيمة ليتوصلوا بها إلى الشرع وهي إثبات النوبات فقالوا: إن طريق إثباتها المعجزات فقط!! وأن دلالتها على النبوة عادية! أي ليست عقلية محضة، وهم يجوزون خرق العادة، وعليه فلا تكون المسألة قطعية على قولهم هذا. وقولهم: إن دلالتها وإن كانت عادية إلا أنها ضرورية (4) يستدعي عدم دقتهم في تحديد الأمور الضرورية كمسألة وجود الله تعالى إذ جعلوها من الأمور النظرية لا الضرورية! مع أنها ضرورية (5) وسيأتي إلزامهم في العادة والضرورة في التناقض الثاني إن شاء الله. التناقض الثاني: هو أنهم جعلوا دلالة المعجزة على صدق الرسول بمنزلة القول الصريح من الله بأن مدعي الرسالة صادق (6) وهذه الدلالة لا تتم إلا إذا قيل بامتناع الكذب على الله تعالى ولذلك قال الجويني: "فصل: امتناع الكذب على الله تعالى شرط في دلالة المعجزة" (7) اهـ. ووجه اشتراط امتناع الكذب، أنه لو لم يكن الكذب ممتنعاً عليه لجاز أن يصدق مدعى النبوة الكاذب. ولما قال الأشاعرة إن الكذب محال على الله بالشروع وأنه جائز عليه الكذب عقلاً، ألزمهم الناس بأنه يلزم الدور في هذا الاستدلال، إذ كيف يصح الاستدلال بدليل ولما يثبت طريق إثباته!. فالدليل هنا: الدليل السمعي – وطريق إثباته: المعجزة، فظهر الدور (8) أجابوا بأن دلالة المعجزة المنزلة منزلة القول ليست إخباراً يتصور فيه الكذب والصدق وإنما هي إنشاء، قال الجويني: "كأن المرسل قال: جعلته رسولاً، وأنشأت ذلك فيه آنفاً، ولم يقل ذلك مخبراً عما مضى" (9) اهـ.   (1) انظر: ((الأسس المنهجية)) (ص: 254). (2) ((المواقف)) للإيجي (ص: 341) وانظر: ((الإنصاف للباقلاني)) (ص: 93). (3) ((المواقف)) للإيجي (ص: 341). (4) انظر ((المواقف)) (ص: 341) و ((شرح المقاصد)) (5/ 18). (5) انظر: ((الأسس المنهجية)) (ص: 79 - 83). (6) انظر: ((قواعد العقائد)) (ص: 215) و ((شرح المقاصد)) (5/ 13 - 14). (7) ((الإرشاد)) للجويني (ص: 278). (8) انظر: ((الإرشاد)) للجويني (ص: 279) و ((النبوات)) لشيخ الإسلام (ص: 71). (9) ((الإرشاد)) للجويني (ص: 279) وانظر: ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (ص: 89 - 90). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 وهذا غير كاف على أصل الأشعرية نفاة الحكمة، إذ أنهم جوزوا عليه كل فعل ممكن وإن كان خلاف الحكمة، ولا شك أن خلق المعجزات على يد الكاذب جائز، فيبقى الشك قائماً في صدق مدعي النبوة على أصلهم، أما أهل السنة والجماعة فينزهون الله تعالى عن مثل هذا الفعل لأنه خلاف حكمته (1). وأما زعمهم بأن دلالة المعجزة على صدق النبي ضرورية، فإنه يوجب عليهم أحد أمرين: إما أن يقولوا: إن الله لا يمكنه أن يخلقها على يد الكاذب، وهذا تصريح بعجزه – وهم لا يسلمون بهذا لأنه يمكنه فعل كل شيء ممكن – فيقال إذاً ما معنى قولكم إن دلالتها ضرورية؟ فلم يبق إلا الأمر الثاني وهو: أن الله يمكنه هذا الفعل ولكنه لا يفعله لحكمته – وهو الصواب – لكنه ينقض أصلهم من أساسه (2).وأما زعمهم بأن انتفاء إظهار المعجزة على يد الكاذب معلوم عادة كسائر العاديات فيقال لهم: لم تأتوا بجديد إذ أصلكم ما زال قائماً وهو تجويز الكذب فكما أن دلالة المعجزة على الصدق من العاديات، فكذلك يجوز إظهارها على يد الكاذب، إذ لا مانع من خرق هذه العادة، لأنكم جوزتم أن يفعل الله كل شيء ولم تثبتوا له حكمة يفعل لمقتضاها (3).والحق أن أدلة الأشاعرة من الضرورة والعادة دالة على إثبات الحكمة لله تعالى إلا أنهم لم يصرحوا بها، بل إن الرازي الذي ينفي التحسين والتقبيح العقليين قد صرح بذلك فقال: "والعلم الضروري حاصل بأن الكذب على الله تعالى محال، لأنه صفة نقص، وشهادة الفطرة دالة على أن صفة النقص محال على الله – تعالى – وعند هذا يحصل الجزم واليقين بأن ظهور المعجزات يدل على صدق الأنبياء عليهم السلام" (4).فظهر من العرض السابق أن الأشاعرة يلزمهم على أصلهم هذا: "سد باب النبوة وعدم الوثوق بالشرائع مع عدم التسليم" (5). ويلاحظ كذلك أن الأشاعرة بإنكارهم لتحسين العقل وتقبيحه مطلقاً لشبهات أوجبت لهم ذلك، يكونون قد ضعفوا جانب العقل – وهذا تفريط منهم – يقابله إفراط آخر منهم في تقديم العقل، وأشير هنا إلى أمرين مما رفعوا فيه مقام العقل مقاماً مبالغاً فيه، وهما: 1 - إن الأشاعرة قد حكموا على الأدلة النقلية بأحكام مفادها تقديم العقل عليها في حالة التعارض – حسب زعمهم – وعدوا أخبار الآحاد من الظنون التي لا يجوز التمسك بها في المسائل العلمية، بل جعل بعضهم الأدلة النقلية كلها ظنية مما يترتب عنه عدم الأخذ بها في المسائل العلمية! فأين هذا من أصلهم القاضي بمنع تحسين العقل وتقبيحه! 2 - والأمر الثاني هو أنهم قد نصوا على أن المسائل التي يتوقف عليها الشرع لا تثبت إلا بالعقل، ومنها: معرفة وجود الله – فقالوا: طريق إثباتها العقل فقط، ووجوب المعرفة لا يثبت إلا بالشرع، فألزموا بالدور، ولا يخرجهم من هذا إلا بأن يسلموا أن المعرفة فطرية، أو يقولوا بتحسين العقل وتقبيحه على مقتضى الفطرة، ولذلك هم قد صرحوا بأنه لا يعذر أحد في عدم معرفة الله، بل جعلوا المقر بوحدانيته التارك للنظر مع تمكنه منه آثماً!! وفي هذا إقرار بشيء من تحسين العقل وتقبيحه وإن جاروا بإنكاره، وربما يكون هذا الأمر وغيره هو الذي جعل بعضهم يقر بأنواعه للحسن والقبح العقليين ويحصر الخلاف في استحقاق العذاب والجزاء فقط. وقد يكون هذا هو الذي جعل السجزي يرى أن الأشاعرة يقولون بوجوب معرفة الله عقلاً مع نفيهم لتحسين العقل وتقبيحه، فعده تناقضاً لهم فقال: "وقال الأشعري: "العقل لا يقتضي حسن شيء ولا قبحه، وإنما عرف القبيح والحسن بالسمع، ولولا السمع ما عرف قبح شيء ولا حسنه، ثم زعم أن معرفة الله سبحانه واجبة في العقل قبل ورود السمع، وأن تارك النظر فيها مع التمكن منه مستحق للعقوبة"، والنص إنما دل على ترك عقوبته لا أنه مستحق لها. فإن قال: إن معرفة الله وجبت ولم يعلم حسنها، واستحق تارك النظر فيها اللوم، كان متلاعباً، وإن قال: إنها حسنة، فقد أقر بأن العقل يقتضي معرفة الحسن والقبيح، وإنما ضاق به النفس لما قالت له المعتزلة: الظلم قبيح في العقل، وإذا أراد الله شيئاً ثم عذب عليه كان ظالماً، فركب الطريقة الشنعاء في أن لا حسن في العقل ولا تقبيح" (6). المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف - 2/ 632   (1) انظر ((النبوات)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 70) و ((نقض التأسيس)) (1/ 162). (2) انظر: ((النبوات)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 71 - 72) و ((نقض التأسيس)) (1/ 162). (3) انظر: ((العلم الشامخ)) للمقبلي (ص: 248). (4) ((المطالب العالية)) للرازي (8/ 100). (5) ((العلم الشامخ)) للمقبلي (ص: 245). (6) ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (ص: 139 - 140). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 المطلب الخامس: اضطراب المنهج الأشعري وتناقضه في توحيد الأسماء والصفات ويمكن حصر التناقض والاضطراب في هذا النوع في مسألتين: المسألة الأولى: في الإثبات: التناقض الأول: أثبت الأشاعرة من الصفات الوجودية الثبوتية سبع صفات سموها صفات المعاني، ونفوا ما عداها من الصفات الخبرية الذاتية والفعلية، فألزمهم الناس إلزاماً قوياً وهو: إن القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر، فإن كان لا يلزم من إثبات الصفات السبع أي محذور من المعاني الباطلة من الجسمية أو حلول الحوادث أو التركيب، فكذلك لا يلزم من إثبات بقية الصفات تلك المحاذير – وهذا هو الصواب -. وإن كان يلزم من إثبات بقية الصفات تلك المحاذير، فقد لزم إثباتها من الصفات السبع كذلك، إذ الأصل واحد كما تقدم (1). ولا شك أن الذي دفعهم إلى هذا التفريق هو ما توهموه من قياس الغائب على الشاهد – وسيأتي مزيد بيان لتناقضهم في السبب الموجب للتأويل إن شاء الله. التناقض الثاني: إن طريقة إثباتهم لصفات المعاني طريقة غريبة أوقعتهم في بعض الإشكالات المتناقضة: منها أنهم أثبتوا إرادة قديمة ذاتية – وهذا حق – ولكنهم نفوا تخصيصاً فعلياً فلزمهم أحد أمرين: إما أن يقولوا إن الحوادث كلها قديمة لقدم موجبها – وهم لا يقولون به-.، أو يقولوا إن كل حادث حدث بعد أن لم يكن لتخصيصه بالإرادة في وقته المعين، فيلزم إثبات الصفات الاختيارية، وهو الصواب. ومنها: أنهم أثبتوا نوعين من الكلام، نفسي قديم أزلي وآخر لفظي مخلوق، ثم قالوا بأن الأسماء الحسنى – وهي كلام الله – غير مخلوقة فاضطربوا، وحاولوا تخريج هذا القول فلم يوفقوا. ومنها: أنهم جوزوا عقلاً وقوع الكذب عليه يثبت بالشرع، والشرع يثبت بالمعجزة، وهي لا تثبت إلا بالعلم بامتناع الكذب على الله، فحصل الدور! والثاني: جواز إفحام الأنبياء، إذ يمكن على أصلهم إفحام الأنبياء بأنه لا يلزم من الإتيان بالمعجزة إثبات صدقهم! ومنها أنهم أثبتوا تعدداً للكلام بحسب تعلقاته أما هو في أصله فمعنى واحد، فألزموا بأمرين: الأول: إذا كان التعدد في الكلام إنما هو بحسب التعلق فإذا كان طلب فعل سمى أمراً، وإذا كان طلب ترك سمي نهياً وهكذا ... فلم لا يجوز أن يقال إن الصفات السبع التي أثبتموها حقيقتها صفة واحدة، وتعددها إنما هو بحسب التعلقات فقط، فمثلاً إذا تعلقت تلك الصفة بالممكن إيجاداً سميت قدرة، وبه تخصيصاً سميت إرادة، وإذا تعلقت بالموجود انكشافاً سميت سمعاً أو بصراً .. – وهكذا إلى بقية الصفات. الثاني: وهو متفرع عن هذا الإلزام، وهو: إذا عادت حقيقة الصفات السبع إلى صفة واحدة، فلم لا يجوز رد هذه الصفة إلى الذات فلا تثبت له أي صفة، فيقال عندئذ: إن الذات إذا تعلقت بإيجاد الممكن سميت قدرة، وإذا تعلقت بتخصيصه سميت إرادة – وهكذا. ومنها في صفة العلم، فإنهم اشترطوا لإثباته قصد إتقان الفعل وإحكامِهِ، لأنه إذا لم يشترط كان حدوث الفعل اتفاقياً – وهو لا يدل على العلم، لذلك اشترطوه – وهذا كلام مستقيم، ولكنهم تناقضوا، فنفوا قصد الحكمة في أفعال الله وأحكامه، وأثبتوا حكمة في الجملة، أما أن تكون مقصودة فلا، فصارت الحكمة على أصلهم هذا اتفاقية لا مقصودة، وكل ما أوردوه من إشكالات في صفة الحكمة فإنها ترد عليهم في العلم والإرادة كذلك. المسألة الثانية: في التنزيه: وأما تناقضهم واضطرابهم فيه ففي عدة أشياء منها: أنهم اعتمدوا في نفي الصفات الفعلية كالغضب والرضى والنزول والاستواء على أصل: نفي حلول الحوادث، ثم شرعوا في تأويلها، فثبت تناقضهم في أمرين:   (1) انظر ((التدمرية)) (ص: 31 - 32). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 الأول: إنه ما من شك في وجود المفعولات، فيلزم أحد أمرين، إما أن يقال: هي قديمة أزلية لأن الموجب لها وجود القدرة والإرادة، وهما صفتان أزليتان ولا شك في صلاحيتهما للإيجاد أزلاً، وإما أن يقال إنه قد حدث تخصيص في وقت معين لإحداث الفعل، وهو أمر لازم – وهم يسلمون به – ولكنهم يقولون إن الذي حدث هو التعلق، ولكن ما زال الإشكال باقياً: وهو هل هذا التعلق أمر وجودي أو عدمي؟ - فإن كان الأول فقد أثبتوا فعلاً اختيارياً ولابد وإن سموه تمويهاً بحلول الحوادث، وإن كان الثاني فإن العدم ليس بشيء فضلاً عن أن يوجد شيئاً ولهذا السبب اضطربوا في معنى التعلق فمنهم من أثبته أمراً وجودياً، ومنهم من عده من النسب والإضافات وأن الموجب لذلك الذات!! الثاني: إن المعنى الذي فروا إليه يلزمهم فيه نظير ما فروا منه بل أشد، فمثلاً تأويل الاستواء بالاستيلاء، فإن الاستيلاء دال على المغالبة كما قال أهل اللغة، فإنه قد جاء رجل إلى ابن الأعرابي فقال له: "ما معنى قول الله عز وجل الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] فقال: هو على عرشه كما أخبر عز وجل، فقال: يا أبا عبدالله ليس هذا معناه، إنما معناه استولى، قال: اسكت: ما أنت وهذا، لا يقال: استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد، فإذا غلب أحدهما قيل استولى ... " (1) ويزداد قبح هذا التأويل بورود كلمة "ثم" الدالة على التراخي في قوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54] فقد لزمهم هنا ما هو أشد من المعنى الذي فروا منه. وهكذا يلزم الأشعري في تأويل الغضب فإن قال: "هو غليان دم القلب لطلب الانتقام، قيل له: والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة، فإن قلت (أيها الأشعري) هذه إرادة المخلوق، قيل لك وهذا غضب المخلوق" (2) فظهر من هذا أن الذي فر إليه الأشعري فيه من اللوازم نظير ما فر منه مما توهم فيه الباطل. ولذلك فإن الأشاعرة يلزمون هنا بما قد ذكروا من أن وجود بعض الاشتراك لا يوجب المماثلة، فكان يلزمهم ذلك في الصفات التي نفوها بزعم المشاركة والمشابهة، فمن أقوالهم في هذه المسألة قول الرازي فإنه قد قال: "فإن قيل المشاركة في صفات الكمال تقتضي المشاركة في الإلهية؟ قلنا: المشاركة في بعض اللوازم البعيدة مع حصول المخالفة في الأمور الكثيرة لا يقتضي المساواة في الإلهية، ولهذا المعنى قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]." (3) اهـ فظهر من هذا الاعتراف تناقضهم في التفريق بين المتماثلات. ومما اعتمدوا عليه في التنزيه: نفي الجسمية، فنفوا صفات كثيرة ذاتية وفعلية واردة في الكتاب والسنة مثل: العلو والاستواء واليدين. فألزمهم الناس بالتناقض إذ هم قد أثبتوا أن الله قائم بنفسه، فما معنى القيام بالنفس؟ "وذكروا أن بعضهم أورد هذا على أبي إسحاق الإسفراييني ففر إلى قوله: إنما أعني بقوله: قائم بنفسه: أنه غير قائم بغيره! وهذا عجب! فإنه إذا كان موجوداً، والموجود إما قائم بنفسه: أنه غير قائم بغيره! وهذا عجب! فإنه إذا كان موجوداً، والموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره، فقوله: "غير قائم بغيره" إنما حاصله أنه قائم بنفسه، فحاصل جوابه إنما يعني بقوله: قائم بنفسه أنه قائم بنفسه!! " (4) فإذا كان لا يلزمهم من قولهم: إنه قائم بنفسه، إثبات الجسمية، فكذلك لا يلزم من إثبات العلو والاستواء واليدين ونحو ذلك من الصفات إثبات الجسمية – فإن كان يلزم في الثانية فقد لزم في الأولى، فيلزم الوقوع في التناقض. المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف - 2/ 642   (1) أخرجه عنه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (3/ 399 – برقم: 666). (2) ((التدمرية)) (ص: 32). (3) ((أساس التقديس)) (ص: 86 - 87). (4) ((القائد على تصحيح العقائد)) للمعلمي (ص: 213). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 المطلب السادس: اضطراب المنهج الأشعري وتناقضه في الأدلة لقد أفرط الأشاعرة كغيرهم من علماء الكلام في الاعتماد على الأدلة العقلية والتقليل من شأن الأدلة السمعية، مع أن الأدلة العقلية التي سلكوها في معارضة الشرع كلها غير مستقيمة. والمقصود في هذا المبحث بيان بعض صور الاضطراب والتناقض عندهم في مسألة الاعتماد على الدليل العقلي، وذلك في خمس مسائل: المسألة الأولى: قولهم بعدم التيقن من انتفاء المعارض العقلي في الدليل النقلي مع الجزم بانتفائه في الدليل العقلي. مما اشترطه الأشاعرة في الدليل النقلي ليتم الاستدلال به على وجه القطع واليقين: العلم بعدم المعارض، وذكروا بأنه على فرض وجود القرائن المرجحة لإفادة الأدلة النقلية القطع، إلا أنه يبقى "في إفادتها لليقين في العقليات نظر لأنه مبني على أنه هل يحصل بمجردها الجزم بعدم المعارض العقلي؟ وهل للقرينة مدخل في ذلك؟ وهما مما لا يمكن الجزم بأحد طرفيه" (1) وهذا الذي قاله الأشاعرة علق عليه ابن القيم بقوله: "ولا ريب أن هذا القول من أفسد أقوال العالم، وهو من أعظم أصول أهل الإلحاد الزندقة، وليس في عزل الوحي عن مرتبته أبلغ من هذا" (2) اهـ. وهذا الذي قاله الأشاعرة في الدليل النقلي يلزمون به في الدليل العقلي، إذ أين الدليل على عدم وجود المعارض العقلي فيه؟ فإن قالوا: إنه لا دليل على وجود المعارض العقلي، فيدل على عدمه، قيل لهم: لقد أثبتم أنتم أنفسكم ضعف هذا الدليل، فقد قال الإيجي: "المقصد الخامس: وههنا طريقان ضعيفان: الأول: قالوا: ما لا دليل عليه يجب نفيه ... الثاني: قياس الغائب على الشاهد" (3) ولم يبق بعد هذا كله إلا قولهم: "عدم المعارض والغلط في المقدمات القطعية ضروري" (4) اهـ وهذا الجواب صحيح، ولكن يقال لهم: أليس التجويز قائماً عقلاً بوجود المعارض العقلي؟ مثاله ما ذكره الرازي من أنه إذا رأى شخص شخصاً أمامه، ثم أغمض عينه، ثم نظر إليه ثانياً، فإنه يحتمل أن يكون شخصاً آخر يماثله، إذ أن الله يقدر على إفناء الشخص الأول في تلك اللحظة اللطيفة ويوجد شخصاً آخر يماثله (5) ومع بقاء هذا الاحتمال قالوا: "إنه لا يمتنع أن يكون الشيء معلوم الجواز والإمكان، ومع ذلك فإنه يكون الجزم والقطع حاصلاً بأنه لم يوجد ولم يحصل" (6) وقالوا: "قد يحصل القطع والجزم مع قيام مثل هذا التجويز" (7) اهـ. فعندئذ يقال لهم: أليس اختياركم هذا مناقضاً لما ذهبتم إليه من أن الدليل النقلي لا يكفي بمجرده في الجزم بعدم المعارض العقلي ولو كانت القرائن شاهدة على إفادته اليقين؟ لاشك أن هذا تناقض بين.   (1) ((المواقف في علم الكلام)) للإيجي (ص: 40). (2) ((الصواعق المرسلة)) (2/ 732). (3) ((المواقف في علم)) الكلام للإيجي (ص: 37). (4) ((المواقف في علم الكلام)) للإيجي (ص: 37). (5) انظر: ((المطالب العالية)) (8/ 97 - 98). (6) قاله الرازي في ((المطالب العالية)) (8/ 97). (7) قاله الرازي أيضاً في ((المطالب العالية)) (8/ 99). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 المسألة الثانية: قطعهم بعلمهم بالآخرة مع عدم تيقنهم بانتفاء المعارض العقلي في الدليل النقلي: إن المتكلم الأشعري بقوله إن الدليل النقلي لا يكفي بمجرده في الجزم بعدم المعارض العقلي يلزم القول بأن الأدلة النقلية كلها إما: "أنها تفيد ظناً أو لا تفيد علماً ولا ظناً، فإن قال: لا تفيد علماً ولا ظناً، فهو مع مكابرته للعقل والسمع والفطرة والإنسانية من أعظم الناس كفراً وإلحاداً، وإن قال: بل تفيد ظناً غالباً وإن لم تفد يقيناً قيل له: فالله سبحانه قد ذم الظن المجرد وأهله فقال تعالى: إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [النجم: 28] فأخبر أنه ظن لا يوافق الحق ولا يطابقه، وقال تعالى: إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى [النجم: 23] وقال أهل النار إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: 32] ولكان قوله عن المؤمنين: وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة: 4] خبراً غير مطابق، فإن علمهم بالآخرة إنما استفادوه من الأدلة اللفظية، لا سيما وجمهور المتكلمين يصرحون بأن المعاد إنما علم بالنقل" (1)." (2) اهـ. فلا شك في وقوعهم في التناقض عندئذ في إثبات السمعيات بصورة قاطعة مع قولهم إن الدليل النقلي لا يكفي بمجرده في الجزم بعدم المعارض، إذ تصور تجويز إمكانه وارد على أصلهم فيسوغ تأويل السمعيات، فإن منعوا تأويلها وقعوا في التناقض. المسألة الثالثة: الاضطراب في تحديد ما يستدل له بدليل العقل فقط أو بدليل النقل فقط: فهم قد اتفقوا مثلاً على أن صفات الحياة والعلم والقدرة والإرادة أدلتها عقلية فقط، والسمع إنما يأتي على وجه التأكيد، ثم اختلفوا بعد ذلك في صفات البصر والسمع والكلام هل هي سمعية أو عقلية؟ ويظهر مثل هذا الاضطراب في مثل جواز إثبات رؤية الله تعالى – فمنهم من أثبت جواز وقوعها بالسمع فقط ومنهم من أثبت جواز وقوعها بالعقل (3). المسألة الرابعة: تناقضهم في أصل الأدلة عندهم (دليل الحدوث):   (1) انظر: ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (ص: 103). (2) ((الصواعق المرسلة)) (2/ 739 - 740). (3) انظر: ((نهاية الإقدام)) (ص: 369). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 إن الأصل الذي لأجله أول الأشاعرة النصوص الواردة بالصفات الفعلية هو نفي حلول الحوادث – فإن إثباتها يؤدي إلى إبطال دليل الحدوث الذي أثبتوا به وجود الله تعالى، فظهر من هذا أن أكبر مشكلة واجهتهم هي هذه، لأنها منافية لدليل الحدوث، ولكن مع هذا كله يبقى الكلام في أنه هل من حاجة إلى هذا الدليل؟ الجواب: لا، وذلك لأمرين: الأمر الأول: إن إثبات وجود الله أمر فطري، وقد أقر بهذا كبار علماء الأشاعرة كما تقدم النقل عن الشهرستاني (1). ومن هؤلاء الرازي فإنه عدد أصناف الناس من أهل الدنيا كلها ثم قال: "وكلهم مطبقون على وجود الإله" (2) وقال عن الوحدانية: "اعمل أنه ليس في العالم أحد يثبت لله شريكاً يساويه في الوجود والقدرة والعلم والحكمة، وهذا مما لم يوجد إلى الآن، لكن الثنوية يثبتون إلهين، أحدهما حكيم يفعل الخير، والثاني سفيه يفعل الشر، وأما الاشتغال بعبادة غير الله الذاهبين إليه كثرة." (3).الأمر الثاني: إن كبار المتبحرين في علم الكلام والغائصين في العقليات، جزموا بأن طريقة القرآن أقرب على الحق والصواب وأن طرق المتكلمين لا تخلوا من إشكال قال الرازي: "إن الدلائل التي ذكرها الحكماء والمتكلمون وإن كانت كاملة قوية، إلا أن هذه الطريقة المذكورة في القرآن عندي: أنها أقرب إلى الحق والصواب، وذلك لأن تلك الدلائل دقيقة، وبسبب ما فيها من الدقة انفتحت أبواب الشبهات وكثرت السؤالات، وأما الطريق الوارد في القرآن فحاصله راجع إلى طريق واحد، وهو المنع من التعمق، والاحتراز عن فتح باب القيل والقال، وحمل الفهم والعقل على الاستكثار من دلائل العالم الأعلى والأسفل، ومن ترك التعصب وجرب مثل تجربتي علم أن الحق ما ذكرته، ولما ثبت أن هذا الطريق الذي ذكره الله في القرآن أنفع، وفي القلوب أرجح، لا جرم أفردنا له باباً مستقلاً" (4). فظهر من مجموع الأمرين السابقين؛ الفطرة مع كفاية دليل الآيات عن دليل الحدوث: أن الاعتماد على دليل الحدوث في إثبات وجود الله قول غير مستقيم، وكان عليهم أن يؤمنوا بما جاء به الكتاب والسنة من إثبات الصفات، إذ قد سلم بعضهم بأن دليل الحدوث ليس هو العمدة في إثبات وجود الله لما يرد عليه من إشكالات. فإن لم يرجعوا كان هذا تناقضاً واضطراباً. المسألة الخامسة: القول بأن العقل هو العمدة مع بقاء إشكالات لم يستطيعوا الإجابة عنها عقلاً:   (1) انظر ((كلام الإيجي في المواقف)) (ص: 279). (2) ((المطالب العالية)) (1/ 252). (3) ((مفاتيح الغيب)) للرازي، وهو تفسيره الكبير (13/ 37) وانظر منه كذلك (2/ 122). (4) ((المطالب العالية)) (1/ 236). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 مع شدة الوثوق بدليل العقل بقيت إشكالات على الأشاعرة لم يستطيعوا الإجابة عنها، فيقعون إما في الحيرة أو الرجوع إلى دليل السمع. فمن ذلك أن الشهرستاني لما ذكر ما أورد على الأشاعرة في مسألة تعلقات الكلام بأنه يلزمهم إثبات صفة واحد أو نفي كل الصفات قال: "ثم هل تشترك هذه الحقائق والخصائص في صفة واحدة؟، فتلك الطامة الكبرى على المتكلمين، حتى فر القاضي أبو بكر الباقلاني رضي الله عنه منها إلى السمع، وقد استعاذ بمعاذ والتجأ إلى ملاذ والله الموفق" (1) ولم يعقب بشيء، وفي إقراره للباقلاني بالاستدلال بدليل السمع يفيد أن له شعوراً عميقاً بعدم الوثوق بالأدلة العقلية الوثوق التام. ومن ذلك قول الشهرستاني نفسه لما أوردت شبهات كثيرة في مسألة جواز وقوع الرؤية عقلاً فقال: "واعلم أن هذه المسألة سمعية، أما وجود الرؤية فلا شك في كونها سمعية، وأما جواز الرؤية فالمسلك العقلي ما ذكرناه، وقد وردت عليه تلك الإشكالات، ولم تسكن النفس في جوابها كل السكون ولا تحركت الأفكار العقلية إلى التفصي عنها كل الحركة، فالأولى بنا أن نجعل الجواز أيضاً مسألة سمعية" (2)!! أليس هذا الكلام يناقض دعوى الوثوق بالعقل وأنه العمدة؟ - ثم على فرض أنه لا مدخل للعقل في إثبات جواز الرؤية، إلا أنه بقي شرط في الاستدلال بالدليل النقلي، وهو عدم وجود المعارض العقلي، كيف وهو قائم – على زعمهم – أليس هذا هو التناقض؟!.ومن ذلك أيضاً ما ذكره الرازي في المقابلة بين أدلة أصحابه الأشاعرة وبين أدلة المعتزلة في مسألة التحسين والتقبيح العقليين ثم قال بعدها: "واعلم أن هذه المذاهب لما تلخصت على هذا الوجه، وظهر ما في كل واحد منها من المدائح والقبائح، فعند هذا قال أصحاب الحيرة والدهشة: إن هذه الدلائل ما بلغت في الوضوح والقوة إلى حيث تزيل الشك وتقطع العذر وتملأ بقوتها ونورها العقل، بل كل واحد منها يتوجه فيه نوع غموض، واللائق الرحيم الكريم أن يعذر المخطئ في أمثال هذه المضائق وعند هذا أتضرع وأقول: إلهي حجتي: حاجتي، وعدتي: فاقتي، ووسيلتي إليك: نعمتك علي، وشفيعي عندك: إحسانك إلي. إلهي أعلم أنه لا سبيل إليك إلا بفضلك، ولا انقطاع عنك إلا بعدلك، إلهي، لي علم كالسراب وقلب من الخوف خراب، وأنواع من المشكلات بعدد الرمل والتراب، ومع هذا فأرجوا أن أكون من الأحباب فلا تخيب رجائي، يا كريم يا وهاب. إلهي إنك تعلم أن كل ما قلته وكتبته ما أردت به إلا الفوز بالحق والصواب والبعد عن الجهل والارتياب، فإن أصبت فاقبله مني بفضلك، وإن أخطأت فتجاوز عني برحمتك وطولك يا ذا الجود يا مفيض الوجود" (3) اهـ. المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف - 2/ 649   (1) ((نهاية الإقدام)) (ص: 236 - 237). (2) ((نهاية الإقدام في علم الكلام)) (ص: 369). (3) ((المطالب العالية)) (4/ 426 - 427). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 المبحث الأول: انقطاع صلة الأشاعرة بأبي الحسن الأشعري في أكثر المسائل ومن ذلك:-إن أبا الحسن نفسه قد تكلم في دليل المتكلمين لإثبات وجود الله، وبين أنه لا يسوغ الاستدلال به، وأن الواجب الاستدلال بدليل الآيات فقال: "ما يستدل به من أخباره عليه السلام على ذلك أوضح دلالة من دلالة الأعراض التي اعتمد على الاستدلال بها الفلاسفة ومن اتبعهم من القدرية وأهل البدع المنحرفين عن الرسل عليهم السلام" (1) ثم أخذ يبين صعوبة هذا المسلك وما يرد عليه من إشكالات في المقدمات الطوية الخفية، ثم بين سبب اعتماد الفلاسفة على هذه الطريقة فقال: "وإنما صار من أثبت حدث العالم والمحدث له من الفلاسفة إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر لدفعهم الرسل وإنكارهم لجواز مجيئهم" (2) وأما المؤمنون بالرسل فإنهم قد تلقوا عنهم أقرب الطرق وأسهلها لمعرفة الله وأبعدها عن الشبه، ثم بين الحكم بأنه يحرم اتباع طريقة هؤلاء فقال: "وإذا كان العلم قد حصل لنا بجواز مجيئهم في العقول، وغلط من دفع ذلك، وبأن صدقهم بالآيات التي ظهرت عليهم، لم يسع لمن عرف من ذلك ما عرفه أن يعدل عن طريقهم إلى طرق من دفعهم وأحال مجيئهم" (3). ومن مخالفة الأشعرية كذلك لأبي الحسن الأشعري المنهجية: اعتمادهم على المقاييس العقلية التي هي في الحقيقة في أكثرها شبهات، ومنعهم الاستدلال بالدليل النقلي مطلقاً في بعض المسائل، وفي بعضها إلا بعد العلم بعدم المعارض العقلي – فهذا يخالف ما عليه منهج الأشعري الذي نص على وجوب اتباع الطريقة الشرعية، وقوى اختياره هذا بحجج منها:1 - قال: "إن الله أغناهم عن التطلع إلى غيرها من البراهين, ودلل على ذلك بقوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3] وليس يجوز أن يخبر الله عز وجل عن إكمال الدين مع الحاجة إلى غير ما أكمل لهم الدين به" (4) اهـ.2 - إن الله عز وجل قد ذم المشركين في تقليدهم لمن يعظمونه، وأمر بطاعة رسوله – صلى الله عليه وسلم – وتكفل بحفظ هذا الدين إلى آخر الزمان، ليقوم حجة على الناس لأنه قد ختم الرسالة بمحمد –صلى الله عليه وسلم- ثم بين الرسول صلى الله عليه وسلم للناس في حجة الوداع أنهم لن يضلوا ما تمسكوا بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا يدل على كفاية الطريقة الشرعية وغناها عما سواها (5).3 - ثم بين الأشعري سلامة الأدلة الشرعية من الطعن والقدح، بدليل عدم طعن المشركين فيها – فلو كان فيها شيء من الخلل والتشبيه ونحو ذلك لسارع المشركون إلى بيانه فقال. "ولم يدع صلى الله عليه وسلم لسائر من دعاه على توحيد الله حاجة إلى غيره ولا لزائغ طعناً عليه" (6).   (1) ((رسالة إلى أهل الثغر)) للأشعري (ص: 185). (2) ((رسالة إلى أهل الثغر)) للأشعري (ص: 191). (3) ((رسالة إلى أهل الثغر)) للأشعري (ص: 191). (4) ((رسالة إلى أهل الثغر)) للأشعري (ص: 199 - 200). (5) انظر ((رسالة إلى أهل الثغر)) (ص: 197 - 200). (6) انظر ((رسالة إلى أهل الثغر)) (ص: 202). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 ولذلك فقد سلك أبو الحسن الأشعري لإثبات الصفات طريقة شرعية بالكتاب والسنة في كتابه (الإبانة).فمن ذلك قوله: " ... وأن الله استوى على العرش على الوجه الذي قاله وبالمعنى الذي أراده، وأن له سبحانه وجهاً بلا كيف كما قال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 27]، وأن له سبحانه يدين بلا كيف كما قال سبحانه: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] وكما قال: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64] وأن له سبحانه عينين بلا كيف، كما قال سبحانه: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14] ... " (1) إلخ. وأما في المسائل فمخالفاتهم له أيضاً كثيرة منها: أن أبا الحسن الأشعري قد أثبت صفات نفاها المتأخرون من الأشعرية فمن ذلك: الاستواء، والوجه، واليدين، والعينين، والأصابع (2)، والنزول (3)، والمجيء (4)، والقرب (5).وقال في رسالته إلى أهل الثغر في الإجماع العاشر مما أجمع عليه أهل السنة: "وأجمعوا على وصف الله تعالى بجميع ما وصف به نفسه ووصفه به نبيه من غير اعتراض فيه ولا تكيف له، وأن الإيمان به واجب وترك التكييف له لازم" (6). المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف - 2/ 661 وقد صرح الأشعري أن أهل الحديث هم أهل الحق فقال "الحق والصواب ما عليه أهل الحديث الذين يثبتون آيات وأحاديث الصفات، القائلين بأن لله يدين ووجهاً وعينين وسمعاً وبصراً وأنه ينزل إلى السماء الدنيا وأنه يجيء يوم القيامة كما أخبر، وأنه يقرب من خلقه كيف شاء لا يتأولونها" (7). فأهل الحديث لا يتأولونها، والأشاعرة إما يحرفون المعنى ويسمونه تأويلا، وإما يتجاهلون المعنى ويسمونه تفويضا، وكلاهما مخالف لأهل الحديث. 4) أن ابن حجر نقد علم الكلام نقدا شديدا ودعا إلى تركه، ومعلوم أن المذهب الأشعري قد شيدت أركانه على علم الكلام. قال ابن حجر "ويكفي في الردع عن الخوض في طرق المتكلمين: ما ثبت عن الأئمة المتقدمين كعمر بن عبدالعزيز ومالك والشافعي، وقد قطع بعض الأئمة بأن الصحابة ماتوا ولم يعرفوا الجوهر ولا العرض .. وقد أفضى الكلام بكثير من أهله إلى الشك، وببعضهم إلى الإلحاد". "وصح عن السلف أنهم نهوا عن علم الكلام وعدوه ذريعة للشك والارتياب (8).- وكان يحذر من مغالطات الجوهر والعرض، لما لها من نتائج فاسدة فيقول: "وكان مما أمر النبي صلى الله عليه وسلم: التوحيد. بل هو أصل ما أمر به، فلم يترك شيئا من أمور الدين إلا بلغه، ثم لم يدع إلى الاستدلال بما تمسكوا به من الجوهر والعرض" (9) قال: "فالحذر من كلامهم والاكتراث بمقالاتهم فإنها سريعة التهافت". ونقل عن أبي المظفر السمعاني "بيان فساد طريقة" المتكلمين في تقسيم الأشياء إلي جسم وجوهر وعرض. وزعمهم أن الجسم ما اجتمع من الافتراق، والجوهر ما حمل العرض، والعرض ما لا يقوم بنفسه. "فجعلوا الروح من الأعراض".وحتى الجويني فإنه صرح أن "الجوهر والعرض ألفاظ اصطلح عليها المتكلمون ولم يكن معروفاً عند السلف" (10).5) أن ابن حجر ذكر أن الرازي الأشعري "أوصى بوصية تدل على أنه حسن عقيدته" (11). فعلى أي عقيدة كان وعلى أي عقيدة مات؟ وكيف يكون ابن حجر موافقا له على عقيدته وقد كان الرازي قبل موته أشعري الاعتقاد. وهل التوبة إلا عن هذا المذهب؟ 6) أن ابن حجر انتقد موقف أهل الكلام من خبر الواحد وأيد موقف أهل الحديث ووقف موقف الشافعي (12). فقد ذكر أربعة أنواع للخبر المحتف بقرائن الصحة، وأهمها آخرها وهو التلقي الرابع: قال "وهذا التلقي وحده أقوى من إفادته العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر".وقال الحافظ " .. منها ما أخرجاه في الصحيحين مما لم يبلغ حد المتواتر، فإنه احتفت به قرائن منها: جلالتهما في هذا الشأن وتقدمهما في تميز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول" (13).7) أن ابن حجر نقل تشنيع أهل الحديث واللغة على قول المعتزلة استوى أي استولى (14). ولو كان أشعريا لوافق الأشاعرة على تأويل الاستواء بالاستيلاء الذي قلدوا فيه المعتزلة. المصدر: موقف ابن حزم من المذهب الأشعري لعبد الرحمن دمشقية - ص 17   (1) ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص: 21 - 22). (2) انظر: ((الإبانة)) (ص: 26). (3) انظر: ((الإبانة)) (ص: 29). (4) انظر ((الإبانة)) (ص:30) وانظر: ((رسالته إلى أهل الثغر)) (ص: 227). (5) انظر: ((الإبانة)) (ص: 30). (6) ((رسالة إلى أهل الثغر)) (ص: 236). (7) ((مقالات الإسلاميين)) (211 و 217 و 291) و ((سير الأعلام)) (18/ 284). (8) ((فتح الباري)) (13/ 350 - 352). (9) ((فتح الباري)) (13/ 507). (10) ((لمع الأدلة)) للجويني (ص: 76). (11) ((لسان الميزان)) (4/ 439) (أو 4/ 500 ط: دار الفكر). (12) ((فتح الباري)) (2/ 6 و 68 و 13/ 355). (13) ((نزهة النظر وشرحها)) (ص: 26) ط/ مكتبة طيبة. (14) انظر ((فتح الباري)) (13/ 407). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 المبحث الثاني: انقطاع صلة المنهج الأشعري في كثير من مسائله بالسلف: المقصود هنا بيان انقطاع هذه الصلة: وذلك من وجوه: الوجه الأول: إن السلف لم يؤولوا نصوص الصفات، بل أمروها كما جاءت وأجمعوا على ذلك، وقد أقر بهذا الجويني (1). لا يقال إنهم قد أولوا تأويلاً إجمالياً لثلاثة أمور: الأمر الأول: إنه قد ورد عنهم إثبات الصفات ومنهم الصحابة كما مر بل لقد أجمع التابعون على ذلك كما قال الأوزاعي: "كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته" (2). الأمر الثاني: إن مدعي ذلك لم يأت بما يصحح دعواه. والأمر الثالث: إن في ترك الصحابة والتابعين النصوص على ظاهرها دليلاً على أنهم يقولون بموجبها وبما دلت عليه، إذ يستحيل أن يكون ظاهرها يوجب التشبيه ثم لا يبينون ذلك ولا مرة واحدة. الوجه الثاني: إن هؤلاء الأئمة الذين يفتخر الأشاعرة بالانتماء إليهم قد ذموا الكلام وأهله، فمن ذلك قول الإمام الشافعي: "والله لأن يبتلى المرء بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك به خير له من النظر في الكلام" (3) وقال ابن الماجشون "إياك والكلام فإن لأخره أول سوء" (4) وقال الإمام أحمد "من تعاطى الكلام لم يفلح، ومن تعاطى الكلام لم يخل من أن يتجهم" (5) وكلامهم في هذا الباب كثير جداً؛ وهذا خلاف ما عليه الأشاعرة. الوجه الثالث: إن هؤلاء الأئمة لم يكونوا يردون الأخبار الصحيحة بأقيستهم وعقولهم، بل كانوا يسلمون بها، وهذا قد مر ذكر شيء منه في (التمهيد). وهذا خلاف ما عليه الأشاعرة. وبالجملة فكل ما تقدم نقله عن الأئمة الأعلام من إثبات الاستواء والوجه والعينين وأن القرآن كلام الله غير مخلوق يخالف ما عليه الأشعرية (6). ومن وقف على كتب الأئمة المصنفة في العقيدة علم يقيناً بلا ريب ولا شك أنهم يؤمنون بما وردت به الأخبار من الصفات وبقية مسائل العقيدة، وعلى سبيل المثال من هذه الكتب: السنة لعبدالله بن أحمد – خلق أفعال العباد للبخاري – التوحيد لابن خزيمة – عقيدة السلف أصحاب الحديث للصابوني – و (الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية) لابن بطة، وشرح السنة للبربهاري – وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي. المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف - 2/ 659   (1) انظر: ((ذم التأويل)) لابن قدامة (ص: 40). (2) أخرجه عنه البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص: 408) ومن طريقه الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (7/ 120 - 121). (3) رواه عنه ابن أبي حاتم في ((أدب الشافعي ومناقبه)) (ص: 182) وأبو نعيم في ((الحلية)) (9/ 111) - وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 534) وابن عساكر في ((تبيين كذب المفتري)) (ص: 335). (4) رواه عنه ابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 536). (5) رواه عنه ابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 538). (6) وانظر: ما نقله الإمام اللالكائي عن الأئمة في هذا الشأن (2/ 227 - 369 – 3/ 387 - 454). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 المبحث الثالث: بيان مخالفة متأخّري الأشاعرة للأشعري ولكبار أصحابه لا بد أن يعلم أيضاً أن ابن كلاب، والأشعري، وكبار أصحابه كأبي الحسن الطبري، وأبي عبدالله بن مجاهد الباهلي، ثم من بعدهم كأبي بكر الباقلاني وأبي إسحاق الإسفرائيني، لم يختلف قولهم في إثبات الصفات الخبرية لله تعالى التي في القرآن كالوجه، واليدين، والعينين، والاستواء، ونحوها، وإبطال قول من نفاها وتأولها، ولم ينقل عنهم غير ذلك، وليس لهم فيها قولان، وهذه كتبهم موجودة، ليس فيها حرف من تأويلها أو ذكر قولين، ومن قال غير ذلك فقد وهم، وإنما أدخل هذا في مذهبه متأخرو الأشاعرة كأبي المعالي الجويني والرازي وأبي حامد ونحوهم. قال أبو العباس أحمد بن ثابت الطرقي الحافظ صاحب كتاب (اللوامع في الجمع بين الصحاح والجوامع) في بيان مسألة الاستواء من تأليفه: "ورأيت هؤلاء الجهمية – يشير إلى متأخري الأشاعرة -، ينتمون – في نفي العرش، وتعطيل الاستواء – إلى أبي الحسن الأشعري، وما هذا بأول باطل ادعوه، وكذب تعاطوه، فقد قرأت في كتابه الموسوم بـ (الإبانة عن أصول الديانة) أدلة من جملة ما ذكر على إثبات الاستواء، وقال في جملة ذلك: "ومن دعاء أهل الإسلام جميعاً إذا رغبوا إلى الله تعالى في الأمر النازل بهم، يقولون جميعاً: يا ساكن العرش"، ثم قال: "ومن حلفهم جميعاً قولهم: لا والذي احتجب بسبع سماوات" (1) اهـ ........ وقد درس الشيخ أبو زهرة منهج أبي الحسن الأشعري ولخصه في النقاط التالية: 1 - أنه يرى الأخذ بكل ما جاء به الكتاب والسنة في مسائل الاعتقاد، ويحتج بكل وسائل الإقناع والإفحام في تأييد ذلك. 2 - أنه يأخذ بظواهر النصوص في الآيات الموهمة للتشبيه من غير أن يقع في التشبيه، فهو يعتقد أن لله وجهاً لا كوجه العبيد، وأن لله يداً لا تشبه أيدي المخلوقات. 3 - أنه يرى الاحتجاج بحديث الآحاد في العقائد، وهو دليل لإثباتها، وقد أعلن اعتقاد أشياء تثبت بأحاديث الآحاد.4 - أنه في آرائه كان يجانب أهل الأهواء جميعاً والمعتزلة، ويجتهد في أن لا يقع فيما وقع فيه كثير من المنحرفين (2). المصدر: الأشاعرة في ميزان أهل السنة لفيصل الجاسم - ص 727   (1) نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في ((نقض التأسيس)) (ص87 - 88)، وابن درباس في ((رسالة الذب عن أبي الحسن الأشعري)) (ص: 111). (2) ((ابن تيمية حياته وعصره آراؤه وفقهه)) (ص: 154). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 المبحث الرابع: نصوص أئمة أصحاب الأشعري في إثبات الصفات لله تعالى والمنع من تأويلها أبو الحسن علي بن مهدي الطبري: قال الذهبي في "العلو" نقلاً عنه: "قال الإمام أبو الحسن علي بن مهدي الطبري تلميذ الأشعري في كتاب (مشكل الآيات) له في باب قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]: "اعلم أن الله في السماء، فوق كل شيء، مستو على عرشه، بمعنى أنه عال عليه، ومعنى الاستواء الاعتلاء، كما تقول العرب: استويت على ظهر الدابة، واستويت على السطح، بمعنى علوته، واستوت الشمس على رأسي، واستوى الطير على قمة رأسي، بمعنى علا في الجو فوجد فوق رأسي، فالقديم جل جلاله عال على عرشه، يدلك على أنه في السماء عال على عرشه قوله: أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك: 16]، وقوله: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران: 55]، وقوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: 10]، وقوله: ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة: 5] وزعم البلخي أن استواء الله على العرش هو الاستيلاء عليه، مأخوذ من قول العرب: استوى بشر على العراق، أي استولى عليها، وقال: إن العرش يكون "الملك"، فيقال له: ما أنكرت أن يكون عرش الرحمن جسماً خلقه، وأمر ملائكته بحمله؟ قال وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة: 17]، وأمية يقول: مجدوا الله فهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء الأعلى الذي سبق الناس ... وسوى فوق السماء سريرا قال: مما يدل على أن الاستواء ههنا ليس بالاستيلاء أنه لو كان كذلك لم يكن ينبغي أن يخص العرش بالاستيلاء عليه دون سائر خلقه، إذ هو مستول على العرش، وعلى الخلق، ليس للعرش مزية على ما وصفته، فبان بذلك فساد قوله. ثم يقال له أيضاً: إن الاستواء ليس هو الاستيلاء الذي هو من قول العرب: استوى فلان على كذا، أي: استولى، إذا تمكن منه بعد أن لم يكن متمكناً، فلما كان الباري عز وجل لا يوصف بالتمكن بعد أن لم يكن متمكناً لم يصرف معنى الاستواء إلى الاستيلاء. ثم ذكر ما حدثه نفطويه عن داود بن علي عن ابن الأعرابي – وقد مر – ثم قال: فإن قيل: ما تقولون في قوله: أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك: 16]؟ قيل له: معنى ذلك أنه فوق السماء على العرش، كما قال: فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ [التوبة: 2]، بمعنى: على الأرض، وقال: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه: 71]، فكذلك: أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك: 16]. فإن قيل: فما تقولون في قوله: وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام: 3]؟ قيل له: إن بعض القراء يجعل الوقف في: السَّمَاوَاتِ، ثم يبتدئ: وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ، وكيفما كان فلو أن قائلاً قال: فلان بالشام والعراق ملك، لدل على أن ملكه بالشام والعراق، لا أن ذاته فيهما ... ".إلى أن قال: "وإنما أمرنا الله برفع أيدينا قاصدين إليه برفعهما نحو العرش الذي هو مستو عليه" (1) اهـ. قلت: فانظر إلى حكايته عن المعتزلة القول بأن العرش: الملك، ثم انظر إلى ما قاله عبدالقاهر البغدادي في الاستواء: "والصحيح عندنا تأويل العرش في هذه الآية على معنى الملك" (2) اهـ. وانظر أيضاً إبطاله لتفسير الملك بالاستيلاء والقهر، وجعل هذا من أقوال الجهمية، ثم انظر إلى ما قاله أبو المعالي الجويني: "لم يمتنع منا حمل الاستواء على القهر والغلبة" (3) اهـ.   (1) أورده الذهبي في ((العلو)) (ص: 231)، ونقله شيخ الإسلام ابن تيمية في ((بيان تلبيس الجهمية)) (2/ 335). (2) ((أصول الدين)) (ص: 113). (3) ((الإرشاد)) (ص40). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 القاضي أبو بكر محمد بن الطيب البصري الباقلاني: قال في كتاب (الإنصاف): "فنص تعالى على إثبات أسمائه وصفات ذاته، وأخبر أنه ذو الوجه الباقي بعد تقضي الماضيات، كما قال عز وجل: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88]، وقال وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 27]، واليدين اللتين نطق بإثباتهما له القرآن في قوله عز وجل: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64]، وقوله: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ [ص: 75]، وأنهما ليستا جارحتين، ولا ذوي صورة وهيئة، والعينين اللتين أفصح بإثباتهما من صفاته القرآن، وتواترت بذلك أخبار الرسول عليه السلام؟ فقال عز وجل: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه: 39] وتَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14]، وأن عينه ليست بحاسة من الحواس، ولا تشبه الجوارح والأجناس" (1) اهـ. وقال الذهبي في (العلو): "قال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب البصري الباقلاني الذي ليس في المتكلمين الأشعرية أفضل منه مطلقاً في كتابه (الإبانة) من تأليفه: فإن قيل فما الدليل على أن لله وجهاً؟ قيل: قوله: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27]، وقوله: مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75]، فأثبت لنفسه وجهاً ويداً. فإن قيل: فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة، إذ كنتم لا تعقلون وجهاً ويداً إلا جارحة؟ قلنا: لا يجب هذا، كما لا يجب في كل شيء كان قديماً بذاته أن يكون جوهراً، لأنا وإياكم لم نجد قديماً بنفسه في شاهدنا إلا كذلك. وكذلك الجواب لهم إن قالوا: فيجب أن يكون علمه وحياته وكلامه وسمعه وبصره وسائر صفات ذاته عرضاً، واعتلوا بالوجود. فإن قيل: فهل تقولون إنه في كل مكان؟ قيل: معاذ الله، بل هو مستو على عرشه، كما أخبر في كتابه فقال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]، وقال: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: 10]، وقال: أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك: 16]. قال: ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه وفي الحشوش، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن، ويصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض، وإلى خلفنا ويميننا وشمالنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه، وتخطئه قائله. إلى أن قال: وصفات ذاته التي لم يزل ولا يزال موصوفاً بها: الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والوجه واليدان والعينان والغضب والرضا. وقال مثل هذا القول في كتاب (التمهيد) (2) له. وقال في كتاب (الذب عن أبي الحسن الأشعري) كذلك: قولنا في جميع المروي عن رسول الله في صفات الله إذا صح من إثبات اليدين والوجه والعينين، ونقول: إنه يأتي يوم القيامة في ظلل من الغمام، وإنه ينزل على السماء الدنيا كما في الحديث، وإنه مستو على عرشه ... ". إلى أن قال: "وقد بينا دين الأئمة وأهل السنة أن هذه الصفات تمر كما جاءت بغير تكييف، ولا تحديد، ولا تجنيس، ولا تصوير، كما روي عن الزهري وعن مالك في الاستواء، فمن تجاوز هذا فقد تعدى وابتدع وضل. قلت – أي: الذهبي معلقاً -: فهذا النفس نفس هذا الإمام، وأين مثله في تبحره وذكائه وبصره بالملل والنحل، فلقد امتلأ الوجود بقوم لا يدرون ما السلف، ولا يعرفون إلا السلب، ونفي الصفات وردها، صم بكم غتم عجم، يدعون إلى العقل ولا يكونون على النقل" (3) اهـ. نقل كلام أبي الحسن الأشعري في (الإبانة): "فلو انتهى أصحابنا المتكلمون إلى مقالة أبي الحسن هذه، ولزموها، لأحسنوا، ولكنهم خاضوا كخوض حكماء الأوائل في الأشياء، ومشوا خلف المنطق، فلا قوة إلا بالله" (4) اهـ. المصدر: الأشاعرة في ميزان أهل السنة لفيصل الجاسم - ص 730   (1) ((الإنصاف)) (ص: 24). (2) ((تمهيد الأوائل)) (ص295 – 298). (3) ((العلو)) (ص: 237)، و ((السير)) (17/ 558)، ونقله شيخ الإسلام ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (5/ 98 - 99). (4) ((العلو)) (ص: 222). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 المبحث الخامس: متابعة الأشاعرة لمنهج المعتزلة إما صراحة وإما لزوما ً وهذا يتضح في خمس مسائل هي (1): المسألة الأولى: دليل إثبات وجود الله. أصل هذا الدليل قد أخذه الأشاعرة عن المعتزلة – ويمكن إثبات هذه الدعوى بدليلين:- الأول: الرجوع إلى كتب المعتزلة. الثاني: شهادة الأشاعرة أنفسهم. أما الدليل الأول: فإنه بالرجوع إلى كتب المعتزلة، وجد أنهم قد ذكروا طريقة في إثبات وجود الله هي الطريقة نفسها التي سلكها الأشاعرة ومعلوم أن المعتزلة قد سبقوا الأشاعرة في الظهور. وخطوات الاستدلال عند المعتزلة هي:1 - إثبات حدوث الأجسام – وهي مستندة على طريقة الأعراض، والأجسام معلومة الوجود بالضرورة (2).2 - إثبات وجود الأعراض التي هي الأكوان من الاجتماع والافتراق والحركة والسكون (3).3 - إثبات حدوث الأعراض (4).4 - إثبات أن الأجسام لا تخلوا عن الأعراض (5).5 - إثبات أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث (6).6 - إثبات امتناع تسلسل الحوادث (7) وبه يتم الاستدلال على حدوث الأجسام.7 - إثبات أن القديم لا يجوز عليه العدم (8). فهذه هي مراحل إثبات وجود الله عند المعتزلة – وهي المراحل عينها التي سلكها الأشاعرة كما تقدم النقل عنهم. وأما الدليل الثاني فيكفي شهادة اثنين منهم وهما: 1 - الشاهد الأول: أبو الحسن الأشعري نفسه 2 - الشاهد الثاني: أبو جعفر السمناني المسألة الثانية: في خلق الأسماء الحسنى. وهذه قد مضت المناقشة فيها، فإن الأشاعرة بالغوا في إظهار مخالفتهم للمعتزلة القائلين بخلق الأسماء، وأظهروا موافقتهم للسلف في أن الأسماء غير مخلوقة – ولما حققت المسألة معهم بأن الأسماء من الكلام، والكلام عندهم مخلوق، فيلزم أن تكون الأسماء مخلوقة قالوا: لا إشكال في أن التسميات مخلوقة، فإن الأسماء تطلق ويراد بها التسميات، أما الاسم فهو المسمى نفسه وهو غير مخلوق، ثم إنه لما حقق معهم أكثر في المسألة وأن هذا الجواب قد لا يستقيم إذ بعض الأسماء دالة على صفات المعاني، وبعضها على صفات الأفعال – فتكون مخلوقة – وبعضها على الذات قالوا: إذاً بعض الأسماء هي لا عين المسمى ولا هي غيره، وبعضها هي غير المسمى يقيناً وبعضها هي المسمى نفسه! فالأولى هي الدالة على صفات المعاني – والثانية دالة على الأفعال فتكون مخلوقة إذ هي غيره – والثالثة هي الدالة على الذات. وبالجملة فإن موافقة الأشاعرة للمعتزلة هنا ظاهرة وإن بالغوا في إظهار المخالفة، وقد تقدم هذا البحث مستوفى. المسألة الثالثة: في صفات الأفعال وبعض صفات الذات: وهذه قد وافق فيها الأشاعرة المعتزلة موافقة صريحة، مثل صفات: الاستواء، والغضب، والفرح، والنزول، والمجيء، ومثل صفات اليدين، والوجه، والقدم والعلو، والعينين. والغريب أنهم اتبعوا طريقة المعتزلة نفسها لنفيها، وهي طريقة التنزيه المبنية على شبهة حلول الحوادث والجسمية والتركيب. مع التنبيه هنا على أن المتقدمين من فضلاء الأشاعرة قد أثبتوا أكثر هذه الصفات كالباقلاني والبيهقي وغيرهما.   (1) وانظر بعض ما ذكره السجزي في ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (ص: 173 - 181). (2) انظر: ((شرح الأصول الخمسة)) للقاضي عبد الجبار (ص: 94). (3) انظر ((شرح الأصول الخمسة)) للقاضي عبد الجبار (ص: 95 - 103). (4) انظر ((شرح الأصول الخمسة)) للقاضي عبد الجبار (ص: 104 - 110). (5) انظر ((شرح الأصول الخمسة)) للقاضي عبد الجبار (ص: 111). (6) انظر ((شرح الأصول الخمسة)) للقاضي عبد الجبار (ص: 114). (7) انظر ((شرح الأصول الخمسة)) للقاضي عبد الجبار (ص: 115). (8) انظر ((شرح الأصول الخمسة)) للقاضي عبد الجبار (ص: 101). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 وقد تقدم كذلك إنكار بعضهم لبعض صفات المعاني، وهما صفتا السمع والبصر وهذا يدل على أن المذهب الأشعري قد تغير كثيراً وازداد انحرافاً وخطى خطوات واسعة للاقتراب من المعتزلة خاصة بعد الجويني وعند الغزالي والرازي على وجه الخصوص. المسألة الرابعة: اتفاقهم مع المعتزلة على خلق القرآن. وهذا الموضوع أفردته بمسألة مستقلة لشدة خطورته، فإن الأئمة الأعلام مجمعون على تكفير من قال بخلق القرآن. والأشاعرة قد أظهروا مخالفة المعتزلة في الكلام فقالوا: إن كلام الله غير مخلوق، ولما كان هذا يتعارض مع مسألة نفي حلول الحوادث قالوا: مرادنا بقولنا الكلام غير مخلوق: الكلام النفسي، أما الألفاظ فهي مخلوقة، وهذا يشمل القرآن!! من عبارتهم: "ومذهب أهل السنة أن القرآن بمعنى الكلام النفسي ليس مخلوق، وأما القرآن بمعنى اللفظ الذي نقرؤه فهو مخلوق، لكن يمتنع أن يقال: القرآن مخلوق ويراد به اللفظ الذي نقرؤه إلا في مقام التعليم، لأنه ربما أوهم أن القرآن بمعنى كلامه تعالى مخلوق، ولذلك امتنعت الأئمة من القول بخلق القرآن. (1) " اهـ. فهذه هي الموافقة الصريحة للمعتزلة في هذه المسألة. وهكذا حاول علماء الأشاعرة إنهاء هذه المشكلة الكبيرة بهذا التقسيم المبتدع الخارق للإجماع، ثم إنه عجب أن يكون سبب امتناع الأئمة من التصريح بخلق القرآن هو إيهام القول بخلق الكلام النفسي! فإذا كان هذا هو التعليل الصحيح فلماذا سفكت دماء عدد من العلماء؟ - ولماذ تخفى بعضهم؟ ولماذا أصر إمام أهل السنة والجماعة الإمام المبجل أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رحمه الله على القول بأن القرآن كلام الله بل أصر على كلمة "غير مخلوق" وأنكر على من لم ير زيادة هذه الكلمة؟ (2) أَبَعْدَ هذا كله يقال إن الأئمة الأعلام سكتوا عن بيان مسألة قام المقتضي لبيانها، حتى تفلسف هؤلاء الأشاعرة فقالوا يجوز بيان ذلك في مقام التعليم؟، مع أن المقام زمن الأئمة قد جمع بين أمور: مقام التعليم، ومقام حفظ الأنفس، ومقام وحدة المسلمين! المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف - 2/ 665   (1) ((تحفة المريد)) (ص: 94). (2) انظر: ((السنة)) لعبدالله بن أحمد (1/ 179)، بل عده جهمياً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 المبحث السادس: نصوص العلماء في مخالفة الكلابية والأشاعرية لأهل السنة ولطريق السلف إمام أهل السنة أحمد بن حنبل "241هـ": قال المروذي: "قلت لأبي عبدالله: إن الكرابيسي يقول: من لم يقل لفظه بالقرآن مخلوق فهو كافر. فقال: بل هو الكافر. وقال: ثار بشر المريسي وخلفه حسين الكرابيسي. وقال لي: هذا قد تجهم وأظهر الجهمية، ينبغي أن يحذر عنه وعن كل من اتبعه. وقال الخلال أخبرنا المروذي: أن أبا عبدالله ذكر حارثاً المحاسبي فقال: حارث أصل البلية – يعني حوادث كلام جهم -، ما الآفة إلا حارث، عامة من صحبه انتهك إلا ابن العلاف فإنه مات مستوراً. حذروا عن حارث أشد التحذير. قلت: إن قوماً يختلفون إليه؟ قال: نتقدم إليهم لعلهم لا يعرفون بدعته، فإن قبلوا وإلا هجروا. ليس للحارث توبة، يشهد عليه ويجحد، وإنما التوبة لمن اعترف" (1) اهـ. وقال علي بن أبي خالد: "قلت لأحمد: إن هذا الشيخ – لشيخ حضر معنا – هو جاري، وقد نهيته عن رجل، ويحب أن يسمع قولك فيه: حرث القصير – يعني حارياً المحاسبي -، كنت رأيتني معه منذ سنين كثيرة، فقلت لي: لا تجالسه، ولا تكلمه، فلم أكلمه حتى الساعة. وهذا الشيخ يجالسه، فما تقول فيه؟ فرأيت أحمد قد احمر لونه، وانتفخت أوداجه وعيناه، وما رأيته هكذا قط، ثم جعل ينتفض ويقول: ذاك فعل الله به وفعل، ليس يعرف ذاك إلا من خبره وعرفه، أوّيه، أوّيه، أوّيه. ذاك لا يعرفه إلا من قد خبره وعرفه. ذاك جالسه المغازلي ويعقوب وفلان فأخرجهم إلى رأي جهم. هلكوا بسببه. فقال له الشيخ: يا أبا عبدالله، يروي الحديث ساكناً خاشعاً، من قصته ومن قصته؟ فغضب أبو عبدالله وجعل يقول: لا يغرّك خشوعه ولينه، ويقول: لا تغتر بتنكيس رأسه، فإنه رجل سوء، ذاك لا يعرفه إلا من قد خبره. لا تكلمه ولا كرامة له. كل من حدث بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مبتدعاً تجلس إليه؟! لا ولا كرامة، ولا نعمى عين. وجعل يقول: ذاك! ذاك! " (2) اهـ.   (1) رواه ابن بطة في ((الإبانة)) (1/ 342، 344)، وابن أبي يعلى في ((طبقات الحنابلة)) (1/ 62 - 63). (2) رواه ابن أبي يعلى في ((طبقات الحنابلة)) (1/ 233 - 234). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 وقال أبو الحارث أحمد بن محمد: "سمعت أبا عبدالله يقول: من أحب الكلام لم يخرج من قلبه. قال: وسمعته وسئل عن قول الحسين الكرابيسي. فقيل له: إنه يقول: لفظي بالقرآن مخلوق. فقال: هذا قول جهم، قال الله عز وجل: وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ [التوبة: 6]، فممن يسمع كلام الله؟ أهلكهم الله" (1) اهـ. وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري للإمام أحمد: "يا أبا عبدالله، إن الكرابيسي وابن الثلجي قد تكلما. فقال أحمد: فيم؟ قلت: في اللفظ. فقال أحمد: اللفظ بالقرآن غير مخلوق، ومن قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي" (2) اهـ. وقال حنبل: "سمعت أبي يسأل أبا عبدالله عن كلام الكرابيسي وما أحدث؟ فقال أبو عبدالله لأبي: هذا كلام الجهمية، صاحب هذه المقالة يدعو إلى كلام جهم، إذا قال: إن لفظه بالقرآن مخلوق، فأي شيء بقى؟ " (3) اهـ. وقال ابن أبي يعلى: أنبأنا أبو الحسين بن المهتدي بالله عن أبي الحسين بن أخي ميمي قال: أخبرنا علي بن محمد الموصلي حدثنا موسى بن محمد الغساني حدثنا شاهين بن السميذع قال: سمعت أبا عبدالله بن حنبل يقوله: "الحسين الكرابيسي عندنا كافر" (4) اهـ. وقال أبو جعفر محمد بن الحسن بن هارون بن بدينا: "سألت أبا عبدالله أحمد بن حنبل رضي الله عنه فقلت له: يا أبا عبدالله، أنا رجل من أهل الموصل والغالب على أهل بلدنا الجهمية، ومنهم أهل سنة، نفر يسير يحبونك، وقد وقعت مسألة الكرابيسي ففتنهم قول الكرابيسي: "لفظي بالقرآن، مخلوق". فقال لي أبو عبدالله: إياك، وإياك وهذا الكرابيسي، لا تكلمه ولا تكلم من يكلمه – أربع مرار أو خمساً -، فقلت: يا أبا عبدالله، فهذا القول عندك، وما شاعت منه، يرجع إلى قول جهم؟ قال: هذا كله من قول جهم" (5) اهـ. وقال عبدالله: "قلت لأبي: إن الكرابيسي يقول: لفظي بالقرآن مخلوق. فقال: هذا كلام سوء رديء، هذا كلام الجهمية، كذب الكرابيسي هتكه الله، الخبيث. وقال: قد خلف هذا بشر المريسي" (6) اهـ. الحافظ أبو حاتم الرازي محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي "277هـ": قال: "مذهبنا واختيارنا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين ومن بعدهم بإحسان، وترك النظر في موضع بدعهم، والتمسك بمذهب أهل الأثر مثل أبي عبدالله أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، وابي عبيدالقاسم بن سلام، والشافعي. ولزوم الكتاب والسنة، والذب عن الأئمة المتبعة لآثار السلف، واختيار ما اختاره أهل السنة من الأئمة في الأمصار مثل: مالك بن أنس في المدينة، والأوزاعي بالشام، والليث بن سعد بمصر، وسفيان الثوري، وحماد بن زياد بالعراق من الحوادث مما لا يوجد فيه رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين.   (1) رواه ابن أبي يعلى في ((طبقات الحنابلة)) (1/ 75). (2) رواه ابن أبي يعلى في ((طبقات الحنابلة)) (1/ 94). (3) روه ابن أبي يعلى في ((طبقات الحنابلة)) (1/ 111). (4) رواه ابن أبي يعلى في ((طبقات الحنابلة)) (1/ 172). (5) رواه الخلال في السنة (7/ 75)، وابن بطة في ((الإبانة)) (1/ 329 - 330) وابن أبي يعلى في ((طبقات الحنابلة)) (1/ 288). (6) رواه ابن بطة في ((الإبانة)) (1/ 342). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 وترك رأي الملبسين المموهين المزخرفين الممخرقين الكذابين، وترك النظر في كتب الكرابيسي، ومجانبة من يناضل عنه من أصحابه وشاجر فيه مثل داود الأصبهاني وأشكاله ومتبعيه. والقرآن كلام الله وعلمه وأسماؤه وصفاته وأمره ونهيه، ليس بمخلوق بجهة من الجهات. ومن زعم أنه مخلوق مجعول فهو كافر بالله كفراً ينقل عن الملة، ومن شك في كفره ممن يفهم ولا يجهل فهو كافر. والواقفة واللفظية جهمية، جهمهم أبو عبدالله أحمد بن حنبل " (1) اهـ. وقال أيضاً: "من كلام جهم بن صفوان، وحسين الكرابيسي داود بن علي: أن لفظهم بالقرآن مخلوق، وأن القرآن المنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم مما جاء به جبريل الأمين حكاية القرآن، فجهمهم أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل، وتابعه على تجهيمهم علماء الأمصار طرّاً أجمعون، لا خلاف بين أهل الأثر في ذلك" (2) اهـ. وهذا يؤكد ما ذكره ابن عبدالبر من أن الكرابيسي موافق لابن كلاب وداود الأصبهاني في القول بالحكاية. جماعة من السلف لا يحصون كثرة: قال قوام السنة أبو القاسم التيمي الأصبهاني: "وأول من قال باللفظ، وقال: "ألفاظنا بالقرآن مخلوقة": حسين الكرابيسي. فبدعه أحمد بن حنبل، ووافقه على تبديعه علماء الأمصار: إسحاق بن راهويه، وأبو مصعب، ومحمد بن سليمان لوين، وأبو عبيدالقاسم بن سلام، ومصعب بن عبدالله الزبيري، وهارون بن موسى الفروي، وأبو موسى محمد بن المثنى، وداود بن رشيد، والحارث ابن مسكين المصري، وأحمد بن صالح المصري، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، ويعقوب وأحمد ابنا إبراهيم الدورقي، وأبو همام الوليد بن شجاع، وعلي بن خشرم، ومحمد بن قدامة المصيصي، ومحمد بن داود بن صبيح المصيصي، وكان من أهل العلم والأدب، ومحمد بن آدم المصيصي، وسعيد بن رحمة، وعقبة بن مكرم، والعباس بن عبدالعظيم، ومحمد بن أسلم الطوسي، وحميد بن زنجويه النسوي، ومحمد بن سهل بن عسكر البخاري، وأحمد بن منيع، وهارون بن عبدالله الحمال، وابنه موسى بن هارون، ومحمد بن يحيى الذهلي النيسابوري، ومحمد ابن أحمد بن حفص أبو عبدالله البخاري فقيه أهل خراسان، وأبو بكر الأثرم، وأبو بكر المروذي، صاحبا أحمد بن حنبل، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والحسن بن محمد الزعفراني، وحرب بن إسماعيل السيرجاني، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة. ومن أهل أصبهان: أبو مسعود الرازي، ومحمد بن عيسى الطرسوسي، وأحمد بن مهدي، وإسماعيل بن أسيد، ومحمد بن العباس بن خالد، ومحمد بن عباس بن أيوب الأخرم، ومحمد بن يحيى بن منده، جد أبي عبدالله، وأبو أحمد العسال، وأبو علي أحمد بن عثمان الأبهري، وأبو عبدالله محمد بن إسحاق بن منده، فمذهبهم ومذهب أهل السنة جميعاً أن القرآن كلام الله آية آية، وكلمة كلمة، وحرفاً حرفاً في جميع أحواله، حيث قرئ وكتب وسمع" (3) اهـ. الإمام أبو العباس أحمد بن عمرو ابن سريج البغدادي الشافعي "303هـ":قال: "لا نقول بتأويل المعتزلة، والأشعرية، والجهمية، والملحدة، والمجسمة، والمشبهة، والكرامية، والمكيفة، بل نقبلها بلا تأويل، ونؤمن بها بلا تمثيل، ونقول: الآية والخبر صحيحان والإيمان بهما واجب، والقول بهم سنة، وابتغاء تأويلها بدعة" (4) اهـ.   (1) رواه اللالكائي (1/ 180). (2) رواه أبو القاسم التيمي في ((الحجة في بيان المحجة)) (2/ 192). (3) رواه أبو القاسم التيمي في ((الحجة في بيان المحجة)) (2/ 192). (4) جزء فيه أجوبة في أصول الدين لأبي العباس بن سريج (ص86 - 87)، ونقله عنه ابن القيم في ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (ص: 174). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة "311هـ":قال أبو سعيد عبدالرحمن بن أحمد المقرئ: "سمعت ابن خزيمة يقول: القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله غير مخلوق، ومن قال: شيء منه مخلوق، أو يقول: إن القرآن محدث؛ فهو جهمي، ومن نظر في كتبي بان له أن الكلابية لعنهم الله كذبة فيما يحكون عني بما هو خلاف أصلي وديانتي، قد عرف أهل الشرق والغرب أنه لم يصنف أحد في التوحيد والقدر وأصول العلم مثل تصنيفي ... " (1). وقال الذهبي في السير: "قال الحاكم: سمعت أبا بكر أحمد ابن غسحاق يقول: ... فقال له – أي: لابن خزيمة – أبو علي الثقفي: ما الذي أنكرت أيها الأستاذ من مذاهبنا حتى نرجع عنه؟ قال: ميلكم إلى مذهب الكلابية، فقد كان أحمد بن حنبل من أشد الناس على عبدالله بن سعيد بن كلاب وعلى أصحابه مثل الحارث وغيره" (2) اهـ. الإمام الحافظ شيخ الإسلام محمد بن إسحاق السراج محدث خراسان "313هـ":قال الذهبي في ترجمته: "قال الحاكم: وسمعت أبا سعيد بن أبي بكر يقول: لما وقع من أمر الكلابية ما وقع بنيسابور، كان أبو العباس السراج يمتحن أولاد الناس، فلا يحدث أولاد الكلابية، فأقامني في المجلس مرة فقال: قل أنا أبرأ إلى الله تعالى من الكلابية، فقلت: إن قلت هذا لا يطعمني أبي الخبز، فضحك وقال: دعوا هذا" (3) اهـ. العلامة الحافظ أبو حامد أحمد بن محمد بن شارك الهروي الشافعي المفسر مفتي هراة وشيخها "355هـ":قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي الأنصاري: سمعت الثقة (4) وهو لي عن أبي حامد أحمد بن حمدان إجازة: "أن جده أبا حامد الشاركي في علته التي توفي فيها دخل عليه أبو عبدالله الفياضي وعنده أبو سعد الزاهد، فلما دخل، قام إليه الناس يعظمونه، ولم ينظر إليه أبو سعد، فقال أبو حامد: أسندوني، فأسندوه، فرفع صوته وكان منه من الشدة على الكلابية بشأن" (5). محمد بن أحمد بن إسحاق بن خواز منداد المصري المالكي "توفي في أواخر المائة الرابعة": روى ابن عبدالبر بسنده قال: "حدثنا إسماعيل بن عبدالرحمن، ثنا إبراهيم بن بكر قال: سمعت أبا عبدالله محمد بن أحمد بن إسحاق ابن خواز منداد المصري المالكي ... وقال في كتاب (الشهادات) في تأويل قول مالك: "لا تجوز شهادة أهل البدع وأهل الأهواء" قال: "أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعريا كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام، ويهجر ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها" اهـ. قال أبو عمر مقرا له: "ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصاً في كتاب الله، أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أجمعت عليه الأمة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له ولا يناظر فيه" (6) اهـ. إبراهيم بن أحمد بن عمر أبو إسحاق بن شاقلا الحنبلي "369هـ": له مناظرة مع أبي سليمان الدمشقي في مسائل الصفات تبين أن ابن كلاب لم يكن على طريقة الإمام أحمد ولا على منهج السلف.   (1) رواه أبو إسماعيل الهروي في ((ذم الكلام)) (4/ 388)، وذكره الذهبي في ((السير)) (14/ 379). (2) رواه أبو إسماعيل الهروي في ((ذم الكلام وأهله)) (4/ 388)، وذكره الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (14/ 379 - 380). (3) ((سير أعلام النبلاء)) (14/ 395). (4) قال محقق "ذم الكلام وأهله": "وأشار أحد النساخ بالهامش فقال: بخط الدقاق: قال ليس شيخ الإسلام: هو أبو عبدالله بن أبي ذهل". (5) رواه أبو إسماعيل الهروي الأنصاري في ((ذم الكلام وأهله)) (4/ 396). (6) نقله عنه ابن عبدالبر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 943). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 قال ابن شاقلا: "فقال لي جواباً عن حديث أنس: "إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها": إنما هما نعمتان. فقلت له: هذا الخبر يقول: "إن الأصبعين نعمتان؟ " – أي: هل قال الخبر: إن الأصبعين نعمتان؟ استنكاراً لتأويله – واليدين صفة للذات -. ولم يتقدمك بهذا أحد إلا عبدالله بن كلاب القطان الذي انتحلت مذهبه، ولا عبرة في التسليم للأصابع والتأويل لها على ما ذكرت: إن القلوب بين نعمتين من نعم الله عز وجل ... ". إلى أن قال: "ثم قلت له: أنت مذهبك أن كلام الله عز وجل ليس بأمر ولا نهي، ولا متشابه ولا ناسخ ولا منسوخ، ولا كلامه مسموع، لأن عندك الله عز وجل لا يتكلم بصوت، وأن موسى لم يسمع كلام الله عز وجل بسمعه، وإنما خلق الله عز وجل في موسى فهماً فهم به. فلما رأى ما عليه في هذا من الشناعة قال: فلعلي أخالف ابن الكلاب القطان في هذه المسألة من سائر مذهبه" (1) اهـ. أبو عبيدالله عبيدالله بن محمد العكبري الحنبلي ابن بطة "384هـ":قال في ختام كتابه (الإبانة الصغرى) بعد أن ذكر أسماء رؤوس أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والقدرية وغيرهم: "ومن خبثائهم، ومن يظهر في كلامه الذب عن السنة، والنصرة لها، وقوله أخبث القول: ابن كلاب، وحسين النجار، وأبو بكر الأصم، وابن علية" (2) اهـ. الإمام الحافظ أبو عبدالله محمد بن إسحاق بن منده "395هـ":قال أحمد بن محمد بن الطاهر المعافري أبو العباس: سمعت أبا عبدالله محمد بن منده الحافظ بأصبهان رحمه الله يقول: "ليتق الله امرؤ وليعتبر عن تقدم ممن كان القول باللفظ مذهبه ومقالته، كيف خرج من الدنيا مهجوراً مذموماً مطروداً من المجالس والبلدان لاعتقاده القبيح؟! وقوله الشنيع المخالف لدين الله مثل: الكرابيسي، والشواط، وابن كلاب، وابن الأشعري، وأمثالهم ممن كان الجدال والكلام طريقه في دين الله عز وجل" (3) اهـ. العلامة أبو حامد بن أبي طاهر الإسفرائيني شيخ الشافعية ببغداد (406هـ): قال الشيخ أبو الحسن محمد بن عبدالملك الكرجي الشافعي في كتابه الذي سماه (الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول): "وكان الشيخ أبو حامد الإسفرائيني شديد الإنكار على الباقلاني وأصحاب الكلام ... ". وقال: "ولم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ينسبوا إلى الأشعري، ويتبرؤن مما بنى الأشعري مذهبه عليه، وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحوم حواليه على ما سمعت عدة من المشايخ والأئمة – منهم الحافظ: المؤتمن بن أحمد بن علي الساجي – يقولون: سمعنا جماعة من المشايخ الثقات قالوا: كان الشيخ أبو حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفرائيني إمام الأئمة الذي طبق الأرض علماً وأصحاباً إذا سعى إلى الجمعة من قطعية الكرج إلى جامع المنصور يدخل الرباط المعروف بالزوزي المحاذي للجامع، ويقبل على من حضر ويقول: اشهدوا عليّ بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، كما قاله الإمام ابن حنبل، لا كما يقوله الباقلاني.   (1) ((طبقات الحنابلة)) (2/ 133 - 135). (2) ((الشرح والإبانة على أصول السنة)) والديانة لابن بطة المعروف بـ ((الإبانة الصغرى)) (ص: 95). (3) رواه أبو إسماعيل الهروي في ((ذم الكلام)) (4/ 424). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 وتكرر ذلك منه جمعات، فقيل له في ذلك، فقال: حتى ينتشر في الناس وفي أهل الصلاح ويشيع الخبر في أهل البلاد أني بريء مما هم عليه – يعني الأشعرية -، بريء من مذهب أبي بكر بن الباقلاني، فإن جماعة من المتفقهة الغرباء يدخلون على الباقلاني خفية ويقرؤون عليه فيفتنون بمذهبه، فإذا رجعوا إلى بلادهم أظهروا بدعتهم لا محالة، فيظن ظان أنهم مني تعلموه قبله، وأنا ما قلته، وأنا بريء من مذهب الباقلاني وعقيدته".قال: "ومعروف شدة الشيخ أبي حامد على أهل الكلام، حتى ميز أصول فقه الشافعي من أصول الأشعري، وعلقه عنه أبو بكر الزاذاقان. وهو عندي، وبه اقتدى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتابيه (اللمع) و (التبصرة)، حتى لو وافق قول الأشعري وجهاً لأصحابنا ميزه وقال: هو قول بعض أصحابنا، وبه قالت الأشعرية، ولم يعدهم من أصحاب الشافعي، استنكفوا منهم ومن مذهبهم في أصول الفقه، فضلاً عن أصول الدين" (1) اهـ. شيخ الشافعية قاضي نيسابور الإمام أبو عمر محمد بن الحسين ابن الهيثم البسطامي الشافعي الواعظ "408هـ":قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي الأنصاري: "سمعت الحاكم عدنان بن عبدة النميري يقول: سمعت أبا عمر البسطامي يقول: كان أبو الحسن الأشعري أولاً ينتحل الاعتزال، ثم رجع فتكلم عليهم، وإنما مذهبه التعطيل، إلا أنه رجع من التصريح إلى التمويه" (2) اهـ. الإمام المحدث الزاهد أبو سعد أحمد بن محمد بن الخليل الأنصاري الهروي الماليني "412هـ":قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي الأنصاري: "سمعت الشيخ أحمد بن أبي نصر الماليني يقول: دخلت جامع عمرو بن العاص رضي الله عنه بمصر في نفر من أصحابي، فلما جلسنا، جاء شيخ فقال: أنتم أهل خراسان أهل سنة، وهذا هو موضع الأشعرية، فقوموا" (3) اهـ. الشيخ الإمام الحافظ أبو نصر عبيدالله بن سعيد السجزي "444هـ":قال: "وينبغي أن يتأمل قول الكلابية والأشعرية في الصفات، ليعلم أنهم غير مثبتين إلهاً في الحقيقة، وأنهم يتخيرون من النصوص ما أرادوه، ويتركون سائرها ويخالفونه" (4) اهـ. وقال أيضاً: "قد صنف غير واحد من المتكلمين من المعتزلة والكرامية في فضائح الأشعرية والكلابية، كما صنف هؤلاء في فضائح الآخرين. ولكل مخالف للسنة وطريقة أهل الأثر ما يفتضح به عند التأمل. وأهل الأثر لا فضيحة عليهم عند محل" (5) اهـ. وقال: "ثم بلي أهل السنة بعد هؤلاء – أي: المعتزلة – بقوم يدعون أنهم من أهل الاتباع. وضررهم أكثر من ضرر المعتزلة وغيرهم، وهم: أبو محمد بن كلاب، وأبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعرية ... " إلى قوله: "وكلهم أئمة ضلال يدعون الناس إلى مخالفة السنة وترك الحديث" (6) اهـ. أبو محمد بن علي ابن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري "456هـ":ذكر ابن حزم قول الأشعري في أحد قوليه، والذي تابعه عليه الباقلاني وجمهور أصحابه – "أن علم الله هو غير الله وخلاف الله، وأنه مع ذلك غير مخلوق لم يزل"-، ثم قال: "إنها دعوى ساقطة، بلا دليل أصلاً، وما قال بهذا أحد قط من أهل الإسلام قبل هذه الفرقة المحدثة بعد الثلاث مائة عام – أي: الأشاعرة -، فهو خروج عن الإسلام وترك للإجماع المتيقن" (7) اهـ.   (1) نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في ((درء التعارض)) (2/ 95 - 98). (2) رواه أبو إسماعيل الهروي الأنصاري في ((ذم الكلام وأهله)) (4/ 408). (3) رواه أبو إسماعيل الهروي الأنصاري في ((ذم الكلام وأهله)) (4/ 418) (4) ((رسالة السجزي إلى أهل زبيد)) (ص: 173). (5) ((رسالة السجزي إلى أهل زبيد)) (ص: 195). (6) ((رسالة السجزي إلى أهل زبيد)) (ص: 222). (7) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (2/ 135). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 وقال أيضاً: "قال أبو محمد: غلاة المرجئة طائفتان: إحداهما: الطائفة القائلة بأن "الإيمان قول باللسان، وإن اعتقد الكفر بقلبه فهو مؤمن عند الله عز وجل"، ولي له عز وجل من أهل الجنة، وهذا قول محمد ابن كرام السجستاني وأصحابه وهو بخراسان وبيت المقدس. والثانية: بـ "أن الطائفة القائلة أن الإيمان عقد بالقلب، وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقية، وعبد الأوثان، أو لزم اليهودية أو النصرانية في دار الإسلام، وعبد الصليب، وأعلن التثليث في دار الإسلام، ومات على ذلك، فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عز وجل"، ولي لله عز وجل من أهل الجنة، وهذا قول أبي محرز جهم بن صفوان السمرقندي، مول بن راسب كاتب الحارث بن سريج التميمي، أيام قيامه على نصر بن سيار بخراسان، وقول أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي اليسر الأشعري البصري وأصحابهما. فأما الجهمية فبخراسان، وأما الأشعرية فكانوا ببغداد والبصرة، ثم قامت له سوق بصقلية والقيروان والأندلس، ثم رق أمرهم والحمد لله رب العالمين" (1) اهـ. وقد تعقب في كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل) كثيراً من أقوال الأشاعرة في أبواب الاعتقاد، وبين مخالفتهم للسنة، وخروجهم عنها. الإمام العلامة حافظ المغرب أبو عمر يوسف بن عبدالله بن عبدالبر الأندلسي القرطبي المالكي "463هـ":قال: "أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام بدع وزيغ ولا يعدون عند الجميع في طبقات الفقهاء، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم" اهـ (2). ولا ريب أن الكلابية والأشعرية من أهل الكلام. ومما يؤكد كون ابن عبدالبر يرى دخول الأشاعرة والكلابية في المقصودين بأهل الكلام هنا أنه ساق بعده كلام ابن خويز منداد المالكي في عد الأشاعرة من أهل البدع الذين لا تقبل شهادتهم عند الإمام مالك، مقر له. شيخ الإسلام الحافظ أبو إسماعيل عبدالله بن محمد الأنصاري الهروي "481هـ":قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " .... كأبي إسماعيل الأنصاري الهروي صاحب كتاب " (ذم الكلام) فإنه من المبالغين في ذم الجهمية لنفيهم الصفات، وله كتاب (تكفير الجهمية)، ويبالغ في ذم الأشعرية مع أنهم من أقرب هذه الطوائف إلى السنة والحديث، وربما كان يعلنهم، وقد قال له بعض الناس بحضرة نظام الملك: أتلعن الأشعرية؟ فقال: ألعن من يقول لي في السماوات إله، ولا في المصحف قرآن، ولا في القبر نبي، وقام من عنده مغضباً" (3) اهـ. قلت: وقد نقل أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في كتابه " (ذم الكلام وأهله) آثاراً كثيرة في ذم الكلابية والأشعرية، وفي بعضها غلو وشدة. القاضي أبو الحسين محمد بن الحسين الفراء ابن القاضي أبي يعلى "526هـ":قال الذهبي: "وقال السلفي: كان أبو الحسين متعصباً في مذهبه، وكان كثيراً ما يتكلم في الأشاعرة ويسمعهم، لا تأخذه في الله لومه لائم" (4) اهـ.   (1) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (2/ 135). (2) ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 942). (3) ((مجموع الفتاوى)) (14/ 354). (4) ((سير أعلام النبلاء)) (19/ 206). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 أبو محمد عبدالقادر بن أبي صالح الجيلاني "561هـ":قال في كتابه (الغنية) في إثبات الصوت والحرف لله تعالى: "وهذه الآيات والأخبار تدل على أن كلام الله عز وجل صوت لا كصوت الآدميين، كما أن علمه وقدرته وبقية صفاته لا تشبه صفات الآدميين، كذلك صوته. وقد نص الإمام أحمد رحمه الله تعالى على إثبات الصوت في رواية جماعة من الأصحاب رضوان الله عليهم أجمعين خلاف ما قالت الأشعرية من أن كلام الله تعالى معنى قائم بنفسه، والله حسيب كل مبتدع ضال مضل ... " (1) اهـ. وقال أيضاً: "فصل: فأصل الثلاث وسبعين فرقة عشرة: أهل السنة، والخوارج، والشيعة، والمعتزلة، والمرجئة، والمشبهة، والجهمية، والضرارية، والنجارية، والكلابية ... والجهمية، والنجارية، والضرارية، والكلابية، كل واحدة فرقة واحدة" (2). أبو محمد عبدالله بن أحمد بن قدامة المقدسي "620هـ":قال في "لمعة الاعتقاد": "ومن السنة: هجران أهل البدع ومباينتهم، وترك الجدال والخصومات في الدين، وترك النظر في كتب المبتدعة، والإصغاء إلى كلامهم، وكل محدثة في الدين بدعة، وكل متسم بغير الإسلام والسنة مبتدع: كالرافضة، والجهمية، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، والمعتزلة، والكرامية، والكلابية، ونظائرهم، فهذه فرق الضلال، وطوائف البدع أعاذنا الله منها" (3) اهـ. وقال في "المناظرة في القرآن": "ولم تزل هذه الأخبار وهذه اللفظة – أي: إثبات الحرف والصوت من كلام الله تعالى – متداولة منقولة بين الناس، لا ينكرها منكر، ولا يختلف فيها أحد، إلى أن جاء الأشعري فأنكرها، وخالف الخلق كلهم، مسلمهم وكافرهم، ولا تأثير لقوله عند أهل الحق، ولا ترك الحقائق وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة لقول الأشعري، إلا من سلبه الله التوفيق، وأعمى بصيرته، وأضله عن سواء السبيل" (4) اهـ. الإمام أبو عبدالله محمد بن المرتضى اليماني المشهور بابن الوزير (840هـ):قال: "والسنّي يستقبح تأويل المعتزلة والأشعرية للرحمن الرحيم الحكيم غاية الاستقباح ... ولم تزل هذه النصوص مقررة مجللة معتقدة مع تنزيه الله تعالى من نقائصها، مثل تنزيهه من نقائص علم المخلوقين، وإرادتهم في العليم والمريد وغيرهما، حتى فشت البدعة واجتمعت كلمة المعتزلة والأشعرية على تقبيح نسبة الرحمة، والحلم، والمحبة، والخلة لله تعالى" (5) اهـ. علامة الكويت محمد بن سليمان آل جراح "1417هـ":سئل عن رأيه في كتب الكلام مثل جوهرة التوحيد – وهو من منظومات معتقد الأشاعرة – فأجاب: "علم الكلام ليس من العقيدة، خارج عن الكتاب والسنة، وهل دخلت الضلالات والفتن إلا من علم الكلام، وهل محنة الإمام أحمد إلا من علم الكلام؟ هذا الدين لا يؤخذ إلا من الكتاب والسنة" (6) اهـ.   (1) ((الغنية لطالب طريق الحق عز وجل)) (1/ 131)، ونقله عنه ابن الألوسي في ((جلاء العينين)) (ص: 356). (2) ((الغنية لطالب طريق الحق عز وجل)) (1/ 175). (3) ((لمعة الاعتقاد)) (ص: 200). (4) ((المناظرة في القرآن)) (ص: 69 - 70). (5) ((إيثار الحق على الخلق)) (ص: 128 - 129). (6) كتاب ((عالم الكويت ومفتيها وفرضيّها الشيخ محمد بن سليمان آل جراح سيرته ومراسلاته وآثاره العلمية)) للدكتور وليد المنيس (ص: 271). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 قلت: وكلام العلماء في ذم الأشاعرة والكلابية، والرد على ما ابتدعوه من الأصول المخالفة لاعتقاد السلف كثير جداً، أما الحنابلة فيصعب حصره واستقصاؤه لكثرته، وقد علم ما كان بين الحنابلة والأشاعرة من النفرة والتنازع، ومن تأمل تراجم الحنابلة في طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى، والذيل عليها للحافظ ابن رجب، فضلاً عن غيرها من كتب التواريخ ككتاب (تاريخ الإسلام) للذهبي، والبداية والنهاية لابن كثير، وغيرها كثير، يجد ذما كثيراً للأشاعرة لما ابتدعوه من الأصول، كما كان من شرف الإسلام ابن الحنبلي عبدالوهاب بن عبدالواحد، والوزير يحيى ابن هبيرة، وتقي الدين عبدالستار بن عبدالحميد المقدسي، وأبي الحسن بن الزاغوني، والقاضي أبي الحسن بن الفياء الحنبلي، وغيرهم. وقد قال ابن المبرد في كتابه العظيم ("جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر") بعد أن ذكر الذين ترجم لهم ابن عساكر في كتابه (تبيين كذب المفتري) وانتقد ذكره لبعضهم، قال بعد ذلك: "فصل: ونحن نذكر جماعة ممن ورد عنهم مجانبة الأشاعرة، ومجانبة الأشعري وأصحابه من زمنه وإلى اليوم على طريق الاختصار ... ".ثم ذكر ما يزيد على أربعمائة عالم، ثم قال: "فهذه لعمرك الدساكر لا العسكر الملفق الذي قد لفقه ابن عساكر بالصدق والكذب، الذين لا يبلغون خمسين نفساً ممن قد كذب عليهم، ولو نطوّل تراجم هؤلاء كما أطال في أولئك لكان هذا الكتاب أكثر من عشر مجلدات، ووالله ثم والله ثم والله! لما تركنا أكثر مما ذكرنا، ولو ذهبنا نستقصي ونتتبع كل من جانبهم من يومهم وإلى الآن لزادوا على عشرة آلاف نفس" (1) اهـ. وقد كان أهل المغرب عامة على منافرة الأشاعرة والمتكلمين، حتى أتى ابن تومرت فنشر الأشعرية، وفرضها على الناس، وقد حصل بخروجه شر كثير. قال المراكشي في "المعجب" في كلامه على ابن تومرت وخروجه على المرابطين: "فخرج قاصداً مدينة فاس، فلما وصل إليها أظهر ما كان يظهره، وتحدث فيما كان يتحدث فيه من العلم، وكان جل ما يدعو إليه علم الاعتقاد على طريق الأشعرية، وكان أهل المغرب – على ما ذكرنا – ينافرون هذه العلوم ويعادون من ظهرت عليه، شديداً أمرهم في ذلك" (2) اهـ. المصدر: الأشاعرة في ميزان أهل السنة لفيصل الجاسم - ص 659   (1) ((جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر)) (ص196 - 281). (2) ((المعجب في تلخيص أخبار المغرب، للمراكشي)) (ص: 270). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 المبحث الأول: قولهم في الإيمان أما أبو الحسن الأشعري - إمام الطائفة - فقد اشتهر عنه القولان: موافقة السلف، وموافقة جهم. فقد نصر قول السلف في كتابيه: (مقالات الإسلاميين)، و (الإبانة). قال في حكاية ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة: (ويقرون بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ولا يقولون: مخلوق، ولا غير مخلوق ... ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار، ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين حتى يكون الله سبحانه ينزلهم حيث شاء. ويقولون: أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم. ويؤمنون بأن الله سبحانه يخرج قوما من الموحدين من النار، على ما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم).ثم قال: (هذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه. وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وبه نستعين، وعليه نتوكل، واليه المصير).وقال في (الإبانة): فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون. قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب الله ربنا وبسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما روي عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفهم، وجملة قولنا أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما جاءوا به من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرد من ذلك شيئا) ثم سرد جملة من الاعتقاد، ثم قال: (وأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ونسلّم الروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي رواها الثقات عدل عن عدل حتى تنتهي الرواية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم).وقال: ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيمانا. فهذا قوله الموافق لأهل السنة، وأما قوله الآخر، فقد سبقت حكايته في قول شيخ الإسلام: (وقد ذكر الأشعري في كتابه (الموجز) قول الصالحي هذا وغيره ثم قال: والذي أختاره في الأسماء قول الصالحي).وقول الصالحي -على ما حكاه الأشعري في المقالات- (أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط، والكفر هو الجهل به فقط، فلا إيمان بالله إلا المعرفة به، ولا كفر بالله إلا الجهل به، وأن قول القائل: إن الله ثالث ثلاثة ليس بكفر، ولكنه لا يظهر إلا من كافر، وذلك أن الله سبحانه أكفر من قال ذلك، وأجمع المسلمون أنه لا يقوله إلا كافر. وزعموا أن معرفة الله هي المحبة له وهي الخضوع لله ... والإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص، وهو خصلة واحدة، وكذلك الكفر. والقائل بهذا القول أبو الحسين الصالحي). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 وقد نص شيخ الإسلام في مواضع من كتبه على أن الأشعري نصر قول جهم في الإيمان، ومن ذلك قوله: وبهذا وغيره يتبين فساد قول جهم والصالحي ومن اتبعهما في الإيمان كالأشعري في أشهر قوليه، وأكثر أصحابه، وطائفة من متأخري أصحاب أبى حنيفة، كالماتريدي ونحوه، حيث جعلوه مجرد تصديق في القلب، يتساوى فيه العباد، وأنه إما أن يُعدم وإما أن يوجد، لا يتبعض، وأنه يمكن وجود الإيمان تاما في القلب مع وجود التكلم بالكفر والسب لله ورسوله طوعا من غير إكراه، وأن ما عُلم من الأقوال الظاهرة أن صاحبه كافر فلأن ذلك مستلزم عدم ذلك التصديق الذي في القلب وأن الأعمال الصالحة الظاهرة ليست لازمة للإيمان الباطن الذي في القلب، بل يوجد إيمان القلب تاما بدونها، فإن هذا القول فيه خطأ من وجوه ... .وقوله: (والمرجئة ثلاثة أصناف: الذين يقولون: الإيمان مجرد ما في القلب. ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب، وهم أكثر فرق المرجئة، كما قد ذكر أبو الحسن الأشعري أقوالهم في كتابه، وذكر فرقا كثيرة يطول ذكرهم، لكن ذكرنا جمل أقوالهم. ومنهم من لا يدخلها في الإيمان كجهم ومن اتبعه كالصالحي، وهذا الذي نصره هو وأكثر أصحابه. والقول الثاني: من يقول: هو مجرد قول اللسان، وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية. والثالث: تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم). وقال شيخ الإسلام: (وأبو الحسن الأشعري نصر قول جهم في الإيمان، مع أنه نصر المشهور عن أهل السنة من أنه يُستثنى في الإيمان، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأنه نصر مذهب أهل السنة في أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة، ولا يخلدون في النار، وتقبل فيهم الشفاعة ونحو ذلك. وهو دائما ينصر في المسائل التي فيها النزاع بين أهل الحديث وغيرهم قولَ أهل الحديث، لكنه لم يكن خبيرا بمآخذهم، فينصره على ما يراه هو من الأصول التي تلقاها عن غيرهم، فيقع في ذلك من التناقض ما ينكره هؤلاء وهؤلاء، كما فعل في مسألة الإيمان، ونصر فيها قول جهم مع نصرِه للاستثناء، ولهذا خالفه كثير من أصحابه في الاستثناء، كما سنذكر مأخذه في ذلك، واتبعه أكثر أصحابه على نصر قول جهم في ذلك. ومن لم يقف إلا على كتب الكلام ولم يعرف ما قاله السلف وأئمة السنة في هذا الباب، فيظن أن ما ذكروه هو قول أهل السنة، وهو قول لم يقله أحد من أئمة السنة، بل قد كفر أحمد بن حنبل ووكيع وغيرهما من قال بقول جهم في الإيمان الذي نصره أبو الحسن، وهو عندهم شر من قول المرجئة). وقال أيضا: (وقال أبو عبدالله الصالحي: إن الإيمان مجرد تصديق القلب ومعرفته، لكن له لوازم، فإذا ذهبت دل ذلك على عدم تصديق القلب، وإن كل قول أو عمل ظاهر دل الشرع على أنه كفر، كان ذلك لأنه دليل على عدم تصديق القلب ومعرفته، وليس الكفر إلا تلك الخصلة الواحدة، وليس الإيمان إلا مجرد التصديق الذي في القلب والمعرفة. وهذا أشهر قولي أبي الحسن الأشعري، وعليه أصحابه كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي وأمثالهما، ولهذا عدَّهم أهل المقالات من المرجئة. والقول الآخر عنه كقول السلف وأهل الحديث: إن الإيمان قول وعمل، وهو اختيار طائفة من أصحابه، ومع هذا فهو وجمهور أصحابه على قول أهل الحديث في الاستثناء في الإيمان. والإيمان المطلق عنده ما يحصل به الموافاة، والاستثناء عنده يعود إلى ذلك، لا إلى الكمال والنقصان والحال).قلت: وممن عد الأشاعرة من المرجئة: ابن حزم. ونقل الشهرستاني عن الأشعري قوله: (الإيمان هو التصديق بالجنان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 وأما القول باللسان والعمل بالأركان ففروعه، فمن صدق بالقلب، أي أقر بوحدانية الله تعالى، واعترف بالرسل تصديقا لهم فيما جاءوا به من عند الله تعالى بالقلب، صح إيمانه، حتى لو مات عليه في الحال كان مؤمنا ناجيا، ولا يخرج من الإيمان إلا بإنكار شيء من ذلك). المصدر: الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير – 1/ 225 ذهب جمهور الأشاعرة في هذه المسألة إلى القول بأن الإيمان الشرعي هو شيء واحد فقط لا تعدد فيه وهو التصديق القلبي، بالله تعالى، وبنبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم، وتصديقه فيما أخبر به عن الله عز وجل وصفاته، وأنبيائه، وغير ذلك، فالإيمان عندهم تصديق قلبي فقط، وهذا هو المذهب المشهور عندهم. وبياناً له أورد ما ذكره صاحب (المواقف) في هذا المقام حيث قال: اعلم أن الإيمان في اللغة هو التصديق مطلقاً، قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا [يوسف: 17] أي بمصدق فيما حدثناك به، وقال عليه الصلاة والسلام: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله)) (1) أي تصدق، ويقال: فلان يؤمن بكذا أي يصدقه، ويعترف به. وأما في الشرع، وهو متعلق ما ذكرنا من الأحكام – يعني الثواب على التفاصيل المذكورة – فهو عندنا – يعني أتباع أبي الحسن الأشعري – وعليه أكثير الأئمة كالقاضي والأستاذ ووافقهم على ذلك الصالحي وابن الراوندي من المعتزلة: التصديق للرسول فيما علم بمجيئه به ضرورة، تفصيلاً فيما علم تفصيلا، وإجمالا فيما علم إجمالا، فهو في الشرع تصديق خاص (2).   (1) رواه مسلم (8) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (2) انظر: ((المواقف بشرح الجرجاني)) (8/ 322)، ط مطبعة السعادة، مصر، سنة 1325هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 فالإيمان الشرعي هو بعينه الإيمان اللغوي، إلا أن الإيمان الشرعي خاص فيما أمرنا بالتصديق به من الأمور الشرعية، واللغوي عام. وهناك قول آخر ذهب إلى الأخذ به إمام الحرمين الجويني وهو أن الإيمان مركب من أمرين: تصديق قلبي وإقرار لساني حيث قال: والمؤمن على التحقيق من انطوى عقداً على المعرفة بصدق من أخبر عن صانع العالم وصفاته، وأنبيائه. فإن اعترف بلسانه بما عرف بجنانه فهو مؤمن ظاهراً وباطناً، وإن لم يعترف بلسانه معانداً لم ينفعه علم قلبه، وكان في حكم الله من الكافرين، كفر جحود وعناد. وكذلك كان فرعون وكل معاند جحود، وكذلك عرف أحبار اليهود بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصادفوا نعته في التوراة، فجحدوا بغياً وحسداً، فأصبحوا من الكافرين. ومن أظهر كلمة الإيمان، وأضمر الكفر فهو المنافق الذي يتبوأ الدرك الأسفل من النار (1).فهذا أحد أقطاب الأشاعرة ينفرد عنهم بهذا الرأي، الذي يوافق فيه أبا حنيفة ومن ذهب مذهبه،، في أن الإيمان تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، لا ينفك أحدهما عن الآخر، إلا في حال تعذر النطق باللسان فهو عندهم ركن يحتمل السقوط لعذر كالخرس ونحوه. وهذا الرأي أفردته بالبحث عند الكلام عن أبي حنيفة. ولكن الذي يهمنا هنا هو بيان المذهب المشهور عن الأشاعرة، والذي تبنته كتبهم المعتبرة وقررته، واستدلت له، وهو ما تقدم من أنه تصديق خاص. أما الإقرار اللساني والعمل بالجوارح فهم وإن لم يجعلوهما من الإيمان، إلا أنهم لم يهملوهما بل جعلوا لهما اعتبارهما في الوجود، فقد جعلوهما شرطا به يتحقق الإيمان، ويأثم تاركهما إثما كبيراً، لأنهما دليل على صدق الإيمان الباطن، ومدى تحققه. وفي بيان ذلك يقول عضد الدين الإيجيي بعد ذكر مذهبهم في الإيمان: ... والتلفظ بكلمتي الشهادتين مع القدرة عليه شرط، فمن أخل به فهو كافر مخلد في النار، ولا تنفعه المعرفة القلبية من غير إذعان وقبول، فإن من الكفار من كان يعرف الحق يقيناً، وكان إنكاره عناداً واستكباراً، قال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14] (2).فالعمل له عندهم مكانة كبيرة، فتاركه أو تارك شيء منه يكون مذنباً معرضاً للعقاب وهذا ما يجعلني أقول: إن ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -، وما سبقه إليه ابن حزم الظاهري من عد طائفة الأشاعرة من جملة المرجئة المناصرة لمذهب جهم في الإيمان (3)، أمر لا يتناسب مع الواقع.   (1) الجويني، إمام الحرمين أبو المعالي عبدالملك، ((العقيدة النظامية)) بتحقيق محمد زاهد الكوثري، (ص: 62)، ط مطبعة الأنوار، سنة 1367هـ. (2) انظر: ((العقائد العضدية بشرح جلال الدين الدواني))، (2/ 285، 286)، ط المطبعة العثمانية، سنة 1316هـ. (3) انظر: ((كتاب الإيمان)) لابن تيمية، (ص: 10)، ط المكتب الإسلامي، دمشق، وكتاب ((الفصل)) لابن حزم، (2/ 188). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 والإنصاف يدفعنا إلى القول بأن القوم لم يقصروا كثيراً في اعتبار العمل إلى حد يبرز إلزاقه هذا اللقب – الذي عرف بالذم والقبح عند أغلب الطوائف – بهم، وعدهم من جملة الجهمية المرجئة، إذ أن الخلاف في هذه المسألة بينهم وبين جماعة السلف خلاف لفظي، لأنه ينحصر في الشرطية التي قال بها الأشاعرة والشطرية التي قال بها السلف، والكل متفق على ضرورة الإتيان بالعمل والإقرار دون تفريط أو تقصير، والمقصر فيهما مؤاخذ على تقصيره ومعرض للعقاب، إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له، وأن الإيمان المنجي من التخليد في النار هو التصديق القلبي الجازم لقوله صلى الله عليه وسلم: ((يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)) (1) , شريطة أن لا يكون قد ترك العمل استحلالاً وجحوداً وعناداً. فإذا القوم يخرجون الإقرار والعمل عن الركنية في الإيمان، مع التشدد في الإتيان بهما كشرط لتحقق الإيمان وكماله وكدليل ظاهري محسوس على وجود حقيقته في أعماق القلب. وقد أورد أدلة تؤيد ما ذهبوا إليه، فمما أوردوه كدليل على إخراج الإقرار عن الركنية قوله تعالى: أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ [المجادلة: 22]، وقوله تعالى: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14]، وقوله سبحانه: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل: 106]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم ثبت قلبى على دينك)) (2). حيث نسب فيها وفي نظائرها الغير محصورة الإيمان إلى القلب، فدل ذلك على أنه فعل القلب وهو التصديق (2).ثم ذكر الإيجي بعد ذلك دليلهم على خروج العمل عن الإيمان حيث قال: "والعمل خارج عنه، لمجيئه مقروناً بالإيمان معطوفاً عليه في عدة مواضع من الكتاب، قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [الرعد: 29] فإن الجزء لا يعطف على كله، فلا يقال: جاءني القوم وأفرادهم ولا عندي العشرة وآحادها)) (3).غير أنهم قالوا إن الإيمان قد يطلق على العمل إطلاقا مجازيا (4) وعلى ذلك جرى توجيههم للآيات والأحاديث التي ورد فيها إطلاق الإيمان على العمل ثم إنهم لما ذهبوا إلى القول بأن الإيمان هو التصديق، وكان ثمة التباس في أن التصديق هو المعرفة، فيوافقون بذلك الجهمية، أو أنه يختلف عنها فيكونون قد سلكوا طريقاً غير طريقهم، وقالوا بغير مذهبهم. ودفعاً لهذا التوهم في موافقة المعرفة للتصديق الذي قد يحمل بعض العلماء على إدخالهم في زمرة الجهمية القائلة بأن الإيمان هو المعرفة، كما فعله ابن تيمية وابن حزم – رحمهما الله -، فرقوا بين الأمرين بأن الأمرين المتطابقين ضدهما واحد، وضد المعرفة غير ضد التصديق، لأن ضد المعرفة النكارة وضد التصديق التكذيب، واختلاف الضدين دليل على اختلاف كل من المعرفة والتصديق، فبين المعنيين فرق شاسع، وأيضا فإن التصديق عبارة عن أمر كسبي للمصدق اختيار فيه، ولهذا يؤمر به ويثاب عليه، أما المعرفة فقد تحصل بلا كسب، وإذا فالمعرفة أعم من التصديق، فكل من صدق فقد عرف، وليس كل من عرف مصدقا. وفي هذا يقول التفتازاني في شرح المقاصد مفرقاً بين الأمرين:" ...   (1) رواه الترمذي (2593) , من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, وقال حديث حسن صحيح, وصححه الألباني, وقال في ((السلسلة)) (2450): صحيح على شرط الشيخين. (2) انظر: ((العقائد العضدية)) للإيجي، (2/ 286). (3) الإيجي، ((العقائد العضدية)) (2/ 286). (4) انظر: ((غاية المرام في علم الكلام)) للآمدي، (ص: 311)، تحقيق حسن محمود عبداللطيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 فاقتصر بعضهم على أن ضد التصديق هو الإنكار والتكذيب، وضد المعرفة النكارة والجهالة، وإليه أشار الإمام الغزالي حيث فسر التصديق بالتسليم فإنه لا يكون من الإنكار والاستكبار، بخلاف العلم والمعرفة، وفصل بعضهم زيادة تفصيل فقال: التصديق عبارة عن ربط القلب على ما علم من إخبار المخبر، وهو أمر كسبي يثبت باختيار المصدق، ولهذا يؤمر به ويثاب عليه، بل يجعل رأس العبادات بخلاف المعرفة فإنها ربما تحصل بلا كسب، كمن وقع بصره على جسم فحصل له معرفة أنه جدار أو حجر" (1).فإذا الأشاعرة يدعون أن الإيمان الشرعي هو بعينه الإيمان اللغوي، ومن ضمن أدلتهم على أن الإيمان الشرعي هو الإيمان اللغوي وهو التصديق، أن الإيمان مبقى على أصله اللغوي لم ينقل إلى معنى شرعي آخر. وبيانه فيما قاله الباقلاني، حيث قال: "فإن قال قائل: خبرونا ما الإيمان عندكم؟ قلنا: الإيمان هو التصديق بالله تعالى، وهو العلم، والتصديق يوجد بالقلب، فإن قال: وما الدليل على ما قلتم؟ قيل له: إجماع أهل اللغة قاطبة على أن الإيمان في اللغة قبل نزول القرآن، وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم هو التصديق، لا يعرفون في لغتهم إيماناً غير ذلك ويدل على ذلك قوله تعالى: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف: 17] أي ما أنت بمصدق لنا، ومنه قولهم: فلان يؤمن بالشفاعة، وفلان لا يؤمن بعذاب القبر، أي لا يصدق بذلك. فوجب أن يكون الإيمان في الشريعة هو الإيمان المعروف في اللغة، لأن الله عز وجل ما غير اللسان العربي ولا قلبه، ولو فعل لتواترت الأخبار بفعله، وتوفرت دواعي الأمة على نقله ولغلب إظهاره وإشهاره على طيه وكتمانه، وفي علمنا بأنه لم يفعل ذلك، بل أقر أسماء الأشياء، والتخاطب بأسره على ما كان فيها، دليل على أن الإيمان في الشرع هو الإيمان اللغوي. ومما يدل على ذلك ويبينه قول الله عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: 4]، وقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: 3] فخبر أنه أنزل القرآن بلغة القوم، وسمى الأشياء بمسمياتهم، فلا وجه للعدول بهذه الآيات عن ظواهرها بغير حجة، وسيما مع قولهم بالعموم وحصول التوقيت، على أن الخطاب نزل بلغتهم، فدل ما قلناه على أن الإيمان هو ما وصفناه، دون ما سواه من سائر الطاعات من النوافل والمفروضات" (2). ومما تقدم يتلخص لنا ما يأتي: 1 - أن الإيمان الشرعي: هو الإيمان المعروف في اللغة وهو التصديق المخصوص. 2 - أن التصديق محله القلب فقط، بدليل الآيات التي تنسبه إليه دون غيره، وقد تقدم ذكرها – وذلك دليل على أن الإقرار والعمل لا دخل لهما في التصديق. 3 - أن العمل خارج عن الإيمان ومغاير له، بدليل عطف العمل على الإيمان والعطف دليل على المغايرة. 4 - أن القرآن الكريم ولغة العرب، والإجماع، تدل على بقاء الإيمان على أصله اللغوي. 5 - أن الإقرار والعمل شرط في الإيمان، يلزم الإتيان بهما، ومن فرط فيهما فهو معرض للعقاب. فهذه النقاط الخمس هي ملخص مذهب جمهور الأشاعرة في حقيقة الإيمان. المصدر: الإيمان بين السلف والمتكلمين لأحمد الغامدي - ص 151 الإيمان عندهم مجرد المعرفة قال أبو محمد: الأشعرية قالوا: إن شتم من أظهر الإسلام لله تعالى ولرسوله بأفحش ما يكون من الشتم وإعلان التكذيب بها باللسان بلا تقية ولا حكاية والإقرار بأنه يدين بذلك ليس شيء من ذلك كفرا.   (1) التفتازاني، سعد الدين، ((شرح المقاصد))، (2/ 251)، ط مطبعة الحاج محرم أفندي، بدون تاريخ. (2) أبو بكر، محمد بن الطيب، ((التمهيد))، (ص: 346، 347)، المكتبة الشرقية، بيروت، سنة 1957م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 ثم خشوا مبادرة جميع أهل الإسلام لهم فقالوا: لكنه دليل على أن قلبه كفرا. فقلنا لهم: وتقطعون بصحة ما دل عليه هذا الدليل؟ فقالوا: لا. وقالت الأشعرية: إن إبليس قد كفر ثم أعلن بعصيان الله تعالى في السجود لآدم عليه السلام، فإن إبليس من حينئذ لم يعرف أن الله تعالى حق ولا أنه خلقه من نار، ولا أنه خلق آدم من تراب وطين ولا عرف أن الله أمره بالسجود لآدم بعدها قط، ولا عرف بعد هذا قط أن الله كرم آدم. ومن قولهم بأجمعهم إن إبليس لم يسأل الله قط أن ينظره إلى يوم البعث! قلنا لهم: ويلكم؛ إن هذا تكذيب لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ورد للقرآن. قالوا لنا: إن إبليس إنما قال كل ذلك هازئاً مستهزئاً بلا معرفة ولا اعتقاد، كان هذا أشنع كفر وأبرده بعد كفر الغالية من الرافضة. وقالوا: إن إبليس لم يكفر بمعصيته الله في ترك السجود لآدم ولا بقوله عن آدم أنا خير منه، وإنما كفر بجحد لله تعالى كان في قلبه. قال أبو محمد: هذا خلاف للقرآن وتكهن لا يعرف صحته إلا من حدثه به إبليس عن نفسه، على أن الشيخ غير ثقة فيما يحدث به. وقالت الأشعرية أيضا: إن فرعون لم يعرف قط أن موسى أنما جاء بتلك الآيات من عند الله حقا، وأن اليهود والنصارى الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرفوا قط أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا ولا عرفوا أنه مكتوب في التوراة والإنجيل، وأن من عرف ذلك منهم وكتمه وتمادى على إعلان الكفر ومحاربة النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر ومن بني قريظة وغيرهم فإنهم كانوا مؤمنين عند الله عز وجل أولياء لله من أهل الجنة. فقلنا لهم: ويلكم هذا تكذيب لله عز وجل إذ يقول يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ [الأعراف: 157] ويَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ [البقرة: 146] فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ [الأنعام: 33] فقالوا لنا: معنى أنهم وجدوا خطأ مكتوبا عندهم لم يفهموا معناه ولا دروا ما هو، ونعم عرفوا صورته فقط ودروا أنه محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب كما يعرف الإنسان جاره فقط. فكان هذا كفراً بارداً أو تحريفاً لكلام الله تعالى عن مواضعه ومكابرة سمجة وحماقة ودفعا للضرورة. وقد تقصينا الرد على أهل هذه المقالة الملعونة في كتاب لنا اسمه: كتاب (اليقين في النقد على الملحدين المحتجين عن إبليس اللعين وسائر الكافرين). وكان لشيخهم الأشعري في إعجاز القرآن قولان: أحدهما كما يقول المسلمون أنه معجز النظم، والآخر: إنما هو المعجز الذي لم يفارق الله عز وجل قط، والذي لم يزل غير مخلوق ولا نزل إلينا ولا سمعناه قط ولا يسمعه جبريل ولا محمد عليهما السلام قط، وأما الذي يقرأ في المصاحف ونسمعه فليس معجزا بل مقدور على مثله. وهذا كفر صريح وخلاف لله تعالى ولجميع أهل الإسلام. وقال كبيرهم وهو محمد بن الطيب الباقلاني: إن لله تعالى خمسة عشر صفة كلها قديمة لم تزل مع الله تعالى، وكلها غير الله وخلاف الله تعالى, كل واحدة منهن غير الأخرى منهن، وخلاف لسائرها وأن الله تعالى غيرهن وخلافهن "الفصل 4/ 206 - 207ط". هذا والله أعظم من قول النصارى وأدخل في الكفر والشرك، لأن النصارى لم يجعلوا مع الله تعالى إلا اثنين هو ثالثهما. وهؤلاء جعلوا معه تعالى خمسة عشر هو السادس عشر لهم. المصدر: موقف ابن حزم من المذهب الأشعري لعبد الرحمن دمشقية - ص 53 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 المبحث الثاني: أشاعرة وافقوا السلف ثمة طائفة من الأشاعرة وافقت السلف في الإيمان، كأبي علي الثقفي، وأبي العباس القلانسي. قال شيخ الإسلام: (فأما أبو العباس القلانسي وأبو على الثقفي وأبو عبد الله بن مجاهد شيخ القاضي أبي بكر وصاحب أبي الحسن، فإنهم نصروا مذهب السلف. وابن كلاب نفسه، والحسين بن الفضل البجلي ونحوهما، كانوا يقولون: هو التصديق والقول جميعاً، موافقة لمن قاله من فقهاء الكوفيين، كحماد بن أبي سليمان ومن اتبعه مثل أبي حنيفة وغيره).وقال: (قال أبو القاسم الأنصاري شيخ الشهرستاني في شرح (الإرشاد) لأبي المعالي، بعد أن ذكر قول أصحابه، قال: وذهب أهل الأثر إلى أن الإيمان جميع الطاعات، فرضها ونفلها، وعبروا عنه بأنه إتيان ما أمر الله به فرضا ونفلا، والانتهاء عما نهى عنه تحريما وأدبا، قال: وبهذا كان يقول أبو علي الثقفي من متقدمي أصحابنا، وأبو العباس القلانسي، وقد مال إلى هذا المذهب أبو عبد الله بن مجاهد. قال: وهذا قول مالك بن أنس إمام دار الهجرة، ومعظم أئمة السلف رضوان الله عليهم أجمعين).وقال ابن السبكي: (وإلى مذهب السلف ذهب الإمام الشافعي ومالك وأحمد والبخاري وطوائف من أئمة المتقدمين والمتأخرين. ومن الأشاعرة: الشيخ أبو العباس القلانسي، ومن محققيهم الأستاذ أبو منصور البغدادي، والأستاذ أبو القاسم القشيري، وهؤلاء يصرحون بزيادة الإيمان ونقصانه ... ). القول المعتمد عند الأشاعرة: وأعني بذلك ما استقر عليه المذهب الأشعري، ودوَّنه المتأخرون في كتبهم، مما أصبح يدرَّس في كثير من الجامعات والمعاهد، بغض النظر عن رأي الأشعري، أو المتقدمين من أصحابه. وحاصل ما ذهبوا إليه: أن الإيمان هو التصديق بالقلب، وأن قول اللسان شرط لإجراء الأحكام في الدنيا، وأن عمل الجوارح شرط كمال في الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص. وهذه بعض النقولات التي توضح مذهبهم: قال الجرجاني في شرح (المواقف): (المقصد الأول في حقيقة الإيمان: اعلم أن الإيمان في اللغة) هو (التصديق) مطلقا (قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا [يوسف:17] أي بمصدق فيما حدثناك به، وقال عليه الصلاة والسلام: «الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ» أي تصدق)، ويقال: فلان يؤمن بكذا، أي يصدقه ويعترف به. (وأما في الشرع وهو متعلق ما ذكرنا من الأحكام) يعني الثواب على التفاصيل المذكورة (فهو عندنا) يعني أتباع الشيخ أبي الحسن (وعليه أكثر الأئمة كالقاضي والأستاذ) ووافقهم على ذلك الصالحي وابن الراوندي من المعتزلة (التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة، تفصيلا فيما علم تفصيلا وإجمالا فيما علم إجمالا) فهو في الشرع تصديق خاص (وقيل:) الإيمان (هو المعرفة تقوم بالله) وهو مذهب جهم بن صفوان) انتهى. وقال الشيخ إبراهيم اللقاني في جوهرة التوحيد: وفُسِّر الإيمان بالتصديقِ ... والنطقُ فيه الخُلْفُ بالتحقيقِ فقيل شرط كالعملْ وقيل بلْ ... شطرٌ والإسلام اشرحنَّ بالعملْ مثال هذا الحج والصلاةُ ... كذا الصيام فادْرِ والزكاةُ ورُجِّحت زيادةُ الإيمانِ ... بما تزيدُ طاعةُ الإنسانِ ونقصُه بنقصهِ وقيلَ لا ... وقِيل لا خُلْفَ كذا قَد نُقِلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 وقال ابنه الشيخ عبد السلام في شرحه المسمى بإتحاف المريد: (وفُسِّر الإيمان) أي حدَّه جمهور الأشاعرة والماتريدية وغيرهم (بالتصديق) المعهود شرعا، وهو تصديق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما علم مجيئه به من الدين بالضرورة، أي فيما اشتهر بين أهل الإسلام وصار العلم به يشابه العلم الحاصل بالضرورة، بحيث يعلمه العامة من غير افتقار إلى نظر واستدلال، وإن كان في أصله نظريا، كوحدة الصانع، ووجوب الصلاة ونحوها، ويكفي الإجمال فيما يلاحظ إجمالا كالإيمان بغالب الأنبياء والملائكة، ولابد من التفصيل فيما يلاحظ كذلك، وهو أكمل من الأول، كالإيمان بجمع من الأنبياء والملائكة كآدم ومحمد وجبريل عليهم الصلاة والسلام، فلو لم يصدق بوجوب الصلاة ونحوها عند السؤال عنه يكون كافرا). وبيَّنَ أن الخلاف في النطق بالشهادتين هو في حق المتمكن القادر، أما العاجز كالأخرس ومن اخترمته المنية قبل النطق من غير تراخ، فهو مؤمن ناج. ثم قال: (فقال محققو الأشاعرة والماتريدية وغيرهم: النطق من القادر (شرط) في إجراء أحكام المؤمنين الدنيوية عليه لتناط به تلك الأحكام، هذا فهم الجمهور، وعليه فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه لا لعذر منعه ولا لإباء، بل اتفق له ذلك فهو مؤمن عند الله غير مؤمن في أحكام الشرع الدنيوية. ومن أقر بلسانه ولم يصدق بقلبه كالمنافق، فبالعكس، حتى نطّلع على باطنه فنحكم بكفره. أما الآبي فكافر في الدارين، والمعذور مؤمن فيهما. وقيل إنه شرط في صحة الإيمان، وهو فهْمُ الأقل، والنصوص معاضدة لهذا المذهب كقوله تعالى: أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ [المجادلة:22] وقوله عليه الصلاة والسلام: ((اللهم ثبت قلبى على دينك)) (2).والمعتمد عندهم هو القول الأول، أي أن قول اللسان شرط لإجراء الأحكام الدنيوية، كما صرح بذلك الصاوي والبيجوري وابن الأمير قال الصاوي: (وقيل شرط في صحة الإيمان. المعتمد الأول).وقال البيجوري عن القول بأن النطق شرط صحة: (وهو قول ضعيف كالقول بأنها شطر منه، والراجح أنها شرط لإجراء الأحكام الدنيوية فقط، فهي شرط كمال في الإيمان على التحقيق).تنبيه: قول الأشاعرة السابق عن الآبي، وكفره في الدارين، يدل على خطأ من ألزمهم القول بإيمان أبي طالب؛ لأنه مصدق. قال البيجوري: (وأما الآبي بأن طُلب منه النطق بالشهادتين، فأبى، فهو كافر فيهما، ولو أذعن في قلبه، فلا ينفعه ذلك ولو في الآخرة). وقد سبق – عن أهل السنة- أن من لم ينطق بالشهادتين مع القدرة وعدم المانع فهو كافر ظاهرا وباطنا. فقول اللسان ركن في حقيقة الإيمان- وليس شرطا لإجراء الأحكام في الدنيا فقط- بل لا يُتصور وجود الإيمان بدونه إلا في حال العذر كالخرس، فتقوم الإشارة مكانه. وأما الخوف فليس مانعا من النطق به؛ إذ لا يشق النطق به سرا. وبالجملة فحيث قام الإيمان بالقلب امتنع ألا يتكلم بالشهادتين مع القدرة، ولا عبرة في هذا بقول جهم ولا من وافقه. وأما عمل الجوارح: فهو شرط كمال الإيمان عندهم. قال في إتحاف المريد: (وقوله: (كالعمل): تشبيه في مطلق الشرطية، يعني أن المختار عند أهل السنة في الأعمال الصالحة أنها شرط كمال للإيمان، فالتارك لها أو لبعضها من غير استحلال ولا عناد ولا شك في مشروعيتها مؤمن فوَّت على نفسه الكمال، والآتي بها ممتثلا محصل لأكمل الخصال).وقال الصاوي: (لأن المختار عند أهل السنة أن الأعمال الصالحة شرط كمال للإيمان). المصدر: الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير – 1/ 231 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 المبحث الثالث: الصلة بين الإيمان والإسلام عند الأشاعرة هذه المسألة لم يتفق الأشاعرة فيها أيضاً بل وقع بينهم خلاف فافترقوا على رأيين، فمن قائل بالترادف بينهما، ومن قائل بالتغاير، وكل فريق استدل لرأيه بما يدل عليه من الكتاب والسنة. وفيما يلي أورد بعض النصوص في ذلك من كتبهم المعتبرة ثم أعقب ذلك ببيان ما تضمنته من أفكار. يقول الشيخ عبدالسلام بن إبراهيم اللقاني في شرحه لجوهرة التوحيد: " ... ولما كان الإيمان والإسلام لغة متغايري المدلول لأن الإيمان هو التصديق، والإسلام هو الخضوع والانقياد، اختلف فيهما شرعاً، فذهب جمهور الأشاعرة إلى تغايرهما أيضاً، لأن مفهوم الإيمان ما علمته آنفاً، ومفهوم الإسلام امتثال الأوامر والنواهي ببناء العمل على ذلك الإذعان، فهما مختلفان ذاتاً ومفهوماً وإن تلازما شرعاً بحيث لا يوجد مسلم ليس بمؤمن ولا مؤمن ليس بمسلم ... وذهب جمهور الماتريدية والمحققون من الأشاعرة إلى اتحاد مفهوميهما بمعنى وحدة ما يراد منهما في الشرع وتساويهما بحسب الوجود، على معنى أن كل من اتصف بأحدهما فهو متصف بالآخر شرعاً – وعلى هذا فالخلاف لفظي باعتبار المآل" (1).ويقول الشيخ سعد الدين التفتازاني في كتابه المشهور (شرح المقاصد): الجمهور على أن الإسلام والإيمان واحد، إذ معنى آمنت بما جاء به النبي عليه السلام صدقته، ومعنى أسلمت له سلمته. ولا يظهر بينهما كثير فرق لرجوعهما إلى معنى الاعتراف والانقياد والإذعان والقبول، وبالجملة لا يعقل بحسب الشرع مؤمن ليس بمسلم أو مسلم ليس بمؤمن. وهذا مارد القوم بترادف الاسمين، واتحاد المعنى وعدم التغاير على ما قال في "التبصرة": الاسمان من قبيل الأسماء المترادفة وكل مؤمن مسلم وكل مسلم مؤمن، لأن الإيمان اسم لتصديق شهادة العقول والآثار على وحدانية الله تعالى، وأن له الخلق والأمر لا شريك له في ذلك، والإسلام إسلام المرء نفسه بكليتها لله تعالى بالعبودية له من غير شرك، فحصلا من طريق المراد منهما على معنى واحد. ولو كان الاسمان متغايرين لتصور وجود أحدهما بدون الآخر ولتصور مؤمن ليس بمسلم، أو مسلم ليس بمؤمن، فيكون لأحدهما في الدنيا أو الآخرة حكم ليس للآخر وهذا باطل قطعاً. وقال في "الكفاية": الإيمان هو تصديق الله فيما أخبر من أوامره ونواهيه، والإسلام هو الانقياد والخضوع لألوهيته، وإذا لا يتحقق إلا بقبول الأمر والنهي، فالإيمان لا ينفك عن الإسلام حكماً فلا يتغايران، وإذا كان المراد بالاتحاد هذا المعنى صح التمسك فيه بالإجماع، على أنه يمتنع أن يأتي أحد بجميع ما اعتبر في الإسلام ولا يكون مؤمناً، وعلى أنه ليس للمؤمن حكم لا يكون للمسلم وبالعكس، وعلى أن دار الإيمان دار الإسلام وبالعكس، وعلى أن الناس كانوا في عهد النبي عليه السلام ثلاث فرق مؤمن وكافر ومنافق لا رابع لهم (2).ويقول إمام الجويني في العقيدة النظامية: "فإن قيل هل يفرق بين الإيمان والإسلام، قلنا: وقد يطلق والمراد به الإذعان والاستسلام ظاهراً من غير إظهار حقيقة الإيمان، قال تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] فالمؤمن إذن المستسلم، وقد لا يكون المستسلم مؤمناً فكل مؤمن على ذلك مسلم وليس كل مسلم مؤمناً" (3).   (1) اللقاني، عبدالسلام بن إبراهيم المالكي، ((إتحاف المريد بجوهرة التوحيد))، تعليق الشيخ محمد يوسف الشيخ، (ص: 38 - 40). (2) التفتازاني، سعد الدين عمر، ((شرح المقاصد))، (2/ 259 - 260). (3) إمام الحرمين أبو المعالي عبدالملك الجويني، ((العقيدة النظامية))، بتحقيق محمد زاهد الكوثري، (ص: 63)، ط مطبعة الأنوار، سنة 1367 هـ - 1948م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 فمما تقدم من النصوص يتضح لنا أن مذهب الأشاعرة في الصلة بين الإيمان والإسلام مبني على الخلاف، إذ لم يتفقوا فيها على رأي بل اختلفوا في ذلك على قولين: 1 - أن الإيمان والإسلام متغايران ذاتاً ومفهوماً مع القول بتلازمهما شرعاً في الوجود بمعنى أنه لا يوجد مسلم بمؤمن، كما أنه لا يمكن وجود مؤمن ليس بمسلم مع اختلاف حقيقتي الإيمان والإسلام وهذا الرأي عزاه – كما تقدم – الشيخ اللقاني إلى جمهور الأشاعرة، وهو ما اختاره إمام الحرمين نفسه وقال به كما يتضح لنا من كلامه المتقدم، ولعله قصد بقوله فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً أن الانقياد والاستسلام قد يحصل بدون تصديق فلا يعتد به، أما التصديق إذا حصل فلابد وأن ينتج الانقياد والاستسلام الذي هو معنى الإسلام فيكون بذلك مؤمناً مسلماً وإلا فهو يقول – كغيره من أصحاب هذا الرأي – بالتلازم بين الإيمان والإسلام في الوجود. وقد قال بهذا القول وأيده بشدة تاج الدين السبكي في "طبقات الشافعية" (1). 2 - أن الإيمان والإسلام متحدان، بمعنى أنهما مترادفان مفهوماً ومراداً، ومتساويان في الوجود، فكل متصف بأحدهما، فهو متصف بالآخر من الناحية الشرعية. وهذا يشبه ما تقدم في الرأي الأول من القول بالتلازم في الوجود، مما حدا بشارح "جوهرة التوحيد" إلى اعتبار الخلاف بين الرأيين لفظي باعتبار النتيجة والمآل، وهو في الحقيقة كذلك. فعند هؤلاء لا يعقل بحسب الشرع مؤمن ليس بمسلم أو مسلم ليس بمؤمن، وهو مرادهم من الترادف. وهذا الرأي – كما تقدم – اختيار الشيخ التفتازاني وعزاه إلى الجمهور، ورواه عن أبي المعين النسفي من كتابه (تبصرة الأدلة) وضمنه بعض الأدلة على إثباته وترجيحه. فمن أدلته: الإجماع على أنه لا يمكن أن يأتي أحد بجميع ما اعتبر في الإيمان ولا يكون مسلماً، أو بجميع ما اعتبر في الإسلام ولا يكون مؤمناً، وعلى أنه ليس للمؤمن حكم خاص به ولا يكون للمسلم وبالعكس إلى آخر ما ذكر من المسائل. وقد ساق بعد ذلك أدلتهم السمعية بقوله: "والمشهور من استدلال القوم وجهان: أحدهما: أن الإيمان لو كان غير الإسلام لم يقبل من مبتغيه لقوله تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85].وثانيهما: أنه لو كان غيره لم يصح استثناء أحدهما من الآخر ... لقوله تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات: 35 - 36]، أي فلم نجد ممن كان فيها من المؤمنين إلا أهل بيت من المسلمين" (2). وبعد أن ذكر التفتازاني هذا الرأي، واستدل له، التفت إلى الرأي الآخر وعزاه إلى الحشوية – على حد تعبيره – وبعض المعتزلة، وهو رأي في نظره باطل.   (1) السبكي، تاج الدين أبو نصر عبدالوهاب بن علي بن عبد الكافي، ((طبقات الشافعية))، تحقيق محمد محمود الطناحي، وعبدالفتاح محمد الحلو، ط1 مطبعة عيسى الحلبي، سنة 1383هـ - 1964م. (2) التفتازاني، ((شرح المقاصد)) (2/ 260). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 وأنا أقول: إن هذا الرأي الذي أبطله، وأنكر أن يكون قد تبناه جماعة من الأشاعرة، يعتد بقولهم، أقول: إن هذا الرأي هو الذي يتناسب مع ما سبق تقريره من أن الإيمان عند الأشاعرة هو التصديق فقط، واعتبار الأعمال التي تمثل الإسلام من لوازم ذلك التصديق. وأصحاب القول بالترادف من الأشاعرة قد شعروا بوجود تناقض بين مذهبهم في حقيقة الإيمان، ومذهبهم في القول بالترادف بين الإيمان والإسلام، لذلك حاولوا تفسير وجهة نظرهم بأن المراد بالترادف، الترادف في المراد، بمعنى أن المراد من الإيمان الإذعان بالقلب، والإسلام الإذعان بالجوارح. والمعنيان واحد وكلاهما مراد، فهما مترادفان من هذا الوجه ومترادفان أيضاً من حيث أن كلاهما مطلوب شرعاً، والمراد منهما واحد وهو الإذعان كما يتضح ذلك من كلام التفتازاني السابق. وقد سبق أن ذكرت عند بيان رأي السلف في هذه المسألة، أن الخلاف بينهم تم على رأيين أيضاً، هما القول بالترادف، والافتراق، وذكرت أن الرأي الصائب هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية من القول بالافتراق مع التلازم الشديد بينهما إلى درجة أنه لا يمكن أن يتصور وجود أحدهما بدون الآخر، وأن هذا الرأي هو الذي تجتمع عليه الأدلة، حيث لا يخفى ما بينهما من بعد لا يمكن أن تجتمع معه إلا على مثل هذا الرأي، القائل بالتلازم، بحيث أن الإيمان إذا ذكر منفرداً كما في حديث وفد عبد القيس دخل فيه الإسلام لا محالة؛ وإذا ذكر الإسلام منفرداً دخل الإيمان فيه أيضاً. وإذا ذكرا مجتمعين – كما في حديث جبريل – افترقا فيراد من أحدهما غير ما يراد من الآخر من حيث المعنى. والرأي القائل بالترادف عند السلف، له وجهة لا تتعارض مع رأيهم في حقيقة الإيمان، لإطلاقهم الإيمان على الأعمال، وجعلها جزءاً منه بدلالة النصوص، بخلاف رأي الأشاعرة القائل بالترادف، فإنه يتعارض مع مذهبهم القائل بأن الإيمان تصديق قلبي فحسب، والأعمال لوازم للإيمان، فهي غيره، هذا ما يقتضيه مذهبهم. بقي أن أذكر أدلة القائلين بالتغاير، فمن أدلتهم قوله تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] حيث أثبت أحدهما ونفي الآخر. واستدلوا على التغاير أيضاً بعطف أحدهما على الآخر، والعطف – كما يقولون – دليل على المغايرة، مثل قوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب: 35] وقوله تعالى: وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب: 22] والتسليم هو الإسلام. وبأن جبريل لما جاء لتعليم الدين سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن كل منهما على حدة، وأجاب النبي لكل بجواب وذلك أنه قال: "أخبرني عن الإيمان. فقال: الإيمان أن تؤمن بالله أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ... قال: أخبرني عن الإسلام. فقال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ... " المصدر: الإيمان بين السلف والمتكلمين لأحمد الغامدي - 158 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 المبحث الرابع: قولهم في الزيادة والنقصان هذه المسألة اختلفت آراء الأشاعرة فيها، فلم يثبتوا على رأي واحد، بل منهم من منع القول بزيادة الإيمان ونقصه، ومنهم من أثبتهما، وبعض آخر أثبت الزيادة ومنع النقصان ولكل وجهة تختلف عن وجهة الآخر ودليل غير دليله. فقد ذكر البغدادي أن من ذهب من الأشاعرة إلى القول بأن الإيمان تصديق بالقلب فقط منع القول بالنقصان، واختلفوا في الزيادة وقد اختار هو القول بالزيادة والنقصان وساق الأدلة على ذلك (1).وقد ذكر صاحب (المواقف) عن الإمام الرازي وكثير من المتكلمين رأيهم بأنه بحث لفظي، لأنه فرع تفسير الإيمان، فمن قال هو التصديق فليس هو قابلاً للزيادة والنقصان، وعللوه بأن الواجب هو اليقين وأنه لا يقبل التفاوت لا بحسب ذاته، لأن التفاوت إنما هو لاحتمال النقيض وهو – أي احتماله – ولو بأبعد وجه ينافي اليقين فلا يجامعه، ولا بحسب متعلقه لأنه جميع ما علم بالضرورة مجيء الرسول به، والجميع من حيث هو جميع لا يتصور فيه تعدد، وإلا لم يكن جميعاً، وإن قلنا هو الأعمال، إما وحدها أو مع التصديق فيقبلهما وهو ظاهر (2). وهذا القول – أي أن الخلاف في مسألة زيادة الإيمان ونقصه لفظي – في نظري غير صحيح، لأن ثمة من قال بأن الإيمان هو التصديق، ومع ذلك قال إن الإيمان يزيد وينقص بحسب ذاته أي التصديق نفسه يزيد وينقص، وبحسب متعلقه وهي أفراد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يجب التصديق به. وممن قال بأن الخلاف في زيادة الإيمان ونقصه لفظي الإمام أبو حامد الغزالي (3). على أنني أحب أن أنبه هنا إلى أنهم لا يقصدون بقولهم: إن الخلاف لفظي أن الآراء ترجع إلى رأي واحد إما القول بالزيادة والنقصان أو عدمهما على تعددها، بل المقصود أن الرأي في ذلك فرع عن الرأي في حقيقة الإيمان. ثم إن عضد الدين الإيجي صاحب (المواقف)، رجح القول بأن الإيمان يزيد وينقص حتى وإن كان التصديق وحده حيث قال: والحق أن التصديق يقبل الزيادة والنقصان لوجهين: أي بحسب الذات وبحسب المتعلق.   (1) انظر: ((أصول الدين)) للبغدادي، (ص: 252)، ط مطبعة الدولة باستانبول، سنة 1346هـ - 1928م. (2) انظر: ((المواقف بشرح الجرجاني)) (8/ 330)، ط مطبعة السعادة، مصر، سنة 1325هـ - 1907م. (3) انظر: ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي، تحقيق الدكتور عادل العوا، (ص: 208)، ط1 بدار الأمانة، بيروت، سنة 1388هـ - 1969م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 الأول: القوة والضعف من التصديق من الكيفيات النفسانية المتفاوتة قوة وضعفاً. الثاني: من وجه التفاوت – أعني ما هو بحسب المتعلق – أن يقال: التصديق التفصيلي في أفراد ما علم مجيئه به جزء من الإيمان يثاب عليه ثوابه على تصديقه بالإجمال، يعني أن أفراد ما جاء به متعددة وداخلة في التصديق الإجمالي. فإذا علم واحداً منها بخصوصه وصدق به، كان هذا تصديقاً مغايراً لذلك التصديق المجمل، وجزءاً من الإيمان. ولا شك أن التصديقات التفصيليه تقبل الزيادة فكذلك الإيمان، والنصوص كنحو قوله تعالى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال: 2] دالة على قبوله لهما – أي قبول الإيمان للزيادة والنقصان – بالوجه الثاني، كما أن نص قوله تعالى: وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] دل على قبوله لهما بالوجه الأول (1).هذا ما ارتضاه صاحب (المواقف)، وقد رد على من قال من أصحابه بأن الإيمان – الذي هو التصديق عندهم لا يزيد ولا ينقص بقوله: قولكم الواجب اليقين والتفاوت لا يكون إلا لاحتمال النقيض – قلنا لا نسلم أن التفاوت لذلك الاحتمال فقط، إذ يجوز أن يكون بالقوة والضعف بلا احتمال للنقيض – ثم ذلك الذي ذكرتموه يقتضي أن يكون إيمان النبي صلى الله عليه وسلم وآحاد الأمة سواء، وأنه باطل إجماعاً. ولقول إبراهيم عليه السلام: وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] فإنه يدل على قبول التصديق اليقيني للزيادة كما سلف تقريره والظاهر أن الظن الغالب الذي لا يخطر معه احتمال النقيص بالبال حكمه اليقين، في كونه إيماناً حقيقياً، فإن إيمان أكثر العوام من هذا القبيل، وعلى هذا فكون التصديق الإيماني قابلاً للزيادة واضح وضوحاً تاماً (2).وقد ذكر تاج الدين السبكي أن هناك مجموعة قالوا بأن الإيمان هو التصديق، ومع ذلك قالوا أيضا بأنه يزيد وينقص، وأنهم إنما ذهبوا هذا المذهب ليجمعوا بين كلام السلف القائلين بأن الإيمان يتجزأ وما أنكروا أن يكون تصديقاً، وبين قول أبي الحسن الأشعري القائل بأنه التصديق فقط، وما أنكر أن يصح تجزؤه فجمعوا بين الأمرين بأن قالوا: نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته وهي الأعمال ونقصانها، وقالوا: إن في هذا توفيقاً بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة، وأقاويل السلف وبين أصل وضعه في اللغة وما عليه المتكلمون، وممن قال بهذا الرأي من متكلمي الأشاعرة الآمدي في كتابه (أبكار الأفكار) (3).وقد استحسن الإمام النووي من محدثي الأشاعرة هذا الرأي إلا أنه مال إلى القول بأن نفس التصديق يزيد وينقص حيث قال: "وهذا الذي قاله هؤلاء وإن كان ظاهراً حسناً فالأظهر – والله أعلم – أن نفس التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر، وتظاهر الأدلة، ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريهم الشبه، ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة وإن اختلفت عليهم الأحوال، وأما غيرهم من المؤلفة، ومن قاربهم ونحوهم فليسوا كذلك.   (1) ((المواقف بشرح الجرجاني))، (8/ 331)، ط مطبعة السعادة، مصر، سنة 1325هـ - 1907م. (2) ((المواقف بشرح الجرجاني))، (8/ 331)، ط مطبعة السعادة، مصر، سنة 1325هـ - 1907م. (3) انظر: ((طبقات الشافعية)) لتاج الدين السبكي، بتحقيق محمود محمد الطناحي، وعبدالفتاح محمد الحلو، (1/ 131 – 132)، ط1 مطبعة عيسى الحلبي، سنة 1383هـ - 1964م، و ((شرح صحيح مسلم)) للإمام النووي، (1/ 148)، ط المطبعة المصرية ومكتبتها، بدون تاريخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 فهذا مما لا يمكن إنكاره، ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر رضي الله عنه لا يساويه تصديق آحاد الناس، ولهذا قال البخاري في صحيحه: قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل" (1) اهـ. ويتبين لنا مما تقدم أن الأشاعرة اختلفوا في زيادة الإيمان ونقصه على النحو التالي:1 - أن الإيمان هو التصديق، وهو لا يزيد ولا ينقص، ولهم في ذلك حجة عقلية بحتة وهي أن الإيمان عبارة عن التصديق الجازم البالغ حد اليقين. واليقين لا يقبل التفاوت، لأن التفاوت فيه إنما هو لاحتمال النقيض، واحتمال النقيض الذي هو الشك ينافي اليقين. وهذا قول جماعة قليلة من الأشاعرة وينسب إلى أبي الحسن الأشعري نفسه، وهو غير صحيح، لأن ما صرح به في كتاب (الإبانة) الذي هو آخر ما صنف يثبت أنه يقول بزيادة الإيمان ونقصه (2) كما أسلفنا. 2 - أن الإيمان الذي هو التصديق أيضاً يزيد وينقص، ولأصحاب هذا القول مسلكان: أ- القول بأن التصديق نفسه يزيد وينقص، فيصح إطلاق القول بالزيادة والنقصان على الإيمان بحسب الذات الذي هو التصديق، وبحسب المتعلق، وهو أفراد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يجب الإيمان به، وقد استدل هؤلاء على كلا الأمرين. فاستدلوا على زيادة التصديق وقد استدل هؤلاء على كلا الأمرين. فاستدلوا على زيادة التصديق ونقصانه بحسب ذاته بدليل عقلي وآخر نقلي، فدليلهم العقلي هو "أن التصديق القلبي يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلة، وعدم ذلك، ولهذا كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريه الشبه، ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقيناً وإخلاصاً منه في بعضها، فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها" (3). أما ما استدلوا به من النقل فقوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] فاطمئنان القلب الذي هو أقصى درجات التصديق هو ما قصده إبراهيم عليه السلام وإلا فهو مصدق دون شك. كما استدلوا على أن الإيمان يزيد وينقص بحسب متعلقه بأن التصديق التفصيلي في إفراد ما وجب عليه الإيمان به جزء من الإيمان يثاب عليه، كما يثاب على تصديقه بالكل. وأضافوا إلى ذلك الآيات المصرحة بزيادة الإيمان. ولاشك أن القابل للزيادة قابل للنقصان. ب- المسلك الثاني: القول بأن الإيمان يزيد وينقص بحسب متعلقه فقط، أما التصديق نفسه فلا يزيد ولا ينقص، وقد ذهبوا هذا المذهب ليكون جمعاً بين رأي السلف القائل بأن الإيمان يتجزأ والتصديق داخل فيه، وقول القائلين بأنه التصديق فقط ولم ينكروا أنه يتجزأ. ووجه الجمع: أن الكل اتفقوا على أن الإيمان يتجزأ سواء هو التصديق وحده أو التصديق والعمل فتقول: إن التصديق الذي هو أصل الإيمان لا يزيد ولا ينقص، والزيادة والنقصان إنما تكون في الأعمال التي هي ثمرات الإيمان والإيمان يطلق عليها حقيقة عند قوم، ومجازاً عند آخرين. ويكون في هذا جمع بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة، وأقاويل السلف، وبين أصل وضعه في اللغة وما عليه المتكلمون من أنه التصديق فقط.   (1) ((شرح صحيح مسلم)) للإمام النووي، (1/ 149)، ط المطبعة المصرية ومكتبتها، بدون تاريخ. (2) انظر: كتاب ((الإبانة عن أصول الديانة)) للأشعري، (ص: 10)، ط إدارة الطباعة المنيرية بالأزهر، بدون تاريخ. (3) اللقاني، عبدالسلام بن إبراهيم المالكي، ((إتحاف المريد بجوهرة التوحيد)) (ص: 43)، تحقيق الشيخ محمد يوسف الشيخ، ط1 سنة 1379هـ - 1960م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 3 - أما الرأي الثالث وهو القول بأن الإيمان يزيد ولا ينقص – فهذا رأي قليل الأنصار واضح البطلان ولولا الوفاء بتعداد الآراء لما استحق الذكر، إذ أنه لا يتصور شيء قابل للزيادة، غير قابل للنقصان. والراجح من هذه الآراء الذي عليه جمهور الأشاعرة هو الرأي القائل بأن الإيمان يزيد وينقص وإن كان هو التصديق وحده. "لأن التفاوت لا يكون باحتمال النقيض بل بالقوة والضعف، ولليقين مراتب، من أجلى البديهيات إلى أخفى النظريات، فما يعلم بداهة أقوى يقيناً مما يعلم نظراً، وما يعلم بأدلة أوضح وأكثر وأشد يقيناً من غيره" (1) هكذا قال المعلق على شرح (جوهرة التوحيد). هذا هو رأي الأشاعرة في زيادة الإيمان ونقصه واختلافهم كما رأيت يدور حول هل التصديق نفسه يزيد وينقص، أم أن الزيادة والنقصان تكون من قبل ثمراته التي هي الأعمال، فالمسألة خلافية بينهم، ولكن ما عليه جمهورهم هو ما تقدم ذكره، والله أعلم. المصدر: الإيمان بين السلف والمتكلمين لأحمد الغامدي - ص 164   (1) انظر: ((إتحاف المريد بجوهرة التوحيد))، تعليق الشيخ محمد يوسف الشيخ، ط سنة 1379هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 والمرجح عندهم إثبات الزيادة والنقصان في الإيمان. قال الصاوي: (تقدم أن أعمال الجوارح من كمال الإيمان، فمن صدق بقلبه، ونطق بلسانه ولم يعمل بجوارحه فهو مؤمن ناقص الإيمان، فلما كان له مدخلية في كمال الإيمان، شَرع - أي صاحب الجوهرة - يتكلم على زيادته بالعمل، ونقصه بنقصه، فقال: (ورُجحت ... الخ) وهذا الترجيح لجمهور الأشاعرة والماتريدية، ومالك والشافعي وأحمد. وحجتهم العقل والنقل، أما العقل: فلأنه يلزم عليه مساواة إيمان المنهمكين في الفسق والمعاصي لإيمان الأنبياء والملائكة، واللازم باطل فكذا الملزوم. وأما النقل: فقوله تعالى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:3]، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: ((قلت يا رسول الله: إن الإيمان يزيد وينقص؟ قال: نعم، يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة، وينقص حتى يدخل صاحبه النار)) (1)،. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة لرجح)) (2)، وقال عمر في حق أبي بكر: (ليت عملي مدى عمري كيوم وليلة لأبي بكر، إنما أنا حسنة من حسناته). ومراد عمر باليوم والليلة يوم وفاته عليه الصلاة والسلام، وليلة الغار، فإنه رافقه في الغار، وثبت الناس حين دهشوا يوم الوفاة. وأيضا: فإن المشاهَد للشخص في نفسه أنه عند كثرة عبادته وذكره وإقباله على الله يجد في نفسه رقة ونورا، لم يوجد عند عدم الطاعة).وقال في (إتحاف المريد): (ورُجحتْ زيادة الإيمان) أي ورجح جماعة من العلماء القول بقبول الإيمان الزيادة ووقوعها فيه، (بما تزيد طاعة) أي بسبب زيادة طاعة (الإنسان) وهي فعله المأمور به، واجتناب المنهي عنه (ونقصه) أي الإيمان من حيث هو لا بقيد محل مخصوص، فلا يرد الأنبياء والملائكة إذ لا يجوز على إيمانهم أن ينقص (بنقصها) يعني الطاعة إجماعا، هذا مذهب جمهور الأشاعرة ... (وقيل) أي وقال جماعة من العلماء أعظمهم الإمام أبو حنيفة وأصحابه وكثير من المتكلمين: الإيمان (لا) يزيد ولا ينقص؛ لأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان، وهذا لا يتصور فيه ما ذكر).وادعى الرازي أن الخلاف لفظيٌ، فرعُ تفسير الإيمان، فإن قلنا: هو التصديق فلا يقبل الزيادة والنقصان، وإن قلنا: هو الأعمال قبل ذلك. والمرجح عند الأشاعرة أن الخلاف حقيقي، وأن التصديق نفسه يزيد وينقص. قال في (شرح المواقف): (والحق أن التصديق يقبل الزيادة والنقصان).وقال في إتحاف المريد: (لأن الأصح أن التصديق القلبي يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلة وعدم ذلك، ولهذا كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريه الشبه، ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا منه في بعضها، فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها).هذا ما عليه متأخرو الأشاعرة، وهو الذي استقر عليه مذهبهم. وقد ذهب إلى القول بالزيادة والنقصان جماعة من متقدميهم أيضا، كالبيهقي، وأبي منصور عبد القاهر البغدادي، وأبي القاسم القشيري، والآمدي، ثم النووي وصفي الدين الهندي وتقي الدين السبكي، على ما ذكره التاج السبكي في الطبقات. المصدر: الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير - 1/ 238   (1) ذكره المناوي في ((الفتح السماوي)) (1/ 423) وقال: أخرجه الثعلبي من رواية علي بن عبد العزيز، عن حبيب بن فروخ، عن إسماعيل بن عبد الرحمن، عن مالك، عن نافع عنه. (2) رواه عبد الله بن أحمد في ((السنة)) (1/ 378) (821) , والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (35) , قال ابن حجر في ((الكافي الشاف)) (61): موقوف إسناده صحيح وروي مرفوعا, وقال السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (411): إسناده صحيح عن عمر من قوله, وقال العجلوني في ((كشف الخفاء)) (2/ 216): إسناده صحيح, وقال الشوكاني في ((الفوائد المجموعة)) (335): إسناده موقوفاً على عمر صحيح, ومرفوعاً ضعيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 المبحث الخامس: قولهم في الاستثناء في الإيمان اختلف الأشاعرة في الاستثناء، ومن جوَّزه منهم فباعتبار الموافاة، ومرادهم أن الإيمان هو ما مات عليه العبد، ويوافي به ربه، وهذا مجهول للعبد فيستثني لذلك. قال البغدادي: (والقائلون بأن الإيمان هو التصديق من أصحاب الحديث مختلفون في الاستثناء فيه، فمنهم من يقول به، وهو اختيار شيخنا أبي سهل محمد بن سليمان الصعلوكي وأبي بكر محمد بن الحسين بن فورك. ومنهم من ينكره، وهذا اختيار جماعة من شيوخ عصرنا، منهم أبو عبد الله ابن مجاهد، والقاضي أبو بكر محمد بن الطيب الأشعري، وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفرائيني. وكل من قال من أهل الحديث بأن جملة الطاعات من الإيمان، قال بالموافاة، وقال: كل من وافى ربه على الإيمان فهو المؤمن، ومن وافاه بغير الإيمان الذي أظهره في الدنيا عُلم في عاقبته أنه لم يكن قط مؤمنا. والواحد من هؤلاء يقول: أعلم أن إيماني حق، وضده باطل، وإن وافيت ربي عليه كنت مؤمنا حقا، فيستثني في كونه مؤمنا، ولا يستثني في صحة إيمانه). وقال الجويني بعد تقرير أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص: (فإن قيل: قد أُثر عن سلفكم ربط الإيمان بالمشيئة وكان إذا سئل الواحد منهم عن إيمانه قال: إنه مؤمن إن شاء الله، فما محصول ذلك؟ قلنا: الإيمان ثابت في الحال قطعا لا شك فيه، ولكن الإيمان الذي هو عَلم على الفوز وآية النجاة، إيمان الموافاة، فاعتنى السلف به وقرنوه بالمشيئة، ولم يقصدوا التشكيك في الإيمان الناجز). ومن كلام الأشاعرة في مسألة الموافاة، قول القرطبي: (قال علماؤنا رحمة الله عليهم: المؤمن ضربان: مؤمن يحبه الله ويواليه، ومؤمن لا يحبه الله ولا يواليه، بل يبغضه ويعاديه، فكل من علم الله أنه يوافي بالإيمان، فالله محب له، موال له، راض عنه. وكل من علم الله أنه يوافي بالكفر، فالله مبغض له، ساخط عليه، معادٍ له، لا لأجل إيمانه، ولكن لكفره وضلاله الذي يوافي به. والكافر ضربان: كافر يعاقب لا محالة، وكافر لا يعاقب. فالذي يعاقب هو الذي يوافي بالكفر، فالله ساخط عليه معادٍ له. والذي لا يعاقب هو الموافي بالإيمان، فالله غير ساخط على هذا ولا مبغض له، بل محب له موال، لا لكفره لكن لإيمانه الموافي به. فلا يجوز أن يطلق القول وهي: بأن المؤمن يستحق الثواب، والكافر يستحق العقاب، بل يجب تقييده بالموافاة. ولأجل هذا قلنا: إن الله راضٍ عن عمر في الوقت الذي كان يعبد الأصنام، ومريد لثوابه ودخوله الجنة، لا لعبادته الصنم، لكن لإيمانه الموافي به. وإن الله تعالى ساخط على إبليس في حال عبادته، لكفره الموافي به. وخالفت القدرية في هذا وقالت: إن الله لم يكن ساخطاً على إبليس وقت عبادته، ولا راضياً عن عمر وقت عبادته للصنم. وهذا فاسد، لما ثبت أن الله سبحانه عالم بما يوافي به إبليس لعنه الله، وبما يوافي به عمر فيما لم يزل، فثبت أنه كان ساخطاً على إبليس محباً لعمر ... ). والقول بالموافاة نسبه شيخ الإسلام إلى الأشعري وابن فورك، وبسط الكلام في ذلك في كتابه (الإيمان الكبير)، ومما قاله: (والذين أوجبوا الاستثناء لهم مأخذان: أحدهما: أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمنا وكافرا باعتبار الموافاة وما سبق في علم الله أنه يكون عليه. وما قبل ذلك لا عبرة به. قالوا: والإيمان الذي يتعقبه الكفر، فيموت صاحبه كافرا، ليس بإيمان، كالصلاة التي يفسدها صاحبها قبل الكمال، وكالصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب، وصاحب هذا هو عند الله كافر؛ لعلمه بما يموت عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 وكذلك قالوا في الكفر، وهذا المأخذ مأخذ كثير من المتأخرين من الكلابية وغيرهم، ممن يريد أن ينصر ما اشتهر عن أهل السنة والحديث من قولهم: أنا مؤمن إن شاء الله، ويريد مع ذلك أن الإيمان لا يتفاضل، ولا يشك الإنسان في الموجود منه، وإنما يشك في المستقبل، وانضم إلى ذلك أنهم يقولون: محبة الله ورضاه وسخطه وبغضه قديم، ثم هل ذلك هو الإرادة أم صفات أخر؟ لهم في ذلك قولان ... قالوا: والله يحب في أزله من كان كافرا، إذا علم أنه يموت مؤمنا. فالصحابة ما زالوا محبوبين لله وإن كانوا قد عبدوا الأصنام مدة من الدهر، وإبليس ما زال الله يبغضه، وإن كان لم يكفر بعد. وهذا على أحد القولين لهم، فالرضى والسخط يرجع إلى الإرادة، والإرادة تطابق العلم، فالمعنى: ما زال الله يريد أن يثيب هؤلاء بعد إيمانهم، ويعاقب إبليس بعد كفره، وهذا معنى صحيح؛ فإن الله يريد أن يخلق كل ما علم أنه سيخلقه. وعلى قول من يثبتها صفات أخر، يقول: هو أيضا حبه تابع لمن يريد أن يثيبه، فكل من أراد إثابته فهو يحبه، وكل من أراد عقوبته فإنه يبغضه، وهذا تابع للعلم. وهؤلاء عندهم: لا يرضى عن أحد بعد أن كان ساخطا عليه، ولا يفرح بتوبة عبد بعد أن تاب عليه، بل ما زال يفرح بتوبته، والفرح عندهم إما الإرادة، وإما الرضى، والمعنى: ما زال يريد إثابته، أو يرضى عما يريد إثابته. وكذلك لا يغضب عندهم يوم القيامة دون ما قبله، بل غضبه قديم، إما بمعنى الإرادة وإما بمعنى آخر. فهؤلاء يقولون: إذا علم أن الإنسان يموت كافرا، لم يزل مريدا لعقوبته، فذاك الإيمان الذي كان معه باطل لا فائدة فيه، بل وجوده كعدمه، فليس هذا بمؤمن أصلا. وإذا علم أنه يموت مؤمنا، لم يزل مريدا لإثابته، وذاك الكفر الذي فعله، وجوده كعدمه، فلم يكن هذا كافرا عندهم أصلا. فهؤلاء يستثنون في الإيمان بناء على هذا المأخذ، وكذلك بعض محققيهم يستثنون في الكفر، مثل أبي منصور الماتريدي، فإن ما ذكروه مطرد فيهما، ولكن جماهير الأئمة على أنه لا يُستثنى في الكفر، والاستثناء فيه بدعة لم يعرف عن أحد من السلف، ولكن هو لازم لهم ... ).إلى أن قال: (وهذا القول قاله كثير من أهل الكلام أصحاب ابن كُلاب، ووافقهم على ذلك كثير من أتباع الأئمة، لكن ليس هذا قول أحد من السلف، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا كان أحد من السلف الذين يستثنون في الإيمان يعللون بهذا، لا أحمد ولا من قبله). وقال: (وكثير من أهل الكلام في كثير مما ينصره، لا يكون عارفا بحقيقة دين الإسلام في ذلك، ولا ما جاءت به السنة، ولا ما كان عليه السلف، فينصر ما ظهر من قولهم بغير المآخذ التي كانت مآخذهم في الحقيقة، بل بمآخذ أخر، قد تلقوها عن غيرهم من أهل البدع، فيقع في كلام هؤلاء من التناقض والاضطراب والخطأ ما ذم به السلف مثل هذا الكلام وأهله، فإن كلامهم في ذم مثل هذا الكلام كثير. والكلام المذموم هو المخالف للكتاب والسنة، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل وكذب، فهو مخالف للشرع والعقل وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا [الأنعام:115]. فهؤلاء لما اشتهر عندهم عن أهل السنة أنهم يستثنون في الإيمان، ورأوا أن هذا لا يمكن إلا إذا جُعل الإيمان هو ما يموت العبد عليه، وهو ما يوافي به العبد ربه، ظنوا أن الإيمان عند السلف هو هذا، فصاروا يحكون هذا عن السلف. وهذا القول لم يقل به أحد من السلف، ولكن هؤلاء حكوه عنهم بحسب ظنهم، لمّا رأوا أن قولهم لا يتوجه إلا على هذا الأصل، وهم يدَّعون أن ما نصروه من أصل جهم في الإيمان هو قول المحققين والنظار من أصحاب الحديث). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 ونقل شيخ الإسلام عن أبي القاسم الأنصاري شارح (الإرشاد) فيما حكاه عن أبي إسحاق الإسفرائيني، لما ذكر قول أبي الحسن الأشعري وأصحابه في الإيمان، وصحح أنه تصديق القلب، قال: ومن أصحابنا من قال بالموافاة وشرط في الإيمان الحقيقي أن يوافي ربه به ويختم عليه، ومنهم من لم يجعل ذلك شرطا فيه في الحال. (ثم قال - أي الأنصاري -: والذي اختاره المحققون أن الإيمان هو التصديق، وقد ذكرنا اختلاف أقوالهم في الموافاة، وأن ذلك هل هو شرط في صحة الإيمان وحقيقته في الحال، وكونه معتدا عند الله به، وفى حكمه. فمن قال: إن ذلك شرط فيه، يستثنون في الإطلاق في الحال، لا أنهم يشكون في حقيقة التوحيد والمعرفة، لكنهم يقولون: لا يدرى أي الإيمان الذي نحن موصوفون به في الحال، هل هو معتد به عند الله؟ على معنى أنا ننتفع به في العاقبة، ونجتني من ثماره).قال شيخ الإسلام: (وأما الموافاة فما علمت أحدا من السلف علل بها الاستثناء، ولكن كثيرا من المتأخرين يعلل بها من أصحاب الحديث، من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم، كما يعلل بها نظارهم كأبي الحسن الأشعري، وأكثر أصحابه، لكن ليس هذا قول سلف أصحاب الحديث). وقال: (وهؤلاء يقولون إن حب الله وبغضه ورضاه وسخطه وولايته وعداوته إنما يتعلق بالموافاة فقط، فالله يحب من علم أنه يموت مؤمنا، ويرضى عنه ويواليه بحب قديم وموالاة قديمة، ويقولون: إن عمر حال كفره كان وليا لله، وهذا القول معروف عن ابن كلاب ومن تبعه كالأشعري وغيره. وأكثر الطوائف يخالفونه في هذا، فيقولون بل قد يكون الرجل عدوا لله ثم يصير وليا لله، ويكون الله يبغضه ثم يحبه، وهذا مذهب الفقهاء والعامة، وهو قول المعتزلة والكرامية والحنفية قاطبة وقدماء المالكية والشافعية والحنبلية. وعلى هذا يدل القرآن، كقوله: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31]، ووَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7]، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ [النساء:137]، فوصفهم بكفر بعد إيمان، وإيمان بعد كفر، وأخبر عن الذين كفروا أنهم كفار، وأنهم إن انتهوا يُغفر لهم ما قد سلف، وقال: فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [الزخرف:55]، وقال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:28]. وفي الصحيحين في حديث الشفاعة، تقول الأنبياء: ((إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ)) (1).وقال ابن حزم: (وأما قولهم: إن الله تعالى لا يسخط ما رضي، ولا يرضى ما سخط، فباطل وكذب، بل قد أمر الله تعالى اليهود بصيانة السبت وتحريم الشحوم، ورضي لهم ذلك، وسخط منهم خلافه، وكذلك أحل لنا الخمر، ولم يلزمنا الصلاة ولا الصوم برهة من زمن الإسلام، ورضي لنا شرب الخمر وأكل رمضان والبقاء بلا صلاة، وسخط تعالى بلا شك المبادرة بتحريم ذلك، كما قال تعالى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، ثم فرض علينا الصلاة والصوم، وحرم علينا الخمر، فسخط لنا ترك الصلاة وأكل رمضان وشرب الخمر، ورضي لنا خلاف ذلك، وهذا لا ينكره مسلم.   (1) رواه البخاري (3340) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 ولم يزل الله تعالى عليما أنه سيحل ما كان أحل من ذلك مدة كذا، وأنه سيرضى منه، ثم أنه سيحرمه ويسخطه، وأنه سيحرم ما حرم من ذلك ويسخطه مدة، ثم أنه يحله ويرضاه، كما علم أنه سيحيي من أحياه مدة كذا، وأنه يعز من أعزه مدة، ثم يذله، وهكذا جميع ما في العالم من آثار صنعته لا يخفى ذلك على من له أدنى حس، وهكذا المؤمن يموت مرتدا، والكافر يموت مسلما؛ فإن الله تعالى لم يزل يعلم أنه سيسخطه فعل الكافر ما دام كافرا، ثم أنه يرضى عنه إذا أسلم، وأن الله تعالى لم يزل يعلم أنه يرضى عن أفعال المسلم وأفعال البر، ثم أنه يسخط أفعاله إذا ارتد أو فسق، ونص القرآن يشهد بذلك، قال تعالى: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:78] فصح يقينا أن الله تعالى يرضى الشكر ممن شكره فيما شكره، ولا يرضى الكفر ممن كفر إذا كفر متى كفر كيف كان انتقال هذه الأحوال من الإنسان الواحد).وبهذا يظهر الفرق بين من استثنى من السلف لأجل خوف العاقبة وتغيَّر الحال، وبين القول بالموافاة، الذي ذهب إليه الأشاعرة، وتضمَّن القولَ بأن الإيمان هو ما مات عليه العبد، وأن الإنسان إنما يكون عند الله مؤمنا وكافرا باعتبار الموافاة وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به، وتضمن أيضا: أن حب الله وبغضه، ورضاه وسخطه وولايته وعداوته إنما يتعلق بالموافاة فقط. وسر المسألة كما بين شيخ الإسلام أن الأشاعرة ينفون الأفعال الاختيارية، ويثبتون رضا ومحبة قديمة بمعنى الإرادة، وعندهم أن الله لا يرضى عن أحد بعد أن كان ساخطا عليه، ولا يفرح بتوبة عبد بعد أن تاب عليه، وأما أهل السنة فقد أخذوا بما دلت عليه النصوص من أن الله تعالى، يحب من شاء إذا شاء، ويرضى عمن شاء متى شاء، ويسخط عمن شاء، وقت ما يشاء، سبحانه، فمحبته ورضاه وسخطه صفات تتعلق بمشيئته. والحاصل: أن القول بأن الإيمان هو ما وافى به العبد ربه، وتعليل الاستثناء بذلك، قول محدث، لا دليل عليه. وقد مضى ذكر الاعتبارات التي بنى عليها السلف قولهم في الاستثناء. المصدر: الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير - 1/ 241 ذهب الأشاعرة في هذه المسألة إلى أن الإيمان الذي يتصف به الإنسان في الحال مقطوع به لا يجوز الاستثناء فيه وإنما يجوز الاستثناء في الإيمان باعتبار الموافاة في المستقبل. وفي ذلك يقول التفتازاني في شرح "المقاصد" بعد ذكره للآراء الواردة في هذه المسألة يقول: " ... الثالث وعليه التعويل ما قال إمام الحرمين: أن الإيمان ثابت في الحال قطعاً من غير شك فيه، لكن الإيمان الذي هو علم الفوز وآية النجاة إيمان الموافاة، فاعتنى السلف به وقرنوه بالمشيئة، ولم يقصدوا الشك في الإيمان الناجز. ومعنى الموافاة الإتيان والوصول إلى آخر الحياة وأول منازل الآخرة، ولا خفاء في أن الإيمان المنجي والكفر المهلك ما يكون في تلك الحال، وإن كان مسبوقاً بالضد لا ما ثبت أولاً، وتغير إلى الضد. فلهذا يرى الكثير من الأشاعرة – "يبنون القول بأن العبرة بإيمان الموافاة" وسعادتها بمعنى أن ذلك هو المنجي، لا بمعنى أن إيمان الحال ليس بإيمان وكفره ليس بكفر، وكذا السعادة والشقاوة، والولاية والعداوة، ... وبالجملة لا يشك المؤمن في ثبوت الإيمان وتحققه في الحال، ولا في الجزم بالثبات والبقاء عليه في الحال، لكن يخاف سوء الخاتمة ويرجو حسن العاقبة، فيربط إيمان الموافاة الذي هو آية النجاة ووسيلة نيل الدرجات بمشيئة الله جرياً على مقتضى قوله تعالى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ [الكهف: 23 - 24]. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 فإذا نتبين مما تقدم أن المسألة ذات شقين، أحدهما: عدم جواز الاستثناء في الإيمان الناجز، لأن ذلك يعتبر شكاً في الإيمان والشاك في إيمانه لا يعتبر مؤمناً، فإذا سئل أمؤمن هو؟ جزم بالإيجاب لا بالتعليق بالمشيئة. وثانيهما: جواز الاستثناء باعتبار واحد فقط، وهو أن الإيمان المعتبر في النجاة من النار ودخول الجنة هو ما يختم به للإنسان فيستثنى من أجل أنه لا يدري ما يوافي الله به من الإيمان لأن خاتمته مجهولة مع رجائه أن تكون حسنة. وهذا هو المذهب المشهور عن الأشاعرة. كما ذكر البغدادي أنهم مختلفون في ذلك وبين اختلافهم بقوله: "والقائلون بأن الإيمان هو التصديق من أصحاب الحديث مختلفون في الاستثناء فيه فمنهم من يقول به، وهو اختيار شيخنا أبي سهل محمد بن سليمان الصعلوكي، وأبي بكر محمد بن الحسين فورك، ومنهم من ينكره وهذا اختيار جماعة من شيوخ عصرنا، منهم أبو عبدالله بن مجاهد، والقاضي أبو بكر محمد بن الطيب الأشعري، وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفرائيني" (1).ووجهة المجيزين ما تقدم ذكره، أما المانعون منه فلا دليل لهم إلا أنهم يعتبرون ذلك شكاً، والشك في الإيمان غير جائز. وينضم إلى أدلة المجيزين لهذه المسألة ما تقدم ذكره عند بيان مذهب السلف من مثله قوله عليه السلام عند زيارة القبور: ((إنا إن شاء الله بكم لاحقون)) (2) , وقوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27] حيث كان الاستثناء في أمر مقطوع به. المصدر: الإيمان بين السلف والمتكلمين لأحمد الغامدي - ص 176 فيمن قال بوجوب الاستثناءإن أشهر من ذهب للقول بوجوب الاستثناء في الإيمان وانتصر له هم الكلابية والأشعرية (3) حيث أن الإيمان عندهم هو ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمناً وكافراً باعتبار الموافاة، وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به، والإيمان الذي يعقبه الكفر فيموت صاحبه كافراً ليس بإيمان، كالصلاة التي يفسدها صاحبها قبل الكمال، وكالصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب، وصاحب هذا هو عند الله كافر لعلمه بما يموت عليه، وهذا المأخذ هو مأخذ كثير من المتأخرين ممن يريد أن ينصر ما اشتهر عن أهل السنة من قولهم أنا مؤمن إن شاء الله (4) فحسب هؤلاء أن استثناء السلف إنما هو باعتبار الموافاة. ومقصودهم بالموافاة: أن العبد يأتي موافياً به بأن يبقى عليه إلى الوفاة، فيكون متصفاً به إلى آخر حياته، إذ إن الإيمان لا يكون نافعاً معتبراً منجياً لصاحبه إلا إذا مات عليه. فلما كان هذا الإيمان هو المعتبر في النجاة صار هؤلاء إلى الاستثناء في الإيمان بهذا الاعتبار، فإذا قيل لأحدهم: أمؤمن أنت؟ قال: إن شاء الله وهو في ربطه هذا الإيمان بالمشيئة يلحظ أنه قد لا يموت على هذا الإيمان ولا يثبت عليه إلى الوفاة (5).   (1) البغدادي، أبو منصور عبدالقاهر بن ظاهر التميمي، ((أصول الدين)) (ص: 253)، ط1 مطبعة الدولة باستانبول، سنة 1346هـ - 1928م. (2) رواه مسلم (249) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) انظر ((المسامرة شرح المسايرة)) (ص: 283)، و ((إتحاف السادة المتقين)) (2/ 282)، و ((الروضة البهية)) (ص: 8). (4) ((الفتاوى)) (7/ 430). (5) ((المسامرة)) (ص: 383) وانظر ((المعتمد)) للقاضي أبي يعلى (ص: 190). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 ثم حمل هؤلاء جميع الآثار الواردة عن السلف في الاستثناء على هذا المحمل الذي هو أبعد ما يكون عن مراد السلف، ومقصودهم بالاستثناء. يقول الجويني: "فإن قيل: قد أثر عن سلفكم ربط الإيمان بالمشيئة، وكان إذا سئل الواحد منهم عن إيمانه قال إنه مؤمن إن شاء الله، فما محصول ذلك؟ قلنا: الإيمان ثابت في الحال قطعاً لا شك فيه ولكن الإيمان الذي هو علم الفوز وآية النجاة إيمان الموافاة فاعتنى السلف به وقرنوه بالمشيئة، ولم يقصدوا التشكك في الإيمان الناجز" (1).فهكذا توهم هؤلاء أن ذلك الذي قالوا هو مراد السلف في الاستثناء بالإيمان بينما الواقع أن هذا الذي نسبوه للسلف ليس مراداً لهم ولا أحد منهم استثنى في إيمانه لهذا الاعتبار، كما قال شيخ الإسلام: "وأما الموافاة فما علمت أحداً من السلف علل بها الاستثناء، ولكن كثيراً من المتأخرين يعلل بها من أصحاب الحديث من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم، كما يعلل بها نظارهم كأبي الحسن الأشعري وأكثر أصحابه، لكن ليس هذا قول سلف أصحاب الحديث" (2). فالسلف كانوا يستثنون في الإيمان وهذا متواتر عنهم لكن ليس في هؤلاء من قال: أنا أستثني لأجل الموافاة، وأن الإيمان إنما هو اسم لما يوافي به العبد ربه، بل صرح أئمة هؤلاء بأن الاستثناء إنما هو لأن الإيمان يتضمن فعل الواجبات فلا يشهدون لأنفسهم بذلك كما لا يشهدون لها بالبر والتقوى، فإن ذلك مما لا يعلمونه وهو تزكية لأنفسهم بلا علم، وقد سبق النقل عنهم من أقوالهم وألفاظهم ما يدل على ذلك ويؤيده. وأما سبب غلط هؤلاء في نسبة هذا القول للسلف مع أنهم لم يقولوه، فعائد إلى أنه: "لما اشتهر عند هؤلاء أن السلف يستثنون في الإيمان ورأوا أن هذا لا يمكن إلا إذا جعل الإيمان هو ما يموت العبد عليه، وهو ما يوافي به العبد ربه، ظنوا أن الإيمان عند السلف هو هذا فصاروا يحكون هذا عن السلف وهذا القول لم يقل به أحد من السلف ولكن هؤلاء حكوه عنهم بحسب ظنهم لما رأوا أن قولهم لا يتوجه إلا على هذا الأصل وهم يدعون أن ما نصروه من أصل جهم في الإيمان هو قول المحققين والنظار من أصحاب الحديث، ومثل هذا يوجد كثيراً في مذاهب السلف التي خالفها بعض النظار وأظهر حجته في ذلك ولم يعرف حقيقة قول السلف فيقول من عرف حجة هؤلاء دون السلف أو من يعظمهم لما يراه من تميزهم عليه: هذا قول المحققين، وقال المحققون، ويكون ذلك من الأقوال الباطلة، المخالفة للعقل مع الشرع وهذا كثيراً ما يوجد في كلام بعض المبتدعين وبعض الملحدين. ومن آتاه الله علماً وإيماناً علم أنه لا يكون عند المتأخرين من التحقيق إلا ما هو دون تحقيق السلف لا في العلم ولا في العمل, ومن كان له خبرة بالنظريات والعقليات وبالعمليات، علم أن مذهب الصحابة دائماً أرجح من قول من بعدهم وأنه لا يبتدع أحد قولاً في الإسلام إلا كان خطأ وكان الصواب قد سبق إليه من قبله" (3). والمقصود: أن هؤلاء غلطوا على السلف من جهة حيث نسبوا إليهم شيئاً لم يقولوه، وضلوا عن الحق من جهة أخرى حيث أوجبوا الاستثناء في الإيمان على هذا الاعتبار الذي ابتدعوه.   (1) ((الإرشاد)) للجويني (ص: 336). (2) ((الفتاوى)) (7/ 439). (3) ((الفتاوى)) (7/ 436). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 وقد احتج هؤلاء لقولهم ببعض الشبه والدلائل أذكر فيما يلي أهمها مع التنبيه على غلطهم فيما احتجوا به. فممن ذهب إلى هذا القول واحتج له القاضي أبو يعلى فقد قال في كتابه (المعتمد في أصول الدين): "ولا يجوز أن يقول: أنا مؤمن حقاً بل يجب أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله خلافاً للمعتزلة في قولهم لا يجوز أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله بل يجب أن يقول أنا مؤمن حقاً والدلالة عليه إجماع السلف، فروى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه قال: (من زعم أنه مؤمن فهو كافر) (1) , وعن الحسن (أن رجلاً قال عند عبدالله بن مسعود إني مؤمن، فقيل لابن مسعود إن هذا يزعم أنه مؤمن، قال: فسلوه أفي الجنة هو أوفي النار، فسألوه فقال: الله أعلم، فقال عبدالله فهلا وكلت الأولى كما وكلت الآخرة) (2). وعن علقمة أنه كان بينه وبين رجل من الخوارج كلام فقال له علقمة: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب: 58]. (فقال له الرجل: ومؤمن أنت؟ قال: أرجو) (3).ولأن المؤمن الحقيقي، والمؤمن عند الله – عز وجل – هو الذي يكون من أهل الجنة ولا يكون كذلك إلا بعد أن يوافي بالإيمان باتفاق، والواحد منا لا يعلم أنه يوافي بالإيمان أم بالكفر وإذا لم يعلم ذلك لم يعلم إنه مؤمن حقاً" (4). فخلص لهم من هذا دليلان: الأول: بعض الآثار الواردة عن السلف ظنوا أن فيها حجة لهم. الثاني: قولهم إن الإيمان الحقيقي المنجي هو الإيمان الذي يوافي به العبد ربه وعلى هذا يجب أن يستثنى شكاً منه في المستقبل. قلت: أما استدلالهم الأول ببعض الآثار الواردة عن السلف في ذلك فالجواب عنه إجمالاً قد تقدم حيث ذكرت فيما سبق بالنقل عن شيخ الإسلام أن هذا لم يثبت عن أحد من السلف فضلاً عن أن يكونوا مجمعين عليه. ثم إن الآثار التي ذكرها القاضي محتجاً بها على وجوب الاستثناء في الإيمان باعتبار الموافاة لا حجة له فيها إذ المراد بالإيمان فيها الإيمان التام الكامل الذي وصف الله أهله بأنهم هم المؤمنون حقاً لكونهم استوفوا أعمال الإيمان بصدق وإخلاص وتنافسوا في مستحباته فإنه إذا قصد بالإيمان هذا القدر فالاستثناء في الإيمان واجب بعداً عن التزكية ومجانبة لادعاء الكمال. لهذا قال عمر من قال أنا مؤمن – أي كامل الإيمان – فهو كافر. وليس هذا من الكفر الاعتقادي المخرج من الملة بل من الكفر العملي الذي ينقص الإيمان ولا يخرج من الملة كقوله –صلى الله عليه وسلم- ((اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت)) (5). فيكون مراد عمر رضي الله عنه بقوله: من قال أنا مؤمن فهو كافر أي من ادعى لنفسه كمال الإيمان واستيفاء واجباته وأنه من الذين قال الله فيهم: أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 4].   (1) رواه أبوبكر بن الخلال في ((السنة)) (3/ 371) , وابن بطة في ((الإبانة)) (3/ 203). (2) رواه الآجري في ((الشريعة)) (1/ 133) , وابن بطة في ((السنة)) (3/ 205) , وأبوبكر بن الخلال في ((السنة)) (3/ 429). (3) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (6/ 160) , والآجري في ((الشريعة)) (1/ 133). (4) ((المعتمد)) (ص: 190)، قلت: وللقاضي أبي يعلى في هذه المسألة قول آخر يوافق ما جاء عن السلف، انظره في كتاب ((الإيمان)) له (ص: 428). (5) رواه مسلم (67). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 فمن ادعى لنفسه هذه الأمور وهي لازمة لمن قال إني مؤمن لأن اسم الإيمان يشملها فمن ادعى ذلك يكون كافراً كفراً عملياً غير مخرج من الملة، ككفر من ناح على الميت، أو طعن في الأنساب فهو كفر دون وهذا أمر معلوم متقرر عند أهل السنة والجماعة وله نظائر كثيرة يطلق فيها الكفر ويراد الكفر العملي. والمقصود: أن أثر عمر الخطاب – رضي الله عنه – يحمل على هذا إن صح إذ في صحته نظر. ولهذا أيضاً قال ابن مسعود لمن قال: إني مؤمن: (قل: إني في الجنة) (1)؛ لأن من أتى بالإيمان الكامل في الدنيا كان من أهل الجنة يوم القيامة بلا حساب ولا عذاب ولا يقطع أحد لنفسه بذلك بل يرجو ويخاف. فالمراد إذا بالمؤمن في أثر ابن مسعود أي: المؤمن المطلق الموعود بالجنة بلا نار إذا مات على إيمانه ومن شهد لنفسه بذلك فقد زكاها بأعظم تزكية. قال شيخ الإسلام بعد أن أشار إلى هذا المعنى: "ولهذا كان ابن مسعود وغيره من السلف يلزمون من شهد لنفسه بالإيمان أن يشهد لها بالجنة يعنون إذا مات على ذلك فإنه قد عرف أن الجنة لا يدخلها إلا من مات مؤمناً. فإذا قال الإنسان: أنا مؤمن قطعاً وأنا مؤمن عند الله قيل له: فاقطع بأنك تدخل الجنة بلا عذاب إذا مت على هذا الحال فإن الله أخبر أن المؤمنين في الجنة ... " (2).   (1) رواه الطبراني (9/ 158) (8792) , والحاكم (2/ 579) وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (6/ 165) (30373) , قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 60): رجاله ثقات. وقال الألباني في ((الإيمان)) (22) لابن أبي شيبة: إسناده صحيح موقوفا. وقال في ((الإيمان)) لأبي عبيد (40): إسناده على شرط الشيخين. (2) ((الفتاوى)) (7/ 416). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 فلهذا المعنى كان ابن مسعود – رضي الله عنه – ينكر على من يقطع بالإيمان ويأمر بالاستثناء فيه لا على المعنى الذي ظنه هؤلاء من أن ابن مسعود يأمر بالاستثناء نظراً للخاتمة. يقول شيخ الإسلام: "وابن مسعود – رضي الله عنه - لم يكن يخفى عليه أن الجنة لا تكون إلا لمن مات مؤمناً وأن الإنسان لا يعلم على ماذا يموت فإن ابن مسعود أجل قدراً من هذا، وإنما أراد سلوه هل هو في الجنة إن مات على هذه الحال؟ كأنه قال: سلوه أيكون من أهل الجنة على هذه الحال؟ فلما قال: الله أعلم قال: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية يقول: هذا التوقف يدل على أنك لا تشهد لنفسك بفعل الواجبات وترك المحرمات فإنه من شهد لنفسه بذلك شهد لنفسه أنه من أهل الجنة إن مات على ذلك ... " (1).وقد ذكر في بعض الروايات أن ابن مسعود – رضي الله عنه – رجع عن قوله وهذا بسبب سؤال أورده عليه بعضهم وهو: (أنشدك بالله أتعلم أن الناس في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم – على ثلاثة أصناف: مؤمن السريرة مؤمن العلانية، وكافر السريرة كافر العلانية، ومؤمن العلانية كافر السريرة؟) (2).وفي لفظ أنه قال له: (ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف: مؤمن ومنافق وكافر فمن أيهم كنت؟ قال: من المؤمنين) (3).وهذا الذي ذكر هنا غير ثابت عن ابن مسعود – رضي الله عنه -، وقد أنكره غير واحد من أهل العلم، قال أبو عبيد: وقد رأيت يحيى بن سعيد ينكره ويطعن في إسناده لأن أصحاب عبدالله على خلافه (4).وروى الخلال في السنة عن الحسن بن محمد بن الحارث أنه سأل الإمام أحمد (هل يصح قول ابن عميرة أن ابن مسعود رجع عن الاستثناء؟ فقال لا يصح، وأنكر أحمد قولي رجع عن الاستثناء إنكاراً شديداً، وقال: كذلك أصحابه يقولون بالاستثناء) (5).ثم على فرض ثبوته فقوله إنه من المؤمنين محمول على أصل الإيمان ولهذا يقول أبو عبيد: "إنما نراه أراد أني كنت من أهل هذا الدين لا من الآخرين، فأما الشهادة بها عند الله فإنه كان عندنا أعلم بالله وأتقى له من أن يريده، فكيف يكون ذلك والله يقول: فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم: 32] ... " (6). وبسبب هذا السؤال ظن كثير من المرجئة أن ابن مسعود – رضي الله عنه – رجع عن الاستثناء عندما نظر إلى الحال وأنه كان يقول بالاستثناء عندما كان ينظر إلى الخاتمة والمآل. قال شيخ الإسلام: "ولهذا السؤال صار طائفة كثيرة يقولون: المؤمن هو من سبق في علم الله أنه يختم له بالإيمان، والكافر من سبق في علم الله أنه كافر وأنه لا اعتبار بما كان قبل ذلك، وعلى هذا يجعلون الاستثناء، وهذا أحد قولي الناس من أصحاب أحمد وغيرهم وهو قول أبي الحسن وأصحابه" (7). أي: يجعلون الاستثناء بالنظر إلى الموافاة وقد سبق التنبيه إلى أن ابن مسعود أجل من أن يكون ذلك هو مراده، ومقصوده بالاستثناء.   (1) ((الفتاوى)) (7/ 417، 418). (2) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (6/ 160) قال الألباني في ((الإيمان)) (ص: 73) لابن أبي شيبة: فإسناده إلى ابن مغفل صحيح، وأما إلى ابن مسعود فضعيف. (3) رواه أبو عبيد في ((الإيمان)) (ص: 18) قال الألباني: فيه رجل لم يسم. (4) ((الإيمان)) (ص: 69). (5) رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 599). (6) ((الإيمان)) (ص: 69). (7) ((الفتاوى)) (7/ 417). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 وأما أثر علقمة وأنه كان بينه وبين رجل من الخوارج كلام وأن الخارجي قال له: أمؤمن أنت؟ فقال: أرجو. فليس في هذا ما يدل على أنه يرى وجوب الاستثناء، بل وليس فيه ما يدل على أنه يرى أن الاستثناء إنما يكون بحسب الموافاة. بل مقصوده بهذا الاستثناء النظر إلى الأعمال وتكميلها والبعد عن تزكية النفس كما هي طريقة السلف في هذه المسألة. وأما استدلالهم الثاني لمسألة الموافاة: بأن الإيمان الحقيقي المنجي هو الإيمان الذي يوافي به العبد ربه، وبناء على هذا يكون الاستثناء لأجل الموافاة لأن كل أحد يشك في مستقبله هل يثبت على الإيمان أو لا؟ فالجواب عنه من وجوه: الأول: أن هذا ليس هو مراد السلف بالاستثناء وليس مقصودهم ولا كان أحد منهم يستثنى في إيمانه لهذا السبب، لكن لما اشتهر عند هؤلاء أن السلف يستثنون في الإيمان ورأوا أن هذا لا يمكن إلا إذا جعل الإيمان هو ما يموت العبد عليه وهو ما يوافي به العبد ربه ظنوا أن الإيمان عند السلف هو هذا وهذا غلط عليهم. الثاني: أن من لوازم هذا القول أن لا يقطع بقبول الله لتوبة التائبين وهم يلتزمونه، قال شيخ الإسلام: "ولهذا صار الذين لا يرون الاستثناء لأجل الحاضر بل للموافاة لا يقطعون بأن الله يقبل توبة التائب كما لا يقطعون بأن الله تعالى يعاقب مذنباً وهم لا يقطعون لأحد من أهل القبلة لا بجنة ولا نار إلا من قطع له النص. وإذا قيل الجنة هي لمن أتي بالتوبة النصوح من جميع السيئات ولو مات على هذه التوبة لم يقطع له بالجنة وهم لا يستثنون في الأحوال بل يجزمون بأن المؤمن تام الإيمان ولكن عندهم الإيمان عند الله هو ما يوافي به فمن قطعوا له بأنه مات مؤمناً لا ذنب له قطعوا له بالجنة، فلهذا لا يقطعون بقبول التوبة لئلا يلزمهم أن يقطعوا بالجنة وأما أئمة السلف فإنما لم يقطعوا بالجنة لأنهم لا يقطعون بأنه فعل المأمور وترك المحظور، ولا أنه أتى بالتوبة النصوح وإلا فهم يقطعون بأن من تاب توبة نصوحاً قبل الله توبته" (1).الثالث: أن من لوازم قولهم هذا أن يستثنى في الكفر أيضاً وليس في الإيمان فقط، فيقول: لست كافراً إن شاء الله؛ لأن كل أحد لا يعلم من نفسه هل يثبت على الإيمان إلى أن يموت أو لا، فإن ما ذكروه مطرد فيهما، ولهذا فإن بعض محققيهم التزم هذا اللازم وقال به ولكن جماهير الأئمة على أنه لا يستثنى في الكفر والاستثناء فيه بدعة لم يعرف عنه أحد من السلف (2). الرابع: أن لهذه المسألة تعلقاً بمسألة الرضا والسخط هل هو قديم أو محدث بمعنى أن المؤمن الذي علم الله أنه يموت كافراً وبالعكس هل يتعلق رضا الله وسخطه ومحبته وبغضه بما هو عليه أو بما يوافي به؟ فهم يقولون: إن محبة الله ورضاه وسخطه وبغضه قديم ثم هل ذلك هو الإرادة أم صفات أخرى؟ لهم في ذلك قولان. ويقولون: والله يحب في أزله من كان كافراً إذا علم أنه يموت مؤمناً، فالصحابة ما زالوا محبوبين لله وإن كانوا قد عبدوا الأصنام مدة من الدهر، وإبليس ما زال الله يبغضه وإن كان لم يكفر بعد، وهذا المعنى تابع لعلم الله، فمن علم أنه يموت مؤمناً لم يزل ولياً لله محبوباً له لأنه لم يزل مريداً لإدخاله الجنة، ومن علم أنه يموت كافراً لم يزل عدواً لله لأنه لم يزل مريداً لإدخاله النار (3).   (1) ((الفتاوى)) (7/ 418). (2) انظر ((الفتاوى)) (7/ 431). (3) انظر ((الفتاوى)) (7/ 430 و 667). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 فالكفر الذي عند الأول وجوده كعدمه فلم يكن هذا كافراً عندهم أصلاً، والإيمان الذي كان عند الثاني وجوده كعدمه فلم يكن عندهم مؤمناً أصلاً لأن الإيمان هو ما يوافي به العبد ربه. أما جمهور أهل العلم فيقولون: الولاية والعداوة وإن تضمنت محبة الله ورضاه وبغضه وسخطه فهو سبحانه يرضى عن الإنسان ويحبه بعد أن يؤمن ويعمل صالحاً، وإنما يسخط عليه ويغضب بعد أن يكفر كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ [محمد: 28] فأخبر أن الأعمال أسخطته وكذلك قال: فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ [الزخرف: 55] قال المفسرون: أغضبونا وكذلك قال تعالى: وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر: 7] وغير ذلك من النصوص الدالة على أن غضب الله وسخطه ورضاه وحبه يكون بعد حصول ما يقتضي ذلك من العبد، فالله يبغض العبد إذا حصل منه الكفر ويحبه إذا حصل منه الإيمان. وقد بسط شيخ الإسلام ابن تيمية أدلة هذه المسألة بسطاً وافياً في كتاب (الإيمان) وذكر أدلتها من الكتاب والسنة (1).الخامس: أن هؤلاء لما عللوا الاستثناء في الإيمان بتلك العلة طرد أقوام تلك العلة في الأشياء التي لا يجوز الاستثناء فيها بإجماع المسلمين بناء على أن الأشياء الموجودة الآن إذا كانت في علم الله تتبدل أحوالها فيستثنى في صفاتها الموجودة في الحال ويقال: هذا صغير إن شاء الله لأن الله قد يجعله كبيراً، ويقال: هذا مجنون إن شاء الله لأن، الله قد يجعله عاقلاً ويقال للمرتد هذا كافر إن شاء الله لإمكان أن يتوب وهؤلاء الذين استثنوا في الإيمان بناء على هذا المأخذ ظنوا هذا قول السلف (2) والمقصود أن بدعة هؤلاء ومأخذهم في الاستثناء جر إلى بدع أخرى عديدة. فإن بدعة هؤلاء كانت وراء نشوء بدعة المرازقة الذين ينتسبون إلى عثمان بن مرزوق فقد كانوا يستثنون في الإيمان اتباعاً للسلف واستثنوا أيضاً في الأعمال الصالحة كقول الرجل صليت إن شاء الله ونحو ذلك بمعنى القبول لما في ذلك من الآثار عن السلف ثم صار كثير من هؤلاء بآخره يستثنون في كل شيء، فيقول هذا ثوب إن شاء الله، وهذا حبل إن شاء الله فإذا قيل لأحدهم: هذا لا شك فيه قال: نعم لا شك فيه، لكن إذا شاء الله أن يغيره غيره فيريدون بقولهم إن شاء الله جواز تغييره في المستقبل وإن كان في الحال لا شك فيه كأن الحقيقة عندهم التي لا يستثنى فيها ما لم تتبدل كما يقوله أولئك في الإيمان، إن الإيمان ما علم الله أنه لا يتبدل حتى يموت صاحبه عليه (3) فبدعة أولئك جرت إلى بدعة هؤلاء، والبدع يتوالد بعضها من بعض.   (1) ((الفتاوى)) (7/ 442 وما بعدها). (2) انظر ((الفتاوى)) (7/ 434). (3) انظر ((الفتاوى)) (7/ 432، 433). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عن بدعة المرازقة هذه فأجاب بقوله: "إن جماعات ينتسبون إلى الشيخ عثمان بن مرزوق ويقولون أشياء مخالفة لما كان عليه. وهو منتسب إلى مذهب أحمد وهم ينتسبون إلى مذهب الشافعي ويقولون أقوالاً مخالفة لمذهب الشافعي وأحمد بل ولسائر الأئمة، وشيخهم هذا من شيوخ العلم والدين له أسوة أمثاله وإذا قال قولاً علم أن قول الشافعي وأحمد يخالفه وجب تقديم قولهما على قوله مع دلالة الكتاب والسنة على قول الأئمة فكيف إذ كان القول مخالفاً لقوله ولقول الأئمة والكتاب والسنة. وذلك مثل قولهم: ولا نقول قطعاً، ونقول نشهد أن محمداً رسول الله ولا نقطع، ونقول: إن السماء فوقنا ولا نقطع ويروون أثراً عن علي وبعضهم يرفعه أنه قال: "لا تقل قطعاً" وهذا من الكذب المفترى باتفاق أهل العلم، ولم يكن شيخهم يقول هذا بل هذه بدعة أحدثها بعض أصحابه بعد موته .. إلى أن قال: والواجب موافقة جماعة المسلمين فإن قول القائل: قطعاً بذلك مثل قوله أشهد بذلك وأجزم بذلك وأعلم ذلك فإن قال: أشهد ولا أقطع كان جاهلاً والجاهل عليه أن يرجع ولا يصر على جهله ولا يخالف ما عليه علماء المسلمين فإنه يكون بذلك مبتدعاً جاهلاً ضالاً ... " (1).ومما قد يستدل به هؤلاء على بدعتهم المنكرة هذه ما روي مرفوعاً من حديث أبي هريرة: ((إن من تمام إيمان العبد أن يستثنى في كل حديثه)) (2).قال الذهبي: "هذا الحديث باطل قد يحتج به المرازقة الذين لو قيل لأحدهم أنت مسيلمة الكذاب لقال إن شاء الله"!! (3). فيظن أن نفيه لذلك نفي لقدرة الله وهذا جهل عظيم منه لأنه سئل عن حاله ولم يسأل عن قدرة الله على تغيير حاله فسوء الفهم وقلة العلم هو سبب انحراف هؤلاء. والمقصود: أن إيجاب الاستثناء وربطه بالموافاة ليس من نهج السلف ولا على طريقتهم، والواجب موافقتهم والسير على نهجهم، فهم أسعد بالدليل وأولى بالحق والسبيل، والله أعلم. المصدر: زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر - ص 501   (1) ((الفتاوى)) (7/ 680 – 682). (2) قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 182): رواه الطبراني في ((الأوسط)) وفيه عبدالله بن سعيد ابن أبى سعيد وهو ضعيف. وقال ابن عدي في ((الكامل)) (8/ 210): غير محفوظ. وقال الذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (4/ 134): باطل. وقال الألباني في ((ضعيف الجامع)) (2004): موضوع. (3) ((الميزان)) (4/ 134)، ونقله السيوطي في ((اللآلىء)) (ص: 42). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 المبحث السادس: الفرق بين تصديق الأشاعرة ومعرفة جهم شيخ الإسلام ينسب إلى جهم أن الإيمان هو المعرفة، أو التصديق، ويقرر أن الفرق بين معرفة القلب وبين مجرد التصديق الخالي من الانقياد، أمر دقيق، وأكثر العقلاء ينكرونه. كما أنه نسب إلى الأشعري في أحد قوليه، وإلى أكثر أصحابه أنهم نصروا قول جهم في الإيمان، وسمى من هؤلاء: الباقلاني، والجويني، والرازي. لكن هل ينطبق هذا على متأخري الأشاعرة؟ وهل يثبتون تصديقا مجردا من أعمال القلوب؟ والحق أن الناظر في كتب هؤلاء المتأخرين يتبين له أنهم لا يثبتون تصديقا مجردا عن أعمال القلوب، بل يدخلون في التصديق: الإذعان والانقياد والقبول والرضى، ويفرقون بينه وبين المعرفة التي أثبتها جهم، كما أنهم يقررون كفر كثير من المشركين وأهل الكتاب الذين كانوا يعرفون الحق ولا ينقادون له. ومن أقوالهم في تعريف التصديق: قال في (إتحاف المريد): (وهو تصديق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما علم مجيئه به من الدين بالضرورة ... والمراد من تصديقه صلى الله عليه وسلم: قبول ما جاء به مع الرضا بترك التكبر والعناد، وبناء الأعمال عليه، لا مجرد وقوع نسبة الصدق إليه في القلب من غير إذعان وقبول له، حتى يلزم الحكم بإيمان كثير من الكفار الذين كانوا عالمين بحقيقة نبوته عليه الصلاة والسلام وما جاء به، لأنهم لم يكونوا أذعنوا لذلك ولا قبلوه ولا بنوا الأعمال الصالحة عليه، بحيث صار يطلق عليه اسم التسليم كما هو مدلوله الوضعي).وقال البيجوري: (والمراد بتصديق النبي في ذلك: الإذعان لما جاء به والقبول له، وليس المراد وقوع نسبة الصدق إليه في القلب من غير إذعان وقبول له حتى يلزم الحكم بإيمان كثير من الكفار الذين كانوا يعرفون حقيقة نبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم، مصداق ذلك قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ [البقرة:146] قال عبد الله بن سلام: لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني، ومعرفتي لمحمد أشد).وقال الدردير في شرحه على (الخريدة): (والمراد من تصديقه عليه الصلاة والسلام: الإذعان والقبول لما جاء به بحيث يقع عليه اسم التسليم من غير تكبر وعناد، لا مجرد وقوع نسبة الصدق إليه في القلب من غير إذعان وقبول حتى يلزم الحكم بإيمان كثير من الكفار الذين كانوا عالمين بحقيقة نبوته عليه الصلاة والسلام وما جاء به؛ لأنهم لم يكونوا أذعنوا لذلك ولا قبلوه بحيث يطلق عليه اسم التسليم. وعلى هذا فالإيمان الشرعي هو حديث النفس التابع للمعرفة، أي الإدراك الجازم، بناء على الصحيح من أن إيمان المقلد صحيح. فالإذعان والقبول والتصديق والتسليم عبارات عن شيء واحد، وهو حديث النفس المذكور، فيكون الإيمان فعلا من أفعال النفس، وليس من قبيل العلوم والمعارف، ويظهر من كلام بعضهم أنه الراجح) ثم ذكر ما ذهب إليه التفتازاني وكثير من المحققين من أن التصديق هو نفس الإدراك، فيكون من قبيل العلوم والمعارف. وفي (حاشية السيالكوتي على شرح المواقف)، بعد أن ذكر أن التصديق كسبي اختياري، قال: (والإيمان الشرعي يجب أن يكون من الأول، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا ادعى النبوة وأظهر المعجزة فوقع صدقه في قلب أحد ضرورة من غير أن ينسب إليه اختيار، لا يقال في اللغة: إنه صدقه، فلا يكون إيمانا شرعيا، كذا في شرح المقاصد. وفيه بحث، فإن من حصل له تصديق بلا اختيار إذا التزم العمل بموجبه يكون إيمانا اتفاقا، ولو صدق النبي صلى الله عليه وسلم بالنظر في معجزاته اختيارا، ولم يلتزم عمل بموجبه، بل عانده فهو كافر اتفاقا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 فعلم أن المعتبر في الإيمان الشرعي هو اختيار في التزام موجب التصديق لا في نفسه، وهذا هو التسليم الذي اعتبره بعض الفضلاء أمرا زائدا على التصديق فليتأمل). والحاصل أن الأشاعرة يشترطون في الإيمان: الإذعان والانقياد والقبول وترك العناد والتكبر، لكنهم يجعلون ذلك نفس "التصديق"، ثم يتكلفون في إيجاد الفرق بين "المعرفة" و" التصديق" ولو قالوا: إن التصديق يجب أن يصحبه إذعان وانقياد وقبول، لسهل الأمر، لكنهم يعلمون أن ذلك مبطل لأصلهم الذي بنوا عليه إخراج العمل من الإيمان، وهو الزعم بأن الإيمان لُغوي، وأن الشرع لم يغير معناه الذي هو التصديق، ولم يتصرف فيه، وأن الإيمان شيء واحد. ولهذا لما نقل شيخ الإسلام عن بعضهم القول بأنهم: (اختلفوا في إضافة ما لا يدخل في جملة التصديق إليه لصحة الاسم، فمنها ترك قتل الرسول، وترك إيذائه، وترك تعظيم الأصنام، فهذا من التروك. ومن الأفعال: نصرة الرسول، والذب عنه، وقالوا: إن جميعه يضاف إلى التصديق شرعا. وقال آخرون: إنه من الكبائر، لا يخرج المرء بالمخالفة فيه عن الإيمان).علق شيخ الإسلام بقوله: (قلت: وهذان القولان ليسا قول جهم، لكن من قال ذلك فقد اعترف بأنه ليس مجرد تصديق القلب، وليس هو شيئا واحدا، وقال: إن الشرع تصرف فيه. وهذا يهدم أصلهم، ولهذا كان حذاق هؤلاء كجهم والصالحي وأبي الحسن والقاضي أبي بكر على أنه لا يزول عنه اسم الإيمان إلا بزوال العلم من قلبه). ثم نقل عن أبي المعالي الجويني وأبي القاسم الأنصاري شارح (الإرشاد) ما يفيد أن الإيمان هو التصديق بالقلب، إلا أن الشرع أوجب ترك العناد، وعليه فكفر اليهود العالمين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم هو من هذا الباب، أي كفروا عنادا وبغيا وحسدا. قال شيخ الإسلام: والحذاق في هذا المذهب كأبي الحسن والقاضي ومن قبلهم من أتباع جهم عرفوا أن هذا تناقض يفسد الأصل، فقالوا: لا يكون أحد كافرا إلا إذا ذهب ما في قلبه من التصديق، والتزموا أن كل من حكم الشرع بكفره فإنه ليس في قلبه شيء من معرفة الله ولا معرفة رسوله، ولهذا أنكر هذا عليهم جماهير العقلاء وقالوا: هذا مكابرة وسفسطة. بطلان مذهب من جعل عملَ القلب نفسَ التصديق: قد تبين مما سبق أن متأخري الأشاعرة أثبتوا عمل القلب، من القبول والانقياد والإذعان، لكنهم جعلوا ذلك نفس التصديق، كما في قول الدردير: (فالإذعان والقبول والتصديق والتسليم عبارات عن شيء واحد)، وسبقت الإشارة إلى أن هذا مذهب أبي الحسين الصالحي، وأن شيخ الإسلام جزم بفساد هذا القول، واعتبره ضلالا بينا، قال: (والمرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان؛ فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضا، وجعلها هي التصديق فهذا ضلال بيِّن). وإدخال عمل القلب في التصديق، باطل لأمور كثيرة أظهرها ما يترتب على ذلك من القول بأنَّ من كان كفره من جهة انتفاء عمل القلب، كإبليس وفرعون واليهود العالمين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فليس في قلبه شيء من التصديق، لأنه إذا كان عملُ القلب هو نفس التصديق، كان انتفاؤه يعني انتفاء التصديق، ويلزم على ذلك أنَّ هؤلاء المذكورين ليسوا مصدقين، وأنه لا يزول اسم الإيمان عن أحد إلا بزوال العلم والتصديق من قلبه. وهذا الذي اعتمده الحذاق في هذا المذهب كأبي الحسن والقاضي أبي بكر، كما سبق. وأما المتأخرون فقد وقعوا في التناقض الذي أشار إليه شيخ الإسلام، فأثبتوا العلم والتصديق لكثير من المشركين وأهل الكتاب، ونفوا عنهم الإذعان والانقياد، مع قولهم: إن التصديق هو نفس الإذعان والانقياد! وهؤلاء يلزمهم أن يقولوا: إنَّ الإيمان الواجب في القلب أمران: التصديق، والعمل، وأنه قد يوجد التصديق من غير العمل، لكنَّ هذا يفسد الأصل الذي بنوا عليه مذهبهم، وهو أن الإيمان مجرد التصديق، وأنه شيء واحد، وأن الشرع لم يتصرف فيه! وهذا الاضطراب جزاء من أعرض عن نصوص الكتاب والسنة، والتمس الهدى في غيرهما من الآراء الكلامية، والقواعد المنطقية. وهذا ما سيظهر أيضا من خلال عرض مفهوم الكفر عندهم. المصدر: الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير - 1/ 251 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 المبحث السابع: رأي الأشاعرة في مرتكب الكبيرة اتفق الأشاعرة على انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر. أما الصغائر فقد ذكر شارح "المقاصد" اتفاق الأمة عن أن الله تعالى يعفو عنها مطلقاً (1) ويفهم منه أن الأشاعرة مجمعون على ذلك، إلا أن شارح (جوهرة التوحيد) ذكر رأيين في هذه المسألة بعد أن ذكر الاتفاق على ترتيب التكفير على اجتناب الكبائر، فقال: ذهب أئمة الكلام إلى أنه لا يجب التكفير على القطع بل يجوز ويغلب على الظن ويقوى فيه الرجاء، لأنا لو قطعنا لمجتنب الكبائر بتكفير صغائره بالاجتناب، لكانت له في حكم المباح الذي يقطع بأنه لا تبعه فيه. وذلك نقض لعرى الشريعة، فقوله تعالى: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء: 31] معناه إن شئنا حملاً له على قوله: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48].وذهب جماعة من الفقهاء والمحدثين والمعتزلة إلى أن المكلف إذا اجتنب الكبائر كفرت صغائره قطعاً ولم يجز تعذيبه عليها، بمعنى أنه لا يجوز أن يقع لقيام الأدلة السمعية على عدم وقوعه كقوله تعالى: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ... [النساء: 31]، والنظم ظاهر في هذا الثاني وهو أشهر من الأول عندهم، ومبني القولين جواز العقاب على الصغيرة وامتناعه والأول هو الحق (2). وهذا الكلام يدل على انقسام القوم في غفران الصغيرة إلى رأيين. أحدهما: القول بأنها تغفر قطعاً نظراً لوعد الله سبحانه وتعالى بذلك في كتابه حيث قال: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء: 31]، وهذا إيجاب منه تعالى على نفسه بغفران الصغائر إذا اجتنبت الكبائر فلابد وأن الصغائر تغفر لا محالة تفضلاً منه سبحانه. وهذا الرأي هو المذهب المشهور عن الأشاعرة كما ذكر ذلك شارح (المقاصد) الذي يعتبر كتابه من أشهر الكتب التي يعتمد عليها أصحابه. أما الرأي الثاني فهو القول بأن الصغائر يجوز أن تغفر، ولا نقول بالقطع لأن في ذلك إغراءاً بفعلها، وهو دليل عقلي بحت ولا يخفى ما بين الرأيين من تقارب؛ إذ كلها تتفق على أن الصغائر تغفر إذا اجتنبت الكبائر تفضلا والخلاف في القطع بذلك أو عدمه. ولكن الرأي الذي يسنده الدليل هو القائل بأنها تغفر قطعاً إذا اجتنبت الكبائر لوضوح الأدلة على ذلك، ولا تخفى مؤاخذة صاحبها إن كانت تجره إلى فعل الكبيرة.   (1) شرح ((المقاصد))، (2/ 235)، ودعوى اتفاق الأمة غير صحيح، فخلاف الخوارج مشهور. (2) اللقاني، عبدالسلام بن إبراهيم المالكي، ((إتحاف المريد بجوهرة التوحيد))، (ص: 158)، تعليق الشيخ محمد يوسف الشيخ، ط سنة 1379هـ - 1960م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 هذا بشأن حكم الصغيرة عند الأشاعرة أما حكم مرتكبي الكبائر، فالكلام في ذلك ذو شقين أحدهما الكلام في صفته وتسميته في الدنيا، والثاني الكلام في حكمه الأخروي. فأما تسميته وحكمه الدنيوي فقد ذهبوا إلى القول بأن مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق، لأن ارتكاب الكبيرة لا يذهب إيمانه كما ذهب إليه المعتزلة وإنما يؤثر فيه بالنقصان، فيسلب منه كمال الإيمان، ويقيد بما اتصف به من معصية وفسق، فيقال مؤمن فاسق. وفي هذا يقول أبو بكر الباقلاني في (التمهيد): فإن قال قائل: فخبروني عن الفاسق الملي هل تسمونه مؤمناً بإيمانه الذي فيه، وهل تقولون إن فسقه لا يضادّ إيمانه؟ قيل له: أجل، فإن قال: فلم قلتم إن الفسق الذي ليس بجهل بالله لا يضاد الإيمان؟ قيل له: لأن الشيئين إنما يتضادان في محل واحد، وقد علمنا أن ما يوجد بالجوارح لا يجوز أن ينفى علماً وتصديقاً، يوجد بالقلب فثبت أنه غير مضاد للعلم بالله والتصديق له. والدليل على ذلك أنه قد يعزم على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم بقلبه من لا ينفي عزمه على ذلك معرفة النبي صلى الله عليه وسلم، وتصديقه له، وكذلك حكم القول في العزم على معصية الله عز وجل، وأنه غير مضاد لمعرفته والعلم به، والتصديق له هو الإيمان لا غير. فصح بذلك اجتماع الفسق الذي ليس بكفر مع الإيمان وأنهما غير متضادين. فإن قال: ولم قلتم إنه يجب أن يسمى الفاسق الملي بما فيه من الإيمان مؤمناً؟ قيل له: لأن أهل اللغة إنما يشتقون هذا الاسم للمسمى به من وجود الإيمان به، فلما كان الإيمان موجوداً بالفاسق الذي وصفنا حاله، وجب أن يسمى مؤمناً كما أنه لما لم يضاد ما فيه من الإيمان فسقه الذي ليس بكفر وجب أن يسمى به فاسقاً. وأهل اللغة متفقون على أن اجتماع الوصفين المختلفين لا يوجب منع اشتقاق الأسماء منهما، ومن أحدهما، فوجب بذلك ما قلناه (1). فمما تقدم يتبين لنا الرأي ودليله، وذلك الدليل الذي ساقة الباقلاني ذو شقين، أحدهما عقلي والآخر لغوي. أما العقلي: فيقول إن الفسق لا يضاد الإيمان، لأن التضاد بين الشيئين لا يكون إلا إذا وجدا في محل واحد، والمعصية التي بها يكون الفسق محلها الجوارح، والإيمان عندهم محله القلب فقط. وما يوجد بالجوارح لا يجوز أن ينفي ما يوجد بالقلب، لأنه غير مضاد له، إذ قد يعص الله تعالى من هو مصدق بقلبه بالله ورسله، فصح بذلك اجتماع الفسق والإيمان. وأما اللغوي: فهو أن أهل اللغة يشتقون تسمية الشيء من صفة توجد فيه، والإيمان الذي هو التصديق القلبي موجود في الفاسق الذي عصى الله تعالى بعمل قبيح صدر عن الجوارح غير مضاد للإيمان.   (1) الباقلاني، أبو بكر محمد بن الطيب، كتاب ((التمهيد))، (ص: 349 – 350)، نشر المكتبة الشرقية، بيروت، سنة 1957م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 وهذان الدليلان – ما هو واضح – مبنيان على مذهبهم القائل بأن الإيمان هو التصديق القلبي بالله وملائكته وكتبه ورسله، الذي تقدم بيانه، وأن أعمال الجوارح إنما هي ثمرات ذلك التصديق القلبي، وليست ركناً فيه، ولا جزءاً في مفهومه. وهم موافقون للسلف في إطلاقهم هذه الصفة على مرتكب الذنب الكبير وقد تقدم استدلالهم على هذه التسمية بمثل قوله تعالى في شأن حاطب بن أبي بلتعة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء ... [الممتحنة: 1]. فقط خاطبه باسم الإيمان مع ما ارتكبه من عظيم الذنب بشأن الله ورسوله في قصته المشهورة ومثل قوله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات: 9] فسماهم مؤمنين مع اقتتالهم، وغير ذلك من الآيات التي تطلق على فاعل الذنب الكبير اسم المؤمن، وذلك أيضاً دليل للأشاعرة لأنهم يرون نفس الرأي. أما الحكم الأخروي لمرتكب الكبيرة، عند الأشاعرة، فإنهم أيضاً يوافقون السلف فيه. حيث فوضوا أمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه بعدله وإن شاء غفر له بفضله وذلك إذا مات المذنب من غير توبة، وعن سابق إصرار وفي ذلك يقول البغدادي من الأشاعرة: " ... فأما أصحاب الذنوب من المسلمين إذا ماتوا قبل التوبة فمنهم من يغفر الله عز وجل له قبل تعذيب أهل العذاب، ومنهم من يعذبه في النار مدة ثم يغفر له ويرده إلى الجنة برحمته" (1).ويقول الشيخ عبدالسلام بن إبراهيم اللقاني في شرح (جوهرة التوحيد). " ... فذهب أهل الحق إلى أنه لا يقطع له بعفو ولا عقاب، بل هو في مشيئة الله سبحانه وتعالى، وعلى تقدير وقوع العقاب عدلاً منه سبحانه وتعالى يقطع له بعدم الخلود في النار .... " (2). ولا نعلم خلافاً للأشاعرة في هذه المسألة. ويتبين لنا مما تقدم أن معتقد القوم في مرتكب الكبيرة أنه لا يقطع عليه بحكم ما، بل يفوض أمره إلى الله سبحانه وتعالى، إن شاء غفر له ذنوبه ابتداء من غير سابق تعذيب فيدخله الجنة بفضله ورحمته، وإن شاء أدخله النار وعذبه سابق تعذيب فيدخله الجنة بفضله ورحمته، وإن شاء أدخله النار وعذبه بقدر جرمه ثم أخرجه منها وأدخله الجنة. وكل هذا يستندون فيه إلى أدلة شرعية منها ما يدل على إمكان غفران الذنوب، ومنها ما يدل على عدم تخليد المذنب المؤمن إذا هو أدخل النار لمعاقبته التي تتم بعدل من الله سبحانه وتعالى. فمن النصوص التي استدلوا بها على غفران الذنوب ما عدا الشرك قوله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48] وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر: 53] إلى غير ذلك مما استدلوا به على هذه المسألة مما ورد في كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه مما تقدم ذكره في بيان مذهب السلف، فلا داعي لتكراره. ثم إنهم استدلوا على هذه المسألة أيضا بأن العقاب حقه تعالى فيحسن إسقاطه مع أن فيه نفعا للعبد من غير ضرر لأحد (3). أما دليلهم على أن من عذب من العصاة لا يخلد في النار فهو أيضاً عين ما استدل به السلف من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)) (4) , قالوا: وليس ذلك استقامة الكلام: خاصاً بما قبل دخول النار بل قد يكون بعده. وهي مسألة انقطاع العذاب أو بدونه وهي مسألة العفو التام (5). من أدلتهم أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: ((يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)) (6) , إلى غير ذلك من الأدلة. المصدر: الإيمان بين السلف والمتكلمين لأحمد الغامدي - ص 170   (1) البغدادي، أبو منصور عبدالقاهر بن طاهر، ((أصول الدين))، (ص: 242)، ط1 مطبعة الدولة، استانبول، سنة 1346هـ - 1928م. (2) انظر: ((إتحاف المريد بجوهرة التوحيد))، تعليق الشيخ محمد يوسف الشيخ، (ص: 173)، ط سنة 1379هـ. (3) عبدالسلام بن إبراهيم اللقاني، ((إتحاف المريد بجوهرة التوحيد))، تعليق الشيخ محمد يوسف الشيخ، (ص: 172). (4) رواه الحاكم (4/ 279) من حديث أبي طلحة الأنصاري, وقال صحيح الإسناد, ورواه مسلم (27) من حديث عثمان رضي الله عنه بلفظ: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة). (5) ((إتحاف المريد بجوهرة التوحيد))، تعليق الشيخ محمد يوسف الشيخ، (ص: 174). (6) رواه الترمذي (2593) , من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, وقال حديث حسن صحيح, وصححه الألباني, وقال في ((السلسلة)) (2450): صحيح على شرط الشيخين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 المبحث الثامن: مفهوم الكفر عند الأشاعرة يرى الأشاعرة أن الكفر هو التكذيب، أو الجهل بالله تعالى، وأن ما كان من أمور الكفر المجمع عليها كالسجود للصنم وعبادة الأفلاك ليس كفرا في نفسه، لكنه علامة على الكفر، ويجوز أن يكون فاعل ذلك في الباطن مؤمنا. ومنهم من يقول: هذه الأمور جعلها الشارع علامة على التكذيب، فيحكم على فاعلها بوجود التكذيب في قلبه وانتفاء التصديق منه. قال الباقلاني: (باب القول في معنى الكفر: إن قال قائل: وما الكفر عندكم؟ قيل له: ضد الإيمان، وهو الجهل بالله عز وجل، والتكذيب به، الساتر لقلب الإنسان عن العلم به، فهو كالمغطي للقلب عن معرفة الحق ... وقد يكون الكفر بمعنى التكذيب والجحد والإنكار، ومنه قولهم: كفرني حقي أي جحدني. وليس في المعاصي كفر غير ما ذكرناه، وإن جاز أن يسمى أحيانا ما جُعل علَما على الكفر كفرا، نحو عبادة الأفلاك والنيران، واستحلال المحرمات، وقتل الأنبياء، وما جرى مجرى ذلك مما ورد التوقيف به وصح الإجماع على أنه لا يقع إلا من كافر بالله ومكذب له وجاحد به).وقال البغدادي: (فقال أبو الحسن الأشعري: إن الإيمان هو التصديق لله ولرسله صلى الله عليهم وسلم في أخبارهم، ولا يكون هذا التصديق إلا بمعرفته. والكفر عنده هو التكذيب، وإلى هذا القول ذهب ابن الراوندي والحسين بن الفضل البجلي).وقال: (المسألة العاشرة من هذا الأصل في بيان الأفعال الدالة على الكفر: قال أصحابنا: إن أكل الخنزير من غير ضرورة ولا خوف، وإظهار زي الكفرة في بلاد المسلمين من غير إكراه عليه، والسجود للشمس أو الصنم، وما جرى مجرى ذلك من علامات الكفر وإن لم يكن في نفسه كفرا، إذا لم يضامَّه عقد القلب على الكفر. ومن فعل شيئا من ذلك أجرينا عليه حكم الكفر وإن لم نعلم كفره باطنا).وقال الإيجي: (المقصد الثالث: في الكفر: وهو خلاف الإيمان، فهو عندنا عدم تصديق الرسول في بعض ما علم مجيئه به ضرورة. فإن قيل: فشادُّ الزنار ولابس الغيار بالاختيار لا يكون كافرا؟ قلنا: جعلنا الشيء علامة للتكذيب، فحكمنا عليه بذلك) والحاصل أن الأشاعرة لا يرون الكفر إلا تكذيب القلب أو جهله، ولا يرون عملا أو قولا هو كفر بذاته، وأنَّ من حُكم بكفره، فلذهاب التصديق من قلبه، أو يقال: هو كافر ظاهرا، وقد يكون مؤمنا باطنا. وهم يلتقون مع جهم في هذا التأصيل. قال شيخ الإسلام: (ومن هنا يظهر خطأ قول جهم بن صفوان ومن اتبعه، حيث ظنوا أن الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه، لم يجعلوا أعمال القلب من الإيمان، وظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمنا كامل الإيمان بقلبه وهو مع هذا يسب الله ورسوله، ويعادي الله ورسوله، ويعادي أولياء الله، ويوالي أعداء الله، ويقتل الأنبياء، ويهدم المساجد، ويهين المصاحف، ويكرم الكفار غاية الكرامة، ويهين المؤمنين غاية الإهانة، قالوا: وهذه كلها معاص لا تنافي الإيمان الذي في قلبه، بل يفعل هذا وهو في الباطن عند الله مؤمن. قالوا: وإنما ثبت له في الدنيا أحكام الكفار؛ لأن هذه الأقوال أمارة على الكفر ليحكم بالظاهر كما يحكم بالإقرار والشهود، وإن كان في الباطن قد يكون بخلاف ما أقر به وبخلاف ما شهد به الشهود، فإذا أورد عليهم الكتاب والسنة والإجماع على أن الواحد من هؤلاء كافر في نفس الأمر معذب في الآخرة، قالوا: فهذا دليل على انتفاء التصديق والعلم من قلبه. فالكفر عندهم شيء واحد، وهو الجهل، والإيمان شيء واحد، وهو العلم، أو تكذيب القلب وتصديقه، فإنهم متنازعون هل تصديق القلب شيء غير العلم أو هو هو. وهذا القول مع أنه أفسد قول قيل في الإيمان فقد ذهب إليه كثير من أهل الكلام المرجئة). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 وقال: (فهؤلاء القائلون بقول جهم والصالحي قد صرحوا بأن سب الله ورسوله، والتكلم بالتثليث وكل كلمة من كلام الكفر ليس هو كفرا في الباطن، ولكنه دليل في الظاهر على الكفر، ويجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشاتم في الباطن عارفا بالله موحدا مؤمنا به). ولابن حزم كلام قوي في الرد على الأشاعرة في هذه المسألة، ومن ذلك قوله: (ونقول للجهمية والأشعرية في قولهم: إن جحد الله تعالى وشتمه وجحد الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان كل ذلك باللسان فإنه ليس كفرا لكنه دليل على أن في القلب كفرا: أخبرونا عن هذا الدليل الذي ذكرتم، أتقطعون به فتثبتونه يقينا ولا تشكون في أن في قلبه جحدا للربوبية وللنبوة، أم هو دليل يجوز ويدخله الشك ويمكن أن لا يكون في قلبه كفر؟ ولا بد من أحدهما، فإن قالوا: إنه دليل لا نقطع به قطعا ولا نثبته يقينا، قلنا لهم: فما بالكم تحتجون بالظن الذي قال تعالى فيه: إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [النجم:28].وقال أيضا: (وأما قولهم: إن شتم الله تعالى ليس كفرا، وكذلك شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو دعوى؛ لأن الله تعالى قال: يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ [التوبة:74] فنص تعالى على أن من الكلام ما هو كفر. وقال تعالى: أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ [النساء:140] فنص تعالى أن من الكلام في آيات الله تعالى ما هو كفر بعينه مسموع. وقال تعالى: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً [التوبة:65 - 66]، فنص تعالى على أن الاستهزاء بالله تعالى أو بآياته أو برسول من رسله كفر مخرج عن الإيمان، ولم يقل تعالى في ذلك: إني علمت أن في قلوبكم كفرا، بل جعلهم كفارا بنفس الاستهزاء، ومن ادعى غير هذا فقد قوَّل الله تعالى ما لم يقل، وكذب على الله تعالى).وقال: (وأما الأشعرية فقالوا: إن شتم من أظهر الإسلام لله تعالى ولرسوله بأفحش ما يكون من الشتم، وإعلان التكذيب بهما باللسان بلا تقية ولا حكاية، والإقرار بأنه يدين بذلك، ليس شيء من ذلك كفرا، ثم خشوا مبادرة جميع أهل الإسلام لهم فقالوا: لكنه دليل على أن في قلبه كفرا. فقلنا لهم: وتقطعون بصحة ما دل عليه هذا الدليل؟ فقالوا: لا). وقال: (وأما سب الله تعالى، فما على ظهر الأرض مسلم يخالف في أنه كفر مجرد إلا أن الجهمية والأشعرية، وهما طائفتان لا يعتد بهما، يصرحون بأن سب الله تعالى، وإعلان الكفر ليس كفرا، قال بعضهم: ولكنه دليل على أنه يعتقد الكفر، لا أنه كافر بيقين بسبه الله تعالى. وأصلهم في هذا أصل سوء خارج عن إجماع أهل الإسلام، وهو أنهم يقولون: الإيمان هو التصديق بالقلب فقط وإن أعلن بالكفر وعبادة الأوثان بغير تقية ولا حكاية لكن مختارا في ذلك الإسلام. قال أبو محمد: وهذا كفر مجرد؛ لأنه خلاف لإجماع الأمة، ولحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وجميع الصحابة ومن بعدهم؛ لأنه لا يختلف أحد- لا كافر ولا مؤمن - في أن هذا القرآن هو الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وذكر أنه وحي من الله تعالى- وإن كان قوم من الروافض ادعوا أنه نقص منه، وحُرِّف- فلم يختلفوا أن جملته كما ذكرنا. ولم يختلفوا في أن فيه التسمية بالكفر، والحكم بالكفر قطعا على من نطق بأقوال معروفة، كقوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:72]، وقوله تعالى: وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ [التوبة:74]، فصح أن الكفر يكون كلاما. وقد حكم الله تعالى بالكفر على إبليس، وهو عالم بأن الله خلقه من نار وخلق آدم من طين، وأمره بالسجود لآدم وكرمه عليه، وسأل الله تعالى النظرة إلى يوم يبعثون. ثم يقال لهم: إذ ليس شتم الله تعالى كفرا عندكم، فمن أين قلتم: إنه دليل على الكفر؟ فإن قالوا: لأنه محكوم على قائله بحكم الكفر؟ قيل لهم: نعم، محكوم عليه بنفس قوله، لا بمغيب ضميره الذي لا يعلمه إلا الله تعالى؛ فإنما حكم له بالكفر بقوله فقط، فقوله هو الكفر، ومن قطع على أنه في ضميره وقد أخبر الله تعالى عن قوم: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:167]، فكانوا بذلك كفارا، كاليهود الذين عرفوا صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، وهم مع ذلك كفار بالله تعالى قطعا بيقين، إذ أعلنوا كلمة الكفر). المصدر: الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير - 1/ 257 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 المبحث التاسع: الرد على من زعم أن الأنبياء والرسل ليسوا اليوم أنبياء ولا رسلا حديث فرقة مبتدعة تزعم أن محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب صلى الله عليه وسلم ليس هو الآن رسول الله ولكنه كان رسول الله، وهذا قول ذهب إليه الأشعرية. وأخبرني سليمان بن خلف الباجي وهو من مقدميهم اليوم أن محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني على هذه المسألة، قتله بالسم محمود بن سبكتكين صاحب ما دون وراء النهر من خراسان رحمه الله. وهذه مقالة خبيثة مخالفة لله تعالى ولرسول صلى الله عليه وسلم ولما أجمع عليه جميع أهل الإسلام مذ كان الإسلام إلى يوم القيامة، وإنما حملهم على هذا قولهم الفاسد أن الروح عرض والعرض يفنى أبدا ويحدث ولا يبقى وقتين، فروح النبي صلى الله عليه وسلم عندهم قد فنيت وبطلت ولا روح له الآن عند الله تعالى، وأما جسده ففي قبره موات فبطلت نبوته بذلك ورسالته. ونعوذ بالله من هذا القول فإنه كفر صراح لا ترداد فيه، ويكفي من بطلان هذا القول الفاحش الفظيع أنه مخالف لما أمر الله عز وجل به ورسوله صلى الله عليه وسلم واتفق عليه جميع أهل الإسلام من كل فرقة وكل نحلة من الأذان في الصوامع في كل يوم خمس مرات ... أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. فالأذان كذب على قولهم، وهذا كفر مجرد. وسبب هذه المقولة من ابن فورك الأصل الفاسد عند المذهب الأشعري أن العرض لا يبقى زمانين، وأن النبوة والرسالة صفة للحي وصفات الحي أعراض، وهذه الأعراض تبقى مشروطة بالحياة قائمة بها تزول بزوالها، فكيف يكون رسولا نبياً بعد موته؟ فالتزموا بعد انتفاء حياة النبي صلى الله عليه وسلم انتفاء رسالته وزوالها، ثم رقعوا بدعتهم هذه ببدعة أخرى وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة "دنيوية" وبهذا لا زالت رسالته. قال ابن حزم "وإنما وقع فيه – أي هذا القول – من ضل لقول فاسد وهو أن الروح عرض لا يبقى وقتين" (1). فيجب على قول هؤلاء المحرومين أن هذا باطل وكذب وإنما كان يجب أن يكلفوا أن يقولوا "محمد كان رسول الله" وكذلك قوله تعالى وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء: 164] وكذلك قوله يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [المائدة: 109] وقوله تعالى وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء [الزمر: 69] فسماهم الله رسلا وقد ماتوا وسماهم نبيين ورسلا وهم في القيامة. وكذلك ما أجمع الناس عليه وجاء به النص من قول كل مصل فرضا أو نافلة: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فلو لم يكن روحه عليه السلام موجوداً قائماً لكان السلام على العدم هدراً. فإن قالوا كيف يكون ميتاً رسول الله وإنما هو الذي يخاطب عن الله بالرسالة؟ قيل لهم: نعم يكون من أرسله الله تعالى مرة واحدة فقط رسولاً لله تعالى أبداً لأنه حاصل على مرتبة جلالة لا يحطه عنها شيء أبداً، ولا يسقط عنه هذا الاسم أبداً ولو كان ما قلتم لوجب أن لا يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى أهل اليمن في حياته، لأنه لم يكلمهم ولا شافهم ويلزم أيضاً أن لا يكون رسول الله إلا ما دام يكلم الناس فإذا سكت أو أكل أو نام أو جامع لم يكن رسول الله. وهذا حمق مشوب بكفر وخلاف للإجماع المتيقن، ونعوذ بالله من الخذلان. وأيضاً فإن خبر الإسراء الذي ذكره الله عز وجل في القرآن وهو منقول نقل التواتر وأحد أعلام النبوة ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى الأنبياء عليهم السلام في سماءٍ فهل رأى أرواحهم التي هي أنفسهم؟   (1) ((الردة فيما يجب اعتقاده)) (ص: 204). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 ومن كذب بهذا أو بعضه فقد انسلخ عن الإسلام بلا شك ونعوذ بالله من الخذلان. وهذه براهين لا محيد عنها. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن لله ملائكة يبلغون منا السلام، وأنه من رآه في النوم فقد رآه حقاً. ولقد بلغني عن بعضهم أنهم يقولون إن أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن لسن الآن أمهات المؤمنين، لكنهن كن أمهات المؤمنين، وهذا ضلال بحت وحماقة محضة، ولو كان هذا لوجب أن لا تكون أم المرء التي ولدته وأبوه الذي ولده أباه ولا أمه إلا في حين الولادة والحمل من الأم فقط، وفي حين الإنزال من الأب فقط لا بعد ذلك، وهذا من السخف الذي لا يرضى به لنفسه ذو مسكة. فإن قالوا: أتقولون أن عمر أمير المؤمنين اليوم أو عثمان أيضاً كذلك؟ قلنا لهم: لا، وهذا إجماع لأنه لا يكون أميراً إلا من الائتمار لأمره واجب وليس هذا لأحد بعد موته إلا للنبي وإنما هو لخليفة بعد خليفة طول حياته فقط. فبطل أن يكون لها فيها متعلق. "الفصل 1/ 88 - 90". فرق المقرين بملة الإسلام خمسة وهم أهل السنة والمعتزلة والمرجئة والشيعة والخوارج، ثم افترقت كل فرقة من هذه على فرق، ثم سائر الفرق الأربعة التي ذكرنا ففيها ما يخالف أهل السنة الخلاف البعيد وفيهم ما يخالفهم الخلاف القريب: فأقرب فرق المرجئة إلى أهل السنة من ذهب مذهب أبي حنيفة الفقيه إلى أن الإيمان هو التصديق باللسان والقلب معاً، وأن الأعمال إنما هي شرائع الإيمان وفرائضه فقط. وأبعدها أصحاب جهم بن صفوان والأشعري ومحمد بن كرام السجستاني، فإن جهما والأشعري يقولون إن الإيمان عقد بالقلب فقط، وإن أظهر الكفر والتثليث بلسانه وعبد الصليب في دار الإسلام بلا تقيه. أما المرجئية فعمدتهم التي يتمسكون بها الكلام في الإيمان والكفر ما هما والتسمية بهما والوعيد، واختلفوا فيما عدا ذلك كما اختلفت غيرهم، وأما المعتزلة فعمدتهم التي يتمسكون بها الكلام في التوحيد وما يوصف به الله تعالى ثم يزيد بعضهم الكلام في القدر والتسمية بالفسق أو الإيمان والوعيد وقد يشارك المعتزلة في الكلام فيما يوصف الله تعالى به جهم بن صفوان ومقاتل بن سليمان والأشعرية وغيرهم من المرجئية "الفصل 2/ 111 - 112". المصدر: موقف ابن حزم من المذهب الأشعري لعبد الرحمن دمشقية - ص 29 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 المبحث الأول: تعريفه عرف الأشاعرة القضاء بأنه "إرادة الله الأشياء في الأزل على ما هي عليه فيما لا يزال"، فالقضاء راجع إلى صفة من صفات المعاني، وهي الإرادة. وعرفوا القدر بأنه: "إيجاد الله الأشياء على قدر مخصوص ووجه معين أراده تعالى" (1). والإيجاد فعل من أفعال الله. فالفرق بينهما هو أن القضاء أزلي قديم لأنه يرجع إلى صفة ذاتية هي الإرادة – وهي قديمة، وأما القدر فهو حادث لأنه يرجع إلى صفة فعل وهو الإيجاد – وما كان كذلك فهو حادث! على طريقتهم في جعل الفعل من تعلقات القدرة – دون أن يكون قائماً به   (1) ((شرح جوهرة التوحيد)) (ص: 113). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 المبحث الثاني: مراتب القدر: يثبت الأشاعرة مراتب القدر قال الباجور: "فالقضاء والقدر راجعان لما تقدم من العلم والإرادة وتعلق القدرة" (1) ومراده بتعلق القدرة: الخلق، على ما هو معروف عندهم من تأويل صفات الأفعال وردها إلى صفات الذات. فهذا إثبات منهم للعلم والإرادة والخلق. وأما الكتابة فهم يثبتونها باتفاق كذلك. قال الرازي مستدلاً بحديث ابن عباس مرفوعاً: ((أول ما خلق الله القلم قال له اكتب)) (2). قال الرازي: "وجه الاستدلال به" أنه دخل في هذا المكتوب جميع أفعال العباد" (3). فهذه موافقة منهم لأهل السنة في إثبات هذه المراتب الأربع في الجملة، ولهم مخالفات في بعض التفصيلات مثل كلامهم في الإرادة، وإطلاق القول بإنكار تأثير قدرة العبد في الفعل، وفي منع تأثير الأسباب في مسبباتها مطلقاً، مبالغة منهم في إثبات توحيد الأفعال لله تعالى! ولا حاجة إلى الإطالة في هذا الموضوع لوضوح موقفهم في الجملة. المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف – 1/ 310 والإيمان بالقدر يشمل الإيمان بأربع مراتب الأولى: العلم، أي أن الله علم ما الخلق عاملون بعلمه الأزلي. الثاني: الكتابة: وأن الله كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ. الثالثة: المشيئة: وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن ليس في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئته – سبحانه -، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد. الرابعة: الخلق: أي أن الله خالق كل شيء، ومن ذلك أفعال العباد. هذا هو مذهب السلف الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة (4). وهذه المسائل منها ما للخلاف فيه تأثير على مسألة القدر، حسب مذهب كل طائفة، ومنها ما له علاقة قوية بالقدر أو هي أثر من آثار الخلاف فيه. وأهم هذه المسائل:   (1) ((شرح جوهرة التوحيد)) (ص: 113). (2) رواه الطبراني في ((الكبير)) (12/ 68) , وعبد الله بن أحمد في ((السنة)) (2/ 410) قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 131): (فيه] مؤمل بن إسماعيل ثقة كثير الخطأ وبقية رجاله ثقات. والحديث رواه أبو داود (4700) من حديث أبي حفصة, وصححه الألباني. وروي من حديث عبادة بن الصامت وأبي هريرة رضي الله عنهما. (3) ((المطالب العالية)) للرازي (9/ 244). (4) انظر: ((الواسطية – مجموع الفتاوى –)) (3/ 148 - 150)، ((وشفاء العليل)) لابن القيم (ص: 66) ط دار التراث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 المطلب الأول: تعليل أفعال الله وإثبات الحكمة فيها: كل ما خلقه الله تعالى فله فيه حكمة، والحكمة تتضمن شيئين: أحدهما: حكمة تعود إليه تعالى، يحبها ويرضاها. والثاني: حكمة تعود إلى عباده، هي نعمة عليهم، يفرحون بها، ويلتذون بها، وهذا يكون في المأمورات وفي المخلوقات (1).فهو "سبحانه حكيم، لا يفعل شيئا عبثا ولا بغير معنى ومصلحة وحكمة، هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى" (2)، وقد ذكر ابن القيم بعضها (3). وقد وقع الخلاف في مسألة تعليل أفعال الله على أقوال:1 - قول من نفى الحكمة وأنكر التعليل، وهؤلاء يقولون: إن الله تعالى خلق المخلوقات، وأمر المأمورات، لا لعلة ولا لداع ولا باعث، بل فعل ذلك لمحض المشيئة، وصرف الإرادة، وهذا مذهب الجهمية والأشاعرة وهو قول ابن حزم وأمثاله (4).2 - إن الله فعل المفعولات وخلق المخلوقات، وأمر بالمأمورات لحكمة محمودة، ولكن هذه الحكمة مخلوقة، منفصلة عنه، لا ترجع إليه، وهذا قول المعتزلة ومن وافقهم (5). 3 - قول من يثبت حكمة وغاية قائمة بذاته تعالى، ولكن بجعلها قديمة غير مقارنة للمفعول.4 - إن الله فعل المفعولات وأمر بالمأمورات لحكمة محمودة، وهذه الحكمة تعود إلى الرب تعالى، لكن بحسب علمه، والله تعالى خلق الخلق ليحمدوه ويثنوا عليه ويمجدوه، فهذه حكمة مقصودة واقعة، بخلاف قول المعتزلة فإنهم أثبتوا حكمة هي نفع العباد. وهذا قول الكرامية الذين يقولون: من وجد منه ذلك فهو مخلوق له وهم المؤمنون، ومن لم يوجد منه ذلك فليس مخلوقا له (6). 5 - قول أهل السنة وجمهور السلف وهو أن لله حكمة في كل ما خلق، بل له في ذلك حكمة ورحمة هذه خلاصة الأقوال في هذه المسألة، ويلاحظ أنها تنتهي إلى قولين أحدهما: نفاة الحكمة، وهو قول الأشاعرة ومن وافقهم. والثاني: قول الجمهور الذين يثبتون الحكمة. وهؤلاء على أقوال: أشهرها قول المعتزلة الذين يثبتون حكمة تعود إلى العباد ولا تعود إلى الرب، وقول جمهور السلف الذين يثبتون حكمة تعود إلى الرب تعالى (7). ويلاحظ أن من نفى الحكمة والتعليل – كالأشاعرة – دفعه ذلك إلى الميل إلى الجبر وإثبات الكسب والقدرة غير المؤثرة للعبد. ومن إثبات حكمة تعود إلى العباد، جعلوا هذه الحكمة لا تتم إلا بأن تكون العباد هم الخالقين لأفعالهم وهذا قول المعتزلة. أما أهل السنة فلم يلزمهم لازم من هذه اللوازم الباطلة، ولذلك جاء مذهبهم وسطا في باب القدر – كما سيأتي إن شاء الله.   (1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 35 - 36). (2) ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 400) – ط التراث. (3) انظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 400 - 434) – التراث. (4) انظر: ((الإرشاد)) للجويني (ص: 268 وما بعدها)، و ((نهاية الإقدام)) (ص: 297)، و ((محصل أفكار المتقدمين)) للرازي (ص: 205)، ((الفصل)) (3/ 174) – ط دار المعرفة. ((الأحكام)) لابن حزم (8/ 1110 وما بعدها). (5) انظر: ((المغني في أبواب التوحيد والعدل)). لعبد الجبار الهمذاني (6/ 48، 11/ 92 - 93). (6) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 39). (7) انظر: ((أقوم ما قيل في القضاء والقدر – مجموع الفتاوى)) (8/ 83 - 93، 97 - 98)، ((منهاج السنة)) (1/ 97 - 98) – ط دار العروبة المحققة، و ((الاستغاثة)) (ص: 2/ 27)، ((جواب أهل العلم والإيمان – مجموع الفتاوى)) – (17/ 198 - 203)، ((درء التعارض)) (8/ 54)، ((مجموع الفتاوى)) (8/ 377 - 381)، و ((منهاج السنة)) (1/ 94 - 95) – ط دار العروبة المحققة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 والأشاعرة الذين نفوا الحكمة والتعليل، احتجوا على مذهبهم بعدة حجج أهمها: أ- أن ذلك يستلزم التسلسل، فإنه إذا فعل لعلة، فتلك العلة أيضا حادثة فتفتقر إلى علة، وهكذا إلى غير نهاية وهو باطل. وقد رد شيخ الإسلام على هذه الحجة من وجوه:1 - يقال لهم في الحكمة ما يقولونه هم في "الفعل"، وذلك بأن يقال لهم: "لا يخلو إما أن يكون الفعل قديم العين أو قديم النوع، أو لا يمكن ذلك فإن جاز أن يكون قديم العين أو قديم النوع، جاز في الحكمة التي يكون الفعل لأجلها أن تكون قديمة العين أو قديمة النوع" (1). ويلاحظ هنا أن القول بأن الفعل قديم "العين" هو قول الفلاسفة، ومعلوم أن الفلاسفة نفاة للحكمة – فهم موافقون للأشاعرة في هذا – فهذا الإلزام صالح لهم. ومن قال هذا ممتنع – أي قدم العين أو النوع في العقل – قيل وكذلك الحكمة يمتنع تسلسلها."وإن لم يمكن أن يكون الفعل لا قديم العين ولا قديم النوع، فيقال إذا كان فعله حادث العين والنوع، كانت حكمته كذلك" (2).فتبين أن معنى كونه تعالى يفعل لحكمة "أنه يفعل مرادا لمراد آخر يحبه، فإذا كان الثاني محبوبا لنفسه، لم يجب أن يكون الأول كذلك، ولا يجب في هذا تسلسل" (3).2 - يقال لهم في الحكمة ما يقال في الأسباب، فإذا كان تعالى خلق شيئا بسبب، وخلق السبب بسبب آخر حتى ينتهي إلى أسباب لا أسباب فوقها فكذلك خلق لحكمة والحكمة لحكمة حتى ينتهي إلى حكمة لا حكمة فوقها (4).3 - أن هذا التسلسل الذي يدعونه إنما هو تسلسل في الحوادث المستقبلة لا في الحوادث الماضية، فإنه إذا فعل فعلا لحكمة كانت الحكمة حاصلة بعد الفعل – والتسلسل في المستقبل جائز عند جماهير المسلمين وغيرهم، والجنة أكلها دائم (5).ب- والحجة الثانية للأشاعرة على نفي الحكمة والتعليل هي حجة الكمال والنقصان، ومعناها – عندهم – أن الله "لو خلق الخلق لعلة لكان ناقصا بدونها مستكملا بها، فإنه إما أن يكون وجود تلك العلة وعدمها بالنسبة إليه سواء، أو يكون وجودها أولى به، فإن كان الأول امتنع أن يفعل لأجلها، وإن كان الثاني ثبت أن وجودها أولى، فيكون مستكملا بها، فيكون قبلها ناقصا" (6) وهذه الحجة أصلها مبني على نفي حلول الحوادث. وقد سبق مناقشة هذه الحجة في مسألة الصفات، عند مناقشة الصفات الاختيارية القائمة بالله التي يسميها الأشاعرة وغيرهم حلول الحوادث.   (1) ((شرح الأصفهانية)) (ص: 363 - 364) – ت السعوي. (2) ((شرح الأصفهانية)) (ص: 364) – ت السعوي. (3) ((شرح الأصفهانية)) (ص: 364) – ت السعوي. (4) ((شرح الأصفهانية)) (ص: 365) – ت السعوي. (5) ((شرح الأصفهانية)) (ص: 365) – ت السعوي (6) ((مجموع الفتاوى)) (8/ 183)، وانظر: ((الأربعين للرازي)) (ص: 149 - 150). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 وقد ناقش شيخ الإسلام هذه الحجة هنا – في مبحث التعليل – من وجوه:1 - "أن هذا منقوض بنفس ما يفعله من المفعولات، فما كان جوابا في المفعولات، كان جوابا عن هذا، ونحن لا نعقل في الشاهد فاعلا إلا مستكملا بفعله" (1).2 - أن قولهم "مستكمل بغيره" باطل، لأن هذا إنما حصل بقدرته ومشيئته، لا شريك له في ذلك، فلم يكن في ذلك محتاجا إلى غيره وإذا قيل: كمل بفعله الذي لا يحتاج فيه غيره، كان كما لو قيل كمل بصفاته، وبذاته" (2).3 - "أن العقل الصريح يعلم أن من فعل فعلا لا لحكمة، فهو أولى بالنقص ممن فعل لحكمة كانت معدومة، ثم صارت موجودة في الوقت الذي أحب كونها فيه، فكيف يجوز أن يقال: فعله لحكمة يستلزم النقص، وفعله لا لحكمة لا نقص فيه" (3).4 - "أنه ما من محذور يلزم بتجويز أن يفعل لحكمة، إلا والمحاذير التي تلزم بكونه يفعل لا لحكمة أعظم وأعظم ... " (4). المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1310 يرى الأشاعرة أن أفعال الله وأحكامه لا تعلل بالعلل والأغراض ولا تتوقف على الحكم، إذ كل ذلك بمحض مشيئته وإرادته. قال الآمدي: "مذهب أهل الحق أن الباري تعالى خلق العالم وأبدعه لا لغاية يستند الإبداع إليها ولا لحمة يتوقف الخلق عليها!، بل كل ما أبدعه من خير وشر ونفع وضر لم يكن لغرض قاده إليه ولا لمقصود أوجب الفعل عليه" (5).فتراه ينفي توقف الخلق على الحكمة، والأشاعرة لا ينفون ثبوت الحكمة، إذ لا ينكرون ترتب الحكم على أفعال الله، وإنما الممنوع عندهم أن تكون مقصودة سابقة للفعل، وهذا ظاهر من كلام الآمدي، أما إثباتها ففي مثل كلام الباجوري حيث قال معدداً صور المماثلة التي ينزه الله عنها: "أو يتصف بالأغراض في الأفعال والأحكام ... "ثم قال": فلا ينافي أنه لحكمة وإلا لكان عبثاً وهو مستحيل في حقه تعالى" (6).ومما ينبغي أن يعلم أن بعض الأشاعرة يثبت الحكم في الأحكام فيعلل بها، وهذه طريقة من تأثر منهم بالفقه كقول التفتازاني: "والحق أن تعللي بعض الأفعال لا سيما شرعية الأحكام بالحكم والمصالح ظاهر ... ولهذا كان القياس حجة إلا عند شرذمة لا يعتد بهم وأما تعميم ذلك بأن لا يخلو فعل من أفعاله عن غرض فمحل بحث" اهـ (7). وقال الرازي: "إن غالب أحكام الشرع معلل برعاية المصالح المعلومة" (8) وهو قد ذكر أدلة كثيرة في كتبه على نفي تعليل أفعال الله بالحكمة (9) ولكنه قد يذكر في بعض المواضع جواز ذلك تفضلاً من الله وإحساناً لا وجوباً عقلياً على الله (10). وهذا ينافي ما ساقه من أدلة تنفي جواز التعليل!.   (1) ((مجموع الفتاوى)) (8/ 146)، وانظر: ((شرح الأصفهانية)) (ص: 360) – ت السعوي. (2) ((مجموع الفتاوى)) (8/ 146). (3) ((شرح الأصفهانية)) (ص: 362) – ت السعوي. (4) انظر: ((شرح الأصفهانية)) (ص: 363) – ت السعوي. (5) ((غاية المرام في علم الكلام)) (ص: 224). (6) ((تحفة المريد)) (ص: 96). (7) ((شرح المقاصد)) (4/ 302 – 303) ولفظ الغرض في كلامه فيه نظر، وكذا نفيه لتعليل بعض الأفعال. انظر ((التنبيه)) (ص: 11). (8) ((المحصول في علم أصول الفقه)) (5/ 114). (9) انظر على سبيل المثال ((المحصول)) (5/ 182 - 192). (10) انظر ((المحصول)) له (5/ 196). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 وأصل هذا النزاع كان بين المعتزلة والأشاعرة، فالأولون أثبتوا العلل والحكم القائمة بالخلق ولا يثبتون ما قام بالخالق وجروا على عادتهم في الإيجاب على الله تعالى بعقولهم، فشبهوا أفعاله بأفعال خلقه، فقابلهم الأشاعرة وغلوا في نفي ذلك، فنفوا مع الباطل حقاً. وسأعرض الشبه الحاملة لهم على نفي الحكم التي يسمونها أغراضاً إن شاء الله، فمنها:-الشبهة الأولى: (1) قالوا: لو كان الباري فاعلاً لغرض لكان في ذاته مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض، سواء قيل إن الغرض عائد حكمه إليه أو إلى خلقه. الجواب: (2) وهو من وجهين: الأول: من باب المعارضة: إن الأشاعرة يقولون: إن الأفعال حادثة بعد أن لم تكن، ولا يقولون إن الله كان ناقصاً قبل حدوثها، إذ أنه سبحانه فاعل بالقوة – أي أن الفعل ممكن له – فيقال لهم: ينبغي على قولكم هذا أن تحذوا بالحكمة حذو الفعل، فإن الله متصف بالحكمة أزلاً كسائر صفات ذاته، ثم تقع الأشياء حسب ما تقتضيه حكمته، وعليه فليس عدم كل شيء نقصاً، بل الصحيح أن يقال: حدوث ما لا تقتضيه الحكمة هو النقص كما أن عدم وجود ما تقتضي الحكمة وجوده هو نقص أيضاً. الثاني: من جهة حل الشبهة: وهو أن قد أثبتنا الحكمة صفة لله تعالى، والصفات كلها الذاتية والفعلية قائمة بذات الله تعالى، فالحكمة إذن ليست منفكة عن الذات حتى يقال إنه صار مستكملاً بغيره، وإنما هي صفة قائمة به – وعليه فلا إشكال إذا قيل أنه كمل بحكمته، إذ هو نظير قولنا كمل بذاته وصفاته. الشبهة الثانية: قال الباقلاني: "لو كان تعالى فاعلاً للعالم لعلة أوجبته لم تخل تلك العلة من أن تكون قديمة أو محدثة، فإن كانت قديمة وجب قدم العالم لقدم علته وألا يكون بين العلة القديمة وبين وجود العالم إلا مقدار زمان الإيجاد، وذلك يوجب حدوث القديم، لأن ما لم يكن قبل المحدوث إلا بزمان أو أزمنة محدودة وجب حدوثه، لأن فائدة توقيت وجود الشيء هو أنه كان معدوماً قبل تلك الحال، فلما لم يجز حدوث القديم لم يجز أن يكون العالم محدثاً لعلة قديمة. وإن كانت تلك العلة محدثة فلا يخلو محدثها أن يكون أحدثها لعلة، أو لا لعلة، فإن كانت محدثة لعلة وعلتها محدثة وجب أن تكون علة العلة محدثة لعلة أخرى وكذلك أبداً إلى غير غاية، وذلك يحيل وجود العالم جملة لتعلقه بما يستحيل فعله وخروجه إلى الوجود. وإن كانت العلة والخاطر والداعي والباعث والمحرك محدثة لا لعلة، وكانت بالوجود لما وجدت من فاعلها أولى منها بالعدم لا لعلة، وكان فاعلها حكيماً غير سفيه جاز حدوث سائر الحوادث منه لا لعلة وكان حكيماً غير سفيه ... " (3) والجواب من وجوه: الوجه الأول: - قوله "فإن كانت قديمة وجب قدم العالم لقدم علته" ينتقض بصفة الإرادة، فالأشعرية يقرون بقدمها مع قولهم بحدوث المراد، فلما لم يلزم من القول بقدم الإرادة قدم المراد لم يلزم من قدم الحكمة قدم الفعل – أي المفعول - (4).   (1) انظر إيراد هذه الشبهة في ((التمهيد)) للباقلاني (ص: 50) و ((المواقف في علم الكلام)) للإيجي (ص: 331) و ((شرح المقاصد)) للتفتازاني (4/ 301). (2) انظر: ((رسالة الإرادة والأمر لشيخ الإسلام ضمن مجموعة الرسائل الكبرى)) (1/ 379 - 381). ((وشفاء العليل)) لابن القيم (ص: 349). (3) ((تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل)) للباقلاني (ص: 51 - 52). (4) انظر ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 353). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 الوجه الثاني: وهو عن لزوم التسلسل إذا قيل إن العلة محدثة، وهي محدثة لعلة وهكذا ... وجوابه، إن هذا التسلسل الصحيح أنه في المستقبل، لأن الحكمة من الفعل تحصل عقبه وإن كانت مقدمة عليه في التصور، ولا شك أن التسلسل في الآثار المستقبلة جائز بل واقع كما هو الحال في نعيم الجنة وعذاب النار الدائمين، وهذا مما يسلم به الأشعرية فيلزم أن يسلموا به في الحكمة، وعليه فقولهم: "وجب أن تكون علة العلة محدثة لعلة أخرى ... " قول ممنوع، وهو وارد على تعليل العلل، أي إذا فعل فعلاً لعلة فما هي علة هذه العلة وهكذا ... فإنا نقول: الحكمة التي ذكروها هي التي يعود حكمها إلى الرب، وكل الحكم تعود على حكمة لا حكمة فوقها "فالمفعول لأجله مراد للفاعل محبوب له، والمراد المحبوب تارة يكون مراداً لنفسه وتارة يكون مراداً لغيره، والمراد لغيره لابد أن ينتهي إلى المراد لنفسه قطعاً للتسلسل، وهذا كما نقوله في خلقه بالأسباب: إنه يخلق كذا بسبب كذا، وكذا بسبب كذا حتى ينتهي الأمر إلى أسباب لا سبب لها سوى مشيئة الرب، فكذلك يخلق لحكمة، وتلك الحكمة لحكمة حتى ينتهي الأمر إلى حكمة لا حكمة فوقها" (1). الوجه الثالث:- وهو عن لزوم القول بوجود محدث أحدث ابتداء لا لعلة، ومن ثم لزوم نفي العلل كلها؛ وهو في قوله: "وإن كانت العلة والخاطر والداعي ... إلخ" فالجواب: إنا قد قدمنا في الوجه الثاني أن الحكم تنتهي إلى حكمة لا حكمة فوقها، ولم نسلم بأنه لا توجد حكمة تعود إليها كل الحكم، ولذلك فهذا الاحتمال – وهو قوله: "محدثة لا لعلة" – احتمال غير وارد ولا نسلم به، مع ملاحظة أن استعمال ما جاء به الشرع من لفظ الحكمة هو الصحيح، ولا يجوز التعبير بما يوهم باطلاً كالمحرك والباعث والخاطر ... ثم إن قوله: "جاز حدوث سائر الحوادث منه لا لعلة" فكلام مبني على توهم وجود فعل خلا من الحكمة وقد منعناه، مع ملاحظة أن دعواه أعم من دليله، فهو قد جوز خلو الأفعال من الحكم بناءً على نفي علة العلة الأولى للفعل، فما ذكره فيه سلب العموم لا عموم السلب، كيف وقد بينا سابقاً أن الحكم كلها تعود إلى حكمة لا حكمة فوقها فدليله من أساسه منهار، ومع انهياره فهو لا يدل على ما ادعاه. الشبهة الثالثة (2): قالوا: لو كان شيء من الممكنات غرضاً لفعل الباري لما كان ذلك الممكن حاصلاً بخلق الله ابتداءً، وإنما بتوسط الغرض، والغرض هو إيصال اللذة إلى البعد أو دفع الألم عنه، وقد علم إجماعاً أن الله قادر على إيجادها ابتداءً فيكون إثبات هذه الوسائط عبثاً ينزه الله عنه.   (1) ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 353)، وانظر ((منهاج السنة النبوية)) (1/ 145 - 147) – و ((رسالة الإرادة والأمر ضمن الرسائل الكبرى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 386 - 387). (2) انظر ((المواقف)) للإيجي (ص: 332) و ((شرح المقاصد)) (4/ 302). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 الجواب: لا نسلم أن الحكمة منحصرة في الشيئين المذكورين فقط – لأن هذه الحكمة راجعة إلى المخلوق، ونحن نثبت حكمة أخرى – غير هذه معها – يعود حكمها إلى الله من حيث إنه يحبها ويرضاها، كما أننا ننكر تسمية الحكمة بالغرض – وعلى فرض التسليم – بحصر الحكمة فيما ذكروه – فإن غاية هذه الشبهة هو أن الله قادر على تحصيل الحكمة بدون هذه الوسائط وقادر على تحصيلها بها، والعدول عن أحد المقدورين إلى الآخر لا يسمى عبثاً إلا إذا كان المعدول إليه مساوياً للآخر من كل وجه أو كان دونه، وهذا ما لا يمكن إثباته، بل الشرع والعقل بخلافه، فإنه لا يمكن أحداً أن يقول مثلاً: إرسال الرسل وعدم إرسالهم سواء، ومعلوم أن الشيء يكون عبثاً إذا كان لا فائدة منه، أما إذا كان وجود الوسيط سبباً أو شرطاً لحصول شيء لم يكن وجوده عبثاً كوجود آلات الإحساس التي هي شرط لتحصيل الحس، ولا يقول عاقل إن وجودها عبث، فإن وجودها ضروري، وما قال أحد بالعبث في إيجادها، فكذلك يقال في بقية الحكم المعلومة وغير المعلومة لنا (1).الشبهة الرابعة (2): قالوا: لو كانت أفعاله معلقة بالأغراض والحكم ما خلا فعل منها، والمشاهد خلو بعضها عن ذلك، كإيلام الأطفال وخلق الشرور والكفر. الجواب: لما أثبت أهل السنة الحكمة لم يدعوا علمهم بكل حكمة، وما أورده الأشاعرة غاية ما فيه: عدم علمهم بالحكمة فيما ذكروه، وعدم العلم بالحكمة لا يعني عدمها – وهو واضح – وتمام الإجابة على هذه الشبهة وبالعلم بأن أفعال الله كلها خير، وكل خير فإنه داخل في أسماء الله وصفاته ومفعولاته بالذات وبالقصد الأول، والشر لا يدخل في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله، فهو إنما يدخل في معقولاته بالعرض لا بالذات، وبالقصد الثاني لا الأول دخولاً إضافياً، وهذا مثل إنزال المطر والثلج وتصريح الرياح والشمس، فهذه كلها خيرات في نفسها وفيها حكم ومصالح وإن كانت شراً نسبياً إضافياً في حق من تضرر بها (3). ويلاحظ أن الأشاعرة قد استعملوا لفظ (الغرض) مكان (الحكمة) وهذا الاستعمال غير صحيح لإيهامه الباطل، ثم إن ما ذكر من الأدلة الدالة على إثبات الحكمة لله تعالى كثيرة لا يمكن دفعها، وقد تقدم ذكر شيء منها، وبمعرفتها والتيقن منها تزول الشبهات الواردة من نفاتها، إذ لا قرار للشبهات مع الحق المتيقن الثابت. إلزامات على نفاة الحكمة (4): 1 - من المعلوم أن الله يستحق الحمد بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فالله له الحمد على جميع ما خلقه ويخلقه لما له فيه من الحكم والغايات المحمودة المقصودة بالفعل، فيلزم من نفي الحكمة أن ينفي الحمد معها، إذ الحمد من لوازم الحكمة، والحكمة إنما تكون في حق من يفعل شيئاً لأجل شيء، وعندهم أن الله بخلقه ما ينفع العباد أراد مجرد وجوده لا نفعهم، فكيف يحمد على أصلهم على فعل ليست له فيه حكمة – وهي منفعة العباد -! ويتبين هذا بضرب مثال في فعل العدل وترك الظلم. فالله تعالى حمد نفسه على فعل العدل وترك الظلم، وعباده المؤمنون يحمدونه على ذلك، وهذه من الحكم، أما الأشاعرة الذين يفسرون الظلم بأنه الممتنع الذي لا يدخل تحت المقدور فيقال لهم:   (1) انظر ((شفاء العليل)) (ص: 358 - 359). (2) انظر ((المواقف)) للإيجي (ص: 332) و ((شرح المقاصد)) للتفتازاني (4/ 301 - 302). (3) انظر ((مختصر الصواعق المرسلة)) (1/ 218 - 223) و ((شفاء العليل)) (ص: 365) و ((طريق الهجرتين)) (ص: 238 - 244). وانظر كلام الغزالي في ((المقصد الأسنى)) (ص: 64 - 66) عند شرحه لاسمي (الرحمن الرحيم) وجوابه عن الشبهة. (4) انظر هذه الإلزامات في ((طريق الهجرتين)) (ص: 208 - 209). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 من المعلوم أنه لا يمدح الممدوح بترك ما لو أراده لم يقدر عليه، وعندكم أن الظلم لا يقدر الله عليه فأي مدح له على شيء لم يفعله لعدم قدرته عليه؟! ونحن نقول: إن الله قادر عليه إلا أنه لا يفعله لتمام حكمته وعدله ورحمته سبحانه وتعالى، ومما يدل على قدرته عليه قوله في الحديث القدسي: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)) (1)، فقوله: ((وجعلته بينكم محرماً)) يدل على أنه ظلم مقدور يستحق تاركه الحمد والثناء. 2 - من اعتمد منهم إثبات العلل والمصالح في الأحكام الشرعية يقال له: لم فرقت بين إثبات العلل والحكم في أحكامه وبين إثباتها في أفعاله؟ ولن يجد لذلك جواباً فإما أن يلتزم نفي الجميع فيكون الرد عليه بما تقدم، وإما أن يلتزم إثبات الجميع وهو الحق.3 - قالوا في دليل إثبات العلم لله بالعقل: "الله تعالى فاعل فعلاً متقناً محكماً بالقصد والاختيار، وكل من كان كذلك وجب له العلم" (2). فيقال لهم: قد استدللتم على إثبات علم الرب بما في مخلوقاته من الإحكام والإتقان بشرط قصد ذلك، فأثبتم له قصداً، ونحن نقول إنه قصد حكمة أرادها من خلقه، فأثبتم قصده في العلم ونفيتموه في الحكمة، وكان اللازم إثباتهما حتى لا يحدث اضطراب وتناقض، وإلا لزم من نفي الحكمة نفي العلم. والصواب إثبات القصد في العلم والحكمة. فمن نفاه في الحكمة وأثبته في العلم كان متناقضاً. المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف – 1/ 329   (1) رواه مسلم (2577) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. (2) ((تحفة المريد)) (ص: 69). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 المطلب الثاني: هل الإرادة تقتضي المحبة أم لا؟ هذه المسألة مرتبطة بشكل قوي بالمسألة السابقة – مسألة تعليل أفعال الله – لأن الذي حدا بالأشاعرة إلى أن ينكروا التعليل ما توهموه من وجود تعارض بين الأمر والقدر، وكيف يريد الله أمرا إرادة كونية كالكفر والمعاصي، ثم هو لا يحبها ولا يرضاها ولا يريدها دينا؟ فرأوا أن الخروج من هذا المأزق يكون بإنكار الحكمة والتعليل في أفعال الله وأوامره. وموضوع الإرادة وهل هي مستلزمة للرضى والمحبة مما خاض فيه أهل الأهواء، وضلوا فيه عن الحق وأدى بهم ضلالهم إلى انحراف خطير جدا في مسألة القضاء والقدر وفي مسألة الأمر والنهي، وعلاقة هذه بتلك. وقد وصل الأمر بغلاة الصوفية إلى أن اعتقدوا "أنه ليس في مشهدهم لله محبوب مرضي مراد إلا ما يقع، فما وقع فالله يحبه ويرضاه، وما لم يقع فالله لا يحبه ولا يرضاه، والواقع هو تبع القدر لمشيئة الله وقدرته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فهم من غلب كانوا معه، لأن من غلب كان القدر معه، والمقدور عندهم هو محبوب الحق، فإذا غلب الكفار كانوا معهم، وإذا غلب المسلمون كانوا معهم" (1)، وعلى هذا فإبليس وجميع الكفار والملاحدة والعصاة مطيعون لله، لموافقتهم للقدر، ولعل هذا سر ما يؤثر عن غلاة الصوفية من انحرافات أخلاقية سافلة، ومن أقوال كفرية لم تؤثر حتى عن الكافرين والملاحدة. والخلاف في هل الإرادة تستلزم الرضى والمحبة وقع على قولين: القول الأول: أن الإرادة تستلزم الرضى، وهذا قول المعتزلة والجهمية وأغلب الأشاعرة (2).وبعض الأشاعرة لهم عبارات تخفف من هذه المقالة، مثل قول بعضهم بحمل المحبة والرضا على الإرادة، ولكنه يقول: "إذا تعلقت الإرادة بنعيم ينال عبدا فإنها تسمى محبة ورضى، وإذا تعلقت بنقمة تنال عبدا فإنها تسمى سخطا" (3)، فمن جوز إطلاق المحبة على الإرادة قالوا: إن الله يحب الكفر ويرضاه كفرا معاقبا عليه (4).   (1) ((رسالة الاحتجاج بالقدر)) (ص: 80 - 81) – ط المكتب الإسلامي. (2) انظر: ((المغني في أبواب التوحيد والعدل)) (جـ6 – قسم 2 – ص: 51 - 56)، و ((الحرة – المطبوعة باسم الإنصاف –)) للباقلاني (ص: 44 - 45)، و ((لباب العقول)) للمكلاتي (ص: 288). (3) ((الإرشاد للجويني)) (ص: 239) و ((شرح المواقف)) (ص: 288) – جزء مستقل محقق. (4) انظر: ((لباب العقول)) (ص: 288). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 ولكن هؤلاء الذين اتفقوا على أن الإرادة بمعنى المحبة والرضى – اختلفوا فيما بينهم على قولين جعلت أقوالهم تتباين كثيرا في مسألة القدر: أ- فالمعتزلة القدرية قالوا: قد علم بالدليل أن الله يحب الإيمان والعمل الصالح، ولا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ويكره الكفر والفسوق والعصيان، ولما كان هذا ثابتا لزم أن تكون المعاصي ليست مقدرة له ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه، قالوا: ولما كنا مأمورين بالرضى بالقضاء، ومأمورين بسخط هذه الأفعال وبغضها وكراهتها، فإذن يجب أن لا تكون واقعة بقضاء الله وقدره فأنكروا لذلك مرتبة المشيئة والخلق (1).ب- وأما الأشاعرة – ومن معهم – فقالوا قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولما ثبت عندهم أن المشيئة والإرادة والمحبة والرضى كلها بمعنى واحد – قالوا: فالمعاصي والكفر كلها محبوبة لله لأن الله شاءها وخلقها (2).وهكذا انتهى الأمر بهاتين الطائفتين إلى قولين باطلين: إما إخراج بعض المقدورات أن تكون مقدرة ومرادة لله كما فعل المعتزلة، وإما بالقول بأن الله يحب الكفر والمعاصي كما فعلت الأشعرية الذين خالفوا نصوص الكتاب والسنة (3). القول الثاني: أن الإرادة لا تستلزم الرضى والمحبة، بل بينهما فرق، وهذا قول عامة أهل السنة المثبتين للقدر، وهؤلاء يقولون إن قول المعتزلة والأشاعرة مخالف للكتاب والسنة والإجماع، فإنهم متفقون على أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وعلى أن الله لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، وأن الكفار يبيتون ما لا يرضى من القول. كما هو صريح النصوص. ولكن هل بين النصوص تعارض كما توهمه أولئك؟ أهل السنة يرون أن النصوص الواردة في المشيئة والإرادة، وفي المحبة والرضى ليس بينهما تعارض مطلقا إذا أعطيت حقها من الفهم والتفسير الصحيح. وذلك أن أهل السنة يقولون إن الخطأ الذي وقع فيه المخالفون لهم من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، هو ظنهم أن الإرادة في النصوص كلها بمعنى واحد. والحق أن الإرادة نوعان: أحدهما: نوع بمعنى المشيئة العامة، وهذه هي الإرادة الكونية القدرية، فهذه الإرادة كالمشيئة شاملة لكل ما يقع في هذا الكون، وأدلة هذا النوع كثيرة، منها قوله تعالى: فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام: 125]. فهذه الإرادة لا تستلزم المحبة، وليست بمعناها. والثاني: نوع بمعنى المحبة والرضى، كقوله تعالى: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] وهذه هي الإرادة الدينية الشرعية. وهذه الإرادة هي المستلزمة للمحبة والرضى، وهي المستلزمة للأمر (4). وعلى هذا فبالنسبة لوقوع المراد، وفي أي النوعين يتعلق – تكون الأقسام أربعة:   (1) انظر: ((الاحتجاج بالقدر)) (ص: 66 - 67) – ط المكتب الإسلامي. (2) انظر: ((الاحتجاج بالقدر)) (ص: 67)، و ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/ 228، 251، 2/ 189). (3) انظر: ((الرسالة الأكمالية – مجموع الفتاوى –)) (6/ 115 - 116)، و ((منهاج السنة)) (1/ 358 - 359) – ط مكتبة الرياض الحديثة. (4) انظر: في ذلك ((مراتب الإرادة – مجموع الفتاوى –)) (8/ 188 - 190، 197)، و ((مجموع الفتاوى)) (8/ 22 - 23، 230، 440، 474 - 476)، و ((الرسالة الأكملية – مجموع الفتاوى –)) (6/ 115 - 116)، ((وجواب أهل العلم والإيمان – مجموع الفتاوى –)) (17/ 101)، و ((منهاج السنة)) (1/ 360)، مكتبة الرياض الحديثة – (3/ 90، 102) ط بولاق و ((مجموع الفتاوى)) (18/ 132، وما بعدها)، و ((التسعينية)) (ص: 270). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 أحدها: ما تعلقت به الإرادتان الكونية والدينية، وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة، فهذه مرادة دينا لأنها أعمال صالحة مأمور بها، ومرادة كونا لأنها وقعت. الثاني: ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط، وهو ما أمر الله به من الطاعات والأعمال الصالحة، فعصى ذلك الكفار ولم يأتوا به، فهذا مراد شرعا لأنه من الأعمال الصالحة، وغير مراد كونا لأنه لم يقع من الكفار والعصاة. الثالث: ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط، كالمباحات والمعاني التي لم يأمر بها الله إذا فعلها العصاة. فهي غير مرادة دينا، ولكنها مرادة كونا لأنها وقعت. الرابع: ما لم تتعلق به الإرادتان، وذلك مما لم يقع ولم يوجد من أنواع المباحات والمعاصي (1). وبهذا التفصيل – الذي دلت عليه النصوص – يتبين رجحان مذهب أهل السنة والجماعة. أما محاولة بعض الأشاعرة أن يجيبوا عن النصوص التي دلت على أن الله لا يحب الكفر ولا الفساد – بأن هذا خاص بمن لم يقع منه الكفر والفساد، والمعنى أن الله لا يحب الفساد لعباده المؤمنين ولا يرضاه لهم – فهذا جواب فاسد لأن لازم هذا أن الله لا يحب الإيمان ولا يرضاه من الكفار، لأنه لم يقع منهم، لأن المحبة عندهم كالإرادة إنما تتعلق بما وقع دون ما لم يقع. وهذا من أعظم الباطل (2). ولا شك أن تخبط الأشاعرة ومعهم المعتزلة في هذه المسائل أدى بهم إلى الانحراف في مسألة القدر وأفعال العباد. المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1315   (1) انظر: ((مراتب الإرادة – مجموع الفتاوى –)) (8/ 189). (2) انظر: ((رسالة الاحتجاج بالقدر)) (ص: 68) – ط المكتب الإسلامي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 المبحث الرابع: أفعال العباد عند الأشاعرة وافق الأشاعرة أهل السنة في مسألة خلق أفعال العباد الاختيارية والاضطرارية فقالوا: إنها مخلوقة لله تعالى، ولم تختلف عبارتهم في ذلك. قال صاحب الجوهرة: فخالق لعبده وما عمل ... موفق لمن أراد أن يصل (1) وأقاموا الأدلة النقلية والعقلية على صحة هذا القول. ولكنهم خالفوا أهل السنة في بعض فروع هذه المسألة، ومن ذلك: هل العبد فاعل لفعله حقيقة أو لا؟ فالأشعرية نسبوا فعل الإنسان الاختياري إليه كسباً لا خلقاً، وهذا صحيح، ولكنهم اضطربوا في هذا الكسب الذي أثبتوه للعبد واختلفت عبارتهم فيه. والتفسير المستقر عندهم الآن هو كما قال شارح أم البراهين: "والكسب مقارنة القدرة الحادثة للفعل من غير تأثير" (2). وحاولوا بهذا التفسير التوسط بين الجبرية والمعتزلة، فقالوا بالكسب فراراً من قول الجبرية، وزعموا أنهم بهذا الكسب يثبتون للعبد اختياراً!، وقالوا بعدم تأثير قدرة العبد الحادثة في الفعل فراراً من قول المعتزلة وتحقيقاً تاماً لوحدانية الأفعال فلا مؤثر إلا الله وحده، ولا يوجد تأثير للأسباب في مسبباتها!!. المناقشة: الأول: تفسيرهم الكسب بالاقتران مخالف للغة العرب واستعمال القرآن الكريم، فهو في اللغة بمعنى الطلب والجمع (3)، وهو في القرآن لم يخرج عن هذا المعنى، فمن ذلك قول الله تعالى: أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة: 267]، وهو يستعمل في فعل الصالحات والسيئات (4)، فمن الأول قوله تعالى: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام: 158] ومن الثاني قوله تعالى: فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة: 79] ومن الآيات التي تجمع بينهما قوله تعالى: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ [عمران: 161].فظهر مما تقدم أن الكسب يرجع إلى ما يكسبه الإنسان من عمل القلب أو عمل الجوارح وهو المعبر عنه بالاجتراح والعمل، وظهر أن تفسير الأشعرية للكسب بالمقارنة قول لم يسبقوا إليه (5).   (1) ((جوهرة التوحيد للقاني مع شرحها تحفة المريد)) (ص: 99). (2) ((شرح أم البراهين)) (ص: 45). (3) انظر ((القاموس المحيط)) (ص: 167). مادة (كسب). (4) انظر ((مفردات ألفاظ القرآن للراغب)) (ص: 709 - 710). (5) انظر ((الشرح الجديد على جوهرة التوحيد للعدوي)) (ص: 79). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 الثاني: إثباتهم قدرة للعبد غير مؤثرة فراراً من القول بأن ذلك يفضي إلى إثبات مؤثر غير الله تعالى، فيستلزم القول بأن أفعال العباد مخلوقة لهم بقدرتهم قول تبين ضعفه فإنه إذا تبين أن الله قد خلق العبد وخلق صفاته التي بها يقع الفعل من القدرة والإرادة وهما من أسباب العمل، وخلق أيضاً عمله على وفق سنته من تأثير الأسباب في مسبباتها – على حسب ما تم تفصيله – فلا حرج بعد ذلك، ولا يلزم أن تكون الأسباب هي الخالقة للفعل. الثالث: إن بناء التكليف على هذه المقارنة غير معقول وينتهي إلى القول بتكليف العاجز، وهذا هو الذي دفع الإيجي إلى وصفه الأشعرية بأنهم مجبرة متوسطة (1)، ودفع التفتازاني إلى أن يقول: "فالإنسان مضطر في صورة المختار" (2)، ودفع الرازي بعد أن أورد إشكالات على كسب الأشعري: "وعند هذا التحقيق يظهر أن الكسب اسم بلا مسمى" (3).الرابع: إثبات مقارنة القدرة الحادثة للفعل قول عند التحقيق قصد به مخالفة الجبرية وهو ليس بشيء، كما تقدم في الفقرة السابقة، إذ يقال لهم: ما الداعي لذكرها إذاً إذا كانت لا تؤثر؟، وما المزية لها في الذكر إذا كانت لا تؤثر في الفعل؟. فإن قولكم: الفعل يقارن القدرة الحادثة قول لا طائل تحته إذ يمكن أن نقول: إنه يقارن العلم والسمع والبصر الحادث وغير ذلك من الصفات ... فصار بهذا ذكرهم للقدرة لا معنى له وهو مجرد تمويه (4). وقد تنازع الأشعرية في معنى قدرة العبد على الطاعة. فقال الأشعري: هي العرض المقارن للطاعة. وهذا فيما حكاه عنه الأشاعرة. وقال إمام الحرمين: هي سلامة السباب والآلات. وأورد على كلام الأشعري الإلزام الذي تقدم، وهو أنه يلزم من هذا تكليف العاجز، لأن التكليف على قوله واقع قبل إقدراه على العمل. وأجيب عن هذا الإيراد بجوابين بناء على أن العرض هل يبقى زمانين أو لا؟ فعلى قول الأشعري: إن العرض لا يبقى زمانين: فالجواب: إن العبد قادر بالقوة لما اتصف به من سلامة الأسباب والآلات. وهي التي عليها اعتبار التكليف. وعلى القول بأن العرض يبقى زمانين فإنه لا مانع من تقدم القدرة على الطاعة (5)، ولكن ما زال الإشكال باقياً عليه في عدم فائدة هذه القدرة غير المؤثرة! وأما تفسير إمام الحرمين فأورد عليه: أن الكافر أيضاً يكون قادراً بهذا الاعتبار على الطاعة، فاحتاجوا إلى إدخال جملة أخرى تكون قيداً لكلامه وهي:"وتسهيل سبيل الخير إليه" وبهذا يخرج الكافر (6). مع ملاحظة أمرين: الأول: إن إمام الحرمين نص على مسألة تسهيل سبيل الخير في رسالته النظامية (7).الثاني: إن إمام الحرمين أثبت قدرة للعبد مؤثرة في مقدورها (8).ولكي يكون هذا القول صواباً لابد من تفسير التأثير تفسيراً صحيحاً وهو: أن خروج الفعل من العدم إلى الوجود كان بتوسط القدرة المحدثة لا أنها منفردة بالإيجاد سواء كان في صفة الفعل أو ذاته. ومع هذا فما خلقه الله فعلاً للعبد كان العبد هو الفاعل له حقيقة، لأنه قائم به، والشيء إنما يوصف به من قام به (9). المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف – 1/ 346   (1) انظر ((المواقف في علم الكلام)) (ص: 428)، وانظر ما تقدم في (ص: 218). (2) ((شرح المقاصد للتفتازاني)) (4/ 263)). وانظر ((التنبيه)) (ص: 11). (3) ((محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين)) (ص: 288). (4) انظر ((الشرح الجديد لجوهرة التوحيد)) للعدوي (ص: 80). (5) انظر ((تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد)) (ص: 100). (6) انظر ((تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد)) (ص: 100). (7) انظر ((الرسالة النظامية)) (ص: 52). (8) انظر ((الرسالة النظامية)) (ص: 43 - 50). (9) انظر ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية)) (8/ 389، 126، 129). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 المطلب الأول: تعريف العلة عند الأشاعرة: عرف الأشاعرة العلة بأنها: "الأمر الذي جرت عادة الله تعالى بخلق الشيء عقب تحققه". والمعلول: هو ما وجد عقب تحقق العلة. وذلك كترتب الشبع على الأكل، والري على الشرب. يقال: أكل فشبع، وشرب فروي، بمعنى ترتب الثاني على الأول عادة (1). الله تعالى لا يسمى علة: ويرى الأشاعرة أن الله سبحانه وتعالى هو الموجد بالاختيار لجميع الأشياء ابتداءً بدون واسطة، وأنه لا تأثير لغيره في الإيجاد، لا بالاختيار ولا التعليل ولا الطبع. وأنه لا يقال للمولى علة، كما أن صفاته سبحانه لا يقال لها علة. إلا أنهم يسمون بعض الممكنات علة، والبعض الآخر معلولاً لها. فالشبع معلول للأكل والري معلول للشرب، وكل من الأكل والشرب علة لمعلوله. ولكن ذلك لا يفيد سوى ترتب الشبع على الأكل، والري على الشرب، لحصوله عقيبه عادة، وليس للمتقدم تأثير في المتأخر (2). ومن خلال ما تقدم يتبين أن الأشعري وموافقيه يرون أن التلازم بين العلة والمعلول تلازم عادي، وليس تلازما عقليا خلافا للفلاسفة ومثبتي الأحوال من المعتزلة وغيرهم. المصدر: الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى لمحمد ربيع المدخلي - ص 20   (1) الشيخ محمود أو دقيقة، كتاب ((التوحيد)) القسم الثالث (ص: 3). (2) الشيخ محمود أو دقيقة، كتاب ((التوحيد)) القسم الثالث (ص: 4). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 المطلب الثاني: موقف الأشاعرة من الحكمة والتعليل يرى الأشاعرة أن أفعال الله تعالى لا تعلل بالأغراض والغايات. وإنما يفعل تعالى بمحض المشيئة والإرادة دون أن يتوقف فعله على الحكم؛ فلا يبعثه باعث على الفعل. ويترتب على فعله حكم ولكنها غير مقصودة، بل هي مترتبة على الفعل وحاصلة عقيبه. وبهذا القول قال مشايخ الأشاعرة، وإليك بعض ما جاء في مصنفاتهم: قال الإيجي وشارحه:"المقصد الثامن في أن أفعاله تعالى ليست معللة بالأغراض، إليه ذهبت الأشاعرة، وقالوا: لا يجوز تعليل أفعاله تعالى بشيء من الأغراض والعلل الغائية، ووافقهم على ذلك جهابذة الحكماء وطوائف الإلهيين" (1). وقال الشهرستاني:"القاعدة الثامنة عشر: في إبطال الغرض والعلة في أفعاله تعالى: مذهب أهل الحق أن الله تعالى خلق العالم بما فيه من الجواهر والأعراض وأصناف الخلق والأنواع، لا لعلة حاملة له على الفعل سواء قدرت تلك العلة، نافعة له أو غير نافعة، إذ ليس يقبل النفع والضر، أو قدرت تلك العلة نافعة للخلق، إذ ليس يبعثه على الفعل باعث فلا غرض له في أفعاله ولا حامل بل علة كل شيء صنعه ولا علة لصنعه" (2). وقال الآمدي في غاية المرام:"مذهب أهل الحق أن الباري تعالى خلق العالم وأبدعه لا لغاية يستند الإبداع إليها، ولا لحكمة يتوقف الخلق عليها، بل كل ما أبدعه من خير وشر ونفع وضر، لم يكن لغرض قاده إليه، ولا لمقصود أوجب الفعل عليه" (3). وقال محمد بن عمر الرازي في الأربعين في أصول الدين: "المسألة السادسة والعشرون: في أنه لا يجوز أن تكون أفعاله تعالى معللة بعلة البتة. اتفقت المعتزلة على أن أفعال الله تعالى أحكامه معللة برعاية مصالح العباد وهو اختيار أكثر المتأخرين من الفقهاء وهذا عندنا باطل" (4). ومن هذه النصوص يبدو جليا أن الأشاعرة من نفاة التعليل لأفعاله تعالى بالحكم والمصالح والأغراض والغايات. أما نفيهم للغرض والعلة فهم يطلقون ذلك بدون استثناء في مصنفاتهم. وأما الحكمة، فإنهم لا ينفونها، وإنما ينفون أن تتوقف أفعاله على الحكم. بل الحكم مترتبة على أفعاله، وحاصلة عقيبها أي ليست هذه الحكم مقصودة ومطلوبة بالفعل كما يراه المعتزلة ومن وافقهم. المصدر: الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى لمحمد ربيع المدخلي - ص 62   (1) الإيجي في ((المواقف)) (8/ 202). وقد أوردت المتن ممزوجا مع الشرح للشريف الجرجاني. (2) الشهرستاني، ((نهاية الإقدام)) (ص: 397). (3) الآمدي، ((غاية المرام في علم الكلام)) (ص: 224). (4) الرازي، الأربعين في ((أصول الدين)) (ص: 249). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 المطلب الثالث: تحرير محل النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة وأصل الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة هو: هل هناك أغراض وغايات باعثة له تعالى على الفعل، فلا يفعل إلا لعلة؟ فالمعتزلة يرون ذلك، تلك الأغراض هي مصالح العباد، أما الأشاعرة فإنهم يمنعون ذلك. وقد رد الأشاعرة على ما احتج به المعتزلة على إثبات الغرض، وهو قولهم، بأن الفعل الخالي عن الغرض عبث، وأنه قبيح يجب تنزيه الله تعالى عنه، فلابد إذن في فعله من غرض؛ نفيا للعبث ولابد أن يكون الغرض عائدا على غيره إذ لا ينتفع بالغرض، ولا يتضرر بتركه. رد الأشاعرة عليهم، بأن العبث ما كان خاليا عن الفوائد والمنافع، وأفعاله تعالى محكمة متقنة مشتملة على حكم ومصالح راجعة إلى مخلوقاته، لكنها ليست أسبابا باعثة لفعله، وعللا غائية لفاعليته حتى يلزم استكماله بها، بل تكون غايات ومنافع لأفعاله وآثاراً مترتبة عليها، فلا يلزم أن يكون شيء من أفعاله عبثا. ثم إن العبث إنما يتصور في حق من تلحقه الفوائد، والله تعالى لا ينتفع بشيء، ولا يتضرر بشيء. فحقيقة العبث لا تتصور في حقه تعالى. وقالوا: إن ما ورد من الآيات والأحاديث الدالة على تعليل أفعاله تعالى بالأغراض، فهو محمول على الحكم والمصالح دون الغرض والعلة الغائية (1). ولا يخفى أن إثبات حكم ومصالح مترتبة على أفعاله مع نفي أن تكون مقصودة ومطلوبة بالفعل، لا يخفى أن ذلك تكلف من الأشاعرة وتمحل. وقد مثلوا هذه الحكم غير المقصودة بمثال من يغرس غرسا لأجل الثمرة، فإنه يعلم ما يترتب عليه من المنافع من استظلال الناس بها، وانتفاعهم بأغصانها إلى غير ذلك. ولكن الباعث هل على الغرس هو الثمرة لا غير. فكذلك الفوائد والمصالح المترتبة على فعله فإنها بمنزلة ما سوى الثمرة بالنسبة إلى الغارس (2). وهذا المثال لا يقره المنصفون؛ ولذا قال الإمام محمد عبده في حاشيته على شرح الجلال الدواني بعد أن قرر أن الفعل لا يسمى حكمة، إلا إذا كان مقصودا من الفاعل؛ لأن ما يترتب على عمل من أعمالك بدون قصد منك إليه لا يعد منك حكمة، بل رمية بغير رام، وأنه لا يقال لمتخبط قتل عقربا بحركات تخبطه أنه حكيم بذلك العمل. قال معقبا على المثال الآنف الذكر- وهو أن الغارس لم يبعثه على الغرس سوى الثمرة-: "هذا تمثيل بارد، فإنه قد مثل برجل خسيس الطبع دنيء الهمة، قد قصر كماله على بعض ما يترتب على فعله وهو غافل عن الباقي. ثم قال: فعدم قصده لذلك إما لنقصه في ذاته أو جهله، على أنه قد قصد غاية فنيت فيها الغايات، فعدم قصده لغيرها لما أنه لم يحضره أن الغير مصلحة" (3). وأما الحكمة فإنهم يرون أن أفعاله تعالى مشتملة على الحكم والمصالح جوازا، لا لزوما ولا وجوبا. ولكن هذه المصالح مترتبة على الفعل وتابعة له وليست باعثة له تعالى. المصدر: الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى لمحمد ربيع المدخلي - ص 64 لام التعليل ورأي الأشاعرة فيها ولما احتج القائلون بالتعليل بورود التعليل في القرآن الكريم مدلولاً عليه بلام التعليل وذلك في مثل قوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، أجاب الأشاعرة عن ذلك بأن هذه اللام ليست لام التعليل بل هي لام العاقبة والصيرورة. فليس المراد أن العبادة باعثة لله تعالى على خلق الجن والإنس، إذ لو كانت كذلك لاقتضى الأمر أن يكون تعالى مستكملا بعبادة الخلق له، ولذلك احتاج إليها فخلق الخلق من أجلها.   (1) الإيجي، ((المواقف)) (8/ 205). (2) الجلال الدواني، ((شرح العضدية)) (2/ 207). (3) محمد عبده، حاشيته على ((شرح الجلال على العضدية)) (ص: 179). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 وإنما المراد عاقبة الأمر وصيرورة الحال؛ أي لما وجد الخلق كلفوا بالعبادة فترتب التكليف بالعبادة على وجود الخلق. قال الشهرستاني:"وأما الآيات في مثل قوله تعالى: وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [الجاثية: 22] فهي لام المال وصيرورة الأمر، وصيرورة العاقبة لا لام التعليل، كما قال تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص: 8] " (1). وقال السنوسي في شرح القواعد: "ومن الجهل بفن علم البيان أخذ المعتزلة تعليل أفعاله تعالى بالأغراض من قوله جل وعلا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]. فجعلوا اللام للتعليل حقيقة ولو خالطوا فن البيان لعرفوا أن الآية من باب الاستعارة التبعية. وأنه شبه التكليف بالعبادة في ترتبه على الخلق بالعلة الغائية، التي تترتب على الفعل، ويقصد الفعل لأجلها، فجعلت العبادة أي التكليف بها لأجل هذه الشبه علة غائية بطريق الاستعارة، فتبع ذلك استعارة اللام الموضوعة للتعليل. ودخلت على العبادة للدلالة على العلة المجازية" (2). وقد سبق أن بينا رأى السلف في لام العاقبة وأنها لا تكون في حقه تعالى، بل تكون في حق من يجهل العاقبة للفعل الذي يقدم عليه كما في قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص: 8] ".فإن فرعون لم يكن يعلم عاقبة تربيته لموسى عليه السلام، حيث كان هلاكه على يديه. وأما من هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير فلا تكون هذه اللام في حقه" (3). وإذا تأملنا نجد أنه لا وجه لإنكار ورود تعليل أفعال الله تعالى في القرآن الكريم، وصرف اللام عن كونها للتعليل إلى كونها للعاقبة؛ وذلك لأن التعليل قد ورد بأدوات أخرى غير اللام، فقد وردت أداة "كي" الصريحة في التعليل، و"من أجل" وغير ذلك مما يفيد التعليل كما سبق ذكره. وقد أقر بالتعليل غير المعتزلة كالشاطبي والتفتازاني وصدر الشريعة وغيرهم. المصدر: الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى لمحمد ربيع المدخلي - ص 66   (1) الشهرستاني، ((نهاية الإقدام في علم الكلام)) (ص: 402). (2) نقلا عن ((رسالة الدمنهوري المخطوطة في تنزيه أفعال الله عن الأغراض)) (ص: 11). (3) انظر ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 402)، و ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية)) لابن تيمية (1/ 217). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 المطلب الرابع: أدلة الأشاعرة والجواب عنها اعتمد الأشاعرة في نفي تعليل أفعاله تعالى بالأغراض والغايات على حجج عقلية، وقد ذكرها الرازي في كتابه (الأربعين) (1). وسنورد هذه الأدلة مع إيراد جواب المثبتين للتعليل عنها. الدليل الأول: أن كل من فعل فعلا لأجل تحصيل مصلحة، أو دفع مفسدة، كان ناقصا بذاته، مستكملا بذلك الفعل، وذلك محال في حق الله تعالى. وتقرير ذلك: أن من فعل فعلا لأجل تحصيل مصلحة، فإن كان تحصيل تلك المصلحة أولى من عدم تحصيلها، كان ذلك الفاعل قد استفاد بذلك الفعل تحصيل تلك الأولوية، وكل من كان كذلك، كان ناقصا بذاته، مستكملا بغيره، والاستكمال بالغير في حق الله تعالى محال. وإن كان تحصيلها وعدم تحصيلها بالنسبة إليه سواء، فحينئذ لا يحصل منه ترجيح أحدهما على الآخر، ومع عدم ترجيح التحصيل يمتنع التحصيل. وقد نوقش هذا الدليل بما يلي: 1 - قولكم: إنه يكون ناقصا بذاته غير لازم؛ لأن الحكمة قبل حصولها لا تعتبر كمالا، وما ليس بكمال في وقت لا يعتبر عدمه نقصا فيه. فالكمال إذا كان مترتبا على الفعل امتنع حصوله قبل الفعل فلا يكون عدمه قبل الفعل نقصا. 2 - أما قولكم: إنه يلزم من ذلك أن يكون مستكملا بغيره، إن أردتم به أن الحكمة التي فعل لأجلها حصلت له من شيء خارج عنه، فذلك باطل؛ لأنه لا رب سواه، ولم يستفد من غيره كمالا بوجه من الوجوه. وإن أردتم أن تلك الحكمة غير له وهو مستكمل بها. فيقال: إن تلك الحكمة صفته سبحانه، وصفاته ليست غيرا له، فإن حكمته قائمة به، وهو الحكيم الذي له الحكمة كما أنه العليم الذي له العلم، والقدير الذي له القدرة. الدليل الثاني: لو كان فعله تعالى معللاً بعلة، فهذه العلة إما أن تكون قديمة، فيلزم من قدمها قدم الفعل، لأن العلة التامة يجب أن يكون معها معلولها في الزمان، وهذا خلاف ما قام عليه الدليل من أن كل ما سوى الله تعالى حادث. وإن كانت هذه العلة حادثة، فإن حدثت لا لسبب، لزم ترجيح أحد المتساويين بلا مرجح وهو محال. وإن حدثت لسبب حادث، نقلنا الكلام إلى ذلك السبب الحادث، فإن حدث لا لعلة لزم الترجيح بلا مرجح. وإن حدث لعلة فتلك العلة لابد لها من علة أخرى وهكذا فيلزم التسلسل. وقد نوقش هذا الدليل بما يلي: 1 - قولكم: إن كانت العلة قديمة لزم من قدمها الفعل وهو محال. فالجواب: أنه لا يخلو: إما أن يكون الفعل قديم العين، أو قديم النوع، أو لا يمكن واحد منهما. فإن أمكن أن يكون قديم العين، أو النوع، أمكن في الحكمة التي يكون الفعل لأجلها أن تكون كذلك. وإن لم يمكن أن يكون الفعل قديم العين ولا النوع، بل هو حادث العين أو النوع كانت الحكمة كذلك، فالحكمة يحذى بها حذو الفعل، فما جاز على الفعل جاز عليها، وما امتنع عليه امتنع عليها. 2 - إن غاية هذه الحجة لزوم التسلسل، فإنه إذا كان يفعل لعلة فهذه العلة تحتاج إلى علة أخرى وهكذا. فيقال: إن كان هناك تسلسل فهو في الآثار المستقبلة وهو ممكن، بل واجب باتفاق جماهير المسلمين، لأن نعيم الجنة دائم لا يقف عند حد إذ ما من نعيم إلا وبعده نعيم إلى لا نهاية. وإنما قلنا يكون التسلسل في الآثار المستقبلة، لأن الحكمة التي لأجلها يفعل الفعل تكون حاصلة بعده. فإذا اقتضت هذه الحكمة حكمة أخرى بعدها، كان هناك تسلسل في الحوادث المستقبلة وهو جائز، ولم ينازع فيه إلا بعض أهل البدع من الجهمية والمعتزلة كالجهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف.   (1) راجع كتاب محمد بن عمر الرازي: ((الأربعين في أصول الدين)) (ص: 249 - 251). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"هذا التسلسل في الحوادث المستقبلة لا في الحوادث الماضية، فإنه إذا فعل فعلا لحكمة كانت الحكمة حاصلة بعد الفعل، فإذا كانت تلك الحكمة يطلب منها حكمة أخرى بعدها كان تسلسلا في المستقبل، وتلك الحكمة الحاصلة محبوبة له، وسبب لحكمة ثانية، فهو لا يزال سبحانه يحدث من الحكم ما يحبه ويجعله سببا لما يحبه" (1). أما التسلسل الممنوع فهو التسلسل في العلل والفاعلين، وذلك بأن يكون لهذا الفاعل فاعل قبله، وكذلك ما قبله إلى غير نهاية. وهذا محال باتفاق العقلاء؛ لاستلزامه اجتماع علل غير متناهية مترتبة في وقت واحد، إذ العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها زمانا. الدليل الثالث: أن جميع الأغراض يرجع حاصلها إلى شيئين: تحصيل اللذة والسرور، ودفع الألم والحزن، والله تعالى قادر على تحصيل المطلوب ابتداء بدون وسائط. وكل من كان قادرا على تحصيل المطلوب بدون وسائط، كان توسله إلى تحصيل ذلك المطلوب بتلك الوسائط عبثا، والعبث محال في حقه تعالى. وقد نوقش هذا الدليل بما يلي: 1 - لا يلزم إذا كان الشيء مقدورا ممكنا أن يكون ممكنا وجوده بدون وجود ما يتوقف عليه. فإن الموقوف على الشيء يمتنع حصوله بدونه، كما يمتنع وجود الابن يوصف كونه ابنا بدون الأب، لأن وجود الملزوم بدون لازمه محال. فإذا كان الأمران مقدورين لم يكن العدول عن أحدهما إلى الآخر عبثا إلا إذا تساويا من كل وجه. ولا يمكن تساويهما؛ فإن إرسال الرسل لهداية الناس، والله قادر على هدايتهم بدون إرسال الرسل، ولكن إرسالهم وعدم إرسالهم لا يتساويان؛ ذلك أن إرسالهم به قطع الله حجة من لم يؤمن. ومما تقدم يتبين بطلان قولهم: من كان قادرا على تحصيل المطلوب ابتداء كان توسله إلى تحصيله بواسطة عبثا؛ وذلك لأن الواسطة إذا كانت شرطا أو سببا كان لابد من وجودها، لأن المشروط متوقف على شرطه، وكذلك المسبب متوقف على سببه، فإيجادها لفائدة لا عبثا، لأن العبث هو ما لا فائدة له. ثم إن قولكم: إن العبث على الله محال، يلزم منه ألا يفعل الله إلا لحكمة. 2 - قولكم: إن جميع الأغراض يرجع حاصلها إلى شيئين: تحصيل اللذة والسرور، ودفع الألم والحزن، إذا أردتم به أن حكمة الله هي ما ذكرتم فهي دعوى بلا برهان، لأن حكمة الرب تعالى فوق تحصيل اللذة ودفع الألم، بل هو يتعالى عن ذلك لأن ما ذكر غرض المخلوق، أما الخالق سبحانه فهو غني بذاته عن كل ما سواه، حكمته سبحانه لا تشابه حكمة المخلوقين، كما أن إرادته وسائر صفاته لا تشابه صفات المخلوقين. فحكمته سبحانه أجل وأعلى من أن يقال: إنها تحصيل لذة، أو دفع ألم وحزن. الدليل الرابع: لو كانت أفعاله معللة بالأغراض والحكم، ما خلا فعل من أفعاله عن الحكمة، لكن التالي باطل: لأننا نشاهد في هذه الدنيا من أنواع الكفر والشرور والفتن الكثير، فما هي الحكمة في إيجادها؟ وأي حكمة في تعذيب الكفار تعذيبا دائما في الآخرة؟ بل وأي حكمة في إيلام الأطفال والبهائم؟ فدل ذلك أنه تعالى إنما يفعل بمحض المشيئة وصرف الإرادة (2). وأجيب عن هذا الدليل بالتالي: 1 - أن الحكمة إنما تتعلق بالوجود والحدوث. والكفر والشرور وأنواع المعاصي إنما هي نتيجة لترك ما أمر الله، فهي عقوبة على ترك داعي الفطرة وعدم الطاعة.   (1) ابن تيمية، ((منهاج السنة النبوية)) (1/ 45). (2) كل الأدلة المذكورة أوردها الرازي في كتاب ((الأربعين في أصول الدين)) (ص: 249 - 251). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 ونحن عندما التزمنا الحكمة إنما التزمناها فيما يفعله الله ويوجده، أما ما يتركه فهو وإن كان لحكمة إلا أنه لا يدخل في كلامنا فلا يرد علينا، فإذا ترك العبد ونفسه نتيجة عصيانه، ففعل الشر كان حدوث الشر بسبب أنه وكل العبد لنفسه، ولم يخلق فيه قدرة الطاعة، وهذا لا يدخل تحت الفعل، فالشر لا ينسب إلى الله لأنه عدم الخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء كاسمه. فحينما نقول: إن أفعال الرب تعالى واقعة بحكمة وغاية محمودة لم يرد علينا تركه. والله سبحانه وتعالى قد يترك ما لو خلقه لكان في خلقه له حكمة، ولكنه يتركه لعدم محبته لوجوده، أو لكون وجوده يضاد ما هو أحب إليه، فلما كان وجوده يستلزم فوات ما هو أحب إليه فإنه يتركه. 2 - أن الحكمة إنما تتم بخلق المتضادات، والمتقابلات؛ كخلق الليل والنهار، والعلو السفل، والطيب والخبيث، والحلو والمر، والبرد والحر، والألم واللذة، والمرض والصحة، والحياة والموت. فخلق هذه المتقابلات دليل على الحكمة الباهرة والملك التام، والقدرة القاهرة. وصفات الله سبحانه وتعالى لكل صفة منها مقتضيات وآثار هي مظهر كمالها، وإن كانت كاملة في نفسها، لكن ظهور آثارها وأحكامها من كمالها، فلا يجوز تعطيلها. فإن صفة القدرة تستدعي مقدورا. وصفة الخالق تستدعي مخلوقا. وكذلك صفة الوهاب، الرزاق، المعطي المانع، الضار، النافع، المعز، المذل، الرحيم الجبار، كلها تقتضي آثارها وأحكامها. فلو عطلت تلك الصفات عن المخلوق، والمرزوق، المرحوم، المعز، المذل، لم يظهر كمالها. كما أن صفاته تعالى اقتضت أن يكون الخلق مؤمن وكافر، ومطيع وعاص. وإن كان الكفر نتيجة خذلان الله تعالى، فلا ظلم من الله تعالى إذا لم يمنع العبد حقا له بعدم توفيقه. والعصيان قد يكون عقوبة على ذنب اقترفه العبد فاقتضت صفاته ذلك ليكون من العاصي تضرع وإنابة إلى الله. ومن المؤمن المطيع شكر له تعالى على هدايته وتوفيقه له. ولا شك أن التوبة والشكر نافعان، منفعتهما ترجع إلى العبد، وهما محبوبان لله عز وجل. ولو كان الخلق كلهم مطيعين لتعطل أثر كثير من الصفات. وكيف كان يظهر أثر صفة العفو، والمغفرة، والانتقام، والقهر؟ 3 - وأما ما قلتم من تعذيب البهائم والأطفال ونحوه، فإننا لم نقل إن حكمة الله يجب – أو يمكن – إطلاع الخلق عليها في كل فعل له تعالى؛ فحكمة الله أعظم وأجل من أن يحاط بها. وقد يكون إخفاء الحكمة لحكمة جليلة. وعلى هذا فما ذكرتم من الصور مشتمل على حكم جليلة، وإن خفيت علينا كما قال الله لملائكته: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة: 30].وإنما يلزمنا قولكم إذا ادعينا أن جميع الحكم معلومة ظاهرة للخلق، ونحن لا ندعي ذلك، بل نعتقد أنه لا يخلو فعل من أفعاله عن حكمة، سواء ظهرت أو خفيت (1). النتيجة إذا تأملنا أدلة الأشاعرة على نفي التعليل نجد أنها مجرد شبهات، لا تستند إلى نص من كتاب أو سنة، بل عولوا فيها على عقولهم، والعقل البشري ليس في إمكانه معرفة الصواب في كل شيء. والواجب أن يخضع العقل في معرفة ذلك لما جاء في النصوص المعصومة عن الله ورسوله. أما الأدلة التي يعول فيها على العقل وحده فقد تتضارب وتتناقض، ويتنازع أصحابها، ولا أدل على ذلك من اختلاف المعتمدين على العقل في أكثر المسائل. وعلى سبيل المثال مسألة تعليل أفعاله تعالى التي نحن بصددها فنجد المعتمدين على الأدلة العقلية اختلفوا فيها: فالفلاسفة والأشاعرة ينفون أن تكون أفعاله تعالى لغاية وغرض؛ لئلا يلزم أن يكون ناقصا قبل ذلك ومستكملا بذلك الغرض. والمعتزلة يوجبون تعليل أفعاله بالأغراض؛ لأن من يفعل لا لغرض يكون عابثا، والبعث قبح يتنزه الله عنه، وقد تقدم الكلام في ذلك. وقد اضطر نفاة التعليل إلى تأول النصوص الدالة على التعليل، وصرفها عن معانيها بغير دليل سوى أن عقولهم لم تقبلها. وخلاصة القول في الحكمة والتعليل: أن الحق هو ما عليه السلف ومن وافقهم وهو: أن أفعاله تعالى تعلل بالحكم والغايات الحميدة، التي تعود على الخلق بالمصالح والمنافع، ويعود إلى الله تعالى حبه ورضاه لتلك الحكم، وهذه الحكم مقصودة ويفعل لأجل حصولها، كما تدل عليه النصوص من القرآن الكريم والسنة. وقد أوردنا بعضها عند ذكر أدلتها على إثبات التعليل. والله أعلم. المصدر: الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى لمحمد ربيع المدخلي - ص 75   (1) راجع في الرد على أدلة نفاة التعليل كتاب ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 435 - 461). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 المطلب الأول: التحسين والتقبيح أول من اشتهر عنه بحث هذا الموضوع الجهم بن صفوان الذي وضع قاعدته المشهورة: "إيجاب المعارف بالعقل قبل ورود الشرع" (1)، وبني على ذلك أن العقل يوجب ما في الأشياء من صلاح وفساد، وحسن وقبح، وهو يفعل هذا قبل نزول الوحي، وبعد ذلك يأتي الوحي مصدقا لما قال به العقل من حسن بعض الأشياء وقبح بعضها، وقد أخذ المعتزلة بهذا القول ووافقهم عليه الكرامية (2). ومن ثم وقع الخلاف حوله على ثلاثة أقوال:1 - أن الحسن والقبح صفتان ذاتيتان في الأشياء، والحاكم بالحسن والقبح هو العقل، والفعل حسن أو قبيح إما لذاته، وإما لصفة من صفاته لازمة له وإما لوجوه واعتبارات أخرى، والشرع كاشف ومبين لتلك الصفات فقط. وهذا هو مذهب المعتزلة والكرامية ومن قال بقولهم من الرافضة والزيدية وغيرهم (3).2 - أنه لا يجب على الله شيء من قبل العقل، ولا يجب على العباد شيء قبل ورود السمع، فالعقل لا يدل على حسن شيء، ولا على قبحه قبل ورود الشرع، وفي حكم التكليف، وإنما يتلقى التحسين والتقبيح من موارد الشرع وموجب السمع. قالوا: ولو عكس الشرع فحسن ما قبحه، وقبح ما حسنه لم يكن ممتنعا. وهذا قول الأشاعرة ومن وافقهم (4). 3 - التفصيل، لأن إطلاق التحسين والتقبيح على كل فعل من جهة العقل وحده دون الشرع، أو نفي أي دور للعقل في تحسين الأفعال أو تقبيحها، غير صحيح، ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية مذهب أهل الحق في هذا توضيحا كاملا، فيقسم الأفعال إلى ثلاثة أنواع: "أحدها: أن يكون الفعل مشتملا على مصلحة أو مفسدة، ولو لم يرد الشرع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل على فسادهم، فهذا النوع هو حسن أو قبيح، وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك، لا أنه ثبت للفعل صفة لم تكن، لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقبا في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك، وهذا ما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح، فإنهم قالوا: إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة، ولو لم يبعث الله إليهم رسولا، وهذا خلاف النص، قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15] ...   (1) ((الملل والنحل)) (1/ 88) ت كيلاني. (2) انظر: ((نشأة الفكر الفلسفي للنشار)) (1/ 346)، و ((التجسيم عند المسلمين – مذهب الكرامية)) سهير مختار (ص: 363). (3) انظر ((المغني)) لعبدالجبار (جـ6 – القسم الأول – ص: 26 - 34، 59 - 60)، و ((المعتمد في أصول الفقه)) لأبي الحسين البصري (1/ 363)، و ((البحر الزخار)) لابن المرتضي (1/ 59)، و ((العقل عند المعتزلة)) (ص: 98 - 100)، و ((المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية)) (ص: 137). (4) انظر ((الإرشاد)) (ص: 258 وما بعدها)، و ((المحصل)) للرازي (ص: 202)، و ((شرح المواقف)) (8/ 181 - 182). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 النوع الثاني: أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسنا، وإذا نهى عن شيء صار قبيحا، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع. النوع الثالث: أن يأمر الشارع بشيء يمتحن العبد، هل يطيعه أم يعصيه، ولا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر إبراهيم بذبح ابنه فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات: 103] حصل المقصود، ففداه بالذبح وكذلك حديث أبرص وأقرع وأعمى، فلما أجاب الأعمى قال الملك: ((أمسك عليك مالك، فإنما ابتليتم، فرضي عنك وسخط على صاحبيك)) (1) , فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به. وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة، وزعمت أن الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع، والأشعرية ادعوا أن جميع الشريعة من قسم الامتحان، وأن الأفعال ليست صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع. وأما الحكماء والجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة، وهو الصواب" (2). وشيخ الإسلام يزيد الأمر تحقيقا فيبين أن التحسين والتقبيح قسمان: أحدهما: كون الفعل ملائما للفاعل نافعا له أو كونه ضارا له منافرا فهذا قد اتفق الجميع على أنه قد يعلم بالعقل (3). الثاني: كونه سببا للذم والعقاب، فهذا هو الذي وقع فيه الخلاف: - فالمعتزلة قالوا قبح الظلم والشرك والكذب والفواحش معلوم بالعقل، ويستحق عليها العذاب في الآخرة وإن لم يأت رسول. - والأشاعرة قالوا: لا حسن ولا قبح ولا شر قبل مجيء الرسول، وإنما الحسن ما قيل فيه افعل، والقبيح ما قيل لا تفعل. ولم يجعلوا أحكام الشرع معللة، وهذا يوافق مذهبهم في التعليل.- جمهور أهل السنة قالوا: الظلم والشرك والكذب والفواحش كل ذلك قبيح قبل مجيء الرسول، لكن العقوبة لا تستحق إلا بمجيء الرسول (4).وما فصله شيخ الإسلام هو الموافق لمذهب السلف، وهو الذي دلت عليه النصوص، أما الكلام في هذه المسألة كاصطلاح فإنما نشأ في المائة الثالثة من الهجرة (5). والأشاعرة لأنهم يميلون إلى "الجبر" وفي القدر، قالوا بالتحسين والتقبيح الشرعي فقط. ولذلك احتج الرازي صراحة عليه بالجبر، فإنه أثبت أن العبد مجبور على فعله القبيح، فلا يكون شيء من أفعال العباد قبيحا.   (1) رواه البخاري (3464) , ومسلم (2964) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) ((مجموع الفتاوى)) (8/ 434 - 436). (3) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 90، 309 - 301)، و ((منهاج السنة)) (1/ 364) – مكتبة الرياض الحديثة. (4) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 677 - 686، 11/ 676 - 677). (5) انظر: ((التسعينية)) (ص: 247). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 ويرى شيخ الإسلام أن هذه الحجة هي في الأصل حجة المشركين المكذبين بالرسول الذين قالوا لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ [الأنعام: 148]، فإنهم نفوا قبح الشرك وتحريم ما لم يحرمه الله من الطيبات بإثبات القدر، لكن شيخ الإسلام يستدرك – إنصافا لخصومه – فيقول: "لكن هؤلاء الذين يحتجون بالجبر على نفي الأحكام إذا أقروا بالشرع لم يكونوا مثل المشركين من كل وجه، ولهذا لم يكن المتكلمون المقرون بالشريعة كالمشركين وإن كان فيهم جزء من باطل المشركين. لكن يوجد في المتكلمين من المتصوفة طوائف يغلب عليهم الجبر حتى يكفروا حينئذ بالأمر والنهي والوعد والوعيد والثواب والعقاب، إما قولا وإما حالا وعملا ... " (1).ولاشك أن الأشاعرة – وكذلك المعتزلة – ليس لهم حجة على قولهم في التحسين والتقبيح، سوى أخذهم ببعض النصوص دون بعض، وشيخ الإسلام كثيرا ما يفصل الخلاف في ذلك مبينا المذهب الحق (2). المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1319 يرى الأشاعرة أن القبيح ما نهى عنه الشارع والحسن بضده، فلا حكم إذاً للعقل في حسن الأشياء وقبحها، وأنه ليس ذلك عائداً إلى أمر حقيقي في الفعل، فالشارع مثبت ومبين للحسن والقبح بأمره أو نهيه (3).ولهم طرق لإثبات زعمهم هذا، منها ما صرح بعضهم بضعفه (4)، ومنها ما اتفقوا على قوته، والمقصود إيراد ما اتفقوا عليه من الطرق: الدليل الأول: قال الإيجي: "إن العبد مجبور في أفعاله، وإذا كان كذلك لم يحكم العقل فيها بحسن ولا قبح اتفاقاً. بيانه: إن العبد إن لم يتمكن من الترك فذلك هو الجبر، وإن تمكن ولم يتوقف على مرجح بل صدر عنه تارة ولم يصدر عنه أخرى من غير سبب كان ذلك اتفاقياً، وإن توقف على مرجح لم يكن ذلك من العبد، وإلا تسلسل ووجب الفعل عنده، وإلا جاز معه الفعل والترك فاحتاج إلى مرجح آخر وتسلسل، فيكون اضطرارياً، وعلى التقادير فلا اختيار للعبد فيكون مجبوراً (5). والجواب من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: إن هذا التقسيم باطل مخالف للشرع والعقل والحس، لأنه يلزم منه التسوية بين الفعل الاضطراري والفعل الاختياري، وهذا خلاف ما تقضي به الضرورة (6).الوجه الثاني: إن الإيجي سلم بأن الفعلين الاتفاقي والاضطراري لا يكونان حسنين ولا قبيحين عقلاً، فيقال له: يلزم من هذا التقسيم إبطال الحسن والقبح الشرعيين كذلك، لأن فعل العبد لا يخلو من أن يكون ضرورياً أو اتفاقياً (7).   (1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (16/ 246 - 247)، وانظر: ((التسعينية)) (ص: 247). (2) انظر: ((أقوم ما قيل في القضاء والقدر – مجموع الفتاوى –)) (8/ 90)، ((قاعدة في المعجزات والكرامات – مجموع الفتاوى)) (11/ 347 - 355)، ((منهاج السنة)) (1/ 316 - 317) – ط دار العروبة المحققة، ((الدرء)) (8/ 22، 492، 9/ 49 - 62)، ((شرح الأصفهانية)) (ص: 161) ت مخلوف، ((الرد على المنطقيين)) (ص: 420 - 437)، ((النبوات)) (ص: 139 وما بعدها)، ط دار الكتب العلمية، ((الجواب الصحيح)) (1/ 314 - 315)، ((مجموع الفتاوى)) (16/ 498). (3) انظر ((المواقف)) للإيجي (ص323) و ((شرح المقاصد)) (4/ 282). (4) انظر ((المواقف)) للإيجي (ص: 325 - 326 (و ((شرح المقاصد)) (4/ 284). (5) ((المواقف)) للإيجي (ص:324). (6) انظر ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 25) و ((الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى)) (ص:101). (7) انظر ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 25) و ((الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى)) (ص: 101). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 الوجه الثالث: ثم إن هذا التقسيم يعلم الأشاعرة بطلانه، فهم يقولون عن الفعل الواقع بلا مرجح: إنه اختياري، وعن فعل المكلف الواجب وإن لم يقع بقدرة مؤثرة منه فيه: إنه لا يخرج عن كونه اختيارياً! فكان الواجب إذاً عدم إيراد هذه الحجة، فإن قالوا هي إلزامية – فجوابهم: إننا لا نلتزم بشيء مما ذكروه فلا يرد إذاً هذا الإلزام الذي ذكروه. الدليل الثاني: قالوا: إن الكذب لو كان قبيحاً لذاته لوجب أن يكون كذلك في كل صورة – كالكذب لإنجاء نبي، ومعلوم أن الكذب هنا واجب فلزم أن يكون حسناً، ومثل ما قيل في قول الكذب، كذلك يقال في الفعل كالقتل فإنه قد يكون حسناً كالقصاص، وقد يكون قبيحاً إذا كان ظلماً، فلزم من هذا أنه لا حسن ولا قبيح ذاتيين يدركهما العقل (1). والجواب: إن المراد من كون الفعل حسناً أو قبيحاً لذاته أو لصفته هو كونه منشأً للمصلحة والمفسدة، وترتيب المصلحة والمفسدة على الفعل كترتيب المسببات على أسبابها المقتضية لها (2)، وقد علم سابقاً أنه لابد من وجود شروط وانتفاء موانع لاقتضاء الأسباب لمسبباتها، فإذا تختلف شرط أو وجد مانع ما نتج شيء، فكذلك يقال هنا، إن الكذب قبيح ولكن وجد ما نع هنا من الحكم بقبحه في حالة معينة وهو المصلحة الراجحة، وهكذا يقال في الفعل وهو القتل هنا (3). وللأشاعرة أدلة أخرى لنفي التحسين والتقبيح العقليين أقر المتأخرون منهم بضعفها، وآثرت ذكر واحد منها لأن له تعلقاً بأفعال الله، وقد يكون هو من أكبر الشبهات الحاملة لهم على نفي الحسن والقبح لذات الفعل أو لوصفه!، وهو: الدليل الثالث: قالوا لو كان حسن الفعل وقبحه لذاته أو لصفاته للزم أن يكون الباري غير مختار في الحكم! وبيانه: أن الفعل لابد له من حكم شرعي، وهذا الحكم الشرعي إما أن يكون موافقاً للحسن لذاته المعلوم بالعقل أو مخالفاً له، والثاني باطل بصريح العقل لكونه لا يليق بالله تعالى، والأول يلزم منه أن يتعين على الباري الحكم عليه بحسب المعقول ولا يصح تركه وهذا ينافي الاختيار (4). والجواب من وجهين: الأول: ما ادعوه من أن حكم الله إذا تعلق بالشيء لكونه حسناً لذاته ينافي الاختياري تلبيس، فإنه لم يتعلق بخلافه – وهو القبيح – لصارف الحكمة، مع أنه قادر عليه، والامتناع لصارف الحكمة لا ينافي الاختيار، كيف والواقع أن إرادته واختياره اقتضت استلزام الحكم للحسن لذاته (5).الوجه الثاني: إن الأشاعرة يقولون إن خطاب الله – وهو حكمه – قديم لأنه كلام نفسي أزلي فكيف على أصلهم يكون الاختيار، وهكذا يقال في أفعاله التي تعلقت بها القدرة والإرادة تعلقاً صلوحياً أزلياً، فهل يقال على أصلهم هذا: يلزم ألا يكون فعله اختيارياً؟ فما كان جواباً لهم على كل هذا كان جواباً لنا على شبهتهم (6). والصواب أن جميع ذلك تعلق به اختياره وإرادته فلا يكون اضطرارياً. ومع كل ما تقدم فإن الله تعالى لا يوجب عليه أحد شيئاً، وإنما الله تعالى هو الذي يوجب على نفسه بوعده الصادق وبما له من الأسماء الحسنى والمحامد العظيمة، ولا جوز إيجاب شيء أو تحريمه على الخالق بالقياس على خلقه (7). ثم إن بعض الأشاعرة حاول أن يقرب الشقة فذكر بأن الحسن والقبح يرادان لثلاثة معان: الأول: صفة الكمال والنقص فيقال: العلم حسن والجهل قبيح. الثاني: ملاءمة الغرض ومنافرته – أو بتعبير آخر:- المصلحة والمفسدة، ويختلفان بالاعتبار. الثالث: تعلق المدح والثواب أو الذم والعقاب. قالوا: فالأولان عقليان، والثالث شرعي فقط، وهذا هو محل النزاع (8). والتعليق: هذا التقسيم صحيح، ولكن أن يقال: محل النزاع في الثالث فقط، فكلام يشك فيه، إذ لو كان كذلك فلم أوردوا تلك الشبهات لنفي الحسن والقبح لذات الفعل؟، فالذي يظهر أن محل النزاع هو: "هل الفعل نفسه مشتمل على صفة اقتضت حسنه وقبحه بحيث ينشأ الحسن والقبح منه، فيكون منشأ لهما أم لا؟ " (9)، أما محل النزاع الذي ذكروه فإنه مع المعتزلة فقط. وكذلك يمن اعتبار قائل محرر النزاع تراكاً لقول القدماء الذين غلوا في نفي تحسين العقل وتقبيحه. المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف – 1/ 339   (1) انظر ((المواقف)) للإيجي (ص: 325) و ((شرح المقاصد للتفتازاني)) (4/ 285). (2) انظر ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 37) و ((الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى)) (ص: 102). (3) انظر ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 37) و ((الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى)) (ص: 102). (4) انظر ((شرح المقاصد)) للتفتازاني (4/ 288). (5) انظر ((مفتاح السعادة)) (2/ 38) و ((شرح المقاصد)) (4/ 288). (6) انظر ((شرح المقاصد)) (4/ 288) و ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 38). (7) انظر ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 776 - 777). (8) انظر ((المواقف في علم الكلام)) (ص: 323 - 324). (9) قاله ابن القيم في ((مدارج السالكين)) (1/ 246). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 المطلب الثاني: معاني الحسن والقبح، وتحرير محل النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة يطلق الحسن والقبح على معان ثلاثة: 1 - المعنى الأول: كون الصفة صفة كمال أو نقصان كالعلم والجهل. فيقال: العلم حسن، بمعنى أنه لمن اتصف به كمال وارتفاع شأن. ويقال: الجهل قبيح، بمعنى أنه لمن اتصف به نقصان واتضاع حال. 2 - المعنى الثاني: الملاءمة والمنافرة. فالحسن على هذا ما لاءم الغرض. والقبيح ما خالف الغرض. وما ليس كذلك لم يكن حسنا ولا قبيحا. وقد يعبر عن الحسن والقبح بهذا المعنى بالمصلحة والمفسدة، فيقال: الحسن ما فيه مصلحة، والقبيح ما فيه مفسدة، وما خلا عنهما لا يكون شيئا منهما. ويختلف الحسن والقبح بهذا المعنى بالاعتبار، فليس كل منهما صفة حقيقية، وإلا لم يختلفا باختلاف الأحوال، فإن الفعل الواحد قد يكون مصلحة بالنسبة لشخص مفسدة لشخص آخر، كقتل زيد مثلا فإنه مفسدة عند أوليائه ومصلحة لأعدائه. ولو كان صفة حقيقية ما اختلف حكم هذا الفعل بالنسبة لأعدائه وأوليائه. كما لا تختلف الصفات الحقيقية، فكون الجسم الواحد مثلا أسود وأبيض، فإنه لا يختلف بالنظر إلى شخصين. والمعنيان الأول والثاني لا نزاع بين علماء الكلام أنهما عقليان يستقل العقل بإدراكهما. ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن القسم الأول – وهو كون الفعل صفة كمال أو نقصان – يرجع إلى القسم الثاني، ويقول في ذلك: "ومن الناس من أثبت قسما ثالثا للحسن والقبح، وادعى الاتفاق عليه، وهو كون الفعل صفة كمال أو صفة نقص، وهذا القسم لم يذكره عامة المتقدمين المتكلمين في هذه المسألة، ولكن ذكره بعض المتأخرين كالرازي، وأخذه عن الفلاسفة. والتحقيق أن هذا القسم لا يخالف الأول؛ فإن الكمال الذي يحصل للإنسان ببعض الأفعال هو يعود إلى الموافقة والمخالفة، وهو اللذة والألم، فالنفس تلتذ بما هو كمال لها، وتتألم بالنقص، فيعود الكمال والنقص إلى الملائم والمنافي (1). 3 - والمعنى الثالث: كون الفعل يتعلق به المدح أو الذم عاجلا، والثواب والعقاب آجلا كالطاعات والمعاصي. فالحسن على هذا ما تعلق به المدح والثواب في العاجل والآجل. والقبيح ما تعلق به الذم والعقاب في العاجل والآجل، وما لا يتعلق به شيء منهما فهو خارج عن الحسن والقبيح (2). والحسن والقبح بهذا المعنى هو محل النزاع بين الأشاعرة ومن وافقهم، والمعتزلة ومن وافقهم: أ- فالأشاعرة نفوا أن يكون بهذا المعنى عقليا، بمعنى أن العقل يدرك كون الفعل حسنا أو قبيحا؛ لأن الأفعال كلها سواسية ليس شيء منها في نفسه بحيث يقتضي مدح فاعله وثوابه، ولا ذمه وعقابه. وإنما صارت أفعال المكلفين يتعلق بها المدح والثواب، أو الذم والعقاب، بوساطة أمر الشارع ونهيه؛ فما أمر به كان حسنا بمعنى: أن فاعله يمدح ويثاب على فعله، وما نهى عنه كان قبيحا بمعنى: أن فاعله يذم ويعاقب على فعله. ولو عكس الشارع الأمر فحسن ما قبحه وقبح ما حسنه كان ذلك جائزا. فالحسن والقبح على هذا شرعيان لا عقليان (3). ب- أما المعتزلة فقالوا: عن الفعل في نفسه، مع قطع النظر عن الشرع له، جهة محسنة تقتضي استحقاق الفاعل مدحا وثوابا. أو جهة مقبحة تقتضي استحقاق فاعله ذما وعقابا، والعقل يمكنه إدراك الحسن والقبح في بعض الأشياء بقطع النظر عن ورود الشرع. ولكن هل العقل عند المعتزلة حاكم مشرع للأحكام؟ نجد هنا لبعض العلماء فهمين متعارضين:   (1) ابن تيمية، ((مجموعة الرسائل الكبرى)) (2/ 104). (2) الإيجي، ((المواقف)) (8/ 182، 183). و ((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (ص: 246). (3) أبو المعالي الجويني، ((الإرشاد)) (ص: 258). و ((شرح مطالع الأنظار على متن طوالع الأنوار)) (ص: 195). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 أحدهما: لصاحب "مسلم الثبوت"، فهو قد فهم أن الأشاعرة والمعتزلة متفقون على أن، المشرع للأحكام هو الله تعالى. إلا أن المعتزلة قالوا: إن العقل يمكنه أن يدرك بعض الأحكام كوجوب معرفة الله قبل ورود الشرع. أما الأشاعرة فقالوا: لا يمكنه ذلك (1). والفهم الثاني: للشريف الجرجاني: فقد قال: "ليست الأشاعرة والمعتزلة على وفاق في أن المشرع للأحكام هو الله تعالى؛ بل الأحكام ثابتة للأفعال في أنفسها عند المعتزلة، والشرع يأتي مقررا لما أدركه العقل من تلك الأحكام، وكاشفا عما خفى على العقل إدراكه. فالأفعال إما حسنة في أنفسها، يستحق فاعلها مدحا وثوابا، أو قبيحة في أنفسها يستحق فاعلها ذما وعقابا. فوجوب الفعل بمعنى استحقاق فاعله للمدح والثواب صفة لازمة للفعل. وقالت الأشاعرة: المشرع للأحكام هو الله تعالى، فليس هناك حكم ثابت للفعل في نفسه، بل الذي يحكم بالوجوب أو الحرمة ونحوهما هو الشرع. فمن قال: إن العقل يحكم بوجوب الفعل أو حرمته عند المعتزلة فقد أخطأ؛ ذلك أن العقل لا يحكم بوجوب ولا حرمة، بل الأحكام ثابتة في نفس الأمر. ومن قال: إن المشرع للأحكام هو الله تعالى باتفاق الأشاعرة والمعتزلة فقد أخطأ" (2). ومن هذا يتبين أن صاحب "مسلم الثبوت" ينفي عن المعتزلة أن يكون العقل عندهم هو المشرع للأحكام، بل المشرع للأحكام هو الله تعالى. أما الشريف الجرجاني فهو كذلك ينفي عن المعتزلة أن يكون العقل هو المشرع للأحكام، بل الأحكام من وجوب وحرمة ثابتة للأفعال في نفس الأمر؛ إذ هي صفات لازمة لها. أما العقل فقد يدرك بعض تلك الأحكام قبل ورود الشرع والشروع يأتي حينئذ مقررا لما أدركه العقل وكاشفا عما لم يدركه. المصدر: الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى لمحمد ربيع المدخلي - ص 81   (1) انظر ((فواتح الرحموت، شرح مسلم الثبوت)) (1/ 25) "مطبوع مع المستصفي". (2) انظر ((تعليق الأستاذ الشيخ محمد يوسف الشيخ على شرح عبدالسلام علي الجوهرة)) (ص: 17). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 المطلب الثالث: ثمرة الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة في الحسن والقبح العقليين رتب المعتزلة على القول بالحسن والقبح العقليين أن الإنسان مكلف قبل ورود الشرع بما دل عليه العقل، كوجوب شكر المنعم، ومكلف بمحاسن الأخلاق. كما بني المعتزلة على القول بالحسن والقبح الذاتيين للفعل وجوب بعض الأمور على الله تعالى؛ لأن تركها قبيح ومخل بالحكمة، ومن ذلك وجوب الصلاح والأصلح للعباد، ووجوب اللطف والثواب للمطيع، والعقاب للعاصي، وغير ذلك. قال الشهرستاني: "وقال أهل العدل: المعارف كلها معقولة بالعقل، واجبة بنظر العقل، وشكر المنعم واجب قبل ورود السمع، والحسن والقبح صفتان ذاتيتان للقبيح". كما حكى عن أبي الهذيل العلاف قوله، أنه يجب على المكلف أن يعرف الله تعالى بالدليل من غير خاطر، وإن قصر في المعرفة استوجب العقوبة. كما يجب عليه أن يعلم حسن الحسن وقبح القبيح، فيجب عليه الالتزام بالحسن كالصدق والعدل، والإعراض عن القبيح كالكذب والجور (1). أما الأشاعرة فلا يرون وجوب شيء على المكلف، ولا حرمة شيء عليه قبل ورود الشرع؛ لأن الحسن والقبح تابعان لأمر الشارع ونهيه. كما يرون أنه لو عكس الشارع القضية فقبح ما حسنه وحسن ما قبحه جاز. وإليك ما قاله إمام الحرمين الجويني في هذا المقام: "العقل لا يدل على حسن شيء ولا قبحه في حكم التكليف، وإنما يتلقى التحسين والتقبيح من موارد الشرع وموجب السمع. وأصل القول في ذلك أن الشيء لا يحسن لنفسه وجنسه وصفة لازمة له، وكذلك القول فيما يقبح، وقد يحسن في الشرع ما يقبح مثله المساوي له. فإذا ثبت أن الحسن والقبح عند أهل الحق لا يرجعان إلى جنس وصفة نفس، فالمعنى بالحسن ما ورد الشرع بالثناء على فاعله، والمراد بالقبيح ما ورد الشرع بذم فاعله" (2). المصدر: الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى لمحمد ربيع المدخلي - ص 87   (1) الشهرستاني، ((الملل والنحل)) (1/ 52). (2) الجويني، ((الإرشاد)) (ص: 258). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 المطلب الرابع: أدلة نفاة الحسن والقبح العقليين والجواب عنها استدل الأشاعرة على نفي الحسن والقبح العقليين بالتالي: الدليل الأول: أن العبد مجبور على فعله، وإذا كان كذلك فلا يتصور الحسن والقبح العقليان حينئذ في فعله، لأن ما ليس بفعل اختياري لا يكون حسنا ولا قبيحا عقلا بالاتفاق من النفاة والمثبتين للحسن والقبح العقليين. أما بيان كونه غير اختياري: فلأنه إن لم يتمكن من الترك فذاك هو الجبر. وإن تمكن من الفعل والترك كان الفعل جائزا. وحينئذ إما أن يفتقر ترجيح الفعل على الترك إلى مرجح أولا؛ فإن لم يفتقر كان اتفاقيا فلا يوصف بالحسن والقبح، وإن افتقر إلى مرجح فذلك المرجح إن كان من العبد، احتاج ذلك المرجح آخر فيلزم التسلسل وهو محال. وإن كان المرجح من غير العبد، كان اضطراريا. وعلى التقارير كلها – أي امتناع الترك وكون الفعل اتفاقيا أو اضطراريا – لا يكون العبد مختارا في فعله، بل مجبور، فلا يتصف شيء من أفعاله بالحسن والقبح العقليين (1). وقد أجيب عن هذا الدليل: بأن فيه التسوية بين الحركة الضرورية والاختيارية من العبد وعدم التفريق بينهما، وهذا باطل، لأنه مخالف لما يقضي به الواقع والحس والشرع. فهذا الدليل في مقابلة ما تقضي به الضرورة فلا يلتفت إليه. ثم إنه لو صح الدليل المذكور لزم منه أن يكون الله تعالى غير مختار في فعله، لأن التقسيم المذكور في هذا الدليل جاز في أفعاله تعالى. وهذا كاف لبطلان هذا الدليل. كما أنه يلزم من هذا الدليل بطلان الحسن والقبح الشرعيين، وذلك لأن فعل العبد ضروري، أو اتفاقي، وما كان كذلك فإن الشرع لا يحسنه ولا يقبحه لأنه لا يرد بالتكليف به فضلا عن أن يجعله متعلق الحسن والقبح. ثم إنه إذا كان المرجح من الله تعالى لم يلزم من ذلك أن يكون الفعل اضطراريا؛ فإن الله يحبب للعبد الفعل، فيفعله باختياره، كما قال تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 7]. كذلك إذا زين للعاصي عصيانه، فإن معصية العبد باختياره، فالتحبيب للطاعة والتزيين للمعاصي لم يسلبا العبد اختياره حتى يكون فعله اضطراريا. وإذا كان فعل العبد اضطراريا فإنه يلزم من ذلك بطلان الشرائع والتكاليف؛ لأن التكليف إنما يكون بالأفعال الاختيارية، إذ يستحيل أن يكلف المرتعش بحركة يده (2). الدليل الثاني: لو كان قبح الكذب بالذات أو لصفة لازمة للذات لكان كلما وجد الكذب وجد القبح؛ لأن ما بالذات وما هو بواسطة أمر لازم للذات يجب أن يكون مادامت الذات واللازم باطلاً."فإن الكذب قد يحسن في بعض الأحيان كما إذا كان يترتب عليه عصمة دم نبي من ظالم، فالكذب حينئذ حسن بل واجب؛ لأنه رد للظلم بحيث لو تركه كان تركه قبيحا، وكذلك يحسن الكذب بل يجب إذا كان فيه إنجاء متوعد بالقتل ظلماً" (3). وقد أجيب من هذا الدليل: بأن الكذب قبيح في جميع صوره، وأما الذي يحسن فالتعريض والتورية. ومن ثمت قيل: إن في المعارض لمندوحة عن الكذب، فالكذب ليس متعينا لردع الظالم، وإذا لم يتعين كان الإتيان به قبيحا لا حسنا.   (1) الجرجاني، ((شرح المواقف)) (8/ 185، 186). و ((شرح المقاصد للتفتازاني)) (2/ 149). (2) ابن القيم، ((مفتاح دار السعادة))، (2/ 25). (3) الجرجاني، ((شرح المواقف)) (8/ 190). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 ويجاب أيضا: بأن تخلف القبح عن الكذب لفوات شرط أو قيام مانع لا يخرجه عن كونه قبيحا لذاته، والله سبحانه حرم الميتة للمفسدة التي في تناولها، وهي ناشئة من ذاتها، ولكن يباح تناولها للمضطر فتخلف التحريم عنها عند الضرورة لا يوجب أن تكون ذاتها غير مقتضية للمفسدة التي حرمت لأجلها، فهكذا الكذب المتضمن نجاة نبي أو مسلم. ثم إن هذا الدليل لا يرد على الجبائية القائلين بأن الحسن والقبح يرجعان إلى وجوه واعتبارات؛ إذ يكون الكذب حينئذ قبيحا باعتبار تعلقه بالمخبر عنه، لا على ما هو به، وحسنا باعتبار استلزامه لإنجاء مظلوم (1). الدليل الثالث: وهو الذي اعتمد عليه الآمدي في نفي الحسن والقبح العقليين وفحواه: أن حسن الفعل لو كان أمرا زائدا على ذاته، لزم قيام المعنى الذي هو الحسن بالمعنى الذي هو الفعل، وقيام العرض بالعرض باطل. وقد أجيب عن ذلك: أن كثيرا من المعاني يوصف بالمعاني، كما يقال: علم ضروري، وعلم كسبي، وإرادة جازمة، وحركة بطيئة، وحركة سريعة، إلى غير ذلك مما لا يحصى. ثم إنه لا يلزم من كون الحسن أمرا زائدا على ذات الشيء قيام المعنى بالمعنى، بل اللازم هو: وصف المعنى بالمعنى. ويقوم أحد المعنيين بالآخر تبعا لقيام الآخر بالجوهر الذي هو المحل، والمعنيان جميعا قائمان بالمحل، وأحدهما تابع للآخر، وكلاهما تابع للمحل. فلم يقم عرض بعرض، وإنما قام العرضان جميعا بالمحل، فالحركة والسرعة مثلا قائمتان بالمتحرك، والإرادة والجزم قائمان بالمريد. فالمستحيل أن يقوم معنى بمعنى من غير أن يكون لهما حامل، فإذا كان لهما حامل، وأحدهما صفة للآخر، وكل منهما قام بالمحل، فلا استحالة في ذلك. وأيضا لو صح الدليل المذكور، لزم أن لا يوصف الفعل بالحسن والقبح شرعا؛ إذ يلزم عليه أن يقوم المعنى بالمعنى، ولا خلاص عن هذا إلا بالتزام أن يكون الحسن والقبح الشرعيان عدميين، بخلاف الحسن والقبح العقليين، ولا سبيل إلى ذلك. فقد رتب الشارع الثواب والعقاب، والمدح والذم عليهما، ترتب المقتضى على مقتضيه، والأثر على مؤثره. وما كان كذلك لم يكن عدما محضا إذ العدم المحض لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب ولا مدح ولا ذم (2). وهناك أدلة أخرى ضعيفة باعتراف النفاة، ولا بأس بذكر بعضها، وهو: من قال: لأكذبن غدا، وجاء الغد وكذب، فهذا الكذب: إما حسن فلا يكون الكذب قبيحا لذاته، وإما قبيح فهذا القبيح تركه حسن مع أن تركه يستلزم كذبه فيما قاله أمس، ومستلزم القبيح قبيح، فيلزم من هذا أن يكون الترك حسنا وقبيحا معا، وهو باطل. فتعين ألا يكون قبح الكذب ذاتيا لانقلابه حسنا، وهو المطلوب. والجواب عن ذلك هو: أنا لا نسلم أن مستلزم القبيح قبيح، فقد يكون الفعل حسنا لذاته مستلزما قبيحا، فيكون باعتبار ذاته حسنا، وباعتبار ما استلزمه قبيحا. فالكلام الواحد، باعتبار أنه مطابق للمخبر عنه حسن، ومن حيث استلزامه للقبيح الذي هو الكذب فيما قاله أمس يكون قبيحا، وإذا فهذا الدليل لا يصلح رداً على الجبائية القائلين بأن الحسن والقبح العقليين لوجوه اعتبارية تختلف بحسب الاعتبار. وقد يجاب بالتزام قبح كلام هذا الحالف في الغد مطلقا؛ لأنه حينئذ يكون قبيحا. إما لذاته إن كان كذبا، أو لاستلزامه القبيح إن كان صدقا. ويقال: إن الكلام الصادق إنما يحسن إذا لم يستلزم القبيح (3). النتيجة يظهر مما تقدم أن مذهب السلف في الحسن والقبح العقليين وسط بين مذهبي المعتزلة والأشاعرة. وبيان ذلك: 1 - أنهم وإن كانوا يوافقون المعتزلة في القول بإدراك العقل للحسن والقبح في بعض الأفعال، إلا أنهم لا يوافقونهم على وجوب الفعل وحرمته بمعنى استحقاق الفاعل الثواب والعقاب قبل ورود الشرع؛ لقوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15]، ففارق بذلك مذهب السلف مذهب المعتزلة. 2 - كما أنهم يوافقون الأشاعرة في أنه لا ثواب ولا عقاب إلا بعد ورود الشرع، ولكن لا يوافقونهم على أن الأفعال في أنفسها سواء، وأن لا فرق بينها في نفس الأمر، بل الشرع هو الذي يحسنها أو يقبحها، ولو عكس الشارع الأمر جاز. كل هذا لا يوافق عليه السلف بل يذهبون إلى أن الحسن والقبح ثابتان والإحسان، ومقابلة المنعم بالشكر، كما فطرهم على استقباح أضداد هذه الأفعال، وبذا فارقوا مذهب الأشاعرة، فسلم مذهب السلف من الطعن الوارد على كل من المذهبين، ووافق الصواب من كل منهما. المصدر: الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى لمحمد ربيع المدخلي - ص 100   (1) ابن القيم، ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 36، 37). (2) ابن القيم، ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 27، 28). (3) ابن القيم، ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 37). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 المطلب الخامس: أحكام متعلقة بأفعال الله المتعدية عند الأشاعرة هل أفعال الله كلها خير عند الأشاعرة؟:هذه المسألة ترجع عند التحقيق إلى مسألة القبيح والحسن. ولذلك قال الباجوري في شرحه لنظم الجوهرة: "قوله "الشر والخير": اعلم أنهم يعبرون عن الأول بالقبيح وعن الثاني بالحسن" (1) اهـ. والمراد من البحث هنا هو: هل يفعل الله الخير والشر؟ فالأشاعرة لا يثبتون فعلاً قائماً بذات الله، ولذلك يفسرون الفعل بالمفعول، أو أنه متعلق الإرادة عند تخصيصه بالوجود، فعلى أن الفعل هو المفعول قالوا: "إن الله يجوز عليه خلق الخير والشر" (2)، وعلى أن الفعل متعلق الإرادة قالوا: إن الله يريد الخير ويريد الشر (3). والكلام معهم في مقامين: المقام الأول: إن الحكم على أفعال الله بالخير والشر متوقف على إثبات الحسن والقبح العقليين وإثبات الحكمة في أفعاله، وهم ينفون الجميع باعتبار أن الأفعال متساوية في حكم مشيئته. ولذلك كان يلزمهم ألا يصفوا أفعاله بخير ولا شر، ولما تفطن إمام الحرمين لهذا الأمر الذي لا يتفق مع أصلهم قال: "ولولا أنه شاع في ألفاظ عصبة الحق أنه خالق الخير والشر لكان سر التوحيد يوجب أن يقال: ليس في أفعال الله تبارك وتعالى خير ولا شر بالإضافة إلى حكم الألوهية، فإن الأفعال متساوية في حكمه وإنما تختلف مراتبها بالإضافة إلى العباد" اهـ (4).المقام الثاني: فإنه يقال لهم أولاً: إنا قد أثبتنا الفرق بين الفعل والمفعول وأثبتنا أن أفعال الله كلها خير ولا شر فيها، إذ أفعال الله صفات قائمة به ولا يقوم به إلا ما هو أكمل وأحسن، وأما مفعولاته فتدخلها القسمة بمعنى أن فيها الخير، وفيها الشر الجزئي الإضافي غير المتمحض، فكان الواجب على الأشاعرة التفريق بين الفعل والمفعول ليأتوا بهذا التفصيل الحق فإذا لم يتم التفريق بين الفعل والمفعول فلن يمكنهم أن يأتوا بالتفصيل المذكور. ويقال لهم ثانياً: أما قولكم: "الله يريد الخير والشر" فقول لا يجوز إطلاقه نفياً ولا إثباتاً، لأن إرادة الله وردت في كتاب الله بمعنيين، إرادة بمعنى المشيئة وهي تستلزم وقوع المراد ولا تستلزم محبته، والثانية إرادة بمعنى المحبة والرضا، وهي لا تستلزم وقوع المراد وتستلزم محبته فمن الأول قول الله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً [الإسراء: 16] وقوله: وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ [الأنعام: 125] ومن الثاني قوله: وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء: 27]، وعلى هذا فالقسمة العقلية للإرادتين ثلاثية؛ فإن الله قد يريد الشيء كوناً ويحبه كإيمان من قدر الله إيمانه – كأبي بكر رضي الله عنه مثلاً – فقد أراد الله منه الإيمان كوناً وشرعاً. وقد يريد الله الشيء كوناً ولا يحبه، ككفر من قدر الله كفره – كأبي جهل مثلاً – فقد أراد الله قدراً أن يكفر والله لا يريد منه الكفر شرعاً – أي لا يحبه -. وقد يريد الله عدم كون الشيء ولكنه يحبه، كإيمان من قدر الله كفره، فأبو جهل قدر الله عليه الكفر وأراد وقوعه منه ولم يرد منه الإيمان قدراً، والله يحب الإيمان، وزاد بعضهم قسماً رابعاً: وهو أنه قد يريد الله عدم كون الشيء ولا يحبه، ككفر من قدر الله إيمانه. فعلم من هذا التفصيل الفرق بين الإرادتين وما تستلزمه كل واحدة، وعليه فلو أطلق الكلام فقيل: الله مريد للشر لأوهم أنه محب له راض به، ولو أطلق فقيل: الله غير مريد للشر لأوهم أنه لم يخلقه ولم يرده كوناً، فبطل الإطلاق ولزم التفصيل (5). هذا وقد نص الأشاعرة على أنه وإن جاز إسناد الكائنات إليه إجمالاً إلا أنه قد لا يجوز إسنادها إليه تفصيلاً، وذلك لأحد أمرين: الأول/ لمراعاة الأدب، فإنه "يصح أن يقال: الله خالق كل شيء ولا يصح أن يقال: إنه خالق القاذورات وخالق القردة والخنازير" (6)، وليتهم سلكوا هذه الطريقة في التنزيه في صفات الله كذلك، إذ سكوا في التنزيه طريقة التفصيل مع ذكرهم لعبارات مجملة فيما نزهوا الله عنه. الثاني/ أو لإيهامه الكفر كأن "يقال: له الزوجات والأولاد" مع أنه يصح أن "يقال: له كل ما في السموات والأرض" (7). وهذه الأمور التي ذكرها لاعتبار مراعاة الأدب مع الله تعالى صحيحة، ولكن ينبغي أن يجوز ما معناه في الأول إذا اقتضى الأمر التنصيص، كأن يقول شخص منكر: لم يخلق الله القردة والخنازير – مثلاً – فيجاب: إنه خالقها والله أعلم. المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف – 1/ 325   (1) ((تحفة المريد)) ((ص: 111). (2) ((تحفة المريد)) (ص: 111). (3) انظر ((تحفة المريد)) في سياق رده على المعتزلة، وقد يعبر بعضهم عن ذلك بقوله "مريد لجميع الكائنات" انظر ((المواقف)) للإيجي (ص: 320). (4) ((العقيدة النظامية)) لإمام الحرمين (ص: 36 - 37). (5) انظر ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 446). (6) قاله الإيجي عن بعض الأشاعرة في ((المواقف)) (ص: 320). (7) ((المواقف)) للإيجي (ص: 320). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 المطلب السادس: هل يجب على الله تعالى شيء؟ أن المعتزلة بناء منهم على القول بالحسن والقبح العقليين، أوجبوا على الله تعالى أمورا، كالصلاح واللطف. وأن الأشاعرة والسلف والماتريدية منعوا أن تكون واجبة عليه. معنى الوجوب تستعمل كلمة "وجب" في اللغة بمعنى سقط، والواجب بمعنى الساقط، ومنه قوله تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [الحج: 36] أي سقطت على الأرض. كما تستعمل بمعنى لزم. قال في القاموس:"وجب يجب وجوبا وجبة لزم، ثم قال: واستوجبه استحقه، والوجيبة الوظيفة، ووجب يجب وجيبة سقط" (1). ويطلق واجب الوجود على الله تعالى. ونلاحظ أن معاني الوجوب المذكورة تدور حول اللزوم، أي أن الواجب هو اللازم؛ لأن الدابة إذا سقطت مذبوحة فإنها تلزم الأرض. وكذلك الوجيبة بمعنى الوظيفة فيها معنى اللزوم. أما استوجبه بمعنى استحقه فظاهر فيه معنى اللزوم، أي لزم له هذا الحق، وتعين أداؤه له. إذا فالوجوب بمعنى اللزوم، والواجب هو اللازم. المراد بالوجوب في حق الله: فإذا قيل: يجب على الله تعالى شيء فإما أن يراد بالواجب: أولا: ما يستحق تاركه الذم. ثانيا: أو ما يكون تركه مخلا بالحكمة؛ فيكون لازما لاقتضاء الحكمة إياه. ثالثا: أو هو عبارة عما قدر الله تعالى على نفسه أن يفعله ولا يتركه، وإن كان تركه جائزا. والتعريف: الأول والثاني ينسبان للمعتزلة، والتعريف الثالث اختيار بعض المتكلمين. هذا ما ذكره الجلال الدواني في معاني الواجب (2). أما الآمدي فقد ذكر معاني الواجب، فقال: "ثم إن الواجب قد يطلق على الساقط ... وقد يطلق على ما يلحق بتاركه ضرر ... وقد يطلق على ما يلزم من فرض عدمه المحال" (3).والمقصود بما يلزم من فرض عدمه المحال: هو ما علم الله وقوعه فيقال وقوعه واجب، بمعنى أنه إن لم يقع يؤدي إلى أن ينقلب العلم جهلا، وذلك محال فيكون معنى وجوبه أن ضده محال (4). رأي الأشاعرة في مسألة الوجوب في حق الله: ذهبت الأشاعرة إلى أن الله تعالى لا يجب عليه شيء؛ لأنه المالك على الإطلاق، وله التصرف في ملكه كيف يشاء. وإليك ما قاله الجلال الدواني في إبطال معاني الوجوب الثلاثة في حقه تعالى: "والأول باطل؛ لأنه تعالى المالك على الإطلاق، وله التصرف في ملكه كيف يشاء، فلا يتوجه إليه الذم أصلا على ترك فعل من الأفعال، بل هو المحمود في كل أفعاله. وكذا الثاني؛ لأنا نعلم إجمالا: أن جميع أفعاله تتضمن الحكم والمصالح، ولا يحيط علمنا بحكمته ومصلحته، على أن التزام رعاية الحكمة والمصلحة مما لا يجب عليه تعالى لايسأل عما يفعل وهم يسألون. وكذا الثالث؛ لأنه إن قيل بامتناع صدور خلافة عنه تعالى، فهو ينافي ما صرح به في تعريفه من جواز الترك، وإن لم يقل به فات معنى الوجوب، وحينئذ يكون محصله أن الله تعالى لا يتركه على طريق جري العادة، وذلك ليس من الوجوب في شيء بل يكون إطلاق الوجوب عليه مجرد اصطلاح" (5). وبهذا نرى أن الأشاعرة يمنعون وجوب شيء في حقه تعالى عقلا؛ لأنه المالك المتصرف على الإطلاق. رأي المعتزلة: أما المعتزلة فقد ذهبوا إلى القول بوجوب بعض الأفعال على الله، وعدوا ذلك من أمور العدل.   (1) الفيروزأبادي، ((القاموس المحيط)) (1/ 141). (2) الجلال الدواني: ((شرح العقائد العضدية، المطبوع مع حاشية الكلنبوي)) (ص: 186). (3) الآمدي، ((غاية المرام)) (ص: 229). (4) الغزالي، ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص: 169). (5) الجلال الدواني، ((شرحه على العقائد العضدية)) (2/ 186 - 189). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 ويقول القاضي عبدالجبار في ذلك:"وأما علوم العدل؛ فهو أن يعلم أن أفعال الله تعالى كلها حسنة، وأنه لا يفعل القبيح، ولا يخل بما هو واجب عليه، وأنه لا يكذب في خبره، ولا يجور في حكمه" (1). فهم يرون وجوب ما حكم العقل بحسنه على الله تعالى، بمعنى أن تركه نقص يتنزه الله عنه. وقال متأخرو المعتزلة: إن معنى الوجوب على الله تعالى: "إنه يفعله البتة ولا يتركه، وإن جاز أن يتركه"، فليس كل من الفعل والترك لازما لذاته بحيث يستحيل الطرف الآخر. وأجيب عن هذا القول من قبل الأشاعرة:"بأن الوجوب على هذا مجرد تسمية؛ إذ يكون محصله: أن الله تعالى لا يتركه على سبيل جري العادة، وذلك ليس من الوجوب في شيء، بل إطلاق الوجوب عليه مجرد اصطلاح" (2). وقال صاحب المسايرة في بيان مراد المعتزلة بالواجب على الله:"واعلم أنهم يريدون بالواجب ما يثبت بتركه نقص بسبب ترك مقتضى قيام الداعي، وهو هنا كمال القدرة والغني مع انتفاء الصارف فترك المذكورة – أي ترك رعاية الأصلح للعباد – مع ذلك بخل يجيب تنزيهه عنه فيجب، أي لا يمكن أن يقع غيره لتعاليه عما لا يليق" (3). الرأي الراجح: لقد سلك كل من المعتزلة والأشاعرة في مسألة الوجوب على الله طريقين كلاهما خطأ، ولم يوفقوا لطريق الحق الذي هو الطريق الوسط، والذي دل عليه الكتاب والسنة، وتوضيح ذلك: 1 - أن المعتزلة أفرطوا في تمجيد العقل، حتى أوجبوا بمقتضاه على الله تعالى أمورا وحرموا عليه أمورا أخرى، ووضعوا لله شريعة التعديل والتجوير، فهم بذلك شبهوا الخالق بالمخلوق. 2 - أما الأشاعرة فقد أخطأوا في إطلاقهم القول بنفي الوجوب في حقه تعالى؛ فلم ينزهوه عن فعل شيء، بناءً منهم على نفي التحسين والتقبيح العقليين. وقالوا: إن الوجوب لا يتصور في حقه؛ لأنه المالك المتصرف ولا يسأل عما يفعل، ونسوا أنه لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته. 3 - وهنا يأتي دور الفريق الوسط، الذين منعوا أن يوجب العقل على الله تعالى شيئا، ولكن لم يمنعوا أن يوجب الله على نفسه بعض الأمور التي يقتضيها كماله، والتي أخبر أنه أوجبها على نفسه، كما قال تعالى: وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 54].وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن الله لما قضى الخلق كتب على نفسه كتابا فهو موضوع عنده فوق العرش أن رحمتي تغلب غضبي)) (4). هذا، ولا يلزم من كونه تعالى أوجب على نفسه بعض الأمور أن يكون فاعلا بالإيجاب، أي لا اختيار له؛ لأنه سبحانه أوجبه على نفسه باختياره، فإذا شاء الحسن واختاره لم يكن ذلك نافيا للاختيار، فاختياره وإرادته اقتضت التعلق بما كان حسنا، على وجه اللزوم، فكيف لا يكون مختارا! ويبين شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – موقف السلف في مسألة الوجوب على الله، حيث يقول: "وأما الإيجاب عليه سبحانه وتعالى، والتحريم بالقياس على خلقه، فهذا قول القدرية – أي المعتزلة – وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول. وأهل السنة متفقون على أنه سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئا. ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب قال: إنه كتب على نفسه الرحمة، وحرم الظلم على نفسه، لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئا كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير فهو الخالق لهم وهو المرسل إليهم الرسل، وهو الميسر لهم الإيمان والعمل الصالح" (5). المصدر: الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى لمحمد ربيع المدخلي - ص 106   (1) القاضي عبدالجبار. ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 132). (2) عبدالحكيم السيالكوتي، حاشيته على ((شرح النسفية)) (2/ 160). (3) الكمال بن الهمام، ((المسايرة المطبوع مع الشرح)) (ص: 142، 143). (4) رواه البخاري (7404) , ومسلم (2751) من حديث أبي هريرة رضي الله. (5) ابن تيمية، ((اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم)) (ص409،410). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 المطلب السابع: معنى الظلم القول في معنى الظلم مبني على مسألة التحسين والتقبيح، وقد وقع الخلاف في معنى الظلم على ثلاثة أقوال: 1 - قول الجهمية والأشاعرة، وهؤلاء قالوا في تعريف الظلم: إما أنه التصرف في ملك الغير، أو أنه مخالفة الآمر الذي تجب طاعته، وهؤلاء يقولون: الظلم بالنسبة لله غير ممكن الوجود، بل كل ممكن إذا قدر وجوده فإنه عدل، والظلم منه ممتنع غير مقدور، وهو محال لذاته كالجمع بين الضدين، وكون الشيء موجودا معدوما. وهؤلاء يقولون لو عذب الله المطيعين ونعم العاصين لم يكن ظالما، لأن الظلم عندهم إنما هو التصرف في ملك الغير، والله تعالى مالك الملك، فأي فعل فعله ولو كان تعذيب أنبيائه وملائكته وأهل طاعته، وتكريم أعدائه من الكفار والشياطين لم يكن ظالما، لأنه لم يتصرف إلا في ملكه، وكذلك فليس هناك آمر فوقه حتى يخالفه. وهذا قول جمهور الأشاعرة، وهو قول كثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، كالقاضي أبي يعلى، وأتباعه، وأبي المعالي الجويني وأتباعه، وأبي الوليد الباجي وأتباعه وغيرهم (1).   (1) انظر: ((منهاج السنة)) (1/ 90، 2/ 232) – ط دار العروبة المحققة. و ((جامع الرسائل – رسالة في معنى كون الرب عادلا، وفي تنزهه عن الظلم –)) (1/ 121 - 122)، و ((رسالة في شرح حديث أبي ذر – مجموعة الرسائل المنيرية)) (3/ 207). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 2 - قول المعتزلة، وهؤلاء يقولون: إن الظلم مقدور لله تعالى، ولكنه منزه عنه، وهذا حق، ولكنهم يجعلون الظلم الذي حرمه الله وتنزه عنه نظير الظلم من الآدميين بعضهم لبعض، وشبهوه في الأفعال ما يحسن منها وما لا يحسن بعباده، فضربوا له من أنفسهم الأمثال، ولذلك فهم يسمون مشبهة الأفعال. وبناء على هذا قالوا: "إذا أمر العبد ولم يعنه بجميع ما يقدر عليه من وجوه الإعانة كان ظالما له، والتزموا أنه لا يقدر أنه يهدي ضالا كما قالوا: إنه لا يقدر أن يضل مهتديا، وقالوا عن هذا: إذا أمر اثنين بأمر واحد، وخص أحدهما بإعانته على فعل المأمور كان ظالما إلى أمثال ذلك من الأمور التي هي من باب الفضل والإحسان، جعلوا تركه لها ظلما، وكذلك ظنوا أن التعذيب لمن كان فعله مقدرا ظلم له، ولم يفرقوا بين التعذيب لمن قام به سبب استحقاق ذلك ومن لم يقم" (1).فالله عند المعتزلة عدل لا يظلم لأنه لم يرد وجود شيء من الذنوب، لا الكفر ولا الفسوق ولا العصيان، بل العباد يفعلون ذلك بغير مشيئته، والله لم يخلق شيئا من أفعال العباد لا خيرا ولا شرا، لأنه لو كان خالقا لها ثم عاقب العاصين لكان ظالما لهم (2).3 - قول أهل السنة، قالوا: الظلم وضع الشيء في غير موضعه وهذا معناه في اللغة، يقال: من أشبه أباه فما ظلم، ومن استرعى الذئب فقد ظلم (3)، وعلى هذا المعنى بنى أهل السنة تعريفهم للظلم الذي نزه الله نفسه عنه فقالوا: إن الله تعالى حكم عدل يضع الأشياء مواضعها، فلا يضع شيئا إلا في موضعه الذي يناسبه، ولا يفرق بين متماثلين، ولا يسوي بين مختلفين (4).وعلى هذا فالظلم الذي حرمه الله على نفسه، وتنزه عنه فعلا وإرادة هو ما فسره به سلف الأمة وأئمتها أنه لا يحمل المرء سيئات غيره، ولا يعذب بما لم تكسب يداه، وأنه لا ينقص من حسناته فلا يجازي بها أو ببعضها، وهذا هو الظلم الذي نفى الله خوفه عن العبد بقوله: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا [طه: 112]، قال المفسرون لا يخاف أن يحمل عليه من سيئات غيره ولا ينقص من حسناته، وقيل: يظلم بأن يؤاخذ بما لم يعمل (5).والله تعالى قادر على الظلم، ولكنه تعالى نزه نفسه عنه، وحرمه على نفسه، كما ورد في ذلك الأدلة الكثيرة، وأشهرها حديث أبي ذر: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا)) (6). وغيره.   (1) ((شرح حديث أبي ذر – مجموع الرسائل المنيرية)) (3/ 206). (2) انظر: ((جامع الرسائل)) (1/ 123). (3) انظر: ((الصحاح، ولسان العرب مادة – ظلم –)) وانظر: ((تأويل مشكل القرآن)) (ص: 467). (4) انظر: ((جامع الرسائل)) (1/ 124). (5) انظر: ((زاد المسير – سورة طه آية: 112 –)) ((شرح الطحاوية)) (ص: 507) ط المكتب الإسلامي، و ((منهاج السنة)) (1/ 90 - 91). ط دار العروبة المحققة. (6) رواه مسلم (2577). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 ويلاحظ أن الأشاعرة جاء تفسيرهم للظلم مواكبا لمذهبهم في القدر، فهم لميلهم إلى مذهب الجبرية، إذا قيل لهم إن قولكم بأن للعبد قدرة غير مؤثرة، نتيجته الجبر، فكيف يعذب الله العباد على ما جبرهم عليه، هذا ظلم، قالوا ليس هذا ظلما لأن الظلم هو التصرف في ملك الغير أو مخالفة الآمر الذي تجب طاعته، وهذا منتف بالنسبة لله. ولا شك أن هذا التفسير للظلم مخالف للمعروف من لغة العرب، ولما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة التي ورد فيها هذا اللفظ، كما أن قولهم بأن الظلم ممتنع عليه ليس فيه مدح ولا كمال، وإنما المدح والكمال أن يقال: إن الله سبحانه منزه عنه، لا يفعله لعدله، والمدح إنما يكون بترك المقدور عليه، لا بترك الممتنع (1). تكليف ما لا يطاق: الطاقة هي الاستطاعة، والخلاف بين الطوائف قائم حول تحديد المقصود بما لا يطاق، هل هو الممتنع عادة، أم المستحيل كالجمع بين الضدين، أو هو كتكليف الكافر وهو لا يؤمن. وشيخ الإسلام بين أن هذا الخلاف ناتج عن عدم التفريق بين أمرين متعلقين بالنزاع في هذه المسألة: 1 - ما يرجع إلى الفعل المأمور به، وهذا فيما يتعلق بالقضاء والقدر. 2 - وما يرجع إلى جواز الأمر الشيء، وهذا فيما يتعلق بمسائل الأمر والنهي. والذين خلطوا بين هذين القسمين وقعوا في المحذور، مثل قياس بعضهم أمر الله الكافر بالإيمان مع علمه تعالى أنه لا يفعل، بمسألة العاجز الذي لو أراد الفعل لم يقدر عليه، وجعلهم القسمين قسما واحداً وأنه تكليف بمالا يطاق. فهذا جمع مخالف لما يعلم بالاضطرار من الفرق بينهما، وهو من مثارات الأهواء بين القدرية والجبرية (2).ولذا يرى شيخ الإسلام أن إطلاق القول بتكليف ما لا يطاق من البدع الحادثة في الإسلام (3). وقد وقع الخلاف في تكليف ما لا يطاق على أقوال:1 - جواز تكليف ما لا يطاق مطلقا، ومنه تكليف الأعمى البصر، والزمن أن يسير إلى مكة. وهذا قول جهم بين صفوان (4).2 - عدم جواز تكليف ما لا يطاق، وقد منعوه لقبحه عقلا، وهذا مبني على مذهبهم في أن القدرة تكون قبل الفعل فقط، حتى يتحقق التكليف، ومن ثم يترتب عليه الثواب والعقاب، ولذلك منعوا أن تكون القدرة مقارنة لمقدورها، لأن معنى ذلك أن يكون تكليف الكافر بالإيمان تكليفا بما لا يطاق؛ إذ لو أطاقه لوقع منه، فلما لم يقع منه دل على أنه غير قادر عليه، وتكليف ما لا يطاق قبيح، والله لا يفعل القبيح، وهذا قول المعتزلة ومن وافقهم (5).   (1) انظر في مسألة الظلم والأقوال فيه: ((جامع الرسائل)) (1/ 27 - 129)، و ((الجواب الصحيح)) (1/ 219)، ((النبوات)) (ص: 143) – ط دار الكتب العلمية، ((منهاج السنة)) (1/ 318) ط دار العروبة المحققة، (1/ 361) – مكتبة الرياض الحديثة، (3/ 23 - 26) – ط بولاق، ((مجموع الفتاوى)) (8/ 505 - 510، 11/ 675 - 676)، ((درء التعارض)) (10/ 28). (2) انظر: ((درء التعارض)) (1/ 64 - 65). (3) انظر: ((درء التعارض)) (1/ 65). (4) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 297). (5) انظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 396)، و ((المختصر في أصول الدين)) لعبد الجبار الهمذاني (ص: 218)، و ((نظرية التكليف)) عبدالكريم عثمان (ص: 301)، و ((شرح المواقف)) (ص: 331) – الجزء المحقق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 3 - أن تكليف ما لا يطاق جائز، وهذا مذهب الأشاعرة، وبنوا ذلك على ما في مذهبهم من أنه لا يجب على الله شيء ولا يقبح منه شيء. لكن الأشاعرة يقولون، إن ما لا يطاق أقسام: أ- أن يمتنع الفعل لعلم الله بعدم وقوعه، كتكليف الكافر الإيمان في حالة كفره، وهذا جائز عند جميع الأشاعرة، وهذا النوع هو ما لا يستطيعه المكلف لاشتغاله بضده فقط وهو الذي منعه المعتزلة (1).ب- أن يمتنع الفعل لنفسه، بكونه محالا كالجمع بين الضدين، وهذا اختلف فيه الأشاعرة، منهم من أجازه كالرازي ومنهم من منعه (2).ج- ألا تتعلق به القدرة الحادثة عادة، كحمل الجبل، والطيران، فهذا يجوزه بعض الأشاعرة وإن لم يقع من خلال الاستقراء، وبعض المجوزين يحتج لذلك بتكليف أبي لهب الإيمان مع ورود الخبر أنه لا يؤمن (3). 4 - مذهب السلف، التفصيل، وذلك أن يقال: تكليف مالا يطاق على وجهين: أحدهما: ما لا يقدر على فعله لاستحالته، وهو نوعان: أ- ما هو ممتنع عادة كالمشي على الوجه والطيران، وكالمقعد الذي لا يقدر على القيام، والأخرس الذي لا يقدر على الكلام. ب- وما هو ممتنع في نفسه كالجمع بين الضدين، وجعل المحدث قديما، والقديم محدثا، ونحو ذلك. فهذان النوعان قد اتفق حملة الشريعة على أن مثل هذا ليس بواقع، وأنه لا يجوز تكليفه (4).والثاني: ما لا يقدر عليه لا لاستحالته، ولا للعجز عنه، لكن لتركه والاشتغال بضده، مثل تكليف الكافر الإيمان في حال كفره، فهذا جائز خلافا للمعتزلة، لأنه من التكليف الذي اتفق المسلمون على وقوعه في الشريعة. ولكن إطلاق تكليف ما لا يطاق على هذا مما منعه جمهور أهل العلم، وإن كان بعض المنتسبين إلى السنة قد أطلقه في ردهم على القدرية (5).بقي الكلام في ما احتج به بعض الأشاعرة من جواز تكليف الممتنع عادة، بقصة أبي لهب (6)، فشيخ الإسلام يرى أن هذا خطأ، لأن من أخبر الله أنه لا يؤمن وأنه يصلى النار، بعد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له إلى الإيمان، فهذا قد حقت عليه كلمة العذاب، فهو كالذي يعاين الملائكة وقت الموت، فلم يبق هذا مخاطبا من جهة الرسول بالأمرين المتناقضين. وهو أيضا كقوم نوح حين أخبر الله نوحا – عليه السلام – أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، فلم يكن بعد هذا يأمرهم بالإيمان بهذا الخطاب (7)."بل إذا قدر أنه أخبر بصليه النار المستلزم لموته على الكفر وأنه سمع هذا الخطاب، ففي هذا الحال انقطع تكليفه، ولم ينفعه إيمانه حينئذ، كإيمان من يؤمن بعد معاينة العذاب، قال تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [غافر: 85] (8).فأبو لهب قد حقت عليه كلمة العذاب، فلا ينفعه الإيمان (9).وهكذا فالقول الراجح هو التفصيل فيها. ومن ذلك يتبين خطأ المعتزلة والجهمية وبعض الأشاعرة. علما أن من الأشاعرة من ذكر القول الحق بتفصيله في هذه المسألة (10). هذه أهم المسائل المتعلقة بالقدر، وهي إن كانت مسائل فرعية إلا أنها ذات صلة قوية بموضوع القدر، أو هي جزء منه، ولاشك أن الأشاعرة لم يسلكوا فيها المسلك الصحيح الذي هو مسلك السلف – رحمهم الله – ولذلك جاء مذهبهم في القدر وفي أفعال العباد، منحرفا عن المذهب الحق. المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1323   (1) انظر: ((شرح المواقف)) (ص: 331 - 332) – الجزء الثاني. (2) انظر: ((الإرشاد)) (ص: 226) وما بعدها، و ((معالم أصول الدين)) للرازي (ص: 85 - 86)، ط مكتبة الكليات الأزهرية، و ((شرح المواقف)) (ص: 332) – الجزء المحقق. (3) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 295)، و ((شرح المواقف)) (ص: 333) – الجزء المحقق. (4) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 301). (5) انظر: ((المعتمد في أصول الدين)) للقاضي أبي يعلى (ص: 46 - 147)، و ((مجموع الفتاوى)) (8/ 298 - 302)، و ((درء التعارض)) (1/ 60). (6) كالرازي في ((معالم أصول الدين)) (ص: 85)، ط مكتبة الكليات الأزهرية، وانظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 303). (7) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 302)، و ((درء التعارض)) (1/ 63). (8) انظر: ((درء التعارض)) (1/ 63 - 64). (9) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 438، 473 - 474). (10) انظر: ((المعتمد في أصول الدين)) (ص: 146)، و ((الاقتصاد)) للغزالي ((ص: 112 - 114) ط دار الكتب العلمية، و ((مجموع الفتاوى)) (8/ 296، 469 - 470). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 المطلب الأول: عقيدة العادة عند الأشاعرة هذا الموضوع يتناول قضية من أهم القضايا المتصلة بالفلسفة الطبيعية والعقدية على السواء لدى مدرسة ذاع صيتها ألا وهي مدرسة الأشعري -رحمه الله- وهذه القضية أسماها الأشاعرة (بالعادة) وهي تعني أنه لا شيء يؤثر في شيء ولا علة تؤثر في معلولها فالنار مثلاً ليس لها أثر في الإحراق، وما يراه الناس من إحراق إنما هو عادة وإلف فقط وليس ناشئًا عن علة في النار والله الخالق له بإطراد كلما التقت النار مع ما تحرقه دون أن يكون للنار أثر يُذكر وهكذا لا حقيقة لطبائع الأشياء وحكموا على أنها فارغة من القوى ومن ثم التأثير في غيرها أو التأثير بقدرة الله-سبحانه- باعتبارها وسائط وهذا معناه أيضًا إنكار لعلاقة الأسباب بمسبباتها وأن التلاقي بينهما ما هو إلا عادة فليس هناك أي علاقة ترابطية إلا ما يشاهده الإنسان بعينه والمشاهدة ليست حجة. بمعنى: أن اطراد الموجودات وتسلسلها ليس قائمًا على الترابط (العليِّ) بل إن العادة وجريانها هما السبيل في إحساسنا بالتعاقب بين ما يقال أنه سبب وما يقال أنه مسبب، وإن وجود أحدهما في الذهن يلزمه -بالتداعي - وجود الآخر دون أن يكون هناك في الواقع رابطة (عليه) حقيقة والذي دفع الأشاعرة إلى هذا القول، مجادلتهم للطبائعيين الذين ينسبون للطبيعة كل التأثير والاستقلال بالفعل فردوا عليهم هذا الاعتقاد بأن نزعوا من الطبائع صفة الفاعلية وغلوا حتى صادروا ما للطبائع من صفات جوهرية بها تتمايز وتتغاير كالفرق بين الخد والبصر، مع أن القول بأنها لا تفعل استقلالاً وإنما بإذن الله وهو القول الذي كان يجب أن يتوقفوا عنده دون الذهاب إلى آخر الشوط وإنكار حقائق الأشياء الأساسية مما أفسد عليهم طرقهم في إثبات التوحيد. أهمية الموضوع تكمن أهميته في بيان خطأ هذا الاجتهاد الحاصل بسبب ردود الفعل، وكان الأولى أن يبطل الأشاعرة حجج الطبائعيين القائلين باستقلال الطبيعة في إيجاد الأشياء دون الانسياق وراءهم وإبطال العلل والأسباب والقوى التي أودعها الله في هذه الطبائع ولا تعمل إلا بإذن الله، بمعنى عدم مجاوزة آيات القرآن الحكيم إلى آفاق بعيدة قد يثبت العلم التجريبي والمشاهدة بطلانها، وهذا ما حصل. والمهم هنا ألا نلوي أعناق آيات القرآن، وأن نركب الذلول والصعب في ذلك، لنوافق مذهبًا بعينه، أو فكرة ما تركزت في ذهن صاحبها، ويريد أن يوجد لها أساسًا شرعيًا في كتاب الله عز وجل وقد رأينا هذا المنهج لدى بعض الذين أغراهم الفكر الوارد في بعض مظاهره، فحاولوا عقد صلة بينه وبين النصوص الدينية فجاء عملهم هذا بعيدًا عن روح النص المقدس كما رأينا له مظهرًا آخر لدى أصحاب العقائد الباطنية المنحرفة. وتكمن الأهمية في خطأ المسارعة بالحكم على كل من خالف في جانب من جوانب الفكر القابل للاجتهاد بالكفر والضلال وما شاكل ذلك، بل لا بد من المناقشة الموضوعية، والحوار الهادف، للوصول إلى غاية الهدف. ومن الأهمية بيان أنه (من أنكر وجود المسببات مرتبة على الأسباب في الأمور الصناعية أو لم يدركها فهمه، فليس عنده علم بالصناعة ولا بالصانع كذلك في جحد وجود ترتيب المسببات على الأسباب في هذا العالم، فقد جحد الصانع الحكيم تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا وأبطل الحكمة وأبطل العلم، وذلك أن العلم هو معرفة الأشياء بأسبابها، والحكمة هي معرفة بالأسباب الغائبة) ولهذا عبر الدكتور أبو العلا عفيفي عن قانون السببية بأنه عقيدة وعبر غيره ممن خالف قانون السببية وقال بالعادة بعقيدة العادة في مواجهة عقيدة (قانون السببية). مفهوم العادة عند الأشاعرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 ليس هناك تلازم ضروري بين الأسباب والمسببات أو العلة والمعلول، يقول الغزالي: (الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببًا، وبين ما يعتقد مسببًا، ليس ضروريًا عندنا) بل ليس هناك علاقة تسببية بين السبب والنتيجة (بل كل شيئين ليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمنًا لإثبات الآخر ولا نفيه متضمنًا لنفي الآخر). وإذا احتج عليهم إنسان بأنه يرى دائمًا الاحتراق يعقب النار، والإسكار يعقب الخمر، تعللوا في ذلك بأنه لا يرجع إلى تلازم بين الأسباب الطبيعية، وإنما هو نتيجة الاعتياد من رؤيتهما معًا وفي ذلك يقول الباقلاني: (إن ما هو مشاهد في الحس لا يوجد ضرورة ولا وجوبًا وإنما هو يجري مجرى العادة، بمعنى وجوده وتكراره على طريقة واحدة)، ثم يأتي بعده الغزالي ويتوسع في إرجاع التلازم بين الأسباب الطبيعية ومسبباتها إلى حكم العادة ويرى أن (اللازمات .. يجوز أن تنفك عن الاقتران بما هو لازم لها، بل لزومه لحكم العادة). وقال البغدادي: ( .. وأجازوا ـ أي الأشاعرة أن يجمع الإنسان بين النار والقطن والحلفاء فلا تحرقها على نقض العادة .. ) فليس لأية ظاهرة طبيعية فعل خاص يصدر عنها فليس في الخمر إسكار مثلاً وأنه لا مقوم داخلي لأي جسم يجعل منه فاعلاً إذ أن الأجسام منفصلة إلى أجزاء فهي جواهر فردة لا يربط بينها إلا بالقدرة الإلهية والسبب في الحقيقة لا أثر لها البتة بدليل إمكان انفكاك المسببات عن أسبابها ولكن اعتاد الناس وألفوا هذا الاقتران بينهما فحكموا بالضرورة وليس لديهم من حجة إلا المشاهدة يقول الغزالي (فإن اقترانها بما سبق من تقدير الله ـ سبحانه، يخلقها على التساوق لا لكونه ضروريًا في نفسه .. بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل، وخلق الموت دون جز الرقبة، وإدامة الحياة مع جز الرقبة) وإن كان الناس لم يألفوا هذه الأمور أو ألفوا بعضها، ولم يألفوا جز الرقبة مع بقاء الحياة (فأما النار وهي جماد، فلا فعل لها، فما الدليل على أنها الفاعل، وليس لهم دليل إلا مشاهدة حصول الاحتراق) فهي العادة لا أكثر وإلا فلا شيء يفعل في شيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 ويشرح الدكتور البوطي عقيدة العادة عند الأشاعرة بالانقضاض على علاقة الأسباب بمسبباتها فيقول: (وإذًا فما معنى كون هذه الأمور أسبابًا؟ .. إن معنى ذلك محصور في أن الله ـ عز وجل ـ ربط بينهما وبين أمور أخرى بمحض إرادته وقدرته فقط، فظهر استمرار هذا الارتباط أمامنا بمظهر السببية والتأثير فاستعرنا له كلا من هاتين الكلمتين على سبيل المجاز) وهذا معناه أنه لا يوجد سبب حقيقي ولا علة حقيقية لها تأثير في مسببها ومعلولها، ونفي السببية والعلية سمة واضحة في المذهب الأشعري بل يذهب البغدادي إلى القول بأن أهل السنة أجمعوا على أنه لا أثر البتة للطبائع (وضللوا من قال باختلاف الأجسام لاختلاف الطبائع) حتى بلغ الأمر بالأشاعرة تحقيقًا لعقيدة العادة، وردًا للسببية أن منعوا أن يقال للشيء احترق بالنار وإنما احترق عندها يقول الغزالي: (فقد تبين أن الوجود عند الشيء، لا يدل على أنه موجود به) فالأدلة الحسية المشاهدة لا تكفي عندهم في إثبات باء السببية وهكذا تم التعامل مع آيات الذكر الحكيم الواردة بباء السببية كما سيأتي. وكذلك الآيات التي رتبت النتائج على الأسباب. بل التجارب العلمية والأدلة العقلية لا تستقيم كأدلة عند الأشاعرة في رد عقيدة العادة ولهذا يقول الغزالي في معرض رده على المخالفين: (فما الدليل على أنها الفاعل؟ وليس لهم دليل، إلا مشاهدة حصول الاحتراق منذ ملاقاة النار والمشاهدة تدل على الحصول عندها، ولا تدل على الحصول بها .. ) وكذلك التجارب العلمية لا تنهض كدليل على إثبات السببية يقول مصطفى صبري: (ولا تقل أيها القارئ أن التردد في كون علة الاحتراق الفاعلية هي النار بعد مشاهدة النار مع كل حادثات الاحتراق، مكابرة ظاهرة، لأني أقول: على أي دليل قطعي الدلالة ينبني حكمك هذا؟ فإن بنيته على التجربة المشاهدة فالتجربة لا تشاهد العلية لأن العلية أمر معنوي لا يرى، وإنما مدلول التجارب ومشهودها كون النار مجتمعة مع حادثة الاحتراق والجسم المحترق ودائرة حيثما دار، وإن بنيته على الدليل المنطقي فالمنطق لا يعترف بدلالة دوران شيء مع شيء ودوام اقترانه به على كون صلة أحدهما بالآخر صلة العلة بمعلولها) أي لا بالمشاهدة ولا بالعقل ويزيد البوطي هذا الكلام وضوحًا حيثما يقول: (والعلم لا شأن له في الأشياء إلا أنه يصفها على ما هي عليه في أدق مظاهرها، ثم يمارس هذا الوصف بالتجربة في مجالات متكررة وهيهات أن يتوصل العلم إلى أن مقارنة الأسباب بمسبباتها أمر حتمي لا مناص من تلازمها ولا حيلة لانفكاكها) وهكذا فإن الأشاعرة ينفون أن يكون هناك دليل من المشاهدة والعلم أو المنطق على ضرورة التسبب أو أن هذه الأدلة لا تنهض على أن تكون لضرورة التلازم بين الأسباب والمسببات وهذا يعني انتقاء نوع الأدلة كلية في إثبات العلاقة بين الأسباب الطبيعية وهم بهذا يغلقون باب البحث عن دليل حسي أو عقلي أو علمي. المصدر: عقيدة العادة عند الأشاعرة لجابر السميري – ص 8 دوافع القول بعقيدة العادة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 أولاً: يقول الشهرستاني: (صار أبو الحسن الاشعري - رحمه الله تعالى- إلى أن أخص وصف للإله هو القدرة على الاختراع، فلا يشاركه فيها غيره، ومن أثبت فيه شركه فقد أثبت إلهين) ولهذا أراد الأشاعرة أن يحافظوا على أخص وصف لله تعالى فلا ينسبوا لغيره صفة القادرية ولا الفاعلية ولا الإحداث لأن كل ذلك لا يليق إلا بالله ـ سبحانه ـ ولهذا يسوي الإمام أبو الحسن الأشعري بين هذه الألفاظ في المعنى، فالخلق، والفعل، والإحداث، والاختراع كلها بمعنى واحد وهي لا تليق إلا بالله وإذا أطلقت على الإنسان فإنه لا يراد بها إلا معنى الكسب لا حقيقة الفعل فهو يقول: (لا قادر عليه ـ أي على الفعل ـ أن يكون ما هو عليه من حقيقة أن يخترعه إلا الله) بمعنى لا أثر لقدرة الإنسان في فعله إلا الاكتساب ولهذا ذهب الأشاعرة إلى أن (القدرة الحادثة على رأينا، فإنها لا تؤثر، وليست مبدأ لأثر) إذن لا شغل لقدرة العبد إلا الاقتران أما أن يؤثر فلا (وعندنا لا فرق إلا ما يعود إلى جريان العادة) هذا المبدأ الذي اهتم به الأشاعرة ـ وهو لا فاعلية ولا خالقية ولا إحداث ولا اختراع ـ كان الأساس في القول بعقيدة العادة وأنه لا أثر لشيء في شيء البتة وإلا ثبت الشرك فالعادة هي الكسب وكلاهما معناه اقتران شيء بشيء ويستدل الأشاعرة على ذلك بكثير من الآيات القرآنية، وأن الله أسند لنفسه الخلق فقال: (ذالكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه) فاستحق العباد لاستحقاقه الخلق. ويلاحظ ابن رشد أن من جملة الدوافع التي دفعت الأشاعرة إلى القول بالتجويز: (الهروب من القول بفعل القوى الطبيعية، والخوف من أن يدخل عليهم في القول بالأسباب الطبيعية أن يكون العالم صادرًا عن سبب طبيعي). ولا شك فإن الأشاعرة ردوا على الطبائعيين اعتقادهم بأن الطبيعة خالقة أو أن لها أثرًا في الأشياء بل الخالق الفاعل المحدث هو الله سبحانه يقول البوطي: (الواقع أن هذا القول لا يعتمد إلا على وهم مجرد، ذلك لأن الطبيعة لا تعطيك من واقعها إلا هذا الاقتران وهو بحد ذاته ليس أكثر من الاقتران مهما كان ثابتًا ومستمرًا). فلا شيء له أثر في شيء من نفسه بل ما يراه الناس إنما هو اقتران وانسجام. ويقول آخر: ( .. ولا يقول لشيء من الأشياء في الكائنات بخاصة ناشئة من ذاته غير قابلة للانفكاك عنه إلا طبيعي منكر للإله بالمرة) وهذا يعني القول بعدم تأثير الطبائع أو السبب أو إلغاء عملها في الوجود. فلا سببية ولا طبيعية. ويقول الأشاعرة (إن الكائنات بأجمعها مستندة إلى الله من غير واسطة) أي لا مكانة لواسطة الأسباب والمسببات في خلق أو تأثير (فالاعتراف مثلاً بأن الشمس تعطي الحركة والحياة للأشياء يكون شركًا). ثانيًا: رتب الأشاعرة على القول بعقيدة العادة ثبوت المعجزات الخارقة للعادة وعدم القول بها إنكار للمعجزات فقال الغزالي في معرض الرد على المخالفين: (وحكمهم بأن هذا الاقتران المشاهد في الوجود بين الأسباب والمسببات اقتران تلازم بالضرورة، وليس في المقدور، ولا في الإمكان إيجاد السبب دون المسبب، ولا وجود المسبب دون السبب ترتب عليه عدم إثبات المعجزات الخارقة للعادة مثل قلب العصا ثعبانًا، وإحياء الموتى وشق القمر، ومن جعل مجاري العادات لازمة لزومًا ضروريًا أحال جميع ذلك .. ). ويناقش مصطفى صبري هذا الأمر وهو يرى أنه لا مانع لله أن يفعل ما شاء (فالله تعالى في عقيدة المؤمنين إذا شاء يسلب الأشياء ما جرت سنته فيها، ويكون هذا السلب خرقًا منه للعادة لا خرقًا للعقل حتى يكون محالاً .. وكذا الكلام في إحراق النار ما تحرقه أنه كما يكون بإذن الله تعالى يكون كف النار عن الإحراق بأمر الله، ولا خرق بين الحالين بالنسبة إلى قدرة الله). ومعناه يستوي بالنسبة إلى قدرة الله أن تكون الأسباب مقترنة بالجواز أو بالضرورة، فلا شيء يمنع قدرة الله من أن يسلب النار مثلاً عملها فلا تعود محرقة .. وهذا معنى ثبوت معجزة إبراهيم عليه السلام بأن النار لم تؤثر عليه ولهذا (فإن الله الذي أوجد سلسلة الأسباب والعلل قادر على تعطيل عمل هذه السلسلة، فلا تكون المعجزة خارقة بهذا الاعتبار ولا يختل قانون السببية) وهذا القول كأنه جمع بين ثبوت المعجزات وقانون السببية الذي يرى الأشاعرة عدم ثبوته وبطلانه بعقيدة العادة ولهذا قال مصطفى صبري في تعليقه على النص السابق: (ومراده من عدم كون المعجزات خارقة أنها غير مخلة بقانون السببية وهو الناحية المهمة للمسألة لوجود سببها الذي هو إرادة الله وإلا فالمعجزة تخرق العادة لتعطيل عمل سلسلة الأسباب) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 المطلب الثاني: الحكم المترتب على مخالفة عقيدة العادة لم يرَ الأشاعرة العذر لأحد خالف في إثبات هذه العقيدة رغم صعوبة فهمها بل لمخالفتها لما يراه الناس بعيونهم ويلمسونه في حياتهم أثناء إجراء تجاربهم وملاحظاتهم، فالمسألة جد دقيقة وتحتاج إلى بذل الجهد واستحضار الأفهام فضلاً على أن ظاهر القرآن والسنة ترجح كفة إثبات السببية وأن لا شيء يتحقق إلا بالسبب وأن من يخل بالأسباب يخالف الشرع. فكيف يقفز هذا الفاهم لهذه الأمور والمعتقد لها إلى عقيدة مخالفة كلية ألا وهي عقيدة العادة حيث يقال له إن التوحيد والإيمان لا يتم إلا على طائلة إنكار السببية وأنه بالإمكان الفصل بين النار وفعلها، وبين الموت وجز الرقبة إلى ما كان هنالك من أمور قد يحيل فهم العقيدة إلى المستحيلات غير أن الأشاعرة رأوا أن يحكموا على المخالف فيها بالكفر والفسق والضلال ويدعون الإجماع على ذلك يقول البوطي: ( .. وإذ قد ثبت الدليل القطعي على ما قلناه، فقد كان جحود ذلك كفرًا بإجماع المسلمين) والدليل القطعي الذي قاله هو ما ذكرناه من عدم نسبة التأثيرات إلى السببية وأن من يثبت السببية يترتب عليه الكفر بالمعجزات والنبوات .. إلخ. ويقول في مكان آخر: ( .. ولعلك تسأل بعد هذا استعمال المسلم ألفاظًا تعبر عن سببية بعض الأشياء وتأثيرها .. كقول القائل: لقد نفعني هذا الدواء وشفاني هذا الطبيب، وأينع الزرع بكثرة الأمطار .. فالجواب أن ذلك إذا صاحب اعتقادًا بتأثير واحد من هؤلاء فهو كفر بالاتفاق .. ) وهذا يعني أنه لا وسطية بين الله وهذه النتائج فالماء مثلاً وجوده كعدمه بالنسبة للإثبات ولكن هو موجود شكلاً وقس على ذلك في سائر الأسباب والمسببات. وذهب بعض الأشاعرة إلى التفصيل في الحكم وكأنهم رأوا أن المسألة فيها من الغموض ما يفرض على الحاكم أن يكون مستبصرًا بمسائل الخلاف وبمجاري البحث والتحدي، قال إبراهيم بن محمد البيجوري: ( .. فمن اعتقد أن الأسباب العادية كالنار والسكين والأكل والشرب تؤثر في مسبباتها كالحرق والقطع والشبع والري بطبعها وذاتها فهو كافر بالإجماع، أو لقوة خلقها الله فيها ففي كفره قولان، والأصح أنه ليس بكافر بل فاسق مبتدع .. ومن اعتقد أن المؤثر هو الله لكن جعل بين الأسباب ومسبباتها تلازمًا عقليًا بحيث لا يصح تخلفها فهو جاهل، وربما جره ذلك إلى الكفر، فإنه قد ينكر معجزات الأنبياء لكونها على خلاف العادة، ومن اعتقد أن المؤثر هو الله وجعل بين الأسباب والمسببات تلازمًا عاديًا بحيث يصح تخلفها الناجي إن شاء الله تعالى) فهذه أربعة فرق اختلفت وكل فرقة يحكم عليها بما تعتقده، فالفرقة الأولى تجعل الطبائع مستقلة ولعلها تنكر أي أثر لقدرة الله تعالى في المسببات فهؤلاء هم الطبائعيون الذين لا خلاف في كفرهم وهم الذين أشار إليهم الإمام الشاطبي في قوله: (فالالتفات إلى المسببات بالأسباب له ثلاث مراتب، إحداها، أن يدخل فيها على أنه فاعل للمسبب أو مولد له، فهذا شرك أو مضهاه له، والسبب غيرفاعل بنفسه (والله خالق كل شيء) ويؤكد ابن تيمية هذا المعنى بقوله: (وإن فسر التأثير بأن المؤثر مستقل بالأثر من غير مشارك معاون ولا عائق مانع، فليس شيء من المخلوقات مؤثرًا، بل الله وحده خالق كل شيء فلا شريك له ولا ند له) إذن الطبائع بنفسها لا تفعل إلا بإذن الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 أما الفرقة الثانية فهي التي تقول بأن كل شيء فيه قوة كافية أودعها الله فيه، فذكر أنهم اختلفوا فيه فمنهم من يكفروه، ومنهم من يفسقه وكلا الحكمين يعني بأنه ليس في الأشياء طبائع ومعاني يميزها عن بعضها البعض، وهناك حكم آخر أطلقه الغزالي ويفهم منه جواز اعتقاد ذلك دون تخوف على العقيدة. يقول البوطي: (غير أن الإمام الغزالي -رحمه الله- لا يرى تنافيًا بين أن تكون الأسباب الكونية جعلية وبين أن يكون فيها تأثير أودعه الله عز وجل فيها يسلبه عنها عندما يشاء. وهو يرى أن هذا هو الحق أي فالمسألة ليست مسألة مقارنة مجردة) وهذا القول لا ينسجم البتة مع القول الذي يلغي طبائع الأشياء، فهو على نقيض مَنْ قال بالعادة فعقيدة العادة كما تبين هي مجرد مقارنة دون تأثير، وكلام الغزالي مقارنة مع التأثير، وهذا يدل على أن الغزالي متردد في قوله بعقيدة العادة وهو كما قال أبو ريان ( .. وقد عبر الغزالي في قوة المذهب الأشعري حينما انتقد مبدأ السببية، وذكر أن اعتقادنا بالسببية إنما يرجع إلى العادة .. ) ويؤمن الغزالي بأن الأسباب مسخرة بعلم الله يقول: (والأدوية أسباب مسخرة لعلم الله تعالى كسائر الأسباب، فكما أن الخبز دواء الجوع، والماء دواء العطش وكل ذلك بتدبير مسبب الأسباب). وأما الفرقة الثالثة، فهي الفرقة التي جعلت الاقتران ضروريًا بين الأسباب ومسبباتها وأن الأسباب لا تؤثر إلا بإذن الله تعالى وأنه متى صحت الأسباب ترتب عليها المسببات، ولا تتخلف المسببات إلا بنقص في الأسباب فهذه الفرقة جاهلة بهذا الاعتقاد وإن اعتقدت بناء على ضرورة الاقتران الحاصل من الأسباب امتناع المعجزات وعدم النبوات فهي كافرة؟ ولكن أليس بالإمكان أن يكسر الله سبحانه هذه الضرورة ويسلب هذا الاقتران بين الأسباب والمسببات وتكون الخارقة للعادة فلا يترتب على ذلك كفر ولا جهل. أما الفرقة الرابعة: فهي الفرقة المرضي عنها وهي القائلة بعقيدة العادة، وهي التي لا ترى في الأشياء طبائع ولا معاني لها أي أثر. ولهذا قال الإمام الشاطبي: (أن يدخل في السبب على أن المسبب من الله تعالى لأنه المُسبِّب فيكون الغالب على صاحب هذه المرتبة اعتقاد أنه مسبب عن قدرة الله وإرادته، من غير تحكم لكونه سببًا .. وحاصله يرجع إلى عدم اعتبار السبب في المسبب من جهة نفسه واعتباره فيه من جهة أن الله مسببه وذلك صحيح) وهذا الذي ذكره الشاطبي هو في حالة الاقتران العادي بين الأسباب ومسبباتها والنظر إليهما على أنهما من الله سبحانه ولم يستقل السبب بنفسه وإن كان لا بد من وجود السبب حتى يوجد المسبب، لوجود المطر بالنسبة للزرع. فالأشاعرة تثبت السبب العام ولا تعترف بالأسباب الفاعلة بإذن الله ولهذا قال سليمان دنيا, وهو يفرق بين فهم الأشاعرة للأسباب وفهم الوضعيين -أصحاب المذهب الوضعي الذي لا يوقن إلا بالمحسوس-: (فالأشاعرة إذا كانوا ينفون سببية الأشياء بعضها في بعض؛ فإنهم لا ينفون السببية العامة) وهي أن الله خالق الأسباب والمسببات. المصدر: عقيدة العادة عند الأشاعرة لجابر السميري – ص 11 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 المطلب الثالث: نقد مفهوم العادة قال ابن رشد: (فهو لفظ مموه إذا حقق لم يكن تحته معنى إلا أنه فعل وضعي مثل ما نقول: جرت عادة فلان أن يفعل كذا وكذا يريد أنه يفعله في الأكثر، وإن كان هذا هكذا كانت الموجودات كلها وضعية ولم يكن هناك حكمة أصلاً من قبلها ينسب إلى الفاعل أنه حكيم)، ويبين ابن رشد استخدامات هذا اللفظ ما يجوز منها وما لا يجوز فيقول: ( .. ومحال أن يكون لله تعالى-عادة، فإن العادة ملكة يكتسبها الفاعل، توجب تكرر الفعل منه على الأكثر) ولكن يجوز بدلاً من كلمة العادة بالنسبة لله أن يستخدم كلمة (السنة) فيقول: ( .. والله عز وجل يقول: (ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلاً) فهو يرى أن كلمة السنة بالنسبة لله لا تتبدل ولا تتحول أبدًا ودائمًا، أما (كلمة عادة) فإنها لم تطلق على الله في الكتاب ولا في السنة وهي لا تفيد إلا الأكثر وتدل على الملكة المكتسبة وكل ذلك لا يليق بالله سبحانه. ويؤيد ابن حزم هذا المعنى السابق بقوله: ( .. وهذا المذهب الفاسد حداهم على أن سموا ما تأتي به الأنبياء من الآيات المعجزات خرق العادة لأنهم جعلوا امتناع شق القمر، وشق البحر وسائر معجزاتهم إنما هي عادات فقط فمعاذ الله من هذا، ولو كان ذلك عادته لما كان فيها إعجاز أصلاً لأن العادة في لغة العرب الدأب والدين والديدن ألفاظ مترادفة على معنى واحد في أكثر استعمال الإنسان له مما لا يؤمن تركه إياه ولا ينكر زواله عنه بل هو ممكن وجود غيره ومثله بخلاف الطبيعة التي الخروج عنها ممتنع .. ) وعلى هذا لا يصح أن يطلق على خلق الله للأشياء والمسببات عادة، وكذلك على الأثر الطبائعي لأن أثرها يبقى مستمرًا ما بقيت هي ولهذا يتساءل ابن رشد عن معنى عقيدة العادة فيقول: ( .. فما أدري ما يريدون باسم العادة؟ هل يريدون أنها عادة الفاعل أو عادة الموجودات) ويخلص إلى نتيجة مفادها ( .. وإن أرادوا أنها عادة الموجودات فالعادة لا تكون إلا لذي النفس، وإن كانت في غير ذي النفس فهي في الحقيقة طبيعية) وهذا تفريق منه بين العادة والطبع فالعادة في كل ذي نفس، والطبع في كل ذي غير نفس وإن كان يلحق أيضًا بكل ذي نفس (وإما أن تكون عادة لنا في الحكم على الموجودات هذه العادة ليست شيئًا أكثر من فعل العقل الذي يقتضية طبعه وبه صار العقل عقلاً) فكأن عادة العقل هي طبعه وهو الفعل الصادر عنه وهو الذي أطلق عليه الأشاعرة العادة واعتبروه جائزًا لا ضروريًا واعتبره غيرهم ضروريًا واجبًا وهو الأثر الذي يتركه السبب في مسببه وهي السببية. ومن هنا يتضح لنا خطورة استخدام كلمات معينة لم تأت في الشريعة ومنحها مفهومًا عقديًا؛ ثم الحكم على مَنْ خالف في هذا المفهوم. وقد يقال: لا مشاحة في الاصطلاح. ولكن إذا فهم المعنى، تقلصت الفتنة وخاصة في مجال الدين والاعتقاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 المطلب الرابع: عقيدة العادة مبطلة لعقيدة التوحيد يقول ابن رشد: (والقول بنفي الأسباب في الشاهد ليس له سبيل إلى إثبات سبب فاعل في الغائب، لأن الحكم على الغالب من ذلك إنما يكون من قبل الحكم بالشاهد فهؤلاء لا سبيل لهم إلى معرفة الله تعالى) ولا يخفى أن أقوى الأدلة التي استدلت بها الأشعرية على وجود الله وإثبات صفاته هو قياس الغائب على الشاهد يقول الإيجي: (احتج الأشاعرة بوجوه، الأول: ما اعتمد عليه القدماء، وهو قياس الغائب على الشاهد، فإن العلة والحد والشرط لا يختلف غائبًا وشاهدًا). فقولهم: لعقيدة العادة يبطل عليهم أدلتهم في معرفة الله ويقول ابن القيم: ( .. ثم من أعظم الجناية على الشرائع والنبوات والتوحيد إيهام الناس أن التوحيد ناقصة لا يتم إلا بإنكار الأسباب). فكيف إذا حكم على مثبت الأسباب بالكفر والضلال وهو موحد مؤمن!! ويقول ابن تيمية: ( .. ومن قال: إن قدرة العبد وغيرها من الأسباب التي خلق الله بها المخلوقات ليست أسبابًا، أو أن وجودها كعدمها، وليس هناك إلا مجرد اقتران عادي، كاقتران الدليل بالمدلول فقد جحد ما في خلق الله وشرعه من الأسباب والحكم والعلل، ولم يجعل في العين قوة تمتاز بها عن الخد تبصر بها) بل يعتبر ابن القيم وغيره عقيدة العادة عند الأشاعرة داعية لإساءة الظن بالتوحيد، وتسليطًا لأعداء الرسل على ما جاءوا به (إن ضعفاء العقول إذا سمعوا أن النار لا تحرق، والماء لا يغرق، والخبز لا يشبع، والسيف لا يقطع، ولا تأثير لشيء من ذلك البتة، ولا هو سبب لهذا الأثر، وليس فيه قوة وإنما الخالق المختار يشاء حصول كل أثر من هذه الآثار عند ملاقاة كذا بكذا وقالت: هذا هو التوحيد وإفراد الرب بالخلق والتأثير، ولم يدر هذا القائل أن هذا إساءة الظن بالتوحيد، وتسليط لأعداء الرسل على ما جاءوا به كما تراه عيانًا في كتبهم ينفرون به الناس عن الإيمان) وقد صدق ابن القيم فانظر إلى ما يقوله الدهريون الملحدون في زماننا في هذا النص الذي ينسبونه إلى الدين: (جميع الآراء الأخرى أو بالأحرى أي اتجاه فلسفي آخر، في مسألة السببية وإنكار القوانين الوضعية والسببية والضرورية في الطبيعة، تنتسب إلى الاتجاه الإيماني .. ذلك أن من الواضح حقًا أن الاتجاه الذاتي في مسألة السببية واستنباط نظام الطبيعة وقوانينها، ليس من العالم الموضوعي الخارجي، بل من الشعور والعقل والمنطق .. ). مع العلم أن الدين الإسلامي لا يخاصم العلوم ولا يمنع من البحث في الطبيعة والتعرف على سنن الله فيها، فهل يستطيع أحد أن يقول: إن القرآن ينكر الجاذبية الأرضية مثلاً أو سائر قوانين السببية التي ما هي إلا آيات تدل على منتهى الحكمة والدقة والنظام ولهذا رد ابن سينا على الطبائعيين الذين ينكرون السبب الأول، ويجعلون الطبائع هي الأولى والآخرة في الإبداع والخلق والتأثير ( .. إن المواد للأجسام العالمية صنفان، صنف يختص بالتهيؤ لقبول صورة واحدة لا ضد لها، فيكون حدوثها على سبيل الإبداع لا على سبيل التكوين من شيء آخر وفقدها على سبيل الفناء لا سبيل الفساد إلى شيء آخر وإلى هذا يرجع قول الحكيم في كتبه إن السماء غير مكونة من شيء ولا فاسدة إلى شيء لأنها لا ضد لها لكن العامة من المتفلسفة صرفوا هذا القول إلى غير معناه فأمعنوا في الإلحاد والقول بقدم العالم فهذا صنف، وخصوه باسم الأثير، والصنف الثاني صنف مهيأ لقبول الصورة المتضادة فيتكون تارة هذا بالفعل وذلك بالقوة وتارة بالعكس وسموه العنصر فجعلوا الأجسام أثيرية وعنصرية). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 ويقول الدكتور حسام الألوسي: (ويلوم (ابن سينا) الجُهال من الطبيعيين لأنهم يفتشون عن أصل هذه الطبيعة، ويردونها إلى العناصر المكونة (للسقمونيا) مع أنها لا علة لها في العناصر ولو سئلوا عنه لقالوا: لأن النار حارة ثم السؤال لازم في أن الحار لم يفعل هذا فيكون منتهى الجواب الطبيعي أن يقال: إن الحرارة قوة من شأنها أن تفعل هذا الفعل، ثم إن سئلوا بعد هذا لِمَ كان هذا الجسم حارًا دون البارد لم يكن جوابهم إلا الجواب الإلهي إن إرادة الصانع هكذا اقتضت) وبهذا فإنه يتبين أنه لا حجة للطبائعيين في رد الشيء إلى نفسه بل لا بد له من مبدع أبدعه فصيره من العدم إلى الوجود وأن الآثار الظاهرة للعيان تتسلسل حتى تعود إلى المؤثر الأول كما يقول ابن القيم: ( .. وهذا كما نقوله في خلقه بالأسباب أنه يخلق كذا بسبب كذا، وكذا بسبب كذا، حتى ينتهي الأمر إلى أسباب لا سبب لها سوى مشيئة الرب) فالشيء لا يتحول بذاته إلى شيء آخر (وهي أن استمرار العادة مهما طال، لا يتحول بذاته، دون أي إضافة أخرى إليه، إلى قانون حتمي، وذلك هو الشأن فيما يتعلق بعلاقات أشياء الطبيعة بعضها ببعض) وأخيرًا: فإن القول بعقيدة العادة شأنه أن يخل بالنظام الكوني الذي يدل على وجود الخالق المبدع يقول ابن رشد: (وأما الذي قاد المتكلمين من الأشعرية إلى هذا القول فهو الهروب من القول بفعل الطبيعة التي ركبها الله تعالى في الموجودات التي ها هنا، كما ركب فيها النفوس وغير ذلك من الأسباب المؤثرة، فهربوا من القول بالأسباب لئلا يدخل عليهم القول بأن ها هنا أسبابًا فاعلة غير الله، وهيهات! إذا كان مخترع الأسباب! وكونها أسبابًا مؤثرة، هو بإذنه وحفظه وقال: ولو علموا أن الطبيعة مصنوعة، وأنه لا شيء أدل على الصانع من وجود موجود بهذه الصفة في الأحكام، لعلموا أن القائل بنفي الطبيعة قد أسقط جزءًا عظيمًا من موجودات الاستدلال على وجود الصانع بجحده جزءًا من موجودات الله .. ) وناقش ابن رشد الأشاعرة في القضية السابقة قائلاً (ولو علموا .. أنه يجب من جهة النظام الموجود في أفعال الطبيعة أن تكون موجودة عن صانع عالم وإلا كان النظام فيها بالاتفاق، لما احتاجوا أن ينكروا أفعال الطبيعة .. ) بمعنى (لو رفعنا الأسباب والمسببات لم يكن ها هنا شيء يُرد به على القائلين بالاتفاق، أعني الذين يقولون لا صانع ها هنا). عقيدة العادة مبطلة لظاهر القرآن يقول ابن القيم: (أنه -سبحانه- ربط الأسباب بمسبباتها شرعًا وقدرًا، وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني الشرعي وأمره الكوني القدري، ومحل ملكه وتصرفه فإنكار الأسباب والقوى والطبائع جحد للضروريات، وقدح في العقول والفطر، ومكابرة للحس وجحد للشرع والجزاء والقرآن مملوء من إثبات الأسباب كقوله تعالى: بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة: 105] وقوله: بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ [الأعراف: 39] وذكر آيات كثيرة إلى أن قال: وكل موضع مرتب فيه الحكم الشرعي أو الجزائي على الوصف أفاد كونه سببًا له كقوله سبحانه: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ [المائدة:38] .. وذكر آيات كثيرة إلى أن قال: وهذا أكثر من أن يستوعب وكل موضع تضمن الشرط والجزاء أفاد سببية الشرط والجزاء وهو أكبر من أن يستوعب وكل موضع تقدم ذكرت فيه الباء تعليلاً لما قبلها بما بعدها أفاد التسبب ولو تتبعنا ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف موضع، ولم نقل ذلك مبالغة بل حقيقة ويكفي شهادة الحس والعقل والفطرة) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 وفي بيان واضح للذين منعوا من إجراء (باء) السببية في بابها وقالوا: (فقد تبين أن الوجود عند الشيء، لا يدل على أنه موجود به) فمنعوا أن يكون ماء السماء سببًَا في إنبات العشب كما بين القرآن في قوله تعالى: وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة:164] وقوله سبحانه: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ [التوبة:14] ومثل هذا في القرآن كثير، ومنعوا إجراء اللغة بإطلاق باء السببية ولهذا قال ابن تيمية: (تكلم قومٌ من الناس في إبطال الأسباب والقوى والطبائع فأضحكوا العقلاء على عقولهم) ويذكر ابن تيمية أيضًا ما يلزم القائلين بإنكار الأسباب والطبائع من شنائع أنهم يسوون بين المختلفات ويخالفون القرآن يقول: ( .. وكذلك أيضًا لزمت من لا يثبت في المخلوقات أسبابًا وقوى وطبائع ويقولون إن الله يفعل عندها لا بها فليلزم أن لا يكون فرق بين القادر والعاجز .. وأما أئمة السنة وجمهورهم فيقولون ما دل عليه الشرع والعقل، قال تعالى: (فسقناه إلى بلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات) سورة الأعراف: 57، وقال: (فأحيا به الأرض بعد موتها) البقرة: 164، النحل: 65، الجاثية: 5) وقال تعالى: (يهدي به الله من اتبع رضوانه) المائدة: 16، وقال: (يضل به كثيرًا ويهدي به كثيرًا) البقرة: 26 إلى أن قال: ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة يخبر الله تعالى أنه يحدث الحوادث بالأسباب، وكذلك دل الكتاب والسنة على إثبات القوى والطبائع التي جعلها الله في الحيوان .. ) وهذا الإلغاء للسببية هو إلغاء للقوانين العلمية بل تعطيل لذاتية الأشياء بعد أن كان تعطيلاً لتوحيد الرب وهذه الجناية العظيمة تكبر وتتضخم حينما تنسب إلى القرآن والقرآن لا يقرها بل يقر خلافها. وهناك فرق كبير بين قولنا فعلت به وفعلت عنده كما يقول ابن تومرت (الأصل يثبت به الحكم والأمارة يثبت عندها الحكم، وبين يثبت به ويثبت عنده ما بين السماء والأرض)، ولهذا فإن القرآن الكريم عبر عن الباء في محلها وبـ (عند) في محلها. فكيف يجوز أن تلغي (الباء) عن عملها في محلها ونستبدل (عند) وهي ليست مثلها ولا تعمل عملها، وجرب بوضع (عند) في محل (الباء) في الآيات السابقة وانظر كيف سيكون الحال فلا شك أن بين (الباء) و (عند) ما بين السماء والأرض، وهكذا تُطوع اللغة لتتمشى مع الآراء وكان الأولى أن تصحح الآراء وتصقل بالرجوع إلى أصل اللغة. عقيدة العادة مخالفة لما كان عليه السلف الصالح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 يقول السفاريني: ( .. وأما مذهب السلف الصالح المثبتون للقدر من جميع الطوائف فإنهم يقولون إن العبد فاعل لفعله حقيقة وإن له قدرة واستطاعة حقيقية ولا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرون بما دل عليه الشرع والعقل من أن الله تعالى ينبت النبات بالماء، وأن الله يخلق السحاب بالرياح وينزل الماء بالسحاب، ولا يقولون القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها بل يقرون بأن لها تأثيرًا لفظًا ومعنى، ولكن يقولون هذا التأثير هو تأثير الأسباب في مسبباتها والله تعالى خالق السبب والمسبب) فالسلف يثبتون فاعلية لقدرة الإنسان، وأثرًا للأسباب الطبيعية ولكن يشترطون عدم استقلالية الفاعلية والأثر وهذا هو ظاهر القرآن الذي أثبت للإنسان فعلاً، وللماء أثرًا وهكذا والجميع في النهاية يكون بخلق الله، فالخلق يتم في بعض صوره بوسائط هي قوى أودعها الله في مخلوقاته، فهو يخلق الأسباب ببعضها. يقول ابن تيمية: (والله سبحانه خلق الأسباب والمسببات وجعل هذا سببًا لهذا، فإذا قال القائل: إن كان مقدورًا، حصل بدون السبب وإلا لم يحصل جوابه أنه مقدور بالسبب وليس مقدورًا بدون السبب .. ودلل على ذلك بالأدلة) ومعنى ذلك أنه لا غنى للأسباب عن المسببات ولا المسببات في غنى عن الأسباب، لكن الأسباب ليست علة تامة تستقل بإحداث المسببات ( .. ومعلوم أنه ليس في المخلوقات شيء وحده علة تامة وسببًا تامًا للحوادث بمعنى أن وجوده مستلزم لوجود الحوادث، بل ليس هذا إلا لمشيئة الله خاصة). وهذا هو الإنصاف الذي جاء به القرآن في نسبة الفعل والإحداث، فهو لم يغلُ في نسبته إلى الطبيعة بإنكار صنع الإله الحق كما أنه لم يقض على ما يشاهده الناس بعيونهم ويجربونه بأنفسهم بإلغاء أثر القوى الكامنة في الطبيعة فأثبت الجميع وقال للإنسان: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين) الإنسان: 30، أي لا يتحقق لك صنع وعمل باستقلال حتى أشاء أنا (وهو الذي قدر الأشياء وقضاها ولا يكون في الدنيا ولا في الآخرة شيء إلا بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره وكتبه في اللوح المحفوظ). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 وقال العلامة محمد بن علي بن سلوم: (ومذهب سلف الأمة وأئمتها من جمهور أهل السنة يقولون: إن العبد فاعل لفعله حقيقة، وأن له قدرة حقيقية واستطاعة حقيقية ولا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرون بما دل عليه الشرع والعقل ولا يقولون القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها بل يقرون بأن لها تأثيرًا .. ) وينقل لنا السفاريني أدلة من القرآن يشرح ما فيها من المعاني (فالحوادث تضاف إلى خالقها باعتبار وإلى أسبابها باعتبار كما قال الله تعالى: (هذا من عمل الشيطان) وقال (وما أنسانيه إلا الشيطان) مع قوله: (كل من عند الله) وأخبر أن العباد يفعلون ويصنعون ويعملون ويؤمنون ويكفرون ويفسقون وأن العبد فاعل لفعله حقيقة فقولهم: في خلق فعل العبد بإرادته وقدرته كقولهم في خلق سائر الحوادث بأسبابها، وقد دلت الدلائل اليقينية على أن كل حادث فالله خالقه وفعل العبد من جملة الحوادث والحاصل أن مذهب السلف ومحققي أهل السنة إن الله تعالى خلق قدرة الإنسان وإرادته وفعله، وأن العبد فاعل لفعله حقيقة ومحدث لفعله والله سبحانه جعله فاعلاً له محدثًا له) وقوله إن محققي السنة يقولون بما يقول به السلف فهذا حق ولهذا جاء في كتب الأشاعرة المحققة قول العلامة الشيخ إبراهيم المذاري: ( .. ما يدل على أن الأشعري إنما نفى الاستقلال لا أصل التأثير بإذن الله تعالى .. ما هو المعتمد في معتقده الموافق للكتاب والسنة وأن إمام الحرمين فيما ذكره في النظامية موافق للأشعري في التحقيق المعتمد عنده في (الإبانة) .. وقال أيضًا: فإن هذا الكلام من الشيخ الأشعري صريح في وقوع الفعل بقدرة محدثة والوقوع فرع التأثير غاية الأمر أنه لم يطلق على العبد أنه خالق أدبًا فهو كما قال إمام الحرمين واستحال إطلاق القول بأن العبد خالق لأعماله فإن فيه الخروج عما درج عليه السلف) وقد قال الجويني تصريحًا لا تلميحًا بأثر قدرة العبد فقال: (ففي المصير إلى أنه لا أثر لقدرة العبد في فعله قطع طلبات الشرائع والتكذيب بما جاء به المرسلون .. ) فهل هذا الحكم من الجويني يلزم كل من أنكر أثر الأسباب وقد نقل السفاريني عن محققي أهل السنة الاتفاق في هذه المسألة فقال: ( .. وإنما ذكرت لك أقاويل هؤلاء-أي المحققون من علماء الأشاعرة- مع أن عمدة المعتقد عندنا الغير المنتقد في عقدنا مذهب السلف المقرر على الوجه المرضي المحرر لتعلم أن محققي الأشاعرة لهم موافقة على حقيقة مذهب السلف والإغضاء عما ينمقه الخلف) والذي يرجع إلى التحقيق في هذه المسألة يجد أن لمحققي الأشاعرة قولين أو فهمين، فالجويني له رأي في (الإرشاد) متقدم يقول فيه بعدم تأثير قدرة الإنسان وخالفه في آخر كُتبه وقال بأن لها تأثيرًا ونصه: ( .. قدرة العبد مخلوقة لله تبارك وتعالى باتفاق العالمين بالصانع، والفعل المقدور بالقدرة الحادثة واقع بها قطعًا ولكنه مضاف إلى الله تبارك وتعالى تقديرًا وخلقًا) وما ذهب إليه الإمام الجويني لم يرق للشهرستاني فادعى أنه ليس مذهبًا للإسلاميين بل جاء به من عند الفلاسفة (وهذا الرأي إنما أخذه من الحكماء الإلهيين وأبرزه في معرض الكلام .. إلى أن قال: ومن العجب أن مأخذ كلام الإمام أبي المعالي إذا كان بهذه المثابة فكيف يمن إضافة الفعل إلى الأسباب حقيقة). والحق أن ما ذهب إليه الجويني ليس بدعًا من القول ولا جيء به من مصدر بعيد، بل هو ما قال به السلف والمحققون من أهل السنة وهو ظاهر القرآن ومعناه. وبهذا يتبين خطأ البغدادي حينما زعم أن الإجماع قام على أن الأجسام لا تختلف بالطبائع وخطأ حكمه الذي رتبه على ذلك وهو الضلال. بل العكس هو الصحيح أن السلف ومحققي أهل السنة كأبي الحسن الأشعري والإمام الجويني اتفقوا على ما نص عليه ظاهر القرآن وإن اختلف النقل عنهم أحيانًا كما بيناه وهو ما توصل إليه البوطي وهو يعلق على كلام الغزالي في نص له يُسلم بوجود قوى كامنة في الأشياء (وتحليل الغزالي هذا أقرب إلى الانسجام مع التعليلات العلمية لظواهر الأشياء وتكويناتها .. وختمه بقوله: إلا أنه أبعد عن مسلك الجمهور وما اتفق عليه) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 المطلب الخامس: عقيدة العادة مبطلة لمبادئ العلوم ولما كان هذا النظام قائمًا على قانون السببية أو القوانين الطبيعية فإن إبطال الأسباب وإنكار الطبائع قتل لهذا النظام، وتجهيل له، وقلب للنظام العلمي فيه، يقول ابن رشد: ( .. وأن المعرفة بتلك المسببات لا تكون على التمام إلا بمعرفة أسبابها، فرفع هذه الأشياء هو مبطل للعلم ورفع له، فإنه يلزم أن لا يكون ههنا شيء معلوم أصلاً) ويشرح ابن رشد قوله السابق ويقول: ( .. والعقل ليس هو شيء أكثر من إدراكه الموجودات بأسباب وبه يفترق عن سائر القوى المدركة فمن دفع الأسباب فقد رفع العقل) ويحكم ابن رشد على من أنكر الأسباب والطبائع بأنه ألغى الفوارق بين الأشياء وجعلها شيئًا واحدًا ومن ثم لا حدود ولا فواصل بين الأشياء وكفى بهذا إبطالاً للوجود وللعلم يقول: ( .. فماذا يقولون في الأسباب الذاتية التي لا يفهم الموجودات إلا بفهمها، فإنه من المعروف بنفسه أن للأشياء ذوات وصفات هي التي اقتضت الأفعال الخاصة بوجود موجود وهي التي من قبلها اختلفت ذوات الأشياء وأسماؤها وحدودها فلو لم تكن لوجود موجود فعل يخصه، لم يكن له طبيعة تخصه، ولو لم تكن له طبيعة تخصه لما كان له اسم يخصه ولا حد وكانت الأشياء كلها شيئًا واحدًا، ولا شيئًا واحدًا ارتفعت طبيعة الموجود، إذا ارتفعت طبيعة الموجود لزم العدم) وفي هذا الكلام رد على الأشعرية القائلين بأن لا طبائع ولا أسباب بل يذكر بعضهم أن أهل السنة مجمعون على تضليل من قال أن الموجودات تختلف بالطبائع فإذا لم يكن كذلك فبماذا تختلف؟ ويقول العامري: (والذي حمل هذه الفرقة المختلفة على ارتكاب هذه الأقوال المخترعة هو عجزهم عن الروية في واحد من المعاني الطبيعية، وضعفهم عن التفكير في جبلته والتعرف بخصائص قواه، فأقدموا على جحد الحقائق كلها) ويقول المفكر سليمان دنيا في تعليقه على إنكار الأشعرية لقوانين السببية وحتميتها: ( .. ولكن إلغاء السبب معناه القضاء على العلم والقوانين العلمية، وإغلاق باب التكهن بالمستقبل وترتيب المسببات على أسبابها، وتلك إحدى النتائج الخطيرة التي انتهى إليها (هيوم) في نقده وتحليله) وتتركز هذه الخطورة حينما تنسب إلى الدين أو تجعل أساسًا صالحاً للبرهنة على صحة التوحيد، والأمر خلاف ذلك. المصدر: عقيدة العادة عند الأشاعرة لجابر السميري – ص 28 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 المطلب السادس: الأسباب والمسببات عند الأشاعرة وعلاقتها بأفعال الله الأشاعرة يثبتون وجود تلازم عادي بين الأسباب والمسببات، بمعنى أن المسببات تحدث عند الأسباب لا بها، فمثلاً إذا لاقت النار شيئاً قابلاً للاحتراق فاحترق، فيقولون إن الاحتراق لم يكن بسبب النار، فهي لم تؤثر شيئاً، وإنما المؤثر هو الله وحده!، وقالوا هذا القول لأمرين: الأول: إثبات تأثير الأسباب في مسبباتها يفضي إلى القول بوجود شريك مع الله يؤثر في الأفعال، والله عز وجل هو المؤثر وحده (1)! الثاني: إن إثبات التلازم بين الأسباب والمسببات يفضي إلى إنكار النبوات الثابتة بمعجزات الرسل، وهي خوارق مخالفة للعادة، فلو وجد التلازم بين الأسباب والمسببات لما صح تخلف هذا التلازم، وهذا يؤدي إلى إنكار النبوات (2). فالجواب: إن القرآن مملوء بذكر الأسباب وربطها بمسبباتها، وقد تقدمت الأدلة على ذلك في الفصل الخاص بأهل السنة والجماعة. وأما الجواب عن الأمر الأول الذي ذكروه فإنه لا يلزم ذلك، لأن أهل السنة عندما قالوا ذلك، شرطوا وجود المعاون المشارك، وانتفاء الموانع، وربط ذلك بمشيئة الله، مع القول بأن الأسباب والمسببات مخلوقة لله تعالى فلا يتوجه إليهم هذا المحذور. وأما جواب الأمر الثاني، فإن أهل السنة ذكروا بأن الأسباب خلق لله تعالى تتعلق بها مشيئته وقدرته، فلو شاء ألا تؤثر ما أثرت، ولذلك فإن قول الأشاعرة: لو وجد التلازم بين الأسباب والمسببات لما صح تخلف هذا التلازم، قول ليس بلازم ولا صحيح، وقد مضى ذكر الأدلة الدالة على وجود هذا التختلف إذا شاء الله، وإنه ليشاؤها عند إثبات النبوات وغير ذلك، فلا ينسد طريق إثبات النبوات. ولو قلب شخص عليهم استدلالهم لكان أقرب من إيرادهم وهو: لو كان التلازم عادياً فما وجه إفادة آيات الأنبياء للتعجيز.؟! المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف – 1/ 344 قالوا كلهم: من قال إن النار تحرق أو تلفح وإن الأرض تهتز أو تنبت شيئا وإن الخمر يسكر أو أن الخبز يشبع، أو أن الماء يروي، أو أن الله تعالى ينبت الزرع والشجر بالماء فقد ألحد وافترى. وقال الباقلاني من آخر السفر الرابع من كتابه المعروف بـ (الانتصار في القرآن): نحن ننكر فعل النار للتسخين والاحتراق وننكر فعل الثلج للتبريد وفعل الطعام والشراب للشبع والري والخمر للإسكار: كل هذا عندنا باطل محال ننكره أشد الإنكار، وكذلك فعل الحجر لجذب الشيء أو رده أو حبسه أو إطلاقه من حديد أو غيره. قال أبو محمد: وهذا تكذيب منهم لله عز وجل إذ يقول تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ [المؤمنون: 104] ولقوله تعالى وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ [ق: 9] وقوله تعالى أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ [السجدة: 27] .. وقوله تعالى فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: 5].وقد صككت بهذا وجه بعض مقدميهم في المناظرة فدهش وبلد، وهو أيضا تكذيب لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((كل مسكر حرام)) (3) ((وكل شراب أسكر حرام)) (4) مع مخالفتهم لكل لغة ولكل ذي حس من مسلم وكافر، ومكابرة العيان وإبطال المشاهدة.   (1) انظر ((تحفة المريد)) (ص: 98 - 99) و ((السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي!!.)) للبوطي (ص: 175). (2) انظر ((تحفة المريد)) (ص: 98 - 99). (3) رواه البخاري (7172) ومسلم (1733). (4) رواه البخاري (242) ومسلم (2001). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 ثم أظرف شيئ احتجاجهم في هذه الطامة بأن الله عز وجل هو الذي خلق ذلك كله. فقلنا لهم: أوليس فعل كل حي مختار واختياره خلقا لله عز وجل؟ فلابد من قولهم نعم. فيقال لهم فمن أين نسبتم الفعل إلى الأحياء وهي خلق الله تعالى ومنعتم من نسبة الفعل إلى الجمادات لأنه خلق الله تعالى ولا فرق، ولكنهم قوم لا يعقلون (الفصل 4/ 218). قال أبو محمد: وسمعت بعض مقدميهم يقول: إن من كان على معاصي خمسة من زني وسرقة وترك صلاة وتضييع زكاة وغير ذلك ثم تاب عن بعضها دون بعض فإن توبته تلك لا تقبل. وقد نص السمناني على أن هذا قول الباقلاني هو قول أبي هاشم الجبائي، ثم قال السمناني هذا قول خارق للإجماع جملة وخلاف لدين الأمة. هذا نص قول السمناني في شيخه وشهدوا على أنفسهم وأقبل بعضهم على بعض يتلازمون "الفصل 4/ 218". قال أبو محمد: هذا القول مخالف للقرآن والسنن لأن الله تعالى يقول فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7 - 8] وقال تعالى وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا [الأنبياء: 47] وقال تعالى: أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى [آل عمران: 195] وبالضرورة يدري كل ذي مسكة من عقل أن التوبة من الزنا خير كثير فهذا الجاهل يقول إنه لا يراه صاحبه وأنه عمل ضائع عند الله عز وجل من مسلم مؤمن. ومعاذ الله من هذا. وسر هذا القول المعلون وحقيقته التي لابد لقائله منه أنه لا معنى لمن أصر على الزنا أو شرب الخمر في أن يصلي ولا أن يزكي فقد صار يؤمر بترك الصلاة الخمس والزكاة وصوم رمضان والحج. فعلى هذا القول وقائله لعائن الله تتري مادار الليل والنهار ونص السمناني عن الباقلاني شيخه أنه كان يقول أن الله تعالى لا يغفر الصغائر باجتناب الكبائر. المصدر: موقف ابن حزم من المذهب الأشعري لعبد الرحمن دمشقية - ص 73 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 المبحث الثامن: نقد موقف الأشاعرة من الخوارق والمعجزات ذهب قوم إلى أن السحر قلب للأعيان وإحالة للطبائع وأنهم يرون أعين الناس ما لا يرى، وأجازوا للصالحين على سبيل كرامة الله عز وجل لهم اختراع الأجسام وقلب الأعيان وجميع إحالة الطبائع وكل معجز للأنبياء عليهم السلام. ورأيت لمحمد بن الطيب الباقلاني: أن الساحر يمشي على الماء على الحقيقة وفي الهواء ويقلب الإنسان حماراً على الحقيقة. وأن كل هذا موجود من الصالحين على سبيل الكرامة. وأنه لا فرق بين آيات الأنبياء وبين ما يظهر من الإنسان الفاضل ومن الساحر أصلا إلا بالتحدي، فإن النبي يتحدى الناس بأن يأتوا بمثل ما جاء هو به فلا يقدر أحد على ذلك قط. وأن كل ما لم يتحد به النبي صلى الله عليه وسلم الناس فليست آية له. وقطع بأن الله تعالى لا يقدر على إظهار آية على لسان متنبئ كاذب. وذهب أهل الحق إلى أنه لا يقلب أحد عيناً ولا يحيل طبيعة إلا الله عز وجل لأنبيائه فقط، سواء تحدوا بذلك أو لم يتحدوا ... وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره "الفصل 5/ 2". فلا يجوز البتة وجود ذلك لا من ساحر ولا من صالح بوجه من الوجوه، لأنه لم يقم برهان بوجود ذلك، ولا صح به نقل، وهو ممتنع في العقل كما قدمنا، ولو كان ذلك ممكناً لاستوى الممتنع والممكن والواجب وبطلت الحقائق كلها، وأمكن كل ممتنع ومن لحق هاهنا بالسوفسطائية على الحقيقة. ونسأل من جوز ذلك للساحر والفاضل هل يجوز لكل أحد غير هذين، أم لا يجوز إلا لهذين فقط؟ فإن قال: إن ذلك للساحر والفاضل فقط، وهذا هو قولهم سألناهم عن الفرق بين هذين وبين سائر الناس. ولا سبيل لهم إلى الفرق بين هؤلاء وبين غيرهم إلا بالدعوى التي لا يعجز عنها أحد. وإن قالوا إن ذلك جائز أيضاً لغير الساحر والفاضل لحقوا بالسوفسطائية حقاً، ولم يثبتوا حقيقة، وجاز تصديق من يدعي أنه يصعد إلى السماء ويرى الملائكة وأنه يكلم الطير ويجتبي من شجر الخروب التمر والعناب. وإن رجالا حملوا وولدوا، وسائر التخليط الذي من صار إليه وجب أن يعمل بها هو أهله إن أمكن، أو أن يعرض عنه لجنونه وقلة حياته. قال أبو محمد: لا فرق بين من ادعى شيئاً مما ذكرنا لفاضل وبين دعوى الرافضة رد الشمس على علي بن أبي طالب مرتين حتى ادعى بعضهم أن حبيب بن أوس قال: فردت علينا الشمس والليل راغم ... بشمس لهم من جانب الخدر تطلع نضا ضوءها صبغ الدجنة وانطوى ... لهجتها فوق السماء المرجع فو الله ما أدري على بدالنا ... فردت له أم كان في القوم يوشع وكذلك دعوى النصارى لرهبانهم وقدمائهم: فإنهم يدعون لهم من قلب الأعيان أضعاف ما يدعيه. وكذلك دعوى اليهود لأحبارهم ورؤوس المثايب عندهم أن رجلا منهم رحل من بغداد إلى قرطبة في يوم واحد وأنه أثبت قرنين في رأس رجل مسلم من بني الإسكندراني كانوا أقواماً أشرافاً معروفين لم يعرف لأحد منهم شيء من هذا والحماقة لا حد لها وهذا برهان كاف لمن نصح نفسه "الفصل 5/ 3". ما ذكره الباقلاني من التحدي باطل من وجوه أحدها أن اشتراط التحدي في كون آية النبي آية، دعوى كاذبة سخيفة لا دليل على صحتها لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من إجماع ولا من قول صاحب ولا من حجة عقل ولا قال بهذا أحد قط قبل هذه الفرقة الضعيفة وما كان هكذا فهو في غاية السقوط والهجنة، قال الله عز وجل قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: 111] "الفصل 5/ 7". المصدر: موقف ابن حزم من المذهب الأشعري لعبد الرحمن دمشقية - ص 88 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 المطلب الأول: نشأة مصطلح "أهل السنة" وتاريخ إطلاقه: يرجع تاريخ إطلاق هذا اللفظ إلى صدر الإسلام، إلى عصر النبوة، والقرون المفضلة. فقد أخرج اللالكائي بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106]؛ "فأما الذين ابيضت وجوههم: فأهل السنة والجماعة وأولوا العلم، وأما الذين اسودت وجوههم: فأهل البدع والضلالة" (1). ثم تتابع ورود استعمال هذا اللفظ وإطلاقه عن كثير من أئمة السلف رحمة الله عليهم، أذكر طائفة منهم حسب التسلسل التاريخي: فمن ورد عنه ذلك: - أيوب السختياني (68 - 131هـ):فقد أخرج اللالكائي عنه أنه قال: "إني أخبر بموت الرجل من أهل السنة وكأني أفقد بعض أعضائي" وقال أيضاً: "إن من سعادة الحدث والأعجمي أن يوفقهما الله لعالم من أهل السنة" (2). - سفيان الثوري "ت 161هـ":قال: "استوصوا بأهل السنة خيراً فإنهم غرباء". وقال: "ما أقل أهل السنة والجماعة" (3). - الفضيل بن عياض "ت 187هـ":قال: "أهل الإرجاء يقولون: الإيمان قول بلا عمل، وتقول الجهمية: الإيمان المعرفة بلا قول ولا عمل، ويقول أهل السنة: الإيمان المعرفة والقول والعمل" (4). - أبو عبيد القاسم بن سلام "157 - 224هـ":قال في مقدمة كتاب (الإيمان) له: " ... فإنك كنت تسألني عن الإيمان واختلاف الأمة في استكماله، وزيادته، ونقصانه، وتذكر أنك أحببت معرفة ما عليه أهل السنة من ذلك ... " (5). - الإمام أحمد بن حنبل "164 – 241هـ":قال في مقدمة كتاب (السنة) له: " ... هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروتها، المعروفين بها المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ... " (6). - الإمام ابن جرير الطبري "ت 310هـ":قال: "وأما الصواب من القول في رؤية المؤمنين ربهم عز وجل يوم القيامة وهو ديننا الذي ندين الله به، وأدركنا عليه أهل السنة والجماعة فهو أن أهل الجنة يرونه على ما صحت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" (7). - أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي "239 – 321هـ":قال في مقدمة عقيدته المشهورة: " ... هذا ذكر بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة ... " (8).   (1) اللالكائي، ((شرح أصول أهل السنة)) (1/ 72)، والبغوي، ((معالم التنزيل)) (1/ 339)، وابن كثير، ((التفسير)) (2/ 72). (2) اللالكائي، ((شرح أصول أهل السنة)) (1/ 60 - 61.) (3) اللالكائي، ((شرح أصول أهل السنة)) (1/ 64). (4) ابن جرير الطبري: ((تهذيب الآثار)) بتحقيق د. ناصر سعد الرشيد، وعبد القيوم عبد رب النبي، ط.: مطابع الصفا – مكة، على نفقة الأمير فهد بن عبدالعزيز، 1402هـ" (2/ 182). (5) ((الإيمان)) (ص: 53) ضمن كتاب من كنوز السنة – رسائل أربع، "بتحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني". (6) ((السنة)) (ص: 33 - 34)، مع كتاب الرد على الجهمية له، ط. عيسى الحلبي. (7) ((صريح السنة)). له، "بتحقيق وتعليق بدر بن يوسف المعتوق، ط. الأولى 1405هـ، نشر: دار الخلفاء للكتاب الإسلامي"، (ص: 20). (8) ((عقيدة أهل السنة والجماعة)) (ص: 5)، "بتعليق ابن مانع، نشر: مكتبة دار المطبوعات الحديثة – جدة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 وبهذه النقول يتضح لنا جلياً أن لفظ "أهل السنة" معروف عند السلف متداول بينهم، أطلقوه في مقابل "أهل البدع" وألّفوا في بيان عقيدة أهل السنة، وميزوا بينهم وبين أهل البدع، كما فعل الإمام أحمد والإمام الطحاوي وغيرهم. وفي هذا رد على من زعم أن لقب "أهل السنة" أول ما أطلق على الأشاعرة، كما زعم ذلك الأستاذ مصطفى الشكعة إذ يقول في كتابه (إسلام بلا مذاهب): " ... وهكذا نجد أن لقب "أهل السنة" أطلق أول ما أطلق على جماعة الأشاعرة ومن نحا نحوهم، ثم اتسعت دائرته فشملت أصحاب المذاهب والفقهاء من أمثال الشافعي ومالك وأبي حنيفة وابن حنبل والأوزاعي وأهل الرأي والقياس ... " (1). ولا أدري كيف يستقيم هذا القول، وهؤلاء أئمة قد توفوا قبل زمن الأشعري؟ ثم زعم في موضع آخر من كتابه أن هذه التسمية لم تعرف إلا في القرن السابع الهجري قال: " ... وذلك أن تسمية جمهرة المسلمين بأهل السنة تسمية متأخرة يرجع تاريخها إلى حوالي القرن السابع الهجري؛ أي: بعد عصر آخر الأئمة المشهورين وهو ابن حنبل بحوالي أربعة قرون" (2). على أنه يتناقض فيعترف في نفس كتابه هذا، بوجود من يعرف بـ"أهل السنة" قبل أن يخلق الله الأشعري والأشاعرة، إذ يقول: "إن المأمون وهو على أهبة الخروج إلى طرسوس على حدود بلاد الروم سنة 218هـ. بعث إلى إسحاق بن إبراهيم عامله على بغداد كتاباً يأمره فيه أن يستحضر علماء بغداد وقضائها، وأن يمتحنهم في موضع خلق القرآن. قال: وكتاب المأمون هذا من أشنع الكتب التي حوت سباً وتطاولاً على علماء المسلمين من أهل السنة ... " (3) اهـ. إذن كان هناك أهل سنة يدافعون عن عقيدتهم في القرآن، ويردون على من قال بخلقه، يعرفون بأنهم "أهل السنة". فكيف يقال: أن هذا اللقب أطلق أول ما أطلق على جماعة الأشاعرة؟ أم كيف يقال: أن هذه التسمية لم تعرف إلا في القرن السابع الهجري؟ على أن الأشاعرة السابق منهم واللاحق لم يدعوا لأنفسهم ما ادعاه لهم الأستاذ الشكعة. فهذا الإمام البيهقي "571هـ" يقول عن الإمام الأشعري: "فهذا سبب رجوعه عن مذاهب المعتزلة إلى مذاهب أهل السنة والجماعة" (4)، فإذاً أهل السنة والجماعة موجودون معروفون بهذا اللقب والأشعري بعد أن ترك الاعتزال رجع إلى مذهبهم، على تفصيل في أحوال الأشعري ليس هذا مكان ذكره. ويقول د. علي سامي النشار من الأشاعرة المعاصرين:" ... لقد شهد القرن الثالث حركة كلامية كبرى حمل لواءها "أهل الحديث" ... ثم ذكر كتب: خلق أفعال العباد، والاختلاف في اللفظ، وكتب الدارمي، قال: وتبين هذه الكتب ظهور الاتجاه الكلامي لدى أصحاب الحديث، وأن أصحاب الحديث وجدوا كفرقة مقابلة للجهمية وللمعتزلة، وللخوارج، وأنهم سموا باسم "أهل الحديث وأهل السنة" (5). ويقول الأستاذ أحمد أمين: "واسم أهل السنة كان يطلق على جماعة من قبل الأشعري والماتريدي، وقد حكى لنا أن جماعة كان يطلق عليها أهل السنة، وكانت تناهض المعتزلة قبل الأشعري. ولما جاء الأشعري وتعلم على المعتزلة اطلع أيضاً على مذاهب أهل السنة، وتردد كثيراً في أي الفريقين أصح، ثم أعلن انضمامه إلى أهل السنة وخروجه على المعتزلة" (6).   (1) ((إسلام بلا مذاهب)) (ص: 496)، ط. شركة ومطبعة مصطفى الحلبي بمصر. (2) ((إسلام بلا مذاهب)) (ص: 381)، ط. شركة ومطبعة مصطفى الحلبي بمصر. (3) ((إسلام بلا مذاهب)) (ص: 472)، ط. شركة ومطبعة مصطفى الحلبي بمصر. (4) انظر: ابن عساكر أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله، ((تبيين كذب المفتري))، "نشر دار الفكر، ط. الثانية 1399هـ"، (ص: 43). (5) انظر: كتابه ((نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام)) (1/ 261). (6) انظر كتابه: ((ظهر الإسلام)) (4/ 96). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 المطلب الثاني: معنى أهل السنة أهل الشيء هم أخص الناس به، يقال في اللغة: أهل الرجل: أخص الناس به وأهل البيت سكانه، وأهل الإسلام من يدين به، وأهل المذهب من يدين به (1). فمعنى أهل السنة؛ أي: أخص الناس بها وأكثرهم تمسكاً بها واتباعاً لها قولاً وعملاً واعتقاداً. وهذا اللفظ أصبح مصطلحاً يطلق ويراد به أحد معنيين: المعنى الأول: معنى عام يدخل فيه جميع المنتسبين إلى الإسلام عدى الرافضة، فيقال: هذا رافضي، وهذا سني، وهذا هو اصطلاح العامة؛ "لأن الرافضة هم المشهورين عندهم بمخالفة السنة فجمهور العامة لا تعرف ضد السني إلا الرافضي، فإذا قال أحدهم: أنا سني فإنما؛ معناه: لست رافضياً" (2).وقد ورد عن بعض السلف ما يشير إلى هذا المعنى فقد قيل لسفيان الثوري: يا أبا عبدالله! وما موافقة السنة؟ قال: تقدمة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما (3)، فالسني عنده من قدمهما على غيرهما في الخلافة والفضل، ومن لم يقدمهما فليس بسني، ولم يؤخرهما عن مرتبتهما إلا الرافضة. المعنى الثاني: معنى أخص وأضيق من المعنى العام، ويراد به أهل السنة المحضة الخالصة من البدع، ويخرج به سائر أهل الأهواء والبدع، كالخوارج والجهمية والمرجئة، والشيعة وغيرهم من أهل البدع. يبين شيخ الإسلام ابن تيمية معنى لفظ "أهل السنة" فيقول: "فلفظ "أهل السنة" يراد به من أثبت خلافة الثلاثة، فيدخل في ذلك – أي: "في لفظ أهل السنة – جميع الطوائف إلا الرافضة، وقد يراد به: أهل الحديث والسنة المحضة فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى ويقول: القرآن غير مخلوق وأن الله يرى في الآخرة، ويثبت القدر، وغير ذلك من الأمور المعروفة عند أهل الحديث والسنة" (4).ومن خالف شيئاً من ذلك عد من أصحاب البدع، ولم يكن سنياً، بذا حكم إمام أهل السنة دون منازع الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، حيث قال في مقدمة كتاب (السنة): "هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر، وأهل السنة المتمسكين بعروتها المعروفين بها المقتدي بهم فيها من لدن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وأدركت عليها من علماء الحجاز والشام وغيرهما عليها فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مخالف مبتدع وخارج عن الجماعة زايل عن منهج السنة وسبيل الحق" (5). ثم ذكر اعتقاد أهل السنة الذي ساق شيخ الإسلام ابن تيمية فيما تقدم طرفاً منه. فأهل السنة إذن هم: 1) أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم تلقوا عنه مباشرة، أمور الاعتقاد كما تلقوا أمور العبادة، فهم أعرف الخلق بسنة نبيهم واتبع لها ممن جاء بعدهم. 2) التابعون لهم بإحسان، المقتفون آثارهم في كل عصر ومصر، وعلى رأسهم أهل الحديث والأثر، الذين نقلوا إلينا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وميزوا صحيحها من سقيمها، وعملوا بها واعتقدوا ما دلت عليه. يقول الإمام ابن حزم في بيان من هم أهل السنة:"وأهل السنة الذين نذكرهم أهل الحق ومن عداهم فأهل البدعة فإنهم: الصحابة رضي الله عنهم، وكل من سلك نهجهم من خيار التابعين رحمة الله عليهم، ثم أصحاب الحديث ومن تبعهم من الفقهاء جيلاً فجيلاً إلى يومنا هذا، ومن اقتدى بهم من العوام في شرق الأرض وغربها رحمة الله عليهم" (6).   (1) ابن فارس، ((معجم مقاييس اللغة)) (1/ 150)، وابن منظور، ((لسان العرب)) (11/ 29). (2) ابن تيمية، ((الفتاوى)) (3/ 356). (3) اللالكائي، ((شرح أصول أهل السنة)) (1/ 152). (4) ((منهاج السنة النبوية))، "بتحقيق محمد رشاد سالم، طبعة المدني – القاهرة"، (2/ 163). (5) ((السنة)) (ص: 33 – 34))، ضمن مجموع مع كتاب الرد على الجهمية. (6) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل))، "ط. الثانية 1395. نشر: دار المعرفة – بيروت" (2/ 113). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 المطلب الثالث: تنازع الطوائف هذا اللقب لما كان أهل السنة، هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن اتبعهم على ما كانوا عليه من الهدى. ووجد كثير من الطوائف أن النجاة لا تكون إلا لمن كان على ما كانوا عليه لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث افتراق الأمة: (( ... وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)) (1). لما كان الأمر كذلك ادعى كثير من الطوائف والفرق أنهم هم الفرقة الناجية وأنهم أهل الحق، وتسمى بعضهم باسم "أهل السنة".يقول شيخ الإسلام رحمة الله عليه – في معرض كلامه عن الفرق المشار إليها في الحديث-: "فكثير من الناس يخبر عن هذه الفرق بحكم الظن والهوى، فيجعل طائفته والمنتسبة إلى متبوعه الموالية له، هم أهل السنة والجماعة، ويجعل من خالفها هم أهل البدع،- قال-: وهذا ضلال مبين، فإن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة بل كل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن جعل شخصاً غير رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة، ومن خالفه كان من أهل البدع، كما يوجد ذلك في الطوائف من أتباع أئمة الكلام في الدين وغير ذلك، كان من أهل البدع والضلالة والتفرق" (2). فكل طائفة تدعي أنها الفرقة الناجية، وأن الحق معها. فالشيعة الإمامية الرافضة:   (1) رواه الترمذي (2641) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما, وقال: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه، قال الحافظ العراقي في ((المغني)) (3/ 284): أخرجه من حديث عبد الله بن عمرو وحسنه, ولأبي داود من حديث معاوية, وابن ماجه من حديث أنس وعوف ابن مالك, (وهي الجماعة) وأسانيدها جياد, وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (2) ((الفتاوى)) (3/ 346 - 317). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 تجعل نفسها الفرقة الناجية دون غيرها، وأنها هي المشار إليها في حديث الافتراق. فقد نقل ابن المطهر الحلي عن شيخه النصير الطوسي أنه سئل عن المذاهب فقال: "بحثنا عنها وعن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة منها ناجية والباقي في النار)). وقد عين عليه السلام الفرقة الناجية والهالكة في حديث آخر حديث متفق عليه، وهو قوله: ((مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف غرق)) (1). فوجدنا الفرقة الناجية هي: الفرقة الإمامية؛ لأنهم باينوا جميع المذاهب، وجميع المذاهب قد اشتركت في أصول العقائد" (2).وقد رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رداً متيناً مطولاً من ثمانية أوجه (3) فأفاد وأجاد رحمة الله عليه. وقد بين في "الوجه الخامس" أن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الافتراق عن الفرقة الناجية وهي ((من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)) (4). وفي رواية: ((هم الجماعة)) (5) , يناقض قول الإمامية ويقضي أنهم خارجون عن الفرقة الناجية، خارجون عن جماعة المسلمين يكفرون أو يفسقون أئمة الجماعة؛ كأبي بكر وعمر، وكذلك يكفرون أو يفسقون علماء وعباد الجماعة. وبين رحمه الله أن الإمامية أبعد الناس عن سير الصحابة، وأجهلهم بحديث رسول الله وأعداهم لأهله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة المسلمين. ثم بين أن الوصف الوارد في الحديث لا ينطبق إلا على أهل السنة؛ لأنهم هم الذين على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وهم أهل الجماعة الذين ما فرقوا دينهم وكانوا شيعاً. ثم بين في "الوجه السادس" (6) أن الحجة التي احتج بها الطوسي على أن الإمامية هي الفرقة الناجية وهي قوله: "لأنهم باينوا جميع المذاهب"، بين رحمه الله أن هذه الحجة كذب في وصفها، كما هي باطلة في دلالتها.   (1) رواه الحاكم في ((المستدرك)) (2/ 373) (3312) والطبراني (3/ 45) (2637) من حديث أبي ذر رضي الله عنه, قال ابن القيسراني في ((ذخيرة الحفاظ)) (2/ 962): (فيه) الحسن بن أبي جعفر متروك الحديث, وقال ابن كثير في ((التفسير)) (7/ 191): إسناده ضعيف, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 171): في إسناد البزار, الحسن بن أبي جعفر الجفري وفي إسناد الطبراني, عبد الله بن داهر وهما متروكان. وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (5247). (2) ابن المطهر الحلي، ((منهاج الكرامة مطبوع مع كتاب منهاج السنة))، (1/ 95) ط. المدني. (3) انظر: ((منهاج السنة)) (3/ 444 – 484)، "ط. جامعة الإمام بتحقيق د. محمد رشاد سالم". (4) رواه الترمذي (2641) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما, وقال: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه، قال الحافظ العراقي في ((المغني)) (3/ 284): أخرجه من حديث عبد الله بن عمرو وحسنه, ولأبي داود من حديث معاوية, وابن ماجه من حديث أنس وعوف ابن مالك, (وهي الجماعة) وأسانيدها جياد, وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (5) رواه أبو داود (4597) , وأحمد (4/ 102) (16979) , والدارمي (2/ 314) , والحاكم (1/ 218). والحديث سكت عنه أبي داود. وقال الحاكم: هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث. ووافقه الذهبي. وصحح إسناده أبو الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (96) – كما أشار لهذا في المقدمة -. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن. وانظر كلامه في ((السلسلة الصحيحة)) (204). (6) ((منهاج السنة)) (3/ 460 - 461). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 وبين أن كثيراً من الفرق قد باينت جميع الفرق الأخرى فيما اختصت به من أقوال فالخوارج باينوا جميع المذاهب فيما اختصوا به من التكفير بالذنوب ومن تكفير علي رضي الله عنه ... وغير ذلك مما انفردوا به من أقوال. وكذلك المعتزلة باينوا جميع الطوائف فيما اختصوا به من "المنزلة بين المنزلتين" وقولهم أن أهل الكبائر يخلدون في النار، وليسوا بمؤمنين ولا كفار، وهكذا جميع الفرق، فلا اختصاص للرافضة بذلك. ثم قال في "الوجه السابع": "إن مباينتهم لجميع المذاهب هو على فساد قولهم أدل منه على صحة قولهم، فإن مجرد انفراد طائفة عن جميع الطوائف لا يدل على أن – قولها – هو الصواب، واشتراك أولئك في قول لا يدل على أنه باطل" (1).وكيف يتخذ الاختلاف والإغراق في الابتعاد عن الآخرين أساساً لنجاة؟ ولو اتبعنا هذا الأساس لكان الإغراق في الإلحاد أساساً للنجاة، بل لكان التخريف أو تخيلات المجانين أكثر قرباً للنجاة؛ لأنها أكثر ابتعادا عن أراء الأخرين (2).وأما استدلاله بحديث "سفينة نوح" فهو يتوقف على صحة الحديث، والحديث ضعيف كما ذكر ذلك الذهبي، والألباني (3)، ولا عبرة بقول الطوسي: "أنه حديث صحيح متفق عليه" فليس هو من أهل هذا الشأن. والمعروف أنه من قول الإمام بلفظ "السنة مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخالف عنها هلك".قال شيخ الإسلام في إيضاح معناه: "وهذا حق فإن سفينة نوح إما ركبها من صدق المرسلين واتبعهم، وأن من لم يركبها فقد كذب المرسلين، وأتباع السنة هم أتباع الرسالة التي جاءت من عند الله فتابعها بمنزلة من ركب مع نوح في السفينة باطناً وظاهراً، والمتخلف عن أتباع الرسالة بمنزلة المتخلف عن أتباع نوح عليه السلام وركوب السفينة" (4). والمعتزلة: يزعمون أنهم أهل الحق وأنهم الفرقة الناجية، يقول مقدمهم وكبيرهم عمرو بن عبيد للخليفة المنصور – وقد سأله أن يعينه بأصحابه -: "أظهر الحق يتبعك أهله" (5) يريد المعتزلة. فما على المنصور إذا أراد معونتهم إلا أن يرفع رايتهم ويظهر مذهبهم. ويستدلون على أنهم الفرقة الناجية برواية محرفة لحديث الافتراق فقالوا: روى سفيان الثوري عن ابن الزبير عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أبرها وأتقاها الفئة المعتزلة))، ولعلهم شعروا بتفردهم بهذه الرواية فاتهموا سفيان بأنه قال لأصحابه: "تسموا بهذا الاسم لأنكم اعتزلتم الظلمة، فقالوا: سبقك بها عمرو بن عبيد وأصحابه – قالوا -: فكان سفيان بعد ذلك يروي: واحدة ناجية" (6).   (1) ((منهاج السنة)) (3/ 466). (2) د. عبدالحليم محمود، ((التفكير الفلسفي في الإسلام)) "ط. الثالثة 1387هـ، نشر: مكتبة الأنجلو المصرية"، (ص: 99). (3) رواه الحاكم في ((المستدرك)) (2/ 373) (3312) والطبراني (3/ 45) (2637) من حديث أبي ذر رضي الله عنه, قال ابن القيسراني في ((ذخيرة الحفاظ)) (2/ 962): (فيه) الحسن بن أبي جعفر متروك الحديث, وقال ابن كثير في ((التفسير)) (7/ 191): إسناده ضعيف, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 171): في إسناد البزار, الحسن بن أبي جعفر الجفري وفي إسناد الطبراني, عبد الله بن داهر وهما متروكان. وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (5247). (4) ((الفتاوى)) (4/ 137). (5) الخطيب البغدادي: ((تاريخ بغداد)) (12/ 168). (6) ابن المرتضى أحمد بن يحيى، ((المنية والأمل)) (ص: 2 - 3). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 ولهؤلاء نقول: من مذهبكم عدم الاحتجاج بأحاديث الآحاد في باب الاعتقاد، فكيف سوغتم لأنفسكم الاحتجاج بهذا الحديث مع اتهامكم راوية سفيان بأنه تصرف في الحديث بوضع عبارة مكان أخرى؟ ولكن، لا غرابة فإن إحدى علامات أهل البدع: أنهم يأخذون من السنة ما وافق أهواءهم، صحيحاً كان أو ضعيفاً، ويتركون ما لم يوافق أهواءهم من الأحاديث وإن صح وأخرجه الشيخان! (1) ". ويزعم المعتزلة أنهم هم المتمسكون بالسنة والجماعة دون غيرهم مع قولهم بعدم حجية حديث الآحاد. فقد جاء في كتاب (فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة) (2) قولهم: " ... ومعنى السنة إذا أضيفت إليه صلى الله عليه وسلم؛ هو ما أمر به ليدام عليه، أو فعله ليدام الاقتداء به، فما هذا حاله يعد سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يقع هذا الاسم على ما ثبت أنه قاله أو فعله، فأما ما ينقل من أخبار الآحاد فإن صح فيه شروط القبول، يقال فيه: أنه سنة على وجه التعارف؛ لأنا إذا لم نعلم ذلك القول أو ذلك الفعل فالقول بأنه سنة يقبح؛ لأنا لا نأمن أن نكون كاذبين في ذلك، وعلى هذا الوجه لا يجوز في العقل أن يقول في خبر الواحد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعاً، وإنما يجوز أن يقال: روي عنه صلى الله عليه وسلم. وأما الجماعة: فالمراد به ما أجمعت عليه الأمة، وثبت ذلك من إجماعها، فأما ما لم يثبت مما لم يجز التمسك به فهو بمنزلة أخبار الآحاد، وإذا صح ما ذكرناه فالمتمسك بالسنة والجماعة هم أصحابنا والحمد لله دون هؤلاء المشنعين". وهكذا سائر الطوائف والفرق، فما من طائفة إلا وتدعي أنها الناجية، وأن الحق معها، وتستكره النصوص على تأييد مذهبها، كما فعلت الشيعة والمعتزلة، كما أوضحنا ذلك. الأشاعرة: لا يفتأ أئمة الأشاعرة يذكرون في كتبهم أنهم أهل السنة وأهل الحق، وأنهم هم الطائفة المنصورة والفرقة الناجية ... وهذا أمر لا يخفى على من قرأ كتبهم، وأنا أذكر فقط نماذج من كلامهم في ذلك على مر العصور: - كلام أبي بكر الباقلاني "ت 403هـ"، وهو من تلاميذ أبي الحسن الأشعري: قال مثلاً في صفة الكلام التي خالفوا فيها السلف من أهل الحديث والسنة: "اعلم أن الله تعالى متكلم، له كلام عند أهل السنة والجماعة، وأن كلامه قديم ليس بمخلوق ولا مجعول ولا محدث بل كلامه قديم صفة من صفات ذاته، كعلمه وقدرته وإرادته ونحو ذلك" (3). ثم قال في موطن آخر: "فإن قالوا: أليس تقولون إن كلام الله مسموع بحاسة الآذان على الحقيقة؟ قلنا: بلى، فإن قالوا: فليس يجوز أن يكون مسموعاً على الحقيقة؛ إلا ما كان صوتاً وحرفاً. فالجواب: أن هذا جهل عظيم، وذلك أن أهل السنة والجماعة قد أجمعوا على أن الله تعالى يرى بالأبصار على الحقيقة، ولا يجوز أن يرى على الحقيقة إلا ما كان جسماً وجوهراً وعرضاً، أفتقولون إن الله تعالى، جسم وجوهر وعرض، فإن قالوا: نعم فقد أقروا بصريح الكفر والتشبيه، وإن قالوا: يرى وليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، ولا يشبه شيئاً من المرئيات، قلنا: فكذلك كلامه قديم ليس بمخلوق ومسموع على الحقيقة، وليس بحرف ولا صوت" (4).   (1) انظر: ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 628 - 629). (2) لأبي القاسم البلخي، والقاضي عبدالجبار، والحاكم الجشمي (ص: 185 - 186)، "نشر: الدار التونسية للنشر". (3) انظر: ((الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 108)، "ط. الثانية 1382هـ. نشر: مؤسسة الخانجي". (4) ((الإنصاف)) (ص: 136). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 فانظر كيف جعل هذا القول الذي هو من خصائص المذهب الكلابي، هو قول أهل السنة والجماعة، مع أن إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد ابن حنبل رحمة الله عليه، وسائر أئمة أهل الحديث المعروفين بالإمامة في السنة، قالوا بإثبات الحرف والصوت في كلام الله. وهذا يدل على أن الباقلاني يطلق اسم "أهل السنة والجماعة" على طائفة الأشعرية الكلابية، وهكذا كرر هذا الإطلاق في صفحات "144، 161، 162، 168" من كتاب (الإنصاف). - كلام البغدادي "ت 429":قال: "فأما الفرقة الثالثة والسبعون، فهي: أهل السنة والجماعة من فريقي الرأي والحديث، دون من يشري لهو الحديث، وفقهاء الفريقين وقراؤهم ومحدثوهم، ومتكلموا أهل الحديث منهم، كلهم متفقون على مقالة واحدة في توحيد الصانع وصفاته، وعدله ... مع قبول ما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم" (1).وقال في بيان أنهم الفرقة الناجية: "ولسنا نجد اليوم من فرق الأمة من هم على موافقة الصحابة رضي الله عنهم غير أهل السنة والجماعة من فقهاء الأمة ومتكلميهم الصفاتية، دون الرافضة، والقدرية ... " (2).ثم لما بين الأصول التي اجتمعوا عليها ذكرها على منهج الأشاعرة الكلابية وفيها الكثير من المخالفة لمنهج السلف (3).كقوله إن حديث الآحاد يوجب العلم دون العلم، وكقوله في نفي الحركة عن الله عز وجل، واقتصاره على إثبات سبع صفات لله عز وجل (4)، وكل ذلك على مذهب الأشاعرة والكلابية، أما أهل السنة من سلف الأمة فقولهم في كل ذلك على خلاف ما ذكر. - كلام أبي المظفر الإسفرائيني "ت 471هـ":قال: "والفرقة الثالثة والسبعون هي الناجية، وهم: أهل السنة والجماعة من أصحاب الحديث والرأي وجملة فرق الفقهاء ... " (5).ثم لما ذكر اعتقادهم ذكر ما عليه الأشاعرة من نفي الاستواء، والحروف والصوت عن كلام الله عز وجل، وتأويل صفة الرحمة وغيرها من الصفات الفعلية وغير ذلك مما هو مخالف لعقيدة السلف ومصادم للكثير من النصوص الصحيحة الصريحة (6). - كلام الجويني "ت 478هـ":قال في مقدمة كتابه (لمع الأدلة): "هذا وقد استدعيتم أرشدكم الله عز وجل ذكر لمع من الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة ... "، ثم ذكر عقيدة الأشاعرة، كقولهم في كلام الله أنه كلام نفسي ليس بحروف ولا صوت (7).   (1) انظر: ((الفرق بين الفرق))، "بتحقيق محمد محيى الدين عبدالحميد، نشر: دار المعرفة – بيروت"، (ص: 26). (2) انظر: ((الفرق بين الفرق))، "بتحقيق محمد محيى الدين عبدالحميد، نشر: دار المعرفة – بيروت"، (ص: 318). (3) انظر: ((الفرق بين الفرق))، "بتحقيق محمد محيى الدين عبدالحميد، نشر: دار المعرفة – بيروت"، (ص: 325، 333، 334). (4) انظر: ((الفرق بين الفرق))، "بتحقيق محمد محيى الدين عبدالحميد، نشر: دار المعرفة – بيروت"، (ص: 325). (5) انظر: ((التبصير في الدين))، "بتحقيق كمال يوسف الحوت، ط. الأولى نشر: عالم الكتب"، (ص: 25). (6) انظر: ((التبصير في الدين))، "بتحقيق كمال يوسف الحوت، ط. الأولى نشر: عالم الكتب"، (ص: 158 - 167). (7) ((لمع الأدلة))، "بتحقيق د. فوقية حسين محمود، ط. الأولى 1385هـ، نشر: المؤسسة المصرية العامة للتأليف"، (ص: 75، 92). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 - كلام الغزالي "ت 505هـ".قال في كتابه (قواعد العقائد) بعد أن سرد مسائل الاعتقاد على منهج الأشاعرة – كقولهم بالنفي المفصل في صفات الله -، فقال: "وإنه ليس بجسم مصور ولا جوهر محدود مقدر ... وأنه ليس بجوهر ولا بعرض ... فكل ذلك مما وردت به الأخبار وشهدت به الآثار، فمن اعتقد جميع ذلك موقناً به كان من أهل الحق وعصابة السنة، وفارق رهط الضلال وحزب البدعة" (1).وقال في "الاقتصاد في الاعتقاد": "الحمد لله الذي اجتبى من صفوة عباده عصابة الحق وأهل السنة" (2). - كلام الرازي "ت 606هـ":قال في كتابه (معالم أصول الدين): "قال الأكثرون من أهل السنة: كلام الله واحد ... " (3). وهذا قول الكلابية والأشاعرة وليس بقول أهل السنة والحديث. - كلام أحمد بن موسى الخيالي "ت 862هـ": قال في "حاشيته على العقائد النسفية": "الأشاعرة هم أهل السنة والجماعة. هذا هو المشهور في ديار خراسان والعراق والشام، وأكثر الأقطار، وفي ديار ما وراء النهر يطلق ذلك على الماتريدية أصحاب الإمام أبي منصور ... " (4). - كلام إبراهيم بن محمد البيجوري "ت 1277هـ":قال في (شرح جوهرة التوحيد) (5): " ... وأما عند أهل السنة فالحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع". وهذا قول الأشاعرة وليس هو قول السلف من أهل السنة. - كلام الدكتور محمد سعيد رمضان "من الأشاعرة المعاصرين": قال في معرض كلامه على مسألة كلام الله عز وجل: "ثم إن المعتزلة فسروا هذا الذي أجمع المسلمون على إثباته لله تعالى، بأنه أصوات وحروف يخلقها الله في غيره كاللوح المحفوظ وجبريل، ومن المعلوم أنه حادث وليس بقديم، ثم إنهم لم يثبتوا لله تعالى شيئاً آخر من وراء هذه الأصوات والحروف تحت اسم: الكلام.- قال-: أما جماهير المسلمين، أهل السنة والجماعة، فقالوا: إننا لا ننكر هذا الذي تقوله المعتزلة، بل نقول به ونسميه كلاماً لفظياً ونحن جميعاً متفقون على حدوثه وأنه غير قائم بذاته تعالى، من أجل أنه حادث، ولكنا نثبت أمراً وراء ذلك وهو الصفة القائمة بالنفس ... " (6). وهذا القول من خصائص المذهب الكلابي الذي عليه الأشاعرة، ولم يوافقهم عليه أحد من أئمة الحديث وأهل السنة من سلف هذه الأمة. فجعل الدكتور البوطي أصحاب هذا المعتقد في كلام الله هم أهل السنة. - كلام وهبي سليمان غاوجي الألباني "من الأشاعرة المعاصرين": قال: "الفرق في شأن صفات الله تعالى ثلاث: أهل السنة والجماعة، وهم المثبتون لله تعالى على صفة الكمال ورد بها الدليل القطعي ... " (7). ثم ذكر أقسام الصفات على منهج الأشاعرة. وهكذا نرى الأشاعرة يعلنون منذ نشأتهم وإلى اليوم أنهم هم أهل السنة، وأنهم الفرقة الناجية دون غيرهم. ونراهم ينصون على سبب استحقاقهم هذا اللقب، وكونهم الفرقة الناجية. وهو: أتباعهم لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة أصحابه من بعده. فيقول البغدادي: "ولسنا نجد اليوم من فرق الأمة من هم على موافقة الصحابة رضي الله عنهم غير أهل السنة والجماعة، من فقهاء الأمة ومتكلميهم الصفاتية ... " (8).وقال قبل ذلك عندما ذكر الفرقة الثالثة والسبعين وأنهم أهل السنة والجماعة وذكر مما يجمع هذه الفرقة: "والإقرار بتوحيد الصانع، ... مع قبول ما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم" (9).ويقول الإسفراييني: في سبب نجاة أهل السنة وهو متابعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم: "وليس في فرق الأمة أكثر متابعة لأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكثر تبعاً لسنته من هؤلاء، ولهذا سموا: أصحاب الحديث: وسموا بأهل السنة والجماعة ... " (10). إذن أتباع ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، هو الضابط لاستحقاق لقب "أهل السنة" والفوز بالنجاة. وهذا ضابط مهم لمعرفة أهل السنة من غيرهم. فهل التزم الأشاعرة بذلك وحققوا الاتباع كما ادعوا؟ أم أنهم قدموا على السنة غيرها، وحكموا فيها العقل، وصرفوها عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات ومستنكرات التأويلات؟ ذلك ما سيتضح لنا فيما بعد إن شاء الله. وقبل ذلك علينا أن نعرف ما هو الطريق لمعرفة السنة، وبأي شيء تدرك؟   (1) ((قواعد العقائد)) (ص: 71) , بتحقيق موسى محمد علي، ط. الثانية 1405، نشر: عالم الكتب – بيروت"، (ص: 71)، وانظر: (ص: 51). (2) (ص: 3)، "ط. الأولى 1403هـ، نشر: دار الكتب العلمية – بيروت". (3) ((معالم أصول الدين))، "بتقديم طه عبدالرؤوف سعد، نشر: مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة"، (ص: 65). (4) المرتضى الزبيدي: ((إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين)) (2/ 6)، "نشر: دار الفكر". (5) ((تحفة المريد)) (ص: 30 - 31). (6) ((كبرى اليقينيات الكونية)) (ص: 125)، "نشر: دار الفكر – بيروت، 1405هـ مصور عن طبعة 1982م". (7) ((أركان الإيمان)) (ص: 25). (8) ((الفرق بين الفرق)) (ص: 318). (9) ((الفرق بين الفرق)) (ص: 26). (10) ((التبصير في الدين)) (ص: 185). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 المطلب الرابع: طريق معرفة السنة وإدراكها إذا كانت السنة هي ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم فلا شك أنه لا سبيل إلى معرفتها إلا بالنقل لا غير. بالنقل الصحيح نعرف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سبيل للعقل إلى ذلك البتة. وبالاتباع لما جاء به النقل من ذلك تدرك السنة. يقول إمام أهل السنة من غير منازع الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه "ت 241هـ": "وليس في السنة قياس، ولا تضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول، والأهواء، إنما هي الاتباع، وترك الهوى" (1).ويقول الإمام أبو عبدالله محمد بن أبي زمنين "324 – 399هـ": "اعلم رحمك الله أن السنة دليل القرآن، وأنها لا تدرك بالقياس، ولا تؤخذ بالعقول، وإنما هي في الاتباع للأئمة، ولما مشى عليه جمهور هذه الأمة" (2).ويقول الإمام أبو نصر السجزي "ت 444هـ": "ولا خلاف بين العقلاء في أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تعلم بالعقل، وإنما تعلم بالنقل" (3).وقال: " ... فكل مدع للسنة يجب أن يطالب بالنقل الصحيح بما يقوله فإن أتى بذلك علم صدقه، وقبل قوله، وإن لم يتمكن من نقل ما يقوله عن السلف، علم أنه محدث زائغ" (4).وقال أبو المظفر السمعاني "489هـ": " ... فلابد من تعرف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وليس طريق معرفتنا إلا النقل، فيجب الرجوع إلى ذلك ... " (5).أما شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه يقول في هذا الصدد: " ... إن السنة التي يجب اتباعها، ويحمد أهلها، ويذم من خالفها، هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور الاعتقاد، وأمور العبادات، وسائر أمور الديانات، وذلك إنما يعرف بمعرفة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه في أقواله وأفعاله، وما تركه من قول، وعمل، ثم ما كان عليه السابقون والتابعون لهم بإحسان، وذلك في دواوين الإسلام المعروفة" (6). هذا كلام أهل العلم من أئمة أهل السنة يبين في جلاء أن السنة لا سبيل لمعرفتها وإدراكها إلا بالنقل الثابت الصحيح، والاتباع المحض لما ثبت منها. فما هو موقف الأشاعرة، من النقل؟ الذي هو السبيل الوحيد. لمعرفة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ذلك ما سنقف عليه في الفقرة التالية.   (1) اللالكائي، ((شرح أصول أهل السنة)) (1/ 156 - 158)، وابن الجوزي ((مناقب الإمام أحمد)) (171 - 172). (2) ((أصول السنة)) (1/ 20)، "بتحقيق محمد إبراهيم هارون"، على الآلة الكاتبة رسالة ماجستير. (3) ((الرد على من أنكر الحرف والصوت))، (ص: 99)، "ط. الأولى، 1413هـ". (4) ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (ص: 11). (5) ((الانتصار لأهل الحديث، ضمن كتاب: صون المنطق للسيوطي)) (ص: 165). (6) ((الوصية الكبرى))، "بتحقيق أبي عبدالله محمد بن حمد الحمود، ط. الأولى 1407هـ، نشر: مكتبة ابن الجوزي – الإحساء" (ص: 18). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 المطلب الخامس: موقف الأشاعرة من النقل عموماً والسنة خصوصاً إذا تأملنا كتب القوم، نجدهم يجعلون العقل هو الأساس، والنقل تبعاً له، ولا يخلو النقل مع العقل من إحدى الحالات الآتية: 1) إما أن يكون النقل قطعي الثبوت كالمتواتر مثلاً، موافقاً للعقل، فهذا يقبلونه، لموافقته مقتضى العقل وكونه موجباً للعمل. 2) وإما أن يكون قطعياً، مخالفاً للعقل. وله حالتان: 1 - أن يمكن تأويله بما يوافق العقل فيجب تأويله، ويقبل النقل ويؤول. 2 - أن لا يمكن تأويله. وهذا يرد لمخالفته العقل، والعقل مقدم على النقل عندهم. 3) وإما أن يكون النقل ليس بقطعي – عندهم – كخبر الآحاد وله ثلاث حالات: 1 - أن يكون موافقاً لمقتضى العقل: فهذا يقبل لموافقته العقل لا لذاته. 2 - أن يكون مخالفاً لمقتضى العقل، لكن يمكن تأويله بما يوافق مقتضى العقل. فهذا يشتغل بتأويله على سبيل التبرع، وإلا فليسوا ملزمين بتأويله؛ لأنه ليس يجب تأويل إلا ما كان موجباً للعلم وهو المتواتر، أما الآحاد فليس كذلك. 3 - أن يكون مخالفاً لمقتضى العقل ولا يمكن تأويله، فهذا حكمه الرد بعدم إيجابه للعلم أصلاً، وعدم إمكان تأويله. هذه خلاصة موقف القوم من النقل، وإليك كلامهم من كتبهم في بيان موقفهم من النقل، مراعياً الترتيب الزمني لنقف على تطور موقفهم: 1) كلام ابن فورك "ت 406هـ":قال: " ... وأما ما كان من نوع الآحاد، مما صحت الحجة به، من طريق وثاقة النقلة وعدالة الرواة، واتصال نقلهم، فإن ذلك وإن لم يوجب العلم والقطع فإنه يقتضي غالب الظن وتجويز حكم ... " (1). 2) كلام البغدادي "ت 429هـ": قال: "والأخبار عندنا ثلاثة أقسام: متواتر، وآحاد، ومتوسط، بينهما مستفيض جارٍ مجرى التواتر بعض أحكامه. فالمتواتر: هو الذي يستحيل التواطؤ على وضعه وهو موجب للعلم الضروري بصحة مخبره. وأخبار الآحاد: متى صح إسنادها، وكانت متونها غير مستحيلة، في العقل، كانت موجبة للعمل بها دون العلم، وكانت بمنزلة شهادة العدول عند الحاكم، يلزم الحكم بها في الظاهر وإن لم يعلم صدقهم في الشهادة ... " (2). وقال في شروط قبول خبر الآحاد: "والشرط الثالث: أن يكون متن الخبر مما يجوز في العقل كونه. فإن روى الراوي ما يحيله العقل، ولم يحتمل تأويلاً صحيحا فخبره مردود ... وإن كان ما رواه الراوي الثقة يروع ظاهره في العقول ولكنه يحتمل تأويلاً يوافق قضايا العقول قبلنا روايته وتأولناه على موافقة العقول ... " (3). 3) كلام الجويني "478 هـ": قال في باب القول في "السمعيات": "اعلموا: وفقكم الله تعالى أن أصول العقائد تنقسم إلى ما يدرك عقلاً، ولا يسوغ تقدير إدراكه سمعاً، وإلى ما يدرك سمعاً، ولا يتقدر إدراكه عقلاً، وإلى ما يجوز إدراكه سمعاً وعقلاً ... فإذا ثبتت هذه المقدمة، فيتعين بعدها على كل معتن بالدين واثق بعقله أن ينظر فيما تعلقت به الأدلة السمعية. فإن صادفه غير مستحيل في العقل، وكانت الأدلة السمعية قاطعة في طرقها، لا مجال للاحتمال في ثبوت أصولها ولا في تأويلها، فما هذا سبيله فلا وجه إلا القطع به.   (1) ((مشكل الحديث وبيانه)) (ص: 5)، وانظر أيضاً: (ص: 269). (2) ((أصول الدين)) (ص: 12). (3) ((أصول الدين)) (ص: 23). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 وإن لم تثبت الأدلة السمعية بطرق قاطعة، ولم يكن مضمونها مستحيلاً في العقل، وثبتت أصولها قطعاً، ولكن طريق التأويل يجول فيها، فلا سبيل إلى القطع، ولكن المتدين يغلب على ظنه ثبوت ما دل الدليل السمعي على ثبوته وإن لم يكن قاطعاً. وإن كان مضمون الشرع المتصل بنا مخالفاً العقل، فهو مردود قطعاً بأن الشرع لا يخالف العقل، ولا يتصور في هذا القسم ثبوت سمع قاطع ... " (1).فبين رحمه الله ما يقبل من النقل والسمع وما يرد، وما يتأول، وبين في كتاب (لمع الأدلة) أن النقل يقبل إذا كان مضمونه مما يجوز في العقل فقال: "كل ما جوزه العقل، وورد به الشرع، وجب القضاء بثبوته ... " (2). كما أوضح في (الشامل) أنه لا يتحتم عليهم تأويل كل حديث ورد مخالفاً للعقل، وإنما يجب عليهم تأويل الأحاديث التي توجب العلم وهي المتواترة. بخلاف الآحاد. قال: " ... وليس يتحتم علينا أن نتأول كل حديث مختلف، كيف وقد بينا أن ما يصح في الصحاح من الآحاد لا يلزم تأويله، إلا أن نخوض فيه مسامحين، فإنه إنما يجب تأويل ما لو كان نصاً لأوجب العلم" (3). 4) كلام الغزالي "ت 505هـ": قال بعد أن قسم ما لا يعلم بالضرورة إلى: ما يعلم بدليل العقل دون الشرع. وإلى ما يعلم بالشرع دون العقل، وإلى ما يعلم بهما ... " ... ثم كلما ورد السمع به ينظر: فإن كان العقل مجوزاً له، وجب التصديق به قطعاً، إن كانت الأدلة السمعية قاطعة في متنها ومستندها لا يتطرق إليها احتمال ... وأما ما قضى العقل باستحالته، فيجب تأويل ما ورد السمع به، ولا يتصور أن يشمل السمع على قاطع مخالف للمعقول. وظواهر أحاديث التشبيه أكثرها غير صحيحة، والصحيح منها ليس بقاطع، بل هو قابل للتأويل. فإن توقف العقل في شيء من ذلك فلم يقض فيه باستحالة ولا جواز، وجب التصديق أيضاً لأدلة السمع، فيكفي في وجوب التصديق انفكاك العقل عن القضاء بالإحالة، وليس يشترط اشتماله على القضاء بالجواز" (4). ثم بين أن هذا القسم غير جائز اعتقاد ما جاء به في حق الله تعالى لتوقف العقل فيه، وإنما يجوز في حق الله ما دل العقل على جوازه فقال: "وبين الرتبتين فرق ربما يزل ذهن البليد حتى لا يدرك الفرق بين قول القائل: اعلم أن الأمر جائز، وبين قوله: لا أدري أنه محال أم جائز، وبينهما ما بين السماء والأرض، إذا الأول جائز على الله تعالى، والثاني غير جائز، فإن الأول: معرفة بالجواز. والثاني: عدم معرفة بالإحالة، ووجوب التصديق جائز في القسمين جميعاً" (5). 5) كلام فخر الدين الرازي "ت 606هـ": وضع الرازي ما يسمى بالقانون الكلي، الذي يرجع إليه عند تعارض العقل والنقل – بزعمهم، وإلا فإن النقل الصحيح لا يعارض العقل الصريح – فقال في كتابه الموسوم بـ (أساس التقديس): "الفصل الثاني والثلاثون: في أن البراهين العقلية إذا صارت معارضة بالظواهر النقلية فكيف يكون الحال فيها؟ اعلم أن الدلائل القطعية إذا قامت على ثبوت شيء، ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك، فهناك لا يخلو الحال من أحد أمور أربعة: 1) إما أن يصدق مقتضى العقل والنقل. فيلزم تصديق النقيضين وهو محال. 2) وإما أن يبطل، فيلزم تكذيب النقيضين وهو محال.   (1) ((الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد)) (ص: 358 - 360)، "بتحقيق محمد يوسف موسى وعلي عبد المنعم، ط. 1369هـ. مطبعة السعادة، نشر: مكتبة الخانجي". (2) ((الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد)) (ص: 112). (3) ((الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد)) (1/ 561). (4) ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص: 132 – 133). (5) ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص: 133). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 3) وإما أن يصدق الظواهر النقلية، ويكذب الظواهر العقلية، وذلك باطل؛ لأنه لا يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية، إلا إذا عرفنا بدلائل العقلية إثبات الصانع وصفاته. وكيفية دلالة المعجزة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وظهور المعجزات على محمد صلى الله عليه وسلم، ولو جوزنا القدح في الدلائل العقلية، صار العقل متهماً غير مقبول القول، ولو كان كذلك لخرج أن يكون مقبول القول في هذه الأصول، وإذا لم تثبت هذه الأصول خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة، فثبت أن القدح في العقل لتصحيح النقل، يفضي إلى القدح في العقل والنقل معاً، وأنه باطل. ولما بطلت الأقسام الأربعة، لم يبق إلا أن يقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة بأن هذه الدلائل النقلية إما أن يقال: 1 - إنها غير صحيحة. 2 - أو يقال: إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظواهرها. ثم إن جوزنا التأويل واشتغلنا به على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل، وإن لم يجز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله تعالى. فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات ... " (1). وقال أيضاً في شروط إفادة الدليل اللفظي اليقين: "مسألة: الدليل اللفظي لا يفيد اليقين إلا عند تيقن أمور عشرة: 1) عصمة رواة مفردات الألفاظ. 2) وإعرابها. 3) وتصريفها. 4) وعدم الاشتراك. 5) والمجاز. 6) والنقل. 7) والتخصيص بالأشخاص والأزمنة. 8) وعدم الإضمار والتأخير والتقديم. 9) والنسخ.10) وعدم المعارض العقلي الذي لو كان لرجح عليه، إذ ترجيح النقل على العقل يقتضي القدح في العقل المستلزم للقدح في النقل؛ لافتقاره إليه، وإذا كان المنتج ظنياً فما ظنك بالنتيجة؟ " (2).وبنحو هذا قال الإيجي "750 هـ" أيضاً (3). ومن الأشاعرة المعاصرين يقول د. محمد سعيد رمضان البوطي: "ولكن الصحيح نفسه يرقى في درجات متفاوته، تبدأ من الظن القوي إلى الإدراك اليقيني ... فإذا كانت السلسلة التي توفرت فيها مقومات الصحة مكونة من آحاد الرواة الذين ينتقل الخبر بينهم فهو لا يعدو أن يكون خبراً ظنياً في حكم العقل ... فأما الظني من الخبر الصحيح فلا يعتد به الحكم الإسلامي في بناء العقيدة؛ لأنه يفيد الظن، ولقد نهى القرآن – في مجال البحث في العقيدة – عن أتباع الظن ... " (4). وهكذا نرى الأشاعرة في ماضيهم، وحاضرهم، يقفون من النقل والسمع موقفاً ليس لهم سلف فيه إلا المعتزلة. فقد جعلوا العقل أصلاً يرجع إليه، وجعلوا ما جاءت به الأنبياء تبعاً له، فما وافق عقولهم قبلوه، وما خالفها ردوه، أو تأولوه على مقتضى عقولهم. فهل هذا الموقف الذي اتخذه الأشاعرة من النقل بصفة عامة، ومن السنة بصفة خاصة، يؤهلهم لأن يكونوا هم أهل السنة؟ كيف وقد عد أهل العلم بالسنة من أهم ما يميز أهل السنة من أهل البدعة تقديم النقل والأثر والإحكام إليهما؛ كما يقول أبو المظفر السمعاني:   (1) ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص: 172 – 173). (2) ((محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين)) (ص: 51). (3) ((المواقف في علم الكلام)) (ص: 40). (4) ((كبرى اليقينيات)) (ص: 35 - 36). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 "واعلم أن فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو: مسألة العقل. فإنهم أسسوا دينهم على المعقول، وجعلوا الاتباع والمأثور تبعاً للمعقول. وأما أهل السنة قالوا: الأصل في الدين الاتباع، والعقول تبع، ولو كان أساس الدين على المعقول، لاستغنى الخلق عن الوحي وعن الأنبياء صلوات الله عليهم، ولبطل معنى الأمر والنهي، ولقال من شاء ما شاء ... " (1).وعدوا من أهم علامات أهل السنة، أنهم عند التنازع يدعون إلى التحاكم إليها دون آراء الرجال وعقولها، بينما أهل البدع يدعون إلى التحاكم إلى آراء الرجال ومعقولاتها (2). وهؤلاء – الأشاعرة – يقضي قانونهم الكلي الذي وضعوه، بالرجوع عند الاختلاف إلى العقل كما تقدم. فما جوزه قبل، وما اعتبره مستحيلاً وجب تأويله إن كان قطعي الثبوت، وإن كان ظنياً اشتغل بتأويله على سبيل التبرع، أو رد لعدم حجيته. وبذلك ردوا، وأولوا كثيراً من نصوص الشرع، مما أفضى بهم إلى القول بقول الجهمية تارة، كما في مسألة الإيمان مثلاً، والقدر، وبقول المعتزلة تارة في نفي وتأويل بعض الصفات التي جاء بها السمع الصحيح. ولا نشتغل بذكر ذلك هنا. إذ سنبين موضعهم عند الكلام على وسطية أهل السنة بين طرفي الإفراط والتفريط، في كل باب إن شاء الله تعالى. وإنما أكتفي هنا بالإشارة إلى أن موافقتهم للمعتزلة في قضية العقل والنقل جرتهم إلى موافقتهم في كثير مما خالفوا فيه السلف من أهل السنة والحديث والأثر. وبعد هذا العرض لموقف الأشاعرة من قضية النقل، وما ترتب عليه من مخالفة السلف، وموافقة أهل البدع. يتبين لنا أن دعوى الأشاعرة أنهم أهل السنة دعوى عريضة لم يستطيعوا أن يدللوا عليها، فهم لم يلتزموا بما برروا به اعتبار أنفسهم أهل السنة والفرقة الناجية وهو زعمهم أنهم هم من بين فرق الأمة الذين على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه (3).وأنهم يقبلون ما صح من سنته صلى الله عليه وسلم (4). فإنهم وإن قبلوا شيئاً من سنته صلى الله عليه وسلم، لم يقبلوه لكونه سنة يجب التسليم لها، وإنما قبلوه لكون العقل دل على ما جاءت به السنة، بدليل أنه إذا كان النص وإن صح معارضاً للعقل – في نظرهم – لم يقبل، فإما أن يرد أو يؤول كما تقدم. ومن كان هذا حاله لا يكون من أهل السنة، وإن أصاب السنة كما جاء عن الإمام أحمد، إن صاحب الكلام لا يكون من أهل السنة وإن أصابها (5). لأنه لم يستمد من السنة أو يتلقى منها ويسلم لها، فمن تلقى من السنة واستمد منها فهو من أهلها وإن أخطأ – أي: في فهمها -، ومن تلقى من غيرها، فقد أخطأ وإن وافقها في النتيجة.   (1) ((الانتصار لأهل الحديث، ضمن صوت المنطق للسوطي)) (ص: 182). (2) ابن القيم، ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 627). (3) البغدادي، ((الفرق بين الفرق)) (ص: 318). (4) البغدادي، ((الفرق بين الفرق)) (ص: 26). (5) اللالكائي، ((شرح أصول أهل السنة)) (1/ 157). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 المطلب السادس: سلف الأشاعرة وموقف أهل السنة منهم سلف الأشاعرة: قبل أن أذكر مواقف أهل العلم من ادعاء الأشاعرة أنهم أهل السنة، أرى أن نتعرف على سلف الأشاعرة، وموقف علماء أهل السنة من السلف منهم. تشير المصادر التي بين أيدينا بما فيها كتب الأشاعرة أنفسهم – إلى أن سلفهم في مقالتهم هو عبدالله بن سعيد بن كلاب، وأبو العباس القلانسي، والحارث المحاسبي. يقول الشهرستاني "479 - 548هـ" – بعد أن بين أن جماعة كثيرة من السلف كانوا يثبتون صفات الله عز وجل من غير تفرقة بين الصفات الذاتية منها والصفات الفعلية ... -: "حتى انتهى الزمان إلى عبدالله بن سعيد الكلابي، وأبي العباس القلانسي، والحارث بن أسد المحاسبي. وهؤلاء كانوا من جملة السلف إلا أنهم باشروا علم الكلام، وأيدوا عقائد السلف بحجج كلامية، وبراهين أصوليه، وصنف بعضهم، ودرس بعضهم، حتى جرى بين أبي الحسن الأشعري وبين أستاذه مناظرة في مسائل من مسائل الصلاح والأصلح فتخاصما، وانحاز الأشعري إلى هذه الطائفة، فأيد مقالتهم بمناهج كلامية، وصار ذلك مذهباً لأهل السنة والجماعة، وانتقلت سمة الصفاتية إلى الأشعرية" (1).وكلام الشهرستاني يفيد صراحة؛ أن مذهب الأشعرية إنما تلتمس أصوله لدى جماعة من الصفاتية باشروا الكلام وأثبتوا الصفات من أمثال الكلابي، والقلانسي والمحاسبي (2).ويعتبر الأشاعرة ابن كلاب، إمام أهل السنة في عصره، ويعدونه شيخهم الأول فيقولون: "ذهب شيخنا الكلابي عبدالله بن سعيد إلى ... " (3).كما يذكرونه وكذا القلانسي في كتبهم مشيرين إلى أنهما من أصحابهم (4). فهؤلاء هم سلف الأشعرية، وقد كانوا من جملة السلف، ثم باشروا علم الكلام، فجرهم ذلك إلى مخالفة السلف في بعض ما يقولون وموافقة المعتزلة في بعض أصولهم، وأشهر ما خالفوا فيه السلف ووافقوا فيه المعتزلة مسألة قيام الأفعال الاختيارية بذات الله تعالى. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكان الناس قبل أبي محمد بن كلاب صنفين: فأهل السنة والجماعة: يثبتون ما يقوم بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها. والجهمية من المعتزلة وغيرهم: تنكر هذا، وهذا. فأثبت ابن كلاب: قيام الصفات اللازمة به، ونفى أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها ووافقه على ذلك أبو العباس القلانسي وأبو الحسن الأشعري وغيرهما" (5). فوافق السلف والأئمة من أهل السنة في إثبات الصفات، ووافق الجهمية في نفي قيام الأفعال الاختيارية وما يتعلق بمشيئته وقدرته. فكان في مسلكهم ميل إلى البدع ومخالفة للسنة ومقارفة للكلام مما جعل علماء السلف من أهل السنة يحذرون منهم. وقد كان الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة "164 - 241هـ" من أشدهم في ذلك، فقد هجر الحارث بن أسد المحاسبي لأجل ذلك. كما يقول: أبو القاسم النصر أباذي: "بلغني أن الحارث المحاسبي تكلم في شيء من الكلام فهجره أحمد بن حنبل فاختفى، فلما مات لم يصل عليه؛ إلا أربعة نفر" (6).وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما الحارث المحاسبي فكان ينتسب إلى قول ابن كلاب، ولهذا أمر أحمد بهجره، وكان أحمد يحذر عن ابن كلاب وأتباعه ... " (7).   (1) ((الملل والنحل)) (1/ 93). (2) د. أحمد محمود صبحي. في ((علم الكلام)) (ص: 422). (3) الشهرستاني، ((نهاية الإقدام)) (303). (4) انظر: البغدادي، ((أصول الدين)) (ص: 87، 97، 234)، والجويني ((الإرشاد)) (ص: 119). (5) ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/ 6). (6) الذهبي، ((ميزان الاعتدال)) (1/ 430)، وابن حجر، ((تهذيب التهذيب)) (2/ 153). (7) ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/ 6). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 وقال: "والإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة كانوا يحذرون عن هذا الأصل الذي أحدثه ابن كلاب ويحذرون من أصحابه. وهذا هو سبب تحذير الإمام أحمد عن الحارث المحاسبي ونحوه من الكلابية" (1). وقال الإمام أبو بكر ابن خزيمة "ت 311هـ" لما قال له أبو علي الثقفي: "ما الذي أنكرت أيها الأستاذ من مذاهبنا حتى نرجع عنه؟ قال: ميلكم إلى مذهب الكلابية، فقد كان أحمد بن حنبل من أشد الناس على عبدالله بن سعيد بن كلاب، وعلى أصحابه مثل الحارث وغيره" (2). وكان ابن خزيمة رحمه الله شيخ الإسلام وإمام الأئمة في زمنه، شديداً على الكلابية، منابذاً لهم. فإذا كان هذا موقف إمام أهل السنة أحمد بن حنبل من الكلابية الذين هم سلف الأشاعرة، مع موافقتهم لأهل السنة في أكثر أقوالهم كما يدل عليه قول أبي الحسن الأشعري: "فأما أصحاب عبدالله بن سعيد القطان، فإنهم يقولون بأكثر ما ذكرناه عن أهل السنة ... " (3).وكان ابن كلاب والمحاسبي يثبتون لله صفة العلو، والاستواء على العرش، كما يثبتون الصفات الخبرية كالوجه واليدين وغيرهما (4). فكيف بمتأخري الأشاعرة الذين يؤولون ذلك كله، ويوافقون المعتزلة والجهمية في كثير من أقوالهم، مخالفين بذلك أئمة السلف من أهل السنة بل مخالفين سلفهم ابن كلاب وأصحابه. فما هو موقف علماء أهل السنة منهم؟ وهل أقروهم على دعواهم أنهم أهل السنة؟ ذلك ما ستقف عليه في الصفحات التالية:   (1) ((الفتاوى)) (12/ 368). (2) الذهبي، ((سير أعلام النبلاء))، ترجمة ابن خزيمة (14/ 380). (3) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 350). (4) انظر: ابن تيمية، ((درء التعارض)) (3/ 380 – 381، 5/ 248، 6/ 119). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 المبحث الثاني: موقف علماء أهل السنة من دعوى الأشاعرة أنهم أهل السنة بتتبع كلام أهل العلم من علماء أهل السنة نجد أقوالهم في ذلك متفاوتة ما بين متشدد، دعاه لذلك ما وقف عليه من مخالفة القوم للسنة، وموافقتهم للجهمية والمعتزلة في بعض أقوالهم، فبدعهم وحذر منهم ولم ير استحقاقهم للقب "أهل السنة" الذي يدعونه. وبين متساهل يعدهم من أهل السنة، لما رأى من موافقتهم للسنة في بعض المسائل. وبين هؤلاء وهؤلاء حاول بعض من أهل العلم التدقيق في المسألة، والقول فيها بشيء من التفصيل. وفرق بعض أهل العلم بين متقدميهم ومتأخريهم، فعد المتقدمين منهم أقرب إلى أهل الحديث والسنة، والمتأخرين أقرب إلى الجهمية والمعتزلة. وإليك تفصيل أقوالهم مرتبة حسب التصنيف الذي ألمحنا إليه: القول الأول: قول بعض أهل العلم: أن الأشاعرة ليسوا من أهل السنة وإنما هم أهل كلام، عدادهم في أهل البدعة. وممن ذهب إلى ذلك: الإمام أبو نصر السجزي "ت 444 هـ". حيث يرى أنهم محدثة وليسوا أهل سنة، فيقول في فصل عقده لبيان السنة ما هي؟ وبم يصير المرء من أهلها؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 " ... فكل مدع للسنة يجب أن يطالب بالنقل الصحيح بما يقوله، فإن أتى بذلك علم صدقه، وقبل قوله، وإن لم يتمكن من نقل ما يقوله عن السلف، علم أنه محدث زائغ، وأنه لا يستحق أن يصغى إليه أو ينظر في قوله، وخصومنا المتكلمون معلوم منهم أجمع اجتناب النقل والقول به بل تمحينهم لأهله ظاهر، ونفورهم عنهم بين، وكتبهم عارية عن إسناد بل يقولون: قال الأشعري، وقال ابن كلاب، وقال القلانسي، وقال الجبائي ... ومعلوم أن القائل بما ثبت من طريق النقل الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يسمى محدثاً بل يسمى سنياً متبعاً، وأن من قال في نفسه قولاً وزعم أنه مقتضى عقله، وأن الحديث المخالف لا ينبغي أن يلتفت إليه، لكونه من أخبار الآحاد، وهي لا توجب علماً، وعقله موجب للعلم يستحق أن يسمى محدثاً مبتدعاً، مخالفاً، ومن كان له أدنى تحصيل أمكنه أن يفرق بيننا وبين مخالفينا بتأمل هذا الفصل في أول وهلة، ويعلم أن أهل السنة نحن دونهم، وأن المبتدعة خصومنا دوننا" (1).بل يذهب رحمه الله أبعد من ذلك فيرى أن ضررهم أكثر من ضرر المعتزلة، فيقول: "ثم بلي أهل السنة بعد هؤلاء؛- أي: المعتزلة – بقوم يدعون أنهم من أهل الاتباع، وضررهم أكثر من ضرر المعتزلة وغيرهم وهم أبو محمد بن كلاب وأبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري ... " (2).معللاً رأيه هذا بقوله: "فهؤلاء يردون على المعتزلة بعض أقاويلهم ويردون على أهل الأثر أكثر مما ردوه على المعتزلة" (3). وقوله: " ... لأن المعتزلة قد أظهرت مذهبها ولم تستقف (4) ولم تموه. بل قالت: إن الله بذاته في كل مكان وإنه غير مرئي، وإنه لا سمع له ولا بصر ... فعرف أكثر المسلمين مذهبهم وتجنبوهم وعدوهم أعداء. والكلابية، والأشعرية قد أظهروا الرد على المعتزلة، والذب عن السنة وأهلها، وقالوا في القرآن وسائر الصفات ما ذكرنا بعضه" (5).وممن عدهم من أهل البدع محمد بن أحمد بن خويز منداد المصري المالكي، فقد روى عنه ابن عبدالبر: أنه قال في كتاب (الشهادات) من كتابه (الخلاف)، في تأويل قول مالك، لا تجوز شهادة أهل البدع وأهل الأهواء قال: "أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبداً، ويهجر ويؤدب على بدعته ... " (6). ومن المتأخرين: الشيخ ابن سحمان، والشيخ عبدالله أبو بطين كما سيأتي ذكر قولهما في ذلك في معرض ردهما على السفاريني في اعتباره الأشاعرة والماتريدية من أهل السنة. القول الثاني: قول من عدهم من أهل السنة، ومن هؤلاء. السفاريني "1114 - 1188"؛ حيث قسم أهل السنة إلى ثلاث فرق فقال: "أهل السنة والجماعة ثلاث فرق: 1) الأثرية: وإمامهم أحمد بن حنبل ....   (1) انظر: ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (ص: 100 - 101). (2) انظر: ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (ص: 222). (3) انظر: ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (ص: 223). (4) الاستقفاء: الإتيان من الخلف يقال: اقفيته بالعصا، واستقفيته ضربت قفاه بها. (5) ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (ص: 177، 178). (6) انظر: ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 117) "ط. الثانية 1388، نشر: المكتبة السلفية بالمدينة المنورة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 2) والأشعرية: وإمامهم أبو الحسن الأشعري.3) والماتريدية: وإمامهم أبو منصور الماتريدي" (1).ولم يسلم ذلك له فقد تعقبه في الحاشية بعض أهل العلم ولعله الشيخ ابن سحمان فقال: "هذا مصانعة من المصنف رحمه الله تعالى في إدخاله الأشعرية والماتريدية في أهل السنة والجماعة، فكيف يكون من أهل السنة والجماعة من لا يثبت علو الرب سبحانه فوق سماواته، واستواءه على عرشه ويقول: حروف القرآن مخلوقة، وإن الله لا يتكلم بحرف وصوت، ولا يثبت رؤية المؤمنين ربهم في الجنة بأبصارهم، فهم يقرون بالرؤية ويفسرونها بزيادة علم يخلقه الله في قلب الرائي. ويقول: الإيمان مجرد التصديق وغير ذلك من أقوالهم المعروفة المخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة" (2).كما علق على ذلك أيضاً الشيخ عبدالله بابطين "ت 1282هـ" بقوله: "تقسيم أهل السنة إلى ثلاث فرق فيه نظر، فالحق الذي لا ريب فيه أن أهل السنة فرقة واحدة، وهي الفرقة الناجية التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عنها بقوله: ((هي الجماعة)) (3)، وفي رواية: ((من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)) (4)، ... قال: وبهذا عرف أنهم المجتمعون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولا يكونون سوى فرقة واحدة. – قال -: والمؤلف نفسه يرحمه الله لما ذكر في المقدمة هذا الحديث، قال في النظم: وليس هذا النص جزماً يعتبر ... في فرقة إلا على أهل الأثر يعني بذلك: الأثرية. وبهذا عرف أن أهل السنة والجماعة هم فرقة واحدة الأثرية والله أعلم" (5).وممن ذهب مذهب السفاريني. الأستاذ: أحمد عصام الكاتب، فقال في بيان أهل السنة من هم: "وبالجملة فهم: أهل الحديث، والأشاعرة، والماتريدية؛ لأنهم جميعاً التزموا أسس العقيدة وأصولها ... " (6). ولا يخفى ما في هذا الكلام من تجوز وتساهل، فإن الخلاف بينهم ولا سيما بين أهل الحديث، وبين الأشعرية والماتريدية، هو في أسس العقيدة وأصولها، ومن أهم هذه الأسس مسألة النقل التي تقدم الحديث عنها. ومن هؤلاء: الدكتور/ أحمد محمود صبحي. حيث قال في كتابه (في علم الكلام): " ... ولكن ليس للأشعرية حق الادعاء أنها تعبر عن فرقة أهل السنة والجماعة، وإنما تجاذب هذه الفرقة فريقان:   (1) ((لوامع الأنوار البهية)) (1/ 73). (2) ((لوامع الأنوار البهية)) (1/ 73) حاشية رقم (4). (3) رواه أبو داود (4597) , وأحمد (4/ 102) (16979) , والدارمي (2/ 314) , والحاكم (1/ 218). والحديث سكت عنه أبي داود. وقال الحاكم: هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث. ووافقه الذهبي. وصحح إسناده أبو الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (96) – كما أشار لهذا في المقدمة -. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن. وانظر كلامه في ((السلسلة الصحيحة)) (204). (4) رواه الترمذي (2641) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما, وقال: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه، قال الحافظ العراقي في ((المغني)) (3/ 284): أخرجه من حديث عبد الله بن عمرو وحسنه, ولأبي داود من حديث معاوية, وابن ماجه من حديث أنس وعوف ابن مالك, (وهي الجماعة) وأسانيدها جياد, وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (5) ((لوامع الأنوار البهية)) (1/ 73) حاشية رقم (4) أيضاً. (6) ((عقيدة التوحيد في فتح الباري)) (ص: 86)، "ط. الأولى 1403هـ. نشر: دار الأفاق الجديدة – بيروت". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 1) مذهب السلف من أهل السنة منذ الإمام أحمد بن حنبل إلى أن بلغ به ابن تيمية ذروة التبلور والتماسك.2) مذهب الخلف من أهل السنة وتشارك الصفاتية والأشعرية فيه مذاهب أخرى أهمها الماتريدية" (1). فعد الأشعرية من أهل السنة، وإن كان لا يرى انفرادها بذلك. القول الثالث: قول من يرى أنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه أهل السنة من أبواب الاعتقاد. وممن قال بذلك: الشيخ عبدالعزيز بن باز حيث قال جواباً على قول الصابوني: "أن التأويل لبعض الصفات لا يخرج المسلم عن جماعة أهل السنة". قال: "صحيح في الجملة فالمتأول لبعض الصفات كالأشعرية لا يخرج بذلك عن جماعة المسلمين ولا عن جماعة أهل السنة في غير باب الصفات، ولكنه لا يدخل في جماعة أهل السنة عند ذكر إثباتهم للصفات وإنكارهم للتأويل. فالأشاعرة وأشباههم لا يدخلون في أهل السنة في إثبات الصفات لكونهم قد خالفوهم في ذلك وسلكوا غير منهجهم، وذلك يقتضي الإنكار عليهم وبيان خطئهم في التأويل، وأن ذلك خلاف منهج الجماعة ... كما أنه لا مانع أن يقال: إن الأشاعرة ليسوا من أهل السنة في باب الأسماء والصفات، وإن كانوا منهم في الأبواب الأخرى، حتى يعلم الناظر في مذهبهم أنهم قد أخطأوا في تأويل بعض الصفات وخالفوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان في هذه المسألة، تحقيقاً للحق وإنكاراً للباطل وإنزالاً لكل من أهل السنة والأشاعرة في منزلته التي هو عليها ... " (2).وممن ذهب إلى ذلك الدكتور/ صالح الفوزان، حيث قال في تعقيبه على مقالات الصابوني: "نعم هم – يعني: الأشاعرة من أهل السنة والجماعة في بقية أبواب الإيمان والعقيدة التي لم يخالفوهم فيها، وليسوا منهم في باب الصفات وما خالفوا فيه، لاختلاف مذهب الفريقين في ذلك" (3). القول الرابع: اعتبارهم من أهل الإثبات والتفريق بين أئمتهم المتقدمين ومتأخريهم. وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يرى: أنهم يعدون من أهل الإثبات؛ لكونهم يثبتون بعض الصفات، وأنهم أقرب إلى أهل السنة من باقي الطوائف، على أنه يفرق بين أئمتهم المتقدمين وبين متأخريهم فعد المتقدمين أقرب إلى السلف وأهل السنة، وجعل المتأخرين أقرب إلى الجهمية والمعتزلة، لعظم موافقتهم لهم في كثير من أقوالهم.   (1) ((عقيدة التوحيد في فتح الباري)) (ص: 426 - 427)، "ط. الأولى 1403هـ. نشر: دار الأفاق الجديدة – بيروت". (2) ((تنبيهات هامة على ما كتبه محمد علي الصابوني في صفات الله عز وجل)) (ص: 37 – 38)، "الأولى 1404هـ. نشر الدار السلفية – الكويت". (3) ((البيان لأخطاء بعض الكتاب)) (ص: 28). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 يقول رحمه الله في معرض كلامه عن درجات الجهمية: "وأما الدرجة الثالثة فهم: الصفاتية المثبتون المخالفون للجهمية لكن فيهم نوع من التجهم كالذين يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة، لكن يردون طائفة من أسمائه وصفاته الخبرية، أو غير الخبرية ويتأولونها كما تأول الأولون صفاته كلها، ومن هؤلاء من يقر بصفاته الخبرية الواردة في القرآن دون الحديث كما عليه كثير من أهل الكلام. ومنهم من يقر بالصفات الواردة في الأخبار أيضاً في الجملة لكن مع نفي وتعطيل لبعض ما ثبت بالنصوص وبالمعقول وذلك كأبي محمد بن كلاب، ومن اتبعه وفي هذا القسم يدخل أبو الحسن الأشعري، وطوائف من أهل الفقه والكلام والحديث والتصوف، وهؤلاء إلى أهل السنة المحضة أقرب منهم إلى الجهمية والرافضة والخوارج، لكن انتسب إليهم طائفة هم إلى الجهمية أقرب منهم إلى أهل السنة المحضة، فإن هؤلاء ينازعون المعتزلة نزاعاً عظيماً فيما يثبتونه من الصفات ... ، وأما المتأخرون فإنهم والوا المعتزلة وقاربوهم وقدموهم على أهل السنة والإثبات وخالفوا أوليهم ... " (1).وقال في (شرح الأصفهانية): "وأن الأشعرية أقرب إلى السلف والأئمة وأهل الحديث. – وقال -: عن متأخري الأشاعرة: فإن كثيراً من متأخري أصحاب الأشعري خرجوا عن قوله إلى قول المعتزلة أو الجهمية أو الفلاسفة ... " (2). والذي أراه أنه لابد من التفصيل التالي في اعتبار الأشاعرة من أهل السنة أو إخراجهم عنهم، ولا يطلق عليهم أنهم أهل السنة أو من أهل السنة بإطلاق؛ لأنهم ليسوا على السنة المحضة في كثير من أمور السنة في الاعتقاد، ولا يطلق أنهم ليسوا من أهل السنة؛ لأنهم يدخلون في مسمى أهل السنة بالاعتبارات الآتية: 1) هم من أهل السنة: بالمعنى العام لمصطلح أهل السنة، والذي يدخل فيه جميع المنتسبين إلى الإسلام عدى الرافضة. كما تقدم لنا في مبحث تعريف أهل السنة. 2) وهم من أهل السنة: في أمور العبادات والعمليات؛ لأن السنة تشمل أمور الاعتقاد والعبادة والأعمال. كما تقدم نقل قول شيخ الإسلام ابن تيمية وفيه: "ولفظ السنة في كلام السلف يتناول السنة في العبادات، وفي الاعتقادات ... ". والأشاعرة في أمور العبادات ليس لهم من الأقوال ما يخرجهم عن أهل السنة في الجملة. فبهذه الاعتبارات يعد: الأشاعرة من أهل السنة. ولكن لما كان اسم "أهل السنة" إذا أطلق فهم منه أمور العبادات والاعتقادات جميعاً، بل هو بأمور الاعتقاد أخص، كما قال شيخ الإسلام في معنى "أهل السنة": "وقد يراد به: أهل الحديث والسنة المحضة، فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله، تعالى، ويقول القرآن غير مخلوق، وإن الله يرى في الآخرة، ويثبت القدر وغير ذلك من الأمور المعروفة عند أهل الحديث والسنة" (3). ورأينا الأشاعرة ليسوا على السنة المحضة في كل أبواب الاعتقاد، ومسائله التي ذكرها الإمام أحمد طرفاً منها وبين أن من خالف فيها لا يعد من أهل السنة كما سيأتي فهل نقول: هم من أهل السنة؛ لأنهم وافقوا السنة في بعض أبواب ومسائل العقيدة، أم نسحب عنهم هذا الاسم لمخالفتهم للسنة في بعض المسائل والأبواب؟ هذا مناط الخلاف في كونهم من أهل السنة أو ليسوا من أهلها.   (1) ((رسالة التسعينية ضمن المجلد الخامس من الفتاوى الكبرى)) (ص: 40 - 42)، "ط. كردستان العلمية بالقاهرة سنة 1329". (2) ((شرح الأصفهانية)): بتقديم: حسنين محمد مخلوف (ص: 77 - 78)، نشر: دار الكتب الحديثة بمصر. (3) وانظر: ((منهاج السنة)) (2/ 163). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 فمن تغاضى عن المسائل التي خالفوا فيها أهل السنة، قال هم من أهل السنة؛ لأنهم من أهل السنة في أبواب العبادات ولم يخرجوا عن اعتقاد أهل السنة في كل أبواب الاعتقاد. وعلى هذا يخرج عد السفاريني وغيره إياهم من أهل السنة. ومن رأى أنه لا يستحق اسم "أهل السنة" إلا من وافق السنة في أمور العبادات والاعتقادات، ومن خالف مذاهب أهل السنة وسلف الأمة في شيء من ذلك ولا سيما في أبواب الاعتقاد، فإنه لا يستحق اسم "أهل السنة". قال: ليس الأشاعرة من أهل السنة، وعلى هذا يخرج قول من قال: ليسوا من أهل السنة كالإمام السجزي والشيخ بابطين وغيرهما. وربما وجد ما يؤيد هذا الاتجاه في كلام أئمة السلف، حيث عدد كثير منهم مسائل الاعتقاد التي يكون المرء إذا استكملها من أهل السنة، وإن أخل بشيء منها فليس هو من أهل السنة، وذلك مثل: قول الإمام أحمد: "هذه مذاهب أهل العلم، وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروتها المعروفين بها، المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وأدركت من علماء الحجاز، والشام وغيرهما عليها، فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طعن فيها، أو عاب قائلها فهو مخالف مبتدع وخارج عن الجماعة زايل عن منهج السنة وسبيل الحق، فكان قولهم: أن الإيمان قول وعمل ونية وتمسك بالسنة، والإيمان يزيد وينقص ... " (1). ثم ذكر جملة اعتقاد أهل السنة. وقول علي بن المديني: " .. السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقلها، أو يؤمن بها لم يكن من أهلها: الإيمان بالقدر خيره وشره ثم تصديق الأحاديث والإيمان بها ... إلى آخر الاعتقاد" (2). وقول عبدالله بن المبارك: "أصل اثنين وسبعين هوى: أربعة أهواء فمن هذه الأربعة الأهواء تشعبت الاثنان وسبعون هوى القدرية، والمرجئة والشيعة والخوارج. فمن قدم أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم في الباقين إلا بخير ودعا لهم، فقد خرج من التشيع أوله وآخره. ومن قال: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص فقد خرج من الأرجاء أوله وآخره. ومن قال الصلاة خلف كل بر وفاجر، والجهاد مع كل خليفة، ولم ير الخروج على السلطان بالسيف ودعا لهم بالصلاح فقد خرج من قول الخوارج أوله وآخره. ومن قال: المقادير كلها من الله عز وجل خيرها وشرها يضل من يشاء ويهدي من يشاء؛ فقد خرج من قول القدرية أوله وآخره، وهو صاحب سنة ... " (3).وقول: عبيدالله بن بطة العكبري: "ونحن ذاكرون شرح السنة ووصفها، وما هي في نفسها، وما الذي إذا تمسك به العبد ودان الله به سمى بها واستحق الدخول في جملة أهلها، وما إن خالفه أو شيئاً منه دخل في جملة من عبناه وذكرناه وحذر منه من أهل البدع والزيع فما أجمع على شرحنا له أهل الإسلام وسائر الأمة منذ بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا. – ثم ذكر الإيمان والصفات والقدر وغيرها من أمور الاعتقاد- ... " (4). فكلام هؤلاء الأئمة المعتبرين المقتدى بهم صريح في أن أحداً لا يرقى ولا يتأهل لحمل لقب "صاحب سنة" أو أنه "من أهل السنة"؛ إلا إذا تحققت فيه خصال السنة التي أجمعوا عليها.   (1) ((السنة)) (ص: 33). (2) اللالكائي، ((شرح أصول أهل السنة)) (1/ 165). (3) ابن أبي يعلى، ((طبقات الحنابلة)) (2/ 40). (4) ((الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة)) (175 - 176). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 أما من رأى من أهل العلم أن من خالف السنة في باب من أبواب الاعتقاد ووافقها في باب آخر فهو من أهل السنة فيما وافق فيه السنة، وليس منهم فيما خالفهم فيه، وذلك من باب أن المرء يمدح بقدر ما فيه من موافقة السنة، ويذم بقدر ما فيه من مخالفتها، وأن إخراج قوم من مسمى "أهل السنة"؛ لأنهم خالفوا السنة في باب دون باب، فيه مجانبة للعدل والإنصاف، من رأى هذا الرأي قال مثلاً: الأشاعرة من أهل السنة في أبواب الإيمان والعقيدة التي لم يخالفوهم فيها، وليسوا منهم في باب الصفات وما خالفوا فيه. والذي أميل إليه: أن لا يقال: "الأشاعرة من أهل السنة" إلا بقيد، فيقال: هم من أهل السنة في كذا، في الأبواب التي لم يخالفوا فيها مذهب أهل السنة. لأننا إذا أطلقنا القول بأنهم من "أهل السنة" التبس الأمر وظن من لا دراية له بحالهم أنهم على مذهب أهل السنة والسلف في كل خصال السنة، والواقع أنهم ليسوا كذلك. بل في أقوالهم ما يخالف السنة في كثير من أبواب الاعتقاد. فليسوا على السنة المحضة في كل اعتقاداتهم. وإذا أطلقنا القول بأنهم ليسوا من أهل السنة، كان ذلك حكماً بأنهم خالفوا السنة في كل أبواب الاعتقاد، والأمر ليس كذلك فقد وافقوا أهل السنة في أبواب الصحابة والإمامة وبعض السمعيات. فالعدل والإنصاف يقتضي أن يحكم على كل بما يستحق على ضوء ما رضي لنفسه من قول واختط من نهج. المصدر: وسطية أهل السنة بين الفرق لمحمد باكريم - ص 41 هنالك لبس كبير يقع فيه بعض الناس قديما وحديثا, ذلكم هو دعوى الأشاعرة بأنهم أهل السنة, ووصفهم بذلك من غيرهم – أحيانا – وهذه دعوى عريضة فيها الكثير من الإيهام والخلط. أولا: أن أهل السنة والجماعة: سموا بذلك لأنهم هم الذين على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهم الجماعة الذين ذكرهم رسول الله, صلى الله عليه وسلم. وعليه فأهل السنة: الصحابة والتابعون ومن تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين. ولم يبتدع ولم يغير, ومن غير أو بدل أو أحدث في الدين ما ليس منه وما لم يكونوا عليه في الاعتقاد والسنة فليس منهم فيما غير أو بدل. ثانيا: أما الأشاعرة: فإنهم فرقة كلامية طارئة, نشأت بعد القرون الفاضلة فهي تنتسب إلى الإمام أبي الحسن علي ابن إسماعيل الأشعري المتوفى سنة (324هـ) رحمه الله وكان معتزليا, ثم تحول عن المعتزلة عام (300هـ) تقريبا, وصار يرد عليهم بأساليبهم الكلامية من جانب, وبنصوص الكتاب والسنة من جانب آخر, وبهذا وقف للمعتزلة وتصدى لهم وهو ومن نهج منهجه حتى أفحمهم وهذا عمل جليل يحمد له. وفي هذا الجو نشأ مذهب عقدي تلفيقي مخضرم, لا هو سني خالص ولا كلامي عقلاني خالص, حتى هدأت العاصفة وانجلى غبار المعركة ضد المعتزلة, وقد أبلى فيها الإمام أبو الحسن الأشعري بلاء حسنا, وخرج منتصرا على المعتزلة والجهمية, ومن سلك سبيلهم, وهنا استبصر الأشعري الحق وعرف أنه إنما انتصر بتعويله على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, ونصره للسنة وأهلها, وقوفه مع أئمة السلف الآخرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 ثم تراجع عن مقولاته في الصفات وغيرها التي سلك فيها مسلك التأويل والتعويل على العقل, والكلام في أمور الغيب والصفات والقدر فقرر أن يلحق بركب أهل السنة والجماعة فأبان عن ذلك في كتابه (الإبانة) ووفقه الله للتخلص من التلفيق العقدي فقال:" ..... وقولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب ربنا عز وجل وبسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين, وأئمة الحديث, ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل – نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته – قائلون, ولمن خالف قوله مجانبون ..... " (1). لكن مذهبه الثاني: النقلة من الاعتزال إلى طريقة ابن كلاب الكلامية – بقي مذهبا يحتذى إلى اليوم, لأنه يشبع رغبات الفلاسفة والمتكلمين, وأهل التأويل. فالأشاعرة تنتسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري قبل عودته إلى أهل السنة, وبعد فراره من الاعتزال, وبالرغم من أنه تخلى عن هذا المذهب, وكتب خلافه في (الإبانة) والمقالات, إلا أن الشاعرة لا يزالون يحملونه تبعته ... فالأشاعرة مذهب طارئ ملفق بين أهل السنة وأهل الكلام, لذلك صاروا أقرب الفرق الكلامية إلى أهل السنة. ومن جانب آخر فالأشعرية مرت بأطوار تاريخية في كل طور تزداد الشقة بينهم وبين أهل السنة ولا سيما بعد ما أدخل فيها زعماؤهم اللاحقون تلك الأسس والمعتقدات الدخيلة من: الفلسفة, والتصوف, والمنطق, والكلام, والجدل, حتى صارت عقيدة الأشاعرة مزيجا من تلك الأخلاط. ومن أبرز أولئك: الباقلاني, المتوفى سنة (403هـ) والقشيري المتوفى سنة (465هـ) وأبو المعالي الجويني, المتوفى سنة (478هـ) , وابن العربي المتوفى سنة (543هـ) , والغزالي, المتوفى سنة (505) , والفخر الرازي, المتوفى سنة (606هـ) , والآمدي المتوفى سنة (682هـ) , ونحوهم. غفر الله لنا ولهم فأصبحت الأشاعرة اليوم مزيجا من المشارب والمعتقدات بين أهل السنة والفلسفة والتصوف, وعلم الكلام, لذلك نجدهم أكثر من ينتسبون للسنة وقوعا في المخالفات العقدية والعبادية (أي بدع العقائد والعبادات) وهذا بخلاف أهل السنة في كل زمان, كما نجد أن كثيرا من الأشاعرة (حاليا) منضوون تحت الطرق الصوفية البدعية. وتكثر فيهم بدع القبور والتبرك البدعي بالأشخاص والأشياء, وبدع العبادات والأذكار والموالد ونحوها. وهذه البدع هي التي تميزهم – حاليا – عن أهل السنة بوضوح. فمن خلال الواقع اليوم, يندر أن ترى أحدا من الأشاعرة إلا ولديه شيء من البدع أو الميل إلى ذلك, أو التساهل وعدم الاكتراث بهذه المسألة الخطيرة, بينما العكس فيمن ينتسبون – حقا – لأهل السنة, فإنه يندر أن تجد فيهم من يتعرق بشيء من البدع, إلا عن جهل وهذا قليل جدا بحمد الله. لذا يطلق الأشاعرة المعاصرون تبعا للرافضة وسائر الطوائف غير السنية على أهل السنة في سائر بلاد المسلمين اليوم (وهابية) نسبة إلى الداعي المصلح محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – كما أنهم قديما كانوا يطلقون على أهل السنة (الحنابلة) نسبة لإمام السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وما علموا أن نبذهم باسم هذين الإمامين أحمد بن حنبل ومحمد بن عبد الوهاب تزكية لهم وهو شرف وشهادة لهم بأنهم مقتدون بأئمة الهدى. المصدر: مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة وموقف الحركات الإسلامية المعاصرة منها لناصر العقل – ص54   (1) انظر: ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص: 52). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 إن مصطلح أهل السنة والجماعة يطلق ويراد به معنيان: أ- المعنى الأعم: وهو ما يقابل الشيعة فيقال: المنتسبون للإسلام قسمان: أهل السنة والشيعة، مثلما عنون شيخ الإسلام كتابه في الرد على الرافضي (منهاج السنة) وفيه بين هذين المعنيين (1)، وصرح أن ما ذهبت إليه الطوائف المبتدعة من أهل السنة بالمعنى الأخص. وهذا المعنى يدخل فيه كل من سوى الشيعة كالأشاعرة، لاسيما والأشاعرة فيما يتعلق بموضوع الصحابة والخلفاء متفقون مع أهل السنة وهي نقطة الاتفاق المنهجية الوحيدة كما سيأتي. ب- المعنى الأخص: وهو ما يقابل المبتدعة وأهل الأهواء، وهو الأكثر استعمالاً في كتب الجرح والتعديل، فإذا قالوا عن الرجل أنه صاحب سنة أو كان سنياً أو من أهل السنة ونحوها، فالمراد أنه ليس من إحدى الطوائف البدعية كالخوارج والمعتزلة والشيعة، وليس صاحب كلام وهوى. وهذا المعنى لا يدخل فيه الأشاعرة أبداً، بل هم خارجون عنه وقد نص الإمام أحمد وابن المديني على أن من خاض في شيء من علم الكلام لا يعتبر من أهل السنة وإن أصاب بكلامه السنة حتى يدع الجدل ويسلم للنصوص، فلم يشترطوا موافقة السنة فحسب، بل التلقي والاستمداد منها (2)، فمن تلقى من السنة فهو من أهلها وإن أخطأ، ومن تلقى من غيرها فقد أخطأ وإن وافقها في النتيجة. والأشاعرة – كما سترى – تلقوا واستمدوا من غير السنة ولم يوافقوها في النتائج فكيف يكونون من أهلها. وسنأتي بحكمهم عند أئمة المذاهب الأربعة من الفقهاء فما بالك بأئمة الجرح والتعديل من أصحاب الحديث: 1 - عند المالكية: روى حافظ المغرب وعلمها الفذ ابن عبد البر بسنده عن فقيه المالكية بالمشرق ابن خويز منداد أنه قال في كتاب (الشهادات) شرحاً لقول مالك: لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء، وقال: " أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبداً، ويهجر ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها (3). وروى ابن عبد البر نفسه في الانتقاء عن الأئمة الثلاثة " مالك وأبي حنيفة والشافعي " نهيهم عن الكلام وزجر أصحابه وتبديعهم وتعزيرهم، ومثله ابن القيم في (اجتماع الجيوش الإسلامية) فماذا يكون الأشاعرة إن لم يكونوا أصحاب كلام؟ 2 - عند الشافعية: قال الإمام أبو العباس بن سريج الملقب بالشافعي الثاني، وقد كان معاصراً للأشعري: " لا نقول بتأويل المعتزلة والأشعرية والجهمية والملحدة والمجسمة والمشبهة والكرامية والمكيفة بل نقبلها بلا تأويل ونؤمن بها بلا تمثيل "   (1) (2/ 163) تحقيق محمد رشاد سالم. (2) انظر ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)). اللالكائي، تحقيق الأخ أحمد بن سعد بن حمدان: (1/ 157، 165). (3) ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 117) تحقيق عثمان محمد عثمان، وهو في (2/ 96) من الطبعة المنيرية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 قال الإمام أبو الحسن الكرجي من علماء القرن الخامس الشافعية ما نصه: " لم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ينسبوا إلى الأشعري ويتبرأون مما بنى الأشعري مذهبه عليه وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحوم حواليه على ما سمعت من عدة من المشايخ والأئمة "، وضرب مثالاً بشيخ الشافعية في عصره الإمام أبو حامد الإسفرائيني الملقب "الشافعي الثالث" قائلاً: " ومعلوم شدة الشيخ على أصحاب الكلام حتى ميز أصول فقه الشافعي من أصول الأشعري، وعلق عنه أبو بكر الراذقاني وهو عندي، وبه اقتدى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتابيه (اللمع) و (التبصرة) حتى لو وافق قول الأشعري وجهاً لأصحابنا ميزه وقال: " هو قول بعض أصحابنا وبه قالت الأشعرية ولم يعدهم من أصحاب الشافعي، استنكفوا منهم ومن مذهبهم في أصول الفقه فضلاً عن أصول الدين " (1) أ. هـ. وبنحو قوله بل أشد منه قال شيخ الإسلام الهروي الأنصاري (2).3 - الحنفية: معلوم أن واضع الطحاوية وشارحها كلاهما حنفيان، وكان الإمام الطحاوي معاصراً للأشعري وكتب هذه العقيدة لبيان معتقد الإمام أبي حنيفة وأصحابه، وهي مشابهة لما في الفقه الأكبر عنه وقد نقلوا عن الإمام أنه صرح بكفر من قال إن الله ليس على العرش أو توقف فيه، وتلميذه أبو يوسف كفر بشراً المريسي، ومعلوم أن الأشاعرة ينفون العلو وينكرون كونه تعالى على العرش ومعلوم أيضاً أن أصولهم مستمدة من بشر المريسي (3).4 - الحنابلة: موقف الحنابلة من الأشاعرة أشهر من أن يذكر فمنذ بدّع الإمام أحمد " ابن كلاب " وأمر بهجره – وهو المؤسس الحقيقي للمذهب الأشعري – لم يزل الحنابلة معهم في معركة طويلة، وحتى في أيام دولة نظام الملك – التي استطالوا فيها – وبعدها كان الحنابلة يخرجون من بغداد كل واعظ يخلط قصصه بشيء من مذهب الأشاعرة، ولم يكن ابن القشيري إلا واحداً ممن تعرض لذلك، وبسبب انتشار مذهبهم وإجماع علماء الدولة سيما الحنابلة على محاربته أصدر الخليفة القادر منشور " الاعتقاد القادري " أوضح فيه العقيدة الواجب على الأمة اعتقادها سنة 433 هـ (4) (5). وكذلك يفعل أتباعهم في عصرنا هذا بملء خطبهم الحماسية ومواعظهم وقصصهم وما يسمونه بالكتب الفكرية لثقة قرائهم - من الشباب المتحمس - العمياء بهم ولجهل أكثر هؤلاء الشباب بعقيدتهم الصحيحة التي كان عليها سلفهم الصالح من الصحابة ومن تبعهم بإحسان.   (1) ((التسعينية)) (ص: 238 - 239) وانظر ((شرح الأصفهانية)) (5/ 31) من ((الفتاوى الكبرى)) نفسها وانظر عن الكرجي وعقيدته: ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) و ((مختصر العلو)) وله ترجمة في ((طبقات الشافعية)) لابن السبكي و ((طبقات الشافعية)) لابن كثير (مخطوط). (2) يلاحظ أن كلا من الشافعية والحنابلة يدعي الهروي لمذهبهم ورجح شيخ الإسلام أنه يأخذ من كليهما ويتبع الأثر. انظر ((شيخ الإسلام عبد الله الهروي)) (ص: 96) وقوله فيهم نقله في ((التسعينية)) (ص: 277) عن كتاب ((ذم الكلام)) "وهو يحقق بجامعة الإمام كما قرأت. وانظر أيضا عن موقف الشافعية ((درء التعارض)) (2/ 106). (3) انظر غير ما ذكر ((سير أعلام النبلاء)) ترجمة بشر (10/ 200 - 201) و ((الحموية)) (ص14 - 15) طبعة قصي الخطيب. (4) انظر ((المنتظم)) لابن الجوزي أحداث سنة: 433هـ، 469هـ، 475هـ، وغيرها (ج 8 وج 9). (5) (ص: 81 - 89 و 105 - 109). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 هذا وليس ذم الأشاعرة وتبديعهم خاصة بأئمة المذاهب المعتبرين، بل هو منقول أيضاً عن أئمة السلوك الذين كانوا أقرب إلى السنة واتباع السلف، فقد نقل شيخ الإسلام في الاستقامة كثيراً من أقوالهم في ذلك، وأنهم يعتبرون موافقة عقيدة الأشعرية منافياً لسلوك طريق الولاية والاستقامة حتى أن عبد القادر الجيلاني لما سئل: " هل كان لله ولي على غير اعتقاد أحمد بن حنبل؟ قال: ما كان ولا يكون ". هذا موجز مختصر جداً لحكم الأشاعرة في المذاهب الأربعة، فما ظنك بحكم رجال الجرح والتعديل مما يعلم أن مذهب الأشاعرة هو رد خبر الآحاد جملة، وأن في الصحيحين أحاديث موضوعة أدخلها الزنادقة، وغيرها من العوام، وانظر إن شئت ترجمة إمامهم المتأخر الفخر الرازي في الميزان ولسان الميزان. فالحكم الصحيح في الأشاعرة أنهم من أهل القبلة لاشك في ذلك، أما أنهم من أهل السنة فلا، وسيأتي تفصيل ذلك في الموضوعات التالية: وهاهنا حقيقة كبرى أثبتها علماء الأشعرية الكبار بأنفسهم – كالجويني وابن أبي المعالي والرازي والغزالي وغيرهم – وهي حقيقة إعلان حيرتهم وتوبتهم ورجوعهم إلى مذهب السلف، وكتب الأشعرية المتعصبة مثل طبقات الشافعية أوردت ذلك في تراجمهم أو بعضه فما دلالة ذلك؟ إذا كانوا من أصلهم على عقيدة أهل السنة والجماعة فعن أي شيء رجعوا؟ ولماذا رجعوا؟ وإلى أي عقيدة رجعوا؟ رابعاً: دعوى الأشاعرة أن أكثر أئمة المسلمين على مذهبهم دعوى عارية عن الدليل يكذبها الواقع التاريخي، وكتب الأشاعرة نفسها عند تعريف مذهبي السلف والخلف تقول إن مذهب السلف هو مذهب القرون الثلاثة وبعضها يقول إنه مذهب القرون الخمسة (1)، فما بقي بعد هذه القرون؟ وصدقوا فالثابت تاريخياً أن مذهب الأشاعرة لم ينتشر إلا في القرن الخامس إثر انتشار كتب الباقلاني (2). ولولا ضيق المجال لسردت قائمة متوازية أذكر فيها كبار الأشاعرة ومن عاصرهم من كبار أهل السنة والجماعة الذين يفوقون أولئك عدداً وعلماً وفضلاً، وحسبك ما جمعه ابن القيم في (اجتماع الجيوش الإسلامية) والذهبي في (العلو)، وقبلهما اللالكائي. أما عوام المسلمين فالأصل فيهم أنهم على عقيدة السلف؛ لأنها الفطرة التي يولد عليها الإنسان، وينشأ عليها المسلم، بلا تلقين ولا تعليم – من حيث الأصل – فكل من لم يلقنه المبتدعة بدعتهم ويدرسوه كتبهم، فليس من حق أي فرقة أن تدعيه إلا أهل السنة والجماعة. ومن الأدلة على ذلك الإنسان الذي يدخل في الإسلام حديثاً، فهل تستطيع أي فرقة أن تقول أنه معتزلي أو أشعري؟ أما نحن فبمجرد إسلامه يصبح واحداً منا. وإن شئت المثال على عقيدة العوام فاسأل الملايين من المسلمين شرقاً وغرباً هل فيهم من يعتقد أن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته كما تقول الأشاعرة. أم أنهم كلهم مفطورون على أنه تعالى فوق المخلوقات، وهذه الفطرة تظل ثابتة في قلوبهم حتى وإن وجدوا من يلقنهم في أذهانهم تلك المقولة الموروثة عن فلاسفة اليونان (3).   (1) ومنها ((شرح الباجوري -أو البيجوري- على الجوهرة)) (1/ 82) طبعة محمد علي صبيح. (2) انظر ((الاستقامة)) (ص: 105) و ((تبيين كذب المفتري)) لابن عساكر (ص: 410) بتحقيق الكوثري. (3) بل إن متكلمي الأشاعرة الذين ينفون العلو بكل جرأة ويستندون إلى شبهات كثيرة، تجد في خبايا كلامهم إقرارا به دون أن يشعروا. لأن مغالبة الفطرة من أصعب الأمور. فالرازي مثلاً -مع إنكاره الشديد للعلو في ((التأسيس والتفسير)) قال في التفسير إن الله (خسف بقارون فجعل الأرض فوقه ورفع محمداً صلى الله عليه وسلم فجعله قاب قوسين تحته) (1/ 248). ط. بيروت. والرفع يدل على علو الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 وقس على هذا نظرية الكسب والكلام النفسي ونفي التأثير وأشباهها مما سترى في عقائد الأشاعرة على أن الموضوع الذي يجب التنبه إليه هو التفريق بين متكلمي الأشاعرة كالرازي والآمدي والشهرستاني والبغدادي والإيجي ونحوهم وبين من تأثر بمذهبهم عن حسن نية واجتهاد أو متابعة خاطئة أو جهل بعلم الكلام أو لاعتقاده أنه لا تعارض بين ما أخذ منهم وبين النصوص، ومن هذا القسم أكثر الأفاضل الذين يحتج بذكرهم الصابوني وغيره وعلى رأسهم الحافظ ابن حجر – رحمه الله -. ولست أشك أن الموضوع يحتاج لبسط وإيضاح ومع هذا فإنني أقدم للقراء لمحة موجزة عن موقف ابن حجر من الأشاعرة: من المعلوم أن إمام الأشعرية المتأخر الذي ضبط المذهب وقعد أصوله هو الفخر الرازي (ت 606 هـ) ثم خلفه الآمدي (631 هـ) والآرموي (682 هـ) فنشرا فكره في الشام ومصر واستوفيا بعض القضايا في المذهب (وفكر هؤلاء الثلاثة هو الذي كان الموضوع الرئيسي في كتاب (درء التعارض) وأعقبهم الإيجي صاحب (المواقف) (الذي كان معاصراً لشيخ الإسلام ابن تيمية) فألف (المواقف) الذي هو تقنين وتنظيم لفكر الرازي ومدرسته وهذا الكتاب هو عمدة المذهب قديماً وحديثاً وقد ترجم الحافظ الذهبي – رحمه الله – في الميزان وغيره للرازي والآمدي بما هم أهله، ثم جاء ابن السبكي – ذلك الأشعري المتعصب – فتعقبه وعنف عليه ظلماً، ثم جاء ابن حجر – رحمه الله – فألف لسان الميزان فترجم لهما بطبيعة الحال – ناقلاً كلام ابن السبكي ونقده للذهبي (1) – ولم يكن بخاف عليه مكانتهما وإمامتهما في المذهب كما ذكر طرفاً من شنائع الآرموي ضمن ترجمة الرازي. فإذا كان موقف ابن حجر لأن موقفه هو الذي يحدد انتماءه لفكر هؤلاء القوم أو عدمه؟ إن الذي يقرأ ترجمتيهما في اللسان لا يمكن أن يقول إن ابن حجر على مذهبهما أبداً، كيف وقد أورد نقولاً كثيرة موثقة عن ضلالهما وشنائعهما التي لا يقرها أي مسلم فضلاً عمن هو في علم الحافظ وفضله؟ على أنه قال في آخر ترجمة الرازي: " أوصى بوصية تدل على أنه حسّن اعتقاده ". وهذه العبارة التي قد يفهم منها أنها متعاطفة مع الرازي ضد مهاجميه هي شاهد لما نقول نحن هنا، فإن وصية الرازي التي نقلها ابن السبكي نفسه صريحة في رجوعه إلى مذهب السلف. فبعد هذا نسأل: أكان ابن حجر يعتقد أنه يؤيد عقيدة الرازي التي في كتبه أم عقيدته التي في وصيته؟ الإجابة واضحة من عبارته نفسها. هذه واحدة. والأخرى: أن الحافظ في الفتح قد نقد الأشاعرة باسمهم الصريح وخالفهم فيما هو من خصائص مذهبهم، فمثلاً خالفهم في الإيمان، وإن كان تقريره لمذهب السلف فيه يحتاج لتحرير، ونقدهم في مسألة المعرفة وأول واجب على المكلف في أول كتابه وآخره (2).كما أنه نقد شيخهم في التأويل " ابن فورك " في تأويلاته التي نقلها عنه في (شرح كتاب التوحيد في الفتح وذم التأويل والمنطق) مرجحاً منهج الثلاثة القرون الأولى كما أنه يخالفهم في الاحتجاج بحديث الآحاد في العقيدة (3) وغيرها من الأمور التي لا مجال لتفصيلها هنا. والذي أراه أن الحافظ – رحمه الله – أقرب شيء إلى عقيدة مفوضة الحنابلة كأبي يعلى ونحوه ممن ذكرهم شيخ الإسلام في (درء تعارض العقل والنقل) (4) ووصفهم بمحبة الآثار والتمسك بها، لكنهم وافقوا بعض أصول المتكلمين وتابعوهم ظانين صحتها عن حسن نية.   (1) ((ترجمة الرازي)) (4/ 426) و ((الآمدي)) (6/ 134). (2) انظر ((فتح الباري)) (1/ 46، 3/ 357 - 361، 13/ 347 - 350). (3) انظر ((فتح الباري)) (1/ 46، 3/ 357 - 361، 13/ 347 - 350). (4) ((فتح الباري)): (13/ 253، 259، 407) وغيرها كثير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 ولو قيل إن الحافظ - رحمه الله - كان متذبذبا في عقيدته لكان ذلك أقرب إلى الصواب كما يدل عليه شرحه لكتاب (التوحيد) والله أعلم. وقد كان من الحنابلة من ذهب إلى أبعد من هذا كابن الجوزي وابن عقيل وابن الزاغوني، ومع ذلك فهؤلاء كانوا أعداء ألداء للأشاعرة، ولا يجوز بحال أن يعتبروا أشاعرة فما بالك بأولئك. والظاهر أن سبب هذا الاشتباه في نسبة بعض العلماء للأشاعرة أو أهل السنة والجماعة هو أن الأشاعرة فرقة كلامية انشقت عن أصلها " المعتزلة " ووافقت السلف في بعض القضايا وتأثرت بمنهج الوحي، في حين أن بعض من هم على مذهب أهل السنة والجماعة في الأصل تأثروا بسبب من الأسباب بأهل الكلام في بعض القضايا وخالفوا فيها مذهب السلف. فإذا نظر الناظر إلى المواضع التي يتفق فيها هؤلاء وهؤلاء ظن أن الطائفتين على مذهب واحد، فهذا التداخل بينهما هو مصدر اللبس. وكثيراً ما تجد في كتب الجرح والتعديل – ومنها لسان الميزان للحافظ ابن حجر – قولهم عن الرجل أنه وافق المعتزلة في أشياء من مصنفاته أو وافق الخوارج في بعض أقوالهم وهكذا، ومع هذا لا يعتبرونه معتزلياً أو خارجياً، وهذا المنهج إذا طبقناه على الحافظ وعلى النووي وأمثالهما لم يصح اعتبارهم أشاعرة وإنما يقال وافقوا الأشاعرة في أشياء، مع ضرورة بيان هذه الأشياء واستدراكها عليهم حتى يمكن الاستفادة من كتبهم بلا توجس في موضوعات العقيدة. المصدر: منهج الأشاعرة في العقيدة لسفر الحوالي أود أن أقف وقفة لا بد منها مع قول البزدوي: "الإيمان لا يزيد ولا ينقص عند أهل السنة والجماعة وقال أصحاب الحديث والشافعي إنه يزيد وينقص" فإن فيه من الغلط ما يقتضي الوقوف عنده والتنبيه عليه لزوما. فإنه كما ترى جعل أهل الحديث قسيما لأهل السنة والجماعة وليسوا هم, وأن أهل السنة والجماعة إنما هم جماعته المتكلمون من أشاعرة وماتريدية, وكم في هذا الكلام من الغلط والجور على أئمة الدين وعلماء السلف الأولين, ومن الإجحاف حقا وهضم الحقوق أن ينتزع هذا الاسم من أهله الذين هم أحق به وهم أهل الحديث ويعطى لغيرهم ممن ليس لهم فيه حق. وهذه دعوى عريضة يدعيها دوما أهل البدع والأهواء على حد قول القائل: وكل يدعى وصلا لليلى [وليلى لا تقر لهم بذاك] ومن هذا القبيل قول يوسف عبد الرزاق أحد علماء الأزهر في تحقيقه لكتاب (إشارات المرام) من عبارات الإمام بتقديم الكوثري: "إذا أطلق أهل السنة والجماعة فالمراد بهم الأشاعرة والماتريدية" (1).وكذلك من جنسه زعم الصابوني المعاصر في مقاله المنشور في مجلة المجتمع أن الأشاعرة هم أهل السنة والجماعة (2). قلت: لا ريب أن قولهم وادعائهم هذا باطل غير صحيح فإن الأشاعرة والماتريدية لا يصح إطلاق هذا اللقب الجليل عليهم فضلا عن أن يكونوا أهله المختصين به.   (1) حاشية ((إشارات المرام)) ((ص: 298)) ومن هذا القبيل أيضا تسمية بعض هؤلاء مؤلفاتهم في العقيدة بـ ((عقيدة أهل السنة والجماعة)) ونحو ذلك ككتاب الماتريدي ((تأويلات أهل السنة)) وكتاب الجكني الشنقيطي ((إضاءة الدجنة في عقيدة أهل السنة)) وكتاب محمد بن درويش البيروتي ((رسائل في بيان عقائد أهل السنة والجماعة)) وغيرها كثير. (2) انظر ما كتبه الشيخ سفر الحوالي ردا عليه في رسالته ((منهج الأشاعرة في العقيدة)) فقد أحسن فيها وأجاد وأفاد وفقه الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 فإن المراد بالسنة الطريقة المحمدية التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام وتابعوهم بإحسان قبل ظهور البدع وفشوها, فمن تأثر بشيء من الأهواء واستمسك بها لم يصح إطلاق هذا الوصف الجليل عليه. فإنه لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ((أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة)) (1) , وفي حديث آخر أنه قال: ((هم من كان مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)) (2). صار المتمسكون بالإسلام الخالص من الشوائب والأهواء هم أهل السنة والجماعة ومن سواهم أهل البدعة والضلالة. قال شيخ الإسلام: "وأئمة السنة ليسوا مثل أئمة البدعة, فإن أئمة السنة تضاف السنة إليهم لأنهم مظاهر بهم ظهرت, وأئمة البدعة تضاف إليهم لأنهم مصادر عنهم صدرت ... " (3) وبهذا يعلم أن الأشاعرة والماتريدية ليسوا من أهل السنة والجماعة, كيف ومذاهبهم مخالفة لأهل السنة والجماعة في أمور كثيرة خطيرة, فهم مخالفون لأهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات وفي الإيمان وفي القدر وغير ذلك من كبار مسائل الاعتقاد, وإنما هم يعدون من مبتدعة أهل القبلة ومن محدثة المسلمين وعندهم من الخير والموافقة لأهل السنة والجماعة في بعض المسائل ما كانوا به أقرب من غيرهم ممن توغل في الإحداث والابتداع كالجهمية والمعتزلة وغيرهم. هدانا الله وإياهم وجميع المسلمين إلى الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. ثم إن هذه المسألة على الخصوص جرى فيها مناظرة بين شيخ الإسلام ابن تيمية وبين خصومه الأشاعرة, حيث أنكروا عليه قوله في العقيدة الواسطية: "ومن أصول الفرقة الناجية: أن الإيمان والدين قول وعمل يزيد وينقص قول القلب واللسان, وعمل القلب واللسان والجوارح". قالوا: فإذا قيل إن هذا من أصول الفرقة الناجية خرج عن الفرقة الناجية من لم يقل بذلك مثل أصحابنا المتكلمين الذين يقولون إن الإيمان هو التصديق ومن يقول الإيمان هو التصديق والإقرار, وإذا لم يكونوا من الناجين لزم أن يكونوا هالكين. فأجابهم رحمه الله بقوله: "إن قولي اعتقاد الفرقة الناجية هي الفرقة التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالنجاة حيث قال: ((تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)) (4).   (1) رواه أبو داود (4597) , وأحمد (4/ 102) (16979) , والدارمي (2/ 314) , والحاكم (1/ 218). والحديث سكت عنه أبي داود. وقال الحاكم: هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث. ووافقه الذهبي. وصحح إسناده أبو الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (96) – كما أشار لهذا في المقدمة -. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن. وانظر كلامه في ((السلسلة الصحيحة)) (204). (2) رواه الترمذي (2641) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما, وقال: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه، قال الحافظ العراقي في ((المغني)) (3/ 284): أخرجه من حديث عبد الله بن عمرو وحسنه, ولأبي داود من حديث معاوية, وابن ماجه من حديث أنس وعوف ابن مالك, (وهي الجماعة) وأسانيدها جياد, وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (3) ((درء التعارض) (5/ 5، 6) (4) رواه الترمذي (2641) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما, وقال: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه، قال الحافظ العراقي في ((المغني)) (3/ 284): أخرجه من حديث عبد الله بن عمرو وحسنه, ولأبي داود من حديث معاوية, وابن ماجه من حديث أنس وعوف ابن مالك, (وهي الجماعة) وأسانيدها جياد, وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 فهذا الاعتقاد: هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وهم ومن اتبعهم الفرقة الناجية, فإنه قد ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه قال: الإيمان يزيد وينقص, وكل ما ذكرته في ذلك فإنه مأثور عن الصحابة بالأسانيد الثابتة لفظه ومعناه وإذا خالفهم من بعدهم لم يضر في ذلك. ثم قلت لهم: وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكا فإن المنازع قد يكون مجتهدا مخطئا يغفر الله خطأه, وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة, وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته, وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأول والقانت وذو الحسنات الماحية, والمغفور له وغير ذلك فهذا أولى, بل موجب هذا الكلام أن من اعتقد ذلك نجا في هذا الاعتقاد, ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجيا, وقد لا يكون ناجيا, كما يقال من صمت نجا" (1). قلت: وفي كلام شيخ الإسلام هذا أبلغ جواب لما قد يستشكله الكثير في مسألة إخراج الأشاعرة أو غيرهم من أهل البدع من الفرقة الناجية ومن أهل السنة والجماعة, وأن ذلك يلزم منه أن يكونوا من أهل النار حتما ومن الهالكين يقينا. ولا تلازم بين الأمرين على ما بينه شيخ الإسلام هنا إذ النص المتقدم ونحوه من نصوص الوعيد لا يدخل فيها من لم تبلغه الحجة ولم يتبين له السبيل مع إرادته للحق وتحريه له وقد يكون معه حسنات ماحية أو يكون متأولا أو يكون جاهلا معذورا أو نحو ذلك من الأعذار وعلى كل فحكمهم في الدنيا أنهم من أهل البدع والأهواء وأما يوم القيامة فمرجعهم إلى الله يحكم فيهم بمقتضى عدله وحكمته ولا يظلم ربك أحدا. ثم يقال لمعشر الأشاعرة على الخصوص, أما لكم اسوة بإمامكم وشيخكم ومؤسس مذهبكم, ومن تدعون أنكم أتباعه وعلى طريقته فقد أبان الله له الجادة وهداه إلى الحق, وترك ما أنتم عليه الآن إلى مذهب أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل قائل, فدونكم إن شئتم كتبه الثلاثة الأخيرة لتروا فيها رجوعه إلى الحق وتمسكه به. قال رحمه الله وغفر له في كتابه (الإبانة): "فإن قال لنا قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحلولية والرافضة والمرجئة, فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون. قيل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب ربنا عز وجل وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ولمن خالف قوله مجانبون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق ودفع به الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين, فرحمة الله عليه من إمام مقدم وجليل معظم وكبير مفخم وعلى جميع أئمة المسلمين" (2). فيقال للأشاعرة هذا إمامكم المقدم وشيخكم المبجل يسجل لكم رجوعه إلى الحق وتمسكه به في ورق مسطر وكلام محرر فهلا بكلام إمامكم اقتديتم وبما هدي إليه اهتديتم. المصدر: زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر – ص 362   (1) ((الفتاوى)) (3/ 179). (2) ((الإبانة)) (ص52). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 المبحث الثالث: مواقف العلماء الآخرين من المذهب الأشعري يرد على من زعم أن الأشعرية هم أهل السنة 1 - موقف أبي نصر السجزي من الأشعرية: فهذا أبو نصر السجزي: علم من أعلام السنة ومن المشهود لهم بالحفظ وأتباع السنة ينقد الأشعرية نقدا شديدا ويصرح بأن الناس لم يزالوا على سنة حتى جاء الأشعري. قال: "اعلموا أرشدنا الله وإياكم، أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب والقلانسي والصالحي والأشعري وأقرانهم الذين يتظاهرون بالرد على المعتزلة، وهم معهم بل أخس حالا منهم في الباطن. وصرح بأن "المعتزلة مع سوء مذهبهم أقل ضرراً على عوام السنة من هؤلاء". واتهم الأشعري بأنه كان يجعل أسماء الله تسميات ويهرب من اعتبارها أسماء. وكان يتلاعب في موقفه من القرآن فيعتقد بأنه عبارة، وأن حروفه شيء آخر غير ما تكلم الله به. وأن قول الأشعرية في القرآن حيرة يدعون قرآنا ليس بعربي وأنه الصفة الأزلية، وأما هذا النظم العربي فمخلوق عندهم. ويقولون الإيمان التصديق". وشدد على أنه ينبغي تأمل قول الكلابية والأشاعرة في الصفات ليعلم أنهم غير مثبتين إلها في الحقيقة. واحتج بما رواه محمد بن عبدالله المالكي المغربي وكان فقيها صالحا عن الشيخ أبي سعيد البرقي وهو من شيوخ فقهاء المالكيين ببرقة عن أستاذه خلف المعلم وكان من فقهاء المالكيين أيضا أنه قال: أقام الأشعري أربعين سنة على الاعتزال ثم أظهر التوبة فرجع عن الفروع وثبت على الأصول. وهذا كلام خبير بمذهب الأشعري وغوره. وانتهى إلى تلك الوصية: "ينبغي أن ينظر في كتب من درج وأخبار من سلف: هل قال أحد منهم إن الحروف ليست من كلام الله؟ فإن جاء ذلك عن أحد من الأوائل والسلف قبل مخالفينا الكلابية والأشعرية: عذروا في موافقتهم إياه" (1). 2 - شيخ الإسلام الهروي: لقد بالغ الهروي في ذم المذهب الأشعري حتى قال: بأن ذبائح الأشعري لا تحل" (2). وكان الناس يقاطعون من يتمذهب بهذا المذهب الكلامي. فقد انقطع الناس عن أبي عصرون – من علماء الأشاعرة – فقال لهم: لماذا انقطعتم عني؟ قالوا: إن أناساً يقولون: إنك أشعري. فقال: والله ما أنا بأشعري" (3). 3 - ابن خويز منداد فقيه المالكية: وقال مالك "لا تجوز شهادة أهل البدع" وذكر حافظ المغرب وفقيهها ابن عبدالبر بسنده عن فقيه المالكية أبي بكر بن خويزمنداد أنه قال معلقاً على قول مالك "لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء" قال: "أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع، أشعرياً كان أو غير أشعري ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبداً، ويهجر ويؤدب على بدعته" (4).   (1) ((رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (145 و 173 - 178) تحقيق محمد باكريم باعبدالله. دار الراية. (2) ((طبقات السبكي)) (4/ 272) محققة. (3) ((طبقات السبكي)) (7/ 134) محققة. (4) ((جامع بيان العلم)) (2/ 96) ((صون المنطق والكلام للسيوطي)) (137) ((مفتاح السعادة)) (2/ 137) وحذف طاش كبري زادة من النص ما يتعلق بالأشاعرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 4 - السيوطي ينتقد الكلام وأهله: لقد كتب السيوطي كتاب (صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام) وروى من طريق أبي عبدالله الحاكم قال: سمعت أبا زيد الفقيه المروزي يقول: أتيت أبا الحسن الأشعري بالبصرة فأخذت عنه شيئاً من الكلام فرأيت من ليلتي في المنام كأني عميت فقصصتها على المعبر، فقال: إنك تأخذ علماً تضل به، فأمسكت عن الأشعري، فرآني في الطريق فقال لي: يا أبا زيد، أما تأنف أن ترجع إلى خراسان عالماً بالفروع جاهلا بالأصول، فقصصت عليه الرؤيا فقال: اكتمها عليّ ههنا" (1). 5 - موقف ابن حزم: لقد تعجب ابن حزم من الأحوال التي يقول بها الأشاعرة حيث يقولون: "إن ههنا أحوالا لا مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا معلومة ولا مجهولة ولا حق ولا باطل وأن الناس ليست حارة والثلج ليست باردة" (2). ووصف الأشعرية بالفرقة الضالة (3). 6 - انتقاد السرهندي الفاروقي للأشعرية: وانتقد السرهندي الفاروقي النقشبندي مذهب الأشعري في القدر واعتبر مذهبه داخلا في دائرة الجبر الحقيقي، وأن كثيرين من ضعيفي الهمة يحتجون بقدر الأشعري ويميلون إلى مذهبه لهذا السبب (4). 7 - انتقاد السرهندي للماتريدية كذلك: وانتقد السرهندي المذهب الماتريدي أيضا فقال: "يا ليت شعري! ماذا أراد أصحابنا الماتريدية من قولهم باستقلال العقل في بعض الأمور كإثبات وجود الصانع تعالى ووحدانيته، حتى كلفوا من نشأ في شاهق الجبل وعبد الصنم بهما، وإن لم تبلغه دعوة الرسول، وحكموا بترك النظر فيهما بكفره وخلوده في النار، ونحن لا نفهم الحكم بالكفر والخلود في النار إلا بعد البلاغ المبين والحجة البالغة المنوطة بإرسال الرسل" (5). 8 - أبو الفرج ابن الجوزي يوبخ الأشعريانتقد ابن الجوزي أبا الحسن الأشعري لأنه فتح على الناس باباً أدى إلى النزاع على العقائد والاختلاف في القرآن. فقال "لم يختلف الناس حتى جاء علي بن إسماعيل الأشعري، فقال مرة بقول المعتزلة، ثم عن له فادعى أن الكلام صفة قائمة بالنفس، فأوجبت دعواه هذه أنا ما عندنا مخلوق" (6) مع أنهم يصفون ابن الجوزي بأنه من منزهة الحنابلة. كذلككذلك انتقد ابن الجوزي أبا حامد الغزالي كثيراً والقشيري صاحب الرسالة القشيرية والفتنة البغدادية – وكلاهما أشعريان – فقال "وجاء عبدالكريم بن هوازن القشيري وصنف لهم كتاب (الرسالة) فذكر فيها العجائب من الكلام في الفناء (أي في الله) والقبض والبسط والجمع والتفرقة والصحو والمحو والسكر والشرب والمكاشفة واللوائح والطوالع واللوامع والتكوين والتمكين والحقيقة والشريعة وغير ذلك من التخليط الذي ليس بشيء" (7). واعتبر ابن الجوزي أن أساس البدع دخلت على الأمة من طريقين: 1) الفلسفة التي عكف عليها خلق من العلماء لم يقنعوا بما قنع به النبي صلى الله عليه وسلم حتى خاضوا في الكلام الذي حملهم على مذاهب ردية أفسدوا بها العقائد. ثم انتقد أبا الحسن الأشعري لأنه فتح على الناس باباً أدى إلى النزاع على العقائد والاختلاف في القرآن فتارة يقول بقول المعتزلة وتارة يزعم أن الكلام صفة قائمة بنفس الله فأوجبت دعواه أن القرآن مخلوق".2) الرهبنة حيث أخذ خلق من المتزهدين عن الرهبان طريق التقشف" (8). ويعني بهم الصوفية.   (1) ((صوت المنطق والكلام)) للسيوطي (ص: 76 - 77). (2) ((الفصل في الملل والنحل)) (5/ 117). (3) ((الفصل في الملل والنحل)) ((ص: 111). (4) ((مكتوبات الإمام الرباني)) (ص: 331). (5) ((مكتوبات الإمام الرباني)) (ص: 138). (6) ((كتاب صيد الخاطر)) (181 و 183) وانظر ((المنتظم)) (6/ 332). (7) ((تلبيس إبليس)) (ص: 165). (8) ((صيد الخاطر)) (ص: 183) وكذلك (ص: 226). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 9 - الشيخ عبدالقادر الجيلاني: انتقد الشيخ عبدالقادر الجيلاني قول الأشاعرة إن كلام الله معنى قائم قديم بالنفس. وقال: "ينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش، لا على معنى العلو (أي علو المنزلة) والرفعة كما قالت الأشعرية، ولا على معنى الاستيلاء كما قالت المعتزلة. وأنه تعالى ينزل في كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء لا بمعنى نزول الرحمة وثوابه على ما ادعت المعتزلة والأشعرية" (1). فهذا الجيلاني يقرن الأشاعرة بالمعتزلة. 10 - محمد أنور الكشميري: كذلك انتقده الشاه محمد أنور الكشميري الحنفي (2) قائلا: ألا ترى أن الأشعري لما بالغ في التنزيه وشدد فيه لزمه نفي كثير من الصفات التي أثبتها السمع حتى قارن المعطلة، فلم يبق للاستواء المنصوص عنده مصداق، وصار نحو ذلك كله من باب المجازات عنده، فالقرآن يأبى عما يريده الأشعري من تنزيهه هذا". أضاف "وقد نقلنا لك أننا لم نجد تعبيراً في القرآن أزيد إيهاماً من قوله تعالى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ [طه: 14] ومن قوله بُورِكَ مَن فِي النَّارِ [النمل: 8] وكان ذلك مسموعاً، فالأشعري يزعمه خلاف التنزيه قلت: فعليه أن يكره هذا التعبير أيضاً ولكن القرآن قد أتى به ولم يبال بذلك الإيهام، ولا أراه مخالفاً للتنزيه ... "."وبالجملة قد ثبت إسناد كثير من الأشياء في السمع ولا يرضى الأشعري إلا بقطعها عن الله تعالى، مع أن القرآن على ما يظهر لا يسلك مسلك تلك التنزيهات العقلية" (3). وهذا اعتراف منه بأن إثبات الصفات ليس تشبيهاً، وهو كلام جيد، غير أن الرد على الأشعري والسكوت عن الماتريدي ليس من الإنصاف، لأن الكشميري ما تريدي، والتأويل سائغ في مذهبهم. وكلامه هذا حجة على الماتريدية أيضاً. 11 - أحمد بن الصديق الغماري - ومن المعاصرين أبو الفضل أحمد بن الصديق الغماري – أخو عبدالله الغماري – الذي قال عند تفسير قوله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة: 64]. "وأما الأشعرية فأنكرت أن تكون لله يد بالمرة، فهم أظلم منهم، وزعموا أن من قال لله يد وعين وقدم: مشبه ومجسم، وحرفوا معنى قوله تعالى بِأَعْيُنِنَا [هود: 37] بالحفظ والقدرة، وهو خلاف الحق ومذهب السلف، فكانوا في ذلك أعلم من الله الذي أثبت ذلك لنفسه على المعنى الذي أراده، لا على معنى الجارحة الذي فهمه الأشعرية وغيرهم من المؤولة، وضل من قال "قدرتاه مبسوطتان" فإنه ليس من المعهود أن يطلق الله على نفسه معنى القدرة بلفظ التثنية، بل بلفظ الإفراد الشامل لجميع الحقيقة كقوله تعالى أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً [البقرة: 165].وقال في تفسير قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54] قال: "استواء يعلمه الله تعالى، ويجب علينا الإيمان به وتسليم معناه لله ورسوله، لا استولى كما يقول الأشعرية المبتدعة تعالى الله عن قولهم وعن مذهبهم علواً كبيراً" (4). كل هؤلاء انتقدوا المذهب الأشعري، بينما لم ينتقدوا مذهب أحمد والشافعي في العقائد، مما يؤكد أن الأشعري لم يكن علما من أعلام السنة. المصدر: موقف ابن حزم من المذهب الأشعري لعبدالرحمن دمشقية - ص 7   (1) ((الغنية لطالبي الحق)) (56 - 57 و 60). (2) وهو الذي يبجله الكوثري ويعظمه ويجله غاية الإجلال ((مقالات الكوثري)) (ص: 359) و ((التصريح بما تواتر في نزول المسيح)) (ص 12 - 32). (3) ((فيض الباري شرح صحيح البخاري)) (4/ 473). (4) كتاب ((الإقليد في تنزيل كتاب الله على أهل التقليد)) (ص: 46). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 المبحث الرابع: من أهم المسائل التي خالف فيها الأشاعرة أهل السنة - من أخطر ما خالف به الأشاعرة أهل السنة خوضهم في صفات الله عز وجل بالتأويل الذي نهى عنه السلف خاصة الصفات الخبرية التي وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم مثل صفات اليد, والعين, والنفس, والوجه, والاستواء على العرش, والنزول, والمجيء, والرضا, والغضب, والحب, والبغض, ونحوها من الصفات الخبرية التي ذكرها الله تعالى في كتابه, أو صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم لم يؤمنوا بها كما جاءت, وكما فعل السلف, فقد أولوها وصرفوا ألفاظها إلى غير ظاهرها, هروبا من شبهة التجسيم والتمثيل, وغفلوا عما يترتب على فعلهم هذا من تحريفهم لكلام الله وتعطيل لمعانيه والقول على الله بغير علم, وغير ذلك من المستلزمات التي يقتضيها التأويل وتنافي التسليم لله تعالى إذ كيف يليق أن يقول الله عن نفسه ويقول عنه رسوله صلى الله عليه وسلم بصفات لا تليق, أو تقتضي التشبيه والتجسيم, ثم لا يكتشف هذه المسألة إلا المتكلمون بعد القرن الثالث الهجري! ثم كيف فات هذا الفهم على الصحابة والتابعين وسلف الأمة ثم يدركه المتكلمون؟! هذا مما لا يليق تجاه كلام الله – تعالى – وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأئمة الهدى الأوائل ممن هم أعلم منهم وأتقى لله فإن الله سبحانه حين وصف نفسه بتلك الصفات: كاليدين, والوجه, والنفس, والرضا, والغضب, والمجيء, والاستواء, والعلو ...... إلخ. من الصفات, فقد سد باب شبهة التمثيل بقوله سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11]. فهل الذين أولوا تلك الصفات أعلم بالله من الله؟ وهل هم أشد تنزيها لله من رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وهل هم أعلم بمراد الله من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة من التابعين وتابعيهم وأئمة الهدى والسنة في القرون الفاضلة؟! الذين أمروا هذه الصفات وغيرها من أمور الغيب كما جاءت عن الله وعن رسوله لفظا ومعنى على مراد الله ورسوله من غير تشبيه ولا تعطيل ولا تأويل. وقد ابتلي المتكلمون – ومنهم الأشاعرة – بسبب التأويل في صفات الله وبعض مسائل العقيدة بأن أدخلوا في عقائدهم من المصطلحات والألفاظ والظنيات العقلية ما لا يليق القول به في حق الباري سبحانه لا نفيا ولا إثباتا. وأقل ما يقال فيه إنه كلام مبتدع لم يرد عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم فالكف عنه أسلم, والخوض فيه قول على الله بلا علم, مثل: الحدود والغايات, والجهات, والماهية, والحركة, والحيز, والعرض, والجوهر, والحدوث, والقدم. ودعوى قطعية العقل وظنية النقل ... ومثل كلامهم في: التركيب والتبعيض وقولهم عن الباري سبحانه لا داخل العالم ولا خارجه ... إلخ. ومما ابتدعوه من الكلام عن الله تعالى نفيا وإثباتا. وذلك انسياقا مع إلزامات المعتزلة والجهمية والفلاسفة العقلية الجدلية. وكلامهم في هذه الأمور قد يشتمل على بعض الحق أحيانا لكن الله تعالى نهانا عنه, وأقل ما يقال فيه أنه قول على الله بغير علم والله تعالى يقول: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36] ويقول: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف: 180]. فأهل السنة لا يتكلمون في هذه الأمور على سبيل التأصيل والإقرار والتقرير إلا من باب الرد وإلزام الحجة, وبقدر الحاجة فمخالفة الأشاعرة لأهل السنة في هذا الباب (الصفات) ليست فرعية, إذ هي متعلقة بأصل من أعظم أصول الدين وهو توحيد الصفات المتعلقة بالباري سبحانه جل شأنه ......... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 - ومن الأصول التي خالف فيها الأشاعرة أهل السنة تعويلهم على العقل والجدل وعلم الكلام (النظر) في صفات الله ومسائل القدر والغيب وتقديمهم العقل ما يسمونه القواطع العقلية – على النقل (الكتاب والسنة) , في أمور الغيب ومسائل الاعتقاد, بل في مسائل صفات الله تعالى! فالقاعدة عندهم كما قررها الرازي والجويني وغيرها (أن الدلائل النقلية لا تفيد اليقين) و (أن الدلائل النقلية ظنية, وأن العقلية قطعية, والظن لا يعارض القطع) (1). سبحان الله!! - ومن أصولهم المخالفة لأهل السنة: تفسيرهم التوحيد بما يحصره في توحيد الربوبية وغفلتهم عن توحيد الألوهية والعبادة لله تعالى وحده مع أنه التوحيد الذي أرسلت به الرسل قال الله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]. وهو التوحيد الذي من أجله خلق الله الخلق قال تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]. لذلك نجد التلبس بالبدع في العبادات والوقوع في بعض الشركيات كثيرة فيمن ينتسبون إلى الأشاعرة المتأخرين لتساهلهم في توحيد العبادة. وهذا لا يعني أن أهل السنة يستهينون بأمر توحيد الربوبية ... كلا والله! لكنهم يبدأون بما بدأ الله به وما بدأ به رسوله صلى الله عليه وسلم, لأن توحيد الربوبية فطري, لا يكاد ينكر بالكلية إلا نادرا وغالب الآيات التي جاءت في تقريره جاءت في سياق الإلزام بتوحيد العبادة والطاعة, لذلك لا يعرف أن أمة من الأمم أنكرت توحيد الربوبية بل لا توجد طائفة أجمعت على هذا الأمر على الحقيقة, ولو حصل هذا لذكره الله تعالى في قصص الأنبياء. وبعكسه توحيد الألوهية فهو الذي ضلت فيه الأمم والفرق والطوائف حتى اليوم. لذا نجد أن نظار الأشاعرة وأئمتهم يبدأون مؤلفاتهم في الاعتقاد بالعقليات والنظريات والتصديقات والتصورات, والمصطلحات الكلامية والفلسفية, وأن الدلائل النقلية (السمعية) لا تفيد اليقين! وأن العقليات قطعية! يقينية, ثم حدوث العالم وإثبات الصانع وغير ذلك من الفلسفة وعلم الكلام, وينتهون في ذلك إلى تقرير توحيد الربوبية وهذا خلاف ما درج عليه أهل السنة بل خلاف منهج القرآن الكريم فالآيات التي جاءت لتقرير توحيد الربوبية قليلة بإزاء الآيات التي جاءت لتقرير توحيد العبادة والطاعة ثم إن كثيرا من الآيات في توحيد الربوبية جاءت لتقرير عبادة الله وحده كما أسلفت. - كما أنهم خالفوا أهل السنة في أصول أخرى مثل: قولهم في القرآن وكلام الله, والإيمان, والقدر, والنبوات, حيث تأثروا بالأصول الكلامية والفلسفية في نظرتهم لهذه الأمور فجاءت عقيدتهم فيها خليطا من الحق والباطل بين أهل السنة والمعتزلة والفلاسفة, لذا تجدهم كثيرا ما يستخدمون مصطلحات فلسفية وكلامية محتملة للحق والصواب وضدها, وتختلف عن ألفاظ الكتاب والسنة. وهكذا ... فإن هذه الأمور التي خالف الأشاعرة فيها أهل السنة, وهي من أصول الاعتقاد وفروعه تقتضي من الباحث المنصف عند التدقيق والتحقيق أن يحكم كما هو رأي المحققين من أئمة أهل السنة بأن مذهب الأشاعرة في العقيدة مذهب مستقل في بعض الجوانب عن أهل السنة بأصوله ومناهجه, وتصوراته وأحكامه بخاصة في مسائل الصفات والإيمان والوحي والنبوات والقرآن وكلام الله والقدر فالأشاعرة في هذه المسائل وغيرها يوافقون أهل السنة في أمور ويخالفونهم في أخرى. - كما أنه لا يجوز أن نحمل السلف أهل السنة والجماعة مقولات الأشاعرة فيما ابتدعوه من علم الكلام والفلسفة, وإنه لمن الإجحاف والتجني أن ننسب تلك المقولات للصحابة والتابعين وأئمة الهدى في القرون الفاضلة, وهذه المقولات هي الغالبة في معتقدات الأشاعرة. أما أهل السنة فهم الذين لم يحيدوا ولم يزيدوا على مذهب السلف حتى اليوم, فالذي ينتمي وينتسب لأهل السنة يلزمه أن يعتقد ما اعتقدوه في هذه الأصول, وأن يتبع ما قالوه أو قرروه, لا أن يقول ويعتقد حسب قواعده العقلية الكلامية والفلسفية, ثم ينسب قوله وعقيدته إلى السلف, كما فعل كثير من نظار الأشاعرة. وإذا عرضنا الكثير من معتقدات الأشاعرة على ما أثر ونقل عن السلف في القرون الفاضلة وجدنا البون بينهما شاسعا ووجدنا أنهم – أي الأشاعرة – ابتدعوا وأحدثوا من المقولات ما كان ينهى عنه السلف من الكلام في الصفات والغيبات بالظنون والمبتدعات الكلامية. المصدر: مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة وموقف الحركات الإسلامية المعاصرة منها لناصر العقل – ص58   (1) انظر: ((أصول الدين للرازي)) (ص: 24). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 المبحث الأول: الرد على متأخري الأشاعرة بأقوال شيوخهم وردود بعضهم على بعض وأساس الرد التطور الذي حدث للمذهب الأشعري الذي سبق تفصيل القول فيه، وشيخ الإسلام كثيرا ما يشير إليه ويبين أنهم طبقات – حسب القرب والبعد عن أهل السنة ومذهبهم الصحيح – فابن كلاب أقرب إلى السلف من الأشعري، والأشعري أقرب من الباقلاني وطبقته، والباقلاني أقرب من الجويني وطبقته، والجويني أقرب من الرازي وطبقته (1). بل إن شيخ الإسلام يقرر من خلال تتبع دقيق أن أئمة الأشعرية الذين كانوا في العراق كأبي الحسن الأشعري والباهلي، وابن مجاهد، والباقلاني، وغيرهم، أقرب إلى السلف من أشعرية خراسان كأبي بكر بن فورك ونحوه (2).وانحراف متأخري الأشاعرة عن متقدميهم أمر مشتهر حتى إن أبا العباس أحمد بن ثابت الطرقي الحافظ صاحب كتاب (اللوامع) في الجمع بين الصحاح والجوامع، والمتوفي سنة 521هـ. قال في مسألة الاستواء من تأليفه: "ورأيت هؤلاء الجهمية ينتمون في نفي العرش وتعطيل الاستواء إلى أبي الحسن الأشعري، وما هذا بأول باطل ادعوه، وكذب تعاطوه، فقد قرأت في كتابه الموسوم بـ (الإبانة) عن أصول الديانة أدلة من جملة ما ذكر على إثبات الاستواء، وقال في جملة ذلك: ومن دعاء أهل الإسلام جميعا إذا رغبوا إلى الله في الأمر النازل بهم، يقولون جميعا: يا ساكن العرش، ثم قال: ومن سلفهم جميعا قولهم: لا والذي احتجب بسبع سموات" (3)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – بعد نقله النص السابق: "وكذلك الشيخ نصر المقدسي له تأليف في الأصول نقل فيه فصولا من كتاب (الإبانة) " (4).   (1) سبقت الإشارة إلى ذلك عند الحديث عن جوانبهم الإيجابية، وانظر أيضا ((منهاج السنة)) (2/ 77) ط مكتبة الرياض الحديثة، وأيضا (3/ 69) و ((المسألة المصرية في القرآن، مجموع الفتاوى)) (12/ 202 – 203)، و ((نقض التأسيس)) المطبوع (2/ 348)، ((ودرء التعارض)) (8/ 91). (2) انظر: ((نقض التأسيس)) المطبوع (2/ 344 - 345). (3) ((نقض التأسيس)) المخطوط (1/ 85). (4) ((نقض التأسيس)) المخطوط (1/ 85). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 وهذا يدل على أن هذا المنهج – وهو الرد على متأخري الأشاعرة بأقوال متقدميهم وأئمتهم الذين ينتسبون إليهم – قد استخدمه العلماء قبل شيخ الإسلام ابن تيمية. وقد استخدم شيخ الإسلام هذا المنهج في كتبه المختلفة وركز عليه كثيرا لأنه رأى فيه فوائد عملية، ومن ذلك ما جرى في المناظرة حول الواسطية – وهي المناظرة الثانية التي حضرها صفي الدين الهندي – حيث إن شيخ الإسلام ذكر أنه قبل هذا المجلس اجتمع به بعض أكابر الشافعية من الأشعرية وعبروا له عن خوفهم من أن تظهر حجته على خصومه دون أن يكون من أئمة أصحابهم الأشعرية من يوافقها، يقول شيخ الإسلام: "وكان مقصودي تقرير ما ذكرته على قول جميع الطوائف، وأن أبين اتفاق السلف ومن تبعهم على ما ذكرت، وأن أعيان المذاهب الأربعة، والأشعري، وأكابر أصحابه، على ما ذكرته؛ فإنه قبل المجلس الثاني اجتمع بي من أكابر علماء الشافعية والمنتسبين إلى الأشعرية، والحنفية، وغيرهم ممن عظم خوفهم من هذا المجلس، وخافوا انتصار الخصوم فيه، وخافوا على نفوسهم أيضا من تفوق الكلمة، فلو أظهرت الحجة التي ينتصر بها ما ذكرته ولم يكن من أئمة أصحابهم من يوافقها لصارت فرقة، ولصعب عليهم، أن يظهروا في المجالس العامة الخروج عن أقوال طوائفهم، بما في ذلك من تمكن أعدائهم من أغراضهم، فإذا كان من أئمة مذاهبهم من يقول ذلك، وقامت عليه الحجة، وبان أنه مذهب السلف: أمكنهم إظهار القول به، مع ما يعتقدونه في الباطن من أنه الحق .... وقلت لمن خاطبني من أكابر الشافعية: لأبين أن ما ذكرته هو قول السلف وقول أئمة أصحاب الشافعي، وأذكر قول الأشعري، وأئمة أصحابه التي ترد على هؤلاء الخصوم، ولينتصرن كل شافعي، وكل من قال بقول الأشعري الموافق لمذهب السلف، وأبين أن القول المحكي عنه في تأويل الصفات الخبرية قول لا أصل له في كلامه، وإنما هو قول طائفة من أصحابه، فللأشعرية قولان ليس للأشعري قولان" (1). والأشاعرة المتأخرون في أوقات محنهم يلجأون إلى أقوال أئمتهم، ينقلونها ويستشهدون بها ليبينوا سلامة معتقدهم وصحة مذهبهم، وهذا ما فعله القشيري في الشكاية المشهورة، وابن عساكر في تبيين كذب المفتري. ولا شك أن المنهج الذي سلكه شيخ الإسلام في الرد على أقوال المتأخرين بأقوال شيوخهم الذي يعتزون بالانتساب إليهم له قيمته الكبرى وأثره البالغ لأمرين: أحدهما: أن هذه النقول أتى بها شيخ الإسلام موثقة، منقولة بحروفها من كتبهم المشهورة التي تناقلها المتأخرون واعتزوا بها، ونقلوا عنه ما يوافق أقوالهم من المسائل التي لم يختلف فيه قول متقدمي الأشاعرة عن قول متأخريهم، ولذلك لم يستطع أحد منهم الطعن فيما نقله شيخ الإسلام، ولم يقل: إن هذا منسوب إلى أئمتهم، أو إنه حكاية لمذهبهم – كما تحكى بعض كتب الفرق أقوال الطوائف، وقد يكون في الحكاية زيادة أو نقص، وتقديم أو تأخير يخل بالمعنى – ولا شك أن الأمانة والمنهج العلمي الذي وفق إليه شيخ الإسلام، جعل أعداءه ومعارضيه يرضخون له في ذلك مع حرصهم الشديد على النيل منه ومن أقواله وكتبه، ولتوضيح ذلك يمكن ذكر هذين المثالين: المثال الأول: قال بعض متأخري الأشعرية: إن للأشعري في الصفات الخبرية قولين، قول بالتأويل، وقول بالإثبات، فلما جاء شيخ الإسلام – وهو المطلع على كتب الفرق – أوضح مرارا أنه ليس للأشعري فيها إلا قول واحد هو الإثبات، وأتى بالأدلة على ذلك من كتبه، أما الذين يزعمون أن له قولا آخر فحتى الآن لم ينقل أحد منهم نصا من كتب الأشعري يدل على ذلك.   (1) ((مناظرة حول الواسطية، مجموع الفتاوى)) (3/ 188 - 190)، و ((العقود الدرية)) (ص: 241 - 242). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 والمثال الثاني: لما نقل شيخ الإسلام عن الباقلاني في كتابه (التمهيد) نصا يثبت فيه الاستواء والعلو ويمنع من تأويله، قال الكوثري وبعض الباحثين – المائلين إلى المذهب الأشعري – وهم بصدد تحقيق (التمهيد) عن نسخة خطية ناقصة – قالوا: إن ابن تيمية وابن القيم – الذي نقل النص أيضا في اجتماع الجيوش – قد كذبا وهما على الباقلاني. ولما حقق (التمهيد) مرة أخرى – على يد نصراني – تبين صدق شيخي الإسلام، وخطأ الكوثري وأصحابه. والثاني: أن هذه النقول نص صريح في مخالفتها لأقوال متأخري الأشعرية، وليست مما يقبل التأويل أو اختلاف المفاهيم حولها، فمثلا حين يؤول المتأخرون الاستواء بالاستيلاء ويمنعون من إثباته وإثبات الاستواء، ودلالته على العلو، تورد عليهم أقوال الأشعري وغيره التي نصوا فيها على إثبات الاستواء، ودلالته على العلو، وقولهم: إن تأويله بالاستيلاء هو قول خصومهم المعتزلة، وليس للمتأخرين – المنتسبين إلى الأشعري – هنا إلا الاعتراف والفرار إلى التفويض وأن هذا هو حقيقة مذهب الأشعري. ولكن ماذا يصنعون بقوله: إن تأويل الاستواء بالاستيلاء هو قول المعتزلة؟ وبنصوصه الأخرى في إثبات علو الله على خلقه؟. ولأهمية هذا في إقناع الخصوم – وأتباعهم – ركز عليه شيخ الإسلام وأضاف إليه جانبا آخر وهو ردود بعض الأشاعرة على بعض سواء كانوا متقدمين أو متأخرين، لأن هذا أيضا يفيد في بيان ضعف المذهب وضعف الأدلة التي أعتمدوا عليها، فهذان جانبان رئيسان ركز عليهما شيخ الإسلام: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 أ- فمن الأمثلة على الجانب الأول:1 - في مسألة العلو والاستواء التي أنكرها متأخرو الأشعرية، رد شيخ الإسلام على زعمهم الرازي بأن نقل نصوصا من كلام شيوخه من الأشاعرة يثبتون فيها العلو لله تعالى (1)، وفي موضع آخر من نفس الكتاب رد على الرازي في هذا الموضوع وفي موضوع الصفات الخبرية التي أولها الرازي وأصحابه، فنقل شيخ الإسلام كلام الأشعري في (الإبانة) و (المقالات)، وكلام الباقلاني (2)، ثم قال: "فإذا كان قول ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه، وهو الذي ذكروا أنه اتفق عليه سلف الأمة وأهل السنة أن الله فوق العرش وأن له وجها ويدين، وتقرير ما ورد في النصوص الدالة على أنه فوق العرش، وأن تأويل استوى بمعنى استولى هو تأويل المبطلين، ونحو ذلك، علم أن هذا الرازي ونحوه هم مخالفون لأئمتهم في ذلك، وأن الذي نصره ليس هو قول ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه، وإنما هو صريح قول الجهمية والمعتزلة ونحوهم، وإن كان قد قاله بعض متأخري الأشعرية كأبي المعالي ونحوه" (3) , ثم أتبع ذلك بنقل مذهب جمهرة كبيرة من أئمة السلف (4) تؤيد ما ذهب إليه الأشعري وأئمة أصحابه في هذا الباب.2 - وفي معرض رده على دليل حدوث الأجسام الذي أوجبه كثير من متأخري الأشعرية كالجويني يقول شيخ الإسلام عنه: "وبالجملة فإنه وإن كان أبو المعالي ونحوه يوجبون هذه الطريقة، فكثير من أئمة الأشعرية – أو أكثرهم – يخالفونه في ذلك ولا يوجبونها، بل إما أن يحرموها، أو يكرهوها، أو يبيحوها وغيرها، ويصرحون بأن معرفة الله تعالى لا تتوقف على هذه الطريقة ولا يجب سلوكها، ثم هم قسمان: قسم يسوقها، يسوق غيرها، ويعدها طريقا من الطرق، فعلى هذا إذا فسدت لم يضرهم، والقسم الثاني: يذمونها، ويعيبونها، ويعيبون سلكوها وينهون عنها، إما نهي تنزيه وإما نهي تحريم" (5)، ثم نقل عن الخطابي في شعار الدين والغنية ما يدعم قوله (6)، وأشار إلى رسائل الأشعري إلى أهل الثغر (7)، وأنها توافق ما قاله الخطابي، وقد نقل كلام الأشعرية فيها كلام في كتاب آخر (8).3 - وعند ذكر الصفات الخبرية وغيرها مما يتأوله الجويني وأصحابه، قال شيخ الإسلام رادا عليه: "فدعواه أن دلالة القرآن والأخبار على ذلك ليست قطعية يخالفه في هذه الدعوى أئمة السلف وأهل الحديث والفقه والتصوف، وطوائف من أهل الكلام من أصحابه وغيرهم، فإن عندهم دلالة النصوص على ذلك قطعية، وأما الأخبار فأكثر أصحابه أنها إذا تلقيت بالقبول أفادت العلم، كما تقدم ذكرهم لذلك عن الأستاذ أبي إسحاق، وهذا الذي ذكره أبو بكر ابن فورك هو معنى ما ذكره الأشعري في كتبه عن أهل السنة والحديث، وذكر أنه قوله، وإن الإيمان بموجب هذه الأخبار واجب" (9)،   (1) انظر: ((نقض التأسيس)) المخطوط (1/ 32 - 33) – نص كلام الرازي، و (ص: 33 - 63) الرد عليه من كلام شيوخه. (2) انظر: ((نقض التأسيس)) المطبوع (2/ 15 - 35). (3) انظر: ((نقض التأسيس)) المطبوع (2/ 35). (4) انظر: ((نقض التأسيس)) المطبوع (2/ 35 - 44). (5) انظر: ((نقض التأسيس)) المطبوع (2/ 249). (6) انظر: ((نقض التأسيس)) المطبوع (2/ 249 - 255). (7) انظر: ((نقض التأسيس)) المطبوع (2/ 255). (8) انظر: ((درء التعارض)) (7/ 186 - 219)، وانظر: ((النبوات)) (ص: 62). (9) ((نقض التأسيس)) المطبوع (2/ 86 - 87) .. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 والذي أشار إليه شيخ الإسلام بأنه تقدم ما نقله عن أبي القاسم النيسابوري الأنصاري – شارح (الإرشاد) للجويني – فإنه قال في كتابه هذا حين نقل منع الجويني إثبات الصفات بظواهر الآيات: "هذا ما قاله الإمام، وقد رأيت في كتب الأستاذ أبي إسحاق قال: ومما ثبت من الصفات بالشرع الاستواء على العرش، والمجييء يوم القيامة بقوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] وقوله: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22]، ومما ثبت بالأخبار الصحيحة النزول إلى السماء الدنيا كل ليلة، وقوله: ((أنا عند ظن عبدي بي ......... وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا)) (1). الحديث. قال: وأجمع أهل النقل على قبول هذين الخبرين، وما هذا وصفه كان موجبا للعمل ومقبولا في مسائل القطع، هذا ما ذكره الأستاذ في هذا الكتاب" (2)، وهكذا فالإسفراييني وابن فورك يردان على الجويني في زعمه أن أخبار الآحاد – الثابتة – لا يحتج بها في العقائد لأنها لا تفيد العلم. وقد تقدم بيان هذه المسألة. هذه بعض النماذج وهناك نماذج أخرى كثيرة (3).   (1) رواه البخاري (7405) , ومسلم (2675) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) عن ((نقض التأسيس)) المطبوع (1/ 82 - 83). (3) انظر مثلا: ((درء التعارض)) (4/ 111 - 115، 215 - 216، 7/ 245 - 247). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 ب- ومن الأمثلة على الجانب الثاني، وهو ردود بعض الأشاعرة على بعض:1 - ذكر شيخ الإسلام أن كل طائفة تقول عن الأخرى إن مذهبها متناقض ومن هؤلاء الأشاعرة، فمثلا "نفاة الجهة منهم يقولون: إن أدلتهم وأئمتهم الذين يقولون: إن الله تعالى فوق العرش وإنه ليس بجسم متناقضون، وكذلك نفاة الصفات الخبرية منهم يقولون: إن مثبتيها مع نفي الجسم متناقضون، ومثبتة العلو والصفات الخبرية يقولون: إن نفاة ذلك منهم متناقضون، حيث أثبتوا ما هو عرض في المخلوقات كالعلم والقدرة والحياة، وليس هو بعرض في حق الخالق، ولم يثبتوا ما هو جسم في حق المخلوق كاليد والوجه، ويقولون ليس بجسم في حق الخالق" (1). وليس المقصود الإشارة إلى التناقض في مذهب الأشاعرة – لأن هذا سيأتي في الفقرة القادمة – وإنما المقصود أن كل طائفة ترد على الأخرى وتقول: إن قولها متناقض، وكلهم ينسبون أقوالهم إلى المذهب الأشعري.2 - وفي مسألة دليل حدوث الأجسام، ذكر شيخ الإسلام براهين الرازي على حدوث الأجسام وحدوث العالم، ثم ذكر اعتراضات الآمدي على كل واحدة منها وقال: "وكان المقصود ما ذكروه في تناهي الحوادث، ولهذا لم يعتمد الآمدي في مسألة حدوث العالم على شيء من هذه الطرق، بل بين ضعفها، واحتج بما هو مثلها أو دونها في الضعف ... والوجوه التي ضعف بها الآمدي ما احتج به من قبله على حدوث الأجسام يوافق كثير منها ما ذكره الأرموي، وهو (أي الآمدي) متقدم على الأرموي، فإما أن يكون الأرموي رأى كلامه وأنه صحيح فوافقه، وإما أن يكون وافق الخاطر الخاطر كما يوافق الحافر الحافر، أو يكون الأرموي والآمدي أخذا ذلك أو بعضه من كلام الرازي أو غيره، وهذا الاحتمال أرجح ... وبكل حال فهما – مع الرازي ونحوه – من أفضل بني جنسهم من المتأخرين، فاتفاقهما دليل على قوة هذه المعارضات، لا سيما إذا كان الناظر فيها ممن له بصيرة من نفسه، يعرف بها الحق من الباطل في ذلك، بل يكون تعظيمه لهذه البراهين لأن كثيرا من المتكلمين من هؤلاء وغيرهم اعتمد عليها في حدوث الأجسام، فإذا رأى هؤلاء وغيرهم من النظار قدح فيها وبين فسادها علم أن نفس النظار مختلفون في هذه المسألة، وأن هؤلاء الذين يحتجون بها هم بعينهم يقدحون فيها وعلى القدح فيها استقر أمرهم، وكذلك غيرهم قدح فيها كأبي حامد الغزالي وغيره" (2). وقد نقل شيخ الإسلام أقوال كل من الرازي والآمدي والأرموي، وقدح هذين في أدلة حدوث الأجسام التي ذكرها الرازي، نقل كل ذلك من كتبهم، وهو يدل على الاستقصاء الممتاز الذي يتميز به منهج شيخ الإسلام، وهذا الاستقصاء والمتابعة تفيد كثيرا في بيان كيف يرد بعض هؤلاء على بعض، مما يبين فساد الحجج التي يقوم عليها مذهبهم.3 - ومن المسائل المشهورة عند الأشاعرة قولهم: إن الأعراض لا تبقى زمانين ليقولوا: إنها حادثة وإن الجسم لا يخلو منها فيكون الجسم حادثا، وبنوا على ذلك دليل حدوث العالم، كما أن من المسائل المشهورة قولهم: إن الأفعال يجب تناهيها بناء على امتناع حوادث لا أول لها. يقول شيخ الإسلام معلقا على هذه المقدمات العقلية مبينا كيف طعن فيها علماؤهم: "وغاية هؤلاء أن الأعراض لا تبقى زمانين، وجمهور العقلاء يخالفون في ذلك. وأن الأفعال يجب تناهيها، وقد علم نزاع العقلاء فيها، وجمهورهم يمنعون امتناع تناهيها من الطرفين. وقد ذكرنا اعتراض الأرموي وغيره على شيوخه في هذه المقدمات، وقد سبقه إلى ذلك الرازي وغيره، وقدحوا فيها قدحا بينوا به فسادها على وجه لم يعترضوا عليه وإن كان الرازي يعتمدها في مواضع أخر، فنظره استقر على القدح فيها. وكذلك الأثير الأبهري في كتابه المعروف (بتحرير الدلائل في تقرير المسائل) هو وغيره قدحوا في تلك الطرق وبينوا فساد عمدة الدليل، وهو بطلان حوادث لا أول لها" (3). وإذا كان الأمر كذلك فإن الأدلة العقلية التي هي عماد المذهب الأشعري طعن فيها بعض أعلامهم. وبذلك لم يأت رد المذهب ونقضه من خارج رجاله حتى يقال: إن هذه حال جميع الطوائف يرد بعضها على بعض، بل جاء الرد والنقض من داخل المذهب ومن رجال يعتبرون من العمد التي يرتكز عليها أتباع المذهب كل في زمنه وعصره. المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 2/ 872   (1) ((نقض التأسيس)) المطبوع (1/ 93 - 94). (2) انظر: ((درء التعارض)) (3/ 30 - 31). (3) ((درء التعارض)) (6/ 185)، وانظر أيضا (8/ 157). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 المبحث الثاني: إبطال دعوى الأشاعرة أنهم أكثر الأمة لقد تكررت دعوى بعض الأشاعرة بأنهم أكثر الأمة، وأصبح الكثير منهم يتناقلونها في كتبهم ومحاضراتهم، يغرون بها الجهال ممن لا علم لهم بحقيقة الأمر. فقد قال المؤلفان (ص248) (1): "ومذهب الأشاعرة ومن وافقهم من أهل السنة الذي عليه سواد الأمة، وأكابر أهل الفضل فيها" اهـ. وقالا (ص 31) (2): "هذا المذهب الذي يدين به تسعة أعشار أمة الإسلام، وسوادها الأعظم وعلماؤها ودهماؤها" اهـ. ولا ريب أنها دعوى مجردة من الدليل، ويكذبها الواقع التاريخي، ويكفي في إبطالها ما سبق تفصيله في بيان مذهب السلف وطريقهم وبيان مخالفة الأشعرية له، وخروجهم عنه. وجميع من نقلنا نصوصهم في هذا الكتاب بدءاً من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة رضي الله عنهم، ومن لم ننقل عنهم من السلف، جميعهم مخالفون للأشاعرة في أصول الاعتقاد، ومبطلون لأقوالهم ومذهبهم، فضلاً عمن نقلنا عنهم الطعن في الأشاعرة، والتنصيص على خروجهم عن السنة والطريق. وحسبك من ذكرهم ابن القيم في (اجتماع الجيوش الإسلامية)، والذهبي في (العلو) من الصحابة والتابعين وأتباعهم والأئمة والعلماء، ممن نصوا في مسألة علو الله تعالى بنفسه على خلقه بما يخالف مذهب الأشاعرة، وهي واحدة من مسائل الاعتقاد، فكيف إذا أضيف إليهم من نصوا في بقية مسائل الاعتقاد بما يخالف مذهب الأشاعرة؟. فهل يمكن بعد ذلك أن يدعي أن الأشاعرة هم أكثر الأمة، وهم مخالفون للقرون المفضلة الأولى؟!! وقد ذكر ابن المبرد في كتابه (جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر) أكثر من أربعمائة عالم من بين محدث وفقيه وعابد وإمام، كلهم مجانبون للأشاعرة ذامون لهم، بدءاً من عصر الأشعري وحتى وقته، صدرهم بأبي الحسن البربهاري، وختمهم بجمال الدين يوسف بن محمد المرداوي صاحب كتاب (الإنصاف)، ثم قال بعد ذلك: "والله ثم والله ثم والله ما تركنا أكثر مما ذكرنا، ولو ذهبنا نستقصي ونتتبع كل من جانبهم من يومهم وإلى الآن لزادوا على عشرة آلاف نفس" (3) اهـ. بل إن ابن عساكر وهو من خدم الأشعرية بكتابه (تبيين كذب المفتري) قد اعترف بأن أكثر الناس في زمانه وقبل ذلك على غير ما عليه الأشعرية ... فقد قال في التبيين: "فإن قيل: إن الجم الغفير في سائر الأزمان وأكثر العامة في جميع البلدان لا يقتدون بالأشعري ولا يقلدونه، ولا يرون مذهبه، وهم السواد الأعظم، وسبيلهم السبيل الأقوم" (4) اهـ. وقد قال ابن المبرد معلقاً على كلامه هنا: "وهذا الكلام يدل على صحة ما قلنا، وأنه في ذلك العصر وما قبله كانت الغلبة عليهم، وبعد لم يظهر شأنهم" (5) اهـ. وإذا كان أبو الحسن الأشعري إنما ولد سنة 260هـ، وقيل: 270هـ، فما الذي كانت عليه الأمة قبله؟ أفتراها كانت على عقيدة الأشعري الذي لم يكن شيئاً مذكورا كما يزعم هؤلاء؟!! أم أن العقيدة كانت خافية عليهم، حتى ظهر أبو الحسن الأشعري فأيقظ الأمة من سباتها؟ فإن قال قائل: إن الأشعري لم يأت بشيء جديد، ولكنه أبان أموراً وأوضحها في رده على المعتزلة حتى كشف عوارهم، وهذا سبب الانتساب إليه، لكونه صار علماً على السنة في مقابل المعتزلة.   (1) يقصد بهما المؤلفان لكتاب ((أهل السنة الأشاعرة شهادة علماء الأمة وأدلتهم)). (2) يقصد بهما المؤلفان لكتاب ((أهل السنة الأشاعرة شهادة علماء الأمة وأدلتهم)). (3) ((جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر)) (ص: 281). (4) ((تبيين كذب المفتري)) (ص: 331). (5) ((جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر)) (ص: 2283). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 فالجواب أن هذا بلا ريب بعيد عن التحقيق، فضلاً عن الواقع والتاريخ، إذ أن ظهور المعتزلة كان متقدماً على ظهور الأشعري بأكثر من قرن ونصف من الزمان، فضلاً عن الجهمية التي كانت أسبق ظهوراً من المعتزلة. ومن المعلوم أن ظهور هاتين الفرقتين قد جوبه برد عنيف من السلف والأئمة، الذين أنكروا عليهم أعظم النكير، وحكموا بضلالهم، بل وكفر الجهمية منهم، فقام أئمة السنة ابتداءاً من الحسن البصري وإلى عصر الأشعري بالرد على شبهاتهم، وكشف عوارهم. وكتب السنة طافحة بآثار السلف في النكير على الجهمية والمعتزلة والرد على ما ابتدعوه، فانظر كتاب (السنة) لعبدالله بن الإمام أحمد، و (أصول اعتقاد السنة) لللالكائي، و (الإبانة) لابن بطة وغيرها كثير. وقد نقلنا في ثنايا هذا الكتاب كثيراً من كلامهم. ولم يكتف السلف بمقولة أو مقولتين، بل إنهم قد كتبوا الكتب وصنفوا المصنفات في الرد عليهم، ككتاب (الرد على الجهمية) للإمام أحمد، وابنه عبدالله وابن أبي حاتم، وابن قتيبة، والدارمي، والكناني، وابن منده، وأبي العباس السراج وغيرهم كثير، فضلاً عما تضمنته كتب السنة من أبواب الرد على الجهمية، كما فعله البخاري في صحيحه، وأبو داود في سننه، وغيرهما. ناهيك عن كتب السنة الأخرى، والتي ألفت لبيان معتقد السلف والرد على أهل البدع والمخالفين من أصناف المعطلة والمشبهة (1). والمعلوم أن المعتزلة والجهمية قد قويت شوكتهم في أواخر القرن الثاني، لما تأثر بهم الخليفة المأمون، حتى حصلت تلك الفتنة العظيمة، التي امتحن فيها العلماء، وأوذي فيها الإمام أحمد اذى عظيماً، وهي فتنة القول بخلق القرآن، وقد تتابع على هذه الفتنة ثلاثة خلفاء: المأمون، والواثق، والمعتصم، وهذا قد ساهم كثيراً في دفع عجلة السلف لكشف أباطيل هاتين الفرقتين، والجواب عن شبهاتهم، خشية التباسها على الناس. ومع كل هذه الردود من السلف والأئمة على الجهمية والمعتزلة، وما حصل من الفتنة بهم، فإننا لم نجد أحداً من السلف قد يقرر ما قرره الأشعري في الاعتقاد، لا من حيث التأصيل والتقعيد، ولا من حيث الرد على المعتزلة والنكير، بل على العكس من ذلك: وجدنا نصوصهم صريحة في نقض أصوله الاعتقادية في أسماء الله وصفاته، كما سبق بيانه في الباب الأول، فضلاً عن سائر أبواب الاعتقاد كالإيمان، والقدر، والنبوات وغيرها من أبوب الاعتقاد التي لم نعرج عليها في كتابنا هذا. ومن ظن أن السلف كانوا عاجزين عن البيان والتوضيح لأصول المعتقد، والرد على المخالفين كالجهمية والمعتزلة، وكشف عوارهم، والجواب على شبهاتهم، ونقض أصولهم، حتى أتى الأشعري فأبان عما لم يعلموه، ورد على المعتزلة بما لم يستطيعوه؟! فقد ظن بهم ظن السوء، ونسبهم إلى الجهل والعجز. وكفى به ضلالاً وخسراناً. قال ابن المبرد في إبطال هذه الدعوى: "فيا سبحان الله! قبل توبته – أي: من الاعتزال – ما كان للمسلمين أئمة يقتدى بهم، حتى يتخذ مبتدع تاب من بدعته إماماً؟ كأن الناس ماتوا إلى هذا الحد كله، ولم يبق من يصلح للإمامة، حتى يتوب مبتدع من بدعته فيصير إمامهم، وأهل الإسلام قاطبة تقدم متكلماً على أئمة الحديث جميعهم في حال كثرة العلماء، ما هذا الهذيان؟ " (2) اهـ.   (1) للمزيد في معرفة كتب السلف في الرد على الجهمية والمعتزلة انظر رسالة: ((تاريخ تدوين العقيدة السلفية)) لعبدالسلام بن برجس. (2) ((جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر)) (ص105). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 ثم يقال: كيف يدعى ذلك في رجل قضى أربعين سنة من عمره على الاعتزال، ثم تاب في آخر حياته، وعاش في مرحلة التوبة ما يقرب من عشر سنين تزيد قليلاً أو تنقص قليلاً على اختلاف الروايات في مولده، كيف يكون مثل من كان هذا حاله إماماً للمسلمين؟ متى تعلم العلم ورسخ فيه حتى يتخذ إماماً دون أئمة السنة وأهل الحديث؟ هذا ضرب من المحال، بل من الجنون. قال ابن المبرد في رده على ابن عساكر: "فقد أثبت – أي: ابن عساكر – أنه كان أكثر عمره على غير السنة، وأنه كان معتزليا متكلماً، وأنه تاب من الاعتزال ولم يتب من الكلام. فيا سبحان الله! من كان بهذه المثابة وبهذه الحالة يجعل إمام المسلمين والمقتدى به، يترك مثل أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وسفيان الثوري، وابن المبارك، ولا يقتدي ولا يذكر إلا هذا الذي أقام على البدعة عمره" (1) اهـ. ويقال أيضاً: إن أبا الحسن الأشعري بعد رجوعه إلى طريق الكلابية ثم إلى طريق السنة المحضة، لم يكن مبرزاً في شيء من العلوم سوى علم الكلام، ومن كان هذا حاله فحسبه أن يكون متبعاً للسلف ومنتسباً لأئمة السنة وهو الأمر الذي قرره وذكره في أول كتابه الذي يمثل مرحلته الأخيرة: (الإبانة) حيث انتسب فيه إلى الإمام أحمد إمام أهل السنة والجماعة، وأما أن يكون هو الإمام الذي يقتدى به وينسب إليه فهذا ضرب من المجازفة، بل الانحراف.   (1) ((جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر)) (ص: 105). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 ومن المعلوم أن المسلمين كانوا على جهادة السنة والطريق حتى ظهرت الفرق الكلامية، وحصلت الفتن وابتلي المسلمون، فلما جاء أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس وبدأ يظهر بعض رؤوس الأشاعرة وغيرهم من أهل الكلام، انتهض السلفيون لدحر هذه الفتنة، وكشف زيفها وأباطيلها، حتى كتب الخليفة العباسي القادر بالله تلك العقيدة المعروفة بالقادرية والتي سبق أن ذكرنا طرفاً منها، وأمر أن يرسل بها إلى أنحاء الدولة العباسية وأطراف الأمة الإسلامية. وكانت هذه العقيدة قد كتبها أبو أحمد الكرجي المعروف بالقصاب المتوفي سنة (360هـ)، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه (1)، مما يعني أنه قد كتبها للقادر بالله قبل توليه الخلافة، إذ أنه تولى الخلافة سنة (381هـ)، ثم أظهرها في خلافته وأرسل بها في الآفاق. قال الوزير ابن جهير: "هكذا فعلنا أيام القادر، قرئ في المساجد والجوامع" (2).وممن عمل بهذا الأمر من نشر العقيدة ودعوة الناس إليها أعظم ملوك الدولة الغزنوية وفاتح الهند العظيم محمود بن سبكتكين (3)، وكان يحكم أكثر المشرق الإسلامي إلى الهند، فقد أمر بالسنة واتباعها، وأمر بلعن أهل البدع بأصنافهم على المنابر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "اعتمد محمود بن سبكتكين نحو هذا – من فعل القادر من نشر السنة وقمع البدعة – في مملكته، وزاد عليه بأن أمر بلعنة أهل البدع على المنابر، فلعنت الجهمية والرافضة والحلولية والمعتزلة والقدرية، ولعنت أيضا الأشعرية" (4) اهـ. وقال أيضاً: "ولهذا اهتم كثير من الملوك والعلماء بأمر الإسلام وجهاد أعدائه حتى صاروا يلعنون الرافضة والجهمية وغيرهم على المنابر، حتى لعنوا كل طائفة رأوا فيها بدعة، فلعنوا الكلابية والأشعرية كما كان في مملكة الأمير محمود بن سبكتكين" (5) اهـ. وقال الذهبي: "وامتثل ابن سبكتكين أمر القادر فبث السنة بممالكه، وتهدد بقتل الرافضة والإسماعيلية والقرامطة والمشبهة والجهمية والمعتزلة ولعنوا على المنابر" (6) اهـ. ثم لما كان في خلافة القائم بالله ابن القادر، رفع بعض الأشاعرة رؤوسهم وظهر كتاب ابن فورك (تأويل مشكل الحديث) حيث ملأه بالتأويلات لأخبار الصفات، فقام القاضي أبو يعلى بالحق ونصر السنة وألف كتاب (إبطال التأويلات لأخبار الصفات) رداً على تأويلات ابن فورك وحصلت فتنة، عندها أمر الخليفة القائم بأمر الله أن يقرا (الاعتقاد القادري)، ويأخذ توقيعات العلماء على الإقرار بما فيه وأنه المعتقد الصحيح، وكان ذلك في سنة "433هـ".قال ابن كثير في أحداث سنة 433هـ: "وفيها قرئ "الاعتقاد القادري" الذي جمعه الخليفة القادر، وأخذت خطوط العلماء والزهاد عليه بأنه اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فسق وكفر، وكان أول من كتب عليه الشيخ أبو الحسن علي بن عمر القزويني ثم كتب بعده العلماء، وقد سرده الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي بتمامه في منتظمه، وفيه جملة جيدة من اعتقاد السلف" (7) اهـ. وكان ممن وقع عليه القاضي أبو يعلى كما سبق نقل كلام ابنه في الطبقات.   (1) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (6/ 252)، و ((الصفدية)) (2/ 162). (2) ذكر ذلك ابن الجوزي في ((المنتظم)) في أحداث سنة (360هـ). (3) ((أعظم سلاطين الدولة الغزنوية))، حكم ما بين (388 - 412هـ). (4) ((بيان تلبيس الجهمية)) (2/ 331 - 332). (5) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 15). (6) ((سير أعلام النبلاء)) (15/ 135). (7) ((البداية والنهاية)) (12/ 49). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 ثم لما كان في سنة 460هـ أعيدت قراءة "الاعتقاد القادري" وأمر بأن يقرأ في الجوامع والمساجد. قال ابن الجوزي: "وقرأت بخط أبي علي بن البنا قال: اجتمع الأصحاب وجماعة الفقهاء، وأعيان أصحاب الحديث ... وسألوا إخراج "الاعتقاد القادري" وقراءته، فأجيبوا وقرئ هناك بمحضر من الجمع ... وكان أبو مسلم الليثي البخاري المحدث معه كتاب (التوحيد) لابن خزيمة فقرأه على الجماعة ... ونهض ابن فورك قائماً فلعن المبتدعة وقال: لا اعتقاد لنا إلا ما اشتمل عليه هذا الاعتقاد، فشكرته الجماعة على ذلك ... وقال الوزير ابن جهير: ... ونحن نكتب لكم نسخة لتقرأ في المجالس، فقال: هكذا فعلنا في أيام القادر، قرئ في المساجد والجوامع، وقال: هكذا تفعلون فليس أعتقد غير هذا، وانصرفوا شاكرين" (1) اهـ. فانظر إلى هذه الانتهاضة في الإنكار على أهل البدع ومنهم الأشاعرة، ثم انظر إلى ما قاله المؤلفان (ص252) عاكسين للحال: "بل نزيد ونقول إنه لا يبعد أن يكون – أي: ابن جرير – انتسب إليه – أي: الأشعري – فيما لم يصلنا من كتبه، فقد ذكرت كتب التاريخ أنه انتهض لنصرة طريقة الإمام أبي الحسن والإمام أبي منصور جميع أهل السنة في العالم الإسلامي" اهـ. وقد قال ابن المبرد في تأكيد ما ذكرناه: "أنا أذكر لك كلاماً تعلم كيفيتهم: كان الأشعري وأتباعه في زمنه لا يظهر منهم أحد بين الناس، ولا يقدر أحدهم على إظهار كلمة واحدة مما هم عليه، ثم لما ذهب هو وأصحابه، ولا نسب أحداً منهم، فلعله قد تاب حقيقة، بل نسأل الله له ولأتباعه المسامحة، وجاء أصحاب أصحابه، وكان ذلك في زمن شيخ الإسلام الأنصاري كان الواحد والاثنان والثلاثة منهم إذا أرادوا أن يتكلموا بشيء من مذهبهم وما هم عليه اختفوا بذلك بحيث لا يراهم أحد بالكلية، فقد ذكر ذلك شيخ الإسلام الأنصاري وغيره، وهو إمام مقبول عند سائر الطوائف، ومن لم يصدقني فلينظر في كتابه (ذم الكلام) يجد ذلك في عدة مواضع منه. ثم لما كان بعد ذلك بمدة في زمن الخطيب البغدادي وغيره ظهروا بذلك بعض الظهور، فقويت الشوكة عليهم ولعنوا على المنابر، ونفي جماعة منهم (2)، ثم بعد ذلك أبرزوه، وقويت شوكتهم، وكانوا يقومون به ويقعون، تارة لهم وتارة عليهم، ثم في زمن ابن عساكر وغيره ظهروا وبرزوا أكثر من ذلك، وصاروا تارة يظهرون ويترجحون، وتارة يظهر عليهم، ثم في زمن الشيخ تقي الدين ابن تيمية ترجح أمرهم وظهروا غاية الظهور، ولكن كان يقاومهم هو وأصحابه إلا أن الظفر في الظاهر مع أولئك، ثم بعد ذلك عم الخطب والبلوى بذلك فصار ما هم عليه هو الظاهر وصريح السنة، وما عليه السلف هو الخفي، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" (3) اهـ.   (1) ((المنتظم)) (أحداث سنة 460هـ). (2) كما كان في خلافة القادر بالله، وما كان في دولة محمود بن سبكتكين، وفي الدولة السلجوقية في عهد السلطان طغرل بك. (3) ((جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر)) (ص: 281 - 282). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 وأما أسباب انتشار العقيدة الأشعرية في القرون المتأخرة، فهو ما ذكره المقريزي في خططه حيث قال ما نصه: "فانتشر مذهب أبي الحسن الأشعري في العراق من نحو سنة ثمانين وثلاثمائة وانتقل منه إلى الشام، فلما ملك السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ديار مصر، كان هو وقاضيه صدر الدين عبدالملك بن عيسى بن درباس الماراني على هذا المذهب، قد نشئا عليه منذ كانا في خدمة السلطان الملك العادل نور الدين محمود زنكي بدمشق، وحفظ صلاح الدين في صباه عقيدة ألفها له قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري، وصار يحفظها الأشعري، وحملوا في أيام مواليهم كافة الناس على التزامه، فتمادى الحال على ذلك جميع أيام الملوك من بني أيوب، ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك. واتفق مع ذلك توجه أبي عبدالله محمد بن تومرت أحد رجالات المغرب إلى العراق، وأخذ عن أبي حامد الغزالي مذهب الأشعري، فلما عاد إلى بلاد المغرب وقام في المصامدة يفقههم ويعلمهم، وضع لهم عقيدة لفقها عنه عامتهم، ثم مات فخلفه بعد موته عبدالمؤمن بن علي الميسي، وتلقب بأمير المؤمنين، وغلب على ممالك المغرب هو وأولاده من بعد مدة سنين، وتسموا بالموحدين، فلذلك صارت دولة الموحدين ببلاد المغرب تستبيح دماء من خالف عقيدة ابن تومرت، إذ هو عندهم الإمام المعلوم، المهدي المعصوم، فكم أراقوا بسبب ذلك من دماء خلائق لا يحصيها إلا الله خالقها سبحانه وتعالى، كما هو معروف في كتب التاريخ. فكان هذا هو السبب في اشتهار مذهب الأشعري وانتشاره في أمصار الإسلام، بحيث نسي غيره من المذاهب، وجهل حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه، إلا أن يكون مذهب الحنابلة أتباع الإمام أبي عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه، فإنهم كانوا على ما كان عليه السلف، لا يرون تأويل ما ورد من الصفات، إلى أن كان بعد السبعمائة من سني الهجرة، اشتهر بدمشق وأعمالها تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبدالحكم بن عبدالسلام بن تيمية الحراني، فتصدى للانتصار لمذهب السلف وبالغ في الرد على مذهب الأشاعرة، وصدع بالنكير عليهم وعلى الرافضة، وعلى الصوفية" (1) اهـ. وكلام المقريزي هنا يبين وقت وسبب انتشار المذهب الأشعري، وأنه كان بسبب فرضه على الناس، إلى حد قد يصل في بعض الأحايين إلى القوة والقتل كما حصل من ابن تومرت لما حكم المغرب والأندلس. وقد كان لشيخ الإسلام ابن تيمية نصيب من الابتلاء، فقد أوذى وسجن بسبب تبيينه لمنهج أهل السنة والرد على المخالفين. وأما ما يتعلق بعوام المسلمين، فلا ريب أنهم إن تركوا من غير تلقين فإنهم على الفطرة السليمة، وعلى اعتقاد السلف وأهل الحديث، لا يعرفون أصول الكلام، ولا تأويل الصفات، ولا شيئاً من ذلك. ولا يمكن لأحد أن يدعي خلاف ذلك إلا مكابرة. فلا يعرف العامي إلا أن الله في السماء على عرشه فوق خلقه، لا يعرف ما يقوله الأشاعرة من أنه ليس داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا تحت. ولا يعرف العامي إلا أن الله يتكلم، وأنه كلم موسى فسمع موسى كلام الله، لا يعرف الكلام النفسي الذي هو: أمر ونهي وخبر واستخبار. ولا يعرف العامي إلا أن الله يحب التوابين، ويبغض الكافرين، ويرضى عن الطائعين، ويسخط على العاصين، لا يعرف أن هذه الصفات كلها راجعة إلى الإرادة. ولا يعرف العامي إلا أن الله أقدر العبد على الفعل، وجعل له إرادة لها تأثير فيه، لا يعرف الكسب الذي هو اقتران القدرة الحادثة بالقدرة القديمة، وأن الحادثة لا تأثير لها في الفعل البتة. وسل إن شئت جماعات المسلمين يخبروك بحقيقة الحال إذ أنهم على الفطرة، فأما عقيدة الأشاعرة فلا يعرفها إلا من درسها في المعاهد والمدارس. فدعوى أن الأشعرية هو المذهب الذي يدين به عامة الأمة ودهماؤها، دعوى باطلة جملة وتفصيلاً. المصدر: الأشاعرة في ميزان أهل السنة لفيصل الجاسم - ص 741   (1) ((الخطط)) (4/ 192). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 المبحث الثالث: ذكر بعض من نسبوا إلى الأشعرية وبيان براءتهم منها الإمام الحافظ الحجة محمد بن إسماعيل البخاري "256هـ":زعم المؤلفان (1) أن البخاري كان موافقاً لابن كلاب في معتقده!! وهي دعوى مردودة، يأباها التحقيق العلمي، والاستقراء التاريخي. فإن البخاري رحمه الله رأس في الحديث، بل هو إمام الدنيا في عصره وحامل لواء أهل الحديث، وليس هذا بعجب منه، إذ أنه كان تلميذ أئمة السنة، وعلى رأسهم إمام أهل السنة بلا منازع أحمد بن حنبل، وكذا إسحاق بن راهوية، وأبو نعيم الفضل بن دكين، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وغيرهم من أكابر أئمة السنة وبقية السلف. ومن تأويل ما سطره في صحيحه، وفي غيرها من كتبه يعلم تمام العلم، أنه كان على عقيدة أهل الأثر، لا أهل الكلام، وأنه يثبت صفات الله تعالى على الوجه اللائق به، بلا تشبيه ولا تكييف، وبلا تنزيه ينفي حقائقها. وقد عقد كتاباً في صحيحه أسماه كتاب (التوحيد)، أثبت فيه الصفات لله تعالى على منوال السلف والأئمة، لا على منوال أهل الكلام، فعقد فيه ثمانية وخمسين باباً في إثبات صفات الله، منها: - باب: "قول الله تعالى: وَيُحَذكرمُ اللهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28] "، لإثبات النفس لله تعالى. - وباب: "قول الله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] "، لإثبات الوجه لله تعالى. - وباب: "قول الله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه: 39] "، لإثبات العين لله تعالى. - وباب: "قول الله تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] "، لإثبات اليد لله تعالى.- وباب: "قول النبي صلى الله عليه وسلم ((لا شخص أغير من الله)) (2)، لإثبات الشخص لله تعالى. - وباب: " قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً [الأنعام: 19]، فسمى الله تعالى نفسه شيئاً. وسمى النبي صلى الله عليه وسلم القرآن شيئاً. وهو صفة من صفات الله. وقال: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88]؛ لإثبات أن الله تعالى يسمى شيئاً. - وباب: " وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء [هود: 7]، رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة: 129] "، لإثبات علو الله تعالى على خلقه، واستوائه وارتفاعه على عرشه، وأورد فيه قول أبي العالية ومجاهد: استوى: علا وارتفع، ثم ساق الأحاديث الدالة على علو الله تعالى، وأنه في السماء فوق كل شيء. - وباب: "قول الله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29] ... وقوله تعالى: لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق: 1]، وأن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين"، ففيه إثبات أن الله يوصف بأنه يحدث ما شاء.   (1) يقصد بهما المؤلفان لكتاب ((أهل السنة الأشاعرة شهادة علماء الأمة وأدلتهم)). (2) رواه البخاري (7416) , من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 - وأبواب في إثبات كلام الله تعالى، منها: باب لإثبات الحرف والصوت لله تعالى فقال: "باب كلام الرب مع جبريل، ونداء الله الملائكة".- وباب: "ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرها من الخلائق، وهو فعل الرب تبارك وتعالى وأمره، فالرب بصفاته وفعله وأمره، وهو الخالق المكون غير مخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون" (1).قال ابن القيم: "وهذه الترجمة فصل في مسألة الفعل والمفعول، وقيام أفعال الرب عز وجل به وأنها غير مخلوقة، وأن المخلوق هو المنفصل عنه الكائن بفعله وأمره وتكوينه، ففصل النزاع بهذه الترجمة أحسن فصل، وأبينه، وأوضحه، إذ فرق بين الفعل والمفعول، وما يقوم بالرب سبحانه، وما لا يقوم به، وبين أن أفعاله تعالى كصفاته، داخلة في مسمى اسمه، ليست منفصلة خارجة مكونة، بل بها يقع التكوين" (2) اهـ. وهذا التقرير يخالف ما عليه الأشعرية من امتناع قيام الأفعال الاختيارية بذات الله تعالى لأنها حوادث، والحوادث عندهم لا تقوم إلا بحادث، فيمنعون ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال، فلا يجوزون أن يقوم به خلق، ولا استواء، ولا إتيان، ولا مجيء، ولا تكليم، ولا مناداة، ولا مناجاة، ولا غير ذلك مما وصف بأنه مريد له قادر عليه. وزاد البخاري هذا تأكيداً في (خلق أفعال العباد) في باب: "الرد على الجهمية وأصحاب التعطيل"، فقال: "ولقد بين نعيم بن حماد أن كلام الرب ليس بخلق وأن العرب لا تعرف الحي من الميت إلا بالفعل فمن كان له فعل فهو حي ومن لم يكن له فعل فهو ميت، وأن أفعال العباد مخلوقة، فضيق عليه حتى مضى لسبيله، وتوجع أهل العلم لما نزل به، وفي اتفاق المسلمين دليل على أن نعيماً ومن نحا نحوه ليس بمفارق ولا مبتدع بل البدع والرئيس بالجهل بغيرهم أولى؛ إذ يفتون بالآراء المختلفة مما لم يأذن به الله" (3) اهـ. وقال في موضع آخر: "ففعل الله صفة الله، والمفعول غيره من الخلق" (4) اهـ. وبوب في مسائل الإيمان: - باب: "وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عملاً"، لإثبات أن العمل من الإيمان. - وقال في باب: "قول الله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96] وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عملاً".وهو القائل: "كتبت عن ألف وثمانين رجلاً، ليس فيهم إلا صاحب حديث، كانوا يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص" (5) اهـ. ومعلوم أن هذا مخالف لعقيدة الأشاعرة الذين يرون أن الإيمان هو التصديق، وأن العمل لا يسمى إيماناً. وعقد في كتاب (التوحيد) من صحيحه غير ذلك من الأبواب الكثيرة التي يقرر فيه الصفات لله تعالى كما جاءت في الكتاب والسنة من غير تعرض لها بتأويل ولا تحريف.   (1) وانظر: ((المختار في أصول السنة)) لابن البنا، حيث عقد فصلاً بين فيه معتقد الإمام البخاري من خلال تبويبه لكتاب التوحيد من صحيحه (ص110 - 149). (2) ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (ص: 238). (3) ((خلق أفعال العباد)) (ص: 107). (4) ((خلق أفعال العباد)) (ص: 173). (5) ((سير أعلام النبلاء)) (12/ 395). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 قال الذهبي في (العلو): "قال الإمام أبو عبدالله بن إسماعيل في آخر الجامع الصحيح في كتاب (الرد على الجهمية)! باب قوله تعالى: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء [هود: 7]، قال أبو العالية: استوى إلى السماء، ارتفع. وقال مجاهد في اسْتَوَى: علا على العرش. وقالت زينب أم المؤمنين رضي الله عنها: "زوجني الله من فوق سبع سموات".ثم إنه بوب على أكثر ما تنكره الجهمية، من العلو، والكلام، واليدين، والعينين، محتجاً بالآيات والأحاديث، فمن ذلك قوله: "باب قوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: 10] "، و"باب قوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] "، "باب قوله: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه: 39]، و"باب كلام الرب عز وجل مع الأنبياء"، ونحو ذلك مما إذا تعلقه اللبيب عرف من تبويبه أن الجهمية ترد ذلك وتحرف الكلم عن مواضعه، وله مصنف مفرد سماه (كتاب أفعال العباد) في مسألة القرآن" (1) اهـ. وكتب البخاري أيضاً في تقرير بعض مسائل المعتقد كتاب (خلق أفعال العباد والرد على الجهمية وأصحاب التعطيل)، والذي قرر فيه معتقد أهل السنة والجماعة، ونقل كثيراً من نصوص السلف والأئمة في الصفات، والتي سبق أن ذكرنا بعضها في ثنايا كتابنا هذا، ككلامهم في علو الله تعالى على خلقه، وفي كلام الله تعالى، وقرر أنه بصوت كما سبق نقل كلامه. فقال: "وإن الله عز وجل ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، فليس هذا لغير الله عز وجل ذكره. قال أبو عبدالله: وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق، لأن صوت الله جل ذكره يسمع من بعد كما يسمع من قرب، وأن الملائكة يصعقون من صوته، فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا، وقال عز وجل: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً [البقرة: 22]، فليس لصفة الله ند، ولا مثل، ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين" (2) اهـ. وهذه الصفة مما اتفق الأشاعرة على إنكارها، وتنزيه الله عن الاتصاف بها، بدعوى أنها تستلزم التشبيه، بناءاً على أصلهم في الكلام النفسي. فإثبات البخاري لكلام الله تعالى وأنه بحرف وصوت، يبطل دعوى انتسابه أو تأثره بابن كلاب، لأن مسألة الكلام النفسي هي من أشهر المسائل التي خالف فيها ابن كلاب السلف، ولذلك اشتد نكير الإمام أحمد عليه كما سيأتي بيانه، وأمر بهجر الحارث المحاسبي بسببه. فطريقة البخاري في صحيحه في كتاب (التوحيد)، وكذا في كتاب (خلق أفعال العباد) في تقرير المعتقد، ظاهرة في كونه على منهج السلف وطريقهم، الذين يجعلون الكتاب والسنة أصلاً، ثم يتبعونه بكلام السلف من الصحابة والتابعين والأئمة. كما أن تبويبه لمسائل المعتقد يدل بشكل واضح على عدم كونه من المتكلمين، بل هو مباين لهم غاية التباين. ومما يؤكد كون البخاري لم يكن موافقاً لابن كلاب، أنه لم يذكره في شيء من كتبه البتة، ولا عرج على كلامه، ولا على كلام أصحابه، كالحارث المحاسبي، والقلانسي، والكرابيسي، وغيرهم. لا في صحيحه، ولا في تواريخه، كالتاريخ الكبير، والأوسط، والصغير، ولا في كتبه الأخرى ككتاب (خلق أفعال العباد). الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري "310هـ": هو إمام المفسرين ومقدمهم محمد بن جرير ابن يزيد بن كثير الإمام العلم المجتهد عالم العصر أبو جعفر الطبري صاحب التصانيف البدعية من أهل آمل طبرستان. وله كتابان في المعتقد، هما: (التبصير في معالم الدين)، و (صريح السنة)، قد قرر فيهما المعتقد وأبان عن منهجه وطريقته، فضلاً عما سطره في ثنايا تفسيره العظيم.   (1) ((العلو)) (ص: 186). (2) ((خلق أفعال العباد)) (ص: 137). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 ومع وجود هذين الكتابين، فإن المؤلفين لم ينقلا حرفاً واحداً منهما، ولم يشيرا إليهما البتة، ويزعمان مع ذلك أن الطبري أشعري المعتقد!!! وقد سبق أن نقلنا كثيراً من تقريراته في مسائل المعتقد في ثنايا الكتاب. ونؤكد هنا ما نقلنا ونزيد عليه: علو الله تعالى بنفسه على خلقه: قال الذهبي في (العلو): "قال أبو سعيد الدينوري مستملي محمد بن جرير قال: قريء على أبي جعفر محمد بن جرير الطبري وأنا أسمع في عقيدته، فقال "وحسب امرئ أن يعلم أن ربه هو الذي على العرش استوى، فمن تجاوز ذلك فقد خاب وخسر".قال الذهبي: تفسير ابن جرير مشحون بأقوال السلف على الإثبات، فنقل في قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء [البقرة: 29]، عن الربيع بن أنس: أنه بمعنى ارتفع. ونقل في تفسير: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54]، في المواضع كلها أي: علا وارتفع. وقد روى قول مجاهد، ثم قال: ليس في فرق الإسلام من ينكر هذا، لا من يقرأن الله فوق العرش، ولا من ينكره من الجهمية وغيرهم" (1) اهـ. قال ابن جرير في تفسير قوله تعالى: مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة: 7]: "وعنى بقوله: هُوَ رَابِعُهُمْ، بمعنى: أنه مشاهدهم بعلمه، وهو على عرشه. كما حدثني عبدالله بن أبي زياد، قال: ثني نصر بن ميمون المضروب، قال: ثنا بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان، عن الضحاك، في قوله مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ ... إلى قوله: هُوَ مَعَهُمْ [المجادلة: 7]، قال: هو فوق العرش وعلمه معهم: أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " (2) اهـ. إثبات اليدين لله تعالى: وقال في تفسير قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64]: "اختلف أهل الجدل في تأويل قوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ، فقال بعضهم: عنى بذلك: نعمتاه ... وقال آخرون منهم: عنى بذلك القوة ... وقال آخرون منهم: "بل "يده"، ملكه ... وقال آخرون منهم: بل "يد الله" صفة من صفاته، هي يد، غير أنها ليست بجارحة كجوارح بني آدم. قالوا: وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن خصوصه آدم بما خصه به من خلقه إياه بيده، قالوا: ولو كان معنى "اليد" النعمة، أو القوة، أو الملك، ما كان لخصوصه آدم بذلك وجه مفهوم، إذ كان جميع خلقه مخلوقين بقدرته، ومشيئته في خلقه نعمة، وهو لجميعهم مالك ... ". إلى أن قال: "قالوا: ففي قول الله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64]، مع إعلامه عباده أن نعمه لا تحصى، مع ما وصفنا من أنه غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤديان عن الجميع، ما ينبئ عن خطأ قول من قال: معنى "اليد" في هذا الموضع: النعمة، وصحة قول من قال: إن "يد الله" هي له صفة. قالوا: وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال به العلماء وأهل التأويل" (3) اهـ.   (1) ((العلو)) (ص: 205). (2) ((تفسير الطبري)) (18/ 12). (3) ((تفسير الطبري)) (6/ 301 - 302). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 إثبات صفة الإتيان لله تعالى: قال في تفسير قوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ [الأنعام: 158]: "يقول جل ثناؤه: هل ينتظر هؤلاء العادلون بربهم الأوثان والأصنام إلا أن تأتيهم الملائكة بالموت فتقبض أرواحهم، أو أن يأتيهم ربك يا محمد بين خلقه في موقف القيامة، أو يأتي بعض آيات ربك، يقول: أو أن يأتيهم بعض آيات ربك، وذلك فيما قال أهل التأويل طلوع الشمس من مغربها ... "، ثم ذكر آثار السلف على ذلك" (1) اهـ. إثبات الصفات على الحقيقة بلا تشبيه: وقال في (التبصير في معالم الدين): "ولله تعالى ذكره أسماء وصفات جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمته، لا يسع أحداً من خلق الله – قامت عليه الحجة بأن القرآن نزل به، وصح عنده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه به الخبر منه – خلافه، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه به من جهة الخبر على ما بينت فيما لا سبيل إلى إدراك حقيقة علمه إلا حساً، فمعذور بالجهل به الجاهل؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل، ولا بالرؤية والفكر. وذلك نحو: إخبار الله تعالى ذكره إيانا أنه سميع بصير. وأن له يدين لقوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64]. وأن له يميناً لقوله: وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67]. وأن له وجهاً لقوله: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88]. وقوله: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 27].وأن له قدماً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حتى يضع الرب قدمه فيها)) (2) ,يعني جهنم. وأنه يضحك إلى عبده المؤمن لقول النبي صلى الله عليه وسلم للذي قتل في سبيل الله: إنه لقي الله عز وجل وهو يضحك إليه. (3). وأنه يهبك كل ليلة وينزل إلى السماء الدنيا؛ لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنه ليس بأعور؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم، إذ ذكر الدجال فقال: ((إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور)) (4). وأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم، كما يرون الشمس ليس دونها غيابة، وكما يرون القمر ليلة البدر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم. وأن له أصابع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن ... )) (5). إلى أن قال: "فإن كان الخبر الوارد بذلك خبراً تقوم به الحجة مقام المشاهدة والسماع، وجبت الدينونة على سماعه بحقيقته في الشهادة عليه بأن ذلك جاء به الخبر، نحو شهادته على حقيقة ما عاين وسمع ... ".   (1) ((تفسير الطبري)) (8/ 96). (2) رواه البخاري (7384) , ومسلم (2848) , من حديث أنس رضي الله عنه. (3) رواه البخاري (2826) , ومسلم (1890) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة ... ). (4) رواه البخاري (7131) , ومسلم (2933) , من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (5) رواه مسلم (2654) , من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص, بلفظ: (إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن ... ). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 إلى أن قال: "فإن قال لنا قائل: فما الصواب في معاني هذه الصفات التي ذكرت، وجاء ببعضها كتاب الله عز وجل ووحيه، وجاء ببعضها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قيل: الصواب من هذا القول عندنا: أن نثبت حقائقها على ما نعرف من جهة الإثبات ونفي التشبيه، كما نفي عن نفسه جل ثناؤه فقال لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] ... ".إلى أن قال: "فنثبت كل هذه المعاني التي ذكرنا أنها جاءت بها الأخبار والكتاب والتنزيل على ما يعقل من حقيقة الإثبات، وننفي عنه التشبيه" (1). إثبات النزول لله تعالى: قال في "التبصير": "قيل له –أي: للمعطل-: فما أنكرت من الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه يهبط إلى السماء الدنيا فينزل إليها. فإن قال: أنكرت ذلك؛ أن الهبوط نقلة، وأنه لا يجوز عليه الانتقال من مكان إلى مكان، لأن ذلك من صفات الأجسام المخلوقة. قيل لهً: فقد قال جل ثناؤه: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22]، فهل يجوز عليه المجيء؟ فإن قال: لا يجوز ذلك عليه، وإنما معنى هذا القول: وجاء أمر ربك. قيل: قد أخبرنا تبارك وتعالى أنه يجيء هو والملك، فزعمت أنه يجيء أمره لا هو، فكذلك تقول: أن الملك لا يجيء، إنما يجيء أمر الملك لا الملك، كما كان معنى مجيء الرب تبارك وتعالى مجيء أمره. فإن قال: لا أقول ذلك في الملك، ولكني أقول في الرب. قيل له: فإن الخبر عن مجيء الرب تبارك وتعالى والملك خبر واحد، فزعمت في الخبر عن الرب تعالى ذكره أنه يجيء أمره لا هو، وزعمت في الملك أنه يجيء بنفسه لا أمره، فما الفرق بينك وبين من خالفك في ذلك فقال: بل الرب هو الذي يجيء، فأما الملك فإنما يجيء أمره لا هو بنفسه؟! ... ". إلى أن قال: "فإن قال لنا منهم قائل: فما أنت قائل في معنى ذلك؟ قيل له: معنى ذلك ما دل عليه ظاهر الخبر، وليس عندنا الخبر إلا التسليم والإيمان به، فنقول: يجيء ربنا جل جلاله يوم القيامة والملك صفا صفا، ويهبط إلى السماء الدنيا وينزل إليها في كل ليلة، ولا نقول: معنى ذلك ينزل أمره، بل نقول: أمره نازل إليها في كل لحظة وساعة، وإلى غيرها من جميع خلقه الموجودين ما دامت موجودة. ولا تخلو ساعة من أمره فلا وجه لخصوص نزول أمره إليها وقتاً دون وقت، ما دامت موجودة باقية" (2). القرآن كلام الله غير مخلوق: قال في "صريح السنة" في إثبات أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، وإبطال معتقد الأشاعرة فيه: "فمن قال غير ذلك، أو ادعى أن قرآناً في الأرض أو في السماء سوى القرآن الذي نتلوه بألسنتنا، ونكتبه في مصاحفنا، أو اعتقد غير ذلك بقلبه، أو أضمره في نفسه، أو قاله بلسانه دائناً به فهو بالله كافر حلال الدم، بريء من الله، والله منه بريء بقول الله عز وجل: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ [البروج: 21 - 22]، وقال وقوله الحق: وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ [التوبة: 6].فأخبر جل ثناؤه أنه في اللوح المحفوظ مكتوب، وأنه من لسان محمد صلى الله عليه وسلم مسموع، وهو قرآن واحد: من محمد صلى الله عليه وسلم، وفي اللوح المحفوظ مكتوب، وكذلك هو في الصدور محفوظ، وبألسن الشيوخ والشباب متلو" (3) اهـ. وهذا يبطل معتقد الأشاعرة الذين يزعمون أن هناك قرآنين أحدهما: كلام الله غير مخلوق وهو ما قام بذات الله، والآخر مخلوق: وهو الملفوظ المتلو المكتوب، كما سبق بيان قولهم في الفصل الثالث من الباب الثاني.   (1) ((التبصير)) (134 - 142). (2) ((التبصير)) (134 - 142). (3) ((صريح السنة)) (ص: 24). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 وقال في اللفظة: "وأما القول في ألفاظ العباد بالقرآن فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي مضى، ولا تابعي قضى، إلا عمن في قوله الغناء والشفاء رحمة الله عليه ورضوانه، وفي اتباعه الرشد والهدى، ومن يقوم مقام قول الأئمة الأولى، أبي عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل حنبل رضي الله عنه. فإن أبا إسماعيل الترمذي حدثني قال: سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل يقول: اللفظة جهمية لقول الله جل اسمه: يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ [التوبة: 6]، فممن يسمع. ثم سمعت جماعة من أصحابنا لا أحفظ أسماءهم يذكرون عنه أنه كان يقول: من قال "لفظي بالقرآن مخلوق" فهو جهمي، ومن قال "هو غير مخلوق" فهو مبتدع" (1) اهـ. وقال أيضاً في تعريف الإيمان: "فإن الصواب فيه قول من قال: هو قول وعمل، يزيد وينقص، وبه جاء الخبر عن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه مضى أهل الدين والفضل" (2) اهـ. وهذا مخالف لمعتقد الأشاعرة الذين يرون أن الإيمان هو التصديق، وأن الأعمال ليست داخلة في حقيقة الإيمان. هذه نتف من كلام ابن جرير رحمه الله في تقرير الاعتقاد تبين موافقته للسلف، ومخالفته للأشاعرة. وكيف لا يكون كذلك وهو صاحب إمام الأئمة ابن خزيمة، ومحمد بن نصر المروزي وغيرهم من أئمة السنة. الإمام الحافظ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني "385هـ": كان الحافظ الدارقطني من ضمن من حاول المؤلفان ضمه إلى ركب الأشاعرة استكثاراً للأتباع، وتشبعاً بما لم يعطيا. والحافظ الدارقطني علم من الأعلام، وإمام من الأئمة الذين ألفوا وكتبوا في فنون كثيرة، ومنها: "المعتقد"، فاللدارقطني ثلاثة كتب معروفة مشهورة مطبوعة متداولة في معتقد أهل السنة والجماعة، وهي: كتاب (الصفات)، وكتاب (الرؤية)، وكتاب (أحاديث النزول). ومع توفر هذه الكتب في المكتبة الإسلامية، فإننا نجد المؤلفين لم يعرجا على شيء منها البتة، وأعرضا عنها تماماً، واستندا في دعواهما بأشعريته على قصة ذكر فيها أن الدارقطني قبل رأس أبي بكر الباقلاني الأشعري، وأثنى عليه. ومن المعلوم أن هذه الطريقة لا يمكن الاعتماد عليها في استخلاص معتقد إمام معروف بكتبه كالحافظ الدارقطني، وغاية ما فيها ثناء الدارقطني على بعض الأشاعرة. وهذا على فرض ثبوته يحتمل أموراً كثيرة. منها: أن الثناء عليه قد يكون قبل أن يعلم حاله، وقبل أن يظهر ما ظهر من معتقداته. ومنها: أن الثناء قد يكون نسبياً، كأن يثني عليه لجهوده في الرد على المعتزلة والجهمية ونحوهم، وقد كان الباقلاني معروفاً بهذا. لا لكونه موافقاً للحق في كل معتقده. وقد ذكر ابن المبرد الدارقطني من ضمن من كان مجانباً للأشاعرة، فقال: "ومنهم: الإمام أبو الحسن الدارقطني، كان مجانباً لهم – أي: الأشاعرة -، وله كلام في ذمهم" (3). وأنا أبين هنا ما سطره الدارقطني في كتبه حتى يتبين لكل عاقل، بطلان هذه الدعوى، وأن الدارقطني كان إماماً في السنة، رأساً فيها، ناهجاً نهج السلف والأئمة، لم يكن أشعرياً ولا كلابياً ولم يدخل في الكلام البتة. فكتاب (الصفات) قد ألفه في إثبات صفات الله تعالى التي كان يتأولها المعطلة من الجهمية والمعتزلة والكلابية والأشعرية، فعقد بابا لإثبات القدم لله عز وجل، وباب لإثبات اليدين، وبابا لإثبات الضحك، وبابا لإثبات الأصابع، وبابا في ما جاء في الكرسي، وبابا في ما جاء في صورة الرحمن، وبابا في ما جاء في حثيات الرب عز وجل، وبابا في ما جاء في يمين الله عز وجل، وباباً في ما جاء في كف الرحمن.   (1) ((صريح السنة)) (ص: 37). (2) ((صريح السنة)) (ص: 35). (3) ((جميع الجيوش والدساكر على ابن عساكر)) (ص: 208). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 ثم أعقب هذه الأبواب بباب في بيان منهج السلف في هذه الصفات، وهو إمرارها على ظاهرها، وعدم التعرض لها بتأويل، ولا تشبيه، ونقل فيها كثيراً من نصوص السلف والتي قد ذكرنا كثيراً منها في الباب الأول. وأما كتاب (أحاديث النزول) فقد أثبت فيه صفة النزول لله تعالى، وأنه حق على حقيقته من غير تشبيه ولا تحريف ولا تأويل، وأنه نزول الله تعالى لا نزول ملك ولا نزول أمره ونحو ذلك مما يتأوله الأشاعرة وجميع المعطلة، وجميع فيه أحاديث النزول في الثلث الأخير من الليل، وفي شعبان، وعشية عرفة، وقال في أوله: "ذكر الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تبارك وتعالى ينزل في كل ليلة إلى سماء الدنيا، فيغفر للمستغفرين ويعطي السائلين" (1) اهـ. وأما كتاب (الرؤية) فقد قرر فيه معتقد السلف في أن الله تبارك وتعالى يرى يوم القيامة، يراه المؤمنون في العرصات، وبعد دخول الجنة، وجمع فيها الأحاديث المتواترة الدالة على ذلك، ونقل فيه كلام الصحابة والتابعين والأئمة في إثبات ذلك، وأن ألذ نعيم أهل الجنة النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى. فكيف يمكن بعد ذلك إدخال الدارقطني في جملة الأشعرية؟!! وكتبه كلها قد نسجها على منوال السلف في تقرير المعتقد، فيستدل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم من كلام السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم، ولم يعرج قط على المسائل الكلامية، ولا الدلائل التي يسميها أصحابها عقلية، بل كان مبغضاً لهذه الطرق. قال الذهبي في (العلو): "كان العلامة الحافظ أبو الحسن علي بن عمر نادرة العصر، وفرد الجهابذة، ختم به هذا الشأن، فمما صنف: كتاب (الرؤية)، وكتاب (الصفات)، وكان إليه المنتهى في السنة ومذاهب السلف. وهو القائل ما أنبأني أحمد بن سلامة بن يحيى بن يونس أنبأنا ابن كادش أنشدنا أبو طالب العشاري أنشدنا الدارقطني رحمه الله تعالى: حديث الشفاعة في أحمد ... إلى أحمد المصطفى نسنده وأما حديث بإقعاده ... على العرش أيضاً فلا نجحده أمروا الحديث على وجهه ... ولا تدخلوا فيه ما يفسده اهـ (2). وقال الذهبي في السير: "وصح عن الدارقطني أنه قال: ما شيء أبغض إلي من علم الكلام. قلت: لم يدخل الرجل أبداً في علم الكلام، ولا الجدال ولا خاض في ذلك، بل كان سلفياً. سمع هذا القول منه أبو عبدالرحمن السلمي" (3) اهـ. الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبدالله الأصبهاني "430هـ":وهو ممن عده المؤلفان (4) من الأشاعرة، اتباعاً لابن عساكر، وقد استدرك ذلك عليه ابن المبرد منتقداً إلحاقه له بالأشاعرة فقال: "ثم ذكر فيهم أبا نعيم الحافظ، وليس بمسلم له فيه، وهو اختلاف عليه" (5) اهـ.   (1) ((النزول)) (ص: 1). (2) ((العلو)) (ص: 234). (3) ((سير أعلام النبلاء)) (16/ 457). (4) يقصد بهما المؤلفان لكتاب ((أهل السنة الأشاعرة شهادة علماء الأمة وأدلتهم)). (5) ((جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر)) (ص: 186). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 وأنا أذكر بعض ما نقل عنه في المعتقد ليتبين لنا حقيقة هذا الدعوى: قال في كتابه (محجة الواثقين ومدرجة الواقين) فيما نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأجمعوا أن الله فوق سمواته، عالْ على عرشه، مستو عليه، لا مستول عليه كما تقول الجهمية: أنه بكل مكان، خلافاً لما نزل في كتابه: أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك: 16]، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: 10]، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]، له العرش المستوي عليه، والكرسي الذي وسع السماوات والأرض، وهو قوله وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة: 255]، وكرسيه جسم، والأرضون السبع والسماوات السبع عند الكرسي كحلقة في أرض فلاة، وليس كرسيه علمه كما قالت الجهمية، بل يوضع كرسيه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه، كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه تعالى وتقدس يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده والملائكة صفاً صفاً كما قال تعالى: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22]، وزاد النبي صلى الله عليه وسلم وأنه تعالى وتقدس يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده فيغفر لمن يشاء من مذنبي الموحدين، ويعذب من يشاء، كما قال تعالى: يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء [آل عمران: 129] " (1) اهـ. وقال الذهبي في (العلو): "قال الحافظ الكبير أبو نعيم أحمد بن عبدالله بن أحمد الأصبهاني مصنف "حيلة الأولياء" في كتاب (الاعتقاد) له: "طريقتنا طريقة السلف المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة. ومما اعتقدوه أن الله لم يزل كاملاً بجميع صفاته القديمة، لا يزول ولا يحول، لم يزل عالماً بعلم بصيراً ببصر سميعاً بسمع متكلماً بكلام، ثم أحدث الأشياء من غير شيء، وأن القرآن كلام الله، وكذلك سائر كتبه المنزلة، كلامه غير مخلوق، وأن القرآن في جميع الجهات مقروءاً ومتلواً ومحفوظاً ومسموعاً ومكتوباً وملفوظاً كلام الله حقيقة، لا حكاية ولا ترجمة، وأنه بألفاظنا كلام الله غير مخلوق، وأن الواقفة واللفظية من الجهمية، وأن من قصد القرآن بوجه من الوجوه يريد به خلق كلام الله فهو عندهم من الجهمية، وأن الجهمي عندهم كافر – إلى أن قال: وأن الأحاديث التي ثبتت في العرض واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل، وأن الله بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم، وهو مستو على عرشه في سمائه من دون أرضه" (2) اهـ. ونقل ابن القيم عنه قوله في عقيدته: "وإن الله سميع، بصير، عليم، خبير، يتكلم، ويرضى، ويسخط، ويضحك، ويعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكاً، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف يشاء، فيقول: هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر. ونزول الرب تعالى إلى سماء الدنيا بلا كيف، ولا تشبيه، ولا تأويل، فمن أنكر النزول أو تأويل فهو مبتدع ضال، وسائر الصفوة العارفين على هذا. ثم قال: وإن الله استوى على عرشه بلا كيف، ولا تشبيه، ولا تأويل، فالاستواء معقول، والكيف مجهول، وأنه سبحانه بائن من خلقه، وخلقه بائنون منه، بلا حلول، ولا ممازجة، ولا اختلاط، ولا ملاصقة، لأنه البائن الفرد من الخلق، والواحد الغني عن الخلق .. - وقال أيضاً: طريقنا طريق السلف المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة -، وساق ذكر اعتقادهم ثم قال: ومما اعتقدوه أن الله في سمائه دون أرضه وساق بقيته" (3) اهـ.   (1) نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (5/ 60). (2) ((العلو)) (ص: 243). (3) ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (ص: 279). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 شيخ الإسلام الإمام أبو عثمان إسماعيل بن عبدالرحمن الصابوني "449هـ":زعم المؤلفان (1) أن شيخ الإسلام الصابوني أشعري، مستندين على ما ذكره ابن عساكر في تبيين كذب المفتري حيث قال: "وسمعت الشيخ أبا بكر أحمد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن بشار البوشنجي المعروف بالخركردي الفقيه الزاهد يحكي عن بعض شيوخه: أن الإمام أبا عثمان إسماعيل بن عبدالرحمن بن أحمد الصابوني النيسابوري، قال: ما كان يخرج إلى مجلس درسه إلا وبيده كتاب (الإبانة) لأبي حسن الأشعري، ويظهر الإعجاب به، ويقول: ماذا الذي ينكر على من هذا الكتاب شرح مذهبه. فهذا قول الإمام أبي عثمان وهو من أعيان أهل الأثر بخراسان" (2) اهـ. والاستدلال بمثل هذه الحكاية على أشعرية الصابوني خطأ كبير لأمور: الأول: أن المخبر بها غير مسمى، فلا يعرف من هو، فكيف يمكن الاعتماد على مثل هذه الحكاية. الثاني: أنه أمر غير مستغرب، لأن (الإبانة) الذي ألفه الأشعري في آخر عمره، قد مشى فيه على طريقة السلف، ورجع عما كان عليه من طريقة ابن كلاب، وهو ما سيأتي تقريره في الفصل الثالث من الباب الخامس. فلذلك نقول: إن كانت الأشعرية هي على ما عليه الأشعري في (الإبانة) فحي هلا، وأما إن كانت على ما عليه الأشاعرة المتأخرون فلا وألف لا. الأمر الثالث: أن الإمام الصابوني قد كتب في بيان المعتقد كتاباً عظيماً أسماه (عقيدة السلف وأصحاب الحديث)، وهو مشهور متداول، فهلا نقل منه المؤلفان ليثبتا أشعريته وموافقته لهما؟!. فإن كتابه هذا قد أبان فيه المعتقد الصحيح لأهل الحديث أهل السنة والجماعة، وهو الموافق لما في كتاب (الإبانة) لأبي الحسن الأشعري، فلا عجب بعد ذلك أن يثني الإمام الصابوني على (الإبانة).وقد ذكره ابن المبرد في ضمن من كان مجانباً للأشاعرة فقال: "ومنهم أبو عثمان الصابوني، شيخ الإسلام، كان إماماً مجانباً لهم" (3). وأنا أنقل هنا بعض ما ذكره في كتابه حتى تتبين عقيدة الإمام الصابوني:   (1) يقصد بهما المؤلفان لكتاب ((أهل السنة الأشاعرة شهادة علماء الأمة وأدلتهم)). (2) ((تبيين كذب المفتري)) (ص: 389). (3) ((جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر)) (ص: 219). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 قال يحكي عقيدة أهل الحديث: "ويثبتون له جل جلاله ما أثبت لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يعتقدون تشبيها لصفاته بصفات خلقه، فيقولون: إنه خلق آدم بيده، كما نص سبحانه عليه في قوله – عز من قائل -: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75]، ولا يحرفون الكلام عن مواضعه بحمل اليدين على النعمتين، أو القوتين، تحريف المعتزلة والجهمية، أهلكهم الله، ولا يكيفونهما بكيف أو تشبيههما بأيدي المخلوقين، تشبيه المشبهة، خذلهم الله، وقد أعاذ الله تعالى أهل السنة من التحريف والتكييف، ومنَّ عليهم بالتعريف والتفهيم حتى سلكوا سبل التوحيد والتنزيه، وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه، واتبعوا قول الله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] ".وكذلك يقولون في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن، ووردت بها الأخبار الصحاح من السمع والبصر والعين والوجه والعلم والقوة والقدرة، والعزة والعظمة والإرادة، والمشيئة والقول والكلام، والرضا والسخط والحياة، واليقظة والفرح والضحك وغيرها من تشبيه لشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين، بل ينتهون فيها إلى ما قاله الله تعالى، وقاله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من غير زيادة عليه ولا إضافة إليه، ولا تكييف له ولا تشبيه، ولا تحريف ولا تبديل ولا تغيير، ولا إزالة للفظ الخبر عما تعرفه العرب، وتضعه عليه بتأويل منكر، ويجرونه على الظاهر، ويكلون علمه إلى الله تعالى، ويقرون بأن تأويله لا يعلمه إلا الله، كما أخبر الله عن الراسخين في العلم أنهم يقولونه في قوله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [آل عمران: 7] " (1) اهـ. فانظر كيف حكى معتقد أهل السنة في الصفات، وأنهم يسلكون فيها الإثبات من غير تشبيه، ولا تحريف وتأويل. وأن هذا هو سبيلهم في جميع الصفات، لا يفرقون بين صفات المعاني، ولا غيرها من الصفات، كالوجه، واليدين، والفرح، والضحك. وقد سبق أن بينت أن قوله: "ويكلون علمه إلى الله تعالى، ويقرون بأن تأويله لا يعلمه إلا الله" يريد به حقيقة ما عليه الصفة، وكيفيتها، بدليل إثباته لها على ظاهرها، ومنعه من التعرض لها بتأويل وغيره، فلو كان اللفظ غير مفهوم، لم يكن إمراره على ظاهره معنى، كيف وقد بين وجوب إمراره بلا تشبيه، ولا تكييف، ونقل إجماع الأمة على علو الله تعالى واستوائه على عرشه بمعنى العلو.   (1) ((عقيدة السلف وأهل الحديث)) (ص: 36 - 39). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 فقال في الاستواء والعلو: "ويعتقد أهل الحديث ويشهدون أن الله سبحانه وتعالى فوق سبع سموات على عرشه كما نطق به كتابه ... وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف رحمهم الله لم يختلفوا في أن الله على عرشه، وعرشه فوق سماواته ... ".إلى أن قال: "وسمعت الحاكم أبا عبدالله في كتابه (التاريخ) الذي جمعه لأهل نيسابور، وفي كتابه (معرفة الحديث) اللذين جمعهما ولم يسبق إلى مثلهما يقول: سمعت أبا جعفر محمد بن صالح بن هانئ يقول: سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: من لم يقل بأن الله عز وجل على عرشه، فوق سبع سمواته، فهو كافر بربه، حلال الدم، يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وألقي على بعض المزابل حتى لا يتأذى المسلمون ولا المعاهدون بنتن رائحة جيفته، وكان ماله فيئاً لا يرثه أحد من المسلمين، إذ المسلم لا يرث الكافر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم)) رواه البخاري (1) ".ثم ذكر حديث الجارية ((أين الله؟)) (2) ثم قال: "فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامها وإيمانها لما أقرت بأن ربها في السماء، وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية" (3) اهـ. وقال: "والفرق بين أهل السنة وبين أهل البدعة أنهم إذا سمعوا خبراً في صفات الرب ردوه أصلاً، ولم يقبلوه أو يسلموا للظاهر، ثم تأولوه بتأويل يقصدون به رفع الخبر من أصله، وإعمال حيل عقولهم وآرائهم فيه، ويعلمون حقاً يقيناً أن ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى ما قاله" (4) اهـ. وقال في إثبات النزول لله تعالى: "وثبت أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، من غير تشبيه له بنزول المخلوقين، ولا تمثيل ولا تكييف، بل يثبتون ما أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينتهون فيه إليه، ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله .. " (5) اهـ. وقال في إثبات الرؤية: "ويشهد أهل السنة أن المؤمنين يرون ربهم تبارك وتعالى بأبصارهم، وينظرون إليه على ما ورد به الخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ((إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر)) (6) , والتشبيه وقع للرؤية بالرؤية، لا للمرئي" (7) اهـ. وقال في الإيمان: "ومن مذهب أهل الحديث: أن الإيمان قول وعمل ومعرفة، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية" (8) اهـ. وقال في علامات أهل البدع: "وعلامات البدع على أهلها بادية ظاهرة، وأظهر آياتهم وعلاماتهم شدة معاداتهم لحملة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، واحتقارهم لهم وتسميتهم إياهم حشوية وجهلة وظاهرية" (9) اهـ. فهذه بعض تقريراته في المعتقد، والتي تدل على اتباعه لمذهب السلف فيها، واجتنابه مذهب الخلف كالأشعرية وغيرهم. وقد نقل الصابوني كثيراً عن إمام الأئمة ابن خزيمة في أبواب الاعتقاد، ومعلوم مخالفة ابن خزيمة للكلابية والأشعرية، والتحذير منهم. فهل ترى بعد هذا يصح نسبة هذا الإمام للأشعرية؟!! أم هل يرتضي المؤلفان عقيدته هذه؟!!   (1) رواه البخاري (6764) , ومسلم (1614) , من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما. (2) رواه مسلم (537) , من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه. (3) ((عقيدة السلف وأهل الحديث)) (ص: 44 - 45). (4) ((عقيدة السلف وأهل الحديث)) (ص: 48). (5) ((عقيدة السلف وأهل الحديث)) (ص: 50). (6) رواه البخاري (554) , ومسلم (633) , من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه. (7) ((عقيدة السلف وأهل الحديث)) (ص: 76). (8) ((عقيدة السلف وأهل الحديث)) (ص: 78). (9) ((عقيدة السلف وأهل الحديث)) (ص: 109). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 الإمام محيى السنة أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي الشافعي "516":عد المؤلفان (1) الإمام البغوي من الأشاعرة، بلا تمحيص ولا تحقيق، ولا نقل من كتبه ومؤلفاته كعادتهم. وهي دعوى يكذبها ما سطره الإمام البغوي في كتبه، كتفسيره المسمى بـ"معالم التنزيل"، وكتابه الماتع العظيم (شرح السنة) والذي قرر فيه معتقد أهل السنة والجماعة، حيث عقد فيه فصلاً للرد على الجهمية الذين تأولون الصفات. وقد ذكره ابن المبرد في ضمن من كان مجانباً للأشاعرة فقال: "ومنهم الإمام محيى السنة أبو محمد الحسين بن مسعود بن الفراء البغوي، كان مجانباً لهم" (2). وأنا أنقل بعض كلامه في المعتقد لتتبين لنا حقيقة دعوى أشعريته: قال في (شرح السنة): "باب بيان أن الأعمال من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، والرد على المرجئة ... " – ثم ساق الآيات والأحاديث الدالة على ذلك ثم قال: "اتفقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان ... " – ثم قال: "وقالوا: إن الإيمان قول وعمل وعقيدة، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية على ما نطق به القرآن في الزيادة، وجاء الحديث بالنقصان في وصف النساء .... " – إلى أن قال: "واتفقوا على تفاضل أهل الإيمان في الإيمان وتباينهم في درجاته" (3) اهـ. وهذا يخالف كما هو معلوم معتقد الأشاعرة من أن الإيمان هو التصديق، وأنه لا يزيد ولا ينقص. وساق أحاديث الأصابع لله عز وجل ثم قال: "والإصبع المذكورة في الحديث صفة من صفات الله عز وجل، وكذلك كل ما جاء به الكتاب أو السنة من هذا القبيل في صفات الله تعالى، كالنفس، والوجه، واليدين، والعين، والرجل، والإتيان، والمجيء، والنزول إلى السماء الدنيا، والاستواء على العرش، والضحك والفرح ... " - ثم ساق الأدلة عليها ثم قال: "فهذه ونظائرها صفات لله تعالى، ورد بها السمع، ويجب الإيمان بها، وإمرارها على ظاهرها، معرضاً عن التأويل، مجتنباً عن التشبيه، معتقداً أن الباري سبحانه وتعالى لا يشبه شيء من صفاته صفات الخلق، كما لا تشبه ذاته ذوات الخلق، قال الله سبحانه وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11]، وعلى هذا مضى سلف الأمة، وعلماء السنة، تلقوها جميعاً بالقبول والتسليم، وتجنبوا فيها التمثيل والتأويل، ووكلوا العلم فيها إلى الله عز وجل ... " – ثم ساق آثار السلف (4) اهـ. وفي باب الرد على الجهمية: ذكر حديث "إنه لفوق سماواته على عرشه، وإنه عليه لهكذا – وأشار وهب بيده – مثل القبة عليه"، وأشار أبو الأزهر أيضاً" "إنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب"، ثم نقل كلام الخطابي وتأويله للحديث الصفة، ثم قال معلقاً: "والواجب فيه وفي أمثاله: الإيمان بما جاء في الحديث، والتسليم، وترك التصرف فيه بالعقل، والله الموفق" (5) اهـ. فتأمل إثباته لصفات الله تعالى، وأن الواجب إجراؤها على ظاهرها، مع نفي التشبيه عنها، ومنع التأويل فيها، وتقريره أن إثباتها لله لا يستلزم التشبيه، كإثبات الذات. وتأمل منعه من الخوض فيها بالعقول تأويلاً، وتحريفاً، بعد أن نقل كلام الخطابي.   (1) يقصد بهما المؤلفان لكتاب ((أهل السنة الأشاعرة شهادة علماء الأمة وأدلتهم)). (2) ((جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر)) (ص: 227). (3) ((شرح السنة)) (1/ 33). (4) ((شرح السنة)) (1/ 163 - 171). (5) ((شرح السنة)) (1/ 177). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 وأما قوله: "ووكلوا العلم فيها إلى الله عز وجل"، فالمراد به علم حقيقة ما هي عليه، وكنهها، وكيفيتها، وإلا لم يكن لقوله "وإمرارها على ظاهرها" معنى، فإن الإمرار على الظاهر، هو حملها على ما دل عليه لفظها من المعنى المعروف لغة مع نفي التشبيه، وليس المراد بالظاهر: تنزيلها وكونها في القرآن، إذ لا ينكر هذا أحد ولا يمتري فيه. ويقال أيضاً: لو كان كذلك لم يقل "إمرارها على ظاهرها" إذ يكون ظاهرها مجهولاً غير معلوم، فكيف يأمر بإمراره. وقال في تفسيره "معالم التنزيل" في قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء [البقرة: 29]: " ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء، قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف: أي ارتفع إلى السماء" (1) اهـ. وقال في قوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ [البقرة: 210]، "والأولى في هذه الآية وما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها، ويكل علمها إلى الله تعالى، ويعتقد أن الله عز اسمه منزه عن سمات الحدث، على ذلك مضت أئمة السلف وعلماء السنة" (2) اهـ. وقال في قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54]: "قال الكلبي ومقاتل: استقر. وقال أبو عبيدة: صعد وأولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء، وأما أهل السنة فيقولون: الاستواء على العرش صفة لله تعالى، بلا كيف، يجب على الرجل الإيمان به، ويكل العلم فيه إلى الله عز وجل. وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]، كيف استوى؟ فأطرق رأسه ملياً، وعلاه الرحضاء، ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أظنك إلا ضالاً. ثم أمر به فأخرج. وروي عن سفيان الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وسفيان بن عيينة، وعبدالله بن المبارك، وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهة: "أمروها كما جاءت بلا كيف" (3) اهـ. وقال في قوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام: 158]: " أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ بلا كيف، لفصل القضاء بين خلقه في موقف القيامة" (4) اهـ. وقال في قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64]: "ويد الله صفة من صفاته كالسمع، والبصر، والوجه، وقال جل ذكره: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلتا يديه يمين)) (5)، والله أعلم بصفاته، فعلى العباد فيها الإيمان والتسليم. وقال أئمة السلف من أهل السنة في هذه الصفات: "أمروها كما جاءت بلا كيف" (6) اهـ. هذا بعض كلامه في تقرير المعتقد، فوازن بينه وبين معتقد الأشاعرة، لترى البون الشاسع بينهما. الإمام الحافظ المفسر عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير "774هـ":ادعى المؤلفان (7) أن الحافظ ابن كثير كان أشعرياً، واستدلا على ذلك بما ورد في (الدرر الكامنة) في ترجمته إبراهيم بن محمد بن قيم الجوزية ما نصه: "ومن نوادره أنه وقع بينه وبين عماد الدين ابن كثير منازعة في تدريس الناس، فقال له ابن كثير: أنت تكرهني لأنني أشعري، فقال له: لو كان من رأسك إلى قدمك شعر ما صدقك الناس في قولك أنك أشعري وشيخك ابن تيمية" (8) اهـ. وهذه الحكاية لم يذكر ابن حجر من حدثه بها، هذا أولاً.   (1) ((معالم التنزيل)) (1/ 59). (2) ((معالم التنزيل)) (1/ 174). (3) ((معالم التنزيل)) (2/ 164 - 165). (4) ((معالم التنزيل)) (2/ 144). (5) رواه مسلم (1827) من حديث عبد الله بن عمرو. (6) ((معالم التنزيل)) (2/ 50). (7) يقصد بهما المؤلفان لكتاب ((أهل السنة الأشاعرة شهادة علماء الأمة وأدلتهم)). (8) ((الدرر الكامنة)) (1/ 60). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 وثانياً: أنه على فرض صحتها فإن ظاهرها يبطل هذه الدعوى، لأن إبراهيم بن قيم الجوزية لم يصدقه في ما ذكر من الدعوى، لكون شيخه هو ابن تيمية، وهو المعروف بالرد على الأشاعرة وإبطال معتقداتهم التي خالفوا فيها الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة، وهذا أمر ظاهر، فكيف يكون تلميذ من طال كلامه في الانتصار لمذهب السلف، وأوذي في ذلك حتى اجتمع عليه الأشاعرة وسجنوه مرات عدة، كيف يكون تلميذ هذا أشعرياً، هذا تأباه العادة. ولذا فإنك تجد ابن كثير لا يذكر شيئاً من كلام ووقائع ابن تيمية في البداية والنهاية إلا ويقول: "قال شيخنا العلامة"، و"كان شيخنا العلامة"، وربما قال: "جهبذ الوقت شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية)، وقال مرة: "سمعت شيخنا تقي الدين ابن تيمية وشيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول كل منهما للآخر: هذا الرجل قرأ مسند الإمام أحمد، وهما يسمعان، فلم يضبط عليه لحنة متفقاً عليها، وناهيك بهذين ثناء على هذا وهما هما". ونحو ذلك مما يدل على تعظيمه له. ومن المستبعد جداً، أن يصفه بهذا الوصف، وهو مخالف له في أعظم الأمور، كأمور المعتقد. وقد ساق ابن كثير في تاريخه كثيراً من وقائع شيخ الإسلام ابن تيمية مع مخالفيه من الأشاعرة، ومن أشهر ذلك: المناظرات التي جرت بينه وبينهم في عقيدته المسماة بـ"الواسطية". وانتصر له في "تاريخه" فقال: "أول المجالس الثلاثة لشيخ الإسلام ابن تيمية: وفي يوم الاثنين ثامن رجب حضر القضاة والعلماء وفيهم الشيخ تقي الدين بن تيمية عند نائب السلطنة بالقصر، وقرئت عقيدة الشيخ تقي الدين "الواسطية"، وحصل بحث في أماكن منها، وأخرت مواضع على المجلس الثاني. فاجتمعوا يوم الجمعة بعد الصلاة ثاني عشر الشهر المذكور وحضر الشيخ صفي الدين الهندي، وتكلم مع الشيخ تقي الدين كلاما كثيراً، ولكن ساقيته لاطمت بحراً، ... ثم انفصل الحال على قبول العقيدة، وعاد الشيخ إلى منزله معظماً مكرماً ... وكان الحامل على هذه الاجتماعات كتاب ورد من السلطان في ذلك، كان الباعث على إرساله قاضي المالكية ابن مخلوف، والشيخ نصر المنبجي شيخ الجاشنكير وغيرهما من أعدائه ... وكان للشيخ تقي الدين من الفقهاء جماعة يحسدونه لتقدمه عند الدولة، وانفراده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطاعة الناس له، ومحبتهم له، وكثرة أتباعه، وقيامه في الحق، وعلمه وعمله ... ثم عقد المجلس الثالث في يوم سابع شعبان بالقصر، واجتمع جماعة على الرضى بالعقيدة المذكورة ... ثم جاء كتاب السلطان في السادس والعشرين من شعبان ... وفي الكتاب: إنا كنا سمعنا بعقد مجلس للشيخ تقي الدين بن تيمية، وقد بلغنا ما عقد له من المجالس، وأنه على مذهب السلف وإنما أردنا بذلك براءة ساحته مما نسب إليه" (1) اهـ. وقد أطال ابن كثير في ذكر هذه الأحداث منتصراً لشيخه ابن تيمية. ومعلوم ما في "العقيدة الواسطية" مما يخالف مذهب الأشاعرة في الصفات، والقدر، والقرآن والإيمان، والنبوات، والكرامات، وغير ذلك من أبواب الاعتقاد. أما التحقيق العلمي في معتقدات الأئمة، فليس بالقصص والحكايات، كما سبق أن ذكرنا، وإنما بالنصوص البينة التي سطروها في كتبهم.   (1) ((البداية والنهاية)) (14/ 34 - 36). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 ومن المعلوم أن من أشهر مؤلفات ابن كثير هو "تفسيره"، وقد سطر فيه معتقده واضحاً جليا، ولذلك أعرض المؤلفان عن ذكره إلا في موضع واحد، ولعل ذلك لما علما من إبطاله لدعواهما في أشعريته. وله رحمه الله باسم "الاعتقاد" أبان فيها عن معتقده فقال ما لفظه: "فإذا نطق الكتاب العزيز ووردت الأخبار الصحيحة بإثبات السمع والبصر والعين والوجه والعلم والقدرة والعظمة والمشيئة والإرادة والقول والكلام والرضا والسخط والحب والبغض والفرح والضحك، وجب اعتقاد حقيقة ذلك من غير تشبيه بشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين، والانتهاء إلى ما قاله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من غير إضافة، ولا زيادة عليه، ولا تكييف، ولا تشبيه، ولا تحريف، ولا تبديل، ولا إزالة لفظ عما تعرفه العرب وتصرفه عليه، والإمساك عما سوى ذلك" (1) اهـ. وهذا كلام صريح في إثباته لصفات الله تعالى على الحقيقة، ومنعه من تأويلها، أو تغييرها، أو تشبيهها بصفات خلقه. ولم يفرق بين صفة وأخرى. وأنا أسوق بعض نصوصه في تقرير المعتقد، ليعلم أنه مباين للأشاعرة: قال في تفسير قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54]: "وأما قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً، ليس هذا موضع بسطها، وإنما سلك في هذا المقام مذهب السلف الصلاح: مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وغيرهم، من أئمة المسلمين قديماً وحديثاً، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل. والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11]، بل الأمر كما قال الأئمة – منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري-: "من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله"، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى، ونفى عن الله تعالى النقائص، فقد سلك سبيل الهدى" (2) اهـ. وهذا ظاهر في أنه موافق للسلف في إمرار الصفات كما جاءت من غير تعرض لها بتأويل، ولا تحريف، ومن غير اعتقاد تشبيه ولا تمثيل، وأن إثباتها على ظاهرها لا يستلزم التشبيه، كما نقله عن نعيم بن حماد. وقال في آخر كلامه: أن سبيل الهدى هو وصف الله بها على الوجه اللائق به. وهذا صريح في بطلان دعوى أشعريته، إذ أن الأشاعرة يتسلطون عليها بالتأويل، ولا يثبتون ظاهرها اللائق بالله، بل يدعون أن ظاهرها يستلزم التشبيه. وقد بين أنها لا تستلزم التشبيه، وأن من فهم منها تشبيه الله بخلقه، وأنها كصفة المخلوق فهو مشبه، ولذلك قال: "والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه". فخص هذا المفهوم السقيم بأنه لا يقع إلا من المشبهين، وهم الذين يفهمون من صفة الله ما هو صفة المخلوق. ولما ذكر أئمة السنة والقدوة في مسائل الاعتقاد، لم يذكر منهم ابن كلاب والقلانسي والكرابيسي والحارث المحاسبي، ولا الأشعري، ولا أحداً من أصحابه. ويستحيل أن يكون أشعرياً ثم لا يعرج على أبي الحسن الأشعري فيمن يقتدي بهم. وقال في قوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه: 39]: "قال أبو عمران الجويني: تربى بعين الله. وقال قتادة: تغذى على عيني. وقال معمر بن المثنى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي بحيث أرى" (3) اهـ. وهذا إثبات العين لله تعالى، ولم يتعرض لها بتأويل ولا تعطيل. وقال في قوله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 27]: "وهذه الآية كقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88]، وقد نعت الله تعالى وجهه الكريم في هذه الآية الكريمة بأنه ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، أي: هو أهل أن يجل فلا يعصى، وأن يطاع فلا يخالف" (4) اهـ. فتأمل إثباته لوجه الله تعالى، وأنه موصوف بالجلال والإكرام. وقال في قوله تعالى: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22]: " وَجَاء رَبُّكَ، يعني: لفصل القضاء بين خلقه ... فيجيء الرب تعالى لفصل القضاء كما يشاء، والملائكة يجيئون بين يديه صفوفاً صفوفاً" (5) اهـ. المصدر: الأشاعرة في ميزان أهل السنة لفيصل الجاسم - ص 597   (1) مخطوط، نقلاً من كتاب ((علاقة الإثبات والتفويض)) لرضا بن نعسان بن معطي (ص: 82). (2) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 221). (3) ((تفسير ابن كثير)) (3/ 148). (4) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 274). (5) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 511). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 المبحث الرابع: بطلان دعوى أن ابن حجر كان أشعريا وقد ادعى قوم أن ابن حجر كان أشعري المذهب وهذا قول بلا دليل، وأنا لا أعلم أن ابن حجر نص على مثل ذلك ولا أذكر أنه أحال لمن يريد اتباع السنة أن يلتحق بالمذهب الأشعري. ونقول لهم:1) إن ابن حجر نقد مبدأ القصد والنظر اللذان هما عند الأشعرية أول الواجب على المكلف" فقال (1) هو من أصول مذهب المعتزلة بقي من جملة ما بقي عند الأشاعرة (2).- لقد سطر الحافظ ابن حجر اعتراف أبي جعفر السمناني وهو من رؤوس الأشاعرة وكبارهم بأن هذه المسألة من مسائل المعتزلة بقيت في المذهب" (3). ولو قال: "من أصحابنا" لكان دليلا على أنه أشعري.- وسفه أبو المظفر بن السمعاني هذا المبدأ الاعتزالي ووصفه بأنه قول مبتدع لم يعرفه السلف الذين كان أول الواجب عندهم الإتيان بالشهادتين (4).2) أن الحافظ ابن حجر أظهر حقيقة الخلاف العقائدي بين أحمد والأشاعرة فقال – هو والزبيدي – أن أحمد تمسك بأن الله يتكلم بصوت، وهو ما أثبته أبو الفضل التميمي في روايته عن أحمد، بينما قالت الأشاعرة إن الله يتكلم بلا حرف ولا صوت. وأثبتت الكلام النفسي (5). فأكد ابن حجر أن الكلام النفسي من عند الأشاعرة لا من عند أحمد. وكان مما أعلنه الأشعري في توبته "أننا بما كان عليه الإمام قائلون ولمن خالف قوله مجانبون" (6). فلما أذعن الأشعري للحق أعلن أن الحق ما كان عليه أحمد وأنه سيتبعه وعلى الناس اتباع أحمد ولم يقل للناس كونوا أشاعرة. يؤكد ذلك أن لأحمد كتاب مشهور وهو (الرد على الجهمية فيما تأولته من القرآن على غير تأويله) وأثبت الحافظ ابن حجر نسبته إليه (7). فأثبت لأهل السنة تأويلا وأثبت للجهمية تأويلات مخالفة لهم هي في الحقيقة تحريفات يتبناها الأشاعرة اليوم كتحريف معنى اليد بالقدرة والاستواء بالاستيلاء والنزول بنزول الأمر أو نزول الملك بأمره.- وما أورده السبكي عن أحمد أنه قال: "لا يوصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه ووصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نتجاوز القرآن والحديث" (8) وما نص عليه الزبيدي أن "المفهوم من ظاهر مذهب أحمد عدم التأويل على الإطلاق وأن الشافعي ومالك وأحمد اختاروا عدم التأويل للمتشابهات" (9) وصرح به الشيخ محمد بن درويش الحوت أن "سيدنا أحمد يمنع التأويل" وصرح أن التأويل مذهب المعتزلة (10).3) أن ابن حجر كان دائم التحذير من مسلك الخلف في التأويل الذي عليه الأشاعرة فيقول "وليس من سلك طريق الخلف واثقا بأن الذي يتأوله هو المراد ولا يمكنه القطع بصحة تأويله" وتكرر قوله بأن "صاحب التأويل ليس جازماً بتأويله". واحتج المرتضى الزبيدي بهذه العبارة (11).قال: "وقد توسع من تأخر عن القرون الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلا يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل ولو كان مستكرها. ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه ولو كان مستكرها. ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو من أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل ... فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف واجتنب ما أحدثه الخلف" (12). المصدر: موقف ابن حزم من المذهب الأشعري لعبد الرحمن دمشقية - ص 15   (1) ((المحصل للرازي)) (ص: 61) ((التوحيد للماتريدي)) (ص: 3) ((الإرشاد)) (ص: 3). (2)) انظر ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 3) والمجلد الثاني عشر من كتاب ((المغني)) النظر والمعارف و ((الإرشاد)) للجويني (ص: 8) و ((المواقف)) للإيجي (63). (3) ((فتح الباري)) (1/ 70 و 13/ 348). (4) ((مختصر الانتصار لأهل الحديث)). اختصره السيوطي في ((صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام)) (ص: 171 - 172). (5) ((فتح الباري)) (13/ 460) ((إتحاف السادة)) (2/ 79) ((طبقات الحنابلة)) (2/ 296). (6) ((تبيين كذب المفتري)) (ص: 158). (7) انظر ((فتح الباري)) (13/ 493). (8) ((طبقات السبكي)) (9/ 39). (9) ((إتحاف السادة المتقين)) (2/ 12 و 79). (10) ((رسائل في بيان عقائد أهل السنة والجماعة)) (ص: 31) تحقيق كمال الحوت. (11) ((فتح الباري)) (13/ 353 و 383) وانظر ((إتحاف السادة المتقين)) (2/ 112). (12) ((فتح الباري)) (13/ 350 - 352). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 المبحث الخامس: مسائل الخلاف بين الأشعرية والماتريدية 1) الماتريدي لا يفرق بين صفات الذات وبين صفات الفعل لله تعالى، فهي عنده كلها قديمة، قال "والقول بحدوث شيء منها يؤدي إلى القول بتغير الله وهو يؤدي إلى عبادة غير الله" (1) بينما يفرق الأشعرية بينهما وأشار ابن عذبة في (الروضة) إلى أن الماتريدية يخالفون بذلك رأي أبي حنيفة الذي يوافق مذهب الأشاعرة في التفريق بين صفات الذات وصفات الفعل كما نقله عنه الطحاوي (2).- وترتب على هذا الاختلاف: خلاف في صفة الحكمة لله تعالى فهي أزلية بمعنى الإتقان والإحكام كما عند الماتريدية وليست كذلك عند الأشعري (3). وترتب على ذلك تسوية الأشعري بين الإرادة والرضى. واعتبر البزدوي ذلك من جملة مخالفاته لأهل السنة "يريد الماتريدية" (4). فالماتريدية يذهبون إلى أن الإرادة لا تستلزم الرضى والمحبة.2) ذهب الماتريدية إلى أن الواجب تحقق الحقيقة في نفسها بحيث تتنزه عن قابلية العدم. أما الأشاعرة فيرون أن الذات مقتضى الوجود (5).3) الوجوب عند الماتريدية ليس أمرا زائدا على الذات. وعند الأشاعرة أن الوجوب أمر اعتباري لا وجود له في الخارج (6).4) الماتريدية لا يرون تكليف الله لعباده إلا فيما يقدرون عليه. وخالفهم في ذلك الأشاعرة فجعلوا التكليف بما لا يطاق جائزا وخالفهم الإسفراييني والغزالي (7).5) الماتريدية يرون أن الله يفعل لحكمة تقتضي الفعل، بينما يرى الأشاعرة أن أفعاله تعالى على الجواز لا على اللزوم. وألزمهم الماتريدية باعتقاد جواز العبث في أفعاله تعالى (8).6) ذهب الماتريدية إلى امتناع أن يخالف الله وعيده ووعده، وذهب الأشاعرة إلى جواز إخلاف الله لوعيده (9).7) ذهب الماتريدية إلى أن الله لا يفعل القبيح. وقالوا: لا يجوز ما يقوله الأشاعرة من جواز تعذيب المطيعين وتخليد الأنبياء في النار، وإدخال الكافرين الجنة. وعلل الأشاعرة القول بأن الله مالك مطلق يحق له التصرف في عباده كيف يشاء حتى قالوا بجواز عفو الله عن الكافر (10).8) وذهب الماتريدية إلى أن العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها وأن معرفة الله بالعقل، حتى قال الصدري التعديل "كل ما هو واجب عقلا فهو حسن عقلا، وكل ما هو حرام عقلا فهو قبيح عقلا ومن هنا قالوا أن العقل آلة في معرفة الله وأنه كاف في إلقاء الحجة على صاحبه ولم يؤمن فهو كافر مخلد في النار. وخالفهم الأشاعرة في ذلك مستدلين بقوله تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15] (11) وقالوا "أن إرادة الله في الشرع مطلقة لا يقيدها شيء، فهو خالق الأشياء وهو خالق القبيح والحسن .... ولا عبرة بأوامر العقل، إنما العبرة بأوامر الشارع الحكيم" (12). - وترتب على هذا خلاف آخر وهو:   (1) ((التوحيد)) للماتريدي (53 و 108). (2) ((الروضة البهية)) (ص: 39) لابن عذبة. (3) ((اللمع للأشعري)) (ص: 38) ((نظم الفرائد)) (ص: 28). (4) ((أصول الدين)) للبزدوي (ص: 245) و ((الروضة البهية)) (ص: 17). (5) ((نظم الفرائد)) (ص: 3). (6) ((نظم الفرائد)) (ص: 4). (7) ((نظم الفرائد)) (ص: 25) و ((التوحيد)) (ص: 221) و ((اللمع)) (ص: 68) و ((الإرشاد)) (ص: 236) و ((الروضة البهية)). (8) ((نظم الفرائد)) (ص: 27). (9) ((نظم الفرائد)) (ص: 29). (10) ((نظم الفرائد)) (ص: 30) وانظر ((الروضة البهية)) (ص: 32 - 33). (11) ((نظم الفرائد)) (ص: 35)، ((الروضة البهية)) (ص: 34 - 37) ((إشارات المرام)) (ص: 93). (12) ((أصول الفقه)) للشيخ محمد أبي زهرة (ص: 55) ((المسايرة)) (ص: 97) لابن الهمام ((شرح الفقه الأكبر)) (ص: 137) و ((تأويلات أهل السنة)) للماتريدية (1/ 444). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 9) معرفة الله تعالى: هل هي بالعقل أم بالسمع؟ فعند الأشعري بالشرع، وأنه لا يجب إيمان ولا يحرم قبل ورود الشرع. وعند الماتريدية بالعقل. قال صاحب (النونية): ووجوب معرفة الإله الأشعري ... يقول ذلك شرعة الديان والعقل ليس بحاكم لكن له ... الادراك لا حكم على الحيوان وقضوا بأن العقل يوجبها وفي ... كتب الفروع لصحبنا قولان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 - أما الماتريدية فكانوا في مخالفة الأشاعرة أقرب إلى قول المعتزلة بل قولهم وقول المعتزلة على السواء كما ذكر ابن عذبة، إلا أنهم يختلفون معهم في وجوب ذلك على الصبي العاقل غير البالغ: إذا مات بدون تصديق هل هو معذور أم لا؟ (1).10) الماتريدية يرون وجوب الإيمان بالعقل، ولا يرون زيادة الإيمان ونقصانه. ويحرمون الاستثناء فيه ومن قال آمنت بالله إن شاء الله فهو كافر لأنه شاك في إيمانه. والإسلام والإيمان واحد. بينما يرى الأشاعرة وجوب الإيمان بالشرع. والإيمان يزيد وينقص ويجوز الاستثناء فيه. ولا يرونه والإسلام شيئا واحدا وإنما أحدهما مغاير (2).11) اتفق الماتريدية والأشعرية على الكلام النفسي، لكنهم ما لبثوا أن اختلفوا في سماع موسى كلام الله: هل سمع كلامه القديم أم سمع ما يدل على سماعه؟ فاختار الماتريدي أنه لم يسمع وحملوا نصوص السماع على أن الله تعالى خلق صوتا في الشجرة (3) وأجاز الأشعري سماع الكلام النفسي القديم، وذكر ابن عذبة أن أبا الحسن ذكر في كتابه (الإبانة) مقالة أهل السنة والحديث في مسألة الكلام وهذا إثبات بأن الكتاب معتمد عند القوم، وأما تجاهل المتأخرين له فمكابرة.12) اتفقت الماتريدية على خلق الله لأفعال العباد ثم اختلفوا: هل لقدرة العبد تأثير؟ فإلى الأول ذهب الماتريدية وإلى الثاني جنحت الأشاعرة. ورأى الماتريدي وجود أثر القدرة للعبد في وصف الفعل، ورأى الأشعري أن كل شيء خاضع قسرا للقدرة الإلهية المطلقة. واعتبر البزدوي بأن مسألة الأفعال هي من شر المسائل التي خالف بها الأشعري أهل السنة "يريد الماتريدية". وذكر ابن عذبة أن الجويني غلا في إثبات الأثر لقدرة العبد. قال "وهذا مذهب المعتزلة" اهـ (4).13) واختلفوا في مسألة التكوين والمكون، فرأى الماتريدية أن التكوين صفة أزلية والمكون حادث، وهي تغاير بذلك القدرة لتساوي القدرة في جميع المخلوقات (5) أما الأشاعرة فيرون أن التكوين هو عين المكون وهو حادث. قال أبو المعين النسفي "وقول أكثر المعتزلة وجميع النجارية والأشعرية: أن التكوين والمكون واحد قول محال" (6).14) واختلفوا في صفة "كن" التي يخلق الله بها الأشياء، فذهب الماتريدية إلى أنها كناية عن سرعة الإيجاد فهي ليست كلمة على الحقيقة وإنما هي كلمة مجازا. وذهب الأشعري إلى أن وجود الأشياء متعلق بكلامه الأزلي، وأن هذه الكلمة دالة عليه (7).15) ذهب الماتريدية إلى أن التوفيق: هو التيسير والنصرة، وذهب الأشعري إلى أن التوفيق هو خلق القدرة على الطاعة (8).16) واختلفوا في السعادة والشقاوة هل تتبدلان أم لا؟ فقال الماتريدية: إن السعيد قد يشقى والشقي قد يسعد. وسبب إجازة الماتريدي تبدل السعادة والشقاوة: لأنهما من أفعال العباد وليس في تغيرهما تغير لما كان مكتوبا في اللوح المحفوظ. واستنكر مشايخ الحنفية مقولة من يمنعون تبدل الشقاوة والسعادة "يريدون الأشعري ومن وافقه" وذكروا أن ذلك يؤدي إلى إبطال الكتب وإرسال الرسل (9)   (1) ((الروضة البهية)) (ص: 34 - 37). (2) ((نظم الفرائد)) (ص: 39 و 48) ((الروضة البهية)) (ص: 6). (3) ((نظم الفوائد)) (ص: 15) ((الروضة البهية)) (ص: 50 – 53). (4) ((التوحيد)) (ص: 243) ((العلم الشامخ)) (ص: 226) ((الروضة البهية)) (29 - 30). (5) ((البزدوي)) (ص: 69) ((البداية للصابوني)) (ص: 67) ((الروضة البهية)) (ص: 39). (6) ((التمهيد)) (ص: 29) و ((تبصرة الأدلة)) (ص: 193). (7) ((الإبانة)) (ص: 25) ((اللمع)) (ص: 123) ((نظم الفرائد)) (ص: 19). (8) ((نظم الفرائد)) (ص: 24 - 25). (9) ((نظم الفرائد)) (ص: 46) ((الإبانة)) (ص: 65) ((الروضة البهية)) (ص: 8 - 11) .. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 وخالفهم الأشعري فقال: إن السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه. قال الخاطري: إن الأشاعرة قالوا إن أبا بكر وعمر كانا مؤمنين في حال سجودهما للصنم. وأن سحرة فرعون كانوا مؤمنين في حال حلفهم بعزته (1).17) اتفقوا على جواز رؤية الله في الآخرة، واختلفوا في الدليل عليه فذهب الماتريدية إلى أن الدليل على ذلك سمعي مستدل عليه بالكتاب والسنة. أما الأشعري فيرى أن الدليل عقلي ولم يرتض بعض الأشاعرة رأي أمامهم كالرازي فانحازوا إلى رأي الماتريدية (2).18) واختلفوا في صفة البقاء لله: هل هو باق ببقاء زائد على الذات أم أنه باق بذاته لا ببقاء؟ فذهب الأشعري وأكثر أصحابه إلى أن البقاء صفة زائدة على الذات. وأيده بعض الماتريدية في حين ذكر ابن عذبة مخالفة إمام الحرمين والقاضي أبي بكر لرأي الأشعري. وأرجع الآمدي في أبكار الأفكار أصل قولهما إلى المعتزلة (3).19) وذهب الماتريدية إلى أن صفة السمع والبصر تتعلق بما يصح أن يكون مسموعا ومبصرا. وذهب الأشعري إلى أنهما يتعلقان بكل موجود، يسمع ويرى في الأزل ذاته العلية ويسمع فيما لا يزال ذوات الكائنات كلها وجميع صفاتها الوجودية. ورد الشيخ علي القاري ذلك بأنه قول مجرد عن الأدلة وهو بدعة في الشريعة (4).20) ذهب الماتريدية إلى أن الإيمان غير مخلوق. وذهب الأشاعرة إلى أنه مخلوق. قال الكردري "قال الإمام محمد بن الفضل: من قال الإيمان مخلوق لا تجوز الصلاة خلفه. واتفقوا على أنه كافر (5) وبناء على ما نقله الكردري يصير الأشاعرة في نظر الماتريدية غير مسلمين فضلا عن أن يكونوا من الفرقة الناجية! وإننا لنعجب حين نجد ابن عذبة وهو يروي لنا أن أول من قال بخلق الإيمان أبو حنيفة نفسه، وأن الخلاف في هذه المسألة ناشىء بين أهل بخارى وسمرقند وكلاهما ما تريديون (6).21) واختلفوا في إيمان المقلد فاشترط الأشعري والباقلاني والإسفراييني وإمام الحرمين على المسلم أن يعرف كل مسألة بأدلتها كشرط لصحة إيمانه وإلا كان كما يصفه القشيري "ساقطا عن سنن النجاة، واقعا في أسر الهلاك" (7) بينما ينكر القشيري نفسه نسبة هذا القول للأشعري مؤكدا أن ذلك من مفتريات الكرامية على الإمام. ويلاحظ كما في الروضة البهية إنكار القشيري نسبة المسائل التي لا تتناسب ومذهب الأشاعرة إلى الأشعري. ويعزو هذه النسبة إلى مفتريات الكرامية.22) وأنكر الماتريدية أن يكون الله أرسل رسلا نساء واشترطوا ذكورة النبي أما الأشاعرة فلم يروا ذكروة النبي شرطا، بل صحت نبوة النساء عندهم بدليل قوله تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى [القصص: 7] (8).23) واختلفوا في القدرة: هل تصلح للضدين؟ فذهب الماتريدية إلى أنها تصلح للضدين، وذهب الأشاعرة إلى أنها لا تصلح للضدين، بل لكل منهما قدرة على حدة (9).24) واختلفوا في الأعمال التي حبطت بالردة: هل تعود بعد التوبة منها أم لا؟ فقال الماتريدية لا تعود، وخالفهم الأشاعرة فقالوا تعود (10).   (1) ((نظم الفرائد)) (ص: 47). (2) ((اللمح)) (ص: 61) ((المحصل للرازي)) (ص: 178). (3) مقدمة د. خليف على كتاب ((التوحيد)) للماتريدي (ص: 19) ((الروضة البهية)) (ص: 66) ((أبكار الأفكار)) (1/ 229). (4) ((نظم الفرائد)) (ص: 10 - 11). (5) ((نظم الفرائد)) (ص: 43 - 44). (6) ((الروضة البهية)) (ص: 71 - 75). (7) ((نظم الفرائد)) (ص: 40 - 41). ((الروضة البهية)) (21 - 23). (8) ((نظم الفرائد)) (ص: 49 - 50). (9) ((نظم الفرائد)) (ص: 52). (10) ((نظم الفرائد)) (ص: 56 - 57). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 25) واختلفوا في الكفار: هل يعاقبون على ترك الفروض والواجبات بجانب الكفر؟ فقال الماتريدية: يعاقبون على ترك الاعتقاد دون الفروض وقال الأشاعرة يعاقبون على ترك العبادات زيادة على عقوبة الكفر (1).26) واختلفوا في توبة اليأس: هل هي مقبولة أم لا؟ فذهب الماتريدية إلى أنها مقبولة وأن إيمان اليأس غير مقبول. وذهب الأشاعرة إلى أن توبة اليأس لا تقبل كإيمان اليأس (2).27) وذهب الماتريدية إلى أن الشم والذوق واللمس ليسوا صفحة زائدة لله بل هو نوع من العلم في حقه، بدليل أن ذلك الإدراك يهم العروض بأمور حادثة ينزه الله عنها. وذهب الأشاعرة إلى أن المماثلة تثبت بالاشتراك حتى لو اختلفا في وصف لا تثبت المماثلة. فاستنكر النسفي ذلك وقال: "لا نقول ما يقول الأشاعرة من أنه لا مماثلة إلا بالمساواة في جميع الصفات" (3).28) واختلفوا في عصمة الأنبياء: فمنع الأشاعرة وقوع الكبائر من الأنبياء مطلقا، وجوزوا عليهم الصغائر سهوا. ومنهم من منع وقوع شيء من ذلك مطلقا كالإسفراييني والقاضي عياض المكي (4) وهم بذلك موافقون للماتريدية. نهاية المطاف أن هذه الخلافات العميقة بن الفرقتين هي في ذاتها دليل ضد كل من يدعي أهما الطائفة الناجية وهما الماتريدية والأشعرية. فالفرقة الناجية ليست مركبة من فرقتين متناحرتين في العقائد، وإنما هي طائفة واحدة كما في الحديث. وليس من سماتها تقديم العقل محل النقل ولا التأويل في أسماء الله وصفاته وإنما تتميز الطائفة الناجية بأنها تقدم النقل على العقل من غير أن تعطل دور العقل. فلا تقدم العقل على النقل على النحو الذي مضى عليه الفلاسفة والمتكلمون والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية. ولا تقدم القلب والكشف على النقل كما يفعل الصوفية والباطنية. المصدر: شبهات أهل الفتنة وأجوبة أهل السنة لعبد الرحمن دمشقية - ص 313   (1) ((نظم الفرائد)) (ص: 58). (2) ((نظم الفرائد)) (ص: 59). (3) ((نظم الفرائد)) (ص: 59). (4) ((الروضة البهية)) (ص: 57 و 62). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 ليس هناك فرق بين منهج ابن كلاب الذي لا يقر بصفات خبرية، وبين منهج متأخرة الأشاعرة، إلا ما أضافوه من تطبيقات، وما أثاروه من شبهات، وعلى هذا تكون الموازنة بين منهج الأشاعرة ومنهج الماتريدية مع بيان مأخذهما من مذهب الكلابية الذي يعد منبع أفكارهما. لقد سلك الأشاعرة منهجاً يقضي بإثبات بعض الصفات الإلهية وتأويل بعض، فأثبتوا سبع صفات فقط وهي: القدرة، والإرادة والعلم، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام. وسموها "صفات المعاني" ثم اشتقوا منها سبعاً أخرى سموها "صفات معنوية" أي منسوبة إلى السبع السابقة، وهي: كونه تعالى قادراً، مريداً، عالماً، حياً، سميعاً بصيراً، متكلماً. كما ذكروا ست صفات أخرى سموها "صفات سلبية" لأن إثباتها ينفي أضدادها وهي: الوجود، القدم، البقاء، مخالفة الحوادث، القيام بالنفس، الوحدانية (1). فبلغت الصفات عندهم عشرين صفة، إلا أنهم يرجعونها إلى السبع المسمى صفات المعاني، وزعموا أنهم أثبتوا هذه الصفات لأنها ثبتت بالعقل، قال الأنصاري: "وأما برهان اتصافه تعالى بالقدرة، والإرادة، والعلم، والحياة، أنه لو انتفى شيء من صفات المعاني لما وجد شيء من الحوادث، لاستحالة وجود المتوقف بدون المتوقف عليه؛ إذ وجود العالم متوقف على اتصاف الفاعل بهذه الصفات، فلو انتفت القدرة لزم العجز، والعاجز لا يوجد شيئاً من الحوادث، ولو انتفت الإرادة لانتفى التخصيص، فلا يوجد شيء من الحوادث، ولو انتفى العلم لانتفت الحوادث لاستحالة القصد للشيء المجهول. ولو انتفت الحياة لانتفت هذه الصفات فلا يوجد شيء من الحوادث ... وأما برهان وجوب السمع له تعالى والبصر والكلام فالكتاب والسنة والإجماع، والعقل؛ لأنه لو لم يتصف بها لزم أن يتصف بأضدادها التي هي الصمم، والعمى، والبكم، وهي نقائص، والنقص عليه تعالى محال" (2).وبناء على هذا المسلك فقد أول الأشاعرة جميع الصفات الخبرية، وهي التي لا يصح أن نصف الله بها لولا ثبوتها في النقل، وليست مثل صفة الحياة – مثلاً – التي يعلم كل عاقل بفطرته أن الباري متصف بها، ووضع لها الرازي قانوناً للتأويل ما عدا السبع فقال: "القانون الكلي في أمثال هذه الصفات: أن كل صفة تثبت للعبد فيما يخص بالأجسام، فإذا وصف الله بذلك فهو محمول على نهايات الأعراض لا على بدايات الأعراض، مثاله: أن الحياء حالة تحصل للإنسان ولها مبدأ ونهاية، أما البداية فهو (هكذا) التغير الجسماني الذي يلحق الإنسان من خوف أو ينسب إلى القبيح، وأما النهاية فهي أن يترك الإنسان ذلك الفعل، فإذا ورد الحياء في حق الله تعالى فليس المراد منه ذلك الجواب الذي هو مبدأ الحياء وتقدمته، بل المراد هو ترك الفعل الذي هو منتهاه وغايته، وكذلك الغضب له مبدأ وهو غليان دم القلب وشهوة الانتقام، وله غاية وهي إيصال العقاب إلى المغضوب عليه، فإذا وصفنا الله تعالى بالغضب فليس المراد هو ذلك المبدأ أعني غليان دم القلب وشهوة الانتقام، بل المراد تلك النهاية وهي إنزال العقاب، فهذا هو القانون" (3).   (1) انظر الأنصاري: ((شرح أم البراهين)) (ص: 10 - 22) / كانو/ ط: أحمد أبو السعود. (2) ((أم البراهين)) (ص: 47 – 49). (3) ((أساس التقديس)) (ص: 147 – 148). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 وهذا القانون لا يخفى اختلاله على متأمل؛ إذ يلزم منه أن يكون كل مغضوب عليه معاقباً، وهذا يؤدي إلى قول المعتزلة في وجوب معاقبة صاحب الكبيرة، كما يطعن فيه كون كثير من الصفات التي لا يثبتونها ليست لها بدايات ولا نهايات، وإلا فأين بدايات ونهايات "اليد" و"العين" و"القدم" وغيرها من الصفات الثابتة في النقل؟ ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن أول من اشتهر عنه نفي الصفات الخبرية، وتأويلها أبو المعالي الجويني ت 478هـ حيث أولها في كتاب (الإرشاد)، ثم رجع عنه وحرم تأويلها في (الرسالة النظامية) (1). ولعل المقصود من كلامه – رحمه الله – الاشتهار كما هو ظاهر عبارته، وإلا فقد نفى بعضها الباقلاني ت 304هـ، ومشى على قانون التأويل فقال: "ونعتقد أن مشيئة الله تعالى ومحبته، ورضاه ورحمته، وكراهيته، وغضبه وسخطه، وولايته، وعداوته كلها راجع إلى إرادته" (2) هذا مسلك الأشاعرة في الإثبات والتأويل. وأما الصفات الثبوتية عند الماتريدية فثمان صفات وهي: القدرة، والعلم، والحياة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، والتكوين (3). وإنما خصوا الإثبات بهذه الصفات دون غيرها لأنها هي الثابتة بالعقل عندهم، وما عداها لا يدل العقل على ثبوتها فيلزم نفيها تنزيها لله، كما قال الأشاعرة تماماً، ولذا لا تجد لهم قدماً راسخة في الإثبات، يقول الماتريدي – عن علو الله تعالى -: "والأصل فيه أن الله سبحانه كان ولا مكان، وجائز ارتفاع الأمكنة وبقاؤه على ما كان، فهو على ما كان، وكان على ما عليه الآن، جل عن التغير والزوال والاستحالة والبطلان، إذ ذاك أمارات الحدث التي بها عرف حدث العالم" (4) ويقول: "وأما رفع الأيدي إلى السماء فعلى العبادة، ولله أن يتعبد عباده بما شاء ويوجههم إلى حيث شاء، وإن ظن من ظن أن رفع الأبصار إلى السماء لأن الله من ذلك الوجه إنما هو كظن من يزعم أنه من جهة أسفل الأرض بما يضع عليه وجهه متوجهاً في الصلاة ونحوها ... على أن السماء هي محل ومهبط الوحي ومنها أصول بركات الدنيا، فرفع إليها البصر لذلك" (5) وهذا الكلام يدل دلالة قاطعة على أن الرجل لا يثبت علو الله، وأنه لا يفرق بين ما ثبت بالشرع وبين ما ثبت بالفطرة. وأما آيات الاستواء فيرى التوقف في فهم معناها، يقول أبو منصور: " ... وقد بينا أنه في فعله وصفته متعال عن الأشباه فيجب القول بـ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] على ما جاء به التنزيل وثبت ذلك في العقل، ثم لا نقطع تأويله على شيء لاحتماله غيره مما ذكرنا ... ونؤمن بما أراده من غير تحقيق على شيء دون شيء ... فإن الله يمتحن بالوقوف في أشياء كما جاء من نعوت الوعد والوعيد، وما جاء من الحروف المقطعة وغير ذلك مما يؤمن المرء أن يكون ذامما المحنة فيه الوقف لا القطع" (6) هذا موقفه من هذه الصفة في هذا الكتاب، ويقول في كتاب آخر: "لو حقق معنى الاستواء لأوجب ذلك تغيراً وزوالاً ونحو ذلك، والله يجل عنه ويتعالى؛ إذ ذلك علم الحدوث، وأمارة الغيرية" (7) وهذا القول يناقض القول بالتوقف؛ لأنه نفي إثبات لهذه الصفة الثابتة في القرآن الكريم، مع العلم أن الوقف ذاته يخالف مذهب السلف من أهل السنة والجماعة.   (1) انظر ((درء التعارض)) (2/ 18)، و ((الإرشاد)) (ص: 146) فصل اليدان، والعين، والوجه. (2) ((الإنصاف)) (ص: 26)، وانظر (ص: 39 - 41)، و ((التمهيد)) له؛ حيث أول صفتي الرضا، والغضب. (3) انظر ((إشارات المرام)) (ص: 107، 114). (4) ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص: 68 - 69). (5) ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص: 76، 77). (6) ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص: 74 - 75). (7) ((تأويلات أهل السنة)) – الجزء المخطوط (ل649 –أ). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 ونظراً لاضطراب قول الماتريدي بين التأويل والتفويض اضطربت الماتريدية بعده، فرجح بعضهم التأويل، ورجح آخرون التفويض، ومنهم من أجاز الأمرين، ومنهم من خص التفويض بفئة من الناس والتأويلات بفئة أخرى، حيث قالوا – عن آيات الصفات -: "إما أن نؤمن بتنزيلها ولا نشتغل بتأويلها ... وإما أن تصرف إلى وجه من التأويل يوافق التوحيد" (1) وقالوا: "إنه تعالى استوى على العرش مع الحكم بأنه ليس كاستواء الأجسام على الأجسام من التمكن والمماسة والمحاذاة، بل بمعنى يليق به سبحانه وحاصله: وجوب الإيمان بأنه استوى على العرش مع نفي التشبيه، فأما كون المراد أنه استيلاؤه على العرش فأمر جائز الإرادة؛ إذ لا دليل على إرادته عيناً، فالواجب عيناً ما ذكرنا، وإذا خيف على العامة عدم فهم الاستواء إذا لم يكن بمعنى الاستيلاء إلا باتصال ونحوه من لوازم الجسمية وأن لا ينفوه فلا بأس بصرف فهمهم إلى الاستيلاء" (2).وقال ماتريدي آخر: "فاللائق بالعوام سلوك طريق التسليم، واللائق بأهل النظر طريق التأويل لدفع تمسكات المبتدعة" (3) "فالماتريدية إذاً ليس لهم قانون موحد مستقيم يسيرون عليه في التأويل ولا في التفويض فأقوالهم فيه مختلفة مضطربة" (4). وبإلقاء نظرة عاجلة على ما سبق يتجلى لنا ما يلي:1 - التقارب البين بين المنهج الأشعري، والمنهج الماتريدي في الصفات وقانون التأويل، ولعل السبب في ذلك راجع إلى أن المذهبين انبثقا من المذهب الكلابي الذي كان منتشراً في بلاد ما وراء النهر، وهي البلاد التي عاش فيها الماتريدي (5)، وهذا التقارب جعل عدداً من الباحثين والكتاب يجزمون بأنهما فرقة واحدة تحت اسمين: يقول البياضي الماتريدي: "إنهم – يعني الماتريدية والأشعرية – متحدوا الأفراد في أصول الاعتقاد، وإن وقع الاختلاف في التفاريع بينهما؛ إذ لا يعد كل من خالف غيره في مسألة ما صاحب مقالة عرفاً، وما من مذهب من المذاهب إلا ولأصحابه اختلاف في التفاريع" (6) ويقول الزبيدي: "إذا أطلق أهل السنة والجماعة فالمراد بهم الأشاعرة والماتريدية" (7) ويقول فتح الله خليف: "حرصنا على أن نقدم كل هذه النصوص لنبين أن الحافر يقع على الحافر وأن توسط الماتريدي هو بعينه توسط الأشعري، وأن شيخي السنة يلتقيان على منهج واحد، ومذهب واحد، في أصول مسائل علم الكلام" (8) وذكر أيضاً أن هذا التقارب الفكري هو الذي يفسر لنا كون الأزهر – رغم أشعريته الكلابية – اتخذ كتاب (العقائد النسفية) للنسفي الماتريدي مصدراً أساساً لدراسة التوحيد منذ زمن بعيد (9).وتوصل شمس الدين الأفغاني في موازنته بين الطائفتين إلى نتيجة ذكرها بقوله: "والحاصل أن الماتريدية والأشعرية فرقة واحدة من ناحية المعتقد، أو كادتا أن تكونا فرقة واحدة، على أقل التقدير، وما بينهما من الخلاف فهو يسير وغالبه لفظي، وهما واسطة بين أهل السنة، والجهمية الأولى، والمعتزلة، كما أنهما من المعطلة" ثم ذكر أن الماتريدية الديوبندية يصرحون بأنهم أشعرية وماتريدية في آن واحد (10).   (1) أبو المعين النسفي الماتريدي: ((التمهيد في أصول الدين)) (ص: 19) / القاهرة/ 1407هـ/ ت: عبدالرحمن قابيل. (2) الكمال بن همام الحنفي الماتريدي: ((المسايرة)) (ص: 30 - 33). (3) الكمال بن همام الحنفي الماتريدي: ((المسايرة)) (ص: 33) والكلام لابن قطلوبغا الحنفي. (4) ((الماتريدية دراسة وتقويماً)) (ص: 166). (5) ((الماتريدية دراسة وتقويماً)) (ص: 492). (6) ((إشارات المرام)) (ص: 52). (7) ((إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين)) (2/ 6) /بيروت/ دار إحياء التراث العربي. (8) مقدمة ((كتاب التوحيد)) (م 18). (9) مقدمة ((كتاب التوحيد)) (م 9). (10) ((الماتريدية)) (ص: 135، 137). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 2 - أننا إذا تأملنا الصفات السبع لدى الأشاعرة، والصفات الثماني لدى الماتريدية نجد أن إثباتها ونفي ما سواها يعود إلى قاعدة إثبات صفات الذات ونفي ما عداها التي قعدها ابن كلاب.3 - أن صفة التكوين التي أضافها الماتريدي – وقال بها بعض الأشاعرة – تعود في الحقيقة إلى قاعدة ابن كلاب المذكورة في الصفات، ويتبين ذلك بذكر مفهوم التكوين عندهم: فمن المعلوم أن أفعال الله تعالى على نوعين: متعد، ولازم، فالمتعدي مثل الخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، ونحو ذلك، واللازم مثل الاستواء، والنزول، والمجيئ والإتيان، ونحو ذلك (1)، وترى الماتريدية أن جميع صفات الأفعال المتعدية ترجع إلى صفة واحدة هي صفة التكوين، والتي فسروها بإخراج المعدوم من العدم إلى الوجود (2)، أما الصفات الفعلية اللازمة فينفونها بالتأويل الفاسد بناء على القاعدة الكلامية القائلة بأن إثبات الصفات يجب أن يكون بالعقل، ومعلوم أن الأصل في ثبوت الأفعال اللازمة الخبر، والعقل لا يستقل بإثباتها، كل ما في الأمر أن ابن كلاب نفي جميع صفات الأفعال الخبرية، وأرجعها إلى صفات الذات التي لا تتعلق بالمشيئة، وأما الماتريدي فأرجع الجزء المذكور من صفات الأفعال إلى صفة التكوين، ووصفوها بأنها أزلية لا تتعلق بالمشيئة (3)، وسيأتي – بإذن الله – بيان أن صفة التكوين تمثل نقطة خلاف بين جمهور الأشعرية والماتريدية.4 - أننا حين نقول: إن الأشاعرة والماتريدية يثبتون سبع صفات أو ثمان صفات لله ينبغي أن نقول ذلك بتحفظ؛ لأن إثباتهم لها يختلف عن الإثبات المعروف عند أهل السنة والجماعة، وهو: أن السلف يفهمون معنى الصفة الثابتة لله، ويوكلون إدراك الحقيقة إلى الله، مع القطع بعدم مشابهة المخلوقين، فلو نظرنا في إثباتهم للكلام – مثلاً – لوجدناهم يقولون: "وليس مرادنا من إطلاق الكلام غير المعنى القائم بالنفس" (4) ويعتقدون أن هذا الكلام النفسي هو الذي لا يوصف بأنه مخلوق، أما ألفاظ القرآن التي نقرأها فهي مجرد عبارة عن كلام الله وليس كلام الله حقيقة، ويقول أحدهم بكل صراحة: "أما القرآن بمعنى اللفظ الذي نقرؤه فهو مخلوق، لكن يمتنع أن يقال: القرآن مخلوق، ويراد به اللفظ الذي نقرؤه إلا في مقام التعليم" (5) ويقول النسفي الماتريدي: "وقال أهل الحق (الماتريدية) ... إن كلام الله تعالى صفة أزلية ليست من جنس الحروف والأصوات، وهي صفة قائمة بذاته منافية للسكوت والآفة، من الطفولة، والخرس، ونحو ذلك، والله تعالى متكلم بها آمر ناه، وهذه العبارات دالة عليها، وتسمى العبارات كلام الله تعالى على معنى أنها عبارات عن كلامه، وهو ينادي بها؛ فإن عبر عنه بالعربية فهو قرآن، وإن عبر عنه بالسريانية فهو إنجيل، وإن عبر عنه بالعبرية فهو توراة، والاختلاف على العبارات المؤدية لا عليه، كما يسمى الله تعالى بعبارات مختلفة بالألسنة، وفي لسان واحد بألفاظ مختلفة، والمسمى ذات واحد لا خلاف فيه، هذا هو بيان قول أهل الحق" (6).   (1) انظر ((مجموع الفتاوى)) (6/ 233، 16/ 372 - 373). (2) انظر " ((شرح الفقه الأكبر)) المنسوب للماتريدي ((ص: 22)) / حيرد آباد/ 1365هـ، و ((المسايرة)) (ص: 84)، و ((التمهيد)) للنسفي (ص: 28 (. (3) انظر ((اللامشي)) الماتريدي: ((التمهيد لقواعد التوحيد)) (ص: 74). (4) الآمدي: ((غاية المرام)) (ص97، 106، 110). (5) البيجوري: ((تحفة المريد)) (ص45، 58). (6) ((تبصرة الأدلة)) (ل 158) صورة عن دار الكتب المصرية تحت رقم (42 توحيد). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 5 - بهذا كله نعلم أن منهج الأشاعرة والماتريدية – على الرغم من انتشارهما في العالم الإسلامي – منهج مخالف لما كان عليه سلف الأمة من إثبات صفات الله إثباتاً حقيقياً بلا تعطيل، ولا تمثيل، وإن زعم سلفية هذا المنهج من زعمها من المتأخرين كما صنع فتح الله خليف في مقدمته لكتاب (التوحيد) للماتريدي (1).وأضيف هنا أن الأشعرية الكلابية، والماتريدية على الرغم من أنهما اتفقا في سلوك منهج التأويل والتعطيل، وركوب صهوة العقل، فقد اختلفوا في مسائل الاعتقاد، عنى بجمعها المؤلفون (2)، فنقل التاج السبكي ت 771هـ عن والده التقي السبكي ت 756هـ أن مسائل الخلاف، بين الطائفتين ثلاث مسائل فقط، ثم ذكر هو أنها ثلاث عشرة مسألة، منها ست الخلاف فيها معنوي، وسبع الخلاف فيها لفظي، وتبعه على ذلك، الزبيدي، والمقريزي، وأوصلها البياضي إلى خمسين مسألة (3)، والذي يبدو للمتأمل أن خلافهم في التعداد راجع في غالبه إلى التفصيل والإجمال، وأن أذكر من تلك المسائل ألصقها بالصفات والتأويل:1 - صفة التكوين: والتكوين عند الماتريدية – كما تقدم – هو الإخراج من العدم إلى الوجود، وهو عندهم صفة أزلية، والصفات الفعلية المتعدية عندهم من متعلقات التكوين، وليست صفات لله حقيقة، وإلا لزم قيام الحوادث بالله تعالى، أو لزم تكثير القدماء جدا (4) وأما جمهور الأشاعرة فلا يعترفون بصفة التكوين، ويذهبون إلى أن صفات الأفعال مجرد إضافات واعتبارات حادثة مرجعها مجموع القدرة والإرادة (5)، ويبدو أن الأشاعرة رفضوا هذه الصفة بناء على أصلهم السابق في إقرار سبع صفات فحسب، مع قولهم: إنها الثانية بالعقل، وأما الماتريدية فقد أتوا بهذه الصفة – التكوين – ووصفوها بالأزلية فراراً من القول بحلول الحوادث بذات الله – كما زعموا – غير أنهم قد عجزوا عن إزاحة الغموض عن رأيهم حول هذه الصفة، قال الرازي في مناظراته مع نور الدين الصابوني الماتريدي ت 580هـ: "هذه الصفة التي سميتها التكوين إن كانت عبارة عن هذه الصفات السبع فنحن نعترف بها، إلا أن البحث يصير لفظياً، وإن كانت صفة أخرى فلابد من بيانها وشرح حقيقتها حتى يمكننا نفيها أو إثباتها" (6) وهذا يدل على أن الخلاف في هذه المسألة خلاف جوهري.   (1) انظر (م 18) وكما صنع عمر كامل في مقالته التي رد فيها على الدكتور شمس الأفغاني، والمنشورة في ((جريدة عكاظ)) السعودية/ (عدد: 11954/ 6) / رمضان/ 1416هـ. (2) ممن تعرض للموازنة بين المذهبين وذكر الخلاف بينهما: ابن عساكر في ((تبيين كذب المفتري)) (ص139: -140) وابن السبكي في ((الطبقات)) (3/ 377 - 389)، وأبو عذبة في ((الروضة البهية)) (كله) / حيدر آباد/ 1322هـ، والمقريزي في ((الخطط)) (2/ 359)، والمقبلي في ((العلم الشامخ)) (ص: 12)، وأبو زهرة في ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (1/ 176 - 186)، وسزكين في ((تاريخ التراث العربي)) (4/ 40). (3) انظر ((الطبقات)) (3/ 378)، و ((إتحاف السادة)) (2/ 8 - 10) و ((الخطط)) (2/ 359) وقال: بضع عشرة مسألة، و ((إشارات المرام)) (ص: 53 - 56). (4) انظر ((التوحيد)) للماتريدية (ص: 47 - 49)، و ((المسايرة)) (ص: 89)، وفي ((تبصرة الأدلة)) (ل 188 - 189) ما يدل على أن ابن كلاب قال بهذه الصفة قبل الماتريدي. (5) انظر: ((مناظرات الرازي)) (ص: 17 - 22) / بيروت/ 1967م/ ت: فتح الله خليف. (6) ((المناظرات)) (ص: 19). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 2 - هل يجوز سماع كلام الله تعالى أو لا؟ ذهبت الأشعرية إلى الجواز (1)، وذهبت الماتريدية إلى المنع، وأولوا النصوص التي ورد فيها ذكر لسماع كلام الله بمعنى إعلام الله إيانا معنى كلامه كما علمنا قدرته وربوبيته، وقدرته تعالى على المعلومات لا من المسموعات (2). وقول الماتريدية – على بطلانه – أوفق لمذهبهم في القول بالكلام النفسي الذي ليس بحرف ولا صوت؛ لأنه إذا لم يكن بحرف وصوت، لم يتصور سماعه، والأشاعرة كان يلزمهم القول بمذهب الماتريدية لأنهم يقولون بالكلام النفسي. 3 - هل المشيئة والإرادة تستلزمان الرضا والمحبة، أو لا؟ ذهبت الماتريدية إلى عدم استلزام المشيئة للرضا والمحبة، فالمعاصي والكفر مراد لله تعالى كونا مع عدم الرضا به (3)، وذهب جمهور الأشاعرة إلى أن الإرادة والرضا متحدان فالله تعالى كما يريد الكفر يرضى به أيضاً واختار بعضهم المذهب الأول (4)، ومذهب جمهور الأشعرية في هذه المسألة باطل بدليل قوله تعالى: إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: 7] فالإرادة عند أهل السنة نوعان: إرادة كونية شاملة لجميع الموجودات، وإرادة شرعية متضمنة للمحبة والرضا (5)، وبناء على هذا الأصل في عدم التفريق بين الإرادة الكونية، والإرادة الشرعية فقد أقدم الأشاعرة على تأويل النصوص الدالة على أن الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر والمعاصي (6).4 - هل يجوز عقلاً أن يعذب الله تعالى المطيع أو لا؟ فالأشعرية يجوزون ذلك (7)، والماتريدية لا يجوزونه (8)، والحق أن الله لا يعذب المطيع (9).   (1) انظر الجويني: ((الإرشاد)) (ص: 129 - 130) و ((مناظرات الرازي)) (ص: 53) والغزالي: ((قواعد العقائد)) (ص: 59). (2) انظر ((التوحيد)) للماتريدي (ص: 59)، و ((إشارات المرام)) (ص: 55، 181 - 182). (3) ((التوحيد)) للماتريدي (ص: 286 - 287)، و ((إشارات المرام)) (ص: 55). (4) انظر ((طبقات السبكي)) (3/ 385)، و ((الإرشاد)) (ص: 212). (5) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 116 - 117، 505 - 506). (6) انظر ((التمهيد)) للباقلاني (ص: 284)، و ((الإرشاد)) للجويني (ص: 220). (7) انظر ((الروضة البهية)) (ص: 32 - 34). (8) انظر شيخ زادة: ((نظم الفرائد وجمع الفوائد)) (ص: 30) / القاهرة/ المطبعة الأدبية/ 1317هـ. (9) انظر ((الفرقان بين الحق والباطل)) ضمن المجموع (13/ 19)، ((وبدائع الفوائد)) لابن القيم (2/ 126). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 5 - هل معرفة الله واجبة بالعقل أو بالشرع؟ قالت الأشعرية: معرفة الله واجبة بالشرع لا العقل (1)، وقالت الماتريدية: معرفة الله واجبة بالعقل ولو لم يكن الشرع (2)، وقال صاحب نظم الفرائد: "ذهب جمهور مشايخ الحنفية إلى أنه تعالى لو لم يبعث للناس رسولاً لوجب عليهم بعقولهم معرفة وجوده تعالى ووحدته، واتصافه بما يليق به (3) " وثمرة الخلاف تظهر فيمن لم تبلغه الدعوة فمات، ولم يؤمن، فهو غير معذب عند الأشاعرة، معذب الماتريدية (4)، والحق أن الله لا يعذب من لم تبلغه الدعوة بدليل قوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15] (5) وترتب على هذا تأويل الماتريدية للنصوص القاضية بلزوم إقامة الحجة قبل العقاب (6).6 - هل يجوز التكليف بما لا يطاق؟ قالت الأشعرية بالجواز، وقالت الماتريدية بالمنع (7)، والحق المنع بدليل قوله تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة: 286] وترتب عليه تأويل الأشاعرة هذه الآية وما في معناها (8).7 - هل يجوز صدور الصغائر من الأنبياء؟ مذهب الأشاعرة الجواز، ومذهب الماتريدية المنع (9)، والحق أن الأنبياء معصومون من الإقرار على الذنوب مطلقاً (10).   (1) انظر ((الملل والنحل)) (1/ 42)، و ((قواعد العقائد)) (ص: 205). (2) انظر ((إشارات المرام)) (ص: 53، 57). (3) ((نظم الفرائد)) (ص: 35). (4) ((نظم الفرائد)) (ص: 37)، و ((الروضة البهية)) (ص: 38 - 39). (5) انظر اللالكائي: ((شرح الأصول)) (1/ 193 - 195). (6) انظر ((التوحيد)) للماتريدي (ص: 102، 129، 130، 185، 224.) (7) انظر ((الإرشاد)) (ص: 203 - 204)، و ((التوحيد)) للماتريدي (ص: 266)، و ((إشارات المرام)) (ص: 54). (8) انظر ((المواقف في علم الكلام)) للإيجي (ص: 330 - 331). (9) انظر ((طبقات السبكي)) (3/ 387)، و ((الروضة البهية)) (ص: 58). (10) انظر ((مجموع الفتاوى)) (10/ 293). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 8 - هل يجوز الاستثناء في الإيمان؟ منعت الماتريدية الاستثناء، وقالت الأشاعرة بالجواز (1)، ولم يصب التاج السبكي في جعله الخلاف في هذه المسألة خلافاً لفظياً، فكيف يكون لفظياً وقد رتب عليه بعض الأحناف تكفير من يقول بالاستثناء في الإيمان، فيقول: "لا ينبغي للحنفي أن يزوج ابنته من رجل شافعي المذهب، ولكن يتزوج من الشافعية تنزيلاً لهم منزلة أهل الكتاب، بحجة أن الشافعية يرون جواز الاستثناء في الإيمان وهو كفر" (2).9 - هل يصح إيمان المقلد؟ (3) مذهب جمهور الحنفية الماتريدية أن إيمان المقلد صحيح، غير أنه عاص بترك الاستدلال (4)، وذهب جمهور الأشاعرة إلى عدم الاكتفاء بالتقليد في العقائد، وفسر بعضهم عدم الاكتفاء بالكفر، ونقل عن الأشعري أنه قال: إن المقلد خرج من الكفر ولم يستحق اسم الإيمان (5).قلت: إن صح عنه هذا فهو من آثار الاعتزال وبقاياه، وإلا فما المانع من أن يستحق اسم المؤمن إذا شهد بالحق واستقامت حاله؟ والحق صحة إيمان كل مؤمن بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع طاعته (6)، وذكر صاحب (التمهيد) أن المشهور من مذهب الأشعري أن المقلد ليس بمؤمن (7). والحاصل: من هذه المقارنة أن هؤلاء لا يختلفون في الأصول الكلامية التي بنوا عليها التأويل، أعني: تقديم العقل على النقل، وبناء التأويل على ما سموه محالات عقلية، يقول أحد أئمة الماتريدية:"وقد تقرر أن الأمر الممكن الذي أخبر به الشارع يجب الإيمان من غير تأويل، وأما الأمر المحال عقلاً فالنص الوارد فيه مصروف عن ظاهره، كالنصوص الموهمة لإثبات جسمية، أو جهة للواجب تعالى، نحو قوله: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10] فإنهما مؤولة بالقدرة، وقوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] فالاستواء مؤول بالعظمة التامة، والقدرة القاهرة" (8).وكذلك متفقون على أن نصوص القرآن والسنة المتواترة وإن كانت قطعية الثبوت ولكنها ظنية الدلالة؛ لأنها أدلة لفظية وظواهر ظنية لا تفيد اليقين (9). ولأجل هذا كله اتحد منهجهم في باب الصفات فأثبت كل بعض الصفات وأول بعضاً. وتجدر الإشارة إلى الأقوال المنسوبة إلى الطائفتين فيما سبق من باب التغليب، فقد يوجد من الأشعرية من قال بقول الماتريدية في بعض المسائل، وكذلك العكس. المصدر: جناية التأويل الفاسد على العقيدة الإسلامية لمحمد أحمد لوح - ص 257   (1) انظر: ((التوحيد)) للماتريدي (ص: 388). (2) الكردي البزازي: ((الفتاوى البزازية)) (4/ 112) / بيروت/ دار إحياء التراث/ على هامش الفتاوى الهندية، و ((البحر الرائق)) (2/ 46، 3/ 103) وقائله هو أبو حفص السفركردري أحد أئمة خوارزم. (3) ومقصدهم بالمؤمن المقلد: الذي أقر بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من غير استدلال على طريقة المتكلمين. انظر: ((التمهيد)) للامشي (ص: 135). (4) انظر ((شرح الفقه الأكبر)) المنسوب للماتريدي (ص: 8)، ((ونظم الفوائد)) (ص: 40)، وانظر ((درء التعارض)) (7/ 441). (5) انظر ((الروضة البهية)) (ص: 22) و ((أصول الدين)) للبغدادي (ص: 255). (6) انظر ((درء التعارض)) (8/ 6 - 10). (7) ((اللامشي)) (ص: 137). (8) عبدالعزيز الفريهاري: ((النبراس)) (ص: 316 - 317) / بشاور/ كتبخانة إكرامية. (9) انظر ((شرح العقائد النسفية)) (ص: 5، 42). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 المبحث السادس: تناقض الأشاعرة من أبرز السمات العامة لمنهج شيخ الإسلام في ردوده على الأشاعرة، وقد استخدمه كثيرا وهو يناقش المسائل الكثيرة التي خالفوا فيها مذهب السلف. والسؤال الذي يرد هنا هو: هل كان هذا المذهب يحمل في طياته منذ نشأته مبدأ التناقض؟ وبعبارة أخرى هل المنهج التلفيقي الذي أراد مؤسسوه، أن يبنوا عليه هذا المذهب أدى إلى الوقوع في هذا التناقض؟ إن كلام شيخ الإسلام يدل على أنه يجيب بالإيجاب، فهو يقول عن أبي الحسن الأشعري بعد دفاعه عنه: "لكن كانت خبرته بالكلام خبرة مفصلة، وخبرته بالسنة خبرة مجملة، فلذلك وافق المعتزلة في بعض أصولهم التي التزموا لأجلها خلاف السنة، وأعتقد أنه يمكنه الجمع بين تلك الأصول وبين الانتصار للسنة، كما فعل في مسألة الرؤية والكلام والصفات الخبرية وغير ذلك. والمخالفون له من أهل السنة والحديث، ومن المعتزلة والفلاسفة، يقولون: إنه متناقض، وإن ما وافق فيه المعتزلة يناقض ما وافق فيه أهل السنة" (1)، ويقول أيضا عن ابن كلاب والقلانسي والأشعري: "لكن في أقوالهم شيء من أصول الجهمية، وما يقول الناس: إنه يلزمهم بسببه التناقض، وأنهم جمعوا بين الضدين، وأنهم قالوا ما لا يعقل، ويجعلونهم مذبذبين، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء فهذا وجه من يجعل في قولهم شيئا من أقوال الجهمية" (2). وهنا جمع شيخ الإسلام بين الأشعري وشيوخه من الكلابية في وقوعهم في التناقض. ولا شك أن الأشعري أراد أن يجمع بين الإيمان ببعض أصول المعتزلة والجهمية مع اتباع مذهب السلف، ولما كانت خبرته بمذهب السلف قليلة أراد أن يجمع بين تلك الأصول ومذهب السلف الذي حكاه بإجمال، حكى بعضه كما يعتقده، لا كما هو في واقع الأمر. يقول شيخ الإسلام عن الأشعري: "وأقرب الأقوال إليه قول ابن كلاب، فأما ابن كلاب فقوله مشوب بقول الجهمية، وهو مركب من قول أهل السنة وقول الجهمية. وكذلك الأشعري في الصفات. وأما في القدر والإيمان فقوله قول جهم. وأما ما حكاه عن أهل السنة والحديث وقال: "وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول إليه نذهب" (3)، فهو أقرب ما ذكره، وبعضه ذكره عنهم على وجهه، وبعضه تصرف فيه وخلطه بما هو من أقوال جهم في الصفات والقدر؛ إذ كان هو نفسه يعتقد صحة تلك الأصول. وهو يحب الانتصار لأهل السنة والحديث، وموافقتهم، فأراد أن يجمع بين ما رآه من رأي أولئك، وبين ما نقله عن هؤلاء، ولهذا يقول فيه طائفة: إنه خرج من التصريح على التمويه، كما يقوله طائفة: إنهم الجهمية الأناث، وأولئك الجهمية الذكور" (4).   (1) ((المسألة المصرية في القرآن، مجموع الفتاوى)) (12/ 204 - 205). (2) ((المسألة المصرية في القرآن، مجموع الفتاوى)) (12/ 206). (3) ((المقالات للأشعري)) (ص: 297) – ت ريتر 1/ 325 ط عبدالحميد. (4) ((مجموع الفتاوى)) (16/ 308 - 309). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 والتناقض الذي وقع فيه متقدمو الأشعرية، موجود في مذهبهم في الصفات، وكلام الله، والقدر، وغير ذلك من المسائل التي خالفوا فيها أهل السنة. والشيء الملفت هنا – أن المتأخرين من الأشاعرة، وهم أكثر تناقضا – اتهموا المتقدمين من أئمتهم بالتناقض، يقول شيخ الإسلام عن ابن كلاب والأشعري وبعض الصفاتية: إنهم يقولون: إن الله تعالى فوق العرش، وإنه مع ذلك ليس بجسم ولا متحيز قال شيخ الإسلام: "والمنازعون لهم في كونه فوق العرش كالرازي ومتأخري الأشعرية وكالمعتزلة يدعون أن هذا تناقض مخالف للضرورة العقلية"، ثم يقول في المفاضلة بين الأولين – أي متأخري الأشعرية كالرازي والجويني – وهؤلاء – أي متقدمي الأشعرية-: "تبين أن الأولين أعظم مخالفة للضرورة العقلية، وأعظم تناقضا من هؤلاء، وأن هؤلاء (أي الجويني وابن كلاب) لا يسع أحدهم في نظره ولا مناظرته أن يوافق أولئك على ما سلكوه من النفي فرارا مما ألزموه إياه من التناقض؛ لأنه يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، فيكون الذي وقع فيه من التناقض ومخالفة الفطرة الضرورية العقلية أعظم مما فر منه، مع ما في ذلك من مخالفة القرآن والسنة وما اتفق عليه سلف الأمة، وإن كان قد يضطر إلى نوع باطل في الأول، فإنه بمنزلة قول الواقف في الرمضاء: أنا أجد حرارتها وألمها، فيقال له: النار التي فررت إليها أعظم حرارة وألما، وإن كنت لا تجدها حين وقوفك على الرمضاء، بل تجدها حين تباشرها – فيكون قد فر من نوع تناقض وخلاف بعض الضرورة، فوقع في أنواع من التناقضات ومخالفة الضرورات، وبقى ما امتاز به الأول في كلامه من الزندقة والإلحاد، ومشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى، واتباع غير سبيل المؤمنين: زيادة على ذلك" (1).وهؤلاء المتأخرون إنما رموا أئمتهم المتقدمين بالتناقض لأنهم كانوا عارفين بالأصول العقلية التي اعتمدها هؤلاء، وأنها تقتضي أن يلتزموا لوازمها وأن لا يهابوا أهل الحديث بل يصرحوا بما تقتضيه هذه الأصول ولوازمها. وهذا هو ما فعله المتأخرون وطبقوه (2).   (1) ((نقض التأسيس)) المطبوع (2/ 110 - 111)، وقد بين فيما بعد تناقض المتقدمين والمتأخرين من الأشعرية وأن كلا منهم اتهم الآخر بالتناقض (ومعلوم اتهام المتقدمين للمتأخرين إنما هو يوافق الحال لا بالمقال)، انظر ((نقض التأسيس)) المخطوط (3/ 200 - 202). (2) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (16/ 309). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 واتهام المتأخرون للمتقدمين بالتناقض يدل عليه ما حوته كتبهم التي صرحوا فيها بمخالفة السلف ومخالفة أئمتهم، وما يذكرونه من الأدلة والمناقشات لعقائدهم – وخاصة في مسائل العلو والاستواء، والصفات الخبرية، والرؤية – تحمل في ثناياها الاتهام لشيوخهم وأئمتهم بالتناقض، وهم قد لا يصرحون بذلك لأن هؤلاء هم أئمة المذهب، وبهم يقتدون في المسائل الأخرى التي وافقوهم فيها. ومع ذلك فأحيانا يصرحون: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره أبو المعالي الجويني في مسألة الصفات الخبرية كالوجه واليدين، التي أثبتها متقدمو الأشعرية – الذين ينفون الصفات الاختيارية عن الله تعالى، ولذلك يؤولون الاستواء والنزول والمجيء، إما بتأويلات صريحة كما فعل المتأخرون، وإما بجعلها من صفات الذات لا من صفات الفعل، وأن الاستواء – مثلا – فعل فعله الله في العرش سماه استواء، كما هو قول الأشعري – فالجويني يقول لهؤلاء إذا كنتم أثبتم الصفات الخبرية بظواهر الآيات فيلزمكم أن تثبتوا بقية الصفات كالاستواء والنزول والجنب بظواهر النصوص أيضا، أما إذا سوغتم تأويل هذه فلا يبعد تأويل الصفات الخبرية: يقول الجويني عن الصفات الخبرية، "ومن سلك من أصحابنا سبيل إثبات هذه الصفات بظواهر هذه الآيات ألزمه سوق كلامه أن يجعل الاستواء والمجيء والنزول والجنب من الصفات تمسكا بالظاهر، فإن ساغ تأويلها فيما يتفق عليه، لم يبعد أيضا طريق التأويل فيما ذكرناه" (1). فهو يقول: إن تأويل هذه والمنع من تأويل تلك تناقض. فإما إثبات الجميع، أو تأويل الجميع. ويلاحظ أن هذا يقال للجويني أيضا. والنماذج التي ذكرها شيخ الإسلام لتناقض الأشاعرة كثيرة، ومن أمثلتها:1 - ذكر شيخ الإسلام – في أثناء رده على الجويني – الذي سمى أصحابه أهل الحق وذكر ما يتميزون به عن المعتزلة، وتكلم بكلام عجيب حول أخبار الصفات حتى إن الإمام القرطبي انتقد كلامه في ذلك (2) – أنواعا كثيرة من التناقضات في المذهب الأشعري، فقال – بعد رده على الجويني من وجوه عديدة-: "الوجه الرابع عشر أن يقال له: هؤلاء الذين سميتهم أهل الحق، وجعلتهم قاموا من تحقيق أصول الدين بما لم يقم به الصحابة، هم متناقضون في الشرعيات والعقليات: أما الشرعيات: فإنهم تارة يتأولون نصوص الكتاب والسنة، وتارة يبطلون التأويل، فإذا ناظروا الفلاسفة والمعتزلة – الذين يتأولون نصوص الصفات مطلقا، ردوا عليهم، وأثبتوا لله الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر ونحو ذلك من الصفات – وإذا ناظروا من يثبت صفات أخرى دل عليها الكتاب والسنة كالمحبة والرضا والغضب والمقت والفرح والضحك ونحو ذلك تأولوها، وليس لهم فرق مضبوط بين ما يتأول وما لا يتأول، بل منهم من يحيل على العقل، ومنهم من يحيل على الكشف، فأكثر متكلميهم يقولون: ما علم ثبوته بالعقل لا يتأول، وما لم يعلم ثبوته بالعقل يتأول، ومنهم من يقول: ما علم ثبوته بالكشف والنور الإلهي لا يتأول، وما لم يعلم ثبوته بالعقل يتأول، وكلا الطريقين ضلال وخطأ من وجوه .... (3) "، ثم قال: "وأما تناقضهم في العقليات فلا يحصى: "مثل قولهم: إن الباري لا يقوم به الأعراض، ولكن تقوم به الصفات، والصفات والأعراض في المخلوق سواء عندهم، فالحياة والعلم والقدرة والإرادة والحركة والسكون في المخلوق هو عندهم صفة وهو عندهم عرض، ثم قالوا في الحياة ونحوها هي في حق الخالق صفات وليست بأعراض، إذ العرض هو ما لا يبقى زمانين، والصفة القديمة باقية ... ".   (1) ((الإرشاد)) للجويني (ص: 157 - 158). (2) انظر: كلام الجويني وتعليق القرطبي في ((التسعينية)) (ص: 244 - 245). (3) ((التسعينية)) (ص: 257 - 258). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 "وكذلك قولهم: إن الله يرى كما ترى الشمس والقمر من غير مواجهة ولا معاينة وأن كل موجود يرى حتى الطعم واللون". "وأن المعنى الواحد القائم بذات المتكلم يكون أمرا بكل ما أمر به ونهيا عن كل ما نهى عنه، وخبرا بكل ما أخبر به، وذلك المعنى إن عبر عنه بالعربية فهو القرآن، وإن عبر عنه بالعبرانية فهو التوراة، وأن عبر عنه بالسريانية فهو الإنجيل، وأن الأمر والنهي والخبر صفات للكلام لا أنواع له وأن هذا المعنى يسمع بالأذن – على قول بعضهم إن السمع عنده متعلق بكل موجود – وعلى قول بعضهم إنه لا يسمع بالأذن، لكن بلطيفة جعلت في قلبه، فجعلوا السمع من جنس الإلهام ... ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 "ومثل قولهم: إن القديم لا يجوز عليه الحركة والسكون ونحو ذلك لأن هذه لا تقوم إلا بمتحيز، وقالوا: إن القدرة والحياة ونحوهما يقوم بقديم غير متحيز. وجمهور العقلاء يقولون: إن هذا فرق بين المتماثلين."وكذلك زعمهم أن قيام الأعراض التي هي الصفات قائمة بالرب ولا تدل على حدوثه" (1).ثم ذكر شيخ الإسلام نماذج أخرى (2)، ويلاحظ هنا أن شيخ الإسلام اقتصر على ذكر وجه التناقض، ولم يكن هدفه أن يبين وجه الحق في كل مسألة ذكرها، فمثلا في المسألة الأخيرة التي فرقوا فيها بين الصفات والأعراض فقالوا إن الأعراض إذا قامت بالمحل دلت على حدوثه، وأما الصفات فهي قائمة بالله ولا تدل على حدوثه، بين شيخ الإسلام أن هذا تناقض أن قيام الأعراض إن دلت على الحدوث فالصفات كذلك، وقيام الصفات إن لم تدل على الحدوث فالأعراض كذلك، والمقصود أن لا يفهم من ظاهر عبارة الشيخ أنه ينكر قولهم: إن الصفات قائمة بالرب ولا تدل على حدوثه، بل هو ينكر ويبين تناقضهم، وإلا فالله تعالى تقوم به الصفات، كما أنه تعالى يتكلم إذا شاء متى شاء، وينزل ويجيء إذا شاء – وهذه وإن سموها أعراضا – فهي لا تدل على حدوث البارئ تعالى.2 - ومن الأمثلة على تناقض الأشاعرة أنهم في مسألة الترجيح بلا مرجح مرة يقولون: إن القادر المختار يرجح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، ومرة يقولون بعكس ذلك وأن القادر لا يرجح أحد طرفي الممكن إلا بمرجح، وسبب التناقض اختلاف الحالة التي يستدلون لها: فإنهم إن كانوا في موقع مناظرة الفلاسفة الدهرية حول حدوث العالم، ردوا عليهم بقولهم "إن القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، وقالوا: إن ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بغير مرجح يصح من القادر المختار ولا يصح من العلة الموجبة" (3)، ويلاحظ أن هذا جواب للمعتزلة أيضا يجيبون به الفلاسفة. وإن كانوا في موقع الرد على القدرية المعتزلة في مسألة خلق أفعال العباد وأن الله هو الخالق لها ردوا عليهم بقولهم "إنه لا يتصور ترجيح الممكن، لا من قادر ولا من غيره إلا بمرجح يجب عنده وجود الأثر" (4)، يقول شيخ الإسلام معلقا على الأشاعرة: "فهؤلاء إذا ناظروا الفلاسفة في مسألة حدوث العالم لم يجيبوهم إلا بجواب المعتزلة، وهم دائما إذا ناظروا المعتزلة في مسائل القدر يحتجون عليهم بهذه الحجة التي احتجت بها الفلاسفة، فإن كانت هذه الحجة صحيحة بطل احتجاجهم على المعتزلة، وإن كانت باطلة بطل جوابهم للفلاسفة. وهذا غالب على المتفلسفة والمتكلمين المخالفين للكتاب والسنة تجدهم دائما يتناقضون، فيحتجون بالحجة التي يزعمون أنها برهان باهر، ثم في موضع آخر يقولون: إن بديهة العقل يعلم بها فساد هذه الحجة" (5).وهذا يشبه تناقض الأشاعرة في مسألة أصوات العباد، حيث إنهم حينما يردون على المعتزلة يقولون: إنها ليست فعلا للعباد، فإذا جاءوا إلى مسألة القرآن قالوا أصوات العباد فعل لهم وهذا تناقض (6).   (1) ((التسعينية)) (ص: 259 - 260). (2) ((التسعينية)) (ص: 260 - 261). (3) انظر: ((درء التعارض)) (9/ 166). (4) ((درء التعارض)) (1/ 326). (5) انظر: ((درء التعارض)) (1/ 326). (6) انظر: ((الصفدية)) (1/ 154). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 3 - وفي موضوع النبوات وما يتعلق بها من المعجزات الدالة على صدق الأنبياء ذكر شيخ الإسلام جوانب كثيرة دالة على تناقضهم: من ذلك أن بعضهم يقول: إن دلالة المعجزة على التصديق معلومة بالاضطرار، ثم يقولون: عن الله لا يفعل لحكمة، وليست أفعاله تعالى معللة. وهذا تناقض إذ كيف تدل المعجزة – التي هي من أفعال الله ومفعولاته – على صدق النبي، والله لا يفعل لحكمة أبدا؟ يقول شيخ الإسلام: "وأما الطريقة الثانية وهي أجود وهي التي اختارها أبو المعالي وأمثاله، فهو أن دلالة المعجز على التصديق معلوم بالاضطرار، وهذه طريقة صحيحة لمن اعتقد أن الله يفعل لحكمة، وأما إذا قيل: إنه لا يفعل لحكمة انتفى العلم الاضطراري. والأمثلة التي يذكرونها كالملك الذي جعل آية لرسوله خارجا عن عادته، إنما دلت للعلم بأن الملك يفعل شيئا لشيء، فإذا نفوا هذه بطلت الدلالة" (1).ومثل ذلك من علق صدق النبوة على القدرة، وأن الله قادر على أن يميز بين الصادق والكاذب، إنما صح ذلك مع إثبات الحكمة والتعليل، أما مع نفيها فهو متناقض (2).ومن تناقضهم في هذا الباب قولهم عن المعجزات: إن الله لا يمكن أن يخلقها على يد كاذب، ثم يقولون: إن الله لا ينزه عن فعل أي ممكن، وأنه لا يقبح منه فعل، وحينئذ فيقال لهم قولكم متناقض لأنه إذا جاز أن يفعل الله القبيح جاز أن يخلق المعجزة على يد كذاب، يقول شيخ الإسلام معلقا على قولهم إن الله لا يمكن أن يخلق المعجزة على يد كاذب: "لكن المطالب يقول: كيف يستقيم على أصلكم أن يكون ذلك دليل الصدق، وهو أمر حادث مقدور، وكل مقدور يصح عندكم أن يفعله الله، ولو كان فيه من الفساد ما كان، فإنه عندكم لا ينزه عن فعل ممكن، ولا يقبح منه فعل، فحينئذ إذا خلق على يد الكاذب مثل هذه الخوارق لم يكن ممتنعا على أصلكم، وهي لا تدل على الصدق البتة على أصلكم ... فأنتم بين أمرين: إن قلتم لا يمكنه خلقها على يد الكاذب وكان ظهورها ممتنعا فقد قلتم: إنه لا يقدر على إحداث حادث قد فعله مثله، وهذا تصريح بعجزه ... وإن قلتم: يقدر، لكنه لا يفعل، فهذا حق وهو ينقض أصلكم" (3). ومعلوم أن من أكثر ما تخبط فيه الأشاعرة مسألة المعجزات.4 - ومن الأمثلة على تناقضهم قولهم: إن أول الواجبات هو المعرفة أو النظر ثم يقولون لا واجب إلا بالشرع خلافا للمعتزلة، وهذا تناقض بين (4).والأمثلة على تناقض الأشاعرة كثيرة، وما سبق كاف لإثبات ذلك، وهناك جوانب أخرى من تناقضهم ذكرها شيخ الإسلام (5).   (1) ((النبوات)) (ص: 361)، وانظر (ص: 56). (2) ((النبوات)) (ص: 361 – 362). (3) ((النبوات)) (ص: 154 - 155). (4) انظر ((درء التعارض)) (8/ 12 - 16). (5) انظر مثلا: ((نقض التأسيس)) المخطوط (3/ 167)، و ((درء التعارض)) (1/ 357، 2/ 390، 3/ 206 - 207، 254 - 256، 5/ 238، 343 - 345) و ((مجموع الفتاوى)) (5/ 209 - 289)، و ((التسعينية)) (ص: 168 - 169، 221)، و ((شرح الأصفهانية)) (ص: 153، 355) – ت العودة، وغيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 5 - ويذكر شيخ الإسلام – إضافة إلى ما سبق – تناقض بعض أعلامهم: أ- ومن ذلك تناقض الشهرستاني والرازي والآمدي الذين أثبتوا جواهر معقولة غير متحيزة موافقة للفلاسفة الدهرية: وقالوا: إنه لا دليل على نفيها، يقول شيخ الإسلام مخاطبا هؤلاء حول العلو نفيهم له لالتزامه على زعمهم التحيز: "أنتم إذا ناظرتم الملاحدة المكذبين للرسل فادعوا إثبات جواهر غير متحيزة عجزتم عن دفعهم أو فرطتم فقلتم: لا نعلم دليلا على نفيها أو قلتم بإثباتها. وإذا ناظرتم إخوانكم المسلمين الذين قالوا بمقتضى النصوص الإلهية والطريقة السلفية وفطرة الله التي فطر عباده عليها، والدلائل العقلية السليمة عن المعارض وقالوا: إن الخالق تعالى فوق خلقه، سعيتم في نفي لوازم هذا القول وموجباته وقلتم: لا معنى للجوهر إلا المتحيز بذاته، فإن كان هذا القول حقا فادفعوا به الفلاسفة الملاحدة، وإن كان باطلا فلا تعارضوا به المسلمين، أما كونه يكون حقا إذا دفعتم ما يقوله إخوانكم المسلمين، ويكون باطلا إذا عجزتم عن دفع الملاحدة في الدين فهذا طريق من بخس حظه من العقل والدين وحسن النظر والمناظرة عقلا وشرعا" (1). فهذا التناقض إنما هو لمن قال بالجواهر العقلية، أو قال إنه لا دليل على نفيها، وهؤلاء مع الغزالي لهم تناقضات أخرى في المنطق وما يتعلق به من مسألة تماثل الأجسام أشار شيخ الإسلام إلى جوانب منها (2). ب- تناقض الرازي. وقد أشار شيخ الإسلام إلى أمثلة عديدة من تناقضه ومن ذلك:1 - تناقضه في مسألة حدوث الأجسام، فمرة يثبته، ومرة يذكر فساد حجج من يثبته (3).2 - وفي إثبات العلو قال في نفيه بالدليل العقلي: إنه يلزم منه النقص على الله تعالى، وفي نهاية العقول ذكر أن امتناع النقص على الله لم يعلم بالعقل (4).3 - وسورة الإخلاص قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص: 1 - 2] قال فيها مرة إنها من المحكمات. وفي موضع آخر جعلها من المتشابهات (5).4 - والجوهر الفرد وما يتعلق به من كون الحركة لها وجود أو ليس لها وجود، مرة أثبت ذلك ومرة نفاه (6). هذه نماذج لتناقض الأشاعرة في مذهبهم، وفي أقوال أئمتهم، ولاشك أن جود التناقض وكثرته يدل على ضعف المذهب، وضعف الأدلة التي بني عليها. المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 2/ 881   (1) ((درء التعارض)) (4/ 163). (2) انظر: ((درء التعارض)) (4/ 173 - 182). وهو من المباحث المهمة في بيان تناقض هؤلاء. (3) انظر: ((درء التعارض)) (4/ 290). (4) انظر: ((نقض التأسيس)) المطبوع (2/ 292 - 297). (5) انظر: ((نقض التأسيس)) المخطوط (2/ 54 - 55). (6) انظر ((شرح الأصفهانية)) (ص: 306) – ت العودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 المبحث السابع: التناحر الأشعري الأشعري اعترف العز بن عبدالسلام وابن حجر الهيتمي بوقوع الخلاف فيما بين الأشاعرة "والعجيب أن الأشعرية اختلفوا في كثير من الصفات كالقدم والبقاء والوجه واليدين والعينين، وفي الأحوال وفي تعدد الكلام واتحاده" (1).وذكر العز بن عبدالسلام أن أصحاب الأشعري مترددون مختلفون في صفات البقاء والقدم هل هي من صفات السلب أم من صفات الذات (2).وصدق فيما قال، فإن منهم من يقسم الصفات إلى قسمين: نفسية ومعنوية، ومنهم من يجعلها ثلاثة أقسام: ذاتية ومعنوية وفعلية، ومنهم من يجعلها أربعاً: نفسية وسلبية وصفات معان وصفات معنوية (3). فهم مختلفون في طريقة تنزيه ربهم. ومنهم المفوض الذي يلزم المؤول بالتحريف في صفات الله. ومنهم المؤول الذي يصف المفوض بأنه يلزمه أن النبي كان جاهلا بمعاني صفات الله. وكل من هاتين الطائفتين تمتاز بصفة ذكرها الله في أهل الكتاب: فالمؤولة يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ [المائدة: 13]. والمفوضة لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ [البقرة: 78] أي إلا تلاوة للمعنى، لا يفهمونه ولا يتدبرونه. مع أن ثمرة التلاوة يجب أن تكون التفكر وتدبر المعاني. وأنهم وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ [المائدة: 13]. الأشاعرة المؤولة يردون على الأشاعرة المفوضة فالأشاعرة فرقتان: أشاعرة مؤولة وأشاعرة مفوضة. والماتريدية فرقتان: ماتريدية مؤولة وماتريدية مفوضة. فهم في الحقيقة أربع فرق لا فرقتان. وكل فريق منهم ينكر على الآخر ويتهمه بتجاهل معاني كلام الله، بل ونسبة الجهل وما لا يليق إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد رد ابن فورك على المفوضة الذين يزعمون أن ألفاظ الصفات مما لا يفهم معناه قائلا: بأنه لو كان معنى الصفات غير مفهوم لكان خطاب الله خالياً من الفائدة، وعارياً عن معنى صحيح: وهذا مما لا يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم (4). وإذا كان لا يليق بالنبي فهو باطل! ولكن العجيب أن الأشاعرة يجعلون هذا الباطل أحد طريقي أهل السنة في تنزيه الله "التأويل والتفويض" ويجيزون لأتباعهم أن يختاروا أياً من الطريقين شاؤا: إما التأويل وإما التفويض. حتى قال اللقاني في (جوهرة التوحيد) (5): وكل وصفٍ أوهم التشبيها ... أوله أو فوض ورم تنزيها - وألزم الرازي المفوضة بأحد أمرين: = إما أن يقطعوا بتنزيه الله عن المكان والجهة، فقد قطع بأنه ليس مراد الله من الاستواء الجلوس. وهذا هو التأويل.= وإما أن لا يقطع بتنزيه الله عن المكان والجهة بل بقي شاكاً فيه، فهو جاهل بالله تعالى" (6).   (1) ((قواعد الأحكام)) (ص: 172) ((الإعلام بقواطع الإسلام)) (ص: 24) ط/ دار الكتب العلمية سنة 1407 و ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) للهيتمي (2/ 350) وحكى الشهرستاني رد الباقلاني على شيخه الأشعري في ((إثبات الحال الفصل في الملل والنحل)) (1/ 121). (2) ((قواعد الأحكام الكبرى)) (ص: 170). (3) انظر في ذلك: ((الإرشاد)) للجويني (ص: 51) و ((لوامع البينات)) للرازي (ص: 47) و ((إتحاف المريد بجوهرة التوحيد)) (ص: 69 و 114). (4) ((مشكل الحديث)) وبيانه (ص: 496). (5) ((جوهرة التوحيد)) (ص: 91) وهو مقرر في الأزهر في تدريس مادة العقيدة. (6) ((التفسير الكبير للرازي)) (22/ 6). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 - وطعن أبو حيان النحوي في التفويض ورجح التأويل عليه. ونقل قول ابن عباس عن آيات الصفات بأن "هذا من المكتوم الذي لا يفسر" وكذلك نقل قول الشعبي وسعيد بن المسيب والثوري "نؤمن بها ونقر كما نصت، ولا نعين تفسيرها ولا يسبق النظر فيها. ثم وصف هذين القولين بأنهما قول من لم يمعن النظر في لسان العرب". ونسب إلى جماهير المسلمين أن الصفات تفسر على قوانين اللغة ومجازات الاستعارة. فما صح في العقل نسبته إليه (أي إلى الله) نسبناه، وما استحال أولناه بما يليق به تعالى" (1). وهذا القول هو الأصل الذي يقول به المعتزلة. ولما قال والد الجويني إن الحروف المقطعة من قبيل الصفات ورجح التفويض زاعماً أنه طريق السلف (2): رد عليه القشيري في التذكرة الشرقية قائلا: "وكيف يسوغ لقائل أن يقول في كتاب الله ما لا سبيل لمخلوق إلى معرفته ولا يعلم تأويله إلا الله؟ أليس هذا من أعظم القدح في النبوات وأن النبي صلى الله عليه وسلم ما عرف تأويل ما ورد في صفات الله تعالى ودعا الخلق إلى علم ما لا يعلم؟ أليس الله يقول بلسان عربي مبين؟ فإذن: على زعمهم يجب أن يقولوا كذب حيث قال بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ [الشعراء: 195] إذ لم يكن معلوما عندهم، وإلا: فأين هذا البيان؟ وإذا كان بلغة العرب فكيف يدعي أنه مما لا تعلمه العرب؟ ونسبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه دعا إلى رب موصوف بصفات لا تعقل: أمر عظيم لا يتخيله مسلم، فإن الجهل بالصفات يؤدي إلى الجهل بالموصوف، وقول من يقول: استواؤه صفة ذاتية لا يعقل معناها، واليد صفة ذاتية لا يعقل معناها، والقدم صفة ذاتية لا يعقل معناها، تمويه ضمنه تكييف وتشبيه ودعاء إلى الجهل ... وإن قال الخصم بأن هذه الظواهر لا معنى لها أصلا فهو حكم بأنها ملغاة، وما كان في إبلاغها إلينا فائدة، وهي هدر. وهذا محال ... وهذا مخالف لمذهب السلف القائلين بإمرارها على ظواهرها" (3). وهذا ما رجحه النووي حيث قال "يبعد أن يخاطب الله عباده بما لا سبيل إلى معرفته" (4). المصدر: موقف ابن حزم من المذهب الأشعري لعبد الرحمن دمشقية - ص 19   (1) انظر ((تفسير البحر المحيط)) (1/ 121 و 2/ 124 3/ 524). (2) ((إتحاف السادة المتقين)) (2/ 110). (3) ((إتحاف السادة المتقين)) (2/ 110 - 111) ((صريح البيان)) (ص: 35) ط/ مجلدة. (4) ((شرح مسلم للنووي)) (16/ 218). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 المبحث الثامن: حيرة الأشاعرة وشكهم ورجوعهم عن علم الكلام لاشك أن هذا متولد عن الوجه السابق الذي هو التناقض، لأن وجود التناقض في المذهب وفي طرق الاستدلال له يؤدي إلى عدم الثقة فيه فإذا انضاف إلى ذلك تعظيم شيوخ المذهب وأنهم لا يمكن أن يقولوا إلا ما هو حق موافق للعقل؛ فإن الأمر يتطور إلى الشك والحيرة، والرجوع لمن هدى الله منهم. وكل ذلك لأجل أنهم خاضوا في علم الكلام والفلسفة، وتركوا الاعتماد على الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح ولذلك صار لهم سمات خاصة بهم منها:"أنك تجدهم أعظم الناس شكا واضطرابا، وأضعف الناس علما ويقينا ... " (1).ومنها: "أنك تجد أهل الكلام أكثر الناس انتقالا من قول إلى قول وجزما بالقول في موضع، وجزما بنقيضه وتكفير قاله في موضع آخر وهذا دليل عدم اليقين" (2).ومنها: أن منتهى هؤلاء المعرضين عن الكتاب المعارضين له: "السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات، يتأولون كلام الله وكلام رسوله بتأويلات يعلم بالاضطرار أن الله ورسوله لم يردها بكلامه، وينتهون في أدلتهم العقلية إلى ما يعلم فساده بالحس والضرورة العقلية، ثم إن فضلاء هم يتفطنون لما بهم من ذلك فيصيرون في الشك والحيرة والارتياب وهذا منتهى كل من عارض نصوص الكتاب" (3). فالشك والحيرة – خاصة في المسائل الكبار – من سمات أهل الكلام، وفي مقدمتهم أعلام الأشاعرة، وقد استخدم شيخ الإسلام في منهجه وردوده عليهم هذه الطريقة التي تبين أن كل من أعرض عن كتاب الله وسنة رسوله فهذا مآله ومنتهاه، كما أنها تدل على حقيقة هؤلاء الأعلام المشهورين الذين يقتدى بهم فئام وفئام من الناس. أما رجوع كثير منهم عما كان عليه وتعويله على الكتاب والسنة ففيه دلالة قوية على بطلان ما كانوا عليه، وهو حجة قاطعة على أن تعويل السلف على النصوص الواردة عن الله وعن رسوله –صلى الله عليه وسلم- لم يكن عن جهل بما عداها مما هو موجود في عهدهم من مذاهب اليونان وغيرهم، وإنما كان نابعا من اعتقاد جازم وإيمان عميق أن الهدى والرشاد والطمأنينة القلبية لن تكون إلا باتباع الوحي المنزل. وشيخ الإسلام وهو يذكر ما في رجوع أهل الكلام من الخير لهم ولغيرهم إلا أنه يثير مشكلة كتبهم التي انتشرت وتناقلها الناس فيقول: "وأما اعتراف المتكلمة من الإسلاميين فكثير، وقد جمع العلماء فيه شيئا، وذكروا رجوع أكابرهم عما كانوا يقولونه، وتوبتهم، إما عند الموت، وإما قبل الموت، وهذا من أسباب الرحمة إن شاء الله في هذه الأمة، فإن الله يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، وهذا أصح القولين في قبول توبة الداعي، لكن بقاء كتبهم وآثارهم محنة عظيمة في الأمة، وفتنة عظيمة لمن نظر فيها، ولا حول ولا قوة إلا بالله" (4).   (1) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 27) – وقد شرح شيخ الإسلام ذلك وضرب له عدة أمثلة. (2) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 50). (3) ((درء التعارض)) (5/ 256). (4) ((الاستقامة)) (1/ 79 - 80). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 إن شيخ الإسلام وهو يقول هذا الكلام الرقيق، بحيث يجعل رجوع هؤلاء من أسباب الرحمة في هذه الأمة لأن الله تعالى يقبل التوبة عن عباده، لا ينسى الجانب الآخر وهو أن هؤلاء تابوا ورجعوا ولكن كتبهم بقيت، يتناقلها الناس ويفتنون بها، وهذا يفسر ما قام به شيخ الإسلام من ردود طويلة على هؤلاء وعلى كتبهم، وإن كان قد أثر عنهم التوبة والرجوع. وعلماء وفضلاء الأشاعرة معترفون بما في مذهب الأشعري من إشكالات حتى إن العالم الفاضل المجاهد العز بن عبدالسلام لما قيل له في مسألة القرآن: كيف يعقل شيء واحد هو أمر ونهي وخبر واستخبار؟ قال رحمه الله: "ما هذا بأول إشكال ورد على مذهب الأشعري" (1).وقد سبق في تراجم أعلام الأشاعرة ذكر نماذج لرجوع بعضهم، وللحيرة والشك عند كثير منهم، ولا يخلو كتاب من كتب شيخ الإسلام العقدية من التعرض لهذه المسألة حتى إنه قال: "ولو جمعت ما بلغني في هذا الباب عن أعيان هؤلاء كفلان وفلان لكان شيئا كثيرا، وما لم يبلغني من حيرتهم وتشككهم أكثر وأكثر" (2).   (1) ((التسعينية)) (ص: 261). (2) ((درء التعارض)) (1/ 166). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 وهذه المسألة واضحة ومعروفة، ولذلك نكتفي بذكر نماذج من أقواله ونقوله عنهم:1 - يقول شيخ الإسلام مبينا اضطراب الأشاعرة وعلى رأسهم الأشعري: "وقد قيل: إن الأشعري – مع أنه من أقربهم إلى السنة والحديث وأعلمهم بذلك – صنف في آخر عمره كتابا في تكافؤ الأدلة، يعني أدلة علم الكلام فإن ذلك هي صناعته التي يحسن الكلام فيها، وما زال أئمتهم يخبرون بعدم الأدلة والهدى في طريقهم، كما ذكرناه عن أبي حامد وغيره حتى قال أبو حامد الغزالي: أكثر الناس شكا عند الموت أهل الكلام"، وهذا أبو عبدالله الرازي من أعظم الناس في هذا الباب – باب الحيرة والشك والاضطراب – لكن هو مسرف في هذا الباب له نهمة في التشكيك دون التحقيق، بخلاف غيره فإنه يحقق شيئا ويثبت على نوع من الحق ... " (1). والقول بتكافؤ الأدلة سمة عامة لغالب أئمة الأشاعرة خاصة في مثل المسائل الكبار كمسألة دليل حدوث الأجسام (2).2 - وكثيرا ما يؤدي خوض هؤلاء في علم الكلام إلى الشك والوقف والحيرة، وهذه من الحالات الخطيرة، والأمراض المزمنة، لأنها تؤدي بهؤلاء إلى أنواع من الشكوك التي قد يكون من آثارها زيغ القلوب – ولا حول ولا قوة إلا بالله – وشيخ الإسلام يبين أنه لما كثرت عند هؤلاء الأدلة العقلية وتناقضت وتناقض أصحابها أدى بمن اعتمد عليها إلى الحيرة والوقف، يقول – بعد إشارته إلى تناقض الأدلة العقلية عند هؤلاء: "ثم من جمع منهم بين هذه الحجج أداه الأمر إلى تكافؤ الأدلة، فيبقى في الحيرة والوقف أو إلى التناقض وهو أن يقول هنا قولا، ويقول هنا قولا يناقضه كما تجده من حال كثير من هؤلاء المتكلمين والمتفلسفة، بل تجد أحدهم يجمع بين النقيضين أو بين رفع النقيضين، والنقيضان اللذان هما الإثبات والنفي لا يجتمعان ولا يرتفعان، بل هذا يفيد صاحبه الشك والوقف فيتردد بين الاعتقادين المتناقضين الإثبات والنفي، كما يتردد بين الإرادتين المتناقضتين وهذا هو حال حذاق هؤلاء كأبي المعالي وأبي حامد والشهرستاني والرازي والآمدي" (3).3 - والأشاعرة توقفوا حتى في أهم المسائل كمسألة الصفات، يقول شيخ الإسلام: "ومثل هذا النظر – وهو تعارض الأدلة التي يظن صاحبها أنها أدلة عقلية – يوجب الحيرة والشك والتوقف، ولهذا صرح طائفة من هؤلاء بالتوقف والحيرة في مسائل الصفات، وهذا شأن الرازي والآمدي وغيرهما في مسائل لهم، وهو منتهى نظر أهل النظر والكلام المذموم في الشرع، فإنه ينتهي بهم الأمر إلى الحيرة والشك كما قال ابن عقيل وغيره من العلماء: آخر المتكلمين الخارجين عن الشرع هو الشك، وآخر الصوفية الخارجين عن الشرع هو الشطح. وهو كما قالوا: فإن من تدبر كلام كثير منهم الثابت عنهم وجد منتهى أمرهم إلى الشك والتوقف، كما يوجد في كلام الرازي وغيره؛ فإنه واقف في مسألة الجوهر الفرد، ومسألة الصفات والأفعال وغير ذلك، كما هو أخبر به عن نفسه وكما يوجد في كتبه، وكذلك أبو حامد الغزالي واقف في كثير من المسائل، وكذلك أبو المعالي حصل له التوقف قبل أن يموت في الصفات الخبرية كالاستواء وفي قيام الأمور الاختيارية به" (4).   (1) ((نقض المنطق)) (ص: 25 - 26)، وهو في ((مجموع الفتاوى)) (4/ 28)، وانظر ((منهاج السنة)) (3/ 68). (2) انظر: ((التسعينية)) (ص: 201)، و ((الدرء)) (1/ 164). (3) ((الصفدية)) (1/ 294). (4) ((شرح الأصفهانية)) (ص: 71 - 82) – ت العودة، وكل نص من هذا الكتاب أحلت فيه على هذا التحقيق – الذي لا يزال مطبوعا على الآلة الكاتبة – فهو من الزيادات التي ليست في المطبوعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 4 - ومن أعظم الأشاعرة حيرة واضطرابا الرازي والآمدي، فالرازي كثيرا ما "يعرف بالحيرة في المواضع العظيمة: مسائل الصفات وحدوث العالم، ونحو ذلك" (1)، وقد صرح في آخر كتبه وهو المطالب العالية بتكافؤ الأدلة (2)، وهو كثيرا ما يصرح بالحيرة (3)، وقد انتقل هذا إلى كبار تلاميذه حتى إن أبرزهم – وهو الخسروشاهي – دخل عليه ابن بادة فقال له: يا فلان ما تعتقد؟ وصدرك منشرح له، قلت: نعم. قال فبكى بكاء عظيما، أظنه قال: لكني والله ما أدري ما أعتقد، لكني والله ما أدري ما أعتقد، لكني والله ما أدري ما أعتقد" (4). وهكذا تكون حيرة الأستاذ والتلاميذ. أما الآمدي فكثيراً ما يصرح في المسائل العظام عند عرض الأدلة والمناقشات بمثل قوله: هذا إشكال مشكل، ولعل عند غيره حله (5)، وذكر شيخ الإسلام عن الثقة أنه حدثه عنه أنه قال: "أمعنت النظر في الكلام وما استفدت منه شيئا إلا ما عليه العوام، أو كلاما هذا معناه" (6).5 - ورجوع الأشاعرة وكلامه في ذلك كثير ومشهور، وعلى رأسهم الجويني (7)، والشهرستاني (8)، والرازي (9)، وغيرهم. وقد وفق شيخ الإسلام في التركيز على هذه المسألة، لأنه وإن كانت كتب هؤلاء موجودة، ويعتمد عليها من كثير من أتباعهم، إلا أن بيان هذه القضية وإيضاحها للناس يفيد الموافق والمخالف، أما الموافق فتزيده ثقة فيما عنده من الحق المعتمد على الكتاب والسنة. وأما المخالف فلابد أن تزرع في نفسه شيئا من عدم الثقة فيما يقوله هؤلاء في كتبهم الكثيرة التي أعلنوا رجوعهم عنها ورضاهم بطريقة القرآن. المصدر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 2/ 891   (1) ((درء التعارض)) (4/ 290). (2) انظر: ((التسعينية)) (ص: 201). (3) انظر مثلا: ((درء التعارض)) (3/ 12، 88، 9/ 188 - 190)، ((التسعينية)) (224 - 225) و ((شرح الأصفهانية)) (ص: 162 - 164) – ت العودة وغيرها. (4) ((التسعينية)) (ص: 201 - 202). (5) انظر مثلا: ((درء التعارض)) (1/ 162، 164، 3/ 93، 95، 282، 4/ 119، 232 - 233) وغيرها. (6) انظر: ((درء التعارض)) (3/ 262). (7) انظر: ((درء التعارض)) (1/ 158، 4/ 173، 8/ 47)، و ((التسعينية)) (ص: 251، 252)، و ((الفتوى الحموية – مجموع الفتاوى)) (5/ 11). (8) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (4/ 73). (9) انظر: ((درء التعارض)) (1/ 159 - 160)، و ((الحموية – مجموع الفتاوى)) (5/ 10 - 11)، و ((مجموع الفتاوى)) (4/ 72). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 ومن أقوى الأسباب التي جعلتهم يصلون إلى هذه المرحلة:-السبب الأول: شعورهم العميق بأن القرآن جاء موافقاً لما في الفطرة من إثبات صفات الكمال لله تعالى – وإن كانوا قد توهموا أنها تفيد التشبيه!، فمن أقوالهم في ذلك قول الرازي في ذكره لأسباب إيراد المتشابهات! في القرآن، فقال: "الخامس: وهو السبب الأقوى: أن القرآن مشتمل على دعوة الخواص، والعوام تنبوا في أكثر الأمور عن إدراك الحقائق العقلية المحضة، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه!!، ظن أن هذا عدم محض فوقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب مما تخيلوه وتوهموه، ويكون مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح، فالقسم الأول: وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من باب المتشابهات، والقسم الثاني: وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر وهو المحكمات!! " (1) اهـ. فالرازي بكلامه هذا يحوم على أن ما عند المتكلمين إنما حصل بالمران على أقيستهم وشبهاتهم العقلية، وأن العوام لا يبلغون ذلك لمخالفته لمقتضى الفطرة، ولا يخفى كذلك ما ذكره من عبارات مجملة في كلامه المنقول، حيث استبدل الألفاظ الشرعية بعبارات فيها نظر، وهذه الألفاظ الشرعية هي الواردة في القرآن كما أشار في مطلع حديثه، وهي التي توافق فطر الناس. السبب الثاني: شعورهم العميق بأن أحاديث الصفات لا يمكن تأويلها، ومن ذلك قول الرازي نفسه عند تعداده للأوجه الموجبة لترك الاستدلال بأخبار الآحاد كما زعم فقال: "إن الأخبار المذكورة في باب التشبيه بلغت مبلغاً كثيراً في العدد، وبلغت مبلغاً عظيماً في تقوية التشبيه، وإثبات أن إله العالم يجري مجرى إنسان كبير الجثة عظيم الأعضاء!، وخرجت عن أن تكون قابلة للتأويل" (2) اهـ. فللسببين السابقين كانوا يردون النصوص أو يبالغون في تحريفها تعظيماً لجانب العقل، ثم لم يسلم لهم العقل، وهذا هو السبب الثالث. السبب الثالث: إنهم قد عظموا جانب العقل جداً ولم يراعوا حدوده، فلما تعمقوا شعروا بالقصور والحيرة والشك، فلم يكن أمامهم إلا الرجوع إلى الشرع والتمسك به وبما كان عليه سلف الأمة، فالتمسك بالشرع لأنه قائم على الحق، ولأنه يدعو بأيسر الطرق، ولأنه يدعو إلى التسليم وعدم التعمق والتنطع، والتمسك بما كان عليه السلف: لأنهم المشهود لهم بالخيرية. المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف - 2/ 670   (1) ((أساس)) التقديس للرازي (ص: 192) ولا يخفى أن تقسيمه الأخير مجرد تخرص ليس عليه أثارة من علم، فمن أين له هذا الترتيب في نزول الأخبار الذي زعمه! (2) ((المطالب العالية)) للرازي (9/ 213)، وعبارته التي ذكرها تؤكد حقيقة كبرى وهي أن كل معطل ممثل فهو قد عطل صفات الله بعد أن اعتقد مشابهتها لصفات الخلق! ولا حول ولا قوة إلا بالله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 المبحث التاسع: من كلام الإمام الجويني (الأب) في رسالته التي وجهها إلى شيوخه بعد رجوعه إلى مذهب السلف يقول الإمام الجويني (الأب) رحمه الله بعد مقدمة مستفيضة, سرد منها كثير من صفات الله وأسمائه: وبعد: فهذه نصيحة كتبتها (1) إلى إخواني في الله أهل الصدق والصفاء, والإخلاص, والوفاء, لما تعين علي من محبتهم في الله ونصيحتهم في صفات الله عز وجل, فإنه لا يكمل إيمان العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. وفي الصحيح عن جرير بن عبد الله البجلي قال: بايعت رسول الله عليه الصلاة والسلام على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة, والنصح لكل مسلم (2). وعن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الدين النصيحة ثلاثا قالوا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) (3). أعرفهم – أيدهم الله تعالى بتأييده ووفقهم لطاعته ومزيده – أنني كنت برهة من الدهر متحيزا في ثلاث مسائل: 1 - مسألة الصفات. 2 - ومسألة الفوقية. 3 - ومسألة الحرف والصوت في القرآن المجيد. وكنت متحيرا في الأقوال الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك من تأويل الصفات وتحريفها أو إمرارها والوقوف أو إثباتها بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل, فأجد النصوص في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ناطقة منبئة بحقائق هذه الصفات, وكذلك في إثبات العلو والفوقية, وكذلك في إثبات الحرف, والصوت. ثم أجد المتأخرين من المتكلمين في كتبهم منهم من يؤول الاستواء بالقهر والاستيلاء, ويؤول النزول بنزول الأمر, ويؤول اليدين بالقدرتين أو النعمتين ويؤول القدم بقدم صدق عند ربهم وأمثال ذلك. ثم أجدهم مع ذلك يجعلون كلام الله تعالى معنى قائما بالذات بلا حرف ولا صوت, ويجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم.   (1) هذه الرسالة توجد ضمن مجموعة ((الرسائل المنيرية)) وهي خير ما كتب في بابها وكاتبها خير من رجع إلى الحق ثم نصح, كما فعل ذلك إمامه الأشعري قبله, ورسالته خير من الإبانة للإمام الأشعري في عرض منهج السلف, وخاصة المسائل التي اختارها, فتحدث عنها رحمة الله عليه. (2) رواه البخاري (7204). (3) رواه مسلم (55). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 وممن ذهب إلى هذه الأقوال أو بعضها قوم لهم في صدري منزلة مثل طائفة من فقهاء الأشعرية الشافعيين, لأني على مذهب الشافعي رضي الله عنه. وعرفت فرائض الدين وأحكامه على هذا المذهب, فأجد مثل هؤلاء الشيوخ الأجلة, يذهبون على مثل هذه الأقوال, وهم شيوخي ولي فيهم الاعتقاد التام لفضلهم وعلمهم. ثم إنني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات (حزازات) لا يطمئن قلبي إليها, وأجد الكدر والظلمة منها وأجد ضيق الصدر وعدم انشراحه مقرونا بها, فكنت كالمتحير المضطرب في تحيره, المتململ في تقلبه وتغيره وكنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنزول, مخافة الحصر والتشبيه, ومع ذلك فإذا طالعت النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أجدها نصوصا تشير إلى حقائق هذه المعاني وأجد الرسول صلى الله عليه وسلم قد صرح بها مخبرا عن ربه واصفا له بها, وأعلم بالاضطرار أنه صلى الله عليه وسلم كان يحضر في مجلسه الشريف والعالم والجاهل والذكي والبليد والأعرابي والجافي. ثم لا أجد شيئا يعقب تلك النصوص التي كان يصف ربه بها, لا نصا ولا ظاهرا مما يصرفها عن حقائقها ويؤولها كما تأولها هؤلاء – مشايخي الفقهاء – المتكلمون مثل تأويلهم الاستواء بالاستيلاء والنزول, بنزول الأمر وغير ذلك, ولم أجد عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يحذر الناس من الإيمان بما يظهر من كلامه في صفته لربه من الفوقية واليدين وغيرهما. ولم تنقل عنه مقالة تدل على أن لهذه الصفات معاني أخر باطنة غير ما يظهر من مدلولها مثل الفوقية القهرية ويد النعمة والقدرة وغير ذلك, وأجد الله عز وجل يقول الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ [النحل:50] إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10] أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك:16] أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الملك:17].فسرد آيات كثيرة تدل على فوقية الله وعلوه على خلقه إلى أن قال: ثم أجد الرسول عليه الصلاة والسلام لما أراد الله تعالى أن يخصه بقربه عرج به من سماء إلى سماء حتى كان قاب قوسين أو أدنى ثم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث للجارية ((أين الله؟ قالت: في السماء)) فلم ينكر عليها بحضرة أصحابه, فلا يتوهمون أن الأمر على خلاف ماهو عليه, بل أقرها وقال: ((أعتقها فإنها مؤمنة)) (1) , وفي حديث جبير بن مطعم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله فوق عرشه فوق سمواته, وسمواته فوق أرضه مثل القبة وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى القبة)) (2) , وساق عدة أحاديث. إلى أن قال: لا ريب إننا نحن وإياهم متفقون على إثبات صفات الحياة والسمع والبصر والعلم والقدرة والإرادة والكلام لله, ونحن قطعا لا نعقل عن الحياة إلا هذا العرض الذي يقوم بأجسامنا وكذلك لا نعقل من السمع والبصر إلا أعراض تقوم بجوارحنا فكما أنهم يقولون حياته ليست بعرض وعلمه كذلك وبصره كذلك هي صفات كما تليق به كما لا تليق بنا فكذلك نقول نحن: حياته معلومة وليست مكيفة وعلمه معلوم وليس مكيفا وكذلك سمعه وبصره معلومان وليس جميع ذلك أعراضا بل هو كما يليق به.   (1) رواه مسلم (537) , من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه. (2) رواه أبو داود (4726) , وقال: بإسناد أحمد بن سعيد هو الصحيح. وقال الذهبي في ((العلو)) (44): غريب جداً. وضعفه الألباني في ((ضعيف أبي داود)). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 ومثل ذلك بعينه فوقيته واستواؤه ونزوله, ففوقيته معلومة, أعني ثابتة كثبوت حقيقة السمع وحقيقة البصر, فإنهما معلومان ولا يكيفان. وكذلك فوقيته معلومة ثابتة غير مكيفة كما تليق به واستواؤه على عرشه معلوم غير مكيف بحركة أو انتقال يليق بالمخلوق, بل كما يليق بعظمته وجلاله. فصفاته معلومة من حيث الجملة والثبوت, غير معقولة من حيث التكييف والتحديد. فيكون المؤمن بها مبصرا من وجه أعمى من وجه, مبصرا من حيث الإثبات والوجود. أعمى من حيث التكييف والتحديد, وبهذا يحصل الجمع بين الإثبات لما وصف الله تعالى نفسه به, وبين نفي التحريف والتشبيه والوقوف, وذلك هو مراد الرب تعالى في إبراز صفاته لنا لنعرفه بها ونؤمن بحقائقها وننفي عنها التشبيه ولا نعطلها بالتحريف والتأويل. ولا فرق بين الاستواء والسمع ولا بين النزول والبصر, الكل ورد فيه النص. فإن قالوا لنا في الاستواء شبهتم نقول لهم في السمع شبهتم ووصفتم ربكم بالعرض, فإن قالوا: لا عرض بل كما يليق به قلنا: في الاستواء والفوقية لا حصر بل كما يليق به, فجميع ما يلزموننا به في الاستواء والنزول واليد والوجه والقدم والضحك والتعجب نلزمهم به في الحياة والسمع والبصر والعلم, فكما لا يجعلونه أعراضا كذلك نحن لا نجعلها جوارح, ولا يوصف به المخلوق وليس من الإنصاف أن يفهموا في الاستواء والنزول والوجه واليد صفات المخلوقين فيحتاجون إلى التأويل والتحريف. فإن فهموا من هذه الصفات ذلك, فيلزمهم أن يفهموا في الصفات السبع, صفات المخلوقين من الأعراض فما يلزموننا به في تلك الصفات من التشبيه والجسمية نلزمهم به في هذه الصفات من العرضية وما ينزهون به في الصفات السبع وينفون عنه عوارض الجسم فيها فكذلك نحن نعمل في تلك الصفات التي ينسبون فيها إلى التشبيه سواء بسواء. ومن أنصف عرف ما قلنا واعتقده وقبل نصيحتنا ودان الله بإثبات جميع صفاته هذه وتلك, ونفى عن جميعها التشبيه والتعطيل والتأويل والوقوف, وهذا مراد الله تعالى منا في ذلك. لأن هذه الصفات وتلك جاءت في موضع واحد وهو الكتاب والسنة. فإذا أثبتنا تلك وحرفنا هذه وأولنا كنا كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض وفي ذلك بلاغ وكفاية إن شاء الله تعالى. هكذا نصح هذا الإمام الصادق في نصحه الإمام الجويني شيوخه الذين عاش معهم برهة من الزمن في التأويل والتحريف في صفات الله تعالى كلها أو التصرف فيها بإثبات بعضها وتأويل البعض الآخر, ثم تاب الله عليه فتاب وكتب هذه (النصيحة) التي انتخبنا منها بعض النقاط من أولها ومن آخرها وقد ناقشهم فيها بالأدلة النقلية والعقلية معا وطالبهم بالإنصاف – والإنصاف من الإيمان – وأوضح لهم أنه لا يوجد ما يفرق بين ما أولوه وحرفوا فيه الكلام وبين ما أثبتوه من الصفات لأن هذه وتلك جاءت في موضع واحد وهو الوحي من كتاب أو سنة, ودرج على عدم التفريق بينها سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين. وعلماء الحديث. ثم أوضح السبب الذي حمل علماء الكلام على تأويلهم صفات الله تعالى عامة والصفات الخبرية السمعية خاصة. وهو أنهم فهموا منها خطأ, المعاني التي تليق بالمخلوق, ثم أرادوا تصحيح ذلك المفهوم الخاطئ فوقعوا في التأويل أي شبهوا أولا ثم عطلوا ثانيا, هذه هي حقيقة القوم وعقيدتهم. فنسأل الله تعالى أن يجزل المثوبة لهذا الإمام وأمثاله على هذه النصيحة الهادئة والصادقة, إنه سميع قريب. فليهنأ أبو محمد الجويني بهذا التوفيق وهذه الهداية, ولعل الله علم من الرجل الإخلاص في عمله وجهاده الذي بذله في البحث عن الحق في فترة (حيرته وتردده) تلك الفترة الصعبة على قصرها – فيما أحسب – فهداه الله ووفقه مصداقا لقوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69] ولقد كاد حبه وتقديره لشيوخه أن يخلداه إلى أرض التقليد ليحولا بينه وبين رأيه الحق واتباعه (ولكن الله سلم) ووفقه وأخذ بيده إلى بر السلامة, فسلم ونحمد الله على ذلك. إذا قارن الإمام بين ما يخوض فيه شيوخه من التأويل وبين ما ينطق به الكتاب المبين والسنة المطهرة من إثبات حقائق الصفات, فتأكد أن شيوخه لم يفهموا نصوص الصفات الفهم الصحيح لا سيما الصفات الخبرية, بل لم يفهموا منها إلا ما يليق بالمخلوق ولذلك تورطوا في التحريف والتعطيل أو الوقوف دون محاولة للفهم, لذا بادر الإمام أبو محمد بتوجيه تلك النصيحة فور توبته وسلوكه مسلك السلف على بصيرة من ربه. المصدر: الصفات الإلهية في الكتاب والسنة لمحمد أمان الجامي – ص 409 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 المبحث الأول: التعريف بالماتريدية الماتريدية: فرقة كلامية (بدعية)، تُنسب إلى أبي منصور الماتريدي، قامت على استخدام البراهين والدلائل العقلية والكلامية في محاججة خصومها، من المعتزلة والجهمية وغيرهم، لإثبات حقائق الدين والعقيدة الإسلامية. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 المطلب الأول: حياته هو الإمام أبو منصور، محمد بن محمد بن محمود بن محمد، الماتريدي (1) السمرقندي الحنفي. المتكلم الملقب بإمام الهدى وعلم الهدى إمام المتكلمين مصحح عقائد المسلمين قدوة أهل السنة ورافع أعلام السنة والجماعة ....... أما تاريخ ميلاد الإمام أبي منصور الماتريدي فلم يذكره أحد فيما أعلم .... ولم أظفر على تاريخ ميلاد الماتريدي لا من خلال ترجمته ولا من خلال تراجم شيوخه بدقة غير أن شيخين للماتريدي وجدت لهما تاريخ وفاتهما: الأول محمد بن مقاتل الرازي فقد توفي سنة 248هـ والثاني نصير بن يحيى البلخي وهو توفي سنة 268هـ فبالنظر إلى تاريخ وفاة شيخه الأول يكون عمر الماتريدي عشر سنوات حين وفاة شيخه هذا لأن الماتريدي لم يكن على طريقة المحدثين حتى يبكر للسماع فإن صح هذا التقريب يكن ميلاد الماتريدي سنة 238هـ والله أعلم وحول هذا التقريب تدور آراء الباحثين المعاصرين (2) لكن كون الرازي هذا شيخا للماتريدي غير ثابت فالأولى في ميلاده 258هـ. وأما وفاته فاتفق المترجمون للماتريدي - فيما أعلم - أنه توفي سنة (333هـ). إلا ما وقع عند حاجي خليفة في موضع من أنه توفي سنة (332هـ). مع أنه قد وقع عنده في مواضع أنه توفي سنة (333هـ) موافقا لبقية المؤرخين. وقد شذ الكوثري عن الجماعة بدون برهان كعادته فادعى أنه توفي سنة (332هـ). ووقع عند عبد العزيز الفريهاري الهندي أنه توفي سنة (335هـ). قلت: هذا إما وهم من الفريهاري نفسه، أو خطأ مطبعي، لأنه قول شاذ بدون برهان. وذكر بعض المعاصرين من الماتردية: أن طاش كبرى زاده قال في (طبقات الفقهاء): " وقيل: سنة (336هـ) (3). قلت: راجعت (طبقات الفقهاء) و (مفتاح السعادة) لطاش كبرى زاده ففيهما ما يوافق الجماعة. الحاصل: أن الصحيح هو أن الماتريدي توفي سنة (333هـ) أما بقية الأقوال، فلا اعتبار لها. المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات لشمس السلفي الأفغاني 1/ 210 - 214 تلقى علوم الفقه الحنفي والكلام على أحد كبار علماء ذلك العصر وهو نصر بن يحيى البلخي المتوفى سنة 368 هـ، وغيره من كبار علماء الأحناف، كأبي نصر العياض وأبي بكر أحمد الجوزجاني وأبي سليمان الجوزجاني، حتى أصبح من كبار علماء الأحناف وقد تتلمذ عليه بعض المشاهير في علم الكلام.   (1) نسبة إلى " ماتريد " بفتح الميم وسكون الألف وضم التاء الفوقانية المثناة، وكسر الراء المهملة، وسكون الياء آخر الحروف، ودال مهملة، أو " ماتريت " بدل الدال المهملة تاء فوقها نقطتان، والأول أشهر وهي محلة من مدينة سمرقند. راجع ((الأنساب)): (12/ 2)، الباب (3/ 140)، ((الفوائد البهية)) (195). وشذ ابن أبي شريف فضبطها بفتح التاء المثناة من فوق " ماتريد " واغتر به كثير من الناس، وهو خطأ. انظر ((التعليقات السنية على الفوائد البهية)): (195). وقد أبعد النجعة أحمد أمين فزاد " واوا " بين التاء وبين الراء مع الشك فقال: " ماتريد أو ماتوريد " انظر ((ظهر الإسلام)) (1/ 265). (2) انظر ((عقيدة الإسلام)) لأبي الخير (265) ((مقدمة فتح الله لكتاب التوحيد)) للماتريدي (ص 2)، مقدمة إبراهيم عوضين والسيد عوضين لتأويلات أهل السنة للماتريدي 10، إمام أهل السنة للدكتور علي المغربي 14. (3) ((مقدمة فتح الله لكتاب التوحيد)) للماتريدي: (3)، ((إمام أهل السنة)) لعلي المغربي: (14). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 لقد كان لأبي منصور مناظرات ومجادلات عديدة مع المعتزلة في الأمور التي خالفهم فيها، وقد اتحد في الهدف مع الأشعري في محاربة المعتزلة وكان معاصرا له، وأما في العقائد فكان على اتفاق مع ما قرره أبو حنيفة في الجملة، مع مخالفته في أمور وله مؤلفات كثيرة في مختلف الفنون، منها: (بيان وهم المعتزلة تأويلات أهل السنة) - (الدرر في أصول الدين) - (الرد على تهذيب الكعبي في الجدل) - (عقيدة الماتريدية) - (كتاب التوحيد وإثبات الصفات) - (كتاب الجدل) - (مأخذ الشرائع في أصول الفقه) - (المقالات). وكان يلقب فيما وراء النهر بإمام السنة وبإمام الهدى (1)، وقد وقف في وجه المعتزلة الذين كانوا فيما وراء النهر إلا أنه كان قريبا منهم في النظر إلى العقل، ولم يغل فيه غلوهم، بل اعتبره مصدرا آخر إضافة إلى المصدر الأساسي وهو النقل، مع تقدم النقل على العقل عند الخلاف بينهما (2) إلا أنه يعتبر معرفة الله واجبة بالعقل قبل ورود السمع وإن الله يعاقبه على عدم هذه المعرفة. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 1228 قال عبد الله المرائي في كتاب (الفتح المبين) في طبقات الأصوليين: "كان أبو منصور قوي الحجة، فحما في الخصومة، دافع عن عقائد المسلمين، ورد شبهات الملحدين .. " (1/ 193، 194). وقال عنه الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه (رجال الفكر والدعوة) "جهبذ من جهابذة الفكر الإنساني، امتاز بالذكاء والنبوغ وحذق الفنون العلمية المختلفة" (ص 139) بل كان يرجِّحه على أبي الحسن الأشعري في كتاب (تاريخ الدعوة والعزيمة) (1/ 114ـ115). المصدر: الموسوعة الميسرة   (1) انظر: ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (1/ 197) بل هو إمام من أئمة الكلام والتأويل. (2) هذا من باب الإخبار عن مذهب الماتريدي، وإلا فإن العقل السليم لا يعارض النقل الصحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 المطلب الثاني: مصنفاته للماتريدي مؤلفات كثيرة ويمكن تقسيم ما تم الوقوف عليه من أسماء مؤلفاته حسب موضوعاتها إلى ثلاثة أقسام: الأول: التفسير: للماتريدي تفسير من التفاسير الوسيطة يعرف باسم (تأويلات أهل السنة) أو (تأويلات القرآن) ذكره عامة من ترجموا له وهو معروف ومشهور عند الماتريدية ولا يوازيه عندهم أي تفسير آخر لا قبله ولا بعده وقد وصل إلينا الكتاب كاملا ونسخه الخطية كثيرة ..... وذكر صاحب (كشف الظنون) كتابا آخر باسم (تأويلات الماتريدية في بيان أصول السنة وأصول التوحيد) وقال في وصفه: وهي ما أخذ منه أصحابه المبرزون تلقفا ولهذا كان أسهل تناولا من كتبه جمعه الشيخ الإمام علاء الدين محمد بن أحمد بن أبي أحمد السمرقندي وهذا الكتاب موجود منه الجزء الأول فقط في مكتبة خدابخش برقم (294) وقد رجع إليه الدكتور أيوب علي وذكر أن الكتاب ما هو إلا شرح لتفسير الماتريدي والشارح هو علاء الدين أبو بكر السمرقندي. الثاني: علم الكلام 1 - كتاب (التوحيد): يعد كتاب (التوحيد) للماتريدي من أهم مؤلفاته الكلامية وذلك لأنه قد قرر فيه نظرياته الكلامية وبين فيه معتقده في أهم المسائل الاعتقادية فلذلك صار كتاب (التوحيد) المرجع الأساسي في معرفة عقيدة الماتريدية وكل من جاء بعد الماتريدي من الماتريدية اعتمدوا عليه ولم يأتوا بجديد يذكر وكتاب (التوحيد) أيضا من أقدم المراجع الكلامية التي فيها ذكر آراء الفرق الإسلامية وخاصة المعتزلة وكذلك آراء الفرق غير الإسلامية وكتاب (التوحيد) أيضا من أول الكتب الكلامية التي صدرت بالكلام في نظرية المعرفة والكتاب صعب تناوله فيه كثير من العبارات الغامضة والمعاني المبهمة والألفاظ المغلقة فلهذا قال أبو اليسر البزدودي إن في كتاب (التوحيد) الذي صنفه الشيخ أبو منصور قليل انغلاق وتطويل وفي ترتيبه نوع تعسير. 2 - شرح (الفقه الأكبر): من المؤلفات المنسوبة لأبي منصور الماتريدي كتاب (شرح الفقه الأكبر) وهذا الكتاب في نسبته للماتريدي نظر إذ إنه لا يوجد في المصادر التي ترجمت للماتريدي ولا في المصادر التي تهتم بكتب المؤلفين أي إشارة إلى أن الماتريدي قد (شرح الفقه الأكبر) وقد نفى نسبة الكتاب إلى أبي منصور الماتريدي المستشرق الهولندي وينسنك في كتابه (عقيدة المسلمين) وذكر أنه قد رجع إلى عدة نسخ مخطوطة ولم يجد فيها التصريح بنسبته إلى الماتريدي كما أن الكوثري ذكر في مقدمته لكتاب (العالم والمتعلم) أن عدة نسخ مخطوطة بدار الكتب المصرية فيها التصريح بنسبة الكتاب إلى أبي الليث السمرقندي ومما يؤكد عدم صحة نسبة الكتاب إلى الماتريدي أنه قد ورد في الكتاب نقد لأقوال الأشاعرة في عدة مواضع ومعلوم أن المذهب لم يشتهر كمذهب إلا بعد وفاة الأشعري بفترة زمنية ليست بالقصيرة والماتريدي كان معاصرا للأشعري بل إن وفاتهما متقاربة ولعل الصواب كما ذكر الكوثري وأبو زهرة وغيرهما أن الكتاب لأبي الليث السمرقندي ومما يؤكد هذا أنه ورد في نص الكتاب عبارة قال الفقيه أبو الليث .... 3 - (رسالة في العقيدة) ذكر هذه الرسالة البغدادي في (هدية العارفين) وفؤاد سزكين في (تاريخ التراث) وللسبكي شرح لهذه الرسالة بعنوان (السيف المشهور في شرح عقيدة أبي منصور) وشكك السبكي في نسبة هذه الرسالة إلى الماتريدي وأشار إلى أنها لبعض تلاميذ الماتريدي ومما يؤكد عدم صحة نسبة الرسالة إلى الماتريدي هو ورود ذكر الأشعرية في نصها بالإضافة إلى أن بقية من ترجم للماتريدي لم يذكروا هذه الرسالة ضمن مؤلفاته. 4 - (رسالة في الإيمان) ذكرها أبو المعين النسفي في (التمهيد) 5 - (المقالات) يعد كتاب (المقالات) للماتريدي من أقدم كتب المقالات وذلك لتقدم مؤلفه ولكن الكتاب مفقود ولم يعثر على أي نسخة له. 6 - (بيان وهم المعتزلة) 7 - (رد تهذيب الجدل) 8 - (رد وعيد الفساق) 9 - (رد أوائل الأدلة) 10 - (رد الأصول الخمسة) لأبي محمد الباهلي 11 - (الرد على القرامطة) 12 - (رد الإمامة) وهو رد على بعض الروافض الثالث: أصول الفقه للماتريدي كتابان في أصول الفقه الأول مأخذ الشرائع والثاني الجدل ذكرهما عامة الذين ترجموا له وقال علاء الدين البخاري مبينا قدر هذين الكتابين وتصانيف أصحابنا (في أصول الفقه) قسمان قسم وقع في غاية الإحكام والإتقان لصدوره ممن جمع الأصول والفروع مثل (مأخذ الشرائع) وكتاب (الجدل) للماتريدي ونحوهما وقسم وقع في نهاية التحقيق في المعاني وحسن الترتيب لصدوره ممن تصدى لاستخراج الفروع من ظواهر المسموع غير أنهم لما لم يتمهروا دقائق الأصول وقضايا العقول أفضى رأيهم إلى رأي المخالفين في بعض الفصول ثم هجر القسم الأول إما لتوحش الألفاظ والمعاني وإما لقصور الهمم والتواني. وهذان الكتابان لم يعثر على أي نسخة منهما وهما في عداد المفقودات المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص 109 - 114 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 المطلب الثالث: شيوخه وتلاميذه أولا: شيوخه 1 - محمد بن مقاتل الرازي قال الذهبي في (ميزان الاعتدال) محمد بن مقاتل الرازي لا المروزي حدث عن وكيع وطبقته تكلم فيه ولم يترك ..... مات سنة ثمان وأربعين ومائتين ... وله تصانيف منها المدعي والمدعى عليه. 2 - أبو نصر العياضي هو أحمد بن العباس بن الحسين بن جبلة بن غالب بن نوفل بن عياض بن يحيى بن قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري السمرقندي أبو نصر العياضي، ذكره الإدريسي في (تاريخ سمرقند) وقال كان من أهل العلم والجهاد ولا أعلم له رواية ولا حديثا فأذكره أسره الكفار فقتلوه صبرا في بلاد الترك في أيام نصر بن أحمد بن إسماعيل بن أسد بن سامان .... وذكر عن أبي القاس الحكيم السمرقندي أنه قال ما أتى الفقيه أبا نصر العياضي أحدا من أهل البدع والأهواء وأولي الجدل والمراء في الدين بآية من القرآن يحتج بها عليه لمذهبه إلا تلقاه مبتدئا بما يفحمه ويقطعه وأن رياسة العلماء والدرس كانا إليه وهو من أبناء عشرين سنة وأنه لما استشهد خلف أربعين رجلا من أصحابه كانوا من أقران الشيخ أبي منصور الماتريدي. وذكر النسفي والناصري أن له كتابا في مسألة الصفات 3 - أبو بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني ...... وكان الجوزجاني من الجامعين بين علم الأصول وعلم الفروع وكان في أنواع العلوم في الدرجة العالية وله كتاب (الفرق والتمييز) وكتاب (التوبة) وغيرهما. 4 - نصير بن يحيى البلخي ..... وقيل نصر ... كان بارعا في الفقه الحنفي والكلام توفي سنة 268هـ المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص 100 - 103 ثانيا: تلاميذه 1 - أبو القاسم الحكيم السمرقندي هو أبو القاسم إسحاق بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن زيد القاضي الحكيم السمرقندي ... أخذ الفقه والكلام عن الماتريدي ويعد من أشهر تلاميذ الماتريدي ... وذكر أبو المعين أنه توفي سنة 335هـ والذي عليه بقية من ترجموا له أنه مات في محرم يوم عاشوراء سنة اثنين وأربعين وثلاثمائة بسمرقند .... ومن آثار أبي القاسم الحكيم السمرقندي (الرد على أصحاب الهوى) وهو المسمى (بالسواد الأعظم) ويعد من أهم المتون عند الماتريدية ... ومن آثار أبي القاسم السمرقندي رسالة صغيرة في الإيمان. 2 - علي الرستغفني هو أبو الحسن علي بن سعيد الرستغفني نسبة إلى رستغفن وهي قرية من قرى سمرقند وقد وصف الرستغفني من ترجم له بأنه من كبار مشايخ سمرقند ومن أصحاب الماتريدي الكبار وله ذكر في الفقه والأصول في كتب الحنفية ووقع خلاف بينه وبين الماتريدي في مسألة المجتهد إذا أخطأ في إصابة الحق. عند الماتريدي يكون مخطئا في الاجتهاد وعند أبي الحسن الرستغفني يكون مصيبا في الاجتهاد على كل حال أصاب الحق أو لم يصب. ومن آثاره (إرشاد المهتدي) و (الزوائد والفوائد في أنواع العلوم) و (الأسئلة والأجوبة) و (بيان السنة والجماعة). 3 - أبو محمد عبد الكريم البزدوي هو أبو محمد عبد الكريم بن موسى بن عيسى الفقيه البزدوي ... تفقه على أبي منصور الماتريدي وسمع وحدث وقد برع في الفقه خاصة ... قال القرشي ذكر في تاريخ نسف أنه مات سنة تسعين وثلاثمائة في رمضان. 4 - أبو أحمد العياضي هو أبو أحمد بن أبي نصر أحمد بن العباس العياضي، وهو ابن أبي نصر العياضي شيخ الماتريدي. 5 - أبو عبد الرحمن بن أبي الليث البخاري أخذ عن أبي منصور الماتريدي الكلام والفقه وهو صاحب أبي القاسم الحكيم السمرقندي. المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص104 - 108 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 المطلب الرابع: أهم آراء الماتريدي إجمالا 1 - لا يرى الماتريدي مسوغا للتقليد، بل ذمه وأورد الأدلة العقلية والشرعية على فساده وعلى وجوب النظر والاستدلال. 2 - يذهب في نظرية المعرفة إلى لزوم النظر والاستدلال، وأنه لا سبيل إلى العلم إلا بالنظر، وهو قريب من آراء المعتزلة والفلاسفة في هذا، ثم يذكر أدلة كثيرة على وجود الله، مستخدما أدلة المعتزلة والفلاسفة في حدوث الأجسام وأنها دليل على وجود الله. 3 - يوافق في الاعتقاد في أسماء الله السلف، ويرى أن أسماء الله توقيفية، فلا نطلق على الله أي اسم إلا ما جاء به السمع، إلا أنه يؤخذ على الماتريدية أنهم لم يفرقوا بين باب الإخبار عن الله وبين باب التسمية فأدخلوا في أسمائه ما ليس منها كالصانع والقديم والشيء، والسلف يخالفونهم في هذا وقد عطل الماتريدية كثير من أسماء الله تعالى وأولوها. 4 - يرى أن المؤمنين يرون ربهم والكفار لا يرونه، ويخالف الأشعري هنا في أن الماتريدي يرى أن الأدلة على إمكان رؤية الله تعالى عقلا غير ممكنة، بينما يستدل عليها أبو الحسن الأشعري بالعقل، إلا أنهم خالفوا السلف فنفوا المقابلة والجهة مطلقا، وذلك بسبب نفيهم عن الله علو الذات كما أن إثباتهم للرؤية ونفي الجهة والمقابلة فيه تناقض فإن الله تعالى يرى في جهة العلو. 5 - هو أقرب ما يكون إلى السلف في سائر الصفات، فهو يثبت الاستواء على العرش وبقية الصفات دون تأويل لها ولا تشبيه، أي في الصفات التي تثبت عند الماتريدية بالعقل لكنهم يؤولون ما عداها، كما أنهم يعتقدون أن صفات الله لا هي هو ولا غيره وهو تناقض منهم. 6 - في القضاء والقدر هو وسط بين الجبر والاختيار، فالإنسان فاعل مختار على الحقيقة لما يفعله ومكتسب له وهو خلق لله، حيث يخلق للإنسان عندما يريد الفعل قدرة يتم بها، ومن هنا يستحق الإنسان المدح أو الذم على هذا القصد، وهذه القدرة يقسمها إلى قسمين: قدرة ممكنة: وهى ما يسميها: لسلامة الآلات وصحة الأسباب. وقدرة ميسرة، زائدة على القدرة الممكنة: وهى التي يقدر الإنسان بها على الفعل المكلف به مع يسر، تفضلا من الله تعالى. يقول الماتريدي بخلق أفعال العباد، وهو يفرق بين تقدير المعاصي والشرور والقضاء بها وبين فعل المعاصي، فالأول من الله والثاني من العبد بقدرته واختياره وقصده. ويمنع أبو منصور من إضافة الشر إلى الله فلا يقال: رب في الأوراث والخبائث ولو أنه خالق كل شيء، وهذا الشق الأخير معروف عن السلف، أما تقسيمه القدرة وجعل العبد فاعلا باختياره وقصده وقدرته من وجه، ولو كان الله هو الفاعل من وجه آخر، فيه حيد عن مذهب السلف في ذلك، ونسبة الماتريدية الفعل إلى العبد يقصدون به أن الله لا يخلق فعل العبد إلا بعبد أن يريده العبد ويختاره فيصبح ذلك العمل كسبا له يجازي به حسب اختياره له وإرادته المستقلة له. فى مسائل الإيمان: لا يقول بالمنزلة بين المنزلتين، ولا يقول بخروج مرتكب الكبيرة عن الإسلام. ويرى أن الإيمان هو التصديق بالقلب، دون الإقرار باللسان، ومن هنا يفترق الماتريدي عن السلف. وعنده لا يجوز الاستثناء في الإيمان، لأن الاستثناء يستعمل في موضع الشكوك والظنون. وهو كفر، وأهل السنة قالوا بجواز الاستثناء في الإيمان لأنه يقع على الأعمال لا على أصل الإيمان أو الشك في وجود الإيمان. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 1228 - 1230 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 المبحث الأول: نشأة الماتريدية وأهم زعمائها نتحدث الآن عن تطورهم الذي مر بالأدوار المهمة التاريخية التي تدل على نشاطهم البالغ المتواصل لنشر العقيدة الكلامية الماتريدية. ليعرف بهذه الدراسة تطور الماتريدية والأدوار التي مرت عليها. وتكون هذه الدراسة بمثابة تاريخ إجمالي للماتريدية ويتم كل ذلك بتوفيق الله تعالى ومشيئته سبحانه. فأقول: لقد مرت بالماتريدية أدوار أهمها ما يلي: أ - دور تأسيسي (258 - 333هـ) وهو دور أبي منصور الماتريدي إمام الماتريدية ويمتاز هذا الدور بأنه دور النشأة والتأسيس كما يمتاز بشدة النطاح بين الماتريدي وبين المعتزلة كما يظهر من تأليفات الماتريدي فيما سبق ومن خلال نصوص الماتريدي ضد المعتزلة في كتبه. ب - دور تكويني (333 - 400هـ) وهو دور تلامذة الماتريدي ومن تأثر به بعده وتلامذة تلامذته، ويمتاز هذا الدور بأنه تكونت فيه فرقة كلامية ماتريدية وظهرت على وجه الأرض كما يمتاز بوجود تلامذة الماتريدي الذين نشروا أفكار شيخهم وإمامهم والدفاع عنه، وقد ذكرنا نبذة عن تلامذة الماتريدي وتأليفاتهم الكلامية في الفصل الأول. ج - دور بزدوي (400 - 500هـ) وهذا الدور تمديد لسابقه بالنشر والتأليف، ومن أهم شخصيات هذا الدور " أبو اليسر البزدوي (493هـ) أخو " فخر الإسلام " (482هـ). د- دور نسفي (500 - 700هـ) وهذا الدور كاسمه نسف العقيدة السلفية في الصفات نسفا أكثر من سابقه وامتاز بكثرة التأليف، وجمع الأدلة للعقيدة الماتريدية. ومن أهم أعيان هذا الدور أبو المعين النسفي (508هـ)، ونجم الدين عمر النسفي (537هـ)، وحافظ الدين عبد الله النسفي (710هـ) وهو أكبر أدوار العقيدة الماتريدية السابقة. هـ - وفي بداية هذا الدور دور آخر: وهو دور صابوني يمتاز بكثرة المناظرات بين الماتريدية، وبين الأشعرية. وأهم شخص في هذا الدور هو أبو محمد نور الدين أحمد بن محمد الصابوني (580هـ). المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني 1/ 262 - 263 وقد اعتمد الصابوني في دراسته لأصول الدين على كتاب (تبصرة الأدلة) لأبي المعين النسفي كما ورد ذلك عنه فيما ذكره الرازي في مناظرته له قال الرازي قال لي (أي: الصابوني) يا أيها الرجل إني كنت قد رأيت كتاب (تبصرة الأدلة) لأبي معين النسفي واعتقدت أنه لا مزيد على ذلك الكتاب في التحقيق والتدقيق ... ذكر القرشي أن له (البداية في أصول الدين) و (المغني في أصول الدين) وذكر ابن قطلوبغا وصاحب (الطبقات السنية) وحاجي خليفة أن له (الهداية في علم الكلام) وأنه اختصره في كتاب سماه (البداية) وذكر البغدادي (المختصر) بعنوان (بداية مختصر الهداية) وذكر حاجي خليفة أن له كتابا بعنوان (الكفاية في الهداية) واختصره في كتاب سماه (العمدة) وذكر البغدادي أن (الكفاية) شرح (للهداية) المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص 123، 124 ودور عثماني: نسبة إلى الدولة العثمانية (700 - 1300هـ). وهذا الدور جمع الأدوار الماتريدية الكثيرة. ومنها دور صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود (؟ - 747هـ). ومنها دور التفتازاني (712 - 792هـ). ومنها دور الجرجاني (740 - 816هـ). ومنها دور الكمال ابن الهمام (790 - 861هـ). المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني 1/ 263 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 هو محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد السيواسي الأصل السكندري القاهري الحنفي من مؤلفات ابن الهمام (فتح القدير) في الفقه، وهو شرح (الهداية) ولم يتمه وصل فيه إلى أثناء الوكالة ... وله (التحرير في أصول الفقه) ... وله أيضا (المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة) .... وقد طبع الكتاب عدة مرات ويعد كتاب (المسايرة) من المراجع المهمة في معرفة عقيدة الماتريدية ومعرفة المسائل الوفاقية والخلافية بين الأشاعرة والماتريدية المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص 124 - 127 وغيرها من الأدوار التي تتصل بالدولة العثمانية. وهذه الأدوار كلها ترجع إلى أم الأدوار ألا وهو الدور العثماني الذي يعد أهم الأدوار الماتريدية حيث بلغ هذا الدور إلى أوج الكمال حيث يستظل هذا الدور بظل الدولة العثمانية ويتمتع بخيراتها، لأن الدولة العثمانية كانت دولة حنفية الفروع ماتريدية العقيدة. فكان سلطان الماتريدية يتسع حسب اتساع سلطان الدولة العثمانية وكان جل القضاة، والمفتين وخطباء الجوامع، ورؤساء المدارس حنفية الفروع ماتريدية العقيدة، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى كثرت في هذا الدور تأليف أنواع الكتب الكلامية من المتون، والشروح، والشروح على الشروح، والحواشي، والحواشي على الحواشي، والتنكيتات، كما كان بين الماتريدية والأشعرية ائتلاف كأنهما فرقة واحدة صعب التمييز بينهما. وفي هذا الدور انتشرت العقيدة الماتريدية في شرق الأرض وغربها في هندها، وتركها، وفارسها، ورومها، وعربها، وعجمها. ز- دور ديوبندي (1283هـ - إلى ما شاء الله) نسبة إلى جامعة ديوبند التي أسسها الشيخ محمد قاسم النانوتوي إمام الديوبندية (1297هـ) سنة (1283هـ). ويمتاز هذا الدور بكثرة التأليف في علم الحديث من شروح وغيرها، والديوبندية أئمة في العلوم النقلية، والعقلية كما هم في قمة من الزهد، والتأله، وهم خدموا الإسلام وحاربوا الشرك والبدع إلى حد كبير غير أنهم حرفوا الأحاديث إلى مذهبهم الحنفي الفقهي، والكلامي الماتريدي كما يتضح من كتبهم وهم في غاية من التعصب للمذهب الحنفي والتقليد الأعمى حتى جعلوا كثيرا من الأحاديث حنفية بالتأويلات الباطلة. كما أنهم ناصبوا العداء لـ (أهل السنة) الذين يسميهم المغرضون باسم (الوهابية)، فيسبونه أشنع السباب، وينبزونهم بأبشع الألقاب. ومن ميزات هذا الدور البارز أيضا أنهم ديوبندية كما هم حنفية الفروع ماتريدية العقيدة كذلك هم متصوفة محضة، وعند كثير منهم بدع قبورية كما يشهد عليهم كتابهم (المهند على المفند) لـ (الشيخ خليل أحمد السهارنفوري أحد أئمة الديوبندية، وهو أهم كتب الديوبندية في العقيدة وعليه توقيعات لكبار علمائهم كما يأتي شرحه إن شاء الله تعالى. بل في كبار أئمة الديوبندية من ساير الكوثري في شتائم أئمة الإسلام - كالبنوري الديوبندي فله مقدمة خطيرة مسمومة فتاكة أبعد غورا في الضلال والإضلال، وفيها ما لا يخطر بالبال من إجلال الكوثري، وشتائم أئمة الإسلام. وللديوبندية شعبتان مهمتان: شعبة التعليم والتدريس، وشعبة التبليغ والتربية وهي المعروفة بـ (جماعة التبليغ) لها حسنات عملية كثيرة. ولهذه الجماعة لون آخر في دورهم من أدوار الماتريدية يبثون أفكارهم الصوفية وأنظارهم العقدية الماتريدية بطرق خفية تدريجية حتى اغتر بهم كثير من أصحاب العقيدة السلفية ولكن لابد للحقيقة أن تظهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 وقد ألف الشيخ أرشد القادري البريلوي أحد كتاب " البريلوية " كتابا بعنوان (الزلزلة) ذكر فيه نصوصا صريحة لكبار علماء الديوبند تتضمن البدع القبورية والخرافات بل الشركيات الصريحة وحاكمهم محاكمة دقيقة. وقد اعترف بذلك الشيخ عامر العثماني مدير مجلة " التجلي " " بديوبند " أحد كبار كتاب الديوبندية وصرح أن كل بلاء وبدعة وخرافة دخلت على الديوبندية إنما دخلت من أبواب التصوف (1). ح- دور بريلوي (1272هـ - إلى ما شاء الله): نسبة إلى زعيمهم: أحمد رضا خان الأفغاني الحنفي الماتريدي الصوفي القبوري الملقب بعبد المصطفى (1340هـ). ويمتاز هذا الدور بالإشراك الصريح، وعبادة القبور فهي فرقة وثنية محضة. كما يمتاز بشدة العداوة مع الديوبندية وتكفيرهم فضلا عن تكفير (أهل السنة) الذين يسميهم المغرضون بـ (الوهابية). ط- دور كوثري (1296هـ - إلى ما شاء الله): منسوب إلى الشيخ محمد زاهد الكوثري الجركسي الحنفي الماتريدي عدو السلفية (1371هـ). ويمتاز هذا الدور بشدة العداء لأهل السنة والطعن في أئمة الإسلام ولعنهم وجعلهم وثنية مشركين كفارا عبدة الأوثان، والأصنام، مجسمة مشبهة. وجعل كتب السلف ككتب (التوحيد)، و (السنة)، و (الإبانة)، و (الشريعة)، و (الصفات)، و (العلو)، وغيرها في شرح عقيدة أئمة السنة - كتب وثنية، وكتب كفر، وكتب شرك، وكتب تجسيم، وتشبيه. كما يمتاز هذا الدور بالدعوة إلى الإشراك وعبادة القبور، وجواز بناء المساجد والقبب عليها تحت ستار التوسل. وكتب الكوثري (1296 - 1371هـ) شاهدة لما ذكرنا، وقد حاول الكوثري أن يحيي دولة الجهم، والمريسي، وابن أبي دؤاد كما حاول أن يحيي دول القبورية. ي- دور فنجفيري (من 1370هـ) وينسب هذا الدور إلى زعيم الجماعة الفنجفيرية: شيخ القرآن محمد طاهر بن آصف الحنفي الماتريدي الديوبندي النقشبندي (1407هـ) رحمه الله. واسم هذه الجماعة: " جماعة إشاعة التوحيد والسنة " وهي فرع لـ (الديوبندية)، (النقشبندية الصوفية). وهي جماعة لها دور كبير ونشاط طيب في نشر ترجمة القرآن الكريم، والقضاء على الإشراك والبدع القبورية وإحياء كثير من السنن في مناطق بشاور ومردان، والقبائل الحرة وغيرها في باكستان وكثير من المناطق في أفغانستان ولهم مساع جميلة يشكرون عليها غير أنهم ماتريدي في باب الصفات، ولهم مدارس خاصة يدرسون فيها كتب الماتريدية، وهم حنفية متعصبة في الفقهيات لهم عداء شديد لأهل الحديث في تلك المناطق، حتى لا يتحاشون الكذب الصريح، والافتراء القبيح إلا من شاء الله منهم. وقد بلغ بهم التقليد إلى تحريف الأحاديث؛ فقد قال شيخهم: إن المراد من أحاديث رفع اليدين، رفعهما عن السرة والركبة (2). ويزعم زعيمهم الشيخ محمد طاهر المذكور في حق أهل الحديث المعاصرين لهم: أنهم إخوان القاديانيين (3) الأصاغر (4). ولكونه صوفيا نقشبنديا أوصى تلاميذه بأن يكونوا علماء صوفية بلا ترجيح طرق بعضهم على بعض، ولا إنكار على المغلوبين من الصوفية ولا على المؤولين في السماع وغيره. ولأجل ماتريديتهم يثنون على الماتريدي بأنه " إمام الهدى " و " إمام أهل السنة " وعلى " تأويلاته". ويجعلون السلف مفوضة ويعدون المؤولة في أهل السنة. هذه بعض الأدوار المهمة للماتريدية بمثابة تاريخ إجمالي للماتريدية.   (1) انظر ((الزلزلة)): (182 - 193). (2) رسالة شيخ القرآن إلينا المخطوطة بخط يده، سامحه الله. (3) القاديانية أو مرزائية جماعة كافرة تؤمن بنبوة مرزا غلام أحمد القادياني المتبني الكذاب (1908م)، راجع ((كتاب القاديانية)) لـ (العلامة إحسان إلهي ظهير). (4) انظر ((ضياء النور)) لـ (الشيخ محمد طاهر) أمير الجماعة: (177، 302 – 303). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 وفيما يلي نتحدث إن شاء الله عن أسباب انتشار الماتريدية وبسط سلطانهم. أ - دور ندوي: المدرسة الندوية الهندية لا تختلف عن المدرسة الديوبندية، الفنجفيرية. في كونها ماتريدية وعلى غير الطريقة السلفية. وذلك أن إمام الندوية الشيخ أبا الحسن الندوي - مع تظاهره بالسلفية - قد بالغ في الثناء على الماتريدي وطريقته وكتبه ورجحه على الأشعري (1). فقد أبان الندوي عن حقيقة سلفيته بإكباره وإجلاله لماتريديته. وما كل مخضوب البنان بثينة [وما كل مصقول الحديد يمانيا.] المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني 1/ 263 - 268 الخلاصة: يمكن إجمالها في أربع مراحل رئيسية كالتالي: · مرحلة التأسيس: (000ـ333هـ) والتي اتسمت بشدة المناظرات مع المعتزلة وصاحب هذه المرحلة: أبو منصور الماتريدي ..... عاصر أبا الحسن الأشعري، وعاش الملحمة بين أهل الحديث وأهل الكلام من المعتزلة وغيرهم، فكانت له جولاته ضد المعتزلة وغيرهم، ولكن بمنهاج غير منهاج الأشعري، وإن التقيا في كثير من النتائج غير أن المصادر التاريخية لا تثبت لهما لقاء أو مراسلات بينهما، أو إطلاع على كتب بعضها. ـ توفي عام 333هـ ودفن بسمرقند، وله مؤلفات كثيرة: في أصول الفقه والتفسير. ومن أشهرها: (تأويلات أهل السنة) أو (تأويلات القرآن) وفيه تناول نصوص القرآن الكريم، ولا سيما آيات الصفات، فأوَّلها تأويلات جهمية. ومن أشهر كتبه في علم الكلام كتاب (التوحيد) وفيه قرر نظرياته الكلامية، وبيَّن معتقده في أهم المسائل الاعتقادية، ويقصد بالتوحيد: توحيد الخالقية والربوبية، وشيء من توحيد الأسماء والصفات، ولكن على طريقة الجهمية بتعطيل كثير من الصفات بحجة التنزيه ونفي التشبيه؛ مخالفاً طريقة السلف الصالح. كما ينسب إليه شرح كتاب (الفقه الأكبر) للإمام أبي حنيفة، وله في الردود على المعتزلة (رد الأصول الخمسة) وأيضاً في الرد على الروافض (رد كتاب الإمامة) لبعض الروافض، وفي الرد على القرامطة (الرد على فروع القرامطة). · مرحلة التكوين: (333ـ500هـ): وهي مرحلة تلامذة الماتريدي ومن تأثر به من بعده، وفيه أصبحت فرقة كلامية ظهرت أولاً في سمرقند، وعملت على نشر أفكار شيخهم وإمامهم، ودافعوا عنها، وصنفوا التصانيف متبعين مذهب الإمام أبي حنيفة في الفروع (الأحكام)، فراجت العقيدة الماتريدية في تلك البلاد أكثر من غيرها. ومن أشهر أصحاب هذه المرحلة: أبو القاسم إسحاق بن محمد بن إسماعيل الحكيم السمرقندي (342هـ)، عرف بأبي القاسم الحكيم لكثرة حكمه ومواعظه، وأبو محمد عبد الكريم بن موسى بن عيسى البزدوي (390هـ). · ثم تلى ذلك مرحلة أخرى تُعتبر امتداداً للمرحلة السابقة. ومن أهم وأبرز شخصياتها: ـ أبو اليسر البزدوي (421ـ493هـ): هو محمد بن محمد بن الحسين بن عبدالكريم، والبزدوي نسبة إلى بزدوة ويقال بزدة، ولقب بالقاضي الصدر، وهو شيخ الحنفية بعد أخيه الكبير علي البزدوي، ولد عام (421هـ).   (1) ((تاريخ الدعوة والعزيمة)) (1/ 114 – 115). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 ـ تلقى العلم على يد أبيه، الذي أخذه عن جده عبد الكريم تلميذ أبي منصور الماتريدي، قرأ كتب الفلاسفة أمثال الكندي، وغيره، وكذلك كتب المعتزلة أمثال الجبائي، والكعبي، والنّظام، وغيرهم، وقال فيها: "لا يجوز إمساك تلك الكتب والنظر فيها؛ لكي لا تحدث الشكوك، وتوهن الاعتقاد"، ولا يرى نسبة الممسك إلى البدعة. كما اطلع على كتب الأشعري، وتعمق فيها، وقال بجواز النظر فيها بعد معرفة أوجه الخطأ فيها، كما اطلع على كتابي (التأويلات)، و (التوحيد) للماتريدي فوجد في كتاب (التوحيد) قليل انغلاق وتطويل، وفي ترتيبه نوع تعسير، فعمد إلى إعادة ترتيبه وتبسيطه مع ذكر بعض الإضافات عليه في كتاب (أصول الدين). ـ أخذ عن الشيخ أبو اليسر البزدوي جمٌّ غفير من التلاميذ؛ ومن أشهرهم: ولده القاضي أبو المعاني أحمد، ونجم الدين عمر بن محمد النسفي صاحب (العقائد النسفية)، وغيرهما. ـ توفي في بخارى في التاسع من رجب سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة. · مرحلة التأليف والتأصيل للعقيدة الماتريدية: (500ـ700هـ): وامتازت بكثرة التأليف وجمع الأدلة للعقيدة الماتريدية؛ ولذا فهي أكبر الأدوار السابقة في تأسيس العقيدة، ومن أهم أعيان هذه المرحلة: ـ أبو المعين النسفي (438ـ508هـ): وهو ميمون بن محمد بن معتمد النسفي المكحولي، والنسفي نسبة إلى نسف وهي مدينة كبيرة بين جيحون وسمرقند، والمكحولي نسبة إلى جده الأكبر، ولكن نسبته إلى بلده غلبت نسبته إلى جده، وله ألقاب عدة أشهرها: سيف الحق والدين. ـ ويعد من أشهر علماء الماتريدية، إلا أن من ترجم له لم يذكر أحداً من شيوخه، أو كيفية تلقيه العلم، يقول الدكتور فتح الله خليف: "ويعتبر الإمام! أبو المعين النسفي من أكبر من قام بنصرة مذهب الماتريدي، وهو بين الماتريدية كالباقلاني والغزالي بين الأشاعرة، ومن أهم كتبه (تبصرة الأدلة)، ويعد من أهم المراجع في معرفة عقيدة الماتريدية بعد كتاب (التوحيد) للماتريدي، بل هو أوسع مرجع في عقيدة الماتريدية على الإطلاق، وقد اختصره في كتابه (التمهيد)، وله أيضاً كتاب (بحر الكلام)، وهو من الكتب المختصرة التي تناول فيها أهم القضايا الكلامية". ـ توفي في الخامس والعشرين من ذي الحجة سنة ثمانٍ وخمسمائة، وله سبعون سنة. ـ نجم الدين عمر النسفي (462ـ537هـ): هو أبو حفص نجم الدين عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل بن لقمان الحنفي النسفي السمرقندي، وله ألقاب عدة أشهرها: نجم الدين، ولد في نسف سنة إحدى أو اثنتين وستين وأربعمائة. ـ كان من المكثرين من الشيوخ، فقد بلغ عدد شيوخه خمسمائة رجلاً ومن أشهرهم: أبو اليسر البزدوي، وعبد الله بن علي بن عيسى النسفي. وأخذ عنه خلقٌ كثير، وله مؤلفات بلغت المائة، منها: (مجمع العلوم)، (التيسير في تفسير القرآن)، (النجاح في شرح كتاب أخبار الصحاح في شرح البخاري) وكتاب العقائد المشهورة بـ (العقائد النسفية)، والذي يعد من أهم المتون في العقيدة الماتريدية وهو عبارة عن مختصر (لتبصرة الأدلة) لأبي المعين النسفي قال فيه السمعاني في ترجمة له: "كان إماماً فاضلاً متقناً، صنَّف في كل نوع من التفسير والحديث .. فلما وافيت سمرقند استعرت عدة كتب من تصانيفه، فرأيت فيها أوهاماً كثيرة خارجة عن الحد، فعرفت أنه كان ممن أحب الحديث، ولم يرزق فهمه". ـ توفي بسمرقند ليلة الخميس ثاني عشر من جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين وخمسمائة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 · مرحلة التوسع والانتشار: (700ـ1300هـ): وتعد من أهم مراحل الماتريدية حيث بلغت أوجَ توسعها وانتشارها في هذه المرحلة؛ وما ذلك إلا لمناصرة سلاطين الدولة العثمانية، فكان سلطان الماتريدية يتسع حسب اتساع سلطان الدولة العثمانية، فانتشرت في: شرق الأرض، وغربها، وبلاد العرب، والعجم، والهند، والترك، وفارس، والروم. وبرز فيها أمثال: الكمال بن الهمام صاحب (المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة)، والذي ما زال يدرَّس في بعض الجامعات الإسلامية. وفي هذا الدور كثرت فيها تأليف الكتب الكلامية من: المتون، والشروح، والشروح على الشروح، والحواشي على الشروح. وهناك مدراس مازالت تتبنى الدعوة للماتريدية في شبه القارة الهندية وتتمثل في: ـ مدرسة ديوبند والندوية (1283هـ ـ) وفيها كثر الاهتمام بالتأليف في علم الحديث وشروحه، فالديوبندية أئمة في العلوم النقلية والعقلية؛ إلا أنهم متصوفة محضة، وعند كثير منهم بدعٌ قبورية، كما يشهد عليهم كتابهم (المهنَّد على المفنَّد) لـ الشيخ خليل أحمد السهارنفوري أحد أئمتهم، وهو من أهم كتب الديوبندية في العقيدة، ولا تختلف عنها المدرسة الندوية في كونها ماتريدية العقيدة. ـ مدرسة البريلوي (1272هـ ـ) نسبة إلى زعيمهم أحمد رضا خان الأفغاني الحنفي الماتريدي الصوفي الملقب بعبد المصطفى (1340هـ) وفي هذا الدور يظهر الإشراك الصريح، والدعوة إلى عبادة القبور، وشدة العداوة للديوبندية، وتكفيرهم فضلاً عن تكفير أهل السنة. ـ مدرسة الكوثري (1296هـ ـ) وتنسب إلى الشيخ محمد زاهد الكوثري الجركسي الحنفي الماتريدي (1371هـ) ويظهر فيها شدة الطعن في أئمة الإسلام ولعنهم، وجعلهم مجسمة ومشبهة، وجعل كتب السلف ككتب: (التوحيد)، (الإبانة)، (الشريعة)، و (الصفات)، و (العلو)، وغيرها من كتب أئمة السنة، كتب وثنيةٍ وتجسيمٍ وتشبيهٍ، كما يظهر فيها أيضاً شدة الدعوة إلى البدع الشركية وللتصوف من تعظيم القبور والمقبورين تحت ستار التوسل. انظر تعليقات الكوثري على كتاب (الأسماء والصفات) للبيهقي، وكتاب (مقالات الكوثري). المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 المبحث الثاني: أسباب انتشار الماتريدية انتشرت الماتريدية في بقاع الأرض شرقها، وغربها لأسباب أهمها ما يلي: 1 - السبب الرئيس، بل أهم الأسباب، اعتناق السلاطين والملوك للمذهب الحنفي، فبسبب ذلك انتشر المذهب الحنفي في شرق الأرض وغربها، وعربها، وعجمها، وفارسها ورومها، وبانتشار الحنفية ونفوذ سلطانهم انتشرت الماتريدية، لأن الماتريدية كانوا يمثلون المذهب الحنفي، وهذه حقيقة اعترف بها الحنفية الماتريدية. 2 - ومن المعروف في التاريخ عبر القرون أن أية دولة إذا كانت تميل إلى فرقة ما تسهل وتوفر لعلمائها مناصب القضاء، والإفتاء والرئاسة والخطابة والتأليف، والتدريس؛ فيجدون أسبابا كثيرة وطرقا ميسورة لبسط سلطانهم على القلوب والأبدان، ونفوذ تأثيرهم على الشعوب والأوطان وتشجعهم الدولة أيضا بإنشاء المدارس والجوامع، وبذلك تنشر أفكارهم ويزداد نشاطهم. قال الشاه ولي الله الدهلوي (1176هـ) في بيان سبب انتشار الحنفية: " فأي مذهب كان أصحابه مشهورين، وسد إليهم القضاء، والإفتاء، واشتهرت تصانيفهم في الناس، ودرسوا درسا ظاهرا، انتشر في أقطار الأرض، ولم يزل ينتشر كل حين، وأي مذهب كان أصحابه خاملين، ولم يولوا القضاء، والإفتاء، ولم يرغب فيهم الناس اندرس بعد حين " وقد صرح العلامة عبد الحي اللكنوي أن سبب شيوع مذهب الحنفية تولية الإمام أبي يوسف قضاء القضاة زمن هارون الرشيد (1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وتجد الإسلام والإيمان كلما ظهر وقوي كانت السنة وأهلها أظهر وأقوى، وإن ظهر شيء من الكفر، والنفاق ظهرت البدع بحسب ذلك، مثل دولة المهدي (محمد بن المنصور 168هـ) والرشيد (هارون بن محمد المهدي 193هـ) ونحوهما ممن كان يعظم الإسلام والإيمان ويغزو أعداءه من الكفار والمنافقين كان أهل السنة في تلك الأيام أكثر وأقوى، وأهل البدع أقل، وأذل. .؛ ولكن كانت البدع في القرون الثلاثة الفاضلة مقموعة، وكانت الشريعة أعز وأظهر، وكان القيام بجهاد أعداء الدين من الكافرين والمنافقين أعظم. وفي دولة أبي العباس المأمون (218هـ) ظهر (الخرمية) (2) ونحوهم من المنافقين، وعرب من كتب الأوائل (يعني الفلاسفة) المجلوبة من بلاد الروم ما انتشر بسببه مقالات الصابئين، وأرسل ملوك المشركين من الهند ونحوهم حتى صار بينه وبينهم مودة. . فتولد من ذلك محنة الجهمية، حتى امتحنت الأمة بنفي الصفات، والتكذيب بكلام الله ورؤيته، وجرى من محنة الإمام وغيره ما جرى مما يطول وصفه إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ [البقرة:156]. وكان في أيام المتوكل (جعفر بن محمد المعتصم 247هـ) قد عز الإسلام حتى ألزم أهل الذمة بالشروط العمرية، وألزموا الصغار، فعزت السنة والجماعة، وقمعت الجهمية والرافضة ونحوهم. . ". إلى آخر ذلك الكلام المهم في مقارنة الملوك والدول ومعاملتهم مع الإسلام وأهله والسنة وأهلها.   (1) ((النافع الكبير مقدمة الجامع الصغير)) لـ (الإمام محمد بن الحسن الشيباني): (7). (2) الخرمية بضم الخاء المعجمة وتشديد الراء المهملة مخفف الخرم دينية " كلمة فارسية " بمعنى " الدين المستلذ " وقصدهم بذلك تحليل كل محرم فهي فرقة لا دينية إباحية على طريقة (المزدكية) من المجوس الإباحية ثم بايعوا رجلا " بابك الخرمي " وانضموا إلى الباطنية القرامطة فازداد شرهم وظهروا في " جبل البدين " بناحية أذربيجان، وكان بينهم وبين جيوش المعتصم حروب دامية حتى قتل بابك الخرمي 223هـ، راجع ((الفرق بين الفرق)) (ص268)، و ((فضائح الباطنية)) (ص14). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 الحاصل: أن مناصرة الملوك والسلاطين والأمراء لمذهب ما وتشجيعهم لعلمائه من أهم أسباب انتشاره، كما يقال: " الناس على دين ملوكهم "، وهذا واقع غالبا، وهذا من الأسباب الرئيسة لنشر العقيدة الأشعرية في البلاد الشامية، والمغربية أيضا. قال أبو عذبة: " وفي بلاد الهند على كثرتها، وسعتها، وبلاد الروم على كثرتها وسعتها - مع كونهم بأسرهم حنفية - عقائد الماتريدية " (1). وهكذا انتشرت الماتريدية وعقائدهم في بلاد ما وراء النهر، والترك، والأفغان، والهند، والصين وما والاها. وقوى هذا السبب لنشر العقيدة الماتريدية في الهند وما جاورها، أن العلماء والمشائخ الذين وردوا الهند في عهود الملوك المسلمين - كان جلهم من علماء ما وراء النهر الذي كان معظم اعتمادهم على كتب المتأخرين من فقهاء الحنفية وكان عنايتهم بكتب السنة تحلة للقسم وكانوا مولعين بخرافات اليونان فأصبح مسلموا الهند يتسكعون في ظلمات علوم اليونان. وافتخر الكوثري افتخارا عظيما بكثرة الحنفية في بقاع الأرض قائلاً: ". . . فالحنفية في السند لا تقل عن خمسة وسبعين مليونا، وفي الصين عن خمسين مليونا، وفي بلاد الروس، والقوقاس، والقزان وبخارى، وسيبريا، وما والاها عن خمسين مليونا أيضا، وفي بلاد الرومان، والعرب، ودربوسنا، وهرسك، والألبان، والبلغار، واليونان، والبلاد العثمانية القديمة في القارات الثلاث، يعني آسيا، وأوروبا، وأفريقيا، عن خمسين مليونا أيضا، سوى من بلاد الأفغان، وبلاد الحبشة، ومصر، وطرابلس الغرب، وتونس، وأفريقيا الجنوبية، وغيرها. . ". قلت: نستدل بكلام الكوثري هذا - مع مجازفته - على كثرة الماتريدية وانتشارهم على البسيطة تبعا لانتشار الحنفية: ولكن عدد الماتريدية أقل من الحنفية؛ لأن في الحنفية جهمية أولى، ومعتزلة، وزيدية، وكرامية، واتحادية، وحلولية، والمتفلسفة، ونذرا قليلا من السلفية، كما أن النساء، والعوام وأصحاب الحرف من الفلاحين وغيرهم ليسوا من الماتريدية في شيء وإن هم انتسبوا إلى الماتريدية ظاهرا؛ فمن في هؤلاء من يزعم أن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه، ولا فوق ولا تحت؟ ومن فيهم من يقول: إن كلام الله كلام نفسي لا بحرف ولا بصوت وأن هذا القرآن العربي مخلوق ليس كلام الله بل هو دال على كلام الله؟ ومن فيهم من يقول: إن موسى عليه السلام لم يسمع كلام الله بل سمع صوتا مخلوقا في الشجرة إلى آخر تلك الحماقات الكلامية الماتريدية؟. فهؤلاء كلهم في الحقيقة على الفطرة فلا يصح ظن الظان أن الماتريدية والأشعرية تمثل أهل السنة وأنهم الكثرة الكاثرة والجمهور وأنهم السواد الأعظم (2). بل الحقيقة أن الفريقين من الماتريدية والأشعرية قلة قليلة والذي اشتهر خلافه فهو خلاف الواقع والحقائق الملموسة. 2 - مدارس الماتريدية، ونشاطهم الدراسي والتدريسي:   (1) انظر: ((الروضة البهية:)) (4). (2) ((العلم الشامخ)): (ص271 – 272)، و ((التعالم)) لـ (الدكتور بكر أبي زيد) (ص 106 – 107)، و ((منهج الأشاعرة)) لـ (الدكتور سفر الحوالي) (ص 22 – 24). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 لمدارس الماتريدية دور عظيم في نشر عقيدتهم، وأنا لا أخوض في تفصيل تلك المدارس لأن هذا يحتاج إلى بحث مستقل بل القصد ههنا التنبيه على أن المدارس لها دور في نشر عقيدة هؤلاء، وعلى سبيل المثال نذكر جامعة ديوبند فإنها أكبر جامعة للماتريدية في القارة الهندية ودورها في نشر العقيدة الماتريدية مما لا يخفى على أحد بطبيعة الحال وهكذا مدارس الحنفية الماتريدية في تاريخ أفغانستان، وفي تاريخ الدولة العثمانية فإنها خدمت الحنفية والماتريدية في آن واحد، فكانت هذه المدارس حقولا ومزارع لغرس البذور الماتريدية وتربيتهم ثم تخرجهم وانتشارهم في بقاع الأرض حيث يواصلون مساعيهم لنشر ما تعلموه وما رسخ في أذهانهم من العقيدة الماتريدية على ظنهم أنها عقيدة أهل السنة يجب الدفاع عنها ونشرها. ولذلك لا تجد في جميع مدارس الحنفية الماتريدية عبر القرون كتابا واحدا من كتب السلف في العقيدة يكون في منهجهم الدراسي بل نرى بعكس ذلك كتب علم الكلام والمنطق يهتمون بها درسا وتدريسا، وهذا أمر جعلهم متعمقين في العقيدة الكلامية الماتريدية كما جعلهم بعيدين عن الكتاب والسنة والعقيدة السلفية السنية في آن واحد حتى الفنجفيرية. 3 - نشاط الماتريدية في ميدان التأليف: للماتريدية نشاط بالغ وسعي متواصل في ميدان التصنيف في علم الكلام، وانتشرت هذه الكتب في مشارق الأرض ومغاربها وبانتشارها ودرسها وتدريسها انتشرت العقيدة الماتريدية وبسطت سلطانها على قلوب المشائخ والطلاب، ونفصل في ذكر المؤلفات الماتريدية في الفصل الثاني، إن شاء الله تعالى. المهم أن نذكر الآن أن تراث الماتريدية وعكوف الناس عليه سبب عظيم لنشر عقائدها. ونضرب لذلك مثالا واحدا على لسان أحد الماتريدية المعاصرة. يقول الدكتور أبو الخير محمد أيوب علي البنغلاديشي الماتريدي: " وندرك أثر الماتريدي، ونجاح طريقته ورضاء أهل السنة بها؛. حين نرى (الفقه الأكبر) لـ (أبي حنيفة)، و (العقيدة) لـ (النسفي)، و (المسايرة) لـ (ابن الهمام) تدرس في هذه الأيام في الجامعات الدينية، وكلياتها، والمعاهد الدينية ومنها الأزهر وفي كثير من البلاد الإسلامية، وقد أدرك الأزهر ضرورة دراسة المدرسة الماتريدية، والتعريف بأبي منصور الماتريدي فأدرج في منهج الدراسة في كليتي الشريعة، وأصول الدين دراسة هذه المدرسة دراسة علمية وتاريخية " (1). ويقول: " ثم إن مذهب الأشعري، وإن كان له أكبر أثر على عقيدة جمهور المسلمين، وكان قد تغلب على الماتريدية في الأيام الماضية، فإن الماتريدية قد أصبحت اليوم - كما يبدو لنا - أكثر منه تأثير على جماعة علماء أهل السنة ". 4 - أمور أخرى تكون بمجموعها سببا قويا لانتشارهم وانخداع الناس بهم: وهي ما يلي: أ- تظاهرهم بمظهر أهل السنة بل دعواهم: أنهم، والأشعرية هم يمثلون أهل السنة. ب- اتهامهم لأهل السنة المحضة وأصحاب الحديث بالتجسيم والتشبيه ونحو ذلك. ج- انتسابهم إلى السلف ولاسيما إلى الأئمة: " أبي حنيفة " و " الشافعي " و " الأشعري ". د- كثرة الحق الذي عندهم بالنسبة للباطل الذي عند غيرهم من أهل البدع. هـ - ردهم على الفرق الباطلة كالجهمية الأولى والمعتزلة والخوارج والروافض وغيرهم. وضعف أنوار الآثار السلفية وعجز كثير من أهل السنة المحضة وأهل الحديث ". المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات لشمس السلفي الأفغاني- 1/ 269 - 275   (1) ((عقيدة الإسلام)) (ص 480). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 المبحث الأول: الاعتماد على العقل يبدو واضحاً لكل باحث مطلع على كتب الماتريدية الكلامية أنهم جعلوا معظم مباحث الإلهيات "عقلياتٍ" فجعلوا "السمع" تابعاً للعقل فيها، ومن هذه العقليات تلك الصفات الثمان التي يسمونها صفاتٍ عقلية ثبوتية، كما يسمونها (صفات المعاني) أيضاً. ويعتمدون في إثباتها على الحجج العقلية التي يرونها قطعية، أما النصوص الشريعة فيذكرونها للاعتضاد، لا للاعتماد (1). فمصدر تلقي العقيدة في هذه الأبواب هو العقل عندهم والنقل تابع له أما مباحث المعاد فجعلوها سمعية وكذا مباحث النبوات، ويعبرون عن السمعيات بالشرعيات أيضاً. وعرفوا الشرعيات بأنها أمور يجزم العقل بإمكانها ثبوتاً ونفياً، ولا طريق للعقل إليها، وأما العقليات فهي ما ليس كذلك (2).فمصدر العقيدة عندهم في هذه الأبواب هو النقل، والعقل تابع له (3).وقد جعل بعضهم مباحث النبوات من قبيل العقليات (4).فأنت ترى أنهم جعلوا العقل حاكماً فيما يسمونه "العقليات" وجعلوا النقل عاطلاً؛ أما ما يسمونه "السمعيات" فقد جعلوا النقل حاكماً فيه والعقل عاطلاً مع أن من مذهب أهل السنة أنه لا منافاة بين العقل السليم الصريح والنقل الصحيح أصلاً (5)، فالنقل هو الذي يعتمد عليه، والعقل معاضد للنقل ومعاون له كما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى، وليس أصلاً من أصول العقيدة يستقل فيه العقل أو يهدر فيه (6). ولهذا احتج الله تعالى على منكري المعاد بحجج عقلية قطعية في مواضع من كتابه؛ فدل هذا على أن العقل لا يهدر حتى في أمر المعاد بل العقل الصحيح يدل على المعاد أيضاً. الحاصل: أن الماتريدية لما قسموا أصول الدين إلى "عقليات" و"سمعيات" بنوا على ذلك موقفهم الفاسد من النقل في باب ما يسمونه "العقليات" فأي نقل خالف عقولهم في "العقليات" إن كان من أخبار الآحاد ردوه، أو أوّلوه؛ وإن كان من المتواترات حرفوه بشتى التأويلات الفاسدة، وأما ما يتعلق بالمعاد فلا يؤولونه. يقول متكلم الماتريدية الهندية، الشيخ عبدالعزيز الفريهاري في صدد إثبات نعيم القبر وعذابه، وسؤال منكر ونكير:   (1) ((منهاج السنة)) الطبعة المحققة (7/ 37)، و ((شرح الطحاوية)) (ص 237). (2) ((شرح المواقف)) (2/ 309). (3) راجع على سبيل المثال ((العقائد النسفية)) مع شرحها للتفتازاني فمن أول الكتاب إلى (ص 98)، عقليات ثم بعدها سمعيات، و ((شرح المواقف)) من أوله إلى (8/ 217) عقليات ثم الموقف السادس في السمعيات، والمسايرة مع شرحها لقاسم بن قطلوبغا من أول الكتاب إلى (249)، عقليات ثم الركن الرابع في السمعيات، و ((شرح الإحياء)) إلى (2/ 213)، عقليات ثم سمعيات، وانظر أيضاً ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (ص 168 - 169). (4) انظر ((المسايرة مع شرحها)) لقاسم بن قطلوبغا (ص 216 - 242). (5) وكتاب: ((درء التعارض)) نسيج وحده في هذا الباب، وانظر ((إعلام الموقعين)) (2/ 3 - 62، 71 - 134)، ففيها شفاء للمرضى بداء المعارضة بين النقل والعقل. (6) راجع ((منهج الأشاعرة في العقيدة)) للدكتور سفر الحوالي (ص 55). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 "ثابت كل من هذه الأمور بالدلائل السمعية أي المسموعة من الشارع، وهي الآيات والأحاديث، لأنها أمور ممكنة، غير مستحيلة أخبر بها الصادق، وهو النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقرر أن الأمر الممكن الذي أخبر به الشارع يجب الإيمان به من غير تأويل، وأما الأمر المحال (يعني علو الله تعالى واستوائه ووجهه، ويديه وغيرها من الصفات) فالنص الوارد مؤول مصروف عن الظاهر؛ كالنصوص الموهمة لإثبات جسمية، أو جهة لله تعالى، نحو قوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، فإنها مؤولة بالقدرة، وقوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] فإن الاستواء مؤول بالعظمة التامة، والقدرة القاهرة" (1). المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني 1/ 537 - 540   (1) ((النبراس)) (ص 316 - 317). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 إن مصدر الماتريدية في التلقي هو العقل وقد صرح بهذا الماتريدي في كتاب (التوحيد) وفي (التأويلات) فهو يقول أصل ما يعرف به الدين وجهان: أحدهما السمع والآخر العقل أما السمع فما لا يخلو بشر من انتحاله مذهبا يعتمد عليه ويدعوه غيره إليه ... فلزم طلب أصل يجمعهم عليه لغاية ما احتمل وسعهم الوقوف عليه على أن الأحق في ذلك إذ علم بحاجة كل ممن يشاهد وضرورة كل من المعاين أن لهم مدبرا عالما بأحوالهم وبما عليه بقاؤهم وأنه جبلهم على الحاجات لا يدعهم وما هم عليه من الجهل وغلبة الأهواء مع ما لهم من الحاجة في معرفة ما به معاشهم وبقاؤهم دون أن يقيم لهم من يدلهم على ذلك ويعرفهم ذلك ولابد من أن يجعل له دليلا وبرهانا يعلمون خصوصه بالذي خصه به من الإمامة لهم وأحوجهم إليه فيما عليه أمرهم فيكون في ذلك ... أنه هو الذي جعله المفزع لهم والمعتمد" (1).وقال أيضا: " إنا وجدنا الناس مختلفي المذاهب في النحل في الدين متفقين على اختلافهم في الدين على كلمة واحدة: أن الذي هو عليه حق والذي عليه غيره باطل على اتفاق جملتهم من أن كلا منهم له سلف يقلد فثبت أن التقليد ليس مما يعذر صاحبه لإصابة مثله ضده على أنه ليس فيه سوى كثرة العدد اللهم إلا أن يكون لأحد ممن ينتهي القول إليه حجة عقل يعلم بها صدقه فيما يدعي وبرهان يقهر المنصفين على إصابته الحق فمن إليه - أي إلى العقل - مرجعه في الدين بما يوجب تحقيقه عنه فهو المحق ... " (2).وقال في موضع آخر: " والأصل أن الله تعالى إذ لا سبيل إلى العلم به إلا من طريق دلالة العالم عليه بانقطاع وجوه الوصول إلى معرفته من طريق الحواس عليه أو شهادة السمع .... " (3).وقال أيضا: " إن العلم بالله وبأمره عرض لا يدرك إلا بالاستدلال" (4). أي: بالمعرفة الاستدلالية القائمة على النظر العقلي".وقال في تفسيره لقوله تعالى: لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] "قوله تعالى: لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] حقيقة الحجة لكن ذلك إنما يكون في العبادات والشرائع التي سبيل معرفتها السمع لا العقل فلا يكون وأما الدين فإن سبيل لزومه بالعقل فلا يكون لهم في ذلك على الله حجة ... " (5).والماتريدية لا تقول بالقدرة المطلقة للعقل إذ إن العقل عندهم يدرك ظواهر الأشياء ولا يدرك ماهيتها وحقائقها يقول الماتريدي موضحا هذا: " إن العقول أنشئت متناهية تقصر عن الإحاطة بكلية الأشياء والأفهام متقاصرة عن بلوغ غاية الأمر .... " (6) وهم بذلك يحاولون أن يصلوا إلى غايتهم وهي محاولة التوسط بين العقل والنقل وهذا دفعهم إلى تقسيم العقائد إلى إلهيات ونبوات يستقل العقل بإثباتها وإلى سمعيات لا يستقل العقل بإثباتها ولا تدرك إلا بالسمع (7).   (1) ((التوحيد)) (4 - 6). (2) ((التوحيد)) (3). (3) ((التوحيد)) (129). (4) ((التوحيد)) (137). (5) ((تأويلات أهل السنة)) (1/ 444) نسخة دار الكتب المصرية ل 121 الظاهرية. وانظر ((التوحيد 185))، (224)، ((تبصرة الأدلة)) ل (101)، ((التمهيد)) (19)، ((بحر الكلام)) (5، 6، 14)، ((النور اللامع)) ل (80)، ((شرح الشيرازي على منظومة السبكي)) ل (8، 21)، ((بيان الاعتقاد)) ل (22، 23)، ((الخلافيات والوفاقيات)) ل (69، 70)، ((إشارات المرام)) (75)، ((الروضة البهية)) (34، 36، 37). (6) ((التأويلات)) (1/ل651) دار الكتب. (7) انظر ((الحواشي البهية على شرح العقائد النسفية)) (1/ 23). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 قال صاحب (نثر اللآلئ): " قد صرح غير واحد من علماء الحنفية بأن العقل حجة من حجج الله تعالى ويجب الاستدلال به قبل ورود الشرع وعليه فيكون إرسال الرسل وإنزال الكتب تتمة للدين من بيان ما لا تهتدي العقول إليه من أنواع العبادات والحدود وأمر البعث والجزاء فإن ذلك مما يشكل مع العقل وحده لا لنفس معرفة الخالق فإنها تنال ببداية (أي ببداهة) العقول" (1). وهذا المنهج الذي تحاول به الماتريدية التوسط بين العقل والنقل قائم أساسا على فكرة باطلة وهي أن نصوص الوحي متعارضة مع أحكام العقل، وهذا التعارض المزعوم إنما هو في الواقع مسلك الفلاسفة في الأصل الذين لا يثبتون النبوات ولا يرون أن إرسال الرسل وما جاءوا به حقائق ثابتة فمصدرهم في الاستدلال على إثبات الأمور هو العقل وما أثبته العقل فهو الثابت وما نفاه هو المنفي. فلما اعتمد المتكلمون من المعتزلة ومن نحا نحوهم كالماتريدية والأشاعرة هذا الأصل وقرروا أن العقل هو الميزان الصحيح وأن أحكامه يقينية أقحموا العقل في مجالات ليست من مجال بحثه فخرج العقل بأحكام باطلة وفاسدة وهي بزعمهم أنها يقينية ثم أرادوا أن يجمعوا بين هذه الأحكام ونصوص الوحي فتولد لديهم تعارض بين الأحكام العقلية التي توصلوا إليها وبين نصوص الوحي فأرادوا أن يتخلصوا من هذا التعارض فوضعوا قانونا يسمى بقانون التأويل الذي حاصله أنه يجب تقديم العقل على النقل وتأويل النقل حتى يتفق مع العقل أو تفويضه. وأصل شبهتهم في تقديمهم للعقل على النقل وجعله مصدر التلقي هو اعتقادهم أن السمع لا يعرف ولا يثبت إلا من طريق العقل. قال صاحب (المسامرة): إن الشرع إنما يثبت بالعقل فإن ثبوته يتوقف على دلالة المعجزة على صدق المبلغ وإنما ثبتت هذه الدلالة بالعقل فلو أتى الشرع مما يكذب العقل وهو شاهده لبطل الشرع والعقل معا .... " (2). وقد أجاب عن هذه الشبهة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مبينا تهافتها وعدم صحتها بقوله: " من المعلوم أنه ليس كل ما يعرف بالعقل يكون أصلا للسمع ودليلا على صحته فإن المعارف العقلية أكثر من أن تحصر والعلم بصحة السمع غايته أن يتوقف على ما به يعلم صدق الرسول صلى الله عليه وسلم. وليس كل العلوم العقلية يعلم بها صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بل ذلك يعلم بما يعلم به أن الله تعالى أرسله مثل إثبات الصانع وتصديقه للرسول بالآيات وأمثال ذلك. وإذا كان كذلك لم تكن جميع المعقولات أصلا للنقل لا بمعنى توقف العلم بالسمع عليها ولا بمعنى الدلالة على صحته ولا بغير ذلك لا سيما عند كثير من متكلمة الإثبات أو أكثرهم .... الذين يقولون العلم بصدق الرسول عند ظهور المعجزات التي مجرى تصديق الرسول علم ضروري فحينئذ ما يتوقف العلم بصدق الرسول من العلم العقلي سهل يسير مع أن العلم بصدق الرسول له طرق كثيرة متنوعة ...   (1) ((نثر اللآلئ)) (204). (2) ((المسامرة شرح المسامرة لابن الهمام)) (31، 32)، ط بولاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 وحينئذ فإذا كان المعارض للسمع من المعقولات ما لا يتوقف العلم بصحة السمع عليه لم يكن يقدح فيه قدحا في أصل السمع وهذا بين واضح وليس القدح في بعض العقليات قدحا في جميعها كما أنه ليس القدح في بعض السمعيات قدحا في جميعها ولا يلزم من صحة بعض العقليات صحة جميعها كما لا يلزم من صحة السمعيات صحة جميعها. وحينئذ فلا يلزم من صحة المعقولات التي تبني عليها معرفتنا بالسمع صحة غيرها من المعقولات ولا من فساد هذه فساد تلك فضلا عن صحة العقليات المناقضة للسمع فكيف يقال إنه يلزم من صحة المعقولات التي هي ملازمة للسمع صحة المعقولات المناقضة للسمع؟ " (1). ويقال لهم أيضا: "لو قدر تعارض الشرع والعقل لوجب تقديم الشرع لأن العقل قد صدق الشرع ومن ضرورة تصديقه له قبول خبره والشرع لم يصدق العقل في كل ما أخبر به ولا العلم بصدق الشرع موقوف على كل ما يخبر العقل ومعلوم أن هذا المسلك إذا سلك أصح من مسلكهم كما قال بعض أهل الإيمان يكفيك من العقل أن يعرفك صدق الرسول ومعاني كلامه ثم يخلي بينك وبينه. وقال آخر: العقل سلطان ولى الرسول ثم عزل نفسه. ولأن العقل دل على أن الرسول يجب تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر ولأن العقل يدل على صدق الرسول دلالة عامة ولأن العقل يغلط كما يغلط الحس وأكثر من غلطه بكثير فإذا كان حكم الحس أقوى من أقوى الأحكام ويعرض فيه من الغلط ما يعرض فما الظن بالعقل؟ " (2). قال الإمام أبو المظفر السمعاني رحمه الله: " اعلم أن فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو مسألة العقل فإنهم أسسوا دينهم على المعقول وجعلوا الاتباع والمأثور تبعا للمعقول وأما أهل السنة قالوا: الأصل في الدين الاتباع والعقول تبع ولو كان أساس الدين على المعقول لاستغنى الخلق عن الوحي وعن الأنبياء صلوات الله عليهم ولبطل معنى الأمر والنهي ولقال من شاء ما شاء ولو كان الدين بني على المعقول وجب أن لا يجوز للمؤمنين أن يقبلوا أشياء حتى يعقلوا. ونحن إذا تدبرنا عامة ما جاء في أمر الدين من ذكر صفات الله عز وجل وما تعبد الناس (باعتقاده) وكذلك ما ظهر بين المسلمين وتداولوه بينهم ونقلوه عن سلفهم إلى أن أسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذكر عذاب القبر وسؤال الملكين والحوض والميزان والصراط وصفات النار وتخليد الفريقين فيهما أمور لا تدرك حقائقها بعقولنا وإنما ورد الأمر بقبولها والإيمان بها فإذا سمعنا شيئا من أمور الدين وعقلناه وفهمناه فلله الحمد في ذلك والشكر ومنه التوفيق وما لم يمكنا إدراكه وفهمه ولم تبلغه عقولنا آمنا به وصدقنا واعتقدنا أن هذا من قبل ربوبيته وقدرته واكتفينا في ذلك بعلمه ومشيئته وقال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85] وقال تعالى: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء [البقرة:255] " (3).ثم قال رحمه الله: " وإنما علينا أن نقبل ما عقلناه إيمانا وتصديقا وما لم نعقله قبلناه تسليما واستسلاما وهذا معنى قول القائل من أهل السنة: إن الإسلام قنطرة لا تعبر إلا بالتسليم " (4). المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض بن داخل اللهيبي الحربي - ص 140 - 145   (1) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 89، 90)، وانظر ((الصواعق المرسلة)) (3/ 799، 800). (2) ((الصواعق المرسلة)) (3/ 807). (3) ((الانتصار لأهل الحديث عن صون المنطق)) (182 - 183). (4) ((الانتصار لأهل الحديث عن صون المنطق)) (182، 183). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 المبحث الثاني: ترك الاحتجاج بأحاديث الآحاد في العقيدة من الأصول المنهجية لدى الماتريدية في تقرير العقيدة عدم الاحتجاج بأحاديث الآحاد في باب العقائد فلا يحتجون إلا بالقرآن أو المتواتر من الأحاديث ولا يثبتون العقيدة بالقرآن أو الحديث إلا إذا كان النص قطعي الدلالة ومعنى قطعي الدلالة عندهم أنه لا يحتمل التأويل أي أنها مقبولة عقلا خالية من التعارض مع العقل (1).وقالوا بأن أحاديث الآحاد تفيد الظن ولا تفيد العلم اليقيني وذلك لعروض الشبهة في كونها خبر الرسول لعدم الأمن من وضع الأحاديث على النبي صلى الله عليه وسلم (2).وقالوا يؤخذ بها في الأحكام الشرعية وذلك حيطة في الأمر وأخذا بالحزم وأن المتواتر لا يوجد في كل حادثة فلو رد خبر الواحد تعطلت الأحكام (3). وقد نص على عدم الاحتجاج بأحاديث الآحاد في العقائد الماتريدي في كتاب (التوحيد) وفي (التأويلات) وذكر أن خبر الآحاد لا يوجب العلم لأنه لا يبلغ مرتبة الخبر المتواتر في إيجاب العلم والشهادة ولكنه يجب العمل به واستدل على وجوب العمل بخبر الواحد بأمر الله لمن يصلح للتفقه في الدين بالتخلف عن الجهاد لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم (4).ونص على ذلك أيضا الناصري في (النور اللامع) حيث قال: "خبر الآحاد يوجب العمل ولا يوجب العلم ... " (5).وقال في موضع آخر: " ولا تبنى العقائد على أخبار الآحاد لأنها لا توجب العلم يقينا ... " (6).ونص على ذلك أيضا أبو البركات النسفي في المنار (7) وابن الهمام في التحرير (8) وابن عبد الشكور في مسلم الثبوت (9) وملا على القاري في شرح نخبة الفكر (10) وغيرهم. والماتريدية في الحقيقة لا يحتجون بأحاديث الآحاد الصحيحة في الأحكام الشرعية العملية مطلقا بل حتى يكون الحديث مقبولا لديهم يجب أن يكون موافقا لقواعدهم وأصولهم التي قرروها وقد صرح به غير واحد منهم قال أبو زيد الدبوسي في (تأسيس النظر): " الأصل عند أصحابنا أن خبر الآحاد متى ورد مخالفا لنفس الأصول مثل ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه أوجب الوضوء من مس الذكر لم يقبل أصحابنا هذا الخبر لأنه ورد مخالفا للأصول ... " (11). وقال أبو الحسن الكرخي في رسالته في بيان أصول الحنفية والتي ذكر أمثلتها وشواهدها عمر النسفي صاحب (العقائد): " الأصل أنه يفرق بين العلم إذا ثبت ظاهرا وبينه إذا ثبت يقينا".قال عمر النسفي معلقا على هذا الأصل:" من مسائله أن ما علم يقينا يجب العمل به واعتقاده وما ثبت ظاهرا وجب العمل به ولم يجب اعتقاده" (12).   (1) انظر ((شرح العقائد النسفية)) (34)، ((المسامرة شرح المسايرة)) (31، 32). (2) ((النور اللامع)) (ل 99، 100)، ((الحواشي البهية)) (1/ 59) (3) ((شرح المنار)) لأبي البركات النسفي وحواشيه 620، ((فتح الغفار شرح المنار)) (2/ 79). (4) ((التوحيد)) (8، 9)، ((التأويلات)) (2/ل 351). (5) ((النور اللامع)) (ل 14). (6) ((النور اللامع)) (ل 99، 100)، وانظر (70)، وما بعدها. (7) ((شرح المنار)) وحواشيه (620)، ((فتح الغفار)) (2/ 79). (8) ((التحرير)) (334)، ((تيسير التحرير)) (3/ 82). (9) ((فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت بحاشية المستصفى)) للغزالي (2/ 120،121، 136). (10) ((شرح نخبة الفكر)) (37 - 39) ط1، إسطنبول 1327هـ. (11) ((تأسيس النظر)) 156. (12) ((الأصول)) لأبي الحسن الكرخي ملحقة بتأسيس النظر تحقيق مصطفى القباني (166). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 وقال أبو الحسن الكرخي: " إن كل خبر يجيء بخلاف قول أصحابنا فإنه يحمل على النسخ أو على أنه معارض بمثله ثم صار إلى دليل آخر أو ترجيح فيه بما يحتج به أصحابنا من وجوه الترجيح أو يحمل على التوفيق وإنما يفعل ذلك على حسب قيام الدليل فإن قامت دلالة النسخ يحمل عليه وإن قامت الدلالة على غيره صرنا إليه ".ثم قال: " الأصل أن الحديث إذا ورد عن الصحابي مخالفا لقول أصحابنا فإن كان لا يصح في الأصل كفينا مؤنة جوابه وإن كان صحيحا في مورده فقد سبق ذكر أقسامه إلا أن أحسن الوجوه وأبعدها عن الشبه أنه إذا ورد الحديث عن الصحابي في غير موضع الإجماع أن يحمل على التأويل أو المعارضة بينه وبين صحابي مثله" (1).وقول الماتريدية ومن وافقهم بعدم حجية أحاديث الآحاد في العقائد قول لا أصل له بل هو مبتدع محدث فتقسيم ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى متواتر وآحاد تقسيم لم يكن معروفا في عصر الصحابة والتابعين كما أن القول بأن خبر الواحد لا يفيد العلم قول ابتدعته القدرية والمعتزلة وكان قصدهم منه رد الأحاديث ورفضها لأنها حجة عليهم (2) فإن أشهر من عرف عنه اشتراط العدد في صحة الحديث هو إبراهيم بن إسماعيل بن علية (218 هـ) وهو كما قال الذهبي: " جهمي هالك كان يناظر في خلق القرآن " (3). وقد نص الإمام الشافعي رحمه الله على إجماع المسلمين على حجية خبر الواحد في الرسالة حيث قال: " ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديما وحديثا على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي " (4). وقال بعد أن نص على حجية خبر الواحد: " ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدنا هذه السبيل" (5).والقول بحجية خبر الواحد في العقائد والأحكام هو مذهب الإمام مالك رحمه الله كما ذكره عنه محمد بن أحمد المعروف بابن خويزمنداد (6).وهو أيضا قول الإمام أحمد رحمه الله قال المروذي رحمه الله: "قلت لأبي عبد الله: ههنا اثنان يقولان إن الخبر يوجب عملا ولا يوجب علما فعابه وقال لا أدري ما هذا ... " (7).ولا يعرف عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال بعدم إفادة خبر الواحد العلم أو أنه فرق في قبوله بين العقائد والأعمال بل الذي ورد عنه قبول الأحاديث بدون تفريق فقد روي عنه أنه قال:"إذا جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لم نحد عنه إلى غيره وأخذنا به" (8) وهذا هو مذهب أصحاب أبي حنيفة كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره (9). وهو أيضا مذهب السلف وجمهور المحدثين والأصوليين كما نص على هذا غير واحد من العلماء. وقول الماتريدية ومن شاكلهم بأن أحاديث الآحاد لا تفيد العلم لاحتمال الكذب والخطأ والشبهة في كونها خبر الرسول مرده إلى جهلهم بعلم الحديث وأهله فإنه كما يرجع في معرفة الفقه للفقهاء وفي معرفة اللغة لأهل اللغة وكذا في كل صنعة وفن فإنه ينبغي الرجوع في معرفة الحديث لأهل الحديث الذين أفنوا أعمارهم وأموالهم في حفظ الحديث وصيانته ودراسته وتدريسه.   (1) ((الأصول)) لأبي الحسن الكرخي ملحقة بتأسيس النظر تحقيق مصطفى القباني (169 - 171). (2) انظر ((صون المنطق)) (161). (3) ((ميزان الاعتدال)) (1/ 20). (4) ((الرسالة)) تحقيق أحمد شاكر (457). (5) ((الرسالة)) تحقيق أحمد شاكر (453). (6) ((الإحكام في أصول الأحكام)) لابن حزم (1/ 132)، ((مختصر الصواعق المرسلة)) لابن القيم (2/ 363). (7) ((مختصر الصواعق)) (2/ 363)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (48). (8) ((مناقب أبي حنيفة)) للموفق بن أحمد المكي (71)، ط دار الكتاب العربي. (9) ((الفتاوى)) (18/ 17، 41). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 قال أبو الحسن العامري الفيلسوف: "وليس يشك أن أصحاب الحديث هم المعنيون بمعرفة التواريخ العائدة بالمنافع والمضار وهم العارفون لرجال السلف بأنسابهم وأماكنهم ومقادير أعمارهم ومن اختلف إليهم وأخذ العلم عنهم بل هم المتحققون لما يصح من الأحاديث الدينية وما يسقم ويقوى منها ويضعف بل هم المتجشمون للحل والترحال في أقاصي البلدان وأدانيها ليأخذوا عن الثقات سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هم المجتهدون أن يصيروا نقاد الآثار وجهابذة الأخبار فيعرفوا الموقوف منها والمرفوع والمسند والمرسل ... وأن يصونوا صناعتهم صيانة لو رام أحد أن يفتعل حديثا مزورا أو يغير إسنادا أو يحرف متنا أو يروج فيها ما روج في الأخبار الأدبية كالفتوح والسير والأسمار والوقائع للحقه من جماعتهم أعنف النكير. وإذا كان هذا سعيهم وعليه مدار أمرهم فمن الواجب أن نعتقد لهم فيما أكدوا من العناية أعظم الحق وأوفر الشكر وأتم الإحماد وأبلغ التقريظ " (1).   (1) ((الإعلام بمناقب الإسلام)) (109، 110). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 بل إن أهل الحديث، كما يقول ابن القيم "من أعظم الناس صدقا وأمانة وديانة وأوفرهم عقولا وأشدهم تحفظا وتحريا للصدق ومجانبة للكذب وإن أحدا منهم لا يحابي في ذلك أباه ولا ابنه ولا شيخه ولا صديقه وأنهم حرروا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريرا لم يبلغه أحد سواهم لا من الناقلين عن الأنبياء ولا من غير الأنبياء وهم شاهدوا شيوخهم على هذه الحال وأعظم وأولئك شاهدوا من فوقهم كذلك وأبلغ حتى انتهى الأمر إلى من أثنى الله عليهم أحسن الثناء وأخبر برضاه عنهم واختياره لهم واتخاذه إياهم شهداء على الأمم يوم القيامة ومن تأمل ذلك أفاده علما ضروريا بما ينقلونه عن نبيهم أعظم من كل علم ينقله كل طائفة عن صاحبه وهذا أمر وجداني عندهم لا يمكنهم جحده بل هو بمنزلة ما تحسونه من الألم واللذة والحب والبغض حتى أنهم يشهدون بذلك ويحلفون عليه ويباهلون من خالفهم عليه. وقول هؤلاء القادحين في أخباره وسنته يجوز أن يكون رواة هذه الأخبار كاذبين أو غالطين بمنزلة قول أعدائه يجوز أن يكون الذي جاء به شيطان كاذب وكل أحد يعلم أن أهل الحديث أصدق أهل الطوائف كما قال عبد الله بن المبارك وجدت الدين لأهل الحديث والكلام للمعتزلة والكذب للرافضة والحيل لأهل الرأي ... وإذا كان أهل الحديث عالمين بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذه الأخبار وحدث بها في الأماكن والأوقات المتعددة وعلمهم بذلك ضروريا لم يكن قول من لا عناية له بالسنة والحديث أن هذه أخبار آحاد لا تفيد العلم مقبولا ... " (1).ومما يدل لحجية الآحاد مطلقا أن النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الفرقة الناجية قال: ((من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي)) (2) فلا بد من معرفة ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة لمن أراد أن يكون من الفرقة الناجية وهذا لا يمكن إلا من طريق معرفة الأحاديث والآثار وأهل الحديث هم فرسان هذا الميدان وأبطاله وقد أبى الله تعالى كما يقول أبو المظفر السمعاني " أن يكون الحق والعقيدة الصحيحة إلا مع أهل الحديث والآثار لأنهم أخذوا دينهم وعقائدهم خلفا عن سلف وقرنا عن قرن إلى أن انتهوا إلى التابعين وأخذه التابعون عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا طريق لمعرفة ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس من الدين المستقيم والصراط القويم إلا من هذا الطريق الذي سلكه أصحاب الحديث " (3).ومما يدل أيضا على أن أحاديث الآحاد توجب العلم كما أنها توجب العمل عمل النبي صلى الله عليه وسلم حيث اقتصر بخبر الواحد في إيجاب العلم فقد كان يبعث الآحاد من الصحابة إلى الملوك والرؤساء والأقطار يدعونهم إلى الإسلام وهذا مما لا بد فيه من العلم بمعنى الاعتقاد الجازم الذي لا يبقى معه شك ولا شبهة (4).وقد ذكر الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في (الرسالة) جملة الأحاديث والآثار التي دلت على ذلك (5)،   (1) ((مختصر الصواعق)) (2/ 358، 359). (2) رواه الترمذي (2641) والطبراني في الأوسط (5/ 137) (4886) قال الترمذي غريب وقال الهيثمى (1/ 189): فيه عبد الله بن سفيان. قال العقيلى: لا يتابع على حديثه هذا وقد ذكره ابن حبان فى الثقات، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3) الانتصار لأهل الحديث ((ضمن صون المنطق)) (166). (4) انظر ((توضيح الأفكار)) للصنعاني (1/ 27). (5) ((الرسالة)) (401 - 457) .. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 فعلى هذا فإن القول بأن خبر الواحد لا يفيد العلم يفضي إلى الطعن في عمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو أيضا خرق إجماع الصحابة المعلوم بالضرورة وإجماع التابعين وإجماع أئمة الإسلام وموافقة للجهمية والمعتزلة والرافضة والخوارج (1) نعوذ بالله من هذا القول الشنيع والعمل القبيح المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص 177 - 185 أما أخبار الآحاد: وهو النوع الثاني من النصوص - فموقفهم منها مركب من مقدمات ثلاث: الأولى: أنها ظنية لا تفيد اليقين (2).الثانية: أنها لا تثبت بها العقيدة (3).قال التفتازاني فيلسوف الماتريدية، والفنجفيرية وغيرهم من الماتريدية واللفظ للأول: "إن خبر الواحد على تقدير اشتماله على جميع الشرائط المذكورة في أصول الفقه لا يفيد إلا الظن، ولا عبرة بالظن في باب الاعتقاديات ... " (4).وقال الملا علي القاري (1014هـ): "فإن الآحاد لا تفيد الاعتماد في الاعتقاد" (5) قلت: وارتكبت هذه الطامة الفنجفيرية أيضاً (6). الثالثة: أنها إن وردت في مخالفة العقل، فإن كانت نصاً لا تحتمل التأويل ردت وإن كانت ظاهرة فظاهرها غير مراد. المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني 1/ 544، 545   (1) انظر ((مختصر الصواعق)) (2/ 360 - 362). (2) ((انظر كتاب التوحيد للماتريدي)) (ص 9)، ((البداية من الكفاية للصابوني)) (ص 93)، ((المغني للخبازي)) (ص 195)، ((كشف الأسرار – شرح أصول البزدوي-)) للعلاء البخاري (1/ 84، 2/ 388)، ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص 17، 22)، ((المسايرة لابن الهمام مع شرحها)) لقاسم بن قطلوبغا (ص 203)، ((حاشية أحمد الجندي على شرح العقائد النسفية)) (ص 59، 68) ((حاشية الكفوي على شرح العقائد النسفية)) (ص 34)، ((إشارات المرام)) (ص 99)، ((النبراس)) (ص 88، 159)، و ((مقدمة الكوثري للعالم والمتعلم)) لأبي حنيفة (ص 7)، وتعليقاته على ((التنبيه والرد)) للملطي (ص 153). (3) ((كتاب التوحيد للماتريدي)) (ص 9)، ((البداية للصابوني)) (ص 93)، و ((المسايرة)) (ص 203)، ((كشف الأسرار)) (1/ 7)، ((إشارات المرام)) (ص 99)، ((شرح الفقه الأكبر)) للقاري (ص 90)، ((مقدمة الكوثري للعالم والمتعلم)) (ص 7)، وتعليقاته على ((التنبيه والرد)) للملطي (ص 153). (4) ((شرح العقائد النسفية)) (ص 138 - 139)، و ((حاشية الكستلي عليه)) (ص 170)، و ((النبراس)) (ص 448 - 449)، و ((البصائر لإمام الفنجفيرية)) (ص 2)، ((التبيان لكبيرهم)) (ص 64). (5) ((شرح الفقه الأكبر)) (ص 90)، وانظر ((البصائر)) (1 - 2)، و ((التبيان)) (ص 64 - 65). (6) ((شرح الفقه الأكبر)) (ص 90)، وانظر ((البصائر)) (1 - 2)، و ((التبيان)) (ص 64 - 65). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 المبحث الثالث: القول بالمجاز ذهبت الماتريدية كغيرها من الفرق الكلامية إلى القول بأن المجاز واقع في اللغة والقرآن والحديث، قال ابن الهمام: " المجاز واقع في اللغة والقرآن والحديث ... " (1). وقد نص على هذا غير واحد من أئمتهم وعلمائهم وهو أصل منهجي يعتمدون عليه في تقرير العقيدة وأصول الفقه (2). فهم يقسمون الألفاظ الدالة على معانيها إلى حقيقة ومجاز ويقصدون بالحقيقة اللفظ المستعمل فيما وضع له وبالمجاز اللفظ المستعمل في غير ما وضع له فالمجاز عندهم هو قسيم الحقيقة أي بمعنى الشيء المقابل للحقيقة والمجاز بهذا الاصطلاح كان له دور كبير في عقيدة الماتريدية ومن قبلها المعتزلة حيث اعتمدوا عليه في تأويلهم للنصوص والذي دفعهم لهذا هو اعتقادهم بأن حمل النصوص على معانيها الحقيقية يستلزم التجسيم والتشبيه لذلك نجدهم يستدلون على قولهم بالمجاز بقوله تعالى: اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة:15] ونحوها من الآيات ويقولون بأن الاستهزاء حقيقة لا يتصور منه تعالى فهو مجاز عن الجزاء المشابه له. قال البياضي في (إشارات المرام): " لما لم يكن حمل تلك النصوص على معانيها الحقيقية من الجوارح الجسمانية والتحيز والانفعالات النفسانية لمنع البراهين القطعية ولم يجز إبطال الأصل لعدم درك حقيقة الوصف بلا كيفية تحمل على المجاز من الصفات بلا كيفية .... " (3).وقال أيضا: " وإنما قالوا بالمجاز نفيا لوهم التجسيم والتشبيه ... " (4).   (1) ((التحرير)) (168)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (2/ 21). (2) انظر ((التوحيد)) للماتريدي (68، 69)، ((التأويلات)) (1/ل 12، 221)، (434، 703)، ((كشف الأسرار عن أصول البزدوي)) (1/ 61) وما بعدها، (2/ 45، 60 - 76)، ((شرح المنار)) للنسفي وحواشيه (370) وما بعدها، ((فتح الغفار بشرح المنار)) (1/ 117)، وما بعدها، ((التحرير)) لابن الهمام (160 - 186)، ((تيسير التحرير)) (2/ 2 - 63)، ((فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت بحاشية المستصفى)) للغزالي (1/ 211 - 229). (3) ((إشارات المرام)) (187). (4) ((إشارات المرام)) (189). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 والقول بالمجاز على اصطلاحهم قول مبتدع محدث لا أصل له فأئمة اللغة المتقدمون كالخليل بن أحمد وسيبويه وأبي عمرو بن العلاء لم يتكلموا فيه ولا يوجد فيما وصل إلينا من كتبهم وكلامهم أدنى إشارة إلى هذا الاصطلاح أو حتى إلى تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز. كما لا يوجد هذا التقسيم عند أئمة الفقهاء والأصوليين فالشافعي رحمه الله أول من تكلم في علم الأصول وقد وصل إلينا أهم كتبه في هذا العلم وهو (الرسالة) ولا يوجد في كتابه هذا أدنى إشارة إلى هذا التقسيم لا من قريب ولا من بعيد وكذلك الإمام محمد بن الحسن الشيباني في كتابه الجامع الكبير لم يتكلم فيه بلفظ الحقيقة والمجاز كما أنه لم ينقل هذا التقسيم عن أي واحد من الأئمة كمالك وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي وغيرهم (1).وأما قول الإمام أحمد رحمه الله في كتابه (الرد على الجهمية): "أما قوله تعالى: إِنَّا مَعَكْمْ فهذا في مجاز اللغة ... " (2). فإنه لم يقصد به المجاز الذي هو قسيم الحقيقة إنما قصد به أنه مما يجوز في اللغة والدليل على هذا قوله رحمه الله بعد كلامه هذا: " وأما قوله: قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] فهو جائز في اللغة يقول الرجل الواحد للرجل سأجري عليك رزقك أو سأفعل بك خيرا" (3). فمن يقول إن الإمام أحمد قال بالمجاز وبالتأويل بناء على ذلك فقد أخطأ ونسب إلى الإمام ما لم يقله والمطلع على مذهب الإمام أحمد وأصحابه المتقدمين يعرف خطأ من يقول بهذا (4). وما ذكره أبو عبيد في كتابه (مجاز القرآن) كذلك لم يقصد به المجاز الذي اصطلح عليه المتكلمون بل الذي قصده هو ما يجوز أن يعبر به عن الآية في اللغة فهو يستخدم المجاز بمعنى التفسير فهو يقول في قوله ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ [الأنعام:46] مجازه يعرضون وهكذا فكتابه إذا ما هو إلا تفسير لغريب القرآن.   (1) انظر ((الإيمان)) لابن تيمية (72). (2) ((الرد على الجهمية والزنادقة)) للإمام أحمد تحقيق عميرة (101). (3) ((الرد على الجهمية والزنادقة)) للإمام أحمد تحقيق عميرة (101). (4) انظر ((الإيمان)) (73). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 وعلى هذا فمن قال بأن الأئمة أو أهل اللغة المتقدمين قد نصوا على أن اللفظ ينقسم إلى حقيقة ومجاز قد افترى عليهم وتكلم بغير علم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من قال من الأصوليين ... إنه يعرف الحقيقة من المجاز بطرق منها نص أهل اللغة على ذلك بأن يقولوا هذا حقيقة وهذا مجاز فقد تكلم بلا علم فإنه ظن أن أهل اللغة قالوا هذا ولم يقل ذلك أحد من أهل اللغة ولا من سلف الأمة وعلمائها ... " (1).فالقول بالمجاز الذي هو قسيم الحقيقة قول محدث وقد حدث بعد القرون المفضلة وكان منشؤه من جهة المعتزلة كما نص على هذا شيخ الإسلام وتلميذه الإمام ابن القيم قال شيخ الإسلام بعد كلامه السابق: "وإنما هذا اصطلاح حادث والغالب أنه كان من جهة المعتزلة ونحوهم من المتكلمين ... " (2).وقال ابن القيم: " وإذا علم أن تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز ليس تقسيما شرعيا ولا عقليا ولا لغويا فهو اصطلاح محض وهو اصطلاح حدث بعد القرون الثلاثة المفضلة بالنص وكان منشؤه من جهة المعتزلة والجهمية ومن سلك طريقهم من المتكلمين .... " (3).ولعل أول من عرف عنه القول بالمجاز هو الجاحظ كما يشير إلى ذلك الشريف الرضى في كتابه (تلخيص البيان في مجازات القرآن) (4) كما نجد الجاحظ يستخدم المجاز بمعنى الشيء المقابل للحقيقة في عدة مواضع من كتابه (الحيوان) بل إن ابن جني يرى أن أكثر اللغة مجاز وهذا في غاية الفساد ومما يبين عدم صحة القول بالمجاز أصل وضع اللغة فالعرب كما يقول الإمام الشاطبي: " إنما عنايتها بالمعاني وإنما أصلحت الألفاظ من أجلها وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد والمعنى هو المقصود ولا أيضا كل المعاني فإن المعنى الإفرادي قد لا يعبأ به إذا كان المعنى التركيبي مفهوما دونه ... ولهذا أصل في الشريعة صحيح نبه عليه قوله تعالى: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177] إلى آخر الآية فلو كان فهم اللفظ الإفرادي يتوقف عليه فهم التركيبي لم يكن تكلفا بل هو مضطر إليه ... فإذا كان الأمر هكذا فاللازم الاعتناء بفهم معنى الخطاب لأنه المقصود والمراد وعليه يبنى الخطاب ابتداء " (5). والقول بالمجاز يصح كما يقول شيخ الإسلام " لو علم أن الألفاظ العربية وضعت أولا لمعان ثم بعد ذلك استعملت فيها فيكون لها وضع متقدم على الاستعمال وهذا إنما يصح على قول من يجعل اللغات اصطلاحية فيدعي أن قوما من العقلاء اجتمعوا واصطلحوا على أن يسموا هذا بكذا وهذا بكذا ويجعل هذا عاما في جميع اللغات وهذا القول لا نعرف أحدا من المسلمين قاله قبل أبي هاشم الجبائي ... والمقصود هنا أنه لا يمكن أحدا أن ينقل عن العرب بل ولا عن أمة من الأمم أنه اجتمع جماعة فوضعوا جميع هذه الأسماء الموجودة في اللغة ثم استعملوها بعد الوضع وإنما المعروف المنقول بالتواتر استعمال هذه الألفاظ فيما عنوه بها من المعاني ... فالمولود إذا ظهر منه التمييز سمع أبويه أو من يربيه ينطق باللفظ ويشير إلى المعنى أي أراد المتكلم به ذلك المعنى ثم هذا يسمع لفظا بعد لفظ حتى يعرف لغة القوم الذين نشأ بينهم من غير أن يكونوا قد اصطلحوا معه على وضع متقدم ... " (6).   (1) ((الإيمان)) (73). (2) ((الإيمان)) (73). (3) ((مختص الصواعق المرسلة)) (2/ 5). (4) ((تلخيص البيان في مجازات القرآن)) تحقيق محمد عبد الغني حسن 11، ط دار إحياء الكتب العربية القاهرة 1955م. (5) ((الموافقات)) (2/ 87، 88). (6) ((الإيمان)) (74، 75، 76). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 ومما يدل على فساد القول بالمجاز قول القائلين به " أن كل مجاز يجوز نفيه ويكون نافيه صادقا في نفس الأمر فتقول لمن قال رأيت أسدا يرمي ليس هو بأسد وإنما هو رجل شجاع فيلزم على القول بأن في القرآن مجازا أن في القرآن ما يجوز نفيه. ولا شك أنه لا يجوز نفي شيء من القرآن وهذا اللزوم اليقيني الواقع بين القول بالمجاز في القرآن وبين جواز نفي بعض القرآن قد شوهدت في الخارج صحته وأنه كان ذريعة إلى نفي كثير من صفات الكمال والجلال الثابتة لله في القرآن العظيم. وعن طريق القول بالمجاز توصل المعطلون لنفي ذلك فقالوا لا يد ولا استواء ولا نزول ونحو ذلك في كثير من آيات الصفات لأن هذه الصفات لم ترد حقائقها بل هي عندهم مجازات فاليد مستعملة عندهم في النعمة أو القدرة والاستواء في الاستيلاء والنزول نزول أمره ونحو ذلك فنفوا هذه الصفات الثابتة بالوحي عن طريق القول بالمجاز" (1). وأما زعمهم أن حمل النصوص على معانيها الحقيقية يستلزم التجسيم والتشبيه فلا ريب في بطلانه إذ إنه من المعلوم لكل مسلم أن " كل ما أخبر به الله يستحيل أن يلزم عليه باطل ... ولا يخفى على أحد أن الذي يقول إن الاستواء على العرش يلزمه مشابهة الحوادث أن إلزامه هذا اعتراض صريح على من أخبر بالاستواء وهو الله عز وجل. فليعلم مدعي لزوم الباطل لظاهر آيات الصفات أن اعتراضه على ربه ومن ظن أن ظواهر آيات الصفات دالة على اتصافه تعالى بصفات تشبه صفات الخلق فهو جاهل مفتر بل ظاهرها اتصافه بتلك الصفات المنزهة عن مشابهة صفات الحوادث. ومن أوضح الأدلة على أن آيات الصفات لم يرد بها شيء من المعاني التي يحملها عليه المتأولون أنها لو كان يراد بها ذلك لبادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيانه لأنه لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة إليه كما تقرر في الأصول ولا سيما في العقائد" (2).ورحم الله الإمام ابن حزم إذ يقول: " كيف يظن به عليه السلام أن يخبر عن ربه خبرا يكلفنا فهمه وهو بخلاف ما يفهم ويعقل ويشاهد ويحس ما ينسب هذا إليه صلى الله عليه وسلم إلا ملحد في الدين كائد" (3). فالقول بالمجاز على اصطلاح هؤلاء في القرآن أو الحديث أو اللغة قول مبتدع محدث لا أصل له لا في اللغة ولا في الشرع والقوم قالوا به ليتخذوه مطية لتعطيل النصوص عما دلت عليه من المعاني. والذين يقولون من أهل السنة بجواز وقوع المجاز في القرآن أو الحديث أو اللغة من الأصوليين واللغويين وغيرهم لم يدركوا حقيقة المسألة وأصل نشأتها وبعدها العقدي وهم في قولهم هذا مخالفون لمنهج أهل السنة والجماعة موافقون لمنهج المتكلمة من المعتزلة وغيرهم. المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص 155 - 161   (1) ((منع جواز المجاز)) للشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله 8، 9، وانظر له أيضا مذكرة في أصول الفقه (57، 58). (2) ((منع جواز المجاز)) (61). (3) ((الإحكام في أصول الأحكام)) (4/ 540، 541). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 المبحث الرابع: معرفة الله واجبة عندهم بالعقل قبل ورود السمع ذهبت الماتريدية إلى أن معرفة الله تجب بالعقل قبل ورود السمع وأن الإنسان يتحمل مسؤولية هذه المعرفة قبل بعثة الأنبياء والرسل ولا يكون معذورا بتركها بل يعاقب على تركه لها وقد صرح بذلك غير واحد من علمائهم صرح به الماتريدي في تفسيره لقوله تعالى لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] حيث ذكر أن حقيقة الحجة إنما هي في العبادات والشرائع التي سبيل معرفتها الرسل أما معرفة الله فإن سبيل لزومها العقل فلا يكون لهم في ذلك على الله حجة (1).وذكر غير واحد من الماتريدية أن الماتريدي أوجب معرفة الله تعالى بالعقل على الصبي العاقل (2). وقال أبو المعين النسفي: " من لم يبلغه الوحي وهو عاقل ولم يعرف ربه هل يكون معذورا أم لا؟ عندنا لا يكون معذورا ويجب عليه أن يستدل بأن للعالم صانعا ... " (3). وقال الأوشي في منظومته: وما عذر لذي عقل بجهل ... بخلاق الأسافل والأعالي (4) وقال صاحب (نظم الفرائد): "ذهب جمهور مشايخ الحنفية إلى أنه تعالى لو لم يبعث إلى الناس رسولا لوجب عليهم بعقولهم معرفة وجوده تعالى ووحدته واتصافه بما يليق .... " (5).   (1) انظر ((تأويلات أهل السنة)) (1/ل 444)، نسخة دار الكتب المصرية (ل 121)، الظاهرية، والتوحيد (102، 129، 130، 185، 224). (2) انظر مثلا ((التحرير في أصول الفقه)) لابن الهمام (24)، ((الروضة البهية)) (37). (3) ((بحر الكلام)) (140) وانظر (5، 6). (4) ((نثر اللآلي على نظم الأمالي)) لعبد الحميد بن عبد الله الآلوسي 204. (5) ((نظم الفرائد)) لعبد الرحيم بن علي الشهير بشيخ زادة 35. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 والحق والصواب في هذه المسألة أن وجوب معرفة الله تعالى ثابت بالعقل والسمع " والقرآن على هذا يدل فإنه يذكر الأدلة والبراهين العقلية على التوحيد ويبين حسنه وقبح الشرك عقلا وفطرة ويأمر بالتوحيد وينهى عن الشرك ولهذا ضرب الله سبحانه الأمثال وهي الأدلة العقلية وخاطب العباد بذلك خطاب من استقر في عقولهم وفطرهم حسن التوحيد ووجوبه وقبح الشرك وذمه والقرآن مملوء بالبراهين العقلية الدالة على ذلك كقوله: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر:29] وقوله: ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [النحل:75] وقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:73 - 74] إلى أضعاف ذلك من براهين التوحيد العقلية التي أرشد إليها القرآن ونبه عليها. ولكن ههنا أمر آخر وهو أن العقاب على ترك هذا الواجب يتأخر إلى حين ورود الشرع كما دل عليه قوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15] وقوله: تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ [الملك:8 - 9] وقوله: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص:59] وهذا في القرآن كثير يخبر أن الحجة إنما قامت عليهم بكتابه ورسوله كما نبههم بما في عقولهم وفطرهم من حسن التوحيد والشكر وقبح الشرك والكفر" (1).فمعرفة الله تعالى إذا واجبة بالعقل والسمع " فالعقل يوجبه بمعنى اقتضائه لفعله وذمه على تركه وتقبيحه لضده والسمع يوجبه بهذا المعنى ويزيد إثبات العقاب على تركه والإخبار عن مقت الرب تعالى لتاركه وبغضه له" (2). فثبوت الحجة إذا وترتب العقاب على ذلك لا يكون إلا بعد ورود السمع وهذا هو الذي قد دل عليه الكتاب والعقل الصحيح، كما تقدم بيانه. فظهر بهذا أن قول الماتريدية وهو قول المعتزلة من قبل أن معرفة الله واجبة بالعقل قبل ورود السمع وأن العبد يعاقب على تركها قول باطل ظاهر البطلان لمعارضته نص الكتاب وصريح العقل. وحقيقة قول الماتريدية هذا أن إرسال الرسل وعدم إرسالهم سواء. وهذا قول تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا [مريم:90] ولا يقول له من في قلبه ذرة إيمان فكيف ترضى الماتريدية بذلك. المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص 147 - 150   (1) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/ 488 - 490). (2) (مدارج السالكين)) (3/ 490)، وانظر ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) لأبي نصر السجزي (105 - 108، 167)، ((صون المنطق)) (178 - 180)، (درء تعارض العقل والنقل) (9/ 38، 39)، ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/ 247، 248)، ((النبوات)) (239، 240)، ((طريق الهجرتين)) (413)، ((إيثار الحق)) (109). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 المبحث الخامس: القول بالتحسين والتقبيح العقليين ومن القواعد والأسس المنهجية التي يقوم عليها منهج الماتريدية في تقرير العقيدة القول بالتحسين والتقبيح العقليين فقد ذهبت الماتريدية إلى أن العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها فقد ذهبت الماتريديةإلى أن العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها كما قالت المعتزلة من قبل إلا أنهم خالفوهم في المسائل المبنية على القول بالتحسين والتقبيح العقليين كالقول بوجوب الصلاح والأصلح ونحو ذلك. واختلفت الماتريدية فيما بينها في الجزم بحكم الله في الفعل بمجرد إدراك العقل للحسن والقبح فيه فجمهور الماتريدية وعلى رأسهم الماتريدي يذهبون إلى أن حكم الله يجزم به في بعض الأفعال دون بعض قبل ورود السمع كالإلهيات والنبوات وأما السمعيات والشرائع فلا تدرك إلا بالسمع. وأما أئمة بخارى فذهبوا إلى أن العقل لا يقضي بما أدركه من حسن الفعل وقبحه بحكم الله تعالى فيه إلا بعد ورود الشرع. قال ابن الهمام: " قالت الحنفية قاطبة بثبوت الحسن والقبح للفعل على الوجه الذي قالته المعتزلة ثم اتفقوا على نفي ما بنته المعتزلة على إثبات الحسن والقبح للفعل من القول بوجوب الأصلح ... ووجوب الرزق والثواب على الطاعة والعوض في إيلام الأطفال والبهائم ... واختلفوا هل يعلم باعتبار العلم بثبوتهما في فعل حكم الله في ذلك الفعل تكليفا، فقال الأستاذ أبو منصور وعامة مشايخ سمرقند نعم وجوب الإيمان بالله وتعظيمه وحرمة نسبة ما هو شنيع إليه وتصديق النبي عليه السلام وهو معنى شكر المنعم ... وقال أئمة بخارى منهم لا يجب إيمان ولا يحرم كفر قبل البعثة ... إذ لا يمتنع أن لا يأمر الباري بالإيمان ولا يثيب عليه وإن كان حسنا ولا ينهى سبحانه عن الكفر ولا يعاقب عليه وإن كان قبيحا والحاصل أن لا يمتنع عدم التكليف عقلا إذ لا يحتاج سبحانه إلى الطاعة ... ولا يتضرر بالمعصية ... " (1). وقول الماتريدية بالتحسين والتقبيح العقليين راجع إلى أن العقل عندهم هو أصل المعرفة فلذلك كان أصلا للسمع وكان مقدما عليه عند التعارض فيتفقون في هذا مع المعتزلة ويقابلهم الأشاعرة فإنهم ينفون الحسن والقبح العقليين ويجعلون حسن الأشياء وقبحها راجعا إلى الشرع لا إلى صفات قائمة بالأعيان والأفعال فهذان المذهبان على طرفي نقيض والحق وسط بينهما. المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص 151، 152 وخلاصة القول أن الماتريدية يوافقون المعتزلة في إثبات الحسن والقبح الذاتيين للأفعال وأن العقل يدرك الحسن والقبح في بعض الأفعال فيدرك القبح المناسب لترتب حكم الله تعالى بالمنع من الفعل على وجه ينتهض معه الإتيان بذلك الفعل سببا للعقاب ويدرك الحسن المناسب لترتب حكمه تعالى فيه بالإيجاب والثواب على فعله والعقاب على تركه. إلا أن أئمة بخارى- وإن أثبتوا الحسن والقبح العقليين- متفقون مع الأشاعرة في أنه لا يجب إيمان ولا يحرم كفر قبل البعثة.   (1) ((المسايرة)) (154 - 161)، ط بولاق (26 - 28) ط1 الكردي 1347هـ، ملحقة بالمسامرة وانظر ((التوحيد)) للماتريدي (221، 223، 224)، ((التأويلات)) (1/ل 202، 638، 767) دار الكتب، ((أصول الدين)) للبزدوي (92)، ((تبصرة الأدلة)) للنسفي (ل 280 - 282)، ((التمهيد)) (43، 44)، ((كشف الأسرار عن أصول البزدوي)) لعلاء الدين البخاري (4/ 229)، ((إشارات المرام)) (76)، ((رسالة عمر الهاتفي في الفرق بين الأشاعرة والماتريدية)) (ل6)، ((نظم الفوائد)) (31)، ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) أبو زهرة 179. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 كما أن جميع الماتريدية يخالفون المعتزلة في وجوب الصلاح واللطف وغيرها من الأمور التي أوجبها المعتزلة على الله تفريعا على قولهم بالحسن والقبح العقليين. المصدر: الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى لمحمد ربيع هادي المدخلي- ص 94 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الناس في مسألة التحسين والتقبيح على ثلاثة أقوال طرفان ووسط: الطرف الأول: قول من يقول بالحسن والقبح ويجعل ذلك صفات ذاتية للفعل لازمة له ولا يجعل الشرع إلا كاشفا عن تلك الصفات لا سببا لشيء من الصفات فهذا قول المعتزلة وهو ضعيف. وأما الطرف الآخر في مسألة التحسين والتقبيح فهو قول من يقول إن الأفعال لم تشتمل على صفات هي أحكام ولا على صفات هي علل للأحكام بل القادر أمر بأحد المتماثلين دون الآخر لمحض لا لحكمة ولا لرعاية مصلحة في الخلق والأمر ... وهذا القول ولوازمه هو أيضا قول ضعيف مخالف للكتاب والسنة ولإجماع السلف والفقهاء مع مخالفته أيضا للمعقول الصريح" ثم قال: "وقد ثبت بالخطاب والحكمة الحاصلة من الشرائع ثلاثة أنواع: أحدها: أن يكون الفعل مشتملا على مصلحة أو مفسدة ولو لم يرد الشرع بذلك كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم والظلم يشتمل على فسادهم فهذا النوع هو حسن وقبيح وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك لا أنه أثبت للفعل صفة لم تكن لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقبا في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك وهذا مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح فإنهم قالوا إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة ولو لم يبعث إليهم رسولا وهذا خلاف النص قال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص:59] والنصوص الدالة على أن الله لا يعذب إلا الرسالة كثيرة ترد على من قال من أهل التحسين والتقبيح أن الخلق يعذبون في الأرض بدون رسول أرسل إليهم. النوع الثاني: أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسنا وإذا نهى عن شيء صار قبيحا واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع. النوع الثالث: أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن العبد هل يطيعه أم يعصيه ولا يكون المراد فعل المأمور به كما أمر إبراهيم بذبح ابنه فلما أسلما وتله للجبين حصل المقصود ففداه بالذبح وكذلك حديث أبرص وأقرع وأعمى لما بعث إليهم من سألهم الصدقة فلما أجاب الأعمى "قال الملك: أمسك عليك مالك فإنما ابتليتم فرضي عنك وسخط على صاحبيك" (1).فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة وزعمت أن الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع والأشعرية ادعوا أن جميع الشريعة من قسم الامتحان وأن الأفعال ليست لها صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع وأما الحكماء والجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة وهو الصواب " (2). فإطلاق القول في مسألة التحسين والتقبيح بأنهما عقليان أو شرعيان غير صحيح والحق والصواب في المسألة هو التفصيل كما بينه ووضحه شيخ الإسلام ابن تيمية في كلامه المتقدم. المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص 152 - 154   (1) رواه البخاري (2052). (2) ((الفتاوى)) (8/ 432 - 436)، وانظر ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (165، 166)، ((منهاج السنة)) ت محمد رشاد سالم (1/ 448 - 451)، ((الرد على المنطقيين)) (422)، ((الفتاوى)) (17/ 198 - 205)، ((مدارج السالكين)) (1/ 230) وما بعدها، (3/ 491)، ((مفتاح دار السعادة)) (367) وما بعدها، ((الصواعق المرسلة)) (495)، ((لوامع الأنوار البهية)) (1/ 284)، ((إيثار الحق)) (377)، ((العلم الشامخ)) (109) وما بعدها ((جلاء العينين)) (247)، ((الحكمة والتعليل في أفعال الله)) المدخلي (78 - 105). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 المبحث السادس: التأويل والتفويض وبعد أن عرفنا أن مصدر تلقى العقيدة عند الماتريدية في العقليات هو العقل فالعقل حاكم وأصل، والنقل تبع له وفرع له؛ فإذا ورد النقل على خلاف العقل لابد من أن يرد أو يحرف بتأويله وصرفه عن ظاهره، وأما في السمعيات فمصدر تلقي العقيدة عندهم هو النقل. ولما قسموا هذه القسمة الضيزي، وأصلوا هذا الأصل الفاسد، بنوا عليه موقفهم الفاسد من نصوص الكتاب والسنة الصحيحة المحكمة الصريحة الواردة في صفات الله تعالى، بنوعيها من المتواترات، وأخبار الآحاد. أما المتواترات: كنصوص القرآن الكريم، والسنة المتواترة - فحكموا عليها بأنها وإن كانت قطعية الثبوت، ولكنها ظنية الدلالة؛ لأنها أدلة لفظية، وظواهر ظنية لا تفيد اليقين، وأنها تخالف البراهين القطعية العقلية، وأن الأدلة العقلية براهين قطعية، وعند التعارض تقدم الأدلة العقلية، لأنها الأصل (1).وأن الأدلة السمعية إما أن يفوض فيها، وإما أن تؤول (2)، وأما البراهين العقلية فتأويلها محال" (3). وقد ساق التفتازاني فيلسوف الماتريدية عدة آيات الصفات ثم ذكر قانوناً كلياً في الجواب عن تلك الآيات فقال:"والجواب أنها ظنيات سمعية في معارضة قطعيات عقلية، فيقطع بأنها ليست على ظاهرها، ويفوض العلم بمعانيها إلى الله مع اعتقاد حقيتها جرياً على الطريق الأسلم ... ، أو تؤول تأويلات مناسبة موافقة لما عليه الأدلة العقلية على ما ذكر في كتب التفاسير، وشروح الأحاديث، سلوكاً للطريق الأحكم - يعني طريقة المتكلمين على زعمه الفاسد -" (4).وقال الجرجاني: " ... ولا يجوز التعويل في إثباته - أي الاستواء- على الظاهر من الآيات والأحاديث مع قيام الاحتمال المذكور، هو أن المراد به الاستيلاء ... " (5). وقال: "والحق أنها أي الدلائل النقلية قد تفيد اليقين في الشرعيات، نعم في إفادتها في العقليات نظر".ثم قال: (فلا جرم كانت إفادتها في العقليات محل نظر وتأمل) (6). ثم قال: "وقد جزم الإمام الرازي بأنه لا يجوز التمسك بالأدلة النقلية في المسائل العقلية، نعم يجوز التمسك بها في المسائل النقلية". ولقد ساق الزبيدي نصوص صفتي الاستواء والنزول، وسماها "ظواهر"، ثم ذكر قانوناً كلياً معروفاً عند الماتريدية وزملائهم الأشعرية في الجواب عن نصوص الصفات فقال: "وأجيب عنه بجواب إجمالي هو كالمقدمة للأجوبة التفصيلية:   (1) انظر شرح ((المقاصد)) (2/ 50)، وشرح ((العقائد السلفية)) (ص 5، 42)، شرح ((المواقف)) (8/ 24، 110، 111)، ((حاشية عبدالحكيم على حاشية الخيالي على شرح العقائد النسفية)) (ص 184)، و ((حاشية أحمد الجندي على شرح العقائد النسفية)) (ص 110)، ((إشارات المرام)) (ص 189، 199)، ((نشر الطوالع)) (ص 228)، و ((شرح الإحياء)) (2/ 105 - 106)، و ((النبراس)) (ص 34، 185، 137)، و ((براءة الأشعريين)) (ص 80). (2) انظر ((البداية من الكفاية)) (ص 48)، شرح ((العقائد النسفية)) (ص 42)، شرح ((المقاصد)) (2/ 50)، ((عمدة القاري)) (25/ 88، 90، 109، 134، 137، 159، 168) و ((المسايرة مع شرح قاسم بن قطلوبغا)) ص (35 - 36)، ((نشر الطوالع)) (ص 228، 229) ((حاشية أحمد الجندي على شرح العقائد)) (ص 101)، ((شرح الإحياء)) (2/ 105 - 106)، ((النبراس)) (ص 185 - 186) ((تبصرة الأدلة)) (ص 54 - 55). (3) ((نشر الطوالع)) (ص 282). (4) ((شرح المقاصد)) (2/ 50)، وانظر ((شرح العقائد النسفية)) (ص 42)، و ((النبراس)) (ص 184 - 185)، و ((براءة الأشعريين)) (ص 80) ((شرح المقاصد)) (4/ 50)، تحقيق عميرة. (5) ((شرح المواقف)) (8/ 110 - 111). (6) ((شرح المواقف)) (2/ 56 - 57). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 وهو أن الشرع إنما ثبت هذه الدلالة بالعقل، فلو أتى الشرع بما يكذبه العقل وهو شاهده لبطل الشرع والعقل، معاً. إذا تقرر هذا، فنقول: كل لفظ يرد في الشرع مما يستند إلى الذات المقدسة بأن يطلق اسماً، أو صفة لها، وهو مخالف للعقل، ويسمى المتشابه، لا يخلو إما أن يتواتر، أو ينقل آحاداً، والآحاد إن كان نصاً لا يحتمل التأويل قطعنا بافتراء ناقله، أو سهوه، أو غلطه، وإن كان ظاهراً فظاهره، غير مراد، وإن كان متواتراً فلا يتصور أن يكون نصاً لا يحتمل التأويل، بل لابد وأن يكون ظاهراً، وحينئذ الاحتمال الذي ينفيه العقل ليس مراداً منه" (1). وهكذا موقفهم من نصوص أخرى في صدور الصغائر عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وتوبتهم عنها، فهي أيضاً إما أن تُرد وإما أن تحرف فيذكرون قانونهم الكلي قائلين:" ... فما نقل عن الأنبياء عليهم السلام مما يشعر بكذب أو معصية، فما كان منقولاً بطريق الآحاد فمردود، وما كان بطريق التواتر فمصروف عن ظاهره إن أمكن، وإلا فمحمول على ترك الأولى، أو كونه قبل البعثة" (2).قلت: هذا الذي ذكرنا من موقفهم من المتواترات، وأن العقل أصل والنقل فرع فلابد من صرف النقل عن ظاهره، ولا يجوز التمسك بظاهره، هو بعينه موقف الجهمية الأولى والمعتزلة (3)، بل القرامطة الباطنية من نصوص الشرع. وهذه حقيقة اعترف بها الماتريدية (4)، ولذلك نرى تأويلات الماتريدية عين تأويلات الجهمية الأولى والمعتزلة (5). وللماتريدية وزملائهم الأشعرية موقف آخر أضرّ من الأول مأخوذ من القرامطة الباطنية كما صرح به ابن سينا الحنفي المتفلسف الباطني القرمطي (428هـ) وهو أن نصوص الصفات في الكتب السماوية والأحاديث النبوية ليست جادة في بيان الاعتقاد ولا القصد منها اعتقاد ما تدل عليه من صفات الله تعالى بل القصد منها استدراج العوام المشبهة لأن ذلك أنسب لدعوتهم إلى التنزيه لئلا يتبادروا إلى الإنكار والعناد. وهذا من الأدلة الواضحة على أن مادة الماتريدية هذه مأخوذة عن الجهمية الأولى بل عن القرامطة الباطنية ابن سينا من الملاحدة والزنادقة. هذا هو بيان موقفهم من النصوص المتواترات. المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني 1/ 540 - 544 فالتأويل والتفويض إذا هما أصل من الأصول المنهجية التي يقوم عليها منهج الماتريدية في تقرير العقيدة وقد صرح الماتريدي بأن النصوص لا تحمل على ظواهرها بل يجب أن تفهم على المعنى الذي يفهمونه ويتصورونه هم من النصوص قال في (التأويلات): "إن الخطاب قد لا يوجب المراد والفهم على ظاهر المخرج ولكن على مخرج الحكمة والمعنى" (6).   (1) ((شرح الإحياء)) (2/ 105 - 106)، انظر من كتب الأشعرية ((أساس التقديس)) (ص 72 - 73)، و ((المسامرة شرح المسايرة)) (ص 33). (2) انظر ((شرح العقائد النسفية)) (ص 140)، و ((شرح المواقف)) (8/ 268)، ((شرح الشفاء)) (2/ 200)، ((شرح الفقه الأكبر)) (ص 93)، كلاهما للقاري، ((حاشية الكستلي على شرح العقائد)) (ص 171 - 172)، ((النبراس)) (ص 455 - 457)، وانظر من كتب الأشعرية ((المواقف)) (ص 361). (3) انظر ((شرح الأصول الخمسة)) (ص 226)، و ((متشابه القرآن)) (ص 105، 231، 236) كلاهما لعبد الجبار. (4) انظر: ((شرح المواقف)) (2/ 51 - 52). (5) انظر ((شرح الأصول الخمسة)) (ص 226 – 230)، و ((متشابه القرآن)) (ص 73، 75، 230، 231، 351، 374، 380، 381، 403، 620، 631، 663). (6) ((التأويلات)) (1/ل 977) دار الكتب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 كما أن أبا المعين النسفي قد صرح بهذا في (التبصرة) و (التمهيد). قال في (التبصرة): " إن هذه الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة المروية التي يوهم ظاهرها التشبيه وكون الباري جسما متبعضا متجزيا كانت كلها محتملة لمعان وراء الظاهر والحجج المعقولة ... غير محتملة، والعقول من أسباب المعارف وهي حجة الله تعالى وفي حمل هذه الآيات على ظواهرها ... إثبات المناقضة بين الكتاب والدلائل المعقولة وهي كلها حجج الله تعالى ومن تناقضت حججه فهو سفيه جاهل ... والله تعالى حكيم لا يجوز عليه السفه ... فحمل تلك الدلائل السمعية على ظواهرها كان محالا ممتنعا" (1).وقال في موضع آخر: "إن حمل الآيات على ظواهرها والامتناع عن صرفها إلى ما يحتمله من التأويل يوجب تناقضا فاحشا في كتاب الله تعالى ... فلا يجوز أن يفهم مما أضيف من الألفاظ إلى الله تعالى ما يستحيل عليه ويجب صرفه إلى ما لا يستحيل عليه أو تفويض المراد إليه والإيمان بظاهر التنزيل مع صيانة العقيدة عما يوجب شيئا من أمارات الحدث فيه ... " (2).والماتريدية كغيرهم من المتأولة لا يوجد لديهم قانون مستقيم في التأويل ولا في التفويض فالماتريدي يؤول بعض النصوص ويجزم بتأويله إياها أي أنه يقطع بأن تأويله هو المعنى المراد من اللفظ كتأويله قوله تعالى: اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة:15] وقوله: يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142] وقوله: وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللهُ [آل عمران:54] كما أنه يؤول كثيرا من النصوص ولا يجزم ولا يقطع بتأويله لها كما في تأويله لصفة الاستواء والوجه والعينين واليدين ونحوهما من الصفات ويلجأ إلى التفويض في نصوص أخرى كتفويضه لصفة المجيء (3). والماتريدية بعد الماتريدي اختلفوا فمنهم من رجح التأويل ومنهم من رجح التفويض ومنهم من أجاز الأمرين ومنهم من أجاز التأويل للحاجة. فأبو القاسم الحكيم السمرقندي يرى التفويض مطلقا فهو يقول بعد ذكره لبعض النصوص الخبرية: " فينبغي له - أي للعبد - أن يعتقد ويؤمن بها ولا يفسرها لأن تفسيرها يدخل في مذهب التعطيل ... وإذا رأيت آية المتشابه فدع ذلك إلى الله تعالى ولا تفسره حتى تنجو لأنه ليس فرضا عليك أن تعرف تفسيره بل الفرض عليك أن تؤمن به " (4). وذهب أبو المعين النسفي إلى جواز كل من التأويل والتفويض كما أنه ذكر اختلاف مشايخ الماتريدية في ذلك وكذا البياضي وغيره.   (1) ((تبصرة الأدلة)) (ل77، 78)، ((التمهيد)) (19). (2) ((تبصرة الأدلة)) (ل110، 111،113،) ((التمهيد)) (19). (3) ((التأويلات)) (1/ل654)، (ل396)، دار الكتب، وانظر ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (4/ 192)، ((أبجد العلوم)) لصديق حسن خان (2/ 141). (4) ((السواد الأعظم)) (27)، ((سلام الأحكم)) (153، 154). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 قال أبو المعين: " اختلف مشايخنا رحمهم الله منهم من قال في هذه الآيات - أي آيات الصفات الخبرية - إنها متشابهة نعتقد فيها أن لا وجه لإجرائها على ظواهرها ... ولا نشتغل بتأويلها ونعتقد أن ما أراد الله تعالى بها حق ... ومنهم من اشتغل ببيان احتمال الآيات معاني مختلفة سوى ظاهرها ويقولون نعلم أن المراد بعض ما يحتمل بها الألفاظ من المعاني التي لا تكون منافية للتوحيد والقدم ولا يقطعون على مراد الله تعالى لانعدام دليل يوجب القطع على المراد وتعيين بعض المعاني ... " (1).ثم قال: " فلا يجوز أن يفهم مما أضيف من الألفاظ إلى الله تعالى ما يستحيل عليه ويجب صرفه إلى ما لا يستحيل عليه أو تفويض المراد إليه والإيمان بظاهر التنزيل مع صيانة العقيدة عما يوجب شيئا من أمارات الحدث ... " (2).وقال في التمهيد بعد ذكره لآيات الصفات: " فإما أن نؤمن بتنزيلها ولا نشتغل بتأويلها ... وإما أن تصرف إلى وجه من التأويل يوافق التوحيد" (3). وذهب الناصري إلى القول بالتفويض ونسب القول به إلى مشايخ الماتريدية بإطلاق وبدون تفصيل. قال: ومن أراد أن يعرف الحق فعليه التمسك بالأدلة الموجبة للعلم قطعا ... وما اشتبه عليه من متشابهات الكتاب والخبر المتواتر فيؤمن بمراد الله تعالى ومراد رسوله منها وينفي عن الله مشابهة الخلق عملا بالنص المحكم وهو قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]. ويصفه بما وصف نفسه في سورة التوحيد والإخلاص ويعتقد أن الله قديم حكيم لم ينزل كتابه متناقضا ولا بعث رسوله بدين متناقض .... " (4).وقال أيضا: "والمذهب عند أصحابنا رحمهم الله أن كل ما ثبت بالكتاب والسنة الواضحة ولا يتعلق به العمل فإنه لا يجب الاشتغال بتأويله بل يجب الاعتقاد بثبوته وحقية المراد بذكره ووروده " (5).ويرى ابن الهمام التأويل فيما دعت الحاجة إليه وذلك إذا خيف على العوام أن يقع خلل في فهمهم فهو يقول مثلا في الاستواء: "أنه تعالى استوى على العرش مع الحكم بأنه ليس كاستواء الأجسام على الأجسام من التمكن والمماسة والمحاذاة بل بمعنى يليق به هو سبحانه أعلم به وحاصله وجوب الإيمان بأنه استوى على العرش مع نفي التشبيه فأما كون المراد أنه استيلاؤه على العرش فأمر جائز الإرادة إذ لا دليل على إرادته عينا فالواجب عينا ما ذكرنا وإذا خيف على العامة عدم فهم الاستواء إذا لم يكن بمعنى الاستيلاء إلا باتصال ونحوه من لوازم الجسمية وأن لا ينفوه فلا بأس بصرف فهمهم إلى الاستيلاء .... " (6).وأما ابن قطلوبغا فيرى أن التفويض أليق بالعوام والتأويل أليق بأهل النظر والاستدلال قال في حاشيته على (المسايرة): "فاللائق بالعوام سلوك طريق التسليم واللائق بأهل النظر طريق التأويل لدفع تمسكات المبتدعة " (7).   (1) ((تبصرة الأدلة)) (ل110، 111)، وانظر ((أصول الدين)) للبزدوي (25، 26). (2) ((تبصرة الأدلة)) (ل 113). (3) ((التمهيد)) (19)، وانظر ((إشارات المرام)) (187، 189)، (نظم الفرائد)) (24). (4) ((النور اللامع)) (ل 70). (5) ((النور اللامع)) (ل 96). (6) ((المسايرة)) (30، 32، 33)، و ((انظر إشارات المرام)) (189.) (7) ((المسايرة)) (33). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 فالماتريدية إذا ليس لهم قانون مستقيم في التأويل ولا في التفويض فأقوالهم فيه مختلفة مضطربة .... والتأويل على اصطلاح الماتريدية وغيرها من الفرق الكلامية ... قول مبتدع محدث لا يعرف عن أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أئمة المسلمين ولا عن أحد من أهل اللغة المتقدمين (1). والتأويل بهذا الاصطلاح ما هو إلا منهج عقلي ظهر بظهور بدعة نفي الصفات والقدر على يد الجهمية والمعتزلة فقد ورد عن بعض رءوس الجهمية أنه قال: " ليس شيء أنقض لقولنا من القرآن فأقروا به في الظاهر ثم صرفوه بالتأويل ويقال إنه قال إذا احتجوا عليكم بالحديث فغالطوهم بالتأويل" (2). والذي يغلب على الظن كما أن القول بنفي الصفات انتقل إلى الجهمية والمعتزلة من طريق اليهود والنصارى فكذا القول بالتأويل، إذ إن التأويل بهذا الاصطلاح كان معروفا عند اليهود والنصارى قبل ظهوره على يد الجهمية والمعتزلة ففي اليهودية ارتبط التأويل باسم (فايلو الإسكندراني) الذي كان ينفي الصفات الخبرية التي وردت في التوراة ويؤكد على وجوب تفسيرها تفسيرا مجازيا وفق قوانين التأويل المجازي التي حددها هو بنفسه. وسار على نهج فايلو عدد من لاهوتي اليهود في العصور الإسلامية منهم سعدايا الفيومي وموسى بن ميمون الذي أكد في كتابه (دلالة الحائرين) أن السبب الرئيسي الذي أدى إلى ظهور التشبيه هو التمسك بظاهر الصفات الخبرية التي وردت في التوراة وتفسيرها بالحقيقة دون المجاز (3). وفي النصرانية ظهر القول بالتأويل المجازي على يد كلمانت الإسكندري وأوريجين والقديس أوغسطين واشتهر به أيضا يوحنا الدمشقي الذي يعتبر من أكبر آباء الكنيسة الشرقية وقد كان له دور كبير في ظهور الجدل العقلي بين المسلمين بل يعده كثير من الباحثين المسؤول الأول عن ظهور الجدل العقلي في البيئة الإسلامية (4). ولقد كان التأويل أصل كل بدعة ظهرت بين المسلمين كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله في نونيته: هذا وأصل بلية الإسلام من ... تأويل ذي التحريف والبطلان وهو الذي قد فرق السبعين بل ... زادت ثلاثا قول ذي البرهان إلى أن قال رحمه الله: وجميع ما في الكون من بدع ... وأحداث تخالف موجب القرآن فأساسها التأويل ذو البطلان لا ... تأويل أهل العلم والعرفان فجميع ما أحدث في الإسلام من بدع فرقت الأمة شذر مذر أصله وسببه هو التأويل الباطل الذي هو في الحقيقة تحريف وتعطيل لنصوص الكتاب والسنة. وقول الماتريدية وغيرهم من المتكلمين بالتأويل ظاهر الفساد لكل عاقل ومما يدل على فساده تناقضهم فيه والقول المتناقض بطبيعة الحال قول فاسد لذا كان الطبيب ابن النفيس يقول ليس إلا مذهبان مذهب أهل الحديث أو مذهب الفلاسفة فأما هؤلاء المتكلمون فقولهم ظاهر التناقض والاختلاف (5) ... وهو بهذا "يعني أن أهل الحديث أثبتوا كل ما جاء به الرسول وأولئك جعلوا الجميع تخييلا وتوهيما ومعلوم بالأدلة الكثيرة السمعية والعقلية فساد مذهب هؤلاء الملاحدة فتعين أن يكون الحق مذهب السلف أهل الحديث والسنة والجماعة" (6).   (1) انظر ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 14، 15، 205، 206)، ((الإمام ابن تيمية وموقفه من التأويل)) الجليند 27 - 50، ((ظاهرة التأويل وصلتها باللغة)) السيد أحمد عبد الغفار 15 - 33. (2) ((الدرء)) (5/ 217، 218)، ((الصواعق المرسلة)) (4/ 1433). (3) ((دلالة الحائرين)) (123)، وانظر (81 - 87، 107، 108). (4) انظر ((دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية)) عرفان عبد الحميد (216، 217)، ((ابن تيمية وموقفه من قضية التأويل)) الجليند (202 - 206). (5) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 203). (6) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 203). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 لهذا لم يكن لهم قانون مستقيم في التأويل فلا يستطيعون أن يفرقوا بين النصوص التي تحتاج إلى تأويل والتي لا تحتاج إليه فهم كما يقول شيخ الإسلام: " يوجبون التأويل في بعض السمعيات دون بعض وليس في المنتسبين إلى القبلة بل ولا في غيرهم من يمكنه تأويل جميع السمعيات. وإذا كان كذلك قيل لهم ما الفرق بين ما جوزتم تأويله فصرفتموه عن مفهومه الظاهر ومعناه البين وبين ما أقررتموه؟ فهم بين أمرين إما أن يقولوا ما يقوله جمهورهم إن ما عارضه عقلي قاطع تأولناه وما لم يعارضه عقلي قاطع أقررناه. فيقال لهم: فحينئذ لا يمكنكم نفي التأويل عن شيء فإنه لا يمكنكم نفي جميع المعارضات العقلية ... وأيضا فعدم المعارض العقلي القاطع لا يوجب الجزم بمدلول الدليل السمعي فإنه على قولكم إذا جوزتم على الشارع أن يقول قولا له معنى مفهوم وهو لا يريد ذلك لأن في العقليات الدقيقة التي لا تخطر ببال أكثر الناس أو لا تخطر للخلق في قرون كثيرة ما يخالف ذلك جاز أن يريد بكلامه ما يخالف مقتضاه بدون ذلك لجواز أن يظهر في الآخرة ما يخالف ذلك أو لكون ذلك ليس معلوما بدليل عقلي ونحو ذلك فإنه إذا جاز أن يكون تصديق الناس له فيما أخبر به موقوفا على مثل ذلك الشرط جاز أن يكون موقوفا على أمثاله من الشروط إذ الجميع يشترك في أن يكون الوقف على مثل هذا الشرط يوجب أن لا يستدل بشيء من أخباره على العلم بما أخبر به. وإن قالوا بتأويل كل شيء إلا ما علم بالاضطرار أنه أراده كان ذلك أبلغ فإنه ما من نص وارد إلا ويكون الدافع له أن يقول ما يعلم بالاضطرار أنه أراد هذا. فإن كان للمثبت أن يقول أنا أعلم بالاضطرار أنه أراده كان لمن أثبت ما ينازعه فيه هذا المثبت أن يقول أيضا مثل ذلك ... فإنك إذا تأملت كلامهم لم تجد لهم قانونا فيما يتأول وما لا يتأول بل لازم قولهم إمكان تأويل الجميع ... فعلم أن قولهم باطل ... " (1). " فهؤلاء مع تناقضهم لا يجعلون الرسول نفسه نصب في خطابه دليلا يفرق به بين الحق والباطل والهدى والضلال بل يجعلون الفارق هو ما يختلف باختلاف الناس من أذواقهم وعقولهم. ومعلوم أن هذا نسبة للرسول إلى التلبيس وعدم البيان بل إلى كتمان الحق وإضلال الخلق بل إلى التكلم بكلام لا يعرف حقه من باطله ولهذا كان حقيقة أمرهم الإعراض عن الكتاب والرسول. فلا يستفيدون من كتاب الله وسنة رسوله شيئا من معرفة صفات الله تعالى بل الرسول معزول عندهم عن الإخبار بصفات الله نفيا وإثباتا وإنما ولايته عندهم في العمليات ... " (2).   (1) ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 343 - 345). (2) ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 240، 241). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 ويقال لهم إن الأصل في اللفظ حمله على الحقيقة وحمله على غير حقيقته وظاهره يكون إخراجا له عن أصله وهذا حتى يكون صحيحا مقبولا لابد لمدعيه أن يأتي بأربعة أمور ليس له قدرة على واحد منها وهي: الأول: بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي تأوله في ذلك التركيب الذي وقع فيه وإلا كان كاذبا على اللغة منشئا وضعا من عنده فإن اللفظ قد لا يحتمل ذلك المعنى لغة وإن احتمله فقد لا يحتمله في ذلك التركيب الخاص" (1).الثاني: أن " يبين ذلك المعنى ... فإنه إذا أخرج عن حقيقته قد يكون له معان فتعين ذلك المعنى يحتاج إلى دليل" (2).الثالث: "إقامة الدليل الصارف للفظ عن حقيقته وظاهره فإن دليل المدعي للحقيقة والظاهر قائم فلا يجوز العدول عنه إلا بدليل صارف يكون أقوى منه" (3). الرابع: "الجواب عن المعارض فإن مدعي الحقيقة قد أقام الدليل العقلي والسمعي على إرادة الحقيقة أما السمعي فلا يمكنك المكابرة أنه معه. وأما العقلي فمن وجهين: عام وخاص. فالعام الدليل الدال على كمال علم المتكلم وكمال بيانه وكمال نصحه والدليل العقلي على ذلك أقوى من الشبه الخيالية التي يستدل بها النفاة بكثير فإن جاز مخالفة هذا الدليل القاطع فمخالفة تلك الشبه الخيالية أولى بالجواز وإن لم تجز مخالفة تلك الشبه فامتناع مخالفة الدليل القاطع أولى. وأما الخاص فإن كل صفة وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم فهي صفة كمال قطعا فلا يجوز تعطيل صفات كماله وتأويلها بما يبطل حقائقها فالدليل العقلي الذي دل على ثبوت الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر دل نظيره على ثبوت الحكمة والرحمة والرضا والغضب والفرح والضحك والذي دل على أنه فاعل بمشيئته واختياره دل على قيام أفعاله به وذلك عين الكمال المقدس وكل صفة دل عليها القرآن والسنة فهي صفة كمال والعقل جازم بإثبات صفات الكمال للرب سبحانه ويمتنع أن يصف نفسه أو يصفه رسوله بصفة توهم نقصا وهذا الدليل أيضا أقوى من كل شبهة للنفاة" (4).   (1) ((الصواعق المرسلة)) (1/ 289)، ((مختصر الصواعق)) (1/ 43، 44)، ((النونية بشرح هراس)) (1/ 307). (2) ((الصواعق)) (1/ 292)، ((المختصر)) (1/ 45)، ((النونية)) (1/ 307). (3) ((الصواعق)) (1/ 292)، ((المختصر)) (1/ 46)، ((النونية)) (1/ 307، 308). (4) ((الصواعق)) (1/ 293)، ((المختصر)) (1/ 46، 47)، ((النونية)) (1/ 308، 313). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 ثم يقال لهم: إن القول بالتأويل على اصطلاحكم شر من التشبيه والتعطيل فإن التأويل " يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها فإن المعطل والمؤول قد اشتركا في نفي حقائق الأسماء والصفات وامتاز المؤول بتلاعبه بالنصوص وانتهاكه لحرمتها وإساءة الظن بها ونسبة قائلها إلى التكلم بما ظاهره الضلال والإضلال فجمعوا بين أربعة محاذير: اعتقادهم أن ظاهر كلام الله ورسوله المحال الباطل ففهموا التشبيه أولا ثم انتقلوا إلى المحذور الثاني وهو التعطيل فعطلوا حقائقها بناء منهم على ذلك الفهم الذي لا يليق بها ولا يليق بالرب جل جلاله. المحذور الثالث نسبة المتكلم الكامل العلم الكامل البيان التام النصح إلى ضد البيان والهدى والإرشاد ... ولا ريب عند كل عاقل أن ذلك يتضمن أنهم كانوا أعلم منه أو أفصح أو أنصح للناس. المحذور الرابع: تلاعبهم بالنصوص وانتهاك حرماتها فلو رأيتها وهم يلوكونها بأفواههم وقد حلت بها المثلات وتلاعبت بها أمواج التأويلات ونادى عليها أهل التأويل في سوق من يزيد فبذل كل واحد في ثمنها من التأويلات ما يريد فلو شاهدتها بينهم وقد ... قعد النفاة على صراطها المستقيم بالدفع في صدورها والأعجاز وقالوا لا طريق لك علينا وإن كان لا بد فعلى سبيل المجاز فنحن أهل المعقولات وأصحاب البراهين وأنت أدلة لفظية وظواهر سمعية لا تفيد العلم ولا اليقين فلا إله إلا الله والله أكبر كم هدمت بهذه المعاول من معاقل الإيمان وثلمت بها حصون حقائق السنة والقرآن .... " (1).ويلزم القائلين بالتأويل لوازم باطلة لا يرضى بواحد منها من في قلبه مثقال ذرة من إيمان " منها أن يكون الله سبحانه قد أنزل في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من هذه الألفاظ ما يضلهم ظاهره ويوقعهم في التشبيه والتمثيل ومنها أن يكون قد ترك بيان الحق والصواب ولم يفصح به بل رمز إليه رمزا وألغزه إلغازا لا يفهم منه ذلك إلا بعد الجهد الجهيد ومنها أن يكون قد كلف عباده أن لا يفهموا من تلك الألفاظ حقائقها وظواهرها وكلفهم أن يفهموا منها ما لا تدل عليه ولم يجعل معها قرينة تفهم ذلك ومنها أن يكون دائما متكلما في هذا الباب بما ظاهره خلاف الحق بأنواع متنوعة من الخطاب تارة بأنه استوى على عرشه وتارة بأنه فوق عباده وتارة بأنه العلي الأعلى وتارة بأن الملائكة تعرج إليه ... إلى غير ذلك من تنوع الدلالات على ذلك ولا يتكلم فيه بكلمة واحدة يوافق ما يقوله النفاة ولا يقول في مقام واحد فقط ما هو الصواب فيه لا نصا (ظاهرا ولا تنبيها) ومنها أن يكون أفضل الأمة وخير القرون فقد أمسكوا من أولهم إلى آخرهم عن قول الحق في هذا الشأن العظيم الذي هو من أهم أصول الإيمان وذلك إما جهل ينافي العلم وإما كتمان ينافي البيان ... ومنها أن ترك الناس من إنزال هذه النصوص كان أنفع لهم وأقرب إلى الصواب فإنهم ما استفادوا بنزولها غير التعرض للضلال ولم يستفيدوا منها يقينا ولا علما بما يجب لله ويمتنع عليه إذ ذاك إنما يستفاد من عقول الرجال وآرائها" (2). فهل يشك أحد بعد هذا في فساد التأويل وبطلانه؟! وأما القول بالتفويض فهو في الحقيقة من شر أقوال أهل البدع وذلك لمناقضته ومعارضته نصوص التدبر للقرآن واستلزامه تجهيل الأنبياء والمرسلين برب العالمين فمن المعلوم " أن الله تعالى أمرنا أن نتدبر القرآن وحضنا على عقله وفهمه فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله؟!   (1) ((الصواعق)) (1/ 296 - 298)، ((المختصر)) (1/ 48 - 50). (2) ((الصواعق 1/ 314 - 316، المختصر)) (1/ 50 - 53). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 وأيضا فالخطاب الذي أريد به هدانا والبيان لنا وإخراجنا من الظلمات إلى النور إذا كان ما ذكر فيه من النصوص ظاهره باطل وكفر ولم يرد منا أن نعرف لا ظاهره ولا باطنه أو أريد منا أن نعرف باطنه من غير بيان في الخطاب لذلك فعلى التقديرين لم نخاطب بما بين فيه الحق ولا عرفنا أن مدلول هذا الخطاب باطل وكفر. وحقيقة قول هؤلاء في المخاطب لنا أنه لم يبين الحق ولا أوضحه مع أمره لنا أن نعتقده وأن ما خاطبنا به وأمرنا باتباعه والرد إليه لم يبين به الحق ولا كشفه بل دل ظاهره على الكفر والباطل وأراد منا أن لا نفهم منه شيئا أو أن نفهم منه ما لا دليل عليه فيه وهذا كله مما يعلم بالاضطرار تنزيه الله ورسوله عنه وأنه من جنس أقوال أهل التحريف والإلحاد" (1). " فعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ولا الملائكة ولا السابقون الأولون وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه بل يقولون كلاما لا يعقلون معناه ... ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدى وبيانا للناس وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين وأن يبين للناس ما نزل إليهم وأمر بتدبر القرآن وعقله ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته ... لا يعلم أحد معناه فلا يعقل ولا يتدبر ولا يكون الرسول بيَّن للناس ما نزل إليهم ولا بلغ البلاغ المبين. وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع الحق في نفس الأمر ما عملته برأيي وعقلي وليس في النصوص ما يناقض ذلك لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة ولا يعلم أحد معناها وما لا يعلم معناه أحد لا يجوز أن يستدل به ... " (2). فتبين بهذا أن القول بالتفويض في غاية البطلان والفساد بل هو من شر أقوال أهل البدع كما أن التأويل كذلك. المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص 162 - 176   (1) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 202). (2) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 204، 205). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 المطلب الأول: معنى الإيمان وحقيقته ذهب جمهور المحققين من الماتريدية - وعلى رأسهم الماتريدي- إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط وذهب بعضهم إلى أنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان (1). وغاية ما استدلوا به على صحة قولهم هو: 1 - أن الإيمان في اللغة هو التصديق وهو باق على معناه اللغوي لم ينقل إلى غيره واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف:17] 2 - أن الكفر ضد الإيمان والكفر هو التكذيب والجحود وهما يكونان بالقلب فكذا ما يضادهما. 3 - أن الله قد فرق بين الإيمان والأعمال وذلك بما ورد في كثير من الآيات من عطف الأعمال على الإيمان والعطف يقتضي المغايرة. 4 - أن الله خاطب المؤمنين بالإيمان قبل فرض الأعمال فدل ذلك على عدم دخول الأعمال في مسمى الإيمان. قال أبو المعين النسفي: " الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق فكل من صدق غيره فيما يخبره يسمى في اللغة مؤمنا به ومؤمنا له قال الله تعالى: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ " أي بمصدق لنا ثم إن اللغوي وهو التصديق بالقلب هو حقيقة الإيمان الواجب على العبد حقا لله تعالى وهو أن يصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الله تعالى فمن أتى بهذا التصديق فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى ... فمن جعله لغير التصديق فقد صرف الاسم عن المفهوم في اللغة إلى غير المفهوم وفي تجويز ذلك إبطال اللسان وتعطيل اللغة ورفع طريق الوصول إلى اللوازم الشرعية والدلائل السمعية يحققه أن ضد الإيمان هو الكفر والكفر هو التكذيب والجحود وهما يكونان بالقلب فكذا ما يضادهما إذ لا تضاد يتحقق عند تغاير المحلين والذي يدل عليه أن الله تعالى فرق بين الإيمان وبين كل عبادة بالاسم المعطوف عليه ما فرق بين العبادات بالأسماء المعطوفة المفعولة لها على ما قال الله تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ [التوبة:18] فقد عطف إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على الإيمان ولا شك في ثبوت المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يحققه أن الله تعالى خاطب باسم الإيمان ثم أوجب الأعمال على العباد على ما قال الله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] وهذا دليل التغاير وقصر اسم الإيمان على التصديق. وبالوقوف على هذا يثبت بطلان قول من جعل الأعمال إيمانا وهو قول فقهاء الحديث وأكثر متكلميهم" (2). والجواب عما ذكروه هو كما يلي: أولا قولهم: إن الإيمان في اللغة هو التصديق وهو باق على معناه لم ينقل إلى غيره ... والجواب عن ذلك من وجوه:   (1) انظر ((شرح العقائد النسفية)) (ص 55، 56)، وحاشية قاسم الحنفي على ((المسايرة)) (ص 290 - 293)، ((شرح ضوء المعالي)) (ص 19، 20). (2) ((التمهيد)) (ص 99 - 101)، وانظر ((تبصرة الأدلة)) (ل 473 - 476)، ((التوحيد للماتريدي)) (ص 373 - 379)، ((سلام الأحكم)) (ص 60، 147، 159، 160)، ((أصول الدين)) للبزدوي (ص 146، 149 - 151)، ((النور اللامع)) (ل8، 18، 74، 75، 103)، ((المسايرة)) (ص 285 - 314)، ((ضوء المعالي)) (ص 19، 20). ((نثر اللآلئ)) (ص 211)، ((جامع المتون)) (ص 4)، ((شرح العقيدة الطحاوية)) للميداني (ص 98، 99)، ((بيان الاعتقاد)) (ل3). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 1 - يقال لهم: "مما ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف تفسيرها وما أريد بها من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم ولهذا قال الفقهاء الأسماء ثلاثة أنواع: نوع يعرف حده بالشرع كالصلاة والزكاة ونوع يعرف حده باللغة كالشمس والقمر ونوع يعرف حده بالعرف كلفظ القبض ولفظ المعروف في قوله: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19] ونحو ذلك ... فاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج ونحو ذلك قد بين الرسول صلى الله عليه وسلم ما يراد بها في كلام الله ورسوله وكذلك لفظ الخمر وغيرها ... فلو أراد أحد أن يفسرها بغير ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منه .... " (1).ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين المراد باسم الإيمان والإسلام والنفاق والكفر " بيانا لا يحتاج معه إلى الاستدلال على ذلك بالاشتقاق وشواهد استعمال العرب ونحو ذلك فلهذا يجب الرجوع في مسميات هذه الأسماء إلى بيان الله ورسوله فإنه شاف كاف بل معاني هذه الأسماء معلومة من حيث الجملة للخاصة والعامة بل كل من تأمل ما تقوله الخوارج والمرجئة في معنى الإيمان علم بالاضطرار أنه مخالف للرسول ويعلم بالاضطرار أن طاعة الله ورسوله من مقام الإيمان" (2). 2 - القول بالترادف بين الإيمان والتصديق غير صحيح بدليل " أنه يقال للمخبر إذا صدق صدقه ولا يقال آمنه ولا آمن به بل يقال آمن له كما قال تعالى فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:26] "وقال" فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ [يونس:83] ففرق بين المعدى بالباء والمعدى باللام فالأول يقال للمخبر به والثاني للمخبر ولا يرد كونه يجوز أن يقال ما أنت بمصدق لنا لأن دخول اللام لتقوية العامل كما إذا تقدم المعمول أو كان العامل اسم فاعل أو مصدرا على ما عرف في موضعه"كما أن " الفرق بينهما ثابت في المعنى فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة صدقت كما يقال له كذبت فمن قال السماء فوقنا قيل له صدقت وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغائب فيقال لمن قال طلعت الشمس صدقناه ولا يقال آمنا له فإن أصل معنى الأمن والائتمان إنما يكون في الخبر عن الغائب فالأمر الغائب هو الذي يؤتمن عليه المخبر" (3). 3 - وعلى فرض صحة القول بالترادف بين الإيمان والتصديق فإن القول بأن التصديق لا يكون إلا بالقلب أو بالقلب واللسان عنه جوابان:" أحدهما المنع بل الأفعال تسمى تصديقا كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((العينان تزنيان وزناهما النظر والأذن تزني وزناها الاستماع واليد تزني وزناها البطش والرجل تزني وزناها المشي والقلب يتمنى ذلك ويشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) (4) وكذلك قال أهل اللغة وطوائف من السلف والخلف. قال الجوهري: والصديق مثال الفسيق الدائم التصديق ويكون الذي يصدق قوله بالعمل. وقال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال ... .الثاني: أنه إذا كان أصله التصديق فهو تصديق مخصوص كما أن الصلاة دعاء مخصوص والحج قصد مخصوص والصيام إمساك مخصوص وهذا التصديق له لوازم صارت لوازمه داخلة في مسماه عند الإطلاق فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم ويبقى النزاع لفظيا هل الإيمان دال على العمل بالتضمن أو اللزوم " (5).   (1) ((الإيمان)) لابن تيمية ص (241). (2) ((الإيمان)) لابن تيمية ص (241). (3) ((شرح الطحاوية)) (ص 368، 369)، ((الإيمان)) (ص 246). (4) رواه البخاري (6243) ومسلم (2657) بنحوه. (5) ((الإيمان)) (ص 248، 251). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 ثانيا قولهم إن الكفر ضد الإيمان والكفر هو التكذيب والجحود وهما يكونان بالقلب فكذا ما يضادهما. يقال لهم: " إن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل بالتكذيب كلفظ التصديق فإنه من المعلوم في اللغة أن كل مخبر يقال صدقت أو كذبت ويقال صدقناه أو كذبناه ولا يقال لكل مخبر آمنا له أو كذبنا له ولا يقال أنت مؤمن له أو مكذب له بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر يقال هو مؤمن أو كافر والكفر لا يختص بالتكذيب بل لو قال أنا أعلم أنك صادق لكن لا أتبعك بل أعاديك وأبغضك وأخالفك لكان كفره أعظم فلو كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التكذيب فقط علم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط بل إذا كان الكفر يكون تكذيبا ويكون مخالفة ومعاداة وامتناعا بلا تكذيب فلا بد أن يكون الإيمان تصديقا مع موافقة وموالاة وانقياد لا يكفي مجرد التصديق .... فيجب أن يكون كل مؤمن مسلما منقادا للأمر وهذا هو العمل " (1). ثالثا: استدلالهم بالآيات الوارد فيها عطف العمل على الإيمان وقولهم إن العطف يقتضي المغايرة. يقال لهم: إن الإيمان يرد في النصوص مطلق عن العمل ويرد مقرونا بالعمل فأما إذا ورد مطلقا فإنه يكون مستلزما للأعمال إذ لا يمكن تصور وجود إيمان القلب مع انتفاء جميع الأعمال وذلك كقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15] وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من غشنا فليس منا)). وأما إذا عطف العمل على الإيمان فإن العطف هنا لا يقتضي المغايرة بل هو من باب عطف الخاص على العام أو الجزء على الكل وذلك كقولة تعالى حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى [البقرة:238] وقوله: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ [البقرة:98]. ومن هذا الباب قوله تعالى وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ونحوها من الآيات والله تعالى عطف العمل على الإيمان حتى لا يظن أحد أنه يكتفى بإيمان القلب فقط بل لابد معه من العمل الصالح (2). رابعا: قولهم بأن الله خاطب المؤمنين بالإيمان قبل فرض العمل فدل ذلك على عدم دخول الأعمال في مسمى الإيمان. فيقال لهم:" إن قلتم إنهم خوطبوا به قبل أن تجب تلك الأعمال فقبل وجوبها لم تكن من الإيمان وكانوا مؤمنين الإيمان الواجب عليهم قبل أن يفرض عليهم ما خوطبوا بفرضه فلما نزل إن لم يقروا بوجوبه لم يكونوا مؤمنين ولهذا قال تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97] ولهذا لم يجئ ذكر الحج في أكثر الأحاديث التي فيها ذكر الإسلام والإيمان ... وذلك لأن الحج آخر ما فرض من الخمس فكان قبل فرضه لا يدخل في الإيمان والإسلام فلما فرض أدخله النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان إذا أفرد وأدخله في الإسلام إذا قرن بالإيمان وإذا أفرد" (3). وبهذا يتبين لنا تهافت قولهم وتساقط استدلالاتهم وأن ما ذهبوا إليه خلاف الحق والصواب. المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص453 - 459   (1) ((الإيمان)) (ص 247). (2) انظر ((الإيمان)) (ص 143، 144، 149، 165، 169، 171)، ((الفتاوى)) (7/ 195 - 198)، ((شرح الطحاوية)) (ص 378 - 381). (3) ((الفتاوى)) (7/ 197). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 المطلب الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه هذه المسألة مبنية على التي قبلها فإن الماتريدية لما قالت بأن الإيمان هو التصديق وأن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان قالوا بعدم زيادة الإيمان ونقصانه وبنوا ذلك على أن التصديق لا يتصور فيه الزيادة والنقص. قال الحكيم السمرقندي: "وينبغي أن يعلم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص لأن من يرى الزيادة والنقصان في الإيمان فهو مبتدع والزيادة والنقصان إنما تكون في الأفعال لا في الإيمان ... ولم يقل أحد من العلماء والصالحين إن الإيمان يزيد وينقص" (1).وقال أبو المعين النسفي: " وإذا ثبت أن الإيمان هو التصديق وهو لا يتزايد في نفسه دل أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص فلا زيادة له بانضمام الطاعات إليه ولا نقصان له بارتكاب المعاصي إذ التصديق في الحالين على ما كان قبلهما " (2). وإذا تبين لنا مما تقدم بطلان قول الماتريدية في حقيقة الإيمان فإنه تلقائيا يسقط قولهم بنفي زيادة الإيمان ونقصانه وإضافة لهذا فإن زيادة الإيمان ونقصانه ثابتة بنص الكتاب والسنة والإجماع ....... وأما احتجاجهم على نفي زيادة الإيمان ونقصانه بأن التصديق القلبي لا يقبل الزيادة ولا النقصان فهو باطل نقلا وعقلا فقد دل النقل على أن الإيمان القلبي يتفاوت كما في حديث الخروج من النار ... كما لا يشك عاقل في أن المؤمنين يتفاوتون في التقوى تفاوتا عظيما وأعظم أسباب ذلك تفاوتهم في التصديق القلبي. قال الإمام النووي رحمه الله: فالأظهر والله أعلم أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريهم الشبه ويتزلزل إيمانهم بعارض بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة وإن اختلفت عليهم الأحوال وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم ونحوهم فليسوا كذلك فهذا مما لا يمكن إنكاره ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا يساويه تصديق آحاد الناس ولهذا قال البخاري في (صحيحه) قال ابن أبي مليكة أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم من أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل. والله أعلم (3). وقد صرح الإيجي في (المواقف) بأن التصديق يقبل الزيادة والنقصان فقال: "والحق أن التصديق يقبل الزيادة والنقصان بوجهين: الأول: القوة والضعف. قولكم: الواجب اليقين والتفاوت لاحتمال النقيض. قلنا لا نسلم أن التفاوت لذلك ثم ذلك يقتضي أن يكون إيمان النبي وآحاد الأمة سواء وأنه باطل إجماعا .. الثاني التصديق التفصيلي في أفراد ما علم مجيئه به جزء من الإيمان يثاب عليه ثوابه على تصديقه بالإجمال والنصوص دالة على قبوله لهما" (4). فلا ريب أن القول الحق في المسألة هو أن الإيمان يزيد وينقص يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي كما هو مذهب سلف الأمة المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص463 - 467   (1) ((سلام الأحكم)) (ص 189، 190). وانظر (ص 193 - 197). (2) ((التمهيد)) (ص 102)، وانظر ((تبصرة الأدلة)) (ل 478)، ((بحر الكلام)) (ص 45 - 47)، ((أصول الدين) للبزدوي (ص153)، ((شرح العقائد النسفية)) (ص 56 - 59)، ((المسايرة)) (ص 325 - 330)، ((شرح الفقه الأكبر)) للقاري (ص 87، 88)، ((النكت والفوائد للبقاعي)) (ل 247)، ((بيان الاعتقاد)) (ل4)، ((شرح العقيد الطحاوية)) للميداني (ص 99 - 103). (3) ((شرح صحيح مسلم)) (1/ 148،149). (4) ((المواقف)) (ص 388). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 المطلب الثالث: الاستثناء في الإيمان يقصد بالاستثناء في الإيمان تعليق الإيمان بالمشيئة وهو قول المؤمن أنا مؤمن إن شاء الله. والخلاف في هذه المسألة وقع تبعا للخلاف في حقيقة الإيمان وحاصل الأقوال التي قيلت في الاستثناء ثلاثة أقوال: الأول: القول بوجوب الاستثناء وهو قول الكلابية ومن وافقهم. الثاني: القول بتحريمه: وهو قول المرجئة والجهمية. الثالث القول بجواز الأمرين باعتبارين. وهو قول أهل السنة والجماعة وسلف الأمة. والماتريدية لما قالوا بأن الإيمان هو التصديق وأنه لا يقبل الزيادة والنقصان منعوا الاستثناء في الإيمان وقالوا إن الاستثناء شك ومن شك في تصديقه فهو كافر. قال الماتريدي: " الأصل عندنا قطع القول بالإيمان وبالتسمي به بالإطلاق وترك الاستثناء فيه لأن كل معنى مما باجتماع وجوده تمام الإيمان عنده مما إذا استثني فيه لم يصح ذلك المعنى فعلى ذلك أمره في الجملة نحو أن يقول أشهد أن لا إله إلا الله إن شاء الله أو محمد رسول الله إن شاء الله وكذلك الشهادة بالبعث والملائكة والرسل والكتب" (1). وقال أبو المعين النسفي: " ثم لما كان (أي الإيمان) اسما للتصديق .... وهو شيء حقيقي معلوم الحد فإذا حصل بهذا الحد كان الذات به مؤمنا كالقعود والجلوس والسواد والبياض وغير ذلك لما كانت معاني معلومة الحد متى وجدت بحقيقتها كان الذات بها قاعد جالس أسود أبيض فكذا هذا ...... وبمعرفة هذا يعرف .... أن التصديق لما وجد فقد وجد الإيمان بحقيقته فقول من يقول أنا مؤمن إن شاء الله مع وجود حقيقة التصديق كقول من يقول أنا قائم إن شاء الله وأنا قاعد إن شاء الله مع وجود حقيقة ذلك وذلك باطل فكذا هذا .... " (2). وقال في (بحر الكلام): " وحجتنا وهو أن الاستثناء يرفع جميع العقود نحو الطلاق والعتاق والنكاح والبيع فكذلك يرفع عقد الإيمان ولأنا أجمعنا على أنه إذا قال العبد لا إله إلا الله إن شاء الله أو قال أشهد أن محمدا رسول الله إن شاء الله أو قال آمنت بالله وملائكته وبالكتب واليوم الآخر إن شاء الله يكون كافرا وكذلك إذا قال أنا مؤمن إن شاء الله يكون كافرا لأنه شاك في إيمانه وهذا لأن كل أمر متحقق في الحال أو في الماضي من الزمان لا يحسن الاستثناء فيه ". فالماتريدية منعوا الاستثناء في الإيمان وذلك لأن مفهوم وحقيقة الإيمان عندهم التصديق أو التصديق والقول. وأما أهل السنة والجماعة وسلف الأمة فقد قالوا بجواز الاستثناء في الإيمان وذلك لأن الإيمان عندهم قول وعمل واعتقاد والاستثناء عندهم إنما هو في الأعمال لا في أصل الإيمان والمقصود به عدم تزكية النفس لورود النهي عن ذلك كما في قوله تعالى: فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32] فالخلاف بين أهل السنة والجماعة والماتريدية وغيرهم في مسألة الاستثناء إنما هو راجع للخلاف في حقيقة الإيمان. المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص468 - 471   (1) ((التوحيد)) (388). (2) ((تبصرة الأدلة)) (ل 480، 481)، ((التمهيد)) (105، 106). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 المطلب الرابع: الإيمان والإسلام ومن المسائل التي وقع فيها نزاع وخلاف بين طوائف المسلمين مسألة الفرق بين مسمى الإيمان والإسلام وذلك "لكثرة ذكرهما وكثرة كلام الناس فيهما والاسم كلما كثر الكلام فيه فتكلم به مطلقا ومقيدا بقيد آخر في موضع كان هذا سببا لاشتباه بعض معناه ثم كلما كثر سماعه كثر من يشتبه عليه ذلك ومن أسباب ذلك أن يسمع بعض الناس بعض موارده ولا يسمع بعضه ويكون ما سمعه مقيدا أوجبه اختصاصه بمعنى فيظن معناه في سائر موارده كذلك فمن اتبع علمه حتى عرف مواقع الاستعمال عامة وعلم مأخذ الشبهة أعطى كل ذي حق حقه وعلم أن خير الكلام كلام الله وأنه لا بيان أتم من بيانه" (1). وللناس في المسألة ثلاثة أقوال: الأول: أن الإسلام والإيمان اسمان لمسمى واحد. الثاني أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل. الثالث التفصيل وذلك بأن حالة اقترانهما غير حالة إفرادهما فإذا اقترنا كان المقصود بالإسلام الأعمال الظاهرة والإيمان الأعمال الباطنة وإذا أفردا كان معناهما واحدا ودخل أحدهما في الآخر ويكون المقصود جميع أمور الدين الظاهرة والباطنة. والماتريدية في هذه المسألة ذهبت إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد وأنه لا تغاير بينهما ولا ينفك أحدهما عن الآخر وإذا زال أحدهما زال الآخر واستدلوا على قولهم هذا بعدة أدلة ذكرها الماتريدي وتابعه عليها عامة الماتريدية قال الماتريدي: " وأما القول عندنا في الإيمان والإسلام أنه واحد في أمر الدين في التحقيق بالمراد وإن كانا قد يختلفان في المعنى باللسان .... ثم من جهة التحقيق بالمراد في الدين إن الإيمان هو اسم لشهادة العقول والآثار بالتصديق على وحدانية الله تعالى وأن له الخلق والأمر في الخلق لا شريك له في ذلك والإسلام هو إسلام المرء نفسه بكليتها وكذا كل شيء لله تعالى بالعبودية لله لا شريك فيه فحصلا من المراد فيهما على واحد ... ثم الأصل أنه من البعيد عن العقول أن يأتي المرء بجميع شرائط الإيمان ثم لا يكون مسلما أو يأتي بجميع شرائط الإسلام ثم لا يكون مؤمنا ثبت أنهما في الحقيقة واحد ومعلوم أن الذي يسع له التسمي بأحدهما يسع بالآخر وأن الذي به تختلف الأديان إنما هو الاعتقاد لا بأفعال سواه وبالوجود يستحق كل الاسم المعروف لذلك وجب ما قلنا. وقد قال الله تعالى إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ [آل عمران:19] وقال: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85] فالمؤمن بالصفة التي يصير بها مؤمنا لا يخلو من أن يكون أتى بالإسلام الذي هو الدين عند الله أو أتى ببعضه لا كله أو ابتغى غير دين الله فإن قال بالأول أذعن للحق وإن قال بالثاني فهو إذا لم يبتغ به دينا إنما ابتغى بعضه وذلك بعيد بل شهد الله على مثله بأنه كافر حقا وإن قال بالثالث صير دار المؤمنين النار وأبطل جميع ما جاء به الرسل من الأمر بالإيمان بهم.   (1) ((الإيمان)) (304). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 ثم قد ثبت أنهما واحد في التحقيق على ما جرت به أحكام القرآن قال الله تعالى: قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ [البقرة:136] إلى قوله: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فألزمهم اسم الإسلام بالذي صاروا به مؤمنين ومثله في يونس وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ [يونس:84] فصيرهم بالذي آمنوا مسلمين وقال عز وجل يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17] صير ذلك منهم إسلاما لو صدقوا في إيمانهم وكذلك به يكونون مؤمنين وقالت الملائكة: فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35 - 36] فصير الذين كانوا مسلمين مؤمنين" (1).   (1) ((التوحيد)) (394 - 397)، وانظر ((أصول الدين)) للبزدوي (154، 221)، ((تبصرة الأدلة)) للنسفي (ل 482)، ((النور اللامع)) للناصري (ل74)، حاشية ابن قطلوبغا على ((المسايرة)) (296 - 298)، ((جامع المتون)) (23). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 وقول الماتريدية بأن مسمى الإسلام والإيمان واحد ضعيف مخالف لمجموع أدلة الكتاب والسنة. فالله تعالى " قد فسر الإيمان بأنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبين أيضا أن العمل بما أمر يدخل في الإيمان ولم يسم الله الإيمان بملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت إسلاما بل إنما سمى الإسلام الاستسلام له بقلبه وقصده وإخلاص الدين والعمل بما أمر به كالصلاة والزكاة خالصا لوجهه فهذا هو الذي سماه الله إسلاما وجعله دينا وقال: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85] وهذا يقتضي أن كل من دان بغير دين الإسلام فعلمه مردود وهو خاسر في الآخرة فيقتضي وجوب دين الإسلام وبطلان ما سواه لا يقتضي أن مسمى الدين هو مسمى الإيمان بل أمرنا أن نقول آمنا بالله وأمرنا أن نقول وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فأمرنا باثنين فكيف نجعلهما واحدا (1) وقولهم بأن الإسلام والإيمان شيء واحد يلزمهم فيه أحد أمرين إما أن يقولوا إن الإسلام هو التصديق وهذا ما لم يقله أحد من أهل اللغة وإما أن يقولوا إن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان وهذا خلاف قولهم. والقول بأن كل مؤمن مسلم هذا حق لا مرية فيه ولكن إطلاق القول بأن كل مسلم مؤمن أو من أتى بشرائط الإسلام فهو مؤمن غير صحيح بدليل أن " الإسلام يتناول من أظهر الإسلام مع التصديق المجمل في الباطن ولكن لم يفعل الواجب كله لا من هذا ولا هذا وهم الفساق يكون في أحدهم شعبة نفاق ويتناول من أتى بالإسلام الواجب وما يلزمه من الإيمان ولم يأت بتمام الإيمان الواجب " (2).فقد يكون مسلما يعبد الله كما أمره ولا يعبد غيره ويخافه ويرجوه ولكن لم يخلص إلى قلبه أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ولا أن يكون الله ورسوله والجهاد في سبيله أحب إليه من جميع أهله وماله وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه وأن يخاف الله لا يخاف غيره وأن لا يتوكل إلا على الله وهذه كلها من الإيمان الواجب وليست من لوازم الإسلام فإن الإسلام هو الاستسلام وهو يتضمن الخضوع لله وحده والانقياد له والعبودية لله وحده وهذا قد يتضمن خوفه ورجاءه وأما طمأنينة القلب بمحبته وحده وأن يكون أحب إليه مما سواهما وبالتوكل عليه وحده وبأن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه فهذه من حقائق الإيمان التي تختص به فمن لم يتصف بها لم يكن من المؤمنين حقا وإن كان مسلما وكذلك وجل قلبه إذا ذكر الله وكذلك زيادة الإيمان إذا تليت عليه آياته" (3).   (1) ((الإيمان)) لابن تيمية (350، 351). (2) ((الإيمان)) (365). (3) ((الإيمان)) (364). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 وما استدلوا به من الأدلة السمعية هو دليل على نقض قولهم فإن الله تعالى قال: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ [آل عمران:19] وقال: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85] وقال: وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3] ولم يقل قط إن الدين عند الله الإيمان ولا قال ومن يبتغ غير الإيمان دينا فدل ذلك على عدم صحة القول بترادف الإسلام والإيمان. ويوضح هذا " أن الإيمان أصله معرفة القلب وتصديقه وقوله والعمل تابع لهذا العلم والتصديق ملازم له ولا يكون العبد مؤمنا إلا بهما وأما الإسلام فهو عمل محض مع قول والعلم والتصديق ليس جزء مسماه لكن يلزمه جنس التصديق فلا يكون عمل إلا بعلم لكن لا يستلزم الإيمان المفصل الذي بينه الله ورسوله كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15] فإن كثيرا من المسلمين مسلم باطنا وظاهرا معه تصديق مجمل ولم يتصف بهذا الإيمان" (1). ولهذا أمرنا الله تعالى أن نقول: آمَنَّا بِاللهِ وأمرنا أن نقول: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وكذلك قول موسى عليه السلام: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ [يونس:84] فلو كان مسماهما واحدا- كما قالت الماتريدية - لكن هذا تكرير وكذلك قوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:35] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا قام من الليل: ((اللهم لك أسلمت وبك آمنت .. )).وكذا استدلالهم بآية الحجرات دل على نقيض قولهم فإن "القوم لم يقولوا أسلمنا بل قالوا آمنا والله أمرهم أن يقولوا أسلمنا ثم ذكر تسميتهم بالإسلام فقال: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17] (أي) في قولكم آمنا ولو كان الإسلام هو الإيمان لم يحتج أن يقول إن كنتم صادقين فإنهم صادقون في قولهم أسلمنا مع أنهم لم يقولوا .... " (2).وأما احتجاجهم بقوله تعالى فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35 - 36] " فلا حجة فيه لأن البيت المخرج كانوا متصفين بالإيمان والإسلام ولا يلزم من الاتصاف بهما ترادفهما" (3). إذا فقول الماتريدية بأن الإيمان والإسلام مترادفان ولا فرق بينهما قول غير صحيح. والقول الحق الذي دلت عليه الأدلة هو القول بالتلازم بين الإيمان والإسلام فإنهما إذا اجتمعا في الذكر كان المقصود بالإيمان الأمور الباطنة وبالإسلام الأعمال الظاهرة وإذا افترقا كان المقصود بهما واحد وهو الأمور الظاهرة والباطنة. المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص472 - 477   (1) ((الإيمان)) (322). (2) ((الإيمان)) (320). (3) ((شرح الطحاوية)) (387). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 المطلب الخامس: حكم إيمان المقلد البحث في هذه المسألة كان نتيجة لإيجاب المتكلمين النظر والاستدلال على كل مكلف فإنهم لما جعلوا النظر العقلي أول الواجبات وأصل العلم اختلفوا في حكم من آمن ولم ينظر ويستدل على ثلاثة أقوال: الأول أنه يصح إيمانه ويكون كافرا. الثاني أن إيمانه صحيح ولكنه آثم على تركه النظر والاستدلال. الثالث أن يكون مقلدا لا علم له بدينه لكنه ينفعه هذا التقليد ويصير به مؤمنا غير عاص (1). والماتريدية لما قالت بوجوب النظر والاستدلال ذهب جمهورهم إلى أن من آمن ولم ينظر ويستدل يكون إيمانه صحيحا ولكنه يأثم على تركه للنظر والاستدلال وذهب بعضهم إلى أنه يكون مقلدا ولا يأثم على تركه النظر والاستدلال. قال الناصري: " قال الإمام سيف الحق أبو المعين: ثم المذهب أن المقلد الذي لا دليل معه مؤمن وحكم الإسلام لازم له وهو مطيع لله تعالى باعتقاده وسائر طاعاته وإن كان عاصيا بترك النظر والاستدلال وحكمه حكم غيره من فساق أهل الملة .... ".ثم قال أبو المعين: " ذهب أكثر المتكلمين إلى أنه لابد لثبوت الإيمان وكونه نافعا من دليل ينبني عليه اعتقاده غير أن أبا الحسن الرستغفني ... قال: إذا بنى اعتقاده على قول الرسول وعرف أنه رسول وأنه ظهرت على يده المعجزات ثم قبل منه القول في حدوث العالم وثبوت الصانع ووحدانيته من غير أن عرف صحة كل من ذلك بدليل عقلي كان كافيا " (2). وقال الأوشي: وإيمان المقلد ذو اعتبار بأنواع الدلائل كالنصال (3) وقال الزرنوجي: " فإن إيمان المقلد وإن كان صحيحا عندنا لكن يكون آثما بترك الاستدلال " (4). والأقوال الثلاثة في المسألة- وقول الماتريدية ضمنها- باطلة لأنها قد بنيت على أصل باطل وهو أن النظر والاستدلال أصل الدين والإيمان وهم يقصدون بالنظر الاستدلال على وجود الله بدليل حدوث الأجسام وقد تقدم بيان فساد هذا الدليل بالتفصيل.   (1) انظر ((النبوات)) لابن تيمية (61)، ((الدرء)) (7/ 441، 442)، ((لوامع الأنوار البهية)) (1/ 267 - 276). (2) ((النور اللامع)) (ل8، 9). (3) ((نثر اللآلئ)) (190). (4) ((تعليم المتعلم طريق التعلم)) (13)، ط بمبي (71)، بتحقيق مروان قباني المكتب الإسلامي وانظر ((أصول الدين)) للبزدوي (152، 153)، ((المسايرة)) وحاشية قاسم عليهما (300 - 302)، ((نظم الفرائد)) (40 - 42)، ((شرح الفقه الأكبر)) المنسوب للماتريدي (15، 16). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 وهذا النظر والاستدلال الذي جعلوه أول الواجبات هو نظر واستدلال مبتدع فإن من المعلوم بالاضطرار " أن الرسول لم يدع الخلق بهذا النظر ولا بهذا الدليل لا عامة الخلق ولا خاصتهم فامتنع أن يكون هذا شرطا في الإيمان والعلم وقد شهد القرآن والرسول لمن شهد له من الصحابة وغيرهم بالعلم وأنهم عالمون بصدق الرسول وبما جاء به وعالمون بالله وبأنه لا إله إلا الله ولم يكن الموجب لعلمهم هذا الدليل المعين كما قال تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سبأ:6] وقال: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ [آل عمران:18] وقال: أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى [الرعد:19].وقد وصف باليقين والهدى والبصيرة في غير موضع كقوله: وبالآخرة هم يوقنون وقوله أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ [البقرة:5] وقوله: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] وأمثال هذا فتبين أن النظر والاستدلال الذي أوجبه هؤلاء وجعلوه أصل الدين ليس مما أوجبه الله ورسوله ولو قدر أنه صحيح في نفسه وأن الرسول أخبر بصحته لم يلزم من ذلك وجوبه إذ يكون للمطلوب أدلة كثيرة فلو كانت .... هذه الطريق صحيحة عقلا وقد شهد لها الرسول والمؤمنون الذين لا يجتمعون على ضلالة بأنها طريق صحيحة لم يتعين مع إمكان سلوك طرق أخرى كما أنه في القرآن سور وآيات قد ثبت بالنص والإحماع أنها من آيات الله الدالة على الهدى ومع هذا فإذا اهتدى الرجل بغيرها وقام بالواجب ومات ولم يعلم بها ولم يتمكن من سماعها لم يضره كالآيات المكية التي اهتدى بها من آمن ومات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل سائر القرآن فالدليل يجب طرده لا عكسه" (1).قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ... )) (2) الحديث:" فيه دلالة ظاهرة لمذهب المحققين والجماهير من السلف والخلف أن الإنسان إذا اعتقد اعتقادا جازما لا تردد فيه كفاه ذلك وهو مؤمن من الموحدين ولا يجب عليه تعلم أدلة المتكلمين ومعرفة الله تعالى بها خلافا لمن أوجب ذلك وجعله شرطا في كونه من أهل القبلة وزعم أنه لا يكون له حكم المسلمين إلا به وهذا المذهب هو قول كثير من المعتزلة وبعض أصحابنا المتكلمين وهو خطأ ظاهر فإن المراد التصديق الجازم وقد حصل ولأن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بالتصديق بما جاء به صلى الله عليه وسلم ولم يشترط المعرفة بالدليل فقد تظاهرت بهذا أحاديث في الصحيحين يحصل بمجموعها التواتر بأصلها والعلم القطعي" (3) ويقال لهم إن المستدل بالكتاب والسنة ليس بمقلد بل هو متبع للدليل فإن "العلم النافع هو الذي جاء به الرسول دون مقدرات الأذهان ومسائل الخرص والألغاز وذلك بحمد الله تعالى أيسر شيء على النفوس تحصيله وفهمه فإنه كتاب الله الذي يسره للذكر كما قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ وسنة رسوله وهي بحمد الله مضبوطة محفوظة ... وإنما الذي هو في غاية الصعوبة والمشقة مقدرات الأذهان وأغلوطات المسائل والفروع والأصول التي ما أنزل الله بها من سلطان ....   (1) ((النبوات)) (61، 62)، وانظر ((الفتاوى)) (20/ 202 - 204). (2) رواه البخاري (25) ومسلم (20). (3) ((شرح صحيح مسلم)) (1/ 210 - 211). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 " (1) بل إن الإعراض عما أنزل الله وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء ونحوهم من الشيوخ وغيرهم هو التقليد الذي ذمه الله تعالى في كتابه كما في قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ [البقرة: 170] وقوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا [المائدة:104] والماتريدية وغيرهم من المتكلمين قد وقعوا في هذا التقليد الذي ذمه الله تعالى من وجهين: الأول أنهم أعرضوا عن كتاب الله ورسوله واعتمدوا على عقولهم. الثاني أنهم قلدوا شيوخهم وأكابرهم فيما زعموه من النظر والاستدلال كدليل حدوث الأجسام والأعراض وهذا واضح بين في كتبهم من أولهم إلى آخرهم. فحقيقة الأمر إذ أنهم هم الذين وقعوا في التقليد الذي حرمه الله تعالى ورسوله وأما من رجع إلى الكتاب والسنة فقد أخذ العلم من معينه الصافي وأصاب عين الدليل. المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص 480 - 484   (1) ((إعلام الموقعين)) (2/ 257)، وانظر ((الصواعق)) (3/ 834 - 835). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 المطلب السادس: حكم مرتكب الكبيرة ذهبت الماتريدية إلى أن مرتكب الكبيرة - غير المستحل لها- لا يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر بل هو مؤمن كامل الإيمان لعدم زوال التصديق وهو مع إيمانه فاسق مستحق للوعيد لعدم طاعته لله تعالى واقترافه للمعاصي والآثام. وقالوا وإذا مات مرتكب الكبيرة من غير توبة فهو تحت المشيئة إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وإن عذب يخرج من النار لا محالة. قال أبو المعين النسفي: " وأما أهل الحق فإنهم يقولون: إن من اقترف كبيرة غير مستحل لها ولا مستخف بمن نهى عنها بل لغلبة شهوة أو حمية يرجو الله أن يغفر له ويخاف أن يعذبه عليها فهذا اسمه المؤمن وبقي على ما كان عليه من الإيمان ولم يزل عنه إيمانه ولم ينتقص ولا يخرج من الإيمان إلا من الباب الذي دخله وحكمه أنه لو مات من غير توبة فلله تعالى فيه المشيئة إن شاء عفا عنه بفضله وكرمه أو ببركة ما معه من الإيمان والحسنات أو بشفاعة بعض الأخيار وإن شاء عذبه بقدر ذنبه ثم عاقبة أمره الجنة لا محالة ولا يخلد في النار. أما الاسم فلأن الإيمان هو التصديق والكفر هو التكذيب وهذا الذي ارتكب هذه الكبيرة .... كان التصديق معه باقيا وما دام التصديق موجودا كان التكذيب منعدما لمضادة بينهما فالقول بكفره والتكذيب منعدم أو بزوال الإيمان والتصديق قائم أو بثبوت النفاق والتصديق في القلب متقرر قول ظاهر الفساد. ثم إطلاق اسم الفاسق لما أنه خرج عن حد الائتمار والفسق في اللغة هو الخروج ثم الخروج عن الائتمار ... ولا يضاد التصديق فيبقى التصديق وإذا بقي كان المصدق مؤمنا ضرورة " (1). وقال الأوشي: ولا يقضى بكفر وارتداد ... بعهر أو بقتل واختزال (2) وقال: ومرجو شفاعة أهل خير ... لأصحاب الكبائر كالجبال (3) وقال: ذو الإيمان لا يبقى مقيما ... لشؤم الذنب في دار اشتعال (4) وقول الماتريدية بأن مرتكب الكبيرة فاسق وليس بكافر حق وصواب وأما زعمهم بأن الفسق لا أثر له على الإيمان وأن مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان فلا شك ولا ريب أنه باطل وغير صحيح وهم قالوا بهذا لأن العمل غير داخل في مسمى الإيمان عندهم وأن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص وقد تقدم معنا بيان فساد قولهم هذا وأن الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة أن الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. والحق والصواب في الحكم على مرتكب الكبيرة بالنسبة لأحكام الدنيا أن يقال: هو "مؤمن ناقص الإيمان مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته ولا يعطى اسم الإيمان المطلق فإن الكتاب والسنة نفيا عنه عنه الاسم المطلق واسم الإيمان يتناوله فيما أمر الله به ورسوله لأن ذلك إيجاب عليه وتحريم عليه وهو لازم له كما يلزم غيره ... " (5). وأما قولهم بأن مرتكب الكبيرة إذا مات من غير توبة يكون تحت مشيئة الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه ثم عاقبة أمره إلى الجنة وأنه لا يخلد في النار فهو القول الحق في المسألة وهو مذهب أهل السنة والجماعة وسلف هذه الأمة. قال الإمام الطحاوي رحمه الله: " وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين وهم في مشيئته وحكمه إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله كما ذكر عز وجل في كتابه ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وإن شاء عذبهم في النار بعدله ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته ثم يبعثهم إلى جنته وذلك بأن الله تعالى مولى أهل معرفته ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته الذين خابوا من هدايته ولم ينالوا من ولايته اللهم يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به " (6). اللهم آمين المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص485 - 487   (1) ((التمهيد)) (92، 93)، وانظر ((تبصرة الأدلة)) (ل 454 وما بعدها)، ((بحر الكلام)) (47، 48). (2) ((نثر اللآلئ)) (213). (3) ((نثر اللآلئ)) (263). (4) ((نثر اللآلئ)) (277)، وانظر ((التوحيد للماتريدي)) (329 - 365)، ((سلام الأحكم)) (23 - 32، 50، 134)، ((أصول الدين)) للبزدوي (131، 143، 135، 142)، ((البداية)) للصابوني (147)، ((النور اللامع)) (ل 101، 102، 105، 106)، ((المسايرة)) (215). (5) ((الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 241). (6) ((شرح الطحاوية)) (413). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 التمهيد ذهبت الماتريدية في تصورها واعتقادها لتوحيد الله تعالى إلى نحو قريب مما ذهبت إليه المعتزلة وكذا الأشاعرة وهم يفسرون الواحد والتوحيد بما ليس هو معنى الواحد والتوحيد في كتاب الله وسنة رسوله وليس هو التوحيد الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسوله والمراد بالتوحيد عندهم هو اعتقاد الوحدانية التي هي عندهم صفة سلبية تقال على ثلاثة أنواع: الأول الوحدة في الذات ويقصدون بها انتفاء الكثرة عن ذاته تعالى بمعنى عدم قبولها الانقسام فيقولون هو واحد في ذاته لا قسيم له وفسروا لفظ الأحد الوارد في النصوص في حق الله تعالى بهذا المعنى فقالوا في تفسير قوله تعالى قل هو الله أحد أي الواحد الموجود الذي لا بعض له ولا انقسام لذاته .... (1). الثاني: الوحدة في الصفات: والمراد بها كما يقولون انتفاء النظير له تعالى في كل صفة من صفاته فيمتنع أن يكون له تعالى علوم وقدرات متكثرة بحسب المعلومات والمقدورات بل علمه تعالى واحد ومعلوماته كثيرة وقدرته واحدة ومقدوراته كثيرة وهذا على جميع صفاته.   (1) ((تأويلات أهل السنة)) (ل656، 657). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 الثالث: الوحدة في الأفعال والمراد بها انفراده تعالى باختراع جميع الكائنات عموما وامتناع إسناد التأثير لغيره تعالى في شيء من الممكنات أصلا. وجماع قولهم في توحيده تعالى أنه واحد في ذاته لا قسيم له أو لا جزء له واحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا شريك له (1).والأخير يسمى بتوحيد الأفعال وأشهر ما قدموه من الأدلة على إثباته هو دليل التمانع وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله، وأما الأول والثاني والذي هو حاصل توحيدهم قصدوا به نفي التجسيم ونفي التشبيه وأدرجوا في مسمى هذا التوحيد الذي اصطلحوا عليه نفي ما ينفونه من الصفات الثابتة بالكتاب والسنة لذا جعلوا من أصول عقيدتهم نفي الجسم والجوهر والعرض ونحوها من الألفاظ والمعاني المبتدعة (2). وهم يقصدون بنفي التجسيم والتشبيه نفي ما ينفونه عن الجسم المطلق وهو "أنه لا يشار إلى شيء منه دون شيء ولا يتميز منه شيء عن شيء بحيث لا يكون له قدر وحد وجوانب ونهاية ولا عين قائمة بنفسها يمكن أن يشار إليها أو يشار إلى شيء منها دون شيء .... وهذا عندهم نفي الكم والمساحة " (3).قال الماتريدي في بيان معنى الواحد والتوحيد: " والله واحد لا شبيه له دائم قائم لا ضد له ولا ند وهذا تأويل قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ... وواحد بالتوحد عن الأشباه والأضداد ولذلك بطل القول فيه بالجسم والعرض إذ هما تأويلا الأشياء وإذا ثبت ذا بطل تقدير جميع ما يضاف إليه من الخلق ويوصف به من الصفات بما يفهم منه لو أضيف إلى الخلق ووصف به " (4).وقال في موضع آخر: " معنى الواحد أنه إذ هو واحد في علوه وجلاله وواحد الذات محال أن يكون له في ذاته مثال إذ ذاك يسقط التوحيد .... وواحد الصفات يتعالى عن أن يشركه أحد في حقائق ما وصف به العلم والقدرة والتكوين بل كل وصف من ذلك لغيره به بعد أن لم يكن، ومحال مماثلة الحديث القديم " (5). وقال بأنه تعالى " واحدي الذات إليه حاجات الآحاد متعال عن معنى الآحاد عما يوجب صفة الإعداد ويتمكن فيه صفة التغير والزوال أو الحدود والنهاية موصوف بالقدم والتكوين والقدرة جل وعز عن التغير والزوال ... " (6).وأصل توحيدهم هذا يقوم على أن معنى الواحد هو ما ليس بجسم إذ إن الجسم أقله أن يكون مركبا من جوهرين وذلك ينافي الوحدة (7).وهذا التفسير لمعنى الواحد معلوم الفساد بالضرورة وهو لا ريب باطل شرعا وعقلا ولغة فإن " من المعلوم بالاضطرار أن اسم (الواحد) في كلام الله لم يقصد به سلب الصفات وسلب إدراكه بالحواس ولا نفي الحد والقدر ونحو ذلك من المعاني التي ابتدع نفيها الجهمية وأتباعهم" (8). بل إنه قد ورد في كثير من الآيات والأحاديث إطلاق لفظ الواحد على الذات الموصوفة بالصفات القائمة بنفسها والتي هي من الأجسام كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1] ومعلوم أن النفس الواحدة التي خلق منها زوجها هو آدم ....   (1) انظر ((التوحيد)) (23، 119، 121)، ((بحر الكلام)) (4، 19)، ((المسامرة)) (43)، ((جامع المتون)) (4، 5)، ((نثر اللآلئ)) (9)، ((شرح الطحاوية الميداني)) (47)، ((بيان الاعتقاد)) (ل16). (2) انظر ((التوحيد)) ((38، 39))، ((تبصرة الأدلة)) (ل66 - 86)، ((التمهيد) (6 - 12)، ((المسايرة)) (24 - 30)، ((إشارات المرام)) (107). (3) ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/ 475). (4) ((التوحيد)) (23). (5) ((التوحيد)) (119). (6) ((التوحيد)) (121). (7) انظر ((التوحيد)) (138، 139)، ((تبصرة الأدلة)) (ل 71، وما بعدها))، ((التمهيد)) (8 - 11)، ((النور اللامع)) (ل 20). (8) ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/ 484). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 وإذا كانت حواء خلقت من جسد آدم وجسد آدم جسم من الأجسام وقد سماها الله نفسا واحدة علم أن الجسد يوصف بالوحدة ... وقوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا [المدثر:11]. فإن الوحيد مبالغة في الواحد فإذا وصف البشر الواحد بأنه وحيد في صفة فإنه واحد أولي ومع هذا فهو جسم من الأجسام. وقال تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ [التوبة:6] وقال تعالى وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا [يوسف:36] وقال تعالى: أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا وفي الصحيح ((أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أيصلي الرجل في الثوب الواحد فقال أو لكلكم ثوبان)) (1) وفي الصحيح ((عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء)) (2) ... " (3)." والاستدلال بالقرآن إنما يكون على لغة العرب التي أنزل بها .... فليس لأحد أن يحمل كلام الله وكلام رسوله إلا على اللغة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب بها أمته وهي لغة العرب ولغة قريش خصوصا. ومن المعلوم المتواتر في اللغة ... أنهم يقولون درهم واحد ودينار واحد ورجل واحد وامرأة واحدة وشهرة هذا عند أهل اللغة شهرة سائر ألفاظ العدد فكيف يجوز أن يقال إن الوحدة لا يوصف بها شيء من الأجسام وعامة ما يوصف بالوحدة في لغة العرب إنما هو جسم من الأجسام" (4). ثم إن أصل لفظ الواحد في اللغة يدل على معنى ثبوتي وليس سلبي. قال ابن فارس: " (وحد) الواو والحاء والدال أصل يدل على الانفراد " (5). فتفسيرهم لمعنى الواحد تفسيرا سلبيا ليس بصحيح بل هو معلوم الفساد بالضرورة لذا "يقول لهم فيه أكثر العقلاء وأهل الفطر السليمة إنه أمر لا يعقل ولا له وجود في الخارج وإنما هو أمر مقدر في الذهن ليس في الخارج شيء موجود لا يكون له صفات ولا قدر ولا يتميز منه شيء عن شيء بحيث يمكن أن لا يرى ولا يدرك ولا يحاط به وإن سماه المسمى جسما. وأيضا فإن التوحيد إثبات لشيء هو واحد فلا بد أن يكون له في نفسه حقيقة ثبوتية يختص بها ويتميز بها عما سواه حتى يصح أنه ليس كمثله شيء في تلك الأمور الثبوتية ولا مجرد عدم المثل إذا لم يفد ثبوت أمر وجودي كان صفة للعدم فنفي المثل والشريك يقتضي ما هو عليه حقيقة يستحق بها واحدا .... لذلك أهل الإثبات من أهل السنة والحديث يصنفون كتب التوحيد يضمنونها ثبوت الصفات التي أخبر بها الكتاب والسنة لأن تلك الصفات في كتابه تقتضي التوحيد ومعناه" (6).والمقصود هنا أن التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه ليس هو هذه الأنواع الثلاثة التي ذكرتها الماتريدية وغيرهم من المتكلمين " وإن كان فيها ما هو داخل في التوحيد الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهم مع زعمهم أنهم الموحدون ليس في توحيدهم التوحيد الذي ذكر الله ورسوله بل التوحيد الذي يدعون الاختصاص به باطل في الشرع والعقل واللغة " (7). كما تقدم بيانه، "وذلك أن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات ونزهه عن كل ما ينزه عنه وأقر بأنه وحده خالق كل شيء لم يكن موحدا بل ولا مؤمنا حتى يشهد أن لا إله إلا الله فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له " (8). وبهذا يظهر لنا فساد تصور الماتريدية واعتقادهم لتوحيد الله وذلك أنهم اعتصموا بعقولهم ولم يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهما النور الذي أنزل الله على رسوله فمن اتبعه كان من المفلحين قال الله تعالى فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص189 - 194   (1) رواه مسلم (515) من حديث أبي هريرة بلفظ (أن سائلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في الثوب الواحد؟ فقال أو لكلكم ثوبان؟) (2) رواه البخاري (359) ومسلم (516) بلفظ عاتقيه (3) ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/ 488، 489) وانظر ((الفتاوى)) (6/ 112، 113، 17/ 235، وما بعدها). (4) ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/ 492، 493). (5) ((معجم مقاييس اللغة)) (6/ 90، 91)، وانظر ((تهذيب اللغة)) (5/ 192). (6) ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/ 483، 484). (7) ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/ 478). (8) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 225، 226). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 المطلب الأول: توحيد الربوبية والألوهية ترى الماتريدية كما مر معنا أن معرفة الله لا تتم إلا بالمعرفة الضرورية الفطرية بل لا تكون إلا بالاكتساب العقلي فلذا كان من الأصول التي تنبني عليها عقيدتهم (وجوب معرفة الله بالعقل) ورتبوا على ذلك إيجاب النظر والاستدلال وجعلوه أول واجب على العبد (1).وهذا مما جعلهم يتعبون أنفسهم في إقامة الأدلة والمقاييس العقلية لإثبات هذا النوع من التوحيد الذي لم ينازع في أصله أحد من بني آدم (2) وجعلوه هو الغاية الكبرى والمقصد الأسنى وأن من أتى به كان مؤمنا موحدا. وتقريرهم لتوحيد الربوبية يقوم على إثبات قضيتين: الأولى: إثبات وجود الله. الثانية: إثبات وحدانية الله في ربوبيته. وفيما يلي تفصيل القول في كل قضية على حدة: أولا: إثبات وجود الله: تعتقد الماتريدية أن الله تعالى لا يعرف إلا من طريق العالم وفي هذا يقول الماتريدي: " والأصل أن الله تعالى إذ لا سبيل إلى العلم به إلا من طريق دلالة العالم عليه بانقطاع وجوه الوصول إلى معرفته من طريق الحواس عليه أو شهادة السمع ... " (3). وهذه المعرفة تكون عندهم بإثبات حدوث العالم ثم الاستدلال بذلك على إثبات وجود محدثه تعالى. والماتريدي استدل على إثبات وجود الله بعدة أدلة ولكنها في الحقيقة جميعا ترجع إلى دليل واحد وهو دليل الحدوث والماتريدي ألمح في عدة مواضع من كتاب (التوحيد) إلى أن إثبات الصانع ليس له دليل إلا دليل الحدوث (4). كما أن النسفي أكد على أن العناية يجب أن تصرف لهذا الدليل، فلذا كان هو الدليل المعتمد عند الماتريدية حتى أنهم لا يلتفتون إلى غيره من الأدلة (5)، وعامة المتكلمين استدلوا بدليل الحدوث وعولوا عليه في إثبات وجود الله وإن كانوا قد اختلفوا في بعض التفريعات فقط (6).ودليل الحدوث في الأصل مأخوذ في الأصل عن المعتزلة والجهمية الذين تأثروا بالفلاسفة وقد اعترف بهذا الأشعري رحمه الله في (رسالته إلى أهل الثغر) ونص على هذا أيضا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في عدة مواضع من كتابه (درء تعارض العقل والنقل) من ذلك قوله رحمه الله: " والمعتزلة هم الأصل في هذه الطريقة (يعني دليل الحدوث) وعنهم انتشرت وإليهم تضاف ... " (7).   (1) انظر ((التوحيد)) ((135 - 137)، ((شرح المقاصد)) (1/ 44، 45، 48، 49)، ((إشارات المرام)) (84). (2) انظر ((نهاية الإقدام)) (123، 124)، ((الفتاوى)) (2/ 37، 38). (3) ((التوحيد)) (129). (4) ((التوحيد)) (231، 233). (5) انظر ((التوحيد)) (11 - 19، 40، 82، 141، 142)، ((أصول الدين)) (14، 15، 18)، ((تبصرة الأدلة)) (ل 32 وما بعدها)، ((التمهيد)) (4، 5)، ((البداية للصابوني)) (19، 20)، ((تفسير النسفي)) (1/ 200)، ((النور اللامع)) (ل 20 - 23) ((المسايرة)) (17، 18، 20، 21)، ((بيان الاعتقاد)) (ل 7، 8)، ((إشارات المرام)) (82 - 94). (6) ((الانتصار للخياط)) (36)، في ((التوحيد)) للنيسابوري (73)، ((شرح الأصول الخمسة)) (92 - 108)، ((رسائل العدل والتوحيد)) تحقيق محمد عمارة (203 - 209) ط2، دار الشروق، ((الإرشاد للجويني)) (17، 19)، ((الإنصاف)) للباقلاني (22)، ((نهاية الإقدام)) (5، 6)، ((أصول الدين)) للبغدادي (35)، ((محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين)) (82)، ((النظام وآراؤه الكلامية والفلسفية)) لأبي ريدة (6)، ((العقل والحرية)) (دراسة في فكر القاضي عبد الجبار) عبد الستار الراوي (240، 248 - 250، 288)، ((أبو الهذيل العلاف))، علي الغرابي 52، وما بعدها. (7) ((رسالة الأشعري إلى أهل الثغر ضمن درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 209، 211، 212). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 ويعرف دليل الحدوث بدليل حدوث الجواهر والأعراض وبدليل حدوث الأجسام وبدليل حدوث الأعراض وذلك أنهم يقررون قبل إقامتهم لمقدمات الدليل أن العالم وهو كل ما سوى الله تعالى من الموجودات ينقسم إلى جواهر وأعراض والجوهر هو ما له قيام بذاته والعرض ما لا قيام له بذاته ثم يبنون الدليل على هذا التقسيم ويقيمونه على أربع مقدمات كبرى وهي: الأولى: إثبات الأعراض. الثانية: إثبات حدوث الأعراض. الثالثة: إثبات عدم خلو الجواهر عن الأعراض. الرابعة: إثبات عدم تقدم الجواهر على الأعراض. والنتيجة أن العالم بجميع أجزائه حادث والحادث لابد له من من محدث وهو الله تعالى. وفيما يلي تفصيل الدليل كما ذكره أبو المعين النسفي في (التمهيد) " دليل ثبوت الأعراض أن الجوهر قد يكون ساكنا ثم يتحرك وهكذا على القلب ولو لم تكن الحركة والسكون معنيين وراء ذات الجوهر بل لو كانا راجعين إلى ذاته لكان في الأحوال أجمع ساكنا متحركا لوجود ذاته الموجب لهما ولما اختص كل صفة بحالة على حدة ثبتت الأعراض ثم الأعراض كلها حادثة عرف حدوث بعضها بالحس والمشاهدة وبعضها بحدوث أضدادها المنعدمة عند حدوثها بالدليل فإنها لما قبلت العدم دل أنها كانت حادثة إذ المحدث هو الذي يكون وجوده وعدمه في حيز الجواز فأما القديم وهو واجب الوجود لذاته فيكون مستحيل العدم فيكون جواز العدم وتحققه دليل الحدوث. وإذا كانت الأعراض كلها محدثة يستحيل خلو الجواهر عنها إذ وجود جوهرين غير متفرقين ولا مجتمعين وتوهم جسم في مكان واحد في حالة البقاء غير متحرك ولا ساكن محال وكذا خلو الجواهر عن الألوان كلها والطعوم والروائح مما يحيله العقل كما يحيل اجتماع المتضادات في محل واحد في وقت واحد وإذا استحال خلو الجواهر عنها استحال سبق الجواهر عليها لما أن في السبق الخلو والخلو محال فكان السبق محالا فإذن لم تسبق الجواهر الأعراض وما لا يسبق الحادث فهو حادث ضرورة لمشاركته المحدث فيما كان لأجله محدثا وهو أن لوجوده ابتداءً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 ودخل تحت هذه الدلالة جميع أجزاء العالم من السموات والأفلاك الدوارة والنجوم السيارة وغيرها والأرضين وما فيها من البحار والجبال والنبات والجماد وغير ذلك. ثم لما ثبت أن العالم محدث والمحدث ما كان جائز الوجود وما كان جائز الوجود كان جائز العدم وما جاز عليه الوجود والعدم لم يكن وجوده من مقتضيات ذاته فلم يكن اختصاصه بالوجود دون العدم - خصوصا بعد ما كان عدما- إلا بتخصيص مخصص ولهذا لا يثبت البناء دون الباني فلا بد من محدث له أحدثه وخصه بالوجود" (1).وهذه الطريقة التي استدلت بها الماتريدية على إثبات وجود الله والتي أحدثها المعتزلة والجهمية وتبعهم عليها من وافقهم من الأشعرية وغيرهم قد طعن فيها السلف والأئمة وأتباعهم وجمهور العقلاء من الفلاسفة والمتكلمين وبينوا أن الطرق التي دل عليها القرآن أصح منها (2).قال الإمام أبو العباس بن سريج رحمه الله: " توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتوحيد أهل الباطل الخوض في الأعراض والأجسام وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك " (3).وقال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله في الغنية: " إن الله سبحانه ... بعث رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله وسراجا منيرا وقال له: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة: 67] وقال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع وفي مقامات شتى وبحضرته عامة أصحابه: ((ألا هل بلغت)) (4) وكان الذي أنزل عليه من الوحي وأمر بتبليغه وهو كمال الدين وتمامه لقوله تعالى: أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3] فلم يترك صلى الله عليه وسلم شيئا من أمور الدين قواعده وأصوله وشرائعه وفصوله إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه إذ لا خلاف بين فرق الأمة أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال ومعلوم أن أمر التوحيد وإثبات الصانع لا تزال الحاجة ماسة إليه أبدا في كل وقت وزمان ولو أخر عنه البيان لكان التكليف واقعا بما لا سبيل للناس إليه وذلك فاسد غير جائز وإذا كان الأمر على ما قلناه وقد علم يقينا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعهم في أمر التوحيد إلى الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها إذ لا يمكن واحدا من الناس أن يروي عنه ذلك ولا عن أحد من الصحابة من هذا النمط حرفا واحدا فما فوقه لا من طريق تواتر ولا آحاد علم أنهم قد ذهبوا خلاف مذهب هؤلاء وسلكوا غير طريقتهم ولو كان في الصحابة قوم يذهبون مذاهب هؤلاء في الكلام والجدل لعدوا من جملة المتكلمين ولنقل إلينا أسماء متكلميهم كما نقل إلينا أسماء فقهائهم وقرائهم وزهادهم فلما لم يظهر ذلك دل على أنه لم يكن عندهم أصل " (5).   (1) ((التمهيد)) (4، 5)، وانظر ((رسالة في وجوه إثبات الواجب)) للدواني (عامة الرسالة). (2) انظر ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 242). (3) ((الدرء)) (7/ 185)، ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/ 487)، ((الفتاوى)) (17/ 305). (4) رواه البخاري (105) ومسلم (901). (5) ((الغنية ضمن صون المنطق)) (95، 96)، ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 296، 297). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 وقال: " إنا لا ننكر أدلة العقول والتوصل بها إلى المعارف ولكنا لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها على حدوث العالم وإثبات الصانع ونرغب عنها إلى ما هو أوضح بيانا وأصح برهانا وإنما هو شيء أخذتموه عن الفلاسفة وتابعتموهم عليه. وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات ولا يرون لها حقيقة فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء فأما مثبتو النبوات فقد أغناهم الله عز وجل عن ذلك وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريقة المتعرجة التي لا يؤمن العنت على راكبها والإيداع والانقطاع على سالكها ... " (1).قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد ذكره لكلام الإمام الخطابي: " وهذا الذي ذكره الخطابي يبين أن طريقة الإعراض من الكلام المذموم الذي ذمه السلف والأئمة وأعرضوا عنه كما ذكر ذلك الأشعري وغيره وأن الذين سلكوها سلكوها لكونهم لم يسلكوا الطريق النبوية الشرعية فمن لم يسلك الطرق الشرعية احتاج إلى الطرق البدعية بخلاف من أغناه الله بالكتاب والحكمة " (2).   (1) ((الغنية)) (94،95)، ((الدرء)) (293، 294). (2) ((الدرء)) (7/ 293، 294). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 والأشعري بين فساد هذا الدليل في (رسالته إلى أهل الثغر) بقوله: " ما يستدل به من أخباره عليه الصلاة والسلام على ذلك (أي على إثبات الصانع) أوضح دلالة من دلالة الأعراض التي اعتمد على الاستدلال بها الفلاسفة ومن اتبعهم من القدرية وأهل البدع المنحرفين عن الرسل عليهم السلام من قبل أن الأعراض لا يصح الاستدلال بها إلا بعد رتب كثيرة يطول الخلاف فيها ويدق الكلام عليها ... وفي كل رتبة ... فرق تخالف فيها ويطول الكلام معهم عليها وليس يحتاج ... في الاستدلال بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مثل ذلك لأن آياته والأدلة على صدقه محسوسة مشاهدة قد أزعجت القلوب وبعثت الخواطر على النظر في صحة ما يدعو إليه .... وإذا كان ذلك ما وصفنا بان ... أن طرق الاستدلال بأخبارهم (أي الرسل) عليهم السلام ... أوضح من الاستدلال بالأعراض إذ كانت أقرب إلى البيان على حكم ما شوهد من أدلتهم المحسوسة مما اعتمدت عليه الفلاسفة ومن اتبعهم من أهل الأهواء واغتروا بها ... ". ثم قال: " فأخلد سلفنا رحمة الله عليهم ومن اتبعهم من الخلف الصالح بعد ما عرفوه من صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما دعاهم إليه من العلم بحدثهم ووجود المحدث لهم بما نبههم عليه من الأدلة إلى التمسك بالكتاب والسنة وطلب الحق في سائر ما دعوا إلى معرفته منها والعدول عن كل ما خالفها ... وأعرضوا عما صارت إليه الفلاسفة ومن اتبعهم من القدرية وغيرهم من أهل البدع من الاستدلال بذلك على ما كلفوا معرفته لاستغنائهم بالأدلة الواضحة في ذلك عنه وإنما صار من أثبت حدوث العالم والمحدث له من الفلاسفة إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر لدفعهم الرسل وإنكارهم لجواز مجيئهم ... " (1).ومن الفلاسفة الذين بينوا فساد دليل الحدوث ابن رشد الحفيد في كتابه (مناهج الأدلة) حيث قال: " وأما الأشعرية فإنهم رأوا أن التصديق بوجود الله تبارك وتعالى لا يكون إلا بالعقل لكن سلكوا في ذلك طريقا ليست هي الطرق الشرعية التي نبه الله عليها ودعا الناس إلى الإيمان به من قبلها وذلك أن طريقتهم المشهورة انبنت على بيان أن العالم حادث، وانبنى عندهم حدوث العالم على القول بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ وأن الجزء الذي لا يتجزأ محدث والأجسام محدثة بحدوثه، وطريقتهم التي سلكوا في بيان حدوث الجزء الذي لا يتجزأ- وهو الذي يسمونه الجوهر الفرد- طريق معتاصة تذهب على كثير من أهل الرياضة في صناعة الجدل فضلا عن الجمهور ومع ذلك فهي طريقة غير برهانية ولا مفضية بيقين إلى وجود البارئ " (2).ثم ذكر بأن هذه الطريقة ليست نظرية يقينية ولا شرعية يقينية وقال: " وذلك ظاهر لمن تأمل أجناس الأدلة المنبهة في الكتاب العزيز على المعنى، أعني بمعرفة وجود الصانع، وذلك أن الطرق الشرعية إذا تؤملت وجدت في الأكثر قد جمعت وصفين أحدهما أن تكون يقينية والثاني أن تكون بسيطة غير مركبة أعني قليلة المقدمات فتكون نتائجها قريبة من المقدمات الأول" (3).هذا كلام ابن رشد وهو من كبار الفلاسفة السائرين على طريقة أرسطو وأتباعه يبين "أن الأدلة العقلية الدالة على إثبات الصانع مستغنية عما أحدثه المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم من طريقة الأعراض ونحوها وأن الطرق الشرعية التي جاء بها القرآن هي طرق برهانية تفيد العلم للعامة والخاصة والخاصة عنده يدخل فيهم الفلاسفة والطرق التي لأولئك هي مع طولها وصعوبتها لا تفيد لا العامة ولا الخاصة هذا مع أنه لم يقدر القرآن قدره ...   (1) ((الدرء)) (7/ 209، 212). (2) ((مناهج الأدلة)) تحقيق د محمود قاسم (135)، مكتبة الأنجلو المصرية 1955 م، ط دار الآفاق الجديدة 47، 48. (3) ((مناهج الأدلة)) ت قاسم (148) ط الآفاق (59). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 " (1). ومن الأئمة الذين بينوا فساد هذه الطريقة التي استدلت بها الماتريدية شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد نقد دليل الحدوث نقدا علميا موضوعيا في كثير من كتبه واستقصى جزئياته وبين تهافتها عقلا ونقلا وخاصة في كتابه العظيم (درء تعارض العقل والنقل). فمن الوجوه التي ذكرها رحمه الله في بيان فساد هذا الدليل أن الاستدلال على وجود الله بهذا الدليل بدعة في الدين أحدثها المعتزلة والجهمية ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وأتباعهم أنه قال بهذا. وأن هذا الدليل مبني على مقدمات طويلة غامضة مشكلة وينتهي إلى نتيجة هي أبين عند العقلاء من المقدمات فالطريقة لو قدر صحة مقدماتها فهي تطويل بلا فائدة واستدلال على الأظهر بالأخفى وعلى الأقوى بالأضعف كما لا يحد الشيء بما هو أخفى منه وإثبات الصانع لا يفتقر إلى حدوث الأجساد بل نفس ما يشهد حدوثه من الحوادث يغني عن ذلك والعلم بأن الحادث يفتقر إلى المحدث هو من أبين العلوم الضرورية والعقل يعلم ضرورة افتقار المحدَث إلى المحدِث الفاعل ويقطع به ويعلمه ضرورة. والدليل مبني على استعمال ألفاظ مجملة ومعان مبهمة لم يعرفها العرب في تخاطبهم ولم يستعملوها فيما بينهم .... واستعمال المتكلمين لهذا الدليل جعلهم يلتزمون لوازم فاسدة أوقعتهم في التناقض والاضطراب والحيرة والشك كنفي الصفات ونحوها. وبين رحمه الله تعالى الطريقة الشرعية في الاستدلال المذكورة في القرآن وأكد على أن الإقرار بالصانع ضروري فطري وأنه لم ينازع في أصل هذه المسألة أحد من بني آدم وإنما نازعوا في تفاصيله وأن الإقرار بالصانع ثابت في الفطرة وهو أرسخ المعارف وأثبت العلوم وأصل الأصول (2) قال رحمه الله: " الطريقة المذكورة في القرآن هي الاستدلال بحدوث الإنسان وغيره من المحدثات المعلوم حدوثها بالمشاهدة ونحوها على وجود الخالق سبحانه وتعالى فحدوث الإنسان يستدل به على المحدث لا يحتاج أن يستدل على حدوثه بمقارنة التغير أو الحوادث التي له ووجوب تناهي الحوادث. والفرق بين الاستدلال بحدوثه والاستدلال على حدوثه بين والذي في القرآن هو الأول لا الثاني كما قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35] فنفس حدوث الحيوان والنبات والمعدن والمطر والسحاب ونحو ذلك معلوم بالضرورة بل مشهود لا يحتاج إلى دليل وإنما يعلم بالدليل ما لم يعلم بالحس وبالضرورة. والعلم بحدوث هذه المحدثات علم ضروري لا يحتاج إلى دليل وذلك معلوم بالحس أو بالضرورة ... وحدوث الإنسان من المني كحدوث الثمار من الأشجار وحدوث النبات من الأرض وأمثال ذلك ومن المعلوم بالحس أن نفس الثمرة حادثة كائنة بعد أن لم تكن وكذلك الإنسان وغيره كما قال تعالى: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [مريم:67] وقال تعالى: قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا [مريم:9].وإذا كان كذلك فالطريقة المذكورة في القرآن هي المعلومة بالحس والضرورة ولا يحتاج مع ذلك إلى إقامة دليل على حدوث ما يحدث من الأعيان بل يستدل بذلك على وجود المحدث تعالى" (3).   (1) ((الدرء)) (9/ 333). (2) انظر ((الفتاوى)) (2/ 37، 38، 72)، ((الدرء)) (1/ 39، 40، 3/ 97، 109، 112، 7/ 223، 8/ 12، 9/ 132)، ((شرح الأصفهانية)) ط مخلوف (16، 17). (3) ((الدرء)) (7/ 219 - 223). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 وقال رحمه الله في موضع آخر موضحا أن الإقرار بوجود الله أمر فطري ضروري: " وأيضا فالحاجة التي يقترن مع العلم بها ذوق الحاجة هي أعظم وقعا في النفس من العلم الذي لا يقترن به ذوق ولهذا كانت معرفة النفوس بما تحبه وتكرهه وينفعها ويضرها هو أرسخ فيها من معرفتها بما لا تحتاج إليه ولا تكرهه ولا تحبه ... ولهذا كان أكثر الناس على أن الإقرار بالصانع ضروري فطري وذلك أن اضطرار النفوس إلى ذلك أعظم من اضطرارها إلى ما لا تتعلق به حاجتها ... ولا شيء أحوج إلى شيء من المخلوق إلى خالقه فهم يحتاجون إليه من جهة ربوبيته إذ كان هو الذي خلقهم وهو الذي يأتيهم بالمنافع ويدفع عنهم المضار" وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل:53] وكل ما يحصل من أحد فإنما هو بخلقه وتقديره وتسبيبه وتيسيره وهذه الحاجة التي توجب رجوعهم إليه بحال اضطرارهم وهذه الحاجة التي توجب رجوعهم إليه بحال اضطرارهم كما يخاطبهم بذلك في كتابه وهم محتاجون إليه من جهة ألوهيته فإنه لا صلاح لهم إلا بأن يكون هو معبودهم الذي يحبونه ويعظمونه ولا يجعلون له أندادا يحبونهم كحب الله بل يكون ما يحبونه سواه ... وإنما يحبونهم لأجله ... ومعلوم أن السؤال والحب والذل والخوف والرجاء والتعظيم والاعتراف بالحاجة والافتقار ونحو ذلك مشروط بالشعور بالمسئول المحبوب المرجو المخوف المعبود المعظم الذي تعترف النفوس بالحاجة إليه والافتقار ... فإذا كانت هذه الأمور مما تحتاج النفوس إليها ولا بد لها منها بل هي ضرورية فيها كان شرطها ولازمها وهو الاعتراف بالصانع والإقرار به أولى أن يكون ضروريا في النفوس. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ((كل مولود يولد على الفطرة)) (1) وقوله فيما يروي عن ربه: ((خلقت عبادي حنفاء)) (2) ونحو ذلك لا يتضمن مجرد الإقرار بالصانع فقط بل إقرارا يتبعه عبودية لله بالحب والتعظيم وإخلاص الدين له وهذا هو الحنيفية" (3).ثم قال: " والمقصود هنا أن كثيرا مما يجعلونه مقدمات في أدلة إثبات الصانع وإن كان حقا فإنه لا تحتاج إليه عامة الفطر السليمة .... " (4)." ومن أعظم المصائب أن يصاب الإنسان فيما لا سعادة له ولا نجاة له إلا به ويصاب في الطريق الذي يقول أنه به يعرف ربه ويرد عليه فيه إشكال لا ينحل ... " (5).   (1) رواه البخاري (1385) واللفظ له ومسلم (2658). (2) رواه مسلم (2865). (3) ((الدرء)) (3/ 134 - 137). (4) ((الدرء)) (3/ 142). (5) ((الدرء)) (3/ 186). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 وقد اعترف حذاق الكلام بأن الإقرار بوجود الله أمر ضروري فطري إذ لا سبيل إلى إنكار ذلك ومن أنكره إنما هو مكابر معاند. قال الشهرستاني في (نهاية الإقدام): " أما تعطيل العالم عن الصانع القادر الحكيم فلست أراها مقالة لأحد ولا أعرف عليه صاحب مقالة إلا ما نقل عن شرذمة قليلة من الدهرية ... فإن الفطر السليمة الإنسانية شهدت بضرورة فطرتها وبديهة فكرتها على صانع حكيم عالم قدير أَفِي اللهِ شَكٌّ [إبراهيم:10] وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87] وإن هم غفلوا عن هذه الفطرة في حال السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضراء ... لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) سورة النجم في البحر ضل من تدعون إلا إياه وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ [الإسراء: 67] ولهذا لم يرد التكليف بمعرفة وجود الصانع وإنما ورد بمعرفة التوحيد ونفي الشريك: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا)) (1) ولهذا جعل محل النزاع بين الرسل وبين الخلق في التوحيد .... " (2). وبهذا يتبين لنا فساد دليل الحدوث الذي جعلته الماتريدية طريقهم لمعرفة الله تعالى وأتعبوا أنفسهم في تقريره وكلفوا الناس أمرا لا يطيقونه ولم يشرعه الله تعالى ولا رسوله فابتعدوا عن المنهج القرآني فضلوا وأضلوا. ثانيا: إثبات وحدانية الله تعالى في ربوبيته: استدلت الماتريدية على إثبات وحدانية الله تعالى في ربوبيته بالدليل المشهور عند المتكلمين والمعروف بدليل التمانع (3) وهذا الدليل نجده بصورة مطردة عند جميع الماتريدية حتى أنهم في كثير من كتبهم لا يذكرون غيره (4).وقد استدل الماتريدي بأدلة أخرى كاستدلاله بتناهي العالم وآيات الأنبياء والرسل واتساق العالم ودقة صنعه وقد نص على هذا في كتاب (التوحيد) بقوله: " والدلالة أن محدث العالم واحد ... اتفاق القول ... على أن الواحد اسم لابتداء العدد واسم للعظمة والسلطان والرفعة والفضل كما يقال فلان واحد الزمان ومنقطع القرين في الرفعة والفضل والجلال وما جاوز ذلك لا يحتمل غير العدد فيجب أن يكون العالم غير متناه إذ لو كان منهم شيء واحد فيخرج الجملة عن التناهي بخروج المحدثين وذلك بعيد ثم ما من عدد يشار إليه إلا وأمكن من الدعوى أن يزاد عليه وينقص منه فلم يجب القول بشيء لما لا حقيقة لذلك بحق العدد لا يشارك فيه غيره لذلك بطل القول به " (5).   (1) رواه البخاري (392) ومسلم (20). (2) ((نهاية الإقدام)) (123، 124)، واستشهد بكلام الشهرستاني هذا شيخ الإسلام في عدة مواضع في ((الدرء)) انظر (3/ 128، 129، 7/ 396 - 398). (3) انظر ((اللمع)) للأشعري (8)، ((الإنصاف)) للباقلاني (30)، ((التمهيد)) له أيضا (46)، ((الإرشاد)) للجويني (53)، ((نهاية الإقدام)) (91 - 93)، ((المواقف)) (278، 279)، ((شرح العقائد النسفية)) (93، 95) في ((التوحيد)) للنيسابوري 628، ((شرح الأصول الخمسة)) (285، 286). (4) انظر مثلا ((التوحيد)) للماتريدي (20، 21، 140)، ((تبصرة الأدلة)) (ل 35)، وما بعدها، ((التمهيد)) (6)، ((النور اللامع)) (ل22، 23)، ((المسايرة)) (42 - 48)، ((شرح الطحاوية)) للميداني (48). (5) ((التوحيد)) (19) قال د فتح الله خليف حول استدلال الماتريدي بتناهي العالم: " وأما فكرة تناهي العالم التي يتخذها الماتريدي هنا أساسا للبرهنة على وحدانية الله فهي فكرة أرسطية ... " مقدمة ((كتاب التوحيد)) (م 35)، قلت ولا يبعد أن الماتريدي قد تأثر بفكر أرسطو فقد اطلع على بعض كتبه كما أشار هو إلى ذلك في كتاب ((التوحيد)) (ص 147). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 وقال في استدلاله بآيات الأنبياء والرسل واتساق العالم: " إنه لم يذكر عن غير الإله الذي يعرفه أهل التوحيد دعوى الألوهية والإشارة إلى أثر فعل منه يدل على ربوبيته ولا وجد في شيء معنى أمكن إخراجه عن حمله ولا بعث رسلا بالآيات التي تقهر العقول ويبهر لها فتثبت أن القول بذلك خيال ووسواس. و ..... مجيء الرسل بالآيات التي يضطر من شهدها أنها فعل من لو كان معه شريك ليمنعهم عن إظهارها إذ بذلك إبطال ربوبيتهم وألوهيتهم فإذا لم يوجد ولا منعوا عن ذلك مع كثرة المكابرين لهم والمعاندين ممن لو أحبوا وجود الإبصار لهم في إظهار آياتهم لوجدوا فثبت أن ذلك إنما سلم للرسل لما لم يكن الإله الحق والخالق للخلق غير الواحد القهار الذي قهر كل متعنت مكابر عن التمويه فضلا عن التحقيق .... " (1).وقال: " وأما دلالة الاستدلال بالخلق فهو أنه لو كان أكثر من واحد لتقلب فيهم التدبير نحو أن تحول الأزمنة من الشتاء والصيف أو تحول خروج الإنزال وينعها أو تقدير السماء والأرض أو تسيير الشمس والقمر والنجوم أو أغذية الخلق أو تدبير معاش جواهر الحيوان فإذا دار كله على مسلك واحد ونوع من التدبير واتساق ذلك سنن واحد لا يتم إلا بمدبرين لذلك لزم القول بالواحد ... " (2).وهذه الأدلة عند الماتريدي أدلة سمعية حسية وأما الدليل العقلي عنده فهو دليل التمانع (3). لذلك احتل دليل التمانع عند الماتريدية الصدارة حتى أصبحوا لا يذكرون غيره وذلك لأن مصدر التلقي عندهم العقل كما تقدم. وصورة دليل التمانع عندهم كما يعرضه أبو المعين النسفي في (التمهيد) هي: " إذا ثبت أن للعالم محدثا أحدثه وصانعا صنعه كان الصانع واحدا إذ لو كان له صانعان لثبت بينهما تمانع وذلك دليل حدوثهما أو حدوث أحدهما فإن أحدهما لو أراد أن يخلق في شخص حياة والآخر أراد أن يخلق فيه موتا وكذا هذا في جميع المتضادات كالحركة والسكون والاجتماع والافتراق والسواد والبياض وغير ذلك إما أن حصل مرادهما ووجد في المحل المتضادات وهو محال وإما أن تعطلت إرادتهما ولم تنفذ ولم يحصل في المحل لا هذا ولا ذاك وهو تعجيزهما وإما أن نفذت إرادة أحدهما دون الآخر وفيه تعجيز من لم تنفذ إرادته والعجز من أمارات الحدث فإذا لم يتصور إثبات صانعين قديمين للعالم فكان الصانع واحدا ضرورة " (4).وهذا الدليل لا ريب أنه دليل صحيح وبرهان تام على إثبات امتناع صدور العالم عن اثنين (5).   (1) ((التوحيد)) (20). (2) ((التوحيد)) (21). (3) ((التوحيد)) (20، 21). (4) ((التمهيد)) (6). (5) انظر ((درء تعارض العقل والنقل)) (9/ 354، 355). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 ومن قال بعدم صحته فلا شك أنه قد أخطأ. ولكن اعتقاد الماتريدية بأن هذا الدليل هو المقصود بقوله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]. اعتقاد باطل وفهم سقيم لكلام الله والذي جعلهم يقولون هذا هو اعتقادهم أن الإله بمعنى الآله- اسم فاعل- وأن الإلهية هي القدرة على الاختراع (1). فالإله عندهم هو بمعنى الرب وأن الآية دلت على انتفاء ربيَّن فقط وذلك بتقدير امتناع الفعل من رَبَّين فالآية عندهم دلت على نفي الشرك في الربوبية فقط وهو مطلوب دليل التمانع بينما الآية قد " دلت على ما هو أكمل وأعظم من هذا وأن إثبات ربيَّن للعالم لم يذهب إليه أحد من بني آدم ... ولكن الإشراك الذي وقع في العالم إنما وقع بجعل بعض المخلوقات مخلوقة لغير الله وفي الإلهية بعبادة غير الله تعالى واتخاذ الوسائط ودعائها والتقرب إليها ... فأما إثبات خالقين للعالم متماثلين فلم يذهب إليه أحد من الآدميين، وقد قال تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ والرسل دعوا الخلق إلى توحيد الإلهية وذلك متضمن لتوحيد الربوبية كما قال كل منهم لقومه اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وإلا فمجرد توحيد الربوبية قد كان المشركون يقرون له وذلك وحده لا ينفع وهؤلاء الذين يريدون تقرير الربوبية يظنون أن هذا هو غاية التوحيد ... وهذا من أعظم ما وقع فيه هؤلاء ... من الجهل بالتوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب " (2).فأدلتهم "وإن كانت صحيحة فلم تنازع في هذا التوحيد أمة من الأمم وليست الطرق المذكورة في القرآن هي طرقهم كما أنه ليس مقصود القرآن هو مجرد ما عرفوه من التوحيد" (3). فعلى هذا هنالك فرق كبير بين مطلوب الآية ومطلوب دليل التمانع، فمطلوب الآية هو إثبات توحيد الإلهية بفساد العالم لو وجد من يستحق العبادة مع الله أحد غير الله تعالى. بينما مطلوب دليل التمانع هو إثبات توحيد الربوبية بفساد العالم لو وجد خالق آخر للعالم. فالفرق بين المطلوبين فرق شاسع فكيف يصح القول بأن مطلوب الآية هو مطلوب دليل التمانع؟! توحيد الإلهية: لم تتعرض الماتريدية- كغيرها من الفرق الكلامية- لتوحيد الإلهية ولم يتنبه أحد منهم إليه مع أنه قطب رحى الدين وأول وآخر دعوة الأنبياء والمرسلين ولم يفرقوا بين توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية بل خلطوا بين معنى الإلهية ومعنى الربوبية وظنوا أن معنى الإلهية هو القدرة على الاختراع فلذا اعتقدوا أن توحيد الربوبية هو المقصود في قوله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22] ونحوها من الآيات وظنوا بأن المراد بالتوحيد- الذي هو حق الله على عباده- هو مجرد توحيد الربوبية وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم وظنوا أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد وأن من جاء به فقد أخلص الدين كله لله وصار مؤمنا موحدا ..... وجهل الماتريدية بهذا النوع من التوحيد الذي هو أصل الأصول وأس الدين وأساسه يرجع لفساد أصل منهجهم في التلقي حيث إنهم تلقوا عقيدتهم من العقل بزعمهم ولم يتلقوها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فضلوا وأضلوا المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص 195 - 215   (1) ((التوحيد للماتريدي)) (20، 21)، ((تبصرة الأدلة)) (ل 35، وما بعدها)، ((النور اللامع)) (ل 22، 23)، ((المسايرة)) (42 - 48)، ((ضوء المعالي)) (18، 19)، ((شرح الطحاوي)) للميداني (48). (2) ((الدرء)) (9/ 344، 345، 348، 377، 378). (3) ((الدرء)) (9/ 344، 345، 348، 377، 378). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 إن المتكلمين من الماتريدية والأشعرية لا يوجد عندهم "توحيد الألوهية" فليس عندهم بعد توحيد الذات إلا نوعان من التوحيد: الأول: توحيد الصفات. الثاني: توحيد الأفعال. أما توحيد الصفات فقد عرفت في الفصول السابقة أن توحيدهم هذا فيه تلحيد وإلحاد وتخريف وتعطيل وتحريف. حيث أرادوا تحقيق التنزيه فوقعوا في أقبح التشبيه. فشبهوا الله بالحيوانات العجماوات، والجمادات الصامتات، والمعدومات، اللاشيات، والممتنعات المستحيلات المحالات. فنعوذ بالله من تفسيرهم الذي يورث التعطيل والتحريف والتشبيه كما قاله الإمام الأشعري رحمه الله. أما توحيد الأفعال: فهو أشهر أنواع التوحيد عندهم، وهو توحيد الربوبية، والخالقية، بمعنى "أن الله خالق العالم وحده، ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب، والغاية، وأنه معنى "لا إله إلا الله"؟ حيث إنهم فسروا "الألوهية بمعنى "القدرة على الاختراع" (1). فعطلوا صفة "ألوهية" الله تعالى، وحرفوها إلى صفة "الخالقية" و"القادرية". ولذلك نرى الماتريدية والأشعرية يعرّفون التوحيد بتعريفات مجملة ناقصة غير جامعة لأهم أنواع التوحيد ألا وهو "توحيد الألوهية" الغاية العظمى. وقد سبق أن ذكرنا نصوصهم في تعريف التوحيد" (2).حتى أن الشيخ محمد عبده ماتريدي الأزهر (1323هـ) صرح بأن "توحيد الربوبية" هو الغاية حيث قال بعد تعريفه: "وهذا المطلب كان الغاية العظمى من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ... ". (3). فأنت ترى أن هذه التعريفات التي ذكرنا عن الماتريدية تدور حول "توحيد الربوبية" وأنه هو الغاية، ولا تتناول "توحيد الألوهية"؛ مع أنه أهم أنواع التوحيد كلها، وهو الغاية العظمى والمقصد الأسنى الأسمى. وليس توحيدُ "الربوبية" "الخالقية" هو "الغاية العظمى". وقد وصل بعض الكوثرية في الهذيان إلى حد قالوا: إن تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية، "والألوهية" من مخترعات ابن تيمية (4). مع أن تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية يوجد في كلام الإمام أبي حنيفة رحمه الله حيث قال في صدد إقامة الحجة العقلية على علو الله تعالى:"والله يدعى من أعلى لا من أسفل لأن الأسفل ليس من وصف الربوبية والألوهية في شيء (5). وقد قال الإمام أبي جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى (321هـ):"نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله، إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله ولا شيء يعجزه، ولا إله غيره" (6). فقوله: "إن الله واحد" توحيد إجمالي يشمل الأقسام كلها، فهو "المقسم" "الكلي" وقوله: "ولا شيء مثله" توحيد الأسماء والصفات، وقوله: "ولا شيء يعجزه" توحيد الربوبية، وقوله: "ولا إله غيره" توحيد الألوهية.   (1) ((التدمرية)) (ص 179 - 180، 185 - 186)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 98، 101). (2) راجع ((التبيان)) للفنجفيري (ص 58 - 59). (3) ((رسالة التوحيد)) (ص 43). (4) ((برائة أبي حامد)) (ص 89 - 95، 166 - 167) و ((توسله)) (ص 20 - 26، 97) وانظر ((براهين القضاعي)) (ص 377 - 381)، و ((ردود النوري)) (ص 237 - 255) و ((مقالات الدجوي)) (1/ 249). (5) انظر: ((الفقه الأبسط)) (ص 51)، وسكت عليه الكوثري فهو حجة عليه. (6) ((العقيدة الطحاوية مع شرح ابن أبي العز)) (ص 74 - 111)، و ((بشرح الغنيمي)) (ص 47 - 48)، و ((بحواشي ابن مانع)) (ص 6)، و ((بتعليقات الألباني)) (ص 17 - 18)، و ((ضمن مجموع الفتاوى لابن باز)) (2/ 74) و ((بشرح البابرتي الحنفي)) (ص 28). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 وخرق بعضهم فارتكب حمقاً جلياً فقال: إن القائل "ربي الله" معترف بتوحيد الربوبية والألوهية جميعاً (1). فجعل مشركي العرب موحدين معترفين مؤمنين بلا إله إلا الله!. وكفى به ضلالاً مبيناً، ومن لوازمه: أن من قال: لا رب إلا الله فهو مسلم؛ لأن هذا القائل عند هذا الأخرق - كمن قال: لا إله إلا الله!!!. وأشنع وأبشع من هذا كله ما ارتكب من يدعي "محمد بن علوي المالكي" من تزوير وتدليس وتحريف وتلبيس؛ حيث صرح دون حياءٍ؛ بأن أولئك المشركين ما كانوا جادين فيما يحكي ربنا عنهم: من اعترافهم بأن الله هو الخالق الرازق الرب المدبر المحيي المميت، وقولهم: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، بل كانوا هازلين في جميع ما اعترفوا به (2). قلتُ: هذا تكذيب صريح لله تعالى وكتابه المهيمن وإفساد وإلحاد إلى الغاية. وهكذا تلعب البدع والخرافات بأهلها حتى أوصلتهم إلى هذا الحد. وقد ذكرني هذا اللعاب الذي لعب بكتاب الله حتى ظن أنه هزل لا جد - ما هذى ابن سينا الحنفي القرمطي (428هـ) وكثير من كبار أئمة الكلام أمثال: الغزالي (505) والرازي (606هـ) من الأشعرية، والتفتازاني (792هـ) والبياضي (1098هـ) من الماتريدية، من أن الكتب السماوية وملل الأنبياء، إنما جاءت بما يوافق ظاهر اعتقاد الجمهور من أن الله تعالى فوق العالم استدراجاً لهم إلى الدين الحق لئلا يتنفروا عن قبول الدعوة ولا يتسارعوا إلى الإنكار والعناد. وليس القصد بنصوص كون الله تعالى فوق العالم، أن الله فوق العالم حقيقة. قلتُ: الإنسان إذا وصل إلى هذا الحد في الخرق والحمق والسفسطة والقرمطة - فهو ساقط عن مرتبة الخطاب إلى اصطبل الدواب. الحاصل: أنه لا يوجد عند هؤلاء المتكلمين "توحيد الألوهية" بوجه أتم وأكمل مفسر ومفصل. فإن قيل: إن "الألوهية" تدخل في الصفات. قلنا: لا شك أن صفة "الألوهية" من أعظم صفات الله تعالى التي انفرد بها. ولكن الماتريدية والأشعرية لم يثبتوها "صفة" لله تعالى؟. لأنهم حصروا صفات الثبوتية الذاتية - التي يسمونها - "صفات المعاني". في أربع على الاتفاق، وهي "الحياة" "والعلم" "والقدرة" "والإرادة" على تفلسف فيها واختلفوا في "السمع والبصر". وزادت الماتريدية صفة "التكوين" خلافاً للأشعرية، ولكن الخلاف في الحقيقة راجع إلى اللفظ، وأن "التكوين" عبارة عن القدرة والإرادة. أما صفة "الكلام" فقد عرفت أنهم عطلوها وحرفوا نصوصها إلى "الكلام النفسي" وقالوا جهاراً دون إسرار بلا حياء ولا تقى: بخلق القرآن، وبخلق أسماء الله تعالى الحسنى. فأين في هذه الصفات المحصورة "صفة الألوهية" التي هي غاية خلق الجن والإنس ولتحقيقها أنزلت الكتب وأرسلت الرسل؟! بل الماتريدية أرجعوا هذه الصفة العظيمة إلى صفة "التكوين" "والصنع" و"الاختراع" ويشهد لذلك وجوه ثلاثة: الوجه الأول: أن العلامة الكشميري أحد كبار أئمة الماتريدية الديوبندية (1352هـ) قد قال: "الأسماء الحسنى عبارة عن الإضافات عند الأشاعرة، أما عند الماتريدية فكلها مندرجة في صفة التكوين" (3). قلتُ: من المعلوم أن في أسماء الله الحسنى "الاسم الأعظم" وهو "الله" كما أن فيها اسماً حسناً آخر لله وهو "الإله".   (1) ((البراهين الساطعة)) لسلامة القضاعي العزامي الكوثري (ص 38)، والكتاب قدم له الكوثري و ((براءة الأشعريين) لأبي حامد (ص 91 - 92) و ((التوسل له)) (ص 22 - 23). (2) راجع ((مفاهيم: يجب أن تصحح)) (ص 26، 27)، وانظر الرد عليه في ((هذه مفاهيمنا)) (ص 104 - 120). (3) انظر ((فيض الباري)) (4/ 517). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 وهذان الاسمان الحسنان يدلان على صفة "الألوهية" لله تعالى أقطع دلالة فكيف تكون صفة "الألوهية" من صفات الأفعال التي مرجعها إلى صفة التكوين؟! مع أنها من أعظم صفات الله الثبوتية الذاتية. الوجه الثاني: أن الماتريدية فسروا "الإله" بالصانع القادر المالك صرح بذلك خيالهم الذي غلب أفكاره خيالات كلامية (862هـ)،وكستليهم (901هـ) وبهشتيهم (979هـ) وجنديهم (؟) وغيرهم من الماتريدية والرستمي من الفنجفيرية النقشبندية (1). الوجه الثالث: أن الإمام أبا منصور الماتريدي (333هـ) وكبار الماتريدية بعده يحتجون على إثبات توحيد الربوبية الخالقية وكون الله تعالى صانعاً وحده، للعالم ومحدثاً له. بما يسمونه "برهان التمانع". فقالوا: واللفظ للتفتازاني فيلسوف الماتريدية (792هـ): "المحدث للعالم هو الله تعالى، أي الذات الواجب الوجوب ... ، الواحد، يعني: أن صانع العالم واحد ... والمشهور في ذلك بين المتكلمين "برهان التمانع" المشار إليه بقوله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء: 22] وتقريره: أنه لو أمكن إلهان لأمكن بينهما تمانع، بأن يريد أحدهما حركة زيد، والآخر سكونه ... وحينئذ إما أن يحصل الأمران - فيجتمع الضدان، أولا - فيلزم عجز أحدهما ... " (2). فأنت ترى أيها المسلم إلى هؤلاء الدهماء كيف قلبوا آية عظيمة جاءت لتقرير توحيد الألوهية "العبادة" إلى كونها برهان التمانع على إبطال صانعين ربين لهذا العالم؛ ففسروا الإله "بالرب الخالق". وفسروا صفة "الألوهية" بالربوبية والخالقية والصانعية والمالكية. فوقعوا في خرق وحمق، وخرجوا على لغة العرب، وعطلوا صفة "الألوهية"، وحرفوا نصوصها إلى صفة "الربوبية الخالقية الصانعية"؛ لأن تفسير صفة بأخرى - كتفسير "اليد" بالقدرة أو النعمة - تعطيل وإبطال لها. حتى بشهادة الإمام أبي حنيفة رحمه الله وشهادة ثمانية من كبار أئمة الماتريدية. المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات لشمس السلفي الأفغاني 3/ 163 - 170   (1) انظر ((حاشية أحمد بن موسى الخيالي على شرح التفتازاني/ للعقائد النسفية، لعمر النسفي، مع حاشية رمضان البهشتي على حاشية الخيالي)) (ص 51) و ((حاشية مصلح الدين مصطفى الكستلي على شرح التفتازاني للعقائد النسفية)) (ص 63) و ((حاشية الملا أحمد الجندي عليه)) (ص 87)، و ((التبيان لعبد السلام الفنجفيري)) (ص 58 - 59). (2) شرح ((تبصرة العقائد النسفية)) (ص 31 - 33)؛ و ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص 20 - 21)، و ((تبصرة الأدلة)) لابن أبي المعين النسفي (36/أ – 37 – ب)، ((البداية)) للصابوني (ص 40)، ((المسايرة)) لابن الهمام مع شرحيها لابن أبي شريف، وقاسم بن قطلوبغا (ص 44 - 45)، و ((نشر الطوالع)) (ص 237 - 238)، و ((النبراس)) (ص 155 - 161)، و ((مرام الكلام)) (ص 13)، كلاهما للفريهاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 تمهيد لقد عرضت للمعطلة بما فيهم الماتريدية شبهة - هي أساس كل فساد وضلال- حول صفات الله تعالى، ونصوصها في الكتاب والسنة، وهي أن ظاهر نصوص الصفات تشبيه الله تعالى بخلقه، ولو تركنا هذه النصوص على ظاهرها بدون تفويض أو تأويل، وأثبتنا ما تدل عليها دلالة حقيقة من العلو، والاستواء، والنزول، والوجه، واليدين، والغضب، والرضى، ونحوها، ولم نصرفها إلى المعاني المجازية، يلزم من ذلك تشبيه، وهذا يخالف التنزيه. وهذه الشبهة هي أصل أصولها الثلاثة الأخرى، وهي: 1 - أن العقل يستحيل ما تدل عليه ظواهر هذه النصوص، وهي ظواهر ظنية في معارضة البراهين العقلية القطعية فنقدم عليها البراهين العقلية. 2 - أما هذه الظواهر الظنية فهي إما أن نفوض معانيها إلى الله تعالى كما فعله السلف في زعمهم الباطل. 3 - وإما أن نؤولها بأنواع من المجازات إلى معانٍ توافق البراهين العقلية، كما سيأتي تفصيل ذلك في الفصول الثلاثة الآتية. وأنا بمشيئة الله تعالى أتحدث في هذا المبحث عن هذه الشبهة التي هي أم الشبهات، وأذكر تاريخها، ثم أذكر نماذجها عن كتب الماتريدية حيث طبقوها عملياً على صفات الله تعالى، ثم أناقشهم في المبحث الثاني بتوفيق الله عز وجل، فأقول وبه أستعين. لما كانت قلوب السلف الصالح وفيهم الإمام أبو حنيفة سليمةً وفطرهم مستقيمةً، وأذهانهم صافيةً مطهرةً من أرجاس الفلسفة وأنجاس بيئة الكلام، لم يخطر ببالهم أن نصوص الصفات توهم التشبيه ولا ظنوا أن صفات الله تعالى تشبهُهُ صفاتُ المخلوقين، فكان منهجهم إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً في بعض الصفات كالقول في بعضها على طريقة واحدة، فلم يكن عندهم شيء من التشبيه والتعطيل ولا عندهم شيء من التفويض والتأويل كما سيأتي. وتحقيقاً لما قلنا وتمثيلاً لذلك أُقدِّم نصاً للإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، ليكون قولا فاصلا قاطعا قاضيا على الماتريدية:"وله يد ووجه ونفس كما ذكره الله تعالى في القرآن، فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه، واليد، والنفس فهو له صفات بلا كيف، ولا يقال: إن يده قدرته، أو نعمته، لأن فيه إبطال الصفة، هو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفة بلا كيف، وغضبه، ورضاه صفتان من صفاته تعالى بلا كيف" (1).وقال: "لا ينبغي لأحد أن ينطق في الله تعالى بشيء في ذاته، ولكن نصفه بما وصف سبحانه به نفسه .. " (2).وقال: "لا يوصف الله بصفات المخلوقين، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف، وهو قول أهل السنة والجماعة، وهو يغضب ويرضى ولا يقال: غضبه عقوبته، ورضاه ثوابه، ونصفه كما وصف نفسه ... " (3). فهذه عقيدة الإمام أبي حنيفة - تمثل عقيدة السلف في الصفات وتقضي على شبهة التشبيه أولاً وعلى التفويض ثانياً والتأويل ثالثاً. ولكن الحنفية الماتريدية لسبب تأثرهم ببيئة الجهمية تخيلوا من صفات الله تعالى ما يليق بالمخلوقين فكان هذا هو الدافع لهم على التفويض أو التأويل كما كان الجهمية الأولى تزعم أن إثبات الصفات لله تعالى كفر وتشبيه؛ بل القرامطة الباطنية بنوا التعطيل على هذه الشبهة نفسها.   (1) ((الفقه الأكبر مع شرحه)) للقاري (ص 58 - 59) و ((مع شرحه)) للمغنيساوي (ص 13). (2) رواه الإمام القاضي أبو العلاء صاعد بن محمد إمام الحنفية في كتابه الاعتقاد عن أبي يوسف عنه. انظر ((جلاء العينين)) لنعمان الآلوسي (ص 368). (3) ((الفقه الأبسط)) لأبي حنيفة – تحقيق الكوثري (ص56) وسكت عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 قال الإمام أحمد عن الجهم (128هـ): " ... ووجد ثلاث آيات من المتشابه قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ الأنعام:3 [، لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ] الأنعام:103 [] فهي أصل كلامه على هذه الآيات، وتأويل القرآن على غير تأويله، وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله -صلى الله عليه وسلم- كان كافراً، وكان من المشبهة. فأضل بكلامه بشراً كثيراً، وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة، وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية" (1).وقال: "وقالوا: لم يتكلم ولا يتلكم، لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة، والجوارح منفية" (2).وقال: "وقالوا: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، إنما كون شيئاً فعبر عن الله وخلق صوتاً فأسمع، وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف، ولسان وشفتين" (3).هذه كانت شبهة الجهمية في التعطيل بشهادة الإمام أحمد إمام أهل السنة والجماعة. وتبعهم في ذلك الحنفية الماتريدية حذو النعل ورددوا صداهم وطبقوها عملياً فترى كتب الماتريدية مكتظة بهذه الشبهة الجهمية الدافعة لهم على تحريف النصوص وتعطيل الصفات تحريفاً يسمونه تأويلاً، فنراهم كلما يؤولون صفة من صفات الله تعالى يتشبثون بتلك الشبهة الباطلة (4).ويزعمون أن حمل هذه النصوص على ظاهرها يستحيله العقل فهي إما أن يفوض في معانيها أو تؤول فهم أولاً وقعوا في التشبيه، وثانياً فروا منه، وثالثاً حرفوا النصوص، ورابعاً عطلوا الصفات، وخامساً وقعوا فيما فروا منه من التشبيه والتمثيل بل أشد منه حيث وصفوا الله بصفات المعدوم بل الممتنع (5).   (1) ((الرد على الجهمية)) (ص104 - 105)، وانظر ((سنن الترمذي)) (ص3/ 41 - 42)، و ((فتح الباري)) (13/ 407) ((شذرات البلاتين)) تحقيق الفقي: 15. (2) ((الرد على الجهمية)) (ص 106)، ((شذرات البلاتين)) (ص 16). (3) ((الرد على الجهمية)) (ص 130)، و ((ضمن شذرات البلاتين)) (ص 30). (4) انظر ((هذه القاعدة في ((المسايرة)) مع المسامرة)) (ص 35، 29)، ((أصول الدين)) لأبي اليسر البزدوي (ص 25)، و ((إشارات المرام)) (ص107، 189)، و ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص 42)، و ((حاشية الكستلي على شرح العقائد)) (ص 73)، و ((حاشية الخيالي على شرح العقائد)) (ص 57)، و ((حاشية البهشتي على حاشية الخيالي)) (ص 57)، و ((حاشية العصام على شرح التلفتازاني على العقائد النسفية)) (ص 163، 158) ((شرح المقاصد)) (4/ 50). (5) راجع ((رسالة في إثبات الاستواء والفوقية للجويني ضمن مجموعة الرسائل المنيرية)) (ص1/ 181)، ((درء التعارض)) (4/ 9)، و ((التدمرية)) (ص 19، 79 – 85)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 48 - 53، 9)، و ((الحموية)) (ص32 - 33)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 27 – 28، 196، 261)، و ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص 245)، و ((جلاء العينين)) لنعمان الآلوسي (ص 391)، ومقدمة أبي الحسن الندوي لكتاب ((العقيدة السنية)) للشاه ولي الله الدهلوي (ص 7). وسيأتي مزيد الشرح في مناقشتنا للماتريدية في تعطيلهم لصفة "العلو". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 كما سيأتي شرحه إن شاء الله، وسادساً وقعوا في التناقض الواضح والاضطراب الفاضح حيث أثبتوا بعض الصفات وعطلوا بعضها بهذه الشبهة الجائزة مع أن تلك الشبهة موجودة فيما أثبتوه من الصفات أيضاً إذ لا فرق بين ما أثبتوه وبين ما نفوه، ولذلك نرى الجهمية الأولى والمعتزلة ينفون جميع الصفات بتلك الشبهة والغلاة من الجهمية ينفون الأسماء أيضاً (1).لأن هؤلاء الماتريدية على عادة المعطلة يتبادر إلى أذهانهم أن صفات الله تعالى من جنس صفات المخلوقين فتخيلوا من صفات الله تعالى ما تخيلوا من صفات المخلوقين من اللوازم كما خيل ذلك إلى الجهمية الأولى فقاسوا لخالق على المخلوق كما حقق ذلك شيخ الإسلام وغيره (2). قال الإمام أبو محمد عبدالله بن يوسف الجويني (438هـ) والد إمام الحرمين في صدد بيان انشراح صدره للعقيدة السلفية ورجوعه عن العقيدة الجهمية (أبو إبراهيم بن شيخ الحزاميين الواسطي 711هـ):"والذي شرح الله صدري في حال هؤلاء والشيوخ الذين أولوا الاستواء بالاستيلاء والنزول بنزول الأمر، واليدين بالنعمتين، والقدرتين - هو علمي بأنهم ما فهموا من صفات الرب تعالى إلا ما يليق بالمخلوقين فما فهموا عن الله استواءً يليق به، ولا نزولاً يليق به، ولا يدين تليق بعظمته بلا تكييف، ولا تشبيه، فلذلك حرفوا الكلم عن مواضعه، وعطلوا ما وصف الله تعالى نفسه به ... " (3).ونقدم إلى القراء الكرام أمثلة واقعة لتطبيق الماتريدية تلك الشبهة الجهمية على صفات الله؛ ليعلم القراء أن أصل بلاء الجهمية جميعاً هي هذه الشبهة الفاسدة (4).   (1) انظر ((التدميرة)) (ص 182 - 183)، و ((ضمن مجموع الفتاوى) (3/ 99 - 100) (2) ((التدمرية)) (ص 81 - 83)) ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 49 - 51). (3) ((رسالة في إثبات الاستواء والفوقية للجويني ضمن مجموعة الرسائل المنيرة)) (1/ 181)، و ((مثله كلام الإمام الخطابي فيما نقله عنه البيهقي في السنن الكبرى)) (3/ 3)، و ((الأسماء والصفات)) (ص 453)، وانظر ((مختصر الصواعق)) (2/ 385). (4) راجع ((القصيدة النونية)) (ص 166)، و ((شرحها وتوضيح المقاصد)) (2/ 295)، و ((شرحها للدكتور محمد خليل هراس)) (2/ 151) ((توضيح الكافية)) للسعدي (ص 139). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 أولاً: صفة علو الله تعالى: الماتريدية فهموا من نصوص علو الله على عرشه وفوقيته على عباده أنه يلزم من ظاهرها أن الله تعالى في الجهة، وأنه محاط وكل ذلك وصف الخلائق (1)، وأن من كان في جهة لابد أن يكون بينهما مسافة مقدرة، ويتصور أن تكون أزيد من ذلك أو أنقص أو مساوية (2)، ولو كان في جهة لزم قدم المكان والجهة والحيز ولزم كونه جاهزاً، وجسماً، ومركباً أو يكون محلاً للحوادث (3)، وأيضاً: إما أن يساوى الحيز أو ينقص عنه فيكون متناهياً أو يزيد عليه فيكون متحيزاً (4).قلت: بناءً على هذه الشبهة حرفوا نصوص العلو وعطلوا صفة العلو ووصفوا الله بصفات الممتنعات، فقالوا: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه (5). وأنه ليس في الجهات الست لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف (6).وأنه ليس على العرش ولا على غيره، ولا فوق العرش (7)، فليس الله فوق العالم (8)، ويكفرون من وصف الله تعالى بأنه في السماء أو وصفه بأنه فوق (9).وقالوا: من جوز في معبوده الدخول أو الخروج والاستقرار فهو عابد وثن (10). وأن المشبهة - يعنون من أثبت الاستواء- لاحظ لهم من الإسلام غير أنهم جعلوا صنمهم الأرضي صنماً سماوياً (11)، وأن الله تعالى لا على شيء ... ومن وصفه أنه على شيء فقد وصفه بأنه محتاج محمول فيكفر (12).ويحرفون نصوص الكتاب والسنة في علو الله تعالى على خلقه وفوقيته على عباده إلى فوقية القهر، والاستيلاء وتعاليه عن الأمكنية (13). وعلو القهر وعلى القهر والغلبة وعلو المكانة (14)، وفوقية الربوبية والعظمة (15)، وعلو العظمة والعزة (16)،   (1) ((كتاب التوحيد للماتريدي)) (ص 70)، و ((البداية)) للصابوني (ص45، 47)، و ((شرح العقائد النسفية)) (ص 40) و ((النبراس)) (ص178 - 179). (2) ((كتاب التوحيد للماتريدي)) (ص 70)، و ((البداية)) للصابوني (ص45، 47)، و ((شرح العقائد النسفية)) (ص 40) و ((النبراس)) (ص178 - 179). (3) ((شرح المواقف للجرجاني)) (8/ 20 - 22)، و ((شرح العقائد النسفية)) (ص 40)، و ((النبراس)) (ص 178 - 179). (4) ((شرح العقائد النسفية)) (ص 40)، و ((النبراس)) (ص 178 - 179). (5) ((كتاب التوحيد للماتريدي)) (ص 107)، ((تبصرة الأدلة)) (73/أ-ب)، ((الدرة الفاخرة للجامي)) (ص 202) ((شرح العقائد النسفية)) (ص 42)، ((شرح المواقف)) (8/ 23)، و ((إشارات المرام)) (ص 197)، ((النبراس)) (ص 184)، و ((تبديد الظلام)) (ص35،78). (6) ((بدء الأمالي مع شرحه ضوء المعالي)) (ص23 - 25)، و ((الطريقة المحمدية)) (ص 17)، و ((شرح العقائد النسفية)) (ص 40)، و ((شرح المواقف)) (8/ 19)، و ((حاشية الكستلي)) (ص 72)، و ((النبراس)) (ص 180). (7) ((أصول الدين)) لأبي اليسر البزدوي (ص 28)، وانظر ((ضوء المعالي)) للقاري (ص 25). (8) ((أصول الدين)) لأبي اليسر البزدوي (ص 31). (9) ((البحر الرائق)) (5/ 120). (10) ((تبدين الظلام)) للكوثري (35)، قلت: يريدون نفي كون الله بائناً عن العالم ونفي كونه على العرش. (11) ((تعليقات للكوثري على تبين كذب المفتري)) (ص 28). (12) ((بحر الكلام)) لأبي المعين النسفي (ص25 - 26)، و ((الجوهرة المنيفة)) لملا حسين (ص 10). (13) ((تأويلات أهل السنة)) للماتريدي (1/ 58)، و ((إشارات المرام)) (ص 98)، و ((تعليقات الكوثري على الأسماء والصفات)) (ص 406). (14) ((شرح الفقه الأكبر)) للقاري (ص 171)، و ((تعليقات الكوثري على الفقه الأبسط)) (ص 51)، و ((مقدمته على الأسماء والصفات: ط وتعليقاته عليها)) (ص 406). (15) ((شرح الإحياء للزبيدي)) (2/ 108). (16) ((تعليقات الكوثري على الأسماء والصفات)) (ص 406) .. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 وعلو الشأن، وفوقية العز، والقهر والتنزيه (1)، وغيرها من التأويلات الباطلة، ويعدّون شبهاتهم في نفي العلو براهين قاطعة مع أنها جهالات وحماقات بحتة. أما البراهين القاطعة العقلية الصريحة والحجج الفطرية التي احتج بها أبو حنيفة وغيره من السلف - فهي عندهم أوهام. ثانياً: صفة الاستواء: فهؤلاء كلما سمعوا باستوائه تعالى على عرشه تشبثوا بشبهات الجهمية الأولى (2).وقالوا: هذا يستلزم المكان، والتغير لله تعالى، وهذا ما أمارات الحدوث وفيه تمكين الحاجة، وذلك أثر النقصان (3)، بل يكون الله محدوداً محاطاً، وكل ذلك وصف الخلائق (4).وقالوا: لو قلنا: إنه على العرش لحصل في ذاته التغير والانتقال، والقديم لا يتصور عليه ذلك فهو لا على العرش ولا على غيره، ولأن ذلك من صفات الأجسام (5)، وأن الاستواء يشعر بالتحيز (6) وغيرها من اللوازم (7).ولذلك حرفوا نصوص الاستواء إلى الاستيلاء (8)، أو إلى التمام (9).وقال الجرجاني: إن فسر الاستواء بالاستيلاء فمرجعه إلى صفة القدرة، وإن فسر بالقصد فمرجعه إلى صفة الإرادة، ولا يجوز التعويل على ظاهر النصوص (10). ثالثاً: صفتي الوجه واليدين ونحوهما: كلما مرت عليهم آيات من كتاب الله أو أحاديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تنص على صفات الله تعالى من الوجه، واليدين، والعين، والأصابع، واليمين، والساق، والقدم ونحوها يتبادر إلى أذهانهم أنها جوارح (11)، وأنه لو قلنا بإثبات ذلك له تعالى يلزم كونه متبعضاً، ومنجزياً، ومركباً (12)، ولذلك يركزون بقولهم: "ليس متبعضاً، ولا منجزياً، ولا متركباً" (13). رابعاً: صفة النزول ونحوها: إذا تليت عليهم آيات بينات، وأحاديث واضحات تنص على نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا، ومجيئه تعالى يوم القيامة فهموا من ذلك انتقالاً انتقال الأعراض، والأجسام (14).ويرى الماتريدي إن إثبات هذه الصفات لله تعالى يستلزم التغير والزوال لله تعالى فيكون الله تعالى من الآفلين، وقد قال إبراهيم عليه السلام: لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام:76]. فيجب صرف ذلك إلى الوجه الذي يحق بالربوبية (15).   (1) ((تبدين الظلام)) للكوثري (ص 88). (2) قارن بين شبهات الماتريدية في صفة الاستواء بشبهات المعتزلة: انظر ((متشابه القرآن)) (ص 72 - 73)، و ((شرح أصول الخمسة)) لعبد الجبار المعتزلي الحنفي (ص 226). (3) ((كتاب التوحيد للماتريدي)) (ص28 - 29). (4) ((كتاب التوحيد للماتريدي)) (ص28 - 29). (5) ((أصول الدين البزدوي)) (ص 28 - 29). (6) ((حاشية حسن الجلبي على شرح المواقف)) (8/ 24). (7) ((شرح المواقف)) (8/ 20 - 22) (8) انظر كتاب ((التوحيد)) للماتريدي (ص 72)، و ((تأويلات أهل السنة له)) (1/ 85). (9) ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص 37)، و ((ضوء المعالي)) للقاري (ص 32). (10) ((شرح المواقف)) (8/ 110 - 111). (11) انظر ((أصول الدين)) لأبي اليسر البزدوي (ص 28)، و ((إشارات المرام)) (ص 189). (12) انظر ((حاشية العصام على شرح العقائد النسفية)) (ص 158). (13) ((العقائد النسفية مع شرحها للتفتازاني)) (ص 39)، و ((النبراس)) (ص 175). (14) انظر ((التوحيد)) للماتريدي (ص 77)، ((أصول الدين)) لأبي اليسر (البزدوي) (ص 27)، ((حاشية الحسن الشلبي على شرح المواقف)) (8/ 24). (15) انظر ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص 53)، و ((بحر الكلام)) لأبي المعين النسفي (ص 22). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 خامساً: صفتي الغضب، ونحوهما: إذا قرأوا من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما دل على إثبات الغضب والرضا، والفرح، والحياء، والضحك والتعجب، والرحمة ونحوها لله تعالى - فهموا أنها كيفيات وعوارض نفسانية (1) وأنها تغيرات، وانفعالات يجب تنزيه الله تعالى عنها (2) وأنها انفعالات نفسانية (3)، وأنه تعالى لا يوصف بالأعراض المحسوسة، والكيفيات النفسانية (4).وقالوا: إنما يصار إلى المجاز لاستحالة الحقيقة على الله تعالى، لأنها عبارة عن حالة نفسانية فالكل في حقه تعالى محال (5). سادساً: صفة الكلام: وإذا تصوروا صفة الكلام يتبادر إلى أذهانهم "الآلة والجارحة" (6) أي اللسان، والفم، والشفتان، والأسنان، والحلق كزعم الجهم تماماً كما سبق، وأنه يلزم كون الله تعالى محلاً للحوادث، والأعراض (7). ولذلك تراهم يعطلون صفة الكلام، ويقولون ببدعة الكلام النفسي وببدعة القول بخلق القرآن، ويصرحون بأنه لا خلاف بينهم وبين المعتزلة في مسألة خلق القرآن غير أن المعتزلة لا يقولون ببدعة الكلام النفسي والماتريدية جمعوا بين بدعتين خطيرتين بدعة القول بخلق القرآن، وبدعة القول بالكلام النفسي، ولذا ينفون سماع كلام الله. سابعاً: رؤية المؤمنين ربهم بالأبصار في الآخرة: هكذا تراهم يشترطون شروطاً وقيوداً سلبية في مسألة رؤية الله تعالى؛ لأنه تبادر إلى أذهانهم رؤية الجسم. يقول أبو منصور الماتريدي: "فإن قيل: كيف يرى؟ قيل: بلا كيف، إذ الكيفية تكون لدى صورة بل يرى بلا وصف قيام وقعود واتكاء وتعلق واتصال وانفصال ومقابلة ومدابرة، وقصير وطويل، ونور، وظلمة وساكن ومتحرك، ومماس ومباين، وخارج وداخل ولا معنى يأخذه الوهم أو يقدره العقل لتعاليه عن ذلك" (8). فأنت ترى أيها المسلم أن هذه الشروط السلبية مخالفة للعقل والنقل والفطرة واللغة، فهم في الحقيقة وقعوا في رفع النقيضين كما أنهم وقعوا في نفي علو الله تعالى بل نفي وجود الله، فإن هذه صفات المعدوم كما أنهم وقعوا في نفي الرؤية البصرية أيضاً وإن تظاهروا بإثباتها. ولذلك جعل عقلاؤهم هذا الخلاف بينهم وبين المعتزلة لفظياً؛ لأن الماتريدية جوزوا رؤية "أعمى" "الصين" "بقَّةً" في الأندلس" (9).قلت: هذه ليست رؤية بصرية؛ لأنه لا شك أن رؤية أعمى الصين "بقةً" في الأندلس - والأعمى يكون في المشرق، والبقة تكون في المغرب- إنما هي رؤية القلب التي هي علم ومعرفة؛ ولذلك حكم عليهم شيخ الإسلام بأنهم جعلوا رؤية الله تعالى مستحيلة (10)، وصار قولهم هذا ضحكة متناقضاً محالاً سفسطة حتى عند المعتزلة والروافض (11). هذه كانت بعض نماذج لهذه الشبهة قدمناها من كتب الماتريدية. المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات لشمس السلفي الأفغاني 1/ 470   (1) انظر ((المسايرة مع المسامرة)) (ص 29). (2) المصدر نفسه و ((إشارات المرام)) (ص 110). (3) ((إشارات المرام)) (ص 189)، ((نشر الطوالع)) (ص 312). (4) ((حاشية العصام على شرح العقائد النسفية)) (ص 159). (5) ((إشارات المرام)) (ص 187) (6) ((حاشية العصام على شرح العقائد النسفية)) (ص 181). (7) ((شرح العقائد النسفية)) (ص 55)، ((حاشية العصام عليه)) (ص 184 - 185)، ((المسايرة)) (ص84)، ((حاشية عبدالحكيم على حاشية الخيالي على شرح العقائد النسفية)) (ص 264، 28، 40، 46، 63)، و ((النبراس)) (ص 141). (8) ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص 85)، وانظر أيضا ((ضوء المعالي شرح بدء الأمالي)) للقاري (ص 43) وراجع أيضاً إلى ((شرح العقائد النسفية)) (ص 73)، و ((البداية من الكفاية)) (ص 74)، و ((المسايرة مع المسامرة)) (ص 41، 43، 46)، و ((أصول الدين)) لأبي اليسر البزدوي (ص 77)، ((إشارات المرام)) (ص 201 - 203)، و ((حاشية الكستلي)) (ص 107)، و ((نشر الطوالع))، (ص 265)، و ((الطريقة المحمدية)) (ص 17)، و ((شرح المواقف)) (8/ 116، 143). (9) انظر ((حاشية الكستلي على شرح العقائد)) (ص 108)، و ((حاشية الخيالي على شرح العقائد النسفية)) (ص 73)، و ((حاشية البهشتي على حاشية الخيالي على شرح العقائد)) (ص 73)، و ((إشارات المرام)) (ص 202)، و ((حاشية أحمد الجندي على شرح العقائد)) (ص 141)، و ((حاشية عبدالحكيم على الخيالي)) (ص 284)، و ((حاشية العصام على شرح العقائد)) (ص 199)، ((أصول الدين لأبي اليسر البزدوي)) (ص 77)، و ((المسايرة مع المسامرة)) (ص 41، 69)، و ((شرح المواقف)) (8/ 139)، و ((راجع شرح المقاصد)) (4/ 197). (10) ((بيان تلبيس الجهمية)) (ص 72 - 78)، و ((المراكشية)) (ص 49)، ((مجموع الفتاوى)) (5/ 175). (11) راجع ((منهاج الكرامة في إثبات الإمامة)) لابن المطهر الحالي 726هـ (ص 18)، وانظر أيضا ((منهاج السنة)) لشيخ الإسلام (2/ 75)، الطبعة القديمة، و (3/ 340 - 341)، الطبعة المحققة، و ((المنتقى)) للذهبي (ص 151). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 أولا: مذهب الماتريدية في الأسماء الحسنى قالت الماتريدية بوجوب إثبات أسماء الله تعالى، وأن إثباتها لا يستلزم التشبيه، بدليل أن الرسل والكتب السماوية قد جاءت بها، ولو كان في إثباتها تشبيه لكان ذلك طعن في الرسل. قال الماتريدي: "الأصل عندنا أن لله أسماء ذاتية يسمى بها نحو قوله: الرَّحْمَنُ [الرحمن:1]. ثم الدليل على ما قلنا مجيء الرسل والكتب السماوية بها، ولو كان في التسمية بما جاءت به الرسل تشبيه لكانوا سبب نقض التوحيد ... ولكن لما احتملت تلك الأسماء خروج المسمى بها عن المعروفين من المسمين بما جاز مجيئهم بها مع قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] لينفي به شيئية الأشياء ... " (1).   (1) ((التوحيد)) (ص 93، 947)، وانظر: (ص 24، 41، 44)، ((التمهيد)) (ص 13 - 16) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 وذهب جمهورهم إلى القول بالتوقيف في أسماء الله تعالى، أي أن طريق إثبات الأسماء هو السمع، فلا يسمى الله إلا بما سمى به نفسه وجاء به الشرع. قال الماتريدي - في نفيه لاسم الجسم عن الله-: "وحقه السمع عن الله، أن الجسم ليس من أسمائه، ولم يرد عنه ولا عن أحد ممن أذن لأحد تقليده. فالقول به لا يسع، ولو وسع بالنحت من غير دليل حسي أو سمعي أو عقلي لوسع القول بالجسد والشخص، وكل ذلك مستنكر بالسمع، وليس القول بكل ما يسمى به الخلق، وذلك فاسد (1).وقال أيضاً: "لا يجوز أن يقال لله تعالى يا مبارك ... لأنه لا يعرف في أسمائه هذا بالنقل، وعلينا أن نسكت عن تسميته بما لم يسم نفسه" (2).وقال في إثبات جواز إطلاق لفظ (الشيء) على الله، وأنه من أسمائه مستدلاً على ذلك بقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]، وقوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام: 19]: "وبعد، فإن القول بهذا كله واجب بما ثبت في السمع التسمية به ... " (3).وقال أبو المعين النسفي: "إن معنى الاسم لو كان ثابتاً من غير إحالة لامتنعنا عن إطلاق الاسم بدون الشرع الوارد به، لأنا ننتهي في أسماء الله تعالى إلى ما أنهانا إليه الشرع، ولهذا لا نسميه طبيباً وإن كانا عالماً بالأدواء، والعلل والأدوية، ولا فقيهاً وإن كان عالماً بالأحكام ومعانيها ... " (4).وقال عبدالحميد الألوسي في (نثر اللآلئ): "اعلم أن المحققين من العلماء على أن أسماءه تعالى توقيفية بمعنى أن جواز تسميته تعالى باسم موقوف على ورود الكتاب والسنة أو الإجماع ... " (5).والذي دفعهم للقول بأن أسماء الله توقيفية - مع أن مصدرهم في التلقي العقل - هو خشية إطلاق أسماء على الله تعالى توهم اتصافه سبحانه بما فيه نقص فقالوا بالتوقيف من باب الاحتياط كما نص على هذا صاحب (بيان الاعتقاد) بقوله: "والحق أنه لابد من التوقيف وذلك للاحتياط عما يوهم باطلاً لعظم الخطر في ذلك، فلا يجوز الاكتفاء في عدم إيهام الباطل بمبلغ إدراكنا بل لابد من الاستناد إلى الاستناد إلى إذن الشرع" (6).والقول بالتوقيف في أسمائه تعالى هو قول أهل السنة والجماعة وسلف هذه الأمة قال الإمام أبو عبدالله محمد بن أبي زمنين رحمه الله: "أعلم أن أهل العلم بالله، وبما جاءت به أنبياؤه ورسوله، يرون الجهل بما لم يخبر به عن نفسه علماً، والعجز عن مالم يدع إليه إيماناً، وأنهم إنما ينتهون من وصفه بصفاته وأسمائه إلى حيث انتهى في كتابه، على لسان نبيه ... " (7).   (1) ((التوحيد)) (ص 38). (2) ((التأويلات)) (ل 562)، الظاهرية. (3) ((التوحيد)) (ص 42، 94) (4) ((التمهيد)) (ص 10)، ((تصبرة الأدلة)) (ل 84). (5) ((نثر اللآلئ)) (ص 34، 35)، وانظر: ((تفسير النسفي)) (1/ 87)، و ((إشارات المرام)) (ص 116)، ((بيان الاعتقاد)) (ل 12). (6) ((بيان الاعتقاد)) (ل 13). (7) ((الفتاوى)) (5/ 75). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 وهذا الأصل كان يجب على الماتريدية أن يعتمدوا عليه في إثبات جميع العقائد لا أن يقتصروا عليه في بعضها دون بعض، وهذا التفريق في التلقي هو الذي أوقعهم في الاضطراب والانحراف. ثم إن الماتريدية في إثباتها للأسماء لم يفرقوا بين باب الإخبار عن الله تعالى، وباب التسمية، فأدخلوا في أسمائه تعالى ما ليس من أسمائه كالصانع، والقديم، والذات، والشيء ... ونحو ذلك. حتى أن الماتريدي ذكر في تفسيره لقوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [الحشر:22]، أن لفظ (هو) من أسماء الله تعالى (1).والصواب: أنه يجب التفريق بين باب التسمية وباب الإخبار، إذ أن ما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه الحسنى وصفاته العليا. فما يطلق عليه تعالى في باب الأسماء والصفات توقيفي وما يطلق عليه في باب الإخبار لا يجب أن يكون توقيفياً (2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ويفرق بين دعائه والإخبار عنه، فلا يدعي إلا بالأسماء الحسنى، أو باسم ليس بسيئ، وإن لم يحكم بحسنه، مثل اسم شيء، وذات، وموجود ... وكذلك المريد والمتكلم، فإن الإرادة والكلام تنقسم إلى محمود ومذموم، فليس ذلك من الأسماء الحسنى، بخلاف الحكيم والرحيم والصادق ونحو ذلك، فإن ذلك لا يكون إلا محموداً. وهكذا كما في حق الرسول حيث قال: لا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا [النور: 63] فأمرهم أن يقولوا يا رسول الله، يا نبي الله، كما خطبه الله بقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال: 64 - 65] يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة: 67] لا يقول يا محمد، يا أحمد، يا أبا القاسم! وإن كانوا يقولون في الإخبار كالأذان ونحوه، أشهد أن محمداً رسول الله، كما قال تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ [الفتح: 29]، وقال: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6]، وقال: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ [الأحزاب: 40].فهو سبحانه لم يخاطب محمدا إلا بنعت التشريف ... مع أنه في مقام الإخبار عنه قد يذكر اسمه. فقد فرق سبحانه بين حالتي الخطاب في حق الرسول وأمرنا بالتفريق بينهما في حقه، وكذلك هو المعتاد في عقول الناس إذا خاطبوا الأكابر من الأمراء والعلماء والمشايخ والرؤساء لم يخاطبوهم ويدعوهم إلا باسم حسن، وإن كان في حال الخبر عن أحدهم، يقال: هو إنسان وحيوان ناطق وجسم ومحدث ومخلوق ... " (3). وأما بالنسبة لإثباتهم لمدلولات الأسماء، فهم إما أن يجعلوا مدلول الاسم هو الذات، وهذا في اسم (الله) فقط، وإما أن يكون المدلول مأخوذاً عندهم باعتبار ما أثبتوه من الصفات، كاسم السميع والبصير والعليم ... ، وإما أن يردوه إلى الصفات السلبية والإضافية.   (1) ((التأويلات)) (ل 562) الظاهرية، وانظر: ((التوحيد)) (ص 42، 65)، ((بحر الكلام)) (ص 18، 19، 20)، ((التمهيد)) (ص 14)، ((النور اللامع)) (ل 40)، ((ضوء المعالي)) (ص 26، 27). (2) انظر: ((الجواب الصحيح)) (3/ 203)، ((بدائع الفوائد)) (1/ 161، 162)، ((لوامع الأنوار البهية)) (1/ 124). (3) ((الفتاوى)) (6/ 142، 143)، وانظر ((شرح الأصفهانية)) (ص 5) ط مخلوف، ((رد الإمام الدارمي على بشر المريسي)) (ص 7). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 فالاسم عندهم إن دل على ما أثبتوه من الصفات، أثبتوه على حقيقته وإن خالف صرفوه عن حقيقته بالتأويل. وذلك لاعتقادهم أن ما دل عليه الاسم من المعاني والحقائق يعارض الدليل العقلي. قال ابن الهمام: "ثم إنه (تعالى) سميع بسمع وبصير بصفة تسمى بصراً، وكذا عليم بعلم، وقدير بقدرة، ومريد بإرادة لأنه تعالى أطلق على نفسه هذه الأسماء بخطابا لمن هو من أهل اللغة، والمفهوم في اللغة من عليم ذات له علم. بل يستحيل عندهم عليم بلا علم كاستحالته بلا معلوم، فلا يجوز صرفه عنه إلى لقاطع عقلي يوجب نفيه ... " (1).وقال البياضي: "إن العالم والقادر وسائر الأسماء المشتقة ليست أسماء للذات من غير اعتبار معنى، بل معناها إثبات ما هو لازم مأخذ الاشتقاق، ولا معنى له سوى إدراك المعاني، والتمكن من الفعل والترك ونحو ذلك، فلزم بالضرورة ثبوت هذه المعاني للواجب تعالى، كيف والخلو عنها نقض وذهاب إلى أنه لا يعلم ولا يقدر؟ " (2).وقال أيضاً: إن مفهوم الاسم قد يكون نفس الذات والحقيقة وهو اسم الجلالة فقط، وقد يكون مأخوذاً باعتبار الصفات والأفعال والسلوب والإضافات. ولا خفاء في تكثر أسمائه تعالى بهذا الاعتبار ... " (3). قولهم: بأن اسم (الله) يدل على الذات من غير اعتبار للمعنى. معناه أنه لا يدل على صفة، وهو خطأ ظاهر. وذلك أن جميع أسماء الله تعالى حسنى، كما قال تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [الأعراف: 180]، فهي حسنى لدلالتها على صفات الكمال والجلال والعظمة لله تعالى، ولو كان اسم (الله) لا معنى له لم يكن فيه مدح ولا ثناء لله تعالى، فكيف وهو أعظم أسماء الله تعالى؟! وإنما كان أعظمها لدلالته على جميع صفات الكمال والجلال. كما قال عبدالعزيز الدميري: ويجمع اسم الله كل معنى ... من الصفات والأسامي الحسنى إذ الإله من له الكمال ... والكبريا والعز والجلال (4) وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "اسم (الله) دال على جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا بالدلالات الثلاث: فإنه دال على إلهيته المتضمنة لثبوت صفات الإلهية له، مع نفي أضدادها عنه. وصفات الإلهية هي صفات الكمال، المنزهة عن التشبيه والمثال وعن العيوب والنقائض. ولهذا يضيف الله تعالى سائر الأسماء الحسنى إلى هذا الاسم العظيم كقوله تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [الأعراف: 180]، ويقال الرحمن، والرحيم، والقدوس، والسلام ... من أسماء الله، ولا يقال: الله من أسماء (الرحمن) ... ونحو ذلك. فعلم أن اسم (الله) مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى، دال عليها بالإجمال، والأسماء الحسنى تفصيل وتبين لصفات الإلوهية، التي اشتق منها اسم (الله). واسم (الله) دال على كونه مألوهاً معبوداً، تألهه الخلائق محبة وتعظيماً وخضوعاً، وفزعاً إليه في الحوائج والنوائب" (5).   (1) ((المسايرة)) (ص 68، 69). (2) ((إشارات المرام)) (ص 119). (3) ((إشارات المرام)) (ص 114)، وانظر: ((التوحيد)) (ص 65، 66، 69)، ((تبصرة الأدلة)) (ل 128)، ((نظم الفوائد)) (ص 21). (4) ((نور الغسق في بيان هل اسم الجلالة مرتجل أم مشتق))، لمحمد الغيث بن ماء العينين، المطبوع بذيل آخر الجزء الثاني من كتاب ((النفحة الأحمدية في بيان الأوقات المحمدية)) لأبي العباس أحمد بن الشمس: (2/ 147) ط1 سنة 1330هـ، مصر. (5) ((مدارج السالكين)) (1/ 32، 33)، وانظر: ((الروض الأنف))، للسهيلي، تحقيق عبدالرحمن الوكيل: (1/ 217). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 وأما بالنسبة لبقية الأسماء، فإن الماتريدية تقر بأن لها معاني مأخوذة باعتبار الصفات، أي أنها تدل على الصفات كما تدل على الذات. إلا أنهم في الأسماء التي مدلولاتها لا تتفق مع ما اعتقدوه في باب الصفات، لا يثبتون ما دلت عليه من المعاني والحقائق على الوجه الصحيح. بل يأولونها بما يتفق مع اعتقادهم في الصفات. وأقرب مثال على هذا اسم الله (الأعلى)، (والظاهر).قال الماتريدي في تفسيره لاسم (الأعلى): "الأعلى ... هو أعلى من أن يمسه حاجة أو يلحقه آفة" (1).وقال أبو البركات النسفي: "الأعلى: بمعنى العلو الذي هو القهر والاقتدار، لا بمعنى العلو في المكان" (2).وقال الماتريدي في تفسيره لاسم (الظاهر): "الظاهر هو الغالب القاهر الذي لا يغلبه شيء" (3).وقال أبو البركات النسفي: "الظاهر: بالأدلة الدالة عليه ... ، وقيل العالي على كل شيء الغالب له. من ظهر عليه إذا علاه وغلبه" (4). يظهر مما تقدم كيف أن اعتقاد الماتريدية نفي علو الله بذاته فوق خلقه، أثر في فهمهم لهذين الإسمين حتى قصروا معناهما على علو القدر والقهر. وجواب أهل السنة عما نفته الماتريدية من المعاني والحقائق في هذه الأسماء وغيرها، هو جواب الماتريدية لمنازعهم من المعتزلة فيما أثبتوه من المعاني والحقائق، نحو السميع والبصير والعليم ... إذ أن القول في دلالات الأسماء جميعها واحد، ولا دليل على التفريق، فهي تجري على قاعدة واحدة، وهي: "أن الاسم من أسمائه (تعالى) له دلالات. دلالة على الذات والصفة بالمطابقة، ودلالة على أحدهما بالتضمن، ودلالة على الصفة الأخرى باللزوم" (5). فـ" الاسم من أسمائه تبارك وتعالى كما يدل على الذات والصفة التي اشتق بها بالمطابقة، فإنه يدل عليه دلالتين أخريين بالتضمين واللزوم. فيدل على الصفة بمفردها بالتضمن، وكذلك على الذات المجردة عن الصفة، ويدل على الصفة الأخرى باللزوم. فإن اسم (السميع) يدل على ذات الرب وسمعه بالمطابقة، وعلى الذات وحدها، وعلى السمع وحده بالتضمن. ويدل على اسم (الحي) وصفة الحياة بالالتزام، وكذلك سائر أسمائه وصفاته ... فإن من لوازم اسم (العلي) العلو المطلق بكل اعتبار. فله العلو المطلق من جميع الوجوه: علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات، فمن جحد علو الذات فقد جحد لوازم اسمه (العلي).وكذلك اسم (الظاهر) من لوازمه: أن لا يكون فوقه شيء كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((وأنت الظاهر فليس فوقك شيء)) (6). بل هو سبحانه فوق كل شيء. فمن جحد فوقيته سبحانه فقد جحد لوازم اسمه (الظاهر) ... وكذلك سائر أسمائه الحسنى" (7). وتعطيل حقائق ومعاني الأسماء كلها أو بعضها قدح في صحة إطلاقها، إذ أن شرط صحة إطلاق الأسماء حصول معانيها وحقائقها، ثم إنه لا مانع ولا محذور من إثبات هذه المعاني والحقائق، وذلك أن الاسم والصفة له ثلاث اعتبارات، اعتبار من حيث هو مع قطع النظر عن تقييده بالرب تبارك وتعالى أو العبد. الاعتبار الثاني: اعتباره مضافاً إلى الرب مختصاً به.   (1) ((التأويلات)) (ل 636) الظاهرية. (2) ((تفسير النسفي)) (4/ 349). (3) ((التأويلات)) (ل 547) الظاهرية. (4) ((تفسير النسفي)) (4/ 224، 223). (5) ((بدائع الفوائد)) (1/ 162). (6) رواه مسلم (2713) (7) ((مدارج السالكين)) (1/ 30، 31). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 الثالث: اعتباره مضافاً إلى العبد مقيداً به، فما لزم الاسم لذاته وحقيقته كان ثابتاً للرب والعبد، وللرب منه ما يليق بكماله وللعبد منه ما يليق به. وهذا كاسم السميع الذي يلزمه إدراك المسموعات والبصير الذي يلزمه رؤية المبصرات والعليم والقدير وسائر الأسماء، فإن شرط صحة إطلاقها حصول معانيها وحقائقها للموصوف بها، فما لزم هذه الأسماء لذاتها فإثباته للرب تعالى لا محذور فيه بوجه، بل تثبتت له على وجه لا يماثله فيه خلقه ولا ياشبههم، فمن نفاه عنه لإطلاقه على المخلوق ألحد في أسمائه، وجحد صفات كماله. ومن أثبته له على وجه يماثل فيه خلقه فقد شبهه بخلقه، ومن شبه الله بخلقه فقد كفر ومن أثبته له على وجه لا يماثل فيه خلقه بل كما يليق بجلاله وعظمته قد برئ من فرث التشبيه ودم التعطيل وهذا طريق أهل السنة. وما لزم الصفة لإضافتها إلى العبد وجب نفيه عن الله كما يلزم حياة العبد من النوم والسنة والحاجة إلى الغذاء ونحو ذلك ... وما لزم صفة من جهة اختصاصه تعالى بها، فإنه لا يثبت للمخلوق بوجه كعلمه الذي يلزمه القدم والوجوب والإحاطة بكل معلوم وقدرته وإرادته وسائر صفاته فإن ما يختص به منها لا يمكن إثباته للمخلوق" (1). فإذا اتضحت هذه القاعدة علم خطأ الماتريدية في تعطيلهم لكثير من أسماء الله تعالى عما دلت عليه من المعاني، وعلم فساد تأويلهم لها الذي نجم عنه تشبيه مسبق. فالحق والصواب الذي يجب أن يصار إليه، هو إثبات الأسماء الحسنى والصفات العلى لله تعالى حقيقة من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. المصدر: الماتريدية دراسة وتقويماً تصنيف أحمد بن عوض بن داخل اللهيبي الحربي - ص 219 - 229 في مذهب الماتريدية في أسماء الله الحسنى - حق وباطلٌ. فما كان عندهم من الحق الذي ينور القلوب - فقد أخذوه من الكتاب والسنة لاحتكاكهم بأهل السنة، وهذا من فضلهم، ومحاسنهم التي لا تنسى، ومساعيهم التي يشكرون عليها وبذلك نجوا من كثير من الإلحاد. وما كان عندهم من الباطل الذي يظلم القلوب - فقد أخذوه من الجهمية الأولى لاحتكاكهم بهم فدخل عليهم شيء من إلحادهم وبدعهم وتعطيلهم الذي ظنوه حقاً. وخيل إليهم إنه مذهب أهل السنة. فمذهبهم في الأسماء الحسنى على نوعين: الأول: ما اشتمل على الحق: فمن محاسنهم في هذا الباب وموافقتهم لأهل السنة ما يلي: 1 - إثبات جميع أسماء الله الحسنى له تعالى. لا نعلم لهم في ذلك خلافاً ولا استثناء. وبذلك فارقوا غلاة الجهمية، لأنهم لا يثبتون لله الأسماء (2). 2 - إثبات كثير من معاني أسماء الله تعالى. وبذلك فارقوا جهمية المعتزلة، لأنهم يثبتون الأسماء مجردةً عن المعاني (3).3 - أسماء الله تعالى توقيفية، فلا يجوز تسمية الله تعالى إلا بما ورد في الشرع (4).   (1) ((بدائع الفوائد)) (1/ 165)، وانظر: ((الدرء)) (3/ 330 - 333)، ((شرح الأصفهانية)) (ص 44، 77) ط مخلوف. (2) انظر ((التدمرية)) (ص 182 - 183) و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 99 - 100). (3) انظر ((التدمرية)) (ص 182 - 183) و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 99 - 100). (4) انظر ((كتاب التوحيد للماتريدي)) (ص 38 - 44)، و ((الدر اللقيط)) (4/ 428)، لتاج الدين أحمد بن عبد القادر الحنفي "749هـ" ((شرح المواقف)) للجرجاني الحنفي الماتريدي (8/ 210)، و ((نشر الطوالع)) (ص 309) للمرعشي الماتريدي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 قال الإمام حافظ الدين عبدالله النسفي (710 هـ) في بيان الإلحاد في أسمائه تعالى:"فيسموه بغير الأسماء الحسنى وذلك أن يسموه بما لا يجوز عليه، نحو أن يقولوا: يا سخي، يا رفيق، لأنه لم يسم نفسه بذلك، ومن الإلحاد تسميته بالجسم، والجوهر، والعقل، والعلة" (1).4 - 5 - أسماء الله تعالى كلها حسنى، وأنها ليست ألفاظاً مجردة: عن معانيها، بل تدل على معانٍ حسنة من التمجيد، والتقديس، والتعظيم (2).فاسماؤه تعالى أحسن الأسماء وأجلها، لإنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها ولدلالتها على صفات الكمال من الجلالة والجمال والإكرام (3). والثاني: ما اشتمل على باطل وإلحاد: وأهم نماذج ذلك ما يلي: 1 - إن أسماء الله تعالى ليست أسماءً حقيقة لله تعالى. قال أبو منصور الماتريدي: "فيدلك أن الأسماء التي نسميه بها عبارات عما يقرب إلى الأفهام، لا أنها في الحقيقة أسماؤه" (4). 2 - الأسماء الحسنى غير مشتملةٍ على صفاتٍ مستقلةٍ بل هي متدرجة في صفة التكوين. قال العلامة أنور شاه الكشميري الديوبندي: "والأسماء الحسنى عند الأشاعرة عبارة عن الإضافات، وأما عند الماتريدية فكلها مندرجة في صفة التكوين" (5). 3 - أسماء الله الحسنى مخلوقةٌ عندهم: لأنها عبارة عن الألفاظ والحروف، وهي مخلوقة، ولذلك جعلوا أسماء الله تعالى الحسنى تسمياتٍ. فلما قالوا إنها تسمياتٌ - قالوا: إنها غير الله تعالى, إنها حروفٌ وألفاظٌ وإن الاسم الأزلي عين المسمى وهو الله لا غير (6).كل هذا للتدرج إلى القول بأن أسماء الله تعالى مخلوقةٌ بعد قولهم: إنها غير الله؛ لأن كل ما هو غير الله فهو مخلوق (7). قلت: وهذا القول مبني على القول بخلق القرآن. فالماتريدية وافقوا جهاراً دون إسرار الجهمية الأولى في بدعة القول بخلق الأسماء الحسنى كما وافقوهم في بدعة القول بخلق القرآن فهم جميعاً قائلون بخلق القرآن وبخلق الأسماء الحسنى. غير أن الماتريدية كزملائهم الأشعرية انفردوا عن الجهمية الأولى ببدعة أخرى وهي بدعة الكلام النفسي. ولنا عودة لبيان "هل الاسم عين المسمى أو غيره أو له" وما هو الصواب في ذلك وبيان أن فساد القول بخلق أسماء الله تعالى - كفساد القول بخلق القرآن وسلف هذه الأئمة وأئمة السنة قد كفروا القائلين بخلق الأسماء الحسنى كما كفروا القائلين بخلق القرآن. كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.4 - تعطيل معاني بعض الأسماء الحسنى بأنواع من التأويلات، وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلاً، وشرعاً، ولغة، وفطرة (8). وفيما يلي بعض أمثلة هذا الإلحاد: المثال الأول: أن (العلي) من أسماء الله الحسنى، يدل دلالة حقيقية مطابقية قطعية على ذات الله المقدسة، وعلى صفته "العلو" على خلقه.   (1) ((مدارك التنزيل)) (1/ 591)، وانظر ((إرشاد العقل السليم لأبي السعود)) (3/ 296). (2) ((مدارك التنزيل) (1/ 591، 2/ 274)، وأنظر ((الدر اللقيط لتاج الدين الحنفي)) (4/ 429). (3) ((إرشاد العقل السليم)) لأبي السعود العمادي (3/ 296، 5/ 200). (4) ((كتاب التوحيد)) (ص 93 - 94). (5) ((فيض الباري)) (4/ 517). (6) انظر ((كتاب التوحيد)) (ص 65 - 66)، و ((بدء الأمالي)) للأوشي الفرغاني مع شرحها ((ضوء المعالي)) للملا علي القاري)) ((ص 26)، و ((نشر الطوالع)) (ص 302 – 303، 306)، و ((روح المعاني)) (1/ 53). (7) انظر ((مجموع الفتاوى)) (6/ 185 - 186)، و ((شرح كتاب التوحيد في صحيح البخاري)) لشيخنا عبدالله بن محمد الغنيمان (ص 224). (8) انظر ((بدائع الفوائد)) (1/ 169)، و ((مدارج السالكين)) (1/ 37). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 فالماتريدية لما عطلوا صفة "علو" الله تعالى وحرفوا نصوصها بأنواع من التأويلات والمجازات، جعلوا اسمه "العليَّ" مجرداً عن صفته "العلوِ" المطلق على خلقه، ولذلك فسروا اسم الله تعالى "العلي" بما يلي:1 - "العلي عن كل موهوم يحتاج إلى عرش أو كرسي" (1).2 - "العلي في ملكه وسلطانه، أو المتعالي عن الصفات التي لا تليق به" (2).3 - "المتعالي بذاته عن الأشباه والأنداد" (3).4 - بمعنى "المتكبر" (4). فأنت ترى أنهم جعلوا هذا الاسم الأحسنَ "العلي" من السلوب المحضة التي لا مدح ولا ثناء فيها. مع أنه من أعظم الأسماء الحسنى الدالة على إثبات الصفات الكمالية لله تعالى وأنه يدل على صفة هي من أعظم صفات الله تعالى الذاتية الثبوتية ألا وهي صفة "العلو" المطلق على خلقه مع تضمنه تنزيه الله تعالى عن كل عيب ونقص. المثالان: الثاني والثالث: أن "الرحمن الرحيم" اسمان من أسماء الله الحسنى وكلاهما يدل دلالة حقيقية قطعية مطابقة على صفته تعالى: "الرحمة" الكاملة. لكن القوم لما عطلوا صفة الله العظيمة "الرحمة" وحرّفوها بتأويلاتهم جعلوا هذين الاسمين: "الرحمن الرحيم" مجردين عن صفته "الرحمة" حيث فسروا الرحمة بإيصال الخير ودفع الشر (5). فواعجباً لقوم يعبدون رباً يزعمون أنه لا "رحمة" له! فماذا يرجون منه؟. المثال الرابع: أن "الودود" من أسماء الله الحسنى يدل على ذات الله تعالى وعلى صفته "الود" دلالة قطعية حقيقية مطابقية ومعنى "الودود" أنه محب للمؤمنين، فيكون "الفعول بمعنى الفاعل" فالله تعالى ذو المحبة لهم. وقيل: "محبوب" للمؤمنين فيكون الفعول بمعنى المفعول (6). والماتريدية عطلوا صفة "المحبة" الثابتة لله تعالى وحرفوا نصوصها إلى صفة "الإرادة" وغير ذلك من التأويلات. المثال الخامس: أن "الظاهر والباطن" من الأسماء الحسنى. ومعنى "الظاهر" العالي علي الخلق وفوق كل شيء فليس فوقه شيء (7).ويؤيده حديث أبي هريرة مرفوعاً: ((وأنت الظاهر فليس فوقك شيء)) (8) الحديث. فهذا الاسم يدل دلالة قطعية حقيقية مطابقة على ذات الله تعالى وإثبات صفة "العلو" المطلق لله تعالى. وهذا هو الراجح في معناه. فإن قيل: "معناه" الظاهر وجوده بالأدلة الواضحة" (9). قلت: لو سلم صحة هذين المعنيين - فهما لا ينافيان المعنى الأول، لأن علو الله على خلقه أجمعين متضمن لعلمه على كل شيء وظهور وجوده. بل وجود الله تعالى لا يحتاج إلى برهان. ولله در القائل: وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل (10) ولأن ذكر بعض اللفظ لا ينفي أصل معناه وكذا ذكر لازم معنى اللفظ لا ينفي الملزوم. قال شيخ الإسلام في الرد على من زعم أن تفسير "نور السموات" بهادي أهل السماوات والأرض تأويل:   (1) ((تأويلات أهل السنة)) للماتريدي تحقيق جاسم محمد الجبوري (1/ 593). (2) ((مدارك التنزيل)) (1/ 170). (3) ((إرشاد العقل السليم)) (1/ 248). (4) راجع ((شرح المواقف)) (8/ 215)، و ((نشر الطوالع)) (ص 320). (5) راجع ((التبيان للرستمي الفنجفيري)) (ص 59). (6) انظر ((جامع البيان)) (12/ 105، 30/ 138)، ((معالم التنزيل)) (2/ 399، 4/ 471). (7) ((جامع البيان)) (24/ 215 - 216)، ((معالم التنزيل)) (4/ 293)، ((فتح القدير)) للشوكاني (5/ 165)، ((النونية)) (64، 146)، ((توضيح المقاصد)) (1/ 423 - 425). (8) رواه مسلم (2713). (9) ((معاني القرآن للقراء)) (3/ 132)، وذكره البخاري بالتمريض كتاب ((التفسير باب تفسير سورة الحديد)) (4/ 1851)، وانظر ((فتح الباري)) (8/ 627 - 628). (10) ((الصواعق المرسلة)) (4/ 1221)، ((مدارج السالكين)) (1/ 71). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 "ثم قول من قال من السلف: "هادي أهل السموات والأرض" لا يمنع أن يكون في نفسه نوراً؛ فإن من عادة السلف في تفسيرهم أن يذكروا بعض "صفات المفسر" من الأسماء أو بعض أنواعه، ولا ينافي ذلك ثبوت بقية الصفات للمسمى بل قد يكونان متلازمين".إلى آخر كلامه المهم القيم الذي يكشف الغمة عن كثير من المشكلات في فهم كلام السلف (1). الحاصل: أن اسم الله تعالى: "الظاهر" يدل على علوه المطلق فنفيه إلحاد صريح وتعطيل قبيح. المثلانِ: السادس والسابع: أن "السميع" و"البصير" من أسماء الله الحسنى، يدلان على ذات الله تعالى وعلى صفتيه "السمع والبصر" الكاملين المطلقين دلالةً مطابقية حقيقية قطعية. ولكن بعض الماتريدية عطل هاتين الصفتين: "السمع والبصر" وحرف نصوصهما بتأويلهما إلى صفة العلم. وهذا تعطيل صريح وإلحاد قبيح؛ لأن الإمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى لقد صرح بأن تفسير صفة "اليد" بالقدرة أو النعمة إبطال لها وأنه قول المعطلة المعتزلة (2). فعلم أن إرجاع صفة إلى أخرى تعطيل وإلحاد بشهادة هذا الإمام وفي ذلك عبرة لهؤلاء الماتريدية. المثال الثامن: "النور" وسيأتي الحديث عنه في مبحث الصفات. المثال التاسع: "الحَيِىُ" عطلوا معناه فنفوا صفة "الحياة" لله تعالى كما سيأتي. المثال العاشر: "الإله" عطلوا معناه فحرفوا صفة "الألوهية" لله سبحانه وفسروها بالربوبية. المثال الحادي عشر،، وهو أظهر من أن يشهر،، وأفظع الأمثلة ضراراً ودماراً،، وأشنعها وأبشعها عاراً وشناراً،، وهو إلحاد في اسم "الله" الأعظم؛ فقد صرحوا بأن مفهوم اسم الجلالة "الله" نفس الذات بدون اعتبار الصفة (3). قلت: هذا إلحاد صريح واضح،، وتعطيل قبيح فاضح،،؛لأن اسم الجلالة "الله" اسم الله الأعظم الحسن الدال على جميع الأسماء الحسنى،، والصفات الكمالية العليا،، (4). ولأن الأسماء الحسنى،، ليست حسنى،، إلا لأجل دلالتها على المعاني الحسنى،، وهي صفات الله العليا،، حتى باعتراف الماتريدية. الحاصل: أن الأسماء الحسنى عند الماتريدية بعضها لا يدل إلا على نفس الذات،، وبعضها يدل على الصفات،، وبعضها يدل على السلوب والإضافات. المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني 2/ 404 ومن أهم المسائل المتعلقة بباب (الأسماء)، عند الماتريدية، مسألة الاسم والمسمى، والتي لا يكاد كتاب من كتب العقائد عندهم يخلو من بحثها، بل تكاد تكون هي المسألة الوحيدة المطروقة في الباب في كثير من كتبهم. ذهبت الماتريدية في هذه المسألة إلى القول بأن الاسم هو المسمى. واحتجوا بقوله تعالى: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ [الرحمن: 78]، قوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1]، وقوله: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ [الزمر: 2] ونحو ذلك من النصوص. وغاية شبهتهم في هذه القضية: أن الله هو الخالق وما سواه مخلوق فلو كانت أسماؤه غيره لكانت مخلوقه، وللزم أن لا يكون له اسم في الأزل ولا صفة (5).   (1) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 390 - 391)، وانظر ((شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري)) لشيخنا عبدالله بن محمد الغنيمان (ص 157). (2) ((الفقه الأكبر بشرح القاري)) (ص 59). (3) راجع ((إشارات المرام)) لقاضي عساكرهم (ص 114) و ((نظم الفرائد)) (ص 21). (4) انظر ((مدارج السالكين)) (1/ 38، 39، 41). (5) انظر: ((التأويلات)) (ل 3)، الظاهرية، ((التوحيد)) (ص 66)، ((شرح الفقه الأكبر))، للقاري: (ص 15)، ((حاشية جامع المتون)) (ص 4، 5)، ((نظم الفوائد)) (ل 17)، و ((المطبوع)) (ص 20). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 قال البزدوي: "إن الدليل يضطرنا وكل عاقل إلى القول بأن الاسم نفسي المسمى، فإن الناس أمروا بأن يعبدوا الله تعالى، ويوحدوا الله تعالى ويعظموه ويكبروه ويهللوه، ولو أن الاسم غير المسمى لكان هذا خطأ. قال الله تعالى: وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا [النساء: 36]، وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ [الحج: 1] ... " (1).وقال أبو المعين النسفي: "اعلم أن الاسم والمسمى واحد ... والله تعالى بجميع أسمائه واحد. دليلنا قول الله عز وجل: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ [الزمر: 2]، وقوله تعالى: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا [التوبة: 31]. الله تعالى أمرنا بأن نوحد الله تعالى فلو كان اسم الله تعالى غير الله لكان حصول التوحيد للاسم لا لله تعالى ... " (2). وقال الأوشي في منظومته: وليس الاسم غيراً للمسمى ... لدى أهل البصيرة خير آل قال الشارح: "أي ليس الاسم غير المسمى ... بل هو عينه بمعنى أن الحكم الواقع على الاسم واقع على المسمى لا محالة محتجين بقوله تعالى: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ [الرحمن: 78] وبقوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] إذ المعنى تعالى الله، وتنزه الله، لأن المتعال المتنزه عما لا يليق به هو الله تعالى" (3). والكلام في مسألة هل الاسم هو المسمى أم غيره - والتي خاضت فيها الماتريدية كغيرها من الفرق الكلامية - من البدع التي حدثت بعد القرون المفضلة، والتي لا أصل لها لا من الكتاب، ولا من السنة، بل لا يعرف عن أحد من السلف ولا أئمة المسلمين أنه تكلم في هذه المسألة بشيء. قال الإمام محمد بن جرير الطبري رحمه الله: "وأما القول في الاسم أهو المسمى أم غير المسمى، فإنه من الحماقات الحادثة التي لا أثر فيها فيتبع، ولا قول من إمام فيستمع. فالخوض فيه شين والصمت عنه زين. وحسب امرئ من العلم به والقول فيه أن ينتهي إلى قول الله عز وجل ثناؤه الصادق، وهو قوله: قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [الإسراء: 110] وقوله تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180] ويعلم أن ربه هو الذي على العرش استوى، له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، فمن تجاوز ذلك فقد خاب وخسر وضل وهلك" (4).وذكر الإمام أبو محمد رزق الله التميمي رحمه الله: "أن الإمام أحمد رحمه الله كان يشق عليه الكلام في الاسم والمسمى، ويقول: هذا كلام محدث ولا يقول: أن الاسم غير المسمى، ولا هو هو، ولكن يقول: أن الاسم للمسمى، اتباعاً لقوله تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180] (5).   (1) ((أصول الدين)) (ص 88، 89، 90). (2) ((بحر الكلام)) (ص 37)، وانظر: ((تبصرة الأدلة)) (ص 198). (3) ((نثر اللألئ)) (ص 35)، وانظر: ((بيان الاعتقاد)) (ل 11)، ((رسالة الخليلي في الخلاف بين الأشاعرة والماتريدية)) (ل 41، 42)، ((تحفة الأعالي شرح ضوء المعالي)) (ص 28، 29)، ((نظم الفوائد)) (ل 17)، ((المطبوع)) (ص 20)، ((حاشية جامع المتون)) (ص 8). (4) ((صريح السنة)) تحقيق بدر المعتوق (ص 26، 27). (5) ((مقدمة في عقيدة الإمام أحمد وأصول مذهبه))، للإمام رزق الله التميمي، مطبوعة في طبقات الحنابلة لأبي يعلى: (2/ 270)، وانظر (2/ 299). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 وسبب حدوث هذه المسألة: أن الجهمية لما ابتدعت القول بخلق القرآن، قالت بخلق أسماء الله تعالى، إذ أن القول في أسمائه تعالى نوع من القول في كلامه. مما دفعهم إلى القول بأن أسماء الله غيره، وأن الاسم غير المسمى. فذمهم السلف لقولهم هذا "وغلظوا فيهم القول، لأن أسماء الله كلامه، وكلام الله غير مخلوق بل هو المتكلم به، وهو المسمى لنفسه بما فيه من الأسماء ... فلهذا يروى عن الشافعي والأصمعي وغيرهما أنه قال: إذا سمعت الرجل يقول: الاسم غير المسمى، فاشهد عليه بالزندقة. ولم يعرف أيضاً عن أحد من السلف أنه قال الاسم هو المسمى ... " (1). ولما كانت الماتريدية تعتقد أن أسماء الله غير مخلوقة، كما أن كلامه غير مخلوق، قابلوا قول الجهمية بأن الاسم غير المسمى، بعدم الغيرية بينهما ولم يتفطنوا لما في لفظ الغير من الإجمال فوقعوا فيما وقعوا فيه. ومنشأ الغلط في المسألة "من إطلاق ألفاظ مجملة محتملة لمعنيين: صحيح وباطل. فلا ينفصل النزاع إلا بتفصيل تلك المعاني وتنزيل ألفاظها عليها ... وبلاء القوم من لفظة الغير، فإنها يراد بها (معنيان) أحدهما: المغاير لتلك الذات المسماة بالله، وكل ما غاير الله مغايرة محضة بهذا الاعتبار فلا يكون إلا مخلوقاً. ويراد به مغايرة الصفة إذا خرجت عنها فإذا قيل علم الله وكلام الله غيره، بمعنى أنه غير الذات المجردة عن العلم والكلام كان المعنى صحيحاً، ولكن الإطلاق باطل، وإذا أريد أن العلم والكلام مغاير لحقيقته المختصة التي امتاز بها عن غيره كان باطلاً لفظاً ومعنى ... " (2).والصواب في المسألة التفصيل "فالاسم يراد به المسمى تارة ويراد به اللفظ الدال عليه أخرى، فإذا قلت: قال الله كذا، واستوى الله على عرشه وسمع الله، ورأى وخلق فهذا المراد به المسمى نفسه، وإذا قلت (الله) اسم عربي، و (الرحمن) اسم عربي، و (الرحمن) من أسماء الله، و (الرحمن) وزنه فعلان، و (الرحمن) مشتق من الرحمة ونحو ذلك، فالاسم ههنا للمسمى ولا يقال غيره لما في لفظ الغير من الإجمال، فإن أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى فحق، وإن أريد أن الله سبحانه كان ولا اسم له حتى خلق لنفسه اسماً أو حتى سماه خلقه بأسماء من وضعهم فهذا من أعظم الضلال والإلحاد" (3).وأما استدلال الماتريدية بقوله تعالى: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ [الرحمن: 78] وقوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] ... ونحو ذلك من الآيات، على أن الاسم هو المسمى. هو في الحقيقة حجة عليهم، "لأن النبي صلى الله عليه وسلم امتثل هذا الأمر وقال: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي العظيم، ولو كان الأمر كما زعموا لقال: سبحان اسم ربي العظيم. ثم إن الأمة كلهم لا يجوز أحد منهم أن يقول: عبدت اسم ربي، ولا سجدت لاسم ربي، ولا ركعت لاسم ربي، ولا يا اسم ربي ارحمني، وهذا يدل على أن الأشياء متعلقة بالمسمى لا بالاسم" (4).وأما الجواب عن تعلق الأمر بالذكر والتسبيح بالاسم، فهو: "أن الذكر الحقيقي محله القلب لأنه ضد النسيان، والتسبيح نوع من الذكر، فلو أطلق الذكر والتسبيح لما فهم منه إلا ذلك دون اللفظ باللسان، والله تعالى أراد من عباده الأمرين جميعاً ولم يقبل الإيمان وعقد الإسلام إلا باقترانهما، واجتماعهما فصار معنى الآيتين: سبح ربك بقلبك ولسانك، واذكر ربك بقلبك ولسانك. فاقحم الاسم تنبيهاً على هذا المعنى حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان، لأن ذكر القلب متعلقه المسمى المدلول عليه بالاسم دون ما سواه والذكر باللسان متعلقه اللفظ مع مدلوله لأن اللفظ لا يراد لنفسه فلا يتوهم أحد أن اللفظ هو المسبح دون ما يدل عليه من المعنى" (5). فإطلاق القول: بأن الاسم غير المسمى، أو أنه هو، غير صحيح، بل هو باطل لاحتماله معاني باطلة. والصواب هو التفصيل في المسألة كما تقدم بيانه ... والله تعالى أعلم ... المصدر: الماتريدية دراسة وتقويماً تصنيف أحمد بن عوض بن داخل اللهيبي الحربي - ص 229 - 234   (1) ((الفتاوى)) (6/ 186، 187). (2) ((بدائع الفوائد)) (1/ 17، 18). (3) ((شفاء العليل))، لابن القيم (ص 277)، وانظر: ((شرح الطحاوية))، لابن أبي العز الحنفي (ص 80). (4) ((بدائع الفوائد)) (1/ 181)، وانظر: ((لوامع الأنوار البهية)) (1/ 29، 119). (5) ((البدائع الفوائد)) (1/ 19). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 ثانيا: مذهب الماتريدية في صفات الله تعالى تعد الماتريدية من (الصفاتية)، وذلك لأنهم يثبتون بعض الصفات، ويثبتون لهذه الصفات معنى حقيقياً يقوم بذات الرب تعالى. فليست هي عندهم مجرد وصف الواصف أو نفي الضد (1). وتأكد الماتريدية على أن إثبات هذه الصفات لا يستلزم التشبيه، إذ أنه لا شبه بين حقيقة الخالق والمخلوق، ولو كان إثبات الصفات يستلزم التشبيه للزم قدم المخلوق أو حدوث الخالق، وهذا ما لا يقوم به عاقل. قال الماتريدي: "ليس في إثبات الأسماء وتحقيق الصفات تشابه لنفي حقائق ما في الخلق عنه ... فلو كان لشيء منه شبه يسقط عنه من ذلك القدم، أو عن غيره الحدث ... ، فلو وصف بالشبه بغيره بجهة فيصير من ذلك الوجه كأحد الخلق" (2).وقال أبو المعين النسفي: "إن الصانع القديم - جل ثناؤه - لا يشبه العالم، ولا شيئاً من العالم بوجه من الوجوه، لأن المتشابهين هما المتماثلان، والمتماثلان ما ينوب أحدهما مناب صاحبه، ويسد مسده ... فإن كان المتغايران ينوب أحدهما مناب صاحبه ويسد مسده من جميع الوجوه كانا مثلين من جميع الوجوه، وإن كان ينوب منابه، ويسد مسده من بعض الوجوه فهما مثلان من ذلك الوجه، ثم إنما ينوب أحدهما مناب صاحبه ويسد مسده في وجه من الوجوه إن استويا في ذلك الوجه، إذاً لو كان بينهما تفاوت في ذلك الوجه لما ناب أحدهما مناب صاحبه، ولا سد مسده، وإذا عرف هذا فنقول: إن الله تعالى لو كان مثلاً للعالم، أو لشيء من أجزائه من جميع الوجوه، لكان هو جل جلاله محدثاً من جميع الوجوه أو كان ما يماثله قديماً من جميع الوجوه. ولو كان يماثله بوجه من الوجوه لكان الله تعالى محدثاً من ذلك الوجه، أو ما يماثله من ذلك الوجه. والقول بحدث القديم من جميع الوجوه أو بوجه من الوجوه، أو بقدم المحدث من جميع الوجوه أو بوجه من الوجوه محال" (3). وما ذكرته الماتريدية من الدليل العقلي على نفي التشبيه من جهة أنه يستلزم الجمع بين النقيضين صحيح. ولكنهم ساروا على هذا الأصل فقط فيما أثبتوه من الصفات، وأما في بقية الصفات فهم على النقيض من ذلك، إذ يعتقدون أن إثباتها على حقيقتها يستلزم التشبيه والتجسيم، وهذا في الحقيقة تناقض، إذ أن القول في جميع الصفات واحد نفياً وإثباتاً، ولا دليل على التفريق. وأما من ناحية علاقة الصفات بالذات، فقد قالت الماتريدية بأن صفات الله لا هي هو ولا غيره، إذ لو كانت الصفات عين الذات لكانت ذاتاً، ولو كانت غيراً لزم تعدد القدماء، لأن الغيرين هما اللذان يجوز انفكاك أحدهما عن الآخر. قال الأوشي: صفات الله ليست عين ذات ... ولا غيرا سواه ذا انفصال قال ملا علي القاري: "أطلق الناظم صفات الله، فشملت صفات الذات وصفات الأفعال، فهي ليست عين الذات ولا غيرها ... لو كانت عيناً لكانت ذاتاً، ولو كانت غيراً لزم التركيب وهو من المحالات" (4).   (1) انظر: ((التوحيد)) (ص 49 - 60، 128، 129)، ((التأويلات)) (ل 337) الظاهرية، ((أصول الدين))، للبزدوي (ص 21، 22) ((إشارات المرام)) (ص 107، 136). (2) انظر: ((التوحيد)) (ص 24، 25)، وانظر (ص 41، 107). (3) ((التمهيد)) (ص 13، 14)، وانظر: ((أصول الدين)) (ص 31 - 33)، ((تبصرة الأدلة)) (ل 86 - 100). (4) ((ضوء المعالي)) (ص 24، 25، 26)، ((نثر اللآلئ)) (ص 25 - 27)، وانظر: ((التوحيد)) (ص 33، 55، 59، 69، 129، 130، 135)، ((أصول الدين)) (ص 34، 35) ((النور اللامع)) (ل 40)، ((السيف المشهور)) (ل 13)، ((شرح الفقه الأكبر)) للقاري (ص 27)، ((إشارات المرام)) (ص 118، 136). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 والذي دفع الماتريدية إلى هذا القول، هو اعتراض المعتزلة عليهم عندما أثبتوا بعض الصفات، بأن إثباتها لله يستلزم تعدد القدماء، إذ أن الصفات غير الذات. فقالت الماتريدية بنفي الغيرية دفعاً لهذا الاعتراض، وقالت بنفي ذاتية الصفات دفعاً لنفي الصفات. يوضح هذا قول أبي المعين النسفي: "وما يزعم المعتزلة أن الله تعالى لو كانت له هذه الصفات لكانت أغياراً له، وفيه إبطال التوحيد، والقول بأزلية غير الله تعالى كلام باطل، لأن الصفات ليست بأغيار لله تعالى، بل كل صفة لا هي ولا هو ولا غيره، لأن الغيرين موجودان، يتصور وجود أحدهما مع انعدام صاحبه، وذلك في حق ذات الله تعالى وصفاته ممتنع، إذ ذاته أزلية، وكذا صفاته، والعدم على الأزلي محال. فانعدم حد المغايرة، وانعدمت المغايرة، كالواحد من العشرة لا يكون غير العشرة، ولا عين العشرة، لاستحالة بقائه بدونها، أو بقائها بدونه، إذ هو منها، فعدمها عدمه، ووجودها وجوده" (1).وقال أيضاً: "لا حاجة بنا إلى الاشتغال بتحديد الغيرين، لأن الخصوم هم الذين يريدون نفي الصفات بعلة أنها لو كانت ثابتة، لكانت أغياراً للذات، فإذا منعناهم من إثبات المغايرة بطلت شبهتهم" (2). وهذه المسألة من المغاليط التي ابتدعتها الجهمية حيث استخدموا في مناظراتهم ألفاظاً مجملة حتى يوقعوا الناس في شراكهم فيجذبونهم إلى ما هم فيه من الضلال والاعتقاد الفاسد. قال الإمام أحمد رحمه الله في رده على الجهمية: "ثم إن الجهم ادعى أمراً آخر، وهو من المحال. فقال: أخبرونا عن القرآن أهو الله، أو غير الله ... ؟ فادعى في القرآن أمراً يوهم الناس. فإذا سئل الجاهل عن القرآن، هو الله، أو غير الله؟ فلابد له من أن يقول بأحد القولين. فإن قال: هو الله. قال له الجهمي: كفرت. وإن قال: هو غير الله. قال: صدقت، فلم لا يكون غير الله مخلوقاً؟ فيقع في نفس الجاهل من ذلك ما يميل به إلى قوله الجهمي" (3).والماتريدية لما ألجأتهم الجهمية والمعتزلة إلى هذا القول، أرادوا أن يتخلصوا من هذا الإشكال، فخرجوا بقول ثالث، وهو أن صفات الله لا هي ولا هو ولا غيره. وهو في الحقيقة قول متناقض لا سبيل إلى رفعه (4)، إذ أنهم بقولهم هذا نفوا مسمى اللفظين مطلقاً.   (1) ((التمهيد)) (ص 23)، ((تبصرة الأدلة)) (ل 146 - 151)، ((بحر الكلام)) (ص 16، 17). (2) ((النور اللامع)) (ل 40، 44). (3) ((الرد على الجهمية والزنادقة))، ت عميرة: (ص 110)، و ((ضمن عقائد السلف))، ت النشار والطالبي ((ص 73)، و ((ضمن شذرات البلاتين)) (ص 19). (4) انظر: ((مقدمة تحقيق كتاب ابن رشد "مناهج الأدلة")) لمحمد قاسم (ص 120). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 ولما كان أهل السنة والجماعة معتصمين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفقهم الله تعالى إلى الحق والصواب، ولم يقعوا في شراك الجهمية كما وقع غيرهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد تكلم الإمام أحمد في رده على الجهمية في جواب هذا، وبين أن لفظ (الغير) لم ينطق به الشرع لا نفياً ولا إثباتاً، وحينئذ فلا يلزم أن يكون داخلاً لفظ (الغير) في كلامه الشارع ولا غير داخل ... ، وأيضاً فهو لفظ مجمل، يراد بالغير ما هو منفصل عن الشيء، ويراد بالغير ما ليس هو الشيء. فلهذا لا يطلق القول بأن كلام الله وعلم الله ونحو ذلك هو هو، لأن هذا باطل، ولا يطلق أنه غيره، لئلا يفهم أنه بائن عنه منفصل عنه. وهذا الذي ذكره الإمام أحمد، عليه الحذاق من أئمة السنة، فهؤلاء لا يطلقون أنه هو، ولا يطلقون أنه غيره، ولا يقولون ليس هو هو ولا غيره. فإن هذا أيضاً إثبات قسم ثالث وهو خطأ. ففرق بين ترك إطلاق اللفظين لما في ذلك من الإجمال، وبين نفي مسمى اللفظين مطلقاً، وإثبات معنى ثالث خارج عن مسمى اللفظين" (1). "والذي عليه سلف الأمة وأئمتها إذا قيل لهم علو الله وكلام الله، هل هو غير الله أم لا؟ لم يطلقوا النفي ولا الإثبات، فإنه إذا قيل لهم غيره أوهم أنه مباين له. وإذا قال ليس غيره أوهم أنه هو، بل يستفصل السائل، فإن أراد بقوله غيره أنه مباين له منفصل عنه، فصفات الموصوف لا تكون مباينة له منفصلة عنه، وإن كان مخلوقاً، فكيف بصفات الخالق؟ وإن أراد بالغير أنها ليست هي هو فليست الصفة هي الموصوف، فهي غيره بهذا الاعتبار" (2)."فالواجب أن ينظر في هذا الباب، فما أثبته الله ورسوله أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله نفيناه، والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فنثبت ما أثبتته النصوص من الألفاظ والمعاني، وننفي ما نفته النصوص من الألفاظ والمعاني. وأما الألفاظ التي تنازع فيها من ابتدعها من المتأخرين .. ، فلا تطلق نفياً ولا إثباتاً حتى ينظر في مقصود قائلها، فإن كان قد أراد بالنفي والإثبات معنى صحيحاً موافقاً لما أخبر به الرسول صوب المعنى الذي قصده بلفظه، ولكن ينبغي أن يعبر عنه بألفاظ النصوص، لا يعدل إلى هذه الألفاظ المبتدعة المجملة إلا عند الحاجة، مع قرائن تبين المراد بها" (3).وأما الصفات الثبوتية عند الماتريدية فهي ثمان صفات، وهي: القدرة، والعلم، والحياة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، والتكوين (4). وهم قد خصوا الإثبات بهذه الصفات دون غيرها، لأنها هي التي دل العقل عليها عندهم. وأما غيرها من الصفات، فإنه لا دليل عليها من العقل عندهم، فلذا قالوا بنفيها. وسلكوا في الاستدلال على إثبات هذه الصفات طريقتين، وقد يسلكوا أحياناً طرقاً غيرها: الأولى: التنزيه عن النقائص.   (1) ((الفتاوى)) (17/ 158 - 161). (2) ((الجواب الصحيح)) (2/ 157). (3) ((منهاج السنة))، تحقيق د. محمد رشاد سالم/ (2/ 554)، وانظر: ((الفتاوى)) (17/ 158 - 161)، ((الدرء)) (1/ 282، 3/ 24، 25، 10/ 232)، ((بغية المرتاد)، ت الدويش (ص 426، 427)، ((منهاج السنة)) (2/ 166، 542، 543)، (بيان تلبيس الجهمية)) (1/ 508)، ((الجواب الصحيح)) (2/ 157، 3/ 208، 209)، اقتضاء الصراط المستقيم (ص 420، 421)، ((شرح الأصفهانية)) (ص 20)، ((لوامع الأنوار البهية)) (1/ 217، 218). (4) انظر: ((إشارات المرام)) (ص 107، 114)، ((جامع المتون)) (ص 8 - 12)، ((نظم الفرائد)) (ص 24). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 الثانية: دلالة المحدثات. قال أبو المعين النسفي موضحاً الطريقة الأولى: "إذا ثبت أن صانع العالم قديم ومن شرط القدم التبري عن النقائص، ثبت أنه حي قادر سميع بصير عالم، إذ لو لم يكن كذلك لكان موصوفاً بالموت والجهل والعجز والعمى والصمم، إذ هذه الصفات متعاقبة لتلك الصفات، فلو لم تكن هذه الصفات ثابتة لله تعالى (لثبت) ما يعاقبها وهي صفات نقص ومن شرط القدم الكمال، فدل أنه موصوف بما بينا لضرورة انتفاء أضدادها التي هي من سمات (المحدث) لكونها نقائص" (1).وقال في الثانية: "وإذا ثبت أيضاً أنه هو المخترع لهذا العالم مع اختلاف أنواعه، وهو الخالق له على ما هو عليه من الإحكام والإتقان وبديع الصفة وعجيب النظم والترتيب وتركيب الأفلاك وما فيها من الكواكب السائرة وما يرى من البدايع في أبدان الحيوانات من الحياة والتميز والاهتداء إلى اجتلاب المنافع (وانتفاء) المضار، وما فيهن من الحواس، وما في الأجسام الجمادية من البدايع والخاصيات التي أودعت فيها على وجه لو تأمل ذو البصيرة الموصوف بدقة الفكرة وحدة الخاطر ورجاحة العقل وكمال الذهن وقوة التمييز جميع عمره فيها لما وقف على كنهها بل على جزء من ألف جزء مما فيها من آثار كمال الحكمة ولطف التدبير، ثبت أنه حي قادر عالم سميع بصير ... يجري العلم بذلك مجرى الأوائل البديهية، حتى أن العقلاء بأسرهم ينسبون من يضيف نسيج الديباج المنقوشة، وتحصيل التصاوير المونقة، وبناء القصور العالية، واتخاذ السفن الجارية ... إلى ميت عاجز جاهل، إما إلى الحماقة والغباوة وإما إلى العناد والمكابرة ... " (2). وقبل ذكر استدلالهم على إثبات كل صفة على حدة، لابد من بيان أمر مهم وهو: أن ما أثبته الماتريدية من صفات الله تعالى ثابت بالشرع والعقل - ولا ريب في هذا - ولكن تخصيصهم هذه الصفات الثمان دون غيرها بالإثبات تخصيص من غير مخصص، ولا دليل عليه من العقل ولا من النقل. بل إن الدليل النقلي والعقلي قد دل على اتصافه تعالى بهذه الصفات وغيرها، فالشرع قد أثبت صفات أخرى غير تلك الصفات الثمان، فما الموجب لعدم إثباتها؟ فإن قالوا: إن إثبات الصفة لابد له من دليل عقلي على تلك الصفة بعينها، ولم يقم لدينا دليل عقلي على غير ما أثبتناه من الصفات (3). قيل لهم: "إن وجوب تصديق كل مسلم بما أخبر الله به ورسوله من صفاته ليس موقوفاً على أن يقوم عليه دليل عقلي على تلك الصفة بعينها، فإنه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أخبرنا بشيء من صفات الله تعالى، وجب علينا التصديق به، وإن لم نعلم ثبوته بعقولنا.   (1) ((تبصرة الأدلة)) (ل 113)، وانظر: ((التمهيد)) (ص 9، 12، 21)، ((النور اللامع)) (ل 37) ((المسايرة)) (ص 67). (2) ((تبصرة الأدلة)) (ل 113، 114)، وانظر: ((التوحيد))، للماتريدي: (ص 45)، ((تأويلات أهل السنة)) (ل 24، 77، 78)، ((الظاهرية))، ((التمهيد)) (ص 12، 21)، ((تفسير النسفي)) (1/ 86، 200)، ((النور اللامع)) (ل 37، 38، 41)، ((المسايرة)) (ص 58 - 65)، ((بيان الاعتقاد)) (ل 8). (3) انظر: ((شرح المقاصد)) (2/ 106)، حيث رد التفتازاني على من زعم أنه لا صفة لله غير السبعة التي أثبتتها الأشاعرة، ورده في الحقيقة رد عليه وعلى الماتريدية والأشاعرة حيث لم يثبتوا جميع الصفات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 ومن لم يقر بما جاء به الرسول حتى يعلمه بعقله فقد أشبه الذين قال الله عنهم: لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام: 124] ومن سلك هذا السبيل فهو في الحقيقة ليس مؤمناً بالرسول، ولا متلقياً عنه الأخبار بشأن الربوبية، ولا فرق عنده بين أن يخبر الرسول بشيء من ذلك، أو لم يخبر به، فإن ما أخبر به إذا لم يعلمه بعقله لا يصدق به، بل يتأوله أو يفوضه ومالم يخبر به إن علمه بعقله آمن به وإلا فلا. فلا فرق عند من سلك هذه السبيل بين وجود الرسول وإخباره، وبين عدم الرسول وعدم إخباره، وكان ما يذكر من القرآن والحديث والإجماع في هذا الباب عديم الأثر عنده، وهذا قد صرح به أئمة هذا الطريق" (1). ثم يقال لهم: لم أثبتم له تعالى إرادة، وأنه مريد حقيقة، ونفيتم حقيقة الحب والرحمة ونحو ذلك. فإن قالوا: لأن إثبات هذا تشبيه. قيل لهم: وكذلك يقول لكم منازعكم في الإرادة. ويقول لكم أهل الإثبات: لابد لكم أن تأتوا في الدلالة على ما أثبتموه من الصفات بالعقل بقياس شمولي أو قياس تمثيلي. فتقولون في الشمولي كل فعل متقن محكم فإنه يدل على علم فاعله وقدرته وإرادته وهذه المخلوقات كذلك فهي دالة على علم الرب تعالى وقدرته ومشيئته، وتقولون في التمثيلي: الفعل المحكم المتقن يدل على علم فاعله وقدرته في الشاهد، فكان دليلاً في الغائب، والدلالة العقلية لا تختلف شاهداً وغائباً فلا يمكنكم أن تثبتوا له سبحانه بالعقل صفة أو فعلاً إلا بالقياس المتضمن قضية كلية، إما لفظاً كما في قياس الشمول، وإما معنى كما في قياس التمثيل فإذا كنتم لا يمكنكم إثبات الصانع ولا صفاته إلا بالقياس الذي لابد فيه من إثبات قدر مشترك بين المقيس والمقيس عليه، وبين أفراد القضية الكلية، ولم يكن هذا عندكم تشبيهاً ممتنعاً، فكيف تنكرون معاني ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم وحقائقه بزعمكم أنه يتضمن تشبيهاً (2). فإن قالوا: الإرادة التي نثبتها لله ليست مثل إرادة المخلوقين، كما أن قد اتفقنا وسائر المسلمين على أنه حي، عليم، قدير، وليس هو مثل سائر الأحياء العلماء القادرين. قال لكم أهل الإثبات: كذلك الرحمة والمحبة التي نثبتها لله ليست مثل رحمة المخلوق، ومحبة المخلوق. فإن قالوا: لا نعقل من الرحمة والمحبة إلا هذا. قال لكم النفاة: ونحن لا نعقل من الإرادة إلا هذا (3). فإن قالوا: إنا نثبت تلك الصفات بالعقل. قال لكم أهل الإثبات: لكم جوابان: أحدهما: أن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، وعلى فرض أن ما سلكتم من الدليل العقلي لا يثبت ذلك، فإنه لا ينفيه، والنافي لابد أن يأتي بديل كالمثبت سواء بسواء، وليس لكم أن تنفوا شيئاً من الصفات بغير دليل، لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت، والسمع قد دل عليه، ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم. الثاني: أن يقال: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبتم به تلك الصفات من العقليات، فيقال: نفع العباد بالإحسان إليهم، يدل على الرحمة، كدلالة التخصيص على الإرادة، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم، وعقاب الكافرين يدل على بغضهم، والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته تدل على حكمته البالغة (4).   (1) ((شرح الأصفهانية)) (ص 30، 31)، ط مخلوف. (2) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 119، 120)، بتصرف، وانظر: ((منهاج السنة)) (2/ 115). (3) ((شرح الأصفهانية)) (ص 27، 28)، بتصرف. (4) ((الفتاوى)) (3/ 19)، بتصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 فإن قالوا: إنما نفينا الرحمة والرضا والغضب ونحو ذلك من الصفات لأنه لا يعقل لها حقيقة تليق بالخالق إلا الإرادة. قيل لهم: هذا باطل، فإن نصوص الكتاب والسنة والإجماع مع الأدلة العقلية تبين الفرق، فإن الله سبحانه يقول: إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر: 7]، وقال تعالى: إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء: 108]، فبين أنه لا يرضى هذه المحرمات مع أن كل شيء كائن بسببه، وقال تعالى: وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ [البقرة: 205].وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام، وبإجماع الأمة، أن الله يحب الإيمان والعمل الصالح، ولا يحب الكفر والفسوق والعصيان، وأنه يرضى هذا ولا يرضى هذا والجميع بمشيئته وقدرته (1). فعلم بهذا أن ما يجب إثباته لله تعالى من الصفات ليس مقصوراً على ما أثبتته الماتريدية. بل إن الواجب - وهو الذي عليه سلف الأمة وأئمتها: أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل. وهذا هو المنهج الحق الواجب اتباعه والسبيل المستقيم الذي لا أعوجاج فيه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وأما الطرق العقلية التي استدلت بها الماتريدية على إثبات ما أثبتوه من الصفات، فهي ولا ريب صحيحة مستقيمة، فمعرفة الخالق عن طريق التدبر والتفكر في المخلوقات أمر قد حث عليه الله تعالى في كتابه في آيات كثيرة، من ذلك: قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: 164]، وقوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ [آل عمران: 109]، وقوله تعالى: أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ [ق: 6 - 8] (2).قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وإذا تأملت ما دعا الله سبحانه في كتابه عباده إلى الفكر فيه أوقعك على العلم به سبحانه وتعالى، وبوحدانيته، وصفات كماله ونعوت جلاله من عموم قدرته وعلمه وكمال حكمته ورحمته وإحسانه وبره ولطفه وعدله ورضاه وغضبه وثوابه وعقابه، فبهذا تعرف إلى عباده وندبهم إلى التفكر في آياته" (3).   (1) ((شرح الأصفهانية)) (ص 32، 33)، بتصرف، وانظر: ((الفتاوى)) (3/ 299، 300). (2) انظر: ((تفسير القرطبي)): (2/ 201 - 203، 4/ 310)، ((زاد الميسر))، لابن الجوزي: (1/ 526)، ((روح المعاني))، للآلوسي (2/ 33). (3) ((مفتاح دار السعادة)) (ص 204)، ((التفسير القيم)) (ص 189). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 وقد دل كتاب الله أيضاً على الطريق العقلي الثاني، وهو ثبوت الكمال لله وتنزيه الله عن النقائص. كما في قوله تعالى: أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل: 17] وقوله: ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [النحل: 75]، وقوله: وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [النحل: 76]، وقوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9]، وقوله: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ [الأعراف: 148] وقول إبراهيم عليه السلام لأبيه: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا [مريم: 42] ومثل هذا كثير في القرآن. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن الكمال ثابت لله بل الثابت له هو أقصى ما يمكن من الأكملية، بحيث لا يكون وجود كمال لا نقص فيه إلا وهو ثابت للرب تعالى، يستحقه بنفسه المقدسة، وثبوت ذلك مستلزم نفي نقيضه، فثبوت الحياة يستلزم نفي الموت، وثبوت العلم يستلزم نفي الجهل، وثبوت القدرة يستلزم نفي العجز، وإن هذا الكمال ثابت له بمقتضى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية مع دلالة السمع على ذلك. وثبوت معنى الكمال قد دل عليه القرآن بعبارات متنوعة، دالة على معاني متضمنة لهذا المعنى، فما في القرآن من إثبات الحمد له وتفصيل محامده، وإن له المثل الأعلى، وإثبات معاني أسمائه، ونحو ذلك كله دال على هذا المعنى" (1)."والمقصود هنا أن نبين أن ثبوت الكمال لله معلوم بالعقل، وأن نقيض ذلك منتف عنه، فإن الاعتماد في الإثبات والنفي على هذه الطريق مستقيم في العقل والشرع" (2).وقال رحمه الله: "وهذه الطريقة هي من أعظم الطرق في إثبات الصفات وكان السلف يحتجون بها، ويثبتون أن من عبد إلهاً لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم، فقد عبد رباً ناقصاً معيباً مؤوفاً، ويثبتون أن هذه كمال، فالخالي عنها ناقص ... " (3).وإذا تبين لنا هذا، يتبين لنا صحة الطرق العقلية التي استدلت بها الماتريدية على إثبات ما أثبتوه من الصفات. كما يتبين لنا "أن ما جاء به الرسول هو الحق الذي يدل عليه المعقول، وأن أولى الناس بالحق أتبعهم له، وأعظمهم له موافقة وهم سلف الأمة وأئمتها، الذين أثبتوا ما دل عليه الكتاب والسنة من الصفات، ونزهوه عن مماثلة المخلوقات" (4). المصدر: الماتريدية دراسة وتقويماً تصنيف أحمد بن عوض بن داخل اللهيبي الحربي - ص219 صفة القدرة   (1) ((الفتاوى)) (6/ 71، 72، 75). (2) ((الفتاوى)) (6/ 71، 72، 75). (3) ((الدرء)) (2/ 340). (4) ((الفتاوى)) (6/ 88)، وانظر: ((الفتاوى)) (16/ 353، 363)، ((الدرء)) (3/ 123 - 125، 10/ 113، 4/ 6، 7، 32 - 34)، ((شرح الأصفهانية))، ت السعوي (ص 345، 359، 379 – 384). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 استدلت الماتريدية على إثبات اتصاف الله تعالى بصفة القدرة بإيجاده تعالى وخلقه للمخلوقات، وهي طريقة (دلالة المحدثات) أو (دليل الأفعال) كما استدلوا بطريقة (التنزيه عن النقائص) إلا أن استدلالهم بالطريقة الأولى أقوى وأشهر عندهم، حتى أن كثيراً منهم لا يذكرون غيرها. والماتريدي يستدل على ثبوت صفة القدرة بدلالة المحدثات، ويربط ثبوت القدرة بثبوت الاختيار. فالاتساق والحكمة في المعقولات وإيجاد المعدوم وإعدام الموجود، يقتضى ثبوت الاختيار من الفاعل، وإذا ثبت الاختيار ثبتت القدرة، إذا لا اختيار بغير قدرة. يقول الماتريدي مقرراً هذا: "إن اتساق الفعل المتوالي بلا فساد ... ولا خروج عن طريق الحكمة، يثبت كون المفعول بالاختيار من الفاعل، فثبت أن الخلق كان بفعله حقيقة ... وأيضاً أن الله تعالى إذا أنشأ شيء ثم أفناه، وفيه أيضاً ما قد أعاده نحو الليل والنهار، ثبت أن فعله بالاختيار، إذ تحقق به صلاح ما قد أفسده، وإعادة ما قد أفناه، وإيجاد المعدوم وإعدام الموجود، فثبت أن طريق ذلك الاختيار، إذ من كان الذي منه يكون بالطبع لا يجيء منه نفي ما يوجد، وإيجاد ما يعدمه ... وأيضاً إنا قد بينا حدث العالم لا من شيء، وذلك نوع ما لا يبلغه إلا فعل من هو في غاية معنى الاختيار، وما يكون بالطبع فحقه الاضطرار، ومحال أن يكون من يبلغ شأنه إلى إنشاء الأشياء لا من شيء، ثم يكون ذلك بالطبع، مع ما كان وقوع الشيء بالطبع هو تحت قهر آخر، وجعله بحيث يسقط عنه الإمكان، وذلك آية الحدث وإمارة الضعف، جل ربنا عن ذلك وتعالى. مع ما جرى التعارف المتوارث من الخلق بالدعوات والتضرع إلى الله تعالى بالفرج، وأنه قهر كذا ونصر كذا، وأعان فلاناً وخذل فلاناً وأن كل ذي قوة يفعل بقوة أنشأها، ولا ينال شيء من ذلك بالمضطر، ولايرغب فيه، دل ذلك على أن العالم باختياره، فإذا ثبت الاختيار ثبتت له القدرة على الخلق، والإرادة لكونه على ما هو عليه، لأن من لا قدرة له يخرج الذي يكون منه مضطرباً فاسداً، ولا يملك الشيء وضده. فثبت أن ما كان منه بقدرة كان باختيار، وذلك أمارات الفعل الحقيقية في الشاهد ... " (1). وأما أبو المعين النسفي وعامة الماتريدية، فإنهم يثبتون القدرة بدلالة مطلق الفعل، بدون توسيط الاختيار في الاستدلال، وذلك أن فعل الفاعل لا يكون صادراً إلا عن قدرة، فالخلق لا يكون إلا من قادر. وكل من الطريقتين محورهما واحد إلا أن الثانية أقل مقدمات فهي أقرب وأبسط في الاستدلال من الأولى. قال أبو المعين النسفي مقرراً دلالة المحدثات على قدرة الله تعالى: "المفعول كما دل على الفاعل فمطلقه يدل على القدرة ... فإن كل من رأي المفعول ... استدل بكونه مفعولاً على قدرة فاعله عليه" (2).وقال أيضاً: "فلو لم يكن لله تعالى ... قدرة، لما تصور منه إيجاد هذا العالم البديع، بما فيه من الأجرام العلوية، والنجوم السيارة والأشخاص الحيوانية وحيث حصلت به هذه الأشياء، دل على ان له ... قدرة" (3). المصدر: الماتريدية دراسة وتقويماً تصنيف أحمد بن عوض بن داخل اللهيبي الحربي - ص247 صفة العلم   (1) ((التوحيد)) (ص 44، 45)، وانظر: (ص 60). (2) ((تبصرة الأدلة)) (ل 135)، وانظر: (ل 113، 136، 137)، ((النور اللامع)) (ل 37، 38، 41)، ((شرح المقاصد)) (2/ 81)، ((سلام الأحكم)) (ص 132، 133)، ((المسايرة)) (ص 58، 59)، ((إشارات المرام)) (ص 130 - 136). (3) ((التمهيد)) (ص 22). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 تثبت الماتريدية صفة العلم لله تعالى بدلالة المحدثات عليه، إذ الإحكام والإتقان في المخلوقات والمحدثات يدلان على علم الخالق والمحدث، إذ لا إحكام ولا إتقان بغير علم. قال الماتريدي: "وعلى ما ذكرنا من تواصل الفعل .. وتتابعه محكماً متقناً هو الدليل أنه كان فعله على العلم به" (1).وقال أبو المعين النسفي: "ولنا أيضاً طريقة دلالة المحدثات على الصفات وهي: المفعول كما دل على الفعل فمطلقه يدل على القدرة، وكونه محكماً متقناً يدل على العلم، فإن كل من رأى المفعول محكماً متقناً استدل بكونه مفعولاً على قدرة فاعلة عليه، وبكونه محكماً على علم فاعله به ... " (2). وقرر البياضي الدليل من ثلاثة أوجه: "الأول: إثباته بخلقه للأشياء فإنه يقتضي معلومية الأشياء قبل أن تخلق. الثاني: أنه يدل على قدرة الخالق أي كونه فاعلاً بالقصد والاختيار، لأن الخلق إيجاد عن عدم ولا يتصور الفعل بالقصد والاختيار إلا مع العلم بالمقصود. الثالث: أن الخلق البديع يدل على علم الخالق" (3). وبعد أن ذكر هذه الأوجه قال: "وتقريره أن خلقه تعالى وأفعاله متقن مشتمل على الصنع الغريب والترتيب العجيب، وكل من كان فعله كذلك فهو عالم، أما الصغرى فظاهرة لمن نظر في الآفاق والأنفس وارتباط العلويات بالسفليات، وما أعطى الحيوانات من الأسباب والآلات المناسبة لمصالحها، وما أعطى النحل والعنكبوت من العلم بما يفعله من البيوت بلا فرجار وآلة، كما دل قوله تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا [النحل: 68]، وأما الكبرى فضرورية. وقد ينبه عليها بأن من رأى خطوطاً حسنة أو سمع ألفاظاً عذبة تدل على معان دقيقة جزم بأن مصدرها عالم، وتوهم كفاية الظن مدفوع بالتكرار والتكثر على التصور ضروري وهو كاف في المقصود ... " (4). كما أنهم استدلوا على إثبات صفة العلم بدليل التنزيه عن النقائص وتقريره: إذا لم يتصف الرب تعالى بالعلم، اتصف بالجهل، لأن العلم والجهل من الصفات المتعاقبة، واتصافه تعالى بالجهل ممتنع، لأنه صفة نقص، ومن شرط القدم التبري عن النقائص، فوجب اتصافه تعالى بالعلم. قال أبو المعين النسفي: "إنا عرفنا ثبوت هذه الصفات كلها لمعرفتنا بتعاقب أضدادها التي في أنفسها نقائص إياها، ومعرفتنا باستحالة ثبوت النقائص في القديم، فعرفنا ثبوت هذه الصفات التي هي صفات الكمال ضرورة انتفاء النقائص عن القديم، وعرف أن ثبوتها من شرائط القدم وهذه الطريقة جارية في هذه الصفات (5). والدليل الأول هو المشهور عندهم وعند عامة المتكلمين في إثبات صفة العلم، ولا ريب في صحته فقد دل القرآن كما في قوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14]. ودلالة المحدثات - بما فيها من الأحكام والإتقان - على علم الخالق والمحدث أمر ضروري يدركه كل عاقل بدون إقامة دليل منطقي لا يفهمه كل أحد. وقوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ قد دل على وجوب علمه تعالى بالأشياء من عدة أوجه: "أحدها: أنه خالق لها والخلق هو الإبداع بتقدير، وذلك يتضمن تقديرها في العلم قبل تكونها في الخارج.   (1) ((التوحيد)) (ص45)، وانظر (ص 47، 61، 62، 66، 67). (2) ((تبصرة الأدلة)) (ل 135)، وانظر: (ل 113، 136، 137)، ((النور اللامع)) (ل 37، 38، 41). (3) ((إشارات المرام)) (ص 126). (4) ((إشارات المرام))، وانظر: ((سلام الأحكم)) (ص 132، 133)، ((التمهيد)) (ص 21، 22)، ((شرح المقاصد)) (2/ 87، 88)، ((المسايرة)) (ص 58 - 56)، ((جامع المتون)) (ص 8، 9). (5) ((تبصرة الأدلة)) (ل 114)، وانظر: ((بحر الكلام)) (ص 17). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 الثاني: أن ذلك مستلزم للإرادة، والمشيئة والإرادة مستلزمة لتصور المراد والشعور به، وهذه الطريقة المشهورة عند أكثر أهل الكلام. الثالث: أنها صادرة عنه، وهو سببها التام، والعلم بأصل الأمر وسببه، يوجب العلم بالفرع المسبب، فعلمه بنفسه مستلزم العلم بكل ما يصدر منه. الرابع: أنه في نفسه لطيف يدرك الدقيق، خبير يدرك الخفي، وهذا هو مقتضى العلم بالأشياء، فيجب وجود المقتضى لوجود السبب التام، فهو في علمه بالأشياء مستغن بنفسه عنها، كما هو غني بنفسه في جميع صفاته ... " (1). فالآية مع دلالتها على صحة طريقة الماتريدية، فهي أتم وأكمل وأوضح في الدلالة على وجوب اتصافه تعالى بالعلم من طريقتهم. المصدر: الماتريدية دراسة وتقويماً تصنيف أحمد بن عوض بن داخل اللهيبي الحربي - ص251 صفة الحياة اختلفت الماتريدية في طريقة الاستدلال على إثبات صفة الحياة، فذهب بعضهم إلى أن الحياة تثبت بدلالة المحدثات، إذ أن الفعل كما لا يتصور إلا من قادر عالم كذلك لا يتصور إلا من حي، وذهب بعضهم إلى أن الحياة تثبت بدلالة القدرة والعلم لا بدلالة الفعل، إذ يستحيل ثبوت القدرة والعلم بدون الحياة. قال أبو المعين النسفي موضحاً هذا: "ثبوت الحياة ... عند بعض أصحابنا نصرهم الله بدلالة المحدثات عليها إذ إحكام الفعل كما لا يتصور إلا من قادر عالم لا يتصور إلا من حي، تحققه أن الحياة لذات ما لا يعرف في الشاهد إلا بوجود الأفعال الاختيارية، وعند وجودها يقع التيقن بثبوت الحياة بحيث لا مجال للريب في ذلك، ويعد الشاك فيه متجاهلاً، وكما يستدل بالفعل المحكم المتقن على كون الفاعل قادراً عالماً يستدل به على كونه حياً وتمكن في فكر العقول امتناع القول بوجود ذلك إلا من حي على ما ذكرنا. وعند بعض أصحابنا كانت الحياة من مدلولات العلم والقدرة لا من مدلولات الفعل بل الفعل يدل على علمه وقدرته ويستحيل ثبوتهما بدون الحياة، إذ الحياة شرط ثبوتهما، ودليل استحالة ثبوتهما بدون الحياة، أن الموت والجمادية يضادان العلم والقدرة، إذ العقول السليمة كما تأبي قبول قول من أخبر عن اجتماع الموت والحياة والسواد والبياض والحركة والسكون، تأبى قبول قول من يجوز ثبوت العلم والقدرة للميت، وتعرف امتناع اجتماعهما مع الموت، كما تعرف امتناع اجتماع الحياة والموت، ولا تفرق بينهما، فلو جاز ذا لجاز الأول ولو امتنع لامتنع هذا لانعدام ما يوجب التفرقة بين الأمرين في العقول الصحيحة السليمة، تحققه أن ذلك لو جاز لجاز أن يكون كل ديباج نفيس وكل صورة مونقة، وكل قصر عال في العالم كانت حاصلة عن فعل الجمادات والموتى، ولعل كل تصنيف دقيق في فن من العلوم كان في عمل الموتى والجمادات ... وتجويز هذا كله هذيان وخروج عن قضية العقول التحاق بالمتجاهلة" (2).واستدلوا أيضاً على ثبوت صفة الحياة بدليل ثبوت الكمال والتنزيه عن النقائص، فلو لم يتصف الخالق بالحياة، لوجب أن يتصف بالموت، إذ أن الموت ولحياة من الصفات المتعاقبة، والموت صفة نقص يجب تنزيه الخالق عنها، كما أن الحياة صفة كمال يجب اتصافه بها، إذ من شرط القدم الكمال والتبري عن النقائص، فثبت وجوب اتصافه بالحياة (3).   (1) ((الفتاوى)) (2/ 211)، وانظر: ((الفتاوى)) (16/ 298، 354، 355)، ((شرح الأصفهانية)) ت السعوي (ص 344، 345)، ط مخلوف: (ص 24، 35)، ((الدرء)) (10/ 114)، ((شرح الطحاوية)) (ص 98 – 100)، ((لوامع الأنوار)) (1/ 148، 149). (2) ((تبصرة الأدلة)) (ل 114، 115)، وانظر: ((التمهيد)) (ص 21)، ((النور اللامع)) (ل 37، 38، 40)، ((المسايرة)) (ص 62)، ((إشارات المرام)) (ص 118). (3) انظر: ((تبصرة الأدلة)) (ل 113)، ((التمهيد)) (ص 21)، ((النور اللامع)) (ل 37). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 وكل هذه الطرق الثلاث التي استدلت بها الماتريدية على اتصاف الباري بالحياة الصحيحة مستقيمة. بل هي بديهية ضرورية، إذ أن معرفة اتصاف الخالق بالحياة أمر ضروري مستقر في الفطر، لا يجحده إلا مكابر ملحد. قال شيخ الإسلام في تعليقه على قول الأصفاني: (والدليل على أنه حي علمه وقدرته، لاستحالة قيام العلم والقدرة بغير الحي): "فهذا دليل مشهور للنظار، يقولون: قد علم أن من شرط العلم والقدرة الحياة، فإن ما ليس بحي يمتنع أن يكون عالماً، إذ الميت لا يكون عالماً، والعلم بهذا ضروري" (1).فلذلك اضطر ابن رشد الفيلسوف إلى الاعتراف بصحة هذا الدليل حيث قال: "وأما صفة الحياة فظاهر وجودها من صفة العلم، وذلك أنه يظهر في الشاهد أن من شرط العلم الحياة. والشرط عند المتكلمين يجب أن ينتقل فيه الحكم من الشاهد إلى الغائب، ما قالوه في ذلك صواب" (2). المصدر: الماتريدية دراسة وتقويماً تصنيف أحمد بن عوض بن داخل اللهيبي الحربي - ص254 الإرادة أثبتت الماتريدية الإرادة لله عز وجل بدليل أن الله تعالى قد خلق الخلق باختياره، ولا اختيار بدون إرادة، كما أنه لا اختيار بدون قدرة. وأيضاً اختصاص المفعول بوجه دون وجه، وبوقت دون وقت، دليل على اتصاف الفاعل بالإرادة، إذ هي المعنى الذي يوجب التخصيص. وكذلك استدلوا بدليل التنزيه إذ أن الخالق لو لم يكن مريداً لكان عاجزاً. قال الماتريدي: "إن شرط كل من فعله اختيار الإرادة، وكل من فعله الاضطرار أنه غير مريد ... " (3).وقال: "ثم الأصل الذي يقع عليه الفعل في الشاهد أن يكون على إرادة أو غلبة أو سهو، فكل من خرج في شيء عن الوصف بالغلبة فيه والسهو لزم الوصف بالإرادة التي هي الأفعال ... " (4). كما أن التخصيص في المفعولات يدل على اتصاف الفاعل بالإرادة دلالة بديهية، إذ لا تخصيص بلا إرادة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تعليقه على قول الأصفهاني: (والدليل على إرادته تخصيصه الأشياء بخصوصيات، واستحالة المخصص من غير مخصص): "فإن هذا دليل مشهور للنظار، ويقرر هنا: إن العالم فيه تخصيصات كثيرة، مثل تخصيص كل شيء بما له من القدر، والصفات، والحركات كطوله وقصره، وطعمه ولونه وريحه وحياته وقدرته وعلمه وسمعه وبصره وسائر ما فيه، مع العلم الضروري بأنه من الممكن أن يكون خلاف ذلك، إذ ليس واجب الوجود بنفسه. ومعلوم أن الذات المجردة التي لا إرادة لها لا تخصص، وإنما يكون التخصيص بالإرادة" (5). وثبوت الإرادة بدليل التنزيه أمر مدرك ببداهة العقول، إذ أنه من الضروريات. بل إن معرفة اتصاف الله تعالى بصفة الإرادة أمر لا يحتاج لإقامة الأدلة العقلية المنطقية عليه، إذ أنه يدرك بالفطرة والضرورة. ولا يجحد هذا إلا مختوم على قلبه، أو فاقد لعقله. المصدر: الماتريدية دراسة وتقويماً تصنيف أحمد بن عوض بن داخل اللهيبي الحربي - ص257 السمع والبصر   (1) ((شرح الأصفهانية)) ت السعوي (ص 395)، وانظر: ((لوامع الأنوار البهية)) (1/ 131، 132). (2) ((مناهج الأدلة))، ت محمود قاسم (ص 161، 162)، وط دار الآفاق (ص 71). (3) ((التوحيد)) (ص 293). (4) ((التوحيد)) (ص 305)، وانظر: (ص 44، 45، 60). (5) ((شرح الأصفهانية)) (ص 395)، وانظر: ((الفتاوى)) (3/ 18، 16/ 354)، ((لوامع الأنوار البهية)) (1/ 145). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 استدلت الماتريدة على اتصاف الله تعالى بصفتي السمع والبصر بدليل الكمال والتنزيه عن النقائص، وذلك أن السمع والبصر صفات كمال والصمم والعمى صفتا نقص، ومن شرط القدم الكمال والتبري عن النقائص، فلزم اتصافه بالسمع والبصر وتنزيهه عن الصمم والعمى. قال أبو المعين النسفي: "إذا ثبت أن صانع العالم قديم ومن شرط القدم التبري عن النقائص، ثبت أنه ... سميع بصير ... إذ لو لم يكن كذلك لكان موصوفاً بـ ... العمى والصمم، إذ هذه الصفات متعاقبة لتلك الصفات، فلو لم يكن هذه الصفات ثابتة لله تعالى لثبت ما يعاقبها وهي صفات نقص ومن شرط القدم الكمال، فدل أنه موصوف بما بينا لضرورة انتفاء أضدادها التي هي سمات المحدث لكونها نقائص" (1).وقال ابن الهمام: "إنه تعالى سميع بصير ... بمرأى منه خفايا الهواجس والأوهام، وبمسمع منه صوت أرجل النملة على الصخرة الملساء، لأنهما صفتا كمال فهو الأحق بالاتصاف بهما من المخلوق، وقال تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام: 83] وقد ألزم عليه السلام أباه الحجة بقوله: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ [مريم: 42] فأفاد أن عدمها نقص لا يليق بالمعبود" (2). ويرى البياضي: أن ثبوت السمع والبصر من المعلوم من الدين بالضرورة، وأنه لا حاجة لإقامة الأدلة العقلية على ثبوت ذلك، بل يكتفي بالأدلة السمعية. وخالف ابن الهمام جمهور الماتريدية، حيث ذهب إلى أن السمع والبصر يرجعان إلى صفة العلم، وقد نص على ذلك بقوله: "اعلم أنهما (أي السمع والبصر) يرجعان إلى صفة العلم" (3). ولا جرم أن القول بمغايرة السمع والبصر للعلم هو القول الصحيح، وذلك "لأن الله قرن بين العلم وبين السمع والبصر، وفرق بين السمع والبصر، وهو لا يفرق بين علم وعلم لتنوع المعلومات.   (1) ((تبصرة الأدلة)) (ل 113، 114). (2) ((المسايرة)) (ص 65 - 67). (3) ((المسايرة)) (ص 67). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 قال تعالى: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت: 36]، وفي موضع آخر: إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 200]، وقال: وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 227] ذكر سمعه لأقوالهم، وعلمه ليتناول باطن أحوالهم، وقال لموسى وهارون: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46].وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قرأ على المنبر: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء: 58] ووضع إبهامه على أذنه وسبابته على عينه (1).ولا ريب أن مقصوده بذلك تحقيق الصفة، لا تمثيل الخالق بالمخلوق، فلو كان السمع والبصر العلم لم يصح ذلك" (2).ويوضح هذا الإمام البيهقي رحمه الله في تعليقه على الحديث بقوله: "فالمراد بالإشارة المروية في هذا الخبر تحقيق الوصف لله عز وجل بالسمع والبصر، فأشار إلى محلي السمع والبصر منا لإثبات صفة السمع والبصر لله تعالى، كما يقال قبض فلان على مال فلان، ويشار باليد على معنى أنه عليم، إذ لو كان بمعنى العلم لأشار في تحقيقه إلى القلب، لأنه محل العلم منا ... " (3).وقال الإمام الدارمي رحمه الله في رده على بشر المريسي: "لا يقال لشيء إنه سميع بصير إلا لمن هو من ذوي الأسماع والأبصار، وقد يقال في مجاز الكلام: الجبال والقصور تتراءى وتسمع، على معنى أنها تقابل بعضها بعضاً، وتبلغها الأصوات ولا تفقه، ولا يقال: جبل سميع بصير، وقصر سميع بصير، لأن سميع مستحيل ذلك إلا لمن يسمع بسمع، ويبصر ببصر. فإن أنكر أصحاب المريسي ما قلنا فليسموا شيئاً من ليس من ذوي الأسماع والأبصار أجازت العرب أن يقولوا فيه هو سميع بصير. فإنهم لا يأتون بشيء يجوز أن يقال له ذلك" (4). فإذا علم هذا، يتبين لنا أن القول بأن السمع والبصر يرجعان إلى صفة العلم قول ظاهر البطلان عقلاً ونقلاً، بل معلوم الفساد بالضرورة. المصدر: الماتريدية دراسة وتقويماً تصنيف أحمد بن عوض بن داخل اللهيبي الحربي - ص260 إن مذهب الماتريدية في صفات الله تعالى- مزيج أمشاج من حق، وباطل حيث دخل عليهم شيء كبير من الإلحاد في أسماء الله تعالى وصفاته وتعطيلها تحريف نصوصها، كما سيتضح للقراء بعد قليل. فنبدأ ببيان ما عندهم من الحق الذي يشكرون عليه، وبه فارقوا الجهمية الأولى والمعتزلة ووافقوا الكتاب والسنة، وبذلك قاربوا أهل السنة في الجملة. ونجمل أهم جوانبه فيما يلي: 1 - أثبتوا كثيراً من صفات الله تعالى الثبوتية الذاتية، كحياته تعالى، وعلمه، وقدرته، وإرادته سبحانه وتعالى، وإن كان عندهم تفلسف في طريق إثباتها كما سيأتي. 2 - كما أثبت جمهورهم سمعه تعالى، وبصره سبحانه. 3 - أما الصفات السلبية فأثبتوها مع إلحاد وتعطيل فاحشين وقوعا فيهما كما سيأتي.   (1) رواه أبو داود (4730) من حديث أبي هريرة، قال ابن حجر في ((الفتح)) (13/ 385): إسناده قوي على شرط مسلم، وقال الألباني في ((صحيح أبي داود)) (4728): إسناده صحيح. (2) ((شرح الأصفهانية)) (ص 446)، وانظر: ((رد الإمام الدارمي على بشر المريسي)) (ص 43 - 50). (3) ((الأسماء والصفات)) (ص 234). (4) ((رد الدارمي على بشر المريسي)) (ص 50). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 4 - أثبتوا صفة التكوين باعتبار أنها مرجعٌ للصفات الفعلية، وهذا القول وإن كان في طيه تعطيل لكنه أحسن من التعطيل الصريح.5 - استدلوا لإثبات الصفات التي أثبتوها بنصوص الكتاب والسنة (1). فقد عرفوا بعض قيمة نصوص الوحي ولو في الجملة وهذا خير من ردها بالكلية.6 - لهم جهود عظيمة طيبة في الرد على الجهمية الأولى لإثبات ما أثبتوه من الصفات وإن كانت تلك الردود ترتد عليهم فيما نفوه من الصفات؛ لأنهم كثيراً ما يحتجون بحجج أهل السنة على الجهمية الأولى والمعتزلة ثم يخالفون ما تدل عليه تلك الحجج فيتناقضون فترتد عليهم تلك الحججُ نفسها (2). وأما ما عندهم من باطل في مذهبهم في صفات الله تعالى، فقد دخل عليهم باطل من إلحاد وتعطيل. الناحية الأولى: حول تقسيمهم للصفات: ونجملها فيما يلي:1 - أول إلحاد وتعطيل وقعوا فيهما - هو حصرهم لصفات الله تعالى، فأنت رأيت أنهم حصروا جميع الصفات في إحدى وعشرين صفةً لا غير، وقد صرح أحد أئمتهم ألا وهو كمال الدين البياضي الحنفي الماتريدي (1098هـ) بحصر الصفات الذاتية الثبوتية في سبعٍ، والصفة الثامنة هي التكوين، وهي صفة فعلية فقال: "وعند جلة الخلف لا يزيد على الصفات الثمانية، والصفات الأخرى راجعة إليها" (3).كما صرح الشاه محمد أنور الكشميري أحد كبار أئمة الديوبندية (1352هـ) بأن الأسماء الحسنى كلها مندرجة في صفة التكوين (4). ومعلوم أن صفة التكوين مرجعٌ للصفات الفعلية عندهم فهي صفة فعل فأين يضعون لفظ الجلالة "الله" وهو الاسم الأعظم ونحوه من الأسماء الحسنى التي تدل على ذات الله تعالى وعلى الصفات الثبوتية الذاتية الكمالية، فهل يضعونها أيضاً في صفة التكوين؟. ولما قالوا بحصر الصفات الإلهية فيما ذكروه عطلوا جميع ما سواها من صفات الله الكمالية، وحرفوا نصوصها الصريحة المحكمة الصحيحة، كما سيأتي عدة أمثلة لذلك. وهذا - والله تعطيل وإلحاد صريحان قبيحان - كما ذكرنا في معنى الزندقة والإلحاد.2 - الماتريدية تظاهروا بإثبات سبع صفات ذاتية ثبوتية ألا وهي: "الحياة والقدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر والكلام" لكنهم في الحقيقة لا يثبتونها كلها جميعاً باتفاقهم بل الحقيقة أنهم اتفقوا على إثبات الصفات الأربع الأول فقط، وأما صفتا "السمع والبصر" فجمهورهم يثبتونها وخالفهم بعضهم كالإمام ابن الهمام شارح الهداية (861هـ) فأرجعهما إلى صفة "العلم" (5).ومعلوم أن إرجاع صفة إلى أخرى وتفسير صفة بمعنى أخرى تعطيل صريح وتحريف قبيح فمن فسر "العلم" بالحياة، أو فسر "اليد" بالقدرة ونحو ذلك فقد أبطل وعطل حتى بشهادة الإمام أبي حنيفة رحمه الله وفي ذلك عبرة (6).وهم مع إثباتهم لهذه الصفات تفلسفوا في إثباتها تفلسفاً كادوا أن ينفوها ويعطلوها فإنهم قد صرحوا بأن كلاً من هذه الصفات صفة واحدة قديمة أزلية لا تكثر فيها ولا تجدد وإنما التجدد في متعلقاتها؛ لأن ذلك أليق بكمال التوحيد (7). فأخرجوا الصفات عما عرف في الشرع والعقل والفطرة.   (1) انظر ((شرح العقائد النسفية)) (ص 44 - 58)، وانظر ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص 57). (2) انظر على سبيل المثال كتاب ((التوحيد للماتريدي) (ص 25، 42، 57، 93، 94). (3) ((إشارات المرام)) (ص 188)، وقوله: "الثمانية" خطأ والصواب "الثماني". (4) ((فيض الباري)) (4/ 517). (5) انظر ((المسايرة مع شرحها)) لقاسم بن قطلوبغا، وسكت عليه (ص 69). (6) انظر ((الفقه الأكبر بشرح القاري)) (ص 58 - 59). (7) ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص 55 - 56)، و ((النبراس)) للفريهاري ((ص 217 - 218). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 هكذا كابروا العقل والنقل، ولذلك يقول في أمثالهم شيخُ الإسلام ذلك الإمام البعيد النظر الثاقب الفكر الذي كشف الأستار عن كثير من أسرار المتكلمين وأخرج خباياهم من زواياهم:"وإثبات إرادة واحدة كما ذكروه لا يعرف بشرع ولا عقل بل هو مخالف للشرع والعقل فإنه ليس في الكتاب والسنة ما يقتضى أن جميع الكائنات حصلت بإرادة واحدة بالعين تسبق جميع المرادات بما لا نهاية له وكذلك سائر ما ذكروه" (1). وهو كلام الله تعالى المسموع بحرف وصوت وهو لم يزل ولا يزال متكلماً. ثانياً: أنهم قالوا صراحةً- دون حياءٍ- جهاراً دون إسرار- بخلق القرآن فسايروا الجهمية الأولى وشيوخهم المعتزلة، وفارقوا أهل السنة. ثالثاً: أنهم لم يكتفوا بهذين- التعطيل والإلحاد- بل زادوا بدعةً أخرى على بدعة الجهمية الأولى والمعتزلة، ألا وهي "بدعة الكلام النفسي" الذي لم يعرفه الأولون والآخرون من الأنبياء والمرسلين والصحابة والتابعين وأئمة هذا الدين قبل ابن كلاب (240هـ) ولا يقره عقل صريح ولا نقل صحيح ولا فطرة سليمة ولا إجماع في آن واحد. 4 - الماتريدية تظاهروا بإثبات الصفات الفعلية- الصفات الاختيارية- والحقيقة أنهم لا يثبتون الصفات الفعلية ولا يقولون بقيامها بالله تعالى ومعلوم أن الصفة لا تكون صفةً إلا إذا قامت بالموصوف واتصف الموصوف بها، وإلا لزم أن تكون صفاتٌ لعمرو صفاتٍ لزيد، وهذا قلب الحقائق ومكابرة بداهة العقل السليم الصريح والنقل الصحيح. وهذه حقيقة اعترفوا بها في صدد احتجاجهم على المعتزلة فقالوا: "ومعلوم أن كلاً من ذلك يدل على معنى زائد على مفهوم الواجب. وليس الكل ألفاظاً مترادفة، وأن صدق المشتق على الشيء يقتضي ثبوت مأخذ الاشتقاق له فثبت له صفة العلم، والقدرة،، والحياة وغير ذلك، لا كما يزعم المعتزلة: أنه عالم لا علم له، وقادر لا قدرة له إلى غير ذلك، فإنه محال ظاهر بمنزلة قولنا: أسود لا سواد له، وقد نطقت النصوص بثبوت علمه، وقدرته، وغيرهما ... "؛وقالوا: "ولا معنى له سوى أنه متصف بالكلام" (2). ومعلوم أيضاً أنهم أرجعوا جميع الصفات الفعلية إلى صفة التكوين، وأن جميع الصفات الفعلية ليست صفاتٍ حقيقةً لله تعالى، وإنما هي من متعلقات صفة التكوين، والتكوين صفة أزلية وهي عندهم: مبدأ الإخراج من العدم إلى الوجود. فلا شك أن ما يزعمون من صفة التكوين ليس إلا مجموع صتفي "القدرة والإرادة"، ولا شيء غير ذلك، وأنه لا خلاف في الحقيقة بين الماتريدية وبين الأشعرية فكل متفقون على نفي الصفات الفعلية، ونفي قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى، حذراً عن تعدد القدماء، وفراراً عن حلول الحوادث بذاته تعالى في زعمهم كما تقدم ذلك في المسائل الخلافية بين الفريقين. 5 - الماتريدية خالفوا طريقة الكتاب والسنة، ونابذوا منهج سلف هذه الأمة، وعاكسوا أئمة السنة في باب الصفات السلبية، فأجملوا في الإثبات وفصلوا في النفي المحض ولذلك نرى الإثبات عندهم قليلاً. والنفي كثيراً، فعامة توحيدهم سلوب خالصة اقتداءً بشيوخهم المعتزلة، الثبوتية الذاتية التي هي من أعظم صفات الله تعالى الدالة على كماله سبحانه وتعالى، كصفة "العلو" لله سبحانه وتعالى، فيفسرون هذه الصفة العظيمة بالسلوب فيقولون: "المراد تعاليه عن الأمكنة، والمراد علو القهر، والتنزيه، وتعاليه عن كل موهوم، وتعاليه عن الأشباه، والأنداد، والصفات التي لا تليق به.   (1) ((درء التعارض)) (8/ 283). (2) ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص 44، 58). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 والسلوب قد أشربوها في قلوبهم، وتوحيد السلوب قد شغفهم حباً إلى حد قالوا: "إن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل به، ولا منفصل عنه، ولا فوق العرش، ولا يمين، ولا شمال، ولا أمام، ولا خلف، فقالوا بما لا يقره عقل صريح ولا نقل صحيح، ولا فطرة سليمة، ولا إجماع، وأرادوا الفرار من التشبيه وقصدوا التنزه، فنزهوا الله تعالى عن كثير من صفاته الكمالية، ووقعوا في أبشع التشبيه وأشنعه وهو تشبيه الله تعالى بالحيوانات، بل بالجمادات، بل بالمعدومات، بل بالممتنعات، وقالوا: إن الله تعالى لا كلام له، ولا يتكلم ولا يناجي، ولا ينادي - بالمعنى الذي دل عليه الكتاب والسنة وفهمه سلف الأمة وأئمة السنة، ولا له يد، ولا يدان، ولا أصابع، ولا قبضة، ولا وجه، ولا عين، ولا ساق ولا قدم، ولا رجل، وأولوها إلى المعاني الأخرى. الناحية الثانية: حول ما أصلوه في "التشبيه والتنزيه" وما نتج من ذلك من إلحادٍ وتعطيل كثيرٍ من صفات الله تعالى وتحريف نصوصها. الماتريدية لما فهموا من صفات الله تعالى تشبيه الله بخلقه ورأوا أن ذلك يخالف تنزيهه تعالى، وأدخلوا في مفهوم التشبيه كثيراً من صفات الله، كما أدرجوا في التنزيه نفي كثير منها - كما تقدم تفصيله في مبحث التشبيه دخل عليهم الإلحادُ في أسمائه وصفاته سبحانه والتعطيلُ لكثير من صفات الله تعالى وتحريف نصوصها بشتى التأويلات. وفيما يلي بعض الأمثلة الواقعية من نصوصهم في كتبهم لتكون شاهدة لما قلنا ويكون القراء الكرام على بصيرة من أمر هؤلاء. المثال الأول: أنهم تظاهروا بإثبات "الحياة، والقدرة، والعلم، والإرادة" لله ولكنهم تفلسفوا فيها فأخرجوها عما كانت عليه في العقل والنقل. المثال الثاني: أرجع بعضهم كالإمام ابن الهمام (861هـ) صفتي "السمع والبصر" إلى صفة "العلم" وهذا تعطيل واضح، وللعلامة محمد أنور شاه الكشميري أحد كبار أئمة الديوبندية (1352هـ) تفلسف آخر في معاني الصفتين "السمع والبصر" لا نطيل المقام بذكره (1). المثال الثالث: تظاهر الماتريدية بإثبات الصفات الفعلية، ولكن الحقيقة أنها ليست صفاتٍ حقيقية قائمةً بالله تعالى - عندهم - وهذا تعطيل صريح. المثال الرابع: توسعوا وبالغوا وأسرفوا في السلوب وفصلوا فيها فأدخلوا فيها كثيراً من الصفات الذاتية الثبوتية، ونابذوا طريق الكتاب والسنة وعاكسوا سلف هذه الأئمة، وشاقوا أئمة السنة. المثال الخامس: عاملوا صفة "العلو" لله على خلقه - معاملةً كابروا بها صريح العقل وصحيح النقل وسليم الفطرة وواقع إجماع بني آدم من أولهم إلى آخرهم مسلمهم وكافرهم عربهم وعجمهم رجالهم ونسائهم. فعطلوا هذه الصفة العظيمة بأنواع من التحريفات، وقالوا: إن الله لا فوق، ولا تحت ولا خلف، ولا أمام ولا يمين، ولاشمال، ولا فوق العالم، ولا تحته، ولا خارج العالم، ولا داخله، إلى آخر ذلك الهذيان. المثال السادس: فعلوا في صفة "الكلام" ما لا يقره عقل ولا نقل ولا فطرة كفعلهم في صفة "العلو".   (1) ((انظر فيض الباري)) (4/ 516 - 517). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 فعطلوا هذه الصفة العظيمة عن مفهومها المعروف عند سلف هذه الأئمة وأئمة السنة، وأتوا ببدعة شنعاء ظلماء أخرى ألا وهي بدعة "الكلام النفسي" وحرفوا نصوص الشرع ونصوص أئمة الإسلام إلى تلك البدعة وصرحوا ببدعة القول بخلق القرآن جهاراً دون حياء. المثال السابع: عطلوا صفة "تكليم الله" لعباده من الرسل والملائكة وغيرهم، وحرفوا نصوصها، وقالوا بأن كلام الله غير مسموع، وأن موسى عليه الصلاة والسلام لم يسمع كلام الله تعالى، وإنما سمع صوتاً مخلوقاً الشجرة، وهذا عين كلام الجهمية الأولى بل هو كلام النصارى (1).المثال الثامن: عطلوا صفة "نداء الله تعالى" عباده وحرفوا نصوصها بأنها تمثيل لكلام موسى عليه السلام من تلك الجهة (2).المثال التاسع: صفة "الصوت" لله تعالى، فقد عطلوها، وحرفوا نصوصها إلى أن المراد من الصوت "صوت المخلوق" أو المراد "مخلوق غير قائم به تعالى" (3).المثال العاشر: صفة "الأذن" بفتح الهمزة وفتح الذال المعجمة - أي "الاستماع" (4) أعني استماع الله سبحانه إلى قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن)) (5).فحرفوا هذه الصفة العظيمة التي يفرح بها المؤمن وتثير عواطفه وتشوقه فزعموا أنها لا حقيقة لها بل أنها مجاز عن تقريبه تعالى للقارئ، وإجزال ثوابه أو قبول قراءته (6) ففسروها باللوازم. المثال الحادي عشر: صفة "الصورة" لله تعالى، فقط عطلوها وحرفوا نصوصها إلى "صورة اعتقاد" أو "صورة الأمر" أو "صورة الحال" أو "صورة الملك الذي لا ينبغي لغيره" أو المراد من "الصورة" عظمة الله لا تشبه شيئاً" أو غير ذلك (7).والكوثري لغلوه في التعطيل وإسرافه في البدعة، وانحرافه عن السنة وأهلها، وأئمتها لم يتمالك نفسه فقدح في حديث "الصورة" ظلماً وعدواناً (8) مع أنه حديث متفق عليه بين أئمة الإسلام ولاسيما البخاري ومسلم فقد أخرجاه وليس من الأحاديث المنتقدة عليهما حتى جاء هذا الجركسي فطعن فيه فخرق ثوب الحياء، كما خرق إجماع الفضلاء. وهو من حديث أبي هريرة في حديث طويل فيه قصة رجل هو آخر أهل الجنة دخولاً وفيه: ((فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه)).وفيه: ((فلا يزال يدعو حتى يضحك فإذا ضحك منه أذن له بالدخول فيها)) (9) الحديث. وفي لفظ: ((فيأيتهم الله في صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه)).وفيه (( ... حتى يضحك الله منه، فإذا ضحك منه ... )) (10).وهو من حديث أبي سعيد الخدري في حديث الشفاعة الكبرى وفيه: ((فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة ... ، فكيشف عن ساقه ... )) (11).وفي لفظ: (( ... أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورةٍ من التي رأوه فيها ... فيكشف عن ساق ... )) (12).   (1) انظر ((شرح العقيدة الأصبهانية)) (ص 65). (2) انظر ((إرشاد العقل السليم)) (5/ 270) لأبي السعود الهادي. (3) انظر ((عمدة القاري)) (25/ 152)، وانظر ((تعليق الكوثري على الأسماء والصفات)) (ص 202) (4) ((عمدة القاري)) (25/ 154)، وانظر ((القاموس)) (ص 1516). (5) رواه البخاري (5023) واللفظ له ومسلم (792) (6) انظر ((عمدة القاري)) (25/ 154). (7) ((عمدة القاري)) (25/ 125 - 126)، وانظر ((كتاب التوحيد للماتريدي)) (ص85). (8) انظر تعليقاته على ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص 292، 344 - 345). (9) رواه البخاري (6573) (10) رواه مسلم (182) (11) رواه البخاري (7439) (12) رواه مسلم (183) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 قلت: طّعْنُ الكوثري في هذا الحديث الصحيح المحكم الصريح المتفق على صحته المتلقى بالقبول - يكفي لسقوطه عن منزلة الديانة والأمانة إلى درك الخيانة. هل هذا هو تثبت الكوثري واحتياطه وأمانته وديانته؟.المثال الثاني عشر: ما أثبته الله تعالى لنفسه من "النفس" فقد نفوها، قالوا: إن ذكر "النفس" للمشاكلة (1). قلت: لقد ورد صفة "النفس" في الكتاب والسنة في مواضع لا تحتمل المشاكلة: منها قوله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28]. وقوله تعالى: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12]. وقوله سبحانه: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54] وقوله تعالى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41].وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لما خلق الله الخلق كتب في كتابه، وهو كتب على نفسه، وهو وضع عنده على العرش: إن رحمتى تغلب غضبي)) (2).وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)) (3).وقد انتبه إلى ذلك العلامة الملا علي القاري الحنفي (1014هـ) فرد على احتمال المشاكلة (4) رحمه الله رحمة واسعة وإيانا آمين! تنبيه مهم: على أن "النفس" صفة، أم عبارة عن "الذات"؟ عد كثير من سلف الأمة "النفس" من صفات الله تعالى، كالإمام أبي حنيفة، وإمام الأئمة ابن خزيمة رحمهما الله تعالى (311هـ) وغيرهما من أئمة السنة (5).وبالغ الإمام عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله (280هـ) فاستنبط "الضمير" لله سبحانه من نصوص "النفس" (6). وصنيعه هذا لا يتمشى مع طريقة أئمة السنة - وهو منهم - لأن "الضمير" لم نجد أثباته في نصوص الشرع، وإن كان قصدهُ معنىً صحيحاً. وذكر بعض أئمة السنة كالإمام البخاري رحمه الله (256هـ): "النفس" ونصوصها لإثبات إطلاقها على الله سبحانه وتعالى بدون التصريح بأنها من صفات الله تعالى (7).   (1) انظر ((إرشاد العقل السليم)) (3/ 101)، وراجع ((عمدة القاري)) (25/ 100). (2) رواه البخاري (7404) ومسلم (2751) واللفظ للبخاري. (3) رواه مسلم (486) (4) ((شرح الفقه الأكبر)) (ص 58). (5) انظر ((الفقه الأكبر بشرح القاري)) (ص 58)، و ((كتاب التوحيد)) (1/ 11 - 12)، و ((أقاويل الثقات)) لمرعي الكرمي "1033هـ" (ص 186) و ((قطف الثمر)) لعلامة صديق حسن خان "1307هـ" (ص 66)، و ((الصفات الإلهية)) (ص 303 - 304) لشيخنا الدكتور محمد أمان بن علي الجامي حفظه الله. (6) ((رد الدارمي "نقضه" على بشر المريسي)) (ص 195 - 196)، و ((ضمن عقائد السلف)) (ص 550 – 551). (7) انظر ((صحيح البخاري))، () التوحيد)) باب قول الله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ *آل عمران: 28* (6/ 2693 - 2694)، وهكذا فسر مراد الإمام البخاري العلامة المحدث الفقيه أبو محمد عبدالحق بن عبدالواحد الهاشمي "1392هـ" في شرح كتاب ((التوحيد)) للإمام البخاري (ص 70). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 ولكن صرح كثير من أئمة السنة منهم شيخ الإسلام بأن "النفس" ليست من صفات الله تعالى، وإنما المراد من "النفس" "ذات الله المقدسة"، لأن "نفس الشيء" "ذاته وعينه" وأن هذا هو الصواب. فإذن نصوص "النفس" ليس من نصوص الصفات (1).ومنه شيخنا عبدالله بن محمد الغنيمان حفظه الله تعالى فله تحقيق دقيق عميق أنيق وثيق حقيق بالقبول فقد حقق أن "نفس" الشيء "ذاته وعينه" ووفق بين كلام الأئمة أمثال ابن خزينة، والدارمي وبين كلام شيخ الإسلام فراجعه (2).المثال الثالث عشر: صفة "الوجه الكريم" لله عز وجل، فقد عطلوها، وحرفوا نصوصها بتأويلها إلى "الوجود"، و"الذات" (3).المثال الرابع عشر: صفة "العين" لله تعالى، فتراهم يعطلونها ويحرفونها إلى: "الحفظ، والرعاية، والإعلام، والأمر، والواحي، والمنظر، والمرءي" وغيرها (4). الأمثلة: الخامس عشر إلى العشرين: صفات "اليدين"، و"اليد" و"اليمين" و"القبضة" و"الكيف" و"الأصابع" لله سبحانه وتعالى ليس كمثله جل وعلا، فهذه الصفات قد عطلوها وحرفوا نصوصها إلى "القدرة أو النعمة، أو التدبير، أو الذات" أو غيرها. المثال الحادي والعشرون: صفة "الرِجْل" له سبحانه وتعالى، عطلوها وحرفوا نصوصها إلى "رجل بعض المخلوقين"، أو المراد بالرجل أنه اسم لمخلوق من المخلوقين أو المراد "الجماعة"، أو "الجد في الأمر" أو "الزجر لجهنم والردع والقمع لها وتسكين حدتها" (5). وقد ذكرنا حديث "الرجل" وخرجناه من الصحيحن وبينا بطلان قول من طعن فيه، ونصه يبطل تأويلات هؤلاء المتكلمين. المثال الثاني والعشرون: صفة "القدم" لله جل وعلا، فعطلوها وحرفوا نصوصها إلى أن المراد "المتقدم" أو "قدم بعض المخلوقين" أو "مخلوق اسمه قدم" أو "موضع" أو "اسم لما قدم من شيء، وغيرها (6). وسقنا روايات صفة "القدم" وخرجناها من الصحيحين ونصوصها تبطل هذه التحريفات. وللإمام أبي عبيد القاسم بن سلام الهروي (224هـ) الذي يجعله الكوثرية وبعض الديوبندية حنفياً ويعدونه من كبار أئمة الحنفية (7) - حول أحاديث الرجل والقدم ونحوها من أحاديث الصفات، كلام يقضي عن تأويلات هؤلاء المتكلمين. ونصُّه: "نحن نروي هذه الأحاديث، ولا نزيغ لها المعاني" (8).   (1) انظر ((مجموع الفتاوى)) (9/ 292 - 293، 14/ 196 - 197)، وعلى هذا مشى الدكتور أحمد بن ناصر الحمد، انظر ((ابن حزم وموقفه من الإلهيات)) (ص 284 - 286). (2) انظر شرح كتاب ((التوحيد)) من صحيح البخاري (1/ 249 - 255). (3) انظر ((مدار التنزيل للنسفي)) (2/ 670)، ((شرح المواقف للجرجاني)) (8/ 111)، ((إرشاد العقل السليم لأبي السعود العمادي)) (7/ 28)، ((إرشاد المرام للبياضي)) (ص 189). (4) انظر ((تأويلات أهل السنة)) لأبي منصور الماتريدي في تفسير قوله تعالى وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا *هود:37*، ((مخطوط دار الكتب المصرية))، و ((المدارك)) للنسفي (2/ 357)، و ((شرح المواقف)) (8/ 112)، و ((إرشاد العقل)) (4/ 205، 6/ 15)، و ((إشارات المرام)) (ص 189)، و ((نشرالطوالع للمرعشي)) (ص 262)، وراجع ((تلخيص الأدلة)) للصفار (240/ب). (5) انظر ((عمدة القاري)) (19/ 188)، و ((تعليقات الكوثري على الأسماء والصفات)) (ص 348، 352). (6) انظر ((بحر الكلام)) لأبي المعين النسفي (ص 22)، و ((عمدةالقاري)) (19/ 118، 25/ 90، 137)، و ((حاشية حسن الشلبي "الحلبي" على شرح المواقف للجرجاني)) (8/ 112). (7) انظر ((فقه أهل العراق)) (ص 64). (8) نقله البيهقي عن أبي سليمان الخطابي عنه في ((الأسماء والصفات)) (ص350)، وسكت عليه الكوثري فصار حجة عليه وعلى الكوثرية والماتريدية عامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 قلت: فمن أول هذه الأحاديث فقد عطل وحرف وزاغ، وهذا هو الإلحاد، بشهادة هذا الإمام وفيه عبرة للكوثري والكوثرية خاصة والماتريدية عامة فهل من مدّكر؟ المثال الثالث والعشرون: صفة الساق له سبحانه وتعالى، فقد عطلوها وحرفوا نصوصها بأن المراد من الساق "الشدة، أو أمر مهول أو النور العظيم، أو جماعة من الملائكة، أو النفس، أو ذات الله تعالى، أو ساق أخرى يخلقها الله تعالى، أو تَجَلي الله سبحانه، وغيرها من التأويلات" (1). قلت: حديث الساق من أعظم الأحاديث الصحيحة المحكمة الصريحة المتلقاة بالقبول والمتفق عليها، وقد ذكرنا نصه وخرجناه من الصحيحين. ومع ذلك قد طعن فيه ذلك الكوثري الجركسي الجهمي ظلماً وعدواً، وفيما يلي حاصل طعونه مع الجواب. أ- أن الكوثري قرر أن الساق لم ترد مضافة إلي الله لا في حديث صحيح ولا سقيم (2).قلت: انظروا أيها المسلمون إلى هذا البهات الكذاب كيف ينفي وجود هذا الحديث بهذا الإطلاق؟ مع أن الساق موجودةٌ في صحيح البخاري مضافةً إلى الله تعالى، مع اعتراف الكوثري بوجود الساق مضافةً إلى الله سبحانه، في (صحيح البخاري) (3).ب- كما غمز من رواة هذا الحديث الصحيح الذين في الصحيحين - يحيى بن عبدالله بن بكير، وسعيد بن أبي هلال، وسويد بن سعيد الهروي (4)، مع أن "يحيى بن عبدالله بن بكير" وثقه جمهور أهل هذا الشأن، وشذ النسائي فضعفه، فالحكم للجماعة على الشاذ، فهو ثقة ولاسيما في "الليث بن سعد" بل هو أثبت الناس فيه (5). وحديث الساق الذي رواه البخاري عن يحيى بن عبدالله بن بكير، هو من حديث الليث فماذا قيمة نسج هذا العنكبوت؟! فليس لحياكته ثبوت. ثم "يحيى بن عبدالله بن بكير" لم ينفرد بهذا الحديث عن "الليث" فقد رواه البخاري عن "آدم" عن "الليث". فماذا يصنع هذا الجهمي؟ الذي يعمل أعمال الجهنمي.   (1) انظر ((عمدة القاري)) (25/ 129)، وراجع ((بحر الكلام)) للنسفي (ص 21)، و ((تعليقات الكوثري على الأسماء والصفات)) (ص 344، 347). (2) ((تعليقاته على الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص 344). (3) ((تعليقاته على الأسماء والصفات)) (ص 345). (4) راجع ((تعليقات على الأسماء والصفات)) (ص 345). (5) انظر ((ميزان الاعتدال)) (4/ 391)، و ((التقريب)) (ص 592)، و ((هدي الساري)) (ص 452). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 وأما "سعيد بن أبي هلال" فهو صدوق بل ثقة وثقة ابن سعد، والعجلي، أبو حاتم، وابن خزيمة، والدارقطني، وابن حبان، وآخرون. ولم يعرف لابن حزم سلفٌ في تضعيفه، غير أن الساجي حكى عن الإمام أحمد: أنه اختلط (1) ولم يقل أحد من أهل هذا الشأن - وإليهم المرجع في هذا الشأن - إن هذا الحديث إنما أخذه البخاري عنه في حال اختلاط "سعيد بن أبي هلال" إن صحت حكاية الساجي، بل تلقاه الأئمة بالقبول ورواه البخاري في صحيحه مستدلاً به على إثبات صفة الساق له سبحانه وتعالى، حتى جاء أشقى القوم فتعاطى فعقر. وأما "سويد بن سعيد الهروي" فصدوق في نفسه إلا أنه عمي فصار يتلقن ما ليس من حديثه (2)، ولم يقل أحد أن مسلماً أخذ عنه في حال عماه، وشأن مسلم تعالى عن ذلك؛ على أن هذا الحديث مروي في (صحيح البخاري) من غير طريق سويد بن سعيد، فهل وجود "سويد" عند مسلم يضير هذا الحديث الصحيح الصريح؟!.ولا تخفى مكانة الصحيحين على أحد إلا على المغرضين الممرضين، ورجال الصحيحين قد جاوزوا القنطرة عند أهل هذا الشأن (3). وقد ذكرنا نبذةً من مكانة الصحيحين وموقف الكوثري والكوثرية وبعض الحنفية منهما. ج- قال الكوثريُ: "من عادة أهل الزيغ حمل المجاز المشهور في القرآن على الحقيقة" (4). قلت: مذهب سلف هذه الأمة وأئمة السنة عدمُ تعطيل صفات الله تعالى وعدم تحريف نصوصها بالتأويلات، وحملها على الحقائق اللائقة بالله سبحانه كما تقدم في فصل التأويل مفصلاً. أما أهل الزيغ وأئمة التعطيل والتحريف فيعطلون صفات الله تعالى ويحرفون نصوصها وقد تقدم قول الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام الهروي (224هـ) الذي يجعله الكوثري من كبار أئمة الحنفية، حول أحاديث "الرجل والقدم" ونحوها من أحاديث الصفات، ونصه: "نحن نروي هذه الأحاديث ولا نزيغ لها المعاني"، وتقدم أيضاً أن الكوثري سكت عليه فالآن نتحاكم إلى حكم الحق والإنصاف والعدل، وليتبين من هم أهل الزيغ؟! فلنعم ما قيل: "رمتنى بدائها وانسلت". ولله در القائل: فحسبكم هذا التفاوت بيننا ... وكل إناء بالذي فيه ينضح وما أحسن ما قال القائل: وقال السهى يا شمس أنت خفيةٌ ... وقال الدجى يا صبح لونك حالكٌ المثال الرابع والعشرون: أن "النور" من أسماء الله الحسنى إذا أطلق عليه تعالى, وصفهٌ من صفاته جل وعلا إذا أضيف إليه سبحانه إضافة صفة إلى موصوفها أما إذا أضيف إلى غيره تعالى فلا يكون اسماً له تعالى، ولا صفة له بل خلقاً له (5). ونظير ذلك: "الحق" فإنه يطلق على الله تعالى فيكون اسماً له سبحانه، ويطلق على صفاته جل وعلا (6)، لكن الماتريدية وحلفاؤهم أولوا "النور" إلى أنه "ذو النور" و"الوجود" و"المنور" (7).   (1) انظر ((التقريب)) (ص 242)، و ((هدي الساري)) (ص 406). (2) انظر ((التقريب)) (ص 260). (3) انظر ((هدي الساري)) (ص 384)، و ((فتح الباري)) (13/ 457). (4) ((تعليقات على الأسماء والصفات)) (ص 345). (5) راجع ((مجموع الفتاوى)) (6/ 379، 383، 386)، و ((القصيدة النونية)) (ص 152)، و ((اجتماع الجيوش الإسلامة)) (ص 44 - 45)، وما بعدها، و ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 189، 194) الطبعة القديمة، (2/ 359، 362 - 363) الطبعة الجديدة، وشرح كتاب ((التوحيد)) لشيخنا العلامة عبدالله بن محمد الغنيمان (ص 173 - 76))، وانظر ((توضيح المقاصد)) (2/ 237 - 241)، ((شرح النونية)) (2/ 105 - 109). (6) انظر ((مجموع الفتاوى)) (6/ 384). (7) راجع ((مدارك التنزيل)) للنسفي (2/ 508)، ((تبصير الرحمن)) (2/ 69)، لعلي بن أحمد الحنفي المهايمي (835هـ) و ((عمدة القاري)) (25/ 91)، و ((إرشاد العقل السليم)) لأبي السعود العماري (6/ 175)، و ((تاج التفاسير)) (2/ 40)، للمرغني الحنفي "1268هـ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 قلت: قصدهم بهذا التأويل أن "النور" ليس من أسمائه تعالى، ولا من صفاته، بل هو فعل من الأفعال المنفصلة عنه تعالى، أو معناه أن الله تعالى سبب لوجود الكائنات. قال شيخنا العلامة عبدالله بن محمد الغنيمان بعد ما ذكر تأويلات المؤولين معقباً عليها:"قلت: هذا تأويل باطل ... " (1).وقال شيخ الإسلام: " ... جماهير المسلمين لا يتأولون هذا الاسم، وهذا مذهب السلفية، وجمهور الصفاتية من أهل الكلام، والفقهاء، والصوفية، وغيرهم وهو قول أبي سعيد بن كلاب، ذكره في الصفات ورد على الجهمية، تأويل اسم "النور" وهو شيخ المتكلمين في الصفاتية من الأشعرية - (الشيخ الأول) - وحكاه عنه أبو بكر بن فورك في كتاب (مقالات ابن كلاب)، والأشعري، ولم يذكروا تأويله إلا عن الجهمية المذمومين باتفاق، وهو أيضاً قول أبي الحسن الأشعري ذكره في الموجز ... " (2).قلت: الحاصل أن هذه التأويلات باطلة وفي هذه كفاية (3).المثال الخامس والعشرون: صفة "البقاء" ذهب جمهرة الماتريدية إلى أن "البقاء" هو الوجود وليس زائداً عليه، وذهب الإمام أبو الحسن الأشعري، وقدماء الأشعرية إلى أن "البقاء" صفة وجودية "ثبوتية" زائدة على "الجودة" (4).ومال نور الدين الصابوني الماتريدي (580هـ) إلى مذهب الأشعري في هذا، وناظر الفخر الرازي فيلسوف الأشعرية (606هـ)، ولكنه انهزم أمام الرازي (5)، والرازي كعادته خالف الأشعري في هذا كما خالف في مسائل أخرى كما أن كثيراً من متأخري الأشعرية الجهمية المعطلة مالوا إلى مذهب الماتريدية فنفوا صفة البقاء زائدةً على الوجود وقالوا البقاءُ هو الوجود نفسه (6).وقد صرح بعض الأشعرية والماتريدية بأن الباقلاني (403هـ) مال إلى مذهب الماتريدية (7)، لكن رأيت في (تمهيده) خلاف ما ذكروه، فقد أثبت صفة "البقاء" وبوب لها فقال "باب البقاء من صفات ذاته" (8)، بل قد صرح الإمام ابن فورك (406هـ) بالإجماع على إثبات هذه الصفة (9).   (1) شرح كتاب ((التوحيد)) في صحيح البخاري (1/ 171). (2) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 379)، و ((مختصر الصواعق)) (2/ 196)، الطبعة القديمة، و (2/ 364)، الطبعة الجديدة، وشرح كتاب ((التوحيد)) من صحيح البخاري لشيخنا عبدالله بن محمد الغنيمان (1/ 171). (3) وانظر الرد التفصيلي في ((مجموع الفتاوى)) (6/ 374 - 396)، و ((مختصر الصوعق)) (2/ 188 - 295)، الطبعة القديمة، و (2/ 359 - 369)، الطبعة الجديدة، و ((القصيدة النونية)) (ص 152)، و ((شرحها توضيح المقاصد)) (2/ 237 - 241)، ((هراس)) (2/ 107 - 109)، وشرح كتاب ((التوحيد)) في صحيح البخاري (1/ 170 - 177)، لشيخنا عبدالله الغنيمان حفظه الله. (4) انظر من كتب الماتريدية: ((شرح المواقف)) (8/ 106 - 109)، ((إشارات المرام)) (ص 53)، ((نظم الفرائد)) (ص 7 - 8)، و ((شرح الفقه الأكبر)) للقاري (18 - 19)، ومن كتب الأشعرية ((مجرد مقالات الأشعري) لابن فورك (ص 43)، و ((المواقف)) (ص 296 - 296)، و ((طوالع الأنوار مع شرحها مطالع الأنظار)) (ص 183). (5) انظر ((مناظرات الرازي في بلاد ما وراء النهر)) (ص 23 - 24). (6) انظر ((الإرشاد)) (ص 90، 133)، لإمام الحرمين، و ((المحصل)) (ص 252 - 253) و ((مناظرات الرازي)) (ص 23) كلاهما للرازي، و ((غاية المرام)) (135 - 136)، للآمدي، و ((المواقف)) (296 - 297). (7) انظر ((أصول الدين للبغدادي)) (ص 90)، و ((المحصل)) للرازي (ص 252)، و ((المواقف)) للإيجي (ص 296)، و ((إشارات المرام)) للبياضي (ص 53)، و ((طوالع الأنوار للبيضاوي مع شرحها مطالع الأنظار لأبي الثناء الأصبهاني)) (ص 183)، و ((نظم الفرائد)) (ص 7). (8) انظر ((التمهيد)) (ص 263). (9) انظر ((مجرد مقالات الأشعري)) لابن فورك (ص 43). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 والحقيقة أن هؤلاء الماتريدية ومن وافقهم من متأخري الأشعرية على باطل محض وفي تعطيل بحت في تأويلهم لصفة "البقاء" إلى "الوجود" لأن "البقاء" أخص من "الوجود" وأكمل منه، و"الوجود" أعم من "البقاء" لأن البقاء استمرار الوجود، وهو الوجود المستمر الأبدي الذي لا نهاية له، فهو وجود مقيد بالدوام والاستمرار والأبدية، وهذا المعنى زائد على مفهوم مطلق الوجود دون شك. قاله الله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:26 - 27]، فوجود الله تعالى أزلي وأبدي، وليس كذلك وجود خلقه سبحانه وتعالى فالله متصف بـ"الوجود" و"البقاء" معاً. الأمثلة السادس والعشرون إلى التاسع والعشرين: صفات "الاستواء" (1) و"النزول" و"الإتيان" و"المجيء" له تعالى، وسيأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى فقد عطلوها وحرفوا نصوصها معنوياً. المثالان الثلاثون والواحد والثلاثون: صفتا "الرضا" و"الغضب" له سبحانه وتعالى، نسأل الله رضاه ونعوذ به من غضبه جل وعلا. هاتان الصفتان عطلهما الماتريدية، وحرفوا نصوصهما اتباعاً للجهمية الأولى فحرفوا صفة "الغضب" إلى "الانتقام" و"إرادة الانتقام" (2)، وحرفوا صفة "الرضى" إلى "الثواب" ونحوه (3)، مع أن إمامهم الأعظم الإمام أبا حنيفة رحمه الله (150هـ) قال: "لا يوصف الله تعالى بصفات المخلوقين، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف، وهو قول أهل السنة والجماعة، وهو يغضب ويرضى، ولا يقال: غضبه عقوبته ورضاه ثوابه، ونصفه كما وصف نفسه" (4).كما صرح الإمام أن تفسير صفةْ بأخرى مذهبُ المعتزلة، وأن ذلك إبطال لتلك الصفة (5).   (1) بلغ إلحادهم إلى جعل "استوى" تورية. ((مختصر التفتازاني)) (ص 324). (2) انظر ((مدارك التنزيل)) (1/ 6)، ((عمدة القاري)) (25/ 115)، ((إرشاد العقل السليم)) (1/ 19). (3) انظر ((شرح الفقه الأبسط)) لأبي الليث السمرقندي (ص 23)، و ((نظم الدرر)) (ص 183) لعبيد الله الديوبندي المخرف المحرف لنص أبي حنيفة. (4) ((الفقه الأبسط)) (ص 56)، تحقيق الكوثري وسكت عليه فلم يجد إلى دفعه سبيلاً و ((إشارات المرام)) (ص 187)، و ((عقيدة الإسلام)) (ص 162)، وقريب منه ما قال في ((الفقه الأكبر)) (ص 59)، ((بشرح القاري وبشرح أبي المنتهى المغيساوي)) (ص 14). (5) ((الفقه الأبسط)) (ص 56)، تحقيق الكوثري وسكت عليه فلم يجد إلى دفعه سبيلاً و ((إشارات المرام)) (ص 187)، و ((عقيدة الإسلام)) (ص 162)، وقريب منه ما قال في ((الفقه الأكبر)) (ص 59)، ((بشرح القاري وبشرح أبي المنتهى المغيساوي)) (ص 14). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 قلت: فالماتريدية خرجوا على أهل السنة والجماعة وعلى إمامهم الأعظم بشهادة هذا الإمام الأعظم، وفي ذلك لعبرة بالغة أيما عبرة. ومن العجب العجاب أن العلامة القاري اعترف بذلك (1).وهذا من محاسن هذا الرجل التي يشكر عليها وكم له من اعتراف بالحق ورجوعٍ إلى الصواب مواقف طيبةٍ من ذم الكلام وأهله وكشف الأستار عن مخازيهم، وبيان شكوكهم وتشكيكهم وشبهاتهم، ومناصرته للعقيدة السلفية في الجملة في بعض المواضع ودفاعه الشديد المتين عن شيخ الإسلام، والإمام ابن القيم ونحو ذلك مما ترغم أنوف الكوثرية (2).ومن حسن حظه أن الكوثري لقبه بـ"ناصر السنة" (3). وفي ذلك عبرة للكوثرية. المثال الثاني والثلاثون: صفة "المحبة" فقد عطلوها وحرفوها إلى "إرادة خيري الدنيا والآخرة" و"إيصال الخير إلى العبد" و"إرادة الثواب" (4) ويكفي في الرد عليهم كلام الإمام أبي حنيفة السابق ذكره آنفاً. المثال الثالث والثلاثون: صفة "الرحمة" لله تعالى: عطلت الماتريدية هذه الصفة التي تُحَرِّكُ القلوب وتثير العواطف وبها يرجو المسلمون عفو الله سبحانه وتعالى، كما أنهم حرفوا نصوصها إلى "إرادة الإنعام" أو"الإعطاء" ومعنى "الرحمن الرحيم" عندهم "معطي جلائل النعم" و"رحمة الله" عندهم "إنعامه، والتفضل، الإحسان" (5).فأنت ترى أنهم أرجعوها إلى صفة الإرادة وإلى فعل من الأفعال كالإعطاء ونحوه، وعلى هذا الفنجفيرية من الماتريدية المعاصرة (6). وقد تقدم منهج الإمام أبي حنيفة وتصريحه بأن تفسير صفة بأخرى، وإرجاع صفة إلى أخرى تعطيلٌ لها وإبطال له، وهو مذهب المعتزلة وليس هذا من مذهب أهل السنة والجماعة. المثال الرابع والثلاثون: صفة "الضحك" لربنا سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، وهذه الصفة ثابتة له جل وعلا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن الماتريدية عطلوها وحرفوا نصوصها إلى "ظهور تباشير الخير" أو"العفو" و"الارتضاء"، ونحوها (7). المثال الخامس والثلاثون: صفة الغيرة لله عز وجل: فقد حرفوها وعطلوا نصوصها إلى "كراهية الإتيان إلى الفواحش" و"عدم رضاه" و"غضبه" أو "الزجر عن الفواحش" أو"التحريم لها" أو "المنع منها" أو غيرها من المجازات (8). ولم يكتفوا بمجاز واحد بل ارتكبوا المجاز في المجاز فقالوا: ولازم"ولازم الغضب إرادة إيصال العقوبة عليها" (9). فأنت ترى أنهم حرفوا صفة "الغيرة" بنوع من المجاز إلى "الغضب" و"عدم الرضا"، ثم حرفوا صفة "الغضب" إلى إرادة إيصال "العقوبة"، كما حرفوا صفة "الرضا" إلى ما سبق من المجاز. فارتكبوا المجاز في المجاز فصارت - في هذا الباب - كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [النور:39] أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ [النور:40].المثال السادس والثلاثون: صفة "الحياء" وهي صفة تزيد للمؤمنين رجاءً فعطلوها وحرفوا نصوصها إلى "الترك" و"الامتناع" (10). وتقدم تخريج حديث يتعلق بهذه الصفة. المثال السابع والثلاثون: صفة "الألوهية" تلك الصفة العظيمة التي هي غاية إنزال الكتب وإرسال الرسل وخلق الجن والإنس؛ فقد عطلوها وحرفوها إلى صفة "الربوبية" (11). المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني 2/ 429   (1) انظر ((شرح الفقه الأكبر)) (ص 59 - 60). (2) راجع ((شرح الفقه الأكبر)) (ص 4 - 17، 15 - 18، 58، 61 - 62، و ((المرقاة)) (8/ 251 - 252). (3) ((تبديد الظلام)) (2/ 450). (4) انظر ((مدارك التنزيل)) (1/ 209 - 214)، ((عمدة القاري)) (25/ 84، 155) ((إرشاد العقل السليم)) (3/ 51). (5) انظر ((مدارك التنزيل)) (1/ 3)، (شرح المواقف)) (8/ 212)، ((عمدة القاري)) (25/ 115)، ((إرشاد العقل السليم)) (1/ 11)، و ((نشر الطوالع)) (ص 312). (6) انظر ((التبيان للرستمي الفنجفيري)) (ص 49). (7) ((شرح المواقف)) (8/ 114)، ((عمدة القاري)) (25/ 127)، ((إشارات المرام)) (ص 189)، ((نشر الطوالع)) (ص 263). (8) ((عمدة القاري)) (25/ 100، 109). (9) ((عمدة القاري)) (25/ 100، 109). (10) انظر ((بحر العلوم لأبي الليث السمرقندي)) (1/ 299)، و ((مدارك التنزيل)) (1/ 34)، و ((إرشاد العقل السليم)) (1/ 71 - 72). (11) انظر ((التبيان للرستمي الفنجفيري)) (ص 58 - 59). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 أولا: ما تثبت به النبوة عند الماتريدية يرى الماتريدية أن إثبات صدق الرسل والأنبياء يقوم على النظر في صفات الأنبياء الخلقية والخلقية قبل الرسالة وبعدها وعلى تأييد الله لهم بالمعجزات الدالة على صدقهم. قال في كتاب (التوحيد): "ثم الأصل عندنا في إعلام الرسل وجهان: أحدهما ظهور أحوالهم على جهة تدفع العقول عنهم الريبة وتأبى فيهم توهم الظنة بما صحبوهم في الصغر والكبر فوجدوهم طاهرين أصفياء أتقياء بين أظهر قوم ما احتمل التسوية بينهم على ذلك ولا تربيتهم تبلغ ذلك على ظهور أحوالهم لهم وكونهم بينهم في القرار والانتشار فيعلم بإحاطة أن ذلك حفظ من يعلم أنه يقيمهم مقاما شريفا ويجعلهم أمناء على الغيوب والأسرار وهذا مما تميل إلى قبوله الطبيعة ويستحسن جميع أمورهم العقل فيكون الراد عليه يرد بعد المعرفة رد تعنت له .. والثاني مجيء الآيات الخارجة عن طبائع أهل البصر في ذلك النوع الممتنعة عن أن يطمع في مثلها أو يبلغ بكنهها التعلم مع ما لو احتمل أن يبلغ أحد ذلك بالتعلم والاجتهاد فإن الرسل بما نشؤوا لا في ذلك وربوا لا به يظهر أنهم استفادوه بالله أكرمهم بذلك لما يجعلهم أمناء على وحيه" (1) وأما جمهور الماتريدية فيرون أنه لا دليل على صدق النبي غير المعجزة بحجة أن المعجزة وحدها هي التي تفيد العلم اليقيني بثبوت نبوة النبي أو الرسول. قال البزدوي: " ... لا يتصور ثبوت الرسالة بلا دليل فيكون الثبوت بالدلائل وليست تلك الدلائل إلا المعجزات فثبتت رسالة كل رسول بمعجزات ظهرت على يديه فكانت معجزات موسى عليه السلام العصا واليد البيضاء وغيرهما من المعجزات ومعجزات عيسى عليه السلام إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك ومعجزات محمد عليه السلام القرآن فإن العرب بأجمعهم مع فصاحتهم عجزوا عن الإتيان بمثله ... فعجزوا عن ذلك فكانت المعجزات دليل صدق دعواهم الرسالة فإن ما ظهر ليس في وسع بشر فعلم أن الله هو المنشئ وإنما ينشئها لتكون دليلا على صدق دعواه فإن قوم كل رسول سألوا منه دلائل صدقه فدعا الله تعالى ليؤيده بإعطاء ما طلبوا منه فلما أعطاه دليل صدقه الذي طلب منه قومه صار ذلك دليل صدقه من الله تعالى فإن الله لا يؤيد الكاذب ...... ولابد للناس من معرفة الرسل ولا طريق للمعرفة سوى المعجزات ... " (2).وقال أبو المعين النسفي: " ... إذا جاء واحد وادعى الرسالة في زمان جواز ورود الرسل ... لا يجب قبول قوله بدون إقامة الدليل .... لما أن تعين هذا المدعي للرسالة ليس في حيز الواجبات لانعدام دلالة العقل على تعينه فبقي في حيز الممكنات وربما يكون كاذبا في دعواه فكان القول بوجوب قبول قوله قولا بوجوب قبول قول من يكون قبول قوله كفرا وهذا خلف من القول وإذا لم يجب قبول قوله بدون الدليل يطالب بالدليل وهو المعجزة ... " (3). وقال الناصري: " فالمعجزة توجب علم اليقين بنبوة الرسل بواسطة التأمل وترك الإعراض عن النظر فيها وإنما جهل من جهل بعد ظهور آيات الرسل بترك التأمل ولم يعذر بالترك لأن العقل مما يلزمه التأمل فيها لأنه حجة من حجج الله تعالى وهي تتعاضد ولا تتضاد ولو كانت الحجج موجبة للعلم جبرا لما تعلق بها ثواب ولا عقاب فالمعجزة رأس الحجج وهي تزداد عند البحث والتأمل إيضاحا واستنارة وقوة ووكادة " (4)   (1) ((التوحيد)) (ص 188، 189)، وانظر (ص 202 - 210). (2) ((أصول الدين)) (ص 97، 98). (3) ((التمهيد)) (ص 44 - 46)، ((تبصرة الأدلة)) (ل286) وما بعدها وانظر ((بحر الكلام)) (ص 61، 62) ((النور اللامع)) (ل 12). (4) ((النور اللامع)) (ل 14، 15). وانظر (ل 6، 9 - 12، 64، 103، 105، 122) .. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 وقال صاحب (بيان الاعتقاد): " والنبوة رحمة وموهبة بمشيئة الله تعالى فقط ولابد من معجزة وهي عبارة عما قصد به إظهار صدق من ادعى أنه رسول الله" (1). ولا ريب أن المعجزات دليل صحيح لتقرير نبوة الأنبياء ولكن القول بأن نبوة الأنبياء لا تعرف إلا بالمعجزات قول غير صحيح والدليل على هذا يظهر من عدة أوجه:1 - " إن المقصود إنما هو معرفة صدق مدعي النبوة أو كذبه فإنه إذا قال: إني رسول الله فهذا الكلام إما أن يكون صدقا وإما أن يكون كذبا ... فإذا كان مدعي الرسالة إذا لم يكن صادقا فلابد أن يكون كاذبا عمدا أو ضلالا فالتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما هو دون دعوى النبوة فكيف بدعوى النبوة" (2) 2 - " معلوم أن مدعي الرسالة إما أن يكون من أفضل الخلق وأكملهم وإما أن يكون من أنقص الخلق وأرذلهم ولهذا قال أحد أكابر ثقيف للنبي صلى الله عليه وسلم لما بلغهم الرسالة ودعاهم إلى الإسلام: والله لا أقول لك كلمة واحدة إن كنت صادقا فأنت أجل في عيني من أرد عليك وإن كنت كاذبا فأنت أحقر من أن أرد عليك. فكيف يشتبه أفضل الخلق وأكملهم بأنقص الخلق وأرذلهم وما أحسن قول حسان لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تأتيك بالخبر" (3) 3 - " ما من أحد ادعى النبوة من الكذابين إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز وما من أحد ادعى النبوة من الصادقين إلا وقد ظهر عليه من العلم والصدق والبر وأنواع الخيرات ما ظهر لمن له أدنى تمييز ... بل كل شخصين ادعيا أمرا من الأمور أحدهما صادق في دعواه والآخر كاذب فلا بد أن يبين صدق هذا وكذب هذا من وجوه كثيرة إذ الصدق مستلزم للبر والكذب مستلزم للفجور .... والناس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الأدلة حتى في المدعين للصناعات والمقالات كالفلاحة والنساجة والكتابة .... فما من أحد يدعي العلم بصناعة أو مقالة إلا والتفريق في ذلك بين الصادق والكاذب له وجوه كثيرة وكذلك من أظهر قصدا وعملا كمن يظهر الديانة والأمانة والنصيحة والمحبة وأمثال ذلك من الأخلاق فإنه لابد أن يتبين صدقه أو كذبه من وجوه متعددة. والنبوة مشتملة على علوم وأعمال لابد أن يتصف بها الرسول وهي أشرف العلوم وأشرف الأعمال فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب ولا يتبين صدق الصادق وكذب الكاذب من وجوه كثيرة" (4).   (1) ((بيان الاعتقاد)) (ل 21، 22). (2) ((الأصفهانية)) لابن تيمية (ص 472، 473). وانظر ((النبوات لابن تيمية)) (ص 167، 168). (3) ((الأصفهانية)) (ص 473)، ((شرح الطحاوية)) (ص 112). (4) ((الأصفهانية)) (ص 474، 476، 477)، ((شرح الطحاوية)) (ص 112، 114). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 4 - " هذا المقام يشبه من بعض الوجوه تنازع الناس في أن خبر الواحد هل يجوز أن يقترن به من القرائن والضمائم ما يفيد معه العلم. ولا ريب أن المحققين من كل طائفة على أن خبر الواحد والاثنين والثلاثة قد يقترن به من القرائن ما يحصل معه العلم الضروري بخبر المخبر بل القرائن وحدها قد تفيد العلم الضروري كما يعرف الرجل رضا الرجل وغضبه وحبه وبغضه وفرحه وحزنه وغير ذلك مما في نفسه بأمور تظهر على وجهه يمكنه التعبير عنها كما قال تعالى: وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ [محمد:30] ثم قال: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30] " فأقسم أنه لابد أن يعرف المنافقين في لحن القول .... وإذا كان صدق الخبر أو كذبه يعلم بما يقترن به من القرائن بل في لحن قوله وصفحات وجهه ويحصل بذلك علم ضروري لا يمكن المرء أن يدفعه عن نفسه فكيف بدعوى المدعي أنه رسول الله كيف يخفى صدقه وكذبه أم كيف لا يتميز الصادق في ذلك من الكاذب بوجوه من الأدلة لا تعد ولا تحصى" (1). 5 - "وإذا كان الكاذب إنما يؤتى من وجهين إما أن يتعمد الكذب وإما أن يلبس عليه كمن يأتيه الشيطان فمن المعلوم الذي لا ريب فيه أن من الناس من يعلم أنه لا يتعمد الكذب ... ونحن لا ننكر أن الرجل قد يتغير ويصير متعمد للكذب بعد أن لم يكن كذلك لكن إذا استحال وتغير ظهر ذلك لمن يخبره ويطلع على أموره. ولهذا لما كانت خديجة رضي الله عنها تعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أنه الصادق البار قال لها لما جاءه الوحي: ((إني قد خشيت على عقلي)) فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق (2). فهو لم يخف من تعمد الكذب فإنه يعلم من نفسه صلى الله عليه وسلم أنه لم يكذب لكن خاف في أول الأمر أن يكون قد عرض له عارض سوء وهو المقام الثاني فذكرت خديجة ما ينفي هذا وهو ما كان مجبولا عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم والأعمال وهو الصدق المستلزم للعدل والإحسان إلى الخلق ومن جمع فيها الصدق والعدل والإحسان لم يكن ممن يخزيه الله. وصلة الرحم وقرى الضيف وحمل الكل وإعطاء المعدوم والإعانة على نوائب الحق هي من أعظم أنواع البر والإحسان وقد علم من سنة الله أن من جبله الله على الأخلاق المحمودة ونزهه عن الأخلاق المذمومة فإنه لا يخزيه" (3).   (1) ((الأصفهانية)) (ص 478،479)، ((النبوات)) (ص 339)، ((شرح الطحاوية)) (ص 114). (2) رواه البخاري (4953) ومسلم (160) بلفظ نفسي بدل عقلي، ولم نجد من رواه بلفظ عقلي (3) ((الأصفهانية)) (ص 479، 480)، ((منهاج السنة)) (22/ 419، 420، 8/ 549)، ((شرح الطحاوية)) (ص 114، 115). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 6 - " طريق معرفة الأنبياء كطريق معرفة نوع من الآدميين خصهم الله بخصائص يعرف ذلك من أخبارهم واستقراء أحوالهم كما يعرف الأطباء والفقهاء ولهذا إنما يقرر الرب تعالى في القرآن أمر النبوة وإثبات جنسها بما وقع في العالم من قصة نوح وقومه وهود وقومه وصالح وقومه ... وغيرهم فيذكر وجود هؤلاء وإن قوما صدقوهم وقوما كذبوهم ويبين حال من صدقهم وحال من كذبهم فيعلم بالاضطرار حينئذ ثبوت هؤلاء ويتبين وجود آثارهم في الأرض فمن لم يكن رأى في بلدة آثارهم فليسر في الأرض ولينظر آثارهم وليسمع أخبارهم المتواترة .... ولهذا قال مؤمن آل فرعون لما أراد أن ينذر قومه: وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ [غافر:30 - 31] ولهذا لما سمع ورقة بن نوفل والنجاشي وغيرهما القرآن قال ورقة بن نوفل: هذا الناموس الذي كان يأتي موسى وقال النجاشي إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. فكان عندهم علم بما جاء به موسى اعتبروا به ولولا ذلك لم يعلموا هذا وكذلك الجن لما سمعت القرآن وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ [الأحقاف:29 - 30] ولما أراد سبحانه تقرير جنس ما جاء به محمد قال: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا [المزمل:15 - 16] فهو سبحانه يثبت وجود جنس الأنبياء ابتداء كما في السور المكية حتى يثبت وجود هذا الجنس وسعادة من اتبعه وشقاء من خالفه ثم نبوة عين هذا النبي تكون ظاهرة ... " (1). 7 - وإذا علمنا بالتواتر أحوال الأنبياء وأوليائهم وأعدائهم علمنا علما يقينيا أنهم كانوا صادقين على الحق من وجوه متعددة: منها أنهم أخبروا الأمم بما سيكون من انتصارهم وخذلان أولئك وبقاء العاقبة لهم أخبارا كثيرة في أمور كثيرة وهي كلها صادقة لم يقع في شيء منها تخلف ولا غلط بخلاف من يخبر به ليس متبعا لهم ممن تنزل عليه الشياطين أو يستدل على ذلك بالأحوال الفلكية وغيرها وهؤلاء لابد أن يكونوا كثيرا بل الغالب من أخبارهم الكذب وإن صدقوا أحيانا ومن ذلك ما أحدثه الله تعالى من نصرهم وإهلاك عدوهم إذا عرف الوجه الذي حصل عليه كحصول الغرق لفرعون وقومه بعد أن دخل البحر خلف موسى وقومه كان هذا مما يورث علما ضروريا أن الله تعالى أحدث لهم هذا نصرا لموسى عليه السلام وقومه ونجاة لهم وعقوبة لفرعون وقومه ونكالا لهم وكذلك أمر نوح والخليل عليهما السلام وكذلك قصة الفيل وغير ذلك ومن الطرق أيضا أن من تأمل ما جاءت به الرسل عليهم السلام فيما أخبرت به وما أمرت به علم الضرورة أن مثل هذا لا يصدر إلا عن أعلم الناس وأصدقهم وأبرهم وأن مثل هذا يمتنع صدوره عن كاذب متعمد للكذب مفتر على الله يخبر عنه بالكذب الصريح أو مخطئ جاهل ضال يظن أن الله تعالى أرسله ولم يرسله.   (1) ((النبوات)) (ص 37 - 39)، وانظر (ص 338، 339)، ((الأصفهانية)) (ص 480، 481)، ((شرح الطحاوية)) (ص 115 - 119). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 وذلك لأن فيما أخبروا به وما أمروا به من الإحكام والإتقان وكشف الحقائق وهدي الخلائق وبيان ما يعلم العقل جملة ويعجز عن معرفته تفصيلا ما يبين أنهم من العلم والمعرفة والخبرة في الغاية التي باينوا بها أعلم الخلق ممن سواهم فيمتنع أن يصدر مثل ذلك من جاهل ضال. وفيها من الرحمة والمصلحة والهدى والخير ودلالة الخلق على ما ينفعهم ومنع ما يضرهم ما يبين أن ذلك صدر عن راحم بار يقصد غاية الخير والمنفعة للخلق. وإذا كان ذلك يدل على كمال علمهم وكمال حسن قصدهم فمن تم علمه وتم حسن قصده امتنع أن يكون كاذبا على الله يدعي عليه هذه الدعوى العظيمة التي لا يكون أفجر من صاحبها إذا كان كاذبا متعمدا ولا أجهل منه إن كان مخطئا ... والعلم بجنس الحق والباطل والخير والشر والصدق والكذب معلوم بالفطرة والعقل الصريح ... فإذا علم أنه فيما علم الناس أنه حق وأنه خير هو أعلم منهم به وأنصح الخلق فيه وأصدقهم فيما يقول علم بذلك أنه صادق عالم ناصح لا كاذب ولا جاهل ولا غاش. وهذه الطريق يسلكها كل أحد بحسبه ولا يحتاج في هذه الطريق إلى أن يعلم أولا خواص النبوة وحقيقتها وكيفيتها بل أن يعلم أنه صادق بار فيما يخبر به ويأمر به ثم من خبره يعلم حقيقة النبوة والرسالة " (1) وبهذا يتبين لنا أن قول الماتريدية بأن نبوة الأنبياء لا تثبت إلا بالمعجزات قول غير صحيح بل هو باطل عقلا ونقلا وهم في هذا إنما تابعوا المعتزلة واقتفوا أثرهم (2). المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص 379 - 387 ثانيا: المعجزة والكرامة عند الماتريدية   (1) ((الأصفهانية)) (ص 500 - 501)، ((النبوات)) (ص40 - 43)، ((الجواب الصحيح)) (4/ 254 وما بعدها)، ((شرح الطحاوية)) (ص 119 - 121). (2) انظر ((المغني للقاضي)) عبد الجبار (15/ 147، وما بعدها) و ((شرح الأصول الخمسة)) له أيضا (ص 568 وما بعدها). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 تثبت الماتريدية كرامات الأولياء كما أنهم يثبتون معجزات الأنبياء ويرون أنه لا فرق بينهما إلا التحدي الذي هو دعوى الرسالة فالمعجزة عندهم أمر خارق للعادة غير مقرون بالتحدي ويرون أنه لا تعارض ولاالتباس بين إثبات المعجزات وإثبات الكرامات بل إن كرامة الولي من معجزة النبي ودليل على صدقه لأن كرامة التابع كرامة المتبوع والولي لا يكون وليا حتى يكون مصدقا بالنبي ومتبعا له. قال أبو المعين النسفي مبينا تعريف المعجزة:" المعجزة وحدها على طريقة المتكلمين أنها ظهور أمر بخلاف العادة في دار التكليف لإظهار صدق مدعي النبوة مع نكول من يتحدى به عن معارضته بمثله وإنما قيد بدار التكليف لأن ما يظهر من الناقض للعادة في دار الآخرة لا يكون معجزة وإنما قلنا لإظهار صدق مدعي النبوة ليقع الاحتراز به عما يظهر مدعي الألوهية إذ ظهور ذلك على يده جائز عندنا وفيه أيضا احتراز يظهر على يد الولي إذ ظهور ذلك كرامة للولي جائز عندنا وإنما قلنا لإظهار صدقه لأن ذلك لو ظهر لإظهار كذبه ... لا يكون ذلك معجزة له ولا دليلا على صدقه بل يكون دليلا على كذبه في دعواه وإنما قلنا مع نكول من يتحدى به عن معارضته بمثله لأن الناقض للعادة لو ظهر على يده ثم ظهر على يد المتحدي به مثله لخرج ما ظهر على يده عند المعارضة عن الدلالة إذ مثله ظهر على يدي من يكذبه يكون دليل صدق من يكذبه فيتعارض الدليلان فيسقطان" (1).وقال مبينا اعتقاد الماتريدية في كرامات الأولياء: " وظهور الكرامة على طريق نقض العادة للولي جائز عندنا غير ممتنع ... وأهل الحق أقروا بذلك لما اشتهر من الأخبار واستفاض من الحكايات عن الأحبار فلا وجه إلى رد ما انتشر به الخبر عن صالحي الأئمة في ذلك وما ظنوا (أي: المعتزلة) أنه يؤدي إلى انسداد طريق الوصول إلى معرفة النبي والرسول ... فظن باطل بل كل كرامة للولي تكون معجزة لرسول فإن ظهورها يعلم أنه ولي ولن يكون وليا إلا وأن يكون محقا في ديانته إذ المعتقد دينا باطلا عدو لله لا وليه وكونه محقا في ديانته وديانة الإقرار برسالة رسوله واتباعه إياه في دينه دليل صحة رسالة رسوله فمن جعل ما هو معجزة للرسول ودلالة صدقه مبطلا للمعجزة وسادا لطريق الوصول إلى معرفتها فقد وقع في غلط فاحش وخطأ بين ثم كيف يؤدي ذلك إلى التباس الكرامة بالمعجزة والمعجزة تظهر على أثر الدعوة والولي لو ادعى الرسالة لكفر من ساعته وصار عدوا لله تعالى ولا يتصور بعد ذلك ظهور الكرامة على يده وكذا صاحب المعجزة لا يكتم معجزته بل يظهرها وصاحب الكرامة يجتهد في كتمانها ويخاف أنها من قبيل الاستدراج له دون الكرامة ويخاف الاغترار لدى الاشتهار ... ثم فيها فائدة ثبوت رسالة من آمن به الولي وصيرورة الولي كمن عاين من أهل عصر النبي معجزته وتصير أيضا مبعثة له على الجد والاجتهاد في العبادات والاحتراز عن السيئات .. " (2). وقال الناصري:" الفرق بين النبي والولي ظاهر لأن النبي يدعي المعجزة والكرامة ويتحدى بها الخلق فيقول إن آية رسالتي وثبوتي كذا وكذا والولي لا يدعي الكرامة وإنما تظهر على يده من غير تحد ودعوى ومتى ادعاها سقط من رتبة الولاية وصار فاسقا كذا ذكر علماء الأصول منهم سيف الحق أبو المعين .... " (3). وقال الأوشي:   (1) ((التمهيد)) (ص46). (2) ((التمهيد)) (ص 51، 52)، وانظر ((تبصرة الأدلة)) (ل 271، وما بعدها) , (329 وما بعدها)، ((بحر الكلام)) (ص 61، 62)، ((أصول الدين)) للبزدوي (ص 96 - 99، 227 - 230)، ((سلام الأحكم على سواد الأعظم)) (ص 122 - 125)، ((المسايرة)) (ص 196، 203 - 212)، ((بيان الاعتقاد)) (ل 21، 22، 29). (3) ((النور اللامع)) (ل 121)، وانظر (120). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 "كرامات الولي بدار دنيا لها كون فهم أهل النوالقال الآلوسي: كرامات الولي ... جمع كرامة وهي ظهور أمر خارق للعادة مقارن للاعتقاد الصحيح والأعمال الصالحة غير مقارن لدعوى النبوة وصاحبها مقر بالمتابعة إذ بها تحقق ولايته والوثوق بصدق كرامته ودعواه النبوة دليل نفي الكرامة عنه وثبوت كونه متصفا بالكذب فضلا عن التميز بالولاية وبهذا تمتاز عن المعجزة ... " (1). وقال ملا علي قاري: " والكرامات للأولياء حق أي: ثابت بالكتاب والسنة ولا عبرة بمخالفة المعتزلة وأهل البدعة في إنكار الكرامة والفرق بينهما أن المعجزة أمر خارق للعادة كإحياء الميت وإعدام جبل على وفق التحدي وهو دعوى الرسالة والكرامة خارق للعادة إلا أنها غير مقرونة بالتحدي وهي كرامة للولي وعلامة لصدق النبي فإن كرامة التابع كرامة المتبوع ... " ثم قال: " كل ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي لا فارق بينهما إلا التحدي ... والحاصل أن الأمر الخارق للعادة هو بالنسبة إلى النبي معجزة سواء ظهر من قبله أو من قبل أمته لدلالته على صدق نبوته وحقية رسالته فبهذا الاعتبار جعل معجزة له وإلا فحقيقة المعجزة أن تكون مقارنة للتحدي على يد المدعي وبالنسبة إلى الولي كرامة" (2) ظهر لنا مما تقدم أن الماتريدية تشترط في المعجزة حتى تكون دليلا صحيحا على إثبات النبوة ثلاثة شروط: خرق العادة والتحدي وعدم المعارضة. وحدهم هذا للمعجزة غير منضبط وبيانه من وجوه:1 - " ليس في الكتاب والسنة تعليق الحكم بهذا الوصف بل ولا ذكر خرق العادة ولا لفظ المعجز وإنما فيه آيات وبراهين وذلك يوجب اختصاصها بالأنبياء" (3). 2 - " كون الآية خارقة للعادة .... وصف لا ينضبط وهو عديم التأثير فإن نفس النبوة معتادة للأنبياء خارقة للعادة بالنسبة إلى غيرهم .... كما أن ما يعرفه أهل الطب والنجوم والفقه والنحو هو معتاد لنظرائهم وهو خارق بالنسبة إلى غيرهم. ولهذا إذا أخبر الحاسب بوقت الكسوف والخسوف تعجب الناس إذ كانوا لا يعرفون طريقه فليس في هذا ما يختص بالنبي ... فكونه خارقا للعادة ليس أمرا مضبوطا فإنه إن أريد به أنه لم يوجد له نظير في العالم فهذا باطل فإن آيات الأنبياء بعضها نظير بعض بل النوع منه كإحياء الموتى هو آية لغير واحد من الأنبياء وإن قيل: إن بعض الأنبياء كانت آيته لا نظير لها كالقرآن والعصا والناقة لم يلزم ذلك في سائر الآيات. ثم هب أنه لا نظير لها في نوعها لكن وجد خوارق العادات للأنبياء غير هذا فنفس خوارق العادات معتاد جميعه للأنبياء بل هو من لوازم نبوتهم مع كون الأنبياء كثيرين ... وإن عني بكون المعجزة هي الخارق للعادة أنها خارقة لعادة أولئك المخاطبين بالنبوة بحيث ليس فيهم من يقدر على ذلك فهذا ليس بحجة فإن أكثر الناس لا يقدرون على الكهانة والسحر ونحو ذلك ... وأيضا فكون الشيء معتادا هو مأخوذ من العود وهذا يختلف بحسب الأمور فالحائض المعتادة من الفقهاء من يقول تثبت عادتها بمرة ومنهم من يقول بمرتين ومنهم من يقول لا تثبت إلا بثلاث وأهل كل بلد لهم عادات في طعامهم ولباسهم وأبنيتهم لم يعتدها غيرهم فما خرج عن ذلك فهو خارق لعادتهم لا لعادة من اعتاده غيرهم فلهذا لم يكن في كلام الله ورسوله وسلف الأمة وأئمتها وصف آيات الأنبياء بمجرد كونها خارقة للعادة ولا يجوز أن يجعل مجرد خرق العادة هو الدليل فإن هذا لا ضابط له وهو مشترك بين الأنبياء وغيرهم ولكن إذا قيل من شرطها أن تكون خارقة للعادة بمعنى أنها   (1) ((نثر اللآلئ)) (ص 138). (2) ((شرح الفقه الأكبر)) (ص 79)، وانظر ((حاشية العصام على شرح العقائد)) (ص 206، 207). (3) ((النبوات)) لابن تيمية (ص 45). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 لا تكون معتادة للناس فهذا ظاهر يعرفه كل أحد ويعرفون أن الأمر المعتاد مثل الأكل والشرب ليس دليلا ولا يدعي أحد أن مثل هذا دليل له فإن فساد هذا ظاهر لكل أحد ولكن ليس مجرد كونه خارقا للعادة كافيا لوجهين أحدهما أن كون الشيء معتادا وغير معتاد أمر نسبي إضافي ليس بوصف مضبوط تتميز به الآية ... الثاني أن مجرد ذلك مشترك بين الأنبياء وغيرهم ... " (1). 3 - " إن آيات الأنبياء ليس من شرطها استدلال النبي بها ولا تحديه بالإتيان بمثلها بل هي دليل على نبوته وإن خلت عن هذين القيدين وهذا كإخبار من تقدم من بنبوة محمد فإنه دليل على صدقه وإن كان هو لم يعلم بما أخبروا به ولا يستدل به وأيضا فما كان يظهره الله على يديه من الآيات مثل تكثير الطعام والشراب مرات وكنبع الماء من بين أصابعه غير مرة ... وغير ذلك كله من دلائل النبوة ولم يكن يظهرها للاستدلال بها ولا يتحدى بمثلها بل لحاجة المسلمين إليها وكذلك إلقاء الخليل في النار إنما كان بعد نبوته ودعائه لهم إلى التوحيد" (2). ومما يلزمهم " أن ما كان يظهر على يد النبي صلى الله عليه وسلم في كل وقت من الأوقات ليس دليلا على نبوته لأنه لم يكن كلما ظهر شيء من ذلك احتج به وتحدى الناس بالإتيان بمثله بل لم ينقل عنه التحدي إلا في القرآن خاصة ولا نقل التحدي عن غيره من الأنبياء مثل موسى والمسيح وصالح ولكن السحرة لما عارضوا موسى أبطل معارضتهم. وهذا الذي قالوه يوجب أن لا تكون كرامات من جملة المعجزات ... " (3).4 - " أن المعارضة بالمثل أن يأتي بحجة مثل حجة النبي وحجته عندهم مجموع دعوى النبوة والإثبات بالخارق فيلزم على هذا أن تكون المعارضة بأن يدعي غيره النبوة ويأتي بالخارق وعلى هذا فليست معارضة الرسول بأن يأتوا بالقرآن أو عشر سور أو سورة مثل أن يدعي أحدهم النبوة ويفعل ذلك وهذا خلاف العقل والنقل ولو قال الرسول لقريش لا يقدر أحد منكم أن يدعي النبوة ويأتي بمثل القرآن وهذا هو الآية وإلا فمجرد تلاوة القرآن ليس آية بل قد يقرأه المتعلم له فلا تكون آية لأنه لم يدع النبوة ولا ادعاها لكان الله ينسيه إياه أو يقيض له من يعارضه كما ذكرتم لكانت قريش وسائر العلماء يعلمون أن هذا باطل " (4).ثم إنه "قد يأتي الرجل بما لا يقدر الحاضرون على معارضته ويكون معتادا لغيرهم كالكهانة والسحر ... " (5). و" قد ادعى جماعة من الكذابين النبوة وأتوا بخوارق الكهان والسحرة ولم يعارضهم أحد في ذلك المكان والزمان وكانوا كذابين ... " (6). 5 - " إن آيات الأنبياء مما يعلم العقلاء أنها مختصة بهم ليست مما تكون لغيرهم فيعلمون أن الله لم يخلق مثلها لغير الأنبياء وسواء في آياتهم التي كانت في حياة قومهم وآياتهم التي فرق الله بها بين أتباعهم وبين مكذبيهم بنجاة هؤلاء وهلاك هؤلاء ليست من جنس ما يوجد في العادات المختلفة لغيرهم ... فآيات الأنبياء هي أدلة وبراهين على صدقهم والدليل يجب أن يكون مختصا بالمدلول عليه لا يوجد مع عدمه ولا يتحقق الدليل إلا مع تحقق المدلول كما أن الحادث لابد له من محدث فيمتنع وجود حادث بلا محدث ... فكذلك ما دل على صدق النبي يمتنع وجوده إلا مع كون النبي صادقا ... المقصود أن جنس الأنبياء متميزون عن غيرهم بالآيات والدلائل الدالة على صدقهم التي يعلم العقلاء أنها لم توجد لغيرهم فيعلمون أنها ليست لغيرهم لا عادة ولا خرق عادة ... " (7).   (1) ((النبوات)) (ص 20، 21، 23). (2) ((النبوات)) (ص 156). (3) ((النبوات)) (ص 177، 178)، وانظر (ص 209، 293). (4) ((النبوات)) (ص 152). (5) ((النبوات)) (ص 23). (6) ((النبوات)) (ص 155). (7) ((النبوات)) (ص 159 - 162، 165). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 فحد الماتريدية إذا للمعجزة غير مستقيم بل هو مضطرب وغير منضبط ومما يؤسف له أن يكون هذا التعريف هو السائد والمنتشر في كثير من كتب العقائد. والذي يظهر لي أن المعجزة هي عبارة عن ما يؤيد الله به أنبياءه ورسوله من الأمور الخارقة للسنن الكونية والتي لا قدرة للخلق على الإتيان بمثلها فتكون دليلا على صدقهم وتأييد الله لهم. وأما كرامات الأولياء فهي كما قالوا من آيات الأنبياء ولكن "ليس كل ما كان من آيات الأنبياء يكون كرامة للصالحين وهؤلاء يسوون بين هذا وهذا ويقولون الفرق هو دعوى النبوة والتحدي بالمثل وهذا غلط فإن آيات الأنبياء عليهم السلام التي دلت على نبوتهم هي أعلى مما يشتركون فيه هم وأتباعهم " (1).فانشقاق القمر والإتيان بالقرآن وانقلاب العصا حية وخروج الدابة من صخرة لم يكن مثله للأولياء وكذلك خلق الطير من الطين ولكن آياتهم صغار وكبار كما قال الله تعالى فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى النازعات: 20 [فلله تعالى آية كبيرة وصغيرة وقال عن نبيه محمد لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى] النجم: 18 [فالآيات الكبرى مختصة بهم وأما الآيات الصغرى فقد تكون للصالحين مثل تكثير الطعام فهذا قد وجد لغير واحد من الصالحين لكن لم يوجد كما وجد للنبي صلى الله عليه وسلم أنه أطعم الجيش من شيء يسير فقد يوجد لغيرهم من جنس ما وجد لهم لكن لا يماثلون في قدره فهم مختصون إما بجنس الآيات فلا يكون لمثلهم كالإتيان بالقرآن وانشقاق القمر وقلب العصا حية وانفلاق البحر وأن يخلق من الطين كهيئة الطير وأما بقدرها وكيفيتها كنار الخليل فإن أبا مسلم الخولاني وغيره صارت النار عليهم بردا وسلاما لكن لم تكن مثل نار إبراهيم في عظمتها كما وصفوها فهو مشارك للخليل في جنس الآية كما هو مشارك في جنس الإيمان محبة الله وتوحيده ومعلوم أن الذي امتاز به الخليل من هذا لا يماثله فيه أبو مسلم وأمثاله .... " (2)] المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص388 - 395   (1) ((النبوات)) (ص 169). (2) ((النبوات)) (ص 269)، وانظر (ص 7، 8، 305، 308). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 المبحث الرابع: اليوم الآخر عند الماتريدية تسمي الماتريدية المسائل المتعلقة باليوم الآخر السمعيات وذلك بناء على أن هذه المسائل لا تعلم إلا بالسمع أي أن مصدرهم في التلقي فيما يتعلق باليوم الآخر هو السمع فقط لذا نجدهم قد وافقوا أهل السنة والجماعة في هذا الباب إلا أن اعتقادهم بأن اليوم الآخر وما يتعلق به لا يعلم إلا بالسمع ليس بسديد بل إن العقل قد دل على اليوم الآخر كما دل عليه السمع بل إن السمع قد نبه على دلالة العقل كما في قوله تعالى إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [آل عمران: 90 - 92] وقوله تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر:85]." فهذا العالم المحكم المتقن لا يجوز في مقتضيات العقول الصحيحة أن يكون أمره عبثا ولا أن يكون بناؤه باطلا ويستحيل عقلا أن يكون ليس وراءه حكمة عليا هي نتيجة لحكمة خلقه ونشأته بل لا بد وأن هناك نشأة أخرى وراء هذه النشأة تتجلى فيها جميع حكم النشأة الأولى وتظهر فيها نتائج التكاليف الشرعية ويميز الله تعالى فيها الخبيث من الطيب والصالح من الطالح والمسيء من المحسن وينتقم فيها من الظالم للمظلوم ومن الباغي للمبغي عليه ولولا تلك النشأة الآخرة لضاعت حكمة خلق هذا العالم ولكان أمره عبثا باطلا " (1) المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص 399، 400 يعد الماتريدية جميع المباحث المتعلقة باليوم الآخر من السمعيات أي أن التعويل فيها يقتصر على الكتاب والسنة دون الركون إلى العقل وأحكامه ومن ثم جاءت عقيدة الماتريدية في اليوم الآخر مطابقة لمذهب أهل السنة والجماعة فقد أثبتوا نعيم القبر وعذابه وأشراط الساعة والبعث والنشور والميزان والصراط والحوض المصدر: الفرق الإسلامية وأصولها الإيمانية للدكتور عبد الفتاح أحمد فؤاد - 1/ 276   (1) ((الإيمان بعوالم الآخرة ومواقفها)) عبد الله سراج الدين (ص7). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 ولما كانت رؤية الله تعالى من المسائل المتعلقة باليوم الآخر قالت الماتريدية بإثباتها لدلالة السمع عليها وبجوازها في العقل إلا أنهم قيدوها بنفي الجهة والمقابلة وذلك لأنهم ينفون عن الله علو الذات فاحتاجوا إلى أن يجمعوا بين مسألة نفي العلو وإثبات الرؤية وهم قالوا بهذا لأنهم قالوا بـ"صحة الدليل الذي استدلت به المعتزلة على حدوث العالم وهو أن الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون وما لا يخلو عن حادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها. قالوا فيلزم حدوث كل جسم فيمتنع أن يكون البارئ جسما لأنه قديم ويمتنع أن يكون في جهة لأنه لا يكون في الجهة إلا جسم فيمتنع أن يكون مقابلا للرائي لأن المقابلة لاتكون إلا بين جسمين" (1). قال الماتريدي: " القول في رؤية الرب عز وجل عندنا لازم وحق من غير إدراك ولا تفسير فأما الدليل على الرؤية فقوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام:103] ولو كان لا يرى لم يكن لنفي الإدراك حكمة .... الثاني قول موسى عليه السلام: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143] ولو كان لا يجوز الرؤية لكان ذلك السؤال منه جهل بربه ... وأيضا قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23] ... وأيضا قوله تعالى: لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] ... وأيضا ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير خبر أنه قال: ((سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر لا تضامون ... )) (2) " (3). ثم قال: " فإن قيل كيف يرى؟ قيل: بلا كيف إذ الكيفية تكون لذي صورة بل يرى بلا وصف قيام وقعود واتكاء وتعلق واتصال وانفصال ومقابلة ومدابرة وقصير وطويل ونور وظلمة وساكن ومتحرك ومماس ومباين وخارج وداخل ولا معنى يأخذه الوهم أو يقدره العقل لتعاليه عن ذلك " (4).وقال أبو المعين النسفي: " في العقل دليل على جواز رؤية الله تعالى وقد ورد الدليل السمعي بإيجاب رؤية المؤمنين الله تعالى في الدار الآخرة فيرى لا في مكان ولا على جهة من مقابلة أو اتصال شعاع أو ثبوت مسافة بين الرائي وبين الله تعالى وغير ذلك من المعاني التي هي من أمارات الحدث " (5).وبعد ذكره للأدلة السمعية قال: " والمعقول أنا نرى في الشاهد الجواهر والألوان والأكوان إذ كما نميز بحاسة البصر بين جوهر وجوهر نميز بين الأبيض والأسود والمتحرك والساكن والاجتماع والافتراق غير مرئية ولم ير إلا الجواهر لما وقع التمييز بين الأبيض والأسود والمتحرك والساكن كما لا يقع بين العالم والجاهل والحكيم والسفيه والساخط والراضي ثم لما ثبتت رؤية هذه المعاني ولم نعلم وضعا جامعا بين هذه الأجناس إلا الوجود إذ لا جوهرية ولا لونية في الحركة والسكون وعند السبر يتبين أن ليس وراء الوجود صفة تجمع هذه الأجناس فعلمنا أن المعنى المطلق للرؤية المجوز لها ليس إلا الوجود ... ثم رأينا ان الوجود يتعدى من الشاهد إلى الغائب فيكون جائز الرؤية في العقل ثم الشرع ورد بإثباتها في الآخرة للمؤمنين " (6). وقال الأوشي: يراه المؤمنون بغير كيف ... وإدراك وضرب من مثال   (1) ((منهاج السنة)) (3/ 342)، وانظر ((بيان تلبيس الجهمية)) (2/ 77)، و ((منهاج السنة)) (2/ 334). (2) رواه البخاري (554) ومسلم (633) دون لفظة (يوم القيامة) وروى هذه اللفظة ابن ماجه (178) والطبراني (2/ 296) (2234) وغيرهما (3) ((التوحيد)) (ص 77 - 80). (4) ((التوحيد)) (85). (5) ((التمهيد)) (ص 38). (6) ((التمهيد)) (ص 40، 41)، وانظر ((تبصرة الأدلة)) (ل 236، وما بعدها) ((بحر الكلام)) (ص 39 - 31). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 فينسون النعيم إذا رأوه ... فيا خسران أهل الاعتزال (1) وقول الماتريدية بإثبات الرؤية ونفي الجهة والمقابلة قول متناقض حتى أن المعتزلة صارت تسخر منهم ومن أمثالهم فيقول قائلهم:" من سلم أن الله ليس في جهة وادعى مع ذلك أنه يرى فقد أضحك الناس على عقله" (2)." ولهذا صار كثير من أهل العلم والحديث يصف أقوال هؤلاء بأن فيها نفاقا وتناقضا حيث يوافقون أهل السنة والجماعة على شيء من الحق ويخالفونهم فيما هو أولى بالحق منه ويفسرون ما يوافقون فيه بما يحيله عن حقيقته .... " (3).وحقيقة قول الماتريدية أنهم أثبتوا ما لا يمكن رؤيته حيث إنهم " جمعوا بين أمرين متناقضين فإن ما لا يكون داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه يمتنع أن يرى بالعين ولو كان وجوده في الخارج ممكنا فكيف وهو ممتنع؟ وإنما يقدر في الأذهان من غير أن يكون له وجود في الأعيان فهو من باب الوهم والخيال الباطل " (4).   (1) ((نثر اللآلئ) (ص 77، 83)، ((ضوء المعالي)) (ص 41، 45)، وانظر ((سلام الأحكم)) (ص 114، 115)، ((أصول الدين)) للبزدوي (ص 77، 86)، ((النور اللامع)) (ل 72، 73، 76، 86 - 89)، ((كشف الأسرار)) (1/ 59)، ((المسايرة)) (ص 36 - 42)، ((شرح الفقه الأكبر)) للقاري (ص 83، 84)، ((شرح الطحاوية)) للميداني (ص 68 - 72)، ((الصحائف الإلهية)) (ص 360 - 367). (2) ((بيان تلبيس الجهمية)) (2/ 88)، وانظر ((شرح الأصول الخمسة)) (ص 249 - 253)، ((المغني في أبواب التوحيد والعدل)) (4/ 139 وما بعدها). (3) ((بيان تلبيس الجهمية)) (2/ 89). (4) ((الفتاوى)) (16/ 87). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 وقول الماتريدية هذا معلوم الفساد بالضرورة كما أن الأحاديث المتواترة الواردة في الرؤية دلت على أن المؤمنين يرون ربهم في جهة العلو من وجوه: أحدها: " أن الرؤية في لغتهم لا تعرف إلا لرؤية ما يكون بجهة منهم فأما رؤية ما ليس في الجهة فهذا لم يكونوا يتصورونه فضلا عن أن يكون اللفظ يدل ... فإنك لست تجد أحدا من الناس يتصور وجود موجود في غير جهة فضلا عن أن يتصور أنه يرى فضلا عن أن يكون اسم الرؤية المشهور في اللغات كلها يدل على هذه الرؤية الخاصة " (1).الوجه الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم " شبه لهم رؤيته برؤية الشمس والقمر وليس ذلك تشبيها للمرئي بالمرئي ومن المعلوم أنه إذا كانت رؤيته مثل رؤية الشمس والقمر وجب أن يرى في جهة من الرائي كما أن رؤية الشمس والقمر كذلك فإنه لو لم يكن كذلك لأخبرهم برؤية مطلقة نتأولها على ما يتأول من يقول بالرؤية في غير جهة أما بعد أن يستفسرهم عن رؤية الشمس صحوا ورؤية البدر صحوا ويقول: ((إنكم ترون ربكم كذلك)) فهذا لا يمكن أن يتأول على الرؤية التي يزعمونها فإن هذا اللفظ لا يحتملها لا حقيقة ولا مجازا" (2).الوجه الثالث: " أنه قال: ((هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب وهل تضارون في القمر)) (3) فشبه رؤيته برؤية أظهر المرئيات إذا لم يكن ثم حجاب منفصل عن الرائي يحول بينه وبين المرئي ومن يقول إنه يرى في غير جهة يمتنع عنده أن يكون بينه وبين العباد حجاب منفصل عنهم إذ الحجاب لا يكون إلا لجسم ولما يكون في جهة وهم يقولون الحجاب عدم خلق الإدراك في العين والنبي صلى الله عليه وسلم مثل رؤيته برؤية هذين النورين العظيمين إذا لم يكن دونهما حجاب " (4).الوجه الرابع: "أنه أخبر أنهم لا يضارون في رؤيته وفي حديث آخر: ((لا يضامون)) (5) ونفي الضير والضيم إنما يكون لإمكانه لحوقه للرائي ومعلوم إنما يسمونه رؤية ما ليس بجهة من الرائي لا فوقه ولا شيء من جهاته لا يتصور فيها ضير ولا ضيم حتى ينفي ذلك بخلاف رؤية ما يواجه االرائي ويكون فوقه فإنه قد يلحقه فيه ضيم وضير إما بالازدحام عليه أو كلال البصر لخفائه كالهلال وإما لجلائه كالشمس والقمر " (6). وأما دليلهم العقلي على إمكان الرؤية والذي حاصله أن كل موجود تصح رؤيته فهو ضعيف جدا لأنه يلزم منه رؤية الأصوات والروائح والعلوم والإرادات والمعاني وجواز أكلها وشربها ولمسها. ومعلوم أن " من الأشياء ما يرى ومنها ما لا يرى والفارق بينهما لا يجوز أن يكون أمورا عدمية لأن الرؤية أمر وجودي والمرئي لا يكون إلا موجودا فليست عدمية لا تتعلق بالمعدوم ولا يكون الشرط فيه إلا أمرا وجوديا لا يكون عدميا وكل ما لا يشترط فيه إلا الوجود دون العدم كان بالوجود الأكمل أولى منه بالأنقص فكل ما كان وجوده أكمل كان أحق بأن يرى وكل ما لم يمكن أن يرى فهو أضعف وجودا مما يمكن أن يرى فالأجسام الغليظة أحق بالرؤية من الهواء والضياء أحق بالرؤية من الظلام لأن النور أولى بالوجود والظلمة أولى بالعدم والموجود الواجب الوجود أكمل الموجودات وجودا وأبعد الأشياء عن العدم فهو أحق بأن يرى وإنما لم نره لعجز أبصارنا عن رؤيته لا لأجل امتناع رؤيته .... فإذا كان في الدار الآخرة أكمل الله تعالى الآدميين وقواهم حتى أطاقوا رؤيته ... " (7).فالعقل إذًا دل على إمكان الرؤية ووقوعها بدليل " أن الرؤية أمر وجودي لا يتعلق إلا بموجود وما كان أكمل وجودا كان أحق أن يرى فالباري سبحانه أحق أن يرى من كل ما سواه لأن وجوده أكمل من كل موجود سواه" (8) المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص - 452 - 430   (1) ((بيان تلبيس الجهمية). (2) ((بيان تلبيس الجهمية)) (2/ 410، 411)، وانظر ((الفتاوى)) (16/ 84، 85). (3) رواه البخاري (6573) ومسلم (183). (4) ((بيان تلبيس الجهمية)) (2/ 411). (5) رواه البخاري (554) ومسلم (633) بلفظ (تضامون) أما لفظ يضامون فليست واردة. (6) ((بيان تلبيس الجهمية)) (2/ 411). (7) ((منهاج السنة)) (2/ 331 - 333)، وانظر ((الدرء)) (1/ 252). (8) ((مختصر الصواعق)) (1/ 280). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 المطلب الأول: مراتب القضاء والقدر عند الماتريدية الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان ولا يصح الإيمان إلا به قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49] وقال تعالى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا [الأحزاب:38] وقال صلى الله عليه وسلم في حديث عمر رضي الله عنه عندما سأله جبريل عن الإيمان: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)) (1). والإيمان بالقدر كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين: فالدرجة الأولى الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلا وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق فأول ما خلق الله القلم قال له اكتب قال ما أكتب قال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه جفت الأقلام وطويت الصحف كما قال سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70] وأما الدرجة الثانية فهي مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه ما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه ولا يكون في ملكه إلا ما يريد وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه لا خالق غيره ولا رب سواه ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله ونهاهم عن معصيته وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا يحب الكافرين ولا يرضى عن القوم الفاسقين ولا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد والعباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم كما قال سبحانه: لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28 - 29] " (2). فالإيمان بالقدر إذا يشتمل على أربع مراتب لا يكون العبد مؤمنا بالقدر حتى يؤمن بها وهي: 1 - علم الله القديم وأنه قد علم أعمال العباد قبل أن يعملوها. 2 - كتابة ذلك في اللوح المحفوظ. 3 - مشيئة الله العامة وقدرته الشاملة. 4 - إيجاد الله لكل المخلوقات وأنه الخالق وما سواه مخلوق. وهذا هو قول أهل السنة والجماعة وهو القول الحق الذي يدل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان (3). والماتريدية تثبت هذه المراتب: العلم والكتابة وعموم المشيئة والخلق وما وقع منهم من انحراف في القضاء والقدر إنما هو فيما يتعلق بأفعال العباد كما سيأتي بيانه وفي الحقيقة أن هذه المراتب الأربع ليست بواضحة في كلام الماتريدية كوضوحها في كلام أهل السنة فهم عندما يعرفون القضاء والقدر ينصون على العلم والخلق أما المشيئة فيذكرونها في بحثهم لمسألة الإرادة وأما الكتابة فقل أن يذكروها. وفيما يلي بعض النقول عنهم توضح ما ذكر:   (1) رواه مسلم (8). (2) ((الفتاوى)) (3/ 148 - 150)، وانظر ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص29 - 65). (3) ((معارج القبول)) (2/ 294)، ((الروضة الندية)) (ص 352،353)، ((القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومواقف الناس فيه)) عبد الرحمن المحمود (ص27 - 55، 305 - 321)، رسالة ماجستير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 قال الماتريدي: " القضاء في حقيقته الحكم بالشيء والقطع على ما يليق به وأحق أن يقطع عليه فرجع مرة إلى خلق الأشياء لأنه تحقيق كونها على ما هي عليه وعلى الأولى بكل شيء أن يكون على ما خلق إذ الذي خلق الخلق هو الحكيم العليم والحكمة هي إصابة الحقيقة لكل شيء ووضعه موضعه قال الله تعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [فصلت:12] وعلى ذلك يجوز وصف أفعال الخلق أن قضى بهن أي خلقهن وحكم ... ".ثم قال: " وأما القدر فهو على وجهين: أحدهما الحد الذي عليه يخرج الشيء وهو جعل كل شيء على ما هو عليه من خير أو شر من حسن أو قبح وعلى مثل هذا قوله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49] والثاني بيان ما عليه يقع كل شيء من زمان ومكان وحق وباطل وما له من الثواب والعقاب .... " (1). وقال أيضا: " الحمد لله .... الذي فطر الخلق بقدرته وصرفهم بحكمته على سابق علم ومشيئة ... أنشأ الأشياء كيف شاء لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] " (2) وذكر أبو المعين النسفي في تعريف القضاء والقدر كلاما نحو كلام الماتريدي (3). وأما بالنسبة للمشيئة فقال: " وإذا ثبت أن الله تعالى هو الذي يتولى تخليق أفعال العباد خيرها وشرها طاعتها ومعصيتها والله تعالى مختار في تخليق ما يخلق غير مضطر فيه ولا اختيار بدون الإرادة ثبت أن ما وجد من أفعال العباد كلها بإرادة الله تعالى وما لم يوجد منها لم يكن بإرادة الله تعالى إذ لم يخلقه ثم حاصل المذهب أن كل حادث حدث بإرادة الله تعالى على أي وصف كان .... " (4).وقال الناصري: " .... إنما أوجبوا الاعتقاد بسبق علم الله تعالى بكل كائن من خلقه قبل كونهم لأنه تعالى هو القديم الكامل وما سواه محدث وثبوت العلم من صفات الكمال فيستحيل عليه الجهل لما فيه من التعري عن الكمال وإنما قرنوا التخليق بالعلم لأن العلم بالمخلوق من شرط التخليق ... " (5).وقال أيضا: " وأما قولهم: وكل شيء يجري بقدرته ومشيئته. فإنما قالوا ذلك لما قامت عليه الأدلة القاطعة على أن كل حادث حدث فهو بإرادة الله تعالى وتخليقه وتكوينه خيرا كان أو شرا حسنا كان أو قبيحا جوهرا كان أو عرضا وهو مذهب أهل السنة والجماعة (يعني الماتريدية) " (6).وقال مبينا إثبات الكتابة: " .... وقد كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ جميع ما يكون وجميع ما تفعل العباد قبل خلقهم ... " (7).وقال صاحب (مميزات مذهب الماتريدية) مشيرا إلى ثبوت مراتب القضاء والقدر عندهم: " ... وكون أفعال العباد بعلم الله تعالى وإرادته وتقديره وكتبه في اللوح لا يستلزم كون صدورها من العباد بالجبر ... " (8). فالماتريدية إذ تثبت مراتب القضاء والقدر الأربع العلم والكتابة والمشيئة والخلق فلذا يعدون من مثبتة القدر. المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص433 - 437   (1) ((التوحيد)) (ص 306، 307). (2) ((التوحيد)) (ص 221)، وانظر (ص 287، 291، 294،303، 304). (3) ((التمهيد)) (ص 81، 82)، ((تبصرة الأدلة)) (ل 427 - 429). (4) ((التمهيد)) (ص 75)، ((تبصرة الأدلة)) (ل 411 وما بعدها)، (378). (5) ((النور اللامع)) (ل55). (6) ((النور اللامع)) (ل 56). (7) ((النور اللامع)) (ل 110)، وانظر (57، 58،61، 62، 94،95). (8) ((مميزات مذهب الماتريدية عن المذاهب الغيرية ضمن مجموع)) (ل 75)، وانظر ((تأويلات أهل السنة)) (ل 149، 351)، ((سلام الأحكم)) (ص 43 - 49)، ((أصول الدين)) للبزدوي (ص 41 - 45، 52، 99)، ((المسايرة)) (ص 123، 124، 133 - 138)، ((ضوء المعالي)) (ص 22)، ((نثر اللآلئ)) (ص 22 - 24). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 المطلب الثاني: مذهب الماتريدية في أفعال العباد قالت الماتريدية: إن أفعال العباد مخلوقة لله كما تقدم الإشارة إلى ذلك وأن الله تعالى خلقها كلها خيرا كانت أو شرا واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة نقلية وعقلية. قال الماتريدي: " ثم الدليل عندنا من طريق القرآن على لزوم القول بخلق الأفعال قوله: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] فلو لم يكن جل ثناؤه خالقا لما يجهر ويخفى لم يكن ليحتج به على علمه .... وأيضا أن الله تعالى قال: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [يونس:22] وقال في موضع آخر وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ [سبأ:18] أخبر أن تقدير السير والتسير فعله وبه كان السير ... " (1) وقال: " وأيضا القول بالمتعارف في الخلق أن لا خالق غير الله ولا رب سواه ولو جعلنا حدث الأفعال وخروجها من العدم إلى الوجود ثم فناءها بعد الوجود ثم خروجها على تقدير من أربابها لجعلنا لها وصف الخلق الذي به صار الخلق خلقا وفي ذلك لزوم القول بخالق سواه ... " (2).وقال البزدوي: " قال أهل السنة والجماعة: أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ومفعولة والله تعالى موجدها ومحدثها ومنشؤها ... وجه قول أهل السنة والجماعة قول الله تعالى: اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد:16] والفعل شيء فيكون الله تعالى خالقه وقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] أي الذي تعملون فجعل أفعالنا مخلوقاته كأنفسنا ... والدليل المعقول في المسألة أن أفعال العبد لا يستحيل دخولها تحت قدرة الله تعالى فإنها تدخل تحت قدرة الله تعالى كما في المعلومات كلها فيما يدخل تحت علم العباد لا يستحيل دخوله تحت علم الله تعالى فإذا لم يستحل دخولها تحت قدرة الله تعالى فالله تعالى غير متناهي القدرة فيدخل تحت قدرته ... وإذا دخل تحت قدرة الله تعالى يكون الله موجده كما في الأجسام" (3).وقال أبو المعين النسفي: " وقال أهل الحق: للخلق أفعال بها صاروا عصاة ومطيعين وهي مخلوقة لله تعالى ... وأهل الحق يتعلقون بقوله تعالى: اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] والآية خارجة مخرج التمدح ولا تمدح بما يساويه فيه غيره وفي إخراج فعل غيره عن تخليقه إزالة التمدح لأنه يصير في التقدير كأنه قال: خالق كل شيء وهو فعله أو خالق كل شيء ليس بفعل لغيره ..... وهذا باطل .... وبقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] أي: وعملكم ... والمعقول لنا أن إثبات قدرة التخليق للعبد محال لأن من شرط قدرة التخليق ثبوت العلم للخالق بالمخلوق قبل الوجود بدليل قوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] وكذا بداهه العقول واعتراف الخصوم باشتراط العلم يدلان على هذا ثم الخلق لا علم لهم بكيفية الاختراع والإخراج من العدم إلى الوجود ...   (1) ((التوحيد)) (ص 254). (2) ((التوحيد)) (ص 230)، وانظر (ص 221 - 256). (3) ((أصول الدين)) (ص 99،102، 105). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 فدل أن الفعل وجد بإيجاد الله تعالى" (1). وقول الماتريدية بأن الله تعالى خالق أفعال العباد خيرها وشرها هو القول الحق الذي دل عليه السمع والعقل وهو قول أهل السنة والجماعة وسلف الأمة لكن بالنسبة لعلاقة العباد بأفعالهم فقد حاولت الماتريدية التوسط بين قول المعتزلة وقول الجبرية فقالوا أفعال العباد مخلوقة لله تعالى وهي كسب من العباد. قال الماتريدي "إن حقيقة ذلك الفعل الذي هو للعباد من طريق الكسب ولله من طريق الخلق" (2).وقال أبو المعين النسفي: " وعندنا فعل العبد هو مخلوق الله تعالى ومفعوله والله تعالى هو الذي يتولى إيجاده وإخراجه من العدم إلى الوجود والعبد اكتسبه وباشره .... " (3).وقال الناصري: " وأما قولهم: وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد. ومعنى قولهم: خلق الله تعالى أي مخلوقة لله تعالى وهي كسب من العباد " (4).وقال صاحب (مميزات مذهب الماتريدية): فمذهب أهل الحق أن الله تعالى خالق لأفعال العبد كلها وهو كاسب في أفعال الاختيار" (5).وقد اختلفت عباراتهم في بيان معنى الكسب (6) وحاصل كلامهم أن المؤثر في أصل الفعل قدرة الله تعالى والمؤثر في صفة الفعل قدرة العبد وتأثير العبد هذا هو الكسب عندهم. يوضح هذا البياضي بقوله: "أصل الفعل بقدرة الله والاتصاف بكونه طاعة أو معصية بقدرة العبد وهو مذهب جمهور الماتريدية" (7) وهم يقصدون بهذا أن الله تعالى لا يخلق فعل العبد إلا بعد أن يريده العبد ويختاره وقد نصوا على ذلك. قال أبو المعين النسفي: " وما يخترعه (أي الله تعالى) فيه (أي في العبد) باختيار العبد ذلك وله عليه قدرة فأثر تعلق قدرته به كونه فعلا له فيكون الله تعالى مخترعا فعل العبد باختياره لولا اختيار العبد وقصده اكتسابه لما خلقه الله تعالى فعلا له ... " (8).وقال صدر الشريعة في (التوضيح): " جرت عادته تعالى أنا متى قصدنا الحركة الاختيارية قصدا جازما من غير اضطرار إلى القصد يخلق الله عقيبه الحالة المذكورة الاختيارية وإن لم نقصد لم يخلق ... " (9).   (1) ((التمهيد)) (ص 62، 64، 65)، وانظر ((تبصرة الأدلة)) (ل 372، 393، 394)، ((بحر الكلام)) (ص 40، 41)، ((سلام الأحكم)) (ص 60، 61)، ((النور اللامع)) (ل114)، ((المسايرة)) (ص 95 - 100)، ((شرح الفقه الأكبر القاري)) (ص 49، 50)، حاشية العصام على ((شرح العقائد النسفية)) (ص 195 - 163)، ((مميزات مذهب الماتريدية)) (ل 70)، ((إشارات المرام)) (ص 254)، ((شرح العقيدة الطحاوية)) للغنيمي الميداني (ص 121). (2) ((التوحيد)) (ص 228)، وانظر (ص225، 226). (3) ((تبصرة الأدلة)) (ل 384)، وانظر (ل 377،378، 387)، ((التمهيد)) (ص 67، 70،71). (4) ((النور اللامع)) (ل 114). (5) ((مميزات مذهب الماتريدية عن المذاهب الغيرية)) (ل 71). (6) ((التمهيد)) (ص 71)، ((مميزات مذهب الماتريدية)) (ل 71). (7) ((إشارات المرام)) (ص 256)، ((اللمعة)) إبراهيم الحلبي (ص 48). (8) ((تبصرة الأدلة)) (ل 386)، وانظر ((التوحيد)) للماتريدي مقدمة المحقق (ص 42). (9) ((مميزات مذهب الماتريدية)) (ل73)، ((إشارات المرام)) (ص 258، 259)، ((نظم الفرائد)) (ص 53)، ((الصحائف الإلهية)) (ص 385)، ((اللمعة)) (ص 50، 51)، وانظر ((موقف البشر تحت سلطان القدر)) مصطفى صبري (ص 69)، ((نظرية التكليف)) عبد الكريم عثمان (ص 338، 380)، ((القضاء والقدر)) المحمود (ص 256، 301). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 وحقيقة قول الماتريدية هذا أن للعباد إرادة غير مخلوقة وهي مبدأ الفعل فالعباد على مذهبهم يتصرفون بمبادئ أفعالهم باستقلال تام كما يشاؤون وخلق الله تعالى لأفعالهم إنما هو تبع لإرادتهم غير المخلوقة وقولهم هذا قريب من قول المعتزلة. ولا شك أن قول الماتريدية هذا باطل لأن الله تعالى خالق كل شيء " ومعاذ الله والله أكبر وأجل وأعظم أن يكون في عبده شيء غير مخلوق له ولا داخل تحت قدرته ومشيئته فما قدر الله حق قدره من زعم ذلك ولا عرفه حق معرفته ولا عظمه حق تعظيمه بل العبد جسمه وروحه وصفاته وأفعاله ودواعيه وكل ذرة فيه مخلوق لله خلقا تصرف به في عبده ... فهو عبد مخلوق من كل وجه وبكل اعتبار وفقره إلى خالقه وبارئه من لوازم ذاته وقلبه بيد خالقه وبين أصبعين من أصابعه يقلبه كيف يشاء فيجعله مريدا لما شاء وقوعه منه كارها لما لم يشأ وقوعه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ... " (1).وهذا لا يعني أن العبد مجبور لا اختيار له بل إن الله تعالى خلقه على "نشأة وصفة يتمكن بها من إحداث إرادته وأفعاله وتلك النشأة بمشيئة الله وقدرته وتكوينه فهو الذي خلقه وكونه كذلك وهو لم يجعل نفسه كذلك بل خالقه وباريه جعله محدثا لإرادته وأفعاله وبذلك أمره ونهاه وأقام عليه حجته وعرضه للثواب والعقاب فأمره بما هو متمكن من إحداثه ونهاه عما هو متمكن من تركه ورتب ثوابه وعقابه على هذه الأفعال والتروك التي مكنه منها وأقدره عليها وناطها به وفطر خلقه على مدحه وذمه عليها مؤمنهم وكافرهم المقر بالشرائع منهم والجاحد لها فكان مريدا شائيا بمشيئة الله له ولولا مشيئة الله أن يكون شائيا لكان أعجز وأضعف من أن يجعل نفسه شائيا فالرب سبحانه أعطاه مشيئة وقدرة وإرادة وعرفه ما ينفعه وما يضره وأمره أن يجري مشيئته وإرادته وقدرته في الطريق التي يصل بها إلى غاية صلاحه .... " (2).فأفعال العباد إذا هي أفعالهم حقيقة ومفعولة للرب تعالى إذ إن الفعل غير المفعول فالعبد فعل فعله حقيقة " والله خالقه وخالق ما فعل به من القدرة والإرادة وخالق فاعليته وسر المسألة أن العبد فاعل منفعل ... فربه هو الذي جعله فاعلا بقدرته ومشيئته وأقدره على الفعل وأحدث له المشيئة التي يفعل بها" (3) المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص438 - 443   (1) ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص144). (2) ((شفاء العليل)) (ص 137، 138). (3) ((شفاء العليل)) (ص 131). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 أولا: القدرة والاستطاعة الاستطاعة والطاقة والقدرة والوسع ألفاظ متقاربة المعنى وضدها العجز عرفها المتكلمون بأنها: "صفة وجودية يتأتى معها الفعل بدلا عن الترك والترك بدلا عن الفعل" (1).ومسألة الاستطاعة أو القدرة من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الفرق الإسلامية تبعا للخلاف الواقع في القدر فالذين قالوا بالجبر - وهم الجهمية ومن وافقهم - قالوا بنفي الاستطاعة لا مع الفعل ولا قبله وذلك لأن العبد عندهم لا اختيار له (2). والذين قالوا بنفي القدرة وأن العبد خالق لفعله - وهم المعتزلة ومن وافقهم - أثبتوا الاستطاعة قبل الفعل ونفوا أن تكون معه (3) والذين قالوا بالكسب - وهم الأشاعرة ومن وافقهم - قالوا بأن الاستطاعة تكون مع الفعل لا قبله (4). وأما جمهور الماتريدية فقد توسطوا في المسألة فقالوا بإثبات الاستطاعة قبل الفعل ومعه فقالوا بأن الاستطاعة تقع على نوعين: الأولى: سلامة الأسباب والآلات وهي تتقدم الفعل. الثانية: الاستطاعة التي يتهيأ بها الفعل وهي تتقدم الفعل. قال الماتريدي: " الأصل عندنا في المسمى باسم القدرة أنها على قسمين: أحدهما: سلامة الأسباب وصحة الآلات وهي تتقدم الأفعال. والثاني: معنى لا يقدر على تبين حده بشيء يصار إليه سوى أنه ليس إلا للفعل لا يجوز وجوده بحال إلا ويقع به الفعل عندما يقع معه" (5). قال أبو المعين النسفي: " ثم الاستطاعة والطاقة والقدرة والقوة إذا أضيفت إلى العبد يراد بها كلها معنى واحد في مصطلح أهل الأصول. ثم الاستطاعة عندنا قسمان: أحدهما: سلامة الأسباب والآلات وصحة الجوارح والأعضاء وهي المعنية بقوله تعالى وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97] وبقوله تعالى فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [المجادلة:4] وبقوله تعالى خبرا عن أهل النفاق لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة:42] أي لو كانت لنا الآلات والأسباب. وصحة التكليف تعتمد هذه الاستطاعة ...   (1) ((المواقف)) (2/ 229)، ط الآستانة 1311 هـ. وانظر ((المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين)) للآمدي ت عبد الأمير الأعسم (ص 127)، ((التعريفات)) للجرجاني ت الأبياري (ص 35). (2) ((الملل والنحل)) للشهرستاني (ص 36)، ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 312)، ((الفرق بين الفرق)) (ص 128)، ط الكوثري، ((التبصير في الدين)) (ص 96)، ((أصول الدين)) للبغدادي (ص 333)، ((البدء والتاريخ)) (5/ 146)، ((الغنية)) (1/ 94). (3) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 300)، ((في التوحيد)) للنيسابوري (ص 366 - 370)، ((شرح الأصول الخمسة)) (390)، ((المحيط بالتكليف)) (1/ 351، 352)، كتاب ((الشافي)) لابن حمزة (2/ 219، 3/ 5 - 8). (4) ((الإنصاف)) (ص 46)، ((التمهيد)) ط حيدر: (ص 323 – 325)، ((محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين)) (ص 152)، ط دار الكتاب العربي، ((شرح السنوسية الكبرى)) (ص 278)، دار القلم، ((موقف ابن تيمية من الأشاعرة)) (ص 1406). (5) ((التوحيد)) (ص 256،257). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 والثانية: الاستطاعة التي هي حقيقة القدرة التي يتهيأ بها الفعل وهي المعنية بقوله تعالى: وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ [هود:20] ألا ترى أن الله تعالى قد ذمهم بذلك والذم إنما يلحقهم بانعدام حقيقة القدرة عند وجود سلامة الأسباب وصحة الآلات لا بانعدام سلامة الأسباب وصحة الآلات لأن انتفاء تلك الاستطاعة لا يكون بتضييعه بل هو في ذلك مجبور فلم يلحقهم الذم بالامتناع عن الفعل عند انتفائها وكذا هي المعنية بقول صاحب موسى عليهما السلام: قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:67] وقوله: قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا [الكهف:75] إذ لو كان المراد بها سلامة الأسباب والآلات لما عاتبه على ترك الصبر. والاستطاعة الثانية عرض تحدث عندنا مقارنة للفعل ... " (1). وقول جمهور الماتريدية في الاستطاعة هو القول الحق الذي دلت عليه الأدلة وهو قول أهل السنة والجماعة. قال الطحاوي رحمه الله: " والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف به المخلوق به تكون مع الفعل وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكين وسلامة الآلات فهي قبل الفعل وبها يتعلق الخطاب ... " (2). قال الشارح: " والذي قاله عامة أهل السنة أن للعبد قدرة هي مناط الأمر والنهي وهذه قد تكون قبله لا يجب أن تكون معه والقدرة التي بها الفعل لابد أن تكون مع الفعل لا يجوز أن يوجد الفعل بقدرة معدومة وأما القدرة التي من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات فقد تتقدم الأفعال وهذه القدرة المذكورة في قوله تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97] وكذلك قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] وكذا قوله تعالى فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [المجادلة:4] والمراد منه استطاعة الأسباب والآلات ... وأما دليل ثبوت الاستطاعة التي هي حقيقة القدرة فقد ذكروا فيها قوله تعالى: مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ [هود:20] المراد نفي حقيقة القدرة لا نفي الأسباب والالات ... " (3). وبهذا التفصيل ينحل الإشكال الذي وقعت فيه الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ومن وافقهم   (1) ((التمهيد)) (ص 53، 54)، وانظر ((تبصرة الأدلة)) (ل 331 وما بعدها) ((النور اللامع)) (ل 113، 114)، ((جامع المتون)) (ص 18، 19)، ((شرح العقيدة الطحاوية)) للميداني الحنفي (ص 120، 121). (2) ((شرح الطحاوية)) (ص 499). (3) ((شرح الطحاوية)) (499 - 501)، وانظر ((الدرء)) (1/ 60 - 62)، ((الفتاوى)) (8/ 129، 130، 290 - 302، 371 - 377، 390 - 392، 469 - 474، 479، 480، 18/ 172، 173)، ((القضاء والقدر))، المحمود (ص 212 - 214). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 ثانيا: التكليف بما لا يطاق مسألة التكليف بما لا يطاق هي أيضا من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين طوائف المسلمين وذلك تبعا للخلاف الواقع في الاستطاعة والتحسين والتقبيح، فالجهمية قالوا بجواز تكليف ما لا يطاق مطلقا ومنه تكليف الأعمى البصر والزمن أن يسير إلى مكة (1).والمعتزلة قالت بعدم جواز تكليف ما لا يطاق لأنه قبيح والله تعالى منزه عن فعل القبيح فلا يجوز صدوره منه (2).والأشاعرة قالوا بجواز تكليف ما لا يطاق به عقلا وإن لم يقع في الشرع وقد أجازوه عقلا بناء على نفيهم الحسن والقبيح العقليين (3).وأما الماتريدية فقد وافقوا المعتزلة في هذه المسألة فقالوا بعدم جواز تكليف ما لا يطاق لأنه فاسد عقلا ولعدم وجود القدرة التي هي مقتضى التكليف. قال الماتريدي: " الأصل أن تكليف من منع عنه الطاقة فاسد في العقل" (4).وقال ابن الهمام: " ولا أعلم أحدا منهم (أي الماتريدية) جوز تكليف ما لا يطاق" (5).وقال صاحب (نظم الفرائد): "ذهبت مشايخ الحنفية إلى أن التكليف بما لا يطاق من الله تعالى لا يجوز .... احتج مشايخ الحنفية بأن التكليف إنما يتصور في أمر لو أتى به يثاب ولو امتنع عنه يعاقب عليه وذلك إنما يكون فيما يمكن إتيانه لا فيما لا يمكن إتيانه وبأن قوله تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286] صريح في أن التكليف به غير واقع" (6).والصواب في المسألة هو التفصيل أما إطلاق القول فيها فهو من البدع المحدثة كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية (7). فيقال:" تكليف ما لا يطاق ينقسم إلى قسمين: أحدهما: ما لا يطاق للعجز عنه كتكليف الزمن المشي وتكليف الإنسان الطيران ونحو ذلك فهذا غير واقع في الشريعة عند جماهير أهل السنة المثبتين للقدر والثاني: ما لا يطاق للاشتغال بضده كاشتغال الكافر بالكفر فإنه هو الذي صده عن الإيمان وكالقاعد في حال قعوده فإن اشتغاله بالقعود يمنعه أن يكون قائما والإرادة الجازمة لأحد الضدين تنافي إرادة الضد الآخر وتكليف الكافر الإيمان من هذا الباب. ومثل هذا ليس بقبيح عقلا عند أحد من العقلاء بل العقلاء متفقون على أمر الإنسان ونهيه بما لا يقدر عليه حال الأمر والنهي لاشتغاله بضده إذا أمكن أن يترك الضد ويفعل الضد المأمور بهو. هذا لا يدخل فيما لا يطاق ... فإنه لا يقال للمستطيع المأمور بالحج إذا لم يحج إنه كلف بما لا يطيق ولا يقال لمن أمر بالطهارة والصلاة فترك ذلك كسلا أنه كلف ما لا يطيق " (8) المصدر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص 444 - 449   (1) ((الفتاوى)) (8/ 297)، وانظر ((الملل والنحل)) (ص 36). (2) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص 133، 396 - 409)، نظرية ((التكليف)) (ص 300 - 304). (3) ((المستصفى)) للغزالي (1/ 98)، ((شرح المواقف)) (1/ 160، 161)، ((المطالب العالية)) للرازي (9/ 267 - 271)، ((محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين)) (ص 297، 298). (4) ((التوحيد)) (ص 266). (5) ((المسايرة)) (ص 156). (6) ((نظم الفرائد)) (ص 25، 26)، وانظر ((أصول الدين)) للبزدوي (ص 124)، ((تبصرة الأدلة)) (ل 355 وما بعدها)، ((التمهيد)) (ص 65 - 60)، ((النور اللامع)) (ل113، 114)، ((المسايرة)) (ص 127 - 130، 156، 168 - 171)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/ 191)، ((حاشية العصام)) (ص 174، 175)، ((إشارات المرام)) (ص 248 - 252)، ((جامع المتون)) (ص 18)، ((شرح العقائد النسفية)) (حاشية الخيالي) (ص 126، 127) ط الأستانة. (7) ((الدرء)) (1/ 65)، ((الفتاوى)) (8/ 469). (8) ((منهاج السنة)) (3/ 104، 105)، وانظر ((الدرء)) (1/ 64، 65)، ((شرح الطحاوية)) (ص 515 - 518)، ((موقف ابن تيمية من الأشاعرة)) (ص 1402 - 1404)، ((الحكمة والتعليل في أفعال الله))، المدخلي (ص 128 - 130). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 المبحث السادس: خلاصة المسائل العقدية التي خالف فيها الماتريدية السلف وأما بالنسبة لآرائهم التي خالفوا فيها السلف فمن أهمها ما يلي: خلاف الماتريدية في مفهوم توحيد الألوهية، إذ هو عندهم بمعنى أن الله واحد في ذاته لا قسم له ولا جزء له، واحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له. وأهل السنة يخالفونهم في هذا المفهوم لتوحيد الألوهية. اعتمدت الماتريدية في إثبات وجود الله تعالي على دليل حدوث الأعراض والأجسام، وهى طريقة باطلة لا اعتبار لها عند السلف، وإنما هي طريقة غلاة الفلاسفة وأهل الكلام المذموم. يستدل الماتريدية على وحدانية الله تعالى بقوله عز وجل: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [الأنبياء:22] وهو ما يسميه البعض بدليل التمانع، وقد خطأهم السلف في هذا المفهوم، مع إقرار السلف بأن دليل التمانع صحيح في دلالته على امتناع صدور العالم عن إلهين، لكن ليس هذا هو المقصود من الآية الكريمة. تثبت الماتريدية جميع الأسماء الحسنى لدلالة السمع عليها، إلا أنهم غلوا في الإثبات ومدلول الأسماء لعدم تفريقهم بين ما جاء في باب التسمية وبين ما جاء في باب الإخبار عن الله، فمدلول الاسم عندهم هو الذات وهذا خاص في اسم "الله" فقط، وأما ما عداه فمدلوله يؤخذ عندهم من الصفات التي أثبتوها فلم يقفوا على ما ثبت بالسمع فقط. وقف الماتريديون في باب الصفات على إثبات بعض الصفات دون غيرها، فأثبتوا من الصفات: القدرة، العلم، الحياة، الإرادة، السمع، البصر، الكلام، التكوين، وذلك لدلالة العقل عليها عندهم، وهم تحكم باطل، وقد ألزمهم السلف بإثبات ما نفوه بنفس الدليل الذي أثبتوا به تلك الصفات الثمانية. نفت الماتريدية جميع الصفات الخبرية الثابتة بالكتاب والسنة، لأن في إثباتها - بزعمهم - مخالفة للعقل الذي يرى في إثباتها ما يدعو إلى وصف الله تعالي بالتشبيه والتجسيم. ولقد دحض السلف هذا المفهوم الباطل والاعتقاد الخاطئ، وكذلك نفوا ثبوت الصفات الاختيارية لله تعالى التي هي صفات الفعل اللازمة لله تعالي، لأنها كذلك تؤدي إلى التشبيه والتجسيم، وقد أبطل السلف هذا المفهوم وفندوا شبههم. يعتقد الماتريديون أن كلام الله تعالي معنى واحد قديم أزلي، ليس له تعلق بمشيئة الله تعالى وقدرته، وأنه ليس بحرف ولا صوت، بل هو كلام نفسي لا يسمع، بل المسموع منه إنما هو عبارة عنه، وهو اعتقاد باطل مخالف للكتاب والسنة ولما عليه السلف. حصر الماتريديون الدليل على صدق الأنبياء في ظهور المعجزات على أيديهم، لأنها تفيد العلم اليقيني وحدها بزعمهم. والسلف لا يختلفون في أن المعجزات دليل صحيح معتبر لصدق الأنبياء، ولكنهم يخالفونهم في حصر أدلة صدق الأنبياء في المعجزات فقط دون النظر إلى الأدلة الأخرى. يرى الماتريديون أن كل المسائل المتعلقة باليوم الآخر لا تعلم إلا بالسمع، والسلف يخالفونهم في هذا، ويقولون: إن تلك المسائل علمت بالسمع ودل عليها العقل أيضا. أثبت الماتريديون رؤية الله تعالي، ولكنهم نفوا الجهة والمقابلة، وخالفهم السلف واعتبروا قول الماتريدية تناقضاً واضطراباً في مفهومهم للرؤية، ويؤدي إلى إثبات ما لا يمكن رؤيته، وإلى نفي جهة العلو المطلق الثابت لله تعالي. اعتبر السلف ما ذهب إليه الماتريديون في خلق أفعال العباد اعتقادا خاطئا لما فيه من إثبات إرادة للعباد مستقلة - عن مشيئة الله تعالى، وأن خلق الله لأفعالهم إنما هو تبع لإرادتهم غير المخلوقة، والسلف يعتقدون أن لله تعالى وحده المشيئة وأن للعباد مشيئة لا تخرج عن مشيئة الله تعالى. ذهبت الماتريدية إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، وقال بعضهم: إنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان ومنعوا زيادته ونقصانه وحرموا الاستثناء فيه ومنعوا التفريق بين مفهوم الإيمان والإسلام. وخالفهم السلف في كل ذلك فإن الإيمان عندهم هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان والعمل بالأركان وأنه يزيد وينقص ويجوز الاستثناء فيه لعدم جواز تزكية النفس. وأما الإسلام والإيمان فإنهما متلازمان، إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا كما هو الحال في مفهوم الفقير والمسكين ونحو ذلك. يرى الماتريديون أن الفاسق مؤمن كامل الإيمان، بينما يرى السلف أنه مؤمن بإيمان فاسق بكبيرته، فلا يسلبون منه الإيمان ولا يثبتون له الكمال فيه. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 1236 - 1239 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 المبحث الأول: الموازنة بين الماتريدية والأشاعرة لقد بحثت كثيرا من المظان لهذا المطلوب فوجدت عددا كبيرا من الباحثين قد تعرضوا للموازنة بين الماتريدية والأشعرية، فمن مجمل مخل، ومن مفصل ممل، ومنهم من أفرد لذلك تأليفا ولم أعرف من بينهم من ذكر المسائل الخلافية بين الفريقين على طريقة النقد، وبين ما هو الحق في ذلك على طريقة السلف الصالح، فقد يكون الفريقان على باطل في مسألة ويكون الحق قولا ثالثا، ولعل الله يوفق باحثا يستوفي هذا المطلوب بإحقاق الحق وإبطال الباطل في كل مسألة تنازع فيها الفريقان، هذا يحتاج إلى مجلد ضخم. ومهمتى هنا دراسة متوسطة، وموازنة في عدة جوانب دون الخوض في التفصيل؛ فمن هؤلاء الذين تعرضوا للموازنة بينهما: 1 - أبو اليسر محمد بن محمد البزدوي الحنفي (493هـ). 2 - الإمام ابن عساكر (571هـ). 3 - تاج الدين السبكي (771هـ) عدو شيخ الإسلام. 4 - التفتازاني الحنفي (792هـ) الجهمي فيلسوف الماتريدية. 5 - المقريزي (845هـ). 6 - عبد الرحيم المعروف بشيخ زاده الحنفي (944هـ) فقد أفرد له كتابا (نظم الفرائد وجمع الفوائد). 7 - عبد الوهاب الشعراني الصوفي (973هـ) الخرافي القبوري. 8 - كمال الدين أحمد بن حسن بن سنان البياضي الحنفي (1098هـ). 9 - العلامة الملا على القاري الحنفي الماتريدي (1014هـ). 10 - صالح بن مهدي المقبلي (1108هـ). 11 - عبد الله بن عثمان المعروف بمستحيي زاده الحنفي (1150هـ) فقد أفرد لذلك (رسالة في الخلافيات بين الماتريدية والأشعرية). 12 - الحسن بن عبد المحسن المعروف بأبي عذبة (كان حيا سنة 1173هـ). فقد صنف كتابا سماه: (الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية) مطبوع. 13 - محمد بن محمد الشهير بمرتضى الزبيدي (1205هـ). 14 - الكوثري (1371هـ) محيي دولتي الجهمية والقبورية. 15 - أحمد أمين المصري (1373هـ) أحد جواسيس المستشرقين. 16 - أبو زهرة (محمد بن أحمد المصري) (1393هـ) الكوثري. 17 - محمد يوسف البنوري الديوبندي (1397هـ) الكوثري. 18 - الدكتور فؤاد سزكين. 19 - الدكتور محمود قاسم. 20 - الدكتور جلال موسى. 21 - الدكتور فتح الله خليف الماتريدي. 22 - الدكتور أبو الخير محمد أيوب على البنغلاديشي الماتريدي. 23 - الدكتور علي عبد الفتاح المغربي الماتريدي. 24 - الشيخ أحمد عصام الكاتب. ومن المستشرقين: 25 - جولد تسيهر (1340هـ) الكافر اليهودي. 26 - ماكدونالد (1362هـ) الكافر النصراني. 27 - كارل بروكلمان (1375هـ) الكافر الألماني. 2 - الفائدة الثانية: في نتائج بحوث هؤلاء الباحثين: حاصل بحوث هؤلاء الباحثين حول موازنتهم بين الفريقين ما يلي من الفقرات: 1 - اتفاق الفريقين في المنهج وأصول المذهب. 2 - كلاهما أهل النظر العقلي والصناعة الفكرية (أهل الكلام). 3 - كلاهما أهل التوسط بين طرفي إفراط المعتزلة العقلية المحضة، وبين تفريط الحشوية النقلية البحتة (يعنون أهل السنة أصحاب الحديث). بزعمهم الفاسد الكاسد. 4 - الفريقان - مع اتفاقهما فيما بينهما في المنهج والأصول - مخالفان في الأصول لسائر الفرق مخالفة كبيرة. 5 - الخلاف في المسائل بين الفريقين لفظي في أكثرها إن لم يكن لفظيا في كلها. 6 - ومع ذلك الخلاف بين الفريقين غير جوهري، بل في التفاريع دون الأصول. 7 - هذا النوع من الخلاف لا يستدعي التبديع ولا التفسيق عندهم. 8 - عدد هذه المسائل قليل كما سيأتي إيضاحه. 9 - كان بسببها أول الأمر تباين وتنافر وقدح كل منهم في عقيدة الآخر إلا أن الأمر آل آخرا إلى الإغضاء. 10 - الماتريدي والأشعري إماما أهل السنة والجماعة - على زعمهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 11 - إنهما لم يبدعا مذهبا من عندهما وإنما هما مقرران لمذاهب السلف، مناضلان عما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - على زعمهم - وأنى لهم ذلك؟ 12 - عقائدهما هي أصول الأئمة، فالأشعري قام بنصرة نصوص مالك والشافعي، والماتريدي قام بنصرة أبي حنيفة - رحمهم الله جميعا - ولم يبدعا مقالة، ولا مذهبا جديدا، وليس لهما أكثر من بسط مذهب السلف، وشرحه، والتأليف في نصرته - على زعمهم الكاذب. 13 - إذا أطلق أهل السنة والجماعة فالمراد الأشعرية والماتريدية - على زعمهم -؛ سبحان الله!!! 14 - إذا أطلق الأشاعرة يراد بها الأشعرية والماتريدية تغليبا. 15 - الفريقان كلاهما من الفرقة الناجية. هذه آراء جمهرة من تصدى للموازنة بين الفريقين، وهناك آراء أخرى نذكر منها ما يلي: 16 - يرى الكوثري وتبعه أبو زهرة ترجيح الماتريدية على الأشعرية بأن الماتريدية هم الوسط بين الأشعرية، وبين المعتزلة؛ لأن الماتريدية أعطوا النقل حقه والعقل حكمة؛ بخلاف الأشعرية بسبب ابتعادهم عن العقل مرة وعن النقل أخرى، فالأشعرية عدل وسط بين المعتزلة، وبين الحشوية - يعنيان أهل السنة أصحاب الحديث عدوانا منهما وظلما -. قلت: اعترف الكوثري ومن تبعه بأن الماتريدية أقرب من الأشعرية إلى المعتزلة فهذه في الحقيقة مثلبة لا منقبة؛ وأما زعمه أن الأشعرية ابتعدوا عن النقل مرة وعن العقل أخرى دون الماتريدية فادعاء محض، بل الماتريدية مع الأشعرية كأسنان المشط في هذا لا فرق بين هؤلاء وهؤلاء فهم كلهم خالفوا العقل والنقل في آن واحد؛ وكلهم ينفون علو الله ويعطلون كثيرا من الصفات ويقولون: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ويقولون ببدعة الكلام النفسي. 17 - يرى الدكتور محمود قاسم: أن الماتريدي أكثر تسامحا مع المعتزلة، وأقرب إليهم منه إلى الأشاعرة. وهكذا المستشرق إجناس جولد تسيهر يقول: (وعلى العموم فإن آراء الماتريدية أكثر حرية وعقلية من آراء زملائهم الأشاعرة فأولئك أدنى إلى المعتزلة من هؤلاء) (1) هذا كرأي الكوثري. وهذا يحتمل المدح والذم؛ ومع ذلك لا حقيقة لهذا الرأي؛ بل الماتريدية والأشعرية سواء، اللهم إلا أن يراد الأشعرية القدامى كالباقلاني، ونحوه فهم أقرب إلى أهل السنة. 18 - ويرى العلامة المقبلي (1108هـ) أن الفرقتين الرئيسيتين هما المعتزلة والأشعرية، أما الماتريدية فلا وجود لها استقلالا فهم معتزلة في مهمات الدين؛ بل في محمود مسائلهم إلا مسألة الكسب وهم أشعرية في مسألة الرؤية، وخلق الأفعال. قلت: هذا حكم قاس على الماتريدية بل الحق أن الماتريدية والأشعرية - ولا سيما المتأخرين منهم - واسطة بين أهل السنة وبين الجهمية الأولى والمعتزلة، كما يتبين للقارئ من خلال هذه الرسالة فالماتريدية والأشعرية من فرق المعطلة على اختلاف دركاتهم في التعطيل ولا يرى فضل واضح لإحدى هاتين الطائفتين على الأخرى غير أن الأشعرية القدامى أقرب إلى أهل السنة. 19 - ويرى الأستاذ أحمد أمين: أن الاعتزال أظهر في الأشعرية بالنسبة إلى الماتريدية، ولكن الماتريدية لم يبلغوا مبلغ أتباع الأشعري فرجح مذهب الأشعري وزاد انتشاره، وكثر أتباعه.   (1) ((العقيدة والشريعة في الإسلام)) (ص 99). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 قلت: هذا الرأي عكس الآراء السابقة من أن الماتريدية أقرب إلى المعتزلة، وأكثر حرية، والحقيقة أنهما سواء في مخالفة العقل والنقل. 20 - وقد رجح عبد العزيز الفريهاري الماتريدي الأشعرية على الماتريدية باعتبار أن الأشعرية أرسخ علوما، ولهم يد طولى في التدقيق، أما الماتريدية فأكثر أدلتهم من قبيل الإقناعات ولذلك يسمى مجموع الفريقين (الأشاعرة) تغليبا لاسم الأشعري لأنه أشهر، وأكثر علما بالدقائق والدلائل (1).21 - يرى الشيخ أحمد عصام الكاتب: أن موقف أبي منصور الماتريدي وموقف أبي الحسن الأشعري وموقف أصحاب الحديث من الصفات وآياتها وأحاديثها موقف واحد وهو إثباتها بلا كيف (2). قلت: أما قوله: (إن موقف الأشعري، وموقف السلف من الصفات واحد) فحق كما يظهر من (إبانته)، و (مقالاته)؛ وإن الأشعرية ولاسيما المتأخرة - خالفوا إمامهم، وانتسبوا إليه زورا وهو بريء منهم. وأما قوله: (إن موقف الماتريدي من الصفات، وموقف السلف واحد) - فخلاف الواقع؛ فأبو منصور الماتريدي ينكر علو الله تعالى، ويقول: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، وهذا مخالف لبداهة العقل وشرائع الأنبياء، وهذا قول بأن الله تعالى غير موجود أصلا؛ ويؤول صفة العلو والفوقية إلى فوقية القهر والاستيلاء وتعاليه عن الأمكنة وعلو القهر؛ ويؤول صفة الاستواء إلى الاستيلاء؛ ويؤول صفة العين إلى الحفظ والرعاية والإعلام والأمر والوحي والنظر؛ ويؤول صفة اليد إلى النعمة أو القدرة، ويزعم: أن موسى عليه السلام لم يسمع كلام الله وإنما أسمعه بلسان موسى وبحروف خلقها، وصوت أنشاه؛ ويقول في مسألة رؤية المؤمنين لربهم: (بل يرى بلا وصف. . اتصال وانفصال ومقابلة ومدابرة، وساكن ومتحرك، ومماس ومبائن، وخارج وداخل). فأنت ترى كلام أبي منصور الماتريدي هذا في الرؤية ينفي حقيقة الرؤية، ويجعلها مستحيلة، كما يتضمن كلامه هذا نفي علو الله تعالى، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولذلك ذكره شيخ الإسلام فيمن سلكوا أصول الجهمية. فهذه نماذج من عقيدته وتعطيله وتحريفه للنصوص؛ فهل يجوز لأحد بعد هذا أن يقول: إن موقفه من الصفات مثل موقف السلف وهو إثباتها بلا كيف؟ فالشيخ أحمد عصام الكاتب - حفظه الله - قد أبعد النجعة إذ خبره على نقيض المخبر سامحه الله. والحاصل: أن الماتريدية والأشعرية فرقة واحدة من ناحية المعتقد أو كادتا أن تكونا فرقة واحدة على أقل تقدير، وما بينهما من الخلاف فهو يسير وغالبه لفظي، وهما واسطة بين أهل السنة والجهمية الأولى والمعتزلة، كما أنهما من المعطلة، وهذا الذي قلناه، نبرهن عليه الآن في الفائدة الثالثة إن شاء الله تعالى. الفائدة الثالثة: في أن الفريقين في الحقيقة فرقة واحدة في المنهج والأصول. لقد تبين للقراء من الفقرات التي مرت بأرقام (1 - 15) آنفا في نتائج بحوث الذين قاموا بالموازنة بين الماتريدية والأِشعرية - وهؤلاء من الفريقين أنفسهما - أن الماتريدية والأشعرية في الحقيقة فرقة واحدة متفقة في المنهج وأصول المذهب، وأنهما مخالفتان لسائر الفرق في الأصول مخالفة كبيرة، وأنه يعبر عن الفريقين بالأشاعرة تغليبا للأشعرية على الماتريدية، وأنهما هم أهل السنة والجماعة بل المراد من أهل السنة والجماعة هم الماتريدية والأشعرية، وأنهما الفرقة الناجية - على زعمهم - ولا شك أن أهل السنة والجماعة طائفة واحدة، كما أن الناجية ليست إلا واحدة لا اثنتين فصاعدا.   (1) انظر ((النبراس)) (183، 229)، وإليه يرمي كلام الشعراني في ((اليواقيت)) (1/ 3). (2) ((عقيدة التوحيد في فتح الباري)) (106، 100). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 أما اختلاف النسبة - من أن الماتريدية تنتسب إلى الماتريدي، وأن الأشعرية تنتسب إلى الأشعري - فلا يؤثر على كونهما فرقة واحدة، لأن هذا الاختلاف ليس اختلافا جوهريا. وأما اختلاف الفريقين في بعض المسائل فهو ليس حاجزا دون اتحادهما لوجوه: 1 - الأول: أن الخلاف بين الفريقين ليس جوهريا بل في التفريعات دون الأصول. 2 - الثاني: أن ذلك لا يستلزم التفسيق والتضليل والتبديع عندهم. 3 - الثالث: أن الخلاف لفظي في جل تلك المسائل إن لم يكن في كلها. وكل ذلك باعتراف الفريقين كما مر في الفقرات السابقة قريبا. فليس مثل هذا الخلاف مما يجعل فرقة واحدة فرقتين مستقلتين. 4 - الرابع: أنه لو عد مثل هذا الخلاف حاجزا دون كونه فرقة ما فرقة واحدة لما صح أن تعد أية فرقة واحدة قط، لأنه لابد من الاختلاف اليسير فيما بين المنتسبين إلى أية فرقة كالحنفية فيما بينهم، والشافعية فيما بينهم، وكالماتريدية فيما بينهم، وكالأشعرية فيما بينهم، فمثل هذا الخلاف لا يجعل الفرقة فرقتين فما فوق. قال التاج السبكي (771هـ): (وما مثل هذه المسائل - يعني مسائل الخلاف بين الماتريدية والأشعرية - إلا مثل مسائل كثيرة اختلف الأشاعرة فيها. .). وقال كمال الدين البياضي الحنفي الماتريدي (1098هـ): (الخامسة: أنهم - يعني الماتريدية والأشعرية - متحدوا الأفراد في أصول الاعتقاد وإن وقع الاختلاف في التفاريع بينهما، إذ لا يعد كل من خالف غيره في مسألة ما صاحب مقالة عرفا، وما من مذهب من المذاهب إلا ولأصحابه اختلاف في التفاريع، فلو اعتبر مانعا عن اتحاد الفرقة لم تعد واحدة منها فرقة كما في النحل وغيرها. .) (1). 5 - الخامس: ما قاله عصام الدين الحنفي الماتريدي (951هـ): (ولك أن تجعل الماتريدية داخلة فيمن تبعه - أي الأشعري -). 6 - والسادس: أنه اصطلح المتأخرون على تسمية الفريقين الأشاعرة تغليبا للأشعرية على الماتريدية، وهذا مما يدل على أن الخلاف بين الفريقين لا يمنع أن يكونا فرقة واحدة. 7 - السابع: أنه قد صرح الحنفية الماتريدية الديوبندية أنهم أشعرية وماتريدية في آن واحد. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الفريقين في الحقيقة فرقة واحدة في المنهج وأصول المعتقد ولا عبرة بالخلافيات، ولذلك قال الحسن بن عبد المحسن أبو عذبة (كان حيا سنة 1173هـ): (إن طعن بعضهم في بعض لأجل هذه المسائل الخلافية إنما صدر من المقصرين المتعصبين الذين لا اعتداد بأقوالهم، ولم يصدر عن أساطينهم وعظمائهم). الحاصل: أن الماتريدية والأشعرية فرقة واحدة في المنهج وأصول العقائد مخالفة لسائر الفرق مخالفة جوهرية، وما بينهما من الخلاف لا يمنع من اتحادهما؛ وأنهم زملاء في التتلمذ على مشايخهم الجهمية الأولى والمعتزلة، وأخذهم عنهم تعطيل كثير من الصفات وتحريف نصوصها تحت ستار التنزيه، بل إنهم أشقاء رضعوا من ثدي أم واحدة، ولنعم ما قيل: رضيعا لبان ثدي أم تحالفا ... بأسحم داج عوض لا نتفرق وأما ادعاء أن الماتريدية والأشعرية هم أهل السنة، بل إذا أطلق أهل السنة فلا يراد بهم إلا الماتريدية والأشعرية، وأنهما الفرقة الناجية، وأن الماتريدي والأشعري إماما أهل السنة والجماعة وأنهما قاما بنصرة مذهب السلف، فأبو منصور الماتريدي قام بنصرة مذهب أبي حنيفة وبسطه، والأشعري قام بنصرة مذهب مالك والشافعي، ولم يبدعا مقالة ولا مذهبا جديدا إلى آخر ما تقدم في الفقرات رقم (10 - 15) آنفا- فهذا ما نناقشه ونكشف الستار عن حقيقته - إن شاء الله تعالى - في المبحث الآتي. في بيان أن الماتريدية وزملاءهم الأشعرية فرقة مبتدعة كلامية من أهل القبلة، وليسوا من أهل السنة المحضة.   (1) ((إشارات المرام)) (ص 52). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 لقد تقدم في الفقرات رقم (10 - 15) في الفائدة الأولى من المبحث الأول: أن الماتريدية والأشعرية يدعون أنهم يمثلون أهل السنة، وأنهم على مذهب السلف الصالح، وأنهم فرقة ناجية إلى آخر ما يزعمون. ولما كانت هذه الدعوى كاذبة خلاف الواقع، وأنه لا صلة لهم بالسلف الصالح في منهجهم وأصولهم في كثير من أبواب العقيدة، وأن الأشعرية لا تصح نسبتهم إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، كما أن الماتريدية لا صلة لهم بعقيدة الإمام أبي حنيفة رحمه الله. رأينا من الواجب أن نعلق في هذا المبحث تعليقا على دعواهم هذه ليتبين للقراء حقيقة دعواهم، ولئلا يغتر بهم من خفي عليهم حقيقة أمرهم بعد هذا، فأقول وبالله التوفيق: أما الأشعرية - فلا تصح نسبتهم إلى الإمام الأشعري؛ وذلك لوجوه: الأول: أن للأشعري أدوارا ثلاثة: دور اعتزالي. ودور كلابي. ودور سلفي. قال ابن كثير (774هـ) وأقره الزبيدي الحنفي الماتريدي (1205هـ) والشيخ أحمد عصام الكاتب: (ذكروا للشيخ أبي الحسن الأشعري ثلاثة أحوال: أولها حال الاعتزال التي رجع عنها لا محالة. الحال الثاني: إثبات الصفات العقلية السبعة وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع والبصر، والكلام، وتأويل الخيرية كالوجه واليدين، والقدم، والساق، ونحو ذلك. الحال الثالث: إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جريا على منوال السلف وهي طريقته في الإبانة التي صنفها آخرا وشرحها الباقلاني، ونقلها ابن عساكر، وهي التي مال إليها الباقلاني، وإمام الحرمين وغيرهما من أئمة الأصحاب المتقدين في أواخر أقوالهم). قلت: هذا الذي قاله الحافظ ابن كثير، وأقره الزبيدي الحنفي، وأحمد عصام الكاتب هو القول الفصل في تقلبات الأشعري واستقراره على مذهب السلف أخيرا وهذا حجة على بطلان نسبة الأشعرية إليه. الثاني: أن كتاب (الإبانة) للأشعري آخر كتبه، وهو الحق الذي لا مرية فيه كما صرح به جمع غفير من أهل العلم حتى بعض الماتريدية. وهذا من الحجج القاطعة والبراهين الساطعة أن الأشعري استقر مذهبه على ما في كتاب (الإبانة)، وهو على طريقة السلف في الإثبات دون التفويض والتأويل، وهذا مما يبطل زعم الكوثري وغيره من المغرضين الممرضين: أن (الإبانة) أول ما صنفه الأشعري بعد رجوعه عن الاعتزال. وكيف لا يكون زعم الكوثري هذا باطلا وقد صرح كثير من أهل العلم أن الأشعري إنما ألف كتاب (الإبانة) بعد ما دخل بغداد بل الكوثري نفسه قد صرح بهذا فوقع في تناقض واضح فاضح، وهو لا يشعر. وللكوثري دجل آخر حول كتاب (الإبانة) يدل على أنه آية في التمويه والتشويه. بل الحق - والحق يقال - أن الذي صنفه الأشعري بعد رجوعه من الاعتزال هو كتاب (اللمع) وما على شاكلته الذي يوافق طريقة الكلابية؛ وأما (الإبانة) - فلا، وألف لا؛ فقد صرح ابن عساكر بأن الأشعري لما صعد المنبر، وأعلن رجوعه عن الاعتزال دفع الكتب إلى الناس، ومنها كتاب (اللمع). وذكر ابن فورك عدة كتب للأشعري ثم قال: (هذه أسامي كتبه التي ألفها إلى سنة عشرين وثلاثمائة). وذكر فيها كتاب (اللمع) ولم يذكر فيها كتاب (الإبانة)؛ فدل هذا على أن (الإبانة) صنفها بعد هذه المدة. الثالث: أن كل من ذب عن الأشعري - إنما اعتمد في الذب عنه على نصوص كتاب (الإبانة)، فقد احتج بهذه الحجة شيخ الإسلام وغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 وهذا هو الواقع، فقد ذب الإمام ابن عساكر عن الأشعري، واعتمد في الذب عنه على (الإبانة)؛ فذكر منها نصا طويلا يستغرق (25) صفحة، وسكت عليه الكوثري؛ وهذا النص موجود بحرفه ونصه وفصه - في كتاب (الإبانة) للأشعري وهكذا فعل أبو القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس (659هـ)؛ فقد ألف كتابا في الذب عن الأشعري، وجل اعتماده في الذب عنه على كتاب (الإبانة) وحقق نسبته إليه. الرابع: أن الإمام الأشعري ذكر عقيدة أهل الحديث والسنة المحضة ثم قال: (وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول: وإليه نذهب). ثم بعد ذلك ذكر عقيدة الكلابية. فهذا برهان قاطع على أنه رجع عن دوره الكلابي إلى عقيدة أهل السنة المحضة. والحاصل: أن الأشعرية ولاسيما المتأخرين منهم أمثال أبي محمد عبد الله بن يوسف الجويني (438هـ) والرازي (606هـ) والآمدي (631هـ) ليسوا من أهل السنة المحضة، ولا تصح نسبتهم لا إلى السلف عامة، ولا إلى الأشعرية خاصة. بل هي فرقة كلامية مبتدعة تحمل أمشاجا من أفكار مختلفة أخذوها من الجهمية الأولى، والمعتزلة، والجبرية، والمرجئة، مع ما عندهم من الحق الذي أخذوه من الكتاب والسنة؛ فهم واسطة بين أهل السنة وبين تلك الفرق المبتدعة؛ فهم كبقية الفرق المبتدعة من أهل القبلة، وليسوا بأهل السنة المحضة وإن صح بإطلاق أهل السنة عليهم بالمعنى العام في مقابلة الروافض والخوارج ونحوهم ولابد من معرفة الفرق بين هذين الاصطلاحين. ولذلك ترى شيخ الإسلام يذكر الأشعرية في عداد من يلحد أسماء الله تعالى وآياته ويطلق عليهم اسم " الجهمية " ويحكم عليهم بأنهم أقرب فرق الجهمية إلى أهل السنة؛ بل يقرر فيهم: أن المعتزلة مخانيث الجهمية، والفلاسفة؛ والأشعرية مخانيث المعتزلة، وأن المعتزلة والجهمية الذكور، وأن الأشعرية الجهمية الإناث - يعني الأشعرية المتأخرة الذين ينفون الصفات الخبرية. ثم يقول شيخ الإسلام: (وأما من قال منهم بكتاب (الإبانة) الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يظهر مقالة تناقض ذلك فهذا يعد من أهل السنة، لكن مجرد الانتساب إلى الأشعرية بدعة لاسيما وأنه بذلك يوهم حسنا بكل من انتسب هذه النسبة، وينفتح بذلك أبواب الشر) (1).ويقول فيهم في بعض المناسبات: (إنهم لا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا): وإنهم يسفسطون في المعقولات، ويقرمطون في السمعيات) (2). فأنى لهؤلاء أن يكونوا من أهل السنة، ومن أراد معرفة حقيقة هؤلاء بالتفصيل فعليه بكتب شيخ الإسلام وابن القيم - رحمهما الله - ومن الكتب الحديثة رسالة (منهج الأشاعرة في العقيدة). للدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي - حفظه الله - وبالله التوفيق.   (1) انظر عن الأشعرية: ((جامع بيان العلم)): (417)، ((طبقات الحنابلة)) (2/ 209) ((درء تعارض العقل والنقل)): (2/ 96)، ((المدنية)): (124 – 125)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)): (6/ 359 – 360)، و ((القصيدة النونية)): (162)، و ((شرحها)) للدكتور محمد خليل هراس (2/ 141)، و ((ثبات العقيدة الإسلامية أمام التحديات)): (32)، و ((شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري)): (1/ 24)، كلاهما لشيخنا عبد الله الغنيمان حفظه الله، و ((منهج الأشاعرة)) للدكتور سفر الحوالي: (13 - 22)، بل الكتاب كله. (2) فكيف يصح زعم الفنجفيري في تنشيطه (350). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 وأما الماتريدية فربما تخفى على كثير من الناس حقيقة أمرهم وتروج عليهم سلعتهم، حيث لم نطلع على كتاب يكشف الستار عن أسرارهم ويخرج للناس خباياهم من زواياهم، والذي يهمني ههنا أن أذكر بعض الأمثلة لتكون نماذج لخروج الماتريدية على معتقد أهل السنة، وتكون شواهد لما قلنا: إنها كزميلتها (الأشعرية) كلتاهما من تلامذة الجهمية الأولى منشقة عن المعتزلة، تحمل أفكار المرجئة، وإنها فرقة كلامية مبتدعة من فرق أهل القبلة، وليست لها صلة بالإمام أبي حنيفة - رحمه الله - خاصة وبأهل السنة المحضة عامة؛ وذلك لما يأتي من الأمثلة والنماذج والشواهد. 1 - لقد تقدم في الفائدة الثالثة: أن الماتريدية والأشعرية فرقة واحدة، متفقة في المنهج وأصول العقائد، وانهما مخالفتان لبقية الفرق في الأصول مخالفة كبيرة، وعرفت - أيضا - حقيقة الأشعرية، وأنهم من فرق المعطلة الكلامية المبتدعة من أهل القبلة وليست من أهل السنة المحضة بالمعنى الأخص، فهذا - أيضا - حكم على الماتريدية دون شك. 2 - الماتريدية يثبتون أربعا من الصفات بالاتفاق وهي الحياة والعلم، والقدرة، والإرادة، ولهم خلاف في إثبات السمع والبصر، ويزيدون صفة أخرى يسمونها التكوين وهو مرجع جميع صفات الأفعال المتعدية، وهم لا يعدون الصفات الفعلية صفات حقيقة، وهذا المذهب يتضمن التعطيل لكثير من الصفات. أما صفة الكلام، فلا يؤمنون بها بل عطلوها وحرفوا نصوصها، وهم والأشعرية والمعتزلة والجهمية الأولى متفقون على خلق القرآن الكريم. لا نزاع بينهم فيه قط، غير أن الماتريدية والأشعرية زادوا بدعة أخرى وهي القول بالكلام النفسي الذي ليس بحرف ولا صوت، والذي لا يقره عقل ولا نقل. أما بقية الصفات من العلو واليدين والعين والوجه والساق والاستواء والنزول والغضب والرضى والحياء وغيرها فيعطلونها، ويحرفون نصوصها فهذه العقائد ليست لها أية صلة بالسلف عامة وبالإمام أبي حنيفة خاصة. 3 - من المعلوم عند الموافق والمخالف أن السلف لم يسلكوا بدعة التأويل في الصفات وهذا باعتراف الماتريدية - أيضا - ولذلك يقولون قولا زورا على السلف: إنهم كانوا مفوضة. أما الماتريدية فهم مؤولة، وهم يثنون على طريقة التأويل، ويقولون: إن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أحكم. فهم بإقرارهم واعترافهم مخالفون لمنهج السلف الصالح فكيف يدعون أنهم أهل السنة؟ 4 - سبحان الله! كيف تكون الماتريدية أهل السنة أتباع الإمام أبي حنيفة؟، وأبو حنيفة - رحمه الله - يثبت العلو لله تعالى بل يكفرمن أنكر ذلك، بل من شك في ذلك ويستدل على ذلك بدليل الفطرة، والنقل وهو حديث الجارية -، والعقل؛ أما الماتريدي والماتريدية فينكرون علو الله تعالى؛ وينابذون العقل والنقل والفطرة والإجماع في آن واحد فيقولون: إن الله لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا متصل به، ولا منفصل عنه، ولا فوق، ولا تحت. ويقولون في دليل الفطرة الذي استدل به الإمام أبو حنيفة: (إن هذا الدليل دليل غلاة الروافض واليهود والكرامية وجميع المشبهة). فجعلوا الإمام أبا حنيفة من الروافض، واليهود والمشبهة من حيث لا يشعرون. 5 - الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - يثبت لله الوجه، واليد والنفس وغيرها من الصفات، ويصرح بأن تأويلها تعطيل لها، وهو مذهب أهل القدر والاعتزال؛ لكن الماتريدي والماتريدية خالفوا إمامهم واختاروا مذهب أهل القدر والاعتزال فعطلوا تلك الصفات، وحرفوا نصوصها. 6 - الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - يثبت لله تعالى صفتي الغضب والرضى، ولكن الماتريدية يعطلون ذلك، ويحرفون نصوصهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 7 - الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - صرح بأن موسى عليه السلام سمع كلام الله تعالى؛ أما الماتريدي والماتريدية فينفون ذلك، ويقولون إنما سمع صوتا مخلوقا بحروف مخلوقة. 8 - الماتريدي والماتريدية من المرجئة، لأن الإيمان عندهم هو التصديق فقط، والإقرار والأعمال خارجان عن الإيمان، ولا يزيد الإيمان ولا ينقص عندهم، غير أن الإقرار باللسان شرط لإجراء الأحكام في الدنيا فقط، فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه فهو مؤمن ناج عند الله. فأنت ترى أن هؤلاء من غلاة المرجئة، وليسوا في شيء من عقيدة السلف في هذا، وبعد هذا كله كيف تصح دعوى الماتريدية والأشعرية أنهم يمثلون أهل السنة؟! وكيف يصح زعم الشيخ الفنجفيري. 9 - كيف لا؟ وهم يعدون العقيدة السلفية السنية عقيدة وثنية وتشبيه وتجسيم وشرك وكفر، وأهلها وثنية مشبهة، مجسمة. وحشوية. نعم، هم يلتقون بأهل السنة في باب الخلافة وذكر الصحابة - رضي الله عنهم - بخير، وما يسمونه السمعيات، وما يثبتونه من بعض الصفات، والقدر، وغير ذلك. فهم أهل السنة في مقابلة الروافض والخوارج، أما أهل السنة المحضة فلا. لأن لفظ (أهل السنة) يطلق اصطلاحا على معنيين: معنى عام، ومعنى خاص. فبالنسبة إلى معناه العام - يدخل فيه كثير من الفرق المبتدعة، وأما المعنى الخاص - فلا يدخل فيه إلا أهل السنة المحضة، وهم السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. قال شيخ الإسلام: (فلفظ أهل السنة يراد بن من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة، فيدخل في ذلك - معنى أهل السنة - جميع الطوائف إلا الرافضة؛ وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى ويقول: إن القرآن غير مخلوق وأن الله يرى في الآخرة، وغير ذلك من الأمور المعروفة عند أهل الحديث والسنة) (1).فبالنظر إلى المعنى العام يدخل في (أهل السنة) الكرامية المشهبة أيضا، لأنهم ممن يقول بخلافة الخلفاء الثلاثة (2). بل أقول: إنه يصح إطلاق (الجهمية) على الماتريدية أيضا بمعنى أنهم معطلة؛ لأن الجهمية تطلق ويراد بها المعطلة سواء كانت الجهمية الأولى، أو المعتزلة، أو الأشعرية، أو الماتريدية، أو غيرهم ويشهد لذلك تصريح كثير من الأئمة الأعلام: 1 - قال الإمام يزيد بن هارون: (من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة - يعني أنكر الاستواء أو أوله - فهو جهمي) (3).2 - وقال شيخ الإسلام: (فإن السلف كانوا يسمون كل من نفى الصفات، وقال: إن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة - جهميا) (4). 3 - لذلك نرى شيخ الإسلام يطلق كلمة (الجهمية) على الأشعرية. وقد ذكر شيخ الإسلام للجهمية ثلاث درجات فعد الكلابية والأشعرية ولاسيما المتأخرين منهم من الثالثة. 4 - والحافظ ابن حجر قال: (الجهمية من ينفي صفات الله تعالى التي أثبتها الكتاب والسنة، ويقول: إن القرآن مخلوق) (5). 5 - قلت: بناء على عقيدة الماتريدية في الصفات وأقوال هؤلاء الأعلام يجوز أن يطلق عليهم كلمة (الجهمية) كما يجوز أن نطلق عليهم كلمة (المعطلة)، وعلى كل حال هم ليسوا بأهل السنة المحضة.   (1) ((منهاج السنة)): (1/ 204)، الطبعة القديمة و: (2/ 221)، الطبعة المحققة. (2) ((منهاج السنة)): (1/ 203)، الطبعة القديمة و: (2/ 221)، الطبعة المحققة. (3) رواه أبو داود في ((مسائل الإمام أحمد)): (268 – 269)، وعبد الله بن أحمد في ((السنة)): (1/ 123)، وذكره البخاري تعليقا بالجزم في ((خلق أفعال العباد)): (24). (4) ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (3/ 427). (5) ((هدي الساري)): (459)، ونقله محمد عوامة في تعليقاته على ((تقريب التهذيب)): (74)، وأقره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 فواعجبا من الفنجفيرية كيف تجعل الماتريدية والأشعرية من أهل السنة حيث قال أحد أئمتها الشيخ الرستمي في (تنشيطه): 350 " فهذا الفريق (يعني الخلف) لا يخرج عن أهل السنة "!؟ وهذا من قلب الحقائق وتسمية الزاهق بالفائق إن البغاث بأرضنا يستنسر والطين في أيامنا ليستحجر في بيان الفروق، والمسائل الخلافية بين الماتريدية والأشعرية: أولا: من الناحية المذهبية الفقهية: لقد بذلت كثيرا من جهدي فوصلت إلى أن الماتريدية كلهم حنفية المذهب بل المراد من الحنفية على الإطلاق في علم الكلام هم الماتريدية فحسب. ولا أعرف أحدا من المالكية والشافعية والحنابلة أن يكون ماتريديا، كما لا أعرف أحدا من الحنفية أن يكون أشعريا إلا أبا جعفر محمد بن أحمد السمناني (444هـ) فقد كان عراقي المذهب أشعري الاعتقاد. وكان تلميذا للباقلاني (403هـ) في علم الكلام، فكان الباقلاني يمازحه ويقول: (إنه مؤمن آل فرعون) يعني: أنه الأشعري الوحيد بين الحنفية. وأما ما صرح به الحنفية الديوبندية من أنهم ماتريدية وأشعرية فيعنون به اتفاق الفريقين في أصول العقيدة، وإلا فهم حنفية أصلاب، ماتريدية أجلاد. أما الأشعرية فكثير منهم شافعية لأسباب، منها: أن الإمام أبا الحسن الأشعري كان شافعيا - كما هو الحق الذي لا مرية فيه - ولم يكن حنفيا - كما زعمه الكوثري وغيره من الحنفية - كما لم يكن مالكيا أيضا - كما زعمه بعض المالكية. أما المالكية، فلم يعرف أحد منهم أشعريا قبل فتنة ابن تومرت (524هـ) الذي فعل الأفاعيل وارتكب الأباطيل، وهتك الأعراض، وسفك الدماء، ونشر العقيدة الجهمية بسلطان السيف والسنان لا بسلطان الحجة والبرهان، والذي أسس دولة الموحدين على طريقة الجهمية والاتحادية والمتفلسفة من نفاة الصفات. وأما الحنابلة، فلم يعرف فيهم أحد أشعريا؛ مع وقوع بعض الحنابلة في التفويض والتأويل؛ فهذا ابن الجوزي - مع انحرافه عن العقيدة السلفية في باب الصفات - عدو لدود للأشعري والأشعرية. وقد ظهر بما تقدم بطلان زعم الكوثري: (فالمالكية كافة وثلاثة أرباع الشافعية، وثلث الحنفية، وقسم من الحنابلة، على هذه الطريقة من الكلام من عهد الباقلاني، والثلثان من الحنفية على الطريقة الماتريدية.). كما بطل زعم التاج السبكي: (أن الشافعية والمالكية والحنفية وفضلاء الحنابلة أشعريون. .). ويدل على إبطال هذه المزاعم - أن في الحنفية فرقا أخرى كالحنفية الكاملة، والحنفية الجهمية الأولى، والحنفية المعتزلة، والحنفية المرجئة، والحنفية الكرامية، والحنفية الشيعية، والحنفية الزيدية حتى باعتراف الحنفية الماتريدية؛ فالحنفية الماتريدية نزر قليل بالنسبة إلى باقية فرق الحنفية، وهكذا حال الأشعرية؛ لأن العقيدة الأشعرية لم تكن معروفة حتى في العراق قبل سنة (380هـ) ثم انتقلت من العراق إلى الشام ومصر بقوة السلطان لا بقوة البرهان، فقد أجبر ملوك بني أيوب أيام دولتهم كافة الناس على العقيدة الأشعرية، فتمادى الحال على ذلك جميع أيام دولتهم ثم أيام مواليهم الملوك من الأتراك. ثانيا: من الناحية الجغرافية: لقد تقدم أن ذكرنا أن الماتريدية انتشرت في بلاد الهند وما جاورها من البلاد الشرقية كالصين وبنغلاديش وباكستان وأفغانستان. كما انتشرت في بلاد تركيا والروم وفارس وبلاد ما وراء النهر وتونس حسب انتشار الحنفية وسلطانهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 أما الأشعرية فانتشرت في العراق والشام ومصر والمغرب وغيرها من البلاد بسبب انتشار متأخري الشافعية والمالكية وقوة سلطانهم وسيفهم وسنانهم. فقد ذكرنا أن ابن تومرت أجبر الناس في المغرب وحملهم على العقيدة الجهمية التي نسبها إلى الأشعري زورا بسفك الدماء وهتك الأعراض، وفعل ما فعل من الأباطيل والأفاعيل الشنيعة الفظيعة. أما في العراق والشام ومصر، فلم تكن العقيدة الأشعرية معروفة إلا في آخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس، فظهرت في العراق في نحو سنة (380هـ) وانتقلت إلى الشام فمصر بسبب الدولة الأيوبية حيث حملوا كافة الناس عليها، فتمادى الحال على ذلك في أيام الملوك من بني أيوب، ثم في أيام الأتراك من مواليهم. ثالثا: من الناحية الفكرية: وفيها وقفات ثلاث: الوقفة الأولى: في نوعية هذا الخلاف: اختلفت أفكار الماتريدية وأنظار الأشعرية في مسائل، وقد تقدم أن هذا الخلاف غير جوهري بل في التفاريع دون الأصول، وأن هذا الخلاف جله لفظي إن لم نقل كله، وأنه لا يستدعي التبديع والتفسيق فيما بينهم، وكان بينهم في أول الأمر تباين وتنافر ثم آل الأمر في الأخير إلى الإغضاء. الوقفة الثانية: في عدد تلك المسائل الخلافية: ذكر تاج الدين السبكي (771هـ) عن والده تقي الدين السبكي (756هـ) أن تلك المسائل ثلاث، ثم ذكر أنها ثلاث عشرة مسألة: ست فيها خلاف معنوي، وأما السبع الباقية ففيها خلاف لفظي. ومشى على ذلك أبو عذبة وأقره الزبيدي، وهذا يوافق ما ذكره المقريزي. ويرى عبد الرحيم شيخ زاده: أنها أربعون مسألة ثم ساقها. وأوصلها كمال الدين البياضي إلى خمسين مسألة ثم ذكرها، وساق الزبيدي نصه أيضا. والذي يبدو لي، أنه لا منافاة بين ما ذكره التاج السبكي وأبو عذبة وغيرهما وبين ما ذكره الباقون فالأولون أجملوا والآخرون فصلوا. وها أنا أسوق تلك المسائل حسب ما ذكره السبكي وأبو عذبة إن شاء الله تعالى. الوقفة الثالثة: في بيان المسائل الخلافية بين الفريقين: ذكرت آنفا خلاف العلماء في عدد المسائل الخلافية بين الماتريدية وبين الأشعرية واخترت ما ذكره السبكي وأبو عذبة من أن هذه المسائل ثلاث عشرة مسألة؛ لأنه قول وسط وأشهر، فأعرض هذه المسائل عرضا أمام القراء كالفهرس مع تعليقات مختصرة لبيان الحق دون مناقشة الفريقين تفصيلا، لأن المقصود ها هنا تعريف الماتريدية بما بينهم وبين الأشعرية من الخلاف فقط، أما الحديث عن هذه المسائل تفصيلا وبيان الحق فيها بالأدلة، ومناقشة الفريقين فيحتاج إلى بحث خاص ولعل الله تعالى يوفق من شاء من عباده فيقوم بهذا العمل؛ فأقول - وبالله التوفيق -. المسائل الخلافية بين الفريقين - كما ذكره السبكي وأبو عذبة - ثلاث عشرة مسألة، وهي على نوعين: نوع فيه خلاف معنوي، ونوع فيه خلاف لفظي. أما النوع الأول فست مسائل: المسألة الأولى: هل يجوز عقلا أن يعذب الله تعالى المطيع أم لا؟ فالأشعرية يجوزون ذلك، والماتريدية لا يجوزونه. قلت: قول الأشعرية باطل محض عقلا ونقلا، والحق أن الله تعالى لا يعذب المطيع. أما عقلا؛ فلأنه يستلزم وصفه تعالى بالجور كما أنه مناف لحكمته تعالى؛ لأنه سفه محض. وأما نقلا: فلقوله تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35 - 36]. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 وهذا الدليل النقلي عقلي أيضا؛ لأنه لا يجوز عقلا التسوية بين المختلفين كما لا يجوز التفريق بين المتماثلين. قال ابن القيم: " هو تعالى المحسن البر الرحيم الملك العدل الحكيم فلا تناقض حكمته رحمته بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه ويضع عقوبته وعدله وانتقامه وبأسه موضعه، فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه ورحمته موضع العقوبة والغضب، ولا العكس، ولا يلتفت إلى قول من غلظ حجابه عن الله: إن الأمرين إليه تعالى سواء، وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة والقرآن كفيل بالرد على هذه المقالة" (1). المسألة الثانية: هل معرفة الله واجبة بالشرع أم بالعقل؟ قلت: ها هنا مسألتان: 1 - الأولى: حصول معرفة الله بالعقل. 2 - الثانية: وجوب معرفة الله بالعقل شرعا ينوط به التكليف ويترتب عليه الثواب والعقاب. فالمسألة الأولى: لم يختلف فيها الماتريدية والأشعرية، لأن معرفة الله تعالى أمر فطري وعقلي في الجملة، وشرعي في التفصيل كما سيأتي قريبا - إن شاء الله -. وأما المسألة الثانية: فاختلف فيها الأشعرية والماتريدية. فقالت الأشعرية: معرفة الله واجبة بالشرع لا بالعقل. وقالت الماتريدية: معرفة الله واجبة بالعقل ولو لم يكن الشرع. وهو مذهب جمهور المعتزلة، حتى صرح أبو منصور الماتريدي، وكثير من مشايخ العراق من الحنفية بأنه يجب على صبي عاقل معرفة الله وإن لم يبلغ الحنث. واختار أئمة بخارى من الحنفية مذهب الأشعرية فقالوا: لا يجب إيمان ولا يحرم كفر قبل البعثة. وصورة الخلاف وثمرته تظهران فيمن نشأ على شاهق جبل ولم تبلغه الدعوة، ولم يؤمن بالله ومات فهو غير معذب عند الأشعرية ومعذب عند الماتريدية. قلت: قول الأشعرية - ها هنا - صواب ولكنهم ناقضوا أنفسهم في جعل العقول الفاسدة مصدرا لتلقي العقيدة وتقديمها على النصوص الشرعية في كثير من أبواب الصفات وغيرها. وأما قول الماتريدية - فباطل، وسلفهم في ذلك المعتزلة، فأي عقل رشحوه حتى قدسوه إلى هذا الحد. والحق: أن الوجوب الشرعي لمعرفة الله تعالى بالشرع لا بالعقل. فالعقل وحده - وإن كان مدركا لمعرفة الله - غير كاف في الوجوب: لأنه لا تتم الحجة على العبد بمجرد عقله ما لم يبلغه الشرع؛ وهذا من كمال رحمة الله، ووافر فضله، ونهاية عدله، ومقتضى حكمته سبحانه وتعالى. غير أن العقل شرط في صحة التكليف؛ لا موجب له، فالعقل لا يطرح بالكلية، ولا يستقل بالكلية. والشرع هو الذي يعتمد عليه في أصول الدين والعقل عاضد له ومعاون. بل نفس معرفة الله تعالى أمر فطري جبلي فطر الله الناس عليه، لا ينحرف عنه إلا من فسدت فطرته، غير أن الذي يدرك بالعقل ومركوز في الفطرة هو معرفة الله الإجمالية؛ أما معرفة الله التفصيلية بأسمائه وصفاته فلا تحصل إلا بالشرع. فالفطرة لها وظيفة، والعقل له وظيفة، وللشرع وظيفة، فالفطرة قابلة للحق والعقل مزك، والشرع مبصر مفصل لما هو مركوز في الفطرة. قلت: ومن وظيفة الشرع أن الله تعالى أوجب به معرفته على العبد، وبه مناط التكليف، وعليه يترتب العقاب والثواب، وبذلك تتم حجة الله على عباده. وهذا الذي ذكرته هو مذهب أهل السنة والجماعة، وعليه كبار أئمة السنة فما ذكره الإمام ابن القيم من وجوبها بهما ففيه نظر. ومن الأدلة الواضحة الناصعة القاطعة الساطعة على ذلك. . قوله تعالى: رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 165]. وقوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15].   (1) ((بدائع الفوائد)) (2/ 437). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 وقوله تعالى: لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى [طه:134]. فهذه الآيات صريحة في عدم تعذيب من لم تبلغه دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ ودلت هذه الآيات على أن وجوب المعرفة والتكليف والثواب والعقاب بالشرع لا بالعقل. وبوب الإمام اللالكائي (418هـ) فقال: (سياق ما يدل من كتاب الله عز وجل، وما روي عن النبي على أن وجوب معرفة الله تعالى وصفاته بالسمع لا بالعقل). ثم قال: (هذا مذهب أهل السنة والجماعة) (1). وقال الإمام أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني (489هـ) على ما ذكره الحافظ ابن حجر ملخصه وأقره: (إن العقل لا يوجب شيئا، ولا يحرم شيئا، ولا حظ له في شيء من ذلك، ولو لم يرد الشرع بحكم ما وجب على أحد شيء). ثم استدل بآيتين من كتاب الله، ثم قال: (ونحن لا ننكر أن العقل يرشد إلى التوحيد، وإنما ننكر أنه يستقل بإيجاب ذلك. .) (2). المسألة الثالثة: التكوين وهو مبدأ الإخراج من العدم إلى الوجود، وصفات الأفعال راجعة إليه، وهو عبارة عن الإيجاد، والتخليق والترزيق، والإحياء والإماتة. فالتكوين عند الماتريدية صفة أزلية، وأن الصفات الفعلية كلها من متعلقات التكوين وليست صفات حقيقية، وإلا لزم قيام الحوادث بالله تعالى، أو لزم تكثير القدماء جدا. أما الأشعرية فلا يعترفون بصفة التكوين، فصفات الأفعال عندهم كلها حوادث، وهي ليست من صفات الله تعالى؛ بل هي إضافات واعتبارات، وليس التكوين. صفة أخرى غير القدرة والإرادة، فمرجع صفات الأفعال عندهم مجموع القدرة والإرادة. وقد صرح الإمام ابن الهمام بأن القول بأن الصفات الفعلية قديمة راجعة إلى التكوين، وأنها زائدة على الصفات السبع ليس في كلام أبي حنيفة، ولا في كلام أصحابه المتقدمين، وإنما حدث هذا القول من زمن أبي منصور الماتريدي، فادعى متأخرو الحنفية ذلك. وقد جعل ابن الهمام (861هـ) والملا علي القاري (1014هـ) من الماتريدية؛ وابن أبي شريف (906هـ) من الأشعرية هذا الخلاف لفظيا. ولذلك قال الرازي (606هـ) في مناظرته مع نور الدين الصابوني (580هـ) الماتريدي: " هذه الصفة التي سميتها التكوين إن كانت عبارة عن هذه الصفات السبع فنحن نعترف بها إلا أن البحث يصير لفظيا، وإن كانت صفة أخرى فلابد من بيانها وشرح حقيقتها حتى يمكننا نفيها أو إثباتها " (3). واختار الغزالي (505هـ) لرفع هذا الخلاف طريقة القوة والفعل فقال: (إن كون الله خالقا قبل الخلق بالقوة، وكونه خالقا بعد الخلق بالفعل، كالسيف يسمى صارما بالقوة في الغمد كما يسمى صارما بالفعل عند حصول القطع به، والماء في الكوز يسمى مرويا بالقوة، وعند الشرب يسمى مرويا بالفعل. قلت: ولعل الباقلاني يشير إلى هذا، فيقول في تعريف صفات الأفعال: كل صفة كان موجودا قبل فعله لها غير أن وصفه لنفسه بجميع ذلك قديم).   (1) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (2/ 193). (2) ((فتح الباري)) (13/ 353)، وانظر أيضا: ((رسالة في الكلام على الفطرة ضمن مجموعة الرسائل الكبرى)) (2/ 344)، و ((لوامع الأنوار البهية)) للسفاريني: (1/ 113)، و ((مختصر لوامع الأنوار البهية)) لابن سلوم: (92) وراجع ((النبوات)) (239 – 240). (3) ((مناظرات الرازي)): (19)، وانظر ((المحصل)) له: (269). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 قلت: الفريقان على باطل محض، سواء جعل الخلاف معنويا أم لفظيا؛ لأن الدافع لهم جميعا على ما قالوه - الفرار عن القول بقيام الصفات الاختيارية به تعالى، وهو ما يسمونه بحلول الحوادث، فلذا قالت الماتريدية: إن صفة التكوين أزلية، وإن الصفات الفعلية ليست - في الحقيقة - صفات لله تعالى، بل هي من متعلقات صفة التكوين لئلا يلزم حلول الحوادث به تعالى وليست قديمة حتى لا يلزم كثرة القدماء جدا. وأما الأشعرية، فقالوا بنفي التكوين صفة لله تعالى زائدا على الصفات السبع؛ وقالوا: إن صفات الأفعال ليست صفات لله تعالى، بل هي إضافات واعتبارات، لئلا يقوم بذاته تعالى حادث هذا حاصل مذهب الفريقين. مع أن القول بحلول الحوادث به تعالى لازم لهم شعروا أم لا حتى باعتراف الرازي فيلسوف الأشعرية. والقول بحلول الحوادث به تعالى كما هو لازم لجميع الطوائف حتى الفلاسفة، كذلك هو قول أساطين الفلاسفة الأولين وفضلائهم المتأخرين غير واحد، وهو قول طوائف من الشيعة، والمرجئة، والكرامية، وغيرهم. وأما جمهور أهل السنة والحديث فإنهم يقولون بها، أو بمعناها. قلت: بهذا القول - أعني نفي قيام الصفات الاختيارية به تعالى - بشبهة أن ذلك يستلزم حلول الحوادث به تعالى - قد عطلت الماتريدية والأشعرية كثيرا من صفات الله تعالى، وناقضوا الكتاب والسنة وسلف هذه الأمة، وارتكبوا مخالفة العقل الصريح، وأتوا بمفاسد وظلمات، والحق ما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية من أن أفعاله تعالى صفات قائمة به تعالى تتعلق بها مشيئته تعالى وقدرته، وتتجدد آحادها، غير أن نوعها قديم. فإن قيل: يلزم من حدوث الآحاد حدوث النوع، لأن النوع لا يتحقق إلا في ضمن أفراده. قلنا: لا يلزم من حدوث الأفراد حدوث النوع، ألا ترى أن نعيم الجنة وأكلها وظلها دائم باق لا ينفد؛ مع أن آحادها لا يتحقق فيها هذا الحكم. وهكذا أجزاء البيت والإنسان والشجر لا يطلق عليها حكم البيت والإنسان والشجر، وهكذا أجزاء الطويل والعريض لا يستلزم أن تكون طويلة وعريضة ودائمة فالنوع له أحكام وصفات، والأجزاء والأفراد لها أحكام وصفات. إلا إذا ثبت أن هذه الجملة موصوفة بصفة هذه الأفراد فالنوع وأفراده، والكل وأجزاؤه قد تتفق حكما وقد تختلف، وضابط ذلك: أنه إذا كان بانضمام هذا الفرد إلى هذا الفرد يتغير ذلك الحكم الذي للفرد لم يكن حكم المجموع حكم الأفراد، كما تبين لك في الأمثلة السابقة، من أن حكم الإنسان والبيت والطويل ليس حكم أجزائها، وحكم نعيم الجنة ليس حكم أفراده. وإن لم يتغير ذلك الحكم الذي لذلك الفرد كان حكم المجموع حكم أفراده ككون الأفراد معدومة، أو موجودة، أو ممكنة مثلا يستلزم كون المجموع كذلك. وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام ينجينا من كثير من الإشكالات الكلامية، كما هو متناسق منسجم مع نصوص الكتاب والسنة ومنهج السلف. ثم إن تهويل هؤلاء المعطلة بشبهة قيام الحوادث بالله تعالى من جملة تهويلهم بالكلمات المستحدثة الكلامية المجملة التي تحتمل معنى حقا وباطلا، وقاعدة السلف في مثل هذه الحكم عليها نفيا أو إثباتا حتى يعلم مراد قائلها. الحاصل: أن نوع صفات الله الفعلية قديمة وتتجدد آحادها، دلت عليه نصوص كثيرة، استخرج بعضها الإمام أحمد لإثبات أن الصفات الاختيارية صفات له تعالى قائمة به تحت مشيئته واختياره. وأذكر مثالا واحدا لذلك من الأمثلة التي استخرجها الإمام أحمد من القرآن للصفات الاختيارية المتجددة، وهو قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة: 1]. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 فقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ دليل على ثبوت السمع والبصر المطلقين القديمين له تعالى، وكل واحد منهما نوع لأفراده؛ وقوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ، وقوله: وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة:1] دليل على تجدد أفراد ذلك النوع، وأن هذا السمع الخاص فرد من ذلك السمع المطلق، وإلا فهل يعقل أن الله تعالى سمع قول تلك المرأة، وسمع محاورتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأزل قبل أن يخلقهما، وقبل أن يخلق كلامهما وأصواتهما؟؟؟. ومن قال: إن الله تعالى سمع صوتهما ومحاورتهما بصفة التكوين القديم، وإن هذا السماع الخاص ليس من صفات الله تعالى بل هو من متعلقات التكوين - كما هو زعم الماتريدية - أو من قال: إن هذا السماع الخاص من الإضافات والاعتبارات وليس من صفات الله تعالى - فقد ناقض العقل الصريح والنقل الصحيح وارتكب التعطيل، وكابر وقد ثبت بهذا أن أفعال الله تعالى صفات له قائمة به تعالى تحت مشيئته واختياره، وأن نوعها قديم ,وآحادها تتجدد وأنها لا تستلزم حلول الحوادث به تعالى بالمعنى الذي تريده الجهمية، فلا تغرنك تسمية الجهمية لها بحلول الحوادث بالله تعالى ونحوه من الأسماء المدهشات. المسألة الرابعة: هل يجوز أن يسمع كلام الله تعالى، أم لا؟ الأشعرية على الجواز، والماتريدية على عدم الجواز. ويفسر الماتريدي سماع كلام الله بمعنى إعلام الله إيانا للكلام كما أعلمنا قدرته وربوبيته. ومعلوم أن قدرة الله تعالى وربوبيته من المعلومات، لا من المسموعات. قلت: أما قول الماتريدية - فباطل؛ غير أنه أوفق لمذهبهم في الكلام النفسي - الذي ليس بحرف ولا صوت -؛ لأنه إذا لم يكن بحرف ولا صوت - لا يتصور سماع كلام الله تعالى. فالماتريدية قولهم بدعة مبنية على بدعة وهو القول بالكلام النفسي؛ لأن أول من ابتدع الكلام النفسي - هو ابن كلاب (240هـ)، فالأنبياء والمرسلون والصحابة والتابعون والأئمة المتقدمون - لم يعرفوا الكلام النفسي، فقول الماتريدية مخالف لمذهب السلف كافة ولاسيما الإمام أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - واكتفى بنص الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - ليكون فيه عبرة للماتريدية. قال الإمام أبو حنيفة: (وسمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى كما قال الله تعالى: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] (1)). يا سبحان الله! الإمام أبو حنيفة يصرح بوقوع سماع كلام الله تعالى وأن موسى عليه السلام سمع كلام الله فعلا فضلا عن الجواز، ويستدل على ذلك بكتاب الله تعالى لكن الماتريدي والماتريدية لا يجوزون سماع كلام الله فضلا عن الوقوع. بل يصرحون بأن موسى عليه السلام لم يسمع كلام الله تعالى. فيقول أبو المعين النسفي: (إن الله أسمع القرآن جبرائيل بالصوت والحرف المخلوقين فحفظه جبرائيل ونقله إلى النبي صلى الله عليه وسلم) (2).وقال أبو منصور الماتريدي: " إن الله أسمع موسى عليه السلام كلامه بحروف خلقها وصوت أنشأه " (3).وقال أبو الليث السمرقندي: (إن الله ألقى في مسامعه صوتا مخلوقا على ما يشاء) (4). وقال البياضي: (إن التكليم لا يتوقف على السماع من الله بالذات، وليس في النظم الجليل - يعني قوله تعالى وكلم الله موسى تكليما - أن الله تعالى أسمع موسى عليه السلام كلامه بحروف وأصوات خلقها في الشجرة).   (1) انظر ((الفقه الأكبر))، بشرح القاري: (46). (2) ((بحر الكلام)) (ص 29). (3) ((كتاب التوحيد)): (ص59) وهذا أيضا يبطل ما في ((روح الألوسي)): (1/ 17). (4) ((شرح تأويلات أهل السنة سورة الشورى الآية رقم 51))، ونقله البياضي في ((إشارات المرام)): (ص 182). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 ويقولون في معنى كون موسى كليم الله: (إنه سمع صوتا دالا على كلام الله تعالى بدون واسطة الكتاب والملك). وبهذا العرض يتبين أن الماتريدية ينفون جواز سماع كلام الله تعالى مطلقا، فبطل ظن ابن أبي شريف، وشيخ زاده، من أن الخلاف في سماع موسى عليه السلام لكلام الله تعالى فقط. كما تبين للقراء أن الماتريدية مخالفون للسلف مخالفة صريحة، ولاسيما الإمام أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - فهل يستطيع بعد هذا أحد أن يدعي أن الماتريدية من أهل السنة، أو هم أتباع الإمام أبي حنيفة في مثل هذه المخالفات؟ بل ظهر أنهم أهل بدعة، وأنهم يصرحون بالقول بخلق القرآن، وأنهم في هذا موافقون للجهمية الأولى والمعتزلة مع قولهم ببدعة أخرى وهي القول بالكلام النفسي، وفي هذا القدر كفاية لمن يطلب الحق ويعتبر. وأما قول الأشعرية - مع أنه بظاهره موافق لقول السلف - أبعد في بداهة العقل، وأشد فسادا، لأنهم - أيضا - قائلون بالكلام النفسي الذي ليس بحرف ولا صوت، فكيف يقولون مع هذا بسماع كلام الله تعالى؟!. وانتبه لهذا بعض الأشعرية؛ فالرازي فيلسوف الأشعرية صرح بعدم سماع كلام الله لأن علة صحة المسموعية هي الصوتية فقط. وإمام الحرمين أبو المعالي، فسر سماع كلام الله بكونه مفهوما معلوما. قلت: فعل هذا يكون الخلاف بين الأشعرية والماتريدية لفظيا كما صرح به بعض الماتريدية. فكلا الفريقين - في الحقيقة - على عدم جواز سماع كلام الله سبحانه عما يقولون علوا كبيرا. المسألة الخامسة: هل يجوز من الله التكليف بما لا يطاق؟ فالأشعرية على الجواز، والماتريدية على المنع. ثم ما لا يطاق أنواع ثلاثة: الأول: مستحيل عقلا كالجمع بين النقيضين، أو الضدين، أو قلب الحقائق فهذا لا يجوز التكليف به إجماعا. والثاني: مستحيل عادة لانتفاء شرط، أو وجود مانع كطيران الإنسان، فهذا هو محل النزاع. والثالث: المستحيل وقوعا لعلم الله تعالى بعدم وقوعه كإيمان أبي جهل مثلا، فإنه ليس مستحيلا لا عقلا ولا عادة بل استحال وقوعا لعلم الله تعالى بعدم وقوعه، فهذا النوع قد وقع به التكليف إجماعا بلا خلاف، فأبو جهل كان مكلفا بالإيمان. وفي مثله لا يقال: إنه تكليف بما لا يطاق لأن أبا جهل كان مقتدرا على الإيمان، لأنه لم يسلب عنه القدرة على الإيمان وإنما اختار الكفر باختياره. قلت: مذهب الأشعرية في غاية الفساد، والحق عدم جواز التكليف بما لا يطاق عقلا ونقلا: أما عقلا فلأنه سفه يخالف حكمة الله تعالى، وقسوة تخالف رحمة الله، وظلم يخالف عدله وإحسانه. وأما نقلا فلقوله تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة: 286]. وهذا هو مذهب أهل السنة. وقدر الله تعالى وسبق علمه سبحانه لا يجعلان العبد مجبورا ولا يقال لذلك تكليف بما لا يطاق. وقول الأشعرية يدل على أنهم جبرية كما يأتي جبرهم الصريح في كسبهم. المسألة السادسة: هل يجوز صدور الصغائر عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أم لا؟ ذكر التاج السبكي وأبو عذبة أن الأول مذهب أبي الحسن الأشعري، وبعض الأشعرية، والثاني مذهب الحنفية - أي الماتريدية (1). قلت: نسبة القول بعدم جواز صدور الصغائر عن الأنبياء عليهم السلام إلى الحنفية هكذا على الإطلاق غير صحيح؛ لأن أقوال الأشعرية، والماتريدية في هذه المسألة مضطربة، حتى في جواز صدور الكبائر سهوا فضلا عن الصغائر وبيان ذلك ما يلي: 1 - طائفة من الماتريدية والأشعرية تصرح بأن الأكثرين على جواز صدور الكبائر سهوا عن الأنبياء عليهم السلام. بينما نرى كثيرا من الماتريدية والأشعرية لا يجوزون صدور الكبائر عنهم سهوا.   (1) ((طبقات الشافعية)) (3/ 387) ((الروضة البهية)) (58). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 فهذا اضطراب الفريقين في جواز صدور الكبائر سهوا عن الأنبياء عليهم السلام، وعدم جوازها. 2 - وأما اضطرابهم في جواز صدور الصغائر عنهم عليهم السلام عمدا فطائفة من الماتريدية والأشعرية تصرح بأن جوازها مذهب الجمهور، ونجد كثيرا من الماتريدية والأشعرية لا يجوزون ذلك. 3 - اضطرابهم في جواز صدور الصغائر عن الأنبياء عليهم السلام سهوا هو أننا نرى جماعة من الماتريدية والأشعرية يذكرون الاتفاق على ذلك، ولكن يشترطون شرطين: الأول: أن لا تكون تلك الصغائر مما يدل على الخسة أو يوجب التنفير كسرقة لقمة أو التطفيف بحبة. الثاني: أن ينبهوا على ذلك من الله تعالى فينتبهوا حتى لا يقروا على ذلك. بينما كلام بعض الماتريدية والأشعرية صريح، أو ظاهر في نفي جواز صدور الصغائر عنهم عليهم السلام سهوا والفنجفيرية على هذا. 4 - اضطرابهم في جواز صدور الزلة والخطأ والسهو والنسيان عنهم عليهم السلام، فجمهور الماتريدية والأشعرية يصرحون بجواز ذلك كله. فالذين جوزوا صدور الكبائر سهوا. والصغائر عمدا، أو سهوا عن الأنبياء عليهم السلام جوزوا صدور الخطأ والسهو والنسيان عنهم بالطريق الأولى. وقد صرح الإمام أبو حنيفة بذلك فقال: (وقد كانت منهم زلات وخطيئات) (1). وشذ من بين الحنفية مشايخ سمرقند فأفرطوا ومنعوا إطلاق اسم الزلة على ما صدر من الأنبياء عليهم السلام وقالوا: (إنما يقال فعلوا الفاضل وتركوا الأفضل فعوتبوا عليه) وارتكبت الفنجفيرية هذا الإفراط. كما شذ من بين الأشعرية بعضهم فأفرط ونفى صدور الخطأ والنسيان عنهم عليهم السلام. قلت: هذه كانت أقوال الماتريدية والأشعرية في عصمة الأنبياء عن الكبائر والصغائر والخطأ والسهو والنسيان، وقد عرفت ما فيها من التناقض والتضارب. وهذه الأقوال منها حق، ومنها باطل محض.   (1) ((الفقه الأكبر بشرح القاري)) (90)، و ((بشرح أبي المنتهى المغيساوي)) (22). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 فأما الباطل منها: فقول من نفى جواز صدور الصغائر عنهم عليهم السلام، وأشنع، وأبشع منه قول من غالى فأفرط، فنفى جواز الخطأ والنسيان والزلة على الأنبياء عليهم السلام؛ فإن هؤلاء قد رفعوهم عن منزلة البشرية والعبودية إلى مرتبة الألوهية مضاهئين به إفراط النصارى. ثم لهؤلاء الغالين موقف ذميم من نصوص الكتاب والسنة الصحيحة المحكمة الصريحة التي تنص على وقوع بعض الذنوب عنهم عليهم السلام فضلا عن النصوص التي تدل على وقوع السهو والنسيان عنهم فيردون ما كان منها أخبار الآحاد ويحرفون ما كان منها متواترا بحجة تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن الذنوب وتوقيرهم كما يصنعون مثل ذلك في باب الصفات فيعطلون كثيرا منها ويحرفون نصوصها بحجة تنزيه الله تعالى عن مشابهة الخلق ولهذا قالوا (إذا تقعر هذا فما نقل عن الأنبياء عليهم السلام مما يشعر بكذب أو معصية فما كان منقولا بطريق الآحاد فمردود وما كان بطريق التواتر فمصروف عن ظاهره إن أمكن وإلا فمحمول على ترك الأولى أو كونه قبل البعثة) (1).فأنت ترى أيها المسلم أن هذا الموقف من النصوص الشرعية ليس موقف من يؤمن بها ولذا قال شيخ الإسلام فيهم (والمنكرون لذلك " أي لجواز صدور الصغائر عن الأنبياء" يقولون في تحريف القرآن ما هو من جنس قول أهل البهتان ويحرفون الكلم عن مواضعه ... ) (2).وقال (والرادون لذلك تأولوا ذلك بمثل تأويلات الجهمية والقدرية والدهرية لنصوص الأسماء والصفات ونصوص القدر ونصوص المعاد وهي من جنس تأويلات الباطنية التي يعلم بالاضطرار أنها باطلة وأنها من باب تحريف الكلم عن مواضعه وهؤلاء يقصد أحدهم تعظيم الأنبياء فيقع في تكذيبهم ويرد الإيمان بهم فيقع في الكفر بهم) (3).قلت: هذا يكفي لبيان فساد أقوال الغالين، ومن أراد البسط والاطلاع على إبطال شبهاتهم فليرجع إلى الكتب المبسوطة لأئمة السنة (4). بيان القول الحق الوسط في باب العصمة:   (1) انظر من كتب الماتريدية: ((شرح العقائد)) (ص: 140) ((شرح المواقف)) (8/ 268) ((شرح الشفاء)) (2/ 200) ((شرح الفقه الأكبر)) (ص: 93) كلاهما للقاري، وحاشية الكستلي على ((شرح العقائد)) (ص: 171 – 172) و ((النبراس)) (ص: 455 - 457). (2) ((منهاج السنة)) (1/ 227) و ((مجموع الفتاوى)) (10/ 313 - 314). (3) ((مجموع الفتاوى)) (10/ 295 - 313 - 314). (4) انظر على سبيل المثال ((منهاج السنة)) (1/ 226 - 228) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 319 - 320 – 289 - 313 - ، 15/ 147 - 150). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 إذا ظهر للقارئ بطلان الأقوال الفاسدة في باب عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فليعلم أن القول الحق الوسط بين إفراط أهل البدع الذين يضاهئون بإفراطهم النصارى وبين تفريطهم الذي يضاهئون به اليهود في حق الأنبياء عليه السلام - هو القول بجواز الصغائر والخطأ والنسيان على الأنبياء عليهم السلام مع تنبيه الله لهم وعدم إقرارهم عليها. قال شيخ الإسلام: (واعلم أن المنحرفين في مسألة العصمة على طرفي النقيض كلاهما مخالف لكتاب الله من بعض الوجوه قوم أفرطوا في دعوى امتناع الذنوب حتى حرفوا نصوص القرآن المخبرة بما وقع منهم من التوبة من الذنوب ومغفرة الله لهم ورفع درجاتهم بذلك وقوم فرطوا في أن نزههم الله عنها وهؤلاء مخالفون للقرآن وهؤلاء مخالفون للقرآن ومن اتبع القرآن على ما هو عليه من غير تحريفه كان في الأمة الوسط مهتديا إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) (1).وقال: (والجمهور الذين يقولون بجواز الصغائر عليهم يقولون: إنهم معصومون من الإقرار عليها وحينئذ فما وصفوهم إلا بما فيه كمالهم فإن الأعمال بالخواتيم مع أن القرآن والحديث وإجماع السلف معهم ... ) (2).وقال: (وأما قوله - أي ابن المطهر الرافضي (776هـ) صاحب (منهاج الكرامة) - إن هذا ينفي الوثوق ويوجب التنفير فليس هذا بصحيح فيما قبل النبوة ولا فيما يقع خطأ ... ) (3).وقال: (فإن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف حتى إنه قول قول أكثر أهل الكلام كما ذكر أبو الحسن الآمدي أن هذا قول أكثر الأشعرية وهو أيضا قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء بل لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول) (4).وقال (وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة فللناس فيه نزاع هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع ومتنازعون في العصمة من الكبائر والصغائر أو من بعضها والقول الذي عليه جمهور الناس وهو الموافق للآثار المنقولة عن السلف - إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقا والرد على من يقول إنه يجوز إقرارهم عليها .. ) (5). هذه المسائل الست التي كان الخلاف فيها معنويا عند السبكي وأبي عذبة لكنك عرفت أن الخلاف في المسألتين الثالثة والرابعة لفظي. أما المسائل التي فيها خلاف لفظي فهي سبع مسائل: المسألة الأولى: الاستثناء في الإيمان وهو قول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله.   (1) ((مجموع الفتاوى)) (15/ 150) ((دقائق التفسير)) (ص: 280). (2) ((منهاج السنة)) (1/ 227). (3) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 319). (4) ((مجموع الفتاوى)) (10/ 292 - 293). (5) ((مجموع الفتاوى)) (10/ 292 - 293). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 فجوزه الأشعرية ومنعه الماتريدية. ثم جعل السبكي وأبو عذبة هذا الخلاف لفظيا بمعنى أن هذا القائل إن أراد حسن الخاتمة والتفاؤل والتبرك فيجوز له الاستثناء وإن كان للشك فلا يجوز (1).قلت: ما ذهب إليه السبكي وأبو عذبة من أن هذا الخلاف لفظي غير صواب لأن الاستثناء في الإيمان لأجل الشك غير جائز بالاتفاق فهذا ليس محلا للخلاف وإنما بين الفريقين هو في الاستثناء لإحالة الأمور إلى مشيئة الله تعالى أو لقصد حسن الخاتمة أو للتأدب أو للتبرك أو للتبرئ عن التزكية (2). وقد صرح ابن الهمام بأنه لا خلاف في عدم جواز الاستثناء في الإيمان لأجل الشك في ثبوته فإنه كفر وأما إذا لم يكن للشك فمنعه الأكثرون منهم أبو حنيفة وأصحابه وإنما يقال أنا مؤمن حقا لأن ترك الاستثناء أبعد عن التهمة فكان تركه واجبا وأجازه كثير منهم الشافعي وأصحابه (3).قلت: كان الواجب أن تذكر هذه المسألة فيما فيه خلاف معنوي ولذلك نرى أبا منصور الماتريدي والماتريدية بعده يمنعون الاستثناء في الإيمان ويتشبثون بشبهات منها أن الاستثناء يفسخ العقود ويمنع مضيه (4). فما قاله التقي السبكي من أن أبا منصور الماتريدي مع الأشاعرة في جواز الاستثناء في الإيمان (5). - غير صحيح لأن نصوص الماتريدي والماتريدية صريحة في المنع. وقد تهور الشيخ أبو بكر محمد بن محمد الفضل الفضلي الكماري البخاري (381) فقال (من قال أنا مؤمن إن شاء الله - فهو كافر لا تجوز المناكحة معه) ومثله في الغلو قول الشيخ أبي حفص السفكردري وبعض أئمة خوارزم من الحنفية (لا ينبغي للحنفي أن يزوج بنته من رجل شافعي المذهب ولكن يتزوج من الشافعية تنزيلا لهم منزلة أهل الكتاب بحجة أن الشافعية يرون جواز الاستثناء في الإيمان وهو كفر (6). قلت لي أربع وقفات حول مسألة الاستثناء في الإيمان الأولى: تهور بعض الحنفية في التكفير وعدم جواز المناكحة لأجل الاستثناء فقد كفانا شرها كثير من الحنفية أنفسهم. فقد قال الفريهاري (وقد بالغ بعض الحنفية في المنع حتى قال الفضلي: لا يجوز نكاح المرأة الشافعية لأنهم كفروا بالاستثناء وهذه جرأة عظيمة وتعصب لا يرضاه الحق سبحانه) (7).الثانية: ادعاء الحنفية ومنهم ابن الهمام أن الأكثر لا يرون الاستثناء فقد رد هذه الدعوى ابن أبي شريف وعارض شيخه ابن الهمام فقال (إن القول بالاستثناء قول أكثر السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم والشافعية والمالكية والحنابلة والكلابية والأشعرية) (8).قلت: هذا هو الحق المتواتر عن السلف (9).   (1) ((طبقات الشافعية)) للسبكي (3/ 383) ((الروضة البهية)) (6 - 8). (2) ((شرح العقائد النسفية)) (ص: 130) و ((النبراس)) (ص: 419 - 420) وانظر ((إشارات المرام)) (2 - 5). (3) انظر ((المسامرة)) (381 - 385) و ((البحر الرائق)) (2/ 46) ((السواد الأعظم)) (2 - 5). (4) ((انظر ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (388 - 392) و ((تأويلات أهل السنة)) (1/ 310) و ((البداية)) للصابوني (ص: 155) ((شرح الفقه الأكبر)) للقاري (208 – 212) و ((نظم الفرائد)) (48 – 49) و ((التمهيد)) (28/أ) لأبي المعين النسفي، والمراجع السابقة أيضا. (5) ((طبقات الشافعية)) (3/ 384). (6) راجع ((الفتاوى البزازية)) على هامش ((الفتاوى الهندية)) (4/ 112) و ((البحر الرائق)) (2/ 46، 3/ 103). (7) ((الفتاوى البزازية على هامش الفتاوى الهندية)) (4/ 112) و ((البحر الرائق)) (2/ 46) (3/ 103). (8) ((النبراس)) (ص: 420). (9) ((المسامرة)) (ص: 382). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 الثالثة: أنه تبين مما سبق أن الماتريدية لا يرون الاستثناء في الإيمان والأشعرية يرونه لكن مذهب الماتريدية أوفق بأصلهم وهو أن الإيمان هو التصديق وأنه لا يزيد ولا ينقص وإن كان أصلهم وفرعهم كلاهما باطلا خلاف مذهب السلف. أما الأشعرية فقد وقعوا في تناقض واضح حيث نصروا مذهب السلف في الاستثناء مع مناصرتهم لمذهب الجهمية في الإيمان كما صرح شيخ الإسلام بتناقضهم (1). الرابعة: بيان الحق في مسألة الاستثناء: الحق في هذا الباب الاستثناء في الإيمان لأجل أن الإيمان يتضمن فعل الواجبات فلا يشهد الرجل لنفسه بذلك كما لا يشهد لها بالبر والتقوى فإن ذلك لا يعلمه بل هو تزكية للنفس بلا علم. وهذا هو مذهب السلف أصحاب الحديث كابن مسعود وأصحابه والثوري وابن عيينة وأكثر علماء الكوفة ويحيى بن سعيد القطان فيما يرويه عن علماء البصرة وأحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة فكانوا يستثنون في الإيمان وهذا متواتر عنهم (2).وهذا هو المذهب الوسط العدل وأصح من بين قول من يوجبه وبين قول من يحرمه (3). وللعلامة المعلمي كلام في غاية من الأهمية فراجعه. المسألة الثانية: السعيد هل يشقى؟ والشقي هل يسعد أم لا؟ فالأول مذهب الماتريدية، والثاني مذهب الأشعرية. والخلاف في الحقيقة لفظي لأنه إن كان المراد من السعادة ما كتب في أم الكتاب فلا تغير فيه وإن كان المراد منها ما ينوط بعمل ابن آدم فالشقي قد يسعد والسعيد قد يشقى والكافر قد يسلم والمسلم قد يرتد والعياذ بالله (4).ولكن ذكر شيخ زاده أن الأشاعرة قالوا: إن أبا بكر وعمر وسحرة فرعون كانوا مؤمنين قبل إسلامهم (5). قلت: إن صح هذا النقل عن الأشعرية فالخلاف حقيقي ويكون ذلك من حماقات الأشعرية. وذكر ابن فورك عن الأشعري والأشعرية أن الله تعالى لم يزل راضيا عمن يعلم أنه يموت على الإيمان وساخطا على من يعلم أنه يموت على الكفر (6). المسألة الثالثة: هل الكافر ينعم عليه أم لا؟ هذه المسألة ذكرها أبو عذبة في عداد المسائل التي فيها خلاف لفظي بين الفريقين وقال: (قال الأشعري: الكافر لا ينعم عليه لا في الدنيا ولا في الآخرة وإن ما أعطاهم الله من الملاذ فهو على سبيل الاستدراج. وقال القاضي أبو بكر ينعم عليه نعمة دنيوية. وقالت القدرية: ينعم عليه نعمة دنيوية ودينية (7).ثم قال أبو عذبة: (وعند التحقيق يرجع الخلاف إلى نزاع لفظي) (8).قلت: لم يذكر أبو عذبة في هذه المسألة شيئا عن الماتريدية نفيا أو إثباتا لكن مذهب الماتريدية أن الكافر منعم عليه في الدنيا (9). بيان الحق في هذه المسألة: الحق هو قول الماتريدية إن لم يجعل الخلاف لفظيا.   (1) انظر ((كتاب الإيمان)) (ص: 419) وضمن ((مجموع الفتاوى)) (7/ 438 - 439). (2) انظر ((كتاب الإيمان)) (115، 416) وضمن ((مجموع الفتاوى)) (7/ 120، 435) (3) انظر ((الفرقان بين الحق والباطل)) (ص: 27) وضمن ((مجموع الفتاوى)) (13/ 40 – 41) و ((كتاب الإيمان)) (ص: 410) وضمن ((مجموع الفتاوى)) (7/ 429) وراجع مجرد مقالات الأشعري لابن فورك (ص: 162) .. (4) ((الروضة البهية)) (8 - 11) و ((نظم الفريد)) (47 - 48). (5) ((التنكيل)) (2/ 373 - 378). (6) انظر ((نظم الفريد)) (ص: 47) (7) ((الروضة البهية)) (11 - 13) وراجع ((طبقات الشافعية)) للسبكي (3/ 384). (8) ((الروضة البهية)) (ص: 12) وصرح به الملا علي القاري في ((شرح الفقه الأكبر)) (ص: 110). (9) ((المسايرة مع المسامرة)) (165 – 167) ((إشارات المرام)) (ص: 56) ((شرح الفقه الأكبر)) للقاري (ص: 190) ((شرح الإحياء)) للزبيدي (2/ 13). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 قال الإمام ابن القيم: (وفصل الخطاب في المسألة أن النعمة المطلقة مختصة بأهل الإيمان لا يشركهم فيها سواهم ومطلق النعمة عام للخليقة كلهم برهم وفاجرهم مؤمنهم وكافرهم (1). المسألة الرابعة: هل الرسل والأنبياء عليهم السلام رسل وأنبياء حقيقة بعد موتهم أم لا؟ هذا الخلاف مبني على أصل المتكلمين من أن العرض لا يبقى زمانين فهؤلاء لما أصلوا هذا الأصل الفاسد وقعوا في مضيق وهو أن النبوة والرسالة من صفات الحي وصفات الحي أعراض فهل يكون النبي صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا بعد موته؟ 1ـ فقالت الكرامية: إنه ليس برسول الآن. وقالت الأشعرية وهو في حكم الرسول وحكم الشيء يقوم مقام أصل الشيء (2).قال أبو عذبة (هذا مذهب بعض العراقيين من الشافعية كالماوردي ونقل ابن حزم عن الأشعرية كلهم أنهم قالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رسول الله اليوم ولكنه كان رسول الله (3).ونقل أبو الوليد الباجي (474هـ) وابن حزم (456هـ) أن السلطان محمود بن سبكتكين (421هـ) سأل ابن فورك (406هـ) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (كان رسول الله وأما اليوم فلا) فأمر بقتله (4).وأنكر ذلك بعض الأشعرية فقالوا: إن هذا كذب وبهتان (5).3ـ قلت: في المسألة قول آخر للأشعرية وهو ما ذكره الإمام ابن القيم - رحمه الله - وسكت عليه تقي الدين السبكي (756) ونسبه ابنه التاج السبكي (771هـ) وأبو عذبة إلى ابن فورك وهو أنهم لما سلموا تلك القاعدة الفاسدة من أن العرض لا يبقى زمانين وأن الروح وصفات الحي من الأعراض القائمة بالحي مشروطة بالحياة فإذا انتفت الحياة لزمهم القول بزوال رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته ففرارا من هذا المحذور رقعوا قولهم ببدعة أخرى وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة دنيوية فلا يلزم زوال رسالته صلى الله عليه وسلم (6).   (1) (بدائع الفوائد)) (2/ 22) ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (ص: 36 - 37) و ((مدارج السالكين)) (1/ 19) وانظر ((المسايرة)) مع المسامرة)) (ص: 165 – 167). (2) انظر ((بحر الكلام)) (60 – 61) و ((نظم الفرائد)) (ص: 49) و ((الروضة البهية)) (ص: 13). (3) ((الفصل)) (5/ 84 - 85). (4) انظر ((الفصل)) (5/ 84) و (سير أعلام النبلاء)) (17/ 216) عن الباجي وأقره. (5) انظر ((طبقات الشافعية)) للسبكي (3/ 406) (4/ 130) و ((الروضة البهية)) (14 – 15) وتبديد الظلام للكوثري (154). (6) ((القصيدة النونية)) (129 – 130) ((السيف الصقيل)) (154 – 155) ((طبقات الشافعية)) للسبكي (4/ 130 – 133) ((توضيح المقاصد)) (2/ 150 – 155) ((توضيح الكافية الشافية)) (103 - 105) ((شرح النونية)) للدكتور هراس (2/ 5 - 7) و ((الروضة البهية)) (ص: 5). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 فبنوا فرعا فاسدا على أصل فاسد وهكذا حال كثير من أصول المتكلمين وفروعهم لأن فساد الأصل مستلزم لفساد الفرع لأن الأصل الفاسد كالأساس على شفا جرف هار فالبنيان عليه ينهار ولا بد. ولا يخفى فساد هذا الأصل الفاسد قال ابن حزم (إنما حملهم على هذا الكفر الفاحش قول لهم آخر في نهاية الضلال والانسلاخ من الإسلام وهو قولهم إن الأرواح أعراض تفنى ولا تبقى زمانين .. وإن كل واحد منا يبدل أزيد من ألف ألف روح في كل ساعة زمانية .. وإنه ليس لمحمد ولا لأحد من الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - عند الله روح ثابتة تنعم ولا نفس قائمة تكرم وهذا خروج عن إجماع أهل الإسلام فما قال أحد ممن ينتمي إلى الإسلام قبل أبي الهذيل العلاف ثم تلاه هؤلاء وهذا خلاف مجرد للقرآن وتكذيب لله عز وجل) ثم أطال في الرد عليهم على طريقته الخاصة في الإغارة والبطش (1).4ـ أما الماتريدية فصرحوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحال كما كان رسولا (2). وقالوا: إن المتصف بالرسالة والنبوة هو الروح والروح باق فهو رسول حقيقة. قلت: هذا قول مخالف للصواب لأنه لم يقل أحد من أهل الإسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم فحسب. تنبيه: ذكر أبو عذبة أن الخلاف في هذه المسألة على تقدير صحتها عن الأشعري خلاف لفظي (3). قلت: هذا باطل لأن هذا الخلاف خلاف في النفي والإثبات فهو خلاف حقيقي لا يمكن التوفيق بين قولي الأشعرية والماتريدية في نظري والله أعلم. غير أن القول بنفي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ونفي نبوته يلزم الماتريدية أيضا وإن لم يلتزموه لأن من أصول الماتريدية أيضا أن العرض لا يبقى زمانين قال أبو المعين النسفي: (بخلاف قوة المخلوقين لأن صفاتنا أعراض والعرض لا يبقى زمانين وقوة الله تعالى وقدرته ليست بعرض لا تنقطع ولا تنقضي .. ) (4).غير أننا نقول إن لازم المذهب ليس بمذهب إلا إذا عرفه صاحب المذهب والتزمه (5). فنحن لا تتهم الماتريدية بهذا اللازم لأن هذا خلاف العدل والعلم كما يفعله المعطلة في اتهامهم لأهل السنة باللوازم ظلما وجهلا مع أن تلك اللوازم ليست لوازم لمذهب أهل السنة في الحقيقة كاتهامهم لأهل السنة بأنهم مشبهة قائلون بالجهة لمجرد إثباتهم للصفات (6). تنبيه آخر:   (1) ((الفصل)) (5/ 85) وانظر أيضا لإبطال قولهم: العرض لا يبقي زمانين ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 51). (2) ((بحر الكلام)) (ص: 61) ((نظم الفرائد)) (ص: 49) ((الروضة البهية)) (ص: 13). (3) ((الروضة البهية)) (ص: 13). (4) ((بحر الكلام)) (ص: 20) ((العمدة)) لحافظ الدين النسفي (14/ب)، ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص: 86) ((النبراس)) (ص: 281). (5) ((القصيدة النونية)) (ص: 193 - 194) ((توضيح المقاصد)) (2/ 394 – 401) ((توضيح الكافية)) (ص: 15 – 157) ((شرح النونية)) للدكتور محمد خليل هراس (2/ 234 - 239) وراجع ((طبقات الشافعية)) للسبكي (3/ 413). (6) ((القصيدة النونية)) (ص: 193 - 194) ((توضيح المقاصد)) (2/ 394 – 401) ((توضيح الكافية)) (ص: 15 – 157) ((شرح النونية)) للدكتور محمد خليل هراس (2/ 234 - 239) وراجع ((طبقات الشافعية)) للسبكي (3/ 413). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 القول ببدعة حياة الأنبياء عليهم السلام حياة دنيوية هو مذهب الأشعرية كما سبق آنفا وأما قدماء الماتريدية فلم أجد لهم كلاما في ذلك لا نفيا ولا إثباتا ولكن المتأخرين منهم كالديوبندية والكوثرية والبريلوية فهم يقولون ببدعة القول بحياة الأنبياء عليهم السلام حياة دنيوية عنصرية.1ـ يقول الشيخ خليل أحمد السهارنفوري (1346هـ) أحد كبار أئمة الديوبندية في جواب سؤال (الجواب عندنا وعند مشايخنا حضرة الرسالة صلى الله عليه وسلم حي في قبره الشريف وحياته دنيوية من غير تكليف وهي حاصلة لسائر المؤمنين بل لجميع الناس كما نص عليه العلامة السيوطي في رسالته (إنباء الأذكياء بحياة الأنبياء) حيث قال: قال الشيخ تقي الدين السبكي: حياة الأنبياء والشهداء في القبر كحياتهم في الدنيا ولشيخنا شمس الإسلام والدين محمد قاسم العلوم على المستفيدين قدس الله سره العزيز في هذا المبحث رسالة مستقلة دقيقة المأخذ بديعة المسلك لم ير مثلها قد طبعت وشاعت في الناس واسمها (آب حيات) أي ماء الحياة (1).2ـ وصرح الشيخان أنور شاه الكشميري (1352هـ) وشبير أحمد العثماني (1369هـ) بأن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في قبره بأذان وإقامة (2).3ـ واحتج الشيخ محمد قاسم النانوتوي (1297هـ) إمام الديوبندية والشيخ رشيد أحمد الجنوجوهي (1323هـ) إمامهم الثاني والشيخ أشرف على التهانوي (1323هـ) الذي لقبوه بـ (حكيم الأمة) لإثبات هذه البدعة بأن تركه النبي صلى الله عليه وسلم لا تورث وأن أزواجه لا يحللن لأحد بعده فهذا دليل علي أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة عنصرية لكنه انعزل عن الناس كما ينعزل المعتكف أربعين يوما مثلا إلى آخر تلك الشبهات الواهيات (3).4ـ وقد استدل الكوثري لإثبات التوسل بالذات - التوسل البدعي - ببدعة القول بحياة الأنبياء عليهم السلام وهكذا الداجوي بل عامة القبورية (4).قلت: عقيدة الأشعرية والديوبندية والكوثرية من الماتريدية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة دنيوية - عقيدة باطلة خرافية مخالفة لصريح القرآن وعقيدة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسهم الصديق رفيق رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته الأول رضي الله عنهم فقد قال (بأبي أنت وأمي يا نبي الله لا يجمع الله عليك موتتين أما الموتة الأولى التي كتب عليك فقد متها) وفي رواية (طبت حيا وميتا والذي نفسي بيده! لا يذيقك الله الموتتين أبدا) ثم خطب وقال (أما بعد ألا من كان يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم فإن محمد قد مات ومن كان يعبد الله - فإن الله حي لا يموت) ثم استدل بقوله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ   (1) ((المهند على المفند)) (38 – 39) وانظر ((خرافات المدني في نقشه)) (ص: 103). (2) ((فيض الباري)) (1/ 83) ((فتح الملهم)) (3/ 419) ((عقائد أهل السنة)) (ص: 161). (3) انظر ((عقائد أهل السنة والجماعة الديوبندية)) (162 - 165) للمفتي عبد الشكور الديوبندي نقلا عن آب حيات 2 ((الكوكب الدري)) (1/ 423) ((الطهور)) (ص: 49). (4) انظر ((مقالات الكوثري)) (ص: 387) ((بصائر الداجوي الديوبندي)) (ص: 36 - 105). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 المبحث الثاني: الموازنة بين الماتريدية والمعتزلة وأما الاختلاف بين الماتريدية والمعتزلة فهو: اختلفوا في مصدر التلقي هل هو العقل أو النقل؟ فذهب المعتزل إلى أنه العقل، وتوسط الماتريدية فقالوا بالعقل فيما يتعلق بالإلهيات والنبوات وأما فيما يتعلق باليوم الآخر فمصدره السمع، كذا سموا هذه المسائل ونحوها بالسمعيات. الأسماء: أسماء الله عند المعتزلة ثابتة، ولكن بلا دلالة على الصفات، فقالوا: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر .. إلى آخره. وعند الماتريدية هي ثابتة بدلالاتها على الصفات الثابتة عندهم إلا اسم "الله" فليس له دلالة على شيء من الصفات. وقولهم باطل لا معنى له. الصفات: نفى المعتزلة جميع الصفات القائمة بذات الله تعالى. بينما أثبت الماتريدية ثمان صفات: العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والتكوين. القرآن: يعتقد المعتزلة أنه كلام الله محدث مخلوق. ويعتقد الماتريدية أنه كلام الله النفسي وأنه قديم أزلي غير مخلوق. أفعال العباد. نفت المعتزلة خلق الله لها وإرادته لها، وإنما هي من العباد، وأثبتت الماتريدية أنها خلق لله تعالى. وكسب من العباد لها. الاستطاعة: نفى المعتزلة أن تكون مع الفعل بل هي قبله، بينما أثبتتها الماتريدية قبل الفعل ومع الفعل. الرؤية: نفتها المعتزلة وأثبتتها الماتريدية. الجنة والنار: غير مخلوقتين ولا موجودتين الآن عند المعتزلة، بل تنشأ في يوم القيامة، وقالت الماتريدية بخلقهما الآن. ينفي المعتزلة نعيم القبر وعذابه والميزان والصراط والحوض والشفاعة لأهل الكبائر. وأثبتت الماتريدية كل ذلك لورود السمع به. نفت المعتزلة كرامات الأولياء وأثبتتها الماتريدية. الإيمان عند المعتزلة قول واعتقاد وعمل، وعند الماتريدية هو التصديق بالقلب، ومنهم من زاد الإقرار باللسان. مرتكب الكبيرة في منزله بين المنزلتين عند المعتزلة في الدنيا، وأما في الآخرة فهو في النار , وعند الماتريدية هو مؤمن كامل الإيمان مع أنه فاسق بمعاصيه , وفي الآخرة هو تحت المشيئة. لا يصح إيمان المقلد عند المعتزلة، وذهب الماتريدية إلى صحته مع الإثم على ترك الاستدلال. عند المعتزلة الإيمان يزيد وينقص، لإدخالهم الأعمال في مسمى الإيمان، وأما المسائل التي وافقت فيها الماتريدية المعتزلة فهى كما يلي: القول بوجوب معرفة الله تعالى بالعقل. الاستدلال على وجود الله بدليل الأعراض وحدوث الأجسام. الاستدلال على وحدانية الله تعالى بدليل التمانع. القول بعدم حجية خبر الآحاد في العقائد. نفي الصفات الخبرية والاختيارية. القول بعدم إمكان سماع كلام الله. القول بالحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى. القول بالتحسين والتقبيح العقليين. عدم جواز التكليف بما لا يطاق. منع الاستثناء في الإيمان. القول بأن معنى الإيمان والإسلام واحد (1) وفيما سبق يتضح أن فرقة الماتريدية لم تنهج منهج السلف فيما يتعلق بالأمور الاعتقادية، وأن من وصفهم بأهل السنة أو العقيدة السلفية فقد بالغ في ذلك وجانب الحكم الصحيح. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي3/ 1233 - 1235 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 الفصل السادس: الرد على الماتريدية • المبحث الأول: الرد على الماتريدية في عدم الاحتجاج بخبر الآحاد في العقيدة . • المبحث الثاني: الرد على تفويض الماتريدية للصفات. • المبحث الثالث: الرد على الماتريدية في باب الأسماء والصفات. • المبحث الرابع: الرد على الماتريدية في تعطيل صفة العلو. • المبحث الخامس: الرد على الماتريدية في تعطيلهم لصفة استواء الله تعالى على عرشه. • المبحث السادس: الرد على الماتريدية في تعطيلهم لصفة "نزول" الله إلى السماء الدنيا. • المبحث السابع: الرد على الماتريدية في تعطيلهم لصفة "اليدين" لله تعالى وتحريفهم لنصوصها. • المبحث الثامن: الرد على الماتريدية في تعطيلهم لصفة الكلام. • المبحث التاسع: الرد على قولهم بخلق أسماء الله الحسنى. • المبحث العاشر: الرد على الماتريدية في تفسيرهم لصفة "الألوهية" "بصفة" "الربوبية". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 المبحث الأول: الرد على الماتريدية في عدم الاحتجاج بخبر الآحاد في العقيدة إن موقف الماتريدية من أخبار الآحاد مركبٌ من المقدمات الثلاث - كما سبق-: 1 - أخبار الآحاد ظنية لا تفيد اليقين. 2 - لا يحتج بها في باب الاعتقاد، وتصلح للعمليات. 3 - إن وردت في مخالفة العقل؛ فإن كانت نصاً ترد، وإلا يفوض مرادها أو تؤول إلى ما يوافق العقل. ونحن نعارض الماتريدية في جميع هذه المقدمات معارضة علمية على وجه البصيرة بتوفيق الله تعالى فنقول: أولاً: القول بعدم الاحتجاج بأخبار الآحاد في العقيدة قولٌ مبتدع مخالفٌ لطريقة السلف المتوارثة ولاسيما منهج الإمام أبي حنيفة وأصحابه الأوائل. ثانيا: أحاديث الصفات ليست أخبار الآحاد، بل هي من قبيل المشهورات والمتواترات فلا يصح زعمكم أنها ظنية. ثالثا: أحاديث الصفات ليست أخبار الآحاد مجردة بل هي موافقة لكتاب الله والعقل الصريح والفطرة السليمة في الدلالة على صفات الله تعالى فلا يصح قولكم: إنها ظنية. ورابعاً: القول بظنية أخبار الآحاد، هكذا مطلق العنان - لا يصح لأن أخبار الآحاد المحتفة بقرائن الصحة - بجميع أنواعها - مفيدةٌ للعلم اليقيني فهي كالمشهورات والمتواترات كل ذلك باعترافكم. وخامساً: لو سلمنا مقدماتكم - على سبيل فرض المحال - لنقولُ: إن المراد من العمل أعم من عمل الجوارح، فيشمل عمل القلب، فصح الاحتجاج بخبر الواحد في باب العقيدة حتى باعترافكم أيضاً. الوجه الأول: أن القول بأن أخبار الآحاد ظنية لا تصلح لإثبات العقيدة والفرق بين أبواب العقيدة، وبين أبواب الأحكام وأن أخبار الآحاد تصلح للأحكام دون العقائد - قول مبتدع في الإسلام ابتدعه طوائف الجهمية من المتكلمين ثم دب إلى بعض الأصوليين والفقهاء. وأنه مخالف لما أجمع عليه الصحابة والتابعون ومن بعدهم من أئمة هذا الدين. حيث يحصل لهم العلم من تلك الأحاديث الصحيحة الصريحة التي رويت من طريق الثقات الأثبات، ولو سلمنا أنها لا تفيد العلم اليقيني - كما هو زعم المتكلمين - لا نسلم هذه التفرقة: من أن أخبار الآحاد تصلح لإثبات الأحكام العملية ولا تصلح للمباحث العقدية العلمية. لأن هذه التفرقة هي خلاف ما أجمع عليه السلف بل هذه التفرقة أصل من أصول الضلال. 1 - قال إمام عصره المجمع على إمامته أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني (489هـ) جد صاحب الأنساب: قولهم: إن أخبار الآحاد لا تقبل فيما طريقه العلم - رأي سمعت به المبتدعة في رد الأخبار. إذ أن الخبر إذا صح ورواه الثقات والأئمة، وتلقته الأمة بالقبول فإنه يوجب العلم، وهذا قول عامة أهل الحديث والمتقنين من القائمين على السنة. وأما هذا القول المبتدع فقول القدرية والمعتزلة، وكان قصدهم منه رد الأخبار. وتلقفه منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم في العلم قدم ثابت، ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول، ولو أنصف أهل الفرق من الأمة لأقروا بأن خبر الواحد قد يوجب العلم. ثم ذكر الإمام السمعاني أدلة قاطعة على ذلك وبين بالحجج الدامغة أن منهج النقد عند المحدثين منهج متين رصين، لا يغادر للظنين طنيناً بل يورث يقيناً (1). 2 - وقال ابن القيم على سبيل التسليم: "إن هذه الأخبار لو لم تفد اليقين فإن الظن الغالب حاصل منها ولا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطلبية بها.   (1) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 504 - 508) عن كتاب ((الانتصار)) لأبي المظفر السمعاني باختصار، وأقره الكوثري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 فما الفرق بين باب الطلب وباب الخبر؟ بحيث يحتج بها في أحدهما دون الآخر؟ وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة، فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث في الخبريات العلميّات كما تحتج بها في الطلبيات العمليّات، ولا سيما أن الأحكام العملية، تتضمن الخبر عن الله بأنه شرع كذا وأوجبه، ورضيه ديناً، فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته. ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم، وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام، ولم ينقل عن أحد منهم البتة أنه جوّز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الإخبار عن الله، وأسمائه وصفاته. فأين سلف المفرّقين بين البابين؟. نعم سلفهم بعض متأخري المتكلمين الذين لا عناية لهم بما جاء عن الله، ورسوله وأصحابه، بل يصدون القلوب عن الاهتداء في هذا الباب بالكتاب، والسنة وأقوال الصحابة ويحيلون على آراء المتكلمين، وقواعد المتكلفين، فهم الذين يعرف عنهم هذا التفريق بين الأمرين ... ؛وهذا التقسيم أصل من أصول ضلال القوم. فإنهم فرّقوا بين ما سموه أصولاً وما سموه فروعاً، وسلبوا الفروع حكم الله المعين فيها، ... ، وجعلوا ما سموه أصولاً من أخطأ فيه عندهم فهو كافرٌ أو فاسق، وادعو بالإجماع على هذا التفريق" (1). 3 - وقال الإمام ابن القيم أيضاً: ونحن نشهد بالله ولله شهادةً على البت والقطع أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يجزمون بما يحدث به أحدهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يقل أحد منهم لمن حدثه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: خبرك خبر واحدٍ لا يفيد العلم حتى يتواتر؛ ولم يكن أحد من الصحابة ولا أحد من أهل الإسلام بعدهم يشك فيما أخبر به أبو بكر الصديق، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي ولا عبدالله بن مسعود، ولا غيرهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل كانوا لا يشكون في خبر أبي هريرة رضي الله عنه، مع تفرده بكثير من الحديث ولم يقل أحد منهم يوماً واحداً من الدهر: خبرك هذا خبر واحد لا يفيد العلم. وكان حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجل في صدورهم من أن يقابل بذلك، وكان أحدهم إذا روى لغيره حديثاً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الصفات تلقاه بالقبول، واعتقد تلك الصفة على القطع واليقين، كما اعتقدوا رؤية الرب وتكليمه ونداءه يوم القيامة لعباده بالصوت الذي يسمعه البعيد كما يسمعه القريب ونزوله إلى السماء الدنيا كل ليلة وضحكه، وفرحه، وإمساك سماواته بإصبع من أصابع يده، وإثبات القدم له سبحانه وتعالى. ومن سمع هذه الأحاديث ممن حدث بها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو عن أحد من الصحابة "رضي الله عنهم" اعتقد ثبوت مقتضاها بمجرد سماعها من العدل الصادق ولم يرتب فيها قط. إلى أن قال ابن القيم: حتى إن الصحابة ربما يَتَثَّبتونَ في بعض أحاديث الأحكام حتى يستظهروا بآخر؛ أما أحاديث الصفات فلم يطلب أحد منهم الاستظهار فيها البتة، بل كانوا أعظم مبادرةً إلى قبولها وتصديقها والجزم بمقتضاها، ومن له أدنى إلمام بالسنة والالتفات إليها - يعلم ذلك دون شك، ولولا وضوح الأمر في ذلك كالشمس في رابعة النهار لذكرنا أكثر من مائة موضع.   (1) ((مختصر الصواعق)) (2/ 509 - 510)، باختصار الطبعة الجديدة، و (2/ 412 - 413)، الطبعة القديمة و (489) ط دار الكتب العلمية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 فهذا الذي اعتمده نفاة العلم عن أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم- خرقوا به إجماع الصحابة المعلوم بالضرورة، وإجماع التابعين، وإجماع أئمة الإسلام؛ ووافقوا به المعتزلة، والجهمية، والرافضة، والخوارج الذين انتهكوا هذه الحرمة، وتبعهم بعض الأصوليين، والفقهاء، وإلا فلا يعرف لهم سلف في الأئمة بذلك بل صرح الأئمة بخلاف قولهم. ثم أفاض الإمام ابن القيم في نقل إجماع الأئمة على ذلك ولاسيما الأئمة الثلاثة مالك، والشافعي، وأحمد، وأصحاب الإمام أبي حنيفة، وغيرهم (1).4 - وقد ذكر ابن عبدالبر الإجماع على قبول خبر الواحد في العقائد وله كلام قيم في بيان منهج السلف في العقيدة ولاسيما في الصفات فارجع إليه (2). الوجه الثاني: أن نعارض الماتريدية بمنهج الإمام أبي حنيفة وأصحاب الأوائل في مصدر تلقي العقيدة فإن منهجهم في تلقي العقيدة أنهم يأخذون العقيدة عن كتاب الله تعالى والسنة الصحيحة بما فيها أخبار الآحاد، كما يستخدم الإمام دليل الفطرة الصحيحة السليمة أيضاً. فلا يوجد في منهج الإمام وأصحابه شيء مما زعمه هؤلاء المتكلمون: من أن ظواهر النصوص أدلة لفظية ظنية أو أخبار الآحاد ظنية لا تثبت بها العقيدة، بل نجد عندهم خلاف ما عند هؤلاء المتكلمين. إذاً فهم خارجون جهاراً على أئمتهم مخالفون لمنهجهم في تلقي العقيدة. وأنهم مبتدعون في تفريقهم حول أخبار الآحاد: من أنها تفيد العمل ولا تفيد العلم ومخالفون لإمامهم في آنٍ واحدٍ فليسوا أهل السنة. وها هي نماذج من نصوص الإمام أبي حنيفة وبعض كبار أصحابه. 1 - قال الإمام أبو حنيفة: "من قال: لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض فقد كفر. وكذا من قال: إنه على العرش ولا أدري العرش في السماء أو في الأرض؟.والله يدعى من أعلى لا من أسفل لأن الأسفل ليس من وصف الربوبية والألوهية في شيء وعليه ما روي في الحديث، أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بأمة سوداء فقال: وجب علّي عتق رقبة مؤمنة أفتجزئ هذه فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((أمؤمنة أنتِ فقالت: نعم فقال: أين الله فأشارت إلى السماء، فقال: (أعتقها فإنها مؤمنة)) (3). قلت: أيها المسلم! هذا نص أبي حنيفة بشهادة الحنفية الماتريدية جميعاً وعلى آخرهم الكوثري فقد ترى أن الإمام استدل في أكبر مسألة، وأوضحها في العقيدة - وهي العلو لله تعالى واستوائه على عرشه- بدليل الفطرة، وحديث الجارية اللذين تلاعب بهما المتكلمون وعلى رأسهم الكوثري أنواع التلاعب، ولم يكتف الإمام بإثبات علو الله تعالى بل كفّر من أنكر ذلك أو شك فيه، وفي ذلك عبرة للمتكلمين عامة وللماتريدية خاصة. ولا شك أن حديث الجارية خبر الواحد وإن قيل بتواتره.   (1) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (3/ 473 - 475)، ولعل كلام ابن القيم هذا مأخوذ من كلام الإمام أبي المظفر السمعاني في كتابه ((الانتصار)) انظر نص كلام السمعاني في ((مختصر الصواعق)) (2/ 504 - 508)، الطبعة الجديدة، و (2/ 405 - 412)، الطبعة القديمة و (ص 485 - 488)، ط دار الكتب العلمية. (2) انظر المختبر المبتكر المعروف ((بشرح الكوكب المنير)) لابن النجار الفتوحي الحنبلي (2/ 352)، عن ابن عبدالبر، وانظر ((جامع بيان العلم وفضله)) (ص 417) و ((التمهيد)) / لابن عبدالبر (7/ 145، 158). (3) رواه مسلم (1227). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 2 - وقال الإمام محمد بن الحسن رحمه الله:"اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على أن الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تفسير، ولا وصف ولا تشبيه فمن فسر اليوم شيئاً من ذلك فقد خرج عما كان عليه النبي"؛ وفارق الجماعة فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا، فمن قال بقول الجهم فقد فارق الجماعة؛ لأنه قد وصفه بصفة لا شيء (1). تفكر أيها المسلم: في كلام هذا الإمام، فإنه مشتمل على الأمور الثلاثة على الأقل: الأول: الإجماع على إثبات الصفات لله التي جاء بها الكتاب والأحاديث المروية عن طريق الثقات. الثاني: الإجماع على إثبات الصفات بالأحاديث بدون تقييد كونها متواترةً أو مشهورةً أو أخبار الآحاد بعد أن كانت صحيحةً مرويةً عن الثقات. الثالث: الإجماع على الإيمان بصفات الله تعالى من غير تكييف ولا تشبيه ولا تفسير الجهمية وتأويلهم الذي هو عين التحريف والتعطيل المؤدي إلى كون الله تعالى موصوفاً بصفة لا شيء لأن نفي علو الله والقول بأنه لا فوق ولا تحت ولا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا ومنفصل عنه صفة معدوم بل ممتنع كما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى."هذه الأحاديث قد روتها الثقات فنحن نرويها ونؤمن بها ولا نفسرها" (2). فهذا نص صريح في إثبات الصفات بالأحاديث التي رويت عن الثقات بدون قيد التواتر فيصح الأخذ في باب العقيدة بالسنة بعد أن كانت صحيحة مروية عن طريق الثقات وهذا هو منهج السلف الصالح، ولاسيما أئمة الحنفية وفي ذلك عبرة للماتريدية أيما عبرة.   (1) رواه اللالكائي في ((شرح أصول الاعتقاد)) (3/ 432 - 433)، والموفق بن قدامه في ((إثبات العلو)) (ص 117)، ومن طريقه الذهبي في ((العلو)) (ص 113)، وفي إسناده كلام ونقله شيخ الإسلام في ((الحموية)) (ص 54) و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 50) و ((ضمن مجموعة الرسائل الكبرى)) (1/ 446 - 447)، وحكم بثبوته في ((مجموع الفتاوى)) (4/ 4 - 5)، وابن القيم في ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (ص 222 - 223) والحافظ في ((الفتح)) (3/ 407)، وأقره، والكوثري في ((بلوغ الأماني)) (ص 53 - 54)، وتعليقاته على ((الأسماء والصفات)) (ص 314) غير أنه حمله على التفويض فحرف مراد السلف ونقله أيضاً أبو الخير الماتريدي في ((عقيدة الإسلام)) (ص 240)، وأقره وذكره السيوطي في ((الإتقان)) (3/ 13)، وأبو المعين في ((بحر الكلام)) (ص 26)، مختصراً وحمله أيضاً على التفويض وقد عرفت أن تفويضهم تقول وتقويل. (2) رواه اللالكائي في ((شرح أصول الاعتقاد)) (3/ 433)، وذكره أبو الخير في ((عقيدة الإسلام)) وأقره والكوثري ذكره في ((بلوغ الأماني)) (ص 53)، واستدل به على التفويض المزعوم الباطل ولكن قد ذكرنا مراراً أن مراد السلف في قولهم: نمرها كما جاءت أو قولهم: "لا نفسرها" نفي تأويلات الجهمية وتحريفاتهم وليس مرادهم أنهم لا يعرفون معاني هذه النصوص كما قالوا ذلك في نصوص الرؤية، وانظر ((العقيدة الطحاوية)) مع شرحها لابن أبي العز (2/ 186 - 196). وكلام الطحاوي الآتي ريح مريح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 4 - وقال الإمام الطحاوي فيما ذكره عن الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، الإمامين أبي يوسف، ومحمد رحمهم الله في أحاديث الرؤية:"وكل ما جاء من ذلك من الحديث الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو ما قال: ومعناه، على ما أراد الله تعالى، ولا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا" (1).5 - وقال: "وجميع ما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الشرع والبيان كله حق" (2). فهذا النص كما ترى ينادي بأندى الصوت أن الحديث بعد ما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستدل به على إثبات العقيدة من دون قيد التواتر والشهرة فثبت ثبوتاً واضحاً كفلق الصبح بل كالشمس في رابعة النهار أن منهج الماتريدية كغيرهم من المتكلمين منهج مبتدع مخالف لمنهج السلف، عامة ولاسيما الإمام أبي حنيفة وأصحابه الأوائل. فوا عجباً للحنفية الماتريدية حيث يتهالكون في تقليد الإمام أبي حنيفة رحمه الله في المسائل الفقهية، ولو كانت مخالفةً للكتاب والسنة الصحيحة المحكمة الصريحة مع نهي الإمام أبي حنيفة رحمه الله وغيره من الأئمة عن مثل هذا التقليد الأعمى حتى باعتراف الحنفية (3) وينبذون أصول هذا الإمام ومنهجه ومنهج أصحابه الأئمة الأوائل في باب العقيدة وراءهم ظهريا، وفي ذلك عبرة، فهل من معتبر؟ فلو كانوا حنفية كاملة على تعبير العلامة عبدالحي اللكنوي، لما نبذوا منهج الإمام وأصحابه الأوائل هكذا بالمرة. مع أن أبواب الاعتقاد أهم من الأحكام فخروجهم على الإمام أبي حنيفة في الأصول وتشبثهم بأقواله في الفروع، ولو كانت مخالفة للأحاديث الصحيحة من عجب العجاب!.6 - هذا، وللإمام ابن أبي العز الحنفي كلام مهم في شرح قول الطحاوية فارجع إليه (4). الوجه الثالث:   (1) ((العقيدة الطحاوية بحواشي ابن مانع)) (ص 9)، و ((بحواشي الألباني)) (ص 26 - 27)، و ((بشرح ابن أبي العز الحنفي)) (ص 203 - 204)، و ((بشرح الغنيمي الماتريدي) (ص 70 - 71). (2) انظر ((العقيدة الطحاوية بحواشي ابن مانع)) (ص 17)، و ((بحواشي الألباني)) (ص 43)، و ((شرح ابن أبي العز الحنفي)) (ص 373)، و ((شرح الطحاوية للغنيمي الحنفي الماتريدي)) (ص 99). (3) انظر: كلاماً مهماً فيها حول أنواع التقليد الأربعة المذمومة عند الإمام الشاه ولي الله الدهلوي الحنفي رحمه الله في ((حجة الله البالغة)) (1/ 154 - 156)، و ((الإنصاف)) (97/ 102)، وسكت عليه أبو غدة، وانظر أيضاً لبيان تلاعب المقلدين الجامدين بالأحاديث إلى ((توجيه النظر)) للجزائري (ص 130 - 131). (4) انظر ((شرح الطحاوية)) (ص 398 - 400) المكتب، و (ص 391 - 395)، البيان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 أن عامة أحاديث الصفات ليست أخبار آحادٍ - كما يزعم من لم يجمع طرفها ولم يعش معها، لأن أحاديث الصفات إما متواترة لفظاً ومعنى، أو معنى فقط، أو مشهورة، فلا يصح زعمهم: "أنها أخبار آحادٍ وهي ظنية لا تثبت بها العقيدة". لأنها ليست أخبار آحادٍ باصطلاح الحنفية الماتريدية واعترافهم بل هي فوق أخبار الآحاد في المنزلة وإفادة العلم، فقد صرحوا بأن المتواتر يوجب اليقين بلا شكٍ عندهم، وأما المشهور فيوجب علم الطمأنينة؛ فيجوز الزيادة به على كتاب الله عندهم، والمشهور في حيز المتواتر، بل قد صرح الإمام أبو بكر الجصاص الحنفي بأن المشهور قسم من المتواتر؛.فقد صرح الحنفية بأن حديث الرجم وأحاديث المسح على الخفين، ونحوها مما كان أخبار الآحاد في القرن الأول ثم اشتهر فصار من المشهور في القرن الثاني والثالث (1) ومثل هذا يثبت به العقيدة حتى باعترافهم هم وشهادتهم بلسانهم وبنانهم. فقد قال الإمام شمس الأئمة السرخسي الحنفي رحمه الله (490هـ): "فأما الآثار المروية في عذاب القبر، ونحوها فبعضها مشهورة، وبعضها آحاد وهي توجب عقد القلب ... " (2).ومثله بنصه قوله الإمام صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود الحنفي (747هـ): "فيكفي له خبر الواحد وفي هذا نظر لأنه يجب أن لا يختص هذا بأحكام الآخرة بل يكون كل الاعتقاديات كذلك" (3). ثم لم يجب عن هذا الإشكال وهذا يدل على أنهم عملوا قوة هذه الأخبار ولو كانت أخبار آحاد. الحاصل: أنه لما أنه لما كان غالب أحاديث الصفات إما متواتراً لفظاً ومعنى أو معنى فقط، أو مشهوراً - وهذه الأنواع أعلى مرتبة من أخبار الآحاد؛ فالمتواتر يفيد العلم القطعي اليقيني، والمشهور يفيد علم الطمأنينة، وكلا النوعين تثبت به العقيدة عند الحنفية الماتريدية - لم يصح دعواهم حول أحاديث الصفات أنها ظنية بحجة أنها أخبار الآحاد؛ فإن دعواهم بهذا الإطلاق والعموم منهدمة على عروشها منهارة على أسسها، وهذا واضح جداً، فدعواهم هذه كما تدل على استخفافهم بالنصوص وتقديم العقول الفاسدة عليها، كذلك تدل على جهلهم بالنصوص وبعدهم عنها؛ لأن أحاديث الصفات ليست كلها أخبار آحاد بل غالبها متواتر. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "والأخبار المقبولة في باب الأمور الخبرية العلمية أربعة أقسام: أحدها: متواتر لفظاً ومعنى. والثاني: أخبار متواترة معنى، وإن لم تتواتر بلفظ واحد. والثالث: أخبار مستفيضة متلقاة بالقبول بين الأمة.   (1) ((مختصر الحسامي مع شرحه للمولوي)) (ص 288)، و ((المغني للخبازي)) (ص 193)، و ((المنار مع شرحه كشف الأسرار)) كلاهما لحافظ الدين النسفي (2/ 3). (2) ((أصول السرخسي)) (1/ 329). (3) ((التوضيح شرح التنقيح)) كلاهما لصدر الشريعة (2/ 4) مع تلويح التفتازاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 والرابع: أخبار آحاد مروية بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط عن مثله حتى تنتهي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.فأما القسمان الأولان: فكالأخبار الواردة في عذاب القبر، والشفاعة، والحوض، ورؤية الرب تعالى، وتكليمه عباده يوم القيامة، وأحاديث علوه فوق سماواته على عرشه، وأحاديث إثبات العرش ... ونحو ذلك مما يعلم بالاضطرار أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاء بها كما يعلم بالاضطرار أنه جاء بالتوحيد وفرائض الإسلام وأركانه، وجاء بإثبات الصفات للرب تبارك وتعالى - فإنه ما من باب من هذه الأبواب إلا وقد تواتر فيه المعنى المقصود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- تواتراً معنوياً لنقل ذلك عنه بعبارات متنوعة من وجوه متعددة يمتنع في مثلها في العادة التواطؤ على الكذب عمداً أو سهواً ... أفادت العلم اليقيني ... وهذا عند أهل الحديث أعظم من علم الأطباء بوجود بقراط وجالينوس فإنهما من أفاضل الأطباء، وأعظم من علم النحاة بوجود سيبويه، والخليل، والفراء، وعلمهم بالعربية،، لكن أهل الكلام وأتباعهم في غاية قلة المعرفة بالحديث وعدم الاعتناء به وكثير منهم بل أفضلهم عند أصحابه لا يعتقد أنه روي في الباب الذي يتكلم فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء أو يظن أن المروي فيه حديث أو حديثان كما تجده لأكابر شيوخ المعتزلة، كأبي الحسين البصري الحنفي يعتقد أنه ليس في الرؤية إلا حديث واحد وهو حديث جرير، ولم يعلم أنه فيها ما يقارب ثلاثين حديثاً؛ وقد ذكرناها في كتاب (صفة الجنة) (حادي الأرواح) (1). فإنكار هؤلاء لما عليه أهل الوراثة النبوية من كلام نبيهم أقبح من إنكار ما هو مشهور من مذاهب الأئمة عند أتباعهم. وما يعلم أن كثيراً من الناس قد تطرق سمعه هذه الأحاديث ولا تفيده علماً، لأنه لم تجتمع طرقها وتعددها واختلاف مخارجها من قبله. فإذا اتفق له إعراضٌ أن نفرةٌ عن رواتها، وإحسان ظن بمن قال بخلافها. أو تعارض خيال شيطاني فهناك يكون الأمر كما قال الله تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت:44]. فلو كانت أضعاف ذلك لم تحصل لهم إيماناً ولا علماً ... فإذا اجتمع في قلب المستمع لهذه الأخبار العلم بطريقها ومعرفة حال رواتها وفهم معناها - حصل له العلم الضروري، الذي لا يمكن رفعه؛ ولهذا كان جميع أئمة الحديث - الذين لهم لسان صدق في الأمة - قاطعين بمضمون هذه الأحاديث شاهدين بها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جازمين بأن من كذب بها أو أنكر مضمونها فهو كافر مع علم من له إطلاع على سيرتهم وأحوالهم بأنهم من أعظم الناس صدقاً وأمانةً وديانةً، وأوفرهم عقولاً وأشدهم تحفظاً وتحرياً للصدق ومجانبة للكذب وأن أحداً منهم لا يحابي في ذلك أباه ولا ابنه ولا شيخه، ولا صديقه، وأنهم حرروا الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحريراً لم يبلغه أحدٌ سواهم لا من الناقلين عن الأنبياء ولا عن غير الأنبياء وهم شاهدوا شيوخهم على هذه الحال وأعظم وأولئك شاهدوا من فوقهم كذلك وأبلغ حتى انتهى الأمر إلى من أثنى الله عليهم أحسن الثناء وأخبر برضاه عنهم واختياره لهم واتخاذه إياهم شهداء على الأمم يوم القيامة.   (1) ((حادي الأرواح)) (ص 337 - 373). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 ومن تأمل ذلك أفاده علماً ضرورياً بما ينقلونه عن نبيهم أعظم من كل علم تنقله كل طائفة عن صاحبها، وهذا أمر وجداني عندهم، لا يمكنكم جحده؛ بل هو بمنزلة ما تحسونه من الألم واللذة والحب والبغض، حتى إنهم يشهدون بذلك ويحلفون عليه، ويباهون من خالفهم عليه. وقول هؤلاء القادحين في الأخبار والسنن: "يجوز أن يكون رواة هذه الأخبار كاذبين أو غالطين" بمنزلة قول أعدائه: "يجوز أن يكون الذي جاء به شيطاناً كاذباً" ... فإن أنكروا حصوله لأنفسهم لم يقدح ذلك في حصوله لغيرهم، وإن أنكروا حصوله لأهل الحديث، كانوا مكابرين لهم ... والمناظرة إذا انتهت إلى هذا الحد لم يبق، فيها فائدة وينبغي العدول إلى ما أمر الله به ورسوله -صلى الله عليه وسلم- من المباهلة، قال الله تعالى: فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61] (1). قلت: رحم الله ابن القيم الإمام وشيخ الإسلام ورفعهما مكانا عليّا؛ فقد عرفا حقيقة هؤلاء المتكلمين من المعتزلة، والماتريدية والأشعرية أفراخ الجهمية المعطلة. الوجه الرابع: أن نقول: لو سلمنا أن أحاديث الصفات أخبار آحادٍ، لكن لا نسلم أنها أخبارُ أحادْ مجردةٌ ظنيةٌ، بل هي قطعيةٌ، لأنها موافقة لكتاب الله تعالى، والعقل الصريح والفطرة السليمة، وإجماع السلف في الدلالة على صفات الله تعالى، كعلو الله تعالى على خلقه، واستوائه، على عرشه، ووجهه الكريم، ويديه، ورضاه، وغضبه، ومحبته وكراهيته، وغيرها من صفات الله تعالى، التي تنفى حقائقها الماتريدية ويحرفون نصوصها؛ فقد جاءت بها نصوص كتاب الله كما جاءت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فحينئذ لا يصح زعمهم: "أن تلك الأحاديث أخبارُ آحادٍ وهي ظنية، لا تثبت بها العقيدة" لأن أحاديث الصفات ليست مجردة عن موافقتها العقل الصريح والفطرة السليمة، وإجماع السلف ومطابقتها لكتاب الله؛ ولأن تلك الصفات ثابتة بنصوص كتاب الله تعالى الصريحة مع موافقتها للعقل الصريح والفطرة السليمة، وإجماع السلف، فيكون مجييء الأحاديث بتلك الصفات من قبيل توافر الأدلة، وتواردها على مدلول واحد، وفيما يلي نبذة من كلام أئمة السنة: 1 - قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "هذه الأخبار الصحيحة في هذا الباب يوافقها القرآن ويدل على مثل ما دلت عليه، فهي مع القرآن بمنزلة الآية مع الآية والحديث مع الحديث، المتفقين وهما كما قال النجاشي في القرآن: "إن هذا والذي جاء به موسى من مشكاةٍ واحدة"؛ ومعلوم أن مطابقة هذه الأخبار للقرآن وموافقتها له أعظم من مطابقة التوراة للقرآن. فلما كانت الشهادة بأن هذه الأخبار والقرآن يخرجان من مشكاة واحدة فنحن نشهد لله على ذلك شهادةً على القطع والبت إذا شهد خصومنا شهادة الزور أنها تخالف العقل. وما يضرها أن تخالف العقول المنكوسة إذا وافقت الكتاب وفطرة الله التي فطر عباده عليها والعقول المؤيدة بنور الوحي. وكذلك شهادة ورقة بن نوفل بموافقة القرآن لما جاء به موسى ... كان قوله: المبطل: "هذه الأحاديث لا تفيد العلم" - بمنزلة قول من قال في قصص القرآن "إنها لا تفيد العلم".   (1) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (ص 470 - 472)، الطبعة الجديدة و (2/ 355 - 359)، الطبعة القديمة و (ص 453 - 455)، ط/ دار الكتب العلمية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 وهكذا قال المبطلون سواء وإن اختلفت جهة إبطال العلم، عندهم من نصوص الوحي فنصوص القرآن لا تفيد علماً من جهة الدلالة، وهذه لا تفيد علماً من هذه الجهة ومن جهة السند، وهذا إبطال لدين الإسلام رأساً. بل ذكر هذه الأحاديث بمنزلة ذكر أخبار المعاد، والجنة، والنار التي شهدت بما شهد به القرآن ... ، وهل يخفى على ذي العقل السليم أن تفسير القرآن بهذه الطرق خير مما هو مأخوذ عن أئمة الضلال، وشيوخ التجهم، والاعتزال ... وأضرابهم من أهل التفرق، والاختلاف الذين أحدثوا في الإسلام ضلالاتٍ وبدعاً؛ وفرقوا دينهم وكانوا شيعاً .. ؛ فإذا لم يجز تفسير القرآن وإثبات ما دل عليه وحصول العلم اليقين بسنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصحيحة الثابتة وكلام الصحابة وتابعيهم - أفيجوز أن يرجع في معاني القرآن إلى تحريفات جهم وشيعته؟ .. من كل أعمى أعجمي القلب واللسان بعيد عن السنة والقرآن مغمور عند أهل العلم والإيمان"؟ (1). 2 - 5 - وقال الحافظ ابن حجر: (تنبيهان): أحدهما: الذي يظهر من تصرف البخاري في كتاب (التوحيد)، أنه يسوق الأحاديث التي وردت في الصفات المقدسة فيدخل كل حديث منها في باب يؤيده بآية من القرآن بلا إشارة إلى خروجها من أخبار الآحاد، على طريق التنزل في ترك الاحتجاج بها في الاعتقادات، وأن من أنكرها خالف الكتاب والسنة جميعاً. وقد أخرج ابن أبي حاتم في كتاب (الرد على الجهمية)، بسند صحيح عن سلام بن أبي مطيع وهو شيخ شيوخ البخاري أنه ذكر المبتدعة فقال: "ويلهم ماذا ينكرون من هذه الأحاديث والله ما في الحديث شيء إلا وفي القرآن مثله؛ يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:75] لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ [عمران:28]. وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67] تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] ونحو ذلك فلم يزل - أي سلام بن أبي مطيع- يذكر الآيات من العصر إلى غروب الشمس" (2). 6 - وللخطيب البغدادي كلام في مثل هذه المعنى يأتي نص كلامه قريباً إن شاء الله.7 - 8 ومثله كلام للإمام أبي محمد أحمد بن عبدالله المفضلي المزني (356هـ). رواه عنه البيهقي بإسناده إليه، وأقره (3).9 - ولإمام الأئمة ابن خزيمة (311 هـ) كلام مهم أيضاً (4).10 - وقال ابن القيم: ولهذا كان أئمة السلف يذكرون الآيات ثم الأحاديث كما فعل البخاري ومن قبله ومن بعده، فإن الإمام أحمد وابن راهويه وغيرهما يحتجون على صحة ما تدل عليه أحاديث النزول والإتيان ونحوها بالقرآن (5). الحاصل: أن أخبار الصفات الصحيحة يؤيدها كتاب الله، فهي تفيد العلم اليقيني ويثبت بها الاعتقاد. الوجه الخامس: أن نقول: إن أحاديث الصفات لو سلم أنها أخبارُ آحادٍ؛ لكن لا نسلم أنها ظنيةٌ لا تفيد اليقين ولا تثبت بها العقيدة.   (1) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (ص 455 - 456)، الطبعة الجديدة و (2/ 344 - 336)، الطبعة القديمة و (ص 439 - 440) ط/ دار الكتب العلمية. (2) ((فتح الباري)) (13/ 359). (3) انظر ((السنن الكبرى)) (3/ 3) و ((الأسماء والصفات)) (ص 456)، وسكت عليه الكوثري. (4) ((ذم التأويل للموفق)) (ص 18 عنه). (5) ((مختصر الصواعق)) (ص 456)، ط الجديدة و (ص 440)، ط/ دار الكتب العلمية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 لأنها ليست أخبار آحادٍ فقط مجردةً من قرائن الصحة، بل هي محتفة بالقرائن؛ ومن المعروف المقرر المعترف به، أن أخبار الآحاد المحتفة بقرائن الصحة مفيدة للعلم اليقيني النظري. وقد صرح بهذا كبار أئمة الأمة، بما فيهم كثيرٌ من أساطين الماتريدية وعلى آخرهم الكوثري، وكثير من أئمة الأشعرية، بل بعض كبار المعتزلة؛ فنصوص هؤلاء حجة عليهم في باب الصفات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 وفيما يلي نماذج ممن صرح بكون الخبر المحتف بالقرآئن مفيداً للعلم اليقيني لتكون شاهدة لما قلنا وتقطع أعذار الماتريدية وتتم عليهم الحجة:1 - أبو إسحاق إبراهيم بن سيار النظام رأي المعتزلة (231هـ) (1).2 - الإمام الحافظ الخطيب البغدادي (463هـ) (2).3 - إمام الحرمين أبو المعالي عبدالملك الجويني (478هـ) (3).4 - الغزالي (505هـ) الذي يلقبونه بـ "حجة الإسلام وكلاهما من كبار أئمة الأشعرية" (4).5 - وفخر الدين الرازي فيلسوف الأشعرية (606هـ) (5).6 - سيف الدين الآمدي (631هـ) وهو من كبار أئمة الأشعرية (6).7 - الإمام جمال الدين أبي عمرو وعثمان بن عمرو المعروف بابن الحاجب (646) (7).8 - عضد الدين عبدالرحمن بن أحمد الإيجي من أئمة الأشعرية صاحب (الموقف) (756هـ) (8).9 - سعد الدين التفتازاني فيلسوف الماتريدية (792هـ) (9).10 - الحافظ ابن حجر العسقلاني (852هـ) ومفاد كلامه: أنه لا خلاف في هذه المسألة؛ لأن الخلاف فيها لفظي؛ لأن من قال: يفيد العلم، أراد العلم النظري، ومن أبى - خص بالمتواتر ولم ينف أن المحتف بالقرائن أرجح (10).11 - كمال الدين بن الهمام (861هـ) وهو من أكابر الحنفية والماتريدية (11).12 - وتلميذه ابن أمير الحاج الحنفي (879هـ) (12).13 - شمس الدين محمد بن عبدالرحمن السخاوي (902هـ) (13).14 - جلال الدين عبدالرحمن السيوطي (911هـ) (14).15 - محمد أمين المعروف "بأمير بادشاه" الحنفي (987هـ) (15).   (1) انظر ((أصول السرخسي)) (1/ 330)، ((المحصول)) للرازي الجزء الثاني القسم الأول (ص 403) عن النظام وأقراه. (2) انظر ((الكفاية)) (ص 32 - 32)، ونص آخر للخطيب ذكره الدكتور ملا خاطر في ((مكانة الصحيحين)) (ص 163)، وأحال على ((الكفاية)) (ص 32)، ولم أجده فيما عندي من نسخ ((الكفاية)) المطبوعة. (3) ((التقرير الجبير)) لابن أمير الحاج الحنفي الماتريدي (2/ 268)، و ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه الحنفي الماتريدي (3/ 76) عن إمام الحرمين، والغزالي بل صرح الكوثري بأن المحتف بالقرائن قسيم لخبر الواحد عند الغزالي. وصرح الغزالي أيضاً بأن مما يعلم صدقه بالسمع خبر الواحد إذا عمل بموجبه أهل الإجماع، انظر ((المنخول)) (ص 245). (4) ((التقرير الجبير)) لابن أمير الحاج الحنفي الماتريدي (2/ 268)، و ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه الحنفي الماتريدي (3/ 76) عن إمام الحرمين، والغزالي بل صرح الكوثري بأن المحتف بالقرائن قسيم لخبر الواحد عند الغزالي. وصرح الغزالي أيضاً بأن مما يعلم صدقه بالسمع خبر الواحد إذا عمل بموجبه أهل الإجماع، انظر ((المنخول)) (ص 245). (5) ((المحصول الجزء الثاني))، القسم الأول (ص 402 - 403). (6) انظر ((الإحكام في أصول الأحكام)) (2/ 48 - 49). (7) ((منتهى الأصول والأمل)) (ص 71)، و ((مختصر المنتهى الأصولي بشرح عضد الدين الإيجي)) (2/ 55). و ((بشرح بيان المختصر لأبي الثناء الأصبهاني)) (1/ 656). (8) ((شرح الإيجي لمختصر المنتهي الأصولي)) (2/ 56). (9) ((حاشية السعد التفتازاني على شرح مختصر المنتهى الأصولي)) (2/ 56). (10) ((نزهة النظر)) (ص 26 - 27)، وشرحها لملا على القاري (ص 39 - 45)، وانظر ((فتح المغيث)) (1 - 51)، و ((توجيه النظر)) (ص 128)، وأقره العلامة أنور شاه، إمام الديوبندية. ((مقدمة فتح الباري)) (1/ 46). (11) ((التحرير مع شرحه التقرير)) لابن أمير الحاج (2/ 268)، و ((شرح تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (3/ 76). (12) انظر ((التقرير والتحبير شرح التحرير)) (2/ 268). (13) انظر ((فتح المغيث)) (1/ 51 - 52). (14) انظر ((تدريب الراوي)) (1/ 133). (15) ((تيسير التحرير)) (3/ 76). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 16 - العلامة أنور شاه الكشميري الحنفي الديوبندي (1352هـ) (1). 17 - الكوثري مجدد الماتريدية (1371هـ). وغيرهم ممن لا يحصون. أنواع الأخبار المحتفة بالقرائن: ذكر الحافظ ابن حجر أربعة أنواع للخبر المحتف بقرائن الصحة: الأول: ما أخرجه الشيخان في (صحيحهما)، مما لم يبلغ حد الواتر ولم ينقده أحد من الحافظ ولم يقع التجاذب بين مدلوليه. الثاني: المشهور إذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة. الثالث: المسلسل بالأئمة الحفاظ المتقنين حيث لا يكون غريباً، كالحديث الذي يرويه الإمام أحمد مثلاً، ويشاركه فيه غيره من الشافعي، ويشاركه فيه غيره عن مالك، فإنه يفيد العلم عند سماعه بالاستدلال من جهة جلالة رواته. الرابع: المتلقى بالقبول: قال: "وهذا التلقي وحده أقوى من إفادته العمل من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر" (2). قلت: أما النوع الأول: وهو الحديث المتفق عليه فقد صرح أهل هذا الشأن بأنه أعلى أقسام الصحيح؛ فيذكرون للحديث مراتب سبعاً: الأولى: ما أخرجه الشيخان في (صحيحيهما). الثانية: ما انفرد به البخاري. الثالثة: ما انفرد به مسلم. الرابعة: ما كان صحيحاً على شرطهما جميعاً. الخامسة: ما كان على شرط البخاري. السادسة: ما كان على شرط مسلم. السابعة: ما كان صحيحاً، ولم يكن على شرط واحد منهما (3). فهذا النوع من الأحاديث قد صرح جمع غفير من الجهابذة النحارير من المحدثين، ومن كبار أساطين المتكلمين من الماتريدية والأشعرية بأنها تفيد العلم اليقيني النظري. فكيف يصح زعم الماتريدية: أن أحاديث الصفات أخبار آحاد ظنية؟ وفيما يلي نماذج من هؤلاء الأعلام:1 - أبو إسحاق إسماعيل بن محمد الأسفراييني الملقب بركن الدين (418هـ) فقد نقل على ذلك إجماع أهل الحديث فقال: "أهل الصنعة مجموعة على أن الأخبار التي اشتمل عليها "الصحيحان مقطوع بها عن صاحب الشرع" (4).2 - الإمام أبو بكر محمد بن أحمد المعروف بشمس الأئمة السرخسي (483هـ) إمام الحنفية في وقته (5).3 - أبو عبدالله محمد بن أبي نصر الحميدي - صاحب (الجمع بين الصحيحين) (488هـ) (6).   (1) ((مقدمة فيض الباري)) (1/ 45 - 46). (2) ((نزهة النظر)) (ص 26 - 27)، و ((شرحها)) للقاري (ص 39 - 45)، وانظر ((فتح المغيث)) (1/ 50 - 52) و ((توجيه النظر)) (ص 128). (3) ((علوم الحديث)) لابن الصلاح (ص 23 - 24)، ((الإرشاد)) (1/ 130)، ((التقريب)) (ص 40)، كلاهما للنواوي، ((التقييد والإيضاح)) (ص 28)، ((التبصرة والتذكرة)) (1/ 64) كلاهما للعراقي ((جواهر الأصول)) (ص 18 - 19)، لأبي الفيض الفارسي الفصيح الهروي الحنفي، و ((تنقيح الأنظار)) لابن الوزير مع ((شرحه توضيح الأفكار)) للأمير الصنعاني (1/ 88 - 89)، ((نزهة النظر)) (ص 31 - 32)، و ((النكت على ابن الصلاح)) (1/ 363 - 366) ((المختصر)) (ص 113 - 114) للكافيجي الحنفي، ((فتح المغيث)) (1/ 42 - 43)، ((تدريب الراوي)) (1/ 122 - 123)، ((مقدمة في أصول الحديث)) (ص 87 - 89)، للشيخ عبدالحق الدهلوي الحنفي، ((فتح الباقي)) (1/ 64)، للشيخ زكريا الأنصاري، ((خلاصة الفكر)) (ص 48 - 49)، للشنشنوري، ((قواعد الحديث)) (ص 82)، للعلامة القاسمي. (4) ((النكت على ابن الصلاح)) (1/ 377)، ((نزهة النظر)) (ص 27)، ((فتح المغيث)) (1/ 51)، عنه. (5) انظر ((فيض الباري)) (المقدمة) (1/ 45)، للشاه أنور شاه الكشميري الديوبندي، للكوثري عنه. (6) ((نزهة النظر)) (ص 27)، عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 4 - الإمام أبو حامد الغزالي (505هـ) أحد كبار أئمة الأشعرية، ذكره الكوثري فيمن يقولون بإفادة أحاديث (الصحيحين) القطع.5 - الإمام أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي (507هـ) (1).6 - أبو نصر بن يوسف (هو عبدالرحمن بن عبدالخالق اليوسفي) (574هـ) (2).7 - الإمام الحافظ صدر الدين أبي طاهر أحمد بن محمد الأصفهاني السلفي (576هـ) (3). 8 - الإمام أبو عمرو بن الصلاح (643هـ).ونص كلامه: "وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته والعلم اليقيني النظري واقع به ... ، لأن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ، ولهذا كان الإجماع المبني على الاجتهاد حجة مقطوعاً بها، وأكثر إجماعات العلماء كذلك، وهذه نكتة نفيسة نافعة ... " (4).9 - شيخ الإسلام (728هـ) (5) وسيأتي نصه قريباً إن شاء الله تعالى.10 - الإمام ابن القيم (751هـ) (6). 11 - الحافظ ابن كثير (774هـ).ومن كلامه: "وأنا مع ابن الصلاح فيما عول عليه، وأرشد إليه" (7).12 - والإمام عمر بن رسلان البلقيني (805هـ) (8).13 - وأبو الفيض محمد بن محمد بن علي الفارسي المعروف بفصيح الهروي الحنفي (837هـ) (9).ومن قوله: "ما روياه، أو واحد مقطوع بصحته، أي يفيد العلم القطعي نظراً لا ضرورةً ... " (10). 14 - الحافظ ابن حجر (852هـ).قال: " .. منها ما أخرجه الشيخان في (صحيحهما) مما لم يبلغ حد المتواتر، فإنه احتفت به قرائن، منها: جلالتهما في هذا الشأن، وتقدمهما في تميز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول، وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر، إلا أن هذا يختص بما لم ينقده أحد من الحفاظ مما في الكتابين، وبما لم يقع التجاذب بين مدلوليه مما وقع في الكتابين" (11).15 - والسخاوي (902هـ) (12).   (1) ((شروط الأئمة الستة)) (ص 21). (2) ((التقييد والإيضاح)) (ص 28)، ((التبصرة والتذكرة)) (1/ 69)، ((تنقيح الأنظار مع توضيح الأفكار)) (1/ 123)، و ((النكت على ابن الصلاح)) (1/ 379)، عنه. (3) انظر ((مختصر الصواعق المرسلة)) (ص 483) الجديدة و (ص 465) دار الكتب العلمية. (4) ((علوم الحديث له)) (ص 24 - 25). (5) ((علم الحديث)) لشيخ الإسلام (ص77، 78، 103، 117)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (18/ 17، 22، 40 - 41، 49)، ((مقدمة في أصول التفسير)) (ص 66)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (13/ 350). (6) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (ص 483) الجديدة و (ص 465) دار الكتب العلمية. (7) ((اختصار علوم الحديث مع شرحه)) ((الباعث الحثيث)) لأحمد بن محمد شاكر (ص 35). (8) ((محاسن الاصطلاح)) (ص 101)، ط دار الكتب المصرية القاهرة "1374هـ". (9) ((ترجمته في هدية العارفين)) (2/ 189). (10) ((جواهر الأصول)) (ص 20 - 21). (11) ((نزهة النظر)) (ص 26 - 27) وشرحها للقاري (ص 41)، وانظر أيضاً ((النكت)) على ابن الصلاح (1/ 374 - 380). (12) انظر ((فتح المغيث)) (1/ 51 - 52). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 16 - والسيوطي (911هـ).وقال: "وهو الذي اختاره، ولا أعتقد سواه" (1).17 - والعلامة محمد معين السندي الحنفي (1161هـ) (2) فله بحث قيم في إفادة أحاديث (الصحيحين) القطع (3) ودراسته تقمع الحنفية. 18 - الإمام الشاة ولي الله الدهلوي إمام الحنفية في وقته (1176هـ).فقد قال: "أما (الصحيحان) فقد اتفق المحدثون على أن جميع ما فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع، وأنهما متواتران إلى مصنفيهما، وأنه كل من يهون أمرهما فهو مبتدع متبع غير سبيل المؤمنين وإن شئت الحق الصراح فقسهما بكتاب ابن أبي شيبة وكتاب (الطحاوي) و (مسند الخوارزمي)، وغيرهما تجد بينها، وبينهما بعد المشرقين" (4). وقال في الثناء على صحيح البخاري:"ولعمري! إنه نال من الشهرة، والقبول درجة لا يرام فوقها" (5) وكم لهذا الإمام من نصوص تقطع دابر أصول الحنفية.19 - والأمير اليماني الصنعاني (1182هـ) (6).20 - والإمام الشوكاني (1250هـ) (7).21 - والحافظ المحدث أبي العلي محمد عبدالرحمن المباركفوري (1253هـ) (8).22 - ومحدث الشام العلامة جمال الدين القاسمي (1332هـ) (9).23 - والشيخ طاهر بن صالح الجزائري (1378هـ) (10). 24 - العلامة محمد أنور شاه الكشميري الديوبندي الملقب بإمام العصر (1352هـ) الذي يعظمه الديوبندية والكوثرية غاية التعظيم، ونحن نسوق نصه بطوله لأهميته، ولمكانته عندهم إتماما للحجة وإيضاحا للمحجة. قال رحمه الله: "القول الفصل في أن خبر (الصحيحين) يفيد القطع اختلفوا في أن أحاديث الصحيحين هل تفيد القطع أم لا؟ فالجمهور (11) إلى أنها لا تفيد القطع، وذهب الحافظ رضي الله عنه إلى أنها تفيد القطع، وإليه جنح شمس الأئمة السرخسي رضي الله عنه من الحنفية، والحافظ ابن تيمية من الحنابلة، والشيخ أبو عمرو بن الصلاح رضي الله عنه، وهؤلاء وإن كانوا أقل عدداً (12) إلا أن رأيهم هو الرأي. وقد سبق في المثل السائر: تعرينا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها: إن الكرام قليل ...   (1) ((تدريب الراوي)) (1/ 134)، وانظر ((ألفية السيوطي مع شرح الشيخ أحمد بن محمد شاكر)) (ص 3)، و ((منهج ذوي النظر)) للشيخ محمد محفوظ الترمسي ((شرح منظومة علم الأثر)) للسيوطي ((ص 11). (2) انظر ترجمته ومكانته عند الحنفية في ((نزهة الخواطر)) (6/ 351 - 355)، وذكره البنوري في كبار علماء الحنفية وأئمتهم. انظر ((تكملة البنوري لفقه أهل العراق)) للكوثري تحقيق أبي غدة (ص 78)، ولتقدمة الكوثري ((لنصب الراية)) (ص 49). (3) ((دراسات اللبيب في الأسوة الحسنة بالحبيب))، الدراستان العاشرة، والحادية عشر: (ص 308 - 402)، الدراسة العاشرة في إثبات إفادة الصحيحين القطع، والدراسة الحادية عشرة في إثبات ترجيح أحاديث الصحيحين على غيرها، والرد على مزاعم الإمام ابن الهمام الحنفي ومن سايره من الكوثرية والديوبندية وغيرهم. (4) ((حجة الله البالغة)) (1/ 132، 151)، و ((الإنصاف)) (ص 55)، وسكت عليه أبو غدة الكوثري. (5) ((حجة الله البالغة)) (1/ 132، 151)، و ((الإنصاف)) (ص 55)، وسكت عليه أبو غدة الكوثري. (6) ((توضيح الأفكار)) (1/ 123)، ((قصب السكر مع شرحه سح المطر))، لشيخنا عبدالكريم بن مراد الأثري: (ص 35) حفظه الله. (7) ((إرشاد الفحول)) (ص 50). (8) ((مقدمة تحفة الأحوذي)) (1/ 58، 314 - 318). (9) ((قواعد التحديث)) (ص 85 - 86). (10) ((توجيه النظر)) (ص 135). (11) بل الأمر بالعكس وهذا مبني على أنه لم يتتبع أقوال العلماء، راجع ((مختصر الصواعق المرسلة)) (ص 482) الجديدة و (ص 465) دار الكتب العلمية. (12) بل الأمر بالعكس وهذا مبني على أنه لم يتتبع أقوال العلماء، راجع ((مختصر الصواعق المرسلة)) (ص 482) الجديدة و (ص 465) دار الكتب العلمية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 فإن قيل: إن فيهما أخباراً آحاداً، وقد تقرر في الأصول أنها لا تفيد غير الظن. قلت: لا ضير؛ فإن هذا باعتبار الأصل، وذاك بعد احتفاف القرائن، واعتضاد الطرق فلا يحصل القطع إلا لأصحاب الفن الذي يسر لهم الله سبحانه التمييز بين الفضة، والقضة ورزقهم علماً من أحوال الرواة، والجرح والتعديل، فإنهم إذا مروا على حديث وتتبعوا طرقه، وفتشوا رجاله، وعلموا حال إسناده - يحصل لهم القطع، وإن لم يحصل لمن لم يكن له بصر ولا بصيرة .. ؛ ألا ترى أن الواحد جليل القدر إذا أخبرك بأمر، فنظرت إلى حاله وثقته، وعلمه ودينه - أيقنت بخبره كفلق الصبح، ولا يبقى في نفسك قلق، واضطراب، وكفاك جماعة؛ فإن واحداً قد يزن جماعة بل يرجحهم، والآخر كريشة طائر لا يوازي جناح بعوضة، وإن إبراهيم كان أمة قانتاً، ومن أمته من يجيء يوم القيامة أمة وحده. ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد ... ، ولما كان هذا أمراً لا يسع إنكاره لأحد - جعل الحافظ هذا النزاع راجعاً إلى النزاع اللفظي، فلم يبق في نفس إفادة القطع خلاف، ولا شقاق، وإنما هو في أن تلك الإفادة بديهية، أو نظرية فمن ذهب إلى أنها تفيد القطع أراد به النظري، ومن أنكرها أراد به الضروري. وهذا، فإنه تحقيق حقق بالقبول، ومن حاد عنه فقد عدل عن المسلك القويم" (1). قلت: نص العلامة الكشميري هذا يستأصل مزاعم الماتريدية ولا سيما الكوثرية والديوبندية منهم. 25 - والكوثري مجدد الماتريدية وإمامهم في وقته (1371هـ)، فقد اعترف في صدد إثبات نزول عيسى عليه السلام بأن أحاديث (الصحيحين) تفيد القطع. وهذا حجة عليه، وعلى الماتريدية في باب الصفات.26 - ومحدث مصر، العلامة أبو الأشبال أحمد بن محمد شاكر (1377هـ) (2).27 - والعلامة محمد إسماعيل السلفي (1387هـ) فله خدمة مشكور عليها في هذا الباب (3).28 - والدكتور خليل ملا خاطر "من المعاصرين" له عمل عظيم في الذب عن مكانة (الصحيحين)، وله بحث قيم في إفادة أحاديث (الصحيحين) القطع (4) وهذا الكتاب عديم النظير لقلع نسج متعصبة الحنفية. قلت: الحاصل أن أحاديث (الصحيحين) تفيد العلم القطعي بشهادة من ذكرنا وفيهم كبار أعيان الحنفية الماتريدية الديوبندية منهم، والكوثرية، وغيرهم. بل ثبت بلسان الحافظ ابن حجر، والعلامة الكشميري الديوبندي أن هذه المسألة لا خلاف فيها: فمن أثبت العلم القطعي - أراد النظري، ومن نفى ذلك أراد البديهي ولم ينف النظري. تنبيه مهم: لقد تبين مما سبق من علو مكانة (الصحيحين) وأن أحاديثهما تفيد القطع، وأنها أصح الصحاح.   (1) ((مقدمة فيض الباري)) (1/ 45 - 46) وأقره تلميذه البنوري الكوثري. (2) ((الباعث الحثيث)) (ص 35 - 37)، ((شرح ألفية السيوطي)) (ص 4 - 5). (3) ((موقف الجماعة الإسلامية المودودية من الأحاديث النبوية)) (ص 89 - 103). (4) ((مكانة الصحيحين)) (ص 135 - 139). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 إذا تقرر هذا علم أن أحاديث (الصحيحين) مقدمة على غيرها عند التعارض ولا أعلم في هذا خلافاً لأحد إلا لمتأخري الحنفية، فقد قالوا عدم ترجيح أحاديث (الصحيحين) عند التعارض على غيرها، وذلك لأنهم يعلمون جيداً أن مذهبهم مخالف لكثير من أحاديث (الصحيحين)، فوضعوا هذا الأصل ليخرجوا بهذا عن هذا المضيق؛ فقالوا: لا ترجيح لأحاديث (الصحيحين) عند التعارض بل - يجوز أن يقدم حديث آخر على حديث (الصحيحين).وأول من وضع هذا الأصل - فيما أعلم- من الحنفية هو الإمام ابن الهمام (861هـ) ثم تابعه الحنفية، ولا سيما الديوبندية منهم، والكوثرية (1).قلت: وهذا الأصل الفاسد مبني على أصلهم الآخر أفسد منه، وهو: أن للحنفية أصولاً وقواعد في تصحيح الحديث وتضعيفه، كما أن للمحدثين قواعد، فرب حديث ضعيف عند المحدثين صحيح عند الحنفية، وبالعكس فلا لوم على الحنفية إذا خالفوا بعض الأحاديث (2).قلت: هذا الذي عرضناه من مكانة أحاديث (الصحيحين)، وأنها مما احتف بالقرائن، وأنها تلقتها الأمة بالقبول، وأنها تفيد العلم القطعي اليقيني - على لسان كبار أئمة الحنفية، وغيرهم - يقطع دابر هذا الأصل الفاسد، ولقد تصدى للرد على هذا الأصل المحدث المباركفوري (1253هـ) (3). قلت: ويكفي لرد مزاعمهم في تقديم حديث خارج (الصحيحين) على أحاديثهما ورد أحاديث (الصحيحين) بذلك دفاعاً عن مذهبهم - ما قاله الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني الملقب بركن الدين (418): "أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها (الصحيحان) مقطوع بصحة أصولها، ومتونها ولا يحصل الخلاف فيها بحال، وإن حصل فذاك اختلاف في طرقها، ورواتها".قال: "فمن خالف حكمه خبراً منها، وليس له تأويل سائغ للخبر نقضنا حكمه، لأن هذه الأخبار تلقتها الأمة بالقبول" (4).قلت: لكثير من متعصبة الحنفية موقف مذموم من (الصحيحين) وفي قلوبهم حزازة منهما يبدو أثرها بين حين وآخر، وما تخفي صدورهم أكبر؛ ولكن كتابي (الدراسات) و (المكانة) قضاء عليهم (5).   (1) انظر ((فتح القدير)) (1/ 454)، ((التحرير)) (3/ 30)، كلاهما لابن الهمام، ((التقرير والتحبير شرح التحرير)) لابن أمير الحاج (3/ 30)، ((تيسير التحرير)) لأمير باد شاه (3/ 166)، ((التعليقات المهمة)) للكوثري: ((على شروط الأئمة)) للمقدسي، والحازمي (ص 49 - 50، 70 - 71)، و ((مقدمة إعلاء السنن)) (1/ 41)، و ((قواعد في علوم الحديث)) لظفر أحمد العثماني الديوبندي، و ((تعليقات أبي غدة الكوثري عليها)) (ص 64 - 66)، و ((مقدمة أوجز المسالك)) للشيخ زكريا الديوبندي شيخ جماعة التبليغ (1/ 137 - 138). قلت: لقد وفق الله تعالى العلامة محمد معين السندي الحنفي "1161هـ" صاحب الإمام ولي الله الدهلوي الحنفي "1176هـ" فوقف لهم بالمرصاد، وجعل مقالتهم هذه كأن لم تغن بالأمس انظر ((دراسات اللبيب في الأسوة الحسنة بالحبيب، الدراسة الحادية عشرة)) (ص 328 - 204). (2) انظر ((قواعد أصول الحديث)) (ص20، 461)، و ((مقدمة إعلاء السنن)) (1/ 17، 284)، لظفر أحمد العثماني الديوبندي، تحقيق وتعليق أبي غدة الكوثري، وانظر أيضاً ((التعليقات المهمة للكوثري على شروط الأئمة)) (ص 70). (3) انظر ((مقدمة تحفة الأحوذي)) (1/ 310 - 322). (4) ((فتح المغيث)) (1/ 51)، عنه. (5) انظر على سبيل المثال: ((الجواهر المضية)) (4/ 564 - 570) ((التعليقات المهمة للكوثري على شروط الأئمة)) (ص 69 - 75) و ((مقالاته)) (ص 84)، و ((قواعد في علوم الحديث)) (ص 463 - 468)، و ((مقدمة إعلان السنن)) (1/ 285 - 28) كلاهما لظفر أحمد الديوبندي، تحقيق وتعليق أبي غدة الكوثري و ((مقدمة تنسيق النظام)) (ص 6). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 وللحنفية عدة أصول باطلة فاسدة حماية للمذهب يحتاج إبطالها إلى كتاب مستقل ولي في ذلك كتاب،، علًة يفتح لإخراجه باب،، وأما النوع الثاني: من المحتف بالقرائن - وهو المسلسل بالأئمة - فقد حكى السهيلي إفادته العلم اليقيني عن بعض الشافعية (1).وحكاه الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي (476هـ) عن بعض المحدثين (2).قلت: وجزم به الحافظ ابن حجر حيث قال: "فإنه يفيد العلم عند سامعه بالاستدلال من جهة جلالة رواته، وأن فيهم من الصفات اللائقة الموجبة للقبول ما يقوم مقام العدد الكثير من غيرهم ... " (3). قلت: وإلى هذا يشير كلام العلامة الكشميري الديوبندي حيث يقول: "فإن واحداً قد يزن جماعة بل يرجحهم ... ؛ ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد وأما النوع الرابع: من المحتف بالقرائن - وهو المتلقى بالقبول - فهذا النوع بمدلوله أعم من الأنواع الثلاثة الأولى فهو يشملها جميعاً سواء كان في (الصحيحين) أو كان مشهوراً، أو كان مسلسلاً بالأئمة، فهو يفيد العلم اليقيني القطعي النظري، وهو مذهب كثير من أهل الكلام من المعتزلة، والماتريدية والأشعرية ومذهب أهل الحديث قاطبة والسلف عامة، وهو مذهب عامة المحققين من كبار أئمة الحنفية، والمالكية والشافعية، والحنابلة، ولم يخالف في ذلك إلا شرذمة قليلة من المتأخرين تبعاً لبعض المتكلمين، فلا عبرة بهم، كما صرح به شيخ الإسلام وغيره (4). ولا شك أن أحاديث الصفات لا تخلو من هذا النوع فهي مفيدة للعلم القطعي اليقيني فكيف يصح دعوى الماتريدية وغيرهم من المتكلمين: أنها أخبار آحاد، لا تفيد إلا الظن؟. وفيما يلي عرض بعض نصوص العلماء إتماماً للحجة وإيضاحاً للمحجة وقطعا لأعذار الماتريدية وإلقامهم الأحجار. 1 - الإمام عيسى بن أبان (221هـ) وهو من كبار أئمة الحنفية الأوائل (5) فقد حكي عنه أنه قال:"خبر الواحد إذا عمل عليه أكثر الصحابة وعابوا من لم يعمل به يقطع به" (6). 2 - أبو هاشم عبدالسلام بن محمد الجبائي الحنفي، إمام الهاشمية من المعتزلة (321هـ) (7). 3 - أبو الحسن عبيد الله بن الحسن الكرخي أحد كبار أئمة الحنفية (340هـ) (8). 4 - وقال الإمام أبو بكر بن علي الجصاص إمام الحنفية في وقته (370هـ) (9).   (1) ((مكانة الصحيحين)) (ص 133 - 134)، للدكتور خليل إبراهيم ملا خاطر عن ((المنهج في علوم الحديث)) للدكتور محمد بن محمد السماحي: (72)، ط: القاهرة، عن السهيلي. (2) ((انظر التبصرة)) (ص 298) للشيرازي. (3) ((نزهة النظر)) (ص 27) و ((شرحها للقاري)) (ص45)، وانظر ((تدريب الراوي)) (1/ 134). (4) انظر ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 474 - 475)، و ((اختصار علوم الحديث مع شرحه الباعث الحثيث)) (ص 36)، ((محاسن الاصطلاح)) (ص 101)، ((النكت على ابن الصلاح)) (1/ 376)، ((فتح المغيث)) (1/ 51)، ((تدريب الراوي)) (1/ 133)، و ((قواعد التحديث)) (ص 185)، ((توجيه النظر)) (ص 134)، وسيأتي قريباً نص كلام شيخ الإسلام. (5) انظر مكانته الجليلة عند الحنفية في ((الجواهر المضية)) (2 - 678 - 280)، و ((الفوائد البهية)) (ص 151). (6) ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري الحنفي المعتزلي (2/ 86) عنه. (7) انظر رأيهما في ((المعتمد)) (2/ 84)، و ((تيسير التحرير)) (3/ 80). (8) انظر رأيهما في ((المعتمد)) (2/ 84)، و ((تيسير التحرير)) (3/ 80). (9) ((انظر مكانته وترجمته في ((الجواهر المضية)) (1/ 220 - 224) ((الطبقات السنية)) (1/ 412 - 415)، و ((الفوائد البهية)) (ص 27). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 عند الكلام حول حديثين في طلاق الأمة، وعدتها:"وقد استعملت الأمة هذين الحديثين في نقصان العدة - وإن كان وروده من طريق الآحاد - فصار في حيز التواتر، لأن ما تلقاه الناس بالقبول من أخبار الآحاد فهو عندنا في معنى المتواتر لما بيناه في مواضع" (1). 5 - الإمام أبو بكر بن فورك (406هـ) من كبار أئمة الأشعرية - فقد حكى عنه إمام الحرمين أنه قال:"الخبر الذي تلقته الأئمة بالقبول محكوم بصحته ... وإن تلقوه بالقبول قولاً وقطعاً حكم بصدقه" (2). 6 - أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الأسفراييني الملقب بركن الدين (418هـ) فقد حكى عنه إمام الحرمين:"أن ما اتفق عليه أئمة الحديث مستفيض وهو قسم آخر بين المتواتر وبين خبر الواحد، وأنه يقيني العلم نظراً" (3). 7 - وقال أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري الحنفي المعتزلي (436هـ):"فأما خبر الواحد إذا أجمعت الأمة على مقتضاه، وحكمت بصحته، فإنه يقطع على صحته، لأنها لا تجمع على خطأ" (4).8 - وقال الخطيب البغدادي (463هـ): " .. وقد يستدل على صحته بأن يكون خبراً عن أمر اقتضاه نص القرآن، أو السنة المتواترة، أو أجمعت الأمة على تصديقه، أو تلقته بالقبول وعملت بموجبه" (5). 9 - أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي أحد الأئمة الشافعية (476هـ) قال: " ... خبر الواحد الذي تلقته الأمة بالقبول، فيقطع بصدقه سواء عمل الكل به أو عمل البعض، وتأويله البعض، فهذه الأخبار توجب العمل، ويقع العلم بها استدلالاً" (6). 10 - الإمام أبو بكر محمد بن أحمد المعروف بشمس الأئمة السرخسي (483هـ) أحد أكابر أئمة الحنفية. 11 - وللإمام أبي المظفر منصور بن محمد السمعاني (489هـ) جد صاحب الأنساب: كلام في غاية الأهمية في قبول خبر الواحد في العقيدة، وأن الخبر إذا صح ورواه الثقات وتلقته الأئمة بالقبول فهو يوجب العلم اليقيني وهذا قول عامة أهل الحديث وخلاف ذلك قول أهل البدعة، وقد ذكرنا نص كلامه. 12 - وقال الإمام محفوظ بن أحمد الكلوذاني من أئمة الحنابلة في وقته (510هـ): "فأما خبر الواحد إذا أجمعت الأمة على حكمه وتلقته بالقبول .. فظاهر كلام أصحابنا: أنه يقع به العلم .. " (7). 13 - 18 وقال شيخ الإسلام (728هـ): " ... فإن جمهور ما في البخاري ومسلم مما يقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لأن غالبه من هذا النحو؛ ولأنه قد تلقاه أهل العلم بالقبول، والتصديق؛ والأمة لا تجتمع على خطأ؛ فلو كان الحديث كذباً في نفس الأمر - والأمة مصدقة له قابلة له - لكانوا قد أجمعوا على تصديق ما هو في نفس الأمر كذب؛ وهذا إجماع على خطأ، وذلك ممتنع". وقال: "ولهذا كان جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً - إذا كان في الاعتقاد - أو عملاً - إذا كان في الأحكام - أنه يوجب العلم، وهذا هو الذي ذكره المصنفون في أصول الفقه من أصحاب أبي حنيفة، ومالك والشافعي وأحمد.   (1) ((أحكام القرآن)) (1/ 386)، طبعة دار الكتاب العربي بيروت و (2/ 83) طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت تحقيق محمد صادق قمحاوي، وأقره ظفر أحمد الديوبندي، وأبو غدة الكوثري، انظر ((قواعد علوم الحديث)) (ص 62). (2) ((البرهان)) (1/ 584 - 585)، وانظر ((مشكل الحديث)) (ص 44، 498 - 499). (3) ((البرهان)) (1/ 584)، هذا التقسيم رأي ابن فورك أيضاً. انظر ((مكانة الصحيحين)): (ص 134). (4) ((المعتمد)) (2/ 84). (5) ((الكفاية)) (ص 32 - 33). (6) ((اللمع)) (ص 210)، و ((شرح اللمع)) (2/ 579). (7) ((التمهيد)) (3/ 83 - 84). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 إلا فرقة قليلة من المتأخرين اتبعوا في ذلك طائفة من أهل الكلام أنكروا ذلك، ولكن كثيراً من أهل الكلام، أو أكثرهم يوافقون الفقهاء، وأهل الحديث والسلف على ذلك، وهو قول أكثر الأشعرية، كأبي إسحاق، وابن فورك. وأما ابن الباقلاني: فهو الذي أنكر ذلك، وتبعه مثل أبي المعالي وأبي حامد وابن عقيل، وابن الجوزي، وابن الخطيب، والآمدي ونحو هؤلاء. والأول هو الذي ذكره الشيخ أبو حامد، وأبو الطيب، وأبو إسحاق، وأمثاله من الشافعية، وهو الذي ذكره القاضي عبدالوهاب، وأمثاله من المالكية. وهو الذي ذكره شمس الدين السرخسي، وأمثاله من الحنفية. وهو الذي ذكره أبو يعلى وأبو الخطاب، وأبو الحسن بن الزاغروني، وأمثالهم من الحنبلية. إذا كان الإجماع على تصديق الخبر موجباً للقطع فالاعتبار (1) في ذلك بإجماع أهل العلم بالحديث كما أن الاعتبار في الإجماع على الأحكام بإجماع أهل العلم بالأمر والنهي والإباحة ... " (2). 19 - 23 - قلت: قد قبل كلام شيخ الإسلام هذا جماعة من العلماء وأقروه: كالإمام ابن القيم (751هـ) (3)، والحافظ ابن كثير (774هـ) (4)، والإمام عمر بن رسلان البلقيني (805هـ) (5).والحافظ ابن حجر (852هـ) (6) والسخاوي (902هـ) (7) والسيوطي (911هـ) (8)، والعلامة محمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي المعروف بابن النجار (972هـ) (9) والأمير الصنعاني (1182هـ) (10)، وجمال الدين القاسمي (1332هـ) (11)، وطاهر بن صالح الجزائري (1338هـ) (12).والكوثري مجدد الماتريدية وإمامهم في وقته (1371هـ) ذكر نص كلام شيخ الإسلام، ولكن لشدة عدائه إياه، لم ينسبه إليه، والعلامة محمد إسماعيل السلفي (1387هـ) (13)، والشيخ أحمد بن محمد شاكر (1377هـ) (14).والدكتور خليل إبراهيم ملا خاطر (أشعري العقيدة)، فقد ألف كتابه العظيم (مكانة الصحيحين) أجاد فيه وأفاد، وذكر كلام شيخ الإسلام ثم قال: "وهذا الذي قاله كلام نفيس، ومهم يعبر عن نظرةٍ بعيدةٍ، وسير لأسانيد وروايات طرق الأحاديث" (15).   (1) راجع لمسألة أن الاعتبار بالإجماع على شيء إنما هو بإجماع أهل ذلك الفن، لا غيرهم - ((علم الحديث)) لشيخ الإسلام (ص 119 - 120)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (20/ 258)، ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 483)، ((مقدمة فيض الباري)) (1/ 45). (2) ((مقدمة في أصول التفسير)) (ص 67 - 68)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (13/ 351 - 352)، و ((ضمن دقائق التفسير)) (1/ 101 - 103)، وانظر ((علم الحديث)) (ص 72، 78، 103 - 104، 116، 120)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (18/ 17، 22، 40، 41، 48 - 51)، و ((رفع الملام)) (ص 69 - 71)، وضمن ((مجموع الفتاوى)) (20/ 257 - 258)، ((المسودة)) (ص220 - 224)، لأبناء تيمية، و ((أصول الفقه)) لابن تيمية (1/ 250 - 252) للدكتور صالح بن عبدالعزيز. (3) ((الصواعق المرسلة)) "مختصر الصواعق المرسلة" (2/ 481 - 484). (4) ((اختصار علوم الحديث مع شرحه الباعث الحثيث لأحمد شاكر)) (ص 36). (5) ((محاسن الاصطلاح)) (1/ 374 - 377)، تحقيق: د/ عائشة بنت الشاطئ: دار الكتب المصرية (1974م). (6) ((النكت على ابن الصلاح)) (1/ 374 - 377). (7) ((فتح المغيث)) (1/ 51). (8) ((تدريب الراوي)) (1/ 132 - 133). (9) ((المختبر المبتكر شرح المختصر المعروف بشرح الكوكب المنير)) (2/ 349 - 350). (10) ((توضيح الأفكار)) (1/ 123 - 126، 26 - 27). (11) ((قواعد التحديث)) (ص 85 - 87). (12) ((توجيه النظر)) (ص 132 - 135) وأحال عليه الكوثري كما في (2/ 111). (13) ((موقف الجماعة الإسلامية من الحديث النبوي)) (ص 101). (14) ((الباعث الحثيث)) (ص 36 - 37). (15) ((مكانة الصحيحين)) (ص 145، 135 - 165). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 33 - وللإمام ابن أبي العز الحنفي (792هـ) بحث قيم في الأخذ بأخبار الآحاد في العقيدة، وأن الخبر المتلقى بالقبول من قسم المتواتر، وأنه لا نزاع فيه عند السلف (1). 34 - الشيخ أبو غدة الكوثري، فقد نقل عن الإمام الشافعي، والسخاوي: أن الحديث الضعيف إذا تلقته الأمة بالقبول ينزل منزلة المتواتر في أنه ينسخ به المقطوع (2). قلت: إذا كان الحديث الضعيف يرتفع إلى منزلة المتواتر بمجرد التلقي فما ظنك بأحاديث الصفات المتواترة، والمشهورة والمتفق عليها، المتلقاة بالقبول، المحتفة بالقرائن؟ وفي هذا كله عبرة للماتريدية أيما عبرة. خاتمة هذا الوجه: 35 - لما كان الكوثري يعدّ إماماً للماتريدية؛ بل مجدداً لهم في وقته، ولاسيما للكوثرية منهم، والديوبندية أردت أن أختم هذا الوجه بنصوص الكوثري التي اعترف فيها بالحق لما رأى وسمع أن أعداء الإسلام احتجوا بقاعدة المتكلمين - من أن خبر الواحد ظني لا يثبت به العقيدة- على إنكار نزول عيسى عليه السلام (3). فتصدى لهم الكوثري، وألف في الرد عليهم كتاباً بعنوان (نظرة عابرة) أجاد فيه وأفاد، ورد على تلك القاعدة الفاسدة للمتكلمين من أن أخبار الآحاد لا تفيد اليقين، ولا تثبت بها العقيدة - ولكن هذا الكتاب كله حجة عليه، وعلى الماتريدية في باب الصفات وهذا تناقض. وهذه بعض نصوص الكوثري: (من قال: "إن خبر الآحاد لا يفيد العلم" يريد خبر الآحاد من حيث هو بالنظر إلى رأي جماعة، وإلا فخبر الآحاد الذي تلقته الأمة بالقبول، يقطع بصدقه، كما نص على ذلك أبو المظفر السمعاني في (القواطع) (4)؛ وقد حكى السخاوي في (فتح المغيث) عن جماعة من المحققين إفادة خبر الآحاد العلم عند احتفافه بالقرآن، بل قال جماعة: إن ما اتفق عليه البخاري ومسلم يفيد - في غير مواضع النقد منه - العلم؛ لاحتفافه بالقرائن، ومنهم الغزالي).وقال: "وأين اجتماع نصوص العلماء مع قول أمثال أبي حامد الأسفراييني، وأبي إسحاق الأسفراييني، والقاضي أبي الطيب، وابي إسحاق الشيرازي، وشمس الأئمة السرخسي، والقاضي عبدالوهاب، ورواية ابن خويز منداد عن مالك، وقول أبي يعلى وأبي الخطاب، وابن الزاغوني، وابن فورك، وغيرهم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم، وفي الخبر المحتف بالقرائن" (5).وقال: (بل جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له، أو عملاً به أنه يوجب العلم كما تجد تفصيل ذلك في (توجيه النظر) في ص: 134" (6). قلت: كلام الكوثري هذا حق لا ريب فيه غير أنه لم يقتصر على مسألة "نزول عيسى عليه السلام" فقط، بل هو شامل لجميع الأحاديث الواردة في جميع الأبواب، ومنها باب صفات الله تعالى، فكلام الكوثري هذا حجة عليه خاصة، وعلى الماتريدية عامة كما هو حجة على منكري نزول عيسى عليه السلام، وغيرهم من الملحدين في أسماء الله وصفاته.   (1) ((شرح الطحاوية)) (ص 398 - 401) المكتب و (ص 391 - 395)، البيان. (2) بحث لأبي غدة في آخر كتاب ((الأجوبة الفاضلة)) (ص 232). (3) انظر ((نظرة عابرة)) (ص 113)، و ((مقدمة ناشرها)) (ص 26 - 27، 46، 53، 56). (4) أثنى السبكي على هذا الكتاب ثناء عاطراً: ((طبقات الشافعية)) (5/ 343). (5) ((نظرة عابرة)) (ص 111 - 112) وهذا كلام شيخ الإسلام والكوثري كتمه. (6) ((مقالات الكوثري)) (ص 70). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 وقال الكوثري: "ونحن نسمع من فلتات ألسنة دعاة هذه النعرة بين حين، وآخر تهوين أمر أخبار الآحاد الصحيحة من السنة .. ، .. ، فبتهوين أمر أخبار الآحاد يتخلصون من كتب السنة، من صحاح، وسنن وجوامع ومصنفات، ومسانيد، وتفاسير بالرواية، وغيرها ... ؛فهل يسلك مثل هذه السبيل من سبل الشيطان غير صنائع أعداء الإسلام؟ على أن أخبار الآحاد الصحيحة قد يحصل بتعدد طرقها تواتر معنوي؛ بل قد يحصل العلم بخبر الآحاد عند احتفافه بالقرائن؛ بل يوجد بين أهل العلم من يرى أن أحاديث الصحيحين - غير المنتقدة - من تلك الأحاديث المحتفة بالقرائن" (1). قلت: أول من استخف بالأحاديث النبوية واستهان بأمرها هم هؤلاء المتكلمون - أئمة الكوثري وهو منهم - في باب الصفات - فهم قدموا عليها عقولهم الفاسدة وردوها أو حرفوها وعلى كل حالٍ كلام الكوثري هذا حجة عليه وعلى الماتريدية في باب الصفات وهذا تناقض واضح فاضح. الحاصل: أن أحاديث الصفات لو سلمنا أنها أخبار آحادٍ لكنها محتفة بالقرائن مفيدةٌ للعلم القطعي بشهادة أئمة الإسلام، وكبار المتكلمين من المعتزلة والماتريدية والأشعرية، أولهم النظام، وآخرهم الكوثري. ولكن الكوثري مع تناقضه الفاضح ... شهد على نفسه ببيانه الواضح فكان كعنز السوء قامت بظلفها ... إلى مدية تحت التراب تثيرها الوجه السادس: لو سلمنا أن أحاديث الصفات أخبار آحاد مجردة، وسلمنا أيضاً أنها غير محتفة بالقرائن، وسلمنا أيضاً أنها لا تفيد اليقين ولا تفيد إلا العمل فقط، لكن لا نسلم أن لفظ "العمل" مقصور بعمل الجوارح فقط. بل المراد من "العمل" أعم من "عمل الجوارح" فيشمل "عمل القلب"، فيصح الاحتجاج بخبر الواحد في باب الاعتقاد؛ لأنه من "عمل القلب"، وهذا كله بشهادة كبار الماتريدية واعترافهم بما فيهم الكوثري. فكيف يصح إبعاد أخبار الآحاد عن حيز الاحتجاج بها في باب العقيدة؟. وكيف يصح زعمهم أنها ظنية لا تثبت بها العقيدة؟. هذا كله على فرض تسليم أنها ظنية كفرض المحال، مع أنها متواترة، ومشهورة، ومحتفة بالقرائن، ومتفق عليها، متلقاة بالقبول، مفيدة للعلم القطعي يصح الاحتجاج بها في الاعتقاد والأحكام جميعاً بإجماع السلف، ونصوص كبار المتكلمين من المعتزلة، والماتريدية والأشعرية كما سبق، فهي أحد مصدري تلقي العقيدة في دين الإسلام. وإليك بعض نصوص الماتريدية في أن "العمل" أعم من "عمل الجوارح" فيشمل "عمل القلب" فيصح الاحتجاج بخبر الواحد في باب الاعتقاد؛ لأنه من عمل القلب؛ فأقول وبالله التوفيق: لقد تصدى الكوثري للرد على مزاعم منكري نزول عيسى عليه السلام الذين تمسكوا بقاعدة فاسدة باطلة وضعها المتكلمون من أن أخبار الآحاد ظنية لا تثبت بها العقيدة؛ فقالوا: "إن أحاديث نزول عيسى عليه السلام أخبار آحاد ظنية لا تثبت بها العقيدة، ولا تصلح إلا للأحكام العملية". إلزاماً للمتكلمين واحتجاجاً عليهم. فرد عليهم الكوثري ردوداً عدة: منها أن المراد من العمل في كلام المتكلمين: "أن أخبار الآحاد لا تصلح إلا للعمل" أعم من "عمل الجوارح" فيشمل "عمل القلب" وهو الاعتقاد. فيقول الكوثري: (قال علاء الدين عبدالعزيز بن أحمد البخاري في شرح أصول فخر الإسلام البزدوي: "اعتقاد القلب فضل على العلم، لأن العلم قد يكون بدون عقد القلب، كعلم أهل الكتاب بحقيقة النبي صلى الله عليه وسلم، مع عدم اعتقادهم حقيقة .. ، والعقد قد يكون بدون العلم أيضاً كاعتقاد المقلد، وإذا كان كذلك جاز أن يكون خبر الواحد موجباً للاعتقاد الذي هو عمل القلب، وإن لم يكن موجباً للعلم.   (1) ((مقالات الكوثري)) (ص 135 - 136). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 قال أبو اليسر: "الأخبار الواردة في أحكام الآخرة من باب العمل فإن العمل نوعان: عمل الجوارح، واعتقاد القلب، فالعمل بالجوارح إن تعذر لم يتعذر العمل بالقلب اعتقاداً". وذلك عند شرحه لقول فخر الإسلام "وفيه ضرب من العمل أيضاً، وهو عقد القلب عليه، إذ العقد فضل عليه".فظهر أن خبر الآحاد الصحيح قد يفيد اعتقاداً جازماً في أناس، ولا يفيد البرهان العلمي اعتقاداً في آخرين، فواحد يعتقد اعتقاداً جازماً بنزول عيسى عليه السلام بمجرد أن سمع حديثاً واحداً في ذلك من صحيح البخاري مثلاً، وآخر لا يعتقد ذلك ولو أسمعته سبعين حديثاً، وثلاثين أثراً من الصحاح والسنن والمسانيد والجوامع وسائر المدونات في الحديث مما يحصل التواتر بأقل منها بكثير، فالناجي هو ذاك الواحد دون الآخر) (1). ويقول الكوثري أيضاً: (والواقع أن من قال: "إن خبر الواحد يفيد العمل فقط". يريد بالعمل ما يشمل عمل الجوارح، وعمل القلب - وهو الاعتقاد، كما نص على ذلك البزدوي نفسه حيث قال في آخر مبحث الآحاد: "فأما الآحاد في أحكام الآخرة فمن ذلك ما هو مشهور، ومن ذلك ما هو دون ذلك، لكنه يوجب ضرباً من العلم على ما قلنا، وفيه ضرب من العمل أيضاً، وهو عقد القلب ... ، فصح الابتلاء بالعقد كما صح الابتلاء بالعمل بالبدن". وبذلك يعلم وجه تدوين أخبار الآحاد في كتب الحديث في المغيبات، وأمور الآخرة ... ؛فالآن قد ظهر من يفهم معنى العقيدة، ومن لا يفهمه حقاً، ومن تزبب قبل أن يتحصرم يلقى ما يلقاه من تزعم قبل أن يتعلم .. ) (2). وقال الكوثري أيضاً: (والاعتقاد عمل قلبي يؤخذ من خبر الآحاد، كما سبق من فخر الإسلام، فيكون إنكار أخذ الاعتقاد من خبر الآحاد إنكاراً للدليل العقلي المفيد للعلم الموجب للعمل بخبر الآحاد أعم من أن يكون عمل الجوارح، وعمل القلب - وهو الاعتقاد - .. ؛فيعلم أن حفاظ الأمة ما كانوا عابثين في تدوينهم لأخبار الآخرة، والأمور الغيبية في كتبهم، ولا كان الأئمة لاعبين في تدوينهم السمعيات في كتب العقائد) (3). قلت: نعمد إلى حجة الماتريدية والكوثري هذه - التي احتجوا بها على منكري نزول عيسى عليه السلام - فنقلبها حجة على الكوثري خاصة والماتريدية عامة، فنقول: لو سلمنا أن أحاديث الصفات أخبار آحاد مجردة، ظنية، لا تفيد إلا العمل، لكن نقول: إن العمل نوعان: عمل الأركان، وعمل الجنان؛ فهي تفيد عمل الجنان، وهو الاعتقاد، فصح أخذ العقيدة من أخبار الآحاد؛ وخبر الآحاد الصحيح قد يفيد اعتقاداً جازماً لأناس بقوا على فطرتهم السليمة؛ فإن أحدهم إذا سمع حديثاً واحداً من صحيح البخاري في صفات الله تعالى اعتقده اعتقاداً جازماً. أما الذين زاغت قلوبهم، وفسدت فطرهم، وعقولهم بالفلسفة والكلام فإن أحدهم لو أسمعته سبعين حديثاً، وثلاثين أثراً من الصحاح، والسنن لا يحصل لهم شيء من العلم بل ربما يردها أو يحرفها. فالآن قد ظهر من يفهم معنى العقيدة فهماً صحيحاً، ومن تزبب قبل أن يتحصرم يلقى ما يلقاه من تزعم قبل أن يتعلم كما تبين أن أئمة السنة وحافظ الأمة ما كانوا عابثين ولا لاعبين في تدوينهم لأحاديث الصفات وغيرها في كتب العقائد، ولله الحمد والمنة،، على أن هدانا إلى السنة،، وله الشكر على أن قتل الكوثري سلاح لسانه، وسيف بيانه وسكين بنانه،، ورده بغيظه برد كيده في نحره،، وهتك مكره وأمره بعجره وبجره،، فهو متناقص مفضوح صريح قتيل ذليل،، بقاله هذا وقيله الآتي عما قليل،، أرادوا بنا كيداً فكيدوا بكيدهم ... وزلوا فضلوا لم يجدوا مواليا المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني 2/ 69 - 116   (1) ((نظرة عابرة)) (ص 87 - 88)، و ((أصول البزدوي)) (ص 158)، - و ((شرحها كشف الأسرار)) للبخاري (2/ 377). (2) ((نظرة عابرة)) (ص 108). (3) ((نظرة عابرة)) (ص 109 - 110). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 المطلب الأول: معنى "التفويض" في اصطلاح السلف التفويض في باب صفات الله تعالى عند السلف هو التفويض في الكيف فقط، دون المعنى، فالسلف كانوا يعرفون معاني الصفات ويفوضون علم كيفيتها إلى الله تعالى؛ فيكون الكيف هو المجهول عندهم لا المعنى فكانوا مثبتين للصفات لا مفوضين لها، وهذا هو التفويض الحق الذي ندين الله تعالى به، ونصوص السلف في ذلك متواترة، منها المقالة الرَّبَعِيَّةُ، والمالكية التي سارت كالمثل السائر: "الاستواء معلوم والكيف مجهول" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 المطلب الثاني: التفويض عند الماتريدية التفويض في صفات الله تعالى عند الماتريدية هو التفويض في معانيها وكيفيتها وجهلهما جميعا، ونفي ما تدل عليه نصوصها، وتلاوتها دون فهم معانيها، وجعلها متشابهات كالحروف المقطعة، وتقويلهم السلف إياه، فهم معطلة جاهلة مجهلة (1) وفيما يلي بعض نصوص الماتريدية. 1 - قال الإمام أبو منصور الماتريدي: " .. مع ما كان الله يمتحن بالوقوف في أشياء كما جاء من نعوت الوعد والوعيد، وما جاء من الحروف المقطعة وغير ذلك مما يؤمن المرء أن يكون ذا مما المحنة فيه الوقف لا القطع".وقال: "يجب نفي التشبيه عنه والإيمان بما أراده من غير تحقيق على شيء" (2). 2 - وقال أبو المعين النسفي: "وما تعلق به الخصوم من الآيات المتشابهة محتملة لوجوه كثيرة غير ممكنة الحمل على ظواهرها على ما قررنا. فإما أن نؤمن بتنزيلها ولا نشتغل بتأويلاتها على ما هو اختيار كثير من كبراء الأمة، وعلماء الملة. وإما أن تصرف إلى وجه من التأويل يوافق التوحيد ولا تناقض الآية المحكمة، وكتب العلماء والتفسير، والكلام مملوءة من تأويلاتها، وكتابنا هذا لا يسع لبيان ذلك" (3).3 - وقال: " ... فإذا ظهرت صحة ما ادعينا من تعذر حمل الآيات على الظواهر، ووجوب الصرف إلى ما يصح من التأويلات، ثم بعد ذلك اختلف مشائخنا رحمهم الله، منهم من قال في هذه الآيات: إنها متشابهة يعتقد فيها أن لا وجه لإجرائها على ظواهرها، ونؤمن بتنزيلها ولا نشتغل بتأويلها ونعتقد أن ما أراد الله بها حق .. " (4). 4 - قال نور الدين الصابوني وحافظ الدين النسفي واللفظ الأول: "لأهل السنة فيها - أي في نصوص الصفات - طريقان: أحدهما: قبولها: وتصديقها، وتفويض تأويلها إلى الله مع تنزيهه عما يوجب التشبيه، وهو طريق سلفنا الصالح.   (1) راجع ((شرح الواسطية للهراس)) (ص 21)، القديمة، و (ص 67)، الجديدة. (2) ((كتاب التوحيد)) (ص 74 - 75) و ((السلام)) للوفى (ص 153) و ((السواد)) للسمرقندي (ص 27). (3) ((التمهيد لقواعد التوحيد)) (6/ 1). (4) ((تبصرة الأدلة)) (77/ 1). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 والثاني: قبولها والبحث عن تأويلها على وجه يليق بذات الله تعالى موافقاً لاستعمال أهل اللسان من غير قطع بكونه مراد الله تعالى" (1).5 - وقال التفتازاني بعد ما ذكر عدة آيات الصفات: "والجواب أنها ظنيات سمعية في معارضة قطعيات عقلية فيقطع بأنها ليست على ظاهرها، ويفوض العلم بمعانيها إلى الله تعالى مع اعتقاد حقيقتها جرياً على الطريق الأسلم ... أو تؤول تأويلات مناسبة لما عليه الأدلة العقلية على ما ذكر في كتب التفاسير وشرح الأحاديث سلوكاً للطريق الأحكم" (2).6 - وقال الإمام ابن الهمام: "إنها من المتشابهات، وحكم المتشابه القطاع رجاء المراد منه في هذه الدار" (3).7 - وقال الشيخ قاسم بن قطلوبغا: "وقال سلفنا في جملة المتشابه: نؤمن به، ونفوض تأويله إلى الله مع تنزيهه عما يوجب التشبيه والحدوث بشرط أن لا يذكر إلا ما في القرآن والحديث، فلا نقول: الاستواء صفة، ... أجمع السلف على أن لا يزيدوا على تلاوة الآية ... ، ولا يبدلوا لفظة: "على" بلفظة: "فوق" ونحو ذلك" (4).8 - وقال الملا علي القاري: "ومذهب الخلف جواز تأويل الاستواء بالاستيلاء ومختار السلف عدم التأويل، بل اعتقاد التنزيل مع وصف التنزيه له سبحانه عما يوجب التشبيه، وتفويض الأمر إلى الله، وعلمه في المراد به كما قال الإمام مالك .. ، واختاره إمامنا الأعظم، وكذا كل ما ورد من الآيات والأحاديث المتشابهات ... " (5).9 - وقال: "فالتفويض إلى الله، والاعتقاد بحقيقة مراد الله من غير أن يعرف مراده من كمال العبودية في العبد فلذا اختاره السلف" (6).10 - وقال المرعشي: "والأولى اتباع السلف في الإيمان بهذه الأشياء ورد علمها إلى الله تعالى ... وحاصل الرد إليه تعالى التوقف عن الحكم بأنها صفات زائدة على الذات غير الصفات المذكورة، أو مؤولة بما ذكروه" (7).11 - وذكر الكوثري: " .. ولا كيف ولا معنى" (8).12 - قال: "مراد من يقول من أهل السنة بإجراء أخبار الصفات على ظاهرها - حيث يرد إجراء اللفظ المستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفات الله على اللسان كما ورد مع التفويض أو التأويل - على ما سبق" (9).13 - وذكر: " .. تفسيره قراءته بلا كيف ولا معنى" (10).14 - الحاصل: أن معنى التفويض عند الماتريدية تفويض معاني الصفات ونصوصها وتفويض كيفيتها جميعاً إلى الله تعالى، وعدم العلم بالمعنى والكيف وعدم إثبات ما تدل عليه نصوص الصفات فهم معطّلة مجهّلة للسلف، جاهلة ولذلك يجعلون نصوص الصفات من قبيل المتشابهات (11).مع أنه أجاد وأفاد في بيان مذهب السلف، وحقق أن مذهبهم هو الإثبات لا التفويض، وصرح بأن التفويض بمثابة انسحاب من المشكلة أساساً، فلا يقول بإثبات ولا بنفي، وأن التفويض أن تقول: أفوض علم ذلك إلى الله (12). المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني 2/ 126   (1) ((البداية)) (ص 48)، ((العمدة)) (6/ب). (2) ((شرح المقاصد)) (2/ 50)، و ((شرح العقائد النسفية)) (ص 42)، وانظر ((حاشية أحمد الجندي عليه)) (ص 101)، و ((حاشية الكستلي عليه)) (ص 74)، و ((النبراس)) (ص 185 - 186)، و ((براءة الأشعريين)) (ص 80)، و ((شرح المقاصد للتفتازاني)) (4/ 50)، تحقيق عميرة. (3) ((المسايرة)) (ص 36). (4) ((شرح المسايرة)) (ص 32). (5) ((ضوء المعالي)) (ص 31، 32)، و ((شرح الفقه الأكبر)) (ص 172). (6) ((ضوء المعالي)) (ص 31، 32)، و ((شرح الفقه الأكبر)) (ص 172). (7) ((نشر الطوالع)) (ص 262) وانظر ((تنشيط الفنجفيري)) (ص 347 - 348). (8) ((تبديد الظلام)) (ص 53، 171). (9) ((تبديد الظلام)) (ص 136). (10) ((تبديد الظلام)) (ص 171). (11) انظر ((تبصرة الأدلة)) (77/أ)، و ((بحر الكلام)) (ص 26)، ((التمهيد لقواعد التوحيد)) (6/أ)، ((مدارك التنزية)) (1/ 197)، و ((عمدة القاري)) (25/ 88، 109، 134، 137، 159، 168)، ((المسايرة)) (ص 36) وشرحها لقاسم بن قطلوبغا (ص 32)، ((البحر الرائق)) (5/ 120)، ((ضوء المعالي)) (ص 31)، ((كشف اصطلاحات الفنون)) (4/ 179)، و ((نظم الفوائد)) (ص 23). (12) ((عقيدة التوحيد في فتح الباري)) (ص 89، 103). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 المطلب الثالث: في إبطال التفويض لقد سبق .... أن بينا الفرق بين التفويض السلفي الحق وبين التفويض الكلامي الخلفي الباطل المتقول على السلف. ولما كان نسبة هذا التفويض الباطل إلى السلف بالغ التقول اقتضى ذلك أن نذكر وجوهاً تتضمن براهين قاطعة وحججاً ساطعة على إبطال ذلك التفويض وبطلان نسبته إلى السلف الصالح، فأقول وبالله التوفيق: الوجه الأول: أن القول بهذا التفويض المطلق - التفويض في المعنى والكيف جميعاً - يستلزم الجهل بالله تعالى، وصفاته العلا. كما يستلزم الجهل بمذهب السلف، والتقول عليهم. ويستلزم أيضاً تجهيل السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة هذا الدين - بالله تعالى وصفاته الكمالية كما يستلزم استبلادهم، وأنهم كانوا يتلون كتاب الله ويقرؤون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يفهمون معاني ذلك. ويستلزم تفضيل الخلف أهل الكلام والبدع على خيار هذه الأمة بحجة أن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أحكم، وغيرها من اللوازم الفاسدة. وكل من هذه اللوازم في غاية الفساد والبطلان فالملزوم مثلها وفيها يلي نصوص بعض الأئمة لبيان فساد القول بالتفويض ونسبته إلى السلف: 1 - قال شيخ الإسلام: "ولا يجوز أن يكون الخالفون أعلم من السالفين - كما يقول بعض الأغبياء ممن لا يعرف قدر السلف، بل ولا عرف الله، ورسوله، والمؤمنين به حقيقة المعرفة: من أن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم ... فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم - على طريقة السلف- إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن؛ إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن؛ والحديث من غير فقه لذلك بمنزلة الأميين ... ، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات، وغرائب اللغات. فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالات التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف. وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص، بالشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين. فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان لابد للنصوص من معنى - بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ، وتفويض المعنى - وهي التي يسمونها طريقة السلف - أو بين صرف اللفظ إلى معان بنوع من التكلف - وهي التي يسمونها طريقة الخلف. فصار هذا الباطل مركباً من فساد العقل والكفر بالسمع، فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات، وهي شبهات. والسمع حرفوا فيه الكلام عن مواضعه. فلما انبنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكفريتين الكاذبتين - كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين، واستبلادهم، واعتقاد أنهم كانوا قوماً أميين بمنزلة الصالحين من العامة، لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي. وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله. ثم هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة، بل في غاية الضلالة. كيف يكون هؤلاء المتأخرون - لاسيما والإشارة بالخلف إلى ضرب المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم وغلظ من معرفة الله حجابهم". ثم ذلك أمثلةً لحيرتهم وشكوكهم واضطرابهم وندامتهم على لسانهم ثم قال: "كيف يكون هؤلاء المحجوبون المفصولون المسبوقون الحيارى المتهوكون - أعلم بالله وأسمائه وصفاته؟؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 وأحكم في باب ذاته وآياته من السابقين الأولين من المهاجرين، والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من ورثة الأنبياء، وخلفاء الرسل، وأعلام الهدى، ومصابيح الدجى. الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا. الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، فضلاً عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم. وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيى من يطلب المقابلة. ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة - لاسيما العلم بالله وأحكام أسمائه وآياته - من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم؟؟.أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة، وأتباع الهند، واليونان وورثة المجوس، والمشركين، وضلال اليهود، والنصارى، والصابئين وأشكالهم وأشباههم - أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان؟؟!! " (1). 2 - وقال شيخ الإسلام أيضاً: "فإن معرفة مراد الرسول، ومراد الصحابة هو أصل العلم، وينبوع الهدى. وإلا فكثير ممن يذكر مذهب السلف، ويحكيه لايكون له خبرة بشيء من هذا الباب. كما يظنون أن مذهب السلف في آيات الصفا، وأحاديثها أنه لا يفهم أحد معانيها، لا الرسول، ولا غيره ... ؛فيجعلون مضمون مذهب السلف أن الرسول بلغ قرآناً لا يفهم معناه. بل تكلم بأحاديث الصفات وهو لا يفهم معناها. وأن جبريل كذلك، وأن الصحابة والتابعين كذلك، وهذا ضلال عظيم، وهو أحد أنواع الضلال، ظن أهل التخييل، وظن أهل التحريف، والتبديل، وظن أهل التجهيل" (2). 3 - وقال: أما المنحرفون عن طريقهم - (أي السلف) - فهم ثلاث طوائف: أهل التخييل، وأهل التأويل، وأهل التجهيل". ثم فصل القول في الرد على أهل التخييل والتأويل ثم قال:"وأما الصنف الثالث - وهم أهل التجهيل فهم كثير من المنتسبين إلى السنة وأتباع السلف، يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرف معاني ما أنزل الله إليه من آيات الصفات ولا جبريل يعرف معاني الآيات، ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك، كذلك قولهم من أحاديث الصفات: إن معناها لا يعلمه إلا الله. مع أن الرسول تكلم بها ابتداء، فعلى قولهم تكلم بكلام لا يعرف معناه" (3).4 - وقال أيضاً: "والمقصود هنا التنبيه على أصول المقالات الفاسدة التي أوجبت الضلالة في باب العلم والإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن من جعل الرسول غير عالم بمعنى القرآن الذي نزل إليه، ولا جبريل - جعله غير عالم بالسمعيات، ولم يجعل القرآن هدى، ولا بياناً للناس ثم هؤلاء ينكرون العقليات في هذا الباب بالكلية، فلا يجعلون عند الرسول، وأمته في باب معرفة الله عز وجل لا علوماً عقلية ولا سمعية، وهم شاركوا الملاحدة في هذه من وجوه متعددة، وهم مخطئون فيما نسبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى السلف من الجهل، كما أخطأ في ذلك أهل التحريف، والتأويلات الفاسدة وسائر أصناف الملاحدة (4). 5 - وقال الإمام ابن القيم:   (1) ((الحموية)) (ص 13 - 16)، ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 8 - 12)، و ((ضمن مجموعة الرسائل الكبرى)) (1/ 427 - 429)، مع سقط وقع في النص ونقله ابن القيم في ((الصواعق المرسلة)) (1/ 161 - 170)، و ((انظر درء التعارض)) (5/ 378 - 379). (2) ((شرح حديث النزول)) (ص 65)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 413 - 414). (3) ((الحموية)) (ص 36 - 40)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 31 - 35)، وانظر أيضاً ((الصواعق المرسلة)) (2/ 418 - 424) ((النفائس)) (ص 105 - 108). (4) ((الحموية)) (ص 43)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 37) ((النفائس)) (ص 110). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 "والصنف الثالث: أصحاب التجهيل: الذين قالوا: نصوص الصفات ألفاظ لا تعقل معانيها، ولا ندري ما أراد الله ورسوله، منها، ولكن نقرؤها ألفاظاً لا معاني لها، ونعلم أن لها تأويلاً لا يعلمه إلا الله، وهي عندنا بمنزلة كهيعص [مريم:1] وحم عسق [الشورى: 1 - 2]. وظن هؤلاء أن هذه طريقة السلف، وأنهم لم يكونوا يعرفون حقائق الأسماء والصفات .. وبنوا هذا المذهب على أصلين: أحدهما: أن هذه النصوص من المتشابه. والثاني: أن للمتشابه تأويلاً لا يعلمه إلا الله. فنتج من هذين الأصلين استجهال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وسائر الصحابة، والتابعين لهم بإحسان ... ؛ ولازم قولهم أن الرسول كان يتكلم بذلك، ولا يعلم معناه. ثم تناقضوا أقبح التناقض فقالوا: تجرى على ظواهرها، وتأويلها مما يخالف الظواهر باطل، ومع ذلك فلها تأويل لا يعلمها إلا الله ... ؛ وهؤلاء غلطوا في المتشابه، وفي جعل هذه النصوص من المتشابه، وفي كون المتشابه لا يعلم معناه إلا الله. فأخطأوا في المقدمات الثلاث، واضطرهم إلى هذا التخلص من تأويلات المبطلين، وتحريفات المعطلين، وسدوا على نفوسهم الباب، وقالوا: لا نرضى بالخطأ، ولا وصول لنا إلى الصواب. فهؤلاء تركوا التدبر المأمور به والتذكر، والعقل لمعاني النصوص الذي هو أساس الإيمان، وعمود اليقين. وأعرضوا عنه بقلوبهم، وتعبدوا بالألفاظ المجردة التي أنزلت في ذلك، وظنوا أنها أنزلت للتلاوة، والتعبد بها دون تعقل معانيها وتدبرها، والتفكر فيها (1).6 - وللإمام ابن القيم كلام مهم آخر غالبه سبق في كلام شيخ الإسلام (2). 7 - وقال الإمام ابن أبي العز الحنفي (792) هـ:"فإن لازم هذا أن يكون الله أنزل على رسوله كلاماً لا يعلم معناه، جميع الأمة، ولا الرسول، ويكون الراسخون في العلم لاحظ لهم في معرفة معناه سوى قولهم: مَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [آل عمران:7] وهذا القدر يقوله غير الراسخ في العلم من المؤمنين والراسخون في العلم يجب امتيازهم عن عوام المؤمنين في ذلك" (3). 8 - وقال الحافظ ابن حجر عن بعض أهل العلم: (قول من قال: "طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أحكم" ليس بمستقيم، لأنه ظن أن طريقة السلف مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه في ذلك، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات. فجمع هذا القائل بين الجهل بطريقة السلف، والدعوى في طريقة الخلف، وليس الأمر كما ظن، بل السلف في غاية المعرفة بما يليق بالله تعالى، وفي غاية التعظيم له، والخضوع لأمره، والتسليم لمراده، وليس من سلك طريق الخلف واثقاً بأن الذي يتأوله هو المراد، ولا يمنعه القطع بصحة تأويله) (4). 9 - وقال ابن عربي المعروف عند أهل الخرافة بالشيخ الأكبر، وخاتم الأولياء (638هـ) وهو في الحقيقة "الشيخ الأكفر" والكذوب قد يصدق: "وقسم آخر: قال: نؤمن بهذا اللفظ كما جاء من غير أن نعقل له معنى حتى نكون في هذا الإيمان به في حكم من لم يسمع، ونبقى على ما أعطانا دليل العقل من إحالة مفهوم هذا الظاهر من هذا القول. فهذا القسم متحكم أيضاً بحسن عبارة، وأنه رد على الله بحسن عبارة، فإنهم جعلوا نفوسهم في حكم نفوس لم تسمع ذلك الخطاب. وقسم آخر: قالوا: نؤمن بهذا اللفظ على حد علم الله فيه، وعلم رسوله صلى الله عليه وسلم.   (1) ((الصواعق المرسلة)) (2/ 422 - 424)، وانظر ((مختصر الصواعق)) (1/ 54 - 55). (2) ((الصواعق المرسلة)) (1/ 161 - 170)، وانظر ((مختصر الصواعق)) (1/ 7 - 9). (3) ((شرح الطحاوية)) (ص 234) ط المكتب، و (ص 200)، ط دار البيان. (4) ((فتح الباري)) (13/ 352). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 فهؤلاء قد قالوا: إن الله خاطبنا عبثاً، لأنه خاطبنا بما لا نفهم، والله يقول: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم:4].وقد جاء بهذا، فقد أبان كما قال الله، لكن أبى هؤلاء أن يكون ذلك بياناً" (1).10 - قلت: نقله الشعراني، وأقره (2) وهو خرافي فلا يصدق. وفي كلام هذين الرجلين عبرة للمتكلمة المتصوفة.11 - وصرح العلامة المقبلي أن السلف لم يكونوا مفوضة، والتفويض جهل بالمعنى. وهو أخو التأويل فالمفوض متأول لا مسلِّم (3). 12 - 13 - وقال العلامة المحمود الألوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) وابنه السيد نعمان الألوسي (1317هـ): "قيل: إن السلف بعد نفي ما يتوهم من التشبيه يقولون: لا ندري ما معنى ذلك؟ والله أعلم بمراده. واعترض بأن الآيات والأخبار المشتملة على ذلك كثيرة جداً ويبعد غاية البعد أن يخاطب الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم العباد فيما يرجع إلى الاعتقاد بما لا يدرى معناه ... " (4). الحاصل: أن القول بالتفويض المطلق - أي تفويض المعنى، والكيف جميعاً - قول في غاية الفساد والبطلان، وموقف بالغ الضلال والبهتان لاستلزامه ما يلي: 1 - الجهل بالله تعالى وبأسمائه الحسنى، وصفاته العلا. 2 - 3 الجهل بمذهب السلف، والتقول الفاحش عليهم. 4 - تجهيل السلف من الصحابة والتابعين، بل تجهيل رسول الله صلى الله عليه وسلم. 5 - استبلاد السلف وأنهم كانوا يقرؤون نصوص الصفات بدون فهم معناها. 6 - تفضيل الخلف الحيارى المتهوكين على السلف الذين هم أعلم الناس بصفات ربهم بعد الأنبياء عليهم السلام. 7 - 8 - أن القرآن لم يكن هدى وشفاء وبياناً، وأن الله خاطب الناس بكلام لا يفهمون معناه، إلا غير ذلك من اللوازم الفاسدة. الوجه الثاني: أن القرآن لا يمكن أن يوصف بكونه هدى وشفاء ونوراً إلا إذا كان مفهوم المراد ويكون في غاية من الوضوح والبيان. ولذلك وصف الله تعالى كتابه بأنه مبين. ووصفه بأنه بيان، وأنه تبينا، ووصف آياته بأنها بينات، ووصفها بأنها مبينات، ووصف كتابه بأنه على لسان عربي مبين. وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم:4]. وقال: بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44] وأمر عباده بالتدبر في القرآن وآياته. فكيف يعقل بعد هذا أن آيات الصفات مع تلك الكثرة الكاثرة والأهمية لا يعلم المراد منها، ولا يعرف معانيها، وأن السلف كانوا يتلونها بدون معرفة المراد؟. الحاصل: أن الذي يدعي التفويض في المعنى، ويتقوله على السلف - فهو في الحقيقة مع جهله وتجهيله للسلف لم يجعل القرآن بياناً،، ولا هدى وفرقانا،، كما صرح به شيخ الإسلام،، وأشار إليه ابن القيم الإمام،، الوجه الثالث: أن نقول: مما لا ريب فيه أن السلف تعرضوا لتفسير نصوص الصفات فتفسيرهم لها فرع معرفتهم لمعانيها، لأن تفسير الشيء فرع العلم به فإذا لا يعرف الإنسان شيئاً ما كيف يفسره؟! لأن الحكم على الشيء فرع لتصوره. فتفسير السلف لنصوص الصفات يبطل التفويض كما يبطل تقوله عليهم وأنهم براء من هذا التفويض الباطل المنقول.   (1) ((الفتوحات المكية)) (4/ 7). (2) انظر ((اليواقيت والجواهر)) (ص 95). (3) ((الأرواح النوافخ)) (ص 395). (4) ((روح المعاني)) (16/ 159)، و ((جلاء العينين)) (ص 372). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 والذي لم يتعرضوا لتفسيره هو كيفية الصفات، أما معانيها فقد فسروها ووضحوا المراد منها، وفيما يلي بعض نصوص السلف:1 - هذا مجاهد - وهو إمام التفسير بعد الصحابة - قال: في تفسير "استوى": (على العرش) (1).2 - وهذا أبو العالية. قال: في تفسير اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء [البقرة:29] (ارتفع) (2).3 - وهكذا فسر الربيع بن أنس قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء [البقرة:29] (3).4 - وقال أبو عبيدة معمر بن المثني (210هـ) في قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [يونس:3]: ظهر على العرش وعلا عليه" (4).5 - والإمام البخاري استدل بقول مجاهد، وأبي العالية في تفسير لفظ "استوى" على أن المراد: علا وارتفع (5).6 - وبهذا فسره ابن قتيبة أديب أهل السنة (276هـ) (6).7 - وقال ابن جرير إمام مفسري أهل السنة: "وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه: "ثم استوى إلى السماء فسواهن" علا عليهن وارتفع .. " (7).8 - ومشى على هذا حافظ المغرب ابن عبدالبر (463هـ) (8).9 - وقال البغوي (516هـ) "قال ابن عباس، وأكثر مفسري السلف: أي ارتفع إلى السماء .. " (9). 10 - قال شيخ الإسلام:"ويبين ذلك أن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله، ولا قال: هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه، ولا قال قط أحد من سلف الأمة، ولا من الأئمة المتبوعين: إن في القرآنِ آياتٍ لا يعلم معناها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أهل العلم والإيمان جميعهم، وإنما قد ينفون علم بعض ذلك من بعض الناس، وهذا لا ريب فيه" (10). 11 - وقال: "وأيضاً فالسلف من الصحابة والتابعين، وسائر الأمة قد تكلموا في جميع النصوص - آيات الصفات، وغيرها- وفسروها بما يوافق دلالتها ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرةً توافق القرآن والحديث، وأئمة الصحابة في هذا أعظم من غيرهم، مثل عبدالله ابن مسعود - الذي كان يقول: "لو أَعْلَمُ أَعْلَمَ بكتاب الله مني تبلغه آباط الإبل أتيته" - وعبدالله بن عباس- الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حبر الأمة، وترجمان القرآن-. كانا هما وأصحابهما من أعظم الصحابة والتابعين إثباتاً للصفات، ورواية لها عن النبي صلى الله عليه وسلم.   (1) ذكره البخاري تعليقاً مستدلاً به، انظر ((صحيح البخاري)) (6/ 2698)، ووصله الفرياني في تفسيره، انظر ((تعليق التعليق)) (5/ 345)، ((فتح الباري)) (13/ 405)، ((عمدة القاري)) (25/ 112)، ولم أجده في ((تفسير مجاهد)) المطبوع. (2) ذكره البخاري تعليقاً جزماً مستدلاً به، انظر ((صحيح البخاري)) (6/ 2698)، قال الحافظ والعينين: وصله الطبري: انظر ((تعليق التعليق)) (5/ 344)، ((فتح الباري)) (13/ 405)، ((عمدة القاري)) (25/ 111)، قلت: لم أجده في ((تفسير الطبري)) في طبعاته الثلاث، وذكر السيوطي: أنه أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم، والبيهقي: انظر ((الدر المنثور)) (1/ 106)، قلت: لم أجده في ((الأسماء والصفات)) للبيهقي، ورواه الحافظ بن حجر بسنده إلى أبي العالية، انظر ((تعليق التعليق)) (5/ 344). (3) ((رواه ابن جرير في تفسيره)) (1/ 191)، بسند فيه انقطاع. (4) ((مجاز القرآن)) (1/ 273، 2/ 15، 57). (5) انظر ((صحيح البخاري)) (6/ 2698)، و ((فتح الباري)) (13/ 405)، و ((عمدة القاري)) (25/ 112). (6) انظر ((تفسير غريب القرآن)) (ص 277). (7) ((جامع البيان)) (1/ 192). (8) ((التمهيد)) (7/ 131 - 132). (9) ((معالم التنزيل)) (1 - 59، 2/ 195). (10) ((الإكليل)) (ص 20 - 21، 32 - 34)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (13/ 285)، (294 - 295)، و ((ضمن دقائق التفسير)) (1/ 129، 134 - 135)، و ((ضمن مجموع الرسائل الكبرى)) (2/ 15، 21 - 22). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 ومن له خبرة بالحديث والتفسير يعرف هذا. وما في التابعين أجل من أصحاب هذين السيدين ... ؛ ولو كان معنى هذه الآيات منفياً، ومسكوتاً عنه لم يكن ربانيو الصحابة أهل العلم بالكتاب والسنة أكثر كلاماً فيه، ثم إن الصحابة نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة. ولم يذكر أحد منهم أنه امتنع من تفسير آية. قال أبو عبدالرحمن السلمي: "حدثنا الذين كانوا يقرؤننا - عثمان ابن عفان، وعبدالله بن مسعود وغيرهما - أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل". وكذلك الأئمة كانوا إذا سئلوا شيئاً من ذلك لم ينفوا معناه، بل يثبتون المعنى وينفون الكيف". ثم ذكر مقالة الإمامين ربيعة ومالك، المعروف وشرحها شرحاً وافياً ثم قال:"ثم السلف متفقون على تفسيره بما هو مذهب أهل السنة، قال بعضهم: "ارتفع على العرش: علا على العرش"، وقال بعضهم عبارات أخرى، وهذه ثابتة عن السلف، قد ذكر البخاري في "صحيحه" في آخر كتاب الرد على الجهمية" (1). 12 - 14 وقال العلامة محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) وابنه نعمان الآلوسي (1317هـ): وحفيده شكري:" ... وأيضاً قد ورد في الأخبار ما يدل على فهم المخاطب المنى ... ، ... وقد صح عن بعض السلف أنهم فسروا ففي صحيح البخاري: قال مجاهد: "استوى على العرش" "علا على العرش"، وقال أبو العالية: "استوى على العرش" "ارتفع" (2). قلت: الحاصل: أن السلف كانوا يعرفون معاني صفات الله تعالى والمراد من نصوصها، ولذلك فسروها كتفسيرهم لبقية النصوص غير أنهم كانوا يفوضون علم كيفيتها إلى الله تعالى. وهذا دليل قاطع على إبطال التفويض المتقول على السلف، وأنهم لم يكونوا مفوضة، بل كانوا مثبتين للصفات بلا تكييف ولا تمثيل ومنزهين لله تعالى عن كل عيب ونقص بلا تحريف ولا تعطيل. ويزيده إيضاحاً وتحقيقاً ما في الوجه الآتي. الوجه الرابع: أن السلف كانوا يميزون بين صفة وصفة وكانوا يصرحون بأن هذه الصفة غير تلك الصفة، وليست عينها، ولا يجوزون تفسير أحداها، بالأخرى. فلو كانوا لا يعرفون معانيها كيف يميزون بين صفة وأخرى؟؟ فهذا من الحجج الدامغة على أنهم كانوا على حظ عظيمٍ وافر من العلم بها مع تفويضهم علم كيفيتها إلى الله تعالى. وأذكر لذلك مثالين على لسان الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى لتكون فيهما عبرة للحنفية الماتريدية الذين ادعوا التفويض ونسبوه إلى السلف. الأول: ما قاله الإمام أبو حنيفة: " ... ولا يقال: إن يده قدرته أو نعمته؛ لأن فيه إبطال الصفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفته بلا كيف .. " (3).الثاني: ما قال: "وغضبه، ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف، وهو قول أهل السنة والجماعة، ولا يقال: غضبه عقوبته، ورضاه، ثوابه، ونصفه كما وصف نفسه" (4).   (1) ((الإكليل)) (ص 48 - 52)؛ و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (13/ 307 - 310)، و ((ضمن دقائق التفسير)) (1/ 142 - 143)، و ((ضمن مجموعة الرسائل الكبرى)) (2/ 31 - 34). (2) ((روح المعاني)) (16/ 159)، و ((جلاء العينين)) (ص 272)، وانظر ((انظر غاية الأماني)) (1/ 452). (3) ((الفقه الأكبر بشرح القاري)) (ص 59). (4) ((الفقه الأبسط)) (56)، وسكت عليه الكوثري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 قلت: هذان مثلان واضحان ونصان صريحان في عدم جواز تفسير صفة بأخرى، وأن ذلك مذهب المعتزلة، وليس من مذهب أهل السنة في شيء وأنه يجب وصف الله بما وصف به نفسه بلا كيف، وكما أن معنى "القدرة" معروف كذلك معنى "اليد" معروف وهكذا معنى "الغضب" ومعنى "الرضا" معروفان وهما من صفات الله بلا كيف. وهو قول أهل السنة، فبطل التفويض المفتعل المتقول على السلف. قال شيخ الإسلام: "والله سبحانه وتعالى أخبرنا: أنه عليم قدير، سميع، بصير، غفور، رحيم، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته. فنحن نفهم معنى ذلك ونميز بين العلم، والقدرة، وبين الرحمة، والسمع، والبصر، ونعلم أن الأسماء كلها اتفقت في دلالتها على ذات الله مع تنوع معانيها. فهي متفقة متواطئة من حيث الذات متباينة من جهة الصفات".ثم أورد أمثلة متعددة لإيضاح هذا المطلب، كأسماء النبي صلى الله عليه وسلم، وأسماء القرآن والسيف،، وحقق أن هذه الأسماء مع تعددها تدل على ذات واحدة من اختلاف معانيها (1).وقال: " ... فإنا نفهم من قوله: إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال:75] معنى ونفهم من قوله: إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:65] معنى ليس هو الأول، ونفهم من قوله: إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [إبراهيم:47] معنى، وصبيان المسلمين بل وكل عاقل يفهم هذا" (2). الوجه الخامس: أنه من الواقع المحسوس أن الناس إذا سمعوا كلاماً ولا يفهمون معناه، يبادرون إلى السؤال عن معناه ومراد المتكلم ليفهموا معناه ويعرفوا المراد منه، والنفوس تحرص على هذا والقلوب تتطلع إلى المعرفة والإطلاع إلى العلوم، ولاسيما إذا كان الكلام بين الأستاذ وتلامذته، ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة رضي الله عنهم أحرص الناس على حصول الخير والإطلاع على العلوم النافعة التي تتصل بصميم دينهم. وباب الأسماء الحسنى والصفات العلا من أعظم المعارف الإسلامية وكان الصحابة أحرص الناس على الاستفادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يسألونه في أمور جليلها ودقيقها - وكانا خير تلامذة وأصحاب لخير معلم ومرشد - إذا أشكل عليهم شيء في أمر الدين أو صعب عليهم فهم نص من نصوص الوحي. ومع ذلك لم يثبت عنهم أنهم شكُّوا في صفات الله تعالى أو سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لفهم معناها. بل كانوا يتلقون كتاب الله تعالى وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فيهما نصوص الصفات مع تلك الكثرة الكاثرة. فهل يَتَصوَّرُ من له أدنى مسكةٍ من عقلٍ صحيحٍ أنهم يتلونها ويرددونها بدون فهم معانيها ومعرفة المراد منها - طيلة حياتهم - ولم يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟؟. فهذا من البراهين الواضحة على أنهم لم يكونوا مفوضة بالمعنى الذي يعنيه الماتريدية، ولم يكونوا جاهلين بالله وبصفاته تعالى إلى الحد الذي زعمه أهل الكلام عليهم وقولهم التفويض الذي هم منه براء. بل نقول جزماً لا يحتمل النقيض: أنهم لو لم يفهموا معانيها لبادروا إلى السؤال عنها، ولسابقوا إلى الإطلاع على المراد منها. نعم قد ورد أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رؤية الله تعالى، فعن أبي هريرة: ((أن الناس قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة ... )) الحديث. وعن أبي سعيد الخدري مثله. فمثل هذين الحديثين يدلنا دلالة قاطعة على أنهم كانوا يعرفون معاني صفات الله تعالى، ويفهمون المراد من نصوصها، وإلا لبادروا إلى السؤال عنها ليعرفوا المراد كما فعلوا في مسألة الرؤية.   (1) ((التدميرية)) (ص 100 - 102)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 59). (2) ((الإكليل)) (ص 36)، و ((ضمن دقائق التفسير)) (1/ 136)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (13/ 297). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 الحاصل: أن سؤال الصحابة وعدم سؤالهم في باب الصفات كلاهما دليل قاطع على أنهم كانوا يعرفون معانيها ويفهمون المراد منها. وهكذا نرى الصحابة اختلفوا في باب الأحكام ولم يختلفوا قطعاً في باب الصفات قط. ويزيد هذا المطلب إيضاحاً كلام الإمام المقريزي حيث يقول: "اعلم أن الله تعالى لما بعث العرب نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى الناس جميعاً وصف لهم ربهم سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه الكريم في كتابه العزيز الذي نزل به على قلبه صلى الله عليه وسلم الروح الأمين وبما أوحى إليه ربه تعالى. فلم يسأله صلى الله عليه وسلم أحد من العرب بأسرهم قرويهم وبدويهم عن معنى شيء من ذلك كما كانوا يسألونه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك مما لله فيه سبحانه أمر ونهي، وكما سألوه صلى الله عليه وسلم، عن أحوال القيامة والجنة والنار إذ لو سأله إنسان منهم عن شيء من الصفات لنقل كما نقلت الأحاديث الواردة عنه صلى الله عليه وسلم في أحكام الحلال والحرام وفي الترغيب والترهيب وأحوال القيامة. والملاحم والفتن ونحو ذلك مما تضمنته كتب الحديث، معاجمها ومسانيدها وجوامعها. ومن أمعن النظر في دواوين الحديث النبوي ووقف على الآثار السلفية علم أنه لم يرد قط من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم على اختلاف طبقاتهم وكثرة عددهم: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن معنى شيء مما وصف الرب سبحانه نفسه الكريمة في القرآن الكريم وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بل كلهم فهموا معنى ذلك وسكتوا عن الكلام في الصفات نعم ولا فرق أحد منهم بين كونها صفة ذات أو صفة فعل وإنما أثبتوا له تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعز والعظمة، وساقوا الكلام سوقاً واحداً وهكذا أثبتوا رضي الله عنهم ما أطلقه الله سبحانه على نفسه الكريمة من الوجه واليد ونحو ذلك مع نفي مماثلة المخلوقين فأثبتوا رضي الله عنهم بلا تشبيه ونزهوا من غير تعطيل ولم يتعرض مع ذلك أحد منهم إلى تأويل شيء من هذا ورأوا بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت. ولم يكن عند أحد منهم ما يستدل به على وحدانية الله تعالى وعلى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم سوى كتاب الله ولا عرف أحد منهم شيئاً من الطرق الكلامية ولا مسائل الفلسفة فمضى عصر الصحابة رضي الله عنهم على هذا ... " (1).قلت: للإمام ابن القيم أيضاً كلام قيم في هذا الصدد فراجعه (2). ولنعلم ما قيل: وهذا الحق بس به خفاء ... فدعنى من بُنّيَّاتِ الطريق قلت: هذه حقيقة واقعة اعترف بها تقي الدين على بن عبدالكافي السبكي (756هـ) حيث قال: " ... وقد فهمها الصحابة، ولذلك لم يسألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم، لأنها كانت معقولة عنهم بوضع اللسان، وقرائن الأحوال، وسياق الكلام، وسبب النزول.   (1) ((الخطط)) للمقريزي (2/ 356)، وذكر معناه شيخنا عبدالله بن محمد الغنيمان في ((شرح كتاب التوحيد)) للبخاري (ص 17 - 18)، و ((ثبات العقيدة الإسلامية أمام التحديات)) (ص 7 - 10) (2) ((إعلام الموقعين)) (1/ 49)، و ((بدائع الفوائد)) (2/ 4 - 5)، ((الصواعق المرسلة)) (1/ 208 - 211)، و ((مختصر الصواعق)) (1/ 15 - 16)، وانظر أيضاً ((روح المعاني) (16/ 159)، و ((جلاء العينين)) (ص 372)، وراجع أيضاً ((درء التعارض)) (ص 44 - 71)، ففيه مبحث في غاية الدقة والإتقان يقطع دابر الجهمية المعطلة وأفراخهم الماتريدية وزملاءهم الأشعرية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 ومضت الأعصار الثلاثة التي هي خيار القرون على ذلك. حتى حدثت البدع والأهواء ... " (1).قلت: السبكي من أئمة الكوثري في المباحث الكلامية وعداء شيخ الإسلام وابن القيم ولذلك نرى الكوثري يبجله غاية التبجيل (2). وقد سكت الكوثري على قوله هذا، فيكون حجة عليه في باب التفويض. وهذا الذي ذكرنا من عدم سؤال الصحابة وعدم استشكالهم في باب الصفات. من ناحية؛ ومن ناحية أخرى. أن الكفار بأصنافهم كانوا ألد أعداء الإسلام، وكانوا يترصدون الفرصة - بين حين وآخر - للطعن في القرآن والإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. وقد عارضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من المواطن طعناً في القرآن والإسلام (3). فلو كانت نصوص الصفات لا تعلم معانيها، ولا يعرف المراد منها، ولا كانوا يعرفوها، لبادروا إلى الطعن في القرآن، ولكان ذلك فرصة سعيدة لأعداء الإسلام، كما سيأتي في الوجه السابع. الوجه السادس: أن دعوى التفويض المطلق وتقوله على السلف الصالح دعوى باطلة يكذبها واقع نصوص السلف. فإن نصوص السلف قد تواترت في إثبات الصفات بلا تكييف ولا تمثيل مع تنزيه الله تعالى بلا تحريف ولا تعطيل؛ وكلامهم في ذلك إما نص وإما ظاهر، وهذه كتب أئمة السنة تفوح بأقوال السلف وحصر أقوالهم خارج عن نطاق طاقة البشر. ولكن أكتفي بأمثلة عديدة من أقوالهم تبين أن مذهبهم إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل، وأنهم كانوا يعرفون معاني الصفات ويفهمون المراد من نصوصها وتفويضهم في الكيف أما نسبة التفويض المطلق إليهم - فافتراء قيبح،، وبهت صريح،، وكذب شنيع،، وتقول فظيع،، عليهم: 1 - قال الإمام ربيعة بن أبي عبدالرحمن المعروف بربيعة الرأي (136هـ) شيخ الإمام مالك: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول .. ". 2 - ومثله كلام الإمام مالكٍ رحمهما الله تعالى. وقال مالك (179هـ) أيضاً: "الله في السماء وعلمه في كل مكان ... ". قلت: هذه المقالة الرَّبَعية والمالكية - التي سارت مسيرة الأمثال، وسارت بها الركبان - هي منهج كل مسلم سني سلفي، وهي تمثل مذهب السلف قديماً وحديثاً، وبهذا المهيع المستقيم السوي الوسط نجاة من ديجور التعطيل وفجور التمثيل. وهي رد صريح على مزاعم أهل الجهل والتجهيل والتفويض، والتأويل؛ فإنهما قد صرحا بأن الاستواء معلوم، وإنما المجهول هو كيفيته. 3 - قال شيخ الإسلام: " ... وكذلك الأئمة كانوا إذا سئلوا شيئاً من ذلك لم ينفوا معناه، بل يثبتون المعنى وينفون الكيف. كقول مالك ... "الاستواء معلوم، والكيف مجهول" ... وكذلك ربيعة قبله. وقد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول، فليس أحد من أهل السنة ينكره، وقد بين: أن الاستواء معلوم، كما أن سائر ما أخبر به معلوم، ولكن الكيفية لا تعلم، ولا يجوز السؤال عنها، لا يقال: كيف استوى ... ؛ فإن قيل: معنى قوله: "الاستواء معلوم" أن ورود هذا اللفظ في القرآن معلوم ... ؛ قيل: هذا ضعيف، فإن هذا من باب تحصيل الحاصل، فإن السائل قد علم أن هذا موجود في القرآن، وقد تلا الآية. وأيضاً فلم يقل ذكر الاستواء في القرآن، ولا إخبار الله بالاستواء، وإنما قال: "الاستواء معلوم فأخبر عن الاسم المفرد أنه معلوم، ولم يخبر عن الجملة. وأيضاً فإنه قال: "والكيف مجهول" ولو أراد ذلك يقال: معنى الاستواء مجهول، أو تفسير الاستواء مجهول، أو بيان الاستواء غير معلوم، فلم ينف إلا العلم بكيفية الاستواء، لا العلم بنفس الاستواء.   (1) ((السيف الصقيل مع تعليقات الكوثري عليها المسماة بتبديد الظلام)) (ص 148). (2) ((انظر تبديد الظلام)) (ص 10، 56، 57، 60، 99، 182). (3) ((راجع درء التعارض)) (7/ 55 - 71)، وانظر ((تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة)) (ص 99). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 وهذا شأن جميع ما وصف الله به نفسه. لو قال في قوله: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]: كيف يسمع، وكيف يرى؟. لقلنا: السمع، والرؤيا معلوم، والكيف مجهول. ولو قال: كيف كلم موسى تكليماً؟ لقلنا: التكليم معلوم، والكيف غير معلوم" (1). قلت: هذا الذي حققه شيخ الإسلام في تفسير المقالة الرَّبَعِيَّة والمالكية حقيقة واقعة، وقد اعترف بها أبو بكر بن العربي (543هـ) فقال:4 - "ومذهب مالك رحمه الله: أن كل حديث منها معلوم المعنى، ولذلك قال للذي سأله: "الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة ... " (2).وابن العربي هذا من أئمة الكوثري في المباحث الكلامية ولذا - يثني عليه ثناء عاطراً (3) فكلامه حجة عليه خاصة وعلى الماتريدية عامة. والعجب من العلامة ملا علي القاري حيث حمل كلام الإمام مالك هذا على التفويض المطلق الباطل فقال: مذهب السلف عدم التأويل، وتفويض الأمر إلى الله وعلمه في المراد به، كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول، واختاره إمامنا الأعظم (4). مع أن كلام الإمام مالك صريح في كون المعنى معلوماً، وإنما المجهول هو الكيف فهو يفوض في الكيف دون المعنى فبطل زعم الماتريدية. 5 - وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: "من قال: لا أعرف الله أفي السماء أم في الأرض - فقد كفر، قال الله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]. فإن قال: أقول بهذه الآية ولكن لا أدرى أين العرش؟ في السماء أم في الأرض؟ فقد كفر أيضاً. ونذكره من أعلى لا من أسفل، لأن الأسفل ليس من الربوبية والألوهية في شيء ... " (5). ثم ذكر حديث الجارية مستدلاً به على علو الله تعالى. قلت: أي عقل يحمل هذا النص الواضح على التفويض المفتعل الباطل مع أن الإمام أبا حنيفة يكفر من قال: لا أعرف الله هل في السماء أم في الأرض؟ بل يكفر من قال: لا أدري أين العرش مع اعتقاده أن الله على العرش. ثم ذكر الإمام أبو حنيفة ثلاثة دلائل على إثبات علو الله تعالى: الأول: الدليل الفطري: وهو أن الله تعالى يدعى من أعلى لا من أسفل فالقلوب مفطورة بالتضرع إليه تعالى وأنه فوق العالم، وترفع الأيدي إليه على أنه فوق عباده. والثاني: الدليل العقلي: وهو أن الأسفل ليس وصف الربوبية والألوهية فمقتضى كونه تعالى رباً وإلهاً أنه فوق خلقه أجمعين. والثالث: الدليل النقلي: وهو قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، وحديث الجارية، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أين الله)) وجواب الجارية: ((في السماء)) (6).ومع ذلك كله نرى الماتريدية ينسبون التفويض المفتعل المتقول الباطل إلى الإمام أبي حنيفة رحمة الله تعالى (7). مع أنه من أهل الإثبات، وكلامه صريح في هذا غاية الصراحة وحمله على التفويض المطلق الباطل تحريف محض. نعم أبو حنيفة الإمام كبقية أئمة الإسلام يفوض في الكيف (8).   (1) ((الإكليل)) (ص 50 - 51)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (13/ 308 - 310)، و ((ضمن مجموعة الرسائل الكبرى)) (2/ 32 - 33)، و ((ضمن دقائق التفسير)) (1/ 142 - 143). (2) ((عارضة الأحوذي)) (3/ 166). (3) انظر ((تبديد الظلام)) (ص 48، 51، 109، 111، 112، 114، 173). (4) ((ضوء المعالي)) (ص31)، و ((شرح الفقه الأكبر)) (ص 172). (5) ((الفقه الأبسط بشرح أبي الليث السمرقندي)) (ص 17، 20)، و ((الفقه الأبسط بتحقيق الكوثري)) (ص 49 - 52). (6) رواه مسلم (537) (7) انظر ((ضوء المعالي)) (ص 31)، و ((شرح الفقه الأكبر)) (ص 172). (8) انظر ((الفقه الأكبر بشرح القاري)) (ص 59)، و ((الفقه الأبسط بتحقيق الكوثري)) (ص 56). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 فاكتفاء الإمام بالتفويض في الكيف دليل قاطع على أنه لم يفوض في المعنى وهذا برهان قاطع على أن الماتريدية لم يعرفوا مذهب إمامهم؛ وثبت أن مذهبه إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل، وتفويض الكيف.6 - كلام الإمام عبدالله بن المبارك (181 هـ) الذي عده الحنفية ومنهم الكوثري في زمرة كبار أئمة الحنفية (1) فرية بلا مرية. قال علي بن الحسن بن شقيق (215هـ). "سألت عبدالله بن المبارك: كيف ينبغي أن نعرف ربنا عز وجل؟ قال: "على السماء السابعة على عرشه، ولا نقول كما تقول الجهمية: إنه ها هنا في الأرض". قلت: ليتدبر كل عاقل طالب الحق رباني القلب في نص هذا الإمام العظيم، هل هو يثبت علو الله على عرشه، وفوقيته على خلقه؟. أم يفوض في معنى العلو وكيفيته؟ بلى احتج هذا الإمام العظيم بعلو الله تعالى على عرشه على معرفته تعالى فهل يكون هذا من المفوضة؟ فاعتبروا يا أولى الأبصار. 7 - وقال الإمام عبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي (157 هـ) وهو يحكي إجماع السلف على إثبات فوقية الله تعالى على خلقه وعلوه على عرشه - خاصة وجميع الصفات عامة-: "كنا - والتابعون متوافرون - نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه ونؤمن بما وردت السنة بما من صفاته جل وعلا". الحاصل: أن نصوص أئمة السنة دالة - إما نصاً وإما ظاهراً - على أنهم كانوا يعرفون معاني الصفات ويفهمون المراد من نصوصها غير أنهم كانوا يفوضون في الكيف فقط دون المعنى؛ فنسبة التفويض المطلق الباطل إليهم تقول قبيح وكذب صريح، وبهت شنيع، وافتراء فظيع وضلال وإضلال. وفي ذلك عبرة للماتريدية،، ولاسيما الفنجفيرية،،الذين ينسبون التفويض إلى السلف كذباً وزوراً (2). الوجه السابع: أنه من المعلوم علماً اضطرارياً أن المشركين واليهود والنصارى وغيرهم من الكفرة كانوا ألد أعداء الإسلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم وعامة المسلمين. وكانوا يترصدون الفرص للقدح في الإسلام بكل وسيلة ممكنة لهم. ومن المعلوم بلا ارتياب أنهم لم يقدحوا في نصوص الصفات، ولا قالوا: إن هذا الرجل - رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأتباعه - الصحابة رضي الله عنهم - يتكلمون بكلام لا يفهم معناه. فلو كانت نصوص الصفات لا يعلم المراد منها، وأن الصفات لا تُعرف معانيها، وأن الصحابة لا يعرفون لك - لبادر هؤلاء الكفار إلى الطعن في الإسلام وسارعوا إلى القدح في القرآن والمسلمين من هذا الباب فدل ذلك دلالة قاطعة على أن هؤلاء الكفار لم يكونوا مفوضين على الإطلاق فضلاً عن المسلمين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن المعلوم أيضاً أن المسلمين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقدون الكفار وآلهتهم بأنها لا تتصف بصفات الألوهية الكمالية، من السمع والبصر، والقدرة، والعلم، والكلام، ونحوها، والتكليم، بل هي متصفة بصفات النقص فلا تستحق الألوهية بخلاف رب العالمين إله الحق سبحانه وتعالى فإنه متصف بصفات الكمال فهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له. ولم يكن المشركون يعارضون المسلمين في هذا قط؛ كما عارضوهم في مسائل أخرى (3): فلم ينفوا عن الله تعالى صفاته الكمالية، وكانوا معترفين بذلك، اللهم إلا من عاند منهم وأكره نفسه على مخالفة الفطرة وما هو مركوز في القلوب.   (1) انظر ((الجوهرة المضية)) (2/ 324 - 326)، و ((فقه أهل العراق)) (ص 61). (2) انظر ((تنشيط الأذهان)) للشيخ عبدالسلام الفنجفيري (ص 346، 347، 348). (3) لشيخ الإسلام مبحث عظيم الفائدة يجب الإطلاع عليه. انظر ((درء التعارض)) (5/ 55 - 71) ففيه عبرة للماتريدية عامة،، وللفنجفيرية خاصة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 فهذا يدل دلالة قاطعة على أنهم لم يكونوا مفوضةً، فضلاً عن أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم مفوضةً جاهلين بالله وبأسمائه الحسنى، وصفاته العلا. ولهذا قال الله تعالى: لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النحل:60] قال شيخ الإسلام: "وأهل السنة يقولون لهؤلاء: ونحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءت بإثبات الصفات، ونصوص في الكتب الإلهية، أكثر وأعظم من نصوص المعاد. ويقولون لهم: معلوم أن مشركي العرب وغيرهم كانوا ينكرون المعاد، وقد أنكروه على الرسول صلى الله عليه وسلم، وناظروه عليه، بخلاف الصفات، فإنه لم يكن العرب تنكر. فعلم أن إقرار العقول بالصفات أعظم من إقرارها بالمعاد. فكيف يجوز مع هذا أن يكون ما أخبر به من الصفات ليس كما أخبر به، وأن ما أخبر به من المعاد هو على ما أخبر به؟ " (1). وقال الإمام السهيلي (581هـ): "فإن قيل: وكيف خوطبوا بما لا يفهمون ولا يستعملون، إذ اليد بمعنى الصفة لا يفهم معناه. قلنا: ليس الأمر كذلك بل كان معناها مفهوماً عند القوم الذين نزل القرآن بلغتهم. ولذلك لم يستفت واحد من المؤمنين عن معناها، ولا خاف على نفسه وتوهم التشبيه، ولا احتاج إلى شرح وتنبيه؛ وكذلك الكفار لو كانت عندهم لا تعقل إلا في الجارحة لتعلقوا بها في دعوى التناقض، واحتجوا بها على الرسول صلى الله عليه وسلم. ولقالوا له: زعمت: أن الله ليس كمثله شيء، ثم تخبر أن له يداً كأيدينا وعيناً كأعيننا. ولم ينقل ذلك عن مؤمن، ولا كافر علم أن الأمر كان فيها عندهم جلياً لا خفياً .. " (2).ولشيخ الإسلام كلام مهم في هذا الصدد أيضاً فراجعه (3). تنبيه: لقد جمع العلامة عبدالسلام أحد كبراء الفنجفيرية عدة نصوص لبيان مذهب السلف؛ فاختلط عليه الحابل بالنابل، وخلط علماً صالحاً وآخر سيئاً؛ عيسى الله أن يتوب علينا وعليه؛ حيث ذكر عن السيوطي: أن مذهب السلف تفويض معناها المراد إلى الله مع تنزيهه عن حقيقتها (4). قلت: كلامه متناقض لأنه ذكر نصوصاً قبله وبعده تناقضه؛ وباطل أيضاً بهذه الوجوه السابقة واللاحقة. وهذا برهان إنَّيٌّ على أنه لم يعرف التوحيد ومذهب السلف،، فلذا وقع في طامات الماتريدية الخلف،، وهذا الجهل المطبق برهان لِمِّىٌّ على وقوعه في التفويض الواضح،، والتناقص الفاضح،، الوجه الثامن: أن التفويض المطلق المفتعل المصنوع على السلف أخو التأويل الذي يتضمن تعطيل الصفات وتحريف نصوصها كما سيأتي تحقيقه. فكذلك التفويض يتضمن التعطيل غير أن التأويل يتضمن التحريف أيضاً. فالتفويض والتأويل مشتركان في تضمنهما للتعطيل، لأن المفوض لا يثبت لله الصفات بل ينفيها؛ لأنه يقول: ظاهر نصوص الصفات غير مراد فهو ينفي العلو، والاستواء والنزول واليدين، والغضب والرضا ونحوها من صفات الله؛ ويقول: إن النصوص لا تدل على هذه، وهي غير مرادة منها، وأن المراد غير معلوم فقد وقع المفوض في التعطيل من هذه الجهة من حيث لا يشعر كما وقع في الجهل بصفات الله وتجهيل السلف.   (1) ((الحموية)) (ص 38)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 33) ((النفائس)) (ص 107). (2) ((بدائع الفوائد)) (2/ 4 - 5) لابن القيم عنه. (3) ((درء التعارض)) (7/ 128، 55 - 71)، وانظر ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص 99). (4) انظر ((تنشيط الأذهان)) (ص 347 - 348). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 قال العلامة المقبلي: "المذهب الثالث: من يقول ليس المراد هو ظاهر العبارة بحسب ما يفهم من اللغة لكنا جهلنا المعنى المراد، فنمسك عن الفحص عنه كما أمسك السلف. وهذا المذهب في الحقيقة هو الأول - (أي التأويل) - وإن كان أسلم من الذي قبله باعتبار أنه سهل، فهو ليس بمذهب ثالث، لأن صاحبه إنما سكت عن التعيين، وقد حكم بالتأويل في الجملة فهو متأول لا مسلم" (1) يعني أن المفوض نافٍ للصفات. وقال الدكتور محمد خليل هراس رحمه الله: "فالفرق بين التحريف والتعطيل: أن التعطيل نفي المعنى الحق الذي دل عليه الكتاب السنة، وأما التحريف: فهو تفسير النصوص بالمعاني الباطلة التي لا تدل عليها. والنسبة بينهما العموم والخصوص المطلق. فإن التعطيل أعم مطلقاً من التحريف، بمعنى أنه كلما وجد التحريف وجد التعطيل دون العكس. وبذلك يوجدان معاً فيمن أثبت المعنى الباطل ونفى المعنى الحق. ويوجد التعطيل بدون التحريف فيمن نفى الصفات الواردة في الكتاب والسنة، وزعم أن ظاهرها غير مراد، ولكنه لم يعين لها معنى آخر، وهو ما يسمونه بالتفويض ... " (2). الحاصل: أن التفويض المطلق الباطل يتضمن التعطيل فهو أخو التأويل. فثبت أن السلف لم يكونوا مفوضة كما لم يكونوا مؤولة معطلة .. بل كانوا مثبتين للصفات بلا تمثيل ومنزهين لله تعالى بلا تعطيل. وبهذا تبين بطلان القول بالتفويض، ونسبته إلى السلف، وبالله التوفيق. تنبيه: لقد تبين بهذا التحقيق الفرق بين التفويضين اللغوي، والكلامي، فالتفويض اللغوي عدم الحكم على الشيء لا نفيا ولا إثباتاً وهو التفويض السلفي بعينه، أما التفويض الكلامي فهو نفي الصفات ثم رد معانيها وكيفيتها إلى الله. الوجه التاسع: أن القول بالتفويض، ونسبته إلى السلف - قول متناقض مضطرب تناقضاً واضحاً، واضطراباً فاضحاً. فإن من أثبت شيئاً من الصفات، وادعى في بقيتها إما التفويض، وإما التأويل - لزمه التفويض أو التأويل فيما أثبته؛ لأنه لو طولب بالفرق بين ما أثبته وبين ما فوض فيه أو أول لم يجد جواباً صحيحاً وفرقاً. فالماتريدية قد أثبتوا لله حياة، وعلماً، وإرادة وسمعاً، وبصراً، فلم يجعلوها متشابهاتٍ، ولم يفوضوا فيها ولم يؤولوها. فهلا جعلوها متشابهاتٍ لا يعلم معناها إلا الله كما جعلوا غيرها متشابهات؟ وهلا فوضوا فيها كما فوضوا في غيرها؟ أو لم لا يؤولونها كما أولوا غيرها؟ وهلا نسبوا التفويض فيها إلى السلف كما نسبوا في غيرها إليهم؟. ولهذا لا يوجد لهؤلاء ولأمثالهم قانونٌ مستقيمٌ. الحاصل: أنه تبين للقراء الكرام بهذه الوجوه التسعة إبطال القول بالتفويض المطلق المختلق ونسبته إلى سلف هذه الأمة بحمد الله تعالى. الجواب عن شبهاتهم التي تعلقوا بها: للماتريدية شبهات في إثبات بدعة التفويض ونسبته إلى السلف أقواها شبهتان: أ- أن نصوص الصفات من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله. واستدلوا بقوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ [آل عمران:7] على قراءة الوقف على لفظ الجلالة (3). ب- أن كثيراً من السلف قد صرحوا بأن هذه النصوص لا تفسر، بل تفسيرها تلاوتها، وقالوا: نمرها كما جاءت. وهذا صريح في أنهم كانوا يفوضون في المعنى والكيف جميعاً (4). أما الشبهة الأولى: فعنها عدة أجوبة نذكر منها ما يلي:   (1) ((الأرواح النوافخ ذيل العلم الشامخ)) (ص 395). (2) ((شرح العقيدة الواسطية)) (ص 21)، وانظر ((الكواشف الجلية)) (ص 89 - 90). (3) انظر ((شرح المقاصد)) (2/ 50)، و ((ضوء المعالي)) (ص 32)، و ((النبراس)) (ص 186)، و ((نظم الفرائد)) (ص 23). (4) ((تبديد الظلام)) (ص 136، 171، 53). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 الجواب الأول: أن قياس نصوص الصفات على الحروف المقطعة في أوائل السور باطل، لأن نصوص الصفات من الكلام العربي المبين أسلوباً وتركيباً، ومركبة من جمل تنحل إلى المفردات العربية المعروفة في لغة العرب الواضحة معانيها لكل عربي مدني وقروي وحضري كوضوح ألفاظها، بخلاف تلك الحروف المقطعة في أوائل السور فإنها رموز، حتى صرح الإمام ابن أبي العز بأنها ليست آيات عند جمهور العادّين (1). ولأن المتشابه نوعان: 1 - متشابه في نفسه وأصله الذي استأثر الله بعلم تأويلها كالحروف المقطعة في أوائل السور.2 - ومتشابه في وصفه وهو متشابه إضافي الذي يعرفه الراسخون (2).فقياس الثاني على الأول قياس مع الفارق، والقياس مع الفارق باطل (3). الجواب الثاني: أننا لا نسلم أن نصوص الصفات من المتشابه الذي لا تُعْلَمُ معانيها، بل هي آيات محكمات واضحات، والقول بأنها متشابهات لا تعلم معانيها - قول مبتدع لا سلف لقائله. وليست مما يندرج تحت قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ [آل عمران:7]، لأنه لم يقل أحد من السلف أن معاني نصوص الصفات لا يعلمها أحد إلا الله، لا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا صحابته رضي الله عنهم. فلا يصح استدلالهم بهذه الآية قطعاً، وفيما يلي بعض أقوال الأئمة: 1 - قال الإمام ابن قتيبة (276هـ) أديب أهل السنة: "ولسنا ممن يزعم: أن المتشابه في القرآن لا يعلمه الراسخون في العلم وهذا غلط من متأوليه على اللغة، والمعنى. ولم ينزل الله شيئاً من القرآن إلا ينفع به عباده، ويدل على معنى أراده، فلو كان المتشابه لا يعلمه غيره لزمنا للطاعن مقال، وتعلق علينا بعلة. وهل يجوز لأحد أن يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف المتشابه؟! ". ثم ذكر نصوصاً دالة على أن الصحابة رضي الله عنهم أيضاً يعلمون معاني المتشابهات، ثم قال: "ولو لم يكن للراسخين في العلم حظ في المتشابه إلا أن يقولوا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [آل عمران:7]- لم يكن للراسخين فضل على المتعلمين، بل على جهلة المسلمين لأنهم جميعاً يقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا. وبعدُ: فإنا لم نر المفسرين توقفوا عن شيء من القرآن، فقالوا: هذا متشابه لا يعلمه إلا الله، بل أمروه كله على التفسير حتى فسروا "الحروف المقطعة في أوائل السور ... " (4).2 - ومثله كلام للإمام القرطبي (671هـ) (5).3 - ومثله كلام الإمام ابن أبي العز الحنفي (792هـ) (6).4 - والعلامة محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) (7). 5 - وقال شيخ الإسلام: "من قال: إن هذا من المتشابه، وأنه لا يفهم معناه. فنقول له: أما الدليل على بطلان ذلك: فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة، لا أحمد بن حنبل، ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية، ونفى أن يعلم أحد معناه.   (1) ((شرح الطحاوية)) (ص 235). (2) انظر ((شرح الطحاوية)) (ص 234)، وانظر ((شرحي المنار: كشف الأسرار، ونور الأنوار)) (1/ 223 - 225). (3) انظر ((المنار مع شرحه كشف الأسرار، ونور الأنوار)) (2/ 236، 248). (4) ((تأويل مشكل القرآن)) (ص 98 - 100). (5) ((الجامع لأحكام القرآن)) (4/ 18). (6) ((شرح الطحاوية)) (ص 234 - 235). (7) ((روح المعاني)) (3/ 84). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، ولا قالوا: إن الله ينزل كلاماً لا يفهم أحد معناه .. فهذا اتفاق من الأئمة على أنهم يعلمون معنى هذا المتشابه وأنه لا يُسكَتُ عن بيانهِ، وتفسيره، بل يُبَيَّنُ باتفاق الأئمة من غير تحريف له عن مواضعه، أو إلحاد في أسماء الله وآياته" (1). الجواب الثالث: أن القول بأن نصوص الصفات متشابهات لا تُعلم معانيها - قولٌ يكذبه الواقع بل هي محكمات واضحات وليست متشابهات - نعلم ذلك بالاضطرار. قال شيخ الإسلام: "والدليل على أن هذا ليس بمتشابه لا يعلم معناه أن نقول: لا ريب أن الله سمى نفسه في القرآن بأسماء مثل الرحمن، والودود، والعزيز، والجبار، والعليم، والقدير، ونحو ذلك. ووصف نفسه بصفات، مثل سورة الإخلاص، وآية الكرسي، وأول الحديد وآخر الحشر، وقوله: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة:2] .. فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ [الزخرف:55]، ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ [محمد:28]، وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ [التوبة:46]، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] ، بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء [المائدة:64]، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:27]، أوَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39] إلى أمثال ذلك ... ؛ ثم يقال لهذا المعاند: فهل هذه الأسماء دالة على الإله المعبود وعلى الحق الموجود أم لا؟ فإن قال: لا - كان معطلاً محضاً، وما أعلم مسلماً يقول هذا. وإن قال: نعم - قيل له: فهمت منها دلالتها على نفس الرب ولم تفهم دلالتها على ما فيها من المعاني من الرحمة، والعلم وكلاهما في الدلالة سواء ... (2) "؟! الجواب الرابع: أن هؤلاء الماتريدية عاكسوا السلف في جعل نصوص الصفات الإلهية الكمالية - متشابهات. وجعل المتشابهات - عند السلف - محكماتٍ (3). كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] وقوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65].ونحوهما من المتشابهات - بمعنى أنها مجملات فيها نفي مجمل تشتبه على من لا يفهمها. (4) فردوا بها نصوص العلو، والاستواء، والنزول، والوجه، واليدين، وغيرها من نصوص الصفات التي هي في غاية الصراحة والبيان والإيضاح والإحكام والتفصيل كما سيأتي تفصيله. فالماتريدية في هذه المعاكسة تبع للجهمية الأولى بشهادة إمام أهل السنة: قال الإمام أحمد في الجهم وطريقته الباطلة: " ... ووجد ثلاث آيات من المتشابه:   (1) ((الإكليل)) (ص 32 - 34، 20 - 21)، و ((ضمن دقائق التفسير)) (1/ 134 - 135، 129)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (13/ 294 - 295، 285)، و ((ضمن مجموعة الرسائل الكبرى)) (2/ 21 - 22، 15)، ونقله القاسمي وأقره، انظر ((محاسن التأويل)) (4/ 24 - 25)، وانظر ((الصواعق المرسلة)) (1/ 213). (2) ((الإكليل)) (ص 35 - 36)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (13/ 296 - 298)، و ((ضمن مجموعة الرسائل الكبرى)) (2/ 23 - 24)، و ((ضمن دقائق التفسير)) (1/ 135 - 136)، ونقله القاسمي وأقره في ((محاسن التأويل)) (4/ 25 - 28). (3) انظر ((مدارك التنزيل)) (1/ 197)، تبعاً للجهمية الأولى والمعتزلة. انظر ((كشاف الزمخشري الحنفي المعتزلي)) (1/ 412). (4) ((درء التعارض)) (5/ 175). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام:3] ولاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام:103]. فبنى كلامه - أي تعطيل الصفات، وتحريف نصوصها - على هذه الآيات وتأويل القرآن على غير تأويله؛ وكذب بأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه، أو حدث عنه رسوله - كان كافراً وكان من المشبهة. فأضل بكلامه بشراً كثيراً، وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة، وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة، ووضع دين الجهمية (1). الجواب الخامس: أن عاجل نصوص الصفات من المتشابه الذي لا يعلم معناه مضطربٌ في فعله هذا ومتناقض في قوله حيث لا يسعه أن يطرد قوله إلا أن يكون معطلاً غالياً. فقد ذكر شيخ الإسلام عدة أمثلة من آيات الصفات التي سبق ذكرها في الجواب الثالث. ثم قال: "فيقال لمن ادعى في هذا أنه متشابه لا يعلم معناه: أتقول هذا في جميع ما سمى الله ووصف به نفسه أم في البعض؟. فإن قلت: هذا في الجميع - كان هذا عناداً ظاهراً، وجحداً لما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، بل كفر صريح ... ".ثم ذكر شيخ الإسلام، أن هذا المدعي إن اعترف بأن بعضه متشابه دون البعض طولب بالفرق، ولا يستطيع إلى ذلك سبيلاً لا عقلاً ولا سمعاً، إلى آخر كلامه المتين الرصين (2). فلابد من وقوعه في التناقض الشنيع والاضطراب الفظيع إلا أن يرجع إلى المنهج السلفي ويقول: إن نصوص الصفات ليست من المتشابه الذي لا يعلم معناه، ويستقر على إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل. ولابن رشد الحفيد (595هـ) كلام في بيان تناقض من يدعي أن نصوص الصفات متشابهاتٌ فراجعه (3). الجواب السادس: أنه لو سلم أن نصوص الصفات من المتشابهات فلا نسلم أن تأويلها غير معلوم. لأن المراد من "التأويل" في قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [آل عمران:7] الآية - بمعنى التفسير وبيان المعنى المفهوم من اللفظ العربي -، ويكون الوقف على قوله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ويكون قوله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ عطف على قوله: اللهُ، ويكون قوله يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا في محل نصب حال من الراسخين فيكون التقدير: وما يعلم تفسيره ومعناه إلا الله والراسخون في العلم - قائلين: كل من عند ربنا (4). وذلك لأن التأويل يطلق في اصطلاح السلف ولغة القرآن على معنيين: أحدهما: التفسير وبيان المعنى، فيكون التأويل، والتفسير وبيان معنى اللفظ واحداً وتكون هذه الكلمات من الألفاظ المترادفة.   (1) ((الرد على الجهمية والزنادقة)) (ص 104 - 105))، وانظر أيضاً ((درء التعارض)) (1/ 18، 221، 5/ 165، 167، 168). وذكر الإمام ابن القيم ثمانية عشر مثالاً لرد المحكمات بالمتشبهات، انظر ((أعلام الموقعين)) (2/ 294 - 307) وفي ذلك عبرة للماتريدية عامة،، وللفنجفيرية خاصة. (2) ((الإكليل)) (ص 36 - 38)، و ((ضمن دقائق التفسير)) (1/ 136 - 137)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (13/ 297 - 299)، و ((ضمن مجموعة الرسائل الكبرى)) (2/ 23 - 25). (3) ((مناهج الأدلة)) (ص 176)، وذكر شيخ الإسلام في ((درء التعارض)) (6/ 213، 10/ 265). (4) انظر ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص 100 - 101)، و ((جامع البيان)) (3/ 183 - 184)، ((أحكام القرآن للجصاص الحنفي)) (2/ 283 - 284)، ((معالم التنزيل)) (1/ 280)، ((تفسير ابن كثير)) (1/ 348)، ((مدارك التنزيل)) (1/ 198)، و ((إرشاد العقل السليم)) (2/ 8)، ((روح المعاني)) (3/ 83). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 ويكون هذا المعنى "للتأويل" هو المراد في هذه الآية على هذا التقدير، فيكون الراسخون في العلم يعلمون معاني تلك النصوص ويعرفون المراد منها، فبطل تشبث المدعين للتفويض بهذه الآية كما بطل زعمهم أن نصوص الصفات من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله. لأن الآية الكريمة - على هذا التقدير - تدل على خلاف مطلوبهم. قال شيخ الإسلام: "قال مجاهد: "عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره مرات، أقف عند كل آية، وأسأله عنها". فهذا ابن عباس - حبر الأمة - وهو أحد من كان يقول، "لا يعلم تأويله إلا الله - يجيب مجاهداً عن كل آية من القرآن. وهذا هو الذي حمل مجاهداً، ومن وافقه كابن قتيبه على أن جعلوا الوقف عند قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7]. فجعلوا الراسخين في العلم يعلمون التأويل. لأن مجاهداً تعلم من ابن عباس تفسير القرآن كله، ومجاهد إمام التفسير، قال الثوري: "إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك ... " (1). ثم ذكر شيخ الإسلام معاني التأويل فقال: "وأما التأويل في لفظ السلف فله معنيان: أحدهما تفسير الكلام، وبيان معناه ... ، فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء متقاربين أو مترادفين، وهذا - والله أعلم - هو الذي عناه مجاهد: أن العلماء يعلمون تأويله ... " (2). وقال أيضاً في بيان كون "التأويل" بمعنى "التفسير": "وهذا هو معنى التأويل في اصطلاح جمهور المفسرين وغيرهم. وهذا التأويل يعلمه الراسخون في العلم. وهو موافق لوقف من وقف من السلف على قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7] كما نقل ذلك عن ابن عباس، ومجاهد، ومحمد بن جعفر بن الزبير ومحمد ابن إسحاق، وابن قتيبة، وغيرهم ... " (3). الحاصل: أنه لو سلمنا أن نصوص الصفات من المتشابهات وأنها تندرج تحت آية آل عمران. فلا نسلم أن معناها غير معلوم لما مر في توجيه لهذه الآية، وفي كتب أئمة السنة والتفسير نصوص كثيرة عن الصحابة والتابعين على أن الراسخين كانوا يعلمون معاني تلك المتشابهات (4). وثانيهما: الحقيقة التي يؤول إليها الكلام. الجواب السابع: أن نقول: لو سلمنا أن نصوص الصفات من المتشابهات التي لا يَعلمُ تأويلها إلا الله، بناءً على أن يكون الوقف على لفظ الجلالة في قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله.   (1) ((الإكليل)) (ص 19 - 25)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (13/ 284 - 289)، و ((ضمن دقائق التفسير)) (1/ 128 - 130)، و ((ضمن مجموعة الرسائل الكبرى)) (2/ 14 - 18)، ونقله القاسمي وأقره. انظر ((محاسن التأويل)) (4/ 16 - 19). (2) ((الإكليل)) (ص 19 - 25)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (13/ 284 - 289)، و ((ضمن دقائق التفسير)) (1/ 128 - 130)، و ((ضمن مجموعة الرسائل الكبرى)) (2/ 14 - 18)، ونقله القاسمي وأقره. انظر ((محاسن التأويل)) (4/ 16 - 19). (3) ((الحموية)) (ص 40 - 41)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 35 - 36). وانظر أيضاً: ((التدمرية)) (ص 90 - 91)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 54 - 56)، و ((درء التعارض)) (5/ 234 - 235، 381 - 382، 7/ 328). (4) انظر على سبيل المثال ((تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة)) (ص 99 - 100)، و ((جامع البيان)) (3/ 183 - 184)، و ((زاد المسير)) (1/ 354)، و ((معالم التنزيل)) (1/ 280)، و ((مفاتيح الغيب)) (7/ 190)، و ((الجامع لأحكام القرآن)) (4/ 18)، ((البحر المحيط)) (2/ 384)، ((تفسير ابن كثير)) (1/ 347 - 348)، و ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز الحنفي (ص 234)، و ((الدر المنثور)) (2/ 152)، و ((فتح القدير)) (1/ 316)، و ((روح المعاني)) (3/ 84)، ((محاسن التأويل)) (3/ 16 - 17). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 كما هو قراءة الأكثرين، وأن الراسخين لا يعلمون تأويلها على عَدَِ قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران:7] جملة مستأنفة، فيكون الراسخون لا يعلمون تأويلها - فلا نسلم أن المراد بلفظ "التأويل" في هذه الآية ما يرادف فهم المعنى من اللفظ العربي، وتفسيره، بل المراد من "التأويل" في هذه الآية: هو حقيقة ما يؤول إليه الكلام وهو أحد معنى "التأويل" في لغة القرآن واصطلاح السلف كما سيأتي تحقيقه. فيكون المراد بـ"التأويل" كيفية الصفات فهي لا يعلمها إلا الله، فلا يعلمها الراسخون، ولا غيرهم. وأما معنى الصفات فإنه معلوم يعلمه الراسخون بلا شك. فهذا يؤيد قاعدة السلف في الصفات: "الاستواء معلوم والكيف مجهول". إذن لا يصح تمسك المدعين للتفويض بهذه الآية أصلاً على أن معاني الصفات غير معلومة كما أن كيفيتها غير معلومة. لأن المنفي في الآية على هذا التقدير إنما هو "الحقيقة التي يؤول الكلام إليها وهي الكيف"، لا المعنى المفهوم من اللفظ العربي. ولشيخ الإسلام تحقيق دقيق لتقرير هذا المطلوب فراجعه (1). الحاصل: أن قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [آل عمران:7] فيه قراءتان منقولتان عن السلف والكل قراءة توجيه وجيه. أما القراءة الأولى: فهي الوقف على لفظ الجلالة. وكون قوله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ جملة مستأنفة. وتوجيه هذه القراءة: أن لفظ "التأويل" على هذه القراءة بمعنى حقيقة ما يؤول غليه الكلام في نفس الأمر وهو الكيفية. فيكون الراسخون في العلم لا يعلمونها، لأن ذلك مما استأثر الله بعلمه. وأما القراءة الثانية: فهي الوقف على قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وجعل قوله: وَالرَّاسِخُونَ عطفاً على لفظ الجلالة. وتوجيه هذه القراءة، أن لفظ "التأويل" على هذه بمعنى التفسير وبيان المعنى المفهوم من اللفظ العربي. فيكون الراسخون يعلمون معاني تلك النصوص مع تفويضهم في الكيف. قال شيخ الإسلام وغيره من أئمة الإسلام واللفظ له: "وكلا القولين حق باعتبار كما بسطناه، في موضع آخر، ولهذا نقل عن ابن عباس هذا وهذا وكلاهما حق" (2). وقال: "وقد روى عن ابن عباس ما ذكره عبدالرزاق وغيره في تفسيرهم عنه أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: 1 - تفسير تعرفه العرب من كلامها. 2 - وتفسير لا يعذر أحد بجهالته. 3 - وتفسير يعلمه العلماء.   (1) انظر ((درء التعارض)) (5/ 234 - 235، 382، 7/ 328)، و ((التدمرية)) (ص 89 - 96)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 54 - 58)، ((الحموية)) (ص 4142)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 36 - 37)، ((الإكليل)) (ص 8 - 19)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (13/ 275 - 283)، و ((ضمن مجموعة الرسائل الكبرى)) (2/ 8 - 14)، و ((ضمن دقائق التفسير)) (1/ 122 - 128)، ونقله القاسمي وأقره في ((محاسن التأويل)) (4/ 9 - 16)، و ((شرح الطحاوية)) (ص 232 - 235). (2) ((الحموية)) (ص 41)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 36)، و ((التدمرية)) (ص 91)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 55)، وانظر ((الجامع لأحكام القرآن)) (4/ 18)، ((الدر المصون للسمين)) (3/ 39)، ((تفسير ابن كثير)) (1/ 348)، ((شرح الطحاوية)) (ص 234)، و ((إرشاد العقل السليم)) (2/ 8)، ((فتح القدير للشوكاني)) (1/ 316)، ((روح المعاني)) (3/ 85). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 4 - وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل. فمن ادعى علمه فهو كاذب ... " (1). فأصل اللفظ - وهو المعنى المفهوم منه لغة - معلوم دون شك،، وإنما المجهول وصف ذلك المعنى - وهو الكيف - فلو سلمنا أن نصوص الصفات من المتشابهات - نقول: إن المتشابه نوعان: متشابه بأصله كالحروف المقطعات ومتشابه بوصفه وكيفيته كآيات الصفات. فعلى هذا التقدير: هي معلومة .. الأصل - أي المعنى - لكنها مجهولة الوصف - أي الكيف، فالتأويل المنفي في الآية هو الكيف لا المعنى. وهذه حقيقة اعترف بها كبار أئمة الحنفية والماتريدية. أمثال فخر الإسلام البزدوي (482هـ) وشمس الأئمة السرخسي (483هـ) وحافظ الدين النسفي (710هـ) وعبدالعزيز بن أحمد البخاري (730هـ) وأبو المنتهى المغنيساوي (كان حيا 939هـ) والملا علي القاري (1014هـ) وشيخ زاده عبدالرحمن بن محمد (1078هـ) والقاضي كمال الدين البياضي (1098هـ). فقالوا في التمثيل للمتشابه - واللفظ للأول: "ومثاله: إثبات رؤية الله تعالى بالأبصار .. فصار بوصفه متشابهاً، فوجب تسليم المتشابه على اعتقاد الحقيقة فيه. وكذلك إثبات اليد، والوجه حق عندنا، معلوم بأصله متشابه بوصفه ولن يجوز إبطال الأصل بالعجز عن درك الوصف. وإنما ضلت المعتزلة من هذا الوجه فإنهم ردوا الأصول لجهلهم بالصفات فصاروا معطلة". وزاد شمس الأئمة السرخسي، وحافظ الدين النسفي، والقاري؛ واللفظ له:"وأهل السنة، والجماعة أثبتوا ما هو الأصل المعلوم بالنص، أي بالآيات القطعية، والدلالات اليقينية، والدلالات اليقينية، وتوقفوا فيما هو المتشابه، وهو الكيفية، ولم يجوزوا الاشتغال بطلب ذلك كما وصف الله به الراسخين في العلم فقال: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [آل عمران:7] (2). الخلاصة: أنه لا دليل في هذه الآية أصلاً للمدعين للتفويض ونسبته إلى السلف والحمد لله. وبعد ما قضينا على هذه الشبهة ننتقل إلى الرد على الشبهة الثانية. وأما الشبهة الثانية: فما أفسدها، وأظهر بطلانها!!: لأنه ليس المرادُ التفويض في المعنى من قول السلف: "نمرها كما جاءت" أو "أمروها كما جاءت" أو "أنها لا تفسر" أو "أن تفسيرها تلاوتها" أو نؤمن بها ولا كيف ولا معنى" أو "على ما أراد الله"، ونحوها من الأقوال التي تنقل عن سلف الأمة وأئمة السنة. ليس قصدهم بذلك أنهم جاهلون بمعاني نصوص الصفات ومرادها، وأنهم كانوا يتلونها تلاوة مجردة كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب بدون فهم المعنى والمراد. فمن فسر أقوال السلف بهذا التفسير فقد كذب عليهم وافترى أشنع الكذب وأبشع الافتراء. بل كان قصدهم بهذه الأقوال هو الردَّ على تفسيرات الجهمية وتأويلاتهم التي كانت عين التحريفات". فقالوا: "أمروها" أي أثبتوها وأقروها وآمنوا بها، و"لا تُفَسَّرُ" تفسيرَ الجهمية، ولا تُحَرَّفُ كما حرفوها "بل تفسيرها تلاوتها" فإنها واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار يفهمها التالي والسامع بمجرد تلاوتها. كما قصدوا بقولهم: "بلا كيف" الردَّ على الممثلة.   (1) ((الحموية)) (ص 41 - 42)، و ((ضمن مجمع الفتاوى)) (5/ 37)، و ((التدمرية)) (ص90)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 55)، وانظر ((مفاتيح الغيب للرازي)) (7/ 192). (2) ((أصول البزدوي مع شرحها كشف الأسرار للبخاري)) (1/ 59 - 61)، و ((أصول السرخسي)) (1/ 170) و ((كشف الأسرار المنار للنسفي)) (1/ 224)، ((شرح الفقه الأكبر للمغنيساوي)) (ص 14)، و ((شرحه للقاري)) (ص 60)، و ((نظم الفرائد)) (ص 23)، و ((إشارات المرام)) (ص 192). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 فكلام السلف يتضمن إحقاق الحق وإبطال الباطل وانتصار مذهب أهل السنة والقضاء على مذهب أهل التعطيل، والتمثيل في آن واحد، وهو إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل. ويشهد لما قلنا نصوص السلف، وفيما يلي بعض الشواهد من نصوصهم: أ- نصُّ الإمام محمد بن الحسن الشيباني (189هـ) صاحب أبي حنيفة رحمهما الله وهو أحد الأئمة الثلاثة للحنفية على الإطلاق: "اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل، من غير تفسير، ولا وصف، ولا تشبيه؛ فمن فسر اليوم شيئاً من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وفارق الجماعة؛ فإنهم لم يصفوا، ولم يفسروا، ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا؛ فمن قال يقول الجهم، فقد فارق الجماعة لأنه وصفه بصفة لا شيء". فيا ترى هل قوله: "على الإيمان بالقرآن ... " يدل على إيمان الإثبات أم إيمان التفويض؟. وهل يقول عاقل: إن الإيمان بالقرآن إيمانُ تفويضٍ؟. أليس قوله: "فمن قال بقول جهم ... ، لأنه وصفه بصفة لا شيء" صريحاً في أنه يقصد الردَّ على تفسير الجهمية وتحريفهم؟. فالماتريدية في نفيهم لصفة علو الله تعالى على خلقه وفوقيته على عباده - تابعوا الجهم، فوصفوا الله تعالى بصفة لا شيء. بل زادوا على مقالة الجهم، وقالوا: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا فوق، ولا تحت، إلى آخر ذلك الهذيان الذي لا يقر عقل ولا نقل ولا فطرة ولا إجماع في آن واحد. فوصفوه بصفة الممتنع في بداهة العقول، وبتصريح كبار أئمة السنة والكلام. وقوله: "فإنهم لم يصفوا، ولم يسفروا" معناه: أن أهل السنة لم يصفوا الله بصفة لا شيء ولم يؤولوا صفات الله تعالى كما يصنع الجهم وأذياله. وقوله: "ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا" معناه: أنهم أفتوا بإثبات ما في الكتاب والسنة من صفات الله تعالى ثم سكتوا عن تأويلها وبيان كيفيتها. وقوله: "في صفة الرب عز وجل" عام لجميع الصفات ومطلق، فهل الماتريدية يفوضون في جميع الصفات؟. ب-هـ- "الأئمة" الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، وليث بن سعد. روى الإمام ابن عبدالبر حافظ المغرب (463هـ) عن الوليد بن مسلم قال: سألت الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، وليث بن سعد، غير مرة عن الأحاديث التي فيها ذكر الرؤية فقال: "أمروها كيف جاءت بلا كيف" (1). فيا ترى هل هؤلاء الأئمة كانوا مفوضين في معنى "الرؤية" وكيفيتها جميعاًً؟ أم قصدهم الرد على تحريفات منكري "الرؤية" والمشبهة؟. وهل الماتريدية يفوضون في معنى "الرؤية" أيضاً؟.و- الإمام أبو عبيد قاسم بن سلام (224هـ) وهو من كبار أئمة الحنفية ومن أجل أصحاب الإمام محمد بن الحسن الشيباني - عند الكوثري والكوثرية (2). فقد قال هذا الإمام في أحاديث الرؤية، والكرسي، وصفة الضحك ووضع القدم في جهنم وأشباه هذه الأحاديث: "هذه الأحاديث صحاح حملها أصحاب الحديث، والفقهاء بعضهم على بعض وهي عندنا حق لا شك فيها، ولكن إذا قيل: "كيف وضع قدمه"؟ وكيف ضحك"؟.قلنا: لا يُفَسَّر هذا ولا سمعنا أحداً يفسره" (3).   (1) ((التمهيد)) (7/ 158). (2) ((فقه أهل العراق)) (ص 64). (3) رواه الدارقطني في كتاب ((الصفات)) (ص 68 - 98)، بإسناد كالجبل الراسي الشامخ والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص 355). وقال شيخ الإسلام "إسناده صحيح" ((الحموية)) (ص 54)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 15)، و ((ضمن مجموعة الرسائل الكبرى)) (1/ 447). ومع ذلك كله ترى الكوثري يقدح فيه انظر تعليقاته على ((الأسماء والصفات)) (ص 355). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 انظر أيها المسلم طالب الحق والإنصاف إلى نص هذا الإمام، وصراحته بأن أحاديث الرؤية وغيرها من الصفات يجب الإيمان بها وأنها حق، فمن قال: "كيف؟ " قلنا: لا يفسر كيفيتها ولم يفسر أحد من السلف كيفيتها وأن التفويض إنما هو في الكيف لا المعنى؛ فهذا النص متضمن لإحقاق الحق وهو الإثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل وإبطال الباطل وهو الرد على أهل التعطيل، وأهل التمثيل. وفي ذلك عبرة للماتريدية ولاسيما الكوثرية منهم. ز- الإمام أحمد إمام أهل السنة: لقد صرح الكوثري بأن الإمام سئل عن أحاديث النزول والرؤية ووضع القدم، ونحوها، فقال: "نؤمن بها، ولا كيف، ولا معنى" (1). فترى أن قول الإمام أحمد هنا: " ... ولا كيف ولا معنى" في جميع الصفات حتى في "رؤية" الله تعالى، فهل ترى أنه يفوض في "رؤية" الله تعالى أيضاً؟ معنى وكيفاً؟. وهل يصح عند من له أدنى مسكة من عقل أن الإمام أحمد يقول: إن أحاديث "الرؤية" لا كيف لها ولا معنى لها"؟. وهل الماتريدية، وعلى رأسهم الكوثري - الذي استدل بقول الإمام أحمد هذا على التفويض المفتعل المنقول - يفوضون في "الرؤية" أيضاً؟ سبحان قاسم العقول!. فهذا دليل صريح على أن الإمام أحمد يقصد بقوله: "لا كيف ولا معنى" الرد على المشبهة والمعطلة، والمراد من المعنى المنفي في كلامه هو تفسيرات الجهمية وتأويلاتهم وتحريفاتهم؛ لا المعنى المفهوم من النص. ح- نص آخر للإمام أحمد مثل قوله: "تُمَرُّ كما جاءت" في غير أحاديث الصفات. قال شيخ الإسلام: "وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفاتِ: "تُمَرُّ كما جاءت" في أحاديث الوعيد، مثل قوله: "من غش فليس منا". وأحاديث الفضائل. ومقصوده بذلك: أن الحديث لا يُحَرَّفُ كلمه عن مواضعه كما يفعله من يحرفه، ويسمى تحريفه تأويلاً بالعرف المتأخر. فتأويل هؤلاء المتأخرين عند الأئمة تحريف باطل" (2). قلت: فهل يعقل أن السلف - ومنهم الإمام أحمد - يفوضون في معاني نصوص الوعيد، والفضائل أيضاً؟ وهل الماتريدية - ومنهم الكوثري والكوثرية - يفوضون فيها تفويضاً باطلاً عاطلاً؟.ط-ل- روى الإمام الترمذي حديث أبي هريرة مرفوعاً: ((ما تصدق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة تربو في كف الرحمن ... )) (3).وفي رواية: ((إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه ... )) (4) الحديث. ثم قال الترمذي: (وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات، ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا. قالوا: "تثبت الروايات في هذا، ويؤمن بها، ولا يتوهم، ولا يقال: كيف". هكذا روى عن مالك، وسفيان بن عيينة، وعبدالله بن المبارك: أنهم قالوا في هذه الأحاديث: "أمروها بلا كيف". وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة. وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات وقالوا: "هذا تشبيه". وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه: "اليد" و"السمع" و"البصر"؛ فتأولت الجهمية هذه الآيات، ففسروها على غير ما فسر أهل العلم، وقالوا: "إن الله لم يخلق آدم بيده" وقالوا: "إن معنى اليد هنا القوة .. ". قلت: تدبر أيها المسلم في نص هذا الإمام وفيما نقله عن أئمة الإسلام.   (1) وقال: "قال الخلال في السنة بسنده إلى حنبل عن الإمام أحمد ... " ((تبديد الظلام)) (ص53). (2) ((الإكليل)) (ص 32)، و ((ضمن مجموعة الرسائل الكبرى)) (2/ 22)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (13/ 295)، و ((ضمن دقائق التفسير)) (1/ 134). (3) رواه الترمذي (661) وقال: حديث حسن صحيح. وصححه الألباني. (4) رواه الترمذي (662) وقال: حديث حسن صحيح. وقال الألباني: منكر بزيادة: وتصديق ذلك .... . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 فقوله: "ففسروها على غير ما فسر أهل العلم" صريح بأن أئمة الإسلام قد فسروا نصوص الصفات على وجهها، وأن تفسير الجهمية تحريف لها فكلام هؤلاء الأئمة موافق لقولهم: "أمروها بلا كيف" وقولهم: "يؤمن بها ولا يقال: كيف". فأئمة الإسلام على إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل، وكلام هؤلاء الأئمة في جميع الصفات، في السمع والبصر، وغيرها بنص الإمام الترمذي. فهل يظن الماتريدية - بما فيهم الكوثرية - أن أئمة الإسلام كانوا يفوضون في صفتي "السمع" و"البصر" أيضاً؟!. وهل الماتريدية يفوضون في هاتين الصفتين؟ هكذا يحصد الزوبعة من زرع الريح. فنصوص هؤلاء الأئمة دليل قاطع على أنهم يريدون بنفي "التفسير"، وبنفي "المعنى"، وبقولهم: أمروها، كما جاءت، ونحوه من العبارات - تفسيرات الجهمية وتحريفاتهم ولا يقصدون نفي معنى النص. وقد ظهر من نص الإمام الترمذي ومما نقله عن أئمة الإسلام: أن الماتريدية تابعوا الجهمية في نفي الصفة "اليد"، وتأويلها بالقوة، والقدرة كما سيأتي. واحتجوا بشبهة الجهمية من أن إثباتها تشبيه ما تقدم. فهم في هذا خارجون على أهل السنة وليسوا منهم. بل زاد الماتريدية بدعة أخرى على بدعة التعطيل، وهي بدعة التفويض وافترائه على أئمة الإسلام شاعرين أم غير شاعرين. م- الإمام الطحاوي (321هـ) وهو من كبار أئمة الحنفية، وعقيدته هي عقيدة الأئمة الثلاثة: "أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد" رحمهم الله باعتراف الماتريدية والكوثري". يقول الإمام الطحاوي: "والرؤية حق لأهل الجنة بغير إحاطة، ولا كيفية .. ، كما نطق به كتاب ربنا ... ؛ وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه، وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو كما قال: ومعناه على ما أراد. لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا .. " (1). قلت: فهل كان الإمام الطحاوي وأئمة الحنفية الثلاثة مفوضين في "الرؤية"؟ وهل الماتريدية يفوضون فيها معنى وكيفية؟. الحاصل: أن هذه الآثار التي نقلت عن السلف لا حجة للمفوضة فيها، بل هي على عكس مطلوبهم، لأن قصدهم نفي تفسيرات الجهمية وتحريفاتهم، وليس قصدهم أنها مجرد ألفاظ تتلى بدون فهم المعاني. قال شيخ الإسلام: (فقول ربيعة ومالك: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب" - موافق لقول الباقين: أمروها كما جاءت بلا كيف. فإنما نفوا علم الكيفية، ولم ينفوا علم حقيقة الصفة؛ ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم معناه، على ما يليق بالله لما قالوا: "أمروها كما جاءت بلا كيف". فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوماً بل مجهولاً بمنزلة حروف المعجم، وأيضاً فإنه لا يحتاج إلى نفي الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي الكيفية إذا أثبت الصفات. وأيضا فإن من ينفي الصفات الخبرية أو الصفات مطلقاً لا يحتاج إلى أن يقول: "بلا كيف". فمن قال: "إن الله ليس على العرش" لا يحتاج أن يقول: "بلا كيف" فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا: "بلا كيف". وأيضاً فقولهم: "أمروها كما جاءت" يقتضى إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت بألفاظ دالة على معان؛   (1) ((العقيدة الطحاوية بشرح ابن أبي العز)) (ص 203 - 204)، و ((بشرح الغنيمي الميداني الحنفي)) (ص 68 - 71)، و ((بحواشي ابن مانع)) (ص 9)، و ((بتعليقات الألباني)) (ص 26 - 27). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: "أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد"، أو "أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله تعالى لا يوصف بما دلت عليه حقيقة"، وحينئذ تكون قد أمرت كما جاءت. ولا يقال حينئذ: "بلا كيف" لأن نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول" (1).وقال: (فقولهم رضي الله عنهم: "أمروها كما جاءت" ردٌ على المعطلة، وقولهم: "بلا كيف" ردٌ على الممثلة) (2). قلت: لقد تبين من خلال نصوص أئمة السنة أنهم كانوا يقصدون بنفي التفسير نفي تفسيرِ الجهمية وتحريفهم وتعطيلهم للصفات ونصوصها، ولم يكن قصدهم أنها لا تعلم معانيها ولا يعرف المراد منها. فحمل كلام الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام السلف على الاصطلاحات المبتدعة تحريفٌ محضٌ ويكون من قبيل توجيه قول القائل بما لا يرضى به قائله: فمن حمل كلام السلف على التفويض المفتعل المختلق المصنوع الموضوع المبتدع فقد حَرَّفَ كلامهم لأنه بمثابة شهادة الزور، لأنه تأويل كلام متكلم بما لا يطابق مراده. قال الإمام ابن القيم: "فإذا قيل معنى اللفظ كذا - كان إخباراً بالذي عناه، المتكلم، فإن لم يكن هذا الخبر مطابقاً كان كذباً على المتكلم" (3). قلت: هذه حقيقة واقعة حتى اعترف بها الكوثري حيث قال: وأين التجليات التي اصطلح عليها الاتحادية من تخاطب العرب ومن تفاهم السلف والخلف بهذا اللسان العربي المبين؟. حتى يكون حمل النصوص، والآثار على التجليات المصطلح عليها فيما بعد عهد التنزيل بدهور - استعمالاً لها في حقائقها؟.ومن زعم ذلك فقد زاغ عن منهج الكتاب والسنة، وتنكب سبيل السلف الصالح ومسلك أئمة أصول الدين، ونابذ لغة التخاطب، وهجر طريقة أهل النقد في الجرح، والتعديل، والتقويم، والتعليل ... " (4). قلت: هذا الكلام في غاية الدقة والإتقان، ولكن ليت الكوثري والكوثرية والماتريدية يطبقونه مطرداً ويستقيمون على منهج السلف الصالح، ولكنهم خالفوه في مواضع لا تحصى، فقد ادعوا على السلف التفويض وحملوا نصوصهم عليه فحرفوها تحريفاً معنوياً وشهدوا عليهم زورا؛ وهكذا ترى الكوثري - حامل راية الخلف، والطاعن في السلف - يحمل نصوص الإمام أبي حنيفة والإمام أبي يوسف على الكلام النفسي (5).وهكذا يتلاعب بنصوص الإمام أحمد فيحملها على الكلام النفسي (6) نضالاً عن بدعته الكلامية الجهمية الماتريدية. مع أن القول ببدعة الكلام النفسي قول مفتعل موضوع مصنوع متقول على الله ورسوله، وسلف هذه الأمة من أئمة السنة. وأول من أحدثه هو ابن كلاب. فكيف تحمل نصوص السلف على شيء لم يكن موجوداً في عهدهم؟! فحمل نصوص الوحي وكلام السلف على التفويض ونحوه تحريف؛ فلنا أن نقلب على الكوثري كلامه فنقول: إن القول بالكلام النفسي، ونسبته إلى السلف وحمل نصوصهم عليه، وكذا القول بالتفويض ونسبته إلى السلف وحمل نصوصهم عليه بعيد من تخاطب العرب، وتفاهم السلف بهذا اللسان العربي المبين، فكيف يصح حمل النصوص والآثار على هذه المصطلحات المبتدعة الكلامية المحدثة بعد عهد التنزيل بدهور؟. فمن زعم ذلك فقد زاغ عن منهج الكتاب والسنة، وتنكب سبيل السلف الصالح، ونابذ لغة التخاطب، وهجر طريقة أهل النقد في الجرح والتعديل، والتقويم والتعليل. وفي هذا كفاية لمن عنده طلب الحق والإنصاف والدراية، وأما من تعود: أن يقول: "عنزة وإن طارت" فلا دواء لدائه. المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني 2/ 133 - 168   (1) ((الحموية)) (ص 46)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 41 - 42). (2) ((الحموية)) (ص 44)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 39)، و ((ضمن مجموعة الرسائل الكبرى)) (1/ 442). (3) ((الصواعق المرسلة)) (1/ 202). (4) ((تعليقات الكوثري على الأسماء والصفات للبيهقي)) (ص 455). (5) انظر ((تعليقات الكوثري على الأسماء والصفات للبيهقي)) (ص 251). (6) ((تبديد الظلام)) (ص 173). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 المبحث الثالث: الرد على الماتريدية في باب الأسماء والصفات الماتريدية - كغيرهم من فرق المعطلة- عرضت لهم شبهة وهي أن ظواهر نصوص الصفات موهمة للتشبيه فزعموا أنه لو بقيت هذه النصوص - بدون تفويض أو تأويل- على معانيها الحقيقية من العلو، والنزول، والاستواء، والوجه واليدين والغضب والرضا ونحوها - لزم تشبيه الله تعالى بالمخلوقات وهذا ينافي تنزيه الله تعالى عن مشابهتهم، والعقل يستحيل إبقاء هذه النصوص على ظاهرها فلذلك لابد من تفويض معانيها إلى الله تعالى، أو تأويلها إلى ما يوافق العقل. ولا يجوز حملها على ظاهرها. وهذه الشبهة هي التي دفعتهم إلى التقول بالتفويض الباطل على السلف، وتعطيل كثير من الصفات الكمالية لله تعالى، وتحريف نصوصها. ونحن بتوفيق الله تعالى نناقشهم ونذكر وجوهاً لإبطال هذه الشبهة وبيان خطرها. إن شاء الله تعالى، فنقول وبالله التوفيق. الوجه الأول: أن القول بأن ظاهر نصوص الصفات تشبيه، أو ظواهر هذه النصوص موهمة للتشبيه - قول في غاية الفساد والضلال؛ لأن ذلك يستلزم أموراً كفرية جداً منها: 1 - أن ظاهر نصوص القرآن والسنة هو الضلال البعيد والكفر الصريح والشرك القبيح والباطل المحض؛ لأن تشبيه الله بخلقه كفر. 2 - أن الكتاب والسنة مشتملان على كفر وضلال، ولا يستفاد منهما نور وهداية وبيان الحق. 3 - أن الكتاب والسنة لا يصلحان أن يكونا مصدرين لتلقي العقيدة فيما يخبران عن الله تعالى. 4 - أنهما ليس فيهما ما يصلح للاعتقاد بل فيهما ما يفسد العقيدة، ويضلل الناس. 5 - أن القلوب تتخلَّى عن الجزم بشيء مما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. 6 - أن يُعزل الكتاب والسنة عن الدلالة والإرشاد ولاسيما فيما يتعلق بصفات الله. 7 - أن ترك الناس بلا كتاب ولا رسالة كان خيراً لهم. 8 - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم التابعين يتكلمون بما ظاهره كفر وضلال دائماً ولم يقولوا يوماً من الدهر أن ظاهرها غير مراد. 9 - أن هذا يستلزم إقرار الصدر الأول من الصحابة والتابعين لهذا الكفر العظيم؛ حيث تكلموا بما ظاهره كفر بدون بيان ودون تحذير الأمة. 10 - أن هذا فتح الأبواب لأنواع من المشركين والمبتدعين من الباطنية وغيرهم لا يمكن سدها وهذه الأمور العشرة أذكرها مفصلة: قال شيخ الإسلام: "فإن كان الحق فيما يقول هؤلاء السالبون النافون للصفات الثابتة في الكتاب والسنة - من هذه العبارات ونحوها، دون ما يفهم من الكتاب والسنة إما نصاً وإما ظاهراً فكيف يجوز على الله ثم على رسوله -صلى الله عليه وسلم- ثم على أخير الأمة أنهم يتكلمون دائماً بما هو نص أو ظاهر في خلاف الحق، ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به قط، ولا يدلون عليه لا نصاً، ولا ظاهراً، حتى يجيء أنباط الفرس والروم، وفروخ اليهود والنصارى والفلاسفة يبينون للأمة العقيدة الصحيحة التي يجب على كل مكلف أو كل فاضل أن يعتقدها. لئن كان ما يقوله هؤلاء المتكلمون، والمتكلفون هو الاعتقاد الواجب - وهم مع ذلك أحيلوا في معرفته على مجرد عقولهم، وأن يدفعوا الواجب - وهم مع ذلك أحيلوا في معرفته على مجرد عقولهم، وأن يدفعوا بما اقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة نصاً أو ظاهراً - لقد ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير؛ بل كان وجود الكتاب والسنة ضرراً محضاً في أصل الدين؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 فإن حقيقة الأمر - على ما يقوله هؤلاء- أنكم يا معشر العباد لا تطلبوا معرفة الله عز وجل، ولا من طريق سلف الأمة؛ ولكن انظروا أنتم فما وجدتموه مستحقاً له من الصفات فصفوه به، سواء كان موجوداً في الكتاب والسنة أو لم يكن، وما لم تجدوه مستحقاً له في عقولكم فلا تصفوه به ... ؛ هذا حقيقة الأمر على رأي هؤلاء المتكلمين؛ وهذا الكلام قد رأيته بمعناه لطائفة منهم، وهو لازم لجماعتهم لزوماً لا محيد عنه؛ ومضمونه: أن كتاب الله لا يهتدي به في معرفة الله، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- معزول عن التعليم، والإخبار بصفات من أرسله، وان الناس عند التنازل لا يردون ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول -صلى الله عليه وسلم- بل إلى مثل ما كانوا عليه في الجاهلية، وإلى مثل ما يتحاكم إليه من لا يؤمن بالأنبياء كالبراهمة والفلاسفة، وهم المشركون، والمجوس، وبعض الصابئين ... ؛ وما أشبه حال هؤلاء المتكلمين بقوله سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا [النساء:60] ثم عامة هذه الشبهات التي يسمونها دلائل إنما تقلدوا أكثرها عن طاغوت من طواغيت المشركين، أو الصابئين أو بعض ورثتهم الذين أمروا أن يكفروا به ... ؛ قال تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء:65] ولازم هذه المقالة أن لا يكون الكتاب هدىً للناس، ولا بياناً، ولا شفاء لما في الصدور، ولا نوراً، ولا مرداً. عند التنازع؛ لأنا نعلم بالاضطرار أن ما يقوله هؤلاء المتكلفون: إنه الحق الذي يجب اعتقاده - لم يدل عليه الكتاب والسنة لا نصاً ولا ظاهراً ... ؛ وبالاضطرار يعلم كل عاقل أن من دل الخلق على أن الله ليس على العرش، ولا فوق السماوات، ونحو ذلك بقوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، لقد أبعد النجعة، وهو إما ملغز وإما مدلس، لم يخاطبهم بلسان عربي مبين؛ ولازم هذه المقالة أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيراً لهم في أصل دينهم؛ لأن مردهم قبل الرسالة وبعدها واحد، وإنما الرسالة زادتهم عمى وضلالة؛ يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسول -صلى الله عليه وسلم- يوماً من الدهر، ولا أحد من سلف الأمة: هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلت عليه، ولكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم، واعتقدوا كذا وكذا. فإنه الحق وما خالفه ظاهره فلا تعتقدوا ظاهره، وانظروا فيها فما وافق قياس عقولكم فاعتقدوه وما لا يوافق فتوقفوا فيه أو انفوه؛ ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن أمته سوف تفترق على ثلاث وسبعين فرقة (1). فقد علم ما سيكون ثم قال: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله))؛   (1) وردت عدة أحاديث في افتراق هذه الأمة وأسانيد بعضها صحيحة راجع ((مرقاة المفاتيح)) (1/ 276 - 277)، ((تخريج المشكاة)) للألباني (1/ 61). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 وروى عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في صفة الفرقة الناجية: ((هم من كانوا على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)).فهلا قال: من تمسك بالقرآن أو بدلالة القرآن أو بمفهوم القرآن أو بظاهر القرآن في باب الاعتقاد فهو ضال؟ وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم، وما يحدثه المتكلمون منكم؟ .. " انتهى كلام شيخ الإسلام (1). وقال الإمام ابن ابي العز الحنفي: "ويجب أن يعلم أن المعنى الفاسد الكفري ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه، وأن من فهم ذلك فهو لقصور فهمه ونقص علمه وإذا كان قد قيل في قول بعض الناس: وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم وقيل: عليَّ نحتُ القوافي من مقاطعها ... وما عليَّ إذا لم تفهمِ البقرُ فكيف يقال في قول الله الذي هو أصدق الكلام وأحسن الحديث، وهو الكتاب الذي أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِير [هود: 1] إن حقيقة قولهم أن ظاهر القرآن والحديث هو الضلال وأنه ليس فيه ما يصلح من الاعتقاد، ولا فيه بيان التوحيد والتنزيه (2). هذا حقيقة قول المتأولين، والحق: أن مادل عليه القرآن فهو حق وما كان باطلاً لم يدل عليه والمنازعون يدعون دلالته على الباطل الذي يتعين صرفه. فيقال لهم: هذا الباب الذي فتحتموه - وإن كنتم تزعمون أنكم تنتصرون به على إخوانكم المؤمنين في مواضع قليلة خفية - فقد فتحتم عليكم باباً لأنواع المشركين والمبتدعين، ولا تقدرون على سده ... ". ثم ذكر رحمه الله نتائج وخيمة: منها: أن ذلك يستلزم أن لا نقر بشيء من معاني الكتاب والسنة. ومنها: أن القلوب تتخلى عن الجزم بشيء مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم إذ لا يوثق بأن الظاهر هو المراد، والتأويلات مضطربة، فيلزم عزل الكتاب والسنة عن الدلالة والإرشاد إلى ما أنبأ الله به العباد، والقرآن هو النبأ العظيم؛ وهذا فتح باب الزندقة نسأل الله تعالى العافية (3). ونكفتي به الآن في بيان ضرر هذه الشبهة وسيأتي مزيد إيضاح في الوجوه الآتية، إن شاء الله تعالى. الوجه الثاني: أن نقول: إن أصحاب شبهة التشبيه - الذين ردوا نصوص الصفات أو حرفوها وعطلوا ما دلت عليه من صفات الله تعالى- لم يعرفوا حقيقة التشبيه المنفي عن الله تعالى وصفاته (4)؛ فأتوا من سوء فهمهم. كما أنهم لم يعرفوا حقيقة التنزيه، وحقيقة التوحيد. فأدخلوا في مفهوم التشبيه ما ليس منه، كما أنهم أدخلوا في مفهوم التنزيه والتوحيد ما ليس منهما (5) فيسمون نفي الصفات توحيداً وتنزيهاً (6) كالجهمية والفلاسفة والقرامطة (7).حيث أدخلوا في التشبيه إثبات الصفات، وأدخلوا في التنزيه نفي الصفات، وظنوا أن هذا هو التوحيد بحجة أن إثبات الصفات لله تعالى يخالف التنزيه والتوحيد ويستلزم التشبيه (8).   (1) ((الحموية)) (ص 20 - 23)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 15 - 20)، و ((ضمن مجموعة الرسالة الكبرى)) (1/ 432 - 435)، وانظر أيضاً ((المراكشية)) (ص 44)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 171) و ((النفائس)) (ص 95 - 98)، تحقيق الفقى. (2) ((شرح الطحاوية)) (ص235 - 237)، وانظر ((درء التعارض)) (5/ 242 - 243). (3) ((شرح الطحاوية)) (ص235 - 237)، وانظر ((درء التعارض)) (5/ 242 - 243) (4) انظر كتاب ((التوحيد)) لابن خزيمة (1/ 193). (5) انظر ((درء التعارض)) (3/ 438). (6) انظر ((درء التعارض)) (3/ 438). (7) انظر ((درء التعارض)) (3/ 438). (8) انظر ((ما حكى الإمام أحمد عن الجهم في الرد على الجهمية)) (ص 104). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 مع أن الأمر ليس كذلك. بل الحقيقة أن وصف الله تعالى بما وصف به نفسه أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أعلم الخلق بالله - بلا تكييف ولا تمثيل ليس من باب التشبيه والتجسيم في شيء بل هذا عين التنزيه والتوحيد والإيمان، لأن في ذلك تنزيه الله تعالى عن العيوب، والنواقص. ونفي الصفات تشبيه الله تعالى بالمخلوق بل المعدوم والممتنع حتى باعتراف أبي منصور إما الماتريدية (1). لأن إثبات الصفات وفق منهج السلف إثبات الكمال لله تعالى ونفي كل عيب ونقص عنه سبحانه. وإنما التشبيه أن يقال: علو الله تعالى كعلو خلقه؛ واستوائه، ونزوله وغضبه ورضاه وضحكه، وفرحه، ويده، ووجهه، وعينه كاستواء خلقه أو كنزوله وغضبه، ورضاه، وضحكه، وفرحه، ويده، ووجهه، وعينه. ومذهب السلف بعيد عن التشبيه بل هو وسط بين طرفي النقيض لا علاقة له بالتعطيل ولا بالتمثيل فمذهبهم عين التنزيه البعيد عن التشبيه. قال شيخ الإسلام: "ومذهب سلف الأمة وأئمتها: أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، فلا يجوز نفي صفات الله تعالى - التي وصف بها نفسه - ولا يجوز تمثيلها بصفات المخلوقين، بل هو سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله ... ومذهب السلف بين مذهبين، وهدى بين ضلالين: إثبات الصفات، ونفي مماثلة المخلوقات؛ فقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] رد على أهل التشبيه والتمثيل. وقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ رد على أهل النفي، والتعطيل، فالممثل أعشى، والمعطل أعمى، والممثل يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً" (2). وقد بين أئمة هذه الأمة حقيقة التشبيه المنفي عن الله وعن صفاته كما بينوا أن إثبات الصفات لله تعالى بلا تكييف ولا تمثيل ليس من باب التشبيه رداً على المعطلة، ونصوص الإمام أبي حنيفة حجة على الماتريدية. وإليك أقوال بعض أئمة الإسلام غير أبي حنيفة: 1 - قال الإمام نعيم بن حماد (228هـ) "من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه". 2 - وقال الإمام إسحاق بن راهويه: (238هـ): "إنما التشبيه إذا قال: يد كيد، أو مثل يد، أو سمع كسمع أو مثل سمع، فإذا قال: سمع كسمع أو مثل سمع فهذا التشبيه وأما إذا قال: كما قال الله تعالى: يد وسمع وبصر، ولا يقول كيف، ولا يقول مثل سمع ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيهاً وهو كما قال الله تعالى في كتابه:   (1) انظر كتاب ((التوحيد)) للماتريدي (ص 44، 96)، مع غموض كلامه وتعقيده. (2) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 195 - 196، 261) ((جلاء العينين)) (ص 391). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] 3 - وقال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل (241هـ) في جواب سؤال: من المشبهة؟ قال: "من قال: بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي، فقد شبه الله بخلقه" (1).قلت: إدخال نفي الصفات في مسمى التنزيه والتوحيد وجعل إثبات الصفات داخلاً في مسمى التشبيه ورمي من وصف الله تعالى بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم بالتجسيم والتشبيه هو عين عقيدة الجهم وأصحابه كما قال الإمام أحمد عن الجهم: ( ... ووجد ثلاث آيات من المتشابه قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام:2]، لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام:103]، فبنى أصل كلامه على هذه الآيات، وتأول القرآن على غير تأويله، وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافراً، وكان من المشبهة فأضل بكلامه بشراً كثيراً، وتبعه على أقواله رجال من أصحاب أبي حنيفة، وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية) (2). 4 - وقال الإمام الترمذي: "وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا قالوا: "قد تثبت الروايات في هذا ويؤمن بها ولا يتوهم ولا يقال: كيف؟ " هكذا روى عن مالك وسفيان بن عيينة وعبدالله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أمِرّوها بلا كيف، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات وقالوا: هذا التشبيه؛ وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه: "اليد، والسمع، والبصر" فتأولت الجهمية هذه الآيات وفسروها على غير ما فسر أهل العلم، وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده، وقالوا: إن معنى اليد ههنا القوة".ثم ذكر كلام الإمام إسحاق بن راهويه الذي سقنا نصه آنفاً (3).5 - وقال إمام الأئمة ابن خزيمة: "فتدبروا يا أولي الألباب ما نقوله في هذا الباب، في ذكر اليدين، كنحو قولنا في ذكر الوجه، والعينين تستيقنوا بهداية الله إياكم وشرحه جلّ وعلا صدورّكم للإيمان بصفات خالقنا وتعلموا بتوفيق الله إياكم أن الحق، والصواب، والعدل في هذا الجنس مذهُبنا مذهبُ أهلِ الآثارِ، ومُتَّبِعي السُّنَنِ، وتقفوا على جهل من يسميهم مشبهة، إذ الجهمية المعطلة جاهلون بالتشبيه" (4).6 - 7 - وذكر الحافظ ابن حجر والشاه ولي الله كلام الإمام إسحاق بن راهويه المتقدم آنفاً، وكلام الإمام الترمذي الذي يمثل عقيدة أئمة الإسلام أمثال مالك وسفيان بن عيينة وابن المبارك وغيرهم في بيان حقيقة التشبيه وأن إثبات الصفات على منهج السلف ليس من التشبيه في شيء؛ وأقراه، وحققا أن التشبيه: أن يقال يد الله كيد خلقه ووجهه كوجه خلقه مثلاُ (5).   (1) ((رواه الخلال في كتاب السنة)) انظر ((درء التعارض)) (2/ 32). (2) ((الرد على الجهمية)) (ص104 - 105) ((شذرات البلاتين)) (ص15 - 16). (3) ((سنن الترمذي)) (3/ 41 - 42)، و ((أقره الحافظ ابن حجر في الفتح)) (13/ 407)، و ((الشاه ولي الله الحنفي في حجة الله البالغة)) (1/ 63). (4) ((كتاب التوحيد)) لابن خزيمة (1/ 193). (5) ((فتح الباري)) (13/ 407)، و ((حجة الله البالغة)) (1/ 63). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 8 - وقال المحدث المباركفوري في شرح كلام الإمام الترمذي هذا: "قوله: وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات" إلخ قال الحافظ في (مقدمة الفتح): "الجهمية من ينفي صفات الله تعالى التي أثبتها الكتاب والسنة، ويقول: القرآن مخلوق"."وقالوا: هذا تشبيه" وذهبوا إلى وجوب تأويلها "فتأولت الجهمية هذه الآيات وفسروها على غير ما فسر أهل العلم" فتفسيرهم لهذه الآيات ليس إلا تحريفاً فالحذر الحذر عن تأويلهم وتفسيرهم، "وقالوا: "إن الله لم يخلق آدم بيده"، وقالوا: "إنما معنى اليد القوة" فغرضهم من هذا التأويل هو نفي اليد لله تعالى ظناً منهم أنه لو كان له تعالى يد لكان تشبيهاً، ولم يفهموا أن مجرد ثبوت اليد له تعالى ليس بتشبيه، "وقال إسحاق بن إبراهيم" هو إسحاق بن راهويه: "إنما يكون التشبيه إذا قال يد كيد الخ" هذا جواب عن قول الجهمية" (1). 9 - وقال شيخ الإسلام: "فمن قال: إن علم الله كعلمي، أو قدرته كقدرتي، أو كلامه مثل كلامي أو إرادته، ومحبته، ورضاه، وغضبه مثل إرادتي، ومحبتي ورضائي وغضبي؛ أو استواؤه على العرش كاستوائي، ونزوله كنزولي، أو إتيانه كإتياني، ونحو ذلك - فهذا قد شبه الله ومثَّله بخلقه، تعالى الله عما يقولون؛ وهو ضال، خبيث، مبطل، بل كافر، ومن قال: إن الله ليس له علم ولا قدرة ولا كلام، ولا مشيئة ولا سمع، ولا بصر، ولا محبة ولا رضى، ولا غضب، ولا استواء، ولا إتيان ولا نزول - فقد عطل أسماء الله الحسنى وصفاته العلا، وألحد في أسماء الله وآياته؛ وهو ضال، خبيث، مبطل، بل كافر" (2). قلت: لقد ظهر ظهوراً بيناً من نصوص هؤلاء الأئمة أن إثبات الصفات لله تعالى بلا تكييف ولا تمثيل ليس فيها شائبة من التشبيه وأن هذا عين التنزيه فالذين فسروا التشبيه من الجهمية وأذيالهم من الماتريدية وغيرهم بغير ما فسره به أئمة الهدى فقد حرفوا النصوص وقلبوا التوحيد وعطلوا الصفات ورموا أئمة السنة بالتشبيه والتجسيم والكفر والشرك والوثنية بهتاناً وعدواناً ولم يعرفوا حقيقة التشبيه ولا حقيقة التنزيه بل ولا حقيقة التوحيد. اعتراف الماتريدية والأشعرية: لقد اعترف أئمة الماتريدية والأشعرية - شعروا أم لا- بأن إثبات الصفات لله تعالى على طريقة السلف ليس من باب التشبيه أصلاً، وإليك بعض الأمثلة من اعترافاتهم:1 - الإمام أبو منصور الماتريدي إمام الماتريدية اعترف بذلك في صدد رده على المعتزلة: فقال: "وليس إثبات الأسماء، وتحقيق الصفات تشابه، لنفي حقائق ما في الخلق عنه ... لكنا أردنا به ما يسقط التشبيه من قولنا عالم لا كالعلماء وهذا في كل ما نسميه، ونصفه؛ والله الموفق" (3).   (1) ((تحفة الأحوذي)) (2/ 24)، ((الطبعة الحجرية الهندية))، (3/ 332)، ((طبعة لبنان دار الفكر))، و (3/ 267 - 268)، ط/دار الكتب العلمية. (2) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 482)، و ((مثله التدمرية)) (ص30)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 16). (3) ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص24 - 25)، وانظر أيضاً (ص93 - 94). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 واحتج الماتريدي على المعتزلة والجهمية الأولى الذين يزعمون أن إثبات الصفات تشبيه فذكر لهم أن إثبات الصفات وإن كان في بادئ النظر تشبيهاً ولكن نهايته توحيد وتنزيه فنفي الصفات تعطيل، وإثباتها تشبيه، ولكن إذا قلنا: "عالم وقادر لا كالعلماء والقادرين" هذا يزيل شبهة التشبيه. فمن نص كلام الماتريدي: "والأصل في حرف التوحيد أن ابتداءه تشبيه وانتهاءه توحيد ... فقيل عالم وقادر، ونحو ذلك، إذ في الإمساك عن ذلك تعطيل، وفي تحقيق المعنى في خلقه تشبيه، فوصل به "لا كالعلماء، ونحوه" ليجعل نفي التشبيه ضمن الإثبات: فهذا فيما ألزمت ضرورة العقل القول به والسمع جميعاً" (1).وقال أبو منصور الماتريدي أيضاً في الاحتجاج على الجهمية الأولى: "ثم الوصف لله بأنه قادر عالم كريم جواد، والتسمية بها حق من السمع والعقل جميعاً ... ؛ إلا أن قوماً وجهوا تلك الأسماء إلى غيره ظناً منهم أن في إثبات الاسم تشابهاً بينه وبين كل مسمى. ولو كان به ذلك لكان بنفي التعطيل ذلك، وبنفيه أيضاً تشابه وبين مالا يدخل تحت اسم ... " (2). قلت: هلا يسير الماتريدي، والماتريدية هذا المنهج في مثل علو الله واستوائه ونزوله ويده وغيرها؟ وقال: "ثم الدليل على ما قلنا مجيء الرسل والكتب السماوية بها ولو كان في التسمية بما جاءت به الرسل تشبيه لكانوا سبب نقص التوحيد، وهم جميعاً دعوا إلى عبادة الواحد وإلى معرفة وحدانية الباري. لم يجز أن يكون ذلك - أي إثبات الصفات- مما يحقق العدد، ويثبت الموافقة للخلق، ولا قوة إلا بالله" (3). قلت: تدبر كلام هذا الرجل كيف احتج على الجهمية الأولى حجة أهل السنة؟ مع أن هذه الحجة تنقلب حجة عليه، وعلى أتباعه الماتريدية جميعاً أيضاً فيما نفوه من الصفات كالعلو والاستواء والنزول والغضب والرضى واليدين وغيرها فكان ينبغي لهم أن ينهجوا منهج السلف في جميع الصفات لئلا يقعوا في تناقض فاضح، واعتراف واضح.2 - ولقد أقحم شيخ الإسلام هؤلاء الماتريدية والأشعرية لما ادعوا أن أثبات العلو والاستواء والنزول وغيرها يستلزم التشبيه - في تلك المناظرة المشهورة التي عقدت حول العقيدة الواسطية فكلهم سكتوا وبهتوا وكان يوماً مشهوداً حضرها الأمراء وكبار الأشعرية وأعداء شيخ الإسلام وقد أظهر من قيام الحجة وبيان المحجة- ما أعز الله به السنة والجماعة، وأرغم به أهل البدعة والضلالة قاله شيخ الإسلام (4). ولما تشبثوا بشبهات وأخذوا يذكرون نفي التشبيه والتجسيم ويطنبون في هذا- قال لهم شيخ الإسلام: "قولي: "من غير تكييف، ولا تمثيل" ينفي كل باطل وإنما أخذتُ هذين الاسمين لأن "التكييف" مأثور نفيه عن السلف كما قال ربيعة ومالك وابن عيينة وغيرهم المقالة التي تلقاها العلماء بالقبول: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". فاتفق هؤلاء السلف على أن الكيف غير معلوم لنا؛ فنفيتُ اتباعاً لسلف الأمة، وهو أيضاً منفي بالنص تأويل آيات الصفات يدخل فيها حقيقة الموصوف، وحقيقة صفاته، وهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله كما قرر ذلك في قاعدة مفردة ذكرتها في التأويل، والمعنى، والفرق بين علمنا بمعنى الكلام وبين علمنا بتأويله. وكذلك "التمثيل" يُنفي بالنص والإجماع القديم، مع دلالة العقل على نفيه، ونفي التكييف إذ كنه الباري تعالى غير معلوم للبشر.   (1) ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص42). (2) ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص 44)، وانظر (ص 93 - 94). (3) ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص 94). (4) انظر ((مناظرة الواسطية ضمن العقود الدرية)) لابن عبدالهادي (ص 154)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 180). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 وذكرت في ضمن ذلك كلام الخطابي الذي نقل أنه مذهب السلف وهو: "إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها، إذ الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحتذى فيه حذوه، ويتبع فيه مثاله. فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات تكييف، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات تكييف". فقال أحد كبراء "المخالفين": فحينئذ يجوز أن يقال: هو جسم، لا كالأجسام".فقلت له أنا وبعض الفضلاء الحاضرين: "إنما قيل: إنه يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس في الكتاب والسنة أن الله جسم، حتى يلزم هذا السؤال ... " (1). إلى آخر كلام طيب قامع ودامغ لهذه الشبهة الواهية، شبهة التشبيه".3 - الإمام بدر الدين العيني الحنفي رحمه الله (855هـ) الذي يبجله الكوثري ويجله غاية الإجلال ويرجحه على الحافظ ابن حجر كما يرجح "عمدته" على "فتحه" بل طعن في ابن حجر دفاعاً عن العيني (2). فقد ذكر العيني عقيدة شيخ الإسلام وأقرها وقال في الدفاع عنه والرد على أعدائه من الماتريدية والأشعرية: " ... بل الخالق سبحانه وتعالى بائن من المخلوقات ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته ... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، بل يوصف الله بما وصف الله به نفسه وبما وصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم- من غير تكييف ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تعطيل فلا تمثل صفاته بصفات خلقه، ومذهب السلف إثبات بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل، وقد سئل الإمام مالك - رضي الله عنه- عن قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، فقال: "الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة".فهذا الإمام - أي شيخ الإسلام- كما رأيت عقيدته، وكاشفت سريرته، فمن كان على هذه العقيدة كيف ينسب إليه الحلول والاتحاد، أو التجسيم أو ما يذهب إليه أهل الإلحاد ... " (3). قلت: كلام الإمام البدر العيني صريح في أن إثبات الصفات بلا تكييف ولا تمثيل ليس من باب التشبيه في شيء. وفي نصه عبرة للماتريدية ولاسيما الكوثرية كما أنه نص صريح على سلامة عقيدة شيخ الإسلام!.4 - العلامة الملا على القاري الحنفي (1014هـ) الذي يُكْبُرهُ الكوثري ويقول فيه: "إنه ناصر السنة" (4) وجعله الكوثري في قائمة كبار أئمة الحنفية (5). فقد دافع القاري جزاه الله خيراً - دفاعاً كاملاً عن شيخ الإسلام وابن القيم، ورد على من رماهم بسوء الاعتقاد والتجسيم، والتشبيه والضلال، وأقر عقيدة السلف في الصفات وأنها لا تستلزم التشبيه كما دافع عن أهل الحديث ورد على من يطعن فيهم بالتشبيه والحشو. ثم حقق أن عقيدة شيخ الإسلام وابن القيم هي بعينها عقيدة الإمام أبي حنيفة رحمه الله؛ فمما قال العلامة القاري:   (1) ((المناظرة حول العقيدة الواسطية، المطبوعة ضمن العقود الدرية)) (ص 145 - 146)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 167 - 168). (2) انظر ((التاج اللجيني)) (للكوثري) (4/ 9)، وانظر ((مكانة البدر العيني عند الحنفية في مفتاح دار السعادة)) (1/ 243)، و ((الفوائد البهية)) (ص 207)، و ((فقه أهل العراق)) (ص 73). (3) ((من تقريظ الإمام البدر العيني على الدر الوافر)) (ص 164 - 165). (4) انظر ((تبديد الظلام)) (ص 100). (5) انظر ((فقه أهل العراق)) تحقيق أبي غدة و ((تقريظ البنوري)) (ص 74). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 "أقول: صانهما - (يعني شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم) - الله عن هذه الوهمة الشنيعة، والنسبة الفظيعة ومن طالع شرح منازل السائرين - (يعني مدارج السالكين) - ... تبين له أنهما كانا من أهل السنة والجماعة بل ومن أولياء هذه الأمة ... وأنه - (أي شيخ الإسلام) - بريء مما رماه أعداؤه الجهمية من التشبيه والتمثيل على عادتهم في أهل الحديث والسنة بذلك ... وذلك ميراث من أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم في رميه ورمي أصحابه بأنهم صباة قد ابتدعوا ديناً محدثاً، وهذا ميراث لأهل الحديث والسنة من نبيهم بتلقيب أهل الباطل لهم بالألقاب المذمومة". ثم ذكر العلامة القاري الحنفي بيتين إرغاماً للمعطلة: فإن كان تجسيماً ثبوت صفاته ... وتنزيهها عن كل تأويل مفتر فإني بحمد الله ربي مجسم ... هلموا شهوداً واملئوا كل محضر ثم ذكر نبذة من عقيدة الإمام أبي حنيفة التي تمثل عقيدة السلف عامة ولاسيما الإمام أبو حنيفة ومالك إمام دار الهجرة ثم أقرها وصرح أن عقيدته - (ابن القيم) - عين عقيدة الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، فقال: "ثم بين في الشرح المذكور - (يعني بين ابن القيم في (مدارج السالكين)) - ما يدل على براءته من التشنيع المسطور والتقبيح المزبور وهو ما نصه: "إن حفظ حرمة نصوص الأسماء والصفات بإجراء أخبارها على ظواهرها، وهو اعتقاد مفهومها المتبادر إلى أفهام العامة، ولا نعني بالعامة الجهال، بل عامة الأمة كما قال مالك رحمه الله: "الاستواء معلوم والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". فرق بين المعنى المعلوم من هذه اللفظة، وبين الكيف الذي لا يعقله البشر، وهذا الجواب من مالك رحمه الله شافٍ عامٌ في جميع مسائل الصفات من السمع والبصر والعلم، والنزول والغضب والرحمة والضحك، فمعانيها كلها معلومة، وأما كيفيتها فغير معقولة، إذ تعقُّلُ الكيفِ فرعُ العلم بكيفية الذات، وكنهها، فإذا كان ذلك غير معلومٍ فكيف يعقل لهم كيفية الصفات؟. والعصمة النافعة في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم- من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يثبت له الأسماء والصفات، وينفي عنه مشابهة المخلوقات، فيكون إثبات منزهاً عن التشبيه ونفي منزهاً عن التعطيل، فمن نفى حقيقة الاستواء فهو معطل، ومن شبهه باستواء المخلوقات على المخلوق فهو مشبه، ومن قال: هو استواء ليس كمثله شيء فهو الموحد المنزه".انتهى كلامه - (أي ابن القيم) - وتبين مرامه، وظهر أن معتقده موافق لأهل الحق من السلف ... فالطعن الشنيع والتقبيح الفظيع غير موجه عليه ولا متوجه إليه فإن كلامه بعينه مطابق لما قاله الإمام الأعظم، والمجتهد الأقدم في (فقهه الأكبر)، ما نصه: "وله تعالى يد ووجه ونفس .. له صفات بلا كيف، ولا يقال: إن يده قدرته أو نعمته لأن فيه إبطالُ الصفةِ، وهو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفته بلا كيف، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف ... " (1).5 - وبعدما ذكرنا من نصوص أئمة الحنفية لا نحتاج إلى مزيد، ولكن مع ذلك أود أن أقدم للقراء نص كلام العلامة الشاه محمد أنور الكشميري الحنفي (1352هـ) محدث الديوبندية والذي يبجله الكوثري وأبو غدة ويعظمانه ويبجلانه غاية الإجلال بله الديوبندية إطراء وغلواً (2).   (1) ((مرقاة المفاتيح)) (8/ 251 - 252)، و ((نقل العلامة نعمان الألوسي في جلاء العينين)) (ص 42)، جملة منه عن ((شرح الشمائل)) للملا على القاري. (2) انظر ((مقالات الكوثري)) (ص 359)، ومقدمة أبي غدة لكتاب ((التصريح بما تواتر في نزول المسيح)) (ص 12 - 32) فترى عجائب من المجازفات والغلو فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 قال العلامة أنور - رحمه الله:"ألا ترى أن الأشعري لما بالغ في التنزيه وشدد فيه لزمه نفي كثير من الصفات التي أثبتها السمع حتى قارن المعطلة فلم يبق للاستواء المنصوص عنده مصداق، وصار نحو ذلك كله من باب المجازات عنده فالقرآن يأبى عما يريده الأشعري من تنزيهه هذا - تبارك الله- وقد نقلنا لك فيما أسلفنا أننا لم نجد تعبيراً في القرآن أزيد إيهاماً من قوله تعالى: إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:30]، ومن قوله بُورِكَ مَن فِي النَّارِ [النمل:8]، وكان ذلك مسموعاً فالأشعري يزعمه خلاف التنزيه قلت: فعليه أن يكره هذا التعبير أيضاً، ولكن القرآن قد أتى به ولم يبال بذلك الإيهام، ولا رآه مخالفاً للتنزيه .. وبالجملة قد ثبت إسناد كثير من الأشياء في السمع ولا يرضى الأشعري إلا بقطعها عن الله تعالى، مع أن القرآن على ما يظهر لا يسلك مسلك تلك التنزيهات العقلية" (1). قلت: هذا كلام جيد غير أن الردَّ على الأشعري والسكوتَ على الماتريدي ليس من الإنصاف في شيء، فكلامه هذا. أولاً: حجة على الماتريدي والماتريدية أيضاً. وثانياً: فيه اعتراف بالحق، وهو أن إثبات الصفات ليس من التشبيه في شيء. ثالثاً: أن تنزيهاتهم المزعومة تعطيل في الحقيقة وليس من التنزيه المطلوب في شيء؛ بل يجب تنزيه الله تعالى من هذا التنزيه الباطل. فليتدبر القراء الكلام ولا سيما الحنفية الماتريدية في هذه النصوص التي سقتها عن هؤلاء الأئمة: الإمام أبو حنيفة، والإمام أبو منصور الماتريدي والإمام البدر العيني، الشاه ولي الله، والملا على القاري، والشاه أنور شاه الديوبندي ليعرفوا أن كلامهم مشتمل على أمور مهمة أذكر منها ما يلي: 1 - العقيدة الإسلامية في الصفات هي عقيدة السلف الصالح لا غيرها. 2 - عقيدة السلف في الصفات أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل والصفات ومن غير تكييف ولا تمثيل. 3 - لا صلة للتفويض بعقيدة السلف وإنما تفويض السلف تفويض علم الكيف لا علم المعنى فمعاني الصفات معلومة، وكيفيتها مجهولة. 4 - إثبات الصفات لله تعالى وفق المنهج السلفي ليس من التشبيه والتجسيم في شيء. 5 - مذهب السلف وسط بين الإفراط والتفريط من التشبيه والتعطيل. 6 - تأويل الخلف خروج على منهج السلف. 7 - 9 تأويل الصفات تحريف للنصوص وتعطيل للصفات وإبطالها، وأنه مذهب الجهمية. 10 - أن الله تعالى عالٍ على خلقه بائن من مخلوقاته لا في ذاته شيء من المخلوقات ولا في المخلوقات شيء من ذاته. 11 - فَزّعْمُ أن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه، ولا فوق ولا تحت ... باطل، وهذيان المجانين والمحمومين. 12 - 13 الدفاع الكامل عن الإمامين شيخ الإسلام وابن القيم، وأنهما بريئان من تهمة التشبيه والتجسيم، وأن رميهما بتلك الألقاب عدوان وبهتان على عادة الجهمية رمي أهل الحديث والسنة بها، وأنهما من أهل السنة والجماعة، بل من أولياء هذه الأمة؛ وأن عقيدتهما بعينها عقيدة السلف الصالح بما فيهم الإمام أبو حنيفة رحمهم الله تعالى. الوجه الثالث: أن نقول: هؤلاء الماتريدية وغيرهم من أهل الكلام كما لم يعرفوا حقيقة "التشبيه" الواجبِ نفيُه عن الله، فأدخلوا في مفهوم "التشبيه" إثبات صفات الله تعالى ثم عطلوها بحجة التشبيه. كذلك هم لم يعرفوا حقيقة "التنزيه" الواجبِ إثباته لله تعالى فأدخلوا في مفهوم "التنزيه" نفي كثير من صفات الله تعالى فعطلوها بحجة التنزيه.   (1) ((فيض الباري)) (4/ 473)، وسكت عليه الشيخان بدر عالم، والبنوري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 وقد ناقشناهم في الوجه السابق وأوضحنا أن وصف الله تعالى بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تكييف ولا تمثيل ليس من التشبيه في شيء ونتحدث في هذا الوجه عن عدم معرفتهم حقيقة "التنزيه" وأن ما يسمونه من "التنزيه" يتضمن تعطيل صفات الله تعالى، وأن تنزيههم باطل يجب تنزيه الله تعالى من تنزيههم، فنقول وبالله التوفيق. "التنزيه" المطلوب الذي دل عليه الكتاب والسنة، والذي فهمه السلف أئمة هذه الأمة بما فيهم الإمام أبو حنيفة رحمهم الله تعالى - هو تنزيه الله تعالى من كل عيب ونقص مع إثبات ما ورد به الشرع من الأسماء الحسنى، المطلوب تحقيقه البتة. بل تسميةُ نفي الصفات "تنزيهاً" من قبيل تسمية الشيء بغير اسمه، كما أن إثبات الصفات الكمالية له تعالى ليس من باب "التشبيه" المطلوب نفيه. الوجه الخامس: لقد ذكرنا في الوجه السابق - لإبطال شبهة التشبيه - نصوص كبار أئمة الماتريدية، وغيرهم على أن اشتراك المسميات والموصوفين في الأسماء العامة والصفات المطلقة لا يستلزم التماثل بينهما، ونذكر الآن أنه لابد من وجود القدر المشترك بين الأشياء للإفهام والتفهيم، وإلا لا نسد باب الإفادة والاستفادة المقصودة في تفاهم الكلام وتعقل معانيه ومراد المتكلم منه، وهذا هو الطريق الوحيد للمعرفة والتفاهم. قال الإمام ابن أبي العز الحنفي: "واعلم أن المخاطب لا يفهم المعاني المعبر عنها باللفظ إلا أن يعرف عينها، أو ما يناسب عينها، ويكون بينهما قدر مشترك ومشابهة في أصل المعنى، وإلا فلا يمكن تفهيم المخاطبين بدون هذا قط" (1). وقال: "فالرسول صلوات الله وسلامه عليه لما بين لنا أموراً لم تكن معروفة قبل ذلك، وليس في لغتهم لفظ يدل عليها بعينها - أتي بألفاظ تناسب معانيها تلك المعاني، وجعلها أسماءً لها، فيكون بينهما قدر مشترك، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والإيمان، والكفر. وكذلك لما أخبرنا بأمور تتعلق بالإيمان بالله وباليوم الآخر، وهم لم يكونوا يعرفونها قبل ذلك حتى يكون لهم ألفاظ تدل عليها بعينها - أخذ من اللغة الألفاظ المناسبة لتلك بما تدل عليه من القدر المشترك بين تلك المعاني الغيبية والمعاني الشهودية التي كانوا يعرفونها، وقرن بذلك من الإشارة ونحوها ما يعلم به حقيقة المراد". وقال: "وأما ما يخبر به الرسول من الأمور الغائبة، فقد كانوا مما أدركوا نظيره بحسهم وعقلهم كإخبارهم بأن الريح قد أهلكت عاداً، فإن عاداً من جنسهم والريح من جنس ريحهم وإن كانت أشد ... ، وقد يكون الذي يخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم- مما لم يدركوا مثله الموافق له في الحقيقة من كل وجه لكن في مفرداته ما يشبه مفرداتهم من بعض الوجوه. كما إذا أخبرهم عن الأمور الغيبية المتعلقة بالله واليوم الآخر، فلابد أن يعلموا معنى مشتركاً وشبهاً بين مفردات تلك الألفاظ وبين مفردات ما علموه في الدنيا بحسهم وعقلهم ... به يعلم المستمعون أن معرفتهم بالحقائق المشهودة هي الطريق التي يعرفون بها الأمور الغائبة؛ فينبغي أن يعرف هذه الدرجات: وثانيها: عقله لمعانيها الكلية. وثالثها: تعريف الألفاظ الدالة على تلك المعاني الحسية والعقلية. فهذه المراتب الثلاث لابد منها في كل خطاب فإذا أخبرنا عن الأمور الغائبة فلابد لنا من تعريفنا المعاني المشتركة بينها، وبين الحقائق المشهودة، والاشتباه الذي بينهما وذلك بتعريفنا الأمور المشهودة. ثم إن كانت مثلها لم يحتج إلى ذكر الفارق كما تقدم في قصص الأمم.   (1) ((شرح الطحاوية)) (ص 104). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 وإن لم تكن مثلها بين ذلك بذكر الفارق، بأن يقال: "ليس ذلك مثل هذا" ونحو ذلك، وإذا تقرر انتفاء المماثلة كانت الإضافة وحدها كافية في بيان الفارق. وانتفاء التساوي لا يمنع وجود القدر المشترك الذي هو مدلول اللفظ المشترك وبه صرنا نفهم الأمور الغائبة، ولولا المعنى المشترك ما أمكن ذلك قط" (1). قلت: هذا الذي ذكره ابن أبي العز رحمه الله تعالى. حقيقة واقعة اعترف بها أبو منصور الماتريدي أيضاً حيث يقول:"وليس في إثبات الأسماء، وتحقيق الصفات تشابه لنفي حقائق ما في الخلق عنه كالهستية - (كلمة فارسية بمعنى الوجود) - والثبات ولكن الأسماء لما لم يحتمل التعريف، ولا تحقيق الذات بحق الربوبية إلا بذلك، إذ لا وجه لمعرفة غائب إلا بدلالة الشاهد، ثم إذا أريد الوصف بالعلو، والإجلال فذلك طريق المعرفة في المشاهد، وإمكان القول، إذ لا يحتمل وسعنا العرفان بالتسمية بغير الذي شاهدنا .. ، لكن أردنا به ما يسقط الشبه من قولنا: "عالم لا كالعلماء"، وهذا النوع في كل ما نسميه به، ونصفه، والله الموفق" (2). قلت: الحاصل: أن القدر المشترك بين الأشياء مما لابد منه للتفاهم، وأنه لا يستلزم التشبيه لأن التشبيه ينتفي بمجرد الإضافة والتقييد، والتخصيص، ولاسيما إذا قلنا: "عالم لا كالعلماء" فوصف الله تعالى بالصفات الكمالية بلا تكييف ولا تمثيل ليست فيه رائحة التشبيه، بل هذا عين التنزيه. الوجه السادس: أن ظاهر كل نص يختلف حسب سماع كل سامع فقد يظهر لسامع أن إثبات الصفات لله تعالى تشبيه ولا يظهر لسامع آخر؛ وسبب ذلك تغير الفطرة وفساد البيئة؛ فإذا كان السامع لنصوص الصفات سليم القلب صحيح الفطرة، ولم يتأثر ببيئةٍ فاسدةٍ فلسفية كلامية - لم يفهم منها إلا ما هو اللائق بالله تعالى ولا يخطر بباله رائحة التمثيل والتشبيه؛ فأقحاح العرب في جاهلية والإسلام حين سمعوا كلام الله، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حول الصفات لم يقل أحد منهم إن ظاهره التشبيه أو ظاهره غير مراد، وهكذا خيار هذه الأمة بعد الصحابة التابعون وأتباعهم مضوا على هذا من دون نكير ولا ارتياب ولا تأويل، ولا تفويض مزور، بل كان إثبات الصفات بلا تشبيه، وتنزيه الله بلا تعطيل أمراً جِبِلّيًّا فُطِرَتْ قلوبهم على ذلك فكانوا يعرفون ذلك من أعماق قلوبهم من دون الحاجة إلى الدراسة (3). وبعكس ذلك، إذا كان السامع لنصوص الصفات فاسد القلب والفطرة والعقل متأثراً ببيئة منتنة فلسفية كلامية غريقاً في ظلمات بعضها فوق بعض غريقاً في بحر لجي يغشاه موجٌ فوقه موجٌ - فهو ليلاً ونهاراً يفكر في التشبيه. والتمثيل، والتنزيه، والتركيب، والجهة، والحيز، وغيرها من المصطلحات الفلسفية الكلامية.   (1) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص 106 – 107)، وانظر أيضاً ((شرح الفقه الأكبر)) للقاري الحنفي (ص 61 - 62)، وراجع أيضاً ((التدمرية)) (ص 42 - 43)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 24)، و ((شرح حديث النزول)) (20 - 23)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 346 - 351). (2) ((كتاب التوحيد)): (ص 24، 25، 42، 93، 94). ونقله أبو الخير في ((عقيدة الإسلام والإمام الماتريدي)) (ص 357)، وأقره. (3) انظر ((التفصيل في أعلام الموقعين)) (1/ 49)، و ((الخطط للمقريزي)) (2/ 356)، وايضاً راجع إلى بحث مهم في هذا الموضوع عند العلامة المعلمي في ((القائد إلى تصحيح العقائد)) (ص123 - 124 - ، 184 - 185)، و ((التنكيل)) (2/ 295 - 296، 356 - 357)، واعترف به أبو الخير الماتريدي في ((عقيدة الإسلام)) (ص 21 - 23). وانظر أيضا ((الصواعق المرسلة)) (1/ 208 - 211)، و ((مختصر الصواعق)) (1/ 15 - 16). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 فكلما مر عليه نص من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حول صفات رب العرش الكريم، يتبادر إلى ذهنه منه الصفة اللائقة بالمخلوق ثم يقف زاعماً: أن هذا النص لو بقي على ظاهره يلزم منه تشبيه الله بخلقه، وهذا مناف للتوحيد والتنزيه - في زعمه- الذي هو عين التعطيل في الواقع - فيلتجئ إلى الإنكار أو التأويل أو على الأقل إلى التفويض. ثم لفساد القلوب والفطر دركات شتى فكلما كان الفساد في القلوب والعقول، والفطر أشد وأعمق غوراً، كان أصحابها أشد وأعمق غوراً، في التعطيل. ألا ترى أن غلاة الجهمية لما كان فساد قلوبهم وفطرهم أشد - كانوا أشد غلواً في التعطيل حتى عطلوا الأسماء والصفات جميعاً. وبحجة لزوم التشبيه نفسه قاربهم المعتزلة فكانوا أحسن حالاً منهم وأقل خبثاً من هؤلاء الغلاة فعطلوا الصفات وأثبتوا الأسماء مجردة عن معانيها لزعمهم أن التشبيه إنما يتحقق في أثبات الصفات دون الأسماء. وقاربهم تلاميذهم الماتريدية، وزملاؤهم الأشعرية الكلابية؛ فأثبتوا الأسماء مع معاني بعضها وإلحاد في بعضها. كما أثبتوا بعض الصفات ونفوا سائرها، لظنهم أن التشبيه لا يتحقق فيما أثبتوه كالحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر؛ وإنما يتحقق التشبيه فيما نفوه من الصفات، كالعلو، والاستواء، والنزول، والوجه، واليدين، والغضب، والرضا، ونحوها. فلو كانت عقولهم وفطرهم صحيحة ولم يتأثروا بخرافات الفلاسفة وبيئة منتنة كلامية - لكانوا أسعد بالإيمان بالصفات كما كان الصحابة والتابعون أهل القرون المفضلة أسعد به. ونوضح هذا المقام بأمثلة يمانية ضربها العلامة المعلمي اليماني (1386هـ) رحمه الله تعالى لبيان تأثر المتكلمين بفساد البيئة والفطرة حتى نفوا الصفات بحجة التشبيه، وتشبثوا بشبهة واهية وارتكبوا ما لا يقره عقل ولا نقل فقال: "والحق أن العقول كلها تنبذه البتة إلا من أرعبته شبهة المخالفين لعظمتهم في وهمه، وطالت ممارسته لها، وقد يأنس بالنفي الساقط كما تقدم، وهذا الأنس إنما هو ضرب من الحيرة بل هو ضرب من الجنون. أ- افرض أنك خرجت من بيتك، وعلى رأسك عمامة، فيلقاك رجل فيقول لك: "لم خرجت بلا عمامة؟ فترى أنه يمازحك: ثم يلقاك آخر فيقول لك نحو ما قال الأول، وثم يلقاك الثالث، ثم رابع، ثم خامس، هكذا كل منهم يقول لك نحو مقالة الأول. ألا ترتاب في نفسك، وتخاف أن تكون قد جُننت، حيث تعتقد أن على رأسك عمامة تراها وتلمسها، وتحس ثقلها، وهؤلاء كلهم ينفون ذلك وقد ينتهي بك الحال إلى أن تحاول أن تقنع نفسك بأنه ليس على رأسك عمامة، وتنفي أن تخبر أحداً بأنك تعتقد أن على رأسك عمامة، بل قد ترى الأولى أن ترمى العمامة عن رأسك حتى يتفق اعتقادك واعتقاد الناس. ب- ولكن افرض أنك رميت بها واعتقدت أنه ليس على رأسك عمامة، فلقيك رجل فقال لك: "عمامتك هذه كبيرة"؛ ثم لقيك آخر فقال: "عمامتك هذه وسخة" ثم ثالث، ثم رابع، ثم خامس وهلم جراً. كل منهم يثبت لك أن على رأسك عمامة؛ فماذا يكون حالك؟ وقد وقع ما يشبه هذا فكانت نتيجته الجنون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 ج- أخبرت أنه كان في هذه البلدة امرأة من نساء كبار الأمراء وكان لها ولد يعارضها ويمانعها عما تريد. واشتدت مضايقته لها، حتى عمدت إلى جماعة أعدتهم لمجالسة ولدها، وصحبته، وأن يتعمدوا مخالفته، وإظهار التعجب منه في أشياء كثيرة، كانوا يقولون في الحلو: "إنه حامض" وفي الأصفر: "إنه أحمر" ونحو ذلك، ففعلوا ذلك، وألحوا فيه حتى تشكك الولد، وجُنَّ. د- وأخبرت: أنه كان لرجل من كبار الوزراء ابن وابن أخ، وقريب آخر، وكان القريب عاقلاً ذكياً فطناً مهذباً نبيل الأخلاق، وكان الابن دون ذلك، فخاف الوزير أن يموت، فيتولى الوزارة قريبه دون ابنه فأعد جماعة لمجالسة قريبه، وأمرهم بمخالفته وتشكيكه، ففعلوا ذلك حتى جن المسكين" (1). قلت: وهكذا حال هؤلاء المتكلمين المجانين العقلاء، وذلك لفساد الفطرة والعقل والبيئة؛ فأفضت بهم عقلياتهم إلى طامات لا يقرها عقل ولا نقل، ولا إجماع ولا فطرة من القرمطة والسفسطة ورفع النقيضين؛ وشكوك وشبهات ظنوها براهين قاطعات وتعطيل الصفات وتحريف نصوصها بشبهة "التشبيه" وتشبيه الله بالحيوانات، والجمادات؛ بل بالمعدومات والممتنعات؛ فهم في الحقيقة - مع كونهم معطلة- مشبهة لا منزهة. الوجه السابع: أن قولهم: "ظاهر النصوص تشبيه أو يوهم التشبيه، أو ظاهر النصوص غير مراد". من الكلمات المجملة الكلامية والألفاظ المستحدثة البدعية المتشابهة المحتملة للحق والباطل كقولهم: "الله ليس في جهة، وليس له حد، ولا مكان، والله منزه عن الأعراض والحوادث" ونحوها. وقاعدة السلف في مثل ذلك: التوقف عن الحكم عليها نفياً وإثباتاً قبل التفصيل وقبل بيان مراد قائلها: فيجب فيها التفصيل وتمييز الحق من الباطل؛ فإن كان مراد قائلها معنًى حقا يقبل، وإلا يرد على قائلها، مع أن التقييد بالألفاظ الشرعية المأثورة هو الطريق المتبع (2). فقولهم: (ظاهر النصوص تشبيه) أو قولهم: (ظاهر النصوص غير مراد) نعرضه على تلك القاعدة. قال شيخ الإسلام: (القاعدة الثانية: إذا قال القائل: "ظاهر النصوص مراد، أو ظاهرها ليس بمراد". فإنه يقال: لفظ "الظاهر" فيه إجمال واشتراك؛ فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم فلا ريب أن هذا غير مراد، ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا "ظاهراً"، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفراً وباطلاً؛ والله سبحانه وتعالى اعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر وضلال. والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين: تارة: يجعلون المعنى الفاسد "ظاهر اللفظ" حتى يجعلوه محتاجاً إلى تأويل يخالف الظاهر ولا يكون كذلك. وتارة: يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ لاعتقادهم أنه باطل) (3).   (1) ((القائد إلى تصحيح العقائد)) (ص 185 - 186)، و ((ضمن التنكيل)) (2/ 357 - 358). (2) انظر ((التدمرية)) (ص 65 - 68)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 41 - 42، 6/ 38 - 40)، و ((منهاج السنة)) (1/ 249)، و ((مختصر الصواعق المرسلة)) (ص 404)، و ((شرح الطحاوية لابن أبي العز)) (ص 222 - 226، 238 - 239)، و ((جلاء العينين)) (ص 386)، و ((النفائس)) (ص 29 - 30)، تحقيق الفقي. (3) ((التدمرية)) (ص 69)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 43) و ((النفائس)) (ص 29) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 وقال: "وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها، والظاهر هو المراد في الجميع فإن الله تعالى لما أخبر إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الشورى:12]، وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحج:6]، واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره، وأن ظاهر ذلك مراد، كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا، وقدرته كقدرتنا. وكذلك لما اتفقوا على أنه حي حقيقةً، عالم حقيقةً، قادر حقيقة، لم يكن مرادهم أنه مثل المخلوق الذي هو حي عليم قدير. فكذلك إذا قالوا - في قوله تعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ [المائدة:119]، وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]-: "وإنه على ظاهره". لم يقتض ذلك أن يكون ظاهره استواءً كاستواء المخلوق، ولا حباً كحبه، ولا رضا كرضاه؛ فإن كان المستمع يظن أن ظاهر الصفات تماثل صفات المخلوقين لزمه أن لا يكون شيء في ظاهر ذلك مراداً، وإن كان يعتقد أن ظاهرها هو ما يليق بالخالق ويختص به. لم يكن له نفي هذا الظاهر، ونفي أن يكون مراداً إلا بدليل يدل على النفي وليس في العقل ولا في السمع ما ينفي هذا إلا من جنس ما ينفي به سائر الصفات فيكون الكلام في الجميع واحداً. وبيان هذا أن صفاتنا منها ما هي أعيان وأجسام، وهي أبعاض لنا، كالوجه واليد. ومنها ما هي معان وأعراض، وهي قائمة بنا كالسمع والبصر والكلام والعلم والقدرة. ثم من المعلوم أن الرب لما وصف نفسه بأنه حي عليم قدير لم يقل المسلمون: "إن ظاهر هذا غير مراد؛ لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا". فكذلك لما وصف نفسه بأنه خلق آدم بيده لم يوجب ذلك أن يكون ظاهره غير مراد؛ لأن مفهوم ذلك في حقه كمفهوم في حقنا؛ بل صفة - كل- موصوف تناسبه. فإذا كانت نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين فصفاته كذلك ليست من مثل صفات المخلوقين ونسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق إليه، وليس المنسوب كالمنسوب، ولا المنسوب إليه كالمنسوب إلينا ... ". ثم ذكر شيخ الإسلام من مفاسد قولهم: "ظاهر النصوص غير مراد أو ظاهرها تشبيه" ما يلي: أ- أن مدلول النصوص هو التمثيل. ب- إبقاء النصوص معطلة عما هو اللائق بالله تعالى. ج- نفي الصفات التي تدل عليها تلك النصوص فيكون معطلاً، لما يستحقه سبحانه وتعالى. د- وصف الرب سبحانه وتعالى بنقيض صفاته اللائقة به تعالى من صفات الأموات والجمادات أو صفات المعدومات. ثم قال: "فيكون قد عطل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فيجمع في الله وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل فيكون ملحداً في أسماءه وآياته ... " (1). وقال شيخ الإسلام: "وجماع الأمر: أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة. 1 - قسمان يقولون: تُجْرَى على ظواهرها. 2 - وقسمان يقولون: هي على خلاف ظاهرها. 3 - وقسمان يسكتون. أما الألولون فقسمان: أحدهما: من يجريها على ظاهرها، ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين فهؤلاء المشبهة، ومذهبهم باطل أنكره السلف.   (1) ((التدمرية)) (ص 76 - 81)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 46 - 49)، ومثله كلام مهم لشيخ الإسلام في ((الحموية)) (ص 106 - 107)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 108 - 109)، و ((المدنية)) "رسالة تحقيق المجاز والحقيقة" (ص 122 - 124)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (6/ 355 - 358) و ((النفائس)) (ص 31 - 33). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 الثاني: من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله كما يُجْرَى اسم "العليم، والقدير، والإله، والموجود، والذات" ونحو ذلك على ظاهرها اللائق بجلال الله. فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوق إما جوهر محدث، وإما عرض قائم به، فالعلم والقدرة والكلام، والمشيئة، والرحمة، والرضا، والغضب" ونحو ذلك في حق العبد أعراض. و"الوجه، واليد، والعين" في حقه أجسام. فإذا كان الله موصوفاً عند عامة أهل الإثبات بأن له علماً، وقدرة، وكلاماً، ومشيئة، وإن لم يكن ذلك عرضاً يجوز (1) عليه ما يجوز على صفات المخلوقين - جاز أن يكون وجه الله، ويداه صفاتٍ ليست أجساماً يجوز (2) عليها ما يجوز على صفات المخلوقين. وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي، وغيره من السلف، وعليه يدل كلام جمهورهم وكلام الباقين لا يخالفه، وهو أمر واضح. فإن الصفات كالذات، فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس المخلوقات - فصفاته ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات، فمن قال: "لا أعقل علماًً، ويداً إلا من جنس العلم واليد المعهودين"، قيل له: فكيف تعقل ذاتاً من غير جنس ذوات المخلوقين؟ ومن المعلوم أن صفات كل موصوف تناسب ذاته، وتلائم حقيقته. فمن لم يفهم من صفات الرب - الذي ليس كمثله شيء - غلا ما يناسب المخلوق فقد ضل في عقله، ودينه. وما أحسن ما قال بعضهم: (إذا قال لك الجهمي: "كيف استوى"، أو "كيف ينزل إلى سماء الدنيا" أو "كيف يداه" ونحو ذلك؟. فقل له: "كيف هو في نفسه"؟ فإذا قال لك: "لا يعلم ما هو إلا هو، وكنه الباري تعالى غير معلوم للبشر" فقل له: "فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف. فكيف يمكن أن تعلم كيفية صفة لموصوف، لم تعلم كيفيته؟ وإنما تعلم الذات، والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي لك ... ).ثم ذكر شيخ الإسلام بقية الأقسام فراجعه (3). قلت: الحاصل من هذا الوجه: أن من زعم أن ظاهر نصوص الصفات موهم لتشبيه الله بخلقه ثم التزم ذلك فهو مشبه عابد صنم ممثل الله تعالى بخلقه، ومن زعم أن ظاهرها موهم للتشبيه ولكنه غير مراد ثم أولها إلى ما يقتضيه عقله الفاسد فهو أولاً: معطل لصفات الله تعالى، وثانياً: محرف لنصوصها، وثالثاً: واقع فيما فر منه، ورابعاً: مشبه لله تعالى بالجمادات والمعدومات، والممتنعات، كما أنه غالط في قوله: إن هذا ظاهر النصوص ومن آمن بالصفات ونصوصها بلا تكييف ولا تمثيل فقد أصاب الحق وسلم من التعطيل والتمثيل، لأن ذلك هو الظاهر اللائق بجلال الله تعالى، وبالله التوفيق. الوجه الثامن: أن نقول: إن الذين تشبثوا في نفي بعض الصفات بشبهة التشبيه، ويقولون: فإن ظاهر نصوصها تشبيه، أو موهم للتشبيه فظاهرها غير مراد"، أو يقولون: "إن هذه النصوص ظواهرها ظنية في معارضة العقليات القطعية، فهي إما أن تفوض معانيها إلى الله، أو تؤول إلى ما يوافق البراهين العقلية"، إلى أخر ما يزعمون - مضطربون متناقضون، وقولهم متناقض تناقضاً واضحاً، متضارب تضارباً فاضحاً؛ فإنهم قد أثبتوا بعض الصفات، كالحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، فلم لم يفهموا من ظاهر نصوص تلك الصفات تشبيه الله بخلقه؟.   (1) الجملتان داخلتان تحت النفي و ((راجع النفائس)) (ص 162). (2) الجملتان داخلتان تحت النفي و ((راجع النفائس)) (ص 162) (3) ((الحموية)) (ص 110 - 111)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 112 - 115). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 ولم لم يقولوا: إن ظاهرها موهم للتشبيه، أو ظاهرها غير مراد ونحوه؟ فهؤلاء إذا لم يفهموا من نصوص الصفات التي أثبتوها - تشبيه الله بخلقه- كان يجب عليهم أن لا يفهموا التشبيه من نصوص الصفات التي نفوها، كعلوا الله تعالى خلقه، واستوائه على عرشه، ونزوله إلى السماء الدنيا وغضبه، ورضاه، ووجهه، ويديه، ونحوها. فإثبات بعض الصفات، ونفي بعضها، وتأويل بعض النصوص وعدم تأويل بعضها ليس إلا تناقضاً واضطراباً؛ وهومذهب ليس له قاعدة ولا ميزان؛ وموقف منهار؛ ولا مخلص لهم من هذا التناقض والاضطراب إلا أن يرجعوا إلى العقيدة السلفية التي ليس فيها إفراط ولا تفريط، من تشبيه وتعطيل. وأن يثبتوا جميع الصفات الكمالية الواردة في الكتاب والسنة وفق المنهج السلفي، وهو إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تحريف ولا تعطيل، وإلا يلزمهم نفي ما أثبتوه من بعض الصفات أيضاً؛ بل نفى الأسماء الحسنى كلها بل نفي وجود الله تعالى لأجل شبهة التشبيه حتى يكونوا من غلاة غلاة غلاة المعطلة، ومع ذلك لا يمكن لهم التخلص من التشبيه مهما غالوا في نفيه؛ لأنهم سيقعون في تشبيه الله تعالى بالمعدومات، بل الممتنعات في آخر المطاف، ولابد من ذلك لهم إلا بالرجوع إلى العقيدة السلفية. هذا، ولكثير من العلماء نصوص مهمة في بيان تناقضهم، واضطراب موقفهم نذكرها في وجوه إبطال التأويل إن شاء الله تعالى. الحاصل: أن الماتريدية لما أثبتوا بعض الصفات، ونفوا بعضها بشبهة التشبيه، وظنوا أن ذلك مقتضى التنزيه - وقعوا في التناقض حيث أثبتوا بعضها، ونفوا بعضها مع أن القول في جميعها واحد، ثم لم ينجوا من التشبيه حيث وقعوا فيه بعد ما عطلوا بعضها وحرفوا نصوصها، لآن مالها إلى التشبيه قبل التأويل وبعده لازم ولا نجاة منه إلا بالمنهج السلفي الذي هو إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل، والحمد لله. المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات لشمس السلفي الأفغاني 1/ 478 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 أولا: مخالفة الماتريدية للنقل الصحيح لقد عارضت الماتريدية - في تعطيلهم لصفة "العلو" لله سبحانه وتعالى جميع ملل الأنبياء والمرسلين السابقين، وجميع الكتب الإلهية المنزلة، والنصوص الصريحة المحكمة الصريحة في الكتاب والسنة. أما اتفاق ملل الأنبياء والمرسلين السابقين على تحقيق "علو" الله تعالى - فقد اعترف بذلك كبار الماتريدية، والأشعرية، بل القرامطة الباطنية. والشيخ الإمام عبدالقادر بن موسى بن عبدالله الجيلاني (561هـ) (1) - الذي اتفق على كراماته وولايته (2)، والذي قال فيه الإمام عز الدين بن عبدالسلام: "ما نعرف أحداً كراماته متواترة كالشيخ عبدالقادر رحمه الله" (3) - قد قال: "وهو لجهة العلو مستوٍ على العرش، ... وكونه على العرش مذكور في كل كتاب أنزله على كل نبي أرسله" (4). وقال الإمام ابن القيم معلقاً على كلام الشيخ الجيلاني هذا:"وصدق ... ، فإن الرسل من أولهم إلى آخرهم ليس بينهم اختلاف في أسماء الرب، وصفاته، وأفعاله ... ، فلم يختلف منهم اثنان في باب الأسماء والصفات وإن كان في الكتابين الذين لم ينزل من السماء كتاب أهدى منهما - من ذلك ما ليس في غيرهم، حتى زعمت أمة المعطلة: أنهما كتابا تشبيهٍ، ومن جاء بهما إماما المشبهة" (5).وأما أدلة "علو الله تعالى" في القرآن الكريم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام سلف هذه الأمة ونصوص أئمة السنة، فأمر لا يعده العاد ولا يحصيه إلا رب العباد. وقد ذكر بعض كبار الحنفية وغيرهم من أهل العلم أن بعض أئمة السنة تتبعها فوجدها أكثر من ألف دليل (6). وقد تنوعت أدلة "علو الله تعالى" أنواعاً متعددة ذكر منها بعض أئمة السنة أكثر من عشرين نوعاً، واعترف بها بعض كبار أئمة الكلام، ولا حاجة إلى ذكرها ولكن أشير إلى بعض تلك الأنواع: 1 - نصوص علوه تعالى على خلقه سبحانه. 2 - نصوص فوقيته سبحانه على عباده. قال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18].   (1) ترجمته في ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب (1/ 290 - 301)، و ((شذرات الذهب)) (4/ 198). (2) ((الصواعق المرسلة)) (4/ 1279). (3) ((الصواعق المرسلة)) (4/ 1279). (4) ((غنية الطالبين)) (1/ 63). (5) ((الصواعق المرسلة)) (4/ 1279)، وراجع ((اجتماع الجيوش)) (ص 323)، و ((مختصر الصواعق)) (2/ 205 - 206)، الطبعة القديمة، و (2/ 370)، الطبعة الجديدة، وانظر أيضاً ((درء التعارض)) (5/ 222، 309 - 310)، و ((الحموية)) (ص 108 - 109)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 110 - 111، 271، 275) و ((ضمن مجموع الرسائل الكبرى)) (3/ 471)، وانظر ((مناهج الأدلة)) (ص 176). (6) انظر ((الصواعق المرسلة)) (4/ 1279)، و ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (ص 331)، و ((شرح الطحاوية لابن أبي العز)) (ص 332)، و ((روح المعاني)) للعلامة محمد الآلوسي مفتي الحنفية (7/ 114)، و ((جلاء العينين)) لنعمان الآلوسي الحنفي (ص 355)، و ((غاية الأماني)) لشكري الآلوسي الحنفي (1/ 443)، وانظر ((الجواب الصحيح)) (3/ 84). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 قلت: لا يصح أي تأويل لقوله تعالى: فَوْقَ عِبَادِهِ كأن يقال: المراد من "الفوقية" فوقية القهر، والغلبة، والعظمة، ونحوها مما يرتكبه الماتريدية في تحريف نصوص العلو كما تقدم، لأن قوله تعالى وَهُوَ الْقَاهِرُ دل على تلك الفوقية، فلو حمل قوله تعالى فَوْقَ عِبَادِهِ أيضاً على تلك الفوقية القهرية - لكان الكلام مبنياً على التأكيد والتكرار، مع أن التأسيس أولى من التأكيد لاشتمال التأسيس على الإفادة فائدةً جديدةً حتى باعتراف الماتريدية. على أن حمل الكلام على الحقيقة متعين؛ لأن الحقيقة هي الأصل باعترافهم أيضاً (1). وقال عز وجل: يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ [النحل:50] وهذه الآية لا احتمال فيها لأي مجاز أو تأويلٍ بوجهٍ من الوجه، لوجود كلمة "من" المعينة للفوقية الذاتية الحقيقية (2).3 - ونصوص كونه تبارك وتعالى في السماء. والمراد من "السماء" العلو والارتفاع، وكلمة "في" بمعنى كلمة "على" (3). 4 - ونوصوص استوائه سبحانه على عرشه تعالى. 5 - ونصوص العروج إليه جلا وعلا. 6 - ونصوص الصعود إليه تبارك. 7 - ونصوص الرفع إليه سبحانه. 8 - وأحاديث نزول الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا. 9 - وأحاديث معراجه صلى الله عليه وسلم إلى ربه سبحانه وتعالى. ففي لفظ من تلك الأحاديث: ((ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله، حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى .. )) (4).10 - وأحاديث الإشارة إلى السماء بعدها إشارة إلى الله عز وجل منها حديث جابر الطويل في حجة الوداع، وفيه: ((فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس - اللهم اشهد - ثلاث مرات)) (5).ومنها حديث الجارية وفيه: ((أين الله)) فقالت ((في السماء)) (6). قلتُ: هذه النصوص ومعها أضعافُ أضعاف أضعافٍ تدل دلالة قاطعة لا تحتمل النقيض على أن الله تعالى فوق هذا العالم حقيقة، وأن هذه النصوص القاطعة الساطعة لا تحتمل المجاز والتأويل بوجه من الوجوه؛ ولهذا قال الإمام ابن القيم بعد ما ساق أحداً وعشرين نوعاً من حجج "علو" الله تعالى: وقد اقتصرت على يسير من كثيـ ... ـرٍ فائتٍ للعدَ والحسبان ما كل هذا قابل التأويل بالـ ... ـتحريف فاستحيوا من الرحمن (7) لكن الماتريدية يحرفون هذه النصوص مع كثرتها واطرادها وتظافرها إلى معانٍ مجازية قد زكرناها فيما سبق فلا داعي إلى إعادتها.   (1) انظر ((المغني للخبازي)) (ص 137)، و ((المنار مع شرحه كشف الأسرار ونور الأنوار)) (1/ 228، 267)، وارجع لإبطال حمل هذه الآية على الفوقية القهرية ونحوها إلى ((مختصر الصواعق)) (2/ 205)، وما بعدها، ط/ قديمة، و: (2/ 369)، وما بعدها، ط/ جديدة. (2) انظر ((مختصر الصواعق)) (2/ 205، 207)، ط/ قديمة، و: (2/ 369، 371)، ط/ جديدة، و ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص 319)، وشرح كتاب ((التوحيد)) من صحيح البخاري لشيخنا عبدالله بن محمد الغنيمان (1/ 458)، و ((الصفات الإلهية)) لشيخنا محمد أمان الجامي (ص 227). (3) انظر ((الإبانة للأشعري)) (2/ 107)، تحقيق فوقية، و (ص 86)، تحقيق الأرناؤوط، ط/ دار البيان، و: (ص 120)، ط/ الجامعة الإسلامية، والموجز له كما في ((الصواعق المرسلة)) (4/ 1243 - 1245)، و ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص140 - 411، 421). (4) رواه البخاري (7517) قال ابن رجب في ((فتح الباري)) (2/ 114): قد تفرد به شريك بهذه الألفاظ في هذا الحديث، وهي مما أنكرت عليه فيه. (5) رواه مسلم (1218) (6) رواه مسلم (537) (7) ((القصيدة النونية)) (ص 85)، و ((شرحها توضيح المقاصد)) (1/ 534)، و ((توضيح الكافية الشافية)) (ص 73)، و ((شرح النونية)) للهراس (1/ 260). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 وقد رهنَّا في فصل التأويل على أن تأويل نصوص الصفات بدعةٌ في صميم الإسلام، وخروجٌ على إجماع أئمة الإسلام، وأن مقالة التأويل في الأصل مقالةُ الكفارِ، وأنها تستلزم تعطيل الصفات وتحريف نصوصها، وأنها طريق إلى الزندقة والإلحاد. ولقد تصدى شيخ الإسلام لإبطال حمل نصوص علو الله تعالى وفوقيته على المجاز فأجاد وأفاد (1)، وهكذا للإمام ابن القيم رحمه الله مباحثُ قيمةٌ في إبطال تأويلات نصوص فوقية الله تعالى وعلوه سبحانه فارجع إليها (2). وللإمام ابن أبي العز (792هـ) والعلامة محمود الآلوسى (1270هـ) وابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) وحفيده العلامة شكرى الآلوسي (1342هـ) كلمة قيمة قاضية على تأويلات الماتريدية وأمثالهم لنصوص "علو الله سبحانه وفوقيته" أنقلها لما فيها من عبرةٍ بالغةٍ وهم من كبار الحنفية وأئمتهم، واللفظ للآلوسي الجد: "وتأول بعضهم كل نص فيه نسبة الفوقية لله بأن "فوق" بمعنى "خير وأفضل" كما يقال: "الأمير فوق الوزير، والدينار فوق الدرهم" وأنت تعلم أن هذا مما تنفر منه العقول السليمة وتشمئز منه القلوب الصحيحة؛ فإن قول القائل ابتداءً" الله خير من عباده" أو "خير من عرشه" من جنس قوله "الثلج بارد، والنار حارة، والشمس أضوأ من السراج، والسماء أعلى من سقف الدار" ونحو ذلك. وليس في ذلك أيضاً تمجيد ولا تعظيم لله تعالى، بل من أرذل الكلام، فكيف يليق حمل الكلام المجيد عليه ... على أن في ذلك تنقيص لله تعالى شأنه ففي المثل السائر: ألم ترى أن السيف ينقص قدره إذا ... قيل: إن السيف أمضى من العصى "والفوقية" بمعنى "الفوقية في الفضل" مما يثبتها السلف لله تعالى أيضاً وهي متحققة في ضمن "الفوقية المطلقة" وكذا يثبتون "فوقية القهر والغلبة" كما يثبتون "فوقية الذات" ويؤمنون بجميع ذلك، وليسوا كمن - يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض" (3). قلتُ: لا حاجة إلى مزيد من الرد على تأويلات الماتريدية بعد كلام هؤلاء الأئمة لكني أود أن أشير إلى نكتة تتعلق بهذا المقام وهي: أنه لا يمكن لأحدٍ إثبات "علو المكانة وعلو الشأن" لله سبحانه وتعالى إلا أن يعترف لله تعالى بعلو الذات والعلو حقيقةً؛ لأن نفي العلو الحقيقي الذاتي - عن الله تعالى - نفٌي لعلو الشأن والمكانة عنه سبحانه بالطريق الأولى والأحرى لكن التأويل التالي باطل فالمقدم مثله. الحاصل: أن علو الله تعالى ثابت بنصوص الكتب السماوية الصريحة والأحاديث الصحيحة، وأن الماتريدية قد خرجوا عليها، وأن تأويلها باطل محض، لأنه تحريف لها وتعطيل لهذه الصفة، وإبطال لها؛ حتى بشهادة إمامهم "الأعظم" حيث قال: "ولا يقال: غضبه: عقوبته، ورضاه، ثوابه". وقال أيضاً: "ولا يقال: إن يده: قدرته، أو: نعمته؛ لأن فيه إبطال الصفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال". وهذا برهان باهر،، وسلطان قاهر،، على أن تأويل صفة بأخرى - كما تفعله الجهمية الأولى وأفراخهم من الماتريدية والأشعرية - تعطيلٌ للصفات وإبطالٌ لها وتحريفٌ لنصوصها وتخريفٌ للعقيدة. فواعجباً للفنجفيري القائل غالطاً جاهلاً،، أو مغالطاً متجاهلاً: الخلف المؤولون لا ينكرون الصفات بل الصفات عندهم ثابتةٌ مثل ما ثبت عند السلف؛ فهم من أهل السنة لا يخرجون منهم (4). فإن كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني 2/ 463   (1) انظر ((المراكشية)) (ص 39)، وما بعدها، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 167)، وما بعدها. (2) ((مختصر الصواعق)) (2/ 205 - 217)، ط القديمة، و: ((ص 369 - 378)، ط، الجديدة: و (ص 355 - 363)، ط/ دار الكتب العلمية "1405هـ". (3) ((شرح الطحاوية)) (ص 323 - 324)، ((روح المعاني)) (7/ 116)، ((جلاء العينين)) (ص 358)، ((غاية الأماني)) (1/ 446)، وأصل الكلام للإمام ابن القيم رحمه الله انظر ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 141 - 142، 206)، ط/ قديمة و: (ص 329 - 330، 370)، ط/ جديدة و (ص 315 - 316، 355)، ط/ دار الكتب العلمية. (4) ((تنشيط الرستمي)) (ص 350). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 ثانيا: خروج الماتريدية على إجماع جميع بني آدم إن الماتريدية وأمثالهم وكل من نفى "علو" الله تعالى على خلقه من جميع طوائف المعطلة قديماً وحديثاً قد خالفوا إجماع جميع بني آدم على "علو الله تعالى" فإن جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين على إثبات علو الله سبحانه وتعالى حتى باعتراف كبار القرامطة الباطنية وكبار الماتريدية والأشعرية، بل أهل الأديان كلهم أجمعون مع المسلمين (1).واعترف بذلك ابن سينا وأمثاله من القرامطة الباطنية، وكذا كبار الماتريدية والأشعرية، حتى الفلاسفة اليونانيين الكافرين (2)، وحتى اليهود والنصارى (3).ولذلك قال الإمام عبدالله بن المبارك رحمه الله (181هـ) - الذي يعده الكوثرية والديوبندية من كبار أئمة الحنفية (4): " ... إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكى كلام الجهمية" (5).بل العرب والعجم (6)، والآدميون كلهم عربهم وعجمهم، مؤمنهم وكافرهم (7)، واتفقت بذلك كلمة المسلمين والكافرين (8)، وكل عاقل من مسلم وكافر (9)، وجميع بني آدم (10)، وعلى ذلك إجماع الأولين والأخرين، العالمين منهم والجاهلين، وكل من مضى ومن غير، حتى فرعون ونمرود (11).وعليه فطرة المسلمين علمائهم وجهالهم، أحرارهم ومماليكهم، ذكرانهم وإناثهم، بالغيهم وأطفالهم، وكل من دعا الله (12).بل ابن كلاب (240هـ) والكلابية، والأشعري (324هـ) وقدماء الأشعرية، كالباقلاني وابن فورك، بل الجويني وغيرهم (13).وجمهور الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية، والداوودية، والصوفية والكرامية، والهشامية، والمرجئة، وقدماء الشيعة، وأهل التفسير والحديث والكلام (14)، والعرب العاربة، والعبرانيون (15)، ومشركوا العرب (16).وعلو الله على خلقه واستواؤه على عرشه أمر مجمعٌ عليه بين الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين ومن تبعهم، ولم يخالف فيه إلا من هو متهم على الإسلام، أو مغرور بالتقليد لمن يحسن به الظن (17). المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني 2/ 471   (1) راجع ((خلق أفعال العباد)) (ص 15 - 16)، و ((تأويل مختلف الحديث)) لابن قتيبة (ص 272)، و ((درء التعارض)) (3/ 265)، و ((الحموية)) (ص 56)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 52)، و ((الصواعق المرسلة)) (4/ 1281، 1305 - 1306)، و ((العلو للذهبي)) (ص 145)، و ((مختصره للألباني)) (ص 216). (2) راجع ((مناهج الأدلة)) (ص 176)، و ((درء التعارض)) (6/ 210، 211، 214، 242، 261)، و ((الصواعق المرسلة)) (4/ 1316)، و ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (ص 322 - 323). (3) انظر ((خلق أفعال العباد)) (ص 15 - 16)، و ((الحموية)) (ص 56)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 52). (4) انظر ((فقه أهل العراق)) (ص 61) للكوثري، تحقيق أبي غدة الكوثري. (5) ذكره البخاري تعليقاً جزماً في ((خلق أفعال العباد)) (ص 15)، و ((وصله أبو داود في مسائله)) (ص 269)، والدارمي في ((الرد على الجهمية)) (ص9، 155)، وعبدالله بن أحمد في ((السنة)) (1/ 111)، وذكره الآجري في ((الشريعة)) (ص 305) وابن عبدالبر في ((التمهيد)) (7/ 143)، وشيخ الإسلام في ((درء التعارض)) (1/ 243، 5/ 302، 308)، وصححه ابن القيم في ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (ص 135). (6) انظر ((تأويل مختلف الحديث)) لابن قتيبة (ص 172)، ((التمهيد)) لابن عبدالبر (1/ 134)، و ((مجموع الفتاوى)) (5/ 259، 405)، و ((العلو)) للذهبي (ص 145)، و ((مختصره)) للألباني (ص 172). (7) قاله ابن كلاب "240هـ" إمام الكلابية، وإمام الأشعري والأشعرية جميعاً، انظر ((مجموع الفتاوى)) (5/ 320)، و ((الصواعق المرسلة)) (4/ 1282)، و ((اجتماع الجيوش)) (ص 284). (8) انظر ((رد الدارمي على بشر المريسي)) (ص 25). (9) قاله أبو يعلى في ((إبطال التأويل)) كما في ((درء التعارض)) (6/ 208). (10) ((نقض المنطق)) (ص 52)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (4/ 61، 5/ 275). (11) ((الرد على الجهمية)) للدارمي (ص 20 - 21). (12) ((توحيد ابن خزيمة)) (1/ 254)، وانظر ((الفتاوى)) (5/ 275). (13) انظر ((درء التعارض)) (6/ 122، 193، 197، 209). (14) انظر ((درء التعارض)) (6/ 209)، و ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/ 127)، وراجع ((مناهج الأدلة)) (ص 176). (15) انظر ((رسالة الأضحوية)) لابن سينا القرمطي الباطني (ص 98)، تحقيق حسن عاصي. (16) انظر ((مجموع الفتاوى)) (5/ 197). (17) شرح كتاب التوحيد من ((صحيح البخاري)) لشيخنا عبدالله بن محمد النعيمان (ص 407). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 ثالثا: مكابرة الماتريدية بداهة العقل الصريح لقد كابر الماتريدية بداهة العقل الصريح كما ناقضوا النقل الصحيح، وخالفوا إجماع بني آدم في قولهم: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا فوق العالم ولا تحته. أما بيان مخالفتهم للنقل الصحيح والإجماع المحقق الثابت فقد تقدم بيانه في المبحثين السابقين. وأما بيان مكابرتهم لبداهة العقل الصريح فمن وجوه عقلية صريحة متعددة. ولقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله منها ثلاثين وجهاً (1). وأكتفى بذكر بعضها فأقول وبالله التوفيق: الوجه الأول: أننا جميعاً نحن وخصومنا على علم اليقين لا يحتمل النقيض بالاضطرار من دين الإسلام والعقل الصريح والفطرة الصحيحة: أن الله تعالى خلق هذا الكون بعد أن لم يكن. فنسأل الماتريدية: هل خلق الله تعالى هذا الكون في ذاته المقدسة؟. فيكون الكون داخلاً في ذات الله تعالى! والعياذ بالله منه!. أم أن الله تعالى خلق الكون خارجاً عن ذاته المقدسة؟. فإن اخترتم الصورة الأولى: فقد كفرتم كفراً قبيحاً صريحاً، لأنه حلول فظيع شنيع. وإن اخترتم الصورة الثانية: فقد اعترفتم بأن الله تعالى خارج عن هذه الأكوان وهذا هو المطلوب. فبطل قولكم: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه. وإن تقولوا: لا نقول بالصورة الأولى ولا بالثانية - فقد كابرتم بداهة العقل الصريح كما عارضتم النقل الصحيح وخرجتم عن إجماع بني آدم وأكرهتم أنفسكم على مخالفة الفطرة المستقيمة (2). الوجه الثاني: أن نقول لهؤلاء المنكرين لفوقية الله تعالى على خلقه القائلين: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا فوق ولا تحت: نسألكم أولاً: هل وجود رب العالمين وجودٌ ذهنٌّ؟. أم وجودُه وجود خارجيٌّ؟. فإن قلتم وجوده وجود ذهني - فقد صرتم في غاية التعطيل لرب العالمين - وأنكرتم وجوده إنكاراً واضحا، وصرتم كفاراً كفراً فاضحاً، وهذا لا تقولون به. وإن قلتم وجودهُ وجودٌ خارجي، نسأكلم ثانياً: هل رب العالمين عين هذه الأكوان؟ أم غيرها؟ فإن قلتم: هو عين هذه الأكوان: ارتديتم بالإلحاد الصريح والكفر القبيح وجحدتم الرحمن رب هذه الأكوان، فكفركم حينئذ أقبح من كفر النصارى الحمير البلداء الحمقى عبدة الصلبان. وإن قلتم: هو غير هذه الأكوان - نسألكم ثالثاً: هل هذه الأكوان في ذات رب العالمين؟ أم ذات الرحمن في هذه الأكوان؟. فبأيهما قلتم - صرتم حلوليين ملحدين، وشراً من النصارى، وحينئذ يرحب بكم النصارى ويقبلون خدودكم. وإن قلتم: ننفي الأمرين جميعاً - نسألكم رابعاً: هل رب العالمين مستغن عن هذه الأكوان قائمٌ بنفسه؟ أم هو عرضٌ من الأعراض قائم بغيره؟. فإن قلتم بالثاني: أتيتم بكفرٍ أقبح أشنع، وإلحادٍ أصرح أبشع. وإن قلتم بالأول: فقد اعترفتم بأن الله تعالى خارجٌ عن هذه الأكوان مستغن عنها وهو المقصود. فبطل زعمكم: أن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق ولا تحت ... وإلا فقد كابرتم صريح المعقول كما عارضتم صحيح المنقول. وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: وسل المعطل عن مسائل خمسة ... تردى قواعده من الأركان قل للمعطل هل تقول: إلهنا الـ ... ـمعبودُ حقاً خارج الأذهان فإذا نفى هذا فذاك معطل ... للرب حقاً بالغ الكفران   (1) انظر ((الصواعق المرسلة)) (4/ 1279 - 1340). (2) راجع ((الرد على الجهمية)) للإمام أحمد (ص 138 - 139)، و ((مجموع الفتاوى)) (5/ 267، 320)، و ((الصواعق المرسلة)) (4/ 1241 - 1422، 1279 – 1309، 1339)، و ((القصيدة النونية)) (ص 54 - 55)، و ((شرحها توضيح المقاصد)) (1/ 385 - 386). و ((توضيح الكافية الشافية)) (57 - 58)، و ((شرح النونية)) للدكتور هراس (1/ 173 - 176). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 وإذا أقر به فسله ثانيا ... أتراه غير جميع ذي الأكوان؟ فإذا نفى هذا وقال بأنه ... هو عينها ما ههنا غيران فقد ارتدى بالاتحاد مصرحاً ... بالكفر جاحدً ربه الرحمن حاشا النصارى أن يكونوا مثله ... وهم الحمير وعابدُوا الصلبان هم حصصوه بالمسيح وأمه ... وأولاء ما صانوه عن حيوان وإذا أقرّ بأنه غير الورى ... عبدٌ ومعبودٌ هما شيئان فاسأله: هل هذا الورى في ذاته ... أم ذاته فيها هنا أمران وإذا أقرّ بواحد من ذينك الـ ... أمرين قَبَّلَ خدَّه النصراني ويقول: أهلاً بالذي هو مثلنا ... خشداشنا وحبيبنا الحقاني وإذا نفى الأمرين فسأله إذاً ... هل ذاته استغنت عن الأكوان؟ فلذلك قام بنفسه أم قام بالـ ... أعيان كالأعراض والألوان؟ فإذا أقر وقال: بل هو قائم ... بالنفس، فاسأله وقل ذاتان إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى. الوجه الثالث: ما ساقه أربعة من الشهود العدول من كبار الحنفية وهم الإمام ابن أبي العز (792هـ) والعلامة محمود الآلوسي (1270هـ)، وابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) وحفيده شكرى الألوسي (1342هـ) واللفظ للأول. "من سمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام السلف - وجد منه في إثبات "الفوقية" ما لا ينحصر. ولا ريب أن الله تعالى لما خلق الخلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة - تعالى الله عن ذلك -؛ فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته. ولو لم يتصف سبحانه "بفوقية الذات" - مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم لكان متصفاً بضد ذلك؛ وضد "الفوقية"،"السفول" وهو مذموم على الإطلاق؛ لأنه مستقر "إبليس" وأتباعه وجنوده. فإن قيل: لا نسلم أنه قابل "للفوقية" حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدهاً. قيل: لو لم يكن قابلاً "للعلو والفوقية" - لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها. فمتى أقررتم أنه ذات قائم بنفسه، غير محاط للعالم، وأنه موجود في الخارج وليس وجوده ذهنياً فقط، بل وجوده خارج الأذهان قطعاً. وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة: أن ما كان وجوده كذلك - فهو إما داخل العالم، وإما خارج عنه، وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى وأظهر من الأمور البديهيات بل الضرورية بلا ريب؛ فلا يستدل على ذلك بدليل إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه وأوضح وأبين. وإذا كان "صفةُ العلوِ والفوقية" صفة كمال لا نقص فيه، ولا يستلزم نقصاً ولا يوجب محذوراً ولا يخالف كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً. فنفي حقيقته يكون عين الباطل والمحال الذي لا تأتي به شريعة أصلاً. فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجوده، وتصديق رسله والإيمان بكتابه وبما جاء به رسوله - صلوات الله عليهم وسلامه - إلا بذلك؟.فكيف إذا انضم إلى ذلك شهادة العقول السليمة، والفطر المستقيمة، والنصوص الواردة المتنوعة على "علو الله" على خلقه، وكونه، فوق عباده التي تقرب من عشرين نوعاً ... " (1). شبهة والجواب عنها: هذه الوجوه العقلية التي ذكرناها لبيان أن الماتريدية كابروا بداهة العقل الصريح في نفيهم لعلو الله تعالى، وقولهم: "إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه ولا فوقه ولا تحته"، وشُدَّ الخناقُ عليهم - فلم يجدوا عنها جواباً، ولا للخروج عنها باباً، وكان الواجب عليهم أن يذعنوا للنقل الصحيح ولا يكابروا العقل الصريح، ولكنهم ازدادوا في المكابرة للعقل الصريح مكابرةً على مكابرةٍ فحكموا على هذه الوجوه العقلية الصريحة البديهية بأنها وهمية. أما هذيانهم من أن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق ولا تحت فهو من القطعيات العقليات اليقينيات، فقالوا،   (1) ((شرح الطحاوية)) (ص 318 - 319، 325)، ((روح المعاني)) (7/ 115)، ((جلاء العينين)) (ص 356، 357، 387، 388)، ((غاية الأماني)) (1/ 445). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 "واحتج المخالف - (يعنون سلف هذه الأمة وأئمة السنة) - بالنصوص الظاهرة في الجهة والجسمية والصورة والجوارح - يعنون علو الله تعالى ووجهه ويديه سبحانه وتعالى - وبأن كل موجودين فرضاً لابد أن يكون أحدهما متصلاً بالآخر مُمَاسّاً له، أو منفصلاً عنه مبايناً في الجهة والله تعالى ليس حالاً ولا محلاً للعالم فيكون مبايناً للعالم. والجواب: أن ذلك وهم محض ... " (1). قلت: واعجباً لهؤلاء المتكلمين يحكمون على القضايا الصادقة العقلية الصريحة الضرورية البديهية الموافقة للنصوص المحكمة الصحيحة بأنها قضايا وهميةٌ كاذبةٌ: أما حماقاتهم وجهلياتهم وخزعبلاتهم وشبهاتهم الواهية التي أوهى من بيت العنكبوت وهي في نفسها كاذبة بل من قبيل المستحيلات الممتنعات فهي عندهم براهين عقلية قاطعة يقينية حاكمة على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصوص سلف هذه الأمة وأئمة السنة. كقولهم: "إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه ولا فوقه ولا تحته".وكقولهم الآخر العميق في الحماقة: "إنه لا خلاء ولا ملاء وراء العالم" (2). ولذلك يقول شيخ الإسلام في بيان حماقات المتكلمين ومكابرتهم للعقل الصريح ومناقضتهم للنقل الصحيح وخروجهم على الإجماع المحقق وإكراههم أنفسهم ضد الفطرة: " ... وأن ما عارض أخباره من الأمور التي يحتج بها المعارضون ويسمونها "عقليات" أو "برهانيات" ... أو "مشاهدات" أو نحو ذلك من الأمور "الدّهاشات" أو يسمون ذلك "تحقيقاً" أو "توحيداً" أو "عرفاناً" أو "حكمة حقيقية" أو "فلسفة" أو "معارف يقينة" ونحو ذلك من الأسماء التي يسميها أصحابها - فنحن نعلم علماً يقينياً لا يحتمل النقيض: أن تلك "جهلياتٌ" و"ضلالاتٌ" و"خيالاتٌ" و"شبهاتٌ مكذوباتٌ" و"حججٌ سوفسطائيةٌ" و "أوهامٌ فاسدةٌ".وأن تلك الأسماء ليست مطابقة لمسماها، بل هي من جنس تسمية الأوثان "آلهة" وتسمية "مسيلمة الكذابِ" وأمثالهِ "أنبياء" ... " (3). والحقيقة أن هؤلاء المتكلمين وإن حكموا بلسانهم أن حجج فوقية الله تعالى وهميةٌ؛ ولكنهم ليسوا مقتنعين مطمئنين بذلك في قلوبهم فقلوبهم تناقض ما يجري على ألسنتهم من الإنكار والعناد والمكابرة، وقلوبهم تشهد على "علو الله". قال شيخ الإسلام: "وكل هؤلاء يجد نفسه مضطربة في هذا الاعتقاد في نفسه وإنما يَسِكّنُ بعضَ اضطرابه نوع تقليد لمعظم عنده، أو خوفه من مخالفة أصحابه أو زعمه، أن حكم الوهم، والخيال، دون العقل. وهذا التناقض في إثبات هذا الموجود الذي ليس بخارج عن العالم، ولا هو العالم الذي ترده فطرهم وشهودهم، وعقولهم. غير ما في الفطرة من الإقرار بصانع فوق العالم؛ فإن هذا إقرار الفطرة بالحق المعروف، وذلك إنكار الفطرة بالباطل المنكر ... " (4). قلت: ولله رد شيخ الإسلام ما أصدقه وما أنور فراسته، فلقد اعترف الغزالي (505هـ) بهذه الحقيقة التي ذكرها شيخ الإسلام، من حيث لا يشعر.   (1) ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص 42)، و ((شرح المواقف)) للجرجاني (8/ 22 - 23)، و ((حاشية حسن الجلبي "الشلبي" على شرح المواقف)) (8/ 22)، و ((حاشية الكستلي على شرح التفتازاني للعقائد النسفية)) (ص 74)، و ((حاشية أحمد الجندي عليه أيضاً)) (ص 101)، و ((النبراس)) للفريهاري (ص 184). وانظر من كتب الأشعرية: ((المستصفي)) للغزالي (1/ 46 - 47)، و ((المواقف)) للإيجي (ص 272). (2) انظر ((المستصفى)) للغزالي (1/ 47)، و ((النبراس)) للفريهاري الماتريدي (ص 184) وراجع لتعريف الخلاء ((تعريفات الجرجاني)) (ص 135). (3) ((درء التعارض)) (5/ 255 - 256). (4) ((نقض المنطق)) (ص 51)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (4/ 60 - 61). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 فقال: "وهذه "القضايا" - يعني أدلة السلف في إثبات "علو الله تعالى" - مع أنها وهميةٌ فهي في النفس لا تتميز عن الأوليّات القطعية مثل قولك: لا يكون شخص في مكانين". بل يشهد به أول الفطرة كما يشهد بالأوليات العقلية. وليس كل ما تشهد به الفطرة قطعاً هو صادق. بل الصادق ما يشهد به قوة العقل ... " (1). تدبر أيها المسلم من كلام هذا الفيلسوف الذي لقب بـ"حجة الإسلام" إسلام المكابرة لبداهة العقل الصريح ومناقضة محكم النقل الصحيح. كيف اعترف ببعض الحق؟. ولكن لما كان كلامه متضمناً للباطل أيضاً. وقف له العلامة المعلمي بالمرصاد فقال معلقاً على كلامه هذا، ومعقباً عليه، مُجْتَثّاً لأوهامه، مُقْبِلاً مِكَرّاً على هامته: "قال المثتبون - (للفوقية) -: أما أن القضية - (يعني كون الله فوق العالم) بديهية لفطرية فحق لا ريب فيه. وأما زعمه: أنها وهميةٌ - فباطل. لأن القضايا الوهمية من شأنها أن ينكشف حالها بالنظر انكشافاً واضحاً ومن شأن الشرع إذا كانت - تلك الوهمياتُ - ماسة بالدين كهذه أن يكشف عنها، وكلا هذين - الأمرين - منتفٍ. أما الشرع، فإنما جاء بتقرير هذه القضية، وتثبيتها، وتأكيدها بنصوص صريحة تفوق الحصر، بل أصل بناء الشرائع على نزول الملك من عند الله عز وجل بالوحي على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام" (2). قلتُ: ومما يُكَذِّبُ هؤلاء تكذيباً صريحاً اعترافهم بأن بني آدم كلهم - سوى أهل الكلام والفلسفة العريقين الغريقين - على الإقرار بأن الله تعالى فوق العالم، واعترفوا أيضاً بأن ملل الأنبياء والكتب السماوية والأحاديث النبوية جاءت على موافقتهم في "أن الله فوق العالم" لكن لمصلحة دعوتهم، لأن ملل الأنبياء والكتب السماوية والأحاديث النبوية لو جاءت صريحة بأن الله تعالى "لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ... لسارع الناس إلى الإنكار وبادروا إلى العناد، ولقالوا: هذا الرب الذي هذا وصفه عدم محض. قلت: تدبر أيها المسلم في هذا الكلام مع اشتماله على كفر قبيح - وهو أن الأنبياء والكتب جاءت على خلاف الحق وجاءت بالكذب لمصلحة دعوة العوام ولكن كلامهم هذا مع هذا الكفر الشنيع والإلحاد الفظيع، صريح في اعترافهم "بأن الله تعالى فوق العالم ليس إلاّ، وإذا كان الأمر كذلك فكيف تكون فوقية الله تعالى على خلقه مع موافقتها المعقول والمنقول وإجماع بني آدم وفطرهم أمراً وهمياً؟!.   (1) ((المستصفى)) (1/ 47). (2) ((التنكيل)) (2/ 351)، و ((القائد إلى تصحيح العقائد)) (ص 179). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 وهذا كله دليل على أن سلف هذه الأئمة وأئمة السنة على حقٍ مبين من إثبات "فوقية الله تعالى" على العالم كله، وأن هذه قضية شرعية نقلية صحيحة، كما هي عقلية بديهية صريحة، وإجماعية فطرية أيضاً، فمن قال خلاف ذلك أو زعم أن الفوقية أمر وهمي فهو "قرمطي" في المنقولات، وسوفسطائي في المعقولات. ولذلك قال شيخ الإسلام: في هؤلاء الماتريدية والأشعرية وأمثالهم: "ولهذا كان هؤلاء المعرضون عن الكتاب، المعارضون له سوفسطائية منتهاهم السفسطة في العقليات، والقرمطة في السمعيات ... " (1).وقد يقول فيهم: "وهم في الحقيقة لا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا" (2).وقال: "بل سلطوا الفلاسفة عليهم وعلى الإسلام" (3). وللإمام ابن أبي العز الحنفي (792هـ) رحمه الله كلام مهم ينبغي الاطلاع عليه. حاصله: لو فرضنا أن العقل إن قبل قولكم: "إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق ولا تحت ... " فهو لقولنا: "إن الله فوق العالم" - أقبل. وإن أبطل العقُل قولنا - فهو لقولكم أشد إبطالاً، فكيف تدعون أن قول القائل: "إن الله فوق العالم" من حكم الوهم؟. ثم نقول: إن عامة فطر الناس بل جميع بني آدم في ذلك معنا ولم يخرج عن هذه البداهة العقلية وهذه الفطرة السليمة إلا طائفة قليلة من المتكلمين، وأول من عرف عنه ذلك الجهم، فكيف تقولون "إن قول القائل: "إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق .. " هو من حكم العقل. وقول القائل: "إن الله فوق العالم" من حكم الوهم؟.ونقول أيضاً: أنتم تحكمون على عقلياتنا بأنها من حكم الوهم، فإن كان حكم فِطَرِ بني آدم مقبولاً ترجحنا عليكم، وإلا نرجع إلى السمع، فإن السمع معنا لا معكم؛ فترجحنا فكيف تدعون علينا بالوهم؟ (4). قلت: الآن ليوازن كل مسلم طالب للحق والإنصاف بين حجج أئمة الإسلام وبين شبهات أساطين الكلام ليتبين من هم أصحاب الوهميات الكاذبات؟. ومن المكابر لصريح العقل؟ ومن المخالف لصحيح النقل؟ ومن الخارج عن الإجماع والفطرة؟ وهؤلاء كانوا أئمة السنة الأبطال، وتلك سيوفهم الصوارم على أهل الضلال وأذكر ما قيل في هؤلاء الرعيل: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب فلينظر المسلم من يخالل؟ فإن المرء مع من أحب، ولا يخف في الله لومة لائم. وعيرني الواشون أني أحبها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها الوجه الرابع: أن قول الماتريدية: "إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل بالعالم ولا منفصل عنه، ولا فوق العالم ولا تحته، ولا يمين ولا شمال، ولا خلف، ولا أمام".   (1) ((درء التعارض)) (5/ 256، و 1/ 218، 276، 2/ 15، 3/ 34، 8/ 59)، ((بغية المرتاد "السبعينية")) (ص 183 - 184)، و ((التدمرية)) (ص 19)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 9) و ((الحموية)) (ص 114 - 115)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 119)، و ((ضمن مجموعة الرسائل الكبرى)) (ص477 - 478)، و ((رسالة الصفات الاختيارية ضمن جامع الرسائل)) (2/ 36 - 37)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (6/ 243 - 244). (2) انظر ((الحموية)) (ص 38)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 33)، و ((شرح حديث النزول)) (ص 163)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (6/ 240). (3) انظر ((الحموية)) (ص 38)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 33)، و ((شرح حديث النزول)) (ص 163)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (6/ 240). (4) انظر: ((شرح الطحاوية)) (ص 326 - 327)، و ((أصل الكلام)) لشيخ الإسلام في الجواب عن شبهة آثارها الرازي، انظر: ((درء التعارض)) (6/ 112 - 267). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 مع مخالفته المنقول الصحيح ومكابرته المعقول الصريح، وخروجه على الفطرة والإجماع مستلزمٌ لكون الله معدوماً بل ممتنعاً، بل صريح في ذلك بأبلغ عبارة؛ لأن الشيء إذا لم يكن داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته ولا يمينه ولا شماله ولا أمامه ولا خلفه فهو معدوم بل ممتنع بلا ريب، والعقل الصريح، والفطرة الصحيحة يشهدان على ذلك. بل الماتريدية والأشعرية أحسوا أن تصور هذا الشيء الذي هذه صفته صعبٌ، ولذلك قال الإيجي الأشعري (756هـ): والجرجاني الماتريدي (816هـ) الحنفي واللفظ له: "وربما يستعان في تصور موجود لا حيز له أصلاً بالإنسان الكلي المشترك بين أفراده، وعلمنا به، فإنهما موجودان، وليسا بمتحيزين قطعا (1). قلت: انظر أيها المسلم كيف اعترف هؤلاء بالحق وأن هذا الشيء الذي هذه صفته لا يعقل ولكن ربما يستعان في تصوره بالإنسان الكلي؟. ومع ذلك لا يذعنون للحق. فاعترافهم هذا أكبر دليل وأقطع حجة على أن قولهم: "إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق، ولا تحت ... " صريح في عدم وجود الله تعالى بل في كونه ممتنعاً. لأن وجود الإنسان الكلي وجود ذهني، لا خارجي حتى باعتراف الماتريدية عامة والكوثري خاصة (2). فوجود الإنسان الكلي في الخارج ممتنع بلا ريب، فإذا كان وجود الله تعالى كوجود الإنسان الكلي- فلابد أن يكون وجوده ذهنياً، يمتنع وجوده في الخارج. فيكون الله على قولهم معدوماً بل ممتنعاً. قال شيخ الإسلام: "الوجود المطلق بشرط الإطلاق، وبشرط سلب الأمور الثبوتية أو لا بشرط مما يعلم بصريح العقل انتفاؤه في الخارج، وإنما يوجد في الذهن، وهذا مما قرروه في منطقهم اليوناني. وبينوا أن المطلق بشرط الإطلاق، كإنسانٍ مطلقٍ بشرط الإطلاق، وحيوان مطلقٍ بشرط الإطلاق، وجسم مطلقٍ بشرط الإطلاق، ووجودٍ مطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الأذهان دون الأعيان" (3). قلتُ: لذا نرى أن استدلالهم على إثبات الصانع في الحقيقة استدلال على نفي الصانع. قال شيخ الإسلام: " ... قولهم: إنا عرفنا حدود العالم بهذه الطريقة وبه أثبتنا الصانع - يقال لهم: لا جرم (أنكم) ابتدعتم طريقاً لا يوافق السمع ولا العقل؛   (1) انظر ((المواقف)) (ص 272)، و ((شرحها)) (8/ 22). (2) انظر ((شرح المواقف)) (8/ 22)، و ((تعريفات الجرجاني)) (ص 239)، و ((شرح الفقه الأكبر)) (ص62) و ((تبديد الظلام)) للكوثري ((ص 63)، ((شرح التهذيب)) (ص 59 - 60). (3) ((درء التعارض)) (1/ 286) وانظر ((شرح التهذيب)) (ص 59 - 60). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 فالعالمون بالشرع معترفون أنكم مبتدعون في الإسلام ما ليس منه، والذين يعقلون ما تقولون يعلمون أن العقل يناقض ما قلتم، وأن ما جعلتموه دليلاً على إثبات الصانع لا يدل على إثباته؛ بل هو استدلال على نفي الصانع، وإثبات الصانع حق، وهذا الحق يلزم من ثبوته إبطال استدلالكم" (1).قلت: لذلك قال أئمة السنة: "المعطل يعبد عدماً، والممثل يعبد صنماً، والمعطل أعمى، والممثل أعشى، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه" (2).ومن هذا يظهر أن المشبهة خيرٌ من المعطلة؛ فإن المعطل شر منه؛ لأنه شبه الله تعالى، بالمعدومات والممتنعات (3).ولأنه جمع بين التشبيه وبين التعطيل (4).وأن القول بالتشبيه المحض أهون من التعطيل، والتعطيل أعظم ضرراً من التشبيه، حتى باعترافهم (5). وقد صرح القرامطة الباطنية على لسان ابن سينا وأمثاله. والأشعرية على لسان الغزالي والرازي وأمثالهما، والماتريدية على لسان التفتازاني والبياضي، وأمثالهم، بأن الكتب السماوية والرسل لو صرحت للجمهور بأن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا فوق- ليبادروا إلى الإنكار ولقالوا: إن هذا هو المعدوم. قلتُ: لا ريب أن هذا الرب الذي يصفه الماتريدية بأنه لا فوقُ ولا تحتُ ولا خارجُ ولا داخلُ شيءٌ ممتنع الوجود فضلاً عن أن يكون واجب الوجود. ولذلك جاءت الكتب السماوية والرسل على أن الله تعالى فوق العالم فتوافق النقل الصحيح والعقل الصريح والفطرة السليمة، وكل هذا يدل على أن هؤلاء الماتريدية في قولهم هذا مبطلون ومعدمون وجود الله سبحانه وتعالى، بل جعلوه ممتنعاً، من حيث لا يشعرون. وقد صرح كثير من أئمة السنة والكلام بأن نفي علو الله تعالى مستلزم لكون الله معدوماً بل ممتنعاً. وسأذكر فيما يلي نماذج من نصوص بعضهم لتكون محجة واضحة وشاهدة لما قلنا وتكون فيها عبرة للماتريدية وتتم الحجة عليهم وتقطع أدبارهم وأعذارهم، وتقلع أوردتهم وأوتنتهم: 1 - الإمام محمد بن الحسن الشيباني أحد الأئمة الثلاثة للحنفية رحمهم الله (189هـ) فقد صرح بأن الجهمية وصفوا الله تعالى بصفة لا شيء. 2 - إمام أهل السنة أحمد بن حنبل (241هـ).قال بعد ما ذكر عقيدة الجهمية وسلوبهم: "فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يؤمنون بشيء" (6). 3 - الإمام عبد العزيز بن يحيى بن مسلم الكناني المكي (240هـ) صاحب كتاب (الحيد) في صدد رده على الجهمية. قال: قال - (يعني أحدُ الجهمية) - أقول: إن الله في كل مكان لا كالشيء في الشيء، ولا كالشيء على الشيء، ولا كالشيء خارجاً عن الشيء، ولا مبايناً للشيء. قال: (أي الكناني):   (1) ((رسالة في الصفات الاختيارية ضمن جامع الرسائل)) (2/ 32)، وضمن ((مجموع الفتاوى)) (6/ 239)، وانظر ((الصواعق المرسلة)) (3/ 962 - 988)، و ((مختصر الصواعق)) (1/ 130)، ط جديدة والصواب: "لا جزم أنكم ابتدعتم". (2) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 261، 196)، و ((جلاء العينين)) (ص 391، 388). (3) راجع لتحقيق هذا المطلوب: ((الصواعق المرسلة)) (1/ 263 - 265، 4/ 123 - 1235)، ونظر: ((التدمرية)) (ص 30، 80)، و ((مجموع الفتاوى)) (3/ 16، 49)، و ((درء التعارض)) (6/ 136 - 137، 7/ 260). (4) انظر ((رد الدارمي على بشر المريسي)) (ص 76)، و ((التدمرية)) (ص 81)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 49) مع أن المشبه معطل أيضاً. (5) انظر: ((إلجام العوام للغزالي الأشعري)) (ص 130)، و ((عقيدة الإسلام)) لأبي الخير الماتريدي (ص 356)، وراجع أيضا ((درء التعارض)) (1/ 249، 10/ 306)، و ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص 237). (6) ((الرد على الجهمية)) (ص 105 - 106)، ونقله شيخ الإسلام في ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/ 315 - 316). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 فقد دلت بالقياس والمعقول على أنك لا تعبد شيئاً، لأنه لو كان شيئاً داخلاً في القياس المعقول - لأن يكون داخلاً في الشيء أو خارجاً من الشيء، فوصفت - لعمري! ملتبساً لا وجود له وهو دينك، وأصل مقالتك التعطيل" (1). قلت: علق على كلام الكناني هذا شيخُ الإسلام قائلاً:"فهذا عبدالعزيز يبين أن القياس والمعقول يوجب أن ما لا يكون في الشيء ولا خارجاً منه فإنه لا يكون شيئاً وأن ذلك صفةُ المعدوم ... ، وعبدالعزيز هذا قبل وجود الحنبلية ... " (2). 4 - الإمام أبو محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب (بعد 240هـ). الذي أصل ومهد للماتريدية والأشعرية جميعاً. والذي يعدُّ الإمام الأول للأشعرية كما هو الإمام للكلابية بل الأشعري نفسه (3) في دوره الكلابي. والذي قد أثنى عليه ابن فورك (406هـ) ثناء عاطراً وغالى فيه مغالاة فوصفه بألقابٍ فخمةٍ وأوصافٍ ضخمةٍ منها ما يلي: "شيخ أهل الدين" "إمام المحققين" "المنتصر للحق وأهله" "الذاب عن دين الله". "السيف المسلول على أهل الأهواء والبدع" "المؤيد بنصرة الهدى والرشد". "الشيخ الأول" "الإمام السابق" "الممهد لهذه القواعد" "المؤسس لهذه الأصول"."الفائق لرتق الأباطيل" إلى آخر ذلك الثناء العاطر .. (4). فقد قال ابن كلاب هذا: "وأخرج من النظر والخبر قول من قال: "لا في العالم ولا خارج منه فنفاه نفياً مستوياً، لأنه لو قيل له: "صفه بالعدم". ما قدر أن يقول فيه أكثر منه، ورد أخبار الله نصاً، وقال في ذلك ما لا يجوز في خبر ولا معقول، وزعم أن هذا هو التوحيد الخالص". والنفي الخالص عندهم هو الإثبات الخالص، وهم عند أنفسهم قياسيون. فإن قالوا: "نعم ليس فوق". قيل لهم: "وليس هو تحت"؟ فإن قالوا: "لا فوق ولا تحت". أعدموه؛ لأن ما كان لا تحت ولا فوق فعدم". قيل لهم: "فهو لا مماس ولا مباين"؟. فإذا قالوا: "نعم". قيل لهم: "فهو بصفة المحال من المخلوقين الذي لا يكون ولا يثبت في الوهم. فإذا قالوا: "نعم". قيل لهم: فأخبرونا عن معبودكم: مماس هو أم مباين؟ فإذا قالوا: لا يوصف بهما". قيل لهم: "فصفة إثبات خالقنا كصفة عدم المخلوق. فلم لا تقولون: "عدم". كما تقولون للإنسان "عدم" إذا وصفتموه بصفة المعدوم. وقيل لهم: "إذا كان عدم المخلوق وجوداً له، فإذا كان العدمُ وجوداً كان الجهلُ علماً والعجزُ قوةً" (5).وقال ابن كلاب أيضاً في الرد على ما يقولون: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته"، وجعلهم كالدهرية: "فلم لا كنتم أولى بالكفر والتشبيه منهم؟ إذ زعمتم مثل زعم الملحدين، وقلتم مثل مقالة الضالين، وخرجتم عن توحيد رب العالمين" (6). قلت: وفي كلام ابن كلاب هذا عبرة بالغة للماتريدية والأشعرية وقد علق على كلامه هذا شيخ الإسلام قائلاً: "والمقصود: أن ابن كلاب - إمام الأشعري، وأصحابه، ومن قبلهم، كالحارث المحاسبي وأمثاله -   (1) ((درء التعارض)) (9/ 118 - 119)، و ((مجموع الفتاوى)) (5/ 317، 295)، و ((بيان تلبيس الجهمية)) (ص 91)، عن كتاب ((الرد على الزنادقة والجهمية)) للكناني. (2) ((درء التعارض)) (9/ 118 - 119)، و ((مجموع الفتاوى)) (5/ 317، 295)، و ((بيان تلبيس الجهمية)) (ص 91)، عن كتاب ((الرد على الزنادقة والجهمية)) للكناني. (3) ((درء التعارض)) (6/ 121). (4) ((درء التعارض)) (6/ 121). (5) ((درء التعارض)) (6/ 119 - 121)، و ((مجموع الفتاوى)) (5/ 317 - 319)، و ((الصواعق المرسلة)) (4/ 1241) و ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (ص 282 - 283)، عن كتاب ((المجرد)) لابن فورك الذي جمع فيه مقالات ابن كلاب. و ((خرج)) أولى. (6) ((الصواعق المرسلة)) (4/ 1240)، عن كتاب ((المجرد)) لمقالات ابن كلاب لابن فورك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 يبين أن من قال: "لا هو في العالم ولا خارج منه". فقوله فاسد خارجٌ عن طريق النظر، والخير، وأنه قد رد خبر الله نصاً. ولو قيل له: "صفة بالعدم". ما قدر أن يقول أكثر منه ... ، وأنهم قالوا: "هذا هو التوحيد الخالص".وهو النفي الخالص، فجعلوا "النفي الخالص" هو "التوحيد الخالص"، وهذا الذي قاله - ابن كلاب- هو الذي يقوله جميع العقلاء الذين يتكلمون بصريح العقل، بخلاف من تكلم في المعقول بما هو وهم وخيال فاسد" (1).5 - الإمام أبو الحسن الأشعري (324هـ) إمام الأشعرية، والذي جعله كثير من الحنفية، ومنهم الكوثري حنفياً (2). فقد قال هذا الإمام في الرد على الجهمية نفاة الصفات ولاسيما صفة "العلو": " ... فلم يثبنوا له وصفهم حقيقةً، ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانيةً، إذ كلّ كلامهم يؤول إلى التعطيل، وجميع أوصافهم تدل على النفي، يريدون بذلك "التنزيه"، ونفي "التشبيه" على زعمهم. فنعوذ بالله من "تنزيه" يوجب النفي والتعطيل" (3). قلت: في كلام هذا الإمام عبرة للماتريدية والأشعرية جميعاً، فاعتبروا يا أولي الأبصار.6 - السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي (421هـ) الملك العادل، وفاتح بلاد الهند والسند، وكاسر الأصنام، الملقب بـ"يمين الدولة" و"أمين الملة" فله قصة مع ابن فورك (406هـ) الذي قال فيه ذهبي العصر العلامة المعلمي (1386هـ) ما قال (4). فقد نفى ابن فورك - أمام هذا السلطان - "فوقية" الله تعالى، ووافق الجهمية، وخرج من الجماعة وكابر العقل الصريح وناقض النقل الصحيح وعاند الفطرة السليمة، فوصف الله بصفة المعدوم بل الممتنع. فقال له السلطان:"فلو أردت أن تصف المعدوم كيف تصفه بأكثر من هذا" (5).وقال له أيضاً: "فرق لي بين هذا "الرب" الذي تصفه، وبين "المعدوم" (6). 7 - وقال الإمام حافظ المغرب ابن عبدالبر (463هـ)." ... وهم - (أي "المعطلة") ... نافون للمعبود "يلاشون أي يقولون: لا شيء" (7) والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهم أئمة الجماعة ... " (8). 8 - شيخ الإسلام (728هـ). حَصْرُ كلام شيخ الإسلام في بيان أن قول المتكلمين: "إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق ولا تحت ... ". صريح في كون الله معدوماً ممتنعاً بشهادة بداهة النظر والفطرة-: صعبٌ. وله تحقيقات بديعة إلى الغاية تسر الخواطر وتقر النواظر. وأكتفي بالإحالة إلى بعض مؤلفاته القيمة فليرجع القارئ إليها. يا منكراً أن الإله مباين ... للخلق يا مفتون بل يا فاتن هب قد ضللت فأين أنت؟ فإن تكن ... أنت المباينَ فهو أيضاً بائن أو قلت: لست مبايناً قلنا: إذن ... بالاتحاد، أو الحلول تشاحن أو قلت: ما هو داخل، أو خارج ... هذا يدل بأن ما هو كائن إذ قد جمعت نقائصاً ووصفته ... عدما بهاهل أنت عنها ضاعن   (1) ((درء التعارض)) (6/ 112). (2) انظر: ((الجواهر المضيئة)) (2/ 544)، و ((طبقات طاش كبرى زاده)) (ص 55)، و ((تعليقات الكوثري على تبين كذب المفتري)) (ص 117). (3) ((الإبانة)) (2/ 117)، تحقيق د/ فوقية، و (ص 92)، تحقيق الأرناؤوط، ط/ دار البيان و (ص 126)، ط/ الجامعة الإسلامية. (4) انظر: ((التنكيل)) (1/ 26، 242، 2/ 345)، و ((الفائدة إلى تصحيح العقائد)) (ص 173). (5) ((التدمرية)) (ص 60)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 37)، و ((درء التعارض)) (6/ 253) و ((الصواعق المرسلة)) (4/ 1287). (6) ((التدمرية)) (ص 60)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 37)، و ((درء التعارض)) (6/ 253) و ((الصواعق المرسلة)) (4/ 1287). (7) ((زيادة من الصواعق المرسلة)) (4/ 1289)، ولم أجدها في التمهيد لابن عبدالبر. (8) ((التمهيد)) لابن عبدالبر (7/ 145). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 فارجع وتب من قال مثلك إنه ... لمعطل والكفر فيه كامن فأجاب شيخ الإسلام بجواب كاف شاف يشفي العليل ويروي الغليل من المرضى بأدواء التحريف والتعطيل. وحقق بالمنقول الصحيح والمعقول الصريح أن الله فوق العالم، وأن قولهم: "إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق ولا تحت ... ".يلزم منه كون الله تعالى معدوماً بل ممتنعاً فأجاد وأفاد شيخ الإسلام، جزاه الله خيراً (1). 9 - وقال مؤرخ الإسلام ناقد الرجال الإمام الذهبي (748هـ): "مقالة السلف، وأئمة السنة، بل الصحابة، والله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون: أن الله عز وجل في السماء وأن الله على العرش، وأن الله فوق سماواته .. ومقالة الجهمية: أنه في جميع الأمكنة. ومقالة متأخري المتكلمين: أن الله تعالى ليس في السماء، ولا على العرش ولا على السماوات، ولا في الأرض، ولا داخل العالم ولا خارج العالم، ولا هو بائن عن خلقه، ولا هو متصل بهم ... قال لهم أهل السنة والأثر ... : فإن هذه السلوب نعوت المعدوم، تعالى الله جل جلاله عن العدم؛ بل هو متميز عن خلقه، موصوف بما وصف به نفسه، من أنه فوق العرش بلا كيف" (2). 10 - الإمام ابن القيم رحمه الله (751هـ) له بحوث قيمة في تحقيق أن كلام المتكلمين: "إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق ولا تحت ... ". مستلزم لكون الله تعالى معدوماً بل مستحيلاً ممتنعاً. وأن حاصل قولهم إنكار وجود الصانع، وأنهم سايروا الفلاسفة، والدهرية، والجهمية، والزنادقة، وأنهم لا للإسلام نصروا، ولا لأعدائه كسروا، وأن طريقهم لإثبات الصانع طريق لنفيه، إلى آخر كلامه القيم المهم الفصيح البليغ الذي فيه دواءٌ شافٍ كافٍ للمرضى بداء التحريف والتعطيل (3). ومن أقواله الصوارم: فاحكم على من قال: ليس بخارج ... عنها، ولا فيها، بحكم بيان بخلافه الوحيين، والإجماع والـ ... ـعقل الصريح، وفطرة الرحمن فعليه أوقع حدّ معدومٍ وذا ... حدُّ المحال بغير ما فرقان ياللعقول إذا نفيتم مخبراً ... ونقيضه! هل ذاك في إمكان إذ كان نفي دخوله، وخروجه ... لا يصدقان معا لذي الإمكان إلا على عدم صريح نفيه ... متحقق ببداهة الإنسان أيصح في المعقول يا أهل النهى ... ذاتان لا بالغير قائمتان ليست تباين منهما ذات لأخـ ... ـرى، أو تحايثها فتجتمعان إن كان في الدنيا محال فهو ذا ... فارجع إلى المعقول، والبرهان 11 - وقال الإمام ابن أبي العز الحنفي (792هـ): " .. بل يقول هؤلاء المتكلمون "لا مباين، ولا مجابن، لا داخل العالم ولا خارجه". فيصفونه بصفة العدم والممتنع. تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً .... (4) 12 - وقال الإمام الشوكاني (1250هـ): "يا هذا .. قد رأيت ما يقوله كثير منهم: "إن الله سبحانه ... ، لا داخل العالم، ولا خارجه". فأنشدك الله! أي عبارة تبلغ مبلغ هذه العبارة في النفي؟. وأي مبالغةٍ في الدلالة على هذا النفي، تقوم مقام هذه المبالغة؟ فكأن هؤلاء في فرارهم من شبهة "التشبيه" إلى هذا "التعطيل" كما قال القائل":   (1) انظر ((مجموع الفتاوى)) (5/ 267 - 320)، وانظر: أيضا ((التدمرية)) (ص 59 - 62)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 37 - 39). (2) ((العلو)) (ص 107، 195)، و ((مختصر العلو)) (ص 146 - 147، 287)، ومثله كلام شيخنا الألباني في ((مختصر العلو)) (ص 54، 122). (3) انظر: ((الصواعق المرسلة)) (3/ 962 - 988)، ((الوجه الستون))، و ((الوجه الحادي والستون)) (4/ 1233 - 1235)، ((الوجه)) "137" و ((مختصر الصواعق)) (1/ 188 - 201)، الطبعة القديمة، و (1/ 121 - 130)، الطبعة الجديدة، ((الوجه الثلاثون))، و ((الحادي والثلاثون). (4) ((شرح الطحاوية)) (ص 345، 318، 325). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 فكنت كالساعي إلى مثعب ... موائلاً من سبل الراعد أو كالمستجير من الرمضا بالنار ... والهارب من لسعة الزنبور إلى لدغة الحية، ومن قرصة النحلة إلى قضمة الأسد" (1). 13 - 15 - وللعلامة محمود الآلوسي الحنفي (1270هـ) وابنه نعمان الآلوسي الحنفي (1317هـ، وحفيده شكري الآلوسي الحنفي (1342هـ) كلام مهم في هذا الصدد وقد تقدم نص كلامهم. وفي ذلك عبرة للماتريدية أيما عبرة؟ الحاصل: أن هؤلاء الماتريدية وخلطاءهم من المتكلمين أفنوا أعمارهم وأنهوا قواهم لإثبات وجود الله تعالى وأنه واجب الوجود بطرق استلزمت كون الله تعالى معدوماً؛ بل ممتنع الوجود فضلاً عن كونه ممن الوجود؛ لأنهم وصفوا الله تعالى بصفات المعدومات بل الممتنعات، فأرادوا التنزيه فوقعوا في أقبح التشبيه وأوقحه، وأرادوا نفي التمثيل فوقعوا في أبشع التحريف وأشنع التعطيل. الوجه الخامس: أن قول الماتريدية، "إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه ولا فوق ولا تحت ... " إلى آخر هذيانهم - رفعٌ للنقيضين. ورفع النقيضين محال عند العقلاء جميعاً (2). فإن القاعدة المطردة الكلية في "النقيضين" أنه لا يجوز رفعهما ولا يجوز جمعهما، حتى باعتراف الماتريدية. المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني 2/ 486 رابعا: خروج الماتريدية على الفطرة السليمة المستقيمة تشهد فطر بني آدم كلهم جميعاً - غير الشرذمة القليلة من المتكلمين - أن الله تعالى فوق خلقه أجمعين، وقلوبهم تتوجه إليه وترغب وقت نزول الشدائد والكرب، وعلى ذلك جميع بني آدم ذكورهم وإناثهم، وعلمائهم وعوامهم، وعربهم وعجمهم ومسلمهم وكافرهم. وليس إنكار ذلك إلا مكابرة وعناداً وإكراهاً للعقول على قبول ما لا تقبله أبداً وترد فطر بني آدم جميعاً. وقد استدل كثير من سلف هذه الأمة وأئمة السنة بدليل الفطرة على "علو الله تعالى" وأُقِدّم للقراء بعض النماذج من كلامهم ليعرفوا مدى مكابرة الماتريدية للمعقول والمنقول والفطرة والإجماع في آن واحد. ونبدأ بذكر نصٍ مهمٍ للإمام أبي حنيفة - رحمه الله - إتماماً للحجة على الماتريدية وإيضاحاً للمحجة السلفية: 1 - قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى (150هـ): "من قال: لا أعرف الله أفي السماء أم في الأرض فقد كفر، قال الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]. فإن قال: أقول: بهذه الآية، ولكن لا أدري أين العرش؟. في السماء أم في الأرض؟ فقد كفر أيضاً. ونذكره من أعلى لا من أسفل. لأن الأسفل من الربوبية والألوهية في شيء. وروى في الحديث أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بأمة سوداء فقال: وجب علي عتق رقبة مؤمنة أفيجزئ أن أعتق هذه؟ فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم-: ((أمؤمنة أنت؟)).   (1) ((التحف في مذاهب السلف)) (ص9)، ((ضمن الرسائل السلفية له، وضمن الرسائل المنبرية)) (2/ 92)، ونقله المولوي برخوردار على الملتاني الحنفي وأقره، انظر ((حاشية على النبراس)) للفريهاري (ص 169). (2) راجع ((التدمرية)) (ص 63 - 65)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 39 - 40)، و ((نقض المنطق)) (ص 51)، و ((ضمن مجمع الفتاوى)) (4/ 60 - 61)، و ((القصيدة النونية)) (ص55)، و ((توضيح المقاصد)) (1/ 386 - 389)، و ((توضيح الكافية الشافية)) (ص 58 - 59)، و ((شرح النونية)) للهراس (1/ 176 - 177). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 قالت: نعم. فقال: ((أين الله)).فأشارت إلى السماء فقال: ((أعتقها فإنها مؤمنة)) (1) (2). والمعتزلة تنكر هذا الخبر". ولفظ الفقه الأبسط بتحقيق الكوثري: "من قال: لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض؟. فقد كفر؟ وكذا من قال: "إنه على العرش ولا أدري العرش أفي السماء أو في الأرض؟.والله يدعى من أعلى لا من أسفل ... وعليه ما روى في الحديث ... " (3). قلت: هاتان الروايتان متفق عليهما بين الماتريدية ولاسيما الكوثري. وهما صريحتان في إثبات الإمام أبي حنيفة لصفة "علو" الله تعالى، وأنه في السماء وأن من أنكر كون الله في السماء، بل من شك في ذلك بل من شك في كون العرش في السماء فقد كفر. ونص أبي حنيفة هذا ذكره غير الحنفية أيضاً بهذا اللفظ وكذا بألفاظ متقاربة فقد رواه شيخ الإسلام: أبو إسماعيل الهروي: (481هـ) وذكره غيره. وفي بعض تلك الألفاظ: "من أنكر الله في السماء فقد كفر". وفي بعضها: "إذا أنكر أنه في السماء أم في الأرض فقد كفر". وفي لفظ: "من قال لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقد كفر، لأن الله يقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وعرشه فوق سبع سموات ... ". قلت: "أي أبو مطيع الحكم بن عبدالله البلخي" (199هـ). فإن قلت: إنه على العرش استوى، ولكنه يقول: "لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال - أي الإمام أبي حنيفة - هو كافر؛ لأنه أنكر أن يكون في السماء، لأنه تعالى في أعلى عليين .... " (4). قلت: أيها المسلم طالب الحق والإنصاف تدبر نصوص الإمام أبي حنيفة التي أجمع عليها الماتريدية حتى الكوثرية منهم والتي ذكرها غيرهم من أئمة السنة، فتراها كلها صريحة بأن الله فوق العالم، وأنه في السماء على عرشه، وأن من أنكر ذلك أو شك فيه أو شك في كون العرش في السماء فقد كفر. كما ترى الإمام أبا حنيفة استدل بعلو الله تعالى بحجج ثلاث: الأولى: الحجة النقلية فذكر آية من كتاب الله تعالى كما ذكر حديث الجارية وهذا دليل على أنه كان يستدل بخبر الواحد في باب العقيدة، وفي ذلك عبرة للماتريدية. الثانية: الحجة العقلية: وهي قوله: "لأن الأسفل ليس من الربوبية والألوهية في شيء. وهذا يتضمن الفرق بين توحيد الربوبية وبين توحيد الألوهية أيضاً. الثالثة: الحجة الفطرية: وهي قوله: "والله يدعى من أعلى لا من أسفل".   (1) الحديث بهذ اللفظ (أمؤمنة أنت) لم يرد، ورواه مسلم (537) بلفظ ( .. فقال لها أين الله؟ قالت في السماء قال من أنا؟ قالت أنت رسول الله قال أعتقها فإنها مؤمنة). (2) ((الفقه الأبسط بشرح أبي الليث السمرقندي)) (ص 16 - 20)، المطبوع خطأ باسم "الفقه الأكبر" والمنسوب خطأ إلى الماتريدي. (3) (ص 49 - 52)، و ((إشارات المرام)) (ص 197 - 198). (4) انظر ((إثبات صفة العلو للموفق الدين المقدسي)) (ص 116 - 117)، و ((العلو)) للذهبي (ص 101 - 102) و ((الحموية)) (ص 51 - 52)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 47 - 49)، و ((درء التعارض)) (6/ 263 - 264)، ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (ص 138 - 140)، و ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص 322 - 323)، ((روح المعاني)) (7/ 115)، و ((جلاء العينين)) (ص 356)، و ((غاية الأماني)) (ص 444 - 449)، و ((مختصر العلو)) (ص 136 - 137). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 وكلام أبي حنيفة في جميع ذلك صريح غاية الصراحة لا يحتمل التأويل بوجه ما. ومع وضوح نص الإمام أبي حنيفة هذا وصراحته غاية الصراحة بإثبات الفوقية لله تعالى وأنه في السماء وأن من أنكر ذلك أوشك فقد كفر. ترى كثيراً من هؤلاء الماتريدية، ومنهم الكوثرية يحرفون نص هذا الإمام الصريح إلى ضدّ ما يقصده الإمام أبو حنيفة رحمه الله، من إثباته "الفوقية" لله تعالى؛ فيقول هؤلاء المحرفون: إن وجه تكفير الإمام أبي حنيفة لمن قال ذلك - هو إيهام كون الله تعالى في مكان، لأن هذا القائل: يوهم أن لله مكاناً، فكان مشركاً (1)، ويقولون أيضاً: إن المراد من الفوقية" الكبرياء والفوقية بالاستيلاء (2). واستحالوا "الأينية" - أي الإشارة إلى الله تعالى بأين؟ في حق الله تعالى وقالوا: " ... فلا تتصور الأينية" إلا في الحادث" (3).وقالوا أيضاً في هذا الحديث: "حديث الجارية" الذي استدل به الإمام أبو حنيفة رحمه الله على فوقية الله تعالى وجواز الإشارة إليه سبحانه وتعالى، وجواز القول "بأين الله"؟ وجواز الجواب "بأنه في السماء":- "أنه مؤول لمخالفة القواطع العقليات والنقليات ... " (4). كما حرّفوا الدليل الفطري الذي استدل به الإمام أبو حنيفة رحمه الله، فقالوا: المراد أن السماء قبلةُ للدعاء لا أن الله في السماء. ثم هؤلاء لم يكتفوا بتحريف قول الإمام أبي حنيفة؛ بل حرفوا هذا الحديث "حديث الجارية" أيضاً فقالوا: المراد من "العلو" وكون الله في السماء المنزلةُ والعلوُّ على العباد على القهر والغلبة (5). ولا غزو في ذلك؛ فإنهم لا تعودوا تحريف نصوص الصفات القرآنية والحديثية - هان عليهم التحريف لنصوص الإمام أبي حنيفة؛ لأنه أسهل وأيسر. ولشيخنا الألباني كلام مهم في كشف الستار عن تحريفهم لكلام الإمام أبي حنيفة (6). تعصب الحنفية الماتريدية للإمام أبي حنيفة في الفقهيات ومخالفتهم له في العقائد: والعجب كل العجب من هؤلاء الحنفية الماتريدية!. كيف خرجوا على عقيدة الإمام أبي حنيفة؟.أ- مع أنهم مقلدون له في الفقهيات تقليداً أعمى ومتعصبون له تعصباً مقيتاً، كعادة المقلدة المتعصبة في رفع أئمتهم حتى كأنهم أنبياء مرسلون (7). ب- ووصل الأمر بهم إلى أن جعلوا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حنفيةً. وقد اعترف بهذه الحقيقة الشيخ العلامة المفتي محمد شفيع الديوبندي رحمه الله تعالى رحمه واسعة، فأوصى وصيةً مهمةً حريةً بأن تكتب بماء الذهب على ألواح القلوب حيث قال: "لا بأس بأن تكونوا حنفيةً في مذهبكم الفقهي، ولكن إياكم وأن تتكلفوا بجعل الحديث النبوي حنفياً" (8).   (1) انظر ((شرح الفقه الأبسط)) لأبي الليث السمرقندي (ص 17)، المطبوع خطأ باسم أبي منصور الماتريدية، والمطبوع بعنوان "الفقه الأكبر" خطأ أيضاً، و ((تعليقات الكوثري على الفقه الأبسط)) (ص 59) (2) ((إشارات المرام)) (ص 198). (3) ((تعليقات الكوثري على الفقه الأبسط)) (ص 199). (4) ((إشارات المرام)) (ص 199). (5) ((إشارات المرام)) (ص 198). (6) انظر ((مختصر العلو)) (ص 136 - 137). (7) انظر ((حجة الله البالغة)) (1/ 155)، و ((الإنصاف)) (ص 100)، وسكت عليه أبو غدة الكوثري. (8) انظر ((تكملة فتح الملهم)) للشيخ محمد تقي العثماني (1/ 7). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 خامسا: إبطال شبهاتهم حول "علو" الله تعالى للماتريدية شبهات كثيرة تشبثوا بها في نفي "علو" الله سبحانه وتعالى تشبث الغريق بكل حيلة. وكلها ترجع إلى شبهة "التشبيه" التي عطلوا بها كثيراً من الصفات - ومنها صفة "العلو" وقد أبطلنا هذه الشبهة في الفصل الأول من الباب الثاني. أما في هذا الفصل فقد ذكرنا من شبهاتهم حول صفة "العلو" ستاً مع إبطالها في المباحث السابقة. ونذكر في هذا المبحث من شبهاتهم أربعاً أخرى مع الجواب عنها، وهي: شبهات "الحد" و"الجهة" و"الحيز" و"المكان". زعمت الماتريدية تبعاً للجهمية الأولى أن نصوص الفوقية وعلو الله تعالى ولو حملت على ظاهرها، وأن صفة "علو" الله تعالى لو حملت على حقيقتها- لزم كون الله تعالى في "الجهة" "وكونه" "محاطاً" وإن كان في "جهة" لابد أن يكون بينه وبينها مسافة مقدرة. ويتصور أن تكون أزيد من ذلك، أو أنقص، أو مساوية. ولو كان الله تعالى في "جهة". لزم قدم "المكان" و"الجهة" و"الحيز". كما لزم كون الله تعالى "جسماً" و"مركباً" و"جوهراً". وكونه محلاً للحوادث. وأيضاً إما أن يساوي "الحيز" أو ينقص عنه فيكون "متناهياً" أو يزيد عليه فيكون "متحيزاً". هذا كان تقريراً لشبهاتهم في نفي "علو الله تعالى". وبناءً على هذه الواهيات قالوا: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه وليس في جهة، ولا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف، ولا على العرش ولا فوق العالم، ولا على غيره. ولذلك كفروا من وصف الله بأنه في السماء أو وصفه بأنه فوق العالم. وقالوا: "وهو تعالى منزه عن صفات الجواهر والأجسام والأعراض، ولوازمها لا مجال للزمان والمكان والجهة في حضرته تعالى، وهذه كلها مخلوقاته وزعم جماعة ممن لا خير لهم: أنه تعالى فوق العرش. وأثبتوا له سبحانه وتعالى جهة الفوق والعرش ... " (1). أما الكوثري مجدد الماتريدية ورافع لواء الجهمية والقبورية في آن واحد - فيقول: من جوز في معبوده الدخول والخروج والاستقراء - فهو عابد وثن. وقال فيمن أثبتوا علو الله تعالى، واستواءه على عرشه: لاحظ لهم من الإسلام غير أن جعلوا صنمهم الأرضي صنماً سماوياً. وقال الكوثري: "واعتقاد حلول الحوادث فيه جل شأنه كفر صراح عند أهل السنة" (2). وقال: "وما له حد وغاية ونهاية - فهو الجسم الذاهب في الجهات، وإكفار من يقول بذلك في إله العالمين واجب ... ". وقال: " ... وأما المسلمون - فهم يعتقدون أن الله سبحانه منزه عن المكان ... ". "وإثبات الحد له تعالى من أهون ما في الكتاب - (نقض الدارمي) من صنوف الضلال". وقال: "مع أن القول بإثبات الجهة كفر عند الأئمة الأربعة هداة الأمة ... ". وقال: فيمن أثبت لله جهة الفوق: "فهم منكرون لذات الإله المنزه عن ذلك فلزمهم الكفر لا محالة". وقال: "والصحيح القول بتكفيرهم، إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام والصور". وذكر أن من قال: بفوقية الله تعالى وأنه على العرش - فهو من أتباع فرعون ومحتج بقول ملحد جاهلي. وقال: "إن الأشعري وأكثر المتكلمين قالوا بتكفير كل مبتدع كانت بدعته كفراً أو أدت إلى كفر، كمن زعم أن لمعبوده صورةً، أو أن له حداً ونهايةً ... ، وكل ذلك موجود في كتاب الدارمي ... ".   (1) ((مكتوبات أحمد السرهندي)) (2/ 110)، الترجمة العربية من الفارسية/ للشيخ مراد المنزولي المكي – الست سماها "الدرر المكونات ... ". (2) انظر ((مقالات الكوثري)) (ص 283، 284، 287، 290، 291، 294، 296). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 ثم قال: وما في كتاب الدارمي من إثبات المكان والجهة والحد والنهاية والغاية ... وكفر ناقل من الملة حتى إخوان الصفا يقرون في قرارة أنفسهم أن ذلك كفر ناقل عن الملة فكيف أصدر الأزهر القرار بإباحة نشره وأنه لا شيء في تداوله - على ما فيه من الكفريات الفظيعة التي ذكرنا بعض نماذج منها. ثم قال: في كتاب الدارمي وسنة عبدالله بن أحمد من الكفريات والجاهلية الجهلاء والوثنية الخرقاء ودسائس الوثنية وصرائح الكفر الناقل من الملة (1).وقال: "ومن يَعُدُّ الله سبحانه متمكناً بمكان فهو عابدُ وثن خارجٌ عن جماعة المسلمين كما نص عليه غير واحد من أئمة أصول الدين، تعالى الله عن إفك الأفاكين" (2). قلت: هكذا نرى الكوثري في عامة كتاباته الفتاكة المسمومة يجاهر بتلبيس الحق بالباطل، وتدليس في الدين وتحريف لصميم الإسلام وتكفير لسلف هذه الأئمة وأئمة السنة وجعلهم وثنية وطعنه في كتبهم وجعلها من كتب الوثنية. وقد قال مثل هذا الهذيان كبار أساطين الماتريدية. وقد حرف أبو الليث السمرقندي (375هـ) قول الإمام أبي حنيفة: "من قال: لا أعرف ربي أفي السماء أم في الأرض فقد كفر".فقال: في توجيه كلام الإمام أبي حنيفة: "لأنه بهذا القول يوهم أن يكون له مكان فكان مشركاً" (3).وتبعه في هذا التحريف رئيس قضاة الماتريدية لعساكرهم كمال الدين البياضي (1098هـ) فقال في توجيه كلام الإمام أبي حنيفة: "لكونه قائلاً باختصاص الباري بجهة وحيز، وكل ما هو مختص بالجهة والحيز فإنه محتاج محدث بالضرورة ... " (4). قلت: هذا كان بيانا تشبثهم بتلك الشبهات وتمسكهم بتلك الألفاظ المجملة البدعية الفلسفية الكلامية البراقة المدهشة المخوّفة المهولة لمن لا يعرف حقيقة قصدهم منهم، وبهذه الشبهة عطلوا "صفة العلو" لله تعالى، وحرفوا نصوصها بأنواع من التأويلات إلى شتى المعاني المجازية التي ذكرناها. الجواب عن هذه الشبهات: لأئمة السنة عن شبهاتهم جوابان: إجمالي، وتفصيلي: أما الجواب الإجمالي: فهو أن هذه الألفاظ المجملة المتشابهة المحدثة الفلسفية الكلامية لا تقبل مطلقاً ولا ترد مطلقاً قبل أن يعلم مراد قائلها. بل لابد أن يستفسر قائلها؛ فإن أراد معنًى حقاً موافقاً للكتاب والسنة - قيل قوله وإلا يرد قوله، وينبذ نبذ النواة. قال شيخ الإسلام (728هـ) والإمام ابن القيم (751هـ) وابن أبي العز الحنفي (792هـ) ونعمان الآلوسي الحنفي (1317هـ) واللفظ للثالث: "للناس في إطلاق مثل هذه الألفاظ ثلاثة أقوال: فطائفة تنفيها، وطائفة تثبتها، وطائفة تفصل، وهم المتبعون للسلف ... لأن المتأخرين قد صارت هذه الألفاظ في اصطلاحهم فيها إجمال وإبهام كغيرها من الألفاظ الاصطلاحية. فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي. ولهذا كانت النفاة ينفون بها حقاً وباطلاً ... وبعض المثبتين لها يدخل لها معنى باطلاً مخالفاً لقول السلف ...   (1) انظر ((مقالات الكوثري)) (ص 283، 284، 287، 290، 291، 294، 296، 301، 305). (2) ((مقالات الكوثري)) (ص 302). (3) شرح ((الفقه الأبسط)) المطبوع خطأ باسم الماتريدية بعنوان ((شرح الفقه الأكبر)) (ص 17) ونقله الكوثري محتجاً به، انظر: تعليقاته على ((الفقه الأبسط)) (ص 49). (4) ((إشارات المرام)) (ص 200)، ونقله الكوثري محتجاً به، انظر ((مقالات الكوثري)) (ص 291)، وتعليقه على ((الفقه الأبسط)) (ص 49). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 وليس لنا أن نصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه ولا وصف به رسوله صلى الله عليه وسلم نفياً وإثباتاً وإنما نحن متبعون لا مبتدعون، فالواجب أن ينظر في هذا الباب، أعني باب الصفات فما أثبته الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم نفيناه ... وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها فلا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها. فإن كان معنى صحيحاً قبل، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص دون الألفاظ المجملة إلا عند الحاجة مع قرائن تبين المراد والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب به ونحو ذلك" (1). وقال ابن أبي العز أيضاً بعد ما أكد أن يجعل الكتاب والسنة أصلاً ودليلاً وبرهاناً: "ويجعل أقوال الناس التي توافقه أو تخالفه متشابهة مجملة، فيقال: لأصحابها هذه الألفاظ يحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل، وإن أرادوا بها ما يخالفه رد، وهذا مثل لفظ المركب والجسم، والحيز، والجوهر والجهة، والحيز، والعرض، ونحو ذلك ... وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل".ثم ذكر رحمه الله أننا لا نوافق هؤلاء على هذه التسميات ولا كرامة فإن سموا إثبات الصفات تركيباً مثلا، فنقول لهم: العبرة للمعاني لا للألفاظ سموه ما شئتم، ولا يترتب على التسمية بدون المعنى حكم، فلو اصطلح على تسمية اللبن خمراً لم يحرم بهذه التسمية (2). قلت: بناء على ذلك نقول: للماتريدية سموا صفات الله تعالى من العلو والنزول والاستواء والوجه واليد، والقدم، والغضب، والرضا، والمحبة، والكراهية، ما شئتم فلا يجوز إبطال صفات الله تعالى بالتسميات المبتدعة والألقاب الشنيعة المدهشة من الحد، والحيز، والجهة، والمكان، والأفول، وحلول الأعراض، والتشبيه، والتجسيم ونحوها؛ فالعبرة للمعاني لا للمباني. وأما الجواب التفصيلي فهو ما يلي: 1 - "الحد". إننا قد بينا قاعدة مهمة من قواعد السلف في باب الصفات حول الألفاظ المجملة المتشابهة الكلامية آنفاً في الجواب الإجمالي. فنقول: في ضوء القاعدة:- إن لفظ "الحد" يطلق على معنيين: الأول: بمعنى الإحاطة بالله علماً فلا شك أن "الحد" بهذا المعنى منفي عن الله تعالى فلا منازعة بين أهل السنة، لأن الله تعالى غير مدرك بالإحاطة، وقد عجز الخلق عن الإحاطة به، وعلى هذا يحمل قول من نفى "الحد" من السلف. والثاني: بمعنى أن الله تعالى متميز عن خلقه منفصل عنهم مبائن لهم عال عليهم غير مخلوط بهم ولا حال فيهم فهذا المعنى حق فـ"الحد" بهذا المعنى لا يجوز أن يكون فيه منازعة في نفس الأمر، فإنه ليس وراء نفيه إلا وجود الرب، ونفي حقيقته وعلى هذا يحمل قول من أثبت " الحد" لله تعالى من السلف (3).لذا نرى كثيراً من السلف كسفيان الثوري وشعبه وحماد بن زيد وحماد بن سلمة، وشريك وأبو عوانه وأبو داود الطيالسي والطحاوي (4)، وغيرهم نفوا "الحد".وفي رواية عن الإمام أحمد أيضاً (5).   (1) ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص 238 - 239)، وانظر ((جلاء العينين)) لنعمان الألوسي (ص 386)، وراجع أيضاً إلى ((منهاج السنة)) (1/ 249)، و ((التدمرية)) (ص 65 - 66) و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 41 - 42)، فهو في غاية الأهمية. (2) ((شرح الطحاوية)) (ص 222 - 226). (3) ((درء التعارض)) (2/ 33 - 35)، و ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص 239 - 240). (4) ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص 238 - 239). (5) رواه الخلال كما في ((درء التعارض)) (2/ 29 - 32)، و ((السنة)) للإمام أحمد رواية الاصطخري (ص 24). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 وبجانب ذلك نرى كثيراً من السلف يثبتون "الحد" لله تعالى. كعبد الله بن المبارك (1) - وهو حنفي عند الحنفية - ورواية عن الإمام أحمد (2).والإمام عثمان الدارمي (3) وغيرهم. فالذين نفوا "الحد" قصدوا المعنى الأول، وهو الباطل الذي يجب نفيه عن الله تعالى، والذين أثبتوا "الحد" قصدوا المعنى الثاني وهو الحق الذي يجب الإيمان به وهو "العلو" (4).ولكن الطامة الكبرى أن طوائف المعطلة أدخلوا في معنى "الحد" حقاً وباطلاً فنفوها جميعاً فنفوا ضمن نفيهم "للحد" فوقية الله تعالى على عباده وعلوه على عرشه (5). قال الإمام الذهبي (748هـ): وقد سئل أبو القاسم التيمي رحمه الله: هل يجوز أن يقال: لله حدٌّ أو لا؟ وهل جرى هذا الخلاف في السلف؟ فأجاب: هذه مسألة أستعفي من الجواب عنها لغموضها، وقلة وقوفي على غرض السائل منها؛ لكني أشير إلى بعض ما بلغني، تكلم أهل الحقائق في تفسير الحد بعبارات مختلفة، محصولها أن حد كل شيء موضع بينونته عن غيره، فإن كان غرض القائل: ليس لله حد: لا يحيط علم الحقائق به، فهو مصيب، وإن كان غرضه بذلك: لا يحبط علمه تعالى بنفسه فهو ضال، أو كان غرضه أن الله بذاته في كل مكان فهو أيضاً ضال" (6). وعلق عليه الذهبي قائلاً:"قلت: الصواب الكف عن إطلاق ذلك، إذ لم يأت فيه نص، ولو فرضنا أن المعنى صحيح فليس لنا أن نتفوه بشيء لم يأذن به الله خوفاً من أن يدخل القلب شيء من البدعة اللهم احفظ علينا إيماننا" (7). 2 - "الجهة":هذه اللفظة أيضاً من الألفاظ المبتدعة الكلامية المتشابهة المجملة التي يجب التفصيل فيها، حتى يتميز الحق من الباطل، فيقبل الحق ويرد الباطل، وقبل التفصيل لا يحكم عليها نفياً ولا إثباتاً لئلا ينفى الحق ضمن النفي العام، لأن أهل البدع من طوائف المعطلة ينفون "الجهة" ويريدون بذلك نفي "علو الله تعالى" على عرشه، وفوقيته على خلقه (8). وإذا فصلنا في معنى الجهة، علمنا أن "الجهة" تطلق على معنيين: حقٍ، وباطلٍ. فنظراً إلى المعنى الباطل يجب نفي الجهة عن الله تعالى، ونظراً إلى المعنى الحق يجب إثباته لله تعالى. قال شيخ الإسلام، والإمام ابن أبي العز، والعلامة محمود الآلوسي، وابنه نعمان، وحفيده شكري، وكلهم حنفية غير الأول، واللفظ له: "فلفظ "الجهة" قد يراد به شيء موجود غير الله فيكون مخلوقاً كما إذا أريد بالجهة نفس العرش، أو نفس السموات، وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى، كما أريد بالجهة ما فوق العالم. ومعلوم أنه ليس في نص إثبات لفظ "الجهة" ولا نفيه. كما فيه إثبات "العلو" و"الاستواء" و"الفوقية" و"العروج إليه" ونحو ذلك ... ، وقد علم أنه ما تم موجود إلا الخالق، والمخلوق، والخالق مباين للمخلوق - سبحانه وتعالى ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. فيقال لمن نفى "الجهة": أتريد بالجهة أن شيء موجود مخلوق؟.   (1) رواه أبو داود كما في ((التمهيد)) لابن عبدالبر (7/ 142)، والدارمي في ((الرد على بشر المريسي)) (ص 24)، والخلال كما في ((درء التعارض)) (2/ 34). (2) رواها الخلال كما في ((درء التعارض)) (2/ 34). (3) انظر ((رد الدارمي على بشر المريسي)) (ص 23 - 25). (4) ((درء التعارض)) (2/ 33 - 35)، و ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص 239 - 240). (5) راجع: ((شرح الطحاوية)) (ص 239). (6) ((سير أعلام النبلاء)) (20/ 80 - 88)، و ((البداية والنهاية)) (12/ 217). (7) ((سير أعلام النبلاء)) (20/ 80 - 88)، و ((البداية والنهاية)) (12/ 217). (8) ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص 242)، و ((روح المعاني)) للألوسي (7/ 116)، و ((جلاء العينين)) لابن نعمان (ص 359)، ((غاية الأماني)) لحفيده شكري الألوسي (1/ 447). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 فالله ليس داخلاً في المخلوقات. أم تريد بالجهة ما وراء العالم؟. فلا ريب أن الله فوق العالم بائن من المخلوقات. وكذلك يقال لمن قال: إن الله في جهة: أتريد بذلك أن الله فوق العالم؟ أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات؟.فإن أردت الأول فهو حق، وإن أردت الثاني فهو باطل" (1). قلت: لفظ "الجهة" بالمعنى الصحيح، أعني بمعنى "العلو" لله تعالى على خلقه، هو مقتضى الكتب السماوية والأحاديث النبوية، وعلى ذلك العقل الصريح والفطرة السليمة ولذلك يوجد في كلام أئمة السنة، لفظة "الجهة" بهذا المعنى، ولا غبار عليها، ومع ذلك الأفضل التقيد بالألفاظ المأثورة. وإثبات "الجهة" لله تعالى بهذا المعنى مما اعترف به كثير من كبار المتفلسفة، والمتكلمة. 1 - 3 - القاضي عياض (544هـ) والإمام النواوي (676هـ) والزبيدي الحنفي (1205هـ):فقد صرحوا بأن المحدثين والفقهاء والمتكلمين بإثبات "جهة" الفوق وأن معنى في السماء عندهم "على السماء" وأما دهماء المتكلمين فينفون الجهة (2). 4 - وقال أبو الوليد محمد بن أحمد المعروف بابن "رشد" الحفيد المتفلسف (595هـ): "القول بالجهة: وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه وتعالى حتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية ... وظواهر الشرع كلها تقتضى إثبات الجهة".ثم ذكر عدة أدلة على ذلك كما ضرب مثالاً مهما للمؤولين المحرفين (3). 5 - وقال القرطبي المفسر (671هـ) بعد ما ذكر مذهب المتكلمين النفاة لعلو الله تعالى: "وقد كان السلف الأول لا يقولون بنفي "الجهة" ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها، كما نطق كتابه وأخبرت رسله، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة ... وإما جهلوا كيفية الاستواء".ثم ذكر مقالة الإمام مالك المشهورة في الاستواء ثم قال: "وهذا القدر كاف ... ، والاستواء في كلام الرب: هو العلو والاستقرار ... " (4).6 - وقال القرطبي أيضاً "وأظهر الأقوال في ذلك ما تظاهرت عليه الآي والأخبار، وقاله الفضلاء الأخيار أن الله على عرشه كما أخبر في كتابه، وعلى لسان نبيه بلا كيف بائن من خلقه، هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات" (5).   (1) ((التدمرية)) (ص66 - 67)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 41/42)، و ((نقص المنطق)) (ص 50)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (4/ 58 - 59)، (5/ 262 - 263، 6/ 38 - 40)، و ((درء التعارض)) (1/ 253 - 354)، والتسعينية ضمن ((الفتاوى الكبرى)) (5/ 4 - 5، 23، 31، 21، 37)، فرد على هذه الشبهة في أربعة عشر وجها، و ((مختصر الفتاوى المصرية)) (ص585)، و ((شرح الطحاوية)) (ص 242 - 244)، و ((روح المعاني)) (7/ 116) و ((جلاء العينين)) (ص 359)، و ((غاية الأماني)) (1/ 447، 493)، وارجع إلى ((الجواب الصحيح)) (3/ 83 - 84). (2) نقل النووي كلام القاضي عياض وأقره، انظر: ((شرح صحيح مسلم)) (5/ 24 - 25)، وراجع ((شرح الإحياء)) للزبيدي (2/ 105). (3) ((مناهج الأدلة)) (ص176 - 182)، وانظر ((درء التعارض)) (6/ 212 - 237)، و ((الصواعق المرسلة)) (4/ 1305)، و ((اجتماع الجيوش)) (323 - 324). (4) ((الجامع لأحكام القرآن)) (7/ 219 - 220)، وانظر ((درء التعارض)) (6/ 259 - 260)، و ((بيان تلبيس الجهمية)) (2/ 37)، و ((العلو)) للذهبي (ص 194 - 195)، و ((مختصر العلو)) للألباني (ص 286)، و ((الصواعق المرسلة)) (4/ 1293 - 1294)، و ((اجتماع الجيوش)) (263 - 281). (5) ((درء التعارض)) (6/ 258)، و ((بيان تلبيس الجهمية)) (2/ 36)، و ((الصواعق المرسلة)) (4/ 1292)، و ((اجتماع الجيوش)) ((ص 281)، عن كتاب ((شرح أسماء الحسنى)) للقرطبي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 قلت: بعد هذا كله تبين بلا ريب للمسلمين طالبي الحق والإنصاف أن الكوثري كذاب بهات أفاك فيما يفتري على الله ورسوله وأئمة الإسلام وغيرهم حيث يقول متحدياً:"ولم يقع ذكر الجهة في حق الله سبحانه في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا في لفظ صحابي أو تابعي، ولا في كلام أحد ممن تكلم في ذات الله وصفاته من الفرق سوى أقحاح المجسمة، وأتحدى من يدعي خلاف ذلك أن يسند هذا اللفظ إلى أحد منهم بسند صحيح فلن يجد إلى ذلك سبيلاً فضلاً عن أن يتمكن من إسناده إلى الجمهور بأسانيد صحيحة ... " (1). ويقرر الكوثري قول السبكي ويسكت عليه بعد ما ذكر قول الإمام ابن القيم "إن الله فوق سماواته ... نقول ما قاله ربنا".فقال السبكي وأقره الكوثري: "أين قال: ربنا أنه بائن من خلقه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته؟ فقد نسبت إلى قول الله ما لم يقله" (2). قلت: عار وشنار على الكوثري وبعض الديوبندية حيث يبالغون في الثناء على هذا الخائن الظنين الذي غالب كلامه ثرثرة وكذب وطنين، ثم يصفونه بالتثبت والاحتياط والأمانة وأنه لا فلة فيه دراية ورواية وأنه لا لجواده كبوة ولا لصارمه نبوة. مع أن نصوص الكتاب والسنة وأقوال سلف هذه الأمة وأئمة السنة بل نصوص كثير من أئمة الكلام صريحة في "الفوقية". 3 - "الحَيِزّ": وكذلك لفظة "الحيز" فالقول فيها كالقول في أخواتها من ألفاظهم الكلامية المجملة المدهشة التي يردون بها الحق أيضا ضمن ردهم للباطل. قال شيخ الإسلام: "وكذلك لفظ "المتحيز" إن أراد به أن الله تحوزه المخلوقات فالله أعظم وأكبر بل وسع كرسيه السموات والأرض .. ، وإن أراد به أنه منحاز عن المخلوقات، أي مباين لها، منفصل عنها ليس حالاً فيها، فهو سبحانه كما قال أئمة السنة، فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه" (3). 4 - "المكان": وهكذا لفظ "المكان" لا ننفيه ولا نثبته حسب قاعدة السلف المذكورة بل نفصل فيه ونستفسر قائله فنقبل المعنى الحق ونرد المعنى الباطل، ولا نفعل كما يفعل طوائف المعطلة من نفيهم علو الله تعالى على خلقه ضمن نفيهم للمكان عن الله تعالى. قال شيخ الإسلام: " ... ومنهم من لا يفهم قول الجهمية بل يفهم من النفي معنى صحيحاً ... مثل أن يفهم من قولهم: "ليس في جهة" ولا له "مكان" ولا هو "في السماء".أنه ليس في جوف السماوات - وهذا معنى صحيح وإيمانه بذلك حق - ولكن يظن أن الذين قالوا هذا النفي اقتصروا على ذلك، وليس كذلك بل مرادهم، أنه ما فوق العرش شيء أصلاً ولا فوق السماوات إلا عدم محض، وليس هناك إله يعبد، ولا رب يدعى ويسأل، ولا خالق خلق الخلائق، ولا عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه أصلاً هذا مقصودهم" (4).   (1) ((تبديد الظلام)) (ص 101 - 102). (2) ((السيف الصقيل مع تبديد الظلام)) للكوثري (ص 22). (3) ((التدمرية)) (ص 67 - 68)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 42)، وانظر ((مجموع الفتاوى)) (6/ 38 - 40)، و ((درء التعارض)) (1/ 253 - 254)، والتسعينية ((ضمن الفتاوى الكبرى)) (5/ 4 - 5، 23 - 31). (4) ((نقض المنطق)) (ص 50)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (4/ 58 - 59). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 وقال العلامة نعمان الألوسي الحنفي: "وأما القائل الذي يقول: إن الله لا ينحصر في مكان إن أراد به أن الله لا ينحصر في جوف المخلوقات، وأنه لا يحتاج إلى شيء منها فقد أصاب، وإن أراد أن الله تعالى ليس فوق السماوات، ولا هو مستو على العرش استواء لائقاً بذاته وليس هناك إله يعبد، "ومحمد صلى الله عليه وسلم" لم يعرج إلى ربه تعالى، فهذا جهمي فرعوني معطل".ثم ذكر قاعدة السلف في الألفاظ المجملة (1).قلت: إثبات "المكان" بالمعنى الصحيح - وهو العلو لله تعالى - لا يستلزم أي محذور ولا لوازم باطلةً (2). قلت: لقد تبين بهذه النصوص. أنه لا يلزم من حمل نصوص "العلو والفوقية" على ظاهرها من المعاني الحقيقية المتبادرة إلى الأذهان السليمة أي محذور ما دمنا ملتزمين نفي التكييف والتمثيل. فلا يلزم من ذلك تشبيه يخالف التنزيه. ولا يلزم الحد والجهة، والحيز والمكان بالمعاني التي يقصدها هؤلاء المعطلة ولا يلزم كون الله محدوداً متبعضاً متجزياً متناهياً جوهراً وجسماً. ولا يلزم كون الله محلاً للحوادث ولا لزوم الانتقال ولا التجزي ولا الانقسام. كما لا يلزم أن يكون كل واحد من الحد والجهة، والحيز، والمكان، قديماً مع الله تعالى لأن الحيز والمكان عند هؤلاء المتكلمين يعد موهوم لا شيء محض كما تقدم. فلا يلزم تعدد القدماء، وقد تقدم أيضاً أن المراد من الجهة ما فوق العالم غير الله تعالى، وما فوق العالم غير الله تعالى هو أمر معدوم؛ لأن الموجود إما خالق، وإما مخلوق وفوق المخلوق ليس إلا الخالق، فلا يتصور كون الخالص في شيء موجود، إذاً لا يتصور كون موجود قديماً مع الله تعالى، فلا يلزم قدم الحد والجهة والحيز والمكان بالمعنى الذي يريد الماتريدية. قال شيخ الإسلام: "فقوله: يلزم قدم الجهة أو الانتقال، إنما يصح لو قيل: إنه موجود في سواه، وإما إذا أريد بذلك أنه فوق العالم، أو وراء العالم، وليس هناك غيره، وليس هناك شيء موجود آخر، حتى يقال: إنه قديم. وأما العدم فإن قيل: إنه قديم بهذا التفسير، فهو كعدم سائر المخلوقات، وقدم العدم بهذا التفسير ليس بممتنع ... " (3). قلت: ما ذكرنا في هذه المباحث في هذا الفصل من إقامة الحجج الباهرة والبراهين القاهرة على علو الله تعالى على خلقه - من صحيح المنقول وصريح المعقول والإجماع المحقق والفطرة السليمة لنسف شبهات الماتريدية وبيان أنهم خالفوا النقل والعقل والإجماع والفطرة في آن واحد، وأنهم ليسوا من أهل السنة بل هم من الفرق الجهمية - فيه كفاية لطلاب الحق والإنصاف،، والله حسب عصبة التعصب والاعتساف،، فإنهم لا يدفعون حماقتهم بالندامة،، ولو أطلبت لهم الملامة،، فهم كما قيل: وشيخ عن الحمق لا ينتهي ... أطلتَ له اللومَ أم لم تطل المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني 2/ 575   (1) ((جلاء العينين)) (ص 385)، عن شيخ الإسلام. (2) كما حققه ابن رشد في ((مناهج الأدلة)) (ص 176 - 177)، وانظر: ((اجتماع الجيوش)) (ص 324). (3) ((مختصر الفتاوى المصرية)) لشيخ الإسلام، اختصار بدر الدين البعلي (ص 585). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 المبحث الخامس: الرد على الماتريدية في تعطيلهم لصفة استواء الله تعالى على عرشه لقد سبق أن عرضنا موقف الماتريدية من هذه الصفة. فقد تقدم أنهم عطلوها وحرفوا نصوصها إلى شتى المعاني المجازية كالاستيلاء والتمام، أو القصد، فأرجعوا صفة الاستواء "إلى" صفة "القدرة".وإما إلى صفة "الإرادة" (1). وكانت لهم حول هذه الصفة شبهات: فقد قالوا: لو حملنا نصوص "الاستواء على ظاهرها وحقيقتها يلزم منه لله "المكان" "والتغير" و"الانتقال" و"التحيز" وكونه "محدوداً" "محاطاً" وغير ذلك، وهذا كله من أمارات الحدوث والحاجة والنقصان، والله منزه عنها. فالله لا على العرش ولا على غيره، لأن ذلك من صفات الأجسام (2). وأيدوا تحريفهم لنصوص الاستواء ببيت مكذوب مصنوع، مفتعل موضوع، منسوب كذباً وزوراً، إلى كافر نصراني مختل العقل مضطرب الكلام وهو "الأخطل". قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق (3) ويقول: الكوثري: "وأنى لهم التمسك بآية "الاستواء" والاستواء له معان, وللعرش معان في اللغة" (4). وقال: "وللاستواء في كلام العرب خمسة عشر معنى ما بين حقيقة ومجاز .... ". ثم قال الكوثري في تحريفه كلام الإمام مالكٍ: "وإما أن لا يفسر كما قال الإمام مالك وغيره "إن الاستواء معلوم" يعني مورده في اللغة، والكيفية التي أرادها الله مما يجوز عليه من معاني الاستواء مجهولة. فمن يقدر أن يعينها؟.فتحصل لك من كلام إمام المسلمين "مالك" أن الاستواء معلوم وأن ما يجوز على الله غير متعين وما يستحيل عليه هو منزه عنه" (5). ويصرح الكوثري أن استواءه تعالى على العرش فعل من أفعاله وليس صفة من صفاته فيقول: "قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى صيغة فعل مقرونة بما يدل على التراخي، وذلك يدل على أن "الاستواء" فعل الله تعالى مقيد بالزمن وبالتراخي شأن سائر الأفعال وعدُّ ذلك "صفة" إخراج الكلام عن ظاهره ... وقد أجمعت الأمة على أن الله تعالى لا تحدث له صفة فلا مجال لعدّ ذلك صفة" (6). قلت: هذا بناء على مذهبهم أن مرجع الصفات الفعلية هو "التكوين" وأن متعلقات "التكوين" من جميع أفعال الله تعالى ليست من صفات الله على الحقيقة، بل هي أمور اعتبارية إضافية، لئلا يلزم قيام الحوادث بالله. فآيات "الاستواء" ونحو ذلك، ليس من آيات "الصفات" عندهم، وهذا لون آخر من البدع وفي طي هذا الكلام انخراط في تعطيل مبين لا ينتبه له إلا من عرف حقيقة قولهم وقد سبق إبطاله. ولنا كلام مع الماتريدية في تعطيلهم لصفة "الاستواء" لله تعالى على عرشه من عدة نواح: الناحية الأولى: أن عامة شبهاتهم ترجع إلى شبهة "التشبيه". وقد فصلنا القول في إبطالها في فصل مستقل في الباب الثاني. الناحية الثانية:   (1) انظر ((التمهيد)) لأبي المعين النسفي (5/ب)، (6/أ)، و ((العمدة)) لحافظ الدين النسفي (6/أ)، و ((مدارك التنزيل له)) (1/ 542). (2) انظر ((التمهيد)) لأبي المعين النسفي (5/ب)، (6/أ)، و ((العمدة)) لحافظ الدين النسفي (6/أ)، و ((مدارك التنزيل له)) (1/ 542). (3) انظر: ((تبصرة الأدلة)) (77/ب)، و ((بحر الكلام)) (ص 25)، لأبي المعين النسفي، و ((البداية)) للصابوني (ص 46)، و ((العمدة)) لحافظ الدين النسفي (6/أ)، و ((المسايرة مع المسامرة)) (ص 35)، و ((التيسير)) للكافيجي الحنفي (ص 125 - 131). (4) ((مقالات الكوثري)) (ص 303)، و ((تعليقاته على الأسماء والصفات)) (ص 405 - 406). (5) ((مقالات الكوثري)) (ص 294 - 295)، وراجع ((تعليقاته على الأسماء والصفات)) (ص 405 - 406)، و ((تبديد الظلام)) (ص 111 - 112). (6) ((تبديد الظلام)) (ص85 - 86). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 أن ما يلوكونه بألسنتهم من وساوس فلسفية ودسائس كلامية من لزوم "المكان" و"الحيز" و"الجهة" و"التحيز" وكونه "محدوداً" "محاطاً" ونحوه - تقدم الجواب عن ذلك في المبحث الأخير من الفصل السابق. الناحية الثالثة: أن ما تشبثوا به من أن "الاستواء" فعل حادث وليس من صفات الله تعالى، لئلا يلزم حلول الحوادث بذات الله تعالى. فقد تقدم الرد عليه وبينا أن صفات الأفعال صفات الله تعالى قائمة به سبحانه، تتجدد آحادها، ونوعها قديم، على أن القول بحلول الحوادث لازم لهم يشعرون أم لا يشعرون؟ وقد اعترف بذلك بعض أساطينهم. وهذا مبني على أصلهم من نفي قيام الأفعال الاختيارية به تعالى وجعل أفعاله اللازمة كأفعاله المتعدية، فكل ذلك عند هؤلاء الماتريدية والأشعرية مفعول منفصل عن الله تعالى. الأول: جعل الفعل من المخلوقات: والثاني: نفيهم قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى التي هي صفاته الفعلية التي تتعلق بمشيئته وقدرته، وقولهم مخالف لمذهب أهل السنة (1).قلت: كان المفروض أن يكون الماتريدية موافقين لأهل السنة في هذا لقولهم بالتكوين وقولهم بأن المكون، غير التكوين (2).وهذا القول موافق في الجملة لأهل السنة في قولهم: إن الخالق غير المخلوق كما صرح به شيخ الإسلام (3) لكن الذي أوقعهم في البدعة الشنيعة ونفي قيام الصفات الاختيارية به تعالى قولهم: إن صفة "التكوين" صفة واحدة قديمة أزلية، وأن جميع ما يتعلق بما فهو متعلقات التكوين، وليست صفات حقيقية وإلا لزم قيام الحوادث به تعالى وكذا لزم منه تكثير القدماء جداً. وقد بينا أن الفريقين من الماتريدية والأشعرية كلاهما على الباطل المحض وكلامهم يتضمن التعطيل المبين. الناحية الرابعة: أن ما تمسكوا به من شهبة "التغيير"- نقول في الجواب عنها: إن هذه اللفظة "التغيير" من الألفاظ المجملة المتشابهة الكلامية التي تحتمل حقاً وباطلاً. وقد ذكرنا قاعدة أئمة السنة في مثل هذه الكلمات. وقد قال إمام أهل السنة في المتكلمين وكلماتهم المجملة المتشابهة المهولة المدهشة: "يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويلبسون على جهال الناس ما يشبهون عليهم" (4). فنقول في ضوء هذه القاعدة ما قال شيخ الإسلام بعد ما ذكر اعتراف الرازي: "وإيضاح ذلك: أن لفظ "التغيير" لفظ مجمل. فالتغيير "في اللغة المعروفة لا يراد به مجرد كون محل قامت به الحوادث فإن الناس لا يقولون للشمس والقمر والكواكب - إذا تحركت - إنها قد تغيرت، ولا يقولون: للإنسان - إذا تكلم ومشى - إنه تغير. ولا يقولون: - إذا طاف وصلى وأمر ونهى وركب - إنه تغير إذا كان ذلك عادته. بل إنما يقولون: "تغير" لمن استحال من صفة إلى صفة. كالشمس إذا ما زال نورها ظاهراً - لا يقال: إنها تغيرت. فإذا اصفرت - قيل: قد تغيرت. وكذلك الإنسان إذا مرض، أو تغير بجوع أو تعب - قيل: قد تغير. وكذلك إذا تغير خلقه ودينه، مثل أن يكون فاجرا فيتوب ويصير براً، أو يكون براً فينقلب فاجراً - فإنه يقال: قد تغير .... وإذا كان هذا معنى "التغيير" فالرب تعالى لم يزل ولا يزال موصوفاً، بصفات الكمال منعوتاً بنعوت الجلال والإكرام، وكمالاته لوازم ذاته فيمتنع أن يزول عنه شيء من صفات كماله، ويمتنع أن يصير ناقصاً بعد كماله.   (1) انظر: ((شرح حديث النزول)) (ص42 – 43، 47)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 378 - 379، 386). (2) انظر: ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص 47 - 49)، ((البداية)) للصابوني (ص 67 - 73)، و ((العقائد النسفية مع شرحها)) للتفتازاني (ص 66 - 67). (3) انظر ((شرح حدث النزول)) (ص 42)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 379). (4) ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/ 100). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 وهذا الأصل يدل عليه قول السلف وأهل السنة:"إنه لم يزل متكلماً إذا شاء ولم يزل قادراً ولم يزل موصوفاً بصفات الكمال ولا يزال كذلك فلا يكون متغيراً" .... " (1). الحاصل: أنه لا يستلزم من إثبات صفة "استواء" الله تعالى على عرشه كونه تعالى متغيراً. الناحية الخامسة: أن شبهتهم من لزوم "الانتقال" من مكان إلى مكان - شبهة قديمة لقدماء الجهمية. وأئمة السنة وسلف هذه الأمة قد أفحموهم وأسكتوهم وكسروا أسنانهم بالحجر فبهت الذي كفر. وستأتي إن شاء الله أجوبة أمثال الإمام الفضيل بن عياض (187هـ) الذي جعله الحنفية حنفياً، ويعظمونه تعظيماً بالغاً وهو أهل له. وإمام الجرح والتعديل يحيى بن معين (233هـ) الذي يجعله الحنفية ولاسيما الكوثرية حنفياً صلبا متعصباً ويجلونه غاية الإجلال وهو أهل للإكرام. والإمام حماد بن زيد (179هـ). والإمام إسحاق بن راهويه (238هـ). في إسكات هؤلاء الجهمية. الناحية السادسة: قولهم: "إن للاستواء خمسة عشر معنى، وللعرش معان فكيف يصح تمسكهم بآية "الاستواء"؟ فنقول: هذا تدليس واضح وتلبيس فاضح، وتشكيك في العقيدة. مَنْ هذا الذي قال من سلف هذه الأمة من أئمة السنة: إن معنى الاستواء ومعنى العرش في جميع تلك النصوص القرآنية الصريحة غير معلومين؟. كلا والذي استوى على عرشه! بل معنى "الاستواء"، ومعنى "العرش" في تلك الآيات الواضحات - معلومان بلا ريب. وأول من قال: هذه المقالة - فيما أعلم - هو الإمام أبو بكر بن العربي (543هـ) (2) سامحه الله وإيانا - وتبعه الكوثري. ولكن الإمام ابن القيم جعلها حصيداً كأن لم تغن بالأمس. والإمام أبو بكر بن العربي هو الذي لعبت به عقليته الكلامية - على جلالة قدره - حتى قال ما قال في وجوب النظر والاستدلال. وقد سبق أن ذكرنا جواباً شافياً كافياً عن هذه الشبهة فلا نعيده (3). غير أننا نضيف ههنا أموراً: الأمر الأول: أن الله تعالى ذكر صفة "استوائه" على عرشه في سبعة مواضع من كتابه: 1 - 2 - فقال: إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54]، [يونس: 3] 3 - وقال: اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الرعد:2] 4 - وقال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] 5 - 6 - وقال: الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الفرقان: 59، السجدة: 4] 7 - وقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ... [الحديد: 4] وهذه الآيات كلها تواطأت على لفظين إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]   (1) ((رسالة في الصفات الاختيارية ضمن جامع الرسائل)) (2/ 43 - 45)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (6/ 249 - 250)، وانظر: ((درء التعارض)) (2/ 185 - 187). (2) ((العواصم من القواصم)) (2/ 289) تحقيق عماد الطالبي ط الثانية 1981م الجزائر .. (3) انظر: ((الصواعق المرسلة)) (1/ 192 - 196)، و ((مختصر الصواعق)) (1/ 16 ع18، 2/ 148 - 151)، الطبعة القديمة، و (ص12 - 14، 333 - 335) ط الجديدة و (14 - 16، 319 - 321) دار الكتب العلمية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 فالناظر السليم الفطرة، عن أرجاس الفلسفة وأنجاس الكلام - إلى هذه الآيات البينات والمتدبر بحق في هذه الكلمات المحكمات لا يفهم منها إلا علو الله تبارك وتعالى على عرشه، ولا يتبادر إلى ذهنه المعاني الخمسة عشر للاستواء، والخمسة للعرش أبداً وهذه حقيقة واقعة لا ينكرها إلا منكر مكابر، ومعاند مجاهر؛ لأن "الاستواء" المعدى بلفظه "على" نص صريح محكم في العلو والارتفاع ولشيخ الإسلام كلام مهم فراجعه (1). الأمر الثاني: أن المتشبث بهذه الشبهة الواهية يتدرج بقوله: "إن للاستواء معاني وللعرش معاني". إلى القول بالتفويض في صفة الاستواء. وقد أقمنا أدلة قاهرة باهرة على إبطال القول بالتفويض المطلق الكلامي المفتعل الموضوع المصنوع على السلف، وأبطلنا نسبته إلى السلف. كما أبطلنا شبهاتهم التي تشبثوا بها لدعم التفويض. وبينا الفرق بين التفويض الباطل الخلفي وبين التفويض الحق السلفي. الأمر الثالث: إن صفة "الاستواء" لله تعالى على عرشه في هذه الآيات وهذا السياق قد عرفه سلف هذه الأمة وفسروه بالعلو والارتفاع، كابن عباس وأبي العالية رفيع بن مهران الرياحي (90هـ) ومجاهد ابن جبر (101هـ) والربيع بن أنس البكري (140هـ). وعلى هذا بعدهم أئمةُ السنة والحديث والتفسير، أمثال: أبي عبيدة (210هـ). والبخاري (256هـ) وابن قتيبة (276هـ) وابن جرير (310هـ) وابن أي حاتم (327هـ) وابن عبدالبر (463هـ) والبغوي (516هـ) وغيرهم (2).وهو قول: كبار أئمة اللغة أمثال: الخليل بن أحمد (175هـ) والفراء (207هـ) والأخفش (215هـ) وأبي العباس ثعلب (291هـ) وابن الأعرابي (230هـ) وابن عرفة المعروف بـ"نفطويه" (323هـ) وغيرهم (3).وهكذا كبار أساطين الكلام، كابن كلاب (240هـ) والأشعري (324هـ) والباقلاني (403هـ) (4). قال الإمام الحافظ الفقيه أبو محمد عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن بن شيرويه (305هـ)."سمعت إسحاق بن راهويه - (الإمام أحد الأثبات الثقات الأعلام) (238هـ) - أنبأنا بشر بن عمر الزهراني - (أحد ثقات أئمة الأعلام) (207هـ) قال: سمعت غير واحد من المفسرين يقولون: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، "على العرش ارتفع" (5). الأمر الرابع: أن واقع نصوص أئمة السنة وسلف هذه الأمة يدل دلالة قاطعة على أن للعرش ولاستواء الله تعالى عليه معنى واحداً معلوماً؛ وهو أن العرش هو عرش الرحمن المحيط على السموات والأرض. وأن استواء الله تعالى عليه هو علوه تعالى وارتفاعه عليه. وهو معلوم غير أن كيفيته مجهولة. وفيما يلي نصوص بعضهم:   (1) ((درء التعارض)) (1/ 297). (2) انظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/ 105 - 106)، وانظر أيضاً: ((التمهيد)) لابن عبدالبر (7/ 131 - 132)، و ((فتح الباري)) (13/ 403 - 405). (3) راجع ((العلو)) للذهبي (ص 118، 133) و ((مختصره)) للألباني (ص 171، 194 - 195)، و ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (ص 264 - 267)، وراجع ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) للالكائي (3/ 397، 400)، وانظر أيضاً: ((كتاب العين)) للخليل بن أحمد الفراهيدي (7/ 326)، و ((معاني القرآن)) للفراء (1/ 25). (4) انظر ((مقالات الأشعري)) (ص 299)، تحقيق هلموت، و (1/ 351)، تحقيق محمد محي الدين عبدالحميد، ((الإبانة)) (2/ 105 - 107) تحقيق الدكتورة فوقية – و (ص 85 - 86)، تحقيق الأرناؤوط، طبعة دار البيان و (ص 119 - 120)، طبعة الجامعة الإسلامية، و ((التمهيد)) للباقلاني (ص 260). (5) انظر: ((العلو)) للذهبي (ص 13)، وقال شيخنا الألباني: "هذا إسناد صحيح مسلسل بالثقات" ((مختصرالعلو)) (ص 160). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 1 - فقد سئل الإمام ربيعة بن عبدالرحمن فروخ أبو عثمان المدني المعروف بربيعة الرأي (136هـ) شيخ الإمام مالك إمام دار الهجرة - عن قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] كيف استوى؟.قال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ، وعلينا التصديق" (1).وفي رواية: "الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، ويجب عَلَّى وعليك الإيمان بذلك كله" (2). 2 - وجاء رجل إلى مالك بن أنس إمام دار الهجرة (179هـ) فقال: يا أبا عبدالله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى -[طه: 5]- كيف استوى؟. فقال له مالك: الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، فإني أخاف أن تكون ضالاً".3 - وقال الإمام أبو حنيفة: "ونقر بأن الله تعالى على العرش استوى ... " (3). مع كلام الإمام أبي حنيفة في تكفير من أنكر كون الله تعالى على العرش أو شك في ذلك أو شك في كون العرش في السماء. قلت: تدبر أيها المسلم طالب الحق والإنصاف نصوص هؤلاء الأئمة كيف صرحوا بأن استواء الله تعالى على عرشه معلوم المعنى كما أن عرشه أيضاً معلوم غير أن كيفية استوائه غير معلوم؟. بل صرح الإمام أبو حنيفة بتكفير من شك في كون العرش في السماء. فهل يمكن لأحد أن يقول: إن للاستواء خمسة عشر معنى وأن للعرش خمسةً معانٍ فلا ندري ما المراد من الاستواء وما المراد من العرش؟؟. الناحية السابعة: زعم الكوثري المحرف المخرف في تحريف كلام الإمام مالك: "الاستواء معلوم والكيف مجهول" - أن معناه: أن موارد لفظ "الاستواء" في اللغة معلومة وأن ما يجوز على الله غير معلوم. باطلٌ عاطلٌ وتخريفٌ وتحريفٌ لكلام إمام المسلمين الإمام مالك. يظهر ذلك لكل من تدبر كلامه بإنصاف، بعيداً عن الاعتساف؛ لأن السائل لم يسأل عن موارد لفظ "الاستواء" في اللغة بل سأله عن صفة "استواء" الله تعالى على عرضه الوارد في قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] فأجاب إمام المسلمين بأن الاستواء المعروف باللام المعهود المطلوب في السؤال الوارد في كتاب الله تعالى معلومٌ المعنى لكنه مجهول الكيف. وإلا لقال: "الاستواء والكيف كلاهما مجهول". وهذا أظهر من الشمس في رابعة النهار لمن له عينان ناظرتان وأذنان سامعتان؛ ولكن قد قيل: خفافيش أعشاها النهار بضوئه ... ووافقها قطع من الليل مظلم ولشيخ الإسلام وابن القيم مبحث قيم في إزالة نسج عناكب التحريف (4).وقد تقدم شيء من ذلك (5).   (1) رواه اللالكائي في ((شرح اعتقاد أهل السنة)) (2/ 398)، وابن قدامة المقدسي في ((إثبات صفة العلو)) (ص 114)، وذكره في ((ذم التأويل)) (ص 25)، وقال شيخ الإسلام بعد ذكر قول مالك: "ومثل هذا ثابت عن ربيعة شيخ مالك". ((شرح حديث النزول)) (ص 32)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 365)، وانظر: ((التدمرية)) (ص 43، 99)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 25، 58)، و ((راجع فتح الباري)) (13/ 406). (2) رواه الخلال بإسناد كلهم أئمة ثقات كما قال شيخ الإسلام في ((الحموية)) (ص 45)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 40)، ورواه الذهبي في ((العلو)) (ص 98)، وصححه شيخنا الألباني في ((مختصر العلو)) (ص 132)، ورواه البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص 408 - 409)، وسكت عليه الكوثري على إسناده. (3) انظر: ((الوصية مع شرحه الجوهرة النقية)) لملا حسين الحنفي (ص 10)، و ((شرح الفقه الأكبر)) (ص 61) للقاري. (4) انظر: ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 152)، الطبعة القديمة و (1/ 336) الطبعة الجديدة. (5) انظر: ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 152)، الطبعة القديمة و (1/ 336) الطبعة الجديدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 وهذه حقيقة واقعة إلى حد اعترف بها الإمام ابن العربي (543هـ) مع غلوه في المباحث الكلامية، وصرح بأن معناه معلوم والكيفية مجهولة، قاله في تفسير مقالة الإمام مالك. والإمام ابن العربي هذا من أهم المصادر الكلامية للكوثري (1). الناحية الثامنة: أن تأويل الماتريدية لكثير من صفات الله تعالى ومنها "استوائه" على عرشه سبحانه - بدعة في الإسلام، وخروج على إجماع سلف هذه الأمة وأئمة السنة وأن مقالة التأويل مستلزمة لتعطيل صفات الله تعالى وتحريف نصوصها. بل هي في الأصل مقالة اليهود الكفار، ثم أدخلت على المسلمين بأيدي الجهمية الأولى والمعتزلة وفتحٌ لأبواب الزندقة والإلحاد وسائر الطامات. ولذلك نرى أن المعتزلة يعطلون صفة "الاستواء" ويحرفون نصوصها إلى الاستيلاء ويستدلون بذلك البيت الموضوع المصنوع (2).بشهادة كبار أئمة الإسلام وأساطين الكلام (3). وهذا دليل على أن الماتريدية في مثل هذه التحريفات وتعطيل الصفات أتباع للجهمية الأولى وليسوا من أهل السنة. الناحية التاسعة: أنه لم يأت في اللغة العربية الصحيحة كون "الاستواء" بمعنى "الاستيلاء". قاله إمام أئمة اللغة العربية محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي (230هـ). فقد قاله الإمام أبو سليمان داود بن علي بن خلف إمام الظاهرية (270هـ). "كنا عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال: ما معنى قول الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]. فقال: هو على عرشه كما أخبر عز وجل. فقال: يا أبا عبدالله ليس هذا معناه إنما معناه "استولى". قال: اسكت ما أنت وهذا، لا يقال: استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاداً فإذا غلب أحدهما قيل: استولى، أما سمعت النابغة: ألا لمثلك أو من أنت سابقه ... سبق الجواد إذا استولى على الأمد قلت: الرجل في قول الإمام داود: "كنا عند ابن الأعرابي فأتاه رجل ... " لم أعرفه. ولكن قال شيخنا الألباني: "قلت: لعله أحمد بن أبي دؤاد الجهمي - الحنفي رأس الفتنة والاعتزال - المصرح بأنه السائل في الرواية التي قبل هذه" (4). فقد سأل ابن أبي دُؤاد هذا ابن الأعرابي: "أتعرف في اللغة "استوى"؟ بمعنى (استولى) فقال: لا أعرف".ولفظ ما حكى الإمام ابن القيم عن ابن الأعرابي: "أرادني ابن أبي دؤاد أن أطلب له في بعض لغات العرب، ومعانيها .... "استوى" بمعنى "استولى" فقلت: له والله ما يكون هذا ولا وجدته" (5).   (1) انظر: ((تبديد الظلام)) (ص 48، 51، 109، 111، 112، 114). (2) انظر: ((المختصر في أصول الدين ضمن رسائل العدل والتوحيد)) (ص 333)، و ((شرح الأصول الخمسة)) (ص 226، 227) و ((متشابه القرآن)) (ص 73، 351، 403)، كلها للقاضي عبدالجبار المعتزلي. (3) انظر: ((الرد على الجهمية)) للدارمي (ص 18)، ((الإبانة)) للأشعري (ص 108)، تحقيق الدكتورة فوقية، و (ص 86)، تحقيق الأرناؤوط، طبعة دار البيان و (ص 120)، طبعة الجامعة الإسلامية، و ((التمهيد)) للباقلاني (ص 262)، و ((فتح الباري)) (13/ 405 - 406)، عن ابن بطال وأقره، و ((روح المعاني)) (8/ 135). (4) ((مختصر العلو)) للألباني (ص 196). (5) ((اجتماع الجيوش)) (ص 265 - 266)، وانظر ((فتح الباري)) (13/ 406). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 وهذا يدل على خبث ما تنطوي عليه قلوب رؤوس الجهمية، والاعتزال فردهم الله بغيظهم ولم ينالوا خيراً، فهذا كلام إمام العربية ابن الأعرابي يصرخ أن الاستواء لم يأت في لغة العرب بمعنى الاستيلاء، وأن "الاستيلاء" لا يصح أن يكون تفسيراً لآيات الاستواء" لما في الاستيلاء من معنى المضادة، والمغالبة والتمانع والله منزه من ذلك كله. وقد قال: كثير من الأئمة مثل ما قاله إمام اللغة العربية ابن الأعرابي (1). قال الخطابي وابن عبدالبر، واللفظ له:"وهذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة، وأما إدعاؤهم المجاز في الاستواء، وقولهم في تأويل الاستواء "استولى" - فلا معنى له؛ لأنه غير ظاهر في اللغة، معنى الاستيلاء في اللغة المغالبة، والله لا يغالبه ولا يعلوه أحد وهو الواحد الصمد، ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة على أنه أريد به المجاز ... " (2).وقال الأئمة أيضاً في إبطال تأويل الاستواء بالاستيلاء: إن الله تعالى لم يزل مستوياً غالباً قادراً محيطاً على خلقه كله على عرشه وغيره فأي فائدة في هذا؟ صرح بهذا الأشعري والخطابي والباقلاني (3). الناحية العاشرة: أن هذا البيت: "قد استوى بشر ... " مصنوع موضوع على العرب. قال الإمام أبو سليمان الخطابي ((388هـ): "وزعم بعضهم أن معنى الاستواء ها هنا الاستيلاء ونزع فيه ببيت مجهول لم يقله شاعر معروف يصح الاحتجاج بقوله ... ". قلت: واعجباً للماتريدية خاصة، والجهمية عامة؛ يستدلون ببيت مصنوع مختلق موضوع على العرب ولم يتجرأوا على نسبته إلا إلى الشاعر الكافر الأخطل النصراني!!!. وقد صنعوا مثل هذا الفعل الشنيع في باب صفة "كلام" الله تعالى أيضاً فاستدلوا ببيت: "إن الكلام لفي الفؤاد ... ".فقد بنوا بنيانهم المنهار على بيت مصنوع موضوع على العرب (4) ونسبوه إلى هذا الشاعر الكافر الأخطل النصراني، وهذا البيت أيضاً لا يوجد في ديوانه (5) وتجرأ بعضهم فنسبه إلى علي رضي الله عنه!! (6).أما صرائح الكتاب والسنة المتواترة والإجماع والفطرة فيحرفونها ولا يطمئنون بها هذا من العجب العجاب!!! (7).وأعجب من ذلك عدم رجوعهم إلى الأحاديث الصحيحة الصريحة وتمسكهم بخيالات الفلاسفة وخزعبلات الجهمية (8). الناحية الحادية عشرة: أن تحريف الاستواء إلى الاستيلاء فراراً من التشبيه عينُ الوقوع في التشبيه فلا فائدة في هذا غير الوقوع في التحريف والتعطيل والتشبيه؛ فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين.   (1) ((الإبانة)) للأشعري (2/ 108 - 109)، و ((التمهيد)) للباقلاني (ص 262)، و ((شعار الدين، للخطابي على ما في بيان تلبيس الجهمية)) (2/ 438)، و ((مختصر الصواعق)) (2/ 321). (2) ((التمهيد)) لابن عبدالبر (7/ 131ِ)، وانظر كلام الخطابي في ((بيان تلبيس الجهمية)) (2/ 437 - 438)، و ((مختصر الصواعق)) (ص 321)، عن كتاب ((شعار الدين)) للخطابي. (3) انظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) (2/ 437 - 438)، ((مختصر الصواعق)) (2/ 321)، عن كتاب ((شعار الدين)). (4) راجع ((درء التعارض)) (2/ 85 - 86)، و ((الصواعق المرسلة)) (2/ 674 - 675)، و ((شرح الطحاوية)) (ص 198)، ونسب إلى البعث أيضاً. ((حاشية تيسير الكافيجي)) (ص 130). (5) كما قاله ابن أبي العز في ((شرح الطحاوية)) (ص 198). (6) انظر: ((النبراس)) للفريهاي (ص 215). (7) راجع ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 323)، و ((شرح الطحاوية)) (ص 198). (8) انظر: ((مختصر الصواعق)) (2/ 481). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 قال ابن جرير والألوسي وابنه نعمان الألوسي، واللفظ للثاني:"وأنت تعلم ... أن تفسير الاستواء بالاستيلاء تفسير مردود إذ القائل به لا يسعه أن يقول: كاستيلائنا بل لابد أن يقول: هو استيلاء لائق به عز وجل، وليقل من أول الأمر هو استواء لائق به جل وعلا" (1). الناحية الثانية عشرة: أن المحرفين لصفة "الاستواء" بالاستيلاء وغيره مع وقوعهم فيما سبق من المفاسد متناقضون مضطربون في مذهبهم؛ فإنهم لما حرفوا نصوص "الاستواء" وعطلوا هذه الصفة فراراً من التشبيه والتجسيم - هلا حرفوا نصوص الحياة والسمع والبصر وغيرها، فإثبات بعض الصفات وتعطيل بعضها ليس إلا إيماناً ببعض الكتاب وكفراً ببعضه مع التناقض الواضح والاضطراب الفاضح. قال الإمام أبو محمد عبدالله بن يوسف الجويني (438هـ) والد إمام الحرمين أبي المعالي عبدالملك الجويني (478هـ): "فإن قالوا لنا في الاستواء: شبَّهْتُمْ - نقول لهم: في السمع شَبَّهْتُمْ، ووصفتم ربكم بالعرض ... فجميع ما يلزموننا به في الاستواء والنزول، واليد، والوجه والقدم، والضحك، والتعجب، من التشبيه نلزمهم به في الحياة، والسمع والبصر والعلم ... ، وليس من الإنصاف أن يفهموا في الاستواء والنزول، والوجه، واليد، صفات المخلوقين. فيحتاجوا إلى التأويل والتحريف؛ فإن فهموا من هذه الصفات ذلك فيلزمهم أن يفهموا من الصفات السبع صفات المخلوقين" (2).قلت: هذا الذي ذكرنا فيه كفاية لطلاب الحق والإنصاف والإخلاص ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتب أئمة السنة ولاسيما إلى مباحث الإمام ابن القيم، فإنه قد أبطل تأويل صفة "الاستواء" باثنين وأربعين وجهاً فأجاد وأفاد (3). خلاصة مبحث الاستواء: لقد اشتمل هذا المبحث على ما يلي من النتائج المهمة: 1 - أن صفة "الاستواء" صفة لله سبحانه كغيرها من صفات الله تعالى. 2 - أن مذهب السلف في إثباتها لله تعالى بلا كيف ولا تمثيل فلا يحرفون نصوصها ولا يعطلونها. 3 - أن الماتريدية معطلة لهذه الصفة محرفة لنصوصها. 4 - أن الماتريدية في مذهبهم في صفة الاستواء على مذهب الجهمية والمعتزلة. 5 - أن الماتريدية مبتدعة في مذهبهم هذا خارجون على مذهب الإمام أبي حنيفة كما هم خارجون عن إجماع أئمة هذه الأمة. 6 - أن الماتريدية كعادتهم حرفوا نصوص الاستواء الصريحة وتشبثوا ببيت مصنوع موضوع على العرب منسوب زوراً إلى شاعر كافر نصراني. 7 - أنا الماتريدية حرفوا معنى الاستواء بالاستيلاء الذي لا تساعده اللغة العربية بل أئمة اللغة أنكروا مجيء الاستواء بمعنى الاستيلاء. 8 - أن الماتريدية مع تحريفهم وتعطيلهم لصفة الاستواء لم ينجوا من التشبيه بل وقعوا فيه، ولنعم ما قيل: أقام يعمل أياما رويته ... وشبه الماء بعد الجهد بالماء 9 - أن هؤلاء لو ربحوا رأس المال لكنهم حرفوا وعطلوا فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين. التنبيه على تمويه التفتازاني تبعاً للقزويني والسكاكي الساحر الحنفي: قالوا: "استوى" محمول على الإيهام والتورية المجردة، "وهي التي لا تجامع شيئاً مما يلائم المعنى القريب نحو "الرحمن على العرش استوى" فإنه أراد بـ"استوى" معناه البعيد وهو "استولى" ولم يقرن به شيء مما يلائم المعنى القريب الذي هو "الاستقرار" (4). أقول: تعجبوا يا قوم! من إلحاد هؤلاء الجهيمة؛ تعالى الله سبحانه وكلامه عن إلغاز الملغزين وتمويه المموهين وتورية الساحرين. المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني 3/ 7   (1) ((روح المعاني)) (8/ 136)، و ((جلاء العينين)) (ص 360)، و ((جامع البيان)) (1/ 192). (2) ((رسائل في الاستواء والفوقية)) للجويني ((ضمن مجموعة الرسائل المنيرية)) (1/ 182)، وانظر للاطلاع على تناقضهم واضطراب موقفهم: ((التدمرية)) (ص 31 - 33، 35 - 36، 42، 46، 183) و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 17 - 18، 20 - 21، 24 - 27)، و ((الحموية)) (ص 108 - 111)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 110 - 115)، و ((مجموعة الرسائل الكبرى)) (1/ 471 - 474)، و ((شرح حديث النزول)) (ص 23 - 29)، و ((ضمن مجموعة الفتاوى)) (5/ 351 - 360)، و ((أعلام الموقعين)) (1/ 49)، و ((مختصر الصواعق)) (2/ 344)، و ((شرح الطحاوية)) (ص 101 - 102)، و ((شرح الفقه الأكبر)) (ص 61 - 62). (3) انظر: ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 126 - 152)، الطبعة القديمة، و (2/ 319 - 336)، الطبعة الجديدة و (ص 306 - 322) ط/ العلمية. (4) ((المختصر مع التخليص)) (ص 324) و ((المفتاح)) (ص 427). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 المبحث السادس: الرد على الماتريدية في تعطيلهم لصفة "نزول" الله إلى السماء الدنيا لقد سبق أن ذكرنا أن الباعث للماتريدية ولغيرهم من المعطلة أنهم فهموا من نصوص "النزول" و"الإثبات" و"المجيء" ما يفهم من صفات المخلوق. فقالوا: لو تركنا هذه النصوص على ظاهرها لزم الله انتقال الأعراض والأجسام وهذا يستلزم التغير والزوال له تعالى فيكون الله من الآفلين. فيجب صرف ذلك إلى ما يستحق بالربوبية (1). وبناء على هذا الأساس الباطل المنهار عطلوا صفات الله تعالى "النزول" و"الإتيان" و"المجيء". وحرفوا نصوصها. فقالوا: المراد نزول اللطف، والرحمة على سبيل التمثيل (2).أو نزول بره وعطائه (3).أو نزول الملك (4).أو المراد الاطلاع، والإقبال على العباد بالرحمة (5). وهكذا عطلوا صفة "الإتيان" لله تعالى، وحرفوا نصوصها. فقالوا: المراد إتيان عذابه، أو إتيان ملائكته، أو مجاز عن التجلي، أو معناه: أن يأتي الله بأمره، وبأسه، فحذف المفعول به، وغيرها (6). وكذا عطلوا صفة "المجيء" وحرفوا نصوصها إلى أنواع من المجازات بشتى التأويلات. فقالوا: المراد المجيء حكمه، وعطائه، وأمره، وقضائه، أو ظهور آثار قهره، وسلطانه، وغيرها (7). وقد رأيت للإمام أبي منصور الماتريدي تحريفاً عجيباً وتخريفاً غريباً لم أجده عند غيره من المعطلة - فيما أعلم - يندهش المسلم منه وترعد فرائصه وهو: أن "الواو" في قوله تعالى وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22].بمعنى "الباء" وتكون الباء لتعدية "جاء" ويكون "الملك" مفعولاً به، فيكون المعنى: وجاء ربك بالملك صفاً صفاً (8) تعالى الله عما يصفون. كبرت كلمةً تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً. تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً. هذه كانت نماذج من تأويلاتهم التي يدعون أنها موافقة للغة العربية!. وبعد هذا العرض نناقش الماتريدية في تعطيلهم لصفة "النزول" وتحريفهم لنصوصها، ونكتفي بذلك لئلا يطول بنا الكلام. ويكون كلامنا مع الماتريدية في مقامين: المقام الأول: في بيان فساد مذهب الماتريدية في صفة "النزول". وفيه أمور:-   (1) وانظر: ((تأويلات أهل السنة للماتريدي)) (1/ 436)، تحقيق د. محمد مستفيض الرحمن. (2) ((شرح المواقف)) للجرجاني مع حاشية حسن الجلبي عليه (8/ 25). (3) ((إشارات المرام)) (ص 189) للبياضي. (4) ((مقالات الكوثري)) (ص 349). (5) ((بحر الكلام)) لأبي المعين النسفي (ص 23). (6) انظر: ((تأويلات أهل السنة للماتريدي)) (1/ 83 - 85)، تحقيق الدكتور إبراهيم عوضين، والسيد عوضين، و (1/ 435 - 436)، تحقيق محمد المستفيض، و ((بحر العلوم)) لأبي الليث السمرقندي (1/ 612)، و ((مدارك التنزيل)) (1/ 133، 519)، و ((شرح المواقف)) (8/ 24)، و ((عمدة القاري)) (25/ 125)، ((إرشاد العقل السليم)) (1/ 212، 3/ 203)، و ((تلخيص الأدلة)) للصفار (ص242/أ). (7) ((بحر العلوم)) لأبي الليث السمرقندي (1/ 612)، ((المدارك)) (3/ 390)، ((شرح المواقف)) (8/ 24)، ((إشارات المرام)) (ص 189)، ((إرشاد العقل السليم)) (9/ 157). (8) ((تأويلات أهل السنة)) (1/ 84)، تحقيق الدكتور إبراهيم عوضين، والسيد عوضين، و (1/ 83)، تحقيق محمد المستفيض، وسكت على هذا التحريف هؤلاء جميعاً، وهذا يدل على ًأنهم خلطاؤه في هذا التحريف، فما أجدر هذا الكتاب أن يسمى تحريفات أهل البدع سبحان الله عما يصفون، إنا لله وإنا إليه راجعون!!!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 الأمر الأول: أن الماتريدية في تأويلاتهم لصفة "النزول" أتباع الجهمية الأولى فإنهم كانوا يؤولون بمثل تأويلات الماتريدية (1). وقد تقدم أن جميع هذه التأويلات الموجودة اليوم في كتب الماتريدية والأشعرية مأخوذ عن هؤلاء الجهمية الأولى. ولنعم ما قيل: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فإن القرين بالمقارن يقتدي وقد ذكر الإمام الترمذي (279هـ) رحمه الله حديث (النزول) ثم ذكر إجماع أئمة الإسلام على ما يدل عليه وقال:"وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات وقالوا: هذا التشبيه! " (2). وقد سئل الإمام شريك بن عبدالله ((177هـ) أن المعتزلة تنكر أحاديث النزول، فحدث بنحو عشرة أحاديث وقال:"أما نحن فقد أخذنا ديننا عن التابعين عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم عمن أخذوا؟! " (3).ولذلك قال الإمام عبدالله بن المبارك (181) هـ) الذي جعلته الكوثرية من كبار أئمة الحنفية (4)."من قال لك: "يا مشبه" فاعلم أنه جهمي" (5). الأمر الثاني: في بيان خروج الماتريدية على أحاديث النزول الصحيحة المحكمة المتواترة الصريحة. فأقول: استدل أئمة هذه الأمة على إثبات صفة "النزول" لله تعالى. بأحاديث كثيرة، أكتفي هنا بذكر ما في الصحيحين:   (1) انظر ((متشابه القرآن)) (ص 689)، و ((المختصر في أصول الدين ضمن رسائل العدل)) (ص 335)، و ((شرح الأصول الخمسة)) (ص 229 - 230)، كلها للقاضي عبدالجبار أحد أئمة الاعتزال، و ((الكشاف)) للزمخشري الحنفي المكنى بأبي المعتزلة ((1/ 353) وانظر: ((شرح حديث النزول)) (ص 37، 55)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 371، 397). (2) ((سنن الترمذي)) (3/ 41 - 42)، وانظر: ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص 451هـ) وحجة الله (1/ 63). (3) رواه البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص45)، وسكت عليه الكوثري، وانظر ((الفتح)) (3/ 30). (4) انظر ((فقه أهل العراق)) (ص 61). (5) رواه ابن منده كما في ((شرح حديث النزول)) (ص 53)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 393). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: "من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له)) (1).قلت: وهذا الحديث قطعي الدلالة على معناه لا يحتمل التأويل والمجاز، لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا)) إلى آخر الحديث صريح في معناه الحقيقي لا يحتمل التأويل إلا بالتحريف؛ لاشتماله على ما يؤكد الحقيقة وينفي المجاز (2).كما أنه قطعي الثبوت فإنه حديث متواتر تلقته الأمة بالقبول لفظه ومعناه، فقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تسعة وعشرين (3) من الصحابة الذين رووا هذا الحديث، ثم ذكر من أخرج (4) حديثهم من المحدثين كما ذكر أبو عبدالله محمد بن جعفر الكتاني ثلاثة عشر صحابياً من رواة هذا الحديث (5). وفيما يلي نصوص بعض الأئمة حول أحاديث النزول:   (1) رواه البخاري (1145) ومسلم (758) (2) لقد ذكر الإمام ابن القيم أربعة عشر وجهاً لتحقيق أن "النزول" على الحقيقة وإبطال احتمال المجاز فيه فراجعها، فإنه مهم غاية الاهتمام. ((مختصر الصواعق)) (2/ 378 - 382)، وانظر: ((شرح حديث النزول)) (35ص – 38). (3) ((مختصر الصواعق)) (3/ 386 - 398)، ((نظم المتناثر من الحديث المتواتر)) (ص 178 - 179)، وانظر: ((السنة)) لابن أبي عاصم (1/ 216 - 224)، و ((سنن الترمذي)) (2/ 308 - 309)، و ((التوحيد)) لابن خزيمة (1/ 289 - 327)، ((الشريعة)) للآجري (306 - 314)، ((كتاب النزول)) الدارقطني (ص 89 - 157)، ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) للالكائي (3/ 434 - 453)، ((عقيدة السلف)) للصابوني (ص 26 - 50)، و ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص 451). (4) ((مختصر الصواعق)) (3/ 386 - 398)، ((نظم المتناثر من الحديث المتواتر)) (ص 178 - 179)، وانظر: ((السنة)) لابن أبي عاصم (1/ 216 - 224)، و ((سنن الترمذي)) (2/ 308 - 309)، و ((التوحيد)) لابن خزيمة (1/ 289 - 327)، ((الشريعة)) للآجري (306 - 314)، ((كتاب النزول)) الدارقطني (ص 89 - 157)، ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) للالكائي (3/ 434 - 453)، ((عقيدة السلف)) للصابوني (ص 26 - 50)، و ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص 451). (5) ((مختصر الصواعق)) (3/ 386 - 398)، ((نظم المتناثر من الحديث المتواتر)) (ص 178 - 179)، وانظر: ((السنة)) لابن أبي عاصم (1/ 216 - 224)، و ((سنن الترمذي)) (2/ 308 - 309)، و ((التوحيد)) لابن خزيمة (1/ 289 - 327)، ((الشريعة)) للآجري (306 - 314)، ((كتاب النزول)) الدارقطني (ص 89 - 157)، ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) للالكائي (3/ 434 - 453)، ((عقيدة السلف)) للصابوني (ص 26 - 50)، و ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص 451). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 1 - قال حافظ المغرب ابن عبدالبر (463هـ):"وهو حديث منقول من طرق متواترة، ووجوه كثيرة من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم" (1).2 - وقال شيخ الإسلام: "فإن هذا القول الذي قاله قد استفاضت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، واتفق سلف الأمة وأئمتها، وأهل العلم بالسنة والحديث على تصديق ذلك، وتلقيه بالقبول ... والنبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام وأمثاله علانية وبلغه الأمة تبليغاً عاماً لم يخص به أحداً دون أحد ولا كتمه عن أحد وكان الصحابة والتابعون تذكره وتأثره وتبلغه، وترويه في المجالس الخاصة والعامة، واشتملت عليه كتب الإسلام التي تقرأ في المجالس الخاصة والعامة ... " (2).3 - وقال الذهبي: "وأحاديث نزول الباري متواترة قد سقتُ طرقها وتكلمتُ عليها بما أُسئل عنه يوم القيامة" (3).وقال: "وقد ألفت أحاديث النزول في جزء وذلك متواتر أقطع به" (4). 4 - وقال الإمام ابن القيم: "إن نزول الرب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا قد تواترت الأخبار به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه عنه نحو ثمانية وعشرين نفساً من الصحابة، وهذا يدل على أنه كان يبلغه في كل موطن ومجمع، فكيف تكون حقيقته محالاً وباطلاً؟! وهو صلى الله عليه وسلم، يتكلم بها دائماً ويعيدها ويبديها مرة بعد مرة، ولا يفرق باللفظ ما يدل على مجازه بوجه ما، بل يأتي بما يدل على إرادة الحقيقة ... " (5).وقال: " ... قد تواترت به الأحاديث والآثار .... " (6).فأحاديث النزول هذه كما عرفتم قطعية الثبوت وقطعية الدلالة وليست من الوحدان، المفاريد، والمناكير بل من قبيل المتواتر والمشاهير ومفيدة للعلم القطعي اليقيني حتى باعتراف الكوثري فقد اعترف الكوثري: "أن الأخبار المحتج بها في الصفات إنما هي الصحاح المشاهير، دون الوحدان والمفاريد، والمناكير، والمنقطعات، والضعاف، والموضوعات ... " (7). وقد ذكرنا اعتراف كثير من الحنفية الماتريدية والكوثرية بأن خبر الواحد المحتف بالقرائن ومنه أحاديث (الصحيحين) ومنه ما تلقته الأمة بالقبول مفيد للعلم القطعي اليقيني. الأمر الثالث: في خروج الماتريدية على إجماع سلف هذه الأمة وأئمة السنة ولاسيما الإمام أبو حنيفة وأصحابه القدماء. نصوص أئمة السنة في تحقيق صفة النزول خارجةٌ عن نطاق الحصر ولكن نورد ههنا بعض نصوص الإمام أبي حنيفة لتعتبر منه الماتريدية، كما نورد نصوص بعض الأئمة الآخرين لبيان أن عقيدة السلف عقيدة واحدة لم يختلف منهم اثنان وفيما يلي بعض النصوص. 1 - الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى (150هـ).سئل الإمام أبو حنيفة عنه - يعني النزول - فقال: "ينزل بلا كيف" (8).   (1) ((التمهيد)) (7/ 128). (2) ((شرح حديث النزول)) (ص 5، 9)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 322 - 323، 374). (3) ((العلو)) (ص 73، 79)، وأقره شيخنا الألباني في ((مختصر العلو)) (ص 110، 116). (4) ((العلو)) (ص 73، 79)، وأقره شيخنا الألباني في ((مختصر العلو)) (ص 110، 116). (5) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 380، 398)، الطبعة الجديدة، (و (2/ 221) الطبعة القديمة و (ص 366، 383)، ط/ دار الكتب العلمية. (6) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 380، 398)، الطبعة الجديدة، (و (2/ 221) الطبعة القديمة و (ص 366، 383)، ط/ دار الكتب العلمية. (7) ((تبديد الظلام)) (ص 133، 52، 121، 152). (8) ذكره الإمام الصابوني عن الأستاذ أبي منصور بن حماد في ((عقيدة السلف أصحاب الحديث)) (ص 42)، والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص 456)، وسكت عليه الكوثري، والإمام ابن أبي العز في ((شرح الطحاوية)) (ص 245)، والملا علي القاري في ((شرح الفقه الأكبر)) (ص 60). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 فهذا نص صريح من الإمام أبي حنيفة فهو أثبت صفة النزول بلا تكييف ولا تمثيل، ولم يقل: إن أحاديث النزول أخبار الآحاد ولم يقل: إن المراد الملك أو نزوله أو الرحمة أو الأمر أو غير ذلك، فلم يفوض ولم يؤول ولم يشبه ولم يحرف ولم يعطل. 2 - حماد ابن الإمام أبي حنيفة (176هـ). قال الإمام أبو عثمان بن عبدالرحمن المعروف بشيخ الإسلام الصابوني (449هـ): "قرأت لأبي عبدالله بن أبي حفص البخاري - وكان شيخ بخارى في عصره بلا مدافعة، وأبو حفص كان من كبار أصحاب محمد بن الحسن الشيباني - قال أبو عبدالله- أعني ابن أبي حفص هذا -: سمعت محمد بن الحسن الشيباني يقول: قال حماد بن أبي حنيفة قلنا لهؤلاء - (يعني الجهمية): أرأيتم قول الله عز وجل: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] قالوا: أما الملائكة فيجيئون صفاً صفاً، وأما الرب تعالى فإنا لا ندري ما عني بذلك؟ ولا ندري كيف مجيئه؟ فقلت لهم: إنا لم نكلفكم أن تعلموا كيف جيئته؟.ولكنا نكلفكم أن تؤمنوا بمجيئه، أرأيتم من أنكر أن الملك يجيء صفاً صفاً ما هو عندكم؟ قالوا: كافر مكذب، قلت: فكذلك إن أنكر أن الله سبحانه يجيء فهو كافر مكذب" (1).   (1) انظر: ((عقيدة السلف أصحاب الحديث)) للصابوني (ص 49)، و ((ضمن مجموعة الرسائل المنيرية)) (1/ 118). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 قلت: وهذا إسناد في غاية من الصحة والإتقان والإيقان ورجاله جبال شامخات والأئمة الأعلام للحنفية. سبحان الله!!! أئمة الحنفية القدامى يكفرون من أنكر صفة المجيء لله تعالى والاعتراف بصفة المجيء يستلزم الاعتراف بصفة النزول فالقائل بالأولى قائل بالثانية؛ لأنه لا قائل بالفصل، ولكن الماتريدية قالوا: "لا يجوز أن يوصف الله بالمجيء والذهاب لأنها من صفات المخلوقين" (1).3 - إمام المحدثين عبدالله بن المبارك (181هـ) الذي تجعله الحنفية من أئمة الحنفية (2) وجعله الكوثري والكوثرية من كبار الحفاظ والمحدثين من الحنفية ومن أخص أصحاب أبي حنيفة (3)، مع أن الأمر ليس كذلك بل هو إمام من أئمة المسلمين محدث فقيه مجتهد وليس بحنفي البتة ولكن كلامه في النزول مهم جداً فنذكره حجةً على الحنفية الماتريدية ولاسيما الكوثرية. فقد سئل عبدالله بن المبارك: "يا أبا عبدالرحمن كيف ينزل؟ " فقال ابن المبارك: "ينزل كيف يشاء" (4).4 - وقال الإمام محمد بن الحسن الشيباني (189هـ) أحد الأئمة الثلاثة للحنفية حول أحاديث النزول ونحوها: "إن هذه الآحاديث قد روتها الثقات فنحن نرويها ونؤمن بها، ولا نفسرها" (5). 5 - وقال أيضاً: "اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على أن الإيمان بالقرآن والآحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في صفة الرب عز وجل من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه فمن فسر اليوم شيئاً من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وفارق الجماعة، فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا فمن قال بقول الجهم فقد فارق الجماعة لأنه قد وصفه بصفة لا شيء". وعلق عليه شيخ الإسلام قائلاً: "وثبت عن محمد بن الحسن ... فانظر رحمك الله إلى هذا الإمام كيف حكى الإجماع في هذه المسألة، ولا خير فيما خرج عن إجماعهم، ولو لزم التجسيم من السكوت عن تأويلها لفروا منه وأولوا، فإنهم أعرف الأمة بما يجوز على الله وما يمتنع عليه" ().6 - الإمام الزاهد الفضيل بن عياض (187هـ) الذي يعده الحنفية من كبار الأئمة الحنفية، ويقولون: أخذ عن الإمام أبي حنيفة وأخذ عنه الإمام الشافعي روي له البخاري ومسلم (6). فقد قال الفضيل بن عياض: "إذا قال لك الجهمي: "أنا أكفر برب ينزل.   (1) ((بحر الكلام)) لأبي المعين النسفي (ص 22)، وانظر: ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص 22). (2) ((الجواهر المضية)) (2/ 324 - 326)، ((الفوائد البهية)) (ص 103)، و ((مقدمة الكوثري/ لنصب الراية وفقه أهل العراق له)) تحقيق أبي غدة وتقريظ البنوري (ص 61). (3) ((الجواهر المضية)) (2/ 324 - 326)، ((الفوائد البهية)) (ص 103)، و ((مقدمة الكوثري/ لنصب الراية وفقه أهل العراق له)) تحقيق أبي غدة وتقريظ البنوري (ص 61). (4) رواه أبو سليمان الخطابي كما قال البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص 453)، وشيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني في ((عقيدة السلف أصحاب الحديث)) (ص 29)، ومن طريقة البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص 453)، وسكت عليه الكوثري، فلم يستطع أي قدح في صحته عن ابن المبارك مع غلوه في التعطيل والقدح في الصحاح لدائه الجهمي. (5) رواه اللالكائي في ((شرح اعتقاد أهل السنة)) (3/ 433)، ومن طريقه ابن قدامة المقدسي في ((ذم التأويل)) (ص 14)، وفي ((إثبات صفة العلو)) (ص 117)، والذهبي في ((العلو)) (ص 113)، وانظر: ((مختصر العلو)) للألباني: وأقره الكوثري في ((بلوغ الأماني)) (ص 53)، وتعليقاته على ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص 314)، وأبو الخير في ((عقيدة الإسلام)) (ص 240). (6) ((الجواهر المضية)) (2/ 700/702). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 فقل أنت: أنا أومن برب يفعل ما يشاء".7 - إمام الجرح والتعديل يحيى بن معين (233هـ) الذي تجعله الكوثرية من كبار أئمة الحنفية بل تجعله حنفياً متعصباً وتبجله وتعظمه (1) مع أن عدّه حنفياً خطأ، بل هو مجتهد من أئمة أهل الحديث (2) ومع ذلك كله كلام هذا الإمام حجة على الماتريدية والكوثرية - فقد قال هذا الإمام: "إذا سمعت الجهمي يقول: أنا كفرت برب ينزل. فقل: أنا أؤمن برب يفعل ما يريد". 8 - ورواية أخرى عن يحيى بن معين تؤيد هذه: "إذا قال لك الجهمي": وكيف ينزل؟ فقل: كيف يصعد؟ ".وعلق عليها الذهبي: "الكيف في الحالين منفي عن الله تعالى" (3).9 - الإمام حماد بن زيد (179هـ) وهو للعراقيين نظير مالك للحجازيين في الجلالة والعلم (4). فقد سئل: "يا أبا إسماعيل: الحديث الذي جاء، ينزل الله إلى السماء الدنيا، يتحول من مكان إلى مكان؟ فسكت حماد بن زيد ثم قال: هو في مكانه يقرب من خلقه كيف يشاء". 10 - الإمام إسحاق بن راهويه عالم خراسان (338هـ): فقد قال جمعني وهذا المبتدع - يعني إبراهيم بن أبي صالح - مجلس عبدالله بن طاهر فسألني الأمير عن أخبار النزول فسردتها، فقال إبراهيم: كفرت برب ينزل من سماء إلى سماء، فقلت: آمنت برب يفعل ما يشاء". 11 - وقد ذكر الإمام أبو الحسين محمد بن أحمد الملطي (377هـ) عن الإمام أبي عاصم خشيش بن أصرم (253هـ) ما فيه عبرة للماتريدية وقمع شبهات الجهمية. تنبيه: نصوص هؤلاء الأئمة تبطل شبهة المعطلة القديمة والحديثة وهي: أنه يلزم من النزول الانتقال، والزوال، والأقوال لله تعالى والله منزه عنها. فأنت ترى نصوص هؤلاء الأئمة ترد كيد الجهمية في نحورهم حيث صرحوا بأن الله يفعل ما يشاء فلا يجوز إبطال صفات الله تعالى بتهولات الجهمية ولا بتسمياتهم المدهشة. 12 - الإمام أبو الحسن الأشعري إمام الأشعرية (324هـ) الذي جعله كثير من الحنفية، والكوثري في عداد الحنفية. فقد أقر أحاديث النزول وجعلها من الأدلة على علو الله تعالى على خلقه واستوائه على عرشه وصنيعه هذا يقطع دابر المحرفين لأحاديث النزول (5). 13 - الإمام ابن عبدالبر (463هـ) فقد قال هذا الإمام بعد ذكر حديث النزول: "هذا حديث ثابت من جهة النقل، صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته، رواه أكثر الرواة عن مالك وهكذا .. ، وهو حديث منقول من طرق متواترة، ووجوه كثيرة، من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم ... وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش فوق سبع سماوات كما قالت الجماعة: وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم:"إن الله عز وجل في كل مكان، وليس على العرش ... " (6). 14 - وقال الحافظ ابن حجر (852هـ): في حديث النزول:"ومنهم من أنكر صحة الأحاديث الواردة في ذلك جملة وهم الخوارج والمعتزلة، وهو مكابرة، والعجب أنهم أولوا ما في القرآن من نحو ذلك، وأنكروا ما في الحديث إما جهلاً وإما عناداً ... " (7).   (1) انظر: ((مقدمة الكوثري لنصب الراية)) (للزيلعي (ص 42)، و ((فقه أهل العراق)) للكوثري (ص 64)، وأقره البنوري. (2) انظر ((مقدمة الدكتور أحمد محمد نور سيف لتاريخ بن معين)) (1/ 31 - 34). (3) ((العلو)) (ص 129)، و ((مختصر العلو)) للألباني (ص 188)، رواها ابن بطة في ((الإبانة)) كما في ((اجتماع الجيوش)) (ص 141). (4) ((العلو/ للذهبي)) (ص 107)، و ((مختصره)) للألباني (ص 147). (5) انظر: ((الإبانة)) للأشعري (2/ 110 - 112)، تحقيق د/ فوقية، و (ص 88)، تحقيق الأرناؤوط، ط/ دار البيان، بيروت، و (ص 122) ط/ الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية. (6) ((التمهيد)) (7/ 128 - 129). (7) ((فتح الباري)) (3/ 30). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 قلت: هذه كانت نماذج من درر غرر أئمة الإسلام في صفة "النزول" ونصوصها. الحاصل: أنه قد تبين للقراء الكرام في ضوء ما عرضنا من نصوص الأئمة الحنفية وغيرهم من أئمة هذه الأمة ما يلي: 1 - أن تعطيل صفة النزول وتحريف نصوصها أو إنكارها من بدع الجهمية وأذيالهم. 2 - أن السلف الصالح ولاسيما أئمة الحنفية أبو حنيفة وأصحابه القدامى قد أثبتوا لله تعالى صفة النزول، على منهج إثباتهم للصفات الأخرى بلا تكيف ولا تمثيل ولا تأويل، ولا تعطيل ... 3 - أن الحنفية الماتريدية مخالفون لإمامهم أبي حنيفة وأصحابه الأوائل والسلف عامة وأنهم خارجون على إجماعهم وليس لهم أي صلة بعقيدتهم وأنهم أتباع الجهمية الأولى. المقام الثاني: في إبطال شبهاتهم حول نصوص صفة "النزول". لقد عطل طوائف من المعطلة من الجهمية الأولى إلى الماتريدية صفة نزول الله تعالى وحرفوا نصوصها بأنواع من التأويلات والمجاز فراراً عن التشبيه وتحقيقاً للتنزيه على زعمهم. فمن تلك التأويلات: أن المراد نزول الأمر، أو نزول الملك. وركز الكوثري في تحريفاته وتعطيله لصفة النزول على أمور أربعة: الأول: رواية النسائي عن أبي هريرة وأبي سعيد بلفظ: ((إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر منادياً ينادي يقول: هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل يُعطى)) (1).قال الكوثري: " ... أو أن يحمل الحديث على المجاز في الطرف أو في الإسناد بل الأخير هو المتعين لحديث النسائي المذكور فيخرج حديث النزول من عداد أحاديث الصفات بالمرة عند من فكر وتدبر تعالى الله عن النقلة التي يقول بها المجسمة" (2). الثاني: رواية عن الإمام مالك رواها حبيب بن أبي حبيب كاتب مالك قال: "سئل مالك بن أنس عن قول النبي صلى الله عليه وسلم ((ينزل ربنا ... )) قال ينزل أمره، كل سحر وأما هو فهو دائم لا يزول وهو بكل مكان".ودافع الكوثري عن "حبيب" هذا (3).الثالث: رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى رواها عنه حنبل أنه قال "ينزل قدرته" (4).الرابع: أي لفظ الحديث: "يُنْزِل" بضم أوله وكسر الزاي المعجمة من باب الإفعال على حذف المفعول: أي ينزل ملكاً، ويقويه حديث النسائي ((ثم يأمر منادياً)) (5) (6). قلت: هذه أربعة معاول للكوثري وقَبْلَه لطوائف المعطلة من الماتريدية وغيرهم هدموا بها نصوص صفة "النزول" وعطلوها بها. ولنا عن هذه الشُّبَهِ جوابان إجمالي وتفصيلي: أما الإجمالي: فنقول: لقد حققنا بالبراهين القاطعة الساطعة الناصعة أن تأويل الصفات أولاً: دخيل على المسلمين من الجهمية الأولى وليس ذلك من منهج السلف في شيء وأنه بدعة محضة في الإسلام ومخالف لإجماع أئمة هذه الأمة، ولاسيما نصوص الإمام أبي حنيفة وأصحابه الأوائل.   (1) رواه النسائي في ((الكبرى)) (6/ 124) وأبو يعلى (10/ 342) (5936) قال ابن تيمية في ((الفتاوى)) (5/ 384) موضوع، وقال الألباني في ((الضعيفة)) (3897) منكر بهذا اللفظ (2) ((تبديد الظلام)) (ص 90، 53)، و ((مقالات الكوثري)) (ص 349)، و ((تعليقاته على الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص 449 - 450)، وتعليقاته على كتاب ((التنبيه والرد ... )) لأبي الحسين محمد بن أحمد الملطي (ص 109). (3) ((تبديد الظلام)) للكوثري ((مع السيف الصقيل)) للسبكي (ص 112 - 113). (4) ((تبديد الظلام)) للكوثري (ص 53)، و ((تعليقاته على الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص 448). (5) رواه النسائي في ((الكبرى)) (6/ 124) وأبو يعلى (10/ 342) (5936) قال ابن تيمية في ((الفتاوى)) (5/ 384) موضوع، وقال الألباني في ((الضعيفة)) (3897) منكر بهذا اللفظ (6) (تعليقاته على الأسماء والصفات)) (ص 449 - 450). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 وثانيا: أن التأويل تحريف لنصوص الصفات والتحريف ميراث اليهود. وثالثاً: أن التأويل تعطيل لصفات الله العليا وإبطالها حتى بنص الإمام أبي حنيفة، إلى غيرها من الوجوه التي ذكرناها لإبطال التأويل. وقد ذكر شيخ الإسلام والإمام ابن القيم وجوها كثيرة لإبطال تأويل صفة النزول وأن أحاديث النزول نصوص صريحة لا تحتمل التأويل. وأما الجواب التفصيلي: فنجيب عن الشبهة الأولى: أولاً: أن رواية النسائي: ((يأمر منادياً ينادي ... )) رواية شاذة مخالفة لما استفاض وتواتر وتلقته الأمة بالقبول من أن القائل: ((من يدعوني .. من يسألني، من يستغفرني ... )) هو الله تعالى الذي استوى على عرشه فوق عباده العالي على خلقه وأن الذي ينزل هو الله تعالى ومن المقرر في علم مصطلح الحديث: "أن الضعيف لا يعل به (1) الصحيح. " فلا يصح كون رواية النسائي هذه حاكمة على اللفظ المتواتر المستفيض المتلقى بالقبول المسجل في أمهات دواوين الإسلام من الصحيحين والسنن والمسانيد وغيرها. ثانياً: أنه لو سلم صحة تلك الرواية فلا منافاة بينها وبين أحاديث نزول الله تعالى، فالله سبحانه وتعالى ينزل هو، كما يأمر ملكاً ينادي أيضاً. قال شيخ الإسلام: " ... فإن هذا إن كان ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الرب يقول: ذلك ويأمر منادياً بذلك، لا أن المنادي يقول: ((من يدعوني فأستجيب له))، ومن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن المنادي يقول ذلك فقد علمنا أنه يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه - مع أنه خلاف اللفظ المستفيض المتواتر الذي تلقته الأمة خلفاً عن سلف - فاسدٌ في المعقول فعلم أنه من كذب بعض المبتدعين ... " (2). والجواب عن الشبهة الثانية: أن هذه الرواية عن مالك باطلة عاطلة موضوعة مصنوعة فراويها حبيب بن أبي حبيب (218هـ) قال فيه الإمام أحمد: "كان يكذب. وقال أبو داود: "كان يكذب. وقال أبو داود: "كان من أكذب الناس" وقال النسائي وأبو حاتم والأزدي: "متروك الحديث" وقال ابن حبان: "أحاديثه كلها موضوعة، عامة حديثة موضوع المتن مقلوب الإسناد لا يحتشم في وضع الحديث على الثقات، وأمره بين الكذب" وقال النسائي: "يضع الحديث، متروك، أحاديثه موضوعة عن مالك وغيره". وقال محمد بن سهل: "كتبنا عنه عشرين حديثاً وعرضناها على ابن المديني قال: كله كذب" وقال أبو حاتم: "روي عن ابن أخي الزهري أحاديث موضوعة"، وقال ابن عدي: "أحاديثه كلها موضوعة" (3).قلت: والكلام فيه واسع الذيل فهل يعتمد الكوثري في تحريف نصوص الصفات وتعطيلها بمثل هؤلاء الكذابين الوضاعين؟؟!! وهذه حقيقة اعترف بها عبدالله الغماري صديق (4) الكوثري ومشربيُّه في البدع. وقال الإمام ابن القيم: " ... ؛ فإن المشهور عنه - (أي مالك) - وعن أئمة السلف إقرار نصوص الصفات والمنع من تأويلها ... وهذه الرواية لها إسنادان أحدهما من طريق حبيب كاتبه، وحبيب هذا غير حبيب، بل هو كذاب وضاع باتفاق أهل الجرح والتعديل، ولم يعتمد أحد من العلماء على نقله، والإسناد الثاني فيه مجهول لا يعرف حاله ... " (5). والجواب عن الشبهة الثالثة: أن الإمام ابن القيم رحمه الله ذكر في الجواب عن هذا الرواية عن الإمام أحمد:   (1) انظر: ((فتح الباري)) (4/ 365). (2) ((شرح حديث النزول)) (ص 37)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 372). (3) ((ضعفاء النسائي)) (ص 90)، و ((الجرح)) (3/ 100)، و ((المجروحين)) (1/ 265)، و ((الكامل)) (2/ 818) و ((الميزان)) (1/ 452)، و ((التهذيب)) (5/ 366)، و ((تهذيبه)) (2/ 181)، و ((تقريبه)) (ص 150). (4) ((تعليقاته على التمهيد)) لابن عبدالبر (7/ 143). (5) ((مختصر الصواعق)) (2/ 407) ط/ الجديدة، و (391) ط/ العلمية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 أولاً: أنها رواية شاذة مخالفة لجادة مذهبه وأنها غلط عليه فإن حنبلاً تفرد بها عنه، وهو كثير المفاريد المخالفة للمشهور من مذهبه هذا إذا كان في مسائل الفروع فكيف في أصول العقائد؟ وثانياً: أنه لو سلم صحتها تحمل على أن الإمام قد رجع عنها كما هو صريح منه في أكثر الروايات. وثالثا: أن الإمام قال ذلك على سبيل المعارضة للجهمية القائلين بخلق القرآن، فإنهم لما استدلوا بإتيان القرآن على أنه مخلوق فعارضهم الإمام أحمد إسكاتاً لهم وإلزاماً عليهم أن المراد إتيان ثوابه كما أنكم تقولون في إتيان الله "إتيان أمره" لا أنه يعتقد ذلك، والمعارضة لا تستلزم اعتقاد المعارض صحة ما عارض به (1). والله أعلم. والجواب عن الشبهة الرابعة: أن تحريف "يَنْزِل" إلى "يُنْزِل" ليس إلا من تحريفات اليهود الكذابين الأفاكين البهاتين على الأنبياء والمرسلين، إن لم نقل أنه شر من تحريفاتهم. فلم يوجد لفظ "يُنزِلُ" في شيء من كتب السنة ولم يروه أحد من أئمة السنة فليس هذا من حديث سيد المرسلين الذي لا يكون إلا وحياً من رب العالمين بل هو "يُنْزِلُ" من وحي الشيطان لا من وحي الرّحمن؛ فقد انقطع الوحي إلا وحي الشياطين شياطين الفلاسفة والمتكلمين. قال شيخ الإسلام: " ... يعلم أنه من كذب بعض المبتدعين كما روى بعضهم: "يُنْزِل" بالضم، وكما قرأ بعضهم وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] ونحو ذلك من تحريفهم اللفظ والمعنى" (2). الحاصل: أن هذه التأويلات كلها من تأويلات الجهمية الأولى التي ورثتها أذيالهم من المعتزلة والماتريدية وغيرهم. قال شيخ الإسلام: "وهذا تأويل من تأويلاتهم القديمة فإنهم تأولوا تكليم الله لموسى، بأنه أمر ملكاً فكلمه .... " (3).وقال: "والصواب أن جميع هذه التأويلات مبتَدَعَةٌ لم يقل أحد من الصحابة شيئاً منها، ولا أحد من التابعين لهم بإحسان، وهي خلاف المعروف المتواتر عن أئمة السنة والحديث، أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة .... " (4). قلت: وفيما ذكرنا كفاية ... لمن يطلب الحق ويريد الهداية أما أهل العناد والتخريف ... والمكابرة والهوى والتحريف فلا يُنّبهُهُمْ عن سباتهم إلا نفخةُ الصور ... لأنهم غريقون عريقون في الديجور المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني 30/ 3   (1) ((مختصر الصواعق)) (2/ 406 - 407) ط/ الجديدة. (2) ((شرح حديث النزول)) (ص 37)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 372). (3) ((شرح حديث النزول)) (ص 37، 62)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 371، 409). (4) ((شرح حديث النزول)) (ص 37، 62)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 371، 409). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 المبحث السابع: الرد على الماتريدية في تعطيلهم لصفة "اليدين" لله تعالى وتحريفهم لنصوصها بيان موقف الماتريدية من هذه الصفة: من صفات الله تعالى الثابتة له سبحانه بالكتاب والسنة الصحيحة صفة "اليدين" ومذهبُ الماتريدية فيها تبعاً للجهمية الأولى مذهبٌ تعطيلٍ وتحريفٍ. بشبهة "التشبيه" حيث إنهم فهموا من هذه الصفة ما يفهم من صفات المخلوق فزعموا أن "الوجه" و"العين" و"اليدين" و"اليمين" و"الأصابع" والساق و"القدم" ونحوها أعضاء وجوارح. فلو قلنا بإثبات ذلك يلزم كونه تعالى متبعضاً متجزياً مركباً، وغير ذلك من اللوازم الباطلة. وبناء على هذا الفهم عطلوا هذه الصفة وحرفوا نصوصها إلى أنواع من المعاني المجازية بشتى طرق التأويل. فأما صفة "اليدين"فقد قال الإمام أبو منصور الماتريدي في تأويل "اليدين" في تفسير قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 4] "نعمه مبسوطة" (1). ومن أشنع تحريفاتهم قوله تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ [ص: 75]. قولهم: "أي خلقته بالذات من غير توسط أب وأم. والتثنية - (تثنية اليد بذكر اليدين) - لإبراز كمال الاعتناء بخلقه عليه الصلاة والسلام" (2).وقالوا: المراد من "اليدين" غاية الجود والسخاء (3).أو المراد: منحه تعالى لنعمتي الدنيا والآخرة (4).أو كمال القدرة (5). وأما صفة "اليد":فقالوا: المراد من "اليد" النعمة والقدرة (6).أو الملك (7).أو التصرف (8). وأما صفة "اليمين":فحرفوها إلى "القدرة التامة" (9).أو "عظمة الله تعالى" (10). وأما صفة "الكف":فيحرفونها إلى "التدبير" (11). وأما صفة الأصابع: فيحرفونها إلى "القدرة" (12). وأما صفة "القبضة":فيزعمون أن هذا "مجرد تصوير عظمة الله والتوقف على كنه جلاله لا غير من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقيةٍ أو جهةِ مجاز" (13).أو أن هذا تمثيل وتخيل لتخريب العالم من غير اعتبار القبضة، واليمين لا حقيقةً ولا مجازاً" (14). هذا هو بيانٌ إجماليٌ لمذهب الماتريدية في هذه الصفات ونصوصها والذي يهمنا هو مناقشتنا إياهم في تعطيلهم لصفة "اليدين" وتحريفهم لنصوصها وبإبطال مذهبهم فيها يظهر بطلان مذهبهم في تلك الصفات الأخرى. فنقول وبالله التوفيق: مناقشتنا للماتريدية من طريقين: إجمالية، وتفصيلية. أما المناقشة الإجمالية: فأولاً: نقول: لقد سبق أن أبطلنا شبهة "التشبيه" في فصل مستقل.   (1) ((تأويلات أهل السنة)) مخطوط دار الكتب المصرية. (2) ((إرشاد العقل السليم)) (7/ 236)، وانظر: ((مدارك التنزيل)) (3/ 204)، و ((تعليقات الكوثري على الأسماء والصفات)) (ص 317). (3) ((مدارك التنزيل)) (1/ 423)، ((إرشاد العقل السليم)) (3/ 58). (4) ((إرشاد العقل السليم)) (3/ 85). (5) ((إشارات المرام)) (189). (6) ((تلخيص الأدلة)) للصفار (ص 240/أ) مخطوط المكتبة الأزهرية بالقاهرة و ((شرح المواقف)): (8/ 111)، و ((حاشية الخيالي على شرح العقائد)) (ص 58)، و ((حاشية الكستلي عليه))، (ص 74)، و ((إشارات المرام)) (ص 189)، و ((نشر الطوالع)) (ص 262)، و ((تعليقات الكوثري على الأسماء والصفات)) (ص 316). (7) ((بحر الكلام)) لأبي المعين النسفي (ص 20). (8) ((مدارك التنزيل)) (3/ 556). (9) ((شرح المواقف)) (8/ 113)، ((إشارات المرام)) (ص 189)، ((نشر الطوالع)) (ص 262). (10) ((مدارك التنزيل)) (3/ 232)، ((إرشاد العقل السليم)) (7/ 262). (11) ((شرح المواقف)) (8/ 114). (12) ((شرح المواقف)) (8/ 113)، ((عمدة القاري)) (25/ 108، 168)، و ((نشر الطوالع)) (ص 262). (13) ((مدارك التنزيل)) (3/ 232) (14) ((إرشاد العقل السليم)) (7/ 262). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 وهي شبهة قديمة للجهمية الأولى واستمرت في أذهان المعطلة إلى يومنا هذا. وهذا هو الدافع للمعطلة على تعطيل صفات الله تعالى وتحريف ونصوصها. ثانياً: نقول: إن ما تشبثوا به - من شبهة أن "اليدين" و"اليد" و"الأصابع" ونحوها جوارح وأعضاء. فلو أثبتنا ذلك لله تعالى يلزم كونه متجزياً متبعضاً متركباً ذا أبعاض وجوارح وأعضاء - باطلٌ قطعاً. لما ذكرنا أن كل صفة إذا أضيفت إلى موصوفٍ فهي على ما تناسبه وتستحقه وتلائمه حتى باعترافهم. ومن المعلوم أن صفاتنا منها ما هي أعيان وأجسام وهي أبعاض لنا، كالوجه، واليدين والرجلين، ونحوها. ومنها ما هي معانٍ وأعراضٌ لنا. كالسمع والبصر والكلام ونحوها. ونحن وأنتم متفقون على أن "علم الله تعالى" و"بصره" و"سمعه" و"كلامه" ونحوها صفاتٌ لله تعالى وليست أعراضاً له تعالى. فكذلك قولوا: في "الوجه" و"اليدين" و"الأصابع" ونحوها: إنها صفاتٌ لله تعالى وليست أجساماً ولا جوارح ولا أبعاضاً وأعضاء له سبحانه وتعالى. وإلا يلزمكم أن تقولوا: إن "سمع الله تعالى"، و"بصره" و"علمه" و"قدرته" ونحوها أعراضٌ قائمةٌ بالله تعالى. فإذا كنتم لا تعطلون تلك - فلم تعطلون هذه؟. وإذا عطلتم هذه - يلزمكم أن تعطلوا تلك أيضاً. لأن الشبهة المذكورة قائمة من النوعين على السواء: ثالثاً: نقول: لقد بينا تفصيلاً في فصل التأويل أن مقالة تأويل الصفات بدعة في الإسلام وخروج على إجماع سلف هذه الأمة وأئمة السنة، وأنها في الأصل مقالة الكفار راجت على بعض المسلمين من طريق الجهمية الأولى، وأنها تستلزم تعطيل صفات الله تعالى وتحريف نصوصها، وأنها باب إلى زندقة القرامطة الباطنية وإلحادهم، مع كون تعطيل صفات الله تعالى وتحريف نصوصها زندقةً وإلحاداً أيضاً. وأما المناقشة التفصيلية: فنقف فيها مع الماتريدية وقفات: الوقفة الأولى: أننا قد ذكرنا نصوص الإمام أبي حنيفة (150هـ) وكبار أئمة الماتريدية، كفخر الإسلام البزدوي (482هـ) وشمس الأئمة السرخسي (490هـ) وحافظ الدين النسفي (710هـ) وعلاء الدين البخاري (730هـ) وأبو المنتهى المغنيساوى (كان حيا سنة (939هـ) والملا على القاري (1014هـ) وشيخ زاده (1078هـ) والعلامة الكشميري (1352هـ) على أن تأويل "اليد" بالقدرة أو بالنعمة، يستلزم محذورين: أحدهما: أنه قول أهل القدر والاعتزال، وليس من قول أهل السنة في شيء. ثانيهما: أنه إبطال لصفة الله تعالى "اليد" وهو تعطيل وتحريف. فلا حاجة إلى إعادتها. وفي ذلك عبرة بالغة للماتريدية لو كانوا يعلمون. فإن نصوص الأئمة الحنفية وعلى رأسهم الإمام أبو حنيفة صريحة بأن من أول صفةً بصفةٍ أخرى فقط عطل وحرف وخرج من أهل السنة والجماعة والتحق بالجهمية. فهل يمكن لأحد أن يعد الماتريدية وخلطائهم في عداد أهل السنة والجماعة؟؟. الوقفة الثانية: أن الماتريدية وزملاءهم الأشعرية اشترطوا في صحة التأويل أن يكون موافقاً للغة العربية وإلا يكون تحريفاً قرمطياً محضاً. فنقول لهم: في ضوء اعترافهم أن تأويلاتكم لصفة "اليدين" ونحوها، وتحريفها إلى النعمة والقدرة ونحوها، من قبيل تأويلات الباطنية، ولا تساعدها اللغةُ البتة. بل ورود الكف، والأصابع، والقبضة، واليمين، ولفظ اليدين بصيغة التثنية، ولفظة "بيدي" بعد لفظة "خلقت" يمنع إرادة التأويل ويدفع المجاز ويعين إرادة الحقيقة بلا شك. ولأجل هذه النكتة استدل أئمة السنة بعدة أحاديث على إثبات اليدين حقيقةً لله تعالى ()، فإنه لم يرد لفظه "اليد" فقط بل ورد معها ما يتعلق باليد من الكف، والقبضة، والأصابع، واليمين، كما ورد "اليدان" بصيغة التثنية. ولا يقال في اللغة العربية: "علمته بيديّ" إلا إذا باشر ذلك العمل بيديه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 والكلام يحمل على الحقيقة على ما هو الأصل ولو لم يكن قرائن الحقيقة، فكيف إذا تظافرت القرائن الموجبة لحمله على الحقيقة. وإلا لكان هذا مستلزماً لإفساد نظام اللغة وإبطال التفاهم بين الناس وقلب الحقائق وتبديل الشرائع وهذا هو هدف الباطنية. وإليك أيها القارئ الكريم نصوصاً لبعض كبار الأئمة الذين يعترف الماتريدية بفضلهم لتكون شاهدةً لما قلنا وحجةً قاهرة باهرةً على الماتريدية: 1 - قال الإمام أبو الحسن الأشعري (324هـ) بعد ما ذكر أدلة كثيرة على إثبات اليدين لله تعالى: " ... ولا يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل: "عملت كذا بيدي" ويعنى به النعمة، وإذا كان الله عز وجل إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري مفهوما في كلامها، ومعقولاً في خطابها وكان لا يجوز في خطاب أهل اللسان أن يقول القائل: "فعلت بيدي" ويعني به النعمة - بطل أن يكون معنى قوله تعالى: بِيَدَيَّ النعمة. وذلك أنه لا يجوز أن يقول: القائل: "لي عليه يدي" بمعنى لي عليه نعمتي"، ومن دفاعنا عن استعمال اللغة، ولم يرجع إلى أهل اللسان فيها - دوفع عن أن تكون "اليد" بمعنى "النعمة"، إذ كان لا يمكن أن يتعلق في أن "اليد" "النعمة" إلا من جهة اللغة، فإذا دفع اللغة لزمه أن لا يفسر القرآن من جهتها، وأن لا يثبت "اليد" "نعمة" من قبلها، لأنه إن روجع في تفسير قوله تعالى: بِيَدَيَّ بنعمتي؛ فليس المسلمون على ما ادعى متفقين، وإن روجع إلى اللغة فليس في اللغة أن يقول القائل: "بيديّ" "نعمتيّ"، وإن لجأ إلى وجه ثالث وسألناه عنه، ولن يجد له سبيلاً ... " (1). قلت: قد تقدم مراراً أن الحنفية ومنهم الكوثرية ذكروا الإمام الأشعري في عداد الحنفية فلا أدري ماذا يصنعون به على يرمونه بالوثنية والتجسيم والتشبيه؟؟!!.2 - الإمام القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني (403هـ) الذي يعظمه الكوثري بأنه لسان الأمة وسيف السنة، وأنه لا يوجد في كلامه مجازاةٌ للحشوية وإيهام التجسيم والتشبيه، بل هو من الصرحاء في التنزيه البات (2). فقد ذكر تأويلات الجهمية وتحريفاتهم لصفة "اليدين" ثم قال: "يقال لهم: هذا باطل لأن قوله "بيدي" يقتضي إثبات اليدين هما صفة له فلو كان المراد بها القدرة لوجب أن يكون له قدرتان. وأنتم لا تزعمون أن لله سبحانه قدرة واحدة فكيف يجوز أن تثبتوا له قدرتين؟؟ وقد أجمع المسلمون من مثبتي الصفات والنافين لها على أنه لا يجوز أن يكون له تعالى قدرتان فبطل ما قلتم. وكذلك لا يجوز أن يكون الله تعالى خلق آدم بنعمتين، لأن نعم الله تعالى على آدم وعلى غيره لا تحصى. ولأن القائل: لا يجوز له - أن يقول: رفعت الشيء بيدي أو وضعته بيدي أو توليته بيدي وهو يعني "نعمته". وكذلك لا يجوز أن يقال: "لي عند فلان يدان" يعني "النعمتين" وإنما يقال: "لي عنده يدان بيضاوان"، لأن القول: "يد" لا يستعمل إلا في اليد التي هي صفة للذات. ويدل على فساد تأويلهم أيضاً أنه لو كان الأمر على ما قالوه، لم يغفل عن ذلك إبليس وعن أن يقول: "وأي فضل لآدم عليّ يقتضي أن أسجد له؟ وأنا أيضاً بيدك خلقتني التي هي قدرتك، وبنعمتك خلقتني. وفي العلم بأن الله تعالى فضل آدم عليه بخلقه بيديه دليل على فساد ما قالوه" (3).   (1) ((الإبانة)) (2/ 125 - 128)، تحقيق الدكتورة فوقية و (ص 97 - 99)، تحقيق الأرناؤوط طبعة دار البيان، و (ص 131 - 132)، طبعة الجامعة الإسلامية. (2) انظر ((مقدمة الكوثري)) للإنصاف للباقلاني (ص 8، 11) (3) ((التمهيد)) للباقلاني (ص 258 - 259). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 قلتُ: هذا هو كلام الباقلاني الذي ليس عنده مجاراة للحشوية وهو صريح في التنزيه البات عند الكوثري، وقد عرفت أنه صريح في إثبات "اليدين" لله تعالى.3 - ومثله كلام مهم للإمام أبي الحسن علي بن خلف الكبري المعروف بابن بطال (449هـ) ذكر نص كلامه الحافظ ابن حجر وأقره (1). 4 - وقال الإمام أبو محمد عبدالواحد السفاقسي المالكي المعروف بابن التين (611هـ):"قوله: "وبيده الأخرى الميزان" يدفع تأويل اليد هنا بالقدرة، وكذا قوله في حديث ابن عباس رفعه: ((أول ما خلق الله القلم فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين)) الحديث (2).وقريب من كلام هؤلاء كلام ابن فورك والبيهقي (3) ولعل كلامهم مأخوذ من كلام ابن خزيمة (4). فهؤلاء كلهم يثبتون صفة اليدين له تعالى بدون تأويل، فهل هؤلاء مشبهة وثنية؟. الوقفة الثالثة: في ذكر بعض النصوص القرآنية والحديثية الدالة على تحقيق صفة "اليدين" التي لا تحتمل المجاز إطلاقاً. والتي استدل بها كبار أئمة الإسلام وأساطين الكلام الذين يعظمهم الماتريدية ولا يمكن لهم أن يرموهم بالوثنية والتجسيم والتشبيه، على أقل التقدير. أمثال البخاري (256هـ) والأشعري (324هـ) والباقلاني (403هـ) وابن فورك (406هـ) والبيهقي (458هـ) لتتم الحجة على الماتريدية ولا يبقى لهم عذر. أ- فمن كتاب الله تعالى: 1 - قوله سبحانه وتعالى في الرد على اليهود: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء [المائدة: 64]. فهذه الآية الكريمة صريحة في إثبات "اليدين" له تعالى، كما تدل على أن اليهود كانوا معترفين بإثبات اليد لله تعالى غير أن الله تعالى رد عليهم في نسبتهم النقص إلى يد الله تعالى بأنها مغلولة فقال: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] فكذبهم في مقالتهم. قال الإمام ابن خزيمة (311هـ) "وافهم ما أقول من جهة اللغة تفهم وتستيقن أن الجهمية مبدلة لكتاب الله، لا متأولة قوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] لو كان معنى "اليد" النعمة - كما ادعت الجهمية - لقرئت: (بل يداه مبسوطة)، أو منبسطة، لأن نعم الله أكثر من أن تحصى، ومحال أن تكون نعمة نعمتين لا أكثر - فلما قال عز وجل: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] كان العلم محيطاً أنه أثبت لنفسه يدين لا أكثر منها ... بيقين يعلمُ كل مؤمن أن الله لم يرد بقوله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ أي غلت نعمهم لا ولا اليهود أن نعم الله مغلولة، وإنما رد الله عليهم مقالتهم وكذبهم في قولهم: يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ وأعلم المؤمنين أن يديه مبسوطتان" (5). 2 - قوله تعالى: يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ [ص: 7].   (1) ((فتح الباري)) (13/ 393). (2) رواه الآجري في الشريعة (542) (2/ 947) بهذا السياق قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (3136): إسناده صحيح ... وللحديث شواهد متفرقة (3) انظر: ((مشكل الحديث)) (ص 106، 327)، و ((الاعتقاد)) (ص 88)، و ((الأسماء والصفات)) (ص 314 - 319)، و ((كتاب التوحيد)) (1/ 197 - 199). (4) انظر: ((مشكل الحديث)) (ص 106، 327)، و ((الاعتقاد)) (ص 88)، و ((الأسماء والصفات)) (ص 314 - 319)، و ((كتاب التوحيد)) (1/ 197 - 199). (5) ((كتاب التوحيد)) لابن خزيمة (1/ 198، 118). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 فهذه الآية صريحة في إثبات اليدين لله على الحقيقة وتمنع احتمال كل تأويل ومجاز قال الإمام ابن خزيمة: "وزعم بعض الجهمية أن معنى قوله: "خلق الله آدم بيديه": أي بقوته فزعم أن "اليد" هي القوة، وهذا من التبديل أيضاً، وهو جهل بلغة العرب، والقوة إنما تسمى "الأيد" في لغة العرب، لا "اليد" فمن لا يفرق بين "الأيد" و"اليد" فهو إلى التعليم والتسليم إلى الكتاتيب أحوج منه إلى الترؤس والمناظرة. قد أعلمنا الله عز وجل أنه خلق السماء بأيد، و"اليد واليدان" غير "الأيد" إذ لو كان الله خلق آدم بأيد كخلقه السماء دون أن يكون الله خص خلق آدم بيديه لما قال: لإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ. ولا شك ولا ريب أن الله عز وجل قد خلق إبليس - عليه لعنة الله - أيضاً بقوته، أي إذا كان قوياً على خلقه فما معنى قوله: مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] ؟.عند هؤلاء المعطلة، والبعوض، والنمل، وكل مخلوق فالله خلقهم عنده بأيد وقوة" (1). 3 - قوله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67]. فهذه الآية تدل دلالة واضحة على إثبات اليمين لله تعالى كما تدل على إثبات يده الأخرى بطريق الإشارة وكلتا يدي ربنا يمين وسياق هذه الآية أيضاً لا يحتمل التأويل والمجاز، ونكتفي بذكر هذه الآيات الثلاثة وإلا فالآيات في الباب كثيرة. قال الإمام ابن خزيمة: "وزعمت الجهمية المعطلة، أن معنى قوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] أي النعمتان، وهذا تبديل لا تأويل. والدليل على نقض دعواهم هذه أن نعم الله كثيرة لا يحصيها إلا الخالق الباري، ولله يدان لا أكثر منهما ... فمن زعم أنه خلق آدم بنعمته كان مبدلاً لكلام الله تعالى. وقال الله عز وجل: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]. أفلا يعقل أهل الإيمان: أن الأرض جميعاً لا تكون قبضةَ إحدى نعمتيه يوم القيامة، ولا أن السموات مطويات بالنعمة الأخرى؟.ألا يعقل ذوو الحجا من المؤمنين، أن هذه الدعوى التي يدعيها الجهمية جهل أو شر من الجهل؟!! بل الأرض جميعاً قبضة ربنا جل وعلا بإحدى يديه يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه، وهي اليد الأخرى وكلتا يديه يمين" (2). هذه كانت نماذج من النصوص القرآنية الصريحة في إثبات صفة "اليدين لله تعالى التي لا تقبل التأويل. ب- من السنة الصحيحة المحكمة الصريحة:1 - قوله صلى الله عليه وسلم من حديث أنس في الشفاعة الكبرى: ((يا آدم أما ترى الناس خلقك الله بيديه، وأسجد لك ملائكته)) (3). الحديث.2 - وقوله صلى الله عليه وسلم في تحاجّ آدم وموسى عليهما السلام: ((قال له آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده)) (4).3 - وقوله صلى الله عليه وسلم: ((يد الله ملأى)) (5) وفي رواية ((يمين الله)) ((لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ... وبيده الأخرى الميزان، يخفض ويرفع)) (6).4 - وقوله صلى الله عليه وسلم: ((يقبض الله الأرض، ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟)) (7). 5 - ومثله من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.6 - وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما تصدق أحد بصدقة من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فُولُوُّه أو فصيله)) (8).7 - وقوله صلى الله عليه وسلم: ((تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر، نزلاً لأهل الجنة)) (9). الحديث. المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني 3/ 51   (1) ((كتاب التوحيد)) (1/ 199). (2) ((كتاب التوحيد)) (1/ 197). (3) رواه البخاري (7410) (4) رواه البخاري (6614) واللفظ له ومسلم (2652) (5) رواه البخاري (4684) (6) رواه البخاري (7419) ومسلم (993) (7) رواه البخاري (4812) ومسلم (2787) (8) رواه مسلم (1014) (9) رواه البخاري (6520) ومسلم (2792) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 المبحث الثامن: الرد على الماتريدية في تعطيلهم لصفة الكلام لقد سبق أن ذكرنا أن الدافع للماتريدية وغيرهم من فرق المعطلة على تعطيل صفات الله تعالى ومنها صفة "الكلام". وهو أنهم فهموا منا ما يُفْهَمُ من صفات الخلق. 1 - فظنوا أن الكلام لا يكن إلا بآلة وجارحة من لسان وشفتين وفم والأسنان والحلق، وهذه الشبهة هي بعينها التي عرضت للجهم إمام الجهمية، بشهادة الإمام أحمد. 2 - وتبعهم في ذلك الماتريدية، فقالوا: لو ثبت لله تعالى الكلام اللفظي لزم كون الله محلاً للحوادث والأعراض. ولا يخلو أن يكون المسموع عرضاً (1).وهذه الحروف مخلوقة لأنها أصوات وهي أعراض لا دوام لها وهي قائمة بمحالها التي هي اللسان واللهوات والحلق (2).3 - الحلق هذا الوهم الفاسد عطلوا صفة "الكلام" وحرفوا نصوصها بأن المراد من الكلام "الكلام النفسي" لا "الكلام اللفظي" (3). 4 - وتعريف الكلام النفسي عندهم:"ما هو قائم بالله بشيء واحد ليس له بعض ولا عدد ولا له نهاية ولا بداءة" (4).وهو المعنى القائم بذات المتكلم، وهو المعنى الذي يدبره المتكلم في نفسه ويعبر عنه بهذه الألفاظ المتركبة عن الحروف ... وهذه العبارات ليست بكلام وإجراؤها على اللسان ليس بتكلم، بل هي عبارات عن الكلام والكلام ... هو المعنى القائم بالنفس غير أن هذه العبارات تسمى كلاماً لدلالتها على الكلام ... (5). "إن الله تعالى متكلم بكلام واحد وهو صفة له أزلية ليست من جنس الحروف والأصوات، وهي صفة منافية للسكوت والآفة. والله متكلم بها آمر، ناه مخبر، وهذه العبارات دالة عليها. وتسمى العبارات كلام الله تعالى على معنى أنها عبارات عن كلامه الأزلي القائم بذاته وهو المعنى بقولنا القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق (6) وقالوا: إن الله لم يتكلم بكلمة "كن" بل المراد سرعة التكوين. وقالوا: "صانع العالم متكلم بكلام واحد أزلي قائم بذاته ليس من جنس الحروف والأصوات غير متجزئ مناف للسكوت والآفة والخرس. وهو به آمرناه مخبرٌ ... ، وهذه العبارات مخلوقة لأنها أصوات وهي أعراض، وسميت كلام الله لدلالتها عليه.   (1) ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص 59). (2) ((التمهيد)) لأبي المعين النسفي (7/أ)، و ((عمدة القاري)) لحافظ الدين النسفي (8/أ) وانظر ((أصول الدين للبزدوي)) (ص 61). (3) راجع ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص 58)، و ((العقائد النسفية مع شرحها)) للتفتازاني (ص 53 - 55)، و ((البداية من الكفاية)) للصابوني (ص 60 - 61)، ((الدرة الفاخرة)) للجامي (ص 223)، ((المسايرة مع المسامرة)) (ص 82 - 83)، ((التلويح على التوضيح)) (1/ 28)، ((الطريقة المحمدية)) (ص 17)، ((نشر الطوالع)) (ص 255)، ((حاشية الكستلي على شرح العقائد النسفية)) (ص 87 - 90)، ((حاشية البهشتي على الخيالي)) (ص 65 - 67)، ((حاشية أحمد الجندي على شرح العقائد النسفية)) (ص 120 - 121)، ((ضوء المعالي)) للملا علي القاري (ص 29). (4) ((أصول الدين)) لأبي اليسر البزدوي (ص 61). (5) ((تبصرة الأدلة)) (118/ب)، لأبي المعين النسفي. (6) ((التمهيد)) (6/ب-7/أ)، و ((العقائد النسفية مع شرحها)) للتفتازاني (ص 53 - 58). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 -والكلام النفسي- إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن، وإن عبر عنه بالعبرية فهو توراة، وإن عبر عنه بالسريانية فهو إنجيل. فاختلفت العبارات لا الكلام، كما نسمي الله بعبارات مختلفة، مع أن ذاته واحدة" (1).5 - وأن القرآن الكريم العربي مخلوق بل مخلوق (2) لفظه ومعناه (3). 6 - ويقولون: لا يجوز أن يقال: القرآن غير مخلوق. لئلا يتبادر الذهن إلى الألفاظ والحروف. بل يقال: القرآن كلام الله غير مخلوق. فيكون الحكم بكونه غير مخلوق على "كلام الله" لا على "القرآن". قال أبو المعين النسفي (508هـ): " ... وهذه الألفاظ تسمى قرآناً، وكلام الله ليُؤدَّى كلام الله تعالى بها، وهي في أنفسها مخلوقة، والكلام الذي هو صفة الله تعالى ليس بمخلوق. ومشايخنا من أئمة سمرقند - الذين جمعوا بين علم الأصول والفروع - كانت عبارتهم في هذا أن يقولوا: "القرآن كلام الله وصفته، وكلام الله غير مخلوق، وكذا وصفه "ولا يقولون على الإطلاق: "إن القرآن ليس بمخلوق".لئلا يسبق إلى وهم السامع أن هذه العبارات المتركبة من الحروف والأصوات ليست بمخلوقة، كما يقوله الحنابلة ... (4).قلت: فالقرآن عندهم قرآنان قرآن بمعنى الكلام النفسي، وهو غير مخلوق، وقرآن موجود عند الناس وهو الحروف فهو حادث مخلوق (5). وقال التفتازاني فيلسوف الماتريدية (279هـ) بدون حياء جهاراً دون إسرارٍ في شرح كلام عمر النسفي: "والقرآن كلام الله تعالى غير مخلوق". "وعقب القرآن بكلام الله تعالى لما ذكر المشايخ (أي الماتريدية) - من أنه يقال: "القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق" ولا يقال: "القرآن غير مخلوق".   (1) ((العمدة)) (7/أ-ب/)) لحافظ الدين النسفي، وانظر ((شرح الإحياء)) للزبيدي (2/ 30 - 31، 144، 145) وراجع ((أصول الدين للبزدوي)) (ص 61). (2) انظر: ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص 59)، و ((شرح الفقه الأبسط)) للسمرقندي (ص 25)، و ((أصول الدين)) لأبي اليسر البزدوي (ص 61)، ((تبصرة الأدلة)) (119/أ-ب) و ((التمهيد)) (7/أ)، كلاهما لأبي المعين النسفي، و ((البداية)) للصابوني (ص 63)، و ((شرح المواقف)) للجرجاني (8/ 93، 95، 99)، و ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص 58 - 61)، وجميع شروح هذا الشرح وحواشيه ((كحاشية العصام)) (ص 184)، و ((حاشية الكستلي)) (ص 92، 95)، و ((حاشية قل أحمد)) (ص 107)، و ((شرح قاسم بن قطلوبغا على المسايرة)) لابن همام (ص 87)، و ((إشارات المرام)) (ص 144)، و ((تأنيب الكوثري وترحيبه)) (ص 10، 90، 96، 97، 107، 301، 302). (3) ((نور الأنوار)) للملا جيون الهندي ((شرح المنار)) النسفي (1/ 2). (4) ((تبصرة الأدلة)) (119/أ-ب) (5) ((البداية)) للصابوني (ص 62 - 63)، وانظر: ((شرح العقائد النسفية)) (ص 59 - 60). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 لئلا يسبق إلى الفهم أن المؤلف من الأصوات والحروف قديم، كما ذهبت إليه الحنابلة جهلاً وعناداً؛ وأقام - (النسفي) - غير المخلوق "مقام" غير الحاديث "تنبيهاً على اتحادهما ... " (1).7 - ويقولون بدون حياء ولا حشمة: إنه لا خلاف بينهم وبين المعتزلة في كون القرآن مخلوقاً، وإنهم جميعاً متفقون على القول بخلق القرآن (2).8 - غير أن المعتزلة لا يعترفون بالكلام النفسي (3). قال التفتازاني (792هـ) فيلسوف الماتريدية، والكوثري مجددهم."وتحقيق الخلاف بيننا وبينهم - (أي المعتزلة) - يرجع إلى إثبات الكلام النفسي، ونفيه، وإلا فنحن لا نقول بقدم الألفاظ والحروف – (ولا بعدم كونها مخلوقة) - وهم لا يقولون بحدوث الكلام النفسي" (4). وقال متكلم الماتريدية الهندية عبدالعزيز الفريهاري كان حياً (1239هـ) لتحقيق الأخوة بين الماتريدية وبين المعتزلة: "وإن لم يختلف الفريقان في إثبات النفسي ونفيه فلا نزاع، فإنا إذا قلنا: "القرآن غير مخلوق" أردنا النفسي. وإذا قلنا: "القرآن مخلوق" أردنا اللفظي. فنحن لا نقول بقدم الألفاظ والحروف. بل بحدوثه كما قالت المعتزلة. وهم لا يقولون بحدوث النفسي. بل ينكرون وجوده، ولو ثبت عندهم لقالوا بقدمه مثل ما قلنا. فصار محل البحث، هو أن النفسي ثابت أم لا؟ " (5).9 - وقالوا بدون حياءٍ جهاراً دون إسرارٍ: "إن الكلام يطلق على الكلام النفسي فمعنى كونه كلام الله أنه صفته، ويطلق على اللفظي الحادث المؤلف من السور والآيات ومعنى إضافته إلى الله: أنه مخلوق لله ليس من تأليفات المخلوقين" (6). وقال الفريهاري: في توجيه إضافة القرآن إلى الله تعالى ومعنى كونه كلام الله، مفسراً لكلام التفتازاني."أراد - (يعني التفتازاني) - أنه - (أي القرآن) - مخلوقٌ لله تعالى، بلا توسط كاسب من المخلوقين إما بإيجاد الصوت حتى يسمعه الملك أو الرسول، وإما بإيجاد النقوش في اللوح، وإما بخلق إدراك الحروف في قلب الملك أو الرسول وإما بخلق الحروف في لسانه بلا اختياره" (7). بل صرح أبو المعين النسفي (508هـ) بأن الله تعالى خلق صوتاً وحروفاً فأسمع جبريل كلامه بذلك الصوت والحروف فحفظه جبرائيل ونقله إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وكلام الله قديم لا بحرف ولا صوت (8).   (1) ((شرح العقائد النسفية)) (ص 57 - 58)، وجميع شروحه وحواشيه على هذا الضلال والإضلال، انظر كيف يتقولون على أئمة الإسلام ويرمونهم بالعناد. (2) انظر: ((شرح المواقف)) للجرجاني (8/ 93، 95، 99) و ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص 58)، و ((شرح الفقه الأكبر)) للقاري (ص 42، 45)، و ((عقيدة الإسلام)) لأبي الخير (ص 374). (3) انظر: ((شرح المواقف)) للجرجاني (8/ 93، 95، 99) و ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص 58)، و ((شرح الفقه الأكبر)) للقاري (ص 42، 45)، و ((عقيدة الإسلام)) لأبي الخير (ص 374). (4) ((شرح العقائد النسفية)) (ص 58)، و ((تعليقات الكوثري على الأسماء والصفات)) (ص 251). (5) ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص 61)، و ((حاشية الكستلي عليه)) (ص 95)، و ((النبراس)) (ص 223، 231)، و ((انظر أصول الدين لأبي اليسر البزدوي)) (ص 61). (6) ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص 61)، و ((حاشية الكستلي عليه)) (ص 95)، و ((النبراس)) (ص 223، 231)، وانظر ((أصول الدين لأبي اليسر البزدوي)) (ص 61). (7) ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص 61)، و ((حاشية الكستلي عليه)) (ص 95)، و ((النبراس)) (ص 223، 231)، و ((انظر أصول الدين لأبي اليسر البزدوي)) (ص 61). (8) ((بحر الكلام)) (ص29)، ((مقالات الكوثري)) (ص 27)، ((رسالة التوحيد)) (ص 66). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 وقال الكوثري مجدد الماتريدية ورافع لواء الجهمية والقبورية:"والواقع أن القرآن في اللوح المحفوظ وفي لسان جبريل عليه السلام وفي لسان النبي صلى الله عليه وسلم وألسنة سائر التالين وقلوبهم وألواحهم مخلوق ... " (1).وهكذا سايرهم الشيخ محمد عبده ماتريدي الأزهر (2). قلت: هذا شبيه بكلام الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25].وقالوا: إن القرآن الكريم ليس كلام الله على الحقيقة وإنما هو كلام مجازيٌ؛ لأنه دال على كلام الله النفسي، فالكلام الحقيقي هو ذلك النفسي وأما اللفظي هو عبارة عنه (3). وقال أبو اليسر البزدوي (493هـ). "كلام الله تعالى قائم به وكذا كلام كل متكلم. وهذه السور التي لها نهاية وبداية وعدد وأبعاض. ليس بكلام الله تعالى على الحقيقة. بل هو منظوم نظمه الله تعالى وهو دال على كلام الله تعالى. كمنظوم "امرئ القيس". قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل منظوم امرئ القيس "دال على كلامه، وليس هو كلامه، وكذا خطبة كل خطيب ورسالة كل مرسل منظوم دال على كلامه وليس نفس كلامه كذا هذا" ثم صرح بأن القرآن مخلوق في اللوح أو في ملك وهو كلام الله مجازاً لا حقيقة (4). 10 - واستدلوا لتحقيق الكلام النفسي ببيت مصنوع موضوع على العرب والعربية - منسوب إلى الأخطل النصراني الكافر المختل العقل المضطرب الكلام. إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا (5) وقبله: لا يعجبنك من أمير خطبة ... حتى يكون مع الكلام أصيلا (6) 11 - وإذا قرروا القول بأن كلام الله هو الكلام النفسي الذي ليس بحرف ولا صوت - قالوا باستحالة سماع كلام الله تعالى. وصرحوا بأن موسى عليه السلام لم يسمع كلام الله تعالى. وإنما سمع صوتاً مخلوقاً في الشجرة.   (1) ((بحر الكلام)) (ص29)، ((مقالات الكوثري)) (ص 27)، ((رسالة التوحيد)) (ص 66). (2) ((بحر الكلام)) (ص29)، ((مقالات الكوثري)) (ص 27)، ((رسالة التوحيد)) (ص 66). (3) ((تأويلات أهل السنة)) للماتريدي ((تفسير سورة الشورى الآيتين 51 - 52))، مخطوط دار الكتب المصرية، و ((أصول الدين)) لأبي اليسر البزدوي (ص 61، 60)، ((تبصرة الأدلة)) (118/ب)، و ((البداية)) للصابوني (ص 61)، ((العقائد النسفية مع شرحها)) للتفتازاني (ص 53)، ((التلويح على التوضيح)) (1/ 28)، ((حاشية الكستلي على شرح العقائد النسفية)) (ص 87)، ((حاشية قل أحمد على حاشية الخيالي على شرح العقائد)) (ص 107)، ((إشارات المرام)) (ص 177 - 178)، ((عقيدة الإسلام)) لأبي الخير البنغلاديشي (ص 376 - 377). (4) ((أصول الدين)) لأبي اليسر البزدوي (ص 60 - 61). (5) ((تبصرة الأدلة)) (118ب) لأبي المعين النسفي، و ((البداية)) للصابوني (ص 61)، و ((العمدة)) لحافظ الدين النسفي (8/أ)، و ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص 54)، و ((شرح الإحياء)) للزبيدي (2/ 146)، و ((النبراس)) (ص 215). (6) ((شرح الإحياء)) للزبيدي (2/ 146)، و ((ذكر الباقلاني في تمهيده)) (ص 251)، بلفظ "لا يعجبنك من أثير حظه" وفي ((كتاب الإيمان)) (ص 133)، لشيخ الإسلام: "من أثير خطبة" وفي ((مجموع الفتاوى)) (7/ 139)، ((أثير لفظه)). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 وقالوا: إنما سِمّى موسى عليه السلام "كليم الله" لأنه سمع صوتاً دلاً على كلام الله بدون واسطة الملك. وتقدم الكلام على هذا.12 - وبهذا تبين فساد زعم العلامة الآلوسي أن الماتريدي يرى أن موسى عليه السلام - سمع كلام الله بحرف وصوت (1) لأن الماتريدي والماتريدية لا يجوزون حرفاً، ولا صوتاً في كلام الله ولا سماعه. ولذا ذكر الإمام ابن أبي العز: أن أبا منصور الماتريدي يرى أن كلامه تعالى يتضمن معنى قائماً بذاته هو ما خلقه في غيره (2). 13 - وإذا قرروا القول بخلق القرآن. قالوا بخلق أسماء الله الحسنى بطبيعة الحال. وتقدم ذلك أيضاً. 14 - وإذا قرروا ما سبق. فطبيعة الحال لا يثبتون لله تعالى صفة "التكليم" ولا صفة "التكلّم" ولا صفة "النداء" ولا صفة "الصوت" بالمعاني المتعارفة الحقيقية المتبادرة إلى الإذهان السليمة بل لابد لهم من أن يحرفوا نصوصها إلى "الكلام النفسي". 15 - الحاصل: أن موقف الماتريدية من صفة "كلام" الله تعالى مركب من إلحاد على إلحاد وبدعة على بدعة، وتعطيل على تعطيل. وكانت الجهمية الأولى اكتفوا ببدعة واحدة وهي بدعة القول بخلق القرآن. 16 - ولكن الماتريدية جمعوا بينها وبين بدعة أخرى وهو القول بالكلام النفسي. 17 - وارتكبوا مع جمعهم بين هاتين البدعتين الشنيعتين شناعة وفظاعة أخرى وهي تحريف نصوص الكتاب والسنة بل تصريحات سلف هذه الأمة وأئمة السنة إلى بدعة "الكلام النفسي". 18 - وامتازت الماتريدية عن خلطائهم الأشعرية ببدعة رابعة وهي بدعة القول بعدم جواز سماع كلام الله تعالى. 19 - ولهم ميزة أخرى لا توجد عند عامة زملائهم الأشعرية وهي أنهم أصرح وأجهر بالقول بخلق القرآن، فقد تقدم أن القرآن عندهم قرآنان: قرآن بمعنى الكلام النفسي، فهذه صفة لله تعالى غير مخلوقة. وقرآن بمعنى الكلام اللفظي فمعنى كونه كلام الله أنه تصنيف لله ومخلوق له مباشرة بدون واسطة. ومعنى كون موسى كليم الله أنه سمع صوتاً مخلوقاً بلا واسطة الملك أما بقية الأنبياء فهم سمعوا الأصوات المخلوقة بالواسطة. أما الأشعرية، فربما تعلوهم الحشمة وتأخذهم التقية ويمنعهم الحياء من الجهر بالقول بخلق القرآن فاكتفوا بالقول بخلق القرآن في مقام التعليم ليجعلوا أطفالهم وتلاميذهم أشعرية جهمية (3). أما الماتريدية فلا يبالون بمقام التعليم ليجعلوا أطفالهم وطلابهم ماتريدية جهمية بلا حشمة ولا تقية ولا حياء. 20 - فهم أولى بالجهمية الأولى وأبعد من الإمام أبي حنيفة وأصحابه القدامى وغيرهم من أهل السنة في هذا الباب. كيف لا وغالب أئمة الجهمية كانوا من الحنفية بشهادة الإمام أحمد واعتراف الكوثري، وفيهم أمثال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة (212هـ) الكذاب البهات على أبيه وجده وبشر المريسي (228هـ) رافع لواء الجهم بعده، وإمام المريسية. وابن شجاع البلخي (266هـ) الوضاع الأفاك الذي فعل الأفاعيل وارتكب الأباطيل. وابن سينا القرمطي (428هـ) وعلى آخرهم الكوثري (1371هـ). ومن سايره من الكوثرية وبعض الديوبندية. وبعد أن عرفنا مذهب الماتريدية في "كلام الله" تعالى ننتقل إلى المقامات الآتية لبيان بطلان مذهبهم هذا والله المستعان على ما يصفون. المقام الثاني: في إبطال الكلام النفسي:   (1) انظر ((روح المعاني)) (1/ 17). (2) ((شرح الطحاوية)) (ص 180). (3) انظر: ((تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد)) (ص 72). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 القول بالكلام النفسي من إحدى حماقات أهل الكلام ومحاولاته كالقول بالأحوال والقول بنفي علو الله تعالى، والقول بأن ما وراء العالم لا خلاء ولا ملاء وغيرها مما صدر عن هؤلاء السفهاء مجانين العقلاء وهي خزعبلات لا تصدر عن عقلاء المجانين فضلاً عن العقلاء ولا يقرها عقل ولا نقل، ولا إجماع، ولا عرف ولا لغة ولا فطرة. ومن تلك الأباطيل قولهم ببدعة "الكلام النفسي" وهو باطل من وجوه متعددة نذكر منها ما يلي: الوجه الأول إلى الوجه السابع: أن "الكلام النفسي" الذي ذكروه ووصفوه شيء لا يقره عقل صريح ولا نقل صحيح، ولا فطرة سليمة، ولا إجماع بني آدم، ولا عرف، ولا لغة مع كونه قولاً متناقضاً في نفسه ومذهباً مضطرباً من أصله وهو أمر لم يتصوره أصحابه فضلاً عن أن يثبتوه فهذه ستة وجوه. ولم يعرفه أحد من بني آدم: لا عربهم، ولا عجمهم، ولا مسلمهم، ولا كافرهم، ولا علماؤهم، ولا جهالهم، ولا رجالهم، ولا نساؤهم، ولا الأنبياء والمرسلون، ولا الصحابة والتابعون، ولا الفقهاء والمحدثون، بل ولا الفلاسفة اليونانية، ولا المعتزلة، ولا الجهمية؛ فلم يعرفه أحد عبر القرون والأعصار ولا قاله أحد من أهل القرى والأمصار. وأول من عرف عنه القول بالكلام النفسي هو ابن كلاب (بعد 240هـ). وأنكر عليه أهل السنة وأهل البدعة جميعاً لكونه قولاً ثالثاً بين قولين، خارقاً لإجماع الفريقين. ثم دبت هذه البدعة الدهماء الظلماء الشنعاء إلى الماتريدية والأشعرية لأن بني آدم جميعاً قبل هؤلاء وبعدهم كانوا يفهمون أن الكلام هو اللفظ الدال على المعنى وأن يكون بحرف وصوت يسمع، وهذا بمجموعه وجه سابع، فهذه وجوه سبعة. وفيما يلي بعض نصوص أئمة السنة لتفصيل هذه الوجوه السبعة الدالة على إبطال هذه البدعة: 1 - قال الحافظ أبو نصر السجزي الوائلي الحنفي (444هـ). "اعلموا - أرشدنا الله وإياكم - أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب (240هـ) والقلانسي والأشعري (324هـ) وأقرانهم. - الذين يتظاهرون بالرد على المعتزلة وهم معهم بل أخس حالاً منهم في الباطن - (في) - أن الكلام لا يكون إلا حرفاً وصوتاً ذا تأليف واتساق. وإن اختلفت به اللغات. وعبر عن هذا المعنى الأوائل الذين تكلموا في العقليات. وقالوا: "الكلام حروف متنسقة وأصوات مقطعة. وقالت: (يعني علماء العربية) - "الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ... ، فالإجماع منعقد بين العقلاء على كون الكلام حرفاً وصوتاً. فلما نبغ ابن كلاب وأضرابه، وحاولوا الرد على المعتزلة من طريق مجرد العقل - وهم لا يخبرون أصول السنة ولا ما كان السلف عليه. ولا يحتجون بالأخبار الواردة في ذلك زعماً منهم أنها أخبار آحاد وهي لا توجب علماً - وألزمتهم المعتزلة الاتفاق على أن الاتفاق حاصل على أن الكلام حرف وصوت، ويدخله التعاقب والتأليف وذلك لا يوجد في الشاهد إلا بحركة وسكون. ولابد له من أن يكون ذا أجزاء وأبعاض. وما كان بهذه المثابة لا يجوز أن يكون من صفات ذات الله تعالى؛ لأن ذات الله تعالى لا توصف بالاجتماع والافتراق، والكل والبعض والحركة والسكون، وحكم الصفة الذاتية حكم الذات. وقالوا: فعلم بهذه الجملة أن الكلام المضاف إلى الله تعالى خلق له أحدثه وأضافه إلى نفسه، كما نقول: "خلق الله، وعبدالله، وفعل الله ... ". فضاق بابن كلاب وأضرابه النفس عند هذا الإلزام، لقلة معرفتهم بالسنن وتركهم قبولها وتسليمهم العنان إلى مجرد العقل. فالتزموا ما قالته المعتزلة، وركبوا مكابرة العيان، وخرقوا الإجماع المنعقد بين الكافة: المسلم والكافر. وقالوا للمعتزلة: "الذي ذكرتموه ليس بحقيقة الكلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 وإنما سمي ذلك كلاماً مجازاً لكونه حكايةً أو عبارةً عنه. وحقيقة الكلام: معنى قائمُ بذات المتكلم. فمنهم من اقتصر على هذا القدر. ومنهم من احترز عما علم دخوله على هذا الحد فزاد فيه: "ينافي السكوت والخرس والآفات المانعة فيه من الكلام". ثم خرجوا من هذا إلى أن إثبات الحرف والصوت في كلام الله تجسيم. وإثبات اللغة فيه تشبيه، وتعلقوا بشبهٍ منها قول الأخطل. إن البيان من الفؤاد إنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا فغيروه وقالوا: "إن الكلام من الفؤاد ... ". فألجأهم الضيق مما دخل عليهم في مقالتهم إلى أن قالوا: "الأخرس متكلم، وكذلك الساكت والنائم، ولهم في حال الخرس والسكوت والنوم كلام هم متكلمون به". ثم أفصحوا بأن الخرس والسكوت والآفات المانعة من النطق ليست بأضداد الكلام. وهذه المقالة تبين فضيحة قائلها في ظاهرها من غير رد عليه. ومن علم منه خرق إجماع الكافة ومخالفة كل عقلي وسمعي قبله - لم يناظر بل يجانب ويقمع" (1). 2 - وقال هذا الإمام السجزي الوائلي الحنفي أيضاً: " ... فإن ارتكبوا العظمى وقالوا: "كلام الله شيء واحد على أصلنا لا يتجزأ، وليس بلغة، والله سبحانه من الأزل إلى الأبد متكلم بكلام واحدٍ لا أول له ولا آخر ... والتكثر - إنما يرجع إلى العبارة لا إلى المعبر عنه". قيل له: قد بينا مراراً كثيرة - أن قولكم في هذا الباب فاسد، وأنه مخالف للعقليين، والشرعيين جميعاً (يعني أهل البدعة وأهل السنة)، وأن نص الكتاب، والثابت من الأثر قد نطقا بفساده. قال الله تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [النحل: 40] فبين الله أنه يقول: للشيء "كن" إذا أراد كونه، فعلم بذلك أنه لم يقل للقيامة بعد: "كوني" ... فبين الله جل جلاله: أنه قال لآدم بعد خلقه من تراب: "كن".وأنه إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون ... " (2).   (1) ((درء التعارض)) (2/ 83 - 86)، عن رسالة الإمام أبي نصر السجزي المعروفة إلى أهل زبيد في الواجب من القول في القرآن. (2) ((درء التعارض)) (2/ 87 - 88)، عن كتاب ((الإبانة)) للوائلي الحنفي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 قلت: أما هؤلاء الجهمية الماتريدية المحرفة فلا يؤمنون بهذا الذي صرح الله تعالى به من قوله "كن".فقد صرح كبيرهم أبو منصور الماتريدي قائلاً: "ليس هو قول من الله أن "كن" بالكاف والنون، ولكنه عبارة بأوجز كلام يؤدي المعنى التام المفهوم .. " (1).وهكذا الماتريدية بعد أبي منصور الماتريدي صرحوا بأنه ليس هناك قول "كن" وإنما هو مجاز وتمثيل عن "سرعة التكوين" (2).قلت: هذه المقالة والله - تعطيل بواح وتكذيب صراح لكتاب الله وخالفهم فخر الإسلام وقال: كلمة "كن" تكلّم الله بها حقيقة لا مجازا، فشفى واشتفى" (3).وهذا هو أبو منصور الماتريدي الذي يلقبونه "بإمام الهدى، وعلم الهدى ومصحح عقائد المسلمين، ورئيس أهل السنة، وناصر السنة، وقامع البدعة، ومحيي الشريعة، وقدوة أهل السنة، ورافع أعلام السنة، وقالع أضاليل الفتنة والبدعة، ومهدي هذه الأمة وإمام أهل السنة"، كما تقدم في ترجمته. كما لقبوه "بشيخ الإسلام" (4).وللإمام أبي الحسن الأشعري (324هـ) كلام متقن وحجج عقلية وبراهين سمعية، تقطع دابر هؤلاء المنكرين لقول الله تعالى "كن" (5). 3 - وقال شيخ الإسلام: "وفي الجملة: حيث ذكر الله في كتابه عن أحد من الخلق من الأنبياء أو أتباعهم أو مكذبيهم: "أنهم قالوا، ويقولون: وذلك قولهم، وأمثال ذلك - فإنما يعني به "المعنى مع اللفظ، فهذا اللفظ وما تصرف منه من فعل ماض ومضارع وأمر ومصدر واسم فاعل، من لفظ القول والكلام ونحوهما. إنما يعرف في القرآن والسنة وسائر كلام العرب - إذا كان لفظاً ومعنىً وكذلك أنواعه، كالتصديق والتكذيب، والأمر والنهي وغير ذلك. وهذا مما لا يمكن أحداً جحده، فإنه أكثر من أن يحصى. ولم يكن في مسمى "الكلام" نزاع بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وتابعيهم لا من أهل السنة، ولا من أهل البدعة. بل أول من عرف في الإسلام أنه جعل مسمى الكلام المعنى فقط. هو عبدالله بن سعيد بن كلاب. وهو متأخر في زمن محنة أحمد بن حنبل. وقد أنكر ذلك عليه علماء السنة وعلماء البدعة. فيمتنع أن يكون الكلام الذي هو أظهر صفات بني آدم. كما قال الله تعالى: فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُون [الذاريات: 23] ولفظه لا تحصى وجوهه كثرةً - ولم يعرفه أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم حتى جاء من قال فيه قولاً لم يسبقه أحداٌ من المسلمين" (6). 4 - وقال: "وإذا كان الله إنما أنزل القرآن بلغة العرب. فهي لا تعرف التصديق والتكذيب وغيرها من الأقوال إلا ما كان "معنى ولفظاً"، أو"لفظاً" يدل على معنى ... " (7).   (1) ((تأويلات أهل السنة)) للماتريدي (1/ 268)، تحقيق إبراهيم عوضين والسيد عوضين، و (1/ 233)، تحقيق جاسم الجبوري، وسكتوا عليه. (2) ((بحر العلوم)) لأبي الليث السمرقندي (1/ 465)، و ((مدارك التنزيل)) (1/ 83)، و ((إرشاد العقل السليم)) (ص 21)، و ((كشف الأسرار للبخاري)) (1/ 112 - 113). (3) ((كنز الوصول)) (ص 21) و ((مع شرحه كشف الأسرار)) (1/ 112 - 113). (4) ((المبدأ المعاد)) (2/ 128)، على هامش المكتوبات "الترجمة العربية" لمن يسمونه مجدد الألف الثاني الإمام الرباني أحمد السرهندي إمام الطريقة المجددية من طرق النقشبندية. (5) انظر ((الإبانة)) (ص 65 - 66)، تحقيق فوقية و (ص 52/ 53)، تحقيق الأرناؤوط، طبعة دار البيان، و (ص 86 – 88)، طبعة الجامعة الإسلامية، وراجع أيضاً: ((كتاب الاعتقاد))، و ((الأسماء والصفات)) (ص 192)، كلاهما للبيهقي، و ((فتح الباري)) (13/ 454). (6) ((كتاب الإيمان)) (ص 128)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (7/ 134). (7) ((كتاب الإيمان)) (ص 126)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (7/ 132). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 5 - وقال شيخ الإسلام أيضاً: بعد ما ذكر هذيانهم في "الكلام النفسي" من "أنه معنى واحد إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن وإن عبر عنه بالعبرية فهو توراة: "وجمهور الناس من أهل السنة والمعتزلة وغيرهم أنكروا ذلك، وقالوا: إن فساد هذا معلوم بصريح العقل. فإن التوراة إذا عربت لم تكن القرآن. ولا معنى "قل هو الله أحد" هو معنى "تبت يدا أبي لهب ... " (1). 6 - وقال بعد ما ذكر هذيانهم المذكور من "أن الكلام معنى واحد قائم بنفس الله إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية، كان إنجيلاً، وأن القرآن العربي لم يتكلم الله به، بل وليس هو كلام الله وإنما خلقه في بعض الأجسام":"جمهور الناس من أهل السنة وأهل البدعة يقولون: إن فساد هذا القول معلوم بالاضطرار وإن معاني "القرآن" ليست هي معاني "التوراة" وليست معاني "التوراة" المعربة هي "القرآن" ولا "القرآن" إذا ترجم بالعبرية هو "التوراة" ولا "حقيقة" الأمر هي حقيقة "الخبر ... " (2). 7 - وقال في إبطال قولهم: "إن الكلام معنى واحد": "فقالوا القول الذي لزمته تلك اللوازم التي عظم فيها نكير جمهور المسلمين بل جمهور العقلاء عليهم، وأنكر الناس عليهم أموراً: أ- إثبات معنى واحدٍ هو الأمر والخبر. ب- وجعل القرآن العربي ليس من كلام الله الذي تكلم به. ج- وأن الكلام المنزل ليس هو كلام الله. د- وأن التوراة والإنجيل والقرآن إنما تختلف عبارتها، فإذا عبر عن "التوراة" بالعربية كان هو "القرآن". هـ- وأن الله لا يقدر أن يتكلم. وولا يتكلم بمشيئته واختياره. ز- وتكليمه لمن كلمه من خلقه - كموسى وآدم - ليس إلا خلق إدراك ذلك المعنى لهم فالتكليم هو خلق الإدراك فقط. ح- ومنهم من يقول: بل كلام الله لا يسمع بحال .... وجمهور العقلاء يقولون: إن هذه الأقوال معلومة الفساد بالضرورة .... ط- وكذلك من قال: لا يتكلم إلا بأصوات قديمة أزلية ليست متعاقبة ... ، فجمهور العقلاء يقولون: إن قول هؤلاء أيضاً معلوم الفساد ... ،ي- من قال: إن الصوت المسموع من القارئ قديم، أو يسمع منه صوت قديم ومحدث فهذا أظهر فساداً من أن يحتاج إلى الكلام عليه ... " (3). 8 - وقال شيخ الإسلام أيضاً في صدد إبطاله للكلام النفسي: " ... لأن إثبات كلام يقول بذات المتكلم بدون مشيئته وقدرته غير معقول ولا معلوم، والحكم على الشيء فرع عن تصوره. فيقال للمحتج بها - (أي بالحجة العقلية) - لا أنت ولا أحد من العقلاء يتصور كلاماً يقوم بذات المتكلم بدون مشيئته وقدرته. فكيف تثبت بالدليل المعقول شيئاً لا يعقل؟. وأيضاً فقولك: لو لم يتصف بالكلام لا تصف بالخرس والسكوت". إنما يعقل في الكلام بالحروف والأصوات. فإن الحي إذا فقدها لم يكن متكلماً. فإما أن يكون قادراً على الكلام ولم يتكلم وهو الساكت، وإما أن لا يكون قادراً عليه وهو الأخرس. وأما ما يدعونه من "الكلام النفسي". فذاك لا يعقل أن من خلا عنه كان ساكتاً أو أخرس. فلا يدل - بتقدير ثبوته - على أن الخالي عنه يجب أن يكون ساكتاً أو أخرس. وأيضاً فالكلام القديم "النفساني" الذي أثبتموه. لم تثبتوه ما هو؟ بل ولا تصورتموه. وإثبات الشيء فرع تصوره. فمن لم يتصور ما يثبته - كيف يجوز أن يثبته؟!. ولهذا كان أبو سعيد بن كلاب - رأس هذه الطائفة وإمامها في هذه المسألة - لا يذكر في بيانها شيئاً يعقل. بل يقول: هو معنى يناقض السكوت والخرس. والسكوت والخرس إنما يتصوران إذا تصور الكلام.   (1) ((درء التعارض)) (1/ 267. 2/ 110)، ((مجموع الفتاوى)) (6/ 64). (2) ((درء التعارض)) (2/ 110). (3) ((درء التعارض)) (2/ 114 - 115)، و (6/ 268)، وفيها بيان حماقاتهم الأخرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 فالساكت هو الساكت عن الكلام، والأخرس هو العاجز عنه. أو الذي حصلت له آفة في محل النطق تمنعه عن الكلام. وحينئذ فلا يعرف الساكت والأخرس حتى يعرف الكلام ولا يعرف الكلام حتى يعرف الساكت والأخرس، فتبين أنهم لم يتصوروا ما قالوه ولم يثبتوه. بل هم في "الكلام" يشبهون النصارى في "الكلمة". وما قالوه في "الأقاليم" و"التثليث" و"الاتحاد". فإنهم يقولون: ما لا يتصورونه ولا يبينونه، والرسل عليهم السلام إذا أخبروا بشيء ولم نتصوره وجب تصديقهم. وأما ما يثبت بالعقل فلابد أن يتصوره العاقل به، وإلا كان قد تكلم بلا علم، فالنصارى تتكلم بلا علم، فكان كلامهم متناقضاً ولم يحصل لهم قول معقول. كذلك من تكلم في كلام الله بلا علم كان كلامه متناقضاً، ولم يحصل له قول يعقل، ولهذا كان مما يشنع به على هؤلاء أنهم احتجوا في أصل دينهم ومعرفة حقيقة الكلام - كلام الله وكلام جميع الخلق - بقول شاعر نصراني يقال له الأخطل ... " (1).قلتُ: لقد صدق شيخ الإسلام المطلع على أقوال المتكلمين - فقد اعترف الآمدي (631هـ) الذي لقبوه بسيف الدين: بأن الجواب عن الإشكالات الواردة على الكلام النفسي مشكل (2). وهكذا حال الماتريدية في تناقضهم واضطرابهم وعجزهم عن إقامة حجة صحيحة على "الكلام النفسي". ويشهد لما ذكرناه ما يلي من الأمور: الأول: أن الجرجاني (816هـ) قد فر من إثبات الكلام النفسي بالمعنى الذي تريده عامة الماتريدية واختار ما اختاره الإيجي (756هـ) الأشعري الذي أحس أن إثبات الكلام النفسي صعبٌ دونه خرط القتاد فخالفهم في تفسير كلام الأشعري حول الكلام النفسي واعترف بالكلام اللفظي وقال: "هذا الذي فهموه من كلام الشيخ الأشعري باطل إذ له لوازم باطلة كثيرةٌ". ثم ذكر عدة من تلك اللوازم الباطلة العاطلة منها: أ- عدم إكفار من أنكر كلاميّة ما بين دفتي المصحف مع أنه علم من الدين بالضرورة كونه كلام الله حقيقة. ب- عدم المعارضة والتحدي بكلام الله الحقيقي. ج- ذم كون المقروء والمحفوظ كلامه حقيقة. ثم قال الجرجاني: "إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتفطن فوجب حمل كلام الشيخ الأشعري على المعنى الثاني الشامل للفظ والمعنى". ثم قال: "هذا الذي ذكرناه وإن كان مخالفاً لما عليه متأخروا أصحابنا إلا أنه بعد التأمل تعرف حقيقته". ثم قال الجرجاني مقرراً لمقالة الإيجي ومجرجراً: "وهذا المجمل لكلام الشيخ مما اختاره الشيخ محمد الشهرستاني (548هـ) في كتابه المسمى بـ"نهاية الأقدام"،ولا شبهة في أنه أقرب إلى الأحكام الظاهرية المنسوبة إلى الملة" (3).الثاني: أنه قد نقل عبارة الجرجاني هذه الشيخ عصام الدين الإسفراييني (951هـ) فقد أسفر عن الاضطراب وضعفهم عن إقامة الحجة على إثبات الكلام النفسي واعترف بما اعترف به الجرجاني، فقال: "ولا شبهة في كونه أقرب ... " (4).   (1) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 295 - 296)، وانظر ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 426 - 427)، الطبعة الجديدة و (2/ 290 - 292)، الطبعة القديمة. (2) كما في ((درء التعارض)) (4/ 119)، و ((مجموع الفتاوى)) (6/ 221)، والآمدي قال ذلك في كتابه المشهور ((أبكار الأفكار)) (1/ 98/أ)، ((مخطوط دار الكتب المصرية برقم 1603، علم الكلام كما في تعليق الدكتور محمد رشاد سالم على درء التعارض)) (1/ 164). (3) انظر: ((شرح المواقف)) (8/ 103 - 104)، وقد نقل الجرجاني مقالة الإيجي عن مقالته المفردة ولم أجدها في المواقف وراجع ((نهاية الإقدام)) (ص 312 - 313). (4) ((حاشية العصام على ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص 118 - 189). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 الثالث: أن المرعشي (1150هـ) أيضاً صنع مثل ما صنع أسلافه واعترف فذكر كلام الإيجي والتفتازاني بكامله ثم قال مرتعشا:"أقول: الحاصل أن كلامه تعالى هو العبارات المنظومة كما هو مذهب السلف" (1).الرابع: أن عبدالحكيم السيالكوتي (1067هـ) اختار حكمة أخرى في التحير والاضطراب والرد على جماعته، لا أطيل المقام بذكرها من شاء الإطلاع عليها فليراجع كلامه (2). الخامس: أن الشيخ رمضان البهشتي شارح حاشية الخيالي اختار خيالاً آخر ولوناً من الاعتراف بالعجز حيث قال بِهَشٍّ وبَهْشٍ:"إن ثبوت القرآن النفسي دونه خرط القتاد" (3).وهكذا نرى كثيراً منهم يضطربون في هذا الأمر وهذا دليل عجزهم عن إثبات الكلام النفسي (4).9 - 12 - وللإمام ابن الجوزي (597هـ) ومؤرخ الإسلام ناقد الرجال الذهبي (748هـ) والإمامين: ابن القيم (751هـ) وابن أبي العز الحنفي (792هـ) كلام قيم - فراجعه - في بيان مخالفتهم للعقل والنقل وإجماع أهل السنة، وأهل البدعة في آن واحد (5). الوجه الثامن: أننا نسأل الماتريدية أن الله تعالى لما كلم موسى تكليماً: هل فهم موسى جميع كلام الله أم بعضه؟ كما نسأل الأشعرية: هل سمع موسى عليه السلام جميع كلام الله أم بعضه؟. فإن قلتم: فهم موسى أو سمع جميع كلام الله تعالى، فقد ارتكبتم كفراً بواحاً آخر حيث ادعيتم أن موسى أحاط بجميع كلام الله وعلمه، وقلتم بأن لكلامه انتهاءً ولا تقولون به أبد الآبدين، ولا عوض العائضين. وإن قلتم: فهم أو سمع بعضه، فقد أبطلتم "الكلام النفسي" حيث قلتم بتجزئة كلام الله تعالى، وأنتم تقولون: "الكلام النفسي" أمر واحد لا يتجزأ وهدمتم بنيانكم بيانكم، وأخربتم بيوتكم بلسانكم. قال الإمام أبو نصر السجزي الوائلي الحنفي (444هـ) رحمه الله. "خاطبني بعض الأشعرية يوماً في هذا الفصل وقال: "التجزؤ على القديم غير جائز". فقلتُ له: أتقر بأن الله اسمع موسى كلامه على الحقيقة بلا ترجمان؟. فقال: "نعم". وهم يطلقون ذلك ويموهون على من لم يخبر مذهبهم، وحقيقة سماع كلام الله من ذاته على أصل الأشعري محال. لأن سماع الخلق على ما جبلوا عليه من البنية، وأجروا عليه من العادة - لا يكون البتة إلا لما هو صوت أو في معنى الصوت. وإذا لم يكن كذلك كان الواصل إلى معرفته بضرب من العلم والفهم. وهما يقومان في وقت مقام السماع لحصول العلم بهما كما يحصل بالسماع. وربما سمى ذلك سماعاً على التجوز لقربه من معناه. فأما حقيقة السماع لما يخالف الصوت فلا يتأتى للخلق في العرف الجاري. فقلت لمخاطبي الأشعري: قد علمنا جميعاً أن حقيقة السماع لكلام الله منه على أصلكم محال. وليس ههنا من تتقيه وتخشى تشنيعه. وإنما مذهبك: أن الله يفهم من شاء كلامه بلطيفة منه، حتى يصير عالماً متيقناً بأن الذي فهمه "كلام الله". والذي أريد أن ألزمك وأردٌ على الفهم وروده على السماع. فَدَعِ التمويه ودع المصانعة.   (1) انظر ((نشر الطوالع)) (ص 256 - 258) وهو حنفي جلد ماتريدي صلب. (2) انظر ((حاشية على حاشية الخيالي على شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص 258 - 259، 265). (3) انظر: ((حاشية على حاشية الخيالي على شرح العقائد النسفية)) (ص 67). (4) انظر: ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص 55 - 63)، و ((حاشية الكستلي عليه)) (ص 90)، و ((حاشية أحمد الجندي عليه أيضاً)) (ص 120) و ((انظر حاشية العصام عليه أيضا)) (ص 177، 187 - 189). (5) انظر: ((المنتظم)) (6/ 332)، ((العلو)) (119 - 120)، و ((مختصره للألباني)) (ص 175)، و ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 277 - 232)، الطبعة القديمة و (ص 417 - 453)، الطبعة الجديدة و ((شرح الطحاوية)) (ص 179 - 203)، و ((نهاية الإقدام)) (ص 313). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 ما تقول في موسى عليه السلام حيث كلمه الله؟. أفهم كلام الله مطلقاً أم مقيداً؟. فتلكأ قليلاً، ثم قال: "ما تريد بهذا"؟. فقلتُ: دع إرادتي، وأجب بما عندك، فأبى وقال: "ما تريد بهذا"؟. فقلتُ: أريد أنك إن قلت: "إنه عليه السلام فهم كلام الله مطلقاً". اقتضى أن لا يكون لله كلام من الأزل إلى الأبد إلا وقد فهمه موسى - وهذا يؤول إلى الكفر ... وإذا لم يجز إطلاقه وألجئت إلى أن تقول: "أفهمه الله ما شاء من كلامه". دخلت في التبعيض الذي هربت منه، وكَفَّرْتَ من قال به، ويكون مخالفك أسعد منك، لأنه قال بما اقتضاه النص الوارد من قبل الله عز وجل، وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت أبيت أن تقبل ذلك وادعيت: "أن الواجب المصيرٌ إلى حكم العقل في هذا الباب". وقد ردك العقل إلى موافقة النص خاسئاً. فقال: هذا يحتاج إلى تأمل".وقطع الكلام ... " (1). وقال شيخ الإسلام: " ... فقيل لهم: عندكم هو معنى واحد لا يتبعض ولا يتعدد. فموسى فهم المعنى كله أو بعضه؟.إن قلتم كله فقد علم علم الله كله، وإن قلتم بعضه فقد تبعض وعندكم لا يتبعض!!! " (2). الوجه التاسع: أنه يلزم من مقالتكم أن القرآن الكريم إن ترجم إلى العبرية كان توراةً وإن ترجم إلى السريانية كان إنجيلاً وكذا يلزم أن التوراة إن ترجمت إلى العربية كانت قرآناً، وكذا يلزم أن الإنجيل إن ترجم إلى العبرية كان توراة وإن ترجم إلى العربية كان قرآنا، فهل تقولون بهذه اللوازم الباطلة؟. ولا محيد لكم من التزام هذه الخرافات والخزعبلات التي لزمتكم من قولكم الفاسد الباطل، إلا أن ترجعوا إلى مذهب أهل السنة المحضة وتوافقوا العقل والنقل والإجماع. الوجه العاشر: أنه يلزمكم أن يكون خبر الله تعالى عين الإنشاء وبالعكس وأمره عين النهي وبالعكس. قال الإمام ابن أبي العز الحنفي: " ... وهذا الكلام فاسد فإن لازمه أن معنى قوله: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى [الإسراء: 32] هو معنى قوله: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ [البقرة: 43] ومعنى آية الكرسي هو معنى "آية الدين". ومعنى "سورة الإخلاص" هو معنى تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد: 1] وكلما تأمل الإنسان هذا القول تبين له فساده، وعلم أنه مخالف لكلام السلف ... " (3). الوجه الحادي عشر: أن الماتريدية صرحوا بأن كلام الله تعالى صفة تنافي الخرس والسكوت والآفة كما تقدم نص كلامهم. ومعلوم أن الخرس والسكوت والآفة تنافي الكلام اللفظي ولا تنافي الكلام النفسي. أما من وصل في الحماقة إلى حد قال: إن السكوت والخرس قد يكونان نفسيين فينافيان الكلام النفسيَّ - كما هذى بذلك فيلسوفهم التفتازاني (792هـ) (4) فقد كابر بداهة العقل الصريح، وعارض النقل الصحيح، وصار من السوفسطائية العنادية؛ لخروجه على النقليات والعقليات والبداهة في آن واحد معاً. ويجب عليه أن يتهم نفسه ويترك وساوسه ويداوي عقله وينابذ هواجسه فمثله لا يكون من أولي الألباب بل ينبغي أن يربط بخيشومه في الاصطبل مع الدواب لئلا يتلاعب بكلام رب الأرباب، ولا يحرف نصوص السنة والكتاب، فهل مثل هؤلاء أهل الدراية؟ وبم يتطاولون على أهل الرواية. الوجه الثاني عشر: أن القرآن الكريم معجزٌ أعجز البشر عن أن يأتوا بمثله، وأن الله تعالى تحدى به الكفار بل الإنس والجن جميعاً، أن يأتوا بمثله أو بعشر سور مثله أو بسورة بمثله أو بحديث مثله.   (1) ((درء التعارض)) (2/ 90 - 92)، عن كتاب ((الإبانة)) له. (2) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 226). (3) ((شرح الطحاوية)) (ص 191 - 192)، وراجع أيضاً ((درء التعارض)) (4/ 119 - 124). (4) انظر ((شرح العقائد النسفية)) (ص 55)، و ((مع النبراس)) (ص 141)، ط الجديدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 فقال الله تعالى: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88] وقال سبحانه: قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ [هود:13] وقال جل وعلا: فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ [البقرة:23] وقال عز وجل: فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ [يونس:38] وقال عز من قائل: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ [الطور:34] فالقرآن معجز ومتحدّىً به. ومعلوم أن "الكلام النفسي" لا يتصور معارضته ولا يتحدى به؛ فلو لم يكن هذا القرآن العربي كلام الله تعالى على الحقيقة لما كان مُعجزاً أعجز الجن والإنس، ولم يكن متحدى به تحدى الله به الخلق؛ وهذا واضح لمن عرف قيمة كتاب الله وقدر كلام الله سبحانه وتعالى. وللإمام ابن أبي العز الحنفي (792هـ) كلام قيم فارجع إليه (1). الوجه الثالث عشر: أن المجاز يجوز نفيه، فإذا قلنا لرجلٍ شجاعٍ: هو أسدٌ، يجوز لنا أن نقول: هو ليس بأسدٍ حتى باعتراف الماتريدية (2). فلو لم يكن هذا القرآن العربُّي كلام الله تعالى على الحقيقة. لجاز لنا أن نقول: إنه ليس كلام الله. وما أظن أن أحداً ينتسب إلى الإسلام يتجرأ على هذا الكفر البواح والارتداد الصراح، لا الماتريديةَ، ولا أحداً غيرهم من الجهمية. الوجه الرابع عشر: أن الكلام النفسي شيء معدوم محض لا وجود له ولا عبرة له فلا تتعلق به الأحكام؛ لأنه من قبيل حديث النفس وخواطرها ووساوس القلب وهواجس الصدور. فلا يُحل حراماً ولا يُحرّم حلالاً ولا يَدْخلُ به المرءُ في الإسلام ولا يخرج به عنه إلى الكفر ولا يقع به الطلاق ولا العتاق ولا تفسد به الصلاة بالاتفاق (3). فهل تريد الماتريدية أن يجعلوا كلام الله تعالى معدوماً؟. الوجه الخامس عشر: أن ما يسمونه "الكلام النفسي" إن قد تصوره وتعقله - فهو ليس إلا قدرةً بالكلام، أو العلمَ به لا عين الكلام، لأنهما غيرُ الكلام، فهما صفتان فيكون "كلام" الله عندكم قدرةً عليه، أو يكون "كلاماً" بالقوة، لا "كلاماً" بالفعل!. أو يكون "الكلام" عندكم "علماً"؛ فنسألكم: هل الله عندكم متكلم بالفعل أم بالقوة؟ فإن قلتم: هو متكلم بالفعل - فقد أبطلتم "الكلام النفسي" وهدمتم بنيانكم على أمهات رؤوسكم وأخربتموه بأيديكم؛ حيث بنيتموه على شفا جرف هار، فانهار عليكم بنيانكم المنهار، وإن قلتم: هو متكلم بالقوة - فقد أبطلتم صفة "كلام" الله، ونفيتموها وحرفتموها إلى "العلم" أو "القدرة" وهذا عين التعطيل والتحريف. وهذه حقيقة قد أسفر عنها عصامكم الإسفرايني (951هـ) حيث قال معترفاً مسفراً عن أسراركم، غير عاصم لأدباركم:   (1) ((شرح الطحاوية)) (ص 200)، وراجع أيضاً ((الرد على الجهمية)) للدارمي (ص 99). (2) انظر: ((شرح العقائد النسفية)) (ص 61)، و ((النبراس)) (ص 230)، و ((حاشية العصام على شرح العقائد النسفية)) (ص 188). (3) ((الإيمان)) (ص 131 - 132)، ((مجموع الفتاوى)) (7/ 137 - 138)، ((شرح الطحاوية)) (ص 199). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 "إن صفة الكلام إما راجعة إلى صفة العلم بهذه المعاني كما قيل؛ أو إلى صفة قدرة التفسير عنها وإظهارها كما يمكن أن يقال".ثم قال مختاراً محتاراً: "إن صفة الكلام لا تنكشف بهذا البيان فينبغي أن يحال علمه إلى الله ويُعْتَرفَ بأن له كلاماً ... (1) بل صرح جرجانيكم (816هـ) مجرجراً بأن الكلام النفسي هو العزم والتخيل (2) ولا شك أن القدرة على الكلام أو العلم به أو العزم عليه أو تخيله غير الكلام بلا ريب وكل هذا لا يسمى كلاماً حتى باعتراف من اعترف منكم. إذن ليس هذا إلا تضليلاً وتعطيلاً لهذه الصفة، وتخريفاً وتحريفاً لنصوصها، فهذا التحريف كتحريفكم لصفة "اليد" إلى "القدرة". وقد تقدم شهادة إمامكم الأعظم الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى (150هـ) مع شهادات ثمانيةٍ آخرين من كبراء أئمتكم أمثال البزدوي (482هـ) والسرخسي (490هـ) والنسفي (710هـ) والبخاري (730هـ) والمغنيساوي (كان حيا 939هـ) والقاري (1014هـ) وشيخ زاده (1078هـ) والبياضي (1098هـ) على أن تأويل صفة "اليد" بصفة "القدرة". إبطال لصفة "اليد" وهو مذهب أهل القدر والاعتزال. فهل تتعظون بنصوص أئمتكم؟ أم تصرون على مخالفة أئمتكم؟ مع مخالفة العقل والنقل، واللغة والعرف والإجماع في آن واحدْ!! الوجه السادس عشر: أن القول بالكلام النفسي قولكم بأفواهكم، ولا نظن بكم أن قلوبكم تشهد له، لأنه خلاف المعقول الصريح والمنقول الصحيح والفطرة والإجماع واللغة والعرف جميعاً في آن واحد كما تقدم. بل هو قول به تضاهئون قول الذين كفروا من قبل، وهم النصارى. قال الإمام ابن أبي العز الحنفي (792هـ): "وهنا معنى عجيبٌ، وهو: أن هذا القول له شبهٌ قوىٌ بقول النصارى القائلين، باللاهوت والناسوت. فإنهم يقولون: كلام الله هو المعنى القائم بذات الله الذي لا يمكن سماعه، وأما النظم المسموع فمخلوق؛ فإفهام المعنى القديم بالنظم المخلوق يشبه امتزاج اللاهوت بالناسوت الذي قالته النصارى في عيسى عليه السلام. فانظر إلى هذا الشبه ما أعجبه! " (3).قلتُ: هكذا طريقة الجهمية الأولى وأهل الحلول المطلق والمقيد، والاتحاد (4). ولسان حال هؤلاء الطوائف المتشابهة ينشد ما يلي: رق الزجاج وراقت الخمر ... وتشابها فتشاكل الأمر فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر فتشابها بما كلتاهما نجلاء ... بل أقول: لو سمحت لي الماتريدية لأبوح لهم: إن قولكم: "إن موسى لم يسمع كلام الله على الحقيقة بل سمع صوتاً مخلوقاً في الشجرة، هو عين كلام النصارى ولعلكم أخذتموه من النصارى إما بواسطة بشر المريسي الحنفي الجهمي إمام المرجئة المريسية (228هـ) أو غيره. قال شيخ الإسلام: "كان المريسي قد صنف كتاباً في نفي الصفات وجعل يقرؤه بمكة في أواخر حياة ابن عيينة، فشاع بين علماء أهل مكة ذلك، وقالوا: "صنف كتاباً في التعطيل". فسعوا في عقوبته وحبسه وذلك قبل أن يتصل بالمأمون ويجري من المحنة ما جرى، وقول ابن عيينة" ما أشبه هذا الكلام بكلام النصارى" (5).-   (1) انظر ((حاشية العصام على شرح العقائد النسفية)) (ص 177)، و ((البدور)) (ص 108). (2) انظر: ((شرح المواقف)) (8/ 97)، وانظر ((البدور البازغة)) (ص 108). (3) ((شرح الطحاوية)) (ص 198 - 199)، وراجع ((مجموع الفتاوى)) (6/ 296)، وانظر أيضاً كلاماً قيماً للإمام الأشعري في ((الإبانة)) (ص 68)، تحقيق فوقية، و (ص 55)، تحقيق الأرناؤوط، طبعة دار البيان، و (ص 89) طبعة الجامعة الإسلامية. (4) راجع ((درء التعارض)) (5/ 169 - 171)، ففيه شرح واف كاف للحلول المطلق والمقيد، وبيان وجه الشبه بينهم وبين النصارى. (5) كلام ابن عيينة هذا رواه أبو نعيم في ((الحلية)) (7/ 296). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 هو كما قال: كما قد بسط في غير هذا الموضع؛ فإن عيسى مخلوق وهم يجعلونه نفس الكلمة ولا يجعلونه المخلوق بالكلمة. وأيضاً فأئمة النصارى كـ (نشتكين) أحد فضلائهم الأكابر يقولون: "إن الله ظهر في سورة البشر مترائياً لنا كما ظهر كلامه لموسى في الشجرة، فالصوت المسموع هو كلام الله وإن كان خلقه في غيره وهذا المرئي هو الله وإن كان قد حل في غيره ... " (1). الوجه السابع عشر إلى الوجه الخامس والعشرين: أن من الحقائق الواقعية: أنه لم يكن نزاع بين المسلمين في كون القرآن الكريم كلام الله تعالى وأنه غير مخلوق. حتى جاء دور الجهمية ووقعت الفتنة الكبرى، والقاصمة العظمى فصار الناس فريقين ولا ثالث للفرقدين. وهذا أمرٌ لم يختلف فيه اثنان، ولم يتناطح فيه كبشان. وإليك بيان ما عليه الفريقان؛ إن كان لك أذنان: الفريق الأول: أتباع الأنبياء والمرسلين والصحابة والتابعين سلف هذه الأمة وهم أهل السنة والجماعة أصحاب الحديث والفقه وأئمة السنة. فكانوا يقولون: القرآن غير مخلوق. الفريق الثاني: هم الجهمية أتباع اليهود والمجوس والصابئين. فكانوا يقولون: القرآن غير مخلوق. ولا يرتاب أحد أن هؤلاء الفريقين من أهل السنة وأهل البدعة جميعاً يقصدون هذا القرآن العربي المؤلف من السور والآيات التي كان هؤلاء الفريقان يتلونها آناء الليل وأطراف النهار، فكان النزاع في هذا القرآن الموجود بين أظهر المسلمين الذين يقرؤونه بكرة وأصيلاً سجداً وقياماً راكعين ساجدين ليس إلا. ولم يقل أحد منهم أن "الكلام النفسي" مخلوق أو غير مخلوق، ولا أحد تصور ذلك فضلاً أن يقوله ويجعله مقالة يدعو إليها. لأن بدعة "الكلام النفسي" قد ابتدعها ابن كلاب وتوفي بعد (240هـ) كما تقدم تحقيقه في كلام شيخ الإسلام وغيره من أئمة السنة. واعترف بذلك التاج السبكي عبد الوهاب (771هـ) الأشعري وقبله إمامه الشهرستاني (548هـ) اعترافاً واضحاً قاطعاً للنزاع (2).كما اعترف به الزبيدي الحنفي الماتريدي (1205هـ) (3).بل اعترف بذلك رافع لواء الجهمية ومجدد الماتريدية الكوثري الجركسي أيضاً (4). بل اعترف بهذه الحقيقة قبل الكوثري والزبيدي كبار أئمة الماتريدية منهم فيلسوفهم التفتازاني (792هـ) وغيره من أساطين الماتريدية. فاستمع أيها المسلم طالب الحقيقة إلى كلامهم:- قال التفتازاني: "وتحقيق الخلاف بيننا وبينهم - (أي المعتزلة) - يرجع إلى إثبات "الكلام النفسي" ونفيه. وإلا فنحن لا نقول بقدم الألفاظ والحروف - (أي بعدم كونها مخلوقة) - وهم - (أي المعتزلة) - لا يقولون بحدوث الكلام النفسي - أي بكونه مخلوقاً" (5). وقال متكلم الماتريدية الهندية الفريهاري (كان حياً 1239هـ (: "فلا نزاع - أي بين الماتريدية وبين المعتزلة - فإنا إذا قلنا: القرآن غير مخلوق أردنا النفسي". وإذا قالوا: القرآن مخلوق أرادوا "اللفظي". فنحن لا نقول بقدم الألفاظ والحروف بل بحدوثه كما قالت المعتزلة، وهم لا يقولون بحدوث النفسي بل ينكرون وجوده. ولو ثبت عندهم لقالوا بقدمه مثل ما قلنا ... " (6).   (1) ((شرح العقيدة الأصبهانية)) (ص 65). (2) نظر: ((طبقات الشافعية له)) (ص 300) وراجع ((نهاية الإقدام)) (ص 313). (3) انظر ((شرح الإحياء له)) (2/ 6). (4) انظر ((مقدمة تبين كذب المفتري)) (ص 15). (5) ((شرح العقائد النسفية)) (ص 58)، و ((حاشية أحمد الجندي على شرح العقائد النسفية)) (ص 121 - 122)، و ((حاشية الكستلي على شرح العقائد النسفية)) (ص 92)، و ((تعليقات الكوثري على الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص 251). (6) ((النبراس)) (ص 223)، ط القديمة، و (ص 145)، ط الجديدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 وهكذا اعترف الشهرستاني (548هـ) الأشعري بأن قول السلف والحنابلة بالاتفاق: إن ما بين الدفتين كلام الله وإن ما نقرأه ونسمعه ونكتبه عين كلام الله على الحروف وأنه غير مخلوق. وكانت مقالة المعتزلة على خلاف مقالة السلف. ثم جاء الأشعري بأبدع مقالة ثالثة وخرق الإجماع وحكم بأن ما نقرأه، كلام الله مجازاً (1).ولصدق المرعشي الحنفي الماتريدي (1150هـ) بأن مذهب السلف أن كلامه تعالى هو العبارات المنظومة (2). وإذا اعترفت الماتريدية وخلطاؤهم الأشعرية بهذه الحقيقة من أن خلاف أهل السنة جميعاً وأهل البدعة كان في هذا القرآن العربي المؤلف من السور والآيات - تبين بإتقان وإيقان - لا يرتاب فيه اثنان. ما يلي من الحقائق المبنّية على اعترافهم السابق: الأولى: أن الماتريدية والأشعرية خرقوا بكلامهم النفسي إجماع أهل الحق وأهل الباطل جميعاً. الثانية: أنهم أحدثوا مذهباً ثالثاً بعد مذهبين. الثالثة: أنهم قائلون بخلق القرآن كسلفهم الجهمية دون أي فرق. الرابعة: أنهم جمعوا بين بدعة الجهمية من القول بخلق القرآن وبين بدعة القول بالكلام النفسي. الخامسة: أن الجهمية الأولى ابتدعوا بدعة واحدة وهي بدعة القول بخلق القرآن لكن هؤلاء زادوا بدعة أخرى وهي بدعة الكلام النفسي. السادسة: أنهم أهل البدعة جهمية، أتباع الجهمية الأولى لِجَهْرِهم دون حياءٍ بالقول بخلق القرآن. فأنَّى لهم أن يكونوا من أهل السنة؟ وقد ارتكبوا بدعة الجهمية من القول بخلق القرآن وزادوا بدعة الكلام النفسي، مع بدعهم الأخرى الكثيرة. السابعة، والثامنة: أن هؤلاء معطلة لصفة "كلام" الله تعالى، ومحرفة لنصوصها بدليل ما يأتي: التاسعة: أن حمل نصوص الكتاب والسنة وتصريحات سلف الأمة وأئمة السنة على "الكلام النفسي" تحريفٌ وتحريفٌ وضلال وإضلالٌ. كما أن حملها على "الكلام" الذي تقصده الماتريدية إفساد وإبطال. لأن هذه اصطلاحات مبتدعة محدثة بعد لغة القرآن والسنة وسلف الأمة؛ فيكون حمل نصوص الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة وتصريحات أئمة السنة- مع تلك الكثرة الكاثرة التي تزيد على آلاف الآلاف - على تلك المصطلحات الكلامية المبتدعة تحريفاً محضاً بحتاً، فقد صرح مجددهم الكوثري (1371هـ) بأن حمل النصوص من الآيات والآثار على المصطلحات التي وجدت بعد عهد التنزيل بدهور- بُعْدٌ عن تخاطب العرب وتفاهم السلف، واللسان العربي، ومن زعم ذلك زاغ عن منهج الكتاب والسنة وتنكب سبيل السلف الصالح. قلت: لقد أنطق الله هذا الكوثري ببعض الحق فاعترف كما ترى ولكن هذا الاعتراف ليس في صالحه ولا في صالح أمته الماتريدية بل وبال عليهم جميعاً فالكوثري والماتريدية جميعاً قد خالفوا اعترافهم وحملوا نصوص الكتاب والسنة وآثار سلف هذه الأمة وأقوال أئمة السنة على اصطلاحاتهم المبتدعة بعد عهد التنزيل بدهور. فقد حملوا نصوص أمثال الأئمة: أبي حنيفة وأبي يوسف وابن المبارك على الكلام النفسي كما سبق وما سيأتي إن شاء الله. فهم - باعترافهم- قد نابذوا تخاطب العرب وعاكسوا تفاهم السلف وحرفوا اللسان العربي، وزاغوا عن منهج السلف وتنكبوا سبيل السلف الصالح. حيث حملوا نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف على "الكلام" النفسي" الذي لم يخطر بخواطرهم، فكيف تحمل نصوصهم عليه؟. وفيما يلي بعض النماذج:- أ- استدل الإمام أبو منصور الماتريدي (333هـ). لإثبات صفة "الكلام" لله تعالى بقوله سبحانه وتعالى: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] وقوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ [البقرة: 118]   (1) ((نهاية الإقدام)) (ص 313). (2) انظر ((نشر الطوالع)) (ص 258). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 وقوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:75] ثم قال الماتريدي بعد ما ذكر الحجج السمعية:- "وأما العقل: إن كل عالم قادرٍ لا يتكلم فعن آفة يكون من عجز أو منع، والله عنه متعال، ثبت أنه متكلم. على أن الذي لا يتكلم في الشاهد، إنما لا يتكلم - بالمعنى الذي لا يسمع ولا يبصر - من الآفة والله منزه عن المعنى الذي يقتضي الصمم والعمى، وكذلك البكم. وهو أولى (به) إذ هو أجل ما يحمد به في الشاهد، وبه ينفصل البشر عن سائر الحيوان مع ما كان كل محتمل الكلام فعن عجز لا يتكلم أو عن السكوت" (1). قلت: يا ترى هذه الحجج السمعية والنقلية التي ذكرها الإمام الماتريدي هل تُثْبِتُ "الكلام النفسي" أم تجعله نسفاً هباء منثوراً كأمس الدابر؟؟. وهل كان هؤلاء الكفار يطالبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يكلمهم الله كلاماً لفظياً يسمعونه أم كلاماً نفسياً لا يسمعونه؟؟. وهل الآفة والخرس والسكوت تنافي الكلام اللفظي أم النفسي و. سبحان قاسم العقول!!!؟ ب- وهكذا بقية الماتريدية بعد الماتريدي يحتجون بحجج سمعية من الكتاب والسنة وأقوال السلف وإجماعهم لإثبات الكلام النفسي (2). مع أن حججهم جميعاً حججٌ عليهم وترتد في نحورهم؛ لأنها تدل على الكلام اللفظي المضاد للكلام النفسي فدلت هذه الحجج على ضد مطلوبهم فحملهم على "الكلام النفسي" تحريف محض وتخريف بحت. ج-د- قال الإمام أبو يوسف القاضي (182هـ) أحد أئمة الحنفية الثلاثة: "ناظرت أبا حنيفة ستة أشهر فاتفق رأينا على أن من قال: القرآن مخلوق فهو كافر".قال الإمام فخر الإسلام البزدوي (482هـ): "وقد صح عن أبي يوسف أنه قال: ... "، فذكره. ثم قال: "وصح هذا القول عن محمد" (3). هـ-ح- وقال الطحاوي عن الأئمة الثلاثة: (إن القرآن كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولا ... بالحقيقة) (الطحاوية بشرحها 179). قلتُ: هل كان أبو حنيفة وأبو يوسف يتناظران في خلق الكلام النفسي أم في خلق هذا القرآن؟ العربي المؤلف من السور والآيات؟. النفسي أم في خلق هذا القرآن؟ العربي المؤلف من السور والآيات؟. حتى أستقر رأيهما على أن من قال: القرآن مخلوق فهو كافر. وأقول: أليس نصهم "قولاً بالحقيقة" محكماً في القرآن العربي؟ فهل كانوا يريدون: أن من قال: الكلام النفسي مخلوق فهو كافر؟!. أم يقصدون: أن من قال: هذا القرآن العربي المؤلف مخلوق فهو كافر؟.   (1) ((كتاب التوحيد)) (ص 57 - 58)، مع غموض في العبارة. (2) انظر ((أصول الدين)) لأبي اليسر البزدوي (ص 58 - 59)، و ((شرح العقائد النسفية)) (ص 54)، و ((إرشاد العقل السليم)) (2/ 256). (3) ((كنز الوصول المعروف بأصول البزدوي)) (ص 3 - 4)، و ((مع شرحه كشف الأسرار)) للعلاء البخاري (1/ 9)، وتوجد روايات أخرى في تبرئة هؤلاء الأئمة من القول بخلق القرآن. راجع ((شرح أصول الاعتقاد للالكائي)) (2/ 269 - 271). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 فالآن نتحاكم إلى حكم الإنصاف والعقل الصحيح الصريح ليحكما بيننا ليعلم من الأفاك البهات المحرف والمخرف لكلام الأئمة! مع العلم أن فكرة "الكلام النفسي" لم تكن موجودة ولم تخطر بالبال في ذلك الوقت. لكن لما جاء دور الكوثري حمل هذه المناظرة على الكلام النفسي (1).فكابر العقل الصريح والنقل الصحيح وارتكب الحمق الجلي وقلب الحقائق ولذلك وقف له شيخنا المحدث الألباني بالمرصاد فكشف الأستار عن أسراره (2). ط- قال الإمام ابن المبارك إمام المحدثين والفقهاء (181هـ).الذي جعلته الكوثرية حنفياً (3). من قال: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه:14] مخلوق فهو كافر".ي- ذُكِرَ للإمام يحيى بن سعيد القطان (198هـ) سيد الحفاظ الذي تجعله الكوثرية حنفياً (4)، أن قوماً يقولون: القرآن مخلوق. فقال: "كيف يصنعون بـ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] كيف يصنعون بقوله: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا "يكون مخلوقاً"؟. المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني 3/ 73 إبطال زعم الماتريدية أن كلام الله ليس بحرف ولا صوت ولا مسموع تقدم أن بَيَّنا في عرض مذهب الماتريدية في (كلام الله) تعالى: أنهم عطلوا كلامه تعالى، وحرفوا نصوصه إلى "الكلام النفسي" وقالوا: إن كلام الله تعالى، نفسي لا بحرف ولا صوت، فلا يمكن سماع كلام الله تعالى، وأن موسى عليه السلام لم يسمع كلام الله وإنما سمع صوتاً مخلوقاً وحروفاً مخلوقة في الشجرة. وإن هذا القرآن العربي ليس كلام الله تعالى، على الحقيقة وإنما هو دال على كلام الله النفسي وعبارة عنه. وإنه مخلوق. ولأهل السنة وأئمتها أنواع من النقض عليهم أذكر منها ما يلي: النقض الأول: لقد سبق أن ذكرنا وجوهاً متعددة عقلية وسمعية ولغوية وإجماعية مشتملة على براهين ساطعة وحجج ناصعة. على إبطال "الكلام النفسي" وأنه لا يسمى كلاماً عند الإطلاق؛ فبإبطال "الكلام النفسي" ثبت الكلام اللفظي؛ لأنه لا قائل بالفصل، فثبت أن كلامه سبحانه وتعالى، بحرف وصوت يُسْمِعهُ من شاء من خلقه وأن صوته تعالى لا يشبه أصوات خلقه كما أن كلامه لا يشبه كلامهم (5). فإذا تكلم العباد بالقرآن لا يكون القرآن لأجل ذلك مخلوقاً. بل أصواتهم مخلوقة والقرآن المقروء المتلو كلام الله غير مخلوق (6).فالعباد بأفعالهم مخلوقين والله بصفاته وأفعاله غير مخلوق (7).   (1) انظر ((تعليقاته على الأسماء والصفات)) (ص 251)، وتأنيب الكوثري (ص 97، 107)، ((لفت اللحظ)) (ص 48)، و ((الإمتاع)) (ص 58). (2) ((مختصر العلو)) (ص 156 - 157)، و ((أشار الحافظ على بطلان زعمهم في الفتح)) (13/ 455). (3) انظر ((فقه أهل العراق)) (ص 61)، و ((تقدمة نصب الراية)) (ص 41). (4) انظر ((فقه أهل العراق)) (ص 62) و ((تقدمة نصب الراية)) (ص 41). (5) انظر ((خلق أفعال العباد)) (ص 149)، و ((درء التعارض)) (2/ 38، 40)، و ((مجموع الفتاوى)) (12/ 304 - 305، 365، 584 - 586، 6/ 527 - 528). (6) انظر ((درء التعارض)) (2/ 40)، و ((مجموع الفتاوى)) (12/ 365). (7) انظر ((درء التعارض)) (2/ 40)، و ((مجموع الفتاوى)) (12/ 365). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 فإذا قرأ القارئ القرآن - فصوته مخلوق والمقروء غير مخلوق. فالصوت المسموع من العبد صوت القارئ والكلام الذي يقرؤه القارئ كلام الباري (1).فتكلم العباد بكلام رب العباد،، لا يجعل كلام رب العباد ككلام العباد (2)،،؛لأن كل كلام ينسب إلى الله قائله الأول، إن كان نثراً فإلى ناثره، أو شعراً فإلى شاعره (3).أما القائل الثاني فهو مُبَلِّغٌ ومؤدٍ كلام القائل الأول وناقلًَ له (4).وهذه حقيقة اعترف بها الماتريدية أيضاً (5).فالقرآن نفسه في الكتاب المكنون، وهو نفسه في المصاحف، وهو نفس ما نقرؤه بألسنتنا (6). فلا يخرج القرآن بهذه الاعتبارات عن أن يكون كلام الله على الحقيقة وعن أنه غير مخلوق. وليس هذا كذكر الأعيان باللسان كما زعمته الماتريدية (7)، فإن الفرق بين ذكر الأعيان باللسان وبين التكلم بالقرآن شاسع والبون واسعٌ (8) لأن من تلفظ بكلمة "النار" لا يحترق لسانه؛ لأنه لم يتناول "جمرة النار" بمجرد ذكره النار، بخلاف من تلفظ بكلام الله تعالى، فإنه قد أدّى كلام الله على الحقيقة.   (1) ((مجموع الفتاوى)) (12/ 584 - 585)، و ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (3/ 388). (2) ((الواسطية مع شرحها)) للدكتور هراس (ص 126 - 127)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 144، 12/ 288 - 289)، وانظر: ((العلو)) للذهبي (ص 140 - 142)، و ((مختصر العلو)) (ص 209 - 211). (3) ((الواسطية مع شرحها)) للدكتور هراس (ص 126 - 127)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 144، 12/ 288 - 289)، وانظر: ((العلو)) للذهبي (ص 140 - 142)، و ((مختصر العلو)) (ص 209 - 211). (4) ((الواسطية مع شرحها)) للدكتور هراس (ص 126 - 127)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 144، 12/ 288 - 289)، وانظر: ((العلو)) للذهبي (ص 140 - 142)، و ((مختصر العلو)) (ص 209 - 211). (5) انظر: ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص 58)، ((المسايرة مع المسامرة)) (ص 376 - 377). (6) انظر: ((تحقيق هذا المطلب في مجموع الفتاوى)) (12/ 382 - 391، 564 - 566)، وانظر أيضاً كلام ابن قتيبة في ((تأويل مختلف الحديث)) (ص 202)، وفي طبعة (ص 136) ونقل عنه شيخ الإسلام: ((في مجموع الفتاوى)) (12/ 388)، كلاما مهما في نقل الإجماع على أن القرآن في المصحف حقيقة لا مجاز. (7) انظر: ((تحقيق هذا المطلب في مجموع الفتاوى)) (12/ 382 - 391، 564 - 566)، وانظر أيضاً كلام ابن قتيبة في ((تأويل مختلف الحديث)) (ص 202)، وفي طبعة (ص 136) ونقل عنه شيخ الإسلام: ((في مجموع الفتاوى)) (12/ 388)، كلاما مهما في نقل الإجماع على أن القرآن في المصحف حقيقة لا مجاز. (8) انظر: ((تحقيق هذا المطلب في مجموع الفتاوى)) (12/ 382 - 391، 564 - 566)، وانظر أيضاً كلام ابن قتيبة في ((تأويل مختلف الحديث)) (ص 202)، وفي طبعة (ص 136) ونقل عنه شيخ الإسلام: ((في مجموع الفتاوى)) (12/ 388)، كلاما مهما في نقل الإجماع على أن القرآن في المصحف حقيقة لا مجاز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 وليس هذا قول بحلول النصارى أيضاً كما زعم ذلك دهما المتكلمين. ومنهم الماتريدية حيث زعموا: أن هذا حلول وزعموا أن تلاوة القرآن كذكر "الله" تعالى، وذكره "النار" باللسان (1).قُلْتُ: ومن هنا عرفنا أن الماتريدية - الذين يجاهرون بأن القرآن على ألسنة الناس بل على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل على لسان جبريل وفي اللوح المحفوظ مخلوق (2) - جهميةٌ محضة والله المستعان على ما يصفون. النقض الثاني: بنصوص "صوت" الله تعالى. لقد وردت نصوص صريحة في إثبات "الصوت" لله تعالى؛ فكما أن كلامه تعالى لا يشبه كلام خلقه، كذلك صوته تعالى لا يشبه أصوات خلقه سبحانه، تدل عليه نصوص كثيرة. النقض الثالث: بنصوص مناداة الله تعالى وندائه. لقد استفاضت نصوص الكتاب والسنة على أن الله تعالى نادى وينادي. قال تعالى: وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ ... [الأعراف:22] وقال سبحانه وتعالى: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [الصافات: 104 - 105] وقال جل وعلا: إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى [النازعات: 16] وقال عز وجل: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص:47] قال شيخ الإسلام: بعدما استدل بنصوص "النداء" على إثبات "صوت" الله تعالى: "النداء في لغة العرب هو صوت رفيع لا يطلق النداء على ما ليس بصوت لا حقيقة ولا مجازاً ... ".ثم ذكر سماع موسى عليه السلام لكلام الله تعالى (3).قلتُ: ولقد صدق شيخ الإسلام فقد صرح أهل اللغة بأن "النداء" صوت بل رفيع بل أرفع (4). قال شيخ الإسلام: بعد ما ذكر نصوص "النداء" "واستفاضت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة السنة، أنه سبحانه وتعالى ينادي بصوت، نادى موسى، وينادي عباده يوم القيامة بصوت، ويتكلم بالوحي بصوت. ولم ينقل عن أحد من السلف أنه قال: إن الله يتكلم بلا صوت أو بلا حرف، ولا أنه أنكر أن يتكلم الله بصوت أو حرف. كما لم يقل أحد منهم أن الصوت الذي سمعه موسى قديم، ولا أن ذلك النداء قديم، ولا قال أحد منهم: إن هذه الأصوات المسموعة من القراء هي الصوت الذي تكلم الله به، بل الآثار مستفيضة عنهم بالفرق بين الصوت الذي يتكلم الله به وبين أصوات العباد، وكان أئمة السنة يعدون من أنكر تكلمه بصوت - من الجهمية".ثم نقل ذلك عن الإمام أحمد والبخاري (5). قلتُ: بناء على العقيدة السلفية التي نقلت من السلف في صوت الله تعالى عرفنا أن الماتريدية من الجهمية وليسوا من أهل السنة المحضة. النقض الرابع: بنصوص تكلم الله تعالى بالوحي ولاسيما القرآن. النقض الخامس: بنصوص تكليم الله تعالى ملائكته ورسله وغيرهم من عباده. وهذا النوع من النصوص حجج قاطعة وبراهين ساطعة على أن كلام الله تعالى بحرف وصوت مسموع.   (1) انظر: ((التمهيد)) لأبي المعين النسفي (7/أ) و ((العمدة)) لحافظ الدين النسفي (7/ب) و ((شرح العقائد النسفية)) (ص 59) و ((النبراس)) (ص 226)، و ((تعليقات الكوثري على الأسماء والصفات)) (ص 255)، ولكن كلام شيخ الإسلام في ((مجموع الفتاوى)) (12/ 383 - 391، 564 - 566)، يقطع دابر مزاعمهم وأصل مذاهبهم. (2) راجع ((مقالات الكوثري)) (ص 27). (3) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 530 - 531). (4) راجع ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (3/ 245)، و ((الصحاح)) (6/ 2505)، ((مفردات الراغب)) (ص 486)، ((لسان العرب)) (15/ 315)، و ((القاموس)) (ص 1724)، و ((تاج العروس)) (ص 363). (5) ((مجموع الفتاوى)) (12/ 304 - 305)، و (6/ 527 - 528). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 وهذا النوع من النصوص كثيرة أكتفي منها بما هو أصرح وأدمغ لأدمغة المعطلة الزائغة أصحاب العقيدة الزائفة: 1 - قال الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ [البقرة:118] فهذه الآية حجة قاطعة على أن كلام الله تعالى بحرف وصوت يسمع، لأنهم لم يطلبوا "الكلام النفسي" وإلا كيف يمكن للكفار هذه المطالبة؟ مع العلم بأن "الكلام النفسي" لا يسمع. فهذا دليل دامغ لكل زائغ على أن هذا أمر ممكن كإتيان آية. لأن الله تعالى لم ينكر عليهم بأنهم طلبوا أمراً محالاً. بل أنَّبَهُمْ بعدم اكتفائهم سماع كلام الله تعالى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرادوا أن يسمعوه من الله تعالى مباشرة تعنتاً وعناداً. وهذه حقيقة اعترف بها الإمام أبو منصور الماتريدي حيث يقول:" ... ولا أنكر على الذين قالوا: "لولا يكلمنا الله" إلا بوصف التكبر والجهل بمنزلة أنفسهم" (1). فيكون هذا الاعتراف واضح من هذا الإمام الماتريدي فاضحاً للماتريدية وقاطعاً لدابرهم ومطالبة الكفار هذه بمنزلة مطالبتهم بإنزال الملائكة ورؤية الله وكل هذه الأمور ممكنةٌ عقلاً وليس شيءٌ منها مستحيلا. وإنما المستحيل ومن حماقات الكلام هو الكلام النفسي. فهل كان هؤلاء يطالبون بأن يكلمهم الله كلاماً نفسياً لا يسمعونه؟؟!! ب- قال جل وعلا: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] قلتُ: ههنا عجائب وغرائب من حماقات الجهمية التي ارتكبها الماتريدية حول هذه الآية المحكمة الواضحة الصريحة المؤكدة؛ فحرفوها؛ فقالوا: "إن موسى عليه السلام لم يسمع كلام الله!!!. وإنما سمع صوتاً مخلوقاً دالاً على كلام الله، وسمى موسى كليم الله؛ لأنه سمع صوتاً مخلوقاً في الشجرة بدون واسطة الملك، كما تقدم في عرض مذهبهم. وبهذه الحماقات والخزعبلات خرجوا على المنقول والمعقول وإجماع سلف هذه الأمة وأئمة السنة. بل خرجوا على صريح نص الإمام أبي حنيفة رحمه الله، إمامهم الأعظم، كما سيأتي نص كلامه قريباً. وكفى به خزياً مبيناً!!، لأن هذا تحريف محض بل تكذيب بحت؛ فأنت ترى أن الله أكد كلامه بالمصدر فانقطع احتمال أيّ تأويل ومجاز. لو قدر وجود المجاز فلا يحتمل إلا الكلام الحقيقي المسموع من المتكلم مباشرة - وهذا مما اعترف الماتريدية به اعترافاً واضحاً فاضحاً (2). وهذه كلها ألوان شتى لتناقضهم واضطرابهم ومخالفتهم لإمامهم. وفيما يلي بعض نصوص أئمة اللغة والسنة حول هذه الآية وتحقيق سماع موسى عليه السلام كلام ربه. 1 - قال أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء (207هـ). "العرب تسمى ما يوصل إلى الإنسان كلاماً بأي طريق وصل، ولكن لا تحققه بالمصدر، فإذا حقق بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام ... " (3). قلتُ: لكن الماتريدية تزعم أن موسى عليه السلام سمع ما يدل على الله، لا كلام الله حقيقة فخالفوا اللغة والنقل والعقل جميعاً. 2 - وقال أبو العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب الكوفي (291هـ): "لولا أن الله تعالى أكد الفعل بالمصدر - لجاز أن يكون كما يقال أحدنا للآخر: "قد كلمت لك فلاناً".   (1) ((كتاب التوحيد)) (ص 57)، وهكذا اعترافه بهذه الحقيقة في تفسيره، ((تأويلات أهل السنة)) (1/ 269)، تحقيق الدكتور إبراهيم عوضين، والسيد عوضين و (1/ 234)، تحقيق الدكتور محمد مستفيض الرحمن، وانظر ((مدارك التنزيل)) (1/ 83)، و ((إرشاد العقل السليم)) (1/ 152). (2) انظر: ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص 57)، و ((إرشاد العقل السليم)) (2/ 256). (3) ((معالم التنزيل)) للبغوي (1/ 500)، عن الفراء ولم أجده في معانيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 بمعنى: كتبت إليه رقعة، أو بعثت إليه رسولاً. فلما قال: "تكليماً" لم يكن إلا كلاماً مسموعاً من الله" (1). قلتُ: تزعم الماتريدية أن كلام الله غير مسموع لأحد. 3 - وقال أبو إسحاق إبراهيم الزجاج (311هـ):"وأخبر الله عز وجل بتخصيص نبي ممن ذكر فأعلم عز وجل أن موسى كُلّمَ بغير وحي، وأكد ذلك بقوله "تكليماً" فهو كلاما كما يعقل الكلام لا شك في ذلك" (2). قلتُ: لكن مزعوم الماتريدية من الكلام النفسي غير معقول ولا منقول فلا يقره نقل ولا عقل ولا إجماع ولا لغة ولا عرف. 4 - وقال أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس (338هـ): "تكليماً" مصدر مؤكد. وأجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازاً. وأنه لا يجوز في قول الشاعر: ،، امتلا الحوض وقال قِطِني،، أن يقول: قال: قولاً. فكذا لما قال: "تكليماً" وجب أن يكون كلاماً على الحقيقة من الكلام الذي يعقل" (3). قلتُ: مزعوم الماتريدية من الكلام النفسي موضوع مصنوع لا منقول ولا معقول ولا مسموع بل هو أمر نفسي وسواسي خيالي ضلالي. 5 - وقال القرطبي (671هـ): "تكليماً" مصدر معناه، التأكيد، يدل على بطلان من يقول: خلق لنفسه كلاماً في الشجرة فسمعه موسى، بل هو الكلام الحقيقي الذي يكون به المتكلمُ متكلماً".ثم ذكر كلام النحاس المتقدم آنفاً (4). قلتُ: أما الجهمية القديمة والحديثة من الماتريدية فيقولون: إن موسى عليه السلام سمع صوتاً مخلوقاً في الشجرة ولم يسمع كلام الله من الله. وقد كنت في أودية ضلالهم برهة فأخرجني الله تعالى من ظلمات بدعهم إلى نور السنة مع أنه من الصعب الخروج من تشكيكاتهم وشبهاتهم إلا لمن يسره الله. وقليل ما هم؛ فمثلي مثل ذلك الشاعر الذي نجا من أنياب السبا عوخرج من واديها سالماً ثم أنشد: مررت على وادي السباع ولا أرى ... كوادي السباع حين يظلم وادياً أقل به ركب أتوه تئية ... وأخوف إلا ما وقى الله سارياً تنبيه: هذا أيضاً من الفروق بين الماتريدية وبين الأشعرية: فكم من كبار الأشعرية رجعوا عن العقيدة الكلامية، أما الماتريدية فلم يرجع منهم إلى العقيدة السلفية إلا نزر قليل. 6 - وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله (150هـ):"وسمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى كما قال الله تعالى: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] (5) 7 - وقال العلامة القاري في شرحه: "أتى المصدر المؤكد لدفع حمل الكلام على المجاز، أي "كلمة الله تكليماً محققاً، وأوقع له سماعاً مصدقاً. والمعنى: أن موسى عليه الصلاة والسلام سمع كلام رب الأرباب بلا واسطة إلا أنه من وراء الحجاب" (6).قلتُ: أما عامة الماتريدية فقد خرجوا على الإمام أبي حنيفة وهدموا استدلاله فصرحوا بأن موسى عليه السلام لم يسمع كلام الله، وإنما سمع صوتاً مخلوقاً من الشجرة، وقالوا أيضاً: ليس في القرآن: أن موسى سمع كلام الله (7). ،، فأبطلوا استدلال إمامهم الأعظم،، فصاروا الأعق والأظلم،، وجاء محرف آخر وهو البياضي أحد رؤساء قضاة عساكرهم (1098هـ) فحرف كلام الإمام أبي حنيفة فقال في شرح كلامه: " ... (وسمع موسى) صوتاً غير مكتسب للعباد إكراماً له دالاً على ما يصح تعلقه به (كلام الله) لقائم به".   (1) ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/ 256) عن ثعلب. (2) ((معاني القرآن وإعرابه)) (2/ 133). (3) ((إعراب القرآن)) (1/ 507). (4) ((الجامع لأحكام القرآن)) (6/ 18). (5) ((الفقه الأكبر مع شرحه)) للقاري (ص 46). (6) ((منح الأزهر شرح الأكبر للقاري)) (ص 46). (7) انظر ((إشارات المرام)) (ص 81 - 82)، وانظر ما قاله الكوثري في تعليقاته على ((الأسماء والصفات)) (ص 193 - 194). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 ثم قال: "الثانية: أن التكليم لا يتوقف على السماع من الله بالذات، وليس في النظم الجليل أنه سمع موسى من الله. بل أنه تعالى كلمه ... فإنه أقرب المجازات في المقام، فهو بواسطة الحروف والأصوات المخلوقة في الشجرة في تكليم موسى" (1).وجاء أحمق آخر وهو أبو المنتهى (كان حياً سنة: 939هـ) الذي انتهى بعقله إلى أن قال في شرح كلام الإمام أبي حنيفة رحمه الله: "بأن قال لموسى في الأزل بلا صوت ولا حرف: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه:12] (2) قلت: هذه الأساطير عين خزعبلات الجهمية الأولى وورثتها عنهم أفراخهم الماتريدية.8 - 12 - بشهادة أئمة الإسلام: أحمد بن حنبل، والدارمي، والأشعري، والبيهقي، والحافظ ابن حجر العسقلاني (3). 13 - وقد ذكر الإمام البيهقي عدة من الآيات التي كلم الله بها موسى عليه السلام ثم قال: "فهذا كلام سمعه موسى عليه السلام بإسماع الحق إياه بلا ترجمان بينه وبينه". الحاصل: أن مزاعم الماتريدية عين مزاعم الجهمية الأولى وهي باطلة عقلاً ونقلاً وإجماعاً ولغة وعرفاً وسمعاً. وأن الله سبحانه وتعالى متصف بصفة الكلام، ويجب الإيمان بذلك كما هو الأمر في سائر صفاته سبحانه وتعالى بلا تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل ولا تحريف، وأن كلامه تعالى بحرف وصوت مسموع، وأن كلامه، وصوته تعالى لا يشبهان كلام خلقه وأصواتهم. وعلى هذا مضى الأنبياء والمرسلون والصحابة والتابعون والأئمة الفقهاء والمحدثون حتى الإمام أبو حنيفة، وفيه عبرة للماتريدية. قال ابن القيم الإمام: قال شيخ الإسلام: أول ما ظهر إنكار أن الله تعالى يتكلم بصوت في أثناء المئة الثالثة؛ فإنه لما ظهر مذهب الجهمية وتبين للناس نفاقهم المشتق من أقوال المشركين والصابئين وثَبَّتَ الله خلفاء الرسل وورثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام - ظهر ابن كلاب البصري (240هـ) فوافق أهل السنة في إثبات الصفات من ناحية وخالفهم من ناحية فأحدث القول بالكلام النفسي المستلزم لنفي الحرف والصوت. فأنكر قوله الإمام أحمد وأصحابه كلهم، والبخاري وغيرهم. ورجع الحارث المحاسبي (243هـ) عن قوله الكلابي إلى إثبات الحرف والصوت في كلام الله تعالى (4). المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني 3/ 73 إبطالهم شبهات الماتريدية حول كلام الله الشبهة الأولى: شبهة "التشبيه": أصل الدافع للجهمية جميعاً على تعطيل صفة "كلام" الله تعالى - هو أنهم ظنوا أنه لابد في حقيقة الكلام من فم وشفتين ولسان وحنجرة وحلقوم ونحوها من الجوارح والآلات والمخارج. وسبق إبطال شبهة التشبيه بصورة عامة في فصل مستقل. أما هذه الشبهة بخصوصها - فقد أبطلها سلف هذه الأمة وأئمة السنة: فقد تصدّى لإبطالها إمام أهل السنة أحمد بن حنبل. وحاصل ما قاله: أنه لا يلزم من حقيقة الكلام وجود تلك الآلات والأعضاء والجوارح والمخارج فالله قادر على أن ينطق بما يشاء كيف يشاء،   (1) ((إشارات المرام)) (ص 181 - 182)، وانظر أيضاً: ((تعليقات الكوثري على الأسماء والصفات)) (ص 193 - 194). (2) ((شرح الفقه الأكبر)) لأبي المنتهى المغينساوي (ص 11). (3) راجع ((الرد على الجهمية)) للإمام أحمد (ص 130)، و ((الرد على الجهمية)) للدارمي (ص 155)، تحقيق بدر البدر، و ((الإبانة)) للأشعري (ص 68 - 76)، تحقيق الدكتورة فوقية، و (ص 55)، تحقيق عبدالقادر الأرناؤوط، طبعة دار البيان، و (ص 89)، طبعة الجامعة الإسلامية، و ((الاعتقاد)) للبيهقي (ص 95 - 96)، و ((فتح الباري)) (13/ 455). (4) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 327 - 329)، الطبعة القديمة، و (ص 450 - 451) الطبعة الجديدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 فالسماوات والأرض والجبال تنطق بإنطاق الله تعالى إياها، وجوارح الكافر تشهد عليه كما قال الله تعالى: قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت: 21] ثم قال الإمام أحمد: "أتراها أنها نطقت بجوف وفم ولسان؟ ولكن الله أنطقها كيف شاء. وكذلك الله تكلم كيف شاء من غير أن يقول بجوف ولا فم ولا شفتين ولا لسان" (1). الشبهة الثانية: شبهة الحوادث والأعراض: قالوا: لو أثبتنا الكلام الحقيقي الذي هو بحرف وصوت لزم حلول الحوادث والأعراض بذاته تعالى. والجواب: أن لفظتي "الحوادث والأعراض" من المصطلحات الكلامية الفلسفية المبتدعة المجملة التي تحتمل حقاً وباطلاً. وقد سبق أن ذكرنا قاعدة أئمة السنة في مثل هذه الكلمات. وهي: أنه لا يجوز الحكم على مثلها نفياً أو إثباتاً قبل استبانة مراد قائلها؛ وبعد الاستبانة ينظر فإن كان مراده حقاً قبل وإلا رد عليه مع أن التعبير بالألفاظ المأثورة هو الطريق المتبع. فنقول في ضوء هذه القاعدة: أولاً: إن لفظي "الأعراض والحوادث" لفظان مجملان، فإن أريد بهما ما يعرفه أهل اللغة: من أن الأعراض والحوادث هي الأمراض والآفات - فهذه نقائص وعيوب يجب تنزيه الله سبحانه وتعالى عنها (ولكن لا يلزم من كون الله لم يزل متكلماً ولا يزال متكلماً - حلول الحوادث به).وإن أريد بهما اصطلاح خاص وهو اصطلاح أهل الكلام من المعطلة ليعطلوا بذلك صفات الله تعالى ويحرفوا نصوصها فهذا اصطلاح باطل لا يعرفه أهل اللغة ولا أهل العرف (2) ولا يقره نقل ولا عقل. ثانياً: نقول لهم إن عطلتم صفة "كلام" الله تعالى بحجة الأعراض والحوادث فلم أثبتم لله تعالى علماً وقدرة وإرادة؟. وإذاً لا تكون هذه أعراضاً وحوادث - فلا تكون صفةُ "كلام الله"، تعالى بحرف وصوت عرضاً من الأعراض وحادثة من الحوادث. ثالثاً: نقول لهم: إن كنتم تريدون بنفي حلول الحوادث والأعراض أن الله تعالى لا يحل في ذاته شيء من مخلوقاته كما لا يحل هو في مخلوقاته. فهذا النفي حق وواجب. وإن كنتم تريدون بهذا نفي صفات الله الاختيارية التي تحت مشيئته واختياره، وتقولون: إنه تعالى لا يفعل ما يريد ولا يتكلم بما شاء متى شاء ولا يغضب ولا يرضى، فهذا النفي باطل لأنه عين التعطيل والتحريف (3). الشبهة الثالثة: بيتُ الأخطل: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلاً تقدم أن ذكرنا أن الماتريدية استدلوا ببيت منسوب إلى الكافر النصراني لإثبات "الكلام النفسي" كما سبق في ص 82. ولأئمة السنة عنه أجوبة: الأول: أنه مكذوب مصنوع مختلق موضوع على العرب، ولا يوجد في ديوان الأخطل ولا غيره (4). الثاني: أنه لو قدر ثبوته لكان نص البيت: إن البيان من الفؤاد، وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلاً فقد قال أبو البيان هكذا رأيته في ديوانه فحرفه بعض النفاة إلى:"إن الكلام لفي .... " (5). الثالث: أنه لو قدر صحته - فهو أنزل منزلةً من خبر الواحد الصحيح بدركات، قال شيخ الإسلام وغيره:   (1) ((الرد على الجهمية)) (ص 130 - 131). (2) راجع ((مجموع الفتاوى)) (6/ 90 - 91)، وما بعدها. (3) انظر ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز الحنفي (ص 128 - 129). (4) ((كتاب الإيمان)) (ص 132)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (7/ 138، 6/ 297)، و ((شرح الطحاوية)) (ص 198). (5) ((الصواعق المرسلة)) (1/ 344 - 345)، عن أبي البيان، و ((شرح الطحاوية)) (ص 198). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 ولو احتج محتجٌ في مسألة بحديث أخرجاه في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه وتلقيه بالقبول - لقالوا: هذا خبر الواحد (1). أفلا يستحي هؤلاء المتكلمون ينابذون صحيح المنقول وصريح المعقول والفطرة والإجماع واللغة والعرف، ويتشبثون بمثل هذا؟!! وهذا تناقض واضح واضطراب فاضح وخزي مبين ومنهج ظنين!. الرابع: أن الأخطل كان مختلَّ العقلِ مضطربَ الكلامِ وكان غالب أوقاته في سكر الخمور ولهذا سمي بالأخطل. على أن الخطل في اللغة هو الخطأ في الكلام وكان من المولدين فلا يكون مثله حجة على اللغة. ولذلك أنشد في مثل هؤلاء المتكلمين مُنْشدٌ: قبحاً لمن نبذ القرآن وراءه ... فإذا استدل يقول: قال الأخطل قلتُ: هذه فاضحة أخرى أشنع عن أختها الأولى!. الخامس: أن هذا الأخطل الكافر النصراني كان متعصباً لنصرانيته تعصباً لا يخطر بالبال طاعناً في دين الإسلام جهاراً دون إسرارٍ. وقد حاول ملوك بني أمية إسلامه ولكنهم فشلوا في هذا الخبيث مع أنه كان رهيناً عليهم شاعراً خاصاً لهم مقرباً لديهم. ومعلوم أن النصارى ضلوا ضلالاً بعيداً في كلام الله تعالى حتى جعلوا كلمة الله تعالى عينَ عيسى عليه السلامُ، والمسيحَ عينَ كلمةِ الله؛ فكيف يجوز لمسلم أن يحتج في أصل دينه ومعرفة صفات ربه ولاسيما "الكلام" بقول الأخطل الكافر النصراني المتعصب الضال؟! (2). ،، وهذا والله ضلال وإضلال،، وعينُ الداء العضال!!،، السادس: أنه لو نتغاضى عن جميع ما ذكرنا - لم نتغاض عن أن نقول: إن الحقائق العقلية كمسمى "الكلام" الذى يتكلم به جميع بني آدم لا يُرجَعُ فيه إلى قول شاعر ولا إلى ألف شاعرٍ فاضلٍ يعول عليه ويحتج بقوله وشعره فضلاً عن نصراني مختطل العقل والكلام متعصب لكفره متصلب في مكره،، فاجر في أمره ماكر في شعره؛ بل يرجع في ذ   (1) ((كتاب الإيمان)) (ص 132)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (7/ 138)، و ((شرح الطحاوية)) (ص 198)، وانظر: ((حوار أبي البيان في العلو)) للذهبي (ص 193 - 194)، و ((مختصره)) (ص 284 - 285)، وانظر ((مذهب الماتريدية حتى الفنجفيرية في أخبار الآحاد)) (1/ 644). (2) ((كتاب الإيمان)) (ص 134)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (7/ 139 - 140، 6/ 296 - 297)، و ((شرح الطحاوية)) (ص 198). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 المبحث التاسع: الرد على قولهم بخلق أسماء الله الحسنى لقد سبق أن ذكرنا مذهب الماتريدية في أسماء الله الحسنى وما كان عندهم من حق يشكرون به وباطل يذمون به. وكان من جملة ما عندهم من الباطل القول ببدعة خلق أسماء الله الحسنى. ولنا في المقام كلمات ثلاث: الكلمة الأولى: أن هذه البدعة مبنية على بدعة خلق القرآن؛ لأن أسماء الله تعالى من كلام الله تعالى والقرآن كلام الله سبحانه. وضرر هذه البدعة لا تقل عن ضرر بدعة خلق القرآن. ولذلك ترى سلف هذه الأمة وأئمة السنة قد كفروا من قال: بخلق أسماء الله الحسنى، كما كفروا من قال: بخلق القرآن. وسبب ذلك: أنهم لما قالوا: "الاسم هو المسمى". حجوا بتعدد أسماء الله تعالى. فقالوا فراراً عن هذا المضيق: إن هذه الأسماء تسميات وهي ألفاظ وحروف غير الله تعالى فهي مخلوقة. فصار قولهم بخلق أسماء الله الحسنى كقولهم بخلق القرآن. هكذا تطورت البدع من الجعد (126هـ) إلى الجهم (128هـ) ثم إلى بشر المريسي الحنفي (228هـ) ثم إلى بقية المعتزلة ثم إلى الكلابية فالماتريدية وزملائهم الأشعرية فالبدع تكون في البداية نقطةً ثم تكون بحاراً لا ساحل لها ولا أرجاء. كما قال شيخ الإسلام: "فالبدع تكون في أولها شبراً ثم تكثر في الأتباع حتى تصير أذرعاً وأميالاً وفراسخ" (1). فوقعوا في خرق وحمق من وجهين: الأول: جعلهم الاسم عين المسمى. الثاني: قولهم بأنها مخلوقة. فخالفوا ما دل عليه الكتاب والسنة،، ولغة العرب وإجماع الأمة. قال شيخ الإسلام: "ولهذا أنكر قولهم جمهورُ الناس من أهل السنة وغيرهم" (2).وقال: "وكلاهما باطل مخالف لما يعلمه جميع الناس من جميع الأمم ولما يقولونه ... " (3).وقال: "والتسمية نطق بالاسم وتكلم به، وليست هي الاسم بنفسه، وأسماء الأشياء هي الألفاظ الدالة عليها، وليست هي عين الأشياء" (4). فهؤلاء أصابوا في جعلهم التسمية غير الاسم. ولكن أخطأوا في جعل الاسم عيناً للمسمى، كما أخطأوا في جعلها مخلوقةً. وهؤلاء إذا قالوا: الاسم غير مخلوق يقصدون المسمى وهو الله. وإذا قالوا: الاسم مخلوق يقصدون لفظ "الله" ولفظ "الرحمان" ولفظ "الرحيم" ومن لم يمارس اصطلاحات هؤلاء قد لا يتفطن لما يريدون، فيظن أنهم على طريقة أهل السنة. ولذلك قال شيخ الإسلام. "فهم تكلفوا هذا التكليف ليقولوا: "إن اسم الله غير مخلوق". ومرادهم، أن الله غير مخلوق. وهذا مما لا تنازع فيه الجهمية والمعتزلة. فإن أولئك ما قالوا: الأسماء مخلوقة. إلا لما قال هؤلاء: "هي التسميات". فوافقوا الجهمية والمعتزلة في المعنى. ووافقوا أهل السنة في اللفظ" (5). الكلمة الثانية: هل الاسم للمسمى أم عينه أم غيره؟ ". قلتُ: هذه صورٌ ثلاثٌ. فالصورة الأولى: هي المقالة الصحيحة فالاسم للمسمىً، قال الله تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] وقال سبحانه: قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [الإسراء: 110] قال شيخ الإسلام: وهذا هو القول بأن "الاسم للمسمى" وهذا الإطلاق، اختيار كثير من المنتسبين إلى السنة من أصحاب الإمام أحمد وغيره (6).   (1) ((مجموع الفتاوى)) (8/ 425). (2) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 195، 196، 191 - 192). (3) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 195، 196، 191 - 192). (4) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 195، 196، 191 - 192). (5) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 195، 196، 191 - 192). (6) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 187). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 والصورة الثالثة: مقالة الجهمية الأولى. وكان قصدهم بها التدرج إلى أن يقولوا أسماء الله مخلوقة؛ لأنها غير الله وكل ما هو غير الله فهو مخلوق (1)، فأسماء الله مخلوقة. أما الصورة الثانية: وهي أن الاسم عين المسمى - فهي مقالة الماتريدية كما سبق، وهكذا قالت: الأشعرية (2). ومقاصدهم باطلة تتضمن الضلال من القول بخلق أسماء الله الحسنى. ولكن هذا القول قاله كثير من المنتسبين إلى السنة أيضاً لكن مقاصدهم طيبة. قال شيخ الإسلام: "الذين قالوا: الاسم هو المسمى كثير من المنتسبين إلى السنة مثل أبي بكر عبدالعزيز وأبي القاسم الطبري اللالكائي، وأبي محمد البغوي صاحب (شرح السنة) وغيرهم ... ".ثم ذكر محملاً حسناً لكلامهم كما بين خطأ الناس عليهم (3). قلتُ: هذا من الألفاظ الكلامية البدعية المجملة وقد تقدم قاعدة أئمة السلف فيها من أنه يجب التفصيل في ذلك ليتبين الحق من الباطل. قال شيخنا عبدالله بن محمد الغنيمان حفظه الله: "فلا يطلقون - (أهل السنة) - بأنه المسمى ولا غيره بل يفصلون حتى يزول اللبس فإذا قيل لهم: أهو مسمى أم غيره؟ قالوا: ليس هو نفس المسمى ولكن يراد به المسمى. وإن أريد بأنه غيره: كونه بائناً عنه - فهو باطل لأن أسماء الله من كلامه وكلامه صفة له قائمة به لا تكون غيره" (4). قلت: قد يكون لقول القائل: "الاسم عين المسمى" وقول الآخر: "الاسم غير المسمى" توجيه صحيح آخر. بشرط أن لا يقصد معنى باطلاً. وبيانه أنه إذا قال القائل: ما معبودكم؟. فقلنا: "الله". فالمراد ههنا: "المسمى" فيكون الاسمُ "عين المسمى"؛ لأنه ليس القصد أن المعبود هو لفظ "الله" أو هذا القول"، بل القصد: أن المعبود هو ما سمي بالله. وإذا قال ما اسم معبودكم؟. فقلنا: "الله". فالمراد ههنا: أن اسم معبودنا هو هذا القول: "الله" ولفظه. وليس المراد: أن اسمه هو عين ذاته. فإن السائل لم يسأل عن ذاته وإنما سأل عن اسمه. فههنا يكون الاسم غير المسمى. لاختلاف السؤال فلكل مقام مقال (5). والجواب حسب السؤال. لكن الجهمية الأولى وأفراخهم من الماتريدية والأشعرية قصدوا بذلك باطلاً لما في طيه ضلال، وتعطيل وقول بخلق أسماء الله تعالى. فاشتد نكير أئمة السنة عليهم (6).ولم يكن السلف خاضوا في ذلك لا نفياً ولا إثباتاً (7). بل شنوا الغارة على من خاض في ذلك. حتى يروى عن الإمام الشافعي (204هـ) والإمام عبدالملك بن قريب الأصمعي (216هـ) وغيرهما: "إذا سمعت الرجل يقول "الاسم غير المسمى".فاشهد عليه بالزندقة" (8). وقال الإمام ابن جرير الطبري (310هـ) "وأما القول في الاسم أهو المسمى أم غير المسمى" فإنه من الحماقات الحادثة التي لا أثر فيها فيتبع، ولا قول من إمام فيستمع، فالخوض فيه شين، والصمت عنه زين.   (1) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 185 - 186) وعليه الماتريدية من جهة (2/ 407). (2) انظر ((أصول الدين)) للبغدادي (ص 114 - 115). (3) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 187 - 189، 202) في الأصل "اللالكائي" وهو غلط. (4) ((شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري)) (1/ 225 - 226). (5) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 197). (6) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 187). (7) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 187). قلت: أما أثر الأصمعي فرواه عنه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (2/ 112). (8) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 187). قلت: أما أثر الأصمعي فرواه عنه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (2/ 112). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 وحسب امرئ من العلم به والقول فيه أن ينتهي إلى قول الله عز وجل ثناؤه الصادق، وهو قوله: قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [الإسراء: 110] وقوله تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] ويعلم أن ربه هو الذي "على العرش استوى له ما في السموات وما في الأرض، وما بينهما وما تحت الثرى"؛فمن تجاوز ذلك، فقد خاب وخسر وضل وهلك" (1). الكلمة الثالثة: في فساد القول بخلق أسماء الله الحسنى: ضرر هذه المقالة لا تقل عن خطر مقالة خلق القرآن. فقد اشتد نكير سلف هذه الأمة وأئمة السنة على هاتين المقالتين وكفروا أصحابهما، وفيما يلي نماذج من نصوص أئمة السنة: 1 - قال ناصر السنة الإمام الشافعي (204هـ) رحمه الله: "من حلف باسم من أسماء الله فحنث فعليه الكفارة لأن اسم الله غير مخلوق، ومن حلف بالكعبة أو بالصفا والمروة، فليس عليه الكفارة، لأنه مخلوق وذاك غير مخلوق. 2 - وقال إمام المحدثين والفقهاء سفيان الثوري (161هـ). "من قال: إن قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ مخلوق - فهو كافر". 3 - وقال سيد المحدثين والفقهاء عبدالله بن المبارك (181هـ): الذي تعظمه الحنفية ومنهم الكوثرية وعدوه في كبار أئمة الحنفية: "من قال: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه:14] مخلوق - فهو كافر". 4 - وقد ذُكر لإمام الجرح والتعديل يحيى بن سعيد القطان (198هـ) وسيد الحافظ الذي تبجله الكوثرية وذكروه في عداد كبار الحنفية. "أن قوماً يقولون: القرآن مخلوق، فقال: كيف يصنعون بـ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] كيف يصنعون بقوله: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه:14] يكون مخلوقاً؟ ". 5 - وقال إمام أهل الحديث إسحاق بن راهويه (138هـ): "أفضوا - (الجهمية) - إلى أن قالوا: "أسماء الله مخلوقة ... " وهذا الكفر المحض ... ". 6 - وقال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل (241هـ): "من زعم أن أسماء الله مخلوقه فهو كافر". 7 - وقال "من قال: "القرآن مخلوق". فهو عندنا كافر؛ لأن القرآن من علم الله عز وجل، وفيه أسماء الله عز وجل". 8 - وقال: "وأسماء الله في القرآن، والقرآن من علم الله، فمن زعم أن القرآن مخلوق" فهو كافر، ومن زعم: "أن أسماء الله مخلوقة" -فقد كفر". 9 - وذكر له رجل: أن رجلا قال: إن أسماء الله مخلوقة والقرآن مخلوق"؛ فقال أحمد: "كُفْرٌ بَيِّنٌ". 10 - وقال الإمام البخاري أمير المؤمنين في الحديث (256هـ): "الجهمية ... قالوا: "إن اسم الله مخلوق". ويلزمهم أن يقولوا إذا أذّن المؤذن: لا إله إلا الذي اسمه "الله"؟. وأشهد أن محمداً رسول الذي اسمه "الله".لأنهم قالوا: "إن اسم الله مخلوق ... " (2).11 - وللإمام أبي القاسم هبة الله الطبري اللالكائي (418هـ) مبحث قيم ذكر فيه أدلةً من الكتاب والسنة وأقوال سلف هذه الأمة وأئمة السنة في التشديد على من قال بخلق أسماء الله الحسنى (3). 12 - وقال شيخ الإسلام (728هـ): "وهؤلاء هم الذين ذمهم السلف وغلظوا فيهم القول؛ لأن أسماء الله من كلامه، وكلام الله غير مخلوق؛ بل هو المتكلم به، وهو المسمى لنفسه بما فيه من الأسماء ... " (4). قلتُ: الحاصل، أن القول ببدعة خلق أسماء الله الحسنى ذيل للقول ببدعة خلق القرآن، وأن الماتريدية قائلون بهذه البدعة الظلماء جهاراً، كما هم قائلون بخلق القرآن، وأن سلف هذه الأمة وأئمة السنة قد كفروا القائلين بخلق أسماء الله تعالى، كما كفروا القائلين بخلق القرآن. وأن الماتريدية في ذلك كلهم جهمية محضة مع ما زادوه من البدع وأنهم مخالفون للعقل والنقل وإجماع السلف في آن واحد، فمذهب الماتريدية في القرآن وأسماء الله - في غاية الفساد والضلال والإلحاد والإضلال. المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني 3/ 150   (1) ((صريح السنة)) (ص 26 - 27)، ونقله عنه شيخ الإسلام. ((الفتاوى)) (6/ 187). (2) ((خلق أفعال العباد)) (ص 36). (3) انظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (2/ 204 - 215). (4) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 181) و ((اعتقاد أهل الحديث)) للإسماعيلي (ص 47 - 52). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 المبحث العاشر: الرد على الماتريدية في تفسيرهم لصفة "الألوهية" "بصفة" "الربوبية" سبق آنفاً أن الماتريدية فسروا صفة "الألوهية" بصفة "الربوبية". فعطلوا هذه الصفة العظيمة وحرفوا نصوصها. ولنا عدة مؤاخذات على مذهبهم هنا نذكر منها ما يلي: المؤاخذة الأولى: أننا ذكرنا شهادة الإمام أبي حنيفة وشهادة ثمانية من كبار الماتريدية على أن تفسير صفة بأخرى - كتفسير "اليد" بالقدرة، أو النعمة مثلاً تعطيل وإبطال لها وأن هذا مذهب الجهمية. وهذه الشهادات من هؤلاء الأئمة للحنفية تكفي لإبطال مذهبهم في صفة "الألوهية" لما في طيه تعطيل وتحريف وإبطال وضلال وتخريف. المؤاخذة الثانية: أن تفسير "الألوهية" بالربوبية أو الخالفية المالكية وكذا تفسير "الإله" بالصانع المخترع الخالق المالك - باطل لغة واصطلاحاً، فلغة العرب واصطلاحهم يقضيان على ذلك. ولغة القرآن الكريم ترده رداً صريحاً. فحمل نصوص صفة "الألوهية" مع تلك الكثرة الكاثرة على صفة "الربوبية" تحريف واضح وتخريف فاضح، حتى باعتراف الكوثري مجدد الماتريدية؛ فقد صرح الكوثري بأن حمل النصوص والآثار على المصطلحات المستحدثة بعد عهد التنزيل بدهور بعيدٌ من تخاطب العرب وتفاهم السلف، واللسان العربي المبين، ومن زعم ذلك فقد زاغ من منهج الكتاب والسنة، وتنكب سبيل السلف الصالح، ونابذ لغة التخاطب، وهجر طريقة أهل النقد ... " (1). قلتُ: لقد صدق الكوثري - والكذوب قد يصدق - ولكن قد يكون صدق الكذوب له. ولكن صدق الكوثري ههنا عليه وعلى جماعته الماتريدية حيث فسروا "الألوهية" بالربوبية والخالقية والمالكية. فوقعوا في التعطيل والتحريف، وزاغوا عن منهج الكتاب والسنة وتنكبوا سبيل السلف الصالح ونابذوا تخاطب العرب، وتفاهم السلف واللسان، العربي المبين. حتى بشهادة هذا الكوثري الذي يبالغون ويغالون فيه بما لا يخطر بالبال ليقلبوا الحقائق بهذا الغلو والضلال والإضلال. وبعد هذا نقدم نماذج من لغة العرب واصطلاحهم ولاسيما لغة القرآن في مفهوم "الألوهية" ليعلم القراء صدق ما قلنا من أن "الألوهية" و"الربوبية" مفهومان متغايران لغة واصطلاحاً. أما لغة: فالإله: فعال، بمعنى مألوه، أي: معبود، كإمام بمعنى مؤتم به وأله إلهة عبد عبادة، والتأليه: التعبيد، والآلهة: المعبودون، من الأصنام وغيرها، والاله: التعبّد؛ قال رؤبة بن العجاج: لله در الغانيات المدة ... سبحن واسترجعن من تألهي (2) وأما اصطلاحاً: فمعنى "الألوهية" و"الإله" لا يختلف عن معناهما في اللغة: فالإله عند العرب الأولين: اسم لكل معبود يشمل الإله الحق وهو الله تعالى، والآلهة الباطلة، كالأصنام والأوثان، وكل ما عبد من دون الله، بشراً كان أو ملكاً أو جناً، شمساً أو قمراً، حجراً أو شجراً، نوراً أو ناراً، قبراً أو غاراً، حياً، أو ميتاً عيناً أو معنىً وغير ذلك.   (1) انظر: ((تعليقاته على الأسماء والصفات)) (ص 455). (2) انظر ((تهذيب اللغة)) (6/ 422 - 424)، ((معجم مقاييس اللغة)) (1/ 127)، ((مجمل اللغة)) (1/ 101)، ((الصحاح)) (6/ 2223 - 2224)، ((مفردات الراغب)) (ص 21 - 22)، ((أساس البلاغة)) (ص 9)، ((لسان العرب)) (13/ 467 - 469)، ((القاموس)) (ص 1603)، ((تاج العروس)) (9/ 374 - 375)، وانظر ((ديوان رؤية)) (ص 165) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 فيما يلي نصوص علماء اللغة:1 - قال الراغب الأصفهاني (502هـ): "وإله" جعلوه اسماً لكل معبود لهم" (1).2 - وقال ابن منظور الأفريقي المصري (711هـ) "الإله "الله" عز وجل وكل ما اتخذ من دون الله معبوداً "إله" عند متخذه، والجمع "آلهة" ... " (2).3 - وقال المجد الفيروز آبادي (817هـ) " ... إله" كفعال، بمعنى: مألوه، وكل ما اتخذ معبوداً "إله" عند متخذه" (3). 4 - وقال محمد المرتضى الزبيدي الحنفي (1205هـ) " ... فإذا قيل: "الإله" أطلق على الله سبحانه، وعلى ما يعبد من الأصنام. وإذا قلت: "الله" لم ينطلق إلا عليه سبحانه وتعالى ... " (4). لغة القرآن واصطلاحه، وما حكاه عن العرب: معنى "الألوهية" و"الإله" في لغة القرآن واصطلاحه وما حكى الله سبحانه وتعالى عن مشركي العرب - لم يختلف عن معناهما الذي ذكرناه، عن معاجم اللغة. فالإله، يطلق على كل معبود حقاً كان أو باطلاً. فالله سبحانه وتعالى سمى معبودات المشركين "آلهة" وأبطل كونها آلهة حقاً. قال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا [الفرقان: 3] وهكذا كان مشركوا العرب يسمون معبوداتهم "آلهة". مع اعتقادهم أنها ليست خالقة لهذا الكون ولا مالكة؛ كما حكى الله عنهم: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5] وقال عنهم: إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا [الفرقان: 42] وقال سبحانه وتعالى: وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ [الصافات:36] فأنت ترى في هذه الآيات أن المشركين سموا معبوداتهم "آلهة". مع أن المشركين لم يعتقدوا فيها أنها خالقةٌ لهذا الكون وأربابٌ للعالم. وهذا ما سنتحدث عنه في المؤاخذة الآتية. فنثبت أن تفسير "الألوهية" و"الإله" "بالربوبية" والمالكية والصانع تحريف وتعطيل وإبطال وضلال وإضلال. المؤاخذة الثالثة: لقد بينا أن مشركي العرب سموا معبوداتهم "آلهة" ولكنهم مع ذلك لا يعتقدون فيها أنها خالقةٌ للكون أو شريكةٌ مع الله تعالى في الخلق والربوبية والتدبير أو مالكة بل يعتقدون أنها مملوكة. وذلك لوجوه: الوجه الأول: اعتراف المشركين بأن آلهتهم من دون الله ليست خالقة لهذا الكون ولا مدبرة ولا رازقة ولا مالكة. قال الله تعالى: قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ [يونس: 31] الوجه الثاني: أن المشركين إذا أصابهم ضرُّ عظيم وخطب جسيم تركوا دعاء آلهتهم من دون الله وتضرعوا إلى الله تعالى وحده؛ لعلمهم أنها لا تنفع ولا تنجي. قال الله تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ [الإسراء:67] وقال سبحانه وتعالى: وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ... [لقمان: 32] قلت: لو تدبر القارئ في هاتين الآيتين وأمثالهما لبان له أن المشركين لم يعتقدوا في آلهتهم أنها خالقة، رازقة، مدبرة لهذا الكون ومالكه. فكيف تفسير "الألوهية" بالربوبية؟ و"المالكية"؟. وكيف يصح جعل "الإله" بمعنى الخالق الصانع المالك؟.   (1) ((المفردات)) (ص 21). (2) انظر ((فيض الباري)) (4/ 517). (3) ((القاموس)) (ص 1603). (4) ((تاج العروس)) (9/ 375). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 الوجه الثالث: وهذا أصل الوجهين الأولين. وهو أن المشركين من العرب قد صرحوا واعترفوا بأنهم قد اتخذوا آلهة من دون الله تعالى، شفعاء لهم عند الله سبحانه، وأنهم لا يعبدون آلهتهم إلا ليقربوهم من الله تعالى ومعلوم أن الشفيع غير مالك، وأن الوسيلة ليست هي المقصودة، فالخالق، الرازق، المالك، المدبر عندهم هو "الله" وسبحانه وحده. أما آلهته من دون الله من ملك مقرب أو نبي مرسل أو ولي صالح وغيرهم - فهي للشفاعة لهم عند الله تعالى، وللتوسل إلى الله سبحانه والتقرب إليه عز وجل؛ فقد كان أصل شركهم الوسيلة الشركية. فقد قال الله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ [يونس: 18] وقال الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] قلت: هذه النصوص صريحة في أنهم كانوا يعبدون آلهتهم لا لأجل أنها خالقة رازقة، صانعة، مالكة، مدبرة للعالم، أو أنها أرباب بهذا المعنى، بل كانوا يعبدون الملائكة والأنبياء والأولياء ليشفعوا لهم عند الله تعالى. الوجه الرابع: أن كثيرا من كبار أئمة الإسلام وكبار أساطين الكلام من الحنفية الماتريدية، والأشعرية الكلابية - قد صرحوا - في تصوير عقائد مشركي العرب - بأن أصل إشراكهم بالله تعالى إنما هو التوسل الشركي، وأنهم لم يعبدوا آلهة باطلة من دون الله تعالى إلا رجاء أن يكونوا شفعاء لهم عند الله. وأنهم لم يعتقدوا في آلهتهم الباطلة أنها خالقة رازقة، صانعة، مدبرة لهذا الكون ومالكه؛ فكيف يصح جعل "الإله" بمعنى "الرب" الصانع، الرازق، الخالق، المالك" لهذا الكون، والمدبر له؟. وهذا دليل قاطع وبرهان ساطع على أن تفسير "الألوهية" بالمالكية - تعطيل وتحريف، وفيما يلي نماذج من نصوص هؤلاء الأعلام من أئمة الإسلام وأساطين الكلام - على أن أصل شرك مشركي العرب إنما هو التوسل الشركي وأنهم كانوا يعبدون آلهتهم الباطلة ليشفعوا لهم عند الله. حيث قاسوا الله تعالى على ملك من الملوك الذين لا يتوصل إليهم إلا بواسطة وزرائه وأمرائه:- 1 - الإمام الرازي فيلسوف الأشعرية (606هـ).الذي أحب الكوثري التحاكم والفزع إليه وإلى أمثاله في أصول الدين ومعرفة التوحيد والشرك (1).والذي عظمه الحنفية الماتريدية غاية التعظيم وأثنوا عليه بما لا يخطر بالبال ومن ذلك قولهم في الثناء عليه: "ملك المتكلمين سلطان المحققين" (2). قال الرازي في تفسير قوله تعالى: وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ [يونس: 18] "ورابعها: أنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان، على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل - فإن أولئك الأكابر يكونون شفعاء لهم عند الله. ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق لتعظيم قبور الأكابر على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم - فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله" (3). قلت: تدبر أيها المسلم، في هذا النص للإمام الرازي - ملك المتكلمين وسلطان المحققين - فقد تضمن بنصه ما يلي: أ- أن المشركين لم يعتقدوا في آلهتهم الباطلة أنها خالقةٌ، رازقةٌ، مكونةٌ، مالكةٌ لهذا الكون. ب- بل جعلوا هذه الصفات لله وحده وأنه الرازق السيد المالك المدبر لهذا الكون. ج- وإنما عبدوا الآلهة الباطلة رجاء أن يكونوا شفعاء لهم عند الله.   (1) ((مقالات الكوثري)) (ص 381 - 382)، و ((تبديد ظلامه)) (ص 160 - 162). (2) ((النبراس)) (ص 131) ط القديمة و (85) ط الجديدة. (3) ((مفاتيح الغيب)) (17/ 63) ط دار الفكر و (17/ 49) ط دار الكتب العلمية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 د- هذا النوع من العقيدة هو التوسل الشركي المبني عليه إشراك المشركين. هـ- أن الشرك الأكبر الذي كان موجوداً في مشركي العرب في الجاهلية موجود في كثير من عبَّاد القبور اليوم "القبورية". فهل يمكن بعد تصريحات ملك المتكلمين وسلطان المحققين لأحد من رعية هذا الملك أو أحد من جنود هذا السلطان أن يفسر "الألوهية" و"الإله" بالربوبية والرب؟!! أو ينكر وجود الشرك في المنتسبين إلى الإسلام من عباد القبور وأهلها؟! أو يقول معنى الألوهية بعينه معنى المالكية. 2 - 6 - قال العلامة السيد سند الشريف الجرجاني (816هـ) وحسن "الشبلي" "الجلبي" الفناري (886هـ) وعصام الدين الإسفراييني (951هـ) وساجقلي المرعشي (1150هـ) والمحقق محمد بن حميد الكفوي (1175هـ) وكلهم حنفية ماتريدية - واللفظ للأول:"دون الوثنية، فإنهم لا يقولون بوجود إلهين واجبي الوجود ولا يصفون "الأوثان" بصفات "الإلهية"، وإن أطلقوا عليه اسم "الإله"، بل اتخذوها على أنها تماثيل الأنبياء، أو الزهاد، أو الملائكة، أو الكواكب واشتغلوا بتعظيمها على وجه العبادة توصلاً بها إلى ما هو إله حقيقة" (1) قلت: هذا النص المهم الواضح لهؤلاء الماتريدية مشتملٌ على حق وباطل: أما الحق فهو أمور ثلاثة: أ- أن المشركين لم يعتقدوا في آلهتهم الباطلة أنها خالقة مدبرة للكون. ب- أنهم عبدوا الأنبياء والصلحاء والملائكة والكواكب ليشفعوا لهم عند الله ويتوصلوا بهم إلى الله. ج- أن أصل إشراكهم هو هذا التوسل الشركي. وأما الباطل، فهو أمر واحد وهو زعمهم: أن هؤلاء المشركين أطلقوا على آلهتهم التي عبدوها من دون الله، اسم "الإله" مجازاً لا حقيقة. قلتُ: هذا باطل محض، والحق أنهم سموها "آلهة" على الحقيقة لا على المجاز لأنهم قد عبدوها على الحقيقة دون المجاز؛ فكانوا يدعونهم لدفع الضرر وجلب النفع، وينذرون لهم، ويسجدون لهم، إلى غير ذلك من أنواع العبادات الحقيقية التي كانوا يصرفونها لآلهتهم الباطلة ولا شك أن هذه عبادات حقيقية لا مجازية؛ فمن صرف له شيء من هذه العبادات الحقيقية - فلا شك أنه معبود حقيقة لا مجازاً، وقد تقدم أن "الإله" كل ما عبد سواء كان حقاً أم باطلاً. فهذه المقدمات الأربع تنتج نتيجة حتمية واقعية، وهي أن المشركين كانوا يطلقون اسم "الإله" على معبوداتهم إطلاقاً حقيقة لا مجازاً. غير أن كل معبود سوى الله تعالى باطل لأنه لا يستحق العبادة أحد غير الله تعالى، فالله سبحانه وحده لا شريك له هو المستحق للعبادة. وهو وحده تعالى منفرد بالألوهية. والذي أوقع هؤلاء المتكلمين في هذا الباطل العاطل - هو تفسيرهم للألوهية والإله، بالمالكيّة والرب والصانع. فبنوا الفاسد على الفاسد والكاسد على الكاسد. وزعموا: أن المشركين سموا من عبدوه من دون الله - آلهة مجازاً لا حقيقة. فلما انهار أساسهم الذي أسسوه على شفا جرفٍ هارٍ - انهار بنيانهم الذي بنوه على هذا الأساس المنهار. الحاصل: أن الماتريدية اعترفوا بأن المشركين لم يعتقدوا في آلهتهم من دون الله أنها خالقةٌ، مالكةٌ، صانعةٌ، مدبرةٌ، لهذا الكون، وأربابٌ لهذا العالم. فبطل تفسيرهم للألوهية والإله، بالخالقية، والربوبية، والخالق والصانع كما فسد زعم الرستمي الفنجفيري أن معنى الألوهية معنى المالكية. وثبت أن تفسيرهم هذا تعطيل لصفة "الألوهية لله تعالى، وتحريف لنصوصها.   (1) انظر ((شرح المواقف)) مع حاشية حسن الجلبي عليه (8/ 83)، و ((حاشية العصام)) على شرح التفتازاني على ((العقائد النسفية)) مع ((حاشية الكفوي)) على ((حاشية العصام)) (173) و ((نشر الطوالع)) للمرعشي (239). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 وبطل زعم الشيخ محمد بن علوي المالكي: أن المشركين لم يكونوا جادين في اعترافهم بأن الله هو الخالق الرازق المدبر لهذا الكون. 8 - وقال الإمام ولي الله الدهلوي الحنفي رحمه الله (1176هـ) في تصوير عقائد مشركي العرب وبيان أن أصل إشراكهم بالله تعالى هو التوسل الشركي. "والمشركون وافقوا المسلمين في تدبير الأمور العظام وفيما أبرم وجزم، ولم يترك لغيره خيرة، ولم يوافقوهم في سائر الأمور. ذهبوا إلى أن الصالحين من قبلهم عبدوا الله وتقربوا إليه. فأعطاهم الله "الألوهية". فاستحقوا العبادة من سائر خلق الله. كما أن ملك الملوك يخدمه عبده فيحسن خدمته. فيعطه خلعة الملك ويفوض إليه تدبير بلدٍ من بلاده، فيستحق السمع والطاعة من أهل ذلك البلد. وقالوا: لا تقبل عبادة الله إلا مضمومة بعبادتهم. بل الحق في غاية التعالي فلا تفيد عبادته تقرباً منه، بل لابد من عبادة هؤلاء ليقربونا إلى الله زلفى، وقالوا: هؤلاء يسمعون ويبصرون، ويشفعون، لعُبَّادِهم، ويدبرون أمورهم وينصرونهم. فنحتوا على أسمائهم أحجاراً، وجعلوها قبلةً عند توجههم إلى هؤلاء. فخلف من بعدهم خلف فلم يفطنوا للفرق بين الأصنام وبين من هي على صورته، فظنوها معبودات بأعيانها، ولذلك رد الله تعالى عليهم تارة بالتنبيه على أن الحكم والملك له خاصة وتارة ببيان أنها جمادات ... " (1).8 - وله رحمه الله أيضاً كلامٌ طويلٌ آخر قال في آخره: "وهذا مرض جمهور اليهود والنصارى والمشركين وبعض الغلاة من منافقي دين محمد صلى الله عليه وسلم يومَنا هذا" (2). 9 - وقد صوّر الشاه ولي الله أيضاً عقائد المشركين بمثل هذا النوع في مقام آخر من أن أصل إشراكهم كان مبنياً على التوسل الشركي وأنهم لم يعتقدوا في آلهتهم أنها خالقة صانعة لهذا الكون أو أنها مدبرة، مالكة على الاستقلال. بل كانوا يقولون: إن نسبة الآلهة إلى الله تعالى كنسبة الوزراء والأمراء إلى الملوك والسلاطين. حيث لا يتوصل إلى الملك إلى بوزرائه وأمرائه. ثم قال: "وإن كنت متوفقاً في تصوير حال المشركين وعقائدهم وأعمالهم - فانظر إلى حال العوام والجهلة من أهل الزمان. خصوصاً من سكن منهم بأطراف دار الإسلام. كيف يظنون "الولاية" وماذا يُخَيَّلُ إليهم منها ... ؟ ويذهبون إلى القبور والآثار، ويرتكبون أنواعاً من الشرك، وكيف تطرق إليهم التشبيه والتحريف؟.ففي الحديث الصحيح: ((لتتبعن سنن من قبلكم، حذو النعل بالنعل)) (3).وما من آفة من هذه الآفات إلا وقوم من أهل الزمان واقعون في ارتكابها معتقدون مثلها عافانا الله سبحانه من ذلك" (4). قلت: نصوص هذا الإمام صريحة بما يلي: أ- أن مشركي العرب لم يكونوا معتقدين في آلهتهم من دون الله، أنها خالقة رازقة مدبرة مالكة لهذا الكون. ب- أصل شركهم هو التوسل الشركي من قياس الخالق تعالى على ملك من الملوك الذين لا يتوصل إليهم إلا بواسطة وزرائهم وأمرائهم وقد أتوا من قياس الغائب على الشاهد وقياس الغني على الفقير، وقياس عالم الغيب على من لا يعلم الغيب، وقياس الحي القيوم القادر القائم على كل نفس السميع البصير الذي لا تخفى عليه خافية على مخلوق عاجز جاهل. ج- أن المشركين لم يعبدوا الأحجار والأصنام لذاتها. وإنما عبدوها لجعلها قبلة لأرواح الأنبياء والأولياء عندهم،   (1) ((حجة الله)) (1/ 59، 61) ط السلفية و (1/ 177، 183) تحقيق سكر. (2) ((حجة الله)) (1/ 59، 61) ط السلفية و (1/ 177، 183) تحقيق سكر. (3) رواه الترمذي بنحوه (2641) وقال: غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه وقال الألباني ((صحيح الترمذي)) (2641) حسن. (4) ((الفوز الكبير)) (ص 18 - 20)، و ((ضمن إشارات الراغبين)) (ص5 - 6). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 وكان قصدهم عبادة هؤلاء الأنبياء والصلحاء دون الأحجار. د- أنه لم يكن قصدهم بالذات عبادة هؤلاء الأنبياء والصلحاء بالذات أيضاً وإنما كانوا يعبدونهم ليقربوهم إلى الله ويشفعوا لهم عند الله سبحانه. هـ- أن إشراك المشركين العرب موجود في كثير من المنتسبين إلى الإسلام، فنراهم يرتكبون أنواعاً من الشرك الأكبر من عبادة القبور وأهلها، كما هو مشاهدٌ محسوسٌ، وحقيقةٌ واقعيةٌ لا تهمة خيالية. فهل يمكن لهؤلاء المتكلمين بعد تصريح هذا الإمام أن يفسروا "الألوهية" و"الإله" بالخالقية، والخالق، والربوبية والرب؟ والمالكية. أو هل يمكن لأمثال محمد بن علوي المالكي: أن يقول: إن المشركين لم يكونوا جادين بل كانوا هازلين في اعترافاتهم بالربوبية!. أو هل يمكن لهم أن ينكروا وجود الشرك الأكبر في كثير من المسلمين من عبادة القبور وأهلها؟. أو هل يمكن لأحد أن يقول: إن مشركي العرب كانوا يعبدون الأحجار والأصنام؟. أما نحن فنعظم الأنبياء والأولياء ونتوسل بهم إلى الله تعالى ونحو ذلك؟ أو هل يمكن لأحد أن يقول: إن المشركين كانوا يعتقدون في الأحجار والأصنام أنها أرباب؟. أما نحن فلا نعتقد ذلك في الأنبياء والأولياء، وإنما نتوسل بهم إلى الله؟ كما يقوله كثير من أدعياء العلم من أئمة العبودية؛ فيرتكبون تحت ستار التوسل - أنواعاً من الشرك، ويثبتون للأولياء - تحت ستار الكرامة - كثيراً من صفات الربوبية؛ 10 - وقال العلامة المفسر محمود الآلوسي (1270هـ) مفتي الحنفية ببغداد في تفسير قوله تعالى: وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ [يونس:18]:"ونسبة الشفاعة للأصنام قيل باعتبار السببية، وذلك لأنهم - كما هو المشهور - وضعوها على صور رجال صالحين ذوي خطر عندهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادتها فإن أولئك الرجال يشفعون لهم ... " (1). قلتُ: هذا النص واضح لا يحتاج إلى تعليق وكأنه نقله عن الإمام الرازي، فإن هذا النص مثل نص الرازي كما تقدم قريباً. 11 - وقال الآلوسي رحمه الله أيضاً في تفسير قوله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [يوسف:106] "قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة، والشعبي، وقتادة: "هم أهل مكة، آمنوا وأشركوا، كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكاً تملكه وما ملك ... " (2). ثم قال: " .... يندرج فيهم كل من أقر بالله تعالى وخالقيته مثلاً، وكان مرتكباً ما يُعَدُّ شركاً كيفما كان. ومن أولئك عبدة القبور الناذرون لها المعتقدون للنفع والضر ممن الله أعلم بحاله فيها، وهم اليوم أكثر من الدود" (3). قلتُ: نص الآلوسي هذا لا يحتاج إلى تعليق فهو واضح، غير أنه صريح في أمرين مهمين. الأول: أن المشركين كانوا يصرحون وقت التلبية بأن آلهتهم لا تملك شيئاً فهم ومعبودهم كلهم جميعاً ملك لله تعالى. والثاني: أن عبدة القبور اليوم - على كثرتهم الكاثرة كالدود - من هؤلاء الذين يؤمنون بالله وخالقيته وربوبيته، وهم مع ذلك يرتكبون أنواعاً من الشرك الأكبر من عبادة القبور وأهلها. فهل يمكن - بعد هذه التصريحات واعتراف المشركين بأن آلهتهم لا تملك - لأحد من الماتريدية أن يفسروا "الألوهية" بالربوبية، و"الإله" بالرب الصانع المالك المدبر لهذا الكون؟ أو بالمالكية؟. أو هل يمكن لأحد أن يقول: إن الاعتراف بتوحيد الربوبية اعتراف بتوحيد الألوهية؟ والقائل بربي الله قائل بلا إله إلا الله؟.   (1) ((روح المعاني)) (11/ 88). (2) ((رواه مسلم)) (2/ 843)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (3) ((روح المعاني)) (13/ 66 - 67). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 أو هل يمكن لأمثال العلوي المالكي أن يزعم أن المشركين لم يكونوا جادين في أن الله تعالى هو الخالق الرازق المدبر لهذا الكون؟. المؤاخذة الرابعة: أنه إن كان معنى "الألوهية" الربوبية، والصانعية ومعنى "الإله" "الخالق والرب أو معنى الألوهية المالكية - يلزم أن تكون "كلمة التوحيد" غير مفيدة للتوحيد؛ لكن التالي باطل فالمقدم مثله. أما بطلان التالي فأمر متفق عليه بين الفرق المنتسبة إلى الإسلام، ولأنه قد علم بالضرورة والاضطرار من دين الإسلام: أن كلمة "لا إله إلا الله" كلمة التوحيد، ومفيدةٌ للتوحيد، ولأن المشركين لم يعارضوا الرسل - عليهم الصلاة والسلام في "لا خالق إلا الله" أو "لا رب إلا الله". بل كانوا يعارضونهم في "لا إله إلا الله" المفيدة لتوحيد العبادة واختصاص العبادة بالله وحده لا شريك له، والمتضمنة لإبطال الآلهة الباطلة. كما قال الله سبحانه وتعالى: قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا [الأعراف:70]. وقال تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات:35]. وقال جل وعلا عن المشركين: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5] . وقال عز من قائل: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:45]. وقال عز وجل: ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر:12]. وقال تبارك وتعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [غافر:84] وقال سبحانه وتعالى: وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4] وأما بطلان المقدم فقد ظهر من بطلان التالي. المؤاخذة الخامسة: أن هناك فروقاً أخرى بين الربوبية وبين "الألوهية" نذكر منها ما يلي: أ- أن "الألوهية" هي الغاية العظمى من خلق الجن والإنس وإرسال الرسل وإنزال الكتب بخلاف "الربوبية" (1).ب- أن "الربوبية" دليل على "الألوهية" فالأولى دالة، والثانية مدلولة والأولى مستلزمة للثانية استلزم الدليل المدلول (2).ج- "الألوهية" مستلزمة "للربوبية" استلزام العلة الغائية للفاعلية (3) فالأولى "علة غائية" والثانية "علة فاعلية". ولا شك أن الغائية والفاعلية شيئان متغايران لا مترادفان. د- "الألوهية" متضمنة للربوبية" دون عكس (4).ومتضمنة لتوحيد الأسماء والصفات أيضاً (5). ولا شك أن المُتَضَمِّنَ والمُتَضَمَّنَ شيئان لا شيء واحد. وصح لنا أن نقول: إن توحيد الألوهية كالكل، وإن توحيدي الربوبية والصفات كالجزئين له والربوبية والألوهية من الصفات أيضاً. هـ- أن من أفنى عمره وأنهى قواه في تحقيق "الربوبية" لله تعالى لا يصير مسلماً بمجرد ذلك ما لم يحقق "الألوهية" لله عز وجل.   (1) ((مجموع الفتاوى)) (2/ 37)، و ((تجريد التوحيد)) للمقريزي (ص 5). (2) ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص 86). (3) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (2/ 37). (4) انظر: ((منهاج السنة)) (2/ 86)، الطبعة القديمة، و (3/ 313)، الطبعة المحققة، و ((درء التعارض)) (7/ 391)، و ((شرح الطحاوية)) (ص 79، 81، 84، 85، 87) و ((شرح الفقه الأكبر)) (ص 15). (5) انظر: ((درء التعارض)) (1/ 284)، و ((تجريد التوحيد)) للمقريزي (ص 45). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 أما من حقق "الألوهية" لله تعالى، فقد حقق "الربوبية" له تعالى أيضاً بل حقق توحيد الصفات أيضاً. وأن توحيد "الألوهية" أخص من توحيد "الربوبية" فكل موحد بتوحيد "الألوهية" موحد بتوحيد "الربوبية" ولا عكس، لأن المشركين كانوا معترفين بتوحيد "الربوبية"، ومع ذلك كانوا مشركين في توحيد "الألوهية" (1). ز- أن أركان "توحيد الألوهية" هي عبادة الله تعالى بغاية الذل والخضوع له سبحانه وتعالى، وغاية الحب له تعالى، وغاية الرغبة في ثوابه عز وجل، وغاية الرهبة من عقابه جل وعلا، مع الإخلاص واتباع السنة. فمن عبد الله بالحب وحده فهو "زنديق" ومن عبده بالرجاء وحده فهو "مرجئ" ومن عبده بالخوف وحده في "حروري" ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو "مؤمن موحد" (2).ومن عبده بدون الإخلاص فهو "المرائي المنافق" ومن عبده بدون اتباع السنة فهو "مبتدع راهب ضال" (3). قلتُ: لقد تبين لنا من هذه الدراسة ما يلي: أ- مفهوم "الألوهية" ومفهوم "الربوبية" مفهومان متغايران، وليسا مترادفين، كما بينا ذلك من وجوه متعددة بفروق كثيرة وكذا الحال بين: مفهوم "الإله" وبين مفهوم "الرب" والألوهية والمالكية. ب- فالألوهية، هي العبودية، فتوحيد الألوهية: هو العلم والاعتراف بأن الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، وإفراده تعالى بالعبادة كلها وإخلاص الدين له وحده (4). ج- والربوبية "هي السيادة والخالقية والمالكية".فتوحيد الربوبية: هو الإقرار بأن الله تعالى - رب كل شيء ومالكه وخالقه ورازقه وأنه المحيي والمميت النافع الضار الذي له الأمر كله وبيده الخير كله القادر ليس له شريك في ذلك كله (5). د- تفسير "الألوهية" و"الإله" بالربوبية والمالكية، وبالرب والخالق - تفسير باطل لغة واصطلاحاً فبطل زعم الرستمي الفنجفيري. هـ-ز- تفسير "الألوهية" بالمالكية والربوبية، وتفسير "الإله" بالخالق والرب - تعطيل لصفة "ألوهية" الله تعالى، وتحريف لنصوصها، وإلحاد في اسمه، "الإله" سبحانه وتعالى، حتى بشهادة الإمام أبي حنيفة رحمه الله وشهادة ثمانية من كبار أئمة الحنفية الماتريدية. ح- أن تفسير "الألوهية" بالمالكية من قبيل حمل نصوص الكتاب والسنة على المصطلحات البدعية، وهو زيغ وتنكب لسبيل السلف ومنابذة لتخاطب العرب وتفاهم السلف، واللسان العربي حتى باعتراف الكوثري وشهادته. ط- أن المعنى الصحيح لكلمة "لا إله إلا الله". هو: "لا معبود بحق إلا الله".ي- أن قول القائل في معناها: "لا مطاع بحق إلا الله "باطل؛ لوجوب طاعة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وكذا قوله: لا رب إلا الله" كما يزعمه المتكلمون باطل أيضاً، لأنه مما اعترف به المشركون، وهكذا قول: "لا إله موجود إلا الله" كما زعمه النحاة؛ لوجود الآلهة الباطلة، وكذا قوله: "لا إله في الوجود إلا الله - باطل (6). وكذا قول من قال: "لا موجود إلا الله" فهذا أشد بطلاناً من الأقوال السابقة. المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني 3/ 170 - 191   (1) صرح به العلامة القاري في ((الفقه الأكبر)) (ص 15). (2) ((العبودية)) (ص 37)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (10/ 207)، وانظر: ((مدارج السالكين)) (ص 85)، و ((القصيدة النونية)) (ص 156 - 157)، و ((توضيح المقاصد)) (2/ 257 - 258)، و ((توضيح الكافية الشافية)) (ص 134)، و ((شرح النونية)) للدكتور محمد خليل هراس (2/ 120 - 122). (3) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 155 - 156)، ((التدمرية)) (ص 232 - 233)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 124 - 125) و ((النونية)) (ص 32، 157، 158، 178). (4) ((مدارج السالكين)) (3/ 504)، ((اجتماع الجيوش)) (ص 93)، ((القول السديد)) للعلامة السعدي (ص 14)، و ((الكواشف الجلية)) (ص 418)، و ((شرح الطحاوية)) (ص 79)، و ((شرح الفقه الأكبر)) للقاري (ص 19)، و ((تيسير العزيز الحميد)) (ص 36)، و ((فتح المجيد)) (ص 17 - 18)، و ((قرة عيون الموحدين)) (ص 15 - 16)، و ((توضيح الكافية الشافية)) للسعدي (ص 134)، و ((مجموع الفتاوى)) لشيخنا عبدالعزيز بن باز حفظه الله (1/ 15، 38 - 39). (5) انظر: ((تيسير العزيز الحميد)) (ص 33)، وراجع أيضاً ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص 76 - 77)، و ((شرح الفقه الأكبر)) للقاري (ص 15)، و ((ضوء المعالي له)) (ص 10 - 11)، و ((القول السديد)) (ص 13)، و ((الكواشف الجلية)) (ص 417)، و ((مجموع فتاوى)) لشيخنا عبدالعزيز بن عبدالله بن باز يرحمه الله (1/ 34، 36، 2/ 34، 74). (6) راجع لتحقيق هذا المطلب ((مجموع فتاوى)) لشيخنا عبدالعزيز بن عبدالله بن باز "يرحمه الله": (1/ 16، 38، 2/ 5)، وتعليقاته على موضع في شرح الطحاوية المطبوعة في آخر ((شرح الطحاوية)) (ص 598)، وانظر ((التدمرية)) (ص 179 - 180)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (3/ 98) و ((التجريد)) للقاري (ص 19، 24، 32). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 مراجع للتوسع أـ كتب المذهب: ـ كتاب (التوحيد)، أبو منصور الماتريدي. ـ (تأويلات أهل السنة)، أبو منصور الماتريدي. ـ (تبصرة الأدلة)، أبو المعين النسفي. ـ (بحر الكلام في علم التوحيد)، أبو المعين النسفي. ـ (شرح العقائد النسفية)، لنجم الدين عمر النسفي / التفتازاني. ـ (المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة)، ابن الهمام مع (شرحه المسامرة) لابن أبي شريف، شرح قاسم بن قطلوبغا. ـ (رسالة التوحيد)، الشيخ محمد عبده. ـ (رسالة في الخلافات بين الأشعرية والماتريدية والمعتزلة)، مستحي زاده عبد الله بن عثمان. ـ (مقالات الكوثري) ومعها (مقدمة البنوري الديوبندي)، لأحمد خيري. ـ (تاريخ الدعوة الإسلامية وتطورها في شبه القارة الهندية)، د. محيى الدين الألوائي. ـ (العلماء العُزاب)، الشيخ عبد الفتاح أبو غدة. ـ (الأجوبة الفاضلة)، للكنوي، تعليقات الشيخ عبد الفتاح أبي غدة. ـ (عقيدة الإسلام والإمام الماتريدي)، د. أبو الخير محمد أيوب البنغلاديشي. ـ (الفتاوى الرشيدية)، للشيخ رشيد أحمد الكنكوهي الديوبندي. ب ـ كتب ومراجع لغير المذاهب: ـ (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)، أبو القاسم هبة الله بن الحسن ابن منصور الطبري اللالكائي. ـ (الأسماء والصفات)، البيهقي. ـ (الإيمان)، (مجموع الفتاوى: 7/ 4 ـ 421) شيخ الإسلام ابن تيمية. ـ (الإكليل في المتشابه والتأويل) (مجموع الفتاوى: 13/ 270 ـ 314) شيخ الإسلام ابن تيمية. ـ (درء تعارض العقل والنقل)، شيخ الإسلام ابن تيمية ـ تحقيق د. رشاد محمد سالم. ـ (اجتماع الجيوش الإسلامية) على غزو المعطلة والجهمية، ابن قيم الجوزية، تحقيق د. عبد الله المعتق. ـ (ذم التأويل)، ابن قدامة المقدسي. ـ (التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل)، عبد الرحمن بن يحيى اليماني المعلمي. ـ (البريلوية عقائد وتاريخ)، إحسان إلهي ظهير. ـ (الماتريدية)، رسالة ماجستير، أحمد بن عوض الله اللهيبي الحربي. ـ (الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات)، رسالة ماجستير، لشمس الأفغاني السلفي. ـ (منهج الماتريدية في العقيدة)، د. محمد بن عبد الرحمن الخميس. ـ (مناهج الأدلة في عقائد الملة)، ابن رشد الحفيد (أبو الوليد الأصفر محمد ابن أحمد الفلسفي). ـ (براءة أهل السنة من الوقيعة في علماء الأمة)، د. أبو زيد بكر بن عبد الله أبو زيد. ـ (مقدمة شرح العقيدة الطحاوية) لابن أبي العز الحنفي ـ محمد ناصر الدين الألباني. ـ (الاستقامة)، شيخ الإسلام ابن تيمية. ـ (الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء الإثبات والتنزيه) ـ محمد أمان بن علي الجامي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 المبحث الأول: تعريف المرجئة المرجئة لغة: من الإرجاء: وهو التأخير والإمهال (1)، قال تعالى: قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [الشعراء: 36]. أي أمهله، ومن الرجاء، ضد اليأس وهو الأمل (2). قال تعالى: يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة: 218]. المرجئة اصطلاحاً: وفي الاصطلاح كانت المرجئة في آخر القرن الأول تطلق على فئتين، كما قال الإمام ابن عيينة: 1 - قوم أرجأوا أمر علي وعثمان فقد مضى أولئك.2 - فأما المرجئة اليوم فهم يقولون: الإيمان قول بلا عمل (3).واستقر المعنى الاصطلاحي للمرجئة عند السلف على المعنى الثاني "إرجاء الفقهاء"، وهو القول بأن: الإيمان هو التصديق أو التصديق والقول، أو الإيمان قول بلا عمل، "أي إخراج الأعمال من مسمى الإيمان"، وعليه فإن: من قال الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأنه لا يجوز الاستثناء في الإيمان من قال بهذه الأمور أو بعضها فهو مرجئ (4). ثم أطلق الإرجاء على أصناف أخرى كالجهمية القائلين بأن الإيمان هو المعرفة فقط، والكرامية القائلين بأن الإيمان هو قول اللسان فقط. المصدر: القدرية والمرجئة لناصر العقل - ص77   (1) انظر ((القاموس المحيط)) "رجا" (ص1660)، و ((مختار الصحاح) "رجا" (236). (2) انظر ((القاموس المحيط)) "رجا" (ص1660)، و ((مختار الصحاح)) "رجا" (236). (3) ((تهذيب الآثار)) للطبري (2/ 659)، وانظر ((المرجئة)) رسالة ماجستير للدكتور محمد بن عبدالعزيز اللاحم (ص 39). (4) انظر ((حلية الأولياء)) (7/ 29)، وشرح ((السنة)) للبغوي (1/ 41)، و ((الفتاوى)) (7/ 666) و (13/ 41). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 المبحث الثاني: نشأة الإرجاء الفتنة الأولى روى الإمام مسلم في "صحيحه" عن حذيفة بن اليمان- رضي الله عنه- قال: (كنا عند عمر فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة كما قال؟ قال: فقلت: أنا! قال: إنك لجريء، وكيف قال؟ قال: قلت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره، يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)). فقال عمر: ليس هذا أريد. إنما أريد التي تموج كموج البحر! قال: فقلت: مالك ولها يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها باباً مغلقاً! قال: أفيكسر الباب أم يفتح؟ قال: لا. بل يكسر! قال: ذلك أحرى ألا يغلق أبداً. قال: فقلنا لحذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب؟ قال: نعم, كما يعلم أن دون غد الليلة، إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط. قال- أي الراوي عن حذيفة وهو شقيق -: فهبنا أن نسأل حذيفة من الباب، فقلنا لمسروق فسأله، فقال: عمر) (1). أما كيف كسر الباب فقد استفاض في كتب التواريخ وروي بأسانيد متضافرة أن "الهرمزان" الفارسي المجوسي وجفينة النصراني الصليبي قد تآمرا على حياة الفاروق، ونفذ أبو لؤلؤة- عليه من الله ما يستحق- تلك المؤامرة الدهياء. وانكسر الباب. ولم يقف التآمر الصليبي المجوسي عند هذا الحد، فقد انضم إليهما شر الثلاثة "المكر اليهودي" ممثلاً في عبد الله بن سبأ وخلاياه السرية، فأضرمت نار فتنة هوجاء ذهب ضحيتها الخليفة المظلوم ذو النورين عثمان رضي الله عنه ثم تتابعت الفتن كقطع الليل المظلم وما تزال (2). كان مقتل ذي النورين فاجعة كبرى، ليس لأن الأمة فقدت خليفتها وأفضلها بعد النبي صلى الله عليه وسلم والصاحبين فحسب، ولكن - أيضاً- لأن هذه الأمة المباركة المصطفاة كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] بدأت تتزحزح عن قمتها الشاهقة التي لم تبلغها قبلها أمة من الأمم. لقد كان ذلك إيذانا بانقضاء عصر ما كان التاريخ ليحلم بمثله ولا في خيال الحكماء , عصر الجماعة الإنسانية الفذة التي تعيش كالملائكة المطمئنين في الأرض. ولا شك أن لله تعالى حكماً بالغة جرت بها مقاديره - له الحمد عليها علمناها أم جهلناها- تحولت هذه الجماعة بمقتضاها من بركان إيماني يعصف بدول الكفر ذات اليمين وذات الشمال إلى أطراف في فتنة داخلية عمياء. ومع أن الاصطفاء الرباني لهذه الأمة تجلى حتى في هذا الموقف الحالك فأثبتت أنها أفضل الأمم خصومة- كما هي أسماها وفاقاً - فقد كانت دسائس الحاقدين ومعاول الهدامين توسع الشقة وتنكأ الجراح وتتلاعب بمشاعر الدهماء مستغلة ما أحدثته الفاجعة من اضطراب وارتباك. وانفض المأتم العظيم عن آراء متضاربة ووجهات متباينة:   (1) رواه مسلم (144). (2) يجب التنبه هنا إلى عدم المبالغة في تقدير دور المؤامرة الشريرة على الإسلام، وإلقاء كل مصائب الأمة عليها، لكن بخصوص الصحابة رضي الله عنهم فمن تكريم الله لهم أن أصل الفتنة لم يكن منهم ولا بسببهم، وأنهم استطاعوا اجتياز أصعب وأحلك مواقفها دون أن يفقدوا شيئا من الخصائص الباهرة التي اكتسبوها من التربية النبوية، ثم ما كادت الجماعة تعود حتى استأنفوا مسيرتهم الضخمة في نشر الإسلام علما وجهادا، مما فرض على أفاعي المؤامرة الكمون في جحورهم حتى أتيحت لهم فرصة أخرى كان الصحابة رضي الله عنهم أو أغلبهم حينها قد لقوا ربهم، ومع ذلك استمرت مسيرة الإسلام الكبرى. نعم ظلت تتصدع ولكنها لم تسقط إلا بعد قرون، ولأسباب ليست خاصة بالمؤامرة ولا من صنعها وحدها، على أن وعد الله سيتحقق وتعود من جديد ولو بعد حين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 1 - فقد رأت طائفة أن أول واجب على الأمة هو الثأر لخليفتها الشهيد والقصاص من الخونة السفاحين! 2 - ور أي آخرون أن أول ما ينبغي هو اجتماع الكلمة واستتباب الأمور والتجلد حتى تتكشف ذيول المؤامرة ثم يكون استئصال شأفتها وقطع دابر دواعيها. 3 - ورأت طائفة ثالثة أن الخليفة المظلوم لم يتحمل ذلك الحصار الآثم وينه أتباعه المؤمنين عن فكه إلا حرصاً على ألاتراق قطرة دم أو تثور أدنى فتنة بين أمة الإسلام، فالأولى بمن بعده جميعاً ألا يحركوا ساكناً وألا يكونوا طرفاً في أي نزاع - مهما بدت وجاهته - بل إن بعض من يرى هذا الرأي قد خرج من المدينة منذ أن أطلت الفتنة برأسها، وآثروا الابتعاد حتى تسكن العاصفة. وكان في ثغور الجهاد وأطراف البلاد فئات لم تعلم عن سير الأمور شيئاً، فلما صدمتها الفاجعة أذهلها الألم عن التفكير، ووقاها بعد الشقة شر الخوض في الفتنة. 4 - ونبتت فئة أخرى من أحداث الأسنان وضيقي الأفق الذين ترعرعوا في البداوة وولدوا من سلالة الأعراب ونشأوا على الجلافة فقالوا: إن نزول عثمان عن مرتبة الشيخين مبرر كاف لقتله، وإنه ما من إمام إلى قيام الساعة لا يسير سيرتهما إلا استوجب الخلع أو القتل. أما الفئة الآثمة المتآمرة فقد عادت إلى أوكارها واندست في صفوف الأمة تستجمع قوتها وتخطط للمرحلة التالية مدفوعة بيقينها أن أي اجتماع للأمة فإنه سيتقاضى رؤوسها الفاجرة. (1) وأدرك بعض من شارك في الفتنة وخدع بمطلب المتآمرين صدق ما روي في الحديث:" عليكم بالجماعة، فإن ما تكرهونه في الجماعة خير مما تحمدونه في الفرقة" (2).فقد كان غاية ما نقموا على أمير المؤمنين عثمان أنه حمى الحمى, وأتم الصلاة في السفر بمكة, وآثر أقرباءه, وتوسع في الإنفاق من بيت المال والفيء (3). فماذا كانت نتيجة الفتنة ومآل الأمة بعدها في الآجل والعاجل؟ لقد ثلم حمى الإسلام نفسه، وهدمت مساجد وثغور، وتولى الأمور من لا يساوي بالنسبة لأولئك الأقرباء شيئاً، وأصبح بيت المال بيت مال الملوك والسلاطين. وكان ما كان من أمور لا نملك معها إلا أن نقول: قدر الله وما شاء فعل. ولما كان الجانب الذي يهمنا الآن من هذه الفتنة هو ما يتعلق بظهور فكر المرجئة، فسوف نستعرض موقف الفئات التي كان لها أثر في نشأة الإرجاء إما على الحقيقة وإما على الادعاء. إن الإرجاء من حيث هو موقف نفسي يمكن أن يوجد في الفتنة العمياء وما تلاها، كما يمكن أن ينشأ في أي قضية مماثلة، فإن من سنن الاجتماع أن أي نزاع يشجر بين طائفتين قد يفرز فئة ثالثة محايدة - لأي سبب من أسباب الحياد- وهكذا وجد في عصر الفتنة الأولى وما تلاها أناس اتخذوا هذا الموقف "الحياد" في الجملة، ولكن شتان بين قوم وقوم، وإن كان موقفهما في الظاهر سواء.   (1) وقد ظهرت آثار ذلك في احباط محاولة الصلح يوم الجمل، وتأسيس الفكر الشيعي السيء، ثم برزت بوضوح في فتنة كذاب ثقيف المختار ابن أبي عبيد. (2) سنده ضعيف، لكن له شواهد ولا شك أن معناه صحيح. انظر: ((مجمع الزوائد)) (5/ 222). (3) وهذه الأمور: إما أن الحق فيها معه رضي الله عنه صراحا، وإما أنها مسائل اجتهادية فليس اجتهاد غيره بأولى من اجتهاده – لا سيما وهو خليفة الأمة وطاعته ترفع الخلاف-، وإما أن يكون حاصل منه - غفر الله له – بعض التجاوز في شيء من هذه الأمور الفرعية، فماذا يساوي ذلك إلى جانب سابقته وفضله وعظيم قدره عند الله، وقد ارتكب حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه ما هو أكبر من ذلك بكثير، ومع هذا ثبت النص في عذره وعدم مؤاخذته بل ودخوله الجنة رأسا لأنه من أصحاب بدر، وأين حاطب من عثمان؟ انظر: ((العواصم من القواصم))، و ((منهاج السنة)) (3/ 173 - 207) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 فقد كانت الفئة المحايدة حينئذ تنقسم في حقيقتها أقساماً، بعضها وافق عين الصواب، وبعضها حاد عن الجادة ووضع قدمه على طريق أوله الحياد وآخره الضلال، وذلك بحسب الدوافع الاعتقادية لموقف كل منهم. وأصل هذا التفاوت أن الموقف العام نفسه يعد فريداً في التاريخ، فليس هناك ما يمكن أن يشبهه من الخلافات الدينية أو السياسية في غير هذا الجيل المصطفى المختار. وذلك أن العادة في مثل هذه الخلافات أن الحياد ليس إلا موقفاً سلبياً يمليه توازن المصالح أو التردد والشك، ولكننا هنا أمام صورة فذة يكون فيها الحياد - إن أسميناه كذلك - هو الموقف الإيجابي الذي يحتل مركز "الأفضلية" بحكم النصوص، في حين يتقاسم الطرفان المتنازعان مركزي " الفاضل والمفضول".وإذا كان طرفا النزاع هما أهل الشام وأهل العراق- وكلاً آتاه الله فضلاً- فإن الطائفة "الفضلى" هي تلك المجموعة من كبار الصحابة رضي الله عنهم الذين أمسكوا عن الفتنة ولم يكونوا يرون السيف بين المسلمين أصلاً (1). وليس إمساكهم مجرد حياد سلبي (وهو ما ينطبق على موقف المرجئة فيما بعد) بل هو موقف إيجابي شرعي يستند على النصوص الثابتة. وهذه الحقيقة غابت عن أذهان بعض العلماء - لا سيما من فقهاء العراق ومن تبعهم، وكذا بعض أصحاب الأهواء قديماً- ثم تلاهم من تلاهم من الحاقدين وجهلة الباحثين المحدثين، الذين زادوا بأن نسبوا الصحابة للإرجاء أو نسبوا المرجئة للصحابة. ولكن- للإنصاف- لا بد أن نذكر سبب خطأ أولئك العلماء- وهو سبب كثيراً ما يقع فيه الباحثون ألا وهو "التعميم"، ولو استخدمنا الاصطلاحات المنطقية لقلنا إن هؤلاء جعلوا "المحمول موضوعاً والموضوع محمولاً" فانقلبت القضية وكذبت. فإن قضية: إن "المرجئة ممسكون عن الفتنة" صادقة، فإذا أصبحت القضية "كل الممسكين عن الفتنة مرجئة" صارت كاذبة. ولذلك كان لزاماً علينا أن نفصل أقسام المحايدين لنرى أن هذا الحكم إنما ينصب على بعضهم لا على الجميع: 1 - الفئة الأولى: بعض كبار الصحابة وأجلائهم رضي الله عنهم مثل: سعد بن أبي وقاص, وعبد الله بن عمر, وأبي هريرة, وزيد بن ثابت, وأسامة بن زيد, ومحمد بن مسلمة، وغيرهم. وقد آثرنا- إجلالاً منا لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتساباً في الذب عنهم- أن نفردهم بمبحث مستقل تال. 2 - الفئة الثانية: بعض سكان الأطراف والمرابطين على ثغور الجهاد، وهؤلاء كانوا يجالدون الأعداء ويفتحون الأمصار فما شعروا إلا والنبأ ينزل عليهم بمقتل أمير المؤمنين عثمان كالصاعقة، ثم فوجئوا بما تلاه من أحداث فما استطاعوا أن يستبينوا رأياً فيتبعوه أو يرجحوا طرفاً فيوالوه، فآثروا مسالمة الفريقين المتقاتلين والركون إلى حياد لا حيلة لهم في قبوله. وعن هؤلاء يقول الحافظ ابن عساكر: إنهم هم الشكاك الذين شكوا، وكانوا في المغازي، فلما قدموا المدينة بعد مقتل عثمان- وكان عهدهم بالناس وأمرهم واحد ليس بينهم اختلاف، فقالوا: تركناكم وأمركم واحد ليس بينكم اختلاف، وقدمنا عليكم وأنتم مختلفون. فبعضكم يقول: قتل عثمان مظلوماً وكان أولى بالعدل وأصحابه.   (1) إن ترجيحنا لموقف الممسكين عن الفتنة وتفضيلهم لا يعني أن كل فرد منهم هو أفضل من كل فرد في معسكر الطائفتين – لا سيما وعلي أفضل الأمة كلها حينئذ – ولكن موقفهم هو أفضل المواقف، وقد يتخذ المفضول في قضية معينة موقفا أفضل من موقف الفاضل، وليس في الأمة يومها بعد علي أفضل من سعد ابن أبي وقاص وقد كان من الممسكين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 وبعضكم يقول: كان علي أولى بالحق وأصحابه. كلهم ثقة وكلهم عندنا مصدق، فنحن لا نتبرأ منهما ولا نلعنهما ولا نشهد عليهما، ونرجئ أمرهما إلى الله حتى يكون هو الذي يحكم بينهما (1).فهؤلاء إن صح إطلاق الإرجاء على موقفهم فهو إرجاء حيرة لا إرجاء فكرة، وهذه الحيرة خاصة بقضية الحكم على المختلفين بالخطأ أو الصواب، أما موالاتهم والإقرار بفضلهم وسابقتهم فلم يكن موضوع شك عندهم (2). 3 - الفئة الثالثة: وهي فئة من ذلك الصنف البشري المحدود الإدراك الذي يضيق أفقه أو علمه عن تفهم الخلاف فتثور نفسه ساخطة على طرفيه حانقة عليهما دون تبصر في الدوافع أو تريث في الحكم، فمنهم فرقة أعلنت نقمتها وسخطها على كل الأطراف، وربما كان أصل ضجرها وحنقها أن المختلفين هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلم تكن صحبتهم دافعاً لالتماس العذر بل كانت- حسب فهمهم- مبرراً للعداء والبراء، إذ قالوا: كيف يختلفون ويتقاتلون وهم أصحاب رسول الله وأعلم الناس بالدين، والأصل أن يكونوا أكثر الأمة تمسكاً ووفاقاً ودعوة وجهاداً؟! إذن لقد انحرفوا عما كانوا عليه زمن النبي صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب، ومن ثم فلا حرمة لمن نكص على عقبيه ولا اعتبار لسابقته في الإسلام ما دامت هذه خاتمته!!! هذه الفكرة تبناها الفكر الخارجي الذي بلغ به حنقه على الأطراف جميعها إلى تدبير مؤامرة لاغتيال زعمائها "علي ومعاوية وعمر بن العاص" - رضي الله عن الجميع- على ما هو مشهور في التاريخ. وعلى رأي الملطي رحمه الله - هذه الفئة هي أصل المعتزلة ولا يخفى ما بين المعتزلة والخوارج من تشابه لا سيما في حكم مرتكب الكبيرة. كما أن هذا هو أصل المذهب الذي يرى تخطئة وتفسيق أو تكفير كلا الطائفتين، وهو مذهب كثير من أهل الأهواء من المعتزلة والخوارج وبعض المتكلمين والمتفلسفين. وكان من هذه الفئة فرقة أقل غلواً وشططاً، فقالوا: ما حدث من الصحابة ما حدث وهم على الدرجة العليا من الفضل والعلم- إلا وفي الأمر ما لا نستطيع إدراكه ولا نأمن مغبة الحكم عليه، وإذا كنا عاجزين عن تصور حقيقة القضية ولم يكن بالإمكان ترجيح أحد طرفيها، فلنقف موقفاً وسطاً بين القول بأنهم على الحق- الذي يتنافى مع ما بدر منهم من خلاف واقتتال وبين القول بأنهم على الباطل- وهو ما يتنافى مع فضلهم وسابقتهم. وهذا الموقف- في رأيهم- هو أن نبرئ أنفسنا من الوقوف مع أحد منهم أو عليه، فنكل أمر الجميع إلى الله وهو الذي يتولى حسابهم أما نحن فلا نوالي أحداً منهم ولا نعاديه ولا نشهد له بحق ولا باطل. ولم تستطع هذه الفرقة الأخيرة أن تتجرأ على تكفير الصحابة كحال نظيرتها الأولى، ورأوا أن الذي يتفق مع موقفهم، هو اعتقاد أن ما ارتكبوه - أي الصحابة - هو دون الشرك بالله تعالى، ومن ثم فهم داخلون تحت المشيئة. وهذه هي الطائفة التي يصح أن توصف بأنها أصل الإرجاء، سواء منه ما نشأ في أحضان الخوارج وهو الأعم الأغلب، أو ما كان آراء فردية ومواقف نفسية، مثلما ينسب إلى الحسن بن محمد. المصدر: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي - 1/ 239   (1) ((تاريخ دمشق، النسخة التيمورية)) (20/ 577)، وقد تعذر علي الاطلاع على هذه النسخة، ولذا نقلت النص عن د. نعمان القاضي، ((الفرق الإسلامية في الشعر الأموي)) (ص263)، كما ساقه أحمد أمين وغيره. (2) وإلى هؤلاء يتوجه كلام النووي في ((شرح مسلم)) وليس كما ظن رحمه الله أنه موقف كبار الصحابة، انظر (18/ 10) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 المبحث الثالث: أول نزاع وقع في الأمة وهو في مسألة الإيمان والإسلام يعد النزاع في الحقيقة الإيمان والإسلام أول اختلاف وقع في الأمة، وافترقت لأجله، وصاروا مختلفين في الكتاب والسنة، وكفر بعضهم بعضا، وقاتل بعضهم بعضا (1).وذلك أنهم اختلفوا فيمن له طاعات ومعاص، وحسنات وسيئات، ومعه من الإيمان ما لا يخلد معه في النار، وله من الكبائر ما يستوجب دخول النار، وهو من يسمى الفاسق الملي، فالخلاف فيه أول خلاف ظهر في الإسلام في مسائل أصول الدين (2)، ومسألة الفاسق الملي أول مسألة فرقت بين الأمة (3).وأول من أظهر النزاع فيها هم الخوارج، حيث كفروا أهل القبلة بالذنوب، بل بما يرونه من الذنوب، وقالوا ما الناس إلا مؤمن وكافر (4).ثم جاء بعدهم المعتزلة، فقالوا: إن أهل الكبائر مخلدون في النار كما قالت الخوارج، ولا نسميهم لا مؤمنين ولا كفار، بل فساق ننزلهم بين المنزلتين، ولم يوافقوا الخوارج في تسميتهم كفارا (5).وأمام هذا الغلو المفرط ظهرت مقالة مرجئة الفقهاء (6)، فقابلوا الخوارج والمعتزلة وصاروا طرفا آخر (7)، فحكموا على الفاسق الملي بالإيمان الكامل، وقد ظهرت مقالة هؤلاء الفقهاء في أواخر المائة الأولى للهجرة. وبسبب خلاف فقهاء المرجئة انفتح الباب للجهمية (8)، "وكان ظهور جهم ومقالته في تعطيل الصفات، وفي الجبر، والإرجاء، في أواخر دولة بني أمية" (9)، أي في النصف الأول من المائة الثانية للهجرة. ثم حدث بعد هؤلاء قول الكرامية (10)، وانتشرت مقالتهم في المائة الثالثة للهجرة. ثم قال الصالحي مقالته في الإيمان (11)، فجاء الأشعري وأشهر أصحابه فتلقفوها عنه (12) في النصف الأول من المائة الرابعة للهجرة، وهي امتداد لمقالة الجهمية، كما سيأتي بيانه بعون الله تعالى. المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 93   (1) انظر: ((الإيمان)) (ص1/ 161) ((الفتاوى)) (7/ 5، 169)؛ و ((شرح الأصبهانية)) (2/ 574) (ص 137ت) مخلوف؛ و ((الاستقامة)) (1/ 431). (2) انظر: ((الإيمان الأوسط)) ضمن ((الفتاوى)) (7/ 479) (ص313) ط. دار ابن الجوزي؛ و ((الفتاوى)) (3/ 230). (3) انظر ((الفتاوى)) (22/ 130). (4) انظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 481 - 482 ص 321 - 322) ط. دار ابن الجوزي. (5) راجع: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 484 ص326 - 328) ط. ابن الجوزي؛ و ((الفتاوى)) (13/ 38، 48). (6) انظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 504 - 505) (ص366) ط. ابن الجوزي. (7) انظر: ((الفتاوى)) (13/ 38). (8) انظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 508) (ص376 - 378) ط. ابن الجوزي. (9) ((الفتاوى)) (8/ 460). (10) انظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 509) (ص378) ط. ابن الجوزي؛ و ((درء التعارض)) (4/ 25). (11) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 509 ص 378 - 379ط). ابن الجوزي. (12) انظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 509، 510 - 511) (ص379 - 380، 382) ط، دار ابن الجوزي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 المبحث الرابع: في ترتيب الفرق ظهورا وظلمة، وتحديد الزمن الذي ظهرت فيه بدعة الإرجاء يقرر شيخ الإسلام أن نور النبوة كلما ظهر انطفت البدع، وأن قبح البدعة وظلمتها ونكارتها مرتبط - من حيث الجملة - بزمن ظهورها، فكلما انت أشد، فإن وقت ظهورها يتأخر عن عصر الرسالة، فأول فرق الضلال ظهورا الخوارج واليعة، ثم القدرية والمرجئة، ثم الجهمية. يقول شيخ الإسلام: "والبدعة كلما كانت أظهر مخالفة للرسول يتأخر ظهورها، وإنما يحدث أولا ما كان أخفى مخالفة للكتاب والسنة" (1).ويقول: "وكان ظهور البدع والنفاق بحسب البعد عن السنن والإيمان، وكلما كانت البدع أشد تأخر ظهورها، وكلما كانت أخف كانت إلى الحدوث أقرب، فلهذا حدث أولا بدعة الخوارج والشيعة، ثم بدعة القدرية والمرجئة، وكان آخر ما حدث بدعة الجهمية" (2).ويقول أيضا: "فإن البدع إنما يظهر منها أولا فأول الأخف فالأخف، كما حدث في آخر عصر الخلفاء الراشدين بدعة الخوارج والشيعة، ثم في آخر عصر الصحابة بدعة المرجئة والقدرية، ثم في آخر عصر التابعين بدعة الجهمية معطلة الصفات" (3).ويقول: "ومعلوم أن أهل الكتاب أقرب إلى المسلمين من المجوس والصابئين والمشركين، فكان أول ما ظهر من البدع فيه شبه من اليهود والنصارى، والنبوة كلما ظهر نورها انطفت البدع، وهي في أول الأمر كانت أعظم ظهورا، فكان إنما يظهر من البدع ما كان أخف من غيره، كما ظهر في أواخر عصر الخلفاء الراشدين بدعة الخوارج والتشيع، ثم في أواخر عصر الصحابة ظهرت القدرية والمرجئة، ثم بعد انقراض أكابر التابعين ظهرت الجهمية، ثم لما عربت كتب الفرس والروم ظهر التشبه بفارس والروم، وكتب الهند انتقلت بتوسط الفرس إلى المسلمين، وكتب اليونان انتقلت بتوسط الروم. إلى المسلمين، فظهرت الملاحدة الباطنية الذين ركبوا مذهبهم من قول المجوس واليونان مع ما أظهروه من التشيع" (4).ومما تقدم يعلم أن بدعة المرجئة ظهرت في أواخر عصر الصحابة، وتأكيدا لذلك يقول شيخ الإسلام: "ثم في أواخر عصر الصحابة حدثت القدرية في آخر عصرابن عمر وابن عباس وجابر وأمثالهم من الصحابة، وحدثت المرجئة قريبا من ذلك، وأما الجهمية فإنما حدثوا في عصر التابعين بعد موت عمر ابن عبدالعزيز" (5). ويقول: "ثم في آخر عصر الصحابة حدثت القدرية، وتكلم فيها من بقي من الصحابة كابن عمر، وابن عباس، وواثلة بن الأسقع، وغيرهم. وحدثت أيضا بدعة المرجئة في الإيمان، والآثار عن الصحابة ثابتة بمخالفتهم، وأنهم قالوا الإيمان يزيد وينقص كما ثبت ذلك عن الصحابة" (6). فبدعة الإرجاء ظهرت في أواخر عصر الصحابة، وقد بين شيخ الإسلام في موضع آخر متى كان عصر أواخر الصحابة، إذ يقول: "فإن الاعتبار في القرون الثلاثة بجمهور أهل القرن، وهم وسطه. وجمهور الصحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء الأربعة، حتى إنه لم يكن بقي من أهل بدر إلا نفر قليل.   (1) ((الرد على الإخنائي))، (ص 213). (2) ((شرح الأصبهانية)) (2/ 589 - 590 ص145 ت) مخلوف؛ وانظر: ((التدمرية))، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق د/ محمد السعودي، الطبعة الأولى 1405هـ، ص194 ((الفتاوى)) (3/ 104)؛ و ((الفتاوى)) (20/ 301). (3) ((الفتاوى)) (8/ 458). (4) ((بيان تلبيس الجهمية))، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق رشيد الألمعي، رسالة دكتوراة غير منشورة (2/ 470 - 471)؛ وانظر: ((جامع المسائل)) (5/ 37). (5) ((الفتاوى)) (20/ 301 - 302). (6) ((النبوات)) (2/ 577)؛ وانظر نحوه في: ((الفتاوى)) (10/ 357، 28/ 490)؛ و ((درء التعارض)) (5/ 244)؛ و ((منهاج السنة)) (1/ 308 - 309). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 وجمهور التابعين بإحسان انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبدالملك. وجمهور تابعي التابعين انقرضوا في أواخر الدولة الأموية، وأوائل الدولة العباسية" (1). فهذا النقل يحدد:1 - زمن جمهور الصحابة: وأنه انتهى بانتهاء خلافة الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم أجميعن - وآخرهم موتا هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وقد استشهد رضي الله عنه سنة أربعين للهجرة (2). 2 - زمن جمهور التابعين: وانقرض في أواخر عصر صغار الصحابة الذي انتهى في إمارة ابن الزبير وعبدالملك بن مروان. وابن الزبير رضي الله عنه قتل سنة 73هـ (3)، وعبدالملك مات سنة 86هـ (4)، فتكون هذه المدة الزمنية هي أواخر عصر صغار الصحابة. 3 - جمهور تابعي التابعين: انقرض في أواخر الدولة الأموية، وأوائل الدولة العباسية. والدولة الأموية انتهت بمقتل آخر خلفائهم مروان الحمار، وهو الزمن الذي قامت فيه الدولة العباسية، وذلك سنة 132هـ (5).ويهمنا من هذه الأزمنة عصر صغار الصحابة، فهو الذي ظهرت فيه المرجئة، وقد نص شيخ الإسلام أن المرجئة ظهرت في إماراة عبدالله بن الزبير وعبدالملك بن مروان، إذ يقول: "ثم لما كان في آخر عصر الصحابة، في إمارة ابن الزبير، وعبدالملك: حدثت بدعتا المرجئة، والقدرية" (6).ونقل في تحديد أدق لوقت ظهور بدعة الإرجاء قول قتادة: "إنما حدث الإرجاء بعد فتنة فرقة ابن الأشعث" (7).ومراد قتادة بالفتنة خروج ابن الأشعث ومن ناصره لقتال الحجاج بن يوسف، أمير العراق لعبدالملك بن مروان، وكانت أحداث تلك الفتنة ما بين سنة 81 - 83هـ (8). فعلى هذا تكون المرجئة ظهرت بعد انقراض كبار الصحابة، وبعد ذهاب جمهور التابعين، فلم يبق حينئذ إلا صغار الصحابة، وتابعي التابعين، وذلك في إمارة ابن الزبير، وعبدالملك بن مروان، ثم حصول فتنة ابن الأشعث. فإذا جمع ما بين هذه الأوقات أمكن تحديد ظهور بدعة الإرجاء بأنه في أواخر العقد السابع وأوائل العقد الثامن من المائة الأولى للهجرة، والله أعلم. المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 95   (1) ((الفتاوى)) (10/ 357). (2) انظر: ((البداية والنهاية)) (11/ 22). (3) انظر: ((البداية والنهاية)) (12/ 177). (4) انظر: ((البداية والنهاية)) (12/ 376، 396). (5) انظر: ((البداية والنهاية)) (13/ 249). (6) ((منهاج السنة)) (6/ 231). (7) ((الإيمان)) (ص378) ((الفتاوى)) (7/ 395)؛ وقول قتادة أنظره في: ((السنة))، لعبدالله: (1/ 319 رقم 644)؛ و ((السنة)) للخلال (4/ 87 - 88 رقم 1230)؛ و ((الإبانة الكبرى)) (2/ 889رقم 1235)؛ و ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (5/ 1002 رقم 1841). (8) انظر: ((البداية والنهاية)) (12/ 305 - 349). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 المبحث الخامس: براءة الصحابة رضي الله عنهم من الإرجاء إن البحث في نشأة الفكر الإرجائي يستلزم منا بالضرورة أن ندحض بالحجج الصريحة ما ذهب إليه بعض الناس، من القول بأن أصل المرجئة هو تلك الطائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لم تخض فيما خاض فيه غيرها من الفتن، وفضلت الاعتزال والإمساك عن الدخول في تلك المأساة الكبرى. وهذا الزعم تبناه قديماً بعض رؤوس الضلالة من المتكلمين وأعداء الصحابة, كالرافضة والخوارج، ولكنه ظل قولاً مهلهلاً مندثرا، حتى بعثه المستشرقون وأتباعهم من المستغربين، فدرج على ألسنة المؤرخين والدارسين للفرق وتداولوه حتى أصبح كأنه حقيقة مسلمة، وأرجعوا الفضل في اكتشافها إلى "المنهج العلمي" الذي انتهجه المستشرقون!! والمسألة بالنسبة لنا بدهية معلومة من الدين بالضرورة؛ فالكلام في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم دين، والدين لا يؤخذ عن المسلم الفاسق، ولا اعتبار لرأيه فيه، فضلاً عن المبتدع الضال؛ كالكعبي (1)، والجاحظ (2)، فضلاً عن الكافر الحاقد كعامة المستشرقين. والله تعالى قد قال في الفاسقين: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا [النور:4]، والحكم على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من مجرد الشهادة، لأنه دين واعتقاد، وإذا كان من شريعتنا رد شهادة المسلم الفاسق في دعاوى الحقوق الدنيوية, فما بالك بمن يتجرأ على خيار الأمة وأفضل البشر بعد الأنبياء من الصليبيين واليهود! لقد مقت سلف الأمة عمرو بن عبيد، وضللوه وبدعوه من أجل طعنه في المقتتلين من الصحابة، هذا مع ما هو مشهور عنه من الزهد والتعبد ومجانبة السلاطين، فكيف يلتفت المسلم إلى آراء أهل الكتاب الذين تغلي مراجل قلوبهم بالحقد على الإسلام، وتنفث ألسنتهم السم الزعاف عليه، وما تخفي صدورهم أعظم؟! فماذا نتوقع من "جولد زيهر" اليهودي إلا مثلما ذهب إليه سلفه عبد الله بن سبأ أو أعظم، وماذا نظن بـ "فان فلوتن، وكريمر وويلهاوسن (3)، ونيكلسون ... " وأضرابهم أن يقولوا، والحرب الصليبية لم تتوقف لحظة واحدة، ولن تتوقف حتى تكون الملحمة مع الروم بأرض الشام بين يدي الساعة كما صح عن الصادق المصدوق؟ وإن من يقبل كلام هؤلاء - بل يجله ويعظمه- يلزمه أن يقبل كلام عبدالله بن سبأ، وحمدان قرمط، وابن الراوندي، وميمون القداح، وابن النغريلة، وإلا فإنه متناقض، أو مخدوع بالمسحة العلمية الحيادية التي يزعمها هؤلاء المستشرقون. وما كان لنا أن نأبه بآراء المستشرقين ونشغل بردها لا في هذه القضية ولا في ما هو دونها، فنحن لا نتوقع منهم إلا هذا ومثله، فقد تبين لي من قراءة كافية في كتبهم أنهم قوم بهت- كما وصف عبد الله بن سلام رضي الله عنه أجدادهم اليهود- وأنهم لو كان الافتراء على الإسلام في السماء لاتخذوا إليه سلما، ولو كان في الأرض لابتغوا إليه نفقاً. ولكن اقتداء كثير من الكتاب المنتسبين إلى الإسلام بهم ومتابعتهم لرأيهم، واستناد هؤلاء وأولئك إلى آراء مخطئة أو أقاويل بدعية جعل تبيان هذه القضية أمراً ضرورياً.   (1) انظر: ((التوحيد)) للماتريدي، (ص 318)، تحقيق: فتح الله خليف .... حيث نسب بعضهم للإرجاء والجبر (2) انظر رسالته في "النابتة"، ضمن رسائله التي نشرها عبدالسلام هارون، وقد نشر الرسالة لأول مرة "فان فلوتن" الآتي ذكره، وعليها اعتمد، ثم تبعه المستغربون. (3) ويُكتب "فلهوزن" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 فقد نقل عنهم واقتدى بهم علماء شريعة مشهورون، ومتخصصون في العقيدة بارزون، ومؤرخون وأدباء لهم مكانتهم، وذلك مثل الشيخ محمد أبو زهرة، والدكتور على سامي النشار، والدكتور مصطفى حلمي، والدكتور نعمان القاضي ... فضلا عن أحمد أمين وطه حسين وسهير القلماوي وشاكر مصطفى وأمثالهم وأتباعهم. ويعجب الباحث أيما عجب حين يجد علماء وأساتذة ومؤرخين عرباً مسلمين يعتمدون اعتماداً كلياً على الكتيّب - بل المقال - الضحل السقيم الذي كتبه فان فلوتن بعنوان "السيطرة العربية" أو "الاستعمار العربي"، والذي ترجموه مخففاً باسم "السيادة العربية"!! وإنني لأجزم يقيناً- ولو حلف غيري ما عددته حانثاً- هؤلاء الأساتذة لو قدر لأحدهم أن يناقش ما كتبه فلوتن باعتباره رسالة أو بحثاً لأحد الطلبة الأزهريين، لما منحه أدنى درجة علمية، ولأوسعه نقداً وذماً كما هو الحال في كثير من الرسائل العلمية التي هي أعلى مستوى في ذلك. فهل كون الكاتب مستشرقاً يجعل ما كتبه مقبولاً، بل حجة ينقل عنها الأساتذة المتخصصون؟! والأنكى من ذلك أن يعارض به كلام المؤرخين المسلمين، حتى في مسألة تاريخية بحتة، كتحديد وفاة الحارث بن سريج!! ويبدو لي أن بعض المستشرقين العرب مثل أحمد أمين وزميله طه حسين وعبد الحميد العبادي قد تنبهوا لما قد يثار عن هذه المسألة، فما أن وجدوا نصاً للنووي يشعر بما يريدون حتى ألحقوه في هامش الكتاب (1)، وكأنما هو أصل مستندهم أو بعضه. وبصرف النظر عن الحقد والتعصب لدى المستشرقين، نقول: إن سبب انحراف منهجهم ومن اتبعهم في هذا الموضوع هو القياس الفاسد؛ فلما كانت الخلافة الإسلامية عندهم لا تختلف عن أية حكومة مذهبية، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مجرد أشخاص لا يختلفون عن سائر الناس في المطامع والكيد السياسي، فإن الخلاف الذي وقع بينهم لا يعدو في أنظار هؤلاء أن يكون "أزمة صراع على السلطة"، من ذلك النوع الذي تشهده الحكومات الأوربية منذ انقراض عصر الملكيات التقليدية! أما التزكية الإيمانية والتربية النبوية فأثرها عند هؤلاء محدود أو معدوم، وإليك رأي مؤلفي فجر الإسلام حين يتساءلون: "إلى أي حد تأثر العرب بالإسلام؟ " , "وهل انمحت تعاليم الجاهلية ونزعات الجاهلية بمجرد دخولهم في الإسلام؟ الحق أن ليس كذلك، وتاريخ الأديان والآراء يأبى ذلك كل الإباء، فالنزاع بين القديم والجديد، والدين الموروث والحديث يستمر طويلاً، ويحل الجديد محل القديم تدريجياً، وقل أن يتلاشى بتاتاً". ولذلك تم تصنيف الفرق الإسلامية وفقاً لتصنيف الأحزاب السياسية والدينية الأوروبية، وابتدأوا ذلك منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل وفي حياته!! فجعلوا في الأمة يميناً ويساراً ووسطاً، وفي كل من اليسار واليمين متطرفون ومعتدلون ... إلخ، وكذلك قسموها إلى ديموقراطيين وثيوقراطيين ودكتاتوريين ... إلخ. ولسنا في مقام تفصيل المهازل الساخرة التي أدى إليها تطبيق هذا القياس الفاسد، والخلافات التي لا يقوم أي منها على أساس موضوعي؛ مثل أن يجعل أحدهم الشيعة من اليسار المتطرف، والآخر يجعلها من اليمين المعتدل، ويجعل الخوارج بالعكس ... وهكذا.   (1) ((فجر الإسلام)) (1/ 335)، والثلاثة مشتركون في السلسلة، كما ذكروه في المقدمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 ولكن الذي يهمنا هنا هو أن هذا التصنيف أدى إلى اعتبار الطائفة الممسكة عن الفتنة- من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- هي مجرد طائفة سياسية محايدة، ومن ثم جرى طرد القياس على كل طائفة شابهتها في الموقف أو بعضه، ثم إنهم لما رأوا أن لبعض هذه الفرق- التي تنتمي في أصل تصنيفهم إلى الوسط المحايد، كالمعتزلة وثورة الحارث بن سريج- آثاراً إيجابية في عالمي السياسة والفكر، كان لابد لهم من التعسف والتكلف، فقالوا: إن المرجئة تحولت من تيار الوسط إلى تيار اليسار بفعل التناقضات السياسية .. أو ما أشبه هذا من التعليلات! فليس مهمّاً لديهم أن تنقلب حقائق التاريخ، فتصبح المعتزلة مرجئة، وتصبح المرجئة حركة ثورية يسارية، وإنما المهم أن تظل معاييرهم الاعتباطية هي الأصل الذي لا ينقلب ولا ينتقض!! وها هو ذا ما جاء في كتاب "فجر الإسلام" الذي يمثل خلاصة آراء المستشرقين، والذي نقل عنه أكثر من بعده، ومنهم أبو زهرة: "إن الشيعة والخوارج كانا أول أمرهما حزبين سياسيين تكونا حول الخلافة، وإن رأي الخوارج فيها رأي ديمقراطي، ورأي الشيعة رأي ثيوقراطي، أما المرجئة فكانت .. حزباً سياسياً محايداً. ونواة هذه الطائفة كانت بين الصحابة في الصدر الأول، فإننا نرى أن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم امتنعوا أن يدخلوا في النزاع الذي كان في آخر عهد عثمان - مثل أبي بكرة، وعبدالله بن عمر، وعمران بن حصين". ثم ساق حديث أبي بكرة الآتي، وقال: "هذه النزعة إلى عدم الدخول في الحروب بين المسلمين بعضهم وبعض هي الأساس الذي بني عليه مذهب الإرجاء، ولكنه لم يتكون كمذهب- كما رأينا إلا بعد ظهور الخوارج والشيعة. وبعد أن كان مذهباً سياسياً أصبح- بعد- يبحث في أمور لاهوتية، وكانت نتيجة بحثهم تتفق ورأيهم السياسي "!! وفي الحاشية يعلق على ذلك قائلاً: "يقول النووي على مسلم: إن القضايا كانت مشتبهة، حتى أن جماعة من الصحابة تحيروا فيها، فاعتزلوا الطائفتين ولم يقاتلوا، ولم يتيقنوا الصواب" (1). ونحن قد سبق أن بيّنّا أن الممسكين عن الفتنة أقسام مختلفة، وهنا لا بد من بيان حقيقة موقف الصحابة رضي الله عنهم، وخطأ من نسب إليهم الإرجاء، سواء أكان إرجاء شك وحيرة أم اعتقاد وبدعة، والأمر في حقيقته يرجع إلى مسألة فقهية، وهي حكم قتال الفتنة الذي جرى بين الصحابة، وحكم قتال الفتنة بين المسلمين عامة.   (1) ((فجر الإسلام))، (ص 233 - 235)، وأبو زهرة (1/ 133). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 ومع إيماننا بأن الأولى هو الكف عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم، فإنه لا حرج في عرض مواقفهم على النصوص الشرعية التي أمر الله تعالى بالرد إليها في كل نزاع، لا سيما وهي- ولله الحمد- تدل على صحة ما يعتقده أهل السنة والجماعة فيهم، وخاصة أهل الحديث، كأحمد وسفيان، بخلاف ما ذهب إليه أهل الرأي وكثير من الفقهاء المتأخرين، مع ما في هذا من مصالح، كأخذ العبرة، ونفي التهمة تفصيلاً بعد نفيها إجمالاً فنقول: إن النووي رحمه الله شافعي المذهب، وكثير من متأخري الشافعية يرون تصويب علي رضي الله عنه وتخطئة من حاربه أو توقف عن الحرب معه، ولكن النووي رجل محدث، وقد ر أي من صحة أحاديث النهي عن القتال في الفتنة وكثرتها ما لم يستطيع معه الجزم بتخطئة من قعد عن نصرة عليّ - أعني الممسكين عن الخوض في الفتنة- فأراد التوفيق والتأويل، فاعتذر عن هؤلاء بأنهم لم يتبين لهم الصواب مع علي أم مقاتليه؟ ووضع في اعتباره أن القول بترك قتال المسلمين مطلقاً يؤدي إلى جرأة المفسدين وتطاول المجرمين- وهي العلة التي يذكرها الفقهاء المتأخرون كثيراً (1) - فجعل الإمساك عن ذلك مخصوصاً بهذه الحالة وحدها. واعتذر عن العمل بالأحاديث بقوله: "تتأول الأحاديث على من لم يظهر له المحق، أو على طائفتين ظالمتين لا تأويل لواحدة منهما" (2). وهذا الذي ذهب إليه هو وغيره من الفقهاء يتبين صوابه أو خطؤه باستعراض مواقف الممسكين عن الفتنة واحداً واحداً:1 - فهذا أسامة بن يزيد- على عظيم صلته بعلي رضي الله عنهما- يقول عنه مولاه حرملة: "أرسلني أسامة إلى علي، وقال: إنه سيسألك الآن فيقول: ما خلف صاحبك (3).؟ فقل له: يقول لك: لو كنت في شدق الأسد لأحببت أن أكون معك فيه، ولكن هذا أمر لم أره" (4). فأسامة يفرق بين العلاقة الحميمة وبين أمر لم يجد له في الشرع مخرجاً، ولو رآه جائزاً لما تردد عنه. وينقل الحافظ عن ابن بطال: أن أصل موقف أسامة هذا هو ما نذره على نفسه يوم أن قتل الرجل الذي قال لا إله إلا الله- أنه لا يقاتل مسلماً أبداً (5). 2 - وهذا أبو موسى الأشعري، وصاحبه أبو مسعود الأنصاري، يعيبان على عمار مشاركته في القتال- وقد كان مع علي- قال شقيق بن سلمة: "كنت جالساً مع أبي مسعود وأبي موسى وعمار، فقال أبو مسعود: ما من أصحابك أحد إلا لو شئت لقلت فيه غيرك، وما رأينا منك شيئاً منذ صحبت النبي صلى الله عليه وسلم أعيب عندي من استسراعك في هذا الأمر. قال عمار: يا أبا مسعود ما رأيت منك ولا من صاحبك هذا شيئاً منذ صحبتما النبي صلى الله عليه وسلم أعيب عندي من إبطائكما في هذا الأمر" (6).قال الحافظ: " كان أبو مسعود على رأي موسى في الكف عن القتال؛ تمسكاً بالأحاديث الواردة في هذا الأمر" (7)، فليس هناك اشتباه، بل القضية من الوضوح بحيث يعيبان عماراً!! 3 - وأما عبد الله بن عمر، فيتخذ هذا موقفاً مطرداً، فهو لم يشترك في أي قتال بين المسلمين قط، لا زمن علي ولا فيما بعد، لأنه يراه كله قتال فتنة. روى البخاري: "أن رجلاً جاءه، فقال: يا أبا عبدالرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9] إلى آخر الآية، فما يمنعك ألا تقاتل كما ذكر الله في كتابه؟   (1) انظر: ((الفتح)) (13/ 31)، فقد نقل عن الطبري وجمهور الفقهاء ما يشبه كلام النووي. (2) ((شرح النووي على مسلم)) (18/ 10)، ومعلوم أن الاحتمال الأخير لا ينطبق على الصحابة، وأن الذين قالوا: إن الطائفتين فاسقتان كلاهما، هم المبتدعة كعمرو ابن عبيد!! (3) أي ما الذي جعله يتخلف عنا؟ (4) ((البخاري)) (13/ 61). (5) ((الفتح)) (13/ 68) (6) ((الفتح)) (13/ 54) (7) ((الفتح)) (3/ 59) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 فقال: يا ابن أخي، أعير بهذه الآية ولا أقاتل، أحب إليّ من أن أعيّر بهذه الآية التي يقول الله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا [النساء:93] إلى آخرها. قال: فإن الله يقول: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة:193] قال ان عمر: قد فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان الإسلام قليلا, فكان الرجل يفتن في دينه, إما يقتلوه وإما يوثقوه حتى كثر الإسلام, فلم تكن فتنة" (1) 4 - وأما أبو بكرة رضي الله عنه، فإنه لم يقتصر على كف اليد، بل نهى غيره وأنكر عليه المشاركة في القتال، فقد روى الشيخان عن الحسن البصري أن الأحنف ابن قيس أخبره أنه خرج بسلاحه يريد القتال في الفتنة- وكان ذلك يوم الجمل، وقصده القتال مع علي رضي الله عنه- فلقيه أبو بكرة رضي الله عنه فصده عن ذلك، وقال: يا أحنف ارجع، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)) (2) وليس هذا صنيع الحائر المتشكك, بل هو موقف الواثق المستيقن, وسيأتي حديثه الآخر قريبا.5 - وهناك من المعتزلين للفتنة من كان وضوح أمرها لديه بحيث إنه احتاط لنفسه من شرها بمجرد انفجارها، فهذا سلمة بن الأكوع رضي الله عنه لما قتل عثمان رضي الله عنه خرج إلى الربذة، وتزوج هناك امرأة وولدت له أولاداً، فلم يزل بها حتى قبل أن يموت بليال نزل المدينة (3). فقد تغرب رضي الله عنه حوالي أربعين سنة (منذ مقتل عثمان سنة 35 إلى وفاته سنة 74)، ثم مات في دار الهجرة كرامة من الله له.6 - وممن أحجم عن الفتنة، وحدث الناس بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها أبو هريرة رضي الله عنه، فقد حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكرة أنه قال: ((ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد منها ملجأ أو معاذاً فليعذ به)) (4).وهذا لفظ البخاري عن أبي هريرة، ولمسلم عن أبي بكرة زيادة أوضح: ((ألا فإذا نزلت- أو: وقعت- فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ... )) (5) الحديث. ويتضح من هذه النصوص: أولاً: أن الصحابة الذين اعتزلوا الفتن يعتمدون على أصل شرعي ثابت بنصوص صريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضها أوامر عينية في حق المخاطبين بها- وبعضها لم نذكره-.   (1) ((البخاري)) (8/ 309). (2) وهذا اللفظ لمسلم (13/ 31). (3) ((الفتح)) (13/ 40). (4) ((الفتح)) (13/ 30). (5) رقم (2887). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 ثانياً: أن من كمال فقه الصحابة رضي الله عنهم التفريق بين صحة إمامة علي وبين وجوب القتال معه، بل صحة قتاله، إذ لا يلزم من كونه إماماً حقاً أن يكون قتاله لأهل الجمل وصفين حقاً بإطلاق على ما سنبينه. على أن هؤلاء ليسوا هم كل من اعتزل الفتنة، بل اعتزلها من هو أجل منهم مثل سعد بن أبي وقاص، فإنه لم يكن على ظهر الأرض يوم صفين أفضل منه سوى علي وسعيد بن زيد، أحد العشرة، وهنالك من هو مثلهم، كزيد بن ثابت، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن مغفل رضي الله عنهم رقم (2887). (1) ومنهم أبو برزة الأسلمي رضي الله عنه، الذي صدع أيام الفتنة بين ابن الزبير والأمويين والخوارج: "إني احتسبت عند الله أني أصبحت ساخطاً على أحياء قريش" الحديث، وذلك لأنه "كان يرى الانعزال في الفتنة وترك الدخول في كل شيء من قتال المسلمين" (2) وبالجملة، هذا هو مذهب أهل الحديث عامة، ومن تأمله ظهر له قوة دلائله النصية, وصدق نتائجه الواقعية، فقد صرح به إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل، وبنى عليه موقفه في رفض الخروج على الدولة العباسية (3).روى عنه الخلال أنه قال: ابن عمر وسعد ومن كف عن تلك الفتنة، أليس هو عند بعض الناس أحمد! هذا عليّ لم يضبط الناس، فكيف اليوم والناس على هذا الحال ... السيف لا يعجبني (4) وقال أبو بكر المروزي: سمعت أبا عبد الله - وقد ذكر عنده عبد الله بن مغفل- فقال: لم يتلبس بشيء من الفتن! وذكر رجل آخر فقال: رحمة الله مات مستورا قبل أن يبتلى بشيء من الدماء (5).وممن صح النقل عنه من أهل الحديث سفيان الثوري رحمه الله، وله كلمة عظيمة في هذا، قال: نأخذ بقول عمر رضي الله عنه في الجماعة، وبقول ابنه في الفرقة (6). وكان - رحمه الله - يصرح قائلاً: لو أدركت علياً ما خرجت معه!! قال يحيى بن آدم: فذكرت قوله للحسن بن صالح فقال: قل له: يحكى هذا عنك؟ فقال سفيان: ناد به عني على المنار (7). وعلى هذا المذهب كذلك الإمام البخاري صاحب (الصحيح)، فإن تراجم أبواب كتاب الفتن من صحيحه تنطق بذلك، وعلى منواله كتب مسلم وغيره من المصنفين في هذا الموضوع. وقد رجح هذا المذهب وانتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه، ومختصر أدلته على ذلك: 1 - النصوص الكثيرة التي استند إليها الممسكون عن الفتنة، ومنها ما سبق إيراده. 2 - ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن، لأن الله أصلح به ما بين المسلمين وحقنت الدماء، في حين أنه لم يثن على قتال أبيه لأهل الشام، بل غاية ما وصف به أنه أدنى منهم إلى الحق، بخلاف قتاله للخوارج، فقد أثنى عليه نصاً، كما أن علياً نفسه فرح واستبشر بقتال الخوارج، وتألم وتكدر بقتال أهل الشام.   (1) جمعت أسماء هؤلاء وغيرهم من تتبعي لأحاديث الفتن، ولو أن أحدا استقصى ذلك لكان عملا مشكورا. (2) ((البخاري)) (13/ 68)، والكلام للحافظ (ص 73) (3) وقد ظهر صدق هذا الموقف حين رجع المتوكل إلى السنة، وانقلبت الدولة على رؤوس المبتدعة تنكيلا، وهذا جزاء الصبر وبركة اتباع النصوص، فللسيف موضعه وللحجة موضعها، والنصوص هي الحكم، ويعطي الله البصيرة من يشاء من عباده، فينزل النصوص على الواقع، ويصيب مناط الحكم. (4) الخلال، كتاب ((الإيمان)) للإمام أحمد، لوحة 12 من ((المسند الجامع)). (5) الخلال، كتاب ((الإيمان)) للإمام أحمد، لوحة 12 من ((المسند الجامع)). (6) الخلال، كتاب ((الإيمان)) للإمام أحمد، لوحة (12) من ((المسند الجامع))، ولعل مراده بقول عمر: الشورى والاختيار، وبقول ابنه: الكف عن القتال، ومبايعة من استقرت له الأمور، ولو كان مفضولا. (7) الخلال، كتاب ((الإيمان)) للإمام أحمد، (لوحة 12) من ((المسند الجامع)). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 3 - أن الممسكين عن الفتنة هم من أكابر الصحابة رضوان الله عليهم وأفاضلهم، وقد ذكرنا بعضهم قريباً.4 - أن العبرة بالنتائج والعاقبة، ولا شك أن نتيجة الاقتتال كانت مؤلمة جداً في حين كانت السلامة في الإمساك، ولهذا ندم بعض من شارك، كما في البخاري عن شقيق بن سلمة حين سئل هل شهدت صفين؟ قال: نعم، وبئست صفين (1).بل نقل شيخ الإسلام عن علي نفسه أنه قال، لله در مقام قامه سعد بن مالك وعبد الله بن عمر، إن كان براً إن أجره لعظيم، وإن كان إثماً إن خطأه ليسير (2). 5 - أنه لا حجة في استدلال المخالفين بقتال الفئة الباغية، وذلك أن الله تعالى إنما أمر بقتال الباغية، وسماها باغية إذا رفضت الصلح ولم يأمر بقتالها ابتداء، وللصلح أبواب كثيرة، ولو بالتنازل عن بعض الحق أو كثير منه. 6 - أنه قد كان في الإمكان اتخاذ وسائل غير السيف لتهدئة الأحوال وجمع الكلمة، ومنها ما أشار به ابن عباس على علي بألا يعزل معاوية عن إمرة الشام، بل يبقيه في منصبه حتى يأخذ البيعة منه ومن أهل الشام، فإذا فعل ذلك وكانت المصلحة عزله يعزل، فإن رفض الطاعة يكون حينئذ باغياً ناكثاً. أما وهم لم يدخلوا في طاعة علي ابتداء، فإن هذا من أقوى استدلالات من يرى صواب موقفهم، لا سيما والثابت أن معاوية رضي الله عنه لم ينازع علياً الخلافة، وإنما اشترط لدخوله في طاعته تسليم قتلة عثمان (3). ولذلك تفصيل لا مجال له هنا، وحسبنا الإشارة والتنبيه. يبقى أن نرد قول من قال: إنه يلزم من هذا تشجيع المفسدين وقطاع الطرق، فنقول: إن قتال الفتنة- كما وقع بين الصحابة- شيء، وقتال الطرق والمفسدين شيء آخر، وقد قتل من الخوارج بالنهروان قرابة أربعة آلاف فما تألم لهم أحد، وقتل كعب بن سور يوم الجمل فتألمت لذلك الطائفتان جميعاً، فكيف بطلحة والزبير وعمار؟ فالمفسدون أقرب شيء إلى الخوارج، ولا يتحرج من قتالهم أحد، ولا يترتب عليه تمزيق صف المسلمين، بل فيه حفظ وحدتهم وأمنهم، وكذا دفع الصائل. وأما أن يكون المرء عبد الله المقتول ولا يكون عبدالله القاتل فذلك مشروع في الفتنة بين المسلمين المختلفين اختلافاً اجتهادياً مصلحياً، والله اعلم. والحاصل: أن هذا المذهب أقوى من مذهب من يرى أن الصواب مطلقاً هو القتال مع علي، وبالأولى هو أقوى ممن يرى أن الصواب هو القتال مع من حاربه وبذلك يتضح أنه أقوى المذاهب وأرجحها. على أن الذي يهمنا هنا بخصوصه هو بيان خطأ أو ضلال من نسب هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم إلى الإرجاء، زاعماً أن الأمور اشتبهت عليهم فتبرءوا من الطائفتين كليهما، وأرجئوا الحكم عليهما بالإيمان- بالحق أو الباطل- إلى الله تعالى، فخلطوا بين هذا الموقف, وموقف بعض الخوارج, وموقف الشكاك الذين سبق الحديث عنهما.   (1) (13/ 282). (2) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 440). (3) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (35/ 55 - 56، 77 - 78)، (4/ 439 - 442)، ومواضع من (منهاج السنة). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 وما أحسن ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في براءة الصحابة رضي الله عنهم من كل بدعة، قال: "إن الصحابة رضوان الله عليهم خير قرون هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، وهم تلقوا الدين عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، ففهموا من مقاصده صلى الله عليه وسلم، وعاينوا من أفعاله، وسمعوا منه شفاهاً ما لم يحصل لمن بعدهم. وهم قد فارقوا جميع أهل الأرض وعادوهم، وهجروا جميع الطوائف وأديانهم، وجاهدوهم بأموالهم وأنفسهم ... ولهذا لم يطمع الشيطان أن ينال منهم من الإضلال والإغواء ممن بعدهم، ولم يكن منهم أحد من أهل البدع المشهورة، كالخوارج والروافض والقدرية والمرجئة والجهمية، بل كل هؤلاء إنما حدثوا فيمن بعدهم" (1). نماذج من آراء المستشرقين ومقلديهم في الموضوع: نعرض هنا نماذج من آراء المستشرقين ومن اتبعهم من المحدثين والمعاصرين عن نشأة الإرجاء وفكره، آخذين في الاعتبار ما أشرنا إليه من أن المؤاخذ في الحقيقة هم هؤلاء المقلدون، فإنهم لو استخدموا عقولهم وحاولوا الاستنباط بأنفسهم لكان لهم العذر أو بعض العذر إذا أخطئوا, أما وهم ينقلون ويصرحون بالنقل عن المستشرقين، ويتجاهلون تماماً كلام علماء الإسلام الثقات وأئمة السنة المشهورين- هذا إن لم يطعنوا في آرائهم- فلا بد من بيان فساد منهجهم إحقاقاً للحق وعبرة لمن يدرس الفرق والعقيدة، كي لا يغتر بصنيعهم، ولهذا لم أر مناقشة كلام هؤلاء، مع أن بعضهم أساتذة متخصصون في علم الكلام، بل اقتصرت على عرض كلام المستشرقين لأنه الأصل!! والمستشرقون الذين تعرضوا للموضوع كثير، وسنكتفي بأهمهم وطرف من مقلديهم: 1 - "فان فلوتن". 2 - "يوليوس ويلهاوسن". وهما من أخبث المستشرقين وأكثرهم أثراً في المقلدين، ونحن ننقل من كلامهما ما يغني بنفسه عن التعليق عليه: فأما "فلوتن"، فإن كتيبه السقيم يقوم على فكرة واحدة، هي أن الفتوحات الإسلامية كانت بغرض الاستعمار- على الطريقة الأوروبية- ومن هنا فسر نشأة الفرق بأنها انتقام من الشعوب المستعمرة ضد مستعمريها!! يقول: "لم يكن الغرض من الفتوحات الإسلامية هو إدماج شعب في شعب، أو العمل على نشر دعوة دينية معينة، وإنما هو احتلال بقوة السيف" (2).!! ويقول: "وهكذا يصور لنا الاحتلال العربي بوجه عام شعباً يعيش على حساب شعب آخر" (3).ثم يقول- بعنوان نشأة الفرق الإسلامية-: "إن هذه الطوائف التي نشأت بين العرب في البلاد التي فتحوها، إنما كانت ترمي بادئ ذي بدء إلى غرض سياسي محض، رغم ظهورها بالمظهر الديني" (4). وبعد أن ذكر- كعادة المستشرقين- أن الصراع على الخلافة هو الذي فرق المسلمين أحزاباً وشيعاً، أخذ في تفصيل هذه الأحزاب تفصيلاً، فقسمها على أربعة أحزاب: 1 - حزب بني أمية: ومقره بلاد الشام، كان يرى أن أمراء هذا البيت أحق الناس بالخلافة ... 2 - حزب أهل المدينة!!: وهم أنصار النبي الذين كانوا- لارتباطهم باليمانيين العرب- يعتبرون أن وصول بني أمية إلى الحكم إنما هو انتصار لأعدائهم القدامى من مشركي مكة!! 3 - حزب الشيعة: هم أنصار أهل البيت المتحمسون للدفاع عن حقوقهم في الخلافة، ولا سيما حق علي.4 - حزب الخوارج: وهم الجمهوريون، وهم الذين كانوا يقولون باختيار الخلفاء من بين الأكفاء أياً كانت الطبقة التي ينتمون إليها (5)!!.   (1) ((الجواب الباهر))، (ص 56 - 57)، طبعة قصي محب الدين الخطيب. (2) السيادة العربية، والشيعة، والإسرائيليات، (ثلاثة كتيبات أو مقالات)، (ص 15) ترجمة حسن إبراهيم حسن وزميله. (3) السيادة العربية، والشيعة، والإسرائيليات، (ثلاثة كتيبات أو مقالات)، (ص 15) ترجمة حسن إبراهيم حسن وزميله، (ص 18). (4) (ص 69) (5) (ص 69) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 وفي حديثه عن المرجئة خاصة يقول- ضمن حديثه عن الثورات التي قامت بها الشعوب المفتوحة على المستعمرين-: "على أن بعضهم -أي الثوار- قد ذهب إلى أبعد من هذا -أي المطالبة بالعدالة الاجتماعية بزعمه- فضمنوا عقيدة التوحيد معنى أخلاقياً ودينياً عميقاً". فما هو هذا المعنى الأخلاقي الذي لا تتضمنه عقيدة التوحيد، حتى أدخله فيها ثوار العجم من المرجئة؟ يشرحه قائلاً: "وقد عزي إلى جهم بن صفوان -أحد رؤوس المرجئة وكاتم السر للحارث بن سريج- هذه الكلمات: إن الإيمان عقد بالقلب وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقية، وعبد الأوثان أو لزم اليهودية أو النصرانية في دار الإسلام، وعبد الصليب وأعلن التثليث في دار الإسلام ومات على ذلك، فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عز وجل، ومن أهل الجنة" (1). "وكان من الطبيعي أن تدفع مثل هذه العقيدة أصحابها إلى احتقار الفرائض العملية للإسلام، ووضعهم واجبات المرء نحو من يحيط به من الناس فوق آراء الفروض التي جاء بها القرآن"!! - يعني أن العدالة والمساواة بين الناس أهم من الالتزام بأحكام الدين-!! ثم يقول: "ومن هذه الناحية كان الإرجاء في خراسان أشبه شيء بأثر عكسي أخلاقي لذلك الإسلام الشكلي؛ دين الحكومة العربية في ذلك الحين، تلك الحكومة التي أصرت على عدم المساواة بين جميع رعاياها في الدين، باتباعها النظام الجائر لجمع الضرائب وجباية المكوس (2) ".وأما "يوليوس ويلهاوسن" فيبدأ من النقطة نفسها، لكنه أكثر وقاحة (3) حين ينسب ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فيقول- أخزاه الله-: "كان محمد قد بدأ خطواته وهو مقتنع بأن دينه في جوهره نفس الدين اليهودي والنصراني، فكان يتوقع أن يلقاه اليهود في المدينة وقد فتحوا ذراعهم لاستقباله، غير أنه خاب فأله منهم خيبة مريرة، وبما أنهم لم يعتبروا اليهودية معادية للإسلام، بل عدوها مخالفة له، فإنه هو من جهته جعل الإسلام يخالف اليهودية، بل يخالف النصرانية!! فحدد الصيغ والشعائر التي يتميز بها دينه، بحيث انفكت عن التعبير عن النقاط التي تجمع بين الإسلام وإخوانه من الأديان، بل وسعت شقة الخلاف".   (1) يلاحظ أن هذا الكلام الذي نسبه ابن حزم لجهم (وللأشعري) هو لازم قوله، وليس من قوله أن اليهود والنصارى يعتبرون مؤمنين من أهل الجنة، ولكنه هوى هذا المستشرق في الانتصار لبني دينه، وأنهم كانوا محرومين من هذه الروح الأخلاقية الجهمية!! (2) (ص 66)، ويلاحظ أنه لا ينسب الظلم لبعض ولاة بني أمية، بل يجعله هدف الفتوح كلها كما سبق. (3) وأوقح منه من يعتمد على آرائه ممن ينتسب للإسلام، وقد جعلوا لكتابه من الأهمية أنهم ترجموه مرتين إحداهما سورية "يوسف العش"، والأخرى مصرية "أبو ريدة"، حتى يستدرك كل منهما ما قد يكون فات الأخرى من هذا الكلام العلمي الموضوعي!! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 وبعد أن ذكر أمثلة لذلك من الشعائر؛ كالجمعة والأذان وصيام عاشوراء ورمضان، قال: "وبينما كان يؤسس الإسلام!! على أسلوب يقضي على الطقوس اليهودية والنصرانية، كان يقربه في الوقت نفسه من العروبة، فهو ما فتئ يعتبر نفسه الرسول المرسل للعرب خاصة!! فبدل القبلة، وأعلن أن مكة هي الحرم المقدس بدلاً من القدس، وشرع الحج إلى الكعبة، بل شرع تقبيل الحجر المقدس، وقبل مركز العبادة الوثنية في الإسلام، وأدخل الأعياد الوثنية الشعبية ... ".إلى أن يقول: "وهكذا فصل الإسلام عن اليهودية، وبدل بحيث يصبح ديناً عربياً قومياً (1) " ويذكر ما لا يطاق ذكره مما أسماه الإرهاب الذي أقامه النبي صلى الله عليه وسلم ضد اليهودية، وأنه تعلل بحجج واهية ليمحو اليهود من الجزيرة، ويورث أملاكهم ومزارعهم إلى المهاجرين- الذين كانوا بزعمه يعتمدون على الغزو - لأنهم حرسه الخاص .. في كلام يكشف عن حقد يهودي أسود. ومن هذا المنطلق يتحدث عن الإرجاء والمرجئة، فيجعلها إنسانية تطالب بالعدالة والمساواة للشعوب التي استعمرها الفاتحون المسلمون. ويذكر أن الإسلام انقسم بسبب هذه المسألة قسمين: محافظ، وهو الذي يحترم الجماعة ويؤيد الوضع القائم، وثائر، ومن الثائر: المرجئة والخوارج والشيعة. ويقول: "والمرجئة هم بالحق أكبر أهمية، وكان لهم بقيادة الحارث بن سريج أثر ضخم في التاريخ" (2)!! ويقول: "لو كان الحارث في الأزمنة الأولى ثورياً تقياً لعد خارجياً، لكنه لم يلزم نفسه بالشروط القاسية التي يبني عليها الخوارج عقيدتهم، إنما ابتدأ مرجئاً، وكاتبه جهم بن صفوان أشهر عالم من علماء تلك الفرقة، واشترك هو بنفسه في الأحاديث والمناقشات المتصلة بالمذهب. والإرجاء في الواقع سياسة في جمع الشمل، فالمسائل المختلف عليها استبعدت وتركت لحكم الله، لا سيما تلك المسألة الدائمة التي لا تحل، والتي تتصل بمن هو الإمام الحق الوحيد!! ومن ثم طرقت النقاط التي يمكن الوصول إلى اتفاق فيها على اختلاف نزعات المناوئين المتدينين، وكان ذلك احتجاجاً باسم حكم الدين على الطغيان الواقع، وباسم الشرع المقدس على سوء العدالة وعلى القوة" (3). ويستمر في كلام خلاصته: أن المرجئة حركة ثورية ضد طغيان المستعمرين الفاتحين، ولهذا وسعت مفهوم الإيمان ليقبل جميع الشعوب المضطهدة، لكي تكون يداً واحدة على الشعب الفاتح. وما قرره" فان فلوتن" و "ويلهاوسن" لخصه أحمد أمين وشريكاه، وهذبوه من الكلمات الصريحة، وقدموه على أنه فكرة سليمة محايدة، وقد نقلنا بعض كلامهم. وعن أحمد أمين نقل الشيخ أبو زهرة (4)، ونعمان القاضي (5)، وألبير نصري نادر (6)، وعن أبي زهرة نقل كثير من الباحثين ثقة منهم في الشيخ. بل قل من كتب عن الحارث بن سريج إلا وينقل عن فلوتن، حتى أساتذة التاريخ (7)!! 3 - ومنهم المستشرق اليهودي الحاقد "جولد زيهر":   (1) الدولة العربية وسقوطها، (ص 23 - 24) ترجمة يوسف العش، دمشق، 1376 هـ (2) (ص 394)، وهذه المبالغة يعرف كذبها كل مطلع على التاريخ. (3) (ص 368) (4) انظر: ((المذاهب الإسلامية)) (1/ 133)، والنقل يكاد يكون حرفيا، لكن بدون إشارة للمصدر. (5) انظر: ((ص 272 – 282)) من كتابه: ((الفرق الإسلامية في الشعر الأموي))، عدا ما صرح فيه بالنقل عن أحمد أمين. (6) ((الفرق الكلامية))، فصل " نشأة المرجئة "، الطبعة الكاثوليكية، بيروت. (7) مثل الدكتور جمال الدين سرور في كتابه: ((الحياة السياسية في الدولة العربية الإسلامية))، انظر: (ص 166)، وفاروق عمر، وسيأتي كلامه أعلى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 الذي يتميز بمهارة فائقة في الدس والتزوير والافتراء، وهو يذهب إلى أن المرجئة من أهل السنة والجماعة، وتبعه على ذلك مقلدون كثير، ورأيه هذا يبدو فيه العمق وبعد الهدف الخبيث أكثر من صاحبيه. وعلى هذا سار "فاروق عمر"؛ الذي ينقل عنه - مقراً مؤيداً-: "لم يكن مذهب أهل السنة والجماعة في بدايته إلا فكرة غامضة مرنة تتسع لكثير من الجماعات، وبعد المحنة التي عركت الأمة الإسلامية أثناء الحرب الأهلية الأولى وما جرى في أعقابها، بانت الخصائص الأولى لمذهب أهل السنة، حيث انقسم المسلمون إلى فئتين تمثل الأولى" دين عثمان"، وتمثل الثانية" دين مروان" ... " (1).والعجيب أن هذا المؤرخ العربي- مع إقراره بهذه الفكرة وبالقسمة المضحكة التي قسمها "جولد زيهر"- ينقل أيضاً وجهة نظر "فلوتن" في موضع آخر مؤيداً لها، ناسياً اختلاف نظرة كل من المستشرقين ومرماه البعيد، فيقول: "ولعل أبيات ثابت قطنة تشير إلى أن المرجئة ستظهر رأيها بوضوح في أعمال الجور والتعسف والفساد، ويؤكد "فان فلوتن" أن المرجئة كانوا لا يتحرجون عن قتال أية حكومة تقر مثل تلك المظالم" (2). وعلى هذا الرأي سار المؤرخ البعثي "شاكر مصطفى"، فهو أيضاً يعتبر المرجئة ضمن الاتجاهات التي تشكل ما يسمى: "السنة والجماعة"، ويسميهم المرجئة أهل الاعتزال الأول، ويصف هذه الاتجاهات قائلاً:"والصفة التي تجمع هؤلاء جميعاً بعضهم إلى بعض هي الوقوف بجانب الخلفاء الأمويين سياسياً في الأزمات، أو المهادنة لهم، والاحتفاظ بالرأي الديني في حيز الفكر، وعدم نقله إلى العمل الثوري" (3). ولا يخفى تناقض هذا مع ما قرره الآخرون من أن المرجئة حركة ثورية لها أثر ضخم في التاريخ. وعليه أيضاً سار الدكتور نعمان القاضي، حيث قال: "والمرجئة يشكلون كتلة المسلمين التي رضيت حكم بني أمية، مخالفين في ذلك الشيعة والخوارج، متفقين إلى حد ما مع طائفة المحافظين من أهل السنة، وإن كانوا كما يرى" فون كريمر" قد ألانوا من شدة عقائد هؤلاء السنيين باعتقادهم أنه لا يخلد مسلم في النار" (4). وتطبيقاً لذلك ذكر الدكتور في الصفحة نفسها اسم سعيد بن جبير رضي الله عنه مع الحارث بن سريج، أي ضمن المرجئة الذين ثاروا على بني أمية، هذا مع غض النظر عن أن الثورة تتنافى مع الرضا الذي ذكر آنفاً فهو تخليط مركب. ومن أهم النتائج المترتبة على هذا: قول هؤلاء بأن المرجئة انتهت بظهور دولة بني العباس، سواء أكان السبب هو أن العباسيين يعتبرونها موالية للأمويين، كما يرى أحمد أمين ونعمان القاضي (5)، ولذلك دمروها، أم على الرأي الأخبث الذي ذهب إليه شاكر مصطفي وفاروق عمر وهو أن الدولة العباسية تبنت رسمياً مذهب "أهل الحديث" فانمحت هذه الفرقة فيهم، ويستدل أصحاب هذا الرأي بأن كتب الحديث إنما ألفت في العصر العباسي (6). 4 - ومنهم المستشرق "فون كريمر": وعنه نقل الدكتور القاضي- كما سبق آنفاً- أن المرجئة ألانت من شدة عقيدة أهل السنة والجماعة، باعتقادهم أنه لا يخلد مسلم في النار، ونحن نسأل الدكتور: وما هو مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك؟!   (1) ((العباسيون الأوائل))، (ص 60). (2) ((العباسيون الأوائل))، (ص 117). (3) ((دولة بني أمية)) (2/ 49). (4) ((الفرق الإسلامية في الشعر الأموي))، (ص 270). (5) ((الفرق الإسلامية في الشعر الأموي))، (ص 304). (6) انظر: ((العباسيون الأوائل))، (ص 117). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 على أن لكريمر رأياً يدعو للسخرية، نقلته عن الكاتبة البعثية "زاهية قدرورة"، وهو أن الثورات التي قامت في العراق ضد بني أمية- ومنها ثورة المرجئة- لم تكن ثورات دينية، بل لذلك علة أخرى لم يفطن لها من المؤرخين إلا هذا المستشرق العبقري!! تقول: "ونحن نؤيد قول "فون كريمر" في أن هذه الثورات كانت ثورات العراقيين ضد السوريين، وذلك للعداء الموروث منذ الجاهلية بين العراق والشام، حيث كانت كل من دولة منهما حليفة لدولة معادية" (1). 5 - ومنهم المستشرق "نيكلسون":صاحب كتاب (محاضرات في تاريخ العرب)، الذي يعتمد عليه الكثيرون، ونظرته للموضوع مماثلة لـ "فان فلوتن"، حيث يعلل لنشأة المرجئة وثورتها "ثورة الحارث بن سريج" بقاعدة عامة هي: "أن شعوب البلاد المفتوحة لم تدخل في الأخوة الإسلامية إلا نظرياً وظلت مضطهدة محتقرة بالنسبة للسلالة العربية" (2). 6 - ومنهم المستشرق "بروكلمان":   (1) ((الشعوبية وأثرها الاجتماعي والسياسي))، (ص 60)، ولعل هذا الرأي يريح في تفسير الخلاف المزمن بين جناحي حزب البعث في القطرين!! (2) نقلته عنه الكاتبة السابقة، (ص 62) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 الذي كان أكثر دهاء وخبثاً حين تستر بالعمل العلمي البحت "فهرسة المخطوطات" لينسب الإرجاء إلى عقيدة أهل السنة والجماعة، فهو يقول: "في أوائل الإسلام كان محور الجدل يدور أساساً حول المعصية أتبطل الإيمان أم - كما يقول المرجئة- لا تبطله؟ وفي تاريخ دمشق لابن عساكر .. ذكر عقيدة للمرجئة كان يدرسها محمد بن عقاشة الكرماني .. في البصرة عن سيفان بن عيينة .. عن وكيع بن الجراح .. عن عبد الرازق بن همام .. عن أمية بن عثمان" (1).لقد خان بروكلمان الأمانة العلمية حين أقحم كلمة المرجئة في نص مأثور من مصدر متداول مشهور، وخرج عن مهمته التي هي الوراقة والفهرسة، لينصب من نفسه حكماً عقائدياً (2) في الخلاف بين فرق لا تنتمي إلى دينه، ولكن الحقيقة أنه متى سنحت فرصة للدس على الإسلام فكل مستشرق- أياً كان فنه - هو أستاذ متخصص!! على أن المؤلم - كما أشرنا- هو متابعة المقلدين من المنتسبين للإسلام، كما فعل المستشرق التركي"فؤاد سيزكين" الذي تابع بروكلمان على الخطأ نفسه (3).وبالرجوع لتاريخ دمشق (4) لن يجد القارئ هذه الكلمة، بل لا يحتاج الأمر لمراجعة، فهؤلاء المذكورون من جلة علماء السلف، ولو أن ابن عساكر نفسه نسبهم للإرجاء لكان هذا تهمة له هو. ويقع بروكلمان في خطأ آخر فادح حين يقرر أن الإرجاء إنما نشأ في الشام، في حين بقيت العراق متمسكة بتعاليم القرآن الأصلية، ويرجع ذلك إلى أثر النصارى الذين كان لهم مكانة عظيمة عند حكام بني أمية (5)!! والحقيقة أنه لم ينفرد بذلك بل شاركه آخرون منهم "جولد زيهر"، وتبعهم مقلدون عرب في نسبة الإرجاء إلى بني أمية، وأصل هذا هو كتب الرافضة وبعض المعتزلة، وهو مخالف لما تواتر في أخبار المرجئة وأعلام رجالها من أنهم عراقيون (6) - وسيأتي تفصيل ذلك- حتى لقد صرح بذلك الإمام الأوزاعي رحمه الله قائلا: "وقد كان أهل الشام في غفلة عن هذه البدعة حتى قذفها إليهم بعض أهل العراق ممن دخل في تلك البدعة" (7).على أنه لا يفوتنا أن نشير إلى أن بعض أتباع الأمويين كان لديهم إرجاء خاص بالملوك والخلفاء، وهو أن الله إذا ولى أحداً خلافة المسلمين كفر سيئاته بحسناته (8)، والظاهر أن هذا رد فعل لغلو الشيعة ضدهم. 7 - وهناك مستشرق آخر هو " نلِّينو":   (1) ((تاريخ الأدب العربي)) (4/ 22) مع حذف مصادر تراجم المذكورين التي ذكر (2) مثل قوله عن عقيدة عبدالله بن أباض إنها وهابية مع قوله: "إنه لم يظهر المذهب الوهابي قبل منتصف القرن السادس الهجري"!! (1/ 257)، (مع ملاحظة أن الصحيح وهبية لا وهابية ولعل الخطأ من المترجم). (3) انظر: ((فصل العقائد من تاريخ التراث العربي)). (4) انظر: ((تهذيب تاريخ دمشق)) (3/ 134) ترجمة أمية بن عثمان. (5) (1/ 256) (6) كما سيتبين جليا من الفصول والمباحث التالية. (7) ((الشريعة)) للآجري، (ص 142)، واللالكائي (2/ 154)، لكن في رواية الأخير سقطا لو تنبه له المحقق الأخ الدكتور أحمد بن سعد بن حمدان لجزم بما ذكرنا ولم يتردد. (8) انظر: ((منهاج السنة)) (3/ 177). وهم يرون تبعا لذلك أن طاعة ولي الأمر مطلقة "أي رد فعل للخوارج والمعتزلة" لكن لم أجد أحدا نسب ذلك لأي من خلفاء بني أمية، فضلا عن معاوية رضي الله عنهالذي لا يجوز أن يظن به ذلك، إلا ما قيل من أن عبدالملك بن مروان سأل الزهري: أحق أن الله إذا ولى أحدا كتب حسناته ولم يكتب سيئاته؟ فأنكر الزهري ذلك مستدلا بآيات سورة (ص):يا داود إنا جعلناك خليفة ... وقال: فالنبي الخليفة أفضل من الخليفة غير النبي!! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 التقط نصاً من الملطي في أصل تسمية المعتزلة، فخلط بين فرقة الاعتزال المعروفة، وبين الممسكين عن الفتنة المعتزلين لها من الصحابة وغيرهم، واعتبر كل من وقف على الحياد في الفتن معتزلياً فدخلت المرجئة فيهم بهذا الاعتبار، وقد سبق تفصيل القول في أقسام الممسكين عن الفتنة. وهذا القول تابعه عبد الرحمن بدوي (1) وعلي سامي النشار (2). والحديث عن المتأثرين بالمستشرقين وإيراد اسم الدكتور النشار يقتضي منا أن نقول فيه خلاصة ما انتهى إليه الاطلاع الكثير على آرائه: وهو أن على كثرة كتاباته وسعتها وجودة عباراته هو أكثر الباحثين المحدثين اضطراباً وتناقصاً وتخليطاً، وليس في إمكان الباحث أن يجد له رأياً مستقراً أو منهجاً مطرداً. وإنما ذكرته لأهمية كتبه عند كثير من الناس، ولأنه أستاذ لكثير من المتخصصين في الدراسات الكلامية في مصر وغيرها، ومن أجلى شنائعه أنه يكفر معاوية رضي الله عنه وأباه، ويعتمد على كتب الرافضة في النقل عن الراشدين وغيرهم، ويجعل أصل السلف في الصفات هو اليهود والصابئة!! وسيأتي بعض آرائه في مواضعها. الفتنة الثانية (3) ليست الفتنة الثانية إلا امتداداً طبيعياً للفتنة الأولى، وإنما تتميز بأن وجهات النظر المختلفة التي أنتجتها الفتنة الأولى أصبحت منذ هذه الفتنة عقائد متميزة ومناهج متفرقة. ويمكن اعتبار واقعة "صفين" المنطلق التاريخي لهذه الفتنة، بل إن حادثة التحكيم خاصة هي الشرارة التي فجرت بركانها. لقد أنتجت هذه الحادثة وذيولها فرقتين كبيرتين، أو بتعبير أصح منهجين كبيرين يحوي كل منهما فرقاً كثيرة، كانت- وما تزال- لها وجودها الملموس وخطها المتميز وانحرافها البعيد. هذان المنهجان هما "التشيع والخروج" وكلاهما ناشئ عن علة واحدة هي "الغلو", ولكنه غلو متضاد. ولسنا بالطبع بصدد الحديث عن هذين المنهجين تفصيلاً، ولكن لا بد من الحديث عنهما فيما له أثر في نشأة الإرجاء وتطوره. وذلك أن نمو الأفكار والعقائد أشبه شيء بنمو الكائنات الحية ذات الأطوار المتعددة، بل هي أعقد من ذلك بما يعتريها من التداخل والتركيب والامتزاج، ويقارنها من ردود الفعل والتأثرات النفسية والتقلبات الفكرية، فالتفاعل الفكري أعظم- في كثير من الأحيان- من التفاعل المادي. وإذ كانت الفتنة الأولى هي المستنقع الذي وجدت فيه جرثومة الإرجاء الأولى، فإن الأحداث التالية قد ولدت جراثيم أخرى, ومع الزمن ظهرت كائنات جديدة تنتمي لتلك الأصول ولكنها تختلف عنها كثيرا في الشكل والحقيقة. وخفاء العلاقة بين أصول هذه الكائنات الفكرية وبين مراحلها المكتملة يبين أحد أسباب الخلاف بين المؤرخين والباحثين في تصنيفها ونشوئها وتطورها، وهو ما يستدعي تحقيق الأمر وتمحيصه. وإن من أعظم المطالب العقدية ومن أهم أصول المنهج التاريخي السليم - معاً- أن نعرف الأسباب الحقيقية لتفرق الأمة الإسلامية وخط السير الواقعي لنمو هذه الفرق وتشعبها وهو ما سوف نحاول إيضاحه بقدر ما يسمح المقام. إن معركة صفين نشبت والأمة على منهج اعتقادي واحد يدين به كلاً المعسكرين المتحاربين وهو منهج أهل السنة والجماعة، أي ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين ثبتوا جميعاً على الهدى وما بدلوا تبديلاً "وإنما كانت النخالة فيمن بعدهم".   (1) ((مذاهب الإسلاميين)) (1/ 37). (2) انظر تحقيقه لكتاب: ((فرق وطبقات المعتزلة)، (ص 5 - 7)، وهو الجزء الأول من كتابه ((المنية والأمل)). (3) أي ما جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 ولكنها انتهت بظهور معسكر ثالث ذي بدعة اعتقادية ضالة، وهو معسكر المارقة الخوارج، وفي الوقت نفسه كان مثيرو الفتنة الأولى قد أحكموا الخطة لتأسيس دين جديد يكون بمثابة "حصان طروادة" لهدم الإسلام، وهو دين التشيع الذي أسهم ظهور الخوارج في تبرير خروجه وانتشاره، حيث كان غلو إحدى الطائفتين مبرراً لغلو الأخرى في الاتجاه المعاكس. وإذ أصبحت المعسكرات المتحاربة ثلاثة: "أهل العراق-أهل الشام-الخوارج"؛ فقد أصبحت المناهج الاعتقادية ثلاثة: "السنة - وعليها المعسكران المتحاربان- الخروج، التشيع".وهذا التفرق وما صحبه من صراع أدى إلى نمو بذرة الإرجاء، التي تكونت في الفتنة الأولى لتصبح منهجاً رابعاً فيما بعد (1). وقبل الحديث عن هذين المنهجين "الخروج والتشيع" وأثرهما في نشأة الإرجاء وتطوره لا بد من التنبيه إلى قضيتين كبريين: الأولى: أن بعض كتب الفرق وما اقتفاها من كتب المستشرقين والمحدَثين قد وقعت في خطأ بالغ حين جعلت ما جرى يوم السقيفة هو أصل الانشقاقات والتفرق، وهولت من هذه الواقعة العادية العابرة، واستجازت تبعاً لذلك أن تنسب التشيع والإرجاء والخروج إلى الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، وهذا عين الافتراء ومحض الاختلاف، وإن قال به من قد يكون حسن النية- كما سبق بعض الحديث عن هذا -. إن تصوير المسألة على هذا النحو لا يهدر المنزلة السامية للصحابة فحسب، بل ينسف غاية الدين ومهمة الإسلام من أساسها، إذ يتفق مع الرأي الاستشراقي القائل بأن محمدا صلى الله عليه وسلم ما هو إلا زعيم عبقري وحد قبائل العرب المتناحرة، فلما توفي سرعان ما عاد الخلاف القبلي بين أحياء قريش وغيرها متستراً بالصبغة الدينية!! وإذا كان هذا الرسول لم يستطع تزكية نفوس الخاصة من أصحابه ويرفعها عن مستوى الإحن والأحقاد الشخصية والصراع السياسي فما فعل إذن ومن ربى؟!! كما أنه يغفل أصلاً عظيماً من أصول الشريعة وهو الفقه السياسي الإسلامي وأصول الحكم والشورى، التي تتبوأ مركزاً مهماً في الشريعة الكاملة الخالدة. فإذا كانت هذه الشريعة لم تأت من ذلك بما تسير عليه، وتعرفه الصفوة من الصحابة وارثوا منصب القيادة بعد رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، فما الذي جاءت به إذن في هذا المجال؟! وإليك- من بين عشرات الأمثلة- هذا المثال مما كتبه أحد أساتذة التاريخ في عصرنا، الذي يشغل أستاذ التاريخ ونائب رئيس جامعة القاهرة (2): فهذا الأستاذ يتحدث عما جرى يوم السقيفة وكأنه سلسلة ضخمة من الصراع السياسي، على النمط الذي تشهده الحكومات المعاصرة بل هو أعمق وأعظم، لأنه حسب تصوره أنتج فرقاً تمتد على طول التاريخ الإسلامي!!   (1) وفي الوقت الذي ظهر فيه الإرجاء ظهر القول بالقدر، وذلك في أواخر عهد الصحابة، وبهذا ظهرت أصول فرق الضلالة الأربع وهي: "الشيعة، الخوارج، المرجئة، القدرية". انظر: ((درء التعارض)) (5/ 224 - 302)، و ((منهاج السنة)) (3/ 184)، و ((مجموع الفتاوى)) (13/ 27) فصاعدا. (2) الدكتور إبراهيم أحمد العدوي في كتابه: ((تاريخ العالم الإسلامي))، طبعة 1984م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 وهو لا يكتفي بأن يعتبر تلك الحادثة "المشكلة الخطيرة الكبرى التي واجهت الأمة الإسلامية الفتية"، بل يرجع إليها أصل نشأة الفرق حين يقول: "ويبدأ التاريخ السياسي للشيعة بذلك النفر من كبار الصحابة، الذي ر أي عند اجتماع سقيفة بني ساعدة وبعدها أن علي بن أبي طالب أحق الناس بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقرابته من بيت النبوة ... واشتهر من هذا النفر أبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي والعباس وبنوه. وإذ رأوا أن علياً يفضل كلاً من أبي بكر وعمر في تولي منصب الخلافة".وهذا الكلام يتعارض وبدهيات التاريخ وحقائقه الثابتة سواء في بيعة الصديق (1) أوفي نشأة التشيع، اللهم إلا أن يكون مستقى من مصادر الشيعة وكفى بها كذباً وبهتاً. ومع ذلك فقد ورد في كتب بعض الباحثين!! وعلى رأسهم الأستاذ الكبير المتخصص علي سامي النشار (2). الثانية: أن انقسام الأمة حينئذ إلى سنة وشيعة وخوارج- كما أسلفنا- لا يعني أبداً تكافؤ هذه المناهج والفرق، سواء من جهة الكم أو الكيف كما يريد المستشرقون وأشياعهم أن يصوروا. فهذه القسمة النظرية شيء والواقع شيء آخر، وذلك أن الخارجين عن السنة والجماعة لم يكونوا إلا شراذم شاذة وأفراداً معدودين، لا سيما في أول الأمر ولم يكن فيهم ذو فضل أو سابقة قط، بل كانوا كلهم من الأعراب وحديثي العهد بالإسلام، أو المنافقين من أبناء الأمم المفتوحة وأشباههم. وعلى امتداد الثلاثة القرون المفضلة لم يكن أصحاب البدع إلا مستنقعات جانبية على ضفتي تيار الإسلام الضخم، ولم يكن فيها أحد من أئمة الإسلام المتبوعين ورجاله المعدودين قط. بل إن البدع مهما نمت أو طفرت تظل كالشجرة الخبيثة، لا تكاد تهب عليها ريح السنة حتى تجتثها إلى قرار سحيق، ومن أعظم الأدلة على ذلك ما جري في فتنة الإمام أحمد وبعدها، من تبديل تام في موقف الدولة والعلماء حتى ذل المبتدعة واندحروا بعد الظهور والتمكين. ومهما يكن من ظهور البدع في بعض العصور، فإن الحقيقة الثابتة هي أن نقاء المنهج السلفي في ذاته لم يتكدر قط، وأن الطائفة المنصورة القائمة عليه لم تزل وستظل إلى أن يأتي أمر الله. والمقصود من هذا هو بيان ضلال المستشرقين ومن اتبعهم أو سبقهم من الحاقدين على الإسلام حين يحسبون أن الإسلام مرت به الحال نفسها التي مرت باليهودية والنصرانية في عصورها الأولى، حيث صدعتها الانشقاقات واستعلت البدع والمحدثات حتى طغت وسادت إلى أن لم يبق للحق الخاص من يمثله إلا أفراد، لا يكاد يحس بهم أحد، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في إخباره أن الله نظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم، فمقتهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وكما تشهد به التجربة الحية التي خاضها سلمان الفارسي رضي الله عنه بحثا عن الحق (3). المصدر: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي - 1/ 251   (1) الثابت في الروايات الصحيحة والمعلوم لدى الأمة تواترا أنه لم يكن يوم السقيفة لا شيعة ولا خوارج، بل لم يكن هناك خلاف بالعمق والضخامة التي يصورها هؤلاء، وإنما كان تداولا للرأي ونقاشا بين المهاجرين والأنصار، سرعان ما انتهى في لقاء واحد ووقت وجيز إلى الإجماع الذي لم يشهد تاريخ الحكومات في العالم مثله، تصديقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر) (2) انظر: ((نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام)) (1/ 228). (3) بل نقول: إن هذا الدين هو دين الفطرة السليمة لدى كل مخلوق فكيف بعامة المسلمين؟ أما ما نراه اليوم من كثرة البدع فيهم فإن من أعظم أسبابها الجهل وخفاء الحق وتلبيس علماء السوء، ومع ذلك فما تزال الطائفة المنصورة تجاهد في كل مكان ولن يكون النصر إلا لها بإذن الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 المبحث السادس: الخوارج ونشأة الإرجاء بعد اتضاح أن الخروج "ظاهرة" وليس "حادثة"، وبمعرفة السبب الحقيقي لها، نستطيع أن نصل إلى معرفة الظاهرة المضادة التي سلكت منهج الغلو في التفريط، مقابل غلو تلك في الإفراط. وعقدة القضية- أن الظاهرة المضادة إنما انبثقت في الأصل من الظاهرة الأولى نفسها، أي أنهما لم يكونا منذ النشأة منهجين متعاديين، اشتط أحدهما ذات اليمين والآخر ذات الشمال، وإنما هما منهج واحد في الأصل: " الخروج"، لكن بعضه أشد غلواً من بعض، وتطور الخلاف بين أصحابه في الجانب التطبيقي، ليصبح موضوعه مرتكب الكبيرة الحقيقي من الأمة، بعد أن كان عثمان وعلياً وسائر الصحابة زمن الفتنة. وبهذا التطور الذي لم يدرك أبعاده أكثر الباحثين، آل الأمر إلى منهجين متضادين على الحقيقة، وتجاوز الخلاف بينهما حدود الوقائع التاريخية حين النشأة، ليصبح خلافاً نظرياً عاماً مؤصلاً. وقد استوقفتني هذه الحقيقة كثيراً - أعني حقيقة أن أصل المرجئة هم الخوارج لا بطريق التضاد في الغلو بل ذاتاً وحقيقة - وليس سبب ذلك عدم ثبوتها، ولكنه عدم وضوح تعليلها الذي تبين بعد بالتتبع الدقيق لفرق الخوارج. ومن هنا ظهرت ضرورة التوسع في دراسة إحدى الظاهرتين، لمعرفة حقيقة الأخرى. وإذا ما أردنا الوصول إلى الحقيقة، فإن علينا أن نعرف تلك الظاهرة البارزة في تاريخ الخوارج، وهي الاختلاف والتشقق إلى أكثر من رأي عادة وفي كل قضية تقريباً، وهو ما أنتج بمجموعه ثلاثة اتجاهات كبرى في مواقف فرق الخوارج، منذ حادثة التحكيم إلى بروز منهج الإرجاء قائماً بنفسه وهي: 1 - الاتجاه الغالي المطرد في غلوه. 2 - الاتجاه المتراجع إلى حد التساهل (نسبياً) 3 - الاتجاه التوسطي، أو المحايد "التوقف والتبين". والقصة التي سبق إيرادها شاهد على هذه الاتجاهات الثلاثة في المواقف، وفي تاريخ الخوارج أمثلة أخرى، يهمنا منها بالأساس قضية حكم مرتكب الكبيرة عندهم، والدار التي يعيش فيها!! لقد اشتطت الخوارج، وغلت في النظرة لمرتكب الكبيرة (1)، وتشعب بها الخلاف في أحكامه، حتى كثر بعض فرقها بعضاً. لكن ليس هذا فحسب وإنما الرزية كل الرزية أن مرتكب الكبيرة عندهم ليس هو الزاني أو السارق أو الكاذب ونحوهم من عصاة الأمة، وإنما هو على وعثمان وطلحة والزبير وعائشة وأبو موسى وعمرو بن العاص ومعاوية، وأمثالهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالحكم على هؤلاء بالكفر هو أصل عقيدة الخوارج، وحادثة التحكيم هي التي أثارت ذلك كما سبق. وهذه هي البداية المهمة في تاريخهم، وفي تاريخ نشأة الإرجاء وانبثاقه من أصولهم، كما ألمحنا. فمنذ أن خرجت "المحكمة الأولى" على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وهي تجاهر بتكفيره، وظل الإجماع بينهم منعقداً على ذلك، وانطلاقاً منه تم الاتفاق على اغتيال رؤساء المختلفين في الفتنة، وهو ما فعله ابن ملجم وأخفق فيه صاحباه. لكن هذه البدعة الشنيعة، ترعرعت وتطورت واتخذت فيما بعد مجالاً تطبيقياً وتفصيلياً أوسع من مجرد اعتقاد كفر الصحابة المختلفين، ومن هنا كان طبيعياً أن يظهر الخلاف بينهم تبعاً لمنهجهم السابق إيضاحه. وكان من أعظم أسباب تطور الفكرة واتساع مجالها، نجاحهم في حكم بعض الأقاليم في زمن الخلاف بين ابن الزبير والأمويين، حيث أسسوا لهم "دار إسلام وهجرة" - بزعمهم - ومن هنا ظهرت دواعي الأحكام الفرعية والتطبيقية التي تتخذ عندهم - كما أسلفنا - منزلة الأصول والعقائد. ولهذا فسوف نتتبع تطور العقائد والخلافات، من خلال العرض التاريخي للأحداث المسببة لها، وبذلك نصل إلى معرفة أشمل وأعمق، لا سيما عن الاتجاهات الثلاثة، وخاصة "الاتجاه التوسطي". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 ويبدأ تاريخ الخلاف بينهم بما أحدثه "نافع بن الأزرق الحنفي"، زعيم الخوارج الأزارقة حول الحكم على "الدار" وعلى معاملات أهلها، وهي القضية التي أصبحت أصلاً من أصول الخوارج المنهجية قديماً وحديثاً، إذ سائر الأحكام عندهم مترتبة عليها. وكان سبب الخلاف الذي أحدثه نافع، أن امرأة من الخوارج عربية تزوجت أحد الخوارج من الموالي، فأنكر أهلها عليها ذلك، فأخبرت زوجها، وخيرته بين اللحاق بمعسكر نافع للدخول في دار الإسلام، أو الاختفاء، أو الطلاق، فخلى سبيلها، وأخذها أهلها فزوجوها ابن عم لها لم يكن على رأيها. فاختلف الخوارج في حكمها، فعذرها بعضهم بأنها مجبرة وأن الدار بالنسبة لها دار تقية، إذ لا تستطيع إظهار دينها، وترفض الزواج بالمشرك!! ولكن نافعاً وحزبه لم يعذروها هي وزوجها، وقالوا: "كان ينبغي لهما أن يلحقا بنا، لأنا اليوم بمنزلة المهاجرين بالمدينة، ولا يسع أحداً من المسلمين التخلف عنا، كما لم يسع التخلف عنهم، وبرئوا من القائلين بالتقية". ثم تطورت المسألة حتى كفروا كل من لم يهاجر إليهم، وإن كان على رأيهم، ولم يعذروه، وإن كانت إقامته تقية، وقالوا: إن كلم من لم يظهر موافقتهم كافر، لا تحل ذبيحته ولا مناكحته، بل لم يقتصروا على الكبار البالغين وإنما صرحوا بأن حكم الأطفال حكم آبائهم. وقالوا: لا بد من امتحان من قصد دارنا، حتى نعلم صحة إسلامه. وهكذا برزت قضية "الدار"، وأصبح من أصول الأزارقة المميزة لهم "أن كل كبيرة كفر، وأن الدار دار كفر - يعنون دار مخالفيهم - وأن كل مرتكب كبيرة ففي النار خالداً مخلداً"، و"أن من أقام في دار الكفر فكافر لا يسعه الخروج". ولم يقفوا عند هذا، بل طبقوا ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلوا من أصولهم تكفير علي بسبب التحكيم، وتكفير الحكمين أبي موسى وعمرو (1). وبالأولى يكفرون معاوية وأهل الشام - رضي الله عن الصحابة أجمعين -. وهذه الآراء جعلت "نجدة بن عامر الحنفي" يستقل عن نافع، وينشئ دار إسلام خاصة به وأصحابه، ومال إلى التخفيف من حدة هذا الغلو، فقرر أن الجاهل في غير الأصول معذور، حتى تقوم عليه الحجة، وأن المجتهد المخطئ معذور، وأن من خاف العذاب على المجتهد قبل قيام الحجة عليه فهو كافر!! وأطلق على من لم يهاجر إلى دارهم اسم النفاق - ولم يقل الكفر كنافع - وقال: إن أصحاب الحدود والجنايات - ممن هو على دينهم - لا يستوجب البراءة بل نتولاه، وأن الله يخلده في النار. ومما أحدثه "نجدة" وأصّله مسألة "الإصرار"، فقال: إن المصر على أي ذنب صغيرة أو كبيرة كافر (2)، وقد تحولت هذه المسألة إلى أصل منهجي من أصول أكثر الخوارج قديماً وحديثاً. وكالعادة تفجر الخلاف داخل أصحاب نجدة، فانقسموا ثلاث فرق: "النجدية، والعطوية، والفديكية". والعطوية: منسوبة إلى "عطية بن الأسود الحنفي"، الذي فارق نافعاً ونجدة، منتقلاً إلى سجستان بأرض فارس، وهناك انتشر الخوارج وحكموا فترات متقطعة، وتفرقوا أيضاً فرقاً شتى، حيث خرج من العطوية رجل يدعى "عبدالكريم بن عجرد"، فانبثقت من آرائه خمس عشرة فرقة، يطلق عليها جميعاً اسم "العجاردة". - فمنهم فرقة قالوا: "إنه يجب أن يدعى الطفل إذا بلغ، وتجب البراءة منه قبل ذلك حتى يدعى إلى الإسلام ويصفه هو" وتميزت بذلك. - وفرقة أخرى أعادت النظر في مسألة الدار وأهلها، فقالوا: إن الواجب هو "قتال السلطان خاصة، ومن رضي بحكمه، فأما من أنكره فلا يرون قتله إلا إذا أعان عليهم، أو طعن في دينهم أو صار عوناً للسلطان أو دليلاً له"! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 - وفرقة ثالثة تفردت بالقول بالتوقف في الأطفال عامة فقالوا: "ليس لأطفال الكافرين ولا لأطفال المؤمنين ولاية ولا عدواة ولا براءة، حتى يبلغوا فيدعوا إلى الإسلام، فيقروا به أو ينكروه". - وفرقة أخرى عممت التوقف فهم "يتوقفون عن جميع من في دار التقية، من منتحلي الإسلام وأهل القبلة، إلا من قد عرفوا منه إيماناً فيتولونه عليه، أو كفراً فيتبرأون منه" (3). وإذا تركنا سجستان وخوارجها، وعدنا إلى اليمامة والعراق، فسنجد أن رجلين من مخالفي نجدة ونافع أسسا فرقتين كبيرتين من الخوارج، وكل فرقة منهما تشعبت كالعادة إلى فرق أخرى. - هاتان الفرقتان هما: "الصفرية" أتباع زياد بن الأصفر، و "الإباضية" أتباع عبدالله بن إباض. - وفي الوقت نفسه - على ما يبدو - خرجت طائفة لم يسمها الأشعري، لكن قولها مهم وهو أن "ما كان من الأعمال عليه حد واقع، فلا يتعدى بأهله الاسم الذي لزمهم به الحد، وليس يكفر بشيء ليس أهله به كافراً، كالزنا والقذف وهم قذفة زناة (1). وما كان من الأعمال ليس عليه حد كترك الصلاة والصيام فهو كافر, وأزالوا اسم الإيمان في الوجهين جميعاً" (2) وهذه الفرقة ينطبق عليها اسم الإرجاء، من حيث أنها لا تقول بإسلام ولا كفر، فيما كان دون الشرك والكفر، فهي إحدى فرق ما يسمى "مرجئة الخوارج" والله أعلم. أما الإباضية: فقد مالت إلى مذهب قريب من هذا التوقف أو الإرجاء، وابتعدت عن غلو نافع أكثر مما ابتعد نجدة، وذلك أن جمهور الإباضية يزعمون أن مخالفيهم من أهل الصلاة كفار وليسوا بمشركين (3)، حلال مناكحتهم، وموارثتهم حلال، وغنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب، وحرام ما وراء ذلك، وحرام قتلهم وسبيهم في السر إلا من دعا إلى الشرك في دار التقية ودان به. "وزعموا أن الدار - يعنون دار مخالفيهم - دار توحيد، إلا عسكر السلطان فإنه دار كفر .. ". وقالوا: "إن مرتكبي الكبائر موحدون وليسوا بمؤمنين" (4). وقالوا: "إن جميع ما افترض الله سبحانه على خلقه إيمان، وإن كل كبيرة فهي كفر نعمة لا كفر شرك، وإن مرتكبي الكبائر في النار خالدون مخلدون فيها" (5). وأما مسألة "الأطفال" فقد توقفت الإباضية - أو أكثرهم - فيها، وقالوا: يجوز أن يعذبهم الله، ويجوز ألا يعذبهم على تفصيل فيه (6). وتطورت فكرة التوقف والإرجاء عند الإباضية، بعد حدوث الواقعة التي سبق ذكرها بشأن الإماء والنساء من مخالفيهم، حيث ظهر فيهم فرقة سميت: "الواقفة" - كما سبق -. وهؤلاء الواقفة - إضافة إلى ما نقلناه من افتراق الضحاكية عنهم، ثم انشقاق الضحاكية- لم يتفقوا على رأي محدد بل "اختلفوا في أصحاب الحدود، فمنهم من برئ منهم، ومنهم من تولاهم، ومنهم من توقف". كما اختلفوا "في أهل دار الكفر عندهم، فمنهم من قال: هم عندنا كفار إلا من عرفنا إيمانه بعينه، ومنهم من قال: هم أهل دار خلط فلا نتولى إلى من عرفنا فيه إسلاماً، ونقف فيمن لم نعرف إسلامه". (7) وقد ظهر للواقفة عدو منافس هم فرقة "البيهسية" أصحاب أبي بيهس، الذي كفر الواقفة بسبب المسألة المذكورة كما سبق، وعلل ذلك بالتفريق بين التوقف في الحكم نفسه، والتوقف في حق من ارتكبه قائلاً: "إن الوقف لا يسع (8) على الأبدان، ولكن يسع على الحكم بعينه ما لم يواقعه أحد من المسلمين، فإذا واقعه أحد من المسلمين، لم يسع من حضر ذلك ألا يعرف من أظهر الحق ودان به، ومن أظهر الباطل ودان به. (9) أي أن الإنسان قد يتوقف عن حكم ما لا يدري أهو كفر أم إيمان، فإذا فعله فاعل وحضر ذلك، فلا بد أن يعرف أهو محق أو مبطل في فعله، ويحكم عليه بالكفر أو الإيمان، بحسب الاجتهاد والعذر ونحو ذلك. وعابت البيهسية مخالفيهم في ذلك وأسمتهم "الواقفة" (10). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 ثم إنه انشقت عن البيهسية فرقة يقال لها "العوفية" وهي في الحقيقة فرقتان: فرقة تقول: "من رجع من دار هجرتهم، ومن الجهاد إلى حال القعود، نبرأ منهم". وفرقة تقول: " لا نبرأ منهم، لأنهم رجعوا إلى أمر كان حلالاً لهم" (11). وكلا الفريقين من العوفية يقولون: "إذا كفر الإمام فقد كفرت الرعية، الغائب منهم والشاهد" (12). وهم بهذا الرأي الأخير يعودون إلى ما قالته المحكمة ونافع من قبل، وإن كان الكفر عندهم يختلف عن الكفر عند أولئك، ولكن غلو هذه الفكرة واضح، حتى في حق من ارتكب الكفر الحقيقي. ولا أدري ما الفرق بين هذه الفرقة وبين الفرقة الأخرى من البيهسية، التي قال عنها أبو الحسن: "وقالت طائفة من البيهسية: إذا كفر الإمام كفرت الرعية، وقالت: الدار دار شرك وأهلها جميعاً مشركون، وتركت الصلاة إلا خلف من تعرف، وذهبت إلى قتل أهل القبلة وأخذ الأموال واستحلت القتل والسبي على كل حال" (1) , إلا أن يكون ما زاده في هذه لم تذهب إليه تلك، فالله أعلم. ثم ينقل عن فرقة أخرى من البيهسية أنهم قالوا: "من ارتكب كبيرة لم نشهد عيه بالكفر، حتى يرفع إلى الإمام أو الوالي ويحد، فوافقهم على ذلك طائفة من الصفرية إلا أنهم قالوا: نقف فيهم ولا نسميهم مؤمنين ولا كافرين". (2) وإذا انتقلنا للحديث عن الصفرية نجد هذا الاتجاه - أعني التوقف والإرجاء - لدى فرقة أخرى منهم غير هذه، وهي الفرقة المسماة "الحسينية". وهم "يرون الدار دار حرب وأنه لا يجوز الإقدام على من فيها إلا بعد المحنة، ويقولون بالإرجاء في موافقيهم خاصة (3) كما حكي عن نجدة" (4) وما عداه فليس للصفرية قول متميز ذو شأن، إلا إذا صحت نسبة "صالح بن مسرج" إليهم. وصالح هذا كان من زعمائهم، حكم ببعض أحكام في الغنائم وغيرها، فاختلف عليه الخوارج في ذلك، فبرئت منه فرقة فسميت "الراجعة"، وصوب أكثر الخوارج رأي صالح، ووقف "شبيب" في صالح والراجعة وقال: لا ندري ما حكم به صالح حقاً كان أو باطلاً. "ويقال: إن أكثر الراجعة عادوا إلى قول صالح .. فأما بعض الإباضية فيذهب إلى أن الذين برئوا من صالح كفروا، وأن من وقف في كفرهم كفر". وأما شبيب فقد انتسب إليه فرقة تسمى "الشبيبية"، وذلك أن شبيباً وقف في صالح وفي الراجعة فقالوا: "لا ندري أحق ما حكم به صالح أم جور؟ وحق ما شهدت به الراجعة أم جور؟ فبرئت الخوارج منهم وسموهم مرجئة الخوارج" (5). المصدر: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي - 1/ 305 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 المبحث السابع: المرجئة الأولى المرجئة الأولى علم على الطائفة التي فصلنا الحديث عن نشأتها "أي الاتجاه التوسطي أو التوقفي من الخوارج" ومن وافقها في نظرتها للصحابة خاصة. وهذه التسمية صحيحة وثابتة، وما حفظه التاريخ عن هذه الطائفة - على قلته - يكفي لإعطاء تصور جيد عنها. ولن نتبع منهج المؤرخين والباحثين في استقاء فكرتها من قصيدة ثابت قطنة ونحوها، بل نسلك مسلك المحدثين فنأخذ الحديث عنها من مصادره الصحيحة- إن وجدت - ثم نعرج على ما أثر في كتب التاريخ والفرق والأدب. يقول الإمام الحجة محمد بن جرير الطبري في كتابه "تهذيب الآثار": "فإن قال لنا قائل: ومن هم المرجئة؟ وما صفتهم؟ قيل: إن المرجئة هم قوم موصوفون بإرجاء أمر مختلف فيما ذلك الأمر؟ فأما إرجاؤه فتأخيره، وهو من قول العرب: أرجأ فلان هذا الأمر فهو يرجئه إرجاء، وهو مرجئه، بهمز. وأرجاه فلان يرجيه أرجا، بغير الهمز فهو مرجيه، ومن قول الله تعالى ذكره: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ [التوبة:106]. يقرأ بالهمزة وغير الهمز بمعنى مؤخرون لأمر الله، وقوله مخبراً عن الملأ من قوم فرعون: قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ [الأعراف:111]. بهمز أرجه وبغير الهمز (3). فأما الأمر الذي بتأخيره سميت المرجئة مرجئة، فإن ابن عيينة كان يقول فيما حدثني عبدالله بن عمير الرازي قال: سمعت إبراهيم بن موسى - يعني الفراء الرازي - قال: سئل ابن عيينة عن الإرجاء؟ فقال: الإرجاء على وجهين: قوم أرجوا أمر علي وعثمان، فقد مضى أولئك. فأما المرجئة اليوم فهم يقولون: الإيمان قول بلا عمل. فلا تجالسوهم ولا تؤاكلوهم ولا تشاربوهم ولاتصلوا معهم ولا تصلوا عليهم ". (4) ثم قال الطبري - بعد نقل آثار عنهم-: "والصواب من القول في المعنى الذي من أجله سميت مرجئة أن يقال: إن الإرجاء معناه ما بيناه قبل من تأخير الشيء، فمؤخر أمر علي وعثمان رضي الله عنهما وتارك ولايتهما والبراءة منهما مرجئاً أمرهما فهو مرجئ، ومؤخر العمل والطاعة عن الإيمان مرجئهما عنه فهو مرجئ. غير أن الأغلب من استعمال أهل المعرفة بمذاهب المختلفين في الديانات في دهرنا هذا الاسم فيمن كان من قوله: الإيمان قول بلا عمل، وفيمن كان مذهبه أن الشرائع ليست من الإيمان، وأن الإيمان إنما هو التصديق بالقول دون العمل المصدق بوجوبه" (5) ففي كلام الإمام ابن عيينة وشرح الطبري له، ما يدل على أن المرجئة الأولى هي طائفة من الناس كانت ترجئ أمر عثمان وعلي إلى الله، فلا تتولاهما ولا تتبرأ منهما، فهي مضادة لمن يكفرهما أو يغلو فيهما- أو أحدهما- وكذا لمن يرى تقديمهما وفضلهما ووجوب موالاتهما. والغاية أن الإرجاء عندها ليس في مسألة الكفر والإيمان عامة، وإنما هو في الموقف من الصحابة المختلفين في الفتنة- رضي الله عنهم- خاصة. فهم مناقضون لما عليه عامة الخوارج من تكفيرهما، وما عليه عامة الشيعة من الغلو في علي والحط على عثمان أو تكفيره، وكذلك مخالفون لما عليه الجماعة في أمرهما. ومن هنا كان طبيعياً أن تتعرض هذه الطائفة لنقد وعيب هذه الطوائف جميعاً، وكل طائفة تعيبها وتخالفها من الزاوية التي تراها مخالفة لها فيها، ومن هنا تشعب القول عن المرجئة الأولى واختلف. فالجماعة يعدونهم من الخوارج - وهم كذلك لمن تأمله- كما قد سبق إيضاح ذلك وإثباته من واقع فرق الخوارج. والشيعة تعدهم نواصب، ولهذا أدخلت أهل السنة عامة في مسماهم - كما سنرى- فهم يطلقون على كل من لم يغل في علي مرجئاً، إلا إذا كان يكفره فهو خارجي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 والخوارج يعدونهم مرجئة، لأنهم لم يجزموا بكفر علي وعثمان - في أول الأمر - وبالتالي لم يجزموا بتكفير مرتكب الكبيرة عامة بعد تطور النزاع على النحو الذي سبق. وهذا ما يفسر السر في تضارب الأقوال عنهم، واختلافهم حتى أعيى الكثير من المصنفين والباحثين الجمع بينها، في حين أن من اعتمد على المصادر السلفية وحدها لا يجد أي اختلاف, وعلى هذا نسوق الشواهد: فمن المرجئة الأولى "محارب بن دثار" قاضي الكوفة، المتوفى حوالي سنة 116، يقول عنه ابن سعد: "كان من المرجئة الأولى، الذين كانوا يرجون علياً وعثمان، ولا يشهدون بإيمان ولا كفر" (1) وينقل الذهبي النص مع زيادة: "قال ابن سعد: كان من المرجئة الأولى، الذين يرجون علياً وعثمان إلى أمر الله، ولا يشهدون عليهما بإيمان ولا كفر". (2) وإذا كان هذا يعد عند الجماعة بدعة وجرحاً، فإن الشيعة تعده كفراً بالنسبة لعلي، وقد نسب صاحب (الأغاني)، وصاحب كتاب (الزينة) - وكلاهما رافضي- هذه الأبيات إلى محارب: يعيب علي أقوام سفاها ... بأن أرجي أبا حسن عليا وإرجائي أبا حسن صواب ... عن العمرين براً أو شقيا فإن قدمت قوماً قال قوم ... أسأت وكنت كذاباً رديا إذا أيقنت أن الله ربي ... وأرسل أحمداً حقاً نبيا وأن الرسل قد بعثوا بحق ... وأن الله كان لهم وليا (3) فليس علي في الإرجاء بأس ... ولا لبس ولست أخاف شيّا وعند الأخير زيادة بيتين: وعثمان وماج الناس فيه ... فقالت فرقة قولاً بذيا وقال الآخرون إمام صدق ... وقد قتلوه مظلوماً بريا (4) فرد عليه أحد شعراء الشيعة سائراً على منهجهم في الغلو والفحش: يود محارب لو قد رآها (5) ... وأبصرهم حواليها جثيا وأن لسانه من ناب أفعى ... وما أرجى أبا حسن عليا وأن عجوزه مصعت بكلب ... وكان دماء ساقيها جريا (6) متى ترجي أبا حسن عليا ... فقد أرجيت يا لكع نبيا (7) ولشاعرهم الحميري الملقب بالسيد، قصيدة في المعنى نفسه قال: خليلي لا ترجيا واعلما ... بأن الهدى غير ما تزعمان وأن عمى الشك بعد اليقين ... وضعف البصيرة بعد العيان ضلال فلا تلججا فيهما ... فبئست لعمركما الخصلتان أيرجى علي إمام الهدى ... وعثمان ما اعتدل المرجيان (1) ويرجى ابن حرب وأشياعه ... وهوج الخوارج بالنهروان (2) ويرجى الألى نصروا نعثلاً ... بأعلى الخريبة والسامران (3) يكون أمامهم في المعاد ... خبيث الهوى مؤمن الشيصبان (4) وهكذا تعرض محارب - ومن كان معه- لهجوم الشيعة في كلا جانبي رأيه وهما: إرجاء علي، إذ كيف يرجى وهو عندهم نبي، كما صرح الأول، أو إمام الهدى الوحيد!! وإرجاء عثمان، إذ كيف يرجى وهو إمام ضلالة- وكذا معاوية- فالواجب تكفيرهما!! وعن الشك الذي يظهر في أبيات محارب، وخوفه من لوم الطوائف المعارضة نقول: إنه لم يسلم من اللوم، بل عرض الحميري ذلك واصفاً له بالضلال، وإن عمى الشك بعد اليقين لضلال حقاً، لكن ليس على ما يرى الحميري. هذا ولا يصح أن يكون إرجاء محارب هو تأخيره علي إلى الدرجة الرابعة في ترتيب خلافة الراشدين، كما ظن ذلك بعضهم، لأن هذا هو مذهب الجماعة وإجماع الأمة، وإنما إرجاؤه ما سبق، أما مصادر الشيعة فهي تعتبره كذلك، لكن لا عبرة بقولها، فهو فرع عن عقيدتها ودينها. هذا وقد ذكر صاحب (الأغاني) أيضاً أن أحد الشيعة أشرف على الموت، فأظهرت المرجئة الشماتة به، فقال السيد الحميري قصيدة في مدح الشيعة، وهذا مما يدل على تنافس وعداء (5). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 ولعل ما يؤيد معرفة سفيان بن عيينة لهذا الطائفة، أن أحد شيوخه عاصم بن كليب الجرمي هو تلميذ لمحارب بن دثار، وقد كان على الإرجاء نفسه، كما وصفه بذلك شريك بن عبدالله، ومما يدل عليه قوله لأحدهم: "إنك خشبي"، والخشبية هم الرافضة أو طائفة منهم، فكأنه يدافع عن نفسه بأنه موقفه خير من الغلو في علي (6). ونجد إماماً فقيهاً آخر هو "ابراهيم النخعي"، وقد كان معاصراً لمحارب وأعدائه يتكلم عن هذه الطائفة. فقد ذكر ابن سعد بسنده "أن رجلاً كان يأتي إبراهيم النخعي فيتعلم منه، فيسمع قوماً يذكرون أمر علي وعثمان، فقال: أنا أتعلم من هذا الرجل وأرى الناس مختلفين في أمر علي وعثمان؟ فسأل إبراهيم النخعي عن ذلك، فقال: ما أنا بسبئي ولا مرجئي" (7). أي لست من الشيعة- الذين أسس مذهبهم عبدالله بن سبأ كما هو معلوم- ولا من المرجئة الذين يقابلون غلو الشيعة بالإجحاف وعدم التولي له، يعني فهو من أتباع السلف أهل السنة، وأراد أن يعلم تلميذه أن يجتنب هاتين الفرقتين اللتين كانتا في الكوفة حينئذ. وفي العصر نفسه نجد إماماً آخر مشهوراً هو "الشعبي" - الذي كان أول أمره خشبياً، ثم ترك ذلك وفضح كثيراً من أصول التشيع، لا سيما علاقته باليهود (8) - ينصح تلميذاً له قائلاً: "أحب صالح المؤمنين وصالح بني هاشم ولا تكن شيعياً، وأرج ما لم تعلم ولا تكن مرجياً، واعلم أن الحسنة من الله والسيئة من نفسك ولا تكن قدرياً، وأحبب من رأيته يعمل الخير وإن كان أخرم سندياً" (9). فهو يحذره من الطوائف الأربع التي كانت معاصرة حينئذ: وهي الشيعة والمرجئة والقدرية والشعوبية، ويبين له أن الإنسان يكل علم ما لم يعلم إلى الله، لكن أمر عثمان وعلي رضي الله عنهما هو من المعلوم الثابت، وهو الشهادة لهما بالإيمان والجنة، وموالاتهما وعدم البراءة منهما، بخلاف ما تقوله المرجئة فيهما، كما سيأتي في أبيات شاعرهم ثابت قطنة. وممن نسب إليه الإرجاء على هذا المعنى من رجال الحديث: "خالد بن سلمة الفأفاء"، وهو يروي عن الشعبي ويروي عن سفيان بن عيينة، قيل عنه: "كان مرجئاً يبغض علياً"، وعبارة الذهبي: "كان مرجئاً ينال من علي رضي الله عنه". (1) ولا شك أن عدم تولي علي هو بغض له. ولنأت الآن إلى قصيدة ثابت قطنة- شاعر المرجئة المشهور- التي وصفت بأنها الأثر الإرجائي الباقي، الذي يصور عقيدة هذه المرجئة وأفكارها (2)، وهي: يا هند إني أظن العيش قد نفدا ... ولا أرى الأمر إلا مدبراً نكدا إني رهينة يوم لست سابقه ... إلا يكن يومنا هذا فقد أفِدا بايعت ربي بيعاً إن وفيت به ... جاورت قتلى كراماً جاوروا أحدا يا هند فاستمعي لي إن سيرتنا ... أن نعبد الله لا نشرك (3) به أحدا نرجي الأمور إذا كانت مشبهةً ... ونصدق القول فيمن جار أو عندا المسلمون على الإسلام كلهم ... والكافرون استووا (4) في دينهم قددا ولا أرى أن ذنباً بالغ أحداً ... م (5) الناس شركاً إذا ما وحدوا الصمدا لا نسفك الدم إلا أن يراد بنا ... سفك الدماء طريقاً واحداً جددا من يتق الله في الدنيا فإن له ... أجر الحساب إذا وفي الحساب غدا وما قضى الله من أمر فليس له ... رد وما يقضِ من أمر يكن رشدا كل الخوارج مخطٍ في مقالته ... ولو تعبد فيما قال واجتهدا أما علي وعثمان فإنهما ... عبدان لم يشركا بالله مذ عبدا وكان بينهما شغب وقد شهدا ... شق العصا وبعين الله ما شهدا يجزي علي وعثمان بسعيهما ... ولست أدري بحقٍ أيّةً (6) وردا الله يعلم ما يحضران به ... وكل عبد سيلقى الله منفردا (7) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 هذه القصيدة التي رواها صاحب (الأغاني) "وجادة" (8)، ذكر معها سببها قال: "كان ثابت قطنة قد جالس قوماً من الشراة وقوماً من المرجئة، كانوا يجتمعون فيتجادلون بخراسان، فمال إلى قول المرجئة وأحبه، فلما اجتمعوا بعد ذلك أنشدهم قصيدة قالها في الإرجاء" (9) والقصيدة من الناحية الشعرية جيدة وتعبر عن عقيدة صاحبها بوضوح ويمكن تلخيصها في الآتي: 1 - إرجاء الأمور المشتبهة والمختلف فيها إلى الله، وهو تمهيد لما سيقرره عن الخليفتين الراشدين. 2 - إثبات الإسلام لكل من أظهره (أي ما لم يشرك أو يرتد). 3 - أن الذنوب والمعاصي لا تخرج من الملة، فلا يكفر مسلم موحد إلا إذا قارف ذنباً يبلغ به حد الشرك بالله تعالى (وهذا تمهيد لما سيحكم به على الخليفتين، اللذين هما عاصيان فقط في نظره). 4 - الأصل الإمساك عن دماء المسلمين، إلا على سبيل الدفاع عن النفس. 5 - أن المتقين ينالون جزاءهم كاملاً يوم القيامة. 6 - الإيمان بالقضاء والقدر وحكمة الله فيه. 7 - تخطئة الخوارج في تكفير المسلمين، (لا سيما عثمان وعلي)، ولا يشفع لهما تنسكهم واجتهادهم في العبادة، (أي ولو كانوا يظنون أن هذا اجتهاد منهم وعبادة). 8 - أن عثمان وعلياً لم يثبت عليهما الشرك منذ أسلما فلا نكفرهما، وإنما كان منهما وبينهما فتنة واختلاف، والله أعلم بسرائرهما، وسيجزيهما بسعيهما، وقد مضيا إلى ربهما، ولا ندري أهما من أهل الجنة أم من أهل النار، فالله يعلم ماذا يأتيان به يوم القيامة حين يحاسب كل إنسان على انفراد. وأما فهم بعض الباحثين المعاصرين من القصيدة أن المرجئة "يرجئون الحكم على مرتكب الكبيرة، أي يؤخرونه ويجعلونه لله, ويرجئون العمل عن الإيمان، إذ إن الإيمان عندهم ألا يشرك الناس بالله الواحد الصمد, وهو في غنى عن العمل، خلافاً للخوارج الذين يرونهما- يعني العمل والإيمان- شيئاً واحداً لا وزن لأحدهما بدون الآخر، وعلى هذا فإن الخوارج مخطئون في هذا التصور، وعثمان وعلي وغيرهما مؤمنون، ولا يستطيعون الحكم على أحدهم بخطأ وكذلك جميع المسلمين لا يصح التعرض لهم بحكم، إذ يكفي أن يكونوا مسلمين, أما عملهم فذلك موكول إلى ربهم ولو لم يصوموا أو يصلوا أو يحجوا فهم مسلمون ولا يصح أن يطردوا من حظيرة الإسلام" (1). فهو بلا شك مبالغ فيه، أراد صاحبه أن يدخل عقيدة المرجئة بمفهوم الإرجاء العام، ضمن مفهوم هذه الأبيات، التي قصد بها قائلها الإرجاء الخاص بالصحابة "إرجاء المرجئة الأولى" الذي هو في أصله شعبة من الفكر الخارجي كما أوضحنا، لكن المؤلف في كتابه كله لم يستطع الفصل بين المفهومين. وأحسب أن من يقرأ القصيدة دون تصور سابق، لا يفهم منها الاستهانة بالعمل والتفلت من الفرائض، بل العكس هو المنطوق، كيف وقد اعتبر ما وقع من عثمان وعلي من المعاصي- بزعمه- مبرراً لأن يخالف ما هو ثابت مشهور لدى الأمة قاطبة من فضلهما والشهادة لهما بالجنة؟ كما أن سيرة ثابت وحياته التي قضاها على الثغور ومجالدة الأعداء أقرب إلى سير الخوارج منها إلى غيرهم (2). والواقع أن اللبس حاصل من منطوق الأبيات فهي في الحقيقة متناقضة, وتناقضها هذا يعطينا شاهداً آخر على تطور بدعة الإرجاء - كما سبق أن قررنا في المبحث السابق - وذلك أن الجدل بين غلاة الخوارج ومتساهليهم (واقفتهم) بشأن ما وقع من الصحابة من ذنوب ومعاصي أدى إلى ظهور مرجئة الخوارج، الذين يقولون بإرجاء عثمان وعلي رضي الله عنهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 وانطلاقاً من القاعدة المتفق عليها عند الخوارج عامة وهي أنهما مرتكبي كبيرة، استمر الجدل بشأن مرتكب الكبيرة، مع تناسي الأشخاص تدريجياً، حتى أصبح موضوعه مرتكب الكبيرة عامة، حيث أصر غلاة الخوارج على تكفيره، وأصر هؤلاء على إرجائه, على ما سبق تفصيله. فانتقل الأخيرون- ربما وهم لا يشعرون- إلى نقطة بعيدة جداً عن نقطة البداية، حيث تحولوا من الفكر الخارجي إلى نقيضه وبعضهم عادى الخوارج معاداة شديدة كالحال دائماً في الفئات المنشقة, مع أن فيه بذرة أو شعبة منه. وهذا بدقة هو الحال مع ثابت قطنة فهو يصرح بتخطئة الخوارج، ويقرر أن العاصي الموحد لا يحكم عليه بالكفر، ومع ذلك يصرح بإرجاء علي وعثمان، ويشك في دخولهما الجنة، وهذا عين ما قالته في حقهما مرجئة الخوارج الأولون (3). وحال ثابت- مع ما سبق قبله- هو الذي يفسر التناقض المستمر بين أصحاب الإرجاء الأول وبين الشيعة، بخلاف الإرجاء بمفهومه العام المتداول، فبعض الشيعة من الغلاة فيه كما سيأتي، إذ ليس ثمة شك في أن ثابتاً في نظر الشيعة خارجي سافر سواء سموه كذلك أم سموه مرجئاً. فهو على أيه حال "ناصبي غال" عندهم، كما أنه خارجي واضح في نظر أهل السنة، إذا نظرنا لموقفه من الخليفتين، مجرداً عما قرره من مبدأ في صاحب الكبيرة عامة (البيتين السادس والسابع). أما إذا نظرنا نظرة متكاملة- وهو الصواب- فلا شك أنه متناقض، وما كان أصحاب البدع إلا كذلك. وعلى هذا المعنى للإرجاء نستطيع أن نفهم أبيات بشر بن المعتمر- رئيس معتزلة بغداد أيام الرشيد- فقد بلغ الرشيد عنه أنه رافضي، فسجنه فكتب في الحبس قصيدة رجزية طويلة تبلغ كما قيل أربعين ألف بيت, منها قوله: لسنا من الرافضة الغلاة ... ولا من المرجئة الحفاة (4) لا مفرطين بل نرى الصديقا ... مقدماً والمرتضى الفاروقا نبرأ من عمرو ومن معاوية (5) فالمعتزلة- كما هو معلوم- هم أقرب شيء إلى الخوارج في حكم مرتكب الكبيرة، إذ قالوا: إنه لا مؤمن ولا فاسق من حيث إطلاق الاسم، بل هو في منزلة بين المنزلتين، وأما من حيث العاقبة والمآل، فهم يتفقون مع الخوارج على أنه مخلد في النار أبداً كالكفار (1)!! فخلافهم مع المرجئة في هذه المسألة خلاف تضاد، ولا موضع لتهمة المعتزلي بالإرجاء في الإيمان. أما في مسألة الحكم على الصحابة المختلفين في الفتنة، فبعض المعتزلة الكبار كعمرو بن عبيد تبرأ من الطائفتين وقال: إحدى الطائفتين فاسقة لا بعينها (2)، وهذا قريب من قول الخوارج، بل هو في الأصل قول بعض طوائفهم- كما سبق- لكن بتعديل وتحوير، ومعلوم أنه قول الروافض- أو بعضهم- بالنسبة للشيخين، ولعمرو ومعاوية، وإجمالاً لغير علي وطائفته. ومن هنا جازت التهمة على بشر بأنه رافضي يتبرأ من الصحابة (أو مرجئي يرجئ أمرهم إلى الله معتبراً إياهم أصحاب كبائر، غير مقر بالشهادة لهم بالجنة) , وحبسه الرشيد، ودافع بشر عن نفسه بأنه ليس من الرافضة الغلاة - والغلاة هنا وصف لا مفهوم له- وأيضاً ليس من المرجئة الحفاة, المتنقصين لحق الصحابة، مقابل غلو أولئك منهم، بل هو وسط بزعمه غير مفرط، وفسر هذا التوسط بأن عقيدته ومن اتبعه تقديم الشيخين والإقرار بفضلهما والبراءة من بني أمية وأهل الشام والمحاربين لعلي وسكت بشر عن رأيه في عثمان وعلي أو لم تبلغنا الأبيات (3). لكن حصل مراده بنفي تهمة الرفض عنه بما قاله عن الشيخين، وإن كان هذا لا يخرجه عن كونه خارجياً، فالخوارج يقدمون الشيخين ويرضونهما، ثم يبرأون ممن بعدهما. والمقصود أن مفهوم المرجئة في ذلك الزمن، كان يطلق على المرجئة الأولى إيضاً، أي الإرجاء المتعلق بالصحابة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 على أن هناك إشكالاً بين ما تقرر هنا عامة وما ذكره القاضي المعتزلي عبدالجبار وهو قوله: "إن طائفة يقولون: إن الله تعالى يجوز أن يعفو عن الفاسق، ويجوز أن يعاقب، ولا يعلم حقيقة ذلك، وهو الذي تقوله المرجئة الأولى" (4). فهذا إرجاء عام لا إرجاء المرجئة الأولى. لكن الإشكال يزول إذا عرفنا أن ما كان يقوله المرجئة الأولى في خصوص الصحابة، قال به المتأخرون- أو بعضهم- في مرتكب الكبيرة عامة، وجعلوهما سواء- كما سبق- فالقاضي نسب القول للأصل، أو أنه الذي عمم ما خصصته المرجئة الأولى، فوضع الفاسق مطلقاً مكان "علي وعثمان" الوارد حكمهما في قصيدة ثابت وهو عدم القطع لهما بالعفو أو العقوبة. والحاصل أن المرجئة الأولى كانت مقابلة للتشيع من وجه، لا سيما وأهل الشام- كما هو معلوم- لم يكونوا يرون كفر علي، وإنما كانوا- إذا غلوا- يرون البراءة منه وجواز مقاتلته، وهذا في نظر الشيعة يماثل موقف المرجئة منه، ومن هنا أطلقوا عليهم وصف الإرجاء ولا غرابة، فقد أطلقوه على أهل السنة عامة، لمجرد أنهم لا يفضلونه على الشيخين!! ومن الطبيعي أن تثور الخصومة ويقوم الجدل بين الشيعة وبين حزب بني أمية من أهل الشام وغيرهم، وبهذا يفسر ما يوجد في كتب الأدب، من ذكر وقائع بين الشيعة والمرجئة، مثل كتاب (الأغاني) (5)، وكتاب (البيان والتبيين) (6)، لا سيما وصاحباهما رافضي ومعتزلي، والرافضة والمعتزلة اتحدتا منذ القرن الثالث تقريباً. وعلى ذلك نفهم أيضاً ما أورده الجاحظ من شعر لأحد الشيعة: إذا المرجيّ سرك أن تراه ... يموت بدائه من قبل موته فجدد عنده ذكرى علي ... وصل على النبي وآل بيته (8) فالمقصود في هذه كلها هو الإرجاء الخاص. وإذا رجعنا إلى المصادر الشيعية فسنجد ذلك وأجلى منه. يقول صاحب كتاب (الزينة في شرح معنى الإرجاء والمرجئة): "وأما المرجئة فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المرجئة يهود هذه الأمة" (1)، وروي عن محمد بن علي عليه السلام أنه قال: "المرجئة بدلوا سنة الله، ظاهرها وباطنها، وهم يهود هذه الأمة، وهم أشد لنا عداوة من اليهود والنصارى". وقد تأول الناس في هذا اللقب تأويلات كثيرة، فكل فريق يتنصل منه ويلزمه غيره, ويتأول فيه تأويلاً ينتفي به عنه. ثم ذكر قول أهل السنة والجماعة فيهم- نقلاً عن ابن قتيبة- وقول المرجئة الفقهاء وردهما وقال: "والمرجئة هو لقب قد لزم كل من فضّل أبابكر وعمر على علي بن أبي طالب، كما أن التشيع هو لقب لزم كل من فضل علي على أبي بكر وعمر، هذا ما يتعارفه الناس بينهم ظاهراً واتفقت الأمة عليه" (3) واستدل على ذلك بإطلاق الاسم: "قيل: فلان مرجئي قدري، وفلان شيعي قدري .. ولم نر أحداً يقال له: هذا مرجئي شيعي، أو مرجئي رافضي، هذا محال جداً، كما أنه محال أن يقال: هذا ثوب أبيض أسود، وهذا شيء حلو مر، لا تجتمع صفتان متضادتان في شيء واحد، وهذا حكم بيّن عند الإمامية أن المرجئ لا يكون شيعياً، والشيعي لا يكون مرجئاً. فالإرجاء - على ما قلنا - هو نعت قد لزم كل من فضل أبا بكر وعمر على علي، كما أن التشيع قد لزم تفضيل علي على أبي بكر وعمر، وإنما سموا مرجئة، لأنهم أرجأوا علياً، أي أخروه وقدموا أبا بكر عليه، فهذا اللقب لازم لكل من ذهب هذا المذهب، من أي الفرق كان". ثم ذكر أبيات محارب بن دثار، زاعماً أن إرجاءه هو تأخير علي وتقديم أبي بكر، ثم قال: "ومن ألقاب فرقهم، أنهم أهل السنة والجماعة، وهم على أصلين، يقال لهما: أصحاب الحديث، وأصحاب الرأي" ثم ذكر من فرقهم- بزعمه- الحشوية والمشبهة والشكاك والمالكية والشافعية والجهمية، في خلط يذكرك بخلط المستشرقين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 وما ذكره هذا الشيعي يصحح ما قلناه، من التفريق بين المرجئة الأولى وبين الإرجاء العام، الذي موضوعه الإيمان والكفر، لكنه لما لم يتضح له الفرق بينهما، جاء بهذا الخلط حتى أنه نفى أن يكون للإرجاء علاقة بقضية الإيمان والعمل، وحصره في تأخير علي عن الشيخين فقط، ولكن من عرف ملته لم يفجأه ذلك منه. صحيح أنه لا يقال: مرجئي شيعي، أو مرجئي رافضي، ولكن على أي معنى من معاني الإرجاء؟! أما على معنى إرجاء المرجئة الأولى فحق وهذا ما قررناه، وأما على الإرجاء العام فإنه يقال: شيعي مرجئي، ورافضي مرجئي، ولا مانع عقلاً من أن يكون الرجل غالياً في علي، معادياً للشيخين، وهو مع ذلك لا يرى أن العمل من الإيمان أو أن المعاصي تضر صاحبها. وهذا هو حال بعض فرق الشيعة. يقول الملطي في كتابه، الذي هو منقول عن الإمام خشيش بن أصرم في باب ذكر الروافض وأجناسهم ومذهبهم: "ومنهم صنف يقال لهم: المغيرية، زعموا أنه من ظلم نفسه من عترة علي، فلا حساب عليه ولا عذاب ولا وقوف عليه ولا سؤال، وإن ترك الفرائض وركب العظائم وأشرك بالله، وزعموا أن أبا طالب في الجنة .. " فهؤلاء لا شك يقال فيهم شيعة مرجئة. والمؤمن عند الشيعة ليس من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وليس دخول الجنة عندهم مبنياً على فعل الواجبات وترك المحرمات، بل الإيمان عندهم من آمن بعلي إماماً معصوماً، تتلقى منه وحده أحكام الدين وتتبع أقواله وأعماله، وتكفير الخطايا عندهم هو اعتقاد أن علياً هو "باب حطة" تأويلاً لقوله تعالى: وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ [البقرة:58]. هذه خلاصة ما في كتبهم، التي لا يتسع المجال للتفصيل فيها، وما تزال هذه عقيدتهم حتى في هذا العصر. يقول أحد المصنفين في الإيمان منهم: " .. إن المؤمن الذي يدخل باب حطة على الكيفية التي أمره الله بها، وإن الذي يمتنع من الدخول، أو يدخل على خلاف ما أمره الله فهو كافر. إذا عرفت هذا فاستمع لما يقوله النبي، استمع أيها المسلم، المصدق بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم لما يقوله لك نبيك، ويرويه عنه الثقات من العلماء .. " (1) ثم ذكر حديثاً موضوعاً لفظه: "علي باب حطة، من دخل منه كان مؤمناً، ومن خرج منه كان كافراً" (2) وقال: "أيها المسلم، قد عرفت معنى باب حطة، وسمعت قول النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد من قوله: أن من اتخذ علياً إماماً بعد النبي، وعمل بأقواله، فهو كالداخل من باب حطة، يعد عند الله وعند الرسول مؤمناً ويغفر الله له ذنوبه، ومن لم يتخذ علياً إماماً، ولم يعمل بأقواله، ولم يتخذ أحكام دينه منه لم يكن من المؤمنين، كما ذكر النبي، فهو عند الله من الكافرين، ولم يغفر له ذنوبه ويعاقبه عليها" (3) ويقول: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليأمر أمته أجمع بالرجوع إلى شخص، ويحثهم على أخذ أحكام دينهم منه، ويحكم بإيمان المتمسك، وكفر المبتعد عنه .. لم يحث على هذا إلا بالنسبة إلى شخص يكون مثله، باتصافه بجميع الأخلاق والصفات الحميدة، وجمعه لجميع العلوم" (4) ولست في مجال الحديث عن الشيعة، وحقيقة الإيمان عندها، وإنما المقصود أن إطلاقهم وصف المرجئة على أهل السنة عامة- أو على بعضهم- تبع لهذا المبدأ لديهم، فلا بد من معرفة مصطلح كل فرقة، حتى لا يقع المرء فيما وقع فيه من اطلعت على كلامه من المؤرخين والباحثين المعاصرين. العجب- وكل أمر الشيعة عجب- أن هذا الإرجاء المرفوض في حق علي، الذي يستحق صاحبه عليه الكفر عندهم، هو مشروع محمود في حق الشيخين أبي بكر وعمر، بل هو الدرجة الدنيا من الإيمان عندهم، ويتلوها درجات لا يرتقي إليها إلا من جاز ذلك!!. وما أصدق ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية عنهم: "إن الذي ابتدع الرفض كان يهودياً أظهر الإسلام نفاقاً، ودس إلى الجهال دسائس يقدح بها في أصل الإيمان (5). ولهذا كان الرفض أعظم أبواب النفاق والزندقة، فإنه يكون الرجل واقفاً، ثم يصير مفضلاً، ثم يصير سباباً، ثم يصير غالياً، ثم يصير جاحداً معطلاً" (6) فهذا السلم الزندقي يبتدئ سالكه بالتوقف في حق الشيخين، فلا يشهد لهما بأنهما أحق من علي بالخلافة، ولا أن علياً أحق منهما، بل يكل أمر الجميع إلى الله، فلا تزال به الرافضة حتى يصبح مفضلاً يفضل علياً عليهما، كما هو مذهب الزيدية- أو كان مذهبهم (7) - ثم يرتقي إلى سبهما وشتمهما متعبداً بذلك، ثم يصير غالياً يكفرهما، ويعتقد أنهما الجبت والطاغوت وصنما قريش، ثم يخرج من الإسلام كلية ويدخل في دين ابن نصير أو قرمط أو العبيديين وأمثالهم، فيعتقد إنكار الشرائع جملة، ويدين بالفلسفة التي وضعتها كل فرقة. هذا وسيأتي الحديث عن الحسن بن محمد بن الحنفية، ما يزيد أمر المرجئة الأولى والعلاقة بينها وبين الشيعة وغيرها إيضاحاً. المصدر: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي - 1/ 319 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 المبحث الثامن: الإرجاء خارج مذهب الخوارج سبق الحديث عن الطوائف والآراء التي ظهرت منذ الفتنة الأولى، وقلنا إن منها طائفة "الشكاك" الذين لم يستطيعوا أن يحددوا لأنفسهم موقفاً معيناً من الخلاف، وخاصة من كان على الثغور البعيدة منهم، وغاية ما كانت هذه الطائفة تشعر به هو الألم الفاجع لما حل بالمسلمين، والأسى البالغ لتفرقهم بعد الاجتماع، فكانت تحن إلى عهد الشيخين وأول عهد عثمان، وتكره أن تسمع أو تفكر في شيء مما حدث بعد. ومن الطبيعي أن يوجد في الأمة مثل هذا الاتجاه، ومن الطبيعي أيضاً أن يستمر هذا الألم المكبوت متوارثاً لأجيال عديدة، ولهذا عرض لها ما يعرض لغيرها، من تطور وتداخل بفعل التقلبات السياسية والفكرية والمجادلات والخصومات، ولم يكن هؤلاء خوارج، ولا ممن يحب الخوارج، أو يواليهم، بل نجزم أنهم ممن يكرههم ويعاديهم، ولكن يجمعهم بالخوارج تعظيم الشيخين والسخط من الفتنة في الجملة. غير أن انشقاق المرجئة الأولى عن الخوارج، واكتفائهم بالموقف السلبي من المشتركين في الفتنة دون القطع لهم بجنة ولا نار، قد أوجد بالفعل طائفة أو رأياً قريباً مما عليه هؤلاء، إلا أن هؤلاء لم يصلوا إليه نتيجة بحث عقائدي ولا حوار نظري، كما أنهم لم يدخلوا أنفسهم في مسألة الحكم على الناس أصلاً. وقد كان طرف الرأي المشترك بينهما هو أنه إذا كان الأمر أمر الخلافة وشأنها، فما لنا لا نقول بإمامة الشيخين اللذين أجمعت عليهما الأمة، وندع شأن من بعدهما، فلا نتقاتل ولا نتخالف من أجلهم. وإلى هنا تقف هذه الطائفة في حين يذهب أولئك في الحكم على عثمان إلى ما سبق، أما هم فيظلون على هذا الإرجاء السلبي، الذي هو إرجاء شك وحيرة ونفرة من الخوض في القضية، لا إرجاء عقيدة وفكر. وبخلاف أفكار الخوارج التي لم يدونوها بأنفسهم، بل جمع مأثوراتهم مؤرخون متأخرون (1) - فقد قدر لهذا الإرجاء أن يكتب، والكتابة تحول الرأي إلى عقيدة، ولم يكن غريباً أن يكون الذي كتبه رجل من آل البيت، من ذرية علي رضي الله عنه. ذلك أن آل البيت ابتلوا بطائفتين متقابلتين: طائفة تنقص قدرهم وتجحد حقهم ولا تقيم لهم حرمة ولا مكانة، وطائفة أخرى أدهى وأمر وهي التي غلت فيهم وألهتهم، حتى أنها أنشأت حركات ثورية ضالة تنتسب إليهم، وتزعم الدعوة لإمامتهم, والثورة لقيام خلافتهم، كما حصل من ادعاء المختار الكذاب وأمثاله الدعوة لمحمد بن الحنفية (2). وظل أئمة آل البيت ينكرون تلك الادعاءات الهدامة علناً، ولكن الهدامين يزعمون للرعاع والأتباع أن ذلك منهم على سبيل "التقية"، وكان طبيعياً أن يتردد الناس إلى آل البيت، ويكاتبوهم سراً أو علناً يسألونهم عن حقيقة الأمر، وكان الجواب يؤكد ويكرر، لكن دون جدوى. وفي هذا الجو المشحون بالفتن، لم يكن غريباً أن يميل بعض ذرية علي إلى رد فعل عنيف، يجعلهم يقولون علناً: إن إمامة علي نفسها كانت موضع شك، لأن الأمة لم تجتمع عليه، وهذا دفع بعيد للتهمة، وتخلص من الأزمة التي يعانونها، حيث يخضعون لرقابة شديدة من ولاة بني أمية، في الوقت الذي تدعيهم فيه تلك الفئات الهدامة السري منها والعلني، حتى أن أثر ذلك ظهر في الجانب العلمي البحت، فقد تجنب بعض الرواة الأخذ عنهم، وتجنب بعضهم ذكر أسمائهم في الإسناد. هذا الموقف النفسي الخانق، هو- في نظرنا- الذي دفع بالإمام العالم الفاضل الحسن بن محمد بن الحنفية إلى كتابة الإرجاء على النحو الذي ستذكره الروايات، وسوف نرى أنه لم يضعه ليؤسس به فرقة أو مذهباً، بل سرعان ما عاد عنه، وندم على أنه خرج ذلك الرأي منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 قال الإمام أحمد في كتاب الإيمان: "حدثنا أبو عمر قال: حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن زاذان وميسرة قالا: أتينا الحسن بن محمد، فقلنا: ما هذا الكتاب الذي وضعته؟ - وكان هو الذي أخرج كتاب المرجئة- قال زاذان: فقال لي: يا أبا عمر , لوددت أني كنت مت قبل أن أخرج هذا الكتاب، أو قال: قبل أن أضع هذا الكتاب" (1). وروى الحافظ ابن عساكر والمزي (واللفظ له) بسنديهما عن عثمان بن إبراهيم ابن حاطب (2) قال: "أول من تكلم في الإرجاء الأول (3) الحسن بن محمد، كنت حاضراً يوم تكلم وكنت في حلقة مع عمي، وكان في الحلقة جحدب وقوم معه، فتكلموا في علي وعثمان وطلحة والزبير فأكثروا، والحسن ساكت ثم تكلم فقال: قد سمعت مقالتكم، ولم أر شيئاً أمثل من أن يرجأ علي وعثمان وطلحة والزبير، فلا يتولوا ولا نتبرأ منهم، ثم قام فقمنا. فقال لي عمي: يا بني، ليتخذن هؤلاء هذا الكلام إماماً. قال عثمان: فقال به (4) سبعة رجال رأسهم جحدب من تيم الرباب، ومنهم حرملة التيمي تيم الرباب. قال: فبلغ أباه محمد بن الحنفية ما قال، فضربه بعصا فشجه، وقال: لا تتولى أباك علياً؟! قال: وكتب الرسالة التي نبت فيها الإرجاء بعد ذلك" (5) ويذكر ابن عساكر ما ذكره الإمام أحمد من توبته، وهو ما ذكره محمد بن سعد من قبل، حيث قال في ترجمته: "هو أول من تكلم في الإرجاء". ثم روى "أن زاذان وميسرة دخلا عليه فلاماه على الكتاب .. " وذكر مثل رواية الإمام (6). على أن الحافظ ابن عساكر ينقل عن الدارقطني ما يؤيد ما ذكرناه عن الحسن، وهو أنه قال: "يا أهل الكوفة، اتقوا الله ولا تقولوا في أبي بكر وعمر ما ليسا له بأهل، إن أبا بكر كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثاني اثنين، وإن عمر أعز الله به الدين" (7). والكوفة هي موطن التشيع، لا سيما في ذلك الوقت كما هو مشهور! ويعقب الإمام الحافظ ابن حجر على كلام المزي بعد تهذيبه قائلاً: "قلت: المراد بالإرجاء الذي تكلم به الحسن بن محمد فيه، غير الإرجاء الذي يعيبه أهل السنة المتعلق بالإيمان، وذلك أنه وقفت على كتاب الحسن بن محمد المذكور، أخرجه ابن أبي عمر العدني في كتاب له في آخره قال: حدثنا إبراهيم بن عيينة عن عبدالواحد بن أيمن قال: كان الحسن بن محمد يأمرني أن أقرأ هذا الكتاب على الناس: أما بعد: فإنا نوصيكم بتقوى الله - فذكر كلاماً كثيراً في الموعظة والوصية لكتاب الله واتباع ما فيه وذكر اعتقاده ثم قال في آخره -: ونوالي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ونجاهد فيهما، لأنهما لم تقتتل عليهما الأمة، ولم نشك في أمرهما، ونرجئ من بعدهما ممن دخل في الفتنة، فنكل أمرهم إلى الله .. إلى آخر الكلام. فمعنى الذي تكلم فيه الحسن، أنه كان يرى عدم القطع على إحدى الطائفتين المقتتلتين في الفتنة بكونه مخطئاً أو مصيباً، وكان يرى أن يرجئ الأمر فيهما. وأما الإرجاء الذي يتعلق بالإيمان فلم يعرج عليه أحد، فلا يلحقه بذلك عاب والله أعلم" (8) وكلام الحافظ في معنى الإرجاء الذي كتبه الحسن صحيح، وتدل عليه عبارة المزي "أول من تكلم في الإرجاء الأول"، وعلى هذا القيد يحمل ما نقله ابن عساكر عن الإمام أحمد، وما نقله هو عن ابن سعد وعن أيوب، من أنه أول من وضع الإرجاء أو تكلم فيه عدا من نقل عنهم المزي ذلك. لكن ينبغي أن نستدرك على الحافظ رحمه الله: "فمعنى الذي تكلم فيه الحسن .. إلى قوله " فلا يلحقه بذلك عاب!! ". فالحق أن العاب يلحق الحسن، من جهة أن كلامه أعم مما خصصه به الحافظ، بل الروايات غير رواية العدني مصرحة بقوله في عثمان وعلي "فلا يتولوا ولا نتبرأ منهم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 ونفي الولاية عن الخليفتين مما يعاب ويبدع به صاحبه بلا ريب، كيف وقد ضربه أبوه وقال: لا تتولى أباك علياً؟ وندم هو على ذلك، ولا يكون الندم إلى على خطأ أو خطيئة. وقد نص الحافظ ابن كثير على ما يغاير مفهوم الحافظ ابن حجر فقال عن الحسن: "كان يتوقف في عثمان وعلي وطلحة والزبير، فلا يتولاهم ولا يذمهم" (9). نعم لا يلحقه عاب بعد أن ندم وتاب. أما الذي يلحقه العاب فعلاً فهم بعض المحدثين أو المعاصرين، الذين ضربوا بهذه النصوص العلمية عرض الحائط، واختلقوا أن الحسن - بل أباه محمداً من قبل - كان فيلسوفاً أو متكلماً، تعمد أن يؤسس مذهباً كلامياً يقاوم به الخوارج .. الخ، وعلى رأسهم الدكتور علي سامي النشار. فقد عرض النشار تاريخ الفتنة ونشوء الفرق عرضاً لا يختلف عن عرض أي مؤلف رافضي أو معتزلي، وقد كانت مصادره فعلاً كذلك. ويا ليته اقتصر على هذه المصادر، إذن لكانت كتابته شيعية واضحة، وسلم من التناقض العجيب الذي وقع فيه، حين يخلط كلام هؤلاء بكلام أهل السنة "بالمعنى العام للكلمة"، فيقرر في صفحة أو مبحث ما ينقضه فيما بعده، بل ربما تناقض في الصفحة الواحدة. لقد أساء الدكتور النشار إلى التابعي الجليل محمد بن علي بن أبي طالب (محمد ابن الحنفية)، حين نسب إليه تأسيس مدرسة أو مذهب انبثق منه الاعتزال والإرجاء، وأنا أعجب من إساءة الدكتور إلى آل البيت رغم ما يظهره من تشيع شديد، فحين يصف أبا سفيان وابنه معاوية وبني أمية كلهم بالزندقة والجاهلية، والحقد الدفين على الإسلام كدين، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) , ويصف عثمان رضي الله عنه بأنه "شيخ متهاو متهالك، لا يحسن الأمر ولا يقيم العدل، يترك الأمر لبقايا قريش الضالة" (2) .. إلى آخر هذه المفتريات فإن هذا يتمشى مع منهجه التشيعي الترفضي (3)!! أما حين يقرر أن العامل الاقتصادي هو أحد أسباب نشأة الفرق ويقول: "فقد كان الاقتصاد إلى حد كبير، أو بمعنى أدق شعور الطبقات المحرومة في عهد عثمان، داعياً إلى قيام التشيع، والتفاف جماهير كبيرة من الفقراء حول علي بن أبي طالب، وتمثل هذا بصورة صادقة حين سوى علي بين أغنياء الصحابة وفقراء المسلمين، مما دعا الزبير بن العوام وطلحة بن عبيدالله إلى الانتفاضة ضد علي، وإثارة الحرب الأليمة ضده" (4). فلا أدري على أي منهج يسير إلا منهج ماركس ولينين!! ولنتابع كلام الدكتور بخصوص قضية الإرجاء مقتصرين على فقرات منه: قال بعد الحديث عن الفتنة ونشوء الفرق من الشيعة وخوارج ومعتزلين الفتنة: "وفي وسط هؤلاء المعتزلة عن الناس، ظهرت أول مدرسة فكرية في تاريخ الإسلام، وهي مدرسة محمد بن الحنفية الابن الثالث لعلي بن أبي طالب وأكثر أولاده علماً وسمتاً وفضلاً (5)، وقد عبر عن هذه المدرسة باسم المكتب، ولم ينتبه الباحثون إلى أهمية هذه المدرسة الأولى، بالرغم من أهميتها، وبالرغم من أنها تفوق مدرسة الحسن البصري (6) في آثارها في أفكار المسلمين حينئذ، ولم ينتبه الباحثون أيضاً إلى أن نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام إنما كان في المدينة حيث ازدهرت تلك المدرسة ولم يكن في البصرة" (7). ولم يشر الدكتور إلى أي مصدر عن هذه المدرسة الموهومة. ثم تحدث عما لمحمد من أثر فكري، حيث تدعيه كل فرقة حتى الكيسانية والقرامطة، وقال: "ويهمنا الآن أنه كان في مكتب محمد بن الحنفية أو في مدرسته في المدينة ابناه أبو هاشم عبدالله بن محمد .. والحسن بن محمد". ثم يذكر أقوالاً شيعية واعتزالية في أن أباهاشم هو مؤسس الاعتزال، ويقول: "فمنشئ الاعتزال طبقاً لهذه الرواية هي المدينة لا البصرة". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 وينتقل للحديث عن الحسن وهو الذي يهمنا هنا، قال: "أما ثانيهما، فهو الإمام الحسن بن محمد بن الحنفية المتوفى سنة 101 هـ، شخصية من أهم شخصيات الفكر الإسلامي الأول. ويذكر عبدالجبار: لم يكن الحسن بن محمد بن الحنفية مخالفاً لأبيه وأخيه إلا في شيء من الإرجاء أظهره. وقد كتب أول كتاب في العقائد في الإسلام (8)، وهو كتاب في الإرجاء. وكان أكبر تلامذته غيلان بن مسلم الدمشقي (1)، فقد حمل عنه الإرجاء في الشام، كما أن الإمام أبا حنيفة النعمان قد تأثر به، وإن لم يكن قابله وتتلمذ عليه، فقد نفذ إرجاء الحسن إليه وردده أبو حنيفة كما هو. وقد كان لكتاب: "في الإرجاء" (2) أثر كبير في العالم الإسلامي. تلك هي المدرسة الإسلامية الفكرية الأولى، التي خرج أكبر رواد الفكر الإسلامي الأولين منها" (3) وبعد استطراد لا ضرورة له، كرر فيه القول بوصف خلفاء بني أمية بالجاهلية، والعمل لهدم الإسلام وتحطيمه .. إلخ, عاد إلى موضوع المكتب فقال: "وفي هذا المكتب، وفي المدينة نفسها، تبلورت الفكرة التي عرفت باسم القدرية .. كان معاوية يعلن الجبر في الشام .. ور أي محمد بن الحنفية وابنه أبو هاشم، وهما أصحاب البيت الذي سلب الحق، أن يعلنا في هدوء الفكرة المضادة: إنكار القدر وإنكار إضافته إلى الله" (4) وهو يؤيد هذه التهمة الخطيرة بأن معبداً الجهني الذي يكتبه الدكتور (الجهمي): "إنما كان تلميذاً وأثراً لمحمد بن الحنفية". (5) ويحاول الدكتور بمصدر وبدون مصدر أن ينسب كل الضلالات والبدع التي نشأت في القرن الأول - عدا الخوارج - إلى محمد بن الحنفية وابنيه، ظاناً أنه بذلك يرفع من قيمة آل البيت، حين يرجع إليهما فضل تأسيس ما أسماه الفكر الفلسفي الإسلامي!! والواقع أن هذا بعينه هو ما تذهب إليه الشيعة، فهم لفرط جهلهم بما يعظم أهل البيت وما يشينهم، ولاعتقادهم تلك الضلالات ينسبونها جميعاً إلى علي من طريق نسبتها إلى ابنه محمد وابنيه، وهذا ما فعله صاحب (منهج الكرامة) من قبل. وقد رد شيخ الإسلام على هذا الهراء بأنه من الممتنع أن يكون أبو هاشم واضع الاعتزال والحسن واضع الإرجاء, وكلاهما يأخذ ذلك عن أبيه, لأنهما مذهبان متناقضان، كما أن كلاً منهما قد نسب إليه الرجوع عن ذلك (6). وأعجب من ذلك أن النشار نفسه قال بعد حوالي عشر صفحات فقط: "نشأت القدرية إذن، واعتنقها كثيرون من المسلمين، خارجة عن مذهب أهل السنة والجماعة منذ القدم، وقاومها أهل السنة والجماعة منذ القدم أيضاً". (7) فهل ابن الحنفية وابناه خارجان أيضاً عن أهل السنة والجماعة أم ماذا!! إن هذه هي نتيجة الاستقاء من مصادر متناقضة دون تمييز. والخوارج هي الفرقة الوحيدة التي سلمت من نسبتها إلى مكتب ابن الحنفية!! ولكن الحديث عنها جر إلى إلصاق الإرجاء الغالي الصريح بهذا المكتب, يقول النشار متابعاً حديثه: "لقد ضج المجتمع الإسلامي بالخوارج وبآرائهم ومع ذلك فقد كانت تلقى صدى في عقول الكثيرين فاستجابوا لها، ولم يعرف الخوارج "التقية" كما عرفها الشيعة فانقضوا على مخالفيهم يفشون فيهم القتل الذريع ووجدت دعوتهم في عدم إيمان المخالف أكبر صدى، ووجد الإمام الحسن بن الحنفية أن الذين قاتلوا جده مستندين إلى أصل ظاهره الصدق وباطنه الإفك "الحكم لله لا لعلي" ينشرون أصلاً آخر خطيراً لقتل المسلمين وهو أن لا عقد بدون عمل، فنفر لمجادلتهم وأعلن أنه لا يضر مع الإيمان معصية، وكان يكتب الكتب للأمصار ويعلنها للناس، وبينما كان منطق الخوارج أن مرتكب الكبيرة كافر يجب قتله كان الحسن يعلن أن االطاعات وترك المعاصي ليست من أصل الإسلام حتى يزول بزوالها" (8). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 ونلاحظ أنه مع هذا الظلم الفاحش للحسن، قد نسب إليه في آن واحد مذهب المرجئة الغلاة، والمرجئة الفقهاء "الحنفية" دون أن يفطن، فإن القائلين: إنه لا يضر مع الإيمان معصية هم الغلاة الذين كفرهم السلف، وأما من قال: إن الطاعات ليست من أصل الإسلام لكنها شرائعه، وأن ترك المعاصي مطلوب والعقوبة عليها ثابتة، فهم مرجئة الفقهاء وهم بريئون من الأول. والنشار إنما ذكر ذلك تخلصاً، لينتقل إلى الحديث عن أبي حنيفة، ومن ثم تابع كلامه قائلاً: "وهنا ظهرت أول فرقة من أهل السنة، ويمثلها بعد الحسن بن محمد، مجموعة من العلماء، على رأسهم أبو حنيفة النعمان، المتوفى 150 هـ، لم يكفروا أصحاب الكبائر ولم يحكموا بتخليدهم في النار .. " (1) وهنا سؤال لا بد منه وهو: كيف تكون هذه هي أول فرقة من أهل السنة لا تكفر صاحب الكبيرة؟ أمعنى هذا أن الصحابة والتابعين كانوا يكفرونه، أم المقصود الأولية المطلقة، فلا يكون الصحابة والتابعين معدودين عنده من أهل السنة؟. ثم إن هذا ليس هو الإرجاء، ولم يسمه أحد كذلك إلا الخوارج، أما ما شرحه هو في الأسطر السابقة فليس هذا، فذلك إرجاء، وهذا جزء من عقيدة أهل السنة في الإيمان. هذا فوق نسبته مذهب المرجئة الحنفية إلى الحسن وهو منه براء, وقد عاد فأكد ذلك قائلاً: "أما أن أبا حنيفة كان مرجئاً فهذا حق، ولكنه كان مرجئاً- كما سنرى بعد- إرجاء سنة، ولم يخرج بإرجائه عن الجماعة الإسلامية على الإطلاق. . . " (2) ويقول: "وقد نادى أبو حنيفة بهذا المذهب، لكي يحمي المجتمع الإسلامي من عقيدة الخوارج التي كانت تنادي بأن الإيمان عقد وعمل (3)، فمن لم يعمل لم يكن مؤمناً .. فقام الحسن بن الحنفية بدعوته وتابعه عليها أبو حنيفة". ثم يضيف مؤكداً: "إن مرجئة أهل السنة قد نشأوا على يد رجل من أهل البيت، وهو الحسن بن محمد بن الحنفية، وكان الحسن يرمي إلى حماية المسلمين- شيعة كانوا أو جماعة- من بطش الخوارج، وكانت حركة الأزارقة في أوجها إبان الوقت، ثم نادى بالفكرة نفسها أبو حنيفة. . . " (4) ويقول: "وينبغي أن نلاحظ أن مرجئة أهل السنة يختلفون تماماً عن بقية المرجئة، وهؤلاء الآخرون يقولون: إن من شهد شهادة الحق دخل الجنة، وإن عمل أي عمل، وكما لا ينفع مع الشرك حسنة، كذلك لا يضر مع التوحيد معصية .. " (5) إلخ. وهذا كما ترى يناقض تماماً ما قرره هو قبل قليل، من أن الحسن "أعلن أنه لا يضر مع الإيمان معصية". فيلزمه أن يجعل الحسن من المرجئة الأخيرين، أي غير مرجئة أهل السنة، أو أن ينفي عنه ما اتهمه به من القول. والحق - كما أوضحنا سابقاً - أن الحسن بريء من هذا وذاك، وأن إرجاءه لا علاقة له بالإيمان أصلاً. وأما أن أولئك النفر الذين سمعوا كلام الحسن وقرأوا كتابه قد اتخذوا ذلك ديناً، كما قال عم الراوي (6) فحق ومتوقع، وهذه هي الطائفة التي يلحقها الذم والعيب، والتي لا شك أن من السهل والطبيعي أن تندمج في فرق المرجئة، أي أن تخضع لسنة التطور نفسها التي عرضناها سابقاً. وهنا يجدر أن نذكر عالماً آخر، ينطبق عليه ما ينطبق على الحسن من الوقوع في هذا الإرجاء، من غير اتباع لرأي الخوارج ولا تعمد تأسيس بدعة، وهو "عون بن عبدالله بن عتبة بن مسعود". والظاهر أن هذا الاعتقاد لم يدم طويلاً، حيث استدعاه أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز وكلمه في ذلك، فاستبان له الخطأ وعاد عن قوله، وقال في ذلك شعراً: لأول ما نفارق غير شك ... نفارق ما يقول المرجئونا وقالوا مؤمن من آل جور ... وليس المؤمنون بجائرينا وقالوا مؤمن دمه حلال ... وقد حرمت دماء المؤمنينا (7) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 ومن أهمية إرجاء عون، أنه سطر لنا في هذه الأبيات شيئاً مما تعتقده المرجئة الأولى، وهي أبيات يصعب فهمها وتفسيرها على من لم يفهم حقيقة هذا الإرجاء من غيرها. والتفسير الذي يتناسب مع عقيدة القوم، أنهم يعتقدون في عثمان وعلي الإيمان ولا يخرجونهما من الملة، لكنهم يطعنون في إمامة علي، ويصفونه بالجور في السيرة، حيث سفك من الدماء - بزعمهم - ما سفك. وكذلك يرون مع إيمان عثمان أنه دمه كان حلالاً، لأنه عدل عن سيرة الشيخين وارتكب ما ارتكب بزعمهم!! هذه هي عقيدتهم التي نقضها عون، والتي ربما لم يتبين له لوازمها البعيدة إلا بعد مقابلته لعمر، وقد ردها بقوله: وقالوا مؤمن من آل جور ... وليس المؤمنون بجائرينا والمقصود هنا علي، أي أن الشهادة له بالإيمان تقتضي منكم ألا تصفوه بالجور، لا سيما والأصل الذي انشقوا عنه "الخوارج" يرى التكفير بالجور كأي معصية , فمن أثبت له الإيمان، لزمه أن ينفي عنه الجور. وأما عثمان، فكيف تثبتون له الإيمان، ثم تقولون: إن دمه حلال، ودماء المؤمنين حرام معصومة؟! هذا ما ظهر لي والله أعلم. بقي أن نشير في ختام هذا الموضوع إلى بعض ما ورد عن الإرجاء مما لا يتضح تفسيره إلا على الإرجاء الأول. ومن ذلك ما رواه عبدالله بن أحمد عن أبيه بسنده إلى الأوزاعي: "كان أبو سعيد الخدري يقول: الشهادة بدعة، والبراءة بدعة، والإرجاء بدعة" (1). وهو منقطع الإسناد، لكن رواه في موضع تال بسند صحيح متصل إلى جماعة من خيار التابعين، قال: "حدثني أبي حدثنا وكيع عن سفيان عن سلمة بن كهيل قال: اجتمعنا في الجماجم: أبو البختري وميسرة وأبو صالح وضحاك المشرقي وبكير الطائي فأجمعوا على أن الإرجاء بدعة والولاية بدعة والبراءة بدعة والشهادة بدعة" (2). ورواه أبو عبيد عن بعضهم (3). وقد فسر الإمام أحمد نفسه ذلك، فيما رواه عنه الخلال في باب ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إسحاق قال: "سألت عبدالله قلت: الشراة (4) يأخذون رجلاً فيقولون له: تبرأ من علي وعثمان وإلا قتلناك، كيف ترى أن يفعل؟ قال أبو عبدلله: إذا عذب وضرب فليصر إلى ما أرادوا، والله يعلم منه خلافه. أخبرنا أحمد بن محمد قال: حدثنا أبو طالب قال: سألت أبا عبدالله عن البراءة بدعة والولاية بدعة والشهادة بدعة؟ قال: البراءة: أن تبرأ من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والولاية: أن تتولى بعضاً (5) وتترك بعضاً. والشهادة: أن تشهد على أحد أنه في النار" فقد فسر الإمام هذه الألفاظ عدا الإرجاء، فلم يسأله عنه أبو طالب، لكن الثلاثة كلها تتعلق بالصحابة، فهو أيضاً كذلك وتفسيره: "أن ترجئ أمر علي وعثمان فلا تتولاهما ولا تتبرأ منهما" على ما سبق. وهذا ما كانت الخوارج - أو بعضها- تقبله ممن تظفر به، بخلاف من أظهر موالاتهما وأقر بفضلهما، فقد يكون مصيره القتل. كما أورد للإمام أحمد عبارة قد يتعسر فهمها وهي قوله في كتاب "السنة" المطبوع مع كتاب "الرد على الزنادقة": "إن الخوارج هم المرجئة" (7) وتفسيرها بإرجاء الصحابة هو ممكن، أما الإرجاء العام المتعلق بالإيمان فلا يمكن- اللهم إلا إذا كانت العبارة ناقصة أو محرفة- وذلك بأن يقال: إن الخوارج يتهمون السنة بأنهم مرجئة لأنهم لا يقطعون على صاحب الكبيرة المعين بأنه خالد مخلد في النار. فرد عليهم الإمام بأنهم هم المرجئة، لأنهم لا يقطعون بدخول عثمان وعلي الجنة من ثبوت الخبر فيهما بدخولها، بل هم إما يكفرونهما - كحال غلاتهم - أو يرجئون أمرهما ولا يقطعون, كحال مرجئتهم. فكانوا بذلك أحق بهذا الاسم من أهل السنة، لأن من يشك في أمر ثابت جلي هو أولى بهذا اللقب المذموم، ممن يتوقف في أمر لا علم له به!! المصدر: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي - 1/ 343 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 المبحث التاسع: البدايات والأصول لا شك أن البذور والبدايات الأولى للإرجاء وجدت بعد صفين، إما من المعادين للخوارج أو من المنشقين عنهم، كالشأن في ردود الأفعال، ولكن بروز الر أي والمجادلة فيه وبه تأخرت عن ذلك، وكان ظهورها في وقت الفتنة والاضطراب الكبير الذى عم البلاد، حين كان للأمويين دولة، ولابن الزبير دولة، وللخوارج دولة - كما سبق في حديث أبى برزة الأسلمى -. برز الإرجاء حينئذ نتيجة المجادلات المستمرة بين الفرق - لا سيما بين الخوارج وغيرهم - وكانت الفتنة من أسباب التسرع في الرد وقدح الر أي؛ إذ لم يكن المجال ميسورا للسؤال والتأكد والأمور هائجة والأحداث متلاحقة. وكان هذا في أواخر عصر الصحابة؛ وقد كان بعض قدماء المرجئة من صغار التابعين - كما سيأتى في تراجمهم -. وأوثق نص ورد فيه هذا الاصطلاح هو الجامع الصحيح للإمام البخارى , فقد قال رحمه الله في كتاب الإيمان منه: " باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر ". وقال إبراهيم التيمى: ما عرضت قولى على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا. وقال ابن أبى مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول أنه على إيمان جبريل وميكائيل. ويذكر عن الحسن: وما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق. وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة؛ لقول الله تعالى وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]. حدثنا محمد بن عرعرة؛ حدثنا شعبة عن زبيد؛ قال: سألت أبا وائل عن المرجئة، فقال: حدثنى عبدالله أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) (1). فالآثار التى ذكرها البخارى في الترجمة تدل على أنه عقد هذا الباب للرد على المرجئة القائلين: أن الإيمان قول بلا عمل، وأن الناس يتساوون فيه، وهذا هو إرجاء الفقهاء - كما سيأتى بيانه - ثم ذكر الحديث الذى يعطينا أقرب تحديد لنشأة هذه الفرقة فالمسئول عنهم هو أبو وائل، شقيق ابن سلمى التابعى المشهور، من خيار أصحاب عبدالله ابن مسعود رضى الله عنه، وقد توفى قبل نهاية القرن الأول - مع الخلاف في تحديد تاريخ وفاته -؛ فقد قال محمد بن عثمان بن أبى شيبة: مات في زمان الحجاج، بعد الجماجم، وقال الخليفة بن خياط: مات بعد الجماجم سنة اثنتين وثمانين، وقال الواقدى: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وكذلك روى عن أبى نعيم قال المذى: والمحفوظ الأول (1). قال الحافظ في الفتح: " قوله: سألت أبا وائل عن المرجئة أي عن مقالة المرجئة، ولأبى داود الطيالسى، عن شعبة، عن زبيد، قال: لما ظهرت المرجئة أتيت أبا وائل، فذكرت ذلك له. فظهر من هذا أن سؤاله كان معتقدهم، وأن ذلك كان حين ظهورهم، وكانت وفاة أبى وائل سنة تسع وتسعين وقيل سنة اثنتين وثمانين، ففى ذلك دليل على أن بدعة الإرجاء قديمة " (2). هذا، وفي رواية عبد الله بن أحمد عن أبيه بسنده إلى زبيد قال: " لما تكلمت المرجئة أتيت أبا وائل فسألته الحديث، وذكر عن شعبه أنه قال: وحدثنيه الأعمش ومنصور، سمع أبا وائل عن عبدالله " (3). وأبو وائل عَمَّر طويلا، فقد أدرك النبى صلى الله عليه وسلم، ودفع لعامله الصدقة، لكنه لم يظفر بشرف رؤيته. وأما السائل " زبيد "، فهو زبيد بن الحارث اليامى المتوفى سنة 122 هجرى، وهو من صغار التابعين، ر أي عددا من الصحابة، ذكر أبو نعيم منهم ابن عمر وأنس (4). ومن السؤال والجواب نستطيع أن نستنبط حقيقة القضية المسئول عنها ووجه الجواب، إذ لا ريب أن أبا وائل أفاد وشفى، وأن زبيدا فهم واكتفى!!   (1) رواه البخاري (48) ومسلم (64) من حديث ابن مسعود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 فالقضية التى كانت تشغل أذهان الناس يومئذ - في موضوع الإيمان - هى حكم مرتكب الكبيرة، وبناء على الأصل الفاسد المشترك بين الخوارج والمرجئة معا - وهو أن الإيمان شئ واحد، لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاضل أهله فيه - قال الخوارج: أن مرتكب الكبيرة قد ذهب إيمانه فهو كافر، وقالت المرجئة: بل هو كامل الإيمان مهما فعل!! كما يدل عيه آثر ابن أبى مليكة والحسن، وكلام إبراهيم واستدلال البخاري بها. فلما ذكر زبيد ذلك لشيخه أبى وائل، أجابه بأفضل أنواع الأجوبة وأعلاها؛ وهو أن يجيب المفتى من سأله بنص من النواحي في محل الإشكال. فالحديث بمنطوقه يدل على التفاوت في الإيمان، وعلى ما يستحق أن يسمى به مرتكب الكبيرة. فإيمان من قاتل مسلما ليس كإيمان من سبه، ومفهوم منه أن من سلم من هذا وذاك فهو أكثر إيمانا، وقتال المسلم وسبابه معصية تذهب عن صاحبها اسم الإيمان المطلق، فيستحق اسم الفسق إن سبه واسم الكفر إن قاتله (5)، ولا يسمى مؤمنا بإطلاق إلا من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأمنه الناس على أنفسهم وأموالهم , كما دلت النصوص الأخرى. وفي هذا دليل على خطر المعاصى التى تهون المرجئة من شأنها؛ إما نصا وإما لزوما. ومما يوضح هذا الأمر وموقف أبى وائل منه - ما رواه عنه الطبرى بسنده، قال: قوم يسألونى عن السنة فأقرأ عليهم: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:1] حتى قوله: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5] يعرض المرجئة (1). وإذا كان هذا النص يعطينا مفهوما عن الفكرة، فإن نصا آخر يقدم تاريخا" أكثر تحديدا"، وهو ما رواه ابن بطة من طريق الإمام احمد عن قتادة أنه قال: " إنما أحدث الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث " (2). والحقيقة أن هذا النص يقدم لنا ما هو أعم من ذلك، وهو ردة الفعل النفسية تجاه الهزيمة. فابن الأشعث هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندى، أحد ولاة بنى أمية أيام الحجاج، استعمله الحجاج في الوقت الذى كانت مظالمه تملأ البلاد، وكانت الخوارج تثير الناس بذلك وتتذرع به لنشر ضلالها، وكان العلماء والصالحون حيارى بين فتنة الخوارج ومظالم الحجاج, حتى أنه لما قام بعضهم يدعو الخوارج إلى السلم والدخول في الطاعة أنكر عليهم آخرون - على سبيل اليأس - قائلين: " إلى من تدعوهم؟ إلى الحجاج؟! " (3). في هذا الجو الحالك أعلن ابن الأشعث تمرده على الحجاج، ودعا الناس إلى النهوض معه لإقامة العدل ورفع الظلم وتحكيم الكتاب والسنة، وفعلا " قام معه علماء وصلحاء لله تعالى؛ لما انتهك الحجاج من إماتة وقت الصلاة، ولجوره وجبروته " (4). ولم يكن معروفا عنه بدعة، وإنما هو ثائر سياسي، فر أي فيه هؤلاء العلماء والقراء منفذا بين نارين، واستعجلوا الأمر، ورفضوا ما أشار به الحسن وغيره من الصبر والدفع بالتي هي أحسن، وتجنب سفك الدماء ما أمكن - كما هو مذهب سائر أهل السنة والجماعة في مثل هذا - ولكن هذا الاندفاع والتحمس سرعان ما تبدد، وأنتج أسوأ النتائج حين ظهر الحجاج على بن الأشعث وقضى عليه، وأخذ في ملاحقة العلماء واحدا واحدا، وكان أشهرهم سعيد بن جبير الذي كان مقتله فاجعة. وهنا برز قرن الإرجاء بين صفوف هؤلاء اليائسين المستسلمين للأمر الواقع، كما تجرأ الذين كانوا مرجئة من قبل فأعلنوا مذهبهم، واستغلوا آثار الهزيمة لنشره، كما نشط الخوارج وخلت لهم الساحة أكثر من ذي قبل وندم بقية القراء الثائرين على ما تركوا من رأي الحسن وأمثاله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 وكانت الكوفة مركز إمارة الحجاج ومصب جوره، كما كانت هدف هجمات الخوارج ومطمع قادتهم، ولهذا كان طبيعيا أن تكون أيضا بيئة الإرجاء ومركزه، لا سيما والتشيع سمة عامة لها. وبلا شك قام أهل السنة والجماعة وأئمة العلم بجهد مشكور لمقاومة هذه الفكرة ومحاصرتها، ولم يقدر لها انتشار عام حقيقي إلا زمن بني العباس، حين تبنت الدولة رسميا مذهب أهل الرأي؛ الذي يدين فقهاؤه بهذه العقيدة كما سنرى، ومع ذلك صمد لها أهل السنة، ولا سيما الإمام أحمد وتلميذه أبو داود، ثم سار على منهجه علماء النقد والرجال وغيرهم. وإن مما يعطينا تحديدا أدق لتاريخ هذه الفرقة وانتشارها، وفي الوقت نفسه موقف أهل السنة والجماعة منها , أن نستعرض بعض أقوال الأئمة المعاصرين لنشوئها فيها: 1 - إبراهيم النخعي: التابعى المشهور، فقيه الكوفة الأكبر في عصره، ومن تلاميذه كان مرجئة الفقهاء، وقد عاصر تلك الأحداث، وتوفى بعد الحجاج، ببضعة أشهر سنة 96 هجرى باتفاق (2). ومن أقواله فيهم: " الإرجاء بدعة ". " إياكم وأهل هذا الر أي المحدث " - يعنى الإرجاء -. وكان رجل يجالس إبراهيم يقال له محمد، فبلغ إبراهيم أنه يتكلم في الإرجاء، فقال له إبراهيم: " لا تجالسنا ". " ودخل عليه قوم من المرجئة فكلموه، فغضب وقال: إن كان هذا كلامكم فلا تدخلوا علي ". وقال: " تركوا هذا الدين أرق من الثوب السابرى ". وقال له بعض تلاميذه: " إنهم يقولون لنا: مؤمنون أنتم؟ وقال: إذا سألوكم فقولوا: قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ ... [البقرة:136] إلى آخر الآية " (3). وقال: " لفتنتهم عندي أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة ". أو: " لفقوا قولا، فأنا أخاف على الأمة، والشر من أمرهم كثير، فإياك وإياهم " (4). 2 - سعيد بن جبير: وهو كبير القراء الثائرين على الحجاج، قال: " المرجئة يهود القبلة " (5). وقال: " المرجئة مثل الصابئين ". ويشرح ذلك في رواية أخرى، مبينا وقوفهم في الوسط بين أهل السنة والخوارج - بزعمهم -، قال: " مثلهم كمثل الصابئين، إنهم أتوا اليهود فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: اليهودية، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: موسى، قالوا: فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة. ثم أتوا النصارى، فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: النصرانية، قالوا: فما كتابكم؟ قالوا: الإنجيل، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: عيسى، قالوا: فماذا لمن تبع دينكم؟ قالوا: الجنة. قالوا: فنحن بين ذين " (6). 3 - الزهري: الإمام المشهور المعاصر لهؤلاء، قال: " ما ابتدعت في الإسلام بدعة هى أضر على أهله من هذه - يعنى الإرجاء - " (1). 4 - شهاب بن خراش: " قال هشام: لقيت شهابا وأنا شاب في سنة أربع وسبعين، فقال لي: إن لم تكن قدريا ولا مرجئا حدثتك، وإلا لم أحدثك، فقلت: ما في من هذين شئ " (2). 5 - يحيى وقتادة: " قال الأوزاعي: كان يحيى وقتادة يقولان: ليس من أهل الأهواء شئ أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء " (3). ....... والمراد أن هذه الفرقة ظهرت وترعرعت في ذلك الزمن، وأن أهل السنة والجماعة لم يألوا جهدا في مقاومتها، وكان نظرهم بعيدا وصائبا حين توقعوا آثارها المدمرة على الأمة , مع أنه لم يكن لها حينئذ من الواقع ما يستلفت النظر، بل كان القائلون بهذا عبادا وزهادا في الغالب. وعلى هذا فلا غرابة في تشديد ورثة هؤلاء من أئمة السنة على المرجئة، مثل وكيع وابن المبارك والسفيانين، وابن مهدى، وابن معين، والإمام أحمد والبخاري وأبي داود، ونحوهم؛ وذلك أن الآثار قد ظهرت، والإرجاء الغالي حينئذ قد برز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 والقضية التى لا ينبغى أن تفوتنا هى أن كلمة المرجئة في اصطلاح هؤلاء العلماء إنما تعنى هذا الإرجاء - أي إرجاء الفقهاء -، وظل هذا قائما حتى بعد ظهور الجهمية - كما سنرى - فكل ذنب أو عيب قيل في المرجئة فهو منصرف لهم وحدهم حتى منتصف القرن الثانى تقريبا، بل هو الأغلب على القرن الثالث، ولهذا نجد من المصنفين من لم يطلق اسم الإرجاء على سواهم؛ كابن عبدالبر في " التمهيد "؛ فإنه لم يذكر المرجئة الجهمية الأشعرية، ولعله تبع أبا عبيد في ذلك (4). ومن علماء السنة الكبار من فرق بين مسمى المرجئة ومسمى الجهمية؛ وذلك لأن المرجئة عندهم مبتدعة، والجهمية كفار (5). يقول الفضيل بن عياض: " أهل الإرجاء يقولون: الإيمان قول بلا عمل، وتقول الجهمية: الإيمان المعرفة بلا قول ولا عمل، ويقول أهل السنة: الإيمان المعرفة والقول والعمل " (6). ويقول وكيع بن الجراح: " ليس بين كلام الجهمية والمرجئة كبير فرق؛ قالت الجهمية: الإيمان المعرفة بالقلب، وقال المرجئة: الإقرار باللسان " (1). وكذلك قال الإمام أحمد: قال حمدان بن علي الوراق: " سألت أحمد، وذكر عنده المرجئة، فقلت له: أنهم يقولون: إذا عرف الرجل ربه بقلبه فهو مؤمن، فقال: المرجئة لا تقول هذا، الجهمية تقول بهذا، المرجئة تقول: حتى يتكلم بلسانه وتعمل جوارحه، والجهمية تقول إذا عرف ربه بقلبه وإن لم تعمل جوارحه، وهذا كفر؛ إبليس قد عرف ربه، فقال: رب بما أغويتنى ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 المبحث العاشر: مؤسس هذه الطائفة اختلف العلماء في أول من أسس هذا المذهب - أي أفصح عنه وأعلنه ودعا إليه - وإلا فبذوره متقدمة فقيل هو: 1 - ذر بن عبد الله الهمدانى: وهو تابعى متعبد، توفى قبل نهاية القرن الأول، روى حديثه الجماعة. قال إسحاق ابن إبراهيم: " قلت لأبى عبد الله - يعنى الإمام احمد -: أول من تكلم في الإيمان من هو؟ قال: يقولون: أول من تكلم فيه ذر " (3)؛ وهكذا نقل الذهبي في " الميزان " (4) عن الإمام. ويبدو أن ذرا قد عرضت عليه الشبهة، وكان شاكا فيها، ثم جزم بها وأصر عليها لما لاقت رواجا - وهكذا شأن أصحاب البدع -. قال سلمة بن كهيل: " وصف ذر الإرجاء وهو أول من تكلم فيه، ثم قال أنى أخاف أن يتخذ هذا دينا، فلما أتته الكتب في الآفاق، قال: فسمعته يقول: وهل أمر غير هذا " (5). ونقل عنه الأعمش أول مرة قوله: " لقد أشرعت رأيا خفت أن يتخذ دينا " (6). وعن الحسن بن عبيدالله قال: " سمعت إبراهيم - النخعى - يقول لذر: ويحك يا ذر، ما هذا الدين الذى جئت به؟ قال ذر: ما هو إلا ر أي رأيته! قال: ثم سمعت ذرا يقول: إنه لدين الله الذى بعث به نوح " (7)!! وقد تعرض ذر لنقد العلماء المعاصرين؛ فقد ذمه إبراهيم النخعى بما سبق، وكان يعيبه ولا يرد عليه إذا سلم (8). وكان سعيد بن جبير شديدا عليه , حتى أن ذرا أتاه يوما في حاجة فقال: " لا، حتى تخبرنى على أي دين أنت اليوم - أو رأي أنت اليوم -، فإنك لا تزال تلتمس دينا قد أضللته، ألا تستحي من ر أي أنت أكبر منه؟ " (1). وشكاه ذر إلى أبي البختري الطائى؛ إنه لا يرد عليه إذا سلم، فقال سعيد: " إن هذا يحدث - أو يجدد - كل يوم دينا، والله لا كلمته أبدا " (2). هذا وقد نقل الحافظ أن ذرا شهد مع ابن الأشعث قتاله للحجاج، وذلك سنة ثمانين (3). 2 - وقيل: إن أول من أحدثه هو قيس الماصر: نقل الحافظ ذلك عن الأوزاعي؛ قال: أول من تكلم في الإرجاء رجل من أهل الكوفة يقال له: قيس الماصر (4). ولم أعثر له على ترجمة، إلا أن أبا حاتم الرافضى صاحب كتاب (الزينة) السابق ذكره، قال ضمن فرق المرجئة الذين هم عنده أهل السنة: " ومنهم الماضرية (5)، نسبه إلى قيس بن عمرو الماضرى، ويقال لهم مرجئة أهل العراق، وهم أبو حنيفة ونظراؤه " (6). 3 - وقيل: إن أول من أحدثه حماد ابن أبي سليمان: المتوفى سنة 120 هجري، شيخ أبي حنيفة، وتلميذ إبراهيم النخعى، ثم تبعه أهل الكوفة وغيرهم. وذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية (7). ولا شك أن حمادا كان مرجئا وأنه كان معاصرا لذر، فقد روى عبدالله بن أحمد أن إبراهيم النخعى - شيخ حماد - قال: لا تدعوا هذا الملعون يدخل علي، بعد ما تكلم في الإرجاء - يعنى حمادا (8) -. ومع ذلك فقد ادعى حماد غير هذا، إلا أن يقال أنه كان مستترا خائفا، ثم أظهر وأعلن. قال أبو هاشم: " أتيت حماد بن أبى سليمان، فقلت: ما هذا الرأي الذى أحدثت لم يكن على عهد إبراهيم النخعي؟ فقال: لو كان حيا لتابعني عليه - يعنى الإرجاء - " (9). وفي هذا ما يدل على أولية حماد، لكن النص الأتى يدل على أنه اتبع غيره، إلا أن يقال أنه دليل فقط لما قررناه من أن الجذور متقدمة، وهو ما ذكره الذهبي عن معمر، قال: " كنا نأتى أبا إسحاق - يعني السبيعى - فيقول: ما قال لكم أخو المرجئة؟ قال معمر: قلت لحماد: كنت رأسا وكنت إماما في أصحابك، فخالفتهم فصرت تابعا؟ قال: إني أن أكون تابعا في الحق خير من أن أكون رأسا في الباطل. قال الذهبي: قلتُ: يشير معمر إلى أنه تحول مرجئا إرجاء الفقهاء؛ وهو أنهم لا يعدون الصلاة والزكاة من الإيمان، ويقولون: الإيمان: إقرار باللسان ويقين في القلب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 والنزاع على هذا لفظي إن شاء الله، وإنما غلو الإرجاء؛ من قال: لا يضر مع التوحيد ترك الفرائض، نسأل الله العافية ". ويبدو الخلاف بين هذه الأقوال غير مؤثر، فكلهم متعاصرون، وكلهم في بلد واحد، وقولهم في الإرجاء واحد. ويستفاد من بعض الآثار أن للفكرة وجودا غير خاف، فهذا سالم بن أبى الجعد التابعى المحدث المتوفى سنة 100 هجرى أو حولها - كان له ستة بنين؛ " فاثنان شيعيان، واثنان مرجئيان، واثنان خارجيان، فكان أبوهم يقول: قد خالف الله بينكم " (2)!! وهذا دليل على نمو البدع حينئذ لاسيما في الكوفة. وهناك رجل آخر لا شك أنه من أوائل القوم الدعاة؛ وهو سالم الأفطس، وفيه قصة تستحق الإيراد، لا سيما وقد ذكرها مصدران متقدمان بسندين مختلفين هما: (السنة) لعبدالله بن أحمد، و (تهذيب الآثار) للطبري، كلاهما عن معقل بن عبيدالله الجزرى العبسي قال: " قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء (3)، فعرضه فنفر منه أصحابنا نفارا شديدا، وكان أشدهم ميمون بن مهران وعبدالكريم بن مالك، فأما عبدالكريم فإنه عاهد الله لا يأويه وإياه سقف بيت إلا في المسجد. قال معقل: فحججت، فدخلت على عطاء بن أبى رباح في نفر من أصحابي، قال: فإذا هو يقرأ سورة يوسف، قال: فسمعته قرأ هذا الحرف حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ [يوسف:110] مخففة. قال: قلت: إن لنا إليك حاجة فاخل لنا، ففعل، فأخبرته أن قوما قبلنا قد أحدثوا وتكلموا، وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، قال: فقال: أو ليس يقول الله: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]. فالصلاة والزكاة من الدين. قال: فقلت له: إنهم يقولون: ليس في الإيمان زيادة. قال: أو ليس قد قال الله فيما أنزله: فَزَادَهُمْ إِيمَاناً [آل عمران:173]، فما هذا الإيمان الذى زادهم؟! قال: قلت: فإنهم قد انتحلوك، وأبلغنى أن ذرا دخل عليك وأصحابه، فعرضوا عليك قولهم فقبلته وقلت هذا الأمر، فقال: لا والله الذى لا إله إلا هو ما كان هذا - مرتين أو ثلاثة. قال: ثم قدمت المدينة، فجلست إلى نافع، فقلت له: يا أبا عبدالله، إن لي إليك حاجة، قال سر أم علانية؟ فقلت: لا، بل سر، قال: رب سر لا خير فيه! فقلت له: ليس من ذلك، فلما صلينا العصر قام وأخذ بيدي، وخرج من الخوخة ولم ينتظر القاص، فقال ما حاجتك؟ قال: قلت: أخلني من هذا، قال: تنح يا عمرو، قال: فذكرت له بدو قولهم، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أضربهم بالسيف حتى يقولوا: لا إله إلا الله , فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقه، وحسابهم على الله)) (1). . قال: قلتُ: إنهم يقولون: نحن نقر بأن الصلاة فريضة ولا نصلى، وأن الخمر حرام ونشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن نفعل، قال: فنتر يده من يدي وقال: من فعل هذا فهو كافر. قال معقل: ثم لقيت الزهري، فأخبرته بقولهم، فقال سبحان الله!! أو قد أخذ الناس في هذه الخصومات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الشارب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) (1). قال: ثم لقيت الحكم بن عتيبة، قال: فقلت: إن ميمونا وعبدالكريم بلغهما أنه دخل عليك ناس من المرجئة، فعرضوا عليك قولهم، فقبلت قوله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 قال: فقيل ذلك على ميمون وعبد الكريم؟ قلتُ: لا. قال: دخل علي منهم اثنى عشر رجلا، وأنا مريض، فقالوا: يا أبا محمد، بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل بأمة سوداء أو حبشية، فقال: يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة، أفترى هذه مؤمنة؟ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتشهدين أن لا إله إلا الله " قالت: نعم، قال: " وتشهدين أني رسول الله " قالت: نعم، قال: " وتشهدين أن الجنة حق وأن النار حق " قالت: نعم، قال: " أتشهدين أن الله يبعثك من بعد الموت " قالت: نعم، قال: " فأعتقها فإنها مؤمنة)) (1). قال: فخرجوا وهم ينتحلوني. قال: ثم جلست إلى ميمون بن مهران، فقيل له: يا أبا أيوب: لو قرأت لنا سورة نفسرها، قال: فقرأ أو قرأت: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1]، حتى إذا بلغ: مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:21]، قال: ذاك جبريل والخيبة لمن يقول إيمانه كإيمان جبريل ". ويروي ابن بطة بسنده عن المبارك ابن حسان قصة أخرى، " قال: قلت لسالم الأفطس: رجل أطاع الله فلم يعصه، ورجل عصى الله فلم يطعه، فصار المطيع إلى الله فأدخله الجنة، وصار العاصي إلى الله فأدخله النار , هل يتفاضلان في الإيمان؟ قال: لا قال: فذكرت ذلك لعطاء، فقال: سلهم الإيمان طيب أم (1) خبيث؟ فإن الله تعالى قال: لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأنفال:37] (2). فقال النحات (3): إنما الإيمان منطق وليس معه عمل!، فذكرت ذلك لعطاء، فقال: سبحان الله! أما تقرؤون الآية التى في سورة البقرة: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177]. قال: ثم وصف الله هذا الإثم فألزمه العمل، فقال: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ .... إلى قوله: صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. قال: سلهم هل دخل هذا العمل في هذا الاسم؟ وقال: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الإسراء:19]. فألزم الاسم العمل وألزم العمل الاسم " (4). هذا الجدل المبكر (زمن التابعين) في موضوع العمل يعطينا فكرة واضحة عن مذهب المرجئة الفقهاء فيه، وحقيقة الخلاف بينهم وبين أهل السنة والجماعة منذ نشأتهم، كما بين لنا منهج السلف العلمي في مجادلتهم، وهو أن أهم جانب في القضية شغل أذهان السلف هو موضوع عمل الجوارح؛ أي أداء الفرائض واجتناب المحرمات، وأن حقيقة الإيمان لا تكون إلا به مع عمل القلب، فإذا انتفى أحدهما انتفى الإيمان. الجهم بن صفوان: أما الجهم بن صفوان فهو رأس الضلالات وَأُسُّ البليات، جعله الله فتنة للناس وسببا للإضلال، كما جعل السامرى في بني إسرائيل. وحسبنا أن نعلم أن هذا الرجل الذي كان من شواذ المبتدعة في مطلع القرن الثاني قد ترك من الأثر في الفرق الإسلامية الثنتين والسبعين ما لا يعادله أثر أحد غيره (6). هذا مع أنه ليس بإمام يحتج بقوله، ولا عالم يعتد بخلافه، ولا شهد له أحد بخير!!   (1) رواه مسلم (537) , من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 وقد جمع المصنفون من السلف في سيرته الشىء الكثير، وكله ذم وتكفير وتشنيع من أئمة الإسلام ورجال النقد، جمع ذلك الإمام أحمد، وابنه عبدالله، وأبو عبيد، والبخاري، والدارمي، وابن خزيمة، وابن أبى حاتم، وسائر من ألف في الفرق أو الصفات أو الإيمان؛ كالبيهقى، والأشعري، والبغدادي، واللالكائي، وكذا المؤرخون وأصحاب التراجم. وهذا ما سنورد بعضه مقتصرين على ما يهمنا هنا؛ وهو مذهبه في الإيمان. والأصل الذي ينبغى معرفته في هذا، هو أن الجهم لم يبتدع مذهبه في الإيمان اعتمادا على شبهة نقلية أو أثارة من علم، وإنما كان رجلا لسنا مجادلا، مجبولا على المحادة والاعتراض والمراء، ومع ذلك لم يقدر له أن يجلس إلى عالم أو يتفقه على إمام، بل شهد عليه بعض من عاصره بجهل بالغ في معرفة الأحكام الشرعية - حتى الجلي منها - وقالوا: إنه لم يحج البيت، ولم يجالس العلماء قط (1). وإنما جالس جهم أصحاب الأهواء (2) وبعض الملاحدة، من المنتسبين إلى فلسفات الأمم الجاهلية الموتورة، ولما أراد الله فتنته اتصل بطائفة من الزنادقة الهنود، يقال لهم: " السمنية "، وأولئك قوم لهم فلسفة خاصة ومدرسة فكرية مؤصلة، قد أعدوا لكل عقيدة لدى غيرهم شبهة، وأعدوا لكل سؤال جوابه، ولكل مأزق مخرجا. وتجشم جهم وتكلف أن يجادلهم ويخوض معهم، وهو صفر من العلم خلو من الحجة فما رآه بعقله المجرد ورأيه القاصر، وكان مجرد خوضه معهم نذيرا بالشر وشؤم العاقبة. فقد ابتدءوا معه الجدال بالحديث عن مصدر المعرفة الصحيح المتيقن (وهى أكبر قضية فلسفية على الإطلاق، وأصل كل بحث ونظر) وكانت فلسفتهم تقوم على أن المصدر للمعرفة الحواس الخمس، ولما نازلهم جهم وهو جاهل بدينه خال من مصدر اليقين الأصلى - وهو الوحي - حصروه وأفحموه بسؤال هو: صف لنا ربك هذا الذى تعبده يا جهم، وبأي حاسة أدركته من الحواس، أرأيته أم لمسته - أم الخ؟! وسقط في يد هذا الضال المسكين، وطلب منهم مهلة ليفكر في الأمر، ولم يستطع أن يستلهم حجة، ولم يسأل العلماء فيداووه ويلقنوه. وقادته الحيرة إلى الشك في دينه، فترك الصلاة مدة، ثم استغرق في التفكير والتأمل، حتى انقدح في ذهنه جواب خرج به عليهم قائلا: " هو هذا الهواء مع كل شئ وفي كل شئ ولا يخلو من شئ " (3). وهذا الجواب الذي هو أساس نفي الصفات، هو قول طائفة من زنادقة الهند الآخرين (4). وهذا المنزلق تلاه ما تلاه من هوى ورأي. وكانت حياة جهم في آخر عصر بنى أمية، حيث ظهرت البدع وتشعبت أصول الفرق، وكان مقتضى خوضه وجداله أن يخوض في قضية الإيمان ويدلي بدلوه في هذه المسألة التى كانت الفرق حوله تتجادل فيها كثيرا، وكان طبيعيا أن يخرج جهم بقول لم يسبقه إليه أحد، وهو أن الإيمان هو مجرد المعرفة بالقلب، فمن عرف الله بقلبه فهو مؤمن، دونما حاجة إلى قول باللسان ولا عمل بالجوارح. والذي يظهر لمن يطالع سيرة الرجل وواقع عصره، أنه ركب هذا القول من كلام المتفلسفة من الزنادقة، الذين لا يعدو الإيمان عندهم مجرد الإقرار النظري بوجود الله، ومن كلام المرجئة الفقهاء الذين أصروا على نفي دخول الأعمال في الإيمان. والجديد في عمل جهم أنه نقل كلام الطائفة الأولى من محيط الفلسفة التى لا صلة لها قط بالإسلام ليدخله في الإسلام متذرعا في ذلك بلوازم كلام الطائفة الأخرى ومفهومه الذى لم يقصدوه قط، وبذلك أصبح هذا القول الفلسفي الشاذ مقالة من مقالات الإسلاميين، وإن كانت الجهمية في حكم جملة من علماء السلف ليست من فرق (المسلمين) (1) أهل القبلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 حتى لقد قال الإمام البخاري رحمه الله: " نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس، فما رأيت أضل في كفرهم منهم، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم " (2). ومن هنا أضرب أبو عبيد والطبري صفحا عن مناقشة مذهب جهم؛ لأنه ليس من مقالات المجتهدين في النصوص، بل هو من مذاهب أهل الجدل والتفلسف والكلام , ومنسلخ عن أقوال الملل الحنفية جميعها (3). ولكن أسبابا ومؤثرات - يأتي تفصيل الحديث عنها - أفضت في النهاية إلى أن يكون هذا المذهب أكثر المذاهب في الإيمان انتشارا، مع ما لحقه من تعديل هو لفظى أكثر من كونه حقيقيا، ومن نفي لبعض لوازمه. فالذى حصل هو أن مذهب المرجئة الفقهاء مهد لرأي جهم، ثم جاء المرجئة المتكلمون كالأشعري والماتريدي، فجعلوه عقيدة أكثر طوائف الأمة - مع ما أشرنا إليه من تعديل -. ولهذا قال وكيع بن الجراح - الإمام الكبير شيخ الإمام أحمد -: " أحدثوا (4) هؤلاء المرجئة الجهمية، والجهمية الكفار، والمريسي جهمي، وعلمتم كيف كفروا، قالوا: يكفيك المعرفة، وهذا كفر، والمرجئة يقولون: الإيمان قول بلا فعل، وهذا بدعة " (5). وهذا من أهم ما يجب معرفته والاعتبار به. أما معرفته فلكي نعلم التطور التاريخي للظاهرة وخط سيرها، وأما الاعتبار به فلأن البدع قد تبدو صغيرة لكنها تؤول إلى أن تصير كبارا، فيجب الحذر من صغيرها وكبيرها، وإلا فإن الأئمة والعباد من المرجئة الفقهاء لم يدر بخلدهم ما صار إليه جهم، ولم يخرجوا الأعمال من الإيمان إلا لفظا فقط، وأما وجوبها والمعاقبة عليها ووجوب ترك المحظورات فأمر لم يخالفوا فيه قط. ولهذا عد بعض العلماء الخلاف كله لفظيا، وليس كذلك بإطلاق. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عنهم: " وهذه الشبهة التي أوقعتهم - يعنى شبهة عدم التعدد والتبعيض في الإيمان - مع علم كثير منهم وعبادته وحسن إسلامه وإيمانه، ولهذا دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين، ولهذا لم يكفر أحد من السلف أحدا من مرجئة الفقهاء، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال لا من بدع العقائد؛ فإن كثيرا من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب، فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله، لا سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم وإلى ظهور الفسق، فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببا لخطأ عظيم في العقائد والأعمال، ولهذا عظم القول في ذم الإرجاء " (1). وقال أيضا: " والمرجئة الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب وقول اللسان والأعمال ليست منه، وكان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها، ولم يكن قولهم مثل قول جهم، فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمنا إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه (2)، وعرفوا أن إبليس وفرعون كفار مع تصديق قلوبهم (3). لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضا فإنها لازمة لها، ولكن هؤلاء لهم حجج شرعية بسببها اشتبه الأمر عليهم " (4). وهذا الذي قاله الشيخ قاله من هو أقدم منه؛ كالإمام أبى عبيد القاسم بن سلام، على ما سننقله. هذا، وبيان الفروق بين مذهب جهم ومذهب المرجئة الفقهاء، وبين هذا ومذهب أهل السنة والجماعة، مما يتضمنه الفصل التالى لهذا، غير أننا لن ندع الحديث عن جهم إلا بعد تنبيه مهم؛ وهو: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 إن مذهب جهم لم يكن له في حياة صاحبه ولا بعد ذلك بزمن أي أثر بارز في واقع الحياة الإسلامية، إنما ظهرت آثاره وعمت ببروز من تبناه من المتكلمين، وعلى رأسهم بشر المريسى (5)، وقد عاش متهما محاربا - لكن أقل من حال جهم في هذا - ثم ابن كلاب، وقد كان متهما أيضا - لكن أقل من حال بشر - ثم الأشعري والماتريدي، وهما اللذان نشراه، حتى أصبح ظاهرة عامة في فكر الأمة وحياتها. وإنما خصصنا هذا بالذكر مع ما سبق من الإشارة إليه لأهميته في معرفة تطور الظاهرة، ولننبه إلى جسامة الخطأ الذي وقع فيه بعض المستشرقين - وتبعهم من تبعهم - في زعم أن ثورة الحارث بن سريج كانت قائمة على عقيدة الإرجاء، وكأن جهما قد ربى تلك الآلاف الثائرة على عقيدته، حتى اندفعوا للخروج على الدولة وإقامة مذهبهم. والواقع يكذب هذا، فإن جهما كان كاتبا لقائد الثورة، وكان إرجاء جهم رأيا خاصا وفكرة شخصية، لا أثر لها في توجيه الثورة التى لم تكن تمثل أي عقيدة دينية، وإنما كانت حركة تمرد وعصيان على الدولة، ضمت في صفوفها من كل الطوائف، بل ضمت أهل الذمة ومشركي الترك، وإنما انضم إليهم جهم - على ما يظهر لي - لأنه هو أيضا خارج على الطاعة، ملاحق من الدولة بسبب بدعته في الصفات التى أطاحت برأس شيخه الجعد من قبل، ويدل لذلك الوثائق الرسمية للدولة، ومخاطبة والي مرو له عند قتله. روى اللالكائى بسنده عن أحدهم: " قرأت في دواوين هشام بن عبد الملك إلى عامله بخراسان نصر بن سيار: أما بعد، فقد نجم قبلك رجل من الدهرية من الزنادقة، يقال له جهم بن صفوان، فإن أنت ظفرت به فاقتله، وإلا فادسس إليه برجال غيلة ليقتلوه " (1). ونقل الحافظ عن أبي حاتم أن سلم بن أحوز عامل نصر بن سيار على مرو لما قبض على جهم قال: " يا جهم! إنى لست أقتلك لأنك قاتلتني، أنت عندي أحقر من ذلك، ولكني سمعتك تتكلم بكلام باطل أعطيت لله عهدا أن لا أملك إلا قتلتك. فقتله " (2). وهذا شبيه بما فعله خالد بن عبدالله القسري مع شيخه الجعد. وأما ما ذكره الطبري من شعر لنصر بن سيار يتهم فيه الحارث وجيشه بالإرجاء، فلا شك أن كون الجهم كاتبا للحارث يعد سببا كافيا لخصمه السياسي أن يطعن في عقيدته، ويشهر به بين المسلمين، كان المبرر أقوى، على أن المنقول من أخبار نصر يدل على فضل وصلاح فيه. المصدر: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي - 2/ 371   (1) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (3/ 381). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 المبحث الحادي عشر: حول إرجاء الحسن بن محمد بن الحنفية المراد بالإرجاء المتقدم ذكره هو الذي ظهر على يد جماعة من فقهاء الكوفة، وقد عرف بهم، حيث سمي إرجاء الفقهاء، وسمي أهله مرجئة الفقهاء، إذ الأمة لم تكن تعرف قبل ظهوره كلاما في الإيمان مخالفا لما عليه السلف إلا ما كان على طريقة الخوارج والمعتزلة، وهو الغلو والإفراط في مفهوم الإيمان والإسلام حتى حكموا بالكفر على من هو داخل في دائرة الإسلام، أما التساهل والتفريط في ذلك، وإخراج ركن من أركان الإيمان عنه، وهو العمل، وفتح الباب لمقالات ضالة كفرية تنادي بتضييع الإيمان الذي جاءت به الشرائع، وجعله أماني، فلم يقع إلا على أيدي هذه الفئة من الفقهاء، وهم الذين كثر كلام السلف في ذم مقالتهم، والتحذير منها، وتبديع قائلها. يقول شيخ الإسلام: "وحدثت المرجئة، وكان أكثرهم من الكوفة، ولم يكن أصحاب عبدالله - يعني ابن مسعود رضي الله عنه - من المرجئة، ولا إبراهيم النخعي وأمثاله، فصاروا نقيض الخوارج والمعتزلة، فقالوا: الأعمال ليست من الإيمان" (1).وقد نص شيخ الإسلام رحمه الله على أن الخوض في هذه المرحلة من هذه الطائفة متعلق بالإيمان، إذ يقول: "وحدثت أيضا بدعة المرجئة في الإيمان" (2). وأما أوائل رجال هذه المرحلة والذين ارتبط بهم نشأة هذا النوع من الإرجاء، فقط سمي شيخ الإسلام طائفة منهم، وهم: ذر بن عبدالله الهمذاني، وحماد بن أبي سليمان، وسالم الأفطس، وطلق بن حبيب، وإبراهيم التيمي. وأول من قال به من هؤلاء عند شيخ الإسلام هو حماد بن أبي سليمان. يقول رحمه الله: "الإرجاء في أهل الكوفة كان أولا فيهم أكثر، وكان أول من قاله حماد بن أبي سليمان" (3).ويقول: "لكن حماد بن أبي سليمان خالف سلفه، واتبعه من اتبعه، ودخل في هذا طوائف من أهل الكوفة ومن بعدهم" (4). ولكن شيخ الإسلام نفسه نقل عن بعض السلف ما يفيد أن أول قائل بالإرجاء هو الحسن بن محمد بن الحنفية، فقد قال رضي رحمه الله:"قال: أيوب السختياني: أنا أكبر من دين المرجئة، إن أول من تكلم في الإرجاء رجل من أهل المدينة من بني هاشم يقال له: الحسن (5). وقال: زاذان: أتينا الحسن بن محمد، فقلنا: ما هذا الكتاب الذي وضعت؟ وكان هو الذي أخرج كتاب المرجئة. فقال لي: يا أبا عمر لوددت أني كنت مت قبل أن أخرج هذا الكتاب، أو أضع هذا الكتاب (6) " (7).وقد ذكر شيخ الإسلام أن الحسن "قد وضع كتابا في الإرجاء، نقيض قول المعتزلة، ذكر هذا غير واحد من أهل العلم" (8). فثمة كتاب كتبه الحسن نقيض قول المعتزلة، وحقيقة هذا المكتوب تنجلي من خلال النظر في سيرة الحسن، فقد جاء فيها أنه كان في حلقة، فتكلموا في علي وعثمان وطلحة والزبير، وأكثروا، والحسن ساكت، ثم تكلم، فقال:   (1) ((الفتاوى)) (13/ 38). (2) ((النبوات)) (2/ 577). (3) ((الإيمان)) (ص295) ((الفتاوى)) (7/ 311)، وانظر منه، (ص281) ((الفتاوى)) (7/ 297). (4) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 507) (ص373ط). ابن الجوزي. (5) رواه ((ابن بطة في الإبانة الكبرى)) (2/ 903 رقم 1266)؛ واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (5/ 1003 رقم 1844). (6) رواه: عبدالله في ((السنة)) (1/ 324 - 325) رقن 665؛ والخلال في ((السنة)) (4/ 136 - 137) رقم 1358؛ و ((ابن بطة في الإبانة الكبرى)) (2/ 904) (رقم 1268). (7) ((الإيمان)) (ص378) ((الفتاوى)) (7/ 395). (8) ((منهاج السنة)) (8/ 7). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 قد سمعت مقالتكم، ولم أر شيئاً أمثل من أن يرجأ علي وعثمان وطلحة والزبير، فلا يتولوا، ولا يتبرأ منهم. ثم قام، فما لبث أن كتب الرسالة التي ثبت فيها الإرجاء بعد ذلك (1). وهذا نقل لبعد ما جاء في رسالة الحسن، لمعرفة حقيقة الإرجاء عنده، فقال قال - عفا الله عنه-: "أما بعد: فإنا نوصيكم بتقوى الله، ونحثكم على أمره، ونرضى لكم طاعته، ونسخط لكم معصيته، وإن الله أنزل الكتاب بعلمه فأحكمه، وفصله وأعزه، وحفظه أن يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه"، ثم ذكر كلاما طويلا، ثم قال: "فمن أراد أن يسائلنا عن أمرنا ورأينا، فإنا قوم: الله ربنا، والإسلام ديننا، والقرآن إمامنا، ومحمد نبينا، إليه نسند، ونضيف أمرنا إلى الله ورسوله. ونرضى من أئمتنا بأبي بكر وعمر، ونرضى أن يطاعا، ونسخط أن يعصيا، ونعادي لهما من عاداهما، ونرجئ منهم أهل الفرقة الأول. ونجاهد في أبي بكر وعمر الولاية، فإن أبا بكر وعمر لم تقتتل فيهما الأمة، ولم تختلف فيهما، ولم يشك في أمرهما، (ونرجئ من بعدهما ممن دخل في الفتنة، فنكل أمرهم إلى الله). وإنما الإرجاء ممن عاب الرجال، ولم يشهده، ثم عاب علينا الإرجاء من الأمة، وقال متى كان الإرجاء؟ قلنا: كان على عهد موسى نبي الله إذ قال له فرعون: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى [طه: 51]، قال موسى وهو ينزل عليه الوحي حتى قال: قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى [طه: 52]، فلم يعنف بمثل حجة موسى"، ثم استمر في كلام طويل (2). وكما هو ظاهر أن من مضمون الكتاب حديث عما جرى بين الصحابة بعد الفتنة بقتل عثمان - رضوان الله عليهم أجمعين -، والحسن هنا يكشف عن رأيه في ذلك، وأنه يرجئ أمر من دخل في الفتنة إلى الله. فهو إذن إرجاء متعلق بالصحابة - رضوان الله عليهم -، لا الإرجاء المتعارف عليه، المتعلق بالإيمان وحقيقته، وعلامة العمل به. وبهذا يتبين خبر كتاب الحسن، ويتضح مراد شيخ الإسلام بأنه نقيض قول المعتزلة.   (1) انظر: ((تهذيب الكمال في أسماء الرجال))، للحافظ المزي، تحقيق بشار عواد، مؤسسة الرسالة بيروت (6/ 321)؛ و ((تاريخ الإسلام حوادث وفيات)) (81 - 100هـ)، (ص 332). (2) ((الإيمان))، للعدني، (ص147 - 148 رقم80)؛ و ((تاريخ الإسلام)) "حوادث81 - 100" (ص333 - 334). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 فإن من المعلوم أن واصل بن عطاء ومن تابعه من المعتزلة يرون فيما جرى بين الأصحاب - رضوان الله عليهم أجميعن - "أن فرقة من الفريقين فسقة، لا بأعيانهم، وأنه لا يعرف الفسقة منهما، وأجازوا أن يكون الفسقة من الفريقين عليا وأتباعه - كالحسن والحسين وابن عباس وعمار بن ياسر وأبي أيوب الأنصاري وسائر من كان مع علي يوم الجمل-، وأجاز كون الفسقة من الفريقين عائشة وطلحة والزبير وسائر أصحاب الجمل. ثم قال في تحقيق شكه في الفريقين: لو شهد علي وطلحة أو علي والزبير أو رجل من أصحاب علي ورجل من أصحاب الجمل عندي على باقة بقل لم أحكم بشهادتهما؛ لعلمي بأن أحدهما فاسق لا بعينه، كما لا أحكم بشهادة المتلاعنين؛ لعلمي بأن أحدهما فاسق لا بعينه، ولو شهد رجلان من أحد الفريقين أيهما كان قبلت شهادتما" (1)."وقال واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد والنظام وأكثر القدرية: نتولى عليا وأصحابه على انفرادهم، ونتولى طلحة والزبير وأتباعهما على انفرادهم، ولكن لو شهد علي مع رجل من أصحابه قبلت شهادتهما، ولو شهد طلحة أو الزبير مع واحد من أصحابه قبلت شهادتهما، ولو شهد علي مع طلحة على باقة بقل لم نحكم بشهادتهما؛ لأن أحدهما فاسق، والفاسق مخلق في النار، وليس بمؤمن ولا كافر" (2). فهذا الضال الهالك ومن تابعه يتولون أحد الفريقين على الانفرادِ، بخلاف لو اجتمعا فيتبرؤون منهما جميعا. وبهذا يستبين مراد شيخ الإسلام بأن ما وضعه الحسن نقيض قول المعتزلة، أي فيما يتعلق بالصحابة، ويزيد الأمر تأكيدا أن جماعة من العلماء فسروا الإرجاء عند الحسن بهذا، ومن هؤلاء الذهبي، وابن كثير، وابن حجر. فالحافظ الذهبي رحمه الله يقول أثناء ترجمته للحسن: "قلت: الإرجاء الذي تكلم به معناه: أنه يرجئ أمر عثمان علي إلى الله، فيفعل فيهم ما يشاء، ... ، وذلك أن الخوارج تولت الشيخين، وبرئت من عثمان وعلي، فعارضتهم السبائية، فبرأت من أبي بكر وعمر وعثمان، وتولت عليا وأفرطت فيه. وقالت المرجئة الأولى: نتولى الشيخين، ونرجئ عثمان وعليا، فلا نتولاهما، ولا نتبرأ منهما" (3).وأما الحافظ ابن كثير رحمه الله، فقد نقل أن إرجاء الحسن هو "التوقف في عثمان وعلي وطلحة والزبير، فلا يتولاهم، ولا يذمهم" (4). والحافظ ابن حجر رحمه الله يقول في معنى إرجاء الحسن: "قلت: المراد بالإرجاء الذي تكلم الحسن بن محمد فيه غير الإرجاء الذي يعيبه أهل السنة المتعلق بالإيمان، وذلك أني وقفت على كتاب الحسن بن محمد المذكور"، ثم ذكر جملة منه، ثم قال:"فمعنى الذي تكلم فيه الحسن أنه كان يرى عدم القطع على إحدى الطائفتين المقتتلتين في الفتنة بكونه مخطئا أو مصيبا، وكان يرى أنه يرجأ الأمر فيهما، وأما الإرجاء الذي يتعلق بالإيمان، فلم يعرج عليه، فلا يلحقه بذلك عاب، والله أعلم" (5). ومن خلال هذه النقول يتضح أن قضية الإرجاء عند السحن مجرد التوقف في الحكم لأحد الفريقين بالصواب أو الخطأ، وهذا لا علاقة له البتة في الإرجاء من حيث كونه نعتا على المخالف في مسألة الإيمان، ومع هذا فإن الحسن - عفا الله عنه - ندم على ما رقمته يداه، بل تمنى الموت قبل كتابته، والله المستعان. ومما تقدم يتبين أنه لا تعارض بين ما قاله شيخ الإسلام من أول قائل بالإرجاء هو حماد بن أبي سليمان، مع من قال إنه الحسن؛ لأن الإرجاء الذي تكلم به الحسن ليس هو الإرجاء الذي تكلم به حماد، فإن إرجاء الحسن متعلق ببعض الصحابة، وإرجاء حماد متعلق بالإيمان كما تقدم. المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 101   (1) ((الفرق بين الفرق))، للبغدادي تحقيق محمد محي الدين عبدالحميد، دار المعرفة ببيروت، (ص120)؛ وانظر: ((منهاج السنة)) (8/ 6). (2) ((أصول الدين))، للبغداد، الطبعة الثالثة 1401هـ، دار الكتب العلمية ببيروت، (ص290 - 291)؛ وانظر منه، (ص335)؛ وانظر: ((الملل والنحل))، للشهرستاني، تعليق أحمد فهمي محمد، الطبعة الأولى 1410هـ، دار الكتب العلمية ببيروت (1/ 43). (3) ((تاريخ الإسلام)) "حوادث (81 - 100)، (ص 333). (4) ((البداية والنهاية)) (12/ 555). (5) ((تهذيب التهذيب)) (1/ 414). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 المبحث الثاني عشر: في صلة المرجئة بالقدرية أن بدعة الإرجاء ظهرت قريبا من زمن بدعة القدرية. والمراد بالقدرية هنا هم القدرية الأولى، وهم القدرية النفاة، المنكرون للقدر؛ إذ "الخائضو في القدر بالباطل ثلاثة أصناف: المكذبون به، والدافعون للأمر والنهي به، والطاعنون على الرب - عز وجل - بجمعه بين الأمر والقدر، وهؤلاء شر الطوائف" (1).فالغلاة المكذبون بالقدر هم الذين ظهرت المرجئة بعدهم بزمن قريب، وهؤلاء القدرية يعظمون الأمر والنهي، والوعد والوعيد (2). يقول شيخ الإسلام في نشأة هذا الصنف من القدرية، بعد تقريره مرتبتي العلم والكتابة من مراتب القدر: "فهذا القدر هو الذي أنكره القدرية الذين كانوا في أواخر زمن الصحابة، ... ،, ولم يكن على عهد الخلفاء الراشدين أحد ينكر القدر، فلما ابتدع هؤلاء التكذيب بالقدر رده عليهم من بقي من الصحابة، كعبدالله بن عمرو وعبدالله بن عباس وواثلة بن الأسقع، وكان أكثره بالبصرة والشام، وقليل منه بالحجاز. فأكثر كلام السلف في ذم هؤلاء القدرية، ولهذا قال وكيع بن الجراح: القدرية يقولون: الأمر مستقبل، وإن الله لم يقدر الكتابة والأعمال، والمرجئة يقولون: القول يجزئ من العمل، والجهمية يقولون: المعرفة تجزئ من القول والعمل. قال وكيع: وهو كله كفر" (3). وقد حدد شيخ الإسلام رحمه الله زمن ظهور هذه البدعة المنكرة في قوله: "وغلاة القدرية ينكرون علمه - يعني الرب تعالى - المتقدم، وكتابته السابقة، ويزعمون أنه أمر ونهي، وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه، بل الأمر أنف، أي مستأنف. وهذا القول أول ما حدث في الإسلام بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين، وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان، في زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير وبين بني أمية، في أواخر عصر عبدالله بن عمر وعبدالله بن عباس وغيرهما من الصحابة. وكان أول من ظهر عنه ذلك بالبصرة معبد الجهني، فلما بلغ الصحابة قول هؤلاء تبرؤوا منهم، وأنكروا مقالتهم" (4). وإنما تم التنبيه على هذا الارتباط بين القدرية والمرجئة من حيث النشأة لوجود صلة أخرى بين القدرية والمرجئة نبه عليها شيخ الإسلام، لكن هذه الصلة من بابة أخرى، وهي أنهما يشتركان في إضعاف أمر الله، وأمر الإيمان والوعد والوعيد، ومن ثم جاءت النصوص بذمهما. إلا أن المراد بالقدرية هنا هم الصنف الثاني من أصناف القدرية المتقدم ذكرهم، وهم من يثبت القدر ويحتج به، ويعارض به الأمر ويضعفه، لا القدرية الذين ينكرون القدر، ويعظمون الأمر. يقول شيخ الإسلام رحمه الله في بيان هذه الصلة: "ولهذا يقرنون القدرية بالمرجئة؛ لأن المرجئة تضعف أمر الإيمان والوعيد، وكذلك هؤلاء تضعف أمر الله بالإيمان والتقوى ووعيده، ومن فعل هذا كان معلونا في كل شريعة، كما روي: "لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيا (5) " (6) ".   (1) ((منهاج السنة)) (3/ 82). (2) انظر: ((الفتاوى)) (17/ 446). (3) ((الإيمان)) (ص368) ((الفتاوى)) (7/ 384 - 385). (4) ((الفتاوى)) (8/ 450). (5) رواه ابن أبي عاصم في ((السنة))، تحقيق الشيخ الألباني، الطبعة الثانية 1405هـ، المكتب الإسلامي ببيروت (1/ 142) (رقم 325)، (2/ 448) (رقم 952)، وقال محققه: إسناده ضعيف؛ ورواه الآجري في ((الشريعة)) (2/ 690 - 691) (رقم 238)، وقال محققه: يرتقي بشواهده إلى الحسن لغيره؛ ورواه ابن بطة في ((الشرح)) و ((الإبانة))، (ص197 رقم 238)؛ و ((الإبانة الكبرى)) (2/ 88) (رقم 1219)؛ ورواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (5/ 988 رقم 1802). (6) ((منهاج السنة)) (3/ 82). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 ويقول: "ومعلوم أنه يدخل في ذم من ذم الله من القدرية من يحتج به على إسقاط الأمر والنهي أعظم مما يدخل فيه المنكر له، فإن ضلال هذا أعظم، ولهذا قرنت القدرية بالمرجئة في كلام غير واحد من السلف، وروي في ذلك حديث مرفوع؛ لأن كلا هاتين البدعتين تفسد الأمر والنهي، والوعد والوعيد، فالإرجاء يضعف الإيمان بالوعيد، ويهون أمر الفرائض والمحارم. والقدري إن احتج به كان عونا للمرجئ، وإن كذب به كان هو والمرجئ قد تقابلا، هذا يبالغ في التشديد حتى لا يجعل العبد يستعين بالله على فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وهذا يبالغ في الناحية الأخرى" (1). فهم ارتبطوا مع المرجئة من جهة الاشتراك في إضعاف أم الله، وأمر الإيمان والوعد والوعيد، كما أن الصنف السابق من القدرية مرتبط بالمرجئة من جهة النشأة، وأنه في وقت متقارب. وقد بين شيخ الإسلام منزلة كل فريق من هؤلاء، فقال: "لكن المعتزلة من القدرية أصلح من الجبرية والمرجئة ونحوهم في الشريعة علمها وعملها، فكلامهم في أصول الفقه، وفي أتباع الأمر والنهي خير من كلام المرجئة من الأشعرية وغيرهم، فإن كلام هؤلاء قاصر جدا، وكذلك هم مقصرون في تعظيم الطاعات والمعاصي، ولكن هم في أصول الدين أصلح من أولئك، فإنهم يؤمنون من صفات الله وقدرته وخلقه بما لا يؤمن به أولئك، وهذا الصنف أعلى، فلهذا كانت المرجئة في الجملة خيرا من القدرية، حتى إن الإرجاء دخل فيه الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم، بخلاف الاعتزال، فإنه ليس فيه أحد من فقهاء السلف وأئمتهم" (2). وأما ما جاء من نصوص في ذمهما، فيقول شيخ الإسلام في ذلك: "وقد رويت أحاديث في ذم القدرية والمرجئة، روى بعضها أهل السنن". وهناك وجه ثالث في ارتباط المرجئة بالقدرية، وهو أنهما مع الروافض والخوارج يمثلون أصول بدع الضلال الثنتين والسبعين. فقد قال يوسف بن أسباط وعبدالله بن المبارك رحمهما الله:"أصول البدع أربعة: الروافض، والخوارج، والقدرية، المرجئة" (3). وهذه الفرق كلها كانوا في أول الأمر يشتركون في انتحال النصوص والاستدلال بها على بدعتهم، ولم يكونوا يعارضون النصوص بما يدعون من العقليات، كما هو حال الجهمية ومن تأثر بهم ممن جاء بعدهم حتى من الفرق السابقة نفسها من الشيعة والخوارج والقدرية والمرجئة. يقول شيخ الإسلام: "ومعلوم أن عصر الصحابة وكبار التابعين لم يكن فيه من يعارض النصوص بالعقليات، فإن الخوارج والشيعة حدثوا في آخر خلافة علي، والمرجئة والقدرية حدثوا في أواخر عهد الصحابة، وهؤلاء كانوا ينتحلون النصوص، ويستدلون بها على قولهم، لا يدعون أنهم عندهم عقليات تعارض النصوص. ولكن لما حدث الجهمية في أواخر عصر التابعين، كانوا هم المعارضين للنصوص برأيهم، ومع هذا فكانوا قليلين مقموعين في الأمة" (4). المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 108   (1) ((الفتاوى)) (8/ 105 - 106)؛ وانظر منها (16/ 241 - 242). (2) ((الفتاوى)) (16/ 242 - 243)؛ وانظر: ((جامع الرسائل)) (1/ 118)؛ و ((التدمرية))، (ص235). (3) ((الفتاوى)) (3/ 350)؛ وقول ابن أسباط وابن المبارك مذكور أيضاً في: ((الفتاوى)) (12/ 486؛ 13/ 143)، (17/ 447، 35/ 414)؛ ومجموعة ((الفتاوى الكبرى))، لشيخ الإسلام ابن تيمية، طبعة سنة 1408هـ، دار المنار بمصر (2/ 23)؛ و ((درء التعارض)) (5/ 302)، (7/ 110)؛ و ((النبوات)) (1/ 423)، (577). (4) ((درء التعارض)) (5/ 244). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 المبحث الثالث عشر: أصول مذاهب المرجئة نظريا أولا: منطلق الشبهة وأساسها إن منطلق الشبهات كلها في الإيمان وأساس ضلال الفرق جميعها فيه هو أصل واحد اتفقت عليه الأطراف المتناقضة جميعها , ثم تضاربت عقائدها المؤسسة عليه: وذلك أن الخوارج والمعتزلة والمرجئة - الجهمية منهم والفقهاء والكرامية - اتفقوا على أصل واحد انطلقوا منه: هو أن الإيمان شئ (1) واحد لا يزيد ولا ينقص , وأنه لا يجتمع في القلب الواحد إيمان ونفاق , ولا يكون في أعمال العبد الواحد شعبة من الشرك وشعبة من الإيمان. والعجيب أن هذه الفرق تحسب أن هذا موضع إجماع وتدعي ذلك , وعليه تبني معتقدها, وإنما هو إجماع بينها فقط , وربما كان ذلك لأن أكثر المصنفين في الفرق والمقالات هم من غير أهل السنة , ولا يذكرون مذهب أهل السنة , وإنما يذكرون مذاهب أهل الكلام والجدل. على هذا الأصل بنى الخوارج قولهم: أن مرتكب الكبيرة غير مؤمن , لأن إيمانه زال بارتكاب الكبيرة , ثم اختلف عليهم بعض فرقهم في معنى هذا الكفر وبعض لوازم هذا القول. ووافقهم المعتزلة على هذا , لكن لما رأوا أن التسوية في الحكم بين الكافر والمرتد , وبين الزاني والسارق والشارب يستبعده العقل والشرع , حيث فرق الله بين حكم كل من هذين في الدنيا والآخرة , اكتفوا بإزالة اسم الإيمان عنه ولم يدخلوه في مسمى الكفر , فابتدعوا ما أسموه " المنزلة بين المنزلتين ". أما في المآل والعاقبة - أي أحكام الآخرة - فهم والخوارج سواء , فقد اتفقتا في الحكم وهو التخليد في النار , واختلفتا في الاسم , فالخوارج سموه كافرا , وهؤلاء جعلوه في منزلة بين المنزلتين. وأما المرجئة فإنهم - مع الإيمان بالأصل المذكور - وجدوا النصوص الكثيرة (2) والنظر العقلي يدلان على فساد قول الخوارج ومعهم المعتزلة , ووجدوا كذلك - وهذه شبهة أساس عندهم - أن ارتكاب المحظورات وترك الفرائض هو من جنس الأعمال لا الاعتقادات , فاتفقت سائر فرقهم على إخراج الأعمال من مسمى الإيمان حتى يسلم لهم الأصل المذكور , فيظل تارك الفريضة أو مرتكب المحرم مؤمنا , بل لم يتورع بعضهم عن التصريح بمساواة إيمانه بإيمان الملائكة والنبيين بناء على هذا الأصل. ثم إن المرجئة اختلفت فرقهم , فمنهم من يقول: الإيمان محله القلب , ومنهم من يضيف إليه إقرار اللسان. والذين قالوا محله القلب اختلفوا في التسمية , فقال بعضهم: هو المعرفة , وقال آخرون: هو التصديق. والذين قالوا: أن الإيمان يشمل الاعتقاد والإقرار معا افترقوا , فمنهم من خص الاعتقاد بالتصديق , ومنهم من أدخل سائر أعمال القلب فيه. والذين خصوه بالتصديق أولوا أصل مذهبهم في الإقرار والنطق بأنه علامة على ما في القلب فقط , أو ركن زائد وليس بأصلي ونحو ذلك. والكرامية - خاصة - بقوا على الأصل نفسه أنه شئ واحد, لكن جعلوه الإقرار والنطق فقط. وبهذا الإيجاز والإجمال يتبين لنا أنه يمكن هدم مذاهب المخالفين في الإيمان جميعها بهدم هذا الأصل الفاسد الذي هو رأي مجرد عن النصوص , كما يمكن وضع ضابط لمعرفة مذاهب الناس في الإيمان - ولا سيما المرجئة - بحسب محل الإيمان من الأعضاء.   (1) وهو ما أطلقوا عليه بعد استخدام المصطلحات الفلسفية والمنطقية "الماهية"، وقالوا: إن للإيمان ماهية معينة لا تقبل التعدد ولا التبغض، وسيأتى بسط هذا فى فصل قريب. (2) كنصوص دخول الموحدين الجنة مهما عصوا ولو بعد حين، ونصوص إثبات الإسلام لمرتكب الكبيرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 ثانيا: هدم هذا الأصل شرعا: من أسهل الأمور وأجلاها بيان فساد هذا الأصل , ولهذا سنكتفي بإيراد هذه الأدلة المجملة (1).1 - انعقاد الإجماع على ذلك من الصحابة والتابعين وتابعيهم - كما سبق - وهو إجماع مستند إلى النصوص الصريحة من الكتاب والسنة في زيادة الإيمان ونقصه , واجتماع النفاق والإيمان في القلب الواحد واجتماع الشرك والإيمان في عمل الرجل الواحد (2). 2 - تفاضل المؤمنين في الأعمال الظاهرة تفاضلا لا ينكره إلا مكابر , فمنهم القانت الأواب , والمجاهد الدائب , ومنهم المقتصد , ومنهم الظالم لنفسه المنهمك في فسقه. 3 - تفاوت المؤمنين في الأعمال الباطنة , كالحب والخوف والرجاء والذكر والتفكر في آلاء الله وآياته والخشوع واليقين ونحو ذلك مما لا يجحده إلا معاند عامد. 4 - تفاوت الناس في العلم بما يؤمن به - حتى لو سلم جدلا أنه التصديق - فمنهم من يعلم من صفات الله وآياته وأسباب سخطه ومرضاته الشىء الكثير , ويؤمن بذلك ويعتقده مفصلا , ومنهم من لا يعلم منه إلا النزر اليسير المجمل , فلا مراء في أن الأول مصدق بأضعاف ما الآخر مصدق به , فالمعرفة والعلم واليقين كل منها درجات متفاوتة , والإنسان الواحد نفسه يكون إيمانه بشىء أقوى من إيمانه بشىء آخر , ويكون إيمانه بالشىء اليوم أقوي منه غدا أو العكس.5 - أن الإيمان يتفاوت بتفاوت سببه ومستنده , فمن آمن بسبب آية خارقة رآها , ليس كمن آمن تبعا لإيمان غيره من الناس أو نحو ذلك من الأسباب العارضة (3). ثالثا: ضابط معرفة أصول الفرق في الإيمان: يمكن معرفة أصول الفرق المختلفة في الإيمان بتقسيم الأقوال منطقيا حسب الأعضاء الثلاثة: " القلب , اللسان , والجوارح " وقد وضع هذا الضابط - نصا أو تلميحا - بعض المؤلفين من العلماء , عوضا من استعراض الفرق الذي سارت عليه كتب الفرق والمقالات , ومنهم الإمام الطبري (4). وابن حزم (5) وشيخ الإسلام ابن تيمية (6) وابن أبى العز (7) , وقد رأيت أن أستفيد من مجموع كلامهم، وأوجز كلامهم وأستخرج منه مع الزيادة والإيضاح ضابطا محددا يعين على معرفة الأقوال والتفريق بينها بيسر وسهولة فكان هذا التقسيم: - أن الإيمان بالقلب واللسان والجوارح 1 - أهل السنة 2 - الخوارج 3 - المعتزلة أن الإيمان بالقلب واللسان فقط المرجئة الفقهاء ابن كلاب - أن الإيمان باللسان والجوارح فقط الغسانية أو فرقة مجهولة 6 - أن الإيمان بالقلب فقط الجهمية المريسية الصالحية الأشعرية الماتريدية وسائر فرق المقالات - أن الإيمان باللسان فقط الكرامية وبعض هذه الأقسام تحتاج لتفصيل إيضاحى وهى: أ - الذين قالوا إنه بالقلب واللسان والجوارح طائفتان 1 - الذين قالوا: الإيمان فعل كل واجب وترك كل محرم، ويذهب الإيمان كله بترك الواجب أو فعل الكبيرة، هم: 1 - الخوارج: ومرتكب الكبيرة عندهم كافر. 2 - المعتزلة:   (1) أما هدمه من جهة هدم أساسه الذى بنى عليه أثناء تطور الظاهرة وهو المنطق، حيث أثبتوا ما أسموه الماهية فقد عقدنا له فصلا خاصا يأتى عما قليل (2) والمقصود هو النفاق الأصغر والشرك الأصغر. (3) لزيادة البيان فى هذا انظر: ((الإيمان)) لشيخ الإسلام (219 - 224). (4) انظر ((تهذيب الآثار)) (2/ 189 - 199)، وقد ذكر أربعة أصول غير مذهب السلف. (5) انظر: ((المحلى)) (13/ 9) طبعة أبى المكارم 1392هـ. (6) ((الإيمان)) (ص184)، هو هنا تحدث عن المرجئة خاصة. (7) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص309)، تحقيق: الأرناؤوط. كما فعل قريبا من ذلك الحافظ فى ((الفتح))، (1/ 46)، لكن على كلامه ما يستدرك، وقد فعلنا ذلك هنا، وقد استوفى الزبيدى أصول المرجئة وغيرها عدا مذهب السلف فلم يذكره – ((إتحاف السادة المتقين)) (2/ 243). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 ومرتكب الكبيرة عندهم في منزلة بين المنزلتين.2 - الذين قالوا: الإيمان قول وعمل (1) , وكل طاعة هى شعبة من الإيمان أو جزء منه، الإيمان يكمل باستكمال شعبه وينقص بنقصها، ولكن منها ما يذهب الإيمان كله بذهابه ومنها ما ينقص بذهابه. فمن شعب الإيمان أصول لا يتحقق إلا بها، ولا يستحق مدعيه مطلق الاسم بدونها. ومنها واجبات لا يستحق الاسم المطلق بدونها. ومنها كمالات يرتقى صاحبها إلى أعلى درجاته. (وتفصيل هذا كله حسب النصوص) وهم أهل السنة والجماعة. ب - الذين قالوا: إنه يكون بالقلب واللسان فقط: طائفتان 1 - الذين منهم يدخلون أعمال القلب وهم بعض قدماء المرجئة الفقهاء وبعض محدثى الحنفية المتأخرين 2 - الذين لا يدخلون أعمال القلب، وقد تطور بهم الأمر إلى إخراج قول اللسان أيضا" من الإيمان وجعلوه علامة فقط وهم عامة الحنفية (الماتريدية) ج-الذين قالوا: إنه يكون بالقلب فقط: ثلاث طوائف 1 - الذين يدخلون فيه أعمال القلب جميعا، وهم سائر فرق المرجئة كاليونسية والشمرية والتومنية. 2 - الذين يقولون: هو المعرفة فقط: الجهم بن صفوان. 3 - الذين يقولون: هو التصديق فقط: الأشعرية والماتريدية. هذه هي الأصول النظرية عامة. أما في واقع الظاهرة فقد تقلصت هذه الفرق إلى أقل من ذلك نظرا للتداخلات والتطورات الفكرية التى كان أهمها وأجلاها: 1 - استخدام قواعد المنطق وإدخاله علما معياريا يحكم في القضايا النظرية الخلافية عامة, ومنها قضية الإيمان. 2 - تحول مباحث العقيدة أو التوحيد والإيمان إلى "علم الكلام" الذى يقوم على أسس فلسفية ويستخدم القواعد المنطقية، وإجمالا هو مباحث نظرية عقلية ليس للنصوص فيها - إن وجدت - إلا مكانة ثانوية، لا سيما في العصور الأخيرة. وهذا ما سوف نفصل الحديث فيه عما قليل. والمهم هنا أن هذه الأسباب وغيرها من الأسباب التاريخية البحتة أدت إلى انقراض بعض الفرق الإرجائية، وهي: 1 - الكرامية: لم يعد لهم وجود ولا لفكرهم إلا في كتب المخالفين، مع أنها آخر المذاهب المبتدعة في الإيمان (2) , ظهورا. وانقراضهم قديم نسبيا، يقول الذهبى (فى القرن الثامن): " وكان الكرامية كثيرين بخراسان ولهم تصانيف، ثم قلوا وتلاشوا، نعوذ بالله من الأهواء" (3).هذا مع أنه كان لهم وجود ظاهر حتى نهاية القرن السادس ومطلع السابع، فإن المؤرخين للرازى وعلى رأسهم ابن السبكى (4). ذكروا مناظراته لهم، وكتب الرازى تنضح بذلك، والرازى هو الإمام الثانى للأشعرية توفى سنة 606هـ (5). وقبل ذلك أثناء ظهور إمام الأشعرية الأول وناشر المذهب (أبو بكر الباقلاني) , كان في مقدمهم ابن الهيصم يكتب ويناظر في الطرف الآخر. قال شيخ الإسلام: " وقد رأيت لابن الهيصم فيه مصنفا في أنه قول اللسان فقط، ورأيت لابن الباقلانى فيه مصنفا أنه تصديق القلب فقط، وكلاهما في عصر واحد وكلاهما يرد على المعتزلة والرافضة " (6) .. 2 - الجهمية وأصحاب المقالات (كاليونسية والشمرية): انقرض القائلون بأن الإيمان هو مجرد المعرفة القلبية. ولكن العجيب هو قيام أعظم مذهبين في الإرجاء وهما الأشعرية والماتريدية اللذان يشكلان جملة الظاهرة العامة على أصوله في أن الإيمان هو ما في القلب فقط، حتى إن الماتريدية أولت ما هو مشهور عن أبي حنيفة أن الإقرار باللسان ركن آخر للإيمان، وجعلوه علامة فقط كما سيأتى عنهم.   (1) على ما سبق فى شرح هذه العبارة. (2) قال ذلك شيخ الإسلام، ((مجموع الفتاوى)) (13/ 56). (3) ((سير أعلام النبلاء)) (11/ 524)، ترجمة محمد بن كرام "المؤسس". (4) انظر ترجمة الرازى فى "طبقاته" (8/ 81). (5) انظر: ((لسان الميزان)) (4/ 429)، وإمامهم المتقدم هو الباقلانى. (6) ((مجموع الفتاوى)) (13/ 58). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 هذا مع أن الأشعري نفسه صرح بمذهب جهم وجعله الفرقة الأولى من فرق المرجئة، والمنتسبون إليه يقرؤون ذلك إلى اليوم، بل إن كلام إمامهم المتقدم " الباقلاني " في الإيمان يماثل ما ذكره إمامهم المنتسبون إليه " الأشعرى " عن جهم!! وهذا من تناقضهم. وعلى هذا يصح أن نقول إن مذهب الجهمية في جملته لم ينقرض، وإنما انقرض القسمان الأولان من الأقسام الثلاثة المتفقة على الإيمان يكون بالقلب وحده - أعني سائر الفرق ذات المقالات والجهمية -.أما الفرقة الثالثة فكل ما عملته هو تحوير أو تعديل في كلام جهم، فوضعت التصديق بدلا من المعرفة، وصرحت بنفي أعمال القلب الأخرى مثلما صرح جهم وجعلت الأعمال المكفرة مجرد علامة على الكفر الباطن، وجعلت كل من حكم الشرع بكفره فاقدا للتصديق القلبي، ونحو ذلك من الآراء واللوازم التي لم يخالفوا جهما في شئ منها , إلا إذا صح أن جهما التزم القول بأن من أعلن التثليث في دار الإسلام وحمل الصليب بلا تقية أنه يكون مؤمنا إذا كان يعرف الله (1). على أن ابن حزم نسب هذا الالتزام للأشعرى معه، ولا يصح هذا عن الأشعري. لكن الأشعرية يقولون إنه يمكن أن يكون مؤمنا في الباطن، ولكن إعلانه التثليث وحمله الصليب دليل على كفره، وعلامة عليه، فهو كافر " ظاهرا " مع كونه مؤمنا " باطنا " إذا كان مصدقا!! وعلى أية حال فإن الفرق بين التصديق المجرد من أعمال القلب وبين المعرفة مما يتعذر على العقول إدراكه، كما نص شيخ الإسلام على أن الانقراض قد شمل أيضا آراء بعض قدماء المذهب الأشعري؛ فمؤسسه ابن كلاب كان على عقيدة المرجئة الفقهاء (2).، وأما أبو عبدالله بن مجاهد تلميذ الأشعري وشيخ الباقلاني، وأبو العباس القلانسي، ونحوهم؛ فكانوا على عقيدة السلف في الإيمان - كما نقله عنهم أبو القاسم الأنصارى شيخ الشهرستاني في شرح كتاب الإرشاد للجويني (3). وكل هؤلاء لم يبق لهم في مذهب الأشعرية أثر. 3 - المرجئة الفقهاء: بعد أن استقرت الأمة على التمذهب بالمذاهب الأربعة المشهورة، استقر مذهب المرجئة الفقهاء ضمن مذهب أبي حنيفة رحمه الله، ولهذا أصبح يسمى مذهب الحنفية. وأبو حنيفة رحمه الله تضاربت الأقوال في حقيقة مذهبه - وموقفه من أعمال القلوب خاصة - أهي داخلة في الإيمان أم لا؟ ولم يثبت لدي فيما بحثت أي نص من كلام الإمام نفسه، إلا أنني لا أستبعد أنه رحمه الله رجع عن قوله ووافق السلف في أن الأعمال من الإيمان، وهذا هو المظنون به (4). أما المشهور المتداول عنه فهو مذهب المرجئة الفقهاء , أي إن الإيمان يشمل ركنين: تصديق القلب وإقرار اللسان، وأنه لا يزيد ولا ينقص ولا يستثنى فيه، وأن الفاسق يسمى مؤمناً , إذ الإيمان شىء واحد ينتفي كله أو يبقى كله حسب الأصل المذكور سابقاً.   (1) انظر: الفصل (3/ 47)، وأما أبوعبيد فلم يقل إنه مذهب جهم، بل قال إنه لازم له، الإيمان ص80. وانظر: ((الإيمان)) لابن تيمية (ص1410 - 152)، ففيه تفصيل لموافقة الأشعرية للجهمية ورد عليهم فى تلك الآراء واللوازم وكذا (ص115،184)، ومواضع كثيرة، و ((درء التعارض)): (2/ 274). (2) انظر: ((درء التعارض)) (ص114)، و ((إتحاف السادة المتقين)) يشرح الإحياء للزبيدى (2/ 243) (3) انظر: ((إتحاف السادة المتقين)) (ص138،114). (4) روى الإمام ابن عبد البر بسنده أن حماد بن زيد ناظر أبا حنيفة في الإيمان، وذكر له حديث " أي الإسلام أفضل، وفيه ذكر أن الجهاد والهجرة من الإيمان " فسكت أبو حنيفة، فقال بعض أصحابه: ألا تجيبه؟ قال: لا - أو بم - أجيبه وهو يحدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ((التمهيد)) (9/ 247)، ونسبها ابن أبي العز للطحاوى (331). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 وأشهر من يمثل هذا المذهب هم فقهاء الحنفية المتمسكون بعقيدة السلف وعلى رأسهم الإمام أبو جعفر الطحاوي صاحب العقيدة المشهورة، والإمام القاضي ابن أبي العز شارحها، وقليل من المتأخرين. وحقيقة الأمر أن مذهب هؤلاء مضطرب متردد، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " إنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضاً , فإنها لازمة لها ". (1). وعبارة الطحاوي رحمه الله تدل على هذا فإنه قال: " والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق، والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ومخالفة الهوى، ملازمة الأولى (2). فقوله: " والإيمان واحد " شاهد لما قلنا من أن أصل الشبهة ومنطلقها هو هذا. وقوله: "في أصله سواء والتفاضل بينهم بالخشية والتقى" إلخ , مخالف لذلك، فاضطربت عبارته؛ لأن قوله: "وأهله في أصله سواء" يدل عل أن للإيمان أصلاً وفرعاً أو فروعاً - هو أعمال الجوارح وأعمال القلب-. فيقال: إن كان الفرع داخلاً في مسمى الأصل كما هو الشرع واللغة والعرف لم يعد الإيمان واحداً، بل متفاوتاً متفاضلاً - كإثباته التفاضل في الخشية والتقى -. وإن كان غير داخل في مسماه فقوله: "وأهله في أصله سواء" غير دقيق فينبغي أن يقول "وأهله فيه سواء".والذي دفعه رحمه الله إلى الوقوع في هذا هو محاولة الجمع بين مذهبي السلف وأبي حنيفة , لأن الرجل حنفي سلفي، وكذا شارح عقيدته، فإنه حاول ذلك أيضاً وأراده، ولهذا قال في شرح العبارة " ولهذا - والله أعلم - قال الشيخ رحمه الله: وأهله في أصله سواء يشير إلى أن التساوي إنما هو في أصله، ولا يلزم منه التساوي من كل وجه ". (3).فيقال له: ما هذا الأصل من التصديق الذي يكون أهل الإيمان كلهم مشتركين فيه ويكون ما فوقه زيادة عليه؟ ومن الذي وضعه؟ وهذا في الحقيقة يقودنا إلى قضية فلسفية منطقية هي إثبات الماهية المشتركة خارج الذهن (4). وهو ما لا يقره رحمه الله. وهاهنا قضية مهمة، وهي أن بعض الناس يثبتون أن الخلاف بين مذهب السلف ومذهب أبي حنيفة لفظي بإطلاق، مستدلين بظواهر بعض كلام شيخ الإسلام وبمثل صنيع الطحاوي والشارح، والأخير نص على أن الخلاف صوري، ونحن وإن كان غرضنا هنا ليس التفصيل وإنما هو إثبات الظاهرة , فإننا نبين وجه الحق في ذلك وعلاقته بتطور الظاهرة قائمة أيضاً؛ لأن بعض الناس قد يحسب أن الماتريدية - وهي الطور النهائي للظاهرة بالنسبة للمرجئة الفقهاء- هي على مذهب أبي حنيفة كما تزعم، والخلاف بينها وبين السلف صوري. وسوف نبطل ذلك ببيان حقيقة الخلاف بين أبي حنيفة والسلف، ثم نبين بعد خروج مذهب الماتريدية عن حقيقة مذهب الإمام. بل إن بيان مذهب أبي حنيفة والمرجئة الفقهاء عامة لهو مما يدل على انقراضه إلا من أمثال هذين الإمامين. فما حقيقة الخلاف بين مذهب السلف ومذهب الحنفية؟ قبل الإجابة المباشرة يجب أن نتذكر ما سبق في فصل " المرجئة الفقهاء " من نقل ذم علماء السلف للمرجئة وأنهم هم هؤلاء، وبيان ظلالهم وبدعتهم، وهو ما تنصح به كتب العقيدة الأثرية عامة، فهل يعقل أن يكون هذا كله والخلاف لفظي فقط؟! والذي تبينته من خلال الدراسة والتتبع أن سبب اللبس الواقع أحياناً هو أن للمسألة جانبين: الأول: ما يتعلق بحقيقة الإيمان أو ماهيته التصورية إن صح التعبير:   (1) ((الإيمان)) (ص183). (2) الفقرات من (62 - 64) من ((متن العقيدة)): (ص307) من ((الشرح)). (3) ((شرح العقيدة الطحاوية))، (ص310). (4) وهو المعقود له فصلاً خاصاً بعنوان الأثر المنطقي وسيأتي (ص445). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 والخلاف فيها حقيقي قطعاً، وله ثمراته الواضحة وأحكامه المترتبة مثل: 1 - فالسلف يقولون بزيادته ونقصانه، وهؤلاء يقولون بعدمها. 2 - إطلاقه على الفاسق أو عدمه , فالسلف لا يطلقونه على الفاسق إلا مقيداً، وهؤلاء بعكسهم. 3 - هل يقع تاماً في القلب مع عدم العمل أم لا؟ عند السلف لا يقع تاماً في القلب مع عدم العمل، وعند هؤلاء يقع. 4 - وعند السلف أعمال القلب هي من الإيمان، وعند هؤلاء خشية وتقوى لا تدخل في حقيقته. 5 - وعند السلف الإيمان يتنوع باعتبار المخاطبين به ... فيجب على كل أحد بحسب حاله وعلمه ما لا يجب على الآخر من الإيمان، وعند هؤلاء لا ينوع. 6 - السلف يقولون إنه يستثنى فيه باعتبار، وهؤلاء يقولون لا يجوز ذلك لأنه شك. 7 - إطلاق نصوص الإيمان على العمل أهو حقيقة أم مجاز؟ فالسلف يقولون حقيقة، وهؤلاء يقولون مجاز. 8 - وهؤلاء يقولون: يجوز أن يقول أحد: إن إيماني كإيمان جبريل، والسلف يقولون: لا يجوز بحال. الثاني: ما يتعلق بالأحكام والمآلات وأهمها: 1 - حكم مرتكب الكبيرة عند الله، وأنه لا يطلق عليه الكفر في الدنيا، ولا يخلد في النار في الآخرة، بل هو تحت المشيئة. 2 - كون الأعمال مطلوبة، لكن أهي أجزاء من الإيمان أم مجرد شرائع له وثمرات؟ فمن نظر إلى هذا فقط قال إن الخلاف صوري أو إن النزاع لفظي. ولكن مما يرد به على أصحاب هذا المذهب في القول نفسه - فضلاً عن القسم الأول -: 1 - أن إخراج الأعمال من مسمى الإيمان بدعة لم يعرفها السلف. 2 - أن ذلك اتخذ ذريعة لإرجاء الجهمية - كما سبق , بل أدى إلى ظهور الفسق - كما ذكر شيخ الإسلام. 3 - أنه تكلف وتعسف في فهم الأدلة ورد ظواهرها الصريحة. 4 - أن كل شبهة لهم في ذلك منقوضة بحجة قوية. على أن القضية المهمة في الموضوع والتي ترتب عليها خلافهم في حكم تارك الصلاة - وقولهم أنه يقتل حداً- هي قضية ترك جنس العمل بالكلية. فقولهم: إنه مؤمن يجعل الخلاف حقيقياً بلا ريب، بل هم يجعلونه كامل الإيمان على أصلهم المذكور. فالخلاف فيها لا يقتصر على التسمية والحكم في الدنيا بل في المآل الأخروي أيضاً، هذا ما أخطأ فيه شارح الطحاوية حين قال: " وقد أجمعوا - أي السلف والحنفية - على أنه صدق بقلبه وأقر بلسانه وامتنع عن العمل بجوارحه أنه عاص لله ورسوله، مستحق للوعيد ". (1). واستدل بهذا على أن الخلاف صوري، والواقع أن مجرد الاتفاق على العقوبة لا يجعل الخلاف كذلك. بل مذهب السلف أن تارك العمل بالكلية كافر؛ إذ انعقد إجماع الصحابة عليهم رضوان الله على تكفير تارك الصلاة، ولم يخالف في ذلك أحد حتى ظهرت المرجئة وتأثر بها بعض أتباع الفقهاء الآخرين، دون علم بأن مصدر الشبهة وأساسها هو الإرجاء " (2). ونعود إلى موضوع انقراض هذا المذهب وتطور الظاهرة، فنقول: إن أحداً في النصف الثاني من القرن الثاني لم يكن يتوقع انقراض هذا المذهب؛ لأنه كان يمثل مذهب الدولة الرسمي - أو شبه الرسمي - ويكاد يسيطر على أصحاب المناصب العلمية والقضائية الرسمية في بغداد والأقاليم. ولكن لم يلبث أن انقرضت صورته وتحول إلى مذهب فلسفي كلامي منذ القرن الرابع، ومن أهم أسباب ذلك:1 - المقاومة الشديدة التي بذلها أهل السنة في محاربته، وعلى رأسهم الإمام أحمد - الذي كان يدرس كتاب الإيمان وكتاب الأشربة (3) له في الحلقات العامة - وماثله واقتدى به علماء الحديث والرجال (4) فلم يحقق مذهب الحنفية أي انتصار علمي يذكر. وبعد التغير الجذري الذي انتهت إليه فتنة الإمام أحمد، والمكانة العليا التي تبوأها لدى الخلفاء والعلماء والعامة، وبروز المذاهب الأخرى - لا سيما الشافعية - تقلصت مكانة هذا المذهب في الفروع، وكان تقلصها في الأصول أكثر.2 - انتشار المنطق والفلسفة وعلم الكلام، فقد حاول متكلموا هذا المذهب تعويض الهزيمة التي لحقته في المجال العلمى النصي (الكتاب والسنة) بإضفاء الطابع الفلسفي عليه، مستفيدين من هذا الانتشار الذي لم يقابله أهل السنة بما يستحق - لأسباب يطول ذكرها - فمال إليه الطبقة المثقفة، وتخلى معظم الفقهاء الحنفية (وغيرهم) عن التعرض لأمور العقيدة وأحالوها إلى علماء الكلام، وهنا برز من متكلمي الحنفية رجل كان له أعظم الأثر في الانتصار لمذهب جهم وتحويل مذهب الحنفية إليه، وهو أبو منصور الماتريدي. (5). وقد اضطر الحنفية في بعض المراحل إلى الالتصاق بالأشعرية الذين كانوا أكثر منهم تعمقاً في الكلام , حتى أصبح كلام الباقلاني والرازي من أهم مصادرهم. وهذا مما جعل الفرقتين تتقاربان كثيراً، حتى إن مسائل الخلاف بينهما حصرت في قضايا معدودة أكثرها فلسفي. المصدر: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي - 2/ 401   (1) ((شرح الطحاوية))، (ص310). (2) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/ 616)، وسيأتي لهذا تفصيل وإيضاح في حكم ترك العمل. (3) لأن الحنفية يبيحون النبيذ. (4) لا سيما البخاري وأبو داود (5) انظر كتابه، (ص 373) – إلى آخر الكتاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 المبحث الرابع عشر: الأثر الكلامي في تطور الظاهرة إن الدارس لتاريخ الفكر الإسلامي عامة يجد أن أكبر غريبة وفدت عليه وامتزجت به وتركت فيه أبلغ الأثر - شكلا ومضمونا - هي ظاهرة الغزو الفلسفي الإغريقي!! حقا إن أكبر حرب نفسية وفكرية أثيرت على الإسلام هي الغزو الفكري الحديث، الذي وفد مع الحملات الصليبية المسماة " الاستعمار ". غير أن هذا الغزو - وإن كان لا مبرر لقبوله على الإطلاق - له تفسير معقول، وهو التفاوت الكبير في مستوى التقدم الحضاري بين الأمتين المتصارعتين. فأمة تعاني من ضعف مزمن في كل مجالات الحياة ليس غريبا أن تخضع لغزو أمة قوية قاهرة حققت - وفق سنة الله الكونية - من الكشوفات والصناعات ما لم يكن الخيال البشري يحلم به من قبل. أما الظاهرة المستعصية على العقل، الغريبة في تاريخ الإنسانية، فهي أن تتقبل أمة حية قوية تملك مصدرا مستقلا للمعرفة والثقافة غزوا فكريا من أمة بائدة. ويكون الأمر أكثر استعصاء وغرابة إذا كانت الأمة المتقبلة للغزو هي أمة الوحي النقي والتوحيد الخالص، اللذين فتحت بهما قلوب الأمم، وحطمت طواغيت العالم، وبلغت من الاستعلاء بالحق ما لم تبلغه أمة قط ومع ذلك تتقبل الغزو من تراث مندثر لأمة مشركة منقرضة!! ولست في معرض الحديث عن أسباب تقبل هذا الغزو المدمر، لكنني لا أرى بدا من التعرض لذكر سببين رئيسين له - إن لم يكونا السببين الرئيسين - وهما: 1 - التخطيط التآمري لأعداء الإسلام: الذي انتهج أمكر الأساليب , ومنها " الغزو من الداخل " , وما ظاهرة الزندقة إلا رأس من رؤوس أفاعي الظلام، التي أكل الحقد قلوبها فقذفته سموما من الآراء والبدع والفلسفات الهدامة. والمتأمل لرؤوس الضلالة يجد طائفة منهم تنتمي للأديان والفلسفات التي سحقها الإسلام وحرر منها العباد مثل: بشر المريسي (يهودى) (1)، عبدالله بن المقفع (مجوسي)، إبراهيم النظام (برهمي) (2)، عبدك الصوفي (ثيوصوفي) (3)، جابر بن حيان (؟). وقد عرف الهدامون كيف يدخلون من أوسع الأبواب بالتدسس إلى السلطة الحاكمة والتأثير فيها لكي تتقبل هذه الأفكار، والناس من بعد لهم تبع. وهكذا وقع لخالد بن يزيد الأموي والمأمون العباسي - وإن كان الأول أقل - وغيرهما ممن أغرته هذه الفلسفات، على أن هذا السبب يظل أقل السببين شأنا، فإن الأمة الإسلامية متى كانت مستقيمة على الإيمان لم يضرها كيد كائد ولا عداوة حاقد بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]. 2 - المنهج التوفيقي: إن الإيمان بالله ورسوله يحتم على الأمة الإسلامية أن تتمسك بمصدر الحق المعصوم، الذي مَنَّ الله به عليها دون سائر الأمم، وألا تتلقى من غيره فيما كفاها مؤونته، بل تحكمه في كل ما تأخذ وما تذر، وهذا أصل قطعي كلي تضافرت للدلالة عليه الآيات والأحاديث. ومنها: عن جابر بن عبدالله أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب، فقرأه النبي صلى الله عليه وسلم فغضب فقال: ((أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو باطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى - صلى الله عليه وسلم - كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)) (4)،   (1) كما نص عليه الدرامى والإمام أحمد وغيرهما. (2) ذكر بعض العلماء أنه كان يخفى برهميته بالاعتزال ليفسد دين الإسلام، وكتبه تدل على ذلك، انظر: ((سير أعلام النبلاء)) (10/ 452). (3) والثيوصوفية هى أصل الصوفية ومعناها الحكماء الإلهيون، وقد ذكره الملطي ضمن الزنادقة. (4) حديث صحيح، رواه أحمد (3/ 387) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 فهذا الموقف يرسم منهج التعامل مع الوحي المنسوخ، فكيف بالفكر البشري المحض الذي سماه الله تعالى (هوى وظناً وخرصاً وإفكا) وهي كلها أسماء يدخل في مسماها دخولا أوليا ما يسمى " الفلسفة الميتافيزيقية " وما تفرع عنها. وحسبك أن الله تعالى قال: مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف:51]. فهذه الآية نسفت كل النظريات والفلسفات المخالفة للوحي - الكوني منها والإنساني - ووسمت أصحابها باسم (المضلين)، وما كانوا دائما إلا كذلك! وعلى هذا المنهج سار عمر بن الخطاب - نفسه - فإنه " لما فتحت أرض فارس ووجدوا فيها كتبا كثيرة، كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب ليستأذن في شأنها وتنقيلها للمسلمين، فكتب إليه عمر أن اطرحوها في الماء، فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه، وإن يكن ظلالا فقد كفانا الله! فطرحوها في الماء أو في النار (1)،". وعليه كذلك كان موقف أئمة الإسلام وعلماء الملة، كالأئمة الأربعة ووكيع وابن المبارك والسفيانين والفضيل. وغيرهم ممن سبقهم أو لحقهم. (2) وعلى هذا ثبتت الطائفة المنصورة " أهل السنة والجماعة " في كل العصور، فقد تعرضت كتب الفلسفة والمنطق (3) للحرق والمصادرة في عصور متعاقبة (4)، ولاحقها علماء الإسلام بالفتاوى المدمرة، حتى إن كتب الفقه سطرت أن الوقف إذا وقف على طلبة العلم لا يدخل فيه أصحاب الكلام (5). وقد تجلى هذا الموقف الأصيل أعظم ما تجلى في موقف إمام السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، الذي حقق أعظم انتصار في التاريخ الفكري في الإسلام (6).وهو سجين أعزل، وما ذلك إلا لأنه يمثل منهج الوحي في مقابل الخرص والهوى والخرافة. ولكن المنهج التوفيقي (7) - وهو منهج ابتليت به الأمة الإسلامية قديما وحديثا - عكر على هذا المنهج الحازم الحاسم مواقفه وأفسد كثيرا - في حين أراد إصلاحا وتوفيقا! هذا المنهج - الذي انتهجه الأشاعرة والماتريدية - يرى إمكان الجمع بين الوحي والفلسفة، بين منهج القرآن ومنهج اليونان (8)، والخروج بموقف أو رأي وسط بينهما أو مركب منهما!!   (1) ((مقدمة ابن خلدون)) (ص 480). (2) انظر: ((صون المنطق والكلام)) للسيوطي، و ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر: ((فصل ذم الجدال والكلام)). (3) وتسمى أيضا " علوم الأوائل " أو " علوم اليونان ". (4) كعصور المرابطين والأيوبيين. (5) انظر: ((شرح الطحاوية)). بل نص بعضهم على جواز إزالة النجاسة بكتب الفلسفة والمنطق وإن كنت لا أراه احتراما للحرف العربي. (6) وإن أردت التأكد من أنه لا مبالغة في هذا الوصف، فانظر التقدير البالغ الذي أوقعه الله له في قلوب الأمة خاصتها وعامتها، فبعد أن اشتغلوا بتعذيبه – كما فعل المعتصم – انقلب الحال إلى الإجلال الفائق والحرص البالغ على أن يشرفهم بزيارته، وبعض من لم يدركه منهم أوصى أن يدفن بجوار قبره، أو كان معظما لتلاميذه من بعده. انظر ترجمة الإمام في ((سير أعلام النبلاء))، و ((البداية والنهاية))، و ((مناقب الإمام أحمد)) لابن الجوزي. (7) أو التركيبي! وينبغي أن يعلم أنه ليس المقصود من التركيب أو التوفيق الجمع، فإن أصحابه كثيرا ما يردون على النهجين كليهما (منهج أهل السنة ومنهج الفلاسفة). (8) انظر مثالا حيا كلام الدكتور البوطي في مقدمة كتابه ((كبرى اليقينيات)). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 ويظهر ذلك بوضوح في تعامله مع نصوص الوحي كتابا وسنة؛ فهو يقرر جزما وجوب الأخذ ببعض الآيات والأحاديث على ظاهرها المجمع عليه المعروف عند السلف، في حين يقرر أيضا - على الدرجة نفسها من الجزم والإيجاب - تأويل بعضها الآخر بما لم ينقل عن السلف، بل قام إجماعهم على خلافه، ولا يتحرج أصحابه من ذكر الإجماع ومستنده النصي، ثم التصريح بمخالفته بقول يعلمون أنه منقول عن اليونان!! وهذا المنهج - فوق أنه محكوم عليه شرعاً بالخطل والضلال - هو خطأ بيِّن بالفطرة العلمية المحضة؛ لأنه يقوم على غير معيار موضوعي متميز، وحسبك إقرار أصحابه قاطبة بأن التأويل ظني؛ ولهذا يختلفون فيه اختلافا شديداً حتى لا يكاد يجمعهم أحيانا إلا مخالفة دلالة النص التي يسمونها ظاهراً - وإن كان " نصاً " لا يقبل الاحتمال - وهذا ينطبق على نصوص الإيمان والقدر كنصوص من الصفات سواء. ولهذا شهد الخط البياني لهذا المنهج تذبذباً شديداً، ثم انحيازاً تاماً في النهاية إلى جانب الفلسفة (1)،! كما أن هذا المنهج - بحسب أفراده - يشهد تنقلات وتطورات عجيبة تلفت نظر كل دارس لأعلامه وأئمته، فالواحد منهم يبتدئ معتزلياً، وينتهي سنياً صرفا أو فلسفيا صرفا، يتردد بينهما فيناقض في كتاب ما قاله في الآخر، وخيرهم من يرجع إلى مذهب السلف عند الاحتضار أو قبيله (2)!! ولهذا كانت أصولهم - المتفق عليها بينهم - عرضة لتفسيرات مختلفة (مثل معاني الصفات، والكلام النفسي، والكسب .. ) ولا شك أن لهذا تفسيره كظاهرة نفسية عامة في الاختلافات العقائدية والسياسية وغيرها، وأياً كان هذا التفسير فإن حلول الوسط في خلاف بين حق محض صراح وباطل محض صراح هي بالبداهة ترجيح للباطل وهضم للحق. بل مجرد الخروج عن مصدر المعرفة المعصوم " الوحي" هو الضلال بعينه أياً كان المصدر الآخر. وعلى أي حال أصبح هذا المنهج واقعة بعد أن كانت الأمة قبله فريقين متنافرين: 1 - أهل السنة والجماعة - ومعهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وصريح العقل، مجمعين على الدعوة إلى المنهج الناصع المستقيم. 2 - رؤوس الضلالة من الجهمية والقدرية والزنادقة والمتفلسفة، وهؤلاء معهم فلسفات وجدليات وتنطعات ترجموها عن أمم الشرك والضلال، وضربوا لأجلها كتاب الله بعضه ببعض حين خلطوها بتحريف للمحكم وفهم سقيم للمتشابه. في غمرة العداء الصارم والمعترك الصاخب ظهر الفكر التوفيقي وبزغ قرنه، فدعا أصحابه إلى التوسط بين هذا وذاك، فاتهموا أهل السنة بأنهم متمسكون بالظواهر النقلية معادون للدلائل العقلية، واتهموا الآخرين - بحق - بأنهم معادون للنقل مقدسون للعقل، ورأوا - هم - أن الصحيح هو وجوب الأخذ ببعض أصول أهل السنة مع وجوب تأويل بعضها الآخر لمخالفة صريح العقل بزعمهم!! وكذلك وجوب الأخذ ببعض ما يدعو إليه الآخرون من العقليات ورد البعض الآخر!!   (1) مما يوضح أن مؤسسيه الأوائل كابن كلاب والمحاسبي كانوا أقرب إلى منهج الوحي ممن جاء بعدهم كالباقلاني والبغدادي وابن فورك، وهؤلاء كانوا أقرب إليه ممن جاء بعدهم كأبي المعالي الجويني والغزالي، وهؤلاء أقرب من الذين مالوا بعدهم إلى التفلسف ميلا شديدا كالفخر الرازي، ثم هو وأمثاله أفضل ممن سار على منهجه مع انقطاع صلتهم بالوحي تقريبا كالآمدي والأرموي والإيجي (صاحب المواقف) وبين هذه الطبقات أعلام ممن تردد وتذبذب ووافق هؤلاء في شيء وأنكر عليهم شيئا أو أشياء. وانظر ((مقدمة ابن خلدون)) (ص464) (2) كحال أبي المعالي والغزالي والرازي وغيرهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 وهكذا جعلوا - وهم لا يشعرون - فلسفة اليونان، وآراء الصابئين والبراهمة، وخرافات المجوس والنصارى تقف موقف الند المنافس لما أنزل الله من الوحي المحفوظ المعصوم!! وبعثوا تلك الرمم الفكرية البالية لتشاطر هدى الله عقول المسلمين وتقاسمه قلوبهم. (1) وليس هذا فحسب، بل من أخطر نتائج هذا المنهج أنه حطم وحدة التجمع الضخم الذي كان أهل السنة والجماعة يحظون به دون سائر الفرق؛ حيث كانت الفرق الأخرى - كالشيعة والمعتزلة - لا تمثل إلا مستنقعات جانبية على ضفتي تيار السنة الكبير. ولكن هذا المنهج جنى على ذلك جناية كبرى - لا سيما وكثير من رؤوسه ينتسبون للسنة ونصرتها -، فانقسم الرأي وتفسخ الموقف، واستصغرت الأمة خطر ما يدعو إليه هؤلاء، استكبارها له نفسه حين كان دعاته هم أعداء السنة الصرحاء. حتى جماهير الأمة وعامتها اختلط عليهم الأمر وانقسم الولاء , فما كان لهم من قبل أن يقارنوا بين الكتاب والسنة وبين زندقة الفرس والهنود والصابئين، ولا أن يعتقدوا كون ابن أبي دؤاد وبشر وجهم وغيلان والنظام أعلم بدين الله واتبع للحق وأهدى سبيلا من مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة والحسن وسفيان والفضيل. فلما ظهر المتمسحون بالسنة , المعظمون ظاهرا لأولئك السلف , مؤيدين لأولئك المبتدعة في كثير من أصولهم فتر العداء أو اضمحل، وتشتت الولاء وهاج الرأي بين التجمع السني نفسه!! وهذا الموقف تجلى بوضوح في المسألة المهمة لنا هنا وهي مسألة الإيمان , وبخاصة " العمل ". فقد ظهر أصحاب المنهج التوفيقي والخلاف في المسألة دائر بين فريقين: 1 - الأول: الأمة كلها - تقريباً - غير أنها كانت على مذهبين: أ- الغالبية العظمى: وهم متمسكون بما أجمعت عليه القرون المفضلة، وصرحت به نصوص الوحي القطعية من أن الإيمان قول وعمل - على ما سبق شرحه -. ب- طائفة معدودة من الفقهاء تتفق مع الأولى في أهمية العمل ووجوبه فضلا عن اتفاقها معها في أن من لم يقر بالإيمان بلسانه أو لم يقم بقلبه شيء من أعماله (كالرضا واليقين والصدق والإخلاص) كافر لا إيمان له، ولكن انقدحت لديهم شبهة في كون الأعمال - أعمال الجوارح - تدخل في مسمى الإيمان، وفهموا خطأ أن القول بزيادته ونقصانه موافق لقول الخوارج، ولهم على ذلك تأويلات وتعللات .. وهؤلاء هم المسمون مرجئة أهل السنة أو مرجئة الفقها. 2 - الفريق الآخر: غلاة المرجئة، وهم الجهمية - حينئذ - ومن شابههم، ولهم في الإيمان قول اتفقت الأمة على شذوذه وعدم الاعتداد به، وعدم اعتباره في الخلاف، بل أخرجهم أئمة الإسلام الكبار من فرق الأمة الثنتين والسبعين الضالة، وعدوهم أكفر من اليهود والنصارى والمجوس لمسائل ذهبوا إليها منها هذه المسألة. فقد كان مذهبهم في الإيمان أنه مجرد المعرفة بالقلب؛ فكل من عرف الله بقلبه فهو عندهم مؤمن تام الإيمان (2) أي وإن لم يعمل. فلما ظهر دعاة المنهج التوفيقي التوسطي وطبقوا منهجهم في التوفيق بين هذه المذاهب , أخذوا من الجهمية أن الإيمان محله القلب وحده وأنه يقع " كاملا " فيه، وأن النطق بالشهادة فضلاً عن سائر الأركان غير داخل فيه وإنما هو شرط ظاهري فقط، أي شرط لإجراء أحكام الإسلام الظاهرة على قائله!!   (1) وهذا هو الأصل الذي نشأت منه أكبر مشكلة منهجية يعاني منها هذا المنهج التركيبى، وهي ما أسموه (تعارض العقل وكيفية العمل عند ذلك)، وهو الذي هدمه شيخ الإسلام بكتابه الفذ: ((موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول)) ومفتتحا إياه بذكر رؤوس هذا المنهج وقانونهم في التعارض. (2) ولهذا ألزمهم أهل السنة بالقول بإيمان إبليس وفرعون وأهل الكتاب .. وكل من دلت النصوص على أنه يعرف الله بقلبه!! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 وأخذوا من أهل السنة عن أحكام المرتدين وتاركي الدين كله أو بعض أركانه أو بعض واجباته، وتعرض فاعل ذلك للوعيد ونحو ذلك .. حتى إن الواحد من أصحاب هذا المنهج ربما يكتب بما يوافق الجهمية - باعتباره متكلما-، فإذا كتب باعتباره فقيها ذكر كلام علماء السنة ونقل أقوالهم كأي فقيه منهم!! على أن هذا الحكم لم يخرجوا به نتيجة توسطهم في هذه المسألة بمفردها، بل هو مقرون ومرتبط بتوسطهم في مسألة أكثر شهرة في التاريخ , وهي مسألة خلق القرآن. وبيان ذلك: أن مسألة خلق القرآن كانت أشهر المسائل الخلافية وأعظمها (1) وبها امتحنت الأمة كلها وتعرض علماؤها شرقاً وغرباً للأذى والسجن والقتل، وشغلت أذهان الناس وأوقاتهم وعلومهم وكتبهم، وكان الخلاف فيها حاسماً واضحاً بين فريقين: 1 - علماء الأمة قاطبة؛ وهم مجمعون على ما كانت عليه الأمة قبل هذه البدعة من اعتقاد أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق. 2 - الفرقة الكلامية الشاذة ومعها السلطة الغاشمة؛ ورأيها أن القرآن مخلوق. ورغماً عما نزل من البلاء والزلزلة والفتنة ثبتت الأمة وانتصرت في النهاية تبعا لثبات الإمام أحمد رضي الله عنه، وانتصر منهج الوحي انتصاراً حاسماً، واندحرت أفاعي الابتداع، وكمنت شياطين المكر بذلة. ولكن المنهج التوفيقي لم يدع فرحة الأمة بالنصر تتم وتماسكها على الحق يكمل، فقد نبغ دعاته - وعلى رأسهم عبدالله بن سعيد بن كلاب (2) - برأي توفيقي مبتدع لم يقل به أحد من الفريقين المتخاصمين وهو أن كلام الله نوعان: أ- نفسي: وهو صفة أزلية قديمة قائمة بالنفس، وهذا غير مخلوق (موافقة لأهل السنة).ت - لفظي: وهو الكلام المسطور في المصحف، وهذا مخلوق (3) (موافقة منهم للمبتدعة). فعاد الاضطراب إلى الأمة وظهر التشويش، وانقسمت وحدة المسلمين التي كانت متماسكة صفاً واحداً مع علماء السنة، وما بعض أهل الكلام والمشتغلين إلى هذا الرأي الجديد، ثم شاع حتى كاد يغلب أكثر معاهد العلم في العصور الأخيرة. وهكذا أصبح القول بالكلام النفسي من أعظم أصول المذهب التوفيقي، تبعا لضخامة المعركة الدائرة حينئذ في هذه المسألة الكبرى، وكان طبيعياً أن يظهر أثره في الأصول الأخرى , ومنها "الإيمان" , فقد دخل أصحابه في مخاضة فلسفية في موضوع الكلام أهو ما يقوله اللسان أم يدور في النفس فقط؟ وما العلاقة بينهما حينئذ؟ والمتكلم أهو من فعل الكلام؟ أم من قام به الكلام؟ .. إلى آخر هذا التفلسف (4). فلما جاؤوا لمبحث الإيمان وتفسيره أهو الإقرار باللسان أم الإقرار بالقلب وحده أم بهما معا أم بهما مع ضم غيرهما - استصحبوا ذلك الأصل وطبقوه وردوا هذا له - فكان من أوليات ذلك إسقاط كون العمل من الإيمان، وتطبيق مذهبهم في التأويل على ما ورد في ذلك من نصوص!!   (1) وإن لم تكن هي الوحيدة في الفتنة، بل هي مثال بارز للخلاف بين منهجين متناقضين (منهج الوحي ومنهج الهوى)، وقد جرت المناظرة بين الإمام أحمد وبين رؤوس المبتدعة المؤيدين بالسلطة في مسائل أخرى غيرها، وكان الإمام يرد القضية كلها إلى أصل واحد وهو الإتيان بدليل من الكتاب والسنة وأقوال السلف في حين كان أولئك يمارون بالعقليات ويجادلون بالمتشابهات. (2) المعروف بالقطان (3) ثم منهم من قال: إنه حكاية لكلام الله، ومن قال: إنه عبارة عنه، ومنهم من قال: إن المتكلم به وناظمه هو جبريل، ومن قال: هو محمد صلى الله عليه وسلم. انظر مثلا: ((الإنصاف)) للبقلاني. (4) انظر: ((الإرشاد)) للجويني، (وهو من أقدم كتبهم الشارحة للمسألة ببسط) من (ص99 – 137) وهم من أوضح ما كتبوا في هذا الموضوع، أما المتأخرون فكلامهم في المسألة ألغاز ومعميات فلسفية!! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 يقول أبو المعالي الجويني في باب الأسماء والأحكام بعد أن أطال النفس في تقرير صحة مذهبهم في الكلام النفسي: " اعلموا أن غرضنا في هذا الفصل يستدعي تقديم ذكر حقيقة الإيمان، وهذا مما اختلفت فيه مذاهب الإسلاميين: 1 - فذهبت الخوارج إلى أن الإيمان هو الطاعة ومال إلى ذلك كثير من المعتزلة .. 2 - وصار أصحاب الحديث إلى أن الإيمان معرفة بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان. 3 - وذهب بعض القدماء (1). إلى أن الإيمان هو المعرفة في القلب والإقرار بها. 4 - وذهبت الكرامية إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فحسب والمرضي عندنا أن حقيقة الإيمان: التصديق بالله تعالى؛ فالمؤمن بالله من صدقه، ثم التصديق على التحقيق كلام النفس، ولكن لا يثبت إلا مع العلم، فإنا أوضحنا أن كلام النفس يثبت على حسب الاعتقاد " (2).ثم قال: " وقد يشهد لما ذكرناه إجماع على افتقار الصلوات ونحوها من العبادات إلى تقديم الإيمان، فلو كانت أجزاء من الإيمان لامتنع إطلاق ذلك (3). فإن استدل من سمى الطاعات إيماناً بقوله تعالى: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [البقرة:143] قالوا: المراد بذلك - أي الإيمان - الصلوات المؤداة إلى بيت المقدس. وربما يستدلون بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وتسعون (4). خصلة، أولها شهادة أن لا إله إلا الله، وآخرها إماطة الأذى عن الطريق) قلنا: أما الإيمان في الآية التي استروحتم إليها فهو محمول على التصديق، والمراد: وما كان الله ليضيع تصديقكم نبيكم فيما بلغكم من الصلاة إلى القبلتين (5)!! وأما الحديث فهو من الآحاد (6)، ثم هو مؤول (7)، والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا دل عليه أو كان منه بسبب (8). ويقول الكمال بن الهمام - من أئمة الحنفية المتأخرين - في كتابه الذي ألفه على منوال الرسالة القدسية للغزالي: " اختلفوا في التصديق بالقلب الذي هو جزء مفهوم الإيمان أو تمامه أهو من باب العلوم والمعارف أو من باب الكلام النفسي؟ فقيل بالأول، ودفع بالقطع بكفر كثير من أهل الكتاب مع علمهم بحقية رسالته عليه الصلاة والسلام وما جاء به، كما أخبر عنهم تعالى بقوله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 146].   (1) هو جهم بن صفوان وكأنه ترك التصريح به لعلمه أنه لا اعتداد بخلافه. (2) ((الإرشاد)) (ص 396 - 397). (3) السلف يشترطون صحة إيمان القلب لصحة عمل الجارحة، والإيمان حقيقة عندهم مركبة منهما، وما المانع من تقدم بعض أجزاء الشيء على بعض. (4) كذا فيه، ومع قلة بضاعة الجويني في الحديث أرى أن الخطأ من المحقق الذي رجح هذه على ما في النسخ الأخرى (انظر هامشه). (5) وهذا باطل، لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يخافوا ضياع تصديقهم فهو ثابت في الحالين، وإنما خافوا ضياع صلاتهم إلى القبلة الأولى. (6) هذا أصل كبير من أصول الضلال ينبني عليه رد أكثر السنة، والجويني هنا وفي سائر كتبه ينقل عن الجهم. والجبائي والفلاسفة وغيرهم، فهل وصله كلامهم تواترا أم أنه لا يشترط التواتر إلا في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام غيره مقبول آحاده ومتواتره؟! (7) هذا أصل آخر كسابقه، وما رأينا الجويني أول كلام أحد من الفلاسفة أو المبتدعة وصرفه عن ظاهرة، فلماذا تأويل النصوص فقط؟! (8) يريد بذلك أنه "مجاز" وهو أصل منهجهم البدعي؛ لأن مرادهم به تحريف النصوص وإبطال ظواهرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 وبأن الإيمان مكلف به، والتكليف إنما يتعلق بالأفعال الاختيارية، والعلم مما يثبت بلا اختيار , كمن وقعت مشاهدته على من ادعى النبوة وأظهر المعجزة فلزم نفسه عند ذلك العلم بصدقه. وذهب إمام الحرمين وغيره إلى أنه من قبيل الكلام النفسي. قال صاحب (الغنية): اختلف جواب أبي الحسن - أي الأشعري - في معنى التصديق؛ فقال مرة: هو المعرفة بوجوده وإلهيته وقدمه، وقال مرة: التصديق قول في النفس غير أنه يتضمن المعرفة ولا يصح دونها، وارتضاه القاضي - أي الباقلاني -؛ فإن التصديق والتكذيب والصدق والكذب بالأقوال أجدر، ثم يعبر عن تصديق القلب باللسان (1). انتهى. قال: وظاهر عبارة الشيخ أبي الحسن أنه كلام النفس مشروط بالمعرفة، ويحتمل أنه من المجموع من المعرفة وذلك الكلام النفسي. فلا بد في تحقيق الإيمان من المعرفة- أعني مطابقة دعوى النبي للواقع - ومن آخر هو الاستسلام والانقياد لقبول الأوامر والنواهي المستلزم للإجلال وعدم الاستخفاف, لما ذكرنا من ثبوت مجرد تلك المعرفة مع قيام الكفر. قال: ثم جعل بعض أهل العلم الاستسلام والانقياد الذي هو معنى الإسلام داخلا في معنى التصديق، وأطلق بعضهم اسم المترادف على الإسلام والإيمان (2). والأظهر أنهما متلازما المفهوم، فلا يكون إيمان في الخارج شرعا بلا إسلام ولا إسلام بلا إيمان. وأن التصديق قول للنفس غير المعرفة؛ لأن المفهوم منه لغة نسبة الصدق إلى القائل، وهو فعل، والمعرفة من قبيل الكيف المقابل لمقولة الفعل. قال: فلزم خروج كل من الانقياد - الذى هو الإسلام - والمعرفة عن مفهوم التصديق وثبوت اعتبارهما شرعاً في الإيمان؛ إما على أنهما جزءان لمفهومه شرعا أو شرطان لاعتباره شرعاً، وهو الأوجه " (3). وقد علق صاحب الحاشية " قاسم بن قطلوبغا " المتوفى 878 هـ عليه قائلا: " قلت: لم يتكلم المصنف على قول الشيخ أبي الحسن: أن التصديق هو المعرفة بوجوده وإلهيته وقدمه. والظاهر أن الشيخ أبا الحسن أراد المعرفة النفسية المكتسبة بالاختيار؛ لأنها هي التي تكون تصديقا، لا المعرفة التي ذهب إليها جهم وبعض القدرية؛ لأن أبا حنيفة رحمه الله أبطل أن تكون إيماناً - كما نقله عنه الأئمة من أصحابنا - وأنه قد أطبق العلماء على بطلانه ".   (1) كما قالوا في كلام الله تعالى! فالقرآن عندهم تعبيرا أو حكاية عن القول النفسي. (2) أى بناء على دخول الإسلام في معنى التصديق، ومن هنا يظهر مخالفته لقول أهل السنة والجماعة، سواء في أصل حقيقة كل من الإسلام والإيمان أو في ترادفهما وتلازمهما. (3) ((المسايرة)) (ص194 - 196) الحاشية السفلى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 وذكر أيضا أنه لم يظهر له دخول الاستسلام والانقياد في القول النفسي وقال: " والظاهر من قول أبي الحسن: (التصديق قول في النفس غير أنه يتضمن المعرفة) أنه التركيب الخبري ولا يصح بدونها أي لا يكون تصديق بدون الإذعان والقبول لتلك النسبة. والحاصل أن الشيخ أبا الحسن فسر مرة بما هو من مقول الكيف ومرة بما هو من مقول الفعل. والثاني مرتضى القاضي وصاحب (الغنية) " (1). هذا غيض من فيض من كلامهم في حقيقة الإيمان وتفسيرها تفسيرا موافقا لقولهم في الكلام النفسي عامة، ومتمشيا مع المقولات الفلسفية مع الإعراض عن النصوص الواردة فيه، فكان طبيعيا ألا يدخلوا العمل فيه بمرة، وهذا هو المطلوب. وقد سبق قريبا التنبيه إلى معنى الإذعان والانقياد عندهم، فإن بعض الناس قد يفهم أنهم يريدون به العمل والامتثال , ولكن كلامهم واضح في عدم قصد ذلك وأنهم إنما يريدون به الإيمان بوجوب الفرائض لا فعلها. وليس هذا فهمنا فحسب، بل هو ما شرحه به شارح كلام ابن الهمام نفسه حين قال: " الإيمان هو التصديق بالقلب فقط: أي قبول القلب وإذعانه لما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم، بحيث تعلمه العامة من غير افتقار إلى نظر ولا استدلال؛ كالوحدانية والنبوة والجزاء ووجوب الصلاة والزكاة وحرمة الخمر ونحوها ". (2). بل قال المؤلف نفسه: " متعلق الإيمان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فيجب التصديق بكل ما جاء به من اعتقادي وعملي؛ أعني اعتقاد أحقية العملي ". قال شارحه: " أعني بالتصديق الثاني اعتقاد أنه حق وصدق كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم " (3).!! وكذلك يقول شارح الجوهرة: " والإسلام أشرحن حقيقته (بالعمل) الصالح؛ أعني امتثال المأمورات واجتناب المنهيات؛ والمراد الإذعان لتلك الأحكام وعدم ردها سواء عملها أو لم يعملها "!! وقال " والمراد إذعان المذكورات (الصلاة والصيام ... ) وتسليمها وعدم مقابلتها بالرد والاستكبار " (4) فالإذعان عندهم هو جزء من الفعل النفسي أو الكيف النفسي أو متعلق من متعلقاتها لا غير (5)، فهو ضد التكذيب، أو ضد جحد الوجوب على أحسن الأحوال، ومن الواضح أن إذعانا كهذا الذي وصفوه ليس هو الإذعان المطلوب شرعا، وإن كان لا بد منه في الإذعان الشرعي الذي هو الامتثال بفعل المأمور وترك المحظور على ما جاء في النصوص الكثيرة، ومنها ما في حديث جبريل حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ((فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم، وقال: فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال: نعم)) (6) وعلى هذا قال الإمام أحمد رحمه الله:: من قال إنه يكون مؤمنا أو مسلما مع عدم العمل فقد عاند الحديث!! وسيأتي في الباب الخامس بإذن الله كشف هذه الشبهات كاملا، وإنما المراد هنا تبيين الأثر الكلامي في هذه العقيدة المخالفة للكتاب والسنة وإجماع السلف (7). المصدر: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي - 2/ 423   (1) ((المسايرة)) (ص197 –198) ويلاحظ أنه على كلا التفسيرين لم يخرجه عما في القلب، ومن هنا تظهر موافقته لقول جهم في الأصل، والمأخذ كما نص على ذلك شيخ الإسلام في ((الإيمان)) (ص113) على أن النقل عن الأشعري مضطرب في هذه المسألة خاصة، وإلى ذلك أشار شيخ الإسلام في ((الإيمان الأوسط)) لكن لا خلاف في أن قول أكثر الصحابة المتقدمين وكل المتأخرين هو ما نقلناه أعلاه. وانظر رسالة الزميل هادي طالبي: أبو الحسن الأشعري. وعلى أية حال ليس في اشتراطهم الإذعان بالمعنى الذي قرروه ما يبعدهم كثيرا عن قول جهم، بل غايته أنهم يثبتون أن جهما لا يشترط شيئا على مجرد المعرفة الواقعة بلا اختيار ولا كسب من العبد، وهم يشترطونها – على قول -، ولم يظهر حتى الآن ما يدل على أن جهما كان يعتقد إيمان إبليس وأهل الكتاب، بل الظاهر أن هذا لازم مذهبه، وعليه فلا فرق بينه وبينهم إذ هذا لازم لهم أيضا أي مع وقوع المعرفة الاختيارية الكسبية، والله اعلم. (2) ((المسايرة)) (ص174) (3) (ص 204 – 205) (4) ((تحفة المريد)) (ص60) (5) انظر مع ما سبق المصدر نفسه (ص195)، وقد ذكر أن القول بأنه من الكيف النفسي أي مجرد العلم والإدراك بلا عمل اختياري إرادي هو ما يومئ إليه تحقيق سعد الدين التفتازاني. (6) رواه أحمد (2/ 107) (5856) والطبراني (12/ 430) (13581) قال الهيثمي في ((المجمع)) (1/ 45) رجاله موثقون. (7) فالعجب ممن ينسب إلى نفسه السنة والحديث ثم يوافقهم، فهما عمل أحد من المكفرات (كالتشريع من دون الله) فإنه لا يكفر عندهم إلا إذا جحد أو استحل مراعاة منهم لهذا الإذعان أو التصديق المزعوم.؟ فهؤلاء – هداهم الله – يكفرون أهل الكلام أو يضللونهم في موضوع الصفات، ويوافقونهم في موضوع الإيمان وإن كان بعضهم لا يقصد ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 المبحث الخامس عشر: حكم ترك العمل في الطور النهائي للظاهرة يقول أبو منصور البغدادي (1): "الطاعات عندنا أقسام: أعلاها يصير بها المطيع عند الله مؤمناً، ويكون عاقبته لأجلها الجنة إن مات عليه، وهي: معرفة أصول الدين في العدل والتوحيد والوعد والوعيد والنبوات والكرامات، ومعرفة أركان شريعة الإسلام وبهذه المعرفة يخرج عن الكفر. والقسم الثاني: إظهار ما ذكرناه باللسان مرة واحدة، وبه يسلم من الجزية والقتال والسبي والاسترقاق، وبه تحل المناكحة، واستحلال الذبيحة، والموراثة، والدفن في مقابر المسلمين، والصلاة عليه وخلفه. والقسم الثالث: إقامة الفرائض واجتناب الكبائر، وبه يسلم من دخول النار ويصير مقبول الشهادة. والقسم الرابع منها: زيادة النوافل، وبها يكون له الزيادة في الكرامة والولاية ". قال: " والمعاصي أيضا قسمان: قسم منها: كفر محض؛ كعقد القلب على ما ضاد القسم الأول من أقسام الطاعات، أو الشك فيها أو بعضها، ومن مات على ذلك كان مخلدا في النار. والقسم الثاني منها: ركوب الكبائر، أو ترك الفرائض من غير عذر، وذلك فسق تسقط به الشهادة، وفيه ما يوجب الحد أو القتل أو التعزير، وهو مع ذلك مؤمن إن صح له القسم الأول من الطاعات ". فالطاعات عنده ثلاث مراتب: 1 - المعرفة 2 - الإقرار 3 - العمل. والمعاصى مرتبتان: 1 - ترك المعرفة. 2 - ترك العمل. ولم يذكر ترك الإقرار لأنه مجرد علامة لإجراء الأحكام الدنيوية كما بين في كلامه، ولذلك كان إظهاره مرة واحدة كافياً. فحقيقة الإيمان عنده هي المعرفة بأصول الدين معرفة قلبية، وحقيقة الكفر هي اعتقاد ضد تلك المعرفة بالقلب أيضا. وأما الإقرار - وهو قول كلمة الشهادة -، والعمل - الذي هو فعل المأمورات وترك المنهيات - فليسا من الإيمان ولا يكون تاركها كافرا , فإن كان تاركا للإقرار كان مؤمنا عند الله فحسب، وإن كان تاركا للعمل كان مؤمنا عند الله وفي أحكام الدنيا أيضا! هذه خلاصة كلامه. وهذا ظاهر الموافقة لمذهب جهم وبشر مع شيء من التفصيل، ولكن ليس هذا هو العجيب فإن اتباعهم لمذهب جهم مشهور معلوم، ولكن العجيب أن مذهبه فيه موافقة لمذهب الخوارج شعر أو لم يشعر , وذلك في قوله أن من اعتقد ما يضاد القسم الأول من أقسام الطاعات عنده - وهو (معرفة أصول الدين في العدل والتوحيد والوعد والوعيد والنبوات والكرامات ومعرفة أركان شريعة الإسلام) - كافر ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍. والذي أوقعه في ذلك هو القسمة العقلية التي لا مستند لها من النصوص، فهل يعتقد البغدادي أن من خالف الأشعرية في شيء من هذه العقائد أو جهلها كافر؟ الواقع أن الاختلاف عندهم في تكفير أهل البدع قائم، وهم مضطربون في ذلك بما لا متسع لتفصيله. والأكثر مخالفة لمذهب السلف هو اعتقاد تكفير من جهل شيئا من أركان الشريعة بإطلاق؛ فإن الإنسان قد يجهل حكماً هو عند غيره معلوم قطعي ويكون مع ذلك معذوراً .. على تفصيل ليس هذا موضعه. فالبغدادي - ولا ريب - قد جنح في مسألة المعرفة إلى الغلو لكنه سرعان ما تناقض فجنح في مسألة العمل إلى التفريط. فمع حكمه بأن من فاتته معرفة أحكام الشريعة كافر - بلا تفصيل - تجده يحكم بأن من لم يعمل شيئا منها من غير عذر مؤمن إن كان صحيح المعرفة - كما قال - ومن هنا نفهم أن تلك المعرفة المشروطة إنما هي إدراك مجرد، فلا تستلزم لذاتها امتثالا ولا عملا. والمهم أن هذه " التوفيقية " الواضحة التي انتهجها البغدادي بما فيها من تناقض وتذبذب ظلت هي منهج القوم المتبع ولا تزال، - لا سيما في موضوع ترك العمل - والنصوص الآتية هنا توضح ذلك:   (1) أحد أئمة الأشعرية المتقدمين، وهو صاحب ((الفرق بين الفرق)) و ((أصول الدين)) توفى (421) هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 2 - يقول التفتازاني: ضمن كلام معقد طويل عن مسألة " النطق بالشهادة وحكمها ": " إن هاهنا مطلبين: الأول: أن الإقرار ليس جزءاً من الإيمان. والثاني: أنه (أي الإيمان) التصديق لا غير. أما الأول فلدلالة النصوص على أن محل الإيمان هو القلب (1) فلا يكون الإقرار الذي هو فعل اللسان داخلاً فيه. أما الثاني وهو أنه التصديق، لا سائر ما في القلب من المعرفة والقدرة والعفة والشجاعة ... ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍فلوجوه: الأول: اتفاق الفريقين (2) على أنه ليس سوى التصديق. الثاني: أن الإيمان في اللغة التصديق ولم يعين في الشرع لمعنى آخر (3).الثالث: أن النقل خلاف الأصل؛ فلا يصار إليه بلا دليل " (4).والتفتازاني يقول هذا ترجحياً للقول بأن النطق إنما هو شرط لإجراء الأحكام الظاهرة الدنيوية، وليس جزءاً من الإيمان ولا شطراً له - كما كان عليه مذهب الحنفية - ويستدل لذلك بحديث: ((يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)) (5) ,، وهو من النصوص التي أساءوا فهمها، واستدلوا بها في غير موضعها، وأخذوا ببعض مدلولاتها وتركوا البعض الآخر .. على ما سيأتي تفصيله (6) .. وهو ينقل عن شرح المواقف " أن السجود للصنم بالاختيار يدل بظاهرة على أنه ليس بمصدق، ونحن نحكم بالظاهر؛ فلذلك حكمنا بعدم إيمانه، حتى لو علم أنه لم يسجد له على سبيل التعظيم واعتقاد الألوهية، بل سجد له وقلبه مطمئن بالإيمان .. لم يحكم بكفره فيما بينه وبين الله تعالى وإن أجرى عليه حكم الكافر في الظاهر " (7). 3 - وقال السنوسي: " وأما الكافر فذكره لهذه الكلمة - أي كلمة الشهادة - واجب شرط في صحة إيمانه القلبي مع القدرة، وإن عجز عنها بعد حصول إيمانه القلبي لمفاجأة الموت ونحو ذلك سقط عنه الوجوب، وكان مؤمنا. هذا هو المشهور من مذاهب علماء أهل السنة (8). وقيل: لا يصح الإيمان بدونها مطلقاً، ولا فرق بين المختار والعاجز، وقيل: يصح الإيمان بدونها مطلقا , وإن كان التارك لها اختياراً عاصياً، كما في حق المؤمن إذا نطق بها ولم ينو الوجوب ‍‍‍. ومنشأ هذه الأقوال الثلاثة: الخلاف في هذه الكلمة؛ هل هي شرط في صحة الإيمان، أو جزء منه، أو ليست بشرط فيه ولا جزء منه. والأول هو المختار ". وهنا قال شارح كلامه " الدسوقي ": " حاصل ما ذكره الشارح أن الأقوال فيه ثلاثة: فقيل: إن النطق بالشهادتين شرط في صحته خارج عن ماهيته. وقيل: إنه شطر أي جزء من حقيقة الإيمان , فالإيمان مجموع التصديق القلبي والنطق بالشهادتين. وقيل: ليس شرطا في صحته ولا جزءاً من مفهومه، بل هو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية، وهو المعتمد ‍!   (1) انظر: فصل حقيقة عمل القلب الآتي، فهذه الدلالة عليهم لا لهم، فضلا عن النصوص الدالة على أن العمل من الإيمان ‍. (2) يعني الفريقين المختلفين من الأشاعرة والماتريدية في النطق أهو شرط أم شطر؟ كما سيأتي في النقول اللاحقة، وبهذا يظهر ما في عبارته من خلل، فإنهما لو اتفقا ما كان خلاف. (3) هذا الوجه والذي بعده مما يستدل به المرجئة ويرددونه دائما، وهو من أكبر أخطائهم في الاستدلال، وقد أفاض شيخ الإسلام في بيان ذلك، راجع ((الإيمان))، (ص 110، 116) (4) ((شرح النسفية))، (ص 48) (5) رواه الترمذي (2593) , من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, وقال حديث حسن صحيح, وصححه الألباني, وقال في ((السلسلة)) (2450): صحيح على شرط الشيخين. (6) ضمن مناقشة الشبهات النقلية. (7) (ص 42)، وانظر: ((المواقف))، (ص387)، وهو مما كرروه في حواشيهم، راجع موضوع علاقة الظاهر بالباطن الآتي لترى سقوط هذه الافتراضات وتهافتها. (8) يعني الأشعرية والماتريدية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 وعليه فمن صدق بقلبه ولم ينطق بالشهادتين سواء كان قادراً على النطق أو عاجزاً عنه فهو مؤمن عند الله يدخل الجنة، وإن كانت لا تجري عليه الأحكام الدنيوية من غسل وصلاة عليه ودفن في مقابر المسلمين ولا ترثه ورثته المسلمون، فقول الشارح: هذا هو المشهور - أي وجوب النطق وأنه شرط - غير مسلم، بل هذا ضعيف " " .... قوله: وقيل: لا يصح الإيمان بدونها مطلقاً؛ أي سواء كان قادراً على النطق أو كان عاجزاً. وهذا القول منكر ‍‍!! وليس مبنياً على القول بأن النطق شطر من الإيمان؛ لأن من قال بذلك شرط القدرة. وأما العاجز عن النطق لخرس ونحوه فيكفيه في صحة إيمانه عند الله التصديق القلبي " (1). 4 - ويقول صاحب المسايرة على المسامرة في ذكر الخلاف في الإيمان: وأقوال الناس: 1 - " القول بأن مسمى الإيمان هوالتصديق فقط هو المختار عند جمهور الأشاعرة، وبه قال الماتريدي ". 2 - "أن مسمى الإيمان: تصديق القلب والإقرار باللسان وعمل سائر الجوارح، فماهيته على هذا مركبة من أمور ثلاثة: إقرار باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان، فمن أخل بشيء منها فهو كافر، وهذا قول الخوارج، ولذا كفروا بالذنب لانتفاء جزء الماهية " (2). 3 - " أن الإيمان: التصديق باللسان فقط، أي الإقرار بحقية ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يأتي بكلمتي الشهادة، وهذا هو قول الكرامية، قالوا: فإن طابق تصديق اللسان تصديق القلب فهو مؤمن ناج، وإلا فهو مؤمن مخلد في النار ". 4 - " أن الإيمان: تصديق بالقلب واللسان ... ، وهو منقول عن أبي حنيفة ومشهور عن أصحابه وعن بعض المحققين من الأشاعرة ". وذكر أنهم فرقوا بين التصديق والإقرار بأن: " التصديق ركن لا يحتمل السقوط أصلاً، والإقرار قد يحتمله , وذلك في حق العاجز عن النطق والمكره" (3). ثم ذكر لهم دليلين:   (1) ((حاشية أم البراهين))، (ص235). (2) هكذا كالعادة في كثير من الأحيان يذكرون مذهب السلف ضمن كلام الخوارج، ولا يفرقون!! (3) تكرر كلامهم – وسيتكرر – عن الأخرس والعاجز عن النطق، ومعلوم أن كلا منهما لا يعجز عن العمل كالصلاة، فهل يعذرونه في تركها أم يقولون يصلي ولا يتشهد؟! هنا يظهر أن مذهبهم يقوم على معارضة الأصل الثابت بالاستثناء العارض، ولو صح هذا لكان القيام في الصلاة ليس ركناً لسقوطه عن العاجز، ولكان الواجب في الصوم هو الإطعام فقط؛ لأن بعض الناس لا يطيقه وما عليه إلا الإطعام ... وهكذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 أ- أن هذا " هو الاحتياط بالنسبة إلى جعله شرطاً خارجاً عن حقيقة الإيمان ".ب- أن النصوص الدالة عليه من نحو قوله عليه الصلاة والسلام: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقها وحسابه على الله)) (1).قال: "ويجاب من طرف جمهور الأشاعرة عن الحديث بأن معناه أن قول لا إله إلا الله شرط لإجراء أحكام الإسلام، حيث رتب فيه على القول الكف عن الدم والمال، لا النجاة في الآخرة الذي هو محل النزاع " (2).قال:" على أن من محققي الحنفية من وافق الأشاعرة كما نبه عليه المصنف بقوله: " (إلا قول صاحب العمدة) هو كما مر أبو البركات عبدالله بن محمد بن محمود النسفي، (منهم) أي من الحنفية: (الإيمان: التصديق، فمن صدق الرسول) صلى الله عليه وسلم، (فيما جاء به) عن الله فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى، والإقرار شرط إجراء الأحكام، (هو) أي قول صاحب (العمدة)، (بعينه القول المختار عند الاشاعرة) تبع فيه صاحب (العمدة) أبا منصور الماتريدي " (3). أي فالحنفية " المرجئة الفقهاء " فريقان: 1 - فريق وافق الأشاعرة؛ وهم الماتريدي الذي ينتسب إليه من جاء بعده منهم. 2 - فريق ظل عل المذهب القديم- ولو شكلاً- حيث أوله بعضهم بما يوافق مذهب الأشاعرة. ومذهب الفريق الأول هو الذي ساد أخيرا. 5 - ويجمع الشعراني أقوال كثير منهم في موضع واحد: حيث ينقل في كتابه " اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر " أن السبكي أورد سؤالا وهو " أنه هل التلفظ بالإيمان الذي هو الشهادة شرط للإيمان أو شطر منه؟ فيه تردد للعلماء " (4) .. قال الشعراني: "قال الجلال المحلي: وكلام الغزالي يقتضي أنه ليس بشرط ولا شطر وإنما هو واجب من واجباته ". " قال الكمال في حاشية جمع الجوامع: وإيضاح ذلك أن يقال في التلفظ هل هو شرط لإجراء أحكام المؤمنين في الدنيا من التوارث والمناكحة وغيرهما فيكون غير داخل في مسمى الإيمان، أو شطر منه أو جزء من مسماه؟ قال: والذي عليه جمهور المحققين الأول، وعليه فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه مع تمكنه من الإقرار كان مؤمناً عند الله تعالى. قال: وهذا أوفق باللغة والعرف!! وذهب شمس الأئمة السرخسي وفخر الإسلام البزدوي من الحنفية، وكثير من الفقهاء إلى الثاني. وألزمهم القائلون بالأول بأن من صدق بقلبه فاخترمته المنية قبل اتساع وقت الإقرار كان كافراً (5) , وهو خلاف الإجماع على ما نقله الإمام الرازي وغيره " (6) وشطر ذ 5 - وقال البيجورى في شرح الجوهرة شرحا لقوله: وفسر الإيمان بالتصديق ... والنطق فيه الخلف بالتحقيق فقيل شرط كالعمل وقيل بل ... شطر والإسلام اشرحن بالعمل " قوله: والنطق فيه الخلف: أي والنطق بالشهادتين للمتمكن منه، وخرج بالمتمكن - الذى هو القادر - الأخرس فلا يطالب بالنطق، كمن اخترمته المنية قبل النطق من غير تراخ، فهو مؤمن عند الله، حتى على القول بأن النطق شرط صحة أو شطر، بخلاف من تمكن وفرط.   (1) رواه البخاري (2946) , ومسلم (33) (21) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) أي إن مجرد التصديق بالقلب كاف في النجاة في الآخرة، وإن كانت أحكام الدنيا مرتبة على النطق!! هذا مع أن الحديث حجة على كلا الفريقين، ونص في صحة مذهب السلف. (3) (ص 174 - 178) (4) هذا كلام السبكي الابن وهو جزء من كلام طويل في ((الطبقات)) (1/ 87 - 138). (5) هذه من الشبه الخيالية التي لو جاز وقوعها وصح حكمها لما كان حكمها نقضاً للقاعدة، بل مجرد استثناء منها، فكيف وهي محض خيال، وسيأتي البيان ضمن رد الشبهات النقلية. (6) (ص107) من الجزء الثاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 وموضوع هذا الخلاف كافر أصلي يريد الدخول في الإسلام، وأما أولاد المسلمين فمؤمنون قطعا، وتجرى عليهم الأحكام الدنيوية ولو لم ينطقوا بالشهادتين طول عمرهم ". قال: " وقوله شرط: أي خارج عن ماهيته , وهذا القول لمحققي الأشاعرة والماتريدية ولغيرهم. وقد فهم الجمهور أن مرادهم أنه شرط لإجراء أحكام المؤمنين عليهم من التوارث والتناكح والصلاة خلفه وعليه والدفن في مقابر المسلمين ومطالبته بالصلوات والزكوات وغير ذلك، لأن التصديق القلبى - وإن كان إيمانا- (1) إلا أنه باطن خفى، فلا بد له من علامة ظاهرة تدل عليه لتناط - أي تعلق - به تلك الأحكام , فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه لا لعذر منعه ولا لإباء، بل اتفق له ذلك , فهو مؤمن عند الله غير مؤمن في الأحكام الدنيوية ". "ومحل كونه مؤمنا في الأحكام الدنيوية ما لم يطلع على كفره بعلامة كالسجود لصنم، وإلا جرت عليه أحكام الكفر ". قال: " وفهم الأقل أن مرادهم أنه شرط لصحة الإيمان، وهذا القول كالشطرية في الحكم , وإنما الخلاف بينهما في العبارة، والقول الأول هو الراجح , والنصوص بحسب المتبادر منها مقوية للقول بالشرطية دون الشطرية". قال: " قوله وقيل بل شطر: أي وقال قوم محققون كالإمام أبى حنيفة وجماعة من الأشاعرة: ليس الإقرار بالشهادتين شرطا بل هو شطر، فيكون الإيمان عند هؤلاء اسما لعملي القلب واللسان جميعا، وهما التصديق والإقرار. واعترض على هذا القول بأن الإيمان يوجد في المعذور كالأخرس، والشيء لا يوجد بدون شطره. وأجيب عن ذلك بأنه ركن يحتمل السقوط كما فيمن ذكر، وأما التصديق فإنه ركن لا يحتمل السقوط. وعلى هذا القول - كالقول بأنه شرط صحة - فمن صدق بقلبه ولم يتفق له الإقرار في عمره لا مرة ولا أكثر من مرة، مع القدرة على ذلك، لا يكون مؤمنا عندنا ولا عند الله تعالى". قال: " وكل من القولين المذكورين ضعيف، والمعتمد أنه شرط لإجراء الأحكام الدنيوية فقط، وإلا فهو مؤمن عند الله كما مر ". ويقول ملا علي القارئ الحنفي: " الإقرار شرط إجراء الأحكام وهو مختار الأشاعرة ".ثم قال: " وذهب جمهور المحققين إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب، وإنما الإقرار شرط لإجراء الأحكام في الدنيا، لما أن تصديق القلب أمر باطني لا بد له من علامة، فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه فهو مؤمن عند الله تعالى , وإن لم يكن مؤمنا في أحكام الدنيا. ومن أقر بلسانه ولم يصدق بقلبه كالمنافق، فهو بالعكس، وهذا اختيار الشيخ أبي منصور الماتريدي رحمه الله" (2). 8 - ويقول اللقاني الشارح:" وفسر الإيمان - أي حده - الأشاعرة والماتريدية وغيرهم بالتصديق المعهود شرعا , وهو تصديق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما علم مجيئه به من الدين بالضرورة، بحيث يعلمه العامة من غير افتقار إلى نظر واستدلال (3). فلو لم يصدق بوجوب الصلاة ونحوها عند السؤال عنه يكون كافرا. والمراد من تصديقه صلى الله عليه وسلم قبول ما جاء به مع الرضا، بترك التكبر والعناد وبناء الأعمال عليه، لا مجرد وقوع نسبة الصدق إليه في القلب من غير إذعان وقبول له، حتى يلزم (4).الحكم بإيمان كثير من الكفار الذين كانوا عالمين بحقيقة نبوته عليه الصلاة والسلام وما جاء به، لأنهم لم يكونوا أذعنوا لذلك ولا قبلوه ولا بنوا الأعمال الصالحة عليه .. ".   (1) الأصل أن يقول: "وإن كان هو الإيمان " وإلا فقد تناقض، لأنه يرجح القول بالشرطية لا الشطرية. (2) ((شرح الفقه الأكبر))، (ص86). (3) وما كان أخفى من ذلك ففى أى شئ يدخل الإنسان إن لم يدخل فى الإيمان؟! (4) كذا، والصواب حتى لا يلزم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 قال: " ولما اختلف العلماء في جهة مدخلية النطق بالشهادتين في حقيقة الإيمان أشار له بقوله: (والنطق) بالشهادتين للمتمكن منه القادر، بأن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وقولنا: للمتمكن منه القادر يخرج به الأخرس، فلا يطالب بالنطق، كمن اخترمته المنية قبل النطق به من غير تراخ". " (فيه) أي في جهة اعتبار مدخليته في الإيمان، (الخلف) أي الاختلاف متلبسا، (بالتحقيق) أي بالأدلة القائمة على دعوى كل من الفريقين ". " وفصل الخلاف بقوله: (فقيل) أي: فقال محققوا الأشاعرة والماتريدية وغيرهم: النطق من القادر (شرط) في إجراء أحكام المؤمنين الدنيوية عليه، لأن التصديق القلبى وإن كان إيمانا إلا أنه باطن خفى، فلا بد له من علامة ظاهرة تدل عليه لتناط به تلك الأحكام، هذا فهم الجمهور. وعليه فمن دق بقلبه ولم يقر بلسانه لا لعذر منعه ولا لإباء بل اتفق له ذلك، فهو مؤمن عند الله مؤمن في أحكام الشرع الدنيوية. ومن أقر بلسانه ولم يصدق بقلبه - كالمنافق - فبالعكس حتى نطلع على باطنه فنحكم بكفره. أما الآبى فكافر في الدارين، والمعذور مؤمن فيهما. وقيل: "إنه شرط في صحة الإيمان (1) , وهو فهم الأقل، والنصوص معاضدة لهذا المذهب، كقوله تعالى: أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ [المجادلة:22] وقوله عليه الصلاة والسلام: ((اللهم ثبت قلبى على دينك)) (2). ثم استمر في الشرح قائلا: " وقوله: (كالعمل) تشبيه في مطلق الشرطية، يعني أن المختار عند أهل السنة (3).في الأعمال الصالحة أنها شرط كمال للإيمان، فالتارك لها أو لبعضها من غير استحلال ولا عناد ولا شك في مشروعيتها مؤمن فوت على نفسه الكمال، والآتى بها ممتثلا محصل لأكمل الخصال ". ثم استدل الشارح على ذلك بوجوه فقال: 1 - " لأن الإيمان هو التصديق فقط، ولا دليل على نقله ". 2 - وللنصوص الدالة على الأوامر والنواهي بعد إثبات الإيمان، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] , وعلى أن الإيمان والأعمال يتفارقان، كقوله تعالى: آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [البقرة:25]، وعلى أن الإيمان والمعاصي قد يجتمعان، كقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82]. 3 - " وللإجماع على أن الإيمان شرط العبادات، والشرط مغاير للمشروط " ثم شرع في شرح القول الثانى: " (وقيل) أي وقال قوم محققون كالإمام أبى حنيفة وجماعة من الأشاعرة: ليس الإقرار شرطا خارجا عن حقيقة الإيمان، (بل) هو (شطر) أي: جزء منهما وركن داخل فيها دون سائر الأعمال الصالحة (3)، فالإيمان عندهم اسم لعملي القلب واللسان جميعا، وهما الإقرار والتصديق الجازم الذي ليس معه احتمال نقيض بالفعل "." وعلى هذا فمن صدق بقلبه ولم يتفق له الإقرار في عمره ولا مرة - مع القدرة على ذلك - لا يكون مؤمنا (4) ولا عند الله تعالى، ولا يستحق دخول الجنة ولا النجاة من الخلود في النار، بخلافه على القول الأول ". قال: " فعلم من النظم قولان: أحدهما: أن الإيمان هو التصديق، والنطق شرط لإجراء الأحكام الدنيوية على صاحبه - أو لصحته. والثاني: أن الإيمان هو التصديق والنطق , فالنطق شطر.   (1) أى ليس مجرد إجراء الأحكام الدنيوية. (2) رواه ابن ماجه (3834) من حديث أنس رضي الله عنه, وصححه الألباني, وروي عن أم سلمة رضي الله عنها .. (3) يقصد الأشاعرة والماتريدية. (4) لعل هنا سقطا هو "لا فى أحكام الدنيا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 وعلى هذين القولين العمل غير النطق شطر كمال. ومقابله يجعل مجموع العمل الصالح والنطق هو الإيمان " (1).وزاد ذلك إيضاحا حين شرح قول الناظم: (والإسلام اشرحن بالعمل)، فقال: " والإسلام اشرحن حقيقته بالعمل الصالح، أعنى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، والمراد الإذعان لتلك الإحكام وعدم ردها، سواء عملها أو لم يعملها " (2).!! وشرح قوله في أركان الإسلام: مثال هذا الحج والصلاة ... كذا الصيام فادر والزكاة " والمراد أذهان المذكورات وتسليمها، وعدم مقابلتها بالرد والاستكبار" (3). وبهذا يظهر للقارئ في كلامه وجوه من التناقض يطول شرحها وتفصيلها. وإن مما يظهر هذا التناقض وينفي احتمال الخطأ في فهم كلامه ما شرحه به المحقق محمد محيى الدين عبدالحميد، وها هي ذى نصوص منه: قال في بداية كلامه، بعد أن ذكر المذاهب في الإيمان ومنها مذهب السلف: " والذي تطمئن إليه النفس من هذه المذاهب أن الإيمان هو التصديق وحده، كما ذهب إليه محققو الأشاعرة والماتريدية، ويؤيد هذا المذهب وجوه: [أحدها: - وقد أشار إليه الشارع - أن استعمال القرآن الكريم في عدة آيات واستعمال الحديث أيضا، جريا على أن محل الإيمان هو القلب.] قال الله تعالى: أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ [المجادلة:22]. وقال سبحانه: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]. وقل جل ذكره: إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم ثبت قلبي على دينك)) (4) .. , فدلت هذه النصوص ونظائرها على أن الإيمان فعل القلب، وليس فعل القلب إلا التصديق. ولا يجوز لقائل أن يقول: أن المراد في هذه النصوص بالإيمان هو الإيمان اللغوي، ويسلم أن الإيمان اللغوي هو التصديق وحده ومحله القلب، فلا ينافى أن الإيمان الشرعي يشتمل على الإقرار أو غيره على أنه جزء من حقيقته , لأنا نقول: إن الإيمان من الألفاظ التي نقلت في عرف الشرع إلى معنى، فيجب أن يحمل لفظه على هذا المعنى في خطاب الشرع. الوجه الثاني: أنه سبحانه جعل الإيمان شرطا لصحة الأعمال في نحو قوله جل ذكره: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ [طه:112]. ونحن نقطع أن الشرط شيء غير المشروط، وهذا يصلح للرد على من جعل الإيمان هو الطاعات وحدها أو مع التصديق والإقرار. الوجه الثالث: أنه سبحانه وتعالى أثبت الإيمان لمن ترك بعض الأعمال، في نحو قوله سبحانه: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9] ... الآية , ولو كانت الأعمال جزء من حقيقة الإيمان لانتفت الحقيقة بانتفاء جزء منها (5). الوجه الرابع: أنه سبحانه وتعالى قد عطف الأعمال على الإيمان في كثير من الآيات، منها قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف:107]. ولا شك أن الأصل أن يكون المعطوف غير المعطوف عليه، فلا يعطف أحد المتساويين على الآخر، ولا يعطف جزء الشيء على كله؟! "   (1) ((شرح جوهرة التوحيد)) (ص 47 - 57)، مع تحقيق محيى الدين عبد الحميد والمقصود من قوله: "مقابله" مذهب السلف ومن وافقهم. (2) ((شرح جوهرة التوحيد)) (ص 60). (3) ((شرح جوهرة التوحيد)) (ص 61). (4) رواه ابن ماجه (3834) من حديث أنس رضي الله عنه, وصححه الألباني, وروي عن أم سلمة رضي الله عنها. (5) هناك فرق واضح بين من ترك بعض الإعمال ومن ترك جنس العمل بالكلية، وسيأتى تفصيل الرد ... كما أن الفرق واضح بين انتقاء الإيمان ونقصه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 قال: " وقد أورد القائلون بأن الطاعات من الإيمان وجوها استدلوا بها، نرى أن نذكرها لك أيضا ونبين ما في الاستدلال بها من خلل لتكون على بصيرة تامة في هذه المسألة. قالوا: لو كان الإيمان عبارة عن التصديق الذي هو الإذعان والقبول والاعتراف لما اختلف في بعض المكلفين عنه في بعضهم الآخر، مع أنا نعتقد أن إيمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس مثله إيمان أحد من العامة، بل ولا من الخاصة. ويجاب على هذا بأحد جوابين: الأول: أن ندعى أنه لا اختلاف بين إيمان أحد وأحد، وليس لنا إلا إيمان أو كفر، فإن بلغ ما عند المكلف إلى حد الجزم الذي لا يعتريه شك ولا تردد فهو مؤمن، وإن نقص عن ذلك فهو كافر. والثاني: أن نسلم الاختلاف بين إيمان بعض المكلفين وبعضهم الآخر، ولكن لا نسلم أن هذا الاختلاف بسبب أن أعمال بعض المكلفين أكثر أو أشد إخلاصا أو نحو ذلك، بل سبب الاختلاف راجع إلى التصديق لا باعتبار ذاته بل باعتبار متعلقة , فقد يعلم بعض المكلفين تفصيل شئ مما يجب الإيمان به أكثر مما يعلمه آخر، أو سبب الاختلاف هو أن بعض المكلفين تعتريه الغفلة أحيانا وبعضهم لا تعتريه الغفلة أصلا، أو غير ذلك من الأسباب " (1). وقال في شرح الوجوه التى استدل بها الشارح وهى: أن الإيمان هو التصديق فقط، ولا دليل على نقله. وللنصوص الدالة على الأوامر والنواهى بعد إثبات. قال: 1 - " محصله - أي الوجة الأول - أن الإيمان هو التصديق القلبى، بدليل أن نصوص القرآن والحديث قد جعلت محله القلب، وليس لنا أن ندعى أنه نقل من هذا المعنى إلى مجموع التصديق والعمل كما يقول المحدثون وجمهور المعتزلة، فإنه لا دليل على هذا النقل، وأيضا ليس لنا أن ندعى أن الإيمان في هذه النصوص لا يراد به الإيمان عند الشرع وإنما يراد به الإيمان اللغوى: لأن لفظ الإيمان قد نقلته الشريعة من مطلق التصديق إلى التصديق بكل ما علم مجىء الرسول صلى الله عليه وسلم به، إذ يجب في نصوص الشريعة أن تحمل الألفاظ على معانيها الشرعية التي نقلت إليها، ومتى علم كل هذا كان الإيمان الوارد في النصوص دالا على معنى شرعي، وهذا المعنى هو التصديق المخصوص دون شئ زائد عليه ".2 - " محصل هذا الوجه (2) من الاستدلال على أن العمل ليس جزءا من الإيمان أن الله تعالى جعلهم مؤمنين قبل أن يكتب عليهم الصيام، فلو كان العمل جزءا من حقيقة الإيمان، والصيام بعض العمل، لما كانوا مؤمنين إلا بعد القيام بكل الإعمال التي منها الصوم. وقد قيل من طرف المخالفين: أنه سبحانه وتعالى سماهم مؤمنين بالنظر إلى الأعمال التى شرعت قبل الصوم، وهو كلام غير مقبول، لأن الأعمال المأخوذة في مفهوم الإيمان عندهم هى كل الأعمال التى شرعها الله تعالى، فإذا خرج واحد منها خرج كلها: إذ لا فرق بين عمل وعمل " (3). هذا الكلام الذي قرره المعلق هنا والذي سيأتي نقضه جملة - بإذن الله - هو ما ظل يقرره ويدرسه لطلاب كلية أصول الدين بالأزهر سنوات طويلة!! وننتقل من محمد محيى الدين عبدالحميد إلى داعية ومؤلف معاصر، سار على الخط نفسه مع زيادة في الغموض والاضطراب. يقول بعنوان: " مفهوم الإيمان والإسلام شرعا ": " يهمنا أن ندرك معنى الإيمان والإسلام والارتباط بينهما، فالإيمان هو: التصديق الجازم بكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وثبت ثبوتا قطعيا، وعلم مجيئه من الدين بالضرورة: كالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم لآخر، والقضاء والقدر، خيره وشره. وكالإيمان بفريضة الصلاة والزكاة والصيام والحج، والإيمان بتحريم القتل ظلما للنفس المعصومة، وتحريم الزنا والربا وغيرها.   (1) ((إتحاف المريد))، (ص50) (2) أى الوجه الثانى. (3) ((إتحاف المريد)) (ص 55). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 والإيمان بهذا المعنى محله القلب، والإسلام بالمعنى الآتى لازم له. أما الإسلام فمعناه الإذعان والخضوع النفسى والاطمئنان القلبى، والشعور بالرضى بالنسبة لكل ما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم من دين، وعلم مجيئه عنه بالضرورة، أي بدون احتياج إلى سؤال أو كشف وبحث لشهرته بين المسلمين، ويلاحظ أن الإسلام بالمعنى المذكور هو حالة نفسية وقلبية مثل الإيمان، والفرق بينهما أن الإيمان تصديق جازم بما سبق، وأن الإسلام رضاء فلبى، وعدم اعتراض على أي تشريع شرعه الله تعالى وعلم بالضرورة. وأنت قد تصدق بوجود شئ ولا ترضاه، وكم سمعنا من يقول: أنا أؤمن بأن الإسلام فرض الصلاة والزكاة، لكنى غير مقتنع بهما ولا بالحكم المترتبة عليهما. فهذا الاعتراض يجعله غير مسلم، لأن عنصر الخضوع والإذعان غير متوفر، وهذا يجعلنا نشك في إيمانه، لأنه لو صدق بالله وبحكمته وعلمه ورحمته لأسلم نفسه ورضى كل ما ارتضاه الله، لذلك قلنا: إن الإيمان الصادق يلزم منه الإسلام بالمعنى السابق ". " بقى العمل بالتشريعات الإسلامية، مثل: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وجميع الفرائض، والبعد عما حرم الله ونهى عنه. هل لا بد من تنفيذ الفرائض الإسلامية وترك المحرمات مع الإذعان السابق ليصير المرء مسلما أم يكفى الإذعان في إطلاق اسم الإسلام على الإنسان؟! هما رأيان للعلماء، فالجمهور على أن تنفيذ أوامر الإسلام والعمل بما جاء به ليس شرطا ولا ركنا في جواز إطلاق اسم الإسلام على الإنسان، وبعض العلماء يرى أن العمل وتنفيذ أوامر الإسلام وأركانه شرط في صحة الإسلام , أو ركن من أركانه , فمن أسلم وأذعن بقلبه ولم يعمل الأعمال الإسلامية مثل الصلاة وغيرها فليس بمسلم. وعلى الرأي القائل بأن من أذعن بقلبه ولم يعمل أعمال الإسلام فهو مسلم - وهو رأي الجمهور - فإن هذا الإنسان عند القائلين بهذا الر أي يعتبر فاسقا وعاصيا فيطلقون عليه اسم: المسلم الفاسق، والمسلم العاصى، والمسلم المذنب، وتقام عليه حدود الإسلام التى شرعها الإسلام زجرا وتأديبا لمن ترك فرضا أو فعل منكرا، فافهم ذلك جيدا. وهذا المسلم الفاسق أمره إلى الله في الآخرة: إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه بجريمته، ولكن مآله الجنة، إن كان قد مات على الإيمان والإسلام، وهذا هو رأي أهل السنة، قال تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 116]. والإسلام بهذا المعنى محله ظاهر الإنسان وباطنه , لأن الإذعان بالدين والرضى به أمر باطنى، والخضوع لأحكامه أمر ظاهرى، وعلى هذا فالإسلام أعم من الإيمان , والإيمان باطنى فقط، والإسلام ظاهرى وباطنى. ونحن نحكم على الناس بالإسلام حين يكونون مذعنين ظاهرا لأحكام الله غير رافضين لها، بمعنى أن أعمالهم وأقوالهم وتصرفاتهم لا تدل على رفضها وعدم الإذعان لها، أما بواطنهم فلا يعلمها إلا الله تعالى الذى لا تخفى عليه خافية، ولذلك فضح الله تعالى أناسا أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر في قوله تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14] ثم قال ملخصا: " وحسبما فهمت من معنى الإيمان والإسلام ندرك أن بين الإيمان والإسلام - حسب الحقيقة الشرعية المنجية - تلازما مقتضاه أن كل مؤمن مسلم , وكل مسلم مؤمن , لأن المصدق التصديق المذكور للرسول صلى الله عليه وسلم لا بد من أن يكون خاضعا لما جاء به عليه السلام، والخاضع هذا الخضوع لا بد من أن يكون مصدقا هذا التصديق " " ولذلك ذكر الإيمان والإسلام في القران بمعنى واحد في قوله تعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ [الذارات: 35 - 36]. ثم قال المؤلف بعنوان: حكم النطق بالشهادتين: " الشهادتين هما: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله) والنطق بهما شرط إجراء الأحكام الدنيوية على المسلم: مثل تزويجه المسلمة، والصلاة خلفه، والصلاة عليه إذا مات ودفنه في مقابر المسلمين، فإذا لم ينطق لعذر كالخرس، أو لم يتمكن من النطق بهما بأن مات عقب إيمانه بقلبه فهو ناج عند الله تعالى. أما إذا استطاع النطق ووجد وقتا ولم ينطق بالشهادتين , فإن كان عدم النطق عنادا فهو كفر ولا عبرة بالتصديق القلبى، أما إذا كان عدم النطق لخوفه من الهلاك فالإيمان صحيح لقوله تعالى: إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل 106]. أما من لم ينطق بالشهادتين لغير سبب من الأسباب، لكنه مصدق بقلبه ومطمئن إلى دين الله وأحكامه، فالقول الراجح أنه ناج عند الله، وإن كان لا يعامل معاملة المسلمين لعدم العلم بإيمانه وعدم الدليل عليه، وهذا كله فيمن يريد الدخول في الإسلام، أما أولاد المؤمنين فهم مؤمنون، وإن لم يحصل منهم نطق بالشهادتين إلا إذا ظهر منهم ما يتنافى مع الإيمان ". ويقول مؤلف معاصر أخر: " فالإسلام إذن: استسلام بالكيان الظاهرى للإنسان يتوقف عليه جريان أحكام الإسلام في الدنيا: من إحراز للدم وحل للمناكحة وشرعية التوارث. أما الإيمان: فهو التصديق القلبى بكل ذلك، بحيث لا يبقى أي شك في النفس يتعلق بشىء مما ذكرناه من حقائق الإسلام، ويتوقف عليه النجاة يوم القيامة بين يدى الله عز وجل. ويتضح من ذلك أن الإنسان لا تجرى عليه أحكام الإسلام في كل من الدنيا والآخرة معا إلا إذا اتصف بكل من الإسلام والإيمان، وذلك بأن يذعن بقلبه ويعترف بلسانه. ومهما نطق الإنسان بالشهادتين فإن ذلك لا يعنيه في الحقيقة شيئا ما لم يصدق ويذعن بذلك في قرارة قلبه، وإنما تجرى أحكام الدنيا على الظاهر فقط لعدم إمكان اطلاعنا على الباطن، وحملا للسان على محمل الصدق في الكلام. إلا أنه وقع الخلاف بين الأمة إذا كان الرجل مؤمنا بقلبه فقط , هل ينجيه ذلك يوم القيامة أم يكتفى منه بذلك حتى يقر ويعترف بلسانه أيضا. نقل النووى عن جمع من العلماء أن اليقين القلبي وحده لا يكفى للنجاة يوم القيامة إذا كان بالإمكان الإقرار والتلفظ باللسان. ورجح ابن حجر في شرحه على الأربعين النووية ما ذهب إليه جمهور الأشاعرة وبعض محققي الحنفية من أن الإقرار باللسان إنما هو شرط لإجراء أحكام الدنيا فقط، أما يوم القيامة فيكفيه اليقين القلبي "!! المصدر: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي - 2/ 491 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 المبحث الأول: العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح إن العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح لمن أهم قضايا الإيمان، ومن عدم فهمها دخل الضلال على المرجئة بل على أكثر المسلمين، حين ظنوا أنه يمكن أن يكون إنسان كامل الإيمان في القلب مع عدم عمل الجوارح مطلقا. كما ظنوا أن تماثل الناس في أعمال الجوارح يقتضى تماثل إيمانهم وأجورهم، ولم يدركوا أنه بحسب علاقة عمل الجارحة بعمل القلب يكون الحكم على العمل والثواب عليه، فقد يتفق العملان في المظهر والأداء، وبينهما مثل ما بين السماء والأرض في الدرجة والأجر. وأساس فهم هذه القضية أن نعلم حقيقة الترابط بين أجزاء الإيمان على ضوء مذهب السلف. فقد قررنا أن الإيمان قول وعمل وأن ذلك يشمل القلب والجوارح معا، وتفصيل ذلك يتضح بهذا الشكل المبسط: القول إقرار القلب وتصديقه إقرار اللسان وتصديقه الإيمان المجمل شهادة أن لا إله إلا الله العمل انقياد القلب وإذعانه انقياد الجوارح وامتثالها بتحقيق أعمال القلوب بفعل الأوامر وترك النواهى فهذان الركنان - القول والعمل - أو الأربعة الأجزاء - قول القلب وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح - يتركب منهما هيئة مجتمعة أو حقيقة جامعة لأمور، هذه الهيئة والحقيقة هي "الإيمان الشرعي" كما أن حقيقة الإنسان مركبة من الجسد والروح أو العقل والوجدان، وكما أن الشجرة تتركب من الجذور الضاربة في الأرض والساق والأغصان الظاهرة. ومما يوضح ذلك تشبيه تركيب الإيمان بالتركيب الكيميائى: مثلما يتركب الملح مثلا من الكلور والصوديوم أو يتركب جزيء الماء من ذرتى هيدروجين وذرة أكسجين بحيث لو انتفى التركيب لانتفت الحقيقة مطلقا وتحولت الأجزاء إلى أشياء مختلفة تماما. ولكن لا يقف التركيب عند هذا الحد، بل يجب أن نضيف إليه أن هذه الأجزاء أو الهيئة المركبة تتكون تفصيلا من بضع وسبعين شعبة، وكل شعبة منها قابلة للتفاوت بين أعلى درجات الكمال وأدنى درجات النقص أو الاضمحلال والعدم. وبهذا نفهم اندراج كل الأعمال والطاعات فرضا أو نفلا في مسمى الإيمان المطلق ودخولها في حقيقته الجامعة، كما يظهر تفاوت الناس في الإيمان ودرجاته، ومن أظهر الأدلة على هذا التركيب والامتزاج أنه قد وردت النصوص بتسمية الإيمان عملا وتسمية العمل إيمانا: فأما تسمية الأعمال إيمانا فنصوص كثيرة جدا، حتى أن البخارى رحمه الله عقد في كتاب الإيمان من الصحيح تراجم كثيرة لذلك: مثل (باب الجهاد من الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان، باب صوم رمضان من الإيمان، باب الصلاة من الإيمان، باب اتباع الجنائز من الإيمان) ونحو ذلك , وأورد في ذلك الأحاديث الصحيحة التى شاركه في إخراجها كتب السنة الأخرى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 وأما تسميه الإيمان عملا فقد عقد أيضا له (باب من قال أن الإيمان هو العمل، لقوله تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72]. وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92 - 93]: عن قول لا إله الله. وقال: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ [الصافات:61]).ثم روى البخاري بسنده عن أبى هريرة ((أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل: أي العمل فضل؟ فقال " إيمان بالله ورسوله " قيل: ثم ماذا؟ قال: " الجهاد في سبيل الله "، قيل: ثم ماذا؟ قال:"حج مبرور)) (1).وهذا الحديث رواه الإمام أحمد عن عبيدالله بين أسلم مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم (2). وعن عبدالله بن حبشى الخثعمى (3) ورواه أبو داود الطيالسى عن أبى هريرة (4) أيضا ورواه غيرهم عن أبى ذر (5). ومن ذلك قوله تعالى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ: 37]. فقوله: بما عملوا يشمل إيمانهم بقلوبهم وأعمالهم الصالحة بجوارحهم المذكورين قبل. وهذا ما فهمه السلف الصالح وأجمعوا على معناه، قال الوليد بن مسلم: " سمعت الأوزاعي ومالك بن أنس وسعيد ابن عبدالعزيز ينكرون قول من يقول: إن الإيمان قول بلا عمل. ويقولون: لا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بإيمان " (6). وقد سبق إيراد قول الإمام الأوزعي رحمه الله: " كان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل، العمل من الإيمان والإيمان من العمل، وإنما الإيمان اسم يجمع كما يجمع هذه الأديان اسمها، ويصدقه العمل "، وقول الشافعي رحمه الله: " وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ أحد الثلاثة إلا بالآخر " (7). ولنوضح ذلك بمثالين: أحدهما من أعمال الجوارح والأخر من أعمال القلوب، يظهر في كل منها حقيقة العلاقة التلازمية وحقيقة التفاوت: 1 - الصلاة: وهي من أعمال الجوارح، وقد ورد تسميتها إيمانا في القران، قال تعالي: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] أي صلاتكم إلى بيت المقدس (8). وهي بلا ريب أعظم شعب الإيمان العملية الظاهرة بعد الشهادتين، فلو تأملنا لوجدنا أنها تشمل أجزاء الإيمان الأربعة، وهي قول القلب: وهو إقراره وتصديقه بوجوبها، وعمل القلب: وهو الانقياد والإذعان بالإرادة الجازمة وتحريك الجوارح لفعلها والنية حال أدائها، وعمل اللسان: وهو القراءة والأذكار الواردة فيها، وعمل الجوارح: وهو القيام والركوع والسجود وغيرها.   (1) رواه البخاري (1519) ومسلم (83). (2) ((المسند)) (4: 342) (3) (3:412) (4) (برقم 2518) (ص329) (5) انظر .. ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1490). (6) ((اللالكائي)) (ص: 848) (7) (ص188) وانظر ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 57) و ((الإيمان)) لابن تيمية (ص280). (8) انظر ((الفتح)) (1/ 95) كما ورد تسميتها إيمانا في حديث وفد عبد الفيس السابق وغيره، ومع ذلك أخرج المرجئة الصلاة من الإيمان وأولو الآية بأن المراد ليس صلاتكم بل التصديق بها، انظر المواقف (ص 386) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 2 - الحياء: وهو عمل قلبي، وقد صح تسميته إيمانا في حديث الشعب وغيره، ومع ذلك فلا يمكن تصور وجوده في القلب إلا بظهور أثره على اللسان والجوارح، وبمقدار حياء الجوارح يقاس حياء القلب. وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة، منها في الأفعال قصة الثلاثة الذين دخلوا علي النبي صلي الله عليه وسلم وهو في الحلقة، فدخل أحدهم فيها وأعرض الثالث، وأما الأوسط فتردد ثم جلس خلفهم، فقال عنه النبي صلي الله عليه وسلم ((وأما الآخر فاستحيا، فاستحيا الله منه)) (1).، أي إنما منعه من الذهاب حياؤه , فشهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالحياء بناء على فعله، فلو ذهب لقال فيه ما قال فيمن ذهب. وأما الحياء في القول، فمنه قول علي رضي الله عنه: (كنت رجلا مذاء، فاستحييت إن أسال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله) (2)، فما في قلب علي رضي الله عنه من الحياء منعه من السؤال بنفسه، وهذا مما يعلمه كل إنسان في نفسه، أي متي يستحي وممن يستحي بحسب ما في قلبه. ثم يأتي بعد هذا مسألة التفاوت في الصلاة والتفاوت في الحياء، فصلاة يقترن بها الخشوع وحضور القلب وحسن الأداء لا تكون كأخرى منقورة نقر الغراب، وكذلك حياء مقرون به زيادة التقوى وحسن السمت وورع اللسان لا يكون كحياء رجل ليس لديه إلا ما يمسكه عما يفعله أو يقوله من لا حياء له. ومثل هذا التفاوت هو الواقع في الإيمان كله بحسب كمال الشعب جميعها أو كمال بعضها دون بعض أو فقدان بعضها بالكلية. هذا في الأفعال، والحال في التروك كذلك، فلنمثل لها أيضا بمثالين: 1 - ترك الزنا: وهو عمل الجارحة، وهو من الإيمان بدليل نفي الشارع الإيمان عمن فعله، وهو يشمل قول القلب، أي الإقرار بحرمته وتصديق الشارع في ذلك؛ وعمل القلب، وهو الانقياد والإذعان بالكره والنفور والإرادة الجازمة لامساك الجوارح عنه؛ وعمل الجوارح، وهو الكف عن فعله ومقدماته. فمن ارتكب هذه الفاحشة بجوارحه فإن عمل قلبه مفقود بلا شك - خاصة حين الفعل -، لأن الإرادة الجازمة على الترك يستحيل معها وقوع الفعل، فمن هنا نفى الشارع عنه الإيمان تلك اللحظة " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن "، لكن وجود قول القلب عنده منع من الحكم بخروجه من الإيمان كله خلافا للخوارج، فلو أظهر ما يدل على انتفاء إيمان القلب واستحلاله له لكان خارجا من الملة عند أهل السنة والجماعة، أما مجرد الفعل فإنما يدل على انتفاء عمل القلب لا قوله. 2 - ترك الحسد: وهو من أعمال القلب، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجتمع والإيمان في قلب (3) , فلا يتصور خلو القلب من الحسد مع وجود آثاره ودلائله على الجوارح، كما لا يستطيع أحد أن يدعي أن فلانا حسود مع عجزه عن الإتيان بدليل ظاهر من عمله. وقد أخبرنا الله تعالى عن أخوة يوسف وما صنعوا بأخيهم حسدا له على مكانته من أبيه، ومن المحال أن يصدر منهم هذا مع خلو قلوبهم من الحسد، إذ إن أعمال الجوارح إنما هي تنفيذ وتحقيق لإرادة القلب الجازمة، فوجودها في الحالة السوية - أي حالة عدم الإكراه ونحوه - يقطع بوجود أصلها القلبي. وهذا بخلاف اتهام المنافقين للصحابة رضي الله عنهم، الذي أخبر الله عنه بقوله فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا [الفتح: 15] , لأن المنافقين ادعوا أن مانع المؤمنين من استصحابهم إياهم إلى المغانم هو الحسد، وهي تهمة لم يأتوا عليها بدليل إلا المنع نفسه، والله تعالى أمر المؤمنين إن يقولوا لهم: لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ [الفتح: 15].   (1) رواه البخاري (474) ومسلم (2176). (2) رواه البخاري (178) ومسلم (303). (3) رواه النسائي (6/ 12) وهو صحيح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 فهذا سبب المنع، فإذا اتهمهم أولئك بعد هذا بالحسد لم يكن لهذا الاتهام موقع. والمقصود أنه مع عدم حصول أي دليل أو إشارة للحسد في أعمال أي إنسان لا يصح ولا يقبل من أحد أن يدعي أن قلبه مملوء حسدا، وهذا يعرفه الناس جميعا - المرجئة وغيرهم - في سائر أعمال القلوب، لكن المرجئة تناقض هذا فيما هو أعظم وأهم، فتزعم أنه يمكن أن يكون القلب مملوءا بالإيمان ولا يظهر من ذلك على الجوارح شيء ‍‍‍‍! بل تزعم وجوده في القلب مع أن أعمال الجوارح كلها بخلافه , في حين أنها لا تصدق أن إنسانا سليم القلب من الحسد إذا كانت أعماله كلها دالة عليه. نعم، أعمال القلوب هي الأصل وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((التقوى هاهنا)) (1)، وقال: ((إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب)) (2). ونحو ذلك مما سبق أو سيأتى من النصوص. ولهذا تحصل حالة شاذة خفية، وهي أن يضعف إيمان القلب ضعفا لا يبقي معه قدرة على تحريك الجوارح لعمل خير، مثله مثل المريض الفاقد الحركة والإحساس، إلا أن في قلبه نبضا لا يستطيع الأطباء معه الحكم بوفاته مع أنه ميئوس من شفائه، فهو ظاهرا في حكم الميت وباطنا لديه هذا القدر الضئيل من الحياة الذي لا حركة معه، وهذه هي حالة الجهنميين الذين يخرجهم الله من النار مع أنهم لم يعملوا خيرا قط، وسيأتى تفصيل الحديث عن هذه الحالة (3)، وإنما أشرت إليها هنا ليسلم لنا تصور الأصل، حتى إذا تم إيضاحه عرجنا على الحالات الشاذة. ولقد وصل الشذوذ بالمرجئة الغالية - كالأشاعرة ومن حذا حذوهم - إلى حد القول بأن لا إله إلا الله باللسان ليس شرطا في الإيمان عندهم، بل قالوا: يكفي حصول الإيمان في القلب لنجاة صاحبه عند الله، وأما أحكام الدنيا فإنما جعلت الشهادتان أمارة على ما في القلب لنحكم على قائلها بالإيمان , وهذا هو الغاية من الشهادتين عندهم , وليس لهم على هذا من شبهة إلا شبهة أن الإيمان محله كله القلب، وأن ما يظهر على الجوارح مجرد أمارات وثمرات - على ما سبق تفصيله في بابه - وافترضوا تبعا لذلك من المسائل التي تحيلها العقول الشيء الكثير. فالقوم لما خفيت عليهم حقيقة الإيمان الجامعة وترابط أجزائه المحكم وقعوا في هذه الغلطة الكبرى، التي كان لانتشارها من الآثار المدمرة في الأمة الإسلامية ما تنوء بشرحه المجلدات، وحسبك ما وقعت فيه الأمة من شرك أكبر - قديما وحديثا - وهي تحسب أنها في ذروة الإيمان، لأن القلب مصدق للرسول واللسان ناطق بأن لا إله إلا الله!! ومن هنا كان لزاما علينا إيضاح الدلائل القاطعة لأهل السنة والجماعة على أن للقلب أعمالا سوى التصديق ينخرم الإيمان بانخرامها، وقبل ذلك نبين أهمية قول: لا إله إلا الله، وعلاقة سائر الأقوال المتعبد بها بإيمان القلب، تلك العلاقة التي هي علاقة امتزاج وتركيب، ولهذا لم يوجد في مذهب أهل السنة أبدا استخدام عبارة " مؤمن باطنا، كافر ظاهرا "، ولا إمكان وجود ذلك. المصدر: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي - 2/ 521   (1) رواه مسلم (2564). (2) رواه البخاري (52) ومسلم (1599). (3) في مبحث الشبهات النقلية من الباب الأخير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 المبحث الثاني: علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله إن الإيمان عند المرجئة مثله مثل أية نظرية فلسفية أو مقولة ذهنية متى بلغت إنسانا فصدق بها حصل المطلوب، فإذا زاد على ذلك بأن أخبر بلسانه عما في قلبه فقال: " صدقت أو أقررت "، فقد تم المراد ظاهرا وباطنا. ومن ثم اعتقدوا إن قول: لا إله إلا الله، إنما هو إخبار عما في القلب من تصديق - إذ لا يثبتون من أعمال القلب سوى التصديق - فمتى تلفظ بها عندهم فقد أصبح مؤمنا باطنا وظاهرا , بخلاف ما لو امتنع عن قولها , فإنه عند من يكفره منهم كافر ظاهرا مع جواز كونه مؤمنا باطنا، وكذلك متى ارتكب فعلا مكفرا قالوا: يكفر ظاهرا فقط، وأما من ورد الوحي بنفي الإيمان عنه لارتكابه فعلا مكفرا " كإبليس "، أو امتناعه عن الشهادتين " كاليهود " فقالوا: هذا ليس في قلبه تصديق أصلا. وفي هذا القول من المغالطات والمكابرة ما لا يخفى، والمراد هنا بيان غلطتهم في اعتبار قول: لا إله إلا الله، إخبار مجرد. وذلك أنه إذا تقرر أن المطلوب من القلب ليس مجرد التصديق بل هو أعمال عظيمة- نذكر طرفا منها عما قليل - فإن قول اللسان لا يبقى خبرا مجردا، بل يصبح إنشاء للالتزام وإعلانا له (1)، ومن ثم كان لا بد أن يصدق العمل ذلك الالتزام أو يكذبه.   (1) وهو إنشاء متضمن للإخبار، ((الإيمان الأوسط)) (ص 102) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 وإنما حصل الإخبار المجرد من بعض أحبار اليهود ومن بعض كفار قريش، حيث ثبت إقرارهم برسالة النبي صلى الله عليه وسلم إخبارا عما في نفوسهم من اعتقاد صدقه في كل ما يقول، ولم يثبت لهم ذلك إسلاما قط. ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: ((قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى النبي (أو إلى هذا النبي) حتى نسأله عن هذه الآية وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [الإسراء:101]، فقال: لا تقل نبي، فإنه إن سمعك صارت له أربعة أعين فسألاه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تشركوا بالله ولا تسرقوا ولا تزنوا)) الحديث. إلى إن قال: فقبلا يديه ورجليه، وقالا: نشهد انك نبي، قال: فما يمنعكما إن تتبعاني قالا: إن داود عليه السلام دعا ألا يزال من ذريته نبي، وإنا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا يهود)) (1). قال شيخ الإسلام في معرض رده علي المرجئة: " وأيضا فقد جاء نفر من اليهود إلى النبي فقالوا: نشهد انك رسول، ولم يكونوا مسلمين بذلك، لأنهم قالوا ذلك علي سبيل الإخبار عما في أنفسهم، أي نعلم ونجزم انك رسول الله، قال:" فلم لا تتبعوني؟ " قالوا: نخاف من اليهود، فعلم إن مجرد العلم والإخبار - أي عن العلم - ليس بإيمان حتى يتكلم بالإيمان على وجه الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد، مع تضمن ذلك الإخبار عما في أنفسهم " (2).وإنما " اتفق المسلمين على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر" (3). وأن " من صدق بقلبه ولم يتكلم بلسانه فإنه لا يعلق به شىء من أحكام الإيمان لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يدخل في خطاب الله لعباده بقوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لأنه من حيث البديهة والعقل نعلم " أن من آمن بقلبه إيمانا جازما امتنع ألا يتكلم بالشهادتين مع القدرة، فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام " (4). ويقول شيخ الإسلام في بيان هذه العلاقة: " ونظير هذا لو قيل: أن رجلا من أهل السنة قيل له ترض عن أبى بكر وعمر، فامتنع عن ذلك حتى قتل مع محبته لهما واعتقاد فضلهما، ومع عدم الأعذار المانعة من الترضى عنهما فهذا لا يقع قط، وكذلك لو قيل: أن رجلا يشهد أن محمدا رسول الله باطنا وظاهرا، وقد طلب منه ذلك، وليس هناك رهبة ولا رغبة يمتنع لأجلها، فامتنع منها حتى قتل، فهذا يمتنع أن يكون في الباطن يشهد أن محمدا رسول الله، ولهذا كان القول الظاهر من الإيمان الذى لا نجاه للعبد إلا به عند عامة السلف والخلف من الأولين والآخرين إلا الجهمية - جهما ومن وافقه - (وهم الأشاعرة كما ذكر قبل ذلك في أول الفصل). وقال: (فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين، وهو كافر باطنا وظاهرا عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير علمائها، وذهبت طائفة من المرجئة - وهم جهمية المرجئة كجهم والصالحي واتباعهما - (وهم من ذكرنا) إلى أنه إذا كان مصدقا بقلبه كان كافرا في الظاهر دون الباطن، وقد تقدم أن الإيمان الباطن يستلزم الإقرار الظاهر بل وغيره، وأن وجود الإيمان الباطن تصديقا وحبا بدون الإقرار الظاهر ممتنع " (5).   (1) رواه الترمذي (3144) والنسائي (4078) وأحمد (4/ 239) وقال الترمذي: حسن صحيح. وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي (3144) وأما استشكال الحافظ ابن كثير لمتنه كما في (5/ 124) فله جوابه، ولا يقدح في مرادنا هنا منه، وهو اقوي في الدلالة مما رواه مسلم عن ثوبان رقم (315)، لان ذلك الخبر قال في أوله: " اسمع بإذنى "، فصرح بعدم إيمانه. (2) ((الإيمان)) (ص 135) (3) ((الإيمان)) (ص287) (4) ((الإيمان الأوسط)) (ص 95) (5) ((الإيمان الأوسط)) (ص 151) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 فإذا تبين أن قول: لا إله إلا الله إنشاء للالتزام بقول القلب وعمله وتحقيقهما، فلنوضح هذه القضية المهمة قائلين: إن القلب: هو متعلق التوحيد الخبري الاعتقادى ... وعمل القلب: وهو متعلق التوحيد الطلبي الإرادي. فإن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر يتضمن توحيد الأسماء والصفات، وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر عن ربه من الكتب وما فيها، والملائكة وأعمالهم وصفاتهم، والنبيين ودعوتهم وأخبارهم، وأحوال البرزخ والآخرة، والمقادير وسائر المغيبات. فالإقرار بهذا والتصديق به مجملا أو مفصلا هو قول القلب، وهو التوحيد الخبرى الاعتقادى. وعمل القلب - الذى سيأتى تفصيل طرف منه في البحث التالى - يتضمن توحيد الله عز وجل بعبادته وحده حبا وخوفا ورجاء ورغبة ورهبة وإنابة وتوكلا وخشوعا واستعانة ودعاء وإجلالا وتعظيما وانقيادا، وتسليما لأمره الكونى وأمره الشرعى، ورضا بحكمه القدرى والشرعى، وسائر أنواع العبادة التى صرفها لغير الله شرك. (1). وهذان هما نوعا التوحيد الذى جاءت به الرسل وأنزل الله به الكتب، وشهادة أن لا إله إلا الله - التى هى رأس الأعمال وأول واجب على العبد - إنما هى إنشاء للالتزام بهذين النوعين ومن ثم سميت كلمة التوحيد، ومن هنا كان أجهل الناس بالتوحيد من ظن أن المطلوب بقول: لا إله إلا الله هو التلفظ بها باللسان فقط. وقد سبق في فصل " حقيقة النفس الإنسانية " ما يدل على أن كل عمل من أعمال الإنسان الظاهرة - على اللسان أو الجوارح - لا بد أن يكون تعبيرا عما في القلب وتحقيقا له ومظهرا لإرادته وإلا كان صاحبه منافقا النفاق الشرعى أو العرفى وأخص من ذلك العبادات، فكل عبادة قولية وفعلية لا بد أن يقترن بها من عمل القلب وما يفرق بينها وبين أفعال الجمادات أو الحركات اللاإرادية أو أفعال المنافقين. فما بالك برأس العبادات وأعظمها، بل أعظم شئ في الوجود، الذى يرجح بالسموات والأرض وعامرهن غير الله تعالى: وهى شهادة أن لا إله إلا الله؟! ولهذا يتفاوت قائلوا هذه الكلمة تفاوتا عظيما بحسب تفاوت ما في قلوبهم من التوحيد. فلولا تفاوت أقوال القلوب وأعمالها - ولو أن المراد من كلمة الشهادة هو نطقها- لما كان لموحد فضل على موحد ولما كان لصاحب البطاقة- الآتى حديثه - فضل على سواه من قائليها، ولما كان لقائلها باللسان فضل عن قائلها بالقلب واللسان، ولما كان لمن قالها من خيار الصحابة السابقين فضل عن من قالها يتعوذ بها من السيف في المعركة. وانظر إلى هذا الحوار بين العزيز الحكيم وبين عبده موسى الكليم، حيث (قال موسى: يا رب علمنى شيئا أذكرك وأدعوك به، قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله، قال كل عبادك يقولون هذا!!! - زاد في رواية: إنما أريد أن تخصنى به - قال: يا موسى، لو أن السموات السبع - وعامرهن غيرى - والأرضون السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفه مالت بهن لا إله إلا الله " (2). فكل المسلمين يقولون (لا إله إلا الله)، ولكن ما قائل كقائل، لأن ما في القلوب يتفاوت مثل تفاوت السماوات والأرض، والذرة التى لا تكاد ترى.   (1) كما يتضمن عمل القلب أعمالا دون ذلك مما افترضها الله وجعلها من واجبات الإيمان، كمحبة المؤمنين والنصح لهم، والتواضع، والشفقة، واجتناب الكبر والحسد، ونحو ذلك. (2) فى سنده رجل ضعيف عند أبن حبان (2324)، لكن روى الإمام أحمد بسند صحيح ما يشهد له من حديث نوح عليه السلام وابنه، ((المسند)) (2/ 169). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: " اعلم أن أشعة (لا إله إلا الله) تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدرة قوة الشعاع وضعفه، فلها نور، وتفاوت أهلها في ذلك النور قوة وضعفا لا يحصيه إلا الله تعالى، فمن الناس: نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس، ومنهم: من نورها في قلبه كالكوكب الدرى، ومنهم: من نورها في قلبه كالمشعل العظيم، وأخر: كالسراج المضىء، وأخر كالسراج الضعيف. ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة، علما وعملا، ومعرفة وحالا. وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهة ولا شهوة ولا ذنبا إلا أحرقه، وهذا حال الصادق في توحيده الذى لم يشرك بالله شيئا فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها، فسماء إيمانه قد حرست بالنجوم من كل سارق لحسناته فلا ينال منها السارق إلا على غرة وغفلة لا بد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سرق منه استنفذه من سارقه , أو حصل أضعافه بكسبه، فهو هكذا أبدا من لصوص الجن والإنس، ليس كمن فتح لهم خزانته وولى الباب ظهره "." وليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شىء ومليكه - كما كان عباد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن من محبة الله، والخضوع له، والذل له وكمال الانقياد لطاعته، واخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنع، والعطاء، والحب، والبغض - ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصى والإصرار عليها، ومن عرف هذا عرف قول النبى صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله)) (1). وما جاء من هذا الضرب من الأحاديث التى أشكلت على كثير من الناس، حتى ظنها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأول بعضهم الدخول بالخلود وقال: المعنى لا يدخلها خالدا، ونحو ذلك من التأويلات المستكرهة ". " والشارع - صلوات الله وسلامه عليه - لم يجعل ذلك حاصلا بمجرد قول اللسان فقط، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم , وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار، فلا بد من قول القلب وقول اللسان. وقول القلب: يتضمن معرفتها، والتصديق بها، ومعرفة حقيقة ما تضمنه من النفى والإثبات، ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله، المختصة به، التى يستحيل ثبوتها لغيره، وقيام هذا المعنى بالقلب، علما ومعرفة ويقينا وحالا - ما يوجب تحريم قائلها على النار، وكل قول رتب الشارع ما رتب عليه من الثواب، فإنما هو القول التام - كقوله صلى الله عليه وسلم: ((من قال في يوم: سبحان الله وبحمده مائه مرة حطت عنه خطاياه - أو غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر)) (2) وليس هذا مرتبا على مجرد اللسان. نعم من قالها بلسانه، غافلا عن معناها، معرضا عن تدبرها، ولم يواطئ قلبه لسانه، ولا عرف قدرها وحقيقتها، راجيا من ذلك ثوابها حطت من خطاياه بحسب ما في قلبه، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحدا وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض. وتأمل حديث البطاقة التى توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب. ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه، ولكن السر الذى ثقل بطاقة ذلك الرجل، وطاشت لأجله السجلات، لما لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات انفردت بطاقته بالثقل والرزانة.   (1) رواه البخاري (425) مسلم (33). (2) رواه البخاري (6405) مسلم (2691). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 وإذا أردت زيادة الإيضاح لهذا المعنى فانظر إلى ذكر من قلبه ملآن بمحبتك، وذكر من هو معوض عنك غافل ساه، مشغول بغيرك، قد انجذبت دواعى قلبه إلى محبه غيرك وإيثاره عليك، وهل يكون ذكرهما واحدا؟ أم هل يكون ولداك اللذان هما بهذه المثابة، أو عبداك، أو زوجتاك، عندك سواء؟ وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التى لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية، وحملته - وهو في تلك الحال - على أن جعل ينوء بصدره ويعالج سكرات الموت. فهذا أمر أخر، وإيمان أخر. ولا جرم أن ألحق بالقرية الصالحة وجعل من أهلها. وقريب من هذا: ما قام بقلب البغي التي رأت ذلك الكلب وقد اشتد به العطش يأكل الثرى، فقام بقلبها ذلك الوقت - مع عدم الآلة، وعدم المعين، وعدم من ترائيه بعملها - ما حملها على أن غررت بنفسها في نزول البئر، وملء الماء في خفها، ولم تعبأ بتعرضها للتلف، وحملها خفها بفيها وهو ملآن، وحتى أمكنها الرقى من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق الذى جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب، ومن غير أن ترجو منه جزاء ولا شكورا، فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء، فغفر لها. فهكذا الأعمال والعمال عند الله، والغافل في غفلة من هذا الإكسير الكيماوي، الذي إذا وضع منه مثقال ذرة على قناطير من نحاس الأعمال قلبها ذهبا والله المستعان" (1) المصدر: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي - 2/ 531   (1) ((مدارج السالكين)). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 المبحث الثالث: العمل وتركه بالكلية كناقض من نواقض الإيمان: انظر هذا الموضوع في الموسوعة العقدية في (الباب السادس من الكتاب التاسع) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 المبحث الرابع: اللوازم المترتبة على إخراج العمل من الإيمان ... تنبيهات مهمة على جملة من اللوازم الباطلة المنادية ببطلان مقالة المرجئة في إخراج العمل من الإيمان، أو تصور إيمان تام في القلب بدون عمل ظاهر وفي هذا مزيد نقض لمقالة الإرجاء، ومن هذه اللوازم: 1 - قال رحمه الله: "ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر؛ ولهذا صاروا يقدرون مسائل يمتنع وقوعها؛ لعدم تحقق الارتباط الذي بين البدن والقلب، مثل: أن يقولوا: رجل في قلبه من الإيمان مثل ما في قلب أبي بكر وعمر، وهو لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم رمضان، ويزني بأمه وأخته، ويشرب الخمر نهار رمضان، يقولون: هذا مؤمن تام الإيمان، فيبقى سائر المؤمنين ينكرون هذا غاية الإنكار" (1).ثم علق شيخ الإسلام على هذه الصورة بقوله: "وإنما قال الأئمة بكفر هذا؛ لأن هذا فرض ما لا يقع، فيمتنع أن يكون الرجل لا يفعل شيئا مما أمر به من الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويفعل ما يقدر عليه من المحرمات، مثل الصلاة بلا وضوء وإلى غير القبلة، ونكاح الأمهات، وهو مع هذا مؤمن في الباطن، بل لا يفعل ذلك إلا لعدم الإيمان الذي في قلبه" (2). 2 - قال شيخ الإسلام: "ولهذا فرض متأخروا الفقهاء مسألة يمتنع وقوعها، وهو أن الرجل إذا كان مقرا بوجوب الصلاة، فدعي إليها، وامتنع، واستتيب ثلاثا، مع تهديده بالقتل، فلم يصل حتى يقتل: هل يموت كافرا أو فاسقا؟ على قولين. وهذا الفرض باطل، فإنه يمتنع في الفطرة أن يكون الرجل يعتقد أن الله فرضها عليه، وأنه يعاقبه على تركها، ويصبر على القتل، ولا يسجد لله سجدة من غير عذر له في ذلك، هذا لا يفعله بشر قط، بل ولا يضرب أحد ممن يقرب بوجوب الصلاة إلا صلى، لا ينتهي الأمر به إلى القتل. وسبب ذلك أن القتل ضرر عظيم لا يصبر عليه الإنسان إلا لأمر عظيم، مثل لزومه لدين يعتقد أنه إن فارقه هلك، فيصبر عليه حتى يقتل، وسواء كان الدين حقا أو باطلا، أما مع اعتقاده أن الفعل يجب عليه باطنا وظاهرا، فلا يكون فعل الصلاة أصعب عليه من احتمال القتل قط" (3). 3 - قال شيخ الإسلام: "ويعلم أنه لو قدر قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك، ونقر بألسنتنا بالشهادتين، إلا أنا لا نطيعك في شيء مما أمرت به ونهيت عنه، فلا نصلي ولا نصوم ولا نحج، ولا نصدق الحديث، ولا نؤدي الأمانة، ولا نفي بالعهد، ولا نصل الرحم، ولا نفعل شيئا من الخير الذي أمرت به، ونشرب الخمر، وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر، ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك، ونأخذ أموالهم، بل نقتلك أيضا، ونقاتلك مع أعدائك.   (1) ((الإيمان)) (ص192) ((الفتاوى)) (7/ 204)؛ وانظر نحوه في الإيمان: الأوسط، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 583 – 584، 611)، (ص494 - 495، 556 – 557) ط. ابن الجوزي. (2) ((الإيمان)) (ص206) ((الفتاوى)) (7/ 218). (3) ((الإيمان)) (ص206 - 207) ((الفتاوى)) (7/ 219)؛ ونحوه في ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 651 - 616)، (ص566) ط. ابن الجوزي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 هل كان يتوهم عاقل أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملوا الإيمان، وأنتم من أهل شفاعتي يوم القيامة، ويرجى لكم أن لا يدخل أحد منكم النار؟ بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به، ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك" (1).ومن المعلوم أنه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان من أسلم، ودخل في دين الله يلزم بالأعمال الظاهرة، من صلاة وزكاة وصيام وحج، ولم يكن أحد يترك بمجرد الكلمة، بل كان من أظهر المعصية يعاقب عليها، ولو كان من أتى به هو الواجب عليه فقط، لما عوقب على تركه لغيره (2). و ((لما جاء نفر من اليهود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالوا نشهد إنك لرسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: لم تتبعوني، قالوا: نخاف من يهود)) (3). فلم يكونوا مسلمين بذلك؛ لأنهم قالوا ذلك على سبيل الإخبار عما في أنفسهم، أي نعم ونجزم أنك رسول الله، فعلم أن مجرد العلم والإخبار عنه ليس بإيمان حتى يتكلم بالإيمان على وجه الإنشاء، المتضمن للالتزام والانقياد، مع تضمن ذلك الإخبار عما في أنفسهم. والمنافقون قالوا مخبرين كاذبين، فاكانوا كفارا في الباطن، وهؤلاء قالوها غير ملتزمين ولا منقادين، فكانوا كفارا في الظاهر والباطن (4). 4 - نقل شيخ الإسلام عن الإمام أحمد في معرض نقضه لمن اكتفى في الإيمان بالإقرار أنه قال: "ويلزمه أن يقول: هو مؤمن بإقراره، وإن أقر بالزكاة في الجملة، ولم يجد في كل مائتي درهم خمسة أنه مؤمن، فيلزمه أن يقول: إذا أقر، ثم شد الزنار في وسطه، وصلى للصليب، وأتى الكنائس والبيع، وعمل الكبائر كلها، إلا أنه في ذلك مقر بالله، فيلزمه أن يكون عنده مؤمنا، وهذه الأشياء من أشنع ما يلزمهم (5). قلت "القائل: شيخ الإسلام": هذا الذي ذكره الإمام أحمد من أحسن ما احتج الناس به عليهم، جمع جملا يقول غيره بعضها، وهذا الإلزام لا محيد لهم عنه. ولهذا لما عرف متكلموهم، مثل جهم، ومن وافقه أنه لازم لهم التزموه، وقالوا: لو فعل ما فعل من الأعمال الظاهرة لم يكن بذلك كافرا في الباطن، لكن يكون دليلا على الكفر في أحكام الدنيا. فإذا احتج عليهم بنصوص تقتضي أن يكون كافرا في الآخرة؟ قالوا: فهذه النصوص تدل على أنه في الباطن ليس معه من معرفة الله شيء، فإنها عندهم شيء واحد، فخالفوا صريح المعقول، وصريح الشرع" (6).5 - ذكر شيخ الإسلام أيضا أن مما يلزمهم "أن من سجد للصليب والأوثان طوعا، وألقى المصحف في الحش عمدا، وقتل النفس بغير حق، وقتل كل ما رآه يصلي، وسفك دم كل من يراه يحج البيت، وفعل ما فعلته القرامطة بالمسلمين يجوز أن يكون مع ذلك مؤمنا وليا لله، إيمانه مثل إيمان النبيين والصديقين" (7). المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 377   (1) ((الإيمان)) (ص272) ((الفتاوى)) (7/ 287). (2) انظر: ((الإيمان)) (ص245) ((الفتاوى)) (7/ 258). (3) رواه النسائي (7/ 111) بلفظ (قال يهودي لصاحبه اذهب بنا إلى هذا النبي قال له صاحبه ..... ) من حديث صفوان بن عسال, قال الزيلعي في ((تخريج الكشاف)) (2/ 292): [فيه] عبد الله بن سلمة في حفظه شيء وتكلموا فيه وأن له مناكير, وضعفه الألباني. (4) انظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 561)، (ص455) ط. ابن الجوزي؛ و ((الصارم المسلول)) (3/ 968). (5) انظر: ((السنة)) للخلال (4/ 27 - 28 رقم 1103). (6) ((الإيمان)) (ص384 - 385) ((الفتاوى)) (7/ 401). (7) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 584، ص494 - 495) ط. ابن الجوزي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 المبحث الخامس: أهمية عمل القلب القلب هو موضع الإيمان الأصلي، وإيمانه أهم أجزاء الإيمان، ومن هنا كان قوله وعمله هو أصل الإيمان الذي لا يوجد بدونه مهما عملت الجوارح من الإيمان، ولا خلاف بين عقلاء بنى آدم في أن كل حركة بالجارحة لا تكون إلا بإدارة قلبية، وإلا فهي من تصرفات المجانين أو حركات المضطرين فاقدي الإرادة. فالقلب - كما سبق في فصل حقيقة النفس الإنسانية - ليس ملك الأعضاء فحسب، بل هو أعظم من ذلك، إذ هو مصدر توجيهها ومنبع عملها وأساس خيرها وشرها، فإذا كانت إدارته إيمانية كانت الأفعال العضوية إيمانا، وإذا كانت إدارته إدارة كفر ونفاق أو عصيان كانت تلك مثلها. والنصوص في ذلك كثيرة. منها: 1 - يقول الله تعالى في حق من حققوا الولاء والبراء: أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ [المجادلة:22] 2 - ويقول: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:7] 3 - ويقول في حق الأعراب: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14] 4 - ويقول: وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ [آل عمران:154] وغير ذلك كالآيات الدالة على الطبع والختم على قلوب الكافرين أو كونها في أكنه أو مغلقة - ونحوها. وكل آية ورد فيها قوله: بِذَاتِ الصُّدُورِ (1).ومن السنة يقول النبى صلى الله عليه وسلم: (( .... التقوى ههنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات .... )) (2). ويقول: ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)) (3).ويقول - كما روى الإمام أحمد في المسند -: ((الإسلام علانية، والإيمان في القلب وأشار إلى صدره ثلاث مرات قائلا التقوى هاهنا، التقوى هاهنا)) (4).ويقول: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) (5). فهذه النصوص تدل على أن القلب هو الأصل، وأن إيمانه هو جزء الإيمان الأساس الذى يقوم عليه الجزء الظاهر ويتفرع منه، ويرتبط به ارتباط العلة بالمعلول، بل ارتباط أجزاء الحقيقة الواحدة الجامعة، ومن هنا لم يسم المنافق مؤمنا قط وإن كثر عمل جوارحه بالجهاد والصلاة. بل المؤمن المجاهد إذا نوى بجهاده طلب الدنيا أو الرياء حبط عمله وتبدلت المثوبة في حقه عقوبة وعذابا، وهذا ما يدل على أهمية عمل القلب، وقد سبق تفصيل لذلك في فصل حقيقة النفس الإنسانية.   (1) وهى كثيرة، وتدل على ارتباط أعمال القلب بأعمال الجوارح، لأنها كثيرا ما ترد فى أعمال الجوارح. (2) رواه مسلم (32) (2564) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) رواه البخاري (52) , ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (4) رواه أحمد (12404) (3/ 134) , من حديث أنس رضي الله عنه, قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 57): رجاله رجال الصحيح ما خلا علي بن مسعدة وقد وثقه ابن حبان وأبو داود الطيالسي وأبو حاتم وابن معين وضعفه آخرون, وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (2280). (5) رواه الترمذي (2140) , وقال: حسن, قال الألباني في ((الإيمان لابن أبي شيبة)) (55): هذا إسناد صحيح على شرط مسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 ومن العجيب أن المرجئة استدلت ببعض الأدلة السابقة على إن الإيمان هو مجرد التصديق القلبى، وأن أعمال الجوارح - بل بقية أعمال القلب - ليست من الإيمان، فهذا هو ذا "الإيجي" في "المواقف" يذكر مذهب أصحابه الأشاعرة: وهو أنه التصديق، ومذهب الماتريدية، وهو أنه التصديق مع الكلمتين، ويذكر "مذهب السلف وأصحاب الأثر: أنه مجموع هذه الثلاثة، فهو تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان ".ثم يقول في الانتصار لمذهبه: " لنا وجوه (1): الأول: الآيات الدالة على محلية القلب للإيمان نحو: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]. ومنه الآيات الدالة على الختم على القلوب، ويؤيده دعاء النبى صلى الله عليه وسلم: ((اللهم ثبت قلبي على دينك) (2) 2). وقوله لأسامة - وقد قتل من قال لا إله إلا الله -: ((أفلا شققت عن قلبه)) (3). والرد عليهم واضح، فإن النصوص الدالة على الجزء الباطن من الإيمان لا تنفى وجود الجزء الظاهر - لا سيما ولهذا الجزء نصوص مماثلة - وغاية ما فيها بيان أن إيمان القلب هو الأصل والأساس لإيمان الجوارح كما تقدم. ثانيا: من جهة ثانية هذه النصوص لا تدل على التصديق بل على أمر زائد عنه، فما كتبه الله في قلوب المعادين لأعدائه وما زينه في قلوب المؤمنين وما نفى دخوله في قلوب الأعراب وهكذا، ليس هو التصديق المجرد كما يحسبون وإنما هو أعمال قلبية كالمحبة والرضا واليقين ونحوها. ثالثا: ومن جهة ثالثة يرد عليهم بأن من تأمل هذه النصوص التى أوردها صاحب المواقف يجد أنها تدل على إيمان الجوارح بنوع من أنواع الدلالة، وأن الإيمان المذكور في بعضها ليس هو الإيمان العام المقابل لكلمة "الكفر" والمرادف لكلمة "الدين"، بل هو الإيمان الخاص المقابل لكلمة "الإسلام" إذا اجتمعا، أي على النحو الذى دل عليه الحديث السابق: "الإسلام علانية والإيمان في القلب" ولا مجال للبسط أكثر من هذا. ومن أفسد الأصول التى بناها المرجئة على هذا الاعتقاد - أي انحصار الإيمان في التصديق القلبي وحده - أنهم حصروا الكفر في التكذيب القلبي أيضا، حتى أنهم لم يعتبروا الأعمال الكفرية الصريحة كالسجود للصنم، وإهانة المصحف، وسب الرسول صلى الله عليه وسلم إلا دلالات على انتقاء التصديق القلبى، وليست مكفرة بذاتها (4). المصدر: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي - 2/ 541   (1) ([4363]) انظر إلى تصريحه بمذهب السلف وأصحاب الأثر ثم تصريحه بمخالفه أصحابه، ومع هذا يزعم معاصروهم أنهم أهل السنة والجماعة أو منهم!! (2) رواه ابن ماجه (3834) من حديث أنس رضي الله عنه, وصححه الألباني, وروي عن أم سلمة رضي الله عنها. (3) رواه مسلم (158) (96) , من حديث أسامة رضي الله عنه. (4) وهذا من الأصول الثابتة فى مذاهب الأشاعرة قديما وحديثا، انظلا مثلا: ((المواقف)) (ص 388)، و ((براءة الأشعريين)) (1/ 149)، ومن أعظم الرد عليهم أن الأشعرى نفسه فى المقالات (1/ 132،133،141) ذكر هذه الأقوال نفسها عن فرق المرجئة: كالجهمية والصالحية والمريسية وهذا يدل على صحة ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيميه مرارا، وما استنتجناه من بحثنا هذا، وهو أن الأشاعرة على مذهب جهم والصالحى وإن غيروا قليلا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 المبحث السادس: إثبات عمل القلب لما كان إيمان القلب من الأهمية بالدرجة التى عرضنا طرفا منها، كان لا بد أن يكون حظ الحديث عنه من الذكر الحكيم الذى أنزله الله لإصلاح حياة العالمين وتزكيتها هو الحظ الأوفر، وهكذا جاء في القرآن آيات كثيرة تبين أعمال القلب وأهميتها في الإيمان أصلا أو وجوبا، ولو ذهبنا في جمعها واستقصائها لطال المقام جدا. وحسبنا أن نورد ما يتجلى به صحة مذهب أهل السنة والجماعة وشذوذ المرجئة المنكرين لدخول أعمال القلب في الإيمان عدا التصديق القلبي، ويتضح أن مصدر القوم في التلقي لم يكن الكتاب والسنة، وإلا فكيف يضربون صفحا عن هذه الآيات المحكمات، ويعتمدون أكثر ما يعتمدون على آية واحدة ليست في مورد الإيمان الشرعي، بل حكاها الله تعالى عن قوم قالوها في التصديق الخبرى المجرد، وهو قوله تعالى على لسان اخوة يوسف: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا [يوسف:17]!! وهذه بعض أعمال القلب مقرونة بما تدل عليها من الآيات، منها ما هو في حق المؤمنين، ومنها ما هو في حق الكفار دالا على أمور سوى التكذيب الذي لم يقر المرجئة بغيره، ونظرا لكثرتها اكتفيت بما ورد فيها العمل مسندا إلى القلب - أو الصدر - بالمنطوق الصريح. 1 - الوجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2] 2 - الإخبات: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ [الحج:54] 3 - السلامة من الشرك دقيقة وجليله يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88 - 89] 4 - الإنابة: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ [ق:33]. 5 - الطمأنينة: وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] واشترطها في المكره إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106] " فكيف بغيره. 6 - التقوى: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32] " الحج:32" .. إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [الحجرات:3] " 7 - الانشراح: فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَم [الأنعام:125] أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ [الزمر:22]. 8 - السكينة: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ [الفتح:4] 9 - اللين: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23] وقد اسنده للقلب والجوارح هنا. 10 - الخشوع: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الحديد:16 [] 11 - الطهارة: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53] وهى في أية الحجاب، فدلت على التلازم بين عمل القلب وعمل الجوارح. 12 - الهداية وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11] وهى مما يدل على تلازم أعمال القلب. 13 - العقل: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] 14 - التدبر: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 15 - الفقه: لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا [الأعراف:179] 16 - الإيمان: مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ [المائدة:41]. وفى الإيمان الخاص: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14] ولهذا كان فيهم الصنف الذى سماه الله: وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ [التوبة:60]. 17 - السلامة من الغل للمؤمنين وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10] 18 - الرضا والتسليم فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65]. ويلاحظ أن الإسناد فيها للنفس لا للقلب أو الصدر، لحكمة دقيقة هى أن النفس مكمن الهوى والاعتراض. ومما ورد مسندا إلى القلب غير المؤمن: 1 - الإنكار: فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ [النحل: 22]. 2 - الكبر: إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ [غافر: 56] كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر: 35]. 3 - الإعراض واللهو: مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء:2 - 3] 4 - الاشمئزاز وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الزمر:45]. 5 - الزيغ: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]. فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [ال عمران:7] 6 - العمى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] 7 - القفل، وعدم الفقه، وعدم العقل: وقد تقدم ما يدل عليها. 8 - المرض: فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً [البقرة:10] 9 - القسوة: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ [البقرة:74] 10 - الغمرة: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا [المؤمنون: 63] 11 - الران: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] 12 - العداوة للحق وأهله: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران: 118]. والآيات في ذلك وعلاقته بأعمال الجوارح كثيرة أيضا. وأكثر مما ذكرنا الآيات الواردة في أعمال القلوب، ولكن لم يذكر فيها لفظه، كآيات الخوف والرجاء والتوكل والاستعانة والرضا وغيرها. المصدر: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي - 2/ 547 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 المبحث السابع: نماذج من أعمال القلوب ونبدأ ذلك ببيان موجز لما تعرض له عمل القلب من إعراض أو إسقاط أو خفاء لدى الأمة الإسلامية في عصور الانحراف، فنقول: 1 - المتكلمون: وهؤلاء أهملوا أعمال القلوب بالكلية جاعلين الإيمان قضية عقلية بحتة، ولم يثبتوا من أعمال القلب سوى التصديق الخبرى الذى هو في الحقيقة أشبه بالعمل الذهنى الخالص - وإن نسبوه للقلب. وأصل هذا المذهب هو ذلك المبتدع الضال " الجهم بن صفوان " (1) والمؤسف جدا أن أكثرية متكلمى الأمة - وهم الأشاعرية والماترية - اعتنقوا هذا المذهب مع إطباق أئمة السلف العاصرين لنشأته على تكفير جهم وأصحابة، واعتبار الجهمية فرقة خارجة عن فرق أهل القبلة الثلاث والسبعين (2). ومن أغرب التناقضات عند هؤلاء أن يكون مت نقله أبو الحسن الأشعرى نفسه في المقالات عن جهم والصالحى وبشر المريسى اليهودى هو ذات عقيدتهم التى صرح بها الباقلانى والجوينى وسائر أئمتهم إلى الإيجى ومن جاء بعده. وليس هذا موضع المقارنة بين الجهمية والأشاعرية، وحسبنا إن ننقل مذهب جهم كما سطره الأشعرى نفسه، ثم نقارنه بكلام أكبر أئمة الأشاعرة المتقدمين وناشر مذهبهم (3) - القاضى الباقلانى. يقول الأشعري في أول حديثه عن فرق المرجئة واختلافهم: " فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن الإيمان هو المعرفة بالله وبرسله وبجميع ما جاء من عند الله فقط، وان ما سوى المعرفة من الإقرار باللسان والخضوع بالقلب والمحبة لله ولرسوله والتعظيم لهما والخوف منهما "كذا" والعمل بالجوارح فليس بإيمان قال: وهذا قول يحكى عن الجهم بن صفوان " (4). ويقول الباقلاني - في بيان ما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به - " وأن يعلم أن الإيمان بالله عز وجل هو التصديق بالقلب والدليل هو الإقرار بالقلب والتصديق قوله عز وجل: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف:17] وقد أتفق أهل اللغة قبل نزول القران وبعث الرسول عليه السلام على أن الإيمان في اللغة هو التصديق دون سائر أفعال الجوارح والقلوب " (5). فهذا اتفاق بينهما على أن أعمال القلب والجوارح غير داخله في الإيمان. صحيح أن الجهمية تقول أن الإيمان المعرفة، والأشاعرية يقولون: الإيمان التصديق، ولكن ما تمحله الأشاعرة وتكلفوه من التفريق بين المعرفة وبين التصديق المجرد أمر لا يقبله العقلاء، ولهذا رد عليه شيخ الإسلام ابن تيميه قائلا: " إن الفرق بين معرفة القلب وبين مجرد تصديق القلب الخالى عن الانقياد - الذى يجعل قول القلب - أمر دقيق، وأكثر العقلاء ينكرونه، وبتقدير صحته لا يجب على كل أحد معرفة القلب وتصديقه، ويقولون، إن ما قاله ابن كلاب والأشعرى من الفرق كلام باطل لا حقيقة له، وكثير من أصحابه اعترف بعدم الفرق."   (1) وقد أشار الإمام ابن جرير إلى فرقة أخرى تنكر عمل القلب، وبمراجعة فرق المرجئة فى ((المقالات)) وجدت أنها الغسانية، انظر: (ص 284). وانظر ((تهذيب الآثار)) (2/ 199) و ((المقالات)) (1/ 137) (2) [4368] انظر ((كتاب الايمان)) لأبي عبيد. (3) [4369] انظر ((تبيين كذب المفتري)). (4) [4370] ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 130) (5) [4371] ((الأنصاف))، (ص 22)، وعن الرد على الأشاعرة فى هذا، انظر: ((الإيمان)) لابن تيميه مواضع كثيرة منها: (ص 141 - 143)، و (ص 178 - 180). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 إلى إن يقول: "والمقصود هنا أن الإنسان إذا رجع إلى نفسه عسر عليه التفريق بين علمه بأن الرسول صادق، وبين تصديق قلبه تصديقا مجردا عن انقياد وغيره من أعمال القلب بأنه صادق (1) وأيضا فلو أضاف المتكلمون إلى التصديق شيئا أخر - من أعمال القلب - لا نخرم أصلهم وفسدت قاعدتهم التى هى أن الإيمان شئ واحد لا يتركب ولا يزيد ولا ينقص، ولهذا ألزمهم الإمام أحمد - رحمه الله - إلزاما لا محيص لهم عنه حين قال - في رسالته إلى الجوزجانى: " وأما من زعم أن الإيمان: الإقرار، فما يقول في المعرفة هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار؟ وهل يحتاج إلى إن يكون مصدقا بما اقر؟ قال محمد بن حاتم: وهل يحتاج إن يكون مصدقا بما عرف؟ - فإن زعم انه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فقد زعم أنه يحتاج إن يكون مقراً ومصدقا بما عرف فهو من ثلاثة أشياء، فإن جحد وقال: لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق فقد قال "قولا" عظيما، ولا أحسب أحدا يدفع المعرفة. قال المروزى: ولا أحسب أحدا يدفع المعرفة والتصديق (2). ففى هذه الأسطر الموجزة ألزم الإمام أحمد إلزاما مفحما كل طوائف المرجئة - المتكلمين منهم والفقهاء - الذين يشتركون جميعا في أصل وأحد هو عدم إدخال أعمال القلب في الإيمان، واعتباره عملا واحدا فقط، إما الإقرار " الفقهاء " واما التصديق والمعرفة " المتكلمون: الجهمية والأشاعرية والماتريدية " وهو ألزم شئ للمتكلمين الأشاعرية والماتريدية الذين يفرقون بين مذهبهم ومذهب جهم بالتفريق بين المعرفة - التى هى قول جهم - وبين التصديق الذى هو مذهبهم. فهذا التفريق نفسه يوقعهم في هذا الإلزام ولا مناص، فإما أن يلتزموا القول بأن الإيمان هو التصديق المجرد عن المعرفة، وهو ما لا يتصور أن أحدا يقوله، وأما أن يقولوا إنه المعرفة مع التصديق، فيبطل أصلهم الثابت وهو أنه شئ واحد لا يتركب ولا يتعدد وحينئذ يلزمهم إدخال سائر أعمال القلب كما أدخلوا المعرفة. والحاصل أن هؤلاء لو تجردوا من لوثة التقيدات المنطقية والتكلفات النظرية نقلوها عن الفلاسفة ونظروا لآيات الوحى المبين - التى عرضنا بعضها - لأثبتوا أعمال القلب جميعها أجزاء من الإيمان القلبي الذي هو أهم شطري الإيمان. 2 - المتصوفة: كان ضلال المتصوفة في أعمال القلب من نوع أخر فالقوم مع اهتمامهم الشديد بها (3) وتسميتها أحوالا ومقامات وتفصيل دقائقها - أوقعهم الهوى والابتداع ومتابعة أسلافهم من صوفية الوثنيين الهنود واليونان في تناقضات وتخبطات أخرجت طائفة منهم عن الدين كله. فمن ذلك ضلالهم في "الرضا" - الجامع للانقياد والقبول - فقد خرجوا فيه عما كان عليه السلف إلى معنى فلسفى وثنى، هو الرضا المطلق بكل ما في الوجود لأنه من إرادة الله وقدره، حتى اعتقدوا وجوب الرضا بالكفر والفسوق والعصيان ووقعوا في الجبر المحض تحت ستار ما أسموه "شهادة الحقيقة الكونية"!! و "الاستبصار بسر الله في القدر"!!   (1) [4372] ((الإيمان))، (ص 281 - 283)، وبهذا يظل الفرق الجهمية والأشاعرة هو أن الجهمية يثبتون الإيمان حتى مع إنكار اللسان، والأشاعرة ينفون الإيمان عمن صرح بالكفر بلسانه، لأن هذا عندهم دليل على عدم تصديق القلب، وعلى كل فاللوازم ليست كالأقوال، والرأى فيها محتمل. (2) [4373] الخلال لوحة (109) (3) [4374] الذي هو رد فعل لعقلانية المتكلمين وغلو المترفين وجفاف الفقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 وضلوا في الرجاء والمحبة: حيث افتعلوا بينهما تناقضا، فاحتقروا الرجاء واعتبروه " أضعف مقامات المريدين " وغلوا في المحبة حتى أسقطوا ما يقابلها من الخوف، وجعلوا همهم - بزعمهم - عبادة الله لذاته لا طمعا في جنته ولا خوفا من ناره وجعلوا ذروة المحبة: "الفناء" في المحبوب، ولهذا قال فيهم السلف: "من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق "، وأفضى بهم هذا إلى احتقار الجنة والنار، واحتقار مقام الأنبياء، بل اعتقاد الحلول والوحدة - عياذا بالله!! ومن الناحية العلمية وضعوا قاعدة: "المحبة نار في القلب تحرق ما سوى المحبوب" واتخذوها ذريعة للتنصل من التعبدات التى تشغلهم عن المحبوب - بزعمهم - كالأشتغال بجهاد أعدائه وتعلم دينه وتعليمه ونشر دعوته بين العالمين. وضلوا في التوكل: فجعلوه سلبية مطلقة، وتواكلا رخيصا، وتسولا للمعطين، وتعمدا لإلحاق الضرر بالنفس، وتركا للأسباب المشروعة، بل تركا لأعظم التعبدات - كالدعاء مثلا - فأسقطوا به وبالمحبة من أعمال القلوب الشيء الكثير، فضلا على أنهم غفلوا عن أعظم درجات التوكل، وهو التوكل على الله في إقامة دينه، والجهاد في سبيله، ومقاومة الكفر والفساد - كما هو توكل الأنبياء. وضلوا في الزهد، فأخرجوه من عمل قلبى إيجابى إلى مظهر سلبى، حتى إنهم حرموا به طلب العلم، لأن ذلك كما قالوا يؤدى إلى تقدير الناس للعالم، وهذا - بزعمهم - ينافى الزهد، وعبدوا الأمة للفقر وبه، وحتى سموا أنفسهم الفقراء، وسموا الله تعالى "الفقر"!! وبالجملة فلا تكاد تجد شرطا من شروط لا إله إلا الله ولا عملا من أعمال القلب - إلا ولهم فيه ضلال وانحراف، مما كان له أثره العميق في انتشار الظاهرة واقعيا، ولولا أن غرضنا هنا تتبع الظاهرة في الفكر وأراء الفرق لتوسعنا في تفصيل ذلك الذى هو أليق بالواقع والحياة. 3 - المرجئة الفقهاء: وهؤلاء يثبتون أعمال القلب في ذاتها ولا ينكرون أهميتها، لكنهم يجعلونها شيئا أخر سوى الإيمان، كما يخرجون منه أعمال الجوارح، فإذا سئلوا عن علاقتها بالإيمان قالوا هي من لوازمه أو ثمراته. وتأتى خطورة مذهبهم - لاسيما في العصور الأخيرة - من جهة أن الإخلال بشيء من أعمال القلوب - التى يعد الإخلال بها كفرا أو معصية في نظر الشارع - لا يكون - على مذهبهم - إخلالا بالإيمان - الذي هو الإقرار والتصديق - إلا باللازم والتبع، وحسبك بهذا ذريعة إلى التساهل في ذلك (1) - ولو بمرور الزمن وتطور الظاهرة - ولهذا ألزمهم أهل السنة إلزاما لا محيص لهم عنه كما سبق في كلام الإمام أحمد. وكذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيميه: " والمرجئة الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب وقول اللسان والأعمال ليست منه، وكان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها ولم يكن قولهم مثل قول جهم، فعرفوا إن الإنسان لا يكون مؤمنا إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه، وعرفوا أن إبليس وفرعون وغيرهما كفار مع تصديق قلوبهم (أي بخلاف قول الأشاعرة في هاتين القضيتين (2)، لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضا" (3)   (1) [4375] انظر ((الإيمان)) (ص 377) (2) [4376] لأن الأشاعرة ينفون التصديق عمن ورد الشرع بتكفيره. (3) [4377] ((الإيمان)) (ص 183) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 وهنا ينبغي التنبيه على أمر مهم، وهو أن ما ورد عن كثير من التابعين وتلامذتهم في ذم الإرجاء وأهله، والتحذير من بدعتهم، إنما المقصود به هؤلاء المرجئة الفقهاء، فإن جهما لم يكن قد ظهر بعد، وحتى بعد ظهوره كان بخراسان، ولم يعلم عن عقيدته بعض من ذم الإرجاء من علماء العراق وغيره الذين كانوا لا يعرفون إلا إرجاء فقهاء الكوفة ومن اتبعهم، وحتى إن بعض علماء المغرب كابن عبد البر لم يذكر إرجاء الجهمية بالمرة (1). ثم حصل في القرن الرابع فصاعدا ما يشبه الاندماج بينهم وبين الأشاعرة، ولم يبق لهم اليوم من وجود إلا بعض الحنفية ومن هؤلاء من يرى الخلاف بينهم وبين السلف الإسلام لفظيا فقط، اعتمادا على كلام شارح الطحاوية وبعض مواضع من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه، وقد تقدم بيان الحق في ذلك. 4 - طائفة رابعة ليست كأحد من هذه الفرق البدعية: ولكن خفى عليها مأخذ السلف، فظهرت بمظهر العجز عن إثبات عقيدتها، ونسبت للتقليد المحض، وأعنى بذلك كثيرا من متأخرى أهل السنة الذين لم يقدموا بعمل كاف لصد تيار الإرجاء العصري، بسبب عدم إدراكهم لبعض أسس العقيدة ومنطلقاتها، ومن ذلك موضوع أعمال القلوب، فقد أعياهم الجواب أمام مطالبة المرجئة بدليل على شروط لا إله الله من انقياد وقبول ويقين وصدق وإخلاص الخ، وزعمهم أن هذا من ابتداع ابن تيميه أو محمد بن عبد الوهاب الذى لا اصل له في كلام السلف (2). وهذا ما يعيدنا إلى قضية أهمية أعمال القلوب وضرورة بحث الحديث عنها وبيان منزلتها من الإيمان فلقد ترتب على إهمالها وإغفالها من الآثار المدمرة في حياة الأمة الشىء الكثير، ومن أعظم ذلك انحسار مفهوم العبادة وتضييقه، وانتقاص توحيد الألوهية ووقوع الأمة في الشرك الأكبر، حتى أصبحت المرجئة في القرون الأخيرة تجاهر بإنكار دخول هذه الإعمال في العبادة والتأله فقالوا: إن الرجاء والخوف والمحبة والتعظيم والرضا والتسليم والانقياد والطاعة ونحوها من تعبدات القلب - بل الدعاء والاستغاثة بالمخلوقين - لا علاقة لها بالشرك، ولا يسمى فاعلها لغير الله مشركا ما دام يقول: لا إله إلا الله ويعتقد بقلبه صدق الرسول فيما جاء به!! وإنما الشرك بزعمهم اعتقاد القلب أن هذا المخلوق إله أو رب معبود، والكفر أن يعتقد بقلبه أن ما يفعله من الأعمال كفر، أما إذا عمل أعمال الكفر (3) مع اعتقاده أن ذلك لا يخرجه من الملة فليس بكافر!! وقد اصطدمت هذه الفكرة بالعقيدة السلفية بطبيعة الحال، وجرى بين المنهجين جولات ومعارك - أبرزها المعركة التى دارت أيام شيخ الإسلام ابن تيميه، ثم الجولة التى دارت بظهور دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وما تزال المعركة قائمة على أشدها وما يزال مذهب المرجئة هو الطاغي على اكثر بقاع العالم الإسلامي. وهكذا ظلت هذه القضية هى جوهر كل الدعاوى التى أشهرها المؤلفون الإرجائيون على عقيدة السنة والجماعة باسم الرد على ما أسموه " الوهابية ". كما أنها ظلت كذلك بعد استفحال شرك التشريع، وظهور الدعاة الذين أعلنوا أن تحكيم غير شرع الله كفر أكبر ينافى شهادة أن لا إله إلا الله. ومن هنا اقتضى الأمر تفصيل الحديث عن بعض أعمال القلوب، وهو ما سنشرع فيه بإذن الله. 1 - الرضا:   (1) [4378] آى ضمن كلامه عن الفرق فى الإيمان فى ((التمهيد))، (ج9) (2) [4379] معلوم إن أهل السنة استدلوا عليهم بوجود هذه الشروط فى أكثر الأحاديث مثل " من قال: لا إله إلا الله مستيقنا "مخلصا".الخ ولكن التأصيل الكامل لشطر الإيمان القلبى لم يتفطن له فيما أعلم. (3) [4380] كالتشريع من دون الله فى عصرنا الحاضر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 كلمة الرضا تجمع بين شرطين من الشروط إلى ذكرها بعض العلماء لشهادة أن لا إله إلا الله وهما " القبول والانقياد " بل الرضا أعلى منهما وأشمل (1) وقد أثرته لذلك ولكونه لفظا شرعيا ورد في الكتاب والسنة. وحسبك في تعظيمه قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3] فما رضيه الله لنا وهو الغنى الحميد، فنحن أولى أن نرضى به وأحق. فالرضا بالدين هو " أساس الإسلام وقاعدة الإيمان، فيجب على العبد أن يكون راضيا به بلا حرج، ولا منازعة، ولا معارضة، ولا اعتراض، قال الله تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء:65] فأقسم أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله وحتى يرفع الحرج من نفوسهم من حكمه، وحتى يسلموا لحكمه تسليما وهذه حقيقة الرضا بحكمه (2). وليس هذا الرضا على درجة واحدة، بل هو - كما في الآية - على ثلاث مراتب " فالتحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان، والتسليم في مقام الإحسان (3) فمن لم يرض بتحكيم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم في أصول الدين وفروعه الشريعة ويتحاكم إليه، فهو معترض بنوع من أنواع الاعتراض الآتى تفصيلها فلهذا لا يكون مسلما - وإن رغم ذلك، كما قال تعالى في الآيات التى قبلها: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ [النساء:60]. وكيف لا وأول كفر وقع في هذا العالم إنما نشا " من عدم الرضا، فإبليس لم يرض بحكم الله الذي حكم به كونا - من تفضيل آدم وتكريمه، ولا بحكمه الديني - من أمره بالسجود لآدم " (4)، مع تصديقه بالله واليوم الآخر، وان الله هو الإله دون ما سواه. ومن رضي بأصل التحكيم لكن لم ينتف الحرج عن نفسه بل ربما زعزعته شبهة أو لحقه شك، فهذا كالأعراب الذين اسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم. ومن انتفي عنه الحرج لكن لم يرق إلى درجة التسليم المطلق للوحي أمرا ونهيا وخبرا، فهو ناقص عن مرتبة الإحسان التي كان عليها الصحابة رضي الله عنهم، والتي كان الصديق في ذروتها حتى في اشق المواقف، كموقف الحديبية (5). وهذا هو الرضا الذي قال عنه ابن القيم: " إن الرضا من أعمال القلوب نظير الجهاد من أعمال الجوارح، فان كل واحد منهما ذروة سنام الإيمان، قال أبو الدرداء: ذروة سنام الإيمان الصبر للحكم والرضا بالقدر " (6). والرضا يشمل التوحيد كله، ربوبية وألوهية، طاعة وتقربا، ومن هنا قال النبي صلي الله عليه وسلم: " ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا "، وقال: " من قال حين يسمع النداء: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا، غفرت له ذنوبه ". " وهذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين واليهما ينتهي، وقد تضمنا الرضا بربوبيته سبحانه وألوهيته، والرضا برسوله والانقياد له والرضا بدينه والتسليم له.   (1) [4381] الرضا يتضمن الصبر والمحبة تتضمن الرغبة. (2) [4382] ((مدارج السالكين)) (2/ 192) (3) [4383] ((مدارج السالكين)) (2/ 192) (4) [4384] ((المدارج)) (2/ 214) (5) [4385] سبق الحديث عنه من (ص 73) فصاعدا. (6) [4386] ((المدارج)) (2/ 214) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 فالرضا بأولوهيته يتضمن الرضا بمحبته وحده، وخوفه ورجائه، والإنابة إليه، والتبتل إليه، وانجذاب قوي الإرادة والحب كلها إليها، وذلك يتضمن عبادته والإخلاص له. والرضا بربوبيته: يتضمن الرضا بتدبيره لعبده، ويتضمن أفراده بالتوكيل عليه والاستعانة به والثقة به والاعتماد عليه، وان يكون راضيا بكل ما يفعل به. فالأول: (أي رضا الألوهية): يتضمن رضاه بما أمر به. والثاني: يتضمن رضاه بما يقدر عليه. وأما الرضا بنبيه رسولا: فيتضمن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه - بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدي إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضي بحكم غيره البتة، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شيء من أحكام ظاهرة وباطنة. لا يرضي في ذلك بحكم غيره، ولا يرضي إلا بحكمه، فان عجز عنه كان تحكيمه غيره من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة والدم، واحسن أحواله إن يكون من باب التراب الذي إنما يتيمم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور (1). وأما الرضا بدينه: فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهي رضي كل الرضا، ولم يبق في قلبه حرج من حكمه، وسلم له تسليما - ولو كان مخالفا لمراد نفسه أو هواها أو قول مقلده أو شيخه وطائفته " (2). ولهذا جاء هذا الرضا بأنواعه مبينا في سورة الأنعام التي هي سورة التوحيد العظمى، فقد اشتملت علي ثلاثة أنواع من الرضا هي جماع التوحيد كله: 1 - الرضا بالله ربا لا شريك له في التقرب والتأله والتعبد: قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:164]. 2 - الرضا بالله حكما لا شريك له في التشريع والطاعة: أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً [الأنعام:114]. 3 - الرضا بالله وليا لا شريك له في محبته وموالاته: قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:14]. وقد شرح ذلك الإمام ابن القيم فقال: " الرضا بالله ربا: إلا يتخذ ربا - غير الله تعالي - يسكن إلى تدبيره وينزل به حوائجه، قال تعالي: قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:164] قال ابن عباس رضي الله عنهما: " سيدا والها "، يعني فكيف أطلب ربا غيره وهو رب كل شيء؟ وقال في أول السورة: قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:164] يعني معبودا وناصرا ومعينا وملجأ، وهو من الموالاة التي تتضمن الحب والطاعة. وقال في وسطها: أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً [الأنعام:114]، أي أفغير الله ابتغي من يحكم بيني وبينكم فنتحاكم إليه فيما اختلفنا فيه؟ وهذا كتابه سيد الحكام، فكيف نتحاكم إلى غير كتابة؟ وقد أنزله مفصلا مبينا كافيا شافيا؟!   (1) [4387] يقصد الشيخ اتباع غيره صلي الله عليه وسلم كتقليد أحد الأئمة لمن هو مضطر لذلك لجهل ونحوه. (2) [4388] ثم قال رحمه الله: " وهاهنا يوحشك الناس كلهم إلا الغرباء في العالم فإياك إن تستوحش من الاغتراب والتفرد، فانه والله عين العزة والصحبة مع الله ورسوله، وروح الأنس والرضا به ربا وبمحمد رسولا صلي الله عليه وسلم وبالإسلام دينا ((مدارج السالكين)) (2/ 172 – 173). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 وأنت إذا تأملت هذه الآيات حق التأمل، رايتها هي نفس الرضا بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد صلي الله عليه وسلم رسولا، ورأيت الحديث يترجم عنها، ومشتقا منها، فكثير من الناس يرضي بالله ربا ولا يبغي ربا سواه، لكنه لا يرضي به وحده وليا وناصرا، بل يوالي من دونه أولياء ظنا منه انهم يقربونه إلى الله، وان موالاتهم كموالاة خواص الملك، وهذا عين الشرك، بل التوحيد، إلا يتخذ من دونه أولياء، والقران مملوء من وصف المشركين بأنهم اتخذوا من دونه أولياء. وهذا غير موالاة أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين فيه، فان هذا من تمام الإيمان ومن تمام موالاته، فموالاة أوليائه واتخاذ الولي من دونه لون، ومن لم يفهم الفرقان بينهما فليطلب التوحيد من أساسه، فان هذه المسالة اصل التوحيد وأساسه. وكثير من الناس يبتغي غيره حكما يتحاكم إليه، ويخاصم إليه، ويرضي بحكمه، وهذه المقامات الثلاث هي أركان التوحيد: إلا يتخذ سواه ربا، ولا إلها، ولا غيره حكما. وتفسير الرضا بالله ربا: إن يسخط عبادة ما دونه، هذا هو الرضا بالله إلها، وهو تمام الرضا بالله ربا، فمن اعطى الرضى به ربا حقه سخط عبادة ما دونه قطعا، لأن الرضاء بتجريد ربوبيته يستلزم تجريد عبادته، كما إن العلم بتوحيد الربوبية يستلزم العلم بتوحيد الإلهية فالحاصل: إن يكون الله وحده المحبوب المعظم المطاع، فمن لم يحبه ولم يطعه ولم يعظمه: فهو متكبر عليه، ومتي احب معه سواه، وعظم معه سواه، وأطاع معه سواه: فهو مشرك، ومتي افرده وحده بالحب والتعظيم والطاعة فهو عبد موحد، والله سبحانه وتعالى اعلم" (1). ومنافي الرضا ومقابله هو الاعتراض والكراهية لما انزل الله - بعضه أو كله، وإذا فسرناه بالقول والانقياد، فضدهما الرد والاعتراض والإباء. وكل هذا مما وقعت فيه الأمة كليا أو جزئيا، فوقع فيها الاعتراض علي توحيد المعرفة والإثبات، والاعتراض علي الأمر الشرعي بالتحليل والتحريم، والاعتراض علي الأمر الكوني، فاعترض كثير منهم علي صفاته، وشريعته، وقضائه وقدره. واصل هذه الاعتراضات التلقي عن غير الله ورسوله، والاستمداد من غير الوحي وتحكيم غيره، فمنهم من حكم العقل - بزعمه - فنقل فلسفات الوثنيين وحثالة فكر التائهين، وهؤلاء هم أصحاب الكلام. ومنهم من حكم الذوق والوجد والكشف، وانتكس بالعقل المسلم إلى حضيض الخرافة والوهم، وهؤلاء هم الصوفية. ومنهم من حكم الأقيسة العقلية، والأعراف السياسية، بحجة تحقيق المصلحة الشرعية، ومراعاة الأصول العقلية - بزعمهم - فاحلوا من الدماء والأموال والفروج وما ورد النص الصريح بتحريمه، وكان ذلك مع وقوعه في دائرة الاجتهاد الخطأ أو التطبيق المتعسف ممهدا لما وقعت فيه الأمة في العصر الحديث من الشرك الأكبر والاعتراض الأطم بتحكيم القوانين الوضعية وإحلالها محل الشريعة، بل الكراهية الصريحة لكثير مما أنزل الله، وبخاصة في الجهاد والحجاب والموالاة والسياسة، ولندع الإمام ابن القيم يفصل لنا الاعتراض التي وصلت إليها الأمة في عصره، وحسبك إن تقول بعدها: " كيف لو رأي زماننا هذا؟! ". يقول رحمه الله: " الاعتراض: ثلاثة أنواع سارية في الناس، والمعصوم من عصمه الله منها. النوع الأول: الاعتراض علي أسمائه وصفاته بالشبه الباطلة:   (1) [4389] ((المدارج)) (2/ 181 / 183) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 التي يسميها أربابها قواطع عقلية، وهي في الحقيقة خيالات جهلية، ومحالات ذهنية، اعترضوا بها علي أسمائه وصفاته عز وجل وحكموا بها عليه، ونفوا لأجلها ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسول الله صلي الله عليه وسلم، واثبتوا ما نفاه، ووالوا بها أعداءه، وعادوا بها أولياءه، وحرفوا بها الكلم عن مواضعه، ونسوا بها نصيبا كثيرا مما ذكروا به، وتقطعوا لها أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون. والعاصم من هذا الاعتراض: التسليم المحض للوحي، فإذا سلم القلب له ر أي صحة ما جاء به، وانه الحق بصريح العقل والفطرة، فاجتمع له السمع والعقل والفطرة، وهذا اكمل الإيمان. ليس كمن الحرب قائمة بين سمعه وعقله وفطرته. النوع الثاني: الاعتراض علي شرعه وأمره: وأهل هذا الاعتراض ثلاثة أنواع: الأول: المعترضون عليه بآرائهم وأقيستهم المتضمنة تحليل ما حرم الله سبحانه وتعالى، وتحريم ما أباحه، وإسقاط ما أوجبه، وإيجاب ما أسقطه، وإبطال ما صححه، وتصحيح ما أبطله، واعتبار ما ألغاه، وإلغاء ما اعتبره، وتقييد ما أطلقه، وإطلاق ما قيده. وهذه هي الآراء والأقيسة التي اتفق السلف قاطبة على ذمها، وصاحوا على أصحابها من أقطار الأرض، وحذروا منهم ونفروا عنهم. الثاني: الاعتراض علي حقائق الإيمان والشرع بالأذواق، والمواجيد، والخيالات، والكشوفات الباطلة الشيطانية، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله، وإبطال دينه الذي شرعه علي لسان رسوله، والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان، وحظوظ النفوس الجاهلة. والعجب إن أربابها ينكرون على أهل الحظوظ، وكل ما هم فيه فحظ، ولكن حظهم متضمن مخالفة مراد الله، والإعراض عن دينه، واعتقاد انه قربة إلى الله، فأين هذا من حظوظ أصحاب الشهوات المعترفين بذمها، المستغفرين منها، المقرين بنقصهم وعيبهم، وأنها منافية للدين؟! وهؤلاء في حظوظ اتخذوها دينا، وقدموها علي شرع الله ودينه، واغتالوا بها القلوب واقتطعوها عن طريق الله، فتولد من معقول أولئك، وآراء الآخرين وأقيستهم الباطلة، وأذواق هؤلاء خراب العالم، وفساد الوجود وهدم قواعد الدين، وتفاقم الأمر وكاد، لولا إن الله ضمن انه لا يزال يقوم من يحفظه، ويبين معالمه، ويحميه من كيد من يكيد. الثالث: الاعتراض علي ذلك بالسياسات الجائرة التي لأرباب الولايات التي قدموها علي حكم الله ورسوله، وحكموا بها بين عباده، وعطلوا لها وبها شرعه وعدله وحدوده. فقال الأولون: إذا تعارض العقل والنقل، قدمنا العقل. وقال الآخرون: إذا تعارض الأثر والقياس، قدمنا القياس. وقال أصحاب الذوق والكشف والوجد: إذا تعارض الذوق والوجد والكشف وظاهر الشرع، قدمنا الذوق والوجد والكشف. وقال أصحاب السياسة: إذا تعارضت السياسة والشرع، قدمنا السياسة. فجعلت كل طائفة قبالة دين الله وشرعه طاغوتا يتحاكمون إليه. فهؤلاء يقولون: لكم النقل ولنا العقل، والآخرون: انتم أصحاب آثار وأخبار ونحن أصحاب أقيسة وآراء وأفكار، وأولئك يقولون: انتم أرباب الظاهر، ونحن أهل الحقائق، والآخرون يقولون: لكم الشرع ولنا السياسة. النوع الثالث (1): الاعتراض علي أفعاله وقضائه وقدره: وهذا اعتراض الجهال، وهو ما بين جلي وخفي، وهو أنواع لا تحصي (2).   (1) [4390] في الأصل: الرابع وهو خطأ. (2) [4391] وذلك مثل اعتراض الكفار علي اختيار الرسول صلي الله عليه وسلم، واعتراض اليهود علي كونه ليس منهم، ويلحق به اعتراض الخوارج علي قسمته، وأشباه ذلك كثير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 وهو سار في النفوس سريان الحمى في بدن المحموم، ولو تأمل العبد كلامه وأمنيته وإرادته وأحواله، لرأي ذلك في قلبه عيانا، فكل نفس معترضة على قدر الله وقسمه وأفعاله إلا نفسا قد اطمأنت إليه، وعرفته حق المعرفة التي يمكن وصول البشر إليها فتلك حظها التسليم والانقياد. والرضا كل الرضا " (1) 2 - المحبة: المحبة أساس كل عمل من أعمال الدين والإيمان، كما إن التصديق أساس كل قول من الأقوال (2)، وذلك إن كل عمل يعمله الإنسان لابد إن يكون عن إرادة قلبية - كما أوضحنا سلفا - وهذه الإرادة أما إن تكون حبا أو كرها، فدافع العمل لا يخرج عن إن يكون رغبة وطواعية أو رهبة وإجبارا. وأعمال الدين قسمان: أولا: التعبدي المحض كالصلاة والصيام والحج. والآخر: ما كان تابعا للنية، كالآكل والنوم بنية الاستعانة علي الطاعة، والإنفاق علي الأهل بنية القربة، ونحوه. فالأول لا يصلح إلا بالنية، والآخر لا يكون مأجورا عليه ومتقربا به إلا بها فاتضح إن النية أساس في الأعمال كلها. وهذه النية هي بمعنى الإرادة والغاية، وهي التي لا تخلو من إن تكون حبا أو كرها، أما النية الخاصة التي يذكرها الفقهاء في الأحكام فشيء آخر. وقد اخبر الله سبحانه وتعالى عن اختلاف حالي المؤمن والمنافق وعاقبتيهما بحسب اختلاف نية كل منهما - مع اتفاق عملهما في الصورة والمظهر، كالإنفاق مثلا، فقال تعالى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل: 17 - 21]. وقال: وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:54] فالمؤمن يعمل الطاعة محبا لها راضيا بها - فكان جزاؤه القبول والرضا، والمنافق يعملها كارها كسلان - فكان جزاؤه الرد والإحباط. والمؤمنون أنفسهم تتفاوت درجات إيمانهم بحسب المحبة والرضا، فكم بين إسلام أبى ذر الذي تحمل المشاق حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اسلم أعلن إسلامه بين ظهراني الكفار مستعذبا ضربهم وأذاهم يوما بعد يوم (3)، وبين إسلام الأعرابي الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال له ((اسلم "، فقال: أجدني كارها، فقال: " اسلم وان كنت كارها)) (4). بل كم بين إسلام سلمان - الذي قضي السنين الطوال بحثا عن الدين الحق وانتقل من خدمة راهب إلى آخر حتى وقع في الرق، وبلغه خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على النخلة، فكاد يسقط فرحا وشوقا (5) - وبين إسلام المؤلفة قلوبهم من جفاه الأعراب الذين دخلوا في الإسلام بذل ذليل. ومن هنا كانت المحبة أصل أعمال القلوب، وشرطاً من شروط لا اله إلا الله، " فان الإسلام هو الاستسلام بالذل والحب والطاعة لله، فمن لا محبة له لا إسلام له البتة، بل هي حقيقة شهادة إن لا اله إلا الله، فان " الإله " هو الذي يألهه العباد حبا وذلا وخوفا ورجاء وتعظيما وطاعة له، بمعنى "مألوه" وهو الذي تألهه القلوب، أي تحبه وتذل له.   (1) [4392] ((المدارج)) (3/ 69 – 71) (2) [4393] انظر كلام شيخ الإسلام الآتي في نهاية هذا الموضوع. (3) [4394] تقدمت قصة إسلامه. (4) [4395] ((المسند)) (3/ 19، 181)، ومعني قوله: اجدني كارها: إن نفسه فيها كره للدين ولم ينشرح صدره للإسلام بعد، فأرشده النبي صلي الله عليه وسلم إلى إرغام النفس وقبول الحق. (5) [4396] انظر قصة إسلام سلمان في ((الفتح)). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 وأصل " التأله " التعبد، والتعبد آخر مراتب الحب، يقال: عبده الحب وتيمه إذا ملكه وذلله لمحبوبة. فالمحبة حقيقة العبودية، وهل تمكن الإنابة بدون المحبة والرضا والحمد والشكر والخوف والرجاء؟ وهل الصبر في الحقيقة إلا صبر المحبين؟ (وهل التوكل إلا توكل المحبين (1)، فإنه إنما يتوكل علي المحبوب في حصول محابه ومراضية. وكذلك الزهد في الحقيقة هو زهد المحبين فانهم يزهدون فيما سوي محبوبهم لمحبته، وكذلك الحياء في الحقيقة إنما هو حياء المحبين، فانه يتولد من بين الحب والتعظيم، وأما ما لا يكون عن محبة فهو خوف محض " (2). وهكذا في سائر أعمال القلب التي لا يكون العبد شاهدا أن لا اله إلا الله بدونها. وقد جعل الله تعالى إخلاص المحبة فرقانا بين المؤمنين والكافرين، فمن أشرك مع الله غيره في المحبة وسواه به فهو المشرك المتخذ من دون الله ندا معبودا، فضلا عمن خلا قلبه من محبة الله ورسوله ودينه بالمرة وكره ذلك، فهذا كافر كفر إبليس وفرعون، مهما كان في قلبه من " تصديق " مجرد. يقول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ [البقرة:165] فأخبر إن من احب من دون الله شيئا - كما يحب الله تعالى - فهو ممن اتخذ من دون الله أندادا، فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية، فان أحدا من أهل الأرض لم يثبت هذا الند في الربوبية - بخلاف ند المحبة، فان اكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أندادا في الحب والتعظيم. وهذه هي التسوية المذكورة في قوله تعالى حكاية عنهم وهم في النار يقولون لآلهتهم وأندادهم وهي محضرة معهم في العذاب: تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 97 - 98]، ومعلوم انهم لم يسووهم برب العالمين في الخلق والربوبية، وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم " والطاعة والتشريع ". وهذا أيضا هو العدل المذكور في قوله تعالى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] أي يعدلون به غيره في العبادة التي هي المحبة والتعظيم .. " (3). وإذا كان تجريد المحبة وإخلاصها هو متعلق الشطر الأول من شطري الشهادة، وهو " شهادة إن لا اله إلا الله " - فان تجريد المتابعة والتحكيم للرسول صلى الله عليه وسلم هو تحقيق المحبة المتعلق بالشطر الآخر " شهادة إن محمدا رسول الله "، يقول الله تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 31 - 32]. فهذه هي آية المحبة وهي آية المحنة، " قال بعض السلف: ادعي قوم محبة الله، فانزل الله آية المحنة: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ [آل عمران: 31] (4).   (1) [4397] زيادة يقتضيها السياق. (2) [4398] ((المدارج)) (3/ 26). (3) [4399] ((المدارج)) (3/ 21) (4) [4400] ((المدارج)) (ص 22) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: " هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فانه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأعماله - كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: " من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو رد " قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ [آل عمران: 32] أي تخالفوا عن أمره فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 32]، فدل على إن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك - وان ادعى وزعم في نفسه انه محب لله، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون احب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) (1). ونواصل مع ابن القيم رحمه الله حيث يقول: " فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله، وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم - فيستحيل إذا ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله. ودل على إن متابعة الرسول صلي الله عليه وسلم هي حب الله ورسوله، وطاعة أمره، ولا يكفي ذلك في العبودية - حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما، فلا يكون عنده شيء احب إليه من الله ورسوله، ومتى كان عنده شيء احب إليه منهما فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه البتة، ولا يهديه الله - قال الله تعالى: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24] فكل من قدم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله، أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله، أو خوف أحد منهم ورجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه، أو معاملة أحدهم على معاملة الله - فهو ممن ليس الله ورسوله احب إليه مما سواهما، وان قال بلسانه فهو كذب منه، وإخبار بخلاف ما هو عليه. وكذلك من قدم حكم أحد على حكم الله ورسوله، فذلك المقدم عنده احب إليه من الله ورسوله، لكن قد يشتبه الأمر على من يقول قول أحد، أو حكمه، أو طاعته، أو مرضاته، ظنا منه انه لا يأمر ولا يحكم ولا يقول إلا ما قاله الرسول - فيطيعه، ويحاكم إليه، ويتلقى أقواله كذلك، فهذا معذور إذا لم يقدر على غير ذلك. وأما إذا قدر على الوصول إلى الرسول، وعرف إن غير من اتبعه هو أولى به مطلقا، أو في بعض الأمور، ولم يلتفت إلى الرسول ولا إلى من هو أولى به - فهذا الذي يخاف عليه، وهو داخل تحت الوعيد، فإن استحل عقوبة من خالفه وأذله، ولم يوافقه على اتباع شيخه فهو من الظلمة المعتدين، وقد جعل الله لكل شيء قدرا " (2).ويقول رحمه الله في بيان بعض لوازم محبته صلى الله عليه وسلم وهو الأدب معه: "رأس الأدب معه: كمال التسليم والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون إن يحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولا، أو يحمله شبهة أو شكا، أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم. فيوحده بالتحكيم والتسليم، والانقياد والإذعان - كما وحد المرسل سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل.   (1) [4401] رواه البخاري ومسلم رقم 44 (2) [4402] ((مدارج السالكين)) (1/ 99 - 100) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل، وتوحيد متابعة الرسول، فلا يحاكم إلى غيره، ولا يرضى بحكم غيره، ولا يرضي بحكم غيره، ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه، وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه، فان أذنوا له نفذ وقبل خبره، وإلا فان طلب السلامة اعرض عن أمره وخبره، وفوضه إليهم، وإلا حرفه عن مواضعه، وسمي تحريفه: تأويلا وحملا، فقال: نؤوله ونحمله فلئن يلقي العبد ربه بكل ذنب على الإطلاق - ما خلا الشرك بالله - خير له من إن يلقاه بهذه الحال. ولقد خاطبت يوما بعض أكابر هؤلاء، فقلت له: سألتك بالله لو قدر إن الرسول صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرنا، وقد واجهنا بكلامه وبخطابه، أكان فرضا علينا إن نتبعه من غير إن نعرضه على رأي غيره وكلامه ومذهبه، أم لا نتبعه حتى نعرض ما سمعناه منه على آراء الناس وعقولهم؟! فقال: بل كان الفرض المبادرة إلى الامتثال من غير التفات إلى سواه، فقلت: فما الذي نسخ هذا الفرض عنا وبأي شيء نسخ؟! فوضع إصبعه علي فيه، وبقي باهتا متحيرا وما نطق بكلمة. هذا أدب الخواص معه، لا مخالفة أمره والشرك به، ورفع الأصوات، وإزعاج الأعضاء بالصلاة عليه والتسليم (1)، وعزل كلامه عن اليقين، وان يستفاد منه معرفة الله أو يتلقى منه أحكامه ".ويقول: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: إن يكون الله ورسوله احب إليه مما سواهما، وان يحب المرء لا يحبه إلا لله، وان يكره إن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره إن يلقى في النار) (2). وليست محبة الله ورسوله دعوى يمكن إن تلوكها ألسنة الزنادقة أو المبتدعين، أو شعارا يرفعه المنافقون، بل هي تحقيق توحيد الله وطاعته باتباع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فمحبته صلى الله عليه وسلم التي لا يكون العبد شاهدا إن محمدا رسول الله إلا بها لا تتحقق إلا باتباعه وتعزيره وتوقيره وتعظيم سنته والتخلي عن التقديم بين يدي أمره ونهيه - كما جاء في حديث: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)) (3). يقول الإمام ابن القيم في بيان هذا الأصل العظيم " اصل العبادة: محبة الله، وفيه، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه، فمحبتهم من تمام محبته، وليست محبة معه، كمحبة من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحبه. وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها، فهي إنما تتحقق باتباع آمره، واجتناب نهيه، فعند اتباع الأمر واجتناب النهى تتبين حقيقة العبودية والمحبة، ولهذا جعل تعالى اتباع رسوله علما عليها، وشاهدا لمن ادعاها، فقال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ [آل عمران: 31]. فجعل اتباع رسوله مشروطا بمحبتهم لله، وشرطا لمحبة الله لهم، ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شروطه، وتحققه بتحققه، فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة. بل المعول في باب معرفة الله: على العقول المتهوكة المتحرية المتناقضة، وفى الأحكام: على تقليد الرجال وآرائها، والقران والسنة إنما نقرؤهما تبركا لا أنا نتلقى منها أصول الدين لا فروعه، ومن طلب ذلك ورامه عاديناه وسعينا في قطع دابره واستئصال شأفته " (4).   (1) [4403] يقصد الإمام بذلك الرد على المتصوفة وما يفعلونه في الموالد وغيرها. (2) [4404] رواه البخاري ومسلم رقم 43 (3) [4405] انظر الكلام عن سنده في ((جامع العلوم والحكم)). (4) [4406] ((المدارج)) (2/ 387 – 388) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 انظر إلى كلام هذا الإمام وهو يتحدث عن واقع عصره حين كان الانحراف في توحيد الله بالعبادة، وتوحيد الرسول بالمتابعة - مع دعوى المحبة لله ورسوله - محصورا في الضلالات الكلامية والبدع السلوكية، كقول الأشاعرة: إن الظواهر النقلية لا بد من عرضها على القواطع، لأنها يقين، وظواهر النقل ظنون بزعمهم (1). وكقول المتصوفة بعرض النصوص الشرعية على الكشف والذوق والحال وكقول المتفقة بعرض الأحاديث الصحيحة على كلام إمام المذهب، ونحو ذلك من الانحرافات المغلفة بالتأويلات الفاسدة. أقول: ذلك الانحراف على خطورته أين منه ما وقع في العصور الأخيرة، من تحكيم صريح لقوانين الكفار ومناهجهم وطرق حياتهم، وتقديم ذلك على الكتاب والسنة، ومحاربة الداعين إلى التمسك بالدين وتحكيم الشريعة، واستئصال شأفتهم؟! ومع هذا يدعى أصحاب هذا الكفر المبين ورجال دينهم محبة الله ورسوله ويعبرون عن هذا الحب المزعوم بالمظاهر والاحتفالات البدعية، وأعمال " الضرار" الأخرى ويستدرجون بها عقول بعض العلماء الناصحين، فيتورعون عن الحكم عليهم بما حكم الله عليهم به متذرعين بأنهم غير مستحلين!! إن الصورة العصرية المناقضة لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أي لتوحيد العبادة وتوحيد المتابعة - تتجرد عن التأويلات والأقيسة، وتتعرى عن قصد المصلحة والإخلاص، وتتجلى في صورة افتئات صارخ على مقام الألوهية، وتحكم مقنن في حكم الله ورسوله. هذه الصورة التي من مظاهرها المتكررة الدائمة عرض حكم الله ورسوله وتوقف إقراره على موافقة السلطة التى منحها القانون حق التشريع المطلق. مثال ذلك: تحريم الخمر، وهو حكم قطعى ضرورى في الشريعة الإسلامية، يتوسل الدعاة والعلماء الطيبون إلى السلطة الحاكمة أن تقره لكى يصبح تشريعا رسميا ملزما، فإن تكرمت السلطة وقبلت الطلب عرضته على المجلس التشريعى الذي أعطى بحكم الدستور حق التشريع المطلق - ليبدي رأيه بالموافقة أو عدمها! ثم في المجلس تدور معركة الأصوات بين المؤيدين والمعارضين الذين يعترضون بكل ثقة وبكل جرأة، لأنهم يمارسون عملهم الطبيعي وسلطتهم المشروعة. وفي أحسن الحالات - بل على أحسن الافتراضات - يحصل القرار على الأغلبية، وهنا فقط يصبح حكما ملزما، ويدرج ضمن مواد التشريع الوضعي على انه فقرة من فقراته. ومع ذلك يظل حق السلطة التشريعية الثابت في إلغاء هذه المادة - متى شاءت - محفوظا بحكم الدستور. أي لو فرضنا إن دولة ما طبقت بعض أحكام الشريعة، كجلد شارب الخمر مثلا، فهذا الحكم لم يكتسب صفة القانون والإلزام والتنفيذ لصدوره عن الله عز وجل، بل لصدوره عن السلطة التشريعية الرسمية التي أقرته بعد عرضه عليها!! فالله جل جلاله - عندهم - ليس من حقه التشريع لذاته، ولا هو أهل لان يطاع، وليس لحكمه صفة الإلزام لذاته، وإنما ينتقي ويختار من أحكامه بناء على موافقة مصدر السلطات ومالك حق التشريع، وهم البشر!! ونحن نسأل هؤلاء المدعين للإسلام السؤال نفسه الذي سأله الإمام ابن القيم أسلافهم، فنقول: لو قدر إن الرسول صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرنا، وواجهنا بكلامه وبخطابه وتلا علينا حكم الله في أي أمر، أكان فرضا علينا إن نتبعه ونطيعه رأسا - أم نعرض ما يأتينا به على تلك المجالس؟ فسيقولون: بل لابد من الامتثال والطاعة توا، فنقول: أغياب شخص النبي صلى الله عليه وسلم، مع بقاء دينه غضا طريا كما نزل هو السبب إذن في إعراضكم عن شرع الله، وتطاولكم على مقام الألوهية، وجلوسكم على عرش الربوبية؟!   (1) [4407] انظر الفصل المتعلق بقانون التعارض من أساس التقديس للرازي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 ورحم الله الشيخ محمد بن إبراهيم حين قال في بيان النوع الخامس من أنواع الحكم بغير ما انزل الله التي تخرج صاحبها من الملة وتناقض الشهادتين: " الخامس: وهو أعظمها واشملها وأظهرها - معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية، إعدادا، وإمدادا، وإرصادا وتأصلا، وتفريعا، وتشكيلا، وتنويعا، وحكما، وإلزاما، ومراجع ومستمدات. فكما إن للمحاكم الشرعية مراجع مستمدات، مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتي، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين للشريعة وغير ذلك. فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيأة مكملة مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب، يحكم حاكمها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به وتقرهم عليه وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة للشهادة بان محمدا رسول الله بعد هذه المناقضة؟ " (1). وإذا كانت حقيقة المحبة هي بهذه المنزلة بالنسبة لأصل التوحيد وشهادة إن لا اله إلا الله وان محمدا رسول الله، فإنها أيضا من اعظم أعمال القلوب المتعلقة بتحقيق توحيد الألوهية والعبادة، ومن هنا كان الأنحراف الكبير الذي وقع فيه المتصوفة والكلاميون ونحوهم، ممن غفل عن حقيقة المحبة ومعناها ولوازمها ومقتضياتها، فأنكر شيئا من ذلك، أو صرفه في غير موضعه المشروع. وتفصيل هذه القضايا مما لا يتسع له المجال هنا، ولكن لم أر بدا من التعرض لشيء من ذلك - لا سيما وقد وجدت كلاما عظيما لشيخ الإسلام ابن تيميه في رسالته: " التحفة العراقية في الأعمال القلبية "، هذه مقتطفات منه: يقول رحمه الله: " محبة الله، بل محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان، واكبر أصوله واجل قواعده، بل هي اصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين، كما إن التصديق به اصل كل قول من أقوال الإيمان والدين، فان كل حركة في الوجود إنما تصدر عن محبة، أما عن محبة محمودة أو عن محبة مذمومة .. فجميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن المحبة المحمودة، واصل المحبة المحمودة هي محبة الله سبحانه وتعالى، إذ العمل الصادر عن محبة الله، فان الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه - كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يقول الله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه برئ، وهو كله للذي أشرك)). وثبت في الصحيح حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار " القارئ المرائي، والمجاهد المرائي، والمتصدق المرائي ". بل إخلاص الدين لله هو الذي لا يقبل الله سواه، وهو الذي بعث به الأولين والآخرين من الرسل، وانزل به جميع الكتب، واتفق عليه أئمة أهل الإيمان، وهذا هو خلاصة الدعوة النبوية وهو قطب القران الذي تدور عليه رحاه إلى إن يقول: فإذا كان اصل العمل الديني هو إخلاص الدين لله، وهو إرادة الله وحده، فالشيء المراد لنفسه هو المحبوب لذاته، وهذا كمال المحبة، لكن اكثر ما جاء به المطلوب مسمى باسم العبادة، كقوله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، وأمثال هذا.   (1) [4408] ((تحكيم القوانين)) (ص6) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 والعبادة تتضمن كمال الحب ونهايته وكمال الذل ونهايته، فالمحبوب الذي لا يعظم ولا يذل له لا يكون معبودا، والمعظم الذي لا يحب لا يكون معبودا، ولهذا قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ [البقرة:165]. فبين سبحانه إن المشركين بربهم الذين يتخذون من دون الله أندادا - وان كانوا يحبونهم كما يحبون الله، فالذين آمنوا اشد حبا لله منهم لله ولأوثانهم، لان المؤمنين اعلم بالله، والحب يتبع العلم، ولان المؤمنين جعلوا جميع حبهم لله وحده وأولئك جعلوا بعض حبهم لغيره وأشركوا بينه وبين الأنداد في الحب، ومعلوم إن ذلك اكمل - قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر:29]. واسم المحبة فيه إطلاق وعموم، فإن المؤمن يحب الله ويحب رسله وأنبياءه وعباده المؤمنين، وإن كان ذلك من محبة الله، وإن كانت المحبة التي لله لا يستحقها غيره، ولهذا جاءت محبة الله سبحانه وتعالى مذكورة بما يختص به سبحانه من العبادة، والإنابة إليه، والتبتل له ونحو ذلك، فكل هذه الأسماء تتضمن محبة الله سبحانه وتعالى. ثم انه كما بين إن محبته اصل الدين، فقد بين إن كمال الدين بكمالها، ونقصه بنقصها، فان النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله))، فأخبر أن الجهاد ذروة سنام العمل، وهو أعلاه وأشرفه، وقد قال تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللهِ [التوبة:19] إلى قوله: أَجْرٌ عَظِيمٌ [التوبة:22] والنصوص في فضائل الجهاد وأهله كثيرة. وقد ثبت انه افضل ما تطوع به العبد، والجهاد دليل المحبة الكاملة، قال تعالى قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ [التوبة:24] الآية. وقال تعالى في صفة المحبين والمحبوبين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ [المائدة:54]. فوصف المحبوبين المحبين بإنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وأنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، فإن المحبة مستلزمة للجهاد لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويولى من يواليه، ويعادى من يعاديه، ويرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق له في ذلك، وهؤلاء هم الذين يرضى الرب لرضاهم، ويغضب لغضبهم، إذ إنما يرضون لرضاه، ويغضبون لما يغضب له " (1). أقول: شيخ الإسلام هنا يلتفت للرد على مزاعم الصوفية المدعية للحب الكامل والولاية لله - مع تركهم الجهاد والعمل، والله تعالى أخبر أنه - إنما يكره ذلك المنافقون فقال: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ [التوبة:81]. فالكارهون للجهاد لا يمكن أبدا أن يكونوا محبين لله ورسوله ولا أولياء له ولرسوله.   (1) [4409] انظر ((التحفة العراقية)). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 ثم يقول الشيخ " ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح فيما يرويه عن ربه ((ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشى، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بد له منه)). قال: والمحب التام لا يؤثر فيه لوم اللائم وعذل العاذل، بل ذلك يغريه بملازمة المحبة - كما قد قال الشعراء في ذلك (1)، وهؤلاء هم أهل الملام المحمود، وهم الذين لا يخافون من يلومهم على ما يحب الله ويرضاه من جهاد أعدائه، فإن الملام على ذلك كثير، وأما الملام على فعل يكرهه الله أو ترك ما أحبه فهو لوم بحق، وليس من المحمود الصبر على هذا الملام، بل الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. وبهذا يحصل الفرق بين " الملامية " الذين يفعلون ما يحبه الله ورسوله ولا يخافون لومة لائم في ذلك، وبين " الملامية " الذين يفعلون ما يبغضه الله ورسوله، ويصبرون على الملام في ذلك " (2). أقول: يطول الحديث في التفصيل في هذا العمل القلبي العظيم، وبيان درجاته، وأدلة كل درجة، وأثر ذلك في أعمال الإيمان من صلاة وزكاة ونحوها ولكن ضيق المجال والرغبة في الاختصار بتجاوز ما قد سطر ولعل في الحديث عن الأعمال القلبية الأخرى ما يكمل الفائدة مجتمعة، والله المستعان. 3 - اليقين: لليقين معنيان وإن شئت فقل: هو معنى واحد منظور له من جهتين: 1 - اليقين من حيث هو أصل للإيمان، إذ لا إيمان مع الشك. 2 - اليقين من حيث هو درجة عليا من درجات الإيمان. فبالنظر للمعنى الأول يكون كل مؤمن موقنا وإلا لم يستحق أسم الإيمان، وبالنظر للمعنى الآخر - ليس كل مؤمن موقنا، بل الموقنون طائفة خاصة من المؤمنين. فإما اليقين بالمعنى الأول فهو شرط من شروط شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، أي إن الإيمان المجمل - قول القلب واعتقاده - لا يتحقق إلا به، فمن شك في الله أو في رسوله وما جاء به عن الله، فهو كافر لا شهادة له ولا إيمان. بذلك أخبر الله تعالى الكفار حين قالوا لرسلهم: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [إبراهيم:9 - 10]. وأخبر أنهم إذا طلب منهم الإيمان بالبعث قالوا: مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية:32] لكن إذا كان يوم القيامة يقولون: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12] ولهذا جاء وصف القرآن أكثر من مرة بأنه لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى.   (1) [4410] كقول القائل: أجد الملامة فى هواك لذيذة حبا لذكرك فليلمني اللوم (2) [4411] وهم فرقة من الصوفية، ألف عنهم أبو عبد الرحمن السلمى كتاب: ((الملامية)). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 وفى حديث جابر رضى الله عنه يقول: ((أنا من شهد معاذا حين حضرته الوفاة يقول: اكشفوا عني سجف القبة أحدثكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يمنعني إن أحدثكموه إلا أن تتكلموا، سمعته يقول: ((من شهد أن لا أله إلا الله مخلصا من قلبه أو يقينا لم يدخل النار " أو " دخل الجنة " وقال مرة: " دخل الجنة ولم تمسه النار)) (1). وروى الإمام مسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه - في قصة تبوك - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((أشهد أن لا إله إلا الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة " وفى رواية " فيحجب عن الجنة)) (2) وعنه في حديث أخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة) (3). وهذا اليقين - بهذا المعنى - هو حقيقة العلم بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - ومن ثم ذكر بعض العلماء (العلم) شرطا مستقلا من شروط الشهادتين، مستدلين بقوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ [محمد: 19] وقول النبي صلى الله عليه وسلم ((من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة)) (1) وعقد الإمام البخاري باباً بعنوان:" باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنا أعلمكم بالله)) وأن المعرفة فعل القلب، لقوله تعالى لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة:225] ثم روى حديثا آخره: ((إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا)) (2). لكن لم أر أن أفراده هنا - أي العلم - لأن الحديث عن اليقين يشمله ويتضمنه، ولأن الحديث عن ضده، وهو الجهل بالتوحيد - كليا أو جزئيا - يحتاج لتطويل يخرج عن دائرة موضوعنا هنا. وأما اليقين بالمعنى الأخر - أي اليقين الدرجة - فهو لب الإيمان وخلاصته وزبدته، كما قال عبدالله بن مسعود رضى الله عنه " اليقين الإيمان كله " (3)، وفي المسند " أفضل الأعمال عند الله إيمان لا شك فيه، وغزو لا غلول فيه، وحج مبرور" (4) وهو يقابل الإيمان الكامل المفصل كما أن ذاك يقابل الإيمان المجمل، ولهذا جاء في القرآن شرطاً للإمامة في الدين، فقال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] ومن ارتباطه بالصبر قوله تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ [الروم:60] وأخبر الله تعالى عن إمام الموحدين، فقال: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام: 75]. فقد كان الإيمان متحققا عنده - كما أخبر الله تعالى عنه في الآية التي قبلها: ((وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماء إلهة إني أراك وقومك في ضلل مبين))، فرقاه الله إلى درجة اليقين، مثلما كان مؤمناً بأن الله يحيى الموتى لكن طلب الرؤية لتحصل الطمأنينة التي هي برد اليقين (1). وهذا اليقين هو الذي عبر عنه بعض السلف بقوله: " لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا " (2). وقال الآخر: " رأيت الجنة والنار حقيقة، قيل له: كيف قال: رأيتهما بعيني رسول الله ورؤيتي لهما بعينيه آثر عندي من رؤيتي لهما بعيني، فإن بصري قد يطغى ويزيغ، بخلاف بصره صلى الله عليه وسلم" (3).   (1) [4412] ((المسند)) (5/ 236)، وسنده من أصح الأسانيد واجلها فإن الإمام أحمد رواه عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر – رضى الله عن الجميع. (2) [4413] (رقم 44) (3) [4414] (رقم 52) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 واليقين بهذا المعنى نظير الإحسان الوارد في حديث جبريل، لكن الإحسان في عمل الجوارح، واليقين في عمل القلب، والله أعلم. فاليقين في الجملة متعلقة بالاعتقاد، وذلك أن مجمل الإيمان القلبي هو الإيمان بالغيب فإذا رسخ هذا الإيمان وارتقى عن الشكوك حتى يصبح كالمعاينة فهو اليقين. ولهذا جاء أعظم الغيبيات - بعد الإيمان بالله - وهو الإيمان بالآخرة مقرونا باليقين أكثر مما سواه، فقال تعالى: وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4] في أول البقرة والنمل ولقمان. فإن الإيمان بالآخرة - مع دلالة الفطرة السوية والعقل السليم عليه - ليس في قوة الإيمان الفطري بالله، كما أن تفصيلاته مصدرها الوحي وحده. واليقين نوعان: 1 - يقين في خبر الله. 2 - يقين في أمر الله الشرعي والكوني. فاليقين بخبر الله هو الإيمان بصدقه وتحققه ووقوعه - إن كان مما له الوقوع - إيمانا لا شك فيه، وهذا هو الإيمان بالغيب يقينا، ومن الأدلة عليه قوله تعالى وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:60].الآية، فطلب الخليل من ربه مثالا للبعث يزيده إيمانه حتى يصبح يقينا خالصا، وقريب منه طلب الحواريين المائدة، فمع إيمانهم بقدرة الله طلبوا ما تطمئن به قلوبهم كذلك. وهذا اليقين قد بلغ ذروته النبي صلى الله عليه وسلم - ليس فيما أخبر الله به من أمور الدين والإيمان فحسب، بل في كل خبر ووعد، حتى أنه صلى الله عليه وسلم كان موقناً بأن الله سينصره ويظهره على العالمين وهو ما يزال في أقسى مواقف الاضطهاد والتشريد والأذى، ولم يستبطئ النصر كما استبطأه رسل من قبله فقالوا مَتَى نَصْرُ اللهِ [البقرة:214]، ولم يستيئس كما استيأس بعضهم. وأما اليقين بأمر الله، فهو امتثاله برضاه وطمأنينة وتسليم - إن كان شرعيا، والرضا به والتسليم - إن كان كونيا. وذروته ما فعله إمام الموحدين من الامتثال لذبح أبنه الوحيد وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف من أعظمها يوم الحديبية حين قال:" إني عبد الله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني " أو نحوها (1). وهذا في حقيقته هو الاستسلام لحكمه استسلاما يرتقى لدرجة الإحسان - كما في قوله تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء:65]. وهو تحقيق دين الإسلام وشهادة أن لا إله إلا الله التي هي العروة الوثقى، كما قال تعالى: وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [لقمان: 22]. مع قوله: وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ [البقرة: 256]. ولهذا جاءت الآيات المحكمات الدالة على أتباع شريعة الله والتحاكم إليها وحدها مذيلة بوصف اليقين لمن أمتثل، فدل على شك من خالف وارتيابه، قال تعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 48 - 50]. وقال جل ذكره: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ [الجاثية: 18 - 20]. فكما سبق بيانه من أن تحكيم شرع الله هو الإسلام، فإذا بلغ من العبد إلى حد انتفاء الحرج والمعارضة بالرضا الكامل فهو الإحسان، فكذلك اعتقاد بطلان ما عداه، وأنه وحده الحق الذي لا أحسن منه ولا أهدى هو درجة الإسلام، فإذا رسخ هذا حتى لا تزعزعه شبهه ولا يعتريه شك فهو اليقين وقد ضرب الصحابة - رضى الله عنهم - من اليقين في أمر الله أعظم الأمثال، مما لا يتسع المقال للتطويل به، وحسبك أن ينزل الله تحريم الخمر والقوم مدمنون على شربها، مدخرون لها، مغالون في أثمانها، فما يكاد الأمر ينزل حتى تسيل بها أزقة المدينة أنهارا!! وأن ينزل الله الأمر بالحجاب والقوم مختلطون متعارفون، فما يكاد ذلك يبلغهم حتى تغدو نساؤهم كأنهن الغربان. فهاتان عادتان إحداهما نفسية، والأخرى اجتماعية، وهما من أشد العادات وطئا وأشقها تغييرا، تذهبان دفعة واحدة، وتستأصلان من أعماق النفوس في لحظة واحدة، وما ذلك إلا باليقين الذي ليس وراءه في الأمم يقين. 4 - الصدق والإخلاص: هذان عملان قلبيان من أعظم أعمال القلوب وأهم أصول الإيمان. فأما الصدق فهو الفرقان بين الإيمان والنفاق، وأما الإخلاص فهو الفرقان بين التوحيد والشرك - في قول القلب واعتقاده، أو في إرادته ونيته. والأعمال - التي رأسها وأعظمها " شهادة أن لا إله إلا الله " - لا تقبل إلا بتحقيق الصدق والإخلاص. ومن هنا كان شرطين من شروطها، وأكذب الله المنافقين في دعوى الإيمان وقول الشهادة لانتفاء الصدق فقال: إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1]. وقال: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت: 3] ثم قال بعد آيات وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [العنكبوت:11] وقال: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب: 24]. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 كما أبطل سبحانه زعم أهل الكتاب والمشركين أن دينهم هو الحق بانتفاء الإخلاص فقال: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:1]. إلى أن يقول: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]. وقال: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 31]. وكرر منافاة الشرك للإخلاص في مواضع كثيرة، منها ما في سورة الإخلاص الكبرى (1). " الزمر ": تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 1 - 3]. ثم قال: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ. [الزمر: 11 - 15] ثم قال: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ. [الزمر: 64 - 66]. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 فعلى محك الصدق والإخلاص بطلت أكثر دعاوى العابدين، وهلك أكثر الثقلين، فالصدق يخرج كل من أدعى الإيمان - أو شيئا من أعماله - وأظهره وهو يبطن خلافه، والإخلاص يخرج كل من عبد مع الله غيره أو أراد غيره معه في عمل من أعمال العبادة - كما في الحديث الصحيح: ((قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) (2). ومن هنا كانت شهادة أن لا إله إلا الله هى كلمة الصدق (1)، وكلمة الإخلاص (2) وأقترن الصدق والإخلاص وحل كلا منهما محل الأخر في الأحاديث، كأحاديث الشفاعة التي وردات بها روايات كثيرة، منها: ((أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه ونفسه)) (1) وفي رواية: ((شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصا يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه)) (2)، وفي رواية ((رب من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمد عبده ورسوله مصدقا لسانه قلبه أدخله الجنة)) (3) وفي رواية: ((ثم يشفع الأنبياء في كل من كان يشهد أن لا إله الا الله مخلصا فيخرجونهم منها قال ثم يتحنن الله برحمته على من فيها فما يترك فيها عبدا في قلبه مثقال حبة من إيمان الا أخرجه منها) (4).وكحديث مالك بن الدخشم الذي كان متهما بالنفاق، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما يخالف ذلك من روايات، منها: ((ألا تراه قال لا إله إلا الله. يريد بذلك وجه الله قال الله ورسوله أعلم. قال قلنا فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين. فقال فإن الله حرم على النار من شهد بها)) (5).وفي رواية: ((والذي بعثني بالحق لئن قالها من قلبه لا تأكله النار أبدا)) (6)، وهي تقيد الإطلاق الوارد في رواية مسلم: ((أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)) (7). والصدق والإخلاص مع تقاربهما، ومع ترادفهما أحيانا - يعرف التمييز بينهما بضد كلا منهما، فالصدق ضده انتفاء إرادة الله بالعمل أصلا - كمن أمن أو صلى كاذبا، لم يرد الإيمان والصلاة، وإنما فعل ذلك لسبب آخر - كما فعله المنافقون حفظاً لأنفسهم وأموالهم من السيف، وجبنا عن تحمل أعباء المواجهة الصريحة للإيمان.   (1) رواه البخاري (99) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) رواه أحمد (8056) (2/ 307) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 407): رجاله رجال الصحيح غير معاوية بن معتب وهو ثقة , وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (15/ 207): إسناده صحيح, وقال الوادعي في ((الشفاعة)) (74): من طريق معاوية بن معتب أو مغيث وهو مستور الحال يصلح حديثه في الشواهد والمتابعات. (3) رواه أحمد (23552) (5/ 413) , من حديث أبي أيوب الأنصار رضي الله عنه, قال أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 444): غريب تفرد به أبو قبيل عن عباد, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 378): فيه عباد بن ناشر من بني سريع ولم أعرفه وابن لهيعة ضعفه الجمهور, وقال الوادعي في ((الشفاعة)) (91): عبد الله بن ناشر مستور الحال يصلح في الشواهد والمتابعات وكذا ابن لهيعة يصلح في الشواهد والمتابعات. (4) رواه أحمد (3/ 11) (11096) , من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, قال الوادعي في ((الشفاعة)) (159): بهذا السند حسن. (5) رواه البخاري (5401) , من حديث محمود بن الربيع الأنصاري رضي الله عنه. (6) رواه أحمد (4/ 44) (16531) , (7) رواه مسلم (54) (33). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 والإخلاص ضده انتفاء إفراد الله بالإرادة والتوجه، كما آمن أو صلى صارفا ذلك لأحد من دون الله، وهذا هو الشرك الذي وقع فيه أكثر العالمين، ومنهم أهل الكتاب والمشركين الذين اتخذوا من دون الله أولياء؛ من الأنبياء أو غيرهم، وعبدوهم زاعمين أنهم يقربونهم إلى الله زلفى. ومما يميز بينهما أن الصدق لا يختص بالاعتقاد، بل يكون في الأعمال أيضا، بخلاف الإخلاص فإنه عمل قلبي محض، لكن تظهر أثاره على الجوارح - كما سبق فيما أوضحنا في العلاقة بين عمل القلب وعمل الجوارح، وهذا يشبه ما سبق من القول في اليقين والإحسان، والله أعلم. وعلى قدر تحقيق العبد لشعب الإيمان وأعماله يكون حظه من الصدق - حتى يصل إلى درجة " الصديقين"، يقول الله تعالى: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 77]. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15] وقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [الحديد: 19]. كما ان الإخلاص بالنسبة للأعمال - كالروح للجسد، فالفرق بين عمل بإخلاص وعمل لا إخلاص، فيه كالفرق بين البشر السوي والتمثال الشاخص. وعلى قدر ما يحقق العبد في الإخلاص لربه يكون ترقية في (المخلصين)، الذين صرف الله عنهم غواية الشيطان واثني عليهم في كل أمة، وبين نجاتهم حين هلاك أممهم. قال تعالى حكاية عن إبليس: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 83]، وقال في سورة الصافات تعقيبا على إهلاك الأمم عامة: فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:73 - 74]، وعن قوم إلياس خاصة، قال فيها: فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:127 - 128]. وكرر ذلك في مواضع من هذه السورة وغيرها، كقوله عن يوسف لما عصمه من الفاحشة: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: 24]. ولهذا كثر الحديث عن الصدق والإخلاص في كتاب الله، وجاء الحديث عن الصدق في السور التي تعرضت للنفاق وأهله، كسورة براءة والأحزاب والمنافقون والقتال (محمد) والحجرات والحشر. وجاء الحديث عن الإخلاص في السور التي تحدثت عن الشرك والمشركين، كسورة الأعراف والزمر وغافر والبينة والكافرون، بل في سورة الأنعام - وان لم يذكر فيها صريحا. وارتباط عمل الجوارح بالصدق والإخلاص كارتباطه بالرضا والمحبة واليقين - أمر محسوس ظاهر، يدل علي ارتباط أجزاء الحقيقة الإيمانية الواحدة كما أسلفنا. هذا ما يسر الله به واتسع له المجال من الحديث عن أعمال القلوب، ولقد تركت أعمالا أخرى قد لا تقل أهمية عن هذه، كالتوكل، والصبر، والتوبة، والإنابة، والخوف، والرجاء، على أن ما ذكرنا يتضمنها أو يدل عليها ويشير إليها، بل كثير مما نذكر مما يسميه بعضهم " مقامات " هو كالوسائل لهذه الغايات، والفروع لهذه الأصول، إذ كانت هذه المذكورة جميعها متعلقة بشطر إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5]، وأما التوكل والصبر ونحوها فمتعلقة بشطر وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، ومعلوم أن الاستعانة وسيلة للعبادة وفرع منها. المصدر: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي - 2/ 553 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 المبحث الثامن: أثر عمل الجوارح في أعمال القلب أن الحديث عن عمل القلب وأهميته وتفصيل ذلك وبيان ارتباط أجزاء الإيمان بعضها ببعض من خلال ارتباط أعمال الجوارح به، وكونها فرعا له، وصورة لما فيه، ومقتضى لازما له - لا يعني أن أعمال الجوارح من الطاعات أو المعاصي لا تؤثر هي الأخرى على عمل القلب. وحذرا من أن تشعر المباحث السابقة بذلك - رأيت أن اذكر ما يدل على اثر عمل الجارحة في عمل القلب، فبه تكتمل صورة التأثير المتبادلة، مما يدل دلالة أوضح على أن كلا منهما جزء من الحقيقة الواحدة الجامعة. ولنبدأ ببيان اثر المعاصي على القلب، ثم نعقب ببيان اثر الطاعة عليه. فأما آثار المعاصي في القلب فهي كثيرة جدا، وقد فصل الإمام الرباني ابن القيم كثيرا منها في كتاب: " الجواب الكافي "، وهاأنذا اقتبس بعضها موجزا وموضحا (1): 1 - حرمان العلم النافع: فان هذا العلم نور يقذفه الله في القلب والمعصية تطفئه، ولهذا كان السلف يرشدون تلاميذهم إلى ترك المعاصي، لكي يورثهم الله حقيقة العلم. 2 - الوحشة بين العبد وربه: وهي وحشة لو اجتمعت لصاحبها ملذات الدنيا كلها لم تذهبها، ومن علاماتها وفروعها الوحشة بينه وبين أهل التقوى والإيمان. 3 - الظلمة التي يجدها العاصي في قلبه: فان الطاعة نور والمعصية ظلمة، وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته حتى يقع في البدع والضلالات. قال ابن عباس: أن للحسنة ضياء في الوجه، ونورا في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وان للسيئة سوادا في الوجه، وظلمة في القبر والقلب، ووهناً في البدن، ونقصا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق. 4 - وهن القلب: فلا تزال المعاصي توهنه حتى تزيل حياته بالكلية وهذا الوهن يظهر أثره على البدن، فتأمل قوة أبدان فارس والروم كيف خانتهم عند أحوج ما كانوا إليها، وقهرهم أهل الإيمان بقوة أبدانهم وقلوبهم. 5 - تقصير العمر ومحق بركته: بمقدار ما تمرض القلب وتذهب حياته، فان حقيقة الحياة هي حياة القلب، وعمر الإنسان هو مدة حياته، فكلما كثرت الطاعة زادت حياته، فزاد عمره الحقيقي، وكلما كثرت المعاصي أضاعت حياته وعمره. 6 - أن العبد كلما عصى خفت عليه المعصية حتى يعتادها، ويموت إنكار قلبه لها، فيفقد عمل القلب بالكلية، حتى يصبح من المجاهرين بها المفاخرين بارتكابها، واقل ذلك أن يستصغرها في قلبه، ويهون عليه إتيانها حتى لا يبالي بذلك، وهو باب الخطر. روى البخاري في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أن المؤمن يرى ذنوبه كأنها في اصل جبل يخاف أن يقع عليه، وان الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على انفه فقال به هكذا فطار. 7 - الذل: فالمعصية تورث الذل ولا بد، فالعز كل العز في طاعة الله تعالى، قال تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر: 10]. أي فليطلبها بطاعة الله فانه لا يجدها إلا في طاعته. وكان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك. وقال الحسن البصري: إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين، فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه. وقال عبد الله بن المبارك: رأيت الذنوب تميت القلوب ... وقد يورث الذل إدمانها وترك الذنوب حياة القلوب ... وخير لنفسك عصيانها وهل افسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 8 - الصدى والران والطبع والقفل والختم: وذلك أن القلب يصدا من المعصية، فإذا زادت غلب عليه الصدأ حتى يصير راناً - كما قال تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]، ثم يغلب حتى يصير طبعاً وقفلاً وختماً، فيصير القلب في غشاوة وغلاف، فإذا حصل له بعد الهدى والبصيرة انتكس فصار أعلاه أسفله - فحينئذ يتولاه عدوه ويسوقه حيث أراد، وبمثل هذا اتخذ الشيطان من البشر دعاة وجنوداً. 9 - إطفاء الغيرة من القلب: وهي الغيرة على محارم الله أن تنتهك، وعلى حدوده أن تقتحم، وعلى دينه أن يضعف أو يضيع، وعلى إخوانه المسلمين أن يهانوا أو يبادوا - بل على أهله ونفسه أن يقعوا في المعصية والهلاك، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أغير الناس - كما ثبت في الصحيح:" أتعجبون من غيرة سعد، لانا أغير منه، والله أغير مني" (1) فالمعاصي تضعف هذه الغيرة حتى تذهبها وتزيلها، ولهذا تجد المدمنين على المعاصي لا يبالون بالإسلام وأهله من كوارث ومحن، ولا يهمهم ذلك في شيء، وإنما همهم اتباع الشهوات وإضاعة الأوقات، ويرى الواحد منهم المنكر أمامه فلا تهتز له شعرة، بل يفقدون الغيرة الخاصة، وهي الغيرة على العرض، حتى تصير الديانة طبعاً وسجية. 10 - إذهاب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب: وهو اصل كل خير، وذهابه ذهاب كل خير بأجمعه .. والذنوب تضعف الحياء من العبد حتى ربما انسلخ منه بالكلية، فلا يستحيي لا من الله ولا من العباد، والتلازم بين ارتكاب المحرمات وقلة الحياء لا يخفى على أحد. 11 - إذهاب تعظيم الله ووقاره من القلب: فكما أن تعظيم الله وتوقيره يحجز عن المعصية فان ارتكاب المعصية يضعف التعظيم والتوقير - حتى يستخف العبد بربه، ويستهين بأمره، ولا يقدره حق قدره. 12 - مرض القلب وإعاقته عن الترقي في مراتب الكمال ودرجاته: وقد سبق بيان تفاضل الناس في أعمال القلوب - فالذنوب تخرج صاحبها من دائرة اليقين وتنزله من درجة الإحسان، بل تخرجه من دائرة الإيمان، كما في الحديث الصحيح: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن))، فلا يبقى إلا اسم الإسلام، وربما أخرجته منه، فان المعاصي بريد الكفر. 13 - إضعاف همة القلب وإرادته: وتثبيطه عن الطاعة وتكسيله عنها، حتى يؤول به الأمر من الاستثقال إلى الكراهية والنفور، فلا ينشرح صدره لطاعة ولا يتحرج ويضيق من معصية، ويصير جسوراً ومقداما على الخطايا جبانا رعديداً على الحسنات. 14 - الخسف بالقلب كما يخسف بالمكان وما فيه: فيخسف به بسبب ارتكاب الرذائل - إلى اسفل سافلين وصاحبه لا يشعر، وعلامة ذلك الخسف أن يكون القلب جوالا حول السفليات والقاذورات، متعلقا بالمحقرات والأمور التافهات، عكس القلب الذي تزكى بالطاعات فصار جوالا في معالي الأمور ومكارم الأخلاق، كما قال بعض السلف: " إن هذه القلوب جوالة، فمنها ما يجول حول العرش ومنها ما يجول حول الحش ". 15 - مسخ القلب: فان المعاصي والقبائح ما تزال تتكاثر عليه حتى تمسخه كما تمسخ الصورة، فيصير القلب على قلب الحيوان الذي شابهه في أخلاقه وأعماله وطبيعته، فمن القلوب ما يمسخ على قلب خنزير - كقلب الديوث - ومنها ما يمسخ على قلب كلب أو حمار أو حية أو عقرب بحسب عمله، وقد شبه الله تعالى أهل الجهل والغي بالحمر تارة وبالكلب تارة وبالأنعام تارة، وربما وصل الأمر إلى المسخ التام، وهو مسخ الصورة مع القلب، كما حصل لبني إسرائيل حين جعل الله منهم القردة والخنازير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 16 - نكد القلب وقلقه وضنكه: وهذا ملازم للمعصية ملازمة الظل لأصله، كما قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124]، فالمعرض عن ذكر الله متعرض لذلك، لكن قد يتوارى داؤه بسكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة، إن لم ينضم إلى ذلك الخمر - كالمشاهد في عصرنا الحاضر من إدمان المسكرات والمخدرات، تخلصا من ضيق الحياة ونكد العيش. فهذه بعض آثار معاصي الجوارح على القلب وعمله، فهي تذهب رضاه ويقينه وصدقه وإخلاصه وتوكله ومحبته، بل تذهب قوته وحياته وصحته وراحته، وتجمع له بين ذهاب حقائق الإيمان وبين عقوبات آجلة وعاجلة، كما رأينا في هذه الآثار. وأما أثر أعمال الطاعات بالجوارح في أعمال القلب، فهو ما ينوء بالمجلدات الكبار، وذلك أن هذه هي مادة حياته وقوته وعزيمته، والجوارح هي منافذه وثغوره، وهل في الإمكان استيعاب ما تورثه الصلاة من رضا وطمأنينة وخشوع وإنابة، أو ما يورثه الصوم من يقين وتوكل وإخلاص، أو ما يورثه الجهاد من محبة واستسلام وثبات وهكذا سائر الطاعات، ولذا رأيت أن اختار طاعة واحدة قد لا يحسب لها حساب إلا عند الخاصة من الناس، وهي " غض النظر عن المحرمات ". وللإمام ابن القيم - أيضا- تفصيل لهذا في الكتاب نفسه، انقل منه ما يتعلق بالقلب خاصة، مع اختصار وإيضاح: 1 - أنه يمنع من وصول أثر السهم والمسموم الذي لعل فيه هلاكه إلى قلبه لأن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس. 2 - انه يورث القلب آنساً بالله وقرباً منه، فان إطلاق البصر يصرف القلب ويشتته ويبعده عن الله، ويوقع الوحشة بين العبد وربه. 3 - انه يكسب القلب نوراً - كما أن إطلاقه يكسبه ظلمة، ولهذا ذكر سبحانه آية النور عقيب الأمر بغض البصر، فقال: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30]، ثم قال اثر ذلك: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور:35] أي مثل نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه. وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل جانب، كما انه إذا اظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان، فما شئت من بدعة وضلالة، واتباع هوى، واجتناب هدى، وإعراض عن أسباب السعادة، واشتغال بأسباب الشقاوة، فان ذلك إنما يكشفه له النور الذي في القلب، فإذا فقد ذلك النور بقي صاحبه كالأعمى الذي يجوس في حنادس الظلام. 4 - انه يقوي القلب ويفرحه، كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه - لكن قد لا يحس بذلك إلا ذو البصيرة. 5 - انه يورث الفراسة الصادقة التي يميز بها بين المحق والمبطل، والصادق والكاذب، فان الله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو جنس عمله، ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيراً منه، فإذا غض بصره عن محارم الله عوضه الله بان يطلق نور بصيرته عوضا عن حبسه بصره لله، ويفتح له باب العلم والإيمان والمعرفة والفراسة الصادقة المصيبة، التي إنما تنال ببصيرة القلب. وضد هذا ما وصف الله به اللوطية من العمه، الذي هو ضد البصيرة، فقال تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72]، فوصفهم بالسكرة التي هي فساد العقل، والعمه الذي هو فساد البصيرة، ثم عقب الله تعالى على قصتهم بقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75]، وفي ذلك إشارة لما تقدم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 6 - انه يورث القلب ثباتاً وشجاعة وقوة، يجمع الله له بين سلطان البصيرة والحجة وسلطان القدرة والقوة، وضد هذا تجده في المتبع هواه، من ذل النفس ووضاعتها ومهانتها وخستها وحقارتها، كما تقدم في كلام الحسن البصري. 7 - أنه يسد على الشيطان مدخله إلى القلب، فانه يدخل مع النظرة وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهواء في المكان الخالي، فيمثل له صورة المنظور إليه ويزينها، ويجعلها صنماً يعكف عليه القلب، ثم يعده ويمنيه، ويوقد على القلب نار الشهوة، ويلقي عليه حطب المعاصي التي لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة، فيصير القلب في اللهب، فمن ذلك الأنفاس التي يجد فيها وهج النار، وتلك الزفرات والحرقات، فإن القلب قد أحاطت به النيران من كل جانب، فهو في وسطها كالشاة في وسط التنور، ولهذا كانت عقوبة أصحاب الشهوات بالصور المحرمة أن جعل لهم في البرزخ تنور من نار، وأودعت أرواحهم فيه إلى حشر أجسادهم، كما أراها الله نبيه صلى الله عليه وسلم في المنام في الحديث المتفق على صحته. 8 - انه يفرغ القلب للفكر في مصالحه والأشغال بها، وإطلاق البصر يشتت عليه ذلك ويحول بينه وبينها، فتنفرط عليه أموره، ويقع في اتباع هواه، وفي الغفلة عن ذكر ربه، قال تعالى: وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، وإطلاق النظر يوجب هذه الأمور الثلاثة بحسبه. 9 - أن بين العين والقلب منفذاً أو طريقاً يوجب اشتغال أحدهما عن الآخر، وأن يصلح بصلاحه ويفسد بفساده، فإذا فسد القلب فسد النظر، وإذا فسد النظر فسد القلب. وكذلك في جانب الصلاح فإذا خربت العين وفسدت خرب القلب وفسد وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ، فلا يصلح لسكنى معرفة الله، ومحبته، والإنابة إليه، والأنس به، والسرور بقربه، وإنما يسكن فيه أضداد ذلك. فهذه إشارة إلى بعض فوائد غض البصر تطلعك على ما وراءها. المصدر: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي - 2/ 615 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 المبحث الأول: مرجئة الفقهاء بهذا الاسم سماها شيخ الإسلام (1)، وأحيانا يسميهم فقهاء المرجئة (2)، وهو الاسم الذي يعرف به طائفة من أهل العلم أخطأت في باب الإيمان، فأخرجت العمل منه. وقد كان وقت ظهور هذا الإرجاء أواخر عصر الصحابة، وموطنه الذي ظهر فيه هو الكوفة، وسبق تبيان ذلك مفصلا. وسبب ظهور هذا الإرجاء أخبر به شيخ الإسلام بقوله: "وكذلك الإرجاء إنما أحدثه قوم قصدهم جعل أهل القبلة كلهم مؤمنين ليسوا كفارا، قابلوا الخوارج والمعتزلة فصاروا طرفا آخر" (3).ويقول رحمه الله: "وحدثت المرجئة، وكان أكثرهم من الكوفة، ولم يكن أصحاب عبدالله - يعني ابن مسعود رضي الله عنه - من المرجئة، ولا إبراهيم النخعي وأمثاله، فصاروا نقيض الخوارج والمعتزلة، فقالوا: الأعمال ليست من الإيمان" (4).ومع أن بدعة هؤلاء تعد أخلف بدع المرجئة، إلا أن أئمة السلف آنذاك كان لهم معها وقفة عظيمة، تمثلت في الإنكار على أهلها، وتغليظ القول فيهم، وتبديع مقالتهم، وردها، وبيان ما تحمله من خطر عظيم على الدين (5).يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "ثم إن السلف اشتد إنكارهم على هؤلاء، وتبديعهم، وتغليظ القول فيهم" (6).ويقول: "وأما المرجئة، فليسوا من هذه البدع المعضلة، بل قد دخل في قولهم طوائف من أهل الفقه والعبادة، وما كانوا يعدون إلا من أهل السنة، حتى تغلظ أمرهم بما زادوه من الأقوال المغلظة" (7). ويقول: "ولهذا دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين، ولهذا لم يكفر أحد من السلف أحدا من مرجئة الفقهاء، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا من بدع العقائد، فإن كثيرا من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب، فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله، لا سيما وقد صار ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم، وإلى ظهور الفسق، فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببا لخطأ عظيم في العقائد والأعمال.   (1) انظر: ((الإيمان)) (ص377 - 378) ((الفتاوى)) (7/ 394 - 395)؛ وسيأتي قريبا نص كلامه، وتسمية رجالهم، وأول من وقع منهم في هذا الغلط. (2) انظر: ((منهاج السنة)) (5/ 288)؛ و ((الفتاوى)) (12/ 471). (3) ((الفتاوى)) (17/ 446). (4) ((الفتاوى)) (13/ 38). (5) انظر: ((الفتاوى)) (3/ 357). (6) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 507) (ص373) ط. ابن الجوزي. (7) ((الفتاوى)) (3/ 357). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 فلهذا عظم القول في ذم الإرجاء، حتى قال إبراهيم النخعي: لفتنتهم - يعني المرجئة - أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة. وقال الزهري: ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من الإرجاء (1).وقال الأوزاعي: كان يحيى بن أبي كثير، وقتادة يقولان: ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء (2).وقال شريك القاضي - وذكر المرجئة - فقال: هم أخبث قوم، وحسبك بالرافضة خبثا، ولكن المرجئة يكذبون على الله (3).وقال سفيان الثوري: تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابري (4) " (5).ولما نقل شيخ الإسلام ما ذكره الإمام أبو عبيد من الأعداد الهائلة من العلماء الذين يجعلون الإيمان قول وعمل (6)، وأكثر من تسمية علماء الكوفة، نبه شيخ الإسلام على مقصده من ذلك بقوله:"قلت: ذكر من الكوفيين من قال ذلك أكثر من ذكر غيرهم؛ لأن الإرجاء في أهل الكوفة كان أولا فيهم أكثر، .... ، فاحتاج علماؤها أن يظهروا إنكار ذلك، فكثر منهم من قال ذلك" (7). وأما المسائل التي خالف فيها مرجئة الفقهاء ما عليه سلف الأمة في باب الإيمان خاصة، فقد حررها شيخ الإسلام رحمه الله تحريراً بالغا، إذ يقول: "ثم بعد ذلك تنازع الناس اسم المؤمن والإيمان نزاعا كثيرا منه لفظي، وكثير منه معنوي، فإن أئمة الفقهاء لم ينازعوا في شيء مما ذكرناه من الأحكام، وإن كان بعضهم أعلم بالدين، وأقوم به من بعض، ولكن تنازعوا في الأسماء، كتنازعهم في: الإيمان: هل يزيد وينقص؟ وهل يستثنى فيه أم لا؟ وهل الأعمال من الإيمان أم لا؟ وهل الفاسق المليء مؤمن كامل الإيمان أم لا؟ " (8). وأما الذين تولوا نشر آراء هذه الطائفة، فقد سمي شيخ الإسلام طائفة منهم، وهم:1 - إبراهيم التيمي (9): هو أبو أسماء إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي، المتوفى سنة 92هـ. كان كما وصفه الذهبي شابا صالحا، قانتا لله، عالما، فقيها، كبير القدر، واعظا، وكان إذا سجد كأنه جذم حائط ينزل على ظهره العصافير. قال أبو زرعة فيه: ثقة، مرجئ.   (1) انظر: ((الشريعة)) (2/ 677 رقم 295)؛ و ((الإبانة الكبرى)) (2/ 885) (رقم 1222) (2/ 893) (رقم 1247). (2) رواه: الخلال في ((السنة)) (4/ 86)) (رقم 1227)؛ والآجري في ((الشريعة)) (2/ 682) (رقم 301)؛ وابن بطة في ((الإبانة الكبرى)) (2/ 885 - 886) (رقم 1223)؛ واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (5/ 992) (رقم 1816). (3) رواه: عبدالله في ((السنة)) (1/ 312) (رقم 614)؛ والخلال في ((السنة)) (4/ 41) (رقم 1126)؛ والآجري في ((الشريعة)) (2/ 683) (رقم 301)؛ وابن بطة في ((الإبانة الكبرى)) (2/ 886) (رقم 1225)؛ واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (5/ 994) (رقم 1824). (4) رواه: عبدالله في (السنة) (1/ 313، 338) (رقم 618، 709)؛ والخلال في ((السنة)) (4/ 138) (رقم 1361)؛ واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (5/ 989) (رقم 1807). (5) ((الإيمان)) (ص377 – 378) ((الفتاوى)) (7/ 394 - 395)؛ وانظر: ((منهاج السنة)) (3/ 187). (6) انظر: ((الإيمان)) (ص293 – 295) ((الفتاوى)) (7/ 309). (7) ((الإيمان)) (ص295) ((الفتاوى)) (7/ 311). (8) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 504 - 505) (ص366) ط. ابن الجوزي. (9) راجع أخباره في: ((سير أعلام النبلاء)) (5/ 61)؛ و ((تهذيب التهذيب)) (1/ 92)؛ و ((تقريب التهذيب))، (ص118). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 يقال: قتله الحجاج، وقيل مات في حبسه، ولم يبلغ أربعين سنة رحمه الله تعالى. وفي الإرجاء الذي وقع فيه يقول شيخ الإسلام: "وفي الجملة الذين رموا بالإرجاء من الأكابر، مل طلق بن حبيب، وإبراهيم التيمي، ونحوهما كان إرجاؤهم من هذا النوع (1)، وكانوا أيضاً لا يستثنون في الإيمان" (2).2 - طلق بن حبيب (3): هو طلق - بسكون اللام - ابن حبيب العنزي - بفتح المهملة والنون - البصري، وفاته ما بين التسعين إلى المائة من الهجرة. وصفة الذهبي بالزاهد الكبير، ومن العلماء العاملين، وأنه من صلحاء التابعين، إلا أنه يرى الإرجاء. وكان طلق يتكلم على الناس، ويعظ، وكان من أحسن الناس صوتا، فلما وقعت فتنة ابن الأشعث قال: اتقوها بالتقوى، فقيل له: صف لنا التقوى، قال: العمل بطاعة الله، على نور من الله؛ رجاء ثواب الله، وترك معاصي الله، على نور من الله؛ مخافة عذاب الله. ومع هذا، فقد كان هو وسعيد بن جبير وقراء كانوا معهم ممن طلبهم الحجاج لقتلهم؛ بسبب هذه الفتنة المظلمة. وقد نهى سعيد بن جبير عن مجالسته؛ للإرجاء وجاء في سيرته أنه كان داعية إليه. وقد تقدم ما قاله شيخ الإسلام عن الإرجاء الذي رمي به طلق غفر الله له.3 - ذر الهمداني (4): هو أبو عمر ذر بن عبدالله بن زرارة المرهبي - بضم الميم، وسكون الراء - الهمداني، الكوفي، مات سنة 99هـ. في عداد التابعين الثقات، ومن عباد أهل الكوفة، ومن أبلغ الناس في القصص. ومع هذه الأوصاف الرفيعة، فقد وقع في هوة سحيقة، حيث زل في أمرين منكرين: أولاهما: الخروج على الحجاج، وحض الناس على ذلك، فقد آتاه الله بلاغة في القصص، فجعلها سلاحا لمبتغاه، فما زال بالناس مع جماعة من موافقيه، في اجتهاد اجتهدوه - والله يغفر لهم - حتى خلعوا الحجاج، ثم جرى ما جرى، من بطش وتقتيل طال أكابر العلماء، والله المستعان. يقول الذهبي: "لما أجمع ابن الأشعث المسير من سجستان، وقصد العراق لقي ذرا الهمداني، فوصله، وأمره أن يحض الناس، فكان يقص كل يوم، وينال من الحجاج، ثم سار الجيش وقد خلعوا الحجاج" (5). وثانيهما قوله بالإرجاء، ونصرته لهذه المقالة المهلكة. وقد ذكر واصفوه - كما تقدم - أنه بليغ في كلامه، ساحر في بيانه، فلما تبني هذه المقالة الشائنة، حصل تأثير بدعوته من فئام كثير، حتى صارت الكتب تأتيه من الآفات، ومعلوم أن الغوغاء يتأثرون بمن حاله دون ذلك، فما بالك بمثل ذر!. وفي قوله بالإرجاء ما يجعله عبرة وعظة لمريد النجاة، ذلك أن أول وقوعه في بدعة الإرجاء سببه زلة، أعقبها عجب ومعاندة، حتى صار رأيه مذهبا متبعا، والعياذ بالله. فقد ذكر سلمة بن كهيل أن ذرا أول من تكلم في الإرجاء. وقال ذر: إني أخاف أن يتخذ هذا دينا. فلما أتته الكتب من الآفاق، قال ذر: وهل أمر غير هذا؟! (6).   (1) يعني إرجاء الفقهاء، فقد كان حديثه عنه. انظر: ((الفتاوى)) (13/ 28). (2) ((الفتاوى)) (13/ 40). (3) راجع أخباره في: ((الطبقات الكبرى)) (7/ 228)؛ و ((حلية الأولياء)) (3/ 64)؛ و ((الشريعة)) (2/ 681) (رقم 301)؛ و ((سير أعلام النبلاء)) (4/ 604 - 603)؛ و ((ميزان الاعتدال)) (2/ 345)؛ و ((تهذيب التهذيب)) (2/ 246)؛ و ((تقريب التهذيب))، (ص 465). (4) راجع أخباره في: ((الطبقات الكبرى)) (6/ 293)؛ و ((تاريخ الإسلام)) حوادث (81 - 100)، (ص60)، و ((ميزان الاعتدال) (2/ 32)؛ و ((تقريب التهذيب))، (ص 313). (5) ((تاريخ الإسلام)) حوادث (81 - 100)، (ص5)؛ وانظر: ((الطبقات الكبرى)) (6/ 293). (6) انظر: ((السنة))، لعبدالله (1/ 329) (رقم 677)؛ و ((سير أعلام النبلاء)) (5/ 298 - 300)؛ و ((تهذيب التهذيب)) (2/ 77 - 78)؛ و ((تقريب التهذيب))، (ص402). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 وقال الحسن بن عبيدالله: "سمعت إبراهيم - يعني النخعي - يقول لذر: ويحك يا ذر ما هذا الدين الذي جئت به؟ قال ذر: ما هو إلا رأي رأيته. قال: ثم سمعت ذرا يقول: إنه لدين الله - عز وجل - الذي بعث الله بوحي عليه السلام! " (1).ويقول ذر عن نفسه: "لقد أشرعت رأيا خفت أن يتخذ دينا" (2). يقول إسحاق بن هانئ: قلت لأبي عبدالله - يعني الإمام أحمد -: أول من تكلم في الإيمان من هو؟ قال: يقولون: أول من تكلم فيه ذر (3).وللسلف موقف يناسب حاله، كعادتهم مع أمثاله، إذ هجره إبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير؛ للإرجاء (4).والذي نقله شيخ الإسلام عن ذر هو مناقشة سعيد بن جبير له، وقوله له: "ألا تستحي من رأي أنت أكبر منه" (5). وتنقل بعض كتب الأثر تفصيلات لموقف سعيد بن جبير من ذر: من ذلك أنه ناصحه، وحثه على تقوى الله، والحرص على ما ينفعه من القيام بالفرائض والطاعات. يقول عمر بن ذر: كتب سعيد بن جبير إلى أبي كتابا أوصاه بتقوى الله، وقال: إن بقاء المسلم كل يوم غنيمة، فذكر الفرائض، والصلوات، وما يرزقه الله من ذكره (6).ومما جاء فيها أنه لا يكلمه، ولا يرد عليه السلام، ولعله بعد مناصحته له، وإصرار ذر على رأيه (7).وفيها أيضا: "أن ذرا أتي سعيد بن جبير يوما في حاجة، فقال: لا، حتى تخبرني على أي دين أنت اليوم، أو رأي أنت اليوم، فإنك لا تزال تلتمس دينا قد أضللته، الا تستحي من رأي أنت أكبر منه" (8). 4 - حماد بن أبي سليمان: هو أبو إسماعيل حماد بن مسلم الكوفي الأشعري مولاهم، من صغار التابعين (9)، توفي سنة 120هـ. يقول الذهبي في بيان مكانته العلمية: "فأفقه أهل الكوفة علي وابن مسعود، وأفقه أصحابهما علقمة، وأفقه أصحابه إبراهيم، وأفقه أصحاب إبراهيم حماد" (10).ويقول: "وتفقه بإبراهيم النخعي، وهو أنبل أصحابه، وأفقههم، وأقيسهم، وأبصرهم بالمناظرة والرأي" (11).لكنه في باب الآثار والسنن ليس بذاك، قال أبو حاتم رحمه الله: "صدق، لا يحتج به، مستقيم في الفقه فإذا جاء الآثار شوش" (12). "وعن شعبة: قال: كان حماد بن أبي سليمان لا يحفظ. يعني: أن الغالب عليه الفقه، وأنه لم يرزق حفظ الآثار" (13). وما ذكر في سيرته من عدم عنايته بالآثار فيه لفتة مهمة في معرفة حال أصحاب الجرأة على القول في الدين بما لم يسبقوا إليه، والله المستعان. ثم هو رأس بين أصحابه، وإمام عندهم، ولذا تلحظ في أجوبته حينما يسأل عن بدعته نفسا حادا، فقد نقل عنه لما سئل: "ما هذا الرأي الذي أحدثت؟ لم يكن على عهد إبراهيم النخعي!، فقال: لو كان حيا لتابعني عليه" (14).   (1) ((السنة))، لعبدالله (1/ 335) (رقم 696). (2) ((السنة))، لعبدالله (1/ 333) (رقم 690). (3) ((السنة)) للخلال (3/ 563 – 564) (رقم 953). (4) انظر: ((ميزان الاعتدال)) (2/ 32)؛ و ((تهذيب التهذيب)) (3/ 218). (5) ((الإيمان)) (ص378) ((الفتاوى)) (7/ 395). (6) ((حلية الأولياء)) (4/ 280)؛ و (سير أعلام النبلاء) (4/ 326). (7) ((السنة))، لعبدالله (1/ 328) (رقم 674)؛ و ((السنة)) للخلال (5/ 31 - 32) (رقم 1535، 1536)، و ((الإبانة)) (2/ 891) (رقم 1240)؛ و ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (5/ 990) (رقم 1812). (8) ((السنة))، لعبدالله (1/ 325 - 326) (رقم 667)، (1/ 334) (رقم 691)؛ و ((السنة)) للخلال (4/ 139) (رقم 1364)؛ و ((الإبانة الكبرى)) (2/ 890) (رقم 1237). (9) انظر: ((سير أعلام النبلاء)) (5/ 231). (10) ((سير أعلام النبلاء)) (5/ 236). (11) ((سير أعلام النبلاء)) (5/ 231). (12) ((تهذيب الكمال)) (7/ 276)؛ و ((ميزان الاعتدال)) (1/ 595). (13) ((تهذيب الكمال)) (7/ 275). (14) ((سير أعلام النبلاء)) (5/ 235). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 "وقال معمر: قلت لحماد: كنت رأسا، وكنت إماما في أصحابك، فخالفتهم فصرت تابعا؟ قال: إني أكون تابعا في الحق خير من أن أكون رأسا في الباطل" (1). ولما قدم الكوفة قادما من الحج قال: "أبشروا يا أهل الكوفة رأيت عطاء، وطاووسا، ومجاهدا، فصبيانكم، بل صبيان صبيانكم أفقه منهم. قال مغيرة - راوي الخبر: فرأينا ذلك بغيا منه" (2). وأمام هذه الأحوال كان لحماد مقام مشهور غير محمود في تبني القول بالإرجاء، وإخراج العمل منه، حتى عده شيخ الإسلام أول قائل به. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "الإرجاء في أهل الكوفة كان أولا فيهم أكثر، وكان أول من قاله حماد بن أبي سليمان" (3).ويقول: "لكن حماد بن أبي سليمان خالف سلفه، واتبعه من اتبعه، ودخل في هذا طوائف من أهل الكوفة، ومن بعدهم" (4).وقد كان للسلف موقف يناسبه، حتى ممن كان من أصحابه والمتلقين عنه، فهذا الأعمش بعد أن كان يروي عنه؛ لما تكلم بالإرجاء صار إذا لقيه لم يسلم عليه (5). "وقال شعبة: كنت مع زبيد، فمررنا بحماد، فقال: تنح عن هذا، فقط أحدث. وقال مالك بن أنس: كان الناس عندنا هم أهل العراق، حتى وثب إنسان يقال له حماد، فاعترض هذا الدين، فقال فيه برأيه" (6).5 - سالم الأفطس (7). هو أبو محمد سالم بن عجلان الأفطس الحراني الأموي مولاهم المتوفى مقتولا سنة 132هـ. في عداد التابعين، ومع كونه ثقة في الحديث إلا أنه كان يخاصم في الإرجاء، داعية إليه، ويجادل عليه. وقد نقل شيخ الإسلام ما يفيد ذلك، حيث ذكر حديث معقل العبسي، وفيه قوله:"قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء، فنفر منه أصحابنا نفوراً شديداً، منهم ميمون بن مهران، وعبدالكريم بن مالك، فإنه عاهد الله أن لا يؤويه وإياه سقف بيت إلا المسجد" (8). ونقل أيضا المحاورة التي جرت بينه وبين مبارك بن حسان، حيث يقول: "وروي ابن بطة بإسناده عن مبارك بن حسان قال: قلت لسالم الأفطس: رجل أطاع الله فلم يعصه، ورجل عصى الله فلم يطعه، فصار المطيع إلى الله فأدخله الجنة، وصار العاصي إلى الله فأدخله النار، هل يتفاضلان في الإيمان؟ قال: لا" (9). 6 - أبو حنيفة:   (1) ((سير أعلام النبلاء)) (5/ 233). (2) ((ميزان الاعتدال)) (1/ 596)؛ و ((تهذيب التهذيب)) (1/ 484). (3) ((الإيمان)) (ص295) ((الفتاوى)) (7/ 311)، وانظر منه (ص281) ((الفتاوى)) (7/ 297). (4) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) ((7/ 507)) (ص373) ط. ابن الجوزي؛ وانظر: ((السنة)) للخلال (3/ 599) (رقم 1063). (5) انظر: ((ميزان الاعتدال)) (1/ 595)؛ و ((تهذيب التهذيب)) (1/ 484). (6) ((تهذيب التهذيب)) (1/ 484). (7) راجع أخباره في: ((ميزان الاعتدال)) (2/ 112 - 113)؛ و ((تهذيب التهذيب)) (1/ 679 - 680)؛ و ((تقريب التهذيب))، (ص361). (8) ((الإيمان)) (192) ((الفتاوى)) (7/ 204)، وانظر: ((الإبانة الكبرى)) (2/ 808 - 809). (9) ((الإيمان)) (ص171) ((الفتاوى)) (7/ 180). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 هو النعمان بن ثابت بن زوطي الكوفي، أحد الأئمة الأربعة المتبوعين، المتوفى سنة 150هـ. يقول الذهبي معرفا به: "الإمام، فقيه الملة، عالم العراق" (1).وقال: "وعني بطلب الآثار، وارتحل في ذلك، وأما الفقه والتدقيق في الرأي وغوامضه، فإليه المنتهى، والناس عيال عليه في ذلك" (2).من أبرز مشايخه الذين تأثر بهم شيخه حماد بن أبي سليمان، إذ هو شيخه الذي اختص به، وأكثر من ملازمته (3)، فانصبغ أثر الشيخ في التليمذ، فصار الأثر ظاهرا، من جهة الإكثار من الرأي دون الأثر، ومن جهة الموافقة له في مقالة الإيمان (4).وقد اشتغل بعلم الكلام في أوائل طلبه للعلم، ومهر فيه، ثم عافاه الله منه، فتركه وزهد فيه (5).وقد أثنى شيخ الإسلام عليه، وأنصفه، وبين "أن أبا حنيفة وإن كان الناس خالفوه في أشياء، وأنكروها عليه، فلا يستريب أحد في فقهه وفهمه وعلمه، وقد نقلوا عنه أشياء يقصدون بها الشناعة عليه، وهي كذب عليه قطعا" (6).ثم إن اعتقاده في التوحيد والقدر ونحو ذلك موافق لاعتقاد أئمة السنة، وهو ما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهو ما نطق به الكتاب والسنة (7).ومع هذا، فإن أهل البدع إذا انتسبوا إلى إمام من أئمة السنة لم يكن ذلك مذهبا للإمام، إلا في الإرجاء، فإنه مذهب أبي حنيفة عفا الله عنه، وأما التجهم فاختلف النقل عنه، ولذلك اختلف أصحابه ما بين سنية وجهمية؛ لأن أصوله لا تنفي البدع وإن لم تثبتها (8).7 - عمر بن ذر (9): هو أبو ذر عمر بن ذر بن عبدالله بن زرارة الهمداني، ثم المرهبي الكوفي، المتوفى سنة 156هـ، وقيل غير ذلك. وهو من شيوخ أبي حنيفة، وقد اتصف بالزهد والعبادة، وكان ثقة، واعظا بليغا حسن الصوت، لكنه رأس في الإرجاء، ولما مات لم يشهده سفيان الثوري. وقد أورده شيخ الإسلام في سياق قصة لمعقل بن عبيدالله العبسي، وأنه دخل على عطاء بن أبي رباح في نفر من أصحابه، وجرت بينهم محاورة حول ما أحدثه المرجئة الفقهاء، وتبري عطاء منهم، وفيها قال معقل مخاطبا عطاء: "قلت: إنهم انتحلوك، وبلغني أن ابن ذر دخل عليك في أصحاب له، فعرضوا عليك قولهم فقبلته، فقلت هذا الأمر؟ فقال: لا والله الذي لا إله إلا هو - مرتين أو ثلاثا - " (10).8 - شبابة بن سوار (11):   (1) ((سير أعلام النبلاء)) (6/ 390). (2) ((سير أعلام النبلاء)) (6/ 392). (3) انظر: ((منهاج السنة)) (7/ 530، 532)؛ و ((الفتاوى)) (20/ 583)؛ ومجموعة ((الفتاوى الكبرى)) (2/ 374). (4) انظر: ((الإيمان)) (ص114، 281) ((الفتاوى)) (7/ 119، 297)؛ و ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 508 ص) 375 ط. ابن الجوزي؛ و ((الفتاوى)) (13/ 38). (5) انظر: ((تاريخ بغداد)) (13/ 333)؛ و ((الماتريدية))، للشمس الأفغاني، الطبعة الثانية 1419هـ، مكتبة الصديق بالطائف (1/ 9)؛ وأصول الدين عند الإمام أبي حنيفة، للدكتور محمد الخميس، الطبعة الأولى عام 1416هـ، دار الصميعي بالرياض، (ص158 - 164). (6) ((منهاج السنة)) (2/ 619 - 620)؛ وانظر: بيان الدليل على بطلان التحليل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق د/ فيحان المطيري، الطبعة الثانية 1416هـ، مكتبة لينة بمصر، (ص190 - 191)، (203 - 205). (7) انظر: ((الفتاوى)) (5/ 256). (8) انظر: ((الفتاوى)) (3/ 185)، (20/ 186). (9) راجع أخباره في: ((سير أعلام النبلاء)) (6/ 385 - 388)؛ و ((ميزان الاعتدال)) (3/ 193)؛ و ((تهذيب التهذيب)) (3/ 322 - 224). (10) ((الإيمان)) (ص193) ((الفتاوى)) (7/ 205). (11) راجع أخباره في: ((سير أعلام النبلاء)) (9/ 513 - 514)؛ و ((ميزان الاعتدال)) (2/ 260)؛ و ((تهذيب التهذيب)) (2/ 148)؛ و ((تقريب التهذيب))، (ص429). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 هو أبو عمرو شبابة بن سوار الفزاري مولاهم المدائني، المتوفى سنة 206هـ، وقيل غير ذلك. وصفه الذهبي بأنه من كبار الأئمة، إلا أنه مرجئ، وأنه صدوق، مكثر، صاحب حديث، فيه بدعة. وقالوا الإمام أحمد: تركته للإرجاء، ولما سئل عنه قال: شبابة كان يدعو إلى الإرجاء. قال: وحكى عن شبابة قول أخبث من هذه الأقاويل، ما سمعت أحدا عن مثله. قال: قال شبابة: إذا قال، فقد عمل بجارحته، أي بلسانه، فقد عمل بلسانه حين تكلم. ثم قال أبو عبدالله: هذا قول خبيث، ما سمعت أحدا يقول به، ولا بلغني (1).وبالانتهاء من التعريف بشبابة ينتهي ما تم الوقوف عليه من الأسماء التي ذكرها شيخ الإسلام ممن دخل ضمن رجال مرجئة الفقهاء، وقبل ختم ذلك، فمما ينبه عليه أن للحافظ الذهبي رحمه الله كلمة قالها حول بعض من ذكر خبره ههنا، وغيرهم، ممن رمي بالإرجاء من الفقهاء، فإنه بعد أن سمى جماعة منهم قال: "الإرجاء مذهب لعدة من جلة العلماء، لا ينبغي التحامل على قائله" (2).وقد استروح بعضهم هذه الكلمة، فدفع بها كون إرجاء الفقهاء من الإرجاء المذموم، وحصر الذم في إرجاء من يقول إن الإيمان هو المعرفة (3). ولا ريب أن كلمة الذهبي لا تدل على هذه الدعوى البتة، خاصة أنها جاءت في سيرة مسعر بن كدام، وقول بعضهم إنه مرجئ، مع جماعة ممن وقع في الإرجاء من الفقهاء. فهنا علق الذهبي بتلك المقولة، وغاية ما فيها النهي عن التحامل على من وقع في الإرجاء من الفقهاء، وهذا حق، لكن التحذير من مقالتهم واجب شرعا، وهو ما صنعه الأئمة، وصنعه الذهبي نفسه،، فقد رأينا في السير السابقة وصفه لهم بالإرجاء، والله أعلم. وبعد الوقوف على شيء من سيرة رجال فقهاء المرجئة، يبقى النظر في مجمل معتقدهم رحمهم الله. وقد صرح شيخ الإسلام كما سبق النقل عنه بأن أبا حنيفة على طريق السلف في التوحيد والقدر (4)، وأن المأخذ عليه الثابت عنه هو في مسألة الإيمان (5).والناظر في معتقد أبي حنيفة يجد هذه الحقيقة ظاهرة، فإن مجمل معتقده رحمه الله يتلخص فيما يلي (6): 1 - العناية بأنواع التوحيد كلها، وخاصة توحيد الألوهية، وسد ذرائع الشرك. 2 - إثبات الأسماء والصفات، إثباتا يليق بالله تعالى. 3 - إثبات الرؤية، مع الإقرار بالعلو. 4 - الإيمان بالقدر بمراتبه الأربع: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق. 5 - أن الإيمان مجرد تصديق القلب، وقول اللسان، وأنه لا يزيد ولا ينقص، وأن مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان. هذا هو مجمل معتقد أبي حنيفة، وهو - بحمد الله - موافق لما عليه أهل السنة عدا باب الإيمان، ومما يلزم ذكره أن هذا المعتقد لأبي حنيفة ليس هو الذي عليه المنتسبون إلى مذهبه في العصور المتأخرة، بل غلب على كثير منهم الابتداع، وصار جلهم على المعتقد الماتريدي، إلا من تمسك منهم بالأثر، واتبع الحديث، وهدي إلى السنة (7). المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 123   (1) نقله شيخ الإسلام في: ((الإيمان)) (ص241 - 242) ((الفتاوى)) (7/ 255)، وهو في ((السنة)) للخلال (3/ 571 - 572) (رقم 982). (2) ((ميزان الاعتدال)) (4/ 9). (3) انظر تعليق محققي الجزء السابع من ((سير أعلام النبلاء)) (7/ 165 - 166). (4) انظر: ((الفتاوى)) (5/ 256). (5) انظر: ((الفتاوى)) (20/ 186)، (3/ 185). (6) راجع تفاصيل ذلك في كتاب: ((أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة))، (ص203 - 569). (7) يراجع في ذلك: ((أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة))، (ص5475 - 638)؛ و ((الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات)) (1/ 195 - 200). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 المبحث الثاني: الجهمية تنتسب الجهمية إلى الجهم بن صفوان المقتول سنة 128هـ، فالجهمية هم نفاة الصفات (1)، الذين اتبعوا جهما فيما ابتدعه في الإسلام (2).وكان ظهور الجهمية في أواخر عصر التابعين (3)، بعد موت عمر بن عبدالعزيز سنة 101هـ. وقد تولى كبر نشر المذهب الجهمي في الأمة جماعة مخذولون رتبهم الحافظ ابن كثير رحمه الله في قوله: "أخذ عن الجعد الجهم بن صفوان الخزري - وقيل الترمذي -، ... ، وأخذ بشر المريسي عن الجهم، وأخذ أحمد بن أبي دؤاد عن البشر" (4). وسيستعرض هنا حال هؤلاء الأربعة بإيجار: 1 - الجعد بن درهم. وهو شيخ الجهمية، وحقه أن تنسب إليه الفرقة، ولكنها اشتهرت باسم تلميذه الضال الجهم بن صفوان، وإن كان شيخه هو الذي بذر هذا الشر العظيم في الأمة، وتلقاه عنه كل جهمي - نعوذ بالله من الخذلان -. والمقالات الباطلة التي اشتهرت عنه قول بالتعطيل، ونفي الاستواء، والخلة، والكلام، والقول بخلق القرآن، والجبر، والإرجاء. يقول شيخ الإسلام: "فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام - أعني أن الله سبحانه وتعالى ليس على العرش حقيقة، وأن معنى استوى بمعنى استولى، ونحو ذلك - هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، فنسبت مقالة الجهمية إليه" (5).وقد استفاض في كتب السلف ذكر طريقة قتله، وأنها على يد الأمير خالد بن عبدالله القسري الذي ذبحه يوم عيد الأضحى قال كلمته المشهورة في خطبة صلاة العيد: "أيها الناس: ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا، ثم نزل فذبحه في أصل منبره، أثابه الله وتقبل منه" (6).قتل الجعد سنة نيف وعشرين مائة (7). 2 - الجهم بن صفوان:"أبو محرز السمرقندي، الضال، المبتدع، رأس الجهمية، هلك في زمان صغار التابعين، وما علمته روى شيئا، لكنه زرع شرا عظيما" (8).وهو "أس الضلالة، ورأس الجهمية" (9)، وإمامهم بلا منازع - وبئست الإمامة -، وهو الذي سن في الإسلام سنة سيئة لا يزال أهل الباطل يأخذون بها، "فهو أعظم الناس نفيا للصفات، بل وللأسماء الحسنى" (10) - نعوذ بالله من الشقاء -.مات مقتولا سنة 128هـ (11). 3 - بشر المريسي.   (1) انظر: ((الفتاوى)) (12/ 358). (2) انظر: ((بيان تلبيس الجهمية))، تحقيق الغفيص، رسالة دكتوراه غير منشورة (2/ 478). (3) انظر: ((بيان تلبس الجهمية))، تحقيق الألمعي، رسالة دكتوراه منشورة (2/ 470 - 471)؛ وانظر: ((الفتاوى)) (8/ 460). (4) ((البداية والنهاية)) (13/ 148). (5) ((الفتاوى)) (5/ 20). (6) انظر: ((سير أعلام النبلاء)) (5/ 432)؛ ((البداية والنهاية)) (12/ 148)، (199)؛ وعامة كتب السلف أخرجت هذا الخبر؛ وأورده شيخ الإسلام في مواضع كثيرة، منها: ((الفتاوى)) (8/ 142، 228، 12/ 26)؛ و ((درء التعارض)) (5/ 244). (7) انظر عن الجعد: ((سير أعلام النبلاء)) (5/ 433)؛ و ((ميزان الاعتدال)) (1/ 399)؛ و ((البداية والنهاية)) (13/ 199 - 200)، و ((مقالة التعطيل والجعد بن درهم))، (ص127 - 179). (8) قاله الذهبي في: ((ميزان الاعتدال)) (1/ 426). (9) ((سير أعلام النبلاء)) (6/ 26). (10) ((الفتاوى)) (12/ 202). (11) انظر: ((البداية والنهاية)) (13/ 221). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 أبو عبدالحميد بشر بن غياث بن أبي كريمة البغدادي المريسي. وهو بلية كبري، إذ آتاه الله حظا من العلم حتى عد من كبار الفقهاء، ثم هو متكلم مناظر بارع في الخصام عن مذهبه (1)، فخذل حيث أعمل هذه الأوصاف في نشر المذهب الجهمي، حتى إن عامة التأويلات الجهمية للنصوص الشرعية متلقاة عنه (2). يقول الحافظ الذهبي فيه: "نظر في الكلام فغلب عليه، وانسلخ من الورع والتقوى، وجرد القول بخلق القرآن، ودعا إليه، حتى كان عين الجهمية في عصره وعالمهم، فمقته أهل العلم، وكفره عدة. ولم يدرك الجهم بن صفوان، بل تلقف مقالاته من أتباعه" (3).هلك بشر في آخر سنة ثماني عشرة ومائتين (4).4 - أحمد بن أبي داود (5). هو أبو عبدالله أحمد بن فرج حريز البغدادي الجهمي، القاضي الضال، الجهمي البغيض. أخذ عن بشر المريسي، وعلى يده امتحن أهل السنة، وتزعم القول بخلق القرآن، وغلا في التعطيل حتى بلغ المنتهى في الشقاء، عندما حرف آية من كتاب الله تخالف هواه، وهكذا هو دائما حال الغلاة. يقول شيخ الإسلام: "وكتب قاضيهم أحمد بن أبي دواد على ستارة الكعبة: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] وهو العزيز الحكيم، لم يكتب وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] (6). آذى عباد الله الصالحين، فأخزاه الله بعد حين، فمات مسجونا في بدنه، مصادرا ماله، وذلك سنة 240هـ. وبعد الوقوف على بعض أخبار رؤوس الجهمية يأتي النظر في مجمل معتقدهم، والقائم على ما يلي: 1 - إهمال توحيد الألوهية، وهذا أمر مشترك بين عامة فرق المبتدعة. 2 - تعطيل الرب تعالى من أسمائه وصفاته. 3 - إنكار رؤية الله تعالى. 4 - القول بالجبر، وأن العباد لا فعل لهم على الحقيقة، وإنما تنسب إليهم أعمالهم على المجاز. 5 - القول بأن الإيمان هو مجرد معرفة القلب، وأنه لا يزيد ولا ينقص، ولا يتبعض، ولا يتفاضل، ولا يستثنى فيه، وأن مرتكب الكبيرة كامل الإيمان، وأن الكفر هو الجهل فقط. 6 - القول بفناء الجنة والنار. المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 143   (1) انظر: ((سير أعلام النبلاء)) (10/ 199). (2) انظر: ((درء التعارض)) (2/ 255، 5/ 237). (3) ((سير أعلام النبلاء)) (10/ 200). (4) انظر: ((سير أعلام النبلاء)) (10/ 202). (5) راجع أخباره في ((سير أعلام النبلاء)) (11/ 169 - 171)؛ و ((ميزان الاعتدال)) (1/ 97)؛ و ((البداية والنهاية)) (13/ 148)، (14/ 362 - 372)؛ وانظر في كونه جهميا لا معتزليا: ((الفتاوى)) (17/ 300). (6) ((الفتاوى)) (13/ 184)؛ وانظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (1/ 121). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 المبحث الثالث: الكلابية ظهرت هذه الفرقة في النصف الأول من القرن الثالث الهجري، وأشهر رجالها هم: 1 - ابن كلاب: هو أبو محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب القطان البصري، رأس المتكلمين بالبصرة في زمانه، وإليه تنسب فرقة الكلابية. يقول شيخ الإسلام عنه: "وابن كلاب إمام الأشعرية أكثر مخالفة لجهم، وأقرب إلى السلف من الأشعري نفسه" (1).ومما يتعلق بسيرته ما رمي به من أنه كان نصرانيا ثم أسلم؛ ليفسد دين المسلمين (2)، وهي فرية فندها أهل التحقيق، منهم شيخ الإسلام، وبين سبب اتهامه بهذه التهمة، حيث قال: "وكان ممن انتدب للرد عليهم - يعني الجهمية والمعتزلة - أبو محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب، وكان له فضل وعلم ودين، ومن قال إنه ابتدع ما ابتدع؛ ليظهر دين النصارى في المسلمين، كما يذكره طائفة في مثالبه، ويذكرون أنه أوصى أخته بذلك، فهذا كذب عليه، وإنما افترى عليه المعتزلة والجهمية الذين رد عليهم، فإنهم يزعمون أن من أثبت الصفات فقد قال بقول النصارى" (3).اختلف في سنة وفاة ابن كلاب، وقال الذهبي في ذلك: "لم أقع بوفاة ابن كلاب، وقد كان باقيا قبل الأربعين ومائتين" (4). 2 - أبو العباس القلانسي. هو أحمد بن عبدالرحمن بن خالد القلانسي الرازي. لا يعرف متى ولد ولا متى توفي، فأخباره قليلة، وقد وصفه البغدادي بإمام أهل السنة الذي زادت تصانيفه في الكلام على مائة وخمسين كتاباً (5).وقد صرح شيخ الإسلام بمتابعته لابن كلاب (6)، وذكر قوله في مسألة الإيمن، وأنه نصر مذهب السلف (7). 3 - أبو علي الثقفي. هو أبو علي محمد بن عبدالوهاب بن عبدالرحمن اليقفي النيسابوري، المتوفى سنة 328هـ. وصفه الذهبي رحمه الله بالإمام، المحدث، العلامة، الزاهد، العابد، شيخ خراسان. وكان من تلاميذ إمام الأئمة ابن خزيمة رحمه الله، ولكنه خالفه في مسألة القرآن، فعاب ابن خزيمة ذلك عليه وعلى من خاض معه، ونهاهم عن الخوض في الكلام، وانتهى به الأمر إلى أن ألزم بيته (8).والذي ذكره شيخ الإسلام عن الثقفي أنه ممن نصر مذاهب السلف في الإيمان (9).وأما مجمل معتقد الكلابية، فيقوم على ما يلي (10):1 - إثبات الأسماء والصفات، سوى الاختيارية منها، مع مخالفتهم فيها لما عليه السلف، وكان الناس قبل ابن كلاب إما مثبت للصفات أو ناف لها، فجاء بهذا التفريق في الصفات، فكان أول قائل به، وتابعه عليه الناس (11)، عافانا الله، وجعلنا بمنه وكرمه هداة خير. 2 - قالوا إن الله يرى في الآخرة. 3 - يرون أن أفعال العباد خلق من الله، وهي كسب من العبد. 4 - القول بأن الإيمان هو التصديق، وقول اللسان، وأنه لا يزيد ولا ينقص، وأنه يجب الاستثناء فيه، وقالوا إن مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان. المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 149   (1) ((الفتاوى)) (12/ 202 - 203). (2) انظر: ((البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان))، للسكسكي، تحقيق د/ بسام العموش، الطبعة الثانية 1417هـ، مكتبة المنار بالأردن، (ص36 - 37). (3) ((الفتاوى)) (5/ 555)؛ وانظر: ((درء التعارض)) (6/ 155)؛ و ((سير أعلام النبلاء)) (11/ 175). (4) ((سير أعلام النبلاء)) (11/ 174)؛ وانظر: ((طبقات الشافعية الكبرى)) (2/ 299 - 300). (5) انظر: ((أصول الدين))، (ص310). (6) ((درء التعارض)) (1/ 270)؛ وانظر منه (2/ 81، 82)؛ و ((التدمرية))، (ص193)، ((الفتاوى)) (3/ 103). (7) انظر: ((الإيمان)) (ص114) ((الفتاوى)) (7/ 119). (8) انظر خبرها في: ((سير أعلام النبلاء)) (15/ 282)؛ و ((درء التعارض)) (2/ 78 - 82)؛ و ((آراء الكلابي العقدية))، (ص82 - 84). (9) انظر: ((الإيمان)) (ص114) ((الفتاوى)) (7/ 119). (10) راجع في أقوال الكلابية: ((موقف ابن تيمية من الأشاعرة)) (1/ 445 - 450)؛ و ((آراء الكلابية العقيدة)). (11) انظر: ((الفتاوى)) (12/ 178). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 المبحث الرابع: الكرامية ظهور هذه الفرقة كان في النصف الأول من القرن الثالث الهجري، وأشهر رجاله هم: 1 - ابن كرام. إليه تنسب هذه الفرقة، وهو أبو عبدالله محمد بن كرام بن عراق السجستاني، المشهور بابن كرام، والمتوفى في القدس سنة 255هـ (1).ذكر له جملة من المصنفات، منها: عذاب القبر، والتوحيد، ولكن لم يصل منها شيء (2).يقول عنه الذهبي: "المبتدع، شيخ الكرامية، كان زاهدا، عابدا، ربانيا، بعيد الصيت، كثير الأصحاب، ولكن يروي الواهيات" (3).وقد عده شيخ الإسلام من أئمة النظار المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة (4). لكنه بين أنه من انتسابه لأهل السنة، ورده على المخالفين لهم، إلا أنه ينتسب إلى أهل الرأي، وموافق للمخالفين في أصولهم، وتكلم في جملة من المسائل الكبار بما أنكر عليه. يقول شيخ الإسلام: "وقام أيضا أبو عبدالله محمد بن كرام بسجستان ونواحيها ينصر مذهب أهل السنة والجماعة، والمثبتة للصفات والقدر وحب الصحابة وغير ذلك، ويرد على الجهمية والمعتزلة والرافضة وغيرهم، ويوافقهم على أصول مقالاتهم التي بها قالوا ما قالوا، ويخالفهم في لوازمها، كما خالفهم ابن كلاب والأشعري، لكن هؤلاء منتسبون إلى السنة والحديث، وابن كرام منتسب إلى مذهب أهل الرأي".ثم ذكر مخالفته للجماعة في جملة من مسائل الاعتقاد منها مسألة الإيمان وختم كلامه بأن موافقة ابن كرام لأهل السنة أعظم من موافقة المعتزلة والرافضة (5).2 - إسحاق بن محمشاد (6). أبو يعقوب إسحاق بن محمشاد أو ابن محمش النيسابوري، الهالك سنة 383هـ. شيخ الكرامية في عصره، وإليه تنسب فرقة الإسحاقية من فرق الكرامية، وهو من الكذابين الذين يضعون الحديث على مذهب الكرامية، ومما وضعه - قبحه الله - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يجيء في آخر الزمان رجل يقال له: محمد بن كرام، يحي السنة والجماعة، هجرته من خراسان إلى بيت المقدس، كهجرتي من مكة إلى المدينة (7).ومن صفاقته أنه ألف كتابا سماه: فضائل ابن كرام، ملأه مدحا في شيخه على هذا المنوال من الكذب والدجل، قال الذهبي رحمه الله: "فانظر إلى المادح والممدوح! " (8).3 - محمد بن الهيصم (9): أبو عبدالله محمد بن الهيصم، عاش في القرن الخامس الهجري، أي في العصر الذهبي للكرامية، ولا تعلم سنة وفاته. وإليه تنسب فرقة الهيصمية من فرق الكرامية، وقد كان له دور بارز في تقريب مذهب الكرامية بين المذاهب، وتخفيف التشنيع عليه.   (1) انظر أخباره في: ((سير أعلام النبلاء)) (11/ 523 - 524)؛ و ((ميزان الاعتدال)) (4/ 21)؛ و ((البداية والنهاية)) (14/ 515 - 517)؛ و ((الوافي بالوفيات)) (4/ 375)؛ و ((التجسيم عند المسلمين)) (ص45 - 66). (2) انظر: ((التجسيم عند المسلمين))، (ص62 - 63). (3) ((سير أعلام النبلاء)) (11/ 523). (4) انظر: ((الرد على المنطقيين))، (ص65)؛ و ((الصفدية)) (1/ 36). (5) ((شرح الأصبهانية)) (2/ 328)؛ وانظر: ((التدمرية))، (ص193)، وقوله في الإيمان سيأتي مفصلا بعون الله في مبحث مستقل. (6) انظر عنه: ((ميزان الاعتدال)) (1/ 200)، و ((شذرات الذهب)) (3/ 104)؛ و ((التجسيم عند المسلمين))، (ص76 - 78). (7) انظر: ((ميزان الاعتدال)) ((1/ 200))، و ((الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة))، للشوكاني، تحقيق المعلمي، الطبعة الثالثة 1407هـ، المكتب الإسلامي ببيروت، (ص362) (رقم 1230). (8) ((ميزان الاعتدال)) (1/ 200). (9) انظر عنه: ((البداية والنهاية)) (15/ 634، 16/ 688)؛ و ((نهاية الأقدام في علم الكلام))، للشهرستاني، تحقيق الفرد جيم، مكتبة الثقافة الدينية بمصر، (ص105)، و ((التجسيم عند المسلمين))، (ص87 - 91). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 وكانت له مناظرات مع خصوم الكرامية، كتلك التي جرت له مع ابن فورك في مسألة علو الله تعالى، وله مناظرة مع الرازي. وقد عده شيخ الإسلام من شيوخ الكرامية وأحد النظار (1)، ونقل له كلاما يتعلق بالقرآن عن مصنف له اسمه: جمل الكلام في أصول الدين (2)، وذكر أنه وقف على مصنف له آخر قرر فيه أن الإيمان قول فقط (3).4 - إبراهيم بن مهاجر (4). من أهل القرن الرابع الهجري، وعاش في نيسابور، وإليه تنتسب فرقة المهاجرية من الكرامية، وقد ذكر البغدادي أنه جرت بينهما مناظرة سنة 370هـ. هذه إلمامة بأخبار بعض رجال الكرامية، وأما مجمل اعتقاد هذه الفرقة، فهو (5): 1 - اتفاقهم على إطلاق لفظ الجسم على الله تعالى، وفسروا معناه بأنه القائم بالذات، المستغني وجوده عن غيره. 2 - إثبات الصفات، مع تحريف لما أثبتوه، كما صنعوا في صفة السمع، والبصر، والكلام، والاستواء، والإرادة. 3 - إثبات الجهة لله تعالى، وقالوا إنه بجهة فوق ذاتا، ثم اختلفوا في شرح هذا المعتقد عندهم. 4 - أثبتوا الرؤية حتى قالوا إن الله تعالى يمكن أن يرى بالأبصار في الدنيا. 5 - القول بأن الإيمان هو قول اللسان فقط، وأنه لا يزيد ولا ينقص، ولا يستثنى فيه، وقالوا إن مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان. المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 153   (1) انظر: ((الرد على المنطقيين))، (ص546). (2) انظر: ((الفتاوى)) (6/ 183 - 184)؛ و ((شرح الأصبهانية)) (1/ 211) (ص37). مخلوف. (3) انظر: ((الفتاوى)) (13/ 58). (4) انظر عنه: ((الفرق بين الفرق))، (ص217، 224)؛ و ((التجسيم عند المسلمين))، (ص93 - 94). (5) راجع: ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 223 - 224)؛ و ((الفرق بين الفرق))، (ص216 - 225)؛ و ((الملل والنحل)) (1/ 99 - 105)؛ و ((التجسيم عند المسلمين))، (ص145 - 147، 187 - 191، 197 - 242)؛ و ((موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من الكرامية والإلهيات))، لعبد القادر بن محمد عبدالله، رسالة ماجستير في قسم الدراسات العليا فرع العقيدة، من كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى، عام 1409هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 المبحث الخامس: الأشاعرة يقول شيخ الإسلام رحمه الله ملخصا حال هذه الفرقة: "والأشعرية الأغلب عليهم أنهم مرجئة في باب الأسماء والأحكام، جبرية في باب القدر، وأما في الصفات فليسوا جهمية محضة، بل فيهم نوع من التجهم"، ثم قال:"وأما الأشعرية فلا يرون السيف موافقة لأهل الحديث، وهم في الجملة أقرب المتكلمين إلى مذهب أهل السنة والحديث" (1). ومن أشهر رجالات هذه الفرقة: 1 - أبو الحسن الأشعري. وهو علي بن إسماعيل بن إسحاق الأشعري، المتوفى سنة 330 هـ (2).وهو "المتكلم، صاحب الكتب والتصانيف في الرد على الملحدة، وغيرهم من المعتزلة، والرافضة، والجهمية، والخوارج، وسائر أصناف المبتدعة" (3).ووصفه الذهبي بالعلاقة، إمام المتكلمين، وقال فيه: "لأبي الحسن ذكاء مفرط، وتبحر في العلم، وله أشياء حسنة، وتصانيف جمة تقضي له بسعة العلم" (4). والذي طبع من هذه التصانيف: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين (5)، واللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، ورسالة إلى أهل الثغر، والإبانة عن أصول الديانة، ورسالة استحسان الخوض في علم الكلام، ورسالة في الإيمان. وللناس كلام كثير في مراحل حياته العقدية (6)، وقد لخص شيخ الإسلام رأيه في ذلك بقوله: "وأبو الحسن الأشعري لما رجع عن مذاهب المعتزلة سلك طريقة ابن كلاب، ومال إلى أهل السنة والحديث، وانتسب إلى الإمام أحمد، كما قد ذكر ذلك في كتبه كلها، كالإبانة، والموجز، والمقالات" (7).وكما اختلف الناس في عقيدته اختلفوا كذلك في آخر مصنفاته، والذي يراه شيخ الإسلام أن الأشعري صنف كتاب الإبانة في آخر عمره (8).وذكر أن أصحاب الأشعري يرون أنه آخر كتاب صنفه، وعليه يعتمدون في الذب عنه عند من يطعن عليه (9). 2 - أبو بكر الباقلاني:   (1) ((الفتاوى)) (6/ 55). (2) من الكتب التي توسعت في أخباره: ((تبيين كذب المفتري))؛ و ((طبقات الشافعية)) (3/ 347 - 444)؛ و ((موقف ابن تيمية من الأشاعرة)) (1/ 329 - 434). (3) ((تاريخ بغداد)) (11/ 346 - 347)؛ وانظر نحو هذا الوصف في ((الفتاوى)) (4/ 13). (4) ((سير أعلام النبلاء)) (15/ 85 - 87). (5) نشر الكتاب مرتين: الأولى بعناية المستشرق ريتر، ونشرته دار النشر فرانز شتاينر بفيسبادن "بألمانيا"، الطبعة الثالثة سنة 1400هـ، والنشرة الثانية بعناية محمد محي الدين عبدالحميد، وهذه النشرة هي المعتمدة في هذه الدراسة. (6) في: ((موقف ابن تيمية من الأشاعرة)) (1/ 361 - 434) دراسة موسعة حول ذلك. (7) ((درء التعارض)) (2/ 16)؛ وهو في: ((المستدرك على مجموع الفتاوى)) (1/ 84)؛ وانظر: ((الفتاوى)) (3/ 228)؛ و ((منهاج السنة)) (2/ 227 - 229، 8/ 9). (8) انظر: ((الفتاوى)) (6/ 359). (9) انظر: ((الفتاوى)) (5/ 93). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 هو القاضي أبو بكر بن الطيب بن محمد بن الباقلاني، المتوفى سنة 403هـ يقول عنه الذهبي: "كان ثقة، إماما، بارعا، صنف في الرد على الرافضة، والمعتزلة، والخوارج، والجهمية، والكرامية، وانتصر لطريقة أبي الحسن، وقد يخالفه في مضائق، فإنه كان من نظرائه" (1).له مصنفات مشهورة، منها: التمهيد في الرد على الملحدة والرافضة والخوارج والمعتزلة، والإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به (2).وقد ذكر شيخ الإسلام أنه وقف على تصنيف للباقلاني في الإيمان نصر فيه أنه تصديق القلب فقط (3).ويراه شيخ الإسلام أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري، ليس فيهم مثله، لا قبله ولا بعده (4).وللباقلاني مكانة كبيرة في المذهب الأشعري، حيث يعد المؤسس الثاني للمذهب، وكانت منهجيته في البحث والمناظرة تختلف عن طريق مؤسس المذهب أبي الحسن الأشعري، فالأشعري بعد أن انتسب للإمام أحمد حرص على الاستدلال بالنقل، فلما جاء الباقلاني لم يكد يستدل به إلا نادرا، معتمدا على العقل، وصار هذا المنهج سنة لمن جاء بعده من الأشاعرة (5). 3 - أبو المعالي الجويني: هو إمام الحرمين عبدالملك بن يوسف بن عبدالله الجويني النيسابوري، المتوفى سنة 478هـ. ترك مؤلفات كثيرة، مما طبع منها: الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، ولمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة، والعقيدة النظامية في الأركان الإسلامية. ومن أهم ما أحدثه في مذهب الأشاعرة أنه خطأ به نحو الاعتزال، والتأصيل الكلامي (6). 4 - الرازي: هو أبو عبدالله محمد بن عمر بن الحسين بن علي القرشي الطبرستاني الرازي، المعروف بابن خطيب الري، المتوفى سنة 606هـ.   (1) ((سير أعلام النبلاء)) (17/ 19). (2) طبع بتحقيق زاهد الكوثري، نشر مكتبة الخانجي، وطبعة أخرى بتحقيق عماد الدين أحمد حيدر، نشر عالم الكتب. (3) انظر: ((الفتاوى)) (13/ 58). (4) انظر: ((الفتاوى)) (5/ 98). (5) انظر: ((موقف ابن تيمية من الأشاعرة)) (2/ 553)؛ وفي ((علم الكلام الأشاعرة))، لأحمد صبحي الطبعة الخامسة 1405هـ، دار النهضة العربية ببيروت، (ص93 - 94)، و ((نشأة الأشعرية وتطورها))، لجلال موسى، الطبعة الأولى 1395هـ، دار الكتاب اللبناني ببيروت، (ص362). (6) انظر شرح ذلك في: ((موقف ابن تيمية من الأشاعرة)) (2/ 602 - 621)؛ وانظر: ((الفتاوى)) (12/ 203، 16/ 91)؛ و ((منهج الحرمين في دراسة العقيدة))، للدكتور أحمد آل عبداللطيف، الطبعة الأولى 1414هـ، نشر مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 من مصنفاته: أساس التقديس، ومحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين، ومعالم أصول الدين، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين. يقول شيخ الإسلام واصفا حاله: "ومن الناس من يسيء به الظن، وهو أنه يتعمد الكلام الباطل، وليس كذلك، بل يتكلم بحسب مبلغه من العلم والنظر والبحث في كل مقام بما يظهر له، وهو متناقض في عامة ما يقوله، يقرر هنا شيئا، ثم ينقضه في موضع آخر؛ لأن المواد العقلية التي كان ينظر فيها من كلام أهل الكلام المبتدع المذموم عند السلف، ومن كلام الفلاسفة الخارجين عن الملة، تشتمل على كلام باطل، كلام هؤلاء وكلام هؤلاء فيقرر كلام طائفة بما يقرر به، ثم ينقضه في موضع آخر بما ينقضه به" (1).وقد كان له دور بارز تابعه عليه من جاء بعده، وهو خلطه الفكر الفلسفي بالكلام (2).ومن أهم ما يذكر ما عن الرازي ما يصنعه في مؤلفاته من شحنها بالشبه والحجج الباطلة بأقوى عبارة وأتمها، ورده لها بأجوبة ضعيفة لا تقوى على إبطالها، وما هذا بصنيع ناصح لعباد الله، والله أعلم بالنوايا، وقد مات تائبا، والله هو أهل التقوى وأهل المغفرة (3).وبعد هذا الوقوف على خبر بعض أشهر رجال الأشاعرة يأتي عرض مجمل اعتقاد الفرقة (4): 1 - إهمال توحيد الألوهية، وتفسير الإله في كلمة التوحيد لا إله إلا الله بالربوبية، وأنه القادر على الاختراع والخلق. 2 - نفي الصفات الاختيارية لله تعالى، والاقتصار على إثبات سبع صفات سموها الصفات المعنوية، والعقلية، وهي: العلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر، والحياة، وأما الصفات الخبرية فأثبتها متقدموهم، وأولها المتأخرون منهم. وأثبتوا الأسماء الحسنى لله تعالى مع تحريف لمعانييها بما يتوافق مع معتقدهم في الصفات. 3 - أثبتوا الرؤية، وأنكروا العلو - وهو الجهة عندهم -، فقالوا إن الله يرى لا في جهة. 4 - قالوا إن الله خالق أفعال العباد، وأنه ليس لقدرة العبد تأثير في فعله، بل القدرة من الرب، والفعل كسب من العبد، بمعنى أن فعل العبد ليس بتأثير منه، بل لكونه محلا للفعل فحسب، وهذا الجبر منهم قريب من القول بالجبر عند الجهمية. 5 - القول بأن الإيمان مجرد تصديق القلب، وأنه لا يزيد ولا ينقص، وأنه يجب الاستثناء فيه، وقالوا ِإن مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان. المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 157   (1) ((الفتاوى)) (5/ 561 - 562). (2) انظر: ((موقف ابن تيمية من الأشاعرة)) (2/ 677). (3) راجع في أخباره الرازي، ودوره في المذهب الأشعري: ((سير أعلام النبلاء)) (21/ 500 - 501)، و ((ميزان الاعتدال)) (3/ 340)؛ و ((فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية والفلسفية))، لمحمد الزركان، نشر دار الفكر ببيروت؛ و ((موقف ابن تيمية من الأشاعرة)) (2/ 651 - 678). (4) راجع في ذلك: ((موقف ابن تيمية من الأشاعرة)) (3/ 1095)، (1337 - 1338)؛ و ((منهج الأشاعرة في العقيدة))، للدكتور سفر الحوالي، الطبعة الأولى 1407 هـ، الدار السلفية بالكويت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 أولا: مسمى الإيمان عند مرجئة الفقهاء 1 - الإيمان عندهم تصديق القلب، وقول اللسان. قال شيخ الإسلام: "وهؤلاء المعروفون مثل حماد بن أبي سليمان، وأبي حنيفة، وغيرهما من فقهاء الكوفة، كانوا يجعلون قول اللسان، واعتقاد القلب من الإيمان. وهو قول محمد بن كلاب، وأمثاله، لم يختلف قولهم في ذلك، ولا نقل عنهم أنهم قالوا الإيمان مجرد تصديق القلب" (1).ويقول: "وابن كلاب نفسه، والحسن بن الفضل البجلي، ونحوهما كانوا يقولون: هو التصديق والقول جميعا، موافقة لمن قاله من فقهاء الكوفيين، كحماد بن أبي سليمان، ومن اتبعه، مثل أبي حنيفة، وغيره" (2). ونقل شيخ الإسلام عن الحافظ ابن عبدالبر قوله: "أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان. إلا ما ذكر عن أبي حنيفة، وأصحابه، فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعات لا تسمى إيمانا. قالوا: إنما الإيمان: التصديق، والإقرار، ومنهم: من زاد المعرفة" (3).وقال أبو ثور في معرض رده عليهم (4): "فلما لم يكن الإقرار إذا لم يكن معه التصديق مؤمنا، ولا بالتصديق إذا لم يكن معه الإقرار مؤمنا، حتى يكون مصدقا بقلبه، مقرا بلسانه، فإذا كان تصديقا بالقلب، وإقرارا باللسان كان عندهم مؤمنا. وعند بعضهم: لا يكون مؤمنا حتى يكون مع التصديق عمل، فيكون بهذه الأشياء الثلاثة إذا اجتمعت مؤمنا" (5). ولما قيل لعطاء إنهم يقولون: إن الإيمان منطق، ليس معه عمل. قال عطاء: "أما يقرؤون الآية التي في البقرة لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة: 177]، قال: ثم وصف الله على هذا الاسم ما لزمه من العمل، فقال: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [البقرة: 177] إلى قوله: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177].فقال: سلهم: هل دخل هذا العمل في هذا الاسم؟، وقال: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الإسراء: 19]، فألزم الاسم العمل، والعمل الاسم" (6). 2 - لابد عندهم في الإيمان أن يتكلم بلسانه: فالإنسان لا يكون مؤمنا إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه، ونزاعهم مع السلف هو فين قال، ولم يفعل (7).   (1) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 508)، (ص375 - 376) ط. ابن الجوزي؛ وانظر: (شرح الأصبهانية)) (2/ 585 - 586)، (ص143) ت مخلوف. (2) ((الإيمان)) (ص114) ((الفتاوى)) (7/ 119)؛ وانظر: ((الإيمان)) (ص183) ((الفتاوى)) (7/ 194)؛ و ((الفتاوى)) (18/ 271). (3) ((الإيمان)) (ص313) ((الفتاوى)) (7/ 330)؛ والنقل عن ابن عبدالبر من كتابه: ((التمهيد)) (15/ 41)، (90/ 238ط). المغرب. (4) وقد نبه شيخ الإسلام على أن أبا ثور لا يعرف من مقالات المرجئة إلا هذه المقالة. انظر: ((الإيمان)) (ص370) ((الفتاوى)) (7/ 3789). (5) ((الإيمان)) (ص371) ((الفتاوى)) (7/ 388)؛ و ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (4/ 849 - 850 برقم 1590). (6) ((الإيمان)) (ص171) ((الفتاوى)) (7/ 180)؛ و ((الأثر في الإبانة الكبرى)) (2/ 897 رقم 1251). (7) انظر: ((الإيمان)) (ص183) ((الفتاوى)) (7/ 194)؛ و ((الفتاوى)) (13/ 38 - 39)؛ و ((منهاج السنة)) (5/ 284). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 3 - أعمال القلب عندهم ليست من الإيمانمما أورده شيخ الإسلام على مرجئة الفقهاء أنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح، فإنها لازمة لها (1). والذي عليه هؤلاء المرجئة هو إخراج أعمال القلوب من الإيمان، فقد قال شيخ الإسلام: "والمرجئة ثلاثة أصناف: الذين يقولون: الإيمان مجرد ما في القلب. ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب، وهم أكثر فرق المرجئة، كما قد ذكر أبو الحسن الأشعري أقوالهم في كتابه، وذكر فرقا كثيرة يطول ذكرهم، لكن ذكرنا جمل أقوالهم. ومنهم من لا يدخلها، كجهم ومن اتبعه، كالصالحي، وهذا هو الذي نصره هو - يعني الأشعري - وأكثر أصحابه. والقول الثاني: من يقول هو مجرد قول اللسان، وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية. والثالث: تصديق القلب، وقول اللسان، وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم" (2). وهذا التصنيف لهذه الفرق يفيد أن الفقهاء يحصرون الإيمان في التصديق والقول. ويفيد كذلك أن الذين يدخلون أعمال القلوب في الإيمان هم الفريق الأول من الصنف الأول، وهم أكثر فرق المرجئة الذين يرون الإيمان مجرد ما في القلب، وأن من عداهم - ومنهم الفقهاء - لا يدخل هذه الأعمال في الإيمان. ويزيد الأمر وضوحا قول شيخ الإسلام على قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ [محمد: 26]، قال: "ولهذا فسر السلف هؤلاء الذين كرهوا ما نزل الله الذين كانوا سبب نزول هذه الآية بالمنافقين، واليهود (3). قالت الوعيدية: الله تعالى إنما وصفهم بمجرد كراهة ما نزل الله، والكراهة عمل القلب. وعند الجهمية: الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه، هذا قول جهم، والصالحي، والأشعري في المشهور عنه، وأكثر أصحابه. وعند فقهاء المرجئة هو: قول اللسان، مع تصديق القلب. وعلى القولين: أعمال القلوب ليست من الإيمان عندهم، كأعمال الجوارح. فيمكن أن يكون الرجل مصدقا بلسانه، وقلبه، مع كراهة ما نزل الله، وحينئذ فلا يكون هذا كافرا عندهم، والآية تتناوله، وإذا دلت على كفره دلت على فساد قولهم" (4). فقول شيخ الإسلام "على القولين" المراد بهما كما هو ظاهر: قول الجهمية ومن وافقهم، وقول فقهاء المرجئة. وعليه، فالفقهاء وافقوا هؤلاء المرجئة في إخراج عمل القلب، وزادوا عليهم بإدخال قول اللسان. وكذلك قوله: "دلت على فساد قولهم" يعني في إخراجهم عمل القلب من الإيمان. وقال شيخ الإسلام أيضا: "ومن هنا غلطت الجهمية، والمرجئة، فإنهم جعلوا الإيمان من باب القول. إما قول القلب الذي هو علمه، أو معنى غير العلم عند من يقول بذلك، وهذا قول الجهمية، ومن تبعهم، كأكثر الأشعرية، وبعض متأخري الحنفية. وإما قول القلب واللسان، كالقول المشهور عن المرجئة. ولم يجعلوا عمل القلب، مثل حب الله ورسوله، ومثل خوف الله من الإيمان، فغلطوا في هذا الأصل" (5). وقول شيخ الإسلام هذا أفاد: اتفاق المرجئة - المتكلمين منهم والفقهاء - على حصر الإيمان في باب القول.   (1) انظر: ((الإيمان)) (ص183) ((الفتاوى)) (7/ 194). (2) ((الإيمان)) (ص184) ((الفتاوى)) (7/ 195). (3) انظر: ((جامع البيان)) (26/ 70)؛ و ((زاد المسير)) (7/ 409). (4) ((منهاج السنة)) (5/ 287 - 288)، وانظر: ((الفتاوى)) (7/ 636 - 637). (5) شرح حديث: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق دغش العجمي، الطبعة الأولى 1422هـ، دار ابن حزم بيروت، ص30، و ((جامع المسائل)) (5/ 246). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 ثم اختلافهم بعد هذا الاتفاق في أي القول يدخل في الإيمان، وفقهاء المرجئة جعلوا قول القلب وقول اللسان كله من الإيمان. وأفاد أيضا اتفاق مرجئة الفقهاء والجهمية ومن تبعهم على إخراج العمل من الإيمان، فأخرجوا عمل القلب وعمل اللسان من الإيمان. ومع ما تقدم من نقول تفيد إخراج فقهاء المرجئة عمل القلب من الإيمان، فقد جاء التصريح بذلك في كلام شارح العقيدة الطحاوية. ومعلوم أن صاحب الشرح، وصاحب المتن كلاهما على مذهب أبي حنيفة، والعقيدة الطحاوية مصنفة أساس لتقرير معتقد أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد، كما جاء في مقدمتها، حيث يقول الطحاوي: "هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة، على مذهب فقهاء الملة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبدالله محمد بن الحسن الشيباني رضوان الله عليهم أجمعين، وما يعتقدون من أصول الدين، ويدينون به رب العالمين" (1)، ثم ذكر معتقدهم، ومنه قوله: "ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان".قال ابن أبي العز معلقا على ذلك: "وتسمية حب الصحابة إيمانا مشكل على الشيخ رحمه الله - يعني الطحاوي -؛ لأن الحب عمل القلب، وليس هو التصديق، فيكون العمل داخلا في مسمى الإيمان، وقد تقدم في كلامه أن: الإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان (2)، ولم يجعل العمل داخلا في مسمى الإيمان، وهذا هو المعروف من مذهب أبي حنيفة، إلا أن تكون هذه التسمية مجازا" (3).وقد بين من قبل رحمه الله أن مرجئة الفقهاء لا ينازعون في القول - الذي هو تصديق بالقلب، وإقرار باللسان -، وإنما ينازعون في شمول اسم الإيمان للعمل (4)، ثم ذكر أن العمل قسمان: عمل القلب، وعمل الجوارح (5). 4 - إخراج العمل الظاهر - عمل الجوارح - من الإيمان: يمكن عندهم حصول الإيمان التام في القلب بدون العمل الظاهر، فقد ذكر شيخ الإسلام أن من الأغلاط التي يقول بها المرجئة جميعا "ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون العمل الظاهر" (6).ويقول: "والمرجئة المتكلمون منهم، والفقهاء يقولون: إن الأعمال قد تسمى إيمانا مجازا؛ لأن العمل ثمرة الإيمان ومقتضاه؛ ولأنها دليل عليه" (7).وهذا لا يعني أنهم لا يقيمون للأعمال وزنا، بل عندهم أن الأعمال المفروضة واجبة، ويرون أن الإيمان بدون العمل المفروض، ومع فعل المحرمات، يكون صاحبه مستحقا للذم والعقاب (8). لكنهم مع ذلك يعدون فعل الواجبات وترك المحرمات ليس من الإيمان. يقول شيخ الإسلام: "وقابلتهم - يعني الخوارج والمعتزلة - المرجئة، والجهمية، ومن اتبعهم من الأشعرية، والكرامية، فقالوا: ليس من الإيمان فعل الأعمال الواجبة، ولا ترك المحظورات البدنية.   (1) ((العقيدة الطحاوية))، للطحاوي، تعليق سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، نشر رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، طبعة سنة 1409هـ، (ص3). (2) يقول الطحاوي: "والإيمان هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان". ((العقيدة الطحاوية))، (ص19)، وشرحها (2/ 459). (3) ((شرح العقدية الطحاوية)) (2/ 698). (4) انظر: ((شرح الطحاوية)) (2/ 463). (5) انظر: ((شرح الطحاوية)) (2/ 478)، وراجع ما تقدم (ص174، 179). (6) ((الإيمان)) (ص347) ((الفتاوى)) (7/ 364). (7) ((الإيمان)) (ص184) ((الفتاوى)) (7/ 195). (8) انظر: ((الإيمان)) (ص281 - 282) ((الفتاوى)) = (7/ 297)؛ و ((الفتاوى)) (13/ 39). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 والإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، بل هو شيء واحد، يستوي فيه جميع المؤمنين من الملائكة، والنبيين، والمقربين، والمقتصدين، والظالمين. ثم قال فقهاء المرجئة: هو التصديق بالقلب، واللسان. وقال أكثر متكلميهم: هو التصديق بالقلب. وقال بعضهم: التصديق باللسان. قالوا: لأنه لو دخلت فيه الواجبات العملية؛ لخرج منه من لم يأت بها، كما قالت الخوارج" (1).فمرجئة الفقهاء يرون أنه يكفي الالتزام بالطاعات دون فعلها، ويجعلون الإيمان هو التصديق والالتزام معا، وعندهم أن من قال: أنا أطيع الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصدق أنه رسول الله أو أصدقه ولا ألتزم طاعته، فإنه لا يكون مسلماً ولا مؤمناً (2). يقول الحميدي: "وأخبرت أن ناسا يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج، ولم يفعل من ذلك شيئا حتى يموت، أو يصلي مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن، ما لم يكن جاحدا، إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه، إذا كان مقرا بالفرائض واستقبال القبلة. فقلت: هذا الكفر الصراح، وخلاف كتاب الله، وسنة رسوله، وعلماء المسلمين، قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة: 5].وقال حنبل: سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر بالله، ورد على أمره، وعلى الرسول ما جاء به عن الله" (3). ونقل شيخ الإسلام ما ذكره معقل العبسي لنافع أنهم يقولون: نحن نقر بأن الصلاة فرض ولا نصلي، وبأن الخمر حرام ونشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن ننكح؟ قال نافع: من فعل هذا، فهو كافر (4).ولذلك فهم موافقون لأهل السنة في أن إبليس وفرعون وغيرهما كفار مع تصديق قلوبهم (5).وهم مع قولهم بالإرجاء يكفرون أنواعا ممن يقول كذا وكذا؛ لما فيه من الاستخفاف، ويجعلونه مرتداً ببعض هذا الأنواع (6).وهم أيضاً موافقون لأهل السنة في أن من شتم الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر ظاهراً وباطناً (7). يقول شيخ الإسلام: "ولهذا كان التكلم بالكفر من غير إكراه كفرا في نفس الأمر عند الجماعة، وأئمة الفقهاء، حتى المرجئة، خلافا للجهمية ومن ابتعهم. ومن هذا الباب سب الرسول وبغضه، وسب القرآن وبغضه، وكذلك سب الله وبغضه، ونحو ذلك مما ليس من باب التصديق والتكذيب، بل من باب الحب والتعظيم والموالاة، أو البغض والمعاداة والاستخفاف" (8).   (1) ((الفتاوى)) (12/ 471). (2) انظر: ((الإيمان)) (ص 380) ((الفتاوى)) (7/ 397). (3) ((الإيمان)) (ص197) ((الفتاوى)) (7/ 209)، والأثر مروي في: ((السنة)) للخلال (3/ 586 - 587) (برقم 1027)؛ و ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) للالكائي (5/ 887) (برقم 1594 - 1595). (4) ((الإيمان)) (ص192 - 194) ((الفتاوى)) (7/ 204 - 207)؛ وأثر معقل مروي في: ((السنة)) لعبدالله (1/ 382 - 384) (رقم 831)؛ و ((السنة)) للخلال (4/ 29 - 32) (رقم 1105، 5/ 59) (رقم 1608)؛ و ((الإبانة الكبرى)) (2/ 811) (رقم 1101)؛ و ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (5/ 953 - 954) (رقم 1732). (5) ((الإيمان)) (ص183) ((الفتاوى)) (7/ 194). (6) انظر: ((الإيمان)) (ص206) ((الفتاوى)) (7/ 218)؛ و ((بيان الدليل على بطلان التحليل))، (ص 189 - 190). (7) ((الإيمان)) (ص385) ((الفتاوى)) (7/ 402 – 403). (8) ((شرح الأصبهانية)) (2/ 584)، (ص142) ت مخلوف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 ولكن ثمة وقفة مهمة حول موقف مرجئة الفقهاء من الشاتم والساب، فإنهم وإن كفروا الشاتم ظاهرا وباطنا، فإن مأخذهم في ذلك فاسد، إذ هم يرجعون ذلك إلى أن وقوعه في السب والشتم دليل على أنه لم يعتقد أنه حرام، فردوا الكفر إلى الاستحلال. وهذا مخالف لما عليه سلف الأمة من "أن سب الله، أو رسوله، كفر ظاهرا وباطنا، وسواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلا له، أو كان ذاهلا عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء، وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل" (1). يقول شيخ الإسلام في فسر مأخذ فرق المرجئة في تكفير الساب: "ومنشأ هذه الشبهة التي أوجبت هذا الوهم من المتكلمين، أو من حذا حذوهم من الفقهاء: أنهم رأوا الإيمان هو تصديق الرسول فيما أخبر به، ورأوا أن اعتقاد صدقه لا ينافي السب والشتم بالذات، كما أن اعتقاد إيجاب طاعته لا ينافي معصيته، فإن الإنسان قد يهين من يعتقد وجوب إكرامه، كما يترك ما يعتقد وجوب فعله، ويفعل ما يعتقد وجوب تركه. ثم رأوا أن الأمة قد كفرت الساب، فقالوا: إنما كفر؛ لأن سبه دليل على أنه لم يعتقد أنه حرام، واعتقاد حله: تكذيب للرسول، فكفر بهذا التكذيب لا بتلك الإهانة، وإنما الإهانة دليل على التكذيب. فإن فرض أنه في نفس الأمر ليس بمكذب، كان في نفس الأمر مؤمنا، وإن كان حكم الظاهر إنما يجري عليه بما أظهره. فهذا مأخذ المرجئة ومعتضديهم، وهم الذين يقولون: الإيمان هو الاعتقاد، والقول. وغلاتهم، وهم الكرامية، الذين يقولون: هو مجرد القول، وإن عري عن الاعتقاد. وأما الجهمية الذين يقولون: هو مجرد المعرفة والتصديق فقط، وإن لم يتكلم بلسانه، فلهم مأخذ آخر، وهو: أنه قد يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فإذا كان في قلبه التعظيم والتوقير للرسول، لم يقدح إظهار خلاف ذلك بلسانه في الباطن، كما لا ينفع المنافق إظهار خلاف ما في قلبه في الباطن" (2)، ثم أفاض رحمه الله في الرد على هذه المقالة. وبعد، فتلك هي معالم مسمى الإيمان عند فقهاء المرجئة، والتي ملخصها أنهم يحصرون الإيمان في القول دون العمل، قول القلب وقول اللسان، دون عمل القلب وعمل الجوارح، وأنهم يحكمون بكفر من لم يتكلم بلسانه مع قدرته عليه، وكفر إبليس وفرعون وغيرهما مع تصديق قلوبهم، وكفر الساب والشاتم. بل أن المرجئة الفقهاء جاء عنهم ذم الإرجاء، والتحذير منه، إذ ذكر شيخ الإسلام أن أبا حنيفة وأصحابه يذمون المرجئة (3).ونقل رحمه الله قول أبي يوسف: "دعوا قول أهل الخصومات، وأهل البدع في الأهواء، من المرجئة، والرافضة، والزيدية، والمشبهة، والشيعة، والخوارج، والقدرية، والمعتزلة، والجهمية" (4). فمن المرجئة التي يحذر منها هؤلاء؟ أجاب شيخ الإسلام عن ذلك، حيث بين أن المرجئة عندهم هم الذين لا يوجبون الفرائض، ولا اجتناب المحارم (5). المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 183   (1) انظر: ((الصارم المسلول)) (3/ 955)، وانظر منه (3/ 964). (2) ((الصارم المسلول)) (3/ 965 - 966). (3) ((الفتاوى)) (13/ 41). (4) ((الفتاوى)) (16/ 476). (5) ((الفتاوى)) (13/ 14)؛ وأما القول بأن ترك العمل لا يضر، فكما قال شيخ الإسلام إن هذا كفر صريح، لا يعرف له قائلا، ولعله قول الغالية. انظر: ((الإيمان)) (ص172) ((الفتاوى)) (7/ 181). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 ثانيا: مفهوم الإرجاء عند بعض فقهاء أهل السنة، والفرق بينهم وبين غلاة المرجئة: أمام هذا الانحراف الذي كان سببه الجدال حول مرتكب الكبيرة، وعلاقة الإيمان بالعمل، انعكس أثر هذا الجدال على بعض فقهاء أهل السنة، ممن تعرضوا لمثل هذه القضايا، فقالوا بنوع من أنواع الإرجاء الذي ذمه علماء السلف، وإن كانوا غدوه بدعة خفيفة، وسوف نبين مفهوم هذا الإرجاء عندهم فيما بعد، بعد أن نعرض لما يقال من سبب ظهور هذا الإرجاء في وسط أهل السنة؛ وذلك بالقول إن الأمة في هذه الفترة التي ظهر فيها القول بالإرجاء تعرضت لفتنة شديدة، أوقعت الأمة في حيرة، واضطراب، وكان من نتائجها احتدام الجدال حول مفهوم الإيمان، وعلاقته بالعمل، فإذا كانت المرجئة قد حدثت في السابق حول معنى الإرجاء اللغوي، الذي يتعلق بأحداث الفتنة، فإنه تطور، فيما بعد، ليتناول قضايا واسعة؛ كما يقول الدكتور محمد البهي: "اختلاف المسلمين في الرأي ابتدأ حول حوادث جزئية، وانتهى في آخرها بأن أصبح حول أمر عام؛ مثال ذلك حكم مرتكب الكبيرة؛ حيث انتهى الحديث عن الأشخاص المشاركين في الفتنة، وعلاقتهم بالكبيرة، ثم آل الأمر إلى أن صار موضوع الحكم بعيداً عن التشخيص؛ بحيث كان الانتقال من أمور جزئية إلى أمر كلي عام" (1).فمن الناحية التاريخية، نجد أن التابعي الجليل قتادة بن دعامة السدوسي يؤرخ لبداية الإرجاء البدعي؛ فيقول: "إنما حدث هذا الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث" (2)، فهل كان لهذه الهزيمة أثر في نشأة هذا الإرجاء، إذا علمنا أن جمهرة كبيرة من فقهاء الأمة شاركوا فيها، وسوف نقدم هذا العرض الموجز عن هذه الثورة؛ لبيان أثر هذه الفتنة في الافتراق، وظهور الجدال بين علماء الأمة حول مسائل الإيمان، والعمل، وغيرها من مسائل العقيدة. مما هو معلوم أن ثورة ابن الأشعث بدأت سنة "81 هـ"، وانتهت بالهزيمة في نهاية سنة "83 هـ"، وقد شارك في هذه الثورة أعداد كبيرة من القراء، والفقهاء، فريق مع ابن الأشعث، وفريق مع الحجاج، وكان لهذه الثورة أثر في بروز المجادلات، فيما بعد، وملخص هذه الفتنة أن عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث بعثه الحجاج لقتال "قبيل صاحب الترك"، وكان هناك نوع من الكراهية بن الحجاج، وابن الأشعث (3)، وكان ابن الأشعث يبيت فكرة الخروج على الحجاج؛ ومما يوضح ذلك ما قاله إسماعيل بن الأشعث عم عبدالرحمن للحجاج، قال: "لا تبعثه؛ فإني أخاف خلافه، فوالله، ما جاز جسر الفرات قط، فر أي لوال من الولاة عليه طاعة، وسلطان" (4)، وبالفعل، توجه ابن الأشعث لحرب الترك، وهزمهم، "واستولى على أراضي واسعة، وملأ يديه من البقر، والغنم، والغنائم العظيمة، وقرر عند ذلك حبس الناس عن التوغل في أرض الترك، وقال: نكتفي بما أصبناه هذا العام من بلادهم، حتى نجيبها، ونعرفها" (5)، وعندما علم الحجاج بتوقفه عن الغزو، بعث إليه يعيب عليه ذلك، فما كان من ابن الأشعث إلا إعلان خلعه للحجاج، واستعداده للكرة على العراق لقتاله، وعلل ذلك لجنده، ومن رافقه من الناس؛ فقال: "إن الحجاج يطلب منهم التوغل في أرض العدو؛ للتخلص منهم، فتكلم ابن الأشعث في خلع الحجاج، ولم يتكلم في خلع عبدالملك بن مروان" (6).   (1) د. محمد البهي، الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي، (ص49)، بتصرف، ط6، 1402هـ، القاهرة. (2) الذهبي، ((سير أعلام النبلاء))، (5/ 275). (3) الطبري، ((تاريخ الأمم))، (3، /617). (4) الطبري، ((تاريخ الأمم))، (3، /618). (5) الطبري، (3، /618). (6) الطبري، (3، /623). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 وبعد أن قويت شوكة ابن الأشعث، وبإزاء سيرته الحسنة في الناس، وما أفاضه عليهم من الأعطيات، وعلاقته الطيبة بالفقهاء، والقراء، فقد بايعوه على خلع الحجاج، ومن أبرزهم ذر بن عبدالله الهمذاني الذي سيصبح من أبرز شخصيات الإرجاء، وأول من تكلم فيه أبو البحتري، الذي قام يحث الناس على قتال الحجاج، فقال: "أيها الناس، قاتلوهم على دينكم، ودنياكم، فوالله، لئن ظهروا عليكم، ليفسدن عليكم دينكم، ودنياكم، وقال الإمام الشعبي: "يأهل الإسلام، قاتلوهم، ولا يأخذكم حرج من قتالهم؛ فوالله، ما أعلم قوماً على بسيط الأرض، أعمل بظلم منهم"، وقال سعيد بن جبير: "قاتلوهم، ولا تأثموا، ولا يأخذكم حرج من قتالهم، بنية، ويقين، وعلى آثامهم قاتلوهمن على جورهم في الحكم، وتجبرهم في الدين، واستذلالهم الضعفاء، وإماتتهم الصلاة" (1).وقد استمرت هذه الفتنة ثلاث سنوات، وأهل العراق، وبلاد فارس، وجند الشام، بقيادة الحجاج، يصطرعون، فريق مع ابن الأشعث، وفريق مع الحجاج، وكانت الحرب جولات، مرة لابن الأشعث، ومرة للحجاج، حتى حلت الهزيمة بابن الأشعث، وكانت هزيمة مرة، وعصيبة في الأمة، وفقهائها، وقرائها الذين أملوا الناس بالتخلص من الحجاج، وعسفه، وظلمه، وأصبحت وعود العلماء للناس بتطبيق أمثل للكتاب والسنة حلماً، وسراباً بعيد المنال، ولعل هذا الوصف، عن الطبري، لموقف القراء، يعبر عن الحرج البالغ الذي وقعوا فيه؛ بسبب مشاركتهم بهذه الفتنة؛ حيث قال: "فخرج الناس، فعسكروا، وجعلوا يبكون، وينادون: يا محمداه! يا محمداه! وجعلوا لا يدرون أين يذهبون، فجعل قراء أهل البصرة يخرجون إليهم متقنعين، فيبكون لما يسمعون منهم، يرون" (2).وروى خليفة بن خياط، عن مالك بن دينار، قال: "خرج مع ابن الأشعث خمس مئة من القراء، كلهم يرون القتال" (3)، ومن مظاهر هذه الهزيمة التي جلبت النقاش في مسائل تخص الكفر والإيمان، ما رواه الطبري: "إن الحجاج عندما دخل الكوفة، وأقام مجلسا، وأجلس مصقلة بن كرب بن رقبة العبدي إلى جنبه، وكان خطيبا، فقال: اشتم كل امرئ بما فيه، ممن كنا أحسنا إليه، فاشتمه بقلة شكره، ولؤم عهده، ومن علمت منه عيبا، فعبه بما فيه، وصغر إليه نفسه، وكان لا يبايعه أحد إلا قال له: "أتشهد أنك قد كفرت؟ "، فإذا قال: نعم، بايعه، وإلا، قتله، وجاءه رجل من خثعم، فقال له: أتشهد أنك كافر؟ قال: بئس الرجل أنا، إن كنت عبدت الله ثمانين سنة، ثم أشهد على نفسي بالكفر، قال: إذا أقتلك، قال: وإن قتلتني، فوالله، ما بقي من عمري إلا ضمء حمار، وإني لأنتظر الموت صباح مساء؛ فقال: اضربوا عنقه، فضربت عنقه، فزعموا أنه لم يبق حوله قرشي، ولا شامي، ولا أحد من الحزبين، إلا رحمه، ورثي له من القتل" (4).أمام هذه الأحداث الجسيمة، وما تبعها من ممارسات الحجاج الرهيبة، وإجباره الناس على الإقرار بالكفر؛ للنجاة من القتل، "فقد جيء له برجل، فقال له الحجاج: إني لأرى رجلاً، ما أظنه يشهد على نفسه بالكفر، فقال الرجل: أخادعي عن نفسي؟ أنا أكفر أهل الأرض، وأكفر من فرعون ذي الأوتاد؛ فخلى سبيله" (5)،   (1) الطبري، ((تاريخ الأمم))، (3، /635). (2) الطبري، ((تاريخ الأمم)) (3، /648)، وانظر رواية مختصرة لهذه الفتنة في الدينوري، ((الأخبار الطوال))، (ص316). (3) خليفة خياط، ((التاريخ))، (ص287)، ت. د. أكرم العمري، ط2، 1405هـ، دار طيبة، الرياض. (4) الطبري، ((تاريخ الأمم)) (3، /639). (5) الطبري، (3، /639) .. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 وكانت هذه الممارسات، بهذه الهيئة، وهذه الكيفية، سبباً من أسباب فتح الجدال: هل من يفعل مثل هذا مؤمن كامل الإيمان؟ وهل لأفعاله هذه صلة، بإيمانه، وكماله؟ ولعل النقاش كان يدور في نطاق أوسع حول المقتتلين في هذه الفتنة، وهل هم مؤمنون كاملوا الإيمان؟ وما صلة أعمالهم بإيمانهم؟ ولعل النقاش - أيضاً - امتد إلى مسائل متعددة؛ كمرتكب الكبيرة، وغيرها، فكانت هذه الأحداث، وما أفرزته من مجادلات، سبباً في بروز الفكر الإرجائي المبتدع، وفي هذا يقول د. سفر الحوالي: "وهنا برز قرن الإرجاء بين صفوف هؤلاء اليائسين المستسلمين للأمر الواقع، كما تجرأ الذين كانوا مرجئة من قبل؛ فأعلنوا مذهبهم، واستغلوا آثار الهزيمة" (1).وفي أثناء هذه الفتنة العجيبة، وما تبعها من آلام، ومآس، غابت عن جملة من الفقهاء طريقة السلف الذين يعتقدون ثبات الأصول العقدية، ويعتقدون أن الفتنة، والأحداث، مهما كانت أليمة، يجب أن لا ينحرف المسلمون عن منهج النبوة الحق؛ فذهبوا يبحثون في مسائل الإيمان، والعمل على غير المنهج النبوي، تحت ضغط الواقع، ومجادلات أرباب البدع الأخرى، ولتقرير هذه القاعدة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأهل البدع إنما دخل عليه الداخل لأنهم أعرضوا عن هذه الطريق، وصاروا يبنون دين الإسلام على مقدمات يظنون صحتها، إما في دلالة الألفاظ، وإما في المعاني المعقولة، ولا يتأملون بيان الله، ورسوله، وكل مقدمات تخالف بيان الله، ورسوله، فإنها تكون ضلالا؛ ولهذا تكلم أحمد في رسالته المعروفة في الرد على من يتمسك بما يظهر له في القرآن من غير استدلال ببيان الرسول، والصحابة، والتابعين، وكذلك ذكر في رسالته إلى عبدالرحمن الجرجاني، في الرد على المرجئة، وهذه طريقة سائر أئمة المسلمين؛ لا يعدلون عن بيان الرسول إذا وجدوا إلى ذلك سبيلاً، ومن عدل عن سبيلهم، وقع في البدع التي مضمونها أنه يقول على الله، ورسوله، ما لا يعلم، أو غير الحق" (2).   (1) ((ظاهرة الإرجاء))، (ص 261). (2) ابن تيمية، ((كتاب الإيمان))، (ص227)، ت. الألباني، 1400هـ، مكتبة مالك بن أنس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 ومن هذا السبيل البدعي سلك بعض الفقهاء مسلك البدعة، عندما عرضت لهم شبهة الإرجاء، فوسعوا المفهوم اللغوي المحدود المعنى، ليشمل تعريف الإيمان، وعلاقته بالعمل، فوقعوا في هذه البدعة المنكرة، التي أسهمت في انحراف المجتمع، فيما بعد، تحت دعاوى الإرجاء، التي مضمونها عدم شعور المرء بأي إثم، أو خطيئة، طالما أن العمل منفصل عن الإيمان، ولا يؤثر فيه بزعمهم. وقد اتهم بهذا الإرجاء جملة من الفقهاء العباد من علماء أهل السنة؛ ومنهم: حماد بن أبي سليمان (1)، وطلق بن حبيب العنزي (2)، وعمر بن ذر الهمذاني (3)، وإبراهيم بن يزيد بن شريك التميمي (4)، ومحمد بن خازم "أبو معاوية الضرير" (5)، وأبو حنيفة النعمان (6)، وخارجة بن مصعب (7)، وعبدالعزيز بن أبي رواد (8)، ومحمد بن السائب بن بشر (9)، ومسعر بن كدام (10)، ومحارب بن دثار (11)، وعون بن عبدالله بن مسعود (12)، وموسى بن أبي كثير (13)، وعباد بن منصور الناجي (14)، وعباد بن كثير (15)، وعبدالكريم بن أبي المخارق (16)، وأصرم بن غياث (17)، وسعيد بن سالم (18)، والصلت بن مهران (19)، وسالم بن عجلان الأفطس (20)، وقيس بن عمرو الماصر" (21).ويمكننا بيان مذهب هؤلاء الفقهاء بالإرجاء على النحو التالي؛ حيث يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، مفصلاً لهذه البدعة: "وحدثت المرجئة، وكان أكثرهم من أهل الكوفة، ولم يكن أصحاب عبدالله من المرجئة، ولا إبراهيم النخعي، وأمثاله، فصاروا نقيض الخوارج، والمعتزلة؛ فقالوا: إن الأعمال ليست من الإيمان، وكانت هذه البدعة أخف البدع؛ فإن كثيراً من النزاع فيها نزاع في الاسم واللفظ، دون الحكم؛ إذ كان الفقهاء الذين يضاف إليهم هذا القول؛ مثل حماد بن أبي سليمان، وأبي حنيفة، وغيرهما، هم، مع سائر أهل السنة، متفقون على أن الله يعذب من يعذبه من أهل الكبائر بالنار، ثم يخرجهم بالشفاعة، كما جاءت الأحاديث الصحيحة بذلك، وعلى أنه لابد في الإيمان أن يتكلم بلسانه، وعلى أن الأعمال المفروضة واجبة، وتاركها مستحق للذم، والعقاب، فكان النزاع في الأعمال هل هي من الإيمان، وفي الاستثناء، ونحو ذلك، عامته نزاع لفظي؛ فإن الإيمان إذا أطلق دخلت فيه الأعمال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وستون شعبة أو بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق))، وغذا عطف عليه العمل؛ كقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [البقرة: 277]، فقد ذكر مقيدا بالعطف؛ فهنا قد يقال: الأعمال دخلت فيه، وعطفت عطف الخاص على العام" (22)،   (1) انظر الذهبي، ((سير أعلام النبلاء))، (5/ 213). (2) البخاري، ((الضعفاء الصغير))، (ص127)، و ((سير أعلام النبلاء))، (4، /601). (3) ((سير أعلام النبلاء))، (6/ 385). (4) ((سير أعلام النبلاء))، (5/ 60). (5) ((سير أعلام النبلاء))، (9/ 73). (6) ((تاريخ بغداد))، (13/ 338). (7) ((سير أعلام النبلاء))، (7، /326)، ((الضعفاء الصغير))، (ص84). (8) ((سير أعلام النبلاء))، (7/ 184). (9) ((سير أعلام النبلاء))، (9/ 248). (10) ((سير أعلام النبلاء))، (7/ 163). (11) ((سير أعلام النبلاء))، (5/ 217). (12) ((سير أعلام النبلاء))، (5/ 103). (13) ((تقريب التهذيب))، (ص977). (14) ((سير أعلام النبلاء))، (5/ 105). (15) ((الضعفاء الصغير))، (ص153). (16) ((سير أعلام النبلاء))، (6/ 83). (17) ((الضعفاء الصغير))، (ص37). (18) ((سير أعلام النبلاء))، (9/ 319). (19) ((الضعفاء الصغير))، (ص122). (20) ((تقريب التهذيب))، (ص 361). (21) ((طبقات ابن سعد))، (6/ 329). (22) ((مجموع الفتاوى))، (13/ 38) .. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 وقال شيخ الإسلام - أيضا: "والمرجئة الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب، وقول اللسان، والأعمال ليست منه، كان منهم طائفة من فقهاء الكوفة، وعبادها، ولم يكن قولهم مثل قول الجهم؛ فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمنا إن لم يتكلم بالإيمان، مع قدرته عليه، وعرفوا أن إبليس، وفرعون، وغيرهما كفارا، مع تصديق قلوبهم، لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلب في الإيمان، لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان، لزمهم دخول أعمال الجوارح - أيضاً -؛ فإنها لازمة لها، ولكن هؤلاء لهم حجج شرعية، بسببها اشتبه الأمر عليهم؛ فإنهم رأوا أن الله فرق في كتابه بين الإيمان، والعمل؛ فقال في غير موضع: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [البقرة: 277]، ورأوا أن الله خاطب الإنسان بالإيمان قبل وجود الأعمال، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى [المائدة: 6]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة:]، وقالوا: لو أن رجلاً آمن بالله ورسوله ضحوة، ومات قبل أن يجب عليه شيء من الأعمال، مات مؤمناً، وكان من أهل الجنة، فدل على أن الأعمال ليست من الإيمان، وقالوا: نحن نسلم أن الإيمان يزيد، بمعنى أنه كان كلما أنزل الله آية، وجب التصديق بها، فانضم هذا التصديق إلى التصديق الذي كان قبله، لكن بعد كمال ما أنزل الله، ما بقي الإيمان يتفاضل عندهم، بل إيمان الناس كلهم سواء؛ إيمان السابقين الأولين؛ كأبي بكر، وعمر، وإيمان أفجر الناس؛ كالحجاج، وأبي مسلم الخراساني، وغيرهما، والمرجئة المتكلمون منهم، والفقهاء، يقولون: الأعمال قد تسمى إيماناً مجازاً؛ لأن العلم ثمرة الإيمان، ومقتضاه، ولأنها دليل عليه، ويقولن: قوله: ((الإيمان بضع وستون أو بضعة وسبعون شعبة -، أفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها أماطة الأذى عن الطريق)) - مجاز، والمرجئة ثلاثة أصناف: الذين يقولون: الإيمان مجرد ما في القلب، ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب، وهم أكثر فرق المرجئة، ومنهم من لا يدخلها في الإيمان؛ كجهم، ومن اتبعه؛ كالصالحي، والقول الثاني من يقول: هو مجرد القول باللسان، وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية، والثالث: تصديق القلب، وقول اللسان، وهذا هو المشهور عن أهل الفقه، والعبادة منهم" (1).ويفرق أبو العز الحنفي بين رأي أبي حنيفة، ورأي الأئمة، في مسألة الإيمان؛ فيقول: "إذا كان النزاع في هذه المسألة، بين أهل السنة، نزاعاً لفظياً، فلا محذور فيه، سوى ما يحصل من عدوان إحدى الطائفتين على الأخرى؛ من الافتراق بسبب ذلك، وأن يصير ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام المذموم عند قوم من أهل الإرجاء، ونحوهم، على ظهور الفسق، والمعاصي؛ بأن يقول: أنا مؤمن مسلم - حقا - كامل الإيمان والإسلام، ولي من أولياء الله؛ فلا يبالي بما يكون منه من المعاصي، وبهذا المعنى قالت المرجئة: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله، وهذا باطل - قطعاً -؛ فالإمام أبو حنيفة - رحمه الله - نظر إلى حقيقة الإيمان لغة، مع أدلة من كلام الشارع، وبقية الأئمة - رحمهم الله - نظروا إلى حقيقته في عرف الشارع؛ فإن الشارع ضم إلى التصديق أوصافاً، وشرائط؛ كما في الصلاة، والصوم، والحج، ونحو ذلك" (2).   (1) ابن تيمية، ((الإيمان))، (ص 183 - 184) بتصرف. (2) ((شرح العقيدة الطحاوية))، (ص 319). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 وقد نسبت إلى الإمام أبي حنيفة أقوال في الإيمان، والإرجاء، استقصاها أبو الخطيب البغدادي؛ مما حدا بعلماء عصره إلى التشنيع عليه، والرد عليه. ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية يبرئه من تلك الأقوال؛ ويقول: "أبو حنيفة، وأصحابه، لا يجوزون الاستثناء في الإيمان بكون الأعمال منه، ويذمون المرجئة، والمرجئة عندهم الذين لا يوجبون الفرائض، ولا اجتناب المحارم، بل يكتفون بالإيمان، وقد علل تحريم الاستثناء فيه بأن لا يصلح تعليقه على الشرائط؛ لأن المعلق على الشرط لا يوجد، ولا عند وجوده" (1).ويقل شيخ الإسلام عن إرجاء علماء أهل السنة: "وفي الجملة الذين رموا بالإرجاء من الأكابر؛ مثل: طلق بن حبيب، وإبراهيم التميمي، ونحوهما، كان إرجاؤهم من هذا النوع، وكانوا لا يستثنون في الإيمان وكانوا يقولون: الإيمان هو الإيمان الموجود فينا، ونقطع بأنا صادقون، ويرون الاستثناء شكا، وكان عبدالله بن مسعود وأصحابه يستثنون، وقد روي في حديث أنه رجع عن ذلك لما قال له بعض أصحاب معاذ ما قال" (2).ويوضح الإمام الذهبي شيئاً من مذهب علماء أهل السنة في الإرجاء؛ فيقول: "وقد كان على الإرجاء عدد كبير من علماء الأمة، فهلا عد مذهبا، وهو قولهم: أنا مؤمن - حقا - عند الله الساعة، مع اعترافهم بأنهم لا يدرون بما يموت عليه السلام؛ من كفر، أو إيمان، وهذه قولة خفيفة، وإنما الصعب من قول غلاة المرجئة إن الإيمان هو الاعتقاد بالأفئدة، وإن تارك الصلاة، والزكاة، وشارب الخمر، وقاتل النفس، والزاني، وجميع هؤلاء يكونون مؤمنين كاملي الإيمان، ولا يدخلون النار، ولا يعذبون أبداً، فردوا أحاديث الشفاعة المتواترة، وجسروا كل فاسق، وقاطع طريق على الموبقات، نعوذ الله من الخذلان" (3).ويحدد الإمام سفيان الثوري مقالة المرجئة، وخلافهم مع أهل السنة؛ فيقول: "خلاف ما بيننا، وبين المرجئة ثلاث: يقولون: الإيمان قول، ولا عمل، ونقول: قول، وعمل، ونقول: إنه يزيد وينقص، وهم يقولون: لا يزيد، ولا ينقص، ونحن نقول: النفاق، وهم يقولون: لا نفاق" (4).ويعرف الإمام الذهبي إرجاء الفقهاء فيقول: "وهو أنهم لا يعدون الصلاة والزكاة من الإيمان, ويقولون: الإيمان إقرار باللسان, ويقين في القلب, والنزاع على هذا لفظي, إن شاء الله, وإنما غلو الإرجاء من قال: لا يضر مع التوحيد ترك الفرائض, نسأل الله العافية (5) المصدر: العقيدة الإسلامية وجهود علماء السلف في تقريرها والدفاع عنها حتى نهاية العصر الأموي لعطا الله المعايطة - ص 591   (1) ((مجموع الفتاوى))، (13/ 41). (2) ((الفتاوى))، (13/ 40). (3) الذهبي، ((سير أعلام النبلاء))، (9/ 436). (4) الذهبي، ((سير أعلام النبلاء))، (1/ 162). (5) الذهبي، ((سير أعلام النبلاء))، (5/ 233). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 المطلب الثاني: مسمى الإيمان عند الجهمية تعد المقالة الجهمية في الإيمان واحدة من أشهر مقالات جهم وكفرياته، فإن "جهما اشتهر عنه نوعان من البدعة: أحدها: نفي الصفات. والثاني: الغلو في القدر، والإرجاء. فجعل الإيمان مجرد معرفة القلب، وجعل العباد لا فعل لهم ولا قدرة" (1).وهذا القول الجهمي في حقيقة الإيمان، "مع أنه أفسد قول قيل في الإيمان، فقد ذهب إليه كثير من أهل الكلام المرجئة، وقد كفر السلف، كوكيع بن الجراح، وأحمد بن حنبل، وأبي عبيد، وغيرهم، من يقول بهذا القول (2).وهذا يستوجب فهم حقيقة هذا القول، والحذر منه، خاصة أن كثيرا من المتأخرين لا يميزون بين مذاهب السلف وأقوال المرجئة والجهمية، لاختلاط كلام هذا بهذا في كلام كثير منهم، ممن هو في باطنه يرى رأي الجهمية والمرجئة في الإيمان، وهو معظم للسلف وأهل الحديث، فيظن أنه يجمع بينهما، أو يجمع بين كلام أمثاله وكلام السلف (3). وفي هذا المبحث - بعون الله تعالى - تحرير للمعالم التي يقوم عليها مسمى الإيمان عند الجهمية، على النحو التالي: 1 - الإيمان عند الجهمية شيء واحد، يتساوى فيه العباد، لا يتبعض، ولا يتفاضل، وهو مجرد تصديق القلب وعلمه. وهذا التصديق عند الجهم هو المعرفة (4)، ومراده بها معرفة الله بما يلزم ذلك من معرفة ملائكته وكتبه ورسله (5)، فمن أتى بذلك فهو مؤمن كامل الإيمان، كإيمان النبيين.   (1) ((الفتاوى)) (8/ 229 - 230)؛ وهو مكرر فيها (14/ 352 - 353)؛ وانظر (13/ 357)؛ و ((التسعينية)) (3/ 938). (2) ((الإيمان)) (ص 179) ((الفتاوى)) (7/ 189). (3) انظر: ((الإيمان)) (ص) 347 ((الفتاوى)) (7/ 364). (4) انظر: ((التسعينية)) (2/) 650؛ و ((تلبيس الجهمية)) (1/ 268)؛ و ((مسائل الإيمان))، لأبي يعلى، (ص161)؛ و ((تبصرة الأدلة)) (2/ 799، 808)؛ و ((التمهيد لقواعد التوحيد))، (ص133)؛ و ((أصول الدين))، للرازي، (ص 27)؛ و 0 ((المعالم الدينية في العقائد الإلهية))، لابن حمزة، تحقيق سيد حشاد، الطبعة الأولى 1408هـ، دار الفكر المعاصر ببيروت، (ص) 113، و ((شرح المقاصد)) (5/ 177 - 180). (5) انظر: ((الرد على المنطقيين))، (ص) 145؛ وهو في: ((نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان))، ضمن: ((الفتاوى)) (9/ 136)) وانظر: ((جامع الرسائل)) (1/ 16). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 يقول شيخ الإسلام: "وعند الجهمية: الإيمان: مجرد تصديق القلب وعلمه. هذا قول جهم، والصالحي، والأشعري - في المشهور عنه -، وأكثر أصحابه" (1).ويقول: "وعند الجهمية إذا كان العلم في قلبه، فهو مؤمن كامل الإيمان، إيمانه كإيمان النبيين" (2).ويقول رحمه الله: "ومن هنا غلطت الجهمية والمرجئة، فإنهم جعلوا الإيمان من باب القول، إما قول القلب الذي هو علمه، أو معنى غير العلم عند من يقول بذلك (3)، وهذا قول الجهمية، ومن تبعهم، كأكثر الأشعرية، وبعض متأخري الحنفية" (4).وذكر رحمه الله عن الجهم أنه جعل الإيمان مجرد تصديق في القلب، يتساوى فيه العباد، وأنه إما أن يعدم وإما أن يوجد، لا يتبعض (5). 2 - أعمال القلوب ليست من الإيمان عند الجهمية: يقول شيخ الإسلام: "والمرجئة ثلاثة أصناف: الذين يقولون: الإيمان مجرد ما في القلب، ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب، وهم أكثر فرق المرجئة"، ثم قال:"ومنهم من لا يدخلها في الإيمان، كجهم، والصالحي، وهذا الذي نصره هو - يعني الأشعري -، وأكثر أصحابه" (6). ولما ساق شيخ الإسلام ما حكاه الأشعري عن فرق المرجئة في الإيمان، علق على ذلك بتعليقات، منها: قوله: "فهذه الأقوال التي ذكرها الأشعري عن المرجئة يتضمن أكثرها أنه لابد في الإيمان من بعض أعمال القلوب عندهم، وإنما نازع في ذلك فرقة يسيرة، كجهم، والصالحي" (7).فالجهمية تظن "أن ما في القلب من الإيمان ليس إلا التصديق فقط، دون أعمال القلوب" (8). 3 - إخراج قول اللسان من الإيمان: فعند الجهمية أن "الإيمان مجرد معرفة القلب، وإن لم يقر بلسانه" (9).يقول شيخ الإسلام: "وأما جهم فكان يقول: إن الإيمان مجرد تصديق القلب، وإن لم يتكلم به" (10).ويقول رحمه الله: "ولهذا كان القول الظاهر من الإيمان الذي لا نجاة للعبد إلا به عند عامة السلف والخلف، من الأولي والآخرين، إلا الجهمية: جهما، ومن وافقه" (11).فالجهمية "جعلوا من لا يتكلم بالإيمان قط مع قدرته على ذلك، ولا أطاع الله طاعة ظاهرة، مع وجوب ذلك عليه وقدرته، يكون مؤمنا بالله، تام الإيمان، سعيدا في الدار الآخرة" (12).   (1) ((منهاج السنة)) (5/ 288)؛ ونحوه في: ((الإيمان)) (ص178، 370) ((الفتاوى)) (7/ 188 - 386)؛ و ((الجواب الصحيح)) (6/ 36)؛ و ((شرح كلمات من فتوح الغيب))، ضمن: ((الفتاوى)) (2/ 94)؛ وضمن: ((جامع الرسائل)) (2/ 184 - 185)، وانظر: ((الفتاوى)) (20/ 86). (2) ((الإيمان)) (ص137) ((الفتاوى)) (7/ 143)؛ وانظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 583، ص949 ة) ط. ابن الجوزي؛ و ((منهاج السنة)) (5/ 284)؛ و ((الفتاوى)) (20/ 86). (3) كبعض الأشاعرة: انظر: ((التسعينية)) (2/ 650 - 651). (4) شرح حديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، (ص30). (5) انظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 582)، (ص493) ط. ابن الجوزي. (6) ((الإيمان)) (ص184) ((الفتاوى)) (7/ 195)؛ ونحوه في: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 543، 550)، (ص430، 44) ط. ابن الجوزي. (7) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 548، ص439) ط. ابن الجوزي. (8) ((الإيمان)) (ص192) ((الفتاوى)) (7/ 204)؛ وانظر منه، (ص368، 370) ((الفتاوى)) (7/ 385 - 387). (9) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 508)، (ص376 - 377) ط. ابن الجوزي؛ وانظر: ((الصارم المسلول)) (3/ 966). (10) ((الفتاوى)) (13/ 47). (11) ((الإيمان)) (ص207) ((الفتاوى)) (7/ 219)؛ ونحوه في: ((شرح الأصبهانية)) (2/ 585)، (ص143) ت مخلوف. (12) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 583)، (ص494) ط. ابن الجوزي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 4 - إخراج أعمال الجوارح من الإيمان: يقول شيخ الإسلام: "وأما الجهمية، فهم يجعلونه - يعني الإيمان - تصديق القلب، فلا تكون الشهادتان، ولا الصلاة، ولا الزكاة، ولا غيرهن من الإيمان" (1).ويقول: "وزعم جهم ومن وافقه أنه يكون مؤمنا في الباطن، وأن مجرد معرفة القلب وتصديقه يكون إيمانا يوجب الثواب يوم القيامة، بلا قول، ولا عمل ظاهر" (2). وهذا لا يعني أنهم لا يوجبون العمل، لكنهم لا يعدونه من الإيمان، وتقدم تقريبا أنهم يرون أن من لم يطع الله طاعة ظاهرة، مع وجوب ذلك عليه وقدرته عليه، أنه مؤمن تام الإيمان. فهم يوجبون الأعمال الظاهرة، ويعتقدون نفعها، لكن من لم يأت بها فإيمانه تام. يقول شيخ الإسلام: "وكذلك الجهمية لا تجد في قلوبهم من محبة الله وعبادته ما في قلوب عباده المؤمنين، بل غاية عابدهم أن يعتقد أن العباد من جنس الفعلة الذين يعملون بالكراء، فمنتهى مقصوده هو الكراء الذي يعطاه وهو فارغ من محبة الله. والفلاسفة تذم هؤلاء - يعني الجهمية - وتحتقرهم، كما ذكرنا كلامهم في ذلك في غير هذا الموضع. لكن هؤلاء - يعني الجهمية - خير منهم في الجملة، فإنهم يوجبون العبادة، ويلتزمونها، ويعتقدون لها منفعة غير مجرد كونها سببا للعلم، بخلاف الفلاسفة والمتصوفة والمتفلسفة" (3).ويقول: "والأمة كلها متفقة على وجوب الأعمال التي فرضها الله، لم يقل أحد بأنها ليست من الواجبات، وإن كان طائفة من الناس نازعوا في كون الأعمال من الإيمان، فلم ينازعوا في أن الله فرض الصلوات الخمس وغيرها من شرائع الإسلام، وحرم الفواحش" (4). ومع ذلك، فقد لفت شيخ الإسلام النظر إلى مدى مشابهة الجهمية في مقالتهم هذه في الإيمان، بما عليه الفلاسفة، حينما حصروا السعادة بمجرد العلم. يقول شيخ الإسلام: "قول جهم ومن وافقه إن الإيمان مجرد العلم والتصديق، وهو بذلك وحده يستحق الثواب والسعادة، يشبه قول من قال من الفلاسفة المشائين وأتباعهم إن سعادة الإنسان في مجرد أن يعلم الوجود على ما هو عليه، ... ، وليس صلاح الإنسان في مجرد أن يعلم الحق دون ألا يحبه ويريده ويتبعه، كما أنه ليس سعادته في أن يكون عالما بالله مقرا بما يستحق دون أن يكون محبا لله، عابدا لله، مطيعا لله، بل أشد الناس عذابا يوم القايمة عالم لم ينفعه الله بعلمه" (5). ويقول في معرض بيان وجوه ضلال الفلاسفة: "وهؤلاء ضالون، بل كافرون من جوه: منها: أنهم اعتقدوا الكمال من مجرد العلم، كما اعتقد جهم، والصالحي، والأشعري - في المشهور من قوليه -، وأكثر أتباعه: أن الإيمان مجرد العلم، لكن الفلاسفة أسوأ حالا من الجهمية، فإن الجهمية يجعلون الإيمان هو العلم بالله، وأولئك يجعلون كمال النفس في أن تعلم الوجود المطلق من حيث هو وجود، ... ،   (1) ((الإيمان)) (ص148) ((الفتاوى)) (7/ 154). (2) ((الفتاوى)) (14/ 121). (3) ((الصفدية)) (2/ 235)؛ وانظر: ((الفتاوى)) (13/ 101). (4) ((الفتاوى)) (17/ 105). (5) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 585 - 586)، (ص496 - 497) ط. ابن الجوزي، وانظر منه (7/ 596 - 597)، (ص518 - 519) ط. ابن الجوزي؛ و ((الصفدية)) (2/ 233 - 234)؛ و ((الجواب الصحيح)) (6/ 35 - 36). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 وأيضا فإن الجهمية يقرون بالرسل، وربما جاؤوا به، فهم في الجملة يقرون بأن الله خلق السموات والأرض، وغير ذلك مما جاءت به الرسل، بخلاف المتفلسفة. وبالجملة، فكمال النفس ليس في مجرد العلم، بل لابد من العلم بالله من محبته، وعبادته، والإنابة إليه، فهذا عمل النفس وإرادتها وذاك علمها ومعرفتها" (1).والمقصود أن الجهمية يرون "أن الأعمال الصالحة الظاهرة ليست لازمة للإيمان الباطن الذي في القلب، بل يوجد إيمان القلب تاما بدونها" (2).ويقول شيخ الإسلام: "والمرجئة، المتكلمون منهم والفقهاء منهم، يقولون: إن الأعمال قد تسمى إيمانا مجازا؛ لأن العمل ثمرة الإيمان، ومقتضاه؛ ولأنها دليل عليه" (3).وخلاصة مذهب الجهمية في هذا الباب أنهم يعتقدون "أن الإيمان هو مجرد التصديق الذي في القلب، وإن لم يقترن به قول اللسان، ولم يقتض عملا في القلب، ولا في الجوارح" (4). 5 - الكفر عندهم لا يكون إلا بزوال التصديق من القلب. نتيجة لمذهب الجهمية في الإيمان، فإنهم يرون أن الكفر لا يكون إلا بانتفاء التصديق من القلب، ولا يقع بغير ذلك مهما كانت المكفرات. يقول شيخ الإسلام: "وعند الجهمية إذا كان العلم في قلبه، فهو مؤمن كامل الإيمان، إيمانه كإيمان النبيين، ولو قال وعمل ما عسى أن يقول ويعمل، ولا يتصور عندهم أن ينتفي عنه الإيمان إلا إذا زال ذلك العلم من قلبه" (5). ويقول: "فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة: فهو كافر باتفاق المسلمين. وهو كافر باطنا وظاهرا عند سلف الأمة وأئمتها، وجماهير علمائها. وذهبت طائفة من المرجئة، وهم جهمية المرجئة، كجهم، والصالحي، وأتباعهما إلى أنه إذا كان مصدقا بقلبه كان كافرا في الظاهر دون الباطن" (6).ويقول مبينا فساد قول الجهمية: "وبهذا وغيره يتبين فساد قول جهم، والصالحي، ومن اتبعهما إلى أنه إذا كان مصدقا بقلبه كان كافرا في الظاهر دون الباطن" (7). ويقول مبينا فساد قول الجهمية: "وبهذا وغيره يتبين فساد قول جهم، والصالحي، ومن اتبعهما في الإيمان، كالأشعري في أشهر قوليه، وأكثر أصحابه، وطائفة من متأخري أصحاب أبي حنيفة، كالماتريدي، ونحوه: حيث جعلوه مجرد تصديق في القلب، يتساوى فيه العباد، وأنه إما أن يعدم وإما أن يوجد، لا يتبعض، وأنه يمكن وجود الإيمان تاما في القلب مع وجود المتكلم بالكفر، والسب لله ورسوله، طوعا من غير إكراه. وأن ما علم من الأقوال الظاهرة أن صاحبه كافر؛ فلأن ذلك مستلزم عدم ذلك التصديق الذي في القلب" (8). ويقول: "ومن هنا يظهر خطأ جهم بن صفوان، ومن اتبعه:   (1) ((الفتاوى)) (2/ 94 - 95)؛ وانظر: ((درء التعارض)) (3/ 274 - 275). (2) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 582)، (ص493) ط. ابن الجوز؛ ومثله في: ((الإيمان)) (ص347) ((الفتاوى)) (7/ 364). (3) ((الإيمان)) (ص184) ((الفتاوى)) (7/ 195). (4) ((الصارم المسلول)) (3/ 960). (5) ((الإيمان)) (ص137) ((الفتاوى)) (7/ 143)؛ وانظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 535 9، 583)، (ص419، 494) ط. ابن الجوزي. (6) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 609)، (ص552) ط ابن الجوزي. (7) ((الإيمان)) (ص137) ((الفتاوى)) (7/ 143)؛ وانظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 535، 583)، (ص419، 494) ط. ابن الجوزي. (8) ((الإيمان الأوسط))، ضمن ((الفتاوى)) (7/ 582، ط493) ط. ابن الجوزي؛ وانظر: ((جامع الرسائل)) (1/ 16). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 حيث ظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمنا كامل الإيمان بقلبه، وهو مع هذا يسب الله ورسوله، ويعادي الله ورسوله، ويعادي أولياء الله، ويوالي أعداء الله، ويقتل الأنبياء، ويهدم المساجد، ويهين المصاحف، ويكرم الكفار غاية الكرامة، ويهين المؤمنين غاية الإهانة. قالوا: وهذه كلها معاص لا تنافي الإيمان الذي في قلبه، بل يفعل هذا وهو في الباطن عند الله مؤمن. قالوا: وإنما ثبت له في الدنيا أحكام الكفار؛ لأن هذه الأقوال أمارة على الكفر؛ ليحكم بالظاهر كما يحكم بالإقرار والشهود، وإن كان في الباطن قد يكون بخلاف ما أقرب به، وبخلاف ما شهد به الشهود. فإذا أورد عليهم الكتاب والسنة والإجماع على أن الواحد من هؤلاء كافر في نفس الأمر، معذب في الآخرة؟ قالوا: فهذا دليل على انتفاء التصديق والعلم من قلبه. فالكفر عندهم شيء واحد وهو الجهل، والإيمان شيء واحد وهو العلم، أو هو تكذيب القلب وتصديقه" (1).وقال شيخ الإسلام: "ولم يكف الجهمية أن جعلوا كل كافر جاهلا بالحق حتى قالوا: هو لا يعرف أن الله موجود حق، والكفر عندهم ليس هو الجهل بأي حق كان، بل الجهل بهذا الحق المعين" (2). ويقول: "فهؤلاء القائلون بقول جهم، والصالحي قد صرحوا بأن سب الله ورسوله، والتكلم بالتثليث، وكل كلمة من كلام الكفر ليس هو كفرا في الباطن، ولكنه دليل في الظاهر على الكفر، ويجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشاتم في الباطن عارفا بالله، موحدا له، مؤمنا به. فإذا أقيمت عليهم حجة بنص أو إجماع أن هذا كافر باطنا وظاهرا. قالوا: هذا يقتضي أن ذلك مستلزم للتكذيب الباطن، وأن الإيمان عدم ذلك" (3).فالجهمية وإن قالوا إن الكفر عدم الإيمان، سواء اعتقد نقيضه وتكلم به أو لم يعتقد شيئا ولم يتكلم، وأن من لم يؤمن بعد قيام الحجة عليه بالرسالة، فهو كافر، سواء كان مكذبا، أو مرتابا، أو معرضا، أو مستكبرا، أو مترددا، أو غير ذلك (4)، إلا أنهم ردوا ذلك كله إلى زوال التصديق من القلب. و "جعلوا ما علم أن صاحبه كافر، مثل إبليس، وفرعون، واليهود، وأبي طالب، وغيرهم، أنه إنما كان كافرا؛ لأن ذلك مستلزم لعدم تصديقه في الباطن" (5).و "جعلوا ما يوجد من المتكلم بالكفر من سب الله ورسوله، والتثليث، وغير ذلك قد يكون مجامعا للإيمان الذي في القلب، ويكون صاحبه مؤمنا عند الله حقيقة، سعيدا في الدار الآخرة" (6). "وقالوا: لو فعل ما فعل من الأفعال الظاهرة لم يكن بذلك كافرا في الباطن، لكن يكون دليلا على الكفر في أحكام الدنيا. فإذا احتج عليهم بنصوص تقتضي أنه يكون كافرا في الآخرة. قالوا: فهذه النصوص تدل على أنه في الباطن ليس معه من معرفة الله شيء" (7)."وقالوا: حيث حكم الشارع بكفر أحد بعمل أو قول؛ فلكونه دليلا على انتفاء ما في القلب" (8). قال شيخ الإسلام: "ولا ريب أن الكفر متعلق بالرسالة، فتكذيب الرسول كفر، وبغضه كفر، وسبه وعداوته مع العلم بصدقه في الباطن كفر، عند الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وأئمة العلم، وسائر الطوائف إلا الجهم، ومن وافقه، كالصالحي، والأشعري، وغيرهم.   (1) ((الإيمان)) (ص178) ((الفتاوى)) (7/ 188) .. (2) ((الإيمان)) (ص182) ((الفتاوى)) (7/ 193). (3) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 557)، (ص449) ط. ابن الجوزي. (4) انظر: ((الفتاوى)) (20/ 86 - 87). (5) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 583)، (ص493) ط. ابن الجوزي. (6) ((الإيمان الأوسط))، ضمن ((الفتاوى)) (7/ 583)، (ص494) ط. ابن الجوزي. (7) ((الإيمان)) (ص 384 - 385) ((الفتاوى)) (7/ 401 - 402)؛ وانظر منه، (ص141، 420) ((الفتاوى)) (7/ 146، 440). (8) ((الفتاوى)) (7/ 644). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 فإنهم قالوا: هذا كفر في الظاهر، وأما في الباطن، فلا يكون كفرا إلا إذا استلزم الجهل، بحيث لا يبقى في القلب شيء من التصديق بالرب. وهذا بناء على أن الإيمان في القلب لا يتفاضل، ولا يكون في القلب بعض من الإيمان" (1). وخلاصة قول الجهمية في الإيمان أنهم يحصرونه في مجرد المعرفة، ويخرجون منه عمل القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح. وأن من لم يأت بالشهادتين، أو أتى بكل مكفر، من غير إكراه، فهو كافر في الظاهر، مع احتمال كونه مؤمنا في الباطن، إذ لا يتصور ذهاب الإيمان عندهم إلا بذهاب المعرفة من القلب. وهذا المقالة الجهمية في مسمى الإيمان تقوم على أصلين من الضلال هما (2): الأول: ظنهم أن الإيمان مجرد تصديق وعلم فقط، ليس معه عمل وحال وحركة وإرادة، ومحبة وخشية في القلب، وبالتالي يكون الإيمان تاما بدون شيء من الأعمال الباطنة والظاهرة. وهذا الظن مبني على تصور فاسد لحقيقة الإيمان، وسيأتي بعون الله تعالى تحقيق القول بأنه يمتنع غاية الامتناع حصول أحد أجزاء الإيمان مع تخلف بقيتها، وأنه إذا وجد قول القلب فلابد من حصول عمله إذا سلم من المعارض، ووجود قول القلب وعمله يلزم منه ضرورة وجود الظاهر قولا وعملا (3). الثاني: ظنهم أن كل من حكم الشارع بأنه كفر مخلد في النار؛ فإنما ذاك لأنه لم يكن في قلبه شيء من العلم والتصديق. وهذا الظن باطل من وجهين: الوجه الأول: أنه أمر مخالف للشرع، والعقل، والحسن، وإجماع العقلاء. يقول شيخ الإسلام رحمه الله بعد أن ذكر أن من أغلاط الجهمية ظنهم أن من حكم الله بكفرهم؛ فلزوال التصديق من قلوبهم، قال: "وهذا مكابرة للعقل، والحسن" (4). وقال: "وهذا أمر خالفوا به الحس، والعقل، والشرع، وما أجمع عليه طوائف بني آدم السليمي الفطرة، وجماهير النظار. فإن الإنسان قد يعرف أن الحق مع غيره، ومع ذلك يجحد ذلك؛ لحسده إياه، أو لطلب علوه عليه، أو لهوى النفس، ويحمله ذلك الهوى أن يعتدي عليه، ويرد ما يقول بكل طريق، وهو في قلبه يعلم أن الحق معه. وعامة من كذب الرسل يعلم أن الحق معهم، وأنهم صادقون؛ لكن إما لحسدهم، وإما لإرادتهم العلو والرياسة، وإما لحبهم دينهم الذي كانوا عليه، وما يحصل لهم به من الأغراض، كأموال ورياسة وصداقة وغير ذلك، فيرون في أتباع الرسل ترك الأهواء المحبوبة إليهم، أو حصول أمور مكروهة إليهم، فيكذبونهم ويعادونهم، فيكونون من أكفر الناس، كإبليس وفرعون، مع علمهم بأنهم على الباطل، والرسل على الحق.   (1) ((منهاج السنة)) (5/ 251 - 252). (2) انظر: ((الإيمان)) (ص179 - 180) ((الفتاوى)) (7/ 190 - 191)، ونحوه في (ص192)، 347) ((الفتاوى)) (7/ 204)، (363 - 364)؛ وفي ((الإيمان الأوسط))، ضمن ((الفتاوى)) (7/ 554)، (583 - 584)، (ص446، 493 - 494) ط. ابن الجوزي؛ و ((الرد على المنطقيين))، (ص146)؛ و ((الفتاوى)) (9/ 137)؛ والمقصود هنا ما ترتب على المقالة الجهمية من ضلال في مسمى الإيمان، وأما في مسائل الإيمان الأخرى، فتبيانه والبحث فيه في موضعه من الكتاب بإذن الله تعالى. (3) انظر: نقض الحجة الخامسة من حجج المرجئة. (4) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 583)، (ص493) ط. ابن الجوزي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 ولهذا لا يذكر الكفار حجة صحيحة تقدح في صدق الرسل، وإنما يعتمدون على مخالفة أهوائهم، كقولهم لنوح: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء:111]، ومعلوم أن أتباع الأزلين لا يقدح في صدقه، لكن كرهوا مشاركة أولئك، كما طلب المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم إبعاد الضعفاء، كسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وخباب بن الأرت وعمار بن يسار وغيرهم، فأنزل الله تبارك وتعالى: وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام: 52 - 53]. ومثل قول فرعون فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون: 47]، قال فرعون قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الشعراء: 18 - 19]. ومثل قول مشركي العرب: إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا [القصص: 57]، قال الله تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا [القصص: 57]. ومثل قول قوم شعيب له: أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء [هود: 87] ومثل قول عامة المشركين: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ [الزخرف: 23]. ومثل هذه الأمور وأمثالها ليست حججا تقدح في صدق الرسل، بل تبين أنها تخالف إرادتهم وأهواءهم وعاداتهم؛ فلذلك لم يتبعوهم، وهؤلاء كلهم كفار. بل أبو طالب وغيره كانوا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم، ويحبون علو كلمته، وليس عندهم حسد له، وكانوا يعلمون صدقه، ولكن كانوا يعلمون أن متابعته فراق دين آبائهم، وذم قريش لهم، فما احتملت نفوسهم ترك تلك العادة، واحتمال الذم، فلم يتركوا الإيمان لعدم العلم؛ بل لهوى النفس، فكيف يقال: إن كل كافر إنما كفر لعدم علمه بالله؟ ". ثم قال شيخ الإسلام: "ونحن، والناس كلهم يرون خلقا من الكفار يعرفون في الباطن أن دين الإسلام حق، ويذكرون ما يمنعهم من الإيمان؛ إما معاداة أهلهم، وإما مال يحصل لهم من جهتهم يقطعونه عنهم، وإما خوفهم إذا آمنوا أن لا يكون لهم حرمة عند المسلمين كحرمتهم في دينهم، وأمثال ذلك من أغراضهم التي يبينون أنها المناعة لهم من الإيمان، مع علمهم بأن دين الإسلام حق، ودينهم باطل. وهذا موجود في جميع الأمور التي هي حق، يوجد من يعرف بقلبه أنه حق، وهو في الظاهر يجحد ذلك، ويعادي أهله؛ لظنه أن ذلك يجلب له منفعة، ويدفع عنه مضرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 قال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ [المائدة: 51 - 53].والمفسرون متفقون على أنها نزلت بسبب قوم ممن كان يظهر الإسلام وفي قلبه مرض، خاف أن يغلب أهل الإسلام، فيوالي الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم؛ للخوف الذي في قلوبهم، لا لاعتقاد أن محمدا كاذب واليهود والنصارى صادقون (1) " (2). ويقول شيخ الإسلام رحمه الله: "ونصوص القرآن في غير موضع تدل على أن الكفار كانوا في الدنيا مصدقين بالرب، حتى فرعون الذي أظهر التكذيب كان في باطنه مصدقا، قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14]، وكما قال موسى لفرعون: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ [الإسراء: 102]، ومع هذا لم يكن مؤمنا، بل قال موسى: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس: 88]، قال الله: قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا [يونس: 89]، ولما قال فرعون: آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ [يونس: 90]، قال الله: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس: 91]، فوصفه بالمعصية، ولم يصفه بعدم العلم، كما قال: فَعَصَى فِرْعَوْنُ [المزمل: 16]. وكما قال عن إبليس: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ [ص: 73 - 74]، فلم يصفه إلا بالإباء والاستكبار ومعارضة الأمر، ولم يصفه بعدم العلم. وقد أخبر الله عن الكفار في غير موضع أنهم كانوا معترفين بالصانع، في مثل قوله: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف: 87] " (3).   (1) راجع في تفسير الآية الكريمة: ((تفسير الطبري)) (6/ 328 - 330)؛ و ((الجامع لأحكام القرآن))، للقرطبي، الطبعة الأولى 1408هـ، دار الكتب العلمية ببيروت (6/ 140 - 141)، و ((زاد المسير)) (2/ 377 - 378)؛ و ((تفسير ابن كثير)) (2/ 78)؛ و ((الدر المنثور)) (3/ 98 - 100). (2) ((الإيمان)) (ص180 - 183) ((الفتاوى)) (7/ 191 - 193) باختصار. (3) ((الإيمان)) (145 - 146) ((الفتاوى)) (150 - 151). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 ومن النصوص التي اعتنى شيخ الإسلام ببيان دلالتها على هذه الحقيقة، وهي أن الكفر يقع مع وجود التصديق في القلب قوله تعالى: مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ [النحل: 106 - 109]، وقوله تعالى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ [التوبة: 64 - 66]. يقول شيخ الإسلام في بيان دلالتهما على المراد: "فقد ذكر تعالى من كفر بالله بعد إيمانه، وذكر وعيد الآخرة، ثم قال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ [النحل: 107]، وبين تعالى أن الوعيد استحقوه بهذا، ومعلوم أن باب التصديق والتكذيب، والعلم والجهل ليس هو من باب الحب والبغض، وهؤلاء يقولون إنما استحقوا الوعيد لزوال التصديق والإيمان من قلوبهم، وإن كان ذلك قد يكون سببه حب الدنيا على الآخرة. والله سبحانه وتعالى جعل استحباب الدنيا على الآخرة هو الأصل الموجب للخسران، واستحباب الدنيا على الآخرة قد يكون مع العلم والتصديق بأن الكفر يضر في الآخرة، وبأنه ما له في الآخرة من خلاق. وأيضا فإنه سبحانه استثنى المكره من الكفار، ولو كان الكفر لا يكون إلا بتكذيب القلب وجهله لم يستثن المكره؛ لأن الإكراه على ذلك ممتنع، فعلم أن التكلم بالكفر كفر لا في حال الإكراه. وقوله تعالى: وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل: 106]، أي: لاستحبابه الدنيا على الآخرة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم، ((يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويصبح كافرا ويمسي مؤمنا، يبيع دينه بعرض من الدنيا)) (2).والآية نزلت في عمار بن ياسر، وبلال بن رباح وأمثالهما من المؤمنين المستضعفين لما أكرههم المشركون على سب النبي صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك من كلمات الكفر فمنهم من أجاب بلسانه كعمار، ومنهم من صبر على المحنة كبلال (1)، ولم يكره أحد منهم على خلاف ما في قلبه، بل أكرهوا على التكلم، فمن تكلم بدون الإكراه لم يتكلم إلا وصدره منشرح به" (2). ويقول شيخ الإسلام: "وهذا الآية - يعني آية النحل - مما تدل على فساد قول جهم، فإنه جعل من تكلم بالكفر من أهل وعيد الكفار، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان. فإن قيل: فقد قال تعالى: وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل: 106]   (1) انظر: ((تفسير الطبري)) (14/ 216)؛ و ((زاد المسير)) (4/ 495)؛ و ((تفسير ابن كثير)) (2/ 647 - 648)؛ و ((الدر المنثور)) (5/ 169 - 171). (2) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 560 - 561)، (ص452 - 454) ط. ابن الجوزي؛ وانظر: ((منهاج السنة)) (4/ 443). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 قيل: وهذا موافق لأولها، فإنه من كفر من غير إكراه، فقد شر بالكفر صدرا، وإلا تناقض أول الآية وآخرها، ولو كان المراد بمن كفر هو الشارح صدره، وذلك يكون بلا إكراه، لم يستثن المكره فقط، بل كان يجب أن يستثني المكره وغير المكره إذا لم يشرح صدره، وإذا تكلم بكلمة الكفر طوعا، فقد شرح بها صدرا وهي كفر. وقد دل على ذلك قوله تعالى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ [التوبة: 64 - 66].فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم إنما تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب، وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر، ولا يكون هذا إلا من شرح صدره بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه منعه أن يتكلم بهذا الكلام" (1). وقال أيضاً: "وقول من يقول عن مثل هذه الآيات: إنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم، مع كفرهم أولاً بقلوبهم، لا يصح. لأن هذا الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر، فلا يقال: قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 66]، فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر. وإن أريد أنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان، فهم لم يظهروا للناس إلا لخواصهم، وهم مع خواصهم مازالوا هكذا، بل لما نافقوا وحذروا أن تنزل سورة تبين ما في قلوبهم من النفاق، وتكلموا بالاستهزاء صاروا كافرين بعد إيمانهم، ولا يدل اللفظ على أنهما مازالوا منافقين"، ثم قال شيخ الإسلام:"قال تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التوبة: 65]: فاعترفوا واعتذروا، ولهذا قيل: لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ [التوبة: 65]، فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفرا، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر، فبين أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه، فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف، ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم، ولكنهم لم يظنوه كفرا، وكان كفرا كفروا به، فإنهم لم يعتقدوا جوازه" (2). وهذا أصل مهم في باب الكفر اعتنى شيخ الإسلام بإيضاحه غاية الإيضاح، وبين أن "من قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة، عامدا لها، عالما بأنها كلمة كفر، فإنه يكفر بذلك ظاهرا وباطنا. ولا يجوز أن يقول: إنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمنا، ومن قال ذلك فقد مرق من الإسلام" (3). وقال شيخ الإسلام: "فإنا نعلم أن من سب الله ورسوله طوعا بغير كره، بل من تكلم بكلمات الكفر طائعا غير مكره، ومن استهزأ بالله وآياته ورسوله، فهو كافر باطنا وظاهرا. وأن من قال إن مثل هذا قد يكون في الباطن مؤمنا بالله، وإنما هو كافر في الظاهر، فإنه قال قولا معلوم الفساد بالضرورة من الدين.   (1) ((الإيمان)) (ص208) ((الفتاوى)) (7/ 220)؛ وانظر: ((الاستقامة)) (2/ 319 - 320). (2) ((الإيمان)) (ص259 - 260) " ((الفتاوى)) (7/ 272 - 273). (3) ((الصارم المسلول)) (3/ 975). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 وقد ذكر الله كلمات الكفار في القرآن، وحكم بكفرهم، واستحقاقهم الوعيد بها، ولو كانت أقوالهم الكفرية بمنزلة شهادة الشهود عليهم، أو بمنزلة الإقرار الذي يغلط فيه المقر، لم يجعلهم الله من أهل الوعيد بالشهادة التي قد تكون صدقا، وقد تكون كذبا، بل كان ينبغي أن لا يعذبهم إلا بشرط صدق الشهادة. وهذا كقوله تعالى: لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ [المائدة: 73]، وقوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة: 72] وأمثال ذلك" (1).وقال رحمه الله: "فمن قال، أو فعل ما هو كفر، كفر بذلك، وإن لم يقصد أن يكون كفرا، إذ لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله" (2). وقد علل شيخ الإسلام ذلك بأن "كلمتي الكفر والإيمان إذا قصد الإنسان بهما غير حقيقتهما صح كفره، ولم يصح إيمانه. فإن المنافق قصد بالإيمان مصالح دنياه من غير حقيقة لمقصود الكلمة، فلم يصح إيمانه، والرجل لو تكلم بكلمة الكفر لمصالح دنياه من غير اعتقاد صح كفره ظاهرا وباطنا، وذلك لأن العبد مأمور بأن يتكلم بكلمة الإيمان معتقدا لحقيقتها، وأن لا يتكلم بكلمة الكفر أو الكذب جادا ولا هازلا، فإن تكلم بكلمة الكفر أو الكذب جادا أو هازلا كان كافرا وكان كاذبا حقيقة؛ لأن الهزل بهذه الكلمات غير مباح، فيكون وصف الهزل مهدرا في نظر الشرع؛ لأنه محرم، فتبقى الكلمة موجبة لمقتضاها" (3). الوجه الثاني: في بطلان قول الجهمية إن الكافر ليس في قلبه شيء من العلم والتصديق هو أن هذا القول الجهمي متناقض. وقد شرح شيخ الإسلام وجه تناقضه، فقال: "حتى آل الأمر بغلاتهم، كجهم وأتباعه، إلى أن قالوا: يمكن أن يصدق بقلبه، ولا يظهر بلسانه إلا كلمة الكفر، مع قدرته على إظهارها، فيكون الذي في القلب إيمانا نافعا له في الآخرة. وقالوا: حيث حكم الشارع بكفر أحد بعمل أو قول؛ فلكونه دليلا على انتفاء ما في القلب، وقولهم متناقض: فإنه إذا كان ذلك دليلا مستلزما لانتفاء الإيمان الذي في القلب، امتنع أن يكون الإيمان ثابتا في القلب، مع الدليل المستلزم لنفيه. وإن لم يكن دليلا، لم يجز الاستدلال به على الكفر الباطن" (4).وأخيراً، فإن ما تقدم من أجوبة في تناقض المقالة الجهمية "إذا تدبرها المؤمن بعقله تبين له أن مذهب السلف هو المذهب الحق الذي لا عدول عنه، وأن من خالفهم لزمه فساد معلوم بصريح المعقول، وصحيح المنقول، كسائر ما يلزم الأقوال المخالفة لأقوال السلف والأئمة، والله أعلم" (5). المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 197   (1) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 557 - 558)، (ص449) ط. ابن الجوزي. (2) ((الصارم المسلول)) (2/ 339). (3) ((بيان الدليل))، (ص166). (4) ((الفتاوى)) (7/ 644 - 645). (5) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 585)، (ص496) ط. ابن الجوزي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 المطلب الثالث: مسمى الإيمان عند الكرامية في بيان مذهب الكرامية في مسمى الإيمان يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "وأما الكرامية، فلهم في الإيمان قول ما سبقهم إليه أحد، قالوا: هو الإقرار باللسان، وإن لم يعتقد بقلبه" (1). وذكر أن القول بأن الإيمان مجرد القول، بلا تصديق، ولا معرفة في القلب، إنما أحدثه ابن كرام، وانفرد به. وأما سائر ما قاله، فأقوال قيلت قبله، ولهذا لم يذكر الأشعري، ولا غيره ممن يحكي مقالات الناس عنه قولا انفرد به إلا هذا، وأما سائر أقواله، فيحكونها عن ناس قبله ولا يذكرونه (2). وفي معرض تصنيفه لأقوال المرجئة قال رحمه الله:"والقول الثاني: من يقول هو مجرد قول اللسان، وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية" (3).ويقول: "وحدث بعد هؤلاء - يعني المرجئة الفقهاء والجهمية - قول الكرامية: إن الإيمان قول اللسان، دون تصديق القلب" (4). ويقول: "وقالت الكرامية هو: القول فقط، فمن تكلم به فهو مؤمن كامل الإيمان، لكن إن كان مقرا بقبله كان من أهل الجنة، وإن كان مكذبا بقلبه كان منافقا، مؤمنا، من أهل النار. وهذا القول هو الذي اختصت به الكرامية وابتدعته، ولم يسبقها أحد إلى هذا القول، وهو آخر ما أحدث من الأقوال في الإيمان" (5).ويقول: "والكرامية قولهم في الإيمان قول منكر، لم يسبقهم إليه أحد، حيث جعلوا الإيمان: قول اللسان، وإن كان مع عدم تصديق القلب، فيجعلون المنافق مؤمنا، لكنه يخلد في النار، فخالفوا الجماعة في الاسم دون الحكم" (6). ويقول: "وكذلك الكرامية باينوا سائر الطوائف في قولهم إن الإيمان هو باللسان، فمن أقر بلسانه كان مؤمنا، وإن جحد بقلبه. قالوا: وهو مؤمن مخلد في النار، فإن هذا لم يقله غيرهم" (7). ويقول: "وآخر الأقوال حدوثا في ذلك - يعني في الإيمان - قول الكرامية: أن الإيمان اسم للقول باللسان، وإن لم يكن معه اعتقاد القلب. وهذا القول أفسد الأقوال، لكن أصحابه لا يخالفون في الحكم، فإنهم يقولون: إن هذا الإيمان باللسان دون القلب هو إيمان المنافقين، وإنه لا ينفع في الآخرة" (8). وقد نبه شيخ الإسلام على أمرين مهيمن في قول الكرامية: الأول: أنهم وإن أخرجوا التصديق من مسمى الإيمان، لكنهم يوجبونه. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "مع أن الكرامية لا تنكر وجوب المعرفة والتصديق، ولكن تقول لا يدخل في اسم الإيمان؛ حذرا من تبعضه وتعدده؛ لأنهم رأوا أنه لا يمكن أن يذهب بعضه ويبقى بعضه، بل ذلك يقتضي أن يجتمع في القلب إيمان وكفر، واعتقدوا الإجماع على نفي ذلك" (9). والثاني: أنهم مع قولهم بأن المنافق مؤمن، فهذا حكمه في الدنيا فحسب، وأما في الآخرة، فهو مخلد في النار. يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "حتى الكرامية الذين يسمون المنافق مؤمنا، ويقولون: الإيمان هو الكلمة، يقولون: إنه لا ينفع في الآخرة إلا الإيمان الباطن. وقد حكى بعضهم عنهم أنهم يجعلون المنافقين من أهل الجنة، وهو غلط عليهم، إنما نازعوا في الاسم لا في الحكم؛ بسبب شبهة المرجئة في أن الإيمان لا يتبعض، ولا يتفاضل".   (1) ((النبوات)) (1/ 582). (2) انظر: ((الإيمان)) (ص370) ((الفتاوى)) (7 - 387). (3) ((الإيمان)) (ص184) ((الفتاوى)) (7/ 195)؛ وانظر منه، (ص134) ((الفتاوى)) (7/ 140). (4) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 509)، (ص378) ط ابن الجوزي؛ وانظر: ((الفتاوى)) (20/ 86)؛ و ((الصارم المسلول)) (3/ 965). (5) ((الفتاوى)) (13/ 56)؛ وانظر: ((درء التعارض)) (6/ 270). (6) ((التدمرية))، (ص192 - 193) ((الفتاوى)) (3 - 103). (7) ((منهاج السنة)) (3/ 462). (8) ((شرح الأصبهانية)) (2/ 586)، (ص143) ت مخلوف. (9) ((الإيمان)) (ص376) ((الفتاوى)) (7/ 394). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 ويقول: "والكرامية توافق المرجئة والجهمية في أن إيمان الناس كلهم سواء، ولا يستثنون في الإيمان، بل يقولون هو مؤمن حقا لمن أظهر الإيمان، وإذا كان منافقا فهو مخلد في النار عندهم، فإنه إنما يدخل الجنة من آمن ظاهرا وباطنا. ومن حكى عنهم أنه يقولون: المنافق يدخل الجنة، فقد كذب عليهم، بل يقولون: المنافق مؤمن؛ لأن الإيمان هو القول الظاهر، كما يسميه غيرهم مسلما؛ لأن الإسلام هو الاستسلام الظاهر" (1). وقد اعتنى شيخ الإسلام بهذه الحقيقة، وبين برائتهم مما نسب إليهم من أن المنافق مؤمن في الجنة، ومما قاله في ذلك: "فالمؤمن المستحق للجنة لابد أن يكون مؤمنا في الباطن باتفاق جميع أهل القبلة، حتى الكرامية الذين يسمون المنافق مؤمنا، ويقولون الإيمان هو الكلمة، يقولون إنه لا ينفع في الآخرة إلا الإيمان الباطن. وقد حكى بعضهم عنهم أنهم يجعلون المنافقين من أهل الجنة، وهو غلط عليهم، إنما نازعوا في الاسم لا في الحكم؛ بسبب شبهة المرجئة في أن الإيمان لا يتبعض، ولا يتفاضل" (2).ويقول: "وبعض الناس يحكي عنهم أن من تكلم به بلسانه دون قلبه فهو من أهل الجنة، وهو غلط عليهم، بل يقولون: إنه مؤمن كامل الإيمان، وإنه من أهل النار" (3). ويقول: "وقالوا - يعني الكرامية - المنافق هو مؤمن، ولكنه مخلد في النار. وبعض الناس يحكي عنهم أن المنافق في الجنة، وهذا غلط علهيم، بل هم يجعلونه مؤمنا، مع كونه مخلدا في النار، فينازعون في الاسم، لا في الحكم" (4). ويقول: "وأما الكافر المنافق في الباطن، فإنه خارج عن المؤمنين المستحقين للثواب باتفاق المسلمين. ولا يسمون بمؤمنين عند أحد من سلف الأئمة وأئمتها، ولا عند أحد من طوائف المسلمين، إلا عند طائفة من المرجئة، وهم الكرامية الذين قالوا: إن الإيمان هو مجرد التصديق في الظاهر، فإذا فعل ذلك كان مؤمنا، وإن كان مكذبا في الباطن، وسلموا أنه معذب مخلد في الآخرة، فنازعوا في اسمه، لا في حكمه. ومن الناس من يحكي عنهم أنهم جعلوهم من أهل الجنة، وهو غلط عيهم. ومع ذلك فتسميتهم له مؤمنا بدعة ابتدعوها، مخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وهذا البدعة الشنعاء هي التي انفرد بها الكرامية دون سائر مقالاتهم" (5). وقال رحمه الله في معرض تقويمه آراء ابن كرام: "وابن كرام منتسب إلى مذهب أهل الرأي، وخالف قول الجماعة، وتكلم في مسألة الإيمان بكلام لم يسبقه إليه أحد من المسلمين، حيث جعل المتكلم بلسانه مؤمنا باطنا وظاهرا، وإن كان منافقا في الباطن، وجعله مع ذلك كافر مخلدا في النار. وبعض الناس يحكي عنه أنه جعله سعيدا في الآخرة، وهذا غلط عليه، فإنه جعله في النار، فلم يخالف الجماعة في حكمه في الآخرة، وإنما خالفهم في اسمه في الدنيا" (6). وبعد هذا كله، فإن معالم مسمى الإيمان عند الكرامية يمكن تلخيصها فيما يلي: 1 - أن الإيمان مجرد قول اللسان، فمن أتى به فهو مؤمن كامل الإيمان. 2 - إخراج تصديق القلب من الإيمان، مع قولهم بوجوبه. 3 - إخراج عمل القلب. 4 - إخراج عمل الجوارح. 5 - أن المنافق مؤمن في الدنيا؛ لأنه أتى بالقول، لكنه منافق مخلد في النار؛ لأنه مكذب بقبله. 6 - أن الإيمان لا يتبعض، ولا يتفاضل، والناس فيه سواء، ولا يجتمع في العبد إيمان وكفر.   (1) ((الإيمان)) (ص135) ((الفتاوى)) (7/ 141). (2) ((الإيمان)) (ص203 - 204) ((الفتاوى)) (7/ 216). (3) ((الفتاوى)) (13/ 56). (4) ((النبوات)) (1/ 582). (5) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 475 - 476)، (ص308 - 309) ط. ابن الجوزي. (6) ((شرح الإصبهانية)) (2/ 328)؛ وانظر: ((التدمرية))، (ص193). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 وهذه هي الشبة التي أوقعتهم في الغلط في مسمى الإيمان، وهي نفسها شبهة من قبلهم من المرجئة، حيث ظنوا أن الإيمان لا يتبعض، إذ يلزم من ذلك ذهابه بذهاب بعضه، وأن يجتمع في العبد إيمان وكفر، وهذا مخالف عندهم للإجماع وأما مذهبهم في المنافق الذي انفردوا به، حيث سموه مؤمنا، فقد حكى شيخ الإسلام شبهتهم في ذلك، فقال: "والكرامية يقولون: المنافق مؤمن، وهو مخلد في النار؛ لأنه مؤمن ظاهرا لا باطنا، وإنما يدخل الجنة من آمن ظاهرا وباطنا. قالوا: والدليل على شمول الإيمان له: أنه يدخل في الأحكام الدنيوية المعلقة باسم الإيمان، كقوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ [النساء: 92].ويخاطب في الظاهر بالجمعة والطهارة وغير ذلك مما خوطب به الذين آمنوا، وأما من صدق بقلبه ولم يتكلم بلسانه، فإنه لا يعلق به شيء من أحكام الإيمان، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يدخل في خطاب الله لعباده بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ " (1).هكذا قرروا هذا القول الباطل المبتدع الذي لم يسبقهم إليه أحد، وخالفوا فيه إجماع المسلمين، والله قد نفى الإيمان عن المنافقين في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: 8]، وقد ضل من سماه مؤمنا (2). وأما الاكتفاء من المنافق بمجرد الإقرار، فذلك لأن "قبول الإسلام الظاهر يجرى على صاحبه أحكام الإسلام الظاهرة، مثل عصمة الدم، والمال، والمناكحة، والموارثة، ونحو ذلك. وهذا يكفي فيه مجرد الإقرار الظاهر، وإن لم يعلم ما في باطن الإنسان، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((فإذا قالوها عصموا مني دماءهم، وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله)) (3).، وقال: ((إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أن أشق بطونهم)) (4) .. ،.وأما الإيمان الباطن الذي ينجي من عذاب الله في الآخرة، فلا يكفي فيه مجرد الإقرار الظاهر، بل قد يكون الرجل مع إسلامه الظاهر منافقا، وقد كان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منافقون، وقد ذكرهم الله تعالى في القرآن في غير موضع، ... ، والمنافق عمله حابط لا يتقبله الله" (5). وقد بين شيخ الإسلام ما يلزم الكرامية على هذه المقالة، فقال: "فيلزمهم أن يكون المؤمن الكامل الإيمان معذبا في النار، بل يكون مخلدا فيها، وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان. وإن قال: لا يخلد، وهو منافق. لزمهم أن يكون المنافقون يخرجون من النار، والمنافقون قد قال الله فيهم: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء: 145]، وقد نهى الله نبيه عن الصلاة عليهم والاستغفار لهم، وقال له: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ [التوبة: 80]، وقال: وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة: 84]، وقد أخبر أنهم كفروا بالله ورسوله.   (1) ((الإيمان)) (ص134 - 135) ((الفتاوى)) (7/ 140). (2) انظر: ((الإيمان)) (ص135، 136) ((الفتاوى)) (7/ 141). (3) رواه البخاري (25) ومسلم (36) (22) , من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (4) رواه مسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (5) ((درء التعارض)) (7/ 434 - 436) باختصار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 فإن قالوا: هؤلاء قد كانوا يتكلمون بألسنتهم سرا؛ فكفروا بذلك، وإنما يكون مؤمنا إذا تكلم بلسانه ولم يتكلم بما ينقضه، فإذ ذلك ردة عن الإيمان. قيل لهم: ولو أضمروا النفاق ولم يتكلموا به كانوا منافقين، قال تعالى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ [التوبة: 64].وأيضا قد أخبر الله عنهم أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وأنهم كاذبون، فقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: 8]، وقال تعالى: إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون: 1]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الإسلام علانية والإيمان في القلب)) (1)، وقد قال الله تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14]، وفي الصحيحين عن سعد ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى رجالا ولم يعط رجلا، فقلت: يا رسول الله أعطيت فلانا وفلانا، وتركت فلانا وهو مؤمن؟ فقال: أو مسلم "مرتين أو ثلاثا")) (2). المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 221   (1) رواه أحمد (12404) (3/ 134) , من حديث أنس رضي الله عنه, قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 57): رجاله رجال الصحيح ما خلا علي بن مسعدة وقد وثقه ابن حبان وأبو داود الطيالسي وأبو حاتم وابن معين وضعفه آخرون, وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (2280). (2) رواه البخاري (27) , ومسلم (150). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 المطلب الرابع: مسمى الإيمان عند الأشاعرة لم تكن الأشاعرة على مقالة واحدة في مسمى الإيمان، وحتى شيخهم الأشعري مذهبه مختلف في ذلك، وحاصل أقوالهم في هذه المسألة ثلاثة، هي: القول الأول: وافقوا فيه السلف في أن الإيمان قول وعمل. وهذا هو آخر قولي الأشعري، واختاره طائفة من أصحابه (1). يقول شيخ الإسلام بعد ذكره قول الأشعري الذي وافق فيه الجهمية:"والقول الآخر عنه - يعني الأشعري - كقول السلف، وأهل الحديث: أن الإيمان قول وعمل، وهو اختيار طائفة من أصحابه" (2). وقد نقل شيخ الإسلام حكاية أبي الحسن الأشعري لمقالة أصحاب الحديث في الإيمان، حيث قال: "ويقرون بأن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، ولا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق. وذكر كلاما طويلا، ثم قال في آخره: وبكل ما ذكرناه من قولهم نقول، وإليه نذهب. فهذا قوله في هذا الكتاب، وافق أهل السنة، وأصحاب الحديث" (3).وكذلك نقل شيخ الإسلام إعلان الأشعري في كتابه الإبانة متابعة للإمام أحمد، إذ يقول: "قولنا الذي نقول، وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب ربنا عز وجل، وبسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبدالله أحمد بن حنبل - نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته - قائلون، ولما خالف قول مخالفون" (4). ويقول شيخ الإسلام: "ولهذا لما صار يظهر لبعض أتباع أبي الحسن فساد قول جهم في الإيمان خالفه كثير منهم، فمنهم من تبع السلف. قال أبو القاسم الأنصاري شيخ الشهرستاني في شرح الإرشاد لأبي المعالي - بعد أن ذكر قول أصحابه - قال: وذهب أهل الأثر إلى أن الإيمان جميع الطاعات، فرضها ونفلها، وعبروا عنه بأنه إتيان ما أمر به فرضا ونفلا، والانتهاء عما نهى عنه تحريما وأدبا. قال: وبهذا كان يقول أبو علي الثقفي، ومن متقدمي أصحابنا أبو العباس القلانسي، وقد مال إلى هذا المذهب أبو عبدالله بن مجاهد. قال: وهذا قول مالك بن أنس إمام دار الهجرة، ومعظم أئمة السلف - رضوان الله عليهم أجمعين -.وكانوا يقولون: الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان" (5). القول الثاني: وافقوا فيه فقهاء المرجئة، وابن كلاب، في أن الإيمان تصديق القلب، وقول اللسان. فقد ذكر شيخ الإسلام أنه لما ظهر لبعض أتباع أبي الحسن فساد قول جهم في الإيمان خالفوا إمامهم، وقالوا بقول المرجئة: إن التصديق بالقلب، واللسان (6). ويقول أبو القاسم الأنصاري الأشعري في حكاية مذاهب أصحابه: "وهل يشترط في الإيمان الإقرار؟   (1) انظر: ((الإيمان)) (ص114، 138) ((الفتاوى)) (7/ 120، 143)؛ و ((الفتاوى)) (13/ 174، 175). (2) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 509)، (ص380) ط. ابن الجوزي. (3) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 549 - 550)، (ص440) ط. ابن الجوزي؛ وهو في: ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 347 - 350)؛ ونقله شيخ الإسلام في مواضع منها: ((التسعينية)) (2/ 479)؛ و ((الفتاوى)) (5/ 91)، 186)؛ (16/ 308)؛ و ((بيان التلبيس)) (2/ 31)؛ وأشار إليه في ((الفتاوى)) (4/ 174)؛ و ((درء التعارض)) (7/ 36، 462)؛ و ((منهاج السنة)) (2/ 228)؛ و ((بيان التلبيس)) (1/ 35، 398، 418) – (2/ 27، 34). (4) ((الإبانة في أصول الديانة))، للأشعري، تحقيق عباس صباغ، (5) ((التسعينية)) (2/ 659 - 660)، و ((الإيمان)) (ص138) ((الفتاوى)) (7/ 143)، وكلام الأنصاري في كتابه المخطوط: ((شرح الإرشاد)) (279/ أ-ب). (6) انظر: ((الإيمان)) (ص138) ((الفتاوى)) (7/ 143)؛ و ((الفتاوى)) (20/ 86). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 اختلفوا فيه، بعد أن لم يختلفوا في ترك العناد شرطا، وهو أن يعتقد أنه متى طولب بالإقرار أتى به، فأما قبل أن يطالب به: منهم من قال: لابد من الإتيان به - يعني الإقرار باللسان - حتى يكون مؤمنا، وهذا القائل يقول: التصديق هو المعرفة والإقرار جميعا. وهذا قول الحسين بن الفضل البجلي، وهو مذهب أبي حنيفة، وأصحابه، وبقريب من هذا كان يقول الإمام أبو محمد عبدالله بن سعيد القطان من متقدمي أصحابنا" (1).ويقول شيخ الإسلام: "وابن كلاب نفسه، والحسين بن الفضل البجلي، ونحوهما، كانوا يقولون: هو التصديق، والقول جميعا، موافقة لمن قاله من فقهاء الكوفيين، كحماد بن أبي سليمان، ومن اتبعه، مثل أبي حنيفة، وغيره" (2). القول الثالث: وافقوا فيه الجهمية في أن الإيمان مجرد تصديق القلب. وهذا هو أشهر أقوال شيخهم أبي الحسن الأشعري، وعليه أكثر أصحابه، كالقاضي أبي بكر الباقلاني، وأبي المعالي الجويني، وبه قال الماتريدي. وقد لوحظ أثناء شرح مذهب الجهمية أن شيخ الإسلام لا يكاد يذكر هذا المذهب إلا ويتبعه البيان بأن الأشعري وأكثر أصحابه يوافقون جهما عليه، ويقولون بقوله، فذكر كلام شيخ الإسلام هناك يغني عن نقله هنا، ومع هذا، فلابد من إعادة بعضه لإثبات هذه الحقيقة، مع نقل ما قاله أساطين المذهب الأشعري في ذلك، مما نقله شيخ الإسلام وتعقبه، فصار هناك طريقان من البيان لإثبات موافقة الأشعرية للجهمية في مسمى الإيمان، وهما: الطريق الأول: نقل أقوال شيخ الإسلام في ذلك. الطريق الثاني: نقل ما قاله علماء الفرقة مما نقله شيخ الإسلام عنهم، أو أشار إليه. وهذا أوان تفصيل هذين الطريقين: الطريق الأول: أقوال شيخ الإسلام في موافقة الأشاعرة للجهمية في مسمى الإيمان. جاء ذلك عن شيخ الإسلام في مواضع كثيرة، وقد تقدم إيراد شيء منها، ومن ذلك قوله رحمه الله:"وأما الأشعري: فالمعروف عنه وعن أصحابه: أنهم يوافقون جهما في قوله في الإيمان، وأنه: مجرد تصديق القلب، أو معرفة القلب" (3).ويقول: "وبهذا وغيره يتبين فساد قول جهم، والصالحي، ومن اتبعهما في الإيمان، كالأشعري - في أشهر قوليه -، وأكثر أصحابه، وطائفة من متأخري أصحاب أبي حنيفة، كالماتريدي (4)، ونحوه: حيث جعلوه مجرد تصديق في القلب، يتساوى فيه العباد، وأنه إما أن يعدم وإما أن يوجد، لا يتبعض. وأنه يمكن وجود الإيمان تاما في القلب مع وجود المتكلم بالكفر، والسب لله ورسوله، طوعا من غير إكراه. وأن ما علم من الأقوال الظاهرة أن صاحبه كافر؛ فلأن ذلك مستلزم عدم ذلك التصديق الذي في القلب، ... ،.وأن الأعمال الصالحة الظاهرة ليست لازمة للإيمان الباطن الذي في القلب، بل يوجد إيمان القلب تاما بدونها" (5). ويقول شيخ الإسلام: "وأما جهم فكان يقول: إن الإيمان مجرد تصديق القلب، وإن لم يتكلم به.   (1) ((التسعينية)) (2/ 655 - 657)؛ وانظر منها، (ص647)؛ و ((الإيمان)) (ص140) ((الفتاوى)) (7/ 146). (2) ((الإيمان)) (ص114) ((الفتاوى)) (7/ 120). (3) ((النبوات)) (1/ 580). (4) انظر في كونه قول الماتريدي: ((تبصرة الأدلة)) (2/ 799)؛ و ((التمهيد لقواعد التوحيد))، (ص 128)؛ و ((المسامرة بشرح المسايرة))، للكمال بن أبي شريف، الطبعة الأولى 1317هـ، بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق بمصر، (ص1، 5) من الخاتمة؛ ((ورد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار)) ((حاشية ابن عابدين))، لابن عابدين، تحقيق عبدالمجيد حلبي، الطبعة الأولى 1420هـ، دار المعرفة ببيروت (6/ 342). (5) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 582)، (ص493) ط. ابن الجوزي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 وهذا القول لا يعرف عن أحد من علماء الأمة وأئمتها، بل أحمد ووكيع كفروا من قال بهذا القول. ولكن هذا هو الذي نصره الأشعري، وأكثر أصحابه، ولكن قالوا مع ذلك إن كل من حكم الشرع بكفره حكمنا بكفره، واستدللنا بتكفير الشارع له على خلو قلبه من المعرفة" (1). ويقول: "فهؤلاء القائلون بقول جهم، والصالحي قد صرحوا بأن سب الله ورسوله، والتكلم بالتثليث، وكل كلمة من كلام الكفر ليس هو كفرا في الباطن، ولكنه دليل في الظاهر على الكفر، ويجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشاتم في الباطن عارفا بالله، موحدا له، مؤمنا به. فإذا أقيمت عليهم حجة بنص أو إجماع أن هذا كافرا باطنا وظاهرا. قالوا: هذا يقتضي أن ذلك مستلزم للتكذيب الباطن، وأن الإيمان عدم ذلك" (2).وقال الاشعري: "والفرقة الثانية من المرجئة: يزعمون أن الإيمان هو: المعرفة بالله فقط، والكفر هو الجهل به فقط، فلا إيمان بالله إلا المعرفة به، ولا كفر بالله إلا الجهل به، وأن قول القائل: إن الله ثالث ثلاثة ليس بكفر، ولكنه لا يظهر إلا من كافر، وذلك أن الله سبحانه أكفر من قال ذلك، وأجمع المسلمون أنه لا يقوله إلا كافر، وزعموا أن معرفة الله هي المحبة له، وهي الخضوع لله، وأصحاب هذا القول لا يزعمون أن الإيمان بالله إيمان بالرسول، وأنه لا يؤمن بالله إذا جاء الرسول إلا من آمن بالرسول، ليس لأن ذلك يستحيل، ولكن لأن الرسول قال: ((ومن لا يؤمن بي، فليس بمؤمن بالله)) (3). وزعموا أن الصلاة ليست بعبادة لله، وأنه لا عبادة إلا الإيمان به، وهو: معرفته. والإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص، وهو خصلة واحدة، وكذلك الكفر. والقائل بهذا القول أبو الحسين الصالحي" (4).قال شيخ الإسلام معلقا على هذا القول بعد نقله له: "وقد ذكر الأشعري في كتابه الموجز قول الصالحي هذا، وغيره، ثم قال: والذي اختاره من الأسماء ما ذهب إليه الصالحي" (5). ويقول شيخ الإسلام: "قال أبو عبدالله الصالحي: إن الإيمان مجرد تصديق القلب ومعرفته، لكن له لوازم، فإذا ذهبت دل ذلك على عدم تصديق القلب. وأن كل قول أو عمل ظاهر دل الشرع على أنه كفر كان لأنه دليل على عدم تصديق القلب ومعرفته. وليس الكفر إلا تلك الخصلة الواحدة، وليس الإيمان إلا مجرد التصديق الذي في القلب والمعرفة. وهذا أشهر قولي أبي الحسن الأشعري، وعليه أصحابه، كالقاضي أبي بكر، وأبي المعالي، وأمثالها (6)، ولهذا عدهم أهل المقالات من المرجئة"، ثم قال:"وقد ذهب طائفة من متأخري أصحاب أبي حنيفة، كأبي منصور الماتريدي، وأمثاله إلى نظير هذا القول في الأصل، وقالوا: الإيمان هو ما في القلب، وإن القول شرط لثبوت أحكام الدنيا" (7).والخلاصة أن الأشاعرة "ذهبوا مذهب الجهمية الأولى في أن الإيمان مجرد التصديق الذي في القلب، وإن لم يقترن به قول اللسان، ولم يقتض عملا في القلب، ولا الجوارح" (8).   (1) ((الفتاوى)) (13/ 47)؛ وانظر منها (7/ 636 - 637). (2) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 557)، (ص449) ط. ابن الجوزي. (3) لم نجده. (4) ((المقالات)) (1/ 214). (5) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: مجموع ((الفتاوى)) (7/ 544)، (ص430 - 431) ط. ابن الجوزي، وانظر منه (7/ 550)، (ص440) ط. ابن الجوزي. (6) كالرازي، انظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 551)، (ص384) ط. ابن الجوزي؛ و ((الإيمان)) (ص386) ((الفتاوى)) (7/ 403). (7) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 509 – 510 378 – 379) ط. ابن الجوزي. (8) ((الصارم المسلول)) (3/ 960)؛ وراجع مسمى الجهمية، فثمة نقول وإحالات أخرى حول موافقة الاشاعرة للجهمية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 الطريق الثاني: الأقوال التي نقلها شيخ الإسلام عن علماء الأشاعرة في مسمى الإيمان، أو أشار إليها. نقل شيخ الإسلام كلام عدد من علماء الأشاعرة حول مذهبهم في الإيمان، وأكثر من النقل عن أبي القاسم الأنصاري، وقد تخلل هذه النقول تعقبات مهمة من شيخ الإسلام لكلام الأشاعرة كشف فيها عما حواه من اضطراب وتناقضِ، وهذا عرض لهذه النقول على النحو التالي: أولاً: قال أبو القاسم الأنصاري: "وأما مذاهب أصحابنا - يعني الأشاعرة -، فصار أهل التحقيق من أهل الحديث والنظار منهم إلى: أن الإيمان هو: التصديق، وبه قال شيخنا أبو الحسن. واختلف جوابه في معنى التصديق: فقال مرة: التصديق هو: المعرفة بوجود الله، وقدمه، وإلهيته. وقال مرة: التصديق قول في النفس، غير أنه يتضمن المعرفة، ولا يصح أن يوجد بدونها؛ وهذا ما ارتضاه القاضي (1). فإن التصدق والكذب، والتصديق والتكذيب، بالأقوال أجدر، فالتصديق إذا: قول في النفس، ويعبر عنه باللسان، فتوصف العبارة بأنها تصديق؛ لأنها عبارة عن التصديق. هذا ما حكاه شيخنا الإمام" (2). قال شيخ الإسلام معلقا على كلام الأنصاري: "فقد ذكر عن أبي الحسن الأشعري قولين: أحدهما: أن التصديق هو المعرفة، وهذا قول جهم (3). والثاني: أن التصديق قول في النفس يتضمن المعرفة، وهو اختيار ابن الباقلاني، وابن الجويني. وهؤلاء قد صرحوا بأنه يتضمن المعرفة، ولا يتصور أن يقوم في النفس تصديق مخالف لمعرفة كما ذكروه، ولو جاز أن يصدق بنفسه بخلاف علمه واعتقاده لانتقض أصلهم في الإيمان، إذا كان التصديق لا ينافي اعتقاد خلاف ما صدق به، فلا يجب أن يكون مؤمنا بمجرد تصديق النفس على هذا التقدير، وكل من القولين ينقض ما استدل به على أن التصديق غير العلم" (4). ثانياً: قال الأنصاري: "وحكى الإمام أبو القاسم الإسفراييني اختلافا عن أصحاب أبي الحسن في التصديق، ثم قال: والصحيح من الأقاويل في معنى التصديق ما يوافق اللغة؛ لأن التكليف بالإيمان ورد بما يوافق اللغة. والإيمان بالله ورسوله على موافقة اللغة هو: العلم بأن الله ورسوله صادقان في جميع ما أخبرا به. والإيمان في اللغة مطلقا هو: اعتقاد صدق المخبر في خبره؛ إلا أن الشرع جعل هذا التصديق علما، ولا يكفي أن يكون اعتقادا من غير أن يكون علما؛ لأن من صدق الكاذب واعتقد صدقه فقد آمن به، ولهذا قال في صفة اليهود: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النساء: 51]، يعني: يعتقدون صدقهما" (5). ثالثا: قال الجويني: "والمرضي عندنا: أن حقيقة الإيمان: التصديق بالله، فالمؤمن بالله من صدقه.   (1) يعني الباقلاني. انظر: ((المسامرة بشرح المسايرة))، (ص23) من الخاتمة. (2) ((الإيمان)) (ص140) ((الفتاوى)) (7/ 145 - 146)؛ و ((التسعينية)) (2/ 649)، وهو في: ((شرح الإرشاد)) (278/ب – 279/أ). (3) وقد صرح التفتازاني أن الأشعري قد يميل إلى هذا القول. انظر: ((شرح المقاصد)) (5/ 177). (4) ((التسعينية)) (2/ 649 - 651). (5) ((التسعينية)) (2/ 651 - 652). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 ثم التصديق على الحقيقة: كلام النفس، ولا يثبت كلام النفس إلا مع العلم، فإنا أوضحنا أن كلام النفس يثبت على حسب الاعتقاد. والدليل على أن الإيمان هو التصديق صريح اللغة، وأصل العربية، وهو لا ينكر فيحتاج إلى إثباته، ومن التنزيل: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف: 17]، معناه: ما أنت بمصدق لنا" (1).قال شيخ الإسلام: "فقد صرح - يعني الجويني - بأن كلام النفس لا يثبت إلا مع العلم، وأنه إنما يثبت على حسب الاعتقاد، وهذا تصريح بأنه لا يكون مع عدم العلم، وأنه إنما يثبت على سحب الاعتقاد، وهذا تصريح بأنه لا يكون مع عدم العلم، ولا يكون على خلاف المعتقد، وهذا يناقض ما أثبتوا به كلام النفس، وادعوا أنه مغاير للعلم" (2). وقال: "قلت: ليس الغرض هنا ذكر تناقضهم في مسمى الإيمان، وفي التصديق: هل هو تصديق بوجود الله وقدمه وإلاهيته، كما قاله الأشعري؟ أو هو تصديق فيما أخبر به، كما ذكره غيره؟ أو التناقض، كما في كلام صاحب (الإرشاد)، حيث قال: الإيمان هو التصديق بالله، فالمؤمن بالله من صدقه؟ فجعل التصديق بوجوده هو تصديقه في خبره، مع تباين الحقيقتين، فإنه فرق بين التصديق بوجود الشيء وتصديقه، ولهذا يفرق القرآن بين الإيمان بالله ورسوله، وبين الإيمان للرسول، إذ الأول هو الإقرار بذلك، والثاني هو الإقرار له، كما في قوله: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف: 17]، معناه: ما أنت بمصدق لنا" (3).قال شيخ الإسلام: "فقد صرح - يعني الجويني - بأن كلام النفس لا يثبت إلا مع العلم، وأنه إنما يثبت على حسب الاعتقاد، وهذا تصريح بأنه لا يكون مع عدم العلم، ولا يكون على خلاف المعتقد، وهذا يناقض ما أثبتوا به كلام النفس، وادعوا أنه مغاير للعلم" (4). وقال: "قلت: ليس الغرض هنا ذكر تناقضهم في مسمى الإيمان، وفي التصديق: هل هو تصديق بوجود الله وقدمه وإلاهيته، كما قاله الأشعري؟ أو هو تصديق فيما أخبر به، كما ذكره غيره؟ أو التناقض، كما في كلام صاحب (الإرشاد)، حيث قال: الإيمان هو التصديق بالله، فالمؤمن بالله من صدقه؟ فجعل التصديق بوجوده هو تصديقه في خبره، مع تباين الحقيقتين، فإنه فرق بين التصديق بوجود الشيء وتصديقه، ولهذا يفرق القرآن بين الإيمان بالله ورسوله، وبين الإيمان للرسول، إذ الأول هو الإقرار بذلك، والثاني هو الإقرار له، كما في قوله: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا [يوسف: 17]، وفي قوله: يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 61]، وفي قوله: لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ [التوبة: 94] وقد قال: فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ [الأعراف: 158]، فميز بين الإيمان به من الإيمان بكلماته، وكذلك قوله: آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا [البقرة: 136]، وقوله: كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة: 285].   (1) ((التسعينية)) (2/ 648)؛ وهو في ((الإرشاد))، (ص333 - 334)؛ ومثله في العقيدة النظامية، لكنه بين فيها أن من لم يأت بالقول فهو كافر كفر جحود وعناد. انظر: العقيدة النظامية، (ص84). (2) ((التسعينية)) (2/ 649). (3) ((التسعينية)) (2/ 648)؛ وهو في ((الإرشاد))، (ص333 - 334)؛ ومثله في العقيدة النظامية، لكنه بين فيها أن من لم يأت بالقول فهو كافر كفر جحود وعناد. انظر: ((العقيدة النظامية))، (ص84). (4) ((التسعينية)) (2/ 649). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 فليس الغرض أنهم لم يهتدوا لمثل هذا، في مثل هذا الأصل، الذي لم يعرفوا فيه لا الإيمان ولا القرآن، وهما نور الله الذي بعث به رسوله، كما قال: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ [الشورى: 52 - 53].وإنما الغرض أن التصديق قد صرح هؤلاء بأنه هو العلم (1)، أو هو الاعتقاد إذا لم يكن علما، وأنهم مضطرون إلى أن يقولوا ذلك، وهو أبلغ من قول بعضهم: مستلزم للعلم، في تمام ما ذكره عن أبي القاسم الاسفراييني" (2). رابعاً: قال الأنصاري: "ومنهم - يعني الأشاعرة - من اكتفى بترك العناد، فلم يجعل الإقرار أحد ركني الإيمان، فيقول: الإيمان هو التصديق بالقلب، وأوجب ترك العناد بالشرع. وعلى هذا الأصل يجوز أن يعرف الكافر الله، وإنما يكفر بالعناد، لا لأنه ترك ما هو الأهم في الإيمان. وعلى هذا الأصل يقال: إن اليهود كانوا عالمين بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم كفروا عنادا وبغيا وحسدا. قال: وعلى قول شيخنا أبي الحسن: كل من حكمنا بكفره، فنقول: إنه لا يعرف الله أصلا، ولا عرف رسوله، ولا دينه. قال أبو القاسم الأنصاري: كأن المعنى: لا حكم لإيمانه، ولا لمعرفته شرعا" (3). قال شيخ الإسلام معلقا: "وليس الأمر على هذا القول كما قاله الأنصاري هذا، ولكن على قولهم المعاند كافر شرعا، فيجعل الكفر تارة بانتفاء الإيمان الذي في القلب، وتارة بالعناد، ويجعل هذا كافرا في الشرع، وإن كان معه حقيقة الإيمان الذي هو التصديق. ويلزمه أن يكون كافرا في الشرع في أن معه الإيمان الذي هو مثل إيمان الأنبياء والملائكة. والحذاق في المذهب، كأبي الحسن، والقاضي (4)، ومن قبلهم من أتباع جهم عرفوا أن هذا تناقض يفسد الأصل، فقالوا: لا يكون واحد كافرا إلا إذا ذهب ما في قلبه من التصديق. والتزموا أن كل من حكم الشرع بكفره، فإنه ليس في قلبه شيء من معرفة الله، ولا معرفة رسوله، ولهذا أنكر هذا عليهم جماهير العقلاء، وقالوا هذا مكابرة وسفسطة. وقد احتجوا على قولهم بقوله تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22] إلى قوله: أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ [المجادلة: 22]. قالوا: ومفهوم هذا أن من لم يعمل بمقتضاه لم يكتب في قلوبهم الإيمان. قالوا: فإن قيل: معناه، لا يؤمنون إيمانا مجزئا معتدا به، أو يكون المعنى: لا يؤدون حقوق الإيمان، ولا يعملون بمقتضاه، قلنا: هذا عام لا يخصص إلا بدليل. فيقال لهم: هذه الآية فيها نفي الإيمان عمن يواد المحادين لله ورسوله، وفيها أن من لا يود المحادين لله ورسوله، فإن الله كتب في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، وهذا يدل على مذهب السلف أنه لابد في الإيمان من محبة القلب لله ورسوله، ومن بغض من يحاد الله ورسوله، ثم لم تدل الآية على أن العلم الذي في قلوبهم بأن محمدا رسول الله يرتفع لا يبقى منه شيء.   (1) يقول الباقلاني: "الإيمان هو التصديق بالله تعالى، وهو العلم". ((التمهيد))، (ص389)؛ ونقله شيخ الإسلام في: ((الإيمان)) (ص115) ((الفتاوى)) (7/ 121). (2) ((التسعينية)) (2/ 652 - 653). (3) ((الإيمان)) (ص140) ((الفتاوى)) (7/ 146). (4) وكذا ابن فورك: انظر: ((الإيمان)) (ص420) ((الفتاوى)) (7/ 440). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 والإيمان الذي كتب في القلب ليس هو مجرد العلم والتصديق، بل هو تصدق القلب وعمل القلب، ولهذا قال وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22]، فقد وعدهم بالجنة، وقد اتفق الجميع على أن الوعد بالجنة لا يكون إلا مع الإتيان بالمأمور به وترك المحظور، فعلم أن هؤلاء الذين كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه قد أدوا الواجبات التي بها يستحقون ما وعد الله به الأبرار المتقين، ودل على أن الفساق لم يدخلوا في هذا الوعد. ودلت هذه الآية على أنه لا يوجد مؤمن يواد الكفار، ومعلوم أن خلقا كثيرا من الناس يعرف من نفسه أن التصديق في قلبه، لم يكذب الرسول، وهو مع هذا يواد بعض الكفار، فالسلف يقولون ترك الواجبات الظاهرة دليل على انتفاء الإيمان الواجب من القلب، لكن قد يكون ذلك بزوال عمل القلب الذي هو حب الله ورسوله وخشية الله ونحو ذلك، لا يلزم أن لا يكون في القلب من التصديق شيء، وعند هؤلاء كل من نفى الشرع إيمانه دل على أنه ليس في قلبه شيء من التصديق أصلا، وهذا سفسطه عند جماهير العقلاء" (1). خامسا: قال الأنصاري: "حكى الإمام أبو بكر ابن فورك عن أبي الحسن أنه قال: الإيمان هو: اعتقاد صدق المخبر فيما يخبر به، ثم من الاعتقاد ما هو علم، ومنه ما هو ليس بعلم. والإيمان بالله، وهو اعتقاد صدقه، إنما يصح إذا كان عالما بصدقه في إخباره". ثم شرح الأشعري كيف يكون عالما بصدقه في إخباره، ثم قال: "ثم السمع قد ورد بضم شرائط أخر إليه - يعني الإيمان -، وهو أن لا يقترن به ما يدل على كفر من يأتيه فعلا، وتركا. وهو أن الشرع أمره بترك العبادة والسجود للصنم، فلو أتى به دل على كفره، وكذلك لو قتل نبيا أو استخف به دل على كفره، وكذلك لو ترك تعظيم المصحف، أو الكعبة دل على كفره، وكذلك لو خالف إجماع الخاص والعام في شيء أجمعوا عليه دل خلافه إياهم على كفره. فأي واحد مما استدللنا به على كفره مما منع الشرع أن يقرنه بالإيمان، إذا وجب ضمه إلى الإيمان لو وجد، دلنا على أن التصديق الذي هو الإيمان مفقود من قلبه (2).وكذلك كل ما كفرنا به المخالف من طريق التأويل، فإنما كفرناه به؛ لدلالته على فقد ما هو إيمان من قلبه؛ لاستحالة أن يقضي السمع بكفر من معه الإيمان والتصديق بقلبه" (3). قال شيخ الإسلام: "فيقال: لا ريب أن الشارع لا يقضي بكفر من معه الإيمان بقلبه، لكن دعواكم أن الإيمان هو التصديق وإن تجرد عن جميع أعمال القلب غلط. ولهذا قالوا: أعمال التصديق والمعرفة من قلبه، ألا ترى أن الشريعة حكمت بكفره، والشريعة لا تحكم بكفر المؤمن المصدق. لها نقول: إن كفر إبليس لعنه الله كان أشد من كفر كل كافر، وإنه لم يعرف الله بصفاته قطعا، ولا آمن به إيمانا حقيقيا باطنا، وإن وجد منه القول والعبادة.   (1) ((الإيمان)) (ص140 - 142) ((الفتاوى)) (7/ 146 - 148)؛ وانظر منه، (ص420) ((الفتاوى)) (440). (2) انظر: ((المواقف في علم الكلام))، (ص388)؛ و ((شرح المواقف))، للجرجاني، تصحيح محمود الدمياطي، الطبعة الأولى 1419هـ، دار الكتب العلمية ببيروت (5/ 361 - 362)؛ و ((شرح المقاصد)) (5/ 199، 225). (3) ((التسعينية)) (2/ 653 - 654)؛ و ((الإيمان)) (ص143) ((الفتاوى)) (7/ 149)؛ وهو في ((شرح الإرشاد)) (279/أ)، ولم أجده في المطبوع من مجرد مقالات الأشعري، لابن فورك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 وكذلك اليهود، والنصارى، والمجوس، وغيرهم من الكفرة، لم يوجد في قلوبهم حقيقة الإيمان المعتد به في حال حكمنا لهم بالكفر، قال الله تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء [المائدة: 81]، وقوله: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء: 65]، فجعل الله هذه الأمور شرطا في ثبوت حكم الإيمان، فثبت أن الإيمان المعرفة بشرائط أن يكون معتدا به دونها. فيقال: إن قلتم إنه ضم إلى معرفة القلب شروطا في ثبوت الحكم، لم يكن هذا قول جهم، بل يكون هذا قول من جعل الإيمان كالصلاة والحج، وهو وإن كان في اللغة بمعنى القصد والدعاء، لكن الشارع ضم إليه أمورا، إما في الحكم، وإما في الحكم والاسم. وهذا القول قد سلم صاحبه أن حكم الإيمان المذكور في الكتاب والسنة لا يثبت بمجرد تصديق القلب، بل لابد من تلك الشرائط (1). وعلى هذا فلا يمكنه جعل الفاسق مؤمنا إلا بدليل يدل على ذلك، لا بمجرد قوله إن معه تصديق القلب. ومن جعل الإيمان هو تصديق القلب، يقول: كل كافر في النار ليس معه من التصديق بالله شيء، لا مع إبليس، ولا مع غيره. وقد قال الله تعالى: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ [غافر: 48] ". ثم ساق شيخ الإسلام عددا من الآيات، ثم قال: "إلى آيات أخر كثيرة تدل على أن الكفار في الآخرة يعرفون ربهم، فإن كان مجرد المعرفة إيمانا كانوا مؤمنين في الآخرة. فإن قالوا: الإيمان في الآخرة لا ينفع، وإنما الثواب على الإيمان في الدنيا. قيل: هذا صحيح، لكن إذا لم يكن الإيمان إلا مجرد العلم، فهذه الحقيقة لا تختلف، فإن لم يكن العمل من الإيمان، فالعارف في الآخرة لم يفته شيء من الإيمان. لكن أكثر ما يدعونه إنه حين مات لم يكن في قلبه من التصديق بالرب شيء. ونصوص القرآن في غير موضع تدل على أن الكفار كانوا في الدنيا مصدقين بالرب" (2). سادسا: قال أبو القاسم الإسفراييني فيما نقله عنه الأنصاري: "وهل يشترط في الإيمان الإقرار؟ اختلفوا - يعني أصحابه الأشاعرة - فيه بعد أن لم يختلفوا في أن ترك العناد شرط، وهو أن يعتقد أنه متى طولب بالإقرار أتى به (3)، فأما قبل أن يطالب به: منهم من قال: لابد من الإتيان به حتى يكون مؤمنا، وهذا القائل يقول: التصديق هو المعرفة والإقرار جميعا. وهذا قول الحسين بن الفضل البجلي، وهو مذهب أبي حنيفة، وأصحابه، وبقريب من هذا كان يقول الإمام أبو محمد عبدالله بن سعيد القطان من متقدمي أصحابنا. ونحن نقول: من أتى بالتصديق بالقلب واللسان، فهو المؤمن باطنا وظاهرا. ومن صدق بقلبه، وامتنع من الإقرار، فهو معاند كافر، يكفر كفر عناد. ومن أقر بلسانه، وجحد بقلبه، فهو كافر عند الله وعند نفسه، ويجري عليه أحكام الإيمان؛ لما أظهر من علامات الإيمان.   (1) وانظر ((الإيمان)) (ص419 - 420) ((الفتاوى)) (7/ 439 - 440)، ويلاحظ أن القول بأن الإيمان هو التصديق والمعرفة، وأن الشرع زاده بقيود وشروط قول مرجوح عند جماهير العلماء كما ذكر شيخ الإسلام، راجع الكلام على الحجة الرابعة من حجج المرجئة. (2) ((الإيمان)) (ص143 - 146) ((الفتاوى)) (7/ 149 - 151). (3) انظر: ((المسامرة بشرح المسايرة))، (ص9) من الخاتمة؛ و ((حاشية ابن عابدين)) (6/ 343). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 ومن أصحابنا من جعل المعارف مجموعة تصديقا واحدا، وهي المعرفة بالله تعالى وصفاته ورسوله، وبأن دين الإسلام حق. قال: وهذه الجملة تصديق واحد، هذا ما ذكره أبو القاسم الاسفراييني" (1). قال شيخ الإسلام: "قلت: ليس المقصود هنا بيان ما ذكروه من قول الجهمية والمرجئة في الإيمان، وما في ذلك من التناقض، حيث جعله التصديق الذي في القلب، ثم سلبه عمن ترك النطق عنادا. وأن عنده كل ما سمي كفرا؛ فلأنه مستلزم لعدم هذا التصديق. ولكن دلالته على العدم تعلم تارة بالعقل، وتارة بالشرع؛ لأن ما يقول بالقلب من الاستكبار على الله، والبغض له ولرسوله، ونحو ذلك يكون هو في نفسه كفرا. وما ذكروه من التصديق الخاص الذي وصفوه، وهو تصديق بأصول الكلام الذي وضعوه. وإنما الغرض أنهم يجعلون التصديق هو نفس المعرفة، كما في كلام هذا وغيره، وكما ذكروه عن أبي الحسن، وغايتهم إذا لم يجعلوه مستلزما للمعرفة أن يجعلوه مستلزما لها" (2). سابعاً: قال الأنصاري شارحا رأي أبي إسحاق الاسفراييني: "رأيت في تصانيفه - يعني أبا إسحاق الاسفراييني - أن المؤمن إنما يكون مؤمنا حقا إذا حقق إيمانه بالأعمال الصالحة، كما أن العالم إنما يكون عالما حقا إذا عمل بما علم. واستشهد بقول الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا إلى قوله: أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 2 - 4]. وقال الأستاذ أبو إسحاق في المختصر له: حقيقة الإيمان في اللغة العبارة. قال - يعني أبا إسحاق -: وتحقيق المعرفة تحصيل ما قدمناه من المسائل في هذا الكتاب وتحقيقه. قلت - القائل الأنصاري -: أراد بالكتاب هو المختصر، وأشار بما قدمه فيه إلى جملة ما قدمه من قواعد العقائد. وقال في هذا الكتاب: الإيمان هو: المعرفة، واعتقاد الإقرار عند الحاجة، أو مام يقوم مقام الإقرار. وقال في كتاب الأسماء والصفات: واتفقوا على أن ما يستحق به المكلف اسم الإيمان في الشريعة أوصاف كثيرة، وعقائد مختلفة، وإن اختلفوا فيها على تفصيل ذكرناه. واختلفوا في إضافة ما لا يدخل في جملة التصديق إليه لصحة الاسم، فمنها: ترك قتل الرسول، وترك تعظيمه، وترك تعظيم الأصنام، فهذا من التروك. ومن الأفعال: نصرة الرسول، والذب عنه. فقالوا: إن جميعه مضاف إلى التصديق شرعا. وقال آخرون: إنه من الكبائر، لا يخرج المرء بالمخالفة فيه عن الإيمان" (3). يقول شيخ الإسلام معلقا على هذا:"قلت: وهذان القولان ليسا قول جهم، لكن من قال ذلك، فقد اعترف بأنه ليس مجرد تصديق القلب، وليس هو شيئا واحدا، وقال: إن الشرع تصرف فيه، وهذا يهدم أصلهم، ولهذا كان حذاق هؤلاء، كجهم، والصالحي، وأبي الحسن, والقاضي أبي بكر، على أنه لا يزول عنه اسم الإيمان إلا بزوال العلم من قلبه" (4).   (1) ((التسعينية)) (2/ 655 - 657)؛ وهو في: ((شرح الإرشاد)) (279/أ)؛ وانظر: ((التسعينية)) (2/ 647). (2) ((التسعينية)) (2/ 657 - 658). (3) ((التسعينية)) (2/ 658 - 659)؛ وانظر: ((الإيمان)) (ص139) ((الفتاوى)) (7/ 144 - 145)؛ وهو في: ((شرح الإرشاد)) (279/ أ – ب). (4) ((الإيمان)) (ص139) ((الفتاوى)) (7/ 145)؛ (ص140 9؛ و ((التسعينية)) (2/ 658 - 659). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 وقال شيخ الإسلام أيضا: "وإنما الغرض بيان ما ذكره الاسفراييني من أن التصديق لا يتحقق إلا بالمعرفة والإقرار، وإن كان أراد المعرفة كما قرره هو من قواعده، ولم يحل ذلك على ما جاء به الرسول من أصول الإيمان. فإذا كان التصديق لا يتحقق إلا بالمعرفة وبالإقرار أيضا باللسان كان هذا من كلامهم دليلا على امتناع وجود التصديق بالقلب وتحققه إلا مع الإقرار باللسان، وهذا يناقض قولهم إن الكلام مجرد ما يقوم بالنفس، فهذه مناقضة ثابتة، فإن التصديق الذي في القلب إن تحقق بدون لفظ بطل هذا، وإن لم يتحقق إلا بلفظ أو ما يقوم مقامه بطل ذاك" (1)، ثم استمر رحمه الله في شرح ذلك. ثامناً: قال الرازي: "قد نقلنا عن الشافعي رضي الله عنه أن الإيمان قول وعمل واعتقاد. وقال المتكلمون: الإيمان ليس إلا التصديق بالقلب، واحتجوا بوجوه"، ثم ذكرها، ثم قال: "واعلم أن قول الشافعي لا يمكن جعله من المعايب، فإن الذي ذهب إليه مذهب قوي في الاستدلال والاحتجاج، إلا أن الذي اختاره علماء الأول من أصحابنا هو هذا القول الثاني. واعلم أن القوم قد يقررون العيب من وجه آخر، فيقولون: قد تقرر في بدائه العقول أن مسمى الشيء إذ كان مجموع أشياء، فعند فوات تلك الأشياء لابد أن يفوت المسمى، فلو كان العمل جزء مسمى الإيمان، لكان عند فوات العمل وجب أن لا يبقى الإيمان، لكن الشافعي رضي الله عنه يقول: العمل داخل في مسمى الإيمان، ثم يقول: الإيمان باق مع فوات العمل، فكان هذا مناقضة"، ثم ذكر قول المعتزلة، ثم قال: "وللشافعي أن يجيب، فيقول: الأصل في الإيمان هو الإقرار والاعتقاد، فأما الأعمال فإنها من ثمرات الإيمان وتوابعه، وتوابع الشيء قد يطلق عليها اسم الأصل على سبيل المجاز، وإن كان يبقى الاسم مع فوات تلك التوابع، كما أن أغصان الشجرة قد يقال: إنها من الشجرة، مع أن اسم الشجرة باق بعد فناء الأغصان، فكذلك ها هنا. واعلم أن هذا التقدير يكون اسم الإيمان حقيقة في الإقرار والاعتقاد، ويكون إلطاق اسم الإيمان على الأعمال ليس إلا على سبيل المجاز، وفيه ترك لذلك المذهب" (2). هذه الجملة التي أوردها الرازي أشار إليها شيخ الإسلام رحمه الله، وعلق عليها بقوله: "والرازي لما صنف مناقب الشافعي ذكر قوله في الإيمان - وقول الشافعي قول الصحابة والتابعين، وقد ذكر الشافعي أنه إجماع من الصحابة والتابعين ومن لقيه - استشكل قول الشافعي جدا؛ لأنه كان قد انعقد في نفسه شبهة أهل البدع في الإيمان من الخوارج والمعتزلة والجهمية والكرامية وسائر المرجئة، وهو أن الشيء المركب إذا زال بعض أجزائه لزم زواله كله، لكن هو لم يذكر إلا ظاهر شبهتهم، والجواب عما ذكروه سهل، فإنه يسلم له أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت، لكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء. والشافعي مع الصحابة والتابعين وسائر السلف يقولون: إن الذنب يقدح في كمال الإيمان، ولهذا نفى الشارع الإيمان عن هؤلاء، فذلك المجموع الذي هو الإيمان لم يبق مجموعا مع الذنوب، لكن يقولون: بقي بعضه، إما أصله، وإما أكثره، وإما غير ذلك فيعود الكلام إلى أنه يذهب بعضه ويبقى بعضه" (3).   (1) ((التسعينية)) (2/ 661). (2) ((مناقب الشافعي))، للرازي، (ص145 - 147)، وانظر: ((معالم أصول الدين))، له، (ص133 - 135). (3) ((الإيمان)) (ص386 – 387) ((الفتاوى)) (7/ 403 – 404)؛ وانظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن ((الفتاوى)) (7/ 511 384 - 385) ط. ابن الجوزي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 وهذا الجواب سيأتي بعون الله عرضه مفصلا في نقض هذه الشبهة الإرجائية، والمقصود هنا تبيان مبلغ موافقة الأشاعرة للجهمية في مسمى الإيمان، وأنه لم يخرجهم من هذه الموافقة ما جاء عنهم من اضطراب في تفسير التصديق، أو ما أضافوه من شروط إلى التصديق. فأما ما أضافوه من شروط، فمرده يعود إلى قول الجهمية، وأنه لا كفر إلا بزوال التصديق من القلب. وأما ما فسروا به التصديق، وأنه المعرفة، أو هو قول النفس المتضمن للمعرفة، أو هو العلم، أو كلام النفس، ولا يثبت إلا بالعلم. فالذي اشتهر عنهم هو دعوى التفريق بين المعرفة والتصديق، ومع ذلك فإنهم لا يسلمون من النقد الكاشف لفساد مقالتهم. يقول شيخ الإسلام: "والأشعري وأصحابه يفرقون بين معرفة القلب وبين تصديق القلب، فإن تصديق القلب قوله، وقول القلب عندهم ليس هو العلم، بل نوعا آخر" (1)، ثم قال في نقد ذلك: "فإن الفرق بين معرفة القلب وبين مجرد تصديق القلب الخالي عن الانقياد - الذي يجعل قول القلب - أمر دقيق، وأكثر العقلاء ينكرونه، وبتقدير صحته لا يجب على كل أحد أن يوجب شيئين لا يتصور الفرق بينهما. وأكثر الناس لا يتصورون الفرق بين معرفة القلب وتصديقه، ويقولون إن ما قاله ابن كلاب والأشعري من الفرق كلام باطل لا حقيقة له، وكثير من أصحابه اعترف بعدم الفرق. وعمدتهم من الحجة إنما هو خبر الكاذب، قالوا: ففي قلبه خبر بخلاف علمه، فدل على الفرق (2). فقال لهم الناس: ذاك بتقدير خبر وعلم ليس هو علما حقيقيا، ولا خبرا حقيقيا، ولما أثبتوه من قول القلب المخالف للعلم والإرادة، إنما يعود إلى تقدير علوم وإرادات، لا إلى جنس آخر يخالفها. ولهذا قالوا: إن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بقلبه خبر بخلاف علمه، وإنما يمكنه أن يقول ذلك بلسانه، وأما أن يقوم بقلبه خبر بخلاف ما يعلمه، فهذا غير ممكن"، ثم أطال شيخ الإسلام في شرح ذلك، وختم ذلك بقوله:"والمقصود هنا أن الإنسان إذا رجع على نفسه عسر عليه التفريق بين علمه بأن الرسول صادق وبين تصديق قلبه تصديقا مجردا عن انقياد وغيره من أعمال القلب بأنه صادق" (3). وبعد هذا التحقيق، وبيان ضعف ما اعتمده الأشاعرة في كون الإيمان هو التصديق، يرد عليهم وجه آخر يزيد قولهم ضعفا، وهو أن الإيمان إن صح أنه التصديق، فهو في كونه دليلا على قول الكرامية وفقهاء المرجئة أولى من أن يكون دليلا على قولهم الذي وافقوا فيه الجهمية. يقول شيخ الإسلام رحمه الله شارحا ذلك: "ومما يعارضون به أن يقال: هذا الذي ذكرتموه إن كان صحيحا، فهو أدل على قول المرجئة، بل على قول الكرامية منه على قولكم. وذلك أن الإيمان إن كان كما ذكرتم، فالتصديق نوع من أنواع الكلام، فاستعمال لفظ الكلام والقول ونحو ذلك في المعنى واللفظ، بل في اللفظ الدال على المعنى أكثر في اللغة من استعماله في المعنى المجرد عن اللفظ، بل لا يوجد قط إطلاق اسم الكلام ولا أنواعه، كالخبر أو التصديق والتكذيب والأمر والنهي على مجرد المعنى من غير شيء يقترن به من عبارة ولا إشارة ولا غيرهما، وإنما يستعمل مقيدا. وإذا كان الله إنما أنزل القرآن بلغة العرب، فهي لا تعرف التصديق والتكذيب وغيرهما من الأقوال، إلا ما كان معنى ولفظا، أو لفظا يدل على معنى. ولهذا لم يجعل الله أحدا مصدقا للرسل، بمجرد العلم والتصديق الذي في قلوبهم حتى يصدقوهم بألسنتهم.   (1) ((الإيمان)) (ص379) ((الفتاوى)) (7/ 396). (2) وقد أقر بعض الأشاعرة – كالرازي – بفساد هذه الحجة. انظر: ((التسعينية)) (2/ 641 - 642). (3) ((الإيمان)) (ص381 - 383) ((الفتاوى)) (7/ 398 - 400)؛ وانظر: ((التسعينية)) (2/ 661). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 ولا يوجد في كلام العرب أن يقال: فلان صدق فلانا أو كذبه، إذا كان يعلم بقلبه أنه صادق أو كاذب، ولم يتكلم بذلك. كما لا يقال: أمهر أو نهاه، إذا قام بقلبه طلب مجرد عما يقترن به من لفظ أو إشارة أو نحوهما. ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس)) (1).، وقال: ((إن الله يحدث من أمره ما شاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة)) (2) , اتفق العلماء على أنه إذا تكلم في الصلاة ما عدا لغير مصلحتها بطلت صلاته. واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب من تصديق أمور دنيوية وطلب لا يبطل الصلاة، وإنما يبطلها التكلم بذلك، فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام"، ثم استمر في سرد الأدلة على ذلك، ثم قال: "وفي الجملة حيث ذكر الله في كتابه عن أحد من الخلق من الأنبياء أو أتباعهم، أو مكذبيهم أنهم قالوا، ويقولون، وذلك قولهم، وأمثال ذلك، فإنما يعني به المعني مع اللفظ. فهذا اللفظ، وما تصرف منه من فعل ماض، ومضارع، وأمر، ومصدر، واسم فاعل، من لفظ القول والكلام ونحوهما، إنما يعرف في القرآن والسنة وسائر كلام العرب إذا كان لفظا ومعنى، وكذلك أنواعه كالتصديق والتكذيب والأمر والنهي وغير ذلك، وهذا مما لا يمكن أحدا جحده فإنه أكثر من أن يحصى". ثم بسط شيخ الإسلام القول في رد غلط المبتدعة في مفهوم الكلام، ثم قال:"فتبين أنه إن كان الإيمان في اللغة هو التصديق، والقرآن إنما أراد به مجرد التصديق الذي هو قول ولم يسم العمل تصديقا فليس الصواب إلا قول المرجئة إنه اللفظ والمعنى، أو قول الكرامية إنه قول باللسان فقط، فإن تسمية قول اللسان قولا أشهر في اللغة من تسمية معنى القلب قولا، كقوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح: 11]، وقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: 8]، وأمثال ذلك، بخلاف ما في النفس، فإنه إنما يسمى حديثا" (3). المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 231   (1) رواه مسلم (537). (2) رواه البخاري معلقا بعد حديث (7521) ورواه أبو داود والنسائي من طريق أبي وائل عن ابن مسعود مطولا. (3) ((الإيمان)) (ص126 - 134) ((الفتاوى)) (7/ 132 - 140) باختصار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 المطلب الخامس: حجج المرجئة ذكر شيخ الإسلام أن للمرجئة حججا بسببها اشتبه الأمر عليهم، فوقعوا في الغلط في باب الإيمان. يقول رحمه الله: "والمرجئة الذين قالوا الإيمان تصديق القلب وقول اللسان، والأعمال ليست منه، كان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها، ولم يكن قولهم مثل قول جهم، ... ، ولكن هؤلاء لهم حجج شرعية بسببها اشتبه الأمر عليهم: فإنهم رأوا أن الله قد فرق في كتابه بين الإيمان والعمل، فقال في غير موضع: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [البقرة: 277]. ورأوا أن الله خاطب الإنسان بالإيمان قبل وجود الأعمال، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة: 6]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة: 9]. وقالوا: لو أن رجلا آمن بالله ورسوله ضحوة، ومات قبل أن يجب عليه شيء من الأعمال، مات مؤمنا، وكان من أهل الجنة، فدل على أن الأعمال ليست من الإيمان"، ثم قال شيخ الإسلام: "والمرجئة - المتكلمون منهم، والفقهاء منهم - يقولون: إن الأعمال قد تسمى إيمانا مجازا؛ لأن العمل ثمرة الإيمان ومقتضاه؛ ولأنها دليل عليه. ويقولون: قوله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)): مجاز" (1). فهذه أربع حجج ساقها شيخ الإسلام في هذا الموضع، وهي حجج مشتركة بين فقهاء المرجئة وغيرهم من المرجئة، وثمة حجج أخرى مشتركة بينهم أيضا، ومنها: - توهمهم أن الإيمان لو كان مركبا للزم منه ذهابه كله بذهاب بعضه، ولخرج العصاة من الإيمان، وهذا قول الخوارج، وللزم منه اجتماع الإيمان والكفر في الشخص، وهذا مخالف للإجماع عندهم. - دعواهم أن الإيمان في اللغة مجرد التصديق. - الاحتجاج بنصوص الوعد. - الاحتجاج بحديث الجارية. فهذه هي حجج المرجئة فيما ذهبوا إليه اشتركوا بالقول بها، وقد بلغت سبع حجج، سيقت على وجه الإجمال، وتحتجا إلى تفصيل يبين وجه الاستدلال، وجواب يزيل الإشكال، وهذا أوان ذلك بعون الله تعالى: الحجة الأولى ما جاء في النصوص من العطف بين الإيمان والعمل استدل المرجئة بالنصوص التي فيها عطف العمل على الإيمان، إذ فهموا من هذا العطف المغايرة بين المعطوفين، ومن ثم خروج المعطوف من المعطوف عليه. قال شيخ الإسلام موردا هذه الحجة، ومجيبا عنها:"قالوا: الأعمال ليست من الإيمان؛ لأن الله فرق بين الإيمان والأعمال في كتابه (2). ثم قال الفقهاء المعتبرون من أهل هذا القول: إن الإيمان هو تصديق القلب، وقول اللسان. وهذا المنقول عن حماد بن أبي سليمان، ومن وافقه، كأبي حنيفة، وغيره. وقال جهم، والصالحي، ومن وافقهما من أهل الكلام، كأبي الحسن، وغيره: إنه مجرد تصديق القلب.   (1) رواه البخاري (9) , ومسلم (35) واللفظ له, من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) انظر مواضع ورود التفريق بين الإيمان والعمل في القرآن الكريم في: ((المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم))، (ص 522 - 523)؛ وقد ساق ابن بطة رحمه الله الآيات التي فيها قرن الإيمان بالعمل الصالح. انظر: ((الإبانة الكبرى)) (2/ 780 - 787). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 وفصل الخطاب في هذا الباب: أن اسم الإيمان قد يذكر مجردا، وقد يذكر مقرونا بالعمل الصالح، أو بالإسلام. فإذا ذكر مجردا: تناول الأعمال، كما في الصحيحين: ((الإيمان بضع وستون شعبة، أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) (1)، وفيهما: أنه قال لوفد عبد القيس: ((آمركم بالإيمان بالله، وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله , وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وتعطوا من المغنم الخمس)) (2).وإذا ذكر مع الإسلام، كما في حديث جبريل أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان، ففرق بينهما، فقال: ((الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ورسله)) إلى آخره، (3). وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((الإسلام علانية، والإيمان في القلب)) (4). فلما ذكرهما جميعا: ذكر أن الإيمان في القلب، والإسلام ما يظهر منه الأعمال" (5). وفي شرح مطول لمعنى الإيمان حال الإفراد، وحال اقترانه بغيره يقول رحمه الله: "وأما إذا قيد الإيمان، فقرن بالإسلام، أو بالعمل الصالح، فإنه قد يراد به ما في القلب من الإيمان باتفاق الناس. وهل يراد به أيضا المعطوف عليه، ويكون من باب عطف الخاص على العام، أو لا يكون حين الاقتران داخلا في مسماه، بل يكون لازما له على مذهب أهل السنة، أو لا يكون بعضا ولا لازما؟ هذا فيه ثلاثة أقوال الناس، ... ، وهذا موجود في عامة الأسماء، يتنوع مسماها بالإطلاق والتقييد" (6). ثم ذكر أمثلة على هذا التنوع، ثم قال: "وهذه الأسماء تختلف دلالتها بالإطلاق والتقييد والتجريد والاقتران، تارة يكونان إذا أفرد أحدهما أعلم من الآخر، كاسم الإيمان والمعروف مع العمل والصدق، وكالمنكر مع الفحشاء ومع البغي، ونحو ذلك. وتارة يكونان متساويين في العموم والخصوص، كلفظ الإيمان والبر والتقوى، ولفظ الفقير والمسكين، فأيها أطلق تناول ما يتناوله الآخر" (7). ثم قال شيخ الإسلام بعد شرحه بعض الأمثلة:"وهذا باب واسع يطول استقصاؤه، وهو من أنفع الأمور في معرفة دلالة الألفاظ مطلقا، وخصوصا ألفاظ الكتاب والسنة، وبه تزول شبهات كثيرة، كثر فيها نزاع الناس، من جملتها مسألة الإيمان والإسلام" (8). وبعد هذا التأصيل شرع شيخ الإسلام في تحرير أنواع العطف في القرآن، وسائر الكلام؛ ليصل من بعده إلى نوعه بين الإيمان والعمل، فقال: "وعطف الشيء على الشيء في القرآن، وسائر الكلام، يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، مع اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم الذي ذكر لهما. والمغايرة على مراتب: أعلاها: أن يكونا متباينين، ليس أحدهما هو الآخر، ولا جزؤه، ولا يعرف لزومه له (9).   (1) رواه البخاري (9) , ومسلم (35) واللفظ له, من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) رواه البخاري (50) , ومسلم (9) من حديث ابن عباس رضي الله عنه. واللفظ للبخاري. (3) رواه البخاري (7556) , ومسلم (17) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (4) رواه أحمد (12404) (3/ 134) , من حديث أنس رضي الله عنه, قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 57): رجاله رجال الصحيح ما خلا علي بن مسعدة وقد وثقه ابن حبان وأبو داود الطيالسي وأبو حاتم وابن معين وضعفه آخرون, وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (2280). (5) ((الفتاوى)) (18/ 271 - 272). (6) ((الإيمان)) (ص153 - 154) ((الفتاوى)) (7/ 162). (7) ((الإيمان)) (ص159) ((الفتاوى)) (7/ 167)؛ وانظر: مجموعة ((الفتاوى الكبرى)) (2/ 316). (8) ((الإيمان)) (ص161) ((الفتاوى)) (7/ 169). (9) أي لا يكون بينهما تلازم. انظر: ((شرح الطحاوية)) (2/ 484). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 كقوله: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [الفرقان: 59]، ونحو ذلك، وقوله: وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة: 98]، وقوله: وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ [عمران: 3 - 4]، وهذا هو الغالب. ويليه: أن يكون بينهما لزوم. كقوله: وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ [البقرة: 42]، وقوله: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 115]، وقوله: وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [النساء: 136] "، ثم أورد جملة من الأمثلة على هذا النوع، معلقا عليها، ثم قال: "والثالث: عطف بعض الشيء عليه. كقوله: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى [البقرة: 238]، وقوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب: 7]، وقوله: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ [البقرة: 98]، وقوله: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا [الأحزاب: 27]. والرابع: عطف الشيء على الشيء؛ لاختلاف الصفتين. كقوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [الأعلى: 1 - 4]، وقوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة: 3 - 4] " (1). وبعد هذا التحقيق قال شيخ الإسلام: "وأما قولهم إن الله فرق بين الإيمان والعمل في مواضع، فهذا صحيح. وقد بينا أن الإيمان إذا أطلق: أدخل الله ورسوله فيه الأعمال المأمور بها، وقد يقرن بالأعمال، وذكرنا نظائر لذلك كثيرة، وذلك لأن أصل الإيمان هو ما في القلب، والأعمال الظاهرة لازمة لذلك، لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح، بل متى نقصت الأعمال الظاهرة، كان لنقص الإيمان الذي في القلب، فصار الإيمان متناولا للملزوم واللازم، وإن كان أصله ما في القلب، وحيث عطفت عليه الأعمال، فإنه أريد أنه لا يكتفي بإيمان القلب، بل لابد معه من الأعمال الصالحة. ثم للناس في مثل هذا قولان: منهم من يقول: المعطوف دخل في المعطوف عليه أو لا، ثم ذكر باسمه الخاص تخصيصا له؛ لئلا يظن أنه لم يدخل في الأول، وقالوا هذا في كل ما عطف فيه خاص على عام.   (1) ((الإيمان)) (ص163 - 168) ((الفتاوى)) (7/ 172 - 177). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 كقوله: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ [البقرة: 98]، وقوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب: 7]، وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ [محمد: 2]، فخص الإيمان بما نزل على محمد بعد قوله وَالَّذِينَ آمَنُوا، وهذه نزلت في الصحابة وغيرهم من المؤمنين، وقوله: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى [البقرة: 238]، وقوله: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ [البينة: 5]، فإنه قصد أو لا تكون العبادة لله وحده لا لغيره، ثم أمر بالصلاة والزكاة ليعلم أنهما عبادتان واجبتان، فلا يكتفي بمطلق العبادة الخالصة دونهما. وكذلك يذكر الإيمان أولا؛ لأنه الأصل الذي لابد منه، ثم يذكر العمل الصالح، فإنه أيضا من تمام الدين، لابد منه، فلا يظن الظان اكتفاء بمجرد إيمان ليس معه العمل الصالح، ... ،. فعلى قول هؤلاء يقال: الأعمال الصالحة المعطوفة على الإيمان دخلت في الإيمان، وعطفت عليه عطف الخاص على العام؛ إما لذكره خصوصا بعد عموم، وإما لكونه إذا عطف كان دليلا على أنه لم يدخل في العام. وقيل: بل الأعمال في الأصل ليست من الإيمان، فإن أصل الإيمان هو ما في القلب، ولكن هي لازمة له، فمن لم يفعلها كان إيمانه منتفيا؛ لأن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، لكن صارت بعرف الشارع داخلة في اسم الإيمان إذا أطلق، كما تقدم في كلام النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا عطفت عليه ذكرت؛ لئلا يظن الظان أن مجرد إيمانه بدون الأعمال الصالحة اللازمة للإيمان يوجب الوعد، فكان ذكرها تخصيصا وتنصيصا؛ ليعلم أن الثواب الموعود به في الآخرة، وهو الجنة بلا عذاب، لا يكون إلا لمن آمن وعمل صالحا، لا يكون لمن ادعى الإيمان ولم يعمل. وقد بين سبحانه في غير موضع أن الصادق في قوله: آمنت، لابد أن يقوم بالواجب، وحصر الإيمان في هؤلاء يدل على انتفائه عمن سواهم" (1). ويقول شيخ الإسلام: "إذا تبين هذا، وعلم أن الإيمان الذي في القلب من التصديق والحب وغير ذلك يستلزم الأمور الظاهرة من الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة، كما أن القصد التام مع القدرة يستلزم وجود المراد، وأنه يمتنع مقام الإيمان الواجب في القلب من غير ظهور موجب ذلك ومقتضاه، زالت الشبهة العلمية في هذه المسألة، ولم يبق إلا نزاع لفظي في أن موجب الإيمان الباطن هل هو جزء منه داخل في مسماه، فيكون لفظ الإيمان دالا عليه بالتضمن والعموم، أو هو لازم للإيمان، ومعلول له، وثمرة له، فتكون دلالة الإيمان عليه بطريق اللزوم؟ وحقيقة الأمر أن اسم الإيمان يستعمل تارة هكذا وتارة هكذا، كما قد تقدم.   (1) ((الإيمان)) (ص186 – 190) ((الفتاوى)) (7/ 198 - 202). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 فإذا قرن اسم الإيمان بالإسلام أو العمل كان ذلك دالا على الباطن فقط، وإن أفرد اسم الإيمان، فقط يتناول الباطن والظهر، وبهذا تأتلف النصوص. فقوله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) (1).، أفرد لفظ الإيمان فدلخ فيه الباطن والظاهر. وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر - ذكره مع قوله صلى الله عليه وسلم- أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت)) (2)، فما قرنه باسم الإسلام ذكر ما يخصه، فالاسم في ذلك الحديث مجرد عن الاقتران، وفي هذا الحديث مقرون باسم الإسلام". ثم ذكر شيخ الإسلام تنوع دلالة اسم الإسلام حال إفراده، وحال اقترانه باسم الإيمان، ثم قال:"ومن علم أن دلالة اللفظ تختلف بالإفراد والاقتران، كما في اسم الفقير والمسكين، والمعروف والمنكر والبغي، وغير ذلك من الأسماء، كما في لغات سائر الأمم، عربها وعجمها، زاحت عنه الشبهة في هذا الباب" (3). وقال: "فاسم الإيمان تارة يطلق على ما في القلب من الأقوال القلبية والأعمال القلبية، مثل التصديق والمحبة والتعظيم ونحو ذلك، وتكون الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة لوازمه وموجباته ودلائله. وتارة على ما في القلب والبدن جعلا لموجب الإيمان ومقتضاه داخلا في مسماه. وبهذا يتبين أن الأعمال الظاهرة تسمى إسلاما، فإنها تدخل في مسمى الإيمان تارة، ولا تدخل فيه تارة. وذلك أن الاسم الواحد تختلف دلالته بالإفراد والاقتران، فقد يكون عند الإفراد فيه عموم لمعنيين، وعند الاقتران لا يدل إلا على أحدهما، كلفظ الفقير والمسكين، إذا أفرد أحدهما تناول الآخر، وإذا جمع بينهما كان لكل واحد مسمى يخصه"، ثم قال:"والأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة موجب الأعمال الباطنة ولازمها، وإذا أفرد الإيمان، فقد يتناول هذا وهذا، كما في قوله ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) (4).وحينئذ فيكون الإسلام داخلا في مسمى الإيمان، وجزءا منه، فيقال حينئذ: إن الإيمان اسم لجميع الطاعات الباطنة والظاهرة" (5). وقال رحمه الله: "وهذا الباب يكون تارة مع كون أحدهما بعض الآخر، فيعطف عليه تخصيصا له بالذكر؛ لكونه مطلوبا بالمعنى العام والمعنى الخاص. وتارة تتنوع دلالة الاسم بحال الإفراد والاقتران، فإذا أفرد عم، وإذا قرن بغيره خص. كاسم الفقير والمسكين، لما أفرد أحدهما في مثل قوله: لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ [البقرة: 273]، وقوله: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [المائدة: 89] دخل فيه الآخر، ولما قرن بينهما في قوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ [التوبة: 60] صارا نوعين. وقد قيل: إن الخاص المعطوف على العام لا يدخل في العام حال الاقتران، بل يكون من هذا الباب. والتحقيق أن هذا ليس لازما.   (1) رواه البخاري (9) , ومسلم (35) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, واللفظ لمسلم. (2) رواه مسلم (35) , من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (3) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 575 - 576)، (ص481 – 483) ط. دار ابن الجوزي باختصار. (4) رواه البخاري (9) , ومسلم (35) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, واللفظ لمسلم. (5) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 551 - 552)، (ص442 – 443) ط. ابن الجوزي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 قال تعالى: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة: 98]، وقوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب: 7]، وذكر الخاص مع العام يكون لأسباب متنوعة: تارة لكونه له خاصية ليست لسائر أفراد العام، كما في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى. وتارة لكون العام في إطلاق قد لا يفهم منه العموم، كما في قوله: هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ [البقرة: 2 - 4]، فقوله: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يتناول كل الغيب الذي يجب الإيمان به، لكن فيه إجمال، فليس فيه دلالة على أن من الغيب ما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، وقد يكون المقصود أنهم يؤمنون بالمخبر به وهو الغيب وبالإخبار بالغيب وهو ما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. ومن هذا الباب قوله تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ [العنكبوت: 45]، وقوله تعالى وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ [الأعراف: 170]، وتلاوة الكتاب هي أتباعه والعمل به" (1).وكلام شيخ الإسلام في تقرير هذا الجواب كثير (2)، وكان من المهم إيراد هذا العدد من النقول عنه رحمه الله في رد هذه الشبهة الإرجائية، ويمكن تلخيص ما تقدم بأن يقال: إن مجيء لفظ الإيمان في النصوص له حالان: الحال الأولى: أن يذكر الإيمان مفردا، مجردا، مطلقا. فهنا يكون معنى الإيمان متناولا للباطن والظاهر، من القول والعمل. الحال الثانية: أن يذكر مقيدا ومقرونا بغيره. وهنا يكون معنى الإيمان هو ما في القلب، ثم إن المقترن به والمعطوف عليه، وهو العمل، لا يخلو من احتمالين: أحدهما: أن يكون جزءاً من الإيمان، داخلا في مسماه، وإنما عطف عليه تخصيصا له بالذكر، من باب عطف الخاص على العام. والثاني: أن يكون غير داخل في مسماه، لكنه من لوازمه وموجباته ومقتضياته ودلائله، فالإيمان ما دام موجودا لزم ضرورة حصول العمل، ولا يمكن وجود الإيمان بدون العمل. وتتميما لفقه المسألة أبان شيخ الإسلام عن أن مجيء اسم الإيمان في النصوص أكثره مقيدا، وأنه إن جاء مطلقا فهو مفسر بما يبينه. يقول رحمه الله تعالى: "ولفظ الإيمان أكثر ما يذكر في القرآن مقيدا، فلا يكون ذلك اللفظ متنا ولا لجميع ما أمر الله به، بل يجعل موجبا للوازمه، وتمام ما أمر به، وحينئذ يتناوله الاسم المطلق" (3). ويقول: "القرآن ليس فيه ذكر إيمان مطلق غير مفسر، بل لفظ الإيمان فيه إما مقيد، وإما مطلق مفسر.   (1) ((العبودية))، ضمن: ((الفتاوى)) (10/ 174 - 175). (2) انظر: ((الإيمان)) (ص49 - 83) ((الفتاوى)) (7/ 53 - 87)؛ و ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 555)، (ص446) ط. ابن الجوزي؛ و ((الفتاوى)) (7/ 648 - 8/ 315 – 316 – 15/ 347 – 348 – 16/ 166 – 18/ 275 – 276 – 32/ 306)؛ ومجموعة ((الفتاوى الكبرى)) (1/ 351، 2/ 271 - 272)؛ و ((جامع الرسائل)) (1/ 91 - 92)؛ و ((شرح الأصبهانية)) (2/ 575 - 577)، (ص138 – 142) ت مخلوف. (3) ((الإيمان)) (ص217) ((الفتاوى)) (7/ 230). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 فالمقيد كقوله: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3]، وقوله: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ [يونس: 83]، والمطلق المفسر كقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2] وقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15]، ونحو ذلك، وقوله: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65]. وكل إيمان مطلق في القرآن، فقد بين فيه أنه لا يكون الرجل مؤمن إلا بالعمل مع التصديق، فقد بين القرآن أن الإيمان لابد فيه من عمل مع التصديق، كما ذكر مثل ذلك في الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج". ثم قال: "بل القرآن والسنة مملوءان بما يدل على أن الرج لا يثبت له حكم الإيمان إلا بالعمل مع التصديق. وهذا في القرآن أكثر بكثير من معنى الصلاة، والزكاة، فإن تلك إنما فسرتها السنة، والإيمان بين معناه الكتاب، والسنة، وإجماع السلف" (1). وقال: "اسم الإيمان يستعمل مطلقا، ويستعمل مقيدا، وإذا استعمل مطلقا، فجميع ما يحبه الله ورسوله من أقوال العبد وأعماله الباطنة والظاهرة يدخل في مسمى الإيمان عند عامة السلف والأئمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، الذين يجعلون الإيمان قولا وعملا، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ويدخلون جميع الطاعات فرضها ونفلها في مسماه. وهذا مذهب الجماهير من أهل الحديث والتصوف والكلام والفقه، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم" (2). الحجة الثانية أنهم رأوا أن الله تعالى خاطب الإنسان بالإيمان قبل وجود الأعمال، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى [المائدة: 6]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة: 9].   (1) ((الإيمان)) (ص121 - 122) ((الفتاوى)) (7/ 127 – 128). (2) ((الفتاوى)) (7/ 642). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 وأجاب شيخ الإسلام عن ذلك بقوله:"أنهم خوطبوا به قبل أن يجب تلك الأعمال، فقبل وجوبها لم تكن من الإيمان، وكانوا مؤمنين الإيمان الواجب عليهم قبل أن يفرض عليهم ما خوطبوا بفرضه، فلما نزل إن لم يقروا بوجوبه لم يكونوا مؤمنين" (1).ومثل على ذلك بالحج، فإنه لم يأت ذكره في أكثر الأحاديث التي فيها ذكر الإسلام والإيمان، كحديث وفد عبد القيس حيث قال فيه صلى الله عليه وسلم: ((آمركم بالإيمان بالله وحده، هل تدرون ما الإيمان بالله وحده قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم، أو خمسا من المغنم)) (2)، وحديث ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه ((أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: آلله أرسلك إلى الناس كلهم فقال: اللهم نعم، قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة، قال: اللهم نعم، قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: اللهم نعم، قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا، فتقسمها على فقرائنا قال: اللهم نعم، فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخويني سعد بن بكر)) (3).وإنما جاء ذكره في حديث جبريل، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسوله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت)) (4).وذلك لأن الحج آخر ما فرض من الأركان الخمسة، فكان قبل فرضه لا يدخل في الإيمان والإسلام، فلما فرض أدخله النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان إذا أفرد، وأدخله في الإسلام إذا قرن بالإيمان وإذا أفرد (5).الحجة الثالثة (6) قالوا: لو أن رجلا آمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ضحوة، ومات قبل أن يجب عليه شيء من الأعمال مات مؤمنا، وكان من أهل الجنة، فدل على أن الأعمال ليست من الإيمان. قال شيخ الإسلام مجيبا عن ذلك:"وكذلك قولهم من آمن ومات قبل وجوب العمل عليه مات مؤمنا، فصحيح؛ لأنه أتى بالواجب عليه، والعمل لم يكن وجب عليه بعد" (7). فالأمر ليس مرده لكون العمل ليس من الإيمان، بل لأن العمل لم يكن واجبا عليه في تلك الحال. يقول شيخ الإسلام: "فإن الله تعالى لما بعث محمدا رسولا إلى الخلق كان الواجب على الخلق تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، ولم يأمرهم حنيئذ بالصلوات الخمس، ولا صيام شهر رمضان، ولا حج البيت، ولا حرم عليهم الخمر والربا، ونحو ذلك، ولا كان أكثر القرآن قد نزل، فمن صدقه حينئذ فيما نزل من القرآن، وأقر بما أمر به من الشهادتين، وتوابع ذلك، كان ذلك الشخص حينئذ مؤمنا تام الإيمان الذي وجب عليه، وإن كان مثل الإيمان لو أتى به بعد الهجرة لم يقبل منه، ولو اقتصر عليه كان كافرا" (8).   (1) ((الإيمان)) (ص185) ((الفتاوى)) (7/ 196 - 197). (2) رواه البخاري (50) , ومسلم (9) من حديث ابن عباس رضي الله عنه. (3) رواه البخاري (63) , من حديث أنس رضي الله عنه. (4) رواه مسلم (8) , من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (5) انظر: ((الإيمان)) (ص7 - 8، 185 - 186) ((الفتاوى)) (7/ 11 – 12، 196 - 197)؛ وانظر منه، (ص406 - 407) ((الفتاوى)) (425 - 426). (6) انظر: ((الإيمان)) (ص184) ((الفتاوى)) (7/ 195)؛ وانظر: ((التمهيد))، لابن عبدالبر (15/ 42 9/ 239) ط. المغرب؛ و ((التمهيد لقواعد التوحيد))، (ص132). (7) ((الإيمان)) (ص186) ((الفتاوى)) (7/ 197). (8) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 518)، (ص396) ط. ابن الجوزي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 ويقول: "بل كانوا في أول الإسلام يكون الرجل مؤمنا كامل الإيمان مستحقا للثواب إذا فعل ما أوجبه الله عليه ورسوله، وإن كان لم يقع من التصديق المفصل بما لم ينزل من القرآن، ولم يصم رمضان، ولم يحج البيت، كما أن من آمن في زمننا هذا إيمانا تاما ومات قبل مات قبل دخول وقت صلاة عليه مات مستكملا للإيمان الذي وجب عليه، كما أنه مستحق للثواب على إيمانه ذلك. وأما بعد نزول ما نزل من القرآن وإيجاب ما أوجبه الله ورسوله من الواجبات وتمكن من فعل ذلك، فإنه لا يكون مستحقا للثواب بمجرد ما كان يستحق به الثواب قبل ذلك" (1). الحجة الرابعة أن الأعمال تدخل في الإيمان مجازاً لا حقيقة قال شيخ الإسلام: "والمرجئة - المتكلمون منهم، والفقهاء - يقولون: إن الأعمال قد تسمى إيمانا مجازا؛ لأن العمل ثمرة الإيمان ومقتضاه؛ ولأنها دليل عليه. ويقولون: قوله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وستون شعبة، أو بضع وسبعون شعبة، أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) (2) مجاز" (3).وإذا قالوا إن الأعمال من الإيمان من باب المجاز أمكنهم نفيها عنه؛ لأن علامة المجاز صحة نفية (4). وقال شيخ الإسلام: "فإن قيل: ما ذكر من تنوع دلالة اللفظ بالإطلاق والتقييد في كلام الله ورسوله وكلام كل أحد بين ظاهر لا يمكن دفعه، لكن نقول: دلالة لفظ الإيمان على الأعمال مجاز. فقوله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وستون شعبة، أو بضع وسبعون شعبة، أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) (5) , مجاز. وقوله: ((الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، ورسله)) (6). إلى آخره: حقيقة. وهذا عمدة المرجئة، والجهمية، والكرامية، وكل من لم يدخل الأعمال في اسم الإيمان" (7). هذه هي حجتهم الرابعة، وفي نقضها يقول شيخ الإسلام: "ونحن نجيب بجوابين: أحدهما: كلام عام في لفظ الحقيقة والمجاز. والثاني: ما يختص بهذا الموضع" (8). ثم شرع رحمه الله في تحرير هذين الجوابين: فأما الجواب الأول: ففي إبطال تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز في اللغة، بله النصوص الشرعية، وأن الحق أن الكلام يختلف معناه بحسب دلالة الإطلاق والتقييد. وفي إبطال هذا التقسيم منع لإبطال معاني النصوص بدعوى المجاز، كما صنع المبتدعة في نصوص الصفات، وفي مسمى الإيمان.   (1) ((الفتاوى)) (18/ 277)، وانظر: ((الإيمان)) (ص219) ((الفتاوى)) (7/ 222)؛ و ((شرح الأصبهانية)) (2/ 577 - 578)، (ص139 – 140) ت مخلوف. (2) رواه البخاري (9) , ومسلم (35) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, واللفظ لمسلم. (3) ((الإيمان)) (ص184) ((الفتاوى)) (7/ 195). (4) انظر: ((الفتاوى)) (3/ 219). (5) رواه البخاري (9) , ومسلم (35) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, واللفظ لمسلم. (6) رواه البخاري (7556) , ومسلم (17) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (7) ((الإيمان)) (ص83) ((الفتاوى)) (7/ 87)؛ وانظر منه، (ص112) ((الفتاوى)) (7/ 116 - 117)؛ و ((الإيمان الأوسط)) ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 576)، (ص483) ط. ابن الجوزي؛ وفي دعوى أن الأعمال مجاز انظر: ((مسائل الإيمان))، لأبي يعلى، (ص163 – 164)، (176، 279)؛ و ((شرح الطحاوية)) (2/ 445)؛ و ((الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به))، للباقلاني، (ص185)؛ و ((تبصرة الأدلة)) (2/ 803)؛ و ((معنى الإيمان والإسلام))، للعز بن عبدالسلام، تحقيق إياد الطباع، الطبعة الأولى 1413هـ، دار الكفر ببيروت، (ص9، 14)؛ و ((الغنية في أصول الدين،)) للمتولى الشافعي، تحقيق عماد الدين حيدر، الطبعة الأولى 1406هـ، مؤسسة الكتب الثقافية، (ص 174). (8) ((الإيمان)) (ص83) ((الفتاوى)) (7/ 87). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 وأما الجواب الثاني: وهو لو صح وجود المجاز، فما الحقيقة والمجاز في لفظ الإيمان؟ هل الحقيقة هي دخول العمل فيه، والمجاز خروجها منه، أو العكس (1)؟ وقد حرر شيخ الإسلام هذا الجواب في ثلاثة وجوه: أولا: قال شيخ الإسلام مخاطبا المرجئة: "إن صح - يعني وجود الحقيقة والمجاز - فهذا لا ينفعكم، بل هو عليكم لا لكم. لأن الحقيقة هي اللفظ الذي يدل بإطلاقه بلا قرينة، والمجاز إنما يدل بقرينة. وقد تبين أن لف الإيمان حيث أطلق في الكتاب والسنة دخلت فيه الأعمال، وإنما يدعى خروجها منه عند التقييد. وهذا يدل على أن الحقيقة قوله: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة)) (2). وأما حديث جبريل فإن كان أراد بالإيمان ما ذكر مع الإسلام، فهو كذلك، وهذا هو المعنى الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم قطعا، كما أنه لما ذكر الإحسان أراد الإحسان مع الإيمان والإسلام ولم يرد أن الإحسان مجرد عن إيمان وإسلام. ولو قدر أنه أريد بلفظ الإيمان مجرد التصديق، فلم يقع ذلك إلا مع قرينة، فيلزم أن يكون مجازا، وهذا معلوم بالضرورة لا يمكننا المنازعة فيه بعد تدبر القرآن والحديث" (3).ثانيا: يقال بأن القول بأن الأعمال تدخل في الإيمان من باب المجاز، كالقول بأن الأسماء الشرعية، كالصلاة والحج، على معناها اللغوي، وأن ما زاده الشارع إنما هو زيادة في الحكم وشرط فيه لا داخل في الاسم، كمال قال ذلك القاضي الباقلاني، والقاضي أبو يعلى (4)، على أن الشرع زاد أحكاما شرعية جعلها شروطا في القصد والأعمال والدعاء، ليست داخلة في مسمى الحج والصيام والصلاة. وهذا القول مرجوح عند الفقهاء، وجماهير المنسوبين إلى العلم، ولهذا كان الجمهور من أصحاب الأئمة الأربعة على خلاف هذا القول. فإذا قال قائل: إن اسم الإيمان إنما يتناول مجرد ما هو تصديق، وأما كونه تصديقا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وكون ذلك مستلزما لحب الله ورسوله ونحو ذلك هو شرط في الحكم لا داخل في الاسم إن لم يكن أضعف من ذلك القول، فليس دونه في الضعف. وكذلك من قال إن الأعمال الظاهرة لوازم للباطن، لا تدخل في الاسم عند الإطلاق يشبه قوله قول هؤلاء (5).ثم "لو سلمنا للخصم كون هذه الألفاظ من الصلاة والحج ونحوها منقولة، أو محمولة على وجه من المجاز بدليل مقطوع به، فعليه إقامة الدليل على وجود ذلك في الإيمان" (6). ثالثا: يقال "لمن قال دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز: نزاعك لفظي. فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته، كان عدم اللازم موجبا لعدم الملزوم، فيلزم من عدم الظاهر عدم الباطن. فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظيا. وإن قلت ما هو حقيقة قول جهم وأتباعه، من أنه قد يستقر الإيمان التام الواجب مع إظهار ما هو كفر، وترك جميع الواجبات الظاهرة. قيل لك: فهذا يناقض قولك إن الظاهر لازم له، وموجب له" (7). الحجة الخامسة وهذه الحجة من أهم حجج المرجئة، فهي الأصل الذي نشأ منه النزاع، وتفرعت عنه البدع في الإيمان، وحاصل هذا الأصل:   (1) انظر: الإيمان ص83 ((الفتاوى)) (7/ 87). (2) رواه البخاري (9) , ومسلم (35) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, واللفظ لمسلم. (3) ((الإيمان)) (ص112) ((الفتاوى)) (7/ 116 - 117)؛ ونحوه في: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 576 - 577، ص483) ط. ابن الجوزي. (4) انظر: ((التمهيد))، للباقلاني، (ص390)؛ و ((مسائل الإيمان))، لأبي يعلى، (ص297). (5) انظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 577 - 578، ص484 – 486) ط. دار ابن الجوزي. (6) انظر: ((الإيمان)) (ص420) ((الفتاوى)) (7/ 440). (7) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: مجموع ((الفتاوى)) (7/ 579، ص489) ط. ابن الجوزي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 أنهم جعلوا الإيمان شيئا واحدا، لا يتبعض، وقالوا: لو كان الإيمان مركبا من أقوال وأعمال، باطنة وظاهرة، للزم منه أمرين كلاهما ممنوع. أحدهما: زوال الإيمان بزوال بعضه. فلو صارت الأعمال جزءا من الإيمان، فإذا ذهبت ذهب بعضه، فيلزم إخراج مرتكب الكبيرة من الإيمان، وتكفير أهل الذنوب، أو تخليدهم في النار، كما هو قول الخوارج والمعتزلة. والثاني: أن يكون الرجل مؤمنا بما فيه من إيمان، كافرا بما فيه من فكر، فيقوم به كفر وإيمان. وهذا مخالف لما انعقد عليه الإجماع عندهم من أنه لا يجتمع في العبد إيمان وكفر. هذا ملخص هذه الحجة، وقد أكثر شيخ الإسلام من ذكرها، واعتنى بنقضها، وهذا سياق بعد ما جاء عنه في ذلك: يقول رحمه الله بعد عرض مطول لاختلاف الفرق في حقيقة الإيمان: "وأصل نزاع هذه الفرق في الإيمان، من الخوارج، والمرجئة، والمعتزلة، والجهمية، وغيرهم: أنهم جعلوا الإيمان شيئا واحدا، إذا زال بعضه زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه، فلم يقولوا بذهاب بعضه وبقاء بعضه". ثم شرح موقف الخوارج والمعتزلة من هذا الأصل، ثم ثنى بشرح موقف المرجئة، فقال: "وقالت المرجئة، والجهمية: ليس الإيمان إلا شيئا واحدا، لا يتبعض. إما مجرد تصديق القلب، كقول الجهمية. أو تصديق القلب واللسان، كقول المرجئة. قالوا: لأنا إذا أدخلنا فيه الأعمال صارت جزءا منه، فإذا ذهبت ذهب بعضه، فيلزم إخراج ذي الكبيرة من الإيمان، وهو قول الخوارج والمعتزلة، لكن قد يكون له لوازم ودلائل، فيستدل بعدمها على عدمه". ثم قال: "وجماع شبهتهم في ذلك: أن الحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها، كالعشرة، فإنه إذا زال بعضها لم تبق عشرة، وكذلك الأجسام المركبة، كالسكنجبين إذا زال أحد جزأيه خرج عن كونه سكنجبينا. قالوا: فإذا كان الإيمان مركبا من أقوال وأعمال، ظاهرة وباطنة، لزم زواله بزوال بعضها، وهذا قول الخوارج والمعتزلة. قالوا: ولأنه يلزم أن يكون الرجل مؤمنا بما فيه من الإيمان، كافرا بما فيه من الكفر، فيقوم به كفر وإيمان، وادعوا أن هذا خلاف الإجماع" (1). وقال شيخ الإسلام: "فكان من أول البدع والتفرق الذي وقع في هذه الأمة بدعة الخوارج المكفرة بالذنب، فإنهم تكلموا في الفاسق الملي: فزعمت الخوارج، والمعتزلة: أن الذنوب الكبيرة - ومنهم من قال: والصغيرة - لا تجامع الإيمان أبدا، بل تنافيه وتفسده، كما يفسد الأكل والشرب الصيام. قالوا: لأن الإيمان هو فعل المأمور وترك المحظور، فمتى بطل بعضه بطل كله، كسائر المركبات"، ثم قال: "وقابلتهم المرجئة، والجهمية، ومن اتبعهم من الأشعرية، والكرامية، فقالوا: ليس من الإيمان فعل الأعمال الواجبة، ولا ترك المحظورات البدنية. والإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، بل هو شيء واحد، يستوي فيه جميع المؤمنين من الملائكة، والنبيين، والمقربين، والمقتصدين، والظالمين. ثم قال فقهاء المرجئة: هو التصديق بالقلب، واللسان. وقال أكثر متكلميهم: هو التصديق بالقلب. وقال بعضهم: التصديق باللسان. قالوا: لأنه لو دخلت فيه الواجبات العملية؛ لخرج منه من لم يأت بها، كما قالت الخوارج. ونكته هؤلاء جميعهم: توهمهم أن من ترك بعض الإيمان، فقد تركه كله" (2). وقال شيخ الإسلام: "فإن قيل: إذا كان الإيمان المطلق يتناول جميع ما أمر الله به ورسوله، مفتى ذهب بعض ذلك بطل الإيمان، فيلزم تكفير أهل الذنوب، كما تقوله الخوارج، أو تخليدهم في النار، وسلبهم الإيمان بالكلية، كما تقوله المعتزلة، وكلا هذين القولين شر من قول المرجئة.   (1) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 510 - 511)، (ص383 – 385) ط. ابن الجوزي. (2) ((الفتاوى)) (12/ 470 – 471). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 فإن المرجئة منهم جماعة من العلماء والعباد المذكورين عند الأمة بخير، وأما الخوارج والمعتزلة، فأهل السنة والجماعة من جميع الطوائف مطبقون على ذمهم"، ثم قال: "وأما قول القائل: إن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله، فهذا ممنوع. وهذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان، فإنهم ظنوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله، لم يبق منه شيء. ثم قالت الخوارج والمعتزلة: هو مجموع ما أمر الله به ورسوله، وهو الإيمان المطلق، كما قال أهل الحديث. قالوا: فإذا ذهب شيء منه لم يبق مع صاحبه من الإيمان شيء، فيخلد في النار. وقالت المرجئة على اختلاف فرقهم: لا تذهب الكبائر، وترك الواجبات الظاهرة شيئا من الإيمان؛ إذ لو ذهب شيء منه لم يبق منه شيء، فيكون شيئا واحدا يستوي فيه البر والفاجر" (1). وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "وقد بسط القول على منشأ الغلط؛ حيث ظنوا أن الإيمان لا يكون إلا شيئا متماثلا عند جميع الناس، إذا ذهب بعضه ذهب سائره"، ثم ذكر قول الخوارج والمعتزلة، ثم قال: "وقالت الجهمية، والمرجئة: بل الأعمال ليست من الإيمان، لكنه شيئان، أو ثلاثة، يتفق فيها جميع الناس: التصديق بالقلب، والقول باللسان، أو المحبة والخضوع مع ذلك. وقالت الجهمية، والأشعرية، والكرامية: بل ليس إلا شيئا واحدا يتماثل فيه الناس. وهؤلاء الطوائف أصل غلطهم: ظنهم أن الإيمان يتماثل فيه الناس، وأنه إذا ذهب بعضه ذهب كله" (2). وحول الإجماع المزعوم على أنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق يقول شيخ الإسلام:"ومن العجب أن الأصل الذي أوقعهم في هذا - يعني ظنهم أن الشيء إذا زال بعضه زال كله -: اعتقادهم أنه لا يجتمع في الإنسان بعض الإيمان وبعض الكفر، أو ما هو إيمان وما هو كفر، واعتقدوا أن هذا متفق عليه بين المسلمين" (3).ويقول: "وطوائف أهل الأهواء، من الخوارج، والمعتزلة، والجهمية، والمرجئة، كراميهم، وغير كراميهم، يقولون: إنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق" (4).ويقول أيضا: "والأصل الذي منه نشأ النزاع اعتقاد من اعتقد أن من كان مؤمنا لم يكن معه شيء من الكفر والنفاق، وظن بعضهم أن هذا إجماع، كما ذكر الأشعري أن هذا إجماع، فهذا كان أصل الإرجاء" (5). وبعد، فقد تعمدت إيراد هذه النقول رغم طولها، وتشابه بعضها؛ لكي تنجلي المسألة غاية الجلاء، وبها ينكشف أصل الضلال في مقالة الإرجاء، وأنه قوم على ما يلي: أولاً: زعمهم أن الإيمان شيء واحد، يتساوى فيه المؤمنون، برهم وفاجرهم. ثم اختلفوا في حقيقة هذا الشيء، فمنهم من جعله مجرد تصديق القلب، ومنهم من جعله تصديق القلب وقول اللسان، ومنهم من جعله مجرد قول اللسان. ثانياً: توهمهم أنه إذا زال بعضه زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه. فنفوا كونه متبعضا، أو متفاضلا، وأخرجوا الأعمال الظاهرة والباطنة منه؛ لئلا يوافقوا الخوارج والمعتزلة في إخراج مرتكب الكبيرة من الإيمان. ثالثا: زعمهم أن العبد لا يجتمع فيه بعض الإيمان وبعض الكفر. وأمام هذا الفهم الفاسد للإيمان صار كلام السلف معهم يدور في إبطال ذلك، منطلقا من ثلاث مقامات: المقام الأول: إبطال كون الإيمان شيئا واحدا، بل هو شعب وأجزاء. المقام الثاني: إبطال أن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله. المقام الثالث: تقرير أن العبد يجتمع فيه إيمان ونفاق، وطاعة ومعصية. وهذا تفصيل لهذا الإجمال: المقام الأول: إبطال كون الإيمان شيئا واحدا، بل هو شعب وأجزاء.   (1) ((الإيمان)) (ص209 - 210) ((الفتاوى)) (7/ 223). (2) ((النبوات)) (1/ 582 - 583). (3) ((الإيمان)) (ص 387) ((الفتاوى)) (7/ 404). (4) ((الإيمان)) (ص337) ((الفتاوى)) (7/ 353). (5) ((الفتاوى)) (13/ 48). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 فإن أهل السنة مجمعون على ما دلت عليه النصوص من أن الإيمان شعب وأجزاء، وأنه يتكون من أقوال وأعمال، باطنة وظاهرة، وهذا الذي أجمعوا عليه هو الذي تقتضيه الصلة بين أجزاء الإيمان الباطنة والظاهرة. فهذان جوابان في تقرير هذا المقام: الجواب الأول: في تحرير مذهب أهل السنة والإيمان. فمما أجمع عليه السلف أن الإيمان قول وعمل، ظاهر وباطن، وهذا بحمد الله تقدم بسط الكلام عليه. الجواب الثاني: في بيان الصلة بين أجزاء الإيمان الباطنة والظاهرة. وفقه العلاقة بين الباطن والظاهر، والقول والعمل، مانع للغلط في مسائل الإيمان، وناقض مهم لمقالة المرجئة على اختلاف فقهم في حقيقة الإيمان. فإن "من عرف الملازمات التي بين الأمور الباطنة والظاهرة زالت عنه شبهات كثيرة في مثل هذه المواضع التي كثير اختلاف الناس فيها" (1).والمرجئة إنما أتوا من جهة ظنهم انتفاء التلازم بين الباطن والظاهر، فوقعوا في الغلط (2).وهذا أصل اعتنى شيخ الإسلام بشرحه، وأطال النفس في تقريره، إذ بين أن "الإيمان قول وعمل، أي: قول القلب، واللسان، وعمل القلب، والجوارح" (3).فالإيمان "قول وعمل: قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر" (4).وقول السلف: الإيمان قول وعمل، يريدون به قول القلب وعمل القلب، وهذا هو الباطن، وقول اللسان وعمل الجوارح، وهذا هو الظاهر (5).والأصل هو القلب، والبدن تابع، أي أن الأصل هو الباطن، والظاهر تابع (6).و "لابد في أصل الإيمان من قول وعمل القلب" (7)، إذ "أصل الإيمان قول القلب وعمله" (8). والقلوب مفطورة على قول القلب، وعمله. ولا يتخلف عمل القلب إلا في حالة وجود معارض في القلب يحول بينه وبين ما فطر عليه. وما دام أن القلب سليم، والمعارض مفقود، فإن قول القلب وعمله موجود. ثم إذا وجد قول القلب وعمله لزم ضرورة حصول الظاهر من قول اللسان وعمل الجوارح، ولا يمكن أبداً أن يوجد في القلب تصديق وحب وخشية، ولا يحصل له أثر في الظاهر، من قول اللسان وعمل الجوارح. وقد أكثر شيخ الإسلام جداً من تقرير هذه الحقيقة، ويتطلب الأمر نقل كثير مما جاء عنه في ذلك، ومنه قوله رحمه الله رحمة واسعة:"والله سبحانه فطر عباده على شيئين: إقرار قلوبهم به علما، وعلى محبته والخضوع له عملا وعبادة واستعانة، فهم مفطورون على العلم به والعمل له، وهو الإسلام الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة)) (9)." ويقول: "وأصل الإيمان قول القلب، وعمله، أي علمه بالخالق، وعبوديته للخالق، والقلب مفطور على هذا، وهذا. وإذا كان بعض الناس قد خرج عن الفطرة؛ بما عرض له من المرض، إما بجهله، وإما بظلمه، فجحد بآيات الله، واستيقنتها نفسه ظلما وعلوا، لم يمنع أن يكون الخلق ولدوا على الفطرة" (10). ويقول: "من المعلوم أن معرفة الشيء المحبوب تقتضي حبه، ومعرفة المعظم تقتضي تعظيمه، ومعرفة المخوف تقتضي خوفه.   (1) ((الفتاوى)) (7/ 646)، وانظر منها (7/ 616). (2) انظر: ((الفتاوى)) (7/ 646). (3) انظر: مجموعة ((الفتاوى الكبرى)) (2/ 271). (4) انظر: ((الإيمان)) (ص177) ((الفتاوى)) (7/ 187). (5) انظر: ((الفتاوى)) (7/ 672). (6) انظر: ((جامع الرسائل)) (1/ 243). (7) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 529، ص413) ط. ابن الجوزي، وانظر: شرح حديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، (ص31)؛ و ((جامع المسائل)) (5/ 247). (8) ((درء التعارض)) (3/ 173). (9) رواه البخاري (1385) , ومسلم (2658) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (10) ((درء التعارض)) (3/ 137). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 فنفس العلم والتصديق بالله وما له من الأسماء الحسنى، والصفات العلى يوجب محبة القلب له وتعظيمه وخشيته، وذلك يوجب إرادة طاعته وكراهية معصيته. والإرادة الجازمة مع القدرة تستلزم وجود المراد، ووجود المقدور عليه منه، فالعبد إذا كان مريدا للصلاة إرادة جازمة مع قدرته عليها صلى، فإذا لم يصل مع القدرة دل ذلك على ضعف الإرادة" (1)، ثم قال:"وأما الإرادة الجازمة فلابد أن يقترن بها مع القدرة فعل المقدور، ولو بنظرة، أو حركة رأس، أو لفظة، أو خطوة، أو تحريك بدن (2).وبهذا يظهر معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار)) (3)، فإن المقتول أراد قتل صاحبه، فعمل ما يقدر عليه من القتال، وعجز عن حصول المراد، وكذلك الذي قال: لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان، فإنه أراد فعمل ما يقدر عليه، وهو الكلام، ولم يقدر على غير ذلك، ولهذا كان من دعا إلى ضلالة كان عليه مثل أوزار من اتبعه، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا؛ لأنه أراد ضلالهم، ففعل ما يقدر عليه من دعاتهم، إذ لا يقدر إلا على ذلك. وإذا تبين هذا في الإرادة والعمل، فالتصديق الذي في القلب وعلمه يقتضي عمل القلب، كما يقتضى الحس: الحركة الإرادية. لأن النفس فيها قوتان: قوة الشعور بالملائم والمنافي، والإحساس بذلك، والعمل، والتصديق به. وقوة الحب للملائم، والبغض المنافي، والحركة عن الحس بالخوف والرجاء والموالاة والمعاداة. وإدراك الملائم يوجب اللذة والفرح والسرور، وإدراك المنافي يوجب الألم والغم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء)) (4). فالقلوب مفطورة على الإقرار بالله تصديقا به، ودينا له، لكن يعرض لها ما يفسدها. ومعرفة الحق تقتضي محبته، ومعرفة الباطل تقتضي بغضه؛ لما في الفطرة من حب الحق وبغض الباطل، لكن قد يعرض لها ما يفسدها، إما من الشبهات التي تصدها عن التصديق بالحق، وإما من الشهوات التي تصدها عن أتباعه". ثم قال: "فالإيمان الذي في القلب لا يكون إيمانا بمجرد تصديق ليس معه عمل القلب ومجبه؛ من محبة الله ورسوله ونحو ذلك، كما أنه لا يكون إيمانا بمجرد ظن وهوى، بل لابد في أصل الإيمان من قول القلب، وعمل القلب". ثم قال: "وليس مجرد التصديق والعلم يستلزم الحب، إلا إذا كان القلب سليمان من المعارض، كالحسد، والكبر؛ لأن النفس مفطورة على حب الحق، وهو الذي يلائمها، ولا شيء أحب إلى القلوب السليمة من الله، وهذا هو الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام الذي اتخذه الله خليلا، وقد قال تعالى: يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88 - 89]. فليس مجرد العلم موجبا لحب المعلوم إن لم يكن في النفس قوة أخرى تلائم المعلوم، وهذه القوة موجودة في النفس. وكل من القوتين تقوى بالأخرى، فالعلم يقوى العمل، والعمل يقوى العلم. فمن عرف الله، وقلبه سليم: أحبه، وكلما ازداد له معرفة ازداد حبه له، وكلما زاداد حبه له ازداد ذكره له، ومعرفته بأسمائه وصفاته. فإن قوة الحب توجب كثرة ذكر المحبوب، كما أن البغض يوجب الإعراض عن ذكر المبغض.   (1) وانظر: ((الفتاوى)) (6/ 574)؛ و ((منهاج السنة)) (1/ 163). (2) انظر: ((جامع المسائل)) (4/ 266). (3) رواه البخاري (31) , ومسلم (2888) , من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. (4) رواه البخاري (1385) , ومسلم (2658) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, واللفظ لمسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 فمن عادي الله ورسوله، وحاد الله ورسوله كان ذلك مقتضيا لإعراضه عن ذكر الله ورسوله بالخير، وعن ذكر ما يوجب المحبة، فيضعف علمه به حتى قد ينساه، كما قال تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ [الحشر: 19]، وقال تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف: 28]. وقد يحصل مع ذلك تصديق وعلم مع بغض ومعاداة، لكن تصديق ضعيف، وعلم ضعيف، ولكن لولا البغض والمعاداة لأوجب ذلك من محبة الله ورسوله ما يصير به مؤمنا، فمن شرط الإيمان وجود العلم التام". ثم قال: "فالإيمان لابد فيه من هذين الأصلين: التصديق بالحق، والمحبة له، فهذا أصل القول، وهذا أصل العمل. ثم الحب التام مع القدرة يستلزم حركة البدن بالقول الظاهر، والعمل الظاهرة ضرورة، كما تقدم. فمن جعل مجرد العلم والتصديق موجبا لجميع ما يدخل في مسمى الإيمان، وكل ما يسمى إيمانا، فقط غلط. بل لابد من العلم والحب، والعمل شرط في محبة المحبوب، كما أن الحياة شرط في العلم، لكن لا يلزم من العلم بالشيء والتصديق بثبوته محبته إن لم يكن بين العالم والمعلوم معنى في الحب أحب لأجله، ومعنى في المحبوب كان محبوبا لأجله. ولهذا كان الإنسان يصدق بثبوت أشياء كثيرة ويعلمها وهو يبغضها، كما يصدق بوجود الشياطين والكفار ويبغضهم. فنفس التصديق بوجود الشيء لا يقتضي محبته، لكن الله سبحانه يستحق لذاته أن يحب ويعبد، وأن يحب لأجله رسوله، والقلوب فيها معنى يقتضي حبه وطاعته، كما فيها معنى يقتضي العلم والتصديق به. فمن صدق به وبرسوله ولم يكن محبا له ولرسوله، لم يكن مؤمنا حتى يكون فيه مع ذلك الحب له ولرسوله. وإذا قام بالقلب التصديق به والمحبة له لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة، فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب، ولازمه، ودليله، ومعلوله. كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له أيضا تأثير فيما في القلب، فكل منهما يؤثر في الآخر. لكن القلب هو الأصل، والبدن فرع له، والفرع يستمد من أصله، والأصل يثبت ويقوى بفرعه. كما في الشجرة التي يضرب المثل لكلمة الإيمان بها، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [إبراهيم: 24 - 25]، وهي كلمة التوحيد. فالشجرة كلما قوي أصلها وعروقها وروي، قويت فروعها، وفروعها أيضا إذا اغتذت بالمطر والريح أثر ذلك في أصلها. وكذا الإيمان في القلب، والإسلام علانية، ولما كانت الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة لازمة ومستلزمة للأقوال والأعمال الباطنة كان يستدل بها عليها". ويقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "وقال ابن مسعود أيضا: (إن للملك لمة، وللشيطان لمة، فلمة الملك: إيعاد بالخير، وتصديق بالحق، ولمة الشيطان: إيعاد بالشر، وتكذيب بالحق). وهذا الكلام الذي قاله ابن مسعود هو محفوظ عنه، وربما رفعه بعضهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كلام جامع لأصول ما يكون من العبد من علم وعمل، من شعور وإرادة. وذلك أن العبد له قوة الشعور والإحساس والإدراك، وقوة الإرادة والحركة، وإحداها أصل الثانية مستلزمة لها، والثانية مستلزمة للأولى ومكملة لها، فهو بالأولى يصدق بالحق ويكذب بالباطل، وبالثانية يحب النافع الملائم له، ويبغض الضار المنافي له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 والله سبحانه خلق عباده على الفطرة التي فيها معرفة الحق والتصديق به، ومعرفة الباطل والتكذيب به، ومعرفة النافع الملائم والمحبة له، ومعرفة الضار المنافي والبغض له بالفطرة. فما كان حقا موجودا صدقت به الفطرة، وما كان حقا نافعا عرفته الفطرة، فأحبته واطمأنت إليه، وذلك هو المعروف، وما كان باطلا معدوما كذبت به الفطرة، فأبغضته الفطرة، فأنكرته، قال تعالى: يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ [الأعراف: 157].والإنسان كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: ((أصدق الأسماء حارث، وهمام)) (1)، فهو دائما يهم ويعمل، لكنه لا يعمل إلا ما يرجو نفعه أو دفع مضرته. ولكن قد يكون ذلك الرجاء مبنيا على اعتقاد باطل، إما في نفس المقصود، فلا يكون نافعا ولا ضارا، وإما في الوسيلة، فلا يكون طريقا إليه، وهذا جهل. وقد يعلم أن هذا الشيء يضره ويفعله، ويعمل أنه ينفعه ويتركه؛ لأن ذلك العلم عارضه ما في نفسه من طلب لذة أخرى، أو دفع ألم آخر، جاهلا ظالما، حيث قدم هذا على ذاك"، ثم قال شيخ الإسلام: "فكل بني آدم له اعتقاد، فيه تصديق بشيء وتكذيب بشيء، وله قصد وإرادة لما يرجوه مما هو عنده محبوب ممكن الوصول إليه، أو لوجود المحبوب عنده، أو لدفع المكروه عنه. والله خلق العبد يقصد الخير فيرجوه بعمله، فإذا كذب بالحق فلم يصدق به، ولم يرج الخير فيقصده ويعمل به كان خاسرا بترك تصديق الحق وطلب الخير"، ثم قال:"فمبدأ العلم الحق والإرادة من لمة الملك، ومبدأ الاعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة من لمة الشيطان" (2). ويقول شيخ الإسلام: "والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره. ومتى حصل هذا الإيمان وجب ضرورة أن يحصل له الإسلام الذي هو الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج. لأن إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله يقتضي الاستسلام لله، والانقياد له، وإلا فمن الممتنع أن يكون قد حصل له الإقرار والحب والانقياد باطنا، ولا يحصل ذلك في الظاهر مع القدرة عليه، كما يمتنع وجود الإرادة الجازمة مع القدرة بدون وجود المراد. وبهذا تعرف أن من آمن قلبه إيمانا جازما امتنع أن لا يتكلم بالشهادتين مع القدرة، فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام. وبهذا يظهر خطأ جهم ومن اتبعه في زعمهم أن مجرد إيمان بدون الإيمان الظاهر ينفع في الآخرة، فإن هذا ممتنع، إذ لا يحصل الإيمان التام في القلب إلا ويحصل في الظاهر موجبه بحسب القدرة. فإنه من الممتنع أن يحب الإنسان غيره حبا جازما وهو قادر على مواصلته، ولا يحصل منه حركة ظاهرة إلى ذلك" (3). ويقول: "فالتصديق الجازم في القلب يتبعه موجبه بحسب الإمكان، كالإرادة الجازمة في القلب، فكما أن الإرادة الجازمة في القلب إذا اقترنت بها القدرة حصل بها المراد أو المقدور من المراد لا محالة، ومتى كانت القدرة حاصلة ولم يقع الفعل كان الحاصل هما لا إرادة جازمة، وهذا هو الذي عفي عنه.   (1) رواه أبو داود (4950) , وسكت عنه, من حديث أبي وهب الجشمي رضي الله عنه, بلفظ: ( ... وأصدقها حارث وهمام ... ). قال ابن عبد البر في ((الاستغناء)) (1/ 353): حسن, وذكر المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 113): بأنه - لا ينزل عن درجة الحسن وقد يكون على شرط الصحيحين أو أحدهما-, وقال الألباني صحيح دون قوله: (تسموا بأسماء الأنبياء). (2) ((الفتاوى)) (4/ 31 - 34) مختصرا. (3) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 553، ص444 - 445) ط. ابن الجوزي؛ وانظر: ((الإيمان)) (ص6) ((الفتاوى)) (7/ 10)؛ و ((الفتاوى)) (3/ 277)؛ و ((مجموعة الفتاوى الكبرى)) (2/ 272). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 فكذلك التصديق الجازم إذا حصل في القلب، تبعه عمل من القلب لا محالة، لا يتصور أن ينفك عنه، بل يتبعه الممكن من عم الجوارح. فمتى لم يتبعه شيء من عمل القلب، علم أنه ليس بتصديق جازم، فلا يكون إيمانا. لكن التصديق الجازم قد لا يتبعه عمل القلب بتمامه؛ لعارض من الأهواء، كالكبر، والحسد، ونحو ذلك من أهواء النفس، لكن الأصل أن التصديق يتبعه الحب، وإذا تخلف الحب كان لضعف التصديق الموجب له" (1). ويقول رحمه الله تعالى: "الإيمان أصله الإيمان الذي في القلب، ولابد فيه من شيئين: تصديق بالقلب، وإقراره، ومعرفته، ويقال لهذا قول القلب. قال الجنيد بن محمد: التوحيد قول القلب، والتوكل عمل القلب (2). فلابد فيه من قول القلب وعمله، ثم قول البدن وعمله. ولابد فيه من عمل القلب، مثل: حب الله ورسوله، وخشية الله، وحب ما يحبه الله ورسوله، وبغض ما يبغضه الله ورسوله، وإخلاص العمل لله وحده، وتوكل القلب على الله وحده، وغير ذلك من أعمال القلوب التي أوجبها الله ورسوله وجعلها من الإيمان. ثم القلب هو الأصل، فإذا كان فيه معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد، ألا وهي القلب)) (3). وقال أبو هريرة: القلب ملك، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده. وقول أبي هريرة تقريب، وقول النبي صلى الله عليه وسلم أحسن بيان، فإن الملك وإن كان صالحا، فإن الجنود لهم اختيار قد يعصون به ملكهم، وبالعكس، فيكون فيهم صلاح مع فساده أو فساد مع صلاحه، بخلاف القلب، فإن الجسد تابع له، لا يخرج عنه إرادته قط، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد)) (4). فإذا كان القلب صالحا بما فيه من الإيمان علما وعملا قلبيا لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق، كما قال أهل الحديث: قول وعمل: قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر. والظاهر تابع للباطن، لازم له، متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد" (5). وفي موضع آخر لما ذكر حديث أبي هريرة المتقدم علق عليه بقوله: "فبين - يعني الرسول صلى الله عليه وسلم - أن صلاح القلب مستلزم لصلاح الجسد، فإذا كان الجسد غير صالح دل على أن القلب غير صالح، والقلب المؤمن صالح، فدل على أن من يتكلم بالإيمان، ولا يعمل به، لا يكون قلبه مؤمنا. حتى إن المكره إذا كان في إظهار الإيمان فلابد أن يتكلم مع نفسه، وفي السر مع من يأمن إليه، ولابد أن يظهر على صفحات وجهه وفلتات لسانه، كما قال عثمان. وأما إذا لم يظهر أثر ذلك لا بقوله، ولا بفله قط، فإنه يدل على أنه ليس في القلب إيمان. وذلك أن الجسد تابع للقلب، فلا يستقر شيء في القلب إلا ظهر موجبه ومقتضاه على البدن، ولو بوجه من الوجوه. وإن لم يظهر كل موجبه لمعارض، فالمتقضي لظهور موجبه قائم، والمعارض لا يكون لازما للإنسان لزوم القلب له، وإنما يكون في بعض الأحوال متعذرا إذا كتم ما في قلبه، كمؤمن آل فرعون، مع أنه قد دعا إلى الإيمان دعاء ظهر به من إيمان قلبه ما لا يظهر من إيمان من أعلن إيمانه بين موافقيه، وهذا في معرفة القلب وتصديقه.   (1) ((شرح الأصبهانية)) (2/ 583). (2) وانظر: ((مجموعة الفتاوى الكبرى)) (2/ 271). (3) رواه البخاري (52) , ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (4) رواه البخاري (52) , ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (5) ((الإيمان)) (ص176 – 177) ((الفتاوى)) (7/ 186 - 187). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 ومنها قصد القلب وعزمه، إذا قصد الفعل وعزم عليه مع قدرته على ما قصده: هل يمكن أن لا يوجد شيء مما قصده وعزم عليه؟ فيه قولان: أصحهما: أنه إذا حصل القصد الجازم مع القدرة وجب وجود المقدور، وحيث لم يفعل العبد مقدوره دل على أنه ليس هناك قصد جازم، وقد يحصل قصد جازم مع العجز عن المقدور، لكن يحصل معه مقدمات المقدور. وقيل: بل قد يمكن حصول العزم التام بدون أمر ظاهر، وهذا نظير قول من قال ذلك في المعرفة والتصديق، وهما من أقوال أتباع جهم الذين نصروا قوله في الإيمان، كالقاضي أبي بكر وأمثاله، فإنهم نصروا قوله، وخالفوا السلف، والأئمة، وعامة طوائف المسلمين" (1). ويقول شيخ الإسلام: "أصل الإيمان في القلب، وهو قول القلب وعمله، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد. وما كان في القلب فلابد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه، أو ضعفه. ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه، وهي تصديق لما في القلب، ودليل عليه، وشاهد له، وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له، لكن ما في القلب هو الأصل لما على الجوارح" (2). ويقول: "والإيمان الذي كتب في القلب ليس هو مجرد العلم والتصديق، قبل هو تصديق القلب وعمل القلب"، ثم قال: "فالسلف يقولون ترك الواجبات الظاهرة دليل على انتفاء الإيمان الواجب من القلب، لكن قد يكون بزوال عمل القلب الذي هو حب الله ورسوله، وخشية الله، ونحو ذلك، لا يستلزم أن لا يكون في القلب من التصديق شيء. وعند هؤلاء - يعني الجهمية وموافقتهم - كل من نفى الشرع إيمانه دل على أنه ليس في قلبه شيء من التصديق أصلا، وهذا سفسطه عند جماهير العقلاء" (3). والحاصل من هذا التقرير المطول: أن قول القلب إما أن يكون ضعيفا بحيث لا يستلزم عمل القلب، وحينئذ لا يكون هذا التصديق إيمانا، وإما أن يكون جازما، وحينئذ يستلزم عمل القلب لا محالة. والإنسان مفطور على قول القلب المقتضي لعمله، مادامت الفطرة صحيحة، والقلب سليمان من المعارض المانع من عمله واستسلامه وانقياده، من الشبهات أو الشهوات، كالكبر، أو الحسد، أو الغفلة، أو طلب علو ورياسة أو كراه الإلف والعادة، ونحو ذلك من الأمراض التي مانعة من استسلام القلب، وانقياده، ومحبته. فإذا وجد قول القلب وعمله لزم ضرورة أن يكون له أثر في الظاهر من القول والعمل. وقد قرر شيخ الإسلام أن "المؤثر التام يستلزم أثره، فمتى لم يحصل أثره لم يكن تاما، والفعل إذا صادف محلا قابلا تم، وإلا لم يتم" (4). وهذا معناه أن التام هو الذي يكون له أثر، وبتطبيق هذا على الإيمان يكون الإيمان التام هو الذي له أثر، فإذا لم يحصل له أثر فليس بتام. والذي تحرر مما تقدم أن الإيمان الذي يستلزم أثرا هو ما اجتمع فيه قول القلب وعمله، وسلم من المعارض، فإنه حينئذ يستلزم أثرا في الظاهر من القول والعمل. وعلى هذا فإن الإيمان الباطن يكون تاما إذا كان فيه أصل الإيمان - وهو قول القلب وعمله -، السالم من موانع الانقياد.   (1) ((الفتاوى)) (14/ 121 - 122)، وانظر منها (14/ 120). (2) ((الفتاوى)) (7/ 644). (3) ((الإيمان)) (ص142) ((الفتاوى)) (7/ 148). (4) ((الإيمان)) (ص22) ((الفتاوى)) (7/ 25)، وساق رحمه الله أمثلة كثيرة على هذه القاعدة. انظر: ((الإيمان)) (ص16 - 29) ((الفتاوى)) (7/ 20 - 31)؛ و ((الإيمان الأوسط))، ضمن ((الفتاوى)) (7/ 539)، (ص425) ط. ابن الجوزي؛ و ((الفتاوى)) (16/ 179 - 180). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 وشيخ الإسلام يصف هذا الإيمان الذي يقتضي أثرا في الظاهر بالإيمان الجازم، وبالإيمان القلبي التام، وبالإيمان التام في القلب، وبالإيمان المقبول، وبإيمان القلب التام، وبالإيمان الواجب في القلب، وبإيمان القلب الواجب، وبالإيمان الباطن، وبالإيمان الواجب، وبالإيمان الصحيح، وبالإيمان الثابت في القلب، وبالإيمان الحقيقي. فكل هذه الأوصاف أطلقها شيخ الإسلام على الإيمان المقتضي قولا وعملا في الظاهر، وهذا لا يكون إلا من الإيمان الذي حصل فيه قول القلب وعمله، وسلم من الشبهات والشهوات، وبحسب سلامته في الباطن يكون استسلامه في الظاهر. يقول رحمه الله: "وبهذا تعرف أن من آمن قلبه إيمانا جازما امتنع أن لا يتكلم بالشهادتين مع القدرة، فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام".ثم قال: "إذ لا يحصل الإيمان التام في القلب إلا ويحصل في الظاهر موجبه بحسب القدرة" (1).ثم ذكر أن من الغلط ظن الظان أن الإيمان المقبول يمكن تخلف القول الظاهر، والعمل الظاهر عنه (2). ويقول: "فمن أراد الطاعة، وعلم أنها تنفعه أطاع قطعا، إذا لم يكن عاجزا، فإن نفس الإرادة الجازمة للطاعة مع القدرة توجب الطاعة، فإنها مع وجود القدرة والداعي التام توجب وجود المقدور. فإذا كانت الطاعة بالتكلم بالشهادتين، فمن أراد ذلك إرادة جازمة فعله قطعا؛ لوجود القدرة والداعي التام، ومن لم يفعله علم أنه لم يرده" (3).ويقول: "جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب، وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع" (4). وذكر أن من أكبر غلط المرجئة "ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون شيء من الأعمال؛ ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه، بمنزلة السبب مع المسبب، ولا يجعلونها لازمة له. والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة، ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر" (5).وذكر أيضاً أن الإيمان الذي في القلب من التصديق والحب وغير ذلك يستلزم الأمور الظاهرة من الأقوال الظاهرة والأفعال الظاهرة، كما أن القصد التام مع القدرة يستلزم وجود المراد، وأنه يمتنع مقام الإيمان الواجب في القلب من غير ظهور موجب ذلك ومقتضاه (6).ويقول: "أصل الإيمان هو ما في القلب، والأعمال الظاهرة لازمة لذلك، لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح، بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب، فصار الإيمان متناولا للملزوم واللازم، وإن كان أصله ما في القلب" (7).ويقول: "فالسلف يقولون ترك الواجبات الظاهرة دليل على انتفاء الإيمان الواجب من القلب" (8).وذكر رحمه الله أن مذهب السلف وأهل السنة أنه متى وجد الإيمان الباطن وجدت الطاعات (9).   (1) ((الإيمان الأوسط)) (7/ 553)، (ص444 - 445) ط. ابن الجوزي. (2) ((الإيمان الأوسط)) (7/ 554)، (ص445) ط. ابن الجوزي. (3) ((منهاج السنة)) (3/ 69 – 70)، ويلحظ أنه هنا مثل على الطاعة بالتكلم بالشهادتين، وقد سبق أنه مثل بالصلاة، فمن أراد جازما أن يصلي صلى، وهكذا الحكم في بقبة الطاعات. راجع (ص295). (4) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 616)، (ص567) ط. ابن الجوزي. (5) ((الإيمان)) (ص192) ((الفتاوى)) (7/ 204)؛ ونحوه فيه، (ص20) ((الفتاوى)) (7/ 23 - 24). (6) ((الإيمان الأوسط))، ضمن ((الفتاوى)) (7/ 575)، (ص481) ط. ابن الجوزي. (7) ((الإيمان)) (ص186 - 187) ((الفتاوى)) (7/ 198). (8) ((الإيمان)) (ص142) ((الفتاوى)) (7/ 148). (9) انظر: ((الإيمان)) (ص 347) ((الفتاوى)) (7/ 363)، و ((الإيمان الأوسط)) (7/ 609) (ص552) ط ابن الجوزي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 ويقول: "يمتنع أن يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله بقلبه، أو بقلبه ولسانه، ولم يؤد واجبا ظاهرا، ولا صلاة ولا زكاة ولا صياما، ولا غير ذلك من الواجبات، لا لأجل أن الله أوجبها، مثل أن يؤدي الأمانة أو يصدق الحديث أو يعدل في قسمة وحكمه من غير إيمان بالله ورسوله، لم يخرج بذلك من الكفر، فإن المشركين وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم. ومن قال بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات - سواء جعل فعل تلك الواجبات لازما له، أو جزءا منه، فهذا نزاع لفظي - كان مخطئا خطأ بينا، وهذه بدعة الإرجاء التي أعظم السلف والأئمة الكلام في أهلها، وقالوا فيها من المقالات ما هو معروف، والصلاة أعظمها وأعمها وأولها وأجلها" (1).ويقول: "ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمان ثابتا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم رمضان، ولا يؤدي زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح" (2).و "من كان معه إيمان حقيقي، فلابد أن يكون معه من هذه الأعمال بقدر إيمانه، وإن كان له ذنوب" (3).   (1) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 621)، (ص577) ط. ابن الجوزي؛ وانظر: ((الإيمان)) (ص206) ((الفتاوى)) (7/ 218). (2) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 611)، (ص556) ط. ابن الجوزي. (3) ((التحفة العراقية))، (ص294)، ((الفتاوى)) (10/ 8)، وانظر: ((الإيمان الأوسط)) (7/ 556) (ص448) ط ابن الجوزي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 وبعد هذا التحقيق في علاقة الباطن بالظاهر يتبين: أن "الظاهر تابع للباطن، لازم له، متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد" (1).وأن أعمال القلب لابد أن تؤثر في عمل الجسد (2)، ولا تتم إلا بها (3)."وأن ما يقوم بالقلب من تصديق وحب الله ورسوله وتعظيم لابد أن يظهر على الجوارح، وكذلك بالعكس، وهذا يستدل بانتفاء اللازم الظاهر على انتفاء الملزوم الباطن" (4).وأن "ما يستقر في القلب من إيمان ونفاق لابد أن يظهر موجبه في القول والعمل، كما قال بعض السلف: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على وجهه، وفلتات لسانه (5) " (6).وأن "العمل الظاهر هو موجب إيمان القلب ومقتضاه، فإذا حصل إيمان القلب حصل إيمان الجوارح ضرورة" (7).و "أن الإيمان يستلزم العمل الظاهر بحسبه، كقوله تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور: 47 - 51]، فنفي الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول، وأخبر أن المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم سمعوا وأطاعوا، فبين أن هذا من لوازم الإيمان" (8).وأن "الإيمان ليس مجرد التصديق، بل لابد من أعمال قلبية تستلزم أعمالا ظاهرة" (9).وأن "من قال إنه يصدق الرسول ويحبه ويعظمه بقلبه، ولم يتكلم قط بالإسلام، ولا فعل شيئا من واجباته بلا خوف، فهذا لا يكون مؤمنا في الباطن، وإنما هو كافر" (10).وأن "المؤمن إنما فارق الكفر بالإيمان بالله وبرسله، وبتصديقهم فيما أخبروا، وطاعتهم فيما أمروا، وأتباع ما يرضاه الله ويحبه، دون ما يقضيه ويقدره من الكفر والفسوق والعصيان" (11).فالعبد إذا خلا عن العمل بالكلية لم يكن مؤمنا، فإن حقيقة الدين هو الطاعة والانقياد، وذلك إنما يتم بالفعل، لا بالقول فقط، فمن لم يفعل لله شيئا، فما دان لله دينا، ومن لا دين له فهو كافر (12). والمسلم "إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فهذه الشهادة تتضمن تصديق خبره، والانقياد لأمره. وإذا قال: وأشهد أن محمدا رسول الله، تضمنت تصديق الرسول فيما جاء به من عند الله.   (1) ((الإيمان)) (ص177) ((الفتاوى)) (7/ 187)؛ وانظر منه، (ص208)، (279) ((الفتاوى)) (7/ 220، 294)؛ و ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 554)، (ص446) ط. دار ابن الجوزي. (2) أنظر: ((جامع المسائل)) (4/ 379). (3) انظر: ((الفتاوى)) (26/ 25)؛ وانظر منها (2/ 382). (4) ((الجواب الصحيح)) (6/ 487)؛ وانظر منه (6/ 471). (5) الأثر ذكره شيخ الإسلام عن عثمان بن عفان في ((الاستقامة)) (1/ 355)؛ و ((الجواب الصحيح)) (6/ 487)، وجزم بنسبته إلى عثمان في ((الفتاوى)) (14/ 121). (6) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((مجموع الفتاوى)) (7/ 620)، (ص575) ط. ابن الجوزي. (7) مجموعة ((الفتاوى الكبرى)) (2/ 272). (8) ((الإيمان)) (ص208 - 209) ((الفتاوى)) (7/ 221). (9) ((الإيمان)) (ص290) ((الفتاوى)) (7/ 306)؛ وانظر: ((الفتاوى)) (26/ 26). (10) ((الفتاوى)) (14/ 120). (11) ((الاستقامة)) (2/ 79). (12) انظر: ((شرح العمدة - الصلاة)) (ص86). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 فبمجموع هاتين الشهادتين يتم الإقرار، فلما كان التصديق لابد منه في كلا الشهادتين، وهو الذي يتلقى الرسالة بالقبول، ظن من ظن أنه أصل لجميع الإيمان، وغفل عن أن الأصل الآخر لابد منه، وهو الانقياد. وإلا فقد يصدق الرسول ظاهرا وباطنا، ثم يمتنع عن الإقرار للأمر، إذ غايته في تصديق الرسول أن يكون بمنزلة من سمع الرسالة من الله سبحانه وتعالى، كإبليس" (1).ومن ترك الانقياد كان مستكبرا، وصار من الكافرين، وإن كان مصدقا، فالكفر أعم من التكذيب، ولهذا لم يوصف إبليس إلا بالكفر والاستكبار دون التكذيب (2).والحاصل أن "السعادة مشروطة بشرطين: بالإيمان والعمل الصالح، بعلم نافع وعمل صالح، بكلم طيب وعمل صالح، وكلاهما مشروط بأن يكون على موافقة الرسل" (3).وأنه لابد من التزكي بفعل المأمور وترك المحظور، فهذان لابد منهما، ومقصود الرسالة هو فعل الواجبات والمستحبات جميعا (4).وإذ تبين ما تقدم، وأن الظاهر لابد من وجوده لصحة الباطن، وأن النجاة لا تحصل إلا بذلك، فمما يختم به هذا المقام ما نبه عليه شيخ الإسلام من أن الظاهر يكون لازما للباطن من وجه، وملزوما له من وجه، وهو دليل عليه من جهة كونه ملزوما لا من جهة كونه لازما (5). والمراد أن الظاهر إنما يكون لازما وملزوما ودليلا على الباطن في حال صحة الباطن، وهو لا يكون كذلك إلا إذا وجد فيه قول القلب وعمله، وسلم من الموانع، كما تقدم. وأما مجرد وجود الظاهر فلا يعني صلاح الباطن، فإن اللازم لا يدل إلا إذا كان ملزوما، ومن المعلوم أن الظاهر يفعله المؤمن والمنافق، فلا يدل على صلاح الباطن (6)،ولذا فإن الإيمان الظاهر الذي يجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان الباطن المنجي يوم القيامة (7)؛ "لأن الظاهر إنما يكون دليلا صحيحا معتمدا إذا لم يثبت أن الباطن بخلافه، فإذا قام دليل على الباطن لم يلتفت إلى ظاهر قد علم أن الباطن بخلافه" (8). المقام الثاني في نقض الأصل الإرجائي: إبطال دعواهم أن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله. فهم "قالوا: إن الحقيقة المركبة من أمور، متى ذهب بعض أجزائها انتفت تلك الحقيقة، كالعشرة المركبة من آحاد، فلو قلنا: إنه يتبعض؛ لزم زوال بعض الحقيقة مع بقاء بعضها" (9)، وفي هذا إخراج مرتكب الكبيرة من الإيمان كما تقوله الخوارج والمعتزلة، فوجب إخراج الأعمال من الإيمان؛ لئلا يكفر المؤمن (10).وفي الجواب عن هذه الحجة بين شيخ الإسلام رحمه الله أن (نصوص الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه تدل على ذهب بعضه وبقاء بعضه، كقوله: ((يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)) (11) " (12).   (1) ((الصارم المسلول)) (3/ 969). (2) انظر: ((الصارم المسلول)) (3/ 968). (3) ((الصفدية)) (2/ 248). (4) ((الفتاوى)) (15/ 390)؛ وانظر: ((الاستقامة)) (2/ 136). (5) انظر: ((الفتاوى)) (18/ 273). (6) انظر: ((الإيمان)) (ص250) ((الفتاوى)) (7/ 263)؛ و ((الفتاوى)) (13/ 268). (7) انظر: ((الإيمان)) (ص197 - 198)؛ وانظر منه، (ص5). (8) ((الصارم المسلول)) (3/ 648)، ويقول شيخ الإسلام: "كل عمل في الظاهر من مؤمن لابد أن يصحبه عمل القلب، بخلاف العكس، فلا يتصور عمل البدن منفردا إلا من المنافق". ((المستدرك)) (3/ 100). (9) ((الفتاوى)) (18/ 276). (10) وانظر: ((الفتاوى)) (11/ 137). (11) رواه الترمذي (2593) , من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, وقال حديث حسن صحيح, وصححه الألباني, وقال في ((السلسلة)) (2450): صحيح على شرط الشيخين. (12) ((الإيمان)) (ص210) ((الفتاوى)) (7/ 223). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 وأما قولهم إن في هذا إخراج مرتكب الكبيرة من الإيمان، فالذي "ينبغي أن يعرف أن القول الذي لم يوافق الخوارج والمعتزلة عليه أحد من أهل السنة هو القول بتخليد أهل الكبائر في النار، فإن هذا القول من البدع المشهورة، وقد اتفق الصحابة، والتابعون لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين على أنه لا يخلد في النار أحد ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان. واتفقوا أيضا على أن نبينا صلى الله عليه وسلم يشفع فيمن يأذن الله له بالشفاعة فيه من أهل الكبائر من أمته، ففي الصحيحين عنه أنه قال: ((لكل نبي دعوة مستجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)) (1) " (2). ومعنى هذا أنه لو خرج من الإيمان، فلا يلزم أن يكون كافرا مخلدا في النار كما توهمته الوعيدية، بل يخرج منه إلى درجة أقل هي الإسلام، ومعه أصل الإيمان. وأما قولهم: إن الحقيقة المركبة من أمور، متى ذهب بعض أجزائها انتفت تلك الحقيقة، فيقول شيخ الإسلام مجيبا عن ذلك:"والجواب عما ذكروه سهل، فإنه يسلم لهم أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت، لكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء" (3). ويقول: "فيقال لهم: إذا زال بعض أجزاء المركب تزول الهيئة الاجتماعية الحاصلة بالتركيب، لكن لا يلزم أن يزول سائر الأجزاء. والإيمان المؤلف من الأقوال الواجبة والأعمال الواجبة، الباطنة والظاهرة، هو المجموع الواجب الكامل، وهذه الهيئة الاجتماعية تزول بزوال بعض الأجزاء، وهذه هي المنفية في الكتاب والسنة في مثل قوله: ((لا يزني الزاني)) (1). الخ، وعلى ذلك جاء قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات: 15]. ولكن لا يلزم أن تزول سائر الأجزاء، ولا أن سائر الأجزاء الباقية لا تكون من الإيمان بعد زوال بعضه. كما أن واجبات الحج من الحج الواجب الكامل، وإذا زالت زال هذا الكمال، ولم يزل الحج. وكذلك الإنسان الكامل يدخل في مسماه أعضاؤه كلها، ثم لو قطعت يداه ورجلاه لم يخرج عن اسم الإنسان، وإن كان قد زال منه بعض ما يدخل في الاسم الكامل. وكذلك لفظ الشجرة، والباب، والبيت، والحائط، وغير ذلك يتناول المسمى في حال كمال أجزائه بعد ذهاب بعض أجزائه" (4). وقد بسط رحمه الله الجواب عن هذه الشبهة في مواضع أخرى، أهمها في كتابه الإيمان الأوسط، وهذا تلخيص ما قاله هناك: يقول رحمه الله: "فإن الحقيقة الجامعة لأمور - سواء كانت في الأعيان أو الأعراض - إذا زال بعض تلك الأمور فقد يزول سائرها وقد لا يزول، ولا يلزم من زوال بعض الأمور المجتمعة زوال سائرها، وسواء سميت مركبة، أو مؤلفة، أو غير ذلك، لا يلزم من زوال بعض الأجزاء زوال سائرها. وما مثلوا به من العشرة والسكنجبين مطابق لذلك، فإن الواحد من العشرة إذا زال لم يلزم زوال التسعة، بل قد تبقى التسعة، فإذا زال أحد جزئي المركب لا يلزم زوال الجزء الآخر. لكن أكثر ما يقولون: زالت الصورة المجتمعة، وزالت الهيئة الاجتماعية له، وزال الاسم الذي استحقته الهيئة بذلك الاجتماع والتركيب، كما يزول اسم العشرة والسكنجبين. فيقال لهم: أما كون ذلك المجتمع ما بقي على تركيبه، فهذا لا ينازع فيه عاقل. ولا يدعي عاقل أن الإيمان، أو الصلاة، أو الحج، أو غير ذلك من العبادات المتناولة لأمور إذا زال بعضها بقي ذلك المجتمع المركب كما كان قبل زوال بعضه، ... ، ولكن لا يلزم زوال بقية الأجزاء.   (1) رواه البخاري (7474) , ومسلم (199) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, واللفظ لمسلم. (2) ((الإيمان)) (ص209 - 210) ((الفتاوى)) (7/ 222 - 223). (3) ((الإيمان)) (ص386) ((الفتاوى)) (7/ 403). (4) ((الفتاوى)) (18/ 276 - 277). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 وأما زوال الاسم، فيقال لهم: هذا أولا بحث لفظي، إذا قدر أن الإيمان له أبعاض وشعب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) (1)، كما أن الصلاة والحج له أجزاء وشعب، ولا يلزم من زوال شعبة من شعبة زوال سائر الأجزاء والشعب، كما لا يلزم من زوال بعض أجزاء الحج والصلاة زوال سائر الأجزاء. فدعواهم أنه إذا زال بعض المركب زال البعض الآخر ليس بصواب، ونحن نسلم لهم أنه ما بقي إلا بعضه لا كله، وأن الهيئة ما بقيت كما كانت. يبقى النزاع: هل يلزم زوال الاسم بزوال بعض الأجزاء؟ فيقال لهم: المركبات في ذلك على وجهين: منها ما يكون التركيب شرطا في إطلاق الاسم، ومنها ما لا يكون كذلك. فالأول: كاسم العشرة، وكذلك السكنجبين. ومنها ما يبقى الاسم بعد زوال بعض الأجزاء، وجميع المركبات المتشابهة الأجزاء من هذا الباب، وكذلك كثير من المختلفة الأجزاء. فإن المكيلات والموزونات تسمى حنطة، وهي بعد النقص حنطة، وكذلك التراب، والماء، ونحو ذلك. وكذلك لفظ العبادة، والطاعة، والخير، والحسنة، والإحسان، ونحو ذلك مما يدخل فيه أمور كثيرة يطلق الاسم عليها قليلها وكثيرها، وعند زوال بعض الأجزاء وبقاء بعض، وكذلك لفظ القرآن، فيقال على جميعه، وعلى بعضه". ثم استمر رحمه في سرد أمثلة عديدة تنطبق عليها هذه القاعدة، ثم قال: "وإذا كانت المركبات على نوعين، بل غالبها من هذا النوع؛ لم يصح قولهم: إنه إذا زال جزؤه لزم أن يزول الاسم، إذا أمكن أن يبقى الاسم مع بقاء الجزء الباقي. ومعلوم أن اسم الإيمان من هذا الباب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) (2)، ثم من المعلوم أنه إذا زالت الإماطة ونحوها لم يزل اسم الإيمان. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان)) (3)،، فأخبر أنه يتبعض، ويبقى بعضه، وأن ذاك من الإيمان، فعلم أن بعض الإيمان يزول ويبقى بعضه، وهذا ينقض مآخذهم الفاسدة، ويبين أن اسم الإيمان مثل اسم القرآن، والصلاة، والحج، ونحو ذلك" (4).وأخيرا يقرر شيخ الإسلام أن "أجزاء الشيء تختلف أحكامها شرعا وطبعا" (5). فبعض هذه الأجزاء قد يكون شرطا في البعض الآخر، وبعضها قد لا يكون شرطا فيه، وبعضها ينقص المركب بزوالها عن كماله الواجب ولا يبطل، وبعضها ينقص عن كماله المستحب. فمثال ما كان شرطا: من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، كان كافرا بالكل. ومثال ما كان من الكمال الواجب: عدم رمي الجمار في الحج، وعدم المبيت بمنى، ونحو ذلك، فهذه أجزاء ينقص الحج بزوالها عن كماله الواجب ولا تبطله.   (1) رواه البخاري (9)، ومسلم (35) من حديث أبي هريرة واللفظ لمسلم. (2) رواه البخاري (9) , ومسلم (35) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, واللفظ لمسلم. (3) رواه الترمذي (2593) , من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, وقال حديث حسن صحيح, وصححه الألباني, وقال في ((السلسلة)) (2450): صحيح على شرط الشيخين. (4) ((الإيمان الأوسط)) (7/ 514 - 517)، (ص391 - 394) ط. ابن الجوزي؛ وانظر أيضا: ((الإيمان)) (ص113) ((الفتاوى)) (7/ 117 - 118)؛ و ((الفتاوى)) (12/ 292 – 293)، (472 - 473 – 18/ 270)؛ و ((منهاج السنة)) (5/ 205 – 206، 297 – 298)؛ و ((الصفدية)) (1/ 25 - 26). (5) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 518)، (ص396) ط. ابن الجوزي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 ومثال ما كان من الكمال المستحب: عدم رفع الصوت بالإهلال، والرمل، والاضطباع في الشوط الأول، فهذه أجزاء ينقص الحج بزوالها عن كماله المستحب. وهكذا في أمثلة عديدة حاصلها أن أجزاء الشيء تختلف أحكامها شرعا وطبعا، فلا يلزم من زوال بعض الأجزاء زوال البقية مادام أنها مختلفة فيما بينها (1). المقام الثالث: إبطال دعواهم أنه لا يجتمع في الإنسان إيمان وكفر، ولا يكون فيه بعض الإيمان وبعض كفر. فإن قولهم هذا قول "غلطوا فيه، وخالفوا فيه الكتاب، والسنة، وآثار الصحابة، والتابعين لهم بإحسان مع مخالفة صريح المعقول" (2).وحال من يظن الإجماع على ذلك كما قال شيخ الإسلام رحمه الله "من الناس من لا يعرف مذاهب أهل العلم، وقد نشأ على قول لا يعرف غيره، فيظنه إجماعا" (3)، ويكون" معتقدا أنه متمسك بالنص، والإجماع" (4).وقد لفت شيخ الإسلام على سبب جرأة أهل الكلام على حكاية إجماع لا يمكنهم إثباته، فقال: "ثم هؤلاء يحكون إجماعات يجعلونها من أصول علمهم، ولا يمكنهم نقلها عن واحد من أئمة الإسلام، وإنما ذلك بحسب ما يقوم في أنفسهم من الظن، فيحكون ذلك عن الأئمة" (5). وفي معرض رده على أحد المتكلمين، قال شيخ الإسلام: "وهذا القول الذي يحكيه هذا وأمثاله من إجماع المسلمين، أو إجماع المليين في مواضع كثيرة، يحكونه بحسب ما يعتقدونه من لوازم أقوالهم. وكثير من الإجماعات التي يحكيها أهل الكلام هي من هذا الباب، فإن أحدهم قد يرى أن صحة الإسلام لا تقوم إلا بذلك الدليل، وهم يعلمون أن المسلمين متفقون على صحة الإسلام، فيحكون الإجماع على ما يظنونه من لوازم الإسلام. كما يحكون الإجماع على المقدمات التي يظنون أن صحة الإسلام مستلزمة لصحتها، وأن صحتها من لوازم الإسلام. أو يكونون لم يعرفوا من المسمين إلا قولين أو ثلاثة، فيحكون الإجماع على نفي ما سواها. وكثير مما يحكونه من هذه الإجماعات لا يكون معهم فيها نقل، لا عن أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا عن أحد من أئمة المسلمين، بل ولا عن العلماء المشهورين الذين لهم في الأمة لسان صدق، ولا فيها آية من كتاب الله، ولا حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم مع هذا يعتقدون أنها من أصول الدين، التي لا يكون الرجل مؤمنا أو لا يتم دين الإسلام إلا بها، ونحو ذلك" (6).وهذا ما وقع للمرجئة في هذه المسألة، حيث اعتقدوا أنه لا يجتمع في العبد بعض الإيمان وبعض الكفر، أو ما هو إيمان وما هو كفر، وظنوا أن هذا متفق عليه بين المسلمين؛ فلأجل اعتقادهم هذا الإجماع وقعوا فيما هو مخالف للإجماع الحقيقي، إجماع السلف الذي ذكره غير واحد من الأئمة (7). وفي نقض دعوى المرجئة عدم اجتماع الإيمان والكفر في الشخص يقول شيخ الإسلام:"وأصل قول أهل السنة الذي فارقوا به الخوارج، والجهمية، والمعتزلة، والمرجئة: أن الإيمان يتفاضل، ويتبعض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يخرج من النار من كان في قلبه مثق   (1) انظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 517 - 518، 520) (ص394 – 395، 398) ط. ابن الجوزي. (2) ((الإيمان)) (ص337) ((الفتاوى)) (7/ 353). (3) ((الإيمان)) (ص32) ((الفتاوى)) (7/ 35). (4) ((الإيمان)) (ص387) ((الفتاوى)) (7/ 405). (5) ((درء التعارض)) (5/ 390). (6) ((درء التعارض)) (8/ 95 - 96). (7) انظر: ((الإيمان)) (ص387) ((الفتاوى)) (7/ 404). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 المبحث الأول: الإسلام والإيمان عند مرجئة الفقهاء عندما نقل شيخ الإسلام قول معقل العنسي أن قوما قد أحدثوا، وتكلموا، وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين؟ علق عليه بقوله: "قلت: قوله عن المرجئة: إنهم يقولون: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، قد يكون قول بعضهم، فإنهم كلهم يقولون: ليستا من الإيمان. وأما ما الدين، فقد حكي عن بعضهم أنه يقول: ليستا من الدين، ولا نفرق بين الإيمان والدين. ومنهم من يقول: بل هما من الدين، ويفرق بين اسم الإيمان واسم الدين. وهذا هو المعروف من أقوالهم التي يقولونها عن أنفسهم، ولم أر أنا في كتاب أحد منهم أنه قال: الأعمال ليست من الدين، بل يقولون: ليست من الإيمان. وكذلك حكى أبو عبيد عمن ناظره منهم (1)، فإن أبا عبيد وغيره يحتجون بأن الأعمال من الدين، فذكر قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] أنها نزلت في حجة الوداع (2). قال أبو عبيد: فأخبر أنه إنما كمل الدين الآن في آخر الإسلام في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وزعم هؤلاء أنه كان كاملا قبل ذلك بعشرين سنة، من أول ما نزل عليه الوحي بمكة، حين دعا الناس إلى الإقرار. حتى قال (3): لقد اضطر بعضهم حين أدخلت عليه هذه الحجة إلى أن قال: إن الإيمان ليس بجميع الدين، ولكن الدين ثلاثة أجزاء: فالإيمان جزء، والفرائض جزء، والنوافل جزء. قلت: هذا الذي قاله هو مذهب القوم. وقال أبو عبيد: وهذا غير ما نطق به الكتاب، ألم تسمع إلى قوله: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ [آل عمران: 19]، وقال: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85]، وقال: وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3]، فأخبر أن الإسلام هو الدين برمته، وزعم هؤلاء أنه ثلث الدين. قلت: إنما قالوا: إن الإيمان ثلث، ولم يقولوا: إن الإيمان ثلث الدين، لكنهم فرقوا بين مسمى الإيمان ومسمى الدين، وسنذكر إن شاء الله تعالى الكلام في مسمى هذا ومسمى هذا، فقد يحكى عن بعضهم أنه يقول ليستا - يعني الصلاة والزكاة - من الدين، ولا يفرق بين اسم الإيمان والدين، ومنهم من يقول كلاهما من الدين، (ويفرق بين اسم الإيمان واسم الدين) (4) " (5). ولما نقل شيخ الإسلام رحمه الله المباحثة التي دارت بين الإمام أحمد وتلميذه الميموني، وفيها أن الميموني قال: يا أبا عبدالله تفرق بين الإسلام والإيمان؟ قال: نعم. قال: بأي شيء تحتج؟ قال: عامة الأحاديث تدل على هذا، ثم قال: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)) (1).، وقال تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]. قلت له: فتذهب إلى ظهر الكتاب، مع السبب؟ قال: نعم.   (1) يعني مرجئة الفقهاء، إذ هو في معرض مناقشتهم. انظر: ((الإيمان))، لأبي عبيد، (ص13). (2) انظر: ((الإيمان))، لأبي عبيد، (ص15 – 16). (3) القائل هو أبو عبيد، وانظر: تعظيم قدر الصلاة (1/ 355). (4) ما بين قوسين ساقط من طبعة المكتب الإسلامي، ومستدرك من طبعة ((الفتاوى)) (7/ 208)؛ وطبعا عالم الكتب ت/ الشيباني، (ص230). (5) ((الإيمان)) (ص196) ((الفتاوى)) (7/ 207 - 208)؛ وهذا النقل عن أبي عبيد ليس في المطبوع من كتابه ((الإيمان))؛ وقد نقله عنه أيضا المروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/ 355 – 356 رقم 360). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 قلت: فإذا كانت المرجئة تقول: إن الإسلام هو القول؟ قال: هم يصيرون هذا كله واحدا، ويجعلونه مسلما ومؤمنا، شيئا واحدا على إيمان جبريل، ومستكمل الإيمان (1). وقد علق شيخ الإسلام على ذلك، فقال: "وأما قوله: يجعلونه مسلما ومؤمنا شيئا واحدا. فهذا قول من يقول: الدين والإيمان شيء واحد، فالإسلام هو الدين، فيجعلون الإسلام والإيمان شيئا واحدا. وهذا القول قول المرجئة فيما يذكره كثير من الأئمة، كالشافعي، وأبي عبيد، وغيرهما (2)، ومع هؤلاء يناظرون. فالمعروف من كلام المرجئة الفرق بين لفظ الدين والإيمان، والفرق بين الإسلام والإيمان. ويقولون: الإسلام بعضه إيمان، وبعضه أعمال، والأعمال منها فرض ونفل. ولكن كلام السلف كان فيما يظهر لهم، ويصل إليهم من كلام أهل البدع" (3)، ثم قال بعد استطراد مطول: "فلهذا ردوا - يعني السلف - على المرجئة الذين يجعلون الدين والإيمان شيئا واحدا، ويقولون: هو القول. وأيضا فلم يكن حدث في زمنهم من يقول: إن الإيمان هو مجرد القول بلا تصديق ولا معرفة في القلب، فإن هذا إنما أحدثه ابن كرام، ... ، ولم يكن ابن كرام في زمن أحد بن حنبل، وغيره من الأئمة، ... ،وكان قول المرجئة قبله - يعني ابن كرام -: عن الإيمان قول باللسان وتصديق بالقلب، وقول جهم: إنه تصديق بالقلب" (4). فالنقلان السابقان مع تعليق شيخ الإسلام عليهما يبرزان مذهب فقهاء المرجئة من هذه الألفاظ الثلاثة: الإسلام، والإيمان، والدين، وأنهم في ذلك فريقان: الفريق الأول: يرى أن الإسلام والإيمان والدين شيء واحد، وهو: القول، فمن أتى بذلك، فهو مؤمن تام الإيمان. وهذا القول هو قول المرجئة الذين ناظرهم عليه بعض الأئمة، وكأن هذا قول قديم لهم، فكما قال شيخ الإسلام أنه لم ير في كتاب أحد منهم من يقول به. وقد نقل رحمه الله ما ذكره ابن حامد من أن أصحاب أبي حنيفة يقولون إن الإسلام والإيمان اسمان معناهما واحد (5).ونقل عن المروزي أن من قال إن الإيمان هو القول، فلا فرق بينه وبين المرجئة (6).ونقل أيضا عن أبي طالب المكي أن من قال إن الإيمان هو الإسلام، فإنه يقرب من قول المرجئة (7). الفريق الثاني: يرى أن الإسلام والدين شيء واحد، وأنه يتكون من ثلاثة أجزاء: الإيمان جزء، والأعمال المفروضة جزء، والأعمال النافلة جزء. وهؤلاء يقولون إن الإيمان يتضمن الإسلام (8)، بمعنى أنه يدخل ضمنه، فهو جزء منه. ويقولون أيضا إن الفاسق مؤمن، حيث أخذ ببعض الدين - وهو الإيمان عندهم -، وترك بعضه (9). يقول شيخ الإسلام في معرض حديث عن مواقف الفرق من مرتكب الكبيرة، وأن الوعيدية يحكمون بأنه مخلد في النار: "فقالت الجهمية والمرجئة، قد علمنا أنه لا يخلد في النار، وأنه ليس كافرا مرتدا، بل هو من المسلمين. وإذا كان من المسلمين وجب أن يكون مؤمنا تام الإيمان، ليس معه بعض الإيمان، ... ،وقالت المرجئة: الرجل إذا أسلم كان مؤمنا قبل أن يجب عليه شيء من الأفعال" (10). وكما ذكر شيخ الإسلام أن هذا القول هو المذهب المعروف عن مرجئة الفقهاء، وهو الذي ناظرهم عليه أبو عبيد في كتابه الإيمان. وقد ذكر أيضا رحمه الله أن أبا حنيفة موافق لسائر العلماء في أن المباني الأربعة - الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج - من الإسلام (11). فعل هذا يكون أبو حنيفة رحمه الله من هذا الفريق الذين يخرجون العمل من الإيمان، ويجعلونه من الإسلام والدين. وقد جاء في "الفقه الأكبر" أن الإسلام هو التسليم والانقياد لأوامر الله تعالى (12)، وهذا الانقياد لا يكون إلا بالعمل، والله أعلم (13). المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 393   (1) انظر: ((الإيمان)) (ص356، 363) ((الفتاوى)) (7/ 372 - 380)؛ وهو في ((السنة))، للخلال (3/ 604 - 605 رقم 1077). (2) كأبي ثور. انظر: ((الإيمان)) (ص373) ((الفتاوى)) (7/ 389). (3) ((الإيمان)) (ص364) ((الفتاوى)) (7/ 380). (4) ((الإيمان)) (ص370) ((الفتاوى)) (7/ 386 – 387). (5) انظر: ((الإيمان)) (ص353) ((الفتاوى)) (7/ 369). (6) انظر: ((الإيمان)) (ص362) ((الفتاوى)) (7/ 379)؛ وانظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 533). (7) انظر: ((الإيمان)) (ص316) ((الفتاوى)) (7/ 332)؛ وانظر: ((قوت القلوب)) (2/ 250). (8) انظر: ((الإيمان)) (ص148) ((الفتاوى)) (7/ 154). (9) انظر: ((الإيمان)) (ص 373) ((الفتاوى)) (7/ 389). (10) ((الفتاوى)) (13/ 50). (11) انظر: ((الإيمان)) (ص354) ((الفتاوى)) (7/ 371). (12) الفقه الأكبر، ضمن مجموع يحوي بعض رسائل أبو حنيفة، علق عليه زاهد الكوثري، الطبعة الأولى 1421هـ، المكتبة الأزهري للتراث، بمصر، (ص66). (13) وانظر: ((شرح الفقه الأكبر))، للقاري، تحقيق علي ندل، الطبعة الأولى 1416هـ، دار الكتب العلمية ببيروت، (ص149 - 150)، وأصول الدين عند الإمام أبي حنيفة، (ص435 - 438). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 المطلب الأول: الإسلام والإيمان عند الجهمية ذكر شيخ الإسلام أن قول الجهمية في مسمى الإسلام والإيمان وحقيقتهما أبعد من كل قول عن الكتاب والسنة، وفيه من مناقضة العقل والشرع واللغة، ما لا يوجد مثله لغيرهم (1). وقال: "قالت الجهمية، والمرجئة: قد علمنا أنه - يعني مرتكب الكبيرة - لا يخلد في النار، وأنه ليس كافرا مرتدا، بل هو من المسلمين. وإذا كان من المسلمين وجب أن يكون مؤمنا تام الإيمان، ليس معه بعض الإيمان" (2).وذكر أيضا أن الجهمية يرون أن إيمان الفساق باق كما كان لم ينقص، بناء على أن الإيمان هو مجرد التصديق والاعتقاد الجازم، وهو لم يتغير، وإنما نقصت شرائع الإسلام (3).ويعنون بشرائع الإسلام الأعمال؛ إذ إن النقص عندهم لا يدخل إلا عليها (4). وما تقدم هو ما أمكن تقييده عن شيخ الإسلام في كشف حقيقة مذهب الجهمية في الإسلام، ومنه يتضح أنهم موافقون لمقالة الفريق الثاني من مرجئة الفقهاء، فإن حكمهم على الفاسق بأنه ما دام مسلما فهو مؤمن تام الإيمان؛ لأن الإيمان مجرد التصديق، والنقص منه وقع على الأعمال لا الإسلام نفسه، فهذا كله يفيد أن الإسلام عندهم أوسع من الإيمان، بحيث يدخل فيه الإيمان والأعمال. وقد ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله أن المتكلمين عندهم أن الأعمال لا تدخل في الإيمان، وتدخل في الإسلام (5). وقد جاء في كتاب "زبدة البيان" في معرض شرحه مذاهب المرجئة في الإسلام ما نصه: "مذاهب المرجئة أن الإسلام أفضل عندهم من الإيمان؛ لأن الإيمان عندهم عبارة عن التصديق فقط، أو التصديق والإقرار، أو الإقرار فقط كما ذهب إليه الكرامية، ولا يدخلون فيه الأعمال. والإسلام يشمل عندهم التصديق، والإقرار، والعمل" (6).وهذا موافق لما تقدم استنباطه من كلام شيخ الإسلام، وأما ما ذكره رحمه الله من أن قول الجهمية في مسمى الإسلام والإيمان وحقيقتهما أبعد من كل قول عن الكتاب والسنة، وفيه من مناقضة العقل والشرع واللغة، ما لا يوجد مثله لغيرهم (7)، فالمراد كما هو ظاهر خطؤهم في مسمى الإيمان، حيث جعلوه مجرد المعرفة، والله تعالى أعلم. المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 401   (1) انظر: ((الإيمان)) (ص151 - 152) ((الفتاوى)) (7/ 159). (2) ((الفتاوى)) (13/ 50). (3) انظر: ((الفتاوى)) (7/ 671). (4) انظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 562، ص459) ط. ابن الجوزي؛ و ((الفتاوى)) (17/ 105). (5) انظر: ((فتح الباري))، له (1/ 119). (6) ((زبدة البيان في تنقيح حقيقة الإيمان)) وتحقيق زيادته النقصان، للشيخ محمد الجوندلوي، طبعة سنة 1973م، نشر مطبعة الدين المحمدي بلاهور، (ص75). (7) انظر: ((الإيمان)) (ص151 - 152) ((الفتاوى)) (7/ 159). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 المطلب الثاني: الإسلام والإيمان عند الكرامية لم يقف الباحث على ما يمكن الاستئناس به في معرفة قول الكرامية في مسألة الإسلام إلا على قول شيخ الإسلام: "قول المعتزلة والخوارج والكرامية في اسم الإيمان والإسلام أقرب إلى قول السلف من قول الجهمية" (1).وإذا كانت الوعيدية تجعل الإسلام والإيمان شيئا واحدا هو القول والعمل (2)، وكانوا هم والكرامية أقرب إلى السلف في ذلك من الجهمية. وإذا كان الإيمان عند الكرامية مجرد القول، فالذي يظهر أنهم يجعلون الإسلام أوسع بحيث يدخلون فيه الإيمان والعمل. وقد تقدم ما جاء في كتاب زبدة البيان من المرجئة القائلين بأن الإيمان هو التصديق فقط، أو التصديق والإقرار، أو الإقرار، كل هؤلاء يرون أن الإسلام أفضل من الإيمان؛ وأن الإسلام يشمل عندهم التصديق والإقرار والعمل (3). وعلى هذا يكون المراد بقرب قول الكرامية من قول السلف هو في مسمى الإيمان، حيث جعلوه قول اللسان مع وجوب تصديق القلب، خلافا لقول الجهمية، والله تعالى أعلم. المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 405   (1) ((الإيمان)) (ص151) ((الفتاوى)) (7/ 158 – 159). (2) انظر: ((الإيمان)) (ص229) ((الفتاوى)) (7/ 242)؛ وانظر أيضا منه، (ص406) ((الفتاوى)) (7/ 424). (3) انظر: ((زبدة البيان))، (ص75). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 المطلب الثالث: الإسلام والإيمان عند الأشاعرة اعتنى شيخ الإسلام بشرح مذهب الأشاعرة في معنى الإسلام إذ نقل كلام إمامهم الباقلاني في ذلك، ثم أتبعه بما يبين مخالفته النصوص الشرعية. يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "قال الذين نصروا مذهب جهم في الإيمان من المتأخرين، كالقاضي أبي بكره، وهذا لفظه: فإن قال قائل: وما الإسلام عندكم؟ قيل له: الإسلام: الانقيادِ، والاستسلام. فكل طاعة انقاد العبد لها لربه، واستسلم فيها لأمره، فهي إسلام. والإيمان خصلة من خصال الإسلام، وكل إيمان إسلام، وليس كل إسلام إيمانا. فإن قال: فلم قلتم: إن معنى الإسلام ما وصفتم؟ قيل: لأجل قوله تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]، فنفي عنهم الإيمان، واثبت لهم الإسلام، وإنما أراد بما أثبته: الانقياد، والاستسلام، ومنه: وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ [النساء: 90].وكل من استسلم لشيء فقد أسلم، وإن كان أكثر ما يستعمل ذلك في المستسلم لله، ولنبيه" (1). وقالوا: "الإسلام هو الاستسلام لله بفعل كل طاعة وقعت موافقة للأمر. والإيمان أعظم خصلة من خصال الإسلام. واسم الإسلام شامل لكل طاعة انقاد بها العبد لله من إيمان، وتصديق، وفرض، ونفل، غير أنه لا يصح التقريب بفعل ما عدا الإيمان من الطاعات دون تقديم فعل الإيمان. قالوا: والدين مأخوذ من التدين، وهو قريب من الإسلام في المعنى" (2). وما تقدم يشرح لنا مذهب الأشاعرة في معنى الإسلام، وعلاقته بالإيمان، وحجتهم على ذلك، وملخص ذلك: أنهم يعرفون الإسلام بأنه: الانقياد والاستسلام، أو هو: الاستسلام لله بفعل كل طاعة وقعت موافقة للأمر. وترتب على هذا التعريف عندهم: 1 - أن كل طاعة فهي إسلام، ويدخل في ذلك الإيمان، والفرض، والنفل. 2 - أن الإيمان خصلة من خصال الإسلام، وهو أعظم خصاله. 3 - أن كل إيمان إسلام، ولا عكس. 4 - أنه لا تصح أي طاعة إلا لمن جاء بالإيمان. 5 - أنه لا تصح أي طاعة إلا لمن جاء بالإيمان. 6 - أن الدين قريب من الإسلام في المعنى. هذه خلاصة رأي الأشاعرة في معنى الإسلام وعلاقته بالإيمان كما قرره الباقلاني (3)، وقد نقل شيخ الإسلام ذلك كله عنه، ثم أتبعه بما يبين بطلانه، وتناقضه، واللوازم الباطلة المترتبة عليه، ورد ما احتجوا به. ويمكن ترتيب ذلك في الوجوه التالية (4): أولاً: أن هذه المقالة باطلة؛ لمخالفتها الكتاب والسنة، فإن ما بينه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم هو أن الإسلام داخل في الإيمان، فلا يكون الرجل مؤمنا حتى يكون مسلما، كما أن الإيمان داخل في الإحسان، فلا يكون محسنا حتى يكون مؤمنا. ثانياً: أنهم قالوا: الإيمان خصلة من خصال الإسلام، وقالوا: إن الطاعات كلها إسلام. فمعنى هذا أن الطاعات كلها ليس فيها إيمان إلا التصديق، فيخرج بذلك الشهادتان، والصلاة والزكاة، وغيرها من الطاعات عن الإيمان، وهذا مخالف للنصوص الدالة على أن الإسلام داخل في الإيمان. ثالثا: قالوا: إن الإيمان خصلة من خصال الإسلام، وقالوا: لا يكون مؤمنا إلا من أتى بالإيمان كله، أي بالتصديق، وإلا فليس بمؤمن. فوجب عليهم أن يقولوا إنه لا يكون مسلما إلا من أتى بالإسلام كله، لا ببعضه، كما قالوا ذلك في الإيمان.   (1) ((الإيمان)) (ص147 - 148) ((الفتاوى)) (7/ 154)؛ وهو في: ((التمهيد)) (ص390 - 392)؛ وانظر: ((الإنصاف))، (ص89 - 90). (2) ((الإيمان)) (ص150) ((الفتاوى)) (7/ 157)؛ وانظر: ((الإيمان)) (ص363، 396) ((الفتاوى)) (7/ 379). (3) انظر: ((العقيدة النظامية))، للجويني، (ص86). (4) ملخصه من: ((الإيمان)) (ص148 - 151)، ((الفتاوى)) (7/ 154 - 158). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 رابعاً: قالوا: كل إيمان إسلام، وليس كل إسلام إيمانا، وهنا يقال لهم: إن كان المراد أن كل إيمان هو الإسلام الذي هو أمر الله تعالى به، فهذا يناقض قولهم إن الإيمان خصلة من خصال الإسلام، فجعلوا الإيمان بعض الإسلام ولم يجعلوه إياه. قيل لهم: فعلى هذا يكون الإسلام متعددا بتعدد الطاعات، وتكون الشهادتان وحدهما إسلاما، والصلاة وحدها إسلاما، والزكاة وحدها إسلاما، وهكذا كل طاعة فهي وحدها إسلاما. خامساً: قولهم إن المسلم لا يكون مسلما إلا بفعل كل ما أسموه إسلاما، يلزم منه لوازم باطلة، منها: 1 - أن يكون الفساق ليسوا مسلمين، مع كونهم مؤمنين، فجعلتم المؤمنين الكاملي الإيمان عندكم ليسوا مسلمين، وهذا شر من قول الكرامية. 2 - أن يكون الفساق من أهل القبلة ليسوا مسلمين، فيكونون كفارا، وهذا شر من قول الخوارج والمعتزلة. فيكون إخراجكم الفساق من اسم الإسلام - إن أخرجتموهم - أعظم شناعة من إخراجهم من اسم الإيمان، فوقعتم في أعظم ما عبتموه على المعتزلة. 3 - أن يكون من ترك التطوعات ليس مسلما، إذ كانت التطوعات طاعة لله - إن جعلتم كل طاعة فرضا أو نفلا إسلاما -. سادساً: قولهم: إن كل من فعل طاعة سمى مسلما يلزم منه أن يكون من فعل طاعة من الطاعات ولم يتكلم بالشهادتين مسلما، ومن صدق بقلبه ولم يتكلم بلسانه أن يكون مسلما عندكم؛ لأن الإيمان عندكم إسلام، فمن أتى به فقد أتى بالإسلام، ويكون مسلما عندكم من تكلم بالشهادتين وما أتى بشيء من الأعمال. سابعاً: قالوا: كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، ويرد على هذا القول ما يلي: 1 - أنهم قالوا هذا من حيث الإطلاق، وإلا فالتفصيل ما ذكرناه من أن الإيمان خصلة من خصال الإسلام والدين، وليس هو جميع الإسلام والدين. 2 - أن هذا القول: كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، يناقض قولهم إن الإسلام هو استسلام لله بفعل كل طاعة وقعت موافقة للأمر، وأن اسم الإسلام شامل لكل طاعة انقاد بها العبد لله من إيمان، وتصديق، وفرض سواه، ونفل، غير أنه لا يصح التقريب بفعل ما عدا الإيمان من الطاعات دون تقديم فعل الإيمان. ووجه التناقض بين القولين أن المسلم عندهم هو المطيع لله، ولا تصح الطاعة من أحد إلا مع الإيمان، فيمتنع أن يكون أحد فعل شيئا من الإسلام إلا وهو مؤمن، ولو كان ذلك أدنى الطاعات، فيجب أن كون كل مسلم مؤمنا، سواء أريد بالإسلام فعل جميع الطاعات أو فعل واحدة منها، وذلك لا يصح كله إلا مع الإيمان. 3 - أن قولهم: كل مؤمن مسلم. يقال: إن كنتم تريدون بالإيمان تصديق القلب فقط، فيلزم أن يكون الرجل مسلما ولو لم يتكلم بالشهادتين، وما أتى بشيء من الأعمال المأمور بها، وهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة من دين الإسلام، بل عامة اليهود والنصارى يعلمون أن الرجل لا يكون مسلما حتى يأتي بالشهادتين، أو ما يقوم مقامها. وأيضا قولهم: كل مؤمن مسلم، لا يردون به أنه أتى بالشهادتين، ولا بشيء من المباني الخمس، بل أتى بما هو طاعة، وتلك طاعة باطنة، وهي التصديق، وليس هذا هو المسلم المعروف في الكتاب والسنة، ولا عند الأئمة الأولين والآخرين. ثامناً: احتجاجكم بقوله: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]، قلتم: نفى عنهم الإيمان، وأثبت لهم الإسلام. فيقال: هذه الآية حجة عليكم؛ لأنه لما أثبت الإسلام مع انتفاء الإيمان دل ذلك على أن الإيمان ليس بجزء من الإسلام، إذ لو كان بعضه لما كانوا مسلمين إن لم يأتوا به. وإن قلتم: أردنا بقولنا أثبت لهم الإسلام، أي إسلام ما، فإن كل طاعة من الإسلام إسلام عندنا. لزمكم ما تقدم، من أن يكون صوم يوم إسلاما، وصدقة درهم إسلاما، وأمثال ذلك. وبهذا التحقيق يتبين أن قول الأشاعرة إن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، قد يظن من لا يعرف حقيقة الأمر أن هذا هو قول السلف الذي دل عليه الكتاب، وبينهما من التباين أعظم مما بين قول السلف وقول المعتزلة في الإيمان والإسلام (1). المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند – ص 407   (1) انظر: ((الإيمان)) (ص151)، ((الفتاوى)) (7/ 157). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 الفصل السادس: مفهوم الإيمان والكفر عند المرجئة (انظر هذا الموضوع في الموسوعة العقدية (الفصل الثالث من الباب الأول, في الكتاب الرابع) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 المبحث الأول: قول من قال الإيمان يزيد وتوقف في النقصان لقد جاء عن الإمام مالك رحمه الله تعالى في مسالة زيادة الإيمان ونقصانه روايتان، قال في إحداهما: إن الإيمان يزيد أما النقصان فتوقف فيه وطلب من السائل أن يكف عن السؤال عنه، لأنه لم يجد عليه دليلاً من كتاب الله. أما الرواية الأخرى: فقد جاءت عنه من طرق متعددة صحيحة، قال فيها: إن الإيمان يزيد وينقص، كقول أهل السنة والجماعة سواء. ولهذا خصصت هذا الفصل لدراسة الرواية الواردة عنه رحمه الله في أن الإيمان يزيد مع التوقف في النقصان، وذكر ما قاله أهل العلم من تعليلات لقوله هذا، وبيان الصواب منها، مع ذكر الروايات الأخرى الثابتة عنه في أن الإيمان يزيد وينقص. ولنبدأ أولاً بالرواية الأولى التي فيها قوله أن الإيمان يزيد وتوقف في النقصان، فهذه الرواية جاءت عنه من ثلاث طرق: الأولى - من طريق عبدالله بن وهب. قال: سئل مالك بن أنس عن الإيمان؟ فقال: قول وعمل، قلت أيزيد وينقص؟ قال: قد ذكر الله سبحانه في غير آي من القرآن أن الإيمان يزيد، فقلت له: أينقص؟ قال: دع الكلام في نقصانه وكف عنه. فقلت بعضه أفضل من بعض؟ قال: نعم. الثانية - من طريق ابن القاسم: قال ابن عبدالبر: "وقد روى ابن القاسم عن مالك أن الإيمان يزيد، ووقف في نقصانه" (1).ونقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية (2).وقال القاضي عياض: "قال ابن القاسم: كان مالك يقول: الإيمان يزيد، وتوقف عن النقصان، وقال: ذكر الله زيادته في غير موضع فدع الكلام في نقصانه وكف عنه" (3).ونقله عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء (4). الثالثة - من طريق إسماعيل بن أبي أويس: قال: سئل مالك عن الإيمان يزيد وينقص؟ فقال: يزيد "وينقص" وذلك في كتاب الله، فقيل له: وينقص يا أبا عبدالله؟ قال: ولا أزيد أن أبلغ هذا. فهذا ما وقفت عليه مما نقل عنه رحمه الله في أن الإيمان يزيد مع التوقف في النقصان، ولم أقف فيما أطلعت عليه من روايات عن الإمام أنه جزم بعدم نقص الإيمان، وإنما الذي ورد عنه في بعض الروايات التوقف في القول بنقص الإيمان، وفرق بين الجزم بنفي الشيء، وبين التوقف فيه. وبهذا يتبين خطأ قول الزبيدي عندما أورد قول مالك هذا "أي: توقفه في النقصان" ثم أورد بعده ما روي عن أبي حنيفة من طريق غسان وجماعة من أصحابه أنه قال: "الإيمان يزيد ولا ينقص". ثم قال الزبيدي: "وهو بعينه قول مالك" (5). قلت: فهذا خطأ بين إذ إن مالكاً رحمه الله إنما جاء عنه التوقف بالنقصان لا الجزم بعدمه، والفرق بين الأمرين ظاهر. فهو رحمه الله كان متوقفاً في القول بنقص الإيمان لعدم بلوغ النص إليه، ثم لما بلغه ذلك جزم بنقص الإيمان، كما هو ثابت عنه من طرق متعددة. أما توقفه في النقصان في هذه الرواية فقد ذكر له أهل بعض التعليلات:1 - فقيل إنه توقف في بعض الروايات عن القول بالنقصان، لأن التصديق بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا ينقص؟ إذ لا يجوز نقصان التصديق، لأنه إذا نقص صار شكا وخرج عن اسم الإيمان، قاله ابن بطال (6).2 - وقال بعض أهل العلم: إنما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان خشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي من المؤمنين بالذنوب (7).   (1) ((التمهيد)) (9/ 252). (2) ((الفتاوى)) (7/ 331). (3) ((ترتيب المدارك)) (2/ 43). (4) ((السير)) (8/ 102). (5) ((إتحاف السادة المتقين)) (2/ 256). (6) نقله النووي في (شرحه صحيح مسلم) (1/ 146). (7) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (1/ 146) وانظر الجامع لابن أبي زيد القيرواني (ص122). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 3 - وقيل: إنه توقف في ذلك لأنه وجد ذكر الزيادة في القرآن ولم يجد ذكر النقص. قال شيخ الإسلام: "وكان بعض الفقهاء من أتابع التابعين لم يوافقوا في إطلاق النقصان عليه. لأنهم وجدوا ذكر الزيادة في القرآن، ولم يجدوا ذكر النقص، وهذا إحدى الروايتين عن مالك" (1). فهذا جملة ما وقفت عليه من تعليلات لهذه الرواية، والذي أراه صواباً من هذه التعليلات الثالث منها، وهو أنه توقف عن القول بالنقص لعدم وقوفه على النص، لأمور: أولا: أن هذا هو اللائق به رحمه الله والأنسب لمقامه، فما وجده في الكتاب والسنة قال به، وما لم يجده لم يقل به، وهذا هو شأن العلماء المحققين من أهل السنة والجماعة لا يصدرون في أقوالهم وأعمالهم إلا عن كتاب أو سنة، وكثيراً ما كان يتمثل رحمه الله بقول الشاعر: وخير أمور الدين ما كان سنة ... وشر الأمور المحدثات البدائع (2) ثانياً: أن هذا هو منصوصه رحمه الله، فقد نص في جميع الروايات المتقدمة أنه إنما قال بالزيادة لوجودها في القرآن، ولما لم يجد للنقص ذكراً توقف عنه. ففي رواية ابن وهب قال: "قد ذكر الله سبحانه في غير آي من القرآن أن الإيمان يزيد". وفي رواية ابن القاسم قال: "قد ذكر الله زيادته في غير موضع، فدع الكلام في نقصانه وكف عنه". وفي رواية ابن أبي أويس قال: "وذلك في كتاب الله". فظاهر من هذه الروايات أنه إنما قال بالزيادة لورود النص فيها، أما النقص فتوقف عن القول به لعدم وقوفه على نص فيه. ثالثاً: يؤكد ذلك أنه ورد عنه روايات متعددة صحيحة يأتي ذكرها قريباً فيها القول بزيادة الإيمان ونقصانه، فلعل هذا بعد أن تبين له النص في النقص كحديث: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين)) (3) أو وقف على بعض الآثار الكثيرة عن الصحابة والتابعين، والتي فيها التصريح بالزيادة والنقصان، أو غير ذلك، فصار يقول به لوقوفه على النص فيه. رابعاً: أن هذا ما رآه شيخ الإسلام ابن تيمية ذو الفهم الثاقب، والإطلاع الواسع والعناية الفائقة بأقوال السلف، فهو من أعلم الناس بأقوالهم وأفهمهم لها، وإن النفس لتطمئن كثيراً وغالباً لما يختاره ويراه لدقة فهمه وشدة تحريه، وقد تقدم من قوله رحمه الله تعليل رواية مالك هذه بأنه توقف لأنه لم يجد التنصيص على النقصان في القرآن. أما التعليل الأول والثاني فأرى أنهما غير سديدين. أما الأول: وهو أنه توقف في النقص لأن التصديق لا ينقص فغير صحيح بل باطل، لأن التصديق يعتريه النقص كما تعتريه الزيادة، وقد سبق أن ذكرت في أوجه زيادة الإيمان ونقصانه أن الإيمان يزيد وينقص من جهة التصديق، ودللت على ذلك، ونقلت عن أهل العلم كالنوري وابن تيمية وابن حجر وغيرهم ما يؤيده، فأغني عن إعادته هنا. فقول أن نقصان التصديق شك ليس من قول أهل السنة والجماعة في شيء، فغير لائق أن يتأول قول مالك رحمه الله على هذا القول الباطل، ويترك السبب الذي جاء عنه هو في تعليل تركه للقول بنقصان الإيمان. أما الثاني: وهو أنه توقف حتى لا يفهم منه موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي من المؤمنين بالذنوب، فبعيد جداً. لأن القول بنقص الإيمان لا يفهم منه البتة كفر من نقص إيمانه إلا على مذهب الخوارج وغيرهم من القائلين بأن الإيمان كل واحد لا يتجزأ إذا ذهب بعضه ذهب كله، وهو قول باطل بلا ريب ترده نصوص الكتاب والسنة.   (1) ((الفتاوى)) (7/ 506). (2) ((الانتفاء)) لابن عبدالبر (ص37). (3) رواه البخاري (304) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, ومسلم (79) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 أما أهل السنة والجماعة فالإيمان عندهم له أجزاء وأبعاض وشعب والناس متفاوتون في القيام بها، فهو يزيد بزيادتها وينقص بنقصها، فإماطة الأذى عن الطريق إيمان كما في حديث الشعب، وترك إماطته نقص في كمال الإيمان المستحب ولا يقال إن فعله هذا كفر لتركه شيئاً من أمور الإيمان، ولا يفهم هذا منه. ثم لو فهم هذا ممن انحرفت فطرهم وسادت فيهم البدع والخرافات، فلا يليق أن ينسب إليه رحمه الله أنه ترك ما جاء الدليل مصرحاً به حتى لا يفهم كلامه على غيره مراده، فلو كان ذلك كذلك وطرد هذا الأمر على بقية أمور الاعتقاد لضاع الدين. فهل يترك القول بأن الله سميع بصير عليم خبير وأنه مستو على عرشه وأن له يداً وقدماً وغير ذلك من أوصاف كماله سبحانه وتعالى حتى لا يقال مجسمة؟! أو يترك العناية بالأحاديث وتتبع الآثار والتنقيب عنها وفهمها حتى لا يقال حشوية؟! أو يترك الاستثناء في الإيمان بأن يقول أنا مؤمن أو أنا مؤمن حقاً حتى لا يقال شكاكاً؟! وغير ذلك مما يطول ذكره. وهل لا نروي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم كذا" في أحاديث كثيرة حتى لا يفهم من ذلك أنا نرى ما يراه الخوارج وغيرهم من خروج مرتكب الكبيرة من الإيمان؟! ولقد فهم المبتدعة من كلام الله في كتابه وكلام رسول صلى الله عليه وسلم في الثابت عنه ما يوافق مذاهبهم، وليس العيب في النص تنزه كلام الله ورسوله عن ذلك، بل العيب في فهمهم على حد قول الشاعر: وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم ولم يمنع فهمهم من نص شرعي موافقة مذهبهم أن يتلى النص ويبلغ ويتداول. وعليه فإني أرى أنه ليس من اللائق أبداً أن يؤول قول الإمام على ذلك وأن يفهم من قوله هذا الفهم الفاسد، ولو كان رحمه الله يخشى ما فهمه هؤلاء لقال بما جاء به النص: "الإيمان يزيد وينقص" ثم بين للسائل أنه لا يلزم من القول بنقصه أنه يكفر، إذ لا تلازم بينهما، أو نحو هذا مما يبين السبيل ويزيل الإشكال إن وجد. والله أعلم. وعلى كل فالإمام رحمه الله نص على أنه ترك القول بالنقص لعدم ورود النص، فلا حاجة بنا بعد إلى مثل هذه التعليلات. وأيضاً فالإمام ثبت عنه القول بزيادة الإيمان ونقصانه وترك قوله الأول، بل إن قوله الأخير هو المعروف عنه عند أهل العلم كما قال أحمد بن القاسم تذاكرنا من قال الإيمان يزيد وينقص فعد الإمام أحمد غير واحد ثم قال: ومالك بن أنس يقول: يزيد وينقص، فقلت له إن مالكاً يحكون عنه أنه قال: يزيد ولا ينقص. فقال: بلى قد روي عنه يزيد وينقص كان ابن نافع يحكيه عن مالك، فقلت له: ابن نافع يحكيه عن مالك؟ قال: نعم (1). والروايات الواردة عنه رحمه الله في أن الإيمان يزيد وينقص كثيرة، وفيما يلي أسواق ما وقفت عليه منها: أولا - رواية عبدالرزاق: قال عبدالرزاق: "سمعت معمراً وسفيان الثوري ومالك بن أنس، وابن جريج وسفيان بن عيينة يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص". وقال: "لقيت اثنين وستين شيخاً منهم معمر .. ومالك بن أنس ... كلهم يقولون: "الإيمان قول وعمل يزيد وينقص". ثانيا - رواية إسحاق بن محمد الفروي:   (1) رواه الخلال في ((السنة)) (2/ 693) (ح 1043) وتصرفت في نقله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 قال: "كنت عند مالك بن أنس فسمعت حماد بن أبي حنيفة يقول لمالك يا أبا عبدالله إن لنا رأياً نعرضه عليك فإن رأيته غير ذلك كففنا عنه، قال: وما هو؟ قال يا أبا عبدالله لا نكفر أحداً بذنب، الناس كلهم مسلمون عندنا. قال: ما أحسن هذا، ما بهذا بأس. فقام إليه داود بن أبي زنبر وإبراهيم بن حبيب وأصحاب له فقاموا إليه فقالوا: يا أبا عبدالله إن هذا يقول بالإرجاء، قال ديني مثل دين جبريل وميكائيل والملائكة المقربين، قال: لا والله: الإيمان يزيد وينقص لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح: 4] وقال إبراهيم أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] فطمأنينة قلبه زيادة في إيمانه" (1). ثالثا - رواية ابن نافع: قال: كان مالك بن أنس يقول: "الإيمان قول عمل، يزيد وينقص" (2). رابعا - رواية معن بن عيسى: أشار إليها ابن عبدالبر في التمهيد (3) ونقلها عنه شيخ الإسلام (4)، ولم أقف عليها مسندة. خامسا - رواية أبي عثمان سعيد بن داود بن أبي زنبر الزنبري: قال كان مالك يقول: "الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص" (5). سادسا - رواية سويد بن سعيد بن سهل الهروي: قال: "سمعت مالك بن أنس وحماد بن زيد .. وجميع من حملت عنهم العلم يقولون: الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص ... " (6).فالقول بأن الإيمان يزيد وينقص ثابت عنه رحمه الله من طرق متعددة، ولذا قال ابن عبدالبر في التمهيد بعد أن أشار إلى رواية ابن القاسم عنه في أن الإيمان يزيد مع التوقف في النقصان، قال: "وروى عنه عبدالرزاق، ومعن ابن عيسى، وابن نافع، وابن وهب أنه يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وعلى هذا مذهب الجماعة من أهل الحديث والحمد لله" (7).وقال القاضي عياض: "قال غير واحد: سمعت مالكاً يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وبعضه أفضل من بعض" (8). وخلاصة الكلام في هذا الفصل أن مالكاً رحمه الله كان يقول إن الإيمان يزيد ولا يقول ينقص متوقفاً في ذلك لا منكراً له، ثم بأن له بعد ذلك وظهر من خلال تأمله للنصوص وإعادة النظر فيها أنه ينقص، مستدلاً على ذلك بنصوص القرآن المصرحة بالزيادة نفسها، إذ إن ما دل على الزيادة تصريحاً يدل على النقصان لزوماً. قال ابن رشد: "وقد روي عن مالك رحمه الله أنه كان يطلق القول بزيادة الإيمان وكف عن إطلاق نقصانه، إذ لم ينص الله تعالى إلا على زيادته، فروي عنه أنه قال عند موته لابن نافع وقد سأله عن ذلك: قد أبرمتموني إني تدبرت هذا الأمر فما من شيء يزيد إلا وينقص، وهو الصحيح والله سبحانه وتعالى أعلم" (9).   (1) أخرجه اللالكائي في ((شرح الاعتقاد)) (5/ 960) (ح 1743) قال أخبرنا محمد بن الحسن بن محمد الوراق قال نا أحمد بن خلف قال: نا أبو إسماعيل يعني الترمذي قال سمعت إسحاق بن محمد يقول .. فذكره. وذكره بنحو القاضي عياض في ((ترتيب المدارك)) (2/ 48). (2) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 317) (ح 636)، والخلال في ((السنة)) (ح 1082). (3) (9/ 252) وتصحف فيه معن إلى معمر وهو خطأ. (4) ((الفتاوى)) (7/ 331). (5) رواه الخلال في ((السنة)) (ح1014). (6) رواه البيهقي في ((السنن)) (10/ 206). (7) ((التمهيد)) (9/ 252). (8) ((ترتيب المدارك)) (2/ 43). (9) ((المقدمات)) (1/ 37). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 قلت: وقول ابن رشد هذا فيه تحرير جيد لموقف مالك من هذه المسألة، ألا أن قوله عنه أنه قال ذلك عند موته فيه نظر عندي، إذ إن الروايات المتقدمة عنه رحمه الله في أن الإيمان يزيد وينقص من طرق غير واحد من أصحابه لا تفيد ذلك وليس فيها تصريح به، سيما رواية ابن نافع المعينة هنا وقد تقدمت معنا ولفظها: "كان مالك يقول الإيمان يزيد وينقص" فليس فيها ما يفيد أن ذلك إنما كان عند موته رحمه الله، ثم إن تعدد الروايات عنه في ذلك من طريق عبدالرزاق ومعمر وابن نافع وغيرهم من أصحابه تفيد أن قوله إن الإيمان يزيد وينقص لم يكن قال به عند موته فقط بل قبل ذلك، فلست أدري على ماذا أستند ابن رشد في قوله هذا؟ والذي أراه أنه لا مستند له، فجميع الذين رووه من طريق نافع ممن تقدم ذكرهم في التخريج لم يذكر أحد منهم ما أشار إليه ابن رشد، ثم إن الروايات الأخرى عنه في أن الإيمان يزيد وينقص تدل على عدم صحة هذا كما هو ظاهر مما تقدم، والله أعلم. وعلى كل فهذا القول أعني قول مالك رحمه الله: "الإيمان يزيد وينقص" هو الأخير من أقواله وهو المشهور عنه عند أصحابه وغيرهم لا الأول، أما قول الزبيدي:"وتوقف مالك عن القول بنقصانه، هذا هو المشهور من مذهبه" (1). فغير صحيح، إلا إن كان يعني بالشهرة شهرته عند أهل البدع فنعم، فهم يتتبعون ما وافق أهواءهم من النصوص وأقوال أهل العلم ويأخذون به ويعدونه صحيحاً مشهوراً ويدعون ما سواه. فالمشهور عن مالك هو القول بأن الإيمان يزيد وينقص، ولهذا لما عدد الإمام أحمد من قال الإيمان يزيد وينقص من أهل العلم عد منهم مالكاً رحمه الله مع علمه أنه روي عنه القول بأن الإيمان يزيد مع التوقف في النقصان. ولما عدد عبدالرزاق رحمه الله القائلين بأن الإيمان يزيد وينقص عد منهم مالكاً رحمه الله، وهكذا صنع أبو عبيد وغيرهم من أهل العلم، وما ذاك إلا لأنه المشهور عن مالك رحمه الله. ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد أن أشار إلى توقف مالك في النقصان: "والرواية الأخرى عنه، وهو المشهور عند أصحاب كقول سائرهم أنه يزيد وينقص" (2). رواية غريبة: وقد ذكر القاضي عياض في ترتيب المدارك رواية غريبة عن مالك في ذلك فقال: "قال زهير بن عباد: قلت لمالك ما قولك في صنفين عندنا بالشام اختلفوا في الإيمان فقالوا: يزيد وينقص؟ رواية غريبة: وقد ذكر القاضي عياض في ترتيب المدارك رواية غريبة عن مالك في ذلك فقال: "قال زهير بن عباد: قلت لمالك ما قولك في صنفين عندنا بالشام اختلفوا في الإيمان فقالوا: يزيد وينقص؟ قال بئس ما قالوا ... " إلى آخر سياق هذه الرواية وهو طويل (3). قلت: وهذا غريب جداً، بل لا يثبت عن مالك رحمه الله لا سيما أن القاضي عياض ذكره مرسلاً هكذا. ولم يذكر من خرجه ولم يذكر له سنداً، فعلى هذا لا يكون صحيحاً، ولا تصح نسبته إليه، كيف وهو مخالف للصحيح الثابت عنه رحمه الله، اللهم إلا أن يكون في الرواية تحريف أو سقط، والله أعلم. المصدر: زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر - ص 277   (1) ((إتحاف السادة المتقين)) (2/ 256). (2) ((الفتاوى)) (7/ 506). (3) ((ترتيب المدارك)) (2/ 42). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 المبحث الثاني: قول من قال الإيمان يزيد ولا ينقص، والرد عليه لقد كان الحديث في الفصل السابق عمن قال الإيمان يزيد وتوقف في النقصان، أما الحديث في هذا الفصل فسيكون إن شاء الله عمن خالف قول أهل السنة والجماعة في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، فقال: إن الإيمان يزيد ولا ينقص. وجملة من وقفت على أنه قال بذلك بعد التتبع والنظر في كتب الفرق والمقالات وغيرها، مما تيسر لي الوقوف عليه هم: 1 - طائفة من الأشاعرة. 2 - رواية عن أبي حنيفة. 3 - الغسانية. 4 - النجارية. 5 - الإباضية. وتفصيل ذلك كما يلي: أما قول الطائفة من الأشاعرة فقد أشار إليه البغدادي في "أصول الدين" فقال: "وأما من قال: إنه التصديق بالقلب فقد منعوا من النقصان فيه، واختلفوا في زيادته فمنهم من منعها ومنهم من أجازها" (1). وذكر نحو قوله هذا العيني في (عمدة القاري). ورجحت زيادة الإيمان ... بما تزيد طاعة الإنسان ونقصه بنقصها وقيل لا ... وقيل لا خلف كذا قد نقلا قال في الشرح: "ويحتمل في أن يكون النفي في كلام المصنف راجعاً إلى أقرب مذكور وهو قوله: "ونقصه بنقصها" فكأنه قال: وقيل لا ينقص فيكون مراده بهذا القيل أن الإيمان يزيد ولا ينقص ... " (2).وقال الزبيدي: "وحكى غسان وجماعة من أصحاب أبي حنيفة أنه يزيد ولا ينقص" (3). ونقله عن الكشيمري الحنفي في (فيض الباري)، ونقل نحوه الكاندهلوي الحنفي في (تحفة القارئ) وقال: "وروى عن أبي حنيفة ومالك يزيد ولا ينقص". قلت: سبق أن بينت أن مالكاً لم يقل إن الإيمان يزيد ولا ينقص، وإنما قال: يزيد وتوقف في النقصان، وفرق بين الأمرين. ثم إن الكشميري والكندهلوي لما ذكرا نسبة هذا القول لأبي حنيفة لم يتكلما بشيء حول عدم صحة هذه النسبة إليه، بل إن الأول منهما أخذ يوجه هذا القول، فكأن هذا إقرار منه بصحة النسبة! وعلى كل ففي صحة نسبة هذا القول لأبي حنيفة نظر. فقد ذكر البغدادي عن الغسانية، وهم أتباع غسان المرجئ أن من أقوالهم أن الإيمن يزيد ولا ينقص، ثم قال: "وزعم غسان هذا في كتابه أن قوله في هذا الكتاب كقول أبي حنيفة" (4).ثم خطأه في ذلك: فقال: "وهذا غلط منه عليه، لأن أبا حنيفة قال: إن الإيمان هو المعرفة والإقرار بالله تعالى وبرسله وبما جاء من الله تعالى ورسله في الجملة دون التفصيل، وأنه لا يزيد ولا ينقص، ولا يتفاضل الناس فيه، وغسان قد قال: بأنه يزيد ولا ينقص" (5). فالبغدادي يرى أن نسبة هذا القول لأبي حنيفة غلط عليه، وهذا ظاهر لأن المشهور والمعروف عنه نفي الزيادة والنقصان معاً. لذا قال الإسفرايني: "كان يقول أي غسان الإيمان إقرار بالله ومحبة لله تعالى وتعظيم له، وهو يقبل الزيادة ولا يقبل النقصان على خلاف ما قاله أبو حنيفة رحمه الله حيث قال: لا يزيد ولا ينقص" (6). قلت: فلعل الغسانية نسبوا هذا القول لأبي حنيفة ترويجاً لمذهبهم، وإشهاراً له، ولا غرابة في هذا، فإن هذا سجية لأهل البدع وطبيعة لهم ينحلون الأئمة ما لم يقولوه ليروج باطلهم وينتشر وخصوصاً أبا حنيفة، فقد نحل رحمه الله من عقائد الجهمية والمعتزلة والماتريدية وغيرهم شيء كثير لم يقل به وإنما نسبه إليه أهل الباطل باطلاً.   (1) ((أصول الدين)) (ص252). (2) ((تحفه المريد)) (ص51). وانظر ((جوهرة التوحيد "ضمن مجموعة مهمات المتون")) (ص12). (3) ((إتحاف السادة المتقين)) (2/ 256). (4) ((الفرق بين الفرق)) (ص203). (5) ((الفرق بين الفرق)) (ص203). (6) ((التبصير في الدين)) (ص101). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 هذا بشكل عام أما قول أبي حنيفة في هذه المسألة بخصوص فهو أشد من قول هؤلاء، وأكثر بعداً عن الصواب، إذ إن المشهور عنه رحمه الله، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك قريباً، هو نفي الزيادة والنقصان كليهما وسيأتي الكلام على مذهبه هذا موسعاً في الفصل القادم إن شاء الله، وإنما الذي قصدت بيانه هنا هو عدم صحة نسبة هذا القول - أعني أن الإيمان يزيد ولا ينقص - إليه. وأما الغسانية فالقول بأن الإيمان يزيد ولا ينقص مشتهر عنهم، وقد نسبه إليهم غير واحد ممن كتب في المقالات والفرق (1).وأما النجارية، فلهم أصول باطلة جانبوا فيها الحق وفارقوه منها: قولهم إن الإيمان يزيد ولا ينقص، وقد حكى ذلك عنهم غير واحد ممن كتب في مقالات الفرق كالأشعري والأسفرايني والبغدادي وغيرهم (2).وأما الإباضية، فلم أقف على قولهم إن الإيمان يزيد ولا ينقص في كتب المقالات وإنما ذكر أبو محمد عبدالله بن حميد السالمي من الاباضية في كتابه مشارق أنوار العقول: "الإيمان بالمعنى الشرعي الذي هو أداء الواجبات مطلقاً ليس ينقص نظراً إلى إيمان كل مؤمن فإنه في ذاته غير متفاوت بالنسبة إلى إيمان غيره" (3). فقال المعلق على الكتاب وهو من الإباضية المعاصرين: "ذهب أصحابنا رحمهم الله إلى أن الإيمان يزيد ولا ينقص، وهذا المذهب إذا تؤمل له أصالته في العقيدة سواء حملنا الإيمان على حقيقته اللغوية أو حقيقته الشرعية .. إلى أن قال: وإذا اعتقد ما لزمه اعتقاده ولم يحضره فرض قولي أو عملي كان مؤمناً كامل الإيمان، وإذا وجب عليه شيء من الأقوال أو الأفعال وأداه كما وجب عليه ازداد إيمانه وإذا أخل بهذا الواجب أنهدم إيمانه كله" (4). وكما ترى قد وافق هذا أسلافه الخوارج بقوله: "وإذا أخل بهذا الواجب انهدم إيمانه كله". فهم يخرجون من أخل بشيء من الأعمال عن الإيمان، لأن الإيمان عندهم كل لا يتجزأ إذا ذهب بعضه ذهب كله، وهذه الشبهة هي التي أفسدت على هؤلاء وعلى غيرهم عقيدتهم في الإيمان، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله:"ولهذه الشبهة والله اعلم امتنع من امتنع من أئمة الفقهاء أن يقول بنقصه، كأنه ظن إذا قال ذلك يلزم ذهابه كله بخلاف ما إذا زاد" (5). قلت: وهذه الشبهة باطلة معلومة الفساد، وسيأتي نقضها في الفصل القادم. فهذا ما تيسر لي الوقوف عليه ممن قال بهذا القول، ولهؤلاء أدلة يحتجون بها، فيما يلي أسوقها، ثم أتبع ذلك بمناقشتها وبيان بطلانها: أدلتهم: 1 - بنوا قولهم هذا على تعريفهم للإيمان: فالإيمان عندهم هو التصديق، والتصديق عندهم لا يقبل النقص لأنه إذا قبله صار شكاً، لكنه يقبل الزيادة بناء على أن الشخص يؤمن إجمالاً ثم يزيد تصديقه بالتفاصيل (6). وقد تقدم معنا قول البغدادي: "وأما من قال إنه التصديق بالقلب فقد منعوا من النقصان فيه".وقال العيني: "وقال آخرون إنه لا يقبل النقصان لأنه لو نقص لا يبقى إيماناً، ولكن يقبل الزيادة لقوله تعالى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال: 2] ونحوها من الآيات" (7).   (1) انظر ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (ص139) والتبصير في الدين للأسفريني (ص98) و ((الفرق بين الفرق)) للبغداد (ص203). (2) انظر ((مقالات الإسلاميين)) (ص136) و ((التبصير في الدن)) (ص101)، و ((الفرق بين الفرق)) (ص208) و ((الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 546). (3) ((مشارق الأنوار)) (ص35 - 36). (4) ((مشارق الأنوار)) (ص35 - 36). (5) ((الفتاوى)) (7/ 511). (6) انظر ((أصول الدين)) للبغدادي (ص252)، والنبراس ((شرح العقائد)) (ص402)، و ((عمدة القاري)) (1/ 107). (7) ((عمدة القاري)) (1/ 107). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 2 - احتجوا بحديث الإسلام يزيد ولا ينقص: قال الكشميري "وروي عن إمامنا الأعظم رحمه الله تعالى أن الإيمان يزيد ولا ينقص، وكأنه مأخوذ مما روي عند أبي داود في تاب الفرائض عن معاذ بن جبل: "أنه ورث المسلم عن الكافر ولم يورثه من السلم وقال الإسلام يزيد ولا ينقص" قيل في شرحه أي يعلو ولا يعلى" (1). 3 - واحتجوا بأن المعاصي لا تحبط الطاعات وإذا لم تحبطها فلا نقصان يحلق الإيمان: قال الحليمي: "ومن ذهب إلى أن الإيمان يزيد ولا ينقص فإنه يقول أصله يتكثر بفروعه، وفروعه تتكثر بعضها، والمعاصي لا تحبط الطاعات، وإذا لم تحبطها فلا نقصان يحلق الإيمان. والدليل على صحة ذلك أن فروع الإيمان متأيدة بأصلها، فما لا يحبط أصلها لا يحبطها، لأن الفروع لا تتميز عن أصلها، فإذا لم يجز وجود الكفر مع الإيمان، لم يجز وجود فروعه مع الإيمان، ولأن طاعات المؤمن إنما كانت فروع الإيمان لوجودها في الإيمان المحرك عليها، كذلك معاصي الكافر فروع للكفر لأن كفره هو المحرك له عليها، وقد علمنا أن الأفعال الحسنة في أنفسها إذا وجدت من الكافر لم تكن فروع الإيمان، ولأن طاعات المؤمن لما كانت فروع الإيمان كانت إيماناً، فلو كانت سيئاته فروع الكفر فلتكن كفراً" (2). فهذا ما وقفت عليه من أدلة لهؤلاء، ولهم شبه أخرى يوافقون فيها من قال إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فيأتي ذكرها ونقضها هناك. والرد على هذه الأدلة من وجهين مجمل ومفصل: أما المجمل: 1 - فيقال: إن زيادة الإيمان ثابتة في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، وهم يقولون بها، فإذا ثبتت الزيادة، فالنقصان ثابت باللزوم، لأن الزيادة تستلزم النقص، ولأن قبول الشيء للزيادة يستدعي قبوله للنقص، ولأن الزيادة لا تكون إلا عن نقص، وسبق أن نقلت عن أهل العلم الإمام أحمد وابن حزم وابن بطال والبيهقي وابن حجر وغيرهم ما يؤيد هذا، فأغنى عن إعادته هنا. فالزيادة إن كانت ثابتة من نص القرآن منطوقاً فهي ثابتة من نصه مفهوماً، بل إن بعض أهل العلم يرى أنها ثابتة من نصه منطوقاً. ولهذا لما قال الكشميري "وليعلم أن القرآن لا يدل بمنطوقه إلا على زيادة الإيمان، أما على نقصانه فلا، إلا أن يؤخذ عنه بالزوم، ويقال إن الإيمان إذا ثبتت فيه الزيادة أمكن فيه النقصان أيضاً" (3). تعقبه الشيخ ابن عبدالحق النورفوري بقوله: "إن دلالة اللفظ على ما وضع له، أو جزئه، أو لازمه المتأخر عبارة إن سبق له، وإلا فإشارة، وعلى لازمه المتقدم اقتضاء، ولا ريب أن هذه الثلاث من المنطوق. قال في إرشاد الفحول في الباب الثامن من المقصد الرابع منه: "والحاصل أن الألفاظ قوالب للمعاني المستفادة منها، فتارة تستفاد منها من جهة النطق تصريحاً، وتارة من جهته تلويحاً، فالأول المنطوق، والثاني المفهوم، والمنطوق ينقسم إلى قسمين: الأول: ما لا يحتمل التأويل، وهو النص.   (1) ((فيض الباري)) (1/ 137). (2) ((المنهاج في شعب الإيمان)) (1/ 69). (3) ((فيض الباري)) (1/ 66). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 والثاني: ما يحتمله، وهو الظاهر. والأول أيضاً ينقسم إلى قسمين، صريح إن دلل عليه اللفظ بالمطابقة أو التضمن، وغير صريح إن دل عليه بالالتزام، وغير الصريح ينقسم إلى دلالة اقتضاء وإيماء وإشارة، فدلالة الاقتضاء هي إذا توقف الصدق أو الصحة العقلية أو الشرعية عليه مع كون ذلك مقصود التكلم ... إلخ؟ " (1).والاستثناء في قوله - أي الكشميري -: "أما على نقصانه فلا إلا أن يؤخذ عنه باللزوم" متصل، فظهر أن القرآن يدل على النقصان بمنطوقه، كما يدل على الزيادة بمنطوقه، إلا أن دلالته على الزيادة من قبيل العبارة، وعلى النقصان من باب الاقتضاء أو الإشارة، فالحق أن الإيمان إذا ثبت فيه الزيادة ثبت فيه النقصان البتة لا كمال قال: أمكن فيه النقصان" (2).قلت: وهذا تعقب محرر جداً، ووجه آخر في الرد وهو ما جاء عن ابن عيينة رحمه الله تعالى قال: "نطق القرآن بزيادة الإيمان ونقصانه، قوله تعالى: زَادَتْهُمْ إِيمَانًا فهذه زيادة الإيمان، وقوله تعالى: فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة: 125] فهذا نقصان الإيمان" (3). والمقصود أن القرآن الكريم كما أنه دل على زيادة الإيمان فهو يدل على نقصه، ومن أخذ بدلالته على الزيادة وترك دلالته على النقص فقد عطل القرآن عن دلالاته، وتناقض فيما يأتي ويذر. قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي بعد أن ذكر جملة من الآيات المصرحة بزيادة الإيمان: "وهذه الآيات المذكورة نصوص صريحة في أن الإيمان يزيد مفهوم منها أن ينقصه أيضاً، كما استدل بها البخاري رحمه الله على ذلك، وهي تدل عليه دلالة صريحة لاشك فيها، فلا وجه معها للاختلاف في زيادة الإيمان ونقصه كما ترى، والعلم عند الله" (4).2 - ويقال أيضاً إن النقص مصرح به في السنة، كما في الحديث الصحيح الثابت عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنساء ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن)) (5).فهذا الحديث نص في نقصان الإيمان، فالحديث حجة قاصمة لظهر كل من قال إنه لا ينقص وشجاً في حلقه إلا أن يدع قوله، قال ابن حزم: "وقد جاء النص بذكر النقص، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهور المنقول نقول الكواف أنه قال للنساء: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل الحازم منكن)) (6) " (7).وأيضاً: ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: ((من رأي منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) (8). فقوله صلى الله عليه وسلم: ((وذلك أضعف الإيمان)) صريح أن الإيمان يضعف نقصان بلا ريب؛ ولذا احتج به أهل العلم على زيادة الإيمان ونقصانه كما سبق بيانه. قلت: فلا مجال بعد قوله صلى الله عليه وسلم لعقل ولا رأي إلا القبول والتسليم، لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فهو صلى الله عليه وسلم يخبر بصريح العبارة أن الإيمان يضعف وينقص، فلا يجوز لمن كان يؤمن به أن يقول لا ينقص، معارضاً برأيه قول رسول الله الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.   (1) ((إرشاد الفحول)) (ص156). (2) ((إرشاد القاري)) (1/ 374) مخطوط. (3) رواه الجورقاني في ((الأباطيل)) (1/ 34). (4) ((أضواء البيان)) (4/ 29). (5) رواه البخاري (304) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, ومسلم (79) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. (6) رواه البخاري (304) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, ومسلم (79) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. (7) ((الفصل)) (3/ 237). (8) رواه مسلم (49). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 3 - وأيضاً يقال: إن القول بزيادة الإيمان ونقصانه هو قول أهل السنة والجماعة الصحابة وتابعيهم بإحسان، وقد نقلت فيما سبق عن غير واحد منهم التصريح بأن الإيمان يزيد وينقص، فمن الصحابة عن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن رواحة وأبي الدرداء وأبي هريرة وجندب بن عبدالله البجلي وعمير بن حبيب الخطمي وغيرهم رضي الله عن الصحابة أجمعين، ومن السلف عموماً عن علقمة بن قيس وعمر بن عبدالعزيز ومجاهد بن جبر والأوزاعي والثوري وحماد بن زيد ومالك وابن المبارك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم خلق كثير لا يحصون، وهذا هو الثابت عنهم لا قول لهم غيره، وهذا هو السبيل الذي يعضده الدليل من الكتاب والسنة، والله يقول: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى .... [النساء: 115].وكان شيخ الإسلام رحمه الله يقول: "من فارق الدليل ضل السبيل، ولا دليل إلا بما جاء به الرسول" (1). بل لقد جاء عن بعض السلف عد هذا القول من أقوال المرجئة المذمومة، كما جاء عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سئل عمن قال الإيمان قول بلا عمل وهو يزيد ولا ينقص قال هذا قول المرجئة. وسئل ما المرجئة؟ قال الذين يقولون الإيمان قول، قيل: فالذي يقول الإيمان يزيد ولا ينقص! قال ما أدري ما هذا. قلت: أي أنه قول منكر لم يعهد عن أحد من علماء السنة. وهذان الأثران عن الإمام رحمه الله رواهما عنه الخلال في السنة في باب الرد على المرجئة قولهم إن الإيمان يزيد ولا ينقص (2). فعلم من جميع ما تقدم أن القول بأن الإيمان يزيد ولا ينقص قول محدث لا دليل عليه من الكتاب والسنة ولم يقل به أحد من سلف هذه الأمة، فمن قال به وترك قول أهل السنة ولم يقل به أحد من سلف هذه الأمة، فمن قال به وترك قول أهل السنة فقد فارق السبيل وترك الجادة التي عليها أئمة الهدى ومصابيح الدجي الذين هم أعلم وأحكم بمسائل العلم والدين. ويحسن أن أنقل هنا ما نقله شيخ الإسلام عن الشافعي رحمه الله في سياق آخر قال: "وما أحسن ما قاله الشافعي رضي الله عنه في رسالته "هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل، وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا"" (3). فإن كانوا بهذه المثابة والمنزلة وهم كذلك، وقد اتفقوا على أن الإيمان يزيد وينقص، ومستندهم في ذلك الكتاب والسنة، فلا يجوز لأحد أن يعدل عن قولهم لشبه عقلية وخيالات وهمية، ما هي إلا كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ [النور: 39] هذا على سبيل الإجمال. أما التفصيل، فهو في نقد حججهم السالفة الذكر، ونقضها شبهة شبهة. أولاً - قولهم: إن الإيمان لا ينقص: لأنه هو التصديق، والتصديق إذا نقص صار شكاً، لكنه يزيد. قلت: وهذا قول باطل مناقض للحق والواقع، أما الحق: فقد بينت في مبحث أوجه زيادة الإيمان ونقصانه أن الحق الذي لا ريب فيه في التصديق أنه يزيد وينقص ويقوى ويضعف، ولا يلزم من ضعفه أن يكون شكاً أو كفراً حاشا وكلا، بل يضعف تصديق الشخص عن درجة اليقين الكامل إلى درجة أضعف دون أن يكون ذاهب التصديق كلية، أو مرتاباً في الأمر شركاً فيه.   (1) ((مفتاح السعادة)) لابن القيم (ص90). (2) ((السنة)) للخلال (3/ 569). (3) ((نقض المنطق)) (ص130). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 وإبراهيم الخليل عليه السلام لما قال: أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى [البقرة: 260] وأراه الله، زاد تصديقه وإيمانه، وبلغ درجة الإطمئنان ولم يكن شاكاً قبل ذلك حاشاه عليه السلام فلا تلازم بين شك والنقص، فقد يوجد أحدهما دون أن يلزم من ذلك وجود الآخر، ..... وأما مناقضته للواقع: فإن الواقع يشهد لبطلان ذلك، فإن من الناس من يكون تصديقه قوياً معتمداً على الحجج والبراهين، بالغاً أعلى درجات اليقين، لا تزعزعه الشبهات ولا تصرفه، ومنهم من يكون تصديقه ضعيفاً بحيث تزعزعه الشبه وتصرفه، فإن سلم منها بقيي على تصديقه الضعيف ولا يعد شاكاً، فشتان بين هذا وذاك. ثم إن هذا أمر يحسه كل أحد من نفسه، فإن المرء أحياناً يكون تصديقه، قوياً، وأحياناً يكون ضعيفاً، وهو في كلا الحالين مصدق، وما ذاك إلا لأن التصديق يقبل التفاضل والزيادة والنقصان في الشخص الواحد، وكذلك يتفاضل من شخص لآخر، فمن كان تصديقه أكمل فهو أفضل من الآخر الذي تصديقه أنقص، والمقصود أن التصديق كما أنه يزيد فهو ينقص بلا ريب. أقول ما تقدم جدلاً على فرض أن الإيمان هو التصديق، أما الإيمان فهو وراء ذلك، بل هو التصديق والقول والعمل كما هو مقرر في عقيدة أهل السنة والجماعة، فالإيمان ينقص بنقص العمل وبفعل المعاصي وبغير ذلك، ولا يلزم من نقصه في ذلك أن يكون شكاً أو كفراًن بل بحسب المعصية فإن كانت المعصية المرتكبة كفراً كفر، وإن كانت كبيرة نقص كمال إيمانه الواجب، وإن كان مستحباً تزكها نقص كمال إيمانه المستحب، فلا يلزم من ارتكاب المعصية كفر المرتكب، إلا على مذهب الخوارج. ثم يقال لهؤلاء إن كان التصديق على قولكم يقبل الزيادة ولا يقبل النقصان أخبرونا عن حاله قبل حصول الزيادة أكان ناقصاً أو كاملاً؟ فإن كان كاملاً فما وجه الزيادة فيه وهو كامل، وإن كان ناقصاً وهو كذلك خصمتم، وبهذا يظهر تناقضهم، وتهافت قولهم، وبالله التوفيق. ثانياً - أما إحتجاجهم بحديث الإسلام يزيد ولا ينقص: فمنتقض من وجهين: الأول: أن الحديث ضعيف لا يحتج به، فقد أخرجه أو داود (1) وأحمد (2) والطيالسي (3) والحاكم في المستدرك (4) والبيهقي في السنن (5)، والجورقاني في الأباطيل (6) كلهم من طريق عمرو بن حكيم عن عبدالله بن بريدة عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الدؤلي عن معاذ بن جبل أنه أتي في ميراث يهودي وارثه مسلم، فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((الإسلام يزيد ولا ينقص)) فورثه منهم. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. قال الألباني حفظه الله: "لكنه معلول بالانقطاع، فقد أخرجه أبو داود من طريق عبدالوارث عن عمرو بن أبي حكيم الواسطي: ثنا عبدالله بن بريدة أن أخوين اختصما إلى يحيى بن يعمر: يهودي ومسلم، فورث المسلم منهما وقال: حدثني أبو الأسود أن رجلاً حدثه أن معاذاً حدثه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكره، فورث المسلم.   (1) انظر ((سنن أبي داود)) (2912). (2) انظر ((المسند)) (5/ 236) (22058). (3) انظر ((مسند الطيالسي)) (1/ 77). (4) انظر ((المستدرك)) (4/ 383). (5) انظر ((سنن البيهقي)) (6/ 254). (6) انظر ((الأباطيل)) (2/ 157). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 فهذا يدل على أنا أبا الأسود لم يسمعه من معاذ، بينهما رجل لم يسم، فهو مجهول، فهو علة الحديث، وبه أعله البيهقي، فقال بعد أن ساقه من طريق أبي داود: "وهذا رجل مجهول، فهو منقطع"، وقال الحافظ في الفتح 12/ 43 بعد ما ذكر تصحيح الحاكم له: "وتعقب بالانقطاع بين الأسود ومعاذ، لكن سماعه منه ممكن، وزعم الجورقاني أنه باطل، وهي مجازفة".قلت: الذي يبدو لي أن حكم الجورقاني عليه بأنه باطل، إنما هو باعتبار ما فيه من توريث المسلم من اليهودي الكافر، فإن الأحاديث الصحيحة على خلاف ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتوارث أهل ملتين شتى)) (1) , وهو مخرج مع غيره مما في معناه في كتابي إرواء الغليل" اهـ (2).والحديث أعله المناوي بالانقطاع (3).وأخرجه الجورقاني في الأباطيل (4) من طريق أخرى عن محمد بن المهاجر البغدادي قال حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا حماد بن سلمة عن خالد الحذاء عن عمرو بن كردي عن يحيي بن يعمر عن معاذ بن جبل: فذكره. قال الجورقاني: هذا باطل. وأورده ابن الجوزي في الموضوعات (5)، واتهم بوضعه محمد بن المهاجر، وقال: قال ابن حبان: كان يضع الحديث، وقد رواه فغير إسناده ولفظه. ونازعه في ذلك السيوطي في اللآلئ (6)، وذكر طريقه المتقدمة وطريقاً أخرى وليس فيهما محمد بن المهاجر. وعلى كل فالحديث ضعيف لا يحتج به. الوجه الثاني: وعلى فرض صحته، فإن الحديث معناه على غير ما فهمه هؤلاء من أنه يدل على أن الإيمان يزيد ولا ينقص، وإنما هو في باب آخر غير هذا، كما هو واضح من بيان أهل العلم للحديث. فقد قيل في معناه: "أي: أن حكم الإسلام يغلب ومن تغليبه أن يحكم للولد بالإسلام بإسلام أحد أبويه" (7) قاله عبدالوارث بن سعيد. وقال البيهقي: "وإن صح الخبر فتأويله غير ما ذهب إليه - يعني: معاذ في توريثه للمسلم من الكافر محتجاً لذلك بهذا الحديث - إنما أراد أن الإسلام في زيادة ولا ينقص بالردة" (8).وقيل: "أي: يزيد بما يفتح من البلاد، ولا ينقص بما غلب عليه الكفرة منها" (9). أما ما فهمه معاذ رضي الله عنه من الحديث على فرض صحته من أنه يدل على أن المسلم يرث من الكافر من غير عكس فهو معارض بالأحاديث الصحيحة الثابتة في أنه لا يتوارث أهل ملتين فلا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر. ففي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم)) (10). وما ذهب إليه بعض أهل العلم: أنا نرث أهل الكتاب ولايرثونا، ما يحل النكاح فيهم ولا يحل لهم، وبه قال مسروق وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وإسحاق. فمردود بأنه قياس في معارضة النص وهو صريح في المراد ولا قياس مع وجوده، بهذا أجاب الجمهور. وعلى كل فالحديث ليس نصاً في المراد بل هو محمول على أنه يفضل غيره من الأديان، ولا تعلق له بالإرث (11).   (1) رواه أبو داود (2911) وابن ماجه (2731) من طريق عمرو بن شعيب, ورواه الترمذي (2108) من حديث جابر رضي الله عنه, والحديث سكت عنه أبو داود, وصححه ابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (129) , وقال أحمد شاكر في تحقيقه لـ ((مسند أحمد)) (10/ 146): إسناده صحيح, وصححه الألباني. (2) ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) (3/ 252، 253)، وانظر ((الإرواء)) (5/ 106). (3) انظر ((التيسير)) للمناوي (1/ 424)، و ((فيض القدير)) له (3/ 179). (4) (2/ 156). (5) (3/ 230). (6) (2/ 442). (7) انظر ((سنن البيهقي)) (6/ 205). (8) انظر ((سنن البيهقي)) (6/ 255). (9) انظر ((عون المعبود)) (8/ 123). (10) رواه البخاري (6764) , ومسلم (1614). (11) انظر ((فتح الباري)) (12/ 50، 51)، و ((شرح مسلم)) للنووي (11/ 52). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 فالحديث لا يدل على توريث المسلم من الكافر، ولا يدل على أن الإيمان يزيد ولا ينقص على المعنى الذي فهمه هؤلاء، بل المراد به أن الإسلام له الغلبة دائماً وأنه يعلو ولا يعلى. وهذه اللفظة "الإسلام يعلو ولا يعلى" ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما بين ذلك الألباني في الإرواء فقد استوفى طرق الحديث ثم قال: "وجملة القول أن الحديث حسن مرفوعاً بمجموع طريقي عائد ومعاذ، وصحيح موقوفاً، والله أعلم" (1). قلت: فعلى هذا المعنى يحمل حديث معاذ إن صح، والله اعلم. وبهذا ينتقض احتجاجهم به، ولله الحمد. ثالثا: احتجاجهم بأن المعاصي لا تحبط الطاعات وإذا لم تحبطها فلا نقصان يلحق الإيمان ... إلخ. وقولهم هذا باطل، فهو في جملته يعارض الحق الثابت في الكتاب والسنة في الإيمان وأنه يقبل النقصان كما يقبل الزيادة، ومفاد هذه التعليلات إبطال ذلك وتقرير أن الإيمان يقبل الزيادة فقط دون النقصان. وهذا تحكم في نصوص الشرع، وإدلاء بالعقل في مقابل النص! فهل تكفي مثل هذه التعليلات العقلية حجة في أمر يناقض الكتاب والسنة ويخالفهما؟؟ ثم إن قولهم هذا متضمن في ثناياه أموراً باطلة عدة منها: قولهم: "المعاصي لا تحبط الطاعات" فهذا القول هكذا ليس على إطلاقه فإن من المعاصي الشرك الأكبر وهو يحبط الطاعات بيقين، والمعصية إذا أطلقت تشمل الكفر وغيره، والله لم يجعل شيئاً يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، فكان ينبغي أن يستثنى الشرك الأكبر من هذا الإطلاق. ثم أمر آخر وهو أن هناك من المعاصي ما هو دون الشرك إلا أنه يبطل بعض الطاعات كالذي يتبع صدقاته بالمن والأذى كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ... [البقرة: 264].قال ابن كثير: "فأخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى كما تبطل صدقه من راءى بها الناس فأظهر لهم أنه يريد وجه الله ... " (2). فالصدقة طاعة والمن والأذى معصية، والذي يتبع صدقاته بالمن والأذى تبطل طاعته، فالمعصية إذن قد تبطل بعض الطاعات، ولهذا فإن قولهم المتقدم ليس على إطلاقه وتحريره أن قال: "المعاصي التي دون الشرك لا تحبط جميع الطاعات" فإذا تبين لك فساد مقدمتهم علمت فساد نتيجتها. وكذلك قولهم: "إذا لم تحبطها لا نقصان يلحق الإيمان". قلت: فهذه نتيجة باطلة مبنية على مقدمة فاسدة، ثم إنه لا تلازم بين الأمرين فإن المعاصي وإن لم تحبط الطاعات فقد تؤثر على الإيمان بالنقص كما هو معلوم. وعلى كل فنقصان الإيمان ثابت شرعاً واقع عرفاً ولا سبل إلى رده بمثل هذه التخرصات والشبه التي لا تغني من الحق شيئاً. المصدر: زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر - ص 293   (1) ((إرواء الغليل)) (5/ 106). (2) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 318). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 المبحث الثالث: زيادة الإيمان ونقصانه عند مرجئة الفقهاء لم تختلف كلمة المرجئة، فقهائهم ومتكلميهم، في أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص. يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "ووافقهم - يعني الخوارج والمعتزلة - المرجئة والجهمية على أن الإيمان يزول كله بزوال شيء منه، وأنه لا يتبعض، ولا يتفاضل، فلا يزيد ولا ينقص، وقالوا إن إيمان الفساق كإيمان الأنبياء والمؤمنين" (1).ويقول أيضا: "لكن بعض الناس قال: إن إيمان الخلق مستو، فلا يتفاضل إيمان أبو بكر وعمر وإيمان الفساق؛ بناء على أن التصديق بالقلب واللسان، أو بالقلب، وذلك لا يتفاضل" (2). وعن فقهاء المرجئة خاصة يقول رحمه الله تعالى:"وأنكر حماد بن أبي سليمان، ومن اتبعه، تفاضل الإيمان، ودخول الأعمال فيه، والاستثناء فيه، وهؤلاء من مرجئة الفقهاء" (3). وهذا المذهب لمرجئة الفقهاء في زيادة الإيمان ونقصانه دل عليه أيضا أثر معقل العبسي، وقد تقدم بعضه، ومما جاء فيه قول معقل لعطاء: "فقلت: إنهم يقولون: ليس في الإيمان زيادة. فقال - أي عطاء -: أوليس قد قال الله فيما أنزل: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح: 4]، فما هذا الإيمان الذي زادهم؟ " (4). ونقل شيخ الإسلام ما أورده الإمام أحمد عليهم في إنكارهم زيادة الإيمان، حيث يقول رحمه الله: "قال الإمام أحمد: فإن زعموا أنهم لا يقبلون زيادة الإيمان من أجل أنهم لا يدرون ما زيادته، وأنها غير محدودة. فما يقولون في أنبياء الله، وكتبه، ورسله؟ هل يقرون بهم في الجملة؟ ويزعمون أنه من الإيمان؟ فإذا قالوا: نعم. قيل لهم: هل تجدونهم، وتعرفون عددهم؟ أليس إنما يصيرون في ذلك إلى الإقرار بهم في الجملة، ثم يكفون عن عددهم؟ فكذلك زيادة الإيمان. وبين أحمد أن كونهم لم يعرفوا منتهى زيادته - يعني الإيمان - لا يمنعهم من الإقرار بها في الجملة، كما أنهم يؤمنون بالأنبياء والكتب، وهم لا يعرفون عدد الكتب والرسل" (5).   (1) ((شرح الأصبهانية)) (2/ 574)، (ص138) ت مخلوف؛ ونحوه في: ((منهاج السنة)) (5/ 204 - 205). (2) ((الفتاوى)) (6/ 479). (3) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 507)، (ص372) ط. ابن الجوزي. (4) ((الإيمان)) (ص193) ((الفتاوى)) (7/ 205) مختصرا. (5) ((الإيمان)) (ص391) ((الفتاوى)) (7/ 409)؛ والنقل عن الإمام أحمد من رسالته إلى أبي عبدالرحمن الجوزجاني: ذكرها الخلال في ((السنة)) (4/ 22 - 28 برقم 1103). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 ثم إن فقهاء المرجئة انفردوا عن المرجئة في هذه المسألة بإثبات الزيادة في الإيمان حال نزول الآيات، فلما اكتمل الدين لم تعد هناك زيادة. يقول شيخ الإسلام عنهم: "قالوا: نحن نسلم أن الإيمان يزيد، بمعنى أنه كلما أنزل الله آية وجب التصديق بها، فانضم هذا التصديق إلى التصديق الذي قبله، لكن بعد كمال ما أنزل الله ما بقي الإيمان يتفاضل عندهم، بل إيمان الناس كلهم سواء، إيمان السابقين الأولين كأبي بكر وعمر، وإيمان أفجر الناس كالحجاج وأبي مسلم الخراساني وغيرهما" (1).وهذا الذي فهمه فقهاء المرجئة مردود بأن الصحابة رضوان الله عليهم قد أثبتوا زيادة الإيمان ونقصانه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن كله، فأثبتوا الزيادة بعد كمال الدين (2).وكمال الدين في قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] لا يعني أن الإيمان لا يتفاضل، بل المراد بالإكمال هنا كما قال شيخ الإسلام: "أي في التشريع بالأمر والنهي، ليس المراد أن كل واحد من الأمة وجب عليه ما يجب على سائر الأمة، وأنه فعل ذلك، بل في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصف النساء بأنهن ناقصات عقل ودين، وجعل نقصان عقلها أن شهادة امرأتين شهادة رجل واحد، ونقصان دينها إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي، وهذا النقصان ليس هو نقصا مما أمرت به، فلا تعاقب على هذا النقصان، لكن من أمر بالصلاة والصوم ففعله كان دينه كاملا بالنسبة إلى هذه الناقصة الدين" (3). وبعد هذا، فإن منشأ الغلط في هذه المسألة كما مر في أول كلام شيخ الإسلام عائد إلى أصلهم البدعي المشهور أن الإيمان شيء واحد، لا يتبعض، بل إذا ذهب بعضه ذهب كله، فلما جعلوا الإيمان شيئا واحدا جعلوا الناس فيه متساوين من حيث ما يجب عليهم، ومن حيث ما يقع منهن، فلا يمكن أن يأتي أحد بإيمان لا يأت به الآخر، فالإيمان في حق الجميع واحد، وكل من آمن فقد أتى به. وقالوا إن هذا مثل ما لو تلفظ الفاسق بالشهادتين، أو قرأ فاتحة الكتاب، كان لفظه كلفظ غيره من الناس (4). يقول شيخ الإسلام: "وأصل هؤلاء - يعني المرجئة - أن الإيمان لا يتبعض، ولا يتفاضل، بل هو شيء واحد يستوي فيه جميع العباد فيما أوجبه الرب من الإيمان، وفيما يفعله العبد من الأعمال. فغلطوا في هذا وهذا، ثم تفرقوا كما تقدم، وصار المرجئة على ثلاثة أقوال:   (1) ((الإيمان)) (ص184) ((الفتاوى)) (7/ 195)؛ وفي كون هذا هو توجيه فقهاء المرجئة راجع: ((شرح العقائد)) النسفية، (ص81)؛ و ((تبصرة الأدلة)) (2/ 809)؛ وقد ارتضاه بعض المتكلمين، كما في ((أصول الدين))، للغزنوي، (ص257)؛ و ((شرح المقاصد)) (5/ 214). (2) انظر: ((الإيمان)) (ص212) ((الفتاوى)) (7/ 225). (3) ((الإيمان)) (ص219 - 220) ((الفتاوى)) (232 - 233)؛ وانظر: ((شرح الأصبهانية)) (2/ 577 - 578، ص139 - 140) ت مخلوف. (4) انظر: ((الفتاوى)) (13/ 52). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 فعلماؤهم وأئمتهم أحسنهم قولا، وهو أن قالوا: الإيمان تصديق القلب، وقول اللسان. وقالت الجهمية: هو تصديق القلب فقط، وقالت الكرامية: هو القول فقط" (1).ويقول: "ولهذا كانت المرجئة تنفر من لفظ النقص أعظم من نفورها من لفظ الزيادة؛ لأنه إذا نقص لزم ذهابه كله عندهم" (2).فبناء على هذا الأصل منع المرجئة زيادة الإيمان ونقصانه، وفسروا الزيادة والنقصان بأن المراد زيادة الأعمال الظاهرة ونقصانها، وهي عندهم ليست من الإيمان، فتكون زيادة الإيمان ونقصانه عندهم زيادة ثمراته ونتائجه (3). وأما عند أهل السنة، فإن الزيادة والنقصان تدخل فيما يؤمر به المكلف من أمر ونهى، وفيما يقع منه من قول وعمل، ظاهر وباطن. يقول شيخ الإسلام بعد حكاية قول الجهمية والمرجئة الفقهاء في مسمى الإيمان: "وأنكر كل هذه الطوائف أنه ينقض، والصحابة قد ثبت عنهم أن الإيمان يزيد وينقص، وهو قول أئمة السنة، ... ، وذلك أن أصل أهل السنة أن الإيمان يتفاضل مع وجهين: من جهة أمر الرب، ومن جهة فعل العبد" (4). ثم شرع رحمه الله في شرح التفاضل في هاتين الجهتين على النحو التالي: الجهة الأولى: وقوع التفاضل من جهة أمر الرب. يقول شيخ الإسلام شارحا التفاضل في هذا الوجه: "فإنه ليس الإيمان الذي أمر به شخص من المؤمنين هو الإيمان الذي أمر به كل شخص. فإن المسلمين في أول الأمر كانوا مأمورين بمقدار من الإيمان، ثم بعد ذلك أمروا بغير ذلك وأمروا بترك ما كانوا مأمورين به، كالقبلة، فكان من الإيمان في الأمر الأول الإيمان بوجوب استقبال بيت المقدس، ثم صار من الإيمان تحريم استقباله ووجوب استقبال الكعبة، فقد تنوع الإيمان في الشريعة الواحدة. وأيضا من وجب عليه الحج والزكاة أو الجهاد يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمر به ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره مجملا، وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل. وكذلك الرجل أول ما يسلم إنما يجب عليه الإقرار المجمل، ثم إذا جاء وقت الصلاة وجب عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها. فلم يتساوى الناس فيما أمروا به من الإيمان، وهذا من أصول غلط المرجئة، فإنهم ظنوا أنه شيء واحد، وأنه يستوي فيه جميع المكلفين، فقالوا: إيمان الملائكة والأنبياء وأفسق الناس سواء، كما أنه تلفظ الفاسق بالشهادتين أو قرأ فاتحة الكتاب كان لفظه كلفظ غيره من الناس. فيقال لهم: قد تبين أن الإيمان الذي أوجبه الله على عباده يتنوع ويتفاضل، ويتباينون فيه تباينا عظيما. فيجب على الملائكة من الإيمان ما لا يجب على البشر، ويجب على الأنبياء من الإيمان ما لا يجب على غيرهم، ويجب على العلماء ما لا يجب على غيرهم، ويجب على الأمراء ما لا يجب على غيرهم. وليس المراد أنه يجب عليهم من العمل فقط، بل ومن التصديق، والإقرار، فإن الناس وإن كان عليهم الإقرار المجمل بكل ما جاء به الرسول، فأكثرهم لا يعرفون تفصيل كل ما أخبر به وما لم يعلموه كيف يؤمرون بالإقرار به مفصلا، وما لم يؤمر به العبد من الأعمال لا يجب عليه معرفته ومعرفة الأمر به.   (1) ((الفتاوى)) (13/ 55). (2) ((الإيمان)) (ص387) ((الفتاوى)) (7/ 404)؛ ونحوه في: ((الفتاوى)) (20/ 86)؛ و ((النبوات)) (1/ 580). (3) انظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 562، ص458) ط. ابن الجوزي؛ و ((الإيمان)) (ص390) ((الفتاوى)) (7/ 408)؛ و ((الفتاوى)) (7/ 671 - 18/ 271). (4) ((الفتاوى)) (13/ 50 - 51). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 فمن أمر بحج وجب عليه معرفة ما أمر به من أعمال الحج والإيمان بها، فيجب عليه من الإيمان والعمل ما لا يجب على غيره، وكذلك من أمر بالزكاة يجب عليه معرفة ما أمر به من الزكاة، ومن الإيمان بذلك والعمل به ما لا يجب على غيره، فجيب عليه من العلم والإيمان والعمل ما لا يجب على غيره إذا جعل العلم والعمل ليسا من الإيمان، وإن جعل جميع ذلك داخلا على غيره"، ثم قال:"وبالجملة فلا يمكن المنازعة أن الإيمان الذي أوجبه الله يتباين فيه أحوال الناس، ويتفاضلون في إيمانهم ودينهم بحسب ذلك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في النساء: ((ناقصات عقل، ودين)) (1)، وقال في نقصان عقلها ودينها: ((أنها إذا حاضت لا تصوم، ولا تصلي)) "، ثم ختم هذا الوجه بقوله:"فهذا يبين تفاضل الإيمان في نفس الأمر به، وفي نفس الأخبار التي يجب التصديق بها" (2). ويقول رحمه الله: "وهؤلاء - يعني المرجئة - غلطوا من وجوه: أحدها: ظنهم أن الإيمان الذي فرضه الله على العباد متماثل في حق العباد، وأن الإيمان الذي يجب على شخص يجب مثله على كل شخص. وليس الأمر كذلك، فإن أتباع الأنبياء المتقدمين أوجب الله عليهم من الإيمان ما لم يوجبه على أمه محمد، وأوجب على أمة محمد من الأيمان ما لم يوجبه على غيرهم. والإيمان الذي كان يجب قبل نزول جميع القرآن ليس هو مثل الإيمان الذي يجب بعد نزول القرآن. والإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به الرسول مفصلا ليس مثل الإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر مجملا، فإنه لابد من تصديق الرسول في كل ما أخبر، لكن من صدق الرسول أو مات عقب ذلك لم يجب عليه من الإيمان غير ذلك، وأما من بلغه القرآن والأحاديث، وما فيهما من الأخبار والأوامر المفصلة، فيجب عليه من التصديق المفصل بخبر خبر وأمر أمر، ما لا يجب على من لم يجب عليه إلا الإيمان المجمل لموته قبل أن يبلغه شيء آخر. وأيضا لو قدر أنه عاش فلا يجب على كل واحد من العامة أن يعرف كل ما أمر به الرسول، وكل ما نهى عنه، وكل ما أخبر به، بل إنما عليه أن يعرف ما يجب عليه هو وما يحرم عليه، فمن لا مال له لا يجب عليه أن يعرف أمره المفصل في الزكاة، ومن لا استطاعة له على الحج ليس عليه أن يعرف أمره المفصل في الحج، ومن لم يتزوج ليس عليه أن يعرف ما وجب للزوجة. فصار ما يجب من الإيمان تصديقا وعملا على أشخاص ما لا يجب على آخرين" (3). وحاصل هذا الوجه أن تفاضل الناس فيما أمروا به يتنوع بحسب الأحوال التالية: الأول: أن الإيمان الواجب على أتباع الأنبياء المتقدمين، ليس كالواجب على أمة محمد صلى الله عليه وسلم. الثاني: الإيمان الواجب قبل نزول القرآن، ليس كالإيمان الواجب بعد نزوله. الثالث: الإيمان الواجب على من عرف الدين مفصلا، ليس كالإيمان الواجب على من عرفه مجملا. الرابع: الإيمان الواجب على الملائكة، ليس كالإيمان الواجب على غيرهم، وما يجب على العلماء ليس كالذي يجب على غيرهم، وكذلك الأمراء، وكذا من وجبت عليه بعض الواجبات يلزمه معرفة أحكامها.   (1) رواه البخاري (304) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, ومسلم (79) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. (2) ((الفتاوى)) (13/ 51 - 55) باختصار. (3) ((الإيمان)) (ص184 - 185) ((الفتاوى)) (7/ 196)؛ وتكرر كلام شيخ الإسلام حول هذا المعنى. انظر: ((الإيمان)) (ص219 - 220، 390 - 391) ((الفتاوى)) (7/ 232 - 233، 408 – 409)؛ و ((شرح الأصبهانية)) (2/ 577 - 578)، (ص139 - 140) ت مخلوف؛ و ((الفتاوى)) (12/ 476 - 18/ 277). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 الجهة الثانية: وقوع التفاضل من جهة فعل العبد. وكلام شيخ الإسلام في تقرير التفاضل في هذه الجهة كثير، حيث ذكر أن التفاضل في الإيمان من هذه الجهة يكون من وجوه متعددة، ذكر منها ثمانية وجوه (1)، وهذا تلخيص لها: الوجه الأول: زيادة الأعمال الظاهرة ونقصانها. فإن الناس يتفاضلون فيها، وتزيد وتنقص، وهذا مما اتفق الناس على دخول الزيادة فيه والنقصان، لكن نزاعهم في دخول ذلك في مسمى الإيمان (2). الوجه الثاني: زيادة أعمال القلوب ونقصها. فأعمال القلوب مثل محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وخشية الله تعالى، وخوفه، ورجائه، وإخلاص الدين له، والتصديق بأخباره، والإنابة إليه، والتوكل عليه، وسلامة القلوب من الرياء، والكبر، والعجب، ونحو ذلك، والرحمة للخلق، والنصح لهم، ونحو ذلك من الأخلاق الإيمانية، كلها من الإيمان وهي مما يتباين الناس فيه، ويتفاضلون تفاضلا عظيما (3).ويقوى كذلك كلما ازداد العبد تدبر للقرآن، وفهما ومعرفة بأسماء الله وصفاته وعظمته، وتفقره إليه في عبادته، واشتغالا به، بحيث يجد اضطراره إلى أن يكون تعالى معبوده ومستغاثه أعظم من اضطراره إلى الأكل والشرب (4).وقد جاء في الصحيحين عن النبي ص أنه قال: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوهله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)) (5). وقال تعالى: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ إلى قوله: َحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ [التوبة: 24].وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله إني لأخشاكم لله)) (6)، وقال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده. ووالده، والناس أجمعين)) (7)، وقال له عمر ((يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، قال: لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك، قال: فلأنت أحب إلى من نفسي، قال: الآن يا عمر)) (8). وهذه الأحاديث ونحوها في الصحاح، وفيها بيان تفاضل الحب والخشية، وقد قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ [البقرة: 165]. وهذا أمر يجده الإنسان في نفسه، فإنه قد يكون الشيء الواحد يحبه تارة أكثر مما يحبه تارة، ويخافه تارة أكثر مما يخافه تارة.   (1) توسع رحمه الله في ذكرها في: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 562 - 574)، (ص458 - 481) ط. ابن الجوزي، و ((الإيمان)) (ص220 - 224) ((الفتاوى)) (7/ 233 - 237). (2) انظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 562، 574، ص458، 481) ط. ابن الجوزي وانظر: ((الإيمان)) (ص222) ((الفتاوى)) (7/ 235). وأما الشهادتان باللسان، فإنها لا تزيد ولا تنقص. انظر: ((الإيمان)) (ص246) ((الفتاوى)) (7/ 256)؛ و ((السنة)) للخلال (3/ 581) (رقم 10079). (3) انظر: مجموعة ((الفتاوى الكبرى)) (2/ 20)؛ و ((الإيمان)) (ص222) ((الفتاوى)) 7/ 235؛ و ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 563)، (ص458) ط. ابن الجوزي. (4) انظر: مجموعة ((الفتاوى الكبرى)) (2/ 20). (5) رواه البخاري (16) ومسلم (43) من حديث أنس رضي الله عنه. (6) رواه البخاري (16) , من حديث أنس رضي الله عنه, بلفظ: ( .. أما والله إنى لأخشاكم لله وأتقاكم له ... ). (7) رواه البخاري (15) , ومسلم (44) من حديث أنس رضي الله عنه. (8) رواه البخاري (6632) من حديث عبد الله بن هشام رضي الله عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 ولهذا كان أهل المعرفة من أعظم الناس قولا بدخول الزيادة والنقصان فيه؛ لما يجدون من ذلك في أنفسهم. ومن هذا قوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: 173]، وإنما زادهم طمأنينة وسكونا، وقال صلى الله عليه وسلم: ((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا)) (1). الوجه الثالث: أن نفس التصديق والعلم الذي في القلب يتفاضل باعتبار الإجمال والتفصيل. فليس تصديق من صدق الرسول مجملا من غير معرفة منه بتفاصيل أخباره، كمن عرف ما أخبر به عن الله وأسمائه وصفاته، والجنة والنار، والأمم، وصدقه في ذلك كله. وليس من التزم طاعته مجملا ومات قبل أن يعرف تفصيل ما أمره به، كمن عاش حتى عرف ذلك مفصلا وأطاعه فيه (2).الوجه الرابع: أن نفس العلم والتصديق يتفاضل ويتفاوت، كما يتفاضل سائر صفات الحي، من القدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، بل سائر الأعراض من الحركة، والسواد، والبياض، ونحو ذلك، وعامة الصفات التي يتصف بها الموصوفون تقبل التفاضل (3).فالعلم والتصديق يكون بعضه أقوى من بعض، وأثبت وأبعد عن الشك، وهذا أمر يشهده كل أحد من نفسه (4). وما من صفة من صفات الحي وأنواع إدراكاته وحركاته، بل وغير صفات الحي إلا وهي تقبل التفاضل والتفاوت إلى ما لا يحصره البشر. والإنسان يجد في نفسه أن علمه بمعلومه يتفاضل حاله فيه كما يتفاضل حاله في سمعه لمسموعه، ورؤيته لمرئيه، وقدرته على مقدوره، وحبه لمحبوبه، وبغضه لبغيضه، ورضاه بمرضيه، وسخطه لمسخوطه، وإرادته لمراده، وكراهيته لمكروهه، ومن أنكر التفاضل في هذه الحقائق كان مسفسطا (5).وأيضا فإن التصديق المستلزم عمل القلب أكمل من التصديق الذي لا يستلزم عمله، فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به، وإذا كان شخصان يعلمان أن الله حق، ورسوله حق، والجنة حق، والنار حق، وهذا علمه أوجب له محبة الله وخشيته، والرغبة في الجنة والهرب من النار، والآخر علمه لم يوجب له ذلك، فعلم الأول أكمل (6).والمعرفة نفسها تختلف بالإجمال والتفصيل، والقوة والضعف، ودوام الحضور، ومع الغفلة، فليست المفصلة المستحضرة الثابتة التي يثبت الله صاحبها بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، كالمجملة التي غفل عنها، وإذا حصل ما يريبه فيها ذكرها في قلبه ثم رغب إلى الله في كشف الريب (7). الوجه الخامس: أن التفاضل يحصل من هذه الأمور من جهة الأسباب المقتضية لها.   (1) انظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 563 – 564)، (ص458 - 460) ط. دار ابن الجوزي؛ وانظر مزيد بيان حول هذا الوجه في: ((الفتاوى)) (6/ 479 – 481 – 13/ 55 – 18/ 277 – 22/ 606 – 25/ 282 – 27/ 424). (2) انظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 564، ص460) ط. ابن الجوزي؛ و ((الإيمان)) (ص220) ((الفتاوى)) (7/ 233)؛ و ((الفتاوى)) (6/ 480). (3) انظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 564 - 565)، (ص460 – 461) ط. دار ابن الجوزي؛ و ((الإيمان)) (ص390) ((الفتاوى)) (7/ 407). (4) انظر: ((الإيمان)) (ص221) ((الفتاوى)) (7/ 234). (5) انظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 564 - 565)، (ص461) ط. ابن الجوزي. (6) انظر: ((الإيمان)) (ص221) ((الفتاوى)) (7/ 234). (7) انظر: ((الإيمان)) (ص391) ((الفتاوى)) (7/ 408 - 409)، وانظر أيضا: ((الإيمان)) (ص388، 390) ((الفتاوى)) (7/ 406، 407)، و ((الفتاوى)) (10/ 722). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 فمن كان مستند تصديقه ومحبته أدلة توجب اليقين، وتبين فساد الشبهة العارضة، لم يكن بمنزلة من كان تصديقه لأسباب دون ذلك، بل من حصل له علوم ضرورية لا يمكنه دفعها عن نفسه لم يكن بمنزلة منن تعارضه الشبه ويريد إزالتها بالنظر والبحث. ولا يستريب عاقل أن العلم بكثرة الأدلة وقوتها، وبفساد الشبه المعارضة لذلك، وبيان بطلان حجة المحتج عليها، ليس كالعلم الذي هو حاصل عن دليل واحد من غير أن يعلم الشبه المعارضة له، فإن الشيء كلما قويت أسبابه وتعددت، وانقطعت موانعه واضمحلت كان أوجب لكماله وقوته وتمامه (1). الوجه السادس: أن التفاضل يحصل في هذه الأمور من جهة دوام ذلك وثباته، وذكره واستحضاره، كما يحصل النقص من جهة الغفلة عنه، والإعراض. والعلم والتصديق والحب والتعظيم وغير ذلك مما في القلب هي صفات وأحوال تدوم وتحصل بدوام أسبابها وحصول أسبابها. والعلم وإن كان في القلب فالغفلة تنافي تحقيقه، والعالم بالشيء في حال غفلته عنه دون حال العالم بالشيء في ذكره له. قال عمير بن حبيب الخطمي رضي الله عنه: الإيمان يزيد وينقص، قالوا: وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا حمدنا الله وذكرناه وسبحناه فتلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه (2). الوجه السابع: أن يقال: ليس فيما يقوم بالإنسان من جميع الأمور أعظم تفاضلا وتفاوتا من الإيمان. فكل ما تقرر إثباته من الصفات والأفعال مع تفاضله، فالإيمان أعظم تفاضلا من ذلك (3).الوجه الثامن: أن الإنسان قد يكون مكذبا ومنكرا لأمور لا يعلم أن الرسول أخبر بها، وأمر بها، ولو علم ذلك لم يكذب ولم ينكر، بل قلبه جازم بأنه لا يخبر إلا بصدق، ولا يأمر إلا بحق، ثم يسمع الآية أو الحديث، أو يتدبر ذلك، أو يفسر له معناه، أو يظهر له ذلك بوجه من الوجوه، فيصدق بما كان مكذبا به، ويعرف ما كان منكرا، وهذا تصديق جديد، وإيمان جديد ازداد به إيمانه (4). وبمعرفة وقوع التفاضل من جهة أمر الرب، ومن جهة فعل العبد من خلال الوجوه السابقة يبطل بحمد الله أصل المرجئة أن الإيمان لا يتفاضل، والله تعالى أعلم. المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 425   (1) انظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن ((الفتاوى)) (7/ 565 – 566)، (ص462) ط. ابن الجوزي. (2) انظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 566، ص462 - 463) ط. ابن الجوزي؛ وانظر أيضا: ((الإيمان)) (ص222 - 223) ((الفتاوى)) (7/ 235 - 236)؛ و ((شرح الأصبهانية)) (2/ 580، ص140) ت مخلوف؛ و ((الفتاوى)) (6/ 480 – 18/ 278). (3) انظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 566، ص 463) ط. ابن الجوزي. (4) انظر: ((الإيمان)) (ص224) ((الفتاوى)) (7/ 237). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 المبحث الرابع: زيادة الإيمان ونقصانه عند الجهمية أن المرجئة على اختلاف فرقهم يمنعون الزيادة والنقصان في الإيمان، ولم تخرج الجهمية عن الضلال في هذه المسألة، سواء في منعهم تفاضل الإيمان، أو في منشأ الغلط. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "ووافقتهم - يعني الخوارج والمعتزلة -: المرجئة والجهمية على أن الإيمان يزول كله بزوال شيء منه، وأنه لا يتبعض، ولا يتفاضل، فلا يزيد ولا ينقص، وقالوا إن إيمان الفساق كإيمان الأنبياء والمؤمنين" (1). ويقول بعد كلام له عن المعرفة: "هذا مبني على أن المعرفة بالله تعالى لا تتفاضل، وأن الشيء لا يكون معلوما من وجه، مجهولا من وجه. وهذا أحد القولين للناس في هذه المسألة، وهو قول الطائفة من أهل الحديث والفقهاء، من أصحاب أحمد وغيرهم، وقول كثير من أصحاب الأشعري، أو أكثرهم، وهو قول جهم بن صفوان، وكثير من المرجئة" (2).فقول الجهمية كقول سائر المرجئة في منع الزيادة والنقصان في الإيمان، وأن وقوع التفاضل إنما هو في الأعمال فحسب، والأعمال ليست من الإيمان (3).وشبهة الجهمية مبنية "على أن الإيمان هو مجرد التصديق والاعتقاد الجازم، وهو لم يتغير، وإنما نقصت شرائع الإسلام" (4). وهذا بناء على ظنهم أن الإيمان نوع واحد لا يقبل التعدد، ولا التفاضل. وقد تقدم بحمد الله نقص دعوى أن الإيمان نوع واحد، وتقرير وقوع التفاضل من جهة أمر الرب تعالى، ومن جهة فعل العبد. ويضاف هنا ما أورده شيخ الإسلام عما توهمه بعضهم من أن الإيمان من حيث هو نوع واحد لا يقبل التفاضل. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وأما الجهمية فهو - يعني الإيمان - واحد عندهم، لا يقبل التعدد، فيثبتون واحدا لا حقيقة له" (5). ثم قال في إبطال ذلك: "وهم لما توهموا أن الإيمان الواجب على جميع الناس نوع واحد، صار بعضهم يظن أن ذلك النوع من حيث هو لا يقبل التفاضل. فقال لي مرة بعضهم: الإيمان من حيث إيمان لا يقبل الزيادة والنقصان؟ فقلت له: قولك من حيث هو، كما يقول: الإنسان من حيث هو إنسان، والحيوان من حيث هو حيوان، والوجود من حيث هو وجود، والسواد من حيث هو سواد، وأمثال ذلك، لا يقبل الزيادة والنقصان والصفات، فيثبت لهذه المسميات وجودا مطلقا مجردا عن جميع القيود والصفات، وهذا لا حقيقة له في الخارج، وإنما قائما بنفسه ولا بغيره، ويقدر إنسانا لا موجودا ولا معدوما، ويقول الماهية من حيث هي هي لا توصف بوجود ولا عدم، والماهية من حيث هي هي شيء يقدره الذهن، وذلك موجود في الذهن لا في الخارج، وأما تقدير شيء لا يكون في الذهن ولا في الخارج فممتنع، وهذا التقدير لا يكون إلا في الذهن كسائر تقدير الأمور الممتنعة، مثل تقدير صدور العالم عن صانعين، ونحو ذلك، فإن هذه المقدرات في الذهن. فهكذا تقدير إيمان لا يتصف به مؤمن، بل هو مجرد عن كل قيد، وتقدير إنسان لا يكون موجودا ولا معدوما، بل ما ثم إيمان إلا مع المؤمنين، ولا ثم إنسانية إلا ما اتصف بها الإنسان، فكل إنسان له إنسانية تخصه، وكل مؤمن له إيمان يخصه، فإنسانية زيد تشبه إنسانية عمرو، ليست هي هي، وإذا اشتركوا في نوع الإنسانية، فمعنى ذلك أنهما يشتبهان فيما يوجد في الخارج، ويتشركان في أمر كلي مطلق يكون في الذهن.   (1) ((شرح الأصبهانية)) (2/ 574، ص138) ت مخلوف. (2) ((درء التعارض)) (7/ 451). (3) انظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 562، ص458) ط. ابن الجوزي؛ و ((الفتاوى)) (18/ 271)؛ و ((درء التعارض)) (7/ 451). (4) ((الفتاوى)) (7/ 671). (5) ((الإيمان)) (ص387) ((الفتاوى)) (7/ 405). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 وكذلك إذا قيل إيمان زيد مثل إيمان عمرو، فإيمان كل واحد يخصه، فلو قدر أن الإيمان يتماثل، لكان لكل مؤمن إيمان يخصه، وذلك الإيمان مختص معين، ليس هو الإيمان من حيث هو هو، بل هو إيمان معين، وذلك الإيمان يقبل الزيادة. والذين ينفون التفاضل في هذه الأمور يتصورون في أنفسهم إيمانا مطلقا، أو إنسانا مطلقا، أو وجودا مطلقا مجردا عن جميع الصفات المعينة له، ثم يظنون أن هذا هو الإيمان الموجود في الناس، وذلك لا يقبل التفاضل، ولا يقبل في نفسه التعدد، إذ هو تصور معين قائم في نفس متصوره. ولهذا يظن كثير من هؤلاء أن الأمور المشتركة في شيء واحد هي واحدة بالشخص والعين"، ثم قال:"وهكذا القائلون بأن الإيمان شيء واحد، وأنه متماثل في بني آدم، غلطوا في كونه واحدا، وفي كونه متماثلا، كما غلطوا في أمثال ذلك من مسائل التوحيد والصفات والقرآن وغير ذلك" (1). وخلاصة هذا الجواب أن تصور إيمان مطلق مجرد عن جميع القيود والصفات أمر ذهني لا حقيقة له في الخارج، والموجود في الخارج إنما هو إيمان مضاف للمؤمنين، فهو إيمان معين يقبل التفاضل. المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 441   (1) ((الإيمان)) (ص387 – 390) ((الفتاوى)) (7/ 405 - 407)؛ وانظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 512 - 513)، (ص 385 – 387) ط. ابن الجوزي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 المبحث الخامس: زيادة الإيمان ونقصانه عند الكرامية مما نبه شيخ الإسلام عليه حول مقالة الكرامية أنه ليس لهم قول انفردوا فيه في مسائل الإيمان إلا مذهبهم في مسماه. يقول - رحمه الله تعالى -: "فلم يكن حدث في زمنهم - يعني السلف المتقدمين - من المرجئة من يقول: الإيمان هو مجرد القول بلا تصديق ولا معرفة في القلب، فإن هذا إنما أحدثه ابن كرام. وهذا هو الذي انفرد به ابن كرام، وأما سائر ما قاله، فأقوال قيلت قبله، ولهذا لم يذكر الأشعري ولا غيره ممن يحكي مقالات الناس عنه قولا انفرد به إلا هذا، وأما سائر أقواله، فيحكونها عن ناس قبله ولا يذكرونه" (1). وعلى هذا، فمذهب الكرامية في زيادة الإيمان ونقصانه هو مذهب المرجئة والجهمية، وهو منع وقوع الزيادة والنقصان فيه، وهذا جاء منصوصا عليه في قول شيخ الإسلام:"والكرامية توافق المرجئة والجهمية في أن إيمان الناس كلهم سواء" (2). وقوله: "وقابلتهم - يعني الخوارج والمعتزلة -: المرجئة، والجهمية، ومن اتبعهم من الأشعرية، والكرامية، فقالوا: ليس من الإيمان فعل الأعمال الواجبة، ولا ترك المحظورات البدنية. والإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، بل هو شيء واحد، يستوي فيه جميع المؤمنين من الملائكة، والنبيين، والمقربين، والمقتصدين، والظالمين. ثم قال فقهاء المرجئة، هو التصديق بالقلب، واللسان. وقال أكثر متكلميهم: هو التصديق بالقلب. وقال بعضهم: التصديق باللسان. قالوا: لأنه لو دخلت فيه الواجبات العملية؛ لخرج منه من لم يأت بها، كما قالت الخوارج. ونكتة هؤلاء جميعهم: توهمهم أن من ترك بعض الإيمان، فقد تركه كله" (3). وفي معرض بيان وقوع التفاضل في الإيمان، وفي عامة الصفات التي يتصف بها الموصوفون، قال شيخ الإسلام بعد ذلك: "وفي هذا كله نزاع: فطائفة من المنتسبين إلى السنة تنكر التفاضل في هذه كله، كما يختار ذلك القاضي أبو بكر"، ثم قال:"وهؤلاء يقولون: التفاضل إنما هو في الأعمال، وأما الإيمان الذي في القلوب فلا يتفاضل" (4). وتقدم قوله بعد كلام له عن المعرفة: "هذا مبني على أن المعرفة بالله تعالى لا تتفاضل، وأن الشيء لا يكون معلوما من وجه، مجهولا من وجه. وهذا أحد القولين للناس في هذه المسألة، وهو قول طائفة من أهل الحديث والفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم، وقول كثير من أصحاب الأشعري، أو أكثرهم، وهو قول جهم بن صفوان، وكثير من المرجئة" (5). فكما هو ظاهر مما تقدم مبلغ موافقة الأشاعرة لعامة المرجئة في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، والأصل الموجب لمنعهم ذلك، والقول بأن التفاضل إنما هو في الأعمال فقط. وقد لاحظ بعض الأشاعرة أن من لوازم هذه المقالة الباطلة أن يكون إيمان الفاسقين كإيمان الطائعين، وعلى رأسهم الرسول صلى الله عليه وسلم. فأجاب بعضهم بأن فضل إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم على غيره إنما هو في دوام تصديقه واستمراره، وهذا لا يوجد لغيره. قال شيخ الإسلام: "وعندهم - يعني الأشاعرة - الإيمان لا يتفاضل إلا بالدوام فقط. قال أبو المعالي: (فإن قيل: فما قولكم في زيادة الإيمان ونقصانه؟ قلنا: إذا حملنا الإيمان على التصديق، فلا يفضل تصديق تصديقا، كما لا يفضل علم علما.   (1) ((الإيمان)) (ص370) ((الفتاوى)) (7/ 387). (2) ((الإيمان)) (ص135) ((الفتاوى)) (7/ 141). (3) ((الفتاوى)) (12/ 470 - 471). (4) ((الإيمان)) (ص 390) ((الفتاوى)) (7/ 408)؛ وانظر أيضا: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 513)، (ص387) ط. ابن الجوزي؛ و ((مسائل الإيمان))، لأبي يعلى، (ص399، 412). (5) ((درء التعارض)) (7/ 451). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 ومن حمله على الطاعة سرا وعلنا، وقد مال إليه القلانسي، فلا يبعد على ذلك إطلاق القول بأن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهذا مما لا نؤثره). فإن قال القائل: أصلكم يلزمكم أن يكون إيمان المنهمك في فسقه، كإيمان النبي صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: النبي يفضل إيمانه على إيمان من عداه باستمرار تصديقه، وعصمة الله إياه من مخامرة الشكوك، واختلاف الريب. والتصديق عرض من الأعراض لا يبقى، وهو متوال للنبي صلى الله عليه وسلم، ثابت لغيره في بعض الأوقات، وزائل عنه في أوقات الفترات، فيثبت للنبي صلى الله عليه وسلم أعداد من التصديق، ولا يثبت لغيره إلا بعضها، فيكون إيمانه لذلك أكثر وأفضل. قال: ولو وصف الإيمان بالزيادة والنقصان، وأريد به ذلك كان مستقيما" (1).فالجويني أجاز الزيادة والنقصان في الإيمان، مؤولا ذلك باستمرار التصديق ودوامه للنبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا فحسب فضل النبي صلى الله عليه وسلم على غيره، فيكون التصديق في حق النبي صلى الله عليه وسلم يتوالى ويتعاقب ولا يكون له فترة ولا شك، وأما التصديق في حق غير النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يتعاقب عليه مثل ما يتعاقب في حقه صلى الله عليه وسلم، بل يقع فيه فترة وغفلة (2). وقد علق شيخ الإسلام على مقالة الجويني بقوله:"قلت: فهذا هو الذي يفضل به النبي غيره في الإيمان عندهم، ومعلوم أن هذا في غاية الفساد من وجوه كثيرة" (3). ومما ينبه عليه قبل ختم هذا المبحث أن إمام الفرقة أبا الحسن الأشعري قد رجع في مسألة تفاضل الإيمان إلى قول أهل الحق، فقال بزيادة الإيمان ونقصانه. فقد صرح رحمه الله بأن "الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص" (4). وفي أثناء حكايته لمذهب أهل السنة والحديث في الاعتقاد ذكر مذهبهم في هذه المسألة، وأنهم يقرون بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. قال بعد ذلك: "وبكل ما ذكرناه من قولهم نقول، وإليه نذهب" (5). المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 445   (1) ((الإيمان)) (ص147) ((الفتاوى)) (7/ 153)، والنقل عن: ((الإرشاد))، (ص336). (2) انظر: ((الغنية في أصول الدين))، (ص174 - 175). (3) ((الإيمان)) (ص147) ((الفتاوى)) (7/ 153). (4) ((التسعينية)) (3/ 1019)؛ نقلا عن: ((الإبانة))، (ص39). (5) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 549 – 550)، (ص440) ط. ابن الجوزي؛ وهو في: ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 347، 350). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 المبحث السادس: زيادة الإيمان ونقصانه عند الخوارج والمعتزلة لقد ذهبت الخوارج والمعتزلة مذهب أهل السنة والجماعة في تعريف الإيمان من حيث أنه شامل للأعمال والأقوال والاعتقادات، إلا أنهم فارقوا أهل السنة والجماعة بقولهم إن الإيمان كل واحد لا يتجزأ إذا ذهب بعضه ذهب كله، وأنه لا يقبل التبعض. ومن هنا كان الإخلال بالأعمال وارتكاب الكبائر عندهم مخرجاً من الإيمان كلية، على خلاف بينهم في تسميته كافراً، فالخوارج قطعوا بكفره، ونازعهم المعتزلة في الاسم وقالوا نحن لا نسميه مؤمناً ولا كافراً، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين أي: بين منزلة الإيمان والكفر، وإن كانوا قد اتفقوا جميعاً أنه يوم القيامة خالد مخلد في نار جهنم (1).قال شيخ الإسلام: "قالت الخوارج والمعتزلة قد علمنا يقيناً أن الأعمال من الإيمان فمن تركها فقد ترك بعض الإيمان، وإذا زال بعضه زال جميعه؛ لأن الإيمان لا يتبعض ولا يكون في العبد إيمان ونفاق، فيكون أصحاب الذنوب مخلدين في النار إذ كان ليس معهم من الإيمان شيء" (2).وأصل غلط هؤلاء ومنشأ ضلالهم كما قال شيخ الإسلام: "أنهم ظنوا أن الشخص الواحد لا يكون مستحقاً للثواب والعقاب والوعد والوعيد والحمد والذم، بل إما لهذا وإما لهذا فأحبطوا جميع حسناته بالكبيرة التي فعلها، وقالوا: الإيمان هو الطاعة فيزول بزوال بعض الطاعة، ثم تنازعوا هل يخلفه الكفر على القولين ووافقتهم المرجئة والجهمية على أن الإيمان يزول كله بزوال شيء منه، وأنه لا يتبعض ولا يتفاضل فلا يزيد ولا ينقص وقالوا إن إيمان الفساق كإيمان الأنبياء والمؤمنين" (3).فهذه الشبهة هي التي أفسدت على هؤلاء قولهم، بل وعلى جميع المرجئة، كما قال شيخ الإسلام: "وإنما أوقع هؤلاء كلهم - أي المرجئة بأقسامهم - ما أوقع الخوارج والمعتزلة في ظنهم أن الإيمان لا يتبعض بل إذا ذهب بعضه ذهب كله، ومذهب أهل السنة والجماعة أنه يتبعض وأنه ينقص ولا يزول جميعه" (4).وقال شيخ الإسلام: "وجماع شبهتهم في ذلك أن الحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها كالعشرة فإنه إذا زال بعضها لم تبق عشرة، وكذلك الأجسام كالسكنجبين إذا زال أحد جزئيه خرج عن كونه سكنجببين، قالوا فإذا كان الإيمان مركباً من أقوال وأعمال ظاهرة وباطنة لزم زواله بزوال بعضها" (5). والجواب عن هذه الشبهة من وجوه: أحدها: أن الحقيقة الجامعة لأمور سواء كانت في الأعيان والأعراض. إذا زال بعض تلك الأمور فقد يزول سائرها وقد لا يزول، ولا يلزم من زوال بعض الأمور المجتمعة زوال سائرها، وسواء سميت مركبة أو مؤلفة أو غير ذلك، لا يلزم من زوال بعض الأجزاء زوال سائرها. الثاني: أن ما مثلوا به من العشرة والسكنجبين مطابقة لذلك، فإن الواحد من العشرة إذا زال لم يلزم زوال التسعة، بل قد تبقى التسعة، فإذا زال أحد جزئي المركب لا يلزم زوال الجزء الآخر، لكن أكثر ما يقولون زالت الهيئة الاجتماعية، وزال ذلك الاسم الذي استحقته الهيئة بذلك الاجتماع والتركيب كما يزوال اسم العشرة والسكنجبين.   (1) انظر ((الفتاوى)) (7/ 223، 257) و ((شرح العقيدة الأصفهانية)) لابن تيمية (ص137). (2) ((الفتاوى)) (13/ 48). (3) ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (ص137، 138)، وانظر ((الفتاوى)) (7/ 404). (4) ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (ص143، 144). (5) ((الفتاوى)) (7/ 511). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 الثالث: أن كون الشيء المركب لم يبق على تركيبه بعد زوال شيء من أجزائه منه لا نزاع فيه بين العقلاء، ولا يدعي عاقل أن الإيمان أو الصلاة أو الحج أو غير ذلك من العبادات المتناولة لأمور والمشتملة على أجزاء أنه إذا زال بعضها بقي ذلك المجتمع المركب كما كان قبل زوال بعضه، ولا يقول أحد أن الشجرة المركب كما كان قبل زوال بعضه، ولا يقول أحد أن الشجرة أو الدار إذا بعضها بقيت مجتمعة كما كانت، ولا أن الإنسان أو غيره من الحيوان إذا زال بعض أعضائه بقي مجموعاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو ميجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء))، فالمجتمعة الخلق بعد الجدع لا تبقى مجتمعة، ولكن لا يلزم زوال بقية الأجزاء، فدعواهم ِأنه إذا زال بعض المركب زال بعضه الآخر ليس بصواب، وإن كان يسلم لهم أنه ما بقي إلا بعضه لا كله، وأن الهيئة الاجتماعية ما بقيت كما كانت. الرابع: أن المركبات في ذلك على وجهين: أحدهما: ما يكون التركيب شرطاً في إطلاق الاسم عليه. ثانيهما: ما لا يكون التركيب شرطاً في إطلاق الاسم عليه. ومثال الأول: السكنجبين والعشرة، فإن هذا النوع يزول عنه اسمه عند زوال بعض أجزائه منه، ولا يطلق الاسم إلا على الهيئة المركبة مجتمعة. ومثال الثاني: جميع المركبات المتشابهة الأجزاء، وكذلك كثير من المختلفة الأجزاء فإن المكيلات والموزونات تسمى حنطة وهي بعد النقص حنطة، وكذلك التراب والماء ونحو ذلك. وكذلك لفظ العبادة والطاعة والخير والحسنة والإحسان والصدقة والعلم ونحو ذلك مما يدخل فيه أمور كثيرة يطلق الاسم على قليلها وكثيرها، وعند زوال بعض الأجزاء وبقاء بعض الأجزاء، وكذلك لفظ القرآن فيقال على جميعه وعلى بعضه، ولو نزل قرآن أكثر من هذا لسمى قرآناً، وكذلك لفظ الذكر والدعاء يقال للقليل والكثير وكذلك لفظ الجبل والنهر والبحر والدار والقرية ونحو ذلك يقال على الجملة المجتمعة، ثم ينقص كثير من أجزائها والاسم بقا. فإذا كانت المركبات على نوعين، بل غالبها من هذا النوع لم يصح قولهم، أنه إذا زال جزؤه لزم أن يزول الاسم. الخامس: أن هذا القول مخالف لنصوص الوحي الدالة على أن للإيمان أجزاء وأبعاضاً. مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) (1) ومن المعلوم أنه إذا زالت الإماطة ونحوها لم يزل اسم الإيمان، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان)) (2) , فأخبر أنه يتبعض ويبقى بعضه، وأن ذاك من الإيمان، فعلم أن بعض الإيمان يزول ويبقى بعضه، وهذا ينقض مآخذهم الفاسدة.   (1) رواه البخاري (9) , ومسلم (35) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, واللفظ لمسلم. (2) رواه الترمذي (2593) , من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, وقال حديث حسن صحيح, وصححه الألباني, وقال في ((السلسلة)) (2450): صحيح على شرط الشيخين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 السادس: أن ما يجب على العباد من شرائع وأحكام يختلف باختلاف حال نزول الوحي من السماء وبحال المكلف في البلاغ وعدمه، وهذا مما يتنوع به نفس التصديق، ويختلف حاله باختلاف القدرة والعجز وغير ذلك من أسباب الوجوب، وهذه يختلف بها العمل أيضاً. ومعلوم أن الواجب على كل من هؤلاء لا يماثل الواجب على الآخر. فإذا كان نفس ما وجب من الإيمان في الشريعة الواحدة يختلف ويتفاضل، وإن كان بين جميع هذه الأنواع قدر مشترك موجود في الجميع كالإقرار بالخالق، وإخلاص الدين له والإقرار برسله واليوم الآخر على وجه الإجمال. فمن المعلوم أن بعض الناس إذا أتى ببعض ما يجب عليه دون بعض كان قد تبعض ما أتى به من الإيمان، كتبعض سائر الواجبات. لكن بقي أن يقال: إن هذا البعض الآخر الزائل إما أن يكون شرطاً في ذلك البعض وقد لا يكون شرطاً فيه، فالشرط كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعضه، أو ببعض الرسل وكفر ببعضهم كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا [النساء: 150 - 151]. وقد يكون البعض المتروك ليس شرطاً في وجود الآخر ولا قبوله كفعل بعض الكبائر وترك بعض الواجبات فيما دون الكفر. وحينئذ فقد يجتمع في الإنسان إيمان ونفاق، وبعض شعب الإيمان وشعبة من شعب الكفر. السابع: أن كون الإنسان قد يجتمع فيه إيمان ونفاق وإيمان وبعض شعب الكفر دلت عليه نصوص صحيحة صريحة. كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) (1).وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة نفاق)) (2).وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) (3).وفي صحيح مسلم عن أبي هيريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت)) (4).وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ليس من رجل ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه إلا كفر، ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار، ومن رمى رجلاً بالكفر أو قال يا عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه)) (5). وغيرها من النصوص مما قد يطول ذكره. الثامن: أن أجزاء الإيمان مختلفة متفاوتة، فمنها ما يزول الإيمان كلية بزوالها كفعل أمر كفري ناقض للإيمان، ومنها ما يزول كمال الإيمان الواجب بزوالها كفعل كبيرة من الكبائر، ومنها ما يزول كمال الإيمان المستحب بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق. مثل الصلاة فإن فيها أجزاء تنقص بزوالها عن كمل الاستحباب، وفيه أجزاء واجبة تنقص بزوالها عن الكمال الواجب مع الصحة في مذهب أبي حنيفة وأحمد ومالك، وفيها ماله أجزاء إذا زالت جبر نقصها بسجود السهو، وأمور ليست كذلك، فقد رأيت أجزاء الشيء تختلف أحكامها شرعاً وطبعاً.   (1) رواه البخاري (34) , ومسلم (58) , من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. (2) رواه مسلم (1910) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) رواه البخاري (6044) , ومسلم (64) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (4) رواه مسلم (67). (5) رواه البخاري (3508) , ومسلم (61) من حديث أبي ذر رضي الله عنه, واللفظ لمسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 التاسع: أن شعب الإيمان قد تتلازم عند القوة، ولا تتلازم عند الضعف فإذا قوى ما في القلب من التصديق والمعرفة والمحبة لله ورسوله أوجب بغض أعداء الله كما قال تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء [المائدة: 81]، وقال: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ [المجادلة: 22]. وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة فيكون ذنباً ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافراً، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة، لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله فيه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم [الممتحنة: 1].وكما حصل لسعد بن عبادة لما انتصر لابن أبي في قصة الإفك. فقال لسعد بن معاذ: كذبت والله لا تقتله ولا تقدر على قتله، قالت عائشة وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً، ولكن احتملته الحمية، ولهذا الشبهة سمى عمر حاطباً منافقاً فقال: ((دعنى يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال: إنه شهد بدراً)) (1) , فكان عمر متأولاً في تسميته منافقاً للشبهة التي فعلها. وكذلك قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنه، إنما أنت منافق، تجادل عن المنافقين هو من هذا الباب، وكذلك قول من قال من الصحابة عن مالك بن الدخشم: منافق، وغن كان قال ذلك لما ر أي فيه من نوع معاشرة ومودة للمنافقين. ولهذا لم يكن المتهمون بالنفاق نوعاً واحداً، بل فيهم المنافق المحض، وفيهم من فيه إيمان ونفاق، وفيهم من إيمانه غالب وفيه شعبة من النفاق. وبهذا يعلم فساد شبهتهم وزعمهم أن الإيمان كل واحد لا يتجزأ إذا ذهب بعضه ذهب كله، وأنه كرقم عشرة إذا زال بعض أجزائه زال الاسم عنه، وأنه لا يجتمع في القلب إيمان ونفاق وإيمان وبعض شعب الكفر (2). ثم إنه مما تقدم تبين لنا أن قول الخوارج والمعتزلة في الإيمان هو أنه لا يزيد ولا ينقص، فإما أن يوجد كاملاً أو يذهب كاملاً للأصل الفاسد الذي سبق مناقشته. ولذا فإنهم يتأولون النصوص الواردة المصرحة بزيادة الإيمان على أن المراد بالزيادة فيها زيادة الألطاف أو الأدلة أو الثواب أو غير ذلك من التأويلات. ومن الأمثلة على هذا قول القاضي عبدالجبار المعتزلي عند قوله تعالى: وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف: 13]: "والمراد عندنا بذلك أنه زادهم لطفاً وأدلة على جهة التأكيد لكي يكونوا إلى الثبات على الإيمان أقرب" (3).وقوله أيضاً "فأما قوله تعالى من قبل: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم: 76] فقد بينا أنه لا ظاهر له، وأنه يتأول على زيادة الألطاف والأدلة والبيان، أو على الثواب العظيم" (4).   (1) رواه البخاري (3007) , ومسلم (2494) من حديث علي رضي الله عنه. (2) انظر ((الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 514 - 524). (3) ((متشابه القرآن)) (ص471). (4) ((متشابه القرآن)) (ص487). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 فمن هذين النقلين يظهر أن قولهم في الإيمان هو عدم قبوله للزيادة والنقصان، وما ورد من النصوص دالاً على ذلك متأول عندهم على الألطاف أو الأدلة أو الثواب أو غير ذلك. فهذا هو قول الخوارج والمعتزلة في هذه المسألة كما هو ظاهر ولهذا لما ذكر القاضي أبو يعلى قول أهل السنة والجماعة في الإيمان وهو أنه يقبل الزيادة والنقصان قال: "وهو خلاف قول المعتزلة" (1).أما قول ابن حزم: "وذهب سائر الفقهاء وأصحاب الحديث والمعتزلة والشيعة وجميع الخوارج إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب بالدين والإقرار به باللسان والعمل بالجوارح، وأن كل طاعة وعمل خير فرضاً كان أو نافلة فهي إيمان، وكلما ازداد الإنسان خيراً زاد إيمانه، وكلما عصى نقص إيمانه" (2). فغير محرر، لما تقدم. نعم قد جاء في بعض كتب المعتزلة التصريح بزيادة الإيمان ونقصانه، كما في متشابه القرآن للقاضي عبدالجبار عند كلامه على قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2].قال: "يدل على أشياء .... ومنها: أنه يدل على أن الإيمان يزيد وينقص على ما نقوله؛ لأنه إذا كان عبارة عن هذه الأمور التي يختلف التعبد فيها على المكلفين فيكون اللازم لبعضهم أكثر مما يلزم الغير، فتجب صحة الزيادة والنقصان، وإنما كان يمتنع ذلك لو كان الإيمان خصلة واحدة، وهو القول باللسان، أو اعتقادات مخصوصة بالقلب" (3). وكما في كتابه المختص في أصول الدين، قال: (فإن قال أفتقولون في الإيمان إنه يزيد وينقص؟) قيل: نعم لأن الإيمان كل واجب يلزم المكلف القيام به، والواجب على بعض من المكلفين أكثر من الواجب على غيره، فهو يزيد وينقص من هذا الوجه" (4). فتصريح هذا بزيادة الإيمان ونقصانه على هذا المعنى لا يعد في الحقيقة قولاً بزيادة الإيمان ونقصانه. وإنما هو من جنس تأويلاتهم المتقدمة، لحملهم الزيادة والنقصان هنا على الأمور التي يختلف التعبد فيها على المكلفين بأن يكون لازماً على بعض المكلفين من العبادات لا يكون لازماً على غيره، فلا عبرة إذن بالتصريح إذا كان المخبر هو التأويل والتعطيل. ثم إنا قد علمنا في مبحث أوجه زيادة الإيمان أن الإيمان عند أهل السنة يزيد من جهتين: من جهة أمر الرب، ومن جهة فعل العبد. وكلام المعتزلة هنا الذي فيه التصريح بزيادة الإيمان هو من جهة أمر الرب، أما جهة فعل العبد فهي لا تقبل الزيادة والنقصان عندهم قطعاً لمناقضتها لأصلهم الفاسد. المصدر: زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر - ص 317   (1) ((الإيمان)) (ص397). (2) ((الفصل)) (3/ 227). (3) ((متشابه القرآن)) (ص312). (4) ((المختصر في أصول الدين)) (ص384) من ((مجموع رسائل العدل والتوحيد)). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 المبحث السابع: في ذكر أدلتهم وشبههم وبيان بطلانها لقد تعلق أهل هذا القول بشبه نظرية وحجج عقلية، احتكموا إليها في هذه المسألة وردوا النزاع إليها، وهي في الحقيقة حجج إذا تدبرها العاقل بحق وجدها دعاوى لا تقوم على دليل، وحججاً لا تعتمد على برهان، وإنما تعتمد أولاً وآخراً على رأيهم القاصر، وعلى ما تأولوه بفهمهم للغة العرب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهذه طريقة أهل البدع، ولهذا كان الإمام أحمد يقول أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس. ولهذا تجد المعتزلة والرافضة وغيرهم من أهل البدع يفسرون القرآن برأيهم وما تأولوه من اللغة، ولهذا تجدهم لا يعتمدون على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، فلا يعتمدون على السنة ولا على إجماع السلف وآثارهم، وإنما يعتمدون على العقل واللغة، وتجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة والحديث وآثار السلف، وإنما يعتمدون على كتب الأدب وكتب الكلام التي وضعتها رؤوسهم" (1). قلت: ومن يتأمل كلام شيخ الإسلام السالف يجد أنه رحمه الله يحكي ترجمة حرفية لواقع أهل البدع في مجال الحجج والبراهين، ويكشف حال هؤلاء كشفاً دقيقاً، وهو واقع يشمل عامة أهل البدع بدون استثناء؛ لأن من جاء بباطل فليس في القرآن أو السنة ما يدل على باطله أو يؤيده، إذاً فلا حجة له رأيه السقيم وفهمه القاصر للغة. وجميع ما وقفت عليه من حجج لهؤلاء في هذه المسألة لا يخرج عما ذكره شيخ الإسلام - رحمه الله - غير أن بعضهم تكايس فأضاف في الاستدلال بعض ما وقف عليه من أحاديث موضوعة ترفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم كذباً وزوراً. أما كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة فلا حجة لهم فيهما؛ لأنهما يدلان صراحة على زيادة الإيمان ونقصانه، فهم على هذا بين خيارين: إما أن يدعوا قولهم ويتركوا رأيهم أتباعاً لما جاء في الكتاب والسنة، فيصيبوا الحق بهذا ويوافقوه، أو أن يعتمدوا على عقولهم ويستمسكوا برأيهم، فيفارقوا الحق ويجانبوه، ويكون بعدهم عن الحق بقدر بعدهم عما جاء في الكتاب والسنة. وبهذا تعتبر في قلة أخطاء السلف الصالح وكثرة موافقتهم للحق والصواب في مسائل الشرع والدين، وكثرة أخطاء من بعدهم ممن لم يكن على نهجهم، لاعتصام السلف بالكتاب والسنة وتمسكهم بهما، ولاعتماد الخلف على العقول الكاسدة والآراء الفاسدة ولجوئهم إليها، وشتان بين الفريقين. وبعد هذا التمهيد الذي لا بد منه، أعرض أهم شبه هؤلاء وأبرز دلائلهم في هذه المسألة، ثم أتبع كل شبهة بما يبين بطلانها ويكشف زيفها، مستمداً العون والتوفيق من الله وحده. الشبهة الأولي: وهي عمدة جميع من قال بهذا القول من مرجئة وخوارج ومعتزلة وغيرهم، وهي: قولهم إن الإيمان كل واحد لا يتجزأ إذا ذهب بعضه ذهب كله، وعليه فهو لا يزيد ولا ينقص. إلا أن الفرق بين الخوارج والمعتزلة وبين المرجئة مع اتفاق الجميع على القول بهذه الشبهة، هو أن الخوارج والمعتزلة قالوا إن فعل الواجبات وترك المحرمات من الإيمان، فإذا ذهب بعض ذلك ذهب الإيمان كله، فلا يكون مع الفاسق إيمان أصلاً بحال، ويكون يوم القيامة مخلداً في النار. وأما المرجئة، فقالوا: إنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد، ثم ظنوا أن هذا لا يكون إلا مع وجود كمال الإيمان، لاعتقادهم أن الإيمان لا يتبعض، فقالوا كل فاسق فهو كامل الإيمان، وإيمان الخلق متماثل لا متفاضل وإنما التفاضل في غير الإيمان من الأعمال (2).   (1) ((الفتاوى)) (7/ 118، 119). (2) انظر ((الفتاوى)) (18/ 270). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 قلت: وقد سبق ذكر هذه الشبهة عند حكاية قول المعتزلة والخوارج، لاقتضاء المقام ذلك، وقد ذكر هناك أوجه عديدة وردود سديدة تكشف زيف هذه الشبهة وتبين بطلانها وفيه كفاية إن شاء الله. الشبهة الثانية: قولهم إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص لأنه التصديق القلبي الذي بلغ حد الجزم والإذعان، وهذا لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان حتى إن من حصل له حقيقة التصديق فسواء أتى بالطاعات وارتكب المعاصي فتصديقه باق على حاله لا تغيير فيه أصلاً (1). والجواب عن هذه الشبهة من وجوه: أحدها: جعلهم الإيمان الشرعي هو التصديق القلبي فقط والعمل خارج عن مسماه قول باطل، وقد تقدم الكلام في بيان بطلانه ونقضه من خلال اللغة، والشرع في صرد هذه الرسالة. ثانيها: لو فرض أن الإيمان هو التصديق وحده، فإنه يكون تصديقاً مخصوصاً، بمعنى أنه يشمل تصديق القلب واللسان والجوارح، إذ إن أفعال الجوارح تسمى تصديقاً كما دل على ذلك الشرع، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى ومدرك ذلك لا محالو، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه)) (2).وجاء عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقته الأعمال" (3).فالعمل يصدق أن في القلب إيماناً، وإذا لم يكن عمل كذب أن في قلبه إيماناً؛ لأن ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر، وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم وقد ذكر شيخ الإسلام أنه قال بهذا القول أي: أن أفعال الجوارح تسمى تصديقاً أهل اللغة وطوائف من السلف والخلف، وأطال في شرح ذلك وبيانه (4).قال شيخ الإسلام: "واعلم أن الإيمان وإن قيل هو التصديق، فالقلب يصدق بالحق، والقول يصدق في القلب، والعمل يصدق القول ... " (5). فإذا علم هذا، وعلم معه أنه لا خلاف بين أهل السنة والمرجئة في أن الأعمال تتفاضل وتزيد وتنقص، تبين من ذلك وجه هذا الرد ووجاهته. ثالثها: قولهم: "وهذا لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان" غير صحيح، بل باطل؛ لأن الزيادة والنقصان فيه متصورة عقلاً ثابتة شرعاً واقعة عرقاً؛ لأن كل مصدق بشيء يجد في نفسه تفاوتاً في التصديق من وقت لآخر بحسب تعدد الأدلة وقوة البراهين، وقد سبق الكلام على هذا والاحتجاج له في مبحث أوجه زيادة الإيمان ونقصانه وبين هناك أن الإيمان يزيد وينقص عند أهل السنة والجماعة من جهة التصديق، وذكر ما يدل على ذلك من نصوص الشرع ومن أقوال أهل العلم. رابعها: أن محققي هؤلاء تعقبوا هذا القول، ونبهوا على غلطه وذلك للقطع عندهم بأن تصديق آحاد الأمة ليس كتصديق النبي صلى الله عليه وسلم أو كتصديق جبريل عليه السلام أو كتصديق الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، وقد اختار هذا القول النووي (6)، وعزاه التفتازاني لبعض المحققين (7)، وقال الإيجي في المواقف إنه الحق وذكر أن ذلك يتبين من وجهين:   (1) انظر ((شرح العقائد النسفية)) (ص125)، و (المسامرة شرح المسايرة)) (ص369)، و ((النبراس شرح العقائد)) (ص402). (2) رواه البخاري (6243) , ومسلم (2657) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) رواه ابن أبي شيبة في ((الإيمان)) (ص31). (4) انظر ((الفتاوى)) (7/ 293) وما بعدها، وانظر ((شرح العقيدة الطحاوية)) (2/ 478). (5) ((الصارم المسلول)) (ص524). (6) انظر ((شرح مسلم)) للنووي (1/ 142). (7) انظر ((المواقف في علم الكلام)) (ص388). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 الأول: القوة والضعف وعدم القول بالتفاوت يتقضي أن يكون إيمان النبي وآحاد الأمة سواء، وهذا باطل إجماعاً. الثاني: التصديق التفصيلي في أفراد ما علم مجيئه به جزء من الإيمان يثبا عليه ثوابه على تصديقه بالإجمال، والنصوص دالة على قبوله لهما (1).خامسها: أن يقال ما المانع من تفاوت التصديق وقبوله للزيادة والنقصان كما هو الشأن في تفاوت الناس في الأمور الأخرى غير التصديق، وقد نظر أهل العلم له بقوة البصر وضعفه، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه فمنهم الأخفش والأعشى ومن يرى الخط الثخين دون الرفيع إلا بزجاجة ونحوها، ومن يرى عن قرب زائد على العادة وآخر بضده" (2).ومثل هذا التفاوت في الإبصار بين الناس التفاوت في التصديق بينهم، بل إن تفاوتهم في التصديق أعظم من تفاوتهم في أي شيء آخر (3).سادسها: أن يقال لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة بل المنهمكين في الفسق والمعاصي مساوياً لإيمان الأنبياء والملائكة عليهم السلام. واللازم باطل فكذا الملزوم، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا القول عند ذكر قول محققي هؤلاء في هذه المسألة (4).سابعها: أن يقال إن تفاوت التصديق في القلوب أمر يعلمه كل إنسان من نفسه فكل أحد يعلم أن ما قام في قلبه من التصديق واليقين في حين أقوى منه في بعض الأحيان، ومن ثم كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريهم الشبه ولا يتزلزل إيمانهم بعارض بل لا تزال قلوبهم منشرحة مستنيرة وإن اختلفت عليهم الأحوال، وأما غيرهم من المؤلفة وما قاربهم ونحوهم فليسوا كذلك مما لا يمكن إنكاره، ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا يساويه تصديق آحاد الناس (5). وفي هذه الأوجه كفاية، وليطالع معها ما سبق ذكره في مبحث أوجه زيادة الإيمان ونقصانه من تدليل ونقول عن السلف في ذلك. الشبهة الثالثة: قولهم إن الزيادة والنقصان لا يدخلان إلا في شيء مخلوق، فمن قال إن الإيمان يزيد وينقص فالإيمان إذاً عنده مخلوق (6).والجواب عن هذه الشبهة أن يقال: سبق بيان أن الإيمان عند أهل السنة والجماعة يتفاضل من جهتين من جهة أمر الرب ومن جهة فعل العبد، وسبق التدليل على ذلك (7). ولم يقل أحد ممن يعتد بكلامه أو يعتبر بقوله إنه يلزم من إثبات الزيادة والنقصان أن يكون الإيمان مخلوقاً ولم يقل أحد إنه يلزم من ذلك أن يكون غير مخلوق، وإنما طرح هذا من ابتلي ببعض الأهواء وأشرب ببعض البدع، ومن السؤالات التي طرحها أهل البدع قديماً على السنة والجماعة قولهم هل الإيمان مخلوق أو غير مخلوق؟ وأشفى جواب في ذلك وأوفاه هو ما نقل عن الإيمان أحمد رحمه الله أنه سئل عن ذلك فأجاب بقوله: "أما ما كان من مسموع فهو غير مخلوق، وأما كان من عمل الجوارح فهو مخلوق" (8).   (1) انظر ((المواقف في علم الكلام)) (ص388). (2) انظر ((شرح العقيدة الطحاوية)) لابن أبي العز (2/ 463). (3) انظر ((الفتاوى)) (ص7/ 569). (4) وانظر ((روح المعاني)) للألوسي (9/ 165). (5) انظر ((شرح صحيح البخاري)) للنووي (1/ 112) ضمن ((مجموع شروح البخاري)). (6) انظر ((السواد الأعظم)) لابن الحكيم السمرقندي (ص: 33). (7) وانظر ((الفتاوى)) لابن تيمية (13/ 15) وما بعدها. (8) ((طبقات الحنابلة)) لابن أبي يعلى (1/ 94) و ((لوامع الأنوار البهية)) للسفاريني (1/ 446). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 فبالتفصيل يستبين السبيل، فإن الإيمان يقصد به أمران: أمر الرب وفعل العبد، فما كان منه من أمر الرب فهو غير مخلوق بل صفة من صفات الخالق اللائقة بجلاله وكماله سحبانه، وأما ما كان منه من فعل العبد كالحركات فهو مخلوق. قال شيخ الإسلام: "وإذا قال الإيمان مخلوق أو غير مخلوق؟ قي له: ما تريد بالإيمان؟ أتريد به شيئاً من صفات الله وكلامه كقوله: "لا إله إلا الله" وإيمانه الذي دل عليه اسمه المؤمن، فهو غير مخلوق، أو تريد وصفاتهم مخلوقة ولا يكون للعبد المحدث المخلوق صفة قديمة غير مخلوقة ولا يقول هذا من يتصور ما يقول، فإذا حصل الاستفسار والتفصيل ظهر الهدى وبان السبيل" (1).وقال الذهبي: "لا يجوز أن يقال الإيمان والإقرار والقراءة والتلفظ بالقرآن غير مخلوق فإن الله خلق العباد وأعمالهم والإيمان قول وعمل والقراءة والتلفظ من كسب القاري، والمقروء الملفوظ هو كلام الله ووحيه وتنزيله وهو غير مخلوق، وكذلك كلمة الإيمان وهي قول لا إله إلا الله محمد رسول الله داخلة في القرآن وما كان في القرآن فليس بمخلوق، والتكلم بها من فعلنا وأفعالنا مخلوقة" (2). وعليه من قال إن الإيمان مخلوق أو قال غير مخلوق فهو مبتدع في كلا الحالين، إلا أن يفصل القول، ويعطي كل ذي حق حقه. ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: "من قال الإيمان مخلوق فهو كافر ومن قال قديم فهو مبتدع".قال الحافظ عبدالغني المقدسي رحمه الله موضحاً هذا القول: "وإنما كفر من قال بخلقه؛ لأن الصلاة من الإيمان، وهي تستمل على قراءة وتسبيح وذكر الله عز وجل ومن قال بخلق ذلك كفر، وتشتمل على قيام وقعود وحركة وسكون، ومن قال بقدم ذلك ابتدع" (3). قلت: وبهذا البيان والتفصيل تزول شبهة هذا الملبس والله المستعان. الشبهة الرابعة: قولهم إن الإيمان إنما يزيد وبغلبته على ضده وينقص بغلبة ضده عليه، قولوا والإيمان لا يحصل إلا بعد الغلبة على الكفر فلا يضامه حتى يقال إنه يغلب عليه (4). قلت: وهذه الشبهة مبنية على أن الإيمان عندهم لا يجتمع مع شيء من الكفر أو النفاق في القلب الواحد، فإن وجد الإيمان فلا وجد لشيء من الكفر في القلب، وكذلك لا وجود لشيء من النفاق، ولهذا قالوا: هنا: إنه إنما يزيد بغلبته على ضده وهو الكفر وينقص بغلبة ضده - وهو الكفر - عليه، أما أن يضامه ويجتمعان فمحال. قال شيخ الإسلام: "ومن العجب أن الأصل الذي أوقعهم - أي المرجئة - في هذا إعتقادهم أنه لا يجتمع في الإنسان بعض الإيمان وبعض الكفر، أو ما هو إيمان وما هو كفر، واعتقدوا أن هذا متفق عليه بين المسلمين، كما ذكر ذلك أبو الحسن وغيره، فلأجل اعتقادهم هذا الإجماع وقعوا فيما هو مخالف للإجماع الحقيقي، إجماع السلف الذي ذكره غير واحد من الأئمة" (5). يقصد بذلك إجماع السلف على أن الإيمان يزيد وينقص ويقبل التفاضل ويتبعض كما هو ظاهر من دلالات النصوص.   (1) ((الفتاوى)) (7/ 664). (2) ((السير)) (14/ 39، 40)، وانظر ((السير)) أيضاً (12/ 630). (3) انظر ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب (2/ 34)، وانظر أيضاً ((مجموعة الرسائل والمسائل)) لابن تيمية (3/ 395). (4) انظر ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للأصفهاني (ص130)، وانظر ((شرح الفقه الأكبر)) لفخر الإسلام علي بن محمد بن حسين ق33/أ. (5) ((الفتاوى)) (7/ 404). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 ولكن هؤلاء لما قالوا هذا القول المخالف للنص والإجماع، وتوهموا أن قولهم هذا مجمع عليه بين أهل العلم، وقعوا فيما وقعوا فيه من مخالفات لنصوص الشرع الصحيحة الصريحة في أن الإيمان يزيد وينقص، وهذا لغلط الذي وقعوا فيه هو في الحقيقة سبب غلطهم في كثير من مسائل الشرع والدين، "يقول الإنسان قولاً مخالفاً للنص والإجماع القديم حقيقة، ويكون معتقداً أنه متمسك بالنص والإجماع". فإذا تبينت مخالفة هذا القول للنص والإجماع علم بطلانه، ثم إن قولهم إن الإيمان لا يجتمع معه شيء من الكفر أو شيء من النفاق غلط بين، ومخالف لكثير من النصوص الدالة على إمكان اجتماع شيء من الكفر أو النفاق مع الإيمان. قال شيخ الإسلام في كلام له: "وحينئذ فقد يجتمع في الإنسان إيمان ونفاق وبعض شعب الإيمان وشعبة من شعب الكفر، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذبك وإذا أئتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) (1). وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: ((من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة نفاق)) (2) وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي ذر: ((إنك امرؤ فيك جاهلية)) (3) وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع من أمر الجاهلية لن يدعوهن: الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والنياحة، والاستسقاء بالنجوم)) (4) وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) (5) ... " (6). ثم أطال شيخ الإسلام رحمه الله في الاحتجاج لذلك، بما لا يدع مجالاً لمنصف وناشد حق أن يتردد في إمكان اجتماع شيء من الكفر والنفاق مع الإيمان، فيكون بذلك مؤمناً ناقص الإيمان أو مؤمناً ضعيف الإيمان، فلا يقال إنه ذاهب الإيمان لوقوعه في بعض هذه الأعمال المنصوص في الشرع على أنها كفر، ومن قال بخلاف ذلك فقد حكم على جميع الأمة إلا النزر القليل بالكفر لكثرة الكذب وإخلاف الوعد وضعف الأمانة ووجود السباب والفجور، والطعن في الأنساب والنياحة على الميت وغير ذلك من الأعمال المنصوص في الشرع على أنها كفر، فدل ذلك على أن هذه الأعمال المنصوص في الشرع على أنها كفر، فدل ذلك على أن هذه الأعمال وإن سماها المشارع كفراً فهي كفر عملي لا تخرج صاحبها من الملة، ودل أيضاً على إمكان وجود هذه الأمور المنصوص على أنها كفر في المسلمين، وبهذا تنتقض شبهة هؤلاء، والله أعلم. ومما تنقض به هذه الشبهة قوله تعالى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ [التوبة: 106].   (1) رواه البخاري (34) , ومسلم (58) , من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. (2) رواه مسلم (1910) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) رواه البخاري (30) , ومسلم (1661). (4) رواه مسلم (934) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه. (5) رواه البخاري (6044) , ومسلم (64) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (6) ((الفتاوى)) (7/ 520). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 فهؤلاء ليسوا مؤمنين كما أنهم ليسوا كفاراً، فهم مؤمنون ناقصوا الإيمان، وبهذه الآية احتج أيوب السختياني لنقض قول المرجئة هذا. فقد روى ابن بطة بإسناده إلى سلام بن أبي مطيع قال شهدت أيوب وعنده رجل من المرجئة فجعل يقول: إنما هو الكفر والإيمان قال: وأيوب ساكت، قال: فأقبل عليه أيوب، فقال: أرأيت قوله: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ [التوبة: 106]. أمؤمنون أم كفار؟ فسكت الرجلن فقال له أيوب: اذهب فاقرأ القرآن، فكل آية فيها ذكر النفاق فإني أخافها على نفسي (1). الشبهة الخامسة: احتجاج بعضهم ببعض الأحاديث المذكوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمحتجون بهذه الأحاديث صنفان: الأول: واضعوا هذه الأحاديث فجميعهم من المرجئة كما سيأتي بيان ذلك، وقد وضعوها للاحتجاج بها على مذهبهم الباطل. الثاني: أناس آخرون من المرجئة ليس عندهم تمييز بين الصحيح والسقيم رأوا هذه الأحاديث واغتروا بها لموافقتها أهواءهم (2). وجملة ما وقفت عليه في هذا من أحاديث ستة أحاديث، ويفرغ من أمرها بمعرفة كذبها على النبي صلى الله عليه وسلم واختلاقها عليه، وقد قمت بدراسة هذه الأحاديث ونقدها، وبينت أنها جميعها مكذوبة مفتراة على النبي صلى الله عليه وسلم وذلك بالنقل عن أئمة هذا الشأن من علماء الجرح والتعديل. ثم إني وجت أن جميع واضعي هذه الروايات والذين تولوا كبرها وتحملوا وزرها من المرجئة القائلين بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وقد نص أهل العلم على أنهم من الكذبة، وستأتي تراجمهم وأقوال علماء الجرح والتعديل فيهم عند ذكر روايتهم، وقد أوغل هؤلاء في الضلال حينما تجرأوا على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعماً لمذهبهم الباطل وتأييداً له، وتعرضوا بذلك لوعيد الله وأليم عقابه. وقد قال تعالى عن الكذبة بعامة: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النحل: 105].وقال صلى الله عليه وسلم عن عاقبة الكذب عليه بخاصة، وأنه ليس ككذب على أي أحد: ((إن كذباً عليَّ ليس ككذب على أحد، من كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار)) (3). ولا نقول إلا قاتل الله الهوى فكم فعل بأهله من الأفاعيل، وكم أدخلهم في مزالق ومعاطب مردية، حتى بلغ بهم على الكذب على خير الخلق عليه الصلاة والسلام نصرة لباطلهم وترويجاً له. ثم إليك تلك الروايات مسوقة مع كلام أهل العلم عليها: 1 - حديث مأمون بن أحمد السلمي، قال حدثنا أحمد بن عبدالله الجويباري، قال حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن طاوس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الإيمان لا يزيد ولا ينقص)). موضوع مأمون والجويباري كذابان.   (1) ((الإبانة)) (2/ 754). (2) انظر ((السواد الأعظم)) لابن الحكيم السمرقندي (ص34)، و ((النبراس شرح العقائد)) (ص: 402)، و ((عمدة القاري)) (1/ 110). (3) رواه البخاري (1291) , ومسلم (4) , من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 فمأمون: قال عنه أبو نعيم: "خبيث وضاع يأتي عن الثقات مثل هشام بن عمار ودحيم بالموضوعات، مثله يستحق من الله ومن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن المسلمين اللعنة".وقال ابن حبان: "كان دجالاً من الدجاجلة، ظاهر أحواله مذهب الكرامية ... " وقال الذهبي: "له طامات وفضائح" (1).وأحمد بن عبدالله الجويباري: قال عنه النسائي والدارقطني: "كذاب"، وقال الجوزجاني: "كان يضع الحديث، ما أدري حسب إيمانه"، وقال أبو حاتك: "دجال من الدجالين، كذاب يضع على الذين يروي عنهم ما لم يحدثوا به، لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل الجرح فيه"، وقال ابن عدي: "كان يضع الحديث لابن كرام على ما يريده"، وقال أبو سعيد النقاش: "لا نعرف أحداً أكثر وضعاً منه"، وقال الحاكم: "هذا كذاب خبيث لا تحلرواية حديثه بوجه"، وقال البيهقي: "أما الجويباري فإني أعرفه حق المعرفة بوضع الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وضع عليه أكثر من ألف حديث"، وقال الذهبي: "كذاب ممن يضرب المثل بكذبه" (2).فحديثهما موضوع بيقين، قال ابن الجوزي: "هذا من موضعات الجويباري والذي رواه عنه وهو مأمون فقد اسمه، وإنه احد الوضاعين، ذكر أنه وضع مائة ألف حديث" (3). وقد وضع مأمون هذا حديثاً في الإيمان فروى عن عبدالله بن مالك بن سليمان عن سفيان بن عيينة عن ابن طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان قول والعمل شرائعه)).قال ابن حبان: "فمما وضع على الثقات أنه روى عن عبدالله بن مالك ... " فذكره (4).وقال ابن الجوزي: "وهذا من موضوعات مأمون بلا شك، وقد ذكرنا أنه من الكذابين" (5). 2 - حديث محمد بن كرام، قال حدثنا أحمد بن عبدالله الشيباني قال حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري، عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الإيمان لا يزيد ولا ينقص)). موضوع. محمد بن كرام: ساقط الحديث، وأحمد بن عبدالله الشيباني هو الجويباري كذاب خبيث تقدم ذكره. قال الحافظ بن عدي: "كان يضع الأحاديث لابن كرام على ما يريده، وكان ابن كرام يضعها في كتبه عنه، ويسميه أحمد بن عبدالله الشيباني" (6).   (1) انظر ((المجروحين)) لابن حبان (3/ 45)، و ((الضعفاء)) لأبي نعيم (ص150)، و ((الضعفاء والمجروحين)) لابن الجوزي (3/ 32)، و ((الأباطيل)) للجورقاني (1/ 41)، و ((المغني في الضعفاء)) للذهبي 2 (/141)، و ((ديوان الضعفاء)) له (ص335)، و ((الميزان)) له (3/ 429)، و ((اللسان)) لابن حجر (5/ 7). (2) انظر ((الضعفاء)) للنسائي (ص22)، و ((أحوال الرجال)) للجوزجاني (ص206)، و ((المجروحين)) لابن حبان (1/ 142)، و ((الضعفاء والمتروكين)) للدارقطني (ص114)، و ((الضعفاء والمجروحين)) لابن الجوزي (1/ 78)، و ((المغني في الضعفاء)) للذهبي (1/ 83)، و ((ديوان الضعفاء)) له (ص 6)، و ((الميزان)) له (1/ 106)، و ((اللسان)) لابن حجر (1/ 193). (3) ((الموضوعات)) (1/ 132). (4) ((المجروحين)) (3/ 45) ونقله الذهبي في ((الميزان)) (3/ 429). (5) ((الموضوعات)) (1/ 133). (6) رواه الجورقاني في ((الإباطيل)) (1/ 19)، وابن الجوزي في ((الموضوعات)) (1/ 132). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 وقال أبو العباس محمد بن إسحاق السراج: شهدت محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله ورفع إليه كتاب من محمد بن كرام يسأله عن أحاديث منها سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الإيمان لا يزيد ولا ينقص)).فكتب محمد بن إسماعيل البخاري على ظهر كتابه: "من حدث هذا استوجب الضرب الشديد والحبس الطويل" (1).وقال الجورقاني بعد أن ساق الحديث بإسناده: "هذا حديث موضوع باطل، وليس له أصل، وهو من موضوعات أحمد بن عبدالله الجويباري، وأحمد بن عبدالله هذا كان خبيثاً دجالاً من الدجاجلة، كذاباً، يوري عن ابن عيينة ووكيع وأبي ضمرة وغيرهم من ثقات أصحاب الحديث ويضع عليهم ما لم يحدثوا، وقد روى عن هؤلاء الأئمة ألوف حديث ما حدثوا بشيء منها، كان يضعها عليهم، لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل الجرح فيه" (2). 3 - حديث أبي مطيع البلخي، قال حدثناه حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة: ((أن وفد ثقيف جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عن الإيمان هل يزيد وينقص؟ قال: لا، زيادته كفر ونقصانه شرك)). موضوع. فيه أبو مطيع البلخي وأبو المهزم وكلاهما متروك والمتهم فيه هو أبو مطيع. أما الأول وهو أبو مطيع الحكم بن عبدالله البلخي فقد قال عنه أحمد: "لا ينبغي أن يروى عنه شيء"، وقال ابن معين: "ليس بشيء"، وقال أبو داود: "تركوا حديثه"، وقال البخاري: "ضعيف صاحب رأي"، وقال ابن حبان: "كان من رؤساء المرجئة ممن يبغض السنن ومنتحليها"، وقال أبو حاتم: "كان مرجئاً كذاباً"، وقال الفلاس والدراقطني: "ضعيف"، وقال الجورقاني: "كان أبو مطيع من رؤساء المرجئة ممن يضع الحديث" (3).وأما الأخر: وهو أبو المهزم بتشديد الزاي المسكورة التميمي البصري فقد قال عنه ابن معين: "ضعيف"، وقال مرة: "لا شيء"، وقال أبو زرعة: "ليس بقوي شعبة يوهنه"، وقال أبو حاتم: "ضعيف الحديث"، وقال النسائي: "متروك"، وقال مسلم بن إبراهيم عن شعبة: "رأيت أبا المهزم ولو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثاً"، وفي رواية عنه: "لوضع"، وقال علي بن الجنيد: "شبه المتروك"، وقال ابن عدي: "عامة ما يرويه ينكر عندهم"، وقال ابن حجر: "متروك" (4).   (1) رواه الجورقاني في ((الأبطايل)) (1/ 19)، وابن الجوزي في ((الموضوعات)) (1/ 132)، والحاكم في "تاريخه" كما في ((اللآلئ)) للسيوطي (11/ 39)، وذكره الزركشي في ((التذكرة)) (ص32)، وفي ((المعتبر)) (ص300) ونقله عنه جمع. (2) ((الأباطيل)) (1/ 18). (3) انظر ((التاريخ الكبير)) للبخاري (4/ 574)، و ((الضعفاء)) للنسائي (ص113)، و ((الجرح والتعديل)) لابن أبي حاتم (3/ 121)، و ((المجروحين)) لابن حبان (1/ 250)، و ((الكامل في الضعفاء)) لابن عدي (2/ 631)، و ((الضعفاء والمجروحين)) لابن الجوزي (1/ 227)، والميزان للذهبي (1/ 574)، و ((اللسان)) لابن حجر (2/ 335). (4) انظر ((التاريخ الكبير)) للبخاري (8/ 339)، و ((الضعفاء الصغير)) له (ص121)، و ((الضعفاء)) للنسائي (ص111)، و ((المجروحين)) لابن حبان (3/ 9)، و ((الميزان)) للذهبي (4/ 426)، و ((الكاشف)) له (3/ 337)، و ((تهذيب التهذيب)) لابن حجر (12/ 248)، و ((تقريب التهذيب)) له (2/ 478). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 وواضع الحديث هو أبو مطيع كما تقدم. قال الحاكم: "إسناده فيه ظلمات، والحديث باطل، والذي تولى كبره أبو مطيع" (1).وقال الجورقاني: "هذا حديث موضوع باطل لا أصل له، وهو من موضوعات أبي مطيع البلخي" (2).وقال ابن الجوزي: "هذا حديث موضوع باطل بلا شك، وهو من وضع أبي مطيع" (3).وقال الذهبي: "فهذا وضعه أبو مطيع على حماد" (4). 4 - حديث عثمان بن عبدالله الأموي، قال حدثنا حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة قال: ((قدم وفد من ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله جئناك نسألك عن الإيمان، أيزيد أو ينقص قال: الإيمان مثبت في القلوب كالجبال الرواسي وزيادته ونقصانه كفر)). موضوع. فيه عثمان الأموي، وأبو المهزم. أما أبو المهزم فتقدم ذكره. وأما عثمان بن عبدالله الأموي فقال عنه الأزدي: "لا يحتج بحديثه"، وقال ابن عدي: "حدث بمناكير عن الثقات وله أحاديث موضوعات"، وقال ابن حبان: "يضع الحديث على الثقات لا يحل كتب حديثه إلا اعتباراً"، وقال الدارقطني: "متروك الحديث"، وقال مرة: "يضع الأباطيل على الشيوخ الثقات" (5). قلت: أما واضع هذا الحديث فهو أبو مطيع البلخي المتقدم في الحديث الذي قبله، فسرقه عثمان بن عبدالله هذا منه فحدث به. قال ابن حبان: "هذا شيء وضعه أبو مطيع البخي فسرقه هذا الشيخ وحدث عنه" (6) وقال الجورقاني بعد أن روى الحديث: "هذا حدث لا يرجع منه إلى الصحة، وليس هذا الحديث أصل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعثمان بن عبدالله هذا كذاب، فسرق هذا الحديث عن أبي مطيع البلخي، فواه عن حماد ابن سلمة، وهذا شيء وضعه أبو مطيع البلخي عن حماد بن سلمة" (7).وقال ابن الجوزي: "وقد سرق هذا الحديث من أبي مطيع، أبو عمرو عثمان بن عبدالله بن عمرو ... وغير لفظه، فرواه عن حماد بن أبي المهزم عن أبي هريرة ... " ثم ساق لفظه (8).وقال الذهبي: "فهذا وضعه أبو مطيع على حماد، فسرقه هذا الشيخ منه" (9). 5 - حديث محمد بن القاسم الطايكاني: عن عبدالعزيز بن خالد عن سفيان الثوري عن أبي هارون عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من زعم أن الإيمان يزيد وينقص فزيادته نفاق، ونقصانه كفر، فإن تابوا وإلا فاضربوا أعناقهم بالسيف، أولئك أعداء الرحمن، فارقوا دين الله، وانتحلوا الكفر، وخاصموا في الله، طهر الله الأرض منهم ألا ولا صلاة لهم، ألا ولا صوم لهم، ألا ولا زكاة لهم، ألا ولا حج لهم، ألا ولا بر لهم، هم براء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله برئ منهم)).   (1) ذكره ابن حجر في ((اللسان)) (4/ 146)، والسيوطي في ((اللآلئ)) (ص 38). (2) ((الأباطيل)) (1/ 21). (3) ((الموضوعات)) (1/ 131). (4) ((الميزان)) (3/ 42). (5) انظر ((المجروحين)) لابن حبان (2/ 103)، و ((الكامل في الضعفاء)) لابن عدي (5/ 1823)، و ((الضعفاء والمتروكين)) لابن الجوزي (2/ 170)، و ((المغني في الضعفاء)) للذهبي (1/ 603)، و ((الميزان)) له (3/ 41)، و ((اللسان)) لابن حجر (4/ 143). (6) ((المجروحين)) (2/ 103). (7) ((الأباطيل)) (1/ 23). (8) ((الموضوعات)) (1/ 131). (9) ((الميزان)) (3/ 42). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 موضوع. فيه محمد بن القاسم الطايكاني كذاب وهو واضعه. قال ابن حبان: "روي عن أهل خراسان أشياء لا يحل ذكرها في الكتب"، وقال الحاكم: "من رؤوس المرجئة يضع الحديث على مذهبهم"، وقال: "حدث بأحاديث موضوعة"، وكذا قال أبو نعيم، وقال الجورقاني: "كان يضع الحديث ويكذب"، وقال الذهبي: "كان يضع الحديث" (1).قال الجورقاني وقد روي الحديث: "هذا حديث موضوع، وهو من موضوعات محمدبن القاسم الطايكاني، ومحمد بن القاسم هذا كان كذاباً خبيثاً" (2).وقال ابن الجوزي: "هذا حديث موضو، وهو من موضوعات محمد بن القاسم الطايكاني" (3).وقال السيوطي: "موضوع آفته الطايكاني، كذاب خبيث من المرجئة، كان يضع الحديث لمذهبه" (4). 6 - حديث محمد بن تميم السعدي الفريابي، من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ((من قال الإيمان يزيد وينقص قد خرج من أمر الله، ومن قال أنا مؤمن إن شاء الله فليس له في الإسلام نصيب)). موضوع. وآفته محمد بن تميم، وهو واضعه. قال فيه ابن حبان: "كان يضع الحديث"ن وقال الحاكم: "كذاب خبيث"، وقال النقاش: "وضع غير حديث"، وقال أبو نعيم: "كذاب وضاع" (5).قال ابن الجوزي: "وضعه ابن تميم" (6).وقال ابن عراق: "وهو من وضع محمد بن تميم" (7). قلت: فجميع الأحاديث المروية في أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص باطلة موضوعة بلا ريب. ولهذا قعد ذلك ابن القيم في مناره المنيف، فقال: "وكل حديث فيه أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص فكذب مختلق" (8). ويكفي في بطلان تلك الروايات مصادمتها الصريحة لنصوص الكتاب والسنة المصرحة بزيادة الإيمان ونقصانه، فهي باطلة لا وجه لها من الصحة. ومع هذا فقد قال ملا علي القارئ بعد أن نقل هذه القاعدة عن ابن القيم: "ومعنى اللفظ الأول - أي: الإيمان لا يزيد ولا ينقص - صحيح عند المحققين من المتأخرين" (9)!! قلت: وأي صحة لما خالف وصادم نصوص الكتاب والسنة، فنصوص الكتاب والسنة صريحة بأنه يزيد وينقص، وهذه الأباطيل صريحة بأنه لا يزيد ولا ينقص، فهل من توفيق بين ضدين أو جمع بين نقيضين، لا ريب أن ذلك محال. شتان بين الحالتين فإن ترد ... جمعاً فما الضدان يجتمعان ثم إن من العجب حقاً أن يلتمس لتلك الأحاديث الأباطيل معنى من الصحة وقد افتراها أناس سمتهم الكذب وديدنهم الوضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإفتراء ليه، أو من كان كذلك يتطلب لأقواله وأحاديثه المفتراة معنى من الصحة!. وقد أحسن عندما قيد تصحيح معناه بالمتأخرين، إذ إن المتقدمين من سلفنا الصالح أهل السنة والجماعة لا ريب عندهم في بطلان مثل هذا، ولهذا ضمنوا مؤلفاتهم في السنة باب زيادة الإيمان ونقصانه وأوردوا تحته الأدلة الكثيرة عليه، المبطلة لما خالفه، أما المتأخرون فلا عبرة بأقوالهم ولا اعتداد بها ما خالفت النص، وهؤلاء الذين وصفهم القارئ بالمحققين جاءوا بما ناقض التحقيق، بل والعقول الرزينة والفطر السليمة، وكيف يوصف ما جاء على الضدين تماماً لما في القرآن والسنة بأنه تحقيق؟ أما السلف الصالح أهل العلم والإيمان فعندهم أن هذا القول بدعة محدثة وليس من التحقيق في شيء كما سبق أن مر معنا في أقوال السلف، بل هو عندهم من الكذب والتلفيق؛ ولهذا يقول عبدالله بن إدريس: "كذاب من زعم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص" (10). المصدر: زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر - ص 371   (1) انظر ((المجروحين)) لابن حبان (2/ 311)، و ((الضعفاء والمتروكين)) لابن الجوزي (3/ 93)، و ((المغني في الضعفاء)) للذهبي (1/ 625)، و ((ديوان الضعفاء)) له (ص285)، و ((الميزان)) له (4/ 11)، و ((اللسان)) لابن حجر (5/ 343). (2) ((الأباطيل)) (1/ 24). (3) ((الموضوعات)) (1/ 133). (4) ((اللآليء)) (1/ 40). (5) انظر ((المجروحين)) لابن حبان (2/ 306)، و ((الضعفاء)) لابن نعيم (ص145)، و ((الضعفاء والمتروكين)) لابن الجوزي (3/ 44)، و ((المغني في الضعفاء)) للذهبي (2/ 170)، و ((الميزان)) له (3/ 494)، و ((اللسان)) لابن حجر (5/ 98). (6) ((الموضوعات)) (1/ 135) وأقره السيوطي في ((اللآليء)) (1/ 42) وتصحفت فيه هذه الكلمة تصحفاً مشيناً فكتب بدلاً من "وضعه ابن تميم"، "وضعفه محمد بن تميم"؟ فصار بهذا التصحيف إماماً في الجرح بدل أن يكون وضاعاً. (7) ((تنزيه الشريعة)) (ص150). (8) ((المنار المنيف)) (ص119). (9) ((الأسرار المرفوعة)) (ص344). (10) رواه الخطيب في "تاريخه " (13/ 383). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 المبحث الثامن: في بيان موقفهم من النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه، والرد عليهم .... القائلين بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وجدوا أن هذه النصوص (النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه) تتعارض مع نتاج فكرهم وما توصلوا إليه بآرائهم فلم يجدوا بداً من تأويلها وصرفها عن ظاهرها الصريح إلى صنوف من التأويلات، وألوان عجيبة من التحريفات، حتى إن قارئ كتبهم والمطلع عليها ليلمس فيهم عند إيرادهم لنصوص الشرع أنهم إنما أوردوها ليشرعوا في ردها وتأويلها شروع من قصد ذلك أصلاً وابتداء وكيفما اتفق له ذلك الرد أو التأويل. ولا ريب في فساد هذا المنهج وبطلانه وانحرافه وبعده عن الجادة السوية المرضية، بل إن معظم الفساد العقدي والإنحراف الديني الذي منيت به أكثر الفرق الإسلامية إنما كان بسبب ذلك وثمرة من ثمراته. وما من شك أن هذا الباب لو فتح - أعني باب التأويل - لولج كل مبطل بباطله، وادعى أن نصوص الوحي تدل عليه، ثم تأول النصوص لتتفق مع هواه وباطله، وليس هذا مجرد تصور، بل إن هذا هو ما حصل فعلاً من عامة أهل العلم. قال شيخ الإسلام: "وأما أهل البدع من أهل الكلام والفلسفة ونحوهم فهم لم يثبتوا الحق، بل أصلوا أصولاً تناقض الحق. فلم يكفهم أنهم لم يهتدوا ولم يدلوا على الحق حتى أصلوا أصولاً تناقض الحق، ورأوا أنها تناقض ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدموها على ما جاء به الرسول. ثم تارة يقولون: الرسول جاء بالتخييل، وتارة يقولون: جاء بالتأويل، وتارة يقولون: جاء بالتجهيل" (1). فهم لا يقبلون من نصوص الوحي ما خالف آرائهم وأصولهم وقواعدهم، بل ينصرفون إلى رده بأي وجه. خلافاً لمنهج أهل الحق والسلامة والسنة والجماعة رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين فإنهم كلهم متفقون على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة على كل حال، فكلمتهم واحدة من أولهم إلى آخرهم لم يسوموها تأويلاً، ولم يحرفوها عن موضوعها تبديلاً، ولم يبدوا لشيء منها إبطالاً، ولا ضربوا لها أمثالاً، ولم يدعفوا في صدورها وأعجازها، ولم يقل أحد منهم يجب صرفها عن حقائقها وحملها على مجازها، بل تلقوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع حيث جعلوا القرآن عضين. فالواجب لزوم منهج أهل السنة والجماعة، والبعد عن هذه المناهج المنحرفة، وأن يكون الرد في موضع النزاع والخلاف إلى الكتاب والسنة، وأن لا يقدم بين يدي الله ورسوله شيئاً من تلك التأويلات الفاسدة والآراء الباطلة، التي هي في الحقيقة زبالات الأذهان ونخالات الأفكار وعصارات الآراء ووساوس الصدور. ومما يبين لنا فساد هذا المنهج أن نعلم أن كل فساد وخراب حل بالعالم إنما نشأ بسبب ذلك، بسبب تقديم الرأي على الوحي، والهوى على النقل، وما استحكم هذا الأمر في قلب أحد إلا استحكم هلاكه، ولا في أمة إلا وفسد أمرها أتم فساد (2). كل ذلك وغيره يقتضي فساد التأويل الذي هو مطية أهل البدع، والذي هو خلاله يتوصلون إلى تحقيق أهوائهم موهمين الأغمار والبسطاء أنهم يحتكمون إلى الكتاب والسنة، وما أبعدهم عنهما، وفيهم أناس مغرر بهم، غرهم بهرجة التأويل وحسن تزويقه، وهم قريبون إن وقفوا على الحق وصلحت النية، وفيهم آخرون دخلوا فيه عن حسن قصد وصلاح نية ولكن ليس كل من أراد الخير أصابه، والموفق من وفقه الله.   (1) ((الفتاوى)) (16/ 440)، وانظر أيضاً ((الفتاوى)) (13/ 142) و (17/ 361). (2) انظر ((لوامع الأنوار البهية)) للسفاريني (1/ 6). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 وبعد، فإني ذاكر ما وقفت عليه من تأويلات للقائلين بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص للنصوص المخالفة لقولهم، وهي عندهم تعد أجوبة على ما احتج به أهل السنة والجماعة على قولهم إن الإيمان يزيد وينقص، ثم اتبع ذكر ذلك بما يبين فساد تلك التأويلات، وإن كان فسادها معلوماً من خلال ما ذكر آنفاً في بيان فساد التأويل إجمالاً.1 - فمن أجوبتهم عن الآيات الدالة على زيادة الإيمان إدعاؤهم أنها محمولة على أنهم كانوا آمنوا في الجملة، ثم كانت تأتيهم الفروض فرض بعد فرضاً، فكانوا يؤمنون بكل فرض خاص إلى أن تكاملت الفروض وكمل الدين، فكان الإيمان يزيد بزيادة المؤمن به. ثم لما كمل الشرع فلا مجال بعد ذلك لزيادة الإيمان إذ إن هذا لا يتصور في غير عصره صلى الله عليه وسلم (1). والجواب عن هذا أن يقال: لا ريب في أن الإيمان الذي أوجبه الله على عباده وأمرهم به كان يزيد شيئا فشيئاً كما أن القرآن الكريم كان يزيد شيئاً فشيئاً إلى أن أتم الله الدين وأكمله وأنزل في بيان ذلك قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3]. والإكمال الذي نص عليه في الآية عائد إلى الإيمان الذي هو أمر الرب سبحانه وتعالى حيث إنه سبحانه أمر عباده بالتوحيد ثم الصلاة ثم الصيام ثم الحج، فلم يكن سبحانه قد أنزل تشريعه على عباده جملة واحدة، وإنما أنزله عليهم شيئاً فشيئاً حتى تكامل التشريع. وليس عائداً على أفعال المكلفين وقيامهم به إذ إن الآية ليس المراد بها أن كل واحد من الأمة وجب عليه ما يجب على سائر الأمة وأنه فعل ذلك وقام به، وإنما المراد أن الله أكمل التشريع، فالإكمال المشار إليه في الآية عائد إلى المؤمن به. ولا يلزم من كمال الدين وتمامه من جهة المؤمن به أن يكون الناس متساوين فيما أمروا به من الإيمان، كما فهمه هؤلاء، فإن هذا من أصول غلطهم، فإنهم ظنوا أن الإيمان شيء واحد، وأنه يستوي فيه جميع المكلفين. وغلطهم في هذا ظاهر، لأن الإيمان الذي أوجبه الله على عباده يتنوع ويتفاضل، وهم يتباينون فيه تبايناً عظيماً، فيجب على الملائكة من الإيمان ما لا يجب على البشر. ويجب على الأنبياء من الإيمان ما لا يجب على غيرهم، ويجب على العلماء من الإيمان ما لا يجب على غيرهم، ويجب على الأمراء ما لا يجب على غيرهم، وليس المراد أنه يجب عليهم من العمل فقط، بل ومن التصديق والإقرار فإن الناس وإن كان يجب عليهم الإقرار المجمل بكل ما جاء به الرسول فأكثرهم لا يعرفون تفصيل كل ما أخبر به، وما لم يعلموه كيف يؤمرون بالإقرار به مفصلاً، وما لم يؤمر به العبد من الأعمال لا يجب عليه معرفته ومعرفة الأمر به، فمن أمر بحج وجب عليه معرفة ما أمر به من أعمال الحج والإيمان بها، فيجب عليه من الإيمان والعمل ما لا يجب على غيره، وكذلك من أمر بالزكاة يجب عليه معرفة ما أمر الله به من الزكاة ومن الإيمان بذلك والعمل به ما لا يجب على غيره، فجيب عليه من العمل والإيمان ما لا يجب على غيره إذا جعل العلم والعمل ليسا من الإيمان، وإن جعل جميع ذلك داخلاً في مسمى الإيمان كان أبلغ فبكل حال قد وجب عليه من الإيمان ما لا يجب على غيره (2).   (1) انظر ((شرح العقائد النسفية)) (ص124)، و ((النبراس شرح العقائد)) (ص403)، ((إتحاف السادة المتقين)) (2/ 261)، ((تحفة القاري)) (ص47). (2) انظر ((الفتاوى)) (13/ 52، 53). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 فكيف يقال بعد هذا إن زيادة الإيمان غير متصورة ولا مجال لها بعد عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فه الإيمان المأمور به من وجب عليه الحج لوجود الاستطاعة كالإيمان المأمور به من لم يجب عليه الحج لعدم وجودها؟ وهل الإيمان المأمور به من وجبت عليه الزكاة لاكتمال النصاب، كالإيمان المأمور به من لم يكن عنده مال يبلغ النصاب؟ وهل الإيمان الواجب على من علم بتفاصيل الشريعة ودقائق مسائلها كإيمان من لم يبلغه من الأمر والنهي إلا الشيء اليسير؟ وهل إيمان من آمن بالرسول باطناً وظاهراً ثم مات قبل أن يعرف شرائع الدين كإيمان من عرف الشرائع بتفاصيلها فآمن بها وعمل بها؟ لذا يقول شيخ الإسلام: "فلا يمكن المنازعة أن الإيمان الذي أوجبه الله يتباين فيه أحوال الناس، ويتفاضلون في إيمانهم ودينهم بحسب ذلك" (1). ولهذا فإن قولهم إن الزيادة غير ممكنة بعد اكتمال الشرع وغير متصورة بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم متعقب بما تقدم، بل إن الفرهاري شارح العقائد مع أنه من القائلين بعدم زيادة الإيمان ونقصانه قد تعقب هذا القول ونبه على غلطه، حيث قال بعد أن حكاه:"وفيه نظر لأن الإطلاع على تفاصيل الفرائض ممكن في غير عصر النبي صلى الله عليه وسلم فإن أحدنا لا يطلع على جميع الفرائض دفعة بل يطلع على بعضها فيؤمن به ثم على بعض آخر فيؤمن به، والإيمان يجب إجمالاً وتفصيلاً فيما علم تفصيلاً" (2). 2 - ومن أجوبتهم قولهم: إن الإيمان له معنيان: أحدهما: تصديق الجنان بما لابد من تصديقه وهو قوله صلى الله عليه وسلم في جواب جبريل: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ... " الحديث فمن أتى بهذا التصديق صدقاً من قلبه حرمه الله تعالى عن النار الشديدة المؤبدة التي أعدها للكافرين وإن زني وإن سرق وغن وإن أي: إن عمل الكبائر. والمعنى الثاني: السكينة والطمأنينة التي تحصل للمقربين وهو قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح: 4]، وقوله تعالى: أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] وقوله تعالى: لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الحديد: 9].وخلاصة هذا: أن الإيمان قد يطلق على ما هو الأساس في النجاة وقد يطلق على الكامل المنجي بلا خلاف، فمن قال: لا يزيد ولا ينقص فمراده القدر الذي هو الأصل في النجاة، ومن قال يزيد وينقص أراد به الكامل (3).قلت: لقد سأل رجل الحسن البصري رحمه الله عن الإيمان فقال: "الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قول الله عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2] فوالله ما أدري أنا منهم أم لا" (4). فبين رحمه الله أن للإيمان إطلاقين: أحدهما: أصل الإيمان الذي لا نجاة إلا بتحقيقه، والثاني كمال الإيمان الذي يحصل به النجاة المطلقة من نار جنهم والفوز بالدرجات العالية في الجنة.   (1) ((الفتاوى)) (13/ 54). (2) ((النبراس شرح العقائد)) (ص403) وانظر ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (ص122) ضمن ((مجموع شروح البخاري)). (3) انظر ((تحفة القاري)) (ص44، 46)، و ((إتحاف السادة المتقين)) (2/ 261)، و ((النبراس شرح العقائد)) (ص404). (4) رواه البيهقي في ((الاعتقاد)) (ص120)، وفي ((الشعب)) (1/ 218). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 فتقسيم الإيمان على هذا النحو واضح لا إشكال فيه، لكن لا يلزم منه أن يكون القسم الأول منه غير قابل للزيادة والنقصان؛ لأنه لا ريب عند أهل العلم بالكتاب والسنة أن الناس يتفاوتون في تصديقهم بالله وملائكته وكتبه ورسوله وفي غير ذلك من أمور الإيمان بحسب قوة الأدلة وضعفها وقوة التصديق وضعفه، فليس تصديق النبي صلى الله عليه وسلم بالله وملائكته وكتبه ورسله كتصديق آحاد الأمة، وليس تصديق الملائكة بذلك كتصديق آحاد الناس، بل بينهم من الفرق ما الله به عليم. ثم إن قيل إن أصل الإيمان الذي لا يتحقق الإيمان إلا به لا يقبل النقص، فما وجه عدم قبوله الزيادة، وكيف يكون قد بلغ الكامل المنجي إلا لكونه زاد، وبهذا يعلم تناقض قول هؤلاء. ومما يبين تناقضه أيضاً وصفهم للإيمان بالكامل إذ كيف يوصف بالكامل ما لا يقبل الزيادة ولا النقص، ولهذا تحرج بعضهم من إطلاق هذه العبارة لما تتضمنه من دلالة على قول الإيمان للزيادة والنقصان. يقول الزبيدي في الإتحاف بعد أن حكى القول المتقدم: "قلت: وهو حسن، ولكن ما أعجبني تسمية القسم الأخير بالكامل، فإنه يستدعي أن يكون مقابله ناقصاً، وهو وإن كان صحيحاً في نفس الأمر لكن التعبير غير حسن، والأولى أن يعبر عنه بالإيمان الشرعي" (1). فانظر لشدة التحرج من هذه الأسماء الشرعية "كمال الإيمان"، "نقصان الإيمان" "زيادة الإيمان وأعجب لذلك. فلم يعجبه تسمية الإيمان التام الكامل بـ"الكامل" لمناقضته لأصولهم، وإن كان صحيحاً في نفس الأمر، والله المستعان. 3 - ومنها تأويلهم للنصوص الواردة في الزيادة بأن المراد بها الثبات والدوام على الإيمان، أي أنه يزيد بزيادة الأزمان؛ لأن التصديق عرض، والأعراض لا تبقى إلا بتجدد الأمثال. وحاصل الجواب أنه ليس المراد بالزيادة في الآيات زيادة حقيقة التصديق في نفسه بل زيادة أعداده، وهذا بالاستمرار عليه وعدم الذهول عنه، فإن الاستمرار على التصديق يوجب تجدد الأمثال وحصول أعداد كثيرة من التصديق في كل وقت (2).قلت: قولهم هذا مبني على أن التصديق عرض من الأعراض، والأعراض عندهم لا تقبل الزيادة والنقصان وإنما الذي يقبل الزيادة والنقصان الأجسام دون الأعراض (3). والكلام على هذا يكون بعد معرفة حقيقة العرض ما هو: فالعرض: هو الموجود الذي يحتاج في وجوده على موضع أي محل يقوم به كاللون المحتاج إلى جسم يحله ويقوم هو به (4). بهذا عرفوا العرض، فالسواد والبياض وغيرهما من الألوان، والحركة والسكون وغيرهما أعراض لأنها تحتاج في وجودها إلى موضع تقوم به.   (1) ((إتحاف السادة المتقين)) (2/ 261). (2) انظر ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص125)، و ((الإرشاد)) للجويني (ص336)، و ((المسامرة شرح المسايرة)) (ص373)، و ((البداية من الكفاية)) (ص155). (3) انظر ((الإيمان)) لأبي يعلى (ص399). (4) انظر ((التعريفات)) للجرجاني (ص148). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 ولا ريب أن هذه تقبل الزيادة والنقصان، ومن ذا الذي يستريب في أن هناك سواداً أشد من سواد وحركة أقوى من حركة وسكوناً أهدى من سكون، فقبول هذه الأمور الزيادة والنقصان أمر لا ريب فيه، فإذا كان ذلك كذلك، فالإيمان كذلك يقبل الزيادة والنقصان كسائر الأعراض لا فرق. قال شيخ الإسلام: "إن نفس العلم والتصديق يتفاضل ويتفاوت كما يتفاضل سائر صفات الحي من القدرة والإرادة، والسمع والبصر والكلام، بل سائر الأعراض من الحركة والسواد والبياض ونحو ذلك .... فما من صفة من صفات الحي وأنواع إدراكاته وحركاته بل وغير صفات الحي إلا وهي تقبل التفاضل والتفاوت إلى ما لا يحصره البشر" (1).أما حملهم النصوص الواردة في الزيادة على الثبات والدوام على الإيمان فتأويل باطل؛ لأن "حقيقة الزيادة لا يعقل منها الثبوت على الشيء، وإنما يعقل منها الزيادة في ذاته" (2). فالآيات الواردة المنصوص فيها على زيادة الإيمان المراد بها زيادة الإيمان نفسه علماً واعتقاداً وعملاً، كما في قوله تعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة: 124]. أي زادتهم تصديقاً وإقراراً بما فيها ثم عملاً بذلك التصديق. قال ابن جرير: "فإن قيل: فكيف زادتهم السورة تصديقاً وإقراراً قيل: زادتهم إيماناً حين نزلت؛ لأنهم قبل أن تنزل السورة لم يكن لزمهم فرض الإقرار بها، والعمل بها بعينها إلا في جملة إيمانهم بأن كل ما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند الله فحق، فلما أنزل الله السورة لزمهم فرض الإقرار بأنها بعينها من عند الله، ووجب عليهم فرض الإيمان بما فيها من أحكام الله وحدوده وفرائضه، فكان ذلك هو الزيادة التي زادهم نزول السورة حين نزلت من الإيمان والتصديق بها، وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل ... " (3). ..... ثم أيضاً قول هؤلاء إن المراد بالزيادة في الإيمان هو الثبات والدوام عليه، يلزم منه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما يفضل غيره بدوام إيمانه وثباته لا غير، وقد قالوا بهذا القول والتزموا هذا اللازم الفاسد. قال شيخ الإسلام بعد أن أشار إلى قولهم هذا: "فهذا هو الذي يفضل به النبي صلى الله عليه وسلم غيره في الإيمان عندهم، ومعلوم أن هذا في غاية الفساد من وجوه كثيرة كما قد بسط في مواضع أخرى" (4).4 - ومنها حملهم للنصوص الواردة في زيادة الإيمان بأن المراد بها زيادة إشراق نوره في القلب وزيادة ثمراته (5). قلت: وهذا التأويل من جنس الذي قبله، مفاده صرف النص عن ظاهره الصريح إلى تأويلات بعيدة غير مرادة منه.   (1) ((الفتاوى)) (7/ 564، 565). (2) ((الإيمان)) لأبي يعلى (ص403). (3) ((تفسير ابن جرير)) (7/ 72). (4) ((الفتاوى)) (7/ 153). (5) انظر ((المسامرة شرح المسايرة)) (ص373)، و ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص125)، و ((إتحاف السادة المتقين)) (2/ 260)، و ((النبراس شرح العقائد)) (ص404)، و ((السواد الأعظم)) (ص38)، و ((البداية من الكفاية)) (ص155). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 وإلا فمن المعلوم أن ثمرات الإيمان أمر خارج عن الإيمان، ولا يقول عاقل إن الجزاء على فعل الطاعة والإثابة عليها هو الطاعة نفسها، بل كان عاقل يعلم أن الثواب على الطاعة غير الطاعة، بل أمر خارج عنها. ولهذا أجاب القاضي أبو يعلى عن الشبهة بقوله: "وثواب الإيمان ليس بإيمان" (1).وقال أيضاً: "والإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية نفسه وثوابه، خلافاً للمعتزلة في قولهم لا يزيد ولا ينقص لا ثوابه ولا نفسه، وخلافاً للأشعرية في قولهم يزيد وينقص ثوابه لا نفسه، والدلالة على ما ذكرنا قوله تعالى وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وقوله تعالى وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وقوله تعالى لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر: 31] .... " (2). وتأويلهم هذا، والتأويل الذي قبله هو من جنس تأويلهم لنصوص الصفات سواء بسواء، فالباب في الجميع واحد، وهو صرف النصوص عن ظواهرها المرادة إلى معاني بعيدة غير مرادة من النصوص. وقد بين أهل العلم فساد منهج التأويل وقبحه وضرره على الدين، حتى قال ابن القيم رحمه الله في كتابه الصواعق المرسلة: "والدين إذا أحيل على تأويلات المتأولين انتفضت عراه كلها، ولا تشاء طائفة من طوائف أهل الضلال أن تتأول النصوص على مذاهبها إلا وجدت السبيل إليه" (3)، وكفى بذلك بياناً لقبح التأويل، ثم إنه رحمه الله قد استوفى الرد على أهل التأويل وبين فساد منهجهم هذا، في كتابه المذكور آنفاً ولا سيما في المجلد الأول منه. 5 - ومنها قولهم إن النقصان والزيادة يرجع إلى أحد أمرين: إما أن يكون ذلك راجعاً إلى القول والعمل، دون التصديق؛ لأن ذلك يتصور فيهما مع بقاء الإيمان فأما التصديق فمتى انخرام منه أدنى شيء بطل الإيمان ... والأمر الثاني: في جواز إطلاق الزيادة والنقصان على الإيمان، يتصور أيضاً أن يكون من حيث الحكم لا من حيث الصورة، فيكون ذلك أيضاً في الجميع من التصديق والإقرار والعمل، ويكون المراد بذلك في الزيادة والنقصان راجعاً إلى الجزاء والثواب والمدح والثناء، دون نقص وزيادة في التصديق من حيث الصورة (4). والجواب عن هذين الأمرين أن يقال: عن الأمر الأول وهو جعلهم الزيادة والنقصان راجعين إلى العمل والقول دون التصديق أن هذا تحكم في النص بلا دليل سوى تصور خاطئ وهو ظنهم أن التصديق متى انخرم منه أدنى شيء بطل الإيمان، وقد سبق الجواب عن هذا بما يشفي ويكفي وذلك بالنقل عن أهل العلم المحققين في أن التصديق يقبل الزيادة والنقصان دون أن يكون قبوله للنقصان يقتضي شكاً أو كفراً كما فهمه هؤلاء، بل إنه يكون تصديقاً دون تصديق وهذا أمر يحسه كل أحد من نفسه فإن تصديق المرء ببعض الأمور يختلف من وقت لآخر قوة وضعفاً بحسب قوة الأدلة والبراهين، فكيف يقال بعد ذلك إن التصديق متى انخرم منه أدنى شيء بطل الإيمان؟   (1) ((الإيمان)) لأبي يعلى (ص407). (2) ((المعتمد في أصول الدين)) لأبي يعلى (ص189، 190). (3) ((الصواعق المرسلة)) (1/ 156). (4) ((الإنصاف)) للباقلاني (ص87، 88))، ونقله عنه الكاندهلوي في ((تحفة القاري)) (ص47). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 أما الجواب عن الأمر الثاني وهو حملهم معنى الزيادة والنقصان على أن ذلك إنما يكون من حيث الحكم لا من حيث الصورة أي أنه يرجع إلى الجزاء والثواب والمدح والثناء. فيقال هذا عين التأويل المتقدم في الشبه التي قبل هذه والجواب المتقدم هناك جواب على هذا.6 - ومنها: قول بعضهم الإيمان الشرعي معاهدة التزام الطاعة وعقد على التسليم والانقياد ظاهراً وباطناً، وهو أمر واحد لا يتجزأ ولا يتبعض ولا يقبل الزيادة والنقصان، ولكن هذا العهد والعقد ينسحب على العقائد والأخلاق والأعمال كلها فالعقد والأخلاق والأعمال كلها فالعقد واحد والمعقود عليه متعدد فإن أتى بجميع ما التزمه وعقد عليه فعقده وعهده تام وكامل، وإلا فناقص، ومثاله النكاح فإنه عقد على التزام موجب الزوجية، وهو أمر بسيط لكنه يتضمن بجميع حقوق الزوجية، فالنكاح لا يزيد ولا ينقص، وإنما الزيادة والنقصان في وفاء حقوقه، ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ [الرعد: 25]، وقوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [المائدة: 1]، فكذلك الإيمان عهد واحد وميثاق بسيط لا زيادة فيه ولا نقصان، وإنما الزيادة والنقصان في الأمور المنطوية تحت هذا الميثاق (1). قلت: وهذا الكلام مشتمل على تكلف زائد جهد قائله في إبطال دلالة النصوص على زيادة الإيمان ونقصانه حسبما فهمها السلف، وحملها على هذا المعنى المتوعر الذي لم يفقه قبله غيره. وكلامه مشتمل على أمور باطلة ودعاوى غير صحيحة أوضحها قوله عن الإيمان أنه أمر واحد لا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتقبل الزيادة والنقصان. ومعنى لا يتجزأ أي ليس له أجزاء، ويبطل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة)) الحديث. ومعنى لا يتبعض أي ليس له أبعاض فإذا ذهب بعضه ذهب كله، ويبطل هذا قوله صلى الله عليه وسلم ((يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان)) (2) الحديث ..... وكذلك قوله: " ... فكذلك الإيمان عهد واحد وميثاق بسيط لا زيادة فيه ولا نقصان".فإن المراد بالبسيط عندهم ضد المركب وهو ما لا أجزاء له (3)، وقد سبق التنبيه على ما في وصف الإيمان بأنه ليس له أجزاء من غلط وما فيه من مخالفة للأحاديث الصريحة الدالة على أن الإيمان له شعب وأجزاء يزيد الإيمان بزيادتها وينقص بنقصها. وقائل هذا الكلام بني قوله بعدم زيادة الإيمان ونقصانه على مقدمة فاسدة وهي: وصف الإيمان بأنه بسيط أي غير مركب، فإذا علم فساد هذه المقدمة يعلم فساد نتيجتها. وكذلك قوله في ختام كلامه: "وإنما الزيادة والنقصان في الأمور المنطوية تحت هذا الميثاق". فإن الأمور المنطوية تحت ميثاق الإيمان وهي الأعمال الصالحة بأنواعها كلها داخلة في مسمى الإيمان بدلالة نصوص الكتاب والسنة على ذلك والإيمان يزيد بزيادتها وينقص بنقصها كما في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 2 - 4].   (1) ((تحفة القاري)) (ص46، 47). (2) رواه الترمذي (2593) , من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, وقال حديث حسن صحيح, وصححه الألباني, وقال في ((السلسلة)) (2450): صحيح على شرط الشيخين. (3) ((التعريفات)) للجرجاني (ص45). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 فجعل الله سبحانه الصلاة والزكاة والتوكل من أعمال الإيمان الداخلة في مسماه، فإذا قام المسلم بتحقيقها والقيام بها على أكمل وجه زاد إيماناً، وارتقى إلى أن يصبح إيماناً حقاً. فإذا تبين هذا يعلم أن في قوله: إن الزيادة والنقصان في الأمور المنطوية تحت هذا الميثاق يعد رداً على قوله إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأن الأمور المنطوية تحت الإيمان إيمان بدلالة الكتاب والسنة، وقد ذكر أنها تزيد وتنقص، وبالله التوفيق. وهذا آخر ما يتعلق بالفصل الثالث، وقد كان الحديث فيه عمن قال: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وذكر شبههم ومواقفهم من نصوص الشرع المخالفة لقولهم مع الرد عليهم في ذلك. والذي أريد أن أقوله هنا: هو أن هذه الأفكار الباطلة، والأقوال الخاطئة، والتي منها الإرجاء وعدم القول بزيادة الإيمان ونقصانه لا تزال موروثة إلى يومنا هذا، فالأمر كما قيل: لكل قوم وارث، ولكل أرض حارث. فليس الأمر كما يزعمه بعض الناس أنها أفكار ماتت بموت أهلها، وانقرضت بانقراضهم، ثم يجعل ذلك مدخلاً له ليتعرض على البحث فيها، وفي تخطئة من قال بها. فالأمر ليس كما يزعمه هذا الزعم، والمهون بقوله هذا من شأن العقيدة ونشرها، والدفاع عنها، وتنقيتها من الأفكار الدخيلة، فإنه يوجد من المعاصرين من يقول بتلك الأقوال، ويدافع عنها، وينتصر لها، ويسعى على قدم وساق في بثها ونشرها في الأمة. ولعلي أشير هنا إشارة سريعة إلى بعض من تأثر بهذه الأقوال من أهل عصرنا وانتصر لها، مع التنبيه على من رد عليهم إن وجد. 1 - فمن هؤلاء محمد أنور الكشميري الديوبندي المتوفى سنة 1352هـ، صاحب كتاب (فيض الباري على صحيح البخاري)، وليت (صحيح البخاري) سلم من فيض هذا الكشميري، فقد شحن كتابه بالمغالطات المكشوفة، والإفتراءات الواضحة، والتأويلات البغيضة، والسباب لبعض أهل العلم، كل ذلك بعبارات مفككة، وأسلوب غث ضعيف. ومن مفضوح أكاذيبه وأوضح مغالطاته قوله عن الإمام المصلح، والداعية المجدد الشيخ محمد عبدالوهاب رحمه الله تعالى: "أما محمد بن عبدالوهاب النجدي فإنه كان رجلاً بليداً قليل العلم فكان يتسارع إلى الحكم بالكفر، ولا ينبغي أن يقتحم في هذا الوادي إلا من يكون متيقظاً متقناً عارفاً بوجوه الكفر وأسبابه" (1). قلت: ولا يقول هذا من يدري ما يقول، بل لا يقوله إلا حانق حاقد مريض القلب بالهوى.   (1) ((فيض الباري)) (1/ 170، 171). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 أما من عرف الشيخ وخبر سيرته وطالع مؤلفاته وتجنب الأهواء المضلة والدعايات الكاذبة لا يجد إلا سيرة عالم فذ، وإمام مجدد، ومصلح غيور، ولا تزال دعوته تؤتي أكلها - وإن رغمت أنوف - بحمد الله تعالى. وقول الكشميري عن الشيخ إنه يتسارع في التكفير كذب على الشيخ افتراء عليه تبرأ منه الشيخ نفسه، قال رحمه الله: "وأما ذكره الأعداء عني أني أكفر بالظن وبالموالاة أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة. فهذا بهتان عظيم، يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله" (1).ويقول حفيده الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن: "والشيخ محمد رحمه الله من أعظم الناس توقفاً وإحجاماً عن إطلاق الكفر، حتى إنه لم يجزم بتكفير الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور أو غيرهم إذا لم يتيسر له من ينصحه ويبلغه الحجة التي يكفر تاركها" (2).وقد أطال الكشميري في كتابه المتقدم الكلام على مسألة الإيمان على طريقة المرجئة، وقد قام بنقده والرد عليه الشيخ محمد أمين المصري في كتابه من هدي سورة الأنفال (3)، والشيخ ابن عبدالحق النورفوري في كتابه إرشاد القارئ في الرد على كتاب فيض الباري، والكتاب لا يزال مخطوطاً، وهو مشتمل على ردود جيدة وتتبعات دقيقة، إلا أن مؤلفة لم يكمله بعد يسر الله له إكماله وطبعه. 2 - ومنهم جهمي هذا العصر وحامل لواء التعطيل فيه محمد زاهد الكوثري المتوفى سنة 1371هـ في كتابه تأنيب الخطيب وفي غيره من كتبه، وأكاذيب هذا الرجل لم تعد تخفى على أحد، وسوآته الفكرية تمتلئ بها كتب السنة التي قام بإخراجها وتحقيقها. وقد شفى وكفى في الرد عليه وبيان كذبه ومغالطاته الشيخ العلامة ذهبي هذا العصر عبدالرحمن المعلمي في كتابه الفذ "التنكيل بما في كتاب الكوثري من الأباطيل" (4). 3 - ومنهم مريد الكوثري والمتهالك في حبه عبدالفتاح أبو غدة، ودور هذا المريد ظاهر في حرثه لأفكار شيخه والإشادة بها، ووصف كلام شيخه بأنه تحقيق متين، وإطارئه دائماً بالعلامة والمحقق والإمام وغير ذلك. ولنشر هنا إلى بعض كلام أبي غدة فيما يتعلق بمسألة زيادة الإيمان ونقصانه ورأيه فيه. فقد نقل كعادته كلام شيخه محتفياً به رغم ما في كلام شيخه من ثلب للسلف بعامة، ولإمام المحدثين وأمير المؤمنين في الحديث أبي عبدالله البخاري بخاصة. واسمع ماذا نقل عن شيخه في الطعن بالإمام البخاري رحمه الله. قال - أي الكوثري -: "ومن الغريب أن بعض من يعدونه من أمراء المؤمنين في الحديث يتبجح قائلا: إني لم أخرج في كتابي عمن لا يرى أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص مع أنه أخرج عن غلاة الخوارج ونحوهم في كتابه وهو يدري أن الحديث القائل بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص غير ثابت عن النقاد، ولا التفات على المتساهلين ممن لا يفرقون بين الشمال واليمين ... ".ومن شدة احتفاء هذا المريد بكلام شيخه المتقدم، رغم ما فيه من إساءات ومغالطات، فقد نقله في موضعين من مؤلفاته (5) ثم وصفه بأنه بيان شافي!! قلت: ولننبه على بعض ما في هذا البيان الشافي من مغالطات:   (1) (مجموع المؤلفات) (5/ 25). (2) ((منهاج التأسيس والتقديس)) (ص98، 99). (3) أنظره من (ص104) وما بعدها. (4) أنظر رد المعلمي عليه فيما يتعلق بمسألة الإيمان في ((التنكيل)) (2/ 362) وما بعدها. (5) انظر هامش ((الرفع والتكميل)) للكنوي (ص30) وهامش ((قواعد في علوم الحديث)) للتهانوي (ص237) كلاهما بتحقيق أبي غدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 أولاً: في وصفه للإمام البخاري بأنه "يعدونه من أمراء المؤمنين في الحديث" إشارة إلى أنه ليس معدوداً عندهم كذلك ولا يقول هذا إلا مكابر ممرض، والبخاري رحمه الله أمير المؤمنين في الحديث وإمامهم رغم بغض شانئيه، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم. ثانياً: وصفه للبخاري رحمه الله بأنه "يتبجح" وقد جاء في تهذيب اللغة للأزهري في مادة "بجح" عن الليث وغيره: فلان يتبجح بفلان ويتمجح إذا كان يهذي به إعجاباً (1). قلت: فاختيار هذه الكلمة دون غيرها في وصف أمير المؤمنين في الحديث وقدوة الموحدين والمقدم على أضرابه وأقرانه يدل على قلة ورع قائله وسوء أدبه وبذائه أسلوبه وسلاطة لسانه مع العلماء وخاصة مع الأكابر منهم، وليس هذا بغريب من الكوثري فله قصب سبق في هذا المضمار، بل هو فارس هذا الميدان وحامل لوائه، وسبابه وشتائمه لأئمة الدين وهداة الإسلام لا تحصى إلا بكلفه، ومن ألقى نظرة عاجلة في بعض مؤلفاته أو تعليقاته علم ذلك. ثالثاً: اعتراضه على البخاري في قوله بأنه لم يخرج من صحيحه عمن يرى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، مع أنه أخرج فيه عن غلاة الخوارج ونحوهم. قلت: روى قول البخاري المتقدم عنه وراقه محمد بن أبي حاتم قال سمعته - أي البخاري - يقول دخلت بلخ، فسألوني أن أملي عليهم لكل من كتبت عنه حديثاً، فأمليت ألف حديث لألف رجل ممن كتبت عنهم. قال: وسمعته قبل موته بشهر يقول: كتبت عن ألف وثمانين رجلاً ليس فيهم غلا صاحب حديث، كانوا يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص (2). قلت: وهذا الذي سماه الكوثري: "تبجحاً" يعد في معيار العدل والإنصاف ميزة ومنقبة لكتاب البخاري الصحيح؛ لأن عدم الرواية عن مثل هؤلاء وإن كانوا حفاظاً فيه إخماد لبدعتهم وإطفاء لنارها. قال بن دقيق العيد: "إن وافقه غيره فلا يلتفت إليه إخماداً لبدعته وإطفاءاً لناره، وغن لم يوافقه أحد ولم يوجد ذلك الحديث إلا عنده مع ما وصفنا من صدقه وتحرزه عن الكذب واشتهاره بالتدين وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته فينبغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث ونشر تلك السنة على مصلحة إهانته وإطفاء ناره" (3). إذن فماذا يضير البخاري رحمه الله إن ترك الرواية عن مثل هؤلاء وتمدح بفعله هذا ليكون في عمله هذا إخماداً لهذه البدعة وعدم نشر لها ولا سيما وأن تخرج البخاري لأي راو في صحيحه مقتض لعدالته عنده، فإن ترك البخاري رحمه الله الرواية عن مثل هؤلاء - على بحث عند أهل العلم في جواز الرواية عنهم أو عدم جوازها - سائغ لتيسر الرواية عنده عن غيرهم ممن شاركوهم في الرواية لتلك الأحاديث، وفارقوهم في عدم الابتداع، ولما في عمله هذا من مصلحة إخماد البدعة وعدم تقديم أهلها وإبرازهم. ولأمر آخر وهو أن أهل البدع كما سماهم السلف: "أصحاب أهواء" وأتباعهم لأهوائهم في الجملة ظاهر، فلربما يكذب ويتجرأ على الكذب لينتصر لهواه - كما سبق أن مر معنا عن بعض هؤلاء - ولهذا المعنى قال علي بن حرب الموصلي: "كل صاحب هوى يكذب ولا يبالي" قال المعلمي معلقاً عليه "يريد والله أعلم أنهم مظنه ذلك فيحترس من أحدهم حتى يتبين براءته" (4).وأمر آخر أيضاً وهو أن البخاري رحمه الله لم يخرج في صحيحه عمن كان داعية إلى بدعته، وإنما خرج عمن كان مستتراً بها غير مظهر لها، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: ولهذا لم يخرج أهل الصحيح لمن كان داعية، ولكن رووا هم وسائر أهل العلم عن كثير ممن كان يرى في الباطن رأي القدرية والمرجئة والخوارج والشيعة" (5).   (1) ((تهذيب اللغة)) (4/ 164). (2) ((سير أعلام النبلاء)) (12/ 395). (3) ((التنكيل)) (1/ 49). (4) ((التنكيل)) (1/ 44). (5) ((الفتاوى)) (7/ 368). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 فترك البخاري الرواية عن أهل هذه البدعة لمثل هذه الأسباب المتقدمة يعد منقبة لصحيحه رحمه الله، وميزة له، وحق له أن يذكرها وإن كان في ذكره لها يقصد التأكيد على الحذر من أهل هذه الأهواء ومجانبتهم وعدم التلقي عنهم ليسلم للمرء دينه ومعتقده، فرحم الله البخاري على شدة تحريه وقوة حرصه على سلامة التوحيد والسنة، ولكن هذا كله يعد في ميزان الغوغانية مذمة له والله المستعان. رابعاً: قوله: "وهو يدري أن الحديث القائل بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص غير ثابت عند النقاد، ولا التفات إلى المتساهلين ممن لا يفرقون بين الشمال واليمين ... ". قلت: وصنيع الكوثر هنا خداع عجيب ومكر مفضوح فهو يوهم القارئ أن البخاري رحمه الله إنما اعتمد بقوله في زيادة الإيمان ونقصانه على هذا الحديث الضعيف الذي لا يثبت عند نقاد الحديث لكن البخاري - كما يرى هذا الزاعم - احتج به على قوله بل ولم يجد له حجة على قوله غيره. فيقال لهذا الكوثري المخادع: إنما أنت مفتر، فقد قرأت أدلة البخاري في كتابه الصحيح على هذه المسألة، نصوص بينة من كتاب الله، وأحاديث نيرة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ساقها رحمه الله مستدلاً بها على زيادة الإيمان ونقصانه قال رحمه الله: باب زيادة الإيمان ونقصانه، وقول الله تعالى وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف: 13] وقال: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر: 31] وقال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] فإذا ترك شيئاً من الكمال فهو ناقص. ثم ساق بسنده حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير - الحديث)) (1) ثم أشار إلى لفظة أخرى للحديث فيها "من إيمان" مكان "من خير". فهل البخاري رحمه الله احتج على قوله بأن الإيمان يزيد وينقص بذلك الحديث كما يزعمه الكوثري، أو أنه استدل على قوله بهذه الآيات البينات والحديث الواضح. أقول: لا شك أن الكوثري كان يعلم بماذا احتج البخاري على مذهبه، وبماذا استدل على قوله، ولكن من دأب على المكر والتدليس والتلبيس على الأغمار من شانه أن يتجاهل تلك الاستدلالات، ويتغافل ويتعامى عنها، لينفذ بعد ذلك إلى ما يريد. وعلى كل فهذه التلبيسات المفضوحة والمغالطات المكشوفة سماها مريده أبو غدة بياناً شافياً، والأمر في الحقيقة لا يعدو كونه حباً مفرطاً في الشيخ وتعلقاً بأقواله وتعظيماً لها، لا أقل ولا أكثر، رغم أن تلك الأقوال لا تحمل علماً يذكر، فضلاً عما فيها من مغالطات وأكاذيب. 4 - ومنهم الشيخ حسن أيوب وذلك في كتابه "تبسيط العقائد الإسلامية" فقد سلك فيه طريقة المرجئة في مسائل الإيمان، بالإضافة إلى ما فيه من انحرافات عقدية أخرى. وقد كتب الشيخ أبو تراب الظاهري في الرد عليه مقالاً نشر في جريدة المدينة (2) بعنوان: "التحذير مما كتب الشيخ حسن أيوب في تبسيط العقائد الإسلامية". ذكر في أوله أنه اطلع على هذا الكتاب الذي شاع وانتشر بين الناس ثم قال: "فراعني فيه أشياء تمس العقيدة الصحيحة فتنحرف بها عن جادة الصواب والحق، وأشفقت أن يعتنقها الشباب في هذا العصر غضبة عقولهم فترسخ في أذهانهم فيتنكبوا السبيل الأقوم فبادرت إلى كتابه هذا الرد على ما كتبه الشيخ حسن أيوب ليتنبه له قراؤه ويلتزموا المسلك الصحيح وأول المآخذ على كتابه المذكور: أنه قرر مذهب المرجئة والجهمية في الإيمان، وصحح هذا المذهب ونسبه إلى الجمهور ... " ثم شرع في نقده والرد عليه. 5 - ومنهم محمد إدريس الكاندهلوي كما في كتابه: "تحفة القارئ بحل مشكلات البخاري" وهو في كثير من المواضع فيه ينقل عن شيخه محمد أنور الكشميري، وقد تقدم الكلام على شيخه قريباً. هذا ولم أشأ الاستطراد بذكر جميع من وقفت على أنه قال بهذا القول من أهل عصرنا ولم أشأ كذلك تسمية المؤسسات العلمية القائمة عليه وإنما أردت فقط الإشارة إلى بعض الأفراد من القائلين بهذا القول، لأدل بهم على غيرهم، ولأنبه بهم على من سواهم، ولأبين كذب دعوى من قال إن هذه الأفكار قد ماتت ولم يبق منها شيء في زماننا. ثم إن هؤلاء الخالفين الذين أشرت إلى بعضهم لم يأتوا بجديد في مجال الاستدلال غير تكرار شبه من سبقهم، وإعادة ترديدها، وهذا يفيدنا أن الردود التي ذكرت سابقاً في الرد على أسلافهم كافية في الرد عليهم. المصدر: زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر - ص 397   (1) رواه الترمذي (2593) , من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, وقال حديث حسن صحيح, وصححه الألباني, وقال في ((السلسلة)) (2450): صحيح على شرط الشيخين. (2) ((جريدة المدينة)) (عدد 6197 الخميس 13/ 5/1404هـ). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 المبحث التاسع: في ذكر سبب نشوء الخلاف في هذه المسألة بعد طول العرض لأقوال الناس في هذه المسألة من قائل بزيادة الإيمان ونقصانه إلى قائل بالزيادة دون النقصان على قائل بعدم الزيادة والنقصان قد ينقدح في ذهن القارئ تساؤل يطلب جوابه، وهو ما الذي أثار هذه القضية بين المسلمين، وجعلها تبحث هذا البحث، ويدور حولها هذا الجدل الطويل العريض بين متجاذبين منهم المحق ومنهم المبطل؟ أما كان الناس زمن الصحابة رضي الله عنهم يقرأون القرآن الكريم ويسمعون السنة النبوية ويعلمون منهما أن الإيمان يزيد وينقص، ويحس بذلك كل واحد منهم في نفسه وفي إخوانه وجلسائه، ولأجله كانوا يجلسون مجالس ذكر وإيمان يطلبون فيها زيادة الإيمان ويجانبون مجالس اللغو واللهو، ويحذرون منها خشية نقصان الإيمان، ولا يعرف في أزمانهم مخالف لهم في ذلك، بل إن ذلك يعد بمثابة الإجماع منهم. فما الذي جعل بعض من جاء بعدهم يتشكك في هذا الأمر، ويستريب منه، ويضع دونه شبهاً وأستفهامات؟ وما الذي جعل البعض يدعي أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص رغم وضوح الأمر وبيانه وعدم خفائه حتى إنه ليقال فيه إنه أمر معلوم من الدين بالضرورة؟ وما الذي كان وراء نشوء هذه المسألة وحدوثها بعد أن لم تكن معروفة قبل؟ فهذا سؤال يطرح نفسه - كما يقولون -، والجواب عنه أن يقال: الأمر كما ذكر لم يكن بين الصحابة رضي الله عنهم أي خلاف في هذا الأمر بل ولا في غيره من مسائل أصول الدين وأساسياته، وإنما الخلاف في ذلك نجم بعدهم، وذر قرنه في أواخر زمانهم، "والصحابة رضي الله عنهم كانوا أقل فتناً من سائر من بعدهم فإنه كلما تأخر العصر عن النبوة كثر التفرق والخلاف، ولهذا لم تحدث في خلافه عثمان بدعة ظاهرة، فلما قتل وتفرق الناس حدثت بدعتان متقابلتان بدعة الخوارج المكفرين لعلي، وبدعة الرافضة المدعين لإمامته وعصمته أو نبوته أو إلاهيته. ثم لما كان في آخر عصر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبدالملك حدثت بدعة المرجئة والقدرية، ثم لما كان في أول عصر التابعين في أواخر الخلافة الأموية حدثت بدعة الجهمية المعطلة، والمشبهة الممثلة، ولم يكن على عهد الصحابة شيء من ذلك" (1).وهكذا بدأت الفتن تتابع، ونار الأهواء تضطرم وتتفاقم فكثرت البدع في الأمة وفشت، وتزايدت الفرق وكثرت حتى تحقق في الأمة قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: ((وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة)) (2). ولا شك أن وراء تلك الفتن أناس حاقدون على الإسلام وأهله يسوؤهم انتشار هذا الدين ويغيظهم كثرة أهله فجهدوا في إضرام تلك النار وتفانوا في إشعالها أمثال عبدالله بن سبأ اليهودي، والجعد بن درهم، والجهم بن صفوان وغيرهم من رؤوس الضلال.   (1) ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (6/ 231). (2) رواه الترمذي (2641) من حديث عبد الله بن عمرو, وقال غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه, وقال البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 185): ثابت, وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (24/ 171): مشهور, وحسنه الألباني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 فهذا سبب نشوء البدع بعموم، أما بدعة القول بعدم زيادة الإيمان ونقصانه خاصة فسبب نشأتها يرجع إلى بدعة الخوارج في تكفير مرتكب الكبيرة والحكم بخلوده يوم القيامة في نار جهنم، فإن هذه البدعة جرت وراءها بدعاً، وبيان ذلك أن الخوارج لما قالوا ببدعتهم احتجوا لها بنصوص الوعيد والتهديد، وأهملوا ما يقابلها من نصوص الرجاء والثواب والمغفرة، فقابلتهم طائفة ببدعة أخرى فقالت: عن المعاصي ليس لها تأثير في الإيمان فالإيمان لا يضر معه ذنب كما أن الكفر لا ينفع معه طاعة، واحتجوا لقولهم هذا بنصوص الوعد والرجاء، وأهملوا نصوص الوعيد كلها فقابلوا بدعة الخوارج ببدعة مثلها. فجاءت المعتزلة وتوسطوا في الأمر حسب ظنهم فقالوا: إن مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان لكنه لا يدخل في الكفر بل يكون في منزلة بين المنزلتين، أي بين منزلة الكفر ومنزلة الإيمان في الدنيا فأحدثوا بذلك بدعة ثالثة مع موافقتهم للخوارج في الحكم عليه بالخلود في النار. فالمرجئة جعلوه في منزلة الإيمان الكامل، والخوارج جعلوه في منزلة الكفر الكامل والمعتزلة لم يجعلوه لا في الكفر ولا في الإيمان، فهذه ثلاث بدع. والحقيقة أن هذه البدع الثلاث عائدة إلى اعتقاد الجميع أي الخوارج والمعتزلة والمرجئة أنه لا يجتمع مع الإيمان شيء من شعب الكفر أو شعب النفاق فإن وجد شيء من ذلك انتفى الإيمان كله عند الجميع. قال شيخ الإسلام: "والأصل الذي منه نشأ النزاع اعتقاد من اعتقد أن من كان مؤماً لم يكن معه شيء من الكفر والنفاق، وظن بعضهم أن هذا إجماع كما ذكر الأشعري أن هذا إجماع فهذا كان أصل الإرجاء ... فلما كان هذا أصلهم صاروا حزبين. قالت الخوارج والمعتزلة قد علمنا يقيناً أن الأعمال من الإيمان فمن تركها فقد ترك بعض الإيمان، وإذا زال بعضه زال جميعه لأن الإيمان لا يتبعض، ولا يكون في العبد إيمان ونفاق فيكون أصحاب الذنوب مخلدين في النار إذ كان ليس معهم من الإيمان شيء .. إلى أن قال: فقالت الجهمية والمرجئة، قد علمنا أنه ليس يخلد في النار أي مرتكب الكبيرة - وأنه ليس كافراً مرتداً بل هو من المسلمين، وإذا كان من المسلمين وجب أن يكون مؤناً تام الإيمان، ليس معه بضع الإيمان لأن الإيمان عندهم لا يتبعض فاحتاجوا أن يجعلوا الإيمان شيئاً واحداً يشترك فيه جميع أهل القبلة" (1). أما كون الإيمان لا يجتمع معه شيء من شعب الكفر أو النفاق، فقد سبق أن أبطلته مستدلاً على إبطاله بنصوص كثيرة، وكذلك جعل بطلانه. وأما عن موقف أهل السنة والجماعة من هذه المواقف الثلاثة أي من موقف الخوارج والمعتزلة، والمرجئة فيتلخص في: "أن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية كما قالت الخوارج، إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملة لكان مرتداً يقتل على كل حال، ولا يقبل عفو ولي القصاص، ولا تجري الحدود في الزنى والسرقة وشرب الخمر، وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام.   (1) ((الفتاوى)) (13/ 48، 50). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام، ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود في النار مع الكافرين، كما قالت المعتزلة، فإن قولهم باطل أيضاً، إذ قد جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى إلى أن قال: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 178]، فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا، وجعله أخاً لولي القصاص، والمراد أخوة الدين بينهما. على أن قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات: 10]. ومتفقون على أنه يستحق الوعيد المرتب على ذلك الذنب، كما وردت به النصوص، لا كما يقوله المرجئة، من أنه لا يضر مع الإيمان ذنب، ولا ينفع مع الكفر طاعة. وإذا اجتمعت نصوص الوعد التي استدلت بها المرجئة، ونصوص الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة، تبين لك فساد القولين. ولا فائدة في كلام هؤلاء سوى أنك تستفيد من كلام كل طائفة فساد مذهب الطائفة الأخرى" (1). وكذلك نستفيد منه فائدة أخرى، وهي وضوح وسطية أهل السنة والجماعة الحقة بين الإفراط والتفريط، وذلك في جمعهم بين النصوص وتأليفهم بينها. وخلاصة قول أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة أنه يعد مؤمناً ناقص الإيمان، أو مؤمناً بإيمانه فاسقاً بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الاسم بكيرته (2). ثم إن المرجئة والخوارج والمعتزلة يستدلون بنصوص ظاهرها أن المؤمنين لا يعذبون، ويستدل المعتزلة والخوارج بنصوص ظاهرها أن مرتكب الكبيرة لا يبقى مؤمناً، ويستدل الخوارج بنصوص ظاهرها أن ارتكاب بعض الكبائر كفر. وأهل السنة يجيبون عن الأولين، بأن المراد الإيمان الكامل، وعن الثالث بأنه كفر دون كفر، فهو كفر يقتضي الإيمان لا زواله، ويدفع المرجئة الجواب المذكور بقولهم: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، والأعمال ليست من الإيمان (3). فهذا تلخيص موجز لأصل نشوء الخلاف في هذه المسألة، وسبب حدوثه، ومن المعلوم أن البدع تتوالد، وأن بعضها ينشأ من بعض، ومن يطالع كتب المقالات والفرق يعلم ذلك. ولنشوء البدع عموماً ثلاثة أسباب بها أختم هذا المبحث: أحدها: أن يعتقد الإنسان في نفسه أو يعتقد فيه أنه من أهل العلم، فيفتي بغير علم فيضل ويضل. والثاني: أتباع الهوى، ولذلك سمي أهل البدع أهل الأهواء لأنهم اتبعوا أهواءهم، فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الإفتقار إليها والتعويل عليها، بل قدموا أهواءهم واعتمدوا على آرائهم. ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظوراً فيها من وراء ذلك. والثالث: التصميم على أتباع العوائد، وإن فسدت أو كانت مخالفة للحق. ذكر هذه الأسباب الشاطبي في كتابه "الاعتصام" مفصلة ثم قال: "وهذه الأسباب الثلاثة راجعة في التحصيل إلى وجه واحد وهو: الجهل بمقاصد الشريعة، والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت أو الأخذ فيها بالنظر الأول، ولا يكون ذلك من راسخ في العلم، ألا ترى أن الخوارج كيف خرجوا عن الدين كما يخرج السهم من الصيد المرمي؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفهم بأنهم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يعني - والله أعلم - أنهم لا يتفقهون به حتى يصل إلى قلوبهم لأن الفهم راجع إلى القلب، فإذا لم يصل إلى القلب لم يحصل فيه فهم على حال وإنما يقف عند محل الأصوات والحروف فقط، وهو الذي يشترك فيه من يفهم ومن لا يفهم" (4). فالجهل بدين الله، وعدم البصيرة فيهن وترك التفقه في الكتاب والسنة، وعدم التعويل عليهما، والرجوع إليهما في مسائل الدين، أصل كل ضلال، وجميع ما مر بنا من بدع وأخطاء ومخالفات في مسائل الإيمان، وكذلك ما لم يمر فيه وفي غيره، مرجعه الرئيس وأساسه الأول، هو هذا. وما أجمل ما كان يردده شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مناسبات عديدة إذ يقول: "من فارق الدليل ضل السبيل، ولا دليل إلا بما جاء به الرسول" (5). وفقنا الله للتمسك بكتاب والاعتصام بسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وحمانا بمنه وكرمه من البدع والأهواء المضلة. المصدر: زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر - ص 427   (1) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (2/ 442، 444) باختصار. (2) انظر ((العقيدة الواسطية)) لابن تيمية (ص151) (بشرح الهراس) وانظر ((الفتاوى)) (7/ 241). (3) انظر ((التنكيل)) للمعلمي (2/ 364). (4) ((الاعتصام)) (2/ 182). (5) ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (ص90). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 المبحث العاشر: في ذكر هل الخلاف في هذه المسألة عائد إلى الخلاف في تعريف الإيمان أم لا؟ ذهب جماعة من المتكلمين منهم الرازي والجويني وغيرهما إلى أن الخلاف في مسالة زيادة الإيمان ونقصانه عائد إلى الخلاف في تعريف الإيمان، أي أن من قال إن الإيمان اعتقاد وقول وعمل فالإيمان عنده يزيد وينقص باعتبار زيادة الأعمال ونقصانها، ومن أخرج العمل من مسمى الإيمان عنده لا يزيد ولا ينقص لعدم إمكان حصول الزيادة والنقصان في التصديق لما يقتضيه في رأيهم من الشك والريب (1).قال الجويني: "فمن أطلق اسم الإيمان على الطاعات كلها يقول على مساق أصله يزيد الإيمان بزيادة الطاعات وينقص بنقصها، ومن قال الإيمان هو التصديق فمن علم وعرف حقاً فلم يتفاوت التصديق بالأعمال زادت أو نقصت" (2).وقال البيهقي في باب "القول في زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل أهل الإيمان في إيمانهم" من شعبه: "وهذا يتفرع على قولنا في الطاعات أنها إيمان، وهو أنها إذا كانت إيماناً كان تكاملها تكامل الإيمان وتناقصها تناقص الإيمان، وكان المؤمنون متفاضلين في إيمانهم كما هم يتفاضلون في أعمالهم" (3).وقال الإيجي: "قال الإمام الرازي وكثير من المتكلمين: هو فرع تفسير الإيمان، فإن قلنا هو التصديق فلا يقبلها لأن الواجب هو اليقين وأنه لا يقبل التفاوت لأن التفاوت إنما هو لإحتمال النقيض وهو لو بأبعد وجه ينافي اليقين، وإن قلنا هو الأعمال فيقبلهما وهو ظاهر" (4). وجميع هؤلاء بنوا قولهم المذكور على أصل فاسد عندهم وهو أن التصديق لا يقبل الزيادة أو النقصان، وقد سبق أن رددت هذا القول وبينت فساده بالنقل عن العلماء المحققين في ذلك، بما لا يدع مجالاً للتردد في أن التصديق يقبل الزيادة والنقصان دون أن يقتضي ذلك شكاً أو ريباً في الإيمان. لكن أضيف إلى ما تقدم أمرين: الأول: ما ذكره السفاريني حول هذه المسألة على الخصوص حيث قال:"هل قبول الإيمان للزيادة والنقص مختص بقول السلف ومن تبعهم إن الإيمان تدخل فيه الأعمال .. أو يعم القول بأن الإيمان التصديق أيضاً؟ الحق كما قاله النووي وجماعة محققون من علماء الكلام أن الزيادة والنقصان تدخل الإيمان ولو قلنا: إنه التصديق والإذعان لأن التصديق القلبي يزيد وينقص أيضاً بكثرة النظر ووضوح الأدلة وعدم ذلك ... وما اعترض عليه به من أنه متى قبل ذلك كان شكاً، فمدفوع بأن مراتب اليقين متفاوته إلى علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، مع أنها لا شك معها ... " (5). ثم ذكر بعض النصوص المؤيدة لذلك. الثاني: ما ذكره الألوسي بعد أن أشار إلى القول المتقدم حيث قال:   (1) أنظر ((العقيدة النظامية)) للجويني (ص388)، و ((شعب الإيمان)) للبيهقي (1/ 159)، و ((المواقف)) للإيجي (ص388)، و ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص125)، و ((النبراس شرح العقائد)) للفرهاري (ص405)، و ((روح المعاني)) للألوسي (9/ 116)، و ((عمدة القاري)) للعيني (1/ 107)، و ((فيض الباري)) للكشميري (1/ 62)، و ((الإيمان)) لمحمد نعيم ياسين (ص151). (2) ((العقيدة النظامية)) للجويني (ص90). (3) ((شعب الإيمان)) للبيهقي (1/ 159). (4) ((المواقف)) للإيجي (ص 388). (5) ((لوامع الأنوار البهية)) (1/ 430، 431). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 "واعترض على هذا بأن عدم قبول الإيمان الزيادة والنقص على تقدير كون الطاعات داخلة في مسماه أولى وأحق من عدم قبوله ذلك إذا كان مسماه التصديق وحده، أما أولاً فلأنه لا مرتبة فوق كل الأعمال لتكون زيادة ولا إيمان دونه ليكون نقصاً، وأما ثانياً فلأن أحداً لا يستكمل الإيمان حينئذ والزيادة على ما لم يكمل بعد محال. وأجيب بأن هذا إنما يتوجه على المعتزلة والخوارج القائلين بانتقاء الإيمان بانتفاء شيء من الأعمال، ونحن إنما نقول: إنها شرط كمال فيه، فلا يلزم عند الانتفاء الكمال، وهو غير قادح في أصل الإيمان" (1). قلت: وإنما سقت الاعتراض مع الجواب عنه ليعلم فقط، لا لكونه متوجهاً. ثم قال الألوسي: "والحق أن الخلاف حقيقي وأن التصديق يقبل التفاوت بحسب مراتبه فما المانع من تفاوته قوة وضعفاً كما في التصديق بطلوع الشمس والتصديق بحدوث العالم وقلة وكثرة كما في التصديق الإجمالي والتصديق التفصيلي المتعلق بالكثير ... " (2). وقال: "قال النووي وجماعة محققون من علماء الكلام: إن التصديق القلبي يزيد وينقص أيضاً بكثرة النظر ووضوح الأدلة وعدم ذلك، ولهذا كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريه الشبه، ويؤيده أن كل واحد يعلم أ، ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقيناً وإخلاصاً منه في بعضها فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها. واعترض بأنه متى قبل ذلك كان شكاً، ودفع بأن مراتب اليقين متفاوته إلى علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين، مع أنها لا شك معها، وممن وافق النووي على ما جزم به السعد في القسم الثاني من تهذيبه" (3). قلت: وبهذا يعلم فساد حمل القول بزيادة الإيمان ونقصانه على القول بإدخال العمل في مسمى الإيمان، لكن أزيد الأمر بياناً وتأكيداً فأقول: إن القول بأن الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه عائد إلى تعريف الإيمان متعقب من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: هو أن السلف وقد قالوا بدخول العمل في مسمى الإيمان لا يرون أن الزيادة والنقصان فيه متعلقة بالأعمال فقط، وإنما هو يزيد وينقص عندهم باعتبارات معتددة وبأوجه مختلفة سبق ذكرها والتدليل عليها في مبحث مستقل. فعلى هذا فالقول بزيادة الإيمان ونقصانه عند السلف ليس مبنياً على إدخال الأعمال في مسمى الإيمان. الثاني: أن بعض من اعتبر أن الإيمان هو التصديق فقط والعمل خارج من مسماه، يقولون بزيادة الإيمان ونقصانه لكونهم يرون أن التصديق يزيد وينقص، وقد سبقت الإشارة إلى بعضهم. وعليه أيضاً فالقول بزيادة الإيمان ونقصانه لا تعلق له عندهم في دخول العمل في مسمى الإيمان. الثالث: أن الخوارج والمعتزلة وقد قالوا بدخول العمل في مسمى الإيمان يرون أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، مع أن الأعمال داخلة فيه، كما سبق ذكر مذهبهم. فلا تأثير إذن لدخول الأعمال في مسمى الإيمان عندهم على زيادة الإيمان ونقصانه. بقي أن يقال إن المرجئة القائلين بأن الإيمان هو التصديق وحده، أو هو التصديق والقول، والعمل خارج من مسماه، والقائلين بأن التصديق لا يقبل الزيادة والنقصان مطلقاً، قد رأوا أن الأعمال تزيد وتنقص وتتفاضل لكنها خارجة عن مسماه عندهم، فتوهموا أن من أدخل العمل في مسماه قال بزيادة الإيمان ونقصانه لذلك، وأن من أخرج العمل من مسماه قال بأنه لا يزيد ولا ينقص، وعليه رأوا أن الخلاف في المسألة يرجع إلى الخلاف في تعريف الإيمان ومن ثم أيضاً رأوا أن الخلاف في المسألة لفظي، فكل ذلك نتج بسبب ذاك التوهم ولقد انطبق عليهم في هذا قول القائل: "أناس مضوا تحت التوهم ظنوا أن الحق معهم وكان الحق وراءهم" (4)!!. المصدر: زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر - ص 435   (1) ((روح المعاني)) للألوسي (9/ 166، 167)، و (26/ 92، 93). (2) ((روح المعاني)) للألوسي (9/ 167). (3) ((روح المعاني)) للألوسي (26/ 93). (4) انظره في ((سير أعلام النبلاء)) (17/ 121)، وقد تعتب الذهبي قائله بتعقب مليح، فليطالع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 المبحث الحادي عشر: في الكلام عن الخلاف في هذه المسألة هل هو لفظي أو حقيقي؟ كأن معالم هذا الموضوع والقول الفصل فيه بان واتضح في عطف المبحث السابق، لكن ذلك لا يمنع من أن نفرده هنا ليأخذ نصيبه من البحث والتجلية، وبخاصة أنني قد وقفت على كم هائل من أقوال للمتكلمين يزعمون فيها أن الخلاف في هذه المسألة لفظي وليس حقيقياً، وصوري وليس جوهرياً (1). وهذا القول منهم مبني على وهمهم السابق الذي تقدم التنبيه عليه وعلى غلطه. ولا أطيل بالنقل عن كل من وقفت على أنه قال بذلك، وإنما اكتفي بالإشارة على بعضهم فقط ولا سيما وأن دعوى الجميع واحدة وشبهتهم متكررة وهي: إعادتهم الخلاف في المسألة إلى الخلاف في تعريف الإيمان. قال الكستلي في حاشيته على النسفية: "ولهذا ذهب الإمام الرازي وكثير من المتكلمين إلى أن هذا النزاع لفظي، راجع على تفسير الإيمان وهو التحقيق الذي يجب أن يعول عليه" (2).وقال الفرهاري في النبراس شرح العقائد: "وملخص كلامهم أن النزاع لفظي لأنه فرع تفسير الإيمان، فإن قلنا الإيمان هو التصديق فلا يقبل التفاوت إنما هو في الظن، وإن قلنا الأعمال داخلة فيه فهو يقبله" (3).وقال كمال بن أبي شريف: "فلا خلاف في المعنى بين القائلين بقبوله الزيادة والنقصان والنافين لذلك" (4).وقال الزبيدي في الإتحاف: "وجدت بخط بعض المحصلين ما نصه: قال الإمام البحث في زيادة الإيمان ونقصانه لفظي لأنه إن كان المراد بالإيمان التصديق فلا يقبلهما، وغن كان الطاعات فيقبلهما، فالطاعات مكملة للتصديق، فكلما قام من الدليل على أن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان كان مصروفاً إلى أصل الإيمان الذي هو التصديق وكل ما دل على كون الإيمان يقبل الزيادة والنقصان فهو مصروف إلى الكامل وهو المقرون بالعمل" (5). فهكذا يزعم جميع هؤلاء وغيرهم أن الخلاف في المسألة لفظي، وإنني لأستاءل كيف يكون لفظياً وهو يناقض القرآن والسنة، ويخالفهما تماماً، وهو على الضد تماماً لما جاء فيهما، حتى أوقع أهله في مصادمات صريحة ومعارضات واضحة لنصوص الوحي المصرحة بزيادة الإيمان ونقصانه، مما أداهم إلى التكلف في تأويلها وصرفها عن ظاهرها، وعدم التسليم لها، كما سبق تفصيله وبيان ما ترتب عليه من فساد وشر في مبحث مستقل، فلو كان كما يقولون إنه لفظي فما الداعي إلى تلك التأويلات المتكلفة والتعسفات الواضحة في حمل النصوص على غير ظواهرها، أفلا أراحوا المسلمين من ذاك الغثاء إن كان الخلاف لفظياً؟ بل كيف يكون لفيظاً والقولان متضادان تماماً ومتغايران، أحدهما ينفي، والآخر يثبت في شيء واحد فهل من جمع بين ضدين أو تأليف بين نقيضين، فلو قال أحد - على سبيل المثال - عن شيء هو موجود، وقال غيره هو غير موجود، هل يمكن أن يقال إن خلافهما لفظي، إلا بتفلسفات متعسفة أو منطقيات متكلفة، ما أنزل الله بها من سلطان.   (1) أنظر ((المسامرة شرح المسايرة)) (ص373)، و ((النبراس شرح العقائد)) (ص405)، و ((الإتحاف السادة المتقين)) (2/ 261)، و ((حاشية الكستلي على النسفية)) (ص158)، و ((جوهرة التوحيد)) (ص12)، و ((فيض الباري)) (1/ 59، 63، 64)، و ((تحفة القارئ)) (ص48، 56)، و ((قواعد في علوم الحديث99 للتهانوي (ص235)، و ((الإيمان)) لمحمد نعيم ياسين (ص151)، وغيرها. (2) ((حاشية الكستلي على النسفية)) (ص158). (3) ((النبراس)) (ص405). (4) ((المسامرة شرح المسايرة)) (ص373). (5) ((إتحاف السادة المتقين)) (2/ 261). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 وكيف يكون الخلاف لفظياً وقولهم هذا يؤدي إلى إضعاف الإيمان، وعدم الاكتراث بأموره، والتهوين من شأن زيادته وقوته، فإن العلماء إذا قالوا للناس إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وأهله متساوون فيه، وإيمان جبريل والأنبياء وإيمان أفجر الناس واحد، ولا تفاضل بين الناس في الإيمان فهل ينتظر بعد ذلك من الناس الإقبال على أمور الإيمان ومتطلباته علماً وعملاً، لا إخال ذلك يحصل البتة. ولهذا يقول المعلمي رحمه الله تعالى في رده على الكوثري: "وهذا القول - أي أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، والأعمال ليست من الإيمان - قد كان أبو حنيفة يقوله، لكن يقول الكوثري إنه مع ذلك مخالف للمرجئة في أصل قولهم، وهو أنه لا يضر مع الإيمان عمل، ولا غرض في النظر في هذا وتتبع الروايات. بل أقول: تلك الموافقة التي يعترف بها تكفي لتبرير إنكار الأئمة، أما من لم يعرف منهم أن أبا حنيفة وإن وافق المرجئة في ذاك القول فهو مخالف لهم في أصل قولهم، فعذره في إنكاره واضح، وأما من عرف يكفي لإنكار القول أنه مخالف للأدلة كما يأتي، وأنه قد يسمعه من يتقدي بأبي حنيفة ولا يعلم قوله أن أهل المعاصي يعذبون فيغتر بذلك، وقد يبلغ بعضهم قولاه معاً فلا يلتفتون إلى الثاني بل يقولون: رأس الأمر الإيمان، فإذا كان إيمان الفجار مساوياً لإيمان الأنبياء والملائكة ففيم العذاب، وقد دلت النصوص على أن المؤمنين لا يعذبون؟! ويحملهم ذلك على التهاون بالعمل، يقول أحدهم لم أعذب نفسي في الدنيا بما لا يزيد في إيماني شيئاً، حسبي أن إيماني مساو لإيمان جبريل ومحمد عليهما السلام! ويحملهم ذلك على احتقار الملائكة والأنبياء والصديقين، قائلين: أعظم ما عندهم الإيمان، وأفجر الفجار مساو لهم فيه! وإذا كان أبو حنيفة كما يقول الكوثري يرى أن الإيمان هو الاعتقاد القلبي الجازم، وأنه لا يزيد ولا ينقص، فقد يبلغ هذا بعض الناس فيقول: إذا كنت لا أصير مؤمناً إلا بأن يكون يقيني مساوياً ليقين جبريل ومحمد عليهما السلام فهذا ما لا يكون، ففيم إذا أعذب نفسي بالأعمال فأجمع عليها عذاب الدنيا وعذاب الآخرة؟! وبعد فيكفي مبرراً لإنكار ذاك القول مخالفته للنصوص الشرعية" (1). قلت: وليتأمل كلامه رحمه الله فهو يدل على علم جم، وفهم ثاقب، ومعالجات حكيمة، أسكن الله قائله فراديس جناته. ولهذا صرح بعض محققي هؤلاء بأن الخلاف في المسألة جوهري وليس لفظياً، كما سبق النقل عن بعضهم في ذلك، مثل النووي والألوسي وغيرهما، حتى إن الألوسي رحمه الله قال: "والحق أن الخلاف حقيقي، وأن التصديق يقبل التفاوت ... وما على إذا خالفت في بعض المسائل مذهب الإمام الأعظم أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه، للأدلة التي لا تكاد تحصى، فالحق أحق بالإتباع، والتقليد في مثل هذه المسائل من سنن العوام" (2). ثم كيف يكون الخلاف لفظياً وقد كفر بعض هؤلاء من قال إن الإيمان يزيد وينقص وبدعوه، وحرموا تزويجه، وتجرأوا بذلك على صدر هذه الأمة من صحابة وتابعين الخيار العدول، فالقول بزيادة الإيمان ونقصانه قولهم، والكتاب والسنة هو مستندهم فيه، فهل يجرؤ على تبديع هؤلاء فضلاً عن تكفيرهم إلا من سفه نفسه وحكم بغيهاظ؟! ولئن عد الخلاف مع بعض هؤلاء لفظياً - تجوزاص - لخفه غلطهم عن غيرهم ممن زاد في الغلو وأوغل في الضلال، فإنه لا يعد كذلك بأي حال من الأحوال ولا أي وجه من الوجوه مع أولئك الذين أوغلوا في الضلال فكفروا من قال إن الإيمان يزيد وينقص وبدعوه، وكذبوا في ذلك أحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقحموا أموراً عظاماً، ورزاياً جساماً، وهم كثر.   (1) ((التنكيل)) (2/ 365). (2) ((روح المعاني)) (9/ 167). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 فإن البون بين هؤلاء وبين أهل السنة شاسع، والهوة عميقة، ولا مهاودة في الأمر، إلا أن يخوضوا في حديث غيره، ويعيدوا الأمر على نصابه. وتأكيداً لما أقرره هنا من أن الخلاف في المسالة جوهري حقيقي وليس لفظياً صورياً، أذكر نقلين مهمين عن عالمين جليلين، من فحول علماء عصرنا، هما سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، وفضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، حفظهما الله وأمد في عمرهما على طاعته. قال الشيخ عبدالعزيز بن باز حفظه الله معلقاً على قول الطحاوي: "والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان"."هذا التعريف فيه نظر وقصور، والصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر، وقد ذكر الشارح ابن أبي العز جملة منها فراجعها إن شئت، وإخراج العمل من الإيمان هو قول المرجئة، وليس الخلاف بينهم وبين أهل السنة فيه لفظياً، بل هو لفظي ومعنوي، ويترتب عليه أحكام كثيرة، يعلمها من تدبر كلام أهل السنة وكلام المرجئة والله المستعان" (1). وقال الشيخ الألباني حفظه الله معلقاً على الموضع نفسه: "قلت: هذا مذهب الحنفية والماتريدية، خلافاً للسلف وجماهير الأئمة كمالك، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، وغيرهم، فإن هؤلاء زادوا على الإقرار والتصديق: العمل بالإركان وليس الخلاف بين المذهبين اختلافاً صورياً كما ذهب إليه الشارح رحمه الله تعالى, بحجة أنهم جميعاً اتفقوا على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج عن الإيمان، وأنه في مشيئة الله إن شاء الله عذبه وإن شاء الله عفا عنه، فإن هذا الاتفاق وإن كان صحيحاً، فإن الحنفية لو كانوا غير مخالفين للجماهير مخالفة حقيقية في إنكارهم أن العمل من الإيمان، لاتفقوا معهم على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن زيادته بالطاعة، ونقصه بالمعصية، مع تضافر أدلة الكتاب والسنة والآثار السلفية على ذلكن وقد ذكر الشارح طائفة طيبة منها، ولكن الحنفية أصروا على القول بخلاف تلك الأدلة الصريحة في الزيادة والنقصان، وتكلفوا في تأويلها تكلفاً ظاهراص، بل باطلاً، ذكر الشارح نموذجاً منها.   (1) انظر "تعليقاته على" ((الطحاوية)) (1/ 265) من "مجموع فتاواه ومؤلفاته". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 بل حكى عن أبي المعين النفسي أنه طعن في صحة حديث "الإيمان بضع وسبعون شعبة" .. مع احتجاج كل أئمة الحديث به ومنهم البخاري ومسلم في "صحيحهما"! وهو مخرج في "الصحيحة" "1769" وما ذلك إلا لأنه صريح في مخالفة مذهبهم! ثم كيف يصح أن يكون الخلاف المذكور صورياً، وهم يجيزون لأفجر واحد نهم ان يقول: إيماني كإيمان أبي بكر الصديق! بل كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبريل وميكائيل عليهم الصلاة والسلام! كيف وهم بناءاً على مذهبهم هذا لا يجيزون لأحدهم - مهما كان فاسقاً فاجراً - أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، بل يقول أنا مؤمن حقاً! والله عز وجل يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 2 - 4]. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً [النساء: 122] وبناء على ذلك كله اشتطوا في تعصبهم فذكروا أن من استثنى في إيمانه فقد كفر! وفرعوا عليه أنه لا يجوز للحنفي أن يتزوج بالمرأة الشافعية! وتسامح بعضهم - زعموا - فأجاز ذلك دون العكس، وعلل ذلك بقوله: تنزيلاً لها منزلة أهل الكتاب! وأعرف شخصاً من شيوخ الحنفية خطب ابنته رجل من شيوخ الشافعية فأبي قائلاً ... لولا أنك شافعي! فهل بعد هذا مجال للشك في أن الخلاف حقيقي؟ " (1). وبهذا التحقيق الجيد، يعلم أن الخلاف في المسألة حقيقي جوهري، وبخاصة أنه قد أدى إلى ما أدى إليه ما انحراف ظاهر وضلال بين، وصار ذريعة إلى بدع أهل الكلام وإلى ظهور الفسق والغلط، في جوانب عديدة. قال شيخ الإسلام: "فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله ولا سيما وقد صار ذلك الخلاف ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم وإلى ظهور الفسق" (2).ولهذا فإن سلفنا الصالح اشتد نكيرهم على هذا القول من أول حدوثه، رغم خفته عما هو عليه الآن، فلما قال به حماد بن أبي سليمان وهو أول من قال به، ثم تبعه عليه من تبعه من أهل الكوفة وغيرهم، أنكر عليهم السلف أشد الإنكار وأغلظوا القول فيهم، كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حيث قال: "ثم إن السلف والأئمة اشتد إنكارهم على هؤلاء وتبديعهم وتغليظ القول فيهم، ولم أعلم أحداً منهم نطق بتكفيرهم، بل هم متفقون على أنهم لا يكفرون في ذلك وقد نص أحمد وغيره من الأئمة على عدم تكفير هؤلاء المرجئة، ومن نقل عن أحمد أو غيره من الأئمة تكفيراً لهؤلاء، أو جعل هؤلاء من أهل البدع المتنازع في تكفيرهم فقد غلط غلطاً عظيماً والمحفوظ عن أحمد وأمثاله من الأئمة إنما هو تكفير الجهمية المشبهة وأمثال هؤلاء" (3).ومرادي من هذا النقل التدليل على أن السلف الصالح اشتد نكيرهم وأغلظوا القول فيمن قال بالإرجاء، ولهذا سمى أبو عبيد القاسم بن سلام من قال بأن الإيمان يزيد وينقص - وعدد الذين ذكرهم جاوز المائة والثلاثين رجلاً - ومرادهم بذلك إظهار المخالفة لمن قال بعدم الزيادة والنقصان "ذكر من الكوفيين من ذلك أكثر مما ذكر من غيرهم؛ لأن الإرجاء في أهل الكوفة كان أولاً فيهم أكثر، وكان أول من قاله حماد بن أبي سليمان، فاحتاج علماؤها أن يظهروا انكار ذلك، فكثر منهم من قال ذلك" (4).   (1) ((العقيدة الطحاوية شرح وتعليق الألباني)) (ص42، 43). (2) ((الفتاوى)) (7/ 294). (3) ((الفتاوى)) (7/ 507). (4) ((الفتاوى)) (7/ 311). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 ومثل هذا ما رواه اللالكائي بإسناده عن يعقوب بن سفيان: أنه قال: "الإيمان عند أهل السنة: الإخلاص لله بالقلوب والألسنة والجوارح، وهو قول وعمل يزيد وينقص، على ذلك وجدنا كل من أدركنا من عصرنا بمكة والمدينة والشام والبصرة والكوفة". ثم سمى اثنين وثلاثين رجلاً منهم ثم قال: "كلهم يقولون: الإيمان القول والعمل، ويطعنون على المرجئة وينكرون قولهم". فإذا كان إنكار السلف لهذا الأمر بهذه الشدة والكثرة، فهل يقال بعد ذلك إن هذا القول من بدع الألفاظ ومن المخالفات اللفظية فحسب، مع العلم أن النزاع في الأمور اللفظية ليس من دأب المحصلين فضلاً عن هؤلاء الجهابذة والأئمة من السلف الأولين. وهل يكون هذا القول من بدع الألفاظ، رغم أن السلف أنكروه بتلك الشدة وامتلأت كتب السنة بالنقول الكثيرة عنهم وهم يصرحون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، حتى إنه ليحصى عدد من قال ذلك بالألوف، مظهرين بذلك النكير على من قال إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص. فهل كل ذلك الإنكار، وكل تلك الشدة لأمر يعد من بدع الألفاظ. وعليه فإني أقطع بلا تردد بأن هذا القول بدعة محدثة، والبدع كلها ضلال، وأقطع بأن من خالف في ذلك فقد خالف في أمر جوهري أساسي، ينكر عليه، ولا يتهاود معه، حتى يعود إلى الحق والصواب، وهذا من النصيحة له، حتى تبقى رابطة الأخوة الإيمانية وعلائق المحبة الصادقة، المبنية على طاعة الله تعالى، وأتباع رسوله صلى الله عليه وسلم. وبهذه المناسبة أقول: إني لأعجب كثيراً من الناس في زماننا هذا تصدوا للدعوة إلى الله، وبذلوا جهودهم وأوقاتهم لها، يقفون من أمور العقيدة ومسائلها مواقف مخذولة، فيميعون مسائلها ويهونون من شأن المخالفة فيها، ويعدون المخالفين لأهل السنة في أمور من صلب الاعتقاد وجوهره، مخالفين في أمور شكلية لفظية، طالما أنهم يشهدون بكلمة التوحيد ويقرون بالرسالة في الجملة بغض النظر عن التفاصيل. وليس هذا فحسب بل يقررون في ذلك قواعد كلية يبنون عليها مناهجهم ويحتكمون إليها في أمورهم، وأيم الله إنها لقواعد جائزة ما أنزل الله بها من سلطان، ومن هذه القواعد تلك القاعدة المشهورة، والتي تبنتها جماعة كبيرة متصدية للدعوة في عصرنا الحاضر، تلكم القاعدة هي قولهم: "نجتمع فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلف فيه". والحق يقال: إن هذه القاعدة تحمل في طياتها خطراً عظيماً، وضرراً جسماً ينبغي الحذر والتحذير منه، حيث أنها تعني السكوت عن أهل البدع والأهواء، وعدم مصارمتهم ومعاداتهم وبغضهم، بل تعني أنهم يحبون ويوالون ويجالسون ويعاملون معاملة أهل السنة سواء، فمواضع الخلاف بيننا وبينهم نعذرهم فيها على حد تعبير هذه القاعدة، ومن ثم لا نعلن النكير عليهم ولا ننبه المسلمين على خطرهم وضررهم. وعندئذ لا تسأل عن نشاط أهل البدع في نشر بدعهم وترويج باطلهم، إذ الطريق أمامهم سالكة، فليس هناك من ينكر أو يعكر عليهم نشاطهم، فينشرون باطلهم ويسعون في الأرض بالفساد، بكل راحة نفس وطمأنينة قلب، ونفوس أهل هذه القاعدة المنشرحة لهم فيقابلون هؤلاء بطلاقة الوجه، ورحابة الصدر، وحسن المعاملة، ثم يزعمون أن فعلهم هذا من الحكمة في الدعوة إلى الله!! "ومعاذ الله أن تكون الدعوة على سنن الإسلام مظلة يدخل تحتها أي من أهل البدع والأهواء، فيغض النظر عن بدعهم وأهوائهم على حساب الدعوة" (1). والحق أن هؤلاء مكر الشيطان بهم بخفاء، ودبر أمرهم بدهاء، فأوقعهم في الإساءة من حيث أرادوا الإحسان، قال ابن القيم رحمه الله بعد أن بين أن هذا مدخل من مداخل الشيطان على أهل السنة والإيمان:" .... ومن ههنا وصى أطباء القلوب الإعراض عن أهل البدع، وأن لا يسلم عليهم، ولا يريهم طلاقة وجهه، ولا يلقاهم إلا بالعبوس والإعراض" (2). ثم إنه نتيجة لحكمة هؤلاء المزعومة، أطل أهل الأهواء برؤوسهم، وشمخوا بأنوفهم، وصاروا يمكرون بالسنة وأهلها علناً وجهراً، من بعد ما كانوا يكيدون لها في السر والخفاء، مع الخوف والوجل، فكل هذا وغيره إنما حصل بسبب مثل هذه المواقف المخذولة، والآراء المهزوزة والله وحده المستعان. المصدر: زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر - ص 441   (1) ((حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية)) للشيخ بكر أبو زيد (ص 153). (2) ((إغاثة اللهفان)) (1/ 140). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 المبحث الأول: الاستثناء في الإيمان عند مرجئة الفقهاء اختلفت مذاهب الناس في الاستثناء في الإيمان، وقد حكاها شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، فقال: "وصار الناس في الاستثناء على ثلاثة أقوال: قول: أنه يجب الاستثناء، ومن لم يستثن كان مبتدعا. وقول: أن الاستثناء محظور، فإنه يتقضي الشك في الإيمان. والقول الثالث - أوسطها وأعدلها -: أنه يجوز الاستثناء باعتبار، وتركه باعتبار" (1). ومرجئة الفقهاء من القائلين بتحريم الاستثناء في الإيمان، فلا يجوز عندهم أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وما شابه ذلك من الألفاظ الدالة على تعليق الإيمان بالمشيئة. يقول شيخ الإسلام: "وأنكر حماد بن أبي سليمان ومن اتبعه، تفاضل الإيمان، ودخول الأعمال فيه، والاستثناء فيه، وهؤلاء من مرجئة الفقهاء" (2).ويقول: "وأبو حنيفة وأصحابه لا يجوزون الاستثناء في الإيمان" (3). وأما حجتهم على ما ذهبوا إليه في الاستثناء، فذكرها شيخ الإسلام متبعا لها بالجواب والرد، وهذا عرض لذلك: أولاً: قالوا: إن الإيمان هو الإيمان الموجود فينا، ونحن نقطع بأنا مصدقون، فالاستثناء شك (4).وهذه حجة مشتركة بين المانعين للاستثناء من المرجئة، يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "المؤمن يعلم من نفسه أنه لا يكذب الله ورسوله يقينا، وهذا مستند من قال: أنا مؤمن حقا، فإنه أراد بذلك ما يعلمه من نفسه من التصديق الجازم" (5).ويقول: "وقالت المرجئة، والمعتزلة: لا يجوز الاستثناء فيه - يعني الإيمان -، بل هو شك" (6). والجواب عن هذا بأن المستثنى لم يرد وقوعه على أصل الإيمان، ولا على ما يجب الجزم به، ثم لو أراد وقوعه على ما يجب الجزم به لجاز له ذلك، وقد تقدم بحمد الله تحرير ذلك. وقد نبه شيخ الإسلام على أن جزم المرجئة في الإيمان مبني على كونهم يرون أن الإيمان شيء متماثل في جميع أهله، مثل كون كل إنسان له رأس، فيقول: أحدهم: أنا مؤمن حقا، وأنا مؤمن عند الله، ونحو ذلك. ومن جزم بالإيمان على هذا الوجه، فقد أخرج الأعمال الباطنة والظاهرة عن الإيمان، وهذا منكر من القول وزور عند الصحابة والتابعين، ومن اتبعهم من سائر المسلمين (7). ثانيا: قالوا إن الإيمان إذا علق بالشرط فإنه كسائر المعلقات لا يحصل إلا عند حصول الشرط، والإيمان قد حصل، فلا حاجة لتعليقه بشرط المشيئة. وقالوا: لأن الاستثناء عقب الكلام يرفع الكلام، فكذلك الاستثناء عقب الإيمان يرفع الإيمان (8). وهذه الشبهة تكلم عليها شيخ الإسلام رحمه الله بكلام مطول هذا ملخصه: قال رحمه الله: "وأبو حنيفة وأصحابه لا يجوزون الاستثناء في الإيمان، بكون الأعمال منه، ويذمون المرجئة، والمرجئة عندهم الذين لا يوجبون الفرائض، ولا اجتناب المحارم، بل يكتفون بالإيمان. وقد علل تحريم الاستثناء فيه بأنه لا يصح تعليقه على الشرط؛ لأن المعلق على الشرط لا يوجد إلا عند وجوده، كما قالوا في قوله: أنت طالق إن شاء الله. فإذا علق الإيمان بالشرط، كسائر المعلقات بالشرط، لا يحصل إلا عند حصول الشرط.   (1) ((الفتاوى)) (13/ 40). (2) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 507)، (ص372) ط. ابن الجوزي. (3) ((مجموع الفتاوى)) (13/ 42)؛ وانظر منها (7/ 666 – 35/ 313). (4) انظر: ((الفتاوى)) (13/ 40). (5) ((الإيمان)) (ص290) ((الفتاوى)) (7/ 306). (6) ((الفتاوى)) (7/ 666). (7) انظر: ((الإيمان)) (ص358 - 359) ((الفتاوى)) (7/ 375). (8) انظر: ((الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية))، لأبي عذبة، تحقيق عبدالرحمن عميرة، الطبعة الأولى 1409هـ، دار عالم الكتب ببيروت، (ص10). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 قالوا: وشرط المشيئة الذي يترجاه القائل لا يتحقق حصوله إلى يوم القيامة، فإذا علق العزم بالفعل على التصديق والإقرار، فقد ظهرت المشيئة، وصح العقد، فلا معنى للاستثناء. ولأن الاستثناء عقيب الكلام يرفع الكلام، فلا يبقى الإقرار بالإيمان والعقد مؤمنا، وربما يتوهم هذا القائل القارن بالاستثناء على الإيمان بقاء التصديق، وذلك يزيله. قلت: فتعليلهم في المسألة إنما يتوجه فيمن يعلق إنشاء الإيمان على المشيئة، كالذي يريد الدخول في الإسلام، فيقال له: آمن، فيقول: أنا أؤمن إن شاء الله، أو: آمنت إن شاء الله، أو: أسلمت إن شاء الله، أو: أشهد إن شاء الله أن لا إله إلا الله، وأشهد إن شاء الله أن محمدا رسول الله. والذين استثنوا من السلف والخلف لم يقصدوا في الإنشاء، وإنما كان استثناؤهم في إخباره عما قد حصل له من الإيمان"، ثم ذكر رحمه الله دوافع الاستثناء عند من استثنى، وتقدم بيانها، ثم قال: "وأما الإنشاء فلم يستثن فيه أحد، ولا شرع الاستثناء فيه، بل كل من آمن وأسلم، آمن وأسلم جزما بلا تعليق. فتبين أن النزاع في المسألة قد يكون لفظيا، فإن الذي حرمه هؤلاء، غير الذي استحسنه وأمر به أولئك"، ثم قال شيخ الإسلام: "وما أعرف أحدا أنشأ الإيمان، فعلقه على المشيئة، فإذا علقه: فإن كان مقصوده أنا مؤمن إن شاء الله: أنا أؤمن بعد ذلك، فهذا لم يصر مؤمنا. مثل الذي يقال له: هل تصير من أهل دين الإسلام؟ فقال: أصير إن شاء الله، فهذا لم يسلم، بل هو باق على الكفر. وإن كان قصده: أني قد آمنت، وإيماني بمشيئة الله، صار مؤمنا. لكن إطلاق اللفظ يحتمل هذا وهذا، فلا يجوز إطلاق مثل هذا اللفظ في الإنشاء. وأيضا، فإن الأصل أنه إنما يعلق بالمشيئة ما كان مستقبلا، فأما الماضي، والحاضر، فلا يعلق بالمشيئة. والذين استثنوا لم يستثنوا في الإنشاء كما تقدم، كيف، وقد أمروا أن يقولوا: قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ [البقرة: 136]، وقال تعالى: كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ [البقرة: 285]، فأخبر أنهم آمنوا، فوقع الإيمان منهم قطعا بلا استثناء. وعلى كل أحد أن يقول: آمنا بالله وما أنزل إلينا، كما أمر الله بلا استثناء، وهذا متفق عليه بين المسلمين، ما استثنى قط أحد من السلف في مثل هذا. وإنما الكلام إذا أخبر عن نفسه بأنه مؤمن، كما يخبر عن نفسه بأنه بر، تقي". ثم ذكر رحمه الله أن هذا أحد مآخذ السلف في الاستثناء، وذكر المآخذ الأخرى لهم، ثم ختم جوابه بقوله:"والمقصود هنا أن النزاع في هذا كان بين أهل العلم والدين من جنس المنازعة في كثير من الأحكام، وكلهم من أهل الإيمان والقرآن" (1).   (1) ((الفتاوى)) (13/ 42 - 47) باختصار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 ثالثاً: مما احتج به مانعوا الاستثناء حديث الحارث بن مالك، وحديث الوفد، وما روي عن صاحب معاذ بن جبل. فأما حديث الحارث بن مالك رضي الله عنه، ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((كيف أصبحت يا حارث؟ قال: أصبحت مؤمنا بالله حقا، قال صلى الله عليه وسلم: انظر ما تقول، إن لكل قول حقيقة، فما حقيقة إيمانك، قال: يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني بعرش ربي بارزا، أو كأني أنظر إلى أهل الجنة كيف يتزاورون فيها، وكأني انظر إلى أهل النار كيف يتعاوون فيها. قال صلى الله عليه وسلم: أبصرت، فالزم، عبد نوَّر الله الإيمان في قلبه)) (1).وأما حديث الوفد الذين قاموا على النبي صلى الله عليه وسلم، ففيه أنهم قالوا: نحن المؤمنون، قال صلى الله عليه وسلم: ((فما علامة إيمانكم)) (2)، ثم ذكر الحديث. وأما أثر صاحب معاذ، وهو ابن عميرة الزبيدي، فملخصه أنه لما حضرت معاذا رضي الله عنه الوفاة أوصى صاحبه هذا بالأخذ عن ابن مسعود، وبالحذر من زلة العالم، فلما مات معاذ ذهب صاحبه إلى ابن مسعود، فنودي بالصلاة فقال صاحب معاذ: قوموا إلى هذه الدعوة، حق لكل مؤمن سمعه أن يجيبه، فقال له أصحاب عبدالله: وإنك لمؤمن؟ قال: نعم، إني لمؤمن، فتغامزوا به، فلما خرج ابن مسعود، قيل له ذلك، فقال لابن عميرة مثل قولهم، فنكس ابن عميرة رأسه وبكى، وقال: رحم الله معاذا. فأخبر به ابن مسعود، فقال له: إنك لمؤمن؟ قال: نعم، قال: فتقول: إنك من أهل الجنة؟ قال ابن عميرة: رحم الله معاذا، فإنه أوصاني أن أحذر زلة العالم، والأخذ بحكم المنافق، قال: فهل من زلة رأيت؟ قال: نشدتك بالله، أليس النبي صلى الله عليه وسلم كان والناس يومئذ على ثلاث فرق: مؤمن في السر والعلانية، وكافر في السر والعلانية، ومنافق في السر ومؤمن في العلانية، فمن أي الثلاث أنت؟ قال: أما أنا فإذا ناشدتني بالله، فإني مؤمن في السر والعلانية، قال: فلم لمتني حيث قلت إني مؤمن؟ قال: أجل هذه زلتي، فادفنوها علي، فرحم الله معاذا. فالمانعون للاستثناء ظنوا أن هذه الأخبار تدل على ما ذهبوا إليه (3)، وقد أجاب شيخ الإسلام عن ذلك وجهين: الوجه الأول: عدم ثبوت الأخبار. الوجه الثاني: أنها لو صحت، فيحمل القطع بالإيمان فيها على أصله لا كماله، ونحو ذلك من الآخذ المسوغة للقطع بالإيمان. يقول شيخ الإسلام مبينا هذين الوجهين: "وأما جواز إطلاق القول بأني مؤمن، فيصح إذا عني أصل الإيمان دون كماله، والدخول فيه دون تمامه. كما يقول: أنا حاج وصائم لمن شرع في ذلك، وكما يطلقه في قوله: آمنت بالله ورسله، وفي قوله: إن كنت تعني كذا وكذا. فإن جواز إخباره بالفعل يقتضي جواز إخباره بالاسم مع القرينة. وعلى هذا يخرج ما روي عن صاحب معاذ بن جبل، وما روي في حديث الحارث الذي قال: أنا مؤمن حقا، وفي حديث الوفد الذي قالوا: نحن المؤمنون حقا. وإن كان في الإسنادين نظرا" (4). وبخصوص أثر معاذ، فإن الإمام أحمد ضعفه، وأنكر رجوع ابن مسعود رضي الله عنه عن الاستثناء. فإن عبدالله بن مسعود وأصحابه كانوا يستثنون، ولما قيل لابن مسعود (إن قوما يقولون: إنا مؤمنون؟ قال: أفلا سألتموهم أفي الجنة هم؟ وفي رواية: أفلا قالوا: نحن أهل الجنة؟ وفي رواية: قيل له: إن هذا يزعم أنه مؤمن؟ قال: فاسألوه أفي الجنة هو أو في النار؟ فسألوه، فقال: الله أعلم. فقال له عبدالله: فهلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية)؟ (5) المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 459   (1) رواه الطبراني (3/ 266) (3367) , وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (6/ 170) (30425) , قال البيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 3420): منقطع, وقال ابن حجر في ((الإصابة)) (1/ 290): [فيه] يوسف بن عطية الصفار وهو ضعيف جدا, وقال الألباني في ((الإيمان)) لابن أبي شيبة (115): معضل وله طرق أخرى مرسلة وبعضها موصول. (2) قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (4/ 272): إسناده ضعيف. (3) انظر: ((الإيمان)) (ص399) ((الفتاوى)) (7/ 417)؛ و ((الفتاوى)) (7/ 669، 13/ 40). (4) ((الفتاوى)) (7/ 669). (5) انظر: ((الإيمان)) (ص399) ((الفتاوى)) (7/ 417)؛ و ((الفتاوى)) (13/ 40). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 المبحث الثاني: الاستثناء في الإيمان عند الجهمية منعت الجهمية الاستثناء في الإيمان، بحجة أن الاستثناء شك، والواجب في الإيمان القطع، وأن من يستثني هم الشكاكة. يقول شيخ الإسلام: "وأما الاستثناء في الإيمان بقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، فالناس فيه على ثلاثة أقوال: منهم من يوجبه، ومنهم من يحرمه، ومنهم من يجوز الأمرين باعتبارين - وهذا أصح الأقوال -. فالذين يحرمونه هم: المرجئة: والجهمية، ونحوهم ممن يجعل الإيمان شيئا واحدا يعلمه الإنسان من نفسه، كالتصديق بالرب، ونحو ذلك مما في قلبه. فيقول أحدهم: أنا أعمل أني مؤمن، كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين، وكما أعلم أني قرأت الفاتحة، وكما أعلم أني أحب رسول الله، وأني أبغض اليهود والنصارى، فقولي: أنا مؤمن، كقولي أنا مسلم، وكقولي: تكلمت بالشهادتين، وقرأت الفاتحة، وكقولي: أنا أبغض اليهود والنصارى، ونحو ذلك من الأمور الحاضرة التي أنا أعلم بها، وأقطع بها. وكما أنه لا يجوز أن يقال: أنا قرأت الفاتحة إن شاء الله، كذلك لا يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، لكن إذا كان يشك في ذلك، فيقول: فعلته إن شاء الله. قالوا: فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فهو، وسموهم الشكاكة" (1). وما تقدم يبين أن مأخذ المانعين للاستثناء من الجهمية وغيرهم هو وقع الاستثناء على جهة معينة، وهي ما يتيقنه الإنسان في قلبه من الإيمان، وطروء الشك على اليقين ينافيه، فيكون كفرا، فيحرم حينئذ الاستثناء. وقد مر في كلام شيخ الإسلام أهمية معرفة مآخذ الاستثناء في الإيمان؛ إذ بها تنجلي حقيقة الخلاف في هذه المسألة، وأنه يكاد يكون لفظيا؛ فالذي حرمه فريق، غير الذي استحسنه الفريق الآخر. وقد نبه شيخ الإسلام قد الله روحه إلى ما وراء ذلك، مما يتخذه أهل البدع وسيلة لمقاصدهم الفاسدة. فمثلا هنا عند المانعين للاستثناء في الإيمان؛ لعلة أنه شك فيما يجب فيه اليقين بزعمهم، صاروا يوردون هذا السؤال: أمؤمن أنت؟ فيظن الظان أن مقصدهم دفع الشك، وحقيقة الأمر أنه لتقرير مذهبهم في أن الاستثناء في الإيمان شك، والواجب فيه القطع، وتجاهلوا المآخذ الأخرى المجبرة للاستثناء. ولذا نجد أن أئمة السلف منعوا هذا السؤال، وعدوه بدعة (2)، وكرهوا الجواب عليه، أو فصلوا في الجواب. يقول شيخ الإسلام رحمة الله عليه: "وقد كان أحمد وغيره من السلف مع هذا يكرهون سؤال الرجل لغيره: أمؤمن أنت؟، ويكرهون الجواب. لأن هذه بدعة أحدثها المرجئة؛ ليحتجوا بها لقولهم، فإن الرجل يعلم من نفسه أنه ليس بكافر، بل يجد قلبه مصدقا بما جاء به الرسول، فيقول: أنا مؤمن، فيثبت أن الإيمان هو التصديق؛ لأنك تجزم بأنك مؤمن، ولا تجزم بأنك فعلت كل ما أمرت به. فلما علم السلف مقصدهم صاروا يكرهون الجواب، أو يفصلون في الجواب" (3). المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 469   (1) ((الإيمان)) (ص410) ((الفتاوى)) (7/ 429)؛ وانظر: ((الفتاوى)) (13/ 40)؛ وفي نبز المرجئة لأهل السنة بأنهم شكاكة انظر أيضا: ((الفتاوى)) (13/ 111). (2) انظر: ((الشريعة)) (2/ 667، 671، 673)؛ و ((الإبانة)) (2/ 881 - 883)؛ و ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (5/ 988) (رقم 1804). (3) ((الإيمان)) (ص429) ((الفتاوى)) (7/ 448 - 449). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 المبحث الثالث: الاستثناء في الإيمان عند الكرامية يقول شيخ الإسلام عن مذهب الكرامية في الاستثناء في الإيمان:"والكرامية توافق المرجئة والجهمية في أن إيمان الناس كلهم سواء، ولا يستثنون في الإيمان، بل يقولون: هو مؤمن حقا لمن أظهر الإيمان" (1). وهذا إنما هو في الإيمان الحال، وأما في المستقبل، فإنهم يستثون فيه، فقد نقل شيخ الإسلام عن أبي القاسم الأنصاري الأشعري قوله: "ومن أصحابنا من لم يجعل الموافاة على الإيمان شرطا في كونه إيمان حقيقيا في الحال، وإن جعل ذلك شرطا في استحقاق الثواب عليه. وهذا مذهب المعتزلة، والكرامية" (2). وعلى هذا، فمقالة الكرامية في الاستثناء هي أنهم يمنعونه في الحال، ويبيحونه في المآل. وهم بهذا يوافقون الفريق الثاني من الأشاعرة، الذين يوقعون الاستثناء على المستقبل لا الحال، وهو مذهب سيأتي شرحه في المبحث القادم بإذن الله تعالى. وهذا كله امتداد لما قرره شيخ الإسلام من أن الكرامية ليس لهم مذهب انفردوا به في مسائل الإيمان سوى مذهبهم في حقيقته ومسماه. المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 473   (1) ((الإيمان)) (ص135) ((الفتاوى)) (7/ 141). (2) ((الإيمان)) (ص420) ((الفتاوى)) (7/ 441). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 المبحث الرابع: الاستثناء في الإيمان عند الأشاعرة الأشاعرة في مسألة الاستثناء في الإيمان موافقون أهل السنة من جهة، ومخالفون لهم من جهة أخرى. أما جهة الموافقة فهي أنهم يقولون بالاستثناء، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "وأبو الحسن الأشعري نصر قول جهم في الإيمان، مع أنه نصر المشهور عن أهل السنة من أنه يستثنى في الإيمان، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله".ثم علق على هذا الموقف من الأشعري بقوله: "وهو دائما ينصر في المسائل التي فيها النزاع بين أهل الحديث وغيرهم قول أهل الحديث، لكنه لم يكن خبيرا بمآخذهم، فينصره على ما يراه هو من الأصول التي تلقاها عن غيرهم، فيقع في التناقض ما ينكره هؤلاء وهؤلاء" (1).وهذا هو وجه مخالفة الأشاعرة لأهل السنة في مسألة الاستثناء، وهي أنهم بنوه على مأخذ مخالف لمآخذ السلف، إذ بنوه على مسألة الموافاة، وهي ما مات عليه العبد، ووافى ربه به (2).يقول شيخ الإسلام: "وأما الأشعري، فالمعروف عنه، وعن أصحابه: أنهم يوافقون جهما في قوله في الإيمان، وأنه مجرد تصديق القلب أو معرفة القلب، لكن قد يظهرون مع ذلك قول أهل الحديث، ويتأولونه، ويقولون بالاستثناء على الموافاة" (3).ويقول: "فهؤلاء لما اشتهر عندهم عن أهل السنة أنهم يستثنون في الإيمان، ورأوا أن هذا لا يمكن إلا إذا جعل الإيمان هو ما يموت العبد عليه، وهو ما يوافي به العبد ربه، ظنوا أن الإيمان عند السلف هو هذا، فصاروا يحكون هذا عن السلف، وهذا القول لم يقل به أحد من السلف ولكن هؤلاء حكوه عنهم بحسب ظنهم؛ لما رأوا أن قولهم لا يتوجه إلا على هذا الأصل" (4).والأشاعرة لما قالوا بالموافاة (5) انقسموا إلى فريقين: الفريق الأول: جعلوا الموافاة شرطا في صحة الإيمان وحقيقته في الحال، وكونه معتدا به عند الله تعالى، ومن ثم يوجبون الاستثناء في الحال. وإلى هذا ذهب الأشعري، وهو اختيار ابن فورك (6)، ونسبه الأنصاري إلى سلف أصحاب الحديث، والأكثرين (7). وقد نقل شيخ الإسلام عن الأنصاري قوله: "وقد ذكرنا اختلافهم - يعني أصحابه الأشاعرة - في الموافاة، وأن ذلك هل هو شرط في صحة الإيمان وحقيقته في الحال، وكونه معتدا عند الله به وفي حكمه. فمن قال إن ذلك شرط فيه يستثنون في الإطلاق في الحال، لا أنهم يشكون في حقيقة التوحيد والمعرفة، لكنهم يقولون لا يدري أي الإيمان الذي نحن موصوفون به في الحال هل هو معتد به عند الله، على معنى أنا ننتفع به في العاقبة، ونجتني من ثماره. فإذا قيل لهم: أمؤمنون أنتم حقا؟ أو تقولون: إن شاء الله؟ أو تقولون: نرجو؟   (1) ((الإيمان)) (ص115) ((الفتاوى)) (7/ 120). (2) انظر: ((الإيمان)) (ص410، 416 - 417) ((الفتاوى)) (7/ 429، 436 – 437)؛ و ((التسعينية)) (2/ 655). (3) ((النبوات)) (1/ 580)؛ وانظر: ((الإيمان)) (ص419) ((الفتاوى)) (7/ 439)؛ و ((الاستقامة)) (1/ 150)، والقول بالاستثناء هو مذهب الماتريدي. (4) ((الإيمان)) (ص416) ((الفتاوى)) (7/ 436)؛ وانظر منه، (ص413) ((الفتاوى)) (7/ 432). (5) وانظر في كون الأشاعرة بنوا مذهبهم في الاستثناء على مسألة الموافاة: ((تبصرة الأدلة)) (2/ 815)؛ و ((التمهيد لقواعد التوحيد))، (ص147 - 148)؛ و ((شرح المقاصد)) (5/ 216). (6) انظر: ((الإيمان)) (ص417 – 419) ((الفتاوى)) (7/ 437 - 439). (7) انظر: ((الإيمان)) (ص418) ((الفتاوى)) (7/ 438)، و (شرح الإرشاد) 280/أ-ب؛ وانظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 509 - 510)، (ص382) ط. ابن الجوزي؛ و ((الفتاوى)) (4/ 258)؛ وانظر: ((إشارات المرام من عبارات الإمام))، للبياضي الحنفي، تحقيق يوسف عبدالرزاق، الطبعة الأولى 1368هـ، مكتبة الحلبي بمصر، (ص56). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 فيقولون: نحن مؤمنون إن شاء الله، يعنون بهذا الاستثناء تفويض الأمر في (المستقبل) والعاقبة إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما يكون الإيمان إيمانا معتدا به في حكم الله إذا كان ذلك علم الفوز وآية النجاة، وإذا كان صاحبه والعياذ بالله في حكم الله من الأشقياء، يكون إيمانه الذي تحلى به في الحال عارية. قال - يعني الأنصاري -: ولا فرق عند الصائرين إلى هذا المذهب بين أن يقول: أنا مؤمن من أهل الجنة قطعا، وبين أن يقول: أنا مؤمن حقا" (1). ثم ذكر الأنصاري أن من ذهب إلى هذا القول "يتمسك بأشياء منها أن يقال: إن الإيمان عبادة العمر، وهو كطاعة واحدة، فيتوقف صحة أولها على سلامة آخرها، كما تقول في الصلاة والصيام والحج. (وقد قال ابن مسعود: لو قلت إني مؤمن حقا، لقلت إني من أهل الجنة حقا). قالوا: ولا شك أنه لا يسمى في الحال وليا، ولا سعيدا، ولا مرضيا عند الله. وكذلك الكافر لا يسمى في الحال عدوا لله، ولا شقيا، إلا على معنى أنه تجري عليه أحكام الأعداء في الحال؛ لإظهاره من نفسه علامتهم" (2). وقال شيخ الإسلام: "والذين أوجبوا الاستثناء لهم مأخذان: أحدهما: أن الإيمان ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمنا وكافرا باعتبار الموافاة وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به. قالوا: والإيمان الذي يتعقبه الكفر فيموت صاحبه كافرا ليس بإيمان، كالصلاة التي يفسدها صاحبها قبل الكمال، وكالصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب. وصاحب هذا هو عند الله كافر؛ لعلمه بما يموت عليه، وكذلك قالوا في الكفر. وهذا المأخذ هو مأخذ كثير من المتأخرين من الكلابية وغيرهم ممن يريد أن ينصر ما اشتهر عن أهل السنة والحديث من قولهم: أنا مؤمن إن شاء الله، ويريد أن الإيمان لا يتفاضل، ولا يشك الإنسان في الموجود، وإنما يشك في المستقبل" (3). الفريق الثاني من الأشاعرة: لم يجعل الموافاة شرطا في كون الإيمان إيمانا حقيقيا في الحال، بل شرطا في استحقاق الثواب عليه، وعلى هذا فهم يستثنون في المآل لا الحال. وإلى هذا ذهب كثير من الأشاعرة، وخالفوا شيخهم الأشعري في هذه المسألة (4)، وممن قال بهذا القول الباقلاني، والجويني، وأبو إسحاق الاسفراييني، يقول الأنصاري: "ومن أصحابنا من لم يجعل الموافاة على الإيمان شرطا في كونه إيمانا حقيقيا في الحال، وإن جعل ذلك شرطا في استحقاق الثواب عليه. وهذا مذهب المعتزلة، والكرامية، وهو اختيار أبي إسحاق الاسفراييني، وكلام القاضي يدل عليه. قال: وهو اختيار شيخنا أبي المعالي، فإنه قال: الإيمان ثابت في الحال قطعا لا شك فيه، ولكن الإيمان الذي هو علم الفوز وآية النجاة إيمان الموافاة، فاعتنى السلف به، وقرنوه بالاستثناء، ولم يقصدوا الشك في الإيمان الناجز (5).   (1) ((الإيمان)) (ص417 - 418) ((الفتاوى)) (7/ 437 - 438)؛ وهو في: ((شرح الإرشاد)) 280/أ. (2) ((شرح الإرشاد)) (280/ب)؛ وهو في ((الإيمان)) (ص421) ((الفتاوى)) (7/ 441). (3) ((الإيمان)) (ص410 - 411) ((الفتاوى)) (7/ 429 - 430)؛ وانظر: ((الفتاوى)) (11/ 62 - 64)، (16/ 581 - 582)؛ وقد قال بهذا أيضا أبو يعلى. انظر ((الفتاوى)) (7/ 667)؛ و ((مختصر المعتمد الملحق بمسائل الإيمان)) (ص441 - 447، 451). (4) انظر: ((الإيمان)) (ص115) ((الفتاوى)) (7/ 120). (5) انتهى كلام الجويني، وهو في كتابه: ((الإرشاد))، (ص336)؛ وانظر: ((الإنصاف))، للباقلاني، (ص91). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 قال - أي الأنصاري -: ومن صار إلى هذا يقول: الإيمان صفة يشتق منها اسم المؤمن، وهو المعرفة والتصديق، كما أن العالم يشتق من العلم، فإذا عرفت ذلك من نفسي قطعت به كما قطعت بأني عالم وعارف ومصدق. فإن ورد في المستقبل ما يزيله خرج إذ ذاك عن استحقاق هذا الوصف، ولا يقال: تبينا أنه لم يكن إيمانا مأمورا به، بل كان إيمانا مجزئا، فتغير وبطل، وليس كذلك قوله: أنا من أهل الجنة، فإن ذلك مغيب عنه، وهو مرجو" (1). فهذا الفريق من الأشاعرة لا يستثني في الحال، وإنما يستثني في المستقبل؛ لأن مذهبه أن الإيمان الحاضر لا يحتاج لربطه بالمشيئة؛ لصحته، بخلاف الإيمان في المستقبل، فإنه لا يدري بم يختم له به. وما تقدم يكشف أن الأشاعرة اشتركوا في أصل، وافترقوا في تفاصيله، فهم يقولون بالاستثناء؛ تعليلا بالموافاة، ونسبوا ذلك إلى السلف، محتجين بقول ابن مسعود رضي الله عنه لما قيل له: إن قوما يقولون: إنا مؤمنون، فقال: أفلا سألتموهم أفي الجنة هم؟ وفي رواية: قيل له: إن هذا يزعم أنه مؤمن، قال: فاسألوه أفي الجنة هو أو في النار؟ فسألوه، فقال: الله أعلم، فقال له عبدالله: فهلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية؟ وكذلك روي عن عمر رضي الله عنه قوله: من قال: أنا مؤمن فهو كافر، ومن قال أنا عالم فهو جاهل، ومن قال هو في الجنة فهو في النار. قالوا: فلو جاز القطع على أنا مؤمنون لكان ذلك قطعا على أنا في الجنة؛ لأن الله وعد المؤمنين الجنة، ولا يجوز القطع على الوعد بالجنة؛ لأن من شرط ذلك الموافاة بالإيمان، ولا يعلم ذلك إلا الله، وذلك الإيمان إنما يحصل بالموافاة ولا يعلم ذلك إلا الله، وكذلك الإيمان إنما يحصل بالموافاة (2).وقالوا: المؤمن هو من سبق في علم الله أنه يختم له بالإيمان، والكافر من سبق في علم الله أنه كافر، وأنه لا اعتبار بما كان قبل ذلك (3). هذه هي شبهتهم في مذهبهم في الموافاة، وربط الاستثناء بها، ومن ثم فستكون مناقشة هذه المسألة تدور فيما يلي: أولاً: دعواهم أن القول بالموافاة قول السلف. والجواب عن ذلك أن يقال: إن السلف لما قالوا بالاستثناء لم يكن مقصودهم الموافاة، وإنما مقصودهم أن الإيمان المطلق يتضمن فعل المأمورات، فقوله: أنا مؤمن، كقوله: أنا ولي الله، وأنا من الأبرار، ونحو ذلك. قال شيخ الإسلام: "وأما الموافاة، فما علمت أحدا من السلف علل بها الاستثناء، ولكن كثير من المتأخرين يعلل بها من أصحاب الحديث، من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم، كما يعلل بها نظارهم، كأبي الحسن، وأكثر أصحابه، لكن ليس هذا قول سلف أصحاب الحديث" (4).ويقول: "وعند هؤلاء لا يعلم أحد أحدا مؤمنا إلا إذا علم أنه يموت عليه، وهذا قاله كثير من أهل الكلام أصحاب ابن كلاب، ووافقهم على ذلك كثير من أتباع الأئمة، لكن ليس هذا قول أحد من السلف، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا كان أحد من السلف الذين يستثنون في الإيمان يعللون بهذا، لا أحمد ولا من قبله" (5).   (1) ((الإيمان)) (ص420 - 421) ((الفتاوى)) (7/ 440 - 441)؛ وهو في ((شرح الإرشاد)) (280/ب). (2) انظر: ((الفتاوى)) (7/ 666 - 667). (3) انظر: ((الإيمان)) (ص399) ((الفتاوى)) (7/ 417). (4) ((الإيمان)) (ص419) ((الفتاوى)) (7/ 439)؛ وانظر منه، (ص415 - 417) ((الفتاوى)) (7/ 435 - 436). (5) ((الإيمان)) (ص413) ((الفتاوى)) (7/ 432). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 فالغلط هنا الزعم بأن السلف يعللون الاستثناء بالموافاة، وأما كون خوف العاقبة من مآخذ الاستثناء التي قال بها السلف فهذا حق، وإنما الباطل أن يدعي أن الموافاة هي مأخذ السلف في ذلك، وفرق بين المأخذين كبير، فخوف العاقبة أمر محمود، والقول بالموافاة بدعة وضلالة، إذ هي مبنية على أصل فاسد، وهو أن الإيمان الذي يتعقبه كفر يموت صاحبه عليه ليس بإيمان. وهذا الأصل المبتدع قاله "ابن كلاب، والأشعري، وأصحابه، ومن وافقهم من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم. وأما أكثر الناس فيقولون: بل هو إذا كان كافرا فهو عدو لله، ثم إذا آمن واتقى صار وليا لله. قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ إلى قوله: عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الممتحنة: 1 – 7]، وكذلك كان، فإن هؤلاء أهل مكة الذين كانوا يعادون الله ورسوله قبل الفتح، آمن أكثرهم، وصاروا من أولياء الله ورسوله. وابن كلاب وأتباعه بنوا ذلك على أن الولاية صفة قديمة لذات الله، وهي الإرادة والمحبة والرضا ونحو ذلك، فمعناها إرادة ثابتة بعد الموت، وهذا المعنى تابع لعلم الله، فمن علم أنه يموت مؤمنا لم يزل وليا لله؛ لأنه لم يزل الله مريدا لإدخاله الجنة، وكذلك العداوة. وأما الجمهور فيقولون: الولاية والعداوة وإن تضمنت محبة الله ورضاه وبغضه وسخطه، فهو سبحانه يرضى عن الإنسان ويحبه بعد أن يؤمن ويعمل صالحا، وإنما يسخط عليه ويغضب بعد أن يكفر. كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ [محمد: 28]، فأخبر أن الأعمال أسخطته، وكذلك قال: فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ [الزخرف: 55]، قال المفسرون: أغضبونا (1)، وكذلك قال الله تعالى: وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر: 7]. وفي الحديث الصحيح الذي في البخاري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقول الله تعالى: ((من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن اسعتاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه)).فأخبر أنه لا يزال يتقرب إليه بالنوافل حتى يحبه، ثم قال: فإذا أحببته كنت كذا، كنت كذا، وهذا يبين أن حبه لعبده إنما يكون بعد أن يأتي بمحابه، والقرآن دل على مثل ذلك" (2). ثانياً: احتجاجهم بما جاء عن ابن مسعود، وبما روي عن عمر رضي الله عنه. والجواب عن ذلك أن "ابن مسعود رضي الله عنه لم يكن يخفى عليه أن الجنة لا تكون إلا لمن مات مؤمنا، وأن الإنسان لا يعلم على ماذا يموت، فإن ابن مسعود أجل قدرا من هذا، وإنما أراد: سلوه هل هو في الجنة إن مات على هذه الحال؟ كأنه قال: سلوه أيكون من أهل الجنة على هذه الحال؟   (1) انظر: ((جامع البيان)) (25/ 99 - 100)؛ و ((زاد المسير)) (7/ 322). (2) ((الإيمان)) (ص421 - 422) ((الفتاوى)) (7/ 441 - 443)؛ ثم استمر شيخ الإسلام رحمه الله في تقرير هذه المسألة حتى، (ص426) ((الفتاوى)) (7/ 446)؛ وانظر: ((الإيمان)) (ص411 - 414) ((الفتاوى)) (7/ 430، 432)؛ و ((الفتاوى)) (7/ 667 – 16/ 582)؛ و ((الرد على المنطقيين))، (ص422). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 فلما قال: الله ورسوله أعمل، قال: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية. يقول: هذا التوقف يدل على أنك لا تشهد لنفسك بفعل الواجبات وترك المحرمات، فإنه من شهد لنفسه بذلك شهد أنه من أهل الجنة إن مات على ذلك" (1).ولذلك كان الإمام أحمد يقول: أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل، والعمل الفعل، فقد جئنا بالقول، ونخشى أن نكون قد فرطنا في العمل، فيعجبني أن نستثنى في الإيمان، بقول: أنا مؤمن إن شاء الله (2).فهذا هو الفهم الصحيح لما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه، ومثله ما جاء عن عمر إن صح عنه، فإنه يروى عن عمر بن الخطاب مرسلا (3). ثالثا: قولهم إن القطع بالإيمان قطع بالجنة. فيقال: هذا إنما يجيء على قول من يجعل الإيمان متناولا لأداء الواجبات وترك المحرمات، فمن مات على هذا كان من أهل الجنة، وأما على قول المرجئة والجهيمة، وهو القول الذي نصره هؤلاء الأشاعرة، فإنه يموت على الإيمان قطعا، ويكون كامل الإيمان عندهم، وهو مع هذا عندهم من أهل الكبائر الذين يدخلون النار، فلا يلزم إذا وافي بالإيمان أن يكون من أهل الجنة، وهذا اللازم لقولهم يدل على فساده (4). رابعا: أنه يلزمهم على مأخذهم هذا أن يستثنوا في الكفر أيضا. لأن ما ذكروه يطرد في الإيمان والكفر سواء، ولذلك صاروا أمام هذا اللازم فتبين (5): الأولى: أخذت به وقررته على الكفر، كما فعله بعض محققيهم، مثل أبي منصور الماتريدي. الثانية: منعت الاستثناء في الكفر، وفرقت بين الاستثناء فيه والاستثناء في الإيمان، فقالوا: نستثني في الإيمان رغبة إلى الله في أن يثبتنا عليه إلى الموت، والكفر لا يرغب فيه أحد. قال شيخ الإسلام ردا على دعوى التفريق بين الاستثناء في الإيمان والاستثناء في الكفر: "ولكن جماهير الأئمة على أنه لا يستثنى في الكفر، والاستثناء فيه بدعة لم يعرف عن أحد من السلف، ولكن هو لازم لهم"، ثم قال:"لكن يقال: إذا كان قولك: مؤمن، كقولك في الجنة، فأنت تقول عن الكافر هو كافر، ولا تقول هو في النار إلا معلقا بموته على الكفر، فدل على أنه كافر في الحال قطعا، وإن جاز أن يصير مؤمنا، كذلك المؤمن، وساء أخبر عن نفسه أو عن غيره، فلو قيل عن يهودي أو نصراني هذا كافر، قال إن شاء الله إذا لم يعلم أنه يموت كافرا، وعند هؤلاء لا يعلم أحد أحدا مؤمنا إلا إذا علم أنه يموت عليه" (6). خامسا: ترتب على مأخذهم هذا عدم القطع بتوبة التائب. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا صار الذين لا يرون الاستثناء لأجل الحاضر، بل للموافاة، لا يقطعون بأن الله يقبل توبة التائب، كما لا يقطعون بأن الله يعاقب مذنبا، فإنهم لو قطعوا بقبول توبته لزمهم أن يقطعوا له بالجنة، وهم لا يقطعون لأحد من أهل القبلة لا بجنة ولا بنار إلا من قطع له النص. وإذا قيل: الجنة لمن أتى بالتوبة النصوح من جميع السيئات؟   (1) ((الإيمان)) (ص399 - 400) ((الفتاوى)) (7/ 417 - 418)؛ وانظر: ((الاستقامة)) (1/ 150). (2) ((الإيمان)) (ص428) ((الفتاوى)) (7/ 447 - 448)؛ والأثر عن الإمام أحمد رواه: الخلال في: ((السنة)) (3/ 600) (رقم 1065). (3) انظر: ((الإيمان)) (ص399) ((الفتاوى)) (7/ 417). (4) انظر: ((الإيمان)) (ص418) ((الفتاوى)) (7/ 438). (5) انظر: ((الإيمان)) (ص412) ((الفتاوى)) (7/ 432). (6) ((الإيمان)) (ص412 – 413) ((الفتاوى)) (7/ 432)؛ وانظر منه (ص306) ((الفتاوى)) (7/ 323)؛ و ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 516). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 قالوا: ولو مات على هذه التوبة لم يقطع له بالجنة، وهم لا يستثنون في الأحوال، بل يجزمون بأن المؤمن مؤن تام الإيمان، ولكن عندهم الإيمان عند الله هو ما يوافى به، فمن قطعوا له بأنه مات مؤمنا لا ذنب له قطعوا له بالجنة، فلهذا لا يقطعون بقبول التوبة؛ لئلا يلزمهم أن يقطعوا بالجنة. وأما أئمة السلف فإنما لم يقطعوا بالجنة؛ لأنهم لا يقطعون بأنه فعل المأمور وترك المحظور، ولا أنه أتى بالتوبة النصوح، وإلا فهم يقطعون بأن من تاب توبة نصوحاً قبل الله توبته" (1). سادسا: أنه ترتب على مأخذهم أيضا أن غلا بعض أتباعهم حتى طردوا الاستثناء في كل شيء، وأنكروا القطع في أي شيء. قال شيخ الإسلام: "ومأخذ هذا القول طرده طائفة ممن كانوا في الأصل يستثنون في الإيمان أتباعا للسلف، وكانوا قد أخذوا الاستثناء عن السلف". ثم قال: "ثم صار كثير من هؤلاء بآخرة يستثنون في كل شيء، فيقول: هذا ثوبي إن شاء الله، وهذا حبل إن شاء الله. فإذا قيل لأحدهم: هذا لا شك فيه؟، قال: نعم لا شك فيه، لكن إذا شاء الله أن يغيره غيره، فيريدون بقولهم: إن شاء الله: جواز تغييره في المستقبل، وإن كان في الحال لا شك فيه، كأن الحقيقة عندهم التي لا يستثنى فيها ما لم تتبدل" (2). وقال: "وهذه الطائفة المتأخرة تنكر أن يقال: "قطعا" في شيء من الأشياء، مع غلوهم في الاستثناء، حتى صار هذا اللفظ منكرا عندهم، وإن قطعوا بالمعنى، فيجزمون بأن محمد رسول الله، وأن الله ربهم، ولا يقولون: قطعا"، ثم قال:"والمقصود هنا أن الاستثناء في الإيمان لما علل مثل تلك العلة طرد أقوام تلك العلة في الأشياء التي لا يجوز الاستثناء فيها بإجماع المسلمين" (3). وفي حكم هؤلاء يقول شيخ الإسلام: "وإذا قال القائل: هذا حجر، ولا أقطع بأن هذا حجر، فهذا مخطئ، لكن إن كان مراده أني إذا قطعت بأنه حجر، فقد جعلت الله عاجزا عن تغييره. فإنه يقال له: بل هو الآن حجر قطعا، والله قادر على تغييره. وإن كان مراده بقوله: إن شاء الله: أن الله قدرا على تغييره، فهذا المعنى صحيح. وإن كان شاكا في كونه حجرا، فهذا متجاهل، يعزر على ذلك" (4). ويقول: "أجمع المسلمون على شهادة أن لا إله الله وأن محمدا رسول الله، وأن ذلك حق يجزم به المؤمنون، ويقطعون به، ولا يرتابون. وكل ما علمه المسلم وجزم به، فهو يقطع به، وإن كان الله قادرا على تغييره، فالمسلم يقطع بما يراه ويسمعه، ويقطع بأن الله قادر على ما يشاء. وإذا قال المسلم: أنا أقطع بذلك، فليس مراده أن الله لا يقدر على تغييره، بل من قال إن الله لا يقدر على مثل إماتة الخلق، وإحيائهم من قبورهم، وعلى تسيير الجبال، وتبديل الأرض غير الأرض، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل" (5). سابعا: أنهم بقولهم هذا كشفوا عن تناقضهم في باب الإيمان. إذ تراهم لما تكلموا عن مسألة مسمى الإيمان وأن العمل ليس منه عرفوا الإيمان بأنه التصديق؛ محتجين باللغة، تأييدا لمذهبهم. ولما تكلموا عن الاستثناء، وأنه يجب الإتيان به في الإيمان، جعلوا الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، ولم يلتفتوا إلى اللغة. فهنا تناقضوا، إذ جعلا في مسألة الاستثناء: مسمى الإيمان ما ادعوا أنه مسماه في الشرع، وعدلوا عن اللغة، فهلا فعلوا هذا في الأعمال (6)؟ المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 475   (1) ((الإيمان)) (ص400) ((الفتاوى)) (7/ 418). (2) ((الإيمان)) (ص413) ((الفتاوى)) (7/ 432 - 433)؛ وانظر: ((الفتاوى)) (3/ 289 - 290). (3) ((الإيمان)) (ص415) ((الفتاوى)) (7/ 434)؛ ونظر كلام شيخ الإسلام عن هذه الطائفة في: ((الفتاوى)) (3/ 289 - 290)، (7/ 680) وما بعدها، (8/ 421 - 422)، (425 - 427). (4) ((الفتاوى)) (4/ 541 - 542). (5) ((الفتاوى)) (3/ 289). (6) انظر: ((الإيمان)) (ص137 - 138، 420) ((الفتاوى)) (143/ 440). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 المبحث الأول: حكم مرتكب الكبيرة عند مرجئة الفقهاء شرح شيخ الإسلام رحمه الله قول فقهاء المرجئة من مرتكب الكبيرة، فقال: "ومما ينبغي أن يعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي، وإلا فالقائلون بأن الإيمان قول من الفقهاء، كحماد بن أبي سليمان، وهو أول من قال ذلك، ومن اتبعه من أهل الكوفة، وغيرهم، متفقون مع جميع علماء السنة على: أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد، وإن قالوا إن إيمانهم كامل كإيمان جبريل، فهم يقولون: إن الإيمان بدون العمل المفروض، ومع فعل المحرمات، يكون صاحبه مستحقا للذم والعقاب، كما تقوله الجماعة. ويقولون أيضا: بأن من أهل الكبائر من يدخل النار، كما تقوله الجماعة"، ثم قال:"فليس بين فقهاء الملة نزاع في أصحاب الذنوب إذا كانوا مقرين باطنا وظاهرا بما جاء به الرسول، وما تواتر عنه: أنهم من أهل الوعيد، وأنه يدخل الجنة منهم من أخبر الله ورسوله بدخوله إليها، ولا يخلد منهم فيها أحد، ولا يكونون مرتدين مباحي الدماء" (1). ويقول أيضا رحمه الله تعالى: "وتنازع الناس في الأسماء والأحكام، أي في أسماء الدين، مثل: مسلم، ومؤمن، وكافر، وفاسق، وفي أحكام هؤلاء في الدنيا والآخرة". ثم قال مبينا موقف المرجئة من هذا النزاع: "وحدثت المرجئة، وكان أكثرهم من أهل الكوفة - ولم يكن أصحا عبدالله من المرجئة، ولا إبراهيم النخعي وأمثاله - فصاروا نقيض الخوارج والمعتزلة، فقالوا: إن الأعمال ليست من الإيمان. وكانت هذه البدعة أخف البدع، فإن كثيرا من النزاع فيها نزاع في الاسم واللفظ دون الحكم، إذ كان الفقهاء الذين يضاف إليهم هذا القول، مثل حماد ابن أبي سليمان، وأبي حنيفة، وغيرهما، هم مع سائر أهل السنة متفقين على: أن الله يعذب من يعذبه من أهل الكبائر بالنار، ثم يخرجهم بالشفاعة، كما جاءت الأحاديث الصحيحة بذلك. وعلى أنه لابد في الإيمان أن يتكلم بلسانه. وعلى أن الأعمال المفروضة واجبة، وتاركها مستحق للذم والعقاب. فكان في الأعمال: هل هي من الإيمان؟، وفي الاستثناء، ونحو ذلك، عامته نزاع لفظي"، ثم قال شيخ الإسلام:"وقد ذكر بعض من صنف في هذا الباب من أصحاب أبي حنيفة، قال: وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد كرهوا أن يقول الرجل: إيماني كإيمان جبريل وميكائيل، قال محمد: لأنهم أفضل يقينا، أو إيماني كإيمان جبريل، أو إيماني كإيماني أبي بكر، أو كإيمان هذان ولكن يقول: آمنت بما آمن به جبريل وأبو بكر (2) " (3). ويقول: "والمرجئة تقول: هو - أي مرتكب الكبيرة -: مؤمن تام الإيمان، لا نقص في إيمانه، بل إيمانه كإيمان الأنبياء والأولياء، وهذا نزاع في الاسم. ثم تقول فقهاؤهم ما تقوله الجماعة في أهل الكبائر: فيهم من يدخل النار، وفيهم من لا يدخل، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة، واتفق عليه الصحابة، والتابعون لهم بإحسان. فهؤلاء لا ينازعون أهل السنة والحديث في حكمه في الآخرة، وإنما ينازعونهم في الاسم" (4). ويقول: "وأما قول القائل: إن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله، فهذا ممنوع، وهذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان، فإنهم ظنوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله لم يبق منه شيء. ثم قالت الخوارج والمعتزلة: هو مجموع ما أمر الله به ورسوله، وهو الإيمان المطلق، كما قال أهل الحديث.   (1) ((الإيمان)) (ص281 - 282) ((الفتاوى)) (7/ 298)؛ وانظر منه، (ص244) ((الفتاوى)) (7/ 258). (2) انظر: ((شرح الفقه الأكبر))، للقاري، (ص145)؛ والإمام الأعظم أبو حنيفة المتكلم، لعناية الله إبلاغ، طبعة سنة 1390هـ، نشر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر، (ص163 - 164). (3) ((الفتاوى)) (13/ 38 - 41) باختصار. (4) ((منهاج السنة)) (5/ 284). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 قالوا: فإذا ذهب شيء منه لم يبق مع صاحبه من الإيمان شيء، فيخلد في النار. وقالت المرجئة على اختلاف فرقهم: لا تذهب الكبائر وترك الواجبات الظاهرة شيئا من الإيمان؛ إذ لو ذهب شيء منه لم يبق شيء، فيكون شيئا واحدا يستوي فيه البر والفاجر" (1). ويقول: "وقد يجتمع في العبد نفاق وإيمان، وكفر وإيمان، فالإيمان المطلق عند هؤلاء ما كان صاحبه مستحقا للوعد بالجنة. وطوائف أهل الأهواء من الخوارج، والمعتزلة، والجهمية، والمرجئة، كراميهم وغير كراميهم، يقولون: إنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق. ومنهم من يدعي الإجماع على ذلك، وقد ذكر أبو الحسن في بعض كتبه الإجماع على ذلك. ومن هنا غلطوا فيه، وخالفوا فيه الكتاب، والسنة، وآثار الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، مع مخالفة صريح المعقول. بل الخوارج والمعتزلة طردوا هذا الأصل الفاسد، وقالوا: لا يجتمع في الشخص الواحد طاعة يستحق بها الثواب، ومعصية يستحق بها العقاب. ولا يكون الشخص الواحد محمودا من وجه مذموم من وجه، ولا محبوبا مدعوا له من وجه، مسخوطا ملعونا من وجه. ولا يتصور أن الشخص الواحد يدخل الجنة والنار جميعا عندهم، بل من دخل إحداهما لم يدخل الأخرى عندهم، ولهذا أنكروا خروج أحد من النار، أو الشفاعة في أحد من أهل النار. وحكي عنه غالية المرجئة أنهم وافقوهم على هذا الأصل، لكن هؤلاء قالوا: إن أهل الكبائر يدخلون الجنة، ولا يدخلون النار مقابلة لأولئك. وأما أهل السنة والجماعة، والصحابة، والتابعون لهم بإحسان، وسائر طوائف المسلمين، من أهل الحديث، والفقهاء، وأهل الكلام، من مرجئة الفقهاء، والكرامية، والكلابية، والأشعرية، والشيعة مرجئهم وغير مرجئهم، فيقولون: إن الشخص الواحد قد يعذبه الله بالنار ثم يدخله الجنة، كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة. وهذا الشخص الذي له سيئات عذب بها، وله حسنات دخل بها الجنة، وله معصية وطاعة، باتفاق هؤلاء الطوائف، لم يتنازعوا في حكمه، لكن تنازعوا في اسمه: فقالت المرجئة - جهميتهم، وغير جهميتهم - هو: مؤمن كامل الإيمان. وأهل السنة والجماعة على: أنه ناقص الإيمان؛ ولولا ذلك لما عذب، كما أنه ناقص البر والتقوى باتفاق المسلمين" (2). ومن النقول السابقة تتحرر مقالة فقهاء المرجئة في مرتكب الكبيرة، وأنهم يرون فيه ما يلي: 1 - أنه مؤمن كامل الإيمان، كإيمان جبريل، وإيمان الأنبياء والأولياء. وبعض أصحاب أبي حنيفة نسب إلى إمامه وصاحبيه أبي يوسف وأبي محمد كراهة أن يقول الرجل: إيماني كإيمان الملائكة أو أبي بكر، وتقدم الكلام على ذلك. 2 - أن الإيمان شيء واحد، وعليه فإيمان الفاسق كإيمان البر، فهما سواء في الإيمان. 3 - أنه داخل تحت الذم والوعيد، ومستحق للذم والعقاب. 4 - أن من أهل الكبائر من يدخل النار، لكنه لا يخلد فيها، ومنهم من لا يدخلها. 5 - أن مرتكب الكبيرة لا يكفر، ولا يباح دمه لكبيرته. 6 - أنه يجتمع في العبد طاعة ومعصية، ولا يجتمع فيه إيمان ونفاق. وهذا بسبب الشبهة التي دخلت عليهم كما دخلت على سائر الفرق المخالفة، وهي أن الإيمان شيء واحد، لا يتبعض، بل إذا ذهب بعضه ذهب كله. وأما اجتماع الطاعات والمعاصي فلا يمتنع على أصلهم؛ لأنها عندهم مرتبطة بالأعمال، وهي ليست من الإيمان. ولذلك تراهم يعدون العاصي مؤمنا كامل الإيمان؛ لمجيئه بالإيمان عندهم.   (1) ((الإيمان)) (ص386) ((الفتاوى)) (7/ 403)؛ وانظر: ((جامع المسائل)) (3/ 231). (2) ((الإيمان)) (ص337 - 338) ((الفتاوى)) (7/ 353 - 354)؛ وانظر: ((شرح الأصبهانية)) (2/ 587 "138) ت مخلوف"؛ و ((الفتاوى)) (16/ 474 - 475)؛ و ((منهاج السنة)) (4/ 570 - 571). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 والخلاصة أن نزاعهم في مرتكب الكبيرة إنما هو في اسمه، لا في حكمه في الآخرة. وهذه المعالم التي جاءت في كلام شيخ الإسلام دلت عليها أيضا بعض الآثار الواردة في بيان مذهب فقهاء المرجئة، ومنها: ما جاء عن مبارك بن حسان أنه قال لسالم الأفطس: "رجل أطاع الله فلم يعصه، ورجل عصى الله فلم يطعه، فصار المطيع إلى الله فأدخله الجنة، وصار العاصي إلى الله فأدخله النار، هل يتفاضلان في الإيمان؟ قال: لا" (1). فهذا الأثر يفيد تساوي الإيمان عند البر والفاجر على رأي فقهاء المرجئة. ومن الأسئلة التي وجهها معقل العبسي إلى نافع مولى ابن عمر قوله: "قلت: إنهم يقولون: نحن نقر بأن الصلاة فرض ولا نصلي، وبأن الخمر حرام ونشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن ننكح؟ فنر يده من يدي، وقال: من فعل هذا فهو كافر. قال معقل: فرأيت الزهري، فأخبرته بقولهم. فقال: سبحان الله، فقد أخذ الناس في هذه الخصومات!، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) (1).". ثم قال معقل: "ثم جلست إلى ميمون بن مهران، فقلت: يا أبا أيوب لو قرأت لنا سورة ففسرتها. قال: فقرأ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، حتى إذا بلغ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 1 - 21]، قال: ذاكم جبريل، والخيبة لمن يقول إن إيمانه كإيمان جبريل" (2). ولما سئل عطاء بن أبي رباح عمن يزعمون أن إيمانهم كإيمان جبريل؟ قال: ليس إيمان من أطاع الله كإيمان من عصى الله (3). وابن أبي مليكة رحمه الله يقول "لقد أتى عليَّ برهة من الدهر وما أراني أدرك قوما يقول أحدهم: إني مؤمن مستكمل الإيمان. ثم ما رضي حتى قال: إيماني كإيمان جبريل، وميكائيل. وما زال بهم الشيطان حتى قال أحدهم: إني مؤمن، وإن نكح أخته، وأمه، وبنته. والله لقد أدركت كذا وكذا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما مات أحد منهم إلى وهو يخشى النفاق على نفسه (4). وقد ذكر هذا المعنى عنه البخاري في صحيحه قال: أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم يقول: إيمانه كإيمان جبريل" (5). فهذه الآثار تدل على أن المؤمنين عند مرجئة الفقهاء سواء في الإيمان، ما دام أنهم أتوا بالتصديق والقول. المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 499   (1) ((الإيمان)) (ص171) ((الفتاوى)) (7/ 180). (2) ((الإيمان)) (ص194) ((الفتاوى)) (7/ 206). (3) ((الإيمان)) (ص195) ((الفتاوى)) (7/ 207)؛ والأثر رواه: عبدالله في ((السنة)) (1/ 345) (رقم 731). (4) ((السنة)) للخلال (3/ 607) (رقم 1081 - 5/ 95) (رقم 1068)؛ و ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (5/ 955) (رقم 1733). (5) ((الإيمان)) (ص194 - 195) ((الفتاوى)) (7/ 180 - 181). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 المبحث الثاني: حكم مرتكب الكبيرة عند الجهمية ذهبت الجهمية إلى أن مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان، وأنه لا يكفر بكبيرته ولا يرتد، وأنه يجتمع فيه الثواب والعقاب، والحمد والذم، وأن من أهل الكبائر من يدخل النار، ولا يخلد فيها. هذه هي مقالة الجهمية في متركب الكبيرة، ومنه يتبين أن نزاعهم فيه نزاع في الاسم لا الحكم، وبالتالي فهم موافقون لسائر المرجئة في هذه المسألة. يقول شيخ الإسلام في تقرير ذلك. "وكل أهل السنة متفقون على أنه - يعني مرتكب الكبيرة - قد سلب كمال الإيمان الواجب، فزال بعض إيمانه الواجب لكنه من أهل الوعيد. وإنما ينازعون في ذلك من يقول: الإيمان لا يتبعض، من الجهمية، والمرجئة، فيقولون: إنه كامل الإيمان" (1). ويقول: "الناس في الفاسق من أهل الملة - مثل: الزاني، والسارق، والشارب، ونحوهم - ثلاثة أقسام: طرفين، ووسط"، ثم ذكر الطرف الأول، وهم الخوارج والمعتزلة ومقالتهم في مرتكب الكبيرة، ثم قال: "الطرف الثاني: قول من يقول إيمانهم باق كما كان لم ينقص؛ بناء على أن الإيمان هو مجرد التصديق والاعتقاد الجازم وهو لم يتغير، وإنما نقصت شرائع الإسلام. وهذا قول المرجئة، والجهمية، ومن سلك سبيلهم" (2). ويقول: "وقالت المرجئة، مقتصدتهم، وغلاتهم، كالجهمية: قد علمنا أن أهل الذنوب من أهل القبلة لا يخلدون في النار، بل يخرجون منها، كما تواترت بذلك الأحاديث. وعلمنا بالكتاب والسنة وإجماع الأئمة أنهم ليسوا كفار مرتدين، فإن الكتاب قد أمر بقطع السارق لا بقتله، وجاءت السنة بجلد الشارب لا بقتله، فلو كان هؤلاء كفارا مرتدين لوجب قتلهم" (3). ويقول: "وإنما أوقع هؤلاء كلهم - يعني المرجئة - ما أوقع الخوارج والمعتزلة في ظنهم: أن الإيمان لا يتبعض، بل إذا اذهب بعضه ذهب كله. ومذهب أهل السنة والجماعة: أنه يتبعض، وأنه ينقص، ولا يزول جميعه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يخرج من النار من كان في قلبه مثال ذرة من الإيمان)) (4). فالأقوال في ذلك ثلاثة: الخوارج والمعتزلة: نازعوا في الاسم والحكم، فلم يقولوا بالتبعيض، لا في الاسم ولا في الحكم، فرفعوا عن صاحب الكبيرة اسم الإيمان بالكلية، وأوجبوا له الخلود في النار. وأما الجهمية، والمرجئة: فنازعوا في الاسم لا في الحكم، فقالوا: يجوز أن يكون مثابا معاقبا، محمودا مذموما، لكن لا يجوز أن يكون معه بعض الإيمان دون بعض" (5). ويقول: "وقول المعتزلة، والخوارج، والكرامية، في اسم الإيمان والإسلام أقرب إلى قول السلف من قول الجهمية، لكن المعتزلة والخوارج يقولون بتخليد العصاة، وهذا أبعد عن قول السلف من كل قول، فهم أقرب في الاسم وأبعد في الحكم. والجهمية وإن كانوا في قولهم بأن الفساق لا يخلدون أقرب في الحكم إلى السلف، فقولهم في مسمى الإسلام والإيمان وحقيقتهما أبعد من كل قول عن الكتاب والسنة، وفيه من مناقضة العقل والشرع واللغة ما لا يوجد مثله لغيرهم" (6). هذه هي مقالة الجهمية في مرتكب الكبيرة حسبما جاء عند شيخ الإسلام رحمه الله، وقد ذكر شيخ الإسلام أن بعضهم يتوقف في حصول الوعيد في مرتكب الكبيرة.   (1) ((الإيمان)) (ص244) ((الفتاوى)) (7/ 258). (2) ((الفتاوى)) (7/ 671). (3) ((الفتاوى)) (13/ 48)؛ وانظر نحوه في: ((الإيمان)) (ص337 - 338) ((الفتاوى)) (7/ 353 - 354). (4) رواه الترمذي (2593) , من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, وقال حديث حسن صحيح, وصححه الألباني, وقال في ((السلسلة)) (2450): صحيح على شرط الشيخين. (5) ((شرح الأصبهانية)) (2/ 586 - 587)، (ص143 - 144) ت مخلوف. (6) ((الإيمان)) (ص151 - 152) ((الفتاوى)) (7/ 158 - 159). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 يقول رحمه الله: "وكثير من المرجئة، والجهمية من يقف في الوعيد، فلا يجزم بنفوذ الوعيد في حق أحد من أرباب الكبائر. كما قال ذلك من قاله من مرجئة الشيعة، والأشعرية، كالقاضي أبي بكر، وغيره" (1).والتوقف في نفوذ الوعيد قول لفريق من المرجئة يسمون الواقفة وقد ذكر شيخ الإسلام أنهم سلكوا في الإيمان والوعيد مسلك الجهمية الغلاة، كجهم وأتباعه (2)، ومن أشهر من يمثل هذا المذهب القاضي الباقلاني الأشعري، وسيأتي شرح قولهم في المبحث الخاص عن الأشاعرة في مرتكب الكبيرة بعون الله تعالى. وما مضى فيه تصحيح لما اشتهر عن عامة الجهمية، بل وعامة المرجئة، أنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، وأنه لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد. ولشيخ الإسلام رحمه الله كلام مهم حول هذه المقولة، فقد أفاد أنها تنسب للمرجئة في كلام الرادين عليها، مع أنه لا يعرف معينا يحكيها عنه. يقول رحمه الله: "والمقصود هنا أنه لم يثبت المدح إلا على إيمان معه العمل، لا على إيمان خال عن عمل، فإذا عرف أنه الذم والعقاب واقع في ترك العمل كان بعد ذلك نزاعهم لا فائدة فيه، بل يكون نزاعا لفظيا، مع أنهم مخطئون في اللفظ، مخالفون للكتاب والسنة. وإن قالوا: إنه لا يضره ترك العمل، فهذا كفر صريح. وبعض الناس يحكي هذا عنهم، وأنهم يقولون: إن الله فرض على العباد فرائض ولم يرد منهم أن يعملوها، ولا يضرهم تركها (3).وهذا قد يكون قول الغالية الذين يقولون: لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد، لكن ما علمت معينا أحكي عنه هذا القول، وإنما الناس يحكونه في الكتب، ولا يعنون قائله، وقد يكون قول من لا خلاق له من الفساق والمنافقين، يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، أو مع التوحيد، وبعض كلام الرادين على المرجئة وصفهم بهذا" (4).ويقول: "وقد حكي عن بعض غلاة المرجئة أن أحدا من أهل التوحيد لا يدخل النار، ولكن هذا لا أعرف به قائلا معينا فأحكيه عنه، ومن الناس من يحكيه عن مقاتل بن سليمان، والظاهر أنه غلط عليه" (5). ويقول: "ولكن الأقوال المنحرفة قول من يقول بتخليدهم في النار، كالخوارج والمعتزلة. وقول غلاة المرجئة الذين يقولون: ما نعلم أن أحدا منهم يدخل النار، بل نقف في هذا كله. وحكي عن بعض غلاة المرجئة الجزم بالنفي العام" (6).وقال: "وأما من جزم بأنه لا يدخل النار أحد من أهل القبلة، فهذا لا تعرفه قولا لأحد" (7). وقال: "وغالية المرجئة أنكرت عقاب أحد من أهل القبلة. ومن صرح بالكفر: أنكر الوعيد في الآخرة رأسا، كما يفعله طوائف من الاتحادية، والمتفلسفة، والقرامطة، والباطنية" (8).   (1) ((شرح الأصبهانية)) (2/ 587)، (ص143/ 144) ت مخلوف؛ وانظر: مجموعة ((الفتاوى الكبرى)) 1/ 363؛ و ((مختصر الفتاوى))، (ص575 - 578)؛ وهو في ((المستدرك على الفتاوى)) (3/ 96 - 97)؛ وانظر: ((جامع الرسائل)) (1/ 111). (2) انظر: ((الفتاوى)) (14/ 347 - 348). (3) انظر: ((الإبانة الكبرى)) (2/ 893). (4) ((الإيمان)) (ص172) ((الفتاوى)) (7/ 181). (5) ((منهاج السنة)) (5/ 286)؛ ونحوه في: ((الفتاوى)) (16/ 196)؛ ومجموعة ((الفتاوى الكبرى)) (1/ 363 - 364). (6) ((الإيمان)) (ص282) ((الفتاوى)) (7/ 297)؛ وانظر: ((جامع المسائل)) (3/ 231). (7) ((الإيمان الأوسط)) ضمن ((الفتاوى)) (7/ 501 - 502) (ص361) ط. ابن الجوزي". (8) ((الفتاوى)) (16/ 242). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 ومما تقدم يعلم أن مقولة "لا يضر مع الإيمان أو مع التوحيد ذنب، وأنه لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد"، إن صحت نسبتها لأحد، فهي لغلاة المرجئة، كما قال شيخ الإسلام. وهذا الوصف "غلاة المرجئة" يطلقه شيخ الإسلام على الجهمية، وعلى الواقفة الذين يتوقفون في نفوذ الوعيد، وعلى الغلاة الذين يجزمون ينفيه (1). فأما الجهمية، فتقدم أنهم يعدون مرتكب الكبيرة مؤمنا كامل الإيمان، ويقرون بخروجه من النار، وأنه لا يخلد فيها، وأن نزاعهم فيه في الاسم لا في الحكم كما قال شيخ الإسلام. وأما الواقفة، فسيأتي تحرير مذهبهم في المبحث الخامس من هذا الفصل بعون الله تعالى. فلم يبق حينئذ سوى غلاة المرجئة الذين تنسب إليهم تلك المقولة، وقد ذكر الأشعري عن فرقة من المرجئة لم يسمها أنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان عمل، ولا يدخل النار أحد من أهل القبلة (2).وذكر الشهرستاني عن فرقة اليونسية أنهم يقولون: إن ما سوى المعرفة من الطاعة ليس من الإيمان، ولا يضر تركها حقيقة الإيمان، ولا يعذب على ذلك (3).وعامة الكتب المقالات لم يذكروا هذه المقالة عن اليونسية، وإنما ذكرها بعض من جاء بعد الشهرستاني (4)، فقد يكون نقلها عنه، والله أعلم. وكذلك نسب الشهرستاني إلى فرقة العبيدية أنهم يقولون: إن العبد إذا مات على توحيده لم يضره ما اقترف من الآثام، واجترج من السيئات (5).وهذه الفرقة لم يسبق الشهرستاني أحد بذكرها، وتابعه بعض من جاء بعده (6)، فيبقى في نسبة المقالة إليهم وقفه. المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 507   (1) انظر: ((الإيمان)) (ص282) ((الفتاوى)) (7/ 297)؛ و ((الفتاوى)) (13/ 48). (2) انظر: ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 228). (3) انظر: ((الملل والنحل)) (138). (4) انظر: ((المواقف في علم الكلام)) (ص427)؛ و ((تلخيص البيان)) (ص188)؛ و ((الفوائد المجتمعة في بيان الفرق الضالة والمبتدعة))، لإسماعيل اليازجي، تحقيق الدكتور يوسف السعيد، الطبعة الأولى 1424هـ، دار أطلس الخضراء بالرياض (ص64). (5) انظر: ((الملل والنةحل)) (1/ 138). (6) انظر: ((منهج الشهرستاني في الملل والنحل)) (ص491 - 492). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 المبحث الثالث: حكم مرتكب الكبيرة عند الكرامية وافقت الكرامية في مسألة مرتكب الكبيرة مقالة المرجئة، إذ جعلوا الفاسق مؤمنا كامل الإيمان، ويثاب ويعاقب، وأنه إن دخل النار فإنه يخرج منها. وقد تكرر القول إن مخالفة الكرامية إنما هي في مسمى الإيمان، فحسب، وما عداه فهم موافقون لما عليه فرق المرجئة. يقول شيخ الإسلام في بيان قولهم في مرتكب الكبيرة. "وأما قول القائل: إن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله، فهذا ممنوع، وهذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان، فإنهم ظنوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله لم يبق منه شيء. ثم قال الخوارج والمعتزلة: هو مجموع ما أمر الله به ورسوله، وهو الإيمان المطلق، كما قال أهل الحديث. قالوا: فإذا ذهب شيء منه لم يبق مع صاحبه من الإيمان شيء فيخلد في النار. وقالت المرجئة على اختلاف فرقهم: لا تذهب الكبائر وترك الواجبات الظاهرة شيئا من الإيمان؛ إذ لو ذهب شيء منه لم يبق شيء، فيكون شيئا واحدا يستوي فيه البر والفاجر" (1). ويقول معلقا على مسألة إثابة الله تعالى للطائع، وعفوه عن العاصي، أو معاقبته: "فهذا مذهب أهل السنة الخاصة، وسائر من انتسب إلى السنة والجماعة، كالكلابية، والكرامية، والأشعرية، والسالمية، وسائر فرق الأمة من المرجئة، وغيرهم. والخلاف في ذلك مع الخوارج والمعتزلة، فإنهم يقولون بتخليد أهل النار" (2).ولما ذكر مخالفة الكرامية في مسمى الإيمان قال: "وأما في الصفات، والقدر، والوعد والوعيد، فهم أشبه من أكثر طوائف الكلام التي في أقوالها مخالفة للسنة" (3). المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 515   (1) ((الإيمان)) (ص210) ((الفتاوى)) (7/ 223). (2) ((منهاج السنة)) (2/ 302)؛ ونحوه في (4/ 570). (3) ((التدمرية))، (ص193). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 المبحث الرابع: حكم مرتكب الكبيرة عند الأشاعرة حديث شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن قول الأشاعرة في مرتكب الكبيرة يفيد أنهم في ذلك فريقان: الفريق الأول: موافق لما عليه عامة المرجئة في مرتكب الكبيرة. وهذه هي المقالة التي نسبها شيخ الإسلام إلى الأشاعرة، وإلى إمامهم أبي الحسن الأشعري. فقد ذكر شيخ الإسلام أن أبا الحسن الأشعري" نصر مذهب أهل السنة في أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة، ولا يخلدون في النار، وتقبل فيهم الشفاعة، ونحو ذلك" (1).وأنه "رجع إلى مذهب أهل الإثبات الذين يثبتون الصفات، والقدر، ويثبتون خروج أهل الكبائر من النار، ولا يخرجون أحدا من الإيمان" (2). وعن موقف الأشاعرة عامة يقول: "وأما أهل السنة والجماعة والصحابة والتابعون لهم بإحسان، وسائر طوائف المسلمين من أهل الحديث والفقهاء، وأهل الكلام من مرجئة الفقهاء، والكرامية، والكلابية، والأشعرية، والشيعة مرجئهم وغير مرجئهم، فيقولون: إن الشخص الواحد قد يعذبه الله بالنار ثم يدخله الجنة، كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة. وهذا الشخص الذي له سيئات عذب بها، وله حسنات دخل بها الجنة، وله معصية وطاعة باتفاق هؤلاء الطوائف لم يتنازعوا في حكمه، لكن تنازعوا في اسمه: فقالت المرجئة - جهميتهم، وغير جهميتهم -: هو مؤمن كامل الإيمان. وأهل السنة والجماعة على أنه ناقص الإيمان" (3). ولما قال ابن المطهر الرافضي: "إن الله يثيب المطيع، ويعفو عن العاصي، أو يعذبه".علق شيخ الإسلام على ذلك بقوله: "فهذا مذهب أهل السنة الخاصة، وسائر من انتسب إلى السنة والجماعة، كالكلابية، والكرامية، والأشعرية، والسالمية، وسائر فرق الأمة من المرجئة (4)، وغيرهم، والخلاف في ذلك مع الخوارج والمعتزلة، فإنهم يقولون بتخليد أهل النار" (5). وأما أصل الضلال في هذه المسألة، فقد سبق قول شيخ الإسلام: "وأما قول القائل: إن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله، فهذا ممنوع، وهذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان، فإنهم ظنوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله لم يبق منه شيء، ثم ذكر رأي الخوارج والمعتزلة، ثم قال:"وقالت المرجئة على اختلاف فرقهم: لا تذهب الكبائر وترك الواجبات الظاهرة شيئا من الإيمان؛ إذ لو ذهب شيء منه لم يبق شيء، فيكون شيئا واحدا يستوي فيه البر والفاجر" (6). ومما تقدم يعلم أن المشهور عن الأشاعرة هو موافقة سائر المرجئة في مرتكب الكبيرة. الفريق الثاني: الواقفة، ومنهم القاضي أبو بكر الباقلاني. ومذهبهم يشرحه شيخ الإسلام بقوله: "وكثير من متكلمة المرجئة تقول: لا نعلم أن أحدا من أهل القبلة من أهل الكبائر يدخل النار، ولا أن أحدا منهم لا يدخلها، بل يجوز أن يدخلها جميع الفساق، ويجوز أن لا يدخلها أحد منهم، ويجوز دخول بعضهم.   (1) ((الإيمان)) (ص115) ((الفتاوى)) (7/ 120). (2) ((بيان تلبيس الجهمية)) (2/ 88). (3) ((الإيمان)) (ص338) ((الفتاوى)) (7/ 354). (4) فيدخل فيهم الماتريدية، وانظر: ((الماتريدية))، للحربي، (ص485 - 486). (5) ((منهاج السنة)) (2/ 302)؛ وانظر: ((عقيدة الشيرازي))، الملحقة بكتابه: ((الإشارة إلى مذهب أهل الحق))، تحقيق محمد الزبيدي، الطبعة الأولى 1419هـ، دار الكتاب العربي ببيروت، (ص298 - 299)؛ و ((أصول الدين))، للبزدوي، (ص131، 138). (6) ((الإيمان)) (ص210) ((الفتاوى)) (7/ 223). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 ويقولون: من أذنب وتاب، لا يقطع بقبول توبته، بل يجوز أن يدخل النار أيضا. فهم يقفون في هذا كله؛ ولهذا سموا الواقفة، وهذا قول القاضي أبي بكر، وغيره من الأشعرية، وغيرهم" (1). ويقول رحمه الله: "وكثير من المرجئة، والجهمية من يقف في الوعيد، فلا يجزم بنفوذ الوعيد في حق أحد من أرباب الكبائر. كما قال ذلك من قاله من مرجئة الشيعة، والأشعرية، كالقاضي أبي بكر، وغيره" (2). فخلاصة مذهب الواقفة هو التوقف في أحكام الفساق: فهم متوقفون في قبول توبة الفاسق، فعندهم قد تقبل توبته من ذنبه، وقد يعذب عليه، وهم متوقفون في دخول الفساق النار، فعندهم قد يدخلون كلهم النار، وقد يدخل بعضهم، وقد لا يدخل أحد منهم فيها، فلم يجزموا بنفوذ الوعيد في حق أحد من الفساق.   (1) ((منهاج السنة)) (5/ 284)؛ وانظر منه (3/ 462 - 463)؛ و ((شرح الأصبهانية)) (2/ 587) " (ص143 – 144) مخلوف؛ ومذهب الباقلاني أنظره في كتابه: ((التمهيد)) (ص403، 404، 410، 415). (2) ((شرح الأصبهانية)) (2/ 587)، (ص143 - 144) ت مخلوف؛ وانظر: ((الفتاوى)) (14/ 346 - 347) ومجموعة ((الفتاوى الكبرى)) 1/ 363؛ ومختصر ((الفتاوى))، (ص575 – 578)؛ وهو في: ((المستدرك على الفتاوى)) (3/ 96 - 97). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 وهذا المذهب جاء مقابلا لمذهب الوعيدية في مرتكب الكبيرة، فإن الوعيدية يرون خلود من دخل النار فيها حتى لو كان موحدا، ويوجبون العذاب في حق أهل الكبائر؛ لشمول نصوص الوعيد فيهم. ويرون أن نصوص الوعد لا تتناول إلا مؤمنا، والفساق ليسوا بمؤمنين، فلا يدخلون في الوعد؛ لأنهم لا حسنات لهم؛ لأنهم لم يكونوا من المتقين، وقد قال الله تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27]، وقال: فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد: 28]، فهذه النصوص وغيرها تدل على أن العمل لا يقبل إلا مع التقوى، والوعد إنما هو للمؤمن، وهؤلاء ليسوا بمؤمنين، وأن فعل السيئات يحبط الأعمال (1).وأولوا قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر: 32] على أن السابقين هم الذين يدخلونها، وأن المقتصد، أو الظالم لنفسه لا يدخلها (2).فهنا عارضهم واقفة المرجئة وغلاتهم بنصوص الوعد، فإنها قد تتناول كثيرا من أهل الكبائر (3).وأمام دعوى الوعيدية أن نصوص الوعيد عامة، فتشمل أهل الكبائر، قابلهم غلاة المرجئة، فأنكروا العموم، وقالوا: ليس في اللغة عموم، وإنما التزموا ذلك؛ لئلا يدخل جميع المؤمنين في نصوص الوعيد (4).وأولوا قوله تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27]، بأن المراد به: من اتقى الشرك والكفر، وقالوا: الأعمال لا تحبط بمجرد السيئات، وإنما تحبط بالكفر فحسب، كما قال تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65]، وقال: وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة: 5] (5).وقالوا: إن قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [فاطر: 32 - 33]، إخبار من الله تعالى أن الثلاثة يدخلون الجنة، لا السابق فقط كما زعمت الوعيدية (6).واستدل بعض من أنكر دخول أحد من المحدين النار بقوله تعالى: فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل: 14 - 16]، فقالوا: إن النار لا يدخلها إلا الكافر، والموحد ليس كذلك (7).   (1) انظر: ((منهاج السنة)) (5/ 284 - 285)؛ و ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 494 - 495)، (ص346 - 347) ط. ابن الجوزي. (2) انظر: ((الفتاوى)) (11/ 184). (3) انظر: ((الفتاوى)) (12/ 481)؛ و ((منهاج السنة)) (5/ 284)؛ و ((الفتاوى)) (8/ 270)، (14/ 347)؛ و ((مختصر الفتاوى))، (ص251 - 252)؛ وهو في: ((المستدرك على الفتاوى)) (1/ 123). (4) انظر: ((منهاج السنة)) (5/ 293)؛ و ((المسودة)) (1/ 238)؛ و ((الفتاوى)) (31/ 105). (5) انظر: ((منهاج السنة)) (5/ 284، 286)؛ و ((الإيمان))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 494 - 495)، (ص346 - 347) ط. ابن الجوزي. (6) انظر: ((منهاج السنة)) (5/ 286). (7) انظر: ((منهاج السنة)) (5/ 287)؛ و ((الفتاوى)) (16/ 197)؛ و ((زاد المسير في علم التفسير)) (9/ 151 - 152)؛ و ((الجامع لأحكام القرآن)) (20/ 59). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 فهذا ملخص مذهب الفريقين في الوعد والوعيد، ويهمنا هنا مناقشة مذهب هؤلاء غلاة المرجئة، ويمكن ترتيب ذلك فيما يلي: أولاص: بينما الوعيدية غلوا، فأدخلوا العصاة في نصوص الوعيد، وأخرجوهم من نصوص الوعد، عارضتهم غلاة المرجئة، فقصروا حين أدخلوهم في نصوص الوعد، وأخرجوهم من نصوص الوعيد، فهما مذهبان متقابلان يدوران بين الإفراط والتفريط، ورحم الله شيخ الإسلام عندما قال: "ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، ونصوص الكتاب والسنة، مع اتفاق سلف الأمة وأئمتها متطابقة على أن من أهل الكبائر من يعذب، وأنه لا يبقى في النار من في قلبه مثالة ذرة من إيمان" (1). ثانياً: في إنكار غلاة المرجئة للعموم يقول شيخ الإسلام:"ومن أهل المرجئة من ضاق عظمته لما ناظره الوعيدية بعموم آيات الوعيد وأحاديثه؛ فاضطره ذلك إلى أن جحد العموم في اللغة والشرع، فكانوا فيما فروا منه إلى من هذا الجحد، كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولو اهتدوا للجواب السديد للوعيدية: من أن الوعيد في آية، وإن كان عاما مطلقا، فقد خصص وقيد في آية أخرى، جريا على السنن المستقيمة أولى بجواز العفو عن المتوعد وإن كان متعينا، تقييدا للوعيد المطلق" (2).وقد تقدم تفصيل مطول لمعنى هذه الجملة، وأنه لا يحتاج الأمر في رد مقالة الوعيدية إنكار العموم كما وقعت فيه هذه الشرذمة (3)، فإن ذلك يستلزم تعطيل نصوص الوعد والوعيد، فلا تبقى خاصة ولا عامة (4). والوجه الحق في فقه الجمع بين هذه النصوص هو أنها نصوص مطلقة عامة، وأنها أسباب لحصول مقتضاها على المعين، لكن هذا العموم مخصص بنصوص أخرى بينت أن المعين لا يلحقه عموم هذه النصوص وإطلاقها إلا إذا توفرت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع. ثالثاً: توقف هؤلاء في عصاة الموحدين، منقوض بتظافر النصوص على خلافه، إذا إنها دلت على قبول الله تعالى توبة من تاب من عباده، وكذلك دلت على أن من العصاة من سيدخل النار قطعا، ومنهم من يغفر له. يقول شيخ الإسلام: "في قوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الزمر: 53 - 55]. قد ذكرنا في غير هذا الموضع أن هذه الآية في حق التائبين، وأما آية النساء، وهي قوله: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48]، فلا يجوز أن تكون في حق التائبين، كما يقوله من يقوله من المعتزلة، فإن التائب من الشرك يغفر له الشرك أيضا بنصوص القرآن، واتفاق المسلمين. وهذه الآية فيها تخصيص وتقييد، وتلك الآية فيها تعميم وإطلاق. هذه خص فيها الشرك بأنه لا يغفره، وما عداه لم يجزم بمغفرته، بل علقه بالمشيئة، فقال: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48]. وقد ذكرنا في غير موضع أن هذه الآية - يعني آية النساء - كما ترد على الوعيدية من الخوارج والمعتزلة. فهي ترد أيضا على المرجئة الواقفية الذين يقولون: يجوز أن يعذب كل فاسق فلا يغفر لأحد، ويجوز أن يغفر للجميع.   (1) ((الفتاوى)) (18/ 191 - 192). (2) ((الفتاوى)) (6/ 441). (3) كما وصفهم بذلك شيخ الإسلام في: ((الفتاوى)) (12/ 482). (4) انظر: ((منهاج السنة)) (5/ 294). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 فإنه قال: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48]، فأثبت أن ما دون ذلك فهو مغفور، لكن لمن يشاء، فلو كان لا يغفره لأحد بطل قوله: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ، ولو كان يغفره لكل أحد بطل قوله: لِمَن يَشَاء. فلما أثبت أنه يغفر ما دون ذلك، وأن المغفرة هي لمن يشاء دل ذلك على وقوع المغفرة العامة مما دون الشرك، لكنها لبعض الناس، وحينئذ فمن غفر له لم يعذب، ومن لم يغفر له عذب. وهذا مذهب الصحابة، والسلف، والأئمة، وهو القطع بأن بعض عصاة الأمة يدخل النار، وبعضهم يغفر له" (1). وقال: "وقد دل على فساد قول الطائفتين - يعني الوعيدية والواقفة من المرجئة -: قول الله تعالى في آيتين من كتابه. وهو قوله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48]، فأخبر تعالى أنه لا يغفر الشرك، وأخبر أنه يغفر ما دونه لمن يشاء، ولا يجوز أن يراد بذلك التائب، كما يقوله من يقوله من المعتزلة، لأن الشرك يغفره الله لمن تاب، وما دون الشرك يغفره الله أيضا للتائب، فلا تعلق بالمشيئة. ولهذا لما ذكر المغفرة للتائبين قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53]، فهنا عمم المغفرة وأطلقها، فإن الله يغفر للعبد أي ذنب تاب منه، فمن تاب من الشرك غفر الله له، ومن تاب من الكبائر غفر الله له، وأي ذنب تاب العبد منه غفر الله له. ففي آية التوبة عمم وأطلق، وفي تلك الآية خصص وعلق، فخص الشرك بأنه لا يغفره، وعلق ما سواه على المشيئة، ومن الشرك التعطيل للخالق، وهذا يدل على فساد قول من يجزم بالمغفرة لكل مذنب، ونبه بالشرك على ما هو أعظم منه، كتعطيل الخالق، أو يجوز ألا يعذب بذنب، فإنه لو كان كذلك لما ذكر أنه يغفر البعض دون البعض، ولو كان كل ظالم مغفور له بلا توبة ولا حسنات ماحية لم يعلق ذلك بالمشيئة. وقوله تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48] دليل على أنه يغفر البعض دون البعض، فبطل النفي والوقف العام" (2). ويقول رحمه الله تعالى: "وأيضا فقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في أنه يخرج أقوام من النار بعد ما دخلوها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أقوام دخلوا النار، وهذه الأحاديث حجة على الطائفتين: الوعيدية الذين يقولون من دخلها من أهل التوحيد لم يخرج منها. وعلى المرجئة الواقفة، الذين يقولون: لا ندري هل يدخل من أهل التوحيد النار أحد أم لا؟ كما يقول ذلك طوائف من: الشيعة، والأشعرية، كالقاضي أبي بكر، وغيره" (3). ويقول: "وهذا المعنى - خروج الموحد من النار - مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل متواتر في أحاديث كثيرة من الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وغيرهما، وفيها الرد على طائفتين: على الخوارج والمعتزلة الذين يقولون إن أهل التوحيد يخلدون فيها، وهذه الآية حجة عليهم. وعلى من حكي عنه من غلاة المرجئة أنه لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد، فإن إخباره بأن أهل التوحيد يخرجون منها بعد دخلوها، تكذيب لهؤلاء وأولئك.   (1) تفسير آيات أشكلت (1/ 293 - 296)؛ وهو في: ((الفتاوى)) (16/ 18 - 19)؛ وانظر: ((الفتاوى)) (4/ 475 - 18/ 191 - 192)؛ و ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 501 - 502، ص360 - 361) ط. ابن الجوزي. (2) ((الفتاوى)) (11/ 184 - 185). (3) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((مجموع الفتاوى)) (7/ 486)، (ص331 - 332) ط. ابن الجوزي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 وفيه رد على من يقول: يجوز أن لا يدخل الله من أهل التوحيد أحدا النار. كما يقوله طائفة من المرجئة الشيعة، ومرجئة أهل الكلام المنتسبين إلى السنة، وهم الواقفة من أصحاب أبي الحسن وغيرهم، كالقاضي أبي بكر، وغيره. فإن النصوص المتواترة تقتضي دخول بعض أهل التوحيد وخروجهم" (1). وخلاصة هذا الرد في الوجوه التالية: 1 - أن قوله تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ يدل على بطلان قول المرجئة أنه يجوز أن لا يغفر لأحد. ويدل على أن المغفرة حاصلة للبعض ممن يشاء الله، ومن لم يشأ أن يغفر له يجوز أن لا يغفر لأحد. ويدل على أن المغفرة حاصلة للبعض ممن يشاء الله، ومن لم يشأ أن يغفر له، فهو معذب. 2 - أن قوله تعالى: لِمَن يَشَاء يدل على بطلان قولهم إنه يجوز أن يغفر لكل أحد. 3 - أن قوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ [الزمر: 53]، يدل على بطلان توقفهم في قبول توبة الله على المذنبين، فإن الآية تدل على أن كل من ارتكب ذنبا، سواء كان شركا فما دونه، ثم تاب منه، فإن الله يقبل توبته. 4 - أن الأحاديث المتواترة في خروج العصاة من النار، وفي الشفاعة لمن دخلها بالخروج منها تبطل توقفهم في خروج أصحاب الذنوب من النار. والذي عليه أئمة السلف هو القطع بأن من تاب توبة نصوحا قبل الله توبته (2). رابعا: تأويل المرجئة قوله تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27] بأن المراد به من اتقى الشرك، أجاب عنه شيخ الإسلام بقوله: هذا خلاف القرآن، فإن الله تعالى قال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ [المرسلات: 41 - 42]، وإِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [القمر: 54]، وقال: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة: 1 - 4]، وقالت مريم: قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا [مريم: 18]، ولم ترد الشركن بل أرادت التقي الذي يتقي، فلا يقدم على الفجور"، ثم قال: "وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70 - 71]، فهم قد آمنوا واتقوا الشرك، فلم يكن الذي أمرهم به بعد ذلك مجرد ترك الشرك.   (1) ((الفتاوى)) (16/ 196). (2) انظر: الإيمان ص400 ((الفتاوى)) (7/ 418). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران: 102]، أفيقول مسلم: إن قطاع الطريق الذين يسفكون دماء الناس، ويأخذون أموالهم اتقوا الله حق تقاته؛ لكونهم لم يشركوا؟، وإن أهل الفواحش، وشرب الخمر، وظالم الناس اتقوا الله حق تقاته؟ "، ثم قال:"ومن أواخر ما نزل من القرآن - وقيل: إنها آخر آية نزلت (1) - قوله تعالى: وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة: 281]، فهل اتقاء ذلك هو مجرد ترك الشرك، وإن فعل كل ما حرم الله عليه، وترك كل ما أمر الله به؟ ".ثم ختم شيخ الإسلام جوابه بقوله: "وبالجملة، فكون المتقين هم الأبرار، الفاعلون للفرائض، المجتنبون للمحارم، هو من العلم العام الذي يعرفه المسلمون خلفا عن سلف، القرآن والأحاديث تقتضي ذلك" (2). وقال أيضا: "قوله: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27]، أي ممن اتقاه في ذلك العمل، ليس المراد به الخلو من الذنوب، ولا مجرد الخلو من الشرك، بل من اتقاه من عمل قبله منه وإن كانت له ذنوب أخرى؛ بدليل قوله: وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود: 114]، فلو كانت الحسنة لا تقبل من صاحب السيئة لم تمحها. وقد ثبت بالكتاب والسنة المتواترة: الموازنة بين الحسنات والسيئات، فلو كانت الكبيرة تحبط بالحسنات لم تبق حسنة توزن معها. وقد ثبت في الصحيحين: أن بغيا سقت كلباش، فغر الله لها بسقيه" (3). خامسا: ظن المرجئة أن العمل لا يحبط إلا بالكفر فقط. فيقال: إن الإيمان كله لا يزيله إلا الكفر المحض، الذي لا يبقى مع صاحبه شيء من الإيمان، وهذا هو الذي يحبط الأعمال، وأما ما دون ذلك، فقد يحبط بعض العمل، كما في قوله تعالى: لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى [البقرة: 264]، فإن ذلك يبطل تلك الصدقة، لا يبطل سائر أعماله (4). سادسا: استدلالهم بقوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [فاطر: 32 - 33] على أن الثلاثة يدخلون الجنة. يجاب عنه بأن هذا "لا يمنع أن يكون الظالم لنفسه قد عذب قبل هذا، ثم يدخلها" (5). سابعاً: استدلال بعض المرجئة بقوله تعالى: فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل: 14 - 16] على أن النار لا يدخلها إلا كافر. أجيبوا عن هذا بجوابين: أحدهما: أن هذه نار مخصوصة بالكفار الأشقياء، ولغيرهم منازل أخرى. والثاني: أن الموحدين لا يصلونها صلي خلود. وهذا أقرب، وتحقيقه أن الصلي هنا هو الصلي المطلق، وهو المكث فيها، والخلود على وجه يصل إليهم العذاب دائما، فأما من دخل النار وخروج، فإنه نوع من الصلي، ليس هو الصلي المطلق، بحيث تحبط به من جميع جوانبه، فإنه قد ثبت أن الموحدين لا تأكل النار منهم مواضع السجود، والله أعلم (6).ومن خلال المباحث السابقة في مرتكب الكبيرة يتبين أن فرق المرجئة الذين درست أقوالهم في مرتكب الكبيرة، وهم رؤوس فرق الإرجاء، ليس لهم مخالفة في مرتكب الكبيرة إلا في اسمه، حيث يجعلونه مؤمنا كامل الإيمان، وإلا فهم يقولون بأن الفاسق مستحق للذم والعقاب، ومعرض للوعيد، وأن من أهل القبلة من يدخل النار (7). المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 517   (1) انظر: ((جامع البيان)) (3/ 136 - 137)، و ((زاد المسير)) (3/ 334 - 335). (2) ((منهاج السنة)) (5/ 288 - 292)؛ وأنظر منه (6/ 216 - 217). (3) ((منهاج السنة)) (5/ 296 - 297)، وانظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((مجموع الفتاوى)) (7/ 495)، (ص347) ط. ابن الجوزي؛ و ((الفتاوى)) (12/ 483)؛ ومجموعة ((الفتاوى الكبرى)) (4/ 262). (4) انظر: ((منهاج السنة)) (5/ 298)؛ وانظر: ((مختصر الفتاوى))، (ص252)، وهو في ((المستدرك على مجموع الفتاوى)) (1/ 124). (5) ((منهاج السنة)) (5/ 298). (6) انظر: ((الفتاوى)) (161/ 197)؛ و ((منهاج السنة)) (5/ 298)؛ وراجع: ((تفسير الطبري)) (30/ 274)؛ و ((زاد المسير)) (9/ 151 - 152)؛ و ((الجامع لأحكام القرآن)) (20/ 59)؛ و ((تفسير ابن كثير)) (4/ 552). (7) انظر: ((الفتاوى)) (16/ 242). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 المبحث الأول: موقف علماء السلف من الإرجاء والمرجئة يمتاز علماء السلف بأنهم هم الفئة العالمة التي لا تعبث بأصول عقيدتها الأحداث، والفتن التي مزقت الأمة إلى تيارات متعددة، وقد كانت هذه الفرق المخالفة لمنهج السلف هي إحدى نتائج هذه الفتن، وقد أوغلت الضلالة بأرباب هذه الفرق إلى ابتداع أمور مخالفة لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، ومن هذا المنطق، فقد وقف علماء السلف في وجه هؤلاء المبتدعة، وأبطلوا شبهاتهم، وبينوا المعتقد الحق الذي تدين به الأمة المسلمة". وكلما ظهرت فتنة من الفتن أفرزت في خاتمتها إقرارات بدعية مختلفة، يقول بها من ضعف عقيدته عن مواجهة الباطل، والثبات على الدين الحق، وهذا ما حدث للخوارج عندما خرجوا على علي رضي الله عنه، ورد عليهم الشيعة، وانتحلوا الأكاذيب التي يرفعون بها الرجال إلى مصاف الألوهية، ويتبرءون من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ظهرت القدرية، والتي عجزت عقولهم عن اعتقاد الرسول، والصحابة الكرام في القدر، فراموا فهما، واعتقاداً، أودى بهم إلى إنكار القدر، ثم جاءت المرجئة بعقولهم العاجزة - أيضا - عن فهم أسس العقيدة، وثوابتها أمام الفتن، والأحداث الجسام، فجنحوا إلى فصل الإيمان عن العمل، واتسعت دائرة هذا الابتداع، ليجد فيه أتابع الفرق المنحرفة مخرجاً لانسلاخهم، وبعدهم عن الدين الحق. وبسبب هذا الواقع الأليم، أنكر علماء السلف على المرجئة مقالتهم الضالة، واعتبروها من البدع الخطرة، التي تعطي الجهلة، والفسقة، الذريعة لارتكاب المعاصي، والمنكرات، وقد أتبع السلف في الرد على المرجئة مسالك متعددة؛ من أبرزها ما يلي: الاحتجاج عليهم بنصوص الكتاب، والسنة، وواقع الصحابة الذي يبطل دعواتهم: فأهل البدع كلهم إنما سموا مبتدعة لمخالفتهم ما جاء في الكتاب والسنة من العقائد الصحيحة، وهؤلاء المرجئة إنما حرفوا نصوص الكتاب والسنة في الإيمان، والعمل، وتأولوها على غير وجهها الصحيح؛ تبعاً لانحرافهم، وبدعتهم؛ فهذا هو القرآن الكريم يقرن الإيمان بالعمل، في مواطن يطول حصرها، ومنها قول الله - تعالى -: وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [البقرة: 25]، وقال - تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 277]، وقال - تعالى -: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة: 93]، وسمى - سبحانه - الأعمال إيماناً؛ فقال - سبحانه -: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [البقرة: 143]. وقال - تعالى -: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15]. وقال - تعالى -: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ [الطور: 21]. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 ثم ينص القرآن الكريم على زيادة الإيمان - أيضاً -؛ مما يبطل دعوى المرجئة أن الإيمان لا يزيد، ولا ينقص؛ فقال - سبحانه وتعالى - رداً على المنافقين سلف المبتدعة: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة: 124 - 125]، ويصف - سبحانه - صحابة نبيه - عليه السلام -، وزيادة إيمانهم في المحنة الكبرى يوم حد: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: 173]. ويصف - سبحانه - الفتية المؤمنين في سورة الكهف؛ فيقول: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف: 13]، وقال - تعالى -: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر: 31]. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 وقال - تعالى -: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح: 4]، وقال - تعالى -: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ [الأنفال: 2].أما السنة المطهرة، فقد حفلت بهذه الجوانب كثيراً؛ ولذلك صنف علماء السلف المصنفات الكثيرة في الإيمان؛ للرد على المرجئة؛ فمنها: "كتاب الإيمان"، لأبي عبيد القاسم بن سلام "ت 224"، و "الإيمان" للحافظ أبي بكر بن أبي شيبة "ت 235"، وقد حققهما فضيلة الشيخ الألباني: والإمام أحمد بن حنبل، والإمام الطحاوي، والإمام محمد بن إسحاق بن مندة، كما حفلت الصحاح بأبواب الإيمان المليئة بالأحاديث الصحيحة؛ مثل صحيح البخاري، ومسلم، وكتب السنن المختلفة، كما ألف شيخ الإسلام كتابه "الإيمان"، وتعرض لمسائل الإيمان في مجموع فتاويه في مواطن متعددة (1)، وقد عرضنا لجملة من هذه الأحاديث في مبحث الإيمان، والعمل، ومنها ما رواه البخاري، ومسلم، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: "إن وفد عبد القيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من القوم، أو: من الوفد، قالوا: ربيعة، قال: مرحبا بالقوم غير خزايا، ولا ندامى، فقالوا: يا رسول الله، إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا، وندخل به الجنة، وسألوه عن الأشربة؛ فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع: أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده، قالوا: الله، ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تغطوا من المغنم الخمس، ونهاهم عن أربع: عن الحنتم، والدبا، والنقير، والمزفت، وربما قال: المقير: وقال: أحفظوهن، وأخبروا بهن من وراءكم)) (2).فهذا التوجيه النبوي لهذا الوفد الكبير فيه اقتران الإيمان بالعمل، وأنه لابد من هذه الفرائض، واجتناب هذه النواهي؛ حتى يكتمل إيمانهم، وهذا الإيمان يزيد بالطاعات، وينقص إذا عمل المسلم المعاصي، والمنهيات، فقد روى البخاري عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، ومن في قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن ذرة من خير))، وفي رواية أخرى أنه قال بدل كلمة ((خير)) كلمة ((إيمان)) (3).وروى ابن أبي شيبة عن هانئ بن هانئ، قال: كنا جلوساً عند علي - عليه السلام -، فدخل عمار، فقال: مرحباً بالطيب المطيب، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن عماراً مليء إيماناً إلى مشاشه)) (4).وقد أخذ التابعون عن الصحابة - رضوان الله عليهم - الفهم الصحيح لزيادة الإيمان، ونقصه؛ فعن إبراهيم بن علقمة، وكان من أصحاب عبدالله بن مسعود، أنه كان يقول لأصحابه: (أمشوا بنا نزدد إيماناً) (5)،   (1) انظر ابن منده، كتاب ((الإيمان))، (ص7)، مقدمة المحقق الدكتور علي الفقي، ط2، 1406هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. (2) رواه البخاري (53) , ومسلم (17). (3) رواه البخاري (44). (4) رواه النسائي (8/ 111) (5007) , وابن ماجه (147) , قال ابن حجر في ((فتح الباري)) (7/ 116): إسناده صحيح, وصححه الألباني. (5) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (6/ 164) .. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 وعن الأسود بن هلال، قال: (كان معاذ بن جبل يقول للرجال من إخوانه: أجلس بناء، فنؤمن ساعة، فيجلسان، فيذكران الله، ويحمدانه) (1).فكان السلف - رضوان الله عليهم - على هذا المعتقد الحق بالإيمان، وأن العمل ملازم له، ولا ينفك عنه، بل هو علامة دالة على صدق صاحبه؛ ولذلك ألف علماء السلف المصنفات الكبرى في شعب الإيمان، وأبوابه التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم إنها الإيمان، وإنها قول باللسان، ومعرفة بالقلب، وعمل الأركان (2).وكان علماء السلف من الصحابة والتابعين، على هذا المعتقد، وذكر منهم: "عمر بن الخطاب، وعليا، وعبدالله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبا الدرداء، وابن عباس، وابن عمر، وعمارا، وأبا هريرة، وحذيفة بن اليمان، وسلمان الفارسي، وعبدالله بن رواحة، وأبا أمامة، وجندب بن عبدالله البجلي، وعمير بن خماشة، وعائشة - رضي الله عنهم - أجمعين، ومن التابعين: كعب الأحبار، وعروة بن الزبير، وعطاء، وطاووسا، ومجاهد، وابن أبي مليكة، وميمون بن مهران، وعمران بن عبدالعزيز، وسعيد بن جيد، والحسن البصري، والزهري، وقتادة، ويحيى بن أبي كثير، وأيوب السختياني، وأيوب بن عبيد، وابن عون، وسليمان التيمي، وإبراهيم النخعي، وأبا البختري، وسعيد بن فيروز، وعبدالكريم بن مالك الجزري، وزبيد بن الحارث، والأعمش، والحكم، ومنصوراً، وحمزة الزيات، وهشام بن حسان، ومعقل بن عبدالله الجزري، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وجمهرة كبيرة غيرهم" (3).ومن مسالك السلف في رد بدعة المرجة: بيان فساد مذهبهم، والتحذير منهم: فقد قال الأوزاعي: "كان يحيى وقتادة يقولان: ليس من الأهواء شيء اخوف عندهم على الأمة من الإرجاء" (4)، وكان إبراهيم النخعي يقول عنهم: "لفتنتهم عندي أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة؛ لفقوا قولاً، فأنا أخافهم على الأمة، والشر من أمرهم كبير؛ فإياك، وإياهم"، وذكر عنده المرجئة، فقال: "والله، إنهم أبغض إلى من أهل الكتاب"، ولعل قول إبراهيم النخعي بأنه أخوف على الأمة منهم من فتنة الأزراقة، كان نابعا من أن الأزارقة قالوا بتكفير مرتكب الكبيرة، فكفروا الناس في الذنوب، فكان الغلو رائدهم، وتساهلت المرجئة في القول بترك العمل، وإنه لا يضر مع الإيمان معصية مهما عظمت، فأباحت للناس فعل الموبقات، فكان غلوهم من هذا الجانب، والأزارقة يحذرون من الكبائر، ويحكمون على أصحابها بذلك التشدد، وهؤلاء يتركون الحبل على الغارب في دعواهم الباطلة، ويطمعون الفساق، ويدعون الناس بمقالتهم لفعل الكبائر، والموبقات. وروى الطبري عن عمر بن مرة "ت 116"، قال: "نظرت في أمر هؤلاء الخوارج، فإذا شر قوم، ونظرت في أمر هؤلاء الجنشبية "الشيعة"، فإذا شر قوم، ونظرت في أمر هؤلاء المرجئة، فإذا هم أمثل، أو خير، فأنا مرجئ، قال الأعمش: قلت: يا أبا عبدالله: ولم تسمى باسم غير الإسلام؟ قال: أنا كذلك" (5).وروى الذهبي عن محمد بن حميد، عن معيزة قال: "لم يزل في الناس بقية حتى دخل عمر بن مرة في الإرجاء، فتهافت الناس فيه" (6).   (1) رواه البخاري تعليقا في (باب الإيمان) وابن أبي شيبة، في (المصنف) (6/ 164) (30365) , قال ابن حجر في ((تغليق التعليق)) (2/ 21): موقوف صحيح, وقال الألباني في ((الإيمان)) لأبي عبيد (45): إسناده صحيح على شرط الشيخين. (2) ابن منده، ((الإيمان))، (1/ 362). (3) انظر اللالكائي، ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة))، (5/ 892 - 893)، وابن بطة، ((الإبانة)) الكبرآن (2/ 702)، وما بعدها، ت. د. رضا نعسان، رسالة مخطوطة بالجامعة. (4) ابن سعد، ((الطبقات الكبرى))، (6/ 282). (5) الطبرى ((تهذيب الآثار))، (2/ 184). (6) الذهبي، ((سير أعلام النبلاء))، (5/ 198). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 ويعيب ابن أبي مليكة مقالة المرجئة الغلاة؛ فيقول: "وقد أتى على برهة من الدهر، وما أراني أدرك رجلاً يقول: أنا مؤمن، فما رضي بذلك حتى قال على إيمان جبريل، وميكائيل، وما كان محمد صلى الله عليه وسلم يقول بذلك، وما زال الشيطان يتعلب بهم حتى قالوا: مؤمن، وإن نكح أمه، وأخته، وابنته؛ والله، ولقد أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً، ما مات أحد إلا وهو يخشى النفاق" (1).وقال ابن مجاهد: كنت عند عطاء بن أبي رباح، فجاء ابنه يعقوب، فقال: "يا أبتاه، إن أصحابا لنا يزعمون أن إيمانهم كإيمان جبريل، فقال: يا بني، ليس إيمان من أطاع الله كإيمان من عصى الله" (2).وعن سويد بن سعيد الهروي، قال: "سألنا سفيان بن عينية عن الإرجاء، فقال: يقولون: الإيمان قول، ونحن نقول: الإيمان قول، وعمل، والمرجئة أوجبوا الجنة لم شهد أن لا إله إلا الله "مصراً بقلبه على ترك الفرائض"، وسموا ترك الفرائض ذنباً بمنزلة ركوب المحارم، وليس بسواء؛ لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمداً من غير جهل، ولا عذر، هو كفر؛ وبيان ذلك من أمر آدم - صلوات الله عليه -، وإبليس، وعلماء اليهود؛ أما آدم، فنهاه الله - عز وجل - عن أكل الشجرة، وحرمها عليه، فأكل منها متعمداً؛ ليكون ملكاً، أو يكون من الخالدين؛ فسمي عاصياً من غير كفر، وأما إبليس - لعنه الله -، فغنه فرض عليه سجدة واحدة، فجحدها متعمداً؛ فسمي كافراً، وأما علماء اليهود فعرفوا نعت النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه نبي رسول، كما يعرفون أبناءهم، وأقروا به باللسان، ولم يتبعوا شريعته؛ فسماهم الله - عز وجل - كفارا، فركوب المحارم مثل ذنب آدم - عليه السلام -، وغيره من الأنبياء، وأما ترك الفرائض جحوداً، فهو كفر؛ مثل كفر إبليس - لعنه الله -، وتركهم على معرفة من غير جحود جحود، فهو كفر مثل كفر علماء اليهود" (3).ومن مسالك علماء السلف مع مبتدعة المرجئة الحوار معهم، وبيان تهافت فكرتهم وبطلانها؛ فقد روى الطبري عن سلام بن أبي مطيع قال: "سمعت أيوب، وعنده رجل من المرجئة، فجعل الرجل يقول: إنما هو الكفر، والإيمان، قال: فأقبل عليه أيوب، فقال: أرأيت قول الله: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ [التوبة: 106]، أمؤمنون أم كفار؟ قال: فسكت الرجل، قال: فقال له أيوب: اذهب، فاقرأ القرآن؛ فكل آية في القرآن فيها ذكرالنفاق فإني أخافها على نفسي" (4).وعن إبراهيم بن الأشعث قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: يا سفيه، ما أجهلك! ألا ترضى أن تقول: أنا مؤمن، حتى تقول: أنا مستكمل الإيمان؟ لا، والله، لا يستكمل العبد الإيمان حتى يؤدي ما فرض الله عليه، ويجتنب ما حرم الله عليه، ويرضى بما قسم الله - عز وجل - له، ثم يخاف مع ذلك أن لا يقبل منه" (5).وجاء رجل إلى ميمون بن مهران يخاصمه في الإرجاء، فبينما هما على ذلك إذ سمعا امرأة تغني، فقال ميمون: أين إيمان هذه من إيمان مريم بنت عمران؟ فانصرف الرجل، ولم يرد عليه (6).   (1) الطبري، ((تهذيب الآثار))، (2/ 192)، وانظر اللالكائي، (5/ 955). (2) عبدالله بن أحمد، ((السنة))، (1/ 345)، واللالكائي، (5/ 956). (3) عبدالله بن أحمد، ((السنة))، (1/ 347). (4) ((تهذيب الآثار))، (2/ 192). (5) عبدالله بن أحمد، ((السنة))، (1/ 343). (6) ابن بطة، ((الإبانة الكبرى))، (2/ 783)، والذهبي، ((سير أعلام النبلاء))، (5/ 73). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 ومن مسالك علماء السلف في الرد على المرجئة الغلاة تكفيرهم بما نسب لهم من الأقوال الشاذة التي تبيح المحرمات؛ فقد روى اللالكائي، وابن بطة، والطبري، عن معقل بن عبيدالله العبسي "ت 116"، قال: قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء، فنفر منه أصحابنا نفاراً شديداً؛ منهم ميمون بن مهران "ت 119ط، وعبدالكريم بن مالك، فأما عبدالكريم بن مالك، فإنه عاهد الله أن لا يأويه وإياه سقف بيت إلا المسجد، قال معقل: فحججت، فدخلت على عطاء بن أبي رباح "ت: 124" في نفر من أصحابي، وغذا هو يقرأ سورة يوسف، وقال: قلت له: إن لنا حاجة، فأدخلنا، ففعل، فأخبرته أن قوما قبلنا قد أحدثوا، وتكلموا، وقالوا: إن الصلاة، والزكاة ليستا من الدين، فقال: أوليس الله - عز وجل - يقول: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ [البينة: 5]، قال: وقتل إنهم يقولون: ليس في الإيمان زيادة، قال: أوليس قد قال الله فيما أنزل: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح: 4].هذا الإيمان الذي زادهم، قال: فقلت: إنهم انتحلوك، وبلغني أن ابن درهم دخل عليك في أصحابه، فعرضوا عليك قولهم، فقبلته، فقلت هذا الأمر، فقال: لا، والله الذي لا إله إلا هو "مرتين، أو ثلاثاً"، قال: ثم قال: قدمت المدينة، فجلس إلى نافع مولى ابن عمر "ت 119"، فقلت: يا أبا عبدالله، إن لي إليك حاجة، قال: سر، أم علانية؟ فقلت: لا، بل سر، قال: دعني من السر، سر لا خير فيه، فقلت: ليس من ذلك، فلما صلى العصر، فذكرت له قولهم، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أضربهم بالسيف حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا إله إلا الله، عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله))، قال: قلت: إنهم يقولون: نحن نقر بالصلاة، فريضة، ولا نصلي، وأن الخمر حرام، ونحن نشربها، وأن نكاح الأمهات حرام، ونحن نريده، فنتر يده من يدي، وقال: من فعل هذا فهو كافر" (1).ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام أحمد، ووكيع، تكفير غلاة المرجئة؛ فقال: "وأما جهم، فكان يقول: إن الإيمان مجرد تصديق القلب، وإن لم يتكلم به، وهذا القول لا يعرف عن أحد من علماء الأمة، وأئمتها؛ بل أحمد، ووكيع، وغيرهما، كفروا من قال بهذا القول" (2).وروى الخلال عن عبيدالله بن حنبل قال الحميدي "عبداللهبن الزبير بن عيسى": وأخبرت أن قوما يقولون: إن من أقر بالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، ولم يفعل من ذلك شيئاً، حتى يموت، أو يصلي مسند ظهره، مستدبر القبلة، حتى يموت، فهو مؤمن، ما لم يكن جاحداً، إذا علم أن تركه ذلك في إيمانه، إذا كان يقر الفروض، واستقبال القبلة، فقلت: هذا الكفر بالله الصراح، وخلاف كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفعل المسلمين قال الله - عز وجل -: حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 5]، قال حنبل: "قال أبو عبدالله، وسمعته يقول: من قال هذا فقد كفر بالله، ورد على الله أمره، وعلى الرسول ما جاء به" (3).   (1) عبدالله بن أحمدن ((السنة))، (1/ 382)، واللالكائي، ((شرح الاعتقاد))، (5/ 953)، والطبري، ((تهذيب الآثار))، (2/ 173)، وابن بطة، ((الإبانة الكبرى))، (2/ 696). (2) ابن تيمية، ((مجموع الفتاوى))، (13/ 47). (3) الخلال، ((السنة))، (ص586)، ت. د. عطية الزهراني، ط1، 1410هـ، دار الراية، الرياض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 ومن مسالك علماء السلف في رد بدعة القدرية نسبة مقالتهم إلى مصادر غير إسلامية، كاليهودية، والنصرانية، والصابئة؛ فقد روى عبدالله بن أحمد أن سعيد بن جبير كان يقول عن المرجئة: "إنهم يهود القبلة" (1).وكان قول - أيضاً -: "مثل المرجئة مثل الصابئين" (2)، ويفسر ذلك فيقول: "مثلهم مثل الصائبين، إنهم أتوا اليهود، فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: اليهودية، قالوا: فما كتابكم؟ قالوا: التوراة، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: موسى، قالوا: فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة، ثم أتوا النصارى، فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: النصرانية، قالوا: فما كتابكم؟ قالوا: الإنجيل، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: عيسى، ثم قالوا: فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة، قالوا: فنحن بد ندين" (3). وكان السلف لا يسلمون عليهم، ولا يجالسونهم، وينهون عن ذلك: فقد روى ابن بطة، أن ذر بن عبدالله "أحد المرجئة" شكا سعيد بن جبير إلى أبي البحتري الطائي، فقال: "مررت، فسلمت عليهن فلم يرد علي، فقال أبو البحتري لسعيد بن جبير، فقال سعيد: إن هذا يجدد في كل يوم ديناً، لا، ولا كلمته أبدا" (4).وقال أيوب السختياني: قال لي سعيد بن جبير: "لا تجالس طلقاً "أي طلق بن حبيب، وكان مرجئيا، وقال مرة أخرى: رآني سعيد بن جبير جلست إلى طلق بن حبيب، فقال: ألم أرك جلست إليه؟ لا تجالسه، قال: وكان ينتحل الإرجاء" (5)، وكان سفيان الثوري يقول: "ما كنا نأتي حماد بن أبي سليمان "ت 120هـ" إلا سرا من أصحابنا، كانوا يقولون: أتأتيه؟ أتجالسه؟ فما كنا نأتيه إلا سرا" (6)، وقال في رواية أخرى: "كنت ألقى حماد بعد ما أحدث "الإرجاء"، فما كنت أسلم عليه" (7). وكان الأعمش لا يسمح بجلوسهم في حلقة الحديث التي كان يعقدها، وكان يأمر بإخراجهم من المسجد (8).وكان السلف لا يحضرون جنائزهم، ولا يصلون عليهم إذا ماتوا؛ "فعندما مات عمر بن ذر، وكان رأسا في الإرجاء، لم يشهد جنازته سفيان الثوري، ولا الحسن بن صالح (9)، وعندما توفي عبدالعزيز بن أبي رواد، فجيء بجنازته، فوضعت عند باب الصفا، واصطف الناس، وجاء سفيان الثوري، فقال الناس: جاء الثوري جاء الثوري، فجاء حتى خرق الصفوف، والناس ينظرون إليه، فجاوز الجنازة، ولم يصل عليها؛ وذلك لأنه كان يرى الإرجاء" (10)، وسئل عن ذلك، فقال: "والله، إني لأرى الصلاة على من هو دونه عندي، ولكني أردت أن أرى الناس أنه مات على بدعة" (11). هذه جملة من مواقف علماء السلف من بدعة الإرجاء، وهي تعبر عن أصالة منهج السلف، واشتهاره، وهيمنته على الأمة في هذه المرحلة، واستلهام علماء السلف، واقع الدعوة الإسلامية الأولى، بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، الذين اعتقدوا ما جاء به الكتاب، والسنة، ولم تؤثر فيهم الأحداث، والفتن، فكانوا هم أهل الحق الذي وعد به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنهم لا يضرهم من خالفهم؛ حيث وقفوا لهذه البدع بالمرصاد، فكل البدع، صغيرة كانت أو كبيرة، فهي مرفوضة عندهم؛ لأن الأتباع لهذا الدين الحق بوضوحه، وظهوره، لا يعطي أي مبرر لأهل البدع أن يعلنوا بدعهم، أو يدعوا لها. المصدر: العقيدة الإسلامية وجهود علماء السلف في تقريرها والدفاع عنها حتى نهاية العصر الأموي لعطا الله المعايطة - ص 601   (1) ((السنة))، (1/ 341)، وص (323). (2) ((السنة))، (1/ 1338). (3) ((السنة))، (1/ 324)، وعبارة ابن بطة قوله: "نحن بين بين" (1/ 771). (4) ابن بطة، ((الإبانة الكبرى))، (2/ 774). (5) ابن سعد، ((الطبقات))، (7/ 196)، والذهبي، ((سير أعلام النبلاء))، (4/ 601). (6) البسوي، ((المعرفة والتاريخ))، (2/ 791). (7) البسوي، ((المعرفة والتاريخ))، (2/ 791). (8) البسوي، ((المعرفة والتاريخ))، (2/ 764). (9) ابن سعيد، ((الطبقات)). (10) العقيلي، ((الضعفاء الكبير))، (3/ 6). (11) العقيلي، ((الضعفاء الكبير))، (3/ 6). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 المبحث الثاني: موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من المرجئة إجمالا يمكن عرض موقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من المرجئة من خلال الفقرات التالية: أولاً: خطورة الإرجاء. بين شيخ الإسلام أن المرجئة فيما أثبتوه من إيمان أهل الذنوب، والرحمة لهم أحسنوا، لكن إنما أصل إساءتهم من جهة ما نفوه من دخول الأعمال في الإيمان وعقوبات أهل الكبائر (1).فالمرجئة مع قولهم بأن الله فرض الصلوات الخمس وغيرها من شرائع الإسلام، وحرم الفواحش (2)، إلا أن قولهم بالإرجاء يضعف الإيمان بالوعيد، ويهون أمر الفرائض والمحارم (3).ومن المرجئة من تسترسل نفسه في المحرمات وترك الواجبات، حتى يكون من شرك الخلق (4).وقد نبه شيخ الإسلام أيضا على أن كثيرا من المرجئة لا يعرفون اعتقاد أهل السنة والجماعة كما يجب، أو يعرفون بعضه ويجهلون بعضه، وما عرفوه منه قد لا يبينونه للناس بل يكتمونه، ولا ينهون عن البدع المخالفة للكتاب والسنة، ولا يذمون أهل البدع ويعاقبونهم، بل لعلهم يذمون الكلام في السنة وأصول الدين ذما مطلقا، لا يفرقون بين ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، وما يقوله أهل البدع والفرقة، أو يقرون الجميع على مذاهبهم المختلفة، وهذه طريقة منحرفة، خارجة عن الكتاب والسنة (5).فخلاصة الأمر أن المرجئة قصروا في النهي عن المنكر، وفي الأمر بكثير من المعروف (6). ثانياً: الإرجاء بدعة، وأصحابه من أهل الأهواء. البدعة التي يعد صاحبها من أهل الأهواء هي ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة، وهذا الوصف يقع على بدعة الإرجاء، كما هو واقع على بدعة الخوارج، والروافض، والقدرية. ولذا فإن بدعة الإرجاء من البدع التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء (7).كما أن بدعة المرجئة تشارك البدع السابقة في أن لها شبها في نصوص الأنبياء، بخلاف بدع الجهمية النفاة، فإنه ليس معهم فيها دليل سمعي أصلا، ولهذا كانت آخر البدع حدوثا في الإسلام (8). ثالثا: الإرجاء من الاختلاف المذموم. خلاف المرجئة من الاختلاف المذموم (9)، وهو نزاع مبتدع في الإسلام، مسبوق بإجماع السلف على خلافه، والنزاع الحادث بعد إجماع السلف خطأ قطعاً؛ لمخالفته النصوص المستفيضة المعلومة، وإجماع الصحابة (10). رابعا: المرجئة أصناف، ولكل صنف أحكامه. مما يلاحظ حول موقف شيخ الإسلام من المرجئة أنه لم يجعلهم في دائرة واحدة يندرجون تحت حكم واحد، بل هم عنده أصناف ثلاثة، ولكل صنف منهم أحكامه: الصنف الأول: مرجئة الفقهاء.   (1) انظر: ((الفتاوى)) (20/ 111). (2) انظر: ((الفتاوى)) (17/ 105). (3) انظر: ((الفتاوى)) (8/ 105)؛ و ((التدمرية))، (ص189 - 190) ((الفتاوى)) (3/ 102)؛ و ((درء التعارض)) (8/ 23)؛ و ((جامع المسائل)) (5/ 37). (4) انظر: ((منهاج السنة)) (5/ 327). (5) انظر: ((الفتاوى)) (12/ 467). (6) انظر: ((الفتاوى)) (20/ 111). (7) انظر: ((الفتاوى)) (35/ 414)؛ ومجموعة ((الفتاوى الكبرى)) (2/ 23)؛ و ((بيان التلبيس)) (2/ 41). (8) انظر: ((الفتاوى)) (5/ 228)؛ و ((منهاج السنة)) (5/ 561)؛ و ((التدمرية))، (ص189 - 193). (9) انظر: ((منهاج السنة)) (5/ 260). (10) انظر: ((الفتاوى)) (13/ 26). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 وهؤلاء على أيديهم ظهر الإرجاء، وكانوا أول من أحدث هذه الثلمة في الأمة - نعوذ بالله من الخدلان -.وقد كان قصدهم - عفا الله عنا وعنهم - أتباع الأمر والنهي، وتصديق الوعيد بالوعد، وجعل أهل القبلة كلهم مؤمنين ليسوا كفارا، فهم قابلوا الوعيدية من الخوارج والمعتزلة، فصاروا طرفا آخر (1).وإذا ما قورنت بدعة هؤلاء بغيرها من البدع في الإيمان نجد شيخ الإسلام رحمه الله يصف بدعتهم بأنها أخف البدع، وأنها من بدع الأقوال والأفعال، لا من بدع العقائد، لكن البلاء في هذه البدعة أنها فتحت الباب لخطأ عظيم في العقائد والأعمال (2). ولذا اتفقت كلمة السلف على إنكار هذه المقالة، وذم أصحابها، وتبديعهم. وكلمة السلف متفقة أيضا على عدم تكفيرهم، ومن ظن من السلف أنهم كفروهم، فقد أخطأ عليهم. يقول شيخ الإسلام: "ولهذا لم يكفر أحد من السلف أحدا من مرجئة الفقهاء" (3). ويقول رحمه الله: "ثم إن السلف والأئمة اشتد إنكارهم على هؤلاء - يعني مرجئة الفقهاء -، وتبديعهم، وتغليظ القول فيهم. ولم أعلم أحدا منهم نطق بتكفيرهم، بل هم متفقون على أنهم لا يكفرون في ذلك، وقد نص أحمد وغيره من الأئمة على عدم تكفير هؤلاء المرجئة (4).ومن نقل عن أحمد أو غيره من الأئمة تكفيرا لهؤلاء، أو جعل هؤلاء من أهل البدع المتنازع في تكفيرهم، فقد غلط غلطا عظيما" (5). ويقول: "وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير المرجئة، والشيعة المفضلة، ونحو ذلك. ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء، وإن كان من أصحابه من حكى في تكفير جميع أهل البدع - من هؤلاء وغيرهم - خلافا عنه، أو في مذهبه، حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء وغيرهم، وهذا غلط على مذهبه، وعلى الشريعة" (6). ومما يقيد لشيخ الإسلام حول موقفه من هذا الصنف اهتمامه الشديد بتحرير النزاع بين مقالتهم ومقالة السلف في الإيمان. فهو يضعف النزاع بين الفريقين بأن "أكثره نزاع لفظي" (7)، وأن "كثيرا منه نزاع في الاسم دون الحكم" (8).وقال رحمه الله: "فكان خلاف كثير من كلامم للجماعة إنما هو في الاسم، لا في الحكم" (9).وقال أيضا: "وإنما المقصود أن فقهاء المرجئة خلافهم مع الجماعة خلاف يسير، وبعضه لفظي" (10). فالمتحصل أن شيخ الإسلام يصف الخلاف بين الفريقين بأنه يسير، وأن أكثره، أو كثيرا منه، أو بعضه لفظي. وما مضى في مباحث الكتاب المتعلقة بمرجئة الفقهاء من كلام شيخ الإسلام نفسه كفيل بكشف حقيقة نزاعهم مع السلف في مسائل الإيمان. والذي تبين من الدراسة أن بين الفريقين مواطن اتفاق، ومواطن اختلاف على النحو التالي: أولا: مواطن الاتفاق: 1 - أن العمل المفروض واجب، وأن تارك الفرائض، وفاعل المحرمات مستحق للذم والعقاب. 2 - أنه لابد في الإيمان من قول اللسان، وأن من لم يأت به مع قدرته عليه، فهو كافر. 3 - أن إبليس وفرعون وغيرهما كفار مع تصديق قلوبهم، وأن من شتم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كافر باطنا وظاهرا.   (1) انظر: ((النبوات)) (1/ 423)؛ و ((الفتاوى)) (13/ 38) - (17/ 446). (2) انظر: ((الفتاوى)) (3/ 57) - (13/ 38)؛ و ((الإيمان)) (ص377) ((الفتاوى)) (7/ 394). (3) ((الإيمان)) (ص377) ((الفتاوى)) (7/ 394). (4) انظر: ((السنة))، للخلال (3/ 574) (رقم 988). (5) ((الإيمان الأوسط))، ضمن ((الفتاوى)) (7/ 507)، " (ص373 – 374) ط. ابن الجوزي. (6) ((الفتاوى)) (3/ 351 - 352)؛ ونحوه في: ((الفتاوى)) (23/ 348). (7) ((الإيمان)) (ص281) ((الفتاوى)) (7/ 297). (8) ((الفتاوى)) (13/ 38). (9) ((شرح الأصبهانة)) (2/ 575)، (ص138) ت مخلوف. (10) ((شرح الأصبهانية)) (2/ 585)، (ص143) ت مخلوف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 4 - أن مرتكب الكبيرة معرض للذم والوعيد، وأن أصحاب الكبائر منهم من لا يدخل النار، ومنهم من يدخلها ثم يخرج بالشفاعة. ثانيا: مواطن الاختلاف. 1 - ظنهم أن الإيمان شيء واحد لا يتعدد، ولا يتبعض، ولا يتفاضل أهله فيه. 2 - حصرهم الإيمان في تصديق القلب، وقول اللسان. 3 - إخراجهم أعمال القلوب من الإيمان. 4 - إخراجهم أعمال الجوارح من الإيمان. 5 - أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص. 6 - أن الاستثناء في الإيمان لا يجوز. 7 - مرتكب الكبيرة عندهم مؤمن كامل الإيمان. 8 - ظنهم أن المرجئ هو الذي لا يوجب الفرائض، ولا اجتناب المحارم. هذه هي مواطن اتفاق أهل السنة ومرجئة الفقهاء، واختلافهم في مسائل الإيمان، ومنها يتضح للناظر مدى الفرق بينهما، ويبقى التنبيه على مسألة مهمة حول كون النزاع لفظيا في مسألة الإيمان، وهي أن النزاع يكون كذلك في حالة تسليم المخالف بأن الإيمان الذي في القلب يستلزم الأمور الظاهرة من الأقوال والأعمال، ثم هو ينازع بعد ذلك في كون هذا الإيمان الظاهر جزءا من الإيمان الباطن أو لازما له، فالنزاع في هذه الجزئية يعد لفظيا على رأي شيخ الإسلام (1).وأما إن كان المخالف يقول بحصول الإيمان الواجب في القلب دون فعل شيء من الواجبات الظاهرة فهذه هي بدعة الإرجاء التي أعظم السلف الكلام في أهلها (2). الصنف الثاني: جهمية المرجئة. ويندرج تحت هذا الوصف أتباع جهم، والأشعري - في المشهور عنه - وأكثر أصحابه، والماتريدية. ومن موقف شيخ الإسلام من هذا الصنف تأكيده على ضرورة فهم مقالتهم، فإن كثيرا من المتأخرين قد خلط بين قول الجهمية وقول السلف، فتراه في باطنه يرى رأي الجهمية والمرجئة في الإيمان، وهو معظم للسلف وأهل الحديث، فيظن أنه يجمع بينهما، أو يجمع بين كلام أمثاله وكلام السلف (3).وبين أيضا أن قول هؤلاء في مسمى الإسلام والإيمان وحقيقتهما في غاية المباينة لقول السلف، ليس في الأقوال أبعد عن السلف منه، وهو أبعد من كل قول عن الكتاب والسنة، وفيه من مناقضة العقل والشرع واللغة ما لا يوجد مثله لغيرهم (4).وأمام هذه المباينة حصل الخلاف في تكفير من قال بهذا القول (5)، والذي عليه الأئمة، كوكيع بن الجراح، وأحمد بن حنبل، وأبي عبيد، وغيرهم، هو كفر من يقول بهذه المقالة (6).   (1) انظر ((الإيمان الأوسط))، ضمن ((الفتاوى)) (7/ 575 - 576)، (ص481 - 483) ط. ابن الجوزي. (2) انظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن ((الفتاوى)) (7/ 621)، (ص577) ط. ابن الجوزي، و ((الإيمان)) (ص206) ((الفتاوى)) (7/ 218). (3) انظر: ((الإيمان)) (ص347) ((الفتاوى)) (7/ 364). (4) انظر: ((الإيمان)) (ص151 - 152) ((الفتاوى)) (7/ 258 - 259). (5) انظر: ((الصارم المسلول)) (3/ 974). (6) انظر: ((الإيمان)) (ص115، 179) ((الفتاوى)) (7/ 120 - 189)؛ و ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (7/ 508، ص377) ط. ابن الجوزي؛ و ((الفتاوى)) (13/ 47)، (14/ 121)؛ و ((جامع الرسائل)) (1/ 17)؛ و ((الفتاوى)) (3/ 352) – (20/ 104). وانظر: ((السنة))، لعبدالله (1/ 114) (رقم 31) – (1/ 116) (رقم 38)؛ و ((السنة))، للخلال (5/ 97) رقم (1713) – (5/ 122) رقم (1772، 1773)؛ و ((الإيمان))، لأبي عبيد، (ص31 - 32). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 وهذا تكفير للمقالة، وأما أصحابها، فقد قال شيخ الإسلام: "والمحفوظ عن أحمد وأمثاله من الأئمة إنما هو تكفير الجهمية المشبهة، وأمثال هؤلاء، ولم يكفر أحمد الخوارج، ولا القدرية - إذا أقروا بالعلم، وأنكروا خلق الأفعال، وعموم المشيئة -، لكن حكي عنه في تكفيرهم: روايتان. وأما المرجئة، فلا يختلف قوله في عدم تكفيرهم، مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية، ولا كل من قال إنه جهمي كفره، ولا كل من وافق الجهمية في بعض بدعهم، بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم" (1).ومع هذا كله لم ينس شيخ الإسلام رحمه الله عليه وهو يتخذ هذا الموقف من التنبيه على أن قول الجهمية بأن الفساق لا يخلدون في النار أقرب في الحكم إلى قول السلف (2).فهؤلاء الجهمية يعدون في إقرارهم بالأمر النهي والوعد والوعيد - وإن كانوا يضعفونه - من مقتصدة المرجئة الجبرية، إذا ما قورنوا بغالية المرجئة ممن ينكر العقاب بالكلية، أو ينكر الوعيد في الآخرة رأساً، كما يفعله طوائف من الاتحادية والمتفلسفة والقرامطة والباطنية من الجبرية المرجئة (3). الصنف الثالث: الكرامية. مع نقض شيخ الإسلام لمقالة الكرامية، وتبين أن قولهم في الإيمان لم يسبقهم إليه أحد، إلا أن هذا لم يحل دون التأكيد على عدم تقويلهم ما لم يقولوا به، فمن نسب غليهم الحكم على المنافق بأنه مؤمن من أهل الجنة، فقد أخطأ عليهم، فالقوم إنما نازعوا في الاسم لا الحكم (4). وبعد، فتلك الخلاصة مركزة لموقف شيخ الإسلام من المرجئة، وما مضى في مباحث الكتاب فيه تفاصيل كاشفة لحقيقة هذا الموقف، والله تعالى أعلم. المصدر: آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص535   (1) ((الإيمان الأوسط)) ضمن ((الفتاوى)) (7/ 507 - 508)، (ص 374 - 375). (2) انظر: ((الإيمان)) (ص151) ((الفتاوى)) (7/ 159)؛ و ((الفتاوى)) (16/ 242). (3) انظر: ((الفتاوى)) (16/ 242). (4) انظر: ((التدمرية))، (ص192 - 193)؛ و ((شرح الأصبانية)) (2/ 586)، (ص143) ت مخلوف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 المبحث الثالث: المرجئة وسوء مذاهبهم عند العلماء حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي قال: حدثنا زهير بن محمد المروزي قال: حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن الزهري قال: ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على الملة من هذه يعني: أهل الإرجاء حدثنا إسحاق بن أبي حسان الأنماطي قال: حدثنا هشام بن عمار الدمشقي قال: حدثنا شهاب بن فراس عن أبي حمزة الثمالي الأعور قال: قلت لإبراهيم: ما ترى في رأي المرجئة؟ فقال: أوه لفقوا قولا فأنا أخافهم على الأمة الشر من أمرهم كثير فإياك وإياهم حدثنا أبو نصر محمد بن كردي قال: حدثنا أبو عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - قال: حدثنا محمد بن بشر قال: حدثني سعيد بن صالح عن حكيم بن جبير قال إبراهيم: المرجئة أخوف عندي على الإسلام عدتهم من الأزارقة حدثنا ابن عبد الحميد قال: حدثنا يوسف بن موسى القطان قال: حدثنا الضحاك بن مخلد عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي عمرو السيباني قال: قال حذيفة رضي الله تعالى عنه: إني لأعرف أهل دسر أهل ذلك الدسر في النار قوم يقولون: الإيمان كلام وإن زنى وقتل وقوم يقولون: إن أولية الضلال ما قال خمس صلوات وإنما هما صلاتان قال تعالى: أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [الإسراء:78] وحدثنا أبو نصر قال: حدثنا أبو بكر قال: حدثنا أبو عبد الله قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا أبو عمرو عن يحيى بن أبي عمرو السيباني عن حذيفة رضي الله عنه قال: إني لأعلم أهل دينين هذين الدينين في النار قوم يقولون: الإيمان كلام وقوم يقولون: ما بال الصلوات الخمس؟ وإنما هما صلاتان وحدثنا أبو نصر قال: حدثنا ابو بكر قال: حدثنا ابو عبد الله قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثني حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير قال: مثل المرجئة مثل الصابئين وحدثنا أبو نصر قال: حدثنا أبو بكر قال: حدثنا أبو عبد الله قال: حدثنا مؤمل قال: حدثنا حماد بن زيد قال: حدثنا أيوب قال: قال لي سعيد بن جبير: رأيتك مع طلق قلت: بلى فما له؟ قال: لا تجالسه فإنه مرجىء قال أيوب: وما شاورته في ذلك ويحق للمسلم إذا رأى من أخيه ما يكره أن يأمره وينهاه قال: وحدثنا أبو عبد الله قال: حدثنا عبد الله بن نمير قال: سمعت سفيان - وذكر المرجئة - فقال: رأي محدث أدركنا الناس على غيره قال: وحدثنا أبو عبد الله قال: حدثنا معاوية بن عمرو قال: حدثنا أبو إسحاق - يعني الفزاري - قال: قال الأوزاعي: قد كان يحيى وقتادة يقولان: ليس من الأهواء شيء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء قال: وحدثنا أبو عبد الله قال: حدثنا عبد الله بن نمير عن جعفر الأحمر قال: قال منصور بن المعتمر في شيء: لا أقول كما قالت المرجئة الضالة المبتدعة قال: وحدثنا أبو عبد الله قال: وحدثنا حجاج قال: سمعت شريكا - وذكر المرجئة - قال: هم أخبث قوم وحسبك بالرافضة خبثا ولكن المرجئة يكذبون على الله عز وجل قال: حدثنا جعفر بن محمد الصندلي قال: حدثنا الفضل بن زياد قال: سمعت أبا عبد الله - وسئل عن المرجئة - فقال: من قال: إن الإيمان قول حدثنا جعفر قال: حدثنا الفضل قال: حدثنا أبو عبد الله قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا سلمة بن نبيط عن الضحاك بن مزاحم قال: ذكروا عنده من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة فقال: هذا قبل أن تحد الحدود وتنزل الفرائض أخبرنا خلف بن عمرو العكبري قال: حدثنا الحميدي قال: سمعت وكيعا يقول: أهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل والمرجئة يقولون: الإيمان قول والجهمية يقولون: الإيمان معرفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 قال محمد بن الحسين: من قال: الإيمان قول دون العمل يقال له: رددت القرآن والسنة وما عليه جميع العلماء وخرجت من قول المسلمين وكفرت بالله العظيم فإن قال: بماذا؟ قيل له: إن الله عز وجل أمر المؤمنين بعد أن صدقوا في إيمانهم: أمرهم بالصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وفرائض كثيرة يطول ذكرها مع شدة خوفهم على التفريط فيها النار والعقوبة الشديدة فمن زعم أن الله تعالى فرض على المؤمنين ما ذكرنا ولم يرد منهم العمل ورضي منهم بالقول فقد خالف الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل لما تكامل أمر الإسلام بالأعمال قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((من ترك الصلاة فقد كفر)) قال محمد بن الحسين رحمه الله تعالى: ومن قال: الإيمان: المعرفة دون القول والعمل فقد أتى بأعظم من مقالة من قال: الإيمان: قول ولزمه أن يكون إبليس على قوله مؤمنا لأن إبليس قد عرف ربه قال تعالى: قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي [الحجر:39] وقال تعالى: قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي [الحجر:36] ويلزم أن تكون اليهود - لمعرفتهم بالله وبرسوله - أن يكونوا مؤمنين قال الله عز وجل: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ [البقرة:146] فقد أخبر عز وجل: أنهم يعرفون الله تعالى ورسوله ويقال لهم: أليس الفرق بين الإسلام وبين الكفر العمل؟ وقد علمنا أن أهل الكفر والشرك قد عرفوا بعقولهم أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما ولا ينجيهم في ظلمات البر والبحر إلا الله عز وجل وإذا أصابتهم الشدائد لا يدعون إلا الله فعلى قولهم أن الإيمان المعرفة كل هؤلاء مثل من قال: الإيمان: المعرفة على قائل هذه المقالة الوحشية لعنة الله بل نقول - والحمد لله - قولا يوافق الكتاب والسنة وعلماء المسلمين الذين لا يستوحش من ذكرهم وقد تقدم ذكرنا لهم: أن الإيمان معرفة بالقلب تصديقا يقينا وقول باللسان وعمل بالجوارح ولا يكون مؤمنا إلا بهذه الثلاثة لا يجزئ بعضها عن بعض والحمد لله على ذلك قال: (حدثنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد قال: حدثنا يوسف القطان قال: حدثنا جرير عن عطاء بن السائب عن الزهري قال: قال: لي عبد الملك بن مروان: الحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة وإن زنا وإن سرق)) (1). قال: فقلت له: أين يذهب بك يا أمير المؤمنين؟ هذا قبل الأمر والنهي وقبل الفرائض قال محمد بن الحسين رحمه الله تعالى: احذروا رحمكم الله قول من يقول: إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل ومن يقول: أنا مؤمن عند الله وأنا مؤمن مستكمل الإيمان هذا كله مذهب أهل الإرجاء حدثنا حسان بن أبي سنان الأنماطي قال: حدثنا هشام بن عمار الدمشقي قال: حدثنا عبد الملك بن محمد قال: حدثنا الأوزاعي قال: ثلاث هن بدعة: أنا مؤمن مستكمل الإيمان وأنا مؤمن حقا وأنا مؤمن عند الله تعالى   (1) رواه البخاري (6443) , ومسلم (94) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 قال: حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي قال: حدثنا يوسف بن موسى القطان قال: حدثنا يحيى بن سليم الطائفي قال: حدثنا نافع بن عمر القرشي قال: كنا عند ابن أبي مليكة فقال له جليس له: يا أبا محمد إن ناسا يجالسونك يزعمون أن إيمانهم كإيمان جبريل وميكائيل؟ فغضب عبد الله ابن أبي مليكة فقال: ما رضي الله عز وجل لجبريل عليه السلام حتى فضله بالثناء على محمد صلى الله عليه وسلم فقال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ [التكوير:19 - 22] يعني محمدا صلى الله عليه وسلم قال ابن أبي مليكة: أفأجعل إيمان جبريل وميكائيل كإيمان فهدان؟ لا ولا كرامة ولا حبا قال نافع: قد رأيت فهدان كان رجلا لا يصحو من الشراب قال محمد بن الحسين رحمه الله تعالى: من قال هذا فقد أعظم الفرية على الله عز وجل وأتى بضد الحق وبما ينكره جميع العلماء لأن قائل هذه المقالة يزعم: أن من قال لا إله إلا الله: لم تضره الكبائر أن يعملها ولا الفواحش أن يرتكبها وأن عنده: أن البار التقي الذي لا يباشر من ذلك شيئا والفاجر يكونان سواء هذا منكر قال الله عز وجل: أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21] وقال عز وجل: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28] فقل لقائل هذه المقالة المنكرة: ياضال يامضل إن الله عز وجل لم يسو بين الطائفتين من المؤمنين في أعمال الصالحات حتى فضل بعضهم على بعض درجات قال الله عز وجل: لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد:10] فوعدهم الله عز وجل كلهم الحسنى بعد أن فضل بعضهم على بعض وقال عز وجل: لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً النساء:95 [ثم قال: وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى النساء:95]، وكيف يجوز لهذا الملحد في الدين أن يسوي بين إيمانه وإيمان جبريل وميكائيل ويزعم أنه مؤمن حقا؟ (حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني قال: حدثنا سويد بن سعيد قال: حدثنا شهاب بن خراش عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما بعث الله نبيا قبلي فاستجمعت له أمته إلا كان فيهم مرجئة وقدرية يشوشون أمر أمته من بعده ألا وإن الله عز وجل لعن المرجئة والقدرية على لسان سبعين نبيا أنا آخرهم أو أحدهم) (أخبرنا الفريابي قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو أسامة ومحمد بن بشر قالا: أخبرنا ابن نزار علي أو محمد عن أبيه عن عكرمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية) قال: (حدثنا أبو علي الحسين بن محمد بن شعبة الأنصاري قال: حدثنا علي بن المنذر الطريقي قال: حدثنا ابن فضيل قال: حدثنا أبي وعلي بن نزار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية) المصدر: الشريعة للآجري - 1/ 151 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 المبحث الرابع: فتوى اللجنة الدائمة في التحذير من مذهب الإرجاء وتحقيق النقل عن شيخ الإسلام فيه الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ... وبعد: فقد أطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة المفتي العام من عدد من المستفتين، المقيدة استفتاآتهم بالأمانة العامة لهيئة كبار العلماء، برقم (5411) وتاريخ (7/ 11/1420هـ). ورقم (1026) وتاريخ (17/ 2/1421هـ). ورقم (1016) وتاريخ (7/ 2/1421هـ). ورقم (1395) وتاريخ (8/ 3/1421هـ). ورقم (1650) وتاريخ (17/ 3/1421هـ). ورقم (1893) وتاريخ (25/ 3/1421هـ). ورقم (2106) وتاريخ (7/ 4/1421هـ). وقد سأل المستفتون أسئلة كثيرة مضمونها: "ظهرت في الآونة الأخيرة فكرة الإرجاء بشكل مخيف، وانبرى لترويجها عدد كثير من الكتاب، يعتمدون على نقولات مبتورة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية؛ مما سبب ارتباكاً عند كثير من الناس في مسمى الإيمان، حيث يحاول هؤلاء الذين ينشرون هذه الفكرة أن يخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، ويرون نجاة من ترك جميع الأعمال، وذلك مما يسهل على الناس الوقوع في المنكرات وأمور الشرك وأمور الردة، إذا علموا أن الإيمان متحقق لهم، ولو لم يؤدوا الواجبات ويتجنبوا المحرمات ولو لم يعملوا بشراع الدين بناء على هذا المذهب. ولا شك أن هذا المذهب له خطورته على المجتمعات الإسلامية وأمور العقيدة والعبادة، فالرجاء من سماحتكم بيان حقيقة هذا المذهب، وآثاره السيئة، وبيان الحق المبني على الكتاب والسنة، وتحقيق النقل عن شيخ الإسلام، حتى يكون المسلم على بصيرة من دينه، وفقكم الله وشدد خطاكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته". وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بما يلي: هذه المقالة المذكورة هي: مقالة المرجئة الذين يخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان، ويقولون: الإيمان هو التصديق بالقلب، أو التصديق بالقلب والنطق باللسان فقط، وأما الأعمال فإنها عندهم شرط كمال فيه فقط وليست منه، فمن صدق بقلبه، ونطق بلسانه؛ فهو مؤمن كامل الإيمان عندهم، ولو فعل ما فعل من ترك الواجبات وفعل المحرمات، ويستحق دخول الجنة ولو لم يعمل خيراً قط، ولزم على ذلك الضلال لوازم باطلة؛ منها: حصر الكفر بكفر التكذيب والاستحلال القلبي، ولا شك أن هذا قول باطل وضلال مبين، مخالف للكتاب والسنة، وما عليه أهل السنة والجماعة سلفا وخلفاً، وأن هذا يفتح بابا لأهل الشر والفساد، للانحلال من الدين، وعدم التقيد بالأوامر والنواهي، والخوف والخشية من الله سبحانه. ويعطل جانب الجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويسوي بين الصالح والطالح، والمطيع والعاصي، والمستقيم على دين الله، والفاسق المتحلل من أوامر الدين ونواهيه، ما دام أن أعمالهم هذه لا تخل بالإيمان كما يقولون. ولذلك اهتم أئمة الإسلام - قديما وحديثاً - ببيان بطلان هذا المذهب، والرد على أصحابه، وجعلوا لهذه المسألة بابا خاصا في كتب العقائد، بل ألفوا فيها مؤلفات مستقلة، كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وغيره. قال شيخ الإسلام - رحمه الله - في "العقيدة الواسطية": "ومن أصول أهل السنة والجماعة: أن الدين والإيمان قول وعمل. قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية". وقال في "كتاب الإيمان": "ومن هذا الباب أقوال السلف وأئمة السنة في تفسير الإيمان، فتارة يقولون: هو قول وعمل، وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية، وتارة يقولون: قول وعمل ونية وأتباع السنة، وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وكل هذا صحيح". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 وقال - رحمه الله -: "والسلف اشتد نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل من الإيمان، ولا ريب أن قولهم بتساوي إيمان الناس من أفحش الخطأ، بل لا يتساوى الناس في التصديق ولا في الحب ولا في الخشية ولا في العلم، بل يتفاضلون من وجوه كثيرة. وقال - رحمه الله -: "وقد عدلت المرجئة في هذا الأصل عن بيان الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، واعتمدوا على رأيهم وعلى ما تأولوه بفهمهم للغة، وهذه طريقة أهل البدع". انتهى. ومن الأدلة على أن الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان، وعلى زيادته ونقصانه بها، قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2 - 4]، وقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المؤمنون: 1 - )]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة. أعلاها قول: لا إله إلا الله. وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان". قال شيخ الإسلام - رحمه الله - في "كتاب الإيمان" أيضاً: "وأصل الإيمان في القلب، وهو قول القلب وعمله. وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد. وما كان في القلب فلابد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح. وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه. ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه، وهي تصديق لما في القلب، ودليل عليه وشاهد له، وهي شعبة من الإيمان المطلق وبعض له". وقال أيضا: "بل كل من تأمل ما تقوله الخوارج والمرجئة في معنى الإيمان، علم بالاضطرار أنه مخالف للرسول، ويعلم بالاضطرار أن طاعة الله ورسوله من تمام الإيمان، وأنه لم يكن يجعل كل من أذنب ذنباً كافراً. ويعلم أنه لو قدر أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك، ونقر بألسنتنا بالشهادتين. إلا أنا لا نطيعك في شيء مما أمرت ونهيت عنه؛ فلا نصلي ولا نصوم ولا نحج ولا نصدق الحديث، ولا نؤدي الأمانة ولا نفي بالعهد ولا نصل الرحم ولا نفعل شيئاً من الخير الذي أمتر به. ونشرب الخمر، وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر، ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك ونأخذ أموالهم، بل نقتلك أيضاً ونقاتلك مع أعدائك. هل كان يتوهم عاقل أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملوا الإيمان، وأنتم أهل لشفاعتي يوم القيامة، ويرجى لكم أن لا يدخل أ؛ د منكم النار. بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به، ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك" انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 وقال أيضاً: "فلفظ الإيمان إذا أطلق في القرآن والسنة يراد به ما يراد بلفظ البر وبلفظ التقوى وبلفظ الدين كما تقدم. فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطرق، فكان كل ما يحبه الله يدخل في اسم الإيمان. وكذلك لفظ البر يدخل فيه جميع ذلك إذا أطلق، وكذلك لفظ التقوى، وكذلك الدين أو دين الإسلام. وكذلك روي أنهم سألوا عن الإيمان؛ فأنزل الله هذه الآية لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ ... [البقرة: 177]. إلى أن قال: "والمقصود هنا أنه لم يثبت المدح إلا على إيمان العمل. لا على إيمان خال عن عمل" فهذا كلام شيخ الإسلام في الإيمان. ومن نقل عنه غير ذلك فهو كاذب عليه. وأما ما جاء في الحديث: أن قوما يدخلون الجنة لم يعملوا خيرا قط؛ فليس هو عاما لكل من ترك العمل وهو يقدر عليه، وإنما هو خاص بأولئك لعذر منعهم من العمل، أو لغير ذلك من المعاني التي تلائم النصوص المحكمة، وما أجمع عليه السلف الصالح في هذا الباب. هذا؛ واللجنة الدائمة إذ تبين ذلك، فإنها تنهى وتحذر من الجدال في أصول العقيدة؛ لما يترتب على ذلك من المحاذير العظيمة، وتوصي بالرجوع في ذلك إلى كتب السلف الصالح وأئمة الدين، المبنية على الكتاب والسنة وأقوال السلف، وتحذر من الرجوع إلى الكتب المخالفة لذلك، وإلى الكتب الحديثة الصادرة عن أناس متعالمين، لم يأخذوا العلم عن أهله ومصادره الأصيلة. وقد اقتحموا القول في هذا الأصل العظيم من أصول الاعتقاد، وتبنوا مذهب المرجئة، ونسبوه ظلماً إلى أهل السنة والجماعة، ولبسوا بذلك على الناس، وعززوه - عدواناً - بالنقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - وغيره من أئمة السلف بالنقول المبتورة بالنقول المبتورة، وبمتشابه القول، وعدم رده إلى المحكم من كلامهم. وإنا ننصحهم أن يتقوا الله في أنفسهم، وأن يثوبوا إلى رشدهم ولا يصدعو الصف بهذا المذهب الضال، واللجنة - أيضاً - تحذر المسلمين من الاغترار والوقوع في شراك المخالفين لما عليه جماعة المسلمين: أهل السنة والجماعة. وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح والفقه في الدين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو/ عبدالله بن عبدالرحمن الغديان عضو/ بكر بن عبدالله أبو زيد عضو/ صالح بن فوزان الفوزان الرئيس/ عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ فتوى رقم "21436" وتاريخ 8/ 4/1421هـ المصدر: التحذير من الإرجاء وبعض الكتب الداعية إليه فتاوى صدرت من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - ص 7 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 المبحث الأول: تعريف المعتزلة لغةً واصطلاحاً لمعرفة معنى هذه الكلمة؛ لابد أن نعرف ما هو الاعتزال في اللغة. الاعتزال لغة: مأخوذ من اعتزل الشيء وتعزله بمعنى تنحى عنه، ومنه تعازل القوم بمعنى تنحى بعضهم عن بعض، وكنت بمعزل عن كذا وكذا أي: كنت في موضع عزلة منه، واعتزلت القوم أي فارقتهم، وتنحيت عنهم، ومنه قوله تعالى: وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ [الدخان: 21]. أراد إن لم تؤمنوا بي، فلا تكونوا علي ولا معي. ومنه قول الأحوص: يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدى وبه الفؤاد موكل وعلى ذلك: فالاعتزال معناه: الانفصال والتنحي، والمعتزلة هم المنفصلون. هذا في اللغة (1).أما المعتزلة في الاصطلاح: فهو اسم يطلق على فرقة ظهرت في الإسلام في أوائل القرن الثاني، وسلكت منهجا عقليا متطرفا في بحث العقائد الإسلامية (2)، وهم أصحاب واصل (3) بن عطاء الغزال الذي اعتزل عن مجلس الحسن البصري (4) (5). المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق – ص 13   (1) ((محيط المحيط)) (1391)، ((القاموس المحيط)) (4/ 15)، ((لسان العرب)) (11/ 440). (2) ((دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية)) (83). (3) ((الفرق بين الفرق)) (20)، ((الملل والنحل)) (1/ 50). (4) ((وفيات الأعيان)) (2/ 71). (5) ((التعريفات للجرجاني)) (238). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 المبحث الثاني: أصل تسمية المعتزلة لقد اختلف الباحثون في أصل هذه التسمية، وسنعرض أهم الآراء في ذلك، وما ورد على كل رأي من اعتراض، ثم نبين الرأي الأقرب للصواب. الرأي الأول: التفسير الشائع الذي أورده كتَّاب الفرق، كالبغدادي (1) والشهرستاني (2)، ومن على شاكلتهما، والذي يفيد بأن كلمة "المعتزلة" لفظ أطلقه أعداؤهم من أهل السنة عليهم للتدليل على أنهم انفصلوا عنهم، وتركوا مشايخهم القدامى، واعتزلوا قول الأمة بأسرها في مرتكب الكبيرة، فهو بهذا الاعتبار اسم يتضمن نوعا من الذم، واتهاما واضحا بالخروج على السنة والجماعة، فالمعتزلي هو المخالف والمنفصل (3).يقول الشهرستاني: ودخل رجل على الحسن البصري، فقال: يا إمام الدين: لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة، وهم وعيدية الخوارج، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان؛ بل العمل على مذهبهم ليس ركنا من الإيمان، فلا يضر مع مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقادا؟ ففكر الحسن في ذلك, وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول أن صاحب الكبيرة مؤمن مطلق، ولا كافر مطلقا؛ بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثم قام واعتزل إلى أسطوانة من أسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن. فقال الحسن: اعتزلنا واصل، فسمي هو وأصحابه المعتزلة (4).ويقول البغدادي: إن واصل بن عطاء زعم أن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر، وجعل الفسق في منزلتي الكفر والإيمان، وأن الحسن البصري لما سمع ذلك منه طرده من مجلسه، وانضم إليه صديقه عمرو بن عبيد (5)، فقال الناس فيهما: إنهما قد اعتزلا قول الأمة، وسمي أتباعهما من يومئذ معتزلة (6). انتهى كلام البغدادي بتصرف. وهناك رواية تنسب الاعتزال إلى عمرو بن عبيد أوردها المقريزي (7) في خططه حيث قال: "وقال ابن منبه: اعتزل عمرو بن عبيد وأصحاب له الحسن، فسموا المعتزلة (8). وقد اعترض بعض الباحثين المعاصرين على أصل هذه التسمية، بأمور منها:   (1) ((معجم المؤلفين)) (5/ 309). (2) ((الأعلام للزركلي)) (2/ 138). (3) ((دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية)) (84). (4) ((الملل والنحل)) (1/ 52). (5) ((المنية والأمل)) (22)، ((ميزان الاعتدال)) (2/ 295). (6) ((الفرق بين الفرق)) (20)، بتصرف. (7) ((شذرات الذهب)) (7/ 255)، ((معجم المؤلفين)) (2/ 11). (8) ((الخطط)) (4/ 165). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 1 - أن انتقال واصل بن عطاء أو عمرو بن عبيد من أسطوانة في المسجد إلى أخرى ليس بالأمر الهام الذي يصح أن تلقب به فرقة. 2 - اختلاف الرواة في سرد الرواية، فبعضهم ينسب حادثة الانفصال إلى عمرو بن عبيد، وبعضهم ينسبها إلى قتادة بن دعامة السدوسي (1) وهذا مما يضعف الرواية ويجعلها عرضة للنقد؛ فالذي فهم من رواية الشهرستاني مثلا: هو أن الحسن البصري هو الذي قال لواصل بن عطاء حين اختلفا في مسألة الحكم على مرتكب الكبيرة، (اعتزلنا واصل، فسمي هو وأصحابه معتزلة).أما ابن خلكان (2) وجماعة معه، فيذكرون: أن الذي سماهم بهذا الاسم هو المحدث المشهور قتادة بن دعامة السدوسي، المتوفى سنة (117) هـ، وكان قتادة من علماء البصرة، وأعلام التابعين، ومن أصحاب الحسن البصري، دخل يوما مسجد البصرة وكان ضريرا فإذا بعمرو بن عبيد ونفر معه قد اعتزلوا حلقة الحسن البصري وكونوا لهم حلقة خاصة وارتفعت أصواتهم، فأمهم وهو يظن أنهم من حلقة الحسن، فلما صار معهم وعرف حقيقتهم قال: إنما هؤلاء المعتزلة، فسموا معتزلة من وقتها (3).فاختلاف الرواة في المنفصل عن الحسن البصري، هل هو عمرو بن عبيد أو واصل بن عطاء؟ واختلاف المسمي هل هو الحسن البصري أم قتادة؟ مما يضعف الرواية ويشكك فيها (4). هذه أهم الاعتراضات التي وردت على هذا الرأي. الرأي الثاني: تفسير جولد تسيهر (5): يرى جولد تسيهر أن هذه الفرقة الكلامية ولدت من نزعة ورعة، وأنه كان من هؤلاء الجماعة الورعين المعتزلة، أي: الزهاد الذين يعتزلون الناس، ويؤيد رأيه بشبهات، منها ما يلي: 1 - أن بعض المصادر الأدبية استعملت فيها كلمة (معتزلي) كمرادف لكلمة (عابد) أو (زاهد)؛ فالاعتزال صفة يوصف بها الزاهد. 2 - ما عرف به أوائل المعتزلة من ميل للزهد والعبادة، وأنهم كانوا يعتزلون العالم، ويحيون حياة التقشف والزهد، فيروى عن واصل بن عطاء أنه كان إذا جنه الليل صف قدميه ليصلي ولوح ودواة موضوعان فإذا مرت به آية فيها حجة على مخالف جلس فكتبها ثم عاد في صلاته. وروي عن عمرو بن عبيد أنه كثيرا ما كان يصلي الفجر بوضوء المغرب، وأنه حج حججا كثيرة ماشيا ,وبعيره موقوف على من أحصر (6).وقد رد مرغليوث ونيللو هذا التفسير، فيقول مرغليوث: المعتزلة من انفصلوا. وهم الذين اعتزلوا إخوانهم في مجلس الحسن البصري، وكانوا يؤمنون بحرية الإرادة. أما نيللو: فيقول: إن ما افترضه جولد تسيهر وهمي لا يقوم على سند ما من المصادر، بل هو فوق هذا يصطدم بمشكلة خطيرة، كيف يمكن أن يكون اسم المعتزلة قد قصر على طائفة من الناس لم يكن الزهد فيهم العنصر المميز لهم حقا عن غيرهم، سواء كأفراد، أو كجماعة؟ أفلم يكن الزهد منتشرا بنفس الدرجة في الوسط الديني الذي اعتزله المعتزلة؟ أفلم يكن الحسن البصري مشهورا بالزهد، وهو أستاذ واصل (7). وإذا فهذا الرأي مردود. الرأي الثالث: التفسير السياسي.   (1) ((وفيات الأعيان)) (4/ 85). (2) ((وفيات الأعيان)) (4/المقدمة)، ((الأعلام)) (1/ 212)). (3) ((وفيات الأعيان)) (4/ 85). (4) ((دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية)) (85). (5) ((الموسوعة العربية الميسرة)) (668). (6) ((المعتزلة)) (3) نقلا عن شرخ مختصر الفرق بين الفرق، ((دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية)) (88). (7) ((دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية)) (88) بتصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 من أشهر القائلين بهذا الرأي نيللو والمستشرق السويدي نيبرج، وملخص رأيهم: أن منشأ الاعتزال من أصل سياسي، وأن المعتزلة الدينية أتباع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد كانوا في الأصل استمرارا في ميدان الفكر والنظر لفئة سياسية سبقتها في الظهور، هي فئة المعتزلة السياسيين الذين ظهروا في حرب صفين، وقبلها في معركة الجمل، وقد أبدوا رأيهم بأدلة، منها ما يلي: 1 - أن لفظ الاعتزال كثيرا ما يرد في كتب التاريخ، وفي لغة السياسة في القرن الأول والنصف الأول من القرن الثاني للهجرة للدلالة على الامتناع عن مناصرة أحد الفريقين المتنازعين، وعلى الوقوف موقف الحياد، كأن يرى الرجل فئتين متقاتلتين، ثم هو لا يقتنع برأي أحدهما أو رأي أن كلا الفريقين غير محق. من ذلك ما نراه من إطلاق المؤرخين هذه الكلمة (المعتزلة) كثيرا على الطائفة التي لم تشارك في القتال بين علي وعائشة في حرب الجمل، وعلى الذين لم يدخلوا في النزاع بين علي ومعاوية (1)، فقد ذكر الطبري (2) في حوادث سنة (36) هـ, أن قيس بن سعد – عامل مصر من قبل علي – كتب إليه يقول: "إن قبلي رجالا معتزلين قد سألوني أن أكف عنهم، وأن أدعهم على حالهم حتى يستقيم أمر الناس، فنرى ويرى رأيهم" (3).وفي موضع آخر يقول: "ولم يلبث محمد بن أبي بكر شهرا كاملا حتى بعث إلى أولئك القوم المعتزلين الذين كان قيس وادعهم، فقال: يا هؤلاء إما أن تدخلوا في طاعتنا، وإما أن تخرجوا من بلادنا، فبعثوا إليه: إنا لا نفعل، دعنا حتى ننظر إلى ما تصير إليه أمورنا، ولا تعجل بحربنا" (4).2 - هناك نصوص وشواهد مهمة تفيد أن مثل هذه الفئة المعتزلة التي وقفت على الحياد في الحروب المشار إليها أطلقت على نفسها اسم المعتزلة أو أطلق عليها اسم المعتزلة من ذلك ما يذكره الملطي (5) إذ يقول: "وهم سموا أنفسهم معتزلة؛ وذلك عندما بايع الحسن بن علي – رضي الله عنه – معاوية وجميع الناس، وكانوا من أصحاب علي – رضي الله عنه – لزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا: نشتغل بالعلم والعبادة، فسموا بذلك معتزلة" (6).وما يقوله النوبختي (7): "لما قتل عثمان بايع الناس عليا، فسموا الجماعة ثم افترقوا ثلاث فرق: فرقة أقامت على ولاية علي – رضي الله عنه –، وفرقة اعتزلت مع سعد بن مالك وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب ومحمد بن مسلمة الأنصاري وأسامة بن زيد بن حارثة؛ فإن هؤلاء اعتزلوا عن علي وامتنعوا عن محاربته، والمحاربة معه بعد دخولهم في بيعته والرضا به، فسموا المعتزلة، وصاروا أسلاف المعتزلة إلى آخر الأبد، وقالوا: لا يحل قتال علي ولا القتال معه (8). وقد رد بعض الباحثين هذا الرأي محتجين بأمور، منها: 1 - أن أقوال المعتزلة الكلامية ليس فيها ما يثبت الأصل السياسي لنشأتهم. يقول الأستاذ كوريان: "إذا فكرنا مليا في مذهب الاعتزال، وفي حرية الاختيار؛ رأينا أن السياسية لا تشكل سببا كافيا لنشوئهما" (9).   (1) ((دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية)) (89)، ((المذاهب الإسلامية)) (208). (2) ((وفيات الأعيان)) (1/ 577)، ((معجم المؤلفين)) (9/ 147). (3) ((تاريخ الأمم والملوك)) (6/ 3244). (4) ((تاريخ الأمم والملوك)) (6/ 3244). (5) ((الأعلام)) (6/ 202)، ((معجم المؤلفين)) (8/ 275). (6) ((التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع)) (41)، ((معجم المؤلفين)) (8/ 275). (7) ((الأعلام)) (2/ 239)، ((معجم المؤلفين)) (3/ 298). (8) ((دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية)) (91) نقلا عن فرق الشيعة (ص100)، ((البداية والنهاية)) (7/ 227). (9) ((دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية)) (92). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 2 - لو صح أن هؤلاء الصحابة المعتزلين للفتنة كانوا أسلافا للمعتزلة لوجب اتفاقهم معهم في أصول مذهبهم، فلما لم يتفقوا دل على بطلان هذا الرأي، فمثلا: مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المعتزلة واجب بالسيف فما دونه، كيف قدروا على ذلك؟ فلو كان الصحابة المعتزلون للفتنة أسلافا للمعتزلة الفرقة لأوجب عليهم هذا الأصل قتال معاوية، ونحن نراهم قد توقفوا عن القتال وابتعدوا عن الفتنة؛ مما يدل على بطلان القول بأنهم أسلاف للمعتزلة، وعليه فيبطل هذا الرأي. الرأي الرابع: وهو رأي انفرد به الدكتور أحمد أمين، فقد قال في كتابه (فجر الإسلام): ولنا فرض آخر في تسميتهم المعتزلة لفتنا إليه ما قرأناه في خطط المقريزي من أن من بين الفرق اليهودية التي كانت منتشرة في ذلك العصر وما قبله طائفة يقال لها "الفروشيم" وقال: إن معناها المعتزلة. وذكر بعضهم عن هذه الفرقة: أنها كانت تتكلم في القدر، وتقول: ليس كل الأفعال خلقها الله، فلا يبعد أن يكون هذا اللفظ قد أطلقه على المعتزلة قوم ممن أسلموا من اليهود لما رأوا بين الفرقتين من الشبه. وإن التشابه بين معتزلة اليهود ومعتزلة الإسلام موجود. فمعتزلة اليهود: يفسرون التوراة على مقتضى منطق الفلاسفة؛ ومعتزلة الإسلام: يتأولون كل ما في القرآن من أوصاف على مقتضى منطق الفلاسفة أيضا، فقد قال المقريزي في هؤلاء الفروشيم الذين ساهم المعتزلة قال: إنهم يأخذون بما في التوراة على معنى ما فسره الحكماء من أسلافهم (1). وهذا الرأي مردود لأمور منها: 1 - أنه لم يرد له ذكر في كتب أهل الفرق المتقدمين الذين تعرضوا للمعتزلة بالبيان والتفصيل، فلو كان صحيحا لأشير إليه على الأقل، كما أشير إلى الآراء الأخرى في بيان سبب تسميتهم بالمعتزلة. 2 - أن ما استدل به الدكتور أحمد أمين ضعيف واه لا يستند على دليل، بل إنه مجرد افتراض، والرأي الذي لا يبنى على دليل صحيح لا يعتد به. 3 - إن الشبه بين فئتين: المعتزلة والطائفة اليهودية التي يذكرها أحمد أمين لا يستلزم أن يكون سبب تسميتهم بالمعتزلة، وعلى هذا: فهذا الرأي مردود. والرأي الأقرب للصواب في أصل تسمية المعتزلة - والله أعلم - أن اسم الاعتزال ظهر أثناء الحروب التي حصلت في عهد علي - رضي الله عنه - لكنه لم يطلق على فئة بعينها؛ بل من اعتزل عن السياسة أطلقت عليه، ومن اعتزل للعبادة أطلقت عليه، ثم إن وجود هذه الحروب مما أورث الخلاف بين المسلمين وتفرقهم فرقا, كل فرقة ترى أنها على الصواب ومن سواها على الخطأ؛ ومن ثم أخذوا يبحثون في حكمها، وأصبحت كل فرقة تضع حكما مخالفا للأخرى؛ مما ساقهم إلى البحث في حكم مرتكب الكبيرة، ووضعت بعض الفرق أحكاما متناقضة على إثرها حصلت قصة السائل الذي أتى إلى الحسن البصري في حلقته، وحكى له ما سمع من آراء متناقضة في حكم مرتكب الكبيرة، وطلب منه رأيه ثم إن أحد تلاميذ الحسن وهو واصل بن عطاء سبقه وأخرج حكما يخالف شيخه في مرتكب الكبيرة، وهو أنه في منزلة بين المنزلتين؛ وبسبب ذلك قال الحسن: اعتزلنا واصل ثم طرده من حلقته، فاعتزل في سارية من سواري مسجد البصرة يقرر ما أجاب به على جماعة استحسنوا رأيه وتابعوه، فسموا من ذلك الحين المعتزلة؛ لاعتزالهم الحسن وقول الأمة بأسرها وحكمهم على صاحب الكبيرة باعتزاله المؤمنين والكافرين (2). وعلى ذلك؛ فظهور هذه التسمية على فرقة بعينها مستقلة، إنما حصل في حلقة الحسن البصري – رحمه الله – والله أعلم.   (1) ((المذاهب الإسلامية لأبي زهرة)) (209)، ((فجر الإسلام)) (1/ 344). ((الخطط)) (4/ 368). (2) ((المعتزلة)) (3). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 أما قول من اعترض على هذا الرأي باختلاف الرواة في سرد الرواية، وأن بعضهم ينسب حادثة الانفصال إلى عمرو بن عبيد، وبعضهم ينسبها إلى واصل بن عطاء، وبعضهم ينسب التسمية إلى الحسن البصري، وبعضهم ينسبها إلى قتادة بن دعامة السدوسي، وأن هذا مما يضعف الرواية. فنقول: إن المنفصل هو واصل بن عطاء، وقد انفصل معه عمرو بن عبيد، فلا يمتنع أن يكون من قال بانفصال عمرو عن الحسن، وأنه سبب التسمية أن يكون قاصدا عمرا وواصلا ومن معهما، لأنه قال: عمرو وجماعة معه، فيكون النقاش دار بين الحسن وواصل، والانفصال من واصل وعمرو ومن معهما. أما اختلاف المسمي هل هو الحسن أم قتادة؟؛ فهذا أيضا: لا يقدح في صحة الرواية؛ لأن المسمي الأول هو الحسن، أما قتادة فإنما قال شيئا قد حصل ومضى، ويدل عليه ألفاظ الرواية "فأمهم وهو يظن أنهم حلقة الحسن" ثم قال لقتادة: "إنما هؤلاء المعتزلة" ففي هاتين الجملتين دلالة على أن قتادة من مرتادي مجلس الحسن، وأنه كان يعرف سبب انفصالهم، وأن إطلاقه الاسم إنما كان بعد تكون الفرقة، وعلى هذا، فلا تعارض بين الروايتين. ومما يؤكد ما ذكرناه ما يقوله المسعودي حيث قال: "وأما القول بالمنزلة بين المنزلتين، وهو الأصل الرابع، فهو أن الفاسق المرتكب للكبائر ليس بمؤمن ولا كافر، بل يسمى فاسقا. . إلى أن قال: وبهذا الباب سميت المعتزلة؛ وهو الاعتزال. . " (1). المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق – ص 83   (1) ((مروج الذهب ومعادن الجوهر)) (3/ 154). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 المبحث الثالث: أسماء المعتزلة وعلة تلقيبهم بها للمعتزلة أسماء كثيرة منها: ما أطلقه الغير عليهم نكاية بهم، ومنها: ما أطلقوه على أنفسهم، وسنعرض بعض هذه الأسماء مع بيان علة التسمية بها – إن شاء الله – القسم الأول: ما أطلقه الغير عليهم: 1 - المعتزلة: بمعنى المنشقين، وقد بينا سبب تسميتهم بهذا الاسم عندما تكلمنا على أصل المعتزلة (1).2 - الجهمية: وسبب تلقيبهم بهذا اللقب، هو أنه لما كانت الجهمية سبقت المعتزلة في الظهور واشتهرت ببعض آرائها، إلا أن سبقها للمعتزلة سبق قريب، ثم لما خرجت المعتزلة كانت قد وافقت الجهمية في مسائل كثيرة، منها: نفي الرؤية والصفات، وخلق الكلام، فكأن توافق الفرقتين جعلهما كالفرقة الواحدة، وبما أن الجهمية أسبق ومسائلها أكثر وبعض مسائل المعتزلة مأخوذة منها، لذا أصبح يطلق على كل معتزلي جهمي، ولا يطلق على كل جهمي معتزلي. ولذلك أطلق أئمة الأثر لفظ الجهمية على المعتزلة فالإمام أحمد في كتابه (الرد على الجهمية) والبخاري في الرد على الجهمية، ومن بعدهما؛ إنما يعنون بالجهمية المعتزلة؛ لأنهم كانوا في المتأخرين أشهر بهذه المسائل من الجهمية (2).وقال الإمام ابن تيمية (3) في كتابه (منهاج السنة): "لما وقعت محنة الجهمية نفاة الصفات في أوائل المائة الثالثة على عهد المأمون وأخيه المعتصم ثم الواثق، ودعوا الناس إلى التجهم وإبطال صفات الله تعالى. . وطلبوا أهل السنة للمناظرة. . لم تكن المناظرة مع المعتزلة فقط؛ بل كانت مع جنس الجهمية من المعتزلة والنجارية والضرارية، وأنواع المرجئة، فكل معتزلي جهمي وليس كل جهمي معتزليا؛ لأن جهما أشد تعطيلا لنفيه الأسماء والصفات. . " (4). 3 - القدرية: كذلك يلقب المعتزلة بالقدرية. يقول البغدادي – وهو يسوق ما أجمعت عليه المعتزلة: ". . . وقد زعموا أن الناس هم الذين يقدرون أكسابهم وأنه ليس لله – عز وجل – في أكسابهم وفي أعمال سائر الحيوانات صنع ولا تقدير. ولأجل هذا القول سماهم المسلمون قدرية (5). إلا أن المعتزلة لا يرضون بهذا الاسم؛ ولذا يقولون: إنه أولى أن يطلق على القائلين بالقدر خيره وشره من الله تعالى (6).وقد دافع المقبلي (7) عن المعتزلة في هذا المقام، ورد على شبهة الذين سموهم بالقدرية، فقال: إذا كان المراد بالقدر نفس العلم الأزلي، فرمي المعتزلة بنفي القدر تقول محض؛ لأن المعتزلة جميعا يقرون به ويثبتونه. . فالمعتزلة إذا يرون أن الذي يثبت القدر لله تعالى أحق أن ينسب إليه من نافيه (8) ولكن ابن قتيبة (9) يرى: أن المعتزلة نفوا القدر عن الله وأضافوه إلى أنفسهم، فوجب أن يسموا قدرية، لأن مدعي الشيء لنفسه أحق أن يدعى به (10).4 - الثنوية والمجوسية: يقول المقريزي: إن المعتزلة يدعون الثنوية، لقولهم الخير من الله، والشر من العبد (11). ولما كان هذا القول يشبه قول الثنوية المجوسية، فإن المعتزلة اكتسبوا علاوة على أسمائهم العديدة اسم المجوسية.   (1) ((الرسالة)) (14 - 21). (2) ((تاريخ الجهمية والمعتزلة)) (44) بتصرف. (3) ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية)) (1/ 34)، ((معجم المؤلفين)) (1/ 261). (4) ((منهاج السنة)) (1/ 256). (5) ((الفرق بين الفرق)) (94). (6) ((الملل والنحل)) (1/ 57). (7) ((معجم المؤلفين)) (5/ 14). (8) ((العلم الشامخ)) (288). (9) ((وفيات الأعيان)) (3/ 32، 43). (10) ((تأويل مختلف الحديث)) (98) ((تاريخ الجهمية والمعتزلة)) (54). (11) ((الخطط)) (4/ 169). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 ولا شك أن المعتزلة لا يقبلون هذا الاسم، وهم إنما تنصلوا من اسم القدرية وأنكروه بشدة تخلصا من وصمة لقب المجوسية، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم ذم القدرية بتسميتها مجوس هذه الأمة (1).5 - مخانيث الخوارج: من ألقاب المعتزلة مخانيث الخوارج، وسبب التسمية: أن المعتزلة، ولا سيما شيوخهم الأولين: واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد كانوا يوافقون الخوارج في تخليد مرتكب الكبيرة في النار مع قولهم: إنه ليس بكافر، فهم قد وافقوا الخوارج في التخليد؛ لكن لم يجرأوا على تكفيره؛ ولذا سموا بهذا الاسم (2).6 - الوعيدية: من أسماء المعتزلة الوعيدية، سماهم به أحد المرجئة في شعر قاله في هجاء أبي هاشم الجبائي (3): يعيب القول بالإرجاء حتى ... يرى بعض الرجاء من الجرائر وأعظم من ذوي الإرجاء جرما ... وعيدي أصر على الكبائر (4) واسم الوعيدية آت من قول المعتزلة بالوعد والوعيد، وهذا القول أحد الأركان التي يقوم عليها الاعتزال، ومعناه: أن الله تعالى صادق في وعده ووعيده، وأنه لا يغفر الذنوب إلا من بعد التوبة (5).7 - المعطلة: كان أهل السنة يطلقون على الجهمية الأولى نفاة الصفات اسم المعطلة لتعطيلها الله تعالى عن صفاته (6). أي تجريده تعالى منها، وكانوا يقصدون من وراء هذه التسمية ذم الجهمية وهجوها، فإن أهل الموصل أخذوا بعد هزيمة مروان بن محمد يسبونه وينادونه: يا معطل، لأن مروان كان على مذهب المعطلة (7). وحين قام المعتزلة واقتبسوا عن الجهمية الأولى قولها بنفي الصفات، لزمهم اسم المعطلة. يقول الشهرستاني: إن من معاني التعطيل تعطيل ظواهر الكتاب والسنة عن المعاني التي تدل عليها (8).وبما أن المعتزلة كانوا يلجأون في الآيات التي لا توافق أغراضهم إلى التأويل، فلا يبعد أن يكون سببا آخر في تسميتهم بالمعطلة ونحن نجد بعض أهل السنة كابن القيم (9) يستعملون في كلامهم عن المعتزلة لفظ المعطلة للدلالة عليهم، فقد وضع ابن القيم كتابه (الصواعق المرسلة) في الرد على الجهمية والمعطلة، وهو يقصد الرد على المعتزلة بالدرجة الأولى (10). القسم الثاني: ما أطلقوه على أنفسهم: 1 - المعتزلة: سبق أن ذكرنا هذا الاسم من ضمن أسمائهم التي سماهم بها غيرهم، ونورده هنا من ضمن الأسماء التي تسموا بها؛ وذلك أنهم لما رأوا أنه لا خلاص لهم من هذا الاسم، أخذوا يبرهنون على فضله، وأن المراد به الاعتزال عن الأقوال المحدثة والمبتدعة (11)، وبرهنوا على ما يقولون ببعض النصوص مثل قوله تعالى: وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا [المزمل: 10]. وذلك لا يكون إلا بالاعتزال عنهم (12).2 - أهل العدل والتوحيد: يروي المقبلي أن المعتزلة كانوا يطلقون على أنفسهم أهل العدل والتوحيد والعدلية، ولذا يقول: "وتسمي المعتزلة نفسها بالعدلية، وأهل العدل والتوحيد" (13).أما مؤرخو أهل السنة الذين قالوا: إن المعتزلة يدعون أنفسهم أهل العدل والتوحيد فكثيرون، منهم: الشهرستاني حيث قال: ". . . ويسمون أصحاب العدل والتوحيد. . والعدلية" (14).وجاء في صحيح الأعشى أن المعتزلة يسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد، ويعنون بالعدل نفي القدر، والقول بأن الإنسان موجد أفعاله تنزيها لله تعالى أن يضاف إليه شر، ويعنون بالتوحيد نفي الصفات القديمة (15).والمعتزلة يفضلون أن يدعوا بهذا الاسم (16)؛ ذلك أنه علاوة على المعنى الحسن الذي يتضمنه، فإنه مشتق من أهم قاعدتين من قواعد الاعتزال اللتين كانت تدور حولهما أكثر تعاليمهم، وهما: أصل العدل، وأصل التوحيد (17).3 - أهل الحق، والفرقة الناجية، والمنزهون الله عن النقص: كذلك من أسماء المعتزلة التي تسموا بها: أهل الحق، والفرقة الناجية والمنزهون الله عن النقص. يقول المقبلي: "وتسمي المعتزلة نفسها. . أهل الحق، وأهل الفرقة الناجية والمنزهون الله عن النقص (18)؛ ذلك أنهم يعتبرون أنفسهم على الحق، ومن سواهم على الباطل، ولذا دعوا خصومهم بالمجبرة، القدرية المجوزة المشبهة الحشوية المرجئة، وغير ذلك (19). المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق – ص 22   (1) ((الملل والنحل)) (1/ 57)، ((المعتزلة)) (7). (2) ((مروج الذهب)) (6/ 22)، ((المعتزلة)) (9). (3) ((الفرق بين الفرق)) (184) ((الحاشية)) (185)، ((المعتزلة)) (153). (4) ((الفرق بين الفرق)) (177). (5) ((الانتصار)) (126)، ((المعتزلة)) (10). (6) ((الصواعق)) (1/ 192). (7) ((الكامل لابن الأثير)) (5/ 171). (8) ((نهاية الإقدام)) (123). (9) ((الصواعق المرسلة)) (1/ 2)، ((طبقات السبكي)) (6/ 44). (10) ((الصواعق المرسلة)) (1/ 241)، ((المعتزلة)) (10). (11) ((المنية والأمل)) (2، 4). (12) ((المعتزلة)) (4). (13) ((العلم الشامخ)) (300). (14) ((الملل والنحل)) (1/ 49). (15) ((صحيح الأعشى)) (13/ 251). (16) ((المنية والأمل)) (2). (17) ((المعتزلة)) (6). (18) ((العلم الشامخ)) (300). (19) ((العلم الشامخ)) (300). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 المبحث الرابع: تاريخ ومكان نشأة المعتزلة وممن استقوا آراءهم لقد اختلف الباحثون في وقت ظهور المعتزلة كاختلافهم في أصل تسميتهما، وأهم الأقوال في ذلك قولان: الأول: قول من يرى أنها ابتدأت في قوم من أصحاب علي – رضي الله عنه – اعتزلوا السياسة، وانصرفوا إلى العقائد، عندما نزل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية (1).يقول الملطي: ". . . وهم سموا أنفسهم معتزلة؛ وذلك عندما بايع الحسن بن علي معاوية وسلم الأمر إليه اعتزلوا الحسن ومعاوية وجميع الناس – وذلك أنهم كانوا من أصحاب علي – ولزموا منازلهم ومساجدهم، وقالوا نشتغل بالعلم والعبادة" (2).القول الثاني: قول الأكثرية من الباحثين. يرى هؤلاء أن رأس المعتزلة هو واصل بن عطاء المولود سنة (80هـ)، والمتوفى سنة (131هـ)، وقد كان ممن يحضر مجلس الحسن البصري في زمان فتنة الأزارقة (3)، فثارت تلك المسألة التي شغلت الأذهان في ذلك العصر، وهي مسألة مرتكبي الكبيرة، وذلك أنه دخل رجل على الحسن البصري في حلقته في مسجد البصرة، وبين له مذهب الخوارج في الكبيرة، ومذهب المرجئة، وطلب منه بيان الحكم في ذلك، ففكر الحسن، وقبل إجابته قال واصل بن عطاء: أنا أقول أن صاحب الكبيرة ليس بمؤمن بإطلاق، ولا كافر بإطلاق، بل هو في منزلة بين منزلتي الإيمان والكفر، فطرده الحسن واعتزل في ناحية من المسجد يقرر ما أجاب به على أصحابه (4).والمعتزلة – في كتبهم – يرون أن مذهبهم أقدم في نشأته من واصل، فيعدون من رجال مذهبهم كثيرا من أهل البيت، ولذلك فإنهم يقولون: إن الاعتزال إنما يعود إلى علي بن أبي طالب، وإن ابنه محمد بن الحنفية أخذ عنه هذا المذهب، ثم أورثه محمد لابنه أبي هاشم أستاذ واصل، فهذا ابن المرتضى (5) ينسب علي بن أبي طالب إلى الاعتزال (6). وما يقوله المعتزلة هنا مردود؛ لأمور منها: 1 - أن الروايات التي تنسب الاعتزال إلى علي بن أبي طالب لم ترد في كتب المعتزلة؛ إضافة إلى ذلك أن أسانيدها ليست صحيحة؛ مما يدل على أنها من وضعهم (7).2 - ما أثر عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – أنه كان ينهى (8) عن الخوض في القدر، فكيف ينهى عن شيء ينتحله؟! 3 - أن ما زعمه المعتزلة – هنا – إنما هو مجرد محاولة لإثبات بعض الأصالة لمذهبهم، وأنه لم يخرج عن عقيدة أهل السنة والجماعة إذا نسب إلى علي أو أحد بنيه (9).   (1) ((المذاهب الإسلامية)) (207). (2) ((التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع)) (41). (3) ((الخطط)) (2/ 354). (4) ((الملل والنحل)) (1/ 52). (5) ((الأعلام)) (1/ 255). (6) ((المنية والأمل)) (4)، ((نشأة الأشعرية)) (121) بتصرف. (7) ((نشأة الأشعرية)) (121). (8) ((نشأة الأشعرية)) (121). (9) ((المقالات)) (1/ 224)، ((الانتصار)) (180)، ((البداية لابن كثير)) (10/ 27)، ((الملل والنحل)) (1/ 113)، ((الأعلام)) (2/ 138). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 والرأي الأقرب للصواب – والله أعلم – قول الأكثرية، وهو أن رأس الاعتزال هو واصل بن عطاء، وأنه نشأ في سنة ما بين (105 إلى 110) للهجرة في البصرة نتيجة للمناظرة في أمر صاحب الكبيرة ثم خروج واصل برأيه المخالف لشيخه الحسن البصري؛ وبعد ذلك أضاف إلى رأيه في مرتكب الكبيرة آراء أخرى أصبحت فيما بعد من أصول المعتزلة، ومن ثم أخذ كل عالم من علمائهم يأتي برأي حتى تكونت هذه الفرقة. وقد استقوا آراءهم من المقالات والآراء السائدة في عصرهم آنذاك؛ وخصوصا البصرة. ففكرة الاختيار ومسئولية الإنسان عن أفعاله أخذها المعتزلة عن القدرية، وعن الجهمية أصحاب الجهم بن صفوان (1) تلقف المعتزلة القول بنفي الصفات وخلق القرآن، وعدم رؤية الله بالأبصار في الآخرة، وهذا الالتقاء يفسر خلط بعض الدارسين بين الجهمية والمعتزلة والقدرية. كما أخذ المعتزلة مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن الخوارج. كما اتفقوا مع الشيعة في كثير من الآراء الخاصة بالإمامة، كقولهم بوجوب وجود الإمام في كل عصر فضلا عن تجويزهم للتأويل حتى إن ابن المرتضى يرجع أن واصلا وعمرو بن عبيد شيخي الاعتزال تتلمذا على أبي هاشم بن محمد بن الحنفية. وباختصار، فإن المعتزلة لم يجدوا غضاضة في تكوين مذهبهم على أساس انتقائي للأفكار والآراء السائدة في عصرهم؛ وخصوصا آراء الفرق المخالفة (2).أما المكان الذي نشأ فيه الاعتزال، فإنه يكاد يجمع الباحثون على أنه البصرة، ولكن بعضهم يقول: إنه نشأ بالمدينة استنادا إلى أن المعتزلة السياسيين كانوا في المدينة، وكذلك الزهاد، وعلى ما يزعمه بعض الناس من أن أول من قام بالاعتزال أبو هاشم عبد الله والحسن ابنا محمد بن الحنفية، والاثنان كانا يسكنان المدينة، وبالمدينة ولد واصل بن عطاء وسكن فيها في صباه، وأخذ الاعتزال عن أبي هاشم الذي تقدم ذكره آنفا، يقول الملطي: "إن واصلا حمل الاعتزال معه من المدينة إلى البصرة" (3). والصحيح أن الاعتزال نشأ بالبصرة؛ أما ما ذكره، فإنما المقصود به الاعتزال السياسي واعتزال الزهاد. أما زعم بعضهم أن أول من قام بالاعتزال أبو هاشم عبد الله والحسن ابنا محمد بن الحنفية، فليس بصحيح، وإنما هذا من وضع كبار المعتزلة الذين يحبون أن يكسبوا مذهبهم بعض الأصالة والقداسة في نسبته إلى ابني محمد بن الحنفية؛ لكي يصلوا من ذلك إلى نسبته إلى علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – كما أنه ليس هناك أسانيد تثبت صحة ما زعموه، وأيضا: فقد أثر عن علي – رضي الله عنه – النهي عن الخوض في القدر. أما قول الملطي أن واصلا حمل الاعتزال معه من المدينة إلى البصرة فليس بصحيح؛ لأنه إما أن يكون بنى قوله على ما ذكر من وجود المعتزلة السياسيين والزهاد بالمدينة، وعلى زعم البعض أن الاعتزال أخذ عن أبي هاشم. أولاً إن كان الأول، فقد أبطلناه مسبقا، فإذا بطل الأصل، بطل ما ينبني عليه، وإن كان الآخر فممن أخذ الاعتزال في المدينة؛ حينئذ يحتاج إلى دليل ولم يبين. إذا ثبت بطلانه. إضافة إلى ذلك: فإن واصلا كان تلميذا للحسن، وتربى على يديه ولم يفارقه إلا عندما خالفه في مسألة مرتكب الكبيرة، وأبعده الحسن عن مجلسه (4). والله أعلم. المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق – ص 26   (1) ((الحركات السرية في الإسلام)) (90) بتصرف. (2) ((التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع)) (42). (3) ((نشأة الأشعرية)) (121)، ((المعتزلة)) (12). (4) انظر ((نشأة الأشعرية)) (ص 12). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 المبحث الخامس: إبطال مزاعم الشيعة والمستشرقين حول نسبة المعتزلة إلى الصحابة ومن الشبهات التي أثيرت في العصر الحديث محاولة جملة من المستشرقين الربط بين اعتزال جملة من الصحابة لأحداث الفتنة الأولى، ومسمى المعتزلة الذي ظهر في أول القرن الثاني الهجري، واتخذوا من عبارات المؤرخين دليلاً على قدم مذهب الاعتزال، وأن اعتزال واصل هو امتداد لاعتزال الصحابة للفتنة، ومن هذه النصوص التي اعتمدوا عليها ما ذكره الطبري على لسان المغيرة بن شعبة، عندما سأل عمرو بن العاص، فقال له: "يا أبا عبدالله، أخبرني عما أسالك عنه: كيف ترانا، معشر المعتزلة؟ فإنا قد شككنا في الأمر الذي تبين لكم من هذا القتال، ورأينا أن نتأنى، ونثبت، حتى تجتمع الأمة، قال أراكم، معشر المعتزلة، خلف الأبرار، وأمام الفجار" (1).ولفظ الاعتزال هنا تعني معناها اللغوي المعروف؛ من الكف، وعدم المشاركة في القتال، ولم تكن تشير إلى فئة معينة لها تميز فكري، أو عقدي، ولم يصرح المؤرخون بهذا المعنى: لا الطبري، ولا ابن كثير، ولا غيرهم من مؤرخي أهل السنة، ولكن كتاب المقالات من الشيعة زعموا أن أصل الاعتزال يرجع لاعتزال الصحابة للفتنة؛ فقال القمي "ت (302هـ) "، والنوبختي، وعند الذهبي, النوبختي من نفس طبقة القمي، ولم يذكر سنة وفاته (2)، يقول النوبختي بعد أن يعدد مواقف الصحابة من خلافة علي رضي الله عنه: "وفرقة اعتزلت مع سعد بن مالك، وهو سعد بن أبي وقاص "ت (55هـ) "، وعبدالله بن عمر "ت (73هـ) "، ومحمد بن مسلمة الأنصاري "ت (هـ43) "، وأسامة بن زيد "ت (54هـ) "، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن هؤلاء اعتزلوا عن علي رضي الله عنه، وامتنعوا عن محاربته، والمحاربة معه، بعد دخولهم في بيعته، والرضاء به؛ فسموا المعتزلة؛ وصاروا أسلاف المعتزلة للأبد، وقالوا: لا يحل قتال علي، ولا القتال معه، وذكر بعض أهل العلم أن الأحنف بن قيس التميمي "ت (هـ67) " اعتزل بعد ذلك في خاصة قومه من بني تميم، لا على التدين بالاعتزال، لكن على طلب السلامة من القتل، وذهاب المال؛ قال لقومه: اعتزلوا الفتنة أصلح لكم" (3).وقال الناشئ الأكبر "ت (292هـ) " أحد مؤرخي الشيعة: "وفرقة اعتزلوا الحرب؛ وهم صنفان: صنف اعتزلوا الحرب، ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل، والمقتول في النار)) (4)، ومن هؤلاء القوم الذين اعتزلوا الحرب على هذه الجهة عبدالله بن عمر، وسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن سلمة، وأسامة بن زيد، وخلق كثير من الصحابة، والتابعين، ممن رأى القعود عن الحرب فضلاً، وديناً، والدخول فيها فتنة، وهؤلاء هم أصحاب الحديث، وهم الذين يأتمون في كل عصر بمن غلب، والصنف الثاني: فهم الذين اعتزلوا الحرب لأنهم لا يعلمون من في الطائفتين أولى بالحق؛ ومن هؤلاء القوم أبو موسى الأشعري "ت (44هـ) "، وأبو سعيد الخدري "ت (64هـ) "، وأبو مسعود الأنصاري "ت (40هـ) "، والأحنف بن قيس التميمي "ت (67هـ) " في قبائل بني تميم، وقد جاءت الأخبار عنهم بذلك؛ فهذا الصنف الذين اعتزلوا الحرب على هذه الجهة، وكانوا يسمون في ذلك العصر المعتزلة، وإلى قولهم في حرب علي "ت (40هـ) "، وطلحة " ت (36هـ) "، والزبير "ت (36هـ) "، يذهب واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وهما رئيسا المعتزلة" (5).   (1) الطبري، ((تاريخ الأمم))، (3/ 106). (2) ((سير أعلام النبلاء))، (15/ 327). (3) النوبختي، ((فرق الشيعة))، (ص5)، والقمي، ((المقالات والفرق))، (ص4). (4) رواه البخاري (31) , ومسلم (2888) , من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. (5) الناشئ الأكبر، ((مسائل الإمامة))، تحقيق فان إس، (ص 16 - 17) بتصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 ويذهب الملطي إلى أن هذا الاسم برز بعد مبايعة الحسن بن علي لمعاوية؛ حيث قال: "وهم سموا أنفسهم معتزلة؛ وذلك عندما بايع الحسن بن علي – عليه السلام – معاوية، وسلم إليه الأمر، اعتزلوا الحسن، ومعاوية، وجميع الناس؛ وذلك أنهم كانوا من أصحاب علي، ولزموا منازلهم، ومساجدهم، وقالوا نشتغل بالعلم، والعبادة فسموا بذلك معتزلة" (1).وقد بنى المستشرقون على هذه المزاعم أن ربطوا المعتزلين عن الحروب، والفتن، باعتزال واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد؛ ليصلوا إلى هدفهم؛ وهو نسبة هذا الابتداع الضال إلى الصحابة – رضوان الله عليهم -؛ حيث حشد المستشرق نلينلوا مثل هذه النصوص؛ ليخلص إلى القول: "فعندئذ الدليل الحاسم على استعمال لفظ الاعتزال بهذا المعنى السياسي، طوال هذا الزمان الذي عاش فيه مؤسساً مذهب المعتزلة، ونستطيع أن نلاحظ أخيراً في كثير من الاحتمال أن الحديث الموضوع الذي طبقه المعتزلة المتكلمون، من بعد على أنفسهم، كان يشير في الأصل إلى المعتزلة السياسيين، وأعني بهم هؤلاء الذين امتنعوا عن الاشتراك في المنازعات الداخلية في القرن الأول، وأوائل القرن الثاني" (2)، ثم يعقب الدكتور بدوي بعد النص السابق، فيقول: "من كل هذا الذي سبق يبدو لي أنه ما دامت هذه المسألة قد أخذت حظها من الأهمية؛ بسبب المنازعات السياسية، والحروب الأهلية في القرن الأول، فمن الطبيعي أن يكون اسم المعتزلة قد أخذ عن لغة السياسة في ذلك العصر؛ فكان المعتزلة الجدد، المتكلمون في الأصل، استمراراً في ميدان الفكر، والنظر، للمعتزلة السياسية، أو العملية" (3).   (1) الملطي: ((التنبيه والرد))، (ص36) ت، الكوثري. (2) د. عبدالرحمن بدوي، ((التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية)) (ص190) بتصرف. (3) د. عبدالرحمن بدوي، ((التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية)) (ص190) بتصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 وللرد على هذه المزاعم المعروفة الهدف؛ وهو الربط بين معتزلة الابتداع المتأخرين، واعتزال الصحابة للفتنة، وأحداثها، فهذا الربط باطل، ولا صحة له؛ فإن الصحابة المعتزلين لأحداث الفتنة لم يؤثر عنهم أي خوض في مسائل عقدية مشابهة للتي ابتدعها المتأخرون، بل كان اعتزالهم لحقن دماء الأمة فقط، ولم يتعد ذلك إلى أي مقولة فكرية، أو عقدية، تشق صف الأمة، وتخالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم إن المعتزلة المتأخرين، لا يعتبرون معتزلة الحرب سلفاً لهم، بل الذي حملهم هذا هم مؤرخو الشيعة، والمستشرقون، ومن تابعهم، بل الثابت أن موقف واصل، وعمرو بن عبيد، من أحداث الفتنة ليس موقفاً وسطاً؛ كما فعل الصحابة المعتزلون، ولكنه موقف يطعن في المقتتلين؛ حيث قال واصل: "إن فرقة من الفريقين فسقة بأعيانهم، وإنه لا يعرف الفسقة منهما، وأجازوا أن يكون الفسقة في الفريقين علياًّ، وأتباعه؛ كالحسن، والحسين، وابن عباس، وعمار بن ياسر، وأبي أيوب الأنصاري، وسائر من كان مع علي يوم الجمل، وأجاز كون الفسقة من الفريقين عائشة، وطلحة، والزبير، وسائر أصحاب الجمل، ثم قال في تحقيق شكه: لو شهد علي وطلحة، أو علي والزبير، أو رجل من أصحاب علي، ورجل من أصحاب الجمل، عندي على باقة بقل لم أحكم بشهادتهما؛ لعلمي بأن أحدهما فاسق، لا بعينه" (1).وزاد عمرو بن عبيد على قرينة واصل؛ فقال بفسق كلتا الفرقتين المتقاتلتين يوم الجمل؛ وذلك أن واصلاً إنما رد شهادة رجلين من أصحاب الجمل، والآخر من أصحاب علي رضي الله عنه، وقبل شهادة رجلين كلاهما من أحد الفريقين، وزعم عمرو بأن شهادتهما مردودة، وإن كان من فريق واحد؛ لأنه قال بفسق الفريقين جميعاً" (2). فأين هو الاعتزال الذي قال به الشيعة، والمستشرقون؟ وهل الذي يقول مثل هذا في الصحابة يكون الصحابة المعتزلون للفتنة سلفاً له، وهم الذين كان عندهم عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يخوضوا في الفتنة؟ لكن واصلاً، وعمراً، انطلقت ألسنتهم العليلة بتفسيق جمهور الصحابة، الذين رضي الله عنهم، ورضوا عنه. أما ما قاله الملطي "ت (377هـ) " عن حدوث هذا الاسم بعد بيعة الحسن لمعاوية، فهذا الرأي يكاد قد ينفرد به وحده، ولم يقل به غيره، ولو صح، لاشتهر هذا الاسم اشتهاراً واسعاً، ثم إن الحقائق تنقضه؛ فإن الناس بعد بيعة الحسن لمعاوية – رضي الله عنهما –، قد دخل أغلبهم في بيعة معاوية، وسمي ذلك العام عام الجماعة، فقد بايعه كبار الصحابة، وأعيان الأمصار في كل أرض الخلافة، إلا بقايا من الشيعة السبئية، والخوارج الذين اختاروا سراديب الظلام، وعلى فرض صحة ما قاله الملطي، فإن اعتزال هؤلاء للعلم، والعبادة، وليس لتأسيس نحلة ضالة تخالف منهاج السلف في الكتاب، والسنة. وقد حاول الشيعة المعتزلة من الزيدية الذين خلطوا بين الاعتزال، والتشيع، نفي ما قاله واصل وعمرو في الصحابة، بلا دليل يصح؛ حيث يقول نشوان الحميري: ""ومن الناس" من يقول سموا معتزلة لاعتزالهم علي بن أبي طالب – عليه السلام – في حروبه، وليس كذلك؛ لأن جمهور المعتزلة، وأكثرهم، إلا القليل الشاذ منهم، يقولون: إن عليا كان على الصواب، وإن من حاربه فهو ضال" (3).   (1) عبدالقاهر البغدادي، ((الفرق بين الفرق)) (ص119 - 121) بتصرف. (2) عبدالقاهر البغدادي، ((الفرق بين الفرق)) (ص119 - 121) بتصرف. (3) الحميري، ((الحور العين)) (ص 259). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 ولو كان هذا صحيحاً لاهتبله مؤرخو الشيعة، وذكروه؛ ليعززوا مواقفهم التي هي من جنس ما يردده المعتزلة؛ من إلقاء الكلام على عواهنه، بلا دليل إلا التهويش، وجلب الأتباع اعتباطاً، لا حقيقة. ولكن الأكاذيب التي لا تحتمل هي التي أتى بها ابن المرتضى عندما عدد طبقات المعتزلة، ووضع في الطبقة الأولى: الخلفاء الأربعة، وعبدالله بن العباس "ت (68هـ) "، وابن مسعود "ت (32هـ) "، وغيرهم، ثم زعم أن علياً كان يصرح بالعدل؛ أي يقول بالقدر، وكذلك أبو بكر، وابن مسعود، وساق الأخبار الملفقة عن عمر، وعثمان، وابن عباس، وأبي بن كعب رضي الله عنهم (1) وزعم أن هؤلاء أسلاف مذهب المعتزلة، والقدرية؛ لترويج أفكارهم الرديئة، والتي كان يبرأ منها ابن عمر، وابن عباس، وكان التابعون يلعنون القدرية، وانحرافهم، ثم يأتي كاتب مغمور في القرن التاسع الهجري ليكذب هكذا، وكأنه اعتقد أن أهل السنة لم يبق فيهم من يدافع عن السلف – رضوان الله عليهم –، من غير دليل، ولا حجة، عن طريق جمع نصوص مبتورة، لا تمت معانيها إلى الواقع بصلة، وتكون عليها فكرة جديدة، يريدون أن تصبح هي الحقيقة المطلقة، أما ممارسات المعتزلة المشينة، وابتداعاتها الواضحة، فإنها تصبح بطولات، ومناداة بمذهب الإرادة الحرة المزعومة، على حساب عقيدة الأمة، التي توجهت كل السهام للطعن بها، وبعلمائها الأبرار، ووصفهم بأشنع الأوصاف؛ لأنهم عارضوا القدرية، وأبانوا عن عورات المعتزلة، وغيرهم من فرق الابتداع المصدر: العقيدة الإسلامية لعطا الله المعايطة - ص 617   (1) ابن المرتضى، ((المنية والأمل)) (ص127 - 130) بتصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 المبحث السادس: عوامل ظهور المعتزلة وانتشار أفكارهم لقد أدى ظهور المعتزلة وانتشار أفكارهم عوامل عدة، منها ما يلي: 1 - حل مشاكل الخلاف بين المسلمين: على أثر ركود حركة الفتح واستقرار المسلمين في الأمصار نشأت بينهم مشاكل اجتماعية كثيرة، كان حتما عليهم أن يدرسوها ويجدوا لها حلولا شافية يقبلها الدين الإسلامي، ومن المشاكل التي أثيرت أكثر مما سواها مشكلة مجرمي الأمة أو ما يدعون مرتكبي الكبائر التي ما دون الشرك؛ وذلك أنه كثر إقدام الناس على ارتكاب الكبائر بسبب اختلاف القادة على الخلافة، وما قبله من الفتن التي أدت إلى مصرع عثمان – رضي الله عنه – ونشوء الحرب بين علي وأصحاب الجمل، ثم بين علي ومعاوية، فتفرق المسلمون أحزابا ووقعوا في صراع دموي ذهب بالطيبين من أعلام الصحابة، وراح المسلمون يكفر بعضهم بعضا، وانشغلوا عن أعمال الفتوح بتبادل السباب، يضاف إلى هذا أن المسلمين انتقلوا بعد الفتح من محيط الصحراء الضيق إلى محيط واسع فيه كثير من ضروب اللهو والترف وأسباب الفساد، فحز ذلك في نفوس القوم، ولا سيما أهل العلم والأخبار، وساءهم أن يروا إخوانهم المسلمين يجترئون على المعاصي، ويقتل بعضهم بعضا بلا سبب، فعكفوا على هذه المشكلة يدرسونها، ويصدرون أحكامهم فيها مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كل على حسب اجتهاده، فكثرت بسبب ذلك المناظرات، واشتهرت المجادلات واختلاف الرأي (1).وكان أهل السنة والجماعة يرون أن مرتكب الكبيرة التي ما دون الشرك أنه مؤمن، فكبيرته لا تخرجه من الإيمان، ولا تدخله في الكفر، لبقاء التصديق الذي هو حقيقة الإيمان، ولكنه يعاقب عليها (2). ويستدلون بأمور، منها:   (1) ((المعتزلة)) (14). (2) ((العقائد النسفية)) (117). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 الأول: النصوص الناطقة بإطلاق المؤمن على المعاصي، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى. . الآية [البقرة: 178]. وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا. . الآية [التحريم: 8]. الثاني: إجماع الأمة من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى وقتهم على الصلاة على من مات من المسلمين من غير توبة، والدعاء له ودفنه في مقابرهم مع علمهم بحاله (1).وقد رفض الخوارج حكم أهل السنة في مرتكب الكبيرة، ووضعوا فيه حكما مخالفا، فقالوا – ما عدا النجدات منهم -: إن مرتكب الذنوب كبيرة كانت أو صغيرة كافر مخلد في النار ذلك لأنهم كانوا لا يعتبرون الإيمان تاما بدون العمل (2).وكما رد الخوارج حكم أهل السنة، فإن المرجئة اعترضوا على حكم الخوارج، وكونوا في مرتكب الكبيرة رأيا يعتبر بمثابة الرد على الخوارج، فقالوا: نظرا لأن الإيمان هو عمود الدين، وليس العمل داخلا في الإيمان، وأنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فقد قرروا أن مرتكب الكبيرة مؤمن وأرجأوا أمر معصيته إلى الله تعالى يوم القيامة ليحكم فيه ما يشاء (3).ثم تعاظم الخلاف بين الفرق الإسلامية، واحتدم الجدل، وصارت تعقد في مساجد البصرة وغيرها حلقات المناظرة التي كان أهمها وأشهرها حلقة الحسن البصري. في ذلك الجو ظهر المعتزلة، وقد كانت الحلول المعروضة لمرتكب الكبيرة غير مرضية للجميع؛ وبذلك كان المجال مفتوحا لظهور حلول أخرى، وقد ظن واصل بن عطاء – تلميذ الحسن البصري – أن في مقدوره أن يجيء بحكم خير من الأحكام السابقة، ثم أن واصلا لما كان يعتقد أن العمل جزء من الإيمان (4)؛ ويرى أن أحكام المؤمنين والكافرين والمنافقين في الكتاب والسنة زائلة عن مرتكب الكبيرة، فإنه قرر أن مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر؛ بل في منزلة بين منزلتي الإيمان والكفر (5).وقد عرفنا – فيما سبق – عند الكلام على نشأة المعتزلة، قصة السائل الذي أتى إلى الحسن البصري في حلقته يسأله عن حكم مرتكب الكبيرة؛ معللا ذلك بوجود الآراء المتضاربة، آراء الخوارج والمرجئة، وقبل أن يجيب الحسن سبقه واصل بن عطاء وقال رأيه في مرتكب الكبيرة، وهو أنه لا مؤمن ولا كافر، ثم قام واعتزل في ناحية من المسجد، وانضم إليه عمرو بن عبيد وأصحابه، فقال الحسن: اعتزلنا واصل؛ وبذلك سمي واصل وأصحابه المعتزلة (6).ومما يلفت الانتباه أن واصلا – رغم مخالفته للخوارج – وقوله: إن مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر، فإنه وافقهم على تخليده في النار، وفي هذا يقول البغدادي: تناقض بين، إلا أن واصلا استدرك فقال: يخفف عنه العذاب، وتكون دركته فوق دركة الكفار؛ وذلك إذا خرج صاحب الكبيرة من الدنيا عن غير توبة (7).   (1) ((العقائد النسفية)) (117). (2) ((العقائد النسفية)) (116)، ((الفرق بين الفرق)) (73). (3) ((التبصير في أمور الدين)) (90)، ((الملل والنحل)) (1/ 145)، بتصرف. (4) ((العقائد النسفية)) (116). (5) ((الانتصار)) (167). (6) ((الملل والنحل)) (1/ 55). (7) ((الفرق بين الفرق)) (119)، ((الملل والنحل)) (1/ 56)، بتصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 وقد طبق واصل بن عطاء هذا المبدأ على المتنازعين على الخلافة، فقد كان أهل العصر مختلفين في هذه المسألة أيضا، فشيعة علي – رضي الله عنه – يكفرون الذين خرجوا عليه وحاربوه، وحرموه من حقه في الخلافة، وجماعة معاوية يلعنون عليا في المساجد، والخوارج يقولون: إن أصحاب الجمل كفروا بقتالهم عليا، وأن عليا كان على الحق في قتال أصحاب الجمل، وقتال أصحاب صفين إلى وقت التحكيم، ثم كفر بالتحكيم، وأهل السنة يعتقدون صحة إسلام الفريقين في حرب الجمل وصفين، ويرون أن الذين قاتلوا عليا فيهما كانوا عصاة مخطئين، ولكن خطأهم لم يكن كفرا. وأما المرجئة؛ فكانوا يؤمنون بحسن إسلام الفريقين ويرجئون الحكم عليهما إلى يوم القيامة، فلما قام واصل خالف جميع هذه الأقوال، وأدلى بحكمه الخاص في ذلك النزاع، فقال في عثمان وقاتليه وخاذليه: إن أحد الفريقين لا محالة فاسق مخطئ؛ غير أنه لا يستطيع أن يعين أيهما المخطئ؛ فلا يمكنه لذلك أن يقبل شهادتهما، كذلك قال في أصحاب الجمل وصفين: أن أحدهما مخطئ فاسق، وقد يكون الفسقة من الفريقين، ولما كان يشك فيهما كليهما ولا يعرف أيهما الفاسق، رفض شهادتهما، وقد ذهب صاحبه عمرو بن عبيد إلى أبعد من ذلك، فحكم بفسق الفريقين من أصحاب الجمل وصفين، ولم يقبل شهادتهم جميعا (1). ولم يكتف واصل بالحكم على المتحاربين على الخلافة فحسب؛ بل تعرض لحل ذلك النزاع السياسي من أساسه، فقد كانت آراء الفرق الإسلامية في الخلافة متضاربة، فأهل السنة يقولون: إن الخليفة يجب أن يكون عربيا من قريش، وأن يصل إلى الخلافة بمبايعة الأمة وموافقتها. والشيعة يرون: أن الإمامة محصورة في أولاد علي بن أبي طالب من زوجته فاطمة بنت الرسول – صلى الله عليه وسلم – والخوارج يصرون على أن تكون الخلافة بانتخاب الأمة إذا دعت الضرورة إلى ذلك، وكل مسلم يحق له أن ينتخب لإشغال ذلك المنصب. فحاول واصل أن يوحد هذه الآراء ويكون منهاجا يرضي الجميع، ويجيء وسطا بين تطرف الشيعة والخوارج، فقال: الإمامة باختيار الأمة، وحجته في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى لم ينص على رجل بعينه، ولا الرسول صلى الله عليه وسلم. وفي هذا وافق أهل السنة والخوارج. وقال أيضا: إذا كان مسلما سواء من قريش أو من غيرها، ومن أهل العدالة والإيمان، يجوز أن يقع عليه اختيار الأمة، وكان ذلك منه ترضية ثانية للخوارج وزاد على ما تقدم أن اختيار الإمام واجب على أهل كل عصر، فاقترب بهذا القول من الشيعة الذين يعتقدون بوجوده في كل وقت إن حاضرا أو غائبا. ويتضح مما تقدم أن المسلمين في الوقت الذي ظهرت فيه هذه الفرقة كانت عندهم بعض المشاكل، وأن المعتزلة قاموا ليحلوا تلك المشاكل ويضعوا فيها أحكاما حسبوا أنها ترضي الجميع، وتحوز قبولهم، وتصلح ذات بينهم (2)؛ إلا أن المسألة بالعكس؛ إذ أنهم زادوا المشاكل مشاكل، فأحدثوا من البدع والأقوال المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما جعل المسلمين ينشغلون عن حل مشاكلهم بالقضاء على هذه البدع والأقوال المخالفة، والرد عليها؛ لكن على كل حال فإن وجود بعض المشاكل بين المسلمين مما هيأ لظهور هذه الفرقة؛ ومن ثم ساعدها على الاشتهار والانتشار عندما أثبتت آراءها كأي فرقة أخرى من فرق الضلال. 2 - أثر الديانات الأخرى:   (1) ((الملل والنحل)) (1/ 52)، ((المعتزلة)) (18) بتصرف. (2) ((مروج الذهب)) (1/ 71، 6/ 24)، ((مقدمة الانتصار)) (51)، ((المعتزلة)) (19)، ((ظهر الإسلام)) (26)، ((أهم الفرق الإسلامية)) (41) بتصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 لقد شهدت جزيرة العرب شروق شمس الإسلام؛ غير أنه لم يبق محصورا في هذه الجزيرة إذ ما لبث المسلمون أن خرجوا منها غازين فأخضعوا لسلطانهم معظم أقطار الشرق الأدنى، وقد وجدوا في البلاد التي فتحوها أقواما يدينون بديانات شتى. ففي الشام ومصر عمت المسيحية واليهودية، وفي العراق وفارس غلبت المجوسية بفرقها المتعددة كالثنوية والزرادشتية والمانوية والمزدكية. . فكان لزاما على المسلمين أن يعيشوا بين أرباب تلك الأديان، وكان لابد لهم من الاتصال المستمر بهم، فتأثروا بآرائهم وأفكارهم، وتسرب إلى الإسلام من عقائدهم نتيجة ذلك الاحتكاك والتأثر المتواصلين ما كان أئمة السلف لا يقرونه، ولا يرضون به. وقد تم ذلك التأثر بطرق مختلفة، منها: ترجمة بعض الكتب القديمة مما أثر على الفرس والهنود واليونان والرومان، وكان في هذه الكتب من العلوم والفلسفات ما أثر على عقائد المسلمين، وجرهم إلى مناظرات كان للمعتزلة النصيب الأكبر منها؛ إذ أن لهم مدخل في علم الكلام. ومنها: دخول أهل الملل الأخرى في الإسلام؛ حيث جاءوا بمعارف مختلفة أثرت على عقائد المسلمين، وقد انقسم هؤلاء الداخلون في الإسلام أقساما، منهم: من دخل في الإسلام وترك معتقداته القديمة، لكنه نقل بعض تلك المعتقدات عن غير عمد، ونشرها بين أهله، فكان لها دورها في التأثير على عقائد المسلمين. ومنهم: من اعتنق الإسلام لا عن إيمان به، وإنما لغايات في نفوسهم، فعل بعضهم ذلك طمعا في مال يجنيه أو جاه يناله، وأقدم البعض الآخر عليه بدافع الحقد على المسلمين الذين هزموا دينهم وهدموا ملكهم، فأظهروا الإسلام وأبطنوا عداوته، فدئبوا على محاربته والكيد له، فكانوا خطرا عليه كبيرا لأنهم ما انفكوا ينفثون فيه ما في صدورهم من الغل والغيظ، ويروجون بين أبنائه من الأفكار ما لا تقره العقيدة الإسلامية حبا في تشويه تلك العقيدة، ورغبة في إفسادها، كما أن هناك من تمسكوا بأديانهم الأصلية، لأن الإسلام منحهم حرية العبادة، ولم يتدخل في شئونهم الخاصة ما داموا يدفعون الجزية. ولما توطدت أركان الدولة الإسلامية وتوسعت أعمالها في عهد بني أمية، ولما لم يكن للعرب قدرة كافية في أمور الإدارة، فإنهم اضطروا إلى أن يعتمدوا في تصريف شئون البلاد على أهل الأمصار المتعلمين الذين اقتبسوا من مدنية الفرس وحضارة البيزنطيين، فأسندوا إليهم أعمال الدواوين، وهكذا كانوا يحيون بين ظهراني المسلمين، ويحتكون دوما بهم، والاحتكاك يؤدي إلى تبادل الرأي، والآراء سريعة الانتقال. بعد هذه المقدمة نبين أثر الديانات الأخرى في ظهور الاعتزال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 معلوم أن أرباب تلك الديانات أثاروا بين المسلمين مسائل إلهية هامة لم تكن لتخطر لهم، غير أن السلف تخوفوا منها وتجنبوها، وحظروا على الناس الخوض فيها؛ لأنهم كانوا يرون في الكتاب والسنة ما يكفيهم في حياتهم، فلا ضرورة لأن ينصرفوا إلى أبحاث دينية أخرى خارجة عنهما؛ إلا أن ترك البحث في تلك المسائل الإلهية لم يدم طويلا، فسرعان ما قام من بين المسلمين رجال كان عندهم شيء من الجرأة، وحب الاستطلاع، فأقبلوا عليها يدرسونها ويقابلونها بتعاليمهم الإسلامية أولئك الرجال هم المعتزلة وأسلافهم القدرية أو الجهمية. قد كان لليهود بلا شك بعض الأثر في ظهور المعتزلة، فهم الذين نشروا المقالة في خلق القرآن، يروي ابن الأثير (1) أن أول من نشرها منهم هو لبيد بن الأعصم – عدو النبي صلى الله عليه وسلم – الذي كان يقول بخلق التوراة؛ ثم أخذ ابن أخته طالوت هذه المقالة عنه، وصنف في خلق القرآن، فكان أول من فعل ذلك في الإسلام، وكان طالوت هذا زنديقا فأفشى الزندقة (2). وذكر الخطيب البغدادي (3): أن بشرا المريسي (4) المرجئ المعتزلي أحد كبار الدعاة إلى خلق القرآن، كان أبوه يهوديا، صباغا في الكوفة (5). لكن الديانة التي كان لها أثرها في ظهور الاعتزال أكبر من غيرها هي المسيحية. والأدلة على تأثر المعتزلة بالمسائل الإلهية التي أثارها المسيحيون كثيرة منها:1 - أن الأمويين قربوهم إليهم، واستعانوا بهم، وأسندوا إليهم بعض المناصب العالية، فقد جعل معاوية بن أبي سفيان سرجون بن منصور الرومي المسيحي كاتبه وصاحب أمره (6).وبعد أن قضى معاوية بقيت لسرجون مكانته، فكان يزيد يستشيره في الملمات ويسأله الرأي (7) ثم ورث تلك المكانة ولده يحيى الدمشقي (8) الذي خدم الأمويين ثم اعتزل العمل سنة (112هـ) والتحق بأحد الأديرة القريبة من القدس حيث قضى بقية حياته يشتغل في الأبحاث الدينية، ويصنف الكتب (9).إن احتكاك المسلمين بأولئك المسيحيين لا يمكن أن يكون قد مضى دون أن يترك فيهم أثرا، فكيف إذا تجاوز الأمر حد التجاوز، واشترك المسلمون والمسيحيون في مناظرات دينية، وطال بينهم الجدل، هؤلاء يؤيدون دينهم، وأولئك يبرهنون على صحة معتقدهم؛ أقول ذلك، لأننا نستدل من كتابات يحيى الدمشقي وأمثاله من المسيحيين، فقد ورد منها نماذج محاورات جرت بين المسلمين والمسيحيين، واشترك فيها يحيى الدمشقي، وكان يبدأوها على هذا النحو: إذا قال لك العربي كذا وكذا فأجبه بكذا. . وأشار المستشرق سكيفورت إلى تلك النماذج، فقال: إن من جملة الكتب التي صنفها يحيى الدمشقي كتاب في الدفاع عن النصرانية وضعه في شكل محاورة بين عربي ومسيحي، والذي يظهر من كل هذا أن الأمويين الأوليين كانوا متسامحين في الدين، فلم يمانعوا في قيام مناقشات من هذا النوع، وقد توقفت تلك المناقشات مدة طويلة، ثم استؤنفت في زمن المأمون الذي كان أكثر من الأمويين تسامحا، بل إنه ليشجعها (10) فقد جاء في نفح الطيب أنه حدثت مناظرة بين العتابي (11)   (1) ((تذكرة الحفاظ)) (4/ 185)، ((الكامل في التاريخ)) (1/ 9). (2) ((الكامل في التاريخ)) (7/ 49)، ((المعتزلة)) (21). (3) ((تذكرة الحفاظ)) (3/ 312)، ((معجم الأدباء)) (4/ 13). (4) ((لسان الميزان)) (2/ 29)، ورد الإمام الدارمي على بشر المريسي (المقدمة). (5) ((تاريخ بغداد)) (7/ 61). (6) ((الطبري)) (6/ 183)، ((الكامل)) (4/ 7)، ((المعتزلة)) (23). (7) ((تاريخ الأمم والملوك للطبري)) (6/ 194، 199). (8) ((المعتزلة)) (23) الحاشية. (9) ((المعتزلة)) (23). (10) ((المعتزلة)) (25). (11) ((الأعلام)) (6/ 89)، ((معجم الأدباء)) (6/ 212) .. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 وبين أبي قرة أمام المأمون في المسيح عليه السلام، كذلك جرت لأبي قرة محاورة في حضرة المأمون بينه وبين بعض العلماء من العراق والشام دونها في كتاب خاص (1).2 - ورد في كتب المؤرخين نصوص تشير إلى أن المسلمين أخذوا عن المسيحيين بعض أقوالهم (2)، فقد ذكر المقريزي أن أول من تكلم بالقدر في الإسلام هو معبد الجهني (3) أخذ ذلك عن نصراني من الأساورة يقال له أبو يونس، ويعرف بالأسواري (4).وروى ابن قتيبة أن غيلان (5) الدمشقي أكبر داعية إلى القدر بعد الجهني، كان قبطيا، ولذا يدعون غيلان القبطي (6). وفي ذلك إشارة إلى أصله المسيحي. 3 - ومن الأدلة أيضا على تأثر المعتزلة بالمسيحيين ما نراه من الشبه بين كثير من عقائدهم وبين أقوال يحيى الدمشقي والمسائل الدينية التي كان يعالجها. . . فلا يعقل أن يكون ذلك الشبه وليد الصدفة أو من قبل توارد الأفكار والخواطر، لأنها لا تقتصر على قول واحد أو فكرة واحدة، بل تظهر جليا في مسائل متعددة منها: 1 - القول بخير الله تعالى: كان يحيى الدمشقي يقول: إن الله خير، ومصدر كل خير، وأن الفضيلة هبة منه تعالى، بها أصبح الإنسان قادرا على فعل الخير، فلولا المعونة الإلهية لما استطاع أحد أن يأتي شيئا من الخير أبدا، والمعتزلة كانوا يذهبون إلى مثل هذا القول في خير الله تعالى، ويرون أن الله لا يفعل الشر، ولا يوصف بالقدرة على فعله. 2 - القول بالأصلح: ثم إن يحيى الدمشقي كان يرى أن الله تعالى يهيئ لكل شيء في الوجود ما هو أصلح له، وهذا شبيه بعقيدة الأصلح التي لعبت دورا مهما في تاريخ المعتزلة، وخلاصتها: أن الله تعالى لا يفعل بعباده إلا ما فيه صلاحهم.   (1) ((نفح الطيب)) (3/ 53). (2) ((المعتزلة)) (25) نقلا عن ((مجلة الشرق)) (1/ 633). (3) ((ميزان الاعتدال)) (3/ 183)، ((الأعلام)) (8/ 177). (4) ((الخطط)) (4/ 181) , ((الفرق بين الفرق)) (17)، ((فرق وطبقات المعتزلة)) (38). (5) ((الفرق بين الفرق)) (17)، ((فرق وطبقات المعتزلة)) (38) , ((كتاب المعارف لابن قتيبة)) (166، 207). (6) ((كتاب المعارف لابن قتيبة)) (166، 207). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 3 - نفي الصفات: لقد كان يحيى ينفي الصفات الأزلية، وحجته في ذلك أننا لا نستطيع أن نحدد الله تعالى أو ندرك طبيعته؛ لأن الطبيعة مستحيل عليها أن تفهم ما فوق الطبيعة، ولأنه تعالى لم يمنحنا القدرة على تعرفه وإداركه، والذين يطلقون على الله تعالى بعض الصفات، كالقدم والحياة والسمع والبصر، يخطئون كثيرا، لأن هذه الصفات تقتضي التركيب فيكون تعالى مركبا من عناصر مختلفة؛ وذلك ما لا يجوز في حقه تبارك وتعالى؛ لأنه عنصر واحد غير مركب، ولو أطلقنا عليه تعالى مثل هذه الصفات، فإن علينا أن نفهم تماما أنها مجرد صفات سلبية، فإذا قلنا أنه تعالى لا أول له، فالمعنى أنه غير مخلوق أو غير قابل للفناء، وإذا قلنا: أنه خير فالمعنى أنه لا يفعل الشر، وهكذا. وإلى هذا القول في تعطيل الصفات ذهب المعتزلة حيث جعلوه أحد أصولهم الخمسة. 4 - المجاز والتأويل: كذلك تعرض يحيى الدمشقي لمسألة التجسيم والتشبيه، فقال: إنه وردت في الكتاب المقدس كلمات كثيرة تحمل معنى التجسيم والتشبيه، وإن الناس في حديثهم عن الله تعالى يستعملون عبارات تؤدي إليهما، فحيثما وجدنا مثل هذه العبارات التي تتضمن معنى التجسيم والتي تشبه الله بخلقه؛ سواء في الكتاب المقدس أو غيره، وجب أن نعتبرها مجازا أو رموزا, وننظر إليها كأداة تعين الناس على معرفة الله، ويجب أن نعمد لذلك إلى تأويلها، فمثلا: سمعه تعالى: لا يعني إلا استعداده لقبول الدعاء، وعينه تعالى: ليست سوى قدرته على معرفة كل شيء، ومراقبة كل شيء، وهكذا، وقد سار المعتزلة على هذه الخطوة فنفوا الأحاديث وأولوا الآيات التي تتضمن الاستواء والمجيء والنزول إلى الدنيا والسمع والبصر والكلام وغير ذلك (1).   (1) ((المعتزلة)) (27) بتصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 من هذا العرض اتضح لنا أن للديانات الأخرى أثر في نشأة المعتزلة وخصوصا اليهودية والمسيحية، وأن أثر المسيحيين أكثر من غيره. ومن الضروري أن نذكر في هذا الصدد أن المعتزلة لم يتأثروا في بادئ الأمر بأرباب الديانات الأخرى مباشرة، فقد سبقهم جماعة اطلعوا على عقائد المسيحية واليهودية وأخذوا يدرسونها ويتحدثون عنها، وهم فرقتان: فرقة قالت بخلق القرآن ونفي الأزلية، وأخرى قالت بنفي القدر. وأول رجال الفرقة الأولى: هو الجعد بن درهم (1) الذي أظهر مقالته في زمن هشام بن عبد الملك. وعن الجعد أخذ الجهم بن صفوان أكثر أقواله، وكان الجهم جبريا لا يثبت للعبد فعلا ولا قدرة على الفعل أصلا، وكان فوق ذلك ينفي الصفات، ويقول بخلق القرآن وفناء الجنة والنار، وفناء حركات أهلهما، وإنكار الرؤية السعيدة، وإيجاب المعارف بالعقل قبل ورود الشرع، فانتشرت مقالته بـ (ترمذ) من أعمال خراسان (2).أما الطائفة الثانية: فهي القدرية التي كانت تثبت للإنسان قدرة على أفعاله، وحرية في اختيارها، وأول رجالها عمر المقصوص المتوفى سنة (80هـ) الذي ظهر بدمشق، وكان أستاذا للخليفة معاوية بن يزيد بن معاوية، فقتله الأمويون بتهمة إفساد الخليفة (3). ويأتي بعده معبد الجهني الذي تكلم بالقدر في البصرة، وكان يجالس الحسن البصري فاقتدى به جماعة من المسلمين، منهم عمرو بن عبيد المعتزلي، وقد سلك أهل البصرة مسلكه في نفي القدر حينما رأوا عمرو بن عبيد ينتحله، ولما عظمت الفتنة به عذبه الحجاج وصلبه بأمر عبد الملك بن مروان (4).ومن رجال القدرية غير المقصوص والجهني غيلان الدمشقي الذي أخذ القول بنفي القدر عن معبد الجهني وتمادى فيه فأحضره عمر بن عبد العزيز – الخليفة الأموي العادل تولى الخلافة سنة (99هـ)، وتوفي سنة (101هـ) – ووبخه وبلغه بعد ذلك أن غيلان أسرف في القدر، فاستدعاه إليه، وامتحنه، وكان يود أن يذبحه لو لم يتراجع غيلان ويعلن توبته، فأمر عمر بن عبد العزيز بالكتابة إلى سائر الأعمال بخلاف ذلك، فأمسك غيلان عن الكلام إلى أن مات الخليفة عمر، فسأل في القدر، فجاء به هشام بن عبد الملك، وكان شديدا على القدرية فامتحنه فأقر بنفي القدر، فأمر به فقطعت يداه ورجلاه، فمات وصلب على باب دمشق، ويقال: أن هشاما صلبه حيا (5).وهكذا فبينما الجعد ومن تبعه يقولون بخلق القرآن ونفي الصفات في الشام والعراق، والجهمية في خراسان، تقول أيضا: بقولهما، والقدرية في البصرة تنفي القدر وتدافع عن حرية الإنسان في اختيار أفعاله، ظهرت المعتزلة في البصرة التي كانت كما وصفها الحافظ الذهبي (6) (عشر القدر) (7). تحت تأثير التيارات الفكرية المختلفة التي وجدوها، وكانت تعاليمهم خليطا من أقوال القدرية والجهمية، فإنهم وافقوا القدرية في نفي القدر، ووافقوا الجهمية في جميع أقوالها ما عدا الجبر، فإنهم خالفوها فيه، وتحاملوا عليه، ولا شك في أن المعتزلة كانوا متأثرين بتلك العقائد التي انتهت إليهم تأثرا قويا، مؤمنين بها إيمانا شديدا، وإلا لما كانوا تمسكوا بها، وهم يرون الأمويين يبطشون بأصحابها ويتتبعونهم بالتعذيب والقتل.   (1) ((الأعلام)) (2/ 144). (2) ((الملل والنحل)) (1/ 79)، ((سرح العيون)) (159)، ((شذرات الذهب)) (1/ 169)، ((المعتزلة)) (24)، بتصرف. (3) ((تأويل مختلف الحديث)) (98)، ((مختصر الدول لابن العبري)) (191). (4) ((الخطط)) (4/ 181)، ((المعتزلة)) (34)، بتصرف. (5) ((كتاب المعارف)) (166)، ((سرح العيون)) (157)، ((المعتزلة)) (35)، بتصرف. (6) ((شذرات الذهب)) (6/ 153، 157)، ((معجم المؤلفين)) (8/ 289، 290). (7) ((ميزان الاعتدال)) (2/ 207)، ((المعتزلة)) (35)، بتصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 لقد ذهبت الجهمية وانقرضت القدرية، ولكن تعاليمهما بقيت محفوظة في فرقة المعتزلة التي أخذت تلك التعاليم وشرحتها وتوسعت فيها؛ ولهذا يمكننا أن نعتبر المعتزلة ورثة الجهمية والقدرية، وعلى الأخص القدرية، لأن الجهمية كانت مخالفة للمعتزلة في مسألة القدر، ولأنها انحصرت في (نهاوند) وعمرت مدة طويلة بعد قيام المعتزلة، أما القدرية فلم يكن بينها وبين المعتزلة شيء من الخلاف، وقد اندمجت بهم حال ظهورهم، فأصبح القدرية والمعتزلة فرقة واحدة (1). وبهذا يتضح أن المعتزلة قد تأثروا بالديانات الأخرى وخصوصا اليهودية والمسيحية لكن بطريق غير مباشر. والله أعلم. 3 - مناصرة بني العباس لهم: لقد ظهرت المعتزلة في العصر الأموي، وكانوا قد أدركوا نقطة الضعف في الفرق التي خرجت قبلهم كالقدرية الذين تعرضوا لنقمة الخلفاء الأمويين، وتتبعوا بالقتل والتشريد؛ لذا علموا أنه لا بقاء لهم ما لم يوجدوا قوة كبيرة تساندهم وتشد أزرهم فخطر لهم أن يستعينوا بالسلطة الحاكمة، ويستميلوها إلى جانبهم؛ فبذلك يمكن أن يعيشوا آمنين، ويظهروا آراءهم بلا خوف ولا وجل، فتم لهم ما أرادوا، ولكن بعد جهاد طويل دام ما يقارب قرنا من الزمان؛ لذا راحوا يلقون على الخلفاء شباكهم، فنراهم يلتفون حول اليزيد بن الوليد بن عبد الملك. قال الطبري: إن اليزيد كان قدريا (2). وروى الحافظ الذهبي: أن اليزيد حين ولي الخلافة دعا الناس إلى القدر، وحملهم عليه (3). وجاء في مروج الذهب أن اليزيد كان يذهب إلى قول المعتزلة في الأصول الخمسة (4). كذلك التفوا حول مروان بن محمد – آخر خلفاء بني أمية –؛ يقول ابن الأثير: إن مروان كان يلقب بالجعدي، لأنه تعلم من الجعد بن درهم مذهبه في خلق القرآن، ونفي القدر (5)، فكان الناس يذمونه بنسبته إلى الجعد. وذكر ابن القيم أن كلام الجعد نفق عند الناس، لأنه كان معلم مروان وشيخه؛ ومع ذلك فإن المعتزلة بقوا كما قال ابن القيم قليلين مذمومين (6).ولما مضى الأمويون، وابتدأ حكم العباسيين أخذ المعتزلة يرفعون رؤوسهم في حكم أبي جعفر المنصور – ثاني خلفاء بني العباس – ذلك أن عمرو بن عبيد كان صديقا لأبي جعفر المنصور قبل أن يتولى الخلافة، دخل عمرو على المنصور يوما فوعظه فأبكاه، فقال المنصور: فأصنع ماذا؟ ادع لي أصحابك أولهم!،فأجاب عمرو: ادعهم أنت بعمل صالح تحدثه. وهذا يدل على أن لعمرو مكانة عند المنصور. ثم خفت صوت المعتزلة في زمن المهدي ابن المنصور لأنه كان شديدا على الزنادقة والمخالفين، فقد جد سنة (167هـ) في طلبهم، والبحث عنهم، وعين لذلك موظفا خاصا وقتل منهم جماعة. . ولما بدأ عصر الرشيد بدأوا يرفعون رؤوسهم ثانية، فإنا نجد الرشيد يقرب بعض رجالاتهم، فإنه حين قدم ثمامة بن أشرس (7) بغداد، اتصل بالرشيد، واتصل به أيضا يحيى بن المبارك (8) اليزيدي، وكان مؤدبا لولده المأمون. يقول ياقوت الحموي (9): إن يحيى بن المبارك كان يتهم بالاعتزال. وروى أن محمد بن مناذر (10) – أحد النساك – هجا المعتزلة في زمن الرشيد، فنفوه من البصرة إلى الحجاز، فإن صحت هذه الرواية، فإنها تدل على أن للمعتزلة في زمن الرشيد سلطة مكنتهم من القيام بمثل هذه الأعمال، والانتقام من أعدائهم.   (1) ((الفرق بين الفرق)) (212)، ((المعتزلة)) (35)، بتصرف. (2) ((تاريخ الأمم والملوك)) (9/ 46). (3) ((دول الإسلام)) (1/ 95). (4) ((مروج الذهب)) (6/ 20). (5) ((الكامل لابن الأثير)) (6/ 171). (6) ((الصواعق المرسلة)) (1/ 230). (7) ((التبصير في الدين)) (74)، ((الفرق بين الفرق)) (172). (8) ((وفيات العيان)) (2/ 230)، ((تاريخ بغداد)) (14/ 146). (9) ((سير النبلاء)) (13/ 197). (10) ((بغية الوعاظ)) (107). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 ورغم كل هذا: فإن المعتزلة لم يجسروا على نشر مقالاتهم، والجهر بآرائهم، لأن الرشيد كان شديدا في أمور الدين؛ ومع هذا فإن الدور الذي لعبه المعتزلة في زمن الرشيد كان عظيم الأهمية بالنسبة إلى مستقبلهم، فإنه مهد لهم السبيل إلى قصر الخليفة، وجعل من بعضهم أصدقاء ووعاظا ومؤدبين لأولاده؛ وبذلك شاع ذكرهم، وتوسع نفوذهم. وفي خلافة الأمين؛ انكمش نفوذهم لأنه كان أشد من أبيه في مسائل الدين. يقول ابن القيم: إن الأمين أقصى الجهمية وتتبعهم بالحبس والقتل، فاستمروا مضطهدين إلى أن قتل الأمين وخلفه أخوه المأمون، فابتسم لهم الدهر، وانتهى إليهم الأمر، وبدأ دور عزهم وقوتهم، فقد كان يعتبر نفسه من علماء المعتزلة فشايعهم وقربهم، وجعل منهم حجابه ووزراءه، وكان يعقد المناظرات بينهم وبين الفقهاء لينتهوا إلى رأي متفق، واستمر على ذلك حتى إذا كانت سنة (218هـ) وهي السنة التي توفي فيها, انتقل من المناظرات العلمية إلى التهديد بالأذى الشديد، بل إنزاله بالفعل؛ وذلك برأي وتدبير وزيره وكاتبه أحمد بن أبي داود (1) المعتزلي، فقد كانت فيه المحاولة بالقوة لحمل الفقهاء والمحدثين على رأي المعتزلة، وما كانت قوة الحكم لنصر الآراء، وحمل الناس على غير ما يعتقدون. وإذا كان من المحرم الإكراه في الدين، فكيف يحل حمل الناس على عقيدة ليس في مخالفتها انحراف عن الدين؟! بل العكس في متابعتها الانحراف. لقد حاول أن يحمل الفقهاء على القول بأن القرآن مخلوق، فأجابه بعضهم إلى رغبته تقية ورهبة لا عن إيمان واعتقاد واقتناع بما حملوا عليه، وتحمل آخرون العنت والإرهاق والسجن الطويل، ولم يقولوا غير ما يعتقدون، استمرت تلك الفتنة طوال مدة المعتصم والواثق؛ وذلك لوصية المأمون بذلك وزاد الواثق الإكراه على نفي الرؤية، كرأي المعتزلة، ولما جاء المتوكل رفع المحنة وترك الأمور تأخذ سيرها، والآراء تجري مجراها؛ بل إنه اضطهد المعتزلة ولم ينظر إليهم نظرة راضية. وهذا العامل بلا شك أهم العوامل التي ساعدت على بروز المعتزلة وانتشارهم، بل وجعل لهم المكانة في المجتمع، وأصبح مذهبهم معترفا به عند الناس، ونمى آراءهم وشعبها، فبعد أن كانت محصورة في مبادئ قليلة؛ كثرت وتشعبت، وأضيفت إليها زيادات لم تكن موجودة قبل ذلك (2). 4 - الدفاع عن الدين الإسلامي:   (1) ((وفيات الأعيان)) (1/ 63). (2) ((المذاهب الإسلامية)) (219)، ((تاريخ الجهمية والمعتزلة)) (48)، ((تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون)) (288)، ((المعتزلة)) (158). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 معلوم أنه دخل في الإسلام طوائف من المجوس واليهود والنصارى وغيرهم, ورؤوسهم ممتلئة بكل ما في هذه الأديان من تعاليم جرت في نفوسهم مجرى الدم؛ ومنهم من كان يظهر الإسلام ويبطن غيره؛ إما خوفا ورهبة أو رجاء نفع دنيوي؛ وإما بقصد الإفساد وتضليل المسلمين، وقد أخذ ذلك الفريق ينشر بين المسلمين ما يشككهم في عقائدهم، فظهر ثمار غرسهم في فرق هادمة للإسلام تحمل اسمه ظاهرا وهي معاول هدمه في الحقيقة، وهذا يمكن أن يصدق على الفرس أكثر منه على أهل الكتاب؛ ذلك أن الخطر على الإسلام لم يكن آتيا من أهل الكتاب كغيرهم، فإن القرآن الكريم أمر أن يعاملوا بالحسنى؛ وذلك دليل على ضآلة خطرهم على الدين، ولكن هذا القول يصدق على المسيحيين أكثر منه على اليهود، لأن أكثر المسيحيين في الشام كانوا عربا تجمعهم بالمسلمين الفاتحين روابط الجنس واللغة، ولأن المسيحيين في الشام ومصر لم يكن لهم كيان سياسي يأسفون على ضياعه، بل كانوا يخضعون للحكم البيزنطي الذي أثقل كاهلهم بالضرائب واضطهد المخالفين منهم لعقيدة الكنيسة الملكية. فلما جاء الفتح الإسلامي رحبوا به ونعموا تحت ظل الدولة الإسلامية بحرية الدين والعمل، فلم يكن لديهم ما يحملهم على الحقد على الإسلام والكيد له، وقد قال تعالى فيهم: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى. . الآية [المائدة: 82] أما اليهود فقد حاولوا في أول الأمر أن يقاوموا الإسلام، وبذلوا جهدهم؛ إلا أن الله سبحانه وتعالى رد كيدهم في نحورهم، فلم ينالوا شيئا من الإسلام، ولذلك قال عز وجل فيهم: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ. . الآية [المائدة: 82]. فهم بلا شك العدو اللدود للإسلام والمسلمين في كل زمان ومكان، ولا تنس مؤامراتهم ودسائسهم ضد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، ولا المقالة في خلق القرآن التي نشرها طالوت اليهودي الزنديق (1)، فكانت سببا في فتنة كبيرة بين المسلمين، ولا نغفل أيضا عن عبد الله بن سبأ (2) الحميري اليهودي الذي أظهر الإسلام نفاقا ليكيد لأهله، والذي لم يأل جهدا في التفرقة بين المسلمين، فلقد كان أول من أثار الناس على عثمان – رضي الله عنه – ثم أصبح من دعاة التشيع (3)؛ وغير من ذكرنا كثير، لكن على العموم فإن خطر هؤلاء اليهود على الإسلام بالنسبة إلى الفرس قليل. وأما الفرس؛ فلهم شأن آخر؛ ذلك أنهم كانوا أصحاب مجد قديم وسيادة عريقة، يختلفون عن العرب في العنصر واللغة والدين، ويشعرون أنهم أرفع من العرب شأنا، وأعلى قدرا، فقد كان الكثيرون من عرب الجاهلية في العراق واليمن خاضعين لهم، لذلك كان مقتهم للمسلمين الذين دكوا عرشهم وأفسدوا دينهم شديدا بالغا، فراحوا يكيدون للإسلام بشتى الوسائل، وأخذوا يسعون جاهدين للقضاء على سلطان المسلمين السياسي، وإفساد دين الإسلام (4). يقول ابن حزم "إنهم رأوا أن الكيد للإسلام والمسلمين بالحيلة أنجح، فأظهر قوم منهم الإسلام واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، واستشناع ظلم علي – رضي الله عنه – وسلكوا بهم مسالك مختلفة حتى أخرجوهم عن الإسلام (5)؛ فتم لهم ما أرادوا من التفرقة بين المسلمين وإدخال البدع والضلالات المناوئة للدين.   (1) ((الكامل لابن الأثير)) (7/ 49)، ((المعتزلة)) (36). (2) ((الأعلام)) (4/ 220)، ((لسان الميزان)) (3/ 289). (3) ((الخطط)) (4/ 191)، ((الفصل)) (2/ 91)، ((المعتزلة)) (36). (4) ((المعتزلة)) (37). (5) ((الفصل)) (2/ 91). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 يقول البغدادي: إن البدع والضلالات في الدين ما ظهرت إلا من أبناء السبايا (1).فنتج عن كل ما ذكرنا ظهور بعض الفرق كالمجسمة والرافضة، وظهور بعض الحركات العقائدية المناوئة للإسلام كالزنادقة (2) والراوندية (3). . هذه الحركات التي تستهدف زعزعة العقيدة الإسلامية من قلوب المسلمين، وتشكيكهم في دينهم، بل وتشويه الإسلام أمام الأمم الأخرى المجاورة للمسلمين. ومن المعلوم أن هذه الفرق والحركات أتت بشبه تقوي بها مزاعمها، ولدحض هذه الشبه؛ لا بد من عقد المناظرات والدخول في علم الكلام الذي تعرفه المعتزلة وخاضوا فيه؛ فهذه المناظرات أمام هذه الحركات مما رفع من شأن المعتزلة وجعل لهم بعض الشهرة والزيوع (4). وإليك شيء من أعمالهم التي قاموا بها أمام هذه الفرق والحركات المناوئة للإسلام – كما يروونها في كتبهم -. لقد بدأ المعتزلة جهاد هذه الفرق والحركات منذ ظهورهم، فوضعوا كتبا في الرد عليها، ومناظراتهم الكثيرة؛ إنما كان معظمها مع الفرس، لا مع سواهم، وأول من فعل ذلك منهم رئيسهم واصل بن عطاء، ذكرت امرأته أنه كان إذا جنه الليل يصف قدميه يصلي ولوح ودواة موضوعان أمامه، فإذا مرت به آية فيها حجة على مخالف جلس فكتبها، ثم عاد في صلاته (5)؛ كذلك سار أصحاب واصل وتلاميذه من بعده على هذه الخطة في الرد على المخالفين، فهذا عمرو بن عبيد ناظر جرير بن حازم الأزدي (6) السمني في البصرة فقطعه (7). وكذلك أبو الهذيل العلاف كان كسابقيه، فقد أكثر من تأليف الكتب في نقض مذاهب المخالفين، وإبطال حججهم، ولعل أهمها كتاب ميلاس وكان ميلاس مجوسيا فأسلم، وسبب إسلامه: أنه جمع بين أبي الهذيل وبين بعض الثنوية، فقطعهم أبو الهذيل وأظهر باطلهم (8).كذلك كان النظام لا يألو جهدا في مكافحة المخالفين؛ من ذلك أنه جمع مجلسا بين النظام وبين الحسين بن محمد النجار الجبري، فألزمه النظام الحجة (9).ومثل هؤلاء الأربعة الأوائل كثير من المعتزلة الآخرين الذين لم يقصروا عنهم في مقاومة المخالفين والدفاع عن الدين، فقد ألف بشر بن المعتمر (10) أرجوزة تقع في أربعين ألف بيت رد فيها على المخالفين جميعا (11).   (1) ((مختصر الفرق بين الفرق)) (100). (2) ((الطبري)) (10/ 43)، ((بغية المرتاد)) (62)، ((المعتزلة)) (38) الحاشية. (3) ((الموسوعة العربية الميسرة)) (858). (4) ((أهم الفرق الإسلامية)) (34)، ((المذاهب الإسلامية)) (218)، ((المعتزلة)) (37)، بتصرف. (5) ((المنية والأمل)) (21)، ((المعتزلة)) (39). (6) ((الأغاني)) (3/ 24). (7) ((الأغاني)) (3/ 24). (8) ((الوفيات)) (1/ 685). (9) ((الفهرست)) (254)، ((المعتزلة)) (39). (10) ((الحاشية من كتاب الفرق بين الفرق)) (156) نقلا عن ((طبقات المعتزلة)) لابن المرتضى (52). (11) ((المنية والأمل)) (30). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 ويحسن بنا بعد هذا أن نشير إلى شيئين آخرين: الأول: أن المعتزلة؛ وإن كان أكثر ردهم على المجوسية والجبرية، فقد كانوا لا يتأخرون عن الرد على جميع المخالفين كائنين من كانوا، فهذا الجاحظ (1) وضع الكتب الكثيرة في الرد على النصارى واليهود والزيدية (2). . كما أنهم قاوموا الخوارج (3).الثاني: أن المعتزلة كانوا أشداء على خصومهم متمسكين بعقائدهم حتى أنهم لم يتساهلوا مع بعض رجالهم حين جاءوا بأمور مخالفة، وأبدوا آراء شاذة؛ فقد اعترضوا جميعا على بشر بن المعتمر في اللطف، وناظروه فيه حتى رجع عنه (4)، ونفوا حفص الفرد لما قال بالجبر وحاربوه، وتصدى له أبو الهذيل فناظره حتى غلبه (5).كذلك فإن المعتزلة لم يكتفوا بالرد على المخالفين وتقطيعهم، بل تعدوا ذلك إلى الدعوة إلى الدين الإسلامي، فقد كانوا يرسلون الوفود من أتباعهم لهذا الغرض إلى البلاد التي يكثر فيها المجوس أو غيرهم من الوثنيين، فقد أرسل واصل بن عطاء عبد الله بن الحارث (6) إلى المغرب، وحفص ابن سالم (7) إلى خراسان، فأجابهما خلق كثير، ودخلوا في الإسلام (8). يظهر من كل ما ذكر أن المعتزلة بذلوا جهدا في الدفاع عن الدين الإسلامي، والدعوة إليه. ولكن المرء لا يسعه وهو يطالع قصة أعمالهم في الدعوة إلى الدين الإسلامي، والدفاع عنه، إلا أن بداخله بعض الشك في حقيقتها، ويساوره شيء من التردد في قبولها على علاتها، لأنها لا ترد مفصلة إلا في كتب المعتزلة أنفسهم، على حين لا تتعرض لها المصادر الأخرى بشيء إلا إشارة وتلميحا. لكن على العموم إن صحت كلها أو بعضها، فإنها دليل على خوض رجال المعتزلة في المناظرات والمجادلات، ومعلوم أن المجادلات تولد الأفكار وتنمي المبادئ وتنشرها، وتجعل لأصحابها ذيوعا وشهرة ينتج عنهما كثرة الأتباع، وبالتالي انتشار المبادئ والأفكار (9).   (1) ((الملل والنحل)) (1/ 71)، ((التبصير في الدين)) (76). (2) ((معجم الأدباء)) (6/ 107). (3) ((المحاسن والمساوئ)) (152). (4) ((الانتصار للخياط)) (65). (5) ((الفهرست)) (255)، ((المعتزلة)) (41). (6) ((فرق وطبقات المعتزلة)) (53). (7) ((فرق وطبقات المعتزلة)) (44) والحاشية من نفس الصفحة، وانظر (ص 53) من نفس الكتاب. (8) ((المنية والأمل)) (19). (9) ((نشأة الأشعرية)) (120)، ((المعتزلة)) (39). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 5 - دراسة الفلسفة: حين أخذ المعتزلة على أنفسهم مهمة الدفاع عن العقائد الإسلامية، والدعوة إليها، وحين تعرضوا لمخالفيها يجادلونهم؛ تبين لهم أن أولئك القوم أمضى منهم سلاحا، وأقدر على الجدل والمناظرة؛ ذلك لأنهم كانوا أصحاب حضارة قديمة وثقافة عالية، وكان لهم معرفة بالفلسفة والعلوم العقلية واطلاع على كتب الفلاسفة الأقدمين يستوي في ذلك سكان سوريا ومصر وفارس والعراق، فالسوريون والمصريون كانوا تابعين للدولة البيزنطية وريثة الدولة الرومانية في الشرق، لها حضارة مزيج من مدينتي اليونان والرومان؛ لذلك فإنهم تأثروا بتلك الحضارة، واقتبسوا عنها كثيرا من عناصرها، وأسسوا المدارس ليتلقوا فيها الفلسفة والعلم، ويشتغلوا بترجمة الأسفار الإغريقية، فقد كانت لهم مدرسة كبيرة في الإسكندرية؛ وهي وإن كان رجالها قد انصرفوا في الفترة التي سبقت الإسلام إلى الدروس الفلكية والطبية والكيماوية؛ إلا أنها كانت قبل ذلك ميدانا لحركة لاهوتية (1) واسعة. . ترمي إلى دمج الدين اليهودي بالفلسفة، وقد ظهر صدى هذه الحركة في المدارس السورية؛ ولا سيما مدرسة أنطاكية التي لعبت دورا مهما في اللاهوت، والتي نتج عن أبحاثها تكون الفرق المسيحية التي اختلفت حول طبيعة السيد المسيح كالنسطورية (2) واليعقوبية (3).وكانت تقوم في شمال شرق سوريا على الحدود بينها وبين العراق أربع مدارس أخرى، اثنتان منها للنساطرة السريان؛ هما: مدرسة نصيبين (4) الأولى، ومدرسة الرها (5)، واثنتان لليعاقبة هما: مدرسة رأس العين (6)، ومدرسة قنسرين (7)، وتدور الأبحاث فيها كلها في الأمور اللاهوتية والفلسفية. أما الدولة الفارسية؛ فقد قامت فيها مدرستان: الأولى: مدرسة نصيبين الثانية التي أعاد النساطرة فتحها بعد أن أغلقت الحكومة البيزنطية مدرستهم في الرها، فرحب الفرس بها وسمحوا لعلمائها أن يواصلوا أبحاثهم، وأن يشتغلوا باللاهوت والفلسفة، وتغاضوا عن أعمالهم التنصيرية في نواحي آسيا في سبيل الفائدة التي قد تعود على البلاد منهم. والمدرسة الثانية: هي مدرسة جند نيسابور قاعدة خوذ ستارة إحدى مقاطعات فارس فتحها كسرى أنوشروان في القرن السادس الميلادي، وجلب إليها العلماء النساطرة، وعهد إليهم التدريس فيها، وترجمة الكتب من اليونانية إلى الفارسية، فتأثر الفرس بالحضارة الهندية، وأصبحت مدرستها محطة للتفاعل بين الحضارات الثلاث: اليونانية والفارسية والهندية، ومركزا للاحتكاك بين الديانتين المسيحية والمجوسية، وقد عمرت مدرسة جند يسابور طويلا، واستدعى أحد علمائها سنة (148هـ) ليعالج المنصور، وكانت تمد الخلفاء العباسيين من بعد المنصور بالأطباء (8).   (1) ((الموسوعة العربية المسيرة)) (1546). (2) ((الملل)) (2/ 64) على حاشية الفصل. (3) ((الملل)) (3/ 66) على حاشية الفصل. (4) ((المعتزلة)) (47) - الحاشية. (5) ((المعتزلة)) (47) - الحاشية. (6) ((المعتزلة)) (47) - الحاشية. (7) ((المعتزلة)) (47) - الحاشية. (8) ((تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون)) (152)، ((إخبار العلماء بأخبار الحكماء)) (71)، ((المعتزلة)) (46)، بتصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 لذلك كله استطاع أولئك القوم أن يرتبوا عقائدهم على أصول فلسفية، وأن يوجدوا لأنفسهم كلاما منطقيا مدققا، وأن يتقنوا المجادلة، فلما شمر المعتزلة عن سواعدهم لمناهضتهم وجدوا أنهم لن يتمكنوا من مجاراتهم ولن يتهيأ لهم الغلبة عليهم ما لم يعمدوا مثلهم إلى درس الفلسفة ويستفيدوا منها في دعم حججهم وتقوية أقوالهم؛ لذا أقبل المعتزلة على درس الفلسفة لأجل أن يتأتى لهم محاربة خصوم الدين الإسلامي بنفس سلاحهم، ويخاطبوهم بالأساليب التي درجوا عليها وألفوها. ولعل هذه الحاجة الماسة إلى الفلسفة هي التي دفعت المنصور إلى تشجيع الترجمة. . ولعلها أيضا هي التي حملت الرشيد والمأمون على الاهتمام بنقل الكتب اليونانية إلى العربية (1).يقول المقريزي: إنه ترجم بأمر المأمون في بضعة أعوام من حكمه عدد من الكتب فتلقاها المعتزلة وأقبلوا على تصفحها والنظر فيها (2)، فاشتد ساعدهم بها وأول معتزلي استفاد من تلك الكتب فائدة ملموسة هو النظام الذي طالع كما يروي الشهرستاني كثيرا من كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة (3)، ثم اقتدى به غيره فكان المعتزلة أقدم المتكلمين في الإسلام، وهذه هي شهرتهم الأولى في التاريخ. . وإذا كان المعتزلة قد لجأوا إلى درس الفلسفة لا لذاتها؛ وإنما ليستخدموها في الرد على خصوم الدين الإسلامي؛ إلا أنهم منذ بدأوا في ذلك دخلوا في دور جديد من أدوار تاريخهم، فقد أحدثت الفلسفة في حياتهم انقلابا خطيرا وفي تفكيرهم ثورة عنيفة؛ لأنهم بعد أن وقفوا على مواضيعها وتعمقوا فيها أحبوها لذاتها وتعلقوا بها فنتج عن ذلك أمران: أولهما: أنهم صاروا يعظمون الفلاسفة اليونان وينظرون إليهم نظرة أسمى من نظرتنا إليهم اليوم بل ويضعونهم في مرتبة تقرب من مرتبة النبوة حتى إنهم اعتبروا أقوالهم مكملة لتعاليم دينهم، وانهمكوا لذلك في إظهار الاتفاق الجوهري بينهما، فبدأ عمل المعتزلة الآخر؛ وهو التوفيق بين الدين الإسلامي وبين الفلسفة اليونانية؛ ذلك العمل الذي تركوه لمن خلفهم من الفلاسفة المسلمين. . الذين قاموا بنصيبهم فيه، وكانوا لا يقلون عنهم عناية به وتحمسا له. ثانيا: إن المعتزلة أخذوا يبتعدون عن أهدافهم الدينية. . ويزدادون انصرافا إلى المسائل الفلسفية حتى جاء وقت كادت جهودهم فيه تقتصر على البحث في مواضيع الفلسفة البحتة كالحركة والسكون والجوهر والعرض والوجود والعدم، والجزء الذي لا يتجزأ. إن اشتغال المعتزلة بالتوفيق بين الدين والفلسفة وشغفهم بالأبحاث الفلسفية وتعمقهم فيها جعلهم يتأثرون بالفلسفة كثيرا، ويصيغون بها معظم أقوالهم. ولهذا قال شتينز (4): إن الاعتزال في تطوراته الخيرة كان أكثره متأثرا بالفلسفة اليونانية. وقد ساعدهم ما ذكرنا على الظهور والاشتهار لما يلي: الأول: أن أخذهم من الفلسفات مما نمى آراءهم وأوجد لهم آراء جديدة. الثاني: أن نماء موهبة المناظرة عندهم بسبب اتصالهم بهذه الفلسفات وأخذهم عنها جعلهم أبرز فرقة مسلمة تقف أمام الفلاسفة المعادين للإسلام، وهذا مما يرفع من شأنهم ويزيد في شهرتهم. الثالث: ظهور بعض الفلاسفة المسلمين الذين اشتغلوا بالفلسفة، فورثوا من المعتزلة بعض أقوالهم الفلسفية، وهذا مما يزيد في بقاء أقوالهم وشهرتها (5). المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق – ص 30   (1) ((المعتزلة)) (48). (2) ((الخطط)) (4/ 183). (3) ((الملل والنحل)) (1/ 60). (4) ((الموسوعة العربية الميسرة)) (1102). (5) ((المذاهب الإسلامية)) (217)، ((المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية)) (24)، ((المعتزلة)) (46). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 المبحث السابع: انتشار مذهب المعتزلة انتشر مذهب المعتزلة انتشارا كبيرا، وصار لهم مذهب يعرفون به ويدعون إليه، وأصبحت لهم مدارس متعددة، وتعددت فرقهم حتى وصلت إلى اثنتي عشرة فرقة (1)، بل أوصلها بعضهم إلى ثماني عشرة أو عشرين فرقة (2). ولكن مع قيام مذهب المعتزلة وغيره من المذاهب المتعددة، فقد بقي مذهب أهل السنة والجماعة هو مذهب جمهور علماء الإسلام في مختلف الأقطار وعلى مر الزمان، يقوم به العلماء ويتبعهم عامة الناس، فصار مذهب السلف أهل السنة والجماعة هو الغالب على معتقد جماهير الناس، وصار علماء أهل السنة هم المعتبرين، وهم الذين يؤخذ بقولهم، وتعتبر فتاويهم، فألفوا الكتب الكثيرة والمطولة في العقيدة، والتفسير وعلوم القرآن، والحديث وعلومه، والرد على الملحدين والمنحرفين، مؤيدين لمذهب السلف شارحين له.   (1) كما ذكر الشهرستاني في ((الملل والنحل)) (1/ 46). (2) كما ذكر البغدادي في ((الفرق بين الفرق)) (ص114)، فقد عدد اثنتين وعشرين فرقة من فرقهم، ثم ذكر أن منها فرقتين غلاة، ثم لما أخذ يشرح الفرق العشرين الباقية لم يذكر منها إلا ثماني عشرة فرقة. انظر ((الفرق بين الفرق)) ما بين (117 - 184)، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 وإذا تحدثنا عن انتشار مذهب المعتزلة فنحن نقصد مذهبهم في القدر الذي خالفوا فيه أهل السنة والجماعة، وصار أصلا من أصولهم المعتبرة، ولقبا لهم يعرفون به؛ إذ هم – كما أسلفنا – يسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد، ونحن أيضا حينما نفصل القول في كيفية انتشار مذهبهم فإننا نقصد من ذلك أخذ صورة واضحة مفصلة عن مذهب المعتزلة الذي ابتلي به المسلمون، وأن هذا المذهب ما كان لينتشر هذا الانتشار الذي وصل إلى حد أنه له مؤيدين كثيرين في عصرنا الحاضر لولا أساليبهم التي مكنتهم من الوصول إلى مركز القيادات في الأمة، ومن خلال ذلك فرضوا مذهبهم على الناس، وأحياناً أرغموهم على اعتناقه بالقوة. ومن البدهي القول بأن انتشار مذهب المعتزلة في القدر مرتبط بانتشار مذهبهم عموما، وإذا كانت أصولهم الخمسة هي ما أجمعوا عليه في مختلف أعصارهم وطبقاتهم، فإن قولهم بالقدر هو ألصق ما يكون بهم، حتى وصل الأمر إلى أن أصبح لقبا من ألقابهم فهم يسمون "القدرية"، مع ملاحظة أن المعتزلة أنفسهم ينفون عنهم هذا اللقب، ويقولون إنه ينطبق على المجبرة، وأنهم – على زعمهم – أهل السنة، والسبب واضح وهو ورود أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذم القدرية، وأنهم مجوس هذه الأمة، قال ابن قتيبة: "وقد كان فريق منهم يزعمون أن هذا الاسم لا يلزمهم باللغة ولكن يلزم غيرهم، واحتجوا في ذلك أنه يدعي عليهم أنهم يقولون: لا قدر، فكيف ينسبون إلى ما يجحدون، وهذا تمويه من المحتج، وإنما لزمهم لأنهم يضيفون إلى أنفسهم القدر، وغيرهم يجعله لله عز وجل دون نفسه، ومدعي الشيء لنفسه أحرى بأن ينسب إلى ذلك الشيء من جعله لغيره" (1) ويقول الخطابي: "إنما جعلناهم مجوسا لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين، وهما النور والظلمة، يزعمون أن الخير من فعل النور، والشر من فعل الظلمة، فصاروا ثنوية، وكذلك القدرية، يضيفون الخير إلى الله – عز وجل – والشر إلى غيره، والله – سبحانه وتعالى – خالق الخير والشر، لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته" (2).   (1) ((غريب الحديث)) (1/ 255) , تأليف ابن قتيبة عبدالله بن مسلم تحقيق الدكتور عبدالله الجبوري ط الأولى 1397 وزارة الأوقاف في العراق. (2) ((معالم السنن)) للخطابي طبع مع ((سنن أبي داود)) (5/ 66)، إعداد وتعليق: عزت عبيد الدعاس، وعادل السيد، الطبعة الأولى 1394هـ، وانظر في نفس الموضوع كتاب ((الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد)) لإمام الحرمين الجويني (ص255 - 256)، تحقيق: د. محمد يوسف موسى، وعلي عبدالمنعم عبدالحميد ط 1369هـ - 1950م، وانظر أيضا ((شرح النووي على مسلم)) (1/ 154) حيث نقل كلام الأئمة في هذا الأمر، وانظر أيضاً للنووي كتاب ((تهذيب الأسماء واللغات))، الجزء الثاني في القسم الثاني (ص81 - 82) 0 - ط دار الكتب العلمية – لبنان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 أما بالنسبة لانتشار مذهب المعتزلة فإن المقام لا يتسع هنا لشرح تاريخهم الطويل، وتاريخ علمائهم وأقوالهم، وإنما نعرض لبعض أعمالهم ونشاطاتهم، وبعض الأحداث التي كانت سببا في انتشار مذهبهم وذلك من خلال الأمور التالية:1 - كان المعتزلة يبعثون البعوث لنشر مذهبهم والدعاية له، كما فعل واصل بن عطاء الذي يقول عنه ابن المرتضى: "وبلغ من بأسه وعلمه أنه أنفذ أصحابه إلى الآفاق وبث دعاته في البلاد، قال أبو الهذيل: بعث عبدالله بن الحارث إلى المغرب فأجابه خلق كثير، وبعث إلى خراسان حفص بن سالم فدخل ترمذ ولزم المسجد حتى اشتهر، ثم ناظر جهما فقطعه، ورجع إلى قول أهل الحق، فلما عاد حفص إلى البصرة رجع جهم إلى قول الباطل، وبعث القاسم إلى اليمن، وبعث أيوب إلى الجزيرة، وبعث الحسن بن ذكوان إلى الكوفة، وعثمان الطويل إلى أرمينيا فقال: يا أبا حذيفة إن رأيت ترسل غيري فأشاطره جميع ما أملك حتى أعطيه فرد نعلي، فقال: أخرج فلعل الله أن ينفعك، فخرج للتجارة فأصاب مئة ألف، وأجابه الخلق" (1)، وهكذا فالمعتزلة نشطوا لنشر مذهبهم، ورحل دعاتهم شرقا وغربا داعين إلى آرائهم، زاعمين أنهم أهل الحق، ولا شك أن هذه الأعمال التي قاموا بها كان لها دور كبير في التعريف بمذهبهم واستجابة فئات من الناس لهم.2 - زعموا أن مذهبهم هو الحق، وأنه مذهب السلف الصالح القائم على الأدلة من الكتاب والسنة، يقول أحد علمائهم: "يجب أن أملي كتابا في أن مذهب المعتزلة هو الذي يقتضيه العقل والكتاب والسنة، وهو الذي مر عليه السلف والخلف" (2)، ويقول أيضا: "ليعرف من قرأ كتابنا أن التمسك بالسنة طريقتنا" (3). وهذا ادعاء غير صحيح، فإن العقل مقدم عندهم على النص، وسيأتي شرح هذا في الباب الثالث إن شاء الله.3 - نسبة مذهبهم – بالسند كما يزعمون – إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى كبار الصحابة كالخلفاء الأربعة، وابن عباس، وأنس بن مالك، وأبي بن كعب، وغيرهم (4)، وقد نسبوا مذهبهم أيضا إلى كبار علماء السلف كالحسن البصري، وسعيد بن المسيب، وطاووس، ومكحول، ومجاهد، وغيرهم. وغرضهم من نسبة مذهبهم إلى هؤلاء إظهار مذهبهم أنه الحق، وأن هؤلاء الأعلام قالوا به، ومن ثم فهم أهل الإسلام الحقيقيون، ومخالفوهم – وفيهم أهل السنة والجماعة حقا – ليسوا إلا طوائف منحرفة عن خط الإسلام الصحيح – كما يزعمون -، ولا شك أن عامة الناس سينخدعون بمثل هذه الدعاوى فيتمذهبون بمذهبهم حين يدعون إليه، ويدرسون كتبهم ورسائلهم، ويقولون بآرائهم.   (1) ((المنية والأمل)):ابن المرتضى (ص19)، وانظر: ((مذاهب الإسلاميين)): عبدالرحمن بدوي (1/ 81)، وانظر أيضا: ((ضحى الإسلام)): أحمد أمين (3/ 90) الطبعة العاشرة. (2) القائل هو عبدالجبار الجشمي، وقد ألف كتابا اسمه ((فضل الاعتزال))، انظر ((موقف المعتزلة من السنة النبوية))، أبو لبابة حسين (ص28). (3) القائل هو عبدالجبار الجشمي، وقد ألف كتابا اسمه ((فضل الاعتزال))، انظر ((موقف المعتزلة من السنة النبوية))، أبو لبابة حسين (ص28). (4) انظر سندهم في ذلك في ((المنية والأمل)): ابن المرتضى، باب ذكر المعتزلة (ص 4 - 6). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 ولسنا هنا بصدد الرد على آرائهم هذه – مادام غرضهم منها واضحا – مع عدم وجود أي دليل على ما يقولون، خاصة أن نسبة مذهبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة – رضوان الله عليهم جميعا – هو ما يعرف بطلانه من له أدنى معرفة بعقيدة أهل السنة والجماعة، التي يخالفون فيها المعتزلة تمام المخالفة في قضايا الإيمان بصفات الله تعالى، ورؤيته في الآخرة، والقدر، والحكم على مرتكب الكبيرة، وكون القرآن منزلا غير مخلوق، وتقديم السمع على العقل، وغيرها. ونسبة مذهبهم إلى بعض التابعين من السلف يذكرها المعتزلة في كتبهم، ولا دليل لهم على ذلك، فما عرف من أحوال هؤلاء، وأقوالهم ومواقفهم، يدل على مخالفتهم للمعتزلة. وليس عند المعتزلة أي دليل على أن التابعين كانوا يوافقونهم إلا ما يزعمون من أن الحسن البصري قد قال بالقدر على مذهبهم، وأنه منهم، فيروون عن داود بن أبي هند أنه قال: سمعت الحسن يقول: "كل شيء بقضاء الله وقدره إلا المعاصي" (1) ويوردون له رسائل أرسلها إلى عبدالملك بن مروان، وفيها قوله بالقدر على مذهب المعتزلة، ويقولون: إن رسائله مشهورة.   (1) ((المنية والأمل))، لابن المرتضى (ص12). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 والرد على دعواهم في الحسن البصري ليس تفصيله هنا، وأرجو ألا يكون استطرادا إذا لخصت الرد في النقاط التالية: أ- أن المعتزلة أنفسهم لا يقطعون بنسبة الحسن إليهم، ولذا نرى ابن المرتضى لما ذكر الحسن وقوله في القدر قال: "فإن قلت فقد روى أيوب، أتيت الحسن، فكلمته في القدر فكف عن ذلك، قلت: قد روي أنه خوفه بالسلطان فكف عن الخوض فيه ... " (1)، وهل يخاف الحسن السلطان وهو الرجل الذي يجهر بالحق دائما؟ ب- أما بالنسبة للرسالة المنسوبة إليه فيقول عنها الشهرستاني: "ورأيت رسالة نسبت إلى الحسن البصري كتبها إلى عبدالملك بن مروان، وقد سأله عن القول بالقدر والجبر فأجابه فيها بما يوافق مذهب القدرية، واستدل فيها بآيات من القرآن الكريم ودلائل من العقل، ولعلها لواصل بن عطاء, فما كان الحسن ممن يخالف السلف في أن القدر خيره وشره من الله – تعالى–، فإن هذه الكلمات كالمجمع عليها عندهم (2)، وهذه الرسالة لم تصح نسبتها إلى الحسن، والمعتزلة ينسبون إلى الحسن أقوالا بروايات منقطعة، فالمرتضى حين ذكر أهل العدل والتوحيد عد منهم الحسن البصري، وترجم له ترجمة طويلة، ولما أراد أن يثبت أنه من أهل العدل قال: "فمن تصريحه بالعدل، ما رواه علي بن الجعد قال: سمعت الحسن يقول: من زعم أن المعاصي من الله عز وجل جاء يوم القيامة مسودا وجهه، وقرأ: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ [الزمر: 60] " (3)، وعلي بن الجعد الذي يقول سمعت الحسن لم يسمع منه ولم يلقه، فهذه رواية منقطعة. ج- وابن قتيبة يذكر عن الحسن البصري أنه تكلم في شيء من القدر ثم رجع عنه، ولكنه يذكر بعد ذلك مباشرة أن عطاء بن يسار ومعبدا الجهني كانا يأتيان الحسن، فيسألانه ويقولان: يا أبا سعيد إن الملوك يسفكون دماء المسلمين، ويأخذون الأموال، ويفعلون ويفعلون، ويقولون: إنما تجري أعمالنا على قدر الله، فقال، كذب أعداء الله (4)، قال ابن قتيبة: "فتعلق عليه بمثل هذا وأشباهه" (5)، ويشبه هذا ما يروى عن الحسن أنه قال – وهو محق في قوله – ولكن المعتزلة يفسرون قوله بما يدل سياق كلامهم له على أنه منهم، وذلك ما أورده عبدالجبار الهمذاني في معرض وصمه لأهل السنة بأنهم قدرية، فقد قال "وروي عن الحسن – رحمه الله – أنه كان يقول – إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العرب وهم قدرية مجبرة يحملون ذنوبهم على الله ويقولون: إن الله سبحانه قد شاء ما نحن فيه، وحملنا عليه وأمرنا به، فقال – عز وجل–: وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 28] " (6)، فهل كلام الحسن – رحمه الله – في الروايتين دل على أنه قدري؟ الجواب: لا يدل.   (1) ((المنية والأمل)) (ص15). (2) ((الملل والنحل)) (1/ 47) - تحقيق محمد سيد كيلاني- ط 1387هـ. (3) ((أمالي المرتضى))، القسم الأول (ص153)، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الأولى 1373هـ. (4) ((المعارف)): ابن قتيبة (ص441) تحقيق عكاشة، ط: دار المعارف بمصر. (5) ((المعارف)): ابن قتيبة (ص441) تحقيق عكاشة، ط: دار المعارف بمصر، وانظر رواية أخرى مشابهة لهذه الرواية عن الحسن ذكرها الطبري في تفسيره "سورة الإسراء" (15/ 62). (6) ((المغني في أبواب التوحيد والعدل)) (8/ 329). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 د- وهناك روايات تنفي هذا الزعم، فقد روى ابن سعد: "قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي قال، حدثنا عبدالرحمن بن أبي الرجال، عن عمر مولى غفرة قال: كان أهل القدر ينتحلون الحسن بن أبي الحسن، وكان قوله مخالفا لهم، كان يقول: "يا ابن آدم لا ترض أحدا بسخط الله ولا تطيعن أحدا في معصية الله، ولا تحمدن أحدا على فضل الله، ولا تلومن أحدا فيما لم يؤتك الله، إن الله خلق الخلق والخلائق، فمضوا على ما خلقهم عليه، فمن كان يظن أنه مزداد بحرصه في رزقه فليزدد بحرصه في عمره، أو يغير لونه، أو يزيد في أركانه أو بنائه" (1).هـ- ومعلوم أن المعتزلة أجمعوا على أصولهم الخمسة، والحسن البصري يعتبر القول بالمنزلة بين المنزلتين بدعة تخرج صاحبها عن عقيدة الجماعة، ولذلك اعتزل واصل بن عطاء حلقة الحسن لما خالفه في هذا الأصل، فكيف مع هذا يعتبر الحسن من علمائهم، المنتسبين إليهم (2)؟ قد يقال: إن الحسن وافقهم في القدر لا في المنزلة بين المنزلتين، ونقول جوابا لهذا: إن هذا أكبر دليل على أن غرضهم هو التشرف بانتسابه إليهم، وإلا فكيف عدوه منهم ولم يقل بأصولهم كلها؟ والمعتزلة ذكروا مع الحسن غيره، بل وعدوا من الطبقة الأولى من طبقاتهم الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة "وواضح أن إدراج هؤلاء ضمن المعتزلة إنما قصد به بيان أن المعتزلة هي أتقى الفرق وأبرها" (3).و- وقد اشتهر عن بعض المعتزلة القدرية أنهم يكذبون على الحسن البصري، فقد ذكر عبدالله ابن أحمد في كتاب السنة عدة روايات تدل على ذلك، فمن ذلك ما رواه عن حميد قال: قدم الحسن مكة، فقال فقهاء مكة، الحسن بن مسلم وعبدالله بن عبيد: لو كلمت الحسن فأخلانا يوما، فكلمت الحسن فقلت: يا أبا سعيد، إخوانك يحبون أن تجلس لهم يوما، قال: نعم ونعمة عين، فواعدهم يوما فجاؤوا فاجتمعوا، وتكلم الحسن وما رأيته قبل ذلك اليوم ولا بعده أبلغ منه ذلك اليوم، فسألوه عن صحيفة طويلة فلم يخطئ فيها شيئاً إلا في مسألة، فقال له رجل: يا أبا سعيد من خلق الشيطان؟ قال: سبحان الله، سبحان الله، وهل من خالق غير الله، ثم قال: إن الله خلق الشيطان وخلق الشر والخير، فقال رجل منهم: قاتلهم الله يكذبون على الشيخ" (4)، وقد قال حميد لمن نقل عن عمرو بن عبيد حديثا رواه عن الحسن: "لا تأخذ عن هذا فإنه يكذب على الحسن" (5)، وروي عبدالله بن أحمد عن حماد بن زيد قال قيل لأيوب: إن عمرا "أي عمرو بن عبيد" روي عن الحسن أنه قال: لا يجلد السكران من النبيذ، قال: كذب. أنا سمعت الحسن يقول يجلد السكران من النبيذ (6). فهذه الروايات وغيرها (7) تدل على أن دعوى أن الحسن البصري – رحمه الله – كان قدريا أو كان يقول بقولهم ليست صحيحة. بعد هذا نكمل النقاط حول انتشار مذهب المعتزلة. 4 - تكونت للمعتزلة مدرستان مشهورتان هما: مدرسة البصرة، ومدرسة بغداد، وهما التياران الرئيسان لمذهب المعتزلة، وكانت تجري بينهما خلافات ومناقشات حادة: أ- فمن أشهر أتباع مدرسة البصرة: 1 - واصل بن عطاء "توفي سنة (131هـ) " وهو مؤسسها.   (1) ((الطبقات الكبرى))، لابن سعد (7/ 175)، طبعة دار صادر، ودار بيروت 1377هـ 1958م. (2) انظر، ((موقف المعتزلة من السنة النبوية)) (ص 27). (3) ((مذاهب الإسلاميين)): عبدالرحمن بدوي (1/ 40). (4) ((السنة)) لعبدالله بن الإمام أحمد (2/ 126) – الطبعة السلفية – الحجاز – 1349هـ. (5) ((السنة)) لعبدالله بن الإمام أحمد (2/ 131) – الطبعة السلفية – الحجاز – 1349هـ. (6) ((السنة)) لعبدالله بن الإمام أحمد (2/ 133) – الطبعة السلفية – الحجاز – 1349هـ. (7) انظر ((السنة)) لعبدالله بن الإمام أحمد (2/ 131 - 135) – الطبعة السلفية – الحجاز – 1349هـ. . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 2 - عمرو بن عبيد "ت (143 – أو 144هـ) ". 3 - معمر بن عباد السلمي "ت (220هـ) ". 4 - أبو هذيل العلاف "ت (227هـ - وقيل 235هـ) ". 5 - النظام "ت (231هـ) ". 6 - الجاحظ "ت (256هـ) ". 7 - أبو علي الجبائي "ت (303 هـ) ". 8 - أبو هاشم الجبائي، "ت (321هـ) ". وغيرهم. ب- ومن أشهر أتباع مدرسة بغداد: 1 - بشر بن المعتمر "ت (210هـ) " وهو مؤسسها، وكان قبل ذلك من معتزلة البصرة. 2 - أحمد بن أبي دؤاد "ت (240هـ) ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 3 - أبو الحسين الخياط "ت (290هـ) ".4 - أبو القاسم البلخي الكلبي "ت (329هـ) " (1).ثم جاء متأخرو المعتزلة كعبدالجبار الهمذاني "ت (415هـ) " وغيره، ولا شك أن هاتين المدرستين، ومن جاء بعدهما، كل ذلك كان له دور في نشر مذهب المعتزلة، ومنه قولهم في القدر (2).5 - جاءت الدولة الأموية فكان موقف الخلفاء من القدرية والمعتزلة هو موقف المخالف، ولذا كانوا يتسترون بأقوالهم وآرائهم، خاصة أن شيوخهم السابقين كمعبد الجهني، وغيلان الدمشقي، قد قتلوا على يد خلفاء بني أمية (3) إلا أن بعض خلفاء بني أمية قال بالقدر كيزيد بن الوليد بن عبدالملك بن مروان "ت (126هـ) " الذي نصر المعتزلة بعد أن نصروه، وكان خروج يزيد بن الوليد بدمشق مع شائعة من المعتزلة وغيرهم على الوليد بن يزيد لما ظهر من فسقه، وشمل الناس من جوره (4)، ولهذا تجد المعتزلة يفضلون يزيد بن الوليد على عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله – يقول المسعودي: "والمعتزلة تفضل في الديانة يزيد بن الوليد على عمر بن عبدالعزيز لما ذكرناه من الديانة" (5)، ولعل عدم ميل المعتزلة لعمر بن عبدالعزيز لأنه سار على منهج السلف الصالح، ولأنه ناقش بعض القدرية، وهم بقتل بعضهم (6).ويروي بعضهم أن يزيد بن الوليد قد دعا الناس إلى القدر، وحملهم عليه، "قال الشافعي – رضي الله عنه –: ولي يزيد بن الوليد – وكان قدريا – فدعا الناس إلى القدر، وحملهم عليه، وبايع لأخيه إبراهيم بن الوليد بالعهد، ومن بعده لعبدالعزيز بن الحجاج بن عبدالملك، حمله على ذلك أصحابه القدرية لمرض أصابه" (7)، ويقول الطبري عن الوليد: "وقيل إنه كان قدريا" (8).6 - ثم جاءت الخلافة العباسية، فكان من خلفائهم من لم يرض عنه المعتزلة كأبي جعفر المنصور (9)، وهارون الرشيد الذي منع الجدل في الدين، وحبس أهل علم الكلام (10)، والذي كان يكره الاعتزال والمعتزلة (11).   (1) انظر: ((مذاهب الإسلاميين)): عبدالرحمن بدوي (1/ 44 - 46) – ط الأولى 1971هـ. (2) انظر: ((فجر الإسلام)):أحمد أمين (299)، وانظر بالتفصيل عن هاتين المدرستين ((ضحى الإسلام)): أحمد أمين (3/ 96) وما بعدها الطبعة العاشرة. (3) انظر: ((ضحى الإسلام)) (3/ 81)، وانظر مناقشة هشام بن عبدالملك لغيلان الدمشقي في ((تاريخ الطبري)) (7/ 203)، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم – ط دار المعارف بمصر. (4) يقول الطبري عن يزيد بن الوليد "وقيل: إنه كان قدريا" (7/ 298)، وانظر ((الكامل)) (5/ 308، 310) وانظر ((مروج الذهب)) (3/ 239) – تحقيق محمد محي الدين عبدالحميد – ط الرابعة 1384هـ، أما فسق الوليد بن يزيد فهو مشهور انظر ((تاريخ الطبري)) (7/ 252)، وما بعدها، و ((الكامل)) لابن الأثير (5/ 289) – ط دار بيروت – دار صادر 1385هـ. (5) ((مروج الذهب)) (3/ 239). (6) انظر: ((ضحى الإسلام)) (3/ 82). (7) ((سمط النجوم العوالي))، تاليف: عبدالملك بن حسين العصامي المالكي (3/ 222) – الطبعة السلفية – القاهرة. (8) ((تاريخ الطبري)) (7/ 298) – تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم – الطبعة الثانية – دار المعارف بمصر. (9) انظر ((ضحى الإسلام)) (3/ 83). (10) انظر: ((المنية والأمل)) (ص31 - 32). (11) انظر: ((ضحى الإسلام)) (3/ 84). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 ولما تولى المأمون الخلافة سنة (198هـ) وكان على مثال أبيه الرشيد أو أشد في محبته العلم، وشغفه بالحكمة والحكماء، وصلته الدائمة بالشعراء والأدباء، بل إن المأمون زاد على أبيه كثيرا في ذلك، فطارت شهرته في العلم والفلسفة، وترجمة الكتب اليونانية إلى العربية، وحظي أحمد بن دؤاد – من كبار المعتزلة – بمكانة كبرى عنده، فلم يلبث ابن أبي دؤاد أن أثر على المأمون حتى أشرب رأي المعتزلة، وقال بقولهم، فكانت محنة القول بخلق القرآن المشهورة التي بدأت سنة (212هـ) (1)، وذلك حين كتب المأمون إلى ولاته في شتى الأقاليم بأمرهم بإلزام الناس – خاصة العلماء والفقهاء منهم – بالقول بخلق القرآن، وعقاب كل من لم يستجب له، ووقعت مناظرات ومناقشات بين أهل السنة والمعتزلة، وقد ادعى المأمون أن ما يقوله ويلزم الناس به هو الحق، وأن ما عليه أهل السنة باطل لا يدل عليه دليل، وذلك من خلال البيان الذي أرسله إلى ولاته (2)، ونفذ الولاة طلب المأمون، فصارت ردود وأسئلة ومناقشات طويلة مع مجموعة من علماء الإسلام (3)، منهم أحمد بن حنبل – رحمه الله – الذي امتحن طويلاً فأوذي وعذب وسجن، فوقف في وجوههم، وثبت على قوله ثبات الجبال، وأصر على قول الحق، والرد على المبطلين، فأيده الله، ونصره عليهم. ولاشك أن تسلط ابن أبي دؤاد كان له دور كبير في ذلك، فالمأمون الذي كان يحترم العلم والعلماء ما كان ليفرض رأيه على الناس بالقوة، وبهذه الصورة، ولكن نفوذ قاضيه القوي كان هو السبب، يقول محمد أبو زهرة: "إن المأمون قد استوزر أحمد بن أبي دؤاد المعتزلي، وجعله كاتبه، وصاحب السلطان في دولته، وكانت له منزلة في نفسه، حتى أوصى أخاه من بعده أن يجعله في منصبه لا يبعده، والكتب التي كتبت واضحة تماما أنها بلغة أحمد بن أبي دؤاد، ففيها إسهاب وطول، ولم يعرف أن الخلفاء إذا كتبوا بأنفسهم يسهبون ذلك الإسهاب، وترى التعبير فيها عن الخليفة بلغة الغائب، ولم يخطئ مرة ويكتبها بلغة المتكلم" (4)، "وإننا إذا علمنا أن المأمون قد رأى ذلك الرأي – وهو خلق القرآن – منذ تولي الخلافة، بل قبلها، وكان يناقش فيه، ويدعو إليه في مجلس مناظراته، من غير أن يكشف عن القلوب، ويمتحن عن العقول، وينزل البلايا، فلماذا تحول ذلك التحول في آخر حياته؟ لماذا نقل المسألة إلى الابتلاء؟ لا شك أن أحمد بن أبي دؤاد كاتب هذه الكتب هو المحرض. إن العاقل يرد عليه سؤال يحيره: لماذا لم يتخذ المأمون ما اتخذ وهو في بغداد، والعلماء جميعا حوله، ولم يدع إلى الامتحان إلا وهو غائب عن بغداد بالكتب يرسلها، ثم يكون ذلك قريبا من موته؟ إنه سلطان أحمد بن أبي دؤاد الكامل" (5)، ومع هذا فالمأمون لا تسقط عنه التبعة.   (1) انظر كتاب ((دول الإسلام))، للذهبي (1/ 130)، تحقيق. فهيم محمد شلتوت، ومحمد مصطفى إبراهيم، ط عام 1974، الهيئة المصرية العامة للكتاب. (2) انظر: وثائق الرسائل حول محنة خلق القرآن، في كتاب: ((الوثائق السياسية والإدارية العائدة للعصر العباسي الأول)): محمد ماهر حمادة (ص325) وما بعدها, الطبعة الأولى 1399هـ- وانظر رسائل المأمون المشهورة أيضا في ((تاريخ الطبري)) (8/ 631) وما بعدها – ط المعارف بمصر. (3) انظر صورة من هذه المناقشات في ((تاريخ الطبري)) (7/ 637). (4) ((أحمد بن حنبل))، تأليف: محمد أبو زهرة (ص59 - 60)، طبع ونشر دار الفكر العربي، وأود أن أشير إلى أن أبا زهرة قد أيد المعتزلة في قولهم بخلق القرآن – وإن كان قد خطأهم في أسلوبهم وعرض آرائهم بالقوة، انظر (ص 61 - 62). (5) ((أحمد بن حنبل))، تأليف: محمد أبو زهرة (ص59 - 60)، طبع ونشر دار الفكر العربي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 ولم أرد من هذا الاستطراد إلا بيان نفوذ المعتزلة ذلك النفوذ الذي يكاد يوصف بأنه قيام دولة المعتزلة، وابن أبي دؤاد هذا يقول عنه الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله –: "ما كان له معرفة بشيء، إنما كان يعول على هؤلاء المعتزلة، أهل البصرة، برغوث وأصحابه، فأما هو فلا صاحب علم، ولا كلام، ولا نظر، وقد قال لي يوما في تلك الأيام، في شيء ذكره، فقلت له مجيبا له: فهل معك في هذا كتاب أو سنة؟، فقال: وأنت لا تقول إلا بما في الكتاب والسنة؟ فقلت له: وهل يقوم الإسلام إلا بالكتاب والسنة، اخترعت رأيا وتأولته تدعو إليه الناس، قال: فأمسك" (1).ومات المأمون، وأوصى قبيل وفاته لأخيه المعتصم قائلا: "وأبو عبدالله بن أبي دؤاد فلا يفارقك، وأشركه في المشورة في كل أمرك، فإنه موضع لذلك منك" (2) وانتقلت الخلافة إلى المعتصم، وأبقى ابن أبي دؤاد في منصبه، واستمرت المحنة على أهل السنة، وهكذا الحال في عهد الواثق، وبقيت للمعتزلة في عهود هؤلاء الدولة والسلطة (3).ثم بعد ذلك أفضت الخلافة إلى المتوكل، "فأمر سنة (234هـ) بترك النظر والمباحثة والجدال، وترك ما عليه الناس في أيام المعتصم والواثق من القول بخلق القرآن ... وأمر الشيوخ المحدثين بإظهار السنة والجماعة" (4).7 - وفي القرن الرابع الهجري أصبح الصاحب بن عباد وزير الآل بويه – استمرت دولتهم من (320 إلى 447هـ) – فدعا إلى مذهب المعتزلة، يقول البغدادي المتوفى سنة (429هـ) عند ذكره لأبي هاشم الجبائي: "وأكثر معتزلة عصرنا على مذهبه لدعوة ابن عباد وزير آل بويه إليه" (5).والصاحب بن عباد هذا كان متعصبا للمعتزلة، فكان لا يولي القضاء في دولته الشيعية إلا من كان معروفا بالاعتزال، وعبدالجبار الهمذاني لما بدأ يعرف بأنه إمام المعتزلة في عصره، اتصل به الصاحب واستدعاه إلى الري، وولاه رئاسة القضاء فيها وفي قزوين وغيرهما (6)، وكان ذلك سببا في انتشار كتب عبدالجبار الهمذاني، وبالتالي انتشار مذهب المعتزلة. هذه لمحة تبين لنا كيف انتشر مذهب المعتزلة في مختلف العصور بشكل لم يعهد لأي فرقة من الفرق إلا فرقة الشيعة (7). المصدر: القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن المحمود - ص 127   (1) ((ذكر محنة الإمام أحمد))، جمع أبي عبدالله حنبل بن إسحاق بن حنبل (ص51)، دراسة وتحقيق: دكتور محمد نغش، الطبعة الأولى 1397هـ - 1977م. (2) ((تاريخ الطبري)) (8/ 849)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم – الطبعة الثانية 1975م دار المعارف بمصر. (3) يعبر الشيخ محمد جمال الدين القاسمي في كتابه " ((تاريخ الجهمية والمعتزلة)) " عن هذه الحقبة بعنوان: ظهور دولة الجهمية "المعتزلة" في عهد المأمون (ص62) مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1399 - 1979م. (4) ((تاريخ الجهمية والمعتزلة)): القاسمي (ص69)، وانظر: ((منهاج السنة النبوية لابن تيمية)) (1/ 344) نشر مكتبة الرياض الحديثة. (5) ((الفرق بين الفرق)) (ص184 - 185). (6) انظر: ((متشابه القرآن)): عبدالجبار الهمذاني، تحقيق: عدنان زرزور، المقدمة (ص 9). (7) انظر في أسباب انتشار مذهب المعتزلة أيضا مقدمة: ((مقالات الإسلاميين للأشعري)) بقلم محمد محيي الدين عبدالحميد (1/ 21 - 23)، الطبعة الثانية 1389هـ - 1969م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 المطلب الأول: دراسة نقدية لشخصية واصل بن عطاء يعتبر واصل بن عطاء الشخصية الأولى التي نسب إليها مذهب الاعتزال، وهو، كغيره من أصحاب المقالات المبتدعة، يحيط بشخصيته قدر كبير من الغموض، ابتداء من هذا الولاء المنسوب لبني ضبة، أو لبني مخزوم، والأهم من هذا ظروف النشأة، وتلقي العلم، والغموض في هذا الجانب يظهر من خلال صلاته الفكرية المتعددة – أيضا –، فهو مرة يظهر من منتابي مجلس الحسن البصري، ومرة يظهر في مجالس الثنوية والمجوس، ومرة يبدو مختلفاً إلى مجموعة من اليهود، الذين اندسوا بين المسلمين في البصرة، ويهمنا أمام هذه الإشكالات محاولة إيضاح الخلفية الفكرية لهذا الرجل، ودوره في فتح باب الابتداع في عقيدة الأمة الإسلامية. ونبدأ أولاً بالتعريف بشخصيته؛ فمن حيث الميلاد، يجمع المؤرخون على أنه ولد في المدينة المنورة سنة " (80هـ) "، وكنيته أبو حذيفة الغزال، مولى ابن مخزوم، وقيل مولى ابن ضبة (1)، فما طبيعة هذا الولاء: هل هو من جهة والديه، أم من جهته هو؟ وهل هذا الولاء يعني العبودية التي ينفيها الدكتور النشار عن واصل، مثلما حاول إلصاق ولائه ببني هاشم، والذي لم يذكره إلا ابن المرتضى (2)، مخالفاً بذلك جميع من سبقوه؛ حيث يقول الدكتور النشار: "وبالرغم من أنه كان مولى، فقد ولد حراً، مع أن المصادر ساكتة تماما عن أبويه، فلا تذكر منها شيئاً، غير أننا نلحظ أنه لم يذكر عنه أنه كان عبداً، بل إن المصادر تذكر أنه كان غَزَّالاً" (3).وقول الدكتور النَّشّّار: "ولد حرا"، دعوى لا دليل عليها؛ فالولاء يعني العبودية، ولعله نال حريته مؤخراً، ولا يوجد أي مصدر يتحدث عن هذه العبودية، ومتى انفكت عنه، أما لقبه الغزال، فالمتبادر إلى الذهن – أيضاً – أن يكون غَزَّالاً، ولكن هذه النسبة – أيضاً – نفاها عنه محبوه قديماً، وحديثاً، إلا أن الدكتور النشار يؤيد أن معظم قادة المعتزلة ينتسبون إلى بعض الحرف؛ حيث يقول: "ويلاحظ أن المعتزلة ينتسبون على بعض الصناعات؛ كالغَزّال، والعلاف، والنظام، والفوطي، والإسكافي" (4)، وقد حاول المبرد "ت (285هـ) " أن يأتي لهذا اللقب بالتخريج الآتي؛ فقال: "ولم يكن غزالاً، ولكنه كان يلقب بذلك لأنه كان يلزم الغزالين، ليعرف المتعففات من النساء، فيجعل صدقته لهن" (5)، وقد ردد ابن المرتضى نفس هذا التخريج الذي ذهب إليه المبرد.   (1) الجاحظ، ((البيان والتبيين))، (1/ 34)، وابن خلكان، ((وفيات الأعيان))، (6/ 7)، والذهبي، ((تاريخ الإسلام))، (5/ 551). (2) ((المنية والأمل))، (ص140). (3) د. النشار، ((نشأة الفكر))، (1/ 382). (4) ((نشأة الفكر))، (1/ 382). (5) المبرد, ((الكامل في اللغة والأدب))، (2/ 143)، الناشر مكتبة المعارف، وانظر الجاحظ، ((البيان والتبيين))، (1/ 32). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 ويؤكد الدكتور طريف الخالدي أن معظم مفكري المعتزلة كانوا ذوي مهن؛ فلماذا تنفى مهنة الغزال عن واصل وحده، ويؤتى لها بذلك التخريج؛ حيث يقول الدكتور الخالدي: "بدأت بدراسة (طبقات المعتزلة) لابن المرتضى، وحصرت البحث في ستة وعشرين متكلماً، إخالهم أشهر أصحاب الاعتزال على الإطلاق من القرن التاسع والعاشر للميلاد أي قرون الاعتزال الذهبية، ووجدت أن ستة عشر منهم كانوا من أصحاب الحرف، أو من طبقة أصحاب الحرف، أو من طبقة التجار الصغار، ولم أتوصل إلى معرفة ما تبقى منهم، وإليكم بعض الأمثلة: عمرو بن عبيد "ت (144هـ) "، كان أبوه نساجاً، واصل بن عطاء "ت (131هـ) "، ويلقب بالغزال، العلاف "أبوالهذيل ت (235هـ) "، وكان يلقب بالعلاف؛ لأن داره بالبصرة كانت في العلافين، النظام "مات في خلافة المعتصم"، كان ينظم الخرز في سوق البصرة؛ لأجل ذلك قيل له النظام، بشر بن المعتمر "ت (210هـ) "، كان نحاساً في سوق الرقيق، هشام بن عمرو الفوطي، هذه النسبة إلى الفوطة، وهي نوع من الثياب، الجاحظ "ت (255هـ) "، كان وراقاً، أبو يعقوب يوسف الشحام، هذه النسبة إلى بيع الشحم، أبو عيسى الوراق، كان وراقاً، جعفر بن مبشر القصبي "ت (234هـ) "، كان يبيع القصب، أبو جعفر الإسكافي "ت (240هـ) "، كان الإسكافي خياطاً، أبو الحسين الخياط، كان خياطاً، أبو مسلم النقاش، كان نقاشا" (1). فإذا كانت غالبية متكلمي المعتزلة يحترفون هذه المهن، فلماذا ينفي عن واصل أنه كان غزالاً؟ مع أن الذي يفهم من شعر بشار بن برد في واصل أنه كان غزالاً بالفعل؛ حيث يقول: ما لي منيت بغزال له عنق ... كنقنق الدو إن ولي وإن مثلا عنق الزرافة ما بالي وبالكم ... تكفرون رجالاً كفروا رجلاً (2) فلو كانت التسمية لملازمته لسوق الغزالين، لما كان وصفه بالغزال مناسباً، ولكن الشعراء الذين هجوه وصفوه بالغزال، بينما الشعراء المحبون له كانوا ينعتونه بأبي حذيفة، أو يذكرونه باسمه، وقد هجاه الشاعر إسحاق بن سويد العدوي "ت 131 هـ"؛ فقال: برئت من الخوارج لست منهم ... من الغزال منهم وابن باب ومن قوم إذا ذكروا عليا ... يردون السلام على السحاب (3) وقال معدان الشميطي يهجو الخوارج، والمعتزلة، وغيرهم: لا حروراء لا النواصب تنجو ... لا ولا صحب واصل الغزالي (4) وكان مادحوه يذكرونه باسمه فقط، كأسباط بن واصل الشيباني؛ حيث قال: وأشهد أن الله سماك واصلاً ... وأنك محمود النقيبة، والشيم (5) وكان بشار قد مدحه قبل أن يختلف معه، ولم يذكر لقب الغزالي؛ فقال: أبا حذيفة قد أوتيت معجبة ... في خطبة بدهت من غير تقدير (6)   (1) د. طريف الخالدي، ((دراسات في تاريخ الفكر العربي الإسلامي))، (ص31، 32). (2) الجاحظ، ((البيان والتبيين)) (1/ 23). (3) ((البيان والتبين)) (1/ 23)، و (ص27)، و (ص24). (4) ((البيان والتبين)) (1/ 23)، و (ص27)، و (ص24). (5) ((البيان والتبين))، (1/ 23)، و (ص27)، و (ص 24). (6) ((البيان والتبين))، (1/ 23)، و (ص27)، و (ص 24). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 ومن هنا، فإن لقب الغزال قد يكون موافقا لحرفته التي يعمل بها، ولا عيب في ذلك، ولكن الذي تعاب به المعتزلة – حقا – أن هذه الظاهرة تبين عدم انتظام علماء المعتزلة في حلقات العلم، ولا يعدون من رواة الحديث، وعندما أطلقوا العنان لعقولهم؛ لتخوض في العقيدة كما تشاء، برزت الانحرافات العقدية، التي انشغل بها علماء الأمة؛ للرد، والتصحيح، فلعل مثل هؤلاء الحرفيين كانوا يخوضون في مسائل الدين على هواهم، وهذا ما حدث – فعلاً –، والله أعلم. وأما صفاته الخلقية، فقد كان طويل العنق جداً؛ بحيث كان يعاب به (1)، وقد عابه لطول عنقه صاحبه عمرو بن عبيد، وقال: "أنى هذا، وله عنق لا يأتي معها بخير" (2)، ومن صفاته الخلقية – أيضا – أنه كان ألغ في الراء، شديد اللثغة بها؛ حيث يقول المبرد: "وكان واصل بن عطاء أحد الأعاجيب؛ وذلك أنه كان ألثغ، قبيح اللثغة في الراء، فكان يخلص كلامه من الراء" (3).ويقول الجاحظ عن هذه اللثغة: ولما علم واصل أنه ألثغ، فاحش اللثغ، وأن مخرج ذلك منه شنيع، وأنه إذا كان داعية مقالة، ورئيس نحلة، وأنه يريد الاحتجاج على أرباب النحل، وزعماء الملل ... رام أبو حذيفة إسقاط الراء من كلامه، وإخراجها من حروف منطقه" (4).ومهما حاول أتباعه من المعتزلة الاعتذار عن هذا العيب، فإن واصل بن عطاء روى عنه جرأة على كتاب الله – تعالى –؛ بسبب لثغته؛ حيث يذكر الإمام الذهبي: "أنه كان يمتحن بأشياء في الراء، ويتحيل لها حتى قيل له: اقرأ أول سورة براءة، فقال على البديهة: عهد من الله ونبيه إلى الذين عاهدتهم من الفاسقين فسيحوا في البسيطة هلالين وهلالين"، وكان يجيز القراءة بالمعنى، وهذه جرأة على كتاب الله العزيز" (5).وقال البغدادي: "وأما لثغه في الراء فمن مثالبه؛ لأنها تمنع من كونه مؤذناً، وإماماً للقارئين؛ لعجزه؛ لقوله: أشهد أن محمد رسول الله، وأن يقول: الله أكبر، وكان لا يصح منه قراءة آية فيها الراء، وكفى المعتزلة خزياً أن يكون زعيمها من لا يصح صلاتهم خلفه، وأما خطبته التي لا راء فيها، فعساه كان في تحبيرها أياماً" (6). طلبه العلم: سبق لنا القول بأن واصل بن عطاء، ولد سنة " (80هـ) "، وكانت ولادته في المدينة المنورة، ولا نعثر على أي نص يفيدنا عن طبيعة نشأته الأولى، وتلقيه للعلم، أو مدة إقامته في المدينة، وزمن ذهابه إلى البصرة؛ حيث يظهر في مجلس الحسن البصري، والسؤال المتبادر إلى الذهن: هل عاش واصل في المدينة المنورة فترة من الوقت تؤهله للتلقي عن علمائها الذين كانوا من أشد الناس التزاماً بالسنة، وبعداً عن البدعة، أم أنه غادر المدينة في فترة مبكرة من عمره، ولم تتح له فرصة التلقي عن علمائها؟ وهل كانت مهنته "العمل في الغزل" تحول بينه، وبين تلقي العلم، إذا علمنا أنه لم يرو حديثاً واحداً، ولا عده علماء الرجال، والطبقات، من رواة الحديث، أم أنه كان في المدينة يعاني من العبودية، والولاء، فلما ذهب إلى البصرة لازم مجالس الحسن البصري، فبدأ يطرح إشكالاته الفكرية، التي تنم عن ضحالة في العلم الشرعي، والعقدي.   (1) ابن خلكان، ((وفات الأعيان))، (6/ 10)، ت. د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت، بدون تاريخ. (2) ابن المرتضى، ((المنية والأمل))، (ص140). (3) ((الكامل في اللغة))، (2/ 144). (4) ((البيان والتبيين))، (1/ 15). (5) الذهبي ((تاريخ الإسلام))، (5/ 559). (6) البغدادي، ((الملل والنحل))، (ص85). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 إن هذه الإشكالات لا نملك عليها إجابة في كتب العلماء الثقات، التي تبنى عليها الحقائق، ولكن كتاب المعتزلة القدماء، ومن ناصرهم من المعاصرين، تداركوا هذا الجانب، وبدءوا بالبحث عن تلمذة لواصل، فنسبوه إلى البيت الهاشمي، وهذا ما سوف نفصله. فقد وضع ابن المرتضى محمد بن الحنفية "ت (81هـ) " في الطبقة الثانية من طبقات المعتزلة، ثم قال: "وأما محمد بن الحنفية، فقد مر أن واصلاً أخذ علم الكلام عنه، وصار كالأصل لسنده"، إلى أن قال: "وسئل أبو هاشم عن محمد بن علي؛ عن مبلغ علمه، فقال: إن أردتم معرفة ذلك، فانظروا إلى أثره في واصل بن عطاء، وقال شبيب بن شبة: ما رأيت في غلمان بن الحنفية أكمل من عمرو بن عبيد، فقيل له: متى اختلف عمرو بن عبيد إلى ابن الحنفية، قال: إن عمرا غلام واصل، وواصل غلام محمد" (1).وقال ابن المرتضى "ت (840هـ) " – أيضا –: الطبقة الثالثة من طبقات المعتزلة "منقسمة؛ فمن العترة الطاهر الحسن بن الحسن "ت (99هـ) "، وابنه عبدالله بن الحسن، وأولاده: النفس الزكية، وغيره، ومن أولاد علي أبو هاشم عبدالله بن محمد بن الحنفية، وهو الذي أخذ عنه واصل، وكان معه في المكتب، فأخذ عنه، وعن أبيه" (2).وقال نشوان الحميري المعتزلي الشيعي "ت (573هـ) ": "وكان واصل بن عطاء من أهل المدينة، رباه محمد بن الحنفية، وعلمه، وكان مع ابنه أبي هاشم في الكتاب، ثم صحبه بعد موت أبيه صحبة طويلة، وحكي عن بعض العلماء أنه قيل له: كيف كان علم محمد بن علي؟ قال: إذا أردت أن تعلم ذلك، فانظر إلى أثره في واصل" (3). هذه مزاعم أهل الاعتزال والتشيع، ولكننا لم نجد ما يؤيدهم في هذا الزعم من مصادر أهل السنة المعتبرة، إلا ما ردده "طاش كبرى زاده" نقلاً عن مصادر المعتزلة، والشيعة، وهذا النقل لا يعتد به، إذا تبين لنا بطلان هذه المزاعم، على النحو التالي:   (1) ((المنية والأمل)) (ص131). (2) ابن المرتضى، ((المنية والأمل)) (ص132). (3) الحميري، ((الحور العين)) (ص260)، ت. كمال مصطفى، ط2، 1985م، دار أزال بيروت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 أولاً: سوف نجري مقارنة زمنية بين حياة واصل، ومحمد بن الحنفية؛ لنرى أن هؤلاء الكتاب، وكأنهم يقولون كلاماً يستغفلون فيه أتباعهم، وكأن كتبهم لن تقع في أيدي غير الأتباع؛ فمن الثابت أن محمد بن الحنفية – رحمه الله – توفي سنة " (81هـ) "، وواصل بن عطاء، ولد سنة " (80هـ) "؛ فكيف تلقى واصل العلم عن ابن الحنفية، وعمره لم يتجاوز سنة واحدة، وبهذا يسقط ادعاء المعتزلة عن التلمذة، ولا نزيد على هذا شيئاً. ثانياً: يبقى الزعم الثاني بأن واصل بن عطاء قد صحب عبدالله بن محمد بن الحنفية في الكتاب، وهذه من المزاعم الباطلة – أيضاً –، والتي يبررها المستشرق آدم متز؛ فيقول: "إن هذا السند من وضع الشيعة، حملهم على وضعه، ونسبته إلى علي بن أبي طالب، أن عدداً كبيراً منهم دخل في مذهب الاعتزال في القرن الرابع الهجري؛ ولذلك فهو لا يرد مفصلاً إلا في كتاب (أئمة الزيود)، و (الشيعة في اليمن) " (1)، وهذه – فعلاً – إحدى الحقائق، وسوف نبطل هذا السند على النحو التالي؛ فقد ذكر الإمام الذهبي "أن عبدالله بن محمد بن الحنفية أبا هاشم قد مات "كهلاً" سنة ثمان وتسعين هجرية" (2)، فكيف لرجل كهل يحب طفلاً في الكتاب، ولكن الواقع الذي يمكن تصوره أن واصلاً قد دخل الكتاب سنة " (87 هـ"، أو "88 هـ) "؛ فهو بذلك طفل صغير بجانب هذا الكهل على ما قاله الذهبي، وعندما توفي عبدالله كان عمر واصل ثمانية عشر عاما، ونحن لا ننكر أن يكون واصلاً قد شاهد عبدالله، أو سمعه، مع أننا نميل إلى أن الظروف السياسية في ذلك الوقت ما كانت تسمح لعلماء آل البيت بإلقاء الدروس العلمية، وتجمع الناس حولهم، ثم ما وجه اهتمام عبدالله بن محمد بطفل صغير ليس من بني هاشم، ولا من مواليهم؟ فهذه إذا محاولة التشيع، والاعتزال الالتصاق بآل البيت، وينكر البغدادي هذه الصلة بالبيت الهاشمي من قبل واصل، فيقول: وقد ادعت المعتزلة لواصل كرامات، كذبوا في بعضها، وقلبوا في بعضها، فزعموا أنه صحب محمد بن الحنفية، وعبدالله ابن علي بن أبي طالب، وأخذ عنهما مقالته، وهذه خرافات أمانيهم في الغرور، وقيل: لو كان على رأي محمد، وعبدالله، لما رد شهادة أبيهما" (3).وزيادة في التمويه والتضليل، فقد اخترع المعتزلة تلمذة زيد بن علي بن الحسين – رحمه الله – "ت (120هـ) " على واصل بن عطاء، وزعموا أنه كان يدين بمذهب الاعتزال؛ حيث يقول ابن المرتضى: "وروي أن واصلاً دخل المدينة، ونزل على إبراهيم بن يحيى، فتسارع إليه زيد بن علي، وابنه يحيى بن زيد، فقال جعفر بن محمد الصادق "ت (146هـ) " لأصحابه: قوموا بنا إليه، فجاءه، والقوم عنده – أعني زيد بن علي، وأصحابه –، فقال جعفر: أما بعد، فإن الله – تعالى – بعث محمداً بالحق، والبينات، والنذر، والآيات، وأنزل عليه: وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الأحزاب: 6]، فنحن عترة رسول الله، وأقرب الناس إليه، وإنك يا واصل أتيت بأمر يفرق الكلمة، وتطعن به على الأئمة، وأنا أدعوك إلى التوبة". إلى أن قال ابن المرتضى: "فتكلم زيد بن علي، فأغلظ لجعفر؛ أي أنكر عليه ما قال، وقال: ما منعك من "اتباعه" إلا الحسد لنا، فتفرقوا، قلت "أي ابن المرتضى": روى ذلك الحاكم، وغيره، والله أعلم بحصتها" (4).   (1) آدم متز، ((الحضارة الإسلامية)) (1/ 124)، دار الكتاب العربي، بيروت. (2) الذهبي، ((سير أعلام النبلاء)) (2/ 130). (3) ((الملل والنحل)) (ص84). (4) ((المنية والأمل))، (ص142). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 إن رواية هذه الحادثة على هذه الهيئة هو نوع من الوضع، والكذب الذي اعتادته فرق الابتداع؛ وذلك لأن زيد بن علي – رحمه الله – تعالى – يكبر واصل بن عطاء بالعمر سنتين؛ حيث ولد "سنة (78 هـ) " (1)، فلا يعقل أن يكون تلميذاً لواصل، وهو الذي تربي في كنف بيت النبوة من علماء آل البيت، وعلماء السلف، إضافة إلى علمه، وقوته، واستقامته على منهج السلف، ورده على القدرية النفاة، الذين يدين واصل بمعتقدهم؛ فقد روى ابن عساكر "أنه جاء رجل إلى زيد، فقال: يا زيد، أنت الذي تزعم أن الله أراد أن يعصى؟ فقال له زيد: أفعصي عنوة"؟ فأقبل يخطر بين يديه "أي يركض"" (2).   (1) ابن عساكر، ((المختصر)) (9/ 151). (2) ابن عساكر، ((المختصر)) (9/ 153). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 ثم يوحي النص أن مذهب الاعتزال غنيمة كبرى، وأن جعفر الصادق قد حسد واصلاً على اعتناقه، وأن رئاسة هذا المذهب الضال، على رأي كاتب النص، يجب أن تكون لآل البيت، وهذا من الكذب؛ فهل يخفى على جعفر الصادق أن هذا المذهب هو مذهب مبتدع، لا يشرف المرء الانتساب إليه، يضاف إلى ذلك أن ذلك النص يتهم واصلاً بأنه طعن في الأئمة، ولكن واصلاً ينفي ذلك، وهذه القصة لا شك في وضعها؛ بدليل قول ابن المرتضى نفسه: "والله أعلم بصحتها".وقد نفى هذه التلمذة الشيخ محمد أبو زهرة – رحمه الله –، ولكن الدكتور النشار يؤكد على هذه التلمذة؛ تبعاً لكتاب المعتزلة، فيقول: "وقد حاول العلامة الكبير، الشيخ محمد أبو زهرة أن يثبت أن الإمام زيدا لم يتتلمذ على واصل بن عطاء، وإنما ذاكره، وزامله فيها، وبخاصة أن واصل بن عطاء إنما أخذ مذهبه عن رجل من أهل البيت، هو أبو هاشم، وسواءً أصحت تلمذة زيد لواصل بن عطاء، أم مذاكرته له في المذهب، فإن آراء المعتزلة كانت هي المرحلة الحاسمة في تفكير الفتى العلوي، ثم يردد الأباطيل؛ فيقول: كما أن اعتناق زيد المذهب القدري أقلق محمداً الباقر" (1).إن من المؤسف – حقاً – أن يلقي الدكتور هذا الكلام على عواهنه؛ تبعاً للمعتزلة، والمستشرقين، وعلى هذا المدار تجد الدكتور النشار يلقي الشبهات؛ وينسب خيار الأمة إلى المذاهب المبتدعة، والخلاصة التي يجب اعتقادها هي بطلان شبهات المعتزلة، ومن تابعهم؛ فإن زيداً، وهو سليل بيت النبوة، ما كان له أن يتلقى العلم عن أحد المبتدعة، الذين لا نصيب لهم من علم الكتاب، والنبوة، وكما قال الدكتور شريف الخطيب: "وعلى فرض صحة لقاء زيد بواصل، فإنه كان لقاء جدال بين مذهب الحق، وهو ما يعتقده زيد، وبين المذهب الباطل الذي يعتقده واصل" (2).أما تلمذة واصل على الإمام الحسن البصري – رحمه الله – تعالى – "ت (110هـ) "، فهي ثابتة بلا شك، ولكنها تلمذة من أحدث البدعة في هذا المجلس، ورد على شيخه بما لا يليق، ولا نعلم متى قدم واصل إلى البصرة، فإذا قلنا إنه أقام في المدينة إلى سنة " (100هـ) "، فيكون قد جالس الحسن البصري مدة خمس سنوات، وقد بقي أربع سنوات منها صامتاً، لا يتكلم، فسألوا الحسن البصري عن ذلك، فقال: "إما أن يكون أجهل الناس، أو أعلم الناس" (3)، "وكانوا يظنون به الخرس من طول صمته" (4)،   (1) ((نشأة الفكر الفلسفي)) (2/ 122). (2) د. شريف الخطيب، ((الإمام زيد بن علي المفترى عليه)) (ص64)، (ص1)، 1404هـ، منشورات الفيصلية، مكة المكرمة. (3) القاضي عبدالجبار، ((طبقات المعتزلة)) (ص235)، ت. فؤاد السيد، الدار التونسية. (4) ابن المرتضى، ((المنية والأمل)) (ص140) .. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 ونريد أن نتساءل: ماذا يعني هذا الصمت الطويل؟ وما دلالاته؟ هل هو صمت السامع المستزيد؟ أم هو صمت من يهيئ بنفسه مقالة مبتدعة، خالف بها ما يقول هذا الإمام العالم، الذي أجمعت الأمة على إمامته، ورسوخه في الدين، أم أنه كان يقارن بين فكر، ومعتقد سابق لديه، وبين ما يلقيه الحسن البصري، أم أن المجالس التي كان يحضرها بعيداً عن حلقة الحسن البصري هي التي أحدثت عنده هذا الانحراف، والابتداع؟ سوف نلقي فيما يلي بعض الضوء على علاقات واصل الفكرية خارج هذه الحلقة، والتي يرجح أنه كان لها الأثر الأكبر في انحرافه، وعدم اعتباره من المحدثين، أو ممن روى الحديث؛ فقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني "ت (356هـ) ": "أنه كان بالبصرة ستة من أصحاب الكلام: عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وبشار الأعمى "ت (168هـ) "، وصالح بن عبدالقدوس، وعبدالكريم بن أبي العوجاء، ورجل من الأزد، قال أبو أحمد جرير بن حازم "ت (170هـ) ": فكانوا يجتمعون في منزل الأزدي، ويختصمون عنده، فأما عمرو، وواصل، فصارا إلى الاعتزال، وأما عبدالكريم، وصالح، فصححا التوبة، وأما بشار، فبقي متحيراً مخلطاً، وأما الأزدي، فمال إلى قول السمنية؛ وهو مذهب من مذاهب الهند، وبقي ظاهره على ما كان عليه، قال: فكان عبدالكريم يفسد الأحداث، فقال له عمرو بن عبيد: قد بلغني أنك تخلو بالحدث من أحداثنا فتفسده، فتدخله في دينك، فإن خرجت من مصرنا، وإلا قمت فيك مقاماً آتي فيه على نفسك، فلحق بالكوفة، فدل عليه محمد بن سليمان "ت (173هـ) "، فقتله، وصلبه فيها" (1).ونحن مع عدم ثقتنا بهذا المصدر، ومعلوماته، إلا أنه صدق بقوله عن واصل، وعمرو بن عبيد، وأما الشخصيات الباقية، هي شخصيات منحرفة – أيضاً –؛ فبشار بن برد الشاعر كان يميل إلى دين المجوس، ويفضل النار على التراب، ويصوب رأي إبليس في امتناعه عن السجود لآدم – عليه السلام –، ورمي بالزندقة عند المهدي الخليفة العباسي؛ فأمر به، فضرب سبعين سوطاً، فمات من ذلك، وكان ذلك سنة " (168هـ) " (2).وأما صالح بن عبدالقدوس، فهو شاعر زنديق، قتله المهدي على زندقته؛ حيث أبلغ عنه أنه عرض بأبيات لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله لأجل ذلك" (3).وأما عبدالكريم بن أبي العوجاء، فيقول عنه الإمام الذهبي: "خال معن بن زائدة "ت (152هـ) "، زنديق معثر، قال ابن عدي: لما أخذ لتضرب عنقه، قال: لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث، أحرم فيها الحلال، وأحلل الحرام، قتله محمد بن سليمان الأمير بالبصرة" (4).   (1) الأصفهاني، ((الأغاني)) (3/ 146)، دار صادر، بيروت، وقد نقل هذا النص من ((الأغاني))، ابن حجر، في ((لسان الميزان))، (4/ 61). (2) ابن خلكان، ((وفيات الأعيان))، (1/ 273). (3) ابن عساكر (1/ 34)، ((وفيات الأعيان))، (2/ 492). (4) الذهبي، ((ميزان الاعتدال))، (2/ 644)، و ((لسان الميزان))، (4/ 61). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 أما الرجل الأزدي، فلا ندري من هو؛ لعدم التصريح باسمه، وهذه الشخصيات التي كانت تجتمع مع واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، لابد أنها أثرت في فكره، ومعتقده، وفي بدعته التي ابتدعها، وإذا أضفنا إليها ما ذكره الأستاذ أنور الجندي عن مجموعة من الباحثين، لم يسمهم: "إن جماعة من اليهود الذين أظهروا الإسلام اندسوا بين المسلمين بالبصرة، وقد تعرف إليهم واصل بن عطاء، وجعل يتردد عليهم، ومن قولهم: إن الخير من الله، والشر من أفعال البشر، وإن القرآن مخلوق محدث، ليس بقديم، وإن الله – تعالى – غير مرئي يوم القيامة، وإن المؤمن إذا ارتكب الذنب، فشرب الخمر، وغيره يكون في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمناً، ولا كافراً، وإن إعجاز القرآن في الصرف عنه، لا أنه معجز؛ أي أن الله لو لم يصرف العرب عن معارضة القرآن، لأتوا بما يعارضه" (1).ونحن نطرح تساؤلات: هل كان لبدعة واصل بن عطاء أبعاد عميقة من خلال هذه الجمهرة الضالة التي كان يجتمع بها، والتي قد تكون دفعته للخروج على منهاج السلف، وعالمهم الكبير الحسن البصري – رحمه الله – الذي كان يلمح في شخصية واصل أنه كان يبيت في نفسه مثل هذه الفرقة في الأمة؛ من خلال دعوته للاعتزال، والذي يظهر من بعض الروايات أن واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، كانا يحضران إلى الحسن البصري عندما كبرت سنه، وزادت على التسعين؛ مما حدا بعلماء السلف باتهامهم بالكذب على الحسن البصري، وكان عمرو بن عبيد ينسب له ما لم يقله؛ فعن حماد بن سلمة قال: "كان حميد من أكفهم عنه "أي عن عمرو بن عبيد"، قال: فجاء ذات يوم إلى حميد، قال: فحدثنا حميد بحديث، قال: فقال عمرو: كان الحسن يقول ... ، قال: فقال لي حميد: لا تأخذ عن هذا شيئاً؛ فإن هذا يكذب على الحسن، كان يأتي الحسن بعدما أسن، فيقول: يا أبا سعيد: أليس تقول كذا، وكذا؟ للشيء الذي ليس من قوله، فيقول الشيخ برأسه هكذا" (2).ومن خلال هذا النص، يمكننا أن نفترض الفترة الزمنية التي بدأت فيها هذه البدعة، والتي يرجحها بعض المستشرقين في "دائرة المعارف الإسلامية" أنها بدأت في السنة الخامسة بعد المائة (3)، وهذا الرأي قد يكون قريبا من الصواب، إذا قورن مع التطور الطبيعي لعمر واصل، وعمرو بن عبيد، في ظل ضعف قوى الحسن البصري، وعدم قدرته على الرد على بدعهم؛ لكبر سنه، يضاف إلى ذلك المكر، والدهاء، الذي كان يمتاز بهما واصل، وعمرو، ورغبتهما المبيتة في تأسيس نحلة خاصة بهما، تخالف هذا الجمهور الكبير الذي رباه الحسن البصري على الكتاب، والسنة؛ ليظهر هؤلاء المناوئون لمنهج السلف، ليس في مسألة المنزلة بين المنزلتين فقط، وإنما في مسائل عقدية أخرى، والتي ستمهد الطريق لبروز الجهمية النفاة، وغيرهم من فرق الضلال.   (1) الجندي، ((مقدمات العلوم والمناهج)) (ص433)، ط1، 1399هـ، دار الأنصار، القاهرة. (2) البغدادي، ((تاريخ بغداد)) (12/ 180)، دار الكتاب العربي، بيروت. (3) ((دائرة المعارف الإسلامية المختصرة)) (2/ 1091)، أبحاث مجموعة من المستشرقين ترجمة د. راشد البراوي، " ((الموسوعة الإسلامية الميسرة)) (ص1)، 1985م، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 ولكن الحسن البصري – رحمه الله تعالى – لم يكن راضيا عن عمرو بن عبيد، قرين واصل؛ لمعتقده الضال في القدر، ولا يعلم حقيقة إذا كان مسمى الاعتزال قد ظهر في حياة الحسن البصري، بعد حادثة الطرد المشهورة، والمنسوبة لواصل تارة، ولعمرو بن عبيد تارة أخرى، ولم تكن حلقة الحسن البصري، ولا مجالس الثنوية، والمجوس، هي المصادر الفكرية الوحيدة لواصل بن عطاء؛ فهناك من يرى أن هناك علاقة بين واصل، والجهم بن صفوان "ت (128هـ) "، وهذا غير مستبعد؛ وذلك لأن الرجلين عاشا في عصر واحد، وكانت، وفاتهما متقاربة – أيضاً –؛ حيث يقول ابن المرتضى: "إن بعض السمنية قالوا لجهم بن صفوان: هل يخرج المعروف عن المشاعر الخمسة؟ قال: لا، قالوا: فحدثنا عن معبودك: هل عرفته بأيها؟ قال: لا، قالوا: فهو إذا مجهول، فسكت، وكتب إلى واصل، فأجاب، وقال: كان يشترط وجه سادس؛ وهو الدليل، فنقول: لا يخرج عن المشاعر أو الدليل، فاسألهم: هل يفرقون بين الحي والميت، والعاقل والمجنون، فلابد من نعم، وهذا عرف بالدليل، فلما أجابهم جهم بذلك، قالوا: ليس هذا من كلامك، فأخبرهم؛ فخرجوا إلى واصل، وكلموه، وأجابوه إلى الإسلام" (1). ولا ندري مدى صحة هذا الخبر، ولكن لعل ابن المرتضى يهدف إلى رفع قيمة واصل؛ إذ المشهور أن السمنية الذين تحير الجهم بسببهم، ولم يدر من يعبد لمدة أربعين يوماً، وقدحوا الفتنة في قلبه العليل، ثم ذهبوا، هذه الفتنة التي نالت الجهم في عقيدته، وكانت سبباً في انحرافه، يخشى أن تكون قد تمكنت – أيضاً – من قلب واصل بن عطاء فهل كان للسمنية دور في انحراف معتقد واصل في الصفات، والذي تطور، فيما بعد، على يد المعتزلة عموماً، فهؤلاء السمنية، على هذا الاعتبار، نعتبرهم أحد المؤثرات التي أثرت في فكر واصل بن عطاء، كما أسهمت في انحراف الجهم، وحيرته. ثم يضيف ابن المرتضى أن واصلاً قد بث دعاته في الآفاق؛ فيقول: "وبلغ من بأسه، وعلمه، أنه أنفذ أصحابه إلى الآفاق، وبث دعاته في البلاد؛ فبعث عبدالله بن الحارث إلى المغرب، فأجابه خلق كثير، وبعث إلى خراسان حفص بن سالم، فدخل ترمذ، ولزم المسجد، حتى اشتهر، ثم ناظر جهماً، فقطعه، فرجع إلى قول أهل الحق، فلما عاد حفص إلى البصرة، رجع إلى قوله الباطل، وبعث القاسم بن المعدي إلى اليمن، وبعث أيوب بن الأوتر إلى الجزيرة، وبعث الحسين بن ذكوان إلى الكوفة، وعثمان الطويل إلى أرمينية، فقال: يا أبا حذيفة، إن رأيت أن ترسل غيري، فأشاطره جميع ما أملك، حتى أعطيه فرد نعلي، فقال: يا طويل، اخرج، فلعل الله أن ينفعك، فخرج للتجارة، فأصاب مئة ألف، وأجابه الخلق" (2). ونحن أمام هذا النص نميل لأحد الاحتمالين الآتيين: الأول: أن نصدق بهذه الحملة الشرسة التي شنها المعتزلة على أرجاء العالم الإسلامي، داعين لنفي القدر، والصفات، ونشر البدع العقدية، وبذر بذور الفرقة، والاختلاف، في الأمة؛ عن طريق محاربة منهج السلف في العقيدة.   (1) ابن المرتضى، ((المنية)) (ص143). (2) ((المنية والأمل)) (ص141 - 142)، بتصرف، قال الدكتور النشار بعد ذكره لحملة واصل هذه: "وبهذا نرى أنه كان لواصل أكبر الأثر في إرساء قواعد الاعتزال، ويعود هذا لشكيمة الرجل وقوة عارضته وشخصيته الفتانة!! " ((نشأة الفكر)) (1/ 384). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 الاحتمال الثاني: أنها حملة مزعومة، لا أساس لها من الصحة؛ وذلك لأنني حاولت، بعد جهد طويل، العثور على تراجم هؤلاء المذكورين، فلم أحصل إلا على عثمان الطويل، وما وجدت ما قاله ابن المرتضى عنه في كتب أهل السنة، وهذا – أيضاً – يحتمل أن هذه الشخصيات كانت مغمورة، تدعو لبدعتها في الخفاء، بعيداً عن معرفة علماء السلف بها، حتى تؤسس هذه النحلة المبتدعة، ومما لا شك فيه أن هذه الدعوة البدعية – أيضاً – أحدثت بين المسلمين جدالاً، وإشكالاً واسعاً، لم ينته إلى وقتنا الحاضر، فكانت من أخطر البدع التي ابتليت بها الأمة، وما خلاف المسلمين في مسائل العقائد إلا أنه نابع من أصول المعتزلة، والجهمية، التي تحدث مع معظم الفرق البدعية، وخاصة في مناطق التشيع، وحتى الخوارج استقوا مباحثهم الكلامية، فيما بعد، من مناهج المعتزلة. وعندما حدثت محنة خلق القرآن، التي كان سببها المعتزلة، فرحت فرق الضلال بالاضطهاد الذي لاقاه علماء السلف؛ وأولهم الإمام أحمد، وأعجبت بما تدعو إليه المعتزلة، فكان التلاقي، والذوبان في مسائل العقيدة بين مختلف الفرق، وخاصة الشيعة؛ ومما عزز اتحاد هذه الفرق مع المعتزلة هزيمة المعتزلة في النهاية، وظهور منهج السلف، وسيادته على الأمة، فعادت هذه الفرقة تبحث في سراديب الظلام عن فتن، ومكائد؛ لضرب هذا المنهج الفطري الذي يدين به جمهور الأمة، فحدثت بعد ذلك انحرافات عقدية، خرج أغلبها من رحم المعتزلة العفن، واليوم تبرز الدعوات من جديد؛ لإحياء هذا الفكر المبتدع، والعقيدة الضالة، ولكن هذه الصحوة المباركة بدأت تتلمس طريقها بالبحث عن منهج السلف، وإحيائه؛ لصد الهجمة الاستشراقية الاعتزالية الجديدة، التي يجب أن يزال الستار عن تخريبها العقدي، وخوضها في ذات الله، وصفاته، وقضائه، وقدره، خوضا باطلاً، لا دليل يسنده إلا اتباع الهوى، والشيطان. هذه نبذة عن حياة واصل بن عطاء، الذي توفي سنة "إحدى وثلاثين ومئة" (1)، وقد ذكر أن له جملة من التصانيف، ولم يصلنا شيء منها؛ مثل: "أصناف المرجئة، وكتاب التوبة، وكتاب المنزلة بين المنزلتين، وكتاب خطبته التي أخرج منها الراء، وكتاب خطب التوحيد، والعدل" (2)، وسوف ننتقل لنعطي صورة أخرى عن عمرو بن عبيد، الرجل الثاني من رجالات الاعتزال.   (1) ابن الخطيب، ((تاريخ بغداد)) (12/ 187)، وابن خلكان، ((وفيات الأعيان)) (3، ص460). (2) ابن سعد، ((الطبقات)) (7/ 201)، وانظر الرازي، ((الجرح والتعديل)) (6/ 246). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 المطلب الثاني: دراسة نقدية لشخصية عمرو بن عبيد بن باب: ولد عمرو بن عبيد سنة (80هـ) (1)، وهو مولى لبني تميم (2)، وجده "باب، من سبي فارس، مولى لآل عرادة، من بلعدوية، من حنظلة تميم، وعبيد أبو عمرو، كان نساجا، ثم تحول شرطيا للحجاج، وهو من سبي سجستان" (3)، وقال ابن قتيبة، والفسوي (ت 277هـ): "هو عمرو بن عبيد بن باب، مولى لآل عرادة بن يربون بن مالك، ويكنى أبا عثمان، وكان عبيد أبوه يختلف إلى أصحاب الشر "ولعله يقصد الشرط" بالبصرة؛ فكان الناس إذا رأوا عمرا مع أبيه، قالوا: خير الناس ابن شر الناس، فيقول عبيد: صدقتم هذا إبراهيم، وأنا آزر" (4)، وقال ابن كثير ت (774هـ) عند التعريف به: "عمرو بن عبيد بن ثوبان، ويقال ابن كيسان التيمي، مولاهم، أبو عثمان البصري، من أبناء فارس، شيخ القدرية، والمعتزلة" (5).يتضح لنا من هذه النصوص أن عمرو بن عبيد، ووالده، وجده، هم من الموالي، وواضح – أيضا – أن هذا الولاء يعني العبودية؛ لأنهم أخذوا من السبي، والذي يهمنا هو طبيعة النشأة التي عاشها عمرو في ظل والده، ومن الملاحظ أن عمرا في بداية حياته كان مستقيماً؛ لملازمته لمجلس العلم، ولكن والده كان يتوسم فيه شيئاً آخر؛ حيث "قيل لعبيد بن باب أبي عمرو بن عبيد، وكان من حرس السجن: إن ابنك يختلف إلى الحسن، ولعله أن يكون ... قال: وأي خير يكون من ابني، وقد أصبت أمه من غلول، وأنا أبوه؟ " (6).   (1) ابن الخطيب، ((تاريخ بغداد)) (12/ 187)، وابن خلكان، ((وفيات الأعيان))، (3/ 460). (2) ابن سعد، ((الطبقات)) (7/ 201)، وانظر الرازي، ((الجرح والتعديل)) (6/ 246). (3) ((تاريخ بغداد)) (12/ 166). (4) ابن قتيبة، ((المعارف)) (ص272)، والفسوي، ((المعرفة والتاريخ))، (2/ 126) و (3/ 464)، ((والوفيات))، (3/ 460). (5) ابن كثير، ((البداية والنهاية)) (10/ 81). (6) ((تاريخ بغداد)) (12/ 175). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 طلبه العلم: ولقد كان عمرو، يختلف إلى مجلس الحسن البصري في سن مبكرة، ولعل هذا المجلس كان له أثره في نشأته العلمية فيما بعد، ولكن عمرو بن عبيد كان يأخذ من مشارب شتى، خلطت عليه ذلك الخير الذي كان يتلقاه في مجلس الحسن البصري؛ حيث كان يصاحب واصلاً إلى مجالس الثنوية والمجوس التي سبق وأشرنا إليها، فلا نعلم إذا كانت هذه المجالس أثرت به؛ حتى أخذ عنهم مقالاته الفاسدة، فيما بعد، وبعكس واصل، فلم يزعم أحداً أن عمرو بن عبيد قد تلقى العلم من آل البيت الهاشمي، إلا ما قاله "طاش كبرى زاده" متابعاً بذلك لابن المرتضى، الذي يقول "على لسان شبيب ابن شبة" ما رأيت من غلمان ابن الحنفية أكمل من عمرو بن عبيد، فقيل له: متى اختلف عمرو بن عبيد إلى ابن الحنفية، فقال: إن عمراً غلام واصل، وواصل غلام محمد" (1)، وقد سبق وبينا تهافت هذا الزعم؛ فابن الحنفية توفي بعد ميلاد واصل بسنة، واحدة، ومحال على طفل رضيع أن يتلقى العلم، ثم إن عمرا قرين واصل في العمر، فكيف يكون غلامه؟! وقد رد الدكتور النشار على "طاش كبرى زاده"، فقال: "وهذا خطأ؛ فإن عمرو بن عبيد لم يتقابل مع أبي هاشم إطلاقاً" (2)، ولكن من الذي كان له الأثر الأكبر على الآخر: هل هو واصل، أم عمرو بن عبيد؟ لقد كان الاثنان من رواد حلقة الحسن البصري – رحمه الله –، وكان واصل يمتاز بالصمت الطويل، حتى نطق ببدعته الممقوتة، في المنزلة بين المنزلتين، ولكن الخطيب البغدادي يرى أن واصلاً كان له الأثر الأكبر على عمرو بن عبيد؛ حيث قال: "كان عمرو يسكن البصرة، وجالس الحسن البصري، وحفظ عنه، واشتهر بصحبته، ثم أزاله واصل بن عطاء عن مذهب السنة، فقال بالقدر، ودعا إليه، واعتزل أصحاب الحسن" (3).ويبدو أن واصل بن عطاء قد أقنع عمرا بالسير في طريق المبتدعة، وتفضيل مجالس الجدال، وكانت مجالس الثنوية ترضي طموحه، ولعل عمرو بن عبيد عندما تمكنت منه شبه واصل، كان يذهب إلى الحسن، ويقول له برأيه، فقد روى العقيلي، قال: "كان لعمرو بن عبيد من الحسن منزلة، فلما بان له ما بان، أتى على الحسن، فكلمه فيما بينه وبينه، فقال الحسن: لا، ثم عاود ثانية، فقال الحسن: لا، ولا كرامة، قال: فلما ولي عمرو، قال الحسن: والله، لا يفلح أبداً" (4).ولا شك أن عمرا قد اختط طريقا يخالف طريق الحسن البصري – رحمه الله– وكان الحسن له توسم في الرجال؛ فقد كان يلمح من عمرو رغبة في الإحداث، والابتداع، ولكن، على أي أساس كان هذا؟ هل كان يسأل عن القدر، ويجادل فيه، أم كان يثير من المسائل ما يبدو أنها ستؤسس بدعة ضالة؟ فقد روى الفسوي، قال: "رأى الحسن أيوب السختياني (ت131هـ) "، فقال: هذا سيد شباب أهل البصرة، قال: ورأى عمرو بن عبيد، فقال: هذا من سيدي شباب أهل البصرة، إن لم يحدث" (5).   (1) ابن المرتضى، ((المنية والأمل)) (ص131)، وانظر ((طاش كبرى زاده)) (ص2)، (ص35). (2) ((نشأة الفكر)) (1/ 400). (3) ((تاريخ بغداد)) (2/ 166). (4) ((الضعفاء الكبير)) (3/ 283 - 284). (5) الفسوي، ((المعرفة والتاريخ)) (2/ 260)، و ((تاريخ بغداد)) (2/ 170). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 وقد حدث ما توسم به الحسن البصري؛ فكان أن أحدث عمرو، وابتدع بدعته في الاعتزال، وبقي أيوب السختياني على المنهج الحق، وكان من أشد الناس على عمرو، والمعتزلة، ومن نحا نحوهم من فرق الضلال، وتعتمد شهادة الحسن البصري على ما كان عليه عمرو بن عبيد من الورع، والعبادة، في بداية أمره، وقبل الإحداث؛ قال ابن حبان: "كان عمرو بن عبيد من العباد الخشن، وأهل الورع الدقيق، ممن جالس الحسن سنين كثيرة، ثم أحدث ما أحدث، واعتزل مجلس الحسن البصري، ومعه جماعة؛ فسموا المعتزلة، وكان عمرو بن عبيد داعية إلى الاعتزال، ويشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكذب، مع ذلك، في الحديث" (1).وفي رسالة لواصل بن عطاء بعث بها إلى عمرو بن عبيد، يذكر فيها شكوى الحسن البصري منه، وتوقعه أن يحدث في دين الله، وفي هذه الرسالة يتضح ارتداد عمرو عن منهج السلف، واختيار منهج الابتداع، والمخالفة، وهذه أجزاء منها؛ حيث يقول واصل: "وقد عرفت ما كان يطعن به عليك، وينسب إليك، ونحن بين ظهراني الحسن بن أبي الحسن – رحمه الله –؛ لاستبشاع قبح مذهبك، نحن، ومن قد عرفته من جميع أصحابنا، ولمة إخواننا ... ثم ينقل دعاء الحسن البصري، يقول فيه: "اللهم إني قد بلغت ما بلغني عن رسولك، وفسرت من محكم تأويلك ما قد صدقه حديث نبيك، إلا وإني خائف عمرا، ألا وإني خائف عمرا"، ثم يقول واصل: "وقد بلغني كبر ما حملته نفسك، وقلدته عنقك، من تفسير التنزيل، وعبارة التأويل، ثم نظرت في كتبك، وما أدته إلينا روايتك، من تنقيص المعاني، وتفريق المباني؛ فدلت شكاية الحسن بالتحقيق؛ بظهور ما ابتدعت، وعظيم ما تحملت، وسوف يكون لنا وقفة مع هذه الرسالة فيما بعد، وسنعطي عليها بعض الملاحظات (2).   (1) ابن حبان، ((المجروحين)) (2/ 69)، ت. محمود إبراهيم، دار المعرفة، لبنان، 1412هـ، وانظر إلى أحكام علماء الحديث عليه في الجرح والتعديل، (6/ 247). (2) ابن عبد ربه، ((العقد الفريد)) (2/ 224 - 225)، ت. د. مفيد قميحه، دار الكتب العلمية، بيروت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 ما قيل عن زهده وورعه: وكان عمرو بن عبيد مشهوراً في زهده، وورعه، ولعل نص ابن حبان "ت (354هـ) " الذي سبق يؤكد ذلك، ولكن هذا الزهد، والورع، لم يمنعه من الابتداع، والإحداث في الدين، وقد قام ببناء علاقات طيبة مع أبي جعفر المنصور، وكان لورعه وزهده، الأثر في هذه العلاقة؛ حيث اغتر به المنصور؛ ولهذا السبب غفل عن بدعته في الدين، وروي أنه كان يعظ أبا جعفر المنصور؛ حيث يقول الخطيب البغدادي: "ت (463هـ) "، ويقال إنه دخل على أبي جعفر المنصور "ت (158هـ) "، "فقال: يا أبا عثمان، عظني: فقال: إن هذا الأمر الذي أصبح في يدك، لو بقي في يد غيرك ممن كان قبلك لم يصل إليك، فأحذرك بليلة تمخص بيوم لا ليلة بعده" (1)، وروى إسحاق بن الفضل، قال: "إني لعلى باب المنصور، وإلى جنبي عمارة بن حمزة، إذ طلع عمرو بن عبيد على حمار، فنزل عن حماره، ونجل البساط برجله، وجلس دونه، فالتفت إلى عمارة، فقال: لا تزال بصرتكم ترمينا منها بأحمق، فما فصل كلامه من فيه، حتى خرج الربيع، وهو يقول: أبو عثمان عمرو بن عبيد، قال: فوالله، ما دل على نفسه، حتى أرشد إليه، فاتكأ بيده، ثم قال: أجب أمير المؤمنين. فمر متوكئا عليه، فالتفت إلى عمارة، فقلت: إن الرجل الذي قد استحمقت قد دعي، وتركنا، فقال: كثير ما يكون مثل هذا" (2).وقد رد بعض العلماء من أهل السنة على هذه الأخبار؛ حيث يقول عبدالقاهر البغدادي: "وذكر الكعبي في مقالاته أن المنصور مدح عمرا، وقال: نثرت الحب فلقطوا، غير عمرو بن عبيد" (3)، وهذا من أكاذيب الكعبي، وهو الذي روى أن عمرا كان من الداعين إلى البيعة ليزيد الناقص في ولايته، أفترى المنصور، مع صرامته، وعداوته لبني أمية، يمدح داعيهم، ومن خرج عليهم، مع إبراهيم بن عبيدالله بن الحسن بالبصرة، حتى لحقه شؤم عمرو؛ فقتل في حربه؟ " (4).   (1) ((تاريخ بغداد)) (12/ 166 – 167)، بتصرف. (2) ((تاريخ بغداد)) (12/ 166 – 167)، بتصرف. (3) يشير إلى الأبيات المنسوبة لأبي جعفر والتي يقول فيها: كلكم يمشي رويد كلكم يطلب صيد غير عمرو بن عبيد (4) ((الملل والنحل)) (ص87). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 ونحن نرى أن عمرا ربما لبس على أبي جعفر المنصور، وإن كان قد دعا إلى بيعة يزيد، فمما لا شك فيه أنها إحدى أساليب الفرق المنحرفة؛ وذلك لمناصرة هذا الخليفة القدري؛ ليمكن القدرية من رقاب الأمة، واضطهاد علمائها، وقد اهتم عمرو بن عبيد في تمتين روابطه مع الخلافة الجديدة، ولم تمض فترة من الزمن حتى تمكنت المعتزلة من عدة خلفاء من خلفاء بني العباس، وساموا الأمة العذاب في محنة خلق القرآن. ويؤكد الإمام الذهبي "ت (748هـ) "، وابن كثير – رحمهما الله – تعالى -، أن أبا جعفر اغتر بزهد عمرو، وأخفى بدعته، فيقول الذهبي: قد كان أبو جعفر المنصور يعظم عمرو بن عبيد، ويثني عليه، ويقول: "كلكم يمشي رويداً، وكلكم يطلب صيداً، غير عمرو بن عبيد" (1)، وعلق على ذلك، فقال: "اغتر بزهده، وإخلاصه، وأغفل بدعته" (2)، وقال ابن كثير: "كان عمرو يغر الناس بتقشفه، وهو مذموم ضعيف الحديث جدا ... ، وقد كان محظياً عند أبي جعفر المنصور، وكان المنصور يحبه، ويعظمه؛ لأنه كان يفد على المنصور مع القراء، فيعطيهم المنصور، فيأخذون، ولا يأخذ عمرو منه شيئاً، وكان يسأله أن يقبل كما يقبل أصحابه، فلا يقبل منه؛ فكان ذلك يغر المنصور، ويروج به عليه حاله؛ لأن المنصور كان بخيلاً، وكان يعجبه ذلك منه، ولو تبصر المنصور لعلم أن كل واحد من أولئك القراء خير من ملء الأرض مثل عمرو بن عبيد، والزهد لا يدل على صلاح؛ فإن بعض الرهبان قد يكون عنده من الزهد ما لا يطيقه عمرو، ولا كثير من المسلمين في زمانه" (3).هذه صورة موجزة عن حياة عمرو بن عبيد، الذي توفي سنة " (144هـ) " (4)، وسوف نرى خطورة بدعته، وآرائه الضالة، عند حديثنا عن الآراء التي جاء بها عمرو مع واصل بن عطاء، أو منفرداً عنه، بإذن الله. 3 - طبيعة العلاقة بين واصل، وعمرو بن عبيد: أما عن طبيعة العلاقة التي ربطت بين واصل، وعمرو بن عبيد، وكيف اتحدت جهودهما للدعوة لهذه البدعة الجديدة، فمن المعلوم أن واصلاً كان في المدينة المنورة، وقد سبق أن عرضنا لرسالة ذكرها صاحب (العقد الفريد)، وفيها يذكر واصل شكوى الحسن البصري من عمرو بن عبيد، ومخافته من الإحداث، والابتداع في الدين؛ فهذه الرسالة تبين وجود علاقة قوية بين واصل، وعمرو بن عبيد، ولكن هل يعني هذا أن واصلاً لم يقابل عمرو بن عبيد من قبل، فما طبيعة هذه العلاقة إذن؟ أم أن واصلاً قد قابله، ثم رجع إلى المدينة، وقابل الحسن البصري عند زيارته لها؟ ولكننا نريد أن نضع بعض الملاحظات على هذه الرسالة، كما سبق وقلت؛ فهل كان عمرو بن عبيد يغلو في آرائه، وفي تأويلاته أكثر من واصل؟ وهل لاحظ واصل أن عمرا قد تسرع في الإفصاح عن مذهبهما القبيح؛ كما جاء في نص الرسالة؟ وهل كان هذا المذهب يخوض في القدر، والأسماء، والصفات، وغيرها من مسائل الاعتقاد؟. ولكن هذه الرسالة لا نجد فيها أي أثر يذكر للخلاف المذكور فيما بين واصل، وعمرو بن عبيد؛ مما يجعلنا نضعها تحت اعتبارين:   (1) ((تاريخ الإسلام)) (6/ 242). (2) ((سير أعلام النبلاء)) (6/ 105). (3) ابن كثير، ((البداية والنهاية)) (10/ 82). (4) ((تاريخ بغداد)) (12/ 187). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 الاعتبار الأول: هو أن يكون هناك خلاف حقيقي في الإفصاح عن هذه البدعة مبكراً، ولعل رأي واصل هو التأني في طرح البدعة التي تحيك في صدريهما، والاعتبار الثاني: هو أن يكون خلافاً صورياً، يعرض فيه واصل أمام الناس اتباعه لمذهب الحسن البصري، وأن المخالف هو عمرو بن عبيد، ومهما يكن من الاعتبارات السابقة، إلا أن أرباب البدع يجعلون من مثل هذه المراسلات، والنصوص، سبيلاً لدفع الشبه المثارة حولهم، مع بقاء بدعتهم قائمة، لم ينقصوها بشيء، بل عن سبيل البدعة، وازدياد انحرافها، فاق التصور. ولكن طبيعة العلاقة بين الرجلين يبدو فيها بعض الجدال، والمحاورة، حتى استقامت، ووضعت في إطارها الموحد؛ فقد قيل إن هناك جدالاً بين واصل، وعمرو بن عبيد، في مسألة الفاسق، وهذه المحاورة لا ندري مدى صحتها، ولكننا سنثبتها؛ فقد ساقها ابن المرتضى على النحو التالي: "قال واصل لعمرو: ألست تزعم أن الفاسق يعرف الله - تعالى -، خرجت المعرفة من قلبه عند قذفه، فإن قلت: لم يزل يعرف الله، فما حجتك، وأنت لم تسمه منافقا قبل القذف؟ وإن زعمت أن المعرفة خرجت من قلبه عند قذفه، قلنا لك: فلم لا أدخلها في القلب بتركه القذف، كما أخرجها بالقذف، وقال له: أليس الناس يعرفون الله بالأدلة، ويجهلونه بدخول الشبهة، فأي شبهة دخلت على القاذف، فرأى عمرو لزوم هذا الكلام، فقال: ليس بيني، وبين الحق عداوة، فقبله، وانصرف، ويده في يد واصل" (1). وبغض النظر عن صحة هذا النص، فالعبرة في أن عمراً قد وضع يده في يد واصل، وقال له: ليس بيني وبين الحق عداوة؛ فأي حق يعبر عنه عمرو، إذا كان يرى أن ما عليه من بدعة هو الحق، ولكنهم اتخذوا الباطل، ومعاداة الحق وأهله، منهجا لهم، ولو صحت هذه المناظرة، وكانت أمام جمع من الناس، فهي عبارة عن استعراض متفق عليه لإعلان الوحدة بين الرجلين، لتكثير سواد المبتدعة، الذين بدأ نجمهم يبرز مع قدوم واصل إلى البصرة، ووضع يده بيد عمرو بن عبيد. ومنذ قدوم واصل إلى البصرة، بدا نشاط المعتزلة يأخذ طابع التنظيم، والتنسيق، وذلك بالإعلان عن خطب لواصل يقدمه فيها، ويعقب عليها عمرو بن عبيد نفسه، فقد روى الخطيب البغدادي عن أبي عوانه "ت (170هـ) " قال: "شهدت عمرو بن عبيد، وأتاه واصل الغزال، قال: وكان خطيب القوم "يعني المعتزلة"، فقال عمرو: تكلم يا أبا حذيفة، فخطب، فأبلغن قال: ثم سكت، فقال عمرو: ترون لو أن ملكاً من الملائكة، أو نبيا من الأنبياء، كان يزيد على هذا؟! " (2).ويقيني أن هذا التعقيب من عمرو بن عبيد قد قيل لقوم استسلمت عقولهم، وجوارحهم، لهذا الهراء الاعتزالي، والذي لم يجد من يرد عليه في ذلك المجلس، ولكن هذه الدعاية المقصود منها الرفع من قيمة المبتدعة، في وسط هؤلاء الأغرار، الذين يتوهمون أن كل ما يقال في هذه المجالس إنما هو لنصرة هذا الدين، وحتى عمرو بن عبيد، كان يمتدح نفسه بمثل المديح السابق، فهذا أبو عوانة يقول – أيضا -: "ما رأيت عمرو بن عبيد قط، ولا جالسته إلا مرة واحدة، فتكلم، وطول، ثم قال: لو نزل ملك من السماء ما زادكم على هذا" (3).وتتوثق العلاقة بين عمرو، وواصل، عندما يزوج عمرو أخته لواصل، قال ابن علية: "أول من تكلم في الاعتزال واصل بن عطاء الغزال، فدخل معه في ذلك عمرو بن عبيد، فأعجب به، وزوجه أخته، وقال لها: زوجتك برجل ما يصلح إلا أن يكون خليفة" (4)، وبهذه المصاهرة أصبحت المعتزلة تنمو بصورة علنية، وتؤسس البدع، وتنشرها في أوساط المسلمين، وهذا ما ينقلنا إلى استجلاء مقالات المعتزلة التي ابتدعوها، وخالفوا فيها عقيدة السلف. المصدر: العقيدة الإسلامية لعطا الله المعايطة - ص 623   (1) ((المنية والأمل)) (ص144). (2) ((تاريخ بغداد)) (12/ 175). (3) ((تاريخ بغداد)) (12/ 175). (4) الذهبي، ((تاريخ الإسلام)) (6/ 241). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 المطلب الثالث: بعض الأقوال التي انفرد فيها عمرو بن عبيد لقد انفرد عمرو بن عبيد في مبتدعات كثيرة، زاد بها على واصل، ونريد أن نثبتها محاولين تقريب الصورة الحقيقية لعمرو بن عبيد الذي امتدت حياته حتى سنة (144هـ)، والذي أسهم في تأسيس مدرسة الاعتزال، بانحرافاتها العقدية والمعروفة. فقد نسب بعض علماء السلف عمرو بن عبيد إلى الخوارج، وكأنه كان يرى رأيهم، ويدعو إلى حمل السيف على خلفاء الأمة؛ فقد روى الفسوي "ت (277 هـ) " عن سلام بن أبي مطيع "ت (173هـ) " قال: قال رجل لأيوب السختياني "ت (131هـ) ": يا أبا بكر، إن عمرو بن عبيد قد رجع عن رأيه، قال: إنه لم يرجع، قال: بلى، يا أبا بكر، إنه قد رجع، قال أيوب: إنه لم يرجع "ثلاث مرات"؛ أما سمعت إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ((يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)) (1) (2).وهناك من الإشارات القوية ما يؤيد ما ذهب إليه الإمام السختياني – رحمه الله –، فقد روى العقيلي "ت (322هـ) "، عن حميد بن إبراهيم، قال: "سألت عمرو بن عبيد عن هذه الآية: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47]، قال: قلت هم أهل الشام؟ قال: نعم" (3).وعن معاذ بن معاذ قال: "شهدت عمرو بن عبيد، وذكر له أن أهل السجون يركبون الفواحش، وذكر أموراً قبيحة، فقال عمرو: لو بدأنا بهؤلاء "يعني السلطان"، يخرج عليهم بالسيف" (4).وكانت لعمرو بن عبيد صلات مشبوهة؛ حيث قال حميد بن إبراهيم: "كان عمرو بن عبيد يأتينا السوق أصحاب البصري، إلى دكان عبدالأعلى بن أبي حاضر، فكان إذا قام أتبعه أتعلم من هيئته، وسمته، حتى إذا كان ذات يوم قام فاتبعته، حتى إذا دخل مسجده، فقعد فيه، وقفاه إلي، فأتاه رجلان غريبان من أهل الجبال، فدنوا إليه، فقالا له: يا أبا عثمان، ما ترى فيما يوطأ في بلادنا من الظلم، قال: موتوا كراماً، قال: ثم التفت إلي، فقال: لا تزال تغمنا" (5).ومن آراء عمرو بن عبيد الشاذة رؤيته عدم جواز صلاة الجمعة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، وهذا فيه تعطيل لفرائض الإسلام، وعدم اعتراف بكل الخلفاء الذين جاءوا بعد عثمان رضي الله عنه فقد روى ابن عدي "ت (365هـ) " عن هارون بن موسى قال: "كان عند يونس بن عبيد "ت (139هـ) "، فجاء عباد بن كثير، فقلت: من أين؟ قال: من عند عمرو بن عبيد، أخبرني بشيء، واستكتمني، قلت؛ وما هو: قال: لا جمعة بعد عثمان بن عفان" (6).وكان علماء السلف يتهمونه أنه من الدهرية؛ قال ابن حبان "ت (354هـ) " عن يحيى بن معين "ت (233 هـ) "، قال: "كان عمرو بن عبيد رجل سوء من الدهرية، قلت: وما الدهرية؟ قال: الذين يقولون إنما الناس مثل الزرع، وكان يرى السيف" (7).وقال سلام بن أبي مطيع: "لأنا أرجى للحجاج بن يوسف مني لعمرو بن عبيد، إن الحجاج بن يوسف إنما قتل الناس على الدنيا، وإن عمرو بن عبيد أحدث بدعة؛ فقتل الناس بعضهم بعضا" (8). المصدر: العقيدة الإسلامية لعطا الله المعايطة - ص 659   (1) رواه البخاري (3610) , ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (2) الفسوي، ((التاريخ، والمعرفة)) (3/ 493). (3) ((الضعفاء الكبير)) (3/ 283). (4) ((الضعفاء الكبير)) (3/ 284). (5) العقيلي، ((الضعفاء)) (3/ 283). (6) ((الكامل في الضعفاء)) (5/ 283). (7) ((المجروحين)) (2/ 70)، وانظر الذهبي، ((تاريخ الإسلام))، (6/ 242)، و ((السير)) (6/ 104)، و ((ميزان الاعتدال)) (3/ 280). (8) ((تاريخ بغداد)) (12/ 183). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 المبحث التاسع: فرق المعتزلة لابد من الإشارة إلى أن هذه الفرق يجمعها مبادئ وتختلف في مبادئ أخرى: أولا: ما تتفق فيه: إن المعتزلة بفرقها المتعددة تجمع على أمور يسمونها الأصول الخمسة، وهي: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يقول الخياط (1) – في كتابه (الانتصار) –: "فلسنا ندفع أن يكون بشر كثير يوافقونا في التوحيد، ويقولون بالجبر، وبشر كثير يوافقونا في التوحيد والعدل، ويخالفونا في الوعد والأسماء والأحكام، لكن ليس يستحق أحد منهم اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا كملت في الإنسان هذه الخصال الخمس، فهو معتزلي (2). ثانيا: ما تختلف فيه: إن المعتزلة كغيرها من الفرق – عند نشوئها – قد بدأت محدودة مقتصرة على الأصول الخمسة التي سبق ذكرها آنفا. ولكن سرعان ما تعمق المعتزلة في بحث تلك الأصول، وتوسعوا في شرحها، فنشأ لذلك مسائل فرعية من هذه الأصول ومن غيرها، وأسباب ذلك كثيرة، منها: أولا – المبالغة في الاعتماد على العقل، وعدم التقيد بالنصوص من الكتاب والسنة، مما كان له الأثر العظيم في نشوء الخلافات بينهم. ثانيا: انغماسهم في الفلسفة اليونانية التي أخذوا يدرسونها ويستمدون منها بعض الأفكار ويمزجونها بعقيدة المسلمين. بسبب ذلك دب الخلاف بينهم، وتشعبت آراؤهم واشتد بينهم الحوار والجدل، فانقسموا إلى اثنتين وعشرين فرقة لكل واحدة منها أفكارها وآراؤها الخاصة، وتتبع كل فرقة أحد رؤوس الاعتزال البارزين. الفرقة الأولى: الواصلية: أتباع أبي حذيفة واصل بن عطاء الغزال مولى بني ضبة، ولد سنة (80هـ)، ونشأ على الرق، وتتلمذ على الحسن البصري، ولم يفارقه إلى أن أظهر مقالته في المنزلة بين المنزلتين، وهو مؤسس فرقة الاعتزال، وتوفي سنة (131هـ) (3). وهو الذي وضع الأصول الخمسة التي يرتكز عليها الاعتزال. يقول الشهرستاني: إن اعتزال هذه الفرقة يدور على أربع قواعد، وهي: القاعدة الأولى: القول بنفي الصفات الثابتة لله في الكتاب والسنة، والحجة في ذلك أنه يستحيل وجود إلهين قديمين أزليين، ومن أثبت معنى وصفة قديمة فقد أثبت إلهين (4).القاعدة الثانية: القول بالقدر، وهو أن العبد هو الفاعل للخير والشر والإيمان والكفر، وهو المجازى على فعله، والرب تعالى أقدره على ذلك، لأنه تعالى حكيم عادل، لا يجوز أن يضاف إليه شر ولا ظلم، ولا يجوز أن يريد من عباده خلاف ما يأمر. ويحتم عليها شيئا ثم يجازيهم عليه ويستحيل أن يخاطب العبد بأفعال وهو لا يمكنه أن يفعل (5).القاعدة الثالثة: القول بالمنزلة بين المنزلتين، وهو أن صاحب الكبيرة في منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان، لا مؤمن ولا كافر، وحجته أن الإيمان عبارة عن خصال إذا اجتمعت سمي صاحبها مؤمنا، والفاسق مرتكب الكبيرة لم تجتمع فيه. لذا لا يسمى مؤمنا. وهذا القول هو أول أقواله التي جهر بها، وبسببه فارق الحسن البصري (6).القاعدة الرابعة: قوله في الفريقين من أصحاب الجمل، وأصحاب صفين أن أحدهما فاسق لا بعينه (7).   (1) ((الفرق بين الفرق)) (179)، ((التبصير في أمور الدين)) (78). (2) ((الانتصار)) (126). (3) ((الفرق بين الفرق)) (54)، ((المعتزلة)) (113)، بتصرف. (4) ((الملل والنحل)) (1/ 51). (5) ((الملل والنحل)) (1/ 51). (6) ((الملل والنحل)) (1/ 52)، بتصرف. (7) ((الملل والنحل)) (1/ 52). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 الفرقة الثانية: العمروية: أتباع عمرو بن عبيد بن باب، مولى بني تميم، ولد سنة (80هـ)، وتوفي سنة (144هـ)، كان جده من سبي كابل (1). عاش في البصرة، وعاصر واصل بن عطاء، وكان تربا له، فلما قام واصل بحركته انضم إليه وآزره، فأعجب واصل به، وزوجه أخته وقال: زوجتك برجل ما يصلح إلا أن يكون خليفة، كذلك كان عمرو معجبا بأستاذه، وقد أصبح شيخ المعتزلة بعد واصل (2)، وشاركه في جميع أقواله وزاد عليه بما يلي:1 - قوله بفسق كلا الفريقين من أصحاب الجمل وصفين، وأنهم خالدون في النار، بخلاف واصل، فإنه يفسق أحد الفريقين لا بعينه، وقد ترتب على هذا: عدم قبول عمرو شهادة رجلين من أحد الفريقين (3).2 - خالف عمرو واصلا في رده الأحاديث النبوية (4). الفرقة الثالثة: الهذلية: أتباع أبي الهذيل محمد بن الهذيل بن عبد الله البصري العلاف، ولد سنة (135هـ)، وتوفي سنة (226، وقيل: سنة 235، وقيل: سنة 237هـ) في خلافة المتوكل عن مائة سنة، مولى عبد القيس، وشيخ المعتزلة البصريين، أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل أحد أصحاب واصل بن عطاء (5). وقد اطلع على الفلسفة اليونانية فجاءت أقواله متأثرة بها (6).   (1) ((المنية والأمل لابن المرتضي)) (22). (2) ((ميزان الاعتزال)) (295). (3) ((التبصير في الدين)) (66)، ((الفرق بين الفرق)) (120). (4) ((ميزان الاعتزال)) (296). (5) ((التبصير في الدين)) (66)، ((الفرق بين الفرق)) (121). (6) ((المعتزلة)) (115). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 وقد انفرد عن أصحابه بمسائل، منها: الأولى: قوله: إن علم الله سبحانه وتعالى هو الله وقدرته هي هو (1).الثانية: أنه أثبت إرادات لا محل لها يكون الباري تعالى مريدا بها، وهو أول من أحدث هذه المقالة، وتابعه عليها المتأخرون من المعتزلة (2).الثالثة: قوله في كلام الباري تعالى أن بعضه لا في محل، وهو قول "كن" وبعضه في محل كالأمر والنهي، والخير والاستخبار، وكأن أمر التكوين عنده غير أمر التكليف (3).الرابعة: قوله في القدر مثل ما قاله أصحابه؛ إلا أنه قدري الأولى جبري الآخرة، فإن مذهبه في حركات الخالدين في الآخرة أنها كانت ضرورية، لا قدرة للعباد فيها، وكلها مخلوقة للباري تعالى؛ إذ لو كانت مكتسبة للعباد لكانوا مكلفين بها (4).الخامسة: قوله في حركات أهل الخلدين، أنها تنقطع، وأنهم يصيرون إلى سكون دائم خمودا، وتجتمع اللذات في ذلك السكون لأهل الجنة، وتجتمع الآلام في ذلك السكون لأهل النار، ومذهبه هذا قريب من مذهب جهم؛ إذ حكم بفناء الجنة والنار، وقد التزم أبو الهذيل هذا المذهب؛ لأنه لما ألزم في مسألة حدوث العالم، أن الحوادث التي لا أول لها كالحوادث التي لا آخر لها؛ إذ كل واحدة لا تتناهى. قال: إني لا أقول بحركات لا تتناهى آخرا، كما لا أقول بحركات لا تتناهى أولا، بل يصيرون إلى سكون دائم. وكأنه ظن أن ما يلزمه بالحركة لا يلزمه بالسكون (5).السادسة: قوله في الاستطاعة أنها عرض من الأعراض غير السلامة والصحة، وفرق بين أفعال القلوب، وأفعال الجوارح، فقال: لا يصح وجود أفعال القلوب منه مع عدم القدرة عليها، ولا مع موته، وجوز وجود أفعال الجوارح من الفاعل مع عدم قدرته عليها إن كان حيا وبعد موته، وزعم أن الميت والعاجز يجوز أن يكونا فاعلين لأفعال الجوارح بالقدرة التي كانت موجودة فيهما قبل الموت والعجز (6).السابعة: قوله في المكلف قبل ورود السمع؛ أنه يجب عليه أن يعرف الله تعالى بالدليل من غير خاطر وإن قصر في المعرفة استوجب العقوبة أبدا، ويعلم أيضا حسن الحسن، وقبح القبيح، فيجب عليه الإقدام على الحسن كالصدق والعدل، والإعراض عن القبيح كالكذب والفجور (7). الثامنة: قوله في الآجال والأرزاق: إن الرجل إذا لم يقتل مات في ذلك الوقت، ولا يزداد في العمر أو ينقص، والأرزاق على وجهين: أحدهما: ما خلقه الله تعالى من الأمور المنتفع بها يجوز أن يقال: خلقها رزقا للعباد. ثانيهما: ما حكم الله به من هذه الأرزاق للعباد، فما أحل منها فهو رزقه، وما حرم فليس رزقا، أي: ليس مأمورا بتناوله (8).التاسعة: حكي عنه أنه قال: إرادة الله غير المراد، فإرادته لما خلقه هي خلقه له، وخلق الشيء عنده غير الشيء، بل الخلق عنده قول لا في محل. وقال: إنه تعالى لم يزل سميعا بصيرا بمعنى سيسمع وسيبصر، وكذلك لم يزل غفورا رحيما محسنا خالقا رازقا مثيبا معاقبا مواليا معاديا آمرا ناهيا بمعنى أن ذلك سيكون منه (9). العاشرة: قوله في الحجة في الأخبار: قال: إن الحجة في الأخبار الماضية الغائبة عن الحواس لا تثبت بأقل من عشرين رجلا فيهم واحد أو أكثر من أهل الجنة.   (1) ((الفرق بين الفرق)) (127). (2) ((الملل والنحل)) (1/ 54)، ((فرق وطبقات المعتزلة)) (192). (3) ((الملل والنحل)) (1/ 54)، ((فرق وطبقات المعتزلة)) (192). (4) ((الملل والنحل)) (1/ 54)، ((فرق وطبقات المعتزلة)) (192). (5) ((الملل والنحل)) (1/ 54). (6) ((الفرق بين الفرق)) (128)، ((فرق وطبقات المعتزلة)) (193)، بتصرف. (7) ((الملل والنحل)) (1/ 55). (8) ((فرق وطبقات المعتزلة)) (194)، ((الملل والنحل)) (1/ 55). (9) ((الملل والنحل)) (1/ 55)، ((فرق وطبقات المعتزلة)) (194). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 وزعم أن خبر ما دون الأربعة لا يوجب حكما، وخبر ما فوق الأربعة إلى العشرين يصح وقوع العلم به، وقد لا يصح؛ ذلك أن الحجة لا تجب بأخبار الفاسقين والكافرين، فلا بد من معصومين لا يجوز عليهم الكذب والزلل في شيء من الأفعال تجب الحجة بأخبارهم في كل زمان، وأهل الجنة هم أولياء الله المعصومون عن الخطايا، فلا يكذبون ولا يرتكبون الكبائر، والأمة في كل عصر لا تخلو من عشرين منهم واحد من أهل الجنة على أقل تقدير. ويرى البغدادي أن أبا الهذيل أراد بهذا القول تعطيل الأخبار الواردة في الأحكام الشرعية عن فوائدها؛ لأن نقلة الأخبار ينبغي أن يكون فيهم واحد من أهل الجنة، أي: واحد على رأيه في الاعتزال، لأن من لم يكن كذلك لا يكون عنده مؤمنا ولا من أهل الجنة (1). الفرقة الرابعة: النظامية: أتباع أبي إسحاق إبراهيم بن سيار بن هانئ المعروف بالنظام، سمي بهذا الاسم لأنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة، ولد سنة (185هـ)، وتوفي سنة (231هـ)، عاشر في شبابه قوما من الثانوية والسمنية القائلين بتكافؤ الأدلة، وخالط بعد كبره قوما من ملحدة الفلاسفة، ثم اتصل بـ هشام بن الحكم الرافضي فأخذ عنه وعن ملحدة الفلاسفة قوله بإبطال الجزء الذي لا يتجزأ، ثم بنى عليه قوله بالطفرة التي لم يسبق إليها، وأخذ عن الثنوية قوله: بأن فاعل العدل لا يقدر على فعل الجور والظلم. وأخذ أيضا عن هشام قوله: إن الألوان والروائح أجسام، وبنى على هذا قوله بتداخل الأجسام في حيز واحد. وأعجب بقول البراهمة بإبطال النبوات؛ ولذلك أنكر إعجاز القرآن وما روي من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم ليتوصل بذلك إلى إنكار نبوته صلى الله عليه وسلم، ثم إنه استثقل أحكام الشريعة، فأبطل الطرق الدالة عليها، ومن ثم أبطل حجية الإجماع والقياس في الفروع، وأنكر الحجة من الأخبار التي لا توجب العلم الضروري، وطعن في فتاوى الصحابة، وجميع فرق الأمة من فريقي الرأي والحديث مع الخوارج والشيعة، والنجارية، وأكثر المعتزلة متفقون على تكفير النظام، ولم يتبعه في ضلالته إلا شرذمة قليلة من القدرية كالأسواري، وابن حائط والجاحظ مع مخالفة كل واحد منهم له في بعض ضلالاته. وممن قال بتكفيره من شيوخ المعتزلة أبو الهذيل والجبائي والأسكافي، وجعفر بن حرب وكتب أهل السنة في تكفيره تكاد لا تحصى (2). وقد انفرد عن أصحابه بمسائل، منها:   (1) ((فرق وطبقات المعتزلة)) (194)، ((الفرق بين الفرق)) (127)، ((الفرق بين الفرق)) (119). (2) ((التبصير في الدين)) (67)، ((الفرق بين الفرق)) (131)، ((تاريخ الفرق الإسلامية)) (187). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 الأولى: قوله في القدر، قال: إن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي، وليست هي مقدورة له خلافا لأصحابه، فإنهم قضوا بأنه قادر عليها، لكنه لا يفعلها؛ لأنها قبيحة، وقال أيضا: إن الله لا يقدر أن يفعل بعباده إلا ما فيه صلاحهم هذا فيما يتعلق بقدرته في أمور الدنيا. وأما أمور الآخرة، فقال: لا يوصف الباري تعالى بالقدرة على أن يزيد في عذاب أهل النار شيئا، ولا على أن ينقص منه شيئا، وكذلك لا ينقص من نعيم أهل الجنة أو يخرج أحدا من أهلها، وليس ذلك مقدورا له (1).الثانية: قوله في الإرادة، إن الباري تعالى ليس موصوفا بها على الحقيقة، فإذا وصف بها شرعا في أفعاله، فالمراد بذلك أنه خالقها ومنشئها حسب ما علم، وإذا وصف بكونه مريدا لأفعال العباد، فالمعنى أنه آمر بها وناه عنها (2).الثالثة: زعم أن لا عرض في الدنيا إلا الحركة، وأن السكون حركة اعتماد، والعلوم والإرادات من جملة الحركات؛ لأنها حركات النفس، وكان يقول: إن الإنسان لا يقدر إلا على الأعراض، وبما أنه قال: لا عرض في الدنيا إلا الحركة، لذا فإنه ينتج عن ذلك أن أفعال الإنسان، وسائر الحيوان جنس واحد، وأنها كلها حركات (3).الرابعة: قال: إن الجواهر مؤلفة من أعراض اجتمعت، ووافق هشام بن الحكم، في قوله: إن الألوان والطعوم والروائح أجسام، فتارة يقضي بكون الأجسام أعراضا، وتارة يقضي بكون الأعراض أجساما لا غير (4).الخامسة: قوله في الإجماع: إنه ليس بحجة في الشرع، وكذلك القياس في الأحكام الشرعية لا يجوز أن يكون حجة، وإنما الحجة في قول الإمام المعصوم (5).السادسة: قوله في إعجاز القرآن: إنه من حيث الإخبار عن الأمور الماضية والآتية، ومن جهة صرف الدواعي عن المعارضة، ومنع العرب عن الاهتمام به جبرا وتعجيزا، حتى لو خلاهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله بلاغة وفصاحة ونظما (6).السابعة: قوله في الكمون: وهو أن الله تعالى خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن معادنا ونباتا، وحيوانا وإنسانا، ولم يتقدم خلق آدم عليه السلام على خلق أولاده، غير أن الله تعالى أكمن بعضها في بعض، فالتقدم والتأخر، إنما يقع في ظهورها من مكامنها دون حدوثها ووجودها، وإنما أخذ هذه المقالة من أصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة، وأكثر ميله إلى تقرير مذهب الطبيعيين منهم دون الإلهيين (7).الثامنة: حكى الكعبي (8) عنه أنه قال: إن كل ما جاوز الحديث القدرة من الفعل، فهو من فعل الله تعالى بإيجاب الخلقة، أي أن الله تعالى طبع الحجر طبعا، وخلقه خلقة إذا دفعته اندفع، وإذا بلغت قوة الدفع مبلغها عاد الحجر إلى مكانه طبعا (9).التاسعة: الإنسان في الحقيقة ليس البدن، وإنما هو الروح أو النفس، والبدن آلتها، ومال إلى قوة الفلاسفة الطبيعيين، وهو أن الروح جسم لطيف مشابك للبدن، مداخل للقالب بأجزائه، مداخلة المائية في الورد، وقال: إن الروح هي التي لها قوة واستطاعة وحياة ومشيئة (10).   (1) ((الفرق بين الفرق)) (133)، ((الملل والنحل)) (1/ 56)، بتصرف. (2) ((الملل والنحل)) (1/ 57). (3) ((الفرق بين الفرق)) (138)، ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 36)، ((المعتزلة)) (126) ((نقلا عن المقالات)) (2/ 351)، بتصرف. (4) ((الملل والنحل)) (1/ 58). (5) ((الملل والنحل)) (1/ 58). (6) ((الملل والنحل)) (1/ 58). (7) ((الملل والنحل)) (1/ 58)، ((الفرق بين الفرق)) (142). (8) ((الملل والنحل)) (1/ 73)، ((التبصير في أمور الدين)) (79). (9) ((الملل والنحل)) (1/ 57). (10) ((الملل والنحل)) (1/ 57)، بتصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 وهي الحاسة المدركة، ولذلك كان يقول: إن النفس هي التي تدرك المحسوسات من هذه الخروق التي هي الأذن والأنف والفم والعين لا أن للإنسان سمعا أو بصرا هو غيره (1).العاشرة: قوله في الفكر قبل ورود السمع أنه إذا كان عاقلا متمكنا من النظر يجب عليه تحصيل معرفة الباري تعالى بالنظر والاستدلال، وقال بتحسين العقل وتقبيحه في جميع ما يتصرف فيه من أفعاله، وقال: لابد من خاطرين: أحدهما: يأمر بالإقدام، والآخر: بالكف ليصح الاختيار (2).الحادية عشر: وافق الفلاسفة في نفي الجزء الذي لا يتجزأ، وقال بأن الجزء يمكن تجزئته إلى ما لا نهاية، فلا بعض إلا وله بعض، ولا نصف إلا وله نصف، وفي قوله هذا إنكار أن يكون تعالى محيطا بآخر العالم عالما به (3)؛ وذلك في قوله تعالى وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن: 28].الثانية عشر: قوله بالطفرة: إن قول النظام بنفي الجزء الذي لا يتجزأ جره إلى القول بالطفرة، وهي دعواه أن الجسم قد يكون في المكان الأول ثم يصير منه إلى المكان العاشر من غير المرور بالأمكنة المتوسطة بينه وبين العاشر، ومن غير أن يصير معدوما في الأول، ومعادا في العاشر (4).ويرى ابن حزم أن هذا القول لا ينطبق إلا على حاسة البصر، فإذا أطبق الإنسان بصره ثم فتح لاقى المرئيات من غير أن يمر بالمسافة التي بين العين وبين المبصر (5). وابن حزم معذور في هذا، لأنه يجهل ما اكتشفه العلم الحديث من أن النور يقطع المسافة في زمن، وأن سرعته عظيمة بحيث إذا أطبق الإنسان بصره ثم فتحه لاقى الأجرام السماوية في مدة قصيرة، فينخدع الرائي ويظن أن البصر لم يقطع بمسافة، ولم يمض زمن (6).الثالثة عشر: تكلم في مسائل الوعد والوعيد، فزعم أن من خان في مائة وتسعة وتسعين درهما بالسرقة أو الظلم لم يفسق بذلك حتى يكون ما سرقه أو غصبه وخان فيه مائتي درهم (7).وقد اعترض البغدادي على هذا القول، فقال: إن كان النظام بنى قوله هذا على ما تقطع به اليد في السرقة، فإنه لم يجعل أحد نصاب القطع في السرقة مائتي درهم، بل قال قوم في نصاب القطع أنه ربع دينار أو قيمته، وبه قال الشافعي وأصحابه، وقال مالك: بربع دينار أو ثلاثة دراهم، وقال أبو حنيفة: بوجوب القطع في عشرة دراهم فصاعدا، واعتبره قوم بأربعين درهما أو قيمتها. . وما اعتبر أحد نصاب القطع مائتي درهم، ولو كان التفسيق معتبرا بنصاب القطع لما فسق الغاصب لألوف الدنانير؛ لأنه لا قطع على الغاصب المجاهر، ولوجب أن لا يفسق من سرق الألوف من غير حرز أو من الإبل، لأنه لا قطع في هذين الوجهين، وإن كان إنما بنى تحديد المائتين في الفسق على أنها نصاب الزكاة، لزمه تفسيق من سرق أربعين شاة لوجوب الزكاة فيها، وإن كانت قيمتها دون المائتي درهم، وإذا لم يكن للقياس في تحديده مجال ولم يدل عليه نص من القرآن والسنة الصحيحة لم يكن مأخوذا إلا من وسوسة شيطانه الذي دعاه إلى ضلالته (8).   (1) ((مقالات الإسلاميين)) (2/ 31). (2) ((الملل والنحل)) (1/ 60). (3) ((الملل والنحل)) (1/ 57)، ((الفرق بين الفرق)) (139)، ((المقالات)) (2/ 6). (4) ((الفرق بين الفرق)) (140). (5) ((الفصل)) (5/ 64). (6) ((المعتزلة)) (123)، بتصرف. (7) ((الملل والنحل)) (1/ 60). (8) ((الفرق بين الفرق)) (144). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 الرابعة عشر: ميله إلى الرفض ووقيعته في كبار الصحابة، قال: لا إمامة إلا بالنص والتعيين ظاهرا مكشوفا، وقد نص النبي على علي – رضي الله عنه – إلا أن عمر كتم ذلك، وتولى بيعة أبي بكر يوم السقيفة، ونسبه إلى الشك يوم الحديبية حين سأل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: ألسنا على الحق؟ أليسوا على الباطل؟. . وقال: إن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت الجنين من بطنها، وأنه كان يصيح: أحرقوا دارها، ولم يكن في الدار إلا علي والحسن والحسين. وعاب عليه أيضا تغريبه نصر بن الحجاج من المدينة إلى البصرة وأمره بالتراويح ونهيه عن متعة الحج. ثم أوقع في عثمان – رضي الله عنه – وذكر أحداثه من رده الحكم بن أمية إلى المدينة وهو طريد الرسول صلى الله عليه وسلم ونفيه أبا ذر إلى الربذة، وهو صديق الرسول صلى الله عليه وسلم، وتقليده الوليد بن عقبة الكوفة، وضربه عبد الله بن مسعود على إحضار المصحف، وعلى القول الذي شاقه فيه. ثم عاب عليا وابن مسعود لقولهما في بعض المسائل. أقول فيها برأيي: وكذب ابن مسعود في روايته "انشقاق القمر". . وفي روايته"الجن ليلة الجن" إلى غير ذلك من الوقيعة الفاحشة في كبار الصحابة (1) – رضي الله عنهم – الذين قال الله تعالى فيهم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18]. ومن غضب على من رضي الله عنهم فهو المغضوب عليه دونهم. الخامسة عشر: قوله في باب المعاد، قال: إن العقارب والحيات والخنافس والذباب والجعلان والكلاب والخنازير وسائر السباع والحشرات تحشر إلى الجنة، وزعم أن كل من تفضل الله عليه بالجنة لا يكون لبعضهم على بعض درجة في التفضيل. . وزعم أنه لا يتفضل على الأنبياء عليهم السلام إلا بمثل ما يتفضل به على البهائم؛ لأن باب التفضيل عنده لا يختلف فيه العالمون وغيرهم، وإنما يختلفون في الثواب والجزاء لاختلاف مراتبهم في الأعمال (2).السادسة عشر: قوله في المتضادات والمستحيل: يرى النظام في قهر المتضادات على الاجتماع دليل على وجود الخالق سبحانه وتعالى؛ قال: وجدت الحر مضادا للبرد، ووجدت أن الضدين لا يجتمعان من ذات أنفسهما، فعلمت بوجودي لهما مجتمعين أن لهما جامعا جمعهما، وقاهرا قهرهما على خلاف شأنهما، وما جرى عليه القهر ضعيف، وضعفه دليل على حدوثه، وعلى أن له محدثا أحدثه لا يشبهه، وليس الإنسان هو الذي جمعهما؛ لأنه ضعف مثلهما يجري عليه القهر الذي يجري عليهما، فيكون الذي أوجدهما وقهرهما على الاجتماع، وأوجد الإنسان هو الله تعالى الذي لا يشبهه شيء (3).ويروى أنه كان يحيل أن يكون الله قادرا على فعل المستحيل، كأن يجعل المبرد مسخنا أو العكس، لأن الجوهر محال أن يعمل ما ليس في طباعه، ولكن الخياط ينكر أن يكون النظام قال ذلك (4).السابعة عشر: الجسم والعرض: الجسم: هو الطويل العريض العميق وليس لأجزائه عدد يوقف عليه (5). وكل شيء في هذا العالم سوى الحركة فإنه جسم؛ لأنه لا يثبت عرضا إلا الحركة (6).   (1) ((الفرق بين الفرق)) (147)، ((الملل والنحل)) (1/ 59). (2) ((الفرق بين الفرق)) (145). (3) ((المعتزلة)) (127) نقلا عن الانتصار (46). (4) ((المعتزلة)) (127) نقلا عن الانتصار (47). (5) ((المقالات)) (2/ 60). (6) ((المقالات)) (2/ 60)، ((المعتزلة)) (120). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 وللأعراض صفات منها ما يلي: 1 - الأعراض فانية، لأنه لا بقاء للأجسام (1).2 - الأعراض لا ترى بالعين، لأن الإنسان محال أن يرى منها إلا الألوان والألوان عند النظام أجسام لطاف (2). كذلك محال أن تدرك الأعراض بالحواس الباقية؛ لأنها حركات، والحركات ليست أجساما، ولا يدرك بالحواس إلا الأجسام (3).3 - سميت الأعراض أعراضا، لأنها تعترض في الأجسام وتقوم فيها، وأنكر أن يكون العرض لا في مكان أو أن يحدث عرض لا في جسم (4).4 - الأعراض لا تتضاد، وإنما التضاد يكون بين الأجسام كالحرارة والبرودة (5).5 - الأعراض جنس واحد؛ لأنها جميعا حركات (6).6 - يجوز أن يقدر الله عباده على فعل الأعراض، فأما الألوان والحرارة والبرودة والأصوات، فإنه أحال أن يقدر عباده عليها، لأنها أجسام عنده، وليس بجائز أن يقدر الله الخلق إلا على الحركات (7). الفرقة الخامسة: الثمامية: أتباع أبي معن ثمامة بن أشرس النميري، وكان من مواليهم لا من نسبهم، وهو زعيم القدرية في أيام المأمون والمعتصم والواثق، توفي سنة (213هـ)، وذكره ابن المرتضي في أوائل من ذكر من رجال الطبقة السابعة. يقول الأسفراييني: إن هذا المبتدع يظهر البدعة ويخفي الإلحاد (8). وقد انفرد عن أصحابه بأمور، منها: الأولى: بالغ في الوعيد، فجعل من مات من المسلمين مصرا على كبيرة واحدة مخلدا في النار مع فرعون وأبي لهب، وكان المعتزلة قبله يرون أنه يخفف عنه العذاب (9). الثانية: لا فعل للإنسان إلا الإرادة، وما عداها فهو حدث لا محدث له، وحكي عنه أنه قال: العالم فعل الله تعالى بطبعه، أي أن الكون نتيجة قوة طبيعة كامنة في الله سبحانه وتعالى، وليس نتيجة مشيئته واختياره. ويرى الشهرستاني: أن ثمامة أراد بذلك ما أرادته الفلاسفة الطبيعيون من الإيجاد بالذات دون الإيجاد على مقتضى الإرادة (10).الثالثة: أن من لم يعرف الله سبحانه وتعالى ضرورة ليس عليه أمر ولا نهي، وأن الله خلقه للسخرة والاعتبار، لا التكليف كما خلق البهائم لذلك، ثم ركب على هذا فقال: عوام الدهرية والزنادقة في الآخرة لا يكونون في جنة ولا نار، بل إن الله يجعلهم ترابا (11).الرابعة: قوله: إن الأفعال المتولدة لا فاعل لها. وهذا يؤدي إلى القول بنفي الصانع، إذ لو جاز أن يكون فعل بلا فاعل لجاز أن يكون كل فعل بلا فاعل كما لو جاز أن تكون كتابة بلا كاتب جاز أن تكون كل كتابة بلا كاتب (12).الخامسة: قوله: إن دار الإسلام دار شرك، ويحرم السبي لأن المسبي – عنده – ما عصى ربه إذ لم يعرفه، وإنما العاصي – عنده – من عرف ربه بالضرورة ثم جحده أو عصاه (13). الفرقة السادسة:   (1) ((المقالات)) (2/ 44). (2) ((المقالات)) (2/ 47). (3) ((المقالات)) (2/ 66). (4) ((المقالات)) (2/ 53). (5) ((المقالات)) (2/ 58). (6) ((الفرق بين الفرق)) (138). (7) ((المقالات)) (2/ 60). (8) ((التبصير في أمور الدين)) (74)، ((الفرق بين الفرق)) (172). (9) ((المعتزلة)) (129). (10) ((الملل والنحل)) (1/ 69)، ((المعتزلة)) (130). (11) ((التبصير في أمور الدين)) (74). (12) ((الملل والنحل)) (1/ 69)، ((التبصير في أمور الدين)) (74). (13) ((الفرق بين الفرق)) (173). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 المعمرية: أتباع معمر بن عباد السلمي، كان رأسا من رؤوس الضلال، ومن أعظم القدرية فرية في تدقيق القول بنفي الصفات، ونفي القدر خيره وشره عن الله تعالى، وهو من طبقة أبي الهذيل، توفي سنة (220هـ)، وانفرد عن أصحابه بمسائل، منها: الأولى: قوله: إن الله سبحانه وتعالى لم يخلق شيئا من الأعراض، وإنما خلق الأجسام فقط، والأعراض من خلق الأجسام، إما طباعا كالنار التي تحدث الإحراق، والشمس التي تحدث الحرارة، وإما اختيارا كالحيوان الذي يحدث الحركة والسكون، وقوله هذا يخالف قوله سبحانه وتعالى: قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد: 16] (1).الثانية: إنكاره أن يقال: إن الله تعالى قديم، لأنه يشعر بالتقادم الزمني، ووجود الباري ليس بزماني (2).الثالثة: قوله: إن الإنسان ليس الصورة التي نشاهدها، وإنما هو شيء في هذه الصورة يتصف بالعلم والحياة والقدرة والإرادة، ثم لا متحرك ولا ساكن، ولا يحل موضعا دون موضع، ولا يحصره زمان، ومع ذلك فهو المدبر للجسد، وإذا فعلاقته بالجسد علاقة تدبير وتصريف، وليست علاقة حلول وتمكن (3).ويلزم على هذا القول أن لا يكون إنسان رأى إنسانا قط، وهذا لا يقوله عاقل (4).الرابعة: قوله في المعجزات: إنها ليست من فعل الله، لأنها أعراض، والله سبحانه على رأيه لا يخلق الأعراض، وإنما تخلقها الأجسام. ويرى البغدادي: أن في قول معمر هذا إبطال للشريعة، لأنه يؤدي إلى القول بأن القرآن ليس من عند الله (5). الفرقة السابعة: البشرية: أتباع بشر بن المعتمر الهلالي من أهل بغداد، وقيل: من أهل الكوفة. ولعله كان كوفيا ثم انتقل إلى بغداد، وهو رئيس معتزلة بغداد ومن تلامذة ثمامة بن الأشرس، توفي في حدود سنة (210هـ) (6). من أقواله التي انفرد بها عن أصحابه، ما يلي: الأولى: إفراطه في باب التولد حتى قال: إن الإنسان يخلق اللون والرائحة والسمع والبصر، وجميع الإدراكات على سبيل التولد، وكذلك يخلق الحرارة والبرودة، وهو في هذا القول مخالف لإجماع المسلمين، لأن أهل السنة لا يقولون بالتولد أصلا، والمعتزلة الذين يقولون بالتولد، لا يفرطون فيه، بل يقصرون التولد على الحركات والاعتمادات (7).الثانية: أن حركة الجسم توجد في المكان الأول، لا في مكان ثان، ولا واسطة بينهما، وإذا لم يكن بين المكانين واسطة لم يكن هذا الكلام الذي يقوله معقولا، ولم يكن له حقيقة بحال (8).الثالثة: قال: من تاب عن كبيرة ثم راجعها عاد استحقاقه العقوبة الأولى، وقوله هذا مخالف لإجماع المسلمين، لأن المعتزلة، وإن قالوا: أن الفاسق يخلد في النار، فإنهم لا يقولون: إنه يعاقب في النار على ما تاب منه من الذنوب (9).الرابعة: قوله: إن الله قادر على لطف لو فعله في الكافر، لآمن طوعا، وهذا القول تكفره فيه القدرية، لكن الأمر بالعكس، فإنه مصيب في هذا القول، وهم الكفرة دونه (10).   (1) ((الملل والنحل)) (1/ 65). (2) ((الملل والنحل)) (1/ 66). (3) ((التبصير في أمور الدين)) (70). (4) ((التبصير في أمور الدين)) (70). (5) ((المعتزلة)) (133) نقلا عن ((أصول الدين)) (177). (6) ((الفرق بين الفرق)) (156)، نقلا عن ((طبقات المعتزلة لابن المرتضي)) (52). (7) ((التبصير في أمور الدين)) (71). (8) ((التبصير في أمور الدين)) (71). (9) ((الملل والنحل)) (1/ 65). (10) ((الفرق بين الفرق)) (156). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 الفرقة الثامنة: الهشامية: أتباع هشام بن عمرو الشيباني الفوطي، توفي سنة (226هـ)، ذكره ابن المرتضي في آخر من ذكر من الطبقة السادسة (1). كان مبالغا في القدر أشد من مبالغة أصحابه، وكان يمتنع من إضافة أفعال إلى الباري سبحانه وتعالى مثل: نفي إضافة الختم على قلوب الكفار إلى الله، وقد قال تعالى: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ [البقرة: 7] (2). من أقواله التي اشتهر بها: الأولى: قوله: إن الله لا يؤلف بين قلوب المؤمنين، بل هم المؤتلفون باختيارهم، والله سبحانه وتعالى يقول: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63] (3). الثانية: قوله: إن الله لا يحبب الإيمان إلى المؤمنين، ولا يزينه في قلوبهم، والله سبحانه يقول: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات:7] (4).الثالثة: الموافاة: من كان مؤمنا إلا أنه في علم الله يموت كافرا، فهو الآن عند الله كافر، وكذلك العكس، فمن كان كافرا إلا أنه في علم الله يموت مؤمنا فهو الآن مؤمن (5).الرابعة: قوله: أن الأعراض لا تدل على كون الباري خالقا، ولا تصلح دلالات بل الأجسام هي التي تدل على كونه خالقا (6).الخامسة: قوله: إن الإمامة لا تنعقد في أيام الفتنة واختلاف الناس، وإنما يجوز عقدها في حال الاتفاق والسلامة، وقصد بهذا: الطعن في إمامة علي – رضي الله عنه – إذ كانت بيعته في أيام الفتنة من غير اتفاق جميع الصحابة، إذ بقي في كل طرف طائفة على خلافه (7).السادسة: قوله: إن الجنة والنار غير مخلوقتين الآن، إذ لا فائدة في وجودهما جميعا خاليتان مما ينتفع أو يتضرر به، ويكفر من قال: إنهما مخلوقتان الآن، وقوله هذا زيادة على مذهب المعتزلة في الجنة والنار، إذ أنهم لا يكفرون من قال بذلك، بل يقتصرون على القول الأول فقط (8). ومن أصحابه: عباد بن سليمان الضمري، وقد وافقه على ضلالاته، وزاد فقال: أنه لا يقال: إن الله خلق الكافر، لأن الكافر اسم لشيئين: الإنسان وكفره، وهو غير خالق لكفره، ويلزمه على هذا القياس أن لا يقال: إن أحدا قتل كافرا لأن الكافر اسم للإنسان وكفره، والكفر لا يكون مقتولا. وخالف بعض النصوص القرآنية كقوله تعالى: مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ. . الآية [المجادلة: 7]، فأنكر أن يقال: إن الله رابع كل ثلاثة، أو سادس كل خمسة (9).الفرقة التاسعة: المردارية: أصحاب عيسى بن صبيح المكنى بأبي موسى والملقب بالمردار، أخذ الاعتزال عن بشر بن المعتمر، توفي في حدود سنة (226هـ)، ويسمى راهب المعتزلة، وهو تلميذ الجعفرين، ومن معتزلة بغداد (10).   (1) ((الفرق بين الفرق)) (159) الحاشية، ((المعتزلة)) (135). (2) ((الملل والنحل)) (1/ 70). (3) ((الملل والنحل)) (1/ 70). (4) ((الملل والنحل)) (1/ 70). (5) ((المعتزلة)) (137). (6) ((الملل والنحل)) (1/ 70). (7) ((الملل والنحل)) (1/ 70). (8) ((التبصير في أمور الدين)) (72). (9) ((التبصير في أمور الدين)) (72)، ((الفرق بين الفرق)) (161). (10) ((التبصير في أمور الدين)) (73) الحاشية، ((المعتزلة)) (138). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 وقد انفرد عن أصحابه بمسائل، منها ما يلي: الأولى: قوله في القدر: إن الله قادر على أن يكذب ويظلم ولو كذب وظلم كان إلها كاذبا ظالما – تعالى الله عن قوله علوا كبيرا– (1).الثانية: قوله في التولد: مثل قول أستاذه بشر بن المعتمر، وزاد عليه بأن جوَّز وقوع فعل واحد من فاعلين على سبيل التولد (2).الثالثة: قوله في القرآن: إن الناس على مثل القرآن فصاحة ونظما وبلاغة، وبالغ في القول بخلق القرآن فكفر من قال بقدمه بحجة أنه أثبت قديمين، وكفر أيضا من لابس السلطان، وزعم أنه لا يرث ولا يورث، وكفر أيضا من قال: إن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى، ومن قال أنه يرى بالأبصار (3).الرابعة: قال في عثمان وقاتليه: إنهم جميعا في النار، لأن عثمان كان قد فسق، وكذلك قاتلوه؛ لأن فسقه لا يستوجب قتله، فاستحقوا جميعا بفسقهم الخلود في النار (4) ... وقد كفر أكثر شيوخه كأبي الهذيل، والنظام وبشر بن المعتمر، وقالوا هم بتكفيره، وكلا الفريقين محق في تكفير صاحبه (5). الفرقة العاشرة: الجعفرية: أتباع جعفر بن مبشر الثقفي المتوفى سنة (234هـ)، وجعفر بن حرب الهمذاني المتوفى سنة (236هـ)، وكلاهما من معتزلة بغداد (6). أتيا بمسائل، منها ما يلي: الأولى: قالا: إن الله تعالى خلق القرآن في اللوح المحفوظ، فلا يجوز أن ينتقل منه؛ لأنه يستحيل أن يكون الشيء الواحد في مكانين في آن واحد، وعلى ذلك، فإن الناس لم يسمعوا القرآن على الحقيقة، والقرآن الذي في المصاحف ليس بكلام الله إلا على المجاز، أي هو: عبارة عن حكاية عن المكتوب الأول في اللوح المحفوظ (7).الثانية: قال جعفر بن مبشر: إن فساق هذه الأمة هم شر من اليهود والمجوس والزنادقة؛ مع أنه يرى أن الفاسق موحد، وليس بمؤمن ولا كافر، فجعل الموحد شرا من الكافر الثانوي (8).الثالثة: كان لجعفر بن مبشر تطرف في بعض المسائل الفقهية، فمثلا: قال: من سرق حبة واحدة وهو ذاكر لتحريمها فهو منسلخ من الإيمان والإسلام مخلد في النار، فخالف بذلك أسلافه الذين قالوا بغفران الصغائر عند اجتناب الكبائر (9). وزعم أيضا: أن تأييد المذنبين في النار من موجبات العقل، فخالف بذلك أسلافه الذين قالوا: إن ذلك معلوم بالشرع دون العقل (10). الفرقة الحادية عشرة: الأسوارية: أتباع علي الأسواري، توفي سنة (240هـ)، وكان من أتباع النظام، موافقا له في جميع ضلالاته، وزاد عليه بقوله: إن ما علم الله أنه لا يكون لم يكن مقدورا له تعالى، وهذا القول منه يوجب أن تكون قدرته تعالى متناهية، ومن كانت قدرته متناهية كانت ذاته متناهية، والقول به كفر، فما يؤدي إليه مثله (11). الفرقة الثانية عشر: الإسكافية: أتباع محمد بن عبد الله الإسكافي، ذكره ابن المرتضي في رجال الطبقة السابعة، تتلمذ على جعفر بن حرب، وتوفي سنة (240هـ) (12).   (1) ((التبصير في أمور الدين)) (73). (2) ((الملل والنحل)) (1/ 67). (3) ((الملل والنحل)) (1/ 68). (4) ((المعتزلة)) (139) نقلا عن ((الانتصار)) (96). (5) ((الفرق بين الفرق)) (166). (6) ((المعتزلة)) (139). (7) ((الملل والنحل)) (1/ 68). (8) ((التبصير في أمور الدين)) (73). (9) ((الفرق بين الفرق)) (168). (10) ((الفرق بين الفرق)) (168). (11) ((التبصير في أمور الدين)) (70). (12) ((التبصير في أمور الدين)) (74)، ((الفرق بين الفرق)) (169) الحاشية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 أتى بمسائل انفرد بها، منها ما يلي: الأولى: في الجسم. قال: معنى الجسم أنه مؤتلف، وأقل الأجسام جزآن، والجزء الواحد يحتمل جميع الأعراض إلا التركيب (1).الثانية: في الصفات. قال: لا يجوز أن نقول أن الله يتكلم مع العباد، بل نسميه تعالى (مكلما) لأن المتكلم يقتضي قيام الكلام به، كما أن المتحرك يقتضي قيام الحركة به؛ أما إذا قلنا: مكلما، فلا يقتضي ذلك (2).الثالثة: قال: إن الله تعالى قادر على ظلم الأطفال والمجانين، وليس بقادر على ظلم العقلاء البالغين (3). الفرقة الثالثة عشر: الخابطية والحدثية: أتباع أحمد بن خابط، توفي سنة (232هـ)، وفضل الحدثي المتوفى سنة (257هـ)، وهما فرقة واحدة، تطرفت في أقوالها؛ لذلك اعتبرها البغدادي من فرق الغلاة، ففصلها عن سائر فرق المعتزلة (4). واعتبرها من الفرق المنتسبة إلى الإسلام وليست منه (5).يقول الخياط: إن هذه الفرقة كانت من جملة فرق المعتزلة، ولكنها حينما تطرفت في أقوالها نفاها المعتزلة وتبرأوا من رئيسها (6). وقد سماها بعض الكتاب المعاصرين كزهدي جار الله الحائطية، ولعل الصحيح ما ذكرناه، وهو أنها الخابطية (7).ويقول الشهرستاني: أن ابن خابط والحدثي كانا من أصحاب النظام، وطالعا كتب الفلسفة أيضا، وضما إلى مذهب النظام مسائل (8)، منها ما يلي: الأولى: زعما أن للخلق ربين وخالقين: الأول: قديم وهو الله؛ والآخر: حديث. وهو المسيح عليه السلام؛ وبذلك فقد أثبتا حكما من أحكام الإلهية في المسيح موافقة للنصارى على اعتقادهم أنه هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة. . وقالا أيضا: إن المسيح تدرع جسدا، ونزل إلى الدنيا، وكان قبل التدرع عقلا. والشهرستاني – كما بينا – يرى: أنهما قالا هذا القول موافقة للنصارى؛ أما البغدادي فيرى: أنهما قالاه موافقة للثنوية في إثبات خالقين (9). الثانية: القول بالتناسخ: زعما أن الله تعالى أبدع خلقه أصحاء سالمين عقلاء بالغين في دار سوى هذه الدار التي هم فيها اليوم، وخلق فيهم معرفته، والعلم به، وأسبغ عليهم نعمه، ولا يجوز أن يكون أول ما يخلقه إلا عاقلا ناظرا معتبرا، وابتدأهم بتكليف شكره، فأطاعه بعضهم في جميع ما أمرهم به وعصاه بعضهم في جميع ذلك، وأطاعه بعضهم في البعض دون البعض، فمن أطاعه في الكل أقره في دار النعيم التي ابتدأهم فيها، ومن عصاه في الكل أخرجه من تلك الدار إلى دار العذاب وهي النار، ومن أطاعه في البعض دون البعض أخرجه إلى دار الدنيا، ويسميها دار الابتلاء، فألبسه هذه الأجسام الكثيفة وابتلاه بالبأساء والضراء والشدة والرخاء والآلام واللذات على صور مختلفة من صور الإنسان والحيوان على قدر ذنوبهم، فمن كانت طاعته أكثر كانت صورته أحسن وآلامه أقل، ومن كانت ذنوبه أكثر، كانت صورته أقبح وآلامه أكثر، ثم لا يزال يموت ويرجع ما دامت معه ذنوبه وطاعاته حتى يمتلئ المكيالان، مكيال الخير، ومكيال الشر، فإذا امتلأ مكيال الخير صار العمل كله طاعة والمطيع خيرا خالصا، فينقل إلى الجنة، وإذا امتلأ مكيال الشر صار العمل كله معصية، والعاصي شريرا، فينقل إلى النار، ولأجل ذلك زعم أن جميع أنواع الحيوان أمم وأن لها رسل، لأنها ممسوخة عن الإنسان العاصي في دار النعيم التي خلق فيها.   (1) ((المعتزلة)) (141). (2) ((التبصير في أمور الدين)) (74). (3) ((التبصير في أمور الدين)) (74). (4) ((الفرق بين الفرق)) (114)، ((المعتزلة)) (142). (5) ((المعتزلة)) (142) نقلا عن ((الفرق بين الفرق)) (222). (6) ((المعتزلة)) (142) نقلا عن ((الانتصار)) (149). (7) حاشية ((الفرق بين الفرق)) (228). (8) ((الملل والنحل)) (1/ 61). (9) ((الفرق بين الفرق)) (227)، ((الملل والنحل)) (1/ 61)، بتصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 الفرقة الرابعة عشر: المويسية: أتباع مويس المتوفى سنة (246هـ)، يكاد لا يرد عن هذه الفرقة في كتب العقائد شيء، ولم تشر كتب التاريخ إلى رئيسها، لذا أكتفي بذكر اسمها (1). الفرقة الخامسة عشر: الصالحية: أتباع صالح قبة، المتوفى سنة (246هـ) (2)، يقول أبو الحسن الأشعري (3): إن صالح قبة كان ممن يثبتون الجزء الذي لا يتجزأ، وأنه جوز أن يحل الجزء وهو منفرد جميع الأعراض، إلا التركيب (4). كذلك يرى أن الرؤيا حق، وأن ما يراه النائم في نومه صحيح، كما أن ما يراه اليقظان في يقظته صحيح (5).ويقول أيضا: أن ما يراه الرائي في المرآة إنما هو إنسان مثله اخترعه الله تعالى في المرآة (6).   (1) ((المعتزلة)) (145). (2) ((المعتزلة)) (145). (3) ((الأعلام)) (5/ 69). (4) ((المقالات)) (2/ 317). (5) ((المقالات)) (2/ 433)، بتصرف. (6) ((المقالات)) (2/ 434). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 الفرقة السادسة عشر: الجاحظية: أصحاب أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، كان من فضلاء المعتزلة والمصنفين لهم، وقد طالع كثيرا من كتب الفلاسفة، وخلط وروج كثيرا من مقالاتهم بعباراته البليغة، وله منزلة سامية عند أهل الأدب على زيغه، يثق ابن حزم بنقله، ويقول عنه أبو الحسين الملطي أنه كان صاحب تصانيف، ولم يكن صاحب جدل، أخذ عن ثمامة بن الأشرس وعن أبي إسحاق النظام، وتوفي سنة (250هـ، وقيل سنة 255هـ، وقيل سنة 256هـ)، وله من العمر ما يقارب تسعين سنة (1). وقد اشتهر بمسائل، منها ما يلي: الأولى: قال: الجوهر يستحيل أن ينعدم أو يفنى، لذلك فالأجسام المؤلفة من الجواهر يستحيل أيضا أن تنعدم أو تفنى، ولا يقدر الله على إفنائها، ولكنه يقدر على تفريق أجزائها، وإعادة تركيبها فقط، فالأجسام إذا ثابتة لا تفنى، وإنما يمكن أن تتغير من حال إلى حال. وهو بقوله هذا: متأثر بالفلاسفة اليونانيين الطبيعيين الذين يذهبون إلى القول بقدم العالم واستحالة فناء المادة، ويرون أن الخلق عبارة عن تجمع أجزاء المادة في أجسام منتظمة، وأن الفناء هو تفرق أجزاء تلك الأجسام (2).الثانية: أثبتت الطبائع للأجسام، وأوجب لها أفعالا مخصوصة، فقال: إن العباد ليس لهم فعل إلا الإرادة، أما سائر الأفعال، فتقع طباعا لا اختيارا. وبسبب إثباته الطبائع للأجسام قال: إن الله لا يدخل النار أحدا، وإنما النار تجذب أهلها إلى نفسها بطبيعتها، ثم تمسكهم فيها خالدين. وقد اعترض الأسفراييني على هذا فقال: وأما قوله: إن العبد لا يفعل إلا الإرادة فيوجب أن لا يكون العبد فعل صلاة ولا حجا، وأن لا يكون فعل شيئا من موجبات الحدود كالزنا والسرقة، ثم قال: وأما قوله: إن الله لا يدخل أحدا النار، وإنما النار تجذب أهلها إلى نفسها بطبعها، قال: إنه يلزمه على هذا القول أن يقول في الجنة أنها تجذب أهلها إلى نفسها بطبعها، وأن الله لا يدخل أحدا الجنة، فإن قال بذلك قطع الرغبة إلى الله في الثواب، وأبطل فائدة الدعاء، وإن قال: إن الله تعالى هو يدخل أهل الجنة الجنة لزمه القول بأن الله يدخل في النار أهلها (3).الثالثة: قوله في عصمة الأنبياء: لما كان الجاحظ يرى أن المعارف ضرورية فلا يعصي الله أحد إلا بعد العلم بما نهاه عنه؛ فقد قال: إن الأنبياء اعتمدوا المعاصي مع العلم بأن الله قد نهى عنها، ومعنى ذلك؛ أنه نفى العصمة عن الأنبياء فخالف أكثر المعتزلة الذين يقولون: إنه لا يجوز على الأنبياء أن يفعلوا قصدا ما علموا أنه ذنب (4).الرابعة: حكي عنه أنه قال في القرآن الكريم أنه جسم يجوز أن ينقلب مرة رجلا ومرة حيوانا (5).يقول زهدي جار الله: إنه لا يعقل أن يقول الجاحظ هذا القول؛ بل الأرجح أن يكون ابن الراوندي (6) نسبه إليه للحط من قدره، وإن كان قاله فعلا فإنه إما أن يدل على الدرجة البعيدة في السخف التي وصلت إليها المحاجات الفلسفية في زمنه، وإما أن يكون الجاحظ – كما قال ماكدونالد قصد بهذا القول التهكم على المجادلين في وقته (7).   (1) ((الملل والنحل)) (1/ 71)، ((التبصير في أمور الدين)) (76)، ((الفرق بين الفرق)) (96). (2) ((الفرق بين الفرق)) (176)، ((المعتزلة)) (146)، بتصرف. (3) ((التبصير في أمور الدين)) (76). (4) ((الفرق بين الفرق)) (176). (5) ((الملل والنحل)) (1/ 72). (6) ((فرق وطبقات المعتزلة)) (97). الحاشية (8). (7) ((المعتزلة)) (148). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 الفرقة السابعة عشر: الشحامية: أتباع أبي يعقوب يوسف بن عبد الله بن إسحاق الشحام من صغار أصحاب أبي الهذيل، وهو أستاذ الجبائي، ورئيس معتزلة البصرة في عصره، توفي سنة (267هـ)، وقد جوز هو والعلاف مقدورا بين قادرين، ويكون كل واحد منهما منفردا بخلقه، فخالف بذلك أهل السنة وأهل القدر (1). الفرقة الثامنة عشر: الخياطية: أتباع أبي الحسين عبد الرحيم بن محمد الخياط من أصحاب جعفر بن مبشر، توفي حوالي سنة (290هـ)، وهو أستاذ الكعبي في ضلالاته، وشارك أكثر القدرية في ضلالاتها، وانفرد عنها بقول لم يسبق إليه في المعدوم مخالفا فيه جميع المعتزلة وسائر فرق الأمة، فزعم أن الجسم في حال عدمه يكون جسما؛ لأنه يجوز أن يكون في حال حدوثه جسما ولم يجز أن يكون المعدوم متحركا؛ لأن الجسم في حال حدوثه لا يصح أن يكون متحركا عنده، فقال: كل وصف يجوز ثبوته في حال الحدوث فهو ثابت له في حال عدمه. ويلزمه على هذا الاعتلال أن يكون الإنسان قبل حدوثه إنسانا، لأن الله تعالى لو أحدثه على صورة الإنسان بكمالها من غير نقل له في الأصلاب والأرحام ومن غير تغيير له من صورة إلى صورة أخرى يصح ذلك. وقد لقبت هذه الفرقة بالمعدومية لإفراطهم في وصفهم المعدوم بأكثر أوصاف الموجودات، وقد نقض الجبائي على الخياط قوله: بأن الجسم جسم قبل حدوثه في كتاب مفرد. وذكر أن قوله بذلك يؤدي إلى القول بقدم الأجسام. كذلك كان الخياط ينكر الحجة في أخبار الآحاد. يقول البغدادي: وما أراد بقوله هذا إلا إنكار أكثر الأحكام الشرعية؛ وذلك لأن أكثر فروض الفقه مبنية على أخبار الآحاد (2). الفرقة التاسعة عشر: الجبائية: أتباع أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي نسبة إلى جبي، وهي بلد من أعمال خورستان في طرف من البصرة والأهواز، وهو شيخ المعتزلة في البصرة، تلقى الاعتزال عن أبي يعقوب الشحام، وكان مع حداثة سنه معروفا بقوة الجدل، توفي سنة (303هـ) (3).   (1) ((التبصير في أمور الدين)) (78)، ((الملل والنحل)) (1/ 60)، ((الوفيات)) (1/ 685). (2) ((الفرق بين الفرق)) (179)، ((التبصير في أمور الدين)) (78). (3) ((التبصير في أمور الدين)) (79). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 انفرد بأقوال، منها ما يلي: الأول: قال: إن حقيقة الطاعة هي موافقة الإرادة، وقد قيل له إن قولك هذا يوجب أن يكون الله مطيعا لعبده إذا أعطاه مراده، فقال: نعم. يكون مطيعا له، فخالف بذلك الإجماع؛ لأن المسلمين قبله أجمعوا على أن من قال: إن الباري سبحانه وتعالى مطيع لعبده كان موصوفا بالكفر. وأيضا: لو جاز أن يقال: أنه لعبده مطيع لجاز أن يكون له خاضعا وهذا غير جائز، فدل على بطلان هذا القول (1).الثاني: قال في الصفات: إن الله لم يزل سميعا بصيرا، ويمتنع من أن يقال: لم يزل سامعا مبصرا، فالله عنده في الأزل سميعا، ولم يكن سامعا إلا عند وجود المسموع، ولم يكن مبصرا إلا عند وجود المرئي؛ وذلك لأن سامعا ومبصرا متعديان بخلاف سميعا وبصيرا، فلما لم يجز أن تكون المسموعات والمرئيات لم تزل موجودات لم يجز أن يكون سامعا ومبصرا (2). وقال في أسماء الله تعالى: إنها يجوز أن تؤخذ قياسا، ويجوز أن يشتق من أفعاله اسم لم يرد به السمع، ولم يأذن به الشرع (3).الثالث: قوله: إن العرض الواحد يجوز أن يكون في محال كثيرة، ويعلل ذلك بقوله: إن الكلام يكتب في محل، فيكون عرضا موجودا فيه، ثم يكتب في محل ثاني فيصير أيضا موجودا فيه من غير أن ينتقل من المحل الأول أو يعدم فيه (4).الرابع: قوله: إن الله سبحانه وتعالى ليس بقادر أن يفني شيئا من أجسام العالم بانفراده، ولكنه إن شاء أفنى العالم بفناء يخلقه لا في محل، فيفنى به جميع العالم (5).الخامس: اعتقاده استحالة بعث الأجسام بعد تفرقها بالموت، ولذلك فإنه يتأول الآيتين الكريمتين، وهما قوله تعالى: يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى. . الآية [البقرة: 73] وقوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ [الحج: 7]. على معنى أن الله يحيي أرواح الموتى، ويبعث أرواح من في القبور (6). الفرقة العشرون: الكعبية: أتباع عبد الله بن أحمد بن محمد البلخي المعروف بأبي القاسم الكعبي تلميذ الخياط وأحد المعتزلة البغداديين، توفي سنة (319هـ)، أخذ من كل علم بطرف (7). وقد خالف قدرية البصرة في أشياء منها: أولا: قوله: إن الله تعالى لا يرى نفسه، ولا يراه غيره (8).ثانيا: قوله: إن الله سبحانه وتعالى لا يسمع ولا يبصر، وكان يزعم أن معنى وصفه بالسميع والبصير بمعنى أنه عالم بالمسموع والمرئي (9).ثالثا: نفي الإرادة عن الله سبحانه وتعالى، وقال: إن الله سبحانه إذا أراد شيئا من فعله فالمقصود أنه فعله، وإذا قيل: أنه أراد من عنده فعلا أنه أمر به، وقال: إن وصفه بالإرادة على الوجهين مجاز (10). كما أن وصف الجدار بالإرادة مجاز في قوله تعالى: جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا [الكهف: 77].رابعا: أنه كان يقول بإيجاب الأصلح للعبد على الله تعالى، والإيجاب على الله تعالى محال لاستحالة موجب فوقه يوجب عليه شيئا (11).خامسا: زعم أن المقتول ليس بميت، فخالف قوله سبحانه وتعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت: 57] (12).سادسا: قال: إن الاستطاعة ليست غير الصحة والسلامة (13).   (1) ((التبصير في أمور الدين)) (80). (2) ((المعتزلة)) (153). (3) ((التبصير في أمور الدين)) (80). (4) ((التبصير في أمور الدين)) (80). (5) ((الفرق بين الفرق)) (184). (6) ((المعتزلة)) (156) نقلا عن ((الصواعق المرسلة)) (2/ 101). (7) ((الملل والنحل)) (1/ 73). (8) ((التبصير في أمور الدين)) (79). (9) ((الملل والنحل)) (1/ 73). (10) ((الفرق بين الفرق)) (182). (11) ((التبصير في أمور الدين)) (79). (12) ((الفرق بين الفرق)) (182). (13) ((الفرق بين الفرق)) (182). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 الفرقة الواحدة والعشرون: البهشمية: هم أتباع أبي هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي رئيس معتزلة البصرة بعد أبيه قدم ابن المرتضي ذكره على جميع رجال الطبقة التاسعة لزعمه أنه متقدم عليهم في العلم، وقد خالف أباه في جملة من المسائل، وتوفي في بغداد في شهر شعبان من سنة (321هـ) (1). من أقواله التي اشتهر بها ما يلي: الأول: قوله في التوبة: لقد ذكر عدة حالات لا تصح فيها التوبة، منها: التوبة عن الذنب عند العجز عن مثله، فإنها لا تصح، فمثلا: لا تقبل توبة الكاذب بعد خرس لسانه عن الكذب. ومنها التوبة عن الذنب مع الإصرار على قبيح آخر يعلمه الإنسان أو يعتقده قبيحا، وإن كان في الحديث ذاته حسنا، ويعلل قوله هذا، بقوله: إنما وجب عليه ترك القبيح لقبحه، فإذا أصر على قبح آخر لم يكن تاركا للقبيح المتروك من أجل قبحه (2). الثاني: قوله في الإرادة المشروطة، وهو أنه لا يجوز أن يكون الشيء الواحد مرادا من وجه مكروها من وجه آخر، بل يجب أن يكون مرادا من جميع الوجوه، فلا يكره من وجه من وجوهه. ويرى البغدادي أن في هذا القول هدما لأصول المعتزلة في الحسن والقبح؛ لأنه يلزمه أن يكون من القبائح ما لا يكرهه الله، فمثلا: يريد تعالى السجود له عبادة، فعلى هذا الأصل لا يجوز أن يكره السجود للصنم عبادة (3).الثالث: قوله بنفي جملة من الأعراض التي أثبتها أكثر مثبتي الأعراض كالبقاء والإدراك والألم والشك، وقد زعم أن الألم الذي يلحق الإنسان عند المصيبة ليس بمعنى أكثر من إدراك ما ينفر عنه الطبع، والإدراك ليس بمعنى عنده، وكذلك اللذات عنده ليست بمعنى، ولا هي أكثر من إدراك المشتهى، والإدراك ليس بمعنى. وقال في الألم الذي يحدث عند الوباء أنه معنى كالألم الذي يحدث عن الضرب، لأنه واقع تحت الحس (4).الرابع: الثواب والعقاب: قال أبو هاشم باستحقاق الشكر والذم على فعل الغير، فلو أن زيدا أمر عمرا بفعل طاعة استحق زيد شكرين: شكر على الأمر الذي هو فعله، وشكر على فعل الطاعة التي هي فعل عمرو فخالف الأمة بذلك، وكذلك لو أمره بمعصية؛ استحق ذميين على الأمر وعلى فعل عمرو (5).وكذلك قال: باستحقاق الذم والعقاب لا على فعل، فالإنسان القادر المكلف إذا مات ولم يرتكب معصية، ولكنه لم يفعل بقدرته طاعة لله تعالى استحق الذم والعقاب الدائم لا على فعل، بل من أجل أنه لم يفعل ما أمر به مع قدرته عليه، وارتفاع الموانع عنه؛ ولذلك اعتبر من لم يفعل ما أمر به عاصيا، وإن لم يفعل معصية، ولم يعد طائعا إلا من فعل طاعة فحتى يكون الإنسان مطيعا فيتخلص من العقاب، ويستحق الثواب يجب عليه ليس أن يمتنع عن فعل ما نهي عنه فحسب، بل أن يفعل أيضا ما أمر به (6). الفرقة الثانية والعشرون: الحمارية: هم قوم من معتزلة عسكر مكرم اختاروا من بدع أصناف القدرية ضلالات مخصوصة، ولم يذكر لهم رئيس بعينه، فأخذوا من ابن خابط قوله بتناسخ الأرواح في الأجساد والقوالب، وأخذوا عن الجعد بن درهم قوله: بأن النظر الذي يوجب المعرفة تكون تلك المعرفة فعلا لا فاعل لها، وقالوا أيضا: أن الخمر ليست من فعل الله وإنما من فعل الخمار، لأن الله لا يفعل ما يكون سببه المعصية. وزعموا أن الإنسان قد يخلق بعض الحيوانات كالديدان من اللحم إذا وضعه في الشمس (7). المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق – ص 51   (1) ((الفرق بين الفرق)) (184) الحاشية، ((المعتزلة)) (153). (2) ((التبصير في أمور الدين)) (81)، ((المعتزلة)) (154). (3) ((الفرق بين الفرق)) (192). (4) ((الفرق بين الفرق)) (196). (5) ((الفرق بين الفرق)) (189). (6) ((الفرق بين الفرق)) (186)، ((المعتزلة)) (155). (7) ((الفرق بين الفرق)) (278). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 المبحث العاشر: أبرز ملامح الاعتزال 1 - تأثرهم بالفلسفة اليونانية: المعتزلة قوم فتنوا بالفلسفة اليونانية، وبالمنطق اليوناني، وبما نقل عن الفلسفة الهندية والأدب الفارسي، وقد كانوا – كلهم أو جمهورهم – ممن يمتون إلى الأصل الفارسي، فأولوا القرآن، لينسجم مع تلك الفلسفة، وكذبوا الأحاديث التي تتعارض مع هذه العقلية اليونانية الوثنية (1).لقد شاعت الفلسفة اليونانية في القرن الخامس الهجري، شيوعاً كاد أن يهز النفوس، وأصبح أذكياء الأمة، يقبلون على الفلسفة ومباحثها، من غير تمييز للنافع عن الضار ... وأدى هذا الموقف الانهزامي الذي تردى فيه هؤلاء، إلى أنهم حاولوا إخضاع الدين، إلى نظريات الفلسفة وفرضياتها، تحت شعار التوفيق بين الدين والفلسفة، وكان الأحرى بهم أن يخضعوا الفلسفة للدين (2). وقد بين الشيخ محمد أبو زهرة، الأسباب التي أدت إلى وقوع المعتزلة في أحضان الفلسفة فقال: "وقد دفعهم إلى دراسة الفلسفة أمران: أحدهما: أنهم وجدوا فيها مراناً عقلياً، جعلهم يلحنون بالحجة في قوة. وثانيهما: أن الفلاسفة وغيرهم، لما هجموا بعض المبادئ الإسلامية تصدى هؤلاء للرد عليهم، واستخدموا بعض طرقهم في النظر والجدل، وتعلموا كثيراً منها، ليستطيعوا أن ينالوا الفوز عليهم" (3).2 - ينبوع المعرفة عند المعتزلة (4): يتلخص في تقديم العقل على الأدلة الشرعية، وجعل العقل حاكماً لا محكوماً. وقد اشتمل هذا المنهج العقلي على خطوتين. الأولى: قصدوا بها تطهير الفكر، وضرورة تجرده عن الإلف والعادة ... وفي هذا هدم لنظرية التقليد. الثانية: تحكيم العقل تحكيماً مطلقاً، إذ آمن المعتزلة بالعقل ورفعوا شأنه .. وجعلوه الحكم الذي يحكم في كل شيء والنور الذي يجلو كل ظلمة، حكموه في إيمانهم، وفي جميع شؤونهم العامة والخاصة (5).لقد حكموا العقل أكثر من تحكيمهم للشرع، بل جعلوا الأدلة العقلية مقدمة على الأدلة الشرعية، فكذبوا ما لا يوافق العقل، من الحديث الشريف – وإن صح – وأولوا ما لا يوافقه من الآيات وإن صحت، بل حاولوا إخضاع عبارات القرآن لآرائهم وتفسيرهم لها تفسيراً يتفق مع مبادئهم (6).   (1) ((السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي)): د. مصطفى السباعي – المكتب الإسلامي/ الطبعة الثالثة – بيروت - 1402هـ. (2) ((مفهوم تجديد الدين)): بسطامي محمد سعيد- دار الدعوة الكويت - 1405هـ. (3) ((تاريخ المذاهب الإسلامية))، الشيخ محمد أبو زهرة- (ص145). الجزء الأول - دار الفكر العربي، القاهرة - طبعة دار الثقافة. (4) ينظر: ((منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير))، د. فهد بن عبدالرحمن الرومي – مؤسسة الرسالة/ الطبعة الرابعة – 1414هـ. (5) ((الفكر الإسلامي بين الأمس واليوم)): محجوب بن ميلاد (ص114) - الشركة القومية للنشر والتوزيع- تونس. (6) ((التفسير والمفسرون)): الشيخ محمد حسين الذهبي، (1/ 372 - 373). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 فقد كانوا يطرحون المسألة، ثم يعرضونها على العقل – عقل الواحد منهم بالطبع – فيستجمع لها الأدلة كما تتراءى له، لإثباتها على وجه من الوجوه، وحين يصل إلى نتيجة "ما"، يعمد إلى الأدلة السمعية فيؤول منها ما لا يوافق نتيجته، إن كان من آيات الكتاب، أو يرد الحديث بدعوى تناقضه مع العقل، أو أنه مبني على الظن ... وبسبب أنهم كانوا يتحاكمون إلى عقل الواحد منهم، لذلك اختلفت مناهجهم اختلافاً كبيراً، في كافة جزئيات مذهبهم، وتناطحوا وكفر بعضهم بعضاً (1).وقد اتخذوا الجدل والمراء وسيلة للبحث في الدين، ذلك أن منهج علم الكلام أصلاً قد بني على "إن قالوا ... قلنا" وذلك لازم مذهبهم وعليه بنيت أصولهم، ولا شك أن هذا مخالف للشرع المحمدي الذي جاء بحسم أسلوب الجدل والمراء، وأخبر بهلاك الأمم إذا أوتيت الجدل (2).عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم تلا مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف: 58])) (3).وقال الإمام الأوزاعي: "إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل ومنعهم العمل" (4). وقد أدى بهم منهجهم هذا إلى أن شطحوا بعقولهم، ووضعوا الرسل تحت مجهر العقل ناقدين لهم لأنهم بشر. 3 - التطاول على أصحاب رسول الله: رضي الله عنهم، بما تقشعر منهم جلود المؤمنين، وذلك لأنهم بشر، وأن أحاديثهم قد تناقض أصول المعتزلة، فهذا عمرو بن عبيد، أحد كبرائهم يقول: "والله لو أن علياً وعثمان وطلحة والزبير، شهدوا عندي على شراك نعل ما أجزته" وقال عن سمرة بن جندب رضي الله عنه: "ما تصنع بسمرة قبح الله سمرة" (5). رضي الله عن صحابة رسول الله الذين حفظوا دينه، ونشروا سنة نبيه، رغم أنف ابن عبيد وأمثاله من أهل البدع. لقد طعن كبراء المعتزلة بالصحابة رضي الله عنهم، وشنعوا عليهم ورموهم بالكذب، ونسبوا إليهم التناقض. فقد رمى إبراهيم النظام – وهو شيخ المعتزلة المتقدم – أبا بكر رضي الله عنه بالتناقض، وطعن بمثل ذلك في علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين. وشددوا الحملة على الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه (6). مما فتح الباب على مصراعيه أمام تشكيك الحاقدين أمثال المستشرقين ومن شايعهم، مما سنذكره في الفصول القادمة: ومن ثم فقد ولغ بعض ضالي المعتزلة في أعراض الصحابة خلال فتنة الجمل وصفين. إذ زعم كل من واصل بن عطاء وعمر بن عبيد: "أن إحدى الطائفتين يوم الجمل فاسقة، ولا تقبل شهادتهم" (7). رغم اتفاق العلماء على عدالة جميع الصحابة، أما ما شجر بينهم: فإن أهل السنة لا يخوضون فيه، بل يعتقدون أن كلهم مجتهد، مأجور يبتغي ثواب الآخرة. ويلخص أبو منصور البغدادي موقف المعتزلة من الصحابة بقوله: "المعتزلة ما بين شاك بعدالة الصحابة منذ عهد الفتنة، كواصل بن عطاء، وما بين موقن بفسقهم، كعمرو بن عبيد، وما بين طاعن في أعلامهم، متهم لهم بالكذب والجهل والنفاق كالنظام، وذلك يوجب ردهم للأحاديث التي جاءت عن طريق هؤلاء الصحابة، وأن النظام كان ينكر حجية الإجماع والقياس، وقطعية التواتر" (8).وقد أدى ذلك إلى أن فتح رؤساء المعتزلة ثغرات في مكانة الصحابة، استطاع أن يلج المتعصبون من المستشرقين حمى أولئك الذادة الميامين من صحابة رسول الله، وأن يتجرءوا على رميهم بالكذب والتلاعب في دين الله، مستندين إلى ما افتراه النظام وأمثاله عليهم، وقد تبع المستشرقين في هذا بعض الكتاب المسلمين، كأحمد أمين، ومحمود أبو رية. وقد ارتكبوا إثماً عظيماً وكبيرة لا نظير لها نتيجة هذا الطعن (9). المصدر: العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب لمحمد حامد الناصر - ص 14   (1) ((المعتزلة بين القديم والحديث)): محمد العبدة، طارق عبدالحليم (ص26 - 28) ". (2) ((المعتزلة بين القديم والحديث)): محمد العبدة، طارق عبدالحليم " (ص30) وما بعدها". (3) رواه الترمذي (3253) وابن ماجه (48) وقال الترمذي: حسن صحيح إنما نعرفه من حديث حجاج بن دينار وحجاج ثقة مقارب الحديث وحسنه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)) (45). (4) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة))، اللالكائي، (1/ 145). (5) ((تاريخ بغداد)): لأبي بكر أحمد بن علي، الخطيب البغدادي (12/ 176، 178) -المكتبة السلفية بالمدينة المنورة-. (6) انظر ((تأويل مختلف الحديث))، لابن قتيبة/ (ص17) وما بعدها. (7) ((الفرق بين الفرق)): للبغدادي (ص120). (8) ((السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي)): د. مصطفى السباعي (ص 140 - 142). (9) ينظر: ((منهج المدرسة العقلية في التفسير)): (ص44 – 65). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 المبحث الأول: التوحيد عند المعتزلة هذا هو الأصل الأول من أصول المعتزلة الخمسة, وهو عندهم يدور حول ما يثبت لله وما ينفي عنه من الصفات. ويدل على ذلك تعريفهم له. يقول القاضي عبد الجبار, وهو يعرف التوحيد لغة واصطلاحا: "والأصل فيه أن التوحيد في أصل اللغة عبارة عما يصير به الشيء واحدا, كما أن التحريك عبارة عما به يصير الشيء متحركا, والتسويد, عبارة عما به يصير الشيء أسودا, ثم يستعمل في الخير عن كون الشيء واحدا لما لم يكن الخبر صادقا إلا وهو واحدا, فصار ذلك كالإثبات فإنه في أصل اللغة عبارة عن الإيجاب ... " (1) التوحيد في اصطلاح المتكلمين: يقول القاضي: "فأما في اصطلاح المتكلمين, فهو العلم بأن الله تعالى واحد لا يشاركه غيره فيما يستحق من الصفات نفيا وإثباتا على الحد الذي يستحقه, والإقرار به. ولا بد من اعتبار هذين الشرطين: العلم والإقرار جميعا, لأنه لو علم ولم يقر أو أقر ولم يعلم لم يكن موحدا" (2). وعلى ذلك فهذا الأصل يبحث في مذهب المعتزلة في صفات الباري تعالى وما يثبت له, وما ينفي عنه. المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق – ص 81   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص 128). (2) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص 128). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 المبحث الثاني: موقف المعتزلة من الصفات عامة • المطلب الأول: تقسيم المعتزلة للصفات . • المطلب الثاني: رأي جمهور المعتزلة في الصفات وشبهاتهم والجواب عليها. • المطلب الثالث: ذكر بعض أقوال المعتزلة التي فيها إشارة إلى شبهة التعدد والتركيب. • المطلب الرابع: توضيح شبهة التركيب والرد عليها. • المطلب الخامس: بيان تناقض المعتزلة في إثباتهم الأسماء ونفيهم الصفات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 المطلب الأول: تقسيم المعتزلة للصفات ذكر المعتزلة تقسيما خاصا بهم للصفات؛ لكن الملاحظ أن هذا التقسيم لا أثر له على حقيقة مذهبهم؛ لأنه وكما سيتبين في المطلب القادم - بإذن الله - أن المعتزلة تنفي قيام جميع الصفات بالله عز وجل على الحقيقة. فقد ذكر القاضي عبد الجبار أن صفات الله ثلاثة أقسام: 1 - صفات يختص بها على وجه لا يشاركه فيه غيره، مثل كونه قديرا وغنيا. 2 - صفات يشاركه فيها غيره في نفسها، ويخالفه في كيفية استحقاقه لها (1)، نحو كونه قادرا، عالما، حيا، موجودا.3 - صفات يشاركه فيها غيره في نفس الصفة وفي جهة الاستحقاق، نحو كونه مدركا، ومريدا، وكارها، فإن الله مدرك لكونه حيا بشرط وجود المدرك، كذلك الواحد منا، وكذلك هو مريد وكاره بالإرادة والكراهية، وكذلك الواحد منا، إلا أن ثم فرقا هو القديم تعالى حي لذاته فلا يحتاج إلى حاسة، ومريد وكاره بإرادة وكراهة موجودتين لا في محل، بينما الواحد منا مريد وكاره لمعنيين محدثين في قلبه (2). وكما قلت: فإن هذا التقسيم لا أثر له في حقيقة مذهبهم في الصفات؛ لأنهم لا يثبتون الصفات حقيقة في الذات، وهذا الأمر سيتضح أكثر عند الكلام على منهجهم في النفي في باب الصفات. منهج المعتزلة في النفي في باب الصفات المصدر: النفي في باب صفات الله عز وجل بين أهل السنة والجماعة والمعطلة لأزرقي سعيداني - ص 556   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (183). (2) ((شرح الأصول الخمسة)) (130)، ((مقالات الإسلاميين)) (2/ 505). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 المطلب الثاني: رأي جمهور المعتزلة في الصفات وشبهاتهم والجواب عليها عرفنا أن القول بنفي الصفات قد بدأ قبل ظهور المعتزلة على يد الجعد بن درهم، ثم الجهم بن صفوان الذي اشتهر بنشره لهذا المذهب، وإليه نسبت فرقة الجهمية (1)، ثم أنه لما ظهرت المعتزلة أخذت في جملة ما أخذته من الجهمية القول بنفي الصفات، ودليل ذلك: أن مؤسس مذهب الاعتزال واصل بن عطاء (2) كان ينفي الصفات معتقدا أن إثباتها يؤدي إلى تعدد القدماء؛ وذلك شرك، ولذا كان يقول: "إن من أثبت لله معنى وصفة قديمة فقد أثبت إلهين" (3).ويرى الشهرستاني: أن القول بنفي الصفات كما بدأه واصل كان غير ناضج؛ لأنه شرع فيه على قول ظاهر، وهو الاتفاق على استحالة وجود إلهين قديمين أزليين (4).أما المعتزلة الذين خلفوه؛ فإنهم عاصروا حركة ترجمة الكتب اليونانية والكتب الفارسية إلى العربية التي تشتمل على الفلسفة وبعض الأمور الدينية؛ وخصوصا كتب الفلاسفة (5).وكان الفلاسفة يرون أن الله تعالى واجب الوجود بذاته، وأنه واحد من كل وجه (6)؛ فنفوا صفات الباري تعالى زائدة على الذات، وقالوا: أنه تعالى عالم بالذات لا يعلم زائد على ذاته (7).فهذا أفلوطين (8) وهو الذي تأثر به المسلمون أكثر من تأثرهم بغيره من فلاسفة اليونان، يتحدث عن تعالية الله تعالى، ويمنع أن نطلق عليه صفة من الصفات؛ لأننا بذلك نشبهه تعالى بالأفراد، فلا نقول أن لله تعالى علما لأنه هو العلم. . وليس يحتاج تعالى إلى بصر؛ لأنه ذاته النور الذي يبصر به الناس (9). وقد تأثر المعتزلة بهؤلاء الفلاسفة، فاقتبسوا منهم قولهم في الصفات. يقول الغزالي والشهرستاني: "إن المعتزلة وافقوا الفلاسفة على قولهم في الصفات" (10). ولذا فإن المعتزلة الذين جاؤوا بعد واصل أخذوا بتأثير الفلسفة يفسرون قوله، ويضيفون إليه بعض التعديلات التي لا تؤثر على الجوهر، ويؤيدون ذلك بشبهات عقلية، فقالوا: إن الله عالم بذاته، قادر بذاته لا يعلم وقدرة هي صفات قديمة ومعان قديمة ومعان قائمة به. وقد ذكر ابن المرتضي المعتزلي إجماعهم على ذلك، فقال: "وأما ما أجمعت عليه المعتزلة، فقد أجمعوا على أن للعالم محدثا قديما قادرا عالما حيا لا لمعان .. " (11). وقد تمسكوا في قولهم هذا بشبهات، منها ما يلي: الشبهة الأولى: يقول أبو الحسن الخياط (12): "أن الله تعالى لو كان عالما بعلم، فإما أن يكون ذلك العلم قديما أو يكون محدثا، ولا يمكن أن يكون قديما؛ لأن هذا يوجب وجود اثنين قديمين، وهو تعدد وهو قول فاسد. ولا يمكن أن يكون علما محدثا، لأنه لو كان كذلك يكون قد أحدثه الله إما في نفسه أو في غيره أو لا في محل؛ فإن كان أحدثه الله في نفسه أصبح محلا للحوادث، وما كان محلا للحوادث فهو حادث، وهذا محال، وإذا أحدثه في غيره، كان ذلك الغير عالما بما حله من دونه، كما أن من حله اللون فهو المتلون به دون غيره، ولا يعقل أن يكون أحدثه لا في محل؛ لأن العلم عرض لا يقوم إلا في جسم، فلا يبقى إلا حال واحد، وهو أن الله عالم بذاته" (13). المناقشة:   (1) ((سرح العيون)) (293). (2) ((فرقة الواصلية)) (52) من الرسالة. (3) ((الملل والنحل)) (1/ 51). (4) ((الملل والنحل)) (1/ 51)، بتصرف. (5) ((الملل والنحل)) (1/ 51)، بتصرف. (6) ((نهاية الإقدام)) (90)، بتصرف. (7) ((المنقذ من الضلال)) (107)، ((نهاية الإقدام)) (100)، بتصرف. (8) ((الموسوعة العربية الميسرة)) (182). (9) ((المعتزلة)) (63). (10) ((نهاية الإقدام)) (91)، ((المنقذ من الضلال)) (107). (11) ((المنية والأمل)) (56). (12) ((فرقة الخياطية)) (72) من الرسالة. (13) ((الانتصار)) (82). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 يقال لهم: أما قولكم أن الله تعالى لو كان عالما بعلم؛ فإما أن يكون ذلك العلم قديما أو يكون محدثا. فهذا نوافقكم عليه، فإنه لا ثالث لهذين القسمين. وأما قولكم "ولا يمكن أن يكون علما محدثا. . "؛ فهذا نوافقكم عليه أيضا، فإن الصفة ليست حادثة بل هي قديمة بقدم موصوفها، كما سيأتي بيانه إن شاء الله. بقي الآن قولكم "ولا يمكن أن يكون علما قديما؛ لأنه يوجب تعدد القدماء. . ". ونقول: "إن قولكم هذا فيه إجمال، لا نجيبكم عليه حتى نعرف مرادكم منه؛ إن أردتم بقولكم ". . علما قديما" بمعنى القائم بنفسه المستقل عن موصوفه؛ فصفة العلم ليست قديمة بهذا الاعتبار، بل هي صفة القديم. وإن أردتم بقولكم "قديما" بمعنى أنه لا ابتداء له، ولم يسبقه عدم مطلق، فصفة العلم قديمة بقدم موصوفها، وإذا كان قدمها تابعا لقدم موصوفها: فليس هناك تعدد قدماء كما تزعمون، بل هناك قديم وصفته، ولا يلزم من كون الصفة قديمة لقدم موصوفها أن يكون هناك تعدد، وإلا للزم أن تكون صفة الإله إلها، وصفة الإنسان إنسانا (1)، وبطلان هذا لا شك فيه عند من له شيء من العقل، وما يؤدي إلى الباطل فهو باطل؛ وبذلك يبطل تعدد القدماء الذي تزعمونه من إثبات الصفات، وعليه فإن شبهتكم هذه تنتقض ببطلان أحد مقدماتها، وهو قولكم "ولا يمكن أن يكون قديما. . ". والله أعلم. الشبهة الثانية: يقول يحيى بن الحسين (2) – وهو من أئمة الزيدية -: ". . وأما ما ذكر من العلم فإنه لا يخلو من أن يكون الله العالم بنفسه ويكون العلم من صفاته في ذاته لا صفته لغيره، فقد جعل مع الله سواه، ولو كان مع الله سواه؛ لكان أحدهما قديما والآخر محدثا، فيجب على من قال بذلك أن يبين أيهما المحدث لصاحبه، فإن قال: إن العلم أحدث الخالق كفر، وإن قال: إن الله أحدث العلم، فقد زعم أن الله كان غير عالم حتى أحدث العلم، ومتى لم يكن العلم فضده لا شك ثابت، وهو الجهل، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وإن رجع هذا القائل الضال إلى الحق من المقال. . فقال: إنه العالم بنفسه. . وأنه لا علم ولا عالم سواء. . " (3). المناقشة: والجواب عن هذه الشبهة من وجوه منها: الأول: أما قولكم أن يقال الصفة عين الذات، كالعلم يقال فيه عين العالم، فإنه يوجب الكثرة في الذات؛ وذلك لما يلي: أ- أن هناك فرقا بين قولنا: ذاته ذاته، وبين قولنا: ذاته علمه، فإن هذا يوجب التغاير، ومن ثم يوجب الكثرة في الذات. ب- أن حقيقة العلم مغاير لحقيقة القدرة ولحقيقة الحياة والإرادة، فلو كان الكل عبارة عن حقيقة ذاته لزم القول بأن الحقائق الثلاثة حقيقة واحدة، وذلك باطل. وأيضا فإنه يوجب الكثرة في الذات (4)، وهو باطل فما يؤدي إليه مثله، وبذلك يبطل الجزء الأول من الشبهة. الثاني: أما قولكم "أو غيرها" أي: الذات. نقول: لفظ الغير مجمل إن أريد به ما هو مباين له تعالى، فلا يدخل علمه وسائر صفاته في لفظ الغير، كما يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) (5). وقد ثبت في السنة جواز الحلف بصفاته تعالى كعزته وعظمته، فعلم أنها لا تدخل في مسمى الغير عند الإطلاق. وإذا أريد بالغير أنه ليس هو إياه، فلا ريب أن العلم ليس هو العالم (6) كما بيناه في الرد على الجزء الأول من الشبهة.   (1) ((منهاج السنة النبوية)) (2/ 95)، بتصرف. (2) ((رسائل العدل والتوحيد)) (2/ 2). (3) ((رسائل العدل والتوحيد)) (2/ 137). (4) ((الأربعين في أصول الدين للرازي)) (135)، بتصرف. (5) ((تحفة الأحوذي)) (5/ 136). (6) ((منهاج السنة النبوية)) (2/ 433)، بتصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 وعلى ذلك فلا نقول الصفة عين الذات – كما تزعمون – لما فيه من اللوازم الفاسدة التي سبق عرض بعضها؛ وليست الصفة غير الذات بمعنى مباينة لها بل هي صفة الذات بمعنى أنها ليست هي الذات، ولا يلزم من كون الصفة ليست هي الموصوف لا يلزم من ذلك أن يكون مع الله سواه، لأن الصفة تابعة للموصوف غير مستقلة عنه، كما أنها تتبعه قدما وحدوثا، وبما أن الله قديم فإن صفاته قديمة بقدمه، وبذلك تبطل هذه الشبهة. والله أعلم. الشبهة الثالثة: يروي الشهرستاني عن المعتزلة أنهم قالوا: "لو قامت الحوادث بذات الباري تعالى لا تصف بها بعد أن لم يتصف، ولو اتصف لتغير، والتغير دليل الحدوث؛ إذ لابد من مغيره" (1). المناقشة: نقول: شبهتكم هذه تتبنى على إلزامكم بأن الصفات حادثة، وهو إلزام باطل لما يلي: أولا: أن القول بحدوث الصفة يشير إلى أن الله تعالى كان جاهلا حتى أحدث العلم، وعاجزا حتى أحدث القدرة، ووصف الله بالجهل أو العجز كفر بلا خلاف؛ لأنه وصف له بصفة نقص تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فما يؤدي إليه مثله. ثانيا: أنا لم نقل: أن الصفات حادثة، بل قلنا: إنها تابعة لموصوفها بالقدم من غير أن تكون مستقلة عنه على التفصيل الذي سبق ذكره في كلمة القديم عند الرد على الشبهة الأولى، وبذلك تبطل هذه الشبهة. والله أعلم. الشبهة الرابعة: يقول الرازي (2) – وهو يحكي شبهات المعتزلة في نفي الصفات: "والشبهة السادسة: أن الله تعالى إنما كفر النصارى في قوله تعالى: لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ [المائدة: 73]. فلا يخلو إما أن يقال أنه تعالى إنما كفرهم؛ لأنهم أثبتوا ذواتا ثلاثة قديمة بأنفسها، أو لأنهم أثبتوا ذاتا موصوفة بصفات متباينة، والأول باطل؛ لأن النصارى لا يثبتون ذواتا ثلاثة قديمة قائمة بأنفسها، ولما لم يقولوا بذلك استحال أن يكفرهم الله بسبب ذلك، ولما بطل القسم الأول ثبت القسم الثاني، وهو أنه تعالى إنما كفرهم لأنهم أثبتوا ذاتا موصوفة بصفات متباينة، ولما كفر النصارى لأجل أنهم أثبتوا صفاتا ثلاثة، فمن أثبت الذات مع الصفات فقد أثبت أكثر من ثلاثة، وكان كفره أعظم من كفر النصارى؛ لأنه أثبت أكثر مما أثبتوا. . " (3). المناقشة: يقال لهم: إن استدلالكم بهذه الآية باطل؛ وذلك أن الله تعالى إنما كفر النصارى لأنهم أثبتوا صفاتا ثلاثة، هي في الحقيقة ذوات بدليل اعتبارهم إياها آلهة، ومن أثبت كثرة في الآلهة فلا شك في كفره (4)؛ ويدل على أنهم يعتبرونها آلهة قوله تعالى في آخر الآية: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ [المائدة: 73]. فحصره سبحانه وتعالى الألوهية في واحد بعد تكفيره من قال: إن الله ثالث ثلاثة؛ دليل على أن المراد من ثلاثة ثلاثة آلهة. وبدليل قوله تعالى: وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ [النساء: 171].يقول القرطبي – عند تفسير هذه الآية –: "المعنى: ثلاثة آلهة" (5).ويقول الرازي – في معرض رده على هذه الشبهة –: ". . ألا ترى أنهم – أي: النصارى – جوزوا انتقال أقنوم الكلمة من ذات الله إلى بدن عيسى – عليه السلام – والشيء الذي يكون مستقلا بالانتقال من ذات إلى ذات أخرى، يكون مستقلا بنفسه قائما بذاته؛ فهم وإن سموها صفات؛ إلا أنهم قائلين في الحقيقة بكونها ذوات، ومن أثبت كثرة في الذوات المستقلة، فلا شك في كفره" (6).   (1) ((نهاية الإقدام)) (115). (2) ((الأعلام)) (7/ 203)، ((معجم المؤلفين)) (11/ 79). (3) ((الأربعين في أصول الدين)) (159). (4) ((التفسير الكبير)) (12/ 60)، ((الأربعين في أصول الدين)) (165). (5) ((تفسير القرطبي)) (6/ 250). (6) ((الأربعين في أصول الدين)) (165). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 وعلى ذلك: فإن تكفير الله للنصارى ليس لأنهم أثبتوا ثلاث صفات بل لأنهم أثبتوا ثلاثة آلهة. وبذلك يبطل استدلالكم بهذه الآية. والله أعلم. الشبهة الخامسة: يقول ابن تيمية: (ادعت المعتزلة أن صفات الباري تعالى ليست زائدة على ذاته؛ لأنه لا يخلو إما أن يقوم وجوده بتلك الصفة المعينة بحيث يلزم من تقدير عدمها عدمه. أو لا. إن كان لا يقوم وجوده إلا بها؛ فقد تعلق بها وصار مركباً من أجزاء لا يصح وجوده إلا بمجموعها، والمركب معلول. وإن كان لا يقوم وجوده بها ولا يلزم من تقدير عدمها عدمه فهي عرضية والعرض معمول (1)، وهما على الله محال فلم يبق إلا أن صفات الباري غير زائدة على ذاته، وهو المطلوب) (2). المناقشة: لقد أجاب ابن تيمية –رحمه الله- عن هذه الشبهة فقال: الذي عليه الكتاب والسنة أن الله سبحانه وتعالى له علم وقدرة ورحمة ومشيئة وعزة. . . وساق النصوص على ذلك من الكتاب والسنة إلى أن قال. . . وأما الجواب على شبهتي العرض والتركيب، فهو كما يلي:-أولا: أنهم- أي: المعتزلة- يثبتونه تعالى عالماً وقادراً ويثبتونه واجباً بنفسه فاعلاً لغيره، ومعلوم بالضرورة أن مفهوم كونه عالماً، غير مفهوم الفعل بغيره، فإذا كانت ذاته مركبة من هذه المعاني لزم التركيب الذي ادعوه، وإن كانت عرضية؛ لزم الافتقار الذي ادعوه، وإن كان الواجب بنفسه لا يتميز عن غيره بصفة ثبوتية، فلا واجب، وإذا لم يكن واجبا لم يلزم من التركيب محال؛ وذلك أنهم إنما نفوا المعاني باستلزامها ثبوت التركيب المستلزم نفي الوجوب، وهذا محال (3).ثانيا: أنا لا نسلم أن هناك تركيبا من أجزاء بحال، وإنما هي ذات قائمة بنفسها مستلزمة للوازمها التي لا يصح وجودها إلا بها، وليست صفة الموصوف أجزاء له ولا أبعاضا يتميز بعضها عن بعض أو تتميز عنه حتى يصح أن يقال هي مركبة منه أو ليست مركبة، فثبوت التركيب وعدمه فرع تصوره، وتصوره هنا منتف (4). ثالثا: أنه لو فرض أن هذا يسمى مركبا، فليس هذا مستلزما للإمكان، ولا للحدوث؛ وذلك أن الذي علم بالعقل والسمع أنه يمتنع أن يكون الرب تعالى فقيرا إلى خلقه، بل هو الغني عن العالمين. وقد علم أنه حي قيوم بنفسه وأن نفسه المقدسة قائمة بنفسه وموجودة بذاته، وأنه أحد صمد، غني بنفسه، ليس ثبوته وغناه مستفادا من غيره، وإنما هو بنفسه لم يزل ولا يزال حقا صمدا قيوما، فهل يقال في ذلك أنه مفتقر إلى نفسه أو محتاج لأن نفسه لا تقوم إلا بنفسه؟ فالقول في صفاته التي هي داخلة في مسمى نفسه هو القول في نفسه (5). المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق – ص 84 إن التعرف على بطلان مذهب المعتزلة في الصفات من الأمور التي لا تحتاج إلى تبحر في العلم ودقة في الفهم، بقدر ما تحتاج إلى تصور صحيح إلى الشبهات التي أقام عليها هذا المذهب تعطيله لصفات الباري عز وجل، فإن التصور الصحيح لهذا المذهب وأمثاله من مذاهب المعطلة كاف في بيان بطلانها وتهافتها.   (1) ((تلبيس الجهمية)) (1/ 605). (2) ((تلبيس الجهمية)) (1/ 605)، ((شرح الأصول الخمسة)) (201). (3) ((تلبيس الجهمية)) (1/ 605)، بتصرف. (4) ((تلبيس الجهمية)) (1/ 606)، بتصرف. (5) ((تلبيس الجهمية)) (1/ 607)، بتصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 المطلب الثالث: ذكر بعض أقوال المعتزلة التي فيها إشارة إلى شبهة التعدد والتركيب أول من عرف عنه الإشارة إلى هذه الشبهة من المعتزلة واصل بن عطاء، فإنه كان ينفي الصفات بدعوى أن إثباتها يؤدي إلى تعدد القدماء، وكان يقول في ذلك: "إن من أثبت لله معنى وصفة قديمة فقد أثبت إلهين" (1). ثم جاء من بعده وخاض فيها أكثر، فمن ذلك: قول أبي الهذيل العلاف: "إن الله عالم بعلم، وعلمه ذاته، قادر بقدرة، وقدرته ذاته، حي بحياة، وحياته ذاته. . " (2).ويقول الشهرستاني إن أبا الهذيل العلاف إنما اقتبس هذا القول: "من الفلاسفة؛ الذين اعتقدوا أن ذاته واحدة لا كثرة فيها بوجه، وإنما الصفات ليست وراء الذات معاني قائمة بذاته، بل هي ذاته. . " (3).وقول أبي الحسين الخياط السابق: "إن الله تعالى لو كان عالما بعلم، فإما أن يكون ذلك العلم قديما أو يكون محدثا، ولا يمكن أن يكون قديما؛ لأن هذا يوجب وجود اثنين قديمين، وهو تعدد، وهو قول فاسد" (4). ويقول القاضي عبد الجبار: "اعلم أن الواحد قد يستعمل في الشيء ويراد به أنه لا يتجزأ ولا يتبعض، على مثل ما نقوله في الجزء المنفرد أنه جزء واحد، وفي جزء من السواد والبياض أنه واحد. وقد يستعمل ويراد به أن يختص بصفة لا يشاركه فيها غيره، كما يقال: فلان واحد زمانه. وغرضنا إذا وصفنا الله تعالى بأنه واحد: إنما هو القسم الثاني؛ لأن مقصودنا مدح الله تعالى بذلك، ولا مدح في أنه لا يتجزأ ولا يتبعض، وإن كان كذلك؛ لأن غيره يشاركه فيه. إذا ثبت هذا، فالمخالف في المسألة لا يخلو، إما أن يقول: إن مع الله قديما ثانيا يشاركه في صفاته، ولا قائل بهذا. . " (5).ومنها قول يحيى بن الحسين (6): ". . وأما ما ذكر من العلم فإنه لا يخلو من أن يكون الله العالم بنفسه، ويكون العلم من صفاته في ذاته لا صفته لغيره، فقد جعل مع الله سواه، ولو كان مع الله سواه؛ لكان أحدهما قديما والآخر محدثا. . " (7)، لأنه على مقتضى قوله لا يمكن أن يكونا قديمين معا؛ فإن هذا تعدد للقدماء. وغير ذلك من أقوالهم ونصوصهم الدالة على مذهبهم هذا. شبهة التركيب عند المعتزلة مأخوذة من الفلاسفة: وإن مما لا شك فيه أن المعتزلة قد استقوا هذه الشبهة من الفلاسفة، ولقد أشار العديد من أهل العلم إلى أن مصدر المعتزلة في هذه الشبهة إنما هم الفلاسفة، ومن أولئك: الأشعري في المقالات حين حكى مذهب أبي الهذيل العلاف – وهو من أئمة المعتزلة - في الصفات: "قوله إن علم الله هو الله، وإن قدرته هي هو؛ لأنه إذا كان علمه هو هو، وقدرته هي هو، فواجب أن يكون علمه هو قدرته، وإلا لزم التناقض، كما لزم أصحاب الاثنين. وهذا أخذه أبو الهذيل عن أرسطاطاليس، وذلك أن أرسطاطاليس قال في بعض كتبه: إن الباري علم كله، قدرة كله، حياة كله، سمع كله، بصر كله، فحسن اللفظ عند نفسه، وقال: علمه هو هو، وقدرته هي هو" (8). وهذا المذهب بني على شبهة نفي التعدد والتركيب. ومنهم أبو حامد الغزالي، فبعد أن فصل القول في حجة التركيب التي احتج بها الفلاسفة وبين حقيقة مذهبهم في الصفات قال: "إن المعتزلة وافقوا الفلاسفة على قولهم في الصفات" (9).ونفس العبارة أطلقها الشهرستاني في نهاية الإقدام (10)، وقال في الملل والنحل في مذهب أبي الهذيل العلاف أنه يقول: "إن الله عالم بعلم، وعلمه ذاته، قادر بقدرة، وقدرته ذاته، حي بحياة، وحياته ذاته. . " (11).وعقب عليه بأن أبا الهذيل العلاف إنما اقتبس هذا القول: "من الفلاسفة؛ الذين اعتقدوا أن ذاته واحدة لا كثرة فيها بوجه، وإنما الصفات ليست وراء الذات معاني قائمة بذاته، بل هي ذاته. . " (12).   (1) ((الملل والنحل)) (1/ 40). (2) ((الملل والنحل)) (1/ 44)، ((نهاية الإقدام)) (180). (3) ((الملل والنحل)) (1/ 44)، ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 485). (4) ((الانتصار والرد على ابن الراوندي)) (82)، نقلا عن ((المعتزلة وأصولهم الخمسة)) (85)، ((رسائل العدل والتوحيد)) (2/ 130). (5) ((شرح الأصول الخمسة)) (277). (6) ((رسائل العدل والتوحيد)) (2/ 19)، ((الأعلام)) (8/ 141). (7) ((الرد والاحتجاج على الحسن بن محمد بن الحنفية، ضمن رسائل العدل والتوحيد)) (2/ 130). (8) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 485). (9) ((المنقذ من الضلال)) (107). (10) (ص 91). (11) ((الملل والنحل)) (1/ 44)، ((نهاية الإقدام)) (180). (12) ((الملل والنحل)) (1/ 44). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 المطلب الرابع: توضيح شبهة التركيب والرد عليها ..... المعتزلة لم يشاركوا الفلاسفة إلا في القول بنوع واحد من أنواع التركيب الخمسة التي قالوا بها، ورتبوا عليه نفس النتيجة التي رتبها عليه الفلاسفة وهي تعطيل الله عز وجل عن صفاته جميعا. وهذا النوع من التركيب المنفي عن الله عز وجل هو: تركيب الموجود في الذات والصفات. ولقد بني المعتزلة هذه الشبهة على أن أخص وصف لله عز وجل هو: القدم، وهو إجماع عندهم. يقول الشهرستاني: "والذي يعم طائفة المعتزلة من الاعتقاد، القول بأن الله تعالى قديم، والقدم أخص وصف ذاته" (1).وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "ومقصود المعتزلة من قولهم: إن أخص وصف الرب القدم: أن لا يثبتوا له صفة قديمة؛ لامتناع المشاركة في أخص وصفه" (2). ونفي هذا النوع من التركيب في نظر المعتزلة من جهة أنه يوجب كثرة في القديم، وهذا يتنافى مع أخص وصف لله عز وجل: وهو: القدم. وإثبات صفة قديمة، يجعل القديم أكثر من واحد، أي: يكون مركبا؛ فـ: "لو كان موصوفا بصفات قائمة بذاته؛ لكانت حقيقة الإلهية مركبة من تلك الذات والصفات" (3).فإن الصفات لو شاركته في القدم الذي هو أخص وصفه جل وعلا، لشاركته في الإلهية، ولكانت آلهة مثله بزعمهم (4).والتركيب يستلزم الافتقار، في نظر المعتزلة، كما أنه يدل على الحدوث بزعمهم (5). وقد رد عليهم شيخ الإسلام هذا الزعم الباطل بجواب كاف شاف، من جهة التغاير في الصفات ضرورة، فإن الصفة الواحدة ليست هي عين الصفة الأخرى، وهذا مما لا يمكن رده. فقال رحمه الله: "وإن قال نفاة الصفات: إثبات العلم والقدرة والإرادة مستلزم تعدد الصفات، وهذا تركيب ممتنع. قيل: وإذا قلتم: هو موجود واجب. . فهذه معان متعددة متغايرة في العقل وهذا تركيب عندكم، وأنتم تثبتونه وتسمونه توحيدا. فإن قالوا: هذا توحيد في الحقيقة وليس هذا تركيبا ممتنعا. قيل لهم: واتصاف الذات بالصفات اللازمة لها توحيد في الحقيقة وليس هو تركيبا ممتنعا. وذلك أنه من المعلوم في صريح العقول أنه ليس معنى كون الشيء عالما هو معنى كونه قادرا، ولا نفس ذاته هو نفس كونه عالما قادرا، فمن جوز أن تكون هذه الصفة هي الموصوف فهو من أعظم الناس سفسطة" (6)، وفساد مثل هذا القول معلوم بالضرورة (7).فإن العقل الصريح يعلم أن كل صفة ليست هي الأخرى، ولا هي نفس الموصوف (8). ويلزم من قول المعتزلة أن الصفة هي عين الصفة الأخرى أو هي عين الذات يلزم منه أمران: الأول: التناقض، فإن واجب الوجود لا بد أن يتميز عن غيره، والتميز لا يكون إلا بالصفات الثبوتية، مثل كونه حيا، عليما، قديرا. . ونحو ذلك، ويمتنع أن يكون كل معنى هو الآخر، أو أن تكون تلك المعاني هي الذات.   (1) ((الملل والنحل)) (1/ 38). ((الشامل في أصول الدين)) (251). (2) ((تلخيص كتاب الاستغاثة)) (1/ 315)، بتصرف يسير. (3) ((شرح المقاصد)) (4/ 83). (4) ((الملل والنحل)) (1/ 38)، ((شرح المقاصد)) (4/ 83). (5) ((الملل والنحل)) (1/ 38)، ((شرح المقاصد)) (4/ 83). (6) ((التدمرية)) (40)، ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/ 57)، ((منهاج السنة النبوية)) (1/ 267)، ((الصفدية)) (1/ 127)، ((مجموع الفتاوى)) (6/ 345)، ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 283، 8/ 268). (7) ((درء تعارض العقل والنقل)) (6/ 268). المسألة المصرية في القرآن، ضمن ((مجموع الفتاوى)) (12/ 166). (8) ((الصفدية)) (1/ 127)، ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/ 507)، ((شرح حديث النزول)) (92). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 وإذا نفينا هذه المعاني نكون بذلك نفينا واجب الوجود. وهذا هو وجه التناقض في قولهم: فإن المعتزلة ومن تبعهم إنما ينفون هذه المعاني لإثبات واجب الوجود، مع أن نفيها عنه نفي لواجب الوجود، وهذا هو التناقض الصريح (1). كما رد عليهم أيضا من وجه آخر، وهو: أن الواجب بنفسه إذا كان لا يتميز عن غيره بصفة ثبوتية، فهذا يستلزم لا محالة أن لا يوجد واجب بنفسه. فقال رحمه الله: "فإن كان الواجب بنفسه لا يتميز عن غيره بصفة ثبوتية فلا واجب، وإذا لم يكن واجبا لم يلزم من التركيب محال، وذلك أنهم إنما نفوا المعاني لاستلزامها ثبوت التركيب المستلزم لنفي الوجوب، وهذا تناقض فإن نفي المعاني مستلزم لنفي الوجوب، فكيف ينفونها لثبوته؟ وذلك أن الواجب بنفسه حق موجود عالم قادر فاعل، والممكن قد يكون موجودا عالما قادرا فاعلا، وليست المشاركة في مجرد اللفظ؛ بل في معان معقولة معلومة بالاضطرار" (2). الثاني: اللوازم الباطلة لهذا القول: فقد لفت شيخ الإسلام رحمه الله إلى اللوازم الباطلة التي تلزم من هذا القول. فإن في قول المعتزلة أن الصفة هي الموصوف يلزم منه شيء خطير وهو القول بوحدة الوجود. فإن "من يجعل وجود العلم هو وجود القدرة، ووجود القدرة هو وجود الإرادة، فقول هذه المقالة يستلزم أن يكون وجود كل شيء هو عين وجود الخالق تعالى، وهذا منتهى الإلحاد، وهو مما يعلم بالحس والعقل والشرع أنه في غاية الفساد، ولا مخلص من هذا إلا بإثبات الصفات مع نفي مماثلة المخلوقات، وهو دين الذين آمنوا وعملوا الصالحات" (3). وقد تم بحمد الله الإشارة إلى هذا القول والرد عليه وبيان بطلانه. وأود أن أشير هنا إلى أن ابن تيمية رحمه الله لم يكن الوحيد الذي تقطن لتلبيسات هؤلاء المبتدعة ورد عليهم بل سبقه إلى ذلك أئمة كثيرون من أئمة السلف، والذي حملني على الاقتصار على أقواله في الرد التفصيلي على أقوال المبتدعة غالبا هو دقته رحمه الله في نقل أقوالهم، ويسر عبارته، وتفصيلاته الدقيقة التي تجعل الرد عليهم شاملا لجميع جوانب الشبهة. وأورد هنا نموذجا واحدا من كلام الأئمة المتقدمين الذي فيه رد على شبهة التعدد والتركيب التي يدعيها المعتزلة، وهو كلام الإمام أحمد رحمه الله. حيث قال: "فقال الجهمي لنا لما وصفنا الله بهذه الصفات: إن زعمتم أن الله ونوره، والله وقدرته، والله وعظمته، فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره، ولم يزل وقدرته. قلنا: لا نقول إن الله لم يزل وقدرته، ولم يزل ونوره، ولكن نقول: لم يزل بقدرته ونوره، لا متى قدر ولا كيف قدر. فقالوا: لا تكونوا موحدين أبدا حتى تقولوا: قد كان الله ولا شيء. فقلنا: نحن نقول قد كان الله ولا شيء؛ ولكن إذا قلنا: إن الله لم يزل بصفاته كلها، أليس إنما نصف إلها واحدا بجميع صفاته، وضربنا لهم في ذلك مثلا فقلنا: أخبرونا عن هذه النخلة، أليس لها جذع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار، واسمها اسم شيء واحد، وسميت نخلة بجميع صفاتها، فكذلك الله – وله المثل الأعلى – بجميع صفاته إله واحد، لا نقول: إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق له قدرة، والذي ليس له قدرة هو عاجز، ولا نقول: قد كان في وقت من الأوقات ولا يعلم حتى خلق له علما فعلم، والذي لا يعلم هو جاهل؛ ولكن نقول: لم يزل الله عالما قادرا مالكا، لا متى ولا كيف، وقد سمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَّمْدُودًا [المدثر:11] وقد كان هذا الذي سماه الله وحيدا، له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة، فقد سماه الله وحيدا بجميع صفاته، فكذلك الله – وله المثل الأعلى – هو بجميع صفاته إله واحد" (4). المصدر: النفي في باب صفات الله عز وجل بين أهل السنة والجماعة والمعطلة لأزرقي سعيداني – ص 562   (1) ((منهاج السنة النبوية)) (2/ 268). (2) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 345). (3) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 283). (4) ((الرد على الجهمية والزنادقة)) (49). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 المطلب الخامس: بيان تناقض المعتزلة في إثباتهم الأسماء ونفيهم الصفات من الطرق التي رد بها أئمة أهل السنة والجماعة على المعتزلة مذهبهم الباطل، بيان تناقضهم حيث أنهم أثبتوا الأسماء ونفوا الصفات وقد سبق النقل عن ابن المرتضى المعتزلي إجماع المعتزلة على قولهم في الصفات، فقال: "وأما ما أجمعت عليه المعتزلة، فقد أجمعوا على أن للعالم محدثا، قديما، قادرا، عالما، حيا، لا لمعان. ." (1). ولهم في نفي المعاني القائمة بالأسماء مسلكان: الأول: من قال: العليم والقدير ونحو ذلك أعلام محضة مترادفة، وليست دالة على أوصاف أو معاني قائمة بالله تعالى، وذلك مثل تسميتك ذاتا واحدة يزيد، ومحمد، وعلي، فهذه أعلام خالصة لا تدل على صفة لهذه الذات المسماة بها (2).الثاني: من قال: إن كل علم منها مستقل، فالله يسمى عليما، وقديرا، وليست هذه الأسماء مترادفة، ولكن كل اسم لا يدل على صفة عندهم، فالعليم لا يدل على صفة العلم، والقدير لا يدل على صفة القدرة، وهكذا. .، فهو في الحقيقة مرادف للقول الأول (3).وقد كشف أبو الحسن الأشعري – وهو الخبير بهم – حقيقة قولهم هذا فقال: "وزعمت الجهمية – يعني المعتزلة – أن الله تعالى لا علم له ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر له، وأرادوا أن ينفوا أن الله تعالى عالم قادر حي سميع بصير؛ فمنعهم خوف السيف من إظهارهم نفي ذلك، فأتوا بمعناه؛ لأنهم إذا قالوا: لا علم لله ولا قدرة له، فقد قالوا إنه ليس بعالم ولا قادر ووجب ذلك عليهم، وهذا إنما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل؛ لأن الزنادقة قد قال كثير منهم: إن الله تعالى ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير، فلم تقدر المعتزلة أن تفصح بذلك فأتت بمعناه، وقالت: إن الله عالم قادر حي سميع بصير من طريق التسمية، من غير أن يثبتوا له حقيقة العلم والقدرة والسمع والبصر" (4).وقد بين أهل العلم وجه تناقضهم في مذهبهم هذا، فقال شيخ الإسلام رحمه الله: "والمقصود هنا أن المعتزلة لما رأوا الجهمية قد نفوا أسماء الله الحسنى، استعظموا ذلك، وأقروا بالأسماء، ولما رأوا هذه الطريق توجب نفي الصفات: نفوا الصفات؛ فصاروا متناقضين؛ فإن إثبات حي، عليم، حكيم، سميع، بصير، بلا حياة، ولا علم، ولا قدرة، ولا حكمة، ولا سمع، ولا بصر، مكابرة للعقل؛ كإثبات مصل بلا صلاة، وصائم بلا صيام، وقائم بلا قيام، ونحو ذلك من الأسماء المشتقة، كأسماء الفاعلين، والصفات المعدولة عنها" (5).وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "إن نفاة الصفات يلزمهم نفي الأسماء من جهة أخرى، فإن العليم والقدير، والسميع، والبصير، أسماء تتضمن ثبوت الصفات في اللغة فيمن وصف بها، فاستعمالها لغير من وصف بها استعمال للاسم في غير ما وضع له، فكما انتفت عنه حقائقها فإنه تنتفي عنه أسماؤها، فإن الاسم المشتق تابع للمشتق منه في النفي والإثبات، فإذا انتفت حقيقة الرحمة والعلم والقدرة والسمع والبصر، انتفت الأسماء المشتقة منها عقلا ولغة، فيلزم من نفي الحقيقة أن تنفي الصفات والاسم جميعا، فالمعتزلة لا تقر بأن الأسماء الحقيقية تستلزم الصفات، ثم ينفون الصفات ويثبتون الأسماء بطريق الحقيقة كما قالوا في المتكلم والمريد" (6). وهناك أوجه أخرى للرد عليهم ذكرها أهل العلم، أذكر منها ما يلي:   (1) ((المنية والأمل في شرح الملل والنحل)) (56). (2) ((التدمرية)) (18)، ((التحفة المهدية)) (55)، ((الفصل)) (2/ 108)، ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (106). (3) ((التدمرية)) (18)، ((التحفة المهدية)) (55). (4) ((الإبانة عن أصول الديانة)) (143)، ((النبوات)) (1/ 262). (5) ((النبوات)) (1/ 265). (6) ((مختصر الصواعق)) (2/ 343). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 -"وإن كان المخاطب ممن ينكر الصفات، ويقر بالأسماء، كالمعتزلي الذي يقول: إنه حي عليم قدير، وينكر أن يتصف بالحياة والعلم والقدرة. قيل له: لا فرق بين إثبات الأسماء وإثبات الصفات؛ فإنك إن قلت: إثبات الحياة والعلم والقدرة يقتضي تشبيها أو تجسيما؛ لأنا لا نجد في الشاهد متصفا بالصفات إلا ما هو جسم. قيل لك: ولا تجد في الشاهد ما هو مسمى بأنه: حي عليم قدير، إلا ما هو جسم، فإن نفيت ما نفيت لكونك لم تجده في الشاهد إلا للجسم، فانف الأسماء؛ بل وكل شيء؛ لأنك لا تجده في الشاهد إلا للجسم. فكل ما يحتج به من نفي الصفات، يحتج به نافي الأسماء الحسنى فما كان جوابا لذلك، كان جوابا لمثبتي الصفات" (1).- "أن الله تعالى وصف أسماءه بأنها حسنى، وأمرنا بدعائه بها، فقال: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، وهذا يقتضي أن تكون دالة على معاني عظيمة، تكون وسيلة لنا في دعائنا، ولا يصح خلوها عنها، ولو كانت أعلاما محضة، لكانت غير دالة على معنى سوى تعيين المسمى، فضلا عن أن تكون حسنى ووسيلة في الدعاء" (2).-"أن القول بأن أسماء الله أعلام محضة مترادفة لا تدل إلا على ذات الله فقط: قول باطل. . ألا ترى أن الله تعالى يسمي نفسه باسمين أو أكثر في موضع واحد، كقوله: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الحشر:23]، فلو كانت الأسماء مترادفة ترادفا محضا؛ لكان ذكرها مجتمعة لغوا من القول عديم الفائدة (3). المصدر: النفي في باب صفات الله عز وجل بين أهل السنة والجماعة والمعطلة لأزرقي سعيداني – ص 579   (1) ((التدمرية)) (35)، ((التحفة المهدية)) (89)، ((تقريب التدمرية)) (29). (2) ((تقريب التدمرية)) (29). (3) ((تقريب التدمرية)) (30)، ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (107)، ((جلاء الأفهام)) (92)، ((الصواعق المرسلة)) (3/ 938). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 المطلب الأول: دليل الأعراض وحدوث الأجسام عند فرق المبتدعة بنى المبتدعة مذهبهم في صفات الله تعالى على مقدمات وأقيسة عقلية جعلوها أصولا لدينهم. وعند تأمل هذه الأصول: نجد أنها خالية عن البرهان، معطلة عن الدليل، قائمة على آراء وأهواء وفهوم أصحابها المستمدة من عقولهم القاصرة، دون اعتماد على كتاب الله، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أقوال الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين. . وقد ادعى هؤلاء أن هذه الأصول عارضت مدلول السمع؛ فأوجبوا تقديمها عليه. . ومن تلك الأصول: ما أطلق عليه اسم (دليل الأعراض وحدوث الأجسام): فإن أصحاب هذا الدليل أرادوا أن يثبتوا وجود الله تبارك وتعالى وخلقه للمخلوقات؛ وهو ما يعرف عندهم بـ (إثبات الصانع)، فادعوا أن ذلك لا يحصل إلا بالنظر (1) .. . والنظر المقصود: هو النظر العقلي في الأعراض، وملازمتها للأجسام دون اعتماد على الوحي. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هؤلاء، وعن طريقتهم في إثبات وجود الله تبارك وتعالى: "جعلوا ذلك نظرا مخصوصا؛ وهو النظر في الأعراض، وأنها لازمة للأجسام، فيمتنع وجود الأجسام بدونها" (2).وقد أوجبوا هذا النظر، أو القصد إلى النظر، والاستدلال العقلي على كل أحد، ليتمكن من إثبات الصانع، بل جعلوه أول واجب على المكلف (3).يقول عبد الرحمن النيسابوري (4): "أول ما يجب على المكلف القصد إلى النظر الصحيح المؤدي إلى العلم بحدوث العالم، وإثبات العلم بالصانع. والدليل عليه: إجماع العقلاء على وجوب معرفة الله تعالى: وعلمنا عقلا أنه لا يعلم حدوث العالم، ولا الصانع إلا بالنظر، والتأمل. وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به، فهو واجب" (5).ثم استدل على حدوث العالم بدليل الأعراض وحدوث الأجسام (6). ولما كان الاستدلال العقلي – الذي أوجبوه -، والنظر المخصوص – الذي ألزموا به – من الأمور التي لا يتأتى لكل أحد معرفتها بديهة، ألزموا كل مسلم بتعلم علم المنطق، حتى يستطيع إقامة البراهين على وجود الله. فمن لم يتسن له تحصيل المنطق يكون عاجزا عن إثبات وجود ربه، وتصحيح عقيدته. . لذلك قالوا: إن علم المنطق هو معيار العلم، وقانون الإسلام (7). فلابد – عندهم – من سلوك هذا الطريق المعتاص في إثبات الصانع ومعرفته – جل وعلا -؛ وهو ما يعرف عندهم بـ (دليل حدوث العالم بحدوث الأجسام)، و (دليل الأعراض)، و (دليل حدوث الأجسام)، و (دليل حدوث الجواهر والأعراض)، وكلها أسماء لدليل واحد وطريقة واحدة.   (1) ((المواقف للإيجي)) (39). (2) ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (16/ 329). (3) ((التوحيد للماتريدي)) (135)، ((الغنية في أصول الدين للنيسابوري)) (55)، ((المغني في أصول العدل والتوحيد لعبد الجبار)) (4/ 41)، ((شرح الأصول الخمسة)) (60)، ((المختصر في أصول الدين)) (170)، ((الشامل في أصول الدين للجويني)) (97)، ((الإرشاد)) (3)، ((شرح المقاصد للتفتازاني)) (1/ 44)، ((المواقف في علم الكلام للإيجي)) (28)، ((إشارات المرام في علم الكلام للبياضي)) (84)، ((جوهرة التوحيد للقاني – ضمن مجموع مهمات المتون)) (11)، ((شرح الجوهرة للبيجوري)) (38)، ((شرح الجوهرة للصاوي)) (61). (4) ((وفيات الأعيان لابن خلكان)) (3/ 133)، ((طبقات الشافعية للسبكي)) (3/ 223)، ((الوافي بالوفيات للصفدي)) (16/ 61)، ((العبر للذهبي)) (3/ 290)، ((سير أعلام النبلاء)) (18/ 585). (5) ((الغنية في أصول الدين للنيسابوري)) (55). (6) ((الغنية في أصول الدين للنيسابوري)) (56). (7) ((معيار العلم في فن المنطق للغزالي)) (26)، ((الصحائف الإلهية للسمرقندي)) (60). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 وقد ابتدعت الجهمية، والمعتزلة هذا الدليل. ثم تبعهم على ذلك: الكلابية، والأشعرية، والماتريدية، والمشبهة تأثرا بهم (1) ... وجعلوه كلهم – باستثناء شيخي الكلابية والأشعرية؛ ابن كلاب، وأبي الحسن الأشعري -: أصل دين المسلمين، وقاعدة المعرفة، وأساس الإيمان، وأس اليقين، فلا يحصل إيمان ولا دين ولا علم، ولا يمكن معرفة الله، وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم، إلا بسلوك هذه الطريق؛ طريق الاستدلال بحدوث العالم على حدوث الأجسام والأعراض. بل ويعتقدون أن من خالفها فقد خالف دين الإسلام، وصار من الملحدين (2). فقد جعله الماتريدي الأصل الوحيد لمعرفة الله، فلا يعرف الله إلا من طريق دلالة العالم عليه .. يقول في بيان: "والأصل أن الله تعالى إذ لا سبيل إلى العلم به إلا من طريق دلالة العالم عليه، بانقطاع وجوه الوصول إلى معرفته من طريق الحواس عليه، أو شهادة السمع، .. "الخ (3). فلا تمكن معرفة الله – حتى ولا عن طريق الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية – بل لا بد من سلوك دليل الأعراض وحدوث الأجسام أولا – على حد زعمه – ليوصل سالكه إلى معرفة ربه. وكذا عبد الجبار المعتزلي: جعله أول الأصول التي يجب على المكلف معرفتها ليستقيم توحيده، فقال: "مسألة: فإن قال: فبينوا لي جمل ما يلزمه في (التوحيد) أن يعرفه، قيل له: يدور ذلك على أصول خمسة: أولها: إثبات حدوث العالم .. " (4). والغزالي أيضا حصر معرفة الله تعالى بهذا الدليل، وقصرها عليه، فلا اعتقاد في الصانع لمن لا يعتقد دليل حدوث الأجسام .. يقول في معرض رده على قول الفلاسفة بقدم العالم – تحت قوله مسألة: في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن للعالم صانعا وعلة -: "فبان أن من لا يعتقد حدوث الأجسام، فلا أصل لاعتقاده في الصانع أصلا" (5).ونقل أحد علماء الأشعرية المتأخرين قول علماء طائفته في الدليل: " قال العلماء: اعلم أن حدوث العالم أصل عظيم لسائر العقائد، وأساس كبير لما يأتي من الفوائد .. " (6). لذلك نجد هؤلاء يبدؤون مؤلفاتهم - في العقيدة – بالنظر والعقليات وعلم الكلام، وتقرير أصولهم العقلية، وقواعدهم المنطقية - على حد زعمهم -؛ كدليل حدوث الأجسام، وغيره. ويهملون توحيد القصد والطلب، مع شدة الحاجة إليه. وقد زعموا كلهم: 1 - أن إثبات الصانع لا يعرف إلا بالنظر المفضي إلى العلم بإثباته. 2 - ويعد النظر تبين لهم أن العلم بإثبات الصانع لا يمكن إلا بإثبات حدوث العالم؛ إذ الحدوث هو العلة المحوجة إلى المؤثر، وإذا ثبت أن العالم حادث، فلابد له من محدث يخرجه من حيز العدم إلى حيز الوجود. 3 - وقالوا: إن إثبات حدوث العالم لا يمكن إلا بإثبات حدوث الأجسام. . 4 - وحدوث الأجسام يعلم: بلزومها للأعراض؛ التي هي الصفات.   (1) ((رسالة إلى أهل الثغر)) لأبي الحسن الأشعري (185، 189، 191)، ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 242)، ((الاستقامة)) (1/ 102)، ((الصفدية)) (2/ 41)، ((منهاج السنة النبوية)) (1/ 309)، ((الفتاوى المصرية)) (6/ 644)، ((شرح حديث النزول)) (160). (2) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 303، 7/ 143، 382، 8/ 93، 228)، ((منهاج السنة النبوية)) (1/ 315)، ((شرح حديث النزول)) (161)،. ((نقد أساس التقديس)) - مخطوط - القرآن (62/ب)، ((الفرقان بين الحق والباطل)) (47)، ((الفتاوى المصرية)) (6/ 556)، ((علم الحديث)) (294). (3) ((التوحيد للماتريدي)) (129، 231، 233). (4) ((المختصر في أصول الدين لعبد الجبار)) (172). (5) ((تهافت الفلاسفة للغزالي)) (197). (6) ((جامع زبد العقائد التوحيدية في معرفة الذات الموصوفة العالية)) لولد عدلان (11). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 أو لبعضها؛ كالحركة والسكون والاجتماع والافتراق، وهي التي تعرف بالأكوان. . وتقرير هذا – عندهم – يحتاج إلى أربع مقدمات: أ- إثبات الأعراض التي هي الصفات أولا. أو إثبات بعضها؛ كالأكوان؛ التي هي: الحركة والسكون والاجتماع والافتراق. ب- إثبات حدوث الأعراض ثانيا. وذلك: بإبطال ظهورها بعد الكمون. . وإبطال انتقالها من محل إلى محل. ج- إثبات امتناع خلو الجسم ثالثا. إما عن كل جنس من أجناس الأعراض؛ بإثبات أن الجسم قابل لها، وأن القابل للشيء لا يخلو عنه أو عن ضده. . وإما عن الأكوان؛ بمعنى أنها لا تنفك عن الأعراض أو بعضها. د - إثبات امتناع حوادث لا أول لها رابعا. وإثبات حدوث الأجسام بامتناع حوادث لا أول لها مبني على مقدمتين أساسيتين: 1 - المقدمة الأولى: امتناع خلو الجسم من الأعراض التي هي الصفات. . حيث زعموا أن الأجسام لا تخلو عن أعراض حادثة وصفات وأفعال تعتق عليها. 2 - المقدمة الثانية: ما لا يخلو عن الصفات التي هي الأعراض – أو ما لا ينفك عن الصفات، أو ما لا يسبقها – فهو حادث؛ لأن الصفات – التي هي الأعراض – لا تكون إلا محدثة – بزعمهم. وقد زعموا أن الأجسام لا تخلوا عن كل جنس من أجناس الحوادث؛ إذ القابل للشيء لا يخلو عنه أو عن ضده، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث؛ لامتناع حوادث لا أول لها (1). إذا: لقد استدل هؤلاء على إثبات الصانع بحدوث الأجسام: التي يلزم من حدوثها حدوث العالم؛ لأنه أجسام وأعراض. . فيلزم من حدوث العالم إثبات الصانع؛ لأن المحدث لا بد له من محدث (2). . وقد بنوا ذلك على مقدمتين أساسيتين كما تقدم. . وقد اتفق المبتدعة - في باب الصفات – كلهم على دليل الأعراض وحدوث الأجسام من حيث الجملة، ولكن اختلفت فهو مهم في هاتين المقدمتين. فتنوعت طرقهم في الأولى منهما: إذ اختلفوا فيما بينهم على الأصل الذي يستدل به على حدوث الأجسام: هل يستدل على ذلك بملازمتها للأعراض جميعها، أو لبعضها كالأكوان الأربعة: الحركة والسكون والاجتماع والافتراق، أو لبعض الأكوان: كالحركة مثلا؟. وقد تبنت كل فرقة من فرق المبتدعة أصلا من هذه الأصول رأت أنه دليل واضح - في نظرها - على حدوث الأجسام. ثم بنت على هذا الأصل تعطيل الباري جل وعلا عن صفاته أو بعضها، أو تشبيه صفاته – جل وعلا – بصفات خلقه. . وهذا سيتضح لاحقا – إن شاء الله.   (1) ((الفرقان بين الحق والباطل)) (99)، ((الفتاوى المصرية)) (1/ 134، 6/ 519)، ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (3/ 302، 12/ 149)، ((منهاج السنة النبوية)) (1/ 303)، ((علم الحديث)) (294)، ((النبوات)) (127)، ((شرح حديث النزول)) (161)، ((نقض أساس التقديس)) مطبوع (1/ 141، 257)، ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 38)، (7/ 71، 242)، (8/ 17)، (9/ 132)، (10/ 260). (2) ((الفرقان بين الحق والباطل)) (96، 98، 102)، ((الصفدية)) (1/ 274) ((منهاج السنة النبوية)) (1/ 309)، ((الرسالة التدمرية)) (148). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 وتنوعت عباراتهم في الثانية: - فتارة يقولون: كل ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث (1).- وتارة يقولون: كل ما لم يسبق الحوادث فهو حادث (2).- وتارة يقولون: ما قامت به الحوادث فهو حادث (3).- وتارة: ما حلت به الحوادث فهو حادث (4). - وتارة: ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث. إلى غير ذلك من العبارات المتنوعة الألفاظ، المتقاربة المعنى. وقد نفى المعطلة أن يكون الله تعالى جسما تقوم به الأعراض والحوادث، ونفوا بالتالي أن يكون محلا للحوادث؛ لأن من كان محلا للحوادث، فلا بد أن يكون حادثا؛ إذ الحوادث - على حد قولهم – لا تحل إلا بحادث مثلها؛ لوجوب أن يكون لها أول - في نظرهم – وهو المراد من أصلهم: (امتناع حوادث لا أول لها). فسمَّت الجهمية والمعتزلة الصفات أعراضا. وقالوا: لو قلنا: إن الصفات تقوم به، للزم أن يكون جسما، والأجسام حادثة؛ لأنها لم تسبق الحوادث، ولا تخلو عنها، وما لا يسبق الحوادث، ولا يخلو عنها، فهو حادث. وأطلقت الكلابية والأشعرية والماتريدية على أفعال الله تعالى اسم: حوادث. وقالوا: لو قلنا: إن الله تقوم به الصفات والكلام، للزم قيام الحوادث به؛ لأن هذه الصفات حادثة؛ حدثت بعد أن لم تكن، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث. فعطلت هذه الفرق المبتدعة الله جل وعلا عن كل صفاته، أو بعضها، مستندة إلى دليل الأعراض وحدوث الأجسام. ولكل فرقة من هذه الفرق توجيه خاص بها لهذا الدليل يوضح مذهبهم في الصفات، مع اتفاقهم على فحواه من حيث الجملة. وقد أطلق شيخ الإسلام رحمه الله على (دليل الأعراض وحدوث الأجسام) الذي هو أشهر دليل عند المبتدعة: أصل أصول المبتدعة في نفي الصفات (5). المصدر: الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات والرد عليها من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية لعبد القادر عطا – 1/ 317   (1) ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (6/ 313، 330)، رسالة في الصفات الاختيارية - ضمن- ((جامع الرسائل)) (2/ 31)، ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (70)، ((شرح حديث النزول)) (73)، ((كتاب الصفدية)) (2/ 163)، ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 173)، ((النبوات)) (60)، ((الفتاوى المصرية)) (6/ 552)، ((قاعدة نافعة في صفة الكلام)) (33)، ((مجموعة الرسائل المنيرية)) (2/ 69). (2) ((النبوات)) (60)، ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 121، 8/ 18، 334، 342، 344، 9/ 72)، ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (12/ 44)، ((قاعدة نافعة في صفة الكلام)) (34)، ((مجموعة الرسائل المنيرية)) (2/ 70، 74). (3) ((الفتاوى المصرية لابن تيمية)) (6/ 645). (4) ((نقض أساس التقديس)) لابن تيمية - مخطوط - (ق47/ب). (5) ((الفتاوى المصرية)) لابن تيمية (6/ 645). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 المطلب الثاني: شرح دليل الأعراض وحدوث الأجسام عند المعتزلة هذا الدليل هو المسلك المشهور للمعتزلة، وهو عندهم أشهر من دليل التركيب (1).وقد تلقوه عن أسلافهم الجهمية؛ إذ هم في الصفات مخانيث الجهمية (2).وهم وأسلافهم من الجهمية أئمة هذه الطريق، والشبهة كلها أصلا جهمية معتزلية محضة، كما نص على ذلك شيخ الإسلام رحمه الله (3). والمعتزلة يرون أن الدلالة المعتبرة في إثبات وجود الله هي (حدوث العالم). فإذا كان القدم صفة ذات لله وحده يختص بها، ولا يشاركه فيها غيره، كان العالم – بكل ما فيه من أجسام - محدثا (4).فضلا عن أن الحدوث يتضمن الخلق؛ فإذا كان العالم مخلوقا لله، فهو بالضرورة – بكل ما فيه من أجسام - محدث (5). وقد استدلوا على حدوث العالم بحدوث الأجسام والأعراض. ويستند مذهبهم إلى: 1 - مقدمة كبرى مفادها: (أن ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث). 2 - مقدمات ثانوية هي: أ- الأجسام لا تنفك عن الأعراض. ب- الأعراض لازمة للأجسام؛ (فكما أن الأجسام لا توجد معراة عن الأعراض، كذلك الأعراض تفتقر إلى الأجسام). ج - الأعراض حادثة. 3 - نتيجة مفادها أن: الأجسام حادثة. وأول من سلك هذه الطريقة – من المعتزلة –، واستدل بها على حدوث الأجسام: أبو الهذيل العلاف (6)، فزعم "أن الأجسام لم تنفك من الحوادث، ولم تتقدمها، وما لم يخل من المحدث، ولم يتقدمه يجب أن يكون محدثا مثله" (7). وطريقته هذه مبنية على دعاوى أربع: 1 - الأولى: الأجسام لا تنفك عن الأعراض والأكوان؛ (الاجتماع، والافتراق، والحركة، والسكون). 2 - الثانية: الأعراض زائلة. والأكوان متغيرة. وما كان زائلا، أو متغيرا فهو حادث.   (1) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 301). (2) ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (14/ 348). (3) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 344، 12/ 140، 592)، ((منهاج السنة النبوية)) (1/ 303)، ((نقض أساس التقديس)) – مطبوع – (1/ 257)، ((الصفدية)) (2/ 41)، ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/ 196، 7/ 223). (4) ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (130). (5) ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (130). (6) ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (3/ 366)، ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية)) (6/ 35)، ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (3/ 396)، ((لسان الميزان)) لابن حجر (5/ 413)، ((الأعلام)) للزركلي (7/ 131)، ((معجم المؤلفين)) لعمر رضا كحالة (2/ 91). (7) ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (95)، ((أبو الهذيل العلاف)) لعلي مصطفى الغرابي (52)، ((في علم الكلام)) لأحمد محمود صبحي (1/ 339) -القسم الخاص بالمعتزلة- , ((مذاهب الإسلاميين)) لعبد الرحمن بدوي (1/ 397). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 3 - الثالثة: كل ما لا ينفك عن الحوادث، ولا يتقدمها فهو حادث. 4 - الرابعة: الأجسام حادثة؛ لأنها لم تنفك عن الحوادث، ولم تتقدمها (1).وهذه الدعاوى مرتبة – كما ذكر القاضي عبد الجبار–، "فالأولى يجب أن تكون متقدمة، والأخيرة يجب أن تكون متأخرة، والدعويان اللتان في الوسط لا ترتيب فيهما. وإنما قلنا إن الأولى يجب تقديمها؛ لأنها كلام في إثبات هذه المعاني، وما لم نعلمها لا يمكننا وصفها لا بالحدوث ولا بالقدم، كما أنا إذا لم نعلم زيدا، لا يمكننا وصفه بأنه طويل، ولا بأنه أسود. وأما الأخيرة: فإنما وجب تأخيرها؛ لأنها كلام في أن الجسم إذا لم ينفك من المحدث ولم يتقدمه وجب حدوثه مثله. وما لم تثبت الدعاوى الثلاث من قبل لا معنى لهذا الكلام. وأما اللتان هما في الأوسط: فلا ترتيب فيهما؛ لأنهما كلام في أوصاف هذه المعاني، ومتى عرفناها إن شئنا وصفناها أولا بالحدوث، وإن شئنا وصفناها بأن الجسم لم يخل منها" (2). فالدعوى الأولى هي الأساس في هذه المسألة، وعليها بنيت الدعويان اللاحقتان، وأما الأخيرة، فهي نتيجة مترتبة على الدعاوى السابقة. وقد حرر القاضي عبد الجبار هذه الدعاوى، وحاول أن يثبت صحة كل واحدة منها (3). 1 - ففي الدعوى الأولى: وهي أن الأجسام لا تنفك عن الأكوان الأربعة: الاجتماع والافتراق والحركة والسكون: بين أن الجسم حصل مجتمعا في حال، وكان يجوز أن يبقى مفترقا، فلا بد له من أمر ثان خصص كونه مجتمعا، وإلا لم يكن حصوله مجتمعا بأولى من حصوله مفترقا (4).وتصور اعتراضا مفاده: لم لا يجوز أن يكون الجسم مجتمعا لذاته، من غير أمر ثان مخصص، ورد عليه بقوله: (قلنا: لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون مجتمعا أبدا، ولا يكون مفترقا أصلا، ولأنه لو كان كذلك، لوجب أن يكون كل جزء فيه مجتمعا؛ لأن صفة الذات ترجع إلى الآحاد والأفراد دون الجمل. ولأنه لو كان كذلك، لوجب إذا افترق أن يكون مفترقا لذاته، وأيضا فكان يؤدي إلى أن يكون مجتمعا على قصدنا مفترقا دفعة واحدة، وذلك محال. ولأنه لو كان كذلك، لكان يجب ألا يقف كونه مجتمعا على قصدنا ودواعينا، والمعلوم خلافه. ولأنه لو كان كذلك لوجب في الأجسام كلها أن تكون مجتمعة لأنها متماثلة، والاشتراك في صفة من صفات الذات يوجب الاشتراك في سائر صفات الذات" (5).ثم تصور عبد الجبار اعتراضات أخرى يمكن أن تثار ضد هذه الدعوى، ورد عليها ردودا عديدة، وانتهى من هذا التفنيد الطويل المتشعب إلى إثبات الأكوان الأربعة: الاجتماع والافتراق والحركة والسكون (6). 2 - وفي الدعوى الثانية: وهي إثبات حدوث الأعراض: استدل عبد الجبار على دعواه "حدوث الأعراض": بأن العرض يجوز عليه العدم، بينما القديم لا يجوز أن يعدم. والعرض لا يجوز أن يكون قديما، وإذا لم يكن قديما، وجب أن يكون محدثا؛ لأن الموجود يتردد بين هذين الوصفين، فإذا لم يكن على أحدهما، كان على الآخر لا محالة (7). وقد بنى كلامه هذا على أصلين: 1 - أحدهما: أن العرض يجوز عليه العدم. 2 - والثاني: أن القديم لا يجوز عليه العدم. ويريد أن يدلل بهذين الأصلين على حدوث العرض؛ لجواز العدم عليه، وانتفاء العدم عن القديم. وقد برهن على هذين الأصلين، بما يلي:   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (95) - بتصرف. (2) ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (96). (3) ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (96). (4) ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (98). (5) ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (98). (6) ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (99)، ((مذاهب الإسلاميين لعبد الرحمن بدوي)) (1/ 398). (7) ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (104). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 1 - أما الأصل الأول: وهو قوله: (العرض يجوز عليه العدم): فالدليل عليه – كما ذكر عبد الجبار – أن: الجسم المجتمع إذا افترق، فما كان فيه من الاجتماع لا يخلو: إما أن يكون باقيا فيه كما كان. أو زائلا عنه. ومحال أن يكون باقيا فيه كما كان، لحصول الافتراق، فبحصوله زال الاجتماع، وإذا كان زائلا فلا يخلو: إما أن يكون زائلا بطريقة الانتقال. وإما أن يكون زائلا بطريقة العدم. ولا يجوز أن يكون زائلا بطريقة الانتقال؛ لأن الانتقال محال على الأعراض؛ فالعرض يفارق الجوهر تماما، لا ينتقل منه إلى آخر. فلم يبق إلا أن يكون زائلا بطريقة العدم (1). 2 - وأما الأصل الثاني الذي ذكره عبد الجبار: وهو قوله (القديم لا يجوز عليه العدم): فالدليل عليه – كما زعم -: أن "القديم قديم لنفسه، والموصوف بصفة من صفات النفس لا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال. وهذه الدلالة مبنية على أصلين: أحدهما: أن القديم قديم لنفسه. والثاني: أن الموصوف بصفة من صفات النفس لا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال" (2). أولا: القديم قديم لنفسه؛ لأنه لو لم يكن كذلك - على حد قول عبد الجبار، لكان: 1 - إما قديما بالفاعل، وهذا محال؛ لأن من حق الفاعل أن يكون متقدما على فعله، وما تقدمه غيره لا يجوز أن يكون قديما؛ لأن القديم هو ما لا أول لوجوده. 2 - أو قديما بالمعنى، وهو محال أيضا؛ لأن المعنى لا يخلو؛ إما أن يكون قديما، أو محدثا. ولا يجوز أن يكون محدثا؛ لأن العلة لا تتراخى عن المعلول. ولو كان المعنى قديما لشاركت العلة معلولها، فلم تتميز عنه. ومن شأن العلة أن تتميز عن المعلل، وعدم تميزها يدل على فسادها. فاستحال أن يكون المعنى قديما. وانتفى بذلك أن يكون القديم قديما بالمعنى، فلم يبق إلا أن يقال: إنه قديم لنفسه (3). ثانيا: الموصوف بصفة من صفات النفس لا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال: لأن الذات، أو النفس – كما ذكر عبد الجبار – لما اختصت بصفة صارت ذاتا معلومة، فلو خرجت عن هذه الصفة لخرجت عن أن تكون ذاتا معلومة أصلا، ومن هنا لم يجز على الموصوف بصفة من صفات الذات خروجه عن هذه الصفة بحال من الأحوال؛ إذ صفة الذات مع الذات تجرى مجرى صفة العلة مع العلة؛ فكما أن صفة العلة تجب ما دامت العلة، فكذلك صفة الذات تجب ما دامت الذات (4).وغاية مراد القاضي عبد الجبار من كل هذا الكلام أن يدلل على حدوث الأعراض، وينفي قدمها؛ لأن القدم باق، والباقي لا ينتفي إلا بضد، أو ما يجري مجرى الضد، فيجب ألا ينقضي القديم أصلا؛ لأنه لا ضد له، ولا ما يرجي مجرى الضد (5). وكذا الأعراض تشتمل على نسب التخالف، والتماثل والتضاد؛ إذ يمكن اجتماع المتخالفين، ويمكن ارتفاعهما، مع اتحاد المكان والزمان. ويمكن ارتفاع المتضادين معا، لكن لا يمكن اجتماعهما مع التحاد الزمان والمكان (6).وهذه من صفات المحدثات، والقديم لا يجوز عليه ذلك (7). وأما الدعوى الثالثة: وهي أن الأجسام لا يجوز خلوها من الأكوان؛ التي هي: الاجتماع والافتراق والحركة والسكون: فقد دلل عليها عبد الجبار بما يلي:   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (104). (2) ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (107). (3) ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (107). (4) ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (108). (5) ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (108). (6) ((ضوابط المعرفة)) لعبد الرحمن حبنكة الميداني (58). (7) ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (109). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 1 - الجسم لو جاز خلوه عن هذه المعاني، لجاز أن يخلو عنها الآن، بأن يبقى على ما كان عليه من الخلو. "ألا ترى أن الجسم لما صح أن يكون مجتمعا أو مفترقا الآن، صح أن يكون مجتمعا أو مفترقا في كل وقت وفي كل زمان. ولما استحال أن يكون مجتمعا مفترقا دفعة الآن، استحال أن يكون في كل وقت وفي كل زمان، ولما وجب كونه مجتمعا أو مفترقا الآن وجب ذلك في كل زمن وفي كل مكان. فوجب لو جاز خلوه عنها في كل حال من الأحوال، أن يجوز خلوه عنها الآن بأن يبقى على ما كان عليه من الخلو، وهذا يوجب لو أخبرنا مخبر بأن في أقصى بلاد العالم جسما ليس بمجتمع ولا مفترق ولا متحرك ولا ساكن أن نصدقه، والعلوم خلافه، فثبت بهذا أن الجسم لا يخلو عن الأكوان في وقت من الأوقات" (1).2 - كل جسمين، إما أن يكون بينهما بون ومسافة أو لا يكون. فإن كان بينهما بون ومسافة؛ كانا مفترقين. وإن لم يكن بينهما بون ولا مسافة: فهما مجتمعان. فصح أن الجسم لم ينفك عن هذه المعاني (2). 3 - لو خلا الجسم عن الاجتماع والافتراق، فالسابق إليه لا يخلو: إما أن يكون الاجتماع، أو الافتراق. فلو قيل: إن الذي سبق إليه هو الاجتماع، لقلنا: كيف يصح تجميع ما لم يكن مفترقا من قبل؟ وإن قيل: إن السابق إليه هو الافتراق؛ نقول: كيف يصح تفريق ما لم يكن مجتمعا؟ (3). فدل ذلك على أن الجسم لا ينفك عن هذه المعاني. وأما الدعوى الرابعة: وهي قوله: الجسم إذا لم ينفك عن هذه الحوادث التي هي الاجتماع والافتراق والحركة والسكون: وجب أن يكون محدثا مثلها: فقد دلل عبد الجبار عليها: بأن "الجسم إذا لم يخل من هذه الحوادث ولم يتقدمها: وجب أن يكون حظه في الوجود كحظها، وحظ هذه المعاني في الوجود أن تكون حادثة وكائنة بعد أن لم تكن. فوجب في الجسم أن يكون محدثا أيضا وكائنا بعد أن لم يكن؛ كالتوأمين إذا ولدا معا، وكان لأحدهما عشر سنين، فإنه يجب أن يكون للآخر أيضا عشر سنين" (4). وهذا الدليل الذي ساقه عبد الجبار المعتزلي، والدعاوى الأربع التي قام عليها أول من قال بها: أبو الهذيل العلاف؛ أول من سلك هذا المسلك من المعتزلة – كما تقدم. وعلى مسلكه هذا سار المعتزلة كلهم (5). فهذا الحاكم الجشمي (6): قد بنى قضية حدوث الأجسام على أربع دعاوى: أولهما: أن ههنا أعراضا غير الأجسام. وثانيها: أنها محدثة. وثالثها: أن الجسم لا يخلو منها. ورابعها: أن الجسم إذا لم يسبقها، فإنه يجب أن يكون محدثا مثلها؛ لقد وجد في حال وجودها، فحظه في الوجود كحظها" (7).   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (111). (2) ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (113). (3) ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (113). (4) ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (113). (5) ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (95). (6) ((فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة)) لابن المرتضى – تحقيق فؤاد سيد (354)، ((الأعلام)) للزركلي (5/ 289)، ((الحاكم الجشمي منهجه في التفسير)) – رسالة دكتوراة لعدنان زرزور، ((الزيدية)) لأحمد محمود صبحي (228). (7) ((شرح العيون)) للحاكم الجشمي (104)، مخطوط يوجد في المكتبة الغربية في الجامع الكبير بصنعاء، تحت رقم (99) علم الكلام – نقلا عن ((الزيدية)) للدكتور أحمد محمود صبحي (230). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 وهو في ذلك موافق لأبي الهذيل على مسلكه. ودليله على حدوث الأجسام: "أنها لم تخل من أعراض المحدثات، ولم يتقدم الجسم عليها، فوجب أن يكون حكمه في الوجود كحكمها" (1).وينحو قول الحاكم الجشمي هذا قول ابن المرتضى (2).وقال محمد بن الحسن الطوسي (3) – ذاكرا الدعاوى الأربع التي سبقه إلى بيانها أسلافه من المعتزلة:"الأول: أن في الأجسام معاني غيرها" (4): أي أنها لا تنفك عن الأعراض والأكوان الأربعة؛ الاجتماع والافتراق والحركة والسكون (5)."الثاني: أن نبين أن تلك المعاني محدثة" (6): إذ الأعراض زائلة، والأكوان متغيرة، وما كان كذلك كان حادثا (7)."الثالث: أن نبين أن الجسم لم يسبقها في الوجود" (8): فهو لم يتقدمها، وحاله أنه لا ينفك عنها، ولا يخلو منها (9)."الرابع: أن ما لم يسبق المحدث يجب أن يكون محدثا" (10)، فالأجسام لم تسبق المعاني المحدثة، فحكمها في الحدوث كحكمها، فالأجسام حادثة (11). وهذا رجع صدى لأقوال أسلافه من المعتزلة. وقال عبد الكافي (12) الأباضي (13) مدللا على حدوث الأجسام: "نظرنا في هذا العالم، فوجدناه صنفين لا ثالث لهما: إما جسم، أو عرض صفة له. ثم نظرنا في العرض، فإذا هو صفات متضادة، متعاقبة في الجسم، فقلنا: لا تخلو هذه الأشياء من أن تكون قديمة أو محدثة، فبطل أن تكون قديمة؛ لكونها متعاقبة في الجسم، آتية وذاهبة، وليس في إتيان الآتي منها أكثر من حدوثه، ولا في ذهاب الذاهب أكثر من بطلانه وفنائه. وبطل أن تكون هذه الأشياء مجتمعة مع تضادها في الجسم بحال واحدة؛ لبطلان الوصف له بها في حال واحدة. ولو كان الأمر كذلك؛ فجاز أن يسمى الجسم مجتمعا متفرقا، ومتحركا ساكنا، مع سائر تلك الصفات في حال واحدة، فثبت أن بطلان ما بطل منها لم يبطل إلا بحدوث ضده، وأن ما حدث منها لم يحدث إلا بفناء ضده وبطلانه. فلما كان الأمر هكذا، علمنا أن تلك الأشياء بجميعها محدثة كائنة بعد أن لم تكن" (14).   (1) ((شرح العيون)) للحاكم الجشمي (104)، مخطوط يوجد في المكتبة الغربية في الجامع الكبير بصنعاء، تحت رقم (99) علم الكلام – نقلا عن ((الزيدية)) للدكتور أحمد محمود صبحي (230). (2) ((القلائد في تصحيح العقائد)) (53)، ((البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع)) للشوكاني (1/ 122)، ((الأعلام)) للزركلي (1/ 269)، ((مصادر الفكر العربي الإسلام في اليمن)) لعبد الله الحبشي (584)، ((الزيدية)) لأحمد محمود صبحي (340). (3) ((الفهرست)) للنجاشي (287)، ((رجال الحلي)) (248)، ((لسان الميزان)) لابن حجر (5/ 135)، ((روضات الجنات)) للخوانساري (6/ 216)، ((الكنى والألقاب)) لعباس القمي (2/ 357). ((منهج المقال)) للاستراباذي – مخطوط (ق 281/أ – 282/ب)، ((تنقيح المقال)) للمامقاني (3/ 104)، ((الأعلام)) للزركلي (6/ 84). (4) ((الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد)) للطوسي (44). (5) ((الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد)) للطوسي (44). (6) ((الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد)) للطوسي (44). (7) ((الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد)) للطوسي (45). (8) ((الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد)) للطوسي (44). (9) ((الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد)) للطوسي (46). (10) ((الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد)) للطوسي (44). (11) ((الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد)) للطوسي (43). (12) ((دراسات إسلامية في الأصول الإباضية)) (50). (13) ((مقالات الإسلاميين للأشعري)) (1/ 183)، ((الفرق بين الفرق)) (103)، ((التبصير في الدين)) للإسفراييني (58)، ((البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان)) للسكسي (22). (14) ((الموجز في تحصيل السؤال وتلخيص المقال في الرد على أهل الخلاف)) لعبد الكافي (1/ 38). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 ويلاحظ أن البراهين التي أوردها على دعاويه تكاد تكون مستقاة من كتب القاضي عبد الجبار. إذ حاله كحال سلفه من المعتزلة: يريد أن يثبت أربع دعاوى، فذكر اثنتان منها: 1 - ذكر أن في الجسام معاني؛ من أعراض وأكوان. 2 - أثبت حدوث هذه المعاني. ثم تعرض للباقيتين: فقال: "نظرنا في الجسم، فوجدناه لا يخلو من هذه الأشياء المحدثات، ولا ينفك عنها، ولا يوجد قبلها، ولا بعدها، ولا يوجد إلا وهي معه". . . – إلى أن قال: -"لما كان الجسم غير عار من هذه الأعراض، ولا منك عنها في حال من أحواله، ولم يوجد إلا وهي به، ولا يتقدمها بحال واحدة، ولا يجوز أن يتأخر بعدها حالا واحدة، وهي بجميعها محدثة – كما وصفنا – قضينا على الجسم بالحدوث، كما قضينا على العرض بالحدوث؛ إذ لم يسبقها، ولم يكن قبلها. ولو كان الجسم قبل هذا العرض المحدث موجودا منفكا منه، لكان ينبغي أن يكون قديما لوجوده قبل المحدث. فلما بطل عن الجسم أن يوجد قبل هذا العرض المحدث – كما وصفنا، بطل عنه عند ذلك الوصف بالقدم، وثبت أنه محدث؛ إذ لم يسبق العرض المحدث، ولم يكن قبله" (1). فالأجسام - على حد قول عبد الكافي – لم تسبق الحوادث ولم تتقدمها، وما لم يسبق الحوادث ولم يتقدمها فهو حادث. وقوله موافق لأقوال المعتزلة الآخرين، وهو مثلهم يركز على قضايا أربع: الأولى: الأجسام لا تنفك عن الأعراض والأكوان: (الاجتماع، والافتراق، والحركة، والسكون). الثانية: الأعراض حادثة؛ لزوالها، أو تغيرها. الثالثة: كل ما لا ينفك عن الحوادث، ولا يتقدمها فهو حادث. الرابعة: الأجسام حادثة؛ لأنها لم تنفك عن الحوادث، ولم تتقدمها. المصدر: الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات والرد عليها من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية لعبد القادر عطا – 1/ 347   (1) ((الموجز في تحصيل السؤال وتلخيص المقال في الرد على أهل الخلاف)) لعبد الكافي (1/ 38). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 المطلب الثالث: وجه استدلال المعتزلة بدليل الأعراض وحدوث الأجسام على مذهبهم في الصفات جميع المعتزلة متفقون على نفي صفات الباري جل وعلا. وحقيقة قولهم جميعا: أن ليس لله تعالى علم، ولا قدرة، ولا حياة، ولا سمع، ولا بصر، وأنه لم يكن في الأزل كلام، ولا إرادة، ولم يكن له في الأول اسم، ولا صفة (1).وهم متفقون على أن الله تعالى لا يرى، ولا يرى نفسه (2).بل الذي يقول: إن الله يرى بالأبصار، على أي وجه قاله: فهو مشبه لله بخلقه - عند أبي الحسين الخياط المعتزلي (3). (4) -، والمشبه - عنده - كافر بالله، والشاك في كفره كافر كذلك، وكذا الشاك في الشاك لا إلى غاية (5). على أن هذا التكفير ليس محل إجماع من المعتزلة، فهذا القاضي عبد الجبار المعتزلي. يصرح بأنه لا يكفر المخالف في هذه المسألة - أي من يثبت الرؤية معللا ذلك بقوله: "لما كان الجهل بأنه تعالى لا يرى لا يقتضي جهلا بذاته ولا بشيء من صفاته" (6). والمعتزلة متفقون - أيضا - على نفي صفتي السمع والبصر عن الله تعالى؛ فلا الصفتان قديمتان - عندهم -، ولا حادثتان (7). ويقولون - معللين زعمهم استحالة كون الله سميعا بصيرا -: "وجه استحالته أنه إن كان سمعه وبصره حادثين كان محلا للحوادث، وهو محال. وإن كانا قديمين فكيف يسمع صوتا معدوما، وكيف يرى العالم في الأزل، والعالم معدوم، والمعدوم لا يرى" (8). والمعتزلة متفقون - أيضا - على أن كلام الله تعالى مخلوق له، خلقه في جسم من الأجسام، فكان فيه متكلما، وأنه لم يكن متكلما قبل أن يخلق لنفسه كلاما (9).والقرآن الكريم - عندهم - محدث، ومخلوق، وعلى هذا إجماع المعتزلة كلهم (10).   (1) ((الفرق بين الفرق)) (114)، ((التبصير في الدين)) (63)، ((اعتقادات فرق المسلمين والمشركين)) للرازي (33)، ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (2/ 11). (2) ((الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد)) للخياط المعتزلي (67)، ((شرح الأصول الخمسة)) (232)، ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 238)، ((الفرق بين الفرق)) (114، 181)، ((التبصير في الدين)) (63). (3) ((الفرق بين الفرق)) (179)، ((التبصير في الدين)) (84)، ((طبقات المعتزلة)) (85). (4) ((الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد)) للخياط (67). (5) ((الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد)) للخياط (67). (6) ((شرح الأصول الخمسة)) (233). (7) ((أصول الدين)) للبغدادي (96)، ((الفرق بين الفرق)) (181) ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (71)، ((الملل والنحل)) للشهرستاني (45)، ((نهاية الإقدام)) (341). (8) ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (71). (9) ((الكشاف)) للزمخشري المعتزلي (2/ 88)، ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (7/ 84)، ((شرح الأصول الخمسة)) (528)، ((المحيط بالتكليف)) (32، 316، 331، 333)، ((متشابه القرآن)) (1/ 545)، ((الفرق بين الفرق)) (141)، ((التبصير في الدين)) (64)، ((اعتقادات فرق المسلمين والمشركين)) للرازي (33). (10) ((المحيط بالتكليف)) لعبد الجبار (331)، ((الكشاف)) للزمخشري المعتزلي (3/ 441)، ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (7/ 94). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 فحقيقة قولهم - إذا كما أسلفت -: تعطيل الباري جل وعلا عن صفاته العلا كلها، وجمهورهم يقولون: إن الله عالم، قادر، حي بذاته، لا بعلم، ولا قدرة، ولا حياة (1).واعتبر بعضهم تلك الصفات عين الذات، فادعى أنه - تعالى - عالم بعلم هو هو، وقادر بقدرة هي هو، وحي بحياة هي هو (2).والفرق بين القولين: أن الأول ينفي الصفات كلها، والثاني يثبت الصفة على أنها بعينها ذات، ويثبت الذات على أنها بعينها صفة (3)، وهو نفي للصفة في الحقيقة، بل ونفي للذات أيضا. وللمعتزلة حجتان بنوا عليهما نفي الصفات: أولاهما: حجة التركيب: وملخصها عند المعتزلة: أن إثبات صفات أزلية قديمة لله تعالى، زائدة على ذاته، يجعل الصفة تشارك الذات في القدم الذي هو أخص أوصاف الذات - عندهم -. فيقتضي تعدد القدماء، وهو تركيب ينافي التوحيد - بزعمهم-.وأول من عرف عنه الأخذ بهذه الحجة - من المعتزلة -: واصل بن عطاء (4)، فقد كان ينفي الصفات، زاعما أن إثباتها يؤدي إلى تعدد القدماء، ويدعي أن ذلك شرك خلاف التوحيد، وكان يقول: "من أثبت معنى، وصفة قديمة فقد أثبت إلهين" (5). وثانيهما: حجة الأعراض: وعنها سيكون الحديث في هذا المطلب - بعون الله. والمعتزلة يأخذون بكلتا الحجتين، ويبنون عليهما تعطيل الباري جل وعلا عن صفاته. وقد جمع أبو الحسين الخياط المعتزلي بين هاتين الحجتين، فقال في تحليلهما: "إن الله لو كان عالما بعلم، فإما أن يكون ذلك العلم قديما، أو يكون محدثا. ولا يمكن أن يكون قديما: لأن هذا يوجب وجود اثنين قديمين، وهو تعدد، وهو قول فاسد. ولا يمكن أن يكون علما محدثا: لأنه لو كان كذلك، يكون قد أحدثه الله؛ إما في نفسه، أو في غيره، أو لا في محل. فإن كان أحدثه في نفسه: أصبح محلا للحوادث، وما كان محلا للحوادث فهو حادث. وهذا محال. وإذا أحدثه في غيره: كان ذلك الغير عالما بما حله منه دونه؛ كما أن من حله اللون فهو المتلون به دون غيره. ولا يعقل أن يكون أحدثه لا في محل: لأن العلم عرض لا يقوم إلا في جسم. فلا يبقى إلا حال واحد، وهو أن الله عالم بذاته" (6). أما حجة الأعراض: فقد تقدم شرح الدليل عند المعتزلة آنفا، واتضح قولهم: بـ "حدوث الأجسام" لملازمتها للأعراض، أو بعضها؛ كالحركة والسكون، والاجتماع والافتراق.   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (151)، ((المحيط بالتكليف)) لعبد الجبار (107، 155)، ((المنية والأمل)) (6)، ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 244)، ((الملل والنحل)) (44). (2) ((الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد)) للخياط المعتزلي (75)، ((شرح الأصول الخمسة)) (183)، ((الفصول المهمة في أصول الأئمة)) للحر العاملي (53)، ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 245)، ((التبصير في الدين)) (70)، ((الملل والنحل)) (49). (3) ((الملل والنحل)) (50). (4) ((الفرق بين الفرق)) (20)، ((الملل والنحل)) (46)، ((لسان الميزان)) لابن حجر (6/ 214)، ((المعتزلة وأصولهم الخمسة)) لعواد المعتق (52). (5) ((الملل والنحل)) (46). (6) ((الانتصار للخياط)) (111، 170). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 والمعتزلة يعتبرون الصفات والكلام أعراضا وحوادث، لو قامت بالله تعالى، للزم قيام الأعراض والحوادث به، والأعراض لا تقوم إلا بجسم، وما كان محلا للحوادث فهو حادث. ولذلك أنكروا قيام الصفات بذاته تعالى (1).والله تعالى ليس بجسم - عند المعتزلة -، وقد نقل أبو الحسن الأشعري، وأحمد بن يحيى بن المرتضى المعتزلي إجماعهم على ذلك (2).وقد أجمعوا على أن الله خالق الأجسام والأعراض (3).والصفات الخبرية - من الاستواء، والنزول، والمجيء، واليد، والعينين، والوجه، وغير ذلك - داخلة في عموم الصفات المنفية عن الله تعالى - عند المعتزلة -، وهم يدعون أيضا أن إثبات قيامها بذات الله تعالى: يوم التجسيم، والله تعالى ليس جسما (4).والمعتزلة يقولون أيضا: لو أن الله تعالى كان عالما بعلم، حيا بحياة، قادرا بقدرة، زائدة على ذاته، قائمة به سبحانه: لكان جسما؛ لأن العلم، والقدرة، والإرادة، والحياة تحتاج إلى محل مخصوص، والمحل المخصوص لابد أن يكون جسما، والله سبحانه ليس بجسم، ولا يصح أن يكون جسما، وإلا لكان محدثا؛ لأن الحوادث لا تقوم إلا بحادث (5).يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي: "وجملة القول في ذلك: هو أنه تعالى لو كان حيا بحياة، والحياة لا يصح الإدراك بها إلا بعد استعمال محلها في الإدراك ضربا من الاستعمال، لوجب أن يكون القديم تعالى جسما، وذلك محال. وكذلك الكلام في القدرة؛ لأن القدرة لا يصح الفعل بها، إلا بعد استعمال محلها في الفعل، او في سببه ضربا من الاستعمال، فيجب أن يكون الله تعالى جسما محلا للأعراض، وذلك يجوز" (6). فالله - تعالى - عند عبد الجبار: حي لا بحياة، قادر لا بقدرة، عالم لا بعلم، مريد لا بإرادة،. . . وهكذا في سائر صفاته العلا - تعالى وتقدس. يقول - عبد الجبار - في موضع آخر: "كل ما كان مما لا يجوز إلا على الأجسام: يجب نفيه عن الله تعالى، وإذا ورد في القرآن آيات تقتضي بظاهرها التشبيه، وجب تأويلها؛ لأن الألفاظ معرضة للاحتمال، ودليل العقل بعيد عن الاحتمال" (7).وهذا مراده وطائفته من تنزيه الله - بزعمهم - عن الأجسام، والجواهر، والأعراض، والمكان: تعطيله - جل وعلا - عن الاتصاف بصفاته العلا؛ من العلم، والقدرة، والحياة، والكلام، والاستواء، وغير ذلك من الصفات التي يسميها هؤلاء أعراضا، ويدعون أنها لا تقوم إلا بجسم (8).   (1) ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (3/ 361)، ((نقض أساس التقديس)) - مخطوط (القرآن 63/أ)، ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 305). (2) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 235)، ((طبقات المعتزلة)) (7)، ((منهاج الكرامة)) للحلي الرافضي المعتزلي (81). (3) ((الفرق بين الفرق)) (118). (4) ((شرح الأصول الخمسة)) (226)، ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (5/ 204). (5) ((شرح الأصول الخمسة)) (162، 440)، ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (6/ 3). (6) ((شرح الأصول الخمسة)) (200). (7) ((المحيط بالتكليف)) (200). (8) ((در تعارض العقل والنقل)) (2/ 11)، الإرادة والأمر له - ضمن- ((مجموعة الرسائل الكبرى)) (1/ 383). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 وهذا التنزيه - بزعمهم - مجمع عليه عند المعتزلة. وقد نقل أبو الحسن الأشعري إجماعهم على ذلك في كلام طويل أذكر منه: "ليس بجسم، ولا شبح، ولا صورة،. .، ولا شخص، ولا جوهر، ولا عرض،. .، ولا يتحرك، ولا يسكن، ولا يتبعض، وليس بذي أبعاض وأجزاء، وجوارح وأعضاء، وليس بذي جهات، ولا بذي يمين وشمال وأمام وخلف وفوق وتحت، ولا يحيط به مكان، ولا يجري عليه زمان، ولا تجوز عليه المماسة، ولا العزلة، ولا الحلول في الأماكن، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم، ولا يوصف بأنه متناه، ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات،. . " (1). والمعتزلة أيضا - يقولون بأن الله لا تحله الحوادث. وحقيقة قولهم: أن ليس لله تعالى فعل اختياري يقوم به، "ولا له كلام ولا فعل يقوم به يتعلق بمشيئته وقدرته، وأنه لا يقدر على استواء، أو نزول، أو إتيان، أو مجيء، وأن المخلوقات التي خلقها لم يكن منه عند خلقها فعل أصلا، بل عين المخلوقات هي الفعل، ليس هناك فعل ومفعول، وخلق ومخلوق، بل المخلوق عين الخلق، والمفعول عين الفعل، ونحو ذلك" (2).والملاحظ أن حجتهم على نفي قيام الأفعال به - تعالى - من جنس حجتهم على نفي قيام الصفات كلها به - جلا وعلا؛ فهم - كالجهمية - يسوون في النفي بين هذا وهذا، وليس لهم حجة تختص بنفس قيام الحوادث (3). ومن ينفي قيام الصفات بالله - جل وعلا - بحجة ما - ينفي قيام الفعل به - تعالى - بتلك الحجة من باب أولى. وهذه الحجة هي دليل الأعراض وحدوث الأجسام - كما تقدم بيان ذلك -: أ- إذ الصفات كلها أعراض وأفعال حادثة - عند المعتزلة. ب- وهي لا تقوم إلا بجسم. ج - والأجسام محدثة. د - فلو قامت به - تعالى - الصفات لكان جسما. هـ - ولو قامت به - وهي حوادث بزعمهم - لم يخل منها. ووما لا يخلو من الحوادث فهو حادث (4).لذلك قالوا: لا تقوم بالله الأعراض ولا الحوادث؛ لأنها لو قامت به، لوجب أن يكون - تعالى - جسما، والله ليس بجسم، فأظهروا في الإسلام نفي الصفات والأفعال، وسموا ذلك تقديسا لله عن الأعراض، وتنزيها له عن حلول الحوادث بذاته (5).فلا يقوم بالله تعالى شيء من الصفات الفعلية ولا غيرها - عند المعتزلة -، بل كل ما يضاف إليه جل وعلا - عندهم - فإنما يعود معناه إلى أمر مخلوق منفصل عنه (6). إذ هم يجعلون مقتضى الصفة - التي أضافوها إلى الله - مفعولا منفصلا عن الله، لا يقوم بذاته جل وعلا. ويتضح ذلك في صفة "الخلق": فقد فروا من إثبات قيامها بالله، لئلا يكون الله محلا للحوادث، أو جسما - بزعمهم، وقالوا: إن الخلق هو المخلوق (7).   (1) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 235). (2) ((در تعارض العقل والنقل)) (2/ 12)، الإرادة والأمر له - ضمن- ((مجموعة الرسائل الكبرى)) (1/ 383). (3) ((شرح العقيدة الأصفهانية لابن تيمية)) (70). (4) ((منهاج الكرامة)) للحلي الرافضي المعتزلي (81). (5) ((نقض أساس التقديس)) لابن تيمية -مخطوط - (القرآن 63/أ)، ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (88)، ((الصفدية)) (1/ 128)، ((تفسير سورة الإخلاص)) له (151)، ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (17/ 299)، ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/ 1196، 5/ 245)، ((منهاج السنة النبوية)) (2/ 97، 107)، ((الرسالة التدمرية)) (134)، ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (5/ 290، 6/ 35، 12/ 315)، ((الفتاوى المصرية)) (6/ 443). (6) ((الفتاوى المصرية)) (6/ 438). (7) ((الفصول المهمة في أصول الأئمة)) للحر العاملي (55)، ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (16/ 374). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 وقد خالفهم في ذلك من المعتزلة - والخلاف لفظي؛ إذ الكل ينفي قيام هذه الصفة بالله تعالى: أ- معمر بن عباد السلمي (1)؛ الذي قال بأن الخلق غير المخلوق، وجعل الخلق معنى قائما بالمخلوق؛ أو معاني متسلسلة، ولم يجعله قائما بالخالق جل وعلا فرارا منه عن قيام الحوادث بالله تعالى (2) - بزعمه. ب- أبو الهذيل العلاف (3)؛ الذي جعل الخلق لا في محل؛ فقال: إن قول الله تعالى: "كُنْ" لا في محل. وهذا فرار منه عن قيام الحوادث بالله (4) - بزعمه. وعند التأمل يبدو أن الخلاف بين المعتزلة في هذه المسألة خلاف لفظي، إذ الكل ينفي قيام هذه الصفة بالله تعالى. وقد تأثر ابن كلاب بجمهور المعتزلة، فقال مثلهم بأن الخلق هو المخلوق، والفعل هو المفعول، وجعل مقتضى الصفة مفعولا منفصلا عن الله، لا يقوم بذاته جل وعلا. أما في صفة "الكلام": فقد نفت المعتزلة قيام الكلام بالله تعالى مطلقا؛ قديم النوع منه، وحادث الآحاد، وقد بنوا ذلك على قولهم: (الرب لا تقوم به صفة)؛ لأن ذلك يستلزم التجسيم - بزعمهم -؛ إذ الصفة عرض، والعرض لا يقوم إلا بجسم، والجسم لا يخلو من الحوادث، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث (5).والحوادث: هي جملة من الصفات التي يسمونها: الأعراض، فلو قام به - جل وعلا - كلام متعلق بمشيئته وقدرته، لقامت به الحوادث، التي هي جملة من الأعراض، فيكون جسما محلا للحوادث - على حد زعمهم - ويبطل الدليل الذي استدلوا به على حدوث العالم (6).لذلك فسروا تكليم الله - تبارك وتعالى- لموسى عليه السلام بأنه خلق كلاما في غيره، ليس هو صفة قائمة به (7)؛ فتكلم بدلا عنه، فقالوا بحدوث كلامه - تقدس عن قولهم وتعالى علوا كبيرا. يقول عبد الجبار المعتزلي: "والذي يدل على حدوث كلامه الذي ثبت أنه كلام له: أن الكلام على ما قدمناه لا يكون إلا حروفا منظومة، وأصواتا مقطعة، وقد ثبت فيما هذه حاله أنه محدث؛ لجواز العدم عليه، على ما بيناه في حدوث الأعراض" (8). ولما كان كلامه - جل وعلا - مخلوقا - عندهم - لزم أن يكون القرآن الكريم مخلوقا؛ لأنه من كلامه - تبارك وتقدس. فلزمهم - إذا - أن يقولوا: "إن القرآن أو غيره من كلام الله مخلوق منفصل بائن عنه؛ فإنه لو كان له كلام قديم، أو كلام غير مخلوق، لزم قدم العالم على الأصل الذي أصلوه؛ لأن الكلام قد عرف العقلاء أنه إنما يكون بقدرة المتكلم ومشيئته" (9). الخلاصة: ويتضح مما تقدم: أن شبه المعتزلة في تعطيل الباري - جل وعلا - عن صفاته العلا - بالإستناد إلى دليل الأعراض وحدوث الأجسام - تنحصر في أمرين - كأسلافهم من الجهمية -: أولهما: قولهم: إن الله - تعالى - ليس بجسم؛ لأن الأجسام متماثلة، وهي محدثة - على حد زعمهم. ثانيهما: قولهم: لا تقوم بالله - تعالى - الصفات ولا الأفعال؛ لأن المعقول من الصفات والأفعال أعراض حادثة قائمة بجسم، فلو قامت به الصفات لكان جسما - والله ليس بجسم كما قالوا ولو قامت به الصفات - وهي حوادث بزعمهم - لكان محلا لها، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث. المصدر: الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات والرد عليها من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية لعبد القادر عطا - 1/ 317   (1) ((الفرق بين الفرق)) (151)، ((الملل والنحل)) (65)، ((طبقات المعتزلة)) (54)، ((لسان الميزان)) لابن حجر (6/ 71)، ((المعتزلة وأصولهم الخمسة)) لعواد المعتق (63). (2) ((الملل والنحل)) (68)، ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (16/ 374). (3) ((الفصل في الملل والنحل)) لابن حزم (5/ 58)، ((التبصير في الدين)) (70)، ((الملل والنحل)) (50)، ((اعتقادات فرق المسلمين والمشركين)) للرازي (33)، ((البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان)) للسكسكي (54)، ((المعتزلة وأصولهم الخمسة)) لعواد المعتق (54). (4) ((فرق وطبقات المعتزلة)) (192)، ((التبصير في الدين)) (70)، ((الملل والنحل)) (51)، ((البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان)) للسكسكي (54)، ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (16/ 374). (5) رسالة في الصفات الاختيارية لابن تيمية - ضمن ((جامع الرسائل)) (2/ 7)، ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (12/ 315). (6) ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 275)، ((منهاج السنة النبوية)) (2/ 107)، ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (12/ 315)، ((تفسير سورة الإخلاص)) (152)، ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (17/ 299). (7) ((الكشاف للزمخشري)) (2/ 88). (8) ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (7/ 84)، ((المحيط بالتكليف)) (309). (9) ((شرح حديث النزول)) لابن تيمية (169). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 المطلب الأول: رأي العلاف في الصفات ومناقشته ذكرنا في الكلام على رأي الجمهور؛ أن جمهور المعتزلة يرون أن الله عالم بذاته، لا يعلم زائد على ذاته، وهكذا في سائر الصفات. إلا أن أبا الهذيل خالفهم وأتى برأي آخر فقد قال: "إن الله عالم بعلم وعلمه ذاته، قادر بقدرة، وقدرته ذاته، حي بحياة وحياته ذاته. . " (1).ويقول في موضع آخر: "الله عالم بعلم هو هو، وقادر بقدرة هي هو، وحي بحياة هي هو، وكذلك في سائر الصفات. . " (2).ويقول الخياط: "أن أبا الهذيل (3) كان يقول: إن الله هو الله. . " (4).من هذه الأقوال الثلاثة نستطيع أن نعرف مذهب أبي الهذيل في الصفات؛ وهو أنه أثبت صفات هي بعينها ذات، والفرق بين هذا الرأي ورأي جمهور المعتزلة بينه الشهرستاني في كتاب (الملل والنحل) فقال: "إن الذين قالوا إن الله عالم بذاته لا يعلم قد نفوا الصفة، أما أبو الهذيل فإنه أثبت صفة هي بعينها ذات" (5).والذي يظهر أن هذا الفرق إنما هو فرق في الطريقة لإثبات غاية واحدة وهي نفي الصفات حقيقة في الذات ومتميزة عنها، وهو ما يتفق فيه أبو الهذيل مع الجمهور (6). إذا فالاختلاف إنما هو في الطريقة لإثبات غاية واحدة. والله أعلم. مصدر رأي أبي الهذيل: يقول الأشعري: "إن أبا الهذيل أخذ قوله في الصفات من أرسطاليس (7)، وذلك أن أرسطاليس قال في بعض كتبه: "إن الباري علم كله، قدرة كله، حياة كله، سمع كله، بصر كله، فحسن اللفظ من عند نفسه وقال: علمه هو هو وقدرته هي هو" (8).ويقول الشهرستاني: "إن أبا الهذيل إنما اقتبس رأيه في الصفات من الفلاسفة الذين اعتقدوا أن ذاته واحدة لا كثرة فيها بوجه، وإنما الصفات ليست وراء الذات معاني قائمة بها، بل هي ذاته. . " (9). من هذين القولين: يظهر لنا أن أبا الهذيل إنما اقتبس رأيه في الصفات من الفلاسفة وخصوصا أرسطاليس. المناقشة: لقد أنكر عباد بن سليمان (10) - وهو من مشائخ المعتزلة - على أبي الهذيل قوله هذا في الصفات (11).ورد عليه القاضي عبد الجبار - وهو من مشائخ المعتزلة المتأخرين - فقال: إن في قول أبي الهذيل تناقضا كيف يكون تعالى عالما بعلم ثم يكون علم ذاته؟! (12).وقد انتصر جلال موسى لأبي الهذيل فقال: "إن أبا الهذيل يساير سائر المعتزلة في قوله: إن الله عالم بعلم يسايرهم في أن العلم صفة ذاتية، وإذا لم يقل أنه عالم بذاته فقد قال: إن علمه هو ذاته، ولا فرق بين القولين حتى يقول القاضي عبد الجبار: إن في قول أبي الهذيل نوع من التناقض وإنما ينشأ التناقض إذا كانت الصفات شيئا غير الذات" (13).ونقول: إن وافق أبو الهذيل جمهور المعتزلة، فقد لزمه ما لزمهم من رد، وقد سبق الرد عليهم عند إبطال شبههم، وإن لم يوافقهم فقد لزمه رد القاضي عبد الجبار، وكذلك رد البغدادي حيث قال - رادا على أبي الهذيل - "إذا كان علم الله هو الله وقدرته هي هو، كان الله علما وقدرة، ولو كان كذلك لاستحال أن يكون عالما قادرا، لأن العلم لا يكون عالما، والقدرة لا تكون قادرة، ثم يلزم أن يكون علم الله هو قدرته وبالعكس، وعند ذلك يكون المعلوم لله تعالى مقدورا له أيضا، وهذا يوجب كون ذاته مقدورا له كما كانت معلوما له، فانقطع أبو الهذيل في هذا الإلزام" (14). المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص 91   (1) ((الملل والنحل)) (1/ 53)، ((نهاية الإقدام)) (180). (2) ((المقالات)) (1/ 255). (3) ((فرقة الهذلية)) (58) من الرسالة. (4) ((الانتصار)) (80). (5) ((الملل والنحل)) (1/ 53)، بتصرف (6) ((فلسفة المعتزلة)) (46)، ((المعتزلة)) (69). (7) ((الموسوعة العربية الميسرة)) (117). (8) ((المقالات)) (2/ 158). (9) ((الملل والنحل)) (1/ 52). (10) ((الملل والنحل)) (1/ 71). (11) ((المقالات)) (1/ 225). (12) ((شرح الأصول الخمسة)) (183). (13) ((نشأة الأشعرية وتطورها)) (133). (14) ((أصول الدين)) للبغدادي (91)، بتصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 المطلب الثاني: معاني معمر ومناقشتها يقول معمر (1): "كل عرض قام بمحل فإنما يقوم به لمعنى أوجب القيام به. . . فالحركة مثلا إنما خالفت السكون، لا بذاتها؛ بل بمعنى أوجب المخالفة، وكذلك مغايرة المثل المثل ومماثلته، وتضاد الضد الضد؛ كل ذلك عنده بمعنى" (2).وكان يرى أن كل نوع من الأعراض في كل جسم لا يتناهى أبدا في العدد (3)، ولذا قال: "إذا كان المتحرك متحركا بحركة قامت به، فتلك الحركة اختصت بمحلها لمعنى سواها؛ وذلك المعنى أيضا يختص بمحله لمعنى سواه. . وهكذا إلى ما لا نهاية" (4).ويقول الخياط - وهو يشرح رأي معمر هذا -: "لما وجد معمر جسمين ساكنين أحدهما يلي الآخر، ثم وجد أحدهما قد تحرك دون صاحبه كان لا بد عنده من معنى حله دون صاحبه من أجله تحرك؛ وإلا لم يكن بالتحرك أولى من صاحبه، فإذا كان هذا حكما صحيحا، فلا بد أيضا من معنى حدث له حلت من أجله الحركة في أحدهما دون صاحبه؛ وإلا لم يكن حلولها في أحدهما أولى من حلولها في الآخر، وكذلك إن سئل عن ذلك المعنى لم كان علة لحلول الحركة في أحدهما دون صاحبه؟ قال لمعنى آخر، وكذلك أيضا إن سئل عن ذلك المعنى الآخر، كان جوابه فيه كجوابه فيما قبله" (5).وضرب زهدي جار الله مثلا يوضح رأي معمر هنا، فقال: "إذا نظرنا إلى طاولة فوجدناها حمراء اللون كان ذلك لمعنى خاص، فإذا كانت سوداء كان ذلك لمعنى آخر، وكذلك إذا كانت كبيرة أو صغيرة يابسة أو لينة حديدية أو خشبية؛ كان كل ذلك لمعان خاصة حلت بها، ثم يقول: ويؤخذ من هذا أن الأساس في الطاولة هو ذاتها، لا ما يتعلق بها من الصفات، فالطاولتان لا تختلفان عن بعضهما بالذات؛ لأن ذاتهما واحدة، بل تختلفان فيما يتعلق بهما من الصفات كالحركة والسكون، واللون والحجم، وغير ذلك وهي أمور عرضية لا أهمية لها، وقد فضل معمر أن يدعوها معاني بدل الصفات؛ لأنه ظن أن في هذا ما يخفف من جوهرية الصفات، ويقلل من أهميتها" (6).ولذا دعي هو وأتباعه أصحاب المعاني (7).وعلى هذا الأساس بنى معمر قوله في صفات الباري عز وجل، فقال: "إن الله عالم يعلم وأن علمه كان لمعنى والمعنى كان لمعنى، لا إلى غاية، وكذلك في سائر الصفات" (8). أي: أنه جعل ذات الله تعالى واحدة قديمة، وأراد أن يثبت أن الصفات ما هي إلا معان ثانوية لا أهمية لها، فكان بذلك مشتركا في الغاية مع المعتزلة الذين نفوا الصفات وقالوا: إن الله عالم قادر بالذات ومع أبي الهذيل الذي يثبت الصفات، ولكنه يقول إنها هي الذات. غير أن معمرا، وإن اتفق معهم في الغاية، فقد خالفهم في الطريقة لإثبات تلك الغاية، فاهتدى إلى المعاني (9). مناقشة معمر ومن معه من مثبتي المعاني:   (1) ((فرقة المعمرية)) (63) من الرسالة. (2) ((الملل والنحل)) (1/ 65). (3) ((الفرق بين الفرق)) (152). (4) ((الفرق بين الفرق)) (153). (5) ((الانتصار)) (55). (6) ((المعتزلة)) (68). (7) ((الملل والنحل)) (1/ 66). (8) ((المقالات)) (1/ 228). (9) ((المعتزلة)) (68). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 أولا: يقال لهم أخبرونا عن المعاني التي تدعونها في حركة واحدة أيما أكثر هي أم المعاني التي تدعونها في حركتين؟ فإن أثبتوا قلة وكثرة؛ تركوا مذهبهم وأوجبوا النهاية في المعاني التي نفوا النهاية عنها، وإن قالوا: لا قلة ولا كثرة ههنا، كابروا وأتوا بالمحال الناقض لأقوالهم؛ لأنهم إذا أوجبوا للحركة معنى أوجبوا للحركتين معنيين، وهكذا أبدا فوجبت الكثرة والقلة ضرورة لا محيد عنها. وقد اعترض بعضهم فقال: أخبرونا أليس الله تعالى قادر على أن يخلق في جسم واحد حركات لا نهاية لها، فكان جواب أهل الإسلام لهم بـ "نعم" فتمادوا في السؤال، فقالوا: أخبرونا أيما أكثر ما يقدر الله تعالى عليه من خلق الحركات في جسمين أو ما يقدر عليه من خلق الحركات في جسم واحد؟ فأجاب أهل الحق على ذلك بأنه لا يقع عدد على معدوم، وإنما يقع العدد على الموجود المعدود، والذي يقدر الله تعالى عليه ولم يفعله فليس هو بعد شيئا، ولا له عدد، ولا هو معود، ولا نهاية لقدرة الله تعالى. وأما ما يقدر عليه تعالى ولم يفعله، فلا يقال فيه أن له نهاية، ولا أنه لا نهاية له، وأما كل ما خلق الله تعالى، فله نهاية، وكذا كل ما يخلق إذا خلقه حدثت له نهاية؛ حينئذ لا قبل ذلك، وأما المعاني التي تدعونها فإنكم تدعون أنها موجودة قائمة فوجب أن يكون لها نهاية، فإن نفيتم النهاية عنها لحقتم بأهل الدهر، وكلمناكم بما كلمناهم به. . " (1). وإذا ثبت لها نهاية ثبت لها بداية فأصبحت حوادث والله منزه عن حلول الحوادث فيه، فبطل قولكم. والله أعلم. ثانيا: يقول البغدادي - بعد أن عرض رأي معمر في المعاني -: "وفي هذا القول إلحاد من وجهين: أحدهما: قوله بحوادث لا نهاية لها، وهذا يوجب وجود حوادث لا يحصيها الله تعالى؛ وذلك عناد لقوله تعالى: وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن: 28]. ثانيهما: أن قوله بحدوث أعراض لا نهاية لها يؤديه إلى القول بأن الجسم أقدر من الله تعالى، لأن الله عنده ما خلق غير الأجسام، وهي محصورة عندنا وعنده، والجسم إذا فعل عرضا: فقد فعل معه ما لا نهاية له من الأعراض، ومن خلق ما لا نهاية له ينبغي أن يكون أقدر ممن لا يخلق إلا متناهيا في العدد. ثم قال: وقد اعتذر الكعبي (2) عنه بأن قال: أن معمرا كان يقول: إن الإنسان لا فعل له غير الإرادة، وأما سائر الأعراض، فهي أفعال الأجسام بالطباع. يقول البغدادي: فإن صحت هذه الرواية عنه؛ لزمه أن يكون الطبع الذي نسب إليه فعل الأعراض أقوى من الله - عز وجل -؛ لأن أفعال الله أجسام محصورة، وأفعال الطباع أصناف من الأعراض، كل صنف منها غير محصور العدد. . " (3). والقول بأن شيئا من مخلوقاته تعالى أقدر منه كفر فما يؤدي إليه أو ينبني عليه مثله. وقد سبق أن بينا أن رأيهم في صفات الباري - عز وجل - إنما بنوه على قولهم فيما سواها من الأعراض الموجودة في الأجسام، وقد بطل الأصل وببطلانه يبطل الفرع، والله أعلم. المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص 94   (1) ((الفصل)) (5/ 47). (2) ((فرقة الكعبية)) (74) من الرسالة. (3) ((الفرق بين الفرق)) (153). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 المطلب الثالث: أحوال أبي هاشملقد تخلص أبو هاشم كسابقه من استعمال لفظة الصفات ودعاها أحوالا فقال: إذا قلنا: إن الله عالم أثبتنا لله حالة خاصة هي العلم، وهي وراء كونه ذاتا، وإذا قلنا: إن الله قادر أثبتنا لله حالة خاصة هي القدرة، وهي وراء كونه ذاتا، وهكذا في سائر الصفات، وتأتي فوق هذه الأحوال حال أخرى عامة توجبها كلها (1).ويقول في موضع آخر: "إن العالم له في كل معلوم حال لا يقال فيها أنها حالة مع المعلوم الآخر، ولأجل هذا زعم أن أحوال الباري - عز وجل - في معلوماته لا نهاية لها، وكذلك أحواله في مقدوراته لا نهاية لها، كما أن مقدوراته لا نهاية لها" (2).ويرى أبو هاشم - أيضا - أن هذه الأحوال لا تعرف على انفراد، فهي على حيالها لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة ولا قديمة ولا محدثة، ولكنها توجد مع الذات وتعرف بعلاقتها بها فقط، فقد يعلم الشيء مع غيره، ولا يعلم على حياله كالجوهر الفرد لا يعلم فيه تأليف ولا مماسة ما لم ينضم إليه جوهر آخر (3). وتعليل كونها لا موجودة ولا معدومة أن أبا هاشم كان يرى أن المعدوم شيء، فإذا قال: إن الأحوال موجودة أو معدومة أثبتها أشياء أو ذواتا. وتعليل كونها لا معلومة ولا مجهولة: أن أبا هاشم لو قال ذلك للزمه أن يثبتها أشياء أيضا، لأن من رأيه أنه لا يعلم إلا ما يكون شيئا، ولا قال إنها متغايرة؛ لأن التغير لا يقع إلا على الأشياء والذوات (4)؛ أما تعليل كونها لا قديمة ولا محدثة، أنها لو كانت قديمة لشاركت الذات الإلهية في القدم، ولو كانت محدثة، لكان الله تعالى محلا للحوادث (5).ويقول البغدادي: "إنما ألجأ أبا هاشم إلى القول بالأحوال سؤال ورد من قدماء المعتزلة عن العالم منا هل فارق الجاهل بما علمه لنفسه أو لعله؟، وأبطلوا مفارقته إياه لنفسه مع كونهما من جنس واحد وبطل أن تكون مفارقته إياه لا لنفسه ولا لعلة؛ لأنه لا يكون حينئذ بمفارقته له أولى من آخر سواء فثبت أنه إنما فارقه في كونه عالما لمعنى ما، ووجب أيضا أن يكون لله تعالى في مفارقة الجاهل معنى أو صفة فارقة بها فزعم أنه إنما فارقه لحال كان عليها (6).ويتضح من عرضنا لأحوال أبي هاشم أن غايته كغاية معمر وسائر المعتزلة، وهي التخلص من إثبات الصفات حقيقة في الذات ومتميزة عنها، ولذلك رفض استعمال لفظ الصفات واستعاض عنها بالأحوال. فقال: إن الصفات على حيالها ليست أشياء وذواتا وأنها لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة، وأنها لا توجد إلا إذا تعلقت بالذات ظانا أنه بذلك يخفف من جوهرية الصفات ويقلل من أهميتها، فجاءت أحواله شبيهة من وجوه عديدة بمعاني معمر، وكانت محاولته مماثلة لمحاولة معمر (7).المناقشة: لقد رفض أهل السنة والجماعة أحوال أبي هاشم لذلك رد عليه كثير من العلماء كابن حزم والباقلاني (8) والشهرستاني والبغدادي ونشير إلى بعض ردودهم عليه، فنقول وبالله التوفيق. أولا: يقول ابن حزم - رحمه الله - في جملة رده على مثبتي الأحوال: "أخبرونا عن هذه الأحوال، هل هي معان ومسميات. . محدودة، أم ليست معاني. .؟ ".   (1) ((الملل والنحل)) (1/ 75)، ((نهاية الإقدام)) (180). (2) ((الفرق بين الفرق)) (196). (3) ((الفرق بين الفرق)) (195)، ((الملل والنحل)) (1/ 75)، ((نهاية الإقدام)) (137). (4) ((الفرق بين الفرق)) (182). (5) ((المعتزلة)) (70). (6) ((الفرق بين الفرق)) (181). (7) ((المعتزلة)) (71). (8) ((الأعلام)) (7/ 46)، ((وفيات الأعيان)) (1/ 481)، ((معجم المؤلفين)) (10/ 109). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 إن قالوا ليست معانيا ولا محدودة ومتميز بعضها عن بعض، ولا لها مسميات؛ قيل لهم: فهذا هو معنى العدم حقا، فلم قلتم أنها ليست معدومة؟!، فإن قالوا: هي معان. . ولها مسميات محدودة متميز بعضها عن بعض: قيل لهم: هذه صفة الموجود، فلم قلتم أنها ليست موجودة؟! وبذلك يبطل قولهم: إنها ليست موجودة ولا معدومة، ويقال لها أيضا: هذه الأحوال أتقولون أنها معقولة أم لا؟. إن قالوا: إنها معقولة كانوا قد أثبتوا لها معاني وحقائق من أجلها عقلت؛ فهي موجودة لأن المعدوم ليس معقولا، ويقال لهم: هل الأحوال في اللغة وفي المعقول إلا صفات لدى حال؟ وهل الحال في اللغة إلا بمعنى التحول من صفة إلى أخرى؟ يقال: هذه حال فلان اليوم، وكيف كانت حالك بالأمس، فإذا كان الأمر هكذا ولا بد فهذه الأحوال موجودة حقا مخلوقة ولا بد، فظهر فساد قولهم أنها غير مخلوقة، ثم قال: ونقول لهم: قلتم: أنها لا حق ولا باطل، وكل ذي حس سليم يعلم أن كل ما لم يكن حقا فهو باطل، وما لم يكن باطلا فهو حق، هذا الذي لا يعقل غيره. قوله تعالى: فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يونس: 32]. وقوله تعالى: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [الأنفال: 8]. وقوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر: 9]. وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2]. فقد قطع الله تعالى أنه ليس إلا حق أو باطل، وليس إلا علم أو جهل، وهو عدم العلم، وليس إلا وجود أو عدم، وليس إلا شيء مخلوق أو الخالق أو لفظة العدم التي لا تقع على شيء. . فقد أكذبهم الله في دعواهم ولا يشك ذو حس سليم أن ما لم يكن باطلا فهو حق، وما لم يكن حقا فهو باطل، وما لم يكن معلوما فهو مجهول، وما لم يكن مجهولا فهو معلوم، وما لم يكن شيئا فهو لا شيء، والعكس كذلك وما لم يكن موجودا فهو معدوم، وما لم يكن معدوما فهو موجود. . هذا كله معلوم بالضرورة ولا يعقل غيره. . ثم قال: ولا فرق بين ما قالوه في هذه القضية، وبين القول اللازم لهم ضرورة، وهو أن تلك الأحوال معدومة موجودة معا معلومة مجهولة معا. وهذا هو نفس قولهم ومقتضاه؛ لأنهم إذا قالوا: ليست حقا فقد أوجبوا أنها باطل، وإذا قالوا: ولا هي باطل فقد أوجبوا أنها حق، وهكذا في سائر ما قالوا. . " (1). واجتماع المتضادين معلوم بالضرورة بطلانه فما يؤدي إليه مثله. ثانيا: يقال لهم: هذه الأحوال لا تخلو إما أن تكون غير معلومة أو معلومة. إن كانت غير معلومة فلا سبيل إلى معرفتها والدلالة عليها، والعلم بأنها لزيد دون عمرو؛ لأن ما ليس بمعلوم لا يصح قيام دليل عليه، ولا أن يعلم اضطرارا، ولا أن يعلم أنه لزيد دون عمرو؛ لأن العلم بأن الحال حال لفلان فرع عن العلم بالحال. وكذلك العلم بأنها معلومة بالاستدلال دون الاضطرار فرع للعلم بها جملة، فإذا استحال العلم بها جملة، استحال العلم بأنها لفلان دون فلان، وأنها معلومة بالاستدلال دون الاضطرار. ومما يدل على فساد قولكم أنها غير معلومة، أنه لا يخلو العلم بأن النفس على الحال من أن يكون علما بالنفس فقط دون الحال أو علما بالحال فقط دون النفس أو علم بهما جميعا أو علما لا بالنفس ولا بالحال.   (1) ((الفصل)) (5/ 51)، بتصرف، ((الفرق بين الفرق)) (196)، ((نهاية الإقدام)) (134). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 فإذا كان علما لا بالنفس ولا بالحال فذلك محال من قولنا وقولكم جميعا. وإن كان علما بالنفس دون الحال فذلك محال وموجب لأن يكون العلم بالنفس أنها نفس علما بالحال وأن يكون كل من علم ذات من له الحال ووجوده، علم اختصاصه بتلك الحال؛ وذلك محال. وإن كان العلم بأن النفس على الحال علما بالحال فقط فقد ثبت أن الحال معلومة وإن كان العلم بذلك علما بالنفس والحال، فقد وجب أن يكونا معلومين جميعا، وأن تكون الحال معلومة كما أن النفس معلومة وهذا يبطل قولكم أن الحال غير معلومة. وإن كانت هذه الحال معلومة وجب أن تكون إما موجودة أو معدومة، فإن كانت معدومة استحال أن توجب حكما وأن تتعلق بزيد دون عمرو وبالقديم دون المحدث، وإن كانت موجودة، وجب أن تكون شيئا وصفة متعلقة بالعالم، وهذا قولنا الذي نذهب إليه، وإنما يحصل الخلاف في العبارة، وفي تسمية هذا الشيء علما أو حالا، وليس هذا بخلاف في المعنى فوجب صحة ما نذهب إليه من إثبات الصفات، وبطلان قولكم أنها أحوال (1).ومما يدل على بطلان هذه الأحوال التي تزعمونها أن كل حال يحتاج إلى حال أخرى، وهكذا فيتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية وهو باطل فما يؤدي إليه مثله (2). وبذلك تبطل أحوال أبي هاشم. والله أعلم. ويحسن قبل أن نختم الكلام على موقف المعتزلة من الصفات أن نشير إلى أن أهم ما ظهر لنا من ذلك أن المعتزلة سلكوا طريقين في موقفهم من الصفات، فأغلبيتهم وعلى رأسهم النظام نفاها فقال: إن الله عالم بذاته لا بعلم وهكذا في باقي الصفات. وبعضهم أثبتها اسما ونفاها فعلا فقال: إن الله عالم بعلم وعلمه ذاته، وهكذا في بقية الصفات، فكان مجتمعا مع الرأي الأول في الغاية وهي نفي الصفات والمقصود بنفي الصفات نفي إثباتها حقيقة في الذات ومتميزة عنها (3). وذلك أنهم - كما ذكرنا - يجعلونها عين الذات، فالله عالم بذاته بدون علم أو عالم بعلم وعلمه ذاته، ثم قلنا: أنه خرج لهم بعد ذلك آراء أخرى أهمها معاني معمر وأحوال أبي هاشم، وهذان الرأيان يجتمعان في الغاية مع الرأيين الأولين، وهو التخلص من إثبات الصفات حقيقة في الذات، ومتميزة عنها. المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص 97   (1) انظر ((التمهيد)) (ص 201) بتصرف. (2) انظر ((التمهيد)) (ص 202). (3) انظر ((فلسفة المعتزلة)) (ص 46,48). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 المطلب الأول: رأي المعتزلة في الإرادة ومناقشتهم لقد اختلف المعتزلة في موقفهم من الإرادة، وأهم آراءهم في ذلك؛ رأيان: أحدهما: رأي البصريين ومن تبعهم من المعتزلة، ويتلخص هذا الرأي في أن الله تعالى مريد بإرادة حادثة لا في محل (1). ثانيهما: للنظام والكعبي، ومن تبعهما: وهؤلاء ينفون الإرادة عن الله أصلاً. وسنعرض - إن شاء الله - هذين الرأيين من أقوالهم، أو أقوال من نقل عنهم، ثم نرد عليهم، فنقول وبالله التوفيق: الرأي الأول: رأي البصريين ومن تبعهم: يقول القاضي عبدالجبار: "وقال شيخنا أبو علي، وأبو هاشم - رحمهما الله - ومن تبعهما أنه تعالى مريد في الحقيقة، وأنه يحصل مريداً بعد ما لم يكن إذا فعل الإرادة، وأنه يريد بإرادة محدثة، ولا يصح أن يريد لنفسه ولا بإرادة قديمة، وأن إرادته توجد لا في محل" (2).ويقول في موضع آخر: " ... واعلم أنه تعالى مريد عندنا بإرادة محدثة موجودة لا في محل" (3).ويروي البغدادي رأي المعتزلة البصريين في الإرادة، فيقول: "إن البصريين من المعتزلة قالوا: إن إرادة الله تعالى ليست قديمة بل محدثة لا في محل، بها يخصص الله الأشياء بالوجود دون العدم" (4). من هذه النقول نستطيع أن نعرف رأي البصريين ومن تبعهم من المعتزلة في الإرادة، وهو أن الله تعالى مريد بإرادة حادثة لا في محل. المناقشة: علمنا من عرضنا لرأي البصريين من المعتزلة في الإرادة: أن رأيهم يتلخص في أن الله مريدا بإرادة حادثة لا في محل. إذاً الرد عليهم سيتضمن - إن شاء الله - الرد على قولهم الله مريد بإرادة حادثة، ثم على قولهم لا في محل. أ- الرد على قول البصريين "الله مريدا بإرادة حادثة ... ":إن قول البصريين بحدوث إرادة الله تعالى باطل؛ وذلك أنه قد ثبت أن إحداث المحدثات موقوف على الإرادة، فلو كانت الإرادة محدثة لافتقر إحداثها إلى إرادة أخرى ولزم التسلسل، والقول بالتسلسل باطل فما يؤدي إليه مثله من القول بحدوث الإرادة (5).وأيضاً: فإن الإرادة صفة، والصفة قديمة بقدم موصوفها (6)، كما بيناه في مقام سابق عند الرد على رأي جمهور المعتزلة في الصفات عامة. ب- الرد على قول المعتزلة "الله مريد بإرادة ... لا في محل". إن قول المعتزلة "الله مريد بإرادة ... لا في محل" باطل من وجوه منها: الأول: أن وجود عرض لا في محل بعيد عن العقول، ولو جاز ذلك فلم لا يجوز وجود سواد لا في محل وبياض لا في محل؟، وكذا القول في سائر الأعراض (7) ... يقول الشهرستاني - في معرض رده على من قال بهذا القول-: "ويستحيل كون الإرادة لا في محل، فإن الإرادة من جملة الأعراض، واحتياج الأعراض إلى المحل صفة ذاتية لها، ومن المحال ثبوتها دون الوصف الذاتي ... " (8).   (1) انظر ((شرح الأصول الخمسة)) (ص440). (2) ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (6/ 3). (3) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص440). (4) ((الفرق بين الفرق)) (ص181). (5) ((الأربعين في أصول الدين)) (ص152، 154)، و ((نهاية الإقدام)) (ص245)، بتصرف. (6) انظر ((منهاج السنة)) (2/ 95). (7) ((الأربعين في أصول الدين)) (ص154)، بتصرف. (8) ((نهاية الإقدام)) (ص 243). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 وإذا كانت الأعراض تستلزم محلاً تقوم به، فإن الإرادة تستلزم محلاً تقوم به كسائر الأعراض، وعليه فإن القول بأن الله مريد بإرادة لا في محل باطل. الثاني: أن ذوات الحيوانات تصلح عليها صفة المريدية، فلو جوزت إرادة لا في محل لكانت نسبة تلك الإرادة إلى ذات الله تعالى كنسبتها إلى سائر الذوات فوجب: أن توجب صفة المريدية لكل من يصلح أن يكون مريداً لعدم الاختصاص، فيلزم أن يكون كل ما يريده الله تعالى يريده كل الأحياء وذلك باطل فما يؤدي إليه مثله من القول بحدوث الإرادة لا في محل (1). الثالث: يلزم على قولكم "الله مريد بإرادة لا في محل "أن يكون الله تعالى مريداً بإرادة قائمة لا في ذاته، ولو جاز أن يكون تعالى مريد بإرادة قائمة لا في ذاته لجاز أن يكون عالماً بعلم قائم لا في ذاته، وقادر بقدرة قائمة لا في ذاته إلى غير ذلك من الصفات، وهذا لا تقولون به، ولجاز أيضاً أن يكون الواحد منا علاماً وقادراً بعلم قائم لا في ذاته وقدرة قائمة لا في ذاته، وهذا مما لا تقولون به أيضاً والتحكم بالفرق من غير دليل مما لا سبيل إليه. وهذه اللوازم معلوم بطلانها بالضرورة؛ بل أنتم لا توافقون عليها، وإذا كانت هذه اللوازم باطلة بطل ما يؤدي إليها من القول بأن الله مريد بإرادة ... لا في محل (2).الرابع: يقال لهم من رأيكم أن المتماثلين يجب اشتراكهما في الواجبات والجائزات وما يستحيل، ثم أوجبتم لإرادتنا القيام بالمحال، فلماذا لم تلتزموا ذلك في إرادة الباري تعالى (3)؟!.ثم أنه لو لم تكن الإرادة قائمة به تعالى فقول القائل مريد بها هجر من الكلام كقوله: مريد بإرادة قائمة في غيره (4)!. وبما ذكرنا يظهر بطلان قول المعتزلة "الله مريد بإرادة حادثة لا في محل" ويتبين أن إرادته تعالى أزلية قائمة في ذاته تعالى. والله أعلم. الرأي الثاني: رأي النظام والكعبي ومن تبعهما في الإرادة: ذكرنا أن البصريين من المعتزلة يرون: أن الله مريد بإرادة حادثة لا في محل، إلا أنه وجد من المعتزلة من ينفي الإرادة عن الله أصلاً، وذلك كالنظام والكعبي اللذين قالا: إن الله تعالى غير مريد على الحقيقة وأنه لا يوصف بها إلا مجازاً، فإذا قلنا أن الله تعالى مريد في الأزل، فمعناه أنه عالم قادر غير مكره على فعله، ولا كاره له، وإذا قلنا: أنه مريد لأفعاله؛ فالمراد أنه خالقها ومنشئها على وفق علمه، وإذا قلنا أنه مريد لأفعال عباده، فالمعنى أنه آمر بها (5).يقول القاضي عبدالجبار: "وقال إبراهيم النظام: إن إرادة الله تعالى إنما هي فعله أو أمره أو حكمه" (6).يقول في موضع آخر: "والمحكي عن شيخنا أبي الهذيل - رحمه الله - أن إرادة الله غير المراد، فإرادته لما خلقه هي خلقه له ... وإرادته لطاعات العباد؛ هي أمرهم بها" (7).وقال في موضع ثالث: "وقال الجاحظ: إنه تعالى مريد بمعنى أن السهو منه في أفعاله، والجهل بها لا يجوز عليه ... " (8). المناقشة: أولاً: يقال لهم: إذا زعمتم أنه قد كان في سلطان الله - عز وجل - الكفر والعصيان، وهو لا يريدها، وأراد أن يؤمن الخلق أجمعون، فلم يؤمنوا فقد وجب على قولكم أن أكثر ما شاء الله أن يكون لم يكن، وأكثر ما شاء الله أن لا يكون كان، لأن الكفر الذي كان وهو لا يشاؤه تعالى - عندكم - أكثر من الإيمان الذي كان وهو يشاؤه؛ وعلى هذا فأكثر ما شاء الله أن يكون لم يكن، وهذا جحد لما أجمع عليه المسلمون من أن ما شاء الله أن يكون كان، وما لم يشأ لا يكون (9).ثانياً: يلزم على قولكم بنفي الإرادة أن تكون الأفعال غير اختيارية شبيهة بالأفعال الطبيعية عند أهل الطبائع، وهذا باطل فما يؤدي إليه مثله (10). ثالثاً: يلزم من نفي الإرادة عن الله تعالى وصفه بالعجز، وهو صفة نقص تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ووصف الله بالنقص باطل، فما يؤدي إليه مثله. رابعاً: يلزمكم مع كل ما ذكرنا ما لزم نفاة الصفات من الردود، وقد سبق بيان ذلك عند الرد على المعتزلة في موقفهم من الصفات عامة. والله أعلم، وهو ولي التوفيق. المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص 103   (1) انظر: ((الأربعين في أصول الدين)) (ص154)، و ((غاية المرام في علم الكلام)) (ص59). (2) انظر ((غاية المرام في علم الكلام)) (ص59)، و ((شرح العقائد النسفية)) (ص69، 70). (3) انظر ((الإرشاد)) (ص95). (4) انظر ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص106). (5) ((الفرق بين الفرق)) (ص182)، و ((نهاية الإقدام)) (ص238)، و ((أصول الدين)) (ص90)، و ((الملل والنحل)) (1/ 73) "بتصرف". (6) ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (6/ 4). (7) ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (6/ 4). (8) ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (6/ 5). (9) ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص163)، و ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص108)، بتصرف. (10) ((نهاية الإقدام)) (ص245)، بتصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 المطلب الثاني: رأي المعتزلة في صفتي السمع والبصر ومناقشتهم لقد اختلف المعتزلة في المقصود بهاتين الصفتين بعد أن اتفقوا عموماً على نفيهما، فلا هما قديمان، ولا حادثان (1).يقول الشهرستاني: "واتفقت المعتزلة على أن الإرادة والسمع والبصر ليست معاني قائمة بذاته تعالى؛ لكن اختلفوا في وجوه وجودها، ومحامل معانيها ... " (2). إذاً المعتزلة قد اتفقت على أن السمع والبصر ليست معاني قائمة بذاته تعالى، لكنهم اختلفوا في وجوه وجودها، ومحامل معانيها على أقوال، أهمها ما يلي: القول الأول: قول الجبائي وابنه، ومن تابعهما من البصريين: ويتلخص رأيهم في أن الله سميع بصير، بمعنى أنه حي لا آفة به تمنعه من إدراك المسموع والمرئي إذا وجدا؛ ذلك أنهم ... يرون أن الحي إذا سلمت نفسه عن الآفة، سمي سميعاً بصيراً. يقول ابن منتويه: "والذي يبين أن الحياة غير متعلقة ... إلى أن قال: فإذا صح أن لا متعلق لهذه الصفة، كان أخص ما يذكر في توابعها كونه سميعاً بصيراً، لأنه من حكم كونه حياً، ألا ترى أن معناه أنه حي لا آفة به ... " (3).ويقول البغدادي - وهو يحكي مذاهب المخالفين له في صفتي السمع والبصر - فيقول: "والفرقة الرابعة قدرية البصرة، قالوا: إن الله تعالى لم يزل سميعاً بصيراً على معنى أنه كان حياً لا آفة به تمنعه من إدراك المسموع إذا وجد" (4).ويقول في موضع آخر: "وزعم الجبائي وابنه: أن الله لم يزل سميعاً؛ بمعنى أنه كان حياً لا آفة به تمنعه من إدراك المسموع إذا وجد ... " (5).ويحكي الشهرستاني آراء المعتزلة في معنى كونه تعالى سميعاً بصيراً، فيقول: " ... ومن قال من المعتزلة أن المعني بكونه سميعاً بصيراً، أنه حي، لا آفة به، فمذهبه بخلاف مذهب الكعبي، وهو الذي صار إليه الجبائي وابنه ... " (6).ويروي الشهرستاني في موضع آخر: أن الجبائي قال: "إن الحي إذا سلمت نفسه عن الآفة سمي سميعاً بصيراً ... " (7). هذا هو رأي الجبائي وابنه، ومن تابعهما من البصريين في معنى وصف الله بالسمع والبصر. القول الثاني: رأي النظام والكعبي، ومن تابعهما من البغداديين في معنى السميع والبصير: ويتلخص رأيهم في أن الله تعالى لا يسمع، ولا يبصر شيئاً على الحقيقة، وتأولوا وصفه بالسميع والبصير، على معنى العلم بالمسموعات والمرئيات. يقول الشهرستاني: "وذهب الكعبي، ومن تابعه من البغداديين إلى أن معنى كونه تعالى سميعاً بصيراً؛ أنه عالم بالمسموعات والمبصرات ... " (8).ويقول البغدادي: "وزعم الكعبي أن الله تعالى لا يرى نفسه ولا غيره؛ إلا على معنى علمه بنفسه، وبغيره، وتبع النظام في قوله: إن الله تعالى لا يرى شيئاً في الحقيقة ... " (9).ويقول في موضع آخر: "وزعم الكعبي، والبغداديون من المعتزلة؛ أن الله تعالى لا يسمع شيئاً على معنى الإدراك المسمى بالسمع، وتأولوا وصفه بالسميع والبصير على معنى أنه عليم بالمسموعات التي يسمعها غيره، والمرئيات التي يراها غيره ... " (10).ويقول في موضع ثالث: "وزعم الكعبي والنظام أن كون الإله سامعاً؛ إنما يفيد كونه عالماً بالمسموع ... " (11).   (1) انظر ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص109). (2) ((الملل والنحل)) (1/ 49). (3) ((المجموع المحيط بالتكليف)) (ص136). (4) ((أصول الدين)) (ص96). (5) ((أصول الدين)) (ص97). (6) ((نهاية الإقدام)) (ص341). (7) ((نهاية الإقدام)) (ص344). (8) ((نهاية الإقدام في علم الكلام)) (ص341). (9) ((الفرق بين الفرق)) (ص181). (10) ((الفرق بين الفرق)) (ص 181). (11) ((أصول الدين)) (ص96)، وانظر (ص44) من نفس الكتاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 من هذه الأقوال؛ يظهر أن النظام والكعبي، ومن تابعهما من البغداديين يظهر أنهم يرون أن الله لا يسمع، ولا يبصر شيئاً على الحقيقة، ويؤولون وصفه بالسميع والبصير على معنى العلم بالمسموعات والمرئيات. ولذا يقول الكعبي - وهو يشرح هذا الرأي -: "إن الذي يجده الإنسان من نفسه إدراكه للمسموع والمبصر بقلبه وعقله، فهو لا يحس بصره بالمبصر؛ بل يحس المبصر، ويسمع المسموع؛ وذلك هو العلم حقيقة، ولما كان ذلك العلم لا يحصل إلا بوسائط سمعه وبصره؛ سمي كل من السمع والبصر حاسة، وإلا فالمدرك هو العالم، وإدراكه ليس زائداً على علمه، والدليل على ذلك: أن من علم شيئاً بالخبر ثم رآه بالبصر، وجد أن شعور النفس بهما في الحالتين واحدة، فهو لا يجد فرقاً إلا في الجملة والتفصيل والعموم والخصوص، وليس فرق جنس وجنس، أو نوع ونوع" (1). من عرضنا لرأي المعتزلة في صفتي السمع والبصر، نستخلص أنهم قد اتفقوا على نفيهما قائمتين بذاته تعالى حقيقة، ولذا فإنهم أولوا ما ورد في الكتاب والسنة من إشارة إلى هاتين الصفتين، بأن المقصود بهما حياته، كما يراها البصريون أو العلم، كما يراها البغداديون .... الرد على المعتزلة في نفيهم لصفتي السمع والبصر: إن قول المعتزلة بنفي صفتي السمع والبصر عن الله تعالى باطل، وبيان ذلك أن النقل والعقل قد دلا على ثبوت صفتي السمع والبصر له تعالى، فالقول بنفيهما مخالفة للنقل الصريح من الكتاب والسنة ومخالفة للعقل الصحيح، وما خالفهما باطل بالاتفاق. فمن النقل: قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشوري: 11]. ففي هذه الآية دلالة صريحة على وصف الله تعالى بالسمع والبصر. وقال تعالى حاكياً ما قاله إبراهيم عليه السلام لأبيه-: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا [مريم: 42]. وجه الدلالة: يقول ابن خزيمة: "أفليس من المحال أن يقول خليل الرحمن لأبيه: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا [مريم: 42]. فيعيبه بعباده ما لا يسمع، ولا يبصر، ثم يدعوه إلى عبادة ما لا يسمع ولا يبصر كالأصنام التي هي من الموتى لا من الحيوان ... " (2). فدل ذلك على ثبوت صفتي السمع والبصر له تعالى على ما يليق بجلاله. وقال تعالى: أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 34 - 44]. وجه الدلالة: يقول ابن خزيمة: "إن الله تعالى أخبر بهذه الآية أن، من لا يسمع، ولا يعقل كالأنعام، فدل على ثبوت صفتي السمع والبصر له سبحانه وتعالى؛ وإلا لزم اتصافه تعالى بصفة النقص التي أثبتها لمن لا يسمع ... تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً" (3).وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم في سفر فكنا إذا علونا كبرنا، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبا إنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً ... الحديث)) (4).   (1) ((نهاية الإقدام)) (ص343). (2) ((التوحيد)) لابن خزيمة (ص33). (3) ((التوحيد)) لابن خزيمة (ص46). (4) رواه البخاري (2992) , ومسلم (2704). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 ففي هذا الحديث كالآيات دلالة على اتصافه تعالى بصفتي السمع والبصر قائمتين بذاته تعالى حقيقة. يقول البيهقي - في كتابه (الأسماء والصفات) -: "السميع من له سمع يدرك به المسموعات، والبصير: من له بصر يدرك به المرئيات، ولكل منهما في حق الباري تعالى صفة قائمة بذاته تعالى (1).ومن العقل ما يقوله الباقلاني: حيث قال: "والدليل على أنه تعالى سميع بصير .... أنه قد ثبت أنه تعالى حي، والحي يصح أن يكون سميعاً بصيراً ... ومن عرى من هذه الأوصاف مع صحة وصفه بها، فلابد من أن يكون موصوفاً بأضدادها ... من العمى والصمم، وهذه الأمور آفات قد اتفق على أنها تدل على حدوث الموصوف بها، فلم يجز وصف القديم بشيء منها، فوجب أن يكون سميعاً بصيراً ... " (2). وإذا ثبت بالنقل والعقل، أنه تعالى سميع بصير، بطل ما يزعمه النفاة؛ من أنه تعالى ليس بسميع، ولا بصير بسمع وبصر قائمين في ذاته تعالى على ما يليق بجلاله. إضافة إلى هذا: فإنه سبق أن عرضت لشبهات المعتزلة في نفي الصفات في مبحث موقف المعتزلة من الصفات عامة، ورددت عليها، وعلى ذلك فإنه يبطل رأي المعتزلة في نفي صفتي السمع والبصر ببطلان رأيهم في نفي سائر الصفات، لأن شبهاتهم التي نفوا بسببها الصفات: عامة لجميع الصفات، وليست خاصة بصفات بعينها. والله أعلم، وهو ولي التوفيق. ثانياً: الرد على الجبائي وابنه، ومن تابعهما من البصريين في تأويلهم السميع، والبصير بالحي الذي لا آفة به: عرفنا - فيما سبق - عند عرضنا لرأي الجبائي وابنه، ومن تابعهما أنهم يرون: أن الله سميع بصير بمعنى أنه حي لا آفة به: وهذا التأويل مما يظهر بطلانه، وإليك شيئاً من الردود التي وجهت لأصحاب هذا الرأي. أولاً: يقال لهم أطلقتم القول بنفي الآفة، وهو ليس بشرط بالاتفاق، فإن السميع والبصير قد يكون ذا آفة، وذا آفات كثيرة (3). فإن قيل: ليس السميع هو من سلبت عنه الآفة مطلقاً؛ بل من سلبت عنه الآفة في محل السمع ... قيل لهم: هذا القول باطل أيضاً، فإن من قال: السمع: هو نفي الآفة في محل السمع، فكأنه قال: السميع: هو من له السمع في محل السمع، ولو قال: السميع هو من له السمع؛ لكان ذلك كافياً عن ذكر المحل، وإذا كان كافياً، فكأنه قال: السميع: هو الذي لا آفة به، وإذ ذاك فإنه يرجع الكلام الأول بعينه (4). وإذا كان لا يلزم من نفي الآفة وجود السمع والبصر، ولا ينتفي بوجودها، فإن تفسير السمع والبصر بنفي الآفة باطل. ثانياً: إن الذي يحسه الإنسان من نفسه معنى موجود لا نفي محض، وقولهم: لا آفة به نفي محض، فلا يتصور الإحساس به، ويستحيل أن ترجع التفرقة بين حالتي الإدراك وعدم الإدراك إلى عدم محض؛ فحينئذ تنعدم التفرقة، فإن التفرقة بالعدم، وعدم التفرقة سواء ... (5).   (1) ((عقيدة السفاريني)) (1/ 122). (2) ((التمهيد)) (ص26، 27)، وانظر ((اللمع)) للأشعري (ص26)، و ((الإرشاد)) (ص 72 - 73). (3) انظر ((نهاية الإقدام)) (ص346). (4) ((غاية المرام)) (ص128). بتصرف. (5) ((نهاية الإقدام)) (ص347). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 ثالثاً: يقول الشهرستاني - وهو يرد على الجبائي ومن معه -: "نحن ندرك تفرقة ضرورية بين كون الإنسان سميعاً، وبين كونه بصيراً، وهما متفقان في أن معنى كل واحد منهما أنه حي لا آفة به، فهذه التفرقة ترجع إلى ماذا؟ فلابد من أمرين زائدين على كونه حياً لا آفة به حتى يكون بأحدهما سميعاً، وبالثاني بصيراً، وإلا فتبطل التفرقة الضرورية فالذي انفصل به السمع عن البصر وراء كونه حياً لا آفه به، فكذلك الذي انفصل به السمع والبصر عن العلم وسائر الصفات وراء كونه حياً لا آفه به. ثم قال - أي: الشهرستاني-: ولئن ألزم الجبائي بأن يقال معنى كونه عالماً قادراً أنه حي لا آفة به حتى يرد الصفات كلها إلى كونه حياً لا آفه به لم يجد عن هذا الإلزام مخلصاً (1).رابعاً: ويقول الآمدي - في معرض رده على الجبائي ومن معه من البصريين -: "إن العقل السليم يقضي بفساد قول من فسر السمع والبصر بنفي الآفة دون العلم والقدرة وغيرها من الصفات، مع أنه لو سئل عن الفرق لم يجد عنه مخلصاً، بل كل ما تخيل من منع تفسير العلم والقدرة بانتفاء الآفة فهو بعينه في الإدراك حجة لنا" (2). من مجموع هذه الردود يتضح بطلان رأي الجبائي ومن معه من البصريين في تفسيرهم "السميع البصير" بالحي الذي لا آفة به. والله أعلم. ثالثا: الرد على البغداديين في تأويلهم صفتي السمع والبصر بالعلم: عرفنا - فيما سبق - أن النظام، والكعبي، ومن تابعهما من البغداديين أنهم يرون؛ أن المراد بوصف الله بالسمع والبصر؛ إنما المراد به العلم، فقولنا: الله سميع بصير، أي: عليم. وهذا القول ظاهر البطلان لما يلي:-1 - أن في هذا التأويل نفي لصفتي السمع والبصر قائمتين بذاته حقيقة، وتأويل لهما بالعلم، مع أنه روى أبو هريرة - رضي الله عنه - ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية: إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء: 58] فوضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينيه)) (3).ويقول ابن القيم - رحمه الله -: "وإنما فعل ذلك - صلى الله عليه وسلم - رفعاً لتوهم متوهم أن السمع والبصر غير العينين المعلومتين ... " (4).ويقول البيهقي - بعد أن أورد هذا الحديث للدلالة على ثبوت صفتي السمع والبصر لله تعالى - قال: "والمراد بالإشارة المروية في هذا الخبر تحقيق الوصف لله - عز وجل - بالسمع والبصر، فأشار إلى محلي السمع والبصر منا؛ لإثبات صفة السمع والبصر لله تعالى، كما يقال: قبض فلان على مال لفلان، ويشار باليد على معنى أنه حاز ماله، وأفاد هذا الخبر أنه سميع بصير له سمع وبصر حقيقيان، لا على معنى أنه عليم؛ إذ لو كان بمعنى العلم، لأشار في تحقيقه إلى القلب، لأنه محل العلوم منا، وليس في الخبر إثبات الجارحة تعالى الله عن شبه المخلوقين علواً كبيراً ... " (5). فدل هذا الحديث على ثبوت صفتي السمع والبصر لله تعالى حقيقة، وبطلان تأويلهما بالعلم. 2 - إن ألفاظ الشرع؛ إنما تصرف عن موضوعاتها المفهومة السابقة إلى الأفهام إذا كان يستحيل تقديرها على الموضوع، ولا استحالة في كونه سميعاً بصيراً، بل يجب أن يكون كذلك، فلا معنى للتحكم بإنكار ما فهمه أهل الإجماع من القرآن.   (1) ((نهاية الإقدام)) (ص347). (2) ((غاية المرام في علم الكلام)) (ص128، 129). (3) رواه أبو داود (4728) وسكت عنه, وقد قال في ((رسالته لأهل مكة)) كل ما سكت عنه فهو صالح. قال الحافظ في ((الفتح)) (13/ 385): إسناده قوي على شرط مسلم. (4) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (ص460 - 461). (5) ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص180). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 فإن قيل وجه استحالته أنه إن كان سمعه وبصره حادثين كان محلاً للحوادث، وهو محال، وإن كانا قديمين، فكيف يسمع صوتاً معدوماً؟ وكيف يرى العالم في الأزل؟ والعالم معدوم، والمعدوم لا يرى. فالجواب: أن يقال أنتم معشر المعتزلة تسلمون أن الله تعالى يعلم الحادثات، فهو يعلم الآن أن العالم كان موجودا قبل هذا الوقت، لكن كيف علم في الأزل أنه كان موجوداً، وهو بعد لم يكن موجوداً؟ فإن جاز إثبات صفة في الأزل تكون عند وجود العالم، علماً بأنه كائن، وقبله بأنه سيكون، وبعده بأنه كان، وهو لا يتغير، عبر عن هذه الصفة بالعلم والعالمية، جاز ذلك في السمع، والسمعية، والبصر والبصرية (1). 3 - يلزم من تأويل صفتي السمع والبصر بالعلم، تسوية الله تعالى بالأعمى الذي يعلم أن السماء خضراء، ولا يراها، والأصم الذي يعلم أن في السماء أصواتاً، ولا يسمعها، ولا شك أن في تسوية الله تعالى بالأعمى والأصم تنقص له تعالى، وهو باطل، فما يؤدي إليه مثله من تأويل لهاتين الصفتين بالعلم.4 - كذلك رد الأشعري على من أول السمع والبصر بالعلم، فقال: "وزعمت المعتزلة أن قوله تعالى: سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:134] أن معناه عليم ... قيل لهم: فإذا قال تعالى: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46]. فمعنى ذلك - عندكم - علم. فإن قالوا: نعم. قيل لهم: فقد وجب عليكم أن تقولوا معنى قوله تعالى: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46]. أعلم وأعلم إذا كان معنى ذلك العلم" (2). وهذا باطل، فما يؤدي إليه من تأويل السمع والبصر بالعلم مثله. ويقول في موضع آخر: " .... فيقال للمعتزلة: إذا زعمتم أن معنى "سميع بصير" عالم، فهلا زعمتم أن معنى قادر معنى عالم؟ ... فإن قالوا: هذا يوجب أن يكون كل معلوم مقدوراً. قيل لهم: ولو كان معنى سَمِيعًا بَصِيرًا معنى عالم؛ لكان كل معلوم مسموعاً، وإذا لم يجز ذلك، بطل قولكم" (3).5 - يقول البغدادي: "وزعم النظام والكعبي أن كون الإله سامعاً؛ إنما يفيد كونه عالماً بالمسموع .... وهذا باطل، لأن الواحد منا يسمع الصوت فيكون عالماً به في حال السماع، ثم يكون عالماً به في الحال الثانية، ولا يكون سامعاً فصح بهذا أن السمع للشيء غير العلم به ... " (4). المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص 107   (1) ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص109، 110)، بتصرف. (2) ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص157)، بتصرف. (3) ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص158، 159)، بتصرف. (4) ((أصول الدين)) (ص96). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 المبحث السادس: رأي المعتزلة في القرآن ومناقشتهم حقيقة الكلام عند المعتزلة: هو الحروف المنظومة، والأصوات المقطعة، شاهداً وغائباً (1).وقد انتقد القاضي عبدالجبار هذا التعريف قائلاً: إن فيه إخراج لما يتألف من حرفين من أن يكون كلاماً، وفيه ضرب من التكرار؛ لأن الأصوات المقطعة هي الحروف المنظومة، ولذلك فقد عرفه بتعريف آخر، فقال: "هو ما انتظم من حرفين فصاعداً، أو ماله نظام من الحروف مخصوص" (2). ثانياً: خلاف المعتزلة في الكلام، هل هو جسم أم عرض، وهل هو مخلوق؟: لقد اختلف المعتزلة في الكلام، هل هو جسم أم عرض، على أقوال، أهمها ما يلي: القول الأول: قول بعضهم؛ أن كلام الله جسم وأنه مخلوق، وأنه لا شيء إلا جسم. القول الثاني: رأي النظام وأصحابه: وهو أن كلام الخلق عرض؛ وهو حركة، لأنه لا عرض عندهم إلا الحركة، وأن كلام الخالق جسم، وأن ذلك الجسم صوت مقطع مؤلف مسموع، وهو فعل الله وخلقه، وإنما يفعل الإنسان القراءة؛ والقراءة الحركة، وهي غير القرآن. القول الثالث: رأي أبي الهذيل، وجعفر بن حرب ومعمر، والأسكافي ومن تبعهم؛ وهو أن الكلام عرض مخلوق (3). من هذا العرض لخلافهم؛ يتضح أن المعتزلة قد اختلفوا في الكلام هل هو جسم أم لا؟ إلا أنهم اتفقوا على أنه مخلوق. يقول القاضي عبدالجبار: "والذي يدل على حدوث كلامه الذي ثبت أنه كلام له؛ أن الكلام على ما قدمناه لا يكون إلا حروف منظومة، وأصواتاً مقطعة، وقد ثبت - فيما هذه حاله - أنه محدث؛ لجواز العدم عليه على ما بيناه في حدوث الأعراض" (4). وإذا كان كلام الله مخلوقاً؛ فالقرآن - أيضاً - مخلوق، لأنه كلامه. يقول القاضي عبدالجبار - وهو يتكلم عن مذاهب الناس في القرآن -: "وأما مذهبنا، فهو أن القرآن كلام الله تعالى ووحيه، وهو مخلوق محدث .... " (5).ويقول ابن منتويه: "وقد أطلق مشايخنا كلهم في القرآن أنه مخلوق" (6).ويقول المقبلي - وهو يعرض اختلاف الناس في الكلام -: "والمتكلمون نظروا في كيفيته فاختلفوا ... ورتبت المعتزلة على ذلك إطلاق المخلوق على القرآن" (7). من هذا العرض يتضح لنا عقيدة المعتزلة في القرآن، وهو أنه مخلوق. وقد تمسكوا في قولهم هذا بشبهات نقلية وعقلية، منها ما يلي: الشبهة الأولى: قال تعالى: اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ... [الرعد: 16]. وجه الدلالة: يقول القاضي - بعد أن أورد هذه الآية-: "الآية تدل بعمومها على حدوث القرآن، وأنه تعالى خلقه ... ولا دلالة توجب إخراج القرآن من العموم، فيجب دخوله فيه" (8). المناقشة:   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص528)، و ((نهاية الإقدام)) (ص 388). (2) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص529). (3) ((المقالات)) (1/ 267، 268، 269)، وانظر ((المعتزلة)) (ص77). (4) ((المفتي في أبواب العدل والتوحيد)) (7/ 84). (5) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص528). (6) ((المحيط بالتكليف)) (ص331). (7) ((العلم الشامخ)) (ص128). (8) ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (7/ 94). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 436 يقال لهم: إن تمسككم بهذه الآية على زعم أن القرآن شيء فيكون داخلاً في عموم كل، فيكون مخلوقاً لمن أعجب العجب!؛ وذلك أن أفعال العباد كلها عندكم غير مخلوق لله تعالى، وإنما يخلقها العباد جميعها لا يخلقها الله، فأخرجتموها من عموم "كل"، وأدخلتم كلام الله في عمومها، مع أنه صفة من صفاته، به تكون الأشياء المخلوقة؛ إذ بأمره تكون المخلوقات. قال تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ .... [الأعراف: 54]. ففرق بين الخلق والأمر، فلو كان الأمر مخلوقاً، للزم أن يكون مخلوقاً بأمر آخر، والآخر بآخر، إلى ما لا نهاية له، فيلزم التسلسل؛ وهو باطل. وطرد باطلكم أن تكون جميع صفاته تعالى مخلوقة، كالعلم والقدرة، وغيرهما؛ وذلك صريح الكفر، فإن علمه شيء، وقدرته شيء ... فيدخل ذلك في عموم "كل"، فيكون مخلوقاً بعد أن لم يكن، تعالى الله عما تقولون علواً كبيراً. وأيضاً كيف يصح أن يكون الله متكلماً بكلام يقوم بغيره، ولو صح ذلك؛ للزم أن يكون ما أحدثه من الكلام في الجمادات كلامه، وكذلك - أيضا - ما خلقه في الحيوانات؛ وألا يفرق بين نطق وأنطق ... بل يلزم أن يكون متكلماً بكل كلام خلقه في غيره زوراً كان أو كذباً - تعالى الله عن ذلك -. ولو صح أن يوصف أحد بصفة قامت بغيره؛ لصح أن يقال للبصير أعمى والعكس؛ ولصح أن يوصف تعالى بالصفات التي خلقها في غيره من الألوان غيرها. أما تمسككم بعموم "كل" فإن عمومها في كل موضع بحسبه، ويعرف ذلك بالقرائن، ألم ترى ... قوله تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف: 25]. ومساكنهم شيء، ولم تدخل في عموم كل شيء دمرته الريح؟؛ وذلك لأن المراد تدمر كل شيء يقبل التدمير بالريح عادة، وما يستحق التدمير. وكذلك قوله تعالى - حكاية عن بلقيس-: وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ... [النمل: 23]. والمراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك، وهذا القيد يفهم من قرائن الكلام. وعلى ذلك؛ فالمراد من قوله تعالى: اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ... [الرعد: 16]. أي: كل شيء مخلوق، وكل موجود سوى الله، فهو مخلوق، فدخل في هذا العموم أفعال العباد حتماً، ولم يدخل في العموم الخالق تعالى وصفاته، لأنه سبحانه وتعالى هو الموصوف بصفات الكمال، وصفاته ملازمة لذاته المقدسة لا يتصور انفصال صفاته عنه (1) ... وبما أن القرآن كلام الله، وكلامه تعالى صفة من صفاته. إذاً القرآن ليس داخلاً في عموم الآية، فهو ليس مخلوقاً؛ وبذلك يبطل استدلالكم بهذه الآية. والله أعلم. الشبهة الثانية: قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا .... [الزخرف: 3]. وجه الدلالة: يقول القاضي: "وقوله: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: 3] يوجب حدوثه، لأن الجعل والفعل سواء في الحقيقة ... فدل ذلك على حدوث القرآن" (2).ويقول الزمخشري: " ... إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: 3] أي: خلقناه عربياً غير عجمي إرادة أن تعقله العرب، ولئلا يقولوا لولا فصلت آياته ... " (3). الجواب عن هذه الشبهة: إن استدلال المعتزلة بهذه الآية باطل. من وجوه، منها:-   (1) ((شرح الطحاوية)) (ص183 - 186)، وانظر ((فتاوى ابن تيمية)) (5/ 54). (2) ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (7/ 94). (3) ((الكشاف)) للزمخشري (3/ 477). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 أولاً: أن "جعل" تكون بمعنى: خلق إذا تعدت إلى مفعول واحد. كقوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ... الآية [الأنعام: 1]. وقوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء: 30].أما إذا تعدت إلى مفعولين لم تكن بمعنى خلق، قال تعالى: وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً ... الآية [النحل: 91]. وقال تعالى: وَلاَ تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ .... [البقرة: 224]. والآية التي استدلوا بها: "جعل" فيها قد تعدت إلى مفعولين، فهي ليست بمعنى خلق (1). ثانياً: أن معنى "جعل" هنا "صرف" فيكون معنى الآية: إنا صرفناه من لغة إلى لغة؛ أي: صرفه الله إلى اللغة العربية؛ وذلك أن كلام الله واحد وهو سبحانه وتعالى محيط بجميع اللغات، فهو إن شاء جعل كلامه عبرياً، وإن شاء جعله عربياً. يقول الطبري - عند تفسير هذه الآية -: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: 3] أي: "أنزلناه بلسان عربي" (2). فإذا كانت "جعل" ليست بمعنى خلق؛ بل بمعنى صرف، بطل استدلال المعتزلة بهذه الآية. والله أعلم. الشبهة الثالثة: يقول القاضي عبد الجبار: "وقوله تعالى: .... نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص: 30] يوجب حدوث النداء؛ لأنه جعل الشجرة ابتداء غايته، وهذا يوجب حدوثه فيها" (3).ويروى الرازي استدلال المعتزلة بهذه الآية، فيقول: "احتجت المعتزلة على قولهم: إن الله تعالى تكلم بكلام يخلقه في جسم بقوله تعالى: ... مِنَ الشَّجَرَةِ، فإن هذا صريح في أن موسى - عليه السلام - سمع النداء من الشجرة والمتكلم بذلك النداء هو الله - سبحانه وتعالى -، وهو تعالى منزه أن يكون في جسم، فثبت أنه تعالى إنما يتكلم بخلق الكلام في جسم" (4). الجواب عن هذه الشبهة:   (1) ((شرح الطحاوية)) (ص186)، بتصرف. (2) ((مختصر تفسير الطبري)) (2/ 223). (3) ((متشابه القرآن)) (2/ 545). (4) ((التفسير الكبير)) للرازي (24/ 244). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 يقال لهم: إن استدلالكم بهذه الآية على أن الكلام خلقه الله تعالى في الشجرة، فسمعه موسى منها باطل؛ ودليل ذلك أول الآية وآخرها. فأما أولها: فقوله تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ ... الآية [القصص: 30]. والنداء: هو الكلام من بعد، فسمع موسى - عليه السلام - النداء من حافة الوادي؛ ثم قال: فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَة [القصص: 30] أي: أن النداء كان في البقعة المباركة من عند الشجرة، كما تقول: سمعت كلام زيد من البيت، يكون من البيت ابتداء الغاية، لا أن البيت هو المتكلم، ومثل ذلك قوله تعالى: ... مِنَ الشَّجَرَةِ ... الآية لابتداء الغاية؛ لا أن الشجرة هي المتكلمة. وأما آخر الآية: فقوله تعالى: .... يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص: 30]. فإنه لو كان الكلام مخلوقاً في الشجرة، لكانت هي القائلة لهذا الكلام، وهو باطل، وما يؤدي إلى الباطل مثله، ولو كان هذا الكلام بدأ من غير الله لكان قول فرعون: ... أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24]. صدقاً؛ إذ كل من الكلامين - عندكم - مخلوق قد قاله غير الله!، وقد فرقتم بين الكلامين على أصولكم الفاسدة: فزعمتم أن ذلك كلام خلقه الله في الشجرة، وهذا كلام خلقه فرعون، فحرفتم وبدلتم، واعتقدتم خالقاً غير الله (1).وأيضاً: فإنه لو سمع موسى - عليه السلام - كلام الله تعالى من غير الله، لما كان له - عليه السلام - فضل علينا؛ لأننا نسمع كلام الله - عز وجل - من غيره (2) .... وبذلك تبطل هذه الشبهة. والله أعلم. الشبهة الرابعة: قال تعالى: مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء: 2]. وجه الدلالة: يقول القاضي: "الآية تدل على حدوث القرآن، لأنه تعالى نص على أن الذكر محدث، وبين بغير آية أن الذكر هو القرآن، كقوله تعالى: ... إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ [يس: 69]. وقوله تعالى: وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ .... الآية [الأنبياء: 50]. فإذا صح أنه ذكر وثبت بهذه الآية حدوث الذكر، فقد وجب القول بحدوث القرآن" (3).ويروي الرازي احتجاج المعتزلة بهذه الآية، فيقول - بعد إيراده الآية -: "احتجت المعتزلة على حدوث القرآن بهذه الآية فقالوا: القرآن ذكر، والذكر محدث؛ فالقرآن محدث ... " (4).   (1) انظر ((شرح الطحاوية)) (ص186 - 187)، و ((الفتاوى)) (5/ 52، 53). (2) انظر ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) لابن حزم (3/ 5). (3) ((متشابه القرآن)) (2/ 496). (4) ((التفسير الكبير)) (22/ 140). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 الجواب عن هذه الشبهة: يقال لهم: إن تمسككم بهذه الآية على أن القرآن مخلوق باطل. وذلك أن دلالة الآية على نقيض قولكم أقوى منها على قولكم؛ فإنها تدل على أن بعض الذكر محدث، وبعضه ليس بمحدث، وهو ضد قولكم؛ ثم إن الحدوث في لغة العرب العام ليس هو الحدوث في اصطلاحكم، فإن العرب يسمون ما تجدد حادثاً، وما تقدم على غيره قديماً؛ وإن كان بعد أن لم يكن كقوله تعالى: ... كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس: 39]. ولما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم- لا يعلمه ثم علمه الله إياه كان بالنسبة إليه محدثاً وكذلك من سوى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أمته يعتبر محدثاً إليهم فهو كقول القائل: حدث اليوم عندنا ضيف، ومعلوم أن الضيف كان موجوداً قبل ذلك، فالحدوث في الآية؛ إنما هو إشارة إلى أن القرآن محدث الإتيان، لا محدث العين (1).يقول القرطبي - عن تفسير الآية-: " مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ ... الآية [الأنبياء: 2] المراد به في النزول وتلاوة جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان ينزل سورة بعد سورة، وآية بعد آية، كما كان ينزله الله تعالى في وقت بعد وقت لا أن القرآن مخلوق" (2). وإذا كان الحدوث في الآية المراد به حدوث الإتيان، بطل استدلالكم بهذه الآية. والله أعلم. الشبهة الخامسة: يقول القاضي: "لو كان الله تعالى متكلماً لذاته؛ لكان يجب أن يكون قائلاً فيما لم يزل إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ .... الآية [نوح: 1]؛ وإن لم يكن قد أرسل وأهلك عادا وثمودا وإن لم يكن قد أهلك ... " (3).ويروي الرازي هذه الشبهة فيقول: "والشبهة الثانية: أنه سبحانه وتعالى أخبر بلفظ الماضي في مواضع كثيرة من القرآن، كقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا ... [نوح: 1] ... فلو كان الإخبار قديما كان هذا الإخبار قديماً أزلياً، لكان قد أخبر في الأزل عن شيء مضى قبله، وهذا يقتضي أن يكون الأزل مسبوقاً بغيره، وأن يكون كلام الله تعالى كذباً، ولما كان كل واحد منهما محاولاً علمنا أن هذا الإخبار يمتنع كونه أزلياً" (4). الجواب عن هذه الشبهة: يقال لهم: أولاً: معلوم أنه تعالى كان عالماً في الأزل بأنه سيخلق العالم، ثم لما خلقه صار العلم متعلقاً بأنه قد خلقه في الماضي، ولما لم يقتضي هذا حدوث العلم وتغيره، فكذلك الخبر (5). وبهذا يتبين: بطلان هذه الشبهة. ثانيا: على فرض صحة هذه الشبهة، فإنها تلزمنا لو قلنا: أن كلام الله قديم الآحاد، ونحن لا نقول بذلك، بل نقول: كلام الله قديم النوع حادث الآحاد. وبذلك يتبين فساد شبهتكم؛ وعلى فرض صحتها؛ فإنها لا تلزمنا. والله أعلم. الشبهة السادسة: يقول القاضي: "إن العدم مستحيل على القديم تعالى، فلو كان الكلام قديماً؛ لما جاز أن يعدم ... " (6).ويقول الرازي - وهو يروي هذه الشبهة -: "إن كلام الله تعالى لو كان قديماً أزلياً لكان باقياً أبدياً، لأن ما ثبت قدمه يمتنع عدمه، فيكون قوله تعالى لزيد صل صلاة الصبح باقياً بعد أن صلى زيد صلاة الصبح وبعد أن مات، وبعد أن قامت القيامة، وهكذا يكون باقياً أبد الآباد ... ومعلوم أن ذلك على خلاف المعقول، فإنه تعالى إذا أمر عبده بفعل من الأفعال أتى ذلك العبد بذلك الفعل لم يبق ذلك الأمر متوجهاً إليه، وإذا ثبت أن ذلك الأمر قد زال ثبت أنه كان محدثاً لا قديماً" (7). الجواب عن هذه الشبهة: لقد أجاب الرازي على هذه الشبهة فقال: "والجواب عن هذه الشبهة؛ هو أن قدرته تعالى كانت متعلقة من الأزل إلى الأبد بإيجاد العالم، فلما أوجد العالم لم يبق ذلك التعلق، لأن إيجاد الموجود محال، فقد زال هذا التعلق، فلما لم يقتض ذلك حدوث قدرة الله تعالى، فكذلك القول في الكلام" (8). وبهذا يتبين بطلان هذه الشبهة. المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص 116   (1) انظر ((محاسن التأويل)) (11/ 4246)، و ((منهاج السنة النبوية)) (2/ 189). (2) ((تفسير القرطبي)) (11/ 267). (3) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص554). (4) ((الأربعين)) للرازي (ص183). (5) ((الأربعين)) للرازي (ص184)، بتصرف. (6) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص549 - 550). (7) ((الأربعين في أصول الدين)) (ص183). (8) ((الأربعين في أصول الدين)) (ص184). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 المبحث السابع: رأي المعتزلة في الرؤية مع ذكر أدلتهم ومناقشتها وذكر أدلة أهل السنة على جواز الرؤية • المطلب الأول: المذاهب في رؤية الله تعالى . • المطلب الثاني: نفاة الرؤية، وأدلتهم ومناقشتها. • المطلب الثالث: الأدلة العقلية للمعتزلة. • المطلب الرابع: أدلة أهل السنة على جواز الرؤية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 المطلب الأول: المذاهب في رؤية الله تعالى يحسن بنا قبل أن نبدأ الكلام في رؤية الله تعالى، أن نذكر آراء العلماء في هذه المسألة، لقد اختلف العلماء المسلمون في رؤية الله تعالى، هل هي جائزة واقعة أم لا؟ على رأيين: 1 - فذهب أهل السنة والجماعة إلى أن الله تعالى يجوز أن يرى، وأن المؤمنين سيرونه في الجنة رؤية بصرية، منزها عن صفات المخلوقين. 2 - وذهب المعتزلة ومن تبعهم إلى أن رؤية الله تعالى بالعين الإنسانية مستحيلة وممتنعة. المصدر: رؤية الله تعالى وتحقيق الكلام فيها لأحمد بن ناصر آل حمد - ص24 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 المطلب الثاني: نفاة الرؤية، وأدلتهم ومناقشتها ذهب المعتزلة والجهمية ومن تبعهم من الخوارج والإمامية وبعض الزيدية وبعض المرجئة (1) إلى نفي رؤية الله تعالى عيانا في الدنيا والآخرة، وقالوا: باستحالة ذلك عقلا؛ لأنهم يقولون إن البصر لا يدرك إلا الألوان والأشكال، أي ما هو مادي والله تعالى ذات غير مادية، فمن المستحيل إذن أن يقع عليه البصر، فالقول برؤية الله تعالى هدم للتنزيه وتشويه لذات الله وتشبيه له حيث إن الرؤية لا تحصل إلا بانطباع صورة المرئي في الحدقة، ومن شرط ذلك انحصار المرئي في جهة معينة من المكان حتى يمكن اتجاه الحدقة إليه، ومن المعلوم علم اليقين أن الله تعالى ليس بجسم ولا تحده جهة من الجهات ولو جاز أن يرى في الآخرة لجازت رؤيته الآن. فشروط الرؤية لا تتغير في الدنيا والآخرة. قال ابن رشد: "ومن كانت هذه مبادئه فلا يتوقع منه غير هذا إذا كان محترما لها يستنبط منها النتائج المنطقية" (2). واستدلوا على هذا بالسمع والعقل: فمن جهة السمع: أولا قوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103]، ووجه الدلالة من الآية كما قال عبد الجبار: هو أنه نفى أن يدرك بالأبصار، وقد علمنا أن الإدراك إذا قرن بالبصر أفاد ما تفيده رؤية البصر، وإذا كان إذا أطلق فقد يستعمل بمعنى اللحوق، فيقال أدرك الغلام إذا بلغ وأدركت الثمرة إذا نضجت، وأدرك فلان فلان إذا لحقه، وقال سبحانه: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ [يونس:90] يعني لحقه الغرق، وقال سبحانه: فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61] يعني لملحوقون، وقد يقال عند الإطلاق أدركت الحرارة والبرودة وأدركت الصوت، وكل ذلك إنما يصح إذا لم يقرن بالبصر، ومتى قرن به زال الاحتمال عنه، فاختص بفائدة واحدة وهي الرؤية بالبصر، فإذا صح ذلك فيجب أن يكون لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام: 103] في باب الدلالة على أنه لا يرى، بمنزلة قوله لو قال: "لا تراه الأبصار، فثبت أنه نفى عن نفسه إدراك البصر فيتناول جميع الأبصار في جميع الأوقات (3).   (1) ((شرح الطحاوية لعلي بن أبي العز الحنفي)) (29)، ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/ 265). (2) ((مناهج الأدلة)) لابن رشد (81). (3) ((شرح الأصول الخمسة)) (232). ((المغني)) (4/ 144). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 ومما يؤيد العموم أن عائشة رضي الله عنها لما أنكرت قول ابن عباس في أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج تمسكت في نصرة ما ذهبت إليه بهذه الآية ولو لم تكن هذه الآية مفيدة للعموم بالنسبة إلى كل الأشخاص وكل الأحوال لما تم ذلك الاستدلال، ولا شك أنها من أكثر الناس علما بلغة العرب، فثبت أن هذه الآية دالة على النفي بالنسبة إلى كل الأشخاص وذلك يفيد المطلوب. وأيضا "إن الباري تعالى تمدح بكونه لا يرى، حيث إن قوله: " لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وقعت في أثناء المدائح فإن ما قبلها مشتمل على المدح والثناء، وقوله بعدها وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام: 103] أيضا مدح وثناء، فيجب أن يكون قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام: 103] مدحا وثناء، وذلك يوجب الركاكة، وهي غير لائقة بكلام الله تعالى وتقدس، وحينئذ نقول: إن كل ما كان عدمه مدحا ولم يكن ذلك من باب الفعل كان ثبوته نقصا في حق الله تعالى، والنقص على الله تعالى محال، لقوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ [البقرة: 255] وقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] وقوله لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص: 3] إلى غير ذلك، فوجب أن يقال كونه تعالى مرئيا محال (1). وقد أطال القاضي عبد الجبار في تقرير هذا الدليل وفرض الاعتراضات والرد عليها فقال بعد تقرير وجه الدلالة: فإن قيل: ولو قلتم إن الإدراك إذا اقترن بالبصر لم يحتمل إلا الرؤية؟ قلنا: لأن الرائي ليس بكونه رائيا حالة زائدة على كونه مدركا، لأنه لو كان أمرا زائدا عليه لصح انفصال أحدهما عن الآخر، إذ لا علاقة بينهما من وجه معقول والمعلوم خلافه. . يبين ما ذكرناه أنه لا فرق بين قولهم: أدركت ببصري هذا الشخص، وبين قولهم رأيت ببصري هذا الشخص، أو أبصرت ببصري هذا الشخص، حتى لو قال أدركت ببصري وما رأيت، أو رأيت وما أدركت لعد مناقضا. . فإن قيل: ولم قلتم إن هذه الآية وردت مورد التمدح؟ قلنا: لأن سياق الآية يقتضي ذلك، وكذلك ما قبلها وما بعدها، لأن جميعه في مدائح الله تعالى، وغير جائز من الحكيم أن يأتي بجملة مشتملة على المدح ثم يخلطها بما ليس بمدح البتة، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول أحدنا: فلان ورع تقي نقي الجيب مرضي الطريقة أسود يأكل الخبز يصلي بالليل ويصوم بالنهار، لما لم يكن لكونه أسود يأكل الخبز تأثير في المدح. يبين ذلك: أنه تعالى لما بين تميزه عما عداه من الأجناس بنفي الصاحبة والولد، بين أن تميزه عن غيره من الذوات بأن لا يرى ويرى. وبعد فإن الأمة اتفقوا على أن الآية واردة مورد التمدح فلا كلام في ذلك. فإن قيل: وأي مدح في أنه لا يرى القديم تعالى وقد شاركه فيه المعدومات وكثير من الموجودات؟ قلنا: لم يقع التمدح بمجرد أن لا يرى، وإنما يقع التمدح بكونه رائيا ولا يرى، ولا يمتنع في الشيء أن لا يكون مدحا ثم بانضمام شيء آخر إليه يعتبر مدحا وهكذا فلا مدح في نفي الصاحبة والولد مجردا، ثم إذا انضم إليه كونه حيا لا آفة به صار مدحا، وهكذا فلا مدح في أنه لا أول له، فإن المعدومات تشاركه في ذلك، ثم يصير مدحا بانضمام شيء آخر إليه، وهو كونه قادرا عالما حيا سميعا بصيرا موجودا، كذلك في مسألتنا. فإن قيل: إن ما ليس بمدح إذا انضم إليه ما هو مدح كيف يصير مدحا لا مانع من ذلك فمعلوم أن قوله عز وجل لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ [البقرة: 255] بمجرده ليس بمدح ثم صار مدحا لانضمامه إلى قوله اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255].   (1) ((تفسير الرازي)) (13/ 127)، ((شرح الأصول الخمسة)) (235)، ((المغني)) (4/ 150). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 فإن قيل: فلو جاز فيما ليس بمدح أن يصير مدحا بانضمامه إلى غيره لكان لا يمتنع أن يصير الجهل مدحا بانضمامه إلى الشجاعة وقوة القلب، حتى يحسن أن يمدح الواحد غيره بأنه جاهل قوي القلب شجاع؟ قيل له: إن ما وضع للنقص من الأوصاف نحو قولنا، جاهل وعاجز وما شاكلها. لا تختلف فائدته ولا تتغير حاله لا بالانضمام ولا عدم الانضمام، بل يفيد النقص بكل حال، سواء ضم إلى غيره أو لم يضم، وليس كذلك سبيل ما ليس بمدح ولا نقص فإن ذلك مما لا يمتنع أن يصير مدحا بغيره على ما ذكرناه. فإن قيل: فجوزوا أن يصير قولنا أسود مدحا بأن ينضم إليه قولنا عالم ومعلوم أن ذلك لا يصير مدحا لما لم يكن مدحا في نفسه، فإذا لم يجز أن يصير مدحا فكذلك لا يجوز في قوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] أن يصير مدحا بأن ينضم إليه قوله تعالى: وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ. قيل له: إنا لم نقل إن ما ليس بمدح، إذا انضم إليه ما هو مدح صار مدحا على كل حال، بل قلنا: إن ما ليس بمدح إذا انضم إليه ما هو مدح وحصل بمجموعهما البينونة صار مدحا، ولم تحصل البينونة بانضمام قولنا أسود إلى قولنا عالم، بخلاف مسألتنا لأنه حصل ههنا بينونة على الوجه الذي ذكرناه. فإن قيل: وما وجه البينونة؟ قلنا: وجه البينونة هو أنه يرى ولا يرى. فإن قيل: هلا جاز أن تكون جهة التمدح هو كونه قادرا على أن يمنعنا من رؤيته؟ قلنا: هذا تأويل بخلاف تأويل سائر المفسدين، وما هذا سبيله من التأويلات يكون فاسدا، وبعد: فإن هذا حمل خطاب الله تعالى على غير ما تقتضيه حقيقة اللغة ومجازها فلا يجوز. فإن قيل: ولم قلتم إن هذا المدح يرجع إلى الذات؟ قلنا: لأن المدح على قسمين أحدهما يرجع إلى الذات، والآخر يرجع إلى الفعل، وما يرجع إلى الذات فعلى قسمين: أحدهما: يرجع إلى الإثبات نحو قولنا قادر عالم حي عليم بصير. والثاني: يرجع إلى النفي وذلك نحو قولنا لا يحتاج ولا يتحرك ولا يسكن. وأما ما يرجع إلى الفعل فعلى ضربين أيضا: أحدهما: يرجع إلى الإثبات نحو قولنا رازق محسن ومتفضل. والثاني: يرجع إلى النفي وذلك نحو قولنا لا يظلم ولا يكذب. إذا ثبت هذا فالواجب أن ننظر في قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] من أي القبيلين هو. لا يجوز أن يكون هذا من قبيل ما يرجع إلى الفعل لأنه تعالى لم يفعل فعلا حتى لا يرى وليس يجب في الشيء إذا لم ير أن يحصل منه فعل حتى لا يرى فإن كثيرا من الأشياء لا ترى وإن لم تفعل أمرا من الأمور كالمعدومات وككثير من الأعراض. . ولاشيء إذا لم ير فإنما لم ير لما هو عليه في ذاته لا لأنه يفعل أمرا من الأمور وإذا كان الأمر كذلك صح أن هذا التمدح راجع إلى ذاته على ما نقوله. فإن قيل: ولم قلتم إن ما كان نفيه مدحا راجعا إلى ذاته كان إثباته نقصا. قيل له: لأنه لو لم يكن إثباته نقصا لم يكن نفيه مدحا إلا أن نفي السنة والنوم لما كان مدحا كان إثباته نقصا حتى لو قال أحدنا: إنه تعالى ينام. كان هذا أيضا نقصا. وبعد فإنه تعالى إذا لم ير فإنما لم ير بما هو عليه في ذاته فلو رئي وجب أن يكون قد خرج عما هو عليه في ذاته فكان نقصا. فإن قيل: وأي نقص في أن يرى القديم تعالى وما وجه النقص في ذلك؟ قلنا: لا يلزمنا أن نعلم ذلك مفصلا بل إذا علمنا على الجملة أنه تعالى تمدح بنفي الرؤية عن نفسه مدحا راجعا إلى ذاته، وعلمنا أن ما كان نفيه مدحا يرجع إلى الذات كان إثباته نقصا، وهذا كاف. فإذا أردت التفصيل فلأن في انقلابه وخروجه عما هو عليه في ذاته. فإن قيل: وما أنكرتم أن المراد بقوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] أي لا تحيط به الأبصار؟ فنحن هكذا نقول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 قلنا الإحاطة ليس هي بمعنى الإدراك لا في حقيقة اللغة ولا في مجازها ألا ترى أنهم يقولون: السور أحاط بالمدينة، ولا يقولون: أدركها أو أدرك بها، وكذلك يقولون: عين الميت أحاطت بالكافور ولا يقولون أدركته. وبعد: فإن قبل هذا تأويل بخلاف تأويل المفسرين فلا يقبل، على أنه كما لا تحيط به الأبصار لا يحيط هو بالأبصار لأن المانع عن ذلك في الموضعين واحد فلا يجوز حمل الإدراك المذكور في الآية على الإحاطة لهذه الوجوه. فإن قيل: لا تعلق لكم بالظاهر، لأن الذي يقتضيه الظاهر هو أن الأبصار لا تراه ونحن كذلك نقول. قيل له: إنه تعالى تمدح بنفي الرؤية عن نفسه فلابد من أن يحمل على وجه يقع به البينونة بينه وبين غيره من الذوات بهذا الذي قد ذكرتموه لأن الأبصار كما لا تراه فكذلك لا ترى غيره. فإن قيل: لو كان المراد بقوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام: 103] المبصرون، لوجب مثله في قوله: وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام: 103] أن يكون المبصرين ليكون النفي مطابقا للإثبات، وهذا يقتضي أن يرى القديم نفسه لأنه من المبصرين وكل من قال إنه تعالى يرى نفسه قال إنه يراه غيره. قيل له: إنه تعالى وإن كان مبصرا فإنما يرى ما تصح رؤيته، ونفسه يستحيل أن ترى، لما قد بينا أن تمدح بنفي الرؤية مدحا يرجع إلى ذاته، وما كان نفيه راجعا إلى ذاته فإن إثباته نقص والنقص لا يجوز على الله تعالى. وبعد: فإن المراد بقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام: 103] المبصرون بالأبصار فكذلك في قوله وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام: 103] فيجب أن يكون هذا هو المراد ليكون النفي مطابقا للإثبات والله تعالى ليس من المبصرين بالأبصار فلا يلزم ما ذكرتموه. فإن قيل: قوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام: 103] عام في دار الدنيا ودار الآخرة وقوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22 - 23] خاص في دار الآخرة ومن حق العام أن يحمل على الخاص كما أن من حق المطلق أن يحمل على المقيد. وربما يستدل بهذه الآية ابتداء على أنه تعالى يرى في دار الآخرة. وجوابنا أن العام إنما يبنى على الخاص إذا أمكن تخصيصه، وهذه الآية لا تحتمل التخصيص لأنه تعالى يمدح بنفي الرؤية عن نفسه مدحا يرجع إلى ذاته وما كان نفيه مدحا راجعا إلى ذاته كان إثباته نقصا، والنقص لا يجوز على الله تعالى على وجه. وبعد فإن هذه الآية إنما تخصص تلك الآية إذا أفادت أنه تعالى يرى في حال من الحالات وليس في الآية ما يقتضي ذلك لأن النظر ليس هو بمعنى الرؤية، هذا هو الجواب عنه إذا تعلقوا به على هذا الوجه (1).وزاد الإمامية على ذلك أيضا أوهام القلوب لا تدركه فكيف بأبصار العيون فقالوا في قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ: (أي إحاطة الوهم، ألا ترى إلى قوله قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ ليس يعني بصر العيون فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ليس يعني من البصر بعينه وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا [الأنعام: 104] ليس يعني عمى العيون إنما عنى إحاطة الوهم كما يقال فلان بصير بالشعر، وفلان بصير بالفقه، وفلان بصير بالدراهم، وفلان بصير بالثياب. والله أعظم من أن يرى بالعين (2).   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (233)، ((المغني)) (4/ 145). (2) ((شرح أصول الكافي)) للكليني – شرح عبد الحسين المظفر (3/ 103). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 وبعد استعراضنا لغالب هذه الافتراضات المعارضة وردهم عليها والمحاولات الجادة لكي يسلم لهم الدليل على نفي رؤية الله تعالى نقول: لسنا بحاجة إلى تتبع كل هذه الافتراضات ومناقشتها لأنها مبنية على وجهة استدلال خاطئة وسنبين إن شاء الله الخطأ في وجه الدلالة وهذا كاف لإزاحة الدليل عن مرادهم، فقد بنوا استدلالهم بالآية على وجهين: الأول: على أن الإدراك المقرون بالبصر لا يحتمل إلا الرؤية وقد نفي والنفي عام في جميع الأوقات والأزمان. الثاني: أن الله تمدح بكونه لا يرى - على فهمهم – وما كان عدمه مدحا كان وجوده نقصا يجب تنزيه الله عنه. والجواب على الوجه الأول بأوجه: الوجه الأول: أن هذا افتراء على اللغة وأنه مجرد دعوى لا دليل عليها وقد رد على هذه الدعوى ابن حزم في الفصل. قال: (واحتجت المعتزلة بقوله عز وجل: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ (قال أبو محمد) هذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى إنما نفى الإدراك، والإدراك عندنا في اللغة معنى زائد على النظر والرؤية وهو معنى الإحاطة ليس هذا المعنى في النظر والرؤية فالإدراك منفي عن الله تعالى على كل حال في الدنيا والآخرة، برهان ذلك قول الله عز وجل: فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 61] وأخبر تعالى أنه رأى بعضهم بعضا فصحت منهم الرؤية لبني إسرائيل ونفى الله الإدراك بقول موسى عليه السلام لهم: قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 61] فأخبر تعالى أنه رأى أصحاب فرعون بني إسرائيل ولم يدركوهم ولا شك في أن ما نفاه الله تعالى غير الذي أثبته فالإدراك غير الرؤية والحجة لقولنا هو الله تعالى (1). قال ابن القيم: (فلم ينف موسى عليه السلام الرؤية ولم يريدوا بقولهم إِنَّا لَمُدْرَكُونَ إنا لمرئيون فإن موسى عليه السلام نفى إدراكهم إياهم بقوله كَلا وأخبر الله سبحانه أنه لا يخاف دركهم بقوله وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى [طه: 77]. فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه فالرب تعالى يرى ولا يدرك كما لا يعلم ولا يحاط به وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من بعدهم من الآية. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ لا تحيط به الأبصار، وقال قتادة هو أعظم من أن تدركه الأبصار، وقال ابن عطية: ينظرون إلى الله ولا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره يحيط بهم (2).الوجه الثاني: أن تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ موجبة كلية، وقد دخل عليها النفي فرفعها ورفع الموجبة الكلية سالبة جزئية، وبالجملة فيحتمل إسناد النفي إلى الكل ومع احتمال الثاني فلم يبق فيه حجة لكم علينا، لأن أبصار الكفار لا تدركه، هذا على تقدير أن اللام في الجمع للعموم والاستغراق وإلا عكسنا القضية، وقلنا لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ سالبة مهملة في قوة الجزئية فالمعنى لا تدركه بعض الأبصار، وتخصيص البعض بالنفي يدل بالمفهوم على الإثبات للبعض، فالآية حجة لنا (3).   (1) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) لابن حزم (3/ 2). (2) ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (219). (3) ((شرح المواقف)) (8/ 140)، ((اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع)) لأبي الحسن الأشعري (65). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 الوجه الثالث: أن قوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] الآية، وإن عمت في الأشخاص باستغراق اللام، فإنها لا تعم في الأزمان، لأنها سالبة مطلقة لا دائمة. ونحن نقول بموجبه حيث لا يرى في الدنيا (1). الوجه الرابع: ويقال لهم على دعوى العموم في لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ كما قال أبو الحسن الأشعري: (إذا كان قول الله عز وجل لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ في العموم كقوله وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام:103] لأن أحد الكلامين معطوف على الآخر فخبرونا أليس الأبصار والعيون لا تدركه رؤية ولا لمسا ولا ذوقا ولا على وجه من الوجوه؟ فإن قالوا: نعم، فيقال لهم: أخبرونا عن قوله عز وجل وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ في العموم كقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ (2). الوجه الخامس: قال الألوسي: (قد يقال إن قوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ المراد نفي الرؤية وقد عدم إذن الله تعالى للأبصار بالإدراك. والدليل على صحة إرادة هذا القيد هو أن العباد لا يقدرون على شيء من المقدورات إلا بإذن الله تعالى ومشيئته وتمكينه فلا تدركه الأبصار إلا بإذنه وهو المطلوب. ويؤيد هذا البيان ويشيد أركانه أنه لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] وقع بعد قوله سبحانه وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ووجه التأييد أن الله تعالى أخبر بأنه على كل شيء وكيل الإيمان متول لأموره ومعلوم أن الأبصار من الأشياء وأن إدراكها من أمورها فهو سبحانه وتعالى متوليها ومتصرف فيها على حسب مشيئته فيفيض عليها الإدراك ويأذن لها إذا شاء كيف شاء وعلى الحد الذي شاء ويقبض عنها الإدراك قبضا كليا أو جزئيا في الإيمان وقوله تعالى: شاء كيف شاء ولا يخفى على هذا أنه غاية التمدح بالعزة والقهر والغلبة فإن من هو على كل شيء وكيل إذا لم تدركه الأبصار إلا بإذنه مع كونه يدرك الأبصار ولا تخفى عليه خافية كان ذلك غاية في عزته وقهره وكونه غالبا على أمره (3). الوجه السادس: قال الرازي: (هب أن هذه الآية عامة إلا أن الآيات الدالة على إثبات الرؤية لله تعالى خاصة والخاص مقدم على العام (4).   (1) ((شرح المواقف)) (8/ 140)، ((اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع)) لأبي الحسن الأشعري (65). (2) ((الإبانة عن أصول الديانة)) لأبي الحسن الأشعري (18). (3) ((روح المعاني)) للألوسي (7/ 247 - 246). (4) ((الفخر الرازي)) (13/ 128). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 وذلك مثل قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22 - 23] وغيرها فإن هذا خاص بالمؤمنين، ويأتي إن شاء الله بيان أن النظر هو الرؤية البصرية قطعا، وبيان أن إلى حرف جر لا بمعنى النعمة على مدعاكم، وأن المنفي في الآية تمدحا غير الرؤية التي يثبتها أهل السنة وهو الإدراك على وجه الإحاطة. وعلى ذلك يمكن التخصيص. أما الجواب عن الوجه الثاني وهو قولهم: "إن الله تمدح بأن لا يرى. . الخ". نقول هذا الكلام مجرد دعوى فأين الدليل عليها؟ وثبوت المدح في سياق الكلام ليس لكم فيه دليل على امتناع الرؤية، بل لنا فيه الحجة على صحة الرؤية، لأنه يمتنع حصول التمدح بنفي الرؤية لو كان تعالى في ذاته بحيث تمتنع رؤيته بل إنما يحصل التمدح لو كان بحيث تصح رؤيته، ثم إنه تعالى يحجب الأبصار عن رؤيته، قال ابن القيم: (فالنفي يمتنع أن يكون سببا لحصول المدح والثناء، لأن المدح لا يكون إلا بالأوصاف الثبوتية، وأما العدم المحض فليس بكمال، ولا يمدح الرب تبارك وتعالى بالعدم إلا إذا تضمن أمرا وجوديا كتمدحه بنفي السنة والنوم، المتضمن كمال القيومية، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي اللغوب المتضمن كمال القدرة، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير المتضمن كمال ربوبيته وإلهيته وقهره، ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال الصمدية وغناه، ونفي الشفاعة عنده إلا بإذنه المتضمن كمال توحيده وغناه عن خلقه، ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته ونفي المثل المتضمن لكمال ذاته وصفاته، ولهذا لم يتمدح بعدم محض لا يتضمن أمرا ثبوتيا؛ فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه فلو كان المراد بقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ أنه لا يرى بحال لم يكن في ذلك مدح ولا كمال لمشاركة المعدوم له في ذلك فإن العدم الصرف لا يرى ولا تدركه الأبصار والرب جل جلاله يتعالى أن يمدح بما يشاركه فيه العدم المحض فإذا المعنى أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به كما كان المعنى في قوله: وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ [يونس:61] أنه يعلم كل شيء، وفي قوله: وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ [ق: 38] أنه كامل القدرة، وفي قوله: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49] وفي قوله: لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ [البقرة: 255] أنه كامل القيومية، فقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] يدل على غاية عظمته وأنه أكبر من كل شيء وأنه لعظمته لا يدرك بحيث يحاط به فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء وهو قدر زائد على الرؤية كما مر (1). ثانيا: من أدلة المعتزلة على نفي الرؤية قوله تعالى: وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 143] فقد استدلوا بالآية على عدم الرؤية من وجوه: الوجه الأول:   (1) ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (228). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 قال تعالى: لَن تَرَانِي ولَن موضوعة للتأبيد وإذا لم يره موسى أبدا لم يره غيره إجماعا، قال الزمخشري في معنى لَن: (إنها لتأكيد النفي الذي تعطيه لا وذلك أن لا تنفي المستقبل تقول: لا أفعل غدا فإذا أكدت نفيها قلت: لن أفعل غدا، والمعنى أن فعله ينافي حالي كقوله تعالى: لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج: 73] فقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] نفي للرؤية فيما يستقبل ولَن تَرَانِي تأكيد وبيان لأن النفي مناف لصفاته. فإن قلت: كيف اتصل الاستدراك في قوله وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ بما قبله؟ قلت: اتصل به على معنى أن النظر إلي محال فلا تطلبه، ولكن عليك بنظر آخر وهو أن تنظر إلى الجبل الذي يزحف بك وبمن طلبت الرؤية لأجلهم كيف أفعل به، وكيف أفعله، وكان بسبب طلبك الرؤية لتستعظم ما أقدمت عليه بما أريك من علم أثره كأنه عز وعلا حقق عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد إليه في قوله: وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا [مريم: 90] (1). قال عبد الجبار بن أحمد: (فإن قالوا: أليس أنه تعالى قال حاكيا عن اليهود: وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ [البقرة: 95] أي لا يتمنون الموت ثم قال حاكيا عنهم: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ [الزخرف: 77] فكيف يقال إن لَن موضوعة للتأبيد؟ قلنا: إن لَن موضوعة للتأبيد ثم ليس يجب أن لا يصح استعمالها إلا حقيقة بل لا يمتنع أن تستعمل مجازا وصار الحال فيها كالحال في قولهم أسد وخنزير وحمار فكما أن موضعها وحقيقتها لحيوانات مخصوصة ثم تستعمل في غيرها على سبيل المجاز والتوسع واستعمالهم في غيرها لا يقدح في حقيقتها كذلك ههنا) (2).   (1) ((الكشاف)) للزمخشري (2/ 113). (2) ((شرح الأصول الخمسة)) (264) بتصرف قليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 هذا ما قالوا في وجه الدلالة بالنسبة للنفي ب لَن وفي أبديتها له، ومحاولات الرد على ما يرد عليه من اعتراضات ولكن هيهات فقد أسفر الصبح لذي عينين فالحق أبلج لا يمازجه ريب إلا عند ذي رين فقولهم: (إن لن موضوعة للتأبيد هذا افتراء على اللغة وليس يشهد بصحته كتاب معتبر ولا نقل صحيح قال الشيخ جمال الدين بن مالك رحمه الله: ومن رأى النفي بلن مؤبدا فقوله أردد وخلافه أعضدا (1).قال صاحب النحو الوافي: (لَن وهو حرف يفيد النفي بغير دوام ولا تأبيد إلا بقرينة خارجة عنه فإذا دخل على المضارع نفى معناه في الزمن المستقبل المحض غالبا نفيا مؤقتا يقصر ويطول من غير أن يدوم ويستمر فمن يقول: لن أسافر، أو لن أشرب، أو لن أقرأ غدا أو نحو هذا فإنما يريد نفي السفر أو غيره في قابل الأزمنة مدة معينة يعود بعدها إلى السفر ونحوه إن شاء ولا يريد النفي الدائم المستمر في المستقبل إلا إن وجدت قرينة مع الحرف لَن تدل على الدوام والاستمرار (2) ويؤيد هذا قوله تعالى حكاية عن مريم: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا [مريم: 26] إذ لو كانت لَن هنا تفيد تأبيد النفي لوقع التعارض بينها وبين كلمة الْيَوْمَ في الآية؛ لأن اليوم محدد معين، وهي غير محددة ولا معينة، ولوقع التكرار في قوله تعالى فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا [البقرة: 95] فما فائدة كلمة أبدا التي تدل على التأبيد إن كانت لَن تدل عليه ثم مع تقييدها بالتأبيد إن كانت لَن تدل عليه ثم مع تقييدها بالتأبيد هنا لم تدل عليه قال تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ [الزخرف: 77] فكيف إذا أطلقت. ومما يؤيد عدم كونها للتأبيد المطلق تحديد الفعل بعدها قال تعالى على لسان ابن يعقوب فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي [يوسف: 80] وقال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في ذكر الدجال: ((تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت)) (3) فهذه الشواهد دليل على عدم اقتضاء لَن النفي المؤبد.   (1) ((متن الكافية الشافية في علم العربية)) لابن مالك (68). (2) ((النحو الوافي مع ربطه بالأساليب الرفيعة والحياة اللغوية المتجددة)) لعباس حسن (4/ 281)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/ 95). (3) ((صحيح الإمام مسلم)) (4/ 2245). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 فإن قيل: كيف دلت لَن على التأبيد في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج: 73]. قلنا: لم تدل لَن على التأبيد هنا إلا بسبب قرينة "خارجية" هي العلم القاطع المستمد من المشاهدة الصادقة الدائمة وليس من ذات دلالة لَن والله أعلم (1).قال الغزالي: (وأما قوله سبحانه لَن تَرَانِي فهو دفع لما التمسه وإنما التمس في الدنيا فلو قال أرني أنظر إليك في الآخرة فقال: لَن تَرَانِي لكان ذلك دليلا على نفي الرؤية ولكن في حق موسى صلوات الله سبحانه وسلامه عليه على الخصوص لا على العموم، وما كان أيضا دليلا على الاستحالة فكيف وهو جواب على السؤال في الحال (2).فالحاصل: أن لَن هنا لتأكيد نفي ما وقع السؤال عنه، والسؤال إنما وقع عن تحصيل الرؤية في الحال فكان قوله لَن تَرَانِي نفيا لذلك المطلوب، فأما أن تفيد النفي الدائم فلا، وأما عن استشهاد الزمخشري على أن لَن تشعر باستحالة المنفي بها عقلا فمردود بكثير من الآيات كقوله تعالى فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا [التوبة: 83] وقوله تعالى: لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [هود: 36]، وقوله تعالى: لَّن تَتَّبِعُونَا [الفتح: 15]. فإن الأخبار الواردة في هذه الآيات كلها جائزات عقلا لولا أن الخبر منع من وقوعها، فالرؤية كذلك، فدعوى الاستحالة العقلية على هذا باطلة لهذه الآيات وغيرها (3). أما دعوى عبد الجبار بن أحمد المجاز في قوله تعالى: وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ [البقرة: 95] فمردودة بأن المجاز خلاف الأصل، فإن الأصل الحقيقة، وهذه دعوى لا تقف عند حد، وسهلة يسيرة على كل من كان الدليل ضده، ومخالفا لرأيه، فيرده بدعوى المجاز وأن الحقيقة ما يدعيها، وتنزلا نقول: أين القرينة الدالة على أن المراد خلاف الحقيقة؟ ولا قرينة ههنا فالآية على حقيقتها. ولَن لا تقتضي النفي الأبدي وإن اقتضت فليس يدل على منع الجواز بل على منع وقوع الجائز.   (1) ((النحو الوافي)) لعباس حسن (4/ 281)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز الحنفي (133)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/ 95). (2) ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (38). (3) ((الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال)) لأحمد الإسكندري المالكي (2/ 114) من هامش الكشاف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 الثاني من أوجه دلالة الآية على استحالة الرؤية عند المعتزلة: قوله تعالى: وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143] ووجه الدلالة كما قال عبد الجبار: (هو أنه علق الرؤية باستقرار الجبل فلا يخلو: إما أن يكون علقها باستقراره بعد تحركه وتدكدكه، أو علقها به حال تحركه لا يجوز أن تكون الرؤية علقها باستقرار الجبل، لأن الجبل قد استقر ولم ير موسى ربه، فيجب أن يكون قد علق ذلك باستقرار الجبل بحال تحركه دالا بذلك على أن الرؤية مستحيلة عليه، كاستحالة استقرار الجبل حال تحركه، ويكون هذا بمنزلة قوله تعالى: وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف: 40] (1). والجواب: أنه علقها باستقرار الجبل من حيث هو من غير قيد بحال الحركة أو السكون، وإلا لزم الاحتمال في الكلام، واستقرار الجبل من حيث هو ممكن قطعا، فلو فرض وقوعه لما لزم منه محال لذاته، واستقراره عند حركته ليس بمحال، إذ قد يحصل الاستقرار بدل الحركة ولا محذور فيه، إذ المحال الاستقرار مع الحركة في آن واحد، لا وقوع شيء منهما في وقوله تعالى: آخر بدل صاحبه (2). الثالث من أوجه دلالة الآية على استحالة الرؤية عند المعتزلة: قوله تعالى: وَخَرَّ موسَى صَعِقًا [الأعراف:143] ولو كانت الرؤية جائزة فلم خر موسى عند سؤالها؟ قال الزمخشري: وَخَرَّ موسَى صَعِقًا من هول ما رأى. . ومعناه خر مغشيا عليه غشية كالموت، وروي أن الملائكة مرت عليه وهو مغشي عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم ويقولون: يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة (3). بناء على هذا حكموا بامتناع الرؤية على الله تعالى. والحق أنه ليس فيها دلالة على المنع بل إن دلالتها على الجواز أقرب، فإن الصعق لم يحدث لموسى عليه السلام إلا عندما رأى الجبل يتدكدك لما تجلى له الرب تبارك وتعالى ظهورا، أو على القول أن موسى رأى الله - على ضعفه – فصعق، وهذا يدل على الجواز وإنما كان الصعق نتيجة عدم تحمل موسى رؤية الله تعالى في هذه الدار الفانية. أما ما أورد الزمخشري من مرور الملائكة على موسى وهو صعق. . الخ. فقد علق عليها الإسكندري قائلا: (فهذه حكاية إنما يوردها من يتعسف لامتناع الرؤية فيتخذها عونا وظهرا على المعتقد الفاسد. والوجه التورك بالغلط على ناقلها، وتنزيه الملائكة عليهم السلام من إهانة موسى صفي الله وكليمه بالوكز بالرجل والغمص في الخطاب (4). وهل مثل هذه الرواية يحتج بها على عدم الرؤية؟ أو يستشهد بها وأنتم تردون الأحاديث الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟ والمنقولة نقلا صحيحا بحجة أنها آحاد، فما أكثر تناقض من يسلك غير سبيل المؤمنين ويتخذ إلهه هواه.   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (265). (2) ((المواقف)) للجرجاني (8/ 121). (3) ((الكشاف)) للزمخشري (2/ 115). (4) ((الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال)) لأحمد الإسكندري المالكي (2/ 115) من هامش الكشاف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 الرابع من أوجه دلالة الآية على استحالة الرؤية عند المعتزلة: قوله تعالى: حكاية عن موسى عليه السلام: فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ [الأعراف:143] أي أنزهك مما لا يجوز عليك. قال الرازي عند حكايته للأوجه التي استدل بها المعتزلة على نفي الرؤية من الآية: قوله سُبْحَانَكَ الكلمة للتنزيه فوجب أن يكون المراد منه تنزيه الله تعالى عما تقدم ذكره، والذي تقدم ذكره هو رؤية الله تعالى. فكان قوله سُبْحَانَكَ تنزيها له عن الرؤية، فثبت بهذا أن نفي الرؤية تنزيه لله تعالى، وتنزيه الله إنما يكون عن النقائص والآفات وذلك على الله محال فثبت أن الرؤية على الله ممتنعة) (1). هكذا قالوا في تأويلها، وصحيح أن المراد هو تنزيه الله تعالى وتعظيمه وإجلاله عن أن يتحمل رؤيته من كتب عليه الفناء حتى لا يتعارض مع ما ورد من إثبات الرؤية عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم في دار الآخرة، والرؤية ليست من النقائص على ما يدعيه نفاتها فهي ليست نقصا في المخلوق بل هي كمال وكل كمال اتصف به المخلوق، وأمكن أن يتصف به الخالق فالخالق أولى به، وقد أثبتها الله لنفسه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، وطلبها موسى عليه السلام، فكيف يصح أن ندعي أنها من النقائص ومن أين لنا القول في هذا؟ إلا إذا كان فروخ اليونان أعرف بما يجوز على الله ويمتنع من نفسه، وأعرف من رسله عليهم الصلاة والسلام تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. الخامس من أوجه دلالة الآية على استحالة الرؤية عند المعتزلة: قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام لما أفاق أنه قال: تُبْتُ إِلَيْكَ ولولا أن طلب الرؤية ذنب لما تاب منه، ولولا أنه ذنب ينافي صحة الإسلام لما قال: وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قال الزمخشري: تُبْتُ إِلَيْكَ من طلب الرؤية وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنك لست بمرئي ولا تدرك بشيء من الحواس. قال: فإن قلت: فإن كان طلب الرؤية لقومه على ما قلت فمم تاب؟ قلت: من إجرائه تلك المقالة العظيمة – وإن كان لغرض صحيح - على لسانه من غير إذن فيه من الله تعالى (2). قال الباقلاني: (ويقال لهم في قوله تعالى: تُبْتُ إِلَيْكَ أنه لم يقل جل اسمه أنه تاب من مسألته إياه الرؤية فيمكن أن يكون ذكر ذنوبا له قد قدم التوبة منها، فجدد التوبة عند ذكرها لهول ما رأى، كما يسارع الناس إلى التوبة ويجددونها عند مشاهدة الهول والآيات، ويحتمل أن يكون المعنى في قوله: تُبْتُ إِلَيْكَ من ترك استئذاني لك في هذه المسألة العظيمة، ومثلها ما لا يكون معه تكليف لمعرفتك والعلم بك. ويحتمل أن يكون أراد بقوله: تُبْتُ إِلَيْكَ أن أسألك الرؤية لهول ما أصابني لا لأنها مستحيلة عليك، ولا لأني عاص في سؤالي، كما يقول القائل: تبت من كلام فلان ومعاملته وركوب البحر ومن الحج ماشيا، إذا ناله في ذلك تعب ونصب وشدة وإن كان ذلك مباحا حسنا جائزا، والتوبة هي الرجوع عن الشيء، ومن ذلك سمي الإقلاع عن الذنوب والعود إلى طاعة الله تعالى توبة منها قوله تعالى: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة: 118] أي رجع بهم إلى الفضل والامتثال ليرجعوا عما كانوا عليه، فقوله: تُبْتُ إِلَيْكَ أي رجعت عن سؤالي إياك الرؤية، وهذا هو أصل التوبة وليس الرجوع عن الشيء يقتضي كونه عصيانا فبطل تعلقهم بالآية (3).   (1) ((التفسير الكبير)) للإمام الرازي (14/ 233). (2) ((الكشاف)) للزمخشري (2/ 115). (3) ((التمهيد)) للباقلاني (ص 270). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 قال القرطبي: (قال مجاهد في قوله تُبْتُ إِلَيْكَ من مسألة الرؤية في الدنيا. . وقيل قاله على جهة الإنابة والخشوع له عند ظهور الآيات – كما مر -. وأجمعت الأمة على أن هذه التوبة ما كانت عن معصية) (1). قال الرازي: قوله تعالى: وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ يعني أول المصدقين أنه لا يراك أحد في الدنيا. أو يقال: وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنه لا يجوز السؤال منك إلا بإذنك (2). وسيأتي إن شاء الله تعالى للبحث زيادة عند الاستدلال بهذه الآية عند أهل السنة. ثالثا: مما استدلوا به على نفي قولهم: إن الله تعالى ما ذكر سؤال الرؤية في موضع من كتابه إلا واستعظمه، وورد ذكر ذلك في ثلاث آيات: الأولى: قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا [الفرقان: 21]. وطالب الممكن لا يكون عاتيا مستكبرا بل يكون بمنزلة طلب سائر المعجزات. الثانية: قوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة: 55]. ولو أمكنت الرؤية لما عاقبهم بسؤالها في الحال. الثالثة: قوله تعالى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا [النساء: 153]. فقد سمى الله تعالى ذلك السؤال ظلما وجازاهم به في الحال بأخذ الصاعقة، ولو جاز كونه مرئيا لكان سؤالهم هذا سؤالا لمعجزة زائدة، ولم يكن ظلما ولا سببا للعقاب (3). والجواب عن هذا: أن الاستعظام إنما كان لطلبهم الرؤية تعنتا وعنادا. قال أبو الحسن الأشعري: (إن بني إسرائيل سألوا رؤية الله عز وجل عن طريق الإنكار لنبوة موسى، وترك الإيمان به حتى يروا الله، لأنهم قالوا: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فلما سألوه الرؤية عن طريق ترك الإيمان بموسى عليه السلام حتى يريهم الله سؤالهم من غير أن تكون الرؤية مستحيلة عليه، كما استعظم الله سؤال أهل الكتاب أن ينزل عليهم كتابا من السماء من غير أن يكون ذلك مستحيلا ولكن لأنهم أبوا أن يؤمنوا بنبي الله حتى ينزل عليهم من السماء كتابا) (4). كما أنكر قول من قال: وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا إلى قوله أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ [الإسراء:93] لأنه إنما كان على وجه الاستخفاف بالرسل والتمرد لا على طلب الزيادة في العلم، ولو كان طلب الرؤية ممتنعا في ذاته لمنعهم موسى عليه السلام عن ذلك، كما منعهم حين طلبوا أمرا ممتنعا، وهو أن يجعل لهم صنما إلها يعبدونه كما يفعل غيرهم إذ قال لهم: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأعراف: 139].   (1) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (7/ 279). (2) ((الفخر الرازي)) (14/ 235). (3) ((المختصر في أصول الدين)) (191)، ((شرح الأصول الخمسة)) (262). (4) ((الإبانة عن أصول الديانة)) (15). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 ولا يتصور سكوت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن بيان الحق لأممهم وخاصة فيما يتعلق بالذات الإلهية مما يجوز ويمتنع فلما لم يحصل من موسى عليه السلام إنكار على من طلب الرؤية دل ذلك على جوازها. رابعا: من أدلتهم السمعية قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى: 51]. ووجه الدلالة: أن الله تبارك وتعالى نفى كلامه لأحد من البشر إلا من هذه الطرق الثلاثة: 1 - الوحي: وهو القذف في الروع، أي أن الله تبارك وتعالى يقذف في قلب النبي شيئا لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل، وهو مثل ما حصل لأم موسى. أو يكون رؤيا منام ورؤيا الأنبياء وحي. 2 - الكلام بلا وساطة ومن وراء حجاب: وذلك مثل كلام اله تبارك وتعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم عندما عرج به إلى السماء، وكما كلم موسى عليه السلام، وقد سأل الرؤية بعد التكليم فحجب عنها. 3 - إرسال الرسل: وهو الملك الذي ينزل بالوحي كما ينزل جبريل عليه السلام أو غيره من الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وإذا لم يره من يكلمه في وقت الكلام لم يره في غيره إجماعا، وإذا لم يره هو أصلا لم يره غيره أيضا إذ لا قائل بالفرق (1)، يؤيد هذا ما جاء في حديث مسروق قال: (كنت متكئا عند عائشة فقالت: يا أبا عائشة: ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية، قلت: ما هن، قالت: من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية. قال: وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ألم يقل الله عز وجل وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير: 23]، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم: 13]، فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه فقال: ((إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين. رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض))، فقالت: أو لم تسمع أن الله يقول: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى: 51] .... الحديث (2).والجواب: كما قال صاحب المواقف (أن التكليم وحيا وقد يكون حال الرؤية فإن الوحي كلام يسمع بسرعة وماذا فيه من الدليل على نفي الرؤية) (3). واستدلال عائشة رضي الله عنها بالآية على نفي الرؤية للنبي صلى الله عليه وسلم لربه، هذا حق، لأن النفي منصب على وقوع الرؤية في الدنيا – ولم تقع لأحد على الصحيح – وليس لنفي جواز الرؤية مطلقا كما يستدل به النفاة من الجهمية والمعتزلة والإمامية وغيرهم وجمهور أهل السنة على أن الرؤية في الدنيا وإن كانت جائزة إلا أنها لم تقع فيها. المصدر: رؤية الله تعالى وتحقيق الكلام فيها لأحمد بن ناصر آل حمد – ص26   (1) ((شرح المواقف)) (8/ 142). (2) رواه مسلم (177). (3) ((شرح المواقف)) (8/ 143). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 المطلب الثالث: الأدلة العقلية للمعتزلة من جهة العقل: استدلوا على نفي رؤية الله تعالى بما يأتي: أولا: دليل المقابلة: وتحريره كما قال عبد الجبار: (إن الواحد منا راء بحاسة، والرائي بالحاسة لا يرى الشيء إلا إذا كان مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل. وقد ثبت أن الله تعالى لا يجوز أن يكون مقابلا، ولا حالا في المقال، ولا في حكم المقابل، وهذه الدلالة مبنية على أصول: أحدها: أن الواحد منا راء بالحاسة، وإذا كانت صحيحة والموانع مرتفعة والمدرك موجود يجب أن يرى، ومتى لم يكن كذلك فيجب أن يكون لصحة الحاسة في ذلك تأثير لأنه بهذه الطريقة يعلم تأثير المؤثرات من الأسباب والعلل والشروط. الثاني: أن الرائي بالحاسة لا يرى الشيء إلا إذا كان مقابلا، أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل، وإذا كان كذلك وجب أن يرى، وإذا لم يكن مقابلا ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل لم ير، فيجب أن تكون المقابلة أو ما في حكمها شرطا في الرؤية لأنه بهذه الطريقة يعلم تأثير الشروط. الثالث: أن القديم تعالى لا يجوز أن يكون مقابلا ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل، لأن المقابلة والحلول إنما تصح على الأجسام والأعراض والله تعالى ليس بجسم ولا عرض فلا يجوز أن يكون مقابلا ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل. ويمكن إيراد هذه الدلالة على وجه آخر حتى لا يرد عليها بعض الاعتراضات التي يمكن ورودها على الأول، فيقال: إن أحدنا إنما يرى الشيء عند حصول شرطين: أحدهما: يرجع إلى الرائي، والآخر يرجع إلى المرئي. فما يرجع إلى الرائي فهو صحة الحاسة، وما يرجع إلى المرئي فهو أن يكون للمرئي مع الرائي حكم وذلك الحكم هو أن يكون مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل (1). هذا تصوير لدليل المقابلة العقلي الذي أقامه المعتزلة على نفي رؤية الله تعالى بالأبصار كما استدلوا به. ثم أورد عبد الجبار بعد تحرير الدليل ما يمكن الاعتراض به عليه وأجاب عنه فقال: (فإن قيل: كيف يصح قولكم إن الواحد منا لا يرى الشيء إلا إذا كان مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل مع أنه يرى وجهه في المرآة مع أنه ليس بمقابل ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل؟ قلنا: إن وجهه في حكم المقابل لأن الشعاع ينفصل من نقطته ويتصل بالمرآة فيصير كالعين، ثم ينعكس لرأى قفاه، لأن الشعاع ينفصل من نقطة ويتصل بالمرآة المستقبلة، ثم ينعكس إلى المستديرة فيصير كالعين فترى قفاه. فإن قيل: أليس الله تعالى يرى الواحد منا، وإن لم يكن مقابلا له ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل، فهلا جاز في الواحد منا أن يرى الشيء وإن لم يكن مقابلا له ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل؟ قيل له: إنما وجبت هذه القضية – أي وقعت - في القديم تعالى لأنه لا يجوز أن يكون رائيا بالحاسة، والواحد منا راء بالحاسة، فلا يعلم أن يرى إلا كذلك. فإن قيل: ما أنكرتم من أن أحدنا إنما لا يرى الشيء إلا إذا كان مقابلا له أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل، لأنه تعالى أجرى العادة بذلك فلا يمتنع أن يختلف الحال فيه فيرى القديم جل وعز في دار الآخرة. قيل له: إن ما يكون بمجرى العادة يجوز اختلاف الحال فيه، ألا ترى أن الحر والبرد يجب مثله في مسألتنا لو كان ذلك بالعادة، فيجب صحة أن يرى الشيء أحدنا وإن لم توجد الشروط في بعض الحالات لاختلاف العادة، بل كان يجب أن يرى المحجوب كما يرى المكشوف ومعلوم خلافه. فإن قيل: ما أنكرتم أن ذلك من باب ما تستمر العادة فيه كما في حصول الولد من ذكر وأنثى.   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (248) بتصرف. ((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (212). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 وجوابنا: أنا لم نوجب فيما طريقه العادة أن يختلف الحال على كل وجه بل إذا اختلف من وجه واحد كفى، وما من شيء إلا والحال فيه مختلف على وجه، ألا ترى أن الولد قد يحصل لا من ذكر وأنثى فكان يجب مثله في مسألتنا حتى يصدق من أخبرنا أنه شاهد ما ليس بمقابل له ولا حال في المقابل ولا في حكم المقابل، أو شاهد أقواما يشاهدون الأشياء من دون أن تكون على هذا الوجه أو ما يجري مجراه وقد علم خلافه. فإن قيل: ما أنكرتم أن الواحد منا إنما لا يرى إلا ما كان مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل لأمر يرجع إلى المرئي لا إلى الرائي؟ قيل له: هذا الذي ذكرته لا يصح لأنه كان يجب في القديم تعالى أن لا يرى هذه المرئيات لفقد هذا الحكم فيه والمعلوم خلافه. فإن قيل: إنا نرى القديم تعالى بلا كيف كما نعلمه بلا كيف ولا يحتاج إلى أن يكون مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل. قيل له: إن هذا فيه قياس الرؤية على العلم من دون علة تجمعهما فلا يصح، فإن للعلم أصلا في الشاهد وللرؤية أصلا فيجب أن يرد كل واحد منها إلى أصله، فالعلم من حقه أن يتعلق بالمعلوم على ما هو به، ولهذا يتعلق بالموجود والمعدوم والمحدث والقديم، فإن كان معدوما علم معدوما، وإن كان موجودا علم موجودا، وغيره، وليس كذلك الرؤية، فإنها لا تتعلق إلا بالموجود. ولهذا لا يصح في المعدوم أن يرى. فإن قيل: هلا جاز أن نرى القديم تعالى بحاسة سادسة فلا تجوز معها شروط الرؤية لأنها بخلاف هذه الحواس؟ قلنا: مخالفة تلك الحاسة لهذه الحواس ليس بأكبر من مخالفة هذه الحواس بعضها لبعض، فإن فيها سهلا وزرقا وملحا، ومعلوم أن هذه الحواس مع اختلافها واختلاف بناها متفقة في أن لا يرى الشيء بها إلا إذا كان مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل، على أنه لا دلالة تدل على تلك الحاسة فلا يصح إثباتها. وبعد: فلو جاز أن نرى القديم تعالى بحاسة سادسة لجاز أن يذاق بحاسة سابعة وأن يلمس بحاسة ثامنة وأن يشم بحاسة تاسعة ويسمع بحاسة عاشرة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا) (1). والجواب على هذا الدليل كما قال الرازي: من وجهين: الأول: تعيين محل النزاع، وهو أن الموجود المنزه عن المكان والجهة هل تجوز رؤيته أم لا؟ فإن ادعيتم أن العلم بامتناع رؤيته ضروري فذلك باطل ويدل عليه وجوه: الأول: أن البدهي متفق عليه بين العقلاء، وهذا غير متفق عليه فلا يكون بدهيا. الثاني: أنا إذا عرضنا على عقولنا أن الواحد نصف الاثنين لم نجد القضية الأولى في قوة هذه الثانية. الثالث: أن حكم الوهم والخيال في معرفة الله تعالى إما أن يكون مقبولا أو لا يكون مقبولا، فإن كان مقبولا لا يمتنع إثبات ذات منزه عن الكمية والكيفية والجهة، والمعتزلي يسلم أن ذلك باطل، وإن لم يكن مقبولا لم يكن حكم الوهم بأن ما كان منزها عن الجهة كان غير مرئي واجب القبول، لأن الوهم والخيال لما صار كل واحد منهما مردود الحكم في بعض الأحكام لم يبق الاعتماد عليهما في شيء من المواضع.   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (248) بتصرف، ((المغني)) (4/ 102). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 وبالجملة إن كان حكم الوهم حقا كان الحق مع المجسم، وإن كان مردودا كان الحق معنا، أما المعتزلي فإنه يرد حكمه في إثبات الجسم والجهة، ويقبل حكمه في مسألة الرؤية، وكان كلامه متناقضا، فثبت بما ذكرناه أن من نفى الرؤية بالوجه الذي ذكرناه لا بد وأن يعول في نفيها على الدليل لا على ادعاء الضرورة. وإن ادعيتم أن هذا العلم استدلالي فلا بد فيه من دليل. قولكم: فإن كل مرئي فلا بد وأن يكون مقابلا بقرب من أنه إعادة الدعوى، لأن المقابل هو الذي يكون مختصا بجهة قدام الرائي فكما أنكم قلتم الدليل على أن ما لا يكون في الجهة لا يكون مرئيا هو أن كل ما كان مرئيا يكون في الجهة. والمنطقيون يسمون هذه القضية الثانية عكس نقيض القضية الأولى، وفي الحقيقة لا فرق بين القضيتين في الظهور والخفاء، فلم يجز جعل أحدهما حجة في صحة الأخرى بل يقرب هذا من أن يكون إعادة المطلوب بعبارة أخرى. والثاني: ثبت أن المقابلة شرط للرؤية في الشاهد فلم قلتم: إنه في الغائب كذلك، وتحقيقه هو أن ذات الله تعالى مخالفة بالحقيقة والماهية لهذه الحوادث، والمختلفات في الماهية لا يجب استواؤهما في اللوازم، فلم يلزم من كون الإدراك واجبا في الشاهد عند حضور هذه الشرائط كونه واجبا في الغالب عند حضورها، ومما يدل عليه أن الإدراك في الشاهد مشروط بشرائط ثمانية هي: سلامة الحاسة، وكون الشيء بحيث أن يكون جائز الرؤية، وأن لا يكون في غاية البعد، وأن لا يكون في غاية القرب، وأن يكون مقابلا للرائي أو في حكم المقابل، وأن لا يكون في غاية اللطافة، وأن لا يكون بين الرائي والمرئي حجاب، وأن لا يكون في غاية الصغر، وفي الغالب نقطع بأنه لا يمكن اعتباره. وتمام الكشف والتحقيق أن المراد من الرؤية أن يحصل لنا انكشاف بالنسبة إلى ذاته المخصوصة وهو يجرى مجرى الانكشاف الحاصل عند إبصار الألوان والأضواء، وإذا كان الأمر كذلك فهذا الانكشاف يجب أن يكون على وفق المكشوف، فإن كان المكشوف مخصوصا بالجهة والحيز وجب أن يكون الانكشاف كذلك، وإن كان المكشوف منزها عن الجهة وجب أن يكون انكشافه منزها عن الحيز والجهة (1). والحق أن الجواب عن دليل المعتزلة بتسليم نفي الجهة والمقابلة عن الله تعالى لا يستقيم حيث إن إثبات رؤية حقيقية بالعيان من غير مقابلة أو جهة مكابرة عقلية، لأن الجهة من لوازم الرؤية وإثبات الملزوم ونفي اللازم مغالطة ظاهرة. ثم إن الثابت بالنصوص الصحيحة إثبات الرؤية لله تعالى كرؤية الشمس والقمر، قال صلى الله عليه وسلم: ((إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته. .)) الحديث (2). وهما في جهة، وقد شبه صلى الله عليه وسلم الرؤية بالرؤية. ثم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: ((إنكم سترون ربكم عيانا)) (3). إثبات للرؤية البصرية التي لا تتم إلا على ما كان في جهة. ثم أن إثبات صفة العلو لله تبارك وتعالى ورد بالكتاب والسنة في مواضع كثيرة جدا فلا حرج في إثبات رؤية الله تعالى من هذا العلو الثابت له تبارك وتعالى ولا يقدح هذا في التنزيه، لأن من أثبت هذا أعلم البشر بما يستحق الله تعالى من صفات الكمال. أما لفظ الجهة: فهو من الألفاظ المجملة التي لم يرد نفيها، ولا إثباتها بالنص، فتأخذ حكم مثل هذه الألفاظ. ثانيا: من أدلة المعتزلة دليل الموانع: وقبل تقرير هذا الدليل لا بد لنا من ذكر مقدمة نوضح فيها المراد فنقول: إن ما يجب حصول الإبصار عنده في الشاهد ثمانية شروط: الأول: سلامة الحاسة.   (1) ((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (190، 213، 217)، ((شرح المواقف)) للجرجاني (8/ 139). (2) رواه البخاري (554) , ومسلم (633). (3) رواه البخاري (7435). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 الثاني: كون الشيء بحيث يكون جائز الرؤية. الثالث: أن لا يكون في غاية البعد. الرابع: أن لا يكون في غاية القرب. الخامس: أن يكون مقابلا للرائي أو في حكم المقابل. السادس: أن لا يكون في غاية اللطافة. السابع: أن لا يكون بين الرائي والمرئي حجاب. الثامن: أن لا يكون في غاية الصغر. فعند توفر هذه الشروط الثمانية يجب الإبصار، إذ لو لم يجب لجاز أن يكون بحضرتنا جبال عالية وشموس مضيئة، وأصوات هائلة ونحن لا نراها ولا نسمعها، وذلك يقتضي دخول الإنسان في الجهالات. وقالوا: إن الشروط الستة الأخيرة لا يمكن اعتبارها إلا في رؤية الأجسام، والله ليس بجسم، فلا يمكن اعتبار هذه الشرائط في رؤيته. ولو صحت لوجب أن لا يشترط لحصولها إلا سلامة الحاسة، وكونه بحيث أن يكون جائز الرؤية ولكنها لا تصح. قال عبد الجبار: لأن القديم تعالى لو جاز أن يرى في حال من الأحوال لوجب أن نراه الآن، ومعلوم أنا لا نراه الآن. وهذه الدلالة مبنية على أصلين: أحدهما: أن الواحد منا حاصل على الصفة التي لو رأى لما رأى إلا لكونه عليها. الثاني: أن القديم تعالى حاصل على الصفة التي لو رئي لما رئي إلا لكونه عليها، أما الذي يدل على أن القديم تعالى حاصل على الصفة التي لو رئي لما رئي إلا لكونه عليها هو أن الشيء إنما يرى على أخص ما تقتضيه صفة الذات، والقديم تعالى على هذه الصفة بلا خلاف بيننا وبين من خالفنا في هذه المسألة، لأنه تعالى حاصل على ما هو عليه في ذاته وموجود، ونحن نقول: إن الشيء إنما يرى لما هو عليه في ذاته، وهم يقولون إنما يرى لوجوده والقديم تعالى حاصل على كل واحدة من هاتين الصفتين، فإذن لا شك أنه تعالى حاصل على الصفة التي لو رؤي لما رؤي إلا لكونه عليها، ولا تتجدد له صفة في الآخرة يرى عليها، فثبت ما قلناه، وأما الذي يدل على أن الواحد منا حاصل على الصفة التي لو رأى لما رأى إلا لكونه عليها، هو أنه إنما يرى الشيء لكونه حيا، بشرط صحة الحاسة وارتفاع الموانع، وقد علمنا أن الموانع المعتبرة عن رؤية المرئيات هي القرب المفرط، والبعد المفرط، والحجاب، واللطافة، والرقة، وأن يكون المرئي في غير جهة محاذاة الرائي، أو أن يكون حالا فيما هذا سبيله. فما كان هذه صفته امتنعت رؤيته، وما خلا عن ذلك وهو مرئي في نفسه وجبت رؤيته إذا كان الرائي يرى بالحاسة فقط، أما إذا كانت الرؤية بالمرآة فلا يمنع كونه في غير جهة محاذاة، لأنه يرى وجهه وما خلفه وما عن يمينه وما عن يساره، لأن المرآة أصبحت في الحكم كأنها عينه، فما قابلها بمنزلة ما قابل عينه، فلذلك اختلف حال ما يراه بالمرآة لما يراه بالحاسة من غير وساطة، فلا تمتنع رؤية الشيء بوساطة على الوجه الذي تمتنع رؤيته بالحاسة على جهة الابتداء (1). ثم ساق عبد الجبار كثيرا من الاعتراضات مما يرد على هذا الدليل وأجاب عنها فقال: فإن قيل: ولم قلتم ذلك؟ قلنا: لأنه متى كان على هذه الصفة وجب أن يرى، ومتى لم يكن كذلك استحال أن يرى، فيجب أن تكون رؤيته لما يراه لكونه حيا بشرط صحة الحاسة على ما نقوله، لأنه بهذه الطريقة يعلم تأثير المؤثرات من الأسباب والعلل والشروط. فإن قيل: نحن لا نسلم ذلك. بل نقول إن الحي منا إذا كان صحيح الحاسة إنما يرى الشيء لرؤية خلقها الله في بصره وإدراك بخلقه. قلنا: الإدراك ليس بمعنى، وليس لأمر زائد على كونه حيا مع صحة الحاسة. فإن قيل: ومن أين لكم أن الإدراك ليس بمعنى؟   (1) ((المغني في باب التوحيد والعدل)) (4/ 116)، ((الأربعين في أصول الدين)) (212). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 قلنا: لو كان معنى لوجب من الواحد منا مع صحة الحاسة وارتفاع الموانع ووجود المدرك أن لا يرى ما بين يديه في بعض الحالات، بأن لا يخلق الله له الإدراك، وهذا يقتضي أن يكون بين أيدينا أجسام عظيمة كالفيلة والبعران ونحوها ونحن لا نراها، لفقد الإدراك وهذا يرفع الثقة بالمشاهدات، ويلحق البصراء بالعميان وذلك محال، وما أدى إليه وجب أن يكون محالا. فإن قيل: إنا نقطع على أنه ليس بحضرتنا أجسام عظيمة فكيف يجوز أن تكون ولا نراها؟ قلنا: إن العلم بأنه ليس بحضرتنا شيء يستند إلى طريق وهو العلم بأنه لو كان لرأيناه، وقد سددتم هذه الطريقة على أنفسكم لتجويزكم أن يكون ولا ترونه، فلا يمكنكم القطع على أنه ليس بحضرتنا شيء، فيلزم ما ألزمناكم يبين ذلك أن الأعمى لما فقد هذه الطريق، وهو العلم بأنه لو كان رآه لم يمكنه القطع على أنه ليس بحضرته شيء من طريق الإدراك، وكذلك إذا جوزتم أن يكون ولا ترونه وجب أن يكون حالكم حال الأعمى. فإن قيل: أليس الأعمى مع تجويزه أن يكون ولا يرى يمكنه القطع على أنه ليس بحضرته شيء بأن يلمس فيجد ذلك الموضع خاليا. قلنا: كلامنا في علمين يستند أحدهما إلى الآخر وكان الأول طريقا إلى الثاني، وهذا الذي ذكرتموه ليس كذلك فلا يصح، وهكذا الجواب إذا قيل: ليس يمكنه القطع على أنه ليس بحضرته شيء من طريق الخبر لأن كلامنا في العلم الذي يستند إلى الإدراك. فإن قيل: ألستم جوزتم أن يقلب الله صورة زيد إلى صورة أخرى ثم قطعتم على أنه لم يفعل فهلا جاز مثله في مسألتنا. قلنا: إن بين الموضعين فرقا لأن كلامنا في علمين أحدهما طريق إلى الآخر فمن أفسد على نفسه تلك الطريقة لا يحصل له العلم الذي يحصل من ذلك الطريق، والعلم بأن زيدا هو الذي شاهدناه من قبل لا يستند إلى طريقة قد أفسدناها على أنفسنا فجاز أن نقطع على أنه هو. فإن قيل: إن العلم بذلك يستند إلى طريق وهو الإدراك، وقد أفسدتم بتجويزكم على أنفسكم أن يقلب الله صورته فلا يمكنكم القطع على أنه هو. قيل له: ليس الأمر على ما ظننته لأن هذا العلم لا يستند إلى الإدراك، إذ لو كان كذلك لوجب فيمن أدرك زيدا ثم شاهده بعد ذلك أن يثبته لا محالة، والمعلوم خلافه، فإن في الناس من يشاهد شخصا مرة ثم إذا رآه ثانية تبينه وتعرفه، وفيهم من يشاهده مرارا ثم إذا رآه بعد ذلك لم يتبينه ولم يعرفه، وما ذلك إلا؛ لأن هذا العلم غير مستند إلى الإدراك فصح ما قلناه. فإن قيل: إن العلم بأنه ليس بحضرتنا شيء علم يخلقه الله تعالى فينا ابتداء لا أنه يستند إلى طريق قد أفسدناه. قلنا: ليس الأمر على ما ظننته، بل العلم بأنه ليس بحضرتنا شيء يستند إلى أنه لو كان لرأيناه، وعلى هذا فإن الأعمى لما فقد هذه الطريق لم يمكنه القطع على أنه ليس بحضرته شيء، فعلمنا أن أحد العلمين يستند إلى الآخر، والأول طريق إلى الثاني، فمن أفسد على نفسه العلم الأول لا يحصل له العلم الثاني فقد صح بهذه الجملة ووضح أن الإدراك ليس بمعنى، وأن أحدنا حاصل على الصفة التي لو رأى لما رأى إلا لكونه عليها، والقديم تعالى حاصل على الصفة التي لو رئي لما رئي إلا لكونه عليها، والموانع معقولة مرتفعة. فإن قيل: ولم قلتم إن الموانع المعقولة مرتفعة؟ قلنا: لأن الموانع المعقولة التي سبق ذكرها لا يجوز شيء منها على الله تعالى بحال من الأحوال. فإن قيل: ما أنكرتم أنا إنما لا نرى القديم تعالى لمانع غير معقول؟ قلنا: لأن إثبات ما لا يعقل يفتح باب الجهالات ويلزم عليه جواز أن يكون بحضرتنا أجسام عظيمة ونحن لا نراها لمانع غير معقول ويلزم مثل ذلك في المعدوم ومعلوم خلافه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 فإن قيل: ما أنكرتم أن المانع من رؤية الله تعالى هو أنه تعالى لم يشأ أن يرينا نفسه ولو شاء لرأيناه. قلنا: المشيئة إنما تدخل فيما يصح دون ما يستحيل، وقد بينا أن الرؤية تستحيل عليه تعالى فلا يعلم ما ذكرتموه، وبعد فلو جاز ذلك في القديم تعالى لجاز مثله في المعدوم، فيقال إن المعدوم إنما لا يرى لأنه تعالى لا يشاء أن نراه ولو شاء لرأيناه فكما أن ذلك خلف من الكلام كذلك ههنا. فإن قال: ما أنكرتم أن هذه الأمور التي عددتموها ليست بموانع؟ قلنا: إن كان الأمر على ما ذكرته فقد ارتفع غرضنا لأن غرضنا بيان أن الموانع عن الرؤية مرتفعة، وأنه تعالى لو كان مرئيا في نفسه لوجب أن نراه الآن، وهذا قد تم بما ذكرتموه، على أنا قد بينا أن هذه الأمور موانع بما لا يمكن دفعه. فإن قيل: ما أنكرتم أنا نرى القديم تعالى الآن؟ قلنا: لو رأيناه لعلمناه ضرورة لأن الرؤية طريق إلى العلم، وهذا يوجب أن نجد كوننا عالمين به من أنفسنا وقد عرف خلافه. فإن قيل: أليس أنه تعالى حاصل على الصفة التي لو علم لما علم إلا لكونه عليها والواحد منا حاصل على الصفة التي لو علم ما علم إلا لكونه عليها، والموانع المعقولة عن العلم مرتفعة ثم لا يجب في كل عاقل أن يعلم القديم تعالى فهلا جاز مثله في مسألتنا أن يكون القديم حاصلا على الصفة التي لو رئي لما رئي إلا لكونه عليها، والواحد منا حاصل على الصفة التي لو رأى لما رأى إلا لكونه عليها، ثم لا يجب أن نراه الآن. قلنا: إن بين الموضعين فرقا لأن المصحح في كونه عالما غير الموجب له إذ المصحح له إنما هو كونه حيا والموجب له إنما هو العلم وليس كذلك في كونه مدركا لأن المصحح له هو كونه حيا وهو الموجب له أيضا ففارق أحدهما الآخر (1). هذا سياق دلالة الموانع باعتراضاتها وردودها كما قررها عبد الجبار بن أحمد المعتزلي وللرد على هذه الدلالة نقول كما قال الرازي: لا نسلم عند عدم الموانع – التي ذكرتم – من الرؤية وجوب الإبصار، ولا امتناعه عند توفرها. ويؤيد هذا ما يأتي: أولا: رؤية الجسم الكبير من البعد صغيرا فإن كانت الرؤية لجميع أجزائه، وجب ألا يرى صغيرا. وإن لم ير شيئا من أجزائه وجب إلا يرى. وإن رئي بعض أجزائه دون بعض مع أن جميع الأجزاء بالنسبة إلى الموانع أو عدمها سواء لزم عدم الوجوب أو الامتناع. ولا يقال: إنا إذا أبصرنا شيئا اتصل بطرفيه من العين خطان شعاعيان كساقي المثلث وصار عرض المرئي كالخط الثالث، أي قاعدة المثلث ثم يخرج من نقطة الناظر خط آخر إلى وسط المرئي قائم عليه يقسم المثلث الأول إلى مثلثين، وكل واحد منهما مثلث قائم الزاوية، وهذا يصلح أن يكون وترا لكل واحد من الزاويتين الحادتين الواقعتين على طرفي المثلث الأول الكبير، والخطان الطرفيان كل واحد منهما وتر للزاويتين القائمتين، ووتر القائمة أعظم من وتر الحادة بلا شك، فالخطان الطرفيان كل واحد منهما أطول من الخط الأوسط، فلم تكن أجزاء المرئي بالنسبة إلى الرائي متساوية في القرب والبعد، لأنا نقول لنفرض أن هذا التفاوت واقع بمقدار شبر فلو كان المانع من الرؤية هذا القدر من التفاوت في البعد لكنا إذا جعلنا المرئي أبعد مما كان عليه وقوله تعالى: النظر بمقدار شبر وجب أن لا نراه البتة، وليس كذلك فعلمنا أنه ليس السبب في عدم رؤية بعض الأجزاء ذلك القدر من التفاوت في البعد.   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (253)، ((المغني في باب التوحيد والعدل)) (4/ 212). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 فإن قيل: لا يلزم من رؤيتنا جميع أجزائه أن نراه كبيرا؛ لأن اختلاف الرؤية بالنسبة إلى الصغر والكبر ناتج عن ضيق الزاوية الحاصلة في الناظر من الخطين المتصلين منه بطرفي المرئي وسعتها، ولهذا إذا قرب المرئي في الغاية أو بعد كذلك صارت الزاوية لسعتها في الغاية حال القرب، أو لضيقها في الغاية حال البعد كالمعدوم فانعدمت الرؤية حينئذ لعدم انطباع الصورة، وهذا الافتراض مبني على القول بأن الرؤية تحصل بانطباع صورة المرئي أو شبحه في جزء من الرطوبة الجليدية في العين. قلنا: هذا ضعيف بناء على تركب الأجزاء التي تتجزأ إذ على هذا التقدير إن رأى الأجزاء كلها وجب أن يرى الجسم كما هو في الواقع سواء كان قريبا أو بعيدا لأن رؤية كل منها أو بعضها أصغر مما هو عليه توجب الانقسام فيما لا يتجزأ لثبوت ما هو أصغر منه ورؤية كل من الأجزاء أكبر مما هو عليه بمثل أو بأزيد منه توجب ألا يرى إلا ضعفا أو أكبر من ذلك، وهو باطل قطعا، ورؤيته أكبر بأقل من مثل توجب الانقسام، ورؤية بعضها على ما هو عليه بعضها أكبر بمثل توجب ترجيحا بلا مرجح فوجب أن يرى الكل على حاله، فلا تفاوت حينئذ بالصغر والكبر، فتعين أن يكون التفاوت بحسب رؤية بعض دون بعض. ثانيا: إن من نظر إلى مجموع من التراب يراه وهو عبارة عن مجموع تلك الذوات والأجزاء الصغيرة وإدراك كل واحد من تلك الذوات والأجزاء إما أن يكون مشروطا بإدراك الآخر أو لا؟ فإن كان مشروطا فيلزم عليه الدور، وإن لم يكن مشروطا فحينئذ يكون إدراك كل واحد من تلك الذوات والأجزاء حالتي الاجتماع والانفراد على السوية وليس كذلك، لأنها لا ترى حال الانفراد، وحينئذ لا يكون الإدراك واجب الحصول عند حصول تلك الشرائط، وإما أن يكون إدراك بعضه مشروطا بإدراك الباقي ولا ينعكس، فهذا محال، ومع أنه محال فالمقصود حاصل، أما أنه محال فلأن الأجزاء متساوية فيكون هذا مفتقرا إلى ذلك مع أن ذلك غني عن هذا ترجيح من غير مرجح وهو محال، وأما أن المقصود حاصل، فلأن إدراك أحد تلك الأجزاء إذا كان غنيا عن إدراك الآخر كان حاله عند الاجتماع وعند الانفراد في صحة الإدراك على السوية، وحينئذ يعود المحذور، فهذان برهانان قويان في بيان أنه عند حصول هذه الشرائط فالإدراك غير واجب الحصول. وقولهم: لو لم يجب الإدراك لجاز أن يكون بحضرتنا حملات وبوقات ونحن لا نراها ولا نسمعها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 قلنا: هذا معارض بجملة العاديات، ثم إن كان مأخذ الجزم بعدم الحملات والبوقات ما ذكرتم من وجوب الرؤية عند اجتماع شرائطها لوجب ألا نجزم به إلا بعد العلم بهذا، واللازم باطل، لأنه لا يجزم به من لا يخطر بباله هذه المسألة ولأنه ينجر إلى أن يكون ذلك الجزم نظريا مع اتفاق الكل على كونه ضروريا. سلمنا أنه عند تحقق الشرائط في الشاهد يكون الإدراك واجب الحصول فلم قلتم: إنه في حق الله تعالى يجب أن يكون كذلك، مع أن ذات الله مخالفة في الحقيقة والماهية لهذه الحوادث، والمختلفات لا يجب استواؤهما في اللوازم، فلم يلزم من كون الإدراك واجبا في الشاهد عند حضور هذه الشرائط كونه واجبا في الغائب عند حضورها. فلا يمتنع أن يكون الإدراك في الشاهد واجب الحصول وفي الغائب لا يجب ذلك، وسبق تقرير هذا الكلام في الرد على الدليل السابق (1). لذا صح بطلان دليل الموانع ورد الرازي على الدليل في غاية القوة حيث أنه أثبت معنوية الإدراك وكان اعتمادهم في الاستدلال على نفي المعنوية عن الإدراك، فبين عدم وجوبه مع صحة الحاسة وارتفاع الموانع، والله أعلم. ثالثا: من أدلة المعتزلة على نفي الرؤيا الانطباع: وتقريره كما ذكر الرازي: (أن كل ما يكون مرئيا فلا بد وأن تنطبع صورته ومثاله في العين، والله تعالى يتنزه عن الصورة والمثال، فوجب أن تمتنع رؤيته) (2).رابعا: إن كل ما كان مرئيا فلا بد له من لون وشكل، ودليله الاستقراء والله تعالى منزه عن ذلك فوجب ألا يرى (3). والجواب عن الدليلين: هو: منع كون الرؤية بالانطباع، ومنع كون المرئي ذا لون وشكل، إما مطلقا أو في الغائب لعدم تماثل الرؤيتين، فرؤية الخالق ليس كرؤية المخلوق، فلا يجب هذا في حق الله تعالى حيث إن ذات الله مخالفة بالحقيقة والماهية لهذه الحوادث والمختلفات في الماهية لا يجب استواؤهما في اللوازم (4). والحكم بأن المرئي لابد وأن تنطبع صورته ومثاله في العين، وأنه لا بد وأن يكون ذا لون وشكل مبني على أن هذه الأشياء المشاهدة المحسوسة لا ترى إلا كذلك. ثم قالوا لو صح أن يرى الله فلا يرى إلا كذلك وهو ممنوع في حقه تعالى، والحق أنه تحكم محض وقياس للخالق على المخلوق، وهو باطل قطعا لأنه قياس مع الفارق، فالله تعالى ليس كمثله شيء، ولا يشبهه شيء من خلقه، فلا يصح قياسه عليه. قال تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 1 - 4]، وقال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11]. المصدر: رؤية الله تعالى وتحقيق الكلام فيها لأحمد بن ناصر آل حمد – ص55   (1) ((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (215)، ((شرح المواقف)) للجرجاني (8/ 136). (2) ((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (213). (3) ((الأربعين في أصول الدين للرازي)) (215)، ((التمهيد)) للباقلاني (277). (4) ((شرح الجرجاني للمواقف)) (8/ 139)، ((الأربعين في أصول الدين للرازي)) (217). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 المطلب الرابع: أدلة أهل السنة على جواز الرؤية ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن رؤية الله تعالى جائزة عقلا وواقعة فعلا في الآخرة، واستدلوا على ذلك بالنقل والعقل: أولا: من جهة النقل استدلوا بأدلة كثيرة منها: أولا: قوله تعالى: وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 143]. والاستدلال بالآية من عدة أوجه: الوجه الأول: أن موسى عليه السلام سأل الرؤية ولو امتنع كونه تعالى مرئيا لما سأل، لأنه حينئذ إما أن يعلم امتناعها أو يجهله، فإن علمه فالعاقل لا يطلب المحال الممتنع لأنه عبث ينزه الأنبياء عنه، وإن جهله فالجاهل بما لا يجوز على الله ويمتنع لا يكون نبيا كليما، وقد وصفه الله تعالى بذلك. قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف: 144] فالمقصود من البعثة والرسالة هو الدعوة إلى العقائد الحقة، والأعمال الصالحة الموافقة لدين الله وشرعه، فالسؤال دل على عدم الامتناع وكونه رسولا مصطفى مختارا يمنع عليه الجهل بمن أرسله واصطفاه (1). واعترضت المعتزلة على هذا الدليل بوجوه: فعلى الوجه الأول: أولا: قال الكعبي: إن موسى عليه السلام لم يطلب الرؤية وإنما طلب العلم، وعبر بها عن لازمها الذي هو العلم الضروري وإطلاق اسم الملزوم على اللازم شائع، فكأنه قال: اجعلني عالما بك علما ضروريا، وهذا أيضا تأويل أبي الهذيل العلاف ووافقه الجبائي وأكثر البصريين (2). وقد أجيب على هذا الوجه من طريقين: 1 - قال القاضي عبد الجبار: (وقد أجاب شيخنا أبو الهذيل عن هذا؛ بأن الرؤية ههنا بمعنى العلم، ولا اعتماد عليه لأن الرؤية إنما تكون بمعنى العلم متى تجردت فأما إذا قارنها النظر فلا تكون بمعنى العلم) (3). 2 - كما أجاب أهل السنة فقالوا: إن الرؤية المقرونة بالنظر الموصول بإلى نص في الرؤية، فلو كانت الرؤية المطلوبة في أَرِنِي بمعنى العلم لكان النظر المترتب عليه بمعناه أيضا، وإن كان استعمال النظر بمعنى العلم جائزا إلا أنه في حال وصله بإلى يكون بعيدا مخالفا للظاهر ولا تجوز مخالفة الظاهر إلا بدليل، ولا دليل فوجب حمله على الرؤية بالعيان، ويمتنع حمل الرؤية على العلم الضروري ههنا أيضا، لأنه يلزم أن لا يكون موسى عالما بربه ضرورة مع أنه يكلمه من غير وساطة وإنما طلب الرؤية شوقا إليها بعد سماع الكلام، فدعوى عدم العلم غير معقولة حيث إن المخاطب في حكم الحاضر المشاهد وما هو معلوم بالنظر ليس كذلك. ولأنه تعالى أجاب موسى بقوله لَن تَرَانِي، وهذا نفي للرؤية لا للعلم الضروري. وعلى هذا الإجماع منا ومنهم، والجواب ينبغي أن يطابق السؤال ولو حمل سؤال موسى على طلب العلم لم يكن هذا جوابه (4). الاعتراض الثاني من المعتزلة على الوجه الأول من دليل الجواز:   (1) ((شرح المواقف)) (8/ 107)، ((شرح المقاصد)) (2/ 82). (2) ((الأربعين في أصول الدين للرازي)) (198)، ((شرح المواقف)) (8/ 117). (3) ((شرح الأصول الخمسة)) (262). (4) ((شرح المواقف)) (8/ 117)، ((شرح المقاصد)) (2/ 82). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 أن موسى عليه السلام لم يسأل الله أن يريه ذاته وإنما سأله أن يريه علما من علومه ويكون تقدير الكلام (أرني أنظر إلى علمك) فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه فقال: أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143] فتكون الرؤية المطلوبة متعلقة بالعلم ويكون المعنى أرني علما من علومك أنظر إلى علمك. هذا تصوير الاعتراض. وقد أجاب الباقلاني عن هذا الاعتراض فقال: (إن هذا غير جائز في اللغة لأن القائل لا يجوز أن يقول لمن يسمع كلامه ويعرفه ولا يشك فيه أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ وهو يريد "عرفني نفسك" أو "أرني فعلا من أفعالك" هذا غير مستعمل في اللسان، ولأن النظر إذا أطلق فليس معناه إلا رؤية العين وإن أريد به العلم فبدليل، ولأن النظر الذي في الآية معدى بقوله: "إليك" والنظر المعدى بـ "إلى" لا يجوز في كلام العرب أن يراد به إلا نظر العين) (1). وقال الجرجاني في شرحه للمواقف في الجواب عن هذا الاعتراض: إنه خلاف الظاهر فلا يرتكب إلا لدليل ومع ذلك لا يستقيم: أما أولا: فلقوله لَن تَرَانِي فإنه نفي لرؤيته تعالى لا لرؤية علم من أعلامه بإجماعهم فلا يطابق الجواب السؤال حينئذ. وأما ثانيا: فلأن تدكدك الجبل الذي شاهده موسى عليه السلام من أعظم الأعلام فلا يناسب قوله وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ المنع من رؤية العلامة المستفادة من قوله لَن تَرَانِي على هذا التأويل بل يناسب رؤيتها، وأيضا قوله فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ لا يلائم رؤيتها لأن الآية في تدكدك الجبل لا في استقراره (2). الاعتراض الثالث من المعتزلة على الوجه الأول من دليل الجواز: ما قاله أبو علي وأبو هاشم (إن السؤال لم يكن سؤال موسى وإنما كان سؤالا عن قومه، والذي يدل عليه قوله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا [النساء: 153] وقوله عز وجل: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة: 55] فصرح تعالى بأن القوم هم الذين حملوه على هذا السؤال. ويدل عليه أيضا قوله حاكيا عن موسى عليه السلام: أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء [الأعراف: 155] فبين أن السؤال سؤال عن قومه وأن الذنب ذنبهم) (3). قال الزمخشري: (فما طلب الرؤية إلا ليبكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلالا وتبرأ من فعلهم وليلقمهم الحجر، وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبههم على الحق، فلجوا وتمادوا في إلحاحهم وقالوا لا بد ولن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأرادوا أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة ذلك وهو قوله لَن تَرَانِي ليتيقنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبه فلذلك قال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143].   (1) ((التمهيد للباقلاني)) (272). (2) ((شرح المواقف)) (8/ 118). (3) ((شرح الأصول الخمسة)) (262)، ((الأربعين في أصول الدين)) (198). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 فإن قلت: فهلا، قال: أرهم ينظرون إليك. قلت: لأن الله سبحانه إنما كلم موسى عليه السلام وهم يسمعون، فلما سمعوا كلام رب العزة أرادوا أن يرى موسى ذاته فيبصروه معه كما أسمعه كلامه فسمعوه معه إرادة مبنية على قياس فاسد، فلذلك قال موسى أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ولأنه إذا زجر عما طلب وأنكر عليه في نبوته واختصاصه وزلفته عند الله تعالى، وقيل له لن يكون ذلك كان غيره أولى بالإنكار، ولأن الرسول إمام أمته فكان ما يخاطب به أو ما يخاطب راجعا إليهم وقوله أَنظُرْ إِلَيْكَ وما فيه من معنى المقابلة التي هي محض التشبيه والتجسيم دليل على أنه ترجمة عن مقترحاتهم وحكاية لقولهم (1).وعلى هذا التأويل الجاحظ وأكثر المعتزلة فهم يقولون إن الطلب ليس من موسى عليه السلام لنفسه وإنما لقومه على ما مر (2). الجواب الأول عن الاعتراض الثالث: يقول الرازي: (إن هذا تأويل فاسد ويدل عليه وجوه: الأول: أنه لو كان الأمر كذلك لقال موسى: (أرهم ينظروا إليك) ولقال تعالى: (لن يروني)، فلما لم يكن كذلك بطل هذا التأويل. الثاني: أنه لو كان هذا السؤال طلبا للمحال لمنعهم عنه كما أنهم لما قالوا: اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف: 138] منعهم عنه بقوله إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف: 138]. الثالث: أنه لو كان: يجب على موسى عليه السلام إقامة الدلائل القاطعة على أنه تعالى لا تجوز رؤيته، وأن يمنع قومه بتلك الدلائل عن هذا السؤال فأما أن لا يذكر شيئا من تلك الدلائل البتة مع أن ذكرها كان فرضا مضيفا كان هذا نسبة لترك الواجب إلى موسى عليه السلام، وأنه لا يجوز. الرابع: أن أولئك الأقوام الذين طلبوا الرؤية إما أن يكونوا قد آمنوا بنبوة موسى عليه السلام أو لا؛ فإن كان الأول كفاهم في الاقتناع عن ذلك السؤال الباطل مجرد قول موسى عليه السلام فلا حاجة إلى هذا السؤال الذي ذكره موسى عليه السلام، وإن كان الثاني لم ينتفعوا بهذا الجواب لأنهم يقولون له: لا نسلم أن الله منع من الرؤية بل هذا قول افتريته على الله تعالى فثبت أن على كلا التقديرين لا فائدة للقوم في قول موسى عليه السلام أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ (3). الجواب الثاني عن الاعتراض الثالث:   (1) ((الكشاف للزمخشري)) (2/ 113). (2) ((شرح المواقف)) (8/ 119). (3) ((تفسير الرازي)) (14/ 220). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 أنهم لما طلبوا من موسى أن يريهم الله جهرة زجرهم الله تعالى وردعهم عن سؤالهم بأخذ الصاعقة من غير ما طلب من موسى إلى زجرهم بطلب الرؤية وإضافتها إلى نفسه. فإن قيل: إن أخذ الصاعقة لهم لا يدل على أن الرؤية ممنوعة فالصاعقة أخذتهم عقيب السؤال، ولا يدل على امتناع ما طلبوه لجواز أن يكون الأخذ بالصاعقة لأنهم قصدوا إعجاز موسى عليه السلام من الإتيان بما طلبوه مع كونه ممكنا، فأنكر الله ذلك عليهم وعاقبهم كما أنكر تعالى قول أهل مكة لمحمد صلى الله عليه وسلم وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا [الإسراء: 90]. وقول أهل الكتاب له صلى الله عليه وسلم: أنزل علينا كتابا من السماء قال تعالى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء [النساء: 153]. وما ذلك إلا بسبب التعنت، وإن كان المسؤول أمرا ممكنا في نفسه، فأظهر الله لهم ما يدل على صدقه معجزا ورادعا لهم عن التعنت (1).أما استدلالهم بقوله تعالى: أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء [الأعراف: 155] على أنه سؤال عن قومه، وتعقيب الزمخشري على ذلك فلا نسلمه لهم. قال صاحب الانتصاف: (فإن الذي كان الإهلاك بسببه إنما هو عبادة العجل في قول أكثر المفسرين، ثم وإن كان السبب طلبهم للرؤية فليس لأنها غير جائزة على الله ولكن الله تعالى أخبر أنها لا تقع في دار الدنيا، والخبر صدق. وذلك بعد سؤال موسى للرؤية فلما سألوه وقد سمعوا الخبر بعدم وقوعها كان طلبهم خلاف المعلوم تكذيبا للخبر، فمن ثم سفههم موسى عليه السلام وتبرأ من طلب ما أخبر الله أنه لا يقع، ثم ولو كان سؤالهم الرؤية قبل إخبار الله تعالى بعدم وقوعها فإنما سفههم موسى عليه السلام لاقتراحهم على الله هذه الآية الخاصة وتوقيفهم الإيمان عليها حيث قالوا: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة: 55]. ألا ترى أن قول أهل مكة لمحمد صلى الله عليه وسلم وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا [الإسراء:90]. إنما سألوا منه جائزا، ومع ذلك قرعوا لاقتراحهم على الله ما لا يتوقف وجوب الإيمان عليه) (2). الاعتراض الرابع من المعتزلة على الأول من دليل الجواز: أن موسى عليه السلام ما عرف أن الرؤية غير جائزة على الله تعالى ومع الجهل بهذا المعنى قد يكون المرء عارفا بربه وبعدله وتوحيده فلم يبعد أن يكون العلم بامتناع الرؤية وجوازها موقوفا على السمع. وهذا قول بعض المعتزلة كالحسن وغيره (3). قال الرازي في الجواب عن هذا: (قال أصحابنا أما هذا الوجه فضعيف ويدل عليه وجوه: الأول: إجماع العقلاء على أن موسى عليه السلام ما كان في العلم بالله أقل منزلة ومرتبة من أراذل المعتزلة، فلما كان كلهم عالمين بامتناع الرؤية على الله تعالى، وفرضنا أن موسى عليه السلام لم يعرف ذلك كانت معرفته بالله أقل درجة من معرفة كل واحد من أراذل المعتزلة، وذلك باطل بإجماع المسلمين.   (1) ((شرح المواقف)) (8/ 119). (2) ((الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال)) لأحمد الإسكندري المالكي (2/ 112) من هامش ((الكشاف)) بتصرف. (3) ((تفسير الرازي)) (14/ 229). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 الثاني: أن المعتزلة بدعوة العلم الضروري بأن كل ما كان مرئيا فإنه يجب أن يكون مقابلا، أو في حكم المقابل، فإما أن يقال: إن موسى عليه السلام حصل له هذا العلم أو لم يحصل له هذا العلم، فإن كان الأول كان تجويزه لكونه تعالى مرئيا يوجب تجويز كونه تعالى حاصلا في الحيز والجهة، وتجويز هذا المعنى على الله تعالى يوجب الكفر عند المعتزلة فيلزم كون موسى عليه السلام كافرا وذلك لا يقوله عاقل. وإن كان الثاني فنقول لما كان العلم بأن كل مرئي يجب أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل علما بديهيا ضروريا، ثم فرضنا أن هذا العلم ما كان حاصلا لموسى عليه السلام لزم أن يقال: إن موسى عليه السلام لم يحصل فيه جميع العلوم الضرورية، ومن كان كذلك فهو مجنون فيلزمهم الحكم بأنه عليه السلام ما كان كامل العقل بل كان مجنونا وذلك كفر بإجماع الأمة، فثبت أن القول بأن موسى عليه السلام ما كان عالما بامتناع الرؤية مع فرض أنه تعالى ممتنع الرؤية يوجب أحد هذين القسمين الباطلين فكان القول به باطلا، والله أعلم) (1). ويتصور اعتراض المعتزلة على الوجه الأول من وجهي الرد بأن هذه العقيدة سمعية، ففي الوقت الذي سأل موسى ربه الرؤية لم يكن جاءه وحي بامتناعها بخلاف المعتزلة فإنهم علموا ذلك من الوحي الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم أنها ممتنعة، وهذا لا يوجب أفضلية المعتزلة على موسى عليه السلام لأن المسألة راجعة إلى السمع والوحي، هذا ما يمكن أن يعترض به المعتزلة على هذا الجواب. فيقال إن عقيدة الرؤية ليست سمعية بل هي عقيدة عقلية باعترافكم أنفسكم، فإنكم حين أردتم الاستدلال على دعواكم امتناع الرؤية قسمتم الأدلة إلى عقلية ونقلية فإذا هذه عقيدة يمكن الاستدلال عليها بالعقل، فما يقوله أهل السنة في الرد على اعتراضكم قول صحيح حاسم لأنه يلزم أن تكونوا أقوى عقلا من موسى حيث علمتم بعقولكم امتناع الرؤية مع أن موسى عليه السلام كان جاهلا بامتناعها وهذا من أبعد المحال. الاعتراض الخامس من المعتزلة على الوجه الأول من دليل الجواز: قال أبو الهذيل العلاف: إنه مع علم موسى باستحالتها عقلا طلبها ليؤكد لديه دليل العقل بدليل السمع حتى يقوى علمه بهذه الاستحالة لأن تعدد الأدلة وإن كان من جنس واحد يفيد زيادة العلم بالمدلول، فكيف إذا كانت من جنسين، وقد فعل مثل هذا قبله إبراهيم عليه السلام حين طلب الطمأنينة فيما يعتقده ويعلمه بانضمام المشاهدة إلى الدليل حين قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260]. والجواب: استبعاد هذا لأن العلم لا يقبل التفاوت، فهو صفة توجب تمييزا لا يحتمل متعلقه النقيض بوجه من الوجوه، ولأنه لو كان المقصود إظهار آية سمعية تقوي ما دل العقل عليه؛ لوجب أن يطلب ذلك صريحا من الله بما يقوي امتناع رؤيته تعالى بوجوه زائدة على ما ظهر في العقل، وحيث لم يطلب ذلك بل طلب الرؤية علم فساد مدعاهم. أما مقارنة ذلك بطلب إبراهيم عليه السلام فالفارق ظاهر بين طلب إبراهيم وموسى على قولهم، لأن إبراهيم طلب أن يرى الكيفية مشاهدة ظاهرة جلية مع تصديقه، أما طلب موسى على مدعاهم فهو يطلب دليلا سمعيا يقوي به العقل مع علمه بالاستحالة فما طلبه موسى هو عين ما يعلم، والعلم لا يقبل التفاوت كما مر (2).   (1) ((تفسير الرازي)) (14/ 229). (2) ((شرح الجرجاني للمواقف)) (8/ 120). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 الوجه الثاني من أوجه الاستدلال بالآية على الجواز هو: أن الله لم ينهه ولا أيأسه لما طلب الرؤية، ولو كانت محالة لأنكر عليه، فقد أنكر جل وعلا على نوح لما سأله نجاة ابنه حيث قال: إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ [هود: 47]. وحينما قال الخليل عليه السلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260]. لم ينكر عليه سؤاله، ولما قال عيسى عليه السلام اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [المائدة:114] لم ينكر عليه سؤاله. ففي إنكاره جل وعلا على نوح عليه السلام دليل عدم جواز ما طلب وعدم الإنكار على الخليل وموسى وعيسى صلى الله عليهم وسلم دليل الجواز وعدم الاستحالة (1). الوجه الثالث من أوجه الاستدلال بالآية على الجواز هو: أن الله تعالى أجابه بقوله لَن تَرَانِي وهذا دليل على الجواز، فلو كانت الرؤية مستحيلة عليه لقال: لا تراني، أو لست بمرئي، أو لا تجوز رؤيتي، ألا ترى أنه لو كان في يد رجل حجر مثلا فقال له آخر أعطني هذا لآكله، فإنه يقول له هذا لا يؤكل، ولا يقول له لا تأكله، ولو كان في يده بدل الحجر تفاحة لقال له لا تأكلها أي هذا مما يؤكل ولكنك لا تأكله، والفرق بين الجوابين ظاهر لمن تأمله، ففي قوله في الجواب لَن تَرَانِي دليل على أنه سبحانه وتعالى يرى ولكن موسى عليه السلام لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار لضعف قوة البشر فيها عن رؤية العلي العظيم (2).قال أبو سعيد الدارمي في قوله تعالى: لَن تَرَانِي أي (في الدنيا؛ لأن بصر موسى من الأبصار التي كتب الله عليها الفناء في الدنيا فلا تحتمل النظر إلى نور البقاء، فإذا كانت يوم القيامة ركبت الأبصار والأسماع للبقاء فاحتملت النظر إلى الله عز وجل بما يطوقها الله، ألا ترى أنه يقول: فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ولو قد شاء لاستقر الجبل ورآه موسى، ولكن سبقت منه الكلمة أن لا يراه أحد في الدنيا، فلذلك قال لَن تَرَانِي فأما في الآخرة فإن الله تعالى ينشئ خلقه فيركب أسماعهم وأبصارهم للبقاء فيراه أولياؤه جهرا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (3). الوجه الرابع من أوجه الاستدلال بالآية على الجواز: أنه تعالى علق الرؤية على أمر جائز، وهو استقرار الجبل والمعلق على الجائز جائز، فيلزم كون الرؤية في نفسها جائزة، قال الرازي: (إذا ثبت هذا وجب أن تكون رؤيته جائزة الوجود في نفسها، لأنه لما كان ذلك الشرط أمرا جائز الوجود، لم يلزم من فرض وقوعه محال، فبتقدير حصول ذلك الشرط، إما أن يترتب عليه الجزاء الذي هو حصول الرؤية أو لا يترتب، فإن ترتب عليه حصول الرؤية لزم القطع بكون الرؤية جائزة الحصول، وإن لم يترتب عليه حصول الرؤية قدح هذا في صحة قوله، أنه متى حصل ذلك الشرط حصلت الرؤية وذلك باطل (4). وللمعتزلة على هذا الوجه اعتراضان: الاعتراض الأول:   (1) ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (223). (2) ((تفسير الرازي)) (14/ 231)، ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (223). (3) ((الرد على الجهمية)) (55). (4) ((تفسير الرازي)) (14/ 231). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 أنه علق الرؤية على استقرار الجبل ولا يخلو إما أن يكون علقها باستقراره بعد تحركه وتدكدكه أو علقها به حال تحركه، ولا يجوز أن يكون بالاستقرار بعد التحرك لأنه لم يره فصح أن التعليق كان حال الحركة، وذلك دليل على استحالة الرؤية كاستحالة استقرار الجبل حال حركته، والمعلوم أنه لا يستقر وهذه طريقة العرب إذا أرادوا تأكيد اليأس من الشيء علقوه بأمر يبعد حصوله، فلما جعله تعالى دكا وظهر بعد استقراره لذلك في النفوس حل محل الأمور التي يبعد بها الشيء إذا علق بها في الكلام، لأن استقراره وقد جعله دكا يستحيل لما فيه من اجتماع الضدين فما علق به يجب أن يكون بمنزلته. الاعتراض الثاني: أنه لم يقصد من التعليق المذكور في الآية بيان إمكان الرؤية أو امتناعها بل بيان عدم وقوعها لعدم المعلق به وهو الاستقرار بغض النظر عن كونه ممكنا أو ممتنعا (1). هذا تصوير ما اعترضوا به على هذا الدليل. والأول هو أحد أوجه استدلالهم بالآية على منع الرؤية وقدمنا الجواب على الدليل هناك، ونعيد الجواب من وجه آخر يناسب الاعتراض قال الرازي: (إن اعتبار حال الجبل من حيث هو مغاير لاعتبار حاله من حيث إنه متحرك أو ساكن، وكونه ممتنع الخلو عن الحركة أو السكون لا يمنع اعتبار حاله من حيث إنه متحرك أو ساكن، ألا ترى أن الشيء لو أخذته بشرط كونه موجودا كان واجب الوجود، ولو أخذته بشرط كونه معدوما كان واجب العدم، فلو أخذته من حيث هو مع قطع النظر عن كونه موجودا أو كونه معدوما كان ممكن الوجود فكذا ههنا الذي جعل شرطا في اللفظ هو استقرار الجبل وهذا القدر ممكن الوجود فثبت أن القدر الذي جعل شرطا أمر ممكن الوجود جائز الحصول وهذا القدر يكفي لبناء المطلوب عليه (2). وقد سبق في دفع الاعتراض وجهة واضحة وهو أنه إذا علق الله تعالى رؤية موسى على استقرار الجبل فليس المراد بالاستقرار أن يحصل مع الاندكاك كما زعم المعتزلة، بل المراد أن يحصل الاستقرار بدل الاندكاك. ولا شك أن هذا أمر ممكن، وهذا هو المعروف في أساليب الكلام فإنك لو قلت لشخص وهو جالس إن قمت أعطيتك جائزة مثلا، لم يكن المراد أن يقوم وهو جالس بل المراد أن يقوم بدل جلوسه وهذا ظاهر. والجواب عن الاعتراض الثاني على الوجه الرابع، وهو: قولهم إن المقصود من التعليق بيان عدم المعلق لعدم المعلق به. أجاب صاحب المواقف عن هذا الاعتراض فقال: (إنه قد لا يقصد الشيء في الكلام قصدا بالذات ويلزم منه لزوما قطعيا، والحال ههنا كذلك، فإنه إذا فرض وقوع الشرط الذي هو ممكن في نفسه فإما أن يقع المشروط فيكون ممكنا، وإلا فلا معنى للتعليق وإيراد الشرط والمشروط، لأنه حينئذ منتف على تقديري وجود الشرط وعدمه، لا يقال فائدة التعليق ربط العدم بالعدم مع السكوت عن ربط الوجود بالوجود لأنا نقول إن المتبادر في اللغة من مثل قولنا إن ضربتني ضربتك هو الربط في جانبي الوجود والعدم معا لا في جانب العدم فقط كما هو المعتبر في الشرط المصطلح) (3).   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (265)، ((الكشاف)) للزمخشري (2/ 114)، ((متشابه القرآن)) (296). (2) ((تفسير الرازي)) (14/ 232). (3) ((شرح الجرجاني للمواقف)) (8/ 121). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 الوجه الخامس من أوجه الاستدلال بالآية على الجواز هو: تجلي الله تعالى للجبل وهذا التجلي هو الظهور، قال القرطبي: (تجلى أي ظهر من قولك جلوت العروس أي أبرزتها، وجلوت السيف أبرزته من الصدأ جلاء فيهما وتجلى الشيء انكشف) (1) والمقصود إعلام نبي الله موسى عليه السلام أن الإنسان لا يطيق رؤية الله تعالى حيث إن الجبل مع قوته وصلابته لما رأى الله تعالى اندك وتفرقت أجزاؤه فبدا مسوى بالأرض مدكوكا، وحيث جاز تجلي الله للجبل ورؤيته له وهو جماد لا ثواب له ولا عقاب فكيف يمتنع أن يتجلى لأنبيائه ورسله وأوليائه في دار كرامته ويريهم نفسه إن ذلك بعيد. فإذا قال المعتزلة إن المراد بقوله فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ فلما ظهر من آياته وقدرته ما أوجب أن يصير دكا فيجب أن يحمل على إظهار القدرة، يبين ذلك أنه تعالى علق جعله الجبل دكا بالتجلي، ولو أراد به تجلي ذاته لم يكن لذلك معنى لأنه لو كان يجب أن يصير الجبل دكا، أو أراد تجلى بمعنى المقابلة لوجب أن لا يستقر له مكان بل كان يجب في العرض أن يصير دكا وأن يكون بهذه الصفة أحق (2).   (1) ((الجامع لأحكام القرآن للقرطبي)) (7/ 278). (2) ((متشابه القرآن)) (1/ 298). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 فإنه يقال لهم: القول بأن التجلي إظهار القدرة هذا تأويل بخلاف تأويل جمهور المفسرين ثم إن معنى التجلي في اللغة الظهور الحقيقي والعدول عنه عدول عن الحق، ثم القول (إنه تعالى علق جعله الجبل دكا بالتجلي ولو أراد به تجلي ذاته لم يكن لذلك معنى) هذا بعيد عن الصواب إذ لا يعدم المعنى إلا فيما إذا أريد بالتجلي غير ذاته فموسى طلب رؤية الذات لا القدرة وقد سبق هذا رؤية الكثير من قدرته تعالى لموسى كالمعجزات التي أيده الله بها وكل ذلك رؤية لآثار القدرة، فالحمل على أن التجلي تجلي القدرة لهذا بعيد جدا وقد سبقت الإشارة إليه. ثم القول (بأنه لو كان المراد بالتجلي المقابلة لوجب أن لا يستقر له مكان، وهذا في العرش يكون أولى). قول في غاية الضعف، فالعرش قد خلقه الله تعالى لهذا الشأن وجعل فيه الصمود والتحمل لما خلقه له، والكرسي والحجاب كذلك وما خلقه لغير ذلك لا يحتمل ظهور ذاته في الدنيا فـ "حجابه النور ولو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" (1) أي لاحترقت السموات والأرض ومن فيهن، وقالوا: (لو كان في الحقيقة تجلى للجبل بمعنى أنه ظهر وزال الحجب لكان من على الجبل يراه أيضا فكان لا يصح مع ذلك قوله لَن تَرَانِي وكان لا يصح أن يعلق نفي الرؤية بأن لا يستقر الجبل والمعلوم أنه لا يستقر بأن ينكشف ويرى لأن ذلك في حكم أن يجعل الشرط في أن لا يرى ما يوجب أن يرى وذلك متناقض) (2).ونجيب على هذا بجوابهم على من اعترض عليهم بقوله تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأمُورُ [الأنفال: 44] وجهه أنه إذا جاز أن يقلل الكثير في العين الصحيحة جاز مع صحتها وارتفاع الموانع أن نراه عز وجل. حيث أجابوا بأن الظاهر يقتضي أنه قلل العدد في أعين المؤمنين وليس فيه أنه فعل ذلك من غير مانع، ومن قولنا: إن ذلك يجوز للموانع وإنما أنكرنا القول بأن المرئي لا نراه بالعين الصحيحة مع ارتفاع جميع الموانع (3). فيحق لنا القول بحصول التجلي للذات ووجود مانع من الرؤية لما سوى الجبل أوجده الله تعالى حيث قضى بأنه لا يرى في الدنيا، وأن الخلق لا تتحمل النظر إليه ولا تناقض على ما يدعون حيث إن الشرط في الرؤية وعدمها استقرار الجبل وعدمه لا الانكشاف، وهذا ظاهر. فإن قيل: إن الجبل جماد فكيف يتصور أن يرى الله تعالى؟! قلنا: لا يمتنع أن يخلق الله تعالى في ذات الجبل الحياة والعقل والفهم وسائر ما يتصف به الحي، ثم يخلق فيه رؤية متعلقة بذاته تعالى حين تجلى له ويؤيد هذا أنه تعالى قال يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ: 10]، وكونه مخاطبا بهذا الخطاب مشروط بحصول الحياة والعقل، ونحتج لهذا بتسبيح الحصى بيد الرسول صلى الله عليه وسلم وسلام الحجر عليه (4)، وغير ذلك وهو ليس بغريب، والله أعلم. الوجه السادس من أوجه الاستدلال بالآية على الجواز هو: أن من جاز عليه التكلم والتكليم وأن يسمع مخاطبة كلامه بغير وساطة فرؤيته أولى بالجواز، وكليم الله وأعرف الناس به في زمانه لما سمع كلامه ومناجاته له من غير وساطة اشتاقت نفسه إلى رؤيته لعلمه عدم التفريق بين الرؤية والكلام، لهذا فلا يتم إنكار الرؤية إلا بإنكار التكليم (5).   (1) ((صحيح الإمام مسلم)) (1/ 161). (2) ((متشابه القرآن)) (1/ 258). (3) ((متشابه القرآن)) (1/ 323). (4) ((شرح العقيدة الأصفهانية)) لابن تيمية (7). (5) ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (224)، ((شرح الطحاوية)) (133). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 ثانيا: من أدلة النقل على جواز رؤية الله تعالى: استنبط بعض العلماء دليلا على جواز رؤية الله تعالى مطلقا من قوله لموسى عليه الصلاة والسلام بعدما منعه الرؤية قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف:144]. فقال إسماعيل البروسوي عند تفسير الآية: فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ يعني ما ركبت فيك استعداده، واصطفيتك به من الرسالة والمكالمة وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ فإن الشكر يبلغك إلى ما سألت من الرؤية لأن الشكر يستدعي الزيادة لقوله تعالى: لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7] والزيادة هي الرؤية لقوله تعالى لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] وقال عليه الصلاة والسلام الزيادة هي الرؤية والحسنى هي الجنة") (1). وقال الرازي: (اعلم أن موسى عليه السلام لما طلب الرؤية ومنعه الله منها، عدد الله عليه وجوه نعمه العظيمة التي له عليه، وأمره أن يشتغل بذكرها كأنه قال له إن كنت قد منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظيمة كذا وكذا، فلا يضيق صدرك بسبب منع الرؤية، وانظر إلى سائر أنواع النعم التي خصصتك بها واشتغل بشكرها. والمقصود تسلية موسى عليه السلام عن منع الرؤية، وهذا أيضا أحد ما يدل على أن الرؤية جائزة على الله تعالى، إذ لو كانت ممتنعة في نفسها لما كان إلى ذكر هذا القدر حاجة) (2). وأرى أن الاستدلال بهذه الآية على الجواز قوي، لأن الله تعالى عدد لموسى عليه السلام هذه النعم التي أنعم بها عليه لما منعه من حصول جائز طلبه منه فذكر ما ذكر تسلية له، ولو منعه من ممتنع لكان بخطاب آخر، وذلك مثل خطابه تعالى لنوح عليه السلام حين قال: رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود: 46]. وقوله تعالى لإبراهيم عليه السلام حين قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260]. والفرق بين خطاب الله تعالى لموسى عليه السلام، وبين خطابه لنوح وإبراهيم عليهما السلام ظاهر. ثالثا: من أدلة أهل السنة والجماعة النقلية على جواز الرؤية:   (1) ((تفسير روح البيان)) للبروسوي (3/ 239). (2) ((التفسير الكبير)) للرازي (14/ 235)، ((روح المعاني)) للألوسي (9/ 55). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 قوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103]. قال الألوسي: (الأبصار جمع بصر يطلق كما قال الراغب على الجارحة الناظرة وعلى القوة التي فيها، وعلى البصيرة وهو قوة القلب المدركة وإدراك الشيء عبارة عن الوصول إلى غايته والإحاطة به، وأكثر المتكلمين على حمل البصر هنا على الجارحة من حيث إنها محل القوة، وقيل هو إشارة إلى ذلك وإلى الأوهام والأفهام، كما قال أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه: التوحيد أن لا تتوهمه، وقال أيضا كل ما أدركته فهو غيره. ونقل الراغب عن بعضهم أنه حمل ذلك على البصيرة، وذكر أنه قد نبه به على ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه في قوله: "يا من غاية معرفته القصور عن معرفته إذا كانت معرفته تعالى أن تعرف الأشياء فتعلم أنه ليس بمثل لشيء منها بل موجد كل ما أدركته") (1). هذا ما قيل في معنى الإبصار والإدراك الواردين في الآية. وقال الرازي في تقرير وجه الدلالة على المدح: (لو لم يكن تعالى جائز الرؤية لما حصل التمدح بقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام: 103] ألا ترى أن المعدوم لا تصح رؤيته والعلوم والقدرة والإرادة، والروائح والطعوم لا يصح رؤية شيء منها، ولا مدح لشيء منها في كونها بحيث لا تصح رؤيتها، فثبت أن قوله: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ يفيد المدح وثبت أن ذلك إنما يفيد المدح لو كان صحيح الرؤية، وهذا يدل على أن قوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ يفيد كونه تعالى جائز الرؤية، وتمام التحقيق فيه: أن الشيء إذا كان في نفسه بحيث تمتنع رؤيته فحينئذ لا يلزم من عدم رؤيته مدح وتعظيم للشيء، أما إذا كان في نفسه جائز الرؤية ثم إنه قدر على حجب الأبصار عن رؤيته وعن إدراكه كانت هذه القدرة الكاملة دالة على المدح والعظمة، فثبت أن هذه الآية دالة على أنه تعالى جائز الرؤية بحسب ذاته) (2).   (1) ((روح المعاني)) للألوسي (7/ 244). (2) ((تفسير الرازي)) (13/ 125). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 قال ابن القيم: (والاستدلال بهذه الآية على جواز الرؤية أعجب فإنها من أدلة النفاة، وقد قرر شيخنا وجه الاستدلال بها أحسن تقرير وألطفه، وقال أنا ألتزم أنه لا يحتج مبطل بآية أو حديث صحيح على باطله إلا وفي ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله، فمنها هذه الآية وهي على جواز الرؤية أدل منها على امتناعها، فإن الله سبحانه وتعالى إنما ذكرها في سياق التمدح، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالأوصاف الثبوتية، وأما العدم المحض فليس بكمال، ولا يمدح الرب تبارك وتعالى بالعدم، إلا إذا تضمن أمرا وجوديا كتمدحه بنفي السنة والنوم المتضمنة كمال القيومية. . فقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ يدل على غاية عظمته، وأنه أكبر من كل شيء وأنه لعظمته لا يدرك، بحيث يحاط به فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء وهو قدر زائد على الرؤية كما قال تعالى: فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61]. . وقد سبق تقرير هذا فلا داعي لإعادته. وقال ابن عطية ينظرون إلى الله ولا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره يحيط بهم فذلك قوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام: 103] فالمؤمنون يرون ربهم تبارك وتعالى بأبصارهم عيانا ولا تدركه أبصارهم بمعنى أنها لا تحيط به إذ كان غير جائز أن يوصف الله عز وجل بأن شيئا يحيط به وهو بكل شيء محيط، وهكذا يسمع كلام من يشاء من خلقه ولا يحيطون بكلامه، وكذا يعلم الخلق ما علمهم وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء [البقرة: 255] ونظير هذا استدلالهم على نفي الصفات بقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] وهذا من أعظم الأدلة، على كثرة صفات كماله ونعوت جلاله وأنها لكثرتها وعظمتها وسعتها لم يكن له مثل فيها وإلا فلو أريد بها نفي الصفات لكان العدم المحض أولى بهذا المدح منه. . فقوله: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ من أدل شيء على أنه يرى ولا يدرك وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد: 4] من أدل شيء على مباينة الرب لخلقه، فإنه لم يخلقهم في ذاته بل خلقهم خارجا عن ذاته، ثم بان عنهم باستوائه على عرشه وهو يعلم ما هم عليه، فيراهم وينقذهم بصره ويحيط بهم علما وقدرة وإرادة وسمعا وبصرا فهذا معنى كونه سبحانه معهم أينما كانوا، وتأمل حسن هذه المقابلة لفظا ومعنى بين قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام: 103] فإنه سبحانه لعظمته يتعالى أن تدركه الأبصار وتحيط به، وللطفه وخبرته يدرك الأبصار فلا تخفى عليه، فهو العظيم في لطفه اللطيف في عظمته العالي في قربه، والقريب في علوه الذي كمثله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11]. لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103] (1). وقد مر أكثر من هذا في أثناء الرد على المعتزلة عن استدلالهم بالآية على المنع من الرؤية.   (1) ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (228). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 فنقول: إن الله تعالى نفى إدراك الأبصار له وهو أن تحيط به فهذا النفي ورد على مقيد وهي الرؤية المحيطة، فإذا المنفي هو قيد الإحاطة، وهذا يشهد بأن الرؤية جائزة، لأنها لو كانت ممتنعة لنفى أصل الرؤية لا الرؤية المحيطة، نظير ذلك أنه إذا كان هناك شخصان أحدهما لم يجئ إليك والثاني جاء غير راكب فإنك تقول في الثاني ما جاء راكبا تريد نفي الركوب لا نفي المجيء ولا تقول في الأول ما جاء راكبا بل تقول ما جاء، وهذا معنى قولهم في القواعد العامة: إذا ورد النفي على مقيد بقيد، كان النفي منصبا على القيد لا المقيد، والنفي في الآية الكريمة ورد على الرؤية المحيطة فيكون المراد نفي الإحاطة، وهذا بدوره يقتضي ثبوت أصل الرؤية، والله أعلم. رابعا: من أدلة أهل السنة على الجواز: قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام في محاجة قومه في النجوم فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام: 76 - 78]. وجه الدلالة أن الخليل عليه السلام حاج قومه في النجوم وبين أنها تأفل وتغيب، في حين أن الرب لا يغيب ولا يأفل ثم قال في ذلك لا أحب الآفلين ولم يحاجهم بأنه لا يحب ربا يرى، ولكن حاجهم بأن لا يحب ربا يأفل وهذا هو دليل عدم الدوام وهو الذي يمتنع على الله تبارك وتعالى أما الرؤية فلا، حيث لم يجعلها الخليل من موانع الربوبية كالأفول والغيبة (1).   (1) ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (78). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 خامسا: روى البخاري في صحيحه قال: حدثنا عمرو بن عوف حدثنا خالد وهشيم عن إسماعيل بن قيس عن جرير قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، قال: ((إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل صلاة الشمس وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا)) (1). سادسا: روى البخاري قال: (حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عاصم بن يوسف اليربوعي حدثنا أبو شهاب عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنكم سترون ربكم عيانا)) (2). سابعا: من الأحاديث الواردة في إثبات الرؤية قول الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار وقد جمعهم في قبة ((اصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض)) (3). قال ابن القيم (وأما الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الدالة على الرؤية فمتواترة رواها عنه أبو بكر الصديق، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وجرير بن عبد الله البجلي، وصهيب بن سنان الرومي، وعبد الله بن مسعود الهذلي، وعلي بن أبي طالب، وأبو موسى الأشعري، وعدي بن حاتم الطائي، وأنس بن مالك الأنصارى، وبريدة بن الخصيب الأسلمي، وأبو رزين العقيلى، وجابر بن عبد الله الأنصارى، وأبو أمامة الباهلي، وزيد بن ثابت، وعمار بن ياسر، وعائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عمر، وعمارة بن رويبة، وسلمان الفارسي، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص وحديثه موقوف، وأبي بن كعب، وكعب بن عجرة، وفضالة بن عبيد وحديثه موقوف، ورجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غير مسمى. فهناك سياق أحاديثهم من الصحاح والمسانيد والسنن وتلقها بالقبول والتسليم، وانشراح الصدر لا بالتحريف والتبديل وضيق الطعن ولا تكذب بها فمن كذب بها لم يكن إلى وجه ربه من الناظرين وكان عنه يوم القيامة من المحجوبين) (4) ثم ذكر بعد ذلك سياق الأحاديث بكاملها وقد مر ذكر بعضها ويأتي بعض باقيها إن شاء الله تعالى. ثامنا: من أدلة الجواز ما حصل من الخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم في شأن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج، فقال ابن عباس وجماعة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه، ونفى هذا آخرون وعلى رأسهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ولم يكفر بعضهم بعضا بهذا السبب، ولم ينسبه إلى البدعة والضلالة وهذا يدل على أنهم كانوا مجتمعين على عدم امتناع رؤية الله تعالى عقلا في الدنيا وقد أجمعوا على أنها ستحصل للمؤمنين في الآخرة. ثم لو أن الرؤية ممتنعة صح أن يقول أحد من الصحابة بوقوعها فقول فريق منهم بالوقوع يشهد بأنها جائزة قطعا (5). تاسعا: قال الرازي في الاستدلال على جواز الرؤية: (إن القلوب الصافية مجبولة على حب معرفة الله تعالى على أكمل الوجوه، وأكمل طرق المعرفة هو الرؤية، فوجب أن تكون رؤية الله تعالى مطلوبة لكل أحد، وإذا ثبت هذا وجب القطع بحصولها لقوله تعالى: وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ [فصلت: 31] (6).   (1) رواه البخاري (554) , ومسلم (633). (2) رواه البخاري (7435). (3) رواه البخاري (7441) , ومسلم (1059). (4) ((حادي الأرواح)) (231). (5) ((تفسير الفخر الرازي)) (13/ 132). (6) ((تفسير الفخر الرازي)) (13/ 131). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 وهناك أدلة سمعية كثيرة تدل على وقوع الرؤية: قال الغزالي: (ومهما دل الشرع على وقوعه فقد دل على جوازه) (1) وقد وردت في إثباتها للمؤمنين في الجنة، أو الحث على طلبها بالعمل الصالح والوعد بها، أو نفيها عن الكفار فأذكرها وأبين وجه دلالتها على الجواز وأؤجل الكلام على كيفية الاستدلال بها ومناقشتها في مواضعها إن شاء الله تعالى:1 - قوله تعالى: لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] فقد فسرت الحسنى بالجنة والزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم، قال القرطبي: (وقد ورد هذا عن أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب في راوية وحذيفة وعبادة بن الصامت وكعب بن عجرة وأبي موسى وصهيب وابن عباس في رواية وهو قول جماعة من التابعين وهو الصحيح في الباب. وروى مسلم في صحيحه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تبارك وتعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟! ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟! قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل. وفي رواية ثم تلا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ (2))) (3). 2 - قوله تعالى: ولدينا مزيد لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق: 35] فقد فسر المزيد في هذه الآية بأنه النظر إلى الله تعالى كالآية السابقة، قال ابن كثير: (إن المزيد الذي يتفضل الله به على عباده فوق ما يشاءون هو ظهوره تعالى لهم) (4) وبهذا فسر الآية ابن جرير الطبري والقرطبي وغيرهما ودلالتها عن الرؤية كالآية السابقة.3 - قوله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا [الإنسان: 20] قال الرازي: (فإن إحدى القراءات في هذه الآية في مُلْكًا بفتح الميم وكسر اللام، وأجمع المسلمون على أن ذلك الملك ليس إلا الله تعالى، وعندي أن التمسك بهذه الآية أقوى من التمسك بغيرها (5). وقال الألوسي عند تفسيرها: (وقيل هو النظر إلى الله عز وجل وقيل غير ذلك (6). فعلى القراءة المذكورة دلالة الآية على جواز الرؤية ظاهرة.4 - قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22 - 23] وجه الاستدلال بالآية على الجواز ما نقل أن نَاظِرَةٌ أي رائية رؤية بصرية يوم القيامة كما قال أهل السنة والجماعة. قال الباقلاني: (لأن النظر في كلام العرب يحتمل وجوها منها نظر الانتظار ومنها الفكر والاعتبار ومنها الرحمة والتعطف ومنها الإدراك بالأبصار وإذا قرن النظر بذكر الوجه وعدى بحرف الجر ولم يضف الوجه إلى قبيلة أو عشيرة كان الوجه الجارحة التي توصف بالنضارة التي تختص بالوجه الذي فيه العينان، فمعناه رؤية الأبصار (7) خلافا للمحرفين للنصوص عن مواضعها، قال أبو الحسن الأشعري: قال الله عز وجل وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ [القيامة: 22 يعني مشرقة إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ] القيامة: 23 يعنى رائية. . ولا يجوز أن يكون بمعنى نظر التفكر والاعتبار لأن الآخرة ليست بدار الاعتبار، ولا يجوز أن يكون عني نظر الانتظار لأن النظر إذا ذكر مع ذكر الوجه فمعناه نظر العينين اللتين في الوجه (8).   (1) ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (33). (2) رواه مسلم (181). (3) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (8/ 330). (4) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (6/ 408). (5) ((تفسير الفخر الرازي)) (13/ 131). (6) ((روح المعاني)) للألوسي (29/ 161). (7) ((كتاب التمهيد للباقلاني)) (274). (8) ((الإبانة عن أصول الديانة)) لأبي الحسن الأشعري (12). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 وروى عبد الله بن عمر قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه في قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ [القيامة: 22 قال: من البهاء والحسن إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ] القيامة: 23 قال في وجه الله عز وجل)) (1). 5 - قوله تعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ [الكهف: 110]. 6 - قوله تعالى: وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ [البقرة: 223]. 7 - قوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا [الأحزاب: 44]. 8 - قوله تعالى: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللهِ [البقرة: 249]. وغير هذه الآيات مما ذكر فيها اللقاء منسوبا إلى الله تعالى. ووجه الدلالة على الرؤية هو أن اللقاء عند كثير من السلف يتضمن المشاهدة والمعاينة، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك. قال الآجري: (واعلم رحمك الله. . أن عند أهل العلم باللغة أن اللقاء ههنا لا يكون إلا بمعاينة يراهم الله عز وجل ويرونه ويسلم عليهم ويكلمهم ويكلمونه (2)، ولا ينتقض هذا بقوله تعالى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ [التوبة: 77] فقد دلت الأحاديث الصحيحة الصريحة على أن المنافقين يرونه تعالى في عرصات القيامة بل والكفار أيضا كما في الصحيحين من حديث التجلي يوم القيامة (3)، ويأتي للبحث زيادة إن شاء الله تعالى.9 - قوله تعالى: كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15]، وجه الاستدلال بها أنه سبحانه وتعالى جعل أعظم عقوبة للكفار كونهم محجوبين عن رؤيته. قال الألوسي: (لا يرونه تعالى وهو حاضر ناظر لهم بخلاف المؤمنين فالحجاب مجاز عن عدم الرؤية، لأن المحجوب لا يرى ما حجب، أو الحجب المنع والكلام على حذف مضاف أي عن رؤية ربهم لممنوعون فلا يرونه سبحانه، واحتج بالآية مالك على رؤية المؤمنين له تعالى من جهة دليل الخطاب، وإلا فلو حجب الكل لما أغنى هذا التخصيص، وقال الشافعي لما حجب سبحانه قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضا، وقال أنس بن مالك لما حجب عز وجل أعداءه سبحانه فلم يروه تجلى جل شأنه لأوليائه حتى رأوه عز وجل (4) فهذه الأدلة السابقة كلها أدلة على وقوع الرؤية لله تعالى وهي أيضا أدلة على الجواز حيث إن غير الجائز لا يقع والله أعلم. ثانيا: الأدلة العقلية على جواز الرؤية: 1 - استدل الأشاعرة على جواز الرؤية عقلا بدليل الوجود: قال أبو الحسن الأشعري: (ومما يدل على رؤية الله عز وجل بالأبصار أنه ليس موجود إلا وجائز أن يريناه الله عز وجل وإنما لا يجوز أن يرى المعدوم، فلما كان الله عز وجل موجودا مثبتا كان غير مستحيل أن يرينا نفسه عز وجل (5).   (1) رواه ابن مردويه كما في ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (ص253) وقال الألباني: ((شرح الطحاوية)) (190): ضعيف جدا. (2) ((الشريعة)) للآجري (252). (3) ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (224). (4) ((روح المعاني)) للألوسي (30/ 73)، ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (256). (5) ((الإبانة عن أصول الديانة)) (16). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 وتعرض بعض العلماء لبيان المقدمة الثانية – أن كل موجود يصح أن يرى – فقالوا: إنا نرى الأعراض كالألوان والأضواء والحركة والسكون والاجتماع والافتراق وهذا ظاهر، ونرى الجوهر لأنا نرى الطول والعرض في الجسم ولهذا نميز الطويل من العريض والطويل من الأطول فقد ثبت أن صحة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض، وهذه الصحة لها علة لتحققها عند الوجود، وانتفائها عند العدم، فإن الأجسام والأعراض لو كانت معدومة لاستحال كونها مرئية بالضرورة والاتفاق، ولولا تحقق أمر مصحح حال الوجود غير متحقق حال العدم لكان ذلك أي اختصاص الصحة بحال الوجود ترجيحا بلا مرجح. وهذه العلة المصححة للرؤية لا بد من أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض، وإلا لزم تعليل الأمر الواحد وهو صحة كون الشيء مرئيا بعلل مختلفة وهو غير جائز، ثم نقول هذه العلة المشتركة إما الوجود أو الحدوث، إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما، فإن الأجسام لا توافق الألوان في صفة عامة يتوهم كونها مصححة سوى هذين، والحدوث لا يصلح أن يكون علة للصحة فهو عبارة عن الوجود مع اعتبار عدم سابق، والعدم لا يصلح أن يكون جزءا للعلة لأن التأثير صفة إثبات فلا يتصف به العدم، ولا ما هو مركب منه، فإذا سقط عن درجة الاعتبار لم يبق إلا الوجود فهو العلة المشتركة، فعلة صحة الرؤية متحققة في حق الله تعالى فيتحقق صحة الرؤية وهو المطلوب (1). ويلتزم أبو الحسن الأشعري كل لازم لهذا الدليل من جواز صحة رؤية كل موجود كالأصوات، والروائح، والملموسات، والطعوم، ويقول لا يلزم من جواز صحة الرؤية لشيء تحقق الرؤية له، وعدم رؤيتنا لهذا اللازم ليس لامتناعه بل لعدم جريان العادة من الله تعالى بخلق رؤيته فينا، ولا يمتنع أن يخلق رؤيتها فينا كما خلق رؤية غيرها، وقد نشأ هذا من أنه جعل الرؤية علما مخصوصا فكما يتعلق العلم بالموجودات كذلك الرؤية إلا أن العلم المطلق أعم (2). وبعد أن ذكر صاحب المواقف هذا الدليل العقلي، كما تقدم أورد عليه بعض الاعتراضات ثم أجاب عنها فقال: الاعتراض الأول: لا نسلم أنا نرى العرض والجوهر بل المرئي هو الأعراض فقط. وقولك إنا نرى الطول والعرض وهما جوهران. قلنا: الحكم برؤيتهما صحيح ولكن المرجع بهما إلى المقدار فإنه عرض قائم بالجسم، ووجود المقدار الذي هو عرض مبني على نفي الجزء وتركب الجسم من الهيولي والصورة وهذا غير مسلم، بل نقول ببطلانه، ولإبطال وجود المقدار العرضي: أنا لو فرضنا تألف الأجزاء من السماء إلى الأرض فإنا نعلم بالضرورة كونها طويلة جدا وإن لم يخطر ببالنا شيء من الأعراض فعلم أنه لا حاجة في الطول إلى شيء سوى الأجزاء فالمرئي هو تلك الأجزاء لا عرض قائم بها، أيضا فالامتداد الحاصل فيما بين الأجزاء شرط لقيام العرض الواحد الذي هو المقدار بها، وإلا لقام المقدار بها أي بتلك الأجزاء وإن كانت متناثرة متفاصلة وهو ضروري البطلان، وإذا كان الامتداد شرطا لقيام المقدار العرضي بالأجزاء فلا يكون الامتداد عرضا قائما بها، وإلا لزم اشتراط الشيء بنفسه، فمرجع الطول إلى الأجزاء المتألفة في سمت مخصوص فرؤيته رؤية تلك الأجزاء المتحيزة وهو المطلوب. الاعتراض الثاني: لا نسلم احتياج صحة الرؤية إلى علة لأنها الإمكان والإمكان عدمي والعدمي لا حاجة به إلى علة.   (1) ((شرح الجرجاني للمواقف)) (8/ 122)، ((غاية المرام في علم الكلام)) للآمدي (159)، ((الإرشاد)) للجويني (177)، ((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (191)، ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (33)، ((العقائد النسفية)) للنسفي بشرح مسعود التفتازاني (104). (2) ((شرح الجرجاني للمواقف)) (8/ 123)، ((نهاية الإقدام في علم الكلام)) للشهرستاني (357). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481 والجواب: جدلا: المعارضة على كون الإمكان عدميا فالأدلة تدل على أنه وجودي. والجواب: تحقيقا: إن المراد بعلة صحة الرؤية ما يمكن أن تتعلق به الرؤية لا ما يؤثر في الصحة، واحتياج الصحة سوءا كانت وجودية أو عدمية إلى العلة بمعنى متعلق الرؤية ضروري، ونعلم أيضا بالضرورة أنه أمر وجودي لأن المعدوم لا تصح رؤيته قطعا. الاعتراض الثالث: لا نسلم أن علة صحة الرؤية يجب أن تكون مشتركة. أما أولا: فلأن صحة الرؤية ليست أمرا واحدا بل صحة رؤية الأعراض لا تماثل صحة رؤية الجوهر إذ المتماثلان ما يسد كل منهما مسد الآخر ورؤية الجسم لا تقوم مقام رؤية العرض ولا بالعكس. وأما ثانيا: فلجواز تعليل الواحد بالنوع بالعلل المختلفة فعلى تقدير تماثل الصحتين جاز تعليلهما بعلتين مختلفتين. والجواب: أن المراد بعلة صحة الرؤية متعلقها، والمدعي أن متعلقها ليس خصوصية الجوهر والعرض فإنا نرى الشبح من بعيد، ولا ندرك منه إلا أنه هوية ما من الهويات، وأما خصوصية تلك الهوية وجوهريتها وعرضيتها فلا ندركها فضلا عن إدراك أنها جوهر أو عرض، وإذا رأينا زيدا فإنا نراه رؤية واحدة متعلقة بهويته ولسنا نرى أعراضه من اللون والضوء كما تقول الفلاسفة بل نرى هويته، ثم ربما نفصله إلى جواهر وأعراض تقوم بها، وربما نغفل عن ذلك التفصيل حتى لو سئلنا عن كثير منها لم نعلمها ولم نكن قد أبصرناها إذ كنا أبصرنا الهوية ولو لم يكن متعلق الرؤية هو الهوية التي بها الاشتراك بين خصوصيات الهويات بل كان متعلق الرؤية الأمر الذي به الافتراق بينها لما كان الحال كذلك؛ لأن رؤية الهوية المخصوصة الممتازة تستلزم الاطلاع على خصوصيات جواهرها وأعراضها فلا تكون مجهولة لنا، فتحقق أن متعلق الرؤية هو الهوية العامة المشتركة بين الجواهر والأعراض وبين الباري سبحانه وتعالى فتصح رؤيته. الاعتراض الرابع: لا نسلم أن المشترك بين الجوهر والعرض ليس إلا الوجود والحدوث فإن الإمكان مشترك بينها، وكذا المذكورية والمعلومية وسائر المفهومات العامة. والجواب: أن متعلق الرؤية الذي فسرنا به علة الصحة هو ما يختص بالموجود وإلا لصح رؤية المعدوم، والإمكان ليس كذلك لشمول الموجود والمعدوم وكذا سائر المفهومات الشاملة لهما فلا يصح شيء منهما متعلقا للرؤية. الاعتراض الخامس لا نسلم أن الحدوث لا يصلح سببا لصحة الرؤية فإن صحة الرؤية عدمية فجاز كون سببها كذلك. والجواب: ما سبق من أن المراد بسبب الصحة متعلق الرؤية لا المؤثر فيها ولا شك في أن العدم لا يصلح متعلقا للرؤية. وإن قيل: ليس الحدوث هو العدم السابق كما ذكرتم بل مسبوقية الوجود بالعدم فلا يكون عدميا. قلنا: وكون الوجود مسبوقا بالعدم أمر اعتباري لا يرى ضرورة، وإلا لم يحتج حدوث الأجسام إلى دليل لكونه محسوسا. الاعتراض السادس: لا نسلم أن الوجود مشترك بين الواجب. والممكن كيف وقد جزيتم القول بأن وجود كل شيء نفس حقيقته، وكيف تكون حقائق الأشياء مشتركة حتى تكون حقيقة القديم مثل حقيقة الحادث، وحقيقة الفرس مثل حقيقة الإنسان. بل تكون جميع الموجودات مشتركة في حقيقة واحدة هي تمام ماهية كل واحد منها وذلك مما لا يقول به عاقل فوجب أن يكون الاشتراك في الوجود عندكم لفظيا لا معنويا. والجواب: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 482 أنه لا معنى للوجود إلا كون الشيء له هوية يمتاز بها وهو مشترك بين الموجودات بأسرها ضرورة، وما ذكرتم مما به الافتراق كالإنسانية والفرسية وغيرهما، وألزمتم الاشتراك فيها على مذهبنا فخصوصيات الأشياء التي يمتاز بها بعضها عن بعض هيئات وخصوصيات للهويات المتمايزة بذواتها، وإن عاقلا لا يقول بالاشتراك فيها ولا بما يستلزم هذا الاشتراك استلزاما مكشوفا لا سترة به فما ذكره الشيخ من أن وجود كل شيء عين حقيقته لم يرد به أن مفهوم كون الشيء ذا هوية هو بعينه مفهوم ذلك الشيء حتى يلزم من الاشتراك في الأول الاشتراك في الثاني بل أراد أن الوجود ومعروضه ليس لهما هويتان متمايزتان تقوم إحداهما بالأخرى كالسواد بالجسم وقد عرفت أن هذا هو الحق الصريح، فالاتحاد الذي ادعاه الشيخ إنما هو اعتبار ما صدقا عليه، وذلك لا ينافي اشتراك مفهوم الموجود فلا منافاة بين كون الوجود عين الماهية بالمعنى الذي صورناه، وبين اشتراكه بين الخصوصيات المتمايزة بذواتها، والأكثرون توهموا أن ما نقل عنه من أن الوجود عين الماهية ينافي دعوى اشتراكه بين الموجودات إذ يلزم منهما معا كون الأشياء كلها متماثلة متفقة الحقيقة وهو باطل فلذلك قال: واعلم أن هذا المقام مزلة للأقدام مضلة للأفهام وهذا غاية ما يمكن فيه من التقدير والتحرير لم نأل فيه جهدا ولم ندخر نصحا وعليك بإعادة التفكير وإمعان التدبر والثبات عند البوارق، وعدم الركون إلى أول عارض. الاعتراض السابع: لا نسلم أن علة صحة الرؤية ثابتة فيه لجواز أن تكون خصوصية الأصل شرطا أو خصوصية الفرع مانعا. والجواب: هو بيان أن المراد بعلة صحة الرؤية متعلقها وأن متعلقها هو الوجود مطلقا، أعني كون الشيء ذا هوية (ما) لا خصوصيات الهويات والوجودات كما في الشبح المرئي من بعيد بلا إدراك لخصوصيته وإذا كان متعلقها مطلق الهوية المشتركة لم يتصور هناك اشتراط بشرط معين ولا تقييد بارتفاع مانع (1). هذا غاية القول في تحرير هذا الدليل العقلي على رؤية الله تبارك وتعالى والاعتراضات الواردة عليه والإجابة عنها، وأود بعد هذا العرض للدليل، أن أورد كلام الخصوم عليه ثم أبين عدم اقتناع المستدلين به أنفسهم، وعدم اطمئنانهم الاطمئنان الكامل، وبيان أنه مسلك لا يقوى. فقد قال القاضي عبد الجبار بعد ذكر الصفة التي يكون المرئي عليها حتى يصح أن يرى: (وقد ذهب بعض من لا علم له بهذا الشأن من المتأخرين إلى أن كل موجود يصح أن نراه، وأن صحة الرؤية موقوفة على وجود المرئي فقط. وزعم أن سائر ما لا نراه من الموجودات الآن إنما لا نراه لأن الله تعالى لم يخلق في عيننا رؤيته أو خلق في عيننا آفة مانعة من رؤيته ولو تغير حالها لصح أن نرى جميعه وهو موصوف بالقدرة على أن يرينا جميعه. وزعم أن المرئي لو رؤي لمعنى فيه لاستحال رؤية الأعراض، ولو رؤي لنفسه لوجب أن تتجانس الأشياء بوقوع الرؤية عليها، ولوجب أن تقضي على الجنس الواحد أنه لا يصح أن يرى سواه، فثبت أنه إنما يرى لوجوده، ولأنه نفس وعين فتجب صحة الرؤية في كل موجود. ومما يصح التعلق به في نصرة قوله: إن الجوهر واللون يستحيل أن نراهما إذا عدما، ويصح أن نراهما عند الوجود وإن كانا في حال عدمهما على ما يختصان به لنفسهما فثبت أن الذي صحح رؤيتهما هو الوجود دون ما هما عليه في النفس فيجب صحة رؤية كل موجود (2).   (1) ((شرح الجرجاني للمواقف)) (8/ 124). (2) ((المغني في باب التوحيد والعدل)) للقاضي عبد الجبار (4/ 85). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 483 ثم أخذ في إبطال هذه الحجة فقال: ويبطل هذا القول أن الرائي منا متى حصل بالصفة التي لكونه عليها يرى المرئي وحصل المرئي بالصفة التي لكونه عليها يراه الرائي، وارتفعت الموانع المعقولة فيجب أن يراه ومتى فقد بعض ما ذكرناه استحال أن يراه، فليس له إلا حالان: أحدهما: يصح معها أن يرى ويجب أن يرى. والثانية: يستحيل معها أن يرى. وهذا كما نعلمه من حال الجوهر أنه وإن وجد يجب كونه متحيزا ومحتملا للأعراض وإن عدم استحال ذلك عليه، وليس له حال ثالثة تتوسط هذين، ويفارق ذلك صحة كون الواحد منا عالما لأنه قد يكون على حال معها يصح أن يعلم ويريد وإن لم يجب ذلك فيه وكذلك سائر الصفات الراجعة إلى الجملة أو الجمل إذا استحقت العلة (1).وقال أيضا في إبطالها: (إن الإدراك ليس بمعنى وليس بأمر زائد على الرؤية لأن الإدراك لو كان معنى لوجب في الواحد منا مع صحة الحاسة وارتفاع الموانع ووجود المدرك أن لا يرى ما بين يديه في بعض الحالات، بأن لا يخلق الله له الإدراك، وهذا يقتضي أن يكون بين أيدينا أجسام عظيمة كالفيلة والبعران ونحوها ونحن لا نراها لفقد الإدراك وهذا يرفع الثقة بالمشاهدات ويلحق البصراء بالعميان وذلك محال وما أدى إليه وجب أن يكون محالا (2) وقد سبق. وقال ومما يبطله أن الرائي يرى الجوهر واللون فننظر الوجه الذي لكونهما عليه تصح رؤيتهما وقد علمنا أنا نفصل بالرؤية بين الألوان المختلفة وبين أحوال الأجسام في العظم والصغر فيجب أن تكون الرؤية متعلقة بهما على ما يختصان به في جنسهما فلو كنا ندركهما لوجودهما لم نفصل بين المختلف من الألوان، ولا صح التوصل بالإدراك إلى تماثل المتماثل واختلاف المختلف منها، وفي ذلك دلالة على أنا ندركها لما هي عليه في نفسها، ولذلك يحصل لنا عند الإدراك العلم بما عليه الجوهر من التحيز والألوان من الهيئة المخصوصة ويكون العلم بذلك أجلى من العلم بسائر أحواله، وإنما العلم بوجود الجواهر والألوان عند العلم بما هما عليه من الصفة التي يتناولها الإدراك، لأن الإدراك يتعلق بهما لوجودهما، لأنه لو تعلق بهما لاختصاصهما بالوجود لوجب أن نرى كل ما شاركهما في الوجود، ألا ترى أنا لما رأينا الجوهر من حيث كان جوهرا، والسواد من حيث كان سوادا رأينا كل ما شاركهما في هذه الصفة؟ لأن من حق الإدراك أن يشيع في كل ما يختص بالصفة التي يتناولها الإدراك، فكان يجب لو رأينا الجوهر من حيث كان موجودا أن نرى كل موجود فكان يجب أن ندرك الأشياء كلها بالحاسة الواحدة لاشتراكهما أجمع في الوجود. وقد بينا من قبل أن القول بأنها تدرك، من حيث كانت موجودة فقط لا يصح، لأن ما أوجب إدراكها من حيث كانت موجودة يوجب إدراكها من حيث كانت متميزة، لأنه ليس للوجود في هذا الباب من الاختصاص ما ليس للتحيز، وللتحيز من الاختصاص ما ليس للوجود، وبينا أن القول بأنها تدرك من حيث كانت موجودة لا يصح (3). ونكتفي بهذا القدر من معارضة المعتزلة للدليل، وإلا فقد قالوا أكثر من هذا مع أن هذا القول ليس هو الوحيد لإبطال الدليل ولو كان لسهل الرد عليه ولكن الدليل في حد ذاته لا يقوى من وجوه غير التي ذكرها المعتزلة ولم تسلم دلالته – مع ثبوتها – فلا فائدة في مناقشة معارضتهم والرد عليها.   (1) ((المغني في باب التوحيد والعدل)) للقاضي عبد الجبار (4/ 39). (2) ((شرح الأصول الخمسة)) (255). (3) ((المغني في باب التوحيد والعدل)) للقاضي عبد الجبار (4/ 83). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 484 ولكننا سنذكر اعتراضات أصحاب الدليل عليه وهم الأشاعرة فقد تكون أبلغ في إضعافه وعدم الوثوق به وهي: أولا: قال الجرجاني في شرح المواقف بعد تقرير الدليل بشرحه واعتراضاته: (ولقد بالغ المصنف في ترويج المسلك العقلي لإثبات صحة رؤيته تعالى، لكن لا يلتبس عن الفطن المنصف أن مفهوم الهوية المطلقة المشتركة بين خصوصيات الهويات أمر اعتباري، كمفهوم الماهية والحقيقة فلا تتعلق بها الرؤية أصلا، وأن المدرك من الشبح البعيد هو خصوصيته الموجودة، إلا أن إدراكها إجمالي لا يتمكن به على تفصيلها فإن مراتب الإجمال متفاوتة قوة وضعفا كما لا يخفى على ذي بصيرة، فليس يجب أن يكون كل إجمال وسيلة إلى تفصيل أجزاء المدرك وما يتعلق به من الأحوال، ألا ترى إلى قولك كل شيء فهو كذا، وفي هذا الترويح تكلفات أخر يطلعك عليها أدنى تأمل، فإن الأولى ما قد قيل من أن التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذر، فلنذهب إلى ما اختاره الشيخ أبو منصور الماتريدي من التمسك بالظواهر النقلية (1).   (1) ((شرح الجرجاني للمواقف)) (8/ 128). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 485 ثانيا: قال سيف الدين الآمدي بعد تقريره لدليل الوجود: (ومن نظر بعين التحقيق علم أن المتعلق به منحرف عن سواء الطريق، وذلك أنه وإن سلم جواز تعلق الرؤية بالجواهر والأعراض مع إمكان النزاع فيه فهو لا محالة إما أن يكون من المعترف بالأحوال أو قائلا بنفيها: فإذا كان من القائل بها فالوجود الذي هو متعلق الرؤية حينئذ لا بد وأن يكون هو نفس الموجود وليس بزائد على الذات فلا بد من بيان الاشتراك بين الذوات الموجودة شاهدا وغائبا، وإلا فلا يلزم من جواز تعلق الرؤية بأحد المختلفين جواز تعلقها بالآخر، ولا يخفى أن ذلك مما لا سبيل إليه وإلا كان الباري ممكنا لمشاركته الممكنات بذواتها في حقائقها وهو متعذر. ثم ولو قيل: ليس متعلق الإدراك هو نفس الموجود بل ما وقع به الافتراق والاختلاف بين الذوات كما ذهب إليه بعض الخصوم من المعتزلة لم يجد في دفع ذلك مستندا غير الاستناد إلى محض الدعوى، وليس من الصحيح ما قيل في دفعه من أن الإدراك أخص من العلم والعلم عند الخصم مما لا يصح تعلقه بالأحوال على حيالها فيمتنع دعوى تعلق ما هو الأخص بها فإنه لا يلزم من انتفاء تعلق العلم بشيء على حياله وإن كان أعم، انتفاء تعلق الأخص به، اللهم إلا أن يكون الأعم جزءا من معنى الأخص ويكون تعلق الأخص به من جهة ما اشتمل عليه من حقيقة ما تخصص به من المعنى العام، إذ هو نفس حقيقة ما منع من تعلقه، وهو تناقض، أما إن كان الأعم كالعرض العام، للأخص أو هو داخل في معناه لكن تعلق المتعلق ليس إلا من جهة خصوصه لا من جهة ما يتضمنه من المعنى العام فلا مانع من أن يكون تعلقه بالشيء على حياله، وإن كان تعلق المعنى العام به لا على حياله، ثم لو قدرنا امتناع تعلق الأخص بالشيء على حياله لضرورة امتناع تعلق الأعم به على حياله فحاصله إنما هو راجع إلى مناقضة الخصم في مذهبه وهو غير كاف فيما يرجع إلى الاستقلال بتحصيل المطلوب لضرورة تخطئة الخصم فيما ذهب إليه لم يك ما قيل مثمرا للمطلوب، ولا لازما عليه، كيف وأن ذلك وإن كان مناقضا لبعض الخصوم كالجبائي ومن تابعه لضرورة منعه من تعلق العلم بما وقع به الاتفاق والافتراق على حياله فهو غير لازم في حق غيره اللهم إلا أن يكون قائلا بمقالته، وذلك مما لا سبيل إلى دعوى عمومه، وإن كان من القائلين بنفي الأحوال، فما وقع به الاختلاف بين الذوات حينئذ لا مانع من أن يكون من جملة المصحح للرؤية لكونه ذاتا، وإذ ذاك فلا يلزم منه جواز تعلق الرؤية بواجب الوجود إلا أن يبين أن ما كان مصححا للرؤية في باقي الذوات متحقق في حق واجب الوجود وهو متعذر) (1).ثالثا: قال الرازي في حكاية ما قيل في هذه المسألة من الدلائل العقلية: (اعلم أن جمهور الأصحاب عولوا في إثبات أنه تعالى يصح أن يرى على دليل الوجود، وأما نحن فعاجزون عن تمشيه ونحن نذكر ذلك الدليل ثم نوجه عليه ما عندنا من الاعتراضات (2). ثم بعد أن ساق الدليل أورد عليه اثني عشر اعتراضا في صيغة الأسئلة ثم قال: (فهذا ما عندي من الأسئلة على أن هذا الدليل وأنا غير قادر على الأجوبة عنها فمن أجاب عنها أمكنه أن يتمسك بهذا الدليل. ولنختم هذا الفصل بخاتمة، وهي أنا نقول: اعلم أن الدليل العقلي المعول عليه في هذه المسألة التي أوردناها، وأوردنا عليه هذه الأسئلة واعترفنا بالعجز عن الجواب عنها.   (1) ((غاية المرام في علم الكلام)) للآمدي (160). (2) ((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (191). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 486 إذا عرفت هذا فنقول: مذهبنا في هذه المسألة ما اختاره الشيخ أبو منصور الماتريدي السمرقندي، وهو أنا لا نثبت صحة رؤية الله تعالى بالدليل العقلي، بل نتمسك في هذه المسألة بظواهر القرآن والأحاديث، فإن أراد الخصم تعليل هذه الأدلة وصرفها عن ظاهرها بوجوه عقلية يتمسك بها في نفي الرؤية اعترضنا على دلائلهم وبينا ضعفها ومنعناهم من تأويل هذه الظواهر (1).وسلك الشهرستاني في الاستدلال العقلي على الرؤية طريقة أخرى حينما رأى بعدها عن الصواب فقال: (الموجودات اشتركت في قضايا واختلفت في قضايا والرؤية قد تعلقت بالمختلفات منها والمتفقات ولا يجوز أن يكون المصحح للرؤية ما يختلف فيه فإنه يوجب أن يكون لحكم واحد علتان مختلفتان، وهذا غير جائز في المعقولات، أو يلزم أن يكون لحكم عام علة خاصة هي أخص من معلولها، وما يتفق فيه الجوهر والعرض إما الوجود أو الحدوث، والحدوث لا يجوز أن يكون مصححا للرؤية فإن الحدوث هو وجود مسبق بعدم. والعدم لا تأثير له في الحكم فبقي الوجود مصححا بالضرورة، وهذا تقسيم قاصر فإن الرؤية بالاتفاق تعلقت بالجوهر والعرض وهما قد اختلفا من كل وجه سوى الوجود والحدوث، وقد بطل الحدوث فتعين الوجود، ولا يلزم على هذه الطريقة انتشار الأقسام كما لزم على طريق الأصحاب غير استبعاد محض للمعتزلة في قولهم لو كان كل موجود مرئيا لكان العلم والقدرة والطعم والرائحة وما سوى اللون والمتلون مرئيا ولكان نفس الرؤية مرئية بالرؤية وهذا محال (2).ولكن هذا المسلك الذي سلكه الشهرستاني هو تقرير لدليل الوجود بصورة أخرى. يلزمها كل لازم له فلا فرق بينهما والحالة هذه إذ إنه هو الآخر ترد عليه اعتراضات الخصوم والأصحاب وتساؤلاتهم، فنكتفي بالإشارة إلى عدم الاطمئنان إلى الطريقة التي أوردها الشهرستاني حين لم يرتض الطريقة الأولى، والتي فضلها على سائر الطرق. إذ رد عليها الآمدي وبين عدم استقامتها، وأن تطويل الشهرستاني في تقريرها لا يشفي غليلا (3)، ثم إن الشهرستاني نفسه يذكر في نهاية كلامه على الرؤية عدم اطمئنانه إلى الطريقة العقلية إذ يقول: (واعلم أن هذه المسألة سمعية أما وجوب الرؤية فلا شك في كونها سمعية، وأما جواز الرؤية فالمسلك العقلي ما ذكرناه، وقد وردت عليه تلك الإشكالات ولم تسكن النفس في جوابها كل السكون ولا تحركت الأفكار العقلية إلى التقصي عنها كل الحركة فالأولى بنا أن نجعل الجواز أيضا مسألة سمعية (4).   (1) ((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (197). (2) ((نهاية الإقدام في علم الكلام)) للشهرستاني (357). (3) ((غاية المرام في علم الكلام)) للآمدي (162). (4) ((نهاية الإقدام في علم الكلام)) للشهرستاني (369). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 وبعد هذه الاعتراضات على الدليل العقلي، والشبه التي أوردها أصحابه عليه وهم الأشاعرة، يتضح عدم قوة الدليل ذاته، ويظهر أن المتمسك به لا يستطيع تشميه. ولا الدفاع عنه. لذلك نراهم عادوا إلى التمسك بالنصوص الواردة في الرؤية. 2 - من أدلة العقل على الجواز قول أبي الحسن الأشعري: (ومما يدل على رؤية الله سبحانه بالأبصار أن الله عز وجل يرى الأشياء، وإذا كان للأشياء رائيا فلا يرى الأشياء من لا يرى نفسه وإذا كان لنفسه رائيا فجائز أن يرينا نفسه، وذلك أن من لا يعلم نفسه لا يعلم شيئا؛ فلما كان الله عز وجل عالما بالأشياء كان عالما بنفسه، فلذلك من لا يرى نفسه لا يرى الأشياء، فلما كان الله عز وجل رائيا للأشياء كان رائيا لنفسه، وإذا كان رائيا لها فجائز أن يرينا نفسه كما أنه لما كان عالما بنفسه جاز أن يعلمناها، وقد قال الله تعالى: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46] فأخبر أنه سمع كلامهما ورآهما، ومن زعم أن الله عز وجل لا يجوز أن يرى بالأبصار يلزمه أن لا يجوز أن يكون الله عز وجل رائيا ولا عالما ولا قادرا لأن العالم القادر الرائي جائز أن يرى) (1). وقال الشهرستاني بعد تقرير دليل الوجود: (وإن سلكنا طريقة العلم فهو أسهل فإن العلم من حيث هو علم نوع واحد وحقيقة واحدة وإذا جوز تعلق العلم به فقد جوز تعلق الرؤية به. وقد سلك الأستاذ أبو إسحاق طريقة قريبة من هذا فقال الرؤية معنى لا تؤثر في المرئي ولا تتأثر منه فإن حكمة حكم العلم بخلاف سائر الحواس، فإنها تؤثر وتتأثر، وإنما يلزم الاستحالة فيه أن لو تأثرت الرؤية من المرئي أو تأثير المرئي من الرؤية وكل ما هذا سبيله فهو جائز التعلق بالقديم والحادث، وكل مؤثر ومتأثر فهو مستحيل عندنا كما هو مستحيل عندك ولا كلفة في هذه الطريقة إلا إثبات معنى في البصر لا يؤثر ولا يتأثر (2).وقال الآمدي عن هذا الدليل: (واعلم أن هذه الطريقة مع احتياجها إلى تقرير معنى التأثير وحصر الموانع بأسرها ونفيها مما لا حاصل له وذلك أنه لا يخفى أن تعلق الشيء بغيره ليس مما يتم بانتفاء التأثير وزوال المانع بل لا بد من بيان الصلاحية للتعلق بين المتعلقين، ولو انتفى كل ما يقدر من الموانع وعند العود إلى بيان الصلاحية، والقبولية يرجع الكلام إلى الوجود وتصحيحه للتعلق (3). أما المعتزلة فإنهم- بناء على نفيهم الرؤية – خالفوا هذا الدليل وناقشوه، وقالوا لنا في هذه المسألة طريقان: (الأول: أنا نقول أنا لا نسلم أنه راء لذاته بل القديم تعالى إنما يرى الشيء لكونه حيا بشرط وجود المدرك وكونه حيا من مقتضى صفة الذات، وكونه مدركا من مقتضى صفة الذات فكيف يصح أن يقال إنه عز وجل راء لذاته؟ الثاني: هو أن نقول هب أن الله تعالى راء لذاته أليس أنه عز وجل لا يجب أن يرى المعدومات مع كونه رائيا لذاته؟ فإن قالوا: إنما لا يجب أن يرى المعدومات لأن الرؤية مستحيلة على المعدومات.   (1) ((الإبانة في أصول الديانة)) للأشعري (16). (2) ((نهاية الإقدام في علم الكلام)) للشهرستاني (358)، وانظر ((الملل والنحل)) (1/ 100)، ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (39). (3) ((غاية المرام في علم الكلام)) للآمدي (166). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 488 قلنا: وكذلك القديم تعالى تستحيل عليه الرؤية فلا يجب أن يرى نفسه فيما لم يزل. . وبعد فإن هذا قياس الرائي على المرئي، وأحدهما مباين للآخر لأن الرائي إنما يصح أن يرى الشيء لكونه حيا بشرط صحة الحاسة، والمرئي إنما يرى لكونه مرئيا في نفسه بشرط أن يكون موجودا في الحال وليس كذلك القديم تعالى فلا يصح ما أوردتموه وهل هذا إلا كأن يقال إن من كان حيا كما يجب أن يكون رائيا للشيء يجب أن يكون مرئيا فكما أن هذا خلف من الكلام كذلك هنا لأن المعلوم أن الشيء لا يرى لكونه حيا، وإنما يرى لكونه على الصفة التي يتعلق بها الإدراك والرائي إنما يرى الشيء لكونه حيا، وبعد فما أنكرتم أن الواحد منا إنما يصح أن يرى نفسه مما تصح رؤيته وليس كذلك القديم تعالى لأن الرؤية مستحيلة عليه ففارق أحدهما الآخر (1). والدليل كما قرره الشيخ أبو الحسن الأشعري تظهر فيه الدلالة على الجواز، وإن كان لا يقوى أن يعتمد عليه كل الاعتماد في الدلالة العقلية، لكن من يتصف بأنه يرى الأشياء ويعلمها، فلا يمتنع عليه أن يعلم ويرى لعدم الفرق بين الأمرين. ورد المعتزلة على الدليل لا يبطله فهذا الإفراط في النفي منهم جعلهم يعطلون الله تعالى عن أن يرى نفسه أو يراه غيره، وإن كان بعضهم أثبت أنه يرى غيره ولا يرى نفسه، فهو خروج عن المعقول إذ كيف يوصف من لا يرى نفسه بأنه يرى غيره فهذا ظاهر البطلان، فمن لا يتصف بأنه يَرى ويُرى فماذا يكون؟! فغلوهم هذا في تنزيه الله تعالى - على زعمهم – عن التشبيه أدى بهم إلى التعطيل، ثم هو تشبيه لله تعالى بالمعدوم. وأما دعواهم القياس للرائي على المرئي مع المباينة وشروط المرئي التي قالوها، وأن القديم ليس كذلك. فنقول: إن الشروط تجب عند الرؤية. ولم نقل في الرؤية الآن، ولا في دار الدنيا حيث إن من ركبت جوارحه للفناء لا تستطيع أن تصمد لمشاهدة الحي الدائم، وهذا ظاهر. 3 - دليل عقلي ثالث على جواز الرؤية: هناك مسلك عقلي آخر سلكه الغزالي في الاستدلال على الرؤية بعد دليل الوجود، قال عنه إنه الكشف البالغ وتلخيصه: أن الخصم لم ينكر علينا القول بالرؤية إلا لعدم فهمه ما نريد بها لأنه ظن أنا نريد بها حالة تساوي الحالة التي يدركها الرائي عند النظر إلى الأجسام والألوان، وهيهات، فنحن نقول: باستحالة ذلك في حق الله تعالى، ولكن ينبغي أن نحصل معنى الرؤية في الموضع المتفق ونسبكه ونحذف منه ما يستحيل في حق الله سبحانه وتعالى، فإن بقى من معانيه معنى لم يستحل في حق الله تعالى وأمكن أن يسمى ذلك المعنى رؤية حقيقية أثبتناه وقلنا إنه مرئي حقيقة، وإن لم يمكن إطلاق اسم الرؤية عليه إلا بالمجاز أطلقنا اللفظ عليه بإذن الشرع واعتقدنا أن المعنى كما دل عليه العقل. وقال تحصيله أن الرؤية تدل على معنى له محل وهو العين ومتعلق وهو اللون والقدر والجسم وكل المرئيات، ولنتأمل أيها ركن في إطلاق هذا الاسم فنقول: أما المحل فليس بركن في صحة هذه التسمية فإن الحالة التي ندركها بالعين من المرئي لو أدركناها بالقلب، أو بالجبهة مثلا لكنا نقول قد رأينا الشيء وأبصرناه وصدق كلامنا. فإن العين محل وآلة لا تراد لعينها بل لتحل فيه هذه الحالة فحيث حلت الحالة تمت الحقيقة وصح الاسم فالركن الذي الاسم مطلق عليه وهو الأمر الثالث وهو حقيقة المعنى من غير التفات إلى محله ومتعلقه فلنبحث عن الحقيقة ما هي ولا حقيقة لها إلا أنها نوع إدراك هو كمال ومزيد كشف بالإضافة إلى التخيل (2). . الخ.   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (272). (2) ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (35). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 489 وهذا قول جمهور المتأخرين من الأشاعرة إذ إن مذهبهم إثبات الرؤية لله تعالى لورود النصوص القطعية بذلك، ولكنهم مع هذا سلموا للمعتزلة قولهم بنفي الجهة عن الله تعالى ويلزم من نفي الجهة نفي الرؤية، فلم يستطيعوا التظاهر بنفي ما ثبت بالنصوص لانتسابهم إلى أهل السنة فأثبتوا الرؤية ونفوا لازمها وهي الجهة، فأخذ المعتزلة يشنعون عليهم هذا التناقض المخالف للعقول ولما رأوا ذلك سلكوا هذا المسلك الذي قالوا عنه إنه الكشف البالغ الإيمان أن الرؤية ليست بصرية وإنما هي زيادة انكشاف الرب تعالى لهم وتمام معرفتهم به حتى كأنهم يرونه بأعينهم وعلى هذا لا يكون خلافهم مع المعتزلة أكثر من الخلاف اللفظي. 4 - من أدلة العقل على الجواز: استدل السلف على جواز الرؤية عقلا بطريقة غير طريقة الوجود المجرد حيث لزم عليها لوازم فاسدة فلا تصلح مصححا للرؤية. لذلك جعلوا المصحح للرؤية أمورا وجودية لا أن كل موجود تتضح رؤيته، قال ابن تيمية في تقرير الدليل: (فمعلوم أن الرؤية تعلق بالموجود دون المعدوم، ومعلوم أنها أمر وجودي محض لا يسيطر فيها أمر عدمي كالذوق الذي يتضمن استحالة المأكول والمشروب ودخوله في مواضع من الآكل والشارب وذلك لا يكون إلا عن استحالة وخلق، وإذا كانت أمرا وجوديا محضا، ولا تتعلق إلا بالموجود فالمصحح لها الفارق بين ما يمكن رؤيته وما لا يمكن رؤيته: إما أن يكون وجودا محضا، أو متضمنا أمرا عدميا. والثاني باطل لأن العدم لا يكون له تأثير في الوجود المحض فلا يكون سببا له، ولا يكون أيضا شرطا أو جزءا من السبب إلا أن يتضمن وجودا فيكون ذلك الوجود هو المؤثر في الوجود ويكون ذلك العدم دليلا عليه ومستلزما له ونحو ذلك، وهذا من الأمور البينة عند التأمل. ومن قال من العلماء: إن العدم يكون علة للأمر الثبوتي أو جزء علة، أو شرط علة، فإنما يقولون ذلك في قياس الدلالة، ونحوه مما يستدل فيه بالوصف على الحكم، لا يقول أحد إن نفس العدم هو المقتضي للوجود. ولا يقول: إن الوصف المركب، من وجود وعدم هما جميعا مقتضيان للوجود المحض. وشروط العلة هي من جملة أجزاء العلة التامة. وإذا كان المقتضى لجواز الرؤية، والمصحح للرؤية، والفارق بينما تجوز رؤيته وبينما لا تجوز: إما أن يكون وجودا محضا فلا حاجة بنا إلى تعيينه، سواء قيل هو مطلق الوجود أو القيام بالنفس، أو بالعين بشرط المقابلة والمحاذاة، أو غير ذلك مما يقال إنه مع وجوده تصح الرؤية ومع عدمه تمتنع، لكن المقصود أنه أمور وجودية، وإذا كان كذلك فقد علم أن الله تعالى هو أحق بالوجود، وكماله من كل موجود، إذ وجوده هو الوجود الواجب، ووجود كل ما سواه هو من وجوده، وله الكمال التام في جميع الأمور الوجودية المحضة فإنها هي الصفات التي بها يكون كمال الوجود، وحينئذ فيكون الله – وله المثل الأعلى – أحق بأن تجوز رؤيته لكمال وجوده، ولكن لم نره في الدنيا لعجزنا عن ذلك وضعفنا كما لا نستطيع التحديق في شعاع الشمس، بل كما لا تطيق الخفاش أن تراها، لا لامتناع رؤيتها، بل لضعف بصره وعجزه. كما قد لا يستطاع سماع الأصوات العظيمة جدا، لا لكونها لا تسمع، بل لضعف الس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 490 المبحث الثامن: رأي المعتزلة في بعض مسائل التشبيه والتجسيم رأي المعتزلة في الجسمية بالنسبة لله، ومناقشتهم: قبل بيان رأي المعتزلة في الجسمية؛ لابد أن نعرف ما هو الجسم عند المعتزلة. حقيقة الجسم: عرف القاضي الجسم، فقال: "اعلم أن الجسم هو ما يكون عريضاً عميقاً، ولا يحصل فيه الطول والعرض والعمق؛ إلا إذا تركب من ثمانية أجزاء، بأن يحصل جزءان في قبالة الناظر، ويسمى طولاً وخطاً، ويحصل جزءان آخران عن يمينه ويساره منضمان إليهما، فيحصل العرض، ويسمى سطحاً أو صفحة، ثم يحصل فوقها أربعة أجزاء مثلها، فيحصل العمق، وتسمى الثمانية أجزاء المركبة على هذا الوجه جسماً" (1).ويعللون عدم صحة إطلاق لفظ الجسم على الله "أنه تعالى لو كان جسماً، لكان محدثاً، وقد ثبت قدمه، لأن الأجسام كلها يستحيل انفكاكها من الحوادث التي هي الاجتماع والافتراق والحركة والسكون؛ وما لا ينفك عن المحدث يجب حدوثه لا محالة" (2). المناقشة: نقول: يا معشر المعتزلة، ما مقصودكم من نفي الجسم عن الله، هل هو التقيد بكتاب الله، وسنة رسوله، فتنفون الجسم لأن النقل ورد بنفيهما، أم تقصدون تنزيه الله عن مشابهة المخلوقات؟!.إن كان الأول؛ فإنه لم يرد في الكتاب والسنة ما يشير إلى لفظ الجسم بنفي أو إثبات؛ وعلى ذلك يجب عليكم السكوت عما سكت عنه النقل. يقول ابن القيم: "واعلم أن لفظ الجسم لم ينطق به الوحي إثباتاً، فيكون له الإثبات، ولا نفياً، فيكون له النفي" (3). وإن كان مقصودكم من نفي الجسم تنزيه الله عن مشابهة المخلوقات، فنحن نوافقكم على أنه يجب تنزيه الله عن مشابهة ما سواه، لكن شريطة التقيد بالكتاب والسنة؛ وبما أنهما لم يردا بنفي الجسم ولا إثباته، فإنه يجب السكوت عما سكتا عنه. والله أعلم. الفرع الثاني: تأويل المعتزلة للاستواء والمجيء والوجه واليد والعين والساق، ومناقشتهم: لقد رتب المعتزلة على نفي الجسمية عن الله تعالى نفي كل ما يرونه يتضمنها، وأولوا ما ورد في ذلك من نصوص؛ وذلك كالاستواء والمجيء والوجه واليد والعين والساق. وسنعرض – إن شاء الله – تأويلهم لهم ثم نرد عليهم، فنقول وبالله التوفيق: أولاً: الاستواء: ورد في القرآن الكريم آيات تؤكد أن الله تعالى مستو على عرشه، كقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]. وقد رفض المعتزلة هذا المعنى الظاهر الذي تشير إليه الآية؛ لذا أولوا: الاستواء بالاستيلاء والقهر والغلبة. يقول القاضي – بعد سياقه الآية -: "والاستواء ههنا بمعنى الاستيلاء والقهر والغلبة؛ وذلك مشهور في اللغة. قال الشاعر: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق ... " (4) المناقشة: إن تأويل المعتزلة للاستواء بالاستيلاء باطل من وجوه، منها: الأول: أن هذا التأويل يوجب أن يكون تعالى لم يكن مستولياً على العرش قبل استوائه عليه؛ وهذا باطل، فما يؤدي إليه مثله. الثاني: أن هذا التأويل لو كان صحيحاً، لما كان العرش أولى بالاستيلاء من سائر المخلوقات، ولجاز لنا أن نقول: الرحمن على الأرض استوى؛ لأنه تعالى مستول عليها، وعلى كل ما خلق، وهذا لا يقبله أحد؛ فدل على بطلانه (5). الثالث: وأما استشهادكم بقول الشاعر: "قد استوى بشر على العراق .. ".   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص 217). (2) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص218). (3) ((الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة)) (1/ 112)، وانظر ((تلبيس الجهمية)) (1/ 47). (4) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص126). (5) ((أصول الدين)) (ص112)، و ((الفصل)) لابن حزم (2/ 123)، بتصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 491 فنقول: البيت محرف، ولو لم يكن محرفاً، فإنه دليل عليكم لا لكم. يقول ابن القيم – في جملة رده على من فسر الاستواء بالاستيلاء -: "إن هذا البيت محرف، وإنما هو هكذا: بشر قد استولى على العراق ... ثم قال: ولو صح هذا البيت، وصح أنه غير محرف؛ لم يكن فيه حجة؛ بل هو حجة عليهم، وهو على حقيقة الاستواء، فإن بشراً هذا كان أخا عبدالملك بن مروان، وكان أميراً على العراق، فاستوى على سريرها، كما هو عادة الملوك ونوابهم أن يجلسوا فوق سرير الملك مستوين عليه، وهذا هو المطابق لمعنى هذه اللفظة في اللغة، كقوله تعالى: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ... الآية [الزخرف: 13] وقوله تعالى: ... وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود: 44] ... " (1).وأيضاً، فإنه لو كان استوى في البيت بمعنى استولى كان المفروض أن يقال: استوى عبدالملك لا بشر؛ لأنه هو الذي له الملك، وإنما بشر أخوه والٍ عنه (2). فدل ما ذكرنا على بطلان تأويل المعتزلة للاستواء بالاستيلاء. والله أعلم. ثانياً: المجيء: كذلك ورد في القرآن الكريم آيات تدل على المجيء لله تعالى، كقوله تعالى: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22]. وقد رفض المعتزلة ما تدل عليه الآية من المجيء، لذا أولوها، فقالوا: "وجاء أمر بك ... ".يقول القاضي: "الآية لا تدل على صحة ما يتعلق به المشبهة في أنه تعالى كالواحد منا ... يجيء ويذهب، ولو كان كذلك، لكان محدثاً ... والمراد بالآية: وجاء أمر ربك" (3). المناقشة: إن نفي المعتزلة المجيء، وتأويلهم للآية الدالة على ذلك باطل، ويدل بطلان هذا التأويل ما يلي: أ- إن في سياق الآية ما يبطله، وهو عطف مجيء الملك على مجيء الرب تعالى؛ مما يدل على تغاير المجيئين، وأن مجيئه تعالى حقيقة، كما أن مجيء الملك حقيقة؛ بل إن مجيئه تعالى أولى بأن يكون حقيقة من مجيء الملك. ب- اطراد نسبة المجيء إليه تعالى دليل على الحقيقة، وقد صرحتم بأن من علامات الحقيقة الاطراد، فكيف كان هذا المطرد مجازاً؟! ج- إن إضمار ما لا يدل اللفظ عليه أو ادعاء حذف ما لا دليل عليه، يرفع الوثوق بالخطاب، ويفتح الباب لكل مبطل في ادعاء إضمار ما يصحح باطله. د- إن صحة اللفظ واستقامة التركيب لا تتوقف على هذا المحذوف؛ بل الكلام مستقيم بدونه، فإضماره خلاف الأصل، فلا يجوز (4).   (1) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 136، 137). (2) انظر ((مختصر الصواعق)) (2/ 138). (3) ((متشابه القرآن)) (2/ 689)، و ((شرح الأصول الخمسة)) (ص229، 230). (4) ((الصواعق المرسلة)) (ص106 - 107) بتصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 492 ثالثاً: مسألة الوجه: لقد وردت آيات قرآنية تشير إلى أن لله تعالى وجهاً مثل قوله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 27]. وقوله تعالى: ... كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 88]. وقد رفض المعتزلة أن يكون لله وجه هو جزء منه؛ لذا أولوا الوجه الوارد في الآيتين، فقالوا: إن المراد بالوجه، هو الذات. يقول القاضي عبدالجبار: "المراد بالوجه في قوله تعالى: ... كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 88] أي: ذاته، والوجه بمعنى الذات مشهور في اللغة، يقال: وجه هذا الثوب جيد، أي: ذاته جيدة ... " (1).وقال بعضهم: إن كلمة "الوجه" في الآية زائدة، والتقدير، ويبقى ربك (2).وذهب البعض الآخر منهم إلى أن: وجه الله تعالى هو قبلته أو ثوابه أو جزاؤه (3).المناقشة: أولاً: يقال لهم: إن تأويلكم الوجه بهذه التأويلات حمل للحقيقة على المجاز، والمجاز لا يمتنع نفيه؛ فعلى هذا لا يمتنع أن يقال: ليس لله وجه، ولا حقيقة لوجهه، وهذا تكذيب صريح لما أخبر الله به عن نفسه، وأخبر به رسوله – صلى الله عليه وسلم -، وما يؤدي إلى هذا، فإنه لا شك في بطلانه (4).ثانيا: يلزم من حملكم وجه الله على المجاز أن يكون سمع الله وبصره وقدرته وحياته وسائر صفاته؛ مجازاً، لا حقيقة؛ وهذا باطل، فما يؤدي إليه مثله (5).ثالثا: يقال لهم: إن تأويلكم الوجه بمعنى الذات لم يعرف في لغة من لغات الأمم، وغاية ما تمسكتم به أن قلتم: وجه الرب بمعنى ذاته، لأنه اشتهر في اللغة أن الوجه بمعنى الذات، ونقول: أما قولكم أنه اشتهر في اللغة أن الوجه بمعنى الذات، فهذا مردود، فإن الوجه في اللغة هو مستقبل كل شيء وليس ذاته (6). ثم هو بحسب المضاف إليه، فإن كان جماداً محسوساً؛ فهو أحد جانبيه، وإن كان معنوياً كالنهار فوجهه أوله. يقول ابن عباس: "وجه النهار أوله". وإن أضيف إلى من ليس كمثله شيء كان وجهه كذلك (7) لا يماثله شيء. فلا يلزمنا تشبيه كما تدعون؛ لأنا لم نقل إن وجهه تعالى يماثل شيئا، ولا يلزمنا تعطيل كما لزمكم عندما أولتم الوجه بمعنى الذات. رابعاً: أما زعم من زعم أن الوجه صلة والتقدير ويبقى ربك؛ فجوابه: أن يقال هذا كذب على الله، وعلى رسوله – صلى الله عليه وسلم -، وعلى اللغة، فإن هذه الكلمة ليست مما عهد زيادتها، ولو قيل: إنها زائدة؛ لساغ لمعطل آخر أن يدعي الزيادة في قوله: أعوذ بعزة الله وقدرته، ويكون التقدير: أعوذ بالله، ويدعي معطل ثالث: الزيادة في سمع الله وبصره وقدرته وعلمه، وغير ذلك مما يريد نفيه (8).   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص227). (2) ((الصواعق المرسلة)) (2/ 174). (3) ((المقالات)) (2/ 65، 218)، و ((الصواعق المرسلة)) (2/ 174). (4) ((الصواعق)) (2/ 175). (5) ((الصواعق)) (2/ 175). (6) ((المعجم العربي الحديث – لاروس)) (ص1276). (7) انظر ((الصواعق المرسلة)) (2/ 175، 176). (8) انظر ((الصواعق المرسلة)) (2/ 175). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 493 ومعلوم بطلان هذا، فما يؤدي إليه مثله. خامساً: أما تأويل بعضكم الوجه بمعنى الثواب؛ فإنه من أبطل الباطل؛ إذ أن اللغة لا تحتمل ذلك، ولم يعرف أن الجزاء يسمى وجهاً للمجازي، ثم إن الثواب مخلوق، فقد صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم- أنه استعاذ بوجه الله. عن جابر بن عبدالله – رضي الله عنه – قال: ((لما نزلت هذه الآية: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ ... الآية [الأنعام: 65] قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: أعوذ بوجهك. فقال: أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ فقال صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجهك ... الحديث)) (1). ولا يظن برسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يستعيذ بمخلوق (2). سادساً: أن الوجه ورد مضافاً إلى الذات في جميع موارده، والمضاف إلى الرب نوعان: الأول: أعيان قائمة بنفسها كبيت الله. الثاني: صفات لا تقوم بنفسها كعلم الله وحياته وقدرته وعزته وسائر صفاته، فهذه إذا وردت مضافة إليه تعالى؛ فهي إضافة صفة إلى الموصوف بها. إذا عرف ذلك؛ فوجهه الكريم إذا أضيف إليه وجب أن تكون إضافته إليه إضافة وصف لا إضافة خلق (3). سابعاً: إن تفسير وجه الله بقبلة الله، وإن قاله بعض السلف، فإنما قالوه في موضع واحد، وهو قوله تعالى: وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ... الآية [البقرة: 115]. ولو فرض صحته هنا: فإنه لا يصح في سائر المواضع. إضافة على ذلك: أنه لا يتعين حمله على القبلة والجهة في قوله تعالى: .... فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ..... [البقرة: 115] ولا يمتنع حمله على وجه الرب حقيقة. وأيضاً: فإنه لا يعرف في اللغة الوجه بمعنى القبلة؛ بل للقبلة اسم يخصها، للوجه اسم يخصه، فلا يدخل أحدهما في الآخر، ولا يستعار اسمه له. ثم إنه لو كان المراد بوجه الله قبلة الله، لكان قد أضاف إليه نفسه القبل كلها (4). وهو باطل فما يؤدي إليه مثله. رابعاً: اليد: ورد في القرآن الكريم آيات تدل على أن لله يداً، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ... الآية [الفتح: 10]. وقوله تعالى: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ... [ص: 75]. وقوله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ... الآية [المائدة: 64].وقد رفض المعتزلة ما تدل عليه الآيات من إثبات اليد لله تعالى؛ لذلك أولوها بالقدرة أو القوة أو النعمة (5).يقول القاضي: "إن اليد في قوله تعالى: .... لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ... [ص: 75] بمعنى القوة؛ وذلك ظاهر في اللغة، يقال: ما لي في هذا الأمر "يد" أي: قوة .... " (6).ويقول في موضع آخر: "إن اليد في قوله تعالى: ... بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ... [المائدة: 64]. بمعنى النعمة ... " (7). المناقشة: إن تأويل المعتزلة لليد بالنعمة أو القدرة باطل، وبيان ذلك: أن الله تعالى قال: .... بِيَدَيَّ ... ، وهذا يقتضي إثبات يدين، هما: صفة له، فلو كان المراد القدرة، لوجب أن يكون له تعالى قدرتان، وأنتم تقولون: إن للباري – سبحانه وتعالى – قدرة واحدة، فكيف يجوز أن تثبتوا له تعالى قدرتين؟!.   (1) رواه البخاري (7313). (2) ((الصواعق)) (2/ 176، 177). (3) ((الصواعق)) (2/ 179، 180)، بتصرف. (4) ((الصواعق المرسلة)) (2/ 180، 181، 184). بتصرف. (5) انظر ((شرح الأصول الخمسة)) (ص 228)، و ((المقالات)) (1/ 165)، و ((التمهيد)) (ص258). (6) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص228). (7) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص228). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 494 وأيضاً: فقد أجمع المسلمون على أنه لا يقال: إن لله تعالى قدرتين، فبطل ما قلتم. وأما تأويلكم لليد بالنعمة، فإنه يؤدي إلى أن يكون الله تعالى خلق آدم بنعمتين، وهذا لا يجوز، لأن نعم الله على آدم وغيره لا تحصى، ولأنه لا يقال في اللغة: رفعت الشيء بيدي، وهو يعني نعمته. ومما يدل على فساد تأويلكم: أنه لو كانت اليد المراد بها القدرة أو النعمة لما غفل عن ذلك إبليس أن يقول: وأي فضل لآدم علي يقتضي أن أسجد له، وأنا قد خلقتني بيدك: التي هي قدرتك أو نعمتك، ومعلوم أن الله تعالى فضل آدم عليه بخلقه بيديه: فلابد أن تكون اليدان شيئاً غير القدرة أو النعمة، ليكون للتفضيل وجه؛ وذلك يدل على فساد تأويلكم (1). خامساً: العين: ورد في القرآن الكريم آيات تثبت العين لله تعالى، كقوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي طه: 39.وقد أولها المعتزلة بالعلم، لأن إثبات العين – في اعتقادهم – يؤدي إلى التجسيم. يقول القاضي عبدالجبار: و"المراد بقوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي أي: لتقع على الصنعة على علمي" (2). المناقشة: يقال لهم إن تأويل العين بمعنى العلم باطل لما يلي: 1 - أن الأصل في الكلام الحقيقة، وصرفه عن الحقيقة إلى المجاز يحتاج على دليل، ولا دليل لديكم إذا يبقى المعنى الظاهر فيلزم إثباته بلا تكييف، وهو أن لله عيناً على ما يليق بجلاله. 2 - إن إثبات العين لله تعالى صفة كمال، ونفيها عنه صفة نقص، ولما كان سبحانه وتعالى هو الأحق بالكمال المنزه عن النقائص، وجب إثبات هذه الصفة كما وردت.3 - ورد في الكتاب والسنة اطراد هذه الصفة، ومن علامات الحقيقة عندكم الإطراد، فيلزم إثباتها (3).4 - ورد عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – في الحديث المروي عنه أنه قال: (( ... وإن ربكم ليس بأعور ... الحديث)) (4). فنفى – صلى الله عليه وسلم – عن ربه صفة العور، وهذا يدل على ثبوت العينين له تعالى حقيقة (5). 5 - ثم إنه لا يلزمنا من إثبات العين لله تعالى حقيقة: تجسيم، أو تشبيه؛ لأنا لم نقل كعين المخلوق؛ بل نقول إن له تعالى عيناً على ما يليق بجلاله. وأيضاً فإنا وإياكم اتفقنا على أن لله تعالى قدرة ولم يستلزم ذلك تجسيماً، ولا تمثيلاً، فكذلك إثبات صفة العين لله تعالى على ما يليق بجلاله لا يستلزم تجسيماً. وبذلك يظهر بطلان تأويلكم العين لله تعالى بمعنى العلم. والله أعلم. سادسا: الساق: ورد في القرآن الكريم آيات تشير إلى أن لله ساقاً كقوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ... الآية [القلم: 42]. وقد أول المعتزلة الساق: بالشدة. يقول القاضي عبدالجبار: "المراد بالساق في قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ... الآية [القلم: 42] الشدة، يبين ذلك أنه تعالى يصف هول يوم القيامة وشدته جرياً على عادة العرب، فهو بمنزلة قولهم: قامت العرب على ساقها" (6). المناقشة: إن تأويل المعتزلة للساق بمعنى الشدة باطل، لأن الأصل في الكلام الحقيقة لا المجاز، وقد قال تعالى يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ... الآية [القلم: 42]. فتبين من هذا: أن الله يكشف عن ساقه الكريمة التي لا يشبهها شيء، وهي على ما يليق بجلاله، وليست كساق المخلوقين، فلا يلزمنا التشبيه كما تزعمون، ولا يلزمنا التحريف كما لزمكم (7). المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص 138   (1) انظر ((التمهيد)) (ص259). (2) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص227). (3) انظر ((الصواعق المرسلة)) (2/ 107). (4) رواه البخاري (7131) , ومسلم (2933) , من حديث أنس رضي الله عنه. (5) ((الصواعق المرسلة)) (1/ 39). (6) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص229). (7) انظر ((تفسير ابن سعدي)) (ص 160). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 495 الفصل الثالث: الأصل الثاني العدل • المبحث الأول: رأي المعتزلة في أفعال الله ومناقشتهم . • المبحث الثاني: بم يدرك حسن الأفعال وقبحها والثواب عليها والعقاب عند المعتزلة؟. • المبحث الثالث: رأي المعتزلة في أفعال العباد. • المبحث الرابع: أفعال التولد. • المبحث الخامس: رأي المعتزلة في اللطف والصلاح والأصلح ومناقشتهم. • المبحث السادس: رأي المعتزلة في بعثة الرسل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 496 المبحث الأول: رأي المعتزلة في أفعال الله ومناقشتهم الفعل عند المعتزلة: تعريفه: يقول القاضي عبدالجبار: "إن الفعل هو: ما وجد من جهة من كان قادراً عليه" (1). أحكام الفعل: يقول القاضي: "اعلم أن الفعل ينقسم إلى قسمين: أحدهما: ما لا صفة له زائدة على وجوده، وهذا لا يوصف بقبح، ولا حسن عند شيوخنا" (2). ويعلل ذلك بأن الحسن والقبيح لابد من أن يكون لهما حكم زائد على الوجود، لأنه لو لم يحصل لهما ذلك، لم يكن أحدهما بأن يكون حسناً أولى من صاحبه ولا الآخر بأن يكون قبيحاً أولى منه، لأن الوجود حصل لهما على السواء .... ولأنه لو كان قبح القبيح منهما لوجوده فقط؛ لوجب قبح كل فعل، ولو كان حسن الحسن لوجوده فقط، لوجب حسن كل فعل؛ وذلك يوجب كون الفعل حسناً قبيحاً، وهذا معلوم فساده .. ثم قال: فيجب إذاً فيما لا صفة له زائدة على وجوده أن نحكم بأنه ليس بحسن ولا قبيح (3). وعلى ذلك؛ فهذا النوع من الأفعال لا يوصف بالحسن والقبح، فلا يصح وقوعه في أفعال الله تعالى، لأنه لابد من كون فعله حسناً (4).الثاني: ما له صفة زائدة على وجوده: يقول القاضي - وهو يتكلم عن هذا النوع من الأفعال-: " ... وهذا النوع إما أن يقع ممن هو عالم به أو يقع ممن لا يعلمه. إذا كان الفعل قد وقع ممن لا يعلمه ولا يتمكن من ذلك مثل: حركات النائم والساهي، فهذا لا حكم له، ولا يدخل في أفعال الله تعالى، لأن الله عالم لذاته، فلا يصح وقوع شيء منه من غير أن يعلمه (5).أما إذا وقع ممن هو عالم به: فإما أن يقع ولا إلجاء ولا إكراه، أو يقع وهناك إلجاء وإكراه. إن وقع وهناك إلجاء وإكراه: فهذا لا حكم له ... وإن وصف بأنه حسن أو قبيح، ولكن حكم القبيح والحسن لا يثبت فيه (6)؛ لأنه لا يدخل في حيز ما يستحق به الذم أو المدح (7).وهذا النوع - أيضاً - لا يدخل في أفعال الله تعالى، لأنه سبحانه وتعالى يستحق المدح في أفعاله، وتفارق حاله حال الملجأ (8) من حيث لا تصح المنافع والمضار عليه (9). وإن وقع ممن هو عالم به أو متمكن من ذلك، ولا إلجاء، ولا ضرورة؛ فهذا النوع لا يخلو من أمرين: الأول: إما أن لا يكون له فعله وهو القبيح (10) ... وهو الذي إذا وقع على وجه من حق العالم بوقوعه كذلك من جهته المخلى بينه وبينه أن يستحق الذم إذا لم يمنع منه مانع (11). وذلك كالظلم والكذب. وهذا لا يقع في أفعال الله تعالى؛ لأنه لا يفعل القبيح ولا يختاره (12). الثاني: أن يكون له فعله؛ وهو الحسن: وهو ما لفاعله أن يفعله ولا يستحق عليه ذماً. ثم إن الحسن ينقسم إلى قسمين: الأول: ما يكون له صفة زائدة على حسنه.   (1) ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (6/ 5). (2) ((المغني في أبواب العدل)) (6/ 7). (3) ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (6/ 9). (4) ((المغني في أبواب العدل)) (6/ 13). (5) ((المجموع المحيط)) (1/ 232)، و ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (6/ 13). (6) ((المحيط بالتكليف)) (ص 232، 233). (7) ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (6/ 7). (8) ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (6/ 17). (9) ((المغني)) (7/ 13). (10) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص326). (11) ((المغني)) (6/ 26). (12) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص301). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 497 الثاني: ما لا يكون له صفة زائدة على حسنه: وهذا لا يستحق بفعله المدح، ويسمى مباحاً، وحده: ما عرف فاعله حسنه أو دل عليه. وأفعال القديم تعالى لا توصف بالمباح، وإن وجد منها ما صورته صورة المباح كالعقاب (1)؛ لأن من حق المباح أن يكون فعل الفاعل له، وأن لا يفعله بمنزلة واحدة في أنه لا يستحق به ذماً، ولا مدحاً؛ وذلك مما لا يتأتى في أفعاله سبحانه وتعالى؛ لأنه يستحق على أفعاله كلها المدح والشكر (2). وأما الأول: وهو الفعل الحسن الذي له صفة زائدة على حسنه، فإنه ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يستحق بفعله المدح، ولا يستحق الذم إذا لم يفعل؛ وذلك كالنوافل وغيرها. ثانيهما: أن يستحق بفعله المدح، والذم إذا لم يفعل؛ وذلك كالواجبات (3). فأما الأول: وهو ما يستحق بفعله المدح، ولا يستحق الذم إذا لم يفعل، فهذا هو المندوب، وينقسم إلى قسمين: أ- ما يكون مقصوراً على فاعله، وإنما يسمى بأنه ندب ونفل وما شاكله. ب- ما يتعداه إلى غيره، ويسمى إحساناً وتفضلاً وما شاكله (4).فأما الأول: فلا يقع في أفعال الله تعالى، لأنه يقتضي أن يكون هناك نادباً ندبه إليه، ثم يقول القاضي: وذلك يصح في العقلاء منا دون الله تعالى (5).وأما الثاني: وهو التفضل؛ فإنه يقع في فعل الله تعالى كابتداء الخلق والإحياء والأقدار وغير ذلك (6). القسم الثاني من أقسام الفعل الحسن الذي له صفة زائدة على حسنه: وهو ما يستحق المدح لفعله والذم إذا لم يفعل، وهو الواجب؛ وذلك نحو الإنصاف وشكر المنعم ... (7)، وهذا لا يثبت في فعله تعالى ابتداء؛ وإنما يكون عند سبب يفعله؛ وذلك كالتكليف الذي به يلتزم الأقدار واللطف والإثابة والتعويض ... (8)، وهو ينقسم إلى قسمين: أحدهما: الذي إذا لم يفعله بعينه يستحق الذم، فوصف بأنه واجب مضيق فيه؛ وذلك كالتفرقة بين المحسن والمسيء، وشكر المنعم في أوقات مخصوصة، ونحو ذلك (9). وهذا ثابت في أفعال الله. يقول ابن منتويه - وهو يتكلم عن الواجب بالنسبة لله -: "وما يتعين في فعله تعالى، وهو كإعادة من يستحق الثواب أو العروض، فإن غير تلك الأجزاء لا تقوم مقامها أصلاً؛ بل يجب إعادتها بأعيانها ... " (10).ثانيهما: وهو الذي إذا لم يفعله، ولم يفعل ما يقوم مقامه، يستحق الذم، فوصف بأنه واجب مخير فيه ... وذلك كالكفارات الشرعية التي خير فيها (11). وهذا أيضاً ثابت في أفعال الله. يقول ابن منتويه: "وأما ما كان من فعله تعالى على طريقة الوجوب المخير فيه، فهو أنه تعالى إذا علم من حال نفسين أنهما يصلحان للبعثة، فهو في حكم المخير، إن شاء بعث هذا، وإن شاء بعث ذاك، وكذلك لو علم أن اللذة تقوم مقام الألم في الصلاح لكان في حكم المخير فيهما" (12).   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص326، 327). (2) ((المغني في أبواب العدل)) (6/ 34، 35). (3) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص327). (4) ((المجموع المحيط)) (ص233). (5) ((المغني في أبواب العدل)) (6/ 38). (6) ((المجموع المحيط)) (ص233). (7) ((المغني في أبواب العدل)) (6/ 43). (8) ((المجموع المحيط)) (ص233). (9) ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (6/ 43). (10) ((المجموع المحيط)) (ص234). (11) ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (6/ 43). (12) ((المجموع المحيط)) (ص234). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 498 من هذا العرض نخلص إلى أن الأحكام التي يصح ثبوتها في أفعال الله - عند المعتزلة - هي التفضل والواجب بقسميه المخير والمضيق، وما عدا ذلك من الأحكام فلا يصح ثبوتها في أفعال الله تعالى. وبناء على هذا؛ فالله سبحانه وتعالى لا يفعل القبيح بوجه من الوجوه، وكما أنه لا يفعله، فكذلك لا يريده (1). وقد دلل القاضي على الأمرين، فمن أدلته على أن الله لا يفعل القبيح ما يلي: يقول القاضي: وتحرير الدلالة على ذلك، هو: أنه تعالى عالم بقبح القبيح، ومستغن عنه، عالم باستغنائه عنه، ومن كان هذه حاله لا يختار القبيح بوجه من الوجوه. ثم قال: وهذه الدلالة تنبي على أن الله تعالى عالم بقبح القبيح وأنه مستغن عنه، وعالم باستغنائه عنه، وأن من هذه حاله لا يختار القبيح بوجه من الوجوه. أما الذي يدل على أنه تعالى عالم بقبح القبيح ... فلأنه تعالى عالم لذاته، ومن حق العالم لذاته أن يعلم جميع المعلومات على الوجوه التي يصح أن تعلم عليها، ومن الوجوه التي يصح أن يعلم المعلوم عليه قبح القبائح، فيجب أن يكون القديم تعالى عالماً به. وأما الذي يدل على أنه تعالى مستغن عن القبيح .. فلأنه تعالى غني لا تجوز عليه الحاجة أصلاً.   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص462). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 499 وأما الذي يدل على أنه تعالى عالم باستغنائه عن القبيح، فهو داخل في الدلالة الأولى التي تنبني على أنه تعالى عالم لذاته. وأما الذي يدل على أن من كان هذا حاله لا يختار القبيح بوجه من الوجوه، هو أنا نعلم ضرورة في الشاهد أن أحدنا إذ كان عالماً بقبح القبيح مستغنياً عنه عالماً باستغنائه عنه، فإنه لا يختار القبيح البتة، وإنما لا يختاره لعلمه بقبحه ولغناه عنه ... يبين ما ذكر ويوضحه أن أحدنا لو خير بين الصدق والكذب، وكان النفع في أحدهما كالنفع في الآخر، وقيل له: إن كذبت أعطيناك درهماً، وإن صدقت أعطيناك درهماً، وهو عالم بقبح الكذب مستغن عنه عالم باستغنائه عنه، فإنه لا يختار الكذب على الصدق ... لعلمه بقبحه، وبغناه عنه. وهذه العلة بعينها قائمة في حق القديم تعالى، فيجب أن لا يختاره البتة، لأن طرق الأدلة لا تختلف شاهداً وغائباً (1).أما الأدلة على أنه تعالى لا يريد القبيح، فمنها ما هو نقلي. يقول القاضي عبدالجبار: "إن كتاب الله المحكم يوافق ما ذكرناه من القول بالتوحيد والعدل" (2). ثم يورد القاضي بعض الآيات مستدلاً بها على أن الله لا يريد القبيح، كقوله تعالى: وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ [البقرة: 205]. وقوله تعالى: وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ .... الآية [الزمر: 7]. ثم يقول: "هذه الآيات تدل على أنه تعالى لا يريد الفساد، ولا يحبه، سواء كان من جهته أو من جهة غيره ... " (3).ومن الآيات التي استدل بها القاضي - أيضاً - على أن الله لا يريد القبيح قوله تعالى: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ [غافر: 31]. ويعلق القاضي على هذه الآية فيقول: إن قوله ظُلْمًا نكرة، والنكرة في النفي تعم، فظاهر الآية يقتضي أنه تعالى لا يريد شيئاً مما وقع عليه اسم الظلم (4).ومنها؛ ما هو عقلي: يقول القاضي: "إن إرادة القبيح قبيحة"؛ ويعلل ذلك بقوله: "وإن إرادة القبيح إنما تقبح لكونها إرادة للقبيح بدليل أنها متى عرف كونها على هذه الصفة عرف قبحها" (5).ويقول في موضع آخر: "وأحد ما يدل على أنه تعالى لا يجوز أن يكون مريداً للمعاصي، هو أنه تعالى لو كان مريداً لها لوجب أن يكون حاصلاً على صفة من صفات النقص؛ وذلك لا يجوز على الله تعالى، وبهذه الطريقة نفينا الجهل عن الله تعالى" (6). ويؤيد القاضي هذه الدلالة بقياس الغائب على الشاهد، فيقول: "فإن قيل: ولم قلتم إذا كان مريداً للمعاصي، وجب أن يكون حاصلاً على صفة من صفات النقص؟ قلنا: الدليل على ذلك الشاهد، فإن أحدنا متى كان كذلك، كان حاصلاً على صفة من صفات النقص، وإنما وجب ذلك لكونه مريداً للقبيح، فيجب مثله من الله تعالى" (7). والمعتزلة - كما رأينا - تقرر أنه تعالى لا يفعل القبيح، ولا يريده، وأن أفعاله كلها لابد أن تكون حسنة، وأنه لا يخل بما هو واجب عليه؛ وعلى ذلك فكل فعل يفعله سبحانه وتعالى إنما هو حسن. يقول ابن منتويه: "يجب إذا عرفنا في فعل من الأفعال أنه فعله - عز وجل - أن تقضي بحسنه، ونعرف أن فيه وجهاً من وجوه الحسن، إما على جملة أو تفصيل، وإذا انتهينا إلى فعل قبيح، فيجب أن نقتضى بأنه ليس من جهته" (8).وقد ترتب على مبالغة المعتزلة في نفي القبيح عن الله أن نفوا أن يكون خالقاً لأفعال العباد (9). هذا هو رأي المعتزلة في أفعال الله. المناقشة:   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص302 - 303). (2) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص459). (3) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص460). (4) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص459). (5) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص462). (6) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص462). (7) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص 462 - 463). (8) ((المجموع المحيط)) (ص262). (9) ((المغني في أبواب العدل)) (8/ 3). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 500 عرفنا - فيما سبق - عند عرضنا لرأي المعتزلة في أفعال الله، أنهم يرون أن الله تعالى لا يفعل القبيح، كالظلم؛ بل أفعاله كلها حسنة، وأنه لا يخل بما هو واجب عليه، وأنهم يرتبون على قولهم: إن الله لا يفعل القبيح: القول؛ بأن العبد هو الخالق لأفعاله، لأن منها ما هو الحسن، ومنها القبيح، فلو كان الله خالقها، لكان فاعلاً للقبيح. ونقول: أما قولكم: أن الله لا يفعل القبيح، بل أفعاله كلها حسنة، فهذا نوافقكم عليه. يقول ابن القيم: " ... وخلقه وفعله وقضاؤه وقدره وخير كله، ولهذا نزه سبحانه نفسه عن الظلم الذي حقيقته وضع الشيء في غير موضعه ... فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها؛ وذلك خير كله، والشر: وضع الشيء في غير محله، فإذا وضع في محله لم يكن شراً، فعلم أن الشر ليس إليه، وأسماؤه الحسنى تشهد بذلك، فإن منها: القدوس ... والقدوس: هو المنزه عن كل شر ونقص وعيب، كما قاله أهل التفسير ... وهو قول أهل اللغة ... " (1).ومما يدل على أنه تعالى لا يفعل القبيح أنه نزه نفسه عن الظلم. قال تعالى: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا [طه: 112]. والظلم هنا: أن يحمل عليه من سيئات غيره، والهضم: أن ينقص من حسناته. وقال تعالى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ [ق: 29]. ففي هذه الآية نفي الظلم عن نفسه؛ مما يدل على أنه لا يفعل القبيح، بل أفعاله كلها حسنة (2). اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ .... [الرعد: 16]. وقال تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96]. وسيأتي الكلام على هذه المسألة - إن شاء الله - عند الكلام على رأي المعتزلة في أفعال العباد، ومناقشتهم. وأما قولكم: وأنه تعالى لا يخل بما واجب عليه، فنقول: ما مقصودكم بهذا الواجب على الله؟ هل هو إيجاب من العباد على الله؟ أم إيجاب من الله على نفسه؟؛ إن كان الأول: فهذا لا نوافقكم عليه، لأن العباد لا يوجبون على الله شيئاً؛ إذ أنه يلزم أن يكون هناك موجباً فوق الله أوجب عليه شيئاً، ولا موجب عليه سبحانه وتعالى (3). وأيضاً: فإنه يلزم من القول بأن العباد يوجبون على الله يلزم منه أن لا يكون سبحانه وتعالى فاعلاً مختاراً، وهو باطل بالأدلة الدالة على أن له تعالى التصرف المطلق فيما شاء من عباده. المختار بقدرته ومشيئته في أفعاله الحميدة، فثبوت حمده دليل على أنه مختار في أفعاله سبحانه وتعالى وأيضاً فإنه ثبوت ربوبيته تعالى يقتضي فعله بمشيئته واختياره ... وأيضاً: فإن ثبوت ملكه: دليل على أنه فاعل مختار؛ إذ أن حصول ملك لمن لا اختيار له ولا فعل له ولا مشيئة غير معقول. وأيضاً: فإنه كونه تعالى مستعاناً: دليل على اختياره، لأن الاستعانة بمن لا اختيار له محال (4)، وعلى ذلك: فالله سبحانه وتعالى فاعل مختار، وإذا كان كذلك بطل قولكم: إن العباد يوجبون عليه تعالى. وإن كان مقصودكم بالوجوب أنه واجب عليه بحكم ما أوجبه على نفسه، فهذا نوافقكم فيه، لكن لا يلزم منه أن لا يكون تعالى مختاراً لما ذكرناه آنفاً من اللوازم الباطلة، ولأن من أوجب على نفسه شيئاً يعتبر متفضلاً بما أوجب، والمتفضل مختار بما تفضل به. يقول ابن القيم - رحمه الله -: "فعليك بالفرقان في هذا الموضع الذي افترقت فيه الفرق، والناس فيه ثلاث فرق: فرقة رأت أن العبد أقل وأعجز من أن يوجب على ربه حقاً، فقالت: لا يجب على الله شيء البتة، وأنكرت وجوب ما أوجبه الله على نفسه. وفرقة رأت: أنه سبحانه أوجب على نفسه أموراً لعبده، فظنت أن العبد أوجبها عليه بأعماله .. والفرقة الثالثة: أهل الهدى والصواب: قالت: لا يستوجب العبد على الله بسعيه نجاة ولا فلاحاً، ولا يدخل أحداً عمله الجنة أبداً .. والله تعالى بفضله وكرمه أكد إحسانه وجوده بأن أوجب لعبده عليه حقاً بمقتضى الوعد، فإن وعد الكريم إيجاب، ولو بعسي ولعل، ولهذا قال ابن عباس - رضي الله عنه -: عسى من الله واجب (5) .. المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص 153   (1) ((شفاء العليل)) (ص179). (2) انظر ((مجموع الرسائل والمسائل)) لابن تيمية (5/ 121). (3) انظر ((التبصير في الدين)) (ص79)، و ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (ص409 - 410). (4) ((مدارج السالكين)) (1/ 66)، بتصرف. (5) ((مدارج السالكين)) (2/ 338، 339). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 المبحث الثاني: بم يدرك حسن الأفعال وقبحها والثواب عليها والعقاب عند المعتزلة؟ رأي المعتزلة في إدراك حسن الأفعال والثواب عليها، وقبحها والعقاب عليها، هل هو ثابت بالعقل أم بالشرع؟.إن الحسن والقبيح قد يعني بهما كون الشيء ملائماً للطبع أو منافراً له، وبهذا التفسير لا نزاع في كونهما عقليين. وقد يراد بهما كون الشيء صفة كمال أو صفة نقص، كقولنا: العلم حسن، والجهل قبيح، ولا نزاع – أيضاً – في كونهما عقليين (1).إذا ما هو محل النزاع؟ يجيبنا على ذلك الرازي، فيقول: "وإنما النزاع في كون الفعل متعلق الذم عاجلاً وعقابه آجلاً، وفي كون الفعل متعلق المدح عاجلاً، والثواب آجلاً، هل يثبت بالشرع أو بالعقل؟ ... " (2).إن ظاهر قول المعتزلة في هذا هو أن العقل هو الحاكم بالحسن والقبح، والفعل حسن أو قبيح في نفسه؛ إما لذاته كما يقوله البغداديون، أو لصفة حقيقية توجب ذلك، كما يقوه بعضهم أو لوجوه واعتبارات هو عليها، كما يقوله القاضي ومعظم البصريين ... فالمعتزلة قد نسبوا إلى العقل الحكم والكشف (3) ... فالعقل يعلم العلم الكامل بحسن الفعل وقبحه؛ ومن ثم يحكم عليه. يقول أبو الهذيل: "يجب على المكلف قبل ورود السمع ... أن يعرف الله تعالى بالدليل من غير خاطر، وإن قصر في المعرفة؛ استوجب العقوبة أبداً، ويعلم أيضاً حسن الحسن وقبح القبيح، فيجب عليه الإقدام على الحسن كالصدق والعدل، والإعراض عن القبيح كالكذب والفجور" (4).ويقول النظام: "إن المكلف – قبل ورود السمع – إذا كان عاقلاً متمكناً من النظر يجب عليه تحصيل معرفة الباري تعالى بالنظر والاستدلال" (5).وقال – أيضاً -: "بتحسين العقل وتقبيحه في جميع ما يتصرف فيه من أفعاله ... " (6).ويقول القاضي عبدالجبار: "وكل عاقل يعلم بكمال عقله قبح كثير من الآلام كالظلم الصريح وغيره، وحسن كثير منها كذم المستحق للذم وما يجري مجراه" (7).ويقول الغزالي: "ذهب المعتزلة إلى أن الأفعال تنقسم إلى حسنة وقبيحة، فمنها ما يدرك بضرورة العقل، كحسن إنقاذ الغرقى والهلكى وشكر المنعم، ومعرفة حسن الصدق وقبح الكفران ... ومنها ما يدرك بنظر العقل كحسن الصدق الذي فيه ضرر وقبح الكذب الذي فيه نفع، ومنها ما يدرك بالسمع كحسن الصلاة وسائر العبادات، وزعموا أنها متميزة بصفة ذاتها عن غيرها بما فيها من اللطف المانع من الفحشاء الداعي إلى الطاعة، لكن العقل لا يستقل بدركه ... " (8). من هذه الأقوال؛ يظهر أن الأفعال عند المعتزلة قد ثبت قبحها والعقاب عليها عقلاً، كما ثبت حسنها والثواب عليها عقلاً ما عدا العبادات. هذا هو موجز رأي المعتزلة في هذه المسألة. ثانياً: المناقشة: عرفنا – آنفاً – أن المعتزلة ترى أن قبح الأشياء وحسنها والعقاب عليها والثواب ثابت عقلاً، فهم يرون أن هناك تلازم بين إدراك قبحها، وبين العقاب عليها ... ويقال لهم: إنه لا تلازم بين هذين الأمرين، فالأفعال في نفسها حسنة وقبيحة، لكن لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب إلا بالأمر والنهي، وقبل ورود الأمر والنهي لا يكون قبيحاً موجباً للعقاب مع قبحه في نفسه، بل هو في غاية القبح، والله لا يعاقب عليه إلا بعد إرسال الرسل. فمثلاً: الكذب والزنا: كلها قبيحة في ذاتها، لكن العقاب عليها مشروط بالشرع ...   (1) ((المحصول)) للرازي (1/ 159)، وانظر ((المستصفى)) للغزالي (1/ 56). (2) ((المحصول)) للرازي (1/ 160). (3) نظرية ((التكليف: آراء القاضي عبدالجبار الكلامية)) (ص437)، (ص438). (4) ((الملل والنحل)) (1/ 55). (5) ((الملل والنحل)) (1/ 60). (6) ((الملل والنحل)) (1/ 60). (7) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص484). (8) ((المستصفى)) للغزالي (1/ 56). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 وقد دل القرآن على أنه لا تلازم بين الأمرين، وأنه تعالى لا يعاقب إلا بإرسال الرسل، وأن الفعل نفسه حسن وقبيح ... قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15]. ففي هذه الآية إشارة إلى أن العذاب لا يكون إلا بعد بعثة الرسل؛ وذلك دليل على أن العقاب لا يثبت إلا بالشرع. وقال تعالى: ... كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ [الملك: 8 - 9]. ففي هذه الآية كسابقتها دليل على أن العقاب لا يثبت إلا بالشرع؛ بدليل أن الخزنة لم يسألوهم عن مخالفتهم للعقل، بل للنذر؛ وبذلك دخلوا النار؛ وهذا مما يبطل قول المعتزلة أن العقاب على القبائح ثابت بالعقل قبل ورود الشرع. ومن الآيات الدالة على الأمرين قوله تعالى: ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام: 131]. وعلى أحد القولين في معنى الآية، وهو أن يكون المعنى لم يهلكهم بظلمهم قبل إرسال الرسل تكون الآية دالة على الأمرين: أن أفعالهم وشركهم ظلم وقبيح قبل البعثة، وأنه لا يعاقبهم عليه إلا بعد إرسال الرسل. وهذه الآية في دلالتها على الأمرين نظير قوله تعالى: وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص: 47]. فهذه الآية تدل على أن ما قدمت أيديهم سبب لنزول المصيبة بهم. ولولا قبحه لم يكن سبباً، لكن امتنع إصابة المصيبة لانتقاء شرطها؛ وهو عدم مجيء الرسول إليهم، فمنذ جاء الرسول انعقد السبب ووجد الشرط فأصابهم سيئات ما عملوا، وعوقبوا بالأول والآخر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 ومن الآيات الدالة على أن الفعل في نفسه حسن وقبيح، قوله تعالى: وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 28] إلى قوله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 31 - 33]. فقد أخبر سبحانه وتعالى أن فعلهم فاحشة قبل نهيهم عنه، وأمر باجتنابه بأخذ الزينة، والفاحشة هنا: طوافهم بالبيت عراة، ثم قال تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء ... الآية الأعراف: 28. أي: لا يأمر بما هو فاحش في العقول والفطر. ولو كان إنما علم كونه فاحشة بالنهي، وأنه لا معنى لكونه فاحشة إلا لتعلق النهي به لصار معنى الكلام: إن الله لا يأمر بما ينهى عنه، وهذا لا يتكلم به آحاد الناس فضلاً عن الله سبحانه وتعالى؛ ثم أي فائدة في قوله "إن الله لا يأمر بما ينهي عنه"؟ فإنه ليس لمعنى كونه "فاحشة" عندهم إلا أنه منهي عنه، لا أن العقول تستفحشه. ثم قال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ... الآية [الأعراف: 32]. فقد دلت الآية على أنه طيب قبل التحريم، وأن وصف الطيب فيه مانع من تحريمه مناف للحكمة. ثم قال سبحانه وتعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ... [الأعراف:33]. ولو كان كونها فواحش، إنما هو لتعلق التحريم بها وليست فواحش قبل ذلك، لكان حاصل الكلام قل إنما حرم ربي ما حرم وذلك تحريم الإثم والبغي فكون ذلك فاحشة وإثماً وبغياً بمنزلة كون الشرك شركاً، فهو شرك في نفسه قبل النهي وبعده، فمن قال: إن الفاحشة والقبائح والآثام إما صارت كذلك بعد النهي فهو بمنزلة من يقول: الشرك إنما صار شركاً بعد النهي، وليس شركاً قبل ذلك، ومعلوم أن هذا مكابرة صريحة للعقل والفطرة. فالظلم ظلم في نفسه قبل النهي وبعده، والقبيح قبيح في نفسه قبل النهي وبعده، والفاحشة كذلك، وكذلك الشرك، لا أن هذه الحقائق صارت بالشرع كذلك، فعلى هذا: فالأشياء قبيحة في ذاتها وازدادت قبحاً عن العقل بنهي الرب عنها. كما أن العدل والصدق: حسن في نفسه وازداد حسناً إلى حسنه بأمر الرب به ثنائه على فاعله، وإخباره بمحبته ومحبة فاعله (1). وبهذا يظهر بطلان قول المعتزلة: إن الأفعال، إنما يدرك حسنها والثواب عليها، وقبحها والعقاب عليها بالعقل. المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص 163   (1) ((مدارج السالكين)) (1/ 231 - 235)، بتصرف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 المبحث الثالث: رأي المعتزلة في أفعال العباد رأي المعتزلة في أفعال العباد المباشرة (1): ليتضح رأي المعتزلة في أفعال العباد المباشرة؛ لابد من سياق شيء من أقوالهم التي قالوها بهذا الصدد، والتي تؤكد صحة ما ننسبه إليهم، فنقول بالله التوفيق. يقول القاضي عبدالجبار – وهو يتكلم عن خلق الأفعال -: " .... والغرض به الكلام في أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم، وأنهم المحدثون لها" (2).ويقول في موضع آخر: "اتفق كل أهل العدل على أن أفعال العباد من تصرفهم وقيامهم وقعودهم حادثة من جهتهم، وأن الله عز وجل أقدرهم على ذلك، ولا فاعل لها، ولا محدث سواهم، وأن من قال أن الله سبحانه خالقها ومحدثها، فقد عظم خطؤه، وأحالوا حدوث فعل من فاعلين" (3). من هذين النصين، يظهر ما يلي: أولاً: اتفاق أهل العدل على أن الله غير خالق لأفعال العباد، ما عدا ضرار بن عمرو، وحفص الفرد، فقد وافق أهل السنة والجماعة على أن أفعال العباد مخلوقة فيهم لله تعالى. يقول ابن حزم: "وذهب أهل السنة كلهم ... إلى أن جميع أفعال العباد مخلوقة خلقها الله عز وجل في الفاعلين لها، ووافقهم على هذا موافقة صحيحة من المعتزلة ضرار بن عمرو، وحفص الفرد ... " (4).ثانياً: اتفاق أهل العدل أيضاً على أن العباد خالقون أفعالهم، وأن الله أقدرهم على ذلك. وشذ عن هذا الإجماع ضرار بن عمرو، وحفص الفرد كما ذكرنا آنفاً أنهما يوافقان أهل السنة على أنها مخلوقة لله، كما شذ أيضاً معمر والجاحظ، فقد قالا: إن أفعال العباد من فعل الطبيعة، أي: اضطرارية؛ كفعل النار للإحراق، والثلج للتبريد، وهي إنما نسبت إلى فاعليها مجازاً لظهورها منهم، وأن العباد ليس لهم إلا الإرادة (5).إذا كان المعتزلة ينكرون أن يكون الله تعالى خالق أفعال العباد، فهل ينكرون علمه الأزلي بها؟ يقول الخياط: "إن المعتزلة لم ينكروا العلم الأزلي، فالله تعالى عندهم لم يزل عالماً بكل ما يكون من أفعال خلقه، لا تخفى عليه خافية، ولم يزل عالماً من يؤمن ومن يكفر أو يعصي" (6). كذلك لم تنكر المعتزلة أن القدرة التي يعمل بها الإنسان من الله. يقول القاضي: " ... وأن الله – عز وجل – أقدرهم على ذلك ... " (7).ويقول واصل بن عطاء: " .... العبد فاعل للخير والشر ... والرب تعالى أقدره على ذلك كله ... " (8). وإذاً فأفعال العباد المباشرة باتفاق أهل العدل مخلوقة للعباد بقدرة من الله، ما عدا ضرار بن عمرو وحفص الفرد، فقد وافقا أهل السنة في أنها من فعل الله، وكذلك معمر والجاحظ اللذين قالا: إنها من فعل الطبيعة. والآن وبعد أن عرفنا رأي المعتزلة في أفعال العباد المباشرة، لنعرف ما تمسكوا به من شبهات. الفرع الثاني: شبهات المعتزلة النقلية والعقلية التي يتمسكون بها في قولهم: إن أفعال العباد المباشرة مخلوقة لهم، ومناقشتها: لقد تمسك المعتزلة في قولهم: إن العباد يخلقون أفعالهم بشبهات نقلية وعقلية، منها ما يلي:- أولاً: الشبهات النقلية: الشبهة الأولى: يقول القاضي عبدالجبار: "ومما يستدل به من جهة السمع، قوله تعالى: مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ... الآية [الملك: 3].   (1) ((المقالات)) (2/ 84، 85). (2) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص323). (3) ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (8/ 3). (4) ((الفصل)) لابن حزم (3/ 41). (5) ((الفصل)) لابن حزم (3/ 41)، و ((المجموع المحيط)) (ص380). (6) ((الانتصار)) للخياط (ص118). (7) ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (8/ 3). (8) ((الملل والنحل) (1/ 51). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 وجه الاستدلال: إن الله نفى التفاوت عن خلقه. فلا يخلو: إما أن يكون المراد بالتفاوت من جهة الخلقة أو من جهة الحكمة، ولا يجوز أن يكون المراد به التفاوت من جهة الخلقة؛ لأن في خلقه المخلوقات من التفاوت ما لا يخفى، فليس إلا أن المراد به التفاوت من جهة الحكمة على ما قلناه، وإذا ثبت هذا لم يصح في أفعال العباد أن تكون من جهة الله تعالى لاشتمالها على التفاوت وغيره" (1). مناقشة الشبهة: يقال لهم: إن استدلالكم بالآية ناتج عن سوء فهم؛ وذلك لأن المقصود بالتفاوت في الآية التفاوت في الخلقة. يقول القرطبي – عند تفسير هذه الآية -: والمراد "بخلق الرحمن": السماوات، خاصة، أي: ما ترى في خلق السماوات من عيب، وأصله من الفوت، وهو أن يفوت شيء شيئاً فيقع الخلل لقلة استوائها يدل عليه قول ابن عباس "من تفرق" (2).ويقول ابن جزي: "قوله من "تفاوت" أي: من قلة تناسب وخروج عن الإتقان، والمعنى أن خلق السماوات في غاية الإتقان، وتخصيص الآية بخلق السماوات لورودها بعد قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا .... الآية [الملك: 3] " (3). وإذا ثبت أن المقصود بالتفاوت في الآية، التفاوت من جهة الخلقة؛ بطل قولكم "ولا يجوز أن يكون المراد به التفاوت من جهة الخلقة". وعليه فيبطل استدلالكم بالآية. وأيضاً: فإن أول الآية حجة عليكم، وهو قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ... [الملك: 2]، وبين الموت والحياة تفاوت؛ وهو خالق الجميع، لا خالق لذلك غيره؛ فكذلك كفر الكافرين، وإيمان المؤمنين، وإن كان بينهما تفاوت في الحكم، فليس بينهما تفاوت في الإيجاد والاختراع، وإحكام الخلق، فصح أن الآية حجة عليهم لا لهم" (4). وبهذا يظهر بطلان استدلال المعتزلة بهذه الآية. والله أعلم. الشبهة الثانية: قال تعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ... الآية [النمل: 88]. وجه الاستدلال بالآية: يقول القاضي عبدالجبار – بعد أن أورد هذه الآية للاستدلال على أن العباد يخلقون افعالهم: " ... إن الله – سبحانه وتعالى – بين أن أفعاله كلها متقنة، والإتقان يتضمن الإحكام والحسن جميعاً، حتى لو كان محكماً، ولا يكون حسناً لكان لا يوصف بالإتقان، ألا ترى أن أحدنا لو تكلم بكلام فصيح يشتمل على الفحش والخنا، فإنه وإن وصف بالإحكام لا يوصف بالإتقان؛ ثم قال: إذا ثبت هذا ومعلوم أن في أفعال العباد ما يشتمل على التهود والتنصر والتمجس وليس شيئاً من ذلك متقناً؛ فلا يجوز أن يكون الله تعالى خالقاً لها" (5). مناقشة الشبهة: إن هذه الشبهة باطلة، لما يلي: أولاً: أن الإتقان لا يحصل إلا في المركبات، فيمتنع وصف الأعراض بها (6). وإذا لم توصف الأعراض بالإتقان؛ بطل الاستدلال بالآية، لأن الاستدلال بها ينبني على أن الإتقان يكون في الأعراض. ثانياً: يقول ابن حزم: "إن هذه الآية حجة عليهم، لا لهم؛ لأن الله تعالى أخبر أنه بصنعه أتقن كل شيء، وهذا على عمومه وظاهره، فالله تعالى صانع كل شيء، وإتقانه له أن خلقه جوهراً أو عرضاً جاريين على رتبة واحدة أبداً، وهذا عين الإتقان" (7). وبهذا يظهر بطلان الاستدلال بهذه الآية، على أن العباد هم الخالقون لأفعالهم والله أعلم.   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص355). (2) ((تفسير القرطبي)) (18/ 208، 209). (3) ((التسهيل في علوم التنزيل)) (4/ 250). (4) ((الإنصاف)) (ص133). (5) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص358). (6) ((التفسير الكبير)) (24/ 220). (7) ((الفصل)) (3/ 65). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 الشبهة الثالثة: يقول القاضي عبدالجبار: "ومن الأدلة على أن العباد خالقون أفعالهم قوله تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ... الآية [ص: 27]. ثم قال: فقد نفى الله تعالى أن يكون في خلقه باطل، فلولا أن هذه القبائح وغيرها من التصرفات من جهتنا ومتعلقة بنا؛ وإلا كان يجب أن تكون الأباطيل كلها من قبله، فيكون مبطلاً كاذباً – تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً" (1). مناقشة الشبهة: إن معنى الآية أن الله – سبحانه وتعالى – ما خلق السماوات والأرض وما بينهما – عبثاً ولعباً – على ما يتوهمه من زعم أنه لا حشر، ولا نشر، ولا ثواب، ولا عقاب، بل خلقهما بالحق للاعتبار بهما والاستدلال على خالقهما؛ ومن ثم إثابة المتقين الطائعين، ومجازاة المذنبين والكافرين. ولذا قال تعالى – بعدها -: ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: 27] يعني من إنكارهم الثواب والجزاء والعقاب (2) .... وعلى ذلك فقولهم: إن معنى الآية "نفي أن يكون في خلقه باطل غير صحيح"، وإذا كان غير صحيح؛ بطل استدلالهم بالآية. والله أعلم. الشبهة الرابعة: قال تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ... الآية [السجدة: 7]. وجه الاستدلال: يقول القاضي عبدالجبار: "لا تخلو الآية؛ إما أن يكون المراد بها أن جميع ما فعله الله سبحانه وتعالى فهو إحسان أو المراد بها أن جميعه حسن. ولما كان لا يجوز أن يكون المراد بها الإحسان؛ لأن في أفعاله تعالى ما لا يكون إحساناً كالعقاب، فليس إلا أن المراد بها الحسن؛ لأن في أفعاله تعالى ما لا يكون إحساناً كالعقاب، فليس إلا أن المراد بها الحسن على ما نقول. إذا ثبت هذا ومعلوم أن أفعال العباد تشتمل على الحسن والقبيح، فلا يجوز أن تكون مضافة إلى الله تعالى" (3). مناقشة الشبهة: يقال لهم: ليس "أحسن" من معنى "حسن"؛ وإنما معناها أنه يحسن ويعلم كيف يخلق، كما يقال: فلان يحسن الظلم، ويحسن السفه، ويحسن فعل الخير والجميل، أي: يعلم كيف يفعل ذلك (4).يقول ابن الجوزي: "قوله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ... الآية [السجدة: 7]. أي: لم يتعلمه من أحد كما يقال: فلان يحسن كذا، إذا علمه، قاله مقاتل والسدي" (5). وعلى ذلك؛ فقولهم: إن أحسن من معنى حسن باطل؛ وعليه فيبطل استدلالهم بالآية. والله أعلم. ثانياً: الشبهات العقلية: من الشبهات العقلية التي تمسك بها المعتزلة في قولهم: إن العباد يخلقون أفعالهم، ما يلي:   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص362). (2) ((التسهيل)) لابن جزي (3/ 400)، والطبري (2/ 173)، والقرطبي (5/ 191)، و ((التمهيد)) (ص312) بتصرف. (3) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص357). (4) ((التمهيد)) (ص312). (5) ((زاد المسير في علم التفسير)) (6/ 334). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 الشبهة الأولى: قالت المعتزلة: الدليل على أنه لا يجوز أن تكون أفعالنا خلقاً لله تعالى، وأن العباد لا فعل لهم؛ أنه لو كان الخالق لها لم يصح أمره بها ونهيه عن بعضها، وإثابته على الحسن والجميل منها، وذمه وعقابه على القبيح من جملتها (1).يقول القاضي عبدالجبار: "لو كان تعالى هو الخالق لفعلهم؛ لوجب أن لا يستحقوا الذم على قبيحه، والمدح على حسنه؛ لأن استحقاق الذم والمدح على فعل الغير لا يصح" (2).ويقول ثمامة بن الأشرس: "لا تخلو أفعال العباد من ثلاثة أوجه: إما كلها من الله ولا فعل لهم فلم يستحقوا ثواباً ولا عقاباً ولا مدحاً ولا ذماً، أو تكون منهم ومن الله، فيجب المدح والذم لهم جميعاً، أو منهم فقط فكان لهم الثواب والعقاب والمدح والذم" (3).   (1) ((نهاية الإقدام)) (ص83، 84)، و ((التمهيد)) (ص307)، و ((الإنصاف)) (ص155). (2) ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (8/ 193). (3) ((المنية والأمل)) لابن المرتضي (ص35). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 مناقشة الشبهة: أولاً: هذه الشبهة تنبني على أن العباد لا فعل لهم، بمعنى أنهم مجبورون على ما يكون منهم من تصرفات، وهذا باطل لا نقول به. يقول ابن تيمية: أفعال العباد خلقاً لله وكسباً للعباد بمنزلة الأسباب للمسببات، فالعباد لهم قدرة ومشيئة وإرادة، ولكنها تحت قدرة الله ومشيئته. قال تعالى: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 29]. وكذلك نطق القرآن بإثبات الفعل للعباد. قال تعالى: جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الواقعة: 24]. وأمثال هذه الآية كثير مما يدل دلالتها .. إلى أن قال: ولا يلزم قولنا هذا شركاً وإلا فيكون إثبات جميع الأسباب شركاً. وقد قال تعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ... الآية [التوبة: 14] فبين سبحانه وتعالى أنه المعذب، وأن أيدينا أسباباً وآلات ... وفي وصول العذاب إليهم (1) ... كما لا يلزم قولنا هذا أن يكون العبد مجبوراً على أعماله، فإن الجبر الذي أنكره سلف الأمة ... هو أن يكون الفعل صادراً عن الشيء من غير إرادة ولا مشيئة ولا اختيار مثل: هبوب حركة الأشجار ... ولذلك انقسمت الأفعال إلى اختياري واضطراري، واختص المختار منها بإثبات الأمر والنهي ... (2)؛ وعلى هذا فإنه يبطل قولهم: إن العباد لا فعل لهم. وإذا بطل الأصل، بطل الفرع. ثانياً: أنا لا نقول: إن الله تعالى آمر لأحد من خلقه بخلق شيء من الأفعال، ولا ناه له عن ذلك ... لأن الخلق مستحيل من العبد، وإنما نقول: إن الله تعالى إنما أمر باكتساب ما خلقه ونهى عن ذلك (3). وإذا كان الأمر والنهي متوجهاً إلى جهة الاكتساب، فلا منافاة بين الخلق والأمر. ثالثا: أنا لا نقول: إن المدح والثواب ولا الذم والعقاب يحصل بفعل الفاعل منا حتى يوجب ذلك كونه خلقاً له واختراعاً، بل نقول: إن ذلك يحصل بحكم الله تعالى، ويجب ويستحق بحكمه ... ألا ترى بالإجماع منا ومنكم ومن جميع المسلمين، أن الدابة تجب على العاقلة بقتل غيرها خطأ، وإن لم تفعل العاقلة شيئاً يستحق به إيجاب ذلك عليها، وأن ذلك الذي فعلته ليس خلقاً لها، بل هو خلق لغيرها، وهو الله تعالى عند المسلمين، وخلق للقاتل على زعمكم، فصح أن الوجوب حصل بإيجاب الله تعالى وحكمه لا بخلق العاقلة وفعلها، وكذلك جميع الأحكام في الدنيا والآخرة، إنما تجب بإيجاب الله تعالى وإرادته لا بكونها خلقاً للفاعل. ومثل ذلك: الأكل في الصيام إذا كان العبد ناسياً، يعتبر فعلاً للعبد كما هو فعل له عند تعمده، لكن الله تعالى حكم بأن أحدهما مفطر ومبطل للصوم، ويذم ويعاقب عليه، والآخر بالضد من ذلك، وإن كان الجميع فعلا للعبد؛ مما يدل أن ذلك إنما يكون بحكم الله تعالى، لا بكونه خلقاً للفاعل (4).فإذا كان الثواب والعقاب يحصل بحكم الله تعالى، لم يلزم منافاة بين خلق الله تعالى لأفعال العباد وإثابتهم أو عقابهم عليها؛ إضافة إلى هذا: فإن الإثابة والعقاب على الاكتساب لا على الخلق (5). وإذا كان لا منافاة بين خلق الله لأفعال العباد وأمرهم ونهيهم وإثابتهم وعقابهم عليها؛ بطلت هذه الشبهة. والله أعلم. وأما قول ثمامة: إن أفعال العباد لا تخلو من ثلاثة أوجه: إما كلها من الله ولا فعل لهم، ولم يستحقوا ثواباً ولا عقاباً أو منهم فقط كان لهم الثواب والعقاب، أو منهم ومن الله، وجب المدح والذم لهم جميعاً.   (1) ((مجموع الفتاوى)) (8/ 389، 390)، بتصرف. (2) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/ 393، 394)، بتصرف. (3) انظر ((التمهيد)) (ص307). (4) ((الإنصاف)) (ص155)، بتصرف. (5) انظر ((التمهيد)) (ص307). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 فنقول: إن قول ثمامة باطل، وقد بينا بطلان الوجهين الأولين من قوله، وهما قوله: "إما كلها من الله ولم يستحقوا ثواباً ولا عقاباً، أو كلها من الخلق ... ". بينا بطلان هذين الوجهين بقولنا أفعال العباد خلق لله وكسب للعباد. فالوجه المتعلق بالعباد والذي عليه الثواب والعقاب؛ غير الوجه المتعلق بالله، فمن الله خلقها، ويثابون ويعاقبون على كسبها. أما الوجه الثالث من قول ثمامة: وهو قوله: "أو تكون من الخلق ومن الله؛ فحينئذ يستحقون الثواب والعقاب جميعاً". هذا القول أيضاً باطل؛ إذ يستلزم الشركة بين الله وخلقه، ولا يلزمنا؛ بل إن قولكم هذا عائد عليكم لأنكم تقولون: إن العباد يخلقون أفعالهم، وهي بعض الأعراض، وأن الله تعالى يفعل سائر الأعراض، فهذا عين الشرك تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وأما نحن فلا يلزمنا إيجاب الشركة لله تعالى فيما قلنا، لأن الاشتراك لا يجب بين المشتركين إلا باتفاقهما فيما اشتركا فيه. وبرهان ذلك: أن أموالنا ملك لنا وملك لله عز وجل بإجماع منا ومنكم، وليس ذلك بموجب أن نكون شركاءه فيها لاختلاف جهات الملك؛ لأن الله تعالى إنما هو المالك لها لأنها مخلوقة له تعالى ... وهي ملك لنا لأنها كسب لنا، وملزمون بأحكامها، ومثل ذلك أفعالنا، فهي مخلوقة لله وكسب لنا، فلسنا شركاء له .... (1). وبهذا يظهر بطلان الوجه الثالث من قول ثمامة. والله أعلم. الشبهة الثانية: قالت المعتزلة: وجدنا أفعالنا واقعة على حسب قصدنا، فوجب أن تكون خلقاً لنا، وفعلاً لنا؛ قالوا: وبيان ذلك؛ أن الواحد منا إذا أراد أن يقوم قام، وإذا أراد أن يقعد قعد، وإذا أراد أن يتحرك تحرك، وإذا أراد أن يسكن سكن، وغير ذلك. فإذا حصلت أفعاله على حسب قصده ومقتضى إرادته، دل على أن أفعاله خلق له وفعل له (2).يقول القاضي عبدالجبار: " ... طريقة أخرى في أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم، وأنهم المحدثون لها. وتحريرها: هو أن هذه التصرفات يجب وقوعها بحسب قصودنا ودواعينا، ويجب انتفاؤها بحسب كراهتنا وصرفنا، مع سلامة الأحوال؛ إما محققاً أو مقدراً، فلولا أنها محتاجة إلينا ومتعلقة بنا؛ وإلا لما وجب ذلك فيها" (3).ويقول ابن منتويه – وهو يسوق الدلالة على أن الواحد منا فاعل على الحقيقة -: " ... إن العلم بوقوع تصرفنا بحسب دواعينا وقصودنا وغير ذلك من أحوالنا حاصل على وجه لا يمكن دفعه عن النفس، ومعلوم استمرار ذلك ... فكل ما نقض هذه الجملة يجب بطلانه ... " (4). مناقشة هذه الشبهة: إن هذه الشبهة باطلة، وبيان ذلك من وجوه، منها: أولاً: قولكم "إن أفعال العباد تحصل بحسب قصودهم .. " غير صحيح على إطلاقه، فإنا نرى من يريد شيئاً ويقصده، ولا يحصل له ما يريده وما يقصده، فإنه ربما أراد أن ينطق بصواب فيخطئ، وربما أراد أكلا لقوة وصحة، فيضعف ويمرض؛ وربما ابتاع سلعة ليربح فيخسر، وربما أراد القيام فيعرض له ما يمنعه منه إلى غير ذلك، فبطل ما ذكرتموه، وصح أن فعله خلق لغيره يجري على حسب مشيئة الخالق تعالى، وإنما يظهر كسبه لذلك الفعل بعد تقدم المشيئة والخلق من الخالق (5).   (1) ((الفصل)) لابن حزم (7/ 64، 65)، بتصرف. (2) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص336، 337)، و ((الإنصاف)) (ص135). (3) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص336). (4) ((المحيط بالتكليف)) (ص340). (5) ((الإنصاف)) (ص153)، بتصرف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 ثانيا: إن وقوع الكسب من الخلق على حسب القصد منهم، لا يدل على أنه خلق لهم ... ودليل ذلك: أن مشي الفرس مثلاً ... يحصل على قصد الراكب وإرادته من عدو وتقريب ... ووقوف إلى غير ذلك. ولا يقول عاقل: إن الراكب خلق جري الفرس ولا سرعتها ولا غير ذلك من أفعالها، فبطل أن يكون حصول الفعل على قصد الفاعل دليلاً على أنه خلقه. ومثل ذلك السفن يحصل سيرها وتوجهها في السير يميناً وشمالاً على حسب قصد الملاح، ولا يدل ذلك على أن الملاح خلق سير السفن ولا توجهها. فإن كابروا الحقائق وقالوا: نقول: إن ذلك خلقه الملاح والفارس، فقد خرجوا عن الدين وسووا بين الخالق والعباد في أن قدرة كل واحد منهما تتعلق بمقدورات، وهذا كفر صراح. وإن قالوا: حركات السفن تقع على حسب قصد الملاح، وليست بخلق له قلنا: فكذلك أفعال أحدنا قد تقع – ولا نقول: إنها تقع في كل حال – على حسب قصده، ولا يدل ذلك على أن خلقها ... يؤكد ذلك – أيضاً – أن نمو الزرع يحصل على حسب قصد الزارع وقيامه عليه بسقيه، وغير ذلك، ولا يقول أحد أن نمو الزرع خلقه الزارع .. وإن كان حاصلاً على حسب إرادة القائم عليه وقصده؛ وكذلك فيما يحصل من الواحد منا إذا أراد الله تعالى حصوله على حسب قصده لا يدل على أنه هو خلقه، بل الخالق له هو الله تعالى (1). ثالثا: نحن لا نقول: إن العبد مجبور على أفعاله حتى يلزمنا ما ذكرتم بل نقول: إن العبد له قدرة ومشيئة لكنها تحت قدرة الله ومشيئته، كما بيناه عند الرد على الشبهة الأولى. وإذا كان العبد غير مجبور على أفعاله، وأن له قدرة ومشيئة، فإن ما يحصل منه من تصرفات قد تقع على حسب قصده لا يمنع أن تكون بهذه القدرة التي أعطاه الله إياها، والتي لا تخرج عن قدرة الله الشاملة. وعلى ذلك فكون العبد يحصل له بعض التصرفات على حسب قصده لا يدل على أنه هو الخالق لأفعاله، وعليه فتبطل هذه الشبهة. والله أعلم. الشبهة الثالثة: نفي الظلم عن الله تعالى: ترى المعتزلة أن في القول بأن الله تعالى خالق أفعال العباد تجويراً له تعالى من وجوه، منها: أولاً: يقول القاضي عبدالجبار: "وأحد ما يدل على أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقاً لأفعال العباد؛ هو أن في أفعال العباد ما هو ظلم وجور، فلو كان تعالى خالقاً لها؛ لوجب أن يكون ظالماً جائراً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً" (2).ثانيا: يروي شارح الطحاوية أن المعتزلة قالوا: " ... كيف يستقيم الحكم على قولكم بأن الله يعذب المكلفين على ذنوبهم، وهو خلقها فيهم؟ فأين العدل في تعذيبهم على ما هو خالقه فيهم؟! ... " (3). المناقشة: أولاً: الرد على القسم الأول من الشبهة:   (1) ((الإنصاف)) (ص153، 154)، بتصرف. (2) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص345). (3) ((شرح الطحاوية)) (ص497)، وانظر ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (8/ 173 - 193). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 وهو قولهم "إن في أفعال العباد ما هو ظلم وكذب ... فلو كان الله خالقاً لها لنسبت إليه".أ- هذا الإلزام غير صحيح؛ لأن كون الباري تعالى خالقاً لا يوجب أن يتصف بما خلق من ظلم وكذب وطاعة ومعصية؛ لأن هذه الصفات؛ إنما هي لمن قامت به، فالظلم خلق من ظلم وكذب وطاعة ومعصية؛ لأن هذه الصفات؛ إنما هي لمن قامت به، فالظلم مثلاً: صفة للظالم ... ألا ترى أن الأسود صفة لمن قام به السواد، ولا يكون صفة لله تعالى، وإن كان تعالى هو خالق السواد، فكذلك الظلم والكذب والطاعة والمعصية كلها صفات لمن حلت به ولا يوجب ذلك وصف خالقها بها (1) ... ب- هذه الصفات من ظلم وكذب وجور ومعصية وطاعة ... إنما خلقها سبحانه وتعالى لمن حلت فيه، فالظلم خلقه تعالى للظالم به، وخلق الجور للجائر به، وكذلك الكذب والمعصية ... كما أنه خلق الظلمة للمظلم بها، وخلق الضوء للمستضيء به ... فكما أنه تعالى خلق الظلمة لليل، والضياء للنهار ... ولم يوجب ذلك كونه ظلمة ولا ضياء، فكذلك خلق الطاعة للطائع بها، والكذب كذباً للكاذب به، والجور جوراً للجائر به؛ ولم يوجب ذلك كونه جائراً ولا ظالماً ولا كاذباً ... فصح أن خلقه تعالى لهذه الصفات لا يلزم وصفه بها (2).ج- أن الظلم والجور والكذب لا يكون ظلماً ولا جوراً ولا كذباً إلا إذا خالف الأمر ... وهذا كله يصح الوصف به لمن فوقه آمر أمره وناه نهاه وهم الخلق ... وأما الخالق فليس فوقه آمر ولا ناه، فلا يصح وصفه بشيء من هذا (3) ... فإذا كان لا يلزم من كونه تعالى خالقاً للجور والظلم وصفه بشيء منها إضافة إلى أنه لا يصح وصفه بهذه الصفات، لأنها تستلزم أن يكون فوقه تعالى آمر، والله يتنزه عن ذلك. إذا كان الأمر كذلك؛ بطل قولكم "إن في أفعال العباد ما هو ظلم وكذب ... فلو كان الله خالقاً لها لنسبت إليه"، وبذلك يبطل الجزء الأول من الشبهة. والله أعلم. ثانيا: الرد على القسم الثاني من الشبهة: وهو قولهم: كيف يعذب الله المكلفين على ذنوبهم وهو خلقهم فيهم، فأين العدل في تعذيبهم على ما هو خالقه فيهم؟ ... ".   (1) ((الإنصاف)) (ص155)، بتصرف، وانظر ((منهاج السنة)) (1/ 321). (2) ((منهاج السنة)) (1/ 321)، و ((الإنصاف)) (ص156)، بتصرف. (3) ((الإنصاف)) (ص156)، بتصرف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 لقد رد شارح الطحاوية على هذا فقال: "إن ما يبتلى به العبد من الذنوب الوجودية، وإن كانت خلقاً لله تعالى فهي عقوبة له على ذنوب قبلها، فالذنب يكسب الذنب ومن عقاب السيئة السيئة بعدها، فالذنوب كالأمراض التي يورث بعضها بعضاً. بقي أن يقال: فالكلام في الذنب الأول الجالب لما بعده من الذنوب. يقال: هو عقوبة أيضاً على عدم فعل ما خلق له وفطر عليه، فإن الله سبحانه وتعالى خلقه لعبادته وحده لا شريك له، وفطره على محبته وتأليهه والإنابة إليه، كما قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ... الآية [الروم: 30]. فلما لم يفعل ما خلق له وفطر عليه من محبة الله وعبوديته عوقب على ذلك بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي، فإنه صادف قلباً خالياً قابلاً للخير والشر، ولو كان فيه الخير الذي يمنع ضده لم يتمكن منه الشر قال تعالى: ... كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: 24] ... وأما إذا صادف قلباً فارغاً تمكن منه بحسب فراغه فيكون جعله مذنباً مسيئاً في هذا الحال عقوبة له على عدم الإخلاص، وهو محض العدل. فإن قيل: فذلك العدم من خلقه فيه؟ فالجواب: هذا سؤال فاسد. فإن العدم كاسمه لا يفتقر إلى التكوين والإحداث، فعدم الفعل ليس أمراً وجودياً حتى يضاف إلى الفاعل (1) ... وبذلك تبطل هذه الشبهة. والله أعلم. الشبهة الرابعة: تبرير إرسال الرسل: إذا كان الله خالق أفعال العباد، وكان العباد لا فعل لهم فأي فائدة في إرسال الرسل (2)؟! يقول هشام الفوطي: "إذا كان الله لم يزل عالماً بكفر الكافرين، فما معنى إرسال الرسل إليهم؟ وما معنى الاحتجاج عليهم؟ وما معنى تعويضهم لما قد علم أنهم لا يتعرضون له؟ هل يكون حكيماً من دعا من يعلم أنه لا يستوجب له ومن لا يرجو إجابته؟ " (3). مناقشة هذه الشبهة: والجواب على هذه الشبهة من وجوه: الأول: هذه الشبهة تنبني على أن العباد لا فعل لهم بمعنى أنهم مجبورون على ما يكون منهم من تصرفات، وقد سبق بيان ما هو في هذا القول من لبس وإبطاله عند الرد على الشبهة الأولى، فإذا بطل الأصل، بطل الفرع (4).   (1) ((شرح الطحاوية)) (ص497، 498). (2) ((المعتزلة)) (ص96)، وانظر ((الانتصار)) (ص117). (3) ((الانتصار)) (ص117). (4) انظر ((الرد على الشبهة الأولى من الشبه العقلية)) (ص175). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 الثاني: أن في قول هشام ما يشير إلى أن الله غير عالم بمن سيؤمن من عباده قبل إرسال الرسل، وفي هذا إضافة نقص إلى الله تعالى، وأنه سبحانه غير عالم بما سيكون، وإضافة النقص إلى الله عز وجل كفر، فما يؤدي إليه مثله. الثالث: يقول ابن تيمية: القدر يؤمن به ولا يحتج به، فمن لم يؤمن بالقدر ضارع المجوس، حيث أثبت خالقاً مع الله، ومن احتج بالقدر ضارع المشركين. قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل: 35] ... ومن أقر بالأمر والقدر وطعن في عدل الله وحكمته كان شبيهاً بإبليس، فإن الله ذكر عنه أنه طعن في حكمته وعارضه برأيه، وأنه قال: بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 39]. وإذا كان الاحتجاج بالقدر باطلاً، فهذه الشبهة باطلة من باب أولى؛ لأن فيها احتجاج بالقدر على إرسال الرسل (1).رابعاً: معلوم أن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب، لتصدق الرسل فيما أخبرت، وتطاع فيما أمرت. قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ ... الآية [النساء: 64]. والإيمان بالقدر من تمام ذلك؛ إذ هو من جملة ما أمرت به الرسل (2). فمن نفى القدر – على زعم أنه يعارض إرسال الرسل – فقد كذب الرسل في بعض ما أمرت به، ومعلوم أن تكذيب الرسل كفر، فما يؤدي إليه مثله. خامساً: أن الرسل إنما بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، فإن ما أتوا به من أمر لا يعارض القدر، إنما هو تفصيل له كاشف له، وحاكم عليه، فالقدر أصل للأمر ومنفذ له، وشاهد ومصدق له، فلولا القدر؛ لما وجد الأمر ولا تحقق، ولا قام على ساقه، ولولا الأمر، لما تميز القدر ولا تبينت مراتبه وتصاريفه، فالقدر مظهر للأمر، والأمر تفصيل له، والله له الخلق والأمر، أمره تصريف لقدره، وقدره منفذ لأمره، والقدح في القدر إبطال للأمر، وكمال التوحيد إثباته؛ وبذلك يتبين سر إرسال الرسل، وأنه لا يتعارض مع القدر؛ بل كل منهما يصدق الآخر (3). وبذلك تبطل هذه الشبهة. المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص 169   (1) ((مجموع الفتاوى)) (8/ 114)، بتصرف. (2) ((مجموع الفتاوى)) (8/ 106)، بتصرف. (3) ((مجموع الفتاوى)) (8 ص93، 94)، و ((الكواشف الجلية)) (ص523)، بتصرف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 المبحث الرابع: أفعال التولد تعريف المعتزلة لأفعال التولد، وبعض الأمثلة التي توضحها: تعريف أفعال التولد: يقول الإسكافي: "أفعال التولد هي كل فعل يتهيأ وقوعه على الخطأ دون القصد إليه أو الإرادة له، فهو متولد، وكل فعل لا يتهيأ وقوعه إلا بقصد، ويحتاج كل جزء منه إلى تجدد عزم وإرادة له، فهو خارج من حد التولد داخل في حد المباشر" (1). ثانياً: الأمثلة: والأمثلة على ذلك كثيرة، منها: الألم الحادث عند الضرب، والألوان الحادثة عند الضربة، ومثل انحدار الحجر الحادث عن طرحه، والإدراك الحادث عن فتح البصر (2)، وما أشبهها من المسببات غير المقصودة. الفرع الثاني: خلاف المعتزلة في أفعال التولد: لقد اختلف المعتزلة في أفعال التولد على أقوال، أهمها ما يلي: القول الأول: قول من قال: إن المتولدات أفعال لا محدث لها، وممن قال بهذا القول: ثمامة بن الأشرس (3). يقول القاضي عبدالجبار – وهو يتكلم عن الخلاف حول المتولدات -: " ... فأما ثمامة بن الأشرس، فإنه جعل هذه الحوادث ما عدا الإرادة حدثاً لا محدث له" (4). شبهة ثمامة: يروي الشهرستاني رأي ثمامة في الفعل المتولد وشبهته فيقول: " ... وانفرد ثمامة عن أصحابه بمسائل، منها: قوله إن الأفعال المتولدة لا فاعل لها؛ إذ لم يمكنه إضافتها إلى فاعل أسبابها، لأنه يلزم أن يضيف الفعل إلى ميت مثلما إذا فعل السبب ومات ووجد المتولد بعده، ولم يمكنه إضافتها إلى الله تعالى، لأنه يؤدي إلى فعل القبيح وذلك محال، فتحير فيه وقال: المتولدات أفعال لا فاعل لها ... " (5). المناقشة: يقال لثمامة إنك حصرت أفعال التولد بين أن تكون فعلاً لله، أو فعلاً للعباد، أو فعلاً لا فاعل له ثم أبطلت أن تكون فعلاً لله أو فعلاً للعباد، ليثبت لك رأيك الباطل، وهو أنها فعل لا فاعل له، ونقول: إن قولك أفعال التولد فعل لا فاعل له باطل، وذلك أنه يلزم من هذا القول إجازة حدوث كل فعل لا من فاعل، لأنه لا فرق بين بعضها وبين البعض الآخر في الاحتياج إلى محدث وفاعل (6). وإجازة حدوث كل فعل لا من فاعل كفر، لأنه يؤدي إلى إبطال الصانع، وما يؤدي إلى الكفر مثله. يقول الجويني – وهو يرد على أصحاب التولد – "وإذا جاز ثبوت فعل لا فاعل له جاز – أيضاً – المصير إلى أن ما نعلمه من جواهر العالم وأعراضه ليست فعلاً لله، ولكنها واقعة عن سبب مقدور موجب لما عداه، وذلك خروج عن الدين وانسلال عن مذهب المسلمين" (7). وأيضا: فإن قولكم هذا: مناف للعقل الصحيح؛ إذ أنه ليس هناك إلا خالق أو مخلوق أو صفة للخالق، وهذه المتولدات ليست خالقة ولا صفة للخالق، فإذا هي مخلوقة، وإذا كانت كذلك؛ بطل قولكم: إنها فعل لا فاعل له، وإذاً فالقول بأن المتولدات فعل لا فاعل له باطل، فلم يبق إلا أن تكون فعلاً لله أو للعباد، وقد أقررت بأن المتولدات ليست من أفعال العباد، وهو ما نوافقك عليه، وإذا بطل أن تكون المتولدات فعلاً لا فاعل له ولم تكن من أفعال العباد، لم يبق إلا أنها من فعل الله تعالى، وهو القول الحق – إن شاء الله – بل إن في القول بأنها ليست من صنع الله منافاة لصريح القرآن. قال تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ .... [الزمر: 62].   (1) ((المقالات)) (2/ 84، 85). (2) ((المقالات)) (2/ 78، 79). (3) انظر ((فرقة الثمامية)) (ص62) من الرسالة. (4) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص388). (5) ((الملل والنحل)) (1/ 71). (6) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص389)، و ((أصول الدين)) (ص177)، بتصرف. (7) ((الإرشاد)) للجويني (ص232). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 القول الثاني: قول من نسبها إلى طبع الإنسان كالجاحظ أو فعل الله تعالى بإيجاب الخلقة كالنظام ومعمر. يقول القاضي عبدالجبار: "وأما المتولدات ففيها نوع من الاختلاف ... ففي الناس من علقها بالطبع على ما قاله أبو عثمان الجاحظ في أفعال الجوارح والمعروفة، ولم يجعل الواقع عند الاختيار سوى الإرادة دون الحركات وما شاكلها. وفيهم من قال: إن هذه الحوادث التي تحدث في الجمادات، إنها تحصل فيها بطبع المحل، وهو النظام، وإليه ذهب معمر" (1).ويقول النظام: "إن كل ما جاوز حد القدرة، فهو من فعل الله تعالى بإيجاب الخلقة، بمعنى أن الله طبع الحجر إذا دفعته اندفع" (2). المناقشة: ستتضمن المناقشة – إن شاء الله – الرد على الجاحظ، ثم الرد على النظام ومعمر، فنقول وبالله التوفيق. أولاً: الرد على الجاحظ: لقد رد القاضي عبدالجبار على الجاحظ قوله: إن المتولدات تحصل بطبع الإنسان، وإليك بعض ردوده كما يرويها عبدالكريم عثمان ملخصة.1 - إن حال المتولدات لا يختلف عن حال المباشرة، لأن الفعل المتولد يقع عند حصول السبب وزوال الموانع، والفعل المباشر يحصل عند تكامل البواعث إلى الفعل، وإذا ما حصلت سبباً للفعلين، فهي سبب مباشر للفعل المبتدئ، وسبب بالواسطة للفعل المتولد، فأين الفرق بينهما وكلاهما يحصل من الفاعل؟ وكيف يحصل المراد بالطبع والإرادة باختيار الفاعل مع أن الحالة فيهما سواء، فإما أن يعلقا جميعاً بالطبع، أو يضافا إلى الفاعل.، أما أن يجعل أحدهما بالطبع، والآخر باختيار الفاعل فلا (3).2 - إن تعليق الجاحظ للمتولد بالطبع يوجب أن يضاف الفعل إلى المحل الذي حصل له الفعل لا إلينا، فيسمى المحل فاعلاً (4)، ويستحق الذم والمدح، وهذا محال فما يؤدي إليه مثله.3 - إذا كان الإنسان يفعل هذه المتولدات طباعاً عند الإرادة، فما هي الحاجة إلى وجود القدرة؟ إن مثل هذا القول يجوز أن يقع الفعل دون القدرة عليه (5).4 - ما دام الفعل يقع حتماً بطبع الإنسان إذا وجدت الإرادة والدواعي إليه، فإنه يجوز أن يوجد داع وإرادة أخرى معارضة للإرادة الأولى والداعي الأول، فيقع فعل أيضاً، وهكذا يجتمع فعلان متناقضان في وقت واحد، واجتماع المتناقضين مستحيل، فما يؤدي إليه مثله (6). وإذاً فقول الجاحظ: إن الفعل المتولد يقع بطبع الإنسان باطل، وإذا بطل أن تكون الأفعال المتولدة طباعاً؛ فإما أن تكون من الله أو من الإنسان؛ إن كانت من الإنسان، فتكون كالأفعال الاختيارية، ويشملها ما يشمل الأفعال الاختيارية من رد، وقد سبق الرد عليها عند الرد على شبهات المعتزلة في أفعال العباد الاختيارية. وإن كانت من الله فقد سلموا وأذعنوا للحق. والله أعلم. ثانياً: الرد على النظام ومعمر:   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص387). (2) ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (9/ 11). (3) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص388)، وانظر ((نظرية التكليف)) (ص 428). (4) ((نظرية التكليف)) (ص428). (5) ((نظرية التكليف)) (ص428). (6) ((نظرية التكليف)) (ص428). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 ذكرت عند عرضي لرأي النظام ومعمر أنهما يذهبان إلى أن المتولدات من أفعال الله تعالى بإيجاب الخلقة: ونقول: إن هذا الرأي يشتمل على حق وباطل؛ فأما قولهم: إن المتولدات من أفعال الله تعالى، فهو حق. وأما قولهم: بإيجاب الخلقة؛ فإنه باطل، ولذلك خطأهم البغدادي حيث قال: "وزعم النظام منهم أن المتولدات كلها من أفعال الله تعالى بإيجاب الخلقة ... ثم قال: وهذا القائل عندنا مصيب في قوله: إن الله خالق المتولدات ومخطئ في دعواه إيجاب الخلقة على معنى أن الله طبع الحجر على أن لا يقف في الهواء، لأن وقوفه جائز عندنا ... " (1).كذلك رد القاضي على النظام ومن معه، ونختار من ردوده ما يتناسب والجزء المرفوض لدينا من قول النظام، وهو قوله " ... بإيجاب الخلقة". أي: أن الله طبع الحجر طبعا على أن يذهب إذا دفعه دافع، وينزل إذا رماه رام (2). فنقول وبالله التوفيق:1 - يرى القاضي أنه بناء على هذا القول: يلزم العبد أن لا يفعل شيئاً من الأعراض أو الأفعال أصلاً على وجه يتعلق به الاختيار، ويستحق المدح والذم عليه، لأنها كلها تحصل له بطبع المحل أو إيجاب الخلق (3)، وهو باطل فما يؤدي إليه مثله.2 - يرى القاضي أيضاً أن موقف من يقول بالطبع والطبيعة أسوأ من موقف الدهرية، فإن هؤلاء نفوا وجود الصانع، فأمكن لهم أن يعلقوا الفعل بالطبع، أما أولئك المعتزلة فقد أثبتوا الله، فكيف يصح لهم أن ينفوا تعلق الأشياء به (4)؟! 3 - أن قول النظام ومعمر المتولدات تحصل بإيجاب الخلقة يوجب عليهم أن لا تقع الثقة بالنبوات لتجويزهم حصول المعجزات بطبع المحل (5). ومعلوم بطلان هذا، فما يؤدي إليه مثله. وإذاً فقول النظام ومعمر والمتولدات تحصل بطبع المحل باطل، وإذا بطل هذا الجزء، بقي الجزء الأول من قولهم، وهو أن المتولدات من فعل الله، وهو القول بالحق – إن شاء الله – والله أعلم. القول الثالث: وهو قول أكثر المعتزلة: وقد قسموا أفعال التولد إلى قسمين: القسم الأول: ما تولد من غير الحي، كحرق النار، وتبريد الثلج، وقد اختلفوا فيه فقال بعضهم: فعل الله عز وجل، وقال آخرون: فعل الطبيعة، وقال فريق ثالث: أفعال الله لا فاعل لها. القسم الثاني: ما تولد من الإنسان أو الحي: قالوا: هذا من فعل الإنسان، وممن قال بهذا القول بشر بن المعتمر منشئ القول بالتولد (6). المناقشة: ذكرت أن القسم الأول من أفعال التولد وهو ما تولد من غير الحي، ذكرت أنهم اختلفوا فيه، فقال بعضهم: إنه من فعل الله – عز وجل – وهذا القول يوافق القول بحق – إن شاء الله -، وقال البعض الآخر: إنه من فعل الطبيعة، وهؤلاء يتفق قولهم وقول النظام، وقد سبق الرد عليه، وقال الفريق الثالث: إنها أفعال لا فاعل لها، وهذا القول يتفق مع رأي ثمامة، وقد سبق الرد عليه. إذاً لم يبق إلا القسم الثاني: وهو ما تولد من فعل الإنسان أو الحي، قالوا: إنه من فعل الإنسان أو الحي.   (1) ((أصول الدين)) للبغدادي (ص139) ط الأولى إستانبول 1346هـ. (2) انظر ((الملل والنحل)) (1/ 55). (3) ((نظرية التكليف)) (ص429). (4) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص389)، وانظر ((نظرية التكليف)) (ص430). (5) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص389). (6) ((الفصل)) لابن حزم (5/ 59)، و ((أصول الدين)) (ص137)، و ((المقالات)) (2/ 57، 86)، بتصرف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 والرد على هذا القسم كالآتي: أولاً: لقد رد على هذا القول ابن حزم – رحمه الله – فقال: إن كل ما في العالم من جسم أو عرض في جسم أو أثر في جسم، فهو فعل الله – عز وجل – بمعنى أنه خلقه؛ وكل ذلك مضاف بنص القرآن، وبحكم اللغة إلى ما ظهر منه من حي أو جماد. قال تعالى: فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: 5]. فقد نسب الله عز وجل الاهتزاز والإنبات والربو إلى الأرض؛ مع أنه سبحانه وتعالى هو الفاعل لذلك؛ مما يدل على أن النسبة إليها لكونه ظهر منها ... وقال تعالى: وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ... الآية [النساء: 92]. فسمى تعالى المخطئ قائلاً، وأوجب عليه حكماً، وهو لم يقصد قتله، لكنه تولد عن فعله ... إلى أن قال: ولم تختلف أمة، ولا لغة في صحة قول القائل: مات فلان، وسقط الحائط. فقد نسب الله تعالى وجميع خلقه الموت إلى الميت، والسقوط إلى الحائط. لظهور كل ذلك منها. فصح بكل ما ذكرنا أن إضافة كل أثر في العالم إلى الله تعالى، هي غير إضافته إلى ما ظهر منه أو تولد عنه، فلظهوره منه، اتباعاً للقرآن والسنة، وما يفسرهما من اللغة الفصحى، لأنه لا فرق بين ما ظهر من حي مختار أو غير حي مختار في أن كل ذلك ظاهر مما ظهر منه، وأنه مخلوق لله تعالى، إلا أن الله خلق في الحي اختياراً لما ظهر منه، ولم يخلق الاختيار فيما ليس حياً ولا مريداً. فما تولد عن فعل فاعل، فهو فعل الله – عز وجل – بمعنى أنه خلقه، وهو فعل ما ظهر منه بمعنى أنه ظهر منه، قال تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى .... الآية [الأنفال: 17]. وقال تعالى: أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة: 63 - 64]. فقد نسب الله – عز وجل – الرمي إلى نبيه – صلى الله عليه وسلم – ولنفسه؛ مما يدل على أن نسبته للرسول – صلى الله عليه وسلم – لظهوره منه، ونسبته إلى الله لكونه الفاعل (1). كذلك رد البغدادي على أصحاب التولد، فقال: إن أفعال التولد من فعل الله – عز وجل – ولا يصح أن يكون الإنسان فاعلاً في غير محل قدرته؛ لأنه يجوز أن يمد الإنسان وتر قوسه، ويرسل السهم من يده، فلا يخلق الله تعالى في السهم ذهاباً، ويجوز أن يقع السهم على ما أرسله إليه، ولا يؤثر فيه. ولأن الإنسان ليس مكتسباً لهذا الفعل حتى يضاف إليه، وإنما يصح من الإنسان اكتساب فعله من محل قدرته (2) ... وأيضا: فإن قولكم هذا، يؤدي إلى إثبات صانع مع الله، وهو باطل باتفاق منا ومنكم، فما يؤدي إليه مثله. والله أعلم. المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص 184   (1) ((الفصل)) (5 ص59، 60)، بتصرف. (2) ((أصول الدين)) (ص138)، بتصرف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 المبحث الخامس: رأي المعتزلة في اللطف والصلاح والأصلح ومناقشتهم • المطلب الأول: مسالة اللطف . • المطلب الثاني: مسألة الصلاح والأصلح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 المطلب الأول: مسالة اللطف يحسن قبل البدء في الكلام على هذه المسألة أن نعرف ما هي حقيقة اللطف؟ يجيبنا على هذا السؤال: القاضي عبدالجبار فيقول: "اعلم أن اللطف هو كل ما يختار عنده المرء الواجب، ويتجنب القبيح، أو ما يكون عنده أقرب إما إلى اختيار الواجب أو ترك القبيح" (1). شرح التعريف: يرى القاضي أن اللطف هو كل ما يحمل الإنسان إلى اختيار الواجبات، وترك المنهيات، أو يكون بسببه أقرب إلى اختيار المأمورات، أو ترك المنهيات. الفرع الأول: رأي المعتزلة في اللطف: لمعرفة رأي المعتزلة هنا؛ لابد أن نسوق شيئاً من أقوالهم التي قالوها في هذا الصدد. يقول القاضي عبدالجبار: "اعلم أن شيوخنا المتقدمين كانوا يطلقون القول بوجوب الألطاف إطلاقاً، ولا وجه لذلك، بل يجب أن يقسم الكلام فيه ويفصل؛ فنقول: إن اللطف؛ إما أن يكون متقدماً للتكليف، أو مقارناً له، أو متأخراً عنه. فإن كان متقدماً؛ فلا شك في أنه لا يجب؛ لأنه ... لا يجب إلا لتضمنه إزاحة علة المكلف، ولا تكليف هناك حتى يجب هذا اللطف ... ، وأيضاً فإنه ... جرى مجرى التمكين، ومعلوم أن التمكين قبل التكليف لا يجب؛ فكذلك اللطف. وإن كان مقارناً له؛ فلا شبهة أيضاً في أنه لا يجب؛ لأن أصل التكليف إذا كان لا يجب؛ بل القديم تعالى متفضل به مبتدئاً فلأن لا يجب ما هو تابع له أولى ... ثم لا يفترق الحال بين ما إذا كان لطفاً في الواجبات، وبين ما إذا كان لطفاً في النوافل، فإنه تعالى كما كلفنا الواجبات، فقد كلفنا النوافل أيضاً، فكان يجب عليه اللطف، سواء كان لطفاً في فريضة أو في نافلة خلاف الواحد منا ... " (2).ويقول في موضع آخر: " ... وقد بينا أن ما وجد مع التكليف ... لا يكون واجباً .. وإنما يجب ما يتأخر عن حال التكليف من التمكين والألطاف، وما لا يصحان إلا به ... " (3).ويقول في موضع ثالث - وهو يتكلم عن رأي المعتزلة في اللطف -: "ومنهم من يقول: إنه يجب على الله أن يفعل بالمكلف الألطاف، وهو الذي يذهب إليه أهل العدل حتى منعوا أن يكون خلاف هذا قولاً لأحد من مشايخهم. فذكروا أن بشر بن المعتمر رجع إلى هذه المقالة، حكاه عنه أبو الحسين الخياط، وغيره. وقد كان جعفر بن حرب ... يذهب إلى أن المكلف إذا كان ما يفعله من الإيمان مع عدم اللطف ... أعظم ثواباً، فاللطف غير واجب؛ ومتى لم تكن الحال هذه، فاللطف واجب. وقد حكي عنه الرجوع عن هذا المذهب" (4). من كلام القاضي: يظهر لنا أن شيوخه المتقدمين كانوا يطلقون القول بوجوب الألطاف، وأنه يرى أنه لا وجه لذلك؛ بل لابد من تقسيم اللطف إلى ثلاثة أقسام:- الأول: أن يكون اللطف متقدماً على التكليف، وهذا القسم لا يجب، ويعلل ذلك؛ بأن اللطف يتضمن إزاحة علة المكلف، ولا تكليف هناك، ولأن اللطف يجري مجرى التمكين، والتمكين قبل التكليف لا يجب، فكذلك اللطف.   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص519). (2) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص520، 521). (3) ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (14/ 53). (4) ((المغني في أبواب العدل)) (3/ 4، 5). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 الثاني: أن يكون اللطف مقارناً للتكليف؛ وهذا القسم أيضاً لا يجب، لأن أصل التكليف إذا كان لا يجب والله متفضل به ابتداء، فما هو تابع له أولى. الثالث: أن يكون اللطف متأخراً عن التكليف، وهذا القسم واجب، سواء كان لطفاً في فريضة أو نافلة خلاف الواحد منا؛ وعلى ذلك فالذي يجب من أقسام اللطف القسم الثالث؛ وهو ما إذا كان اللطف متأخراً عن التكليف؛ سواء كان لطفاً في فريضة أو نافلة، أما إذا كان سابقاً للتكليف أو مقارناً له، فلا يجب. كما نستنتج أن هذا الرأي لم يختلف فيه المعتزلة؛ إذ أن من كان من مشايخهم له رأي خاص كبشر بن المعتمر الذي يرى: عدم وجوب اللطف (1)، وجعفر بن حرب الذي يرى: وجوبه في حالة، وعدم وجوبه في أخرى. قد رجعوا عن أقوالهم إلى قول عامة المعتزلة. وإذاً فالقول بوجوب اللطف قد اتفقت عليه المعتزلة، وقيده القاضي باللطف المتأخر عن التكليف (2). الفرع الثاني: شبهة المعتزلة التي يتمسكون بها في قولهم بوجوب اللطف على الله، ومناقشتها: عرفنا آنفاً أن المعتزلة ترى وجوب اللطف على الله، والآن لنعرف ما هي شبهتهم التي يتمسكون بها مع المناقشة. الشبهة: يقول القاضي: "والدليل على صحة ما اخترناه من المذهب هو أنه تعالى إذا كلف المكلف وكان غرضه بذلك تعريضه إلى درجة الثواب، وعلم أن في مقدوره ما لو فعله به لاختار عنده الواجب واجتنب القبيح، فلابد من أن يفعل به ذلك الفعل، وإلا عاد بالنقض، وصار الحال فيه كالحال في أحدنا إذا أراد من بعض أصدقائه أن يجيبه إلى طعام قد اتخذه وعلم من حاله أنه لا يجيبه إلا إذا بعث إليه بعض أعزته من ولد أو غيره، فإنه يجب عليه أن يبعث إليه، حتى إذا لم يفعل عاد بالنقض على غرضه، كذا هنا" (3). المناقشة: يقال لهم: ما مرادكم بهذا اللطف الذي إذا فعله الله بالعبد اختار عنده الإيمان على الكفر؟ "إن كنتم تريدون به البيان العام والهدى العام والتمكين من الطاعة وتهيئة أسبابها، فهذا حاصل لكل كافر بلغته الحجة، وتمكن من الإيمان (4)؛ لكنه لم يلزم منه إيمانهم؛ بل وجدناهم قد بلغتهم الحجة، ومع ذلك لم يؤمنوا. فعلى هذا: تفسيركم اللطف بهذا المعنى لا يلزم منه الإيمان حتى يقال بوجوبه أو عدم وجوبه. وإن كنتم تريدون باللطف الذي إذا فعله سبحانه وتعالى بعبده أصبح مؤمناً، وإذا لم يفعله لم يكن مؤمناً؛ وهو التوفيق إلى فعل ما يرضيه؛ وذلك بأن يجعله مريداً له محباً له مؤثراً له على غيره، ويجعله مبغضاً كل ما يسخطه وكاره له (5)، كما قال تعالى: ... وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات: 7]. فهذا اللطف قد فعله الله بمن شاء من عباده تفضلاً لا واجباً، بدليل قوله تعالى: وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء: 83]. وبدليل قوله تعالى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا .... [النور: 21]. ولأنه لو كان واجباً لاستلزم أن يكون الناس كلهم مؤمنين فلما لم يكن ذلك دل على أنه ليس بواجب. ولأن الواجب على الله محال؛ لاستحالة موجب فوقه يوجب عليه شيئاً (6)، ثم إن قياسكم الغائب على الشاهد مع الفارق، لأن المخلوق يجوز في حقه الوجوب بعكس الخالق؛ فلا. وإذا فالقياس باطل؛ وبذلك يبطل قولكم أنه يجب على الله أن يفعل بعبده اللطف الذي يختار عنده الإيمان على الكفر؛ وعليه فتبطل شبهتكم من أساسها. والله أعلم. المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص 193   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص520). (2) ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (14/ 53). (3) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص521). (4) ((مدارج السالكين)) (1/ 415، 416). (5) ((مدارج السالكين)) (1/ 414) (6) ((التبصير في الدين)) (ص79). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 المطلب الثاني: مسألة الصلاح والأصلح يحسن قبل البدء في الكلام عن الصلاح والأصلح أن نعرفهما: الصلاح: ضد الفساد، وكل ما عرى من الفساد؛ فهو صلاح؛ وهو الفعل المتوجه إلى الخير من قوام العالم وبقاء النوع في العاجلة، والمؤدي إلى السعادة السرمدية في الآخرة. أما الأصلح: فهو ما إذا كان هناك صلاحان وخيران، وكان أحدهما أقرب إلى الخير المطلق، فإنه يكون الأصلح (1). الفرع الأول: رأي المعتزلة في الصلاح والأصلح: لمعرفة رأي المعتزلة في الصلاح والأصلح؛ لابد أن نسوق شيئاً من أقوالهم أو أقوال من نقل عنهم، فنقول وبالله التوفيق. يقول النظام: "إن الله لا يقدر على أن يفعل بعباده خلاف ما فيه صلاحهم، ولا يقدر أن ينقص من نعيم أهل الجنة ذرة، لأن نعيمهم صلاح لهم، ونقصان ما فيه صلاحهم ظلم" (2).ويقول الشهرستاني – وهو يبين رأي المعتزلة في الصلاح والأصلح-: "واتفقوا على أن الله تعالى لا يفعل إلا الصلاح والخير، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد، وأما الأصلح ... ففي وجوبه خلاف عندهم" (3).ويقول في موضع آخر: "وقالت المعتزلة: الحكيم لا يفعل فعلاً إلا لحكمة وغرض، والفعل من غير غرض سفه وعبث، والحكيم من يفعل لأحد أمرين؛ إما أن ينتفع أو ينتفع غيره، ولما تقدس الرب تعالى عن الانتفاع تعين أنه إنما يفعل لينفع غيره، فلا يخلو فعل من أفعاله من صلاح، ثم الأصلح هل تجب رعايته، قال بعضهم: تجب كرعاية الصلاح، وقال بعضهم: لا تجب؛ إذا الأصلح لا نهاية له، فلا أصلح إلا وقوفه ما هو أصلح منه ... " (4).ويقول في موضع ثالث – وهو يحكي رأي جمهور المعتزلة في الأصلح -: "وقال جمهور المعتزلة ... إن الله لا يفعل بالعباد كلهم إلا ما هو أصلح لهم في دينهم وأدعى لهم إلى العمل بما أمرهم به، وأنه لا يدخر عنهم شيئاً يعلم أنهم يحتاجون إليه في أداء ما كلفهم به ... ثم يقول: وقالوا في الجواب عن مسألة من سألهم "هل يقدر الله تعالى أن يفعل بعباده أصلح مما فعله بهم؟ ". قالوا: إن أردت أنه يقدر على أمثال الذي هو أصلح، فالله يقدر على أمثاله إلى ما لا غاية له ولا نهاية، وإن أردت يقدر على شيء أصلح من هذا، أي: يفوقه في الصلاح قد ادخره عن عباده، فلم يفعله بهم؛ مع علمه بحاجتهم إليه في أداء ما كلفهم به، فإن أصلح الأشياء هو الغاية، ولا شيء يتوهم وراء الغاية فيقدر عليه أو يعجز عنه" (5). من هذه النصوص؛ يظهر لنا أن المعتزلة قد اتفقوا على أن الله تعالى لا يفعل إلا الصلاح والخير؛ بل ويجب عليه ذلك. وأما الأصلح: فقد اختلفوا فيه. فجمهورهم: يرون وجوبه على الله لأن أصلح الأشياء – عندهم – هو الغاية، وقد فعله الله بعباده، ولا شيء يتوهم وراء الغاية، فيجب أو لا يجب. وبعضهم: ذهب إلى أنه لا يجب على الله رعاية الأصلح لعباده، كبشر ابن المعتمر (6)، لأن الأصلح لا غاية ولا نهاية له (7). والخلاصة: أن المعتزلة يقولون بوجوب الصلاح والأصلح؛ ما عدا بشر بن المعتمر ومن تابعه، فإنهم خالفوا في وجوب الأصلح فقط. الفرع الثاني: مناقشة رأي المعتزلة في الصلاح والأصلح:   (1) ((نهاية الإقدام)) (ص406). (2) ((الانتصار)) للخياط (ص21، 22، 25)، والبغدادي (ص115)، و ((الملل)) (1/ 59). (3) ((الملل والنحل)) (1/ 45). (4) ((نهاية الإقدام)) (ص397، 398). (5) ((المقالات)) (1/ 288). (6) ((المقالات)) (1/ 287). (7) ((نهاية الإقدام)) (ص397، 398)، و ((المقالات)) (1/ 287، 288). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 ذكرت عند عرضي لرأي المعتزلة في الصلاح والأصلح؛ أن المعتزلة يرون وجوب الصلاح والأصلح على الله لعباده. ونقول: إن الله تعالى أمر العباد بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم، وأنه تعالى يفعل بالعباد ما فيه (1) صلاحهم؛ لكن لا على سبيل الوجوب، وذلك لأن الوجوب منفي عن الله تعالى؛ إذ المفهوم منه ما ينال تاركه ضرر عاجلاً أو آجلاً أو ما يكون نقيضه محال. وهذا كلها يتنزه الله عنها، فإنه تعالى لا ينتفع بعمل ولا يتضرر بتركه، ولا يلزم من ذلك محال (2). بل إن الواجب على الله محال، لاستحالة موجب فوقه، يوجب عليه شيئاً. يقول ابن تيمية – رحمه الله – في معرض درء على من يقول بالوجوب على الله: "وأما الإيجاب عليه سبحانه وتعالى والتحريم بالقياس على خلقه فهذا قول القدرية، وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول، وصريح المعقول. وأهل السنة متفقون على أنه سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئاً؛ ولهذا كان من قال أهل السنة بالوجوب قال: إنه كتب على نفسه الرحمة وحرم الظلم على نفسه، لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئاً كما يكون للمخلوق على المخلوق. فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير، وهو الخالق لهم، وهو المرسل إليهم الرسل، وهو الميسر لهم بالإيمان والعمل الصالح، ومن توهم من القدرية والمعتزلة، ونحوهم: أنهم يستحقون عليه من جنس ما يستحقه الأجير على المستأجر، فهو جاهل في ذلك. وإذا كان كذلك لم تكن الوسيلة إليه إلا بما من به من فضله وإحسانه، والحق الذي لعباده: هو من فضله وإحسانه ليس من باب المعاوضة، ولا من باب ما أوجبه غيره عليه، فإنه سبحانه يتعالى عن ذلك" (3). من كلام ابن تيمية وما قبله يظهر أنه لا واجب على الله، فكل نعمة من الله على خلقه تعتبر من باب التفضل حتى ما أوجبه سبحانه وتعالى على نفسه من باب التفضل؛ لأنه لم يوجبه أحد عليه. وبذلك يبطل الوجوب على الله؛ وإذا بطل الوجوب عليه سبحانه وتعالى؛ بطل قول المعتزلة بوجوب الصلاح والأصلح على الله لعباده. كذلك رد الغزالي على المعتزلة قولهم: وجوب الصلاح والأصلح على الله، فقال: "ومما يدل على بطلان قول المعتزلة بوجوب الصلاح والأصلح المشاهدة والوجود، ثم قال: فإننا نريهم من أفعال الله تعالى ما يلزمهم الاعتراف بأنه لا صلاح فيها للعبد؛ فإنا نفرض ثلاثة أطفال مات أحدهم وهو مسلم في الصبا، وبلغ الآخر وأسلم ومات مسلماً بالغاً، وبلغ الثالث كافراً ومات على الكفر، فإن العدل عندهم أن يخلد الكافر البالغ في النار، وأن يكون للبالغ المسلم في الجنة رتبة فوق رتبة الصبي المسلم، فإذا قال الصبي: يا رب: لم حططت رتبتي عن رتبته؟ فيقول: لأنه بلغ فأطاعني، وأنت لم تطعني بالعبادات بعد البلوغ، فيقول: يا رب لأنك أمتني قبل البلوغ فكان صلاحي في أن تمدني بالحياة حتى أبلغ فأطيع فأنال رتبته، فلم حرمتني هذه الرتبة أبد الآبدين وكنت قادراً على أن تؤهلني لها؟ فلا يكون له جواباً إلا أن يقول: علمت أنك لو بلغت لعصيت، وما أطعت وتعرضت لعقابي وسخطي، فرأيت هذه الرتبة النازلة أولى بك وأصلح لك من العقوبة، فينادي الكافر البالغ من الهاوية، ويقول: يا رب أو ما علمت أني إذا بلغت كفرت؟ فلو أمتني في الصبا وأنزلتني في تلك المنزلة النازلة لكان أحب إلي من التخليد في النار وأصلح لي، فلم أحييتني؟ ... ثم قال ومعلوم أن هذه الأقسام موجودة وبها يظهر على القطع لأن الأصلح ليس بواجب (4).كذلك رد عليهم الإسفراييني فقال – في جملة رده-: " ... وكل عاقل يعلم أن الكافر لا صلاح له في كفره ولا ما يحل به من تبعات فعله، فعلى هذا يجب أن تكون حجة الله منقطعة حتى لا يكون له على عبيده حجة، ويصور ذلك في ثلاثة ولدوا دفعة واحدة أمات الله أحدهم في حال الطفولة وبلغ الاثنان، أسلم أحدهما، وبقي الآخر كافراً .. " (5). ثم أتى برد الغزالي. وبما ذكرت يتضح بطلان قول المعتزلة يجب على الله أن يفعل بالعباد ما فيه صلاحهم. والله أعلم. المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها- عواد المعتق ص 197   (1) انظر ((منهاج السنة)) (1/ 325). (2) ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص175، 184)، وانظر ((الإحياء)) (1/ 111، 112). (3) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (ص409 - 410). (4) ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص184 - 185). (5) ((التبصير في الدين)) (ص68). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 المبحث السادس: رأي المعتزلة في بعثة الرسل وجه اتصال بعثة الرسل بأصل العدل: يقول القاضي عبد الجبار: "ووجه اتصال بعثة الرسل بباب العدل: هو أن الكلام في أنه تعالى إذا علم أن صلاحنا يتعلق بهذه الشرعيات, فلا بد أن يعرفناها, لكي لا يكون مخلا بما هو واجب عليه, ومن العدل أن لا يخل بما هو واجب عليه" (1) رأي المعتزلة في بعثة الرسل لمعرفة رأي المعتزلة في بعثة الرسل لابد أن نسوق شيئا من أقوالهم أو أقوال من نقل عنهم، فنقول وبالله التوفيق. يقول القاضي عبدالجبار: " ... إن البعثة متى حسنت وجبت على معنى أنها متى لم تجب قبحت لا محالة ... " (2).ويقول في موضع آخر: "اعلم أنه إذا صح أن الذي يبعث له الرسول، تعالى هو ما ذكرناه من تعريف المصالح ... فلا شبهة في أن ذلك واجب كما أنه إذا كلف المكلف فلابد من أنه يجب التمكين وإزاحة العلل ... " (3).ويقول في موضع ثالث: " ... يجب على كل حال بعثة الرسل؛ لأنه لا فرق بين أن يحتاج إليها في الشروط التي لا تتم العبادات إلا بها، أو في نفس العبادات ... " (4).ويقول الغزالي – وهو يحكي رأي المعتزلة في بعثة الرسل-: "وقالت المعتزلة أن بعثة الأنبياء واجبة" (5). من هذه الأقوال: يظهر أن المعتزلة ترى وجوب بعثة الرسل على الله؛ لأنها من مقتضيات عدله؛ إذ أن فيها صلاحنا، وقد علم الله ذلك، فلو لم يبعث رسولاً لأخل بما هو واجب عليه. والله يتنزه عن ذلك. مناقشة رأي المعتزلة في بعثة الرسل عرفنا آنفاً – عند عرض رأي المعتزلة في بعثة الرسل – أن المعتزلة يرون وجوب بعثة الرسل على الله، ولو لم يفعل؛ لأخل بما هو واجب عليه. ويقال لهم: ما مرادكم بالواجب هنا؟ إن كنتم تريدون واجباً على الله أوجبه الغير عليه، فهذا باطل؛ لأنه يستحيل موجب يوجب على الله شيئاً (6)، لمنافاته مشيئة الله واختياره المطلق في مخلوقاته، ولأن في ترك هذا النوع من الواجب: إما حصول مضرة أو فوات منفعة أو لزوم محال. والله تعالى يتنزه عن ذلك كله، فإنه لا ينتفع بإرسال الرسل، ولا يتضرر بترك إرسالهم، ولا يلزم من عدم إرسالهم محال بالنسبة له تعالى (7). وإذاً فالقول بوجوب بعثة الرسل من هذا الوجه باطل. بقي الواجب الذي أوجبه سبحانه وتعالى على نفسه بمقتضى وعده وعدله وحكمته؛ وهو أنه تعالى لا يعذب إلا بعد إرسال الرسل قال تعالى: ... وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15]. وقال تعالى: ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام: 131]. وقال تعالى: رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 165]. وإذا كان مرادكم بوجوب بعثة الرسل من هذا الوجه؛ فنحن نوافقكم عليه. يقول ابن القيم: "إن تعذيب الله لمن يريد تعذيبه، لا يكون إلا بعد إرسال الرسل؛ أما قبل ذلك، فإنه لا يريد هلاكهم؛ لأنهم معذورون بغفلتهم وعدم بلوغ الرسالة إليهم. قال تعالى: ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام: 131] ... " (8). ثم إن هذا الواجب من باب التفضل لأن الله تعالى تفضل به ولم يوجبه أحد عليه، ولا يلزم منه أن الله تعالى لو لم يفعله لأخل بما هو واجب عليه؛ وإلا انتفت مشيئة الله واختياره المطلق. وإذاً فإرسال الرسل منة من الله وفضل، وليس من قبيل الواجب الذي أوجبه الغير عليه بحيث لو لم يفعله لأخل بما هو واجب عليه. المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص 204   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص 563). (2) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص564). (3) ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (15/ 63). (4) ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (15/ 28). (5) ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص195). (6) انظر ((التبصير في الدين)) (ص79). (7) انظر ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص175). (8) ((شفاء العليل)) (ص281). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 الفصل الرابع: الأصل الثالث الوعد والوعيد • المبحث الأول: رأي المعتزلة في الوعد . • المبحث الثاني: رأي المعتزلة في الوعيد. • المبحث الثالث: حقيقة الشفاعة ورأي المعتزلة فيها. • المبحث الرابع: الإحباط والتكفير عند المعتزلة ومناقشتهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 المبحث الأول: رأي المعتزلة في الوعد • المطلب الأول: عرض ما تيسر من شبهات المعتزلة التي يؤيدون بها رأيهم في الوعد مع المناقشة . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 المطلب الأول: عرض ما تيسر من شبهات المعتزلة التي يؤيدون بها رأيهم في الوعد مع المناقشة لقد أيد المعتزلة رأيهم في الوعد بشبهات، منها ما يلي: الشبهة الأولى: قال تعالى: ... وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [النساء: 100]. وجه الدلالة: يقول الزمخشري: ""فقد وقع أجره على الله" فقد وجب ثوابه عليه؛ إذ أن حقيقة الوجوب: هو الوقوع والسقوط. قال تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ... الآية [الحج: 36]. أي: سقطت، ويقال: وجبت الشمس: سقط قرصها .. والمعنى: فقد علم الله كيف يثيبه وذلك واجب عليه" (1). ويقول الرازي: "قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على أن العمل يوجب الثواب على الله؛ لأنه تعالى قال: فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ [النساء:100]. ثم قالوا: وذلك يدل على قولنا من ثلاثة أوجه. الأول: أنه ذكر لفظ الوقوع، وحقيقة الوجوب هي: الوقوع والسقوط. قال تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا .... الآية [الحج: 36] أي: سقطت. الثاني: ذكر لفظ الأجر والأجر: عبارة عن المنفعة المستحقة، فأما الذي لا يكون مستحقاً، فذلك لا يسمى أجراً؛ بل هبة. الثالث: قوله عَلَى اللهِ وكلمة "على" للوجوب. قال تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ... الآية [آل عمران: 97] (2). المناقشة: إنا لا ننازع في دلالة الآية على الوجوب، لكن بحكم الوعد والتفضل والكرم، لا بحكم الاستحقاق (3). وذلك لما يلي: 1 - أن الإنعام يوجب على المنعم عليه الاشتغال بالشكر والخدمة، ونعم الله تعالى على عباده لا تحصى، كما قال تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا ... الآية [إبراهيم: 34]. وإذا كان كذلك؛ فتلك النعم السالفة توجب على العبد الاشتغال بالطاعة والشكر، وأداء الواجب لا يكون سبباً لاستحقاق شيء آخر، فوجب أن لا يكون اشتغال العبد بالطاعة علة لاستحقاق الثواب على الله.2 - لو كان العمل علة لوجوب الثواب لكان إما أن يمتنع من الله تعالى أن لا يثيب، أو يصح. فإن امتنع أن لا يثيب؛ فحينئذ يكون الصانع علة موجبة لذلك الثواب لا فاعلاً مختاراً. وإن صح: فبتقدير أن لا يثيب: إن لم يصر مستحقاً للذم لم يتحقق معنى الوجوب، وإن صار مستحقاً للذم لزم أن يكون ناقصاً لذاته مستكملاً بذلك الفعل الذي يفعله، وذلك محال (4).   (1) ((تفسير الكشاف)) للزمخشري (1/ 558). (2) ((التفسير الكبير)) للرازي (11/ 16). (3) ((تفسير المراغي)) (4/ 135)، و ((فتح القدير)) (1/ 550)، و ((التفسير الكبير)) (11/ 16). (4) ((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (ص388، 389). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 3 - أن العبد لا يدخل الجنة بعمله، وإنما يدخلها بفضل الله ورحمته بسبب عمله. قال تعالى: الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ ... الآية [فاطر: 35].وعن عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( ... سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لا يدخل أحداً الجنة عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا. إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة)) (1).فإذا كان العبد لا يدخله الجنة عمله لم يستحق بعمله على الله شيئاً. ثم إن كون العبد لا يستحق بعمله على الله شيئاً لا يتنافى مع الحق الذي أوجبه الله على نفسه. قال صلى الله عليه وسلم: ((يا معاذ بن جبل: ... هل تدري ما حق الله على العباد؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ... ثم قال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال: الله ورسوله أعلم قال: أن لا يعذبهم)) (2). لأن هذا الحق أوجبه الباري على نفسه ولم يوجبه العبد عليه بعمله. إضافة إلى ما ذكرنا؛ فإن الوجوب على الله بمعنى: أن يوجب أحد عليه شيئاً باطل، وقد سبق أن بينا وجه بطلانه في موضع سابق. وإذاً فإذا كان المراد بالوجوب في الآية بحكم ما أوجبه الغير عليه، فهذا باطل؛ إذ لا سلطان فوق سلطانه تعالى، وإن كان بحكم ما أوجبه على نفسه، فهذا حق وله تعالى أن يوجب على نفسه ما يشاء (3)، وإذا أرادوا هذا الوجه من الوجوب سقط استدلالهم بالآية، والله أعلم. الشبهة الثانية: يقول القاضي عبدالجبار: "اعلم أنه تعالى إذا كلفنا الأفعال الشاقة، فلابد من أن يكون في مقابلها من الثواب ما يقابله؛ بل لا يكفي هذا القدر حتى يبلغ في الكثرة حداً لا يجوز الابتداء بمثله، ولا التفضل به ... وإنما قلنا: إن هذا هكذا؛ لأنه لو لم يكن في مقابلة هذه الأفعال الشاقة ما ذكرناه، كان يكون القديم تعالى ظالماً ... " (4). المناقشة: أولاً: هذه الشبهة تنبني على أن الإنسان إنما يدخل الجنة مستحقاً بعمله، وقد بينا في الرد على الشبهة الأولى بطلان هذا القول؛ وهو أن الإنسان لا يستوجب بعلمه على الله شيئا. وإذا لم يستوجب بعمله على الله شيئاً لم يتصور ظلم من الله لعبده عندما لا يثيبه على عمله؛ لأن الظلم لا يكون إلا في منع واجب مستحق للغير، والله سبحانه وتعالى لا يستحق عبده عليه شيئاً. وكونه سبحانه وتعالى أوجب على نفسه ثواباً لعبده لا يتعارض مع هذا، لأنه لو منع ما أوجب لم يعد ظالماً كما لو أوجب إنسان لإنسان آخر مبلغاً من المال ثم بدا له أن لا يعطيه إياه، لم يعتبر عدم إعطائه إياه ظلماً، فكذلك الأمر بالنسبة لله تعالى. ثانيا: أن التكليف تصرف في عبيده ومماليكه، والمالك إذا لم يعط مملوكه أجراً مقابل خدمته لم يعد ظالماً؛ فكذلك الأمر بالنسبة لله تعالى فإن له المشيئة المطلقة إن شاء أثابهم بمقتضى فضله ورحمته، وإن شاء عاقبهم بمقتضى عدله ولا يمنعه من ذلك مانع، ولا يقدح في إلهيته (5). وبذلك تبطل هذه الشبهة. والله أعلم. المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص 213   (1) رواه البخاري (6467) , ومسلم (2818). (2) رواه البخاري (6267) , ومسلم (30). (3) انظر ((تفسير المراغي)) (4/ 135). (4) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص614، 615). (5) انظر ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص185). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 المبحث الثاني: رأي المعتزلة في الوعيد • المطلب الأول: شبهات المعتزلة التي أيدوا بها رأيهم في الوعيد مع المناقشة: . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 المطلب الأول: شبهات المعتزلة التي أيدوا بها رأيهم في الوعيد مع المناقشة: لقد أيد المعتزلة رأيهم في الوعيد بشبهات نقلية وعقلية، وسنعرض - إن شاء الله - ما تيسر منها، مع المناقشة. الشبهة الأولى: بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 81]. وجه الدلالة: يقول القاضي: "دلت الآية على أن من غلبت كبائره على طاعاته - لأن هذا هو المعقول من الإحاطة في باب الخطايا؛ إذ أن ما سواه من الإحاطة التي تستعمل في الأجسام مستحيل فيها - هو من أهل النار مخلد فيها" (1). المناقشة: يقول ابن كثير: الآية رد على بني إسرائيل الذين زعموا أنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة بأن الأمر ليس كما زعموا؛ بل إن من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته وهو من وافى يوم القيامة وليس له حسنة، بل جميع أعماله سيئات، فهو من أهل النار. قال ابن عباس: بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ... الآية [البقرة: 81] أي: عمل مثل عملكم، وكفر بمثل ما كفرتم به، حتى يحيط به كفره فما له من حسنة" (2).ويقول القرطبي: "السيئة: الشرك. قال ابن جريج قلت لعطاء: وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ... الآية [النمل: 90] ... " (3).ومما يؤيد قول القرطبي: في أن المراد بالسيئة هنا: الشرك قوله تعالى: ... وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ .... الآية [البقرة: 81]، أي: أحاطت بعاملها فلم تدع له منفذاً، وهذا لا يكون إلا في الشرك، فإن من معه من الإيمان شيء لا تحيط به خطيئته (4). وعلى هذا: فلا حجة في الآية على خلود صاحب الكبيرة في النار؛ لأن الإحاطة - كما ذكرنا - إنما تصح في شأن الكافر؛ لأن غيره إن لم يكن له سوى تصديق قلبه وإقرار لسانه، فلم تحط به خطيئته، لكون قلبه ولسانه منزهاً عن الخطيئة. وبهذا يظهر بطلان استدلال المعتزلة بالآية. والله أعلم. الشبهة الثانية: قال تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [الزخرف: 74].   (1) ((متشابه القرآن)) (1/ 97). (2) ((مختصر تفسير ابن كثير)) (1/ 71). (3) ((تفسير القرطبي)) (2/ 12). (4) ((تفسير ابن سعدي)) (1/ 49). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 وجه الاستدلال: يقول القاضي عبدالجبار: "إن المجرم اسم يتناول الكافر والفاسق جميعاً، فيجب أن يكونا مرادين بالآية معنيين بالنار؛ لأنه تعالى لو أراد أحدهما دون الآخر لبينه، فلما لم يبينه دل على أنه أرادهما جميعاً. ثم قال: والكلام في أن اسم المجرم يتناول الكافر والفاسق جميعاً ظاهر في اللغة والشرع جميعاً. أما من جهة اللغة؛ فلأنهم لا يفرقون بين قولهم: مذنب، وبين قولهم مجرم، فكما أن المذنب شامل لهما جميعاً، فكذلك المجرم. وأما من جهة الشرع: فلأن أهل الشرع لا يفرقون بين قولهم مجرم لزناه، وبين قولهم: فاسق لزناه ... " (1).ويقول في موضع آخر - بعد سياق هذه الآية -: "الآية تدل على أن الوعيد بالخلود لأنه لم يخص مجرماً من مجرم، وبين أنهم خالدون في النار، والخلود هو الدوام الذي لا انقطاع له" (2).أولاً: المقصود بالمجرمين هنا: الكافرين: يقول ابن جرير - عند تفسير هذه الآية-: " ... إِنَّ الْمُجْرِمِينَ وهم الذين اجترموا في الدنيا الكفر بالله .. " (3). ويؤيد كونها في الكافر: ما ذكره الرازي في معرض الرد على استدلال المعتزلة بهذه الآية حيث قال: "إن ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على أن المراد بالمجرمين الكافرين. أما ما قبل هذه الآية: فقوله تعالى: يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ [الزخرف: 68 - 69]. فهذا يدل على أن كل من آمن بآيات الله وكانوا مسلمين، فإنهم يدخلون تحت قوله تعالى: يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ [الزخرف: 68]. والفاسق من أهل الصلاة آمن بالله تعالى وبآياته وأسلم، فوجب أن يكون داخلا تحت ذلك الوعد ووجب أن يكون خارجاً عن هذا الوعيد. وأما ما بعد هذه الآية، فقوله تعالى: لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف: 78]. والمراد بالحق ههنا؛ إما الإسلام؛ وإما القرآن، والرجل المسلم لا يكره الإسلام، ولا القرآن ... " (4) فثبت أن ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على أن المراد من المجرمين: الكفار. والكافر ليس محل نزاع في أنه من أهل النار مخلداً فيها؛ وبذلك يبطل استدلالهم بالآية على خلود صاحب الكبيرة في النار. ثانياً: على التسليم بعموم الآية، وأنها ليست خاصة بالكفار، فإنها مخصصة بنصوص العفو والتوبة، والنصوص الدالة على خروج الموحدين من النار، كقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى: 25]. وكقوله تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى: 30].وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يدخل أهل الجنة الجنة .. ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ... الحديث)) (5).   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص660 - 661). (2) ((متشابه القرآن)) (2/ 609). (3) ((تفسير الطبري)) (25/ 98)، وانظر ((زاد المسير)) (7/ 329)، و ((تفسير أبي السعود)) (5/ 49). (4) ((التفسير الكبير)) (27/ 226). (5) رواه البخاري (22) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 ومعارضة بنصوص الوعد، كقوله تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزلزلة: 7]. وكقوله تعالى: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الأنعام: 160].وترجيح عمومات الوعد أولى؛ لأنها أدخل في باب الكرم من عمومات الوعيد. ولأنه اشتهر أن رحمة الله سابقة على غضبه، فكان ترجيح عمومات الوعد أولى (1). وبهذا يتبين بطلان استدلال المعتزلة بهذه الآية. والله أعلم. الشبهة الثالثة: قال تعالى: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ [الانفطار: 14 - 16]. وجه الاستدلال: يقول القاضي عبدالجبار: " ... الآية تدل على أن الفاجر وإن كان من أهل الصلاة فهو من أهل الوعيد ومن أهل النار، وأنه إذا لم يتب ومات على ذلك فهو في الجحيم لا يغيب عنها، وذلك يدل على الخلود؛ لأنهم إذا لم يغيبوا عنها ولا لحقهم موت وقتاً فليس إلا العذاب الدائم ... " (2). المناقشة: أولاً: المراد بالفجار: هم الكفار. يقول الطبري - رحمه الله - عند تفسير هذه الآية: "المراد بالفجار: الذين كفروا بربهم ... " (3).ويقول ابن الجوزي: "قوله تعالى: وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ يدل على تخليد الكفار ... " (4).ومما يدل على أن المراد بالفجار: هم الكفار لا غيرهم قوله تعالى - في حق الكفار-: أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس: 42]. يقول الرازي: لا يخلو إما أن يكون المراد أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ وهم الفجرة. والأول: باطل؛ لأن كل كافر هو فاجر بالإجماع، فتقييد الكافر بالكافر الذي يكون من جنس الفجرة عبث. وإذا بطل هذا القسم، بقي القسم الثاني؛ وذلك يفيد الحصر، وهو أن الفجرة هم الكفرة فقط. وإذا دلت الآية على أن الفجرة هم الكفرة لا غيرهم؛ ثبت أن صاحب الكبيرة ليس بفاجر على الإطلاق (5)؛ وعلى ذلك فليس في الآية دلالة على خلود صاحب الكبيرة في النار، لأنها في الكافر. والله أعلم. ثانياً: لو سلمنا أن الفاجر يدخل تحته الكافر والمسلم، لكن قوله تعالى: وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ [الانفطار: 16]. معناه: أن مجموع الفجار لا يكونون غائبين، ونحن نقول بموجبه، فإن أحد نوعي الفجار وهم الكفار لا يغيبون، وإذا كان كذلك؛ ثبت صدق قولنا وهو: أن الفجار بأسرهم لا يغيبون، ويكفي فيه ألا يغيب الكفار، فلا حاجة في صدقه إلى أن لا يغيب المسلمون. وأيضاً: فإن الآية معارضة بالنصوص الدالة على العفو مثل قوله تعالى: ... وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ... [النساء: 48] وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى: 25]. والترجيح معنا؛ لأن دليلهم لابد أن يتناول جميع الفجار في جميع الأوقات؛ وإلا لم يحصل مقصودهم، فهو عام. الشبهة الرابعة: قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء: 10].   (1) ((التفسير الكبير)) (3/ 171). (2) ((متشابه القرآن)) (2/ 682). (3) ((جامع البيان)) للطبري (30/ 56). (4) ((زاد المسير)) (9/ 49). (5) ((التفسير الكبير)) (31/ 84، 85)، بتصرف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 وجه الاستدلال: يقول القاضي عبدالجبار: "الآية تدل على أن الفاسق من أهل الصلاة متوعد بالنار، وأنه سيصلاها لا محالة ما لم يتب، لأن الذي يأكل أموال اليتامى ليس هو الكافر فلا يصح حمله عليه، ويجب كونه عاماً في كل من هذا حاله، والأغلب ممن يوصف بذلك أن يكون من أهل الصلاة وأقل أحواله أن يدخل الجميع فيه، فيجب أن يقال بعمومه ... " (1). المناقشة: لقد رد القرطبي استدلال المعتزلة بهذه الآية على تخليد صاحب الكبيرة في النار فقال - عند تفسير هذه الآية -: "ولا حجة فيها لمن يكفر بالذنوب، والذي يعتقده أهل السنة أن ذلك نافذ على بعض العصاة فيصلى ثم يحترق ويموت، بخلاف أهل الشقاء؛ فإنهم لا يموتون ولا يحيون. لما روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال صلى الله عليه وسلم: (( ... أما أهل النار الذين هم أهلها فيها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناساً أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال بخطاياهم - فأماتهم الله إماته حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل)) (2).ساقط بالمشيئة عن بعضهم لقوله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ... الآية [النساء: 48]. فالآية تدل على أن الله يغفر ما دون الشرك لمن يشاء من عباده ... " (3). من رد القرطبي يتبين أن صاحب الكبيرة إما أن يعذب مدة ثم يخرج من النار ويدخل الجنة كما يدل الحديث، أو يعفى عنه بمشيئة الله، كما تدل الآية. وعلى ذلك فإنه لا يخلد في كلام الحالتين. وبهذا يبطل استدلال المعتزلة بهذه الآية. والله أعلم. الشبهة الخامسة: قال تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93].يقول القاضي عبدالجبار: "ووجه الاستدلال هو أنه تعالى بين أن من قتل مؤمناً عمداً جازاه الله جهنم خالداً فيها وعاقبه وغضب عليه ولعنه ... وفي ذلك ما قلناه" (4). ويقول في موضع آخر: "وقوله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا ... الآية [النساء: 93]، يدل على أن قتل المؤمن على وجه التعمد يستحق به الخلود في النار ... إلى أن قال: ولا يمكن حمل الكلام في الآية على الكافر إذا قتل متعمداً من وجهين: الأول: أنه عام؛ لأن لفظة "من" إذا وقعت في المجازاة كانت شائعة في كل عاقل. الثاني: أنه تعالى جعل ذلك جزاء لهذا الفعل المخصوص، ولا يعتبر بحال الفاعلين، بل يجب متى وقع من أي فاعل كان أن يكون هذا الجزاء لازماً له ... " (5).   (1) ((متشابه القرآن)) (1/ 178). (2) ((صحيح مسلم)) (185). (3) ((تفسير القرطبي)) (5/ 54). (4) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص659). (5) ((متشابه القرآن)) (1/ 201، 202)، وانظر ((شرح الأصول الخمسة)) (ص659). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 المناقشة: أولاً: أن الخلود في الآية لمستحل القتل، وهو كافر إجماعاً، والكافر مخلد. يقول الطبري - عند تفسير هذه الآية -: " ... قوله متعمداً ... أي مستحلاً قتله" (1).ويقول القرطبي - حاكياً ما روي عن ابن عباس في معنى قوله متعمداً -: "أنه قال متعمداً أي مستحلاً لقتله، فهذا يؤول إلى الكفر إجماعاً والكافر مخلد ... " (2).ويقول أبو السعود - بعد عرضه للآية: " ... ولا دليل في الآية للمعتزلة في قولهم بخلود عصاة المؤمنين في النار لما قيل أنها في حق المستحل كما هو رأي عكرمة وأضرابه، بدليل أنها نزلت في مقيس بن ضبابة الكناني المرتد ... " (3). وعلى هذا: فالآية لا تتناول صاحب الكبيرة، لأنها في الكافر، وصاحب الكبيرة لم يخرج من الإيمان إلى الكفر. ثانياً: الجزاء في الآية ليس المقصود به وقوعه، وإنما الأخبار به. يقول الطبري: "وقوله تعالى: فَجَزَآؤُهُ أي: يستحق ما ذكره الله من العقاب إن شاء أن يجازيه" (4). وقال أبو السعود بمثل هذا ... واستدل بما روي عن ابن عباس عند تفسير هذه الآية حيث قال: " فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ ... الآية أي: هي جزاؤه، فإن شاء عذبه، وإن شاء غفر له" ... (5) ثم قال: "والتحقيق أن ما ورد في الآية إنما هو إخبار منه تعالى بأن جزاؤه ذلك، لا بأنه يجزيه بذلك، كيف لا؟! وقد قال تعالى: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ... الآية [الشورى: 40]. ولو كان هذا إخباراً بأنه تعالى يجزي كل سيئة بمثلها لعارضه قوله تعالى: ... وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ .... الآية [المائدة: 15] ... " (6).وإذا كان الجزاء في الآية ليس المقصود، وإنما الإخبار به، بطل قولهم: "أنه تعالى جعل ذلك جزاء لهذا الفعل المخصوص، فمتى وقع الفعل، وقع الجزاء" (7).   (1) ((مختصر تفسير)) الطبري (1/ 119). (2) ((تفسير القرطبي)) (5/ 334). (3) ((تفسير أبي السعود)) (2/ 217). (4) ((مختصر تفسير الطبري)) (1/ 119). (5) ((تفسير أبي السعود)) (2/ 217)، بتصرف. (6) ((تفسير أبي السعود)) (2/ 217، 218). (7) انظر ((متشابه القرآن)) (1/ 202). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 ثالثاً: على التسليم بأن الآية ليست خاصة في الكافر، والجزاء فيها المقصود به وقوعه، فإنها مخصصة بالنصوص الدالة على العفو بمشيئته تعالى، والتوبة، وأحاديث الشفاعة الدالة على خروج الموحدين من النار. يقول القرطبي: "الآية مخصوصة بآيات وأحاديث، فمن الآيات، قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ... الآية [هود: 114]. وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى: 25]. وقوله تعالى: ... وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ... الآية [النساء: 48]. وتوضيح ذلك؛ أنه ليس الأخذ بظاهر هذه الآية أولى من الأخذ بظاهر هذه الآيات، والأخذ بالظاهرين متناقض، فلابد من التخصيص. ثم إن الجمع بين آية الفرقان، وهي قوله تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الفرقان: 68 - 70]، وبين هذه الآية ممكن، فلا نسخ ولا تعارض؛ وذلك بأن يحمل مطلق آية النساء على مقيد آية الفرقان، فيكون معناه: فجزاؤه كذا إلا من تاب؛ لا سيما وقد اتحد الموجب وهو القتل، والموجب وهو التوعد بالعقاب. وأما الأخبار المخصصة لعموم الآية فكثيرة منها: حديث عبادة بن الصامت، أنه صلى الله عليه وسلم: قال: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه فأمره إلى الله، إن شاء عفى عنه، وإن شاء عذبه)) (1).وكحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قتل مائة نفس .... (2). ثم أنهم - المعتزلة - أجمعوا معنا في الرجل يشهد عليه بالقتل، ويقر بأنه قتل، ويأتي السلطان فيقيم عليه الحد ويقتل قوداً، فهذا غير نافذ عليه الوعيد في الآخرة إجماعاً على مقتضى حديث عبادة، فقد انكسر عليهم ما تعلقوا به من عموم قوله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا ... الآية [النساء: 93]. ودخله التخصيص بما ذكر". انتهى كلام القرطبي بتصرف. من كلام القرطبي؛ يظهر أن الآية مخصوصة بالنصوص الدالة على العفو والتوبة؛ وعليه فيبطل استدلال المعتزلة بهذه الآية على تخليد صاحب الكبيرة في النار. والله أعلم.   (1) رواه البخاري (6487). (2) الحديث رواه البخاري (3470) , ومسلم (2766) , من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 الشبهة السادسة: يروي عبدالرحمن الإيجي أن المعتزلة قالوا: "إن الله سبحانه وتعالى أوعد بالعقاب وأخبر به، فلو لم يعاقب لزم الخلف في وعيده والكذب في خبره، وهو محال" (1).يقول القاضي عبدالجبار: " ... إن الله توعد العصاة بالعقاب ... وأنه يفعل ما توعد عليه، ولا يجوز عليه الخلف والكذب" (2).ويستدل (3) على عدم جواز الخلف في الوعيد بقوله تعالى: قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ [ق: 28 - 29]. ثم يقول: "الآية تدل على أن الوعيد الوارد عن الله تعالى لا يتبدل ولا يتغير ... وأنه لا يجوز فيه الخلف، لأن ذلك يقتضي التبديل، وقد أبى الله تعالى ذلك في وعيده ... " (4). كما يستدل القاضي - أيضاً - على عدم جواز الخلف في الوعيد "بأنه لو جاز الخلف في الوعد، لأن الطريقة في الموضعين واحدة" (5). المناقشة: يقال لهم: الوعيد إما أن يتوج للكافر والمشرك أو العاصي؛ فأما الوعيد الذي توعد الله به الكافرين: فإنهم سينالونه حتماً إذا ماتوا على كفرهم، كما دل على ذلك القرآن الكريم من مثل قوله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ... الآية [النساء: 48]. وأما الوعيد الذي توعد الله به العصاة: فإما أن يتوبوا أو لا. إن تابوا تاب الله عليهم وغفر لهم؛ وبذلك يسقط الوعي عنهم، كما قال تعالى: إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ... الآية [الفرقان: 70].أما إذا مات العاصي وهو لم يتب؛ فإنه تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه على قدر ذنبه بمقتضى عدله ثم أدخله الجنة، فلا يخلد في النار؛ بدليل حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( ... يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ... الحديث)) (6). ففي هذا الحديث دلالة على أن من معه إيمان لا يبقى في النار خالداً؛ بل يخرج منها، وصاحب الكبيرة معه إيمان. وإن شاء عفى عنه بمقتضى عفوه ورحمته (7)، قال تعالى: ... وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ... الآية [النساء: 48]. ففي هذه الآية دلالة على أن الله تعالى يمكن أن يخلف وعيده في حق الموحد العاصي الذي مات وهو مرتكب للكبائر من غير توبة. ومثل هذه الآية حديث عبادة بن الصامت: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - وحوله عصابة من أصحابه-: ((بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ... إلى أن قال: ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه ... الحديث)) (8).يقول المازني: "وفي الحديث رد على المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه تحت المشيئة ولم يقل: لابد من تعذيبه" (9).   (1) ((المواقف)) (8/ 376). (2) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص135، 136). (3) انظر ((شرح الأصول الخمسة)) (ص136). (4) ((متشابه القرآن)) (2/ 626). (5) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص136). (6) رواه البخاري (22) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (7) انظر ((عمدة القارئ)) (1/ 186). (8) رواه البخاري (6487). (9) ((فتح الباري)) (1/ 68). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 من كلام المازني؛ يظهر أن الحديث كالآية يدل على أن الوعيد المتوجه إلى العصاة ليس بحتمي؛ بل قد يخلقه الله؛ بأن يغفر لهم. ثم إن خلف الوعيد لا يعتبر كذباً ولا قبيحاً، بدليل المناظرة التي جرت بين أبي عمرو بن العلاء، وعمرو بن عبيد؛ حيث قال عمرو بن عبيد: يا أبا عمرو: لا يخلف الله وعيده، وقد قال سبحانه وتعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا ... الآية [النساء: 93]. فقال له أبو عمرو: ويحك يا أبا عثمان من العجمة أتيت!؛ إن العرب لا تعد إخلاف الوعيد ذماً، بل جوداً وكرماً. فقال عمرو بن عبيد: فأوجدني هذا. فقال: نعم. أما سمعت قول الشاعر: وإني إن أوعدته أو وعدته ... لمخلفُ إيعادي ومنجز موعدي (1) لما يلي:- أولاً: أن الوعيد مشروط بشرائط مثل عدم العفو، فلا يلزم منه الكذب، فمحصل آيات الوعيد أنا نعذبهم إن لم نعف عنهم، ولكن عفونا عنهم، فما نعذبهم، وليس في هذا خلف وعيد حتى يلزم منه الكذب. ثانيا: أن معنى آيات الوعيد: إنشاء الوعيد؛ لا إخبار به، فهي لا تتصف بالصدق والكذب، لأنهما من صفات الخبر دون الإنشاء، فلا يلزم الكذب في إخلاف الوعيد (2). وأما الاستدلال القاضي ومن معه بقوله تعالى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ [ق: 29]. على أن الله لا يخلف وعيده. فالجواب: إن الآية تدل على أن الله سبحانه وتعالى لا يخلف وعيده في الكافر؛ بدليل الآيات التي قبلها. وبدليل النصوص الدالة على أن الله قد يغفر لمن يشاء من العصاة. قال تعالى: ... وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ... الآية [النساء: 48]. وذلك جمعاً بين الآيات. وأما قولهم: " ... أنه لو جاز الخلف في الوعيد؛ لجاز في الوعد ... " (3). فقول فاسد؛ لأن الخلف في الوعد بخل ولؤم، والله أكرم الأكرمين، والخلف في الوعيد كرم وجود، وهو من صفاته جل وعلا (4). وبذلك تبطل هذه الشبهة. والله أعلم. الشبهة السابعة: يقول القاضي عبدالجبار: " ... العاصي لا يخلو حاله من أحد أمرين؛ إما أن يعفى عنه، أو لا يعفى عنه. فإن لم يعف عنه؛ فقد بقي في النار خالداً، وهو الذي نقوله. وإن عفي عنه، فلا يخلو؛ إما أن يدخل الجنة أو لا. فإن لم يدخل الجنة لم يصح، لأنه لا دار بين الجنة والنار، فإذا لم يكن في النار وجب أن يكون في الجنة لا محالة، وإذا دخل الجنة فلا يخلو: إما أن يدخلها مثاباً أو متفضلاً عليه، لا يجوز أن يدخل الجنة متفضلاً عليه، لأن الأمة اتفقت على أن المكلف إذا دخل الجنة فلابد من أن يكون حاله متميزاً عن حال الولدان المخلدين، وعن حال الأطفال والمجانين، ولا يجوز أن يدخل الجنة مثاباً، لأنه غير مستحق، وإثابة من لا يستحق الثواب قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح ... لذا يجب أن يكون معاقباً على ما نقوله" (5).   (1) ((مدارج السالكين)) (1/ 396)، وانظر ((القول السديد)) (ص16). (2) ((القول السديد)) (ص15)، بتصرف. (3) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص136). (4) انظر ((القول السديد)) (ص15،23). و ((المواقف)) (8/ 378)، و ((مدارج السالكين)) (1/ 391). (5) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص666 - 667)، وانظر (ص 650). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 المناقشة: هذه الشبهة باطلة، ولا تدل على تخليد الفاسق في النار، وبيان ذلك: أن الفاسق في حال العفو عنه يدخل الجنة تفضلاً من الله سبحانه وتعالى، بدليل قوله تعالى: الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر: 35] ولما روي في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((لن ينجي أحداً منكم عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا. إلا أن يتغمدني الله برحمته)). (1) ففي هذه الآية والحديث: دلالة على أن الله يدخل من شاء من عباده الجنة بفضله سبحانه وتعالى، وعليه فإنه يبطل قولكم " ... ولا يجوز أن يدخل الجنة متفضلاً عليه ... " (2). وإذاً فالفاسق في حالة العفو عنه يدخل الجنة بفضل الله ورحمته. أما في حال عدم العفو عنه: فإن الله سبحانه وتعالى يعذبه على قدر ذنبه ثم يدخله الجنة، فلا يخلد في النار؛ بدليل قوله تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزلزلة: 7]، واحتمال رؤية العامل مثقال ذرة من خير ما عمله قبل دخوله النار، أي: بأن يدخل الجنة جزاء لما عمله من الخير ثم يخرج منها ويدخل النار عقاباً لما عمله من الشر يبطله قوله تعالى في شأن أهل الجنة: لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر: 48]. فلم يبق لرؤيته موضع إلا بعد الخروج من النار. ومما يدل على أن استيفاء الأجر بالنسبة لمن يدخل النار لا يكون إلا بعد الخروج منها ما في البخاري عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل وإيمان ... الحديث)) (3). ففي هذا الحديث دلالة على أن من عمل خيراً يخرجه الله بعد دخوله النار، لأجل ما عمله من خير، والعاصي معه إيمان وخير كثير بدليل قوله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى ... الآية [الحجرات: 9]. فقد سمى الله الطائفتين المتقاتلتين مؤمنتين؛ مما يدل على أن كبيرة القتل لم تخرجهما من الإيمان. فعلى هذا: فإن الله يعذب العاصي في النار لأجل معصيته، ثم يخرجه إلى الجنة لأجل ما عمله من خير، وأهل الجنة لا يخرجون منها بدلالة الآية: ... وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر: 48] (4). وعليه: فإنه يبطل قولكم "إن الفاسق في حال عدم العفو عنه يخلد في النار" (5). وعليه فتبطل هذه الشبهة. المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص 219   (1) رواه البخاري (6463) , ومسلم (2816). (2) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص666). (3) رواه البخاري (22) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (4) انظر ((الحصن والجنة في عقيدة أهل السنة)) (ص99 - 100). (5) انظر ((شرح الأصول الخمسة)) (ص666). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 المبحث الثالث: حقيقة الشفاعة ورأي المعتزلة فيها • المطلب الأول: عرض ما تيسر من شبهات المعتزلة التي يؤيدون بها رأيهم في الشفاعة مع المناقشة . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 المطلب الأول: عرض ما تيسر من شبهات المعتزلة التي يؤيدون بها رأيهم في الشفاعة مع المناقشة لقد أيد المعتزلة رأيهم في الشفاعة بشبهات نقلية وعقلية، منها ما يلي: أولاً: الشبهات النقلية: الشبهة الأولى: قال تعالى: وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة: 48]. وجه الدلالة: يقول القاضي عبدالجبار: "الآية تدل على أن من استحق العقاب لا يشفع النبي صلى الله عليه وسلم له، ولا ينصره؛ لأن الآية وردت في صفة اليوم ولا تخصيص فيها، فلا يمكن صرفها إلى الكفار دون أهل الثواب، وهي واردة فيمن يستحق العذاب في ذلك اليوم، لأن هذا الخطاب لا يليق إلا بهم، فليس لأحد أن يطعن على ما قلناه بأن يمنع الشفاعة للمؤمنين أيضاً، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لهم لكان قد أغنى عنهم وأجزى، فكان لا يصح أن يقول تعالى: ... لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً ... الآية، ولما صح أن يقول: .... وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ... الآية. وقد قبلت شفاعته صلى الله عليه وسلم فيهم. ولما صح أن يقول: ... وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ... ؛ لأن قبول الشفاعة وإسقاط العقاب ... أعظم من كل فداء يسقط به ما قد استحقوه من المضرة، بل كان يجب أن تكون الشفاعة فداء لهم عما قد استحقوه .. ولما صح أن يقول: ... وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ، وأعظم النصرة تخليصهم من العذاب الدائم بالشفاعة. فالآية دالة على ما نقوله من جميع هذه الوجوه" (1). المناقشة: إن استدلال المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر باطل؛ وذلك لأن الشفاعة المنفية في الآية الشفاعة للكافرين، ويدل على ذلك ما يلي: أولاً: إجماع المفسرين على أن المراد بالنفس في قوله تعالى: وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً ... الآية. النفس الكافرة، لا كل نفس، فهي من العام الذي أريد به الخاص. يقول القرطبي: "أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى: وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ... الآية. النفس الكافرة، لا كل نفس ... " (2).ويقول الطبري: "قوله تعالى: وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ .. الآية إنما هي لمن مات على كفره غير تائب إلى الله عز وجل" (3).ويقول ابن الجوزي: "قوله تعالى: ... لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً ... الآية قالوا: المراد بالنفس ههنا: النفس الكافرة، لا كل نفس؛ فعلى هذا يكون من العام الذي أريد به الخاص ... " (4).ويقول ابن كثير: "قوله تعالى: ... وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ... الآية يعني من الكافرين، كما قال تعالى: فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: 48]. وقوله تعالى: ... وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ... الآية [البقرة: 48] أي: فدية كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ... الآية [آل عمران: 91]. ثم قال: فقد أخبر الله تعالى أنهم لما لم يؤمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم ويتابعون على ما بعثه الله به ووافوا الله يوم القيامة فإنه لا ينفعهم قرابة قريب ولا شفاعة شافع، ولا يقبل منهم فداء ولو بملء الأرض ... " (5).   (1) ((متشابه القرآن)) (1/ 90، 91). (2) ((تفسير القرطبي)) (1/ 379، 380). (3) ((تفسير القرطبي)) (2/ 33). (4) ((زاد المسير)) (1/ 77). (5) ((تيسير العلي القدير في اختصار تفسير ابن كثير)) (1/ 50). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 فإذا كان المراد بالنفس في الآية النفس الكافرة، فالشفاعة المنفية في الآية الشفاعة للكفار، لا للعصاة؛ وإذاً فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر. ثانياً: تظاهر الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) (1). وأنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس من نبي إلا وقد أعطي دعوة وإني قد اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، وهي نائلة - إن شاء الله - منهم من لم يشرك بالله شيئا)) (2).وإذا ثبتت الشفاعة لأهل الكبائر؛ فلابد من أن تكون الشفاعة المنفية في الآية؛ إنما هي الشفاعة للكفار جمعاً بين الآية والحديث (3).ثالثا: ويؤيد أن الآية في الكافرين - أيضاً - أن الخطاب فيها مع قوم كافرين، وهم اليهود الذين كانوا يعتقدون أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، فنزلت هذه الآية لرد هذا الاعتقاد، وبيان أنه لا ينفعهم عنده إلا التوبة إليه من كفرهم والإنابة من ضلالهم، وجعل ما سن فيهم من ذلك إماماً لكل من كان على مثل منهاجهم؛ لئلا يطمع ذو إلحاد في رحمته (4). وإذاً فالشفاعة المنفية في الآية: إنما هي الشفاعة للكافرين لما ذكرت من إجماع المفسرين على أن الآية خاصة بالكافر، ولأن الخطاب فيها مع قوم كافرين، وهي سنة لمن سلك نهجهم، ولتظاهر النصوص المثبتة للشفاعة لأهل الكبائر. وعليه فيبطل استدلال المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر. والله أعلم. الشبهة الثانية: قال تعالى: ... مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر: 18]. وجه الدلالة: يقول القاضي عبدالجبار: "إن الله تعالى بين في هذه الآية أن الظالم لا يشفع له النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الشفاعة لا تكون إلا للمؤمنين لتحصل لهم مزية في التفضل وزيادة في الدرجات مع ما يحصل له صلى الله عليه وسلم من التعظيم والإكرام" (5). المناقشة:   (1) ذكره السيوطي في ((الجامع الصغير)) ونسبه لأحمد وأبي داود، والترمذي، وابن حبان والحاكم عن أنس. انظر ((شرح المناوي الكبير)) (ص163)، (برقم 4892). يقول أحمد شاكر: حديث صحيح. انظر ((تفسير الطبري)) (2/ 33) الحاشية. (2) انظر ((الترغيب والترهيب)) (1/ 378). (3) انظر ((تفسير القرطبي)) (1/ 378)، و ((الطبري)) (2/ 33). (4) ((تفسير الطبري)) (2/ 33)، و ((زاد المسير)) (1/ 77)، بتصرف. (5) ((متشابه القرآن)) (2/ 600). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 يقال لهم: أولاً: المراد بالظالمين في الآية: الكاملون في الظلم؛ وهم الكافرون (1)، لقوله تعالى: ... إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13]. يقول ابن الجوزي: " مَا لِلظَّالِمِينَ يعني الكافرين" (2). وقد قال بمثل هذا القول كل من ابن جرير (3)، وابن جزي الكلبي (4).كذلك قال الباقلاني بمثل ما قال به (5) ابن الجوزي، واستدل بالآية: ... إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13]. ثم قال: ( .... ولهذا نزل قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ ... الآية [الأنعام: 82]. حزن الصحابة - رضي الله عنهم - حتى قالوا: وأينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((ليس هو كما تظنون، إنما هو من قول لقمان لابنه ... يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13])) (6). فدل أن لا شفاعة تنفع الكافر والمؤمن بخلاف ذلك، وإن كانت له سيئات ... " (7). انتهى كلام الباقلاني بتصرف. من هذا العرض يظهر لنا أن المراد بالظالمين في الآية هم الكافرون، فعلى ذلك فالشفاعة المنفية هنا إنما هي منفية عن الكفار، وصاحب الكبيرة ليس بكافر، فيبطل الاستدلال بالآية. والله أعلم. ثانياً: أن لفظ الظالمين؛ إما أن يفيد الاستغراق، وإما ألا يفيد. فإن أفاد الاستغراق كان المراد من الظالمين مجموعهم وجملتهم، ويدخل في مجموع هذا الكلام الكفار، وعندنا أنه ليس لهذا المجموع شفيع، لأن بعض هذا المجموع هم الكفار، وليس لهم شفيع؛ فحينئذ لا يكون لهذا المجموع شفيع. وإن لم يفد الاستغراق؛ كان المراد من الظالمين بعض من كان موصوفاً بهذه الصفة، وعندنا أن بعض الموصوفين بهذه الصفة ليس لهم شفيع، وهم الكافرون؛ وإذاً فعلى كلا الاحتمالين فليس في الآية دلالة على نفي الشفاعة لأصحاب الكبائر (8).ثالثا: أن الله تعالى نفى في الآية شفيعاً يطاع، وهذا لا يدل على نفي الشفيع، ألا ترى أنك إذا قلت: ما عندي كتاب يباع، لا يلزم منه نفي الكتاب. ثم إن الآية تدل على أنه ليس لهم يوم القيامة شفيع يطيعه الله تعالى؛ لأنه ليس في الوجود أحد أعلى حالاً من الله تعالى حتى يقال: إن الله يطيعه (9). وإذا فنفي الشفيع المطاع لا يقتضي نفي الشفاعة، وعليه فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر؛ وبذلك يبطل استدلال المعتزلة بهذه الآية. والله أعلم. الشبهة الثالثة: قال تعالى: ... وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ... الآية [الأنبياء: 28]. وجه الدلالة: يقول القاضي عبدالجبار: " ... الآية تدل على أن الشفاعة لا تكون إلا لمن كانت طرائقه مرضية، وأن الكافر والفاسق ليسا من أهلها" (10).   (1) ((روح المعاني)) (24/ 59). (2) ((زاد المسير)) (10/ 77). (3) ((تفسير الطبري)) (2/ 33). (4) ((التسهيل لعلوم التنزيل)) (4/ 7). (5) انظر ((التمهيد)) (ص371)، و ((الإنصاف)) (ص154). (6) رواه البخاري (3360) , ومسلم (124) , من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (7) ((الإنصاف)) (ص154)، بتصرف. (8) ((التفسير الكبير)) (27/ 32). (9) ((التفسير الكبير)) (27/ 32). (10) ((متشابه القرآن)) (2/ 499). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 المناقشة: يقال لهم: إن معنى الآية: ولا يشفعون إلا لمن رضي الله سبحانه وتعالى أن يشفعوا له وأذن فيه (1)، ومن ارتضاه الله للشفاعة هم الموحدون. يقول ابن عباس والضحاك: إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى أي: لمن قال: لا إله إلا الله (2). ويدل على أن الآية في الموحدين قوله تعالى: لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم: 87]. يقول المفسرون: إلا من قال لا إله إلا الله. فإن قالوا: المرتضى: هو التائب الذي اتخذ عنه الله عهداً بالإنابة إليه؛ بدليل أن الملائكة استغفروا لهم. قال تعالى: ... فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر: 7]. وكذا شفاعة الأنبياء - عليهم السلام - إنما هي لأهل التوبة دون أهل الكبائر. قلنا: عندكم يجب على الله تعالى قبول التوبة، فإذا قبل الله توبة المذنب، فلا يحتاج إلى الشفاعة، ولا إلى الاستغفار. وأيضاً: فقد أجمع أهل التفسير على أن المراد بقوله تعالى: ... فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا ... الآية من الشرك ... وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ... الآية [غافر: 7] سبيل المؤمنين سألوا الله أن يغفر لهم ما دون الشرك من ذنوبهم، كما قال تعالى: ... وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ... الآية [النساء: 48]. وعلى ذلك؛ فالآية ليس فيها نفي للشفاعة، وإنما حصر لها الموحدين، وصاحب الكبيرة مما سوى الشرك موحد، وعليه فيبطل استدلالكم بالآية. والله أعلم. الشبهة الرابعة: قال تعالى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ [الزمر: 19]. وجه الدلالة: يقول القاضي عبدالجبار: " ... الآية تدل على أن من أخبر الله تعالى أنه يعذبه لا يخرج من النار، فإذا صح أنه أخبر بذلك في الفجار والفساق، فيجب ذلك فيهم ... ويدل أيضاً: على أنه صلى الله عليه وسلم لا يشفع لهم؛ لأنه لو شفع لهم لوجب أن يكون منقذاَ من النار، وقد نفى الله تعالى عنه ذلك" (3). المناقشة: يقال لهم: إن الآية في أهل الكفر والضلال، وليست في أهل التوحيد والإيمان. يقول الطبري: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ ... الآية [الزمر:19]. أفمن وجبت عليه كلمة العذاب في سابق علم ربك يا محمد بكفره ... " (4). وكلمة العذاب: هي قوله تعالى لإبليس: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 85].فإذا كانت الآية في الكافر، فلا دلالة فيها على نفي الشفاعة عن صاحب الكبيرة، لأنه ليس ممن حقت عليه كلمة العذاب، وكيف يكون ممن حقت عليه كلمة العذاب مع قوله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ... الآية [النساء: 48]. وقوله تعالى: ... إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53]. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله حرم الله عليه النار)) (5) (6). وغيرها من النصوص الدالة على الوعد بالمغفرة لمن مات لا يشرك بالله شيئاً. وصاحب الكبيرة ليس بمشرك. فإذاً فالآية ليست في صاحب الكبيرة، وعليه فيبطل الاستدلال بها على نفي الشفاعة لصاحب الكبيرة.   (1) ((التسهيل)) (3/ 53)، و ((تفسير أبي السعود)) (6/ 64)، و ((تفسير القرطبي)) (11/ 380، 381)، بتصرف. (2) ((التفسير الكبير)) (22/ 160). (3) ((متشابه القرآن)) (2/ 592). (4) ((تفسير الطبري)) (23/ 133). (5) رواه مسلم (29) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. (6) انظر ((التفسير الكبير)) (2/ 263). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 وعلى التسليم بأن هذه الآية في أهل الكبائر، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا ينقذ أحداً بنفسه، وبدون مشيئة الله وإذنه؛ بل لا يشفع إلا لمن ارتضى الله وأذن بالشفاعة له، وصاحب الكبيرة ممن ارتضى الله أن يشفع له؛ لأنه موحد كما بينا في مقام سابق. والله أعلم. ثانياً: الشبهات العقلية: من الشبهات العقلية التي تمسك بها المعتزلة في إنكار الشفاعة لأهل الكبائر ما يلي: الشبهة الأولى: يقول القاضي عبدالجبار: "لقد دلت الدلائل على أن العقوبة تستحق على طريق الدوام، فكيف يخرج الفاسق من النار بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والحال ما تقدم؟! " (1). المناقشة: هذه الشبهة باطلة لما يلي: أولاً: أن الأدلة الدالة على دوام العقوبة عامة، وأدلة إثبات الشفاعة لأهل الكبائر خاصة، والخاص مقدم على العام، فوجب القطع بأن النصوص الدالة على الشفاعة مقدمة على العمومات الدالة على دوام العقوبة (2)، وبهذا يزول الإشكال وتبطل هذه الشبهة. ثانياً: هذه الشبهة تنبني على القول بتخليد الفاسق في النار، وقد سبق عرض شيء من الشبهات الواردة حول هذا عند الكلام على رأي المعتزلة في الوعيد، وإبطالها، فإذا بطل الأصل بطل الفرع، والله أعلم. الشبهة الثانية: يقول الرازي: "واستدلت المعتزلة على إنكار الشفاعة لأهل الكبائر بوجوه ... إلى أن قال: وسابعها: أن الأمة مجمعة على أن ينبغي أن نرغب إلى الله تعالى في أن يجعلنا من أهل شفاعته عليه السلام، ويقولون في جملة أدعيتهم: "واجعلنا من أهل شفاعته" فلو كان المستحق للشفاعة هو الذي خرج من الدنيا مصراً على الكبائر؛ لكانوا قد رغبوا إلى الله تعالى في أن يختم لهم مصرين على الكبائر" (3).ويقول القاضي عبدالجبار: " ... أليس أن الأمة اتفقت على قولهم: اللهم اجعلنا من أهل الشفاعة، فلو كان الأمر على ما ذكرتموه لكان يجب أن يكون هذا الدعاء دعاء لأن يجعلهم الله تعالى من الفساق، وذلك خلف" (4). المناقشة: يقول القرطبي - في معرض الرد على هذه الشبهة -: "إنما يطلب كل مسلم شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويرغب إلى الله في أن تناله لاعتقاده أنه غير سالم من الذنوب، ولا قائم بكل ما افترض الله عليه، بل كل واحد معترف على نفسه بالنقص، فهو لذلك يخاف العقاب ويرجو النجاة. قال صلى الله عليه وسلم: ((سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لا يدخل أحداً الجنة عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا. إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة)) (5) (6).ويقول الرازي: "أما قول المسلمين: اللهم اجعلنا من أهل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فالجواب عنه: إن عندنا تأثير الشفاعة في جلب أمر مطلوب، وأعني به القدر المشترك بين جلب المنافع الزائدة على قدر الاستحقاق، ودفع المضار المستحقة على المعاصي؛ وذلك القدر المشترك لا يتوقف على كون العبد عاصياً، فاندفع السؤال" (7). من رد القرطبي والرازي، يظهر ما يلي:- أولاً: أن طلب المسلمين الشفاعة لاعتقادهم عدم السلام من الذنوب. ثانياً: أنه لا يزم من طلب المسلم الشفاعة الدعاء بالختم للإنسان مصراً على الكبائر؛ لأن تأثير الشفاعة إنما هو في جلب أمر مطلوب، وهو القدر المشترك بين جلب المنافع الزائدة على قدر الاستحقاق ودفع المضار المستحقة على المعاصي، وبهذا يزول الإشكال، وتبطل الشبهة.   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص689). (2) ((الأربعين في أصول الدين)) (ص400، 423)، بتصرف. (3) ((التفسير الكبير)) (3/ 63، 64، 65). (4) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص692). (5) رواه البخاري (6467) , ومسلم (2818). (6) ((تفسير القرطبي)) (1/ 380، 381). (7) ((التفسير الكبير)) (3/ 74). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 الشبهة الثالثة: يقول القاضي عبدالجبار: " ... إن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا شفع لصاحب الكبيرة، فإما أن يشفع أو لا. إن لم يشفع لم يجز؛ لأنه يقدح بإكرامه. وإن شفع فيه لم يجز أيضاً؛ لأنا قد دللنا على أن إثابة من لا يستحق الثواب قبيح، وأن المكلف لا يدخل الجنة تفضلاً" (1). المناقشة: قولكم: "وإن شفع فيه لم يجز ... " ينبني على أن المكلف لا يدخل الجنة بفضل الله ورحمته، وإنما يدخلها بعمله، وأنه متى عمل عملاً صالحاً وجب على الله إدخاله الجنة، وإذا لم يعمل لم يجز أن يدخله الله إياها، وهذا القول باطل لما يلي: أولاً: أما كون الإنسان لا يدخل الجنة بفضل الله ورحمته، فيبطله قوله تعالى: الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ ... الآية [فاطر: 35]. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لن ينجي أحدكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)). (2) فإذا دخول الإنسان الجنة بفضل الله ورحمته (3)، وإنما العمل سبب في تفضل الله على عبده بإدخاله الجنة. وأما بطلان الوجوب على الله، فلاستحالة موجب فوقه يوجب عليه شيئاً. وإذا ثبت أن الإنسان يدخل الجنة بفضل الله ورحمته، وأنه سبحانه الفعال لما يريد، فلا يوجب عليه أحد شيئاً، فلا مانع أن يشفع الله نبيه في من شاء من عباده من أهل التوحيد المرتكبين للكبائر لتظاهر الأحاديث بثبوت الشفاعة لهم، كما بيناه في مقام سابق. وإذا ثبت أن الله يشفع نبيه فيهم؛ بطل قولكم، "وإن لم يشفع فيه لم يجز ... " لأن الشفاعة قد ثبتت، فلا مكان لهذا الاحتمال. وعليه فتبطل شبهتكم هذه. والله أعلم. الشبهة الرابعة: يقول القاضي عبدالجبار: "ما قولكم فيمن حلف ليفعل ما يستحق به الشفاعة؟ أليس يلزمه أن يرتكب الكبيرة ويصير من أهل الفسوق والعصيان" (4). المناقشة: يقول الباقلاني: والجواب على هذه الشبهة من وجهين: أحدهما: أنا نأمره بالتمسك والإيمان دون فعل الذنوب؛ لأن الشفاعة لا تنال بالذنوب، وإنما تنال بالإيمان دون الذنوب، وهذا مثل أن يشفعوا زيداً في ذنب صديقه في دار الدنيا إلى من ملك إسقاط ذلك، لا يقال: إنه نال ذلك بالذنب الذي أذنب، وإنما ناله بالصداقة المتقدمة لا نفس الذنب. ونأمره أيضاً بالطاعة حتى ينال بذلك شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الزيادة له من البر والنعيم، ونحو ذلك. الثاني: أنا نعارضكم بمثل قولكم، فنقول لكم ما تقولون فيمن سمع قوله تعالى: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222]. فحلف ليفعلن فعلاً يجب عليه فيه التوبة والاستغفار ... فإن قالوا: نأمره بالطاعة وفعل الخير، قلنا لهم: هذا لا يصح، لأن الإنسان لا يجب عليه التوبة والاستغفار من فعل الخير بإجماع المسلمين. وإن قلتم: نأمره بفعل المعاصي والذنوب حتى تجب عليه التوبة والاستغفار، فيتوب ويستغفر حتى يتخلص من يمينه، فقد استحللتم ما حرم الله وأمرتم بما لا يجوز لمسلم أن يأمر به. وإن قلتم: لا نأمره بفعل المعصية، ولكن إن ابتلي بشيء من ذلك قلنا له: قد فعلت ما وجب به عليك التوبة والاستغفار وزوال حكم اليمين. قلنا لكم: نحن أيضاً نقول: لمن حلف ليفعلن فعلاً يجوز أن يشفع له فيما يستحق عليه من العقاب شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. نقول له: تمسك بالطاعة والإيمان، فإن ابتليت بشيء من المعاصي، فقد خرجت من اليمين، ويجوز أن يشفع لك الرسول صلى الله عليه وسلم، لا أن نأمره بالمعصية بوجه من الوجوه (5). انتهى كلام الباقلاني بتصرف. وبذلك تبطل هذه الشبهة. والله أعلم. المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها - ص 236   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص689). (2) رواه البخاري (6463) , ومسلم (2816). (3) انظر ((المواقف)) (8/ 376). (4) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص693). (5) ((الإنصاف)) (ص175 - 176)، بتصرف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 المبحث الرابع: الإحباط والتكفير عند المعتزلة ومناقشتهم • المطلب الأول: رأي المعتزلة في الإحباط . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 المطلب الأول: رأي المعتزلة في الإحباط لقد اختلف المعتزلة في الإحباط على أقوال أهمها ما يلي: الأول: رأي الجمهور منهم الذين يرون أن الإنسان إذا عبد الله طول حياته ثم ارتكب كبيرة من الكبائر، فإنها تبطل جميع أعماله السابقة (1).يقول القاضي عبدالجبار: " ... إن ما يستحقه المرء على الكبيرة من العقاب يحبط ثواب طاعاته ... " (2). الثاني: رأي أبي علي الجبائي - من متأخري المعتزلة - الذي يرى أن الطاعات السابقة على المعاصي يسقط منها بمقدار المعاصي، وتبقى المعاصي على حالها، فمثلاً من أطاع عشرين مرة، وعصى عشر مرات، يسقط من طاعاته بمقدار معاصيه، وتبقى معاصيه على حالها، ولو زادت معاصيه على طاعاته، فإنها تذهب طاعاته بكاملها وتبقى معاصيه. الثالث: رأي أبي هاشم - الذي ذهب إلى أن الإحباط يكون من الطرفين، فكما تحيط الطاعات المعاصي؛ كذلك تحبط المعاصي الطاعات، فمثلاً: من أطاع عشراً وعصى عشرين، فإنه تذهب طاعاته بما يقابلها من المعاصي، ولا يبقى عليه سوى الزائد من معاصيه (3). يقول القاضي عبدالجبار: " ... لو أتى المكلف بطاعة استحق عليها عشرة أجزاء من الثواب، وبمعصية استحق عليها عشرين جزءاً من العقاب. فمن مذهب أبي علي أنه يحسن من الله تعالى أن يفعل به في كل وقت عشرين جزءاً من العقاب، ولا يثبت لما كان قد استحقه على الطاعة التي أتى بها تأثير بعدما ازداد عقابه عليه. وقال أبو هاشم: لا. بل يقبح من الله تعالى ذلك، ولا يحسن منه أن يفعل به من العقاب إلا عشرة أجزاء، فأما العشرة الأخرى، فإنها تسقط بالثواب الذي قد استحقه على ما أتى به من الطاعة، وهذا هو الصحيح من المذهب، ولعمري إنه القول اللائق بالله تعالى دون ما يقوله أبو علي ... " (4).من هذا النص؛ يظهر أن القاضي يميل إلى رأي أبي هاشم؛ ولذلك فإنه قام بعرض شبهات أبي علي الجبائي وتفنيدها (5). إذاً ليس أمامنا الآن إلا رأي الجمهور القاضي بأن الكبيرة تبطل جميع الأعمال السابقة لها. ورأي أبي هاشم: الذي يتلخص في أن الإحباط يكون من الطرفين، فكما تحبط الطاعات المعاصي؛ كذلك تحبط المعاصي الطاعات. هذا هو رأي المعتزلة في الإحباط. المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص 249 المطلب الثاني: مناقشة رأي المعتزلة في الإحباط إن قول المعتزلة بالإحباط باطل، سواء على القول بأن الكبيرة الواحدة تحبط ثواب الطاعات أو على القول بالموازنة كما يرى أبو هاشم ومن معه؛ ولذا فإنهم تعرضوا لردود كثيرة، منها:-أولاً: إن قولهم الذنب الواحد يحبط جميع الطاعات خلاف قوله تعالى: ... إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود: 114]. وقوله تعالى: ... مَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 217]. فقد أخبر الله تعالى أن إحباط الحسنات؛ إنما يكون بالموت على الكفر، فوجب من هذا أن ما سواه من السيئات تذهبه الحسنات ... (6).ثانياً: إن الطاعات ثابتة حقائقها صحيح أداؤها، والإصرار على الكبائر لو كان يدرأ ثواب الطاعات، لكان ينافي صحتها؛ كالردة ومفارقة الملة؛ فإنها لما كانت محبطة كانت منافية لصحة العبادات (7). فدل ذلك على بطلان قولهم: إن الكبيرة الواحدة تحبط جميع الأعمال.   (1) ((المواقف)) (8/ 309). (2) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص632). (3) ((المواقف)) (8/ 309، 310)، بتصرف. (4) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص628 - 629). (5) انظر ((شرح الأصول الخمسة)) (ص629، 630، 631). (6) ((أصول الدين)) (ص244)، بتصرف. (7) ((لباب العقول)) (ص392 - 393). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 ثالثاً: قولهم هذا ينبني على زعمهم أن مرتكب الكبيرة يستحق النار مخلد فيها، وقد أبطلناه، فإذا بطل الأصل؛ بطل الفرع. رابعاً: أما قول أبي هاشم "إن الحسنات تبطل السيئات إذا زادت عليها والعكس ... " (1). فنقول: أما قوله: إن الحسنات تبطل السيئات، فهذا نسلم به لقوله تعالى: ... إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ... الآية [هود: 114]. وأما قوله: إن السيئات إذا زادت على الحسنات، فإنها تبطلها إن أراد إبطالها لبعض الحسنات، فهو مسلم به، وإن أراد إبطالها جميع الحسنات، فلا؛ لأنه لا يبطل جميع الحسنات إلا الردة، كما بيناه في مقام سابق. خامساً: إن قول أبي هاشم ينبني على أنه لا يمكن أن يستحق المكلف الثواب والعقاب معاً، وهو باطل، لأنه لا يمتنع أن يستحقهما جميعاً فيعاقبه الله على قدر ذنبه ثم يثيبه وقد سبق بيان ذلك، فإذا بطل الأصل بطل الفرع. سادساً: يقال لأبي هاشم: يلزم على قولك هذا أنه لو كانت الطاعات بعدد المعاصي؛ للزم القول بسقوطهما معاً. وعليه فإن سقط أحدهما قبل الآخر لم يسقط المتأخر بالمتقدم عليه، لأنه بعد سقوطه لا يبقى له تأثير في إسقاط الآخر، وإن تقارن سقوطهما لزم وجودهما معاً قبل سقوطهما مع أن وجود كل منهما ينفي وجود الآخر ويمانعه؛ وذلك يدل على بطلان قول أبي هاشم في الإحباط (2). المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص 250   (1) انظر ((المواقف)) (8/ 309 - 310). (2) ((المواقف في علم الكلام)) (ص340)، بتصرف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 الفصل الخامس: الأصل الرابع المنزلة بين المنزلتين إن هذا الأصل هو نقطة البدء في نشأة المعتزلة، وقد سبق أن أشرت عند الحديث عن نشأة المعتزلة، وسبب تسميتهم أن هذا الأصل هو سبب الاختلاف بين واصل والحسن حيث أتى واصل برأي خاص في مرتكب الكبيرة، وعلى إثره طرده الحسن البصري، فاعتزل في سارية من سواري مسجد البصرة يقرر هذا الرأي على من انضم إليه واستحسن رأيه، فسماهم الناس من ذلك الحين المعتزلة، وبدأ مذهبهم يظهر إلى الوجود بصفة مستقلة. يقول الشهرستاني: "دخل رجل على الحسن البصري، فقال: يا إمام الدين، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة، وهم وعيدية الخوارج، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان ... وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا اعتقاداً؟ ففكر الحسن وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول أن صاحب الكبيرة مؤمن مطلق، ولا كافر مطلق، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثم قام واعتزل في ناحية من المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزلنا واصل. فسموا من ذلك الحين المعتزلة ... " (1). وقد كان من العوامل التي دعت إلى إثارة هذا النقاش حول مرتكب الكبيرة أن الحروب السياسية من مقتل عثمان ووقعة الجمل وصفين جعلت الناس يتساءلون من المحق، ومن المخطئ؟ ثم انتقلوا من ذلك إلى القول: بأن المخطئ كافر أو مؤمن، فكانت الخوارج تقول بكفر مرتكبي الذنوب، والمرجئة تقول: إنهم مؤمنون كاملو الإيمان، وأهل السنة يقولون: إنهم مؤمنون ناقصوا الإيمان، قد نقص إيمانهم بقدر ما ارتكبوا من الكبائر، فقال واصل: إنهم فاسقون في منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان. بعد هذا التقديم ننتقل إلى معرفة ما هو المقصود بالمنزلة بين المنزلتين عند المعتزلة، ثم عرض ما تيسر من شبهاتهم، ومناقشتهم، ثم بيان مذهب أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة، فنقول وبالله التوفيق. أولاً: ما المقصود بالمنزلة بين المنزلتين عند المعتزلة؟   (1) ((الملل والنحل)) (1/ 60)، وانظر ((الفرق بين الفرق)) (ص7). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 لمعرفة مراد المعتزلة بالمنزلة بين المنزلتين؛ لابد أن نسوق شيئاً من أقوالهم في ذلك، فنقول: يقول القاضي عبدالجبار: "والأصل في ذلك أن هذه العبارة إنما تستعمل في شيء بين شيئين ينجذب إلى كل واحد منهما بشبه، هذا في أصل اللغة. وأما في اصطلاح المتكلمين، فهو العلم بأن لصاحب الكبيرة اسم بين الاسمين، وحكم بين الحكمين ... " (1).ويشرح القاضي هذا التعريف، فيقول: "إن صاحب الكبيرة له اسم بين الاسمين، فلا يكون اسمه اسم الكافر، ولا اسم المؤمن، وإنما يسمى فاسقاً. وكذلك صاحب الكبيرة له حكم بين الحكمين، فلا يكون حكمه حكم الكافر، ولا حكم المؤمن بل يفرد له حكم ثالث، وهذا الحكم الذي ذكرناه هو سبب تلقيب المسألة بالمنزلة بين المنزلتين، فإن صاحب الكبيرة له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان، فليست منزلته منزلة الكافر ولا منزلة المؤمن؛ بل له منزلة بينهما" (2).ويقول ابن المرتضي – وهو يسوق ما أجمعت عليه المعتزلة -: "وأما ما أجمعت عليه المعتزلة، فقد أجمعت ... على المنزلة بين المنزلتين، وهو أن الفاسق لا يسمى مؤمناً ولا كافراً ... " (3).ويقول الإسفراييني: " ... ومما اتفقت عليه المعتزلة من فضائحهم قولهم: إن حال الفاسق الملي يكون في منزلة بين المنزلتين، لا هو مؤمن، ولا كافر، وإن هو خرج من الدنيا قبل أن يتوب يكون مخلداً في النار، ولا يجوز لله تعالى أن يغفر له أو يرحمه، أي أن مرتكب الكبيرة بكونه يشبه المؤمن في عقده، ولا يشبهه في عمله. ويشبه الكافر في عمله، ولا يشبهه في عقده أصبح وسطاً بين الاثنين، وتبعاً لهذا يكون عذابه أقل من عذاب الكافر" (4). من هذه الأقوال: يظهر مقصود المعتزلة بالمنزلة بين المنزلتين؛ وهو أن مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً، ولا كافراً، لا في الاسم ولا في الحكم؛ بل في منزلة بين المنزلتين، فلا يسمى مؤمناً، ولا كافراً، وإنما يسمى فاسقاً. وحكمه كذلك بين الحكمين، فلا يكون حكمه حكم الكافر، ولا حكم المؤمن، وإنما له حكم بينهما. هذا في الدنيا. وأما في الآخرة؛ فإنه يخلد في النار، لكن يكون عذابه أخف من عذاب الكافر. وقد حملهم على قولهم هذا: شبهات منها، ما يلي: ثانياً: عرض ما تيسر من شبهات المعتزلة في القول بالمنزلة بين المنزلتين، مع المناقشة: لقد تمسك المعتزلة في قولهم بالمنزلة بين المنزلتين بشبهات، منها ما يلي: الشبهة الأولى: يقول واصل بن عطاء: "وجدت أحكام الكفار المجمع عليها المنصوصة في القرآن كلها زائلة عن صاحب الكبيرة، فوجب زوال اسم الكفر عنه بزوال حكمه، لأن الحكم يتبع الاسم، كما أن الاسم يتبع الفعل، وأحكام الكفر المجموع عليها ... على ضربين ... الأول: حكم أهل الكتاب: قال تعالى: قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة: 29]. فهذا حكم الله في أهل الكتاب، وهو زائل عن صاحب الكبيرة.   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص137). (2) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص697). (3) ((المنية والأمل)) لابن المرتضى (ص6). (4) ((التبصير في الدين)) (ص42). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 الثاني: حكم الله في مشركي العرب: قال تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا .... الآية [محمد: 4]. فهذا حكم الله في مشركي العرب وفي كل كافر سوى أهل الكتاب، وهو زائل عن صاحب الكبيرة؛ ثم قد جاء في السنة المجمع عليها أن أهل الكفر لا يتوارثون، ولا يدفنون في مقابر أهل القبلة، وليس يفعل ذلك بصاحب الكبيرة. وحكم الله في المنافق: أنه إن ستر نفاقه وكان ظاهره الإسلام، فهو مسلم له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم. وإن ظهر كفره استتيب، فإن تاب وإلا قتل، وهذا الحكم زائل عن صاحب الكبيرة. وحكم الله في المؤمن الولاية والمحبة والوعد بالجنة. قال تعالى: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ ... الآية [البقرة: 257]. وقال تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا [الأحزاب: 47]. وقال تعالى: وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ... الآية [التوبة: 72]. وحكم الله في صاحب الكبيرة أن لعنه وأعد له عذاباً أليماً. قال تعالى: ... أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود: 18]. وقال تعالى: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار: 14]. وما أشبه ذلك من القرآن، فوجب أن صاحب الكبيرة ليس بمؤمن لزوال أحكام المؤمن عنه في كتاب الله، ووجب أنه ليس بكافر، لزوال أحكام الكفار عنه، ووجب أنه ليس بمنافق لزوال أحكام المنافقين عنه في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجب أنه فاسق فاجر لتسمية الله له بذلك. لذا فهو فاسق مخلد في النار لتوعد الله له بذلك، ولكنه في عذاب أخف من عذاب الكافر. انتهى كلام واصل بن عطاء بتصرف (1).ويقول في موضع آخر: "إن الإيمان عبارة عن خصال خير إذا اجتمعت سمي المرء مؤمناً وهو اسم مدح، والفاسق لم يستكمل خصال الخير، ولا استحق اسم المدح، فلا يسمى مؤمناً، وليس هو بكافر أيضاً؛ لأن الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه لا وجه لإنكارها، لكنه إذا خرج من الدنيا على كبيرة من غير توبة؛ فهو من أهل النار خالداً فيها؛ إذ ليس في الآخرة إلا فريقان: فريق في الجنة، وفريق في السعير؛ ولكنه تخفف عنه النار ... " (2). المناقشة: نقول لهم: أما قولكم أنه ليس بكافر، فهذا نوافقكم عليه؛ وأما قولكم أنه ليس بمنافق فكذلك هو ليس بمنافق؛ لأن كبيرته لا توجب استتابته، فإن تاب وإلا قتل كما يعمل مع المنافق إذا ظهر نفاقة، أما إذا لم يظهر لم يعلم هل هو منافق أم لا، لذا يعامل معاملة المسلمين. وأما قولكم: إنه ليس بمؤمن، فهذا على إطلاقه لا نوافقكم عليه؛ بل نقول: هو مؤمن ناقص الإيمان قد نقص إيمانه بقدر ما ارتكب من معصية، فهو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يكون له الاسم مطلقاً، ولا يسلب منه مطلق الإيمان. ومما يدل على أن الفاسق لم تخرجه كبيرته من الإيمان ما يلي:   (1) ((الانتصار)) (ص118)، و ((طبقات ابن المرتضى)) (ص8)، وانظر ((شرح الأصول الخمسة)) (ص713، 714). (2) ((الملل والنحل)) (1/ 48). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 1 - الآيات والأحاديث الناطقة بإطلاق لفظ الإيمان على العاصي كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ... الآية [البقرة: 178]. فقد سمى الله القاتل أخاً للمقتول وهي الأخوة الإيمانية، مما يدل على أن كبيرة القتل لم تخرجه من الإيمان، وقبل ذلك فقد خاطبهم جميعاً بلفظ الإيمان؛ مع أن فيهم قتلة؛ مما يدل على أن الكبيرة لا تخرج من الإيمان. وكقوله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات: 9]. فقد أطلق اسم الإيمان على الطائفتين المتقاتلتين من المؤمنين؛ مما يدل على أن كبيرة القتل لم تخرجهما من الإيمان، وكذلك كبيرة البغي ... (1).ومن الأحاديث الدالة على أن الفاسق معه إيمان قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه مسلم من رواية أبي ذر أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ فقال صلى الله عليه وسلم: وإن زنى وإن سرق ... على رغم أنف أبي ذر ... )) (2). ففي هذا الحديث دلالة على أن من قال: لا إله إلا الله، وإن ارتكب شيئاً من الكبائر، فإنه يدخل الجنة؛ مما يدل على أن كبيرته لم تخرجه من الإيمان. ثانيا: إجماع الأمة من عصر الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى يومنا هذا على الصلاة على من مات من أهل القبلة من غير توبة، والدعاء والاستغفار لهم مع العلم بارتكابهم للكبائر بعد الاتفاق على أن ذلك لا يجوز لغير المؤمن (3)؛ مما يدل على أنهم لم يخرجوا من الإيمان.   (1) ((الروضة الندية شرح الواسطية)) (ص392)، بتصرف. (2) رواه البخاري (5827) , ومسلم (94) , من حديث أبي ذر رضي الله عنه. (3) ((شرح العقائد)) (ص119)، بتصرف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 ثالثاً: قولكم: إن الفاسق قد أخرجه فسقه من الإيمان ينبني على أن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله؛ لأنهم يقولون: إن من عمل كبيرة لم يبق معه من الإيمان شيء وهو باطل. يقول ابن تيمية – في معرض الرد على من قال بهذا القول -: "وأما قول القائل: إن الإيمان إذا ذهب بعضه، ذهب كله، فهذا ممنوع، وهذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان. فإنهم ظنوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله ولم يبق منه شيء، ثم قالت الخوارج والمعتزلة: هو مجموع ما أمر الله به ورسوله، وهو الإيمان المطلق، كما قاله أهل الحديث، قالوا: فإذا ذهب شيء منه لم يبق مع صاحبه من الإيمان شيء، فيخلد في النار. وقالت المرجئة – على اختلاف فرقهم -: لا تذهب الكبائر وترك الواجبات الظاهرة شيئاً من الإيمان؛ إذ لو ذهب شيء منه، لم يبق منه شيء، فيكون شيئاً واحداً يستوي فيه البر والفاجر، ونصوص الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه تدل على ذهاب بعضه وبقاء بعضه، كقوله صلى الله عليه وسلم: (( ... أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان)) (1). ولهذا كان أهل السنة والحديث على أنه يتفاضل وجمهورهم يقولون: يزيد وينقص ... وقد ثبت لفظ الزيادة والنقصان منه عن الصحابة، ولم يعرف فيهم مخالف ... فمن ذلك ما روي من وجوه كثيرة عن حماد بن سلمة عن أبي جعفر عن جدة عمير بن حبيب الخطمي، وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان يزيد وينقص. قيل له: وما زيادته وما نقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فتلك زيادته؛ وإذا غفلنا ونسينا؛ فذلك نقصانه. وروى إسماعيل بن عياش عن جرير بن عثمان عن الحارث بن محمد عن أبي الدرداء قال: "الإيمان يزيد وينقص" وروى إسماعيل بن عياش عن أبي هريرة مثل ذلك .. وروي عن عمر بن الخطاب أنه كان يقول لأصحابه: هلموا نزداد إيماناً فيذكرون الله عز وجل ... وأيضاً: فإن الزيادة قد نطق بها القرآن في عدة آيات، كقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2].يقول ابن تيمية: وهذه الزيادة وقت تلاوة الآية، وليس هو تصديقهم بها عند النزول ... وكقوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: 173]. فهذه الزيادة عند تخويفهم العدو لم تكن عند آية نزلت، فازدادوا يقيناً وتوكلا على الله، وثباتاً على الجهاد (2).   (1) رواه البخاري (22) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (2) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص190، 191، 192)، بتصرف، وانظر ((شرح الطحاوية)) (ص276 - 278). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 ومثل هذه الآيات كثير، فإذا ثبت أن الإيمان يذهب بعضه ويبقى بعضه وأنه يزيد وينقص بطل قولهم: إن الفسق يخرج من الإيمان؛ وعلى ذلك فالفاسق مؤمن ناقص الإيمان وليس في منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان كما تدعون. ونقول أيضاً: ما دام مرتكب الكبيرة معه من الإيمان شيء، ولو إيماناً ناقصاً، فإنه لا يخلد في النار؛ بل يعذب على قدر ذنبه ثم يخرج من النار ويدخل الجنة لقوله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ... الآية [النساء: 48]. ولقوله تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزلزلة: 7]. ولقوله صلى الله عليه وسلم: (( ... يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ... الحديث)) (1). وقد سبق عرض شيء من شبهات المعتزلة في قولهم بتخليد صاحب الكبيرة في النار مع مناقشتها عند الكلام على أصل الوعد والوعيد. فإذا قولهم بتخليد صاحب الكبيرة في النار باطل، وعليه فتبطل هذه الشبهة. والله أعلم. الشبهة الثانية: يقول الخياط: "إن واصل بن عطاء لم يحدث قولاً لم تكن الأمة تقول به؛ إذ أنه وجد الأمة مجمعة على تسمية أهل الكبائر بالفسق والفجور مختلفة فيما سوى ذلك من أسمائهم، فأخذ بما أجمعوا عليه ... وتفسير ذلك: أن الخوارج وأصحاب الحسن كلهم مجمعون والمرجئة على أن صاحب الكبيرة فاسق فاجر،، ثم تفردت الخوارج فقالت: هو مع فسقه وفجوره كافر، وقالت المرجئة ... هو مع فسقه وفجوره مؤمن، وقال الحسن ومن تابعه: هو مع فسقه وفجوره منافق. فقال لهم واصل بن عطاء: قد أجمعتم على أن سيتم صاحب الكبيرة بالفسق والفجور، فهو اسم له صحيح بإجماعكم وقد نطق القرآن به في آية القاذف وغيرها من القرآن، فوجب تسميته بذلك وما تفرد به كل فريق منكم من الأسماء، فدعوى لا تقبل منه إلا بينة من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم" (2). المناقشة: والجواب على هذه الشبهة كما يلي:1 - أن مرتكب الكبيرة مؤمن ناقص الإيمان، فهو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته كما بيناه عند الرد على الشبهة الأولى. ثم إن إيمانه متفق عليه بين السلف، فإذا قولهم أن إيمانه مختلف فيه باطل (3).2 - أن في قولهم بالمنزلة بين المنزلتين ترك للمتفق عليه بين السلف – ومنهم الحسن -؛ لأن النفاق كفر إن أظهره صاحبه، وإن لم يظهره، فيعامل معاملة المسلمين، إضافة إلى ذلك: أنه نقل عنه الرجوع عن هذا القول إلى المذهب الحق والمتفق عليه: وهو أن المكلف إما مؤمن أو كافر، ولا واسطة بينهما وأخذ بما لم يقل به أحد فضلاً عن الاتفاق؛ فإذاً قولهم بالمنزلة بين المنزلتين إحداث للقول المخالف لما أجمع عليه السلف (4)؛ فيكون باطلاً، وبذلك تبطل هذه الشبهة والله أعلم. ثالثا: مذهب أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة: لمعرفة مذهب أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة؛ لابد أن نسوق شيئاً من أقوال أئمة السلف في ذلك، فنقول وبالله التوفيق. يقول ابن تيمية – رحمه الله -: "ومذهب أهل السنة والجماعة أن فساق أهل الملة ليسوا مخلدين في النار، كما قالت الخوارج والمعتزلة، وليسوا كاملين في الدين والإيمان والطاعة؛ بل لهم حسنات وسيئات، ويستحقون بهذا العقاب وبهذا الثواب ... " (5).   (1) رواه البخاري (22) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (2) ((الانتصار)) للخياط (ص118). (3) ((المواقف في علم الكلام)) (8/ 339)، بتصرف. (4) ((شرح العقائد)) (1/ 170)، بتصرف. (5) ((الفتاوى)) (7/ 679). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 ويقول شارح الطحاوية: "إن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية كما قالت الخوارج؛ إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملة؛ لكان مرتداً يقتل على كل حال، ولا يقبل عفو ولي القصاص، ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر! وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام. ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام، ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود مع الكافرين كما قالت المعتزلة، فإن قولهم باطل أيضاً، إذ قد جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين. قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ... [البقرة: 178] إلى أن قال: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ... الآية [البقرة: 178]. فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا، وجعله أخا لولي القصاص، والمراد أخوة الدين بلا ريب. وقال تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات: 9] إلى أن قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ... الآية [الحجرات: 10].ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل، بل يقام عليه الحد، فدل على أنه ليس بمرتد. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من كانت عنده لأخيه اليوم مظلمة من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم، قبل أن لا يكون درهم ولا دينار، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه، ثم ألقي في النار)) (1). فثبت أن الظالم يكون له حسنات يستوفي المظلوم منها حقه ... " (2)؛ مما يدل على أن الكبيرة لا تخرج من الإيمان. يقول النووي – وهو يروي مذهب أهل السنة في الموحدين -: "واعلم أن مذهب أهل السنة وما عليه أهل الحق من السلف والخلف أن من مات موحداً دخل الجنة قطعاً على كل حال ... " (3). من هذه الأقوال يتبين أن مرتكب الكبيرة عند أهل السنة ليس بكافر كما تقول الخوارج، وليس بكامل الإيمان كما تقول المرجئة، وليس في منزلة بين المنزلتين كما تزعمه المعتزلة، بل إن مؤمن ناقص الإيمان، قد نقص إيمانه بقدر ما ارتكب من معصية. وفي الآخرة لا يخلد في النار، بل هو تحت مشيئة الله، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه على قدر ذنبه، ثم أخرجه من النار، قال تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء: 48]. وعلى ذلك، فقول المعتزلة بالمنزلة بين المنزلتين باطل لا يقره أهل السنة والجماعة. والله أعلم. المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص 255   (1) رواه البخاري (6534) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, بدون لفظ: (ثم ألقي في النار). (2) ((شرح الطحاوية)) (ص360، 361). (3) ((صحيح مسلم بشرح النووي)) (1/ 217). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 المعتزلة كغيرهم من الطوائف الإسلامية، يرون أن المعاصي تنقسم إلى ما هو صغيرة، وإلى ما هو كبيرة، نظرا لما ورد في بيان ذلك من نصوص شرعية، فقد وردت آيات كريمات مشتملة على ذكر الصغيرة والكبيرة، كقوله تعالى: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا [الكهف: 49] وقوله سبحانه: وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر: 53] وقال: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات: 7]، فرتب المعاصي هذا الترتيب حيث بدأ بالكفر الذي هو أعظم الذنوب، وثناه بالفسق، وختم بالعصيان، فلا بد من أن يكون قد أراد به الصغائر، وقد صرح بذكر الكفر والفسق قبله، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى، وهذا قدر متفق عليه بين الفرق كما ذكرت عند بيان مذهب السلف، ما عدا الخوارج. أما تحديد معنى كل من الصغيرة والكبيرة عند المعتزلة فقد وقع بينهم خلاف في ذلك. فقد ذهب القاضي عبد الجبار إلى أن الكبيرة في عرف الشرع هو ما يكون فاعله أكثر من ثوابه إما محققا وإما مقدرا. وأما الصغيرة فهو ما يكون ثواب فاعله أكثر من عقابه إما محققا وإما مقدرا. ثم قال: واحترزنا في الموضعين بقولنا إما محققا وإما مقدرا عن الكفار ومن لم يطع البتة، فإنه قد وقع في أفعال الصغيرة والكبيرة، على معنى أنه لو كان له ثواب لكان يكون محبطا بما ارتكبه من المعصية، أو يكون عقاب ما أتى به من الصغيرة مكفرا في جنب ما يستحقه من الثواب (1).ومن تعريفات الصغيرة والكبيرة عند المعتزلة ما ذكره الأشعري عن جعفر بن حرب وذكره القاضي عبد الجبار على سبيل النقد فقد ذكر عنه قوله: إن كل عمد كبيرة. وقال بعد ذلك: وأظن أن ذلك مذهب لبعض السلف من أصحابنا (2). فجعفر بن حرب هذا يرى أن الكبيرة هي القبيح الذي يقترن بعمد الإنسان وإصراره أي أنه يميل إلى وصف الجريمة بحال الفاعل لا بموضوع القبيح. وأنكر القاضي ذلك من وجهين: الأول: إن العمد لا تأثير له في كون الفعل كبيرا أو صغيرا، لأن للقبيح موضوعا أو بمعنى آخر: أن للجريمة صفة موضوعية إذا ما وقعت من أي إنسان كانت كبيرة أو صغيرة. الثاني: إن الطريق إلى تحديد الكبائر وتعيينها هو الدلالة الشرعية وقد حدد الشرع أن القتل والزنا والقذف وغيرهما كبائر، وهذا لا يتفق مع القول بالعمد (3). ولا خلاف بين المعتزلة في وجود الصغيرة والكبيرة بين القبائح إلا أن الخلاف – بينهم كان حول طريق الدلالة على ذلك فذهب البعض وهم الأكثر – إلى أن الشرع هو الذي يعرفنا باشتمال المعاصي على صغير وكبير، ولو ترك للعقل لحكم بأن جميع المعاصي كبائر، لأن من المعلوم أن أقل القليل منها يستحق جزءا من العقاب كما أن أقل القليل من الطاعات يستحق جزءا من الثواب. ومن هؤلاء أبو علي والقاضي عبد الجبار وغيرهم، وقد استدلوا بما تقدم من أدلة شرعية. أما الآخرون فذهبوا إلى أن العقل بمفرده يستطيع أن يميز بين الصغيرة والكبيرة فسرقة درهم ليست كسرقة عشرة دراهم وإلى هذا الرأي كان يذهب أبو هاشم ومال إليه جعفر بن حرب كما هو واضح من رأيه المتقدم في تحديد الفرق بين الصغيرة والكبيرة.   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (632) (2) ((شرح الأصول الخمسة)) (634). (3) ((شرح الأصول الخمسة)) (634). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 وقد تختلف آراء المعتزلة في تحديد معنى الصغيرة والكبيرة، وتتسع مسافة الخلاف بينهم، لكن ما تبنوه من آراء هو موضع نظرنا، إذ أنها لا تحدد لنا تحديدا واضحا الفرق بين الأمرين، لا سيما ما ذهب إليه القاضي عبد الجبار – وإن كان هو الأكثر انسجاما مع مذهب القوم – لأن الثواب والعقاب مما لا يعلم مقداره إلا الله سبحانه وتعالى، فاختلافه قلة وكثرة من شخص لآخر أمر خفي، لا يمكننا إدراكه، على أن الضابط الذي ذكره القاضي عبد الجبار على أنه تحقيق للمذهب، مناقض لما هو مشهور من مذهب المعتزلة الذي سيأتي بعد من أن ثواب الطاعات محبط لا وزن له مع ارتكاب الإنسان للكبيرة، لأن صاحبها مخلد في النار، فأين الثواب الذي يمكن أن يقاس مع العقاب ويحدد بموجبه كل من الصغيرة والكبيرة؟ غير أن الأهم من ذلك كله أن المعتزلة مهما اختلفوا في تحديد الضابط مقرون بانقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر، فما حكم كل منهما عندهم؟ أما الصغائر فقد ذكر أبو الحسن الأشعري أنهم لم يتفقوا أيضا على قول واحد بشأنها بل دار بينهم الخلاف في ذلك على أقوال ثلاثة: 1 - أن الله سبحانه يغفر الصغائر إذا اجتنبت الكبائر تفضلا. 2 - يغفر الصغائر إذا اجتنبت الكبائر باستحقاق. 3 - أن الله لا يغفر الصغائر إلا بالتوبة (1). فهذه أقوال ثلاثة عند المعتزلة، اثنان منها قالت بالغفران، والخلاف بينهما في الاستحقاق والتفضل، والاستحقاق كما هو واضح فيه تحكم على الله سبحانه – وذلك غير لائق بحال. ولكن من مبادئ المعتزلة المشهورة عنهم قولهم بوجوب الصلاح والأصلح، ولا يخفى ما في هذا المبدأ من جسارة وعدم تأدب مع الله سبحانه وتعالى. أما القول الثالث فإنه يجعل الصغيرة بمنزلة الكبيرة في عدم الغفران إلا بالتوبة وهذا لم يقل به أحد، ومخالف أيضا لما عليه المعتزلة أنفسهم من الفرق بين الصغيرة والكبيرة من حيث المعنى والاعتبار. وعلى كل حال فالأهم من ذلك كله هو مرتكب الذنب الكبير، فماذا يقول القوم في حكمه؟ هذه المسألة تسمى عند مؤرخي الفرق والمعتزلة بالأسماء والأحكام، لأنها تبحث في صفة مرتكب الكبيرة وحكمه. يقول الدكتور عبد الكريم عثمان في الكلام على هذه المسألة: وقد أثار تحديد مكان مرتكب الكبيرة وحكمه خلافا شديدا بين المسلمين، وجعله بعض مؤرخي الفرق سببا مباشرا لظهور مذهب الاعتزال. فقد قالت الخوارج إن صاحب الكبيرة كافر، وذهب المرجئة إلى أنه مؤمن، وقرر الحسن البصري أنه منافق، أما واصل فقد أعلن أن مرتكب الكبيرة ليس مؤمنا ولا كافرا، ولا منافقا، بل هو فاسق، أو في منزلة بين المنزلتين: الإيمان والكفر، ومن هنا أطلق على هذا الأصل عند المعتزلة اسم المنزلة بين المنزلتين، أو الأسماء والأحكام (2).فالمعتزلة يرون أن مرتكب الكبيرة، لا مؤمن ولا كافر، بل له اسم بين الاسمين وحكم بين الحكمين، فلا يكون اسمه اسم الكافر، ولا اسمه اسم المؤمن، وإنما يسمى فاسقا وكذلك فلا يكون حكمه حكم الكافر، ولا حكم المؤمن، بل يفرد له حكم ثالث وهذا الحكم هو ما يسمى بالمنزلة بين المنزلتين. فإن صاحب الكبيرة عندهم له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان، فليست منزلته منزلة الكافر، ولا منزلة المؤمن، بل له منزلة بينهما (3).   (1) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 332). (2) ((نظرية التكليف)) (494). (3) ((شرح الأصول الخمسة)) (697) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 والمراد من هذا بيان الحكم الدنيوي لمرتكب الكبيرة، ففيه أن مرتكبها يسلب منه اسم الإيمان بالكلية، لأنه بارتكابها يزول ما معه من إيمان، فلم يعد مؤمنا غير أنهم في هذا الحكم الدنيوي لم يبلغوا به درجة الكافر فلم يجوزوا تسميته كافرا، كما لم يجوزوا تسميته مؤمنا، بل جعلوا له منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان وهي الفسق. وقد برزت هذه المقالة أول ما برزت على يد واصل بن عطاء الغزال أحد زعماء المعتزلة، بل زعيمهم الأول والذي كان تلميذا للحسن البصري، المشتهر بقوله بأن مرتكب الكبيرة منافق. وقد بينها الشهرستاني في (الملل والنحل) بقوله: ووجه تقريره لهذه المسألة أنه – الإيمان واصل بن عطاء – قال: إن الإيمان عبارة عن خصال خير، إذا اجتمعت سمي المرء مؤمنا، وهو اسم مدح، والفاسق لم يستمع خصال الخير ولا استحق اسم المدح، فلا يسمى مؤمنا، وليس هو بكافر مطلقا أيضا، لأن الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه لا وجه لإنكارها (1). وكل هذا ليس إلا بحثا في التسمية والمعاملة الدنيوية إذ أنهم ذهبوا هذا المذهب ليؤدي لهم غرضين في آن واحد. الغرض الأول: هو القول بأن مرتكب الكبيرة يعامل في الدنيا كما يعامل بقية المسلمين فتجوز مناكحته، وموارثته، ودفنه في مقابر المسلمين، وغير ذلك من الأحكام الجارية عليه في الدنيا. الغرض الثاني: هو القول بالتأبيد في النار - على ما سيأتي بعد – فإنهم لم يوصلوه في الوصف الدنيوي إلى درجة الكفر، حتى تجري عليه تلك الأحكام الدنيوية، وعز عليهم أن يعطوه اسم الإيمان، لأنه في نظرهم لا بد وأن يدخل النار ليجازى بما عمل من السيئات، وداخل النار عندهم لا يخرج منها، والمؤمن لا يمكن أن يدخل النار في نظرهم. ويزيد المسألة وضوحا ما ذكره القاضي عبد الجبار من استدلال على هذا المعتقد حيث قال ما معناه: والذي يدل على الفصل الأول، وهو الكلام في أن صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمنا، هو ما قد ثبت من أنه يستحق بارتكاب الكبيرة الذم واللعن والاستخفاف والإهانة، وثبت أن اسم المؤمن صار بالشرع اسما لمن يستحق المدح والتعظيم والموالاة، فإذ قد ثبت هذان الأصلان، فلا إشكال في أن صاحب الكبيرة لا يجوز أن يسمى مؤمنا (2). ثم ذكر بعد ذلك الأدلة على أن اسم المؤمن صار بالشرع اسما لمن يستحق المدح والتعظيم كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: 1] وقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2]. إلى غير ذلك من الآيات. أما الدليل على أن مرتكب الكبيرة لا يسمى كافرا فهو أنه جعل الكافر في الشرع اسما لمن يستحق العقاب العظيم، ويختص بأحكام مخصوصة نحو المنع من المناكحة والموارثة، والدفن في مقابر المسلمين، إذا ثبت هذا ومعلوم أن صاحب الكبيرة ممن لا يستحق العقاب العظيم ولا تجري عليه هذه الأحكام، فلم يجز أن يسمى كافرا (3). ومن أدلة المعتزلة أيضا على قولهم بالمنزلة بين المنزلتين ما ذكره عضد الدين الأيجي في المواقف حيث ذكر احتجاجهم على ذلك بوجهين:   (1) ((الملل والنحل)) تحقيق محمد كيلاني (1/ 48). (2) ((شرح الأصول الخمسة)) (701). (3) ((شرح الأصول الخمسة)) (712). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 أحدهما: ما تقدم من أن الإيمان عبارة عن الطاعات، وأن الفاسق يعامل في الدنيا معاملة سائر المسلمين. أما الوجه الثاني: فهو ما قاله واصل بن عطاء لعمرو بن عبيد، فرجع عمرو إلى مذهبه وهو أن فسقه معلوم وفاقا، وإيمانه مختلف فيه، لأن الأمة مجمعة على أن صاحب الكبيرة فاسق واختلفوا في كونه مؤمنا أو كافرا فنترك المختلف فيه ونأخذ بالمتفق عليه (1).وهذا هو الدليل الأساسي الذي يستدل به القوم، ويوضحه القاسم الرسي بقوله:. . والأمة مجمعة على أن من أتى كبيرة، أو ترك طاعة فريضة كالصلاة والزكاة والصيام من أهل الملة فهو فاسق، وهي مختلفة في غير ذلك من أسمائه. قال بعضهم: هو مشرك فاسق منافق، فكلهم قد أقر بأنه فاسق كافر، وقال بعضهم: فاسق منافق فكلهم قد أقر بأنه فاسق، واختلفوا في غير ذلك من أسمائه. فالحق ما أجمعوا عليه من تسميتهم إياه بالفسق، والباطل ما اختلفوا فيه، ففي إجماعهم الحجة والبرهان (2).وهذا كله – كما سبق وأن قلت – لا يعدو كونه كلاما في حكم دنيوي وهو القدر الذي يختلفون فيه مع الخوارج، حيث قالوا بكفره ابتداء، وخروجه من ملة الإسلام – أما الحكم الأخروي لمرتكب الكبيرة عند المعتزلة: فعندهم أن من استوعب عمرا في طاعة الله سبحانه وتعالى، ثم قارف كبيرة واحدة، ولم يوفق للتوبة عنها، وما على هذه الحال، فهو مخلد في النار مع المشركين الذين لم يؤمنوا ولم يأتوا بحسنة قط (3). وهذا هو بعينه رأي الزيدية الذين تبنوا أصول الاعتزال، وعنهم يقول الشهرستاني: أما في الأصول فيرون رأي المعتزلة حذو القذة بالقذة، ويعظمون أئمة الاعتزال أكثر من تعظيمهم أئمة أهل البيت (4). فعند هؤلاء جميعا أن الإنسان مهما عمل من الخيرات، ومهما جاهد في سبيل إرضاء ربه، من فعل للواجبات، واجتناب للمحرمات، وكبح لجماح النفس وصد لشهواتها، فإن جميع طاعاته هذه تذهب هباء عندما يزل في يوم من الأيام فيرتكب كبيرة، لأن هذه المعصية تحبط جميع تلك الأعمال الخيرة، فلا يبقى لها وزن، ولا يعود لها اعتبار، لأن مرتكب الكبيرة إذا لم يقلع عنها بتوبة جازمة نصوح لا عودة بعدها، فلا بد وأن يدخل النار خالدا مخلدا فيها، لأن داخل النار عندهم لا يخرج منها أبد الآبدين. وهذا المذهب في مرتكب الكبيرة تذكره كتب الفرق على أنه أصل من أصول المعتزلة التي يجمعون عليها، إلا أن إمام الحرمين الجويني ذكر أن معتزلة البصرة، وبعض البغداديين واقفية في وعيد مرتكب الكبيرة، إذ قالوا بأن من مات من المؤمنين على إصراره على المعاصي، لا يقطع عليه بعقاب، بل أمره مفوض إلى ربه تعالى، فإن عاقبه فذلك بعدله، وإن تجاوز عنه فذلك بفضله ورحمته، فلا يستنكر ذلك عقلا وشرعا (5). وعلى كل حال، فهذا أصل من أصول المعتزلة سواء أجمعوا عليه أم لم يجمعوا فهو المذهب المشهور عنهم، وأي خلاف فيه من قبلهم فإنه لا ينقض المذهب، لا سيما وأنهم قد اشتهروا بتبنيه والاستدلال له. ومن رجع منهم عن القول به فإنما كان ذلك منه لأنه في نظري ناشد للحقيقة غير متبع ولا مقلد، فلا يستغرب ذلك، إلا أنه كما قلت هو المذهب المقترن باسم المعتزلة عند ذكرهم دائما. أما أدلتهم على قولهم بخلود مرتكب الكبيرة في النار، فقد استدلوا بأدلة عقلية ونقلية: فأما الأدلة العقلية:   (1) ((المواقف بشرح الجرجاني)) (8/ 338). (2) ((كتاب العدل والتوحيد)) تحقيق عمارة (1/ 130). (3) ((شرح الأصول الخمسة)) (666). (4) ((الملل والنحل)) تحقيق محمد كيلاني (1/ 162). (5) ((الإرشاد)) لإمام الحرمين الجويني تحقيق محمد موسى، وعلي عبد المنعم (393). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 فمنها ما ذكره القاسم الرسي من أن أحدا لا يقدر أن يؤدي كل ما استحق الله تبارك وتعالى من عباده، من شكر نعمته وإحسانه، بالكمال والتمام، حتى لا يبقى مما يحق لله جل ثناؤه شيئا إلا أداه، هيهات فكيف وهو يقول تبارك وتعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل: 18] فكيف يؤدي شكر ما لا يحصى؟! ولم يفترض على خلقه ذلك، ولا سأل كل ما له عليهم مما يستحق لديهم، لعلمه بضعفهم وأن في بعض ذلك استفراغ جهدهم، وما تعجز عنه أنفسهم وأنهم لا يقدرون على ذلك ويقصرون عن بلوغ ذلك. . وغفر لهم صغير ذنوبهم كله إذا اجتنبوا كبيرة رحمة بهم، ونظرا لهم، فأما من رجا الرحمة وهو مقيم على الكبيرة فقد وضع الرجاء في غير موضعه، واغتر بربه واستهزأ بنفسه، وخدعه وغره من لا دين له، إلا أن يتوب فيغفر له بالتوبة، فأما الإقامة على الكبائر فلا. . وذلك أن للجنة والنار طريقان فطريق الجنة طاعته المجردة عن الكبائر من معاصي الله، وطريق النار معصية الله، وإن لم تكن مجردة من بعض طاعات الله، لأننا قد نجد العبد يؤمن بكتاب الله كله، ويكفر ببعضه فلا يكون مؤمنا، ولا بما آمن به من النار ناجيا. يصدق ذلك قول الله عز وجل: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 85] فلم يسموا بما آمنوا به مؤمنين، بل سموا بما كفروا به منه- لا كله- كافرين. وعلى هذه الطريق فيمن لم يكفر من الفاسقين أهل الكبائر العاصين، فمن كان على المعصية الكبيرة مقيما فهو على طريق النار، فكيف يرجو البلوغ إلى الجنة وهو يسلك ذلك الطريق، كرجل توجه إلى طريق خراسان فسلكه وهو يقول: أنا أرجو أن أبلغ الشام، فهذا من وضع الرجاء في غير موضعه (1). وملخص الدليل العقلي السابق أن الله تبارك وتعالى له نعم على عباده لا تحصى ومهما عمل الإنسان لا يستطيع الوفاء بشكرها، إذ أن ذلك يتطلب منه استيفاء كل حق لله عليه. وقد علم الله من عباده عجزهم وضعفهم عن الوفاء بجميع ذلك، لذلك اكتفي منهم بالقليل بعد أن أعطاهم الكثير، بل وعفا عن صغائر ذنوبهم، وهذه منة عظيمة أخرى منه – تبارك وتعالى – فعلى الإنسان إذا الإتيان بهذا القليل الذي كلف به دون تفريط، وإذا قصر فيه بارتكاب الكبائر فعلا لمحرم، أو تركا لواجب فهو من أهل النار لا محالة، لأن الله تجاوز له عن الكثير لم يكلفه به، فإذا قصر في ذلك القليل المطلوب منه فهو ممن سلك طريق النار، والطريق إلى الشيء المعين توصل إليه لا إلى ما يوجد في جهة معاكسة، وطريق النار المعصية وهذه لا يمكن أن يصل عن طريقها إلى الجنة، كما أن طريق الجنة الطاعة، وهذه أيضا لا يمكن أن توصل بصاحبها إلى النار، وضرب مثلا بسالك طريق خراسان، وهو يقصد الوصول إلى الشام. فهذا دليل عقلي على أن الفاسق مصيره إلى النار، وأنه يفعل به ما يستحقه. وهناك دليل عقلي آخر ذكره القاضي عبد الجبار وهذا الدليل هو أن الله أمر ونهى، أي كلف الإنسان، ووعده وتوعده، وكل خلف بالوعد أو الوعيد نوع من الكذب لا يجوز على الله. ولو ثبت أنه يخلف وعيده ولا يعاقب الفاسقين لكان في ذلك إغراء له على فعل القبيح، إذ أن للمكلف أن يعصي ويتجاوز حدود الله، وهو مطمئن إلى أنه سيغفر له (2). أما الأدلة السمعية:   (1) ((العدل والتوحيد)) (1/ 123). (2) ((شرح الأصول الخمسة)) (650). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 فقد استدلوا بعموم الآيات الواردة في الوعيد، ومن هذه الآيات التي هي مناط استدلالهم قوله تعالى: وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء: 14]. ووجه الاستدلال: أن الله تبارك وتعالى أخبر أن العصاة يعذبون بالنار ويخلدون فيها، والعاصي اسم يتناول الفاسق والكافر جميعا، فيجب حمله عليهما، لأنه تعالى لو أراد أحدهما دون الآخر لبينه، فلما لم يبينه دل على ما ذكرناه (1). ومن ذلك قوله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]. ووجه الاستدلال: هو أنه تعالى يبين أن من يقتل مؤمنا عمدا جازاه وعاقبه وغضب عليه ولعنه، وفي ذلك ما قلناه (2)، أي أن ذلك يكون على سبيل الدوام كما هو مصرح بذكر الخلود في الآية. ومما استدل به المعتزلة أيضا قوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [الزخرف: 74]. ووجه الاستدلال: أن المجرم اسم يتناول الكافر والفاسق جميعا فيجب أن يكونا مرادين بالآية، معنيين بالنار، لأنه تعالى لو أراد أحدهما دون الآخر لبينه، فلما لم يبينه دل على أنه أرادهما جميعا (3).هذه بعض أدلة المعتزلة من القرآن الكريم على قولهم بتخليد مرتكب الكبيرة في النار. يقول القاضي عبد الجبار بعد ذكره لهذه الآية: فإنها كما تدل على أن الفاسق يفعل به ما يستحقه من العقوبة، تدل على أنه يخلد، إذ ما من آية من هذه الآيات التي مرت إلا وفيها ذكر الخلود والتأبيد، أو ما يجري مجراهما (4).ثم ذكر بعد ذلك طريقة أخرى للاستدلال على هذا المعتقد حيث قال: وهنا طريقة أخرى مركبة من السمع، وتحريرها: هو أن العاصي لا يخلو حاله من أحد أمرين: إما أن يعفى عنه، أو لا يعفى عنه، فإن لم يعف عنه فقد بقي في النار خالدا، وهو الذي نقوله. وإن عفي عنه فلا يخلو، إما أن يدخل الجنة أو لا، فإن لم يدخل الجنة لم يصح، لأنه لا دار بين الجنة والنار، فإذا لم يكن في النار وجب أن يكون في الجنة لا محالة، وإذا دخل الجنة فلا يخلو إما أن يدخلها مثابا أو متفضلا عليه ولا يجوز أن يدخل الجنة متفضلا عليه، لأن الأمة اتفقت على أن المكلف إذا دخل الجنة فلا بد أن يكون حاله متميزا عن حال الولدين المخلدين وعن حال الأطفال والمجانين، ولا يجوز أن يدخل الجنة مثابا، لأنه غير مستحق، وإثابة من لا يستحق الثواب قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح (5). وغرضه من هذا الكلام هو القول بأن الفاسق لا يجوز على الله تعالى أن يعفو عنه ويدخله الجنة، لأن دخوله الجنة لا يكون إلا عن ثواب لا عن تفضل من الله سبحانه، فالجنة عوض لازم للإنسان عن أعمال الخير إذا لم يشبها كبائر، والفاسق لا ثواب له، وإثابة من لا يستحق الثواب قبيح على الله تعالى، والحسن والقبح كما هو معروف أحد أصول المعتزلة التي يسيرون عليها في معتقداتهم، وإذا ثبت هذا فلا بد من دخول الفاسق النار خالدا، ولا يجوز على الله تعالى أن يعفو عنه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وأرى لزاما علي قبل أن أختم الكلام عن مذهب المعتزلة بشأن مرتكب الكبيرة أن أنبه هنا إلى أن الدكتور عبد الكريم عثمان قد ذكر في كتابه نظرية التكليف أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد وافق المعتزلة على رأيهم في وجوب إنفاذ الوعد والوعيد وتخليد مرتكب الكبيرة في النار (6).وهذا الكلام فيه مكابرة للواقع ومخالفة للحقيقة الظاهرة الواضحة التي قد يكون الاستدلال عليها من العبث بمكان فموقف ابن تيمية – رحمه الله – واضح جلي لا غموض فيه ولا شبهة وهو من هو بالنسبة لمذهب السلف الصحيح فقد قرره ودافع عنه وانتصر له وهو المذهب الغني عن الإعادة والبيان ولم يقل أحد سوى الدكتور عبد الكريم عثمان أن ابن تيمية، قال بأنه يجب على الله إثابة المطيع، بل ابن تيمية يقول عن الله يثيب المطيع تفضلا منه ونحن لم نوجب ذلك عليه بل أوجبه سبحانه على نفسه. أما عقاب العصاة فإن الله أوعدهم بالعقاب ورحمته وسعت كل شيء فقد يتخلف الوعيد بعفوه سبحانه أما إذا عاقب فإنه لا يخلد لأنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان (7). هذا هو بعينه مذهب السلف، والقدح في ابن تيمية الذي نذر نفسه للدفاع عن الحق الذي يسنده الدليل، يعتبر قدحا في أهل الحق من السنة والجماعة وقد تقدم إيضاح مذهبهم في هذه المسألة. المصدر: الإيمان بين السلف والمتكلمين لأحمد الغامدي – ص 133   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (657). (2) ((شرح الأصول الخمسة)) (660). (3) ((شرح الأصول الخمسة)) (660). (4) ((شرح الأصول الخمسة)) (666). (5) ((شرح الأصول الخمسة)) (666). (6) ((كتاب نظرية التكليف)) (476). (7) ((منهاج السنة النبوية)) (1/ 286). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 الفصل السادس: الأصل الخامس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر • المبحث الأول: رأي المعتزلة في حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأقسامه . • المبحث الثاني: رأي المعتزلة في الوسيلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحكم الخروج على السلطان وقتال المخالف لهم، وهل يفرقون بين قتال الكافر والفاسق؟. • المبحث الثالث: مناقشة رأي المعتزلة في الوسيلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع بيان رأي أهل السنة:. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 المبحث الأول: رأي المعتزلة في حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأقسامه • المطلب الأول: حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المعتزلة وأقسامه: . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 المطلب الأول: حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المعتزلة وأقسامه: أولاً: حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المعتزلة: لمعرفة حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المعتزلة؛ لابد أن نسوق شيئاً من أقوالهم في ذلك، فنقول وبالله التوفيق. يقول القاضي عبدالجبار: "اعلم أنه لا خلاف في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... " (1).ويقول في موضع آخر: " ... واعلم أن المقصود في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو: أن لا يضيع المعروف ولا يقع المنكر، فإذا ارتفع هذا الغرض ببعض المكلفين سقط عن الباقين، فلهذا: قلنا أنه من فروض الكفايات ... " (2).ويقول الزمخشري: " ... الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات ... " (3). من هذه الأقوال؛ يتضح حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المعتزلة، وهو أنه واجب كفائي. أدلة المعتزلة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه كفائي: أ- أدلة المعتزلة على وجوبه: يقول القاضي عبدالجبار: "والذي يدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ... الآية [آل عمران: 110]. يقول القاضي: فالله تعالى مدحنا على ذلك، فلولا أنها من الحسنات الواجبات وإلا لم يفعل ذلك. وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل ... )) الحديث. أما الإجماع: يقول القاضي: وأما الإجماع، فلا إشكال فيه، لأنهم اتفقوا عليه" (4). ب- أدلة المعتزلة على أن الأمر بالمعروف ... كفائي: وأدلة المعتزلة في هذا كثيرة، منها: من الكتاب: قوله تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104].يقول الزمخشري: " ... إن من في قوله تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ للتبعيض؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات" (5).ومن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم - ((وقد سئل وهو على المنبر من خير الناس؟ - فقال صلى الله عليه وسلم: آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم)) (6). ففي هذا الحديث دلالة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب وجوب عين؛ إذ أن الأمر فيه للترغيب، ولو كان واجباً وجوب عين لما كان كذلك (7). ثانياً: أقسام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المعتزلة: لقد قسم المعتزلة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر باعتبارين: الأول: باعتبار الحكم: يرى القاضي عبدالجبار: أن مشايخه أطلقوا القول في وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والواجب أن يفصل القول فيه، فيقال: المعروف ينقسم إلى: أ- ما يجب والأمر بهذا القسم واجب. ب- المندوب إليه: والأمر بهذا القسم غير واجب؛ لأن حال وجوب النهي عنها، لأن النهي إنما يجب لقبحها والقبح ثابت في الجميع (8). الثاني: أقسام الأمر بالمعروف ... باعتبار القائمين به: لقد قسم القاضي عبدالجبار الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، باعتبار القائمين به إلى قسمين: أحدهما: ما لا يقوم به إلا الأئمة؛ وذلك كإقامة الحدود، وحفظ بيضة الإسلام، وسد الثغور، وتنفيذ الجيوش وما أشبه ذلك. ثانيهما: ما يقوم به غير الأئمة من كافة الناس؛ وذلك مثل: النهي عن شرب الخمور، والزنا، والسرقة، وما أشبه ذلك، ولكن إذا كان هناك إمام مفترض الطاعة، فالرجوع إليه أولى (9). المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص 267   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص142). (2) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص148). (3) ((الكشاف)) للزمخشري (1/ 452). (4) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص145). (5) ((الكشاف)) للزمخشري (1/ 452). (6) رواه أحمد (6/ 432) (27474) , قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 266): رجاله ثقات وفي بعضهم كلام لا يضر. وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (2897) , وقال شعيب الأرنؤوط في تحقيقه لـ ((مسند أحمد)): إسناده ضعيف. (7) انظر ((الكشاف)) للزمخشري (ص1) (ص452). (8) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص745)، وانظر ((الكشاف)) (1/ 452). (9) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص148). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 المبحث الثاني: رأي المعتزلة في الوسيلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحكم الخروج على السلطان وقتال المخالف لهم، وهل يفرقون بين قتال الكافر والفاسق؟ رأي المعتزلة في: أولا: الوسيلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثانيا: حكم الخروج على السلطان وقتال المخالف لهم. ثالثا: هل يفرقون بين قتال الكافر والفاسق؟ إليك بعض النصوص التي قالها المعتزلة أو نقلت عنهم والتي يمكن أن نأخذ منها رأيهم في هذه المسائل. يقول القاضي: "واعلم أن المقصود بالأمر بالمعروف إيقاع المعروف، وبالنهي عن المنكر زوال المنكر، فإذا ارتفع الغرض بالأمر السهل لم يجز العدول عنه إلى الأمر الصعب" (1).ويقول الزمخشري – وهو يتكلم عن رأي المعتزلة في الأمر بالمعروف ... -:" ... وعليه أن يباشر الإنكار بالسهل، فإن لم ينفع ترقى إلى الصعب، لأن الغرض هو إزالة المنكر" (2).ويقول الأشعري: " ... أجمعت المعتزلة إلا الأصم، على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان واليد والسيف كيف قدروا على ذلك؟ " (3).ويقول في موضع آخر: " ... إن المعتزلة قالوا: إذا كنا جماعة وكان الغالب عندنا أنا نكفي مخالفينا، عقدنا للإمام ونهضنا فقتلنا السلطان وأزلناه، وأخذنا الناس بالانقياد لقولنا، فإن دخلوا في قولنا الذي هو التوحيد، وفي قولنا بالقدر، وإلا قتلناهم ... وأوجبوا الخروج على السلطان على الإمكان والقدرة إذا أمكنهم ذلك وقدروا عليه ... " (4).ويقول المسعودي – وهو يحكي رأي المعتزلة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -: "وأما القول بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو الأصل الخامس، فهو أن ما ذكر على سائر المؤمنين واجب على حسب استطاعتهم في ذلك بالسيف فما دونه، وإن كان كالجهاد، ولا فرق بين مجاهدة الكافر والفاسق" (5). من هذه الأقوال؛ يتبين أن المعتزلة يرون أن الوسيلة في الأمر بالمعروف أن يبدأ بالحسنى، فإن لم يفد انتقلنا إلى اللسان، فإن لم يفد انتقلنا إلى اليد، فإن لم يفد انتقلنا إلى السيف، فهم إذاً يبدؤون من الأسهل إلى ما هو أكبر منه، ولو أحوج الأمر على السيف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا بأس في ذلك. ثم هم بناء على استعمال السيف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يرون قتال المخالف لهم؛ سواء كان سلطاناً أو غيره من عامة الناس إذا كانوا جماعة وفي مقدورهم ذلك، ولذا قالوا: بوجوب الخروج على السلطان الجائر وقتال المخالفين لهم. كما يتبين أنهم لا يفرقون بين قتال الكافر والفاسق، وقد تعلقوا في قولهم الوسيلة في الأمر بالمعروف أن يبدأ بالحسنى ... حتى السيف بشبهات منها: قوله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ... الآية [الحجرات: 9]. قالوا: إن الله تعالى أمر بإصلاح ذات البين أولاً ثم انتقل منه إلى المقاتلة؛ مما يدل على ما قلناه من أن الوسيلة تبدأ بالأسهل إلى الأكبر، وأن المقاتلة من وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (6). هذا مجمل قول المعتزلة في هذه المسائل الثلاث. والله أعلم المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص 273   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص144). (2) ((الكشاف)) للزمخشري (1/ 452). (3) ((المقالات)) (1/ 278). (4) ((المقالات)) (1/ 278). (5) ((مروج الذهب)) (1/ 235). (6) انظر ((شرح الأصول الخمسة)) (ص144). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 المبحث الثالث: مناقشة رأي المعتزلة في الوسيلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع بيان رأي أهل السنة: عرفنا – عند بيان رأي المعتزلة في هذا – أنهم يرون أن الوسيلة في ذلك أن يبدأ بالأسهل إلى الأصعب، من الحسنى إلى اليد إلى السيف. وقد تعلقوا بشبهات منها، قوله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ... الآية [الحجرات: 9]. وجه الدلالة: يقول القاضي: "إن الله تعالى أمر بإصلاح ذات البين أولاً؛ ثم بعد ذلك بما يليه إلى أن انتهى إلى المقاتلة ... " (1). المناقشة: يقال لهم: إن الترتيب الذي ورد في الآية، إنما هو بخصوص فئتين متقاتلتين، ولا يمكن أن يكون أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، إلا بمحاولة الصلح أولاً، ثم بقتال من لم يقبل ذلك ثانياً، لأن الحال الذي عليه كل من الفئتين يقتضي ذلك. أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عموماً، فهو مرتب بترتيب الرسول – صلى الله عليه وسلم – وهو باليد أولاً؛ وذلك بمحاولة منع ارتكاب المعاصي التي حرمها الله، وليس بقتال من يرتكبها، وإذا لم يستطع المسلم أن يغير المنكر بيده فليكن نهيه عن المنكر وأمره بالمعروف بلسانه، فإذا كان فعل اللسان، سيترتب عليه ضرراً لا يستطيع معه الأمر والنهي فلينكر المنكر بقلبه. قال صلى الله عليه وسلم – في حديث أبي سعيد الخدري -: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) (2).وهذا هو الترتيب الذي سار عليه السلف (3). وعلى ذلك: فاستدلال المعتزلة بالآية على أن الترتيب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يبدأ من الأسهل إلى الأصعب باطل. من هذا العرض؛ تبين لنا أن المعتزلة قد خالفوا أهل السنة في ترتيب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالمعتزلة يبدؤون من الأسهل إلى الأصعب من الحسنى إلى اليد إلى السيف؛ أما أهل السنة: فعلى النقيض من ذلك يبدؤون باليد من دون قتال، ثم اللسان ثم القلب (4)؛ استناداً إلى حديث أبي سعيد الخدري: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه ... ".كما أن المعتزلة يستعملون السيف في الأمر بالمعروف ... بخلاف أهل السنة، فلا يستعملونه استناداً إلى الحديث المذكور حيث قصر الإنكار على اليد ثم اللسان ثم القلب، ولم يشر إلى السيف، وإلى الأحاديث الناهية عن حمل السلاح على المسلمين والقتال بينهم مثل قوله: صلى الله عليه وسلم: ((من حمل علينا السلاح فليس منا)) (5). وقوله صلى الله عليه وسلم – فيما يرويه ابن عمر – رضي الله عنه -: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) (6).واستناداً إلى القاعدة العامة إذا تعارضت المصالح والمفاسد قدم الراجح، وبما أن إنكار المنكر بالسيف قد يؤدي إلى مفسدة أكبر من المنكر الموجود لما فيه من إثارة الفتن وسفك الدماء؛ لذا كان تركه أولى (7). ثانياً: مناقشة رأي المعتزلة في حكم الخروج على السلطان وقتال المخالف لهم مع بيان رأي أهل السنة:   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص144). (2) رواه مسلم (49). (3) انظر ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (ص18)، وانظر ((شرح جوهرة التوحيد)) (ص470). (4) انظر ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (ص18)، وانظر ((شرح جوهرة التوحيد)) (ص470). (5) رواه البخاري (7070) , ومسلم (98) , من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. (6) رواه البخاري (121) , ومسلم (65) , من حديث جرير رضي الله عنه. (7) انظر ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (ص20، 21). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 عرفنا – عند عرضنا لرأي المعتزلة في هذا – أنهم يرون وجوب الخروج على السلطان الجائر وقتال المخالف لهم في أصولهم. ونقول لهم: ما الذي تقصدونه بوجوب الخروج على السلطان؟ هل هو الخروج على السلطان الكافر والمرتد عن الإسلام؟ أم الخروج على السلطان الجائر والمخالف لكم في أصولكم؟.إن كان الأول؛ فهذا نتفق معكم فيه، فإن من ارتد عن الإسلام يجب قتاله حتى يعود إلى الإسلام أو يزول بموت أو غيره، لما روي عن أم المؤمنين أم سلمة – رضي الله عنها – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( .... إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع. فقالوا: يا رسول الله: ألا نقاتلهم؟ قال: لا. ما أقاموا فيكم الصلاة)) (1). فمفهوم الحديث أنهم يقاتلون إذا ارتدوا عن دين الإسلام، ومثله حديث عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – حيث قال: ((بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحاً عندكم من الله تعالى فيه برهان وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم)) (2). ففي هذا الحديث إشارة على أنه في حالة كفر الإمام للرعية منازعته الأمر. ويؤيد ما ذكرنا – أيضاً – عمل أبي بكر مع أهل الردة. وإن كان الثاني: وهو وجوب الخروج على السلطان الجائر والمخالف لكم في أصولكم. فهذا القول مردود لتضافر الأدلة من الكتاب والسنة بالأمر بطاعة الأئمة حتى ولو كانوا جائرين، والنهي عن قتالهم ما لم يكفروا. من ذلك، قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ... الآية [النساء: 59]. ومن ذلك حديث أم سلمة السابق الذكر والذي فيه قول الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم (( ... ألا نقاتلهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا. ما أقاموا فيكم الصلاة)) (3). فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن قتال الأئمة ولو كانوا جائرين ما داموا يقيمون الصلاة. ومن ذلك – أيضا – حديث عبادة بن الصامت: ((بايعنا رسول الله على السمع والطاعة ... وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً ... الحديث)) (4). فقد نهى صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن منازعة الأئمة الأمر ما لم يكفروا، ومثل ذلك أيضاً: حديث سلمة بن يزيد الجعفي عندما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، ثم سأله الثانية أو الثالثة، فجذبه الأشعث بن قيس، فقال صلى الله عليه وسلم: اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم)) (5). ففي هذا الحديث أمر بالسمع والطاعة للإمام حتى ولو كان جائراً. ولأن في الخروج على الأئمة من المفاسد أكثر من المصالح التي يراد تحصيلها؛ إذ أن الخروج عليهم قد يؤدي إلى سفك الدماء واستحلال الحرام، والقاعدة العامة إذا تعارضت المصالح والمفاسد قدم الراجح (6).   (1) رواه مسلم (1854). (2) رواه البخاري (7055) , ومسلم (1709). (3) رواه مسلم (1854). (4) رواه البخاري (7055) , ومسلم (1709). (5) رواه مسلم (1846). (6) ((شرح الواسطية)) (ص622)، وانظر ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (ص20، 21). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 وبما أن تركهم وما هم عليه من جوار أهون من سفك الدماء؛ لذا كان أولى. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " ... ولهذا أمر صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة ((أدوا إليهم حقوقهم واسألوا حقوقكم)) (1) ... ثم قال: إن من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة، وترك القتال في الفتنة ... " (2). ما ذكرنا إنما هو بالنسبة للإمام. أما ما سوى الإمام من عامة الناس، فنقول: إن كانت المعتزلة ترى قتالهم لكفرهم وارتدادهم عن دين الإسلام، فنحن نوافقهم على ذلك، بدليل عمل أبي بكر – رضي الله عنه – مع أهل الردة. وإن كانوا يرون قتالهم؛ لأنهم خالفوا أصولهم أو لأنهم ارتكبوا الكبائر، فنقول: أما مخالفتهم لأصولكم، فلا يعتبر كفراً يوجب قتالهم؛ بل هو سلامة من البدعة ودخول في السنة. وأما ارتكاب الكبائر: فكذلك لا يوجب قتالهم؛ وذلك لأن بعض الكبائر لهم حدود، فيقام الحد على مرتكبيها إذا بلغ أمرهم السلطان وثبتت الكبيرة بإقرار أو شهود، وإذا لم يبلغ السلطان أمرهم فعلى المسلم لأخيه المسلم النصيحة، ومحاولة منعه ارتكاب المحرمات بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه. ثم إن منع المنكر باليد لا يعني القتال بالسيف – كما بيناه – عند الرد على شبهة المعتزلة في ترتيب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وعلى ذلك؛ فإن صاحب الكبيرة لا يقاتل لما بينا أن له حدود، ولأن القتال لا يجب إلا للكفار والمرتدين، وهو ليس كذلك. ونقول لهم أيضاً: لو أوجبتم قتال صاحب الكبيرة لناقضتم قولكم في المنزلة بين المنزلتين، فإنكم ترون أن صاحب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين، لا كافر ولا مؤمن، وعللتم (3) عدم إطلاق الكفر عليه؛ لأنه يعامل معاملة المسلم، ومن معاملته أنه لا يقتل كما يقتل الكافر. وعلى ذلك؛ فصاحب الكبيرة لا يقاتل باتفاق منا ومنكم. منا: لأنه مؤمن، وله حدود. ومنكم: لأنه ليس بكافر. والله أعلم. ثالثاً: مناقشة المعتزلة في قولهم: إنه لا فرق بين قتال الكافر والفاسق مع بيان رأي أهل السنة. عرفنا – عند عرضنا لرأي المعتزلة في هذا – أنهم لا يفرقون بين قتال الكافر والفاسق؛ لأنهم يرون قتال كل مخالف لهم. ونقول لهم: إن قولكم أنه لا فرق بين قتال الكافر والفاسق على إطلاقه مردود؛ لأن الفسق ليس كله كفراً.   (1) رواه البخاري (3603) ومسلم (1843) من حديث ابن مسعود بنحوه. (2) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (ص20). (3) انظر ((الانتصار)) للخياط (ص118). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 يقول ابن القيم – رحمه الله – مبيناً أن الفسوق منه ما هو كفر يخرج عن الإسلام، ومنه ما لا يخرج عن الإسلام ( ... وأما الفسوق: فهو في كتاب الله نوعان: مفرد مطلق ومقرون بالعصيان، والمفرد: نوعان أيضاً: فسوق كفر يخرج عن الإسلام، وفسوق لا يخرج عن الإسلام، فالمقرون كقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات: 7]. والمفرد: الذي هو فسوق كفر، كقوله تعالى: ... يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ [البقرة: 26] وقوله عز وجل: وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ [البقرة: 99]. وقوله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة: 20].وأما الفسوق الذي لا يخرج عن الإسلام، فكقوله تعالى: ... وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 282]. وكقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات: 6] ... (1). من كلام ابن القيم؛ يتضح أن مرتكب الكبيرة فاسق؛ إلا أنه ليس بكافر، وأنتم معشر المعتزلة تقولون: إن مرتكب الكبيرة ليس كافراً لما معه من الإيمان بالله ورسوله؛ بل في منزلة بين منزلتين، فكيف تجعلون قتاله مثل قتال الكافر؟! ومما يدل على أن مرتكب الكبيرة لا يقاتل أنه مؤمن فاسق، وقد قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ومن قال: لا إله إلا الله لا يحل قتاله، لما روي ((أنه صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً من المسلمين إلى قوم من المشركين، وأنهم التقوا، فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله، وأن رجلاً من المسلمين قصد غفلته. قال: وكنا نحدث أنه أسامة بن زيد، فلما رفع عليه السيف قال: لا إله إلا الله، فقتله، فجاء البشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره حتى أخبره خبر الرجل كيف صنع، فدعاه فسأله، فقال: أقتلته؟ قال: يا رسول الله أوجع في المسلمين، وقتل فلاناً وفلاناً، وسمى له نفراً، وإني حملت عليه، فلما رأى السيف قال: لا إله إلا الله. قال صلى الله عليه وسلم: أقتلته؟ قال: نعم. قال صلى الله عليه وسلم: فكيف تصنع بـ لا إله إلا الله إذا جاء يوم القيامة؟ قال: فجعل لا يزيده على أن يقول: كيف تصنع بـ لا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟)) (2). ففي هذا الحديث دلالة على أن من قال "لا إله إلا الله" لا يقاتل، وصاحب الكبيرة قد قال لا إله إلا الله، فدل على أنه لا يقاتل. والله أعلم. المصدر: المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص 275   (1) ((مدارج السالكين)) (1/ 359، 360). (2) رواه مسلم (97) , من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 المبحث الأول: حقيقة الإيمان عند المعتزلة يرى المعتزلة أن الإيمان الشرعي المعتبر مركب من أجزاء ثلاثة: اعتقاد بالقلب، وتصديق باللسان، وعمل بالجوارح. وهم بهذا يوافقون السلف الذين قالوا بهذا القول، واستدلوا له من الكتاب والسنة، وإنما الخلاف بين الفريقين يكمن في حكم العصاة من المؤمنين وليس هذا موضع إيضاح لجوهر هذا الخلاف فلذلك موضعه، غير أننا هنا نكتفي ببيان مذهب المعتزلة على حقيقته فنقول: إن الألفاظ المعبرة عن هذا المذهب قد اختلف من باحث لآخر. وقبل بيان المراد من جميع ما أورده العلماء من تعريفات للإيمان على مذهب هذه الفرقة أبدا بسرد بعض ما ورد من تلك الألفاظ. فهذا أبو أحمد ابن حزم الأندلسي يحكي عن المعتزلة وغيرهم قولهم: إن الإيمان هو المعرفة بالقلب بالدين، والإقرار به باللسان والعمل بالجوارح، وإن كل طاعة وعمل خير فرضا كان أو نافلة فهي إيمان (1). وحكى البغدادي عنهم قولهم برجوع الإيمان إلى جميع الفرائض مع ترك الكبائر (2). أما ابن تيمية فحكى عنهم قولهم: إن الإيمان جماع الطاعات (3). إلى غير ذلك من المصادر التي تحكي عنهم قولا واحدا، نأتي بعد ذلك إلى أبي الحسن الأشعري حيث ذكر عنهم أقوالا ستة، فقال: واختلف المعتزلة في الإيمان ما هو على ستة أقاويل: 1 - فقال قائلون: الإيمان هو جميع الطاعات فرضها ونفلها. وإن المعاصي ضربان: منها ما هو صغائر، ومنها ما هو كبائر. وإن الكبائر على ضربين، منها ما هو كفر، ومنها ما ليس بكفر. . الخ. والقائل بهذا القول هم أصحاب أبي الهذيل، وإلى هذا القول كان يذهب أبو الهذيل. 2 - وقال هشام الفوطي: الإيمان جميع الطاعات فرضها ونفلها، والإيمان على ضربين، إيمان بالله، وإيمان لله، ولا يقال إنه إيمان بالله. 3 - وقال عباد بن سليمان: (الإيمان هو جميع ما أمر الله سبحانه به من الفرض وما رغب فيه من النفل، والإيمان على وجهين: إيمان بالله وهو ما كان تاركه أو تارك شيء منه كافرا كالملة، والتوحيد، والإيمان لله إذا تركه تارك لم يكفر) اهـ. 4 - وقال إبراهيم النظام: الإيمان اجتناب الكبائر. 5 - وقال آخرون: الإيمان اجتناب ما فيه الوعيد عندنا وعند الله. 6 - وكان محمد بن عبد الوهاب الجبائي يزعم أن الإيمان لله هو جميع ما افترضه الله سبحانه - على عباده، وأن النوافل ليست بإيمان وأن كل خصلة من الخصال التي افترضها الله سبحانه فهي بعض إيمان لله (4). اهـ. وهكذا فإن أغلب مؤرخي الفرق يحكي عن المعتزلة اتفاقهم على قول واحد، أما أبو الحسن الأشعري فجعل آراءهم ستة. وبعد إمعان النظر في ذلك كله وجدت أن جميع الآراء التي ذكرها الأشعري بالإضافة إلى ما تقدم، ترجع في جملتها إلى رأيين اثنين لا ثالث لهما. والخلاف في تعدد الآراء إنما يرجع إلى اللفظ لا إلى الحقيقة، وهذان الرأيان هما:   (1) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (3/ 188). (2) ((أصول الدين)) (249) ط1، مطبعة الدولة باستانبول، سنة 1346هـ - 1928م. (3) ((كتاب الإيمان)) (280). (4) ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري, تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد (1/ 329). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 1 - إن الإيمان هو جميع الطاعات فرضها ونفلها، واجتناب الكبائر. 2 - إن الإيمان هو جميع الطاعات الفرض منها دون النفل، واجتناب الكبائر وقد ذكر هذين الرأيين القاضي عبد الجبار حيث قال: الإيمان عند أبي علي وأبي هاشم عبارة عن أداء الطاعات الفرائض دون النوافل، واجتناب المقبحات. وعند أبي الهذيل عبارة عن أداء الطاعات الفرائض منها والنوافل واجتناب المقبحات. قال المعلق: وهو الصحيح من المذهب الذي اختاره قاضي القضاة (1).ورأي المعتزلة الذي تتفق عليه والذي يبدو واضحا من التعريفين السالفين هو جعل الطاعات المفروضة من الإيمان وهذا هو بعينه مذهب الزيدية الذين يوافقونهم في هذا الباب (2). والخلاف كما هو واضح ينحصر بينهم في النوافل هل هي داخلة في الإيمان أو لا. وحينما يعبرون بالطاعات فإنهم يقصدون الطاعات التي تصدر عن القلب، فطاعته اعتقاده وتصديقه، وعن اللسان وطاعته قوله الخير وتعبيره عما في قلبه، والعمل ببقية الجوارح سواء كان ذلك مفروضا أو نافلة. وقد ذكر أحمد بن يحيى بن المرتضى في كتابه (طبقات المعتزلة) إجماعهم على هذا المعنى حيث قال: أجمعت المعتزلة على أن الإيمان قول ومعرفة وعمل (3). وإذا فالمعتزلة قد عولوا على العمل كثيرا، والعمل عندهم له شأن لأنه لا قيمة للتكاليف إذا لم يقم بها من كلفوا بأدائها، ولهذا جعلوا الإيمان قولا ومعرفة وعملا، فالقول لا بد منه حتى يكون كالبيان والإظهار لما في القلب، ولا يمكن أن نميز المؤمن عن غيره إلا بالنطق باللسان ولا يقل العمل عندهم في تحقيق الإيمان عن الركنين الآخرين. وهذا الأمر موضع اتفاق بين المعتزلة والسلف. أما أدلة المعتزلة على ما ذهبوا إليه في حقيقة الإيمان، فهي بعينها أدلة السلف في هذا الباب، وقد تقدم ذكرها فأكتفي هنا ببيان مثال منها لتتبين الموافقة في طريقة الاستدلال. فمن أدلة المعتزلة من القرآن الكريم قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2]. يقول القاضي عبد الجبار: إن هذه الآية تدل على أن الإيمان ليس هو القول باللسان، أو اعتقاد القلب على ما ذهب المخالف إليه، ولكنه كل واجب وطاعة، لأنه تعالى ذكر في صفة المؤمنين ما يختص بالقلب، وما يختص بالجوارح، لما اشترك الكل في أنه من الطاعات والفرائض. ومما استدلوا به من الأحاديث النبوية الشريفة: حديث شعب الإيمان - وقد تقدم - فقد ذكره كدليل للمعتزلة على هذا الرأي العالم الزيدي جعفر بن أحمد بن عبد السلام في كتابه (أمالي القاضي عبد الجبار المعتزلي)، وعقب عليه بذكر كلام القاضي عبد الجبار على هذا الحديث حيث قال قاضي القضاة: وإنما أراد صلى الله عليه وسلم أن يأتي بالشهادة على معرفة وبصيرة، لا كما ينطق بها المنافق، ودل بذلك على أن الإيمان كما يدخل فيه القول، كذلك يدخل فيه الفعل بالجوارح (4). وقد ذكر المصنف أدلة مماثلة، وسرد طريقة المعتزلة في الاستدلال بها على هذا النمط، الذي هو بعينه استدلال السلف، فلا داعي لإعادتها. المصدر: الإيمان بين السلف والمتكلمين لأحمد الغامدي - ص 121   (1) (شرح الأصول الخمسة) (707). (2) انظر ((العقد الثمين في معرفة رب العالمين)) الحسين بن بدر الدين. (3) ((طبقات المعتزلة)) لأحمد يحيى المرتضى (8). (4) ((متشابه القرآن)) تحقيق عدنان زرزور (1/ 312). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 المبحث الثاني: الصلة بين الإيمان والإسلام يرى المعتزلة أن الإيمان والإسلام اسمان لمسمى واحد فعندما يذكر الإسلام فهو الإيمان بعينه، وعندما يذكر الإيمان فيراد به الإسلام أيضا، وإذا فالترادف بينهما هو ما ذهب إليه القوم، فهذان اللفظان عندهم جعلا اسما لمن يستحق المدح والتعظيم لا فرق بينهما إلا من حيث اللفظ فقط، يدل على هذا ما ذكره القاضي عبد الجبار حيث قال: قولنا مؤمن من الأسماء التي نقلت من اللغة إلى الشرع، وصار بالشرع اسما لمن يستحق المدح والتعظيم، كما أن قولنا مؤمن جعل بالشرع اسما لمن يستحق التعظيم والإجلال، فكذلك قولنا: مسلم، جعل بالشرع اسما لمن يستحق المدح والتعظيم حتى لا فرق بينهما إلا من جهة اللفظ (1).ثم ساق القاضي بعد ذلك أدلة أصحابه على هذا الرأي حيث استدل أولا بأن اسم المسلم نقل من معناه اللغوي الذي هو الانقياد والاستسلام إلى معنى شرعي جديد غير معناه اللغوي حيث أصبح في الشرع اسما لمن يستحق المدح والتعظيم لأنه لو كان مبقى على أصله اللغوي لجاز إجراؤه على الكافر إذا انقاد للغير، ومعلوم خلاف ذلك، ولما كان يجوز إجراؤه على النائم والساهي. لأن الانقياد منهما غير مقصود، ولكان يجب أن لا يسمى الآن بهذا الاسم إلا المشتغل به دون من سبق منه الإسلام، ومتى قيل كذا، قلنا: يلزم على هذا أن لا تسمى أصحاب النبي الآن مسلمين حقيقة، وقد عرف خلاف ذلك، ولكان يجب أيضا أن لا يزول هذا الاسم بالندم وغيره، وقد عرف خلاف (2). اهـ. (بتصرف). ثم استدل بعد ذلك على هذا النقل – أي نقل اسم الإسلام من معناه اللغوي إلى معناه الشرعي الجديد – استدل بقوله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 5]، فقال: سمى هذه الجمل دينا، ثم بين في آية أخرى أن الدين عند الله الإسلام، ولو كان مبقى على أصل اللغة لم يصح ذلك، لأنه في الأصل غير مستعمل في إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وهذا كما يدل على أنه غير مبقى على الأصل، فإنه يدل على أنه لا يجوز إجراؤه إلا على من يستحق المدح والتعظيم كالمؤمن سواء (3).وقال أيضا: ومما يدل على أن الدين والإسلام واحد قوله تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85] والمعلوم أنه لو اتخذ الإيمان دينا لقبل منه (4).   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (705). (2) ((شرح الأصول الخمسة)) (705). (3) ((شرح الأصول الخمسة)) (706). (4) ((شرح الأصول الخمسة)) (706). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 فالآية الأولى استدل بها على أن الإسلام نقل من معناه اللغوي المعروف إلى معنى شرعي فيه انقياد مخصوص ووجه الاستدلال واضح من كلامه. أما هذه الآية الثانية فقد استدل بها على الترادف بين الإيمان والإسلام الشرعيين، ووجه ذلك أن الله تبارك وتعالى صرح في الآية بأن أي دين غير دين الإسلام فهو مردود مرفوض ولا أحد ينكر أن من اتخذ الإيمان دينا أن ذلك مقبول بدون جدال، فدل ذلك على اتحاد معنى الإيمان والإسلام، واندراجهما تحت كلمة دين. ومن أدلتهم على الترادف أيضا قوله تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات: 35 - 36]، قال عبد الجبار: فلو لم يكن أحدهما هو الآخر لكان لا يصح الاستثناء على هذا الوجه (1).ويقول أيضا في كتابه (متشابه القرآن) في بيان المراد من قوله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]، يقول: فإنه لا يدل على أن الإيمان غير الإسلام، وذلك أن المراد بهذا الكلام أنهم لم يؤمنوا في الحقيقة، وانقادوا واستسلموا، فذكر تعالى في حالهم ما ذكره يبين ذلك أنه تعالى قال: وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] ومن لم يدخل الإيمان في قلبه البتة لا يكون مسلما عند أحد إلا بعض المتأخرين فإنه يقول في مظهر الشهادتين أنه مسلم، لكنه لا يقول مع ذلك أنه مؤمن أيضا، فلا يقدح خلافه فيما ذكرناه (2). إلى غير ذلك مما استدل به القوم على ما ذهبوا إليه من القول بالترادف بين الإيمان والإسلام، من حيث الحقيقة الشرعية، فكما أن الإيمان تصديق وقول وعمل، فكذلك الإسلام وكما أن الإيمان يزيد وينقص، على ما سنبين من مذهبهم في ذلك فكذلك الإسلام يزيد وينقص، وكما أن اسم الإيمان يسلب كلية عن مرتكب الذنب الكبير، فكذلك اسم الإسلام. ومذهبهم هذا – الإيمان القول بالترادف بين الإيمان والإسلام قد تقدم في بيان مذهب السلف في هذه الناحية أنه أحد أقوالهم. وأدلة القائلين بالترادف من السلف وغيرهم متقاربة، والله أعلم. المصدر: الإيمان بين السلف والمتكلمين لأحمد الغامدي – ص 126   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (706). (2) ((متشابه القرآن)) (2/ 624). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 المبحث الثالث: زيادة الإيمان ونقصه أما عن زيادة الإيمان ونقصه عندهم، فإنهم حين قالوا بتكون الإيمان من العناصر الثلاثة السالفة الذكر، وتلك يتفاوت الناس في الإتيان بها من ناحية التكاليف، إذ الناس يتفاوتون في التكليف، فقد يكلف أحدهم بما لم يكلف به الآخر، وذلك مثل الزكاة فإن التكليف بها يخص الغني دون الفقير، إذ الفقير لا مال لديه حتى يزكيه، وكذلك الصلاة فإن الصحيح المعافى مكلف فيها بما لم يكلف به المريض وذلك كالقيام، والوضوء ونحوها، ولهذا فإن الإنسان قد يزيد إيمانه على إيمان غيره بزيادة التكاليف في حقه لعدم قدرة الآخر عليها، فإذا الإنسان المسلم يزيد إيمانه وينقص عند المعتزلة من هذا الوجه. يقول القاضي عبد الجبار بن أحمد بعد سوقه آية الأنفال السالفة الذكر إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الأنفال 2 - 3]، إن هذه الآية تدل على أن الإيمان يزيد وينقص على ما نقوله، لأنه إذا كان عبارة عن هذه الأمور التي يختلف التعبد فيها على المكلفين، فيكون اللازم لبعضهم أكثر مما يلزم الغير، فتجب صحة الزيادة والنقصان، وإنما يمتنع ذلك لو كان الإيمان خصلة واحدة هو القول باللسان أو اعتقادات مخصوصة بالقلب (1).ويقول في كتاب (المختصر في أصول الدين): (فإن قال: أفتقولون في الإيمان أنه يزيد وينقص؟ قيل له: نعم، لأن الإيمان كل واجب يلزم المكلف القيام به، والواجب على بعض المكلفين أكثر من الواجب على غيره، فهو يزيد وينقص من هذا الوجه. وقد وصف الله تعالى الصلاة بذلك فقال: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [البقرة: 143] كما وصفه دينا فقال: وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 5]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا إيمان لمن لا أمانة له)) (2) , و ((لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)) (3) فجعل من الإيمان ترك السرقة، فبطل قول المرجئة في أن الإيمان قول فقط، أو قول واعتقاد، وأنه لا يزيد ولا ينقص وعلى هذا المذهب يصح تفاضل العباد في الإيمان، فيكون إيمان الرسول عليه السلام أعظم من إيمان غيره على قولنا، وعلى قولهم لا يصح) (4). فإذا مذهب المعتزلة هو القول بزيادة الإيمان ونقصه من ناحية التكاليف فالزيادة والنقصان عندهم شيء نسبي بين المكلفين فذاك الشخص إيمانه أكثر من إيمان هذا لأن ذاك كلف بشيء زائد لم يكلف به الآخر، والآخر غير مؤاخذ على تركه لأنه لم يكلف به لعدم قدرته عليه، أو لوجود مانع يمنع من ذلك كالحيض للنساء، مثلا، ومن هذا يتبين لنا أن الإنسان الواحد عندهم لا يتصور في إيمانه زيادة ولا نقصان إلا بالنسبة لغيره فالزيادة في كم الإيمان لا في كيفه، لهذا فإنه يظهر من مذهبهم أنهم يوافقون المرجئة في القول بأن الإيمان القلبي لا يزيد ولا ينقص لأن التكليف فيه واحد على المكلفين جميعا. ولهذا تبدو مخالفتهم للسلف في هذه المسألة من عدة وجوه:   (1) ((متشابه القرآن)) (1/ 312). (2) رواه أحمد (3/ 135) (12406) , من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 100) , وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (7179). (3) رواه البخاري (5578) , ومسلم (57) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (4) ((المختصر في أصول الدين)) تحقيق عمارة (1/ 247). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 1 - إن الزيادة والنقصان في الإيمان نسبية بين الأشخاص فزيد أكثر إيمانا من عمرو، لأن زيدا غني فهو مكلف بأمر زائد وهو الزكاة التي لم يكلف بها عمرو لفقره. والشخص الواحد لا يزيد إيمانه بالطاعة وينقص بالمعصية: لأن المعصية أمر يخرجه من الإيمان بالكلية. 2 - إن المعصية لا اعتبار لها في زيادة الإيمان ونقصه – كما ذهب إليه السلف لأنها عند المعتزلة تخرجه من الإيمان وتخلده في النار. 3 - إن الزيادة في الكم الذي يكون بطاعات الجوارح وتكاليفها، أما الكيف فلا زيادة فيه ولا نقصان لاستواء المكلفين في وجوب التصديق القلبي الذي لا تجزئة فيه، ولعدم قبوله للزيادة والنقصان عندهم. وقد استدل المعتزلة على مذهبهم في زيادة الإيمان ونقصه من ناحية التكاليف بما تقدم وروده من آيات في النصوص التي نقلتها عن القاضي عبد الجبار ووجه استدلالهم بها: أن الإيمان إذا كان عبارة عن تلك الخصال المذكورة، والناس يتفاوتون في التكليف بها، فإن الإيمان يزيد وينقص من هذا الوجه، أما الأحاديث التي ذكرها فإن وجه استدلاله بها على هذا الرأي غير واضح لأن السرقة كبيرة وعندهم يسلب صاحبها اسم الإيمان ويخلد في النار، وكذلك ترك الأمانة، والتكليف بها واحد بين الناس. فجميع المسلمين مكلفون باجتناب السرقة لما فيها من اعتداء على أموال الغير، وكذلك واجب على الكل مراعاة التخلق بالأمانة والاتصاف بها. نعم استدل السلف بهذين الحديثين وأمثالهما على زيادة الإيمان ونقصه، ولكنهم لا يرون سلب مرتكب الذنب الكبير من الإيمان بالكلية، والقول بتخليده في النار كما فعل المعتزلة، لذلك كان استدلالهم سائغا مقبولا، فإذا هذه الأحاديث وأمثالها حجة على المعتزلة لا لهم. وجعل المعتزلة ترك السرقة وفعل الأمانة من الإيمان لا غبار عليه ولا اعتراض، ولكن كيف يقال: إن الناس المتفاوتين في ترك السرقة متفاوتون في الإيمان، مع أن السرقة أمر محرم واجب على جميع المكلفين اجتنابه، وعلى مذهب المعتزلة فاعل السرقة لم يعد مؤمنا فكيف يقال بأن الإيمان تاركها أكثر من إيمانه مع أن فاعلها لم يعد معه إيمان يمكن المفاضلة بينه وبين إيمان التارك. فإذا مثل هذين الحديثين لا دليل فيه للمعتزلة بل دليل عليهم، لأن فيها نفي للكمال الدال على وجود الإيمان الناقص، والله أعلم. المصدر: الإيمان بين السلف والمتكلمين لأحمد الغامدي – ص 129 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 المبحث الرابع: منهج المعتزلة في تعامله مع اللغة العربية لتقرير العقائد بدأ هذا التيار مع ظهور المعتزلة في القرن الثاني الهجري وما بعده، ويعود بروزه إلى عناية المعتزلة باللغة العربية واهتمامهم بها طلباً لدعم أصولها باللغة، واحتضان بعض خلفاء بني العباس للمعتزلة، ومساعدتهم لهم على ترويج بضاعتهم الفكرية، وبلغ أوج مجده في القرن الرابع الهجري إبان الدولة البويهية، وبالتحديد أيام عضد الدولة البويهي "ت 372هـ"، والصاحب بن عباد "ت 385هـ"، وأبي علي الفارسي "ت 377هـ"، وابن جني "ت 392هـ"، والرماني "ت 384"، والشريف الرضي "ت 406هـ"، واستمر على الوتيرة نفسها حتى القرن الخامس الهجري، ثم بدأ يضعف بعد القرن السادس الهجري نظراً لتقلص دور المعتزلة بوجه عام، وبروز الأشعرية كقوة منافسة لهم، وممن اشتهر بهذا المنهج الاعتزالي قطرب "ت 206هـ"، والأخفش الأوسط "ت 215هـ"، والجاحظ "ت 255هـ"، وأبو علي الفارسي "ت 377هـ"، وابن جني "ت 392هـ"، والرماني "ت 384هـ"، والشريف الرضي "ت 406هـ"، وأخوه المرتضى "ت 436هـ" وجار الله محمود بن عمر الزمخشري "ت 538هـ"، وغيرهم. وللمنهج الاعتزالي في تعامله مع اللغة العربية لتقرير العقائد سمات، منها ما يلي: - الاعتماد على العقل في تفسير المفردات الشرعية اللغوية: لما كان العقل مرتكز المعتزلة الأول لتقرير العقائد، جعلوه حكماً على غيره من المصطلحات الشرعية واللغوية، دون مراعاة لما تعرفه العرب من لغاتها، ما تدل عليه النصوص من المعاني الشرعية بصيغها العربية، فعلى ضوئه فسروا المفردات الشرعية واللغوية معتبرين ما يوافق أهواءهم، وأوضح مثال على ذلك: الاستواء، فإنه في اللغة دال على الارتفاع والعلو، لكن المعتزلة استخدموا العقل في تفسيره فحملوه على الاستيلاء والاقتدار؛ لأن العقل قد دل عندهم على تنزيه الله عن الأماكن والجهات. قال القاضي عبدالجبار "ت 415هـ" في الاستواء: "قد بينا أن المراد بالاستواء هو الاستيلاء والاقتدار، وبينا شواهد ذلك في اللغة والشعر، وبينا أن القول إذا احتمل هذا والاستواء الذي هو بمعنى الانتصاب وجب حمله عليه؛ لأن العقل قد اقتضاه، من حيث دل أنه تعالى قديم، ولو كان جسماً يجوز عليه الإمكان لكان محدثاً، تعالى الله عن ذلك" (1).وقال الشريف المرتضى "ت 436هـ" وهو من لغويي القرن الرابع والخامس: "فكل ما ورد في القرآن مما له ظاهر ينافي العصمة، ويقتضي وقوع الخطأ منهم، فلابد من صرف الكلام عن ظاهره، وحمله على ما يليق بأدلة العقول؛ لأن الكلام يدخله الحقيقة والمجاز، ويعدل المتكلم به عن ظاهره، وأدلة العقول لا يصح فيها ذلك، ألا ترى أن القرآن قد ورد بما لا يجوز على الله تعالى من الحركة والانتقال كقوله تعالى: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22]، وقوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ [البقرة: 210]، ولابد مع وضوح الأدلة على أن الله تعالى ليس بجسم، واستحالة الانتقال عليه، الذي لا يجوز إلا على الأجسام، من تأول هذه الظواهر، والعدول عما يقتضيه صريح ألفاظها، قرب التأويل أو بعد" (2).   (1) ((متشابه القرآن)) (1/ 315). (2) ((أمالي المرتضى)) (2/ 399). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 - الاعتماد على اللغة المجردة والأشعار في تفسير النصوص الشرعية: تعتبر الطريقة اللغوية لدى المعتزلة المبدأ الأعلى في تفسير القرآن بعد العقل، ولذلك يحاولون إبطال المعنى الذي يرونه مخالفاً لمبادئهم باللغة المجردة، فإذا لم يحالفهم الحظ أثبتوا للفظ معنى آخر موجوداً في اللغة يزيل الاشتباه ويتفق مع مذاهبهم، فيستشهدون عليه بأدلة من اللغة والشعر (1).ومن شواهد اعتمادهم على اللغة المجردة: رد إبراهيم النظام وغيره من المعتزلة تفسير بعض السلف للويل: بأنه واد في جهنم، والطلح: أنه الموز، والفلق: بأنه واد في جهنم، بدعوى أن هذه التفسيرات مخالفة للغة العربية، وأن معنى الويل، والطلح، والفلق، معروفة في كلام العرب (2).وزعموا أن الاستواء في القرآن بمعنى الاستيلاء، واعتمدوا على قول الشاعر (3): قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ولا دم مهراق (4) مع أن هذا البيت مصنوع لا يعرف قائله. - تجريد الألفاظ العربية من المعاني التي تدل عليها: ولما كانت البدعة معقد المعتزلة ومرساها، جعلوا المفردات العربية تابعة لأغراضهم لا متبوعة، فإذا جاء لفظ دال بعربيته على معنى من المعاني يصطدم مع مقاصدهم جردوه عن معناه ومدلوله، كتجريدهم أسماء الله عن معانيها، فإنهم جعلوها أعلاماً جامدة لا معنى لها ولا دلالات لغوية، مع أنها دالة بالوضع اللغوي على صفات ثابتة له؛ فقالوا: عالم بلا علم، قادر بلا قدرة، وحي بلا حياة؛ لأن إثبات معانيها التي هي الصفات يقتضي عندهم تعدد القدماء، وهذا باطل فالله تعالى بصفاته قديم، وليس شيء منها محدثاً، والشبهة هذه بنوها على توهم التفريق بين الله وبين صفاته، واعتبارها مخلوقات غيره (5). - حمل الألفاظ العربية على ما يتلاءم مع عقائدهم إن تعدد مدلولها معنى ورسماً، من غير مراعاة للسياق:   (1) ((التفسير والمفسرون)) للذهبي (1/ 274 - 275) بتصرف. (2) انظر (ص: 82 - 84)، وتخريج الآثار هناك. (3) انظر: ((الصحاح)) للجوهري (6/ 2385)، و ((تلخيص البيان في مجازات القرآن)) (ص: 80). (4) ورد ذكره في ((الصحاح)) للجوهري (6/ 2385)، و ((الجامع لأحكام القرآن)) (1/ 255)، و ((لسان العرب)) (14/ 414)، و ((الصواعق المرسلة)) (2/ 674)، وغيرها. (5) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 244)، و ((الملل والنحل)) (1/ 38). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 ومثال ما تعدد مدلوله معنى: اليد، فإنها تأتي لليد الحقيقية، وبمعنى النعمة والعطية، ولكن السياق هو الذي يحدد المراد، لكن المعتزلة حملوها دائماً في صفات الله على المعنى الثاني. قال الأخفش: "وقال: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [المائدة: 64]، فذكروا أنها العطية والنعمة، وكذلك: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64] كما تقول: إن لفلان عندي يداً، أي نعمة، وقال: أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ [ص: 45] أي أولي النعم، وقد تكون اليد في وجوه: تقول: بين يدي الدار؛ يعني قدامها، وليست للدار يدان" (1).ومن هذا الباب ما حكي عن بعض المعتزلة في قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] أنه من الكلم؛ أي: الجرح، قالوا: ويكون المعنى: "وجرح الله موسى بأظافر المحن ومخالب الفتن" (2). والذي ألجأهم إلى حمل "كلم" بالتشديد على "كلم" المخففة الدالة على الجرح هو فرارهم من إثبات صفة الكلام لله، فوقعوا في التحريف. ومثال ما تعدد مدلوله باختلاف الرسم والضبط: لفظ الصور، فإنه جاء في القرآن مقصوداً به الذي ينفخ في القيامة، لكن المعتزلة لما كانوا لا يقرون بالسمعيات حملوا الصور على الصور فقالوا: الصور جمع صورة، بمعنى نفخ الله في صور الأرواح (3).وعلى هذا الوجه جرى تفسيرهم لقوله تعالى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه: 121] بأنه بشم من أكل الشجرة، من قول العرب: غوى الفصيل: إذا أكثر من اللبن حتى يبشم، بناء على مفهوم العصمة عندهم، حيث يرون عصمة الأنبياء من الكبائر والصغائر، وأنه لا يجوز عليهم الخطأ مطلقاً (4).   (1) ((معاني القرآن)) (1/ 261) بتحقيق د. فائز فارس. (2) انظر: ((الكشاف)) (1/ 314) وردها، و ((مفاتيح الغيب)) (11/ 87)، و ((اللباب في علوم الكتاب)) (7/ 136). (3) انظر: ((الإغفال)) لأبي علي الفارسي (2/ 470 - 475)، و ((المحيط في اللغة)) (8/ 180)، و ((المحتسب)) (2/ 59). (4) ((تأويل مشكل القرآن)) (ص: 402)، وانظر رد ابن قتيبة عليهم بعد ذلك في (ص: 403) من الكتاب نفسه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 - التصرف في معاني النصوص بالوجوه الإعرابية، والقراءات الشاذة: فمثال الأول: ما ورد في قوله تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الكهف: 28]؛ فإن الجمهور على إسناد الفعل لـ "أنا" وهو ضمير العظمة العائد إليه سبحانه، و "قلبه" بالفتح مفعول به كما عليه القراءة المتواترة، على معنى: جعلناه غافلاً، فالإغفال فعل الله في العبد بمشيئته وإرادته (1).وخالفتهم المعتزلة، فزعموا أن المعنى: وجدناه، أو صادفناه كذلك، أو نسبناه إلى الغفلة، أو سميناه غافلاً، لا أن الله فعل به ذلك، واستندوا إلى قراءة شاذة لعمرو بن عبيد، وعمرو بن فائد، وموسى بن سيار الأسواريان في الآية، بفتح اللام في أَغْفَلْنَا، ورفع الباء في قَلْبَهُ على أنه فاعل، بمعنى من نسينا قلبه؛ فأصبح غافلاً عنا، قالوا: هو المتعين؛ لأن الله عادل ولا يفعل القبيح، فهو منزه عنه (2).قال الزمخشري وهو ينصر هذا التفسير بعد أن ذكره: "وقد أبطل الله توهم المجبرة بقوله: وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وقرئ: أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ بإسناد الفعل للقلب، على معنى: حسبنا قلبه غافلاً، من أغفلته: إذا وجدته غافلاً" (3).ومثال الثاني: قراءة عمرو بن عبيد وعمرو بن فائد وبعض المعتزلة لقوله تعالى: مِن شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق: 2] بالتنوين والنفي (4)، مخالفين قراءة الجماهير بالإضافة، واعتبار مَا موصلية. قال ابن عطية: "وهي قراءة مردودة مبنية على مذهب باطل، الله خالق كل شيء" (5).وكذلك تأييد ابن جني لقراءة منسوبة لإبراهيم النخعي في قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] بنصب "الله"، فقال: "يشهد لهذه القراءة قوله عز وجل حكاية عن موسى: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: 143]، وغيره من الآي التي فيها كلامه لله تعالى" (6).والحامل لهم على هذا الإعراب، ومخالفة القراءات المتواترة، هو ما تدل عليه آية "سورة الكهف" من خلق الله أفعال العباد، وآية "سورة الناس" من خلق الله للشر، وهم لا يقولون بذلك، وما تدل عليه آية "سورة النساء" من إثبات صفة الكلام لله سبحانه، فاضطروا إلى الإعراب الشاذ في الموضع الأول، وإلى القراءة الشاذة في الموضعين الثاني والثالث (7).   (1) انظر: ((الغريبين)) (4/ 1380)، و ((شفاء العليل)) (ص: 139، 181، 208) ط دار التراث. (2) انظر: ((المحتسب)) (2/ 28)، و ((اختصاص)) (3/ 253 - 255)، و ((تلخيص البيان في مجازات القرآن)) (ص: 144 - 145)، و ((الكشاف)) (2/ 388) ط دار المعرفة، و ((شفاء العليل)) (ص: 139) ط دار التراث. (3) ((الكشاف)) (2/ 388) ط دار المعرفة. (4) انظر: ((إعراب القراءات الشواذ)) (2/ 160)، و ((البحر المحيط)) (8/ 530)، و ((مشكل إعراب القرآن)) (2/ 855). (5) ((المحرر الوجيز)) (15/ 385). (6) ((المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها)) (1/ 204). (7) انظر: ((الدر المصون)) (7/ 475 - 476)، و ((اللباب في علوم الكتاب)) (12/ 471)، و ((الانتصاف من الكشاف)) (2/ 388). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 - التصرف في دلالات الصيغ الفعلية تخريجاً على أصولهم العقدية: وذلك كتصرفهم في صيغتي "أفعال" و"فعل" المسندتين إلى المولى عز وجل، الدالتين على خلقه لأفعال العباد، حيث أحدثوا لها دلالات أخرى، وجعلوها تدل على معنى: سماه، أو وجده، أو صادفه، أو حكم عليه، أو شهد له بذلك؛ فراراً مما تدل عليه من خلق الله لأفعال العباد، وتصرفه فيها؛ مستندين إلى قاعدتهم في العدل أنه تعالى عادل لا يظلم أحداً، وهو منزه عن فعل القبيح، ولذلك قالوا في قوله – تعالى -: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثية: 23]، وقوله: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف: 146]، وقوله: ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُم [التوبة: 127]، وقوله: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ [البقرة: 7]، ونحوها من الآيات أن معناه: سماهم ضلالا، أو وجدهم كذلك، أو حكم عليهم بالضلال (1). واحتجوا على ذلك بقول الكميت: فطائفة قد أكفرتني بحبكم ... وطائفة قالوا مسيء ومذنب (2)   (1) ((أمالي المرتضى)) (1/ 312)، و ((الفرق بين الفرق)) (ص: 340 - 341)، و ((الكشاف)) (1/ 26 - 27، 57 - 58)، و ((مفاتيح الغيب)) (2/ 137 - 141). (2) ((أمالي المرتضى)) (1/ 312)، و ((الفرق بين الفرق)) (ص: 340 - 341)، و ((الكشاف)) (1/ 26 - 27، 57 - 58)، و ((مفاتيح الغيب)) (2/ 137 - 141). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 أي: وجدوني بحبكم، أو حكموا عليَّ به (1).قال ابن قتيبة: "وذهب أهل القدر في قول الله – تعالى -: يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء [النحل: 93] إلى أنه على جهة التسمية، والحكم عليهم بالضلالة، ولهم بالهداية، وقال فريق منهم: يضلهم: ينسبهم إلى الضلالة، ويهديهم: يبين لهم ويرشدهم، فخالفوا بين الحكمين، ونحن لا نعرف في اللغة: أفعلت الرجل: نسبته، وإنما يقال إذا أردت هذا المعنى: فعلت، تقول: شجعت الرجل، وجبنته، وسرقته، وخطأته، وكفرته، وفسقته، وفجرته، ولحنته ... ولا يقال في شيء من هذا كله: أفعلته، وأنت تريد نسبته إلى ذلك" (2).وقال أبو بكر ابن الأنباري: "هذا التأويل فاسد؛ لأن العرب إذا أرادوا ذلك المعنى قالوا: ضلل يضلل، واحتجاجهم ببيت الكميت باطل؛ لأنه لا يلزم من قولنا: "أكفر" في الحكم صحة قولنا: "أضل"، وليس كل موضع صح فيه "فعل" صح "أفعال"؛ ألا ترى أنه يجوز أن يقال: كسره، ولا يجوز أن يقال: أكسره، بل يجب فيه الرجوع إلى السماع" (3).وقال ابن قيم الجوزية: "وأما تحريفهم هذه النصوص وأمثالها بأن المعنى ألفاهم، ووجدهم، ففي أي لسان وأي لغة وجدتم "هديت الرجل" إذا وجدته مهتدياً، أو ختم الله على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة: وجده كذلك؟ وهل هذا إلا افتراء محض على القرآن واللغة؟ فإن قالوا: نحن لم نقل هذا في نحو ذلك، وإنما قلناه في نحو أضله الله، أي وجده ضالاً، كما يقال: أحمدت الرجل، وأبخلته، وأجبته، إذا وجدته كذلك، أو نسبته إليه، فيقال لفرقة التحريف: هذا إنما ورد في ألفاظ معدودة نادرة، وإلا فوضع هذا البناء على أنك فعلت ذلك به، ولا سيما إذا كانت الهمزة للتعدية من الثلاثي كقام وأقمته، وقعد وأقعدته، وذهب وأذهبته، وسمع وأسمعته، ونام وأنمته، وكذا ضل وأضله الله، وأسعده وأشقاه، وأعطاه وأخزاه، وأماته وأحياه، وأزاغ قلبه، وأقامه إلى طاعته، وأيقظه من غلفته، وأراه آياته، وأنزله منزلاً مباركاً، وأسكنه جنته، إلى أضعاف ذلك، هل تجد فيها لفظاً واحداً معناه أنه وحده كذلك؟ تعالى الله عما يقول المحرفون. ثم انظر في كتاب: (فعل وأفعال) هل تظفر فيه بأفعلته بمعنى وجدته مع سعة الباب إلا في الحرفين أو الثلاثة نقلاً عن أهل اللغة؟ ثم انظر هل قال أحد من الأولين والآخرين من أهل اللغة أن العرب وضعت أضله الله، وهداه، وختم على سمعه وقلبه، وأزاغ قلبه، وصرفه عن طاعته، ونحو ذلك لمعنى وجده كذلك؟! ولما أراد سبحانه الإبانة عن هذا المعنى قال: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى: 7]، ولم يقل: وأضلك، وقال في حق من خالف الرسول، وكفر بما جاء به: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثية: 23]، ولم يقل: ووجده الله ضالاً" (4).والقاعدة الغالبة في العربية: أن الزيادة في المبنى زيادة في المعنى، والاختلاف في الحركات يؤدي إلى الاختلاف في المعنى (5)، فحمل "أفعل" على "فعل" مخالف للعربية.   (1) انظر: ((مفاتيح الغيب)) (2/ 137 - 141)، و ((اللباب في علوم الكتاب)) (10/ 225). (2) ((تأويل مشكل القرآن)) (ص: 123 - 124)، وانظر: المزيد في ((التفسير اللغوي للقرآن الكريم)) (ص: 550 - 555). (3) ((مفاتيح الغيب)) (16/ 212 - 213)، و ((اللباب في علوم الكتاب)) (10/ 225) نقلاً عن ابن الأنباري، ولم أقف على هذه العبارة في كتبه الموجودة. (4) ((شفاء العليل)) (ص: 177) ط دار التراث، وانظر أيضاً منها (ص: 139). (5) انظر: ((الفروق اللغوية)) (ص: 15)، و ((المثل السائر)) لابن الأثير (2/ 41)، و ((مجموع الفتاوى)) (26/ 263). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 وحملوا معاني "هدى" و"ختم"، و"طبع"، و"غشى" وأمثالها على الحكم بذلك، أو الوسم به، أو أنه تجوز وتمثيل، لا إحداث معانيها في العباد (1).وذهب الأخفش وأبو علي الفارسي إلى أن صيغة "فاعل" قد تكون من جهة واحدة، كما في قوله: يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء: 142]، وأمثالها حرصاً منهما على نفي ما تدل عليه الآية من المفاعلة التي تقتضي وقوع المخادعة من الله على سبيل المقابلة (2). - التصرف في دلالات الحروف والأدوات وتوجيهها حسب المذهب: وهذا باب واسع جداً، ومنتشر لدى المعتزلة، وقد ألف الرماني كتاباً سماه كتاب (معاني الحروف) (3) ذكر فيه الحروف والأدوات والمعاني التي تأتي لكل حرف وأداة من أجل هذا الهدف، وطبقه في تفسيره (الجامع لعلوم القرآن) (4)، واقتفاه الزمخشري فأخذ من ذلك قسطاً كبيراً في (الكشاف) (5).ومثال هذا التصرف في الحروف الاختلاف في لام لِيَكُونَ من قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص: 8]، فقد حملها الأخفش وقطرب وغيرهما من المعتزلة على لام العاقبة والصيرورة، وذهب الفراء أنها لام كي لكنها وقعت مكان لام التمليك (6). وسبب صنيع الأخفش وقطرب هو ما يتضمنه القول بلام التعليل في الآية من إثبات القدر، وسبق علم الله بالتقاط آل فرعون لموسى من البحر؛ ليكون لهم عدواً وحزناً. قال نفطويه وهو يرد عليهما: "أما الأخفش وقطرب فإنهما رققا عن صبوح، وإنما أرادا أن ينصروا قول من يزعم أن الله لم يخلق المعاصي ولا أرادها، وأما الفراء فإنه ذكر الإعراب ونزل المعنى، واللام على الحقيقة لام "كي" لأن المعنى: أن الله تعالى علم أنه إذا أتاهم الأموال ضلوا، وعلم أن آل فرعون إذا التقطوا موسى كان لهم عدواً وحزناً، فأمكنهم الله من لقطه؛ ليمضي فيهم ما تقدم من علمه، فالمعنى: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا في علم الله تعالى لا في علمهم؛ لأن الله علم ما يكون من أمره، وكذلك قول الشاعر: ....................................... ... فللموت ما تلد الوالدة   (1) انظر: ((الحجة)) للقراء السبعة (3/ 302 - 304)، و ((تلخيص البيان في مجازات القرآن)) (ص: 11 - 12) و ((الكشاف)) (1/ 26 - 27) ط دار المعرفة. (2) انظر: ((معاني القرآن)) (1/ 38 - 39)، و ((الحجة للقراء السبعة)) (1/ 312 - 317). (3) حققه الدكتور عبدالفتاح شلبي، ونشرته دار الشروق عام 1404هـ طبعة ثالثة. (4) يوجد قطعة منه في تفسير سورة آل عمران ضمن مصورات معهد المخطوطات العربية بالقاهرة تحت عنوان "تفسير غير مفهرس- م 361 - (رقم 92)، مكتبة طشقند 3137، وقطعة أخرى بمكتبة المسجد الأقصى برقم "12"، وعنه مصورة بمعهد المخطوطات العربية بالقاهرة (برقم "16). (5) انظر: ((الأدوات النحوية في كتب التفسير)) (ص: 733 - 738). (6) انظر: ((الغريبين غريبي القرآن والحديث)) (4/ 1138 - 1139). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 يعني في علم الله" (1).وأيد ابن كثير هذا فقال: "قال محمد بن إسحاق وغيره: اللام هنا لام العاقبة لا لام التعليل؛ لأنهم لم يريدوا بالتقاطه ذلك، ولا شك أن ظاهر اللفظ يقتضي ما قالوه، ولكن إذا نظر إلى معنى السياق فإنه تبقى اللام للتعليل؛ لأن معناه أن الله تعالى قيضهم لالتقاطه ليجعله لهم عدواً وحزناً، فيكون أبلغ في إبطال حذرهم منه، ولهذا قال: إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ [القصص: 8] " (2).وقال الرماني "ت 384هـ" في مثال آخر: "ويقال: ما معنى: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا [آل عمران: 178]؟ الجواب: إنما نملي لهم على أن عاقبة أمرهم ازدياد الإثم، وهذه لام العاقبة، والدليل عليها: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص: 8]، وقال الشاعر (3): فأم سماكٍ فلا تجزعي ... فللموت ما تلد الوالده فاقسم لو قتلوا مالكا ... لكنت لهم حية راصدة وقال آخر (4): أموالنا لذوي الميراث نجمعها ... ودورنا لخراب الدهر نبنيها وقال آخر (5): وللمنايا تربي كل مرضعة ... وللخراب يجد الناس بنيانا وقال (6): ..................................... ... لدوا للموت وأبنوا للخراب   (1) ((الغريبين غريبي القرآن والحديث)) (4/ 1138 - 1139). (2) ((تفسير القرآن العظيم)) (6/ 222). (3) نسبهما في ((خزانة الأدب)) (9/ 534) إلى سماك بن عمرو الباهلي. (4) البيت السابق البربري كما في كتاب ((اللامات)) للزجاجي (ص: 120)، وورد في ((لسان العرب)) (12/ 562) بلا نسبة. (5) ذكر البيت ابن الجوزي في ((زاد المسير)) (4/ 48)، والقرطبي في ((الجامع لأحكام القرآن)) (13/ 252). (6) البيت لعلي بن أبي طالب كما في خزانة الأدب 9/ 530، وصدره: "له ملك ينادي كل يوم"، ولأبي العتاهية أيضاً في ((ديوانه)) (ص:) 46. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 ويقال: لم لا يجوز أن تحمل لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا على الأظهر من معنى اللام، وهو الإرادة لازدياد الآثام؟ الجواب: لأنه لو أراده منهم لكانوا مطيعين له بفعله، ولأن إرادة القبيح عبث، وقد نفى الله ذلك بقوله عز وجل: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا [المؤمنون: 115]، ولأنه يرد إلى المحكم في قوله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، وقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ [النساء: 64] ".فانظر كيف حشر الرماني كل هذه الشواهد الشعرية لإثبات أن اللام في الآية لام العاقبة، مع تنصيصه صراحة على مخالفة الظاهر من معنى اللام الدالة على التعليل، وسبب مخالفته هو فهمه الاعتزالي الخطأ في الإرادة الإلهية، فجعل كل ما يريده الله محبوباً له، وبنى عليه في الآية أن يكون مريداً لزيادة الإثم لهم، وهذا قبيح عنده، فاضطر إلى تحريف معنى اللام بجعلها لام العاقبة، وليس ذلك بصواب، بل الله يفعل ما يريد، وفعله محمود دائماً، وهو كمال لا يستلزم قبحاً ولا نقصاً كما تتوهمه المعتزلة، والإرادة هنا كونية، ولا يلزم فيها أن تكون من محبوبات الله؛ حيث يقع فيها الخير والشر، بعكس الإرادة الشرعية التي لا تكون إلا فيما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال (1).ومثاله من الأدوات: ما قاله الزمخشري في "لعل" عند قوله تعالى في سورة البقرة: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21]، فإنه لما ذكر أنها تأتي للترجي، وللإشفاق، وللإطماع، قال: "فإن قلت: فـ"لعل" التي في الآية ما معناها وما موقعها؟ قلت: ليس مما ذكرناه في شيء؛ لأن قوله: خلقكم لعلكم تتقون، لا يجوز أن يحمل على رجاء الله تقواهم؛ لأن الرجاء لا يجوز على عالم الغيب والشهادة، وحمله على أن يخلقهم راجين للتقوى ليس بسديد أيضاً، ولكن "لعل" واقعة في هذه الآية موقع المجاز لا الحقيقة؛ لأن الله عز وجل خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف، وركب فيهم العقول والشهوات، وأزاح العلة في أقدارهم وتمكينهم، وهداهم النجدين، ووضع في أيديهم زمام الاختيار، وأراد منهم الخير والتقوى، فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا ليترجح أمرهم، وهم مختارون بين الطاعة والعصيان، كما ترجحت حالة المرتجى بين أن يفعل وأن لا يفعل، ومصداقه قوله عز وجل: ِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2]، وإنما يبلو ويختبر من تخفى عليه العواقب، ولكن شبه بالاختبار بناء أمرهم على الاختيار" (2).والسر في جعله "لعل" مجازاً هو ما تقتضيه في صيغتها الرجائية من أن الله خلقهم لرجاء تقواهم، وذلك مخالف – كما ذكره – لما ذهبت إليه القدرية من أن الله خلق العباد محيرين في أفعالهم، فحملها على المجاز، وزعمه هذا ليس بصحيح، والصواب أنها واقعة موقع الحقيقة، وهي في كلام الله للتعليل المحض، ولا تصح للترجي لعدم صحة ذلك على الله، والمعنى أن خلقهم لأن يتقوه ويعبدون (3)، كما قال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]. - التصرف في سياقات اللغة العربية بالتأويل، وادعاء أن هناك محذوفاً يجب تقديره:   (1) ((شفاء العليل)) (ص: 549 - 551)، ط دار التراث، و ((التفسير اللغوي للقرآن الكريم)) (ص: 217 - 218). (2) ((الكشاف)) (1/ 45) ط دار المعرفة. (3) انظر: ((شفاء العليل)) (ص: 393) ط دار التراث، و ((المسائل الاعتزالية في تفسير الكشاف)) (1/ 199). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 وهذا باب لا حدود له لدى المعتزلة، وأمثلته فوق الحصر، كتأويلهم صفة التجلي بتجلي أمر الله أو قدرته، وإتيانه في ظلل من الغمام بمجيء أمره، ونزول الله إلى السماء الدنيا بنزول أمره ورحمته، ومجيئه إلى الموقف للقضاء بمجيء أمره أو ملائكته، وهو من أكثر الوسائل التي استعملتها المعتزلة في نفي الصفات. قال قطرب في قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ [الأعراف: 143]: "تجلى بأمره أو قدرته، قال: وهي كقوله تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا [يوسف: 82] يعني أمره؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يزول، كما تقول: قد خشينا أن يأتينا بنو أمية، وإنما تعني حكمهم" (1).ولهذا جعل القاضي عبدالجبار التأويل من أصولهم فقال: "وهكذا طريقتنا في سائر المتشابه: أنه لابد من أن يكون له تأويل صحيح يخرج على مذهب العرب، من غير تكلف وتعسف" (2). رد معاني المدلولات اللغوية الشرعية بالأساليب البلاغية المستحدثة:   (1) ((معاني القرآن)) (1/ 170). (2) ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (16/ 380)، وما ذهب إليه هو عين التكلف والتعسف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 وهذا أيضاً باب مشهور لدى المعتزلة، تمكنوا خلاله من التحكم في معاني النصوص الشرعية، وتوجيهها حسب الطلب الاعتقادي لديهم، بداعي المجاز والتشبيه، والكناية، والاستعارة، والمبالغة، والتجانس، ونحو ذلك. ويعتبر الأخفش والجاحظ أول من افتتح هذا الباب، فأولا آيات الصفات بداعي المجاز، وتصرفا في ذلك تصرفاً عجيباً فراراً من إثبات أي صفة للمولى عز وجل (1).ثم تتابع عليه بعده لغويو المعتزلة كالرماني وغيره واشتهر فيما بينهم، حتى عقد ابن جني في الخصائص بابا سماه "باب ما يؤمنه علم العربية من الاعتقادات الدينية"، فذكر فيه جملة من الآيات القرآنية الدالة على بعض الصفات الإلهية، وأولها بالمجاز بعد أن تهكم على أهل السنة والجماعة، ووصمهم بالتشبيه، وقلة الفهم للغة العربية، ثم قال: "وطريق ذلك أن هذه اللغة أكثرها جار على المجاز، وقلما يخرج الشيء منها على الحقيقة ... ، فلما كانت كذلك، وكان القوم الذين خوطبوا بها أعرف الناس بسعة مذاهبها، وانتشار أنحائها، جرى خطابهم بها مجرى ما يألفونه ويعتادونه منها، وفهموا أغراض المخاطب لهم بها على حسب عرفهم، وعادتهم في استعمالهم ... " (2).وقد قسم الرماني "ت 348هـ" البلاغة إلى عشرة أقسام في كتابه (النكت في إعجاز القرآن)، ومثل لذلك بالآيات القرآنية، وجعل من تلك الأقسام التجانس، وجعل فيه الصفات الواردة لله على وجه المقابلة مثل الاستهزاء والمخادعة، فذكر أنها استعيرت في حق المولى للدلالة على الجزاء، ومزاوجة الكلام، وليست على الحقيقة (3)، ثم جعل من الأقسام المبالغة، فقسمها إلى ثلاثة أضرب: ثم قال: " .. الضرب الثاني: المبالغة بالصيغة العامة في موضع الخاصة، كقوله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ [الأنعام: 101]، وكقول القائل: أتاني الناس، ولعله لا يكون أتاه إلا خمسة فاستكثرهم، وبالغ في العبارة عنهم" (4). ثم قال: "الضرب الثالث: إخراج الكلام مخرج الإخبار عن الأعظم الأكبر للمبالغة، كقول القائل: جاء الملك إذا جاء جيش عظيم له، ومنه قوله عز وجل: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] فجعل مجيء دلائل الآيات مجيئاً له على المبالغة في الكلام، ومنه: فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ [النحل: 26] أي أتاهم بعظيم بأسه فجعل ذلك إتياناً له على المبالغة، ومنه قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [الأعراف: 143] " (5). وهكذا استخدم الرماني الأساليب البلاغية لخدمة معتقداته، فنفى الصفات الإلهية بها، ودفع خلق الله لأفعال العباد بها.   (1) انظر ((معاني القرآن)) للأخفش (1/ 47 - 48، 54 - 56)، و ((رسائل الجاحظ)) (3/ 344 - 346). (2) انظر: ((الخصائص)) (3/ 245 - 255). (3) ((النكت في إعجاز القرآن)) (ص 99). (4) ((النكت في إعجاز القرآن)) (ص 104). (5) ((النكت في إعجاز القرآن)) (ص 104 - 105). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 وللشريف الرضي كتابان في البلاغة هما (تلخيص البيان في مجازات القرآن)، و (المجازات النبوية)، استخدمها لنفي الصفات الإلهية في القرآن والأحاديث، وسيأتي الكلام عليهما. أما الزمخشري "ت 538هـ" فحدث عنه ولا حرج، فـ (الكشاف) يعتبر عند جمهور البلاغيين مرجعاً هاماً من مراجع البلاغة القرآنية، وقد استطاع بدهاء أن يجعل تحليلاته البلاغية للآيات في خدمة عقيدته الاعتزالية، وممن رد عليه في كثير من توجيهاته البلاغية بهاء الدين أحمد بن علي السبكي "ت 773هـ" في كتابه (عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح) (1)، وانتصر فيه لمذهبه الأشعري، كما أن لابن المنير ردوداً لغوية وبلاغية على الزمخشري في (الانتصاف من الكشاف).قال ابن تيمية: "ثم يجتهدون في تأويل هذا الأقوال إلى ما يوافق رأيهم بأنواع التأويلات التي يحتاجون فيها إلى إخراج اللغات على طريقتها المعروفة، وإلى الاستعانة بغرائب المجازات، والاستعارات" (2). - عدم الأخذ بتفسير السلف للغة العربية ورده:   (1) ((المدرسة إلى دراسة بلاغة أهل السنة)) (ص: 49 - 51، 102 - 108)، و ((عروس الأفراح)) طبع ضمن شروح ((تلخيص المفتاح)) للخطيب القزويني، والمفتاح هو ((مفتاح العلوم)) للسكاكي. (2) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 12). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 وعلى هذا الوجه ينبني ردهم تفسير السلف للاستواء بأنه العلو والارتفاع، والعرش بأنه سرير الملك، والكرسي أنه موضع القدمين، مع صحة الروايات في ذلك، وهكذا في سائر الألفاظ العربية الواردة في الكتاب والسنة. قال الجاحظ: "كان أبو إسحاق يقول: لا تسترسلوا إلى كثير من المفسرين، وإن نصبوا أنفسهم للعامة، وأجابوا عن كل مسألة؛ فإن كثيراً منهم يقول بغير رواية على غير أساس، وكلما كان المفسر أغرب عندهم كان أحب إليهم، وليكن عندكم عكرمة، والكلبي، والسدي، والضحاك، ومقاتل بن سليمان، وأبو بكر الأصم، في سبيل واحدة، فكيف أثق بتفسيرهم، وأسكن إلى صوابهم، وقد قالوا في قوله عز وجل: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ [الجن: 18]: إن الله عز وجل لم يعن بهذا الكلام مساجدنا التي نصلي فيها، بل إنما عنى الجباه، وكل ما سجد الناس عليه، من يد، ورجل، وجبهة، وأنف وثفنة (1)، وقالوا في قوله تعالى: أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية: 17]: إنه ليس يعني الجمال والنوق، وإنما يعني السحاب (2)، وإذا سئلوا عن قوله: وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ [الواقعة: 29]؟ قالوا: الطلح: هو الموز (3) .... وقالوا في قوله تعالى: وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: 1]: الويل: واد في جهنم (4)، ثم قعدوا يصفونه، وقال آخرون: الفلق: المفطرة بلغة اليمن (5) ... وقالوا في قوله تعالى: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا [فصلت: 21] الجلود: كناية عن الفروج (6)، كأنه كان لا يرى أن كلام الجلد من أعجب العجب! وقالوا في قوله تعالى: كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ [المائدة: 75]: إن هذا إنما كان كناية عن الغائط (7)،   (1) ورد ذلك عن سعيد بن جبير، والربيع، وابن الأنباري، كما في ((النكت والعيون)) (6/ 119)، و ((زاد المسير)) (8/ 328)، والمراد به أعضاء السجود، قال ابن الجوزي: "فيكون المعنى لا تسجدوا عليها لغيره"، والثفنة: ما يقع على الأرض من أعضاء البعير إذا استناخ وغلظ كالركبتين وغيرهما. ((الصحاح)) (5/ 2088). (2) روي "الإبل" بتشديد اللام بمعنى السحاب عن أبي عمرو بن العلاء والمبرد. انظر: ((النكت والعيون)) (6/ 262)، و ((زاد المسير)) (9/ 99)، و ((روح المعاني)) (30/ 116). (3) قال به علي بن أبي طالب، وابن عباس، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وغيرهم بأسانيد كثيرة. انظر: ((جامع البيان)) (27/ 181)، و ((النكت والعيون)) (5/ 453 - 454)، و ((زاد المسير)) (8/ 140). (4) قال بذلك محمد بن السائب الكلبي والسدي. انظر: ((الكشف والبيان)) (10/ 339)، و ((معالم التنزيل)) (8/ 595)، و ((زاد المسير)) (9/ 273). (5) ورد غير منسوب في ((الجمهرة)) (3/ 154)، و ((تهذيب اللغة)) (9/ 157)، و ((الصحاح)) (2/ 796)، والمحكم (6/ 258)، والمفطرة: كما في ((الصحاح)) (2/ 796): خشبة فيها خروق تدخل فيها أرجل المحبوسين. (6) ورد عن ابن عباس، وزيد بن أسلم، وعبيدالله بن أبي جعفر، والسدي، والفراء. انظر: ((النكت والعيون)) (5/ 176)، و ((زاد المسير)) (7/ 250)، و ((المحرر الوجيز)) (14/ 175)، و ((الجامع لأحكام القرآن)) (8/ 350). (7) ورد عن ابن قتيبة كما في ((تفسير غريب القرآن)) (ص: 145)، و ((زاد المسير)) (2/ 404)، وحكاه الماوردي في ((النكت والعيون)) (2/ 56) من غير نسبة، قال ابن قتيبة: "وإنما نبه بأكل الطعام على عاقبته، وعلى ما يصير إليه وهو الحدث؛ لأن من أكل الطعام فلابد له من أن يحدث". ((تفسير غريب القرآن)) (ص 145) " .. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 كأنه لا يرى أن في الجوع وما ينال أهله من الذلة والعجز والفاقة، وأنه ليس في الحاجة إلى الغذاء، ما يكتفي به في الدلالة على أنهما مخلوقان، حتى يدعي على الكلام، ويدعي له شيئا قد أغناه الله تعالى عنه، وقالوا في قوله تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: 4]، إنه إنما عنى قلبه (1) " (2). ويظهر من هذا أن النظام وتلميذه الجاحظ خلطا بين التفاسير الصحيحة والسقيمة، فلم يبقيا شيئاً، وغرضهما هو طرح الكل؛ ما دام لا يرقى إلى عقل المعتزلة وذوقهم الذي جعلوه مقياساً للمقبول والمردود من التفاسير. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا تجد المعتزلة والمرجئة والرافضة وغيرهم من أهل البدع يفسرون القرآن برأيهم ومعقولهم، وما تأولوه من اللغة، ولهذا تجدهم لا يعتمدون على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، فلا يعتمدون لا على السنة ولا على إجماع السلف وآثارهم، وإنما يعتمدون على العقل واللغة، وتجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة والحديث وآثار السلف، وإنما يعتمدون على كتب الأدب وكتب الكلام التي وضعها رؤوسهم" (3). المصدر: مناهج اللغويين في تقرير العقيدة إلى نهاية القرن الرابع الهجري لمحمد الشيخ عليو - ص 64   (1) قال به ابن عباس، وسعيد بن جبير، وغيرهما. انظر: ((النكت والعيون)) (6/ 134)، و ((زاد المسير)) (8/ 401)، و ((الجامع لأحكام القرآن)) (10/ 63). (2) ((كتاب الحيوان)) (1/ 343 - 345). (3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 119). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 المبحث الأول: منهج المعتزلة في تفسير القرآن الكريم بنى المعتزلة -كما ذكرنا - عقيدتهم على أصول خمسة وفي سبيل دعم هذه الأصول وتقويتها حتى تلاقي قبولا بين المسلمين كان لابد من استنادها إلى أدلة من القرآن الكريم وقد كان أصل تأسيسهم لها العقل المجرد عن النصوص وما وافق منهجهم من النصوص فإنما وافقه عرضاً لا قصدا فهم إنما بنوا أصولهم على العقل ثم بعد هذا رجعوا إلى النصوص واختاروا ما يوافقه منها وبقي ما لم يوافقه وهو كثير عقبة كأداء في طريقهم أعدوا له عدتهم واستنفروا له كل العلوم والمعارف فمما لا شك فيه أن الأمر يحتاج إلى جهد كبير حتى يستطيع المعتزلي أن يخضع معاني النصوص القرآنية لآرائه وصرفها عن معارضتها لها وإبطال جميع التفاسير الأخرى لها إذا لم توافق آراءهم حتى ولو كانت أحاديث صحيحة عن الرسول صلى الله عليه وسلم. ومما لاشك فيه أيضاً أنهم لم يرجعوا في تأويلهم هذا إلى آية أخرى أو سنة نبوية إذ أن هذا يبقيهم في نطاق دائرة النص الأول ولا يلوي العبارة كما يريدون ليها فلم يبق لهم إلا أن يقفوا موقف المضطرب فيكذبون النصوص النبوية الصريحة ويجرحون رواتها بل ويتجاوزون هذا إلى الصحابة الذين سمعوها من الرسول صلى الله عليه وسلم ورووها كما سمعوها وسخروا كل العلوم والمعارف كاللغة والقراءات والبلاغة والنحو غير ذلك لتأويل الآيات المعارضة لأصولهم وحتى تكون على بينة مما نقول نذكر بعض تأويلاتهم هذه لبعض آيات القرآن الكريم حسب أصولهم في العقيدة. ففي التوحيد: أولوا الآيات الدالة على إثبات الرؤية كقوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22 - 23] بأن النظر إلى الله تعالى لا يصح لأن النظر هو تقليب العين الصحيحة نحو الشيء طلبا لرؤيته وذلك لا يصح إلا في الأجسام فيجب أن يتأول على ما يصح النظر إليه وهو الثواب كقوله تعالى وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] فأنا تأولناه على أهل القرية لصحة المسألة منهم (1). وحكى الشريف المرتضى تفسيرا لهم "لا يفتقر معتمده إلى العدول عن الظاهر أو إلى تقدير محذوف ولا يحتاج إلى منازعتهم في أن النظر يحتمل الرؤية أو لا يحتملها وهو أن يحمل قوله تعالى إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 23] على أنه أراد نعمة ربها لأن الآلاء النعم" ويؤيد هذا بقول أعشى بكر بن وائل. أبيض لا يرهب الهزال ولا ... يقطع رحما ولا يخافون إلا أراد أنه لا يخون نعمه (2).   (1) ((تنزيه القرآن عن المطاعن)) القاضي عبدالجبار بن أحمد (ص 442). (2) ((أمالي المرتضى غرر الفوائد ودرر القلائد)) للشريف المرتضى ت محمد أبو الفضل إبراهيم (ص36 - 37) القسم الأول المجلس الثالث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 وأولوا الآيات الدالة على إثبات صفة الكلام كقوله تعالى: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] بأن لفظ الجلالة منصوب على أنه مفعول ورفع موسى على أنه فاعل وبهذا أبطلوا صفة الكلام لله سبحانه وتعالى وحاول بعضهم أن يبقي القراءة المشهورة كما هي برفع لفظ الجلالة على أنه فاعل مع تأويل المعنى بحيث لا يثبت صفة الكلام فقال أن كلم من الكلم بمعنى الجرح فالمعنى وجرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن وقد عاب هذا التأويل الزمخشري وقال عنه أنه من بدع التفاسير وأولها بالقول الأول. فأن سلمت جدلا بنصب لفظ الجلالة في هذه الآية وسألت عن المراد في قوله تعالى وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف: 143] قالوا: "وكلمه ربه" من غير واسطة كما يكلم الملك وتكليمه أن يخلق الكلام منطوقا به في بعض الأجرام كما خلقه مخطوطا في اللوح وروي أن موسى عليه السلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة" (1).وأولوا كثيرا من الصفات تأويلا باطلا لمخالفته أصولهم فمن ذلك أيضا تأويلهم استوى في قوله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] بأن استواء الله على العرش كناية عن الملك واستدلوا بقولهم استوى فلان على العرش يريدون ملك وإن لم يقعد على السرير البتة وأولوا قوله تعالى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10] بأنه تخييل لمعنى أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله والله تعالى منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام ومعنى قوله تعالى كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] أي كل شيء هالك إلا هو (2).   (1) ((تفسير الكشاف)) للزمخشري (2/ 111 - 112). (2) ((أمالي الشريف المرتضى)) القسم الأول (ص592) المجلس 45. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 وفي العدل: ويؤولون قوله تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ [الفرقان: 31] فسره الجبائي المعتزلي بأن الله سبحانه بين لكل نبي عدوه حتى يأخذ حذره منه (1). وإنما اضطرهم إلى هذا التأويل حتى يتفق مع قولهم بوجوب الصلاح والأصلح. ولكنهم يتوقفون في بعض أفعال الله فلا يدركون المصلحة في فعلها فإذا قلت في قوله تعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [التغابن: 2] إذا قلت أن العباد هم الفاعلون للكفر ولكن قد سبق في علم الحكيم أنه إذا خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر ولم يختاروا غيره فما المصلحة في خلقهم؟ مع علمه بما يكون منهم؟ أجاب الزمخشري بأن له وجه حسن "وخفاء وجه الحسن علينا لا يقدح في حسنه كما لا يقدح في حسن أكثر مخلوقاته بجهلنا بداعي الحكمة إلى خلقها" (2).وأن احتججت عليهم في إبطال قولهم بأن الحسن والقبح صفتان ذاتيتان للحسن والقبيح بقوله تعالى رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 165] فكيف يكون لهم حجة قبل الرسل والله قد أعطاهم عقلا يدركون به الحسن والقبيح قبل الرسل كما تقولون؟ قالوا: أن الرسل منبهون عن الغفلة وباعثون على النظر فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميما لإزالة الحجة لئلا يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولا فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه له" (3).ويؤولون قوله تعالى وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى [الأنفال: 17] بأنه صلى الله عليه وسلم كان يرمي يوم بدر والله تعالى برميته المقاتل فالملك أضافه تعالى إلى نفسه كما أضاف الرمية أولا إليه بقوله إذ رميت (4).ويؤولون قوله تعالى: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 65 - 96] بأن المراد والله خلقكم وما تعملون من الأصنام (5). وفي الوعد والوعيد: قالوا أنه لا يجب حمد الله على إدخاله المحسنين للجنة لأنه إنما أعطاهم حقا من حقوقهم ووعدهم وعدا وجب عليه أن ينفذه وأولوا قوله تعالى وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [سبأ: 1] بأن الحمد في الآخرة ليس بواجب لأنه على نعمة واجبة الإيصال إلى مستحقها إنما هو تتمة سرور المؤمنين وتكملة اغتباطهم يلتذون به كما يلتذ العاطش بالماء البارد (6).   (1) ((تفسير الرازي)) (24/ 77). (2) ((تفسير الكشاف)) للزمخشري (4/ 113). (3) ((تفسير الكشاف)) للزمخشري (1/ 583). (4) ((تنزيه القرآن عن المطاعن)): للقاضي عبدالجبار (ص159). (5) ((تنزيه القرآن عن المطاعن)) القاضي عبدالجبار (354). (6) ((تفسير الكشاف)) للزمخشري (3/ 278). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 وفي المنزلة بين المنزلتين: قالوا بمنزلة الفسق وهي منزلة بين منزلة الإيمان ومنزلة الكفر ويؤولون من الآيات ما يقسم الناس إلى مؤمن وكافر ولا يذكر النوع الثالث الذي ذكروا فمن ذلك قوله تعالى إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان: 3] فيقولون أن الشاكر قد يكون شاكراً وأن لم يكن مؤمنا برا تقيا وأضعف من هذا تأويل الزمخشري لقوله تعالى إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإسراء: 9 - 10] بقوله "فإن قلت: كيف ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة؟ قلت: كان الناس حينئذ أما مؤمن تقي وإما مشرك وإنما حدث أصحاب المنزلة بين المنزلتين بعد ذلك" (1). وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمسلمون جميعاً متفقون على هذا الأصل ولكنهم مختلفون في مداه ولم يكن للمعتزلة – فيما اطلعت عليه من تفاسيرهم في هذا الباب – ما أولوه تأويلا خارجا عن أقوال السلف أما مبالغتهم في مداه فلم تكن معتمدة على التأويل بل على منهجهم العقلي. كانت هذه نماذج لبعض تأويلاتهم لآيات القرآن حسب أصولهم ويحسن بنا هنا أن نذكر أهم مميزات منهجهم الذي سلكوه في هذه التأويلات وغيرها:-أ- كان من أصول منهجهم في التفسير تحكيم العقل في الأمور الغيبية تحكيمها مطلقا فأنكروا حقائق كثيرة أثبتها أهل السنة استنادا إلى النصوص فأنكرها المعتزلة استنادا إلى العقل المجرد منها فمن ذلك تمرد بعض أعلام المعتزلة كالنظام على الاعتقاد بوجود الجن (2) وثار الزمخشري ضد من يقول بأن للجن قوة تأثير في الإنسان مع اعترافه بوجودها وأنكروا أيضا أن للسحر حقيقة وأنه لا تأثير له اللهم إلا إذا كان ثّم إطعام شيء ضار أو سقيه أو إشمامه أو مباشرة المسحور به على بعض الوجوه ولكن قد يفعل الله عند ذلك على سبيل الامتحان فينسبه الحشو والرعاع إليهن وإلى نفثهن والثابتون بالقول الثابت لا يلتفتون إلى ذلك ولا يعبثون به (3).   (1) ((تفسير الكشاف)) للزمخشري (2/ 439 - 440). (2) ((الملل والنحل)): الشهرستاني (1/ 58). (3) ((تفسير الكشاف)): للزمخشري (4/ 301). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 ب- موقفهم من الإسرائيليات: أما موقفهم من الإسرائيليات فغير منضبط فبينما كان النظام أحد زعماء المعتزلة يقول:- "لا تسترسلوا إلى كثير من المفسرين وإن نصبوا أنفسهم للعامة وأجابوا في كل مسألة فإن كثيرا منهم يقول بغير رواية على غير أساس وكلما كان المفسر أغرب عندهم كان أحب إليهم وليكن عندكم عكرمة والكلبي والسدي والضحاك ومقاتل بن سليمان وأبو بكر الأصم في سبيل واحدة فكيف أثق بتفسيرهم وأسكن إلى صوابهم" (1) بينما كان النظام وغيره يقولون هذا القول ونحوه نرى الزمخشري المعتزلي لا يرى بأسا بإيراد أسطورة أو خرافة إسرائيلية أو قصة غير مستيقنة ما دامت لا تطعن نبيا ولا تخالف رأيا اعتزاليا وبذلك خالف منهجه العقلي (2) بل ويروي من القصص ما يظهر بطلانه فهو يروى مثلا قصة أحد الأسباط الذين سألوا الله أن يفرق بينهم وبين إخوانهم ففتح الله لهم نفقا في الأرض فساروا فيه سنة ونصفاً حتى خرجوا من وراء الصين وهم هنالك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا وأن نبينا صلى الله عليه وسلم قد زارهم ليلة أسري به وعرفهم جبريل به فآمنوا وعلمهم بعض آيات القرآن وبعض أمور الإسلام الأخرى (3) ولا يعقب على هذه القصة بما يضعفها مع وضوح بطلانها حتى قال الآلوسي "ولا أظنك تجد لها سندا يعول عليه ولو ابتغيت نفقا في الأرض أو سلما في السماء" (4). ج- التفسير بالمأثور: وكان موقفهم من التفسير بالمأثور موقفا عجيبا!! فهم يشككون في الأحاديث التي تصطدم بمبادئهم ويكذبونها. وإن علت درجتها في الصحة أو يؤولونها تأويلا باطلا. بل ويتجاوزون هذا إلى تجريح راويها لا أعني التابعي أو تابعي التابعي بل الصحابي الذي رواه عن الرسول صلى الله عليه وسلم يفعلون هذا إذا ما كان مصادما لمبدأ من مبادئهم بينما يستشهدون بالأحاديث الضعيفة بل الموضوعة ويعضون عليها بالنواجذ لنصرة مذهبهم الاعتزالي. ولا أدري أين هذا العقل الذي اتخذوه قائدا – كما يقولون – ألا يستطيعون به أن يدركوا ضعف هذا الحديث حينما يجدون فيه من ركاكة الأسلوب وضعف المعنى ما يبعده عن البلاغة النبوية وأن يدركوا به صحة هذا الحديث لما يوجد به من قبس من نور النبوة وحكما من ينابيع الوحي مما يجعل القلب السليم يطمئن إليه. بله الاستناد إلى أقوال أئمة المحدثين في سنده ومتنه تصحيحا وتضعيفا. بل إن طريقتهم هذه تدل وأكاد أن أقول – يقينا – على أن مقياس أخذهم الحديث ورده لم يكن سائرا على منهجهم – الذي يزعمون – بل كان منهجه منهج الهوى. ولست أقول هذا اعتباطا وعصبية وإنما أقوله استنادا إلى كثرة ما رأيته من ردهم لأحاديث صحيحة متفق على صحتها وتمسكهم بأحاديث لا أقول ضعيفة بل جزم أئمة الحديث بوضع كثيرها. أفلم يكن في منهجهم بصيص من نور يجلو لهم تلك الحقائق في الظلمات التي انقادوا إليها ...   (1) ((الحيوان)): الجاحظ (1/ 343) ت عبدالسلام هارون. (2) ((الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير)): رمزي نعناعة (ص 288). (3) ((تفسير الكشاف)): الزمخشري (2/ 123 - 124). (4) ((روح المعاني))؛ للآلوسي (9/ 85). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 وحتى لا يقال تلك تهمة لم تذكر دليلها أشير هنا إلى بعض أحاديث صحيحة وأنكروها أو شككوا في صحتها وأولوها تأويلا باطلا وأحاديث ضعفت درجتها أو وضعت واستنصروا بها أذكر هذا بإيجاز إذ المقام هنا مقام إشارة وتنبيه ليس إلا. فمن الأحاديث التي أنكروها أو تأولوها أحاديث الرؤية لا لضعف في سندها بل لمخالفتها لمذهبهم في إنكار الرؤية مع أنها متواترة ورواها أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن (1) ومنها حديث جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال:- ((كنا جلوسا مع النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال:- إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته)) (2) وقد روى أحاديث الرؤية نحو ثلاثين صحابيا (3) ومع هذا كله لم تلق القبول لدى المعتزلة مع علمهم بها وإطلاعهم عليها فالقاضي عبدالجبار المعتزلي يقول عند تفسيره لقوله تعالى لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26]. "ليس المراد بها الرؤية على ما روي في الخبر؟ وجوابنا أن المراد بالزيادة التفضيل في الثواب فتكون الزيادة من جنس المزيد عليه وهذا مروي وهو الظاهر فلا معنى لتعلقهم بذلك. وكيف يصح ذلك لهم وعندهم أن الرؤية أعظم من كل الثواب فكيف تجعل زيادة على الحسنى؟ " (4).   (1) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص209). (2) رواه البخاري (554) , من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه. (3) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص210). (4) ((تنزيه القرآن عن المطاعن)) للقاضي عبدالجبار (ص177). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 ولعل في ذكر قوله بعد ذكر قوة هذه الأحاديث غني عن التعليق. ومنها حديث ((ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان غير مريم وابنها)) وقد رواه البخاري (1) ومسلم (2) , وأحمد (3) , رضي الله عنهم ومع هذا يقول الزمخشري عنه "وما يروى من الحديث ما مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها فالله أعلم بصحته فإن صح فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها فإنهما كانا معصومين وكذلك من كان في صفتهما .. واستهلاله صارخا من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه .. وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا" (4) فشكك في صحة الحديث أولا ثم أوله تأويلا باطلا وحمله على أنه تخييل وتصوير. وعمم الاستثناء على المعصومين مع قصره في الحديث على مريم وابنها عليهما السلام. وتجاوزوا هذا إلى تكذيب الصحابة وتجريحهم بل تجاوزوه إلى سبهم – رضي الله عنهم – إذا كان ما رووه يخالف أصولهم فقال النظام المعتزلي عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه "وزعم أن القمر انشق وأنه رآه وهذا من الكذب الذي لا خفاء به" (5) وقال عن سمرة بن جندب رضي الله عنه "ما نصنع بسمرة قبح الله سمرة" (6) وكذب الزمخشري ابن مسعود رضي الله عنه لقوله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن خط حوله فكان يجيء أحدهم مثل سواد النخل وقال لي لا تبرح مكانك فأقرأهم كتاب الله عز وجل فلما رأى الزط قال كأنهم هؤلاء فقال الزمخشري "وإن زعم من يدعي رؤيتهم زور ومخرقة" (7).واستهزأ بعبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وسخر منه لروايته لحديث "ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقاباً" (8) فقال "ما كان لابن عمرو في سيفيه ومقاتلته بهما علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ما يشغله عن تسيير هذا الحديث" (9).ويتمسك المعتزلة بأحاديث ضعيفة أو موضوعة لبيان أصل من أصولهم فيستشهدون مثلا بما وري عن علي رضي الله عنه "أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن شنئ الفاسقين وغضب لله غضب الله له" (10) قال ابن حجر العسقلاني "وهو من طريق إسحاق بن بشر عن مقاتل وهما ساقطان" (11) وقال الذهبي في المغني في الضعفاء "إسحاق بن بشر مجمع على تركه" (12) وقال في الميزان "تركوه وكذبه علي بن المديني وقال الدارقطني كذاب متروك" (13) أما مقاتل فقال وكيع كان كذابا وقال النسائي كان مقاتل يكذب وقال الجوزجاني كان دجالا جسورا (14) وقال في الميزان "ومقاتل أيضا تالف" (15). وبعد: لعل في هذه الإشارة بيان لما كان عليه منهج المعتزلة العقلي وما أدى بهم إليه هذا المنهج من أمور مخالفة لأراء أهل السنة. المصدر: منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير لفهد الرومي - ص 55   (1) ((صحيح البخاري)) (3431) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) ((صحيح مسلم)) (2366) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) ((مسند أحمد)) (2/ 233) (7182) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (4) ((تفسير الكشاف)): للزمخشري (1/ 426). (5) ((تأويل مختلف الحديث)) ابن قتيبة تحقيق محمد زهري النجار (ص 21). (6) ((تاريخ بغداد)): الخطيب البغدادي (12/ 176). (7) ((تفسير الكشاف)) للزمخشري (2/ 75). (8) قال في ((الكافي الشاف)) (2/ 431) ضمن ((تفسير الكشاف)) عند تخريجه لهذا الحديث "اخرجه البزار ... ورجاله ثقات .. ". (9) ((تفسير الكشاف)) للزمخشري (2/ 294). (10) ((تفسير الكشاف)) للزمخشري (1/ 452). (11) ((الكافي الشاف)) في ((تخريج أحاديث الكشاف)) للحافظ ابن حجر العسقلاني ضمن ((تفسير الكشاف)) (1/ 397). (12) ((المغني في الضعفاء)) للإمام الذهبي ت نور الدين عتر (1/ 69). (13) ((ميزان الاعتدال في نقد الرجال)) للإمام الذهبي ت علي محمد البجاوي (1/ 184). (14) ((ميزان الاعتدال في نقد الرجال)) للإمام الذهبي ت علي محمد البجاوي (4/ 173 - 174). (15) ((ميزان الاعتدال في نقد الرجال)) للإمام الذهبي ت علي محمد البجاوي (1/ 186). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 المبحث الثاني: موقف المعتزلة من السنة لقد آمن المعتزلة بأصولهم الخمسة وما تفرع عنها من آراء وجعلوا منها القاعدة والأساس الذي تنطلق منه كل محاوراتهم ومعاملاتهم مع النصوص سواء كانت قرآناً أو سنة، فكان ما يعارض مبادئهم (من آيات يؤولونها وما يعارضها من أحاديث، ينكرونها. . . ولذلك فإن موقفهم من الحديث كثيرا ما يكون موقف المتشكك في صحته، وأحياناً موقف المنكر له لأنهم يحكمون العقل في الحديث لا الحديث في العقل) (1). وإعمال العقل كما سبق أن ذكرنا لا يتنافى إطلاقاً مع الشريعة، بل فقد دعا الإسلام إلى إعمال الرأي في أكثر من آية وأكثر من حديث، وقد استخدم علماء الجرح والتعديل من علماء الحديث العقل كذلك لتمحيص الأخبار ونقد الرواة، إلا أن العقل ينبغي أن يحسن استعماله في مواضعه المنصوص عليها في الشريعة بعيداً عن كل زندقة وتعنت وإلحاد، هذه المعاني التي تفسد العقل كأداة تقويم قيمة لنصوص الحديث وغيرها وتحوله عن وجهته الصحيحة. ولعله من المفيد أن نمهد الحديث عن موقفهم من السنة بكلمة عن مكانة وأهمية العقل عند المعتزلة:   (1) ((ضحى الإسلام)) (3/ 85). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 لقد أجمع السلف على أن العقل والاجتهاد عموماً يحتل المرتبة الثالثة بعد القرآن ثم السنة، إلا أن المعتزلة خالفوا هذا الإجماع ونصبوا العقل على رأس الأدلة إذ به – كما يقولون – يدركون القرآن نفسه وغيره من الأدلة. فهذا القاضي عبد الجبار في معرض حديثه عن الأدلة الشرعية يقول في تصنيفها ما يأتي: (أولها العقل لأن به يميز بين الحسن والقبح، ولأن به يعرف أن الكتاب حجة، وكذلك السنة والإجماع). ولا شك أن مدرك مخالفته وصحبه لإجمال الأمة فقال: (وربما تعجب من هذا الترتيب بعضهم فيظن أن الأدلة هي الكتاب والسنة والإجماع فقط، أو يظن أن العقل إذا كان يدل على أمور فهو مؤخر، وليس الأمر كذلك لأن الله تعالى لم يخاطب إلا أهل العقل) (1).ويواصل تمجيد العقل فيبين أنه إنما يتوصل الناس إلى معرفة الله وإدراك حكمته بالعقل. . . وهكذا فهم أول من حكم العقل في النص لدرجة سمح معها إبراهيم النظام لنفسه أن يقول: وإن جهة حجة العقل قد تنسخ الأخبار (2) كما أن عمرو بن عبيد ذكر له ذات يوم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله يقول هذا لقلت: ليس على هذا أخذت ميثاقنا (3).وبذلك أعملوا قدسية النص الصحيح قرآنا وسنة خلية عن الهوى، وأقاموا العقل حكماً لا ترد كلمته، وحملوه بالإضافة إلى مهمة التحسين والتقبيح – التي بيناها قريباً – مسؤولية (معرفة الله تعالى بجميع أحكامه وصفاته قبل ورود الشرع) (4) حتى أن الجاحظ يقرر أنه لا يجوز للعبد أن يبلغ ولا يعرف الله (5) ذلك أن أصول المرعفة عندهم واجبة وضرورية ويمكن إدراكها بالعقل قبل ورود السمع (6).ويضيف ثمامة بن الأشرس إلى هذا أن من لم يضطر إليها فهو سخرة للعباد وغيره كسائر الحيوانات غير المكلفة (7).بل وذهب ثمامة وتلميذه الجاحظ إلى القول أن المعارف كلها طباع رغم كونها أفعالاً للعباد، فهي تصدر عنهم دون أن يكون لهم فيها أثر ولا اختيار اذ لا يملكون إلا الإرادة (8) مما جعل البغدادي يلزمهما أن أفعال العباد من أوامر ونواهي لا توجب ثواباً ولا عقاباً لأنها طباع ليست كسباً (9) ورغم هذا فقد جلب مسلكهم الممالي للعقل على حساب القرآن والسنة عطب الكثير من نقاد الغرب فكالوا لهم شهادات الاستحسان والإكبار وقد تعود الكثير من نقاد الغرب المسيحيين الإشادة بكل ما صار في ذمة التاريخ عند المسلمين حتى يشعروا الأجيال الحاضرة أن لا شيء مما يتمسكون به يدعو إلى الإكبار وبالتالي إلى الاعتزاز: فهذا شتينر Stainer أطلق عليهم اسم: "المفكرون الأحرار في الإسلام" وجعل من هذا اللقب عنوان كتابه عنهم. ووصفهم آدم ميز Adam Mez وهاملتون Hamiltion بأنهم دعاة الحرية الفكرية والاستنارة. أما جولد زيهر فيرفع عقيرته بالثناء عليهم ويصفهم بأنهم (وسعوا معين المعرفة الدينية بأن أدخلوا فيها عنصراً مهماً آخر قيماً وهو العقل الذي كان حتى ذلك الحين مبعداً بشدة عن هذه الناحية (10).   (1) ((فضل الاعتزال)) (139). (2) ((تأويل مختلف الحديث)) (43). (3) ((ميزان الاعتدال)) (3/ 278). (4) ((ملل الشهرستاني)) (1/ 70). (5) ((فضل الاعتزال)) (73). (6) ((ملل الشهرستاني)) (1/ 45). (7) ((فضل الاعتزال)) (73). (8) ((الفرق بين الفرق)) (175)، ((فضل الاعتزال)) (73). (9) ((الفرق بين الفرق)) (176) (10) ((أدب المعتزلة)) (172). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 هكذا يتجاسر جولد زيهر على قلب الحقائق مسقطاً الواقع الذي يثبت اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين. . . وكتب السنة والسيرة والتاريخ والفقه والخلاف والمقارنات الفقهية حافلة بما يؤيد اجتهادهم وتعويلهم على العقل الذي لم يبق في إجازة في انتظار المعتزلة ليكتسب فعاليته. وقبل أن أختم هذا التمهيد الموجز أريد أن أشير إلى ملاحظة مهمة وهي أن المعتزلة رغم ارتمائهم في أحضان العقل بدون تروّ ورغم مجافاتهم للكثير من نصوص الحديث وتعسفهم في تأويل العديد من آي الذكر الحكيم فإنهم لا يرتاحون حين يتهمهم خصومهم بأن كتبهم ومباحثهم خالية من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ هم يدعون لأنفسهم التمسك بالسنة وبالجماعة، وكثيراً ما ينقلبون على مناوئيهم باللائمة فيتهمونهم بأنهم لا يعرفون حقيقة السنة (1). وسوف نتتبع حقيقة موقفهم من السنة بدراسة آرائهم إزاء الموضوعات التالية: أ - موقفهم من الصحابة حملة العلم النبوي. ب - ومن الأخبار المتواترة. ج – ومن أخبار الآحاد. د – ومن عدد جم من الأحاديث النبوية. رأيهم في الصحابة: كان موقف المعتزلة من الصحابة خالياً من كل روح ديني، فهم يعرضونهم على مشرحة انتقادهم ولا أقول نقدهم دون أن يتورعوا عن إلصاق كل تهمة بهم، وهي تهم متحملة متعسفة تثبت لأصحابها سوء الطوية أكثر مما تثبته من حب البحث عن الحقيقة.   (1) ((فضل الاعتزال)) (185). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 ومما يلفت الانتباه أن بعض المعتزلة يعيب على الصحابة الاجتهاد اجتهاد الرأي هذا الذي جعل منه المعتزلة عنواناً لهم، والذي قدموه على القرآن نفسه كما أسلفنا، حين يطبقه الصحابة يصبح عند المعتزلة من العيوب التي لا تغتفر والتي يؤخذ بها وعليها أصحابها. فهذا النظام يقول: (إن الذين حكموا بالرأي من الصحابة إما أن يكونوا قد ظنوا أن ذلك جائز لهم وجهلوا تحريم الحكم بالرأي في الفتيا عليهم، وإما أنهم أرادوا أن يذكروا بالخلاف وأن يكونوا رؤساء في المذاهب، فاختاروا لذلك القول بالرأي (1) وبذلك نسبهم كما يقول البغدادي (إلى إيثار الهوى على الدين (2)). بل فإن النظام ضرب المثل السيئ في الوقيعة الفاحشة في الصحابة أجمعين (3) ولم يتورع عن إيجاب الخلود في النار على أعلام الصحابة. وحين يفاضل العلماء بين الخلفاء الراشدين حسب إجماع الأمة على مبايعتهم على الخلافة أولاً بأول، نجد أبا علي الجبائي لا يبت في أيهم أفضل (4)؟ إمعاناً في مخالفة إجماع الأمة. ولإثارة الشبه وتعميق الحزازات يميعون القول في حقيقة مقتل عثمان، فهذا أبو الهذيل يقول: (لا ندري قتل عثمان ظالماً أو مظلوماً؟) (5)، وقبله يعلن واصل بن عطاء أنه لا يعرف، هل كان عثمان هو المخطئ أم قاتلوه وخذلوه؟ (6).حتى إذا ما وصل الأمر إلى النظر في أصحاب الجمل وصفين نجدهم ينسبون الصحابة إلى الفسق جلت أقدارهم وعلت عن ذلك علواً كبيراً، فهذا واصل بن عطاء يجعل أحد الفريقين المتخاصمين في الجمل وفي صفين مخطئا لا يعينه تماما كالمتلاعنين فإن أحدهما فاسق لا محالة. . (وأقل درجات الفريقين أنه لا تقبل شهادتهما كما لا تقبل شهادة المتلاعنين) (7).وبناءً على هذا فإنه لم يحكم بشهادة رجلين أحدهما من أصحاب علي والآخر من أصحاب الجمل، فهو يقول: (لو شهدت عندي عائشة وعلي وطلحة على باقة بقل لم أحكم بشهادتهم (8). وقبل شهادة رجلين من أصحاب علي وشهادة رجلين من أصحاب طلحة والزبير (9) إذ قد يكون أحد الفريقين عدلا وعلى صواب، وهو رأي تبناه بعد ذلك ضرار بن عمرو وأبو الهذيل ومعمر ابن عياد السلمي حيث قالوا جميعا: (نحن نتولى كل واحد من الفريقين على انفراد (10)).   (1) ((الفرق بين الفرق)) (148). (2) ((ملل الشهرستاني)) (1/ 58). (3) ((الفرق بين الفرق)) (319). (4) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 147). (5) ((مقالات الإسلاميين)) (2/ 143). (6) ((الفرق بين الفرق)) (147). (7) ((ملل الشهرستاني)) (1/ 49). (8) ((ميزان الاعتدال)) (4/ 329) - ((الفرق بين الفرق)) (120) - ((ملل الشهرستاني)) (1/ 49). (9) ((الفرق بين الفرق)) (120، 320). (10) ((مقالات الإسلاميين)) (2/ 145). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 وهكذا يكونون قد شكوا في عدالة علي وطلحة والزبير مع شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الثلاثة بالجنة ومع دخولهم في بيعة الرضوان وفي جملة الذين قال الله تعالى فيهم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18]. وتقدم عمرو بن عبيد خطوة أخرى في تفسيق أصحاب الجمل، فقطع بفسق الطرفين المتحاربين جميعا، وقال: (لا أقبل شهادة الجماعة منهم سواء كانوا من أحد الفريقين أو كان بعضهم من حزب علي وبعضهم من حزب الجمل) (1) وبلغ به الأمر في امتهانهم إلى القول: لو شهد عندي علي وطلحة والزبير وعثمان على شراك (2) نعل ما أجزت شهادتهم (3) وهذا منه متساوق مع ما جبل عليه من كراهتهم وشتمهم (4).أما إبراهيم النظام وبشر بن المعتمر وبعض المعتزلة، فإنهم صوبوا علياً في حروبه وخطأوا من قاتله، فنسبوا طلحة والزبير وعائشة ومعاوية إلى الخطأ (5) وانتفاء العدالة عنهما. وقولهم هذا لا شك باطل مرذول ومردود، فقد قال الله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9] فسماهم مؤمنين مع الاقتتال (6).وعديدون هم الصحابة الذين ألهبتهم ألسنة المعتزلة وأقلامهم بالقدح والتجريح فهذا أبو بكر الصديق ثاني اثنين إذ هما في الغار، وأول من أسلم من الرجال، وصديق الرسول وحبيبه ينال منه النظام فيتهمه بالتضارب في أقواله، وذلك حين امتنع عن القول في شيء من متشابه القرآن الذي لا يعلم تأويله إلا الله فقال لما سئل عنه: (أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني. . إذا أنا قلت في آية من كتاب الله تعالى بغير ما أراد الله) (7) ثم سئل عن الكلالة فقال: (أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله وإن كان خطأ فمني هي ما دون الولد والوالد) (8).وكان عمر هدفاً لتهجمات النظام وطعناته فقد زعم أنه شك يوم الحديبية في دينه وذلك ((لما سأل الرسول: ألسنا على الحق؟ أليسوا على الباطل؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: نعم. قال عمر: فلم نعط الدنية في ديننا؟)) (9) فغيرة عمر على الدين ورغبته المخلصة في نصرته اعتبرها النظام ترددا وشكا!!   (1) ((الفرق بين الفرق)) (121، 320). (2) ((القاموس المحيط)) (3/ 38، 319). (3) ((ميزان الاعتدال)) (3/ 275). (4) ((ميزان الاعتدال)) (3/ 274). (5) ((مقالات الإسلاميين)) (2/ 145). (6) ((الباعث الحثيث)) (182). (7) ((تأويل مختلف الحديث)) (20، 24) - ((فضل الاعتزال)) (147) – ((ضحى الاسلام)) (3/ 88 – 89) والأثر رواه ابن أبي شيبة 6/ 136 قال ابن كثير في ((التفسير)) (8/ 348): منقطع. (8) ((الفرق بين الفرق)) (147) - ((ملل الشهرستاني)) (1/ 579) والأثر أخرجه الدارمي (2972)، والطبري (8/ 53) قال الحافظ في ((التلخيص)) (3/ 1077): رجاله ثقات إلا أنه منقطع، ورواه ابن أبي حاتم بإسناده صحيح، عن ابن عباس عن عمر قوله. (9) رواه البخاري (2731)، ومسلم (1785) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 وآمن النظام بفرية الشيعة في الوصية بالخلافة لعلي وهي البدعة التي اختلقها عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أسلم ليكون رأس الفتنة، واتهم النظام عمر بأنه كتمها وبادر بمبايعة أبي بكر ليحرم آل البيت، بل فإن عمر كما يزعم النظام (ضرب يوم البيعة بطن فاطمة حتى ألقت الجنين من بطنها، وكان يصيح: أحرقوا دارها بمن فيها، وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين). بل فحتى نفي عمر لشاعر المدينة الوسيم نصر بن حجاج (1) إلى البصرة مخافة فتنة النساء اعتبره النظام من مطاعن عمر، كما أخذ عليه جلده في الخمر ثمانين جلدة (2) وأعد إحياءه لسنة التراويح بدعة تذكر له بالذم (3).ثم اتهمه بما اتهم به أبا بكر رضي الله عنه من التناقض في أقواله، حيث نسب إليه قوله (أجرؤكم على الفتيا في ميراث الجد أجرؤكم على النار) ثم قضى في الجلد بمائة قضية مختلفة (4). وأحكام النظام كلها تصور قلة غيرته على الإسلام، وميله إلى الابتداع، وهدم ما يتميزه به أعلام الإسلام من هيبة في نفوس المسلمين لكي يزرع فيهم خيبة الأمل ويخلخل في نفوسهم كثيراً من القيم التي يمثلها صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم. ولم يسلم عبد الله بن مسعود (ت 23هـ) من طعن النظام فقد عاب عليه إعماله الرأي في الفتيا (5) وتجرأ على نسبته إلى الكذب ورد عددا كبيرا من أحاديثه كحديث السعيد من سعد في بطن أمه، وحديث انشقاق القمر وغيرهما (6). . فقد قال عن حديث انشقاق القمر: وهذا من الكذب الذي لا خفاء به، لأن الله تعالى لا يشق القمر له وحده، ولا لآخر معه وإنما يشقه ليكون آية للعالمين. . . فكيف لم يعرف بذلك العامة، وكم يؤرخ الناس بذلك العام، ولم يذكره شاعر، ولم يسلم عنده كافر ولم يحتج به مسلم على ملحد (7)؟! وقال عن الحديث الأول: (ولو كان ابن مسعود بدل نظره في الفتيا، نظر في الشقي كيف يشقى والسعيد كيف يسعد، حتى لا يفحش قوله على الله تعالى، ولا يشتد غلطه لكان أولى به. .) (8). وللنظام في ثلب أمير المؤمنين عثمان بن عفان الباع الطويل، فقد عاب عليه: إيواءه الحكم بن أمية إلى المدينة وهو طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ب – ونفيه أبا ذر الغفاري إلى الربذة وهو صديق رسول الله صلى الله عليه وسلم. ج – واستعماله الوليد بن عقبة على الكوفة وهو من أفسد الناس حتى أنه صلى بالناس وهو سكران.   (1) ((الأعلام)) (8/ 339). (2) ((الفرق بين الفرق)) (319). (3) ((الفرق بين الفرق)) (319) - ((ملل الشهرستاني)) (1/ 57). (4) ((تأويل مختلف الحديث)) (20). (5) ((تأويل مختلف الحديث)) (21) ((الفرق بين الفرق)) (148) - ((ملل الشهرستاني)) (1/ 57). (6) ((الفرق بين الفرق)) (148) - ((الملل)) (1/ 58) – ((ضحى الإسلام)) (3/ 86 - 87). (7) ((تأويل مختلف الحديث)) (21). (8) ((تأويل مختلف الحديث)) (21). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 د – أعان سعيد بن العاص بأربعين ألف درهم على نكاح عقده. هـ - تزويجه ابنته مروان بن الحكم (1). ونال النظام أيضا من حذيفة بن اليمان (ت 36هـ) أمين سر الرسول صلى الله عليه وسلم في المنافقين الذين لم يعلمهم أحد غيره (2) فشتمه واتهمه بالكذب وزعم أنه حلف لعثمان على أشياء ما قالها وقد سمعوه قالها!!؟) (3).وحين أفتى علي برأيه قال عنه النظام: (من هو حتى يقضي برأيه (4)!؟).ولم يتورع عن الطعن في أبي هريرة والقول عنه (كان أكذب الناس (5). وادعى أن عمر وعثمان وعليا وعائشة رضي الله عنهم أكذبوه (6).وقد خطأ بعض المعتزلة معاوية (ت 60هـ) ولم يقولوا بإمامته (7)، وكان عرضة لتهجم القاضي عبد الجبار حيث وسم أعماله بالباطل (8). ولم يسلم سمرة بن جندب (ت 60هـ) من شتم عمرو بن عبيد، فقد سأله أحدهم عن حديث لسمرة فقال له: (ما تصنع بسمرة؟ قبح الله سمرة) (9)!! وموقف المعتزلة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عموما يتراوح بين شاك في عدالتهم منذ عهد الفتنة، كما فعل واصل وبين مفسق لهم جميعا كعمرو بن عبيد وبين (طاعن في أعلامهم متهم لهم بالكذب والجهل والنفاق كالنظام، وذلك يوجب ردهم للأحاديث التي جاءت عن طريق هؤلاء الصحابة بناء على رأي واصل وعمرو ومن تبعهما) (10).وما ذهب إليه المعتزلة كما يقول ابن كثير: (باطل مرذول ومردود (11)، وهو مخالف للسنة مخالفة صريحة ذلك أن من الذين كفروهم شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير (12). كما كان العديد من الصحابة الذين نسبوهم إلى الكذب والضلال ضمن أهل بيعة الرضوان الذين أشاد الله بذكرهم. ومما يؤيد منافاة طعنهم على الصحابة للسنة الصحيحة ما جاء في صحيح البخاري عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) (13) ويشرح ابن حجر معنى القرن فيقول: (والمراد بقرن النبي في هذا الحديث الصحابة) (14).وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) (15).يقول الإمام الغزالي: فأي تعديل أصح من تعديل علام الغيوب سبحانه وتعديل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف ولو لم يرد الثناء، لكان فيما اشتهر وتواتر عن حالهم في الهجرة والجهاد وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأهل في موالاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته كفاية في القطع بعدم التهم (16).وقد أجمع سلف الأمة وجماهير الخلف على عدالة الصحابة بما فيهم من لابس الفتن (17)، وصار استنقاصهم آية من آيات الزندقة والمروق عن الإسلام يقول، أبو زرعة: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق (18)).   (1) ((الفرق بين الفرق)) (148) - ((الملل)) (1/ 57) – ((الأعلام)) (8/ 94). (2) ((الأعلام)) (2/ 180). (3) ((تأويل مختلف الحديث)) (22). (4) ((الفرق بين الفرق)) (148، 319). (5) ((الفرق بين الفرق)) (147). (6) ((تأويل مختلف الحديث)) (22). (7) ((مقالات الإسلاميين)) (2/ 145). (8) ((فضل الاعتزال)) (143). (9) ((ميزان الاعتدال)) (3/ 274). (10) ((السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي)) (208). (11) ((الباعث الحثيث)) (182). (12) ((الباعث الحثيث)) (184 - هامش رقم 1). (13) رواه البخاري (3650) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه. (14) ((فتح الباري)) (8/ 6). (15) رواه البخاري (3673) , من حديث أبي سعيد الخدري, ومسلم (2540) من حديث أبي هريرة رضي الله عنها. (16) ((المستصفى)) (1/ 164). (17) ((التقييد والإيضاح)) (301). (18) ((الكفاية)) (97). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 ذلك أن طعنهم وتنقصهم لا يعدو كونه هذيانا بلا دليل إلا مجرد (رأي فاسد عن ذهن بارد، وهوى متبع، وهو أقل من أن يرد والبرهان على خلافه أظهر وأشهر: مما علم من امتثالهم أوامره بعده عليه الصلاة والسلام، وفتحهم الأقاليم والآفاق، وتبليغهم عنه الكتاب والسنة، وهدايتهم الناس إلى طريق الجنة ومواظبتهم على الصلوات والزكوات وأنواع القربات في سائر الأحيان والأوقات مع الشجاعة والبراعة والكرم والإيثار والأخلاق الجميلة التي لم تكن في أمة من الأمم المتقدمة ولا يكون أحد بعدهم مثلهم في ذلك، فرضي الله عنهم أجمعين) (1). ب – إنكارهم للحديث المتواتر: يعتبر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الأصل الثاني للتشريع الإسلامي بإجماع علماء الأمة الإسلامية، وتنقسم السنة باعتبار عدد رواتها إلى متواتر وآحاد. وعرف علماء المصلطح المتواتر بقولهم (هو ما رواه جمع كثير عن جمع كثير يحيل العقل تواطؤهم على الكذب عادة أو صدوره منهم اتفاقا، وأن يكون مستند انتهائهم الحس ويصيب خبرهم إفادة العلم بنفسه لسامعه) (2).وعرفه أبو عمر يوسف بن عبد البر بأنه (إجماع تنقله الكافة عن الكافة. وهو من الحجج القاطعة للأعذار إذا لم يوجد هناك خلاف، ومن رد إجماعهم، فقد رد نصا من نصوص الله يجب استتابته عليه، وإراقة دمه إن لم يتب لخروجه مما أجمع عليه المسلمون، وسلوكه غير سبيل جميعهم) (3) وإن لم ينعقد الإجماع على تواتره، بل وقع الخلاف فيه، يكون منكره من الفاسقين (4). ودرج المعتزلة على مخالفة إجماع الأمة على إفادة المتواتر القطع: وذهب النظام إلى جواز وقوع الكذب في الخبر المتواتر رغم خروج ناقليه عند سامع الخبر عن الحصر (5) بناء على ما يعتقده من أن الحجة العقلية جديرة وقادرة على نسخ الأخبار (6) ولا يستغرب إنكاره للمتواتر ما دام ينكر حجية الإجماع كما سنرى ويُجَوَّز اجتماع الأمة على الضلالة (7).ويرى أبو الهذيل أن (الحجة لا تقوم فيما غاب عن الحواس من آيات الأنبياء عليهم السلام وفيما سواها، إلا بخبر عشرين فيهم واحد من أهل الجنة أو أكثر، ولا تخلو الأرض عن جماعة هم أولياء الله معصومون لا يكذبون، ولا يرتكبون الكبائر، فهم الحجة، لا المتواتر، إذ يجوز أن يكذب جماعة ممن لا يحصون عددا إذا لم يكونوا أولياء الله ولم يكن فيهم واحد معصوم) (8). وفي إنكارهم للمتواتر واشتراطهم – لثبوت الخبر – أن يكون أحد رواته من أهل الجنة، تعطيل للأخبار الواردة في الأحكام الشرعية وبذلك ينقصون من الأوامر والنواهي ويتحللون من الشريعة تماما.   (1) ((الباعث الحثيث)) (182). (2) ((محاضرات في علوم الحديث)) (2/ 7 وما بعدها). (3) ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 41). (4) ((محاضرات في علوم الحديث)) (2/ 25). (5) ((الفرق بين الفرق)) (143). (6) ((تأويل مختلف الحديث)) (43). (7) ((الفرق بين الفرق)) (328). (8) ((الفرق بين الفرق)) (128) - ((ملل الشهرستاني)) (1/ 53). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 ج - ردهم لخبر الآحاد: وخبر الآحاد هو ما رواه واحد أو اثنان أو ثلاثة فأكثر دون بلوغ عدد التواتر أو وصل ولكن فقد شرطا من شروط التواتر، وقد اشترط العلماء في راويه لقبوله العدالة والضبط (1).ومتى توفرت فيه شروط القبول يصبح حجة معمولا به وجوبا على رأي الجمهور سواء كان خبر الآحاد صحيحا لذاته أو صحيحا لغيره حسنا لذاته أو حسنا لغيره (2)، بل ذهب بعضهم إلى القول بأنه يوجب العلم والعمل جميعا (3).وخالف المعتزلة ما ذهب إليه جمهور العلماء المسلمين، وردوا خبر الواحد مشترطين التعدد، فهذا أبو الحسن الخياط أنكر حجة أخبار الآحاد (4) وهذا أبو عليا الجبائي – كما ينقله عنه المازري وغيره (5) – لا يقبل الخبر إذا رواه العدل الواحد إلا: أ – أو عضده ظاهر خبر آخر أو موافقة ظاهر الكتاب. ب – إذا نسب إليه خبر عدل آخر. ج – أو عمل به بعض الصحابة. بل فقد نسب بعضهم إلى الجبائي أنه لا يقبل الخبر إلا إذا رواه أربعة (6).   (1) ((فتح الباري)) (16/ 360). (2) ((تيسير علوم الحديث والرد على أعداء السنة)) (83). (3) ((جواميع بيان العلم وفضله)) (2/ 42). (4) ((الفرق بين الفرق)) (180). (5) ((فتح الباري)) (16/ 360). (6) ((فتح الباري)) (16/ 360) - ((تدريب الراوي)) (1/ 73). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 وللمعتزلة في رد خبر الواحد حجج نذكر منها: 1 - قصة ذي اليدين (1) وكون النبي صلى الله عليه وسلم توقف في خبره حتى تابعه عليه غيره.2 - قصة أبي بكر حين توقف في خبر المغيرة في ميراث الجدة حتى تابعه محمد بن مسلمة (2).3 - وقصة عمر حين توقف في خبر أبي موسى في الاستئذان حتى تابعه أبو سعيد الخدري (3).وقد تناول علماء السنة التدليل على حجية خبر الواحد فعقد الإمام الشافعي بابا بهذا العنوان في رسالته (4)، كما أن البخاري عقد في جامعه الصحيح بابا لهذا الغرض ترجم له بقوله: باب ماجاء في إجازة خبر الواحد الصدوق، ولا يكاد كتاب من كتب المصطلح لا يخلو من إثبات حجية خبر الواحد ودحض الشبه التي تحوم حوله، وقد تولى ابن حجر الرد على حجج المعتزلة في خبر الآحاد، فبين أن توقف الرسول صلى الله عليه وسلم في قبول خبر ذي اليدين لا حجة فيه للمعتزلة لأن سؤال ذي اليدين عارض علم الرسول، وكل خبر واحد إذا عارض العلم لم يقبل (5).وانفراد ذي اليدين بمراجعة الرسول صلى الله عليه وسلم دون المصلين جميعا على كثرتهم وأهميتهم مما يدعو الرسول إلى استبعاد حفظ ذي اليدين وتجويز الخطأ عليه (6) وقد طفحت كتب الآثار بأمثلة عديدة تؤيد اعتبار الرسول صلى الله عليه وسلم لخبر الواحد حجة فقد (بعث رسله واحدا واحدا إلى الملوك، ووفد عليه الآحاد من القبائل فأرسلهم إلى قبائلهم، وكانت الحجة قائمة بإخبارهم عنه مع عدم اشتراط التعدد (7).أما عن قصة توقف أبي بكر في خبر المغيرة بن شعبة في ميراث الجدة، فهذا ليس منه مطردا، فهو يطلب مزيدا من التثبت والتحوط لا اتهاما للمغيرة، باعتباره راويا فردا. وقد قبل أبو بكر أخبار آحاد كثيرة (8).وأما قصة عمر فإن أبا موسى أخبره بذلك الحديث بعد أن أنكر عليه رجوعه بعد الاستئذان ثلاثا، وتوعده: فأراد عمر أن يتثبت خشية أن يكون أبو موسى إنما أورد الحديث دفعاً عن نفسه (9).وغاية ما يؤخذ من الحديث - على حد تعبير ابن بطال – (التثبت في خبر الواحد لما يجوز عليه من السهو وغيره (10) سيما وجاء في إحدى الروايات أن عمر قال لأبي موسى (أما إني لم أتهمك ولكني أردت أن لا يتجرأ الناس على الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم).   (1) ((زهر الربى على المجتبى)) (3/ 18) - ((فتح الباري)) (16/ 365). (2) ((فتح الباري)) (16/ 362). (3) ((تدريب الراوي)) (1/ 73). (4) ((الرسالة)) (159). (5) ((فتح الباري)) (16/ 362). (6) ((فتح الباري)) (16/ 365). (7) ((تدريب الراوي)) (1/ 73). (8) ((فتح الباري)) , ((تدريب الراوي)) (1/ 73). (9) ((فتح الباري)) , ((تدريب الراوي)) (1/ 73). (10) ((فتح الباري)) (13/ 267) , ((الرسالة)) (188). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 وقد قبل عمر كثيرا من أخبار الآحاد العدول: أ- فقد قبل خبر عبد الرحمن بن عوف وحده في أخذ الجزية من المجوس (1).ب – كما قبل خبره في الرجوع عن البلد الذي فيه الطاعون (2).ج – وقبل خبر الضحاك بن سفيان في توريث امرأة أشيم من دية زوجها (3).د – كما قبل خبر عمرو بن حزم في أن دية الأصابع سواء (4).هـ - وقبل أيضا خبر سعد بن أبي وقاص في المسح على الخفين (5). و – وقبل خبر حمل بن مالك بن النابغة في دية الجنين، وكاد يحكم فيه باجتهاده، وقد قال: (لو لم أسمع فيه لقضينا بغيره) كما قبل غيرها من الأخبار (6).وقد يضطر المعتزلة أحيانا لقبول خبر الواحد (7) – لسبب أو لآخر – إلا أنهم حين يضطرون إليه فلا يروونه بصيغة الجزم وإنما يروونه بصيغة التمريض (8).وردهم لخبر الآحاد يفسر هدفهم الرامي إلى إنكار أكثر أحكام الشريعة لأن أغلب الفروض والمسائل الشرعية قائمة على أخبار الآحاد (9).   (1) ((سنن أبي داود)) (2/ 150). (2) ((تدريب الراوي)) (1/ 74) , ((الرسالة)) (186) , ((فتح الباري)) (12/ 293). (3) ((تدريب الراوي)) (1/ 74) , ((الرسالة)) (148 - 185) , ((فتح الباري)) (13/ 267). (4) ((فتح الباري)) (16/ 362). (5) ((فتح الباري)) (1/ 317 – 16/ 362). (6) ((الرسالة)) (185). (7) ((فضل الاعتزال)) (71). (8) ((فضل الاعتزال)) (186). (9) ((الفرق بين الفرق)) (180). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 د – تشكيك المعتزلة وإنكارهم للكثير من الأحاديث: لقد آمن المعتزلة بأصولهم الخمسة وما يتفرع عنها من المبادئ والمفاهيم وجعلوا منها قاعدة يخضعون لها كل النصوص سواء كانت قرآنية أو حديثية: فما يعارض مبادئهم من الآيات يؤولونه، وما يعارضها من الأحاديث يردونه وينكرونه، ولذلك كان موقفهم من الحديث كما يقول أحمد أمين: (موقف المتشكك في صحته وأحيانا موقف المفكر له لأنهم يحكمون العقل في الحديث لا الحديث في العقل) (1).ولذلك نشهد استخفافا بالحديث وجرأة على حملته بلغت بعمرو بن عبيد إلى القول حين ذكر له حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله يقول هذا لقلت: ليس على هذا أخذت ميثاقنا (2) فتحكيمه للعقل جعله يعترض على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى الله، وكثيرون هم هؤلاء المجترئون على الله والرسول اعتمادا على ما تزينه لهم عقولهم والشيطان من أمثال (الخوارج والمعتزلة وضعفة أهل الرأي حتى انسل أكثرهم عن الدين، وأتت فتاويهم ومذاهبهم مختلة القوانين وذلك لأنهم اتبعوا السبل وعدلوا عن الطريق، وبنوا أمرهم على غير أصل وثيق) (3) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [التوبة:109].ولعزوف المعتزلة عن الحديث قابلهم أهل البينة والجماعة بامتهانهم واحتقارهم مهما كان جاههم ومنصبهم في الدولة، فهذا المعتصم الخليفة العباسي يلتفت إلى أحمد بن حنبل ويقول له: (كلم ابن أبي دؤاد (4) فأعرض عنه أحمد بوجهه وقال: كيف أكلم من لم أره على باب عالم قط؟) يريد عالم الحديث. وقد بلغ المعتزلة عداؤهم للحديث أن ردوا نصوصا كثيرة صحيحة: فقد ردوا حديث الشفاعة (5) وحديث انشقاق القمر (6) كما سنبين ذلك بعد حين وردوا حديث ((جف القلم بما أنت لاق)) (7)، كما رد النظام حديث ((السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه)) (8) ذلك أن هذين الحديثين يتعارضان مع ما يؤمنان به من نفي القدر وهما حديثان خرجهما البخاري في (الجامع الصحيح) (9).ورد القاضي عبد الجبار حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إذا قاتل أحدكم أخاه، فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)) (10)، وقال إن مثل (هذه الأخبار لا يجوز التصديق بها إذا كانت مخالفة للأدلة القاطعة) (11). والعجيب هنا هو ميلهم إلى الإنكار ونكوصهم عن التأويل ذلك أن بعض الأحاديث مثلها مثل بعض الآيات المتشابهة التي تحتاج إلى فهم عميق، يوفق بين ما يبدو من الاختلاف أو التعارض بينها وبين العقل. وقد تولى أهل السنة درس هذا الحديث الذي رده القاضي عبد الجبار فقالوا: واختلف إلى ماذا يعود الضمير في (صورته):   (1) ((ضحى الإسلام)) (3/ 85). (2) ((ميزان الاعتدال)) (3/ 278). (3) ((الإلماع)) (7). (4) ((الإلماع)) (7). (5) ((السنة ومكانتها في التشريع)) (203). (6) ((تأويل مختلف الحديث)) (21) - ((الفرق بين الفرق)) (319). (7) رواه البخاري (5076) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (8) رواه الطبراني في ((الأوسط)) (8465) واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (4/ 596) شطره الأول فقط. قال العجلوني ((كشف الخفاء)): (1/ 548) إسناده صحيح وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (3685). (9) ((فتح الباري)) (14/ 293، 282). (10) رواه مسلم (2612) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ورواه البخاري (2559) , بدون الجملة الخيرة. (11) ((فضل الاعتزال)) (151). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 1 - فقيل إلى آدم: أي خلقه على صورته التي استمر عليها إلى أن أهبط وإلى أن مات دفعا لمن توهم من يظن أنه لما كان في الجنة كان على صفة أخرى، - أو ابتدأ خلقه. كما وجد لم ينتقل في النشأة كما ينتقل ولده من حالة إلى حالة. وقيل للرد على الدهرية إنه لم يكن إنسان إلا من نطفة ولا تكون نطفة إنسان إلا من إنسان ولا أول لذلك، فبين أنه خلق من أول الأمر على هذه الصورة. وقيل للرد على الطبائعيين الزاعمين أن الإنسان قد يكون من فعل الطبع وتاثيره. . . 2 - وقيل: (الضمير لله. . . والمعنى أن الله خلقه على صفته من العلم والحياة والسمع والبصر وغير ذلك، وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء) (1). هكذا أعمل أهل السنة في مثل هذه الأحاديث المختلفة والمشكلة، للتأويل المتزن المنطقي ولم يجرؤوا على ردها، لأنها أحاديث صحيحة ثابتة بينما نكص المعتزلة عن إعمال العقل، وهم من قدم العقل وكان العقل عندهم حكر على التشكيك في الشرع ونصوصه ورجاله. 5 - كذبهم في الحديث:   (1) ((فتح الباري)) (13/ 238). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 ثبت لنا أن المعتزلة يعتبرون العمل شرط صحة لثبوت الإيمان إلا أن الكثيرين من أعلامهم اشتهروا بالتهاون في أداء الفروض وقلة التدين وعدم التورع عن ارتكاب بعض المحرمات ويتضح لنا ذلك عند النظام وثمامة بن أشرس وغيرهما. كما أن زعمائهم لا يترددون عن الكذب في الحديث: جاء في مقدمة (صحيح مسلم) (كان عمرو بن عبيد يكذب في الحديث (1)). ومن أمثلة أكاذيبه ما نسبه للحسن البصري حول السكران بالنبيذ من أنه لا يجلد، وسئل أيوب السختياني عن صحة ذلك فقال: (كذب، أنا سمعت الحسن يقول: يجلد السكران من النبيذ) (2).ومن أمثلة أكاذيبه أيضا ما نسبه للحسن كذلك من روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه)) (3). وقد كذبه أيوب. ولا ريب أن هذا الحديث ظاهر الوضع. وكثيرة هي المسائل التي ينسب أحكامها إلى الحسن، وهي على الحقيقة من رأيه هو (4).ولتأييد مذهبه الاعتزالي فإن عمرو بن عبيد كثيرا ما يورد الحديث دون بيان تأويله، من ذلك ما رواه عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله: ((من حمل علينا السلاح فليس منا)) (5) , وقد سئل عن ذلك عوف بن أبي جميلة فقال: (كذب والله عمرو ولكنه أراد أن يحوزها إلى قوله الخبيث). بمعنى أن عمرا أورد هذا الحديث لتأييد ما يذهب إليه المعتزلة من تفسيق مرتكب الكبيرة وتخليده في النار ولما كان مستل السيف على أخيه المسلم مرتكباً لكبيرة فهو ليس من أمة الإسلام وبالتالي فهو مخلد في النار (6). ولهذا نجد العلماء يضعفون عمرا ويردون أحاديثه من ذلك أن الفلاس قال: (عمرو متروك صاحب بدعة) (7). بل فإن الناس كانوا يتحاشون حتى مجالسته لإغراقه في الابتداع رغم ما يشاع عنه من ورع!! وإذا جوز النظام الكذب على المكره حيث قال: (إذا لم يعرف التعريض والتورية فيما أكره عليه فله أن يكذب ويكون وزره موضوعا عنه) (8) فإن أكثر المعتزلة بما فيهم النظام لا يتورعون عن الكذب لا للإكراه ولكن لتأييد ما يذهبون إليه من آراء متعسفة كما رأينا بالنسبة لعمرو بن عبيد، وكما يروى عن القاضي عبد الجبار الذي يروي عن ابن عباس قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((خمس لا يعذر بجهلهن أحد: 1 - معرفة الله تعالى، أن يعرفه ولا يشبه به شيئا. 2 - والحب في الله. 3 - والبغض في الله. 4 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 5 - اجتناب الظلمة)) (9).وهذا الحديث ينكره الرواة، وإنما تمسك به المعتزلة ليثبتوا به وجوب معرفة الله بالدليل (10). فالحديث الشريف لم يسلم من المعتزلة حيث جرّحوا رواته من الصحابة، وأنكروا المتواتر منه وردوا الآحاد وأنكروا وشكوا في الكثير من الأحاديث وأخيرا كذبوا في الحديث لتقوية بدعتهم، فهم وإن لم يكترثوا بالحديث إلا أنهم يلجأون إليه، وإن اضطرهم ذلك إلى الوضع حين يرومون تأييد مذهبهم. موقفهم من الإجماع والقياس:   (1) ((مقدمة صحيح مسلم)) (1/ 22). (2) ((مقدمة صحيح مسلم)) (1/ 23). (3) رواه ابن عدي في ((الكامل)) (6/ 343) وقال: -فيه- علي بن زيد بن جدعان كان يغالي في التشيع ومع ضعفه يكتب حديثه. وقال أيوب السختياني في ((تهذيب التهذيب)) (8/ 74): كذب. وقال العقيلي في ((تهذيب التهذيب)) (2/ 428): منكر. وقال ابن الجوزي في ((الموضوعات)) (2/ 265): والألباني في ((دفاع عن الحديث)) (112): موضوع. (4) ((ميزان الاعتدال)) (3/ 273). (5) رواه البخاري (7070) , ومسلم (98) , من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. (6) ((صحيح مسلم)) (1/ 22) – انظر الحاشية رقم 3 و 4. (7) ((ميزان الاعتدال)) (3/ 275). (8) ((ملل الشهرستاني)) (1/ 51). (9) ((فضل الاعتزال)) (150). (10) ((فضل الاعتزال)) (هامش رقم 55). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 يعتبر الإجماع والقياس من المصادر الأساسية للتشريع الإسلامي بعد القرآن ذلك أن شريعة السماء إنما تستمد شرعيتها وأحكامها من الله تعالى، إما بطريق مباشرة وهي القرآن أو غير مباشرة وهي سنة الرسول المقبولة: صحيحة وحسنة، ثم الإجماع والقياس اللذان يستندان إلى روح القرآن والسنة. وقد عرف العلماء القياس بأنه (إلحاق أمر غير منصوص على حكمه بأمر آخر منصوص على حكمه لاشتراكهما في علة الحكم (1) أو هو الحكم للنظير بحكم نظيره إذا كان في معناه والحكم للفرع بحكم أصله إذا قامت فيه العلة التي من أجلها وقع الحكم) (2).والقياس مأخوذ من أكثر من آية في القرآن الكريم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83] الاستنباط هو الاستخراج وهو بالقياس لأن النصر ظاهر (3)، وكذلك مأخوذ من قياس الرسول صلى الله عليه وسلم في أكثر من حكم، وقد عقد الإمام البخاري في جامعه الصحيح بابا ترجم له بقوله: (باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين)، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حكمهما ليفهم السائل (4) أورد فيه عددا من الأحاديث التي تثبت قياس الرسول صلى الله عليه وسلم الصريح. أما الإجماع: فهو إجماع علماء الأمة الإسلامية على أمرها فيصبح بذلك حكما شرعيا والإجماع مأخوذ من قول الله تعالى: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:115] وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) (5).والعمل بالقياس معلوم عند علماء الأمة وقد ساروا عليه قديما وحديثا حتى حدث أن إبراهيم النظام، وقوم من المعتزلة سلكوا طريقه في نفي القياس (6). . . وخالفوا ما مضى عليه السلف. . . واتبعهم من أهل السنة على نفي القياس في الأحكام داود بن علي بن خلف الأصبهاني الظاهري (ت 270هـ).أما النظام فقد رد حجية الإجماع والقياس معا ذلك أن الحجة عنده إنما تنحصر في قول الإمام المعصوم تأسياً بما يذهب إليه بعض الشيعة الذين جعلوا الدين طاعة رجل واحد وهو إمامهم (7).وقد تصدى جمع من المعتزلة أنفسهم للرد على النظام من أمثال بشر بن المعتمر شيخ البغداديين ورئيسهم، وأبي الهذيل العلاف وهما من رؤساء المعتزلة وأهل الكلام وكان أشد الناس نصرة للقياس واجتهاد الرأي في الأحكام، وقد قمعا أبا الهذيل وأصحابه (8).كما خلفه بشر بن غياث المريسي (ت 218هـ) وهو فقيه معتزلي عارف بالفلسفة يرمى بالزندقة (9)   (1) ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (2/ 154). (2) ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 92). (3) ((فتح الباري)) (17/ 62). (4) ((فتح الباري)) (17/ 59). (5) رواه أحمد (6/ 396) , (27267) , والطبراني في ((الكبير)) (2/ 280) (2171) , من حديث أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه, بلفظ: ( .. سألت الله عز وجل ان لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها ... ) قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 224): فيه راو لم يسم. وقال ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 106): رجاله رجال الصحيح إلا التابعي المبهم, وله شاهد مرسل رجاله رجال الصحيح. ورواه الحاكم (1/ 200) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه, بلفظ: (لن يجمع الله أمتي على ضلالة أبدا ... ) , قال ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 105): مشهور المتن, وشواهده صحيحة. وصححه الزرقاني في ((مختصر المقاصد)) (1179). وقال العجلوني في ((كشف الخفاء)) (2/ 470): مشهور المتن وله أسانيد كثيرة, وشواهد عديدة. (6) ((الفرق بين الفرق)) (132) - ((السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي)) (206). (7) ((ملل الشهرستاني)) (1/ 147، 154، 180). (8) ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 77) ونحوه في ((فتح الباري)) (17/ 59). (9) ((الأعلام للزركلي)) (2/ 28) .. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 والقول بخلق القرآن، أخذ الفقه عن القاضي أبي يوسف وكان من المغرقين في القياس الناصرين له الدائنين به (1) وإن كان لا يرى الإجماع كما سنرى بعد حين. وإذا انقسم المعتزلة حول القياس فإن موقفهم من الإجماع يكاد يكون متحدا حول رد الإجماع، نعم، نجد القاضي عبد الجبار يقر حجة الإجماع مستشهدا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تجتمع أمتي على خطأ وعليكم بالجماعة)) (2)، ولئن شرح المراد بالجماعة وهو ما أجمعت عليه الأمة وثبت ذلك من إجماعها، فإنه يجعل هذا الإجماع لا يرتبط بالعدد بقدر ما يرتبط بطاعة الله والتزام السمت السمي، فهو عنده ينطبق حتى على الفرد الواحد، مستشهدا على رأيه هذا بما ينسبه لابن مسعود: (الجماعة ما وافق طاعة الله وإن كان رجلا واحدا) (3).وعلى هذا الأساس يصف من يخالف المعتزلة من المشنعين عليهم بأنهم (عند التحقيق لا يميزون ما يقولون) (4) ويصف أصحابه بأنهم هم المتمسكون بالسنة والجماعة دون هؤلاء المشنعين عليهم (5). وفي الحقيقة فإن الواحد لا يمكن أن يكون إجماعا، وإلا فإن المفاهيم تصبح مقلوبة منكوسة ولعل في اعتراف القاضي عبد الجبار (ت 415هـ) بالإجماع وهو من رجال القرن الرابع وأوائل الخامس، وقد شهد ما لحق المعتزلة من النكبات نتيجة غلوهم ومخالفتهم الصريحة للكثير مما يدين به المسلمون ومما هو وارد في الكتاب والسنة، لعل في اعترافه بحجية الإجماع تخفيفا عن المعتزلة بعض أوزارهم، إلا أن التوفيق جانبه لما عرف ذلك التعريف المتجافي حتى مع المعنى اللغوي للإجماع فضلا عن معناه الاصطلاحي. أما النظام فإنه أبطل صراحة حجية الإجماع وذهب إلى تجويز إجماع الأمة في جميع الأعصار على الخطأ من جهة الرأي والاستدلال (6) ويستدل على رأيه هذا بأن الأمة الإسلامية أجمعت (على أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة دون جميع الأنبياء، وليس كذلك، وكل نبي في الأرض بعثه الله تعالى إلى جميع الخلق بعثه لأن آيات الأنبياء – لشهرتها – تبلغ آفاق الأرض، وعلى كل من بلغه ذلك أن يصدقه ويتبعه) (7).وهذه الحجة تتنافى وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((بعثت إلى الناس كافة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة)) وقد رواه البخاري في كتابي التيمم والصلاة (8) والنسائي في كتاب الغسل (9) والدارمي في كتاب الصلاة (10).   (1) ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 78). (2) ((فضل الاعتزال)) (138). (3) ((فضل الاعتزال)) (186). (4) ((فضل الاعتزال)) (186). (5) ((فضل الاعتزال)) (186). (6) ((الفرق بين الفرق)) (143 – 319 - 328) - ((تأويل مختلف الحديث)) (18) - ((السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي)) (203). (7) ((تأويل مختلف الحديث)) (18). (8) ((صحيح البخاري)) (438) ,. (9) ((النسائي)) (1/ 209) (432). (10) ((الدارمي)) (1/ 263). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 وقد خالف النظام إجماع الأمة على وجوب الوضوء من النوم، وابتدع القول بأن النوم لا ينقض الوضوء وعلل مخالفته هذه بقوله: (وإنما أجمع الناس على الوضوء من نوم الضجعة لأنهم كانوا يرون أوائلهم إذا قاموا بالغداة من نوم الليل تطهروا، لأن عادات الناس الغائط والبول من الصبح، ولأن الرجل يستيقظ وبعينه رمص وبفيه خلوف، وهو متهيج الوجه، فيتطهر للحدث والنشرة (1) لا للنوم (2).والنوم خلافا لما يذهب إليه النظام ينقض الوضوء سيما إذا لم يكن نعسة أو خفقة خفيفة، وقد عقد البخاري في جامعه بابا ترجم له بقوله: باب الوضوء من النوم (3) أورد فيه أحاديث كثيرة تثبت تلك الترجمة. وخالف النظام إجماع الأمة أيضا بقوله: (إن الطلاق لا يقع بشيء من الكنايات كقول الرجل لامرأته: أنت خلية أو برية أو حبلك على غاربك أو البتة أو إلحقي بأهلك أو اعتدي أو نحوها من كنايات الطلاق عند الفقهاء سواء نوى بها الطلاق أو لم ينوه) (4).ذلك أن ما ذهب إليه المسلمون اعتبار النية. وقد عقد البخاري لهذا المعنى بابا ترجم له بقوله: (باب إذا قال فارقتك، أو سرحتك أو الخلية أو البرية أو ما عني به الطلاق، فهو على نيته) (5). ومن لطيف ما يروى عن بشر بن غياث المريسي المعتزلي في رد الإجماع أنه سأل الإمام الشافعي في حضرة هارون الرشيد: (ادعيت الإجماع، فهل تعرف شيئا أجمع الناس عليه؟). قال الشافعي: نعم أجمعوا على أن هذا الحاضر أمير المؤمنين فمن خالفه قتل (6). فالإجماع حقيقة تستند إلى الكتاب والسنة لا يمكن إنكارها، ولا يمكن فهمه إلا بالشكل السوي الذي فهمه به السلف الصالح. المصدر: موقف المعتزلة من السنة النبوية لأبي لبابة حسين – ص 73 الحديث الشريف هو ثاني مصادر الشريعة الإسلامية – بعد القرآن – وهو المفسر والمبين الأول لكتاب الله تعالى، ولهذا عني به أئمة المسلمين وعلماؤهم على مر العصور عناية تفوق الوصف فحرصوا على جمعه بكل طرقه، ثم لما أطلت المبتدعة برؤوسها واتخذوا وضع الأحاديث طريقا للتدليل على مذاهبهم الفاسدة، وضع سلف الأمة السند وعملوا على تمحيصه تمحيصا دقيقا ووضعوا لذلك علوما عديدة (7) تخدم هذا الغرض كعلم الجرح والتعديل وأسماء الرواة وغير ذلك."عن ابن سيرين قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم" (8). وقد أدى ذلك إلى فرز الحديث صحيحه من ضعيفه، وإلى تنقيته مما وضعه الواضعون من المبتدعة – كالرافضة وغيرهم – فظل الحديث الشريف مصفى من الشوائب مبرأ من المعايب، يأخذ عنه المسلمون أسس دينهم في العقائد النظرية وفي الشرائع العملية على حد سواء، فما دل عليه من عقيدة اتخذوها دينا يتقلدونه، وما هدى إليه من شريعة عملوا بها دون مماحكة أو جدال.   (1) ((القاموس)) (2/ 147). (2) ((تأويل مختلف الحديث)) (19). (3) ((فتح الباري)) (1/ 325). (4) ((تأويل مختلف الحديث)) (19) - ((الفرق بين الفرق)) (145). (5) ((صحيح البخاري كتاب الطلاق – انظر فتح الباري)) (11/ 286). (6) ((مناقب الشافعي)) (1/ 401). (7) أوصلها بعض العلماء إلى 56 علما، راجع ((مقدمة ابن الصلاح)). (8) ((مقدمة مسلم لصحيحه)). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 وكان لابد للمبتدعة - على اختلاف أنواعهم – أن يحاولوا اختراق هذا الجدار المنيع الذي يحمي أسس العقيدة والشريعة وتفاصيلها ليتمكنوا من الزيادة في الدين أو النقص منه حسب ما يشاؤون، فذهبت المعتزلة إلى أن خبر الآحاد لا يفيد اليقين، بينما حكم العقل يقيني إذ أنه هو مناط التكليف – الذي بدونه لا يكون الإنسان مكلفا – وعلى ذلك يجب تقديم الحكم العقلي على خبر الآحاد مطلقا سواء في العقائد أو في الشرائع العملية، بل إنهم ردوا أخبار الآحاد في العقائد جملة بدعوى أن العقيدة يجب أن تثبت بطريق قطعي يقيني لا بطريق ظني كخبر الواحد!، ولم يفرقوا بين ما هو صحيح من الأحاديث أو غيره من درجات الحديث، بل يكفي مخالفته لما ادعوه معقولا لرده وعدم العمل به؛ بل والقدح في رواته بغاية الجرأة والوقاحة. وقد موهوا بأن التواتر – وهو رواية الخبر بطريق جمع كبير يؤمن عدم تواطئهم على الكذب أو النسيان – وحده هو الذي يفيد اليقين القطعي، وإن جعلوا الحكم العقلي مقدما عليه كذلك حين التعارض!.وكان من جراء ذلك أن رد المعتزلة الكثير من العقائد الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كعذاب القبر وكالإيمان بالحوض والصراط والميزان والشفاعة (1) وما سبق ذكره كرؤية الله في الآخرة، كما ردوا الكثير من الأحكام الشرعية الصحيحة الثابتة إما بدعوى مناقضتها للعقل، أو تعارضها مع الكتاب، أو تعارضها مع أحاديث أخرى – بزعمهم -!.فمما زعموا معارضته للعقل حديثه صلى الله عليه وسلم: ((إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده)) (2)، قالوا: كل الناس تعلم أين باتت يدها، وحتى إذا قصد المسلمون الحرج فالنائم مرفوع عنه الحرج ولا يؤاخذ بما يفعله في نومه "ولو أن رجلا مس فرجه في يقظته لما نقض ذلك طهارته فكيف بأن يمس وهو لا يعلم" (3).ومما زعموا تعارضه مع الكتاب: قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا وصية لوارث)) (4)، قالوا: هذا معارض بقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ [البقرة: 180] (5). والوالدان وارثان على كل حال. وكذلك نهيه صلى الله عليه وسلم: ((أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها)) (6) إذ هو معارض لقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [النساء: 23] ولم يذكر عمة الزوجة أو خالتها. كما روى عن أبي بكر بن محمد أنه قال: "قال عمرو بن عبيد: لا يعفى عن اللص دون السلطان – قال فحدثته بحديث صفوان بن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (فهلا قبل أن تأتيني به) (7). قال: أتحلف بالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله؟ قلت: أفتحلف أنت بالله أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله".   (1) ((مقالات الأشعري)) (430، 2/ 472). (2) رواه مسلم -كتاب الطهارة-. (3) ((تأويل مختلف الحديث)) (88). (4) رواه الترمذي (2120) من حديث أبي أمامة، وقال: حسن صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)). (5) ((تأويل مختلف الحديث)) (130). (6) رواه البخاري (5110) ومسلم (1408). (7) ((الاعتصام للشاطبي)) (1/ 232)، ((تاريخ بغداد للخطيب)) (12/ 187)، والحديث رواه أبو داود (4394) والنسائي (4879) وابن ماجه (2595) قال ابن كثير في ((تحفة الطالب)) (222) روي من طرق كثيرة متعددة يشد بعضها بعضاً ومن الرواة من أرسله ومنهم من وصله. وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) (4394). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 وقد كان هذا المنهج من أحوال أهل البدعة التي جروا عليها لشدة الأحاديث عليهم بما تقرره من الحق المخالف لمبتدعات عقولهم، يقول الشاطبي في بيان مسلك أهل البدع: ". . . ردهم للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم، يدعون أنها مخالفة للعقول وغير جارية على مقتضى الدليل فيجب ردها كالمنكرين لعذاب القبر والصراط والميزان ورؤية الله عز وجل في الآخرة وكذلك حديث الذباب وقتله، وأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء وأنه يقدم الذي فيه الداء، وحديث الذي أخذ أخاه بطنه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بسقيه العسل وما أشبه ذلك من الأحاديث الصحيحة المنقولة نقل العدول. وربما قدحوا في الرواة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم – وحاشاهم- وفيمن اتفق من الأئمة من المحدثين على عدالتهم وإمامتهم. كل ذلك ليردوا به على من خالفهم في المذاهب وربما ردوا فتاويهم وقبحوها في أسماع العامة لينفروا الأمة عن اتباع السنة وأهلها" (1)، وقال بعدها:"وذهبت طائفة إلى نفي أخبار الآحاد جملة والاقتصار على ما استحسنته عقولهم في فهم القرآن. . ولما ردوها بتحكيم العقول كاد الكلام معهم راجعا إلى أصل التحسين والتقبيح" (2).   (1) ((الاعتصام للشاطبي)) (1/ 231). (2) ((الاعتصام للشاطبي)) (1/ 232). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 أما أهل السنة فقد وفقهم الله تعالى إلى المذهب الحق في كل تلك الأمور، فأما بالنسبة لحجية خبر الآحاد فقد أنعقد إجماع السلف من الأئمة على وجوب العمل به سواء في مجال العقيدة النظرية أو الشريعة العملية، فما دل على عقيدة اعتقدوها دينا، وما دل على شريعة عملية أطاعوها وعملوا بها. فإن خبر الآحاد "الصحيح" يفيد من الاطمئنان القلبي ما يجب بناء عليه أن يعمل بمقتضاه، وقد دلت على ذلك أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة. ففي السنة أن أهل قباء جاءهم واحد من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرهم بتحويل القبلة فتحولوا وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليهم، وبمثل بعثه صلى الله عليه وسلم لعماله واحدا بعد واحد وكذلك بإرساله الرسل فرادى يدعون الناس إلى الإسلام (1).أما عن إجماع الصحابة فقد نقلت عنهم وقائع لا تبلغ الحصر متفقة على العمل بخبر الواحد ووجوب الأخذ به. فمن ذلك ما روي عن أبي بكر الصديق أنه عمل بخبر المغيرة ومحمد بن مسلمة في ميراث الجدة أن النبي أطعمها السدس، فجعل لها السدس. ومن ذلك عمل عمر بن الخطاب بخبر عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((سنوا بهم سنة أهل الكتاب)) (2). وعمل أيضا بخبر حمل ابن مالك في الجنين وهو قوله: كنت بين جاريتين لي (يعني ضرتين) فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنينا ميتا فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة، فقال عمر: لو لم نسمع بهذا لقضينا غير هذا. وكذلك عمل عثمان وعلي بخبر فريعة بنت مالك في اعتداد المتوفى عنها زوجها في منزل زوجها أنها قالت: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة زوجي أستأذنه في وضع العدة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله)) (3). وغير ذلك من عمل الصحابة كعائشة وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وابن عباس. . بل ويكفي إجماعهم على الأخذ بخبر أبي بكر الصديق يوم السقيفة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الأئمة من قريش)) (4). فهذا إجماع منهم على ذلك (5).   (1) ((إرشاد الفحول)) (49). (2) رواه مالك في ((الموطأ)) (1/ 278) , والشافعي في ((مسنده)) (1/ 209) والبيهقي في ((سننه)) (9/ 189) , وقال الشافعي في ((الأم)) (5/ 408): منقطع. وقال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (2/ 115): منقطع. وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (7/ 619): غريب على هذه الصورة. وقال الزيلعي في ((نصب الراية)) (3/ 170): غريب بهذا اللفظ. وقال الألباني في ((إرواء الغليل)) (5/ 88): ضعيف بهذا اللفظ. (3) رواه أبو داود (2300) , والترمذي (1204) , والنسائي (6/ 200) (3532) , وابن ماجه (2031) من حديث الفريعة بنت مالك. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي حسن صحيح. قال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (3/ 158): صحيح مليح حسن. وصححه ابن قدامة في ((المغني)) (11/ 290) , وابن الملقن في ((البدر المنير)) (8/ 243) , والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) و ((صحيح سنن الترمذي)) و ((صحيح سنن ابن ماجه)). (4) رواه أحمد (4/ 421) (19792) , وابن أبي عاصم في ((السنة)) (2/ 294) , من حديث أبي برزة الأسلامي, قال ابن كثير في ((تحفة الطالب)) (211): يقوى لأن له سندين جيدين, وصححه الألباني في ((ظلال الجنة)) (1125) , وروي عن أبي هريرة, وعلي, وأنس, رضي الله عنهم. (5) ((الإحكام للآمدي)) (2/ 90 وما بعدها). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 ولا فرق هنا بين العقائد والشرائع إذ أن الاطمئنان القلبي متحقق في كليهما سواء، لهذا أجمع السلف على الاعتقاد برؤية الله في الآخرة والصراط والميزان والحوض والشفاعة وعذاب القبر (1). أما عن الخبر المتواتر فقد ذهب أهل السنة إلى إفادته "العلم" أي اليقين القلبي القاطع الذي لا تشوبه شائبة من أي ناحية. وقد ذهبت طوائف من أهل السنة كمالك والشافعي وأبي حنيفة وطوائف من المحدثين والفقهاء إلى أن خبر الواحد يفيد العمل ولا يفيد "العلم" (2)، وقد قصدوا "بالعلم" هو ذلك اليقين القلبي الجازم الحاصل بمثل التواتر. ولا شك أن الفارق موجود بين يقين القلب بخبر التواتر والجزم باستحالة كذبه، وبين الاطمئنان القلبي القريب من اليقين بخبر الواحد الصحيح إلا أن ذلك فرق لا معول عليه بدليل إجماعهم على وجوب العمل به عملا واعتقادا. كما أن طوائف من المحدثين والفقهاء قالوا فإفادته للعلم كأحمد بن حنبل وابن تيمية وحكاه ابن حزم عن داود الظاهري والحسين بن علي الكرابيسي، وحكاه ابن خويز منداد عن مالك وجزم به (3). وأما ما أوردوه من تعارض بين الحديث والعقل أو الكتاب أو الأحاديث الأخرى، فليس فيه تعارض إلا من جهة عقولهم الفاسدة ومناهجهم السقيمة. فحديث ((إذا قام أحدكم من نومه. .)) (4). ليس المقصود بقوله ((أين باتت يده)) هو عدم معرفة مكانها بالليل! "بل لعله في منامه مس بها فرجه أو دبره وليس يؤمن أن يصيب يده قاطر بول أو بقية مني إن كان جامع قبل المنام فإذا أدخلها في الإناء قبل أن يغسلها أنجس الماء وأفسده وخص النائم بهذا لأن النائم قد تقع يده على هذه المواقع وعلى دبره وهو لا يشعر، فأما اليقظان فإنه إذا لمس شيئا من هذه المواضع فأصاب يده منه أذى، وعلم به ولم يذهب عليه فغسلها قبل أن يدخلها في الإناء أو يأكل أو يصافح" (5).وأما عن حديث ((لا وصية لوارث)) (6). فقد ذهب أهل السنة إلى أن الآية كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ منسوخة بآية المواريث في سورة النساء في قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ [النساء: 11]. "قال ابن عباس والحسن: نسخت الوصية للوالدين بالفرض في سورة النساء وثبتت للأقربين الذين لا يرثون وهو مذهب الشافعي وأكثر المالكية وجماعة من أهل العلم".   (1) ((مقالات الأشعري)) (472 وما بعدها)، ((الفتاوى لابن تيمية)) (3/ 146 وما بعدها). (2) ((الاعتصام)) (1/ 235). (3) ((إرشاد الفحول)) (48). (4) رواه البخاري (162) , ومسلم (278) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: (إذا استيغظ أحدكم من نومه ... ). (5) ((تأويل مختلف الحديث، ابن قتيبة)) (89). (6) رواه أبو داود (2870) , والترمذي (2120) , وابن ماجه (2713) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه, والحديث سكت عنه أبي داود. وصححه الذهبي في ((تنقيح التحقيق)) (2/ 157). وحسنه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (7/ 264). وقال ابن حجر في ((تلخيص الحبير)) (3/ 1082): إسناده حسن. وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) , و ((صحيح سنن الترمذي)) و ((صحيح سنن النسائي)). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 كذلك "قال ابن عمر وابن عباس وابن زيد: الآية كلها منسوخة وبقيت الوصية ندبا، ونحو هذا قول مالك رحمه الله". وقد كان من الممكن الجمع بين الآيتين "بأن يأخذا – أي الأبوان – المال عن المورث بالوصية وبالميراث إن لم يوص، أو ما بقي من الوصية لكن منع هذا الحديث والإجماع"، "فنسخ الآية إنما كان بالسنة الثانية لا بالإرث على الصحيح من أقوال العلماء" (1).أما عن حديث: ((نكاح المرأة على عمتها أو خالتها)) (2). فقد قال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7]، وقال تعالى: مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ [النساء:80]، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((ألا أني قد أوتيت الكتاب ومثله معه)) (3). أي من الأحكام التشريعية فيجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما حلل وحرم لأمر الله تعالى بذلك. قال القرطبي: "فإن الله تعالى قد حرم على لسان نبيه مما لم يذكر في الآية فيضم إليها" (4). وحكمة ذلك واضحة وهي ترجع إلى أصل عام في الشريعة وهو عدم قطع الأرحام فإنه لا يخفى ما يكون بين المرأة وضرتها ولا يصح هذا بين المرأة وخالتها أو عمتها إلا بقطع الرحم وقد روي عن ابن عباس قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج الرجل المرأة على العمة أو على الخالة، وقال: إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم)) (5). وروى مثله من مراسيل أبي داود عن حسين بن طلحة" (6). ولأهل السنة منهج في ما قد يتعارض ظاهره من الأدلة وهو "الجمع بين أطراف الأدلة" والتوفيق بين الأدلة الصحيحة بأوجه التوفيق المعتبرة إذ أنه معلوم في الأصول إن إعمال الدليلين الصحيحين يقدم على إعمال أحدهما وإسقاط الآخر، يقول الشوكاني: "ومن شروط الترجيح التي لابد من اعتبارها أنه لا يمكن الجمع بين المتعارضين بوجه مقبول فإن أمكن ذلك تعين المصير إليه ولم يجز المصير إلى الترجيح، قال في المحصول: العمل بكل منهما من وجه أولى من العمل بالراجح من كل وجه وترك الآخر. اهـ، وبه قال الفقهاء جميعا". المصدر: المعتزلة بين القديم والحديث لمحمد العبده وطارق عبد الحليم – ص 81   (1) ((تفسير القرطبي)) (2/ 263). (2) رواه الطبراني في ((الكبير)) (11/ 337) , من حديث ابن عباس رضي الله عنه. وحسنه ابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (5/ 758). وقال ابن الملقن في ((خلاصة البدر المنير)) (2/ 193): فيه رجل فيه مقال. وقال الألباني في ((النصيحة)) (204): لا يصح. (3) رواه أبو داود (4604) , من حديث المقدام بن معد يكرب, وسكت عنه. وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (21/ 8): هذا المعنى محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه. وقال الحكمي في ((معارج القبول)) (3/ 1217): إسناد أحمد جيد. وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (4) ((تفسير القرطبي)) (5/ 124). (5) رواه الطبراني في ((الكبير)) (11/ 337) , من حديث ابن عباس رضي الله عنه. وحسنه ابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (5/ 758). وقال ابن الملقن في ((خلاصة البدر المنير)) (2/ 193): فيه رجل فيه مقال. وقال الألباني في ((النصيحة)) (204): لا يصح. (6) ((تفسير القرطبي)) (5/ 126). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 المبحث الثالث: صور من انحرافات المعتزلة عن السنة إن موقف المعتزلة من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم المجافي لما قررته السنة وبينه القرآن العزيز من وجوب احترامهم وإكبارهم وإن كذبهم في الأحاديث المنافي مع وعيد الرسول للكذابين عليه وهو القائل ((من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)) (1) وهو حديث متواتر يقول عنه ابن الجوزي قد رواه الصحابة ثمانية وتسعون صحابيا وإن إنكارهم أو تشكيكهم في بعض الأحاديث، وإبطالهم قبول المتواتر والآحاد، هذه المواقف جميعها تعتبر انحرافا عن السنة ومجافاة للسلوك الذي سن اتباعه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم. . . وقد أوردت من الأدلة ما يثبت هذا الانحراف عن الهدي النبوي. وفي هذا الفصل نضيف عددا آخر من المواقف والآراء التي آمن بها المعتزلة ووقفوا ينفحون عنها ويعضدونها بأدلتهم العقلية: أ- وجوب معرفة الله بالدليل: لقد كان الإيمان بالله في عهد الرسول والصحابة بسيطا غير معقد، حتى إذا ما نشأت فرقة المعتزلة أدخلت مباحث غريبة عن الإسلام متأثرة بالمذهب والمقولات الفلسفية، وكان البحث في معرفة الله بالدليل وإيقاف صحة الإيمان على ذلك من بين تلك الموضوعات التي أحدثتها المعتزلة، وبذلك فرضوا على الفرق الأخرى النظر فيها، وقد ورثها عنهم الأشاعرة رغم انفصالهم عن المعتزلة، فقد جاء عن أبي جعفر السماني – وهو من كبار الأشاعرة – قوله: (إن هذه المسألة من مسائل المعتزلة بقيت في المذهب) (2) أي المذهب الأشعري. ولشدة تعلق المعتزلة بهذا المبحث فإنهم جعلوه منضوبا تحت مفهوم الإيمان فهذا أبو شمر يزعم (أن المعرفة بالله وبما جاء من عنده. . . ومعرفة التوحيد والعدل، عدل الله سبحانه، ونفي التشبيه عنه، كل ذلك إيمان والشاك فيه كافر) (3).وشغفهم هذا دفع بالقاضي عبد الجبار إلى أن يستشهد بحديث ينكره الرواة كما يقول فؤاد السيد (4) ليبرر ما ذهب إليه المعتزلة من وجوب معرفة الله: عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خمس لا يعذر بجهلهن أحد، معرفة الله تعالى أن يعرفه ولا يشبه به شيئا)) (5).   (1) رواه البخاري (1291) , ومسلم (3) , من حديث المغيرة رضي الله عنه. (2) ((فتح الباري)) (1/ 77). (3) ((مقالات الإسلاميين)) (2/ 171). (4) ((فضل الاعتزال)) (هامش رقم 55). (5) ((فضل الاعتزال)) (150). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 وإذا كانت معرفة الله وصفاته مقررة في الإسلام، فإن تعقيد هذه المعرفة ووجوب تحصيل الدليل عليها هو البدعة المنافية مع السنة الصحيحة. فهذا أبو هاشم (عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي ابن أبي علي الجبائي) من المعتزلة ذهب إلى أن (من لا يعرف الله بالدليل فهو كافر) لأن ضد المعرفة النكرة، والنكرة كفر (1).كما أن إبراهيم بن يسار النظام ذهب إلى أن المتمكن من المعرفة إن كان عاقلا (يجب عليه تحصيل معرفة الباري تعالى بالنظر والاستدلال) (2).نعم أن التقليد مذموم. لذلك نجد بعض أهل السنة يوجب الاستدلال هو أيضا إلا أنه لم يرد به (التعمق في طرق المتكلمين) بل اكتفى بما لا يخلو عنه من نشأ بين المسلمين من الاستدلال بالمصنوع على الصانع، وغايته، أنه يحصل في الذهن مقدمات ضرورية تتألف تألفا صحيحا وتنتج العلم، لكنه لو سئل: كيف حصل له ذلك ما اهتدى للتعبير عنه (3).ويقول ابن حجر لا حجة لمن اشترط النظر (لأن من لم يشترط النظر لم ينكر، أصل النظر، وإنما أنكر توقف الإيمان على وجود النظر بالطرق الكلمية، إذ لا يلزم من الترغيب في النظر جعله شرطا (4).وإذا كان في النظر بالنسبة للجماهير مشقة لم يوجبها عليهم الشرع، فإن فيه بالنسبة للعلماء والمختصين (فائدة معتبرة إذ لا يحسن بحامل السنة الجهل بالحجج النظرية على عقائدها) (5).والذي يثبت مخالفة ما ذهب إليه المعتزلة من وجوب معرفة الله بالدليل ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله, ويقيموا الصلاة, ويؤتوا الزكاة, فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)) (6).ففي هذا الحديث كما يقول ابن حجر (دليل. . . على الاكتفاء في قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم خلافا لمن أوجب تعلم الأدلة) (7).وجاء عن معاوية بن الحكم قوله: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية فقلت: يا رسول الله, علي رغبة, أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله: أين الله؟ فقالت: في السماء فقال: ومن أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: فأعتقها)) (8). فبهذه المعرفة الأولية المجملة بالله وبرسوله ثبت لها الإسلام وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم عتقها. وكتب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وكسرى وغيرهما من الملوك يدعوهم إلى التوحيد ورسائله كلها تثبت أنه صلى الله عليه وسلم (لم يزد في دعائه. . . على أن يؤمنوا بالله ويصدقوه فيما جاء به من عنده، فمن فعل ذلك قبل منه سواء كان إذعانه عن تقدم نظر أم لا) (9). ب- إنكارهم لرؤية الله يوم القيامة:   (1) ((فتح الباري)) (17/ 118). (2) ((ملل الشهرستاني)) (1/ 58). (3) ((فتح الباري)) (17/ 118). (4) ((فتح الباري)) (17/ 122). (5) ((مقدمة ابن خلدون)) (838). (6) رواه البخاري (25) , ومسلم (22) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. (7) ((فتح الباري)) (1/ 83). (8) رواه مسلم (537). (9) ((فتح الباري)) (17/ 121). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 لقد سبق لنا أن بينا أن غلو المعتزلة في فهمهم لعقيدة التوحيد تفرع عنه: أ- إيمانهم بنفي الصفات. ب- نفي الرؤية. ج- القول بخلق القرآن. نفي الصفات فقالوا: بخلق القرآن اعتقادا منهم أن ثبوت قدم أي صفة بما فيها كلامه تعالى: يثبت مع الله قديما غيره، وهذا عين الشرك في نظرهم، ونفوا الرؤية لأنها تقتضي الجسمية وهي ما يتنزه الله عنه. والمعتزلة أجمعوا على أن الله سبحانه ليس بجسم ولا عرض وأن شيئا من الحواس لا يدركه في الدنيا ولا في الآخرة. حتى أن بعضهم يكفر من يقول برؤيته (كما ترى المرئيات بالمقابلة أو المحاذاة أو في مكان حالا فيه دون مكان) (1). لكنهم اختلفوا هل يرى الله بالقول؟ فقال أبو الهذيل وأكثر المعتزلة: نرى الله بقلوبنا، بمعنى أنا نعلمه بقلوبنا، وأنكر هشام الفوطي عباد بن سليمان ذلك (2).أما الخابطية (أصحاب أحمد بن خابط ت 232هـ) والحدثية (أصحاب الفضل الحدثي (ت 257هـ) فإنهم آمنوا بالرؤية ولكنهم صرفوها إلى رؤية العقل الأول العقل الفعال) (3). وفكرة العقل هذه فكرة يونانية آمن بها بعض الفلاسفة المسلمين وتسربت إلى الفكر الاعتزالي. والمعتزلة حين ينفون الرؤية يزعمون أن كل شيء يرى بالعين يجب أن يكون في مقابلة العين، أو ينبغي أن يكون جسما يحتل حيزا، بهذا ناظر أبو إسحاق النصيبيني رئيس معتزلة البصرة أبا بكر محمد بن الطيب الباقلاني (ت 403هـ) (4)، بل فإن تعله (5) الجسمية يركن إليها كل النفاة لرؤية الله. يقول القرطبي: (اشترط النفاة في الرؤية شروطا عقلية كالبنية المخصوصة، والمقابلة وإيصال الأشعة وزوال الموانع كالبعد والحجب في خبط لهم وتحكم) (6).والمعتزلة مناصرة منهم لرأيهم يردون كل الأحاديث النبوية التي تثبت الرؤية بدعوى أنها أحاديث آحاد (وإنما يقبل خبر الواحد فيما طريقه العمل (7) ويحاولون في الوقت نفسه اختلاق أحاديث كثيرة تتساوق مع مذهبهم. فهذا القاضي عبد الجبار يورد أثرا بصيغة التمريض ينسبه لابن عباس فيقول وروي أن نجدة الحروري سأل ابن عباس فقال: كيف معرفتك بربك؟ فقال: (أعرفه بما عرفني به نفسه من غير رؤية، وأصفه بما وصف به نفسه من غير صورة، لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالقياس معروف بغير تشبيه (8).كما ينسب خبرا لعائشة يقول (إنها سمعت بأن القوم يقولون: بأن الله يرى، فقالت: لقد قف شعري مما قلتموه ودفعت ذلك بقوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام:103]) (9). أما الآيات القرآنية التي تثبت رؤية الله فإنهم يقفون منها موقف التأويل والتخريج المتعسف: فهذا الزمخشري يفسر قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22 - 23] بأن المراد بناظرة الثانية (بالظاء) منتظرة فالمؤمنون وهم الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ينتظرون ذلك اليوم. ويبين أن تقديم المفعول به (إلى ربها) يفيد الاختصاص بمعنى أن هذه الوجوه (تنظر إلى ربها خاصة لا تنظر إلى غيره. . . ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ولا تدخل تحت العدد في محشر يجتمع فيه الخلائق كلهم. . . فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظورا إليه محال، فوجب حمله على معنى يصح معه الاختصاص) (10).   (1) ((فضل الاعتزال)) (63) - ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 238، 329)) - ((ملل الشهرستاني)) (1/ 81). (2) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 238)). (3) ((ملل الشهرستاني)) (1/ 63). (4) ((إعجاز القرآن المقدمة للمحقق)) (23). (5) كذا بالمطبوع. (6) ((فتح الباري)) (17/ 195). (7) ((فضل الاعتزال)) (158). (8) ((فضل الاعتزال)) (150). (9) ((فضل الاعتزال)) (158). (10) ((الكشاف)) (4/ 192). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 ويستنجد بالعربية ليؤيد تأويله فيقول (والذي يصبح معه أن يكون من قول الناس: أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي تريد معنى التوقع والرجاء ومنه قول القائل: وإذا نظرت إليك من الملك ... والبحر دونك زدتني نعما (1) وسمعت سرورية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقايلهم تقول: عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم. والمعنى أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه (2). وكل آية يمكن أن يستشعر منها معنى رؤية الله، يؤولها الزمخشري بشكل يدفع الرؤية، فيشرح الفوز في قوله تعالى: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] بقوله (وأي فوز أعظم من دخول الجنة) ويعلق سراج الدين البلقيني على ذلك بقوله (أشار إلى عدم الرؤية) (3).وهو عين التأويل الذي ينقله القاضي عبد الجبار عن أبي علي الجبائي الذي يصور معنى التطور الذي طرأ على موقف مثبتة الرؤية. ذلك أن أوائلهم كانوا (يقولون بالرؤية مع التشبيه. ثم من بعد لما عرفوا فساد القول بالتشبيه ثبتوا على القول بالرؤية للإلف والعادة، واحتجوا بقوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22 - 23] وهذا لا حجة لهم فيه لأن النظر ليس هو الرؤية، فتحمل الآية على النظر إلى الثواب أو الانتظار. كما روي عن كثير من الصحابة (4).فهو ينسب عقيدتهم إلى الإلف والعادة لا النظر والفهم، ثم يؤول مستندهم من الآية بنفس تأويل الزمخشري الذي تناول أحمد ابن المنير الرد عنه في كتابه (الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال) فقال (ما أقصر لسانه عند هذه الآية فكم له يدندن ويطيل في حجب الرؤية ويشقق القباء ويكثر ويتعمق. لما فغرت فاه صنع في مصامتها بالاستدلال. . . ومما يعلم أن الممتع برؤية جمال وجه الله تعالى لا يصرف عنه طرفه ولا يؤثر عليه غيره) (5) ويقول ابن بطال (إن تأويلهم لناظرة بمنتظرة خطأ لأنه لا يتعدى بإلى (6) ويتحدث ابن كثير عمن تأول حرف الجر "إلى" في قوله تعالى إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23] وفسره بأنه مفرد الآلاء وهي النعم فيقول: فقد أبعد هذا القائل النجعة وأبطل فيما ذهب إليه، وأين هو من قوله تعالى: كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] (7).قال الشافعي رحمه الله لما سئل عن هذه الآية: لما حجب الله قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضا. وسأله الربيع بن سليمان: أوتدين بهذا يا سيدي؟، فقال (والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد لما عبده في الدنيا) (8).وبالإضافة إلى الأدلة النقلية الصحيحة التي أوردها أهل السنة فإنهم تناولوا شبهة المعتزلة العقلية بالرد عنها عقليا ولغويا فهذا ابن حجر يورد ما عدده البيهقي من الأوجه اللغوية التي تفيدها عبارة ناظرة في كلام العرب منتهياً إلى أن أولاده بالقبول في الآية هو نظر الرؤية (9).وهذا أبو بكر الباقلاني يرد عن اعتراض أبي إسحاق النصيبيني ويبين أن الرؤية لا تتم بالعين لما يستلزم ذلك من المكان (وإنما يرى بالإدراك الذي في العين، ولو كان الشيء يرى بالعين لكان يجب أن ترى كل عين قائمة، وقد علمنا أن الأجهر عينه قائمة ولا يرى شيئا. .)   (1) ((الكشاف)) (4/ 544). (2) ((الكشاف)) (4/ 192). (3) ((الإتقان)) (2/ 190). (4) ((فضل الاعتزال)) (158). (5) ((مطبوع على هامش الكشاف)) (4/ 192). (6) ((فتح الباري)) (17/ 195). (7) ((تفسير ابن كثير)) (8/ 305). (8) ((مناقب الشافعي)) (1/ 419). (9) ((فتح الباري)) (17/ 194). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 ويبين أن إثبات رؤيته ليس فيه قلب لحقيقة ولا إثبات لما يتنافى مع تنزيه الله بل لما كان الله أكمل الموجودات وجب أن يكون مرئيا (والشيء إنما يرى لأنه موجود) (1).وقريب من هذا المعنى يقرره ابن تيمية فهو يقول: (فكل ما كان وجوده أكمل كان أحق بأن يرى. . . والموجود الواجب الوجود أكمل الموجودات وجودا، وأبعد الأشياء عن العدم، فهو أحق بأن يرى، وإنما لم نره لعجز أبصارنا عن رؤيته لا لأجل امتناع رؤيته) (2).أما الأحاديث الصحيحة التي تثبت انحراف المعتزلة عنها، فهي كثيرة وقد عقد الإمام البخاري في كتاب التوحيد بابا ترجم له بقوله باب قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (3) وقد أورد فيه عددا من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم التي تثبت الرؤية. كما عقد مسلم بابا في كتاب الإيمان لهذا الغرض ترجم له النووي بقوله: (باب معرفة طريق الرؤية) (4) سرد فيه عددا من الأخبار تثبت الرؤية منها: جاء عن جرير بن عبد الله قوله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنكم سترون ربكم عيانا)). وقد أورده البخاري عن جرير في كتابي مواقيت الصلاة والتوحيد (5)، وأورد نحوه عن أبي سعيد الخدري في كتاب التفسير (6).كما خرج نحوه مسلم عن أبي سعيد الخدري في كتاب الإيمان (7) وعن أبي هريرة في كتاب الزهد والرقائق (8). وخرجه أيضا ابن ماجه عن جرير في المقدمة وعن أبي هريرة في كتاب الزهد كما أورد نحوه أبو داود في كتاب السنة عن أبي هريرة وخرجه الترمذي في كتاب صفة الجنة عن أبي هريرة. فرؤية المؤمنين لربهم في الدار الآخرة لا يمكن دفعها وكل محاولة لمنعها إنما هي إبطال متعمد للحديث الصحيح، وتأويل متعسف لصريح القرآن العزيز. ج – إنكارهم لشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم: الشفاعة التي أثبتها أهل السنة أربعة أنواع: 1 - الخلاص من هول الموقف، وهي خاصة بمحمد رسول الله صلى الله عليه. 2 - الشفاعة في قوم يدخلون الجنة بغير حساب. 3 - الشفاعة في رفع الدرجات.   (1) ((إعجاز القرآن)) - المقدمة- للسيد صقر (23). (2) ((منهاج السنة)) (2/ 255). (3) ((فتح الباري)) (17/ 193). (4) شرح مسلم – الإيمان- (1/ 167). (5) رواه البخاري (7435). (6) ((صحيح البخاري)) (7439). (7) ((صحيح مسلم)) (183). (8) ((صحيح مسلم)) (2968). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 4 - الشفاعة في إخراج قوم من النار عصاة أدخلوها بذنوبهم. والمعتزلة ولئن اشترطوا في النوع الثاني من الشفاعة أن تكون خاصة بمن لا تبعة عليه فإنهم قبلوا النوعين الأول والثالث، بينما ردوا النوع الرابع (1)، لأنهم ينكرون شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من الأمة الإسلامية (2) مستندين إلى المتشابه من قوله تعالى: فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48] ولأنها تخالف مبدأهم في الوعد والوعيد. وقد شذ عنهم أبو هاشم بن الجبائي حيث أقر الشفاعة مع كون الشفيع ساخطا، وقال: (قد تصح بلا توبة) (3).أما القاضي عبد الجبار فيقر شفاعة الرسول ولكنه يجعلها خاصة بأهل الثواب دون أهل العقاب ولأولياء الله دون أعدائه وتتمثل شفاعته صلى الله عليه وسلم في أن يزيدهم من الفضل والتعظيم في الجنة هذا هو مفهوم الشفاعة التي يثبتها ويخطئ من ينكرها خطأ عظيما (4) مستدلا على ما ذهب إليه بقوله تعالى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر: 18]، فأهل النار عنده يستحقون (اللعن والغضب والسخط فكيف يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم أن يشفع لهم، ومن حق الشافع أن يكون محبا لمن يشفع له راضيا عنه، وهذا يوجب إن كان عليه السلام يشفع لهم – أن يكون راضيا عمن سخط عليه ولعنه وذلك لا يصح) (5).فهم يصدرون في إنكارهم للشفاعة عن إيمانهم بالوعد والوعيد، وعيد الله للمذنبين، ووعيده للأتقياء المطيعين، وقد سبقت كلمة الله بذلك، ولا مبدل لكلماته، فإذا خرج المؤمن من الدنيا عن طاعة وتوبة استحق الثواب وإذا خرج عن كبيرة ولم يثب خلد في النار (6)، إذ لا يصح خروجهم منها لأنهم من أهل العقاب، ولا يجوز مع ذلك أن يكونوا من أهل الثواب لأن ذلك كالمتضاد (7).   (1) ((فتح الباري)) (17/ 237). (2) ((مقالات الإسلاميين)) (2/ 166). (3) ((فضل الاعتزال)) (208). (4) ((فضل الاعتزال)) (207). (5) ((فضل الاعتزال)) (208). (6) ((المعتزلة)) لزهدي جار الله (51). (7) ((فضل الاعتزال)) (209). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 وهم وإن خلدوهم في النار إلا أنهم جعلوا عذابهم أخف من عذاب الكافرين. وبموقفهم هذا يكونون قد أنكروا أمرا أثبت بالسنة الصحيحة، جاء في سنن أبي داود عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) (1) وبناء على ذلك فقد أتت السنة بأن الله يخرج قوما من النار بعد أن يمتحنوا بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم (2).وقد يعترض بعضهم بأن الشفاعة ليست واردة في القرآن، وهذا لا يمنع ثبوتها، وكثيرة هي المسائل والأحكام التي اختصت بذكرها السنة، وقد قيل يوما لعمران بن حصين وهو جالس في المسجد: يا أبا النجيد إنكم لتحدثوننا بأحاديث لم نجد لها أصلا في القرآن؟ فغضب عمران وقال لسائله: قرأت القرآن؟ قال نعم. قال: فهل وجدت صلاة العشاء أربعا ووجدت المغرب ثلاثا. .؟ إلى أن انتهى إلى ذكر الشفاعة (3) مذكرا لهم بقوله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7].وقد استنبط العديد من الصحابة شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة من القرآن نفسه، فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: (إنكم يا معشر أهل العراق تقولون أرجى آية في القرآن: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا. . . [الزمر:53] الآية لكنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب الله: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5] وهي الشفاعة) (4). د – إنكارهم لمعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: يعود إنكار بعض المعتزلة لمعجزات رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ومعجزات الرسل السابقين إلى تصورهم للنبوة، فقد اختلفوا فيما بينهم: هل هي جزاء أو ثواب؟ أم لا؟ فقال بعضهم: هي ثواب وجزاء على عمل صالح عمله النبي صلى الله عليه وسلم فاستحق أن يجزيه الله بالنبوة. وقال آخرون ليست بجزاء ولا ثواب (5) وممن قال بأنها جزاء على عمل عباد بن سليمان، وممن قال بأنها تكون ابتداء أبو علي الجبائي (6).   (1) رواه أبو داود (4739) والترمذي (2435) سكت عنه أبو داود ,وقد قال في ((رسالته لأهل مكة)): كل ما سكت عنه فهو صالح. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) (4739). (2) ((موعظة المؤمنين)) (1/ 10). (3) ((دلائل النبوة)) (1/ 35). (4) ((الإتقان)) (2/ 161). (5) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 297، 2/ 326). (6) ((مقالات الإسلاميين)) (2/ 137). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 ونفي الاصطفاء عن النبوة رأي قديم أبداه بعض الفلاسفة حيث جعلوا النبوة مرتبة من المعرفة والسمو الروحي يبلغها المجتهدون الذين يتدرجون في معاناة ورياضة نفسية خاصة. وبذلك افتقدت النبوة جلالها وقدسيتها، وصارت لدى هؤلاء الفلاسفة ومن تأثر بهم من المعتزلة من الموضوعات التي يتناولونها بعيدا عما تستحقه من الاحترام. فهذا واصل بن عطاء يخطب فيجيد فيقول عمرو بن عبيد وكان شاهدا الجمع: "ترون لو أن ملكا من الملائكة أو نبيا من الأنبياء يزيد على هذا" (1)؟ بل بلغ بهم استهتارهم بمقام النبي صلى الله عليه وسلم أن جوز عليه بعضهم تعمد ارتكاب المعاصي إلا أنها لا تكون إلا صغائر (2).وبناء على هذا فإن الكثير من المعتزلة يعتبرون الحجة قائمة على الناس بالعقل لا بالنبوة فحتى من لم يبلغه خبر الرسول فهو محجوج (3) لتقصيره في إعمال عقله للوصول إلى الحقيقة. ومن المعتزلة من نفى أن تكون المعجزات دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعواه الرسالة ففلق البحر وقلب العصا حية ومحق السحر وانشقاق القمر والمشي على الماء وغيرها لا تدل في زعمهم على صدق الرسالة (4). والقرآن نفسه كما ذهب إلى ذلك هشام الفوطي وعباد بن سليمان (لم يجعل علما على النبي صلى الله عليه وسلم وهو عرض من الأعراض لا يدل شيء منها على الله ولا على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم (5).فهل نعجب بعد هذا إذا أنكر النظام ما روي من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم من انشقاق القمر وتسبيح الحصا في يده ونبوع الماء بين أصابعه (6)؟ فهو حين يتحدث عن رواية ابن مسعود لحديث الانشقاق يتناولها دون التزام لأي لون من ألوان الأدب إزاء الصحابة الذين قال عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي)) (7) فيقول: (وهذا من الكذب الذي لا خفاء به لأن الله تعالى لا يشق القمر له وحده ولا لآخر معه وإنما يشقه ليكون آية للعالمين): فكيف لم يعرف بذلك العامة، ولم يؤرخ الناس بذلك العام، ولم يذكره شاعر ولم يسلم عنه كافر ولم يحتج به مسلم على ملحد (8)؟ وفي الحقيقة فإنه بإنكاره للكثير من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم إنما يرمي إلى إنكار ثبوته (9) سيما والنظام معجب بقول البراهمة بإبطال النبوات (ولم يجسر على إظهار هذا القول خوفا من السيف) (10). وقد تسرب هذا التشكيك في المعجزات إلى المسيحيين البيزنطيين، يتسنمونها لرد رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا الإمبراطور باسيليوس الثاني يسال أبا بكر الباقلاني في سفرته إلى بيزنطة: هذا الذي تدعونه من معجزات نبيكم: من انشقاق القمر كيف هو عندكم؟.   (1) ((ميزان الاعتدال)) (3/ 277). (2) ((ميزان الاعتدال)) (1/ 279). (3) ((ميزان الاعتدال)) (1/ 296). (4) ((الفرق بين الفرق)) (162). (5) ((إعجاز القرآن)) للباقلاني – مقدمة- سيد صقر (8). (6) ((الفرق بين الفرق)) (132) - ((السنة ومكانتها)) (206). (7) رواه البخاري (3673) , من حديث أبي سعيد الخدري, ومسلم (2540) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنها. (8) ((تأويل مختلف الحديث)) (21) ((الفرق بين الفرق)) (319). (9) ((الفرق بين الفرق)) (132). (10) ((الفرق بين الفرق)) (131). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 ويتصدى الباقلاني للجواب: هو صحيح عندنا انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأى الناس ذلك، إنما رآه الحضور ومن اتفق نظره في تلك الحال ويقول الملك: وكيف لم يرد جميع الناس؟ فيجيب الباقلاني: لأن الناس لم يكونوا على أهبة ووعد لشقوقه وحضوره ثم قاس له بالخسوف الذي لا يراه جميع أهل الأرض، وإنما يراه من كان في محاذاته ويختم بقوله: (فما أنكرت من انشقاق القمر إذ كان في ناحية أن لا يراه إلا أهل تلك الناحية، ومن تأهب للنظر له، فأما من أعرض عنه، أو كان في الأمكنة التي لا يرى القمر منها فلا يراه) (1). وهذا أسلوب يستخدم مع الكافرين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم الذين لا يؤمنون بحديثه، وإلا فقد ثبت حديث انشقاق القمر عن ابن مسعود وابن عمر وأنس وابن عباس. جاء عن ابن مسعود قوله: ((انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشقين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشهدوا)) (2).وقد أورد محمد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على ترجمة باب انشقاق القمر بصحيح مسلم ما قاله القاضي عياض في هذا الموضوع وجاء فيه (انشقاق القمر من أمهات معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم وقد رواها عدة من الصحابة رضي الله عنهم مع ظاهر الآية الكريمة وسياقها، قال الزجاج: وقد أنكرها بعض المبتدعة مخالفي الملة وذلك لمن أعمى الله قلبه، ولا إنكار للعقل فيها، لأن القمر مخلوق لله تعالى، يفعل فيه ما يشاء، كما يفنيه ويكوره في آخر الأمر) (3).   (1) ((إعجاز القرآن)) للباقلاني – مقدمة- سيد صقر (30). (2) رواه البخاري (3636) , ومسلم (2800). (3) ((مسلم)) (4/ 2158) (هامش رقم 3). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 وبلغت ببعض المعتزلة مناوأتهم للإسلام وللرسول صلى الله عليه وسلم أن أنكروا إعجاز القرآن فقال النظام: إن نظم القرآن وحسن تأليف كلماته ليس معجزة النبي صلى الله عليه وسلم ولا دلالة فيه على صدقه في دعواه النبوة ذلك أن القرآن كتاب كسائر الكتب المنزلة لبيان الأحكام من الحلال والحرام، ووجه الدلالة في هذا الكتاب على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو ما فيه من الأخبار عن الغيوب. فأما نظم القرآن وحسن تأليف آياته فإن العباد قادرون على مثله وعلى ما هو أحسن منه في النظم والتأليف ولم يعارضه العرب لأن الله تعالى صرفهم عن ذلك وسلب علومهم به وهو ما عرف عندهم بالصرفة (1). وقال عيسى بن صبيح الملقب بالمردار (ت 226هـ) إن الناس قادرون على مثل القرآن فصاحة ونظما وبلاغة (2).ونفى هشام الفوطي وعباد بن سليمان أن يكون شيء من الأعراض دالا على الله سبحانه أو على نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ولما كانا يزعمان أن القرآن أعراض فهو ليس علما للنبي صلى الله عليه وسلم (3).وذهب ابن الراوندي الزنديق في كتابه (الدامع) إلى الطعن في نظم القرآن ومعانيه، وارتطم في إثم القول: إن في القرآن سفها وكذبا (4) إلا أن هذه الآراء الغريبة كان قد تناولها العديد من رجال الاعتزال بالطعن والتجريح والرد عليها: فتولى أبو الحسين الخياط وأبو علي الجبائي الرد على ابن الراوندي فنقض ما تورط فيه من الانحرافات في كتابه (الدامع) وتولى الجاحظ في كتابه (نظم القرآن) الرد على النظام في قوله بالصرفة (5).ومما رد به أبو سليمان الخطابي في كتابه (إعجاز القرآن على دعوى الصرفة أن دلالة الآية تشهد بخلافه)، وهي قوله سبحانه وتعالى: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: 88] فأشار القرآن إلى أمر طريقة التكلف والاجتهاد وسبيله التأهب والاحتشاد والمعنى في الصرفة التي وصفوها لا يلائم هذه الصفة فدل على أن المراد غيرها (6).   (1) ((فضل الاعتزال)) (70) - ((الفرق بين الفرق)) (143) , ((ملل الشهرستاني)) (1/ 56) - ((مسلم)) (57) - ((إعجاز القرآن)) - مقدمة- سيد صقر (807). (2) ((ملل الشهرستاني)) (1/ 54). (3) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 296). (4) ((إعجاز القرآن)) للباقلاني – مقدمة- سيد صقر (8). (5) ((إعجاز القرآن)) للباقلاني – مقدمة- سيد صقر (8). (6) ((إعجاز القرآن)) - مقدمة- سيد صقر (13). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 هـ - موقفهم من حد شارب الخمر والنبيذ: لقد تمسك بعض المعتزلة بالرأي الشاذ حول حد الخمر القائل: إن الرسول لم يفرض في الخمر حدا، وأنه وبعض الصحابة إنما ضربوا بالجريد والنعال والأردية وعزف هؤلاء المعتزلة عما أجمع عليه الصحابة من وجوب الحد في الخمر (1) بل وهاجموا الحد، من ذلك أن جعفر بن مبشر زعم (أن إجماع الصحابة على حد شارب الخمر كان خطأ، إذ المعتبر في الحدود: النص والتوقيف) (2).والملاحظ أن النص والتوقيف متوفران، فالاتفاق كامل بين الصحابة والعلماء على أن الرسول صلى الله عليه وسلم جلد من شرب الخمر ولكن ثمة اختلاف حول عدد الجلدات (3).وقد أطنب الفقهاء والمحدثون في الحديث عن الموضوع وسرد كل الآراء مهما كانت متضاربة ومتطرفة، وقد أورد ابن حجر خلاصة حول الموضوع قال فيها: وقد استقر الإجماع على ثبوت حد الخمر وإن لا قتل فيه، واستمر الاختلاف في الأربعين والثمانين (4).والملاحظ أن حد النبيذ بدوره ثمانون جلدة (5) أي أنه مساو لحد الخمر فقد قرر الفقهاء وجوب جلد من شرب خمرا أو نبيذا مسكرا ثمانين سكر أو لم يسكر (6).وخالف عمرو بن عبيد فنسب إلى الحسن البصري أنه قال: إن السكران من النبيذ لا يجلد وقد أكذبه أيوب السختياني وقال: أنا سمعت الحسن يقول: يجلد (7). وموقفهم من حد السارق: ومن المواطن التي خالف فيها العديد من المعتزلة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم موقفهم من حد السرقة. فقد جعل القرآن الكريم قطع اليد جزاء وفاقا للسرقة فقال جل من قائل: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة: 38]. ثم جاءت السنة وحددت قيمة المسروق الذي يوجب القطع وبينت حاله كما بينت ما ينبغي القطع فيه، ومن أين يقع القطع. جاء عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم (8) وفي حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا)) (9) على أن يكون المسروق حرزا والسارق مستغنيا عن السرقة. كما سن الرسول أن لا قطع في ثمر ولا كثر (10)، وبين أن القطع إنما يكون في اليد اليمنى ومن الرسغ. وخالف الكثير من المعتزلة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا أبو الهذيل العلاف والجبائي يفسقان سارق الدرهم من حرز (11).أما جعفر بن مبشر فيزعم أن من سرق حبة أو ما دونها فهو فاسق منخلع من الإيمان مخلد في النار (12).ويذهب النظام إلى أن من غصب أو سرق مائة وتسعة وتسعين درهما لم يفسق بذلك حتى يكون ما سرقه أو غصبه وخان فيه مائتي درهم فصاعدا (13). وبذلك هدموا الشرع وتحللوا من الأحكام وحكموا أهواءهم فيما يأتون وما يدعون. ز – تخليدهم صاحب الكبيرة في النار:   (1) ((نيل الأوطار)) (7/ 169). (2) ((ملل الشهرستاني)) (1/ 59) - ((الفرق بين الفرق)) (168). (3) ((فتح الباري)) (7/ 161). (4) ((فتح الباري)) (15/ 80). (5) ((فتح الباري)) (15/ 75). (6) ((رسالة أبي زيد القيرواني)) (440). (7) ((مقدمة مسلم)) (1/ 23) - ((ميزان الاعتدال)) (3/ 276). (8) ((الموطأ)) (519). (9) ((فتح الباري)) (15/ 107). (10) ((الرسالة)) (41) - ((الموطأ)) (524). (11) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 3331). (12) ((الفرق بين الفرق)) (168) - ((ملل الشهرستاني)) (1/ 59). (13) ((الفرق بين الفرق)) (144) - ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 334) - ((الملل)) (1/ 58). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 كنا رأينا أثناء حديثنا عن أصل المعتزلة الرابع الوعد والوعيد كيف قرروا أن مرتكب الكبيرة هو في منزلة بين المنزلتين في الدنيا ومخلد في النار يوم القيامة ما لم يتب، ورأينا كيف أن مبدأهم ذلك مبني على إيمانهم بعدل الله، هذا العدل الذي جعلهم غلوهم في تصوره ينفون معه الشفاعة لأنها في رأيهم تعطل تنفيذ وعده ووعيده ولا مبدل لكلماته تعالى: على أننا قبل الخوض معهم في آرائهم هذه المنافية للسنة الصحيحة يحسن بنا أن نرى تعريفهم للكبائر والصغائر. فقد (قال قائلون منهم: كل ما أتى فيه الوعيد فهو كبير وكل ما لم يأت فيه الوعيد فهو صغير) (1). وذهب جعفر بن مبشر إلى أبعد من ذلك فقد جعل ارتكاب أي لون من ألوان الذنوب والمعاصي كبيرة شريطة أن يكون مرتكبها متعمدا (2).وقد غلت بعض فرق المعتزلة في الحكم على مرتكبي الذنوب، حتى أنها لم تميز بين الصغير من الذنوب والكبير. فالواصلية مثلا (تزعم أن كل مرتكب للذنب صغير أو كبير مشرك بالله) (3)، ولعل هذا الحكم القاسي يعود إلى تسوية القدرية عموما (بين الشرك وما دونه من الكبائر في أن كلا من النوعين لا يغفر بدون التوبة، ولا يشاء الله أن يغفرهما إلا للتائبين) (4).إلا أن واصلا يسمي هذا المذنب موحدا وليس بمشرك ولا كافر (5).وبلغ الغلو بالجبائي درجة وصف معها الكثير من أرض الإسلام والمسلمين بالكفر، وكيف لا يكون كذلك، وهم القائلون أن القرآن غير مخلوق، وأن الله سبحانه أراد المعاصي وخلقها لأن هذا كله عنده كفر، فبغداد ومصر وغيرهما على قياسه – دار كفر (6).ثم إن هذه الذنوب والمعاصي عندهم لن يغفرها الله إلا بالتوبة، وإقامة الحد على المقترف للذنب لا يفيده (7) مستدلين على ذلك بقوله تعالى: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة: 34]. وحين تجابهون بقول الله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء: 48] وهو صريح في أن الله يغفر لمن يشاء من المذنبين والعصاة يلجأون إلى التأويل وإن كان متعسفا.   (1) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 332). (2) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 332). (3) ((الفرق بين الفرق)) (177). (4) ((الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال)) (1/ 532). (5) ((الفرق بين الفرق)) (119). (6) ((مقالات الإسلاميين)) (2/ 155). (7) ((فتح الباري)) (1/ 75). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 يقول الزمخشري لتطويع هذه الآية لمذهبهم (الوجه أن يكون الفعل المنفي لا "يغفر" جميعا موجهين إلى قوله تعالى: لمن يشاء كأنه قيل: إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك على أن المراد بالأول من لم يتب وبالثاني من تاب. ونظيره قولك: إن الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء تريد لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله ويبذل القنطار لمن يستأهله (1).فقد سوى بين المسلم والمشرك في وجوب التوبة مطوعا الآية لخدمة هذه التسوية (فردته ونبت عنه) (2) كما يقول صاحب كتاب (الإنصاف). لأن (الشرك غير مغفور البتة وما دونه من الكبائر مغفور لمن يشاء الله أن يغفر له، هذا مع عدم التوبة وأما مع التوبة فكلاهما مغفور) (3). وهذه هي عقيدة أهل السنة و (الآية إنما وردت فيمن لم يتب ولم يذكر فيها توبة كما سنرى فذلك أطلق الله تعالى نفي مغفرة الشرك وأثبت مغفرة ما دونه مقرونة بمشيئة الله، فهذا وجه انطباق الآية على عقيدة أهل السنة) (4).ثم أن المعتزلة بعد أن أقروا أن الله لا يغفر لمن خرج من الدنيا على معصية بدون توبة لأن ذلك يتنافى مع عدله وبالتالي مع وعده ووعيده، بل ومع نظريتهم في الصلاح والأصلح، وضعوا صاحب الكبيرة في المنزلة بين المنزلتين في الحياة الدنيا وأنزلوه جهنم في الآخرة خالدا فيها غير أن عذابه أخف من عذاب الكافر (5).وهو حكم يزعم جعفر بن مبشر أنه من موجبات العقول مخالفا (أسلافه الذين قالوا: إن ذلك معلوم بالشرع دون العقل (6).ذلك أن أهل النار إذا دخلوها لم يصح خروجهم منها لأن في خروجهم ثوابا، فيصبح الواحد منهم من أهل الثواب، ومن أهل العقاب معا وهذا كالمتضاد (7). وللمعتزلة أدلتهم فيما ذهبوا إليه من تأبيد العقاب في النار من ذلك: أ- قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من قتل نفسه بحديدة, فحديدته في يده يجأ بها نفسه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا)) (8). وقد أجيب عنه بستة أجوبة منها: 1 - أن محمد بن عجلان رواه عن سعيد المقبري عن أبي هريرة فلم يذكر خالدا مخلدا.   (1) ((الزمخشري)) (1/ 532). (2) ((الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال)) (1/ 532). (3) ((الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال)) (1/ 532). (4) ((الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال)) (1/ 532). (5) ((الملل والنحل)) (1/ 45، 48، 70، 81). (6) ((الفرق بين الفرق)) (168). (7) ((فضل الاعتزال)) (209). (8) رواه البخاري (5778) , ومسلم (109) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 2 - أن الخلود إنما يصدق على من استحله، فله يصير باستحلاله كافرا. والكافر مخلد بلا ريب. 3 - ورد التخليد مورد الزجر والتغليظ وحقيقته غير مراده (1).ب- ويستدلون أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم ((إياكم والزنا فإن فيه سوء الحساب وسخط الرحمن وخلود النار)) (2). وقوله صلى الله عليه وسلم ((من انتسب إلى غير أبيه فالجنة عليه حرام)) وقوله صلى الله عليه وسلم ((من اقتطع مال امرئ مسلم حرم الله عليه الجنة وأدخله النار)). (3) ج – ومما يروونه عن خلود أهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار نادى مناد بينهما: يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت)) (4).ويقول القاضي عبد الجبار كما ثبت خلود أهل الكفر في النار ثبت أيضا تخليد قاتل النفس والفار من الزحف وأكل مال اليتيم وغير ذلك (5) .. وبما أن الله صاحب أعظم نعمة على الإنسان فإن من عصاه ينبغي أن يعظم عقابه بعظم معصيته (وذلك يبين حسن العقاب الدائم) (6).ونجد من المعتزلة من يتخلى عن الخلود كالعلاف ويقول بفناء نعيم أهل الجنة وفناء عذاب أهل النار (7) مما جعل عددا من زعماء المعتزلة يردون عنه ويوبخونه كالجبائي وأبي موسى (عيسى بن صبيح المعروف بالمردار). وقد ألف منهما كتابا ذكر فيه فضائح أبي الهذيل، ولجعفر بن حرب أحد زعماء المعتزلة كتاب سماه (توبيخ أبي الهذيل) (8).وقد تصدى أهل الحديث للرد عن ضلالات المعتزلة مستندين إلى ما صح في السنة النبوية من الآثار، وقد أجمعوا على أن المعاصي ليست موجبة للخلود، فقد جاء عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فيخرجون منها قد اسودوا فيلقون في نهر الحيا أو الحياة شك مالك فينبتون كما تنبت الحبة فى جانب السيل، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية)) (9). وقد عقب ابن حجر على هذا الحديث بقوله: (وأراد البخاري بإيراده، الرد على المرجئة لما فيه من بيان ضرر المعاصي مع الإيمان، وعلى المعتزلة في أن المعاصي موجبة للخلود) (10) فلا يلزم من إطلاق دخول النار التخليد فيها (11).   (1) ((فتح الباري)) (3/ 470). (2) ((فضل الاعتزال)) (155). (3) رواه الحاكم (4/ 328) , من حديث جابر بن عتيك, قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 184): رجاله رجال الصحيح خلا أبا سفيان بن جابر بن عتيك ولم يتكلم فيه أحد. وقال الألباني في ((صحيح الترغيب)) (1840) صحيح لغيره. ورواه الطبراني في ((الكبير)) (1/ 273) , من حديث أبي أمامة. (4) رواه البخاري (4730) , ومسلم (2849) , من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (5) ((فضل الاعتزال)) (209). (6) ((فضل الاعتزال)) (210). (7) ((تأويل مختلف الحديث)) (44) , ((الفرق بين الفرق)) (122). (8) ((الفرق بين الفرق)) (122). (9) رواه البخاري (22) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (10) ((فتح الباري)) (1/ 80). (11) ((فتح الباري)) (14/ 291). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 وإذا اعتبرت إقامة الحد كفارة لصاحبها ومجزية عن إعلان التوبة، فإن غفران ذنب من لم يقم عليه الحديث ولم يتب يبقى رهن إرادة الله وذلك مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم في عصابة من صحابته ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه فبايعناه على ذلك)) (1).وإن المعتزلة القدرية بتشددهم في تخليد مرتكب الذنب في النار ما لم يتب ينطبق عليهم المثل السائر (السيد يعطي والعبد يمنع) لأن الله تعالى يصرح كرمه بالمغفرة للمصر على الكبائر إن شاء، وهم يدفعون في وجه هذا التصريح ويحيلون المغفرة بناء على قاعدة الأصلح والصلاح التي هي بالفساد أجدر وأحق (2). ح- إنكارهم لعذاب القبر: ومما أثبتته السنة وأنكره المعتزلة عذاب القبر. يقول الأشعري: إنهم والخوارج نفوا عذاب القبر (3).ولئن جعل القاضي عبد الجبار المعتزلة ينقسمون إلى منكر لعذاب القبر ومثبت له فإنه يقول إن الذي نفاه إنما هو ضرار بن عمرو "وهو من أصحاب واصل بن عطاء" ويورد حجة المنكرين فيقول: إن الميت لما يدفن (لا يسمع ولا يبصر ولا يدرك ولا يلتذ فكيف يجوز عليه المسألة والمعاقبة مع الموت)؟ ويضيف: (وأنكر مشايخنا عذاب القبر في كل حال) (4).وهذا مخالف صراحة لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه، وقد عقد البخاري بابا في كتاب الجنائز ترجم له بقوله: (باب ما جاء في عذاب القبر) (5) وقد أورد فيه عددا من الأحاديث منها:- حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم؟)) الحديث (6). كما أن كلا من أبي داود والنسائي والترمذي عقدوا أبوابا ترجموا لها بنحو ما ترجم له البخاري وأوردوا فيها أحاديث كثيرة تثبت كلها عذاب القبر. المصدر: موقف المعتزلة من السنة النبوية لأبي لبابة حسين – ص 113 المبحث الرابع: الرد على شبه المعتزلة حول الحديث النبوي (7) يعتبر الحديث النبوي المصدر الثاني من مصادر التشريع بعد القرآن الكريم، وهو وإن كان دونه في المنزلة، إلا أنه مثله في الحجية .... وما أثاره المعتزلة حوله من شبه، إنما هي شبه واهية، لا تستند إلى دليل، ولا تؤيدها حجة. من تلك الشبه: ذمهم لتعلم الحديث، وإنكار حجية أحاديث الآحاد، ورفض الأحاديث التي تتعارض مع عقولهم وأصولهم. - أما ذمهم لتعلم الحديث وأهله: فهو معروف عنهم، إذ حذروا من تعلمه، وقللوا من فائدته والاستدلال به، ونصوا على أنه لا حاجة إليه، إذ اعتبروا أن العقول تغني عنه، والأذهان تكتفي بغيره.   (1) رواه البخاري (6487). (2) ((الإنصاف الكشاف)) (1/ 533). (3) ((مقالات الإسلاميين)) (2/ 116). (4) ((فضل الاعتزال)) (202). (5) ((فتح الباري)) (3/ 473). (6) ((فتح الباري)) (3/ 480) – والحديث خرجه مسلم 4/ 2200 – الترمذي 3/ 374. (7) ينظر: ((موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية))، (ص100 - 130) الأمين الصادق الأمين/ 1414هـ/ جامعة أم القرى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 "وذكروا أن الواحد من أصحاب الحديث يحب الاستكثار من طريق واحد، ولا يكون فيه كبير فائدة، إلا تخير الزيادات فيه."ومعلوم" أن المعتزلة لم يشتهروا بالفقه والحديث، لأنهم توفروا "اكتفوا" على ما عندهم، وهو أجدى في الدين، من طلب الفقه والحديث" (1). هذا وإن ذمهم لتعلم الحديث، ينبئ عن جهلهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلة معرفتهم به، وعدم الاعتناء والاهتمام به، ولذلك قل استدلالهم بالحديث في كتبهم. قال عبدالله بن المبارك: "وجدت الدين لأهل الحديث، والكلام للمعتزلة، والكذب للرافضة، والحيل لأهل الرأي" (2). - أما حجية أحاديث الآحاد: فلو ترك الاحتجاج بها، لتهاوت أركان الشريعة الإسلامية، واندثر الحق، وغاب الهدى، وصار للباطل صولة .. والأدلة كثيرة من كتاب الله وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأقوال السلف، بل وإجماعهم على الاحتجاج وقبول الاستدلال به كثيرة لا تحصى .. وسوف نورد فيها ما يناسب المقام:- قال تعالى: فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة: 122]. أورد الإمام البخاري هذه الآية، في ترجمة أول باب من كتاب: (أخبار الآحاد) ليدلل بها على جواز العمل به والقول بأنه حجة (3).ولفظ طَآئِفَةٌ في الآية يتناول الواحد فما فوقه، ولا يختص بعدد معين، وذلك منقول عن ابن عباس وغيره (4). - وفي السنة النبوية: روى البخاري بسنده إلى عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: (بينا الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة).والحجة في هذا الحديث بينة ظاهرة، فإن أهل قباء كانوا على قبلة فرض الله عليهم التوجه إليها، وهي بيت المقدس، فتحولوا عنها بخبر الذي أخبرهم بأن النبي أمر أن يستقبل الكعبة (5).   (1) ((فصل الاعتزال وطبقات المعتزلة)): القاضي عبدالجبار، (ص193 - 194) – الدار التونسية للنشر. (2) انظر: ((مختصر الصواعق المرسلة)): (ص 471). (3) انظر: ((صحيح البخاري)): (4/ 132)، و ((فتح الباري)): (13/ 233) ترقيم محمد فؤاد عبدالباقي/ ط دار الفكر. (4) ((فتح الباري)) (13/ 234) ترقيم محمد فؤاد عبدالباقي/ ط دار الفكر. (5) انظر ((فتح الباري)): (13/ 237). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 - وقد قبل أبو طلحة ومن معه خبر المخبر لهم في تحريم الخمر، وهو واحد، إذ أخبرهم في تحريم ما كان حلالاً عندهم، وأكد أبو طلحة رضي الله عنه ذلك بإتلاف الجرار وهي مال، وإراقة الخمر وهي سرف، فلو لم يكن الخبر عندهم حجة لما أقدم على ذلك."والأحاديث في ذلك أكثر من أن تحصر، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الأرض، المجاورين لبلاد العرب، وكانوا آحاداً، وأمرهم بتعليم من أسلم، شرائع الدين، كما بعث كثيراً من أصحابه إلى جهات متعددة ليعلموا الناس شعائر الإسلام. فبعث معاذاً إلى اليمن، وأبا موسى إلى زبيد، وأبا عبيدة إلى نجران، وبعث إلى كل طائفة معلماً يعلمهم دينهم، ويبلغهم أحكام الشرع، وكانت الحجة قائمة بتبليغ كل واحد من هؤلاء على من بلغهم، وهم ملزمون بقبول ما أمرهم به" (1)."وقد أجمع الصحابة والتابعون لهم من سلف الأمة، بل والأمة بأسرها على قبول خبر الواحد الثقة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى حدث متكلموا المعتزلة بعد المائة، فخالفوا الإجماع" (2).وقد نقل جماعة من العلماء هذا الإجماع (3).أسباب ردهم لأحاديث الآحاد (4): من أبرز الأسباب التي جعلتهم يقفون هذا الموقف، أن الأحاديث هذه كانت تتعارض مع ما قرروه في نظرياتهم العقدية، وأصولهم المنحرفة. - من ذلك قولهم في صفات الله تعالى، وتسليط عقولهم على نصوص الوحي بالتأويلات التي لا ضابط لها.- ومن ذلك نفيهم الأحاديث في رؤية الله تعالى يوم القيامة، رغم أن أحاديث الرؤية كثيرة بلغت حد التواتر في الصحاح والسنن والمسانيد، وقد رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ثلاثين صحابياً (5). ومن تلك الأحاديث ما رواه البخاري بسنده إلى جرير قال: ((كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ نظر إلى القمر ليلة البدر قال: إنكم سترون ربكم، كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا)) (6).قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: "من كذب بالرؤية فهو زنديق" (7).- ومن ذلك: توسعهم في موضوع القدر، حتى جعلوه أصلاً من أصولهم الخمسة، وقد زعموا أن العقل هو الذي قادهم إلى ذلك، أما نصوص الكتاب والسنة، فلا دخل لها بشأن العدل، وما ورد من أحاديث الآحاد دالاً على ذلك، فهو ضرب من ضروب الخطأ (8).- وفي قضية مرتكب الكبيرة: فالمعتزلة لا يعتمدون على نص من القرآن أو السنة في إطلاقهم الأحكام على صاحب الكبيرة، وإنما كان جل اعتمادهم على العقل، إذ تجاوزوا الأحاديث وحكموا على صاحب الكبيرة بالخلود في النار كالكافر (9). - ورد المعتزلة أحاديث الشفاعة في أهل الكبائر يوم القيامة، وأنكروها أيما إنكار، وقالوا: إن النبي لا يشفع لصاحب الكبيرة ولا يجوز له ذلك؟! لأن إثابة من لا يستحق الثواب قبيحة. والفاسق إنما يستحق العقوبة على الدوام، فكيف يخرج من النار بشفاعته صلى الله عليه وسلم؟ (10).والأحاديث التي وردت في إثبات الشفاعة لأهل الكبائر ثابتة، منها أحاديث متعددة في الصحيحين، ومنها ما يكثر عدده في السنن والمسانيد (11).- وقد بارك المستشرقون موقف المعتزلة من السنة النبوية، ورأوا أن وجهتهم في رد الأحاديث بالعقل هي الوجهة الصحيحة التي يجب أن تناصر وتؤيد ضد المتشددين الحرفيين الجامدين على النصوص .. فهم أهل العقل الحر والمنهج القويم، الذي يجب أن يبقى ويستمر (12). المصدر: العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب لمحمد حامد الناصر - ص 25   (1) ينظر: ((الإحكام في أصول الأحكام)) لابن حزم (1/ 110، 113 - 114). (2) ينظر: ((الإحكام في أصول الأحكام)) لابن حزم (1/ 110، 113 - 114). (3) انظر: ((الرسالة للإمام الشافعي)) (ص 453)، ((فتح الباري)) (13/ 234)، و ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (ص49) مطبعة البابي الحلبي/ 1937م. (4) ينظر: ((موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية)) (ص132، 285، 286، 355). (5) انظر: ((شرح الطحاوية)) (194). (6) ((صحيح البخاري)) -كتاب التوحيد- (97)، (8/ 179). (7) ((لوامع الأنوار البهية)): (2/ 246)، محمد أحمد السفاريني، مكتبة أسامة/ الرياض/ المكتب الإسلامي/ بيروت. (8) انظر: ((فضل الاعتزال)) للقاضي عبدالجبار (ص286)، (ص210). (9) انظر: ((فضل الاعتزال)) للقاضي عبدالجبار (ص286)، (ص210). (10) ((شرح الأصول الخمسة)): للقاضي عبدالجبار (ص688 - 689). (11) انظر ((الفتاوى)) لابن تيمية، (1/ 314)، و ((صحيح البخاري)) -كتاب الإيمان-. (12) ((موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية)) (ص 355) الأمين الصادق الأمين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 المبحث الأول: التطور الفكري للمعتزلة من خصائص الفكرة المبتدعة – ومثلها في ذلك مثل كل الأفكار البشرية الاعتقادية – أنها عادة تبدأ بسيطة ساذجة في اللفظ والمعنى، ثم لا تلبث أن تتعقد وتتفرع، بل تتغير وتتبدل، ثم تتناقض وتتضارب، وإذا كثير من مبادئها الأولية قد تغيرت بشكل تام. وهي في كل ذلك تسير من سيئ إلى أسوأ، وتزداد انحرافا وبعدا عن السنة، وما ذلك إلا لاعتمادها على العقل فيما لا يدركه العقل؛ لذلك قد قيل إن صاحب البدعة لا ترجى له توبة (1) فهو يتنقل من حال إلى حال أسوأ كلما أوغل في بدعته، أما من تمسك بالنصوص الثابتة الجلية والقواعد الصحيحة البينة فلا مجال لانحرافه، إذ أن الأمر دائر بين ثبوت النص وقواعد الفقه فيه، وهما أمران واضحان عند أهل السنة والجماعة حسب منهجهم. وقد ظهر ذلك الأمر جليا في فكر المعتزلة وتطور مقالاتهم خلال ثلاثة قرون هي فترة حياة الاعتزال كفرقة مستقلة واضحة. وهو ما سنحاول تتبعه بشكل موجز في الصفحات القليلة التالية: أولا – بدايات الاعتزال: ظهر فكر الاعتزال – كما أشرنا من قبل – قبل ظهور الفرقة نفسها بشكل مستقل، فقد تكلم الجعد بن درهم ومن بعده الجهم بن صفوان في نفي الصفات وكان الجعد تلميذا لوهب بن منبه الذي أنكر عليه قوله ذاك. يقول ابن تيمية: "إن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام – أي أن الله سبحانه ليس على العرش حقيقة وإن معنى استوى بمعنى استولى ونحو ذلك – هو الجعد بن درهم وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه (2).وهناك رواية ترجع أصول ذلك الفكر عند الجعد إلى أصول يهودية فلسفية، إذ أنه قد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت، وأخذها طالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي (3). وقد ذكر أن الجهم أخذ تلك المقالة من الجعد، كما قيل أن مناقشاته مع فرقة السمنية قد أدت إلى تشكيكه في دينه وابتداعه لنفي الصفات (4). وعلى كل حال فالقصتان تدلان على الأثر الخارجي الذي أدى إلى القول بتعطيل الصفات. كما أن أثر يوحنا الدمشقي وأقواله تعتبر موردا من موارد الفكر الاعتزالي، إذ أنه كان يقول بالأصلح ونفي الصفات الأزلية وحرية الإرادة الإنسانية (5).أما عن مقالة خلق القرآن فكان أول من قال بها الجعد بن درهم سنة نيف وعشرين ومائة في خلافة هشام، وأخذها عنه بشر المريسي وكان صباغا يهوديا (6).وأما عن نفي القدر فقد ظهرت هذه البدعة على يحيى الدمشقي ومعبد الجهني وغيلان الدمشقي وقد قيل إنهما أخذاها عن نصراني يدعى سوسن (7) وقد أطلق على أصحابها اسم "القدرية" ثم أخذ عن معبد الجهني عمرو بن عبيد صاحب واصل بن عطاء رأس المعتزلة (8).   (1) ((الاعتصام للشاطبي)) (1/ 123). (2) ((الفتاوى)) (5/ 20). (3) ((عقائد السلف للنشار)) (7). (4) ((عقائد السلف)) ((الرد على الجهمية)) (65)، ((اللالكائي)) (3/ 379). (5) ((المعتزلة)) زهدي جار الله (28). (6) ((اللالكائي)) (3/ 382) أثر (641). (7) ((البداية والنهاية)) (9/ 34). (8) ((المعتزلة)) زهدي جار الله (34). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 وقد كان القول بالقدر في أول أمره ساذجا لا فلسفة فيه، بل مجرد اعتقاد أن الله سبحانه لا يقدر شيئا مسبقا على الإنسان، وأن الإنسان هو فاعل أفعاله بمحض مشيئته دون تدخل من مشيئة الله، وتبرز تلك البساطة في المناقشة التالية التي جرت في نهاية القرن الأول الهجري في خلافة عمر بن عبد العزيز: "روي أن غيلان الدمشقي وقف يوما على ربيعة الرأي فقال له: أنت الذي تزعم أن الله يحب أن يعصى؟ فقال له ربيعة: أنت الذي تزعم أن الله يعصى قسرا؟ " (1).أما عن القول بالمنزلة بين المنزلتين: فإن أول من ابتدعها واصل بن عطاء وهي أول مسألة نسبت للمعتزلة كفرقة مستقلة، حيث اعتزل حلقة الحسن البصري بعد أن سئل الحسن عن مرتكب الكبيرة الذي يموت دون توبة فسكت الحسن ورد واصل أنه في منزلة بين المنزلتين لا يقال مؤمن ولا كافر (2) ومع ذلك فإن قال بتأبيده في النار خالدا فيها، فوافق الخوارج في ذلك وإن خالفهم في عدم إطلاق اسم الكفر عليه، ومن هنا سميت المعتزلة مخانيث الخوارج"! (3). ثانيا: الطور الأول للمعتزلة: بدأ فكر المعتزلة يتبلور كفرقة مستقلة متميزة في البصرة على يد واصل بن عطاء (م131) الذي كان يحضر مجالس الحسن البصري، وقد ذهب – هو وعمرو بن عبيد – إلى أن الفاسق مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين وأنه مخلد في النار، ولم يطلق القول بتكفيره، واعتزل حلقة الحسن إلى سارية أخرى فأطلق عليهم "المعتزلة" (4) لاعتزالهما قول الأمة وإجماع المتقدمين من الصحابة والتابعين. وقد ذهب واصل إلى ما ذهبت إليه من قبل "القدرية" أتباع معبد الجهني وغيلان من نفي القدر، كما وافق "الجهمية" اتباع الجعد بن درهم والجهم بن صفوان في نفي الصفات – حسب مذكراته سابقا – بصورة غير معقدة ولا ملتبسة بشيء من الفلسفة أو مباحثها، إذ أن التأثر الخارجي كان في مجرد استيراد الفكرة بذاتها وتطبيقها على الإسلام، أما استخدام المنهج السلفي أو الأبحاث اللاهوتية في تقريرها فلم يكن له أي أثر حتى ذلك الحين. ثالثا – التطور الثاني للمعتزلة: أدخلت المعتزلة في هذا الطور المباحث الفلسفية والمناهج اليونانية بشكل واضح في الموضوعات التي بحثوها وأضافوها إلى أقوال من سبقهم في البدعة. وقد انقسم الكلام في هذه المرحلة إلى قسمين: جليل الكلام، ودقيق الكلام. فأما جليل الكلام: فهو يبحث في صفات الله وكلامه وقدرته وإرادته وفي الإيمان ومعناه وما يستتبع ذلك من كلام في الخلق والآجال والأرزاق والثواب والعقاب والختم والطبع والهدى والضلال وغير ذلك من مباحث، وهو ذو صلة بالموضوعات المطروحة في الطور الأول. وأما دقيق الكلام: فقد نشأ بأكمله في هذا الطور وبحث في الجوهر والعرض، والجسم وحدوده، والأضداد والعلل، والإرادة والتولد، وغير ذلك من مباحث تفوح منها رائحة الفلسفة اليونانية كأوضح ما تكون. لذلك نجد أن الكلام فيه منقول عن متأخري المعتزلة كالإسكافي ومعمر وأبي الحسين الصالحي وغيرهم، وأما واصل بن عطاء ومن في طبقته فلم ينسب لهم شيء من الكلام في تلك المعاني. وسنضرب أمثلة من أقوال أئمة المتأخرين منهم في هذه المرحلة ندلل بها على تطور أقوالهم وتدهورها مع الزمن: فمن أقوال أبي الهذيل العلاف (م 235): القول بفناء مقدورات الله حتى لا يكون بعد فناء مقدوراته قادرا على شيء!! أي أنه يخلق ما يشاء حتى لا يقدر أن يخلق شيئا بعد ذلك (5).   (1) ((فجر الإسلام)) (285). (2) ((الفرق بين الفرق)) (118). (3) ((الفرق بين الفرق)) (119). (4) ((الفرق بين الفرق)) (118). (5) ((الفرق بين الفرق)) (122)، ((اعتقادات أهل فرق المسلمين والمشركين)) للرازي (41). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 قوله بأن عذاب أهل النار ونعيم أهل الجنة سينتهيان إلى نهاية حيث يبقى كل من أهل الجنة وأهل النار ساكنا في مكان لا يتحرك! كذلك قال بأن أهل الجنة والنار مسيرون في أقوالهم وأفعالهم التي يقولونها ويفعلونها في الآخرة ولا حيلة لهم فيها! وانظر إلى هذا التناقض العجيب!! إذ جعل الناس في الدنيا يفعلون ما يشاؤون وفي الآخرة مسيرون لا يختارون! فهو قدري في الدنيا جبري في الآخرة (1). كما قال بأن التواتر الذي يعتبر حجة هو ما يجمع عليه عشرون شخصا أحدهم من أهل الجنة!.كذلك قال بأن الميت لا يقدر على أن يأتي بأفعال القلوب وإن كان قادرا على أفعال الجوارح، وقد طور الجبائي وابنه هذه الأقوال فقال إن الميت يقدر على أفعال القلوب والجوارح معا (2).وكان هو أول من صرح أن الله عالم بعلم هو ذاته وأن قدرة الله هي الله وهكذا. أما ما قاله في دقيق الكلام متأثرا بالفلسفة اليونانية عن الجسم فقد وصفه بأنه "الطويل العريض العميق" (3) وقال عن "الجوهر الفرد" هو الجزء الذي لا يتجزأ وعرفه بأنه: لا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع فيه ولا افتراق وأنه قد يجوز أن يجامع غيره وأن يفارق غيره وأن الخردلة يجوز أن تتجزأ نصفين ثم أربعة ثم ثمانية إلى أن يصير كل جزء منها لا يتجزأ (4) وقد اقترب في تعريفه ذاك من معنى النقطة الرياضية. وقد خالفه النظام في ذلك فأنكر وجود الجزء الذي لا يتجزأ وقال إن كل شيء يقبل التجزئة إلى ما لا نهاية. ونحن لا ننكر البحث في معنى الجسم من الناحية الرياضية أو تصورهم للأجزاء والأقسام، إنما ننكر الخلط بين ذلك وبين المباحث الخاصة بالذات الإلهية مما أدى إلى التخبط والخلط والبدعة. أما عن الأعراض فقد قال العلاف: إن منها ما يبقى ومنها ما يزول، فما يزول كحركات الأجسام، وهو القول الذي أداه إلى زوال حركات أهل الآخرة، وما يبقى فهو كالسكون الذي يتحولون إليه بعد الحركة (5). وقد قال إن الأعراض يمكن رؤيتها كالحركات والسكنات والألوان والاجتماع والافتراق، ويمكن لمسها بلمس الجسم نفسه. وقد خالفه الجبائي في لمس الأعراض وإن وافقه في رؤيتها. وخالفهما النظام في رؤية الأعراض ولمسها والألوان فقال إنها جسم يمكن رؤيته. أما عن الخلق: فقد قال العلاف إن خلق الشيء غير الشيء نفسه، وإن عادة الخلق غير الشيء المعاد، وإن إرادة الخلق غير الشيء المخلوق، وخالفه النظام فقال: بل الخلق هو نفس الشيء، وإرادة الشيء المخلوق هي الشيء المخلوق إلا إن كانت أمرا فهي غيره (6). المصدر: المعتزلة بين القديم والحديث لمحمد العبده وطارق عبد الحليم – ص 101   (1) ((مذاهب الإسلاميين)) لبدوي (133). (2) ((الفرق بين الفرق)) (121). (3) ((مقالات الإسلاميين)) (2/ 8). (4) ((مذاهب الإسلاميين)) لبدوي (182). (5) ((مذاهب الإسلاميين)) لبدوي (190). (6) ((مذاهب الإسلاميين)) لبدوي (191). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 المبحث الثاني: التطور السياسي للمعتزلة • المطلب الأول: نشأة الفرقة وتكونها في العصر الأموي . • المطلب الثاني: المعتزلة في العصر العباسي. • المطلب الثالث: المعتزلة بعد المتوكل. • المطلب الرابع: المعتزلة في عصر البويهيين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 المطلب الأول: نشأة الفرقة وتكونها في العصر الأموي بدأت المعتزلة كفرقة مستقلة في أبان قوة الدولة الأموية في الشام. وقد كان لشيوخ الفكر الاعتزالي الأوائل من القدرية والجهمية دور كبير في كثير من الحركات التي خرجت على تلك الدولة فلقوا جزاء شديدا نتيجة ذلك الموقف المعادي للدولة الأموية، فقد خرج معبد الجهني - وهو أول من قال بالقدر - على عبد الملك بن مروان مع عبد الرحمن بن الأشعث في حركته التي كادت تقضي على حكم الأمويين، وقد قتله الحجاج بن يوسف الثقفي بعد فشل الحركة عام 80هـ. كذلك فقد خرج الجهم بن صفوان - الذي قال بنفي الصفات وخلق القرآن - مع الحارث بن سريج على بني أمية، فقتله سالم بن أحوز في مرور عام 128هـ بعد فشل الحركة (1). أما غيلان الدمشقي فقد جرت بينه وبين عمر بن عبد العزيز مناقشات بشأن القدر فأمسك غيلان عن الكلام فيه حتى مات عمر ثم أكمل بدعته حتى قتله هشام بن عبد الملك. وأما الجعد بن درهم فقد قتله خالد بن عبد الله القسري - والي الكوفة - بعد استفحال أمره حيث صعد المنبر في الأضحى وقال: "ارجعوا فضحوا تقبل الله منكم فإني مضح بالجعد بن درهم، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله علوا كبيرا عما يقول ابن درهم، ثم نزل فذبحه" (2).وقد أظهر واصل بن عطاء (م131هـ) (3) القول بالمنزلة بين المنزلتين بعد ذلك في البصرة واعتزل حلقة الحسن البصري، ونشأت حوله الفرقة، وأظهر القول بالقدر ونفي الصفات متابعا معبد الجهني والجهم، وتابعه على ذلك عمرو بن عبيد (م 143هـ). وقد كان للمعتزلة دور ونشاط في نشر دعوتهم إبان الدولة الأموية إذ إن يزيد بن الوليد الخليفة الأموي الملقب بيزيد الناقص قد قال بقولهم في القدر بل وقرب إليه أصحاب غيلان الدمشقي وقد ساعدته المعتزلة في الظفر بالخلافة والقضاء على الخليفة الذي سبقه الوليد بن يزيد بن عبد الملك. كما أن الجعد بن درهم كان مربيا لآخر خلفاء الدولة الأموية مروان بن محمد حتى أنه لقب بمروان الجعدي نسبة إليه. وكان لواصل فضل كبير في نشر دعوة الاعتزال حيث إنه أرسل دعاته إلى كافة البلدان، فبعث عبد الله بن الحارث إلى المغرب، وحفص بن سالم إلى خراسان، والقاسم إلى اليمن، والحسن بن ذكوان إلى الكوفة، وعثمان الطويل - شيخ العلاف - إلى أرمينية (4). وقد كان لهؤلاء الدعاة بعض الأثر نتيجة هذا النشاط، وإن كان بعض من أرخ لهم قد غالى في عددهم، وذلك أن دعوة هؤلاء دعوة عقلية تحمل معاني الفلسفة وألفاظها، فهي بعيدة عن عقول العوام، وليس من السهل الاستجابة إليها في أوساطهم، وإن استجاب لها بعض الشعراء أو الأدباء أو الخلفاء فإن ذلك لا يعني أنها كانت ذات انتشار واسع بين عوام الناس، ثم يجب أن لا يغيب عن البال أن الأئمة من أهل السنة كانوا أكثر عددا وأقوى حجة وأظهر مقالا، فكانوا دائما يحمون العامة من السقوط في هذه المزالق كما فعل الإمام مالك بمن سأله عن آية الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى إذ أمر بطرحه خارج المسجد على مسمع ومرأى من العامة.   (1) ((ضحى الإسلام)) (2/ 162). (2) ((عقائد السلف)) للنشار (118) عن كتاب ((خلق أفعال العباد)) للبخاري. (3) ((المنية والأمل)) (139)، ((لسان الميزان)) (6/ 214). (4) ((المنية والأمل)) (141). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 المطلب الثاني: المعتزلة في العصر العباسي يعتبر العصر العباسي الأول عصر ازدهار المعتزلة وعنفوانها، إذ عاش فيه معظم شيوخ مدرسة البصرة وبغداد. وقد عاصر عمرو بن عبيد أبا جعفر المنصور العباسي وكان على صلة به حتى إنه لما خرج محمد بن عبد الله بن الحسن الملقب بالنفس الزكية على أبي جعفر المنصور، بعث برسالة إلى عمرو بن عبيد ليستعين به على قتال المنصور فأبى واستوثق المنصور بنفسه من عدم مساندة عمرو للنفس الزكية في حركته. أما في عهد الرشيد فقد لقي المعتزلة متاعب جمة نظرا لكراهية الرشيد لمبادئهم، فقد نهى عن الكلام وأمر بحبس المتكلمين، وحبس العتابي الشاعر وثمامة بن أشرس المعتزلي، ثم اتخذه بعد ذلك نديما له وإن لم يتأثر بمذهبه، كما توعد بشرا المريسي فظل مختفيا طوال خلافة الرشيد، كذلك فقد كان يقتل من يقول بخلق القرآن جهارا (1). ثم لما انتهى الأمر إلى المأمون العباسي زين له بشر المريسي الاعتزال فاعتنقه (2)، كما قرب منه ثمامة بن أشرس حتى أصبح لا يبرم أمرا دونه، بل إنه أصبح يرشح له وزراءه، فرشح له أحمد بن أبي خالد ثم من بعده يحيى بن أكثم، وعن طريقه تعرف المأمون بأحمد بن أبي دؤاد أحد رؤوس بدعة الاعتزال في عصره، وقد صار أحمد هذا رأسا في فتنة خلق القرآن وقاضيا للقضاة في عهد المعتصم (3). وكان المأمون في أول أمره بين اتجاهين: أولهما إظهار الاعتزال علنا، وكان يشجعه على ذلك ثمامة وأحمد بن أبي دؤاد حتى إنه كاد أن يأمر بلعن معاوية على المنابر إلا أن يحيى بن أكثم قاضيه ويزيد بن هارون وزيره كانا يمنعانه من هذا حتى مات يزيد بن هارون، وعزل يحيى بن أكثم عن منصبه، فخلا الجو لثمامة وأحمد بن أبي دؤاد، فأظهر المأمون بدعة الاعتزال، وحمل الناس عليها، فكانت المحنة التي أطلق عليها محنة خلق القرآن. ويظهر أن المأمون كان سريع التقلب والتغير في آرائه، فهو قد نادى - قبل ذلك - بتفضيل علي على أبي بكر وعمر، بل بايع من بعده لإمام أهل البيت في عصره وهو علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق، وخلع السواد شعار العباسيين ولبس الخضرة لباس العلويين وذلك في عام 201هـ، ثم لما مات علي الرضا رجع عن البيعة لآل البيت (4)، يقول ابن كثير عنه: "كان فيه تشيع واعتزال وجهل بالسنة الصحيحة" (5). والصلة بين التشيع والاعتزال وثيقة كما سيتبين بعد، وقد سار على منهج الاعتزال بعد المأمون المعتصم ثم الواثق من بعده، وقد بدأت فتنة خلق القرآن في عهد المأمون عام 218هـ. فتنة خلق القرآن قرر الخليفة المأمون في تلك السنة الإعلان عن عقيدته في خلق القرآن وحمل الناس على القول بذلك، وبدأ في امتحان الفقهاء والقضاة والعلماء بشأنها، وأن يجعلهم يصرحون باعتقادها، فأمر نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم أن يمتحن من عنده فمن أقر تركه في منصبه ومن خالف عزله وقطع عنه راتبه من بيت المال، وقد امتنع إمام أهل السنة أحمد بن حنبل من الخضوع لهذا التهديد وآثر حمل أمانة الحق والاستعلاء بها، ففي مثل هذه المواقف تكون العزيمة هي الأولى، ويكون الاستعلاء بالحق هو شيمة الرجال الذين يتخذهم الله سبحانه شهداء على الناس، وحجة قائمة على البشر ونورا وهداية للمسلمين. بعث المأمون إلى بغداد لإحضار من امتنع من العلماء من الإقرار ببدعته وكانوا ثلاثة غير الإمام أحمد بن حنبل هم محمد بن نوح والحسن بن حماد وعبيد الله بن عمرو القواريري.   (1) ((البداية والنهاية)) (10/ 215). (2) ((البداية والنهاية)) (10/ 275). (3) ((البداية والنهاية)) (10/ 249). (4) ((البداية والنهاية)) (10/ 273). (5) ((البداية والنهاية)) (10/ 273). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 وقد استجاب للتهديد بعد ذلك الحسن بن حماد وعبيد الله بن عمرو، ولم يصمد إلا الإمام أحمد ومحمد بن نوح فحملا معا إلى بغداد. وفي الطريق بلغهم موت المأمون وتولى المعتصم من بعده، فعادوا إلى بغداد، وفي الطريق مات محمد بن نوح، وصلى عليه الإمام أحمد ثم أودع السجن عند بلوغه بغداد، وبقي فيه لمدة عامين ونصف. ومازال أحمد بن أبي دؤاد يؤلب المعتصم على الإمام أحمد حتى أمر بإحضاره إليه، وناظره أحمد بن أبي دؤاد فأفحمه الإمام، ولكن الهوى والبدعة تغلبا بالباطل، فالتجئوا إلى إغراء الخليفة بأن مركزه سيتزعزع أمام العامة إن عرف أن الإمام هزم خليفتين، وعندها أمر المعتصم بضربه ثمانين سوطا حتى تمزق لحمه ثم أعيد إلى منزله حيث أقام فيه لا يفارقه طيلة خلافة المعتصم ثم ابنه الواثق حتى انتقلت الخلافة إلى المتوكل ابن المعتصم. وممن ابتلي واستشهد في سبيل الحق في عهد الواثق أحمد بن نصر المروزي وكان من رجال العلم والدين وذوي المروءة والأخلاق، وكان على السنة في القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق فامتحنه الواثق بعد أن دبر أحمد بن نصر الثورة عليه بسبب بدعته وضلالته ولكنه فشل وأخذوه إلى الواثق حيث قتله بيده عام 231هـ (1).   (1) ((البداية والنهاية)) (10/ 303)، ((في أخبار المحنة)) (10/ 330). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 المطلب الثالث: المعتزلة بعد المتوكل لما تولى المتوكل الخلافة عام 232هـ أظهر الانتصار للسنة فأمر "بالمنع من الكلام في مسألة الكلام والكف عن القول بخلق القرآن وأن من تعلم علم الكلام لو تكلف فيه فالمطبق مأواه إلى أن يموت. وأمر الناس أن لا يشتغل أحد إلا بالكتاب والسنة لا غير" (1)، كما "أمر أهل الذمة أن يتميزوا عن المسلمين في لباسهم وعمائمهم وثيابهم" (2) كما أمر في عام 236هـ "أن يهدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب وما حوله من الدور" ومنع الناس من زيارة الموضع وجعله مزرعة تحرث وتستغل (3).كما أمر بإكرام الإمام أحمد إكراما عظيما (4) وقتل محمد بن عبد الملك بن الزيات الذي سعى في قتل أحمد بن نصر ومحنة الإمام أحمد وأمر بدفن جثمان أحمد بن نصر – الذي كان مازال معلقا مصلوبا منذ قتله الواثق! – بالاحترام اللائق. وهكذا انتهت تلك السنون التي استطال فيها المعتزلة وسيطروا على السلطة وحاولوا فرض عقائدهم بالقوة والإرهاب خلال أربعة عشر عاما كاملة.   (1) ((البداية والنهاية)) (10/ 313). (2) ((البداية والنهاية)) (10/ 315). (3) ((البداية والنهاية)) (10/ 315). (4) ((البداية والنهاية)) (10/ 338). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 المطلب الرابع: المعتزلة في عصر البويهيين قامت دولة بني بويه في عام 334هـ في بلاد فارس، وكان مؤسسها علي بن بويه وأخواه من الديلم سكان جنوب غرب بحر قزوين، وقد انتشر الإسلام بينهم على يد داعية شيعي وهو الحسن بن علي الأطروش فنشأوا نشأة الرافضة وتبنوا فكرهم في إبان دولتهم، فكانت دولة رافضية وإن أبقت على علاقتها الظاهرة بخلفاء العباسيين السنيين لأغراض سياسية. وقد ظهرت العلاقة قوية بين الرافضة والمعتزلة في ظل هذه الدولة إلا أن تلك العلاقة كانت لها إرهاصات سابقة فأبو علي الجبائي (م303هـ) – والذي عده ابن المرتضى في الطبقة الثامنة للمعتزلة – قد رد على كتاب عباد في تضليل أبي بكر، بينما سكت عن كتاب الإسكافي المسمى (المعيار والموازنة) في تفضيل علي على أبي بكر (1)، والإسكافي (م240هـ) من رؤوس المعتزلة وهو واضع ذلك الكتاب قبل الجبائي بزمن. وقد سبق أن ذكرنا أن المأمون كان فيه تشيع وأن ثمامة بن أشرس (م342هـ) أوعز إليه بلعن معاوية على المنابر. بل إن مصادر الشيعة والمعتزلة تذكر أن واصلا وعمرو بن عبيد قد أخذا عن عبد الله بن محمد وعبد الله أخذ عن محمد بن الحنفية (2)، وبالطبع فرواية نسبة الاعتزال إلى محمد بن الحنفية غير صحيحة ولكنها تبقى شاهدة على الأثر المتبادل بين الفكر الشيعي والاعتزال. كذلك فقد روى الشهرستاني ما يؤكد هذا الأثر عندما ذكر أن زيد بن علي بن الحسين "تتلمد لواصل بن عطاء الغزال الألثغ رأس المعتزلة ورئيسهم. . وصارت أصحابه كلهم معتزلة" (3).ومن أظهر ما كان من علاقة الرافضة بالبويهيين والمعتزلة هو تعيين القاضي عبد الجبار رأس المعتزلة في عصره قاضيا لقضاة الري عام 360هـ والذي ولاه هو الصاحب بن عباد وزير مؤيد الدولة البويهي، يقول ابن المرتضى – الرافضي المعتزلي – صاحب المنية والأمل عنه: "وإليه انتهت الرياسة في المعتزلة حتى صار شيخها وعالمها غير مدافع" (4).وكان الصاحب بن عباد يقول فيه: "إنه أفضل أهل الأرض" (5) والصاحب هذا كان من الروافض المعتزلة، يقول فيه الذهبي: "وكان شيعيا معتزليا مبتدعا" (6). ويقول المقريزي: "إن مذهب الاعتزال فشا تحت ظل الدولة البويهية في العراق وخراسان وما وراء النهر".وقد عدد ابن المرتضى في طبقات المعتزلة العديد من الرافضة المعتزلة في ذلك العهد منهم الشريف المرتضى الذي عده في الطبقة الثانية عشر (7) وقد قال عنه الذهبي: "وكان من الأذكياء الأولياء! المتبحرين في الكلام والاعتزال والأدب والشعر لكنه إمامي جلد" (8)، كذلك عد من الطبقة الحادية عشرة أبا عبد الله الداعي، ويحيى بن محمد العلوي وقال عنه: "وكان إماميا" (9). وبهذا فقد ارتفع شأن الاعتزال مرة أخرى على أيدي الراوفض وفي ظل الدولة الرافضية البويهية. المطلب الخامس: انحلال الاعتزال كفرقة وذوبانها في الفرق الأخرى منذ بدأ التزاوج بين الرفض والاعتزال، بدأت معالم ذوبان الاعتزال في التشيع، فالرافضة قد تأثروا بمناهج الفكر الاعتزالي بشكل قوي، فنقلوه وهضموه خاصة في مسائل الصفات والقدر، كذلك في محاولتهم الإيهام بتعظيم دور العقل، رغم أن أصل مذهبهم يقوم على أمور غير معقولة – كالإمام الغائب الذي ينتظرون رجعته كل ليلة! – وكذلك تبني المعتزلة تدريجيا فكر الشيعة المنحرف ليضمنوا القوة والاستمرار في ظل دول الرافضة فذاب الاعتزال في التشيع وانتهت المعتزلة كفرقة مستقلة منذ ذلك الحين – والحمد لله تعالى – كذلك فإن طريقة العرض الاعتزالية قد عاشت من خلال المنهج الأشعري، فالأشاعرة رغم خلافهم للمعتزلة إلا أنهم تابعوهم في طرق بحثهم ومنهاج تفكيرهم فكان ذلك امتدادا للنهج الكلامي الاعتزالي حتى يومنا هذا. المصدر: المعتزلة بين القديم والحديث لمحمد العبده وطارق عبد الحليم – ص 114   (1) ((المنية والأمل)) (173). (2) ((طبقات المعتزلة)) (18). (3) ((الملل والنحل)) (2/ 155). (4) ((المنية والأمل)) (194). (5) ((المنية والأمل)) (11). (6) ((سير أعلام النبلاء)) (16/ 512). (7) ((المنية والأمل)) (198). (8) ((سير أعلام النبلاء)) (17/ 589). (9) ((المنية والأمل)) (195). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 المبحث الأول: وظيفة العقل في الإسلام ليس ثمة عقيدة تقوم على احترام العقل الإنساني وتعتز به وتعتمد عليه في ترسيخها كالعقيدة الإسلامية. وليس ثمة كتاب أطلق سراح العقل وغالي بقيمته وكرامته كالقرآن الكريم كتاب الإسلام بل إن القرآن ليكثر من استثارة العقل ليؤدي دوره الذي خلقه الله له. ولذلك نجد عبارات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة: 73] ولِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس: 24] ولِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ [الأنعام: 98] ونحوها تتكرر عشرات المرات في السياق القرآني لتؤكد النهج القرآني الفريد في الدعوة إلى الإيمان وقيامه على احترام العقل. ولقد أبرز الإسلام مظاهر تكريمه للعقل واهتمامه به في مواضع عدة نذكر منها. أولا- قيام الدعوة إلى الإيمان على الإقناع العقلي: فلم يطلب الإسلام من الإنسان أن يطفئ مصباح عقله ويعتقد بل دعاه إلى إعمال ذهنه وتشغيل طاقته العقلية في سبيل وصولها إلى أمور مقنعة في شؤون حياتها وقد وجه الإسلام هذه الطاقة بتوجيهات عدة لتصل إلى ذلك: 1 - فوجهها إلى التفكر والتدبر. أ- في كتابه. كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ [ص: 29] أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء: 82]. أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24] ثم يستثير العقل الإنساني ويتحداه أن يأتي بمثل هذا القرآن حتى إذا ما أدرك عجزه عرف أنه من عند الله قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [هود: 13] فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ [الطور: 34]. ب- وفي مخلوقاته: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 191] أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ [الروم: 8] أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية: 17 - 20]. ثم يتحدى العقل بحواسه أن يجد خللاً في شيء منها ليزداد بعد عجزه إيماناً وتسليماً الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك: 3 - 4]. ج- وفي تشريعاته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 179] وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 184].فأمر بالتفكر في تلك التشريعات لتحري الحكمة فيها لأن الحياة لا تسير آلية بحيث تنطبق عليها القاعدة التشريعية إنطباقاً آلياً وإنما هناك مئات من الحالات للقاعدة الواحدة وما لم يكن الإنسان مدركاً للحكمة الكامنة وراء التشريع وفاهماً لترابط التشريعات في مجموعها فلن يتمكن من تطبيقها في تلك الحالات المختلفة التي تعرض للبشر في حياتهم الواقعية وقد عني الإسلام بإيقاظ العقل لتدبر هذه التشريعات ليستطيع تطبيقها على خير وجه (1). د- وفي أحوال الأمم الماضية وما أدت بهم المعاصي إليه. قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الأنعام: 11] أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [الأنعام: 6]. هـ- وفي الدنيا ونعيمها الزائل: وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا [الكهف: 45]. وهذا التأمل والتدبر ليس هو المقصود لذاته وإنما ليؤدي ثمرة نافعة لا أعني بها فلسفة يتشدق بها الفلاسفة ويتبارون في إغماض الكلام فيها وإبهامه ثم لا ينتهون إلى شيء وإنما أعني بها الإصلاح ... إصلاح القلب ... إصلاح العقيدة ... إصلاح الحياة في الأرض على منهج الدين الصحيح. 2 - ووجه الإسلام الطاقة العقلية لمراقبة نظام الحياة الاجتماعية مراقبة توجيه وإصلاح لتسير الأمور على منهج صحيح وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [عمران: 104]. وحمل المسؤولية كحل فرد من أفراد المجتمع وهدده بالعقاب إذا علم ولم يصلح ولو كان صالحا في نفسه وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً [الأنفال: 25] لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة: 78 – 79].وقال صلى الله عليه وسلم ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) (2). ثانياً: ولم يقسر الإسلام بعد هذا العقل على الإيمان وإنما ترك له الخيار بين الإيمان والكفر لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة: 256] وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29] أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ [يونس: 99] فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: 21 - 22] فلم يكره الإسلام العقل على الإيمان. ثالثاً:   (1) ((منهج التربية الإسلامية)) محمد قطب (ص 104). (2) رواه البخاري (893) , ومسلم (1829) , من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 وحرص على قيام العلاقة بين العبد وربه على الوضوح العقلي في العقيدة والشريعة وعدم تقييده له بعد اقتناعه وإيمانه بالرهبانية فلا رهبانية في الإسلام لما فيها من تقييد للعقل فضلاً عن الغرائز والحواس ولما فيها من تعطيل للطاقة والقوى البشرية والمخالفة لنظام الحياة مخالفة تقضي بالفناء على البشرية فيما لو اعتنق الناس الترهب والانعزال دينا. رابعاً: ومن مظاهر تكريم الإسلام للعقل نعيه على المقلدين الذين لا يعلمون أذهانهم وحذر من التقليد الأعمى والتعصب الأصم لنظريات واهية وآراء زائفة ناشئة عن الخرافات والأهواء وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ [البقرة: 170] أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا [هود: 87] فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ [هود: 109]. وأمر بالتثبث في كل أمر قبل الاعتقاد به واقتفائه وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء: 36]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6]. خامساً: ومن مظاهر تكريم الإسلام للعقل أمره بالتعلم والحث على ذلك فكما أن نمو الجسم بالطعام فإن نمو العقل بالعلم إذ بهذا يكون الإيمان عن إدراك أوسع وفهم أعمق واقتناع أتم بل قرن سبحانه ذكر أولى العلم بذكره عز وجل وذكر ملائكته شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 18] إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء [فاطر: 28] يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11]. وجعل العلم مشاعا لأنه غذاء العقل الذي به ينمو إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 159 - 160]. لذا لم يعرف الإسلام "رجل الدين" الذي يحتكر علومه ويعطي صكوك الغفران ويملك التحليل والتحريم ولكنه يعرف فكرة "عالم الدين" الذي يرجع إليه لمعرفة حكم الله فيما اشتبه على الناس من أمور دينهم مستنداً إلى دليل معتبر شرعاً من غير إلزام إلا بحجة قطعية من كتاب أو سنة أو إجماع مسلم به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 سادساً: ومن ذلك إسناده استنباط الأحكام فيما لا يوجد فيه نص من كتاب أو سنة أو إجماع إلى العقل وما حديث معاذ عنا ببعيد حين بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضياً قال: ((كيف تقضي يا معاذ؟ قال بكتاب الله قال: فإن لم تجد قال بسنة رسول الله قال فإن لم تجد قال اجتهد برأيي ولا آلو فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله)) (1) فجعل من اجتهاد العقل أساساً للحكم وقاعدة للقضاء عند فقدان النص. سابعاً: ومنها الأمر بتكريمه والمحافظة عليه والنهي عن كل ما يؤثر في سيره أو يغطيه فضلاً عما يزيله. فحرم ذلك شرب الخمر إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: 90] وحرم كل مسكر ((كل مسكر خمر وكل مسكر حرام)) (2). كل هذا حفاظاً على العقل وعلى بقائه. وجعل الدية كاملة على من تسبب في إزالته عن آخره قال ابن قدامة "لا نعلم في هذا خلافاً وقد روي عن عمر وزيد رضي الله عنهما وإليه ذهب من بلغنا قوله من الفقهاء وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم ((وفي العقل الدية)) (3) ولأنه أكبر المعاني قدراً وأعظم الحواس نفعاً فإن به يتميز من البهيمة ويعرف حقائق المعلومات ويهتدي إلى مصالحه ويتقي ما يضره ويدخل به في التكليف وهو شرط في ثبوت الولايات وصحة التصرفات وأداء العبادات فكان بإيجاب الدية أحق من بقية الحواس" (4).   (1) رواه أبو داود (3592) من حديث أناس من أهل حمص والترمذي (1327) من حديث رجل من أصحاب معاذ سكت عنه أبو داود , وقد قال في ((رسالته لأهل مكة)) كل ما سكت عنه فهو صالح. وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده عندي بمتصل. وضعفه الألباني في ((ضعيف أبي داود)) (3592). (2) رواه مسلم (2003) , من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. (3) قال الحافظ في ((التلخيص)): حديثه في العقل الدية ليس هذا في نسخة عمرو بن حزم لكن رواه البيهقي من حديث معاذ وسنده ضعيف. (4) ((المغني)) لابن قدامة (8 - 37). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 المبحث الثاني: مجال العقل في الإسلام ولكن الإسلام بعد هذا التكريم كله وذلك الاهتمام قد حدد للعقل مجالاته التي يخوض فيها حتى لا يضل. وفي هذا تكريم له أيضاً لأنه محدود الطاقات والملكات فلا يستطيع أن يدرك كل الحقائق مهما أوتي من قدرة وطاقة على الاستيعاب والإدراك لذا فإنه سيظل بعيداً عن متناول كثير من الحقائق وإذا ما حاول الخوض فيها التبست عليه الأمور وتخبط في الظلمات وفي هذا مدعاة لوقوعه في كثير من الأخطاء وركوبه متن العديد من الأخطار. فأمر الإسلام العقل بالاستسلام والإمتثال للأمر الشرعي الصريح حتى ولو لم يدرك الحكمة والسبب في ذلك وقد كانت أول معصية لله ارتكبت بسبب عدم هذا الامتثال فحينما أمر الله سبحانه وتعالى إبليس بالسجود لآدم عليه السلام استكبر وعصى واستبد برأيه فقارن بين خلقه وخلق آدم عليه السلام قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [ص: 76] فلم يمتثل للأمر طلباً للسبب الذي يسجد لأجله الفاضل للمفضول حسب رأيه فلما لم يدرك عقله السبب رفض الامتثال فكانت المعصية وكانت العقوبة. لذا منع الإسلام العقل من الخوص فيما لا يدركه ولا يكون في متناول إدراكه كالذات الآلهية والأرواح في ماهيتها ونحو ذلك فقال عليه الصلاة والسلام ((تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله)) (1) وقال صلى الله عليه وسلم ((لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل آمنت بالله)) (2). وعن الروح قال تعالى وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85] فصرف الجواب عن ماهيتها لأنه ليس من شؤون العقل السؤال عنها ولا من مداركه. وكذلك الجنة ونعيمها والنار وجحيمها وكيفية ذلك وغيرها من الغيبيات التي ليست في متناول العقل ومداركه. وعلى هذا مضى المسلمون في العصر الأول من الإسلام عرفوا ما للعقل فدرسوه وحفظوه وما ليس له فاجتنبوه بل اجتنبوا من عرف بالأهواء والسؤال عن المتشابه فهذا "صبيغ بن عسل جعل يسأل عن متشابه القرآن في أجناد المسلمين حتى قدم مصر فبعث به عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فلما أتاه الرسول بالكتاب فقرأه قال: أين الرجل؟ أبصر لا يكون ذهب فتصيبك مني العقوبة الوجيعة. فأتى به. فقال عمر: سبيل محدثه فضربه وأعاده إلى أرضه وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين قال أبو عثمان النهدي فلو جاءنا ونحن مئة لتفرقنا عنه (3).ولا يعني هذا أن العصر الإسلامي كان خالياً كل الخلو من الآراء الشاذة بل وجد في وقته عليه الصلاة والسلام ولكن كان لوجوده صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي حينئذ القضاء على تلك الآراء في مهدها فالمنافقون قالوا يوم أحد عن إخوانهم لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ [آل عمران: 156] فهل هذا إلا تصريح بإنكار القدر (4).وقالت طائفة من المشركين لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ [النحل: 35] فهل هذا إلا تصريح بالجبر (5). بل إن منهم من جادل في ذات الله وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد: 13]. ولكن هذه الآراء لم يتبنها أصحابها ويدعوا لها ويؤلفوا عنها وينشروها بين الناس بل كانت تنطفئ في مهدها كما ذكرنا. المصدر: منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير لفهد الرومي - ص 29   (1) رواه الطبراني في ((الأوسط)) (6319) والبيهقي في ((االشعب)) (1/ 107) قال ابن عدي في ((الكامل)) (8/ 385): (فيه) الوازع بن نافع عامة ما يرويه غير محفوظ. وقال البيهقي: في إسناده نظر. (2) رواه مسلم (134) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) ((تهذيب تاريخ ابن عساكر)): هذبه عبدالقادر بن أحمد الدومي المعروف بابن بدران (6/ 385). (4) ((الملل والنحل)) للشهرستاني ت محمد سيد كيلاني الجزء الأول (ص22). (5) ((الملل والنحل)) للشهرستاني ت محمد سيد كيلاني الجزء الأول (ص22). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 المبحث الثالث: نشأة الفرق العقلية وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام وانقطاع الوحي بدأ بعض الأفراد بنشر بعض هذه المذاهب الباطلة فهذا معبد بن خالد الجهني أول من تكلم في القدر (1) فقال "لا قدر والأمر أنف" (2) وقد أخذ ذلك من رجل نصراني من أهل العراق أسلم ثم تنصر اسمه "أبو يونس سنسويه" من الأساورة (3).وقد أخذ عن معبد هذا غيلان الدمشقي (4) وهو الذي نشره بين المسلمين وقتل من أجله وقد أنكر عليهم مذهبهم هذا وتبرأ منهم المتأخرون من الصحابة كعبد الله بن عمر وجابر بن عبدالله وأبي هريرة وابن عباس وأنس ابن مالك وعبدالله بن أبي أوفى وعقبة بن عامر الجهني (5).وأساس فكرة القدرية إنكار القدر وإن للإنسان مطلق الحرية في أفعاله لا سلطان لأحد على إرادته وعلى النقيض من ذلك نشأت فرقة أخرى تقول بأن الإنسان مجبور في أفعاله لا اختيار له ولا قدرة كالريشة المعلقة في الهواء ... وتسمى تلك الفرقة بالجبرية. ونشأت فرق أخرى كثيرة بعد هذا كان من أهمها: فرقة المعتزلة التي أخذت برأي معبد الجهني (6) من إنكار القدر وأضافت إليه آراء أخرى سنذكرها فيما بعد. ولم تزل العلوم العقلية تنمو وتتسع مع توسع الفتوح الإسلامية وكثرة ترجمة كتب البلاد المفتوحة فتعددت المشارب وتنافست تلك الفرق على المناظرات فيما بينهم والجدل. فإذا علماؤهم لا يتحدثون إلا عن المنطق وحدوده وقضاياه وأقيسته فألفت الكتب وعقدت المناظرات وكثرت المناقشات والمجادلات فإذا بمؤلفاتهم تغص بالمصطلحات الفنية كالجوهر والعرض والهيولي والصورة والقياس والقضايا السالبة والموجبة وقاوم هذا بعض أئمة المسلمين ممن لم يكن له اطمئنان إلى هذه الفلسفة وإلى ألفاظها ومصطلحاتها (7) ولكي ندرك مقام العقل في خضم هذه المعارك العلمية ينبغي لنا أن نقول أن العقل لم يسلم من مذهب التضاد الذي ساد بين تلك الفرق فذهبت فرقة إلى امتهان العقل واحتقاره واعتقدوا في بعض البله – مع تركه لمتابعة الرسول في أقواله وأفعاله وأحواله – أنه من الأولياء وفضلوهم على متبعي طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم (8).واستدلوا لمذهبهم هذا بما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ((اطلعت على الجنة فرأيت أكثر أهلها البله)) (9) وبحديث ((أكثر أهل الجنة البله)) (10) وفي هذا قال شاعرهم: هم معشر حلوا النظام وخرقوا السـ ... ياج فلا فرض لديهم ولا نفل مجانين إلا أن سر جنونهم ... عزيز على أبوابه يسجد العقل   (1) ((الخطط المقريزية)): تقي الدين أحمد بن علي المقريزي (4/ 181) و ((الميزان)) للذهبي (4/ 141) و ((تهذيب التهذيب)) لابن حجر (10/ 235 - 236). (2) ((تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري)): لابن عساكر الدمشقي (ص10). (3) ((الخطط المقريزية)): تقي الدين أحمد بن علي المقريزي (4/ 181) و ((الميزان)): للذهبي (4/ 141) و ((تهذيب التهذيب)) لابن حجر (10/ 235 - 236). (4) ((تهذيب التهذيب)): لابن حجر (1/ 236). (5) ((الفرق بين الفرق)) عبدالقاهر البغدادي (ص15). (6) ((الفرق بين الفرق)): عبدالقاهر البغدادي (ص98). (7) ((الفكر الإسلامي بين الأمس واليوم)) ت محجوب بن ميلاد (ص 86). (8) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص573). (9) رواه ابن عدي في ((الكامل)) (1/ 315) وابن الجوزي في ((العلل المتناهية)) 2/ 934 من حديث جابر. قال ابن عدي: باطل بهذا الإسناد - فيه - أحمد بن عيسى الخشاب عن عمرو بن أبي سلمة. وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)). (10) رواه ابن عدي في ((الكامل)) (4/ 329) والبيهقي في ((الشعب)) (2/ 581) قال ابن عدي بهذا الإسناد منكر. وكذلك قال البيهقي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 ويجيبنا الغزالي عن سبب ذمهم للعقل "فإن قلت فما بال أقوام من المتصوفة يذمون العقل والمعقول فاعلم أن السبب فيه أن الناس نقلوا اسم العقل والمعقول إلى المجادلة والمناظرة بالمناقضات والإلزامات وهو صنعة الكلام فلم يقدروا على أن يقرروا عندهم أنكم أخطأتم في التسمية إذ كان ذلك لا ينمحي عن قلوبهم بعد تداول الألسنة به ورسوخه في القلوب فذموا العقل والمعقول وهو المسمى به عندهم" (1). ولعل بطلان مذهب هذه الفرقة ظاهر إذ أنها لا تستند إلى شرع ولا إلى عقل وإلى هذا يرجع فيما أرى سبب عدم اشتهارها فلذا لم يهتم بها أحد من العلماء. أما أنها لا تستند إلى شرع فإن جل ما استندوا إليه الحديثان السابقان وهما ضعيفان أما الأول فلأن في سنده مصعب بن ماهان قال في التقريب (2) صدوق عابد كثير الخطأ، وفيه أيضاً أحمد بن عيسى الخشاب قال ابن عدي له مناكير ثم ساق له هذا الحديث. أما الحديث الثاني فقال ابن عدي منكر (3) وقال المناوي "ووجه ضعفه ما قاله الهيتمي أن فيه سلامة بن روح وثقه ابن حبان وغيره وضعفه أحمد بن صالح وغيره وقال ابن الجوزي "لا يصح" وقال الدراقطني تفرد به سلامه عن عقيل وهو ضعيف" (4).ثم إنه لا يراد بالأبله – الذي لا عقل له – بل المراد به الغافل عن الشر المطبوع على الخير (5). وأما أنها لا تستند إلى عقل فلمنافاتها له وإسقاطها لقيمته. وكما قلنا أن بطلان مذهب هذه الفرقة ظاهر لا يحتاج إلى طويل جدال وإنما ذكرته لإعطاء صورة عن تفاوت المذاهب في تلك الفترة في كل أمر مهما كان وضوح الحق فيه. هذا ما ذهبت إليه تلك الفرقة. وذهبت فرق أخرى إلى المبالغة في تقديس العقل وإعطائه أكثر من حقه في مقابلة الأمور والاعتقادات الشرعية. وأكثر من اشتهر عنها هذه الطريقة فرقة "المعتزلة" حتى أطلق عليهم المستشرقون اسم "العقليين" (6) لذا فإني أعتبر هذه المدرسة المدرسة العقلية الأولى – كما ذكرنا سابقا – وهي المدرسة العقلية القديمة بالنسبة للمدرسة العقلية الحديثة موضوع بحثنا. نظراً للصلة بين المدرستين ينبغي لنا أن نلم بالقديمة دراسة تاريخها وأصولها ومناهجها حتى يتسنى لنا أن نعرف مدى ارتباط المدرستين ببعض وجوه الشبه ووجوه الاختلاف بينهما. المصدر: منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير لفهد الرومي - ص 40   (1) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (1/ 94). (2) ((تقريب التهذيب)) بن حجر العسقلاني ت عبدالوهاب عبداللطيف (2/ 252). (3) ((فيض القدير شرح الجامع الصغير)) للمناوي (2/ 79). (4) ((فيض القدير شرح الجامع الصغير)) للمناوي (2/ 79). (5) ((المصنوع في معرفة الحديث الموضوع)) علي القاري الهروي (ص31). (6) ((ضحى الإسلام)) أحمد أمين (3/ 89). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 المبحث الرابع: مفهوم العقل عند المعتزلة أما عند أصحابنا من علماء الكلام (وأعني بهم المعتزلة خاصة) فكيف تطورت أحوالهم حتى ضاهوا الشرع بعقولهم وجعلوه حاكماً على النصوص لا محكوماً لها؟ فأقول: (لما ظلمت الأرض وبعد عهد أهلها بنور الوحي وتفرقوا في الباطل فرقاً وأحزاباً لا يجمعهم جامع ولا يحصيهم إلا الذي خلقهم فإنهم فقدوا نور النبوة ورجعوا إلى مجرد العقول فكانوا كما قال صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه أنه قال: ((إني خلقت عبادي حنفاء وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمتْ عليهم ما أحللتُ لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)) (1). فكان أهل العقول كلهم في مقته إلا بقايا متمسكين بالوحي فلم يستفيدوا بعقولهم حين فقدوا نور الوحي إلا عبادة الأوثان أو الصلبان أو النيران أو الكواكب والشمس والقمر أو الحيرة والشك أو السحر أو تعطيل الصانع والكفر به فاستفادوا بها مقت الرب سبحانه لهم وإعراضه عنهم فأطلع الله شمس الرسالة في تلك الظلم سراجاً منيراً وأنعم بها على أهل الأرض في عقولهم وقلوبهم ومعاشهم ومعادهم نعمة لا يستطيعون لها شكوراً فأبصروا بنور الوحي ما لم يكونوا بعقولهم يبصرونه ورأوا في ضوء الرسالة ما لم يكونوا بآرائهم يرونه فكانوا كما قال الله تعالى: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ [البقرة: 257] وقال: (آلر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد) وقال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا [الشورى: 52] وقال تعالى: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا [الأنعام: 122] فمضى الرعيل الأول في ضوء ذلك النور لم تطفئه عواصف الأهواء ولم تلتبس به ظلم الآراء وأوصوا من بعدهم أن لا يفارقوا النور الذي اقتبسوه منهم وأن لا يخرجوا عن طريقتهم)) (2).فكان من شأن الصحابة أنهم لم يقدموا عقولهم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بل كان دليل أحدهم إذا استدل إنما هو آية من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فهذا أبو سعيد الخدري رضي الله عنه لما سمع بمقالة ابن عباس رضي الله عنهما الأولى في الربا – قبل أن يرجع عنها – وهي حديث (إنما الربا في النسيئة) قال أبو سعيد له (أرأيت هذا الذي تقول شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو وجدته في كتاب الله عز وجل؟) (3).   (1) رواه مسلم (2865) من حديث عياض بن جمار المجاشعي. (2) ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (3/ 1068). (3) رواه مسلم (1596). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 فهاتان هما الحجتان الملزمتان للناس عند الصحابة: كتاب من الله أو سنة من رسوله صلى الله عليه وسلم مصداقاً لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ [النساء:59] وكان أحدهم رضي الله عنهم يغضب إذا عورض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول غيره من البشر ولو كان من حكماء اليونان! فقد جاء في صحيح مسلم أن عمران بن حصين رضي الله عنه ذكر لأصحابه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الحياء لا يأتي إلا بخير, فقال أحدهم وهو بشير بن كعب أنه مكتوب في الحكمة أن منه وقاراً ومنه سكينة فقال عمران: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن صحفك! وفي رواية: فغضب عمران حتى احمرتا عيناه وقال: ألا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعارض فيه, قال فأعاد عمران الحديث. قال فأعاد بشير. فغضب عمران قال فمازلنا نقول فيه: إنه منا يا أبا نجيد إنه لا بأس به)) (1). قال النووي (وقولهم إنه منا لا بأس به معناه ليس هو ممن يتهم بنفاق أو زندقة أو بدعة أو غيرها مما يخالف به أهل الاستقامة).إذن فالصحابة لم يعارضوا ولم يرضوا بمعارضة حديث رسول صلى الله عليه وسلم بغيره من المعقولات، وإذا أشكل عليهم شيء من ذلك كانوا يوردون إشكالاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم فيجيبهم عنها وكانوا يسألونه عن الجمع بين النصوص التي يوهم ظاهرها التعارض، ولم يكن أحد منهم يورد عليه معقولاً يعارض النص البتة، ولا عرف فيهم أحد –وهم أكمل الأمم عقولاً – عارض نصاً بعقله يوماً من الدهر، وإنما حكى الله سبحانه ذلك عن الكفار، كما تقدم، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من نوقش الحساب عذب، فقالت عائشة: يا رسول الله، أليس الله يقول: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق:7 - 8]. فقال: بلى ولكن ذلك العرض ومن نوقش الحساب عذب)) (2)، فأشكل عليها الجمع بين النصين حتى بين لها صلوات الله وسلامه عليه أنه لا تعارض بينهما وأن الحساب اليسير هو العرض الذي لابد أن يبين الله فيه لكل عامل عمله، كما قال تعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]. حتى إذا ظن أنه لن ينجو نجاه الله تعالى بعفوه ومغفرته ورحمته فإذا ناقشه الحساب عذبه ولابد. ولما قال: صلى الله عليه وسلم ((لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة قالت له حفصة: أليس الله يقول: وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] قال: ألم تسمعي قوله تعالى ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:72])) (3) , فأشكل عليها الجمع بين النصين وظنت الورود دخولها كما يقال ورد المدينة إذا دخلها فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بأن ورود المتقين غير ورود الظالمين فإن المتقين يردونها وروداً ينجون به من عذابها والظالمين يردونها وروداً يصيرون جثياً فيها به. فليس الورود كالورود) (4)   (1) رواه البخاري (6117) , ومسلم (37). (2) رواه البخاري (6536) , ومسلم (2876). (3) رواه مسلم (2496) , من حديث أم بشر رضي الله عنها. (4) ((الصواعق)) (3/ 1052) .. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 إلى غير ذلك من مراجعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم (فلما كان في أواخر عصرهم حدثت الشيعة والخوارج، والقدرية والمرجئة، فبعدوا عن النور الذي كان عليه أوائل الأئمة، ومع هذا فلم يفارقوه بالكلية، بل كانوا للنصوص معظمين، وبها مستدلين، ولها على العقول والآراء مقدمين، ولم يَدَّع أحد منهم أن عنده عقليات تعارض النصوص، وإنما أتوا من سوء الفهم فيها، والاستبداد بما ظهر لهم منها، دون من قبلهم، ورأوا أنهم إن اقتفوا أثرهم كانوا مقلدين لهم فصاح بهم من أدركهم من الصحابة وكبار التابعين من كل قطر، ورموهم بالعظائم، وتبرءوا منهم، وحذروا من سبيلهم أشد التحذير، ولا يرون السلام عليهم ولا مجالستهم، وكلامهم فيهم معروف في كتب السنة، وهو أكثر من أن يذكر هاهنا، فلما كثرت الجهمية في أواخر عصر التابعين كانوا هم أول من عارض الوحي بالرأي، ومع هذا كانوا قليلين أولاً مقموعين مذمومين عند الأئمة، وأولهم شيخهم الجعد بن درهم، وإنما نفق عند الناس بعض الشيء لأنه كان معلم مروان بن محمد وشيخه ولهذا كان مروان يسمى مروان الجعدي وعلى رأسه سلب الله بني أمية الملك والخلافة وشتتهم في البلاد ومزقهم كل ممزق ببركة شيخ المعطلة النفاة، فلما اشتهر أمره في المسلمين، طلبه خالد بن عبد الله القسري، وكان أميراً على العراق، حتى ظفر به، فخطب الناس في يوم الأضحى، وكان آخر ما قال في خطبته: أيها الناس، ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً ثم نزل فذبحه في أصل المنبر، ثم طفئت تلك البدعة فكانت كأنها حصاة رمي بها، والناس إذ ذاك عنق واحد أن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه موصوف بصفات الكمال ونعوت الجلال وأنه كلم عبده ورسوله موسى تكليماً وتجلى للجبل فجعله دكاً هشيماً إلى أن جاء أول المائة الثالثة، وولي على الناس عبد الله المأمون، وكان يحب أنواع العلوم، وكان مجلسه عامراً بأنواع المتكلمين في العلوم، فغلب عليه حب المعقولات، فأمر بتعريب كتب اليونان، وأقدم لها المترجمين من البلاد، فعربت له، واشتغل بها الناس، والملك سوق ما سوق فيه جلب إليه، فغلب على مجلسه جماعة من الجهمية ممن كان أبوه الرشيد قد أقصاهم وتتبعهم بالحبس والقتل فحشوا بدعة التجهم في أذنه وقلبه فقبلها، واستحسنها، ودعا الناس إليها، وعاقبهم عليها)) (1). ومنذ ذلك الحين تميزت فرقة أهل الاعتزال بمغالاتها في العقل ومقاييسه وتقديمه على ما يظن مخالفاً له من النصوص الشرعية وعرفت بذلك بين فرق الإسلام المختلفة. والذي دعاهم إلى هذا الالتفاف حول العقل في ظني أمور كثيرة –والعلم عند الله تعالى- منها: أولاً: أخذهم من تراث الأولين من فلاسفة اليونان ممّن لم ينعموا بمصاحبة وحي إلهي يقود مسيرتهم فصاروا يقضون في شؤونهم كلها بهذا العقل الذي زادوا من سلطانه وانفراده فكانت مصنفات أولئك الفلاسفة تضم المقاييس العقلية في شكل منطق يتحاكم إليه في القضايا العقلية. فتابعهم في ذلك المتكلمون والمعتزلة من أهل الإسلام وأعجبوا بصنيعهم ذلك. وكل هذا بفضل جهود الترجمة التي قام بها بعض الخلفاء فأوقعوا الأمة في هذه المصائب المتتالية من حيث ظنوا أنهم يحسنون صنعاً بها.   (1) ((الصواعق)) (3/ 1069). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 ويشهد لذلك: أن المعتزلة لم يعلُ صيتهم وتظهر عقلانيتهم واضحة إلا في عهد الخليفة المأمون الذي مهّد السبيل للاقتباس من كتب اليونان وأعانهم عليها (1). حتى أحدثت الفلسفة – كما يقول زهدي حسين – (في حياتهم انقلاباً خطيراً وفي تفكيرهم ثورة عنيفة لأنهم بعد أن وقفوا على مواضيعها وتعمقوا فيها أحبوها لذاتها وتعلقوا بها فنتج عن ذلك أمران: أنهم صاروا يعظمون الفلاسفة اليونان وينظرون إليهم نظرة أسمى وأقدس من نظرتنا إليهم اليوم ويضعونهم في مرتبة تقرب من عتبة النبوة. ثم آمنوا بأقوالهم واعتبروها كما يقول أوليري مكملة لتعاليم دينهم. وانهمكوا لذلك في إظهار الاتفاق الجوهري بينها فبدأ عمل المعتزلة الآخر المهم ألا وهو التوفيق بين الدين الإسلامي وبين الفلسفة اليونانية .. ذلك العمل الذي تركوه لمن خلفهم من الفلاسفة المسلمين كابن رشد والفارابي والكندي الذين قاموا بنصيبهم فيه وكانوا لا يقلون عنهم عناية به وتحمساً له. أن المعتزلة أخذوا يبتعدون عن أهدافهم الدينية ويهملون تدريجياً عقائدهم اللاهوتية ويزدادون انصرافاً إلى المسائل الفلسفية حتى جاء وقت كادت جهودهم فيه تقتصر على البحث في مواضيع الفلسفة البحتة كالحركة والسكون والجوهر والعرض والموجود والمعدوم والجزء الذي لا يتجزأ إن اشتغال المعتزلة بالتوفيق بين الدين والفلسفة وشغفهم بالأبحاث الفلسفية وتعمقهم فيها جعلهم يتأثرون بالفلسفة كثيراً ويصبغون بها معظم أقوالهم. ولهذا قال شتينز: إن الاعتزال في تطوراته الأخيرة كان أكثره متأثراً بالفلسفة اليونانية)) (2). فإن قيل بأنهم قد سبقوا هذه الترجمة. فنقول إن ترجمة تراث الأقدمين ليست مقصورة على الخليفة المأمون ولكنه هو الذي تولى كِبْرها. فقد بدأت الترجمة كما يُذكر في عهد الخليفة المنصور الذي أوعز إلى ابن المقفع بترجمة بعض كتب المنطق ككتاب (المقولات) (وبعد مضي عصر المنصور أتى عصر المهدي وانتهى ومر عصر الهادي بعد عصر المهدي دون أن تُؤثر عنهما أو عن واحد من الأشخاص البارزة في وقتهما شيء يتعلق بالترجمة في عمومها فضلاً عن ترجمة الفلسفة بمعناها الخاص) (3). أما الرشيد فقد أمر بإعادة ترجمة الكتب التي سبقت ترجمتها في العهود التي قبله أكثر من تشجيعه على ترجمة كتب جديدة. ثم جاء عصر المأمون وهو العصر الذهبي للترجمة كما يقال. قال ابن صاعد في طبقات الأمم (لما أفضت الخلافة إلى المأمون تمم ما بدأ به جده المنصور فأقبل على طلب العلم من مواطنه واستخراجه من معادنه بفضل همته الشريفة! وقوة نفسه الفاضلة! فداخل ملوك الروم وأتحفهم وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلاسفة فبعثوا إليه بما حضرهم من كتب أفلاطون وأرسطو وبقراط وغيرهم من الفلاسفة فاختار لها مهرة التراجمة وكلفهم إحكام ترجمتها فترجمت له على غاية ما يمكن ثم حض الناس على قراءتها ورغبهم في تعليمها) (4). قلت: والذي دعاه إلى هذه الهمة في الترجمة تشربه بمبدأ الاعتزال القائم على العقل ومقاييسه واستصغاره لنصوص الوحي – لا سيما الحديث – أن تفي بحاجات الأمة. إضافة إلى جلساء السوء من رموز الاعتزال وما يُذكر عنه من حبه للاطلاع والاستزادة من ثقافات الآخرين.   (1) نقل السيوطي عن شيخ الإسلام أنه كان يقول: "ما أظن الله يغفل عن المأمون ولابد أن يقابله على ما اعتمده مع هذه الأمة من إدخاله هذه العلوم الفلسفية بين أهلها أو كما قال". ((صون المنطق)) (9). (2) ((المعتزلة)) (49). (3) ((الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي)) – محمد البهي (169). (4) ((الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي)) – محمد البهي (169). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 وأما اقتباس المعتزلة من تراث الديانة اليهودية والمسيحية فليس هذا مكانه لأن الحديث عن العقل والعقلانية التي تميزت بها الثقافة اليونانية دون غيرها فلهذا قصرت القول على كيفية استفادتهم منها. ثانياً: ومما جعلهم ينحون هذا الاتجاه العقلاني هو ضعفهم في مجال الرواية وجهلهم لعلم الحديث النبوي واقتصارهم على آيات القرآن وبعض الأحاديث التي رأوا أنها تؤيد أقوالهم. فهذا الضعف في علم الحديث قد ألجأهم إلى المعقولات ليعوضوا بها ما عندهم من نقص ويسدوا به ثغرات مذهبهم. وهذا مصداق ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال (إن أصحاب الرأي أعداء السنة أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلتت منهم فلم يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا علم لنا فعارضوا السنة برأيهم إياك وإياهم) (1). ومما صد كثيراً منهم عن طلب الحديث والسعي وراء حلقاته ما رأوه من كثرة الوضع وانتشار الأحاديث الضعيفة بين رواة الحديث واختلاطها بالصحيح منه وكان من تلك الأحاديث ما يعارض المعقول فظنوا لجهلهم أن لا ضابط يفرق بين الصحيح والسقيم منها. وإن زعم ذلك أهل الحديث. فرأوا أن الرأي الصائب أن يدعوا صحيحها وسقيمها وأن يقتصروا على ما يوافق بدعهم وآراءهم منها. ولا يخفى على دارس أن الأحاديث قد دُسَّ في جملتها –لأغراض شتى- الموضوعات والمكذوبات على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى راجت على بعض العلماء فاحتجوا بها لا في الفقه وحده بل في أمور العقيدة. خاصة مسائل الصفات ولذا أنكر بعض المحققين كابن قدامة تلك الأحاديث الضعيفة والموضوعة وروايتها ضمن عقائد السلف. قال ابن قدامة: (ينبغي أن يُعلم أن الأخبار الصحيحة التي ثبتت بها صفات الله تعالى هي الأخبار الصحيحة الثابتة بنقل العدول الثقات التي قبلها السلف ونقلوها ولم ينكروها ولا تكلموا فيها. وأما الأحاديث الموضوعة التي وضعتها الزنادقة ليلبسوا بها على أهل الإسلام أو الأحاديث الضعيفة إما لضعف رواتها أو جهالتهم أو لعلةٍ فيها فلا يجوز أن يقال بها ولا اعتقاد ما فيها بل وجودها كعدمها. وما وضعته الزنادقة فهو كقولهم الذي أضافوه إلى أنفسهم فمن كان من أهل المعرفة بذلك وجب عليه اتباع الصحيح واطراح ما سواه ومن كان عامياً ففرضه تقليد العلماء وسؤالهم لقول الله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7] وإن أشكل عليه علم ذلك ولم يجد من يسأله فليقف وليقل: آمنت بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يثبت بها شيئاً، فإن كان هذا مما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد آمن به وإن لم يكن منه فما آمن به) (2).وقال شيخ الإسلام ابن تيمية منكراً على أبي يعلى روايته لبعض تلك الأحاديث الضعيفة في الصفات (والمقصود هنا أن ما لم يكن ثابتاً عن الرسول لا نحتاج أن ندخله في هذا الباب سواء احتيج إلى تأويل أو لم يحتج) (3). لكن لا يعني رواج تلك الأحاديث على قلة من العلماء –غير المحدّثين- اجتهدوا في إدخالها ضمن عقائد السلف أن ندع الحديث جملة ونفر منه إلى غيره. فهل هذا إلا تولية للأدبار عن الدين كله؟ بل كان الأولى بهؤلاء أن يجتهدوا في معرفة الأحاديث الصحيحة التي لا تعارض المعقول أبداً ويميزوا بينها وبين ضعيف الحديث كما فعل جهابذة الحديث ونقاده الذي اصطفاهم الله لذلك.   (1) ((الحجة)) (1/ 205). (2) ((ذم التأويل)) (47). (3) ((درء التعارض)) (5/ 239). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 واعلم أن هذا الاختلاط في الأحاديث كان لِحكَم لا يحصيها إلا الله سبحانه: منها أن يظل كلامه تعالى متميزاً عن غيره من كلام البشر ولو كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها أن تكون فتنة للجهلة وأصحاب القلوب المريضة وامتحاناً يميز الله فيه الخبيث من الطيب، ومنها أن تظهر براعة علماء الحديث. ومنها أن يأجرهم الله تعالى على صبرهم واجتهادهم في تمييز الأحاديث، ومنها أن يتنافس العلماء في الصالحات، ومنها أن تكثر العلوم الإسلامية وتتنوع وينتشر لأجل ذلك طلب العلم والسعي فيه، ومنها أن يظهر فضل هذه الأمة في حفظ دين نبيها وأقواله والحرص على جمعها وتهذيبها بخلاف غيرها من الأمم ممن حرف وبدل، ومنها أن يغتاظ الشيطان وحزبه إذا رأوا هذا الجد من الأمة في حفظ سنة نبيها صلى الله عليه وسلم، وحكم أخرى غيرها. ثم اعلم أنه برغم هذا الاختلاط الظاهر في الأحاديث فإن سنة النبي صلى الله عليه وسلم تظل محفوظة من قبل الله لا يشك مسلم في ذلك لأنه تعالى تكفل بحفظها في قوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] وقوله: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] وقوله: أَطِيعُوا الرَّسُولَ [التغابن: 12] فإذا اعتُقِد أن بعضاً من تلك الأحاديث قد فقدت أو اختلطت بغيرها حتى لم تعد تعرف فكيف يطاع الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أمر به تعالى؟ وكيف يُرَدُّ إلى حُكمه عند الاختلاف؟ فهل هذا إلا تكليف ما لا يطاق؟ وهل هذا إلا إيذانٌ بعدم كمال الدين واستمراره إلى يوم القيامة؟ وأيضاً فهذه الأحاديث (ما اختلطت إلا على الجاهلين بها فأما العلماء بها فإنهم ينتقدونها انتقاد الجهابذة الدراهم والدنانير فيميزون زيوفها ويأخذون جيادها ولئن دخل في غمار الرواة من وسم بالغلط في الأحاديث فلا يروج ذلك على جهابذة أصحاب الحديث ورتوت (1) العلماء حتى إنهم عدو أغاليط من غلط في الأسانيد والمتون بل تراهم يعدون على كل رجل منهم في كم حديث غلط وفي كم حرف حرّف وماذا صحف؟ فإذا لم يرج عليهم أغاليط الرواة في الأسانيد والمتون والحروف فكيف يروج وضع الزنادقة وتوليدهم الأحاديث) (2).   (1) قال ابن الأعرابي: الرت: رئيس البلد جمعها (رتوت) (الصحاح) (249). (2) ((الحجة)) (2/ 134). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 ثالثاً: مما صرفهم عن المأثورات إلى تلك المعقولات هو حب التمايز على الآخرين وشهوة الانفراد بشيء غير معروف عند عامة الناس ليذكروا به ولا يكونوا كغيرهم من جملة أهل الحديث. وهذا السبب لم يزل في الناس قديماً وحديثاً فلو تدبرت حال كثير من أهل البدع لوجدت النشأة الأولى لهم هذه الشهوة الخفية. قال الإمام أبو القاسم الأصبهاني واصفاً حال هؤلاء العقلانيين (إني تدبرت هذا الشأن فوجدت عظم السبب فيه أن الشيطان صار بلطيف حيلته يسوّل لكل من أحس من نفسه بفضل ذكاء وذهن، يوهمه أنه إن رضي في علمه ومذهبه بظاهر السنّة، واقتصر على واضح بيان منها كان أسوة العامة، وعدّ واحداً من الجمهور والكافة، فحرّكهم بذلك على التنطع في النظر، والتبدع بمخالفة السنّة والأثر، ليبينوا بذلك عن طبقة الدهماء، ويتميزوا في الرتبة عمّن يرونه دونهم في الفهم والذكاء، واختدعهم بهذه المقدمة حتى استزلهم عن واضح المحجة، وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها، وتاهوا في حقائقها، ولم يخلصوا منها إلى شفاء نفس، ولا قبلوها بيقين علم، ولما رأوا كتاب الله تعالى ينطق بخلاف ما انتحلوه، ويشهد عليهم بباطل ما اعتقدوه، ضربوا بعض آياته ببعض وتأولوها على ما سنح لهم في عقولهم، واستوى عندهم على ما وضعوه من أصولهم، ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولسننه المأثورة عنه، وردّوها على وجوهها وأساءوا في نقلتها القالة، ووجهوا عليهم الظنون، ورموهم بالتزيد، ونسبوهم إلى ضعف المنّة، وسوء المعرفة بمعاني ما يروونه من الحديث، والجهل بتأويله، ولو سلكوا سبيل القصد ووقفوا عندما انتهى بهم التوقيف، لوجدوا برد اليقين وروح القلوب، ولكثرت البركة وتضاعف النماء، وانشرحت الصدور، ولأضاءت فيها مصابيح النور، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) (1). هذه الأسباب الثلاثة: تأثرهم بالعلم الوافد وضعفهم في علم الحديث وشهوة التفاضل على الغير. هي في نظري أهم الأسباب التي أدارت وجوه القوم إلى العقل والعقلانية وألجأتهم إليها. إذن هذا هو حال العقلانيين الأوائل في هذه الأمة. فرقة سادت قليلاً ثم بادت. قال الدكتور مصطفى الشكعة (أما المعتزلة فقد اندثر حزبهم كمذهب قائم بذاته فلم نعد في عصرنا الحديث نسمع عن الواصلية أو الهذيلية أو النظامية أو الجاحظية أو البشرية أو الجبائية إلى غير ذلك من المدارس الاعتزالية الفرعية. وإنما ذاب المذهب في تعاليم الشيعة الإمامية والشيعة الزيدية بحيث أخذ المذهبان أطيب ما عند المعتزلة من أفكار! واطرحا ما قد توسط فيه علماء الاعتزال من تطرف واندفاع)) (2).   (1) ((الحجة)) (1/ 372). (2) ((إسلام بلا مذاهب)) (619). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 قلت: ولكن بقيت من أصولها الفكرية الأصل الذي يغالي في دور العقل في أمور الشريعة وأصبح مناراً يهدي العقلانيين إلى سبيل الرشاد! ويدفعهم عن طريق الفساد!. ثم جاء بعد المعتزلة آحاد الفلاسفة الإسلاميين المفترقين مكاناً وزماناً فزادوا في الميل إلى تلك المعقولات فكانت هي رأس مالهم. ولقد كانوا كما قال أحمد أمين (فلاسفة أولاً ودينيين آخراً. لا ينظرون إلى الدين إلا عند ما تتعارض نظرية فلسفية مع الدين فيجدوا للتوفيق بينهما) (1). فلذا لم يؤثروا في حياة المسلمين كتأثير المعتزلة الذي خلطوا الدين بالكلام وموًّهواً على المسلمين بنصرة دينهم. وإنما اندثرت أفكارهم النظرية بموتهم فلم تبن مجتمعاً ولم تُقم على سلطة ولكنهم تلازموا وإياهم في تعظيم (العقل) لأنه كما قلت بضاعتهم الوحيدة، فهذا الرازي يتحدث كثيراً عن العقل في كتبه. ويأتي بعده ابن سينا فيغلو في العقل إلى أن أطلقه على الله تبارك وتعالى. وأقربهم مودة إلى العقلانيين فيلسوف المغرب ابن رشد. إذن بعد موت المعتزلة لم تقم فرقة واحدة تدعو إلى إعلاء العقل على حساب غيره وإنما لم تخل الأمة من أفراد يرفعون أصواتهم بين الحين والآخر مطالبين بتلك الفكرة لأسباب متنوعة. ويحضرني منهم فيلسوف المعرة – كما يُسَمّى- الشاعر أبا العلاء المعري. وهو من ملاحدة الشعراء في كثرة اعتراضه على الشرع بل على الديانات كلها. وتمجيده للعقل والإيمان الإلهي المجرد يقول عنه طه حسين (لا يؤمن إلا للعقل وحده فخالف بهذا أهل السنة لأنهم يقدسون الشرع على العقل وإن آمنوا به وخالف مذهب المعتزلة لأنهم على تقديسهم للعقل يتخذون الشرع لنظرهم أصلاً ودليلاً يعتزون به ويلجئون إليه) (2). ويقول الدكتور عمر فروخ (يعتقد المعري أن من اتسع عقله لم يضل هذا إذا كان له عقل! أما إذا لم يكن له عقل فهو يعمل أعماله بالتقاليد أو يساق إليها كالعجماوات. ولم يكتف المعري بأن يحكم العقل في الأمور التي جرت العادة بتحكيمه فيها بل أراد أن يكون العقل والفكر في أكثر الأغراض التي تناولها المعري في لزومياته حتى في العبادات وهو في كل ذلك يزدري شيئين ازدراءً شديداً التقليد والأخبار المروية. ولذلك تراه يتلقى كل خبر مروي أو كل عادة شائعة بميزان العقل) (3). قلت: وهذا مصدق لما نبهتك عليه سابقاً من أن انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة كان صارفاً لبعض الجهلة في الحديث – كالمعري مثلاً – إلى إعظام دور العقل. فهو يقول ناصحاً للأمة: خذوا في سبيل العقل تهدوا بهديه ... ولا يرجون غير المهيمن راج ولا تطفئوا نور المليك فإنه ... ممتع كل من حجا بسراج (4) ويقف متحيراً أمام بعض الأحاديث الضعيفة التي تخالف العقل فيقول: جاءت أحاديث إن صحت فإن لها ... شأناً ولكن فيها ضعف إسناد فشاور العقل واترك غيره هدراً ... فالعقل خير مشير ضمه النادي (5) أي لا تتعب نفسك بدراسة علم الحديث ومصطلحه وإنما انبذ ذلك كله وشاور عقلك!. ويقول: عليك العقل وافعل ما رآه ... جميلاً فهو مشتار الشوار (6) وهو الإمام والقائد للإنسان كذب الظن لا إمام سوى ... العقل مقيماً في صبحه والمساء (7) ويبلغ الغلو في تمجيد العقل عند هذا الملحد إلى أن ينزله منازل الأنبياء! كما صنع المعتزلة بالنصوص فهو يقول: أيها الغِر إن خُصصت بعقل ... فاسألنه فكل عقل نبي! (8)   (1) ((ضحى الإسلام)) (3/ 204). (2) ((تجديد ذكرى أبي العلاء)) (239). (3) ((تاريخ الفكر العربي)) (448). (4) ((لزوم ما لا يلزم)) (1/ 366). (5) ((لزوم ما لا يلزم)) (1/ 500). (6) ((لزوم ما لا يلزم)) (2/ 756). (7) ((لزوم ما لا يلزم)) (1/ 61). (8) ((لزوم ما لا يلزم)) (3/ 1716). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 لم يكن أبو العلاء معتزلياً كما ذكر طه حسين، فهو عندما أشاد بالعقل وقدسه قد ذم المعتزلة في شعره كثيراً وأعلن البراءة من مقولاتهم. خاصة قولهم بالقدر فهو يقول: جنوا كبائر آثام وقد زعموا ... أن الصغائر تجني الخلد في النار (1) وينصح سامعه بأن لا يكون منهم: لا تعش مجبراً ولا قدرياً ... واجتهد في توسطٍ بين بينا (2) ويخبر عن نفسه أنه بمعزل عنهم: ارجوا واعتزلوا فإني ... عن مقالتكم بمعزل (3) أي كونوا مرجئة أو معتزلة فلست معكم. يقول الدكتور عمر فروخ (قد يعجب أحدنا فيقول إن المعري يهاجم المعتزلة مع أنهم يفضلون العقل على النقل كما يفعل هو. أجل إنه ليس معتزلياً وإن كان يرى رأي المعتزلة في تفضيل العقل على ما روي في الدين من أخبار وإنما هو يهاجم من المعتزلة أولئك الذين يضيعون أوقاتهم وأوقات غيرهم بالجدل العقيم لا الذين يحلون العقل مرتبة سامية) (4). فهو يلتقي معهم في العقلانية دون أصولهم الأخرى. ودعاه إلى ذلك ما دعاهم فإن النفوس والأهواء واحدة. المصدر: نقض أصول العقلانيين لسليمان الخراشي   (1) ((لزوم ما لا يلزم)) (2/ 736). (2) ((لزوم ما لا يلزم)) (3/ 1579). (3) ((لزوم ما لا يلزم)) (3/ 1357). (4) ((تاريخ الفكر)) (448) ويرى طه حسين أن المعري كان جبرياً لأن - حياته المادية وشعره في اللزوميات ينطقان بذلك-، ((تجديد ذكرى أبي العلاء)) (262). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 المبحث الخامس: من مباحث المعتزلة المجافية للعقل والمخالفة للسنة حين يذكر اسم المعتزلة يتبادر إلى الذهن أنهم القوم الذين يمجدون العقل وبالتالي يربأون به وبأنفسهم عن الخوض في مسائل لا تمت إلى العقل بصلة إلا أن تاريخ المعتزلة يثبت خلاف ذلك حين تناول بعضهم بحث مسائل يجوز وصفها بأنها تافهة: من ذلك مثلا: 1 - بحثهم في مصير اليد المقطوعة لرجل مؤمن كفر بعد القطع أو لرجل كافر آمن بعد القطع (1)؟ 2 - وبحثهم في عوض البهائم وقد انقسموا إلى خمسة أقوال، منها: أ- قول قوم: إن الله سبحانه يعوضها في المعاد وإنها تنعم في الجنة وتصور في أحسن الصور فيكون نعيمها لا انقطاع له.   (1) ((مقالات الإسلاميين)) (2/ 317). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 ب- وقال جعفر بن حرب والإسكافي: قد يجوز أن تكون الحيات والعقارب وما أشبهها من الهوام والسباع تعوض في الدنيا أو في الموقف ثم تدخل جهنم فتكون عذابا على الكافرين ولا ينالهم من ألم جهنم شيء كما لا ينال خزنة جهنم. 3 - كما نظروا في عقول هذه البهائم هل سيكلمها الله أم تبقى على حالها في الدنيا؟ وبحثوا مسألة اقتصاص الله من بعضها لبعض 4 - ونظر الخابطية أصحاب أحمد بن خابط (ت 332هـ) والحدثية (أصحاب الفضل الحدثي (ت 257هـ) في أصناف الحيوانات فأقروا أن كل صنف من الحيوانات أمة على حدة ولها رسول (1)؟ 5 - وبحثوا في عقاب الأطفال؟: فقال أكثر المعتزلة أن الله سبحانه يؤلمهم عبرة للبالغين، ثم يعوضهم، ولولا أنه يعوضهم لكان إيلامه إياهم ظلما. إلا أن إجماعهم يذهب إلى أنه لا يجوز أن يؤلم الله سبحانه الأطفال في الآخرة ولا يجوز أن يعذبهم (2). 6 - ولعل من أغرب المسائل التي أدلى فيها بعض فرق المعتزلة وهم الخابطية والحدثية برأيهم وكان رأيهم واضح الانحراف وهو إثباتهم الألوهية للمسيح (3) هذا المعتقد الذي حرك جمهور المعتزلة لنفي صفات الله وجعلوا كلامه تعالى مخلوقا حادثا كي يقطعوا الطريق أمام المسيحيين الذين آمنوا بالأقانيم الثلاثة واتخذوا من قوله تعالى: إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [آل عمران: 45] حجة يعضدون بها مذهبهم المنافي للتوحيد. وكما رد القرآن للمسيح وأمه اعتبارهما أكدت السنة ما جاء به القرآن وجعلت قول من قال (إن الله اتخذ ولدا)، من الكبائر. جاء في الحديث القدسي: (. . وشتمني ابن آدم، ولم يكن ينبغي أن يشتمني. . . وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الله الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفوا أحد (4). 7 - ونظرهم في الصلاح والأصلح جعل النظام يحد من قدرة الله حيث قال: إن الله لا يقدر أن يزيد في عذاب أهل النار ذرة ولا أن ينقص من نعيم أهل الجنة شيئا (5) وهو رأي يتنافى مع أبسط قواعد العقل والشرع التي أثبتت لله تعالى القدرة المطلقة. أما عيسى بن صبيح المكنى بأبي موسى الملقب بالمردار (ت 226هـ) فينزل بالله إلى مستوى الكذب والظلم قياسا على حياة البشر فيجعله قادرا على ذلك، وإن فعل كان إلها كاذبا ظالما (6). في حين ينفي أبو الهذيل العلاف عن الله القدرة على رؤية بعض الأجزاء التي لا تتجزأ (7). وقرر بعض المعتزلة أنه لا يجوز إطلاق اسم شيء على الشيء حتى يوجد ويخلق، فهذا هشام بن عمرو والفوطي يرى أن (الأشياء قبل كونها معدومة، والمعدوم ليس بشيء) وعليه لا يجوز عنده أن تكون هذه المعدومات معلومة لله تعالى (8).وفي الحقيقة فإن علم الله وسع كل شيء ما خلق وما سيخلق، فقد جاء في صحيح البخاري قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم يجمع فى بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات، فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقى أو سعيد)) (9) ففي هذا الحديث كما يقول شارحه ابن حجر: (إن الله يعلم الجزئيات كما يعلم الكليات لتصريح الخبر بأنه يأمر بكتابة أحوال الشخص مفصلة) (10).   (1) ((ملل الشهرستاني)) (1/ 63). (2) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 319). (3) ((ملل الشهرستاني)) (1/ 60). (4) ((النسائي كتاب الجنائز)) (4/ 91). (5) ((الفرق بين الفرق)) (133) - ((ملل الشهرستاني)) (1/ 54). (6) ((ملل الشهرستاني)) (1/ 69). (7) ((الفرق بين الفرق)) (130). (8) ((فضل الاعتزال)) (72). (9) رواه البخاري (3332) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (10) ((فتح الباري)) (14/ 291). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 8 - منعهم الحكم بالرأي في الفتيا: ولعل من العجيب أن نرى بعض المعتزلة (1)، وهم ممن رفعوا لواء العقل أن يحرموا الحكم بالرأي في الفتيا كما قالت النظامية وقد سبق أن بينا مخالفة هذا الاتجاه للسنة ومستدلين باجتهادات للرسول صلى الله عليه وسلم. من أسباب اضمحلالهم: الأسباب التي أودت بالمعتزلة كثيرة ومتنوعة ومنها ما يعود إلى طبيعة مذهبهم وطريقة تطبيقهم ونشرهم لنحلتهم، ومنها ما يعود إلى تعقب أهل السنة لهم بدحض شبههم وانحرافاتهم. 1 - بعدهم عن تطبيق معتقدهم في الإيمان: لئن نادى المعتزلة بالعمل وجعلوه شرط صحة في ثبوت الإيمان، وغلوا في الوعيد فإن العديد من أعلامهم كانوا أول من مال على هذا الركن الأساسي في عقيدتهم بالهدم والإهمال. بل تجاوزوا هذا الهزء من بعض الشعائر وبلغ بهم الأمر إلى تناول الرسول صلى الله عليه وسلم بما لا يليق بمقامه السامي. مما لا يدع مجالا للشك في أنهم إنما يصدرون آرائهم عن عقائد وتراث أجنبي لا يتفق وشريعة الإسلام. فهذا النظام وهو أحد زعماء المعتزلة البارزين يعد من أفسق خلق الله وأجرأهم على الذنوب العظام وعلى إدمان شرب المسكر حتى أن ابن قتيبة ينسب إليه قوله: مازلت آخذ روح الزق في لطف: وأستبيح دما من غير مجروح. حتى انثنيت ولي روحان في جسدي: والزق مطرح جسم بلا روح (2) وأبو هاشم بن أبي علي الجبائي كان من ناحية يفرط في الوعيد حتى أنه لم يقبل توبة المقلع عن الذنب بعد العجز عن اقترافه، ومن ناحية أخرى كان أفسق أهل زمانه، وكان مصرا على شرب الخمر حتى قيل إنه مات في سكره (3).ومما يؤثر عنه أنه يرى أن (الطهارة غير واجبة) (4) معللا مذهبه هذا بقوله: (إن غيره لو طهره مع كونه صحيحا أجزأه)، وهي محاولة مكشوفة لإفساد الشريعة وإفراغها من محتواها وهي مخالفة صريحة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تقبل صلاة بلا طهور ولا صدقة من غلول)) (5). ومما رواه الجاحظ في كتاب (المضاحك) أن المأمون رأى يوما ثمامة بن أشرس وهو من زعماء المعتزلة (سكران قد وقع في الطين) فقال له: ثمامة؟ قال: إي والله. قال: ألا تستحي؟ قال: لا والله. قال: عليك لعنة الله. قال (تترى ثم تترى) (6).وكان ثمامة متهاونا في أداء الفروض آية ذلك أن خادمه قال له يوما: قم صل فتغافل، فقال له: فقال له: قد ضاق الوقت فقم وصل واسترح، فقال أنا مستريح إن تركتني (7). قد يقول قائل: إنها الروح المرحة التي يتميز بها المعتزلة. فيقال: قد يكون ذلك، ولكنها تعكس حقيقة مواقفهم من الإيمان وتطبيقاته وقد بلغ الأمر بثمامة إلى التهوين من شأن بعض الشعائر، والسخرية من المسلمين وتنقص شأن الرسول صلى الله عليه وسلم فقد (رأى قوما يتعادون يوم الجمعة إلى المسجد لخوفهم فوت الصلاة فقال: انظروا إلى البقر انظروا إلى الحمير). ثم قال لرجل من إخوانه: ما صنع هذا العربي بالناس؟ (8).   (1) ((الفرق بين الفرق)) (149). (2) ((تأويل مختلف الحديث)) (18). (3) ((الفرق بين الفرق)) (191). (4) ((الفرق بين الفرق)) (197). (5) رواه مسلم (224) , من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. (6) ((الفرق بين الفرق)) (173). (7) ((الفرق بين الفرق)) (174). (8) ((تأويل مختلف الحديث)) (49). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 ومثل هذه العبارات التي تنضح مروقا كثيرا ما تطالعنا ونحن نتصفح تاريخ المعتزلة ورجالهم: فهذا عمرو بن عبيد الذي طار بلب أبي جعفر المنصور وكان يعده من أزهد الناس في زينة الحياة الدنيا حتى حزن لوفاته. ورثاه يقول: (لو كانت تبت يدا أبي لهب في اللوح المحفوظ لم يكن لله على العباد حجة) تساوقا مع إيمانه بنفي القدر أي نفي العلم الأزلي لله بما هو كائن. ... وكثيرا ما يوصف أعلامهم بالفسق والفجور، فهذا أبو الفتح الأزدي يصف واصلا بن عطاء بأنه (رجل سوء كافر) (1) ووصف البغدادي بعض الفرق بأكملها بالغلو في الكفر كالخابطية والجمارية (2). 2 - كثرة اختلافاتهم: ولعل مما عجل بانقراضهم كثرة اختلافاتهم، وهذا يرجع إلى تنوع مصادرهم وتضاربها وإلى تعويلهم على العقل الذي قدموه على القرآن والسنة وجعلوا منه رائدهم وإمامهم، وقد ثبت في محك الواقع أن العقول والأفهام كثيرا ما تختلف بل فإن العقل الواحد كثيرا ما يحبذ اليوم أمرا يكفر به غدا ويلعنه، والخطير في اختلافاتهم أنها شملت قضايا العقيدة نفسها. يقول ابن قتيبة في معرض تصوير ما اعترى القوم من الانقسامات رغم صدورهم عن الرأي والنظر (وقد كان يجب مع ما يدعونه من معرفة القياس وأعداد آلات النظر أن لا يختلفوا كما لا يختلف الحساب والمساح والمهندسون لأن التهم لا تدل إلا على عدد وإلا على شكل واحد، وكما لا يختلف حذاق الأطباء في الماء وفي نبض العروق. . فما بالهم أكثر أهل الناس اختلافا لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحد في الدين. (فأبو الهذيل العلاف يخالف النظام والنجار يخالفهما وهشام ابن الحكم يخالفهم وكذلك ثمامة ومويس وهاشم الأوقص و. . ليس منهم واحد إلا وله مذهب في الدين، يُدان برأيه وله عليه تبع) (3). وقلما تمر بهم مسألة ولا تختلف حولها أنظارهم، حتى أن عبارة (اختلفت المعتزلة) تكاد تتصدر كل المسائل التي تناولها المعتزلة بالبحث. وقد يبلغ الاختلاف والتنافر بينهم إلى درجة يكفر فيها بعضهم بعضا وأكثر زعمائهم يكفرون أتباعهم المقلدين لهم (4).وليس حتما أن يكون هذا التناقض والاختلاف بين الفرق والأفراد وإنما قد يصيب التناقض الفرد الواحد منهم فيرى الرأي ثم يتراجع ويتوب عنه لما يبدو له من سقمه وعقمه، فهذا أبو سهيل بشر بن المعتمر مثلا آمن بآراء فيها مروق عن الدين وخروج عن صحابته (ثم تاب ورجع إلى أصحابه) (5).   (1) ((ميزان الاعتدال)) (4/ 329). (2) ((الفرق بين الفرق)) (114). (3) ((تأويل مختلف الحديث)) (14) - ((مقالات الإسلاميين)) (2/ 232). (4) ((الفرق بين الفرق)) (197). (5) ((فضل الاعتزال)) (72). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 وقد صورت انقسامهم واختلافاتهم الشديدة مؤلفاتهم التي انبرى فيها كل طرف يسفه الثاني ويكشف عواره. فقد ألف بشر بن المعتمر كتابا في الرد على ضرار بن عمرو المعتزلي سماه (الرد على ضرار) (1).ثم إن بشرا هذا يكفره تلميذه المردار (عيسى بن صبيح) الملقب براهب المعتزلة بل ويكفر معه أبا الهذيل العلاف والنظام وعددا من شيوخه وقد بادله هؤلاء تكفيرا بتكفير (2). ولعباد بن سليمان الضمري، وهو من أصحاب هشام الفوطي كتاب يسمى (الأبواب) نقضه أبو هاشم الجبائي، وقال عنه أبو الحسين الملطي (ملأ الأرض كتبا وخلافا وخرج عن حديث الاعتزال إلى الكفر والزندقة) (3).وكتب ابن الراوندي (ت 298هـ) الذي نكص عن الاعتزال بعد أن كان من متكلمي المعتزلة وانغمس في الإلحاد والزندقة كتابا سماه (فضيحة المعتزلة) نقضه أبو الحسين بن الخياط (ت 300هـ) بكتاب سماه (الانتصار) (4). هذا فضلا عما ألفه أهل الجماعة في بيان زيغ المعتزلة جميعهم وفساد نحلتهم. 3 - آراؤهم المنافية للإسلام: إن تأثر عدد من رجال الاعتزال بالآراء والمذاهب الفلسفية والدينية القديمة جعلهم يصدعون بآراء تتجافى وعقيدة الإسلام البسيطة الواضحة، فقد نفوا القدر فسموا القدرية، ونفوا صفات الله فسموا النفاة، قالوا بخلق القرآن ونفوا رؤية الباري يوم القيامة، بل شك بعضهم في المحسوسات (5) كلها على غرار ما كان ينادي به (بيرون) والفلاسفة الشكاك اليونان. . ونادى آخرون بما كان يعتقده المجوس من علو النار بطباعها على كل شيء (6). . وآمن بعضهم بالطفرة وهي انتقال الجسم من مكان رقم 1 إلى مكان رقم 3 أو رقم 10 من غير مرور بالأمكنة المتوسطة بينه وبين العاشر (7). وتأثرهم بالفلسفة والمذاهب الملحدة جعلهم يقدمون العقل على الشرع رغم ما أنكره بعضهم من اجتهاد الرأي في الأحكام.   (1) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 246) هامش رقم 2. (1/ 339) هامش رقم 1. (2) ((الفرق بين الفرق)) (166). (3) ((الفرق بين الفرق)) (161 هامش رقم 1). (4) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 240) هامش رقم 2 - ((الفرق بين الفرق)) 123 هامش رقم 1. (5) ((الفرق بين الفرق)) (135). (6) ((الفرق بين الفرق)) (137). (7) ((الفرق بين الفرق)) (140). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 وأحدثت مواقفهم هذه أزمة حادة بينهم وبين مصدر الشريعة الإسلامية خاصة الحديث حيث حكموا الهوى فردوا ما يتعارض وآراءهم من الأحاديث، وهو أمر لا يجوز أن يمر دون موقف صارم يقفه رجال الإسلام المتمسكون بالقرآن والسنة بعيدا عن كل تأثير أجنبي. والذي زاد الطين بلة هو استخدام المعتزلة للعنف لفرض آرائهم، فقد استغل بعض المعتزلة ممن وصل إلى قلوب بعض الخلفاء العباسيين كالقاضي أحمد بن أبي دؤاد الذي عاصر ثلاثة منهم هم المأمون والمعتصم والواثق، وكان له في قلب كل منهم مكان وسلطان، حتى أن المأمون كان قد أوصى أخاه المعتصم بملازمة ابن أبي دؤاد فقد استغل نفوذه لديهم حتى أنه حمل الواثق على أن يرسل إلى القضاة في سائر البلاد ليمتحنوا الناس في القرآن. وأمرهم ألا يقبلوا شهادة من لم يقبل بالتوحيد (1).ولم يتورعوا عن اغتيال المخالفين لهم في الرأي، فقد كان (عباد بن سليمان يرى قتل الغيلة في مخالفيه إذا لم يخف شيئا) (2)، كما كانوا يرون الثورة والاستيلاء على الحكم بالقوة لفرض آرائهم، فهم يقولون: (إذا كنا جماعة، وكان الغالب عندنا أنا نكفي مخالفينا عقدنا للإمام، ونهضنا فقتلنا السلطان وأزلناه، وأخذنا الناس بالانقياد لقولنا فإن دخلوا في قولنا الذي هو التوحيد وفي قولنا في القدر، وإلا قتلناهم) (3).وهذا مخالف للشريعة التي تحرم سفك الدماء. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((. . فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام)) (4).4 - مقاومتهم فكريا: وقد تولى أهل السنة والجماعة أيضا مقاومة المعتزلة فكريا وذلك بتأليف المصنفات التي تكشف ما وقعوا فيه من خروج عن الشرع وعن إجماع المسلمين وإبراز ما وقعوا فيه من تناقض وخطل، حتى يوقفوا المسلمين على حقيقة أمرهم فيتجنبوهم. وقد جعلت الأحقاد بعض أهل السنة يغالي في تبشيع المعتزلة وتفكيرهم، فهذا ابن قتيبة يؤلف تأويل مختلف الحديث ليرد على الشبه والضلالات التي ارتمى فيها المعتزلة. فهو وإن ذكر في مقدمة كتابه (وأرجو أن لا يطلع ذو النهى مني على تعمد لتمويه، ولا إيثار لهوى ولا ظلم لخصم (5) فإنه بلغ الحديث الإقناع في تصوير ظلم المعتزلة وضلالهم. كما أن عبد القاهر البغدادي في كتابه (الفرق بين الفرق) أسرف في تكفير المعتزلة واستباحة دمائهم وأموالهم (6). وقد ألف إلى جانب (الفرق بين الفرق) كتابا سماه (الحرب على ابن حرب) نقض فيه أصول وفصول كتاب جعفر بن حرب الحافل بالضلالات (7).ولأبي الحسن الأشعري الذي عاش ردحا طويلا من عمره معتزليا حتى بلغ مرتبة الإمامة فيهم ألف في كشف فضائح المعتزلة (الإبانة في أصول الديانة) لما فتح الله بصيرته وأوقفه على حقيقة أمرهم. كما كتب مقالات الإسلاميين، وقد تناول فيها أصول المعتزلة بالنقض والطعن وقد مات وهو يلعن المعتزلة لأنه كان شديد الكره لهم والنقمة عليهم (8). وألف ابن حزم الفصل والشهرستاني الملل والنحل، وأبو الفرج بن الجوزي مناقب الإمام أحمد بن حنبل، وهي مؤلفات تثبت جميعها تمسك أهل السنة بالشريعة الصحيحة الخالية عن الهوى كما تصور زيغ المعتزلة عن السبيل ووقوعهم في المحظور نتيجة تأثرهم بالتيارات الداخلية وعدائهم لأصول الشريعة.   (1) ((أدب المعتزلة)) (155). (2) ((مقالات الإسلاميين)) (2/ 157). (3) ((مقالات الإسلاميين)) (2/ 157). (4) خرجه البخاري كتاب العلم ((فتح الباري)) (1/ 168) – مسلم 3/ 1306 – الترمذي 4/ 461 – ابن ماجه 2/ 1015 – الدارمي 1/ 393. (5) ((تأويل مختلف الحديث)) (13). (6) ((أدب المعتزلة)) (161). (7) ((الفرق بين الفرق)) (169). (8) ((أدب المعتزلة)) (158). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 وقد أتت جهود التوعية التي قام بها الأئمة الأوائل لتنفير الجماهير المسلمة من المعتزلة وآرائهم كلها حتى صار اسم الاعتزال مرادفا للابتداع والخروج عن الشرع الذي يوجب الترك والتجنب. فهذا محمد الباقر ينعي على أخيه زيد بن علي بن الحسين السبط أخذه لمذهب المعتزلة عن واصل بن عطاء (1). وحين سئل قاضي القضاة أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم صاحب الإمام أبي حنيفة عن المعتزلة قال: هم الزنادقة. ورد الشافعي قبول شهادة المعتزلة وأهل الأهواء أسوة بمالك وفقهاء أهل المدينة (2).ويصف ابن عبد البر المعتزلة بأنهم أهل البدع، ويقول عن كتبهم إنها كتب أهل الأهواء والبدع (3).وحين يذكر القاضي عبد الجبار عند بعض النقاد يصفه بالثقة في حديثه إلا أنه يستدرك بقوله (لكنه داع إلى البدعة) (4).ويصف السيوطي أحدهم بأنه فقيه إلا أنه مهجور القول عند الأئمة لميله إلى الاعتزال (5).وهكذا فقد صار المعتزلة حتى أيام الفحول منهم عنوانا على المروق عن الدين والبعد عن الشريعة، وقد انعكس هذا حتى على رؤى العلماء والصالحين: فهذا ثابت البناني وعاصم الأحول يريان عمرو بن عبيد في المنام وهو يحك آية من المصحف مدعيا إبدالها بخير منها فلم يستطع (6).وفي هذه الرؤيا إشارة إلى تحريف المعتزلة لما جاء صريحا في القرآن كالرؤية وغيرها. وقال حماد (أبو سلمة): (رأيت كأن الناس يصلون يوم الجمعة إلى القبلة وهو مدبر عنها، فعلمت أنه على بدعة، فتركت الرواية عنه (7).كما أن إسماعيل بن مسلمة القعنبي رآه في ثلاث ليال متتالية في النار (8) كما رآه محمد بن عبد الله الأنصاري في النوم قد مسخ قردا. المصدر: موقف المعتزلة من السنة النبوية لأبي لبابة حسين – ص 151   (1) ((مقدمة ابن خلدون)) (350). (2) ((الفرق بين الفرق)) (171). (3) ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 116). (4) ((فضل الاعتزال)) (126). (5) ((تدريب الراوي)) (1/ 72). (6) ((ميزان الاعتدال)) (3/ 273). (7) ((ميزان الاعتدال)) (3/ 276). (8) ((ميزان الاعتدال)) (3/ 279). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 المبحث الأول: موقف المعتزلة من الصحابة رضوان الله عليهم ونتيجة أخرى من نتائج الاعتزال – أو فضيحة أخرى من فضائحه – الذي ينتسب إلى العقل زورا وبهتانا، وينتسب إليه العقلانيون تمحكا وتسترا، هي موقفهم المخزي من الصحابة والتابعين، فقد طعن كبراؤهم في أكابر الصحابة، وشنعوا عليهم ورموهم بالكذب ونسبوا إليهم التناقض وإليك أمثلة من ذلك. قول إبراهيم النظام مفخرة المعتزلة وشيخها المتقدم الموصوف بالنبوغ والنباهة! في أبي بكر الصديق: فقد رماه بالتناقض حين سئل عن آية من كتاب الله فقال أي سماء تطلني وأي أرض تقلني أم أين أذهب أم كيف أصنع إذا أنا قلت في آية من كتاب الله بغير ما أراد الله، وحين سئل في الكلالة قال: أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني – هي ما دون الولد والوالد. قال: فهذا تناقض وكيف يجترئ على القول بالرأي من يخشى الله ويستعظم القول عليه كما في القول الأول!. وكذب؛ فإن قول أبي بكر الأول إنما قاله حين سئل عن آية من المتشابه من القرآن وهذا جواب الراسخين في العلم حين يسألون عن المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، وأما قوله الثاني: فإنه واجب على العلماء أن يبينوا للناس أحكام دينهم وأن يجتهدوا لهم حتى لا يكون الأمر فوضى، والمقصود بقوله الثاني: "أقول فيها برأيي" ليس هو الرأي المذموم أي الكلام دون علم أو دليل، وإنما المقصود بنظري وما أوصلني إليه علمي، ثم احترز من الخطأ فنسب الصواب إلى الله تعالى ونسب الخطأ إلى نفسه تأدبا. . وكيف لا وهو صديق الأمة وخليل نبيها!. وقد طعن بمثل ذلك في علي بن أبي طالب حين سئل عن بقرة قتلت حمارا، ومثله في عبد الله بن مسعود في حديث بروع بنت واشق. كذلك شدد الحملة – هو وغيره من المعتزلة والروافض - على أبي هريرة رضي الله عنه فقال: لقد أكذبه عمر وعثمان وعلي وعائشة. . كذب إذ أن ذلك محض اختلاف وجهات النظر كما بين الفقهاء كلهم، لا يحمل ذلك على بغضاء ولا يؤدي إلى تنافر ولا إلى الحط من قيمة أحدهم، وقد كذب على عمر بن الخطاب فادعى أنه قضى في الجد بمائة حكم مختلف! فسبحان الله العظيم أين تلك الأقضية ومن حفظها!؟. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 كذلك طعن بكذب عبد الله بن مسعود في حادثة رؤيته لانشقاق القمر، فقال: كيف لم يشهد ذلك معه أحد ولم يسلم عندها كافر!؟ وفي هذا تكذيب لكتاب الله تعالى الذي فيه اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1] إذ لو كان مراده فيما بعد فما معنى قوله وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ [القمر:2] بعقب هذا الكلام" ولماذا لا تكون الآية بحيث يراها الواحد أو الاثنان فقط! ألا إنه حكم العقل حين يستقل عن الشرع فيضل ويخزى. كما طعن على ابن مسعود في حديث ((الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره)) والحديث صحيح رواه مسلم (1)., والإيمان بالقدر واجب وإنما المذهب أداه لذلك! كما أكذبه في رؤية الجن ليلة الجن، كذلك زعم أن عمر بن الخطاب قد شك في دينه يوم الحديبية، وشك يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه ضرب فاطمة ومنع ميراث أهل البيت! وزعم أنه ابتدع صلاة التراويح وأنه حرم نكح الموالي للعربيات، وعاب على عثمان بن عفان إيواءه الحكم بن العاص في المدينة، وأنه استأثر بالحمى (2). أما عن عمرو بن عبيد كبير المعتزلة وزاهدهم فقد روى الشاطبي: "وقال عمر بن النضر، سئل عمرو بن عبيد يوما عن شيء – وأنا عنده – فأجاب فيه، فقلت له: ليس هكذا يقول أصحابنا، قال: ومن أصحابك لا أبا لك؟ قلت: أيوب ويونس وابن عون والتيمي، قال: أولئك أنجاس الناس أموات غير أحياء. وقال ابن علية: حدثني اليسع قال تكلم واصل بن عطاء يوما. قال فقال عمرو بن عبيد: ألا تسمعون إلا خرقة حيضة ملقاة" (3).وقد زعم كل من واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد أن إحدى الطائفتين يوم الجمل فاسقة – إما طائفة علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر والحسن والحسين وأبي أيوب الأنصاري أو طائفة عائشة وطلحة والزبير – ورد شهادة هؤلاء الصحابة فقالوا: لا تقبل شهادتهم (4). وقد قال تعالى في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18]. وقال تعالى فيهم: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 29] وقد اتفق العلماء على عدالة جميع الصحابة، قال الغزالي: "والذي عليه سلف الأمة وجماهير الخلف أن عدالتهم معلومة بتعديل الله عز وجل إياهم وثنائه عليهم في كتابه، فهو معتقدنا فيهم إلا أن يثبت بطريق قاطع ارتكاب واحد لفسق مع علمه بذلك، وذلك مما لا يثبت فلا حاجة لهم إلى التعديل" (5). وأما ما شجر بينهم فإن أهل السنة لا يخوضون فيه، بل يعتقدون أن كلهم مجتهد مأجور يبتغي ثواب الآخرة ورضى الله تعالى عنهم فمنهم من أصاب ومنهم من أخطأ. المصدر: المعتزلة بين القديم والحديث لمحمد العبده وطارق عبد الحليم – ص 97   (1) ((صحيح مسلم)) (2645). (2) ((تأويل مختلف الحديث)) (17) وبعدها، ((الفرق بين الفرق)) (147) وبعدها. (3) ((الاعتصام للشاطبي)) (1/ 232). (4) ((الفرق بين الفرق)) (120). (5) ((المستصفى)) للغزالي (1/ 165). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 المبحث الثاني: أثر أصولهم الخمسة العقدية في آرائهم الأصولية إذا نظرنا إلى أصول المعتزلة الخمسة العقدية، وهي: التوحيد والعدل، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وجدنا أن من أهم هذه الأصول على الإطلاق عندهم، التوحيد والعدل، ولهذا فإنهم يفخرون بتسميتهم (الموحدة) و (العدلية)، أو (أهل العدل والتوحيد). وبناء على ذلك، فإنهم يجعلون التوحيد أصلا مستقلا، ويجعلون العدل أصلا مستقلا كذلك، إلا أنه لا يمكن فصل العدل عن التوحيد عندهم أبدا، بل هو مترتب ومبني عليه، ولهذا قالوا: (والأصل في ذلك أن الذي يلزم العلم به أولا هو التوحيد، ويرتب عليه العدل لوجهين: أحدهما: أن العلم بالعدل علم بأفعاله تعالى، فلا بد من تقدم العلم بذاته ليصح أن نتكلم في أفعاله التي هي كلام في غيره، والثاني: أنا إنما نستدل على العدل بكونه عالما وغنيا، وذلك من باب التوحيد، فلا بد من تقدم العلم بالتوحيد لينبني العدل عليه) (1). وأما بقية الأصول عندهم فإنهم يجعلونها مندرجة تحت أصل (العدل) ومما يؤيد ذلك التساؤل الذي أورده القاضي عبد الجبار، وأجاب عنه، فقال: (فإن قيل: ألستم تقولون: الأصول خمسة، وتعدون فيها الوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قيل له: كل ذلك يدخل في العدل، لأنا إذا نزهناه عن الخلف والكذب والتعمية، بطل قول المرجئة، فإذا بينا جنس ما تعبد به، ثبت ما نقوله في المنزلة بين المنزلتين، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (2).وقالوا أيضا: (وإذا دخل تحت العدل النبوات والشرائع، فقد دخل تحته الوعد والوعيد، لأن العلم بهما على الحد الذي نثبت الآن هو من جهة السمع، وكذلك إذا وجب أن يعرفنا الله مصالحنا، فقد تضمن ذلك بيان المنزلة بين المنزلتين، لأن علينا تكليفا فيما نجريه من الأحكام على المكلفين، ومن تسميتهم بأسماء مخصوصة، لما لنا في ذلك من ضروب اللطف والصلاح، وكذلك فقد تضمن وجوب تكليفنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لما لنا فيه من الصلاح) (3). وإذا تقرر أن التوحيد والعدل، هما الأصلان الرئيسان عندهم، فقد كان لهذين الأصلين أثر كبير في مسائل أصول الفقه بالنسبة لهم. ومن المسائل الأصولية التي كان لأصل (التوحيد) أثر كبير فيهما عندهم، مسألة "الفعل ذو الوجهين يصح أن يتعلق به الأمر والنهي". ولهذا فقد ذهب أبو هاشم إلى أن السجود بين يدي الصنم مع قصد التقرب إلى الله ليس بمحرم. وعلل ذلك قائل: (إن السجود لا تختلف صفته، وإنما المحظور القصد) (4). وبما أنه لم يقصد بسجوده غير الله تعالى، فلا يكون هذا السجود محرما، ولا يكون صاحبه مشركا، لكونه موحدا إذا أوقع السجود قاصدا به وجه الله تعالى. وسيأتي بيان هذه المسألة مفصلا في موضعه من هذا البحث بمشيئة الله تعالى. ومن مسائل أصول الفقه التي كان لأصل (العدل) أثر كبير فيها بالنسبة لهم، ما يلي: أولا – مسألة عدم تكليف المكره: فعند المعتزلة أن المكره لا يدخل تحت التكليف، لأن ذلك محال، إذ لا يصح منه فعل غير ما أكره عليه، ولا يبقى له خيرة. وإنما قالوا ذلك بناء على أصلهم في وجوب إثابة المكلف، والمحمول على الشيء لا يثاب عليه. قال القاضي عبد الجبار: (اعلم أن الغرض بالتكليف التعريض لمنازل الثواب، فكل معنى أخرج المكلف من أن يستحق بفعله المدح، لم يجز أن يتناوله التكليف) (5).   (1) ((المحيط بالتكليف)) للقاضي عبد الجبار (21). (2) ((المختصر في أصول الدين)) (1/ 198). (3) ((المحيط بالتكليف)) (22). (4) ((المسودة)) لآل تيمية (84). (5) ((المغني)) (11/ 393). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 ثانيا – مسألة وجوب شكر المنعم سبحانه وتعالى: وقد أوضح القاضي عبد الجبار دخول هذه المسألة في أصل (العدل) فقال: (ومن علوم العدل، أن نعلم أن جميع ما بنا من النعم فمن الله تعالى، سواء كان من جهة الله تعالى، أو جهة غيره، ودخوله في العدل، أنه تعالى كلفنا الشكر على جميع ما بنا من النعم، فلولا أنها من فعله وإلا كان لا يكلفنا أن نشكره عليها أجمع، لأن ذلك يكون قبيحا) (1). ثالثا – لا يجوز عندهم نسخ العبادات والتكاليف: وقالوا معللين ذلك: (العبادات مصالح، فلا يجوز رفعها) (2).وقالوا: (من الأفعال ما لها صفات نفسية تقتضي حسنها وقبحها، فلا يمكن نسخها) (3). رابعا – لا يجوز للشارع التكليف مع المنع من فعل ما كلف: وعللوا ذلك بأن التكليف مع المنع من الفعل قبيح، فلا يحسن من الله تعالى أن يكلف العبد به. قال القاضي عبد الجبار: (اعلم أن من شرط المكلف: أن يكون مخلى بينه وبين ما كلف، ومتى كان هناك منع زالت التخلية وتعذر الفعل لأجله، فالتكليف قبيح. . . وأنه إنما لم يحسن تكليف ما لا يطاق لهذه العلة، وقد علمنا أن الفعل يتعذر مع المنع، كما أنه يتعذر مع العجز، فيجب ألا يحسن منه تعالى التكليف معه) (4). خامسا – لا يجوز إسماع الله المكلف العام المخصوص دون أن يسمعه المخصص: قال أبو الهذيل والشحام: (لو كان في معلوم الله سبحانه أنه يسمع الآية التي ظاهرها العموم من لا يسمع ما يخصصها، لم يجز أن ينزلها إلا ومعها تخصيصها) (5). سادسا – لا يجوز أن يقول الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم، أو للعالم احكم بما شئت: فعند المعتزلة لا يجوز أن يقول الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم، أو للعالم: احكم بما شئت، فإنك لا تحكم إلا بالحق ولا تقول إلا الصدق. قالوا معللين ذلك: (إن الشرائع إنما يتعبد الله بها لكونها مصالح، والإنسان قد يختار الصلاح، وقد يختار الفساد فلو أباح الله تعالى للإنسان الحكم بما يختاره لكان فيه إباحة الحكم بما لا يأمن من كونه فسادا) (6). وسيأتي أيضا بيان هذه المسائل كلها في موضعه من هذا البحث بعون الله تعالى، وتوفيقه. وأما (الوعد والوعيد)، فإن المعتزلة يقصدون بهذا الأصل أن من امتثل أوامر الله سبحانه وتعالى، فقد استحق الثواب على الطاعة والاتباع ولذلك وجب على الله تعالى أن يدخله الجنة، ومن ارتكب ما نهى الله عز وجل عنه، فقد استحق العقاب على المخالفة والعصيان، ولذلك وجب على الله تعالى أن يدخله النار. ولهذا قالوا: (الوعد والوعيد، ليس كلام الله الأزلي، وإنما أمر ونهي، ووعد وأوعد، بكلام محدث، فمن نجا فبفعله استحق الثواب، ومن خسر فبفعله استوجب العقاب، والعقل من حيث الحكمة يقتضي ذلك) (7). ومن مسائل أصول الفقه التي كان لأصل (الوعد والوعيد) أثر كبير فيها بالنسبة لهم، ما يلي: أولا – اشتراط الإرادة في الأمر والنهي: وقد علل المعتزلة اشتراط الإرادة فيهما بأنهما لو لم يكونا مشروطين بها لكان الشارع عابثا، وفي ذلك يقول القاضي عبد الجبار: (قد بينا من قبل أنه لا يجوز منه تعالى وقد خاطبنا بلغة مخصوصة وبكلام يتضمن الأمر والنهي، والوعد والوعيد، إلا ويريد بذلك أمرا ما، وإلا كان عابثا) (8).   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (134). (2) ((المسودة)) (200). (3) ((المستصفى)) للغزالي (1/ 122). (4) ((المغني)) (11/ 391)، ((متشابه القرآن)) (715). (5) ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (277). (6) ((المعتمد)) (2/ 329)، ((المسودة)) (54). (7) ((الملل والنحل)) (1/ 42). (8) ((المغني)) (17/ 39). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 ثانيا – الواجب المخير يقتضي وجوب الجميع على سبيل البدل: وفي ذلك يقول القاضي عبد الجبار مترجما رأي المعتزلة في هذه المسألة: (والصحيح أن حال الجميع سواء في أنه واجب) (1). فعندهم أن المكلف لا يجوز له الإخلال بجميع خصال الواجب المخير، وإلا كان مرتكبا لمحظور يستحق بسببه الوعيد. ثالثا – المحرم المخير، يجب فيه ترك الجميع: ولهذا قالوا: (إذا تعلق النهي بأشياء على جهة التخيير فإنه يقتضي المنع من الكل) (2). رابعا – المجتهد المخطئ يستحق الإثم والعقاب: وإلى ذلك ذهب الأصم وبشر المريسي (3) المعتزليان، ولهذا قالا: (الحق في أحكام الفروع واحد منها، وأن عليه دليلا يلزم كل أحد المصير إليه، والنظر فيه، والوصول إلى القول الذي هو ألحق به، وأن من قصر في ذلك فلم يصل إليه، ولم يقل به، فإنه مخطئ، ويختلف خطؤه، فربما كان كبيرا، وربما كان صغيرا) (4). خامسا – لا يجوز للعامي تقليد المجتهد في فروع الشريعة: ذهب المعتزلة البغداديون، إلى أنه لا يجوز للعامل تقليد المجتهد في فروع الشريعة، بل يجب عليه النظر وطلب الدليل، ولهذا قالوا: (لا يجوز له أن يأخذ بقوله إلا بعد أن يبين له حجته) (5).وأما أصل (المنزلة بين المنزلتين) فإنه تابع لأصل (الوعد والوعيد) فمن ارتكب ما نهى الله عنه، فإنه يكون عندهم فاسقا يستحق الخلود في النار إذا مات مصرا على فسقه، لكونه أحبط ثواب أعماله الصالحة بعصيانه، ولهذا قالوا: (إن المؤمن إذا خلط الحسنات بالسيئات، فهو مخلد في النار، والكبيرة الواحدة تحبط جميع الطاعات، لأن الثواب منفعة خالصة دائمة مع التعظيم، والعقاب مضرة خالصة دائمة مع الإهانة، فلا يجتمعان استحقاقا، إذ الجمع بينهما محال) (6).ويؤكد القاضي عبد الجبار ذلك، فيقول: (إن ما يستحقه المرء على الكبيرة من العقاب يحبط ثواب طاعاته) (7).وأما الأصل الأخير عندهم، وهو (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، فإنه تابع للأمر والنهي، ولهذا يقول الكرماستي (8) رحمه الله تعالى: (قالت المعتزلة بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحق أنه تابع للمأمور به والمنهي عنه، فيكون الأمر بالواجب واجبا، وبالمندوب مندوبا، والنهي عن الحرام واجبا، وعن المكروه مندوبا) (9). ومن هذا العرض الموجز، يتبين لنا بوضوح مدى الارتباط الوثيق والكبير بين أصولهم العقدية وآرائهم اللأصولية. المصدر: آراء المعتزلة الأصولية لعلي سعد الضويحي – ص 136   (1) ((المغني)) (17/ 123). (2) ((المغني)) (17/ 135)، ((المعتمد)) (1/ 169)، ((الوصول إلى الأصول)) (1/ 199)، ((التمهيد)) لأبي الخطاب (1/ 368)، ((المسودة)) (81). (3) ((وفيات الأعيان)) (1/ 277)، ((شذرات الذهب)) (2/ 44)، ((الفرق بين الفرق)) (204)، ((الفتح المبين)) (1/ 136). (4) ((شرح العمد)) (169)، ((المحصول)) للرازي (3/ 2/50). (5) ((المعتمد)) (2/ 360)، ((التبصرة)) للشيرازي (414)، ((المستصفى)) (2/ 361)، ((الوصول إلى الأصول)) (2/ 358)، ((التمهيد في تخريج الفروع على الأصول)) للأسنوي (526). (6) ((مقاصد الكلام)) (160)، ((اللباب في أصول الدين)) (66). (7) ((شرح الأصول الخمسة)) (632). (8) ((شذرات الذهب)) (7/ 365). (9) ((عقائد الفرق الناجية)) (32). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 المبحث الثالث: مناقشة المعتزلة في خوارق العادات والمعتزلة قبلهم ظنوا أن مجرد كون الفعل خلافاً للعادة هو الآية على صدق الرسول فلا يجوز ظهور خارق إلا لنبي، والتزموا طرداً لهذا إنكار أن يكون للسحر تأثير خارج عن العادة مثل أن يموت ويمرض بلا مباشرة شيء، وأنكروا الكهانة وأن تكون الجن تخبر ببعض المغيبات وأنكروا كرامات الأولياء، فأتى هؤلاء فأثبتوا ما أثبته الفقهاء وأهل الحديث من السحر والكهانة والكرامات. لكن قيل لهم فميزوا بين هذا وبين المعجزات؟ فقالوا: لا فرق في نفس الجنس، وليس في جنس مقدورات الرب ما يختص بالأنبياء، لكن جنس خرق العادة واحد، فهذا إذا اقترن بدعوى النبوة وسلم عن المعارضة عند تحدي الرسول بالمثل فهو دليل، فهي عندهم لم تدل لكونهم في نفسها وجنسها دليلاً، بل إذا استدل بها المدعي للنبوة كانت دليلاً وإن لم تكن دليلاً، ومن شرط الدليل سلامته عن المعارضة، وهي عندهم غاية الفرق، فإذا قال المدعي للنبوة: ائتوا بمثل هذه الآية فعجزوا كان هذا هو المعجز المختص بالنبي وإلا فيجوز عندهم أن تكون معجزات الرسول من جنس ما للسحرة والكهان من الخوارق إذا استدل بها الرسول. فالحجة عنده مجموع الدعوى والخارق لا الخارق وحده، والاعتبار بالسلامة عن المعارض بل قد لا يشترطون أن يكون خارقاً للعادة، لكن يشترطون أن لا يعارض وعجز الناس عن المعارضة مع أنه معتاد لا خارق للعادة، فالاعتبار عندهم بشيئين باقترانه بالدعوى وتحديه لمن دعاهم أن يأتوا بمثله فلا يقدرون. قالوا وخوارق الأنبياء يظهر مثلها على يد الساحر والكاهن والصالح ولا يدل على النبوة لأنه لم يدعها قالوا ولو ادعى النبوة أحد من أهل هذه الخوارج مع كذبه لم يكن بد من أن الله يعجزه عنها فلا يخلقها على يده أو يقبض له من يعارضه فتبطل حجته، وإذا قيل لهم لم قلتم أن الله لابد أن يفعل هذا وهذا، وعندكم يجوز عليه كل شيء؟ ولا يجب عليه فعل شيء؟ ولا يجب منه فعل شيء؟ قالوا: لأنه لو لم يمنعه من ذلك أو يعارضه بآخر لكان قد أتى بمثل ما يأتي به النبي الصادق فتبطل دلالة آيات الأنبياء. فإذا قيل لهم: وعلى أصلكم يجوز أنه يبطل دلالتها، وعندكم يجوز عليه فعل كل شيء؟ أجابوا بالوجهين المتقدمين: أما لزوم أنه ليس بقادر، أو أن الدلالة معلومة بالاضطرار، وقد عرف ضعفها، ثم هنا يلزمهم شيء آخر، وهو أنه لما قلتم أن المعجز الذي يدل به على صدق الأنبياء ما ذكرتموه من مجرد كونه خارقاً مع الدعوى، وعدم المعارضة فإن هذا يقال أنه باطل من وجوه. أحدها أنه إذا كان من يأتي به الساحر والكاهن، لكان أولئك يعارضون وهذا لا يعارض، فالاعتبار إذن بعدم المعارضة، فقالوا كل من ادعى النبوة وقال: معجزتي أن لا يدعيها غيري فهو صادق، أو لا يقدر غيري على دعواها فهو صادق، أو أفعل أمراً معتاداً من الأكل والشرب واللباس، ومعجزتي أن لا يفعله غيري أو لا يقدر غيري على فعله، فهو صادق، فالتزموا هذا، وقالوا المنعم من المعتاد كإحداث غير المعتاد، وعلى هذا فلو قال الرسول: معجزتي أني أركب الحمار، أو الفرس، أو آكل هذا الطعام أو ألبس هذا الثوب أو أعذر إلى ذلك المكان وأمثال ذلك، وغيره لا يقدر على ذلك، كان هذا آية دعواه وهذا لا ضابط له، فإن ما يعجز عنه قوم دون قوم لا ينضبط، ولكن هذا يفسد قول من فسرها بخرق العادة، فإن العادات تختلف وقد ذكروا هذا وقالوا المعجزة عند كل قوم ما كان خرقاً لعادتهم، وقالوا يشترط أن تكون خارقة لعادة من دعاهم، وإن كان معتاداً لغيرهم، وقالوا إذا كان المدعي كذاباً فإن الله يقبض له من يعارضه من أهل تلك الصناعة، أو يمنعه من القدرة عليها وهذا وجه ثان يدل على فساد ما أصلوه والمعتزلة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 الوجه الثالث أن المعارضة بالمثل أن يأتي بحجة مثل حجة النبي وحجته عندهم مجموع دعوى النبوة والإثبات بالخارق، فيلزم على هذا أن تكون المعارضة بأن يدعي غيره النبوة، ويأتي بالخارق، وعلى هذا فليست معارضة الرسول بأن يأتوا بالقرآن، أو عشر سور أو سورة، مثل أن يدعي أحدهم النبوة، ويفعل ذلك، وهذا خلاف العقل والنقل، ولو قال الرسول لقريش لا يقدر أحد منكم أن يدعي النبوة ويأتي بمثل القرآن، وهذا هو الآية، وإلا فمجرد تلاوة القرآن ليس آية، بل قد يقرؤه المتعلم له، فلا تكون آية، لأنه لم يدع النبوة ولو ادعاها لكان الله ينسيه إياه، أو يقيض له من يعارضه كما ذكرتم، لكانت قريش وسائر العلماء يعلمون أن هذا باطل. الرابع أنه إذا كان اعتمادكم على عدم المعارضة فقولوا ما قاله غيركم وهو أن آية سلامة ما يقوله من التناقض وأن كل من ادعى النبوة، وكان كاذباً فلابد أن يتناقض أو يقيض الله له من يقول مثل ما قال، وأما السلامة من التناقض من غير دعوى النبوة فليست دليلاً فهذا خير من قولكم فإنه قد علم أن كل ما جاء من عند غير الله فإنه لا بد أن يختلف ويتناقض وما جاء من عند الله لا يتناقض كما قال تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء: 82]. وأما دعوى الضرورة فمن ادعى الضرورة في شيء دون شيء مع تمثالهما، وعدم الفرق بينهما في نفس الأمر كانت دعواه مردودة بل كذباً، فإن وجود العلم الضروري بشيء دون شيء لابد أن يكون لفرق إما في المعلوم وإما في العالم، وإلا فإذا قدر تساوي المعلومات وتساوي حال العالم بها لم يعلم بالضرورة أحد المتماثلين دون الآخر. الخامس: أنه لابد أن تكون الآية التي للنبي أمراً مختصاً بالأنبياء فإن الدليل مستلزم للمدلول عليه، فآية النبي هي دليل صدقه وعلامة صدقه وبرهان صدقه فلا توجد قط إلا مستلزمة لصدقه، وقد ادعوا أن آيات صدقهم تكون منفكة عن صدقهم تكون لساحر وكاهن ورجل صالح، ولمدعي الإلهية لكن لا تكون لمن يكذب في دعوى النبوة فجوزوا وجود الدليل مع عدم المدلول عليه إلا إذا ادعى المدلول عليه كاذب، واستدلوا على ذلك بأن الساعة تخرق عندها خوارق، ولا تدل على صدق أحد، ولو ادعى مدعي النبوة مع تلك الخوارق لدلت، قالوا فعلم إن جنس ما هو معجز يوجد بدون صدق النبي، لكن مع دعوى النبوة لا يوجد إلا مع الصدق والآية عندهم الدعوى والخارق والصدق هو المدلول عليه فلا يكون ذلك كذلك إلا مع هذا، وأما وجود الخارق مجرداً عن الدعوى فليس بدليل ولا فرق عندهم بين خارق وخارق، وخارق معتاد عند قوم دون قوم وليس لهم ضابط في العادات. ولسائل أن يقول: جميع ما يفعله الله من الآيات في العالم فهو دليل على صدق الأنبياء ومستلزم له، وإن كانت الآيات معتادة لجنس الأنبياء أو لجنس الصالحين الذين يتبعون الأنبياء فهي مستلزمة لصدق مدعي النبوة فإنها إذا لم تكن إلا لنبي، أو من يتبعه لزم أن يكون من أحد القسمين، والكاذب في دعوى النوبة ليس واحداً منهما، فالتابع للأنبياء الصالح لا يكذب في دعوى النبوة قط ولا يدعيها إلا وهو صادق كالأنبياء المتبعين لشرع موسى، فإذا كان آية نبي إحياء الله الموتى لم يمتنع أن يحيي الله الموتى لنبي آخر، أو لمن يتبع الأنبياء كما قد أحيى الميت لغير واحد من الأنبياء ومن اتبعهم، وكان ذلك آية على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوة من قبله إذا كان إحياء الموتى مختصاً بالأنبياء وأتباعهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 وكذلك ما يفعله الله من الآيات والعقوبات بمكذبي الرسل كتغريق فرعون وإهلاك قوم عاد بالريح الصرصر العاتية، وإهلاك قوم صالح بالصيحة وأمثال ذلك، فإن هذا جنس لم يعذب به إلا من كذب الرسل، فهو دليل على صدق الرسل، وقد يميت الله بعض الناس بأنواع معتادة من البأس كالطواعين ونحوها، لكن هذا معتاد لغير مكذبي الرسل، أما ما عذب الله به مكذبي الرسل فمختص بهم، ولهذا كان من آيات الله كما قال: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء: 59]. وكذلك ما يحدثه من أشراط الساعة كظهور الدجال ويأجوج ومأجوج، وظهور الدابة، وطلوع الشمس من مغربها بل والنفخ في الصور وغير ذلك هو من آيات الأنبياء فإنهم أخبروا به قبل أن يكون فكذبهم المكذبون، فإذا ظهر بعد مئين أو ألوف من السنين كما أخبروا به كان هذا من آيات صدقهم، ولم يكن هذا إلا لنبي أو لمن يخبر عن نبي والخبر عن النبي هو خبر النبي، ولهذا كان وجود ما أخبر به الرسول من المستقبلات من آيات نبوته إذا ظهر المخبر به كما كان أخبر فيما مضى عرف صدقه فيما أخبر به إذ كان هذا، وهذا لا يمكن أن يخبر به إلا نبي أو من أخذ عن نبي، وهو لم يأخذ عن أحد من الأنبياء شيئاً، فدل على نبوته، ولهذا يحتج الله له في القرآن بذلك كما قد بسط في غير هذا الموضع. وأخبار الكهان فيها كذب كثير، والكاهن قد عرف أنه يكذب كثيراً مع فجوره قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء: 221 - 223]. والكهانة جنس معروف، ومعروف أن الكاهن يتلقى عن الشيطان ولابد من كذبهم وفجورهم والنبي لا يكذب قط، ولا يكون إلا براً تقياً، فالفرق بينهما ثابت في نفس صفاتهما وأفعالهما وآياتهما، لا يقول عاقل إن مجرد ما يفعله الكاهن هو دليل إن اقترن بصادق، وليس بدليل إذا لم يقترن بصادق، وأنه متى ادعاه كاذب لم يظهر على يده، وهذا أيضاً باطل. ويظهر بالوجه السادس وهو أنه قد ادعى جماعة من الكذابين النبوة وأتوا بخوارق من جنس خوارق الكهان والسحرة، ولم يعارضهم أحد في ذلك المكان والزمان وكانوا كذابين، فبطل قولهم أن الكذاب إذا أتى بمثل خوارق السحرة والكهان فلابد أن يمنعه الله ذلك الخارق، أو يقيض له من يعارضه، وهذا كالأسود العنسي الذي ادعى النبوة باليمن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم واستولى على اليمن كان معه شيطان سحيق ومحيق، وكان يخبر بأشياء غائبة من جنس أخبار الكهان، وما عارضه أحد عرف كذبه بوجوه متعددة، وظهر من كذبه وفجوره ما ذكره الله بقوله: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. وكذلك مسيلمة الكذاب، وكذلك الحارث الدمشقي ومكحول الحلبي وبابا الرومي لعنة الله عليهم، وغير هؤلاء كانت معهم شياطين كما هي مع السحرة والكهان. السابع: أن آيات الأنبياء ليس من شرطها استدلال النبي بها ولا تحديه بالإتيان بمثلها بل هي دليل على نبوته، وإن خلت عن هذين القيدين وهذا كأخبار من تقدم بنبوة محمد، فإنه دليل على صدقه، وإن كان هو لم يعلم بما أخبروا به، ولا يستدل به، وأيضاً فما كان يظهره الله على يديه من الآيات مثل تكثير الطعام والشراب مرات كنبع الماء من بين أصابعه غير مرة، وتكثير الطعام القليل حتى كفى أضعاف أضعاف من كان محتاجاً إليه، وغير ذلك كله من دلائل النبوة، ولم يكن يظهرها للاستدلال بها ولا يتحدى بمثلها بل لحاجة المسلمين إليها، وكذلك إلقاء الخليل في النار، إنما كان بعد نبوته ودعائه لهم إلى التوحيد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 الثامن: إن الدليل الدال على المدلول عليه ليس من شرط دلالته استدلال أحد به، بل ما كان النظر الصحيح فيه موصلاً إلى علم فهو دليل، وإن لم يستدل به أحد فالآيات أدلة وبراهين تدل سواء استدل به النبي أو لم يستدل وما لا يدل إذا لم يستدل به لا يدل إذا استدل به، ولا ينقلب ما ليس بدليل دليلاً إذا استدل به مدع لدلالته. التاسع: أن يقال آيات الأنبياء لا تكون إلا خارقة للعادة، ولا تكون مما يقدر أحد على معارضتها فاختصاصها بالنبي وسلامتها عن المعارضة شرط فيها بل وفي كل دليل فإنه لا يكون دليلاً حتى يكون مختصاً بالمدلول عليه ولا يكون مختصاً إلا إذا سلم عن المعارضة، فلم يوجد مع عدم المدلول عليه مثله، وغلا إذا وجد هو أو مثله بدون المدلول لم يكن مختصاً فلا يكون دليلاً، لكن كما أنه لا يكفي مجرد كونه خارقاً لعادة أولئك القوم دون غيرهم فلا يكفي أيضاً عدم معارضة أولئك القوم، بل لابد أن يكون مما لم يعتده غير الأنبياء فيكون خارقاً لعادة غير الأنبياء فمتى عرف أنه يوجد لغير الأنبياء بطلت دلالته، ومتى عارض غير النبي النبي بمثل ما أتى به بطل الاختصاص. وما ذكره المعتزلة وغيرهم كابن حزم من أن آيات الأنبياء مختصة بهم كلام صحيح، لكن كرامات الأولياء هي من دلائل النبوة، فإنها لا توجد إلا لمن اتبع النبي الصادق فصار وجودها كوجود ما أخبر به النبي من الغيب، وأما ما يأتي به السحرة والكهان من العجائب فتلك جنس معتاد لغير الأنبياء وأتباعهم بل الجنس معروف بالكذب والفجور فهو خارق بالنسبة إلى غير أهله، وكل صناعة فهي خارقة عند غير أهلها، ولا تكون آية وآيات الأنبياء هي خارقة لغير الأنبياء وإن كانت معتادة للأنبياء. العاشر: إن آيات الأنبياء خارجة عن مقدور من أرسل الأنبياء إليه وهم الجن والإنس، فلا تقدر الإنس والجن أن يأتوا بمثل معجز الأنبياء، كما قال تعالى: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: 88]. وأما الملائكة فلا تضر قدرتهم على مثل ذلك فإن الملائكة إنما تنزل على الأنبياء لا تنزل على السحرة، والكهان، كما أن الشياطين لا تنزل على الأنبياء والملائكة لا تكذب على الله، فإذا كانت الآيات من أفعال الملائكة مثل إخبارهم للنبي عن الله بالغيب، ومثل نصرهم له على عدوه وإهلاكهم له نصراً وهلاكاً خارجين عن العادة كما فعلته الملائكة يوم بدر وغيره، وكما فعلت بقوم لوط، وكما فعلت بمريم والمسيح ونحو ذلك وكإتيانهم سليمان بعرش بلقيس، فقد روي أن الملائكة جاءته به وهي أقدر من الجن لم يكن هذا خارجاً عما اعتاده الأنبياء، بل هذا ليس لغير الأنبياء فلا يقول أن غير الأنبياء اعتادوه فنقضت عادتهم، بل هذا لم يعتده إلا الأنبياء وهو مناقض لجنس عادات الآدميين بمعنى أنه لا يوجد فيما اعتاده بنو آدم في جميع الأصناف غير الأنبياء كما اعتادوا العجائب من السحر والكهانة والصناعات العجيبة، وما يستعينون عليه بالجن والإنس والقوى الطبيعية، مثل الطلاسم وغيرها، فكل هذا معتاد معروف لغير الأنبياء، وهؤلاء جعلوا الطلاسم من جنس المعجزات وقالوا: لو أتى بها نبي لكانت آية له، وإذا أتى بها من لا يدع النبوة جاز، وإن ادعاها كاذب سلبه الله علمها أو قيض له من يعارضه، وهذا قول قبيح، فإنه لو جعل شيء من معجزات الأنبياء وآياتهم من جنس ما يأتي به ساحر أو كاهن أو مطلسم أو مخدوم من الجن لاستوى الجنسان، ولم يكن فرق بين الأنبياء وبين هؤلاء، ولم يتميز بذلك النبي من غيره، وهذا مما عظم غلط هؤلاء فيه فلم يعرفوا خصائص النبي وخصائص آياته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 كما أن المتفلسفة أبعد منهم عن الإيمان فجعلوا للنبوة ثلاث خصائص: حصول العلم بلا تعلم، وقوة نفسه المؤثرة في هيولي العالم، وتخيل السمع والبصر. وهذه الثلاثة توجد لكثير من عوام الناس، ولم يفرقوا بين النبي والساحر إلا بأن هذا بر، وهذا فاجر، والقاضي أبو بكر وأمثاله يجعلون هذا الفرق سمعياً، والفرق الذي لابد منه عندهم الاستدلال بها والتحدي بالمثل، وكل من هؤلاء وهؤلاء أدخلوا مع الأنبياء من ليس بنبي ولم يعرفوا خصائص الأنبياء، ولا خصائص آياتهم فلزمهم جعل من ليس بنبي نبياً أو جعل النبي ليس بنبي إذ كان ما ذكروه في النبوة مشتركاً بين الأنبياء وغيرهم، فمن ظن أنه يكون لغير الأنبياء قدح في الأنبياء أن يكون هذا هو دليلهم بوجود مثل ما جاءوا به لغير النبي، ومن ظن أنه لا يكون إلا لنبي إذا رأى من فعله من متنبي كاذب وساحر وكاهن ظن أنه نبي، والإيمان بالنبوة أصل النجاة والسعادة، فمن لم يحقق هذا الباب اضطرب عليه باب الهدى والضلال والإيمان والكفر، ولم يميز بين الخطأ والصواب. ولما كان الذين اتبعوا هؤلاء من المتأخرين مثل أبي حامد والرازي والآمدي وأمثالهم، هذا ونحوه مبلغ علمهم بالنبوة لم يكن لها في قلوبهم من العظمة ما يجب لها فلا يستدلون بها على الأمور العلمية الخبرية، وهي خاصة النبي وهو الإخبار عن الغيب والإنباء به، فلا يستدلون بكلام الله ورسوله على الإنباء بالغيب التي يقطع بها بل عمدتهم ما يدعونه من العقليات المتناقضة، ولهذا يقرون بالحيرة في آخر عمرهم كما قال الرازي: نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا | ... وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقال لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فيما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: 10]. الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]. واقرأ في النفي: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]. وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه: 11] ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. الوجه الحادي عشر: إن آيات الأنبياء مما يعلم العقلاء أنها مختصة بهم ليست مما تكون لغيرهم فيعلمون أن الله لم يخلق مثلها لغير الأنبياء، وسواء في آياتهم التي كانت في حياة قومهم وآياتهم التي فرق الله بها بين أتباعهم وبين مكذبيهم بنجاة هؤلاء وهلاك هؤلاء، ليست من جنس ما يوجد في العادات المختلفة لغيرهم، وذلك مثل تغريق الله لجميع أهل الأرض إلا لنوح، ومن ركب معه في السفينة، فهذا لم يكن قط في العالم نظيره، وكذلك إهلاك قوم عاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد مع كثرتهم وقوتهم وعظم عمارتهم التي لم يخلق مثلها في البلاد، ثم أهلكوا بريح صرصر عاتية مسخرة سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، حتى صاروا كلهم كأنهم أعجاز نخل خاوية ونجا هود ومن اتبعه، وفهذا لم يوجد نظيره في العالم، وكذلك قوم صالح أصحاب مدائن ومساكن في السهل والجبل وبساتين أهلكوا كلهم بصيحة واحدة، وفهذا لم يوجد نظيره في العالم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 وكذلك قوم لوط أصحاب مدائن متعددة رفعت إلى السماء، ثم قلبت بهم واتبعوا بحجارة من السماء تتبع شاذهم ونجا لوط وأهله، إلا امرأته أصابها ما أصابهم، فهذا لم يوجد نظيره في العالم، وكذلك قوم فرعون وموسى جمعان عظيمان ينفرق لهم البحر كل فرق كالطود العظيم، فيسلك هؤلاء ويخرجون سالمين فإذا سلك الآخرون انطبق عليهم الماء، فهذا لم يوجد نظيره في العالم، فهذه آيات تعرف العقلاء عموماً أنها ليست من جنس ما يموت به بنو آدم، وقد يحصل لبعض الناس طاعون ولبعضهم جدب ونحو ذلك، وهذا مما اعتاده الناس وهو من آيات الله من وجه آخر بل كل حادث من آيات الله تعالى. ولكن هذه الآيات ليست من جنس ما اعتيد، وكذلك الكعبة فإنها بيت من حجارة بواد غير ذي زرع، ليس عندهم أحد يحفظها من عدو، ولا عندها بساتين وأمور يرغب الناس فيها، فليس عندها رغبة ولا رهبة، ومع هذا فقد حفظها بالهيبة والعظمة، فكل من يأتيها يأتيها خاضعاً ذليلاً. متواضعاً في غاية التواضع، وجعل فيها من الرغبة ما يأتيها الناس من أقطار الأرض محبة وشوقاً من غير باعث دنيوي، وهي على هذه الحال من ألوف من السنين، وهذا مما لا يعرف في العالم لبنية غيرها، والملوك يبنون القصور العظيمة فتبقى مدة، ثم تهدم لا يرغب أحد في بنائها ولا يرهبون من خرابها. وكذلك ما بني للعبادات قد تتغير حاله على طول الزمان، وقد يستولي العدو عليه كما استولى عليه بيت المقدس، والكعبة لها خاصة ليست لغيرها، وهذا مما حير الفلاسفة ونحوهم، فإنهم يظنون أن المؤثر في هذا العالم هو حركات الفلك، وأن ما بني وبقي فقد بني بطالع سعيد فحاروا في طالع الكعبة إذ لم يجدوا في الأشكال الفلكية ما يوجب مثل هذه السعادة والفرح والعظمة والدوام والقهر والغلبة، وكذلك ما فعل الله بأصحاب الفيل لما قصدوا تخريبها قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ [الفيل: 1 - 5]. قصدها جيش عظيم ومعهم الفيل، فهرب أهلها منهم فبرك الفيل وامتنع من المسير إلى جهتها، وإذا وجهوه إلى غير جهتها توجه، ثم جاءهم من البحر طير أبابيل أي جماعات في تفرقة فوجاً بعد فوج رموا عليهم حصى هلكوا به كلهم، فهذا مما لم يوجد نظيره في العالم، فآيات الأنبياء هي أدلة وبراهين على صدقهم، والدليل يجب أن يكون مختصاً بالمدلول عليه، لا يوجد مع عدمه، لا يتحقق الدليل إلا مع تحقق المدلول، كما أن الحادث لابد له من حدث فيمتنع وجود حادث بلا محدث ولا يكون المحدث إلا قادراً فيمتنع وجود الأحداث من غير قادر، والفعل لا يكون إلا من عالم ونحو ذلك، فكذلك ما دل على صدق النبي يمتنع وجوده إلا مع كون النبي صادقاً، ولم يجعلوا آيات الأنبياء تدل دلالة عقلية مستلزمة للمدلول، ولا تدل بجنسها ونفسها بل قال بعضهم: قد تدل، وقد لا تدل وقال آخرون: تدل مع الدعوى ولا تدل مع عدم الدعوى، وهذا يبطل كونها دليلاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 وآخرون أرادوا تحقيق ذلك فقالوا: تدل دلالة وضعية من جنس دلالة اللفظ على مراد المتكلم، تدل أن قصد الدلالة، ولا تدل بدون ذلك، فهي تدل مع الوضع دون غيره، فيقال لهم وما يدل على قصد المتكلم هو أيضاً دليل مطرد يمتنع وجوده بدون المدلول، ودلالته تعلم بالعقل فجميع الأدلة تعلم بالعقل دلالتها على المدلول، فإن ذلك اللفظ إنما يدل إذا علم، أن المتكلم أراد به هذا المعنى، وهذا قد يعلم ضرورة، وقد يعلم نظراً فقد يعلم قصد المتكلم بالضرورة كما يعلم أحوال الإنسان بالضرورة، فيفرق بين حمرة الخجل، وصفرة الوجل وبين حمرة المحموم، وصفرة المريض بالضرورة، وقد يعلم نظراً واستدلالاً كما يعلم أن عادته إذا قال كذا أن يريد كذا، وإنه لا ينقض عادته إلا إذا بين ما يدل على انتقاضها، فيعلم هذا كما يعلم سائر العاديات مثل طلوع الشمس كل يوم، والهلال كل شهر، وارتفاع الشمس في الصيف وانخفاضها في الشتاء، ومن هذا سنة الله في الفرق بين الأنبياء وأتباعهم، وبين مكذبهم قال تعالى: قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ [آل عمران: 137] وقال تعالى: فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر: 43]. وقال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] وقال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 36 - 37]. فإن هذه العجائب والآيات التي للأنبياء تارة تعلم بمجرد الأخبار المتواترة، وإن لم نشاهد شيئاً من آثارها، وتارة نشاهد بالعيان آثارها الدالة على ما حدث كما قال تعالى: وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ [العنكبوت: 38]. وقال تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا [النمل: 52]. وقال تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الصافات: 137 - 138]. وقال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ [الحجر: 75 - 79]. أي لبطريق موضح متبين لمن مر به آثارهم، وهذه الأخبار كانت منتشرة متواترة في العالم، وقد علم الناس أنها آيات للأنبياء، وعقوبة لمكذبيهم، ولهذا كانوا يذكرونها عند نظائرها للاعتبار، كما قال مؤمن آل فرعون: وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ [غافر: 30 - 31]. وقال شعيب: وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ [هود: 89]. والقرآن آيته باقية على طول الزمان من حين جاء به الرسول تتلى آيات التحدي به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 ويتلى قوله: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ [الطور: 34]. فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ [هود: 13]. بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ [يونس: 38]. ويتلى قوله: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: 88]. فنفس أخبار الرسول بهذا في أول الأمر، وقطعه بذلك مع علمه بكثرة الخلق، دليل على أنه كان خارقاً يعجز الثقلين عن معارضته، وهذا لا يكون لغير الأنبياء، ثم مع طول الزمان قد سمعه الموافق والمخالف والعرب والعجم، وليس في الأمم من أظهر كتاباً يقرأه الناس وقال أنه مثله، وهذا يعرفه كل أحد وما من كلام تكلم به الناس، وإن كان في أعلى طبقات الكلام لفظاً ومعنى إلا وقد قال الناس نظيره، وما يشبهه ويقاربه سواء كان شعراً أو خطابة أو كلاماً في العلوم والحكمة والاستدلال والوعظ والرسائل وغير ذلك، وما وجد من ذلك شيء إلا ووجد ما يشبهه ويقاربه. والقرآن مما يعلم الناس عربهم وعجمهم أنه لم يوجد له نظير مع حرص العرب وغير العرب على معارضته، فلفظه آية ونظمه آية، وأخباره بالغيوب آية، وأمره ونهيه آية، ووعده ووعيده آية، وجلالته وعظمته وسلطانه على القلوب آية، وإذا ترجم بغير العربية كانت معانيه آية، كل ذلك لا يوجد له نظير في العالم. وإذا قيل أن التوراة والإنجيل والزبور لم يوجد لها نظير أيضاً لم يضرنا ذلك، فإنا قلنا إن آيات الأنبياء لا تكون لغيرهم وإن كانت لجنس الأنبياء كالأخبار بغيب الله فهذه آية يشتركون فيها، وكذلك إحياء الموتى قد كان آيه فغير واحد من الأنبياء غير المسيح كما كان ذلك لموسى وغيره. وليس المقصود هنا ذكر تفضيل الأنبياء على بعض، الأنبياء على بعض، بل المقصود أن جنس الأنبياء متميزون عن غيرهم بالآيات والدلائل الدالة على صدقهم التي يعلم العقلاء إنها لم توجد لغيرهم، فيعلمون أنها ليست لغيرهم لا عادة ولا خرق عادة، بل إذا عبر عنها بأنها خرق عادة، وبأنها من العجائب فالأمر العجيب هو الخارج عن نظائره، وخارق العادة ما خرج عن الأمر المعتاد. فالمراد بذلك أنها خارجة عن الأمر المعتاد لغير الأنبياء، وأنها من العجائب الخارجة عن النظائر فلا يوجد نظيرها لغير الأنبياء، وإذا وجد نظيرها سواء كان أعظم منها أو دونها لنبي، فذلك توكيد لها أنها من خصائص الأنبياء، فإن الأنبياء يصدق بعضهم بعضاً، فآية كل نبي آية لجميع الأنبياء، كما أن آيات أتباعهم آيات لهم أيضا، وهذا أيضاً من آيات الأنبياء وهو تصديق بعضهم لبعض، فلا يوجد من أصحاب الخوارق العجيبة التي تكون لغير الأنبياء كالسحرة والكهنة وأهل الطبائع والصناعات إلا من يخالف بعضهم بعضاً فيما يدعو إليه ويأمر به، ويعادي بعضهم بعضاً، وكذلك أتباعهم إذا كانوا من أهل الاستقامة، فما أتى به الأول من الآيات فهو دليل على نبوته ونبوة من يبشر به، وما أتى به الثاني فهو دليل على نبوته ونبوة من يصدقه ممن تقدم، فما أتى به موسى والمسيح وغيرهما من الآيات فهي آيات لنبوة محمد لأخبارهم بنبوته، فكان هذا الخبر مما دلت آياتهم على صدقه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 وما أتى به محمد من الآيات فهو دليل على إثبات جنس الأنبياء مطلقاً، وعلى نبوة كل من سمي في القرآن خصوصاً إذا كان هذا مما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم عن الله، ودلت آياته على صدقه فيما يخبر به عن الله، وحينئذ فإذا قدر أن التوراة أو الإنجيل أو الزبور معجز لما فيه من العلوم والأخبار عن الغيوب، والأمر والنهي، ونحو ذلك لم ينازع في ذلك بل هذا دليل على نبوتهم صلوات الله عليهم، وعلى نبوة من أخبروا بنبوته، ومن قال إنها ليست بمعجزة، فإن أراد ليست معجزة من جهة اللفظ والنظم كالقرآن فهذا ممكن، وهذا يرجع إلى أهل اللغة العبرانية. وأما كون التوراة معجزة من حيث المعان لما فيها من الأخبار عن الغيوب أو الأمر والنهي، فهذا لا ريب فيه، ومما يدل على أن كتب الأنبياء معجزة أن فيها الأخبار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بمدة طويلة، وهذا لا يمكن عمله بدون إعلام الله لهم، وهذا بخلاف من أخبر بنبوته من الكهان والهواتف، فإن هذا إنما كان عند قرب مبعثه لما ظهرت دلائل ذلك واسترقته الجن من الملائكة فتحدثت به، وسمعته الجن من أتباع الأنبياء فالنبي الثاني إذا كان قد أخبر بما هو موجود في كتاب النبي الأول، وقد وصل إليه من جهته لم يكن آية له، فإن العلماء يشاركونه في هذا. وأما إذا أخبر بقدر زائد لم يوجد في خبر الأول أو كان ممن لم يصل إليه خبر نبي غيره كان ذلك آية له كما يوجد في نبوة أشعيا وداود وغيرهما من صفات النبي ما لا يوجد مثله في توراة موسى، فهذه الكتب معجزة لما فيها من أخبار الغيب الذي لا يعلمه إلا نبي، وكذلك فيها من الأمر والنهي والوعد والوعيد ما لا يأتي به نبي، أو تابع نبي، وما أتى أتباع الأنبياء من جهة كونهم أتباعاً لهم مثل أمرهم بما أمروا به ونهيهم عما نهوا عنه، ووعدهم بما وعدوا به ووعيدهم بما يوعدون به، فإنه من خصائص الأنبياء والكذب المدعي للنبوة لا يأمر بجميع ما أمرت به الأنبياء، ونهى عن كل ما نهوا عنه، فإن ذلك يفسد مقصوده وهو كاذب فاجر شيطان من أعظم شياطين الإنس، والذي يعينه على ذلك من أعظم شياطين الجن. وهؤلاء لا يتصور أن يأمروا بما أمرت به الأنبياء، وينهوا عما نهوا عنه لأن ذلك يناقض مقصودهم، بل وإن أمروا بالبعض في ابتداء الأمر من يدعونه ويربطونه، فلابد أن يناقضوا فيأمروا بما نهت عنه الأنبياء. ولا يوجبوا ما أمرت به الأنبياء، كما جرى مثل ذلك لمن ادعى النبوة من الكذابين ولمن أظهر موافقة الأنبياء، وهو في الباطن من المنافقين كالملاحدة الباطنية الذين يظهرون الإسلام والتشيع ابتداء، ثم أنهم يستحلون الشرك والفواحش والظلم ويسقطون الصلاة والصيام وغير ذلك مما جاءت به الشريعة، فمن أظهر خلاف ما أبطن، وكان مطاعاً في الناس فلابد أن يظهر من باطنه ما يناقض ما أظهره. فكيف بمن ادعى النبوة وأظهر أنه صادق على الله وهو في الباطن كاذب على الله، بل من أظهر خلاف ما أبطن من آحاد الناس يظهر حاله لمن خبره في مدة، فإن الجسد مطيع للقلب، والقلب هو الملك المدبر له، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب)) (1). فإذا كان القلب كاذباً على الله فاجراً كان ذلك أعظم الفساد فلابد أن يظهر الفساد على الجوارح، وذلك الفساد يناقض حال الصادق على الله، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع. آيات الأنبياء الدالة على صدقهم:   (1) رواه البخاري (52) , ومسلم (1599) , من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 ذكر أن آيات الأنبياء الدالة على صدقهم كثيرة متنوعة، وأن النبي الصادق خير الناس، والكاذب على الله شر الناس، وبينهما من الفروق ما لا يحصيه إلا الله. فكيف يشتبه هذا بهذا، بل لهذا من دلائل صدقه، ولهذا من دلائل كذبه ما لا يمكن إحصاؤه، وكل من خص دليل الصدق بشيء معين فقط غلط. بل آيات الأنبياء هي من آيات الله الدالة على أمره ونهيه ووعده ووعيده. وآيات الله كثيرة متنوعة كآيات وجوده ووحدانيته وعلمه وقدرته وحكمته ورحمته سبحانه وتعالى. والقرآن مملوء من تفصيل آياته وتصريفها وضرب الأمثال في ذلك، وهو يسميها آيات وبراهين. وقد ذكرنا الفرق بين الآيات والمقاييس الكلية التي لا تدل إلا على أمر كلي في غير هذا الموضع. الوجه الثاني عشر: إن ما يأتي به الساحر والكاهن وأهل الطبائع والصناعات والحيل، وكل من ليس من أتباع الأنبياء لا يكون إلا من مقدور الإنس والجن، فما يقدر عليه الإنس من ذلك هو وأنواعه والحيل فيه كثير. وما يقدر عليه الجن هو من جنس مقدور الإنس من ذلك هو وأنواعه والحيل فيه كثير. وما يقدر عليه الجن هو من جنس مقدور الإنس وإنما يختلفون في الطريق، فإن الساحر قد يقدر على أن يقتل إنساناً بالسحر أو يمرضه أو يفسد عقله أو حسه وحركته وكلامه بحيث لا يجامع أو لا يمشي أو لا يتكلم ونحو ذلك، وهذا كله مما يقدر الإنس على مثله لكن بطرق أخرى، والجن يطيرون في الهواء وعلى الماء، ويحملون الأجسام الثقيلة كما قال العفريت لسليمان: قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ [النمل: 39] وهذا الجنس يكون لمن هو دون الإنس والجن من الحيوان كالطيور والحيتان والإنس يقدر على جنسه، ولهذا لم يكن هذا الجنس آية لنبي لوجوده لغير الأنبياء فكثير من الناس تحمله الجن بل شياطين الجن وتطير به في الهواء وتذهب به إلى مكان بعيد، كما كان العفريت يحمل عرش بلقيس من اليمن إلى مكان بعيد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 ونحن نعرف من هؤلاء عدداً كثيراً وليسوا صالحين بل فيهم كفار ومنافقون وفساق وجهال لا يعرفون الشريعة والشياطين تحملهم وتطير بهم من مكان إلى مكان، وتحملهم إلى عرفات فيشهدون عرفات من غير إحرام ولا تلبية ولا طواف بالبيت وهذا الفعل حرام. والجهال يحسبون أنه من كرامات الصالحين فتفعله الجن بمن يحب ذلك مكراً به وخديعة أو خدمة لمن يستخدمهم من هؤلاء الجهال بالشريعة وإن كان له زهد وعبادة. وكذلك الجن كثيراً ما يأتون الناس بما يأخذونه من أموال الناس من طعام وشراب ونفقة وماء وغير ذلك وهو من جنس ما يسرقه الإنسي ويأتي به إلى الإنسي لكن الجن تأتي بالطعام والشراب في مكان العدم، ولهذا لم يكن مثل هذا آية لنبي وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع يده في الماء فينبع الماء من بين أصابعه وهذا لا يقدر عليه لا أنس ولا جن، وكذلك الطعام القليل يصير كثيراً، وهذا لا يقدر عليه لا الجن ولا الأنس ولم يأت النبي صلى الله عليه وسلم قط بطعام من الغيب ولا شراب، وإنما كان هذا قد يحصل لبعض أصحابه كما أتى حبيب بن عدي وهو أسير بمكة بقطف من عنب، وهذا الجنس ليس من خصائص الأنبياء ومريم عليها السلام لم تكن نبية وكانت تؤتى بطعام، فإن هذا قد يكون من حلال فيكن كرامة يأتي به إما ملك، وإما جني مسلم وقد يكون حراماً، فليس كل ما كان من آيات الأنبياء يكون كرامة للصالحين، وهؤلاء يسوون بين هذا وهذا، ويقولون: الفرق هو دعوى النبوة والتحدي بالمثل، وهذا غلط فإن آيات الأنبياء عليهم السلام التي دلت على نبوتهم هي أعلى مما يشتركون فيه هم وأتباعهم مثل الإتيان بالقرآن، ومثل الإخبار بأحوال الأنبياء المتقدمين وأممهم والأخبار بما يكون يوم القيامة، واشراط الساعة ومثل إخراج الناقة من الأرض ومثل قلب العصا حية وشق البحر، ومثل أن يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وتسخير الجن لسليمان لم يكن مثله لغيره. لكن من الجن المؤمنين من يعاون المؤمنين، ومن الجن الفساق والكفار من يعاون الفساق كما يعاون الإنس بعضهم بعضاً فإما طاعة مثل طاعة سليمان، فهذا لم يكن لغير سليمان عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم أعطي أفضل مما أعطي سليمان عليه السلام فإنه أرسل إلى الجن وأمروا أن يؤمنوا به ويطيعوه فهو يدعوهم إلى عبادة الله وطاعته لا يأمرهم بخدمته وقضاء حوائجه ما كان سليمان يأمرهم ولا يقهرهم بل يفعل فيهم كما يفعل في الإنس، فيجاهدهم الجن والمؤمنون ويقيمون الحدود على منافقيهم فيتصرف فيهم تصرف العبد الرسول لا تصرف النبي الملك. كما كان سليمان يتصرف فيهم والصالحون من أمته المتبعون له يتبعونه فيما كان يأمر به الإنس والجن وآخرون دون هؤلاء قد يستخدمون بعض الجن في مباحات كما قد يستخدمون بعض الإنس وقد يكون ذلك مما ينقص دينهم لا سيما إن كان بسبب غير مباح وآخرون شر من هؤلاء يستخدمون الجن في أمور محرمة من الظلم والفواحش فيقتلون نفوساً بغير حق ويعينونهم على ما يطلبونه من الفاحشة كما يحضرون لهم امرأة أو صبياً، أو يجذبونه إليه وآخرون يستخدمونهم في الكفر، فهذه الأمور ليست من كرامات الصالحين، فإن كرامات الصالحين هو ما كان سببه الإيمان والتقوى لا ما كان سببه الكفر والفسوق والعصيان، وأيضاً فالصالحون سابقوهم لا يستخدمونهم إلا في طاعة الله ورسوله، ومن هو دون هؤلاء لا يستخدمهم إلا في مباح وأما استخدامهم في المحرمات فهو حرام، وإن كانوا إنما خدموه لطاعته لله كما لو خدم الإنس رجلاً صالحاً لطاعته لله، ثم استخدمهم فيما لا يجوز فهذا بمنزلة من أنعم عليه بطاعته نعمة فصرفها إلى معصية الله فهو آثم بذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 وكثير من هؤلاء يسلب تلك النعمة، ثم قد يسلب الطاعة يصير فاسقاً، ومنهم من يرتد عن دين الإسلام، فطاعة الجن للإنسان ليست أعظم من طاعة الإنس، بل الإنس أجل وأعظم، وأفضل، وطاعتهم أنفع، وإذا كان المطاع من الإنس قد يطاع في طاعة الله فيكون محموداً مثاباً، وقد يطاع في معصية الله فيكون مذموماً آثماً. فكذلك المطاع من الجن الذي يطيعه الناس، والمطاع من الإنس قد يكون مطاعاً لصلاحه ودينه. وقد يكون مطاعاً لملكه وقوته، وقد يكون مطاعاً لنفعه لمن يخدمه بالمعاوضة، فكذلك المطاع من الجن قد يطاع لصلاحه ودينه وقد يطاع لقوة وملك محمود أو مذموم، ثم الملك إذا سار بالعدل حمد، وإن سار بالظلم فعاقبته مذمومة، وقد يهلكه أعوانه فكذلك المطاع من الجن إذا ظلمهم أو ظلم الإنس بهم أو بغيرهم، كانت عاقبته مذمومة وقد تقتله الجن أو تسلط عليه من الإنس من يقتله، وكل هذا واقع نعرف من ذلك من الوقائع ما يطول وصفه كما نعرف من ذلك من وقائع الإنس ما يطول وصفه، وليس آيات الأنبياء في شيء من هذا الجنس. ونبينا صلى الله عليه وسلم لما أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى إنما أسري به ليرى من آيات ربه الكبرى، وهذا هو الذي كان من خصائصه أن مسراه كان هذا كما قال تعالى: أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم: 12 - 15]. وقال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ [الإسراء: 60]. قال ابن عباس هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به فهذا الذي كان من خصائصه، ومن أعلام نبوته وأما مجرد قطع تلك المسافة، فهذا يكون لمن تحمله الجن، وقد قال العفريت لسليمان: قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ [النمل: 39] وحمل العرش من القصر من اليمن إلى الشام أبلغ من ذلك. وقال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، فهذا أبلغ من قطع المسافة التي بين المسجدين في ليلة ومحمد صلى الله عليه وسلم أفضل من الذي عنده علم من الكتاب ومن سليمان، فكان الذي خصه الله به أفضل من ذلك، وهو أنه أسري به في ليلة ليريه من آياته، فالخاصة أن الإسراء كان ليريه من آياته الكبرى كما رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى. فهذا ما حصل مثله لا لسليمان ولا لغيره، والجن وإن قدروا على حمل بعض الناس في الهواء فلا يقدرون على إصعاده إلى السماء وإراءته آيات ربه الكبرى، فكان ما آتاه الله محمداً خارجاً عن قدرة الجن والإنس، وإنما كان الذي صحبه في معراجه جبريل الذي اصطفاه الله لرسالته، والله يصطفي من الملائكة رسلاً، ومن الناس، وكان المقصود من الإسراء أن يريه ما رآه من آياته الكبرى، ثم يخبر به الناس. فلما أخبر به كذب به من كذب من المشركين، وصدق به الصديق وأمثاله من المؤمنين، فكان ذلك ابتلاء ومحنة للناس كما قال: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ [الإسراء: 60]. أي محنة وابتلاء للناس ليتميز المؤمن عن الكافر، وكان فيما أخبرهم به أنه رأى الجنة والنار وهذا مما يخوفهم به قال تعالى: وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا [الإسراء: 60]. والرسول لما أخبرهم بما رآه كذبوه في نفس الإسراء وأنكروا أن يكون أسري به إلى المسجد الأقصى، فلما سألوه عن صفته فوصفه لهم وقد علموا أنه لم يره قبل ذلك، وصدقه من رآه منهم كان ذلك دليلاً على صدقه في المسرى، فلم يمكنهم مع ذلك تكذيبه فيما لم يروه، وأخبر الله تعالى بالمسرى على المسجد الأقصى لأنهم قد علموا صدقه في ذلك بما أخبرهم به من علاماته فلا يمكنهم تكذيبه في ذلك. وذكر أنه رأى من آيات ربه الكبرى ولم يعين ما رآه وهو جبريل الذي رآه في صورته التي خلق عليها مرتين، لأن رؤية جبريل هي من تمام نبوته، ومما يبين أن الذي أتاه بالقرآن ملك لا شيطان كما قال في سورة إذا الشمس كورت: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 19 - 21] ثم قال: وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ [التكوير: 22 - 27]. المصدر: النبوات لابن تيمية - ص175 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 المبحث الرابع: موقف المعتزلة من الحكمة والتعليل يرى المعتزلة أنه لا يجوز أن يخلو فعل من أفعاله تعالى من حكمة وغرض، وقالوا: "قد قام الدليل على أنه تعالى حكيم، والحكيم من تكون أفعاله على إحكام وإتقان، ولا يصح أن يفعل فعلا جزافاً لا لفائدة وغاية، بل لابد أن يريد غرضا ويقصد صلاحا" (1). كما قالوا: أن من يفعل لا لغرض يعد عابثاً، والله تعالى منزه عن العبث. وإليك ما قاله القاضي عبدالجبار المعتزلي:"إن الله سبحانه ابتدأ الخلق لعلة، نريد بذلك وجه الحكمة الذي له حسن منه الخلق، فيبطل على هذا الوجه قول من قال: إنه تعالى خلق الخلق لا لعلة، لما فيه من إيهام أنه خلقهم عبثا، لا لوجه تقتضيه الحكمة. وذلك – أي نقص من يفعل لا لغرض – ظاهر في الشاهد لأن الواحد إذا أراد النيل من غيره قال عنه: إنه يفعل الأفعال لا لعلة ولا لمعنى. فيقوم هذا القول مقام أن يقال: إنه يعبث في أفعاله، وإذا به في المدح يقول: إن فلانا يفعل أفعاله لعلة صحيحة ولمعنى حسن" (2). الفرق بين موقف المعتزلة والسلف: هناك فرق بين موقف السلف والمعتزلة فيما يتعلق بالحكمة والتعليل – رغم أن الجميع يثبتون تعليل أفعال الله تعالى – ومن ذلك: 1 - أن الحكمة بينما هي عند السلف صفة لله غير مخلوقة، فإنها عند المعتزلة مخلوقة منفصلة، وهي تعود على العباد ولا يعود إليه منها حكم."فالمقصود بالحكمة عندهم: إحسانه إلى الخلق ومراعاة مصالحهم، كما أن الحكمة في الأمر تعويض المكلفين بالثواب" (3).وقالوا: الحكيم لا يفعل إلا لينتفع أو ينفع غيره، ولما تقدس تعالى عن الانتفاع تعين أنه إنما يفعل لينفع العباد، فلا يخلو فعل من أفعاله من صلاح (4). وقد رد عليهم السلف في هذا القول، وقالوا: إن الله حكيم، والحكيم من له الحكمة فهي صفة له، لأن إثبات المشتق يؤذن بثبوت المشتق منه، إذا فالحكمة صفه له، وصفاته تعالى غير مخلوقة.   (1) ((الشهرستاني))، ((نهاية الإقدام)) (ص400). (2) القاضي عبدالجبار ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (11/ 92، 93). (3) ابن تيمية ((الفتاوى)) (8/ 89). (4) الشهرستاني، (نهاية الإقدام) (ص 397، 398). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على المعتزلة في قولهم بأن الحكمة لا يعود إليه تعالى منها حكم، ولا قام به فعل ولا نعت: "أنتم – أيها المعتزلة – متناقضون في هذا القول لأن الإحسان إلى الغير محمود لكونه يعود منه على فاعله حكم يحمد لأجله، إما لتكميل نفسه بذلك، وإما لقصده الحمد والثواب بذلك، وإما لرقة وألم يجده في نفسه يدفع بالإحسان ذلك الألم. وإما لالتذاذه وسروره وفرحه بالإحسان، فإن النفس الكريمة تفرح وتسر وتلتذ بالخير الذي يحصل منها إلى غيرها، فالإحسان إلى الغير محمود؛ لكون المحسن يعود إليه من فعله هذه الأمور حكم يحمد لأجله. أما إذا قدر أن وجود الإحسان وعدمه بالنسبة إلى الفاعل سواء لم يعلم أن مثل هذا الفعل يحسن منه، بل مثل هذا يعد عبثا في عقول العقلاء، وكل من فعل فعلا ليس فيه لنفسه لذة ولا مصلحة ولا منفعة بوجه من الوجوه لا عاجلة ولا آجلة كان عبثا، ولم يكن محمودا على هذا. وأنتم عللتم أفعاله فرارا من العبث فوقعتم في العبث، فإن العبث هو الفعل الذي ليس فيه مصلحة ولا منفعة ولا فائدة تعود على الفاعل" (1).فقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية تناقض المعتزلة، لأنهم يوجبون أن تكون أفعال الله تعالى لحكمة هي الإحسان إلى الغير دون أن يعود إلى الله من ذلك حكم ويقرر أن الفاعل ما لم يعد عليه من فعله فائدة ولا منفعة ولا مصلحة، فإنه يعد عبثا، ومقصوده بما يعود إلى الله هو حبه ورضاه لتلك الحكم والمصالح، ولا يصح أن يقال: إنه يعود إليه نفع من تلك الحكم لأنه تعالى منزه عن الاحتياج والانتفاع بالغير" (2). 2 - ثم إن المعتزلة أوجبوا على الله تعالى بمقتضى الحكمة أمورا ومنعوا عليه أمورا لمخالفتها لمقتضى الحكمة، فمما أوجبوا عليه فعل الصلاح وأوجب بعضهم الأصلح للعباد. كما أوجبوا اللطف وإثابة المطيع ومعاقبة العاصي والعوض عن الآلام. وقد نازعهم في ذلك الماتريدية بناءً على منع كون مقابلاتها خلافاً للحكمة (3). كما لم يوافقهم السلف على إيجاد هذه المذكورات لأنه لا يجب عليه تعالى إلا ما أوجبه على نفسه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا المقام:"وأما الإيجاب عليه سبحانه وتعالى والتحريم بالقياس على خلقه، فهذا قول القدرية. وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول (4). 2 - كما أن إطلاق المعتزلة لفظ "الغرض" بمعنى الحكمة في حق الله تعالى، وتسمية الحكمة غرضاً لا يوافق عليه السلف. المصدر: الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى لمحمد المدخلي - ص 50   (1) ابن تيمية، ((مجموعة الرسائل والمسائل))، رسالة أقوم ما قيل في الحكمة والتعليل (ص119 - 120). (2) محمد عبده، ((حاشيته على شرح الجلال على العضدية)) (ص 177). (3) الكمال بن الهمام، ((المسايرة)) (ص: 155) مطبوع مع الشرح. (4) ابن تيمية، ((اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم)) (ص 409 - 410). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 المبحث الخامس: ذكر ما حرفت المعتزلة من معاني التنزيل لإبطال صفة الكلام أولاً: تكليم الله تعالى لموسى عليه السلام: قالوا: إن الله خلق كلاماً في الشجرة التي أتاها موسى فسمعه موسى. واستدلوا بقوله تعالى: نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ [القصص: 30] على أن ابتداء الكلام كان من الشجرة. فحرفوا التنزيل، ليثبتوا التعطيل، بتقرير أصلهم الفاسد، ونفي صفة الله تعالى. والرد عليهم من وجوه: الأول: أن الكلام هو ما قام بالمتكلم لا ما قام بغيره، وقيام الصفة إنما يكون بالموصوف بها لا بغيره، والصفة إذا قامت بمحل كانت صفة له لا صفة لغيره – كما فصلت القول فيه في الباب الأول – فما خلقه الله تعالى من الصفات في الأشياء ليس من ذلك شيء صفة له، إنما هي صفات لمخلوقاته، فهو تعالى قد أنطق سائر الأشياء نطقاً معتاداً أو غير معتاد، فأنطق الإنسان والجان وغير ذلك من خلقه نطقاً معتاداً، وأنطق السماوات والأرض وما بينهما نطقاً غير معتاد، كما قال تعالى: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44] وقال في غير موضع يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [التغابن: 1] وانطق الطير لسليمان، وأنطق النملة، وأسمع نبيه صلى الله عليه وسلم تسبيح الحصى، وفي الآخرة تنطق الجنة والنار، وتحدث الأرض بأخبارها، وتشهد الجلود على أهلها حين تبلى السرائر: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت: 21] فكل هذا الإنطاق من خلق الله في الأشياء، فنطقها صفات لها، ولا يقول أحد: عن نطق الأشياء صفة لله، إلا حلولي مارق يعتقد أن صفة الله تحل في المخلوق، أو اتحادي يرى اتحاد المخلوق في الخالق، فنطق المخلوق وصوته وكلامه هو بعينه صفة الرب تعالى، كما قال قائلهم: وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه وهذا غاية الكفر والإلحاد، إذ مقتضاه أن ما ينطق به المخلوق من الخير والشر وفحش القول، بل وحتى أصوات البهائم وسائر الحيوانات، كل ذلك صفة للرب تعالى وتقدس وتنزه عن صفات خلقه. فلو أخلصت المعتزلة النية لله وسألوه التوفيق لاهتدوا إلى فحش ما أقدموا عليه، ولكنهم حرموا ذلك فهم عن الصراط لناكبون، فحسبوا أن الصوت الذي سمعه موسى صوت مخلوق في الشجرة، كنحو صفير ورقها إذا عصفت الريح، وما عقلوا أن معنى هذا أن الشجرة هي القائلة لموسى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] وهي القائلة: يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص: 30] ولا فرق حينئذ بين دعوى الشجرة ودعوى فرعون، فكل ادعى الربوبية، فصدق موسى الشجرة وكذب فرعون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 والثاني: أن الله تعالى حين أخبر عن تكليمه لموسى قال: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 194] فأكده بالمصدر تَكْلِيمًا وقد قال جماعة من أهل التحقيق في العربية: "إن التوكيد بالمصدر ينفي المجاز".والثالث: قال ابن قتيبة رحمه الله: "خرجوا بهذا التأويل من اللغة ومن المعقول، لأن معنى "تكلم الله" أتى بالكلام من عنده، و "ترحم الله" أتى بالرحمة من عنده، كما يقال: "تخشع فلان" أتى بالخشوع من نفسه، و "تشجع" أتى بالشجاعة من نفسه، و "تبتل" أتى بالتبتل من نفسه، و "تحلم" أتى بالحلم من نفسه، ولو كان المراد: أوجد كلاماً، لم يجز أن يقال: "تكلم" وكان الواجب أن يقال: "أكلم" كما يقال: "أقبح الرجل" أتى بالقباحة، و "أطاب" أتى بالطيب، و "أخس" أتى بالخساسة، وأن يقال: "أكلم الله موسى إكلاماً" كما يقال: "أقبر الله الرجل" أي جعل له قبراً، أو "أرعى الله الماشية" جعلها ترعى، في أشباه لهذا كثيرة لا تخفى على أهل اللغة" (1). والرابع: أن تكليم الله تعالى لموسى كان خصيصة فضل بها على غيره ممن لم يؤت مثل ما أوتي من الرسل، وقد قال تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء [الشورى: 51] فإن كان التكليم لموسى حصل بواسطة الشجرة لم يكن له على من سواه ممن يوحى إليه بواسطة الرسول فضل، ولم تكن منزلة التكليم من وراء حجاب حاصلة لأحد من رسل الله، وهذا تكذيب للقرآن، وإبطال لواضح البرهان، فجازى الله تعالى الجهمية المعتزلة على ما أرادوا به إفساد دين المسلمين بما هم أهله. والخامس: أن قوله مِنَ الشَّجَرَةِ لابتداء الغاية نحو ذلك: "رأيت الهلال من داري" و "سمعت كلام زيد من البيت" فليس الهلال في الدار، ولا البيت هو المتكلم. ثانياً: إضافة الكلام إلى الله سبحانه وتعالى في مثل قوله: "حتى يسمع كلام الله": قالوا: هي إضافة خلق وتشريف لا إضافة صفة، كـ "بيت الله" و "ناقة الله" و "رسول الله". وهذا نوع آخر من تمويههم وتلبيسهم ليفروا من الحق وينفروا الخلق. والرد عليهم في هذا التشويش يطول شرحه، ولكن أذكر ها هنا قاعدة ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المسألة تغني اللبيب عن التفصيل. قال رحمه الله: "كل ما يضاف إلى الله إن كان عيناً قائمةً بنفسها فهو ملك له، وإن كان صفة قائمة بغيرها ليس لها محل تقوم به فهو صفة لله" (2). ومثل لما كان عيناً قائمةً بنفسها بقوله تعالى: نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا [الشمس: 13] وقوله: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا [مريم: 17] قال: "وهو جبريل". فهذا خلق له وملك له، ومثله: "رسول الله" و"عباد الله" و "قبلة الله" ونحو ذلك. ومثل لما كان صفة قائمة بغيرها بـ "علم الله، كلام الله، قدرة الله، حياة الله، أمر الله". فهذه إذا أضيفت إلى الله تعالى كانت صفات له. قال: "لكن قد يعبر بلفظ المصدر عن المفعول به، فيسمى المعلوم علماً، والمقدور قدرة، والمأمور به أمراً، والمخلوق بالكلمة كلمة، فيكون ذلك مخلوقاً، كقوله: أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: 1] وقوله: إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [آل عمران: 45] وقوله: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ [النساء: 171] " (3). قلت: وإنما يصار إلى هذا المعنى بالقرائن، أما بمجرد إضافة الصفة إلى الله فإنها حينئذ صفة له. المصدر: العقيدة السلفية في كلام رب البرية لعبدالله يوسف الجديع – ص 317   (1) ((الاختلاف في اللفظ)) (ص 233 - 234) – ((عقائد السلف)). (2) ((مجموع الفتاوى)) (9/ 290). (3) ((مجموع الفتاوى)) (9/ 291). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 المبحث السادس: بين المعتزلة والقدرية والجهمية لقد عرف العالم الإسلامي حركات فلسفية متطرفة إثر دخول أفواج من الأمم ذات الديانات والفلسفات الوثنية إلى الإسلام، ولعل من أولى تلك الحركات الهدمية القدرية ثم الجهمية وهي تسمى أيضاً الجبرية التي قامت كرد فعل على القدرية. القدرية: والقدرية هم أولئك الذين يعتقدون أن الإنسان صانع أفعاله وخالقها خيرها وشرها (1) ولا دخل لقدرة الله فيها. وأول من تكلم في القدر في العالم الإسلامي نصراني من أهل العراق أسلم ثم تنصر، وقد استطاع أن ينفذ إلى قلب معبد الجهني الذي أخذ عنه مقالته، وعن معبد تلقاها غيلان الدمشقي، فكان هذا الثالوث المستراب أول من أحدث هذه البدعة التي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الجدل فيها (2). الجبرية: وكرد فعل للقدرية برزت عقيدة تقول: إن أفعال الإنسان خيرها وشرها من الله وأن نسبتها إلى العبد إنما هي على سبيل المجاز كقولنا جرى النهر وإنما الذي أجراه حقيقة هو الله، فالإنسان في زعمهم كالريشة في مهب الريح (ولهذا قيل إن الجبرية والقدرية متقابلتان تقابل التضاد) (3). وبالإضافة إلى هذه العقيدة فإن الجبرية تدين: بنفي صفات الله تعالى وأسمائه (4). وبما أن الكلام صفة من صفاته تعالى فهو في زعمهم حادث. ولئن نسبت هذه الفرقة إلى جهم بن صفوان (5) فقيل عنها جهمية، فإن الجعد بن درهم يعد هو المؤسس الأول لها، فهو أول من ابتدع القول بخلق القرآن وتعطيل الله عن صفاته (6).وإلى جانب هذا فإن الجهمية تقول بإنكار الرؤية (7).وتلاشت كل من القدرية والجهمية إلا أن المعتزلة ورثتهما وامتصت مبادئهما لتظهر من جديد قوية على يدهم، حتى أن الإمام الشافعي يجعل واصلا وعمرا وغيلان الدمشقي في صف واحد (8) ولعل هذا هو السبب في تسميتهم بالقدرية والجهمية: فهم قدرية: لأنهم ورثوا عن القدرية القول بنفي القدر، ونسبة الأفعال كلها إلى العبد بلا تأثير من الله (9). وهم جهمية: لأنهم ورثوا عنهم القول بنفي الصفات وخلق القرآن وإنكار رؤية الله تعالى يوم القيامة (10).ولهذا قال ابن تيمية (فكل معتزلي جهمي وليس كل جهمي معتزليا) (11). ذلك أن المعتزلة يختلفون مع الجهمية في الجبر إذ ينفون القدر في حين يثبت الجهمية الجبر (12).والمعتزلة لا يرتضون هذه التسمية إذ يرون أن مثبتي القدر أولى بأن يسموا قدرية وينفرون كذلك من الانتساب إلى الجهمية لأن جهما يقول بالجبر فضلاً عن كونه غير تقي (13) يقول بشر بن المعتمر: ننفيهم عنا ولسنا منهم ولا هم منا ولا نرضاهم (14). وإنما يؤثرون أن يتسموا بأهل العدل والتوحيد، كما يطلقون على أنفسهم الفرقة الناجية، وقد سأل المنصور عمرو بن عبيد أن يعينه بأصحابه فأجابه: (ارفع علم الحق يتبعك أهله) (15) إشارة إلى أنهم هم أهل الحق. المصدر: موقف المعتزلة من السنة النبوية لأبي لبابة حسين – ص 31   (1) ((هدي الساري)) (2/ 232). (2) ((أدب المعتزلة)) (120). (3) ((ملل الشهرستاني)) (1/ 43). (4) ((منهاج السنة النبوية)) (2/ 484). (5) ((ملل الشهرستاني)) (1/ 86). (6) ((ملل الشهرستاني)) (هامش رقم 1 - 86). (7) ((المعتزلة 8 – أدب المعتزلة)) (121). (8) ((فضل الاعتزال)) (84). (9) ((أدب المعتزلة)) (122). (10) ((أدب المعتزلة)) (123). (11) ((منهاج السنة)) (2/ 484). (12) ((فجر الإسلام)) (3/ 287). (13) ((فجر الإسلام)) (287، 288). (14) ((المعتزلة)) (9). (15) ((المعتزلة)) (6). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 تمهيد بعد أن قررت المعتزلة عقائدها عن طريق مناهجها العقلية، كان لابد لهم من استحداث طرق لرد تلك الآيات والأحاديث الصريحة الصحيحة التي تخالف ما وصلوا إليه ببدعهم حرصا على مقرراتهم العقلية. أما الأحاديث؛ فقد رأينا كيف تعاملوا معها - في الصفحات السابقة – وردوا صحيحها بدعاوى متهافتة فزاغوا في العقيدة والشريعة معا، وكان تمويههم بأنها أخبار آحاد طريقا سهلا للتخلص منها. وأما الآيات القرآنية فقد تعذرت تلك الدعوى عليهم بشأنها إذ هي قطعية الثبوت والمخالف لذلك كافر لا محالة، فلجؤوا إلى طرق أخبث، وهو التأويل الذي فتحوا بابه – واتبعهم فيه من بعد ذلك طوائف من المتكلمين – فحرفوا الكلم عن مواضعه بغيا وعدوانا. قالت المعتزلة: إن الله سبحانه لم يستو على عرشه كما أخبر، بل استولى عليه، فأولوا الاستواء بالاستيلاء، وأن معنى اليد المنسوبة لله سبحانه هي النعمة، والعين تأولوها بمعنى العلم (1)، وفي قوله تعالى: أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر: 56] فأولوا الجنب بمعنى الأمر؛ فقالوا: أمر الله. كذلك فعلوا في صفات المحبة والرضى والغضب والسخط فأولوها جميعا، قالوا: محبة الله ورضاه هي إرادته للثواب، وسخطه وغضبه هو إرادته للعقاب. وسنحاول بيان منهج أهل السنة في هذا الأمر في السطور التالية. أولا: معنى التأويل: أوضح الإمام ابن تيمية معاني كلمة التأويل، وأنها تستعمل في ثلاث معاني: الأول: أن التأويل بمعنى التفسير، وهذا هو الغالب على اصطلاح المفسرين للقرآن، كالطبري حيث يقول: تأويل آية كذا، بمعنى تفسيرها (2). الثاني: التأويل يأتي بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الكلام كما في قوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف: 53] فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد هو ما أخبر الله به فيه مما يكون من القيامة والحساب والجزاء والجنة والنار ونحو ذلك كما في قوله تعالى في سورة يوسف: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ [يوسف: 100]. فجعل عين ما وجد في الخارج هو تأويل الرؤيا. ومن ذلك قول عائشة: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي. يتأول القرآن)) (3). يعني قوله فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا " [النصر: 3].وكقول سفيان بن عيينة: السنة هي تأويل الأمر والنهي أي عمله والقيام به في الحقيقة (4). وقال ابن فارس في (فقه اللغة العربية): التأويل آخر الأمر وعاقبته يقال مآل هذا الأمر: مصيره (5). والثالث: وهو قد ورد عند المتأخرين من المتكلمين والأصوليين وهو صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر يحتمله لوجود دليل يقترن به يمنع من إجراء ظاهر اللفظ. وهذا النوع هو الذي استخدمته المعتزلة – بمعناه - في صرف آيات الصفات واستعمله أكثر المتأخرين في تأويل نفس الآيات (6). وهذا المعنى للتأويل – وإن لم يرد اصطلاحا في كتابات المعتزلة – إلا أنهم قد جروا عليه في تأويل آيات الصفات وصرفها عن ظاهرها زاعمين أن قرينة التنزيه هي التي توجب عدم أخذ تلك الآيات على ظاهرها وإلا وقعنا في التشبيه!.   (1) ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (195، 217). (2) ((فتاوى ابن تيمية)) (3/ 55). (3) رواه البخاري (4968) , ومسلم (484). (4) ((الفتاوى)) (3/ 2056). (5) ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (30176). (6) ((الفتاوى)) (3/ 2056). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 وقد رأينا أن هذا المعنى للتأويل لم يستخدمه السلف بل قد استعملت كلمة التأويل في المعنيين الأولين فقط – أي التفسير والمآل أو المصير – فتطبيق هذا المصطلح بهذا المعنى على آيات الصفات بدعة ليس لها أصل في أقوال السلف. والتأويل – بالمصطلح الأخير – قد يستعمل في آيات الأحكام الشرعية ويكون بمعنى تخصيص العام في مثل قوله تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4]. وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة: 234] فظاهر كل آية يتعارض مع ظاهر الأخرى، إذ الأولى تجعل عدة الحامل وضع المولود، والثانية ظاهرها أن العدة للمرأة عامة أربعة أشهر وعشر. فيتصرف ظاهرها إلى المرأة غير الحامل حسب الآية الأولى ويسمى تخصيصا. وهو من أبواب التأويل الظاهرة في الفقه. وكذلك تقييد المطلق كما في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ [المائدة: 3]، وقوله تعالى: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنعام: 145] فالدم الذي أطلق في الآية الأولى قد قيد في الثانية بأن يكون مسفوحا وهو صرف لظاهر اللفظ المطلق إلى المقيد. (1). وهذا التأويل – الذي هو صرف الظاهر - في الأحكام الفقهية هو من التأويل الصحيح المطلوب لكي نتوصل إلى الحكم الشرعي السليم، وإنما يجب أن تكون شروطه مستوفاة حتى لا يكون تأويلا فاسدا وينتج عنه حكم خاطئ ومثال ذلك ما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل)) (رواه الخمسة إلا النسائي) (2) فقد ذهبت طائفة من الفقهاء إلى أن المقصود هو المرأة الصغيرة أو المرأة المكاتبة، وهذا تأويل لا يمكن القول به لصرف هذا العموم القوي المقارب للقطع عن ظاهره (3). ونرى مما سبق أن التأويل – بهذا المعنى الأخير – هو قسيم للظاهر، والقاعدة العامة في الشريعة هي العمل بالظاهر وتقديمه، بل إنها كلية الشريعة وعمدة التكليف - على حسب تعبير الشاطبي – ولا يصح صرف الظاهر إلا بقرينة قاطعة مع عدم أي إمكانية لفهم الدليل حسب ظاهره بأي وجه من الأوجه. ويشترط لذلك أن يكون المعنى الجديد محتملا، وأن يكون اللفظ المؤول قابلا لاحتمال هذا المعنى فمثلا من التأويلات الفاسدة قول بيان بن سمعان (4) أنه هو المقصود في قوله تعالى: هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 138] وكذلك من قال في قوله تعالى: وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [النساء: 125] أي فقيرا لعدم صحة المعنى بهذا الشكل.   (1) ((أصول الفقه)) أبو زهرة (137). (2) رواه أبو داود (2083) والترمذي (1102) وابن ماجه (1879) وأحمد (6/ 66) سكت عنه أبو داود, وقد قال في ((رسالته لأهل مكة)) كل ما سكت عنه فهو صالح. وقال الترمذي: حسن. وصححه الألباني. (3) ((الإحكام للآمدي)) (3/ 81). (4) ((الفرق بين الفرق)) (255). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 وبناء على ما ذكرناه فقد بنى أهل السنة وسلف الأمة قولهم في الصفات: فأثبتوا الصفات بلا تمثيل، ونزهوا الله سبحانه بلا تعطيل لصفاته، وحملوا الآيات والأحاديث على ظاهرها ولكن بلا كيف ولا مشابهة بينها وبين صفات المخلوقات، وهو المذهب الحق الذي عليه إجماع التابعين والأئمة في أسمائه وصفاته سبحانه، نثبت ظاهرها بلا كيف ولا مشابهة إذ أن الخالق سبحانه ليس كمثله شيء، وليس فيه شيء يشتبه بما في المخلوق لقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] وإنما قد خالطت أذهان هؤلاء المعطلة المؤولة أنجاس التشبيه، فحاولوا صرفها بكل وسيلة فلجئوا إلى التأويل هروبا مما اعتقدوه تشبيها فوقعوا في ما هو أشد منه وأنكى! وعلى ذلك كان اعتقاد مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل والأوزاعي والثوري والحسن وجماهير العلماء، كما سبق أن أشرنا. قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 88] وقال تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10] وقال تعالى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ [هود: 37]. وأخرج مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار حتى تطلع الشمس من مغربها)) (1).وروى مسلم عن أبي موسى قال: ((قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه ويرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل، حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه – زاد عبد الله – كل شيء أدركه بصره)) (2).وروى البخاري بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار)) (3).وروى البخاري: عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يلقى في النار وتقول هل من مزيد حتى يضع عز وجل رجله – أو قدمه – فيها فتقول قط قط)) (4).قال الأشعري:: قال أصحاب الحديث: لسنا نقول في ذلك إلا ما قاله الله عز وجل أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقول وجه بلا كيف ويدان وعينان بلا كيف" (5).ونقل الحافظ اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال: "اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تغيير ولا وصف ولا تشبيه" (6). المصدر: المعتزلة بين القديم والحديث لمحمد العبده وطارق عبد الحليم – ص 91   (1) رواه مسلم (2759) , من حديث أبي موسى رضي الله عنه. (2) رواه مسلم (179) من حديث أبي موسى رضي الله عنه. (3) رواه البخاري (7419) , ومسلم (993) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (4) رواه البخاري (4848) , ومسلم (2848). (5) ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (217). (6) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) لللالكائي (3/ 432)، وكذلك ((الفتاوى)) لابن تيمية (3/ 2) وبعدها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 المطلب الأول: نماذج من تأويلات المعتزلة لنصوص الصفات والقدر على ركائز الأصول الخمسة وضع المعتزلة منهجهم في التأويل، والذي تقدم بيانه، وترتب على ذلك أن أولوا من نصوص القرآن والسنة الشيء الكثير، وفيما يلي نضرب أمثلة على ذلك، ونعقب على كل مثال ببيان تهافت تأويلهم له والله المستعان:- قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] زعموا أن المتكلم هو فاعل الكلام، (1) ومرة قالوا: معناه من الكلم، أي: "وجرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن" (2). وهذا التأويل البارد من أفسد ما يكون لما يأتي:1 - أن هذا الفعل المؤكد بالمصدر غير قابل للتأويل كما تقدم، ولا محتمل للمجاز عند القائلين به (3). 2 - أن الله تعالى خص موسى عليه السلام بالكلام، كما خص إبراهيم بالخلة، فلو كان كلامه مجرد أصوات وحروف أوجدها وخلقها في الشجرة فلا يكون هناك خصوصية لموسى؛ لأن هذه الأصوات والحروف يسمعها الجميع حتى المشرك الذي قال الله فيه: وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ [التوبة: 6] ولو كان المراد الابتلاء والامتحان لم تكن هناك خصوصية أيضاً كما لا يخفى، ثم لو أراد الله سبحانه وتعالى أن يخبرنا بأنه فتن موسى وابتلاه بالمحن هل يستقيم أن يعبر عن ذلك بقوله وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى؟ إنه لو فعل ذلك لم يكن في هذا الكلام بيان، ومعلوم أن القرآن ميسر لحفظ آياته، وفهم معانيه، وامتثال أوامره. قال ابن قتيبة عن هذا التأويل الفاسد: "فخرجوا بهذا التأويل من اللغة ومن المعقول؛ لأن معنى تكلم الله أتى بالكلام من عنده، وترحم الله أتى بالرحمة من عنده، كما يقال: تخشع فلان أتى بالخشوع من نفسه" (4). هذا في مسألة الكلام، أما مسألة رؤية الباري على ما يليق بجلاله فقد أولوا جميع النصوص الدالة عليها.- من ذلك قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22 - 23] قالوا: المراد بـ نَاظِرَةٌ الانتظار، "ويراد به التفكر بالقلب طلباً للمعرفة" (5). وهذا باطل؛ فإن "نظر" في لغة العرب إما أن يتعدى بنفسه، وإما يتعدى بحرف، فإن تعدى بنفسه كان بمعنى الانتظار، كقوله تعالى: انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ [الحديد: 13] أي انتظرونا، وقال حطيئة: وقد نظرتكم إيناء صادرة ... للخمس طال بها حوزي وتنساسي (6) وإن تعدى بالحرف إما أن يكون الحرف هو اللام، وإما أن يكون هو إلى، فإذا تعدى باللام كان المعنى الانتظار أيضاً، فنقول: أنا لك ناظر، أي منتظر. وأما إذا تعدى بإلى – كما في هذه الآية – فيكون بمعنى نظر العين لا غير، فيقال: أنا إليك ناظر، أي بالعين الباصرة، ولا يقال ذلك ويراد منتظر، (7) قال في (اللسان): "وإذا قلت: نظرت إليه لم يكن إلا بالعين" (8).   (1) انظر ((شرح الأصول الخمسة)) (ص 535). (2) الزمخشري: ((الكشاف)) (1/ 314) / الرياض/ مكتبة المعارف. (3) انظر ((تأويل مشكل القرآن)) (ص 111). (4) ((الاختلاف في اللفظ)) (ص 25 - 26). (5) القاضي عبد الجبار: ((متشابه القرآن)) (2/ 674) / القاهرة/ دار التراث/ ت: عدنان زرزور، وانظر ((الكشاف)) (4/ 165). (6) ((ديوان الحطيئة)) (ص) 53/ القاهرة/ مطبعة التقدم/ 1325هـ والإيناء: الانتظار، والصادرة: الإبل الراجعة على الماء، والحوز: السوق قليلاً قليلاً، والتنساس: السوق الشديد، والمعنى: انتظرناكم كما تنتظر الإبل الصادرة الإبل الخوامس لتشرب معها. انظر ((لسان العرب)) مادة (ن ط ر). (7) انظر ((الاختلاف في اللفظ)) (ص 22 - 33) و ((تأويل مشكل القرآن)) (ص 376). (8) (5/ 217). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 ثم أي معرفة يطلبها أهل الجنة، حتى يقال: التفكر بالقلب طلباً للمعرفة؟ - ومن آيات الصفات التي أولوها أينما وردت آيات العلم، والقدرة، ونحوها حيث يرون أن الله عالم بلا علم، وقادر بلا قدرة، وهكذا، فيقول القاضي عبدالجبار: " أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء: 166] أي: وهو عالم به، فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ [الأعراف: 7] أي: ونحو عالمون به، وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ [البقرة: 255] أي: معلوماته" (1). وهذا كسابقه تأويل فاسد؛ إذ لا يوجد دليل ملجئ يحتم المصير إلى هذا النحو من التأويل، ومن السخف ورقة الدين أن يستنكف المرء عن وصف ربه بالعلم؛ لأن انتفاءه صفة نقص لا يليق بالمولى عز وجل. وأما نصوص القدر فنصيبها من التأويل في فكر المعتزلة أكثر من غيره نظراً لكثرتها. - ومن ذلك قولهم في قوله تعالى: فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء [إبراهيم: 4] فقالوا: ينسبهم إلى الضلالة، والهداية، أو يقال:"يضل من يشاء بأن يعاقبه، ويهلكه جزاء له على كفره، ويهدي من يشاء إلى الثواب وطريق الجنة، جزاء له على إيمانه" (2).وهذا باطل، قال ابن قتيبة: "لو أراد النسبة لقال: يظللهم كما يقال: يخوفهم، ويفسقهم، أي: ينسبهم إلى ذلك" (3).   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص 212). (2) ((متشابه القرآن)) (2/ 413). (3) ((الاختلاف في اللفظ)) (ص 16). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 ثم إن المثير في هذه القضية أن المعتزلة جعلوا جميع النصوص التي تصادم مقرراتهم من المتشابه، ولا حجة لهم في ذلك سوى ركوب صهوة عقل الاعتزال. قال ابن القيم – بعد أن ذكر جملة من الآيات الدالة على خلق الله لأفعال العباد -: "والقدرية ترد هذا كله إلى المتشابه، وتجعله من متشابه القرآن وتتأوله على غير تأويله، بل تتأوله بما يقطع ببطلانه، وعدم إرادة المتكلم له" (1).وفي ذلك يقول القاضي عبدالجبار: "فأقوى ما يعلم به الفرق بين المحكم والمتشابه أدلة العقول (2) " ويقول: "ونحن نبين الآن في جمل المتشابه أن ظاهره لا يدل على ما يقوله المخالف ألبتة" (3) هكذا حكم هؤلاء عقولهم وقرروا مذهبهم ثم هجموا على النصوص الشرعية بلا هوادة، فما وجدوه يدل على ما يحتمل وجهاً – ولو بعيداً – فيه إقرار بما قرروا جعلوه محكماً،، ونصاً فيما اعتقدوه، وما ألفوه يخالف مقرراتهم السابقة جعلوه متشابهاً وأولوه حتى لا يتفق مع ما يذهب إليه "المخالف"، وكان عبدالجبار هذا من أبرزهم في هذا المجال، يقول د. فاروق الدسوقي: "والملاحظ أن القاضي يقتطع الآية من سياقها، بل يقتطع جزءً من الآية ليستدل به على مذهبه، ويغفل ذكر السياق، أو بقية الآية، كما أنه يترك الكثير من الآيات الصريحة المحكمة التي تدل على خلاف مذهبه، أو تثبت مذهب الخصوم في هذه القضية" (4).قلت: لو كان يترك مثل هذه الآيات لكان الخطب أهون، لكنه يجعلها من المتشابه، ويشتغل بتأويلها ما وجد إلى ذلك سبيلاً، فنجده يقول – مؤولاً قوله تعالى: لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء [البقرة: 272]-: "ويريد بذلك أنه ليس عليه إثابتهم، والأخذ بأيديهم في طرق الجنة، وأنه تعالى هو المختص بذلك" (5).وهذا تأويل ساقط؛ فإن هذه الآية واضحة الدلالة في أن الله تعالى هو الموفق من يشاء إلى الإيمان، حيث نفى الهداية عن النبي صلى الله عليه وسلم فتبين أنه لا يقصد هداية الإرشاد الثابتة له، في قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] بل أراد هداية أقصى من هذه، وهي خلق المشيئة والإرادة المستلزمة لفعل ما يحبه الله تعالى، قال ابن القيم – رحمه الله -: "وهذه المرتبة تستلزم أمرين: أحدهما: فعل الرب تعالى، وهو الهدي، والثاني: فعل العبد، وهو الاهتداء وهو أثر فعله تعالى فهو الهادي، والعبد المهتدي قال تعالى: وَمَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ [الإسراء: 97] ولا سبيل إلى وجود الأثر إلا بمؤثره التام، فإن لم يحصل فعله لم يحصل فعل العبد، ولهذا قال تعالى: إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ [النحل: 37] وهذا صريح في أن هذا الهدي ليس له صلى الله عليه وسلم ولو حرص عليه، ولا إلى أحد غير الله، وأن الله سبحانه إذا أصل عبداً لم يكن لأحد سبيل إلى هدايته، كما قال تعالى: مَن يُضْلِلِ اللهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ [الأعراف: 186] " (6).ثم إن الله تعالى لو أراد ذلك لقال لنبيه: ليس عليك إثابتهم والأخذ بأيديهم يوم القيامة على الجنة، ويبدو أن الرجل أخذه إحساس بأن هذا التأويل لا يقنعه هو فضلاً عن غيره فراح يبحث عن تأويل آخر فتخبط وفضح نفسه بقوله: "أو يريد بذلك ليس عليك إلا الدعاء يعني الدعوة فأما القبول فإليهم." (7)   (1) ((شفاء العليل)) (ص174) / القاهرة/ دار التراث/ ت: حسن عبدالله الحساني. (2) ((متشابه القرآن)) (1/ 8). (3) ((متشابه القرآن)) (1/ 38). (4) ((القضاء والقدر في الإسلام)) (2/ 282) / بيروت/ المكتب الإسلامي/ 1406هـ. (5) ((متشابه القرآن)) (1/ 137). (6) ((شفاء العليل)) (ص 170). (7) ((متشابه القرآن)) (1/ 137) .. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 وهذا التأويل لا يتناسب إطلاقاً مع آخر الآية وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء [البقرة: 272] بل كان المناسب أن يقول: ولكنهم يهدون أنفسهم.- قال تعالى: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة: 7] قال أهل اللغة والتفسير: "ختم على القلوب أقفالها، فلم تسع خيراً" (1).لقد "بين الله تعالى المانع لهم من الإيمان بقوله: خَتَمَ اللهُ والختم: مصدر ختمت ختماً، فهو مختوم، ومختم، شدد للمبالغة، ومعناه: التغطية على الشيء والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء، ومنه ختم الكتاب والباب وما يشبه ذلك حتى لا يوصل إلى ما فيه، ولا يوضع فيه غير ما فيه" (2).ومما يؤكد معنى هذه الآية ودلالته أن الله تبارك وتعالى قرره بألفاظ كثيرة في آيات عديدة، فورد بلفظ "الطبع" كقوله تعالى: كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ [يونس: 74] والطبع كالختم، قال ابن فارس: "الطاء، والباء، والعين، أصل صحيح، مثل على نهاية ينتهي إليها الشيء حتى يختم عندها، يقال: طبعت على الشيء طابعاً، ثم يقال: على هذا طبع الإنسان وسجيته، ومن ذلك طبع الله على قلب الكافر، كأنه ختم عليه حتى لا يصل إليه هدى ولا نور، ولا يوفق لخير" (3) وورد بلفظ "أكنه" كقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [الكهف: 57] "والأكنة: الأغطية، جمع كنان، مثل الأسنة والسنان، والأعنة والعنان، كننت الشيء في كنه إذا سننه فيه، وأكننت الشيء: أخفيته" (4).هذا كله صريح في أن الله تعالى خالق لأفعال العباد، فهو سبحانه وتعالى خالق لهذا الضلال، والختم والوقر، فتحول بين العبد وبين الإيمان، إلا أنه سبحانه وتعالى لا يفعل ذلك بعبده ابتداء لأول وهلة، بل يفعله لحكمة ولسبب، حيث يأمره بالإيمان، ويبينه له، فإذا تكررت الدعوة وتأكد البيان، والإرشاد، وأقيمت الحجة، ثم تكرر الإعراض والمبالغة في العناد، والكفر، فحينئذ يطبع على القلب، ويختم عليه، فلا يقبل الهدى بعد ذلك؛ إذ من المعلوم أن الكفر الأول لم يكن بختم وطبع، بل كان باختيار منه، فلو كان كل كافر مختوم القلب لم يهتد كافر قط، ويدل على هذا قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ [البقرة: 26] وقوله: وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء: 55] وقوله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: 5] وقوله: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14] وقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ [الكهف: 57] قال السعدي: "يخبر تعالى أنه لا أعظم ظلماً، ولا أكثر جرماً، من عبد ذكر بآيات الله وبين له الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وخوف ورهب، ورعب، فأعرض عنها، فلم يتذكر بما ذكر به، ولم يرجع عما كان عليه، ونسي ما قدمت يداه من الذنوب، ولم يراقب علام الغيوب ...   (1) ابن القطاع: ((كتاب الأفعال)) (1/ 295) / حيدر آباد الدكن/ دائرة المعارف العثمانية/ 1360هـ. (2) القرطبي: ((الجامع لأحكام القرآن)) (1/ 186). (3) ((معجم مقاييس اللغة)) مادة (ط ب ع). (4) القرطبي: ((الجامع لأحكام القرآن)) (6/ 404). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 ولكن الله تعالى عاقبه بسبب إعراضه عن آياته، ونسيانه لذنوبه، ورضاه لنفسه حالة الشر، مع علمه بها أن سد عليه أبواب الهداية، بأن جعل على قلبه أكنة، أي: أغطية محكمة تمنعه أن يفقه الآيات، وإن يسمعها فليس في إمكانه الفقه الذي يصل إلى القلب ... إلى قوله: وأما هؤلاء الذين أبصروا ثم عموا، ورأوا طريق الحق فتركوه، وطريق الضلال فسلكوه، وعاقبهم الله بإقفال القلوب، والطبع عليها، فليس في هدايتهم حيلة ولا طريق" (1) قلت: وهذا الختم هو الانتقام الذي ذكره تعالى في قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ [السجدة: 22] والختم والطبع من الأمور الواضحة المحكمة، لكن المعتزلة لما وجدوه يقرر ما يخالف معتقدهم في القدر راحوا يؤولونه تأويلات بعيدة فاسدة، يقول القاضي عبدالجبار: "وقد يراد به الحكم عليه بأنه لا ينتفع بما سمعه، كما يقال فيمن نوظر وبين له طويلاً: ختمت عليك، أي: لا تفهم .. إلى أن قال: ويجب أن يحمل على أن المراد أنه علَّم على قلوبهم بعلامة تعرف بها الملائكة أنهم من أهل الذم، كما كتب في القلوب الإيمان لكي تعلم الملائكة أنهم من أهل المدح" (2) وقال غيره: "لا ختم ولا تغشية ثم على الحقيقة، وإنما هو من باب المجاز" (3).أما هذا القول فقد تولى الإجابة عليه أهل العلم فقال القرطبي: "في هذه الآية أدل دليل، وأوضح سبيل على أن الله سبحانه خالق الهدى والضلال، والكفر والإيمان، فاعتبروا أيها السامعون، وتعجبوا أيها المفكرون من عقول القدرية القائلين بخلق إيمانهم، وهداهم؛ فإن الختم هو الطبع فمن أين لهم الإيمان ولو جهدوا، وقد طبع على قلوبهم، وعلى سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة فمتى يهتدون؟ ومن يهديهم من بعد الله إذا أضلهم وأصمهم، وأعمى أبصارهم وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [غافر: 33] وكان فعل الله ذلك عدلاً فيمن أضله وخذله؛ إذ لم يمنعه حقاً وجب له فنزول صفة العدل، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم لا ما وجب لهم، فإن قالوا: إن معنى الختم والطبع والغشاوة التسمية والحكم والإخبار بأنهم لا يؤمنون لا الفعل. قلنا: هذا فاسد؛ لأن حقيقة الختم والطبع إنما هو فعل ما يصير به القلب مطبوعاً مختوماً، لا يجوز أن تكون حقيقته التسمية والحكم، ألا ترى أنه إذا قيل: فلان طبع الكتاب وختمه، كان حقيقته أنه فعل ما صار به الكتاب مطبوعاً مختوماً، لا التسمية والحكم، هذا ما لا خلاف فيه بين أهل اللغة، ولأن الأمة مجمعة على أن الله تعالى قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم، كما قال تعالى: بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء: 155] وأجمعت الأمة على أن الطبع والختم على قلوبهم من جهة النبي عليه السلام والملائكة والمؤمنين ممتنع، فلو كان الختم والطبع هو التسمية والحكم لما امتنع من ذلك الأنبياء والمؤمنون؛ لأنهم كلهم يسمون الكفار بأنهم مطبوع على قلوبهم وأنهم مختوم عليها، وأنهم في ضلال لا يؤمنون، ويحكمون عليهم بذلك، فثبت أن الختم والطبع هو معنى غير التسمية والحكم، وإنما هو معنى يخلقه الله في القلب يمنع من الإيمان به" (4).   (1) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير الكلام المنان)) (5/ 52 - 53). (2) ((متشابه القرآن)) (1/ 51، 52). (3) ((الكشاف)) (1/ 26). (4) ((الكشاف)) (1/ 186 - 187). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 ثم ما فائدة أن يخبرنا الله بعلم الملائكة بأن هؤلاء من أهل الذم؟ ونحن نعلم من القرآن والسنة أن الكفار من أهل الذم، فعلم الملائكة بذلك من باب أولى؛ لأنهم هم الذين يكتبون أعمالهم، قال ابن القيم: "وأنه لا يقال في لغة من لغات الأمم لمن أخبر عن غيره بأنه مطبوع على قلبه، وأن عليه ختماً أنه قد طبع على قلبه، وختم عليه، هذا كذب على اللغات وعلى القرآن" (1).هذه نماذج قليلة بالنسبة لما عند المعتزلة من تحريف وتأويل فاسد لنصوص الصفات والقدر، ونكتفي بها؛ لأن المقصود ذكر منهجهم وضرب الأمثلة على تطبيقاتهم، وقبل إقفال هذا المبحث لابد من التنبيه على أن هؤلاء المعتزلة لا يقولون بمجرد حرية الاختيار والفعل، بل يعترفون بأنهم خالقون لأفعالهم، وليس هذا تقولا من أهل السنة كما يزعم البعض، وقد يأخذك الفزع عندما تقف على قول القاضي عبدالجبار في قوله تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 14] أنه "يدل على أن غير الله يصح منه الفعل والخلق." (2) وهذا بطلانه واضح، قال الراغب: "وليس الخلق الذي هو الإبداع إلا الله تعالى، ولهذا قال في الفصل بينه وبينه غيره: أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل: 17] وأما الذي كون بالاستحالة فقد جعله الله تعالى لغيره في بعض الأحوال كعيسى حيث قال: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي [المائدة: 110] والخلق لا يستعمل في كافة الناس إلا على وجهين: أحدهما: في معنى التقدير، كقول الشاعر: فلأنت تفري ما خلقت وبعـ ... ض القوم يخلق ثم لا يفري والثاني: في الكذب، نحو قوله: وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا [العنكبوت: 17] إن قيل: قوله تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 14] يدل على أنه يصح أن يوصف غيره بالخلق، قيل: إن ذلك معناه: أحسن المقدرين، أو يكون على تقدير ما كانوا يعتقدون ويزعمون أن غير الله يبدع، فكأنه قيل: فاحسب أن ههنا مبدعين وموجدين فالله أحسنهم إيجاداً على ما يعتقدون" (3).وقال الآلوسي: "ولا يصح تفسيره بالإيجاد عندنا إذ لا خالق بذلك المعنى غيره تعالى إلا أن يكون على الفرض والتقدير، والمعتزلة يفسرونه بذلك لقولهم بأن العبد خالق لأفعاله وموجد لها استقلال، فالخالق الموجد متعدد عندهم" (4). وبهذا تعلم أن الخلق في اللغة له ثلاثة معان: 1 - الإبداع والإيجاد الخاص بالله تعالى. 2 - التقدير والصنع الذي يكون بتركيب المواد، 3 - الخلق بمعنى الكذب، وأن المعنى يتحدد بحسب من يضاف إليه الخلق، وبحسب السياق والقرائن. المصدر: جناية التأويل الفاسد على العقيدة الإسلامية لمحمد أحمد لوح - ص 222   (1) ((شفاء العليل)) (ص 191). (2) ((متشابه القرآن)) (2/ 515). (3) ((المفردات في غريب القرآن)) (ص 157)، والبيت المذكور في النص لزهير بن أبي سلمى يمدح هرم بن سنان. (4) ((روح المعاني)) (18/ 16). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 المطلب الثاني: مقارنة بين منهج المعتزلة ومنهج الجهمية في التأويل بادئ ذي بدء نرى أن ننبه هنا إلى أن لفظة "الجهمية" سمي بها كل من الجهمية المحضة، والمعتزلة، والأشاعرة؛ لأن التجهم درجات، ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية فأفاد ما يأتي ملخصه: الدرجة الأولى: الجهمية الغلاة، وهم الذين ينفون الأسماء والصفات، ويجعلون الإطلاقات الواردة في ذلك من باب المجاز، وهؤلاء الجهمية المحضة. الدرجة الثانية: الجهمية الذين يثبتون أسماء الله الحسنى في الجملة، ويجعلون كثيراً منها على المجاز، وينفون الصفات وهذا النوع هو تجهم المعتزلة ومن قلدهم. الدرجة الثالثة: طائفة من الصفاتية المثبتين لبعض الصفات، وأطلق عليهم "الجهمية" لاشتراكهم في رد بعض الصفات وتأويلها (1).ولذا نجد أن كثيراً من السلف تناولوا المعتزلة وردوا على أقوالهم في كتب الرد على الجهمية، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإن السلف يسمون كل من نفى الصفات، وقال: إن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة جهمياً؟ " (2).ويقول: "لكن المعتزلة إن وافقوا جهماً في بعض ذلك فهم يخالفونه في مسائل غير ذلك"؟ (3). وفي هذا المبحث نحدد أوجه الاتفاق والاختلاف بين الجهمية والمعتزلة، فنقول: 1 - بعد اتفاق الطائفتين في الأصول المذكورة في الفصل الأول اتفقا أيضاً في موقفهما من ظاهر النص، فهم لا يعتقدون أن للنص ظاهراً وباطناً كما يقول الباطنية والصوفية، والفلاسفة، بل يقولون: إن له معنى ظاهراً غير مراد، ومعنى آخر مراد فيحمل عليه، وذلك لقرينة – عندهم – مانعة من إرادة المعنى الأول، دالة على المعنى الثاني. 2 - اتفقوا في القول بأن القرآن مخلوق. 3 - اتفقوا في نفي رؤية الله في الآخرة. 4 - اختلفوا في باب الأسماء والصفات، فبينما تنفي الجهمية الأسماء والصفات ولم يقروا بشيء منها نرى المعتزلة يثبتون الأسماء شريطة ألا يترتب على هذا الإثبات إثبات صفة، فهو تعالى قادر، عالم، لكن بذاته لا يعلم، ولا بقدرة.5 - اختلفوا في أفعال العباد، فالجهمية يقولون بالجبر، وحقيقته أنه لا اختيار للعبد في أفعاله ولا قدرة له في ذلك، بل هو – على حد قولهم – كالحجر الملقى في اليم تحركه الأمواج أينما اتجهت، وإنما تنسب إليه الأفعال على سبيل المجاز، بينما يمثل موقف المعتزلة الاتجاه المعاكس فيثبتون الحرية الإنسانية المطلقة تحقيقاً لمفهوم العدل الإلهي عندهم، ولكنهم في سبيل ذلك هدموا قاعدة من أهم قواعد الدين، فأنكروا القضاء الأزلي، وأنه تعالى ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وعلى مذهبهم يلزم أن يقع في ملك الله ما لا يريد (4).وقد أخطأ هنا الدكتور مصطفى علي الغرابي حيث قال عن المعتزلة: "أما خصومهم فإنهم يعبرون عنهم تارة بالقدرية لقولهم بقول جهم في إنكار القدر" (5) نعم هم قدرية لأنهم ينكرون قدر الله وقضاءه، لكن قولهم في هذا الباب وقول جهم على طرفي نقيض، وقد يعترض على هذه التسمية بأن غير المعتزلة أولى بها؛ إذ كيف ينسب إليهم شيء ينكرون ثبوته لله؟ والجواب: أن يقال: بل هم أولى بها؛ لأنهم يضيفون القدر على أنفسهم، وغيرهم يجعله لله، ومدعي الشيء لنفسه أولى بأن ينسب إليه ممن جعله لغيره (6). 6 - واختلفوا في باب الإيمان، حيث يرى جهم ومن معه أن الإيمان معرفة بالقلب فقط، وأن القول والعمل ليسا من الأركان، فهم مرجئة من هذه الجهة، والمعتزلة يخالفونهم في ذلك. 7 - اختلفوا في الجنة والنار: فتقول الجهمية: إنهما تفنيان وتبيدان بمن فيهما ليبقى الله ولا شيء معه، والمعتزلة يخالفونهم في ذلك، إلا أن العلاف منهم ذهب إلى قول قريب من قول الجهمية، فزعم أنه يأتي على الجنة والنار زمان تسكن حركات أهلهما.8 - أنكر المعتزلة عذاب القبر، فيقول القاضي عبدالجبار: "وأنكر مشايخنا عذاب القبر في كل حال." (7) وإلى الآن لم يقع لي قول للجهمية في الموضوع. المصدر: جناية التأويل الفاسد على العقيدة الإسلامية لمحمد أحمد لوح - ص 220   (1) انظر ((التسعينية)) ضمن ((الفتاوى الكبرى)) (5/ 48 - 51) الطبعة القديمة، أو (6/ 370 - 372) الطبعة الجديدة/ ت: محمد عبدالقادر عطا. (2) ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (3/ 427). (3) ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (3/ 428)، وانظر ((تاريخ الجهمية والمعتزلة)) للقاسمي (ص 45). (4) انظر الجليند: ((تاريخ الجهمية والمعتزلة)) (ص 419 – 420). (5) الغرابي ((تاريخ الفرق الإسلامية)) (ص 53). (6) انظر ابن قتيبة: ((تأويل مشكل القرآن)) (ص 131 - 132). (7) ((فضل الاعتزال)) (ص 202). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 المطلب الثالث: ذكر شبه المعتزلة في القول بخلق القرآن ونقضها الشبهة الأولى: القرآن شيء، وقد قال الله تعالى: اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد: 16] ولفظ "كل" للعموم، القرآن داخل في عموم ما خلق الله من الأشياء. جوابها: لا أحسب أن فساد هذا القول خاف على من قال به، ولكنهم أرادوا إدخال الريب والشك على من لا يفهم، وذلك أن صيغة "كل" وما يشبهها من صيغ العموم، عموم كل منها إنما هو بحسبه، قال تعالى في ريح عاد: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف: 25] فالتدمير إنما كان بأمره تعالى، وأمره تعالى كلامه، قال: فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف: 25] فالتدمير إنما كان بأمره تعالى، وأمره تعالى كلامه، قال: فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف: 25] فأبان أن مساكنهم لم تدمر، ومقتضى ذلك أنها لم تدمر الأرض ولا الجبال ولا غير ذلك من سوى أهلها، فدل ذلك على أن عموم "كل" إنما كان في حق الكفار المستحقين للوعيد، لا كل شيء حتى من سواهم من الجماد وغيره، وهذا معقول ظاهر. وقال تعالى في حق بلقيس: وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ [النمل: 23] ومعلوم أنها لم تؤت ملك سليمان، ولا غير أرضها من الأرض. ولقد أثبت تعالى أن له نفساً، قال: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة: 116] وقال: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه: 41] وقال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء: 35] فهل يدخل الجهمي نفس الله تعالى في هذا العموم؟ إن الأنفس التي تموت إنما هي الأنفس المخلوقة، أما الخالق تعالى بصفته فهو حي لا يموت. فدلت هذه النصوص على أن عموم "كل" إنما هو بحسب الموضع الذي وردت فيه. فكذلك قوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62]. فالله تعالى شيء، وصفته شيء، قال تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ [الأنعام: 19] والمخلوق شيء، والله هو الخالق، وليس بمخلوق، وصفاته تابعة لذاته، فليست بمخلوقة، والقرآن كلامه، وكلامه صفته، وصفته غير مخلوقه، فالله شيء غير مخلوق، وصفته شيء غير مخلوق، والمخلوق من وقع عليه فعل الخلق، وهو كل شيء سوى الله تعالى وصفته. ولكن الجهمية المعتزلة أوقعهم في ذلك اعتقادهم أن الله تعالى لا تقوم به الصفات، فصفاته عندهم غيره، ونحن قد قررنا في الباب الأول أن الصفة إنما تقوم بالموصوف، والكلام إنما يقوم بالمتكلم، ولا تعقل ذات مجردة عن الصفات، وهذا من الجهمية المعتزلة هو التعطيل لصفات الخالق تعالى, لأن الصفة إذا قامت بمحل كانت صفة لذلك المحل، فباعتقادهم تبطل جميع الصفات. وسبحان من شاء أن يظهر مخبوءهم ويكشف مستورهم، فإنهم أدخلوا صفة الله تعالى في عموم "كل" في هذه الآية، وأخرجوا أفعال العباد من هذا العموم، وقالوا: أفعال العباد غير مخلوقه لله، فكذبوا القرآن، من حيث أن الله تعالى قال: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96] وقال: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فكذبوا على الله رب العالمين، وألحدوا في آياته، فصرفوا الآية عما هي له، واحتجوا بها على ما ليست له. الشبهة الثانية: القرآن مجعول، قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: 3] والجعل: الخلق. جوابها: لفظ "جعل" يأتي بمعنى "خلق" وبغيره. والقاعدة فيه: أنه لا يأتي بمعنى "خلق" إلا إذا تعدى إلى مفعول واحد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 ومنه قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] وقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف: 189]. وربما تعدى على مفعول واحد ولم يكن بمعنى "خلق" كقوله تعالى: وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء [الأنعام: 100] وقوله: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ [الفيل: 5]. أما إذا تعدى على مفعولين فلا يكون بمعنى "خلق" بأي حال. ومن ذلك قوله تعالى: فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا [البقرة: 66] وقوله: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا [الأنبياء: 73]. وكذلك منه قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: 3] فالمفعول الأول الضمير والثاني قُرْآنًا والمعنى: قلناه قرآنا عربياً، أو بيناه. فبطل تمويه المعتزلة بفضل الله. وقد أجاب الإمام أحمد رحمه الله المعتزلي حين احتج عليه بهذه الآية بقوله: "فقد قال الله تعالى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ [الفيل: 5] أفخلقهم؟ " (1). الشبهة الثالثة: القرآن محدث، كما قال الله: مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء: 2]. كما قال: وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ [الشعراء: 5] والمحدث: المخلوق. جوابها: قوله "محدث" في الأصل من "الحدوث" وهو كون الشيء بعد أن لم يكن، والقرآن العظيم حين كان ينزل، كان كلما نزل منه شيء كان جديداً على الناس، لم يكونوا عملوه من قبل، فهو محدث بالنسبة إلى الناس، إلا تراه قال: وَمَا يَأْتِيهِم؟ فهو محدث إليهم حين يأتيهم، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحدث لنبيه ما شاء، وإن مما أحدث لنبيه: أن لا تكلموا في الصلاة)) (2) وأمر الله: قوله وكلامه، وهو غير مخلوق، محدث بالنسبة إلى العباد، أي: جديد عليهم، فليس المحدث هنا هو المخلوق. وهذا الجواب أحسن ما قيل في ذلك. قال أبو عبيد القاسم إمام العربية: " مُّحْدَثٍ حدث عند النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما علم الله ما لم يكن يعلم" (3).وقال ابن قتيبة: "المحدث ليس هو في موضوع بمعنى: مخلوق، فإن أنكروا ذلك فليقولوا في قول الله: لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق: 1] أنه يخلق، وكذلك: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [طه: 113] أي: يحدث لهم القرآن ذكراً، والمعنى: يجدد عندهم ما لم يكن، وكذلك قوله: وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ [الشعراء: 5] أي: ذكر حدث عندهم لم يكن قبل ذلك" (4). وربما أجاب بعض الأئمة بغير هذا، لكن هذا أصح وأظهر. الشبهة الرابعة: جعل الله أمره مقدوراً فقال: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا [الأحزاب: 38] وأمر الله: كلامه، والمقدور: المخلوق. جوابها: إن لفظ: "الأمر" إذا أضيف إلى الله تعالى يأتي على تفسيرين: الأول: يراد به المصدر، كقوله تعالى: لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف: 54] وهو غير مخلوق – كما ذكرناه في الباب الأول في الاحتجاج لهذه المسألة -. وهذا يجمع على: "أوامر".   (1) رواه صالح في ((المحنة)) (ص 53) عن أبيه به. (2) رواه أحمد (1/ 463) وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (6/ 193): إسناده صحيح. (3) ((خلق أفعال العباد)) (ص 37). (4) ((الاختلاف في اللفظ)) (ص 234 - 235) – ((عقائد السلف)). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 والثاني: يراد به المفعول الذي هو المأمور المقدور، كقوله تعالى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا [الأحزاب: 38] فالأمر ههنا هو المأمور، وهذا يجمع على: "أمور" وهو مخلوق. وسبق أن ذكرت في الباب السابق أن صيغة المصدر قد ترد بمعنى المفعول في كلام العرب. قال شيخ الإسلام: "ففي قوله: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا [الأحزاب:38] المراد به المأمور به المقدور، وهذا مخلوق، وأما في قوله: ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ [الطلاق: 5] فأمره كلامه، إذ لم ينزل إلينا الأفعال التي أمرنا بها، وإنما أنزل القرآن، وهذا كقوله: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء: 58] فهذا الأمر هو كلامه" (1). قلت: ونظيره لفظ "الخلق" فإنه يأتي مصدراً فهو حينئذ فعل الرب تعالى وصفته، ويأتي مفعولاً فهو حينئذ المخلوق الذي وقع عليه فعل الخلق. فليس لفظ "الأمر" إذا على ما قالت الجهمية المعتزلة من اختصاصه بالمفعول المقدور. الشبهة الخامسة: سمى الله تعالى عيسى "كلمته" فقال: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ [النساء: 171] وقال: يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [آل عمران: 45] وعيسى مخلوق، فالكلمة مخلوقة. جوابها: إن عيسى عليه السلام مخلوق، خلقه الله بأمره حين قال له: كُن كما قال تعالى: قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ [آل عمران: 47] وقال: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [آل عمران: 59] فكان عيسى بكلمة الله تعالى وقوله "كُنْ". فالكلمة "كن" لا عين عيسى، والمكون بها هو عيسى عليه السلام. وبهذا أجاب غير واحد من الأئمة. قال قتادة – وهو من أئمة التابعين في التفسير وغيره – قوله: بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ قال: "قوله "كن" فسماه الله عز وجل كلمته، لأنه كان عن كلمته كما يقال لما قدر الله من شيء: هذا قدر الله وقضاؤه، يعني به: هذا عن قدر الله وقضائه حدث" (2). الشبهة السادسة: القرآن ترد عليه سمات الحدوث والخلق، وذلك من وجوه عدة: 1 - قال تعالى: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ [النحل: 101] فأخبر عن وقوع النسخ فيه. 2 - هو حروف متعاقبة، يسبق بعضها بعضاً. 3 - لا يكون إلا بمشيئة واختيار، فيلزم منه أن تسبقه الحوادث، ويتأخر عنها. 4 - له ابتداءً وانتهاء، وأول وآخر. 5 - هو متبعض متجزئ. 6 - منزل، والنزول لا يكون إلا بحركة وانتقال وتحول. 7 - مكتوب في اللوح والمصاحف، وما حد وحصر فهو مخلوق. وهذه الوجوه وما يشبهها صفات للمخلوق المحدث. جوابها: هذه المعاني جميعاً مبنية على أصلهم الذي ابتدعوه لإثبات خلق العالم وقدم الصانع، وهو الاستدلال على حدوث العالم بطريقة الحركات، فقالوا: لا يمكن معرفة الصانع إلا بإثبات حدوث العالم، ولا يمكن إثبات حدوث العالم إلا بإثبات حدوث الأجسام، والاستدلال على حدوث الأجسام إنما هو بحدوث الأعراض القائمة بها كالحركة والسكون. فهذا الأصل المبتدع هو الذي جرهم إلى القول بخلق القرآن ونفي الصفات والأفعال لله تعالى (3).   (1) ((مجموع الفتاوى)) (8/ 412)). (2) رواه ابن جرير (3/ 269) بسند صحيح. (3) انظر: ((درء التعارض)) (2/ 99). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 ولو أنهم سلموا لنصوص الكتاب والسنة لكفتهم في ذلك، ولانتشلتهم من ورطة التعطيل، فإن هذه أمور لا يتوصل إليها بمجرد العقل، والله تعالى قد أثبت أزلية وخلق العالم بأحسن البراهين وأقوى الحجج: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [المرسلات:50]؟ ونحن لا نناظر المعتزلة في دفع هذه الأباطيل بمحدثات من الأقوال والأصول، ولا نسلم لهم قولهم ودعواهم، وإنما نرفض ذلك أشد الرفض، ونقول: هو بدعة ضلالة لما جرت إليه من الكفر والباطل – شأن سائر البدع – ولا نسلك مسلك أهل البدع في الرد عليهم ومناظرتهم شأن الأشعرية والماتريدية أتباع ابن كلاب والأشعري والماتريدي، فإن هؤلاء أرادوا نقض ضلالات المعتزلة بنفس طريقتهم، فتراهم تابعوهم في هذا الأصل الذي ذكرناه عنهم، فتسلطت عليهم به المعتزلة وأظهرت تناقضهم. وصدق فيهم شيخ الإسلام حين قال: "فهم قصدوا نصر الإسلام بما ينافي دين الإسلام" (1). وأصل المعتزلة الذي ابتدعوه أوقعهم في قياس صفة الخالق على المخلوق وصفته، فإنهم إنما بنوا أصلهم على ما عهدوه في المخلوق من أحوال وصفات، فحسبوا أن ذلك يلحق صفو من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فقاسوا ما لم يحيطوا به علماً على ما حصلوه من الظنون والأوهام التي حسبوها غاية العلوم. وهذا من أعظم ما أدخله الشيطان – لعنه الله – من التلبيس على هؤلاء، زين لهم ابتداع أصول لم ترد في كتاب ولا سنة، فالتزموها، والتزموا بسببها خلاف الشريعة، فجعلوها الحاكم على الكتاب والسنة، ومن تلك الأصول الفاسدة هذه الدعاوى المجردة عن البرهان مما هو محض العقول الزائفة، القفر من نور الوحي. فكل ما أوردوه مما سموه "معقولاً" ليستدلوا به على خلق القرآن هو من قياس صفة الخالق على صفة المخلوق، وهو كفر بالله تعالى، فإنه كما لا شبه له في ذاته فلا شبه له في صفاته، وهذا مقرر في موضعه. فهذه أظهر ما استدل به الجهمية والمعتزلة من الحجج (!) وأبينها وأقواها عندهم، وقد بان لك زيفها وبطلانها، وقارنها بما سبق ذكره من الأدلة لاعتقاد أهل السنة والجماعة، يجل لك الحق بذلك وتعلم استقامة منهج أهل السنة، واتباع أهل البدع للأهواء والظنون. وصدق شيخ الإسلام – وهو بهم خبير – في قوله: "وليس مع هؤلاء عن الأنبياء قول يوافق قولهم، بل لهم شبه عقلية فاسدة" (2). المصدر: العقيدة السلفية في كلام رب البرية لعبدالله يوسف الجديع - ص 305   (1) ((مجموع الفتاوى)) (12/ 185). (2) ((مجموع الفتاوى)) (12/ 48). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 المطلب الرابع: أفول المدرسة العقلية القديمة: ولم تكن كراهية هؤلاء المعتزلة ورفضهم مقصورة على العلماء بل كانوا مكروهين من العامة لأن المعتزلة أيام دولتهم في عهد المأمون والمعتصم والواثق عسفوا بالناس من كل فئة واستباحوا دماءهم وملأوا منهم السجون فكانوا عبئا ثقيلاً على الناس علماء وعامة. فلما جاء عهد المتوكل وفقه الله إلى إبطال القول بخلق القرآن وذلك سنة 234هـ بعد أن عانى منها المسلمون مدة 15 عاما وكان ذلك بتوفيق من الله له بعدم اقتناعه بهذا القول ثم لما رأى من قوة الرأي العام ضد المعتزلة وكراهية الناس لهم فأعاد الحق إلى نصابه قال السيوطي رحمه الله "فاستقدم المحدثين إلى سامراء وأجزل عطاياهم وأكرمهم وأمرهم بأن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية ... وتوفر دعاء الخلق للمتوكل وبالغوا في الثناء عليه والتعظيم له" (1). وبها أزاح المتوكل رحمه الله هذا العبء الثقيل عن كاهل المسلمين. وبهذا دالت الدولة إلى المحدثين وانتصروا انتصارا كبيرا وأفل نجم المعتزلة ولم يجرؤ أحد على الجهر باعتزاله ولم يسترد المعتزلة سلطتهم يوما بعد ذلك. ولم تزل علومهم العقلية المجردة عن النصوص في خمود ونحن لا ننكر قيام جماعة من الفلاسفة كالفارابي وابن سينا وابن رشد والكندي وأمثالهم على أنقاض المعتزلة ولكن الفرق بينهم وبين المعتزلة كبير إذ أن المعتزلة أكثر عملا بين صفوف المسلمين من الفلاسفة فقط كان هم المعتزلة إقامة دولة اعتزالية وبث الأفكار بين مختلف الطبقات وسلكوا لهذا طرقا عدة وكانوا يدسون اعتزالهم في ثنايا قولهم العذب ومنطقهم الفصيح وعبارتهم السائغة لكل الأذواق وقرأ الناس ما كتبوا إن لم يكن لاعتزالهم فلأدبهم وبلاغتهم (2) وحصل لهم ما أرادوا فقامت لهم دولة لكنهم لم يحسنوا قيادتها فلم تلبث أن انهارات فوق رؤوسهم. أما الفلاسفة هؤلاء فلم يهتموا بما اهتم به المعتزلة فكانت عبارات علمهم وكتبهم عبارات ثقيلة لا يكاد يفهمها إلا من سلك سبيلهم فكأنما وضعوها ليقنع بعضهم بها بعضا وما التفتوا إلى غيرهم. المصدر: منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير لفهد الرومي - ص 66   (1) ((تاريخ الخلفاء)) للسيوطي (ص 230). (2) ((ضحى الإسلام)): أحمد أمين (3/ 205). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 المطلب الخامس: موقف السلف من المعتزلة وتأويلاتهم لقد بذل السلف الصالح من أهل السنة والجماعة جهوداً في الرد على هؤلاء العقلانيين ردوداً علمية عظيمة تؤكدها تلك المواقف الثابتة التي تزول الجبال ولا تزول تجاه المعتزلة أيام كانت لهم السلطة والدولة، ومارسوا ضد أهل الحق ألواناً من التعذيب والاضطهاد، فلم يزدهم ذلك إلا ثباتاً على الحق، وصبراً في سبيل نصرة دين الله، يقول الشيخ محمد عبده، "تفرقت السبل بأتباع واصل، وتناولوا من كتب اليونان ما لاق بعقولهم، وظنوا من التقوى أن تؤيد العقائد بما أثبته العلم بدون تفرقة بين ما كان منه راجعاً إلى أوليات العقل، وما كان سراباً في نظر الوهم، فخلطوا بمعارف الدين ما لا ينطبق على أصل من أصول النظر .. وأيدتهم الدولة العباسية وهي في ريعان القوة، وابتدأ علماؤهم يؤلفون الكتب، فأخذ المتمسكون بمذاهب السلف يناضلونهم معتصمين بقوة اليقين، وإن لم يكن لهم عضد من الحاكمين" (1). وتلك المواقف الصارمة تجاه هؤلاء المبتدعة بدأت بظهور المعتزلة أيام واصل بن عطاء، ومن صورها:- موقف الحسن البصري من واصل حيث طرده من حلقته العلمية (2).- موقف الإمام أحمد بن حنبل الذي تعرض للسجن والتعذيب على أيدي المعتزلة، ومع ذلك كان – رحمه الله – يفتي بأنه "لا يصلى خلف القدرية والمعتزلة" (3).- ومنه موقف الإمام مالك بن أنس – رحمه الله – وقد سئل عن تزويج القدري، فقال: وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ [البقرة: 221] (4).- وعن الإمام مالك عن عمه أبي سهيل قال: سمعت عمر بن عبدالعزيز يقول في القدرية: "أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا، قال أبو سهيل: وذلك رأيي، قال مالك: وذلك رأيي." (5) - "قال رجل للإمام عبدالله بن إدريس: يا أبا محمد إن قبلنا ناساً يقولون: إن القرآن مخلوق، فقال: من اليهود؟ قال: لا. قال: فمن النصارى؟ قال: لا. قال: فمن المجوس؟ قال: لا. فقال: فممن؟ قال: من الموحدين، قال: كذبوا هؤلاء ليسوا بموحدين، هؤلاء زنادقة، من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن الله مخلوق،، ومن زعم أن مخلوق فقد كفر، هؤلاء زنادقة، هؤلاء زنادقة" (6).- "وعن معاذ بن معاذ قال: صليت خلف رجل من بني سعد ثم بلغني أنه قدري، فأعدت الصلاة بعد أربعين سنة، أو ثلاثين سنة" (7) عن أبي عوانة قال: "ما رأيت عمرو ابن عبيد ولا جالسته قط إلا مرة واحدة، فتكلم وطول ثم قال حين فرغ: لو نزل من السماء ملك مازادكم على هذا، فقلت: غيري من عاد إليك" (8).   (1) ((رسالة التوحيد)) (ص15) /القاهرة/ مطبعة المنار ط6/ 1351هـ/ تعليق: محمد رشيد رضا. (2) انظر ((الفرق بين الفرق)) (ص 118)، و ((سير أعلام النبلاء)) (5/ 464). (3) ((السنة)) لعبدالله برقم 833، واللالكائي: (1354) بإسناد صحيح. (4) ابن أبي عاصم: (198)، واللالكائي: (1352) بإسناد صحيح. (5) ((السنة)) لابن أبي عاصم برقم (199). (6) ((السنة)) لعبدالله برقم (29 - أ)، واللالكائي: (432) وإسناده صحيح. (7) ((السنة)) لعبدالله برقم (839)، واللالكائي برقم (1355). (8) ((السنة)) برقم (970)، وابن حبان ((المجروحين)) (2/ 71) وإسناده صحيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 وهذا التصرف يدلك على أن هؤلاء الأئمة كانوا يتثبتون من بدعية الرجل ومتى ظهرت لهم هجروه، وقاطعوه، إن لم يكن أمل في رجوعه، فرحمهم الله.- عن عبدالوهاب بن الخفاف قال: "مررت بعمرو بن عبيد وحده، فقلت: مالك؟ تركوك؟ قال: نهى الناس عني ابن عون فانتهوا" (1) رحم الله ابن عون، هكذا يكون السني الجاد تجاه المبتدع الداعي الذي لا أمل في ازدجاره.- وعن عدي بن الفضل قال: "كلمت يونس بن عبيد في عبدالوارث، فقال: رأيته على باب عمرو بن عبيد جالساً لا تذكره لي" (2). - وعن قريش بن أنس قال: سمعت عمرو بن عبيد يقول: "يؤتى بي يوم القيامة فأقام بين يدي الله، فيقول لي: أنت قلت: إن القاتل في النار؟ فأقول: أنت قلته، ثم أتلو هذه الآية وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ [النساء: 93] فقلت – وليس في البيت أصغر مني-: أرأيت إن قال لك: أنا قلت: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48] من أين علمت أني لا أشاء أن أغفر لهذا؟ فما رد علي شيئاً" (3). هذه المواقف السلفية الحازمة الثابتة كما رأيت مبنية على منهج واضح في كراهة البدعة والمبتدعين، والحرص على النصح والتحذير من أن تنتشر هذه البدع وتسري إلى من هم في عافية منها.- عن عاصم الأحول قال: جلست إلى قتادة فذكر عمرو بن عبيد فوقع فيه، فقلت: لا أرى العلماء يقع بعضهم في بعض، فقال يا أحول أو لا تدري أن الرجل إذا ابتدع فينبغي أن يذكر حتى يحذر ... " (4). هذا طرف من مواقف أهل السنة تجاه أهل الاعتزال منذ نشأته، وتلك فتاواهم في حقهم، ونصائحهم وتحذيراتهم لأصحابهم من المعتزلة، ولم يكن ذلك محصوراً في مجرد تصريحات شفهية، وبيانات كلامية، لكن أضافوا إلى ذلك مصنفات غاية في الدقة والموضوعية والروعة، ومن مصنفاتهم في الرد على المعتزلة ما يأتي: 1 - أكثر ردودهم على الجهمية تتضمن ردوداً على المعتزلة أيضاً لتقارب المنهجين في كثير من المباحث، واتحادهما فيما يتعلق بأصول التأويل الفاسد. 2 - (رسالة الرد على القدرية) لأمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز ت101هـ رحمه الله – (أخرجها أبو نعيم في الحلية 5/ 346 - 353).3 - (الرد على القدرية) لإسماعيل بن حماد ت212هـ (ذكره في كشف الظنون 1/ 839) وتصنيفه في الرد على القدرية يؤكد ما ذكره بعض أهل العلم من أن استجابته في محنة خلق القرآن كانت عن تقية شرعية، لا عن اعتقاد. (5) 4 - (رسالة في أن القرآن غير مخلوق) لأبي إسحاق الحربي ت285هـ (طبعت). 5 - (الرؤية) لأبي بكر أحمد بن إسحاق الصبغي ت342هـ (طبع). 6 - (الرؤية) لأبي أحمد العسال ت349هـ (ذكره الذهبي في السير 16/ 11). 7 - (الرؤية) لعلي بن عمر الدارقطني ت385هـ (حققه د. سليم الأحمدي – رسالة الدكتوراه في الجامعة الإسلامية). 8 - (الرد على القدرية) لابن أبي زيد القيرواني ت386هـ (ذكره في السير 17/ 11). 9 - (رؤية الله) لابن النحاس ت 416هـ (طبع بتحقيق محفوظ الرحمن). 10 - (الرد على القدرية) لأبي المظفر السمعاني ت489هـ (ذكره حفيده في الأنساب 3/ 299). 11 - (الانتصار في الرد على القدرية الأشرار) ليحيى بن سالم العمراني ت 558هـ (حققه د. سعود الخلف رسالة علمية في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية). 12 - (رؤية الباري) للذهبي ت 748هـ (ذكره في مقدمة سير النبلاء 1/ 76).   (1) ((ميزان الاعتدال)) (3/ 274). (2) ((السنة)) لعبدالله برقم (983). (3) رواه العقيلي: (3/ 281) بإسناد صحيح، وهو في ((الميزان)) (3/ 277). (4) أسنده العقيلي في ((الضعفاء)) (3/ 280)، واللالكائي برقم (1372)، وهو في ((السير)) (3/ 273). (5) انظر ((الميزان)) (1/ 398 - 399). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 أما الشيخان الحافظان السلفيان ابن تيمية، وابن القيم فقد أشبعا موضوع الرد على تأويلات المتكلمين – وخاصة المعتزلة – إشباعاً لا مزيد عليه، وذلك في عامة مصنفاتهما الكثيرة، نسأل الله أن يوفقنا وإخواننا الموحدين للثبات على السنة، ويجنبنا سبل الابتداع والزلل. المصدر: جناية التأويل الفاسد على العقيدة الإسلامية لمحمد أحمد لوح - ص 232 إن طبيعة التركيبة السكانية لهذا العصر الذي نؤرخ له عقدياً تمتاز بالتباين في الفهم، والموروثات العقدية؛ فجمهور الأمة فيه من مختلف الأعراق، والأجناس؛ ففيه العربي، والفارسي، والقبطي، والبربري، والرومي، ومنهم المخلص في عقيدته، ومنهم المنافق الحاقد الحاسد، الذي يرقب أي حركة هدامة للانضام إليها لرحب هذا المجتمع، وتحطيم عقيدته بالابتداع في دينه، وبذر الشبهات في أوساطه، ومن أبرز طبقات هذا المجتمع طبقة العلماء من الصحابة، والتابعين الذين ورثوا الفهم الصحيح لهذا الدين؛ فكانوا هم الدرع الواقي من الشبهات الباطلة، وقاموا ببيان المعتقد الصحيح، ودفعوا عنه كل دواعي البدع الباطلة، ثم طبقة تابعي التابعين، الذين حملوا راية العقيدة، والشريعة، من أسلافهم الأبرار، وذادوا عن حمى العقيدة، حينما تكالبت عليها فرق الضلال، فكانت مجالس العلم التي تعقد، وتوصل فيها المسائل، ويطرح فيها منهج السلف، واضحا جاليا، ثم يعرف الناس بكل أشكال البدع التي تدور رحاها في هذا الوسط الواسع؛ فحموا العقيدة، ونافحوا عنها، وهزموا أرباب البدع في كل مواقعهم، ولله الحمد. أمام هذا الواقع العقدي الصحيح، الذي كانت تستنير بنوره الأمة، وتمنع قوى الضلال، والبدعة، من الدعوة لباطلها، يمكن لنا أن نعرف من خلاله دقائق البدع المزيفة، والمشاة بوشي العلم، والعبادة، والتقشف، ولم يكن أرباب البدعة يجرءون على مواجهة الأمة بإنكار معتقداتها صراحة، بل كانوا يلبسون على الناس مبتدعاتهم؛ عن طريق رسوم الزهد، والتقوى الزعوم؛ لإيصال ضلالاتهم، وبدعهم، إلى جمهور العامة؛ فعندما ظهرت بدعة القدرية، أنكرها الصحابة، والتابعون، أشد الإنكار، وكان لضغط العلماء، وجمهور الأمة، الفضل الأكبر في قيام الخلفاء في قمع أولئك المبتدعة، وقتلهم، ونفيهم بالأمصار، جزاء إنكارهم لأصل من أصول الإسلام؛ وهو القدر، وكان ذلك هو العمل الصحيح، حتى لا يتسع نطاق هذه البدعة الضالة، ولكن أولئك المبتدعة النفاة اتجهوا إلى السرية، والتخفي، فقاموا بطرح اسم المعتزلة كبديل لمسمى القدرية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 وأمام هذه الهجمة البدعية الخطرة من القدرية، وغيرهم، كان السلف منتبهين إلى مثل هذه الحيل، وبفضل الله – تعالى – استطاع سلف الأمة الصالح الكشف عن بدع واصل، وعمرو بن عبيد، وإدخالهم في دائرة المقت؛ بسبب بدعتهم، وخروجهم عن منهج الأمة الحق، وتعتبر عملية تصنيف أشخاص المبتدعة هي الخطوة الأساسية الأولى التي ينبني عليها موقف الأمة، وعلمائها، فينظر إلى هؤلاء نظرة شك، وارتياب في أقوالهم، وأفعالهم، وجميع ما يصدر عنهم. وإن لفظ البدع، والابتداع، يعتبر مصطلحاً صادقاً، ينطبق تمام الانطباق على هذه المرحلة؛ لقربهم من عهد النقاء، والصفاء؛ عهد النبوة المباركة، وعهد الصحابة الكرام، وعهد التابعين – عليهم رحمة الله -، ويكفي إطلاق هذا اللفظ على شخص، أو فرقة؛ ليضعها في مقام المخالف لهذه العهود المباركة، النقية في عقيدتها، وشريعتها، وسلوكياتها، وهذا الابتداع الذي جاء به المبتدعة هو اختراع دين جديد، وعدم الرضا بما أكمله الله – تعالى -؛ في هذا يقول الإمام مالك "ت 179هـ" – رحمه الله -: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول: أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3]، فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً" (1). يضاف إلى ذلك وضع تسمية خاصة لأهل البدعة، تميزهم عن جمهور الأمة، الذين يدينون بالعقيدة الصحيحة؛ عقيدة السلف الصالح؛ ولذلك أطلقوا عليهم تسميات مثل الخوارج، والقدرية، والمعتزلة، والمرجئة، والمشبهة، والشيعة، وهذا التصنيف لأهل الابتداع يمثل نوعاً من التحذير للأمة من الثقة بأصحابها، أو التعامل معهم، ويمنعهم من الدعوة لمبتدعهم في وسط جمهور الأمة، وقد توجهت جهود علماء السلف منذ بروز بدعة المعتزلة إلى اعتبارهم من المبتدعة؛ ولذلك أصابوا كبد الحقيقة عندما صنفوها من أحد أصناف القدرية. وقد تعرضت شخصية الرجلين: واصل، وعمرو، للنقد الشديد، وإن كان النقد الأكبر موجها إلى عمرو بن عبيد، الذي عاش ثلاثة عشر عاماً بعد واصل، وقد كثرت آراؤه الشاذة، والقبيحة، وقد أتاح امتداد عمره بهذا الشكل لعلماء عصره التعرف على حقيقة معتقده، وتقشفه، وعبادته المزعومة، وسوف نعرض لمواقف أهل السنة من هذه الدعوة، ومن رجالها، وهو نموذج يعبر تعبيرا صادقاً عن قوة علماء السلف، وسيادة منهجهم على الأمة، واندحار المبتدعة أمامهم، وأن هذه الصور التي سنعرضها تبين لنا تهافت أرباب البدع، واشتهارهم أمام عامة الناس بالبدعة، والانحراف، وهذا هو التوجيه الصحيح لمعرفة عامة أهل البصرة بأرباب البدع، لا أن هؤلاء العامة كانوا يدينون بهذه الآراء البدعية، كما روج لذلك المستشرقون، ومن تابعهم من الكتاب في العصر الحديث، وسوف نعرض، فيما يلي، لمواقف علماء السلف، والمعتزلة.   (1) الشاطبي، ((الاعتصام))، (1/ 9)، نشر محمد رشيد رضا، المكتبة التجارية، مصر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 الكشف عن ابتداع المعتزلة، والتحذير منهم: لم يكن المعتزلة، وغيرهم من أهل البدع، يجرءون على القول بآرائهم صراحة، وإنما كانوا يتبعون أسلوب التلبيس الغامض على الناس، وقد لا يستطيع أي أحد أن يكشف هذا التلبيس، إلا إذا سأل العلماء؛ فقد روى العقيلي عن حماد بن زيد "ت 179 هـ"، قال: قال أيوب "131 هـ": "سألت البري، فقلت: لم تأتي عمرو بن عبيد؟ قال: إني أجد عنده أشياء غامضة، قال أيوب: من الغامض أفرق" (1)، أو "أفر" (2).وفي رواية عن حماد بن زيد قال: "كان رجل من أصحابنا يختلف إلى أيوب، ثم انقطع عنه، واختلف إلى عمرو بن عبيد، فجاء إلى أيوب يوماً، فقال له: بلغني أنك تختلف إلى ذلك الرجل، قال: نعم، يا أبا بكر، عنده غرائب، قال: من تلك الغرائب نفر" (3). ونريد أن نتساءل: ما تلك الغرائب؟ هل هي مواعظ مغلفه بعقائد فاسدة عن القدر، والأسماء، والصفات، أم هي أقاصيص، وأفكار غريبة لم يتبين معناها؛ لا هي بدعة، ولا سنة؟ إن هذه الغرائب التي استهوت بعض طلبة العلم، ووقف منها علماء السلف موقف التحذير، والتخويف، ما هي إلا محاولة لجذب انتباه الناس إلى عمرو، وواصل، فيما يحاولونه لنشر بدعهم الاعتزالية، التي كانت في مرحلة التأسيس، ولم يعلن القوم عنها بعد. ومما يدلل على غموض بدعة المعتزلة في بدايتها، واعتبار بعض العلماء عمرو بن عبيد من العلماء الذين لا يجوز الوقوع بهم، ما رواه العقيلي "ت 322 هـ"، وغيره، عن عاصم الأحول "ت 142 هـ"، قال: "كان قتادة "ت 117 هـ" يذكر عمرو بن عبيد، ويقع فيه، قال: فجثوت على ركبتي، فقلت: يا أبا الخطاب، وإذا الفقهاء يقع بعضهم في بعض! فقال: يا أحول، رجل ابتدع بدعة، فتذكر بدعته خير من أن نكف عنها، قال: فرأيت عمرو بن عبيد في المنام، وهو معلق المصحف، يحك آية من القرآن، قلت: ما تصنع؟ قال: إني أعيدها، قال: فحكها، قلت: أعدها! قال: لا أستطيع" (4).وفي رواية: قال: "يا أحول، أولا تدري أن الرجل إذا ابتدع بدعة، فينبغي لها أن تذكر حتى تحذر؟ " (5). فهل خفي أمر عمرو بن عبيد على عاصم هذا، وغيره من العلماء، حتى عده من الفقهاء؛ ولذلك سأل قتادة هذا السؤال، وقام قتادة بوضع أساس هام من أسس التعامل مع كل مبتدع في دين الله، بذكرهم، والتحذير منهم، ومن بدعهم، والتشهير بهم بين الناس؛ حتى لا يلبسوا على الناس بظاهر الزهد، والتقشف.   (1) العقيلي، ((الضعفاء الكبير)) (3/ 278)، والخطيب، ((تاريخ بغداد)) (12/ 175). (2) العقيلي، ((الضعفاء الكبير)) (3/ 278)، والخطيب، ((تاريخ بغداد)) (12/ 175). (3) العقيلي، ((الضعفاء)) (3/ 278). (4) العقيلي، ((الضعفاء))، (3/ 280). (5) ((تاريخ بغداد))، (12/ 179). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 عدم الرواية عن عمرو، وتحقيره: وقد يتبادر إلى الذهن إشكال؛ وهو أن عمرو بن عبيد له روايات في كتب السنن، وقد أحصى هذه الروايات ابن عدي "ت 365 هـ" في كتابه (الكامل في ضعفاء الرجال)، فما السبب في الرواية عنه، مع أنه جرح أشد التجريح؟ وقد أجاب علماء السلف عن هذا الإشكال؛ فمنهم من يرى أنه قد أخذ عنه قبل إحداثه، وابتداعه؛ فقد روى البسوي "ت 277 هـ" عن سفيان بن عيينة "ت 198 هـ"، قال: "حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى العنبري عن عمرو بن عبيد قبل أن يحدث" (1)؛ فهذا النص شاهد أنهم قد حددوا الأخذ عنه، قبل الإحداث، وروى العقيلي أن عبدالله بن المبارك "ت 181 هـ" قيل له: "تركت عمرو بن عبيد، وتحدث عن هشام الدستوائي "ت 154 هـ"، وسعيد، وفلان، وهم كانوا في عداده "أي قدرية"؟ قال: إن عمراً كان يدعو" (2)، وفي رواية: قال: "وكانا ساكتين" (3).وقال ابن المبارك: "كان عمرو بن عبيد يدعو إلى القدر، فتركوه" (4)، وقد كانت هذه المقاطعة مبكرة في حياة الحسن البصري – رحمه الله -؛ فعن يحيى البكاء "ت 13 هـ" قال: كانت رقاع تجيء إلى الحسن، فإذا علم أنها من قبل عمرو بن عبيد لم يجب فيها" (5).ويعقب ابن عدي "ت 365 هـ" – رحمه الله – بعد أن ساق الروايات التي رواها عمرو بن عبيد؛ فقال: "وعمرو بن عبيد قد كفانا السلف مئونته؛ حيث يبنوا ضعفه في رواياته، وبينوا بدعته، ودعاءه إليها، ويغر الناس بنسكه، وللسلف فيمن ينسب إلى الصلاح كلام كثير، حتى قال يحيى القطان: ما رأيت قوما أصرح بالكذب من قوم ينسبون إلى الخير، وكان يغر الناس بنسكه، وتقشفه، وهو مذموم، ضعيف الحديث جدا، معلن بالبدع، وقد كفانا ما قال فيه الناس" (6).وكان السلف ينهون عن الأخذ عنه، وينسبونه للكذب؛ فقد قال أيوب السختياني "ت 131 هـ"، ويونس بن عبيد "ت 139 هـ": "كان عمرو بن عبيد يكذب في الحديث" (7)، وكان حميد يقول لحماد بن سلمة: "لا تأخذن عن هذا شيئا؛ فإنه يكذب على الحسن؛ يعني عمرو بن عبيد" (8)، ولأنه كان يدعو للقدر، والاعتزال، كانوا لا يأخذون عنه – أيضا -، ولما سئل يحيى بن معين عن عمرو بن عبيد، فقال: "لا تكتب حديثه، فقال له: كان يكذب؟ فقال: كان داعية إلى دينه، فقلت له: فلم وثقت قتادة "ت 117هـ"، وسعيد بن أبي عروبة "ت 150 هـ"، وسلام بن مسكين "ت 164 هـ"؟ فقال: كانوا يصدقون في حديثهم، ولم يكونوا يدعون إلى بدعة" (9).وكان يلبس في الرواية؛ ليفهم منه خلاف ما يقول؛ فعن سفيان بن عيينة قال: "سئل عمرو بن عبيد عن مسألة، فأجاب فيها، وقال: هذا من رأي الحسن، فقال له رجل: إنهم يروون عن الحسن خلاف هذا، فقال: إنما قلت: هذا من رأيي الحسن؛ يريد نفسه" (10).   (1) الفسوي، ((المعرفة والتاريخ)) (2/ 259). (2) ((الضعفاء الكبير)) (3/ 277). (3) الذهبي، ((تاريخ الإسلام)) (6/ 241). (4) الذهبي، ((تاريخ الإسلام)) (6/ 238). (5) ((الكامل في الضعفاء)) (5/ 1750). (6) ((الكامل في ضعفاء الرجال)) (5/ 1763). (7) ابن حبان، ((المجروحين)) (2/ 70). (8) العقيلي، ((الضعفاء)) (3/ 279 – 288). (9) العقيلي، ((الضعفاء)) (3/ 279 – 288). (10) ابن عدي، ((الكامل)) (5/ 1750)، وانظر ((الجرح والتعديل)) (6/ 247). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 إهانته، وتحقيره: حيث كان سلام بن مطيع "ت 64 هـ" يقول: "حدثنا المكتوم عمرو بن عبيد" (1)، وذكر عمرو بن عبيد عند سعيد بن عامر "ت 208 هـ" في شيء قاله، فقال: "كذب، وكان من الكاذبين الآثمين، وذكر سعيد يوماً رجلاً لم يسمه، فقال: كان المسكين باراً بأمه، ولكن كان مبتدعا، فقيل له: عمرو بن عبيد هو يا أبا محمد؟ فقال: لا، ولا كرامة لعمرو، وكان عمرو أقل من ذلك، وأرذل من ذلك" (2).وعن محمود بن غيلان "ت 249 هـ" قال: "سمعت قريش بن أنس قال: حدثنا عمرو بن عبيد، ثم قال: وما تصنع بعمرو بن عبيد؟ كف من تراب خير منه" (3)، وكان أيوب السختياني يقول: "ما فعل المقيت؟ يعني عمرو بن عبيد" (4)، وكان أيوب يقول عنه إنه أهوج (5)، وقال أيوب – أيضا -: "ما زال عمرو بن عبيد رقيعا منذ كان" (6)، وكان حماد بن سلمة "ت 167 هـ" يقول: "ما كان عمرو بن عبيد عندنا إلا عرة "أي ذرق الطير، أو البعير"" (7). عدم السلام عليه أو رد سلامه: قال عبدالوهاب الخفاف "ت 204 هـ": "مررت بعمرو بن عبيد، وهو وحده، فقلت: مالك تركوك؟ فقال: نهى ابن عون الناس عنا، فانتهوا" (8)، وهذا النهي من عالم واحد، وكان التزام الناس به هكذا، فكيف إذا أجمع علماء الأمة على هذا النهي، وهذا يدلل على أن أمر الابتداع كان منكرا، وغريبا غاية الغرابة، بفضل الله، الذي وفق هؤلاء العلماء لكشف هؤلاء المبتدعة. وقد كانوا يمثلون أسمى معاني العزة في عقيدتهم، وسلوكهم؛ فعن حماد بن زيد، قال: "كنت مع أيوب، ويونس، وابن عون، وغيرهم، فمر بهم عمرو بن عبيد، فسلم، ووقف وقفة، فما ردوا عليه، ثم جاز، فما ذكروه" (9).وعن عبدالله بن بكر المزني قال: "لم يكن أحد أحب إلي من عمرو بن عبيد قبل أن يحدث؛ لقد كنت أشتهي أن أنظر إليه، فأول ما تكلم استوحشت منه، فلقيته يوماً في الطريق، فأردت أن أزوغ عنه، فلم أقدر، فقال لي: ما لك؟ ليس ها هنا أيوب، ولا يونس" (10).وهكذا يبدو عمرو بن عبيد أمام هؤلاء الأعلام كالسارق الذي يريد إنفاق بضاعته في الخفاء، ويريد أن يلتقي بالناس، فلا يستطيع ذلك، فيرغبهم، ويؤمنهم أنه ليس هنا أيوب، ولا يونس؛ مما يدلل على مكانة علماء السلف في صدور الناس، وانهزام المبتدعة، وبحثها في سراديب الظلام؛ لترويج بدعتها المنكرة؛ فلذلك كان هؤلاء محط كراهية عمرو بن عبيد، لما أحدثوا في الناس من إهمال، ومقت له، فعن يحيى بن النضر "ت 215" قال: "مررت بعمرو بن عبيد، فجلست إليه فذكر شيئا، فقلت: ما هكذا يقول أصحابنا، قال: ومن أصحابنا، لا أبالك؟! قلت: أيوب، ويونس، وابن عون، والتيمي، فقال: أولئك أنجاس أرجاس، أموات غير أحياء" (11)، وبلغ من حنقه أن قال يوما معقبا على كلام لواصل بن عطاء: "فما كلام الحسن، وابن سيرين، والنخعي "ت 95 هـ"، والشعبي، "ت 105هـ" عندما تسمعون، إلا خرق حيض مطروحة" (12). والحق الذي يجب اعتقاده أن خرق الحيض المطروحة هي ما جاءت به المعتزلة، ومن شابههم من أهل الزيغ، والضلال؛ فإن أولئك الأعلام كان علمهم من الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة الكرام، وكلام واصل، وعمرو، هو كلام البدعة، والانحراف الذي أتيا به من مجالس الثنوية، والمجوس، وما أملاه عليهما الشيطان، مخالفين لعقيدة الأمة.   (1) العقيلي، ((الضعفاء)) (3/ 278). (2) العقيلي، ((الضعفاء)) (3/ 278). (3) العقيلي، ((الضعفاء)) (3/ 279). (4) العقيلي، ((الضعفاء)) (3/ 279). (5) العقيلي، ((الضعفاء)) (3/ 282 - 283). (6) العقيلي، ((الضعفاء)) (3/ 282 - 283). (7) ابن عدي، ((الكامل)) (5/ 1753). (8) ابن عدي، ((الكامل)) (5/ 1752). (9) ((تاريخ بغداد)) (12/ 174). (10) العقيلي، ((الضعفاء)) (3/ 284). (11) العقيلي، (3/ 284). (12) العقيلي، (3/ 285). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 النهي عن مجالسته والسلام عليه: فعن النضر بن شميل "ت 203 هـ": "مر ابن عون على عمرو بن عبيد، ورجل جالس معه، فعرفه ابن عون، وقال: السلام عليك يا فلان، ما يجلسك هاهنا؟ " (1)، وعن حماد بن زيد قال: "قال أيوب: كنت أرى ابن هارون له عقل، حتى رأيته "يعني هارون بن دياب"، واقفا مع عمرو بن عبيد" (2)، وعن إسماعيل بن إبراهيم قال: "جاءني عبدالعزيز الدباغ، فقال: قد أنكرت وجه ابن عون، فلا أدري ما شأنه؟ قال: فذهبت معه إلى ابن عون، فقلت: يا أبا عون، ما شأن عبدالعزيز؟ فقال: أخبرني قتيبة صاحب الحرير أنه رآه يمشي مع عمرو بن عبيد في السوق، قال: فقال له عبدالعزيز: إنما سألته عن شيء، ووالله، ما أحب رأيه، قال: وتسأل – أيضاً؟ " (3)، وعن عيسى بن يونس "ت 189 هـ"، قال: "سلم عمرو بن عبيد على ابن عون فلم يرد عليه، وجلس إليه فقام عنه" (4).وقد كان السلف يرون أن بعض الكبائر أهون عند الله من انحراف المعتقد، والابتداع في الدين؛ فقد روى العقيلي عن حرب بن ميمون، عن حويل ختن شعبة، قال: "كنت جالسا عند يونس بن عبيد، فجاء رجل فقال: يا أبا عبدالله، تنهانا عن مجالسة عمرو بن عبيد، وقد دخل عليه ابنك قبيل؟ قال: ابني؟ قال: نعم، فلم أبرح حتى جالسه، فقال: يا بني، ألم تعرف رأيي في عمرو بن عبيد، ثم تدخل عليه؟ قال: كان عنده فلان، قال: فجعل يعتذر، فقال يونس: أنهاك عن الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ولأن تلقى الله بهن أحب إلي من أن تلقاه برأي عمرو، وأصحاب عمرو" (5).وكان عمرو متهماً بالرياء في عباداته، وصلاته؛ فقد روى العقيلي عن نوح بن قيس "ت 184هـ"، قال: "كان بين عمرو بن عبيد، وبين أخي خالد بن قيس إخاء، فكان يزورنا، فكان إذا صلى في المسجد يقوم كأنه عود، قال: فقلت لخالد: أما ترى عمرا ما أخشعه، وأعبده! فقال: ما تراه إذا صلى في البيت كيف يصلي؟ قال: فنظرت إليه إذا صلى في البيت، يلتفت يميناً، وشمالاً" (6). مجادلته ونسبة عدم فهمه إلى عجمته وجهله: إن عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، أخضعهم علماء السلف لمنهج الهجر، والتحقير، والإهانة، ولم يجادلوهم؛ فقد جادل السلف أسلافهم القدرية، وعلموا أن أتباعهم لا يفيد معهم جدال، ولا تستقيم لهم عقيدة، بعدما أوغلوا في هذا الانحراف، ولكن روي أن بعض السلف جادل عمرا في أحكام الوعد، والوعيد؛ فقد روى ابن قتيبة قال: اجتمع أبو عمرو بن العلاء، وعمرو بن عبيد، فقال عمرو: إن الله وعد وعدا، وأوعد إيعاداً، وإنه منجز وعده، ووعيده، فقال له أبو عمرو: أنت أعجم، ولا أقول إنك أعجم اللسان، ولكنك أعجم القلب؛ إن العرب تعد إنجاز الوعد مكرمة، وترك إيقاع الوعيد مكرمة، ثم أنشده: وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي (7) وفي رواية للخطيب البغدادي "ت 463 هـ" قال: "جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو بن العلاء، فقال: يا أبا عمرو، يخلف الله وعده؟ قال: لا، قال: أفرأيت إن أوعده على عمل عقاباً، يخلف وعده؟ فقال أبو عمرو: من العجمة أتيت، يا أبا عثمان، إن الوعد غير الوعيد؛ إن العرب لا تعد خلفاً، ولا عاراً، أن تعد شراً ولا تفعله، ترى ذاك كرما، وفضلاً، إنما الخلف أن تعد خيراً ثم لا تفعله، قال: فأوجدني هذا في كلام العرب، قال: أما سمعت إلى قول الأول: ولا يرهب ابن العم ما عشت صولتي ... ولا أخشى من خشية المتهدد وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي (8)   (1) العقيلي، ((الضعفاء)) (3/ 285). (2) العقيلي، ((الضعفاء)) (3/ 285). (3) ((الكامل)) (5/ 1758). (4) ((المجروحين)) (2/ 70). (5) ((الضعفاء)) (3/ 285). (6) ((الضعفاء)) (3/ 286). (7) ابن قتيبة، ((عيون الأخبار)) (2/ 142). (8) ((تاريخ بغداد)) (12/ 176). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 وقول المعتزلة في الوعد والوعيد مشهور، ولعله من الآراء التي انفرد بها عمرو، ولم يقل بها واصل من قبل. المنامات القبيحة التي رويت بحق عمرو بن عبيد: إن هذه المنامات التي رويت عن السلف بحق عمرو بن عبيد إنما تعبر عن قبح مال المبتدعة، وإن كنا لا نرى أن المنامات تعطي حقيقة مؤكدة، ولكنا نذكرها كما ذكرها علماء السلف الثقات؛ للتحذير من المبتدعة، ومن أتباعهم، والقبول بمناهجهم، ومن هذه المنامات ما رواه عاصم الأحول "سبق ذكر نصه"، وفي نهايته قال: "فرأيت عمرو بن عبيد في المنام يحك آية من القرآن، قلت: ما تصنع؟ قال: إني أعيدها، قال: فحكها، قلت: أعدها! فقال: لا أستطيع" (1).وجاء عمرو بن عبيد، وإسماعيل المكي "ت 193هـ" إلى محمد بن سيرين "ت 110هـ"، فسألاه عن رجل رأى كأنه نصف رأسه مجزوزة، ونصف لحيته، فقال لهما: اتقيا الله، لا تظهروا أمراً، وتسرا خلافه، قال: فقال عمرو: والله، لا نأخذ عنه في اليقظة وكيف نأخذ عنه في المنام؟ " (2).وعن محمد بن إدريس الرازي قال: سمعت الأنصاري يقول: "رأيت في النوم كأنا على باب عمرو بن عبيد، ننتظر خروجه، إذ خرج علينا قرد، قالوا: هذا عمرو بن عبيد" (3). هذه هي بعض مسالك علماء السلف في التعامل مع المعتزلة القدرية؛ ممثلة بشيخها عمرو بن عبيد، الذي أتيح لعلماء السلف أن يطلعوا على أحواله التي كانت مستورة، وعندما اشتد حصار السلف على المعتزلة، برزت معتقداتهم الفاسدة، وجرأتهم القبيحة على دين الله، ولم نعثر على نصوص تخص واصلا، وكما رأينا ما قام به المعتزلة، عندما تمكنوا من بعض خلفاء بني العباس؛ من محنة للأمة، ما هو إلا حقد، وكراهية لعلماء السلف، الذين وضعوهم في دائرة البدعة، والضلالة، وظلوا مقموعين إلى أن اعتنق مذهبهم المأمون، وغيره، ولكن الله عاد عليهم بالذلة، والخزي، والخسران، بعد هزيمتهم على يد إمام السنة؛ الإمام أحمد، ومن سار على دربه، ودرب من سبقه من علماء السلف، ولكن ضلال المعتزلة استشرى في كثير من الفرق التي أصلت أصولها في العقيدة على أصول المعتزلة الفاسدة. المصدر: العقيدة الإسلامية لعطا الله المعايطة - ص 661   (1) العقيلي، ((الضعفاء)) (3/ 281، 282). (2) العقيلي، ((الضعفاء)) (3/ 281، 282). (3) ابن حبان، ((المجروحين)) (2/ 71). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 المبحث الثامن: المعتزلة في ميزان أئمة السلف ذكر أسماء بعض أعلام أئمة السلف ومقالاتهم: 1 - سليمان بن طرخان التيمي "تابعي إمام ثبت".قال: "ليس قوم أشد نقضاً للإسلام من الجهمية والقدرية، فأما الجهمية فقد بارزوا الله تعالى، وأما القدرية فإنهم قالوا في الله عز وجل" (1). 2 - سفيان بن سعيد الثوري "أمير المؤمنين في الحديث".قال: "من قال: إن قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص: 1 - 2] مخلوق، فهو كافر" (2). 3 - سلام بن أبي مطيع "عاقل، صاحب سنة، لا بأس به في الحديث".قال: "الجهمية كفار، لا يصلى خلفهم" (3). 4 - مالك بن أنس "إمام دار الهجرة":قال عبدالله بن نافع – صاحبه -: كان مالك بن أنس رحمه الله يقول: "من قال: القرآن مخلوق، يوجع ضرباً، ويحبس حتى يموت" (4). وقال ابن نافع أيضاً: قال مالك: "من قال: القرآن مخلوق يؤدب ويحبس حتى تعلم منه التوبة".وقال رحمه الله: "من قال: القرآن مخلوق يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه" (5). 5 - عبدالله بن المبارك "الإمام العلم".كان يقول: "الجهمية كفار" (6). وقال محمد بن أعين "ثقة صدوق": سمعت النضر بن محمد يقول: من قال: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه: 14] مخلوق، فهو كافر. قال: فأتيت ابن المبارك فقلت له: ألا تعجب من أبي محمد قال كذا وكذا؟ قال: "وهل الأمر إلا ذاك، وهل يجد بداً من أن يقول هذا؟ " (7). وفي رواية:"صدق أبو محمد عافاه الله، ما كان الله عز وجل يأمر أن نعبد مخلوقاً" (8). 6 - أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي صاحب أبي حنيفة "الثقة الصدوق الفقيه".قال: "جيئوني بشاهدين يشهدان على المريسي، والله لأملان ظهره وبطنه بالسياط، يقول في القرآن" يعني: مخلوق (9). قلت: ونصوص الأئمة في تكفير المريسي – وهو بشر بن غياث، رأس من رؤوس المعتزلة الجهمية – كثيرة. 7 - معتمر بن سليمان، حماد بن زيد، يزيد بن زريع "محدثون ثقات أصحاب سنة". قال فطر بن حماد "شيخ صدوق": سألت معتمر بن سليمان، فقلت: يا أبا محمد، إمام لقوم يقول: القرآن مخلوق، أصلي خلفه؟ فقال: "ينبغي أن تضرب عنقه". قال فطر: وسألت حماد بن زيد فقلت: يا أبا إسماعيل، لنا إمام يقول: القرآن مخلوق، أصلي خلفه؟ قال: "صل خلف مسلم أحب إلي". وسألت يزيد بن زريع فقلت: يا أبا معاوية، إمام لقوم يقول: القرآن مخلوق، أصلي خلفه؟ قال: "لا، ولا كرامة" (10). 8 - عبدالله بن إدريس الأودي "من أئمة المسلمين، ثقة عابد". قال يحيى بن يوسف الزمي "وكان ثقة عدلاً":   (1) رواه عبدالله في ((السنة)) رقم (8) بسند جيد. (2) رواه عبدالله رقم (13) بسند جيد. (3) رواه عبدالله بن أحمد في ((السنة)) رقم (9) والدارمي في ((الرد على الجهمية)) رقم (372) و ((النقض على المريسي)) (ص 119) وأبو داود في ((المسائل)) (ص: 268) وابن الطبري في ((السنة)) رقم (517) بسند صحيح. (4) رواه عبدالله في ((السنة)) رقم (11) والآجري في ((الشريعة)) (ص 79) بسند جيد. (5) رواه ابن أبي حاتم - كما في ((السنة)) لابن الطبري رقم (495) - بسند صالح. (6) رواه عبدالله رقم (15) بسند صحيح. (7) رواه عبدالله رقم (19) بسند جيد. (8) رواه عبدالله رقم (20) وأبو داود في ((المسائل)) (ص 267) والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص 248) وابن الطبري رقم (428) بسند جيد. (9) رواه عبدالله رقم (53) بسند صحيح. (10) رواه عبدالله في ((السنة)) رقم (42) بسند حسن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 كنا عند عبدالله بن إدريس، فجاءه رجل فقال: يا أبا محمد، ما تقول في قوم يقولون: القرآن مخلوق؟ فقال: "أمن اليهود؟ " قال: لا، قال: "فمن النصارى؟ " قال: لا، قال: "فمن المجوس؟ " قال: لا، قال: "فممن؟ " قال: من أهل التوحيد، قال:"ليس هؤلاء من أهل التوحيد، هؤلاء الزنادقة، من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن الله مخلوق، يقول الله: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة: 1] فالله لا يكون مخلوقاً، والرحمن لا يكون مخلوقاً، وهذا أصل الزنادقة، من قال هذا فعليه لعنة الله، لا تجالسوهم، ولا تناكحوهم" (1). 9 - أبو بكر بن عياش "إمام عدل، محدث مكثر". قال حمزة بن سعيد المروزي "ثقة مأمون".سألت أبا بكر بن عياش قلت: يا أبا بكر، قد بلغك ما كان من أمر ابن علية في القرآن، فما تقول؟ فقال: "اسمع إلي ويلك: من زعم لك أن القرآن مخلوق فهو عندنا كافر زنديق عدو الله، لا تجالسه، ولا تكلمه" (2). 10 - وكيع بن الجراح "ثقة حافظ حجة".قال: "أما الجهمي فإني أستتيبه، فإن تاب وإلا قتلته" (3). وقال أبو جعفر السويدي "وكان ثقة متثبتاً": سمعت وكيعاً وقيل له: إن فلاناً يقول: عن القرآن محدث، فقال: "سبحان الله، هذا كفر". قال السويدي: وسألت وكيعاً عن الصلاة خلف الجهمية؟ فقال: "لا يصلى خلفهم" (4). وقال أبو خيثمة "زهير بن حرب":اختصمت أنا ومثنى، فقال مثنى: القرآن مخلوق، وقلت أنا: كلام الله، فقال وكيع وأنا أسمع "هذا كفر، من قال: إن القرآن مخلوق هذا كفر" فقال مثنى: يا أبا سفيان، قال الله عز وجل: مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ [الأنبياء: 2] فأي شيء هذا؟ فقال وكيع: "من قال: القرآن مخلوق هذا كفر" (5). 11 - سفيان بن عيينة الهلالي "إمام حجة فقيه".قال: "القرآن كلام الله عز وجل، من قال: مخلوق، فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر" (6). 12 - أبو معاوية الضرير محمد بن خازم "حافظ ثقة".قال: "الكلام فيه بدعة وضلالة، ما تكلم فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا الصحابة، ولا التابعون والصالحون" يعني: القرآن مخلوق (7).   (1) رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) رقم (5) وعبدالله بن أحمد في ((السنة)) رقم (29) وابن الطبري رقم (432) بسند صحيح، وكذا رواه الآجري في ((الشريعة)) (ص: 78). (2) رواه أبو داود في ((المسائل)) (ص 267) والآجري (ص 79) بسند صحيح. (3) رواه عبدالله في ((السنة)) رقم (31) بسند صحيح. (4) رواه عبدالله في ((السنة)) رقم (33) بسند صحيح. (5) رواه عبدالله في ((السنة)) رقم (35) عن أبي خيثمة به. (6) رواه عبدالله رقم (25) بسند صحيح. (7) رواه عبدالله رقم (208) بسند صحيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 13 - عبدالرحمن بن مهدي "علم، من أثبت المحدثين وأحفظهم".قال: "من زعم أن الله تعالى لم يكلم موسى صلوات الله عليه يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه" (1).وقال: "لو كان لي من الأمر شيء لقمت على الجسر، فلا يمر بي أحد إلا سألته عن القرآن، فإن قال: إنه مخلوق، ضربت رأسه ورميت به في الماء" (2).وقيل له: إن الجهمية يقولون: إن القرآن مخلوق، فقال: "إن الجهمية لم يريدوا ذا، وإنما أرادوا أن ينفوا أن يكون الرحمن على العرش استوى، وأرادوا أن ينفوا أن يكون الله تعالى كلم موسى، وقال الله تعالى: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164]، وأرادوا أن ينفوا أن يكون القرآن كلام الله تعالى، أرى أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم" (3). 14 - أنس بن عياض أبو ضمرة الليثي "محدث ثقة صدوق". قال إسحاق بن البهلول "ثقة عالم": قلت لأنس بن عياض أبي ضمرة: أصلي خلف الجهمية؟ قال: " وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85] " (4). 15 - يزيد بن هارون "إمام في السنة، ثبت حجة حافظ".قال: "من قال: القرآن مخلوق، فهو كافر" (5). وقال شاذ بن يحيى الواسطي "وكان خيراً صدوقاً":حلف لي يزيد بن هارون في بيته: "والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، من قال: القرآن مخلوق، فهو زنديق" (6). 16 - أبو عبيد القاسم بن سلام "لغوي المحدثين، ثقة فقيه".قال: "من قال: القرآن مخلوق، فقد افترى على الله عز وجل، وقال عليه ما لم تقله اليهود والنصارى" (7).وقال "لو أن خمسين يؤمون الناس يوم الجمعة، لا يقولون: القرآن مخلوق، يأمر بعضهم بعضاً بالإمامة، إلا أن الرأس الذي يأمرهم يقول هذا، رأيت الإعادة، لأن الجمعة إنما تثبت بالرأس" (8).قال عبدالله ابن الإمام أحمد: فأخبرت أبي رحمه الله بقول أبي عبيد، فقال: "هذا يضيق على الناس، إذا كان الذي يصلي بنا لا يقول بشيء من هذا صليت خلفه، فإذا كان الذي يصلي بنا يقول بشيء من هذا القول أعدت الصلاة خلفه" (9). قلت: وهذا أقوم من قول أبي عبيد، وأوفق للسنة، ولكن دل قول أبي عبيد رحمه الله على بيان فحش هذا الاعتقاد – اعتقاد الجهمية – وأنهم كفار، وإلا لما شدد هذا التشديد، وضيق هذا التضييق. 17 - أبو الوليد هشام بن عبدالملك الطيالسي "حافظ حجة".قال: "من لم يعقد قلبه على أن القرآن ليس بمخلوق، فهو خارج من الإسلام" (10). 18 - أحمد بن عبدالله بن يونس "ثقة ثبت، صاحب سنة".قال: "لا يصلى خلف من قال: القرآن مخلوق، هؤلاء كفار" (11).   (1) رواه عبدالله رقم (44، 531) وأبو داود في ((المسائل)) (ص: 262) والبيهقي في ((الأسماء والصفات (ص 249) وابن الطبري رقم (505) بسند صحيح. (2) رواه عبدالله رقم (46، 206) وأبو داود (ص: 267) والآجري في ((الشريعة)) (ص: 80) وابن الطبري رقم (504) بسند صحيح. (3) رواه البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص 249) بسند صحيح. (4) رواه عبدالله رقم (72) عن إسحاق به. (5) رواه عبدالله في ((السنة)) رقم (52) وأبو داود (ص: 268) بسند جيد. (6) روه عبدالله رقم (50) وأبو داود (ص: 268) بسند جيد. (7) رواه عبدالله رقم (71) والآجري في ((الشريعة)) (ص: 82) والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص: 253) بسند صحيح. (8) رواه عبدالله في ((السنة)) رقم (75) بسند صحيح. (9) كتاب ((السنة)) رقم (75). (10) رواه أبو داود في ((المسائل)) (ص 266) بسند صحيح. (11) رواه أبو داود (ص: 268) عنه به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 19 - هارون بن معروف المروزي "محدث، ثقة، خير".قال: "من قال: القرآن مخلوق، فهو يعبد صنماً" (1).وقال: "من زعم أن الله عز وجل لا يتكلم، فهو يعبد الأصنام" (2). 20 - يوسف بن يحيى أبو يعقوب البويطي صاحب الشافعي "ثقة فقيه صاحب سنة".قال: "من قال: القرآن مخلوق، فهو كافر، قال الله عز وجل: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [النحل: 40] فأخبر الله عز وجل أنه يخلق الخلق بـ "كن" فمن زعم أن "كن" مخلوق، فقد زعم أن الله تعالى يخلق الخلق بخلق" (3). 21 - يحيى بن معين "العلم، إمام أهل الحديث".قال: "من قال: القرآن مخلوق، فهو كافر" (4).وقال أحمد بن إبراهيم الدورقي "ثقة حافظ": أخبرني يحيى بن معين أنه يعيد صلاة الجمعة مذ أظهر عبدالله بن هارون المأمون ما أظهر، يعني: القرآن مخلوق (5).وقال أحمد بن زهير "ابن أبي خيثمة": سمعت أبي – وسأل يحيى بن معين – فقال: إنهم يقولون: إنك تقول: القرآن كلام الله وتسكت، ولا تقول: مخلوق، ولا غير مخلوق، قال: "لا" فعاودته، فقال: "معاذ الله: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال غيره هذا فعليه لعنة الله" (6). 22 - إمام أهل السنة أحمد بن حنبل. والنقل عنه في تكفيرهم ومجانبتهم، وترك الصلاة خلفهم، والكشف عن مساوئهم، لا يدخل تحت الحصر، فمن ذلك: قال أبو داود: قلت لأحمد: من قال: القرآن مخلوق، أهو كافر؟ قال: "أقول: هو كافر" (7).وقال حنبل: سمعت أنا عبدالله بن حنبل – وسأله يعقوب الدورقي عمن قال: القرآن مخلوق؟ - فقال: "من زعم أن علم الله تعالى وأسماءه مخلوقة، فقد كفر بقول الله عز وجل: فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران: 61] أفليس هو القرآن؟ ومن زعم أن علم الله تعالى وأسماءه وصفاته مخلوقة، فهو كافر، لا شك في ذلك، إذا اعتقد ذلك، وكان رأيه ومذهبه دينا يتدين به، كان عندنا كافراً" (8).وقال عبدالله ابنه: سمعت أبي رحمه الله يقول: "من قال ذلك القول لا يصلى خلفه الجمعة ولا غيرها، إلا أنا لا ندع إتيانها، فإن صلى رجل أعاد الصلاة" يعني: خلف من قال: القرآن مخلوق (9).وقال عبدالله: سمعت أبي رحمه الله يقول: "إذا كان القاضي جهمياً فلا تشهد عنده" (10). وقال محمد بن يوسف بن الطباع "وكان ثقة": سمعت رجلاً سأل أحمد بن حنبل، فقال: يا أبا عبدالله، أصلي خلف من يشرب المسكر؟ فقال: "لا". قال: فأصلي خلف من يقول: القرآن مخلوق؟ فقال: "سبحان الله، أنهاك عن مسلم، وتسألني عن كافر؟ " (11).وقال صالح ابنه عنه: "من زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر، ومن زعم أن أسماء الله مخلوقة كفر، لا يصلى خلف من قال: القرآن مخلوق، فإن صلى رجل أعاد" (12). 23 - أحمد بن صالح المصري "إمام ثبت حافظ".قال أبو داود: سألت أحمد بن صالح عمن قال: القرآن مخلوق؟ فقال: "كافر" (13).   (1) رواه عبدالله رقم (67) بسند صحيح. (2) رواه عبدالله رقم (209) بسند صحيح. (3) رواه البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص 252) بسند صحيح. وروى أبو داود الجملة الأولى منه في ((المسائل)) (ص: 268) بسند صحيح. (4) رواه عبدالله في ((السنة)) رقم (68) بسند جيد. (5) رواه عبدالله رقم (76) عن الدورقي به. (6) رواه ابن جرير (455) بسند صحيح. (7) رواه أبو داود في ((المسائل)) (ص 262) ومن طريقه: الآجري في ((الشريعة)) (ص: 81). (8) رواه الآجري (ص80) بسند صحيح. (9) رواه عبدالله رقم (4) ومن طريقه: البيهقي في ((الأسماء)) ((ص 258)). (10) رواه عبدالله رقم (6). (11) رواه الآجري في ((الشريعة)) (ص 81) بسند صحيح. (12) رواه صالح بن أحمد في ((المحنة)) (ص 66 - 67). (13) روه أبو داود في ((المسائل)) (ص 268). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 24 - هارون بن موسى الفروي "شيخ ثقة، صاحب سنة". قال: "لم أسمع أحداً من أهل العلم بالمدينة وأهل السنن إلا وهم ينكرون على من قال: القرآن مخلوق، ويكفرونه".قال هارون: "وأنا أقول بهذه السنة" (1). 25 - محمد بن إسماعيل البخاري "العلم، صاحب الصحيح".قال: "نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس، فما رأيت أضل في كفرهم منهم – يعني الجهمية – وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم" (2).وقال: "ما أبالي، صليت خلف الجهمي والرافضي، أم صليت خلف اليهود والنصارى، ولا يسلم عليهم، ولا يعادون، ولا يناكحون، ولا يشهدون، ولا تؤكل ذبائحهم" (3). 26 - أبو حاتم محمد بن إدريس، وأبو زرعة عبيدالله بن عبدالكريم الرازيان "إماما الجرح والتعديل".قالا: "ومن زعم أن القرآن مخلوق، فهو كافر بالله العظيم كفراً ينقل عن الملة، ومن شك في كفره ممن يفهم فهو كافر" (4). 27 - أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة "إمام الأئمة".قال: "القرآن كلام الله غير مخلوق: فمن قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم، لا تقبل شهادته، ولا يعاد إن مرض، ولا يصلى عليه إن مات، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ويستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه" (5). 28 - محمد بن جرير أبو جعفر الطبري "الإمام الحافظ الفقيه الحجة". قال القاضي أحمد بن كامل "وكان ثقة فاضلاً": سمعت أبا جعفر محمد بن جرير الطبري – ما لا أحصي – يقول: "من قال: القرآن مخلوق، معتقداً له، فهو كافر حلال الدم والمال، لا يرثه ورثته من المسلمين، يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه". فقلت له: عمن لا يرثه ورثته من المسلمين؟ قال: "عن يحيى القطان، وعبدالرحمن بن مهدي". قيل للقاضي ابن كامل: فلمن يكون ماله؟ قال: فيئا للمسلمين. فهذه بعض أحكام الأئمة الأعلام في حق المعتزلة الجهمية، تبين لك عن فرقان بين الحق والباطل، والكفر والإيمان، وهؤلاء الأعلام من سادة أئمة السلف الذين كانوا أسوة الناس، وفيهم السادة الكبار الذين يفزع إليهم الناس في كشف الشبهات، وإبانة الحق من دينهم. ولقد وقع في كلام بعض الأئمة تكفير بعض أعيان الجهمية، كفر جماعة من السلف الجعد بن درهم – أصل هذه الفتنة – وآخرون جهم بن صفون – رأسها – وآخرون بشراً المريسي – المنافح عنها – وكفر الشافعي رحمه الله حفصاً الفرد – أحد دعاتهم – وهم بقتله. ولقد رأيت أقواماً من أهل البدع، وربما اغتر بهم بعض أهل السنة، يهونون من شأن الجهمية، وربما استنكر بعضهم على الأئمة الذين كفروهم، مع أنه لم يرد عن عامة أئمة السلف إلا تكفيرهم – كما نقله عنهم ابن جرير الطبري وغيره – وهؤلاء فيما رأى أحد رجلين: إما مبتدع، محترق في التجهم والاعتزال، يصر على أمر عظيم، يهاب الحق وسطوة أهله، فلا يصرح، وإنما يشير ويلمح. وإما جاهل، لم يفهم اعتقاد السلف في كلام الله تعالى، وخاف النظر في ذلك – ورعاً – يحسب أنه خوض في الكلام المذموم، فليس له إمام يقتدي به إلا الواقفة الذين أنكر الأئمة مذهبهم. أما الأول فلا سلمه الله ولا عافاه، وكشف ستره، وأظهر سوأته.   (1) رواه الآجري في ((الشريعة)) (ص 78 - 89) بسند صحيح. (2) ((خلق أفعال العباد)) رقم (35) ومن طريقه البيهقي في ((الأسماء)) (ص 253). (3) ((خلق أفعال العباد)) رقم (53) ومن طريقه البيهقي (ص 254). (4) رواه اللالكائي في ((السنة)) (1/ 178) بسند صحيح. (5) رواه أبو عثمان الصابوني في ((الرسالة)) نص/ 7 بسند صحيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 وأما الآخر فليتق الله وليتعلم، وليدع ما حسبه ورعاً، فوالله ما هو بالورع المشروع، فإن الباطل موجود وله دعاة، وبدعة الجهمية لم تنفك عن الناس، وليكفه الاقتداء بأعلام الأمة، ورؤوس الأئمة، من بعد عصر الصحابة وكبار التابعين، الذين عافاهم الله من هذا البلاء، مثل: الثوري، ومالك، والشافعي، وأحمد، وابن معين، والبخاري. وممن سبقت الإشارة إليهم صنف حملوا التكفير في النصوص السالفة عن الأئمة وما يشبهها على الكفر الأصغر الذي لا يفارق به الدين، وهذا أيضاً من تهوينهم لهذه القضية، وتمويههم على الناس، وإلا فإن الكثير من النصوص المذكورة وغيرها صريحة في إخراجهم من الإسلام، ويجب أن يحمل ما أطلق من ألفاظ تكفيرهم على هذا المعنى الصريح، وأنا على يقين أن من فهم الاعتقاد السليم الذي شرحناه في الباب الأول، وفهم ما شبه به المعتزلة الجهمية على الناس، فإنه لا يرتاب في كفرهم الأكبر المخرج من الإسلام. فإن قيل: أليسوا يشهدون أن لا إله إلا الله؟ قلنا: بلى، ولكنهم نقضوها بقولهم: مخلوقة، ونقضوها بتكذيب القرآن، وبنفي صفات رب العالمين، ووصفه بالعجز والنقص، بل وصفه بالعدم، فأي توحيد بعد هذا؟ فإن قيل: هذا الإمام أحمد رحمه الله وهو من أشد الناس في هذه المسألة، ولقي بسببها ما لقي، لم يكفر المأمون، ولا المعتصم، ولا الواثق، بل ربما دعا لبعضهم، وأقر بإمرة المؤمنين، وكانوا حملة راية الفتنة بخلق القرآن، فلو كان كفراً مخرجاً من الإسلام لما دعا، أو عفا، أو أقر بإمرة المؤمنين. قلنا: هذا جهل من المعترض بحقيقة الأمر، فإن إطلاق التكفير ليس كتعيينه، إذ الحكم به على المعين قد يتخلف لمعنى، كتأويل، أو جهل، أو إكراه، فإنه يقال: من قال كذا كفر، ومن اعتقد كذا فهو خارج من الإسلام، وليس معناه أنا إذا وجدنا مسلماً وقع في ذلك استحق وصف الكفر به، حتى نعلم يقيناً أن قد بلغته الحجة الشرعية التامة الواضحة، فانتفى جهله بذلك، ولم يبق في نفسه نوع تأويل، وهذا أمر يعسر في الغالب، ولذا لم يكن من هدي السلف تكفير المعين حتى يوجد مقتضى التكفير، وتنتفي موانعه، ألست ترى تكفيرهم للجعد وجهم والمريسي؟ كفروهم بأعيانهم لانتفاء الجهل والتأويل، لما تضمنت أقوالهم من صراحة الكفر، وألست ترى تكفير الشافعي رحمه الله حفصاً الفرد؟ كان بعد مناظرة وبيان، فقامت عليه الحجة، وانتفى أن يكون له حجة، فلم يقع الشافعي في حرج من تكفيره بعينه. ولما لم يفهم بعض الناس هذه القضية والفصل فيها، تحيروا في تفسير ألفاظ الأئمة المطلقة في ذلك، فحملها أقوام على الكفر الأصغر، وعاب بعضهم بعض الأئمة في تلك الإطلاقات، كما رأيت ذلك لبعضهم. هذا مع أنه قد ثبت عن الإمام أحمد أنه قال: "علماء المعتزلة زنادقة" (1). وهذا يتضمن أن حال العارف العالم منهم غير حال من يتبعهم على جهل، كالخلفاء – الذين لا يفقهون إلا حفظ المناصب – وسائر العامة، الذين تلتبس عليهم الحقائق بما تثيره المبتدعة من الشبه. المصدر: العقيدة السلفية في كلام رب البرية لعبدالله يوسف الجديع – ص 323   (1) رواه ابن الجوزي في ((المناقب)) (ص: 158) بسند جيد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 المبحث الأول: المدرسة العقلية الحديثة وفكر الاعتزال وللمعتزلة – أو بالأصح فكر الاعتزال – شأن في عصرنا الحديث، ولولا ذلك الشأن ما اجتهدنا في التعريف بهذه الفرقة وأفكارها ومبادئها ولاعتبرناها من الفرق التي اندثرت في التاريخ؛ ذلك أن فضح مباحثها من خلال فكر الشيعة الرافضة أو تزييف مناهجها من خلال مناهج الأشاعرة إنما يتم في ثنايا الرد على الرافضة وغيرهم في مباحثهم ومناهجهم، وإنما اعتبرنا بيان الأصول العقائدية والقواعد المنهجية للاعتزال لما أطل خلفهم في عصرنا هذا برؤوسهم، ونادوا بما ادعته المعتزلة من مناهج واتخذوا من سبيل المدح لهم والثناء على "تحررهم" و "عقلانيتهم"! ذريعة إلى نشر آرائهم الفاسدة، والاستتار تحت شعار الاعتزال لدس السم في الفكر الإسلامي التوحيدي السليم. نعم! قالوا: أليس المعتزلة من "المسلمين"؟! ألا يحق لنا الاقتباس منهم والرجوع إليهم؟! وما لنا "نجمد" مع الجامدين من الفقهاء والأئمة والمحدثين من السلف ونلتزم طريقهم ولا نقتبس عن المعتزلة "المسلمين" مواقفهم"العقلية" "الثورية" "التحررية" التي تتناسب ومقتضيات عصرنا الراهن؟! تلك هي مجمل دعواهم وملخص قولهم الذي أرادوا به القضاء على عقيدة المسلمين والتفافهم حول كتابهم من خلال تلبيس الحق بالباطل – بعد أن نجحت جهودهم في إزاحة شريعة الحق عن الساحة – وهو شأن المفسدين في كل زمان ومكان. وقد بدأت جذور ذلك الأمر تظهر في البلاد الإسلامية السنية بعد أن ذاعت المبادئ الثلاثة التي أطلقها الصهاينة من خلال الثورة الفرنسية ليتمكنوا من خلالها من هدم الخلقية البشرية عامة وإقامة المجتمع اليهودي على أنقاضها، وهي مبادئ "الحرية – المساواة – العدل". "والحرية" تعني أن يتحرر الإنسان من كل القيم والأعراف والأديان ويفعل ما يحلو له كالبهيمة، وإن تمحك دعاتها في معاني الحرية السياسية أو الفكرية التي لم يقف الإسلام حائلا في سبيلها يوما من الأيام داخل الإطار الشرعي لها. "والمساواة" تعني أن لا فرق بين مسلم ونصراني ومجوسي بل الكل مشتركون في صفة الإنسانية فهم إخوة بهذا المعنى، ولا معنى للتفريق بينهم بسبب العقيدة، فلنسقط الأديان كلها باسم المساواة، وليتحد البشر باسم الإنسانية! وسبحان القائل وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ وقال: وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فكيف السبيل للاتحاد مع أمثال هؤلاء من المشركين!؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 "والعدل" يعني نزع الثروات من أيدي مالكيها بدعوى سلامة التوزيع وردها إلى فئة من اليهود المسيطرين على الاقتصاد العالمي كله، وما تجارب الشيوعية والاشتراكية والرأسمالية إلا أفكارا يهودية في أصلها ومنشئها. وقد ساعدت على نشر الأفكار الهدامة المؤسسات التي أقامها الصهاينة لتكون شعارا لهم ينشرون من ورائه تلك الخبائث كنوادي الروتاري والليونز، وهي مؤسسات ماسونية تنتشر في العالم كله لامتصاص طاقته وثرواته واجتذاب علية القوم فيه للاستفادة منهم. وقد سرت عدوى "التحرر" و "العقلانية" وأمثالها إلى الوطن الإسلامي نتيجة الاختلاط بين الشرق والغرب في مطلع القرن الماضي عن طريق البعثات التعليمية وغيرها، فتأثر تلامذة البعثات بما وجدوه في أوربا ونقلوا ذلك في كتبهم – بقصد أو بدون قصد – كرفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، إلى أن جاء دور جمال الدين الأسد آبادي – المعروف بالأفغاني – وهو إيراني المولد والمنشأ تربى في أحضان علماء الرافضة (1) – وقد قام بالعديد من الأعمال التي كان لها أسوأ الأثر في العالم الإسلامي رغم ما يحلو للبعض من المسلمين "الطيبين" أن يدعوه باسم "باعث الشرق"! وباعث الشرق هذا كان مؤسسا ورئيسا لأكبر محفل ماسوني في الشرق، وترقى في درجات الماسونية إلى أعلى المراتب. يقول محمد محمد حسين: "وإلى جانب ذلك كله نجد إشارات صريحة في كتاب لأحد كبار رجال الماسونية في مصر ومن المعروف أنها دعوة تخدم الصهيونية العالمية – تؤكد أن جمال الدين كان رئيسا لمحفل كوكب الشرق الماسوني، كما تؤكد أن محمد عبده كان عضوا في هذا المحفل" (2).وينقل أحمد أمين في كتابه (زعماء الإصلاح) عن جمال الدين قوله: "أول ما شوقني للعمل في بناية الأحرار عنوان كبير خطير (حرية – مساواة – إخاء) وإن غرضها منفعة الإنسان"!! (3).وقد تكشفت حقيقة جمال الدين هذا لعلماء تركيا الذين اطلعوا على رفضه وخبثه فطردوه من بلادهم ورموه بالكفر من أمثال الشيخ مصطفى صبري مفتي الدولة العثمانية وغيره من العلماء (4). ولا مجال للإطالة في الحديث عن جمال الدين هذا إلا بمقدار ما ينبغي أن نعرفه كأستاذ لمحمد عبده صاحب المدرسة العقلية الاعتزالية – التي اصطلح على تسميتها بالمدرسة الإصلاحية! - والتي ظهرت أوائل هذا القرن في مصر وخرج من تحت عباءتها كثير من الكتاب الذين اتهموا بالدخل في دينهم من بعد مثل طه حسين، الذي وضع كتاب الشعر الجاهلي فحشاه بالكفر البواح وحوكم بسببه في مصر وعزل من عمله بالجامعة.   (1) ((الإسلام والحضارة الغربية)) محمد محمد حسين، ((دعوة جمال الدين الأفغاني في الميزان)) (380) مصطفى فوزي. (2) ((الاتجاهات الوطينة)) (1/ 339). (3) ((زعماء الإصلاح)) (73). (4) ((دعوة جمال الدين في الميزان)) (12 وما بعدها) ((موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين)) لمصطفى صبري، الجزء الرابع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 ثم تتابعت الكتابات الهدامة المستترة تحت ستار الاعتزال والتحرر والعقلانية تنخر في جسد الأمة المسلمة بعد أن سقطت الخلافة – التي كانت آخر درع يتقي به كيد المفسدين- فظهرت كتابات طه حسين عن الشعر الجاهلي ثم عن مستقبل الثقافة في مصر وضرورة نبذ التقاليد الشرقية جملة وتفصيلا. كذلك كتابات قاسم أمين عن تحرير المرأة، وقد تمحك هؤلاء بلفظ الحرية ودعوى العقلانية والتقدم، وامتدحوا الاعتزال والمعتزلة واعتبروهم الأجدر بالاتباع في "تراثنا الإسلامي"!.تساءل أحمد أمين في كتابه (ضحى الإسلام): "والآن يحق لنا أن نتساءل: هل كان في مصلحة المسلمين موت الاعتزال وانتصار المحدثين؟ " (1). ثم أعلن أنه ليس في صالحهم القضاء على الاعتزال، بل كان من الواجب على المعتزلة والمحدثين أن يستمرا كحزبين أحدهما تقدمي والآخر محافظ! ليستفيد المسلمون من كليهما! (2) وما أبعد هذا الفكر عن الفهم الإسلامي المستوحى من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تقرر أن هناك طائفة واحدة منصورة ظاهرة على الحق وأنها وحدها الناجية دون سائر الفرق الاثنتين والسبعين!.ويعلن أحمد أمين في صراحة: " في رأيي أن من أكبر مصائب المسلمين موت المعتزلة" (3). ولم يكن هذا الرأي، الذي عبر عنه أحمد أمين، بشأن دور الاعتزال وأهميته وضرورة تبني المسلمين له في طرق البحث ومنهاجه، رأيا ارتآه وحده بل عرف عند كثير من غيره من الكتاب الذين لمعت أسماؤهم في هذه الحقبة الأخيرة من الزمان. فهذا كاتب آخر وهو زكي نجيب محمود – الذي تبنى الوضعية المنطقية كنظرية يدين بها – بزعم أنه إن كان لنا أن نحيي جزءا من تراثنا الإسلامي فليكن هو الاعتزال. يقول في (تجديد الفكر العربي): "يبدو لكاتب هذه الصفحات أن أهم جماعة يمكن لعصرنا أن يرثها في وجهة نظرها. . أعني أن يرثها في طريقتها ومنهاجها عند النظر إلى الأمور هي جماعة المعتزلة التي جعلت العقل مبدأها الأساسي كلما أشكل أمر" (4).ويؤكد ذلك بعد صفحات فيقول: "فما زلت أرى أنه لو أراد أبناء عصرنا أن يجدوا عند الأقدمين خيطا فكريا ليتمسكوا بطرفه فيكونوا على صلة موصولة بشيء من تراثهم، فذلك هو الوقفة المعتزلية من المشكلات القائمة" (5).   (1) ((ضحى الإسلام)) (3/ 202). (2) ((ضحى الإسلام)) (3/ 203). (3) ((ضحى الإسلام)) (3/ 207). (4) ((تجديد الفكر العربي)) (117). (5) ((تجديد الفكر العربي)) (123). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 وهذا المسكين قد وقع في خطأ كان لابد له من الوقوع فيه نظرا لانشغاله طوال حياته بالفكر الغربي دراسة وتحليلا وتسلية كما عبر بنفسه في مقدمة كتابه المذكور إلا سنوات قليلة أخذ "يعب فيها التراث عبا" على عجل بنظر المستشرقين لا بنظر المؤمن، هذا الخطأ هو اعتقاد أن أهل السنة والجماعة كانوا يقفون بالمرصاد لمحاولات إعمال العقل في مجال الطبيعة والحياة بحرية وانطلاق، وهو أمر ما كان في يوم من الأيام، وإنما يشهد التاريخ أن الصراع بين أهل السنة وبين غيرهم من الفرق الضالة كان بسبب إدخال العقل في مجال الغيب أولا، ومحاولة تحكيمه في نصوص الشارع الثابتة التي توجه الحياة البشرية بكليات وقواعد قد رضيها الله سبحانه لخلقه – وهو أعلم بهم – ثانيا، أما في مجال العلوم الطبيعية والتجريبية فعلى أمثال هؤلاء المفسدين إبراز دليل واحد يستدلون به على وقوف أهل السنة والجماعة في وجه تلك العلوم أو عدم إعمال العقل فيها، وحتى مهاجمة أهل السنة للفلاسفة إنما كانت في الجانب الميتافيزيقي الذي خاضوا فيه غمار العلوم الإلهية بعقولهم القاصرة فخرجوا إلى الكفر البواح كما فعل ابن سينا والفارابي، بينما لم ينكر أحد على ابن سينا وضعه لكتاب (القانون) في الطب مثلا، وإنما ادعاءات هؤلاء كلها محض باطل وتجن وهوى، ولما كان الإسلام يعالج في مبادئه وأساسياته قواعد اجتماعية وتشريعات دولية وسياسية واقتصادية تصادمت في كثير منها مع تلك الاتجاهات الهدامة، كان لهم في المواقف الاعتزالية التي قدمت العقل فيما لا يمكن الحكم فيه خير سند في دعواهم للقضاء على الشريعة الإسلامية والنهج الرباني. وقد تناثرت تلك الدعاوى عن المعتزلة في العديد من أعمال بعض الباحثين المحدثين، كما ذكرنا، فمدحوا الاعتزال وتابعوا المستشرقين ونقلوا عنهم ما أوردوه في تحسينه وتزيينه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 يقول عرفان عبد الحميد في كتابه (دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية) تحت عنوان أهمية المعتزلة في الفكر الإسلامي: "المعتزلة أول مدرسة كلامية ظهرت في الإسلام وكان لها دور كبير في تطوير الفكر الديني والفلسفي فيه، فهي التي أوجدت الأصول العقلية للعقيدة الإسلامية!! وجعلت للنزعة العقلية في الفكر الإسلامي مكانة مرموقة، ورفعت من شأن العقل وأحكامه وقدرته في الوصول إلى الحقيقة" (1)، ولا نحتاج إلى التعليق، حيث سبق أن بينا موقف أهل السنة من "العقل" ومجالاته، وبينا المجال الذي عملت فيه النزعة العقلية في الإلهيات فأنتجت ذلك الضلال والانحراف. ولكن أنى لمثل هذا الباحث أن يتفهم موقف الإسلام في مثل تلك الأمور وهو ينقل عن المستشرقين نص كلامهم مرتئيا له وموافقا عليه، فيقول: "والمعتزلة تمثل أول محاولة في الفكر الإسلامي تعرضت لمسألة الصلة بين الحقائق الدينية وأحكام العقل وذلك (بقوة فكرية عجيبة وثبات عظيم وحاولت حلها بطريقة مبتكرة) " وما بين القوسين منقول عن سوزانا فلزر في مقدمة كتاب (المعتزلة) وواضح تبنيه لهذا الرأي الاستشراقي! فالله الله في المسلمين وعقائدهم أيها الباحثون المجددون. ويقول عبد الستار الراوي في مقدمة كتابه (فلسفة العقل) عن الحركة الاعتزالية: "حركة ثقافية تتخطى المذهبيات المغلقة، تنتهج في جدلياتها الكلامية "الحرية" (2) وأنها "تقيم الأدلة المنطقية على عقم الاتجاهات السلفية ومواقفها الوثوقية! " (3).ومعنى قوله "مواقف السلف الوثوقية" هو وثوق أهل السنة وأتباع السلف بقيمة النص إزاء العقل ووثوقهم من مقررات النصوص الثابتة القطعية. ثم يقول في بيان شرحه لموقف الإمام أحمد إزاء محاوريه من المعتزلة إبان المحنة وتمسكه بالنصوص الثابتة: "ولما حاصرته براهين المعتزلة العقلية أقر بعجز عقله غير المدرب عن رد جدلياتهم الكلامية في مسألة الصفات يقول: لا أدري. هو (الله) كما وصف نفسه لا أزيد عن ذلك شيئا!! " (4). ولله درك يا إمام، فقد ضاق عقل شانئيك بعد اثني عشر قرنا من أن يفهموا معنى موقفك، وحقيقته الذي حافظت به على قيمة النص الشرعي وأوقفت محاولات التلاعب بدين الله. ولو ذهبنا نتتبع هذا التيار الذي انتشر في الكتابات الحديثة لطال الحديث ولكننا نكتفي بما ذكرنا ليكون دليلا وشاهدا على صحة ما ذهبنا إليه من محاولة الفكر الاعتزالي العودة إلى السطح – من خلال مفاهيم التحرر والتقدم والعقلانية – محمولا على أقلام بعيدة كل البعد عن منهج الإسلام الصافي الأصيل.   (1) ((دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية)) (125). (2) ((فلسفة العقل للراوي)) (5). (3) ((فلسفة العقل للراوي)) (5). (4) ((فلسفة العقل للراوي)) (24). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 ومما يدعو للأسف أن هذا الاتجاه – بشكل أقل حدة – قد تعدى إلى بعض الفضلاء ممن ينتمون للحركة الإسلامية في عصرنا، فالدكتور عدنان زرزور يقدم رسالته عن الحاكم الجشمي ومنهجه في التفسير وينقل ثناء الشيخ محمد أبو زهرة على المعتزلة في كتابه (تاريخ المذاهب الإسلامية) مؤيدا هذا الثناء فيقول: "قال – أي أبو زهرة – حفظه الله: أولا: إن هؤلاء – أي المعتزلة – يعدون فلاسفة الإسلام حقا لأنهم درسوا العقائد الإسلامية دراسة عقلية مقيدين أنفسهم بالحقائق الإسلامية غير منطلقين في غير ظلها، فهم يفهمون نصوص القرآن فهما فلسفيا، ويغوصون في فهم الحقائق التي تدل عليها غير خالعين للشريعة ولا متحللين من النصوص"! (1).كما إنه يدعو "للإفادة من منهج المعتزلة العقلي – ومن سائر المناهج الكلامية الأخرى - في الدفاع عن الإسلام وشرح حقائقه أمام مناوئيه ومخالفيه من أتباعه والغرباء عنه على حد سواء"!! (2) فهل يا ترى في منهج المتكلمين وطريقة المعتزلة ما يدفع به عن الإسلام بحق؟! ثم يدعي الدكتور عدنان دعوى عريضة خالف فيها منطوق ومفهوم نصوص ثابتة صريحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كحديث الفرق الثلاثة والسبعين وحديث الفرقة المنصورة الذي رواه مسلم فقال: "وليس في تاريخ الإسلام فرقة واحدة تستطيع أن تزعم لنفسها فهم العقيدة الإسلامية على الوجه الأكمل حتى يكون كل من خالفها في شيء ضالا مبتدعا أو من أهل الزيغ والأهواء! ولا تخلو فرقة واحدة من الغلو في جانب والتفريط في جانب آخر، وليست مهمتنا الانتصار لفرقة على أخرى أو تعميق الخلاف بين هذه الفرق"! (3).والعجب العجب مما قاله! فقد اشتملت هذه الفقرة وحدها على ثلاثة أخطاء مركبة أولها: قوله: أنه لا توجد فرقة واحدة فهمت العقيدة الإسلامية على الوجه الأكمل! فأين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق)) رواه مسلم (4)، وأين قوله صلى الله عليه وسلم: ((ستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة إحداها الناجية)) رواه الترمذي (5)، وأين فرقة أهل السنة والجماعة التي من زعمائها أئمة الإسلام مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة وابن تيمية وابن القيم وابن كثير ومحمد بن عبد الوهاب. . وغيرهم كثير كثير ممن اتفقت عقائدهم وإن اختلفوا في بعض الفروع!؟ وهل للعقيدة الإسلامية بهذا القدر من الصعوبة ليتعذر فهمها على أي طائفة طوال هذه القرون؟!. أوليس معنى ما تقدم من أنه "حتى يكون من خالفها في شيء ضالا ومبتدعا أو من أهل الزيغ والأهواء" إنكارا صريحا لوجود أهل الأهواء ابتداء إذ أين نذهب بأقوال أئمة الإسلام التي تحذر من اتباع أهل الأهواء والبدع؟ وكفانا في ذلك مراجعة ما أورده الشاطبي في الاعتصام الجزء الأول عن أهل الأهواء والتحذير منهم وكلام أئمة السنة فيهم. . ونترك للقارئ المسلم الحكم على صحة أقواله وتقييمها من خلال ما طالع في ثنايا بحثنا.   (1) ((عدنان زرزور، الحاكم الجشمي)) (21). (2) ((عدنان زرزور، الحاكم الجشمي)) (18). (3) ((عدنان زرزور، الحاكم الجشمي)) (18). (4) رواه مسلم (1920). (5) رواه الترمذي (2640) دون لفظة: (إحداها الناجية). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 ثانيها: قوله: ولا تخلو فرقة واحدة من الغلو في جانب والتفريط في جانب آخر!.ونقول: بل إن سمة أهل السنة الوسطية لا إلى إفراط ولا إلى تفريط كما وصفهم ابن تيمية بقوله: "وهم (أهل السنة والجماعة) وسط في باب أفعال الله عز وجل بين المعتزلة المكذبين بالقدر والجبرية النافين لحكمة الله ورحمته وعدله. وفي باب الوعد والوعيد، بين الوعيدية الذين يقولون بتخليد عصاة المسلمين في النار وبين المرجئة الذين يجحدون بعض الوعيد وما فضل الله به الأبرار على الفجار. وهم وسط في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الغالي في بعضهم الذين يقول فيه بإلهية أو نبوة، والجافي فيهم الذي يكفر بعضهم أو يفسقه وهم خيار هذه الأمة" (1). وثالثها: قوله: "وليست مهمتنا اليوم الانتصار لفرقة على أخرى. . ". ويقول: بل إن مهمتنا الأساسية في الحياة هي إظهار عوار الباطل الذي تشتمل عليه أقاويل تلك الفرق الاثنتين والسبعين، كما أن مهمتنا مناهضة الإلحاد والكفر سواء بسواء، والمقبول من العمل هو ما كان خالصا صوابا؛ خالصا لوجه الله تعالى وصوابا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتلفيق ومحاولة التقارب المزعوم بين الفرق هو بمثابة الطعن في صحة عقيدة الحق التي عليها أهل السنة والجماعة؛ عقيدة السلف الصالح؛ وعقيدة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. المصدر: المعتزلة بين القديم والحديث لمحمد العبده وطارق عبد الحليم – ص 125 يرى بعض الباحثين أن الجهمية والمعتزلة من الطوائف التي عاشت في الساحة الإسلامية ردحاً من الزمن ثم اختفت، وأن مناقشة أفكارهم وعقائدهم صراع مع الرميم يتنزه عنه العقلاء، فنجد بعضهم يعقد في كتابه مبحثاً بعنوان: "من أسباب اضمحلالهم" فيذكر بعض الأسباب، ثم يقول: ولعل مما عجل بانقراضهم كثرة اختلافاتهم" ويقول آخر: "إذا كان الإسلام لا يتعارض مع العقل فما المدى الذي يسمح فيه للتفكير العقلي في أصول الدين، حتى لا تتكرر مأساة اختفاء المعتزلة" ويقول: "قام المعتزلة بدور رئيسي في الحياة العقلية للحضارة الإسلامية منذ القرن الثاني إلى القرن الخامس الهجري، حتى تواروا بعد ذلك عن مسرح الفكر" ثم يطمئن نفسه بأن تراث المعتزلة باق فيقول: "وقد قام الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة بن سليمان ت 614هـ أحد أئمة الزيدية باليمن بإرسال دعاته إلى خارج اليمن لاستنساخ الكتب والمصنفات التي توافق مذهب الزيدية، وخاصة مؤلفات المعتزلة، بذلك حفظت لنا مكتبات اليمن وأقبيتها، تراث المعتزلة" (2).   (1) ((الجواب الصحيح)) (1/ 8). (2) د. أحمد محمود صبحي: ((مباحث في علم الكلام)) (ص842، 387، 393) على التوالي، والأقبية: جمع قبو، بناء تحت الأرض تنخفض حرارته في الصيف. ((المعجم الوسيط)) 2/ 713). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 ويقول د. يوسف القرضاوي – مقللاً من أهمية بقاء الحوار مع المتكلمين المؤولة-: "ولهذا قلت لإخواننا العلماء في قطر والمملكة العربية السعودية حين سمعت بعضهم يجادل في قضية الصفات بين السلف والخلف، وما فيها من جدل وكلام طويل الذيول: إن المعركة اليوم ليست مع الأشاعرة ولا مع الماتريدية، ولا المعتزلة والجهمية، إن معركتنا اليوم مع الملاحدة الذين لا يؤمنون بإله ولا نبوة، ولا كتاب، ليست معركتنا مع الذين يقولون عن الله: ليس له مكان، بل مع الذين يقولون: ليس له وجود، وعلينا أن نخلقه كما قال أحدهم! ليست معركتنا مع الذين يؤولون صفات الله تعالى، بل مع الذين يجحدون الله بالكلية، وأي تحويل للمعركة عن هذا الخط يعتبر توهيناً للصف، وفراراً من الزحف، وإعانة للعدو. ومن الإنصاف أن أقول: إني وجدت تجاوباً رائعاً من علماء قطر، والمملكة العربية السعودية نحو هذا الاتجاه، فيما عدا القليل منهم." (1). أقول: هذا كلام غير مقبول لأمور: الأول: أن هذا التوجه الأحادي الانتقائي تجاه الملل والنحل الضالة ينافي المنهج الإسلامي القويم الذي بعث الله به رسله، والذي يقضي بوجوب إقامة الدين الحق، ومحاربة كل ملة أو نحلة ضالة مخالفة للدين، قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة: 33 والفتح 28]. الثاني: مقتضى هذا القول: أن المعركة ليست بيننا وبين اليهودية والنصرانية المحرفين باعتبار أهلهما مقرين بوجود الله، وهذا ضرب من الإرجاء خطير. الثالث: مما يقرب هذا اللازم أن كلام القرضاوي هذا – وإن كان غريباً لدى سائر المسلمين – ليس غريباً على منهج المدرسة التي ينتمي إليها، فقد بني هذا الكلام – كما يبدو لي – على أساس حاول شيخه البنا إقامته منذ مدة طويلة، حيث ألقي في 5/ 3/1946م كلمة أمام "اللجنة الأمريكية البريطانية" التي كانت تجول حول العالم العربي بخصوص تمييع قضية فلسطين، والعمل على تهجير اليهود إليها، ألقى الشيخ البنا كلمته أمام هذه اللجنة باعتباره ممثلاً للحركة الإسلامية، جاء فيها: "الناحية التي سأتحدث عنها نقطة بسيطة من الوجهة الدينية، إلا أن هذه النقطة قد لا تكون مفهومة في العالم الغربي، فأريد أن أوضحها باختصار فأقرر أن خصومتنا لليهود ليست دينية؛ لأن القرآن الكريم حض على مصافاتهم ومصادقتهم، والإسلام شريعة إنسانية قبل أن تكون قومية، وقد أثنى عليهم، وجعل بيننا وبينهم اتفاقاً: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: 46] وعندما أراد القرآن أن يتناول مسألة اليهود تناولها من الوجهة الاقتصادية والقانونية، قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: 160] " (2).وقال الشيخ البنا – في مؤتمر صحفي عقد في 5/ 9/1948م للاحتفال بمرور 20 عاماً على إنشاء الجماعة-: "وليست حركة الإخوان المسلمون موجهة ضد عقيدة من العقائد، أو دين من الأديان أو طائفة من الطوائف، إذ أن الشعور الذي يهيمن على نفوس القائمين بها أن القواعد الأساسية للرسالات جميعاً قد أصبحت مهددة الآن بالإلحادية، والإباحية وعلى الرجال المؤمنين بهذه الأديان أن يتكاتفوا ويوجهوا جهودهم إلى إنقاذ الإنسانية من هذين الخطرين الزاحفين" (3).   (1) ((وجود الله)) (ص 6). (2) محمود عبدالحليم: ((الإخوان المسلمين أحداث صنعت التاريخ)) (1/ 409 - 410) / الإسكندرية/ 1406هـ. (3) عباس السيسي: ((في قافلة الإخوان المسلمين)) (1/ 262 - 263) / الإسكندرية/ ط2/ 1407هـ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 من تأمل هذا الكلام أدرك أن القرضاوي هنا يعي ما يقول، وأن كلامه جار على تعليمات تلقاها من مثل هذه التصريحات الغريبة التي تنافي مبدأ الولاء والبراء في الإسلام. وكيف يقال: إن ذم اليهود في القرآن محصور في الحيثية الاقتصادية والقانونية مع قوله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 30 - 31].والحق الذي لا ريب فيه أن المعتزلة – وإن رحلت بأعلامها ومشاهيرها – فقد بقي الاعتزال بكل معانيه وصوره، بقي الاعتزال تحت فرق تسمت بأسماء أخرى، وبقي بمناهجه وأصوله تحت أشخاص ينتسبون إلى السنة بألسنتهم، يقول محمد أبو زهرة – وهو يقر بوجود المعتزلة منشوراً بين المفكرين-: "نعم إن المسألة محصت ودرست بعد ذلك من الأخلاف، ورأى كثيرون من مفكري الإسلام رأي المعتزلة، ولكن لم يكن ذلك نتيجة للاضطهاد، بل كان نتيجة لمناظرات العلماء، وما نشره المعتزلة من رسائل، ولو ترك الأمر على رسله من غير اضطهاد لانتشرت فكرة المعتزلة أكثر مما انتشرت، وما لوث تاريخهم بذلك الاضطهاد" (1) هنا نلاحظ أنا أبا زهرة يرى أن اللوثة الوحيدة التي لحقت بفكر المعتزلة وحدت من انتشاره هي طريقتهم في نشر أفكارهم بالقوة، وأنه لولا ذلك الأسلوب لانتشر أكثر، ومعنى الانتشار أكثر أن يكتسح هذا الفكر جميع أقطار العالم الإسلامي، وإلا فقد انتشر فكرهم انتشاراً فاحشاً، ولنسمع ما يقوله جمال الدين القاسمي في هذا الموضوع: "هذه الفرقة من أعظم الفرق رجالاً، وأكثرها تابعاً، فإن شيعة العراق على الإطلاق معتزلة، وكذلك شيعة الأقطار الهندية، والشامية، والبلاد الفارسية، ومثلهم الزيدية في اليمن؛ فإنهم على مذهب المعتزلة في الأصول – كما قاله العلامة المقبلي في (العلم الشامخ) (2) – وهؤلاء يعدون في المسلمين بالملايين، وبهذا يعلم أن الجهمية المعتزلة ليسوا في قلة فضلاً عن أن يظن أنهم انقرضوا، وأن لا فائدة في المناظرة معهم، وقائل ذلك جاهل بعلم تقويم البلدان، ومذاهب أهلها" (3). هذا ما يتعلق بانتشارهم ضمن الفرق البدعية الأخرى كالزيدية والرافضة، وغيرهم، وأما الجانب الآخر والخطير فهو انتشار فكرهم داخل المعسكر السني بواسطة أقوام مفتونين بالمنهج العقلاني، ولنأخذ مثاليين من هذا الصنف علماً بأنهم كثيرون في عصرنا حتى قامت معاهد فكرية تتبنى منهج عقلانية المعتزلة في التعامل مع النصوص الشرعية. الأول: الشيخ محمد الغزالي الذي يعتمد على المنهج العقلاني في أكثر كتبه، ويظهر ذلك أكثر في كتابه الموسوم بـ (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث).   (1) ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (1/ 159). (2) انظر ((العلم الشامخ)) (ص 12 - 13) / بيروت/ دار الحديث ط2/ 1405هـ. (3) ((تاريخ الجهمية والمعتزلة)) (ص 56). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 واعتزاليات الغزالي تبدو لقارئ كتابه المذكور من ركوبه صهوة العقل رد كثير من النصوص الثابتة، ومن موقفه من نصوص القدر حيث يؤولها إلى الاختيار المطلق كما يقول المعتزلة، وإليك نتفاً من ذلك الكتاب:- يقول الغزالي: "والقول بأن كتاباً سبق بذلك (يعني بمصير الإنسان) وأنه لا حيلة لنا بإزاء ما كتب أزلاً هذا كله تضليل وإفك" (1).وقال: "ومن ثم فإننا نتناول بحذر شديد ما جاء في حديث مسلم: ((فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ... الخ)) (2). إذا كان الحديث المذكور تنويهاً بشمول العلم الإلهي، وأن بدايات بعض الناس قد تكون مخالفة لنهاياتهم فلا بأس من قبوله بعد الشرح المزيل للبس المبطل للجبر، أما المعنى القريب للحديث فمردود يقيناً" (3).والمثير هنا مطابقة نظر الغزالي مع نظر النظام في رد هذا الحديث حيث نسب رواية ابن مسعود رضي الله عنه إلى الكذب، وعد مدلوله من الجبر، فرد عليه العلامة ابن قتيبة رداً بليغاً (4).قال الدكتور ربيع بن هادي: "أي أنه إن انقاد له الحديث ذليلا إلى مذهب المعتزلة البعيد فلا بأس به، تفضلا من الغزالي وتكرماً على الحديث المسكين، وإن أبى واستعصى عليه فلا يفهم منه إلا ما فهم أهل السنة والجماعة فمردود يقيناً" (5).وعلى هذا السبيل المعوج سار الغزالي في هذا الباب، فيصف أحاديث القدر بأنها "لا تخدم إلا مبدأ الجبر" ويقول عن هذه الأحاديث: "إن متونها توقفنا أمامها واجمين لنبحث عن تأويل لها أو مخرج" ثم في آخر كتابه يطلق مدفع النصر، ويصفق لنفسه قائلاً: "وقد استطعت بشيء من التكلف أن أصرف شبهة الجبر عن آثار شتى" (6).   (1) انظر ((تأويل مختلف الحديث)) (ص 21 - 22). (2) رواه البخاري (3208) , ومسلم (2643) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (3) ((السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث)) (ص 145) / بيروت/ دار الشروق/ 1409هـ. (4) انظر في ((تأويل مختلف الحديث)) (ص 21 - 22). (5) ((كشف موقف الغزالي من السنة وأهلها)) (ص 195) / المدينة/ مكتبة ابن القيم/ 1410هـ. (6) ((كشف موقف الغزالي من السنة وأهلها)) (ص 157، 158، 160) على التوالي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 المقصود: أن فكر هذا الرجل امتداد لفكر المعتزلة من حيث تقديم العقل على كل شيء ممثلاً في موقفه من نصوص القدر وغيرها، فليكن قارئ كتبه – وخصوصاً كتابه (السنة النبوية) – على حذر من السقوط على أم رأسه؛ فإنها مليئة بالبلاوي والطامات، والله المستعان. الثاني: علي مصطفى الغرابي في كتابه (تاريخ الفرق الإسلامية) والغرابي – حسب ما هو مكتوب على طرة كتابه – أستاذ في كلية الشريعة بمكة المكرمة، والكتاب لا يعبر عنوانه عما في داخله؛ لأنه في الحقيقة كتاب في فضائل المعتزلة، ومزايا الاعتزال، ونصيب الفرق الأربع الأخرى المذكورة فيه ضئيل جداً (1).ومن قرأ هذا الكتاب بتأمل لا يأخذه أدنى شك بأن الرجل من المعتزلة – وليس مجرد متعاطف معهم – لما يحتويه من الثناء على المعتزلة والمبالغة في ذلك، ووصم غيرهم بالألقاب، وتبني أصولهم بكل صراحة، وإليك نتفاً من ذلك حتى تقف على الحقيقة بنفسك:- حسن ظنه بالمنهج العقلاني وسوء ظنه بالنصوص الشرعية وقدرتها على بيان الحق وتجليته: يقول الغرابي – تحت عنوان "الحكم على واصل"-: إنه يكفي في حكمنا على واصل أنه رئيس هذه الفرقة العظيمة "فرقة المعتزلة" صاحبة الأبحاث الكلامية، والتي تركت للمسلمين تراثاً فلسفياً له قيمته، والتي فتحت أمام العقيدة الإسلامية طريق البحث المنطقي، مما جعل أصحاب الديانات الأخرى يقفون عن هجوم هذه العقيدة الجديدة، والذين كانوا يريدون أن يثأروا لأنفسهم منها بطريق الجدل الكلامي، فلما رأى منهم المعتزلة هذا الأمر مرنوا على أساليبهم وأتقنوها، وحاربوهم بمثل سلاحهم، ولو وقف الأمر عند الاحتجاج بالقرآن والحديث لما انقطعت غارات المخالفين عن هذا الدين، لأنهم لا يؤمنون بهما" (2). قلت: هذه خدعة طالما أثارها العقلانيون، فكأن القرآن الكريم حين نزل كان يخاطب أناساً مؤمنين ولم يخاطب الكفار والدهريين الذين لا يؤمنون بشيء وراء الحس، ويقنع أحبار اليهود حتى أسلم الكثير منهم، إن الهجمات والغزوات الفكرية والشبهات العقدية التي شنها أعداء الإسلام لم تبدأ مع ظهور المعتزلة، بل بدأت مع ظهور الإسلام، وقد دحضها القرآن كلها ولم تكن هناك فلسفة، ولا منطق كلامي، فالقرآن كما أنه خطاب للقلوب والعواطف والأرواح كذلك خطاب للعقول السليمة، وشفاء للمريضة؛ لأن منزله سبحانه هو الخبير بجميع ما كان وما يكون من الأدواء، ولكن الذي يعرف ذلك ويستفيد منه هو المؤمن الحسن الظن بالقرآن، قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [الإسراء: 82] ومن لم يهتد بهدي القرآن والسنة فلا هداية له فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 6] لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21]. كم حكت لنا كتب السنن والتاريخ والسير عن أحوال قوم من الجبابرة الطغاة دخل الإيمان بشاشة قلوبهم بسماع آيات من القرآن الكريم وهذه كتب السير والتواريخ بين أظهرنا لا تخبرنا عن فيلسوف عقلاني واحد أسلم بسبب جدل المعتزلة ومناظراتهم.   (1) حيث تناول الجهمية في (18) صفحة، والخوارج في 20 صفحة، والشيعة في 11 صفحة والمشبهة في 13 صفحة، والمعتزلة في 223 صفة غالبها إشادة وتمجيد. (2) ((تاريخ الفرق الإسلامية)) (ص 101). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 تبرمه من عداوة أهل السنة لعمرو بن عبيد: بعد أن ذكر العديد من المناقب والمزايا التي زعمها لعمرو تحت عنوان "صفاته" عقد الغرابي عنواناً نصه: "عداوة أهل السنة له"ومما قال فيه: "إنه رغم هذه الصفات التي ذكرناها والتي هي بعض صفات عمرو فإننا نجد أهل السنة قد أكثروا من ذم عمرو، وناصبوه العداء، وكانوا يحضون الناس على مقاطعته" (1) لما وصف عمراً بقوله: "كان يميل إلى التحرر من كل شيء ... يحب التحرر من النصوص إذا وجد منفذاً ينفذ منه إلى العقل، لا يتورع عن أن يخطئ صحابياً، أو ينتقد آخر ويرد روايته، وهذا مما جعله هدفاً لنقد المحدثين وتحاملهم عليه" (2) هل هذا هو التحامل علماً بأن معناه: "الجور وعدم العدل" (3).واصل بن عطاء عنده إنسان كامل: قال: "وعلى كل حال إذا فتشنا في جميع نواحي الرجل وجدناه قد بلغ فيها ذروة الكمال" (4) هكذا في جميع النواحي! ومما يؤكد ذلك كله وصفه أهل السنة بالإرجاء، فقال عن مرتكب الكبيرة: "والمرجئة تسميه مؤمناً فاسقاً" وقال أيضاً: "وقالت المرجئة: هو مع فسقه وفجوره مؤمن" (5) ويؤكده قوله – بعد أن ساق أقوال المعتزلة مسانداً لها-:"هذا بعض ما أجمعت عليه المعتزلة ذكرنا بعضه لبعض علمائهم، وذكرنا طرفاً منه لعالم أشعري لنبين الفرق بين ما يكتبه معتزلي عن معتزلي، وأشعري عن معتزلي حتى نأخذ أقوال هؤلاء المؤرخين للفرق بحرص واحتياط، وحتى لا نقع فيما وقعوا فيه، ونخدع بما خدعوا به" (6). وهذا الذي قاله تلبيس، أما أولاً: فإنه لم يذكر فيما ساقه غير الدفاع العاطفي المجرد عن الاستدلال، وأما ثانياً: فليس اعتماد أهل السنة في نقدهم المعتزلة على ما ينقله المؤرخون، بل ردوا عليهم وهم حاضرون، وردوا عليهم من خلال كتبهم، ومقالاتهم التي نشروها؛ لأنها موجودة، فليس هناك خادع ولا مخدوع إلا من انتصر للبدعة، ودافع عن الباطل، وهل يبقى بعد هذا كله من يشكك في وجود المعتزلة بكل أصولها بين أظهرنا، أو أن الحق قد انبلج، وطلعت شمسه لذي عينين؟ المصدر: جناية التأويل الفاسد على العقيدة الإسلامية لمحمد أحمد لوح - ص 237 يحاول بعض الكتاب والمفكرين في الوقت الحاضر إحياء فكر المعتزلة من جديد بعد أن عفى عليه الزمن أو كاد .. فألبسوه ثوباً جديداً، وأطلقوا عليه أسماء جديدة مثل العقلانية أو التنوير أو التجديد أو التحرر الفكري أو التطور أو المعاصرة أو التيار الديني المستنير أو اليسار الإسلامي. - وقد قوّى هذه النزعة التأثر بالفكر الغربي العقلاني المادي، وحاولوا تفسير النصوص الشرعية وفق العقل الإنساني .. فلجأوا إلى التأويل كما لجأت المعتزلة من قبل ثم أخذوا يتلمسون في مصادر الفكر الإسلامي ما يدعم تصورهم، فوجدوا في المعتزلة بغيتهم فأنكروا المعجزات المادية .. وما تفسير الشيخ محمد عبده لإهلاك أصحاب الفيل بوباء الحصبة أو الجدري الذي حملته الطير الأبابيل .. إلا من هذا القبيل. - وأهم مبدأ معتزلي سار عليه المتأثرون بالفكر المعتزلي الجدد هو ذاك الذي يزعم أن العقل هو الطريق الوحيد للوصول إلى الحقيقة، حتى لو كانت هذه الحقيقة غيبية شرعية، أي أنهم أخضعوا كل عقيدة وكل فكر للعقل البشري القاصر.   (1) الغرابي: ((تاريخ الفرق الإسلامية)) (ص 108). (2) ((تاريخ الفرق الإسلامية)) (ص 119 - 120). (3) ((المعجم الوسيط)) (1/ 199). (4) ((تاريخ الفرق الإسلامية)) (ص 103). (5) ((تاريخ الفرق الإسلامية)) (ص 86، 89). (6) ((تاريخ الفرق الإسلامية)) (ص72). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 - وأخطر ما في هذا الفكر الاعتزالي .. محاولة تغيير الأحكام الشرعية التي ورد فيها النص اليقيني من الكتاب والسنة .. مثل عقوبة المرتد، وفرضية الجهاد، والحدود، وغير ذلك .. فضلاً عن موضوع الحجاب وتعدد الزوجات، والطلاق والإرث .. إلخ .. وطلب أصحاب هذا الفكر إعادة النظر في ذلك كله .. وتحكيم العقل في هذه المواضيع. ومن الواضح أن هذا العقل الذي يريدون تحكيمه هو عقل متأثر بما يقوله الفكر الغربي حول هذه القضايا في الوقت الحاضر. - ومن دعاة الفكر الاعتزالي الحديث سعد زغلول الذي نادى بنزع الحجاب عن المرأة المصرية وقاسم أمين مؤلف كتاب (تحرير المرأة) و (المرأة الجديدة)، ولطفي السيد الذي أطلقوا عليه: " أستاذ الجيل " وطه حسين الذي أسموه "عميد الأدب العربي " وهؤلاء كلهم أفضوا إلى ما قدموا. هذا في البلاد العربية. أما في القارة الهندية فظهر السير أحمد خان، الذي منح لقب سير من قبل الاستعمار البريطاني. وهو يرى أن القرآن الكريم لا السنة النبوية هو أساس التشريع وأحلّ الربا البسيط في المعاملات التجارية. ورفض عقوبة الرجم والحرابة، ونفى شرعية الجهاد لنشر الدين، وهذا الأخير قال به لإرضاء الإنجليز لأنهم عانوا كثيراً من جهاد المسلمين الهنود لهم. - وجاء تلميذه سيد أمير علي الذي أحلّ زواج المسلمة بالكتابي وأحل الاختلاط بين الرجل والمرأة. - ومن هؤلاء أيضاً مفكرون علمانيون، لم يعرف عنهم الالتزام بالإسلام .. مثل زكي نجيب محمود صاحب (الوضعية المنطقية) وهي من الفلسفة الوضعية الحديثة التي تنكر كل أمر غيبي .. فهو يزعم أن الاعتزال جزء من التراث ويجب أن نحييه، وعلى أبناء العصر أن يقفوا موقف المعتزلة من المشكلات القائمة انظر كتاب (تجديد الفكر العربي) ص 123. - ومن هؤلاء أحمد أمين صاحب المؤلفات التاريخية والأدبية مثل (فجر الإسلام) و (ضحى الإسلام) و (ظهر الإسلام)، فهو يتباكى على موت المعتزلة في التاريخ القديم وكأن من مصلحة الإسلام بقاؤهم، ويقول في كتابه: (ضحى الإسلام): " في رأيي أن من أكبر مصائب المسلمين موت المعتزلة " (ج3 ص207). - ومن المعاصرين الأحياء الذين يسيرون في ركب الدعوة الإسلامية من ينادي بالمنهج العقلي الاعتزالي في تطوير العقيدة والشريعة مثل الدكتور محمد فتحي عثمان في كتابه (الفكر الإسلامي والتطور) .. والدكتور حسن الترابي في دعوته إلى تجديد أصول الفقه حيث يقول: " إن إقامة أحكام الإسلام في عصرنا تحتاج إلى اجتهاد عقلي كبير، وللعقل سبيل إلى ذلك لا يسع عاقل إنكاره، والاجتهاد الذي نحتاج إليه ليس اجتهاداً في الفروع وحدها وإنما هو اجتهاد في الأصول أيضاً " انظر كتاب (المعتزلة بين القديم والحديث) ص 138. - وهناك كتاب كثيرون معاصرون، ومفكرون إسلاميون يسيرون على المنهج نفسه ويدعون إلى أن يكون للعقل دور كبير في الاجتهاد وتطويره، وتقييم الأحكام الشرعية، وحتى الحوادث التاريخية .. ومن هؤلاء فهمي هويدي ومحمد عمارة ـ صاحب النصيب الأكبر في إحياء تراث المعتزلة والدفاع عنه ـ وخالد محمد خالد ومحمد سليم العوا، وغيرهم. ولا شك بأهمية الاجتهاد وتحكيم العقل في التعامل مع الشريعة الإسلامية ولكن ينبغي أن يكون ذلك في إطار نصوصها الثابتة وبدوافع ذاتية وليس نتيجة ضغوط أجنبية وتأثيرات خارجية لا تقف عند حد، وإذا انجرف المسلمون في هذا الاتجاه ـ اتجاه ترويض الإسلام بمستجدات الحياة والتأثير الأجنبي بدلاً من ترويض كل ذلك لمنهج الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ فستصبح النتيجة أن لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ولا من الشريعة إلا رسمها ويحصل للإسلام ما حصل للرسالات السابقة التي حرفت بسبب إتباع الأهواء والآراء حتى أصبحت لا تمت إلى أصولها بأي صلة. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 المبحث الثاني: نشأة المدرسة العقلية الحديثة لم يكن في نهاية دولة الاعتزال نهاية للتقدم العلمي في العالم الإسلامي بل أن العلم لم يزل في توسعه ونموه فشمل الطب والحكمة والكيمياء والرياضيات والعمارة وغير ذلك فازدهرت العلوم وأينعت. وبينما كان العالم الإسلامي في أوج حضارته العلمية كان العالم النصراني في أوروبا يتخبط في ظلمات الجهل فقد سيطرت الكنيسة فيه على العقول وحظرت على أتباعها ممارسة كثير من العلوم فسيطرت على العلماء واحتكرت العلم واحتفظت لنفسها بحق تفسير ظواهر الحياة ولم تكن تتردد في الإعدام والحرق والتعذيب تحت آلات أعدت له في محاكم التفتيش لكل من يجرؤ على مخالفتها من علماء الطبيعة والكيمياء والفلك وغير ذلك حتى لا يضيع سلطانها وهيبتها من النفوس. كان هذا حال الشرق وحال الغرب لكن الأمر لم يدم على هذا فقد أثار البابا جريجوري السابع الحرب الصليبية الأولى وعندما تحرك الصليبيون لم تكن هناك جبهة إسلامية موحدة في الشرق الذي كان يعاني عندئذ التفكك والانقسام فواصلوا زحفهم حتى القدس واستولوا عليها سنة 492هـ - 1099م (1) ثم لم تزل الحروب الصليبية على العالم الإسلامي تتتالى وكان من نتيجة هذه الحملات الصليبية أن نقلت الحضارة الإسلامية إلى بلادهم فاستولى الأوروبيون على الكتب العلمية في شتى العلوم والمعارف واقبلوا عليها دراسة وتجربة وتنمية ووقفت الكنيسة موقفها فأحرقت كثيراً من العلماء وأعدمت الكثير لكن هذا لم يمنع العلماء من الظهور بمظهر الاستشهاد في الدفاع عن مبادئهم وآرائهم حتى الموت مما أتاح الفرصة لدعاة التحرر الفكري من سلطان الكنيسة فهدموا الكنيسة وهدموا الدين معها وانتهى ذلك الصراع الطويل بانتصار دعاة التحرر والحد من سلطان الكنيسة وحصره فانكمش نفوذ البابا ولم يعد يجاوز طقوس التعميد والصلاة والزواج والجنائز وبذلك تحقق فصل الدين عن الدولة (2).في تلك الفترة كان العلم في حالة انكماش في الشرق وتمدد ونمو في الغرب وأستمر الأمر على هذا الحال. أضف إلى ذلك ما عاناه العالم الإسلامي من حروب أنهكته وحطمته بعد الحروب الصليبية نذكر منها هجمات المغول وسقوط الدولة العباسية على أيديهم وقتلهم الكثير من العلماء ورميهم للكتب العلمية في نهر دجلة حتى صار ماؤه أزرق ثلاثة أيام (3) كما يذكر المؤرخون أدت هذه الأمور وغيرها إلى ضعف العالم الإسلامي وانتقال الحضارة العلمية إلى أوروبا التي وجهت طاقتها وعنايتها إلى الاهتمام بالعلوم ونشرها.   (1) ((التاريخ الإسلامي)) إبراهيم الشريقي (ص 223). (2) ((الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر)) محمد محمد حسين (1/ 254 – 255). (3) ((مجلة التمدن الإسلامي)) السنة 15 الجزءان (15 و 16) رجب 1368هـ ((ثروتنا العلمية وفهارسها)): أحمد مظهر العظمة (ص 347). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 ثم مر العالم الإسلامي بعد هذه الحروب التي أنهكته – بفترة أخلد فيها إلى الدعة وآثر السكون والخمول فلم تفت الفرصة على الأعداء فتداعوا عليه كما تتداعى الأكلة على قصعتها فأكلوا منه وشربوا حتى ٍأصبح جسماً بلا روح أو كاد بل أصبح غثاء كغثاء السيل. وأمست البلاد الإسلامية تحت سيطرة الدول الأوربية التي استغلت خيراتها ونعمت بثرواتها واستيقظ العالم الإسلامي على أزيز الطائرات ودوي المدافع وضجيج المصانع فانبهر بتلك الحضارة وبادر إلى السؤال عن أسبابها ولم يفت على الاستعمار إعداد الجواب لمثل هذا السؤال فقد أقصى أصحاب الثقافة الدينية عن ميادين الإصلاح وحصر وظائفه في المساجد التي قل روادها عموما وأصبحت الوظائف الحكومية وأدوات التوجيه الاجتماعي في أيدي أصحاب الثقافة الأوروبية (1) الذين نشأوا في أحضان الاستعمار وتشبعوا بثقافته فسيطروا على أجهزة التعليم في كثير من البلاد الإسلامية فضلا عن جهود الاستعمار الدائبة لنشر التغريب واللادينية بكل الوسائل الممكنة وأوهموا الناس أن حالة العالم الإسلامي تشبه حالة أوروبا في العصور الوسطى ولن ينهض إلا بما نهضت به أوروبا من فصل السلطة الدينية عن السلطة المدنية وبذلك يتحقق له ما تحقق للأوروبيين. وهال الأمر علماء المسلمين وذهبوا للرد على تلك الأفكار مذاهب شتى. وحاولت فئة منهم التوفيق بين الدين والعلم وبينت للناس أن الدين الإسلامي الحق لا يحارب العلم ولا ينافي العقل وأنه دين العقل والحرية والفكر. وذهبت تبين للناس ذلك المنهج وتقيم الدين الإسلامي على العقل – الذي لا يقر أرباب الثقافة الغربية غيره حكما – وبينت أن ليس في الإسلام ما لا يقره العقل وحاولت أن تفسر القرآن الكريم على هذا المنهج وهذا الأساس وكان لهذه المدرسة العقلية رجال كان لهم نشاط واسع في نشر هذه الثقافة ومكافحة الاستعمار ومقاومة الهجوم على الدين وإلقاء التبعة عليه في التخلف الحضاري. وكان من رجال هذه المدرسة المؤسسين لها جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده وتلاميذه محمد مصطفى المراغي ومحمد رشيد رضا وغير هؤلاء كثير. وسميت نهضتهم هذه بالنهضة الإصلاحية وكان لهذه المدرسة آراء كثيرة تخالف رأي السلف وشطحات ما كانوا ليقعوا فيها لولا مبالغتهم الشديدة في تحكيم العقل في كل أمور الدين حتى جاوزوا الحق والصواب وشكك بعض رجال الفكر الإسلامي الحديث في نزاهة المؤسسين لهذه المدرسة أعني جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده مستدلين على ذلك ببعض علاقاتهم وما ورد في كتاباتهم. المصدر: منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير لفهد الرومي - ص 66 يمكن للباحث من خلال كتابات عديد من الكتاب، في بضع العقود الماضية، أن يتلمس آثار مدرسة فكرية مميزة ينتمي إليها فكر هؤلاء الكتاب وآراؤهم، يستدل عليها بوحدة الآراء، وتقارب المفاهيم، وتميز بتشابه الموضوعات، وتلاقي المقاصد والغايات. هذه المدرسة – التي وإن لم تتخذ صبغة رسمية – تفجأ القارئ المسلم بتلك الدعاوى والآراء، التي هي امتداد لما عرف بالمدرسة الإصلاحية وزعماؤها: السير أحمد خان الهندي وجمال الدين الأسد آبادي، ومن بعده الشيخ محمد عبده، في نهاية القرن الماضي، وهي كذلك إحياء للمنهج الاعتزالي في تناول الشريعة، وتحكيم العقل فيما لا يحتكم فيه إليه.   (1) ((الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر)) (1/ 255). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 ويمكن تحديد ما تجتمع عليه آراء تلك المدرسة في كلمة واحدة هي "التطوير" أو العصرانية كما تترجم عن الإنجليزية " Modernism" وما تعنيه من تناول أصول الشريعة وفروعها بالتعديل والتغيير، تبعا للمناهج العقلية التي اصطنعها الغرب حديثا، أو ما تمليه عقليات أرباب ذلك المذهب، التي تتلمذت لتلك المناهج. . ولا يسلم من هذا التطوير أمر من أمور الشريعة كأصول الفقه والحديث أو التفسير أو مسائل الفقه كالحجاب والطلاق أو تعدد الزوجات، والحدود أو الطامة التي عرفت بالتقارب بين الأديان. على رأس تلك المدرسة السير أحمد خان الهندي، الذي منح لقب "سير" من قبل السلطات البريطانية تكريما له، والذي يرى أن القرآن الكريم هو المصدر الوحيد الذي يجب أن نستقي منه أحكام الشريعة، والأحاديث لا يعتد بها في هذا الشأن لتأخر تدوينها، ولأن أكثريتها أحاديث آحاد لا تفيد يقينا، كما يحل الربا البسيط في التجارة والمعاملات، ويرفض عقوبة الرجم والحرابة، وينفي شرعية الجهاد لنشر الدين. ويحل سيد أمير علي – تلميذ أحمد خان – زواج المسلمة من كتابي، والاختلاط بين الرجل والمرأة. كذلك يرى محمد أسد أن الله سبحانه لا يوصف إلا بالصفات السلبية (الإيمان ليس كذا وليس كذا. .) تماما كما قالت المعتزلة (1)، وينحو منحى محمد عبده في إنكار المعجزات المادية، كتفسير إهلاك أصحاب الفيل بوباء الحصبة أو الجدري الذي حملته الطير الأبابيل!. ومن المعاصرين الأحياء، ينادي د. محمد فتحي عثمان بتطوير العقيدة والشريعة معا في كتابه عن الفكر الإسلامي والتطور، ويزيد الدكتور حسن الترابي خطوة فيدعو إلى تجديد أصول الفقه حيث يقول: "إن إقامة أحكام الإسلام في عصرنا تحتاج إلى اجتهاد عقلي كبير وللعقل سبيل إلى ذلك لا يسع عاقل إنكاره، والاجتهاد الذي نحتاج إليه ليس اجتهادا في الفروع وحدها، وإنما هو اجتهاد في الأصول أيضا" (2)، ويشكك محمد سعاد جلال في إمكانية وجود النبي صلى الله عليه وسلم قاطع في الشريعة ثبوتا ودلالة، حتى القرآن الكريم، الذي وإن كان ثابتا من جهة النقل، إلا أن الظن يتطرق إليه من قبل الدلالة. .ويدعو عبد اللطيف غزالي إلى دثر التراث كله حيث يقول: "أما علوم سلف المسلمين فهي شيء متخلف غاية التخلف بالنسبة لما لدينا، ولا أقول لما لدى الأوربيين من علوم. . " (3). وفي مجال الفقه يعبر د. فتحي عثمان عن حجاب المرأة ومسألة عدم الاختلاط بقوله: "فإذا التقى الرجل والمرأة في ظروف طبيعية هادئة محكمة، فلن يغدو هذا اللقاء قارعة شديدة الوقع .. سيألف الرجل رؤية المرأة ومحادثة المرأة ومعاملة المرأة، في إطار من الدين والخلق تحدد معالمه تربية الأسرة وعرف المجتمع ورعاية الدولة، وستألف المرأة بدورها الرجل فيهدأ السعار المضطرم ولا يكون هناك مجال للانحراف والشذوذ، وتتجمع لدى الطرفين خبرات وحصانات وتجارب". سبحان الله العظيم! وكأن تجربة الأوربيين في الاختلاط لقرون عديدة أنتجت الخبرات والحصانات، وكفلت الإحصان للمرأة والرجل! إن هذا إلى جانب كونه افتياتا على الشريعة الحنيفة، فهو جهل بالفطرة الإنسانية التي يعلم حقيقتها خالقها سبحانه. ويعلن عبد اللطيف غزالي "نحن اليوم لا نجد حرجا في التفكير في تقييد حق الرجل في الأربع وتقييد حقه في الطلاق" (4).   (1) ((عن مفهوم تجديد الدين)) بسطامي محمد سعيد (151). (2) عن بحث ((الدعوة إلى التجديد)) عصام أحمد البشير (3) عن بحث ((الدعوة إلى التجديد)) عصام أحمد البشير (4) ((بحث الدعوة إلى التجديد)) (60). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 أما في الحدود فيرى حسن الترابي أن الردة الفكرة التي لا يصاحبها خروج على نظام الدولة لا تستوجب إقامة الحد، ويعني بالردة الفكرية الكفر الاعتقادي بالتعبير الشرعي. . ويرى محمد فتحي عثمان أن عقوبة الردة كانت لضرورة عسكرية أملتها الظروف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما عن التقارب بين الأديان فيرى عبد العزيز كامل أن منطقة الشرق الأوسط هي منطقة التوحيد بدياناتها الثلاث الإسلام والمسيحية واليهودية، وهو ما يؤكده كذلك فهمي هويدي ومحمد سعيد عشماوي (1). أما عبد الله غزالي فيشرح معنى الإسلام! بقوله: "الإسلام هو أن تسلم وجهك لله وأنت محسن، وأي امرئ كان هذا حاله فإنه مسلم سواء كان مؤمنا بمحمد أو كان من اليهود أو النصارى أو الصابئين". ويبين أن الجنة ليست حكرا على المسلمين الموحدين وأن الدين المنجي عند الله ليس الإسلام وحده! فيقول: "لماذا يعتقد أتباع كل دين أن الله يختصهم بالجنة ويذر غيرهم وأكثر الناس في النار؟ " ثم يؤكد أن حقيقة الشرك هي العداء بين الأديان (2). وبعد: فليحذر الشباب من تلك الدعوات الباطلة وإن تحلت بالأسماء الرنانة واللافتات المضيئة التي تتحدث عن العقل والتحرر والتجديد والتوفيق، أو تستتر خلف تلك الفرق التي تعلقت باسم الإسلام في تاريخه رغم ضلالها وانحرافها. المصدر: المعتزلة بين القديم والحديث لمحمد العبده وطارق عبد الحليم – ص 136   (1) ((جريدة الأخبار المصرية)) (17/ 10/1979م) نقلا عن بحث الدعوة إلى التجديد. (2) ((نظرات في الدين)) (16). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 المطلب الأول: جمال الدين الأفغاني اسمه: جمال الدين بن صفدر الحسيني الأفغاني، وصفدر لفظ فارسي من ألقاب الإمام علي رضي الله عنه عند الشيعة ومعناه مقتحم الصف وقد حرف هذا الاسم من كتبوا ترجمته بالعربية فقالوا: - "صفتر" (1).زعم تلميذه الشيخ محمد عبده أن نسبه ينتمي إلى السيد علي الترمذي المحدث المشهور ويرتقي إلى سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (2) وقال بهذا الزعم أيضاً مصطفى عبدالرازق (3) ومن سمى نفسه بالمؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعي (4) وقال به أيضاً تلميذه محمد المخزومي (5) وغيرهم. ولم أجد في كتب الحديث وعلومه من يسمى بـ "علي الترمذي" وينمي نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب سواء كان هذا المحدث مشهوراً أو مغموراً. ثم أي علاقة بين "الترمذي" وهو من خراسان وبين الحسين بن علي ابن أبي طالب رضي الله عنهما وهو قرشي من مكة؟! لذلك فلا عجب أن يكتب أبو الهدى الصيادي من الآستانة إلى السيد رشيد رضا قائلاً:-"أني أرى جريدتك طافحة بشقاشق المتأفغن جمال الدين الملفقة وقد تدرجت به إلى الحسينية التي كان يزعمها زورا، وقد ثبت في دوائر الدولة رسميا أنه ما زندارني من أجلاف الشيعة .... " (6). ثم نقول بعد هذا أي فضل للرجل بهذا النسب عند من دينه إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13] وخوطب نبيه بقوله تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214]. مولده: ولد سنة 1254 هـ - 1838م وأول ما يصادف المؤرخ لحياة هذا الرجل من غموض الخلاف في مكان مولده هل ولد في أسعد آباد قرية من قرى كير من أعمال كابل في أفغانستان أو في أسد آباد قرب همدان أحدى مقاطعات إيران فيكون إيرانياً لا أفغانياً وإنما آثر أن ينسب نفسه – كما قال بروكلمان – إلى أفغانستان لأسباب سياسية (7) أو أن والده ضابط إيراني أوفدته حكومته إلى بلاد أفغان فتزوج هناك (8). ولا أحسب أن للبحث عن أصل الرجل أي رجل أهمية إذا ما حسنت عقيدته وصفت سريرته واستقامت سيرته، ولكن قد يلزم البحث عن هذا إذا كان ذلك الرجل هو الذي أراد تعمية أصله ونسبة نفسه إلى غيره مع غموض في اتصالاته وعلاقته وأنشطته فيجب على الباحث تحري هذه المعرفة السبب الدافع له إلى هذه التعمية فقد يكون وراء الأكمة ما وراءها. إذن فهناك أمور ثلاثة نراها بارزة في نسبة الرجل وأصله:-أولها: أن اسم والده "صفدر" وهو لفظ فارسي من ألقاب الإمام علي رضي الله عنه عند الشيعة ولا يوجد إلا بين الشيعة (9). ثانيها: أنه لا صحة لانتسابه إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما من طريق "علي الترمذي" وإنما انتحل هذا لإضفاء قداسة باطلة على شخصه. ثالثها: أنه إيراني لا أفغاني كما ينسب نفسه وسيتضح لنا هذا فيما بعد – إن شاء الله – وإنما نسب نفسه إلى أفغانستان لأسباب غير ظاهرة.   (1) مصطفى عبدالرازق: في ترجمته لجمال الدين الأفغاني بصدر ((مجلة العروة الوثقى)) (ص: 17). (2) ((تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده)) للسيد محمد رشيد رضا (1/ 27). (3) مصطفى عبدالرازق: في ترجمته لجمال الدين الأفغاني بصدر ((مجلة العروة الوثقى)) (ص: 17). (4) ((جمال الدين الأفغاني)) للمؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعي (ص 5). (5) ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) للشيخ محمد المخزومي (ص 7). (6) ((تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده)) للسيد محمد رشيد رضا (1/ 90). (7) ((تاريخ الشعوب الإسلامية)) كارل بروكلمان (4/ 103). (8) مصطفى عبدالرزاق: في ترجمته لجمال الدين الأفغاني بصدر ((مجلة العروة الوثقى)) (ص: 17). (9) ((جمال الدين الأسد آبادي)) ميرزا لطف الله خان (ص 11). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 جمال الدين في أفغانستان: ولا نعرف مصدراً لتاريخ نشأة الرجل – هذا – إلا ما تحدث به عن نفسه إلى تلاميذه فقالوا أنه لما بلغ الثامنة من عمره أجلسه والده لطلب العلم وعني بتربيته فأيد العناية به إشراق في قريحته وذكاء في مدركته فتلقى علوماً جمة برع في جميعها فمنها العلوم العربية وعلوم الشريعة وعلوم عقلية من منطق وفلسفة وعلوم رياضية ونظريات الطب والتشريح (1).واستكمل الغاية من دروسه في الثامنة عشرة من عمره ثم سافر إلى الهند فأقام بها سنة تعلم في خلالها شيئاً من العلوم الأوروبية وأساليبها (2).وعرض له وهو في الهند أن يؤدي فريضة الحج فاتجه إلى مكة المكرمة وقضى نحو سنة يتنقل في البلاد ويتعرف أحوالها وعادات أهلها حتى وافى إلى مكة المكرمة سنة 1273هـ 1857م وأدى الفريضة (3) ثم عاد إلى بلاده ودخل في سلك رجال الحكومة على عهد الأمير دوست محمد خان وبعد وفاته تنازل أولاده في الإمارة فانضم جمال الدين إلى محمد أعظم الذي أحله محل الوزير الأول ولكن النصر كان في النهاية حليف شير علي. لتأييد الإنكليز له فهرب محمد أعظم إلى إيران وبقي جمال الدين في أفغانستان لم يمسسه الأمير بسوء إلا أنه خشي الانتقام منه فاستأذن للحج فأذن له فرحل إلى الهند سنة 1285هـ 1869م (4). رحلاته: في الهند: كان يريد من رحلته إلى الهند الإقامة بها من غير ظهور وبكل بساطة وقد كانت الهند تحت الاستعمار البريطاني فكانت دهشته عظيمة عندما رأى الحكومية الهندية تستقبله على الحدود استقبالا رسمياً ليس له مبرر (5) ولكنهم لم يسمحوا له بالإقامة الطويلة في الهند فمكث فيها نحو شهر ثم سيرته على حسابها في أحد مراكبها إلى السويس 1286هـ - 1870م. في مصر: كانت تلك أول زيارة له إلى مصر فأقام بها أربعين يوماً تردد فيها على الأزهر واتصل به بعض طلبة العلم السوريين فقرأ لهم شرح كتاب الأظهار ثم سافر إلى الأستانة سنة 1287هـ 1870م. في الآستانة: لما وصل إلى الآستانة أقام بها مجهول المكان حتى أهدى إليه بعض أكابر الوزراء فعينه عضوا في مجلس المعارف (6) وفي رمضان سنة 1287هـ ألقى خطاباً في دار الفنون في الحث على الصناعات شبه فيه المعيشة الإنسانية ببدن حي وأن كل صناعة بمنزلة عضو منه فشبه الملك بالمخ والحدادة بالعضد والزراعة بالكبد والملاحة بالرجلين وغير ذلك ثم قال: "ولا حياة لجسم إلا بروح وروح هذا الجسم إما النبوة وإما الحكمة" (7) مما أهاج عليه شيخ الإسلام حسن فهمي أفندي وعدداً من العلماء والوعاظ في المساجد محتجين على جمال الدين بأنه جعل النبوة صنعة وانتهى الأمر بأن أشير على جمال الدين بالجلاء عن الآستانة ريثما تسكن الخواطر فسافر إلى مصر في أول سنة 1288هـ 1871.   (1) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) للسيد رشيد رضا (1/ 27 - 28). (2) ((العروة الوثقى)) مصطفى عبدالرازق (ص 19). (3) ((جمال الدين الأفغاني)) عبدالرحمن الرافعي (ص 6). (4) ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) محمد المخزومي (ص 9). (5) ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) محمد المخزومي (ص10). (6) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 40). (7) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 30 - 31). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 في مصر: وصل إلى مصر فرحبت به الحكومة المصرية وأجرت له راتباً شهرياً بلا عمل. وكانت إقامته في مصر هذه المرة حافلة بالأنشطة العلمية والسياسية فألقى كثيراً من الدروس في الأدب والمنطق والتوحيد والفلسفة وعلم التصوف وأصول الفقه والفلك (1) حتى ذاع صيته واتصل بكبار القوم وانخرط في الماسونية وكان له تأثير في سياسة البلاد وكتب في الصحف التي ساهم في إنشائها تارة تحت اسم "مظهر بن وضاح؟ وباسمه الصريح تارة أخرى. كانت سياسة البلاد الحالية آنذاك تحت الإدارة البريطانية فكانت كتابات السيد قد أوغرت عليه صدر مستر فيفيان قنصل إنجلترا وأوغرت صدر توفيق باشا لاعتقاده أن كتابات السيد تؤدي على زعزعة حكمه وبالإضافة إلى هذا فقد كان السيد منبوذاً من علماء الأزهر الذين رأوا في تعليمه الفلسفة وبعض آرائه فسقا فصدر الأمر بنفيه وجاء في القرار: "أنه رئيس جمعية سرية من الشبان ذوي الطيش مجتمعة على فساد الدين والدنيا" (2) وعند نزوله إلى الباخرة أتاه قنصل إيران فعرض عليه بعض المال فرفضه ثم أبحر إلى الهند وأقام بحيدر آباد سنة 1296 - 1879م. في الهند: أقام في حيدر آباد عاما ألَّف خلاله رسالة في (الرد على الدهريين) بالفارسية ولما قامت الثورة العرابية في مصر نقل من حيدر آباد إلى كلكتا لاعتقاد الحكومة الإنجليزية أن له فيها يدا ثم أبيح له أن يسافر إلى حيث شاء فسافر إلى لوندرا "لندن" فأقام بها أياماً ثم سافر إلى باريز سنة "1300هـ - 1883م. في باريس: أقام في باريس ما يزيد عن ثلاث سنوات عهدت جمعية العروة الوثقى له فيها أن ينشئ جريدة (العروة الوثقى) فاستدعى الإمام محمد عبده الذي كان منفياً في سوريا فأصدرا الجريدة وكان جمال الدين مديراً لسياستها ومحمد عبده رئيسا لتحريرها سنة 1301هـ - 1884م ولكن الجريدة لم تلبث إلا سبعة أشهر وأيام لمحاربة الاستعمار البريطاني لها ثم توقفت وعاد محمد عبده إلى سوريا ثم إلى مصر معتزلاً السياسة ومكث السيد في باريس متردداً بينها وبين لندن والتقى في باريس بالفيلسوف الأوربي رينان ثم دعاه ناصر الدين شاه إيران إلى طهران فاتجه إليها سنة 1304هـ - 1887م. في إيران: وفوض إليه الشاة نظارة الحربية، وتزاحم حوله الأمراء والمجتهدون والكبراء وتمكن من نظم كثير منهم في سلك الماسونية (3). لكن الشاه ناصر الدين أوجس منه خيفة وداخله ريب من حركاته ونشاطه فأدرك السيد ما في نفسه فاستأذن في السفر إلى روسيا فأذن له سنة 1887م. في روسيا: كان له في روسيا نشاط صحفي نشر كثيراً من المقالات عبر الصحف الروسية واجتمع في بطرسبرج "لنجراد" بكبار العلماء والسياسيين وقد مكن له نقده لسياسة الإنجليز مكانة في روسيا حتى أن القيصر دعاه إلى قصره وتحادث معه طويلاً فرابه منه ما راب ناصر الدين شاه فأوعز إلى موظفيه بطرده فاتجه إلى باريس سنة 1306هـ - 1889م. في ميونخ: وفي طريقه إلى باريس التقى في ميونخ عاصمة بافاريا "ألمانيا" بالشاه ناصر الدين الذي طلب منه العودة إلى إيران فاعتذر بذهابه إلى معرض باريس فألح عليه الشاة فذهب معه (4) سنة 1306هـ - 1889م.   (1) ((العروة الوثقى)) (ص21). (2) ((جمال الدين الأفغاني)) لعبدالرحمن الرافعي (ص 46). (3) ((العروة الوثقى)) (ص 25). (4) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 55). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 في إيران: لما وصل إلى إيران عاد الناس إلى الاجتماع به وتلقي مبادئه وأفكاره وعهد إليه الشاه أن يسن ما يراه موافقاً لروح العصر من القوانين فلما أطلع عليها الشاه بعد ذلك رأى أن حكمه سيكون مقيداً (1) فعاودته الشكوك والظنون في جمال الدين الذي شعر بهذا فاستأذن بالذهاب إلى شاه عبدالعظيم قرب طهران فأذن له فتبعه جم غفير من العلماء والوجهاء فخاف الشاه عاقبة ذلك فنافه إلى خارج الحدود إلى البصرة سنة 1308هـ - 1891م. في البصرة: أقام فيها سبعة أشهر والى الكتابة فيها إلى أنصاره في فارس وآثار فيهم الحمية لخلع الشاه ناصر الدين غادر بعدها البصرة إلى لندره "لندن" سنة 1309هـ - 1892م. في لندن: أقام فيها ثمانية أشهر موجهاً همته إلى محاربة الشاه ناصر الدين. وكان من المؤسسين لمجلة (ضياء الخافقين) وسلمه سفير تركيا في لوندرا كتابا من السلطان عبدالحميد يدعوه إلى الآستانة فسافر إليها سنة 1310هـ - 1892م. إلى الآستانة: وكانت المحطة الأخيرة في رحلاته هي الآستانة ولقي فيها كل ترحيب وتكريم إلا أنه منع من مغادرتها وأجرى له فيها السلطان راتباً شهرياً إلى أن توفي سنة 1314هـ-1897م. نشاطه العلمي: يعد من المميزات للسيد جمال الدين الأفغاني أنه أحدث نهضتين اجتماعيتين: نهضة اجتماعية علمية ونهضة سياسية (2). وكان الغالب على نشاطه الثانية منهما ولم يقم أحد من تلاميذه من بعده بالأمرين. بل انشطروا إلى شطرين ذهبت طائفة إلى الأخذ بالنهضة العلمية ويقف على قمة هذا الفريق الإمام محمد عبده. وذهبت طائفة أخرى إلى الأخذ بأرائه السياسة وعلى رأسهم مصطفى كامل وفريد ثم سعد زغلول (3) وغيرهم. وبدأ السيد نشاطه العلمي في أفغانستان وواصل دراسته في الهند. هذا من ناحية التلقي أما من ناحية التعليم فقد بدأ أول ما بدأ في الهند عند خروجه في المرة الثانية حيث ألقى بعض الدروس ولم تكن تلك الفترة من الكفاية بحيث يظهر أثرها واضحا إذ لم يلبث سوى شهر واحد غادر بعدها إلى مصر حيث وفد عليه بعض طلبة العلم في الأزهر من السوريين فشرح لهم كتاب (الإظهار) وهو كتاب في النحو وكانت تلك الفترة كسابقتها حيث غادر إلى الآستانة ثم عاد إلى مصر مرة ثانية حيث ازداد نشاطه العلمي وبلغ أوجه فبدأ التدريس في الأزهر وقد كان يلقي فيه من الدروس ما أحفظ عليه بعض علماء الأزهر فناظره أحدهم مناظرة أفضت إلى المنافرة فترك الأزهر وانقطع للتدريس في منزله (4) فقرأ من الكتب العالية في فنون الكلام الأعلى والحكمة النظرية طبيعية وعقلية وفي علم الهيئة الفلكية وعلم التصوف وعلم أصول الفقه الإسلامي (5) وقد وصف الإمام محمد عبده منزلة جمال الدين من العلم فقال: "أما منزلته من العلم وغزارة المعارف فليس يحدها قلمي إلا بنوع من الإشارة إليها لهذا الرجل سلطة على دقائق المعاني وتحديها وإبرازها في صورها اللائقة بها كأن كل معنى قد خلق له وله قوة في حل ما يعضل منها كأنه سلطان شديد البطش فنظرة منه تفكك عقدها ... " ثم يقول:-"وله لسان في الجدل وحذق في صناعة الحجة لا يلحقه فيها أحد" (6). ثم سافر بعد مصر على الهند وكان له فيها حلقة للتدريس لكنها لا تماثل حلقته في مصر واشتغل فيها بالتأليف عن التدريس.   (1) ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) محمد المخزومي (ص 31). (2) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 74). (3) ((زعماء الإصلاح في العصر الحديث)) أحمد أمين (ص 115 - 116). (4) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 40). (5) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 32). (6) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 34). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 مؤلفاته: لم يكن للسيد اهتمام كبير في التأليف بل كان همه أن يلقي كلماته وخطبه على تلاميذه القاءً فيبادر بعضهم إلى تسجيلها وتدوينها بل ذكر بعض تلاميذه أنه:- قضى ولم يدون إلا رسالة في إبطال مذهب الدهريين" (1) وقال عنه أديب بك إسحاق "ولكنه لم يتم عملا ولا ألف كتابا غير تلك الرسالة" (2) والحقيقة أنه دون غير رسالته (الرد على الدهريين) التي ألفها بالفارسية في حيدر آباد. فقد دون رسالة صغيرة له أسماها (تتمة البيان في تاريخ الأفغان) وقد طبعت في مصر وما عدا هاتين الرسالتين فمقالات نشرها في الصحف والمجلات طبع بعضها مستقلاً وكان لاشتراك الإمام محمد عبده معه في مجلة (العروة الوثقى) وعدم تسمية صاحب كل مقال فيها كان له أثر كبير في الخلط في نسبته إلى صاحبه فبحث (التعصب) نشر باسم الإمام مع أنه من إنشاء جمال الدين وهناك كتاب أكثر شهرة أعنى (الإسلام دين العلم والمدنية) من بين فصوله "الإسلام والنصرانية" وهو من تأليف الأفغاني (3) خاطرات جمال الدين الأفغاني محمد المخزومي ص 43. وقد ضم المخزومي في الخاطرات هذين المقالين على خاطرات جمال الدين الذي دون فيه المخزومي آراء وأفكار الأفغاني وقد طبع طباعة مستقلة بعض مقالاته مثل (الوحدة الإسلامية) و (القضاء والقدر) أما إذا رمت الإطلاع على معظم ما كتبه فعليك بـ (خاطرات جمال الدين الأفغاني) لتلميذه محمد المخزومي و (الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني) لمحمد عمارة و (العروة الوثقى) وإنما قلت معظم ما كتبه لأن هناك من كتاباته في بعض المجلات ما لم يدون أذكر مثالاً لذلك ما كتبه في الصحف الروسية. تفسيره: قلنا أن الغالب على نشاط السيد الأفغاني هو النشاط السياسي وأنه إنما يتناول ما يتناول من العلم في دروسه ما يدفع به عجلة السياسة خطوة نحو أغراضه وأهدافه وقد تعرض له في أثناء حديثه آية قرآنية يستشهد بها لتقوية رأيه ثم يذهب في تفسيرها تفسيراً يقتصر فيه على الجانب الذي يتكلم فيه من غير استقصاء لمعانيها. ومن ثم فلم يكن له تفسير مستقل وإنما كان تفسيره آية هنا وآية هناك بين ثنايا مقالاته. ويقلل السيد جمال الدين من شأن ما تراكم على القرآن الكريم وتجمع حوله من آراء المفسرين وما استنبطوه من أحكام فيقول "القرآن وحده سبب الهداية والعمدة في الدعاية أما ما تراكم عليه وتجمع حوله من آراء الرجال واستنباطهم ونظرياتهم فينبغي أن لا نعول عليه كوحي وإنما نستأنس به كرأي ... " ويحذر من إضاعة الوقت في عرض ذلك فيقول "ولا نحمله على أكفنا مع القرآن في الدعوة إليه وإرشاد الأمم إلى تعاليمه لصعوبة ذلك وتعسره وإضاعة الوقت في عرضه" (4).وهو لا يعني بهذا السنة المتواترة أو ما أجمع عليه العلماء حيث يقول "فالتواتر والإجماع وأعمال النبي المتواترة إلى اليوم هي السنة الصحيحة التي تدخل في مفهوم القرآن وحده والدعوة إلى القرآن وحده" (5).   (1) ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) محمد المخزومي (ص 43). (2) ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) محمد المخزومي (ص 44). (3) ((الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني)) جمع محمد عمارة (ص 118 - 119). (4) ((جمال الدين الأفغاني)) عبدالقادر المغربي (ص 62 - 63). (5) ((جمال الدين الأفغاني)) عبدالقادر المغربي (ص 62). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 وهو يدعو إلى دراسة القرآن والكشف عن كنوزه المدفونة فيقول:-"القرآن القرآن وإني لآسف إذ دفن المسلمون بين دفتيه الكنوز وطفقوا في فيافي الجهل يفتشون على الفقر المدقع" (1) ولكنه يتأسف على التعمق في تفسير باء البسملة ومخرج صاد الصراط "وكيف لا أقول وا أسفاه! وإذا نهض أحد لتفسير القرآن فلا أراده إلا يهيم بباء البسملة ويغوص! ولا يخرج من مخرج حرف صاد الصراط حتى يهوي هو ومن يقرأ ذلك التفسير في هوة عدم الانتفاع بما اشتمل عليه القرآن من المنافع الدنيوية والأخروية مع استكماله الأمرين على أتم وجوههما" (2) ويرى أن القرآن بريء من مخالفة الحقائق العلمية الثابتة "فإذا لم نر في القرآن ما يوافق صريح العلم والكليات اكتفينا بما جاء فيه من الإشارة ورجعنا إلى التأويل" (3). وهو مع حثه على التفسير ودعوته إلى تنقيحه مما علق به مقل فيه فلا يتناول من الآي إلا ما قل ولا يفسره إلا من جانب ما يؤيد به قوله من غير بيان للجوانب الأخرى. وقد صدر السيد جمال الدين سبع عشرة مقالة من خمس وعشرين مقالة في (العروة الوثقى) بآية أو آيتين من القرآن الكريم اعتقدها بعضهم شرحاً وتفسيراً وليس كذلك فقل أن يعرض في المقالة للآية المصدرة.   (1) ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) محمد المخزومي (ص 99). (2) ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) محمد المخزومي (ص 99). (3) ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) محمد المخزومي (ص100). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 أما الآيات التي تناولها بنوع من التفسير فقليل جداً كما ذكرنا توجد بين ثنايا بعض مقالاته فمن ذلك قوله:"قرأت في القرآن أمراً تغلغلت في فهمه روحي وتنبهت إليه بكليتي وهو وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30] فاندهشت الملائكة لهذا النبأ ولهذه المشيئة الربانية إذ علمت أن ذلك الخليفة سيكون الإنسان وأن ذلك الإنسان – الخليفة – سيصدر منه موبقات وسيئات أعظمها وأهمها أنه "يسفك الدماء "فقالت بملء الحرية المتناسبة مع الملأ الأعلى وعالم الأنوار والأرواح الذي لا يصح أن يكون هناك شيء من رياء ونفاق أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء [البقرة: 30] ووقفت الملائكة عند هذا الحد من الطعن في الإنسان ولم تذكر باقي السيئات من أعماله إذ رأتها لغوا بالنسبة لهذين الوصمين الفساد وسفك الدماء" ثم يمضي في التفسير على هذا المنوال إلى أن يقول "وبأبسط المعاني أن الله تعالى أفهم الملائكة أنكم علمتم ما في خليفتي في الأرض وهو الإنسان من الاستعداد لعمل الفساد وسفك الدماء وجهلتم ما أعددته لصونه وصرفه عن الإتيان بالنقيصتين المذكورتين ألا وهو العلم فقال وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: 31] " (1).ويفسر آيات أخرى فيقول "غضب سليمان عليه السلام على الهدهد إذ تفقده ولم يجده فلما حضر قال وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل: 22] – غير ملفق ولا مشوب بكذب كما تفعل أكثر الجواسيس مع الملوك والحكام إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل: 23] دينهم ومعتقدهم وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ [النمل: 24] " ثم يقول بعد ذلك "فلما جاء الكتاب إلى ملكة سبأ جمعت فوراً مجلس الأمة قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ [النمل: 32] وبعد أن تداول مجلس الأمة – الوزراء اليوم مثلا – واستخرجوا إحصاءً من سجلاتهم بما عندهم من المعدات الحربية أعلنوا الملكة وأنبؤوها أنه من إمكانهم محاربة سليمان بما توفر لديهم من القوة إذا هي وافقت على إعلان الحرب قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ [النمل: 33]، ثم يمضي بعد فيقول "فرد سليمان الهدية وتحفز لإخراج الملكة وقومها أذلة بالحرب وأراد أن يريها ما لديه من القوى وما تسخر له من رياح يمتطيها وتجري بأمره – طيارات مثلاً – وسرعة نقل الأخبار والأشياء بأسرع من البرق – التلغراف اللاسلكي مثلاً" (2).وكان يشطح في تفسيره فيفسر الربا المحرم في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً [آل عمران: 130] بـ "جواز الربا المعقول الذي لا يثقل كاهل المديون ولا يتجاوز في برهة من الزمن رأس المال ويصير أضعافاً مضاعفة" (3).ويفسر "جد" في قوله تعالى وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا [الجن: 3] أن جد معرب "كد" ومعناه العرش بالفارسية أو الهندية" (4).   (1) ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) (ص92 - 93). (2) ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) (ص100 – 101). (3) ((جمال الدين الأفغاني)) محمود أبو رية (ص 98). (4) ((جمال الدين الأفغاني)) عبدالقادر المغربي (ص 110). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 ويفسر فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً [النساء: 3] بأنه "قيد من خاف أن لا يعدل "بالمرأة الواحدة" وترك لمن يخشى أن لا يعدل – حتى مع الواحدة – عدم الزواج وهذا ما يستنتجه العقل ما دام يحمله العاقل ويقول به الحق والعدل" (1).ويفسر الأمور الغيبية من غير نص فيقول وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً [الكهف: 47] "أي خارجة عن محورها غير راضخة للنظام الشمسي وإذا ما حصل ذلك فلا شك يختلف ما عرف من الجهات اليوم فيصير الغرب شرقاً والجنوب شمالاً وبذلك الخروج عن النظام الشمسي وما يحدثه من الزلزال العظيم – لا شك تتبعثر أجزاء الأرض لبعدها عن المركز وتنسف الجبال نسفاً وتتحول براكين هائله وبالنتيجة تخرب الكرة الأرضية ويعمها الفناء بما فيها من حيوان وتقوم القيامة والله أعلم" (2). وقد وجدت من تفسيره غير ما ذكرت. تفسيره لقوله تعالى وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ [الأنفال: 41] الآية في (الخاطرات) ص122. وتفسيره لقوله تعالى: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ [الأنفال: 60] في (العروة الوثقى) ص129. وتفسيره لقوله تعالى إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11] في (العروة الوثقى) في مقالته (سنن الله في الأمم). وإنما أطلت في بيان تفسيره لأنه مرادنا منه ولأني لم أجد أحداً ممن أرخوا له أو كتبوا عنه أشار إلى تفسيره فضلاً عن جمعه وترتيبه له. ونشاطه السياسي: قلنا أن هذا النشاط هو الغالب على أعمال السيد الأفغاني وقد كان مقصده السياسي الذي وجه إليه أفكاره وأخذ على نفسه السعي إليه مدة حياته هو إنهاض دولة إسلامية من ضعفها وتنبيهها للقيام على شؤونها حتى تلحق الأمة بالأمم العزيزة والدولة بالدول القوية فيعود للإسلام شأنه" (3) وقد كانت الوسيلة لتحقيق غاياته "الثورة السياسية لاتفاقها مع مزاجه وقد ظن أنها أسرع الطرق للوصول على ما يبتغيه" (4). وقد خالفه في الأسلوب – هذا تلميذه محمد عبده الذي يرى أن الوسيلة هي إصلاح التعليم لا الثورة السياسية. ومن أهم الآراء التي تنسب إلى الأفغاني وكان يدعو إليها: الدعوة إلى الوحدة الإسلامية وإقامة جامعة إسلامية تنضوي تحت لوائها دول العالم الإسلامي توحد كلمتها وأهدافها: وإنما قلت تنسب إليه لأني أرى في مقالاته ومقالات تلاميذه ما يدل على أنه لا يريد الجامعة الإسلامية بل الجامعة الشرقية التي تجمع دول الشرق مسلمة وغير مسلمة ضد الاستعمار فهذا السيد رشيد رضا يعلق على كلمة لجمال الدين قائلا "هذا تنبيه لوجوب تأليف جامعة شرقية لمقاومة الاستعمار الغربي ولم يفكر فيه أحد قبله" (5) ويقول في موضع آخر "وقد اشتبه على بعض الناس أمر اللهجة الإسلامية في جريدة (العروة الوثقى) وظنوا أن خدمتها خاصة بالمسلمين فأزالا هذه الشبهة – يعني الأفغاني ومحمد عبده – بعبارة نشرت في العدد الثامن (6) " من (العروة الوثقى) ويقول عثمان أمين "أن الجامعة التي كان ينشدها الأفغاني ومحمد عبده في أواخر القرن الماضي ليست هي الجامعة الإسلامية كما توهم بعض الكتاب الغربيين وإنما هي في صميمها "الجامعة الشرقية" (7) ".   (1) ((جمال الدين الأفغاني)) محمود أبو رية (ص100). (2) ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) محمد المخزومي (ص 104). (3) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) للسيد محمد رشيد رضا (1/ 34). (4) ((جمال الدين الأفغاني)) محمود أبو رية (ص 52). (5) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) محمد رشيد رضا (1/ 292). (6) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) محمد رشيد رضا (1/ 289). (7) عثمان أمين: مقال ((العروة الوثقى)) مجلة العربي الكويتية عدد 42 (ص 73). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 وقد بدأ السيد الأفغاني نشاطه السياسي في أفغانستان حيث انضم على محمد أعظم ضد شير علي، على ما أشرنا إليه في أول الترجمة. أما في مصر فقد وصلها الأفغاني في عهد الخديوي إسماعيل سنة 1871م وكان الحكم حينئذ – كما يقول المؤرخ عبدالرحمن الرافعي – حكما استبدادياً لا مجال فيه للحرية. حقاً إن إسماعيل أنشأ سنة 1866م مجلساً سمي مجلس شورى النواب ولكنه مجلس استشاري لا يملك سلطة" (1).فبدأ الأفغاني أول ما بدأ ببث الوعي السياسي بين طلابه وكانوا يتناقلون ما يقول بينهم فاستيقظت مشاعر وانتبهت عقول وخف حجاب الغفلة في أطراف متعددة من البلاد وسرى هذا الشعور إلى بعض الجرائد واستحدثت أخرى فتنافس الكتاب وكثر أرباب الأقلام (2).ومنذ ذلك الحين طارت الشرارة الأولى من شرارات الثورة العرابية (3) وقد بذل السيد جمال الدين كل ما في وسعه للقضاء على الخديوي إسماعيل لاتفاقه مع ولي عهده توفيق باشا على الإصلاح إذا صار الأمر إليه بل ووصل الأمر إلى تدبير خطة لاغتياله لم تنفذ – كما يقول محمد عبده – لعدم وجود الشخص الذي يتكفل بذلك "وأشار إلى هذا بلنت في تاريخه السري لاحتلال انجلترا (4) مصر (5) واعتراف بهذا الإمام نفسه. وانتهى نشاط الأفغاني السياسي في مصر بعد أن تنازل الخديوي إسماعيل لتوفيق باشا الذي تنكر لجمال الدين وأمر بنفيه. ثم ظهر نشاطه السياسي مرة أخرى في باريس التي أنشأ فيها مجلة (العروة الوثقى) فجعلها منبراً لمحاربة الاستعمار البريطاني بحماس شديد. وفي الحقيقة أنه لم يتضح لي مع هذا حقيقة علاقته بالإنجليز فبينما كان يؤلب عليهم الناس في مصر حتى يقوموا بالثورة العرابية .. ويحرض مفتي إيران على تحريم الدخان لإبطال احتكار الإنجليز له في إيران تمهيداً لاحتلالها ويكتب في صحف روسيا وينشئ (العروة الوثقى) التي تحارب الإنجليز أينما حلوا وتشنع عليهم وهو مع هذا يسرح في بلادهم ويمرح ويتردد بين لندره وباريز بل وينشئ في لندن مجلة (ضياء الخافقين) بالعربية والإنكليزية فيحارب الإنجليز في بلادهم وبلغتهم ومع هذا يسكت عنه الإنجليز!! صحيح أنهم أدوا إلى تعطيل (العروة الوثقى) لكن صاحبها لا يجد مانعا من اللجوء إلى سفير بريطانيا في الآستانة ليساعده على الخروج منها (6) ولا تجد انجلترا مانعا قبل ذلك من عرضها له لتوليه السلطة في السودان (7) ويتساءل الدكتور محمد محمد حسين لماذا كانت عداوته الشديدة للاستعمار الإنجليزي دون الفرنسي والهولندي فلم ترد في صحيفة (العروة الوثقى) إشارة للاستعمار الفرنسي للجزائر كما لم ترد فيها إشارة للاحتلال الهولندي لإندونيسيا ولم تشر إلا إشارة عابرة لاحتلال الهند الصينية (8). أما نشاطه السياسي في إيران فقد أشرنا في رحلاته إلى بعضه ونذكر هنا مظاهر ثورته السياسية على نصر الدين شاه بعد أن رفض قانونه ونفاه من إيران إلى البصرة وقد تمثلت هذه المظاهر بـ:   (1) ((جمال الدين الأفغاني)) عبدالرحمن الرافعي (ص 21). (2) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) للسيد محمد رشيد رضا (ص 37 - 38). (3) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) رشيد رضا (1/ 47). (4) كتب على غلاف هذا الكتاب (راجعه ووافق على ما فيه الشيخ محمد عبده). (5) ((التاريخ السري لاحتلال انجلترا مصر)) المستر بلنت وراجعه ووافق على ما فيه الشيخ محمد عبده. (ص 59). (6) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 72). (7) ((جمال الدين الأفغاني)) محمود أبو رية (ص: 53). (8) ((الإسلام والحضارة الغربية)) محمد محمد حسين دار الإرشاد بيروت الطبعة الأولى 1388هـ 1969م (ص 85). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 أ) كتابته إلى مفتي إيران كتابا يثير فيه مشاعره ضد ناصر الدين شاه ويطلب منه بصفته مفتي البلاد أن يصدر تحريماً للدخان بسبب تعاقد الشاه مع انجلترا لاحتكاره فتحظى هذه الخطوة بالنجاح وتلغى الاتفاقية. ب) ثم يكتب الأفغاني بعد هذا إلى علماء إيران مطالباً بخلع ناصر الدين شاه ولما لم ينجح بهذا. ج) نسب إليه بأدلة قوية تدبيره قتل ناصر الدين شاه. نشاطه الصحفي: كان السيد جمال الدين يكره الكتابة ويتثاقلها فلم يكن له عناية بالتأليف ووجه عنايته فيما يريد تدوينه إلى الصحف فكانت معظم كتاباته في الصحف والمجلات فإذا رام إنشاء مقالة ألقى على كاتب مثل إبراهيم اللقاني إلقاء قل ما يراجعه ويصلحه (1).وقد كان للسيد جمال الدين نشاط كبير في إنشاء عدد من الصحف في مصر وغيرها فكان أول عهد بالصحافة في مصر حيث كان له اليد الطولى في إنشاء صحيفة (مصر) الأسبوعية التي ظهرت سنة 1877م وعهد بإدارتها إلى أديب إسحاق ثم أوعز إلى أديب بنقلها من القاهرة إلى الإسكندرية لتكون أقرب لاصطياد الأخبار ثم أوعز لأديب إسحاق وسليم نقاش بإنشاء جريدة (التجارة) سنة 1878م وساهم الأفغاني بالكتابة في هاتين الصحيفتين باسمه الصريح تارة وباسم مظهر بن وضاح تارة أخرى وأمر تلاميذه بخدمة هاتين الصحيفتين قلماً وسعياً (2).ثم ساهم في إنشاء صحيفة (مرآة الشرق) وقد تولاها سليم العنجوري فكانت هذه الصحف طوع إشارة الأفغاني ولعل سليم العنجوري أراد أن يتخلص من هذا الأسار فعزله الأفغاني وأسندها إلى إبراهيم اللقاني الذي أصدرها طوع إشارة الأفغاني (3).ثم انتقل نشاطه بعد نفيه من مصر إلى فرنسا حيث أنشأ هناك (العروة الوثقى) بتكليف من جمعية بهذا الاسم وهي جمعية ذات فروع في مصر والهند وغيرهما من أقطار الشرق (4) وتولى إدارة سياستها وأسند تحريرها إلى تلميذه محمد عبده وصدر أول عدد منها في يوم الخميس 15 جمادي الأول سنة 1301هـ الموافق 13 مارس 1884م وتوقفت بعد صدورها بسبعة أشهر فصدر آخر أعدادها العدد الثامن عشر في 26 ذي الحجة 1301هـ الموافق 26 أكتوبر 1884م بسبب محاصرة انجلترا لها ومنعها من دخول مصر والهند فنضبت مواردها فتوقفت. وكانت له كتابات صحفية في جرائد موسكو تحتفظ مكتبة الدولة بالاتحاد السوفيتي المسماة "مكتبة لينين" بالصحف والمجلات التي صدرت ما بين سنة 1905م و 1917م ونشرت المقالات والمذكرات والأبحاث عن إقامة الأفغاني في روسيا (5). وبعد سفره إلى لوندره "لندن" سنة 1309هـ - 1892م ساهم في إنشاء صحيفة (ضياء الخافقين) وهي شهرية جعلها منبراً لحرب ناصر الدين شاه إيران. نشاطه الماسوني:   (1) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 49). (2) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 45). (3) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 47). (4) ((العروة الوثقى)) (ص 24). (5) ((مجلة العربي الكويتية)) العدد 226 (ص 24). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 ومن منا لا يعرف الماسونية صنيعة الصهيونية العالمية التي تسعى إلى القضاء على الأديان تحت شعارات براقة "حرية، مساواة، إخاء".جاء في البروتوكول الثالث من (بروتوكولات حكماء صهيون): "ونحن على الدوام نتبنى الشيوعية ونحتضنها متظاهرين بأننا نساعد العمال طوعاً لمبدأ الأخوة والمصلحة العامة للإنسانية، وهذا ما تبشر به الماسونية الاجتماعية" (1).وفي البروتوكول الرابع "أن المحفل الماسوني المنتشر في ظل أنحاء العالم ليعمل في غفلة كقناع لأغراضنا. ولكن الفائدة التي نحن دائبون على تحقيقها من هذه القوة في خطة علمنا وفي مركز قيادتنا – ما تزال على الدوام غير معروفة للعالم كثيراً" (2).وفي البروتوكول التاسع "أن الكلمات التحريرية لشعارنا الماسوني هي الحرية والمساواة والإخاء وسوف لا نبدل كلمات شعارنا، بل نصوغها معبرة ببساطة عن فكره، وسوف نقول "حق الحرية، وواجب المساواة، وفكرة الإخاء" وبها سنمسك الثور من قرنيه وحينئذ نكون قد دمرنا في حقيقة الأمر كل القوى الحاكمة إلا قوتنا، وإن تكن هذه القوى الحاكمة نظريا ما تزال قائمة" (3).وفي البروتوكول الخامس عشر "وإلى أن يأتي الوقت الذي نصل فيه إلى السلطة، سنحاول أن ننشئ ونضاعف خلايا الماسونيين الأحرار في جميع أنحاء العالم، وسنجذب إليها كل من يصير أو من يكون معروفاً بأنه ذو روح عامة وهذه الخلايا ستكون الأماكن الرئيسية التي سنحصل منها على ما نريد من أخبار كما أنها ستكون أفضل مراكز الدعاية" (4). وإذا كانت الماسونية صنيعة الصهيونية العالمية فإن أهداف الصهيونية – ولا أخالها تخفى – هدم الأديان والسيطرة على العالم بأكمله والتحكم في سياسته واقتصاده وشعوبه وفق مصالح اليهودية العالمية وتسخير كل القوى وسلوك كل الطرق مهما كانت ملتوية. ولا شك أن الماسونية إحدى تلك السبل التي سلكوها إلى هذا الهدف وجعلوها ذراً للرماد في العيون تحت شعار "حرية، مساواة، إخاء" وهي في الحقيقة "قيدية، طبقية، عداء". خدع كثير من الناس بهذا الشعار فدخلوها وما لبثوا أن أدركوا الغموض الذي يحيط بها فغادروها مسرعين. إلا أن السيد الأفغاني قدم في 22 ربيع الثاني 1292هـ طلباً للانضمام إلى المحفل الماسوني هذا نصه: يقول مدرس العلوم الفلسفية بمصر المحروسة جمال الدين الكابلي الذي مضى من عمره سبعة وثلاثون سنة بأني أرجو من إخوان الصفا وأستدعي من خلان الوفاء أعني أرباب المجمع المقدس الماسوني الذي هو عن الخلل والزلل مصون أن يمنوا علي ويتفضلوا علي بقبولي في ذلك المجمع المطهر وبإدخالي في سلك المنخرطين في ذلك المنتدى المفتخر ولكم الفضل. ربيع الثاني يوم الخميس 22 سنة 1292هـ التوقيع   (1) ((الخطر اليهودي- بروتوكولات حكماء صهيون)) محمد خليفة التونسي (ص 127). (2) ((الخطر اليهودي- بروتوكولات حكماء صهيون)) محمد خليفة التونسي (ص 131). (3) ((الخطر اليهودي- بروتوكولات حكماء صهيون)) محمد خليفة التونسي (ص 144). (4) ((الخطر اليهودي- بروتوكولات حكماء صهيون)) محمد خليفة التونسي (ص 173 - 174). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 ولم ينسحب من المحفل بل كان من الأعضاء البارزين ذوي النشاط فيه ولذا تم اختياره بعد سنوات ثلاث رئيسا للوج كوكب الشرق بتاريخ 7 مايو 1878م بأغلبية الآراء ووجهت له دعوة بهذا التاريخ لاستلام القادوم بعد إتمام ما يجب من التكريز الاعتيادي والحضور بالزي الرسمي الماسوني الأسود ورباط الرقبة والكفوف بيضاء. ولم يكتف السيد الأفغاني بل ازداد نشاطه في ميدان الماسونية فاعتزل هذا المحفل الاسكتلندي وأنشأ محفلاً وطنياً تابعاً للشرف الفرنساوي وفي برهة وجيزة بلغ عدد أعضائه العاملين أكثر من ثلاثمائة" (1).ولم يزل يبذل جهوده في هذا الميدان حتى صدر الأمر بنفيه في 6 رمضان سنة 1296هـ 24 أغسطس 1879م وجاء في القرار "أنه رئيس جمعية سرية من الشبان ذوي الطيش مجتمعة على فساد الدين والدنيا" (2). وكتب إلى بعض الشخصيات من غير أن يذكر اسما يستنجد بها مما حل به ويزعم أنه مظلوم فيما نسب إليه. ونفي من بعده تلميذه وأحد أعضاء محفله الشيخ محمد عبده ووجد في منزله كتاب (الماسون) بخط السيد الأفغاني كما اعترف بهذا الشيخ نفسه في خطاب منه إلى أستاذه الأفغاني. ولم ينقطع نشاط السيد الأفغاني الماسوني بعد نفيه من مصر فإن التاريخ يحدثنا أنه في "جمادى الأولى سنة 1303هـ سافر السيد إلى البلاد الإيرانية بدعوة من الشاه ناصر الدين فنال مكانة سامية وتزاحم حوله الأمراء والمجتهدون والكبراء وتمكن من نظم كثير منهم في سلك الماسونية". وكان له نشاط ماسوني في فرنسا أيضاً حيث قدم طلباً للعضوية في اللوج باريس وتم قبوله. وإذا ثبت بما لا يقبل الشك انتماء السيد الأفغاني للماسونية، وثبت أن الماسونية وليدة الصهيونية العالمية وسبيل من سبلها لتحقيق أهدافها في هدم الأديان والسيطرة على العالم فإن الواجب تقصي الحقائق في سيرة الرجل الأفغاني والبحث عن حقيقة أهدافه.   (1) ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) محمد المخزومي (ص 20). (2) ((جمال الدين الأفغاني)) عبدالرحمن الرافعي (ص 46). وانظر الصورة (رقم/ 1). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 أما الزعم بأن الأفغاني كان مخدوعاً بمبادئ الماسونية "الحرية، المساواة، الإخاء" ولم يعرف حقيقتها وصلتها بالصهيونية لأن بروتوكولات حكماء صهيون لم تنشر إلا بعد وفاته فإنه زعم باطل. ذلكم أن من الصحف من قامت بكشف حقيقة الماسونية آنذاك فقد تصدت جريدة (البشير الجزويتية) الصادرة في بيروت للماسونية ولم تغفل عن مهاجمتها وكشف أسرارها دواماً" (1).وقد تصدت لهذه الجريدة صحف مصرية ماسونية مثل (اللطائف) و (المقتطف) و (البيان) و (الفلاح) و (النصوح) و (المقطم) بردود كثيرة ودفاع عن الماسونية ومبادئها (2) مما ثبت وقوع مناقشات حادة في الصحف عن الماسونية وهذا يدعو إلى التأكد من صحة أهدافها قبل الانضمام إليها من كل شخص فكيف بمن يريد الإصلاح وينتسب إليه. فإن زعموا أن السيد لم يقرأ هذه الصحف أو لم تصل إليه أعدادها سلمنا – جدلا – وقلنا صدر من الكتب سنة 1891م أي قبل وفاة الأفغاني بست سنوات كتاب (الحقيقة الإسرائيلية) وجاء فيه "الروح الماسونية هي نفسها الروح اليهودية لا اختلاف في معتقداتها الأساسية فآراؤها متماثلة" (3) وقبل وفاة الأفغاني بإحدى وثلاثين سنة أي في سنة 1866م صدر كتاب (السر المكنون في شيعة الفرماسون) أو (ماهية الفرماسونية على ما يشهد به أهلها وتدل عليه قوانينها وتنبئ به أعمالها) صدر في بيروت وطبع كتاب مثله بالفرنسية في السنة ذاتها وهي لغة يجيدها الأفغاني، وفي سنة 1885م طبع كتاب (شيعة الماسونيين) بمطبعة الآباء المرسلين اليسوعيين وفي سنتي 1884 - 1885م نشر كتاب (الأدلة القاطعة على شرف الرهبانية اليسوعية وبيان كنه الشيعة الماسونية) في جزءين بمطبعة الآباء اليسوعيين (4) وفي سنة 1885م صدر كتاب (شيعة المسونيين) بلا ألف بعد الميم هو مجموع المقالات التي نشرتها البشير عن الماسونية (5).فإن زعموا أنه لم يقرأ هذا ولا ذاك سلمنا – جدلا – وقلنا ليس في وجود أعضاء في الماسونية يسعون لهدم أركان الدين وتشتيت الفضيلة ما يثير شكوكه في أهداف الماسونية فيحذرها فقد اعترف أحد الماسونيين وهو جورجي زيدان بوجود هؤلاء الأعضاء في المحافل الماسونية حيث يقول "فقد اتهم رجال الدين الماسونية بالكفر وأنها إنما تسعى لهدم أركان الدين وتشتيت الفضيلة، أما نحن فمع إجلالنا لهذه الجمعية عن هذه التهمة ومع يقيننا أنها براء منها لا يسعنا الإنكار أن بين أعضائها أفرادا قليلين ربما تصح عليها تلك التهمة" (6). فإن زعموا أن هذا كله لا تقوم به حجة ولا يستقيم به برهان – سلمنا جدلا – وقلنا خذوا القاضية القاصمة. أي شيء أراد الأستاذ محمد المخزومي تلميذ الأفغاني أن يخفيه عنه حين قال" أما انخراط جمال الدين في الماسونية .. فنختصره على قدر ما تسمح به الطريقة الماسونية" (7).   (1) ((الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي)) سامي عزيز (ص 309). (2) ((الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي)) سامي عزيز (ص 308 - 318). (3) ((الماسونية)) أحمد عبدالغفور عطار (ص 60). (4) انظر كتاب ((السر المصون في شيعة الفرماسون)) للأب لويس شيخو (ص 202). (5) ((الماسونية بلا قناع)) أبو صادق (ص: 234). (6) ((الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي)) سامي عزيز (ص 308) عن ((تاريخ الماسونية)) جورجي زيدان (ص: 251 - 253). (7) ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) محمد المخزومي (ص 17 - 18). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 ثم إن أردتم أن نسير على منهج "من فمك أدينك" فإنا فاعلون. بعد دخول الأفغاني إلى المحفل الماسوني تغيرت ثم لهجته في أحاديثه وأخذ يقرب منه العوام (1) لأي شيء يفعل هذا؟ أتظنون أنه فعل ذلك ليوضح لهم ما يجهلونه من أمور دينهم ولينزع الخرافات والمعتقدات الزائفة من أذهانهم والبدع والمنكرات من أفعالهم؟ كلا، إنه يقربهم ليقول لهم "إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد وربيتم بحجر الاستبداد وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك والرعاة حتى اليوم وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين وتعانون لوطأة الغزاة الظالمين" (2) إلى أن قال "تناوبتكم أيدي الرعاة ثم اليونان والرومان والفرس ثم العرب والأكراد والمماليك ثم الفرنسيس والمماليك والعلويين وكلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه ويهيض عظامكم بأداة عسفة، وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم ولا صوت" (3). فعد السيد الأفغاني الفتح الإسلامي لمصر دخول العرب، وعد دخول العرب على حد تعبيره استعباداً واستبداداً وقرنه باستعباد اليونان والرومان والفرس والفرنسيس واستبدادهم ثم يسترسل في حديثه فيقول "انظروا أهرام مصر وهياكل منفيس وآثار تيبه ومشاهد سيوه وحصون دمياط شاهدة بمنعة آبائكم وعزة أجدادكم. وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبه بالرشيد فلاح (4) أذاً فهو لا يدعو عوام المسلمين الذين قربهم إليه بعد انضمامه إلى الماسونية لا يدعوهم إلى الدين الإسلامي إذ هو يشق جلودهم بمبضع نهمه ويهيض عظامهم بأداة عسفه كاليونان والرومان والفرس والفرنسيس، لا يدعوهم إلى الدين الإسلامي وإنما إلى النظر إلى أهرام مصر وهياكل منفيس ... الخ وكلها آثار فرعونية شاهدة على جاهلية تعبد الأشخاص والكواكب من دون الله، ولا شك أن دعوته إلى النظر فيها دعوة إلى الاقتداء بأصحابها. وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم .. إن التشبه بالرشيد فلاح. إذاً فهي دعوة إلى نبذ الدين الإسلامي – كما أفهمها – وهي جزء من أهداف الماسونية التي تحارب الأديان. ثم ومما يزيد الأمر وضوحاً ذكر آثارا ميتة وجيفا منتنة ولم يذكر مصنع الرجال لكونه مأثرة إسلامية. أعني الجامع الأزهر ما الداعي إلى هذا التحامل ضد الإسلام ومآثره؟ وهل لهذا أيضاً صلة بانتمائه إلى الماسونية؟! وبعد .. فلعلي أطلت الحديث هنا في هذا الموضوع لأنه الميزان الدقيق الذي نزن به الرجل هنا، ولأنه يكفي في بيان حقيقة الرجل أي رجل إبات انتمائه إلى الماسونية .. فإن كان فيما ذكرنا من أدلة ما يثبت انتماء الأفغاني إلى الماسونية وظهور أثرها في أحاديثه وأقواله فقد انجلت الحقيقة .. حقيقة الرجل. وإن كانت لا تكفي لإثبات ذلك فإنها ولا شك أصابع تشير إلى الأفغاني بالاتهام.   (1) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) رشيد رضا (1/ 46). (2) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 46 - 47) , و ((زعماء الإصلاح في العصر الحديث)) أحمد أمين (ص 78 - 79). (3) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 46 - 47) , و ((زعماء الإصلاح في العصر الحديث)) أحمد أمين (ص 78 - 79). (4) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 46 - 47) , و ((زعماء الإصلاح في العصر الحديث)) أحمد أمين (ص 78 - 79). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 وفاته: مكث جمال الدين في الآستانة زهاء أربعة أعوام حتى داهمه السرطان في فكه الأسفل وعملت له ثلاث عمليات جراحية بيد أشهر الأطباء ولم تنجح فمات في 7 شوال 1314هـ الموافق 9 مارس 1897م ودفن في نشان طاش في مقبرة "شيخلر مزارلغي" أي مقبرة المشائخ (1) وقال طبيبه الخاص إن شدة ولع جمال الدين بالسيجار الأفرنجي وكثرة شربه للشاي وتناوله الطعام مالحا كان من مسببات السرطان" (2) حتى قال بعض تلاميذه. الملح والشاي والدخان ... أودت بروح شيخنا الأفغاني (3) ومن المؤسف أن يتحامل بعض المؤرخين وينسب قتله إلى الخليفة المسلم السلطان عبدالحميد ويصف السلطان بأنه أكبر طغاة الملوك في عهده مما لا مجال للرد عليه هنا ونكتفي بنقل كلمة لمستشرق فرنسي حيدر بامات حيث يقول "ولكن من القحمة كما يظهر أن يذهب كما صنع بعض مترجميه إلى أنه سم بأمر من السلطان فالرواية التي تعزو موته المفاجئ سنة 1897م إلى سرطان ظهر في الشفة السفلى فاستولى على جميع وجهه بالتدريج أقرب إلى الحق كما يقوم وقد نقل جلود زيهر هذه الرواية فوكدها لنا الأمير شكيب أرسلان الذي كان من تلاميذ جمال الدين وعاشره في السنين الأخيرة من حياته" (4).بل إن ابن أخت جمال الدين يعترف ويقول "فلما رفضت الدولة العثمانية تسليم السيد يعني لإيران لاتهامه بالاشتراك في قتل ناصر الدين شاه – اتفق سفير إيران ومندوبها فوق العادة الذي كان قد أوفد من إيران لهذه الغاية في سنة 1314هـ على أن يسموا ذلك السيد .. وقد حدث ذلك واستشهد جمال الدين" (5). ونزيد – أيضاً – لو كان للسلطان نية في قتله لسلمه لحكومة إيران التي اتهمته بالاشتراك في قتل ناصر الدين شاه فطلبته من تركيا مع اثنين من شركائه سلمتهما تركيا فأعدما ورفضت تسليم الأفغاني. حقيقته والمآخذ عليه: مما لا شك فيه أن حياة هذا الرجل مليئة بالأسرار ويحيطها الغموض (6) وتلتبس فيها الحقائق بالأكاذيب ومما يزيد الأمر سوءاً أنه لم يؤرخ للرجل مؤرخ معتدل فأغلب من أرخ له إما معجب به بالغ الإعجاب مبالغاً في الثناء عليه متجاوزاً عن كثير من أخطائه، تكل عينه من كل عيب فيه أعمته عين الرضا عن الحقيقة وإما رجل حاقد كاره بالغ في قدحه وذمه يحمل منه كل شاردة ووارده ما لا تحتمله أعمته عين السخط عن الحقيقة. وزاد بعض تلاميذه الأمر سوءاً فأخفى بعض أعماله زاعما أن الطريقة الماسونية لا تسمح بذكره (7).ويزيد الأمر حينما نعلم أن أكثر نشاطه كان سرياً (8). ولكن مع هذا الغموض فإنا نجد في بعض أفعاله وأقواله مآخذ لا نراها إلا خطيرة توجب إعادة النظر في تقويم بعض الرجال كما قال الدكتور محمد محمد حسين ونحن حين ندعو إلى ذلك لا نريد أن ننقص من قدر أحد ولكننا لا نريد أن تقوم في مجتمعنا أصنام جديدة معبودة لأناس يزعمون أنهم معصومون من كل خطأ" (9). وقد سبق لنا أن ذكرنا بعض هذه المآخذ في نشاطه الماسوني وفي تفسيره وفي الجامعة التي يدعو إليها وغير ذلك مما لا داعي لإعادته هنا.   (1) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 92). (2) ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) (ص 39 - 41). (3) ((جمال الدين الأفغاني)) عبدالقادر (ص121). (4) ((مجالي الإسلام)) تأليف حيدر بامات ترجمة عادل زعيتر دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة 1956م (ص 499). (5) ((جمال الدين الأسد آبادي)) ميرزا لطف الله خان (ص 118). (6) ((العروة الوثقى)) (ص 18). (7) ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) (ص 18). (8) ((الإسلام والحضارة الغربية)) محمد محمد حسين (ص 65). (9) ((الإسلام والحضارة الغربية)) محمد محمد حسين (ص 49). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 وأول ما يصادفنا في حياته من غموض الاختلاف في أصله أهو إيراني أم أفغاني وهو يذكر أنه أفغاني في كثير من أقواله ورسائله وأحياناً يسمي نفسه "الكابلي" أو "الحسيني" وكلها ألقاب يعرف بها الرجل ويشك في صحة هذا كثير من المؤرخين ويزيد الأمر شكا أن التاريخ لا يحدثنا عن عودته أو محاولته الاتصال بأهله وعشيرته في أفغانستان بعد خروجه منها بينما يذكر عودته المتكررة إلى إيران ويذكر أن معظم من يتصل به في تركيا إيرانيون وقنصل إيران قدم له العون عند نفيه من مصر والذي يقوم بدور الترجمة له في العروة الوثقى إيراني. ونحن لا يهمنا معرفة أصله أإيراني هو أم أفغاني بقدر ما يهمنا معرفة الدافع له إلى التنكر ولا يقنعنا وحدة القول بأنه إنما تنكر حتى يستطيع الخلاص من رقابة الحكومة الإيرانية لرعاياها في الخارج. ومع أنه كان يدعو إلى تنقية الدين الإسلامي مما علق به من الخرافات كتقديس الأموات والتبرك بهم ونحو ذلك إلا أنا نراه يستغل هذه النقطة أبشع استغلال فيلجأ إلى مقام عبدالعظيم خوفاً من ناصر الدين شاه ويثير فيهم الحمية لهذا المعتقد الباطل بالانتقام من ناصر الدين شاه فيقول "وأما قصتي وما فعله هذا الكنود الظلوم معي فمما يفتت أكباد أهل الإيمان ويقطع قلوب ذوي الإيقان ويقضي بالدهشة على أهل الكفر وعباد الأوثان إن ذلك اللئيم أمر بسجني وأنا متحصن بحضرة عبدالعظيم عبدالسلام" (1) ويصف هذا المقام بأنه "حرم من دخله كان آمنا" (2).بل ويحاول أن يظهر بالقداسة أمام العوام ولو كان بالكذب والخداع حكى عنه سعد زغلول أنه ذكر لهم أنه كان في سفينة خيف عليها الغرق فرأى في الركاب خوفاً فأكد لهم أن السفينة لن تغرق ثم قال "لو غرقت السفينة لم أجد منهم أحدا يكذبني وإن سلمت ظهرت بالقداسة من أقرب سبيل" (3).ومن المآخذ عليه اتخاذه الاغتيال سبيلاً لتحقيق مآربه فقد قال مره في حديث له مع الأستاذ براون لا أمل في الإصلاح قبل قطع ستة أو سبعة رؤوس وسمي بالاسم شاه العجم وكبير وزرائه وكلاهما قتل بعد ذلك (4) وحينما طلب من السيد أن يكف عن مقاومة الشاه مقابل ما يشاء ويتمنى أجاب "لا أتمنى إلا أن تزهق روح الشاه ويشق بطنه ويوضع في القبور" قال عبدالقادر المغربي كل هذا سمعته من فم شيخنا الأفغاني الذي كان يرويه بطلاقة لسان وتوقد جنان" (5) وقد أمر فعلا بالقتل حينما قال رضا آقاخان يوما أنه حاضر أن يفدي نفسه لتخليص أمته فقال له جمال الدين "أن كان كذلك فاذهب وافعل" (6) وأمر السيد رجاله الأفغانيين أنهم إذا رأوا ميرزا في حيهم يقتلونه (7)، وهذا ميرزا حسين خان دانش يصف زيارته لجمال الدين فيقول "وما أن قربت منه حتى وجدته محدقاً بنظره إلى الأرض يزرع البهو من أقصاه إلى أقصاه يروح وغدو غاضباً رافعاً صوته كالمجانين وهو يقول "لا نجاة إلا في القتل لا خلاص إلا في القتل لا سلامة إلا في القتل" .. فاشتد عجبي لهذه الحالة الجنونية التي وجدته عليها ..   (1) ((نابغة الشرق السيد جمال الدين الأفغاني)) سعيد الأفغاني (ص 77). (2) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 55). (3) ((نابغة الشرق جمال الدين الأفغاني)) (ص 91 - 92) , و ((جمال الدين الأفغاني)) عبدالقادر المغربي (ص 50 - 51). (4) ((الإسلام والتجديد في مصر)) تشارلزم آدمز ترجمة عباس محمود لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلامية (ص 15). (5) ((جمال الدين الأفغاني)) عبدالقادر المغربي (ص 49). (6) من بحث للأمير شكيب أرسلان في حاضر العالم الإسلامي لوثروب ستودارد (2/ 295). (7) ((جمال الدين الأفغاني)) عبدالقادر المغربي (ص 57). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 وعدت من حيث أتيت وتركته وشأنه وبعد انقضاء 25 يوماً أو شهر على ذلك وردت الأخبار من طهران باغتيال "ناصر الدين شاه" بمسدس "ميرزا رضا الكرماني" (1) بل إن قاتل ناصر الدين شاه قال عندما أنفذ فيه خنجره:- خذها من يد جمال الدين (2) ولما بلغ الأفغاني ذلك قال كلمات تدل على الإعجاب بالقاتل (3) وذكر محمد عبده أن الأفغاني أمره بقتل الخديوي إسماعيل (4).وعاب أحمد أمين على الأفغاني هجاءه لناصر الدين شاه فقال "هذه زلة كبيرة من السيد دعاه إليها حدته وحبه للانتقام إذ كيف أجاز لنفسه التشهير بحكومة شرقية إسلامية في بلاد أجنبيه تتخذ من أقواله حجة للتدخل الذي طالما حاربه في العروة الوثقى وكيف استباح أن يفضح هذه العيوب ثم قارن بينه وبين مدحت باشا الذي نفاه عبدالحميد بلا مال ولا ثياب ولا أهل فلم ينطق بكلمة في ذم عبدالحميد بل تكلم الكلام الكثير في فضل الأتراك على أوروبة ثم قال الحق أنها غلطة من غلطات السيد دعا إليها حدة مزاجه (5).وقد نسب إليه بعضهم القول بنظرية داروين والحق أنه لم يقل بذلك بل رد عليها بما يبطلها (6) مع تعاطفه على من أيدها وحمده لهم الجهر بمعتقدهم ولو خالف الجمهور (7).ومما يؤخذ عليه كثرة لحنه، ولا نعيب عليه اللحن بقدر ما نعيب عليه إباحته ذلك فقد قال في هجاء رجال "هذا رجل من نسل البقروت" فعابوا عليه استعمال بقروت فقالوا: إن بقروت لم ترد في كلام العرب فقال وهل تريدون مني أن أنكر نفسي (8).ومن أحسن الردود على هذا قول الأب انستاس الكرملي "أجل إننا لا نريد أن نسير برأي أهل البادية في لغتنا لكننا نريد أن نسير على المناحي والمنازع التي تلقيناها من السلف جيلا بعد جيل وأصلهم من البادية ولا نقبل أن ندخل في لغتنا مثل البقروت بحجة أن جمال الدين نطق بها" (9) وقد عرف من رأي السيد أنه يجوز استعمال الدخيل واللفظ الأعجمي ويقول إذا أردتم استعمال كلمة غير عربية فما عليكم إلا أن تلبسوها كوفية وعقالا فتصبح عربية وقد كنى بالكوفية والعقال عن التعريب" (10) وكان يقول "كان المقصود في النحو أن يكون آلة فصيره جمود النحاة غاية" (11).   (1) ((جمال الدين الأسد آبادي)) ميرزا لطف الله خان (ص 134). (2) ((جمال الدين الأفغاني)) محمود أبو ريه (ص 31). (3) ((زعماء الإصلاح في العصر الحديث)) أحمد أمين (ص 112). (4) ((التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر)) (ص 354). (5) ((زعماء الإصلاح في العصر الحديث)) أحمد أمين (ص 104 - 105). (6) انظر ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) (ص 114 - 118). (7) ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) (ص 116). (8) ((جمال الدين الأفغاني)) لعبدالقادر المغربي (ص 110). (9) ((مجلة المجمع العلمي العربي)) بدمشق (10/ 626). (10) ((جمال الدين الأفغاني)) عبدالقادر المغربي (ص 109). (11) ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) محمد المخزومي (ص 278). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 ومما يثير الريبة والشكوك في الأفغاني هذا الخليط من اليهود والنصارى الذي يحيط به، سليم نقاش من نصارى الشام وهو ماسوني ووضع كتابا تبدو فيه أهداف الماسونية بارزة في عنوانه (مصر للمصريين) وهو يذكرنا بدعوة الأفغاني للمصريين بالنظر ليس إلى الآثار الإسلامية بل إلى الآثار الفرعونية المصرية، وفي هذا فصل لمصر عن المسلمين والإسلام. وأديب إسحاق من أكثر الدعاة إلى الماسونية حماسا وقف نشاطه الصحفي على هذا وهو أيضاً من نصارى الشام انتظم في سلك الماسونية سنة 1873م في محفل أنشأه الماسون في بيروت ذلك العام ثم وقف نشاطه على الدعوة إلى الماسونية في بعض الصحف ولم يكتف بهذا بل قام بطبع مقالاته تلك في كتاب ضخم (1) ومع هذا فقد كان الأفغاني لآخر نسمة من حياته – كما يقول تليمذه المخزومي – عند ذكر أديب بك إسحاق يسترجع يقول: كان طراز العرب وزهرة الأدب، قضى نحبه في شرخ الشبوبة وعنفوان الفتوة وترك لنا قلوباً آسفة وشجوناً فائضة إنا لله وإنا إليه راجعون" (2).ومع هذا أيضاً فقد أسند الأفغاني إدارة أول صحيفة أنشأها (مصر) الأسبوعية سنة 1877م إلى أديب إسحاق هذا؟! ثم ساهم في إنشاء جريدة (التجارة) وتولى رئاستها أديب إسحاق وسليم نقاش وكان الأفغاني يساهم بالكتابة فيها ويوصي تلاميذه بخدمة هاتين الصحيفتين قلماً وسعياً (3). وهكذا نرى الأفغاني يمكن النصارى من أجهزة الإعلام ويصرف النقود ويفتح المطابع ويحصل على الامتيازات ليسلمها لهم. وكان من المحيطين به من النصارى جورج كوتجي وطبيبه الخاص هارون يهودي (4). ولم يحضر وفاته إلا كوتجي النصراني وهارون اليهودي وعند قدومه إلى مصر يسكن في حارة اليهود (5). ومن المآخذ عليه صلته بالإنجليز المريبة ورجال الإنجليز، وفي الحقيقة أنه لم تتضح لي حقيقة علاقة الرجل بالإنجليز فهو معهم أحد رجلين لا محالة: إما عدو ساذج مغفل اتخذوه مطية لهم لتحقيق مآربهم، وإما صديق مخلص ذو مكر ودهاء. وحسب ما نعرف من تاريخ الرجل فإن أول صلة بين وبين الإنجليز حينما انضم إلى محمد أعظم في أفغانستان ضد شير علي وانتصر الثاني لتأييد الإنجليز له ولم يجد الأفغاني بدا من الهرب.   (1) ((الماسونية بلا قناع)) أبو صادق (ص: 233 - 234). (2) ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) محمد المخزومي (ص 22) الهامش. (3) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) للسيد محمد رشيد رضا (1/ 45). (4) ((الإسلام والحضارة الغربية)) محمد محمد حسين (ص 69). (5) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) محمد رشيد رضا (1/ 44). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 وفي مصر كان يؤلب عليهم الناس حتى يقوموا بالثورة العرابية، وفي إيران يحرض مفتي إيران على تحريم الدخان لإبطال احتكار الإنجليز له في إيران تمهيداً لاحتلالها وفي باريس ينشئ مجلة العروة الوثقى التي تحارب الإنجليز أينما حلوا وتشنع عليهم وهو مع هذا يسرح في بلادهم ويمرح ويتردد بين لندره وباريز ولا يلقى سوى الترحيب. صحيح أنهم أدوا إلى تعطيل (العروة الوثقى) لكن صاحبها لا يجد مانعا من اللجوء إلى سفير بريطانيا في الآستانة ليساعده على الخروج منها (1) ولا تجد إنجلترا مانعاً قبل ذلك من عرضها له توليه السلطة في السودان (2) وقبل هذا وذاك لا يجد السيد الأفغاني مانعاً من دخول المحفل الماسوني والاسكتلندي ولا يجدون هم أنفسهم مانعا من تعيينه رئيساً للمحفل. ولا يجد مانعا من التعاون مع الإنجليز! ضد من؟ ضد الخلافة الإسلامية؟!! قال السلطان المهضوم عبدالحميد في مذاكراته التي نشرت مؤخراً "وقعت في يدي خطة أعدها في وزارة الخارجية الإنجليزية كل من مُهرج اسمه جمال الدين الأفغاني وإنجليزي يدعي بلند، قالا فيها بإقصاء الخلافة عن الأتراك واقتراحا على الإنجليز إعلان الشريف حسين أمير مكة خليفة على المسلمين" (3).ولهذا فلا عجب أن يصفه السلطان عبدالحميد بقوله "كان رجل الإنجليز ومن المحتمل جدا أن يكون الإنجليز قد أعدوا هذا الرجل لاختباري" (4).أما بلنت هذا الذي أشار إليه السلطان عبدالحميد فهو وزوجته من أصدقاء الأفغاني الإنجليز وهو وزوجته ذوي نشاط مريب في بلاد العرب ويكفي نشاطهما ريبة دعوتهما إلى إنشاء دولة عربية حليفة لإنجلترا تصبح مقراً للخلافة الإسلامية ويكتب بلنت في ذلك كتابه المشهور المسمى (مستقبل الإسلام) (5). وصلة الأفغاني ببلنت هذا وزوجته أيضاً صلة مريبة فهي التي تفاوض باسمه الحكومة البريطانية وتبدي رأيها له في بعض المسائل وتطلب منه توجيهاته بعد هذا وتسعى لعقد الاجتماعات بينه وبين كبار الشخصيات حتى الإيرانية فتنظم له لقاء مع مالكوم خان سفير إيران لدى جميع الدول الأوروبية وهو نصراني ذو ميول أوربية وتفاوض باسمه بريطانيا في مسألة مصر ومسألة السودان وتكتب إليه بجواب الوزراء الإنجليز. ومن يقرأ بتمعن تأريخ بلنت وزوجته يدرك أنهما يحاولان الظهور بمظهر التعلاطف مع قضايا "العرب" حتى ضد الإنجليز ولكن حقيقتهما إنهما من رجال الإنجليز وأكبر هذا دعوتهما لفصل العرب عن الخلافة الإسلامية وإنشاء دولة عربية حليفة لانجلترا تصبح مقراً للخلافة الإسلامية وفي هذا وحده ما يكشف حقيقتهما. فما علاقة الأفغاني بهما وكيف يسمح لنفسه أن يتعاون مع الإنجليز لهدم الإسلام والخلافة الإسلامية وهو يسعى بزعمه وزعم المخدوعين به إلى الوحدة الإسلامية؟! ومن المآخذ على الأفغاني تلك العبارة الخطيرة والألفاظ المنحرفة وهي وإن كانت غير صادرة منه ولكنها من تلاميذه وموجهة إليه ولو لم يكن بها راضياً لردع تلاميذه عنها ولعرفوا كراهيته لذلك فارتدعوا ولكنه لم يفعل فلم يفعلوا. فمن ذلك ما كتبه إليه تلميذه إبراهيم اللقاني:-   (1) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) محمد رشيد رضا (1/ 72) وحاضر العالم الإسلامي شكيب أرسلان (2/ 296). (2) ((جمال الدين الأفغاني)) محمود أبو رية (ص 53). (3) ((مذكرات السلطان عبدالحميد)) ترجمة محمد حرب عبدالحميد (ص 67). (4) ((مذكرات السلطان عبدالحميد)) ترجمة محمد حرب عبدالحميد (ص 68). (5) ((الإسلام والحضارة الغربية)) محمد محمد حسين (ص 68). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 "لو أذن لي سيدي وأستاذي ورب روحي ومعدل مزاجي ومقوم خلائقي ومحور خلقي ومحرر فطرتي".ويكتب إليه السيد رشيد رضا مصلياً ومسلماً عليه بعد رسول الله وآله فيقول:- "الحمد لله على أفضاله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وعلى سيدي بل السيد المطلق، ذي القدح المعلى والجواد المصلى الاسبق، سدرة منتهى العرفان، وجنة مأوى المحاسن والإحسان الذي له في كل جو متنفس، ومن كل نار مقتبس، الإمام المفرد والعقل المجرد "إلى أن قال" مهبط الفيض مصعد الكلم الطيب مجلى سر الجمال الأكمل" (1). ويكتب إليه الأستاذ الإمام محمد عبده ما هو أشد وأفظع وأخطر على عقيدة المسلم وسنذكره عند الحديث عن محمد عبده – إن شاء الله -.ومن المآخذ على الأفغاني أن السلطان عبدالحميد استشاره في إرسال بعثة من العلماء لنشر الإسلام في اليابان حسب طلب إمبراطور اليابان فأرجعه عن عزمه وقال له "إن العلماء نفروا المسلمين من الإسلام فأجدر أن ينفروا الكافرين" (2).ومنها تعليله عدم زواجه بخشيته عدم العدل، ومنها قسمه الذي يقسم به وعز الحق وسر العدل، ومنها أنه يشرب "قليلاً من الكونياك" (3). ويطول بنا الحديث لو أردنا استقصاء ذلك، ولعل فيما ذكرنا إشارة لمؤسس هذه المدرسة العقلية الحديثة والباعث لها وهو وإن كان الغالب على نشاطه السياسة لا الدروس العلمية التي هي مرادنا لكنه هو الذي وجه الإمام محمد عبده وتلاميذه إلى هذه الطريقة وأخذ بيدي حتى سلكته وحمدت له ذلك واعترفت له. المصدر: المدرسة العقلية الحديثة في التفسير لفهد الرومي - ص 75   (1) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) للسيد محمد رشيا رضا (ص 85). (2) ((نابغة الشرق جمال الدين الأفغاني)) سعيد الأفغاني (ص 116) و ((جمال الدين الأفغاني)) عبدالقادر المغربي (ص 32). (3) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) السيد محمد رشيد رضا (1/ 49). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 المطلب الثاني: محمد عبده لئن كان السيد جمال الدين الأفغاني هو المؤسس لهذه المدرسة فإن محمد عبده هو الذي أقام صروحها ودعا إليها ونشرها بين الناس فكان بحق هو صاحبها وهو أستاذها وأمامها الأول فكان له من الأثر فيها ما لم يكن لأستاذه السيد جمال الدين ولعل شهرة محمد عبده توجب علينا الاقتصار في ترجمته على بعض معالم حياته التي نستشف من ورائها اتجاهه الفكري ليس إلا. اسمه ونسبه: هو محمد بن عبده بن حسن بن خير الله. حدث عن نفسه فقال "كنت أسمع المزاحين من أهل بلدتنا يلقبون بيتنا ببيت التركمان فسألت والدي عن ذلك فأخبرني أن نسبنا ينتهي على جد تركماني جاء من بلاد التركمان" (1) وقال "أما بيت والدتي فيقال أنه عربي قرشي وأنه يتصل في النسب بعمر بن الخطاب رضي الله عنه ولكن ذلك كله روايات متوارثة لا يمكن إقام الدليل عليها" (2). مولده ونشأته:   (1) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) للسيد محمد رشيد رضا (1/ 16). (2) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) للسيد محمد رشيد رضا (1/ 16). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 ولد في حصة شبشير من قرى إقليم الغربية ونشأ في قرية "محلة نصر" تبعد عن دمنهور نحو خمسة عشر كيلومتراً. ولد في أواخر سنة 1265 هـ وتعلم القراءة في منزل والده بعد أن جاوز العاشرة ثم حفظ القرآن في سنتين انتقل بعدها إلى المسجد الأحمدي بطنطا ليتعلم التجويد ومكث سنة ونصفاً ولم يفهم فيها شيئاً لرداءة طريقة التعليم فيها حسب قوله (1) عاد بعدها إلى محلة نصر وتزوج سنة 1282هـ ثم ألزمه والده الذهاب إلى طنطا للتعلم فاستطاع الهرب في الطريق إلى بلدة "كنيسة أورين" ولجأ إلى أحد أخوال أبيه واسمه الشيخ درويش الذي حبب إليه العلم وطلبه بسبب طريقته في التدريس حتى صار طلب العلم وتحصيله أحب شيء إلى نفسه. أقام عند الشيخ درويش 15 يوماً انتقل بعدها إلى طنطا خوفاً من والده الذي وجهه إليها للدراسة ثم انتقل إلى الأزهر في منتصف شوال 1282هـ فداوم على طلب العلم على شيخه ويعود إلى محلة نصر في آخر كل سنة ليتلقى الدروس من الشيخ درويش الذي يسأله ما درست المنطق؟ ما درست الحساب؟ ما درست شيئاً من مبادئ الهندسة؟ وكان الأستاذ الإمام يلتمس عند عودته إلى القاهرة هذه العلوم عند من يعرفها إلى أن جاء السيد جمال الدين الأفغاني في شهر المحرم 1287 فتلقى عنه بعض العلوم الرياضية والفلسفية والكلامية ويدعو الناس إلى التلقي عنه فقرأ على السيد الزوراء للدواني في التصوف و (شرح القطب على الشمسية) و (المطالع) و (سلم العلوم في المنطق والهداية) و (الإشارات) و (حكمة العين) و (حكمة الإشراق في الفلسفة) و (عقائد الجلال الدواني في التوحيد) و (التوضيح مع التلويح في الأصول الوجغميني) و (تذكرة الطوسي في الهيئة القديمة) وكتاباً آخر في (الهيئة الجديدة) ... (2) وظهر تأثير السيد على الأستاذ سريعاً فبدأ في الكتابة والتأليف واتفق مع بعض الطلاب على أن يقرأ لهم بعض الكتب في المنطق وعلم الكلام مما لم يكن يقرأ مثلها في الأزهر فكثر سواد المجتمعين عليه. حتى اشتهر أمره مما أحفظ عليه قلب الشيخ محمد عليش الذي بلغه أن محمد عبده يقرأ كتب المعتزلة والمتكلمين في الأزهر ويرجح مذهبهم وإن الشيخ عليش – كما يقول العقاد – رجلا صالحا عفيفاً عن المطامع الدنيوية التي كانت تستهوي طلاب المظاهر من علماء عصره وكان مخلصاً صادق النية في كراهة البدع التي يخشى منها على الدين (3) وكبر عليه رحمه الله أن يقرأ أحد مثل تلك الكتب في الأزهر فأرسل إلى محمد عبده وناقشه نقاشاً أفضى إلى نزاع وخصومه قيل أنه ترك التدريس على إثرها في الأزهر وقيل أنه لم يتركه وأنه كان يضع بجانبه عصاً وقال إذا جاء الشيخ بعكازه فله هذه العصا. وعرض نفسه على لجنة الامتحان في الأزهر لنيل شهادة العالمية في سنة 1294هـ فحصل عليها ولم يكن نيله لها بالمانع له من الاستمرار في طلب العلم فكان له في طلبه ثلاث مراحل (4): الأولى: الطلب على طريقة الأزهر المعروفة من مناقشة في عبارات المتون والشروح والحواشي والتقارير. الثانية: ثم تحول عن تلك الطريقة إلى طريقة السيد الأفغاني الذي أطلقه من التقيد بعبارات المؤلفين وتعويده الحكم باليقين مع تطبيقه على حال المسلمين الحاضرة. الثالثة: ثم أضاف إلى هذا النظر في علوم الإفرنج فقرأ مما ترجم من الكتب ثم تعلم الفرنسية وصار يقرأ بها.   (1) ((تاريخ الأستاذ الإمام)): للسيد محمد رشيد رضا (1/ 20). (2) ((تاريخ الأستاذ الإمام)): محمد رشيد رضا (1/ 26). (3) ((الإمام محمد عبده)): لعباس محمود العقاد (ص 140). (4) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرشيد رضا الجزء الأول (ص 103 - 104). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 المصلح المعلم: عين بعد نيله الشهادة العالية مدرساً من دار العلوم للتاريخ وفي مدرسة الألسن الخديوية للعربية في أواخر سنة 1295هـ مع مداومته على التدريس في الجامع الأزهر فدرس في دار العلوم مقدمة ابن خلدون وكان غرضه من ذلك بث أفكاره الإصلاحية في السياسة وفي المجتمع وفي التعليم عبر ذلك الدرس الذي يفتح له المصارع في الحديث عن تلك الأمور من أوسع الأبواب وكان يكلف تلاميذه بكتابة المقالات ليعودهم الإحساس بمشاركته في الإصلاح والنقد فتكون آرائه لديهم أكثر قبولا وتأثيراً إلا أنه لم يلبث طويلاً حتى عزل لصلته بالسيد جمال الدين الأفغاني الذي صدر الأمر بنفيه. عزل عن التدريس وأمر بالمقام في بلده لا يبرحه حتى صدر الأمر بالعفو عنه سنة 1287هـ وعين رئيسا لتحرير الجريدة الرسمية (الوقائع المصرية) مما سنعرض له بعد وفي سنة 1300هـ 1882م حكم عليه بالنفي لاشتراكه في الثورة العرابية وتوجه إلى الشام حيث مكث فيه مدة نفيه إلا عشرة أشهر أقامها في باريس أصدر خلالها مع الأفغاني جريدة العروة الوثقى عاد بعد توقفها إلى الشام فبدأ درسه في منزله في بيروت في السيرة النبوية وقرأ في الجامع الكبير التفسير لا يلتزم كتاباً وإنما يقرأ في المصحف ويفسر (1) ودعي في سنة 1303هـ إلى التدريس في المدرسة السلطانية فلبى وكان له فيها إصلاحات متعددة فزاد في العلوم التوحيد ومعاملات الفقه والتاريخ والمنطق والمعاني والإنشاء ووجد أن المختصرات في التوحيد لا تأتي على الغرض من إفادة التلامذة والمطولات تعلو على أفهامهم والمتوسطات ألفت لغير زمانهم فأملى عليهم ما هو أمس بحالهم فكانت (رسالة التوحيد) (2) ونقل إلى العربية رسالة (الرد على الدهريين) لأستاذه الأفغاني وشرح كتاب (نهج البلاغة) و (مقامات بديع الزمان الهمذاني) (3). كان هذا جزءاً من مساهمته في الحركة العلمية أما أهم أهدافه في الإصلاح التعليمي فتلخصها لنا اللائحتان اللتان قدمهما إحداهما إلى الآستانة لإصلاح التعليم في سوريا والثانية إلى اللورد كرومر لإصلاح التعليم في القاهرة بعد عودته من منفاه. أما الأولى فقدمت في سنة 1304هـ إلى شيخ الإسلام في الآستانة قسم الناس فيها إلى طبقات ثلاث وعين لكل واحدة منها حدا من هذه الفنون فالطبقة الأولى العامة من أهل الصناعة والتجارة والزراعة ومن يتبعهم ينبغي أن توضع لهم كتب التعليم الديني على الوجه الآتي: أولاً: كتاب مختصر في العقائد الإسلامية المتفق عليها عند أهل السنة مع الإلمام بشيء من الخلاف بيننا وبين النصارى وبيان شبههم في معتقداتهم. ثانياً: كتاب مختصر في الحلال والحرام والتنبيه على البدع المستحدثة. ثالثاً: كتاب في التاريخ مختصر يحتوي على مجمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وخلفائه ثم يتبع ذلك بتاريخ الخلفاء العثمانيين. أما الطبقة الثانية: فهم طبقة الساسة ممن يتعاطى العمل للدولة في تدبير أمر الرعية وحماتها من العسكريين وأعضاء المحاكم ورؤسائها ومأموري الإدارة على اختلاف مراتبهم فتوضع لهم الدروس كالآتي: أولاً: كتاب يكون مقدمة للعلوم يحتوي على المهم في فن المنطق وأصول النظر وشيء من آداب الجدل. ثانياً: كتاب في العقائد يوضع على قواعد البرهان العقلي والدليل القطعي مع التزام التوسط. ثالثاً: كتاب يفصل فيه الحلال والحرام وأبواب الفضائل والرذائل ببيان أكمل مما في البداية. رابعاً: تاريخ ديني يحتوي على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والفتوحات الإسلامية والعثمانية.   (1) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 391). (2) انظر ((رسالة التوحيد)) محمد عبده تصحيح محمد رشيد رضا (ص 2). (3) ((العروة الوثقى)) (ص 32). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 أما الطبقة الثالثة فهي طبقة العلماء من أهل الإرشاد والتربية واقتصر هنا على ذكر الفنون دون التعرض لأعيان الكتب إلا قليلاً على هذا الوجه: أولاً: فن تفسير القرآن الكريم كتفسير الكشاف وتفسير القمي والنيسابوري ومن أخذ طريقهما. ثانياً: فنون اللغة العربية. ثالثا: فن الحديث مع التوفيق بينه وبين القرآن بإطراح الضعيف والتوفيق بينه وبين ما يوهم المخالفة من الصحيح. رابعاً: فن الأخلاق والآداب الدينية بتفصيل تام على نحو ما سلك الغزالي في الأحياء. خامساً: فن أصول الفقه ونرى أفضل كتاب لهذا المقصد الموافقات للشاطبي. سادساً: فن التاريخ القديم والحديث. سابعاً: فن الإقناع والخطابة. ثامناً: فن الكلام والنظر في العقائد. وهذه الطبقة الأخيرة ينبغي أن تكون تحت نظر شيخ الإسلام وتكون إدارتها تحت عنايته في سلك خاص ويدعى لها بالمدرسين المتبصرين ولا يعطى الطالب منها شهادة عالية إلا بعد امتحان شديد في العلوم المتقدمة والبحث الكامل عن سيرته في أحواله وأعماله والتحقق من تقدمه في الفضيلتين العلم والعمل (1). أما إصلاح التعليم في مصر فقد تمثل في اللائحة التي قدمها إلى اللورد كرومر ممثل الاحتلال البريطاني وبدأ تلك اللائحة ببيان أهمية الإصلاح وأن حاجة الحاكم إلى صلاح الناس ليست بأخف من حاجتهم إلى صلاحه ويشبه الحاكم بالصانع والمحكومين بالآلة فهو كاتب مثلا وهم قلمه فلا يكتب القلم بلا كاتب ولا يكتب الكاتب بلا قلم ثم يحث المستعمر على إصلاح التعليم ويسهل له الأمر مبينا أن أهل مصر قوم سريعو التقليد أذكياء الأذهان أقوياء الاستعداد للمدنية بأصل الفطرة فحاكمهم إذا كان رأسا فهم بدنه وإذا كان عاملا فهم آلته فلابد من استصلاحهم حتى يستقر سلطانه عليهم زمناً مديداً ثم يبين أن الإصلاح في المدارس التي ليس عليها رقيب سوى أهل السلطة السياسية لا غير فلهم أن يأخذوا من الدين أصوله ويغرسوها في المدارس ويحملوا نفوس طلاب العلم عليها ولا يستعرضون لما زاد عنها ثم بين أنهم لن يجدوا من يعارض من أهل الدين لأنهم لا يهتمون بما لا يقع تحت نظرهم مباشرة. المدارس الأميرية: ثم تكلم عن المدارس الأميرية وأنه ليس فيها شيء من المعارف الحقيقية ولا التربية الصحيحة ثم بين رغبة الناس فيها زمن إسماعيل ليستريحوا من نفقة أبنائهم وأن يتعلموا ما يؤهلهم للقيام بعمل من أعمال الحكومة. أما تكوينه بالتعليم والتربية رجلا صالحا في نفسه يحسن القيام بالأعمال التي تسند إليه فلم يخطر ببال المسلمين ولا من ولاهم أمر التعليم. المدارس الأجنبية: أما المدارس الأجنبية على تنوعها فاختلاف مذاهب المعلمين والمتعلمين يضعف تلك المدارس من التربية العمومية فقليل من المصريين من يرغب في تعليم أولاده فيها مع مداومتهم على نصيحة أولادهم بعدم الالتفات إلى ما يقوله المعلمون فيها حفظاً لاعتقادهم ... مما يحدث الاضطراب في طبيعة الفكر والتزلزل في الأخلاق وقد أحدثت هذه المدارس النفرة في قلوب المسلمين. الجامع الأزهر:   (1) انظر ((تاريخ الأستاذ الإمام)) محمد رشيد رضا الجزء الثاني في المنشآت. من (ص 505) إلى (ص 519). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 هو مدرسة دينية عامة يأتي الناس إليها إما رغبة في تعلم العلوم الدينية رجاء ثواب الآخرة وإما طمعا في امتيازات لطلاب العلم فيه ومما يؤسف عليه أنه لا نظام لها في دروسها ولا يبالي الأساتذة بحضور الطلاب أو غيابهم وفهمهم أو عدمه وصلاح أخلاقهم أم فسادها ويتعلمون طرقا من العقائد على منهج يبعد عن حقيقته أكثر مما يقرب منها ثم يتكلم عن إصلاح الأزهر وأنه لابد أن يكون بالتدريج في تغير نظام الدروس وجعلها في البدء تحت قواعد ساذجة قريبة من الحالة الحاضرة فيها بوجوب الحضور للطلبة وإلا حرم من الامتيازات وكل أستاذ يسأل عن طلبته وتغير برنامج الدروس وزيادة أصناف من الكتب وتعديل نظام الامتحان النهائي وشروطه. ثم تكلم عن الكتاتيب الأهلية وأن إصلاحها بالتدرج في إصلاح الفقهاء المدرسين فيها ثم تكلم عن المكاتب الرسمية الابتدائية والمدارس التجهيزية والمدارس العالية بوجوب غرس مبدأ الصلاح في نفوس التلاميذ ليحسنوا استعمال ما تعلموا ثم يتحدث عن المعلمين والمربين ومدرسة دار العلوم وشروط الانتساب إليها وغاية إنشائها وهي إعداد خريج الأزهر لتدريس العلوم العربية والدينية ويستغرب أمر نظار دار العلوم وجهلهم بالدين والعربية ويرى إمكانية حلول دار العلوم هذه عن الجامع الأزهر ولكن يلزم لذلك أمور اثنا عشر ذهب يعددها كإصلاح البرنامج وحذف بعض العلوم وتغير طريقة تفسير القرآن واختيار المعلمين الصالحين وناظر للمدرسة وتحديد الدراسة فيها سنة للتدريب على التعليم ونحو ذلك. ثم أنه يلزم كتب تؤلف جديداً ولوائح تنظم للعمل على مقتضاها كان ذلك إيجازا لتلك اللائحة التي نبذها من كتبت له وراء ظهره ولم يوافق الخديو توفيق على تعيين صاحبها بعد عودته من سوريا مدرساً في دار العلوم بل أمر بإقصائه عن التعليم فعين قاضياً في الريف (1).واستمر بعد هذا في إصلاحه للأزهر الذي كان يسميه بـ "الإصطبل" و"المارستان" و "المخروب" (2) ولم تتح له الفرصة للإصلاح إلا بعد أن تولى عباس الثاني الخديوية سنة 1892م الذي أراد مناهضة الاحتلال الذي استأثر بالحكم فقرب الزعماء والعلماء المصريين وكان من بينهم الأستاذ الإمام محمد عبده فذكر له أنهم تركوا له الأزهر والأوقاف الإسلامية والمحاكم الشرعية وبصلاحها صلاح للبلاد وهي أقرب وسيلة للقضاء على الاحتلال (3) فاقتنع عباس بهذا وأصدر مرسوماً يقضي بإنشاء مجلس لإدارة الأزهر من أعضائه محمد عبده سنة 1312هـ وأمر بتعيين الشيخ حسونة شيخا للأزهر سنة 1313هـ بعد استقالة الشيخ الأنبابي الذي يعارض هذا الاتجاه فبدأ في الإصلاح الحسي والمعنوي فأنار المسجد وعين طبيباً وفتح صيدلية للأزهر وأنشأ الميضأة الصحية وتجديد مبان صحية في الأروقة وحددت مدة الدراسة وامتحان سنوي لمن يغب مع مكافأة مالية للناجحين واستبدال الكتب النافعة بالكتب الضارة – حسب قولهم – وجعل مدة دراسة المقاصد كالفقه والتفسير أطول من مدة الوسائل كالنحو والصرف وبزيادة علم الأخلاق والتاريخ وتقويم البلدان والرياضيات وغير ذلك كثير من الإصلاحات التي نفذ القليل منها وترك الكثير إذ لم يلبث أن تغير ظن عباس باشا بالأستاذ الإمام أدى إلى خلاف فاستقال محمد عبده في محرم سنة 1323هـ وكان هذا آخر جهوده في إصلاح التعليم. فمات بعد ذلك بفترة قصيرة.   (1) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (2/ 533، 553). (2) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 495). (3) ((المجددون في الإسلام)) عبدالمتعال الصعيدي (ص 534 - 535). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 ومن الملاحظ أني استطردت في هذا الموضوع إذ هو المراد الأكبر الذي وجه إليه الأستاذ الإمام همه وفكره إذ كان يرى أن النهضة الإسلامية لن تكون إلا بإصلاح التعليم وخالف أستاذه الأفغاني الذي يرى أن السبيل إلى ذلك "الثورة السياسية" فكانت دعوة الأول علمية والثاني سياسية. وقد كان للإمام نشاط سياسي أيضاً نشير إليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 المصلح السياسي: كان من أهداف الإمام الإصلاح السياسي للبلاد حيث يقول "وهناك أمر آخر كنت من دعاته والناس جميعاً في عمى عنه وبعد عن تعقله ولكنه هو الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية" (1) ثم يبين دعوته بقوله "ذلك هو التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب وما للشعب من حق العدالة على الحكومة" (2) ثم يبين حالها "وجهرنا بهذا القول" (3) وحال الدولة "والاستبداد في عنفوانه والظلم قابض على صولجانه" (4) وحال الداعي "نعم أنني لم أكن الإمام المتبع ولا الرئيس المطاع غير أني كنت روح الدعوة" (5) وزاد هذه الدعوة اشتعالا اتصال صاحبها بالأفغاني الذي زادها اتساعاً وعمقاً ولم يلبث الأفغاني أن نفي من البلاد لهذا النشاط وعزل الإمام عن عمله وأجبر على الإقامة في بلده وبعد العفو عنه وعودته إلى العمل كانت في البلاد حركة ضد الاحتلال يقودها عرابي كان من أسبابها نشاط الأفغاني السابق نفي الإمام أن يكون له بها صلة بل إنه كان يحذرهم من هذا الأسلوب ويندد بزعمائها حتى أرسل إليه عرابي (6) من يتهدده ويعلل رشيد رضا رفض الإمام للحركة مع دعوته للإصلاح السياسي أنه كان يحاول ذلك برضا الأمير وحكومته لا بالخروج عليه (7) ولما استفحلت الحركة العرابية وضرب الأسطول الإنجليزي الإسكندرية انضم الشيخ محمد عبده إلى العرابيين وبعد القضاء على الثورة العرابية حكم على الإمام بالنفي ثلاث سنوات فاتجه إلى الشام ثم غادرها بعد ذلك إلى باريس حيث التقى هناك بالأفغاني وأنشئا جريدة (العروة الوثقى) التي كانت حربا على الاستعمار الإنجليزي وكانت الأفكار للأفغاني والعبارة للإمام (8) ثم توقفت الجريدة بعد فترة قصيرة واهتزت العلاقة بين الأستاذ وتلميذه فقد كان الأستاذ يرى الاستمرار في الإصلاح عن طريق الثورة السياسية واكتفى محمد عبده بما حصل له من السياسة ورأى التحول إلى أسلوب التربية والتعليم قائلاً لأستاذه "أرى أن نترك السياسة ونذهب إلى مجهل من مجاهل الأرض لا يعرفنا فيه أحد نختار من أهله عشرة غلمان أو أكثر من الأذكياء السليمي الفطرة فنربيهم على منهجنا ونوجه وجوههم إلى مقصدنا فإذا أتيح لكل واحد منهم تربية عشرة آخرين لا تمضي بضع سنين آخرى إلا ولدينا مئة قائد من قواد الجهاد في سبيل الإصلاح ومن أمثال هؤلاء يرجى الفلاح "فقال له السيد إنما أنت مثبط نحن قد شرعنا في العمل ولابد من المضي فيه ما دمنا نرى له منفذاً (9) فكان الفراق. وعاد الإمام إلى الشام وازدادت العلاقة سوءاً بين الأستاذ وتلميذه حينما كتب الثاني إلى الأول بعد استقراره في الآستانة كتاباً غفلاً من التوقيع وتلميحاً لبعض الأشخاص من غير ذكر أسمائهم فغضب السيد وكتب إليه يقول بعد الدعاء له بتثبيت الجأش "تكتب ولا تمضي وتعقد الألغاز .. إنك في آفاق مكفهرة .. وأمامك الموت .. لا ينفعك الحذر من الأول ولا ينجيك الخوف من الثاني فلا تضيق على نفسك فكن فيلسوفاً يرى العالم ألعوبة ولا تكن صبياً هلوعاً .. قوى الله قلبك" (10).ولعل هذا آخر ما كان بينهما من تواصل (11)   (1) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 12). (2) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 12). (3) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 12). (4) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 12). (5) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 12). (6) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 146). (7) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 149). (8) ((جمال الدين الأفغاني)) محمود أبو رية (ص 43) وانظر ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 289). (9) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 416 - 417). (10) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 897). (11) ((زعماء الإصلاح في العصر الحديث)) أحمد أمين (ص 115 - 116) .. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 بل ويوضح لنا انقطاع الصلة بينهما أنا لا نرى للإمام كلمة في رثاء أستاذه" (1).ونهج الأستاذ الإمام بعد عودته سبيل الإصلاح التعليمي وازداد كراهته للسياسة شدة وغمز في طريقة أستاذه بتخطئته أذكياء المسلمين الذين يريدون خدمة الإسلام من طريق السياسة (2) وبلغ كرهه للسياسة أوجه حين قال "أعوذ بالله من السياسة ومن لفظ السياسة ومن معنى السياسة ومن كل حرف يلفظ من كلمة السياسة ومن كل خيال ببالي من السياسة ومن كل أرض تذكر فيها السياسة ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يجن أو يعقل في السياسة ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس" (3) وليس بعد هذا كره للسياسة. بقي أن نقول هنا أنه ترك السياسة ولم تتركه بل استغلته واتخذته مطية لها وخداماً للإنجليز من حيث يدري أو من حيث لا يدري حيث يقول اللورد كرومر: "أن أهميته السياسية ترجع إلى أنه يقوم بتقريب الهوة التي تفصل بين الغرب وبين المسلمين وأنه هو وتلاميذ مدرسته خليقون بأن يقدم لهم كل ما يمكن من العون والتشجيع فهم الحلفاء الطبيعيون للمصلح الأوروبي" (4). المصلح الصحفي: شارك الإمام محمد عبده في الصحافة فبدأ الكتابة في (الأهرام) ثم كتب في (التجارة) وفي مصر بإيماء من أستاذه الأفغاني (5) الذي ساهم في إنشائهما وكانتا مع غيرهما من المجلات كـ (مرآة الشرق) طوع إشارة الأفغاني (6) ثم وبعد نفي السيد والعفو عن الإمام بعد عزله عن التدريس أسند إليه منصب التحرير لجريدة (الوقائع المصرية) وهي الجريدة الرسمية وقد أرادوا بهذا عزله عن الإصلاح والتعليم ولكنه قلب الموازين والمقاييس فجعلها منبراً لبث أفكاره وآرائه بعد أن عين رئيساً للتحرير فاختار لها محررين مهرة ووضع لها لائحة أنفذها رياض باشا وكان من أحكامها أن جميع الإدارات الحكومية مكلفة أن تكتب للجريدة بما عملت فأتمت وما شرعت فيه ولم تتمه وكذلك المحاكم وأن للجريدة الحق في نقد الأعمال والمكتوبات الرسمية والمراقبة على الجرائد العامة والتحقيق فيما تنشره من نقد فإن كان حقاً وجب عقاب المذنب وإن كان كذباً أنذر مدير الجريدة فإن تكرر ثلاثاً فلها منع إصدارها البتة أو إلى أجل ومن حقها أن يجعل فيها قسم غير رسمي ينشر فيه ما يرى نافعاً من المقالات الأدبية (7) فكان لها مكانة كبيرة في بث أفكاره ووقعت الثورة العرابية ونفي الشيخ، وأنشأ مع الأفغاني (العروة الوثقى) وكانت العبارة فيها كما قلنا سابقاً عبارته والفكرة فكرة الأفغاني وكانت لها مكانة في الكفاح ضد الاستعمار الإنجليزي. وعاد إلى سوريا وكان له مشاركة في الصحف السورية كجريدة (ثمرات الفنون البيروتية) وبعد عودته إلى مصر استشاره تلميذه السيد رشيد رضا في إصدار مجلة فأذن له وشارك في إنشائها واختار لها اسم (المنار) ووجه صاحبها إلى بعض الأمور وكانت تنشر دروسه وأخباره وتفسيره للقرآن الكريم. المصلح والتقريب بين الأديان: لا شك أن اليهودية العالمية "الصهيونية" لا تألوا جهدا في سبيل تثبيت أركانها وتوطيد قوائمها ولا تترك سبيلاً لتحقيق ذلك إلا انتهجته. ومهما كان من تناقض بين هذه المبادئ والمناهج فإنها تلتقي في النهاية عند خدمة الصهيونية العالمية.   (1) ((جمال الدين الأفغاني)) عبدالرحمن الرافعي (ص 132). (2) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (ص 425) الجزء الأول. (3) ((الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية)) محمد عبده (ص 111). (4) ( Modern Egypt),: Cromer (p. 180) (5) (( تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 45). (6) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 47). (7) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) للسيد محمد رشيد رضا (1/ 100 وما بعدها). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 فليست الرأسمالية إلا وليدة الصهيونية العالمية وليست نقيضتها الشيوعية إلا وليدة أفكارها ومبادئها وهما تلتقيان على خدمتها وترسيخ نفوذها مهما كان التناقض بينها ظاهراً. سعت الصهيونية إلى القضاء على الأديان كافة فأنشأت الماسونية وكانت لها محافل إنجليزية وفرنسية وغيرها وكلها قد يبدو ظاهرها أنها لا تخدم إلا من تنتسب إليه أما الإنجليز أو الفرنسيين مثلاً ولكنها في الحقيقة فوق هذا وذاك هي في خدمة الصهيونية العالمية. أرادت الصهيونية أن تفتح طريقاً جديداً لتحقيق أهدافها حين أدركت أن بعض القوم قد أدركوا حقيقة الماسونية وسعيها للقضاء على الأديان فأرادت وحتى تكون أكثر قرباً للمتدينين أن يكون هذا الطريق طريقاً دينياً بحتاً فأمرت أتباعها ببث فكرة التقريب بين الأديان والقضاء على الفوارق الدينية حتى يكون الناس كلهم أمة واحدة. وما تلكم الدعوة في حقيقتها إلا تذويب للأديان وامتصاص لعداوتها لليهودية وحينما يتم التقريب بين الأديان فإن العلمانية – حتما – هي النتيجة وحينئذ يسهل القضاء عليها لتزول الأديان كلها وتتحقق أهداف الماسونية من طريق جديد – بل أهداف الصهيونية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 غابت تلك الحقيقة عن أذهان كثير من المخدوعين بما ينتجه الغرب والمشدوهين بما يصدر منه من أفكار ومبادئ، أعماهم الإعجاب بالغرب عن التأمل فيما يبثه من أفكاره واكتفوا منه بصبغته الظاهرة للعيان. وكان من أولئك القوم المخدوعين رجال المدرسة العقلية الحديثة بزعامة أستاذهم وإمامهم محمد عبده فبعد أن توقفت (العروة الوثقى) وعاد الإمام إلى بيروت أنشأ فيها جمعية سياسية دينية سرية هدفها التقريب بين الأديان الثلاثة "الإسلام والمسيحية واليهودية" واشترك معه في تأسيسها ميرزا باقر، وبيرزداه، وعارف أبي تراب، وجمال بك نجل رامز بك التركي قاضي بيروت، ثم انضم إليها مؤيد الملك أحد وزراء إيران، وحسن خان مستشار السفارة الإيرانية بالآستانة، والقس إسحاق طيلر، وجي دبليو لينتر، وشمعون مويال، وبعض الانكليز واليهود وكان الإمام صاحب الرأي الأول في موضوعها ونظامها وميرزا باقر هو الناموس "السكرتير" العام لها (1) وهو إيراني تنصر وصار مبشراً نصرانياً وتسمى بميرزا يوحنا ثم عاد إلى الإسلام. ودعا أعضاؤها إلى فكرتهم في صحفهم ورسائلهم، وهذا الشيخ محمد عبده يكتب رسالة إلى القس إسحاق طيلر يقول فيها "كتابي إلى الملهم بالحق الناطق بالصدق حضرة القس المحترم إسحاق طيلر أيده الله في مقصده ووفاه المذخور من موعده" "إلى أن قال " .. ونستبشر بقرب الوقت الذي يسطع فيه نور العرفان الكامل فتهزم له ظلمات الغفلة فتصبح الملتان العظمتان المسيحية والإسلام وقد تعرفت كل منهما إلى الأخرى وتصافحتا مصافحة الوداد وتعانقتا معانقة الألفة، فتغمد عند ذلك سيوف الحرب التي طالما انزعجت لها أرواح الملتين (2) "ويقول:- "وإنا نرى التوراة والإنجيل والقرآن ستصبح كتباً متوافقة، وصحفا متصادقة يدرسها أبناء الملتين ويوقرها أرباب الدينين فيتم نور الله في أرضه ويظهر دينه الحق على الدين كله" (3)؟!! بينما يردد الشيخ محمد عبده هذا القول وأمثاله ينشر جي دبليولينتر مقال (الإسلام والمدارس المحمدية) في الديلي تلغراف اللندنية جاء فيه "وإحسان المسلمين لمواليهم وإشفاقهم على البهائم التي ترجع أيضاً إلى الرب وإنفاقهم في سبيل الخير والسذاجة التي هي من خصال المؤمنين الصادقين أحرى بأن تميلنا إليهم من أن نصيح على النبي الكاذب" (4) وقال أيضاً "وإن كنا نريد أن نلصق المسلمين بالدولة الإنكليزية فيجب علينا أن نهب لهم الدين والدنيا" (5) وقال "ومن جملة المساعي التي أؤكد الشروع فيها إدخال الشبان المسلمين ... في مدارسنا الحربية" (6). ويقول إسحاق طيلر "إن المسلمين قد آمنوا بالمسيح عليه السلام .. فهم عندنا مسيحيون نصلي لهم كل يوم أحد ونسأل الله أن يهديهم وإيانا إلى الحق وإلى طريق مستقيم" (7).   (1) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) للسيد رشيد رضا (1/ 819، 820، 828). (2) ((الأعمال الكاملة لمحمد عبده)) جمع وتحقيق محمد عمارة (2/ 363 - 364). (3) ((الأعمال الكاملة لمحمد عبده)) جمع وتحقيق محمد عمارة (2/ 363 - 364). (4) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) السيد محمد رشيد (1/ 820 - 822). (5) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) السيد محمد رشيد (1/ 820 - 822). (6) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) السيد محمد رشيد (1/ 820 - 822). (7) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) السيد محمد رشيد (1/ 826). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 أي تقريب هذا؟! الأول يضع نصب عينيه خدمة دولته الانكليزية فيصور حالة المسلمين كما فهمها ويرشدها إلى ألطف المداخل لإلصاق المسلمين بها وينصحها بالمزاوجة بين الدين والدنيا في حكمها ويشير عليها بتدريب الشبان المسلمين في مدارسها الحربية ليكونوا أعوانا لهم في تحقيق مساعيهم. أين التوفيق والتقريب؟!! اللهم إلا أن يكون إخضاع المسلمين للإنكليز وإيقاعهم في حبائلهم يعني توفيقاً" (1). أما الثاني فيكشف عن مراده بالمسلمين "فهم عندنا مسيحيون" ويصلي لهم كل يوم أحد ويسأل الله لهم الهداية. ولعل أول ثمرة يجنيها أولئك القوم في سعيهم إلى التقريب بين الأديان القضاء على فكرة الجهاد في الإسلام فما دامت الأديان الثلاثة كلها حق وليس بينها من فرق فليس هناك من داع لحمل السيف وإعلان الجهاد ضد النصارى مثلاً، وهو الأمر الذي أقلق بريطانيا كثيراً وهي دولة نصرانية فسعت بشتى السبل للقضاء على هذه العقيدة الإسلامية فأنشأت القاديانية التي حرمت قتال الإنجليز والبهائية كذلك، وأيدت حركة أحمد خان الذي أعلن أن قتال الإنجليز كفر وأن مساعدتهم واجبة. ومن أثر هذه الدعوة ما نراه بارزاً في حديث رجال المدرسة العقلية الحديثة من تقليل شأن الجهاد في نشر الإسلام وأنه قام على الدعوة باللسان "وعللوا كل حركة من حركاته بأنها للدفاع بمعناه الاصطلاحي الحاضر الضيق" (2) فلقد زعم السيد رشيد رضا "أن حروب النبي صلى الله عليه وسلم للكفار كانت كلها دفاعاً" (3). لذلك فلا عجب أن تؤيد انجلترا تلك الجمعية وذلك الاتجاه ما دام فيه تحقيق لهدف طال ما سعت إليه وبذلت فيه الغالي والنفيس وهو إبطال الجهاد. لن نحاسب رجال المدرسة العقلية بزعامة أستاذهم بحقيقة عصرنا التي كشفت زيف هذه الدعوات في توحيد الأديان ففي الوقت الذي يدعو فيه بعض المسلمين إلى التقريب بين الإسلام والنصرانية ويتنقلون بين باريس والفاتيكان تقوم بعض الدول النصرانية بإشعال نار الحرب الصليبية العاشرة في لبنان، لا للتقريب بين المسلمين والنصارى فيه بل لطرد المسلمين وانفراد النصارى به وإقامة دولة نصرانية في لبنان كالدولة اليهودية في فلسطين، ولا غرو أن تقوم الدولة اليهودية "إسرائيل" بمساعدة النصارى في ذلك وتمكينهم من قيام دولة لهم بجوارهم ففي ذلك تبرير لقيام إسرائيل اليهودية أولاً وحرب للإسلام ثانياً وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى [البقرة: 120]. ومع هذا تأبى طائفة منا أن تصدق بهذا وتحاول أن تخدع نفسها بتسميتها بحرب أهلية وما هي بأهلية ولكنها صليبية وليرحمك الله يا صلاح الدين .. لن نحاسب الإمام بهذه الحقيقة وحقائق غيرها كثيرة ولكننا نحاسبه بحقيقة الإسلام التي لا تخفى على مثله وعلى أمثال تلاميذه.   (1) ((الفكر الإسلامي المعاصر)) غازي التوبة (ص 21). (2) ((خصائص التصور الإسلامي)) سيد قطب (ص 18). (3) ((الوحي المحمدي)) للسيد محمد رشيد رضا (ص 272). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 جاور الرسول صلى الله عليه وسلم يهود المدينة سنوات دعاهم فيها إلى الإسلام ولم يدعهم إلى التوفيق أو التقريب. وحاج وفد من نجران الرسول صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى الإسلام ولم يدعهم إلى التوفيق أو التقريب، ولو علم خيراً أو بعض خير في ذلك لفعله (1).وكتب إلى هرقل عظيم الروم "أما بعد .. فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسين قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64] (2). وليست تلك الطريقة خاصة به صلى الله عليه وسلم بل هي "دعاية الإسلام" ولم يدعه إلى التقريب والتوفيق بل إلى "أسلم تسلم" كان الأحرى بمحمد عبده ومن نحا نحوه أن يدعوهم إلى الكلمة السواء امتثالاً لأمر القرآن – الذي حفظه في صغره – واقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم وكان الأحرى بالنصارى حاملي هذه الفكرة كشف الحقيقة الإسلامية لقومهم بدلاً من تزييفها وطمسها عنهم وبدلاً من استغلال أحوال المسلمين لتنصيرهم وإفساد شبابهم. نحاسبهم بقول محمد رشيد رضا الذي يرثي في جريدته (المنار) "خريستو غورس جباره" الذي وصل في الكنيسة الأرثوذكسية إلى رتبة الأرشمندريت بقوله "كان الفقيد موحداً يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والقرآن ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم ويخالف المسلمين في مسألة الصلب" يؤمن بالقرآن ويعتقد بالصلب!! ويؤمن بمحمد ولا يتبعه!! ويؤمن بالقرآن ولا يمتثل أوامره!! ثم يفوض السيد رشيد أمره في الآخرة إلى العليم الرحيم إلا أنه يندم على هذا فيستدرك في تاريخ الأستاذ الإمام ويقول "وأنا أعتقد أنه مؤمن ناج عند الله إذا كان قد مات على ما عرفته منه وهو في مسألة الصلب متأول معذور"!! (3). المصلح القاضي: وكان من إصلاحات الإمام إصلاح المحاكم الشرعية بعد أن عهدت إليه الحكومة بعد تقليده الإفتاء بتفتيشها وبيان رأيه في إصلاحها فكتب تقريراً في 83 صفحة كان من أهم الاقتراحات توسيع دائرة اختصاصها وعدم حصر منصب القضاء في الحنفيين وتأليف لجنة من العلماء لاستخراج كتاب في أحكام المعاملات الشرعية ينطبق على المصالح في هذا العصر (4) وإصلاح المحاكم وأثاثها وزيادة الرواتب والاستقلال بالرأي والعناية بتنفيذ أحكامها. المصلح الاجتماعي: أسس محمد عبده مع نفر من أصدقائه "الجمعية الخيرية الإسلامية وكان هو الواضع لمشروع نظامها وهدفها تربية أولاد الفقراء تربية يحافظون فيها على عقائدهم وآداب دينهم وأخلاقه وأعماله ويستعينون بها على معايشهم وتحصيل أرزاقهم (5) وقد فسر محمد عبده جزء عم لطلابها وكان في نيته أن يتبعه بتفسير جزء تبارك (6) وأدركته المنية قبل ذلك وقد اتسع نشاط هذه الجمعية وكثرت مدارسها وعم نفعها. وكان له من النشاط الإسلامي أيضاً جمعية إحياء الكتب العربية التي قامت بطبع بعض الكتب الدينية والعربية. وكتب لائحة في إصلاح المساجد وأوضاع القائمين بها من أئمة ومؤذنين وخدم وملاحظين وقراء، عمل ببعضها وترك الباقي.   (1) ((الفكر الإسلامي المعاصر)) غازي التوبة: (ص 22 - 23). (2) ((أعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين)) شمس الدين محمد بن طولون الدمشقي (ص: 12). (3) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) للسيد محمد رشيد رضا (1/ 827 - 828). (4) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 615 - 616). (5) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 731). (6) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 788). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 تفسيره: كان من أهداف محمد عبده تنقية تفسير القرآن مما علق به من الإسرائيليات والأحاديث الموضوعة والخرافات والاستطرادات النحوية ونكت المعاني ومصطلحات البيان وجدل المتكلمين وتخريجات الأصوليين واستنباطات الفقهاء المقلدين وتأويلات المتصوفين وتعصب الفرق وكثرة الروايات والعلوم الرياضية والطبيعية (1).ولم يكن تطهير التفاسير القديمة من هذا أمراً ميسوراً فهو تراث ضخم يحتاج تجريده منها إلى إمكانات واسعة من أموال وعلماء وزمن وذلك عسير فلهذا رأى أن يبقى على هذا التراث كما هو لما فيه من نفائس وأن يضع نموذجاً للتفسير يحتذيه معاصروه ومن بعدهم (2) فاقترح عليه تلميذه محمد رشيد رضا أن يقرأ درساً في تفسير القرآن فاستجاب له وبدأ التفسير في الأزهر في غرة المحرم 1317هـ وانتهى في سنة 1323هـ عند تفسيره قوله تعالى وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا من الآية 126 من سورة النساء وكان تفسيره الخمسة مجلدات الأولى من (تفسير المنار) وتوفي بعد ذلك. وقد كانت طريقته في الدرس التوسع فيما أغفله أو قصر فيه المفسرون واختصار ما برزوا فيه. والروايات التي لا تدل عليها ولا تتوقف على فهمها الآيات ويتوكأ في ذلك على عبارة (تفسير الجلالين) فكان يقرأ عبارته فينقدها أو يقرها ثم يتكلم بما يفتح الله عليه (3). وقد سبق له التفسير قبل هذا القاء وكتابه فألف (تفسير جزء عم) لطلبة الجمعية الخيرية الإسلامية كما سبق وألف (تفسيراً لسورة العصر) ألقاه في الجزائر ثم نشره في (المنار) وطبع بعد ذلك مستقلاً وهو غير تفسيرها في جزء عم. وكان يشرح بعض الآيات التي يثار حولها بعض الشبهات كالآيات 52 - 53 - 54 من سورة الحج وهي قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ إلى قوله سبحانه أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ فند فيها قصة الغرانيق وكقوله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ 37 من سورة الأحزاب ويفند الشبهات في مسألة زيد وزينب. ولن نعرض لمنهجه في التفسير إذ هو أصل منهج المدرسة الذي سنعرض له في محله إلا أنه ينبغي لنا أن نذكر هنا بيتا قاله في مرض موته ضمن أبيات: وخرج وحي الله للناس عاريا ... عن الرأي والتأويل يهدي ويلهم وعلق عليه تلميذه رشيد رضا بأنه "آخر نص صريح من الأستاذ الإمام في اتباع مذهب السلف في تفسير القرآن .. ومراده بالرأي الذي ينهى عنه أتباع الهوى .. وبالتأويل الخروج في تفسيره عن مدلول النظم العربي البليغ وما يخالف المحكم الذي هو أم الكتاب أو ما أجمع عليه أهل الصدر الأول" (4) فهل هو رجوع منه إلى منهج السلف عند وفاته. مؤلفاته: لم يكن الإمام يميل إلى التأليف بل كان يرى أن الكلام المسموع يؤثر في النفس أكثر مما يؤثر الكلام المقروء "ويعلل هذا "بأن نظر المتكلم وحركاته وإشارته ولهجته في الكلام كل ذلك يساعد على فهم مراده من كلامه" وأنه "يمكن السامع أن يسأل المتكلم عما يخفى عليه من كلامه فإذا كان مكتوباً فمن يسأل؟ وأن السامع يفهم 80% من مراد المتكلم والقارئ لكلامه يفهم منه 20% على ما أراد الكاتب" (5).   (1) ((تفسير المنار)) محمد رشيد رضا (1/ 7). (2) ((اتجاه التفسير في العصر الحديث)) مصطفى الحديدي (ص 22). (3) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 768). (4) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 1027). (5) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 766). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 كانت تلك نظرة الإمام ولعلها أثر من آثار أستاذه فيه ولكنه مع هذا خلف مؤلفات غير قليلة وكتب الكثير في الصحف فمن مؤلفاته غير ما سبق ذكره في تفسيره. 1 - (الواردات): أول تأليفه في الكلام أو التوحيد على الطريقة الصوفية وأسلوبهم. 2 - (رسالة في وحدة الوجود). 3 - (تاريخ إسماعيل باشا). 4 - (فلسفة الاجتماع والتاريخ) ألفه حينما كان مدرساً في دار العلوم وهي مفقودة. 5 - (حاشية عقائد الجلال الدواني في علم الكلام) ونشرتها دار إحياء الكتب العربية بتحقيق سليمان دنيا في مجلدين تحت عنوان (الشيخ محمد عبده بين الفلاسفة والكلاميين) سنة 1377هـ. 6 - (شرح نهج البلاغة) وهو الكتاب المنسوب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وطبع مراراً. 7 - (شرح مقامات بديع الزمان الهمذاني) وهو مطبوع. 8 - (شرح البصائر النصيرية في المنطق). 9 - (نظام التربية والتعليم بمصر).10 - (رسالة التوحيد) وهي أهم مؤلفاته وأشهرها على الإطلاق وطبعت مراراً وحازت على قبول كثير من النصارى فاقترح بعضهم تدريسها في مدارسهم بعد حذف مبحث نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وتبرع آخر بتوزيع بعض نسخها وقرظها بعضهم بإعجاب شديد ولم يسمح المؤلف لأحد أن يشرح هذه الرسالة ولا أن يضع لها حاشية وعلل هذا تلميذه رشيد رضا بأنه تعمد الإبهام في بعض المباحث (1). 11 - (تقرير المحاكم الشرعية). 12 - (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) وطبع مراراً. وقد سبق لنا القول في مؤلفات الأفغاني أنه قد وقع الخلط في بعض الرسائل المطبوعة بين ما للأفغاني وما لمحمد عبده كبحث (التعصب) مثلاً و (القضاء والقدر) و (الوحدة الإسلامية) وهي مقالات نشرت في (العروة الوثقى). أهدافه وآراؤه: يلخص لنا محمد عبده ما نادى به وارتفع صوته بالدعوة إليه بما نقتبس منه: الأول: تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف واعتباره من ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه وتقلل من خلطه وأنه على هذا الوجه يعد صديقاً للعلم. الثاني: إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير. الثالث: وهنا أمر آخر كنت من دعاته والناس جميعاً في عمى عنه وبعد عن تعقله ذلك هو "التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب وما للشعب من حق العدالة على الحكومة" (2). ثم يعلن النتيجة "إنني في كل ذلك لم أكن الإمام المتبع ولا الرئيس المطاع غير أني كنت روح الدعوة وهي لا تزال بي في كثير مما ذكرت قائمة ولا أبرح أدعو إلى عقيدتي في الدين.   (1) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 782 - 783). (2) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 11 - 12). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 وأطالب بإتمام الإصلاح في اللغة وقد قارب. أما أمر الحكومة والمحكوم فتركته للقدر يقدره ولِيَدِ الله بعد ذلك تدبره" (1).وصلة العقل عند الإمام بالدين وثيقة "أن العقل وحده لا يستقل بالوصول إلى ما فيه سعادة الأمم بدون مرشد إلهي" (2) وقد أكرم الإسلام العقل "ورفع القرآن من شأن العقل ووضعه في مكانه بحيث ينتهي إليه أمر السعادة والتمييز بين الحق والباطل والضار والنافع" (3) بل إن الإسلام عنده يعتمد على الدليل العقلي ويحتج به لا بالمعجزات:- "فالإسلام في هذه الدعوة والمطالبة بالإيمان بالله ووحدانيته لا يعتمد على شيء سوى الدليل العقلي والفكر الإنساني الذي يجري على نظامه الفطري فلا يدهشك بخارق للعادة ولا يغشى بصرك بأطوار غير معتادة ولا يخرس لسانك بقارعة سماوية ولا يقطع حركة فكرك بصيحة إلهية" (4).ليس هذا فحسب بل يعتمد الإمام أن الإيمان بالله لا يؤخذ من الرسول ولا من الكتاب ولا يصح أخذه منهما بل من العقل "وقد اتفق المسلمون إلا قليلاً ممن لا يعتد برأيه فيهم – على أن الاعتقاد بالله مقدم على الاعتقاد بالنبوات وأنه لا يمكن الإيمان بالرسل إلا بعد الإيمان بالله فلا يصح أن يؤخذ الإيمان بالله من كلام الرسل ولا من الكتب المنزلة فإنه لا يعقل أن تؤمن بكتاب أنزله الله إلا إذا صدقت قبل ذلك بوجود الله وبأنه يجوز أن ينزل كتاباً ويرسل رسولاً" (5).أما إذا تعارض العقل والنقل عنده فقد "اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلاً ممن لا ينظر إليه على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل" (6).وتولد من رأيه هذا في صلة العقل بالدين أن دعا إلى الاجتهاد ونبذ التقليد وإطراحه فقد "أنحى الإسلام على التقليد وحمل عليه حملة لم يردها عنه القدر فبددت فيالقه المتغلبة على النفوس" (7) و"علا صوت الإسلام على وساوس الطغام وجهر بأن الإنسان لم يخلق ليقاد بالزمام ولكنه فطر على أن يهتدي بالعلم والإعلام – أعلام الكون ودلائل الحوادث – وإنما المعلمون منبهون ومرشدون وإلى طريق البحث هادون" (8) وأن الإسلام "صرف القلوب عن التعلق بما كان عليه الآباء وما توارثه عنهم الأبناء وسجل الحمق والسفاهة على الآخذ بأقوال السابقين" (9). وقد كان لهذا المنهج أثره في حياة السيد الإمام في أعماله وأقواله فلم يقبل بالحالة التي كان عليها الأزهر لأنها قائمة على التقليد فدعا إلى الإصلاح والتجديد ورأى الجفوة بين العالمين الإسلامي وغير الإسلامي فدعا إلى التقريب وساءته حال التربية والتعليم فدعا إلى التهذيب ونظر نظرة في السياسة أبدى فيها رأيه ولا نريد الإطالة فقد تقدم البيان. ما يؤخذ عليه: ليس من السهل ذكر أكثر المآخذ على الشيخ محمد عبده فضلاً عن ذكرها جميعاً، وتقدم ذكر بعضها بما يغني عن إعادته ونذكر هنا منها. اشتراكه مع أستاذه الأفغاني في المحافل الماسونية ونشاطه فيها وتعاونه مع أستاذه في نشر مبادئها.   (1) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 11 - 12). (2) ((رسالة التوحيد محمد عبده)) (ص 128 - 129). (3) ((رسالة التوحيد محمد عبده)) (ص 19). (4) ((الإسلام والنصرانية محمد عبده)) (ص 54 - 55). (5) ((الإسلام والنصرانية محمد عبده)) (ص54 - 55). (6) ((الإسلام والنصرانية محمد عبده)) (ص59). (7) رسالة التوحيد محمد عبده)) (ص157 - 158). (8) رسالة التوحيد محمد عبده)) (ص157 - 158). (9) رسالة التوحيد محمد عبده)) (ص157 - 158). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 ويرد على من يدافع عن انتمائه إلى الماسونية بمثل ما رددنا به على من يدافع عن الأفغاني بل هو في محمد عبده أكثر قوة ووضوحاً لتأخر وفاة الشيخ عبده عن الأفغاني وقد كان الشيخ عبده يحتفظ ببعض كتب الماسونية في منزله بخط الأفغاني وقد صودرت أثناء سجنه بمصر. وقد صدرت منه عبارات كعبارات أستاذه الأفغاني تفوح منها رائحة تجاهل الإسلام والدعوة إلى الفرعونية المصرية فمن ذلك قوله "كنت فيمن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على حاكمها وهي هذه الأمة لم يخطر لها هذا الخاطر على بال من مدة تزيد على عشرين قرناً" (1) قال هذا القول وهو في القرن الرابع عشر الهجري أو العشرين الميلادي وعلى كلا الأمرين يكون قفز بقوله الحكم الإسلامي بأكمله! فمتى عرفت هذه الأمة ذلك إذا لم تكن عرفته في الإسلام؟! لا شك أن الدعوة إلى القومية الوطنية إنما هي أيضاً وليدة الماسونية التي تسعى إلى القضاء على الأديان، ولذلك يلاحظ كل من ينظر في سيرة هذا الرجل مظاهر دعوته إلى القومية العربية في سمتين بارزتين: الأولى – أن الشيخ محمد عبده هو الذي صاغ برنامج الحزب الوطني المصري وجاء فيه في المادة الخامسة منه "الحزب الوطني حزب سياسي لا ديني فإنه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب، وجميع النصارى واليهود وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها منضم إليها" (2).وفي سنة 1888م ثارت في مصر مناقشات صحفية حول تعصب الأقباط في مصر ضد المسلمين فكتب الشيخ محمد عبده مدافعاً عن الأقباط "ليس من اللائق بأصحاب الجرائد أن يعمدوا إلى أحدى الطوائف المتوطنة في أرض واحدة فيشملوها بشيء من الطعن أو ينسبوها إلى شائن من العلم تعللا بأن رجلا أو رجالاً منها قد استهدفوا لذلك ... " (3).ومن أقواله "أن خير أوجه الوحدة الوطن لامتناع الخلاف والنزاع فيه" (4) وغاب عن ذهنه أن خير أوجه الوحدة الدين.   (1) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) محمد رشيد رضا (1/ 12). (2) ((الأعمال الكاملة للإمام)) محمد عبده: جمع وتحقيق محمد عمارة (1/ 107). (3) ((الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده)) - جمع وتحقيق محمد عمارة (1/ 108). (4) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) محمد رشيد رضا (2/ 194). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 السمة الثانية: مطالبته باستقلال العرب عن الأتراك:-فقد أرسل لويس صابونجي برقية على مستر بلنت أوردها الأخير في تأريخه السري لاحتلال إنجلترا مصر جاء فيها أن "نديم وعرابي وعبده يتحدون الباب العالي علنا" (1) ويقول بلنت أيضاً في تأريخه هذا "وقد سمعت سامي وعبده ونديما يلعنون السلاطين والأمم التركية من عهد جنكيز خان وهولاكو إلى عبد الحميد وقد ألف حزب كبير يستعد لإعلان الاستقلال عن تركيا إذا تدخل الأتراك في مصر تدخلاً حربياً ... " (2) وهذا الموقف هو الذي يفسر لنا معنى تلك البرقية التي أرسلها الخديو توفيق إلى السلطان العثماني في نوفمبر سنة 1881 يقول له فيها "أن مصر في حالة ثورة وأن هناك اقتراحا لإنشاء إمبراطورية عربية" (3).وهو مع عداوته للأتراك وللخلافة الإسلامية قد يعلن تأييده للخلافة الإسلامية والدولة العثمانية ولكنه إعلان نفاق وتزلف لأنه إنما يعلن هذا حينما يكون في نطاق النفوذ المباشر للسلطان العثماني والسلطة العثمانية فإذا خرج من ذلك عاد إلى رأيه القديم في هذه الدولة وهذا السلطان (4) فهو يقول في تأييد الخلافة "وإني على ضعفي – والحمد لله – مسلم العقيدة عثماني المشرب وإن كنت عربي اللسان ولا أجد في فرائض الله بعد الإيمان بشرعه والعمل على أصوله فرضاً أعظم من احترام مقام الخلافة والاستمساك بعصمته والخضوع لجلالته وشحذ الهمة لنصرته بالفكر والقول والعمل ما استطعت إلى ذلك سبيلاً وعندي أني إن لم أقم على هذه الطريق فلا اعتداد عند الله بإيماني فإنما الخلافة حفاظ الإسلام ودعامة الإيمان فخاذلها محاد الله ورسوله ومن حاد الله ورسوله فأولئك هم الظالمون" (5).ومن أثر هذا الاتجاه أيضاً اتجاهه إلى إنشاء جمعية "سرية" للتقريب بين الأديان ودفاعه القوي عنها وعن أعضائها حتى في وجه الخلافة الإسلامية، كتب مدافعاً عن إسحاق طيلر قائلاً "إن السر في غضب السلطان عبدالحميد من نشاط القس الإنجليزي إسحاق تيلور في الدعوة لتوحيد الأديان وموافقتي وميرزا باقر وعلماء دمشق له ومراسلتنا إياه أنه خشي أن يعتنق الإنجليز الإسلام، ثم يطلبوا أن يكونوا أصحاب الدولة في الإسلام وتكون الملكة فيكتوريا ملكة المسلمين .. ويذهب السلطان من السلطان .. وسبحان مدبر العقول" (6).فانظر إلى أي مدى وصل دفاعه عن قس إنجليزي يقول "إن المسلمين قد آمنوا بالمسيح عليه السلام .. فهم عندنا مسيحيون نصلي لهم كل يوم أحد نسأل الله أن يهديهم وإيانا إلى الحق وإلى طريق مستقيم" (7). ثم انظر إلى هذا الاتهام السخيف من عبده إلى السلطان عبد الحميد؟! ولا ندري هل قال الشيخ عبده هذا عن اعتقاد صحيح أو خداع للقارئ.   (1) ((التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر)) للمستر بلنت (ص 249). (2) ((التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر)) للمستر بلنت (ص249). (3) ((الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده)) جمع وتحقيق محمد عمارة (1/ 113). (4) ((الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده)) جمع وتحقيق محمد عمارة (2/ 522 - 523. (5) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) للسيد محمد رشيد رضا (2/ 522 - 523. (6) ((الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده)) جمع وتحقيق محمد عمارة (1/ 735. (7) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) محمد رشيد رضا (1/ 826. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 أما عن نشاطه في هذه الجمعية فقد تقدم بيانه. ومن أهم المآخذ عليه علاقته المريبة بالإنجليز كأستاذه الأفغاني فقد كان الإمام محمد عبده يبذل لهم النصيحة خالصة ويرشدهم إلى ما يوطد دعائم احتلالهم ويحذرهم من الأخطاء التي يكادون أن يقعوا فيها وتضرهم في مصالحهم، نذكر لذلك مثلا بعزيمة اللورد كرومر على إلغاء النيابة العامة وإحالة أعمالها إلى القضاء، فحذره محمد عبده بأن هذا خطأ لا يحتمل الصواب وعلل ذلك بأن رجال النيابة من أرقى رجال البلاد علما وعقلاً ولسانا وقلما وستتوجه همة كل من تلغى وظيفته إلى الاشتغال بالسياسة فيتعبون البلاد والمسؤولين عن النظام تعباً كبيراً" (1) فأبطل اللورد المشروع فوراً. بل ويدل على ما قدمه لهم من خدمات دفاعهم عنه والوقوف بجانبه فقد صرح اللورد كرومر بأن الشيخ محمد عبده يظل مفتياً في مصر ما ظلت بريطانيا العظمى محتلة لها" (2) وكان الاحتلال الإنجليزي عاملاً أساسياً من عوامل عودة محمد عبده إلى مصر وقد صرح اللورد كرومر بذلك في كتابه (مصر الحديثة) فقال: إن العفو صدر عن محمد عبده بسبب الضغط البريطاني" (3).وقدم له الإنجليز الحماية في الآستانة حين كثرت الدسائس ضده يقول تلميذه السيد رشيد رضا "كان المراد من الدسائس ... أن يحبس الأستاذ الإمام أو يهان وهم لا يجهلون أن السفارة البريطانية كانت بالمرصاد وأنها لا تسكت للحكومة الحميدية على ذلك لو أقدمت عليه والسلطان ورجاله لا يجهلون هذا أيضا" (4). ويكتب الشيخ عبده نفسه إلى السيد رشيد قائلاً "إن السلطان لا يستطيع حبسي لو أراده وهو يعلم عجزه عن ذلك حق العلم ولذلك أسباب لا أحب ذكرها الآن" (5). فأي علاقة تربطه بالإنجليز حتى يوفروا له كل هذه الحماية؟! وأي أسباب لا يحب الشيخ محمد عبده ذكرها؟! ثم لا ندري كيف تستقيم عقيدة الرجل وقد كلت أبصارنا من قراءة عبارات له خطيرة يبدو الانحراف ظاهراً في عقيدة قائلها. فمن ذلك ما ورد في كتابه الذي أرسله من السجن إلى أحد مريديه" ... ودارت الأفلاك دورة العكس ذاهبة بنيراتها إلى عوالم غير عالمنا هذا فولى معها آلهة الخير أجمعين وتمخضت السلطة لآلهة الشر" (6). ولا يصح تخريج تلميذه رشيد لهذا بأنه على الحكاية لخرافات اليونانيين وهو إن كان قال هذا عن اعتقاد فلا شك في كفره إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ [الصافات: 4]. ومن ذلك ما كتبه إلى أستاذه الأفغاني قائلاً: "ليتني كنت أعلم ماذا أكتب إليك، وأنت تعلم ما في نفسي كما تعلم ما في نفسك، صنعتنا بيديك وأفضت على موادنا صورها الكمالية وأنشأتنا في أحسن تقويم فيك عرفنا أنفسنا وبك عرفناك وبك عرفنا العالم أجمعين فعلمك بنا كما لا يخفاك علم من طريق الموجب وهو علمك بذاتك وثقتك بقدرتك وإرادتك، فعنك صدرنا وإليك إليك المآب.   (1) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) محمد رشيد رضا (1/ 922. (2) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) محمد رشيد رضا (1/ 501، 564. (3) الفكر الإسلامي المعاصر: غازي التوبة (ص 45). (4) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 860). (5) ((الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده)): محمد عمارة (1/ 117. (6) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) رشيد رضا (1/ 267. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 أوتيت من لدنك حكمة أقلب بها القلوب وأعقل العقول، وأتصرف بها في خواطر النفوس ومنحت منك عزمة أتعتع بها الثوابت وأذل بها شوامخ الصعاب وأصدع بها حل المشاكل وأثبت بها في الحق للحق حتى يرضى الحق، وكنت أظن قدرتي بقدرتك غير محدودة ومكنتي لا مبتوتة ولا مقدورة فإذا أنا من الأيام كل يوم في شأن جديد" ويقول "فصورتك الظاهرة تجلت في قوتي الخيالية وأمتد سلطانها على حسي المشرك وهي رسم الشهامة وشبح الحكمة وهيكل الكمال فإليها ردت جميع محسوساتي وفيها فنيت مجامع مشهوداتي وروح حكمتك التي أحييت بها مواتنا وأنرت بها عقولنا ولطفت بها نفوسنا التي بطنت بها فينا فظهرت في أشخاصنا فكنا أعدادك وأنت الواحد وغيبك وأنت الشاهد ورسمك الفوتوغرافي الذي أقمته في قبلة صلاتي رقيباً على ما أقدم من أعمالي ومسيطراً عليّ ولا انثنيت عن نهاية حتى تطابق في عملي أحكام أرواحك وهي ثلاثة فمضيت على حكمها سعياً في الخير وإعلاء لكلمة الحق وتأييداً لشوكة الحكمة وسلطان الفضيلة ولست في ذلك إلا آله لتنفيذ الرأي المثلث ومالي من ذاتي إرادة حتى ينقلب مربعاً غير أن قواي العالية تخلت عني في مكاتبتي إليك وخلت بيني وبين نفسي التزاماً لحكم أن المعلول لا يعود على علته بالتأثير على أن ما يكون إلى الموالى من رقائم عبده ليس إلا نوعا من التضرع والابتهال لا أحسب فيه ما يكشف خفاء أو يزيد جلاء ومع ذلك فإني لا أتوسل إليك في العفو عما تجده من قلق العبارة وما تراه مما يخالف سنن البلاغة بشفيع أقوى من عجز العقل عن أحداق نظره إليك وإطراق الفكر خشية منك بين يديك، وأي شفيع أقوى من رحمتك بالضعفاء وحنوك لمغلوبي الصديقين"، ويقول أيضاً "أما ما يتعلق بنا فإني على بينة من أمر مولاي وإن كان في قوة بيانه ما يشكك الملائكة في معبودهم والأنبياء في وحيهم ولكن ليس في استطاعته أن يشك نفسه في نفسه ولا أن يقنع عقله إلا على بالمحالات وإن كان في طوعه أن يقنع بها من أراد من الشرقيين والغربيين. هذا بعض ما ورد في خطاب محمد عبده إلى أستاذه الأفغاني بتاريخ 5 جمادى الأولى سنة 1300هـ وهي عبارات ولا شك خطيرة توجب إعادة النظر في عقيدة الرجل عند من لا تخدعه الأسماء وقد استغرب السيد رشيد رضا نفسه هذه الرسالة من أستاذه حيث قال عند سياقه لها:-"ومن كتاب له إلى السيد جمال الدين عقب النفي من مصر إلى بيروت وهو أغرب كتبه بل هو الشاذ فيما يصف به أستاذه السيد مما يشبه كلام صوفية الحقائق والقائلين بوحدة الوجود التي كان ينكرها عليهم بالمعنى المشهور عنهم، وفيه من الإغراق والغلو في السيد ما يستغرب صدوره عنه وإن كان من قبيل الشعريات وكذا ما يصف به نفسه بالتبع لأستاذه من الدعوى التي لم تعهد منه البتة" (1) ثم ساق نص الخطاب، ولم يلتزم السيد رشيد رضا الدقة كلها في نقل الرسالة فنراه يحذف بعض العبارات الخطيرة ويضع نقطاً وأحياناً لا يضع حتى النقط ويحاول حيناً أن يلطف من شدة انحراف بعض العبارات بتأويلات متكلفة، أما حذفه بعض العبارات فلعله وضع لنفسه مبرراً لذلك فقال في تقديم الخطاب "ومن كتاب له إلى السيد جمال الدين".   (1) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) للسيد محمد رشيد رضا (2/ 599). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 هذه عبارات ولا شك خطيرة ولكن ما هو أخطر وأشد ضلالا ما ورد في خطاب آخر منه إلى السيد الأفغاني بتاريخ 8 شعبان سنة 1300هـ وإني لأدعو القارئ أن يمعن النظر في كل حرف أنقله من الرسالة: "أما الآن قد حبسني الجناب العالي نتيجة لأعماله فإني أصدع بأفكاري قواعد الملكوت وأزعزع بهمتي أركان سطوة الجبروت وأدعو إلى الحق دعوة الحكيم ... "ثم يقول" بلغنا قبل وصول كتابكم الكريم ما نشر في "الدبا" من دفاعكم عن الدين الإسلامي "يا لها من مدافعة" ردا على مسيو رينان فظنناها من المداعبات الدينية تحل عند المؤمنين محل القبول فحثنا بعض الدينيين على ترجمتها لكن حمدنا الله تعالى إذ لم يتيسر له وجود إعداد "الدبا" حتى ورد كتابكم وأطلعنا على العددين ترجمهما لنا حضرة الفاضل حسن أفندي بيهم فصرفنا ذهن صاحبنا الأول عن ترجمتها وتوسلنا في ذلك بأن وعدناه أن الأصل العربي سيحضر فإن حضر نشر ولا لزوم للترجمة فاندفع المكروه والحمد لله". ثم قال في عبارة أشد انحرافاً وأدعى إلى تقييم عقيدته "نحن الآن على سنتك القويمة لا تقطع رأس الدين إلا بسيف الدين ولهذا لو رأيتنا لرأيت زهاداً عباداً ركعا سجداً لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل. عجباً!! نحن الآن على سنتك القويمة: لا تقطع رأس الدين إلا بسيف الدين – ولهذا لو رأيتنا لرأيت زهاداً عباداً .. ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل؟! هل هي دعوة باطنية يخفيها الرجلان ويسعيان تحت ستارة الدين و "بسيف الدين" لقطع "رأس الدين"؟! وقيامهم بالصلاة أمام الناس هل هو سعي إلى القبض على سيف الدين؟! ثم تركها للصلاة بعض الأحيان هل هو تنفيس "لضيق العيش" وعودتهم إليها حينا لأجل "فسحة الأمل". عاتب الشيخ يوسف النبهاني السيد رشيد رضا على صحبته لمحمد عبده وتسميته له بالأستاذ الإمام مع تركه للحج ولفروض الصلاة ولاشتراكه في الماسونية فقال نظماً: وذاكرته في شيخه وهو عبده ... تملكه للشيطان عن قومه قسرا فقلت له لو كابن سينا زعمتم ... وعالم فاراب وأرفعهم قدرا لقلنا لكم حقا وإن كان باطلاً ... ولم نر من هذا على ديننا ضرا ولكنكم مع تركه الحج مرة ... وحج لباريز ولندره عشرا ومع تركه فرض الصلاة ولم يكن ... يسر بذا بل كان يتركها جهرا ومع كونه شيخ المسون مجاهراً ... بذلك، لا يخفى أخوتهم سرا ومع غي هذا من ضلالاته التي ... بها سار مثل السهم للجهة الأخرى تقولون أستاذ إمام لديننا ... فما أكذب الدعوى وما أقبح الأمرا ونحن نراه عندنا شر فاسق ... فيقتل فسقاً بالشريعة أو كفراً (1)   (1) ((الرائية الصغرى في ذم البدعة ومدح السنة الغراء)) ضمن كتاب ((العقود اللؤلؤية في المدائح النبوية)) وكلاهما للشيخ يوسف النبهاني (ص 383). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 أما عن الشيخ الأفغاني فيقول الشيخ يوسف النبهاني "أنه اجتمع به سنة 1297هـ في مصر حين كان مجاوراً بالأزهر ولازمه من قبل الغروب على قرب العشاء فلم يصل المغرب" (1).ومن أقوال الشيخ محمد عبده التي نؤاخذه عليها وصفه للأزهر بالإسطبل والمارستان والمخروب (2) وقوله لتلميذه رشيد "أن من تطول مدة طلبه للعلم في الأزهر وأمثاله فإنه يفقد الاستعداد للعلم" (3).نشر محمد أحمد خلف الله كتابه (الفن القصصي في القرآن الكريم) زعم فيه أن ورود الخبر في القرآن لا يقتضي وقوعه وأنه يذكر أشياء وهي لم تقع ويخشى القرآن (!!) من مقارنة أخباره بحقائق التاريخ وقال "إنا لا نتحرج من القول بأن القرآن أساطير" (4). وعندما رفضت جامعة فؤاد هذه الرسالة دافع عنها أمين الخولي المشرف على الرسالة قائلاً "إنها ترفض اليوم ما كان يقرره الشيخ محمد عبده بين جدران الأزهر منذ اثنين وأربعين عاماً" (5). ونشر قاسم أمين كتابه (تحرير المرأة) وفيه دعوة إلى نبذ الحجاب وإطراحه وإلى خروج المرأة إلى العمل في كل المجالات ودراسة كل العلوم وزعموا أن هذا تحرير المرأة وهو في الحقيقة تخريب للمرأة وتحرير لها من الكرامة التي صانها لها الإسلام. وقصة الكتاب تبدأ حينما نشر أحد الكتاب الفرنسيين مقالا هاجم فيه حجاب المرأة المصرية فكتب قاسم أمين دفاعاً عن الحجاب أغضب اللورد كرومر الذي جاء إلى مصر كما قال ليمحو ثلاثاً القرآن والكعبة والأزهر (6) فأمر بوضع كتاب (تحرير المرأة) وقيل أن الذي أمر بوضعه الأميرة نازلي حفيدة إبراهيم باشا لأنها غضبت من دفاع قاسم أمين عن الحجاب "والذين نسبوا الأمر إلى اللورد كرومر والذين نسبوه إلى "نازلي" يتفقون أن الأمر قد صدر إلى الشيخ محمد عبده، وأنه قد قام بدور كبير في تأليف الكتاب .. بل يرى بعضهم أنه هو الذي ألفه، ثم وضع على غلافه اسم قاسم أمين تجنباً للحرج والعاصفة التي كانت ستهب عليه مباشرة إذا ما وضع اسمه عليه، وهو الشيخ الأزهري ذو المناصب الدينية الكبرى، ومنها منصب مفتي الديار المصرية" (7).ولذلك فلا عجب أن يقول الأستاذ محمد عمارة الذي جمع مؤلفات ومقالات محمد عبده في كتاب (الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده) في ستة مجلدات بعد تحقيق دقيق لنسبتها إلى محمد عبده لا عجب أن يقول "والرأي الذي أؤمن به والذي نبع من الدراسة لهذه القضية هو أن هذا الكتاب إنما جاء ثمرة لعمل مشترك بين كل من الشيخ محمد عبده وقاسم أمين .. وأن في هذا الكتاب عدة فصول قد كتبها الأستاذ الإمام وحده، وعدة فصول أخرى كتبها قاسم أمين ثم صاغ الأستاذ الإمام الكتاب صياغته النهائية، بحيث جاء أسلوبه على نمط واحد هو أقرب إلى أسلوب محمد عبده منه إلى أسلوب قاسم أمين" (8) ثم ذكر بعد هذا مجموعة كبيرة من الأدلة على ذلك قدم بين يديها عددا من القرائن.   (1) ((الرائية الصغرى في ذم البدعة ومدح السنة الغراء)) ضمن ((كتاب العقود اللؤلؤية في المدائح النبوية)) وكلاهما للشيخ يوسف النبهاني (ص 372). (2) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 495). (3) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 181). (4) ((الفن القصصي في القرآن الكريم)) محمد أحمد خلف الله (ص 180). (5) ((الفن القصصي في القرآن الكريم)) محمد أحمد خلف الله: تقديم أمين الخولي ص ح. (6) ((الخنجر المسموم الذي طعن به المسلمون)) أنور الجندي (ص 29). (7) ((الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده)) جمع وتحقيق محمد عمارة (1/ 247 - 248). (8) ((الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده)) جمع وتحقيق محمد عمارة (1/ 252). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 منها موقف الأستاذ الإمام من الكتاب بعد صدوره فلقد أيده ودافع عنه بطريقة غير مباشرة وامتنع عن التعليق عليه أو المشاركة بشكل مباشر في المعارك التي دارت من حوله وبالذات عندما أراد خصومه إحراجه وطلبوا منه أن يفتي – منصبه الرسمي – في الموضوع. أما دفاعه غير المباشر فيتمثل في وقوع الشيخ رشيد رضا ومجلة (المنار) إلى جانب الكتاب فلقد تناولت (المنار) الكتاب بالمدح والتقريظ في أكثر من مرة واعتبرته مع (رسالة التوحيد) للأستاذ الإمام و (سر تقدم الإنجليز السكسونيين) الذي ترجمه فتحي زغلول أهم الأعمال الفكرية في ذلك العصر "المناصر 1 يوليو 1899م" كما تناولته بالثناء في عددي 15 يوليو 26 أغسطس من العام نفسه" (1).ووصف السيد رشيد رضا قاسم أمين بأنه العالم البارع في علوم الأخلاق والاجتماع (2). وحينما أراد خصوم الشيخ إحراجه طبعوا سؤالاً موجهاً إليه هو: "هل رفع الحجاب عن المرأة وإطلاقها في سبيل حريتها بالطريقة التي يريدها صاحب كتاب (المرأة الجديدة) يسمح به الشرع الشريف أم لا؟ "ووزعوا هذا السؤال على الجمهور في صورة كتاب مفتوح إلى المفتي محمد عبده. عندما فعلوا هذا لزم الشيخ محمد عبده الصمت ودافعت (المنار) عن هذا الصمت قائله: 1 - إن الاستفتاء جاء على خلاف المعهود بأن وزع على الجمهور. 2 - أن الجواب عليه يستلزم قراءة الكتاب في حين أن المفتي مثقل بالأعمال (!!). 3 - أن من اطلع على الفتوى يحتاج إلى أن يقرأ الكتاب أولاً فإذا كان ضاراً تكون الفتوى سبباً في إذاعة الضرر (!!).4 - أن فتوى الإمام ستكون على المذهب الحنفي الذي عينته الحكومة ليفتي على أساسه في حين أن بعض المذاهب قد أباحت كشف المرأة لوجهها ويديها (3).أما الفصول التي أثبت الأستاذ محمد عمارة أنها للشيخ محمد عبده فهي "الحجاب الشرعي" و" الزواج" و"تعدد الزوجات" و"الطلاق" ثم قال عنها "إنما هي فكر خالص وصياغة خالصة للأستاذ الإمام" (4) وأقول أن هذه الفصول هي أهم ما في الكتاب. ومن هنا ندرك أن الشيخ محمد عبده يقف خلف هذه الدعوة ولذلك نرى الشيخ مصطفى صبري يكتب تحت عنوان (الأستاذ الإمام وكتاب الله في كفي الميزان) فيقول:- "وإني أرى الرسالة المستنكرة – يعني (رسالة الفن القصصي في القرآن الكريم) – وما سبقها في مصر من الأحداث والفتن المماثلة الماسة بدين الإسلام وعقائده والمحفوظة إلى عصر الشيخ محمد عبده كلها ناشئة عن الأسس التي ابتدعها هذا الشيخ الملقب بالأستاذ الإمام ... فلا مناص إذن للقضاء على تيار الفتنة من مصدرها من أن تفصل الدعوى مع الإمام دون المؤتمين" (5). المصدر: المدرسة العقلية الحديثة في التفسير لفهد الرومي - ص 124 ومن رواد هذه المدرسة وتلاميذ الشيخ محمد عبده: - محمد رشيد رضا الذي بدأ يتحول تدريجيا من منهج المدرسة العقلية إلى منهج السلف ولعل بداية التحول, أعقبت وفاة أستاذه محمد عبده, فقد صار يهتم بطبع كتب السلف في مطبعة المنار, مثل كتب ابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب ونحوهم. - ومن أعلام هذه المدرسة, الشيخ محمد مصطفى المراغي, شيخ الجامع الأزهر, وكان من أكبر تلاميذ الإمام محمد عبده. - ومنهم: الشيخ محمود شلتوت, وأحمد المراغي, وعبد العزيز جاويش, ومحمد فريد وجدي وغيرهم. هذا وإن اجتهادات الشيخ وكبار تلاميذه, مما خالفوا فيه الجمهور مع فتح باب الاجتهاد العصراني, أدت إلى ظهور طبقة من تلامذة الشيخ, كان لها انحرافات حادة في مجال الأسرة: مثل قاسم أمين في كتابه (المرأة الجديدة) و (تحرير المرأة). وعلي عبد الرزاق في السياسة الشرعية, إذ دعا إلى فصل الدين عن الدولة على غرار النصارى (6) , وفي أمور أخرى. المصدر: العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب لمحمد حامد الناصر – ص 41   (1) ((الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده)) جمع وتحقيق محمد عمارة (1/ 255). (2) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) للسيد محمد رشيد رضا (1/ 1051). (3) ((مجلة المنار)) المجلد 4 (1/ 33 - 34) في غرة ذي القعدة 1318هـ. (4) ((الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده)) جمع وتحقيق محمد عمارة (1/ 258). (5) ((موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين)) مصطفى صبري (1/ 346). (6) انظر ((مفهوم تجديد الدين)) بسطامي محمد سعيد (ص 143 - 146) و (ص147 - 150). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 المبحث الرابع: أثرها في الفكر الإسلامي الحديث أ- ففي التفسير للقرآن الكريم: أخذ بعض من تناول تفسير القرآن الكريم بعض مبادئ هذه المدرسة وسار على نهجها في تفسيره سواء التزم الحدود التي حددوها أم تجاوزها إلى ما هو أبعد وأعمق، فلقد كان تفسير القرآن الكريم تفسيراً يتلاءم مع كثير من المكتشفات العلمية الحديثة محل عناية واهتمام كبيرين يتلاءم مع كثير من المكتشفات العلمية الحديثة محل عناية واهتمام كبيرين من قبل رجال المدرسة العقلية وكان من أسس منهجهم في التفسير كما بينا هناك، وفصلنا. ولقد أخذ من بعدهم الشيخ الطنطاوي جوهري وهو من المتأثرين كثيراً بمحمد عبده ومن تلاميذه أخذ بهذا المنهج في التفسير وتوسع فيه وأطال وذهب يملأ تفسيره بكل ما توصل إليه العلم من مكتشفات حتى قال عنه بعضهم ما قيل في تفسير الرازي "فيه كل شيء إلا التفسير" وقال الشيخ محمد حسين الذهبي "بل هو أحق من تفسير الفخر بهذا الوصف وأولى به" (1). وأنت إذا نظرت إلى تفسيره وجدته يحمل الآيات مالا تحتمله ويدخل في تفسيرها من المكتشفات العلمية ما لم تشر إليه ويبرر هذا بأعذار واهية لا تقوم له بها حجة. يقول في تفسير قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً ... [البقرة: 67] الآيات "وأما علم تحضير الأرواح فإنه من هذه الآية استخراجه، أن هذه الآية تتلى والمسلمون يؤمنون بها حتى ظهر علم تحضير الأرواح بأمريكا أولاً ثم بسائر أوروبا ثانياً" (2) وقال "ولما كانت السورة التي نحن بصددها قد جاء فيها حياة العزير بعد موته وكذلك حماره، ومسألة الطير وإبراهيم الخليل، ومسألة الذين خرجوا من ديارهم فراراً من الطاعون فماتوا ثم أحياهم وعلم الله إننا نعجز عن ذلك جعل قبل ذكر تلك الثلاثة في السورة ما يرمر إلى استحضار الأرواح في مسألة البقرة كأنه يقول: إذا قرأتم ما جاء عن بني إسرائيل في إحياء الموتى في هذه السورة عند أواخرها فلا تيٍأسوا من ذلك فإني قد بدأت بذكر استحضار الأرواح فاستحضروها بطرقها المعروفة فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [الأنبياء: 7] ولكن ليكن المحضر ذا قلب نقي خالص على قدم الأنبياء والمرسلين كالعزير، وإبراهيم وموسى، فهؤلاء لخلوص قلوبهم وعلو نفوسهم أريتهم بالمعاينة ليطمئنوا وأنا أمرت نبيكم أن يقتدي بهم فقلت فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] (3).وفي تفسير قوله تعالى يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور 24] ونحوها من الآيات يقول " ... أوليس الاستدلال بآثار الأقدام وآثار أصابع الأيدي في أيامنا الحاضرة هو نفس الذي صرح به القرآن" (4).   (1) ((التفسير والمفسرون)) محمد حسين الذهبي (3/ 183). (2) ((الجواهر في تفسير القرآن الكريم)) طنطاوي جوهري (1/ 84). (3) ((الجواهر في تفسير القرآن الكريم)) طنطاوي جوهري (1/ 89). (4) ((الجوهرة)) طنطاوي جوهري (3/ 99). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 لا شك أن هذا التفسير وأمثاله من أخطر التفاسير للقرآن الكريم بل هو تلاعب بالآيات وصرف لها عن حقائقها الثابتة على معان لا تثبت إلا بقدر ما تثبت مكتشفات علمية تهتز يمنة ويسرة بين الثبات والسقوط – هذا في الآيات التي قد يفهم منها ما أورده في تفسيرها فما بالك بما يورده من تفسير لا تحتمله الآي من بعيد ولا من قريب. نحن ندرك أن هدفه من سلوك هذا المنهج هو نفس هدف رجال المدرسة العقلية في سلوكه حيث يقول الأستاذ الأكبر محمد المراغي عن أحدهم في تفسيره العلمي "وحمدت له هذه النزعة العلمية التي لو تحلى بها كل مبرز في فرع من فروع العلم لاجتمع لدينا ذخر عظيم من هذه التطبيقات الثمينة تستفيد منه النابتة الحديثة زيادة معرفة بإعجاز القرآن وإيقان بأن الله ما فرط في كتابه من شيء" (1). نحن ندرك أن هذا من أهدافه ولكن هذا لا يخلوله حق تأويل الآيات على هذا النحو وإلى هذا الحد الذي تجاوز فيه حد الأمان والسلامة. ولكن الذي تأثر بمنهج المدرسة العقلية الحديثة أكثر من هذا هو صاحب تفسير (الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن) وهو الشيخ أبو زيد الدمنهوري وقد أحدث هذا الكتاب ضجة كبرى في المحيط العلمي وثورة ساخطة من شيوخ الأزهر على مؤلفه وانتهى الأمر بمصادرة الكتاب والحكم على صاحبه بالزيغ والضلال (2). ولعله من المناسب هنا أن نشير إلى أهم ما ذهب إليه في تفسيره وأنت تدرك بعد هذا أثر المدرسة العقلية عليه:- إنكاره لمعجزات الأنبياء عليهم السلام: حيث يقول "وأن آيتهم على صدق دعوتهم لا تخرج عن حسن سيرتهم وصلاح رسالتهم، وإنهم لا يأتون بغير المعقول ولا بما يبدل سنته ونظامه في كونه" (3). معجزات عيسى عليه السلام: يقول كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ يفيدك التمثيل لإخراج الناس من ثقل الجهل وظلماته إلى خفة العلم ونوره" (4). معجزات موسى عليه السلام: في تفسير قوله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا [الأعراف: 160] يقول "ويصح أن يكون الحجر اسم مكان واضرب بعصاك الحجر معناه: إطرقه، واذهب إليه، والغرض أن الله هداه إلى محل الماء وعيونه" (5).وفي تفسير قوله تعالى فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ [الأعراف: 107 - 108] يقول "مثال من قوة حجته وظهور برهانه" (6). معجزة إبراهيم عليه السلام: في قوله قوله تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء: 69] يقول "معناه نجاه من الوقوع فيها" (7). الإسراء: ويفسر الإسراء بالرسول صلى الله عليه وسلم أن المراد به هجرته من مكة وهي المسجد الحرام إلى المدينة وهي "المسجد الأقصى" (8).   (1) ((الإسلام والطب الحديث)) عبدالعزيز إسماعيل تقديم محمد مصطفى المراغي (ص 5 - 6). (2) ((الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن الكريم)) محمد حسين الذهبي (ص 94). (3) ((التفسير والمفسرون)) الذهبي (3/ 201) عن ((الهداية والعرفان)) (ص 306). (4) ((التفسير والمفسرون)) (3/ 201) عن ((الهداية والعرفان)) (ص 45). (5) ((التفسير والمفسرون)) (3/ 203) عن ((الهداية والعرفان)) (ص131). (6) ((التفسير والمفسرون)) (3/ 203) ((الهداية والعرفان)) (ص 126). (7) ((التفسير والمفسرون)) (3/ 204) عن ((الهداية والعرفان)) (ص 256). (8) ((التفسير والمفسرون)) (3/ 206) عن ((الهداية والعرفان)) (ص 256). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 تفسيره للملائكة والجن والشياطين: ويقول عن الملائكة "الملائكة رسل النظام وعالم السنن وسجودهم للإنسان معناه أن الكون مسخر له" (1) أما إبليس فهو "اسم لكل مستكبر على الحق ويتبعه لفظ الشيطان والجان وهو النوع المستعصي على الإنسان تسخيره" (2). الحدود: وما دام باب الاجتهاد مفتوحاً وميسوراً ومادامت الشروط التي وضعها الفقهاء لبلوغ رتبة الاجتهاد افتياتاً على الله ونسخاً لكتابه كما قال أصحاب المدرسة العقلية (3) فلا عجب أن يبادر أبو زيد الدمنهوري وغيره ممن استجاب لدعوتهم فيبدأ في "تطوير" الأحكام الشرعية وذهب فيها "مجتهداً" مذهباً عجيباً. حد السرقة: ففي تفسير قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا [المائدة: 38] يقول "واعلم أن لفظ السارق والسارقة يعطي معنى التعود أي أن السرقة صفة من صفاتهم الملازمة لهم ويظهر لك من هذا المعنى أن من سرق مرة أو مرتين ولا يستمر في السرقة ولم يتعود اللصوصية لا يعاقب بقطع يده لأن قطعها فيه تعجيز له ولا يكون ذلك إلا بعد اليأس من علاجه" (4).وإلى هذا ذهب من بعده المستشار مصطفى كمال المهدوي وأيد رأيه مصطفى محمود وزعم أن فيه التزاماً واحتراماً وأن فهمه جدير بالاستماع والتأمل والبحث؟! (5) وكذا الزاني والزانية عندهم يشترط أن يكونا معروفين بالزنا وكان من عادتهما وخلقهما فهما بذلك يستحقان "الجلد" (6). تعدد الزوجات: ولا يبيح تعدد الزوجات إلا إذا كن يتامى في حجره، وأمن من نفسه عدم الجور (7) وهو ما ذهب إليه من بعده أيضاً المهدوي ومصطفى محمود (8)، ولم يقل أحد بالشرط الأول مطلقاً ومن يطلع على سبب النزول يعلم خطأ من يشترط هذا الشرط في التعدد (9). الربا: ويجعل الربا المحرم شرعاً هو الربا الفاحش فقط (10). هذا بعض ما ذهب إليه هذا المفسر في تفسيره، وما قصدنا من الاستطراد في ذكر أمثلة من تفسيره إلا لتتضح لنا صلته بالمدرسة العقلية وتأثره بما ذهبت إليه من آراء في معجزات الأنبياء عليهم السلام كافة، ومن اجتهاد في غير محله ومن غير أهله في الشريعة الإسلامية، وإنا لنعجب كيف قامت الصيحات والاحتجاجات على المؤلف حتى صودر الكتاب وحكم عليه بالزيغ والضلال وهو إنما يردد ما جاءت به المدرسة العقلية الحديثة إلا ما ندر وفي الوقت نفسه يلاقي تفسير أصحاب المدرسة الترحيب والقبول؟!   (1) ((التفسير والمفسرون)) (3/ 207) عن ((الهداية والعرفان)) (ص 7). (2) ((التفسير والمفسرون)) (3/ 207) عن ((الهداية والعرفان)) (ص 7). (3) انظر ((الأساس العاشر من منهج المدرسة العقلية الحديثة)) وانظر ((تفسير المنار)) (1/ 114). (4) ((التفسير والمفسرون)) (36/ 208) عن ((الهداية والعرفان)) (ص 88). (5) ((مجلة صباح الخير)) (العدد 1093) في 16 ديسمبر 1976م مقال ((قطع اليد في القرآن)) مصطفى محمود. (6) ((التفسير والمفسرون)) (3/ 208) عن ((الهداية والعرفان)) (ص 274). (7) ((التفسير والمفسرون)) (3/ 209) عن ((الهداية والعرفان)) (ص 61). (8) ((مجلة صباح الخير)) (العدد 1093) في 16 ديسمبر 1976م مقال ((قطع اليد في القرآن)) مصطفى محمود. (9) ((التفسير والمفسرون)) (2/ 209). (10) ((التفسير والمفسرون)) (3/ 210). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 ب- في القصة القرآنية: في سنة 1926م أصدر طه حسين كتابة (في الشعر الجاهلي) وقد جاء في ص26 منه: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا أيضاً ولكن ورود هذين الإسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي" (1) ويقول في نفس الصفحة " .. فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل ابن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب والمستعربة فيها، ونحن مضطرون إلى أن ترى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الإسلام واليهودية من جهة أخرى، والقرآن والتوراة من جهة أخرى ... " (2).وفي عام 1947م قدم الطالب محمد أحمد خلف الله من كلية الآداب بجامعة فؤاد رسالة للحصول على الدكتوراه بعنوان (الفن القصصي في القرآن الكريم) قرر فيها أن ورود الخبر في القرآن الكريم لا يقتضي وقوعه، وأنه يذكر أشياء وهي لم تقع ويخشى على القرآن (!!) من مقارنة أخباره بحقائق التاريخ "إن التاريخ ليس من مقاصد القرآن وإن التمسك به خطر أي خطر على النبي عليه السلام وعلى القرآن بل هو جدير بأن يدفع الناس إلى الكفر بالقرآن كما كفروا من قبل بالتوراة" (3) ويقول "إن المعاني التاريخية ليست مما بلغ على أنه دين يتبع وليست من مقاصد القرآن في شيء ... إن قصد القرآن من هذه المعاني إنما هو العظة والعبرة ... ومعنى هذا .. إن قيمتها التاريخية ليست مما حماه القرآن الكريم ما دام لم يقصده" (4).ويستند (5) فيما قال على ما جاء في (المنار) "ولكون التاريخ غير مقصود له لأن مسائله من حيث هي تاريخ ليست من مهمات الدين من حيث هو دين وإنما ينظر الدين من التاريخ إلى وجه العبرة دون غيره" (6) ويستدل بقول (المنار) "هذا وإن أخبار التاريخ ليست مما بلغ على أنه دين يتبع" (7) وبقوله "بينا مراراً أن أحداث التاريخ وضبط وقائعه وأزمنتها وأمكنتها ليس من مقاصد القرآن وأن ما فيه من قصص الرسل مع أقوامهم فإنما هو بيان لسنة الله فيهم وما تتضمنه من أصول الدين والإصلاح" (8).   (1) ((ذيل الملل والنحل)) محمد سيد الكيلاني (ص 48) عن ((في الشعر الجاهلي)) طه حسين. (2) ((ذيل الملل والنحل)) محمد سيد الكيلاني (ص 84) عن ((في الشعر الجاهلي)) طه حسين. (3) ((الفن القصصي في القرآن الكريم)) محمد أحمد خلف الله (ص 42). (4) ((الفن القصصي في القرآن الكريم)) محمد أحمد خلف الله (ص 44). (5) ((الفن القصصي في القرآن الكريم)) محمد أحمد خلف الله (ص 42). (6) ((تفسير المنار)) محمد رشيد رضا (1/ 279). (7) ((تفسير المنار)) محمد رشيد رضا (4/ 7). (8) ((تفسير المنار)) محمد رشيد رضا (12/ 101). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 واستدل أيضاً بغير ذلك من نصوص (المنار)، ومن هنا ندرك عمق الصلة بين هذا الموقف من قصص القرآن وموقف المدرسة العقلية الممثلة في تفسير (المنار) من قصص القرآن الكريم. ثم يصل الدكتور خلف الله إلى نتيجة ما قرره من الفصل بين القصة القرآنية والحقيقة التاريخية فيصف القرآن بما وصفه به المشركون من أنه "أساطير" ويستدل على هذا بأن القرآن عرض مرة واحدة للرد على المشركين "في قيلهم بأنه أساطير وهي المرة التي ترد في سورة الفرقان وهذه هي الآيات وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا [الفرقان: 5 - 6] فهل هذا الرد ينفي ورود الأساطير في القرآن؟ أو هو إنما ينفي أن تكون هذه الأساطير من عند محمد يكتبها وتملى عليه ويثبت أنها من عند الله، قل أنزله الذي يعلم السر .. إلخ" (1). ثم قال "وإذا كان القرآن لا ينفي ورود الأساطير فيه وإنما ينفي أن تكون هذه الأساطير هي الدليل على أنه من عند محمد عليه السلام وليس من عند الله إذا كان هذا ثابتاً فإنا لا نتحرج من القول بأن القرآن أساطير لأنا في ذلك لا نقول قولاً يعارض نصاً من نصوص القرآن" (2).ونذكر مثلاً من تطبيقه هذه النتيجة التي توصل إليها على قصص القرآن قوله:- "وإذا ما قال المستشرقون أن بعض القصص القرآني كقصة أصحاب الكهف أو قصة موسى في سورة الكهف قد بنيت على بعض الأساطير قلنا ليس في ذلك في القرآن من بأس فإنما هذه السبيل سبيل الآداب العالمية والأديان الكبرى ويكفينا فخراً إن كتابنا الكريم قد سن السنن وقعد القواعد وسبق غيره في هذه الميادين" (3).وزعم أيضاً أنه لن يجد من "يعارض في وجود القصة التمثيلية في القرآن الكريم وأنها وليدة الخيال وأن الخيال إنما يسود هذا النوع من القصص لحاجة البشر إليه وجريهم في بلاغتهم عليه والله سبحانه وتعالى إنما يحدثهم من هذا بما يعتادون" (4).ويستدل (5) لإثبات هذه النتيجة التي توصل إليها بما جاء في المنار عن أحدى قصص القرآن "ويحتمل أن تكون القصة من قبيل التمثيل والله أعلم" (6) ويستدل (7) أيضاً بقول الشيخ محمد عبده "وأما تفسير الآيات على طريقة الخلف في التمثيل فيقال فيه أن القرآن كثيراً ما يصور المعاني بالتعبير عنها بصيغة السؤال والجواب أو بأسلوب الحكاية لما في ذلك من البيان والتأثير فهو يدعو بها الأذهان إلى ما وراءها من المعاني كقوله تعالى يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ [ق: 30] فليس المراد أن الله تعالى يستفهم منها وهي تجاوبه وإنما هو تمثيل لسعتها وكونها لا تضيق بالمجرمين مهما كثروا ونحو قوله عز وجل بعد ذكر الاستواء إلى خلق السماء فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت: 11] والمعنى في التمثيل ظاهر" (8).   (1) ((الفن القصصي في القرآن الكريم)) محمد أحمد خلف الله (ص 178 - 180). (2) ((الفن القصصي في القرآن الكريم)) محمد أحمد خلف الله (ص 178 - 180). (3) ((الفن القصصي في القرآن الكريم)) محمد أحمد خلف الله (ص 182). (4) ((الفن القصصي في القرآن الكريم)) محمد أحمد خلف الله (ص170). (5) ((الفن القصصي في القرآن الكريم)) محمد أحمد خلف الله (ص 164). (6) ((تفسير المنار)) محمد رشيد رضا (3/ 52). (7) ((الفن القصصي في القرآن الكريم)) محمد أحمد خلف الله (ص 168 - 169). (8) ((تفسير المنار)) محمد رشيد رضا (1/ 280 - 281). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 ومن هنا – أيضاً – ندرك عمق الصلة بين الفكرتين فكرة خلف الله وفكرة الشيخ عبده وتلاميذه في قصص القرآن الكريم ولهذا حرص أمين الخولي المشرف على الرسالة المنحرفة على التصريح بأن جامعة فؤاد التي رفضت الرسالة المنحرفة هذه "ترفض اليوم ما كان يقرره الشيخ محمد عبده بين جدران الأزهر منذ اثنين وأربعين عاما" (1). ولا شك بعد هذا أن هذا الزعم في قصص القرآن الكريم بأنها مخالفة لحقائق التاريخ وأن المراد بها التمثيل لا الحقيقة التاريخية لا شك أنه أثر من آثار مدرسة المنار، كيف لا وهو إنما يستشهد بأقوال أستاذهم وإمامهم. وسواء أكان الأستاذ الإمام يقصد ما قصده خلف الله أم لم يقصده فإن الصلة بين القولين ولا شك بينة وواضحة. بقي أن نقول أن هذه الرسالة أيضاً لقيت ردود فعل قوية واحتجاجات الرفض حتى رفضتها الجامعة، وفي الوقت نفسه كان الترحيب والقبول لما جاء به محمد عبده وتلاميذه؟! ج- في السنة النبوية: منذ صدع رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أمر، وأعرض عن المشركين، ومنذ أنذر عشيرته الأقربين وخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين وقال أنا النذير المبين، منذ ذلك الحين وأعداؤه وأعداء الدين ما فتئوا يكيدون للإسلام وأهله ويحاربونه بكل وسيلة وكل سبيل. زعموا أن القرآن أساطير، وزعموا أن محمداً ساحر وشاعر وكاهن، وزعموا أنه صلى الله عليه وسلم "كذاب أشر" وزعموا أنه عبقري لا نبي، وزعموا أن الإسلام مجموعة أفكار إصلاحية بشرية لا دين إلهي. منذ ذلك الحين والدين الإسلامي في دوامة المعركة بين الحق والباطل بين حفظ الله ومكر الكافرين، ويبتلي الله المؤمنين بين حين وآخر في ذلك الصراع بين ضعف المسلمين وقوتهم. وكانت المؤامرات العدائية للإسلام تلبس لكل حالة لباسها فتسلك سبيل السلاح حين تضعف قوة المسلمين، وتتخذ التخريب والتدمير والقتل شأنها من غير تفكير في إصلاح اعوجاج أو تعديل انحراف. وإذا ما عجزت سبيل الحرب عن تحقيق أهدافها لبست لذلك لباساً آخر لباس الحرب الفكرية، وهم يجمعون بين السبيلين في أحيان كثيرة فيشككون في القرآن وفي محمد وفي السنة وفي الإسلام كله ويبثون أفكارهم تلك بين نابتة المسلمين وغيرهم. وتنشأ هذه النابتة على رفض الإسلام أو رفض شيء من تعاليمه وأفكاره ومبادئه، لا تلبث أن تشتعل فيهم اشتعال النار في الهشيم فيكونون على الإسلام عبثاً أكبر من عبثهم ويحسب الجاهلون أن لا علاقة لأعداء الدين بهذا التشكيك والحرب من المنتسبين إليه ومن داخل حصونه. ويزيد قوم الأمر سوءاً حين يقولون ما يتمسك به المنحرفون، ويشد عضدهم ويفتح لهم سبلاً كانوا عنها غافلين. قالوا أن قصص القرآن تمثيل وتخييل وجاء من يقول أنها أساطير مخالفة للواقع، وقالوا أن الوحي عرفان يجده الشخص في نفسه ... إلخ فجاء من يقول أن محمداً عبقري وأن القائلين بنبوته يكسبون بالاعتراف بعبقريته كسباً عظيماً، قالوا إن حديث أبي هريرة الذي قال فيه كذا وكذا لا يبعد أن يكون قد رواه عن كعب الأحبار أو وهب بن منبه فجاء من يسب أبا هريرة رضي الله عنه، ويشتمه ويرفض أحاديثه كلها صحيحها وضعيفها، قالوا إن السنة ليست ديناً إلا من حيث أنها مبينة للقرآن فجاء من ينكر السنة كلها ويرفضها. لم يكن بين الفريقين كبير فارق في الزمن أو الفكرة بل كانوا من المعاصرين لهم وكانوا من الناشرين لأفكارهم الإلحادية المروجين لها بل والمشاركين في صياغتها. ينشر الأستاذ محمد حسين هيكل كتابه (حياة محمد) ينكر فيه معجزاته صلى الله عليه وسلم ويقدم للكتاب الشيخ محمد مصطفى المراغي ويقرظه السيد رشيد رضا؟!   (1) ((الفن القصصي في القرآن الكرم)) محمد أحمد خلف الله (ص ح). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 ويكتب محمد عبده كتاباً يذيله باسم قاسم أمين وينشره بين الناس ويدعو فيه إلى ما أسماه (تحرير المرأة)؟! ويشيد بهذا الكتاب رشيد رضا ويقرظه في كل سانحة في (مجلة المنار). وينكر الدكتور توفيق صدقي حجية السنة ويعلن عنوان مقاله (الإسلام هو القرآن وحده) وينشر له الأستاذ محمد رشيد هذا المقال في عددين من مجلته (المنار) السابع والثاني عشر من السنة التاسعة. ويزعم في مقاله أن القرآن قد حوى كل شيء من أمور الدين، وكل حكم من أحكامه وأنه بينه وفصله بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر كالسنة وإلا كان الكتاب مفرطاً فيه ولما كان تبياناً لكل شيء. ويلحد في تفسير قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] فيزعم أنه تكفل بحفظ القرآن وحده دون السنة ولو كانت دليلاً وحجة كالقرآن لتكفل بحفظهما؟! وجاء من بعده أحمد أمين صاحب كتب (فجر الإسلام (، و (ضحاه)، و (ظهره) تحدث في فجر الإسلام عن الحديث النبوي فمزج السم بالدسم وخلط الحق بالباطل كما يقول المرحوم مصطفى السباعي (1). زعم أن هناك أمور كثيرة تضعف من حجية السنة منها أن الحديث لم يدون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أنه نشأ عن هذا كثرة الوضع والكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم ساعد على ذلك كثرة دخول الشعوب في الإسلام، وزعم أن علماء الحديث إنما اعتنوا بالسند ولم يعتنوا بنقد المتن عشر عنايتهم بالسند ثم شكك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفي حفظه؟! وأنت قد لا تجد في كلامه نصاً صريحاً واضحاً في إنكار حجية السنة فهو أدهى من أن يظهر هذا بل يرشد من يريد إنكار حجية السنة إلى السبيل لذلك فيقول الدكتور حسن عبدالقادر "أن الأزهر لا يقبل الآراء العلمية الحرة، فخير طريقة لبث ما تراه مناسباً من أقوال المستشرقين ألا تنسبها إليهم صراحة ولكن ادفعها إلى الأزهريين على أنها بحث منك وألبسها ثوباً رقيقاً لا يزعجهم مسها، كما فعلت أنا في (فجر الإسلام)، و (ضحى الإسلام) هذا ما قاله الدكتور علي حسن نفسه للمرحوم مصطفى السباعي (2).وقد نشر إسماعيل أدهم رسالة سنة 1353هـ زعم فيها أن الأحاديث التي تضمنتها كتب الصحاح ليست ثابتة الأصول والدعائم بل هي مشكوك فيها ويغلب عليها صفة الوضع، وثارت حول هذه الرسالة ضجة انتهت بمصادرتها ودافع أدهم عن نفسه بأن ما قاله قد وافقه عليه كبار أدباء وعلماء ذكر منهم أحمد أمين، ولم يكذب أحمد أمين ما قال هذا بل كتب ما يفيد تأمله مما حصل لصاحبه واعتبار ذلك محاربة لحرية الرأي، وحجر عثرة في سبيل البحوث العلمية (3). وفي عام 1377هـ الموافق 1957م ظهر كتاب جديد وأعني بالجديد فيه ذلكم الأسلوب الذي نهجه صاحبه وما رأيت مثله؟! رجل يحمل معول هدم السنة ينكر أحاديثها ويلقى أفظع السباب والشتائم على ناقلها الأول أبي هريرة رضي الله عنه ثم يزعم بعد هذا أنه يدافع عن الحديث؟! أما المؤلف فمحمود أبو رية، وأما الكتاب فـ (أضواء على السنة المحمدية) أو (دفاع عن الحديث)؟   (1) ((السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي)) مصطفى السباعي (ص 236). (2) ((السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي)) مصطفى السباعي (ص 238). (3) ((السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي)) مصطفى السباعي (ص 238). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 ومن التوافق العجيب أن الذي قدم لهذا الكتاب الذي أنكر حجية السنة هو الذي أنكر صدق قصص القرآن وأنكر حجيته فيما يخبر به – كما مر بنا – وأعني به طه حسين. أنكر محمود أبو رية حجية السنة وإذا ما قال له قائل كيف تنكر حجية السنة وأنت تستدل على ما ذهبت إليه بأحاديث منها؟ أجاب "أن الأحاديث التي أوردها في سياق كلامي للاستدلال بها على ما أريد في كتابي إنما أسوقها لكي نقنع من لا يقنع إلا بها على اعتبار أنها عنده من المسلمات التي يصدقها ولا يماري فيها "ويشبه أسلوبه هذا باحتجاج" المسلم على النصراني بما في الإنجيل وهو في نفسه غير مؤمن بما يحتج به أو عكس ذلك (1)؟! ثم يأتي بعد هذا بقواعده التي أراد بها أن يأتي "بجديد" يفوق به قواعد علماء الحديث السابقين؟! ويعدل به ما اعوج به من قواعدهم؟ قال بعد كلامه السابق "أعلم أن ذلك ليس عاماً في كل ما أورده من أحاديث في كتابي فإن منها ما يبدو عليه علائم الصحة كأن يكون بياناً للقرآن الكريم أو متفقاً مع العقل السليم، أو جاء على مقتضى الأصول التي قام عليها الدين وإليها قامت الدعوة ولأجلها منحت النبوة، أو أتنور خلال معانيه شعاعاً من نور النبوة، ولو كان خافتاً ضئيلاً – وهذا أمر أحسه بوجداني فما كان من مثل ذلك مما يطمئن به القلب ويسلم به العقل فأنا آخذ به وأرويه وأنا مطمئن، واعتبره من بيان الرسول للكتاب العزيز وإن كنت على ثقة بعد ذلك كله من أنه أحاديث آحاد وأنه ظني الدلالة بحيث لا يبلغ منزلة القطع الذي يفيد اليقين وأن روايته جاءت "بالمعنى" لا بأصل اللفظ الصحيح الذي نطق به النبي صلى الله عليه وسلم" (2).   (1) ((أضواء على السنة المحمدية)) محمود أبو رية (ص 33). (2) ((أضواء على السنة المحمدية)) محمود أبو رية (ص 34 - 35). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 بقي أن أقول أن قواعده تلك لا تقوم بها حجة على صحة الحديث فقد يكون في الحديث بيان للقرآن الكريم ولا يلزم من هذا صحة هذا الحديث وقد يتفق الحديث مع العقل السليم وقد يأتي حديث على مقتضى الأصول التي قام عليها الدين وعليها قامت الدعوة ولأجلها منحت النبوة ولا يلزم أن يكون الرسول قد قاله؟ وليس هذا كله بالأمر الذي يحتاج إلى مزيد علم لإدراكه، ولكنه الضياع يعمي الأبصار عن الحقيقة. وحتى ندرك منه ضلال منهجه في نقد الحديث نسوق قوله "ومن الأحاديث ما تقتضي البداهة بصدقه كحديث ((لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن)) (1).؟! ولست أنكر هنا صحة الحديث أو غيرها وإنما أنكر أن تكون "البداهة" مما تقتضي صحته؟! وأي بداهة تنكر أن يبيح الرسول صلى الله عليه وسلم كتاب حديثه؟! وحتى ندرك منه غرضه في وصف هذا الحديث بأن "البداهة" تقتضي صحته نكمل قوله "وهو الحديث الذي بنينا عليه كتابنا هذا" (2) وبه يتضح هدفه؟!.وحتى ندرك أيضاً الصلة التي تربط برجال المدرسة العقلية الحديثة وتأثره بهم فيما ذهب إليه نقول أنه كثيراً ما يسوق نصوصهم ويستشهد بها في التقليل من شأن حجية السنة أو التجريح بصحابي جليل، وحينما عاب عليه طه حسين كثرة نقله عن رشيد رضا أجاب بأنه لم يصنع ذلك "عفواً أو فقراً من الأدلة" (3) وإنما كان يقصد من ذلك أموراً مهمة، "منها أن هذا السيد يعتبر في هذا العصر من كبار أئمة الفقهاء المجتهدين عند أهل السنة الذين يعتد برأيهم ... الخ" (4) "وأنه بلا منازع شيخ محدثي أهل السنة في عصرنا بحيث يعلم من أمر الأحاديث التي حملتها الكتب المشهورة لدى الجمهور ويدرك ما اعتراها من فعل الرواة وغير ذلك مما يتصل بكتابي ما لم يعلم مثله سواه" (5) "على أنه فوق ذلك ورث علم الأستاذ الإمام محمد عبده وناهيك به علماً وفضلاً بحيث لا يختلف اثنان من أنه من كبار أئمة الدين المجتهدين فما يقوله السيد رشيد إنما اعتبره كأنه صادر عن أستاذه الإمام وذلك فيما أرى أنه من منهج الأستاذ الإمام وأسلوبه في النظر إلى الدين" (6) وفوق هذا وذاك فهو يكتب عن السيد رشيد بمناسبة مرور خمسة أعوام على وفاته ويسميه "شيخنا" ويردد هذه العبارة" (7).   (1) رواه مسلم (3004) , من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ: (لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه وحدثوا عني ولا حرج ... ). (2) ((أضواء على السنة المحمدية)) محمود أبو رية (ص 34 - 35). (3) ((أضواء على السنة المحمدية)) محمود أبو رية (ص 34 - 35). (4) ((أضواء على السنة المحمدية)) محمود أبو رية (ص 34 - 35). (5) ((أضواء على السنة المحمدية)) محمود أبو رية (ص 34 - 35). (6) ((أضواء على السنة المحمدية)) محمود أبو رية (ص 35). (7) ((مجلة الرسالة)) أغسطس 1940م مقال السيد رشيد رضا بقلم محمود أبو رية (ص1355). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 أذن فهو يستند فيما ذهب إليه إلى أقوال أئمة رجال المدرسة العقلية الحديثة الأستاذ محمد عبده وتلميذه السيد رشيد، ويحسب قوله بعد هذا فوق الشبهات!! وكأن خداع العناوين مرض انتقل من أبي ريه في زعمه الدفاع عن الحديث النبوي في عنوان كتابه إلى المدعو (السيد صالح أبو بكر) فنشر كتاباً زعم أنه (الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخاري منها) زعم فيه أن من أهدافه "تقديم حصيلة الفحص الدقيقة للأحاديث المعارضة للقرآن، والمنافية لما يليق بالله وبرسوله والتي جمعناها من صحيح البخاري باعتباره عمدة المراجع في هذا المجال وعددها مئة وعشرون حديثاً والتعقيب القرآني على كل منها بما يثبت أنها دخيلة على كلام النبي صلى الله عليه وسلم" (1).وعد من أهدافه "القضاء على منازعة الحديث الباطل للقرآن الكريم" (2) ومنها "إدراك العواقب المترتبة على ترك الأحاديث المخالفة للقرآن الكريم دون تجريح وإظهار لعيوبها" (3) و "إثبات أن دين الله هو القرآن بداية ونهاية" (4) وقال أخيراً "كتابنا هذا يستند إلى كتاب الله نصاً ومعنى" (5). والحق أننا في حاجة ماسة إلى مثل هذه الأهداف والحق أيضاً أن هذا الرجل بعيد كل البعد عن المنهج الذي زعم بل عماد نقله وأسه محمود أبو رية السالف ذكره فهو كثيراً ما ينقل عنه بل نستطيع القول أن الجزء الأول منه خلاصة لكتاب أبي ريه، ثم أراد المؤلف منافسة أبي ريه على مناهله الأولى فنقل أيضاً عن محمد عبده وعن رشيد رضا وغيرهم من مدرسة المنار. بل إن بدء هجومه على أبي هريرة رضي الله عنه يصدره برأي مدرسة المنار فيضع عنوناً "أبو هريرة ورأي علماء الحديث فيه مثلاً في مدرسة المنار" (6). وقد خصص المؤلف الصفحات من 58 إلى 63 للتشكيك في أبي هريرة رضي الله عنه وفي روايته. وإن شئت مثالاً من الأحاديث المئة والعشرين التي كذبها المؤلف من صحيح البخاري وأسلوبه في التكذيب، حتى تدرك بعد منهجه عن عنوان الكتاب (الأضواء القرآنية) وعن أهدافه التي زعمها فإليك واحداً منها. ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما ((قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال إني لأنذركموه وما من نبي إلا أنذره قومه، لقد أنذر نوح قومه ولكني أقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه: تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور)) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب قول الله عز وجل لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ (7).   (1) ((الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخاري منها)) السيد صالح أبو بكر (ص 3 - 6). (2) ((الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخاري منها)) السيد صالح أبو بكر (ص 3 - 6). (3) ((الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخاري منها)) السيد صالح أبو بكر (ص 3 - 6). (4) ((الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخاري منها)) السيد صالح أبو بكر (ص 3 - 6). (5) ((الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخاري منها)) السيد صالح أبو بكر (ص 3 - 6). (6) ((الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخاري منها)) السيد صالح أبو بكر (ص 58). (7) رواه البخاري (3337) , ومسلم (169) , من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 أتدرون ماذا قال المؤلف بعد أن نقله نقلاً غير ملتزم بألفاظه كما هو شأن علماء الحديث الصالحين أتحسبون الرجل استند إلى ضوء آية قرآنية واحدة في رد الحديث فضلاً عن التزام (الأضواء القرآنية)!! لا لا ليس الأمر كما تحسبون. بل قال "ودلائل الزيف في هذا الحديث وغيره من أحاديث الدجال كلها نقول فيها ما يلي:- أولاً: إن المسيح الدجال هو كل مبدل وكل ماسخ لجمال الحق ... وأن هذا المسيخ ليس رجلاً واحداً فقط ولكنهم كثيرون وهم عور وغير عور يعيشون معنا وأناس منا وكانوا مع من قبلنا وسيكونون مع من بعدنا وفي كل زمان ومكان .. وليسوا مسيخاً واحداً كما يقول الحديث. ثانياً: إذا كان المسيخ سيظهر في آخر الزمان فقط .. فمن هو المسيخ الدجال الذي كان سبباً في ظهور الفساد والفتن في عهود الخلفاء وزمن التابعين بل زماننا هذا. ثالثا: إذا كان المسيخ الدجال رجلاً واحداً ولا يأتي إلا في آخر الزمان فمن أي مسيخ كان يتعوذ النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه والتابعين .. ومن أي مسيخ نتعوذ نحن الآن في نهاية كل صلاة كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم؟؟ رابعا: .. بأي عقل نصدق أن يعطيه الله كل هذه الأسباب ثم يأمرنا بمحاربته أو يلوم أتباعه وقد أعطاه من وسائل الإغراء والإقناع للناس ما لا يعطي الأنبياء والمرسلين. خامسا: في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول أن المسيخ الدجال رجل أعور وإن ربكم ليس بأعور فكيف يعقل أن تجري هذه الألفاظ على النبي صلى الله عليه وسلم وأن تكون ألفاظه قد وصلت إلى هذا النقص في التعبير عن ذات الله وأن يتكلم عن خالقه بتلك الصورة المذرية الركيكة. سادسا: كيف أنذر نوح قومه من المسيخ الدجال كما يقول الحديث مع أن الأحاديث التي وردت فيه تقول كلها أن المسيخ سيأتي في آخر الزمان" (1). وليس هدفنا هنا أن نرد على شبهة ونبطلها فليس هذا موضعه وإنما أردنا أن نظهر أسلوبه في النقد وأن أدلته تلك ليست أضواءاً قرآنية كما زعم ولم يستند فيها إلى آية قرآنية بل كلها شبه من فكره ومن مفهومه الضال الذي لم يستند إلى كتاب ولا إلى سنة أيضاً. وليس هذا الأمر في هذا الحديث فحسب بل هو في كل الأحاديث التي أوردها لم يستدل فيها بآية قرآنية إلا آية تعرض عرضاً في حديثه وليس فيها من معارضة الحديث شيء. إذن فلا عجب إذا ما أكثر النقل عن محمود أبو رية وعض على أقواله بنواجذه ولا عجب أيضاً إذا ما استند إلى أقوال محمد عبده ورشيد رضا بل إلى مدرسة المنار. د- في الفقه: أما فتح باب الاجتهاد وشروطه التي جاءوا بها فقد نفذ منها كل من هب ودب وأفتى في الأحكام الشرعية من غير تردد أو خوف أو وجل، وحكم في قضايا لو عرضت على مالك لقال "لا أدري" ولو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر. ولا نريد أن نذكر كل ما جرى بعدهم من اجتهادات فقهية خارجة عن نطاق الاجتهاد وحدوده، ولا يصل إلى مرتبته مصدروها – ولكن نقصر الحديث هنا على واحدة من تلك الاتجاهات الفقهية المنحرفة.   (1) ((الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية)) السيد صالح أبو بكر (ص 206 – 207). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 ونحن وإن كنا لا نزعم أن كل انحراف في تقنين الأحكام الشرعية وميل بها عن الحق أنه أثر من آثار المدرسة العقلية إلا أننا نؤكد أن كثيراً من ذلك يستند إلى آرائهم ويستدل بأقوالهم ويستشهد بها وما هذا إلا معيار لتأثرهم بها، نذكر من هذا مسألة تعدد الزوجات دع عنك تحرير المرأة وخروجها إلى العمل واختلاطها بالرجال في ميادينه ... الخ. وقد سبق للشيخ عبده أن دعا إلى تطبيق ما ذهب إليه في مسألة تعدد الزوجات ونحن نذكر دعوته هنا حتى ندرك أن ما حدث بعد إنما هو من آثاره ومدرسته قال: "لا سبيل إلى تربية الأمة مع فشو تعدد الزوجات فيها فيجب على العلماء النظر في هذه المسألة خصوصاً الحنفية منهم الذين بيدهم الأمر وعلى مذهبهم الحكم فهم لا ينكرون أن الدين أنزل لمصلحة الناس وخيرهم وأن من أصوله منع الضرر والضرار فإذا ترتب على شيء مفسدة في زمن لم تكن تلحقه فيما قبله فلا شك في وجوب تغير الحكم وتطبيقه على الحال الحاضرة" (1).إذن فهو يدعو إلى تغيير الحكم؟! ترى هل يدعو إلى تغييره دفعة واحدة أو بطريقة أخرى؟! يفسر هذا تلميذه السيد رشيد بقوله "إن قاعدة اليسر في الأمور ورفع الحرج من القواعد الأساسية لبناء الإسلام يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] ومَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ [المائدة: 6] ولا يصح أن يبني على هذه القاعدة تحريم أمر تلجئ إليه الضرورة أو تدعو إليه المصلحة العامة أو الخاصة .. وهو مما يشق امتثاله دفعة واحدة لا سيما على من اعتادوا المبالغة فيه من المفاسد فلم يبق إلا أن يقلل العدد ويقيد بقيد ثقيل وهو اشتراط انتفاء الخوف من عدم العدل بين الزوجات وهو شرط يعز تحققه ومن فقهه واختبر حال الذين يتزوجون بأكثر من واحدة يتجلى له أن أكثرهم لم يلتزم الشرط ومن لم يلتزمه فزواجه غير إسلامي" (2)؟!! إذن فليس الأمر في المنع "دفعة واحدة" لأنه يشق على من اعتادوا المبالغة فيه والحال أن يقيد بقيد ثقيل .. وهو شرط يعز تحققه .. ومن لم يلتزمه فزواجه غير إسلامي. وليس المانع من إلغاء التعدد دفعة واحدة "أمر شرعي وإنما المشقة على من اعتادوا المبالغة فيه، والعلاج التدرج في ذلك إلى أن يصل الأمر إلى اعتياد الناس على عدم التعدد ولا يشق على أحد إلغاؤه ومن ثم إلغاء التعدد. لن أذكر هنا أثر تلك الدعوة على الأفراد في أقوالهم ودعواتهم لأنها كلها تنتهي إلى الدعوة إلى تطبيقه وتقنيته وإذا ما اكتفينا بذكر القوانين التي سنتها بعض الدول المسلمة في ذلك نكون قد تجاوزنا آراءهم إلى النتيجة والنتيجة هدفنا من الإشارة إلى الأثر. وفي الواقع أن الدول التي تأثرت بهذه الدعوة انقسمت إلى قسمين ولا يزال بعضها في مرتبة "قيد ثقيل يعز تحققه .. ومن لم يلتزمه فزواجه غير "إسلامي"، واستطاع بعضهم أن يصل إلى مرتبة "دفعة واحدة".   (1) ((تفسير المنار)) محمد رشيد رضا (4/ 349 - 350). (2) ((تفسير المنار)) (4/ 359). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 أما القسم الأول فدول المغرب وسوريا والعراق قيدته المغرب قضائياً بالعدل بين الزوجات، وقيدته سوريا بالقدرة على الإنفاق، وقيد في العراق بمصلحة مشروعة وبالعدل بين الزوجات، وبالقدرة على الإنفاق عليهن."وورود أحد هذه القيود في القانون معناه أنه أصبح ملزماً ويتعين على القاضي أن يتحقق من توافره بحيث إذا لم يكن هذا الشرط متوافراً أو ذاك كان تعدد الزوجات غير جائز، لأن المفروض أن أحكام القانون جميعها ملزمة ويحمل الناس على احترامها وتطبيقها طوعاً أو كرهاً" (1).أما التي أخذت بالطريقة الثانية فتونس فمنعت تعدد الزوجات ومن تزوج بأكثر من واحدة يستوجب عقاباً بالسجن مدة عام وبخطيه "أي غرامة" قدرها 240.000 فرنك أو بإحدى العقوبتين فقط ""الفصل 18"" (2).أما في مصر فقد شكل بعض تلاميذ محمد عبده لجنة سنة 1926م اقترحت تقييد تعدد الزوجات وقدمت المقترحات لمجلس النواب وبعد مناقشات أعيدت لوزارة العدل لدراستها ثم صدر القانون رقم 25 لسنة 1929م منظماً لبعض شؤون الأسرة خالياً من مقترحات تقييد تعدد الزوجات (3) وفي سنة 1945م تقدمت وزارة الشؤون الاجتماعية بمشروع قانون لتقييد تعدد الزوجات باشتراط إذن القاضي الشرعي الذي في دائرة اختصاصه مكان الزواج، واشتراط أن لا يأذن القاضي إلا بعد الفحص والتحقق من أن سلوكه وأحوال معيشته يؤمن معها قيامه بحسن المعاشرة، والإنفاق على أكثر من في عصمته ومن تجب نفقته عليهم من أصوله وفروعه، ولم يكتب لهذا المشروع النجاح (4). وقامت بعض الدعوات لاشتراط أن يكون جواز التعدد في حالتين، حالة مرض الزوجة مرضاً لا برء منه، وحالة عقم الزوجة الذي مضى عليه أكثر من سنوات ثلاث ومنع ما عدا هاتين الحالتين ودعوا فيما دعوا إلى عدم سماع الدعوى في نزاع يتعلق بالزواج "المتعدد إلا إذا كان بإذن القاضي وقد رفضت جبهة علماء الأزهر هذا الاقتراح. وزعم المدعو عبدالعزيز فهمي باشا أن القرآن الكريم يحرم بتاتاً تعدد الزوجات؟! فالآية في زعمه واضحة لكل متذوق أنها هزء وسخرية ممن يريد تعدد الزوجات لأن المولى سبحانه وتعالى أردفها بقوله وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ [النساء:129] ولن كما يقرر النحاة هي أشد أدوات النفي للمستقبل إذ تنفيه نفياً باتاً" (5). وحتى نكشف مغالطة الرجل نقول أن استدلاله هنا كمن يستدل بقوله تعالى لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ [النساء: 43] , ويدع وَأَنتُمْ سُكَارَى ولو أحسن الاستدلال وطلب الحقيقة لأكمل ما استدل به وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا [النساء: 129] فقوله سبحانه فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ غَفُورًا رَّحِيمًا كلها تبين المراد من نفي الاستطاعة بياناً لا يريده فهمي باشا ولهذا قطع الآية.   (1) ((تعدد الزوجات)) عبدالناصر توفيق العطار (ص 257). (2) ((تعدد الزوجات)) عبدالناصر توفيق العطار (ص262). (3) ((تعدد الزوجات)) عبدالناصر توفيق العطار (ص295 - 296). (4) ((تعدد الزوجات)) عبدالناصر توفيق العطار (ص 295 - 296). (5) ((مع المفسرين والكتاب)) أحمد محمد جمال (ص 208). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 وأما الاستدلال بما قرره النحاة فهو تحريف لقولهم ولا يستغرب ممن كذب على القرآن أن يكذب على النحاة؟ لم يقل النحاة بأن النفي بلن نفياً باتاً أي دائماً إلا الزمخشري المعتزلي قال ذلك ليؤبد النفي في قوله تعالى لموسى لَن تَرَانِي [الأعراف: 143] حتى يستدل بها على إنكار رؤية الله التي لا يؤمن بها المعتزلة، والنحاة – سواه – على الضد من ذلك فقد قالوا:- ومن رأى النفي بلن مؤبداً فقوله أردد وسواه فاعضدا. نعد الحديث بعد هذا إلى شيخ أزهري هو الشيخ عبدالمتعال الصعيدي، والأزهريون متهمون بالجمود والتزمت وهما صفتان أوحى بهما الاستعمار إلى شباب المسلمين حينذاك لينفروا من الأزهر وشيوخه ثم ينفروا من الدين كله بالتبع، أراد هذا الشيخ أن ينفي هذه التهمة فأخطأ الطريق – وما هكذا تورد الإبل يا سعد – تقرب إليهم بالدعوة إلى تحريم تعدد الزوجات؟! أليست هذه الصفة من مآخذ الاستعمار على الإسلام؟! أي طريق يسلك إلى ذلك؟ استمداد ذلك من آية إباحة التعدد كما فعل عبدالعزيز فهمي أمر قد سبق إليه، وهو يريد أن يأتي بجديد فقال "لا ينكر أحد أن ينقلب المباح حراماً إذا نهى عنه ولي الأمر لمصلحة تقتضي النهي عنه كأن ينهى عن زرع القطن في أكثر من ثلث الملك تجب طاعته شرعاً في ذلك وتحرم مخالفته فيه ... وكذلك الأمر في تعدد الزوجات فلولي الأمر أن ينهى عنه إذا أساء المسلمون استعماله فيصير حراماً لنهيه عنه وإن كان في ذاته مباحاً وهذا أمر معروف بين العلماء" (1)؟! وهو حينما يقول هذا يؤكد أن المسلمين قد أساؤوا استعماله ويرشد إلى الطريق السليم لتحريم التعدد كما أرشد إليه سلفه محمد عبده وتلاميذه قال الشيخ عبدالمتعال "ولعل مما يدعو إليه هذا أن الناس لم يتهيئوا بعد لفهم هذا الحق بل يعدوه خروجاً على الدين، فيحمل هذا ولي الأمر على أن يستثني في ذلك ما يستثني، ولا يذهب فيه إلى آخر ما جعله الله من حقه" (2).لذلك فلا عجب أن يقول الدكتور عفت محمد الشرقاوي معلقاً على ما ذهب إليه عبدالعزيز فهمي ونعم به عبدالمتعال "ومع ما يبدو في هذا من الغرابة والتجوز في الاستنتاج، وخروجه عن مألوف المأثور، فإنه كان النتيجة الطبيعية لشدة تأثرنا بالنظم الأوروبية في تشريع الزواج ... وكان ذلك في جملته تطوراً واضحاً لنزعة قديمة حمل لواءها "محمد عبده" محاولا التفريق بين النص القرآني وهذا التصور الجديد" (3). كانت هذه هي الحال إلى سنة 1967م ففي هذه السنة صدر قانون الأسرة في مصر والجديد الذي جاء فيه ما نصت عليه المادة "134": أ- للزوجة التي تزوج عليها زوجها وإن لم تكن قد اشترطت عليه في العقد ألا يتزوج عليها أن تطلب التفريق بينها وبينه وفي مدى شهرين من تاريخ علمها بالزواج ما لم ترض به صراحة أو دلالة. ب- ويتجدد حقها في طلب التفريق كلما تزوج بأخرى.   (1) ((مجلة الرسالة)) (العدد 773) السنة 16 إبريل 1948م ط489 – عبدالمتعال الصعيدي. (2) ((مجلة الرسالة)) (العدد 773) السنة 16 إبريل 1948م ط489 – عبدالمتعال الصعيدي. (3) ((الفكر الديني في مواجهة العصر)) عفت الشرقاوي (ص 237). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 ج- وإذا كانت الزوجة الجديدة قد فهمت من الزوج أنه غير متزوج بسواها ثم ظهر أنه متزوج فلها أن تطلب التفريق. كما نصت هذه المادة على أن "التفريق للزواج بأخرى طلاق بائن" (1). وهذا لا شك "قيد ثقيل يعز تحققه .. "؟! والاتجاه العام إلى تقييد تعدد الزوجات سائر على منهج مدروس وقد بدأت بعض السلطات في بعض البلدان الإسلامية في إصدار قوانين تحرم من يعدد زوجاته من بعض الحقوق أو المزايا التي يتمتع بها سائر المواطنين كحرمانه من الاشتراك في نقابة أو ناد معين أو قصر الإعارة للخارج على المتزوجين بواحدة أو السماح بالعلاج المجاني لزوجة واحدة أو قصر الإعفاء الضريبي على المتزوجين بواحدة (2) ونحو ذلك. وهذا كله ولا شك في سبيل "تقييد تعدد الزوجات بقيد ثقيل ... يعز تحققه – ومن لم يلتزمه فزواجه غير "إسلامي" "والانتقال بعد هذا إلى الخطوة الأخرى "منع تعدد الزوجات" دفعة واحدة" وبهذا لا يشق هذا الأمر على "من اعتاد على تعدد الزوجات"؟! هـ- في السياسة: عمى الألوان مرض يصيب البصر لا يستطيع صاحبه التفريق أو التمييز بينها، وأحسب أن عمى الألوان هذا يصيب البصيرة فلا يستطيع صاحبه أن يفرق بين دين ودين، ومنهج وآخر. نظرت طائفة من المسلمين أو من المنتسبين للإسلام إلى ما حدث في أوروبا في العصور الوسطى، وإلى ما حدث من صراع هناك بين الدين والعلم، وبين الدين والسياسة، وبين الدين والدولة، نظروا إلى "رجال دين" يستندون إلى كتب "محرفة" وما فيها يخالف حقائق العلم ونظرياته، أضف إلى هذا تشدد أولئك "رجال الدين" في مواجهة خصومهم. ليس هناك مجال آخر دين محرف أقواله تصادم حقائق علمية، ورجاله متصلبون متشددون، فكان لابد من قيام ثورة للفصل بين الدين والدولة، بين الدين والسياسة بين الدين والعلم، فعزلوا الدين وأقصوه. حسب من أصيب بعمى البصيرة أن كل دين كهذا الدين المحرف، فأراد من ينتسب إلى الإسلام منهم أن يطبق تلك الثورة على دينه الذي ينتسب إليه – إما عن جهل منه وإما عن خبث فيه – فدعوا إلى فصل الدين عن الدولة، وجعل الدين مجرد عبادة تؤدى في المسجد فإذا خرجت إلى الشارع فقد تعدت حدودها وتجاوزت مراسيمها ووجب عقابها وقمعها. فليبق الدين في المسجد؟! ولتبق الوطنية والقومية .. الخ في الشارع، وليسرح الناس وليمرحوا حسب نظامهما، دينهم الوطن وعقيدتهم القومية. وكان من السابقين السابقين إلى هذه الدعوة الشيخ محمد عبده حيث قال "إن خير أوجه الوحدة الوطن لامتناع الخلاف والنزاع فيه" (3) والشيخ نفسه هو الذي صاغ برنامج "الحزب الوطني" المصري وجاء فيه "الحزب الوطني حزب سياسي لا ديني فإنه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذاهب، وجميع النصارى واليهود وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم بلغتها منضم إليه" (4) ودافع عن القبط في مصر قائلاً "ليس من اللائق بأصحاب الجرائد أن يعمدوا إلى إحدى الطوائف المتوطنة في أرض واحدة فيشملوها بشيء من الطعن أو ينسبوها إلى شائن من العمل تعللاً بأن رجلاً أو رجالاً منها قد استهدفوا لذلك ... " (5).   (1) ((تعدد الزوجات)) عبدالناصر توفيق العطار (ص 316 - 317). (2) ((تعدد الزوجات)) عبدالناصر توفيق العطار (ص 320). (3) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) رشيد رضا (2/ 194). (4) ((الأعمال الكاملة لمحمد عبده)) جمع محمد عمارة (1/ 107) و ((التاريخ السري)) بلنت (ص 442). (5) ((الأعمال الكاملة لمحمد عبده)) جمع عمارة (1/ 108). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 وهو في هذا يقلد أستاذه الأفغاني الذي دعا إلى القومية والوطنية "الفرعونية" في مصر حيث يقول موجهاً حديثه للعوام "إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد ... تناوبتكم أيدي الرعاة ثم اليونان والرومان والفرس ثم العرب والأكراد والمماليك ثم الفرنسيس والمماليك والعلويين وكلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه ويهيض عظامكم بأداة عسفه وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم ولا صوت .. انظروا أهرام مصر وهياكل منفيس وآثار تيبه ومشاهد سيوه وحصون دمياط شاهدة بمنعمة آبائكم وعزة أجدادكم:- وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبه بالرشيد فلاح (1) وأتبعا القول بالعمل فجدا واجتهدا في سبيل هدم الخلافة الإسلامية، واستقلال العرب عن الأتراك والتقريب بين الأديان. وقد سرت هذه الأفكار والمبادئ في المجتمع الإسلامي بعد ذلك وانتشرت ولا نزال حتى ساعتنا هذه نعاني من آثارها. وظهرت آثارها أول ما ظهرت في الثورة الكمالية الإلحادية في تركيا حيث عملت أول ما عملت على فصل الدين عن الدولة وقالوا فيما قالوا "إننا نحن العثمانيين لا يمكن أن نترقى إلا إذا نبذنا الدين وراء ظهورنا وعصرنا العلماء عصراً نمحقهم به محقاً، وسرنا وراء فرنسا خطوة خطوة" (2).وأشاد بعض العرب بهذه الحركة وفتن بها كثير منهم قال أحدهم "حصل التقدم في تركيا بعد نبذها تعاليم رجال الدين وفتاويهم وفصلها الأمور الزمنية عن الدينية، واستغنائها عن قراءة البخاري في السفن البحرية" (3). وفي سنة 1925م وضع علي عبدالرزاق كتابه الإسلام وأصول الحكم خاض فيه في مبحثين: 1) هل منصب الخلافة ديني أم سياسي أم هو مزيج من كليهما معاً؟ 2) هل منصب الخلافة ضروري للمسلمين؟ (4) وهو في سبيل فصل الدين عن الدولة تضمن:- 1 - جعل الشريعة الإسلامية روحية محضة لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا. 2 - أن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين ولإبلاغ الدعوة إلى العالمين. 3 - وأن نظام الحكم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان موضوع غموض أو إبهام أو اضطراب أو نقص وموجباً للحيرة. 4 - وأن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم كانت بلاغاً للشريعة مجرداً عن الحكم والتنفيذ. 5 - وإنكار إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام وعلى أنه لا بد للأمة ممن يقوم بأمرها في الدين والدنيا.   (1) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) رشيد رضا (1/ 46 - 47) و ((زعماء الإصلاح)) أحمد أمين (ص 78 - 79). (2) ((مجلة المنار)) مجلد 16 ج2 ص عدد صفر 1331 هـ (ص: 132). (3) ((هذا هو الإسلام)) فاروق الدملوجي (ص 213). (4) ((الإسلام وأصول الحكم)) علي عبدالرزاق؛ (ص 5). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 6 - وإنكار أن القضاء وظيفة شرعية.7 - وإن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده رضي الله عنهم كانت لا دينية" (1).وجاء فيه "الدنيا من أولها لآخرها وجميع ما فيها من أغراض وغايات أهون عند الله تعالى من أن يبعث لها رسولاً وأهون عند رسل الله تعالى من أن يشغلوا بها وينصبوا لتدبيرها" (2).وزعم "أن كل ما جاء به الإسلام من عقائد ومعاملات وآداب وعقوبات فإنما هو شرع ديني خالص لله تعالى ولمصلحة البشر الدينية لا غير، وسيان بعد ذلك أن تتضح لنا تلك المصالح الدينية أم تخفى علينا، وسيان أن يكون منها للبشر مصلحة مدنية أم لا فذلك مما لا ينظر الشرع السماوي إليه ولا ينظر الشرع السماوي إليه ولا ينظر إليه الرسول" (3).وقال "التمس بين دفتي المصحف الكريم أثراً ظاهراً خفياً لما يريدون أن يعتقدوا من صفة سياسية للدين الإسلامي ثم التمس ذلك الأثر مبلغ جهدك بين أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، تلك منابع الدين الصافية في متناول يديك، وعلى كثب منك فالتمس منها دليلاً أو شبه دليل فإنك لن تجد عليها برهاناً، إلا ظناً وإن الظن لا يغني عن الحق شيئا" (4). ولن ندع مثل هذا التحدي لهذا القزم المتعملق من غير رد، ولن نأتيه بشبه دليل بل نأتيه بالصاعقة قال تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ [النساء 105] وهل الحكم بين الناس إلا عين السياسة وهدفها ولا نريد أن نعدد الأدلة بعد هذا فهي جد طويلة ولكن أتينا بما طلبه "التمس دليلاً أو شبه دليل ... " إلخ؟!.وقال بنحو هذا محمد أحمد خلف الله في كتابه "القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة" حيث يقول "إن رياسة الخلفاء الراشدين للدولة العربية "!! " لم تكن دينية بحال من الأحوال وإنما كانت مدنية صرفة" (5).وقال "والقرآن الكريم قد أعرض إعراضاً تاماً عن الحديث في نظام أساسي للدولة العربية الإسلامية وترك أمر ذلك للمواطنين "!! " يقررون فيه ما يشاؤون "!! "" (6).ودعوا إلى حركة القومية العربية وقالوا: "إن هذه الحركة لم تتخذ من الإسلام خاصة ومن الدين عامة أساساً لها، وإنما مضت على أساس عربي خالص" (7) "وإن الفكرة العربية أكثر انتشاراً وأوسع نفوذاً من الفكرة الإسلامية" (8). ودعوا إلى توحيد الأديان وصهرها بعضها ببعض وهو سبيل من سبيل القومية قال أبو رية "إن الناس سيصلون إن شاء الله بعلومهم وعقولهم إلى مرتقى تزول فيه الجنسيات الدينية وتختفي العصبيات المذهبية ويجتمعون على دين واحد يشمل الناس جميعاً وهذا الدين يقوم على ثلاث قواعد: 1 - إيمان بالله. 2 - عمل صالح في الحياة.   (1) ((حكم هيئة كبار العلماء في كتاب الإسلام وأصول الحكم)) (ص 5 - 6). (2) ((الإسلام وأصول الحكم)) علي عبدالرزاق (ص 154). (3) ((الإسلام وأصول الحكم)) علي عبدالرزاق (ص 171 - 172). (4) ((الإسلام وأصول الحكم)) علي عبدالرزاق (ص 151). (5) ((القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة)) محمد أحمد خلف الله (ص 82). (6) ((القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة)) محمد أحمد خلف الله (ص 82). (7) ((مجلة العربي)) العدد الأول مقال ((القومية العربية كما يجب أن نفهمها)) محمد أحمد خلف الله (ص 22 و 24). (8) ((مجلة العربي)) العدد الأول مقال ((القومية العربية كما يجب أن نفهمها)) محمد أحمد خلف الله (ص 22 و 24). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 3 - إيمان باليوم الآخر. أما ما وراء ذلك مما هو خارج عن علمهم فأمره مفوض إلى ربهم وبذلك يعيشون الحياة تحت ظل السعادة الظليل متحابين متعاونين على عمل ما فيه الخير لكل قبيل" (1).وإذا ما استنكر أحدهم الترحم على نصراني قال "إذا كان حكمكم على الكافر صحيحاً فإن النصراني ليس بكافر" (2). ولنقف هنا ولنجمع الشتات. القومية الوطنية. التقريب بين الأديان. فصل الدين عن الدولة. أحسبها وجوهاً متعددة لقضية واحدة، هدفها واحد: إقصاء الدين الحق وقيام قومية وطنية .. لا دينية "علمانية" .. تنبذ الدين وتقصيه عن ميدان السياسة وحينئذ يسهل انقيادها لمن خطط لذلك ووقف خلفه من وراء الستار هل ترون الأصابع الخفية؟! إنها الصهيونية العالمية تسعى للقضاء على القومية الدينية. وصهر الأديان تحت عنوان التقريب بينها وهو تذويب لها وتدمير. وفصل الدين عن الدولة. وظفرت في يومنا هذا على حلم كبير من أحلامها فقد صرح زعيم عربي بـ فصل الدين عن الدولة بمنع الخطباء في المساجد من التعرض لما يجري في السياسة ... الخ. وسعى ويسعى في بناء مسجد "إسلامي" و "كنيسة نصرانية" و "معبد يهودي"في سيناء في سبيل التقريب بين الأديان أليس "خير أوجه الوحدة الوطن" كما يقول الشيخ محمد عبده (3) آخر أخبار هذا المشروع أن هذا الزعيم طلب من ممثلة أفلام الخلاعة والجنس أن تتبرع لبناء هذه المعابد ولو بدولارين. وفي الإجتماع والأسرة: والحديث هنا متشعب الأطراف متعدد الجوانب وأهم الأطراف وأخطر الجوانب قضية المرأة أليست المرأة هي الأم وهي الأخت وهي البنت وهي الزوجة وهي المربية وهي المعلمة؟! وهي في كل قاعدة تقف عليها أو منصب يجد الرجل والطفل والشاب ما يجذبه إليها ويشده ومن هنا يكون تأثيرها. إن صلحت أصلحت وإن فسدت أفسدت أليست المرأة الصالحة خير متاع الدنيا؟! إذاً فاظفر بذات الدين ترتبت يداك. وأحسب أن المرأة جوهرة يجب أن تصان عن أعين اللصوص وغبار الطريق ما الذي ترجوه من امرأة خلعت جلبابها وهتكت سترها وتزينت وتبرجت وفتنت وافتتنت واختلطت برجال تأججت غرائزهم وانفلت زمامهم، ما إن يفتح أحدهم مجلة حتى يرى الصورة المثيرة، ويذهب إلى دار السينما فيرى ما هو أشد ويفتح التلفاز والمذياع فيسمع ويرى قصص الحب والغرام وماذا بعد هذا؟! ينظر إلى زميلته في العمل أو على كرسي المدرسة وقد اكتست من المدنية سربالاً وتزينت بزينتها ولبست لباسها وأصابها ما أصاب الرجل نفسه وخلا لهم المكان والزمان بعد هذا؟!   (1) ((دين الله واحد على ألسنة جميع الرسل)) محمود أبو رية (ص 168). (2) ((دين الله واحد على ألسنة جميع الرسل)) محمود أبو رية (ص 28). (3) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) رشيد رضا (2/ 194). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 ما الذي ترجوه من امرأة تسلم أولادها لمربية وتخرج إلى واجهات المتاجر والمعارض وتتخذ وسيلة لإغراء المشترين حيث تحدثهم بأرق حديث وألينه، أو تتجه إلى آلات المصانع ودخان المعامل وتهين نفسها بين العمال والموظفين هذا يغمزها وذاك يلمزها وذاك ينظر إليها بعين النهم؟! أو تنساق وراء مغريات الحضارة والحياة الغربية وتتبع شهواتها ورغباتها والمتعة المحرمة؟ كل هذا ولا شك سبب خطير لوقوعها في الرذيلة، إن لم تختصر الطريق وتجعل الرذيلة مهنتها ... وحينئذ فلا أسرة؟ وتشتت الأسر ضياع للمجتمع، وضياع المجتمع ضياع للأمة؟ إذاً فضياع المرأة ميزان لضياع الأمة يرتفع ضياعها بارتفاع ضياع المرأة وينخفض بانخفاضه ويسلم بسلامتها، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) (1) , وفي رواية ((أضر على أمتي)) (2).وقبل هذا قال تعالى زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران: 14] عدد سبحانه في هذه الآية متاع الحياة الدنيا وجعل في مقدمته النساء قال ابن حجر رحمه الله تعالى "وبدأ بهن قبل بقية الأنواع إشارة إلى أنهن الأصل في ذلك" (3).أدرك ذلك المقياس العز لدين الله لما قيل له: إن نساء قصر الإخشيد قد أغرقن في الترف ورفعن نقاب الحياء والسرف واستهن بالفضيلة وتركن رسالتهن قال في زهو وانتصار "اليوم فتحت يا مصر" (4). وأدرك هذا الشاعر العربي حين قال: الأم مدرسة إذا أعددتها ... أعددت شعباً طيب الأعراق وأدرك هذا أيضاً الاستعمار ومن خلفه الصهيونية العالمية وجندت جنودها لهذا الهدف، ولقد خدمها ولا زال يخدمها في تحقيقه كثير وكثير من الناس منهم من يعلم أنه جند من جنود الاستعمار ومنهم من يعلم أنه جند من جنود الصهيونية نفسها ومنهم إمعة يخدمهم من حيث لا يدري. ظهر أول كتاب في مصر يدعو إلى "تحريرها" من النظام الإسلامي سنة 1894م عنوانه (المرأة في الشرق) لمؤلفه مرقص فهمي المحامي وبعده بسنوات خمس أصدر قاسم أمين كتابه الأول (تحرير المرأة) دعا فيه إلى: 1 - القضاء على الحجاب الإسلامي المعروف. 2 - إباحة الاختلاط للمرأة المسلمة بالأجانب عنها.   (1) رواه البخاري (5096) , ومسلم (2740) , من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه. (2) رواه أحمد (5/ 200). (3) ((فتح الباري شرح صحيح البخاري)) ابن حجر العسقلاني (9/ 138). (4) ((الحركات النسائية وصلتها بالاستعمار)) جمع محمد عطية خميس (ص 14). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 3 - تقييد الطلاق ووجوب وقوعه أمام القاضي.4 - منع الزواج بأكثر من واحدة (1).ونحن ندرك صلة الشيخ محمد عبده بهذا الكتاب فهي لا تخفى وسبق الحديث عنها وأقل ما قيل في هذه الصلة أن هذا الكتاب "وضعه – قاسم أمين – بإيعاز من الأميرة نازلي وبتشجيع من المغفور له الشيخ محمد عبده" (2).وقد حقق الأستاذ محمد عمارة في (الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده) أن هذا الكتاب إنما جاء ثمرة لعمل مشترك بين كل من الشيخ محمد عبده وقاسم أمين .. وإن في هذا الكتاب عدة فصول قد كتبها الأستاذ الإمام وحده، وعدة فصول أخرى كتبها قاسم أمين ثم صاغ الأستاذ الإمام الكتاب صياغته النهاية بحيث جاء أسلوبه على نمط واحد هو أقرب إلى أسلوب محمد عبده منه إلى أسلوب قاسم أمين" (3). وقد أحدث صدور هذا الكتاب ضجة في المجتمع المصري دونها الضجة التي أحدثها على عبدالرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) أو طه حسين في (في الشعر الداهلي) أو محمد أحمد خلف الله في (الفن القصصي في القرآن الكري). ذلك أن هذه الكتب إنما يعنى بها رجال السياسة والأدب وعلوم القرآن وإن شئت فقل الطبقة المثقفة. أما (تحرير المرأة) فيمس كل الطبقات لارتباطه بحياة كل أسرة وتناوله المباشر لأحد أركانها ولهذا كان له من الأثر والصدى في المجتمع وردود الفعل ما لم يكن لتلك. قالوا عن الكتاب فيما قالوا "إننا نظن أن يكون ظهور هذا الكتاب مصدر تغير عظيم في أفكار الأمة ينشأ عنه فيما بعد تغير أعظم في أخلاقها ... " (4). لذلك فلا عجب أن يقوم ضد هذا الاتجاه الفكري طائفة من الناس كبيرة إما لغرض ديني محض، وإما تقرباً للمجتمع المصري الرافض لهذا الاتجاه وهو الجانب الأكبر. وقف فيمن وقف ضد هذا الاتجاه الحزب الوطني (5) الذي شجب هذا الاتجاه في أول اجتماع عقده بعد صدور الكتاب في 5 شعبان 1317هـ 18 سبتمبر 1899م وفتح صدر صحيفته اللواء لكل طاعن على قاسم أمين وأفكاره (6).وحينما توفي قاسم سنة 1908م وأقام له شيعته حفلة تأبين أشادوا فيها بدعوته إلى السفور قابل رجال الحزب الوطني هذه الحركة بإقامة احتفال كبير للدعوة إلى الحجاب (7).وفي مقابلة هذا كان "حزب الأمة" من المناصرين لقاسم أمين وأفكاره على صفحات "الجريدة" وكان لطفي السيد باشا في مقدمة المروجين لها بمقالاته العديدة (8).وكان لابد من تدخل الاستعمار الذي استغل فترة الحرب العالمية الأولى فاعتقل رجال الحزب الوطني وأوعز إلى أنصار الدعوة النسائية بإصدار مجلتهم (السفور) (9) وحتى هذا الوقت كانت النساء الداعيات إلى السفور يخرجن في مظاهرات وهن متحجبات ومنهن هدى شعراوي وصفية زغلول حرم سعد زغلول أحد تلاميذ الأستاذ الإمام.   (1) ((الحركات النسائية وصلتها بالاستعمار)) جمع محمد عطية خميس (ص 14). (2) ((الحركات النسائية وصلتها بالاستعمار)) جمع محمد عطية خميس (ص 74). (3) ((الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده)) جمع وتحقيق محمد عمارة (1/ 252). (4) ((الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده)) جمع وتحقيق محمد عمارة (ص245). (5) هذا حزب وطني جديد ليس هو الذي شارك محمد عبده في صياغة دستوره وسبق الحديث عنه. (6) ((الحركات النسائية وصلتها بالاستعمار)) جمع محمد عطية خميس (ص 75 - 76). (7) ((الحركات النسائية وصلتها بالاستعمار)) جمع محمد عطية خميس (ص 78). (8) ((الحركات النسائية وصلتها بالاستعمار)) جمع محمد عطية خميس (ص 80 - 81). (9) ((الحركات النسائية وصلتها بالاستعمار)) جمع محمد عطية خميس (ص 80 - 81). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 وفي عام 1922م تلقت هدى شعراوي دعوة من الاتحاد النسائي الدولي بروما وعند عودتها ورسو الباخرة في الميناء المصري ألقت حجابها في ماء البحر .. ثم كونت الاتحاد النسائي المصري عام 1923م ووضعت حجر الأساس له في أبريل 1924م. ودعا الاتحاد النسائي إلى تطبيق المبادئ التي نادى بها مرقص فهمي وقاسم أمين وفي مقدمتها تعديل قوانين الطلاق ومنع تعدد الزوجات علاوة على المطالبة للمرأة بالحقوق الاجتماعية والسياسة المزعومة (1) وبعد عشرين عاماً من إنشائه أي سنة 1944م استطاع الاتحاد النسائي أن يمهد لعقد المؤتمر النسائي العربي وجاءت قراراته بالدعوة إلى تطبيق ذلك؟!.هل تريدون أن أذكر شيئا من صلة الصهيونية العالمية بذلك؟ إذن فاعلموا أن حرم الرئيس الأمريكي روزفلت أبرقت إلى المؤتمر بتاريخ 17 ديسمبر 1944م أشادت فيها بالاتحادات النسائية في البلاد العربية وقالت فيها إنها "واثقة" من أن النساء العربيات سيقمن بدورهن إلى جانب شقيقاتهن في بلدان العالم أملاً في نشر التفاهم والسلم العالمي في المستقبل "ولسنا في حاجة إلى أن نذكر الجهد الكبير الذي بذلته مسز روزفلت في تكوين الوطن القومي لليهود في فلسطين ... " (2). وعقب هذا المؤتمر تكون "الحزب النسائي" سنة 1945م وفي عام 1949م تكون حزب بنت النيل وزعيمته درية شفيق وأصدر العديد من المجلات بالعربية والفرنسية للكبار والصغار. وأول سؤال يتبادر إلى الذهن هو السؤال عن إيرادات هذا الحزب المالية وقدرته على إصدار هذه المجلات؟ والجواب كما نشرت الصحف بعد ذلك أنه من سفارتي بريطانيا وأمريكا؟!.وقد لقي هذا الحزب الترحيب من الاستعمار بكافة دوله، وزيرة الشؤون الاجتماعية في انجلترا تقوم بزيارته ورئيسة الاتحاد الدولي تبرق إلى رئيسة الحزب تدعوها للزيارة في أثينا. وجمعية سان جيمس النسائية بانجلترا تهنئ الهيئات النسائية المصرية على كفاحها وتعلن تأييدها لها، ورئيسة لجنة الحقوق الاقتصادية بالاتحاد الدولي تقوم بزيارة على مصر لغرض الاطمئنان على أحوال الجمعيات النسائية في مصر (3).اهتمام عجيب ما عهدناه منهم فيما فيه صلاحنا وصلاح ديننا ولكنهم يدركون أنهم بذلك إنما يسعون لخدمة مصالحهم الصهيونية؟! نعم الصهيونية ذاتها! أتريدون شاهداً على ذلك! لقد دعا المؤتمر النسائي الدولي إلى اجتماع في استوكهلم عاصمة السويد ومن قراراته قرار يقضي بمطالبة وزير الداخلية في السويد بإنزال أشد العقوبات على مسيو أنيراير؟ أتدرون لماذا؟!؟ لمواصلته أعمال الدعاية ضد الصهيونية في السويد!! وقد كتب مسيو أنيراير على إثر ذلك إلى الجامعة العربية والحكومة المصرية يستنكر موقف مندوبات الهيئات النسائية المصرية الممثلة في المؤتمر لموافقتهن على هذا القرار (4)!! وبهذا وغيره كثير تبدو لنا صلة الحركات النسائية بالاستعمار ومن خلفه الصهيونية العالمية. ومعذرة إذا أطلت الحديث عن الاتحادات النسائية وصلتها بالاستعمار فما قصدت إلا بيان أثر تلكم الدعوة التي قام بها رجال المدرسة العقلية الحديثة بزعامة أستاذهم محمد عبده لما أسموه "تحرير المرأة" والصلة بين هذه الحركات النسائية ودعوة الأستاذ محمد عبده وتلميذه قاسم أمين صلة قوية واضحة. بقي .. وقفة .. وهمسة.   (1) ((الحركات النسائية وصلتها بالاستعمار)) جمع محمد عطية خميس (ص 82 - 83). (2) ((الحركات النسائية وصلتها بالاستعمار)) جمع محمد عطية خميس (ص 85 - 86). (3) ((الحركات النسائية وصلتها بالاستعمار)) جمع محمد عطية خميس (ص 86 - 93). (4) ((الحركات النسائية وصلتها بالاستعمار)) جمع محمد عطية خميس (ص 94 - 95). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 وقفة مع محمود عوض الذي أبدى دهشته وأسفه لتحول منزل قاسم أمين "إلى كباريه .. كباريه اسمه .. اسمه الإريزونا! ". وهمسة نهمسها في أذن محمود عوض هذا:- ألا تستقي العبرة .. ألا تستوحي من هذا أن هذه "الدعوة" توصل إلى هذه "النتيجة". ز- في السيرة النبوية: وعلى النهج الذي سلكناه في بيان أثرهم في بعض النواحي الفكرية فلن يشمل الحديث هنا أثرهم في جميع جوانب تأريخ السيرة النبوية وإنما في جانب هو أسها وقاعدتها وأعني به المعجزات المحمدية. وممن تأثر بهم في هذه المسألة وسار على خطاهم محمد حسين هيكل في كتابه (حياة محمد) فهو حرصاً منه على تضييق نطاق الغيبيات التي لا تتفق مع عملية الغرب المادية، راح ينكر كل معجزة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ويستثنى من هذا – كما استثنوا – معجزة القرآن الكريم. حتى عنوان الكتاب (حياة محمد) يبدو التأثر فيه واضحاً فليس فيه ما يشير إلى رسالته أو نبوته بل "محمد" مجرد من كل شيء كأي "محمد" سواء، أليس هذا هو ما يبقى له بعد تجريده من المعجزات وأليس هذا هو مراد الغربيين من ذلك، وإن ثبت له شيء بعد هذا فإنما هي العبقرية لا النبوة، ولا أحسب هيكل أراد هذا بهذا العنوان وقصده وإنما هو التلقي والتأثر عن الغربيين من غير أن تترك له عين الرضا والإعجاب والدهشة التمحيص والتأمل وهو أمر أصاب غيره وكثير من قبله ومن بعده حتى ألفت الأسماع هذا وهو نشاز .. ويزداد خوفي عندما أقرأ له عند مناقشة إحدى القضايا عبارة "وندع الدين جانباً" (1) يزداد خوفي أن يكون أراد ترك الدين جانباً في عنوان كتابه (حياة محمد)؟! أنكر أو أوَّل المعجزات لنبينا صلى الله عليه وسلم إلا معجزة القرآن الكريم، ونحن لا ننكر أن معجزته صلى الله عليه وسلم الكبرى هي القرآن الكريم ولكننا ننكر حصر معجزاته صلى الله عليه وسلم في ذلك وإنكار ما سوى المعجزة القرآنية كما بينا ذلك سابقاً. فنحن المسلمون نؤمن بما ثبت من معجزاته صلى الله عليه وسلم غير القرآن الكريم، نؤمن بانشقاق القمر وبالإسراء والمعراج وقصة فرس سراقة وبصقة صلى الله عليه وسلم في عين علي فبرئت وكلها ورد في البخاري ومسلم. وغير ذلك من معجزاته الثابتة نؤمن بها ونؤمن مع هذا بمعجزة القرآن الكريم وأنه المعجزة الكبرى.   (1) ((حياة محمد)) محمد حسين هيكل (ص 34). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 لكن الأستاذ هيكل يرفض هذا لأسباب: الأول: أن أكثر هذه المعجزات لا يصدقها العقل حيث يقول "وندع الدين جانباً (!!) ونقف عند سيرة صاحبه عليه السلام فقد أضافت أكثر كتب السيرة إلى حياة النبي ما لا يصدقه العقل ولا حاجة إليه في ثبوت الرسالة" (1).الثاني: أن العلم لا يقرها ومن الواجب مراعاة جانب الدقة العلمية في تمحيصها قال "أمر ومضرة الروايات التي لا يقرها العقل والعلم قد أصبحت واضحة ملموسة فمن الحق على كل من يعرض لهذه الأمور أن يراعي جانب الدقة العلمية في تمحيصها خدمة للحق وخدمة للإسلام ولتاريخ النبي العربي، وتمهيداً لما يجلوه البحث في هذا التاريخ العظيم من حقائق تنير أمام الإنسانية سبيلها إلى حضارتها الصحيحة" (2).الثالث: أن القرآن لم ينص عليها قال "لم يرد في كتاب الله ذكر لمعجزة أراد الله بها أن يؤمن الناس كافة على اختلاف عصورهم برسالة محمد إلا القرآن الكريم" (3).ثم قال "أما وذلك ما يجري به كتاب الله وما يقتضيه حديث رسول الله فأي داع دعا طائفة من المسلمين فيما مضى ويدعو طائفة منهم اليوم إلى إثبات خوارق مادية للنبي العربي؟ إنما دعاهم إلى ذلك أنهم تلوا ما جاء في القرآن عن معجزات منهم سبق محمداً من الرسل فاعتقدوا أن هذا النوع من الخوارق المادية لازم لكمال الرسالة فصدقوا ما روي منها وإن لم يرد في القرآن" (4)؟! وقال في موضع آخر "فما دام الوحي لم ينزل بها فلا جناح على من يؤمن بالله ورسوله أن يجعل ما يتصل به من أمرها محل تمحيص فما ثبت بالحجة اليقينية أخذ به، وما لم يثبت بها فله فيه رأيه، ولا تثريب عليه، فالإيمان بالله وحده لا شريك له لا يحتاج إلى معجزة، ولا يحتاج إلى أكثر من النظر في هذا الكون الذي خلقه الله والشهادة برسالة محمد .. لا تحتاج إلى معجزة غير القرآن" (5).وقال "فقد لاحظ الذين درسوا هذه الكتب أن ما روته من أنباء الخوارق والمعجزات ومن كثير غيرها من الأنباء كان يزيد وينقص دون مسوغ إلا اختلاف الأزمان التي وضعت هذه الكتب فيها فقديمها أقل رواية للخوارق من متأخرها" (6). ولنا وقفة مع هيكل هنا فقد كشف لنا ناحية أخرى من نواحي تأثره برجال المدرسة العقلية الحديثة ألا وهو التقليل من شأن السنة والاحتجاج بها. ما الذي يقصده بقوله "فصدقوا ما روي منها وإن لم يرد في القرآن" هل يقصد أنه لا يصح شيء مما ورد في السنة واستقلت ببيانه ولم يرد في القرآن!؟ إن كان يقصد هذا فالأمر أخطر وأكثر ضلالاً وانحرافاً؟! وهل يقول هذا من فقه الإسلام؟! إذن ففي أي سورة من سور القرآن ذكر عدد ركعات الصلوات الخمس وأوقاتها وفي أي سورة بيان أنصبة الزكاة المفروضة وفي أي سورة بيان وقت الصوم وفي أي سورة بيان أركان الحج وواجباته؟ إن لم يكن هذا كله مما لا يصدق لأنه لم يرد في القرآن فأي شيء من الإسلام يبقى؟!   (1) ((حياة محمد)) محمد حسين هيكل (ص 34). (2) ((حياة محمد)) محمد حسين هيكل (ص70). (3) ((حياة محمد)) محمد حسين هيكل (ص71). (4) ((حياة محمد)) محمد حسين هيكل (ص71). (5) ((حياة محمد)) محمد حسين هيكل (ص72). (6) ((حياة محمد)) محمد حسين هيكل (ص64). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 إذن ففقه الإسلام وحقيقته تحتم الأخذ بالسنة مع القرآن الكريم، وبهما معاً يكون كمال الإسلام ومن نبذ أحدهما فقد نبذ الإسلام كله لأن الإسلام كل لا يتجزأ "والإسلام الكامل" الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله وأمر بنشره جاء بالمعجزات ورواها عنه أصحابه إلى أن وصلت إلينا كما وقعت، وإن أصاب رواياتها ما أصاب غيرها من الروايات من الزيادة أو النقص أو الوضع فإن هذا لا يبرر رفضها جميعا وإنكارها. فإن أهل الحديث قد محصوا الروايات ونقوها من الزيادات الموضوعة وبينوا الدخيل منها والأصيل. ولو أنه دعا إلى التمحيص والتدقيق القائم على القواعد والأسس الثابتة التي سار على نهجها سلفنا علماء الحديث لحمدنا له ذلك ولامتدحناه، أما أن يرفض المعجزات النبوية التي رويت في الصحاح وأقرها علماء الحديث المسلمون يرفض هذا كله لمجرد أن شابه بعض الوضع فهذا منهج مردود. أما الزعم بأنه مخالفة للعقل أو العلم فهذا لا يثبت ولا يصح وقد سبق بحثه في المعجزات. وليعلم أولئك الذين يسعون لتجريد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من المعجزات تقرباً منهم "للعلمية الغربية" إنهم بهذا يجنون جناية لا تغتفر وأنهم بهذا يجردونه من صفة النبوة إلى صفة "العبقرية" التي يقر بها بعض "أحرار الإفرنج" ويطمعون منا أن نسلم لهم بهذا وهو ما يؤدي إليه تجريده صلى الله عليه وسلم من المعجزات. وحتى ندرك عمق هذا الأثر لنقرأ النتيجة التي توصل إليها هيكل في كتابه حياة محمد بعد أن جرد حياته صلى الله عليه وسلم من المعجزات "المادية" قال "فحياة محمد – كما رأيت – حياة إنسانية بلغت من السمو غاية ما يستطيع إنسان أن يبلغ، وكانت لذلك أسوة حسنة لمن هداه القدر أن يحاول بلوغ الكمال الإنساني من طريق الإيمان والعمل الصالح" (1). وتأمل معي وصفه لحياته صلى الله عليه وسلم بأنها بلغت "غاية ما يستطيع إنسان أن يبلغ" وأنها "أسوة حسنة" لمن "يحاول بلوغ الكمال الإنساني".   (1) ((حياة محمد)) محمد حسين هيكل (ص 579 - 580). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 إذن فحياته صلى الله عليه وسلم ليست حياة نبوة، لأن حياة النبوة ليس في قدرة الإنسان بلوغها حتى يحاول ذلك وليست غاية ما يستطيع الإنسان أن يبلغ لأن غاية ذلك دونها بكثير، وإنما هذا شأن السمو الإنساني المجرد من النبوة وإن شئت فسمه العبقرية. والاعتراف بالعبقرية لنبينا صلى الله عليه وسلم لا يكفي لصحة الإيمان برسالته إلا عند المنهزمين أمام العلمية الغربية الذين اعتبروا أن الاعتراف "بأن محمداً صلى الله عليه وسلم كان عبقرياً من طراز خاص فاق به جميع العباقرة" أنه "كسب عظيم للقائلين بنبوته" (1).وتأثرهم بالعلمية الغربية والمستشرقين تجاوز حده إلى قبول أقوالهم وأخذها بعين الاعتبار وتقديمها في الحكم على الأحاديث ومن حيث السند أيضاً على أقوال أهل الحديث أنفسهم، فحديث شق الصدر الذي رواه البخاري ومسلم يقول فيه هيكل "لا يطمئن المستشرقون ولا يطمئن جماعة من المسلمين كذلك إلى قصة الملكين هذه ويرونها ضعيفة السند" (2) ويقول "وإنما يدعو المستشرقين ويدعو المفكرين من المسلمين إلى هذا الموقف من ذلك الحديث أن حياة محمد كانت كلها إنسانية سامية وأنه لم يلجأ إلى إثبات رسالته إلى ما لجأ إليه من سبقه من أصحاب الخوارق" (3).وقد أنكر هيكل غير هذا من الخوارق والمعجزات المحمدية ففي قصة فرس سراقة مثلاً زعم أن ما أصاب فرسه من الكبو إنما هو "لشدة ما جهده" وعند قومة الجواد من كوبته الثانية "كبا كبوة عنيفة ألقى بها الفارس من فوق ظهره يتدحرج في سلاحه وتَطَيَّر سراقة، وألقى في روعه أن الآلهة مانعة منه ضالته وأنه معرض لنفسه لخطر داهم إذا هم مرة رابعة لإنفاذ محاولته" (4).والذي ورد في صحيح البخاري قول سراقة نفسه في وصف ما جرى له ولفرسه عند مطاردته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه في طريق هجرتهما من مكة إلى المدينة قال عن ذلك (ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان "أي غبار" ساطع في السماء مثل الدخان) (5).   (1) ((مجلة الأزهر)) ج1 المجلد العاشر محرم 1358هـ مقال ((السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة)) محمد فريد وجدي (ص 15). (2) ((حياة محمد)) محمد حسين هيكل (ص 111 – 112). (3) ((حياة محمد)) محمد حسين هيكل (ص 111 - 112). (4) ((حياة محمد)) محمد حسين هيكل (ص 227). (5) رواه البخاري (3906). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 وحتى ندرك عمق الصلة بين هيكل وأتباع المدرسة العقلية الحديثة في التفسير وتأثره بهم نذكر أن الشيخ مصطفى المراغي هو الذي كتب المقدمة لهذا المؤلف مشيداً بما جاء فيه ومعجباً به ومؤيداً له. ودافع عن المؤلف والكتاب السيد رشيد رضا في مجلته (المنار) وجاء في دفاعه "أهم ما ينكره الأزهريون والطرقيون على هيكل أو أكثره مسألة المعجزات أو خوارق العادات وقد حررتها في كتاب (الوحي المحمدي .. ) بما أثبت به أن القرآن وحده هو حجة الله القطعية على ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالذات .. وأن الخوارق الكونية شبهة عند علمائه لا حجة لأنها موجودة في زماننا ككل زمان مضى وأن المفتونين بها هم الخرافيون من جميع الملل" (1).والمؤلف نفسه كثيراً ما يستشهد فيما يذهب إليه بأقوال محمد عبده نفسه ويشيد به (2) وأكبر ظنه أن أولئك الذين كتبوا السيرة النبوية لو عاشوا إلى زماننا هذا ورأوا كيف اتخذ خصوم الإسلام ما ذكروه منها حجة على الإسلام وعلى أهله لالتزموا ما جاء به القرآن ولقالوا بما قال به الغزالي ومحمد عبده والمراغي وسائر المدققين من الأئمة (3).ويقول عن الشيخ عبده ودعوته "وكانت دعوته موضع إعجابي وقد دعاني ذلك لقراءة كتابه (الإسلام والنصرانية) وكتاب أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني في (الرد على الدهريين) وأذكر أنه قد كان لكثير من مقالاته في جريدة (العروة الوثقى) التي كان يصدرها مع أستاذه جمال الدين أثناء نفيه نفسه في باريس أثر أبلغ الأثر في نفسي" (4). والصلة بعد هذا قوية لا تنفصم بين هيكل ورجال المدرسة. وممن تأثر بهم أيضاً في هذا الناحية محمد أحمد خلف الله الذي زعم أن القرآن حارب فكرة المعجزات، وبين أنها لم تكن إلا للتخويف والإلزام وأن العقل البشري يجب أن يترك من غير تخويف ليتحمل المسؤولية على أساس من الحرية والمقدرة الحقة على التمييز والمفاضلة والاختيار" (5) و "يحرص القرآن على المعجزات في إثبات نبوة محمد عليه السلام" (6).وزعم أن القرآن حرر الإنسان من "الآيات الملجئة المتمثلة في المعجزات وخوارق العادات ورده إلى نفسه يفكر فيها وإلى الآفاق يتدبر أمورها" (7).وهو أيضا يستند فيما يقول إلى محمد عبده "ويقول الأستاذ الإمام قولاً يؤكد دور القرآن في عملية تحرير العقل البشري من فكرة الخوارق والمعجزات "دخل الإنسان بدين الإسلام في سن الرشد فلم تعد مدهشات الخوارق هي الجاذبة له إلى الإيمان ... إلخ" (8). المصدر: منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير لفهد الرومي - ص 733   (1) ((مجلة المنار)) في 3 مايو 1935 مجلد 34 الجزء العاشر (ص 793). (2) انظر مثلاً الصفحات (34، 70، 181، 520، 521، 571، 573). (3) ((حياة محمد)) محمد حسين هيكل (ص 70). (4) ((مذكرات في السياسة المصرية)) محمد حسين هيكل (1/ 28 - 29). (5) ((القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة)) محمد أحمد خلف الله (ص 76). (6) ((القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة)) محمد أحمد خلف الله (ص 76). (7) ((القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة)) محمد أحمد خلف الله (ص 79). (8) ((القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة)) محمد أحمد خلف الله (ص 77). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 المبحث الخامس: موقف المدرسة العقلية الحديثة من السنة النبوية لقد تأثر رجال هذه المدرسة بالمعتزلة وآرائهم في الحديث النبوي الشريف، رداً وتشكيكاً، وتأثروا كذلك بالشبه التي أثارها المستشرقون، ورددوها في مواقفهم وانحرافاتهم. فعلى طريق المعتزلة (1): مجدوهم ودافعوا عنهم، هم وتلامذتهم كأحمد أمين والنشار وأبي رية. وذموا أهل الحديث وطعنوا في نهجهم. يقول الشيخ محمد عبده: " .. اللهم إلا فئة زعمت أنها نفضت غبار التقليد، وأزالت الحجب التي كانت تجول بينها وبين النظر في آيات القرآن، ومتون الأحاديث، لتفهم أحكام الله منها، ولكن هذه الفئة أضيق عطناً، وأحرج صدراً من المقلدين وإن أنكرت كثيراً من البدع .. " (2).وينقل محمود أبو رية عن شيخه قوله: "ورحم الله أستاذنا الإمام محمد عبده حيث قال: في رجل .. قد حفظ متن البخاري كله، لقد زادت نسخة في البلد" "حقاً والله ما قال الإمام - أي أن قيمة هذا الرجل – الذي أعجب الناس جميعاً به لأنه حفظ البخاري لا تزيد عن قيمة نسخة من كتاب البخاري، لا تتحرك ولا تعي" (3). أهكذا بلغ الأمر بحفظة حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وحملة سنته حتى يسخر بهم أفراخ المعتزلة وتلامذة الغرب، وما الذي قدموه للإسلام غير الطعن فيه والإساءة إليه؟! وأحاديث الآحاد (4): ردها الإصلاحيون، كما ردها سلفهم من أهل الاعتزال، وطعنوا فيها، لأنها تفيد ظناً، ولا مجال للظن في أمور العقائد. قال الشيخ محمد عبده: "وأما ما ورد في حديث مريم وعيسى، من أن الشيطان لم يلمسهما، وحديث إسلام شيطان النبي صلى الله عليه وسلم، وإزالة حظ الشيطان من قلبه، فهو من الأخبار الظنية، لأنه من رواية الآحاد، ولما كان موضوعها عالم الغيب، والإيمان بالغيب من قسم العقائد، وهي لا يؤخذ فيها بالظن، لقوله تعالى: وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [النجم: 28] كنا غير مكلفين بالإيمان بمضمون تلك الأحاديث في عقائدنا" (5).والأحاديث صحيحة وردت في البخاري ومسلم، فحديث شق صدره صلى الله عليه وسلم وإزالة حظ الشيطان أخرجه مسلم (6) "كتاب الإيمان 1/ 147".وحديث مس الشيطان لعيسى ابن مريم وأمه رواه البخاري (7) وحديث إسلام شيطان النبي أخرجه مسلم كذلك (8).وأكد هذا المنهج السيد محمد رشيد رضا بقوله: "أصول العقائد وقضايا الإيمان التي يكون بها المرء مؤمناً .. لا يتوقف شيء منها على أحاديث الآحاد" (9). وهناك كثير من الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ردها الإصلاحيون بعقولهم وطعنوا فيها بحجة أنها أحادي آحاد، مفادها الظن، فلا تبنى على مثلها العقائد الثابتة منها: 1 - حديث نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان. 2 - أحاديث الدجال والجساسة. 3 - حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم. 4 - حديث المعراج. 5 - حديث وقوع الذباب في الإناء. 6 - حديث إن أحدكم يعمل بعمل أهل الجنة.   (1) انظر: ((موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية)) إعداد الطالب الأمين الصادق الأمين، رسالة ماجستير/ أم القرآن 1414هـ (ص 628) و (ص 714). (2) ((الإسلام والنصرانية)) الشيخ محمد عبده، مطبعة محمد علي صبيح/ 1954م. (3) ((أضواء على السنة المحمدية)) محمود أبو رية، (ص 329)، مطبعة التأليف بمصر، ط أولى/ 1377هـ - 1958م. (4) انظر: ((موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية)) (ص 638 - 643). (5) ((تفسير المنار)) (3/ 392)، محمد رشيد رضا، دار المنار/ 1967م مصر. (6) وانظر: ((صحيح البخاري))، كتاب الصلاة (1/ 91 - 93)، وكتاب الحج (2/ 167). (7) ((صحيح البخاري)) (3431)، ومسلم (2366) (8) ((صحيح مسلم)) (2814). (9) ((مجلة المنار))، المجلد (19)، (ص: 29). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 7 - حديث موسى عليه السلام وملك الموت.8 - حديث إسلام شيطان النبي، وحديث عدم مس الشيطان لعيسى ابن مريم وأمه عليهما السلام (1).وهذا وإن شيخ المدرسة الإصلاحية "محمد عبده" كان قليل البضاعة من الحديث، وكان يرى في الاعتماد على المنطق والبرهان العقليين خير سلاح للدفاع عن الإسلام، ومن هذين العاملين، وقعت له آراء في السنة ورواتها، وفي العمل بالحديث والاعتداد به، ما صح أن يتخذه "تلاميذه" ومنهم أبو رية تكأة يتكئ عليها، ليخرج على المسلمين بمثل الآراء الشاذة التي خرج بها. "وخبر الآحاد عند الجمهور حجة يجب العمل بها، وإن أفادت الظن" (2).وقد أثبت الشافعي رحمه الله في الرسالة تحت عنوان: (الحجة في تثبيت خبر الواحد) ببيان قوي وأدلة ناهضة من الكتاب والسنة وعمل الصحابة والتابعين، وتابعي التابعين وفقهاء المسلمين، وجوب العمل بخبر الواحد والأخذ به" (3). تأثر الإصلاحيين بالمستشرقين في إثارة الشبه حول السنة: لقد تحامل المستشرقون على السنة النبوية – الركن الثاني من قواعد هذا الدين – وأثاروا الشبه والشكوك، وأشاعوا أن فيها كثيراً من الوضع، وأن تدوينها قد تأخر، ولذلك فلا صحة لكثير من الأحاديث المتداولة، كما شككوا في كبار رواة الحديث من الصحابة كأبي هريرة رضي الله عنه، رغم أنه لم يلق علم من العلوم ما لقي علم الحديث من العناية والاهتمام، منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا. وقد تأثر الإصلاحيون بشبه المستشرقين، وآراء المعتزلة، وكانوا جسراً يسير فوقه العصرانيون الجدد في إثارة الشبه نفسها حول السنة النبوية، كما سيتضح لنا ذلك في الأبحاث القادمة. 1 - التشكيك في صحة الحديث النبوي الشريف: قال بعض تلامذة الاستشراق: "وخلاصة القول في هذا الموضوع أننا يجب علينا الاقتصار على كتاب الله تعالى مع استعمال العقل والتصرف، أو بعبارة أخرى "الكتاب والقياس"، أما السنة فما زاد منها على الكتاب، إن شئنا عملنا به، وإن شئنا تركناه" (4).   (1) انظر: ((موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية)) (ص 644 - 714) ففيها تفصيل لموقف الإصلاحيين والردود المناسبة على افتراءاتهم. (2) ((السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي)) د. مصطفى السباعي (ص 167). (3) انظر: ((الرسالة للإمام الشافعي)) (ص 41) تحقيق أحمد شاكر، طبعة البابي الحلبي بمصر. (4) ((مجلة المنار)) في العددين (7 - 12) من السنة التاسعة، أعلن د. توفيق صدقي في مقالين تحت عنوان ((الإسلام هو القرآن وحده)). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 وقد تحدثنا عن منهج المدرسة الإصلاحية في التفسير وناقشنا هذه المسألة، وأن القول بعدم وجوب العمل بالأحاديث مخالفة الحق، مجانب لآيات القرآن والأحاديث الصحيحة. قال الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله: "وقصارى القول أن إنكار حجية السنة والادعاء بأن الإسلام هو القرآن وحده لا يقول به مسلم يعرف دين الله وأحكام شريعته تمام المعرفة، وهو يصادم الواقع، فإن أحكام الشريعة إنما ثبت أكثرها بالسنة، وما في القرآن من أحكام إنما هي مجملة وقواعد كلية في الغالب، وإلا فأين نجد في القرآن أن الصلوات خمسة، وأين نجد ركعات الصلاة ومقادير الزكاة، وتفاصيل شعائر الحج وسائر أحكام المعاملات والعبادات؟! " (1).وقال ابن حزم رحمه الله: "ولو أن امرءاً قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن، لكان كافراً بإجماع الأمة، وكان لا يلزمه إلا ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل، وأخرى عند الفجر، وإنما ذهب إلى هذا بعض غالية الرافضة ممن اجتمعت الأمة على كفرهم" (2).وعندما استدل بعضهم بحديث: (إذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فخذوه، وما خالف فاتركوه) (3). وهو حديث موضوع مختلق كما بين علماء الحديث، وضعه الزنادقة بغرض إهمال الأحاديث، وقالوا: عرضنا هذا الحديث الموضوع على كتاب الله، فوجدناه مخالفاً له، لأنا وجدنا في كتاب الله: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [الحشر: 7].وقد أجمعت الأمة، على أن الحديث الصحيح لا يخالف القرآن أبداً لأنه بيان للقرآن، وهو وحي من عند الله فلا يمكن أن يخالف القرآن وإلا فسد الدين بالمعارضة (4).قال الشافعي رحمه الله: "إن سنة رسول الله لا تكون مخالفة لكتاب الله بحال، ولكنها مبينة، عامة وخاصة" (5).ومن المعلوم أن معارضة السنة بالقرآن مذهب رديء تبناه أهل البدع والضلالة من المعتزلة ومن سار على منوالهم، وأما السلف رحمهم الله، فكانوا منزهين عنه، وقد رد العلماء قديماً على من عارض السنة بالقرآن، وبينوا فساد منهجه وضلاله (6). 2 - وقد شككوا في بعض ما في الصحيحين: قال الشيخ محمد رشيد رضا: "ودعوى وجود أحاديث موضوعة في أحاديث البخاري المسندة بالمعنى، لا يسهل على أحد إثباتها، ولكنه لا يخلو من أحاديث قليلة في متونها نظر، قد يصدق عليه بعض ما عدوه من علامات الوضع، وإن في البخاري أحاديث في أمور العادات والغرائز ليست من أصول الدين ولا فروعه ... فإذا تأملتم هذا وذاك، علمتم أنه ليست من أصول الإيمان، ولا من أركان الإسلام أن يؤمن المسلم بكل حديث رواه البخاري مهما يكن موضوعه ... فالعلماء الذين أنكروا صحة بعض تلك الأحاديث، لم ينكروها إلا بأدلة قامت عندهم، قد يكون بعضهاً صواباً، وبعضها خطأ، ولا يعد أحدهم طاعناً في دين الإسلام" (7).   (1) ((السنة ومكانتها في التشريع الإسلام)) (ص 165). (2) ((الإحكام في أصول الأحكام)) لابن حزم، (2/ 79 – 80) مطبعة السعادة بمصر. (3) قال يحيى بن معين كما في ((عارضة الأحوذي)) (5/ 332) باطل وضعه الزنادقة وقال ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم)) (2/ 1191): هذه الألفاظ لا تصح عنه صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه. (4) انظر: ((السنة حجيتها ومكانتها في الإسلام)) د. محمد لقمان السلفي (ص80) دار البشائر الإسلامية/ ط1، بيروت/ 1409هـ. (5) ((الرسالة)) للإمام الشافعي (ص 228). (6) انظر: ((موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية)) الصادق الأمين/ (ص: 743). (7) ((مجلة المنار)) المجلد (29) (ص 104 - 105). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 وإذا كانت دعوة السيد رشيد رضا مغلفة، فقد جاء من أنكر كثيراً مما في الصحيحين من أتباع هذه المدرسة، كأحمد أمين ومحمود أبي رية، مما سنبينه في فصول لاحقة. ولرد هذه الضلالة ننقل بعض أقوال العلماء .. قال الإمام النووي رحمه الله: "اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة" (1).وقال ابن تيمية رحمه الله: "فليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري ومسلم بعد القرآن" (2).وقال الدهلوي رحمه الله: "أما الصحيحان فقد اتفق المحدثون على أن جميع ما فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع، وأنهما متواتران إلى مصنفيهما، وأن كل من يهون من أمرهما فهو متبع غير سبيل المؤمنين" (3). 3 - التشكيك في تدوين الحديث النبوي: زعم هؤلاء جرياً وراء ترهات المستشرقين أن الحديث لم يكتب في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، مما يدعو على التلاعب والفساد، ما قد حصل. ولذا طرأ على السنة من التبديل والزيادة، كما طرأ على أهل الكتاب، لعدم كتابتها في عهده، وعدم حصر الصحابة لها في كتاب معين، وعدم تبليغها للناس بالتواتر، وعدم حفظها لهم جيداً في صدورهم (4).قال الشيخ محمد أبو زهو: "فهذه الدعوى من الشيخ – يقصد محمد رشيد رضا – عفا الله عنه، لا أساس لها، بل تخالف نصوص القرآن الكريم وتتعارض مع ما تواتر من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم الأمين، ولا تتفق وما أجمع عليه المسلمون في كافة الأزمان من عهد النبي إلى اليوم" (5).وقال: "الحق أن الصحابة فهموا أن السنة دين عام دائم كالقرآن، وكان هذا أمراً بدهياً عندهم لا يحتاج إلى استدلال، بل هو ضرورة من ضرورات الدين وبدهي عند عامة المسلمين في جميع الأزمان حتى اليوم" (6). 4 - تقسيم السنة إلى عملية وغير عملية:   (1) ((شرح النووي على مسلم)) (1/ 14). (2) ((الفتاوى)) لابن تيمية (18/ 74). (3) ((حجة الله البالغة)) ولي الله الدهلوي/ تحقيق السيد سابق/ دار الكتب الحديثة/ القاهرة/ ومكتبة المثنى/ بغداد. (4) انظر ((مجلة المنار)) المجلد (9) (ص 515، 911). (5) ((الحديث والمحدثون)) الشيخ محمد أبو زهو (ص242، 237). (6) ((الحديث والمحدثون)): الشيخ محمد أبو زهو (ص 242، 237). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 لا يلتزم الإصلاحيون إلا بالسنة العملية دون القولية. قال الشيخ محمد رشيد رضا: "إن سنته التي يجب أن تكون أصل القدوة هي ما كان عليه وخاصة أصحابه عملاً وسيرة، فلا تتوقف على الأحاديث القولية" (1) وقال: "فالعمدة في الدين هو القرآن، وسنة الرسول المتواترة، وهي السنة العملية كصفة الصلاة، والمناسك مثلاً، وبعض الأحاديث القولية التي أخذ بها جمهور السلف، وما عدا هذا من أحاديث الآحاد التي هي غير قطعية الرواية، أو غير قطعية الدلالة فهي محل اجتهاد" (2).وقال محمود أبو رية: "وسنة الرسول المتواترة – وهي السنة العملية – وما أجمع عليه مسلمو الصدر الأول، وكان معلوماً عندهم بالضرورة، كل ذلك قطعي لا يسع أحد رفضه أو جحده بتأويل ولا اجتهاد ... أما إطلاق السنة على ما يشمل الأحاديث فاصطلاح حادث" (3)."ولو قصرت السنة على السنة المتواترة العملية لفرط في كثير من الأحاديث القولية التي نقلت عنه صلى الله عليه وسلم في جوانب الدين في الأحكام والأخلاق والمواعظ" (4).هذا وإن السنة تشمل أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته. "وهذا الذي عليه أهل العلم قديماً وحديثاً، كما تطلق على الأحاديث المتواترة والآحاد، والقول بأن السنة هي السنة العملية المتواترة فقط، قول لا صحة له، بل هو اصطلاح حادث لا يخفى بطلانه" (5).5 - القدح في عدالة الصحابة رضي الله عنهم (6):قد شكك بعض الإصلاحيين وتلامذتهم بعدالة الصحابة، رواة الحديث. قال محمود أبو رية: "إنهم – أي العلماء – قد جعلوا جرح الرواة وتعديلهم واجباً تطبيقه على كل راو مهما كان قدره، وإنهم قد وقفوا دون عتبة الصحابة، فلم يتجاوزوها، إذ اعتبروهم جميعاً عدولاً لا يجوز عليهم نقد، ولا يتجه إليهم تجريح ومن قولهم في ذلك "إن بساطهم قد طوي"، ومن العجب أنهم يقفون هذا الموقف، على حين أن الصحابة أنفسهم قد انتقد بعضهم بعضاً" (7).قال أبو حاتم بن حبان رحمه الله: "فإن قال قائل: فكيف جرحت من بعد الصحابة؟ وأبيت ذلك في الصحابة، والسهو والخطأ موجود في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وجد فيمن بعدهم من المحدثين؟ يقال له: إن الله عز وجل نزه أقدار أصحاب رسوله عن ثلب قادح، وصان أقدارهم عن وقيعة منتقص، وجعلهم كالنجوم يقتدى بهم ... ومن شهد التنزيل وصحب الرسول، فالثلب لهم غير حلال، والقدح ضد الإيمان، والتنقص لأحدهم نفس النفاق، لأنهم خير الناس قرناً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " (8).وممن ألصقوا بهم مجموعة من التهم الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه، متابعين في ذلك من أكل الحقد قلوبهم من المستشرقين يهوداً أو نصارى، وذلك له افتراء وبطلان (9). المصدر: العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب لمحمد حامد الناصر - ص 59   (1) ((مجلة المنار)) مجلد (10) 852، ومجلد (27) (ص 616). (2) ((مجلة المنار)) مجلد (10) 852، ومجلد (27) (ص 616). (3) ((أضواء على السنة المحمدية)) (ص 351). (4) انظر: ((دفاع عن السنة)) (ص 29)، للدكتور محمد أبي شهبة/ دار اللواء لنشر/ الطبعة الثانية/ 1407هـ الرياض. (5) انظر: ((الأنوار الكاشفة)) (ص 21، 57). (6) انظر: ((موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية)) (ص754 - 768). (7) ((أضواء على السنة المحمدية)) (ص310). (8) ((الضعفاء والمتروكين من المحدثين)) محمد بن حبان/ تحقيق محمد إبراهيم زايد، توزيع دار الباز للنشر والتوزيع. (9) انظر: ((مجلة المنار)) (29/ 43)، و (19/ 99)، ((فجر الإسلام)) (ص 219)، ((أضواء على السنة المحمدية)) (ص 154، 196). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 المبحث السادس: موقف علماء المسلمين منهم أ- المعاصرين لهم: ونبدأ ذلك بأقوال الشيخ محمد الجنبيهي صاحب كتاب (بلايا بوزا) الذي وضعه رداً على طه حسين في كتابه (في الشعر الجاهلي) ويرمز الشيخ الجنبيهي بـ (بوزا) لطه حسين وهو اصطلاح فرنساوي وهي قطعة من الخشب وزنها خفيف .. على هيئة قبل الرجال ولقد ركبت تلك القطعة على مقعر من رصاص ثقيل .. فتراها كلما ألقيت فوق الأرض كانت قائمة وقد ضربها عقلاء الأقدمين مثلاً لكل ضال حائر مغرور ذي لسانة وسفه فقد مزايا الأدباء وشذ عن مناهج الفضلاء متلبساً بعناد وإصرار شيطاني من حيث لا يشعر بما يقول ولا بما يعمل فلا تتوجه به أمياله إلا إلى مخالفة الفضلاء ومعارضة الأدباء بما لا يعلم عاقبته ولا يستطيع أن يقيم على صحته دليلاً" (1).وحينما يتحدث الشيخ عن الأفغاني ومحمد عبده فإنه لا يتحدث حديث التخرص والظنون وإنما حديث من خالطهم وعاشرهم، فهو حديث خبير بهم حيث يقول "إني نشأت بعد بلوغ الرشد وطلب العلم في الأزهر الشريف مصاحباً لتلميذ جمال الدين الأفغاني ومحاذياً له قدماً بقدم بعدما أتى جمال الدين الديار المصرية وكثيراً ما جالست ذلك الرجل وتذاكرت معه مذكرات ذكرتها في بعض الكتب وما كان يدعوني إلى مجالسته إلا صاحبي الذي كان يظن أن يجذبني إلى الميل إلى ما مال إليه من فتنة ذلك الفاتن وكنت أطمع أن أكون سبباً في خلاصه من تلك الفتنة "ولكن الله غالب على أمره"" (2).إذن فحديثه حديث المخالط المعاشر فلنذكر حديثاً له مع جمال الدين الأفغاني، كان محور الحديث بينهما ما يروى من الحديث القدسي ((كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني)) قال الجنبيهي "ولقد كان لي في هذا الحديث القدسي مع جمال الدين الأفغاني واقعة كانت سبباً لعدم اتصالي به مع شديد رغبته ورغبة تلميذه الذي أشرنا إليه من قبل، وتلك الواقعة هي أني سألته عن هذا الحديث لعلمي أنه ينكر الأحاديث القدسية لأنه طبيعي لا يعترف بوجود إله، وكنا في مجمع من الناس فقال ليس هذا وقت الكلام على هذا الحديث فأمهلني لوقت آخر "إلى أن قال أنه وجده في مجالس اللاهين في قهوة من القهاوي فقال له "هذا وقت الكلام على ذلك الحديث الشريف" فما كان جوابه إلا أن قال:- ذهب فيلسوف إلى المنتزه في يوم العيد فوجد الناس على حال مضحك: منهم من هو مخمور ومنهم من هو لاعب ومنهم من هو مرافق لامرأة من المومسات ومنهم من هو راقص ومنهم من هو متلبس بما لا يرتضيه أبناء البشر فنظر ذلك الفيلسوف إلى السماء قائلاً "الآن وقعت الحسرة في قلبك أهؤلاء كلهم عرفوك" فعند ذلك تغير حالي وعلمت أن الرجل ضال فقلت له أن هذا الفيلسوف لأحمق ومجنون قال: ولم ذلك قلت: لأن من جهل ربه في الدنيا يعرفه فيما بعد الموت ومن جهله في الرخاء يعرفه عند الشدة فما ذلك الفيلسوف إلا ضائع العقل والدين ثم تركت الرجل محزوناً لأن فتنته لم تؤثر في قلبي أثراً كان يريده وكان ذلك الموقف آخر عهدي به" (3).   (1) ((بلايا بوزا)) محمد الجنبيهي (ص 28 - 29). (2) ((بلايا بوزا)) محمد الجنبيهي (ص 38). (3) ((بلايا بوزا)) محمد الجنبيهي (ص 118 - 119). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 ويتحدث الجنبيهي عن المقادير التي جمعت بين دول الاستعمار وأنهم "ألهموا أن المتمسكين بآداب الدين القويم لن يغلبوا ما داموا متمسكين به سواء كثروا أو قلوا لأن المتمسك بدينه مرتكن على قوي متين لا يغلب ولا يقاوم فلذلك أجمعوا رأيهم على أن يعتمدوا على العلماء السياسيين منهم في حل روابط ذلك التماسك فقرر أولئك السياسيون فيما بينهم أن روابط الدين القوية لا تنحل إلا بثلاثة أمور: استبدال العلم النافع الذي كان يسأل رسول الله ربه أن يزيده منه بالعلم الذي كان يستعيذ بربه منه، والأمر الثاني تولية المناصب لغير أهلها .. والأمر الثالث إيجاد أسباب قوية توقد نيران العداوة والبغضاء والتشاجر بين المسلمين حتى لا يتمسكوا بدينهم ولا يتفقوا على عمل مرض" إلى أن قال "وبمقتضى هذه الفكرة السياسية بعث جمال الدين الأفغاني إلى الديار المصرية لتنفيذ مفهوم تلك الفكرة" (1).ويتحدث عن علماء الأزهر آنذاك بأنهم "أيقنوا أنه – أي الأفغاني – من رجال الفتنة التي يتيحها الله لأشرار العلماء" (2).ويتحدث عن محمد عبده ويسميه "ابن عبده الغرابلي" لأن أهله كما يقول الدكتور محمد محمد حسين من الفقراء الذين يمتهنون صناعات صغيرة منها صناعة الغرابيل (3) قال الجنبيهي عن محمد عبده "ِأن الأسباب التي جعلت ابن عبده الغرابلي محبوباً لفحول السياسيين ولولاة الأمور من الدول المتحالفة على محو الإسلام اسماً ورسماً وصيرته محموداً عند محرري الجرائد الأوربية تتمدح باسمه وتعتني بعمل تذكار له هي بعينها الأسباب التي يتناول بها أستاذ الجامعة المصرية – يقصد طه حسين – مرتباً كبيراً بسبب شهادة الدكتوراه التي تناولها من أوربا لسبب عداوته للدين ورجاله حتى يكون إذا أعلوا شأنه فتنة لأبناء المسلمين" (4).ويستدل الجنبيهي على سوء اتجاه محمد عبده الفكري بعلاقته باللورد كرومر فيقول "فهلا فكرت .. في الأسباب التي صعدت بمحمد ابن عبده الغرابلي .. وقد اتخذه جناب اللورد كرومر أستاذاً ومرشداً في الدين وفي السياسة ثم نعاه بعد موته .. فهل كان ابن عبده الغرابلي في عصره من أكابر المرشدين الدينيين وكان ذلك اللورد متعطشاً لأن يسلك سبيل المؤمنين .. فهل تفكر في الأسباب التي جعلته محبوباً لرؤساء الدول المتحالفة على محو الإسلام اسماً ورسماً وما ذلك إلا لأنه أجهد نفسه في حل روابط المدنية الإسلامية السماوية .. " (5).وتحدث عن محمد عبده بعد عودته من المنفى في البلاد الشامية "فلما انقضت مدة النفي ورجع إلى الديار المصرية كانت ثقة اللورد كرومر به أكبر ثقة فسكن في منشية الصدر بعيداً عن عيون الرقباء وكانت الواسطة بينه وبين اللورد رجلاً انكليزياً يسمى "بلنت" كان يتزيا هو وزوجته بزي عرب البادية .. فلما قويت رابطة التواصل بين ذلك الإنكليزي وبين ابن عبده الغرابلي أعطاه قطعة أرض ..   (1) ((بلايا بوزا)) محمد الجنبيهي (ص 45 - 46). (2) ((بلايا بوزا)) محمد الجنبيهي (ص 47). (3) ((الإسلام والحضارة الغربية)) محمد محمد حسين (ص 87). (4) ((بلايا بوزا)) محمد الجنبيهي (ص 35 - 36). (5) ((بلايا بوزا)) محمد الجنبيهي (ص10). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 ليكون له جاراً وفي ذلك الحين اتخذه اللورد أستاذاً ومرشداً يسترشد برأيه في كل عمل يطلبه في تنفيذ الغرض الذي أجمع عليه السياسيون فكان الإصلاح الأزهري الذي ذهب بالدين وعلمه النافع أدراج الرياح من إشارات ذلك المفتون، وكذلك كان إصلاح المحاكم الشرعية وما أنشئت الجامعة المصرية إلا بإرشاده وكان من تعليماته لذلك اللورد أن لا يتولى المناصب العالية متمسك بدينه وكان بين ذلك التلميذ وبين المبشرين رابطة وداد قوية فكانوا يزورونه في غالب الأحيان للاسترشاد به في مهمات التضليل التي أجمعوا عليها .. وكان من مساعدة اللورد كرومر لشيخه ومرشده أن ولاه مناصب القضاء الأهلي حتى وصل به إلى وظيفة مستشار .. ثم عينه مفتياً بالديار المصرية ليكون له الحق في التداخل بشؤون الأزهر الذي أجمع السياسيون على خرابه فكان كل من أراد أن يلتحق بالمناصب العالية يتظاهر بازدراء الدين ورجاله ويكون كزب الأرض في ثباته على تمثيل هيئة العناد والإصرار بعدم الانقياد لأي واعظ كان من النصحاء ... وما زالت تماثيل زب الأرض تتفاقم رزاياها وتنتشر مصائبها من سفهاء الزيغ الذي افتتنوا بذلك الطالب المارق من الدين ظانين أن انتشار صيته في الممالك كان لمهارته في العلم وتمسكه في العلم وتمسكه بالحق وليس الأمر كذلك وإنما هي فتنة اتخذها اللورد كرومر طريقاً مسلوكاً لتنفيذ أغراض السياسيين في البطش بالدين الإسلامي والخلافة وضياع العلم الديني وكان أمر الله قدراً مقدوراً" (1).ونذكر بعد هذا رأي الشيخ يوسف النبهاني وهو مع رأي الجنبيهي كما يقول الدكتور محمد محمد حسين "يصوران الجانب الآخر لصدى دعوة الأفغاني ومحمد عبده عند المعاصرين وهو الجانب الذي اختفى الآن أو كان يختفي تحت تأثير الضغوط والحماية التي تساند هذه المدرسة وتحارب خصومها" (2). والشيخ النبهاني – أيضاً – إنما يتحدث ويقول بعد معاشرة ومخالطة للأفغاني إذن فقوله قول من أدرك الأمور على حقيقتها لا قول متخرص ظان. يصفهم بادعاء الاجتهاد المطلق وهم "الجاهلون" قال نظماً: وكم من قرون قد توالت ولم يجل ... بدعوى اجتهاد مطلق عالم فكراً ادعاه الجاهلون بعصرنا ... قما أقبح الدعوى وما أفظع الأمرا (3) ويرى أن قوله تعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة: 11] يرى أنهم هم المرادون بها ويستدل بما نقله السيوطي في الدر المنثور عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه سئل عن هؤلاء القوم فقال لم يأتوا بعد وذكر ذلك البيضاوي ثم قال النبهاني "قلت لا شك أن المنافقين المذكورين في هذه الآيات السابقة واللاحقة، والخوارج الذين خرجوا على سيدنا علي رضي الله عنه وغيره من أئمة الإسلام متصفون بهذه الأوصاف الذميمة إلا أنهم لم يدعوا أنهم مصلحون لدين الإسلام ويلقبوا أنفسهم بهذا اللقب مثل هذه الفرقة الضالة فرقة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده المصري في مطابقة الآية لهذه الفرقة أكثر من مطابقتها للمنافقين والخوارج وإن شملتهم جميعاً أحكامها" (4). وقال نظماً: فما بالهم لا يصلحون نفوسهم ... أما هي بالإصلاح من غيرها أحرى (5) وقال: وكل امرئ لا يستحي في جداله ... من الكذب والتلفيق مهما أتى نكراً   (1) ((بلايا بوزا)) محمد الجنبيهي (ص 50 - 53) باختصار. (2) ((الإسلام والحضارة الغربية)) محمد محمد حسين (ص 94). (3) ((الرائية الصغرى)) يوسف النبهاني ضمن العقود اللؤلؤة في المدائح النبوية له (ص: 354). (4) ((الرائية الصغرى)) (ص 356). (5) ((الرائية الصغرى)) (ص 356). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 فمن قال صلوا قال قائلهم له ... يجوز لنا في البيت نجمعها قصراً (1) وقال: وأعداؤهم من بيننا كل عالم ... ولا سيما إن كان في فقهه بحراً وقال: فإياك أن تغتر منهم بفاجر ... وإن أنت قد شاهدت من فعله الخيرا فذلك شيء جاء ضد طباعهم ... وقد فعلوا أضعاف أضعافه شرا وكم أيد الإسلام ربي بفاجر ... فنهدي له لا الفاجر الحمد والشكر أشد من الكفار فينا نكاية ... وأعظم منهم في ديانتنا ضرا من الكفر ذو الإسلام يأخذ حذره ... ومن هؤلاء القوم لا يأخذ الحذرا (2) وقال عن جرائدهم ومجلاتهم: بها خلطوا بالحق باطل غيهم ... بها مزجوا الإسلام بالملل الأخرى (3) وقال عن الأفغاني: تسمى جمال الدين مع قبح فعله ... كما وضعوا لفظ المفازة للصحرا (4) وقال عن محمد عبده: فمن جهة يدعي الإمام ويقتدي ... بأعمال أهل الكفر من جهة أخرى يذم خيار المسلمين وعندما ... يرى حاجة للكفر يستحسن الكفرا لكي ما يقال الشيخ حر ضميره ... فيبلغ عند القوم مرتبة كبرى وما زال مشهوداً على الدين شره ... وإن زعم العميان أن به خيرا ويصف عبده – بعد عودته إلى مصر من منفاه: وعاد إلى مصر فأحدث مذهباً ... ولوث من أقذاره ذلك القطرا وأيد أعداء البلاد بسعيه ... وأوهم أهل الجهل أن بهم خيرا يحسن بين الناس قبح فعالهم ... ومهما أساءوا راح يلتمس العذرا بمقدار ما خان البلاد وما أتى ... لأعدائها نصحاً علا عندهم قدرا وقال: ونال بجاه القوم في الناس رتبة ... بها حاز فيمن شاءه النفع والضرا وقال: فمن رهبة أو رغبة كم سعى له ... طغام من الجهال أكسبهم خسرا وقال عن منهجهم في التفسير:- وقد ضل في القرآن مع عظم نوره ... كما خبطت عشواء في الليلة القمرا فتفسيره من رأيه ليس خالياً ... فإما يرى فسقاً وإما يرى كفراً أحذر كل الناس من كتب دينه ... وبالرد والأعراض تفسيره أحرى وقال عنه: يعاشر نسوان النصارى ولا يرى ... بذلك من بأس وإن كشف السترا ويأكل معهم كل ما يأكلونه ... ويشربها حمراء إن شاء أو صفرا ويفتي بحل المسكرات جميعها ... وإذا هي بالأسماء خالفت الخمرا ويأكل مخنوقاً ويفتي بحله ... لئلا يقولوا أنه ارتكب الوزرا وتحليله لبس البرانيط والربا ... به بعض أهل العلم قد ألحق الكفرا وكم زار باريز ولندره ولم ... يزر مكة يوماً ولا طيبة الغرا وإن كان يوماً للرياء مصلياً ... يرى فاعلاً يوما وتاركها شهرا وقال: وقد كنت في لبنان يوماً صحبته ... لقرب غروب الشمس من ضحوة كبرى وصليت فرض الظهر والعصر بعده ... لديه وما صلى هو الظهرا والعصرا وكان صحيح الجسم لا عذر عنده ... بلى إن ضعف الدين كان له عذرا وقال: وقبل غروب الشمس صاحبت شيخه ... لقرب العشا أيام جاورت في مصرا ولم أره أدى فريضة مغرب ... فقاطعت شيخ السوء من أجلها الدهرا وقال: ولولا حديث المصطفى لأسامة ... يقول به هلا شققت له الصدرا لما صحت الدعوى بإسلام بعضهم ... لدى وما استبعدت عن بعضهم كفرا وكنت كتبت الكاف والفاء بعدها ... على جبهات القوم كي يعرفوا والرا كما جاء في الدجال يكتب لفظها ... فيقرأ من يقرأ ومن لم يكن يقرأ فقد أشبهوه في معان كثيرة ... من الدجل والإلحاد والبدع الأخرى وما الفرق إلا أنهم في قلوبهم ... عماهم ودجال الورى عينه عورا مقدمة للجيش عنه تقدموا ... وجند له من قبله مهدوا الأمرا تقدم فيهم نائباً عنه عبده ... فأغوى الذي أغوى وأغرى الذي أغرى (5) وقال عن رشيد رضا ومجلته المنار:   (1) ((الرائية الصغرى)) (ص 356). (2) ((الرائية الصغرى)) الصفحات (362 - 363). (3) ((الرائية الصغرى)) الصفحات (362 - 363). (4) ((الرائية الصغرى)) (ص354). (5) ((الرائية الصغرى)) يوسف النبهاني من (ص 365) إلى (ص 374). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 وكم ضل رأياً من سقامة فهمه ... بأمر صحيح من شريعتنا الغرا ولو سأل الأشياخ أدرك سره ... ولكنه مع جهله قد حوى كبرا (1) وقال عن الثلاثة: ثلاث أثاف تحتها نار فتنة ... ومن وفقها الإلحاد صار لها قدرا وقد دخلوا حزب المسون بهمة ... بها حل كل من محافله الصدرا ومذهبهم حكم الديانات واحد ... تساوى به الإسلام والملل الأخرى (2) وهذا رجل آخر يكشف حالهم ويعلنها للناس وهو الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام للدولة العثمانية سابقاً يقول "أما النهضة الإصلاحية المنسوبة إلى الشيخ محمد عبده فخلاصته أنه زعزع الأزهر عن جموده على الدين فقرب كثيراً من الأزهريين إلى اللادينيين خطوات، ولم يقرب اللادينيين إلى الدين خطوة، وهو الذي أدخل الماسونية في الأزهر بواسطة شيخه جمال الدين الأفغاني كما أنه على ما يقال وسيأتي إيضاحه في هذا الكتاب هو الذي شجع قاسم أمين على ترويج السفور في مصر" (3).وقال عن محمد عبده "فلعله وصديقه أو شيخه جمال الدين أرادا أن يلعبا في الإسلام دور لوثر وكلفين زعيمي البروتستانت في المسيحية فلم يتسن لهما الأمر لتأسيس دين حديث للمسلمين وإنما اقتصر تأثير سعيهما على مساعدة الإلحاد بالنهوض والتجديد" (4).وقال عنه أيضاً "وكان من مضار الشيخ بالإسلام وعلمائه الناشئين بعده أن حملة الأقلام بمصر المنحرفين عن الثقافة الإسلامية كما أكبروا الشيخ وآراءه الشاذة التي انتقدتها في هذا الكتاب وأوجدوا من السمعة العلمية السامية ما لا يزال طنينه في أذن الشرق الإسلامي. ولاشك في تأييده القوة الماسونية له كان ذلك حثاً للذين يحبون الشهرة والظهور من شباب العلماء وكهولهم على نيل ما أرادوه بواسطة الشذوذ في الرأي والتزلف إلى الكتاب المتفرنجين بل الانتماء إلى الماسونية" (5).ولا نريد أن نذكر بعد هذا موقف الشيخ عليش رحمه الله تعالى الذي كان يلاحقهم في صحن الأزهر بعصاه أو موقف أبي الهدى الصيادي الذي وصف جمال الدين بأنه "مارق من الدين كما مرق السهم من الرمية" (6) أو اعترافات أتباعه أنفسهم بأن الأفغاني "برز في علم الأديان حتى أفضى به ذلك إلى الإلحاد والقول بقدمية العالم زاعماً أن الجراثيم الحيوية المنتشرة في الفضاء هي المكونة بترقٍّ وتحرير طبيعيين ما نراه من الأجرام التي تشغل الفلك ويتجاذبها الجو وأن القول بوجود محرك أولي حكيم وهم نشأ عن ترقي الإنسان في تعظيم المعبود على حسب ترقيه في المعقولات" (7) أو وصف السلطان عبدالحميد لجمال الدين الأفغاني بأنه رجل الإنجليز، وأنه مهرج (8). ب- من بعدهم:   (1) ((الرائية الصغرى)) يوسف النبهاني (ص 377). (2) ((الرائية الصغرى)) يوسف النبهاني (ص 384). (3) ((موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين)) مصطفى صبري (1/ 133 - 134). (4) ((موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين)) مصطفى صبري (1/ 144). (5) ((موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين)) مصطفى صبري (1/ 133 - 134). (6) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) رشيد رضا (1/ 90). (7) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) رشيد رضا (1/ 43). (8) ((مذكرات السلطان عبدالحميد)) ترجمة محمد حرب عبدالحميد (ص 67). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 ومن هؤلاء أيضاً الشيخ محمد حسين الذهبي حيث قال عن المدرسة العقلية الحديثة "أنها أعطت لعقلها حرية واسعة فتأولت بعض الحقائق الشرعية التي جاء بها القرآن الكريم، وعدلت بها عن الحقيقة إلى المجاز أو التمثيل، وليس هناك ما يدعو لذلك إلا مجرد الاستبعاد والاستغراب، استبعاد بالنسبة لقدرة البشر القاصرة، واستغراب لا يكون إلا ممن جهل قدرة الله وصلاحيتها لكل ممكن. كما أنها بسبب هذه الحرية العقلية الواسعة جارت المعتزلة في بعض تعاليمها وعقائدها وحملت بعض ألفاظ القرآن من المعاني ما لم يكن معهوداً عند العرب في زمن نزول القرآن، وطعنت في بعض الحديث تارة بالضعف وتارة بالوضع، مع أنها أحاديث صحيحة رواها البخاري ومسلم وهما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى بإجماع أهل العلم كما أنها لم تأخذ بأحاديث الآحاد الصحيحة الثابتة في كل ما هو من قبيل العقائد أو من قبيل السمعيات مع أن أحاديث الآحاد في هذا الباب كثرة لا يستهان بها" (1).وقال "وإذا كان الأستاذ الإمام قد أعطى لعقله الحرية الكاملة في تفسيره للقرآن الكريم فإنا نجده يغرق في هذه الحرية ويتوسع فيها إلى درجة وصلت به إلى ما يشبه التطرف في أفكاره والغلو في آرائه" (2).وقال في موضع آخر ما خلاصته "الأستاذ الإمام ومن على طريقته لا يفرقون بين رواية البخاري وغيره فلا مانع عندهم من عدم صحة ما يرويه البخاري، كما أنه لو صح في نظرهم فهو لا يعدو أن يكون خبر آحاد لا يثبت به إلا الظن وهذا في نظرنا هدم للجانب الأكبر من السنة" (3).وقال عن موقفه من حديث ((كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها)) (4). وقد رواه الشيخان قال الذهبي عن موقف محمد عبده "فهو لا يثق بصحة الحديث رغم رواية الشيخين له ثم يتخلص من إرادة الحقيقة على فرض الصحة بجعل الحديث من باب التمثيل، وهو ركون إلى مذهب المعتزلة الذين يرون أن الشيطان لا تسلط له على الإنسان إلا بالوسوسة والإغواء فقط" (5).وقال أيضاً "وهذا المسلك الذي جرى عليه الشيخ رشيد هو مسلك شيخه ومسلك الزمخشري وغيره من المعتزلة الذين اتخذوا التشبيه والتمثيل سبيلاً للفرار من الحقائق التي يصرح بها القرآن ولا تعجز عنها قدرة الله وإن بعدت عن منال البشر" (6).وقال "ثم إن صاحب (المنار) لا يرى السحر إلا ضرباً من التمويه والخداع وليس له حقيقة كما يقول أهل السنة وهو يوافق بهذا القول قول شيخه وقول المعتزلة من قبله" (7).ولم يكن الشيخ الذهبي بالوحيد الذي ربط بين اتجاههم واتجاه المعتزلة بل حتى أنور الجندي الذي أشاد بهذه المدرسة وخدع بها قال "وإذا كان جمال الدين الأفغاني هو أول من فتح باب المنطق والفلسفة في الفكر العربي الحديث بحسبانه طريقاً إلى الدفاع عن الإسلام في مواجهة الفلسفات الحديثة على نفس المنهج الذي اتخذه المعتزلة فإن محمد عبده هو الذي عمق هذا الاتجاه حتى أطلق عليهما اسم "معتزلة العصر الحديث" (8).   (1) ((التفسير والمفسرون)) محمد حسين الذهبي (3/ 215 - 216). (2) ((التفسير والمفسرون)) محمد حسين الذهبي (3/ 235). (3) ((التفسير والمفسرون)) محمد حسين الذهبي (3/ 241). (4) رواه البخاري (3431) , ومسلم (2366) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (5) ((التفسير والمفسرون)) محمد حسين الذهبي (3/ 241). (6) ((التفسير والمفسرون)) محمد حسين الذهبي (3/ 249). (7) ((التفسير والمفسرون)) محمد حسين الذهبي (3/ 249 - 250). (8) ((اليقظة الإسلامية في مواجهة الاستعمار)) أنور الجندي (ص132). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 أما الدكتور علي محمد جريشة ومحمد شريف الزيبق فقالا عن المدرسة العقلية "ونحن – على عكس كثير من غيرنا – نحسن الظن بأصحاب هذه المدارس ولا نقبل أن نسميهم عملاء وإن بدا منهم لون من الاتصال أو التعاون مع العدو المستعمر" "لكننا وإن نفينا عنهم "العمالة" فلا نستطيع أن ننفي عنهم "السذاجة" إن ظنوا أنهم يستطيعون أن يضحكوا على الاستعمار ويمكروا به فإذا به أشد مكراً ظنوا أنهم يستطيعون أن يمتطوه ليسخروه لصالح الإسلام وامتطاهم الاستعمار ليسخرهم لصالح التغريب والتغيير الاجتماعي" (1).وقال "وبهذه النية التي نحسن الظن بها ألف صاحب مدرسة العقل جمعية التقريب بين الأديان فيها المسلمون والنصارى واليهود ... ولعله لم يدرك أن التقارب بين الإسلام والمسيحية واليهودية لا يمكن أن يكون إلا على حساب الإسلام .. لأنه الوحيد الدين الصحيح وغيره محرف .. ولعله لم يدرك أن المشركين حاولوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك التقارب حين قالوا نعبد إلهك يوماً وتعبد آلهتنا يوماً فأنزلها رب السماء والأرض قاطعة حاسمة قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون: 1 - 3] السورة" (2). وقالا:- "وأما الذي نأخذه على الرجل العالم:- أولاً: اقتصاره من الإسلام على الإصلاح عن طريق التعليم فالإسلام ليس مجرد ثقافة فقط لكنه منهاج تربية ومنهاج حياة، وليته في هذا الجانب استطاع أن يصلح. ثانياً: أن الرجل وهو في موضع القدوة للمسلمين مالأ "الكافرين" الذين غصبوا الديار وما بعد الديار! ... ولا ندري هل كان الإمام يحفظ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء .... الآية [الممتحنة: 1] وهل قرأ غيرها من الآيات في نفس المعنى أم أن له فيه تأويلات كتأويله في الملائكة أو في سجودهم أو في معصية آدم أو في خلق عيسى عليه السلام أو في الجن أو في السحر أو غير ذلك مما أعمل فيه عقله "الكبير" ليقول "بالرأي في تاب الله؟!! " لقد مضى الرجل إلى ربه فنترك له حساب سره وعلانيته لكننا إزاء الظاهر. وعمره الذي أفنى في محاولة إصلاح التعليم بلوغاً إلى مقاومة الاستعمار أو على النهوض بالإسلام لا نملك إلا أن نتلو قول الله قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف: 103 - 104] ونترك من قبل ذلك ومن بعد ذلك حسابه على الله لكننا نسوق ما نسوق ليعتبر أولوا الأبصار .. ويتذكر أولوا الألباب فلا تتكرر الصورة مرة أخرى" (3).أما الأستاذ غازي التوبة فعد من أخطاء محمد عبده دعوته للتقريب بين الأديان فقال "قد أخطأ محمد عبده في دعوته إلى التأليف والتقريب بين الأديان حتى صار مطية لهيئات ودول حاقدة على الإسلام والمسلمين، وما ذلك إلا لأنه لم يلتزم حد الإسلام بل أتبع هواه فكان أمره فرطاً" (4). واستعرض الأستاذ غازي جملة الأخطاء والانحرافات بعد أن قسمها إلى قسمين: أ) نتائج سياسة: وعد منها: 1 - التعاون مع رياض باشا عمل الإنجليز. 2 - التعاون مع المحتل الإنجليزي.   (1) ((أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي)) علي جريشة ومحمد الزيبق (ص201). (2) ((أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي)) علي جريشة ومحمد الزيبق (ص 202 - 203). (3) ((أساليب الغزو الفكري)) (ص 204 - 205). (4) ((الفكر الإسلامي المعاصر)) غازي التوبة (ص 23). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 3 - الاصطدام مع عباس الثاني فقد كانت في مصر آنذاك سلطتان سلطة الاحتلال وسلطة الخديوية إحداهما مغتصبة والأخرى شرعية تمثلت الأولى في الثعلب العجوز اللورد كرومر والثانية في الخديوي عباس الثاني. 4 - تبرير وجود المحتل. 5 - تكوين مدرسة سياسية باسم محمد عبده حيث وجد الاحتلال في محمد عبده وتلاميذه مدرسة سياسية تحقق أغراضه وتنقذ مآربه فرعاها ونماها. ب) النتائج الفكرية: كان الاستعمار يشعر بتحول المجتمع المسلم نحو الحضارة الغربية وأخذه منها في كل مجال وتقليده لها في كل أمر ولكنه كان يؤمن – في الوقت نفسه بأن الهوة ستبقى قائمة بين الغرب والمسلمين من جهة ولا يؤمن الانتكاس من جهة ثانية طالما أن الإسلام باق على طبيعته وحقيقته لذلك فقد صب جهوداً كبيرة كي يحور ويحول الإسلام من الداخل ليعطي السند الفكري والدعم الديني لمعطيات الحضارة الغربية من ناحية وتناولها دون التحرج من ناحية أخرى، وقد وجد الاستعمار في محمد عبده ضالته التي تحقق له هدفه ذاك في التحويل والتحوير أو قل التي تبدأ له بالخطوة الأولى في ذاك التحويل والتحوير" (1).والدكتور محمد محمد حسين غير مكثر في ميدان الكتابة لكنه رصين الاداء مقتدر في استيفاء جوانب موضوعه ينظر إلى الأمور في عمق كما قال الأستاذ أنور الجندي (2) وقد كان لدراسته العميقة في دعوة الأفغاني وتلاميذه نتيجة خطيرة توصل إليها حيث يقول "الذي يبدو لي هو أن دعوة الأفغاني التي ربي محمد عبده في أحضانها كان لها – ككل الدعوات السرية – ظاهر وباطن فظاهرها يخاطب الجماهير. وهو يصور ما يريد صاحب الدعوة أن يعرفه جمهور المسلمين مما يعجبهم ويقع من قلوبهم موقع الارتياح والقبول، وباطنها يمثل حقيقتها التي يخفيها أصحابها عن الناس، ولا يكشفون الستر عنها قبل أن تحقق أهدافها بالوصول إلى مركز السلطة ومحمد عبده كان تابعاً لسيده الأفغاني أو خادماً له كما تعود هو نفسه أن يكتب إليه في بعض رسائله والأفغاني كان يريد أن يعيد الدور نفسه الذي لعبه الإسماعيلية من أصحاب الدعوات الباطنية التي تتستر وراء التشيع" (3).وقال عنهما أي الأفغاني ومحمد عبده "وكانا – ككل الثوار من أصحاب الدعوات السرية – يعلنان ما يحبه الناس ويستهويهم غير ما يبطنان مما ينكره الناس وما يبلغهم مطامعهم" (4).هذا الرأي ليس رأي رجل خراص وإنما رأي رجل وقف جزءاً كبيراً من نشاطه لدراسة حقيقتهم وجلاء أهدافهم حتى إذا ما وصل إلى درجة كبيرة من ذلك كشف للمسلمين ما توصل إليه مستنداً إلى حقائق ثابتة من أقوالهم أو أفعالهم التي لا تنكر وقد عرفت عنهم واشتهروا بها، وهو حينما يكشف هذا لا يكشفه لحقد أو حسد وإنما يكشفه لغرض إسلامي نبيل هو أن لا تقوم في مجتمعنا أصنام جديدة معبودة لأناس يزعم الزاعمون أنهم معصومون من كل خطأ وأن أعمالهم كلها حسنات لا تقبل القدح والنقد حتى أن المخدوع بهم والمتعصب لهم والمروج لآرائهم ليهيج ويموج إذا وصف أحد الناس إماماً من أئمتهم بالخطأ في رأي من آرائه في الوقت الذي لا يهيجون فيه ولا يموجون حين يوصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يقبلون أن يوصف به زعماؤهم المعصومون" (5). إذن فنقده نقد عارف مطلع، هدفه الإصلاح، وهذا ما نبحث عنه.   (1) ((الفكر الإسلامي المعاصر)) غازي التوبة انظر الصفحات (44 - 65). (2) ((مفكرون وأدباء)) أنور الجندي (ص 264). (3) ((الإسلام والحضارة الغربية)) محمد حسين (ص 83). (4) مجلة ((رسالة الطالب المسلم)) لقاء مع الدكتور محمد محمد حسين (ص 100) العدد الأول 1397 - 1398هـ -. (5) ((الإسلام والحضارة الغربية)) محمد محمد حسين (ص 49 - 50). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 ونختم الحديث هنا برأي صنيعة من صنائعهم وأثر من آثارهم هو الأستاذ مصطفى لطفي المنفلوطي لكنه مع هذا أبى إلا أن يقول الحق في منهجهم. أما أنه متأثر بهم معجب فشاهده أنه قال في إهداء كتابه (النظرات) "إن كان لي في هذا السفر فضيلة يعجب بها الفاضل أو رأي يرضى عنه العاقل، أو ديباجة يثني عليها الأديب فلا يد فيها لأحد من الناس غير هؤلاء الرجال الثلاثة ولي نفسي والدي السيد محمد لطفي وولي عقلي أستاذي الشيخ محمد عبده، وولي أمري سيدي سعد باشا زغلول أولئك الذين أهدي إليهم كتابي لأنه حسنة من حسناتهم وصنيعة من صنائعهم وأثر من آثار عنايتهم ورعايتهم وأولئك الذين أحسنوا إلي في هذه الحياة إحساناً لا أزال أذكر أياديهم البيضاء فيه حتى يعتاق نفسي حمامهم وعظامي رجامها" إلخ. ولكن هذا الولاء لوالده ولا دخل لنا فيه، ولمحمد عبده ولسعد زغلول وهو مرادنا لم يمنعه من قول الحق في نقد منهج محمد عبده حيث عرض لذكره في مقالة عنوانها (يوم الحساب) تخيل فيها أنه قد انتقل من العالم الأول إلى العالم الثاني ورأى كأنه بعث بعد الموت وكأن أبناء آدم مجتمعون في صعيد واحد يحاسبون على أعمالهم فألهم أنه موقف الحشر وأنه يوم الحساب ثم تخيل حواراً جرى هناك بين محمد عبده وقاسم أمين عاتب فيه الأول الثاني على دعوته إلى السفور فإذا بقاسم أمين يجيب "أتأذن لي يا مولاي أن أقول لك: إنك وقعت في مثل ما وقعت فيه من الخطأ .. وإنك نصحتني بما لم تنصح به نفسك، أنا أردت أن أنصح المرأة فأفسدتها كما تقول، وأنت أردت أن تحيي الإسلام فقتلته، إنك فاجأت جهلة المسلمين بما لا يفهمون من الآراء الدينية الصحيحة والمقاصد العالية الشريفة فأرادوا غير ما أردت وفهموا غير ما فهمت فأصبحوا ملحدين، بعد أن كانوا مخرفين، وأنت تعلم أن ديناً خرافياً خير من لا دين. أولت لهم بعض آيات الكتاب فاتخذوا التأويل قاعدة حتى أولوا الملك والشيطان والجنة والنار، وبينت لهم حكم العبادات وأسرارها وسفهت لهم رأيهم في الأخذ بقشورها دون لبابها، فتركوها جملة واحدة! وقلت لهم عن الولي إله باطل والله إله حق فأنكروا الألوهية حقها وباطلها، فتهلل وجه الشيخ وقال له ما زلت يا قاسم في أخراك مثلك في دنياك لا تضطرب في حجة ولا تنام عن ثأر" (1). حسبك بهذا الاتهام من صنيعة من صنائعهم وأثر من آثار عنايتهم ورعايتهم وخلاصة ما نقلنا من نقد لهم هنا أنهم:- 1 - غير ملتزمين للشعائر الإسلامية من صلاة أو حج .. إلخ. 2 - إن تعاونهم مع الاحتلال ودول الاستعمار إما لأنهم عملاء كما يقول بعض النقاد أو سذاجة منهم كما يقول آخرون. 3 - إن لهم دعوة باطنية يظهرون منها ما يخالف حقيقتها وباطنها. 4 - إنهم جاروا مذهب الاعتزال في كثير من مذاهبهم حتى أطلق عليهم أنهم معتزلة العصر الحديث. 5 - إنهم الوسيلة التي اتخذها الاستعمار والمستعمرون لتحويل وتحوير الإسلام من الداخل ليعطي السند الفكري والدعم الديني لمعطيات الحضارة الغربية. 6 - إن منهجهم في التفسير ضال ومنحرف. كل هذا وغيره كثير كشفه الناقدون لهم لكن هذا كله، ولكنهم كلهم لم يكن لهم من الأثر ما يذكر، في التقليل من رواج حسن سيرتهم بين الناس وانخداع العلماء بهم قبل العوام حتى وصلوا إلى درجة لا يجرؤ عالم من العلماء على نقدهم علانية أمام ملأ من الناس في مجتمعهم. لم يكن السبب في هذا سراً لا يعلمه أحد بل علمه وخبره الكثيرون وأعلنوه للناس أيضاً، قالوا أن السبب أن الاستعمار يقف خلفهم ويؤيدهم ويساند دعوتهم ويحميهم أينما ساروا، ويحمي أفكارهم ومبادئهم في اللحظة التي يحتاجون فيها إلى الحماية ويسعى إلى ترويج آرائهم بين المسلمين وإيصال صوتهم ودعوتهم إلى الناس. وجند الاستعمار جنوده من المستشرقين للثناء عليهم ومدحهم حتى يروج ذلك بين الكتاب المسلمين فينقلوه عنهم نقل الإعجاب والتأييد "والافتخار" برجلين أو رجال من المشرق نالوا رتبة عالية عند رجال الغرب في المباحث الدينية، وهي رتبة تهفو إلى بلوغها أنظار طلاب الشهرة ولو على حساب الدين فأخذوا ينقلون ويروجون أفكارهم ومبادئهم لا نقل الفاحص الناقد وإنما نقل المؤيد المسلم لهم ما يقولون. وبهذا راجت بين الناس أفكارهم وطغت على أذهانهم مبادؤهم فلا يسمعون صيحة "مخنوق" ضدهم ولا همس هامس في نقدهم، ولا صرخة محذر بين صيحات المخدوعين وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26]. حتى ألجأوا بعض من يريد قول الحقيقة إلى قولها مشوبة بالثناء عليهم ومدحهم وتمجيدهم تقرباً إلى المخدوعين بهم. ذلك أثر من آثار الاستعمار، ونتيجة لدراسة نقدية مزعومة من المستشرقين لا ندعي ذلك ادعاء ونثبت هنا ما يقيم أساسه المصدر: منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير لفهد الرومي - ص 781   (1) ((النظرات)) مصطفى لطفي المنفلوطي (1/ 123 - 124). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 المبحث السابع: موقف الاستعمار البريطاني منهم واعترافه بما قدموه له من خدمات سبق أن ذكرنا ما يثبت حماية الاستعمار لهم ودفاعه المستميت عن دعوتهم، ونعيد هنا للمناسبة بعضه ونزيد عليه. ونبدأ أول ما نبدأ برجل أعلن عداءه للإسلام حيث قال جئت "إلى مصر" لأمحو ثلاث القرآن والكعبة والأزهر" (1). ترى من الذي عاون هذا الرجل لتحقيق هدفه؟! إنهم ولا شك رجال المدرسة العقلية من حيث يدرون "فيكونوا عملاء" أو من حيث لا يدرون "فيكونوا سذاج".قال كرومر في تقريره السنوي لعام 1905م عن محمد عبده "كان لمعرفته العميقة بالشريعة الإسلامية ولآرائه المتحررة المستنيرة أثرها في جعل مشورته والتعاون معه عظيم الجدوى" (2).وقال أيضاً "لا ريب عندي في أن السبيل القويم الذي أرشد إليه المرحوم الشيخ محمد عبده هو السبيل الذي يؤمل رجال الإصلاح من المسلمين الخير منه لنبي ملتهم إذا ساروا فيه فأتباع الشيخ حقيقون بكل ميل وعطف وتنشيط من الأوروبيين" (3).وقال أيضاً "إن أهميته السياسية ترجع إلى أنه يقوم بتقريب الهوة التي تفصل بين الغرب وبين المسلمين، وأنه هو تلاميذ مدرسته خليقون بأن يقدم لهم كل ما يمكن من العون والتشجيع فهم الحلفاء الطبيعيون للمصلح الأوربي" (4). وقد امتثل هو ما دعا إليه فمال إليهم وعطف عليهم وقدم لهم كل عون وتشجيع فكانوا له "حلفاء طبيعيون" فوجبت عليه حمايتهم. صرح اللورد كرومر بنفسه "إن الشيخ محمد عبده يظل مفتياً في مصر ما ظلت بريطانية العظمى محتلة لها" (5).وقال السيد رشيد "وقد تحقق أن اللورد كرومر قال للخديوي إن كان تحريك بعض المشايخ ضد المفتي لأجل فصله من الإفتاء فاسمح لي بأن أقول أنه ما دام لبريطانيا العظمى نفوذ في مصر فإن الشيخ محمد عبده يكون هو المفتي حتى يموت" (6).هذه بعض حمايته في الداخل أما إذا ذهب إلى الخارج كالآستانة مثلاً فإنه يكتب إلى تلميذه السيد رشيد "إن السلطان لا يستطيع حبسي لو أراده وهو يعلم عجزه عن ذلك حق العلم ولذلك أسباب لا أحب ذكرها الآن" (7) ولكن السيد رشيد يذكر السبب في هذا "وهم لا يجهلون أن السفارة البريطانية كانت بالمرصاد وأنها لا تسكت للحكومة الحميدية على ذلك لو أقدمت عليه والسلطان ورجاله لا يجهلون هذا أيضاً" (8).بل إن الاحتلال الإنجليزي كان عاملاً أساسياً من عوامل عودة محمد عبده من المنفى في الشام إلى مصر وقد صرح اللورد كرومر بهذا في كتابه (مصر الحديثة) حيث قال "عن العفو صدر عن محمد عبده بسبب الضغط البريطاني" (9). هذه إشارة تكفي اللبيب في بيان مدى تعاون إمام المدرسة العقلية الحديثة وأستاذها مع الاحتلال ومدى حمايتهم له وهو أمر له معناه. ترحيب المستشرقين بالمدرسة ونتائجها:   (1) ((الخنجر المسموم)) أنور الجندي (ص 29). (2) ((الإسلام والحضارة الغربية)) محمد محمد حسين (ص 78). (3) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) محمد رشيد رضا (ص: 3) (ص 426). (4) ( Medern Egept): Cromer (p. 180) (5) (( تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 501). (6) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 564). (7) ((الأعمال الكاملة لمحمد عبده)): جمع محمد عماره (1/ 117). (8) ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 860). (9) ((الفكر الإسلامي الحديث)) غازي التوبة (ص 45). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 كان لأفكار المدرسة العقلية صدى كبيراً في دراسات المستشرقين، والحقيقة أنا لا ندري من أين نبدأ وإلى أين ننتهي بين عبارات الثناء والترحيب بهم من المستشرقين ولعلنا نكتفي أيضاً بالإشارة. فهذا جب يقول عنهم "لسوء الحظ ظل قسم كبير من المسلمين المحافظين ولا سيما في الهند لا يخضعون لهذه الحركات الإصلاحية المهدئة وينظرون إلى الحركة التي تزعمتها مدرسة عليكره بالهند ومدرسة محمد عبده بمر نظرة كلها ريبة وسوء ظن لا تقل عن ريبتهم في الثقافة الأوروبية نفسها" (1) ثم وضح هذا المستشرق الإنجليزي جب دور المدرسة العقلية بقوله "إن في كل البلاد الإسلامية – باستثناء شبه جزيرة العرب وأفغانستان وبعض أجزاء من أواسط أفريقيا – حركات معينة تختلف قوة واتساعاً ترمي إلى تأويل العقائد الإسلامية وتنقيحها" ثم قال "وقد اتجهت مدرسة محمد عبده بكل فروعها وشعبها نحو تحقيق هذا الهدف" ثم ذكر "أن الأديب "بانيرث" المبشر يرى أن حركة الإصلاح الإسلامي – على النحو الذي تسير فيه الآن يجب أن تقابل من المسيحية الغربية بالتشجيع" (2).ولعله يكفي هنا أن ننقل عن جب رأيه في تلاميذ محمد عبده حيث يقول "إن تلامذته هم من أولئك الذين تعلموا على الطريقة الأوروبية وذلك من ناحيتين أولاهما إن ما كتبه الشيخ كان بمثابة درع واقية للمصلحين الاجتماعيين والسياسيين فإن عظمة اسمه قد ساهمت في نشر أخبار لم تكن تنشر من قبل ثم إنه قد أقام جسراً من فوق الهوة السحيقة بين التعليم التقليدي والتعليم العقلي المستورد من أوربا الأمر الذي مهد للطالب المسلم أن يدرس في الجامعات الأوروبية دون خشية من مخالفة معتقده وهكذا انفرجت مصر المسلمة بعد كبت، فقد ساهم الشيخ محمد عبده أكثر من أي شخص آخر في خلق اتجاه أدبي جديد في إطار الروح الإسلامية" (3).أما الجاسوس البريطاني ألفريد سكاون بلنت فيصف دعوتهم بأنها "الإصلاح الديني الحر" ويصفهم بأنهم "زعماء الإصلاح في الأزهر" ويصف مدرستهم بأنها "تلك المدرسة الواسعة التقية" (4).وقال عن الأفغاني "ومن أغرب ما يروى أن الفضل في نشر هذا الإصلاح الديني الحر بين العلماء في القاهرة لا يعود إلى عربي أو مصري أو عثماني ولكن إلى رجل عبقري غريب يدعى السيد جمال الدين الأفغاني" (5).وقال عن محمد عبده أنه "رجل من أحسن وأحكم الرجال العظام ويجب أن لا يتوهم أحد أني إذ أستخدم هذه الألفاظ ألقي القول على عواهنه أو أبالغ مثقال ذرة ولكني أقولها معتمداً على معرفتي بأخلاقه في ظروف مختلفة وأحوال صعبة فقد عرفته في أول الأمر معلماً دينياً ثم قائداً لحركة الإصلاح الاجتماعي ... وأخيراً حين سودته مواهبه العقلية ونصرته من جديد" (6).وتحدث عن هدف الأفغاني فقال "كان همه أن يطلق العقول من الأغلال التي قيدتها طوال الأجيال الماضية" وأن هذا "يماثل ما حدث من إحياء المسيحية بأوربا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر" (7).وهذا جولد زيهر يبين قصد مدرسة المنار بأنه "تحقيق قدرة الإسلام على الحياة بين تيارات العصر الحديث عن طريق إصلاح الأحوال المغلولة بقيود المذاهب الجامدة" واعتبر السيد جمال الدين الأفغاني المحرك الأول لهذا الاتجاه (8). المصدر: منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير لفهد الرومي - ص 804   (1) ((إلى أين يتجه الإسلام)) للمستشرق جب عن مجلة المجتمع العدد 364 في 9 رمضان 97 هـ (ص: 29). (2) ((إلى أين يتجه الإسلام)) للمستشرق جب عن مجلة المجتمع العدد 364 في 9 رمضان 97 هـ (ص: 63) , ((الفكر الإسلامي المعاصر)) غازي التوبة (ص 61 - 62). (3) ((الاتجاهات الحديثة في الإسلام)) جب (ص 70). (4) ((التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر)) ألفريد سكاون بلنت (ص 76). (5) ((التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر)) ألفريد سكاون بلنت (ص 77). (6) ((التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر)) ألفريد سكاون بلنت (ص 80). (7) ((التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر)) ألفريد سكاون بلنت (ص 78). (8) ((مذاهب التفسير الإسلامي)) جولد زيهر (ص 347 - 348). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 النتيجة إن لمذهب المدرسة العقلية الحديثة أبعاداً ثلاثة نراها شامخة في التكوين الأساسي للمدرسة العقلية نذكر هذه الأبعاد الثلاثة إجمالاً ثم نستخلص بعد هذا النتيجة التي نراها والموقف الذي يجب أن نقفه نحن المسلمون على ضوء هذه النتيجة. الأبعاد الثلاثة: أولاً: أن هذه المدرسة أعطت العقل أكثر من حقه وكلفته ما لا يطيق ورفعت من قيمته وضخمت حجمه حتى ساوته بالوحي بل قدمته عليه وقدمت ما زعمته من أحكامه على أحكام الوحي. وسعت في هذا السبيل لأجل "تضييق" حيز الغيبيات في مسائل العقيدة الإسلامية. ثانياً: قامت هذه المدرسة بتأويل حقائق العقائد الإسلامية بما يتمشى مع الأحكام العقلية من جهة ومكتشفات الحضارة الغربية والنظريات العلمية الغربية من جهة أخرى. وفي سبيل ذلك أيضاً قامت بتأويل المعجزات والخوارق وإنكار بعضها إذا لم يمكن قلب حقيقته بما يتمشى مع هذا البعد الفكري. ثالثاً: تبرير تناول الحضارة الغربية ومجاراتها في مدنيتها الزائفة والتحوير من الداخل لإعطاء السند الفكري والدعم الديني لمعطيات الحضارة الغربية وتقريب الهوة التي تفصل بين الغرب وبين المسلمين تقريباً كان على حساب كثير من الجوانب الإسلامية التي تقوم عليها العقيدة الإسلامية. تلكم هي الخطوط العريضة والأبعاد الراسخة التي نراها في منهج المدرسة العقلية. ونتيجة لذلك فإنا نعتقد: أولاً: أن المدرسة العقلية الحديثة ذات منهج منحرف وهي بسلوكها إياه تعاد فرقة منحرفة جديدة أقرب ما تكون إلى فرقة المعتزلة فهم كالمعتزلة. أ) في تحكيم العقل والرجوع إلى أحكامه ورفعه إلى مرتبة الوحي وهم لو حكموا العقل نفسه لسلمنا لهم لأن أحكامه بنفسه لا تخالف حكماً ثابتاً في الشريعة الإسلامية أو قضية من قضاياه وهم إنما يحكمون العادة فيحسبون ما خالف العادة مخالفاً للعقل. ب) وهم كالمعتزلة في إنكار المعجزات أو تأويلها. ج) وهم كالمعتزلة أيضاً في كثير من الغيبيات كالملائكة والجن والسحر وغيره. د) وهم كالمعتزلة في عدم تعديل الصحابة كلهم بل تجاوز بعضهم ذلك كبعض المعتزلة إلى سب الصحابة رضوان الله عليهم. و) وإنهم كالمعتزلة في اعتقاد خلود أهل الكبائر في النار. ومن هذا ندرك وضوح الصلة ووجه الشبه بينهم وبين المعتزلة. ثانياً: أنه لا يكفي القول بأنهم معتزلة لأنهم يزيدون عليهم في التقريب بينهم وبين الكفار "النصارى واليهود" وتبرير تناول الحضارة الغربية ومجاراتها في مدنيتها الزائفة. بل إنهم أخطر من المعتزلة ذلك أنهم يسعون بكل ما وسعهم لتغيير المفهوم الإسلامي في معاملة الكفار وإلغاء الفاصل والحاجز بين الفكر الحق والفكر الضال أو المنحرف وإذا ما ألغي جانب العقيدة في ميزان التفاضل فإن الكفة سترجح حتماً بنا وسيصبح الكفار آنذاك هم الأفضل والأقوى ومن ثم تكون لهم السيطرة وتكون لهم الدولة وحينئذ تكون خسارتنا للدين والدنيا. وهو ما يسعى إليه الاستعمار وسهر من أجله الليالي ودفع جيوشه المادية والمعنوية وبث رجاله المستشرقين والمخدوعين – لأجله. ثالثاً: إن الكثير من مفاهيمهم ومبادئهم هي السائدة في الفكر الإسلامي المعاصر وما ذاك إلا أثر من آثار فرض الاستعمار بادئ ذي بدء آراءهم على الناس وترويجه لهم وتمجيد المستشرقين لهم حتى إذا ما سار ذلك بين الناس أخذوا يتبنونه بأنفسهم ويعلنونه في مؤلفاتهم ويدافعون عنه حتى أصبح أو كاد من المسلمات. وأصبح رجال المدرسة العقلية عندهم من الرجال الذين لا يقبل فيهم نقد أو يصل إليهم قدح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 رابعاً: إنهم مهدوا السبيل لسيطرة الفكر الغربي واتخذهم الأعداء مطية يعملون من خلالها على زلزلة عقيدة المسلمين وتشكيكهم بها ومحاربة الإسلام في عقر داره ليس عن طريق نشر المؤلفات فحسب بل عن طريق الصحافة وطريق السينما والتليفزيون والإذاعة وكل وسائل الإعلام الأخرى. ثم عمل الاستعمار على إطفاء ما بقي من نار الغيرة على الشعائر الإسلامية بل على الدين كله في قلوب الشباب فأصبحوا لا يحرك ساكناً فيهم ما يحدث في المسلمين في الفلبين أو في الهند أو في أفغانستان أو في فلسطين أو في غيرها من مختلف البلدان، لا يحرك هذا فيهم ساكناً عند سماعه فضلاً عن أن يهبوا زرافات ووحداناً. خامساً: لم تكن نتيجة ذلك ذات أثر على الأفراد فحسب بل على كثير من الدول التي نبذت الفقه والفقهاء الإسلاميين واستبدلت القوانين الوضعية بالفقه الإسلامي وتركت تقليد أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد أو غيرهم من الفقهاء واستمدت جل دستورها من القوانين الأوروبية الحديثة. وبعد. فما الموقف منهم الذي يجب إعلانه هنا؟ لا أريد أن أستطرد في الحديث هنا بل ألخص الموقف بأسطر أحسب فيها الكفاية. لا شك أن الواجب يقتضي أن نعيد النظر في رجال هذه المدرسة العقلية أنفسهم ونعيد تقييمهم وفق الميزان الإسلامي الحق ونعلن للناس كافة حقيقتهم ونجلوا لهم علانية زيف منهجهم وتبيين مواقع ضلاله ومواقع انحرافه. نعيد تقييمهم تقييماً حقاً لا يراعي بحال من الأحوال ما هو سائد بين الناس عنهم. وحين نصل إلى نتيجة ذلك نعلن بها العلماء قبل العامة لينشروه بين الناس كافة. وحينئذ نعيد ترتيب الأمور على الميزان الحق أحسب هذا الأمر يقال في لحظة ويكتب في لحظتين ولكن تنفيذه يريد عزيمة إسلامية خالصة تطوي الزمن طياً فيحصل ما يحتاج إلى قرون عديدة في سنوات قليلة ويكون صلاح هذا الدين في هذا العصر كصلاحه في أوله. المصدر: منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير لفهد الرومي - ص 809 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 الخاتمة وبعد، فتلك هي فرقة "المعتزلة" في ماضيها وحاضرها، في أفكارها ومعتقداتها، في مبادئها وآرائها ومناهجها. وإن كان لنا أن ندعو الشباب إلى الحذر من تلك السموم وإلى توخي الحرص عند الاستماع لأي دعوى من دعاوى العقلانية أو التجديد أو عدم التعصب أو الحرية – وإن تدثرت برداء الإسلام خداعا لأهله – فإننا ننبه إلى أنه في تلك الدعوات خيبة الدنيا وخسرانها قبل الآخرة وعذابها، ذلك أن منهج الكلام ومباحث الاعتزال هي في حقيقة أمرها مباحث نظرية بعيدة كل البعد عن الناحية التطبيقية العملية، والإسلام إنما يدعو البشر إلى الاعتقاد السهل البسيط بوحدانية الله تعالى، واتخاذه – سبحانه – إلها يعبد في كافة مناحي الحياة ثم يفتح الباب على مصراعيه للاجتهاد في استغلال ما في الأرض جميعا والسير في مناكبها والنظر في آيات الآفاق والأنفس، ليرتفع في مدارج الرقي والقوة والإنتاج فيسود العالم كله ويستعلي عليه استعلاء القوة كما استعلى عليه استعلاء الإيمان، فلا يذهب بقوته في الصراع والتناحر حول معان نظرية مجردة لا عمل تحتها – كالعرض والجوهر وما إلى ذلك – ولا فائدة من ورائها. والحقيقة أن دعاة تلك المذاهب إنما يدفعون المسلمين إلى الاستغراق في النظريات المجردة فتبعد بهم عن مجالات العمل والتطبيق وتظل قواهم مبعثرة وأراضيهم مستعمرة وشرعهم معطلا. إن كبار العلماء في الغرب قد أدركوا – منذ زمن – أن لعبة المباحث النظرية لا تؤدي إلا إلى الضعف، وأن دعاوى الحرية والتقدم بناء على تلك النظريات إنما هي شرك يكفل تردي البشرية - لصالح فئة منها - في مهاوي التخلف والتناحر مادامت الحياة، وهو ما هدانا إليه رب العالمين حين أنزل المنهج الأمثل على سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وحين تلقفه منه صحابته رضوان الله عليهم فانطلقوا به "عاملين" في مشارق الأرض ومغاربها فبنوا أكبر دولة على مر التاريخ في أقصر فترة زمنية! وإننا لنتساءل – ونسأل أولئك الدعاة لمنهج الاعتزال – أين هي الدولة التي قامت على مثل تلك الفروض والمباحث الكلامية النظرية؟! وإنما كان نصيب الدولة الإسلامية التفتت والمحنة يوم أن تبنت السلطة تلك النظريات في عهد المأمون العباسي. ولله در الإمام مالك حين عبر عن روح الإسلام في كلمته الجديرة بالتخليد: "أكره الكلام فيما ليس تحته عمل" (1). وقوله: "أكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم " (2) وقوله: "وأكره أن ينسب أحد حتى يبلغ آدم ولا إلى إبراهيم" (3).   (1) ((سير أعلام النبلاء)) (8/ 88)، و ((مذاهب الإسلاميين)) لبدوي (1/ 30). (2) ((الجامع)) أبو زيد القيرواني (259). (3) ((سير أعلام النبلاء)) (16/ 104). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 ويقول الإمام الأوزاعي: "بلغني أن الله إذا أراد بقوم شرا ألزمهم الجدل ومنعهم العمل".بل إن ذلك كان وعي السلف الصالح من أئمة الإسلام حين نهوا عن الخوض في الكلام وامتنعوا عن المشاركة فيه كالشافعي وأحمد وغيرهما – ممن ذكرنا طرفا منهم في مقدمة بحثنا هذا – لما عرفوا أن ذلك الأمر إلى جانب ابتداعه فهو صارف للمسلمين عما هو نافع لهم في دينهم ودنياهم على حد سواء، بل تلك هي عبرة اندفاع الصحابة رضوان الله عليهم في الفتح والتقدم لما أعرضوا عما نهوا عنه مما لا طائل تحته، وبعد أن وعوا الحكمة النبوية في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال أمر هذه الأمة موائما أو مقاربا ما لم يتكلموا في الولدان والقدر)) (1). ثم لنستمع إلى شهادة أحد أكابر علماء الغرب القلائل الذين وضعوا أيديهم على الداء البشري وهو الدكتور الكسيس كاريل حيث يقول: "مهما كانت براعة المذاهب "النظرية" التي يبتدعها العقل، فإنها لا تعدو أن تكون نظرات جزئية، وأشباحا باهتة للواقع. وليس هناك مذهب فلسفي قط استطاع أن يحظى بقبول جميع الناس، وقوانين الحياة التي تستنبط من مثل تلك المبادئ ليست إلا فروضا وإذا أردنا تجنب الوقوع في الخطأ وجب علينا أن نستخلص قوانين الحياة من ملاحظة الحياة نفسها" (2). ويبين كاريل بعدها مسار العقل الإنساني في اختياره للمباحث النظرية السهلة وما يجلبه ذلك من ضرر فيقول: "كان من الممكن للعلم أن يكفل لنا نجاح حياتنا الفردية والاجتماعية ولكننا فضلنا نتائج التفكير الفلسفي الذي ساد في القرن الثامن عشر على نتائج العلم الواضحة، فارتضينا أن نأسن وسط "المعاني المجردة" ولعل كسل الإنسان الطبيعي هو الذي دفعه إلى اختيار المعاني المجردة الهينة. وذلك لأن الملاحظة أشق من الاستدلال، وهذا هو السبب في أن البشرية كانت دائما تميل إلى اللعب بضروب التجريد" (3).ثم يؤكد على أن الفلسفة ومناهجها هي التي تزري بالمناهج الأصلية للبشرية في العلم والعمل: "ولا شك أن فلاسفة عصر النور – أي عصر النهضة – هم الذين مكنوا لعبادة الحرية بصورة عمياء في أوربا وأمريكا، فراحوا باسم العقل يزرون بجميع النظم التقليدية، وبذلك وسموا هذه القيود في أعين الناس بميسم الشناعة، وحينئذ بدأت المرحلة الأخيرة من الصراع ضد القواعد التي رضي أسلافنا بأن تهيمن على سلوكهم" (4).   (1) رواه ابن حبان (15/ 118) (6724) , والحاكم (1/ 88) , وعبد الله بن أحمد في ((السنة)) (2/ 401) , قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولا نعلم له علة ولم يخرجاه , ووافقه الذهبي, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 205): رجال البزار رجاله صحيح. وقال السيوطي في ((الخصائص الكبرى)) (2/ 148): إسناده صحيح. وقال الوادعي في ((أحاديث معلة)) (225): قال البزار قد رواه جماعة فوقفوه على ابن عباس. (2) ((تأملات في سلوك الإنسان)) (47). (3) ((تأملات في سلوك الإنسان)) (7). (4) ((تأملات في سلوك الإنسان)) (1). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 وسبحان الله العظيم! كيف يدور الزمن دورته فيحاول "فلاسفة" عصرنا و"علمائه" أن يعيدوا تمثيل ما حدث في أوربا منذ ثلاثة قرون أو أكثر، فيمكنوا لعبادة "الحرية" ويزدروا مناهج سلفنا الصالح! أليس ذلك كفعل الببغاء الذي عقله في أذنيه!؟. ثم يعلن كاريل في قوة ووضوح أن زيف المباحث النظرية هو السبب الأصيل وراء تدهور الحضارة فيقول: "ولذلك كان انتصار المذاهب النظرية تأكيدا نهائيا لهزيمة الحضارة" (1).وإن كان كاريل قد شهد بذلك، فإننا نسوق شهادة واحد من أعتى المستشرقين وأكثرهم حقدا على الإسلام وأهله، وهو هاملتون جب حيث يقول: "إن تركيز الفكر العربي على الأحداث الفردية، جعل العلماء المسلمين معدين للتعمق في المنهج الاختياري العلمي أكثر من أسلافهم الإغريق والإسكندرانيين. إن الملاحظات المفصلة التي قام بها باحثوا الإسلام قد ساهمت بشكل ملموس في تقدم المعرفة العلمية، بل إنها المصدر الذي أعاد المنهج التجريبي إلى أوربا في العصر الوسيط" (2). فيا للعجب! ألم يكن أجدر "بفلاسفتنا" أن يدركوا من روح الإسلام ما أدركه ذلك الخبيث!! وصدق القائل (عدو عاقل. .). ونكتفي بهذا القدر من الشهادة لاثنين من أكابر علماء الغرب، وما كنا لننقل عن أحد من تلك الأمم، ولكن الشهادة التي يقر بها المخالف أكبر قيمة - في صدقها – من تلك التي يدلي بها الموافق. وإن في الحضارة الغربية آفات قاتلة تتركز في مناهجها ونظرياتها وسلوكياتها، وإن كان فيها من المباحث العلمية والمناهج التطبيقية والتقدم التكنولوجي ما يجب على المسلمين الأخذ به والتسابق في تعلمه وتطويره – إن أمكن – فهم أولى البشر بالأخذ بأسباب القوة وتجنب مواطن الضعف. وإنها لحكمة جد عزيزة غالية نقدمها للمخلصين من أبناء هذا الجيل من الإسلاميين؛ أن لا تقيموا وجهة نظركم على الرفض الكامل، ولا على الموافقة التامة في كل الأحوال بل إن التوسط والاعتدال هو سبيل هذه الطائف الناجية المنصورة بإذن الله. إن هناك دائما حق بين صفوف الباطل، وحيثما وجد الحق فنحن أولى به من الغير إذ أنه ينتمي لأمة الإسلام دون غيرها. إن القدرة على أن نفرق بين ما نأخذ وما ندع، من ذلك الحصاد الهائل للبشرية إنما يكمن - في حقيقته - في إدراك المنهج الإسلامي الصحيح وما يدعو إليه، وفي دراسة سيرة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم دراسة واعية لأحداثها وعبرة تلك الأحداث، والله سبحانه وحده هو القادر على أن يكشف عن المسلمين الغمة، وأن يعيد إليهم القدرة على صحة الحكم، ودقة النقد فهم جد محتاجين إلى ذلك في مواجهة تلك التيارات التي يعج بها العصر. إنه سميع مجيب. المصدر: المعتزلة بين القديم والحديث لمحمد العبده وطارق عبد الحليم – ص 141   (1) ((تأملات في سلوك الإنسان)) (11). (2) ((الاتجاهات الحديثة في الإسلام لهاملتون جب)) (33). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 الفصل الأول: وجود الخوارج في الماضي والحاضر الخوارج فرقة كبيرة من الفرق الاعتقادية، وتمثل حركة ثورية عنيفة في تاريخ الإسلام السياسي. شغلت الدولة الإسلامية فترة طويلة من الزمن، وقد بسطوا نفوذهم السياسي على بقاع واسعة من الدولة الإسلامية في المشرق وفي المغرب العربي، وفي عمان وحضرموت وزنجبار (1) وما جاورها من المناطق الإفريقية وفي المغرب العربي، ولا تزال لهم ثقافتهم المتمثلة في المذهب الإباضي المنتشر في تلك المناطق. ولا يخفى كذلك أن بعض أفكار الخوارج - ولا سيما الأزارقة - المتعلقة بتكفير العصاة لا يزال لها أتباع يمثلون تنطع الخوارج وتشددهم في وقتنا الحاضر، مما يستدعي عرض ودراسة هذه الفرقة، وما أنتجت من آراء وأفكار، وبيان ما جناه أتباعها على الإسلام والمسلمين. ومما يجدر ذكره بالنسبة لكتب الخوارج أنها تكاد أن تكون مفقودة تماماً إذا ما استثنينا الإباضية منهم، فلم تعرف لهم مؤلفات موفورة كبقية الفرق، وأكثر ما نرجع في ذلك إلى ما كتبه العلماء من أهل السنة، مع ثقتنا بصحة ما نقلوه عنهم لمعايشتهم لهم، وكذلك لاحتمال أنهم عثروا على كتب للخوارج لم تصل إلينا، على أن ما وصل من كتب الإباضية تدل على مصداق أولئك في نقلهم لمذهب الخوارج. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 226   (1) وتسمى الآن (تنزانيا) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 المبحث الأول: تعريف الخوارج لغة الخوارج في اللغة جمع خارج، وخارجي اسم مشتق من الخروج، وقد أطلق علماء اللغة كلمة الخوارج في آخر تعريفاتهم اللغوية في مادة (خرج) على هذه الطائفة من الناس؛ معللين ذلك بخروجهم عن الدين أو على الإمام علي، أو لخروجهم على الناس (1). المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 227 وقد أطلقت كلمة الخوارج هذه في كتب اللغة على طائفة من أهل الآراء والأهواء لخروجها على الدين أو على الإمام علي رضي الله عنه. فيقول الأزهري في (تهذيب اللغة): والخوارج: قوم من أهل الأهواء لهم مقالة على حدة. وهو تعريف ابن منظور والفيروزآبادي أيضاً (2). ويقول الزبيدي عنهم: هم الحرورية والخارجية طائفة منهم، وهم سبع طوائف سموا به لخروجهم على الناس أو عن الدين أو عن الحق أو عن علي كرم الله وجهه بعد صفين (3) ... المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي – ص19   (1) انظر: كتب اللغة مادة (خرج)، انظر: ((تهذيب اللغة)) (7/ 50)، ((تاج العروس)) (2/ 30). (2) ((تهذيب اللغة)) (7/ 50)، ((لسان العرب)) (1/ 808)، ((القاموس المحيط)) (1/ 192). (3) ((تاج العروس)) (2/ 30). والحق أن يقال: رضي الله عنه كغيره من الصحابة رضي الله عنهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 المبحث الثاني: تعريف الخوارج اصطلاحا اختلف العلماء في التعريف الاصطلاحي للخوارج، وحاصل ذلك: منهم من عرفهم تعريفاً سياسياً عاماً، اعتبر الخروج على الإمام المتفق على إمامته الشرعية خروجاً في أي زمن كان. قال الشهرستاني: (كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجياً، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أو كان بعدهم على التابعين لهم بإحسان والأئمة في كل زمان) (1).ومنهم من خصهم بالطائفة الذين خرجوا على الإمام علي رضي الله عنه. قال الأشعري: (والسبب الذي سُمّوا له خوارج؛ خروجهم على علي بن أبي طالب) (2).زاد ابن حزم بأن اسم الخارجي يلحق كل من أشبه الخارجين على الإمام عليّ أو شاركهم في آرائهم في أي زمن. وهو يتفق مع تعريف الشهرستاني (3).وعرفهم بعض علماء الإباضية بأنهم طوائف من الناس في زمن التابعين وتابع التابعين أولهم نافع بن الأزرق (4).، ولم أر هذا التعريف عند أحد غير الإباضية. وهذا التعريف لأبي إسحاق أطفيش يريد منه أن لا علاقة بين المحكمة الأولى –الذين لا يعتبرهم خوارج لشرعية خروجهم كما يزعم- وبين من بعدهم إلى قيام نافع سنة 64هـ، وهذا التعريف غير مقبول حتى عند بعض علماء الإباضية، ويبقى الراجح هو التعريف الثاني؛ لكثرة من مشى عليه من علماء الفرق في تعريفهم بفرقة الخوارج، وقيام حركتهم ابتداء من خروجهم في النهروان، وهو ما يتفق أيضاً مع مفهوم الخوارج كطائفة ذات أفكار وآراء اعتقاديه أحدثت في التاريخ الإسلامي دوياً هائلاً. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 227 وأما في اصطلاح علماء الفرق فيؤخذ وجهات نظر ثلاثة في التعريف بالخوارج: - من يرى أنهم الخارجون على الإمام الحق في أي زمان. - من يرى أنهم الخارجون عن الإمام علي ومن يرون رأيهم. - ومن يرى أنهم الخارجون بعد الإمام علي ابتداءً من الأزارقة. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص19   (1) ((الملل والنحل)) (1/ 114). (2) ((المقالات)) (1/ 207). (3) ((الفصل)) (2/ 113). (4) ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص 103). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 وتعريف الشهرستاني هذا تعريف عام يشمل أقسام الخروج، ولا يخص فرقة الخوارج، إذ الخروج على إمام المسلمين ينقسم إلى أقسام: أولا: من خرج لمنازعة في الملك، ولكنه خرج غضبا للدين، ومن أجل جور الولاة وترك عملهم بالسنة، مثل الحسين بن علي (1)، وأهل المدينة في وقعة الحرة، وزيد بن علي زين العابدين (2).ثانيا: من خرج على ولي الأمر بتأويل سائغ (3) يقره الكتاب والسنة، وهذا ما كان من أصحاب الجمل وصفين إذ خرجوا على علي رضي الله عنه لا معاندين مطالبين بالملك، بل لرأي رأوه واجتهاد صاروا إليه من طلب القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه (4).ثالثا: من خرج لطلب الملك فقط، وكان القتال على الدنيا وهؤلاء هم البغاة حقا (5).وقد جاء الوعيد والذم لهذه الطائفة المفرقة للأمة السافكة لدماء المسلمين من أجل الدنيا والملك. رابعا: من خرج على الإمام وعلى الجماعة المسلمة للدعاء إلى معتقدهم (6)، فخروج هؤلاء نابع من مخالفة لأصول في الشريعة الاعتقادية أو العلمية (7).والقسم الرابع هذا الخارج للدعاء إلى معتقده هو الذي وردت فيه نصوص نبوية في ذمه، والأمر بقتاله لأن خطره عظيم على الأمة المسلمة وهو أخطر أقسام الخروج السابقة، يقول ابن تيمية رحمه الله: "وقد اتفق الصحابة والعلماء بعدهم على قتال هؤلاء (8)، فإنهم بغاة على جميع المسلمين سوى من وافقهم على مذهبهم، وهم يبدؤون المسلمين بالقتال، ولا يندفع شرهم إلا بالقتال، فكانوا أضر على المسلمين من قطاع الطريق؛ فإن أولئك مقصودهم المال، فلو أعطوه لم يقاتلوا، وإنما يتعرضون لبعض الناس، وهؤلاء يقاتلون الناس على الدين حتى يرجعوا عما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة إلى ما ابتدعه هؤلاء بتأويلهم الباطل وفهمهم الفاسد للقرآن ... وهم شر على المسلمين من غيرهم، فإنهم لم يكن أحد شرا على المسلمين منهم ولا اليهود ولا النصارى؛ فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم، مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم، مكفرين لهم وكانوا متدينين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة" (9).   (1) في ((فتح الباري)) (12/ 206) الحسن بن علي، والصحيح أنه الحسين حيث خرج على يزيد بن معاوية وقتل بكربلاء. (2) اختلف العلماء في جواز هذا الخروج، فمنهم من أجاز الخروج على الإمام الجائر وعد ذلك من الجهاد، ومنهم من قال بعدم جوازه لما يترتب على هذا الخروج من المفاسد التي تربو على المصالح، وهذا هو القول الصحيح الذي تدل عليه النصوص الشرعية، وهو قول غالب أهل السنة. انظر ((الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة)) لعبدالله الدميجي (502 - 518 – 547). (3) التأويل السائغ هو الجائز الذي يقر صاحبه عليه إذا لم يكن فيه جواب. انظر ((الفتاوى)) (28/ 266، 275). (4) انظر ((الفتاوى)) (28/ 266، 275). (5) انظر ((فتح الباري)) (12/ 286) بتصرف، شذرات الذهب في أخبار من ذهب لأبي الفلاح الحنبلي (1/ 68). (6) انظر ((فتح الباري)) (12/ 285). (7) انظر ((الفتاوى)) (28/ 266، 275). (8) هؤلاء ((الخوارج)). (9) انظر ((منهاج السنة النبوية)) (5/ 243 – 248) باختصار وتصرف يسير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 إذا الخوارج بتعريف عام: "كل من خرج على الإمام وعلى الجماعة المسلمة بالسيف للدعاء إلى معتقده وكان خروجه نابعا من مخالفة الأصول في الشريعة" فهذا التعريف أقرب لتعريف الخوارج كفرقة من الفرق، أما من خرج لغير ذلك مما تقدم فيطلق عليهم اسم الخروج العام، ويطلق عليهم خوارج "كحكم شرعي، وصفة لفعلهم. ونجد د/ ناصر العقل يعرف الخوارج كفرقة من الفرق أنهم: "الذين يكفرون بالمعاصي ويخرجون على أئمة المسلمين وجماعتهم" (1). وهذا التعريف عام وإن كان أخص مما ذكره الشهرستاني إلا أنه يشمل كل من سار على هذا المنهج، وإن تسمى باسم آخر غير الخوارج، أو انتمى إلى فرقة أخرى، إذ كل من خرج على إمام المسلمين وجماعتهم بالسيف، وكان الدافع لهذا الخروج عقيدة يعتقدها من تكفير المخالفين أو بدعة يدعو إليها يسمى خارجيا، ويعتبرون خوارج ويلحقهم الذم الوارد في النصوص (2)، لذلك يطلق على فرقة الرافضة خوارج مارقة بهذا المعنى (3).وإن كانت الخوارج والرافضة كلها تكفر بالمعاصي (4)، وترى الخروج على إمام المسلمين وجماعتهم على خلاف فيما بينهم في تفصيل ذلك إلا أن الفيصل بينهما هو القول في علي رضي الله عنه، فالخوارج الحرورية تكفره، والرافضة تتولاه. لذا إذا أردنا أن نعرف الخوارج الحرورية بتعريف خاص بهم كفرقة من الفرق، لا كحكم شرعي فيهم أو تعريف عام لهم نقول: هم كل من كفر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعثمان وأصحاب الجمل ومن رضي بالتحكيم، وهم الذين يكفرون بالمعاصي (5)، ويرون الخروج على إمام المسلمين وجماعتهم، ويتولون فرقة المحكمة الأولى (6).فهؤلاء هم الخوارج الحرورية وهم المرادون في هذا المبحث والله أعلم، والخوارج فرق متعددة، عدها بعضهم وأوصلها إلى العشرين (7). المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص393   (1) انظر كتاب ((الخوارج)) له (ص28). (2) ويؤكد هذا أن أيوب السختياني رحمه الله يسمي أصحاب البدع خوارج، ويقول: " ((الخوارج)) اختلفوا في الاسم واجتمعوا على السيف". انظر كتاب الشريعة (5/ 2549)، ذم الكلام للهروي (4/ 198). (3) أجمعت الرافضة على ترك الخروج بالسيف حتى يظهر إمامهم المنتظر، أي: إذا خرج إمامهم حملوا السيف، أما الزيدية من الشيعة بأجمعها ترى السيف والعرض على أئمة الجور وإزالة الظلم، انظر ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 129، 150)، وانظر ((الفتاوى)) لابن تيمية (28/ 271) (13/ 113). (4) انظر ((الفتاوى)) (28/ 261). (5) يشمل كلمة "يكفرون بالمعاصي" كفر الشرك، وكفر النعمة، وكفر الملة، على اختلاف فرق الخوارج في ذلك. (6) انظر ذكر مذاهب الفرق الثنتين وسبعين المخالفة للسنة والمبتدعين لعبدالله اليافعي (23). (7) انظر ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (49)، المواقف في علم الكلام للايجي (424)، وهناك من ذكر ذلك انظر تلبيس إبليس لابن الجوزي (28). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 الفصل الثالث: نشأة الخوارج اختلف المؤرخون وعلماء الفرق في تحديد بدء نشأتهم، وخلاصة ذلك ما يلي: أنهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. أنهم نشأوا في عهد عثمان رضي الله عنه. أنهم نشأوا في عهد علي رضي الله عنه حين خرج عليه طلحة والزبير، كما يزعم بعض علماء الإباضية. أو حين خرج الخوارج من المحكمة عن جيشه كما هو الراجح. أنهم ظهروا في عهد نافع بن الأزرق ابتداء من سنة 64هـ، كما تقدم في التعريف بهم. وفيما يلي مناقشة تلك الأقوال وبيان الصحيح منها: أما بالنسبة للقول الأول، فإن المقصود به ما وقع للرسول صلى الله عليه وسلم من قيام ذي الخويصرة- عبد الله ذي الخويصرة التميمي- في إحدى الغزوات في وجه الرسول معترضاً على قسمة الرسول صلى الله عليه وسلم للفيء، وأنه لم يعدل - حاشاه - في قسمتها. وقد قال بهذا القول كثير من العلماء منهم: الشهرستاني وابن حزم وابن الجوزي، والآجري، إلا أنه ينبغي التفريق بين بدء نزعة الخروج على صورة ما، وظهور الخوارج كفرقة لها آراء وتجمع قوي. فذو الخويصرة لا يعتبر في الحقيقة زعيماً للخوارج، لأن فعلته حادثة فردية- تقع للحكام كثيراً- ولم يكن له حزب يتزعمه ولا كان مدفوعاً من أحد - إلا طمعه وسوء أدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع هذا فيمكن القول بأن نزعة الخروج قد بدأت بذرتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) وأما بالنسبة للقول الثاني، فهو رأي لبعض العلماء أيضاً كابن كثير وابن أبي العز (2) , ولكن يرد على هذا أن أولئك الثوار البغاة كان هدفهم قتل عثمان وأخذ المال، ولا ينطبق عليهم وصف فرقة ذات طابع عقائدي خاص، ولهذا اندمجوا مع المسلمين بعد تنفيذ جريمتهم ولم يشكلوا فرقة مستقلة –وإن كان فعلهم يعتبر خروجاً عن الطاعة وخروجاً على الإمام –إلا أنهم ليسوا هم الخوارج كفرقة عقائدية سياسية لما تقدم. وأما بالنسبة للقول الثالث؛ وهو للورجلاني الإباضي، فأنه قول مردود؛ فإن طلحة والزبير رضي الله عنهما لا يصح وصفهما بالخوارج ولا ينطبق عليهما وصف الخوارج كفرقة، وكان معهما أيضاً أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقد شهد الله لها بالإيمان، وطلحة والزبير رضي الله عنهما من العشرة المبشرين بالجنة (3). وأما بالنسبة للقول بأن نشأتهم تبدأ من قيام نافع بن الأزرق؛ فإنه لم يقل به غير من ذكرنا من علماء الإباضية؛ لنفيهم وجود صلة ما بين المحكمة ومن سار على طريقتهم وبين الأزارقة بعدهم، وهو قول غير مقبول لوجود تسلسل الأحداث وارتباطها من المحكمة إلى ظهور نافع بن الأزرق. والحاصل أن الخوارج بالمعنى الصحيح اسم يطلق على تلك الطائفة ذات الاتجاه السياسي والآراء الخاصة، والتي خرجت عن جيش الإمام علي رضي الله عنه والتحموا معه في معركة النهروان الشهيرة (4). ومما نذكره هنا محاورات بين علي رضي الله عنه والخوارج، تصور لنا مدى التعنت الذي اتصف به الخوارج. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 232   (1) حديث ذي الخويصرة رواه البخاري (3610) , ومسلم (1064) , من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (2) انظر: ((البداية والنهاية)) (7/ 189) و ((شرح الطحاوية)) (ص 472). (3) انظر: ((الدليل لأهل العقول)) (ص15). (4) انظر لتلك الأقوال: ((تلبيس إبليس)) (ص 90)، ((الفصل)) لابن حزم (4/ 157)، ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 21) ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص472) ((البداية والنهاية)) لابن كثير (7/ 189) ((الدليل لأهل العقول)) للورجلاني (ص15)، ((عمان تاريخ يتكلم)) للسالمي (ص103). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 يختلف المؤرخون في تحديد بدء نشأة الخوارج هل كان ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو في عهد عثمان أو في عهد علي رضي الله عنهما أو أن نشأتهم لم تبدأ إلا بظهور نافع بن الأزرق وخروجه عام 64هـ؟ وسوف نتناول أقوال المؤرخين في هذا المقام بالعرض والدراسة واختيار ما نراه صحيحا منها. القول الأول: أن أول الخوارج هو ذو الخويصرة أو عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي الذي بدأ الخروج بالاعتراض على النبي صلى الله عليه وسلم في قسمة الفيء واتهامه إياه بعدم العدل وقد ورد في حديث البخاري تحت باب (من ترك قتال الخوارج للتألف وأن لا ينفر الناس عنه) عن أبي سعيد قال: ((بينا النبي صلى الله عليه وسلم يقسم جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمى فقال: اعدل يا رسول الله. فقال: ويلك من يعدل إذا لم أعدل. قال عمر بن الخطاب دعني أضرب عنقه. قال: دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته، وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء، ينظر في نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نضيه فلا يوجد فيه شىء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل إحدى يديه - أو قال ثدييه - مثل ثدي المرأة - أو قال مثل البضعة - تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس. قال أبو سعيد أشهد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم وأشهد أن عليا قتلهم وأنا معه، جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال فنزلت فيه وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ)) (1)، فهو على ما يبدو من تبويبه لهذا الحديث يعتبر ذا الخويصرة أول الخوارج وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك قتله للتألف. وقد أخرج الإمام مسلم رحمه الله هذا الحديث مع اختلاف في الألفاظ (2) وقد اقتصر في تسمية ذلك الخارجي الأول على (ذي الخويصرة) بينما هو في البخاري عبد الله بن ذي الخويصرة وربما رجع ذلك إلى اشتهار عبد الله باسم أبيه ذي الخويصرة فاقتصر مسلم على الشهرة بينما ذكر البخاري اسمه كاملاً. وسواء كان الخارج على النبي هو عبد الله أو أباه؛ فإن الحادثة قد وقعت بهذه الصورة وقد أورد مسلم عدة روايات حول هذه القضية ولكنه لم يصرح بالاسم إلا في رواية أبي سعيد، وفي بعض الروايات التي ذكرها الإمام مسلم عن أبي سعيد ذكر أوصاف ذلك الرجل دون ذكر اسمه كما في قوله: ((بعث علي رضي الله عنه وهو باليمن بذهبة في تربتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمها الرسول صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر؛ الأقرع بن حابس الحنظلي، وعيينة بن بدر الفزاري، وعلقمة بن علاثة العامري، ثم أحد بني كلاب، وزيد الخير الطائي، ثم أحد بني نبهان قال: فغضبت قريش فقالوا: أيعطي صناديد نجد ويدعنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني إنما فعلت ذلك لأتألفهم. فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين محلوق الرأس، فقال: اتق الله يا محمد. قال: فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن يطع الله إن عصيته، أيأمنني على أهل الأرض ولا تؤمنوني؟ قال: ثم أدبر الرجل فاستأذن رجل من القوم في قتله (يرون أنه خالد بن الوليد)، فقال رسول الله: إن من ضئضئ (3) هذا قوما يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)) (4).   (1) رواه البخاري (6933). (2) رواه مسلم (1064). (3) الضئضئ: الأصل. (4) رواه مسلم (1064). والحديث رواه البخاري (3344). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 وقد أخبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه ببعض أوصافهم التي أخبره بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقع مصداق ذلك حين قتلهم علي بن أبي طالب في معركة النهروان، كما جاء في كلام عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن الحرورية لما خرجت وهو مع علي بن أبي طالب قالوا: لا حكم إلا لله قال علي: كلمة حق أريد بها باطل؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ناسا إني لأعرف صفتهم في هؤلاء، يقولون الحق بألسنتهم لا يجوز هذا منهم (وأشار إلى حلقه)، من أبغض خلق الله إليه منهم أسود إحدى يديه طبي شاة أو حلمة ثدي، فلما قتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: انظروا، فنظروا فلم يجدوا شيئا فقال: ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كذبت مرتين أو ثلاثا. ثم وجدوه في خربة فأتوا به حتى وضعوه بين يديه. قال عبيد الله: وأنا حاضر ذلك من أمرهم وقول علي فيهم: زاد يونس في روايته: قال بكير: وحدثني رجل عن أبي حنين أنه قال: رأيت ذلك الأسود) (1).وقد ذهب إلى القول بأن أول الخوارج هو ذو الخويصرة كثير من العلماء منهم ابن الجوزي وذلك في قوله: أن " أول الخوارج وأقبحهم حالة ذو الخويصرة ". وقوله: " فهذا أول خارجي خرج في الإسلام وآفته أنه رضي برأي نفسه ولو وقف لعلم أنه لا رأي فوق رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتباع هذا الرجل هم الذين قاتلوا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (2).ومنهم ابن حزم (3)، وهو رأي الشهرستاني أيضاً حيث يقول: وهم الذين أولهم ذو الخويصرة وآخرهم ذو الثدية (4)، واعتبر اعتراض ذي الخويصرة خروجا صريحا؛ إذ إن الاعتراض على الإمام الحق يسمى خروجاً فكيف بالاعتراض على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ويقول بعد أن ذكر حديث ذي الخويصرة: وذلك خروج صريح على النبي صلى الله عليه وسلم، ولو صار من اعترض على الإمام الحق خارجيا فمن اعترض على الرسول أحق بأن يكون خارجياً (5).وينقل الطالبي عن أبي بكر محمد بن الحسن الآجري أنه يرى أن أول الخوارج كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم إنهم بعد ذلك خرجوا من بلدان شتى واجتمعوا وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى قدموا المدينة فقتلوا عثمان، ثم خرجوا بعد ذلك على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (6). القول الثاني: وهو للقاضي علي بن علي بن أبي العز الحنفي شارح (الطحاوية)، الذي يرى أن نشأة الخوارج بدأت بالخروج على عثمان رضي الله عنه في تلك الفتنة التي انتهت بقتله وتسمى الفتنة الأولى – يقول: فالخوارج والشيعة حدثوا في الفتنة الأولى (7).ويسمي ابن كثير الذين ثاروا على عثمان وقتلوه خوارج فيقول: وجاء الخوارج فأخذوا مال بيت المال وكان فيه شيء كثير جدا (8). القول الثالث: وهو للورجلاني حيث يعتبر أن نشأة الخوارج بدأت منذ أن فارق طلحة والزبير علياً رضي الله عنه وخرجا عليه بعد مبايعتهما له، ثم يقول: وشرعا دين الخوارج دينا؛ فلهما أجور الخوارج وأوزارهما (9).   (1) رواه مسلم (1066). (2) ((تلبيس إبليس)) (ص90). (3) انظر: ((الفصل)) (4/ 157). (4) ((الملل والنحل)) (1/ 116). (5) ((الملل والنحل)) (1/ 21). (6) ((آراء الخوارج)) (ص45). (7) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص472). (8) ((البداية والنهاية)) (7/ 189). (9) ((الدليل لأهل العقول)) (ص15). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 القول الرابع: أن نشأة الخوارج بدأت سنة 64هـ بقيادة نافع بن الأزرق في أواخر ولاية ابن زياد وهذا الرأي لعلي يحيى معمر الإباضي (1). وهو في هذا الرأي يتابع قطب الأئمة أبي إسحاق أطفيش الإمام الإباضي الذي يرى أن ما حدث بين الإمام علي وبين الطائفة التي انفصلت عن جيشه والتي سميت فيما بعد بالمحكمة إنما هو نوع من أنواع الفتن الداخلية التي وقعت بين المسلمين في ذلك العصر؛ حيث اعتبرت تلك الطائفة أن علياً رضي الله عنه قد زالت عنه الإمامة الشرعية حينما قبل التحكيم، ولهذا فقد ولوا عبد الله بن وهب الراسبي في زهده وتقواه ودعى هذا بدوره عليا للدخول في طاعته بعد أن اختاره من معه من الصحابة وغيرهم (2) – كما يدعي الخوارج. فلم يكن ما حدث بين علي ومن معه في نظر أصحاب هذا الرأي إلا فتنة انتهت على نحو ما انتهت عليه وليس خروجا على الإمام، كما هو المعنى الحقيقي للخروج الذي يرون أنه لم يبتدئ إلا بخروج نافع بن الأزرق. أما ما كان قبل ذلك من حركات ثورية على علي رضي الله عنه والأمويين من بعده فهي مجرد ثورات ومواقع حربية دارت بين الفريقين وليست خروجا بالمعنى الصحيح. يقول في هذا أبو إسحاق أطفيش: " الخوارج طوائف من الناس في زمن التابعين وتابع التابعين رؤوسهم: نافع بن الأزرق، ونجدة بن عامر، ومحمد بن الصفار، ومن شايعهم، وسموا خوارج لأنهم خرجوا عن الحق وعن الأمة بالحكم على مرتكب الذنب بالشرك " (3). ويقول علي يحيى معمر: " سبق إلى أذهان أكثر الناس – بسبب خطأ المؤرخين في ربط الأحداث – أن المحكمة الذين قتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في وقعة النهروان هم أصل الخوارج وهو مفهوم خاطئ؛ فإن المحكمة قد قتلوا في النهر ولم ينج منهم إلا تسعة أفراد، ثم ثار على الحكم الأموي طوائف كثيرة من الناس جماعات وأفرادا، حتى ظهر الخوارج في أواخر ولاية ابن زياد سنة 64 هـ, بقيادة نافع بن الأزرق، فمعركة النهروان هي فتنة بين الصحابة وقعت بين الإمام علي بن أبي طالب والمحكمة (4). ومما يجدر بالذكر أنه قد استبعد أن يكون الناجون من حرب النهروان تسعة فقط كما يأتي ذلك فيما بعد. وهنا أثبت ذلك العدد تأكيدا لرأيه في بدء نشأة الخوارج. القول الخامس: أن نشأتهم بدأت بانفصالهم عن جيش الإمام علي رضي الله عنه وخروجهم عليه، وهذا الرأي هو الذي عليه الكثرة الغالبة من العلماء إذ يعرفون الخوارج بأنهم هم الذين خرجوا على علي بعد التحكيم، ومن هؤلاء الأشعري فقد أرخ للخوارج، وأقدم من أرخ لهم منهم هم الخارجون على الإمام علي وقال عنهم: " والسبب الذي سموا له خوارج خروجهم على علي بن أبي طالب (5).وقد تابعه في صنيعه البغدادي؛ حيث بدأ التاريخ للخوارج بذكر الخارجين على علي رضي الله عنه (6). وكذلك يرى أبو الحسين الملطي أن الفرقة الأولى للخوارج هي المحكّمة (7).   (1) انظر: ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص377)، وانظر: ((الإباضية في موكب التاريخ)) (ص33). (2) ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص377). (3) ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص103). (4) ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص377). (5) ((مقالات الأشعري)) (1/ 207). (6) ((الفرق بين الفرق)) (ص74). (7) ((التنبيه والرد)) (ص15). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 وقد سار على هذا الرأي أصحاب المعاجم ودوائر المعارف (في مادة الخروج) والكتاب المحدثون الذين كتبوا عن الفرق الإسلامية كالأستاذ أحمد أمين والشيخ أبو زهرة والغرابي رحمهم الله وغيرهم، والمؤرخون في تأريخهم لأحداث الفتنة الكبرى. يقول الأستاذ أحمد أمين: واسم الخوارج جاء من أنهم خرجوا على علي وصحبه (1).ويقول الشيخ أبو زهرة: اقترن ظهور هذه الفرقة (أي الخوارج) بظهور الشيعة، فقد ظهر كلاهما كفرقة في عهد علي رضي الله عنه وقد كانوا من أنصاره (2). وصاحب كتاب (الأديان) وهو إباضي يعتبر خروج الخوارج إنما كان على علي حينما حكم (3). وقد أصبح إطلاق اسم الخوارج على الخارجين عن الإمام علي أمرا مشتهرا بحيث لا يكاد ينصرف إلى غيرهم بمجرد ذكره. هذه هي الأقوال في بدء نشأة الخوارج، وعلينا في اختيار ما نراه صحيحا منها أن نفرق بين بدء نزعة الخروج على صورة ما، وظهور الخوارج كفرقة لها آراؤها الخاصة، ولها تجمعها الذي تحافظ عليه وتعمل به على نصرة هذه الآراء. والواقع أن نزعة الخروج – أو بتعبير أدق بدء نزعة الخروج – قد بدأت بذرتها الأولى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتراض ذي الخويصرة عليه. لكن هل كان خروجا حقيقيا أم كان مجرد حادثة فردية اعترض فيها واحد من المسلمين على طريقة تقسيم الفيء طمعا في أن يأخذ منه نصيبا أكبر؟ وهو الأمر الذي سنرجحه فيما بعد. أما تعبير النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي الخويصرة بأن له أصحابا فقد يجوز: أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد توقع وجود أصحاب يؤيدون هذا الرجل حيث استطاع الاعتراض على صاحب الدعوة، فامتنع عن قتله تألفا له ولهم. ويجوز أيضا أن يكون ذلك القول كان توقعاً من النبي عليه السلام وإخبارا عما سيكون من عاقبة هذا الرجل وأمثاله؛ إذ إن الاعتراض على شخصيته صلى الله عليه وسلم يجعل من المتوقع أن يوجد الاعتراض على الخلفاء من بعده والخروج عليهم من باب أولى. ويجوز أن يكون قصد النبي صلى الله عليه وسلم بالأصحاب لهذا الرجل هم من يكونون على شاكلته في مستقبل الأيام بحيث يكونون متابعين له على فكرته، وإن لم يتزعم قيادتهم في هذا الخروج على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الخلفاء. لقد مضى عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يكن لذي الخويصرة ذكر في هذه العهود بعد تلك الحادثة لا بنفسه ولا مع من يمكن أن يكونوا على شاكلته. ولم يذكر التاريخ - فيما اطلعت عليه – أنه كان كذلك من الثائرين على عثمان رضي الله عنه أو أنه كان له أبناء أو أصحاب ينتسبون إليه في تلك الثورة مع أن الفارق الزمني بين ورود الحديث فيه وبين أحداث الفتنة الكبرى يسمح بمثل هذا لو كان. كل هذا يجعل من هذه الحادثة التي ارتكبها ذو الخويصرة حادثة فردية في وقتها؛ حيث لم يشتهر بالخروج ولم تعرف له آراء خاصة يتميز بها ولم يكون له حزبا سياسيا معارضا وإن لم يمنع هذا من اعتباره الفيء لمجرد نزعة الخروج في صورة ساذجة، إذا صح أن يكون الاعتراض على تقسيم الفيء خروجا. وأما القول بأن نشأتهم تبدأ بثورة الثائرين على عثمان رضي الله عنه، فلا شك أن ما حدث كان خروجا عن طاعة الإمام إلا أنه لم يكن يتميز بأنه خروج فرقة ذات طابع عقائدي خاص لها آراء وأحكام في الدين، غاية ما هنالك أن قوما غضبوا على عثمان واستحوذ عليهم الشيطان حتى أدى بهم إلى ارتكاب جريمة قتله ثم دخلوا بين صفوف المسلمين كأفراد منهم.   (1) ((فجر الإسلام)) (ص257). (2) ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (1/ 65). (3) قطعة من كتاب ((في الأديان)) (ص96). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 وفيما يتعلق بالقول بأن طلحة والزبير رضي الله عنهما كانا أول الخارجين على علي – كما يقول الورجلاني – فمن الصعب عليه إثبات ذلك. فقد كان معهما أم المؤمنين عائشة ومن معهم من المسلمين، وعلى كل فقد انتهت موقعة الجمل واندمج من بقي منهم في صفوف المسلمين دون أن تجمعهم رابطة فكرية معينة كتلك التي حدثت بين الخوارج على علي في جيشه فيما بعد، وكان خروجهم باسم المطالبة بدم عثمان رضي الله عنه فإذا كان قد بدئ الخروج على علي بخروج أصحاب موقعة الجمل فإنه لا ينطبق عليهم مصطلح الخوارج كطائفة لها اتجاهها السياسي وآراؤها الدينية الخاصة، وطلحة والزبير من العشرة الذين بشرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، فكيف يجوز أن يعتبرا من الخوارج ويطبق عليهما أحاديث المروق الواردة في الخوارج؟! أما القول بأن نشأتهم تبدأ من قيام نافع بن الأزرق فإنه لم يقل به غير علي يحيى معمر تبعا لقطب الأئمة الإباضية أبي إسحاق أطفيش لنفيهم وجود صلة ما بين المحكمة ومن ثار على طريقتهم وبين الأزارقة بعدهم، وهو قول غير مقبول لوجود تسلسل الأحداث وارتباطها من المحكمة إلى ظهور نافع بن الأزرق بحيث يظهر أن الأولين هم سلف الخوارج جميعا، كما سنبين هذا عند الكلام عن حركات الخوارج وفرقهم. وهكذا يتضح الفرق بين مجرد وجود نزعة الاعتراض أو الثورة خروجا عن طاعة الإمام، وبين الخروج في شكل طائفة لها اتجاهها السياسي وآراؤها الخاصة؛ كخروج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه منذ وقعة صفين، وهم الذين ينطبق عليهم مصطلح الخوارج بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وهذا هو القول الأخير الذي نختاره ونسير عليه في هذه الرسالة مؤرخين لهذه الطائفة دارسين لآرائهم. والواقع أن هذا هو ما يشهد له واقع تلك الحركة التي أحدثت دويا هائلا في تاريخ هذه الأمة الإسلامية عدة قرون تميزت فيها بآراء ومعتقدات وأنظمة لفتت إليها أنظار علماء التاريخ والفرق الإسلامية، بخلاف ما سبقها من حركات فإنها لم يكن لها أثر فكري أو عقائدي يذكر. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص37 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 الفصل الرابع: أسماء الخوارج 1 - الخوارج .. وهو أشهر أسمائهم، هم يقبلونه باعتبار وينفونه باعتبار آخر، يقبلونه على أساس أنه مأخوذ من قول الله عز وجل: وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [سورة النساء: 100]. وهذه تسمية مدح. وينفونه إذا أريد به أنهم خارجون عن الدين أو عن الجماعة أو عن علي رضي الله عنه؛ لأنهم يزعمون أن خروجهم على علي رضي الله عنه كان أمراً مشروعاً بل هو الخارج عليهم في نظرهم. والإباضيون بخصوصهم يسمونها فتناً داخلية بين الصحابة. قال نور الدين السالمي الإباضي عن تسميتهم خوارج على سبيل المدح: (ثم لما كثر بذل نفوسهم في رضى ربهم وكانوا يخرجون للجهاد طوائف – سُمُّوا خوارج، وهو جمع خارجة وهي الطائفة التي تخرج في سبيل الله) (1).وقال أحد شعراء الخوارج (2). كفى حزناً أن الخوارج أصبحوا ... وقد شتت نياتهم فتصدعوا المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 229 ويقول محمد بن عبد الله السالمي أيضاً: وكان اسم الخوارج في الزمان الأول مدحاً لأنه جمع خارجة وهي الطائفة التي تخرج للغزو في سبيل الله تعالى، قال عز وجل: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً [التوبة:46]، ثم صار ذماً لكثرة تأويل أحاديث الذم فيمن اتصف بذكر آخر الزمان، ثم زاد استقباحه حين استبد به الأزارقة والصفرية فهو من الأسماء التي اختفى سببها وقبحت لغيرها فمن ثم نرى الإباضية لا يتسمون بذلك وإنما يتسمون بأهل الاستقامة (3).وقال الأصم الضبي قيس بن عبد الله يرثي الخوارج الذين قتلوا عند الجوسق (4): إني أدين بما دان الشراة به ... يوم النخيلة عند الجوسق الخرب النافرين على منهاج أولهم ... من الخوارج قبل الشك والريب وقد أجمع مؤرخو الفرق على تسميتهم بهذا الاسم (الخوارج).وإذا ذكرهم أحد المؤلفين باسم من أسمائهم الأخرى فإنه يفسره بالخوارج، أو يذكرهم مرة بهذا الاسم ومرة أخرى باسم الخوارج. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي – ص26 2 - الحرورية نسبة إلى المكان الذي خرج فيه أسلافهم عن علي، وهو قرب الكوفة. قال شاعرهم مقارناً بين جحف الثريد أي أكله وبين جحف الحروري بالسيف أي ضربه به: ولا يستوي الجحفان جحف ثريدة ... وجحف حروري بأبيض صارم (5) ووردت هذه التسمية في قول عائشة رضي الله عنها: (أحرورية أنت) (6). قالته للمرأة التي استشكلت قضاء الحائض والصوم دون الصلاة.   (1) نقله عنه علي يحيى معمر في كتابه ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص384). (2) ((شعراء الخوارج)) تحقيق د/ إحسان عباس (ص134). (3) ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص118). لكن هذا المفهوم يجعل كل المجاهدين في سبيل الله من الصحابة فمن بعدهم خوارج، وهو وصف قبيح لهم، إضافة إلى أنها تسمية خلط وسوء فهم إذا أطلقناها عليهم وطبقنا عليهم الأحاديث الواردة في ذم الخوارج. (4) ((شعراء الخوارج)) (ص125). (5) ((شعراء الخوارج)) (ص232). (6) رواه مسلم (335) , من حديث عائشة رضي الله عنها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 230 وقد وردت هذه التسمية في (الصحيحين) عن مصعب قال سألت أبي قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا [الكهف: 103] , هم الحرورية؟ قال: لا، هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأما النصارى كفروا بالجنة وقالوا لا طعام فيها ولا شراب، والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، وكان سعد يسميهم الفاسقين (1).وعن أبى سلمة وعطاء بن يسار أنهما أتيا أبا سعيد الخدرى فسألاه عن الحرورية أسمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: لا أدري ما الحرورية سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم – يقول: ((يخرج في هذه الأمة - ولم يقل منها - قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حلوقهم - أو حناجرهم - يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه، فيتمارى في الفوقة، هل علق بها من الدم شيء)) (2) وعن عبد الله بن عمر - وذكر الحرورية - فقال قال النبي - صلى الله عليه وسلم – ((يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية)) (3). 3 - الشراة نسبة إلى الشراء الذي ذكره الله بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:111] وهم يفتخرون بهذه التسمية ويسمون من عداهم بذوي الجعائل: أي يقاتلون من أجل الجُعْل الذي بذل لهم. قال شاعرهم عيسى بن فاتك: فلما استجمعوا حملوا عليهم ... فظل ذوو الجعائل يقتلونا (4) المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 230 أما هم فليسوا كذلك بل هم – عند أنفسهم – شراة باعوا أنفسهم لله يقول معاذ بن جوين بن حصين الطائي السنبسي (5): ألا أيها الشارون قد حان لامرئ ... شرى نفسه لله أن يترحلا ويقول كعب بن عميرة في أبي بلال يرثيه (6): شرى ابن حديد نفسه لله فاحتوى ... جناناً من الفردوس جماً نعيمها ويقول الأشعري في سبب تسميتهم بالشراة: والذي له سموا شراةً: قولهم: شرينا أنفسنا في طاعة الله أي بعناها بالجنة (7). المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي – ص33 4 - المارقة وأما (هذه) التسمية فهي من خصوم الخوارج، لتنطبق عليهم أحاديث المروق الواردة في (الصحيحين) في مروقهم من الدين كمروق السهم من الرمية. قال ابن قيس الرقيات من أبيات له: إذا نحن شتى صادفتنا عصابة ... حرورية أضحت من الدين مارقة (8).   (1) رواه البخاري (4728). (2) رواه البخاري (6931)، ومسلم (1064). (3) رواه البخاري (6932). (4) ((شعراء الخوارج)) (ص54). (5) ((شعراء الخوارج)) (ص45). (6) ((شعراء الخوارج)) (ص43). (7) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 207). (8) ((الكامل)) لابن الأثير (4/ 198). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 231 عن علي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سيخرج قوم في آخر الزمان، حداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة)) (1) وهي تسمية قديمة قد أطلقها عليهم مخالفوهم منذ خروجهم عن جيش الإمام علي. ويروي أبو الحسين الملطي إجماع الأمة إجماعاً لا يختلف فيه ناقل ولا راوٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم سماهم مارقة، وفسر المارقة بأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية (2)، وربما كان مستنده في حكاية هذا الإجماع وصف النبي صلى الله عليه وسلم للخارجين بالمروق وانطباق أوصافهم على هؤلاء الخوارج كما ظهر ذلك للإمام علي والمسلمين معه ... قال صعصعة بن صوحان من خطبته أمام جمع من قومه يذم الخوارج في كلام طويل: ولا قوم أعدى لله ولكم ولأهل بيت نبيكم ولجماعة المسلمين من هذه المارقة (3). وقال الشهرستاني: وهم المارقة الذين اجتمعوا بالنهروان (4). المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي – ص34 5 - المحكمةهي من أول أسمائهم التي أطلقت عليهم، وقيل: إن السبب في إطلاقها عليهم إما لرفضهم تحكيم الحكمين، وإما لتردادهم كلمة (لا حكم إلا لله) (5) وهو الراجح، وهي كلمة حق أريد بها باطل، ولا مانع أن يطلق عليهم لكل ذلك، غير أن السبب الأول ينبغي فيه معرفة أن الخوارج هم الذين فرضوه أولاً، وهم يفتخرون بهذه التسمية كما قال شاعرهم شبيل بن عزرة: حمدنا الله ذا النعماء أنّا ... نحكم ظاهرين ولا نبالي (6) المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 231 وقد صارت هذه الكلمة (لا حكم إلا لله) شعاراً لهم عندما يريدون الخروج عن طاعة الولاة أو الهجوم على خصومهم في المعركة فكانت إنذاراً شديد الخطورة لمن تقال له. وهم يفخرون بهذا الاسم على خصومهم كما قال سميرة بن الجعد الخارجي في وصف الخوارج (7): ينادون بالتحكيم لله أنهم ... رأوا حكم عمرو كالرياح الهوائج وحكم ابن قيس مثل ذاك فأعصموا ... بحبلٍ شديد المتن ليس بناهج وقال عبيدة بن هلال وهو أحد فرسانهم من أبيات يرد بها على عمرو بن عبد الله بن معمر التميمي (8): ولكن نقول الحكم لله وحده ... وبالله نرضى والنبي المقرب. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي – ص35 6 - النواصب وأما تسميتهم بالنواصب فلمبالغتهم في نصب العداء لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 231 7 - أهل النهروان نسبة إلى المكان الذي قاتلهم فيه علي وهم الحرورية المحكمة المصدر: الخوارج أول الفرق في تاريخ الإسلام لناصر بن عبد الكريم العقل – ص29 8 - المكفِّرة لأنهم يكفرون بالكبائر ويكفّرون من خالفهم من المسلمين، وهذا وصفٌ لكل من نهج هذا النهج في كل زمان. المصدر: الخوارج أول الفرق في تاريخ الإسلام لناصر بن عبد الكريم العقل – ص30 9 - السبئية لأن منشأهم من الفتنة التي أوقدها ابن سبأ اليهودي، وهذا وصف لأصول الخوارج الأولين ورؤوسهم. المصدر: الخوارج أول الفرق في تاريخ الإسلام لناصر بن عبد الكريم العقل – ص30 10 - الشكاكيةوذلك أنهم لما رفضوا التحكيم، قالوا لعلي: شككت في أمرك وحكمت عدوك من نفسك، فسموا بذلك الشكاكية (9). المصدر: الصحابة بين الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص402 تلك أسماء الخوارج وألقابهم وهم يحبون هذه الأسماء كلها ولا ينكرون غير اسم واحد وهو تسميتهم بالمارقة، فإنهم لا يرضون به لأنهم يعتبرون أنفسهم على الهدى والحق وأما من عداهم فإنهم ظالمون أهل جورٍ وكفر. قال الأشعري: وهم يرضون بهذه الألقاب كلها إلا بالمارقة فإنهم ينكرون أن يكونوا مارقة من الدين كما يمرق السهم من الرمية. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص35   (1) رواه البخاري (6930)، ومسلم (1066). (2) انظر: ((التنبيه والرد)) (ص54). (3) ((تاريخ الطبري)) (5/ 186). (4) ((الملل والنحل)) (1/ 115). (5) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 217). (6) ((شعراء الخوارج)) (ص209). (7) ((شعراء الخوارج)) (ص123). (8) ((شعراء الخوارج)) (ص93). (9) انظر ((البرهان)) (17). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 تمهيد لقد حدث في تاريخ هذه الأمة الإسلامية أحداث مؤلمة مزقت كلمتهم وجعلتهم أحزابا وشيعا، كثيرا ما تدور المعارك فيما بينهم. فقد قوبل الإسلام في نشأته الأولى بمعارضات شديدة وتيارات جارفة للقضاء عليه منذ بزوغ فجره من قبل العناصر الدينية والشعوبية المناوئة له ولكن باءت تلك المحاولات بالفشل. ولكن أعداء الإسلام – وقد فشلوا – لا يمكن أن يقر لهم قرار أو تفوتهم فرصة من الفرص التي تحدث عند غفلة المسلمين؛ لا يمكن أن يفوتهم ذلك دون أن يحاولوا الفت في عضده بأي سلاح كان حسيا أو معنويا؛ ولهذا فقد حدثت فتن كثيرة بسبب تلك المؤامرات الخفية من تلك العناصر. وما حدوث تلك الفتنة الهوجاء التي حيرت ألباب ذوي النهى والتي راح ضحيتها آلاف المسلمين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما فمن بعدهما إلى يومنا هذا – إلا جزء من تلك المؤامرات البعيدة. ولقد صدق الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه حين قال للثائرين عليه: "فوالله لئن قتلتموني لا تحابون بعدي، ولا تصلون بعدي جميعا، ولا تقاتلون بعدي جميعا عدوا أبدا" (1). ومن هنا فقد حدثت بعد ذلك ظواهر هامة في تاريخ هذه الأمة كان من أهمها قيام الخوارج بحركتهم، وهي من أهم الظواهر التي برزت في الحياة الإسلامية، وقد شملت هذه الظاهرة كل النواحي الدينية والسياسية والاجتماعية والفكرية عند المسلمين، ولكل ظاهرة اجتماعية أسبابها المباشرة والبعيدة، وكلما تعقدت الظاهرة وشملت جوانب متعددة في الحياة كلما حملت على ظهورها أسباب معقدة وعوامل متشابكة. وفي البحث عن الأسباب والعوامل التي أدت إلى ظهور حركة الخوارج يختلف المفكرون في تحديد هذا السبب أو ذاك، وفي تحديد مدى فاعلية بعض الأسباب وسوف نعرض فيما يلي أهم الأسباب التي يضعها المفكرون أمام ظاهرة حركة الخوارج. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص99   (1) ([8105]) ((البداية والنهاية)) (7/ 184). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 المبحث الأول: النزاع حول الخلافة ونقصد بذلك وقوع النزاع المسلح بين المسلمين حول الخلافة من جهة، ونزاع الخوارج مع غيرهم في طريقة تولية الخليفة وشروط قيامه بمهمته من جهة أخرى. فمن حيث وقوع النزاع بين المسلمين حول الخلافة فإن هناك من الباحثين من يعتبر الخوارج كالشيعة حزبا سياسيا ظهر في فجر الإسلام، وإن ظهورهم يرجع أولا وبالذات إلى الخلاف حول الإمامة العظمى. يقول الدكتور عبد الحليم محمود رحمه الله: "إذا كان السبب في ظهور الشيعة والخوارج هو الاختلاف على الإمامة؛ فإن السبب في ظهور الفرق – يشير إلى المشبهة والمعتزلة .. إلخ – هو البحث والجدل في العقيدة الدينية" (1). والواقع أن خلاف المسلمين حول الإمامة العظمى بعد مقتل سيدنا عثمان رضي الله عنه لم يكن سببا في نشأة الخوارج والشيعة وحدهم، بل كان سببا قريبا أو بعيدا في نشأة فرق أخرى كالمرجئة والقدرية. . الخ. لكن أثره في نشأة الشيعة والخوارج آكد وأظهر. فقد كان الخوارج – قبل خروجهم عن الإمام علي – يكونون جزءا كبيرا من جيشه في حربه مع معاوية، وأدت قضية التحكيم – كما سنرى فيما بعد – إلى خروجهم على علي ومعاوية جميعا. ولولا هذا الخلاف الواقع بين المسلمين حول الإمامة لما كان هناك لتلك العوامل الأخرى التي دفعت بالخوارج إلى الخروج فاعليتها المؤثرة في ظهور الخوارج، على نحو ما صار إليه أمرهم فيما بعد. فلو استقرت الأمور للإمام علي لسار في الناس بسيرة النبي والخليفتين من بعده ولما كانت هناك مبررات لهذا الخروج الذي انتهى بالأمر إلى أن يصبح صراعا مسلحا مع الدولة الإسلامية في عهودها. فالصراع حول الإمامة إذا له أثره البالغ في إيجاد الاستعداد العام من جهة والعوامل المباشرة من جهة أخرى لخروج الخارجين وثورة الثائرين على هذا الفريق أو ذاك أو عليهما معا، وإذا كنا سنتحدث هنا عن أسباب أخرى للخروج؛ فالواقع أنها ما كانت لتدفع بهم إلى الخروج على هذا النحو لو تجردت من الجو العام الذي أحدثه الصراع حول الإمامة، وحتى لو كانت بذور الثورة كامنة في نفوس الناس - كما قيل - منذ عهد عثمان رضي الله عنه. فقد كان استقرار أمر الخلافة بعد ذلك خليقا أن يجعل لهذه الثورة منافذ هادئة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دون الخروج المسلح على الخلفاء والأمة معهم على هذا النحو الذي كان عليه الخوارج. وهناك جانب آخر من جوانب النزاع حول الخلافة التي دفعت بالخوارج إلى الخروج على بني أمية وبني العباس، وهو رأيهم في طريقة اختيار الخليفة وشروط صحة خلافته وكيفية قيامة بأمر الخلافة، وكان من أكبر الدوافع التي تدفعهم إلى الخروج تلك الطريقة التي كان يتم بها اختيار الخلفاء الأمويين والعباسيين عن طريق الوراثة. وهي طريقة تخالف ما يراه الخوارج من ضرورة اختيار الخليفة ممن يصلح للحكم عن طريق الانتخاب الحر من المسلمين، كما سنرى في بحث الخلافة. يقول أحمد أمين: "وقد وضعوا نظرية للخلافة هي: أن الخلافة يجب أن تكون باختيار حر من المسلمين. . إلى أن يقول: وهذه النظرية هي التي دعتهم إلى الخروج على خلفاء بني أمية ثم العباسيين؛ لاعتقادهم أنهم جائرون غير عادلين لم تنطبق عليهم شروط الخلافة في نظرهم" (2).أضف إلى هذا ما كان في نفوسهم من الحسد لقريش على استقرار الخلافة والنبوة فيهم حسب ما ذهب إليه الأستاذ أبو زهرة من أن الخوارج "كانوا يحسدون قريشا على استيلائهم على الخلافة" (3). وأن السبب في هذا الحسد يرجع إلى أن الخوارج كانت أكثريتهم من القبائل الربعية المنافسة للقبائل المضرية قبل الإسلام، وسوف نزيد هذه المسألة وضوحا عند دراستنا للعامل الرابع من عوامل أسباب خروجهم، وهو عامل العصبية. لقد وصل الحال بالخوارج إلى أن يعتبروا خيرة الصحابة كعثمان وعلي رضي الله عنهما في مقياسهم "أئمة زائفين - على حسب تعبير فلهوزن – يريد الخوارج أن يستبدلوا بهم أئمة صالحين" (4). وهذا الموقف يعبر عن هذه الحساسية التي كانوا عليها تجاه الخلفاء وسياستهم في الحكم، فلقد كانت مسألة الخلافة نصب أعينهم في كل لحظة، وكان الخليفة (أي خليفة) أقرب إلى الاتهام عندهم منه إلى البراءة، ففي كل وقت كان مهددا بالخروج عليه إن زلت به قدم أو صدرت منه فلتة لسان. وهكذا كان نزاع المسلمين حول الخلافة ودخول الخوارج طرف في هذا النزاع، وما كان لهم في موضوع الخلافة من رأي – كان كل ذلك من أول عوامل خروجهم على الإمام علي ومن جاء بعده من الخلفاء، إلى جانب أن هذا النزاع أوجد عاملا مباشرا فجر ثورة الخروج على الإمام علي وهو التحكيم. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص100   (1) ([8106]) ((التفكير الفلسفي في الإسلام)) (ص108). (2) ([8107]) ((فجر الإسلام)) (ص258 - 259)، وانظر: ((العقيدة والشريعة في الإسلام)) (ص192). (3) ([8108]) ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (1/ 69). (4) ([8109]) ((الخوارج والشيعة)) (ص43). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 المبحث الثاني: قضية التحكيم ولقد وقع التحكيم في معركة صفين، وذلك حينما رضي علي – مُكرهاً – بالتحكيم وبتحكيم أبي موسى الأشعري أيضا وعمرو بن العاص رضي الله عنهما في هذه القضية. وقد انتهينا إلى أن علياً كان مكرها على قبوله، ومع ذلك فقد نقم عليه الخوارج قبوله له وجعلوه من أسباب خروجهم عن طاعتهم ثم زادت نقمتهم عليه حينما ظهرت النتيجة في غير صالحه، ونسوا أنهم هم الذين أرغموه على قبوله، ولهذا فقد رفضوا الدخول تحت خلافته بل خرجوا عليه. واعتبار التحكيم سببا مباشرا في خروج الخوارج على الإمام علي هو ما يذهب إليه عامة علماء الفرق والمؤرخين. وهو ما يظهر في محاورة الخوارج للإمام علي حول خروجهم حين قالوا له: " إنا حكمنا فلما حكما أثمنا وكنا بذلك كافرين، وقد تبنا، فإن تبت كما تبنا فنحن منك ومعك، وإن أبيت فاعتزلنا فإنا منابذوك على سواء؛ إن الله لا يحب الخائنين (1)، فهم يرون أن التحكيم كفر يخرج عن الملة ويجب الخروج على من يعتقده. وهذا ما نراه في جوابهم لأبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري حين قال لهم في محاورته لهم ليرجعوا إلى الطاعة: عباد الله إنا وإياكم على الحال الأولى التي كنا عليها ليست بيننا وبينكم فرقة، فعلام تقاتلوننا؟ فقالوا: إنا لو بايعناكم اليوم حكمتم غدا. قال: فإني أنشدكم الله أن تعجلوا فتنة العام مخافة ما يأتي في قابل (2). وهو أيضا جوابهم لابن عباس إذ إنهم خرجوا كما يقولون غضبا؛ لأن التحكيم غير مطلوب في هذه القضية؛ لأن معاوية وأصحابه - في نظرهم – يجب جهادهم دون أدنى شك، فكان من ضمن جوابهم لابن عباس قولهم له: وقد حكمتم في أمر الله الرجال، وقد أمضى الله حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يرجعوا وقد كتبتم بينكم وبينهم كتابا، وجعلتم بينكم الموادعة وقد قطع الله الموادعة بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت براءة إلا من أقر بالجزية. بل صارحوا عليا نفسه حين سألهم عن سبب خروجهم قائلا لهم: " فما أخرجكم علينا؟ قالوا: حكومتك يوم صفين (3).وقد وصل التحدي بزرعة بن البرج الطائي أن يقول للإمام علي: " يا علي – ولم يناده بإمرة المؤمنين – لئن لم تدع تحكيم الرجال لأقاتلنك أطلب وجه الله تعالى (4). وقد تابع جولد زيهر علماء الفرق الإسلامية في اعتبار التحكيم سببا في خروج الخوارج، بل هو عنده السبب الأول وفي ذلك يقول: " وقد كانت موافقة علي على التحكيم الباعث الأول لظهور إحدى الفرق الدينية في الإسلام (5).ولكننا نجد الدكتور عبد الرحمن بدوي يقلل من قيمة كون التحكيم سببا مباشرا في خروج الخوارج فيقول: " بيد أن هذا السبب المباشر هو أوهى الأسباب؛ فإن نزعة الخروج كانت كامنة في النفوس بسبب ما آل إليه أمر الخلافة على عهد عثمان وما انتهى إليه أمر الجماعة الإسلامية بعد مقتله؛ من تفرق الأمة إلى فريقين متعارضين متحاربين (6). والواقع أن التحكيم ليس هو أوهى الأسباب كما قال، بل هو السبب الذي فجر الموقف وشطر جيش الإمام علي شطرين كبيرين مؤيدين له وخارجين عليه، وما كان الموقف ليكون على الصورة التي كان عليها بدون هذا السبب، فلو فرضنا أن الإمام علي لم يقبل التحكيم وانتصر بجيشه على جيش معاوية وتمت السيطرة له على جميع الأمصار الإسلامية – لو فرضنا ذلك -؛ فإن من المستبعد أن تقوم حركة الخوارج على نحو ما قامت عليه إذا استقرت الأوضاع للإمام علي على هذا النحو. أما نزعة الخروج التي كانت كامنة بين الناس فما كان لها أن تحدث نتائجها الكبيرة بدون أسباب قوية تدعو إلى تلك النتائج، ربما كانت هذه النزعة تؤدي إلى نقد بعض الأوضاع والتذمر منها والرغبة في إصلاحها – وهو شأن المحكومين دائما مع حكامهم -، ولكنها لا تؤدي إلى الخروج بالمعنى الحقيقي إلا إذا كانت هناك أسباب مباشرة قوية تدفع الناس إليه بما في نفوسهم من استعداد سابق له. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص103   (1) ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 344). (2) ((تاريخ الطبري)) (5/ 84). (3) ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 327/328). (4) ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 334). (5) ((العقيدة والشريعة)) (ص190). (6) مقدمة كتاب ((الخوارج والشيعة أحزاب المعارضة السياسية الدينية)) (ص13). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 المبحث الثالث: جور الحكام وظهور المنكرات بين الناس هكذا يقول الخوارج عن أنفسهم؛ أنهم إنما خرجوا لهذا السبب حتى يقيموا العدل ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ويعودوا بالناس إلى ربهم وإلى دينهم. ولقد كان هذا المعنى من أول المعاني التي يستعلن بها زعماء الخوارج فيحركون عامتهم للخروج وحمل السلاح ويستشيرونهم لتحقيق تلك الغاية. ومن هذا ما قاله عبد الله بن وهب الراسبي مخاطبا أتباعه من الخوارج بعد أن حمد الله وأثنى عليه: " أما بعد فوالله ما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن وينيبون إلى حكم القرآن أن تكون هذه الدنيا، التي الرضى بها والركون إليها والإيثار إياها عناء وتبار؛ آثر عندهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقول بالحق. . فاخرجوا بنا إخواننا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو إلى بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدع المضللة " (1).ومثله قول حرقوص بن زهير لإخوانه من الخوارج: " إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك فلا تدعونكم زينتها وبهجتها إلى المقام بها، ولا تلفتنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" (2).وهكذا قول حيان بن ظبيان مخاطبا أصحابه، وقد كانوا خرجوا إلى الري فلما بلغهم نبأ مقتل علي سرهم ذلك جدا – فقال لهم حيان يحثهم على الخروج: " فانصرفوا بنا رحمكم الله، فلنأت إخواننا فلندعهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلى جهاد الأحزاب؛ فإنه لا عذر لنا في القعود، وولاتنا ظلمة، وسنة الهدى متروكة، وثأرنا الذين قتلوا إخواننا في المجالس آمنون، فإن يظفرنا الله بهم نعمد بعد إلى التي هي أهدى وأرضى وأقوم ويشفي الله بذلك صدور قوم مؤمنين، وإن نقتل فإن في مفارقة الظالمين راحة لنا، ولنا بأسلافنا أسوة " (3).ولم يكن الخوارج يرون أن جور الخلفاء الأمويين والعباسيين وظهور المعاصي والمنكرات والمظالم في عهودهم هو الذي حركهم للخروج، بل كانوا يرون أن هذه الحال قد بدأت منذ عهد الإمام علي رضي الله عنه؛ فهم يعتبرون خلافته شرعية وأنهم يتطلعون إلى رجل مثل عمر في عدله وحزمه وكفاءته، وهذا هو ما نسمعه على لسان عبد الله بن شجرة السلمي الخارجي عندما قال له ولأصحابه قيس بن عبادة: عباد الله، أخرجوا إلينا طلبتنا منكم - يعني قتلة عبد الله بن خباب - وأدخلوا في هذا الأمر الذي منه خرجتم وعودوا بنا إلى قتال عدونا وعدوكم، فإنكم ركبتم عظيما من الأمر تشهدون علينا بالشرك والشرك ظلم عظيم، وتسفكون دماء المسلمين وتعدونهم مشركين ". فقال له عبد الله بن شجرة السلمي: " إن الحق قد أضاء لنا فلسنا نتبعكم أو تأتونا بمثل عمر " (4). ورأي الخوارج في علي لا يقل عن رأيهم في بقية الخلفاء من بعده؛ فهو عندهم – كما سبق – متهم بالكفر والظلم ومجانبة الحق، وأن جهاده بزعمهم قربة إلى الله، وهذا هو الذي دفعهم كما يقولون إلى الخروج عليه لعدم استحقاقه الخلافة، ولما عليه أتباعه من الضلال بزعمهم. وقد بينوا أيضاً أن من أسباب خروجهم عليه بعد التحكيم منعه لهم عن السبي يوم الجمل ظانين أنه بهذا المنع قد ظلمهم حقهم الذي استحقوه بجهادهم فيما يرون، وذلك في قولهم له: " أول ما نقمنا منك أن قاتلنا بين يديك يوم الجمل، فلما انهزم أصحاب الجمل أبحت لنا ما وجدنا في عسكرهم من المال ومنعتنا من سبي نسائهم " (5).   (1) ((تاريخ الطبري)) (5/ 174). (2) ((تاريخ الطبري)) (5/ 174). (3) ((تاريخ الطبري)) (5/ 174). (4) ((تاريخ الطبري)) (5/ 84)، و ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 343). (5) الفرق بين الفرق (ص78). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 والواقع إنهم ما كان ينبغي لهم أن يتعللوا بمثل هذا السبب في خروجهم عليه؛ إذ إن استرقاق المسلمين في حروبهم لبعضهم لا يجوز مطلقا فما بالك بنسائهم وذراريهم؟! فإذا كانوا قد استحلوا الخروج على الإمام علي – مع عدله وفضله – فما ظنك بغيره؟! والواقع أن إقامة العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر واجب على المسلمين، ولكنه لا يمكن أن يكون مبررا صحيحا لخروج الخوارج على هذا النحو الذي خرجوا عليه؛ فهناك ضوابط إسلامية في الإنكار على الولاة وإحقاق الحق بين الناس، حتى تؤتي هذه القاعدة الشرعية ثمرتها المرجوة في إصلاح الحكم والمجتمع؛ إذ لو جاز لكل إنسان أن يزيل ما يراه منكرا بأنكر منه لأفضى هذا العمل بالناس إلى الفساد والفوضى والخروج عن الجماعة. وقد قال صلوات الله وسلامه عليه: ((من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)) (1) وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن الأمراء سيكون منهم تارة الخير وتارة الشر، ومع هذا فإنه لا يجوز الخروج عليهم. فعن عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ستكون في أمتي هنات وهنات وهنات - أي شرور وفساد - فمن أراد أن يفرق أمر المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان)) (2).وحين أخبر صلى الله عليه وسلم أصحابه عن أمراء قائلا لهم: ((تعرفون منهم وتنكرون: قالوا له: يا رسول الله أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا)) (3).وفي رواية عند مسلم: ((قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف. فقال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة)) (4). وإذا كنا قد أمرنا بطاعة أولي الأمر وعدم جواز الخروج عليهم، فليس معنى ذلك أننا مأمورون بطاعتهم في كل ما يأمرون به، بل هناك أحاديث قد بينت الحد الذي تنتهي عنده طاعتهم وذلك فيما إذا أمروا بمعصية أو ظهر منهم كفر بواح؛ فحينئذ لا طاعة لهم؛ إذ إنه قد انتفى ما يوجب طاعتهم وهو عدم تمسكهم بالشرع. وسنزيد هذا وضوحا في بحث الإمامة إن شاء الله. أما أن يتخذ جور الحكام وظهور المعاصي بين الناس سببا لحكم الخوارج على الناس بالكفر واستباحة دمائهم وأموالهم وإشاعة المظالم والمفاسد بينهم أكثر مما كانوا عليه؛ أما أن يتخذ ذلك فإن فيه مجانبة للحق والصواب. وسنرى عنه في حديثنا عن خصائصهم نماذج كثيرة من أعمالهم التي ارتكبوها مما لا تمت إلى العدل وإبطال المنكر بسبب، ولقد كان اعتقادهم الباطل بتكفير غيرهم من المسلمين سببا في استباحة دماء وأموال هؤلاء الذين قالوا إنهم خرجوا حماية لهم من ظلم الحكام، وإذا كانت لهؤلاء الحكام مظالمهم بين الناس، فما ذنب المحكومين؟!   (1) ([8121]) رواه الترمذي (2863)، وأحمد (4/ 130) (17209)، والحاكم (1/ 582). من حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، قال محمد بن إسماعيل – البخاري - الحارث الأشعري له صحبة وله غير هذا الحديث. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وحسنه ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (1/ 87)، وابن حجر في ((هداية الرواة)) (3/ 464) – كما أشار لذلك في مقدمته-. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (2) رواه مسلم (1852). (3) رواه مسلم (1854). من حديث أم سلمة رضي الله عنها. (4) رواه مسلم (1855). من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 ومن العجب أنهم مع إقرارهم بأن عمر بن عبد العزيز كان إماما عادلا وأنه أبطل مظالم بني أمية، إلا أنهم ظلوا على خروجهم عليه، وقد كان الأحرى أن يعاونوه على إقامة العدل وإشاعة الأمن بين الناس، فمن أسباب خروجهم عليه في نظرهم أنه لم يقر على آبائه بالكفر ويلعنهم كما طلبوا، وما كان ينبغي أن يكون إحجامه عن لعن آبائه دافعا لهم إلى الخروج عليه، فقد قال عمر لوفدهم الذي يمثله اثنان: أحدهما حبشي والآخر عربي: " أخبراني ما الذي أخرجكم مخرجكم هذا وما نقمتم علينا؟ فتكلم الذي فيه حبشية فقال: والله ما نقمنا عليك في سيرتك وإنك لتجري بالعدل والإحسان، ولكن بيننا وبينك أمر إن أعطيتناه فنحن منك وأنت منا وإن منعتناه فلست منا ولسنا منك. فقال عمر وما هو؟ قال: رأيناك خالفت أعمال أهل بيتك وسميتها المظالم وسلكت غير سبيلهم، فإن زعمت أنك على هدى وهم على ضلالة فالعنهم وتبرأ منهم، فهذا الذي يجمع بيننا وبينك أو يفرق. هذا هو موقفهم معه وهو موقف يتسم بغاية التنطع والتمسك بالرأي دون رؤية أو تحر للحق؛ لقد أثبتوا على أنفسهم أنهم لا يعيبون عليه أي شيء في سيرته غير أنهم سيفارقونه إن لم يلعن آباءه، ولو أن هذا الطلب قدم إلى أفسق رجل وأخلع رجل لرفضه؛ ولهذا رد عليهم عمر رحمه الله ردا مفحما، رد رجل عاقل عالم فقد قال لهم: " أرأيتم لعن أهل الذنوب فريضة مفروضة لابد منها؟! فإن كانت كذلك فأخبرني أيها المتكلم متى عهدك بلعن فرعون؟! قال: ما أذكر متى لعنته. قال: ويحك لم لا تلعن فرعون وهو أخبث الخلق، ويسعني فيما زعمت لعن أهل بيتي والتبرؤ منهم. ويحكم أنتم قوم جهال (1). وفعلا كانوا كما ذكر، فقد اعترفوا في نهاية المحاورة برجوعهم إلى الحق، وأن الصواب مع عمر رحمه الله، ولئن كان جور الحكام وشيوع المنكرات بين الناس سببا دافعا للخروج فإنهم قد انحرفوا في الاستجابة لهذا السبب ولم يحققوا ما قصدوا إليه، بل زادوا عدد المظالم والمنكرات بأقبح منها وأشنع. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص106   (1) انظر: ((مروج الذهب)) (3/ 200 - 202). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 المبحث الرابع: العصبية القبلية كان للعصبية بين قبائل العرب سلطان قوي قبل الإسلام، فلما بزغ نوره أخفت صوتها وأوهن قوتها فسكنت زمنا، ولكنها ظهرت من جديد شيئا فشيئا حتى استحكمت في خلافة عثمان وما بعدها فقد كادت العصبية أن تطل برأسها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ومنذ بدء خلافة أبي بكر رضي الله عنه؛ فقد أراد أبو سفيان أن يحييها حيث أثارها بين بني هاشم محرضا لهم على عدم الرضا بخلافته وهو ليس بهاشمي وجعلها في علي، كما يحدثنا عن ذلك الطبري – إن صحت الرواية – عن عوانة أنه قال: لما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول:" والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم يا آل عبد مناف، فيم أبو بكر من أموركم؟ أين المستضعفان؟ أين الأذلان؟ علي والعباس، وقال: أبا حسن ابسط يديك حتى أبايعك، فأبى علي عليه، فجعل يتمثل بشعر المتلمس: ولن يقيم على خسف يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد هذا على الخسف معكوس برمته ... وذا يشج فلا يبكي له أحد فزجره علي وقال: إنك والله ما أردت بهذا إلا الفتنة، وإنك والله طالما بغيت الإسلام شراً لا حاجة لنا في نصيحتك (1). ومن هذا يتبين موقف من مواقف العصبية البغيضة ظهر مبكرا، فلو أن أبا سفيان وجد من يصغي لكلامه ويقبله؛ لكانت شرور وفتن لا تنطفئ إلا بالدماء الجارية كما أرادها أبو سفيان حسب قوله. لقد كان علي إذا أحق بالخلافة حسب قانون العصبية؛ ولهذا فقد استعظم والد أبي بكر أبو قحافة حين سمع بتولية ابنه خليفة فقال: أو رضيت بنو عبد مناف وبنو مخزوم (2).وفي عهد عثمان رضي الله عنه وجدت العصبية الجو قد تهيأ لقبولها والتأثر بها؛ لأنها وجدت متنفسا في عهده عن كبتها الذي فرضه عليها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، قال الطالبي: وفي عهد عثمان رضي الله عنه وجدت العصبية مرتعا خصبا لما أن كثرت مجالات التنافس على المناصب في الولايات المختلفة وعلى الأموال أيضا (3).وقد اتهم عثمان رضي الله عنه بتولية أقربائه عصبية لبني أمية حتى كتب إليه مالك الأشتر قائلا له في كتابه: واحبس عنا سعيدك ووليدك ومن يدعو إليه الهوى من أهل بيتك (4)، وهو اتهام له بالعصبية في تولية هؤلاء الذين ذكرهم الأشتر. ويبدو العنف قوياً في اتهام الخوارج الثائرين لعثمان بتولية قرابته وإيثارهم بذلك حين يقولون له على لسان جبلة بن عمرو: والله لأطرحن هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه. قال عثمان: أي بطانة؟! فوالله إني لأتخير الناس. فقال: مروان تخيرته، ومعاوية تخيرته، وعبد الله بن عامر بن كريز تخيرته، وعبد الله بن سعد تخيرته! (5). وكانت هذه الحجة، أي إيثاره قرابته من أشهر حججهم وأقواها عندهم وهي حجة واهية فأي مانع في أن يحب الشخص أقاربه ويدنيهم، ما دام أن ذلك لم يكن فيه محذور.   (1) ((تاريخ الطبري)) (5/ 209). (2) ((آراء الخوارج)) (ص47). (3) ((آراء الخوارج)) (ص47). (4) ((آراء الخوارج)) (ص47). (5) ((تاريخ الطبري)) (4/ 366). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 ومن ظن بعثمان أنه ولى قرابته أمور دولته عصبية بغض النظر عن صلاحهم؛ فهو كاذب مفتر، فعثمان قد صدق والله أنه تخير، وأن من ذكرهم جبلة بن عمرو على قصد الذم هم خير منه وأصلح وهم من أبطال المسلمين المشهورين ورافعي راية الإسلام، والتاريخ يشهد لهم بهذا، ومن جهل فضلهم فليراجع سيرهم بعد أن يتجرد عن التعصب والهوى، وليراجع كتب التاريخ ليرى إجابة عثمان عن كل تلك الاتهامات الكاذبة التي وجهها إليه الثوار. والواقع أن الأمر قد صار بالمسلمين بعد أن وصفهم الله بالألفة والأخوة في قوله تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 103]، وفي قوله: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 63]- صار بهم الأمر إلى عصبيات فرقتهم شيعا وأحزابا، وقد وصف ابن العربي حالتهم بعد هياج تلك العصبيات بقوله: " وصارت الخلائق عزين في كل واد من العصبية يهيمون، فمنهم بكرية – نسبة إلى أبي بكر-، وعمرية – نسبة إلى عمر بن الخطاب-، وعثمانية – نسبة إلى عثمان بن عفان-، وعلوية – نسبة إلى علي بن أبي طالب-، وعباسية – نسبة إلى العباس، كل تزعم أن الحق معها وفي صاحبها والباقي ظلوم غشوم مقتر من الخير عديم، وليس ذلك بمذهب ولا فيه مقالة، وإنما هي حماقات وجهالات أو دسائس للضلالات، حتى تضمحل الشريعة وتهزأ الملحدة من الملة، ويلهو بهم الشيطان ويلعب، قد سار بهم في غير مسير ولا مذهب " (1).وفيما يتعلق بموضوعنا وهو استمرار ظهور العصبية في عهد الإمام علي ومدى اعتبارها كسبب محرك لظهور الخوارج - فيما يتعلق بذلك نرى أن العصبية قد استمرت في هذا العهد بين القبائل وأنها كانت تحكم تصرفات الخوارج مع الإمام علي منذ البداية، فيروي نصر بن مزاحم المنقري أن أهل العراق وخصوصا الأشعث الذي عده الشهرستاني من الخوارج الذين خرجوا على علي (2)؛ منعهم التعصب من قبول أي مضري حكما من قبل الإمام علي، وأبى إلا أحد اليمنيين وهو أبو موسى الأشعري؛ فيذكر نصر أن الأشعث قال لعلي: " لا والله لا يحكم فيها مضريان حتى تقوم الساعة، ولكن اجعله رجلا من أهل اليمن إذ جعلوا من مضر. فقال علي: إني أخاف أن يخدع يمنيكم؛ فإن عمرا ليس من الله في شيء إذا كان له في أمر هوى. فقال الأشعث: والله لأن يحكما ببعض ما نكره وأحدهما من أهل اليمن أحب إلينا من أن يكون بعض ما نحب في حكمهما وهما مضريان (3).ولهذا امتنعوا أيضا من إرسال عبد الله بن عباس للمفاوضة حين طلب إليهم علي ذلك لأنه قرشي ومن قرابته، ولم يقبلوا إلا أبا موسى وكانت لهم الكلمة في جيش علي. فيذكر المبرد أن جيش علي كان جله من اليمنيين (4)، ويذكر الطبري أن بين اليمانية والمضرية عصبية (5).   (1) ((العواصم من القواصم)) (ص189). (2) ((وقعة صفين)) (ص573). (3) ((الكامل)) (3/ 116). (4) ((تاريخ الطبري)) (7/ 385). (5) ((تاريخ الطبري)) (7/ 385). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 بل لقد كانت العصبية بين أهل القبيلة الواحدة أمرا قائما حتى ولو اختلف ولاؤهم كما وقع لخثعميين قتل أحدهما الآخر في موقعة صفين، حين حمل شمر بن عبد الله الخثعمي (من خثعم الشام) على أبي كعب (رأس خثعم العراق) فطعنه فقتله ثم انصرف يبكي، ويقول: يرحمك الله أبا كعب لقد قتلتك في طاعة قوم أنت أمس بي رحما منهم وأحب إلي منهم نفسا، ولكن والله لا أدري ما أقول ولا أرى الشيطان إلا قد فتننا ولا أرى قريشا إلا وقد لعبت بنا (1). ومنها ما وقع أثناء قراءة الأشعث لكتاب التحكيم حين ضرب عروة عجز دابة الأشعث، فقد أرادت العصبية أن تثور بين النزارية واليمانية غضبا لتلك الضربة فلولا انشغالهم بقضية التحكيم لكان لهم شأن آخر (2). وقد حدث أن الخوارج فيما بعد – كما ذكر ابن الأثير – أنهم بقيادة شبيب خرجوا في مكان يسمى (بهر سير)، وكان الوالي لتلك الجهة مطرف بن المغيرة وكان يكره ظلم الحجاج وعبد الملك، فراسل الخوارج وطلب منهم إرسال وفد إليه لينظر فيما يدعون وحين سألهم عن دعوتهم قالوا له: ندعو إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن الذي نقمنا من قومنا الاستئثار بالفيء وتعطيل الحدود والتسلط بالجبرية. فقال لهم مطرف: ما دعوتم إلا إلى حق وما نقمتم إلا جورا ظاهرا أنا لكم متابع فتابعوني على ما أدعوكم إليه ليجتمع أمري وأمركم. فقالوا: اذكره فإن يكن حقا نجبك إليه. قال: أدعوكم إلى أن نقاتل هؤلاء الظلمة على أحداثهم وندعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وأن يكون هذا الأمر شورى بين المسلمين يؤمرون من يرتضونه على مثل هذه الحال التي تركهم عليها عمر بن الخطاب، فإن العرب إذا علمت أن ما يراد بالشورى الرضى من قريش رضوا وكثر تبعكم وأعوانكم. فقالوا: هذا ما لا نجيبك إليه وقاموا من عنده وترددوا بينهم أربعة أيام فلم تجتمع كلمتهم (3). فحين سمعوا بتولية أحد القرشيين نفروا عنه وعن استمالته إليهم. ويذكر الأستاذ أبو زهرة أن العصبية والحسد هما الحافز القوي لخروج الخوارج، وقد كرر هذا المعنى في أكثر من موضع من كتابه (تاريخ المذاهب الإسلامية)، فهو يذكر أن العصبية كانت مختفية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ظلت مختفية إلى أن جاء عهد عثمان رضي الله عنه، فانبعثت في آخر عهده قوية لجية عنيفة، وكان انبعاثها له أثر في الاختلاف بين الأمويين والهاشميين أولا، ثم الاختلاف بين الخوارج وغيرهم، فقد كانت القبائل التي انتشر فيها مذهب الخوارج من القبائل الربعية لا من القبائل المضرية، والنزاع بين الربعيين والمضريين معروف في العصر الجاهلي، فلما جاء الإسلام أخفاه حتى ظهر في نحلة الخوارج، فكان من الطبيعي أن يكون الحسد من أول ثمار هذه العصبية ومن الأسباب التي حفزت الخوارج إلى الخروج. ويقول أيضا: ومن أعظم هذه الأمور التي حفزتهم على الخروج غير الحق الذي اعتقدوه - أنهم كانوا يحسدون قريشا على استيلائهم على الخلافة واستبدادهم بها دون الناس (4).   (1) ((شرح نهج البلاغة)) (5/ 205). (2) انظر: ((مروج الذهب)) (2/ 404). (3) ((الكامل)) لابن الأثير (4/ 434). (4) انظر: ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (1/ 69 - 70)، وانظر: ((فجر الإسلام)) (ص262). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 وقد أورد الأستاذ أحمد أمين رحمه الله أمثلة كثيرة لهياج العصبية بين الناس في عهد الدولة الأموية ثم العباسية. وقد قال المأمون في إجابته لرجل من أهل الشام حين طلب إليه الرفق بهم: وأما ربيعة فساخطة على الله منذ بعث نبيه من مضر، ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما شاربا (1). ومن هنا فإننا لا نوافق على ما قاله فلهوزن مبرئا للخوارج من العصبية، وأنهم كما قال: كانوا حزبا ثوريا يعتصم بالتقوى لم ينشأوا عن عصبية العروبة بل عن الإسلام (2). ولقد تطورت تلك العصبيات فيما بعد إلى أن كانت من أسباب تقويض ملك بني أمية (3).ونحب أن نشير هنا إلى أن الخوارج فيما بعد قد انمحت لديهم العصبية القبلية والإقليمية، وحلت محلها العصبية للعقيدة والرأي، كما وقع في حوادث عدة كان الخوارج من القبلية يحاربون إخوانهم المخالفين لهم من نفس القبيلة حربا لا هوادة فيها، كما وقع لبني تميم من محاربة إخوانهم من بني تميم أيضا (4).وكما نتبين هذا أيضا من استعطاف عتاب بن ورقاء الرياحي للزبير بن علي بن الماحوز رئيس الخوارج الذين حاصروا عتاب بن ورقاء يغادونه القتال ويراوحونه حتى ضاق بهم ذرعا وأيقن بالهلاك، فبعث عتباب بن ورقاء الرياحي إلى الزبير بن علي: أنا ابن عمك ولست أراك تقصد في انصرافك من كل حرب غيري. فبعث إليه الزبير: أن أدني الفاسقين وأبعدهم في الحق سواء (5). المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص111   (1) ((ضحى الإسلام)) (1/ 43). (2) ((الخوارج والشيعة)) (ص41). (3) انظر: ((مروج الذهب)) (3/ 244 - 246) فقد ذكر أمثلة كثيرة لظهور العصبية بين قبائل مضر واليمن. (4) انظر: ((الكامل)) للمبرد (2/ 326). (5) انظر: ((شرح نهج البلاغة)) (4/ 164). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 المبحث الخامس: العامل الاقتصادي ونعني بهذا العامل أن الخوارج خرجوا مدفوعين - كما قيل - بنقمتهم على ما ظنوه جورا في توزيع الفيء والغنائم، فقاموا بما قاموا به طلبا للمال. ويرى الطالبي أن العامل الاقتصادي في ظهور الخوارج عامل له أهميته وخطورته إلى جانب عامل العصبية، وينقل في ذلك عن ابن حجر أن أبا عوانة يعقوب بن إسحاق النيسابوري ترجم في مسنده للأحاديث الواردة في الخوارج بقوله: بيان أن سبب خروج الخوارج كان بسبب الأثرة في القسمة مع كونها كانت صوابا فخفي عنهم ذلك (1).والواقع أن النقمة بسبب تقسيم الفيء بدأت حتى منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وقع من ذي الخويصرة حيث اعتبرها الشهرستاني وابن الجوزي (2) من عوامل نشأة الخوارج، وإن خروجهم يبتدئ من هذا الوقت، وإن كانت فيما يظهر لي أنها من الوقائع اليومية التي تجري بها العادة بين الناس لما جبلت عليه النفوس من حب المال والتطلع إلى الإكثار منه، وأنها مرت في حياة المسلمين مرورا عاديا دون أن تكون لها نتائج مباشرة؛ ذلك أن ذا الخويصرة لم يكن مدفوعا فيما قاله للنبي صلى الله عليه وسلم بعصبة تحرضه على ذلك وإنما دفعته – كما قلنا – نزعته الفردية ولا سيما وأنه يعرف من عطف النبي صلوات الله وسلامه عليه ورحمته ما شجعه على ذلك. ولهذا فإننا نلغي من حسابنا هذه الواقعة في دراسة مدى تأثير العامل الاقتصادي على قيام الخوارج، بل لقد ألغيناها سابقا كبدء لظهور فرقة الخوارج، وإن عددنا سابقة من السوابق التاريخية في تطلع الناس إلى الغنائم ونقمتهم على تقسيمها. ولقد ظهر ذلك بصورة واضحة كعامل من العوامل المحركة للثورة على عثمان رضي الله عنه؛ فبعد الهجوم عليه وقتله من قبل الثائرين تنادوا في الدار: أدركوا بيت المال لا تسبقوا إليه، وسمع أصحاب بيت المال أصواتهم وليس فيه إلا غرارتان - كما يقول الطبري، أو كان فيه مال كثير كما يقول ابن كثير - فقالوا: النجا النجا، فإن القوم إنما يحاولون الدنيا فهربوا وأتوا بيت المال فانتهبوه (3). ولقد كان عثمان رضي الله عنه متهما عند هؤلاء الثائرين عليه بإيثار قرابته بالعطايا على حساب بقية المسلمين، من بيت المسلمين ومن ذلك ما يرويه صاحب كشف الغمة من أن عثمان أعطى مروان من بيت المال مائة ألف وأنه أنفق على نفسه ودوره من بيت المال، وأنه جعل الصدقة لنفسه ولأهل بيته دون من جعلها الله لهم، ونقص أهل بدر أعطياتهم كل واحد ألفا ألف عما فرض لهم عمر رضي الله عنه، وكنز الذهب والفضة ... إلخ تلك الافتراءات التي اعتبروا فيها عثمان قد جار في توزيع الأموال، وأنه يستحق بذلك الخروج عليه. وقد أورد ابن أبي الحديد روايات في إعطاء عثمان أقاربه وأهله من بيت المال الشيء الكثير، ثم قال: والذي نقول نحن: إنها وإن كانت أحداثا إلا أنها لم تبلغ المبلغ الذي يستباح به دمه. وذكر أيضا في موضع آخر من كتابه شرح (نهج البلاغة) دفاعا عن عثمان للقاضي عبد الجبار وردا عليه من المرتضى (4).   (1) ((آراء الخوارج)) (ص51)، ((فتح الباري)) (12/ 301). (2) ((الملل والنحل)) (1/ 21). ((تلبيس إبليس)) (ص90). (3) ((تاريخ الطبري)) (4/ 391)، ((البداية والنهاية)) (7/ 189). (4) انظر: ((نهج البلاغة)) (1/ 199)، و (2/ 324 - 333). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 ولسنا في مقام تحقيق ما ينسب إلى عثمان رضي الله عنه في هذا الجانب أو في بيان نقده أو ذكر محامله الشرعية، فذلك له مقام آخر، وإنما نقصد هنا بيان أثر العامل الاقتصادي في ثورة الثائرين عليه. ومما لا شك فيه أن بعض عماله رضي الله عنه قد ساعدوا على تحريك هذا العامل في نفوس الناس بما وقع من فلتات كلامهم أو بعض تصرفاتهم، ونذكر في هذا المقام ما قاله سعيد بن العاص والي العراق من قبل عثمان وهو يسامر بعض وجوه أهل الكوفة فقد قال لهم: إنما هذا السواد – يعني به سواد العراق – بستان لقريش. فقال الأشتر: أتزعم أن السواد الذي أفاء الله علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك، والله ما يزيد أوفاكم فيه نصيبا إلا أن يكون كأحدنا. وتكلم معه القوم (1).ومن هنا بدأت الفتنة في الاشتعال وبدأ سب الولاة والخليفة نفسه، وكانت هذه الحادثة نواة لأحداث أثمرت فيما بعد الهجوم على الخليفة نفسه في المدينة حتى قتلوه، ويصف معاوية رضي الله عنه أولئك الناقمين على عثمان في العراق في كتاب بعث به إليه يقول عنهم: إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة (2). وهكذا يتبين لنا أن للعامل الاقتصادي أثره في الثورة على عثمان رضي الله عنه، فهل كان الدافع لخروج الخوارج على علي أيضا هو العامل الاقتصادي؟ الجواب نعم ... إنه كان سببا من أسباب خروجهم عليه، وذلك حين منعهم من سبي أهل الجمل، بل هو أول ما نقموا عليه من الأمور كما عبروا عن هذا بقولهم له: " أول ما نقمنا منك أنا قاتلنا بين يديك يوم الجمل، فلما انهزم أصحاب الجمل أبحت لنا ما وجدنا في عسكرهم من المال ومنعتنا سبي نسائهم وذراريهم (3). ونقول: إن العامل الاقتصادي كان من أسباب خروج الخوارج على الإمام علي، ولكنه لم يكن السبب الوحيد كما ظهر لنا من استعراض الأسباب الأخرى. وكما قلنا من أن كل ظاهرة اجتماعية معقدة تكمن وراءها أسباب دينية واجتماعية واقتصادية متشابكة. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص118   (1) ((تاريخ الطبري)) (4/ 323). (2) ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 141). (3) ((الفرق بين الفرق)) (ص78). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 المبحث السادس: الحماس الديني يرى بعض العلماء أن سبب خروج الخوارج كان رد فعل لتمسكهم الشديد بالقرآن والسنة، وهو ما ذكره الطالبي بقوله: " فالتقوى والتمسك بالقرآن والسنة تمسكا شديدا من أسباب الخروج ودواعي الإنكار، إنكار جميع الأوضاع من أساسها ونبذ الفريقين المتقاتلين جميعا، فالتقوى والتمسك بالعقيدة في أصلها أدى بالخوارج إلى الثورة العنيفة على كل شيء " (1).وهو أيضا رأي لفلهوزن حيث يذكر أن الباعث على خروج الخوارج إنما كان ناتجا عن تقوى شديدة ورغبة في التوبة الفعلية من خطئهم في صفين حين قبلوا التحكيم، ولهذا فقد طالبوا الإمام عليا أن يتوب توبة فعلية ليرجعوا إلى طاعته، بل يرى أن التشدد في مبادئ الإسلام يفضي بهم إلى أن يتجاوزوا بنقدهم إلى النبي نفسه (2).ويقول أحمد أمين: " وقد حملهم شديد إيمانهم أن ينتهزوا كل فرصة للدعوة إلى مبادئهم جهرا، ويرسلوا الرسل إلى خلفاء بني أمية يدعونهم ولم يضنوا بأي نوع من أنواع التضحية (3).ويرى الأستاذ أبو زهرة كذلك أن تلك العاطفة الدينية الجياشة التي جعلتهم يندفعون إلى الخروج إنما كانت نابعة من حياتهم البدوية الساذجة فيقول: " كان أكثرهم من عرب البادية وقليل منهم من كان من عرب القرى، وهؤلاء كانوا في فقر شديد قبل الإسلام، ولما جاء الإسلام لم تزد حالهم المادية حسنا؛ لأنهم استمروا في باديتهم بشدتها وصعوبة الحياة فيها وأصاب الإسلام شغاف قلوبهم مع سذاجة في التفكير وضيق في التصور وبعد عن العلوم، فتكون من مجموع ذلك نفوس مؤمنة متعصبة بضيق نطاق العقول ومتهورة مندفعة؛ لأنها نابعة من الصحراء، وزاهدة لأنها لم تجد " (4). وبغض النظر عن مدى صحة ما علل به الأستاذ أبو زهرة عاطفتهم الدينية المتعصبة من الفقر والبداوة في أكثر الخوارج؛ فإن الذي يعنينا هنا هو التأكيد على أن هذه العاطفة الدينية كانت بالفعل من الأسباب القوية المحركة لكثير من الخوارج في خروجهم، كما ينبئ عن ذلك غلوهم في العبادة وهو من أهم خصائصهم, وإن لم يمنعنا ذلك من أن نأخذ عليهم أن عاطفتهم الدينية المتحمسة قد دفعتهم إلى أعمال كثيرة خارجة عما يقتضيه التدين الصحيح المتسم بالتروي وعدم التعصب في معاملة الآخرين. هذه هي أهم الأسباب التي عرضت في تعليل خروج الخوارج على الإمام علي وعلى الخلفاء من بعده، ولعل فيما قدمناه في هذا الفصل توضيحا لمدى أثر كل سبب من تلك الأسباب، سواء منها ما كان مباشراً أو غير مباشر. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص121   (1) ((آراء الخوارج)) (ص84). (2) ((الخوارج والشيعة)) (ص37). (3) ((فجر الإسلام)) (ص263). (4) ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (1/ 68). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 تمهيد بعد أن عرضنا لوضع الخوارج الفكري والحربي والسياسي نبدأ الآن بالحديث عن فرق الخوارج؛ متى بدأ تكونها، وما هي الأسباب التي أدت إلى افتراق الخوارج بعد أن كانوا على رأي واحد، وما هي مناهج مؤرخي الفرق المختلفة في التاريخ لها؟ وأخيرا نقدم عرضا موجزا لتاريخ هذه الفرق، مرجئين بيان آرائها ومناقشتها في تلك الآراء إلى الباب التالي، اللهم إلا ما نذكره عرضا عن بعض آراء الفرق الفرعية. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص189 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 المبحث الأول: نشأة فرق الخوارج وأسبابها بدأ تكون فرق الخوارج – كما قلنا سابقا – بظهور نافع بن الأزرق وجماعته التي تنتسب إليه والتي عرفت باسم الأزارقة وذلك في أوائل الستينات، وتتابع بعد ذلك ظهور تلك الفرق سواء الفرق الكبرى أو ما تشعب عنها من فرق صغرى. ولقد كان لهذا الافتراق أسبابه الظاهرة والخفية وإن لم تكن في أغلب الأحيان أسبابا لها قيمتها، فقد عرفنا عنهم أنهم كانوا يختلفون ويفترقون لأتفه الأسباب، ومهما يكن من أمر فإلى جانب اختلافهم حول سلوك بعضهم على هذا النحو أو ذاك كانت هناك أسباب لهذا الاختلاف ترجع إلى اختلافهم في الآراء الدينية وفي مواقفهم من الجماعة الإسلامية. فقد كان الخوارج في مبدأ أمرهم لا يعرفون تلك التفاصيل في مذهبهم التي أحدثت بينهم الخلافات فيما بعد وفرقتهم فرقا متعددة ذات آراء مختلفة، كالاختلاف في القعدة والتقية والهجرة من دار مخاليفهم إلى دارهم، كذلك حكم أطفال مخالفيهم هل هو تابع لحكم آبائهم أم يختصون بحكم مستقل مع الاختلاف في حكم هؤلاء الآباء المخالفين. . الخ. وقد أثرت فيهم هذه الاختلافات في الآراء حين حدثت فتعددت طوائفهم، واختلفت بتعدد هذه الآراء واختلافهم. وقد اختلف العلماء في الشخصية التي أحدثت هذه الخلافات بين صفوف الخوارج وفرقت كلمتهم وجعلت بعضهم يبرأ من بعض؛ فقيل إن أول من أحدث الخلاف بين الخوارج هو نافع الأزرق الحنفي، وقيل إن أول من أحدثها عبد ربه الكبير أو رجل يسمى عبد الله بن الوضين، وأن نافعا كان من المخالفين له في مبدأ أمره ولكنه بعد وفاته تبين له أن الحق كان معه فرجع إلى الأخذ بقوله وأكفر من يخالفه بعد ذلك. وأما من خالفه قبل ذلك – أي قبل أن يرى نافع أن قوله صحيح – فليس بكافر وكأن الحكم يبتدئ عنده من يوم أن تبين له صحة رأي ابن الوضين، وقيل إن أول من أحدثها عبد ربه الصغير (1). والحقيقة كما يظهر لي أن خلاف الخوارج لم يشتد ولم يأخذ شكله الحاد إلا حين تبنى نافع بن الأزرق آراءه الخاصة في تلك المسائل التي لم يعرفها سلف الخوارج ولم يخوضوا فيها بالتفصيل، وحينما أخذ نافع في تطبيقها اعتبرها الخوارج آراء متطرفة لم يقل بها سلفهم من أهل النهروان ولا غيرهم؛ فمثلا حرم التقية واعتبرها خشية من غير الله لا تجوز بحال مستدلا بقوله تعالى: إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [النساء: 77]. وعلى هذا فإن القعدة الذين يستندون إلى التقية غير مؤمنين في نظره، واعتبر كل مخالفيه مشركين كفرة لا تحل مناكحتهم ولا موارثتهم ولا أكل ذبائحهم ولا يجب رد أماناتهم إليهم. ويحل أيضا قتل نسائهم وأطفالهم كما قال تعالى: وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:27]. وعندما وصل إلى هذا الحد انفصلت عنه النجدات بقيادة نجدة بن عامر؛ لأنهم رأوا أن هذه الآراء مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله وسلفهم القديم قائلين له: " أحدثت ما لم يكن عمله السلف من أهل النهروان وأهل القبلة "، فأجابهم بأن هذه حجة عرفها وقامت عليه وينبغي الأخذ بها (2). قال عبد الرحمن النجم: " إن الآراء الشديدة الغاية التي تبناها نافع بن الأزرق وضعت الخوارج في بداية مرحلة خطيرة، فقد فتحت مجالا واسعا أمام مجتهديهم لمناقشات نظرية واسعة استمرت فترة من الزمن وأدت إلى ظهور آراء متباينة ومواقف مختلفة وكانت سببا في تفرقهم، ولا ريب أن الاتجاه المعتدل الذي يمثله النجدات هو أقرب إلى آراء عامة المسلمين " (3).وابن عبد ربه يرى أن الخوارج قبل وجود نافع بن الأزرق كانوا لا يختلفون إلا في الشيء الشاذ حتى جاء نافع فأوجد فجوات ينهم؛ يقول ابن عبد ربه: " الأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي وكانوا قبل على رأي واحد لا يختلفون إلا في الشيء الشاذ " (4). ومهما يكن من اختلاف العلماء حول تحديد أول من أحدث الافتراق بين الخوارج فقد كان لهذه الاختلافات أثرها السيء على مجرى حياتهم؛ إذ أخذ كل فريق منهم يشنع على مخالفيه قوله كما سيتبين لنا ذلك فيما بعد. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص190   (1) انظر: ((مقالات الأشعري)) (1/ 170)، ((الفرق بين الفرق)) (ص84). (2) ((مقالات الأشعري)) (1/ 170)، ((الفرق بين الفرق)) (ص84). (3) ((البحرين في صدر الإسلام)) (ص128). (4) ((العقد الفريد)) (2/ 391). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 المبحث الثاني: مناهج مؤرخي الفرق في ذكر فرق الخوارج عندما يريد الباحث حصر فرق الخوارج الأصلية منها أو الفرعية يفاجأ بكثرة اختلاف العلماء في ذلك، وذلك لأن كتب الفرق الإسلامية لم تتفق أبدا على تقسيم فرقهم الرئيسية أو الفرعية على عدد معين، فنجد بعضهم يعدها أربعا، وبعضهم يعدها خمسا، وبعضهم يعدها سبعا، وبعضهم يعدها ثماني، وآخرون خمسا وعشرين ... إلخ. وهكذا يتباين عددهم عند علماء الفرق، وهذا يعود بالطبع إلى عوامل هامة ومنها: أن الخوارج كانوا من الفرق الثائرة المضطهدة من جهة خصومهم وهم عامة الناس، الأمر الذي أدى إلى عدم التمكن من الدراسة الدقيقة لفرقهم في عصر خروجهم. أنهم هم أنفسهم ساهموا في إخفاء أمرهم بحيث أخفوا كتبهم عن أعين الناس؛ إما خوفا عليها منهم أو ضنا بها عنهم وهي قليلة جدا قلة فراغ الخوارج الذين وهبوا كل أوقاتهم للحرب أو الإعداد لها على طول حياتهم. أنهم لم ينعموا بالاستقرار والهدوء الذي ينتج عنهما نظرهم في العلوم وتحقيقهم لمذهبهم وتأريخهم لفرقهم المختلفة تأريخا مضبوطا يساعد على حصرها حصرا صحيحا. أنهم كانوا – كما قلنا سابقا – سريعي التفرق؛ إذ حصول أقل سبب تافه كان كافيا لتفرقهم إلى فرق. ولهذا تشعبت فرقهم واختلط أمرها على المؤرخين. وقد ذكر العلماء أقوالا كثيرة في ندرة كتبهم وفي صعوبة الوصول إلى حقيقة أمرهم وشكوا من هذا الأمر الذي يوقف الباحث أمام مشكلة هامة، وقد مر بنا الحديث في هذه المسألة في مقدمة الرسالة. وقد نتج عن سرعة تفرقهم لأقل سبب يحدث أن كثر رؤساؤهم وفرقهم كثرة اختلط أمرهم بسببها على المؤرخين، وفي هذا يقول أحمد أمين عنهم: والخوارج لم يكونوا وحدة، ولم يكونوا كتلة واحدة، وإنما كان واضحا فيهم الطبيعة العربية البدوية فسرعان ما يختلفون وينضمون تحت ألوية مختلفة يضرب بعضها بعضا ولو اتحدوا لكانوا قوة في منتهى الخطورة (1).وكذلك يقول الشيخ أبو زهرة؛ فإنه يرجع سبب تفرقهم إلى فرق متباينة إلى " كثرة الاختلاف فيما بينهم وتحيز كل فرقة لما ارتأت وتجمعها حوله حتى صاروا مذاهب وجماعات متباينة" (2). ويقول الأستاذ محمد الطاهر النيفر عنهم: وكانوا كثيري التشاجر فيما بينهم لأتفه الأسباب، وربما كان هذا هو السر في انهزامهم مع قوة شكيمتهم في القتال (3). وفيما يلي بيان للاختلاف البعيد بين علماء الفرق في عد فرق الخوارج. فالأشعري يرى أنهم أربع فرق: الأزارقة، والنجدات، والإباضية والصفرية. ثم يقول: وكل الأصناف سوى الأزارقة والإباضية والنجدية فإنما تفرعوا من الصفرية " (4).ويشاركه في هذا الحصر ابن عبد ربه، إلا أنه ذكر البهيسية مكان النجدات فهي عنده من فرقهم الكبرى (5)، بينما هي عند غيره فرقة فرعية. ويرى صاحب إبانة المناهج أنها خمس فرق رئيسية وذكر الفرق التي تقدمت عند الأشعري وابن عبد ربه مثبتا أن الكل من كبار فرقهم، ويلاحظ عليه أنه اختلط عليه اسم عبد الله بن إباضي بعبد الله بن يحيى طالب الحق فنسب الإباضية إليه، وهو خطأ تاريخي (6).ويرى البعض أنها سبع فرق رئيسية ومنهم محيي الدين الدبسي حيث أضاف إلى ما تقدم في إبانة المناهج فرقة المحكمة والعجاردة (7)، وذكر أن فروع الإباضية عنده أربع فرق والعجاردة عشر فرق، ومثله الشاطبي فهو يعدها سبع فرق وهي: المحكمة، والبيهسية، والأزارقة، والحراث، والعبدية، والإباضية.   (1) ((فجر الإسلام)) (ص 259). (2) ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (ص 80). (3) ((أهم الفرق الإسلامية)) (ص61). (4) ((مقالات الأشعري)) (1/ 183). (5) ((العقد الفريد)) (2/ 391). (6) ((إبانة المناهج)) (ص 155). (7) ((رسالة الدبس)) في فرق الشيعة والخوارج وتكفير غلاتهم (ص26). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 والغريب في هذا التقسيم ذكر فرقة الحراث فلم يذكرها غيره في فرق الخوارج لا الرئيسية ولا الفرعية. وجوز الشيخ محمد رشيد رضا أن تكون هي النجدات وقد صحفها النساخ. وأيضا ذكر الشاطبي العبدية وهي كذلك مذكورة عند المؤرخين في فرق الخوارج، إلا أن يكون قصده المعبدية فهي وإن كانت من فرق الخوارج إلا أنها فرقة فرعية صغيرة من فرق الثعالبة، وقد ذكرها هو نفسه بأنها من فرق الثعالبة حين ذكر تقسيم الثعالبة، وقد قسم الإباضية إلى أربع فرق، والعجاردة إلى إحدى عشرة فرقة، والثعالبة التي هي إحدى فرق العجاردة أربع فرق (1).ويعدها الشهرستاني ثماني فرق وهي كبار فرق الخوارج عنده مضيفا إلى ما ذكره الدبس فرقة الثعالبة بأنها من فرقهم الكبار، وبعد أن ذكر تلك الفرق قال: " والباقون فروعهم " (2).أما البغدادي فقد أوصلها إلى عشرين فرقة ذاكرا لها جميعا في موضعين من كتابه (الفرق بين الفرق)، وكان ذكره لفرق الخوارج في كل منهما عاما؛ لم يبين الفرق التي يعتبرها أصولا ولا الفرق التي يعتبرها فروعا، وإنما قال: " وأما الخوارج فإنها لما اختلفت صارت عشرين فرقة وهذه أسماؤها " (3). ثم شرع في بيان تلك الأسماء سردا. أما عند الرازي فهم إحدى وعشرون فرقة (4)، بينما هم عند الملطي خمس وعشرون فرقة (5). وهكذا يجد الباحث نفسه أمام اختلاف العلماء في هذا العدد الكثير من فرق الخوارج، كل واحد قد اختار لنفسه العدد الذي وصل إليه اجتهاده ونظره، ولقد صدق الأستاذ الغرابي حين قال: " ونتيجة لما تقدم من أن الخوارج يكونون على رأي واحد ثم لا يلبث أن يحصل بينهم خلاف على رأي فينقسمون ويخرجون على إمامهم – قد انقسمت الخوارج إلى فرق كثيرة لم يتفق المؤرخون على عددهم ". ويقول: " والحق أنه لا يمكن معرفة فرق الخوارج ولا ضبطها؛ لأن الخلافات كانت توجد بينهم على أقل شيء ". ويقول أيضا: " وأنه كما قلت ليس من السهل الاتفاق على كيفية تقسيم فرق الخوارج وأيها فروع، كما أنه ليس من السهل ضبط عدد فرقها كذلك لكثرة اختلافاتها وتقلباتها وخروج بعضها على بعض لأمر قد يكون بسيطا " (6). وعلى كل فسوف أقدم هنا تعريفا موجزا بجميع الفرق التي ذكرها المؤرخون سواء ما اتفقوا على ذكره أو اختلفوا فيه، وسواء ما اتفقوا كذلك على كونه أصليا أو فرعيا وما اختلفوا فيه، مركزين على الجانب التاريخي لكل فرقة، أما آراؤهم فموضعها القسم الثاني من هذا البحث إن شاء الله. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص193   (1) ((الاعتصام)) (2/ 219). (2) ((الملل والنحل)) (1/ 115). (3) ((الفرق بين الفرق)) (ص24، 72). (4) ((اعتقادات فرق المسلمين والمشركين)) (ص46، 72). (5) ((التنبيه والرد)) (ص167). (6) ((تاريخ الفرق الإسلامية)) (ص266، 268، 271). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 المطلب الأول: المحكمة وهو أول تجمع يعد بمثابة التجمع الأم والأساس لكل الفرق التي أتت بعدها، وهذه – كما لا يخفى – انفصلت عن جيش الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين تمت الموافقة على التحكيم، ثم اشتد انفصالها بعد أن ظهرت النتيجة في غير ما كانوا يؤملون. وحينما خرجوا إلى حروراء كانوا يعاملون المسلمين الذين يخالفونهم في الرأي أبشع المعاملات وأقساها، يصفهم الملطي بقوله: " فأما الفرقة الأولى من الخوارج فهي المحكمة الذين كانوا يخرجون بسيوفهم فيمن يلحقون من الناس، فلا يزالون يقتلون حتى يقتلوا، وكان الواحد منهم إذا خرج للتحكيم لا يرجع أو يقتل فكان الناس منهم على وجل وفتنة " (1). وهو يقصد بخروج الخارجي للتحكيم أن يحمل سيفه ثم يخرج مناديا في الناس: لا حكم إلا لله. وكان أول رئيس لهم هو عبد الله بن وهب الراسبي الذي قاد المعركة ضد علي بن أبي طالب في النهروان فقتلوا هناك شر قتلة. ومن أبشع جرائمهم قتلهم عبد الله بن خباب ابن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن حدثهم بحديث يوجب القعود عن الفتن، فذبحوه على حافة النهر وبقروا بطن امرأته وكانت حبلى، وكان الذي تولى قتله - فيما يذكر الأشعري (2) - مسعر بن فدكي، ويذكر البغدادي (3) أنه رجل يسمى مسمعا؛ ويمكن الجمع بينهما بأن يقال إن مسعر بن فدكي الذي تولى رئاسة الوفد الذاهب إلى البصرة أمر مسمعا بقتل عبد الله بن خباب فقتله (4)، ولعلهما شخص واحد حصل التصحيف في اسمهما لتقارب الشكل. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص198   (1) ((التنبيه والرد)) (ص51). (2) ((مقالات الأشعري)) (1/ 210). (3) ((الفرق بين الفرق)) (ص77). (4) وانظر: ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 341)، ((العقد الفريد)) (2/ 390)، ((أيام العرب في الإسلام)) (ص385)، ((تلبيس إبليس)) (ص93). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 المطلب الثاني: الأزارقة زعيم هذه الفرقة هو نافع بن الأزرق المشهور بمساءلة ابن عباس، وقد ذكره بهذا الاسم كل من كتب في التاريخ والفرق إلا من شذ، وكنيته أبو راشد وهو من بني حنيفة، ومن الذين أخطأوا في اسمه الملطي رحمه الله، فقد سماه عبد الله بن الأزرق خلافا لتسمية الجمهور (1). ومما يذكر عن ابتداء ظهور نافع بن الأزرق أنه اجتمع بالخوارج الذين يرون رأيه وطلب إليهم أن ينضموا إلى ابن الزبير لمقاتلة جيوش أهل الشام الذين حاصروا مكة، قائلا لهم من خطبة له: " وقد جرد فيكم السيوف أهل الظلم وأولوا العداء والغشم وهذا من ثار بمكة فاخرجوا بنا نأت البيت ونلق هذا الرجل، فإن يكن على رأينا جاهدنا معه العدو وإن يكن على غير رأينا دافعنا عن البيت ما استطعنا ونظرنا بعد ذلك في أمورنا "، فأطاعوه وخرجوا إلى مكة. وأخيرا وبعد أن امتحنوا ابن الزبير وتبين لهم خلافه لرأيهم خرجوا عنه سنة 64هـ، فخرجوا من مكة إلى جهتين جهة إلى البصرة وهم نافع بن الأزرق، وعبد الله بن الصفار السعدي، وعبد الله بن إباضي، وحنظلة بن بيهس، وبنو الماحوز عبد الله وعبيد الله بن الزبير، وجهة إلى اليمامة وهم أبو طالوت، وعبد الله بن ثور أبو فديك، وعطية الأسود اليشكري. فأما أهل البصرة فقد أمروا عليهم نافع بن الأزرق وأقام بالبصرة إلى أن خشي من أهلها، فخرج إلى الأهواز وتبعه أتباعه إلى هناك. وأما أهل اليمامة فولوا عليهم أبا طالوت ثم خلعوه وولوا عليهم نجدة بن عامر، وقد استقر الأمر بنافع ومن معه في الأهواز " فغلبوا عليها وعلى كورها وما وراءها من بلدان فارس وكرمان في أيام عبد الله بن الزبير، وقتلوا عماله بهذه النواحي " (2)، إلى أن قتل نافع في سنة خمس وستين في شهر جمادى الآخرة عندما اشتدت المعركة بينه وبين جيش أهل البصرة بقيادة مسلم بن عبيس ابن كريز بن ربيعة في ناحية الأهواز الذي جهزه عامل البصرة من قبل عبد الله بن الزبير عبد الله بن الحارث الخزاعي، وبعد قتل نافع في هذه المعركة ولى الخوارج أمرهم قطري بن الفجاءة الذي انشقت عليه الأزارقة فيما بعد (3).وقد تابع حرب الأزارقة المهلب بن أبي صفرة الذي عينه ابن الزبير لحربهم فأثخن فيهم وأوهن قوتهم على ماتميزوا به من قوة وكثرة؛ يقول البغدادي: " ولم يكن للخوارج قط فرقة أكثر عددا ولا أشد منهم شوكة " (4)، ولهذا فقد كان الناس منهم على وجل وفتنة لأنهم كانوا يتابعون عليهم الغارات في كل مكان لا يعرفون الهدوء ولا السلم. ويقول ابن حزم أنهم " إنما كانوا أهل عسكر واحد أولهم نافع بن الأزرق وآخرهم عبيدة بن هلال العسكري، واتصل أمرهم بضعا وعشرين سنة " (5)، والمشهور في هذا الاسم الذي ذكره ابن حزم أنه عبيدة بن هلال اليشكري وليس العسكري كما قال. وتعتبر فرقة الأزارقة أم الفرق بعد المحكمة إذ أن النجدات انشقت عن النجدات العطوية، وانشقت عن العطوية العجاردة، وهكذا. ويعد نافع بن الأزرق من مشاهير الخوارج فقد كان هو وفرقته السبب في تشعب آراء الخوارج على هذا النحو، فهو أول من فتح أبواب الخلاف بين الخوارج بتلك الأحداث التي بينها صاحب كتاب (الأديان) بقوله: " ولم يزالوا على ذلك – أي على الاتفاق – إلى أن مرق عليهم نافع بن الأزرق فشتت كلمتهم وفرق جماعتهم وخالف أمرهم وحاد عن اعتقادهم، أحدث أمورا خالف فيها المسلمين وأهل الاستقامة في الدين – يعني بهم الإباضية – وتتابعت الخوارج وافترقت إلى ستة عشرة فرقة بفرقة أهل الاستقامة ". ويقول عن مخالفة نافع لما عرف عند الخوارج من اعتقاد – إنه " أول من خالف اعتقاد أهل الاستقامة وشق عصا المسلمين وفرق جماعتهم؛ انتحل الهجرة وسبى أهل القبلة وغنم أموالهم وسبى ذراريهم وسن تشريك أهل القبلة وتبرأ من القاعد ولو كان عارفا لأمره تابعا لمذهبه، واستحل استعراض الناس بالسيف، وانتحل المهجرة وحرم مناكحتهم وذبائحهم وموارثتهم وابتدع اعتقادات فاسدة وآراء حايدة، خالف فيها المسلمين وأهل الاستقامة في الدين، وخرج من البصرة إلى الأهواز فغلب عليها وعلى ما والاها من بلاد فارس وكرمان وسجستان ومكران " (6). المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص199   (1) ((التنبيه والرد)) (ص54). (2) ((الملل والنحل)) (1/ 118). (3) انظر: ((تاريخ الطبري)) (5/ 613، 564، 567)، ((الكامل)) لابن الأثير (4/ 195)، ((الكامل للمبرد)) (2/ 181). (4) ((الفرق بين الفرق)) (ص83). (5) ((الفصل لابن حزم)) (4/ 189، 190). (6) قطعة من ((كتاب الأديان)) (ص97). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 المطلب الثالث: النجدات تنتسب النجدات إلى زعيمهم الأول نجدة بن عامر بن عبد الله بن ساد بن المفرج الحنفي أو الثقفي كما يقول بعضهم. وقد سمي أتباعه بالنجدات العاذرية لعذرهم أهل الخطأ في الاجتهاد إذا كانوا جاهلين بوجه إذا كانوا جاهلين بوجه الصواب فيه، وقد كان نجدة مع نافع يدا واحدة إلى أن نقم عليه أشياء رأى نجدة أنها من البدع المضلة ففارق نافعا واستقل عنه بمن تبعه من أصحابه. ويختلف النقل في مكان خروجه؛ فبعضهم يرى أنه كان من اليمامة ومنها انتشر أمره إلى بقية البلدان وهذا هو المشهور (1)، بينما يذكر الملطي أنه خرج من جبال عمان (2)، ولم أر فيما تيسر لي الاطلاع عليه أن غير الملطي قد قال بقوله، ويوصف نجدة بأنه كان شجاعا يتابع الغارات على من حوله حتى بلغ ملكه صنعاء جنوبا والبحرين والقطين، أي أنه أخذ مساحات واسعة من الدولة الإسلامية. ولم يزل في قوته إلى أن اختلف عليه أصحابه وكان أشدهم عليه أبو فديك، وكان نجدة حين علم بتآمره ومن معه على قتله استخفى في قرية من قرى حجر، إلا أنه اكتشف أمره فاستخفى عند أخواله من بني تميم وعندها عزم على المسير إلى عبد الملك بن مروان فأتى بيته ليعهد إلى زوجته بما يلزم، ولكن الفديكية غشوه فقتلوه، وكان يقاتلهم بشجاعة نادرة وهو يتمثل بهذا البيت: وإن جر مولانا علينا جريرة صبرنا لها إن الكرام الدعائم وكان قتله في السنة الثانية والسبعين من الهجرة. وقد تعددت الأسباب التي ثار من أجلها أصحاب نجدة عليه وهي أسباب وقعت متفرقة، إلا أن الحقد الذي امتلئت به قلوب الخارجين عليه ساعد على تجميعها وتضخيمها حتى صارت بحيث لم يطق الفديكيون الصبر على طاعة نجدة فدبروا قتله وقد تم لهم ذلك. ومن هذه الأسباب ما يلي: أن أبا سنان، ويسمى حي بن وائل، أشار على نجدة بأن يقتل كل من أجابه تقية بعد أخذهم، ولكن نجدة قابله بعنف وشتمه قائلا له: كلف الله أحدا علم الغيب؟ قال: لا، قال: فإنما علينا أن نحكم بالظاهر. أن نجدة سير سريتين الأولى منهما بحرا والثانية برا، وعند القسمة فضل سرية البحر على سرية البر فأغضب ذلك عطية بن الأسود أحد أتباعه وغضب نجدة أيضا عليه وشتمه، فأخذ هذا يحرض الناس على الخروج عن طاعة نجدة وعصيانه. ونقم عليه أصحابه بأنه عطل حد الخمر وكان سبب ذلك أن رجلا من عسكره كان يشرب الخمر فبلغوا أمره إلى نجدة، فقال لهم: " إنه رجل شديد النكاية على العدو وقد استنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمشركين "، ولكن هذا الجواب كان غير مقنع لهم. أنه حين أغار على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعت جارية من بنات عثمان بن عفان في يد أحد جنوده فاشتراها منه وردها إلى عبد الملك بن مروان، فأغضب هذا أتباعه وقالوا له: إنك " رددت جارية لنا على عدونا ". أنه جرت بينه وبين عبد الملك مكاتبات كان عبد الملك يطلب منه الدخول في طاعته وأن يوليه اليمامة ويهدر له كل ما أصاب من مال أو دماء، فقال عطية: ما كاتبه عبد الملك إلا وهو يعرف أنه مداه في الدين. ومنها أن بعض قومه فارقوه وشرطوا لعودتهم أن يتوب علينا ففعل ذلك، ولكنهم عادوا فقالوا: إنه لا ينبغي لنا أن نستتيبه وهو الإمام وطلبوا منه أن يتوب من توبته تلك؛ فوقع بينهم الاختلاف.   (1) انظر: ((الكامل)) لابن الأثير (4/ 201)، ((الملل والنحل)) (1/ 122)، ((مقالات الأشعري)) (1/ 174)، ((تلبيس إبليس)) (ص95)، ((الفرق بين الفرق)) (ص87)، ((كتاب الأديان)) (ص101). (2) ((التنبيه والرد)) (ص55). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 أنه حكم بالشفاعة؛ وذلك حينما كلمه أصحابه في رجل فأعطاه فرسا. ونقموا عليه أيضا عطاءه مالك بن مسمع ما يقدر بعشرة آلاف درهم حين أمر عامله هميان بن عدي السدوسي بذلك (1). وهكذا ألقت تلك الأسباب الظاهرة وغيرها جوا من العداء المستحكم لنجدة، وهي في ظاهرها حجج واضحة إن صحت نسبتها إليه، ولكن الحقيقة هو أن تلك الأسباب كان لها ما يغذيها وهو التعصب القبلي بين بني حنيفة وبني قيس بن ثعلبة الذي ينتسب إليهم أبو فديك؛ حيث أراد هؤلاء نقل السلطة من يد بني حنيفة إليهم هم، وفعلا تم لهم ما أرادوا وذلك بعد تولية أبي فديك مكان نجدة الحنفي. ثم نقل أبو فديك عاصمة الحكم من اليمامة إلى البحرين مقر قبيلته قيس بن ثعلبة، وبعد قتل نجدة أصبح النجدات على ثلاث فرق؛ فريق ما زال على تأييده له، وفريق مع أبي ثور، وفريق مع عطية بن الأسود الحنفي. أما أبو فديك فقد قتل سنة 73هـ حين أرسل له عبد الملك بن مروان عمر بن عبيد الله بن الزبير معمر في عشرة آلاف مقاتل، ساروا حتى التقوا بأبي فديك في البحرين بالمشقر فدارت بينهم معركة أسفرت عن قتل أبي فديك ونزل أصحابه على حكم عمر بن عبيد الله، وقد قتل منهم نحو ستة آلاف وأسر ثمانمائة (2). وانتهى أمر أبي فديك. أما عطية فقد لاحقته جيوش المهلب بن أبي صفرة وهو يفر من قطر إلى آخر، حتى لحقته بالسند فقتل هناك وانتهى أمره. ولقد كانت فرقة النجدات من الفرق المشهورة كالأزارقة، وحينما يذكر العلماء سيرتهم يختلفون، فبينما هم عند المطلي ومن يرى رأيه خرجوا يقتلون الأطفال ويسبون النساء ويهرقون الدماء ويستحلون الفروج والأموال، وإذا هم عند آخرين من الرحماء يجوزون التقية ويرون رد الأمانات إلى أهلها وجوبا، ولم يقبلوا بقتل الأطفال، ويرون المقام بين مخالفيهم لا بأس به، وأنهم يمثلون الاتجاه المعتدل الذي يقربهم إلى آراء عامة المسلمين. وهذا نموذج لتضارب أقوال العلماء عنهم فمنهم من اشتد عليهم حتى حكم عليهم بالكفر الصريح، ومنه من قال عنهم غير ذلك. ومن الذين وقفوا منهم موقف التشدد ونسبوا إليهم الأفعال القبيحة التي تخرج الشخص من الإسلام غير الملطي، صاحب كتاب (الأديان) والدبسي (3). ومن الذين قالوا عنهم خيرا ونسبوا إليهم الاعتدال واللين في مسامحة مخالفيهم من المسلمين: ابن الجوزي، والأشعري، والبغدادي، والشهرستاني، وغيرهم (4). المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص202   (1) انظر: ((مقالات الأشعري)) (1/ 175)، ((الفرق بين الفرق)) (ص88)، ((الكامل)) لابن الأثير (4/ 205)، ((البحرين في صدر الإسلام)) (ص132). (2) انظر: ((الكامل)) لابن الأثير (4/ 362). (3) ((التنبيه والرد)) (ص 55)، ((رسالة الدبسي)) (ص26)، ((كتاب الأديان)) (ص 101). (4) ((تلبيس إبليس)) (ص95)، ((الفرق بين الفرق)) (ص89)، ((الملل والنحل)) (1/ 123)، ((البحرين في صدر الإسلام)) (ص128)، ((مقالات الأشعري)) (1/ 175). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 المطلب الرابع: الإباضية زعيمهم الأول والحقيقي الذي يقدمونه على كل أحد هو جابر بن زيد الأزدي – كما تذكر مصادرهم – ونسبوا إلى عبد الله بن إباض لشهرة مواقفه مع الحكام المخالفين لهم، وقد اشتهروا بهذا الاسم عند جميع من كتب عن الفرق، لم يخالف في هذا إلا من شذ. اتفقوا جميعا على أنه عبد الله بن يحيى بن إباض المري من بني مرة بن عبيد وينسب إلى بني تميم، ولكن سماه الملطي " إباض بن عمرو" (1). وهذا خروج على ما ذكره الجمهور من صحة اسمه، والغريب أن الملطي ذكر بعد صفحات اسمه الصحيح فقال: " ومنهم الإباضية سموا بعبد الله بن إباض" (2).أما صاحب إبانة المناهج فقد سماه يحيى بن عبد الله بن الإباضي (3)، وقد كان ابن إباض معاصرا لابن الزبير مع الخوارج الذين حاربوا معه ضد جيوش الشام كما يذكر ذلك الحافظ ابن كثير (4). ولعل شبهة من سماه يحيى بن عبد الله أن التبس عليه اسم إباض باسم يحيى بن عبد الله طالب الحق – كما ذكرنا من قبل-، وهو الذي ثار بالجزيرة العربية باليمن. ولعل هذا الاختلاف في اسمه هو الذي حدا بابن حزم إلى أن يذكر أن الإباضية لا يعرفون ابن إباض وأنه شخص مجهول (5). وهو بلا شك مبالغ في هذا الحكم، والصحيح أنهم يعرفونه ويعترفون به كما تذكر مصادرهم ذلك. فقد رد عليه علي بن يحيى معمر في كتابه الإباضية لا يعرفون عبد الله بن إباض غير صحيح بل يعرفونه ويعرفون كل تاريخه، وأن قول إنهم يتبرأون منه تناقض من ابن حزم إذ كيف يتبرأون من إنسان لا يعرفونه؟! (6).ثم نتساءل من أين لهم نسبة الإباضية إذا لم يكن ابن إباض من أوائلهم، ويقول البغدادي في هذا: " اجتمعت الإباضية على القول بإمامة عبد الله بن إباض " (7). ويقول السالمي: إنا ندين بتصويب الأولي نكروا ... حكومة الحكمية حينما جهلا والراسبي أولي بعد جملتهم ... ومن به نسب الإسلام قد وصلا عنيت نجل إباض فهو حجتنا ... أما ترى فخره للمسلمين جلا (8). ويرى الشهرستاني أن خروج عبد الله بن إباض كان في زمن مروان بن محمد فوجه إليه عبد الله بن محمد بن عطية فقاتله بتبالة (9)، ولكن هذا غير صحيح؛ فإن عبد الله بن إباض توفي في أواخر أيام عبد الملك بن مروان. وفي هذا يقول علي يحيى معمر: " كثير من المؤرخين وأصحاب المقالات يحسبون أن عبد الله بن إباض خرج في أيام مروان بن محمد وأنه قتل في معركة تبالة، وهو خطأ تاريخي؛ لأن عبد الله بن إباض الذي تنسب إليه الإباضية توفي في أواخر أيام عبد الملك وهو أكبر من جابر في السن وتابع له في المذهب والرأي، ونسب المذهب إليه لأنه كان أكثر ظهورا في الميدان السياسي عند الدولة الأموية والتسمية منها " (10).   (1) ((التنبيه والرد)) (ص55). (2) ((التنبيه والرد)) (ص168). (3) ((إبانة المناهج)) (ص155). (4) ((البداية والنهاية)) (7/ 239). (5) ((الفصل)) (4/ 191). (6) ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص 48 - 50). (7) ((الفرق بين الفرق)) (ص 103)، وانظر: ((الكامل)) للمبرد (2/ 179). (8) ((غاية المراد)) (ص18). (9) ((الملل والنحل)) (1/ 134) .. (10) ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص353). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 وهكذا يقول عمرو خليفة النامي في مقدمة كتاب (أجوبة ابن خلفون)، فهو يذكر أن مؤسس المذهب الإباضي هو أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي وهو من أخص تلاميذ ابن عباس. ثم يذكر أن نسبة المذهب الإباضي إلى ابن إباض – وهو تابعي أيضا عاصر معاوية وتوفي في أواخر أيام عبد الملك بن مروان – نسبة عرضية كان سببها بعض المواقف الكلامية والسياسية التي اشتهر بها ابن إباض وتميز بها فنسب المذهب الإباضي إليه، ولم يستعمل الإباضية في تاريخهم المبكر هذه النسبة فكانوا يستعملون عبارة " جماعة المسلمين " أو " أهل الدعوة "، وأول ما ظهر استعمالهم لكلمة الإباضية كان في أواخر القرن الثالث الهجري (1)، حسبما يذهب إليه ابن خلفون. أما فرقة الإباضية نفسها فقد اشتهرت باللين والمسامحة تجاه مخالفيهم وهذا ما يذكره أكثر علماء التاريخ والفرق، ولكن نجد بين العلماء من يذكر خلاف هذا كالملطي فإنه يقول عنهم: " الإباضية أصحاب إباض بن عمرو، خرجوا من سواد الكوفة فقتلوا الناس وسبوا الذرية وقتلوا الأطفال وكفروا الأمة وأفسدوا في العباد والبلاد " (2).أما الدبسي فهو لا يقل عنه عنفا فقد قال: " الفرقة السادسة من فرق الخوارج: الإباضية، يجب تكفيرهم لأنهم كفروا عليا رضي الله عنه وأكثر الصحابة " (3). بينما نراهم عند بعض العلماء أهل تواضع فهم " لا يسمون إمامهم أمير المؤمنين ولا أنفسهم مهاجرين " (4).ونرى أن منهم من يذكر أن قول عبد الله بن إباض هو أقرب الأقاويل إلى السنة (5)، كما يستفيض النقل عنهم بأن معاملتهم لمخالفيهم تتسم بكثير من التسامح واللين وهكذا. ويقول الأستاذ أبو زهرة: " الإباضية هم أتباع عبد الله بن إباض وهم أكثر الخوارج اعتدالا وأقربهم إلى الجماعة الإسلامية تفكيرا، فهم أبعدهم عن الشطط والغلو، ولذلك بقوا ولهم فقه جيد وفيهم علماء ممتازون (6). . الخ ".والواقع أن الإباضية شديدو التمسك بمذهبهم يبغضون غيره من المذاهب ويرون أنها كلها باطلة ما عدا مذهبهم، وفي ذلك يقول العيزاني: " الحمد لله الذي جعل الحق مع واحد في الديانات، فنقول معشر الإباضية الوهبية: الحق ما نحن عليه والباطل ما عليه خصومنا، لأن الحق عند الله واحد، ومذهبنا في الفروع صواب يحتمل الخطأ، ومذهب مخالفينا خطأ يحتمل الصدق " (7).وهذا نموذج ومن أراد الزيادة في هذا فليراجع كتب الإباضية مثل: اللمعة المرضية من أشعة الإباضية، وكتاب (الدليل لأهل العقول)، وكذا مخطوطة المارغيني (8) .. الخ. وهذا وقد انقسمت الإباضية إلى فرق منها ما يعترفون بها ومنها ما ينكرونها. وأولى هذه الفروق:   (1) ((أجوبة ابن خلفون)) (ص9). (2) ((التنبيه والرد)) (ص168). (3) ((رسالة الدبسي)) (ص27). (4) ((الملل والنحل)) (1/ 134). (5) ((الكامل)) للمبرد (2/ 180). (6) ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (1/ 85). (7) ((الحجة في بيان المحجة)) (ص 37). (8) ((اللمعة المرضية من أشعة الإباضية)) (ص 54 – 67)، ((الدليل لأهل العقول)) (ص 22، 35)، و ((مخطوطة المارغيني)) (ص 13). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 الحفصية: وزعيمهم يسمى حفص بن أبي المقدام وله أقوال تخرجه عن الإسلام: كإنكاره النبوة وإنكاره الجنة والنار واستحلال كثير من المحرمات. وقد أثبت علماء الفرق بأنها أولى فرق الإباضية (1)، ولكن علي يحيى معمر ينفي أن تكون هذه الفرقة من الإباضية أشد النفي بل ويشك فيها وفي وجودها، وينكر أن يكون لهذه الفرقة أو زعيمها ذكر في كتب الإباضية (2).والفرقة الثانية من الإباضية تسمى اليزيدية نسبة إلى إمامهم المسمى يزيد بن أنيسة أو ابن أبي أنيسة كما يسميه بعضهم. وليزيد هذا من الأقوال ما تخرجه عن الإسلام صراحة، كاعتقاده مجيء رسول غير محمد صلى الله عليه وسلم (3) وكقوله: إن في هذه الأمة شاهدين عليها هو أحدهما والآخر لا يدري من هو ولا متى هو، ولا يدري لعله قد كان قبله (4) ... إلى غير هذا من الخلط. ورغم أن علماء الفرق قد قالوا بأن هذه الفرقة من الإباضية إلا أن علي يحيى معمر ينفيها كما نفى الفرقة السابقة وهي الحفصية (5)، ويستغرب من أبي الحسن كيف نسبها إلى الإباضية مع أنه حكم عليها بالكفر في قوله: " فترك يزيد بن أنيسة شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ودان بشريعة غيرها ".والفرقة الثالثة تسمى الحارثية نسبة إلى حارث بن يزيد الإباضي. وهذه الفرقة تزعم أنه لم يكن لهم إمام بعد المحكمة الأولى إلا عبد الله بن إباض وبعده حارث بن يزيد الإباضي (6)، ورغم هذا فإن علي يحيى معمر يقول عنه: " وهذا الحارث أيضا لم يحرث عن الإباضية ولم يزرع لا آراء ولا حبوبا ولم يحصد الإباضية عنه أو عن فرقته شيئا إن كان حقا حرث في أي مكان" (7).والفرقة الرابعة من فرق الإباضية يسميها أصحاب المقالات " أصحاب طاعة لا يراد بها الله؛ وذلك لاعتقادهم بأن الشخص قد يفعل شيئا من أوامر الله دون قصد الله بذلك العمل ولا إرادة له في تنفيذ أمر الله، ولكنه مع هذا يكون مطيعا لله، وهي مسألة تافهة لا يخرج الناظر فيها بفائدة. وهذه الفرقة من الفرق التي تنسب إلى الإباضية حسب ما ذكره الأشعري والبغدادي والشهرستاني والدبس (8).غير أن علي يحيى معمر الذي نفى تلك الفرق السابقة نفى هذه أيضا ورد على من قال بإدخالها في الإباضية ردا عنيفا، كما في قوله وهو يرد على الأشعري: " ويبدو أن أبا الحسن لم يجد لهذه الفرقة إماما فلم يذكر لها إماما وإنما جاء يسوق أتباعها لها كما يساق القطيع حتى أدخلهم في حظيرة الإباضية وتركهم. . وعلى كل حال فهذه فرقة ليس لها إمام وليس لها اسم وكل ما في الأمر أنه نسب إليها قول يناقض مناقضة كاملة ما عند الإباضية في هذا الموضوع " (9). وفيما يتعلق بنفي علي يحيى معمر لصحة انتساب الفرق السابقة إلى الإباضية فإن انحراف زعماء هذه الفرق في آرائهم لا يقوم دليلا قاطعا على عدم انتسابهم إلى الإباضية؛ إذ يجوز أن يكون هؤلاء الزعماء كانوا في صفوف الإباضية ثم انفصلوا عنها بآرائهم الشاذة وبمن شايعهم على تلك الآراء، وتظل نسبتهم إلى الإباضية بعد ذلك ثابتة نظرا لكونهم في صفوف الإباضيين في الأصل.   (1) انظر: ((مقالات الأشعري)) (1/ 183)، ((الفرق بين الفرق)) (ص104)، ((الملل والنحل)) (1/ 135)، ((الفصل)) لابن حزم (4/ 191). (2) ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص21). (3) ((مقالات الأشعري)) (1/ 184)، ((الفرق بين الفرق)) (ص279)، الملل والنحل (1/ 136). (4) ((الفصل)) لابن حزم (4/ 188). (5) ((الإباضية بين الفرق)) (ص22). (6) ((الفرق بين الفرق)) (ص105). (7) ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص22). (8) انظر: ((مقالات الأشعري)) (1/ 185)، ((الفرق بين الفرق)) (ص105)، ((الملل والنحل)) (1/ 135)، ((رسالة الدبس)) (ص28). (9) ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص23). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 وهناك ست فرق للإباضية في المغرب، هي: النكار، النفاثية، الخلفية، الحسينية، السكاكية، الفرثية. الفرقة الأولى: النكار: وتسمى أيضا النكاث والنجوية والشغبية، ظهرت سنة 171هـ بزعامة أبي قدامة يزيد بن فندين الذي انشق عن الإباضية لسبب سياسي، وذلك أن عبد الرحمن بن رستم حينما أحس بدنو أجله عين لمن يلي الخلافة بعده سبعة أفراد يختار الناس من بينهم من ارتضوه، وكان من بين هؤلاء السبعة ولده عبد الوهاب وأبو قدامة، وبعد الخوض في الموضوع انتخبوا عبد الوهاب، وحين أريد أبو قدامة للمبايعة بايع ولكنه شرط في بيعته قوله: " نبايع على ألا يقضي في شيء دون مشورة جماعة مخصوصة من الناس "، ولكن رد عليه أحد الحاضرين بقوله: " لا نعرف شرطا للبيعة إلا العمل بكتاب الله وسيرة السلف الصالحين ". ثم أغفل هذا الموضوع وتمت البيعة لعبد الوهاب، إلا أن يزيد بن فندين كان يستثيره التطلع إلى الخلافة والحكم فأعلن أن بيعة عبد الوهاب باطلة لأنه لم ينفذ الشرط الذي اشترطه يزيد وهو استشارة تلك الجماعة، ثم قام بمحاولة انقلاب كان هو نفسه ضحيتها، وقد أوضحنا ذلك عند كلامنا عن دولة الخوارج بالمغرب. ثم تزعم النكار بعده رجل يسمى أبا معروف شعيب بن معروف ومن هنا أخذت حركة النكار في التوسع إلى أن قضى عليها العبيديون في حروب طاحنة، ومن أهم مبادئها أنه لا تصح إمامة المفضول مع وجود الأفضل منه، وأنه يصح الاشتراط عند مبايعة الحاكم وإذا خالف تلك الشروط بطلت بيعته. ولهذا فهم يبررون خروجهم على عبد الوهاب بأنه لم يف بتلك الشروط التي اشترطوها حين البيعة. وقد كفرهم المارغيني وذكر عددا من رجالاتهم بقوله: " قالت المشائخ بتكفير النكار الفرقة الملحدة في الأسماء، وأولهم عبد الله بن يزيد الفزاري، وعبد الله بن عبد العزيز، وأبو المؤرخ عمرو بن محمد السدومي، وشعيب بن معروف، وحاتم بن منصور، ويزيد بن فندين، وأبو المتوكل ". ثم استرسل في ذكر كثير من آرائهم التي نقمها عليهم وإن لم يذكر منها شيئا صالحا لتبرير ما ذهب إليه في تكفيرهم. ويقول أبو إسحاق أطفيش: إنهم سموا نكاثا لنكثهم بيعة الإمام عبد الوهاب، وسموا نجوية لكثرة تناجيهم ليلة تآمرهم على قتل الإمام. ولمزيد من الإيضاح لتلك الوقائع المؤلمة بين ابن فندين والإمام عبد الوهاب ارجع إلى " الأزهار الرياضية "، فقد توسع كثيرا في هذا الموضوع، ولترى الحيلة التي دبرها ابن فندين وأتباعه لاغتيال عبد الوهاب، وكيف نجا منها، وهي حيلة إن صحت فهي أشبه ما تكون بحيل الصبيان السذج. الفرقة الثانية: النفاثية: هذه الفرقة تنسب إلى رجل يسمى فرجان نصر النفوسي ويعرف بنفاث، وسماه المارغيني نفاث بن نصر النفوسي ويوصف بأنه كان على جانب كبير من الذكاء والفهم العجيب، وكانت نفسه ميالة إلى أن يتولى منصبا كبيرا في دولة إمام الإباضية أفلح بن عبد الوهاب وبالذات ولاية فنطرار المنطقة التي يعيش فيها فرجان، وحين خاب أمله أخذ في انتقاد الإمام أفلح علنا، فكتب الإمام إلى أهل مملكته بمقاطعته وهجره، وحين ضاقت على فرجان السبل ذهب إلى بغداد وأقام مدة ولكنه لم يطب له المقام فرجع إلى بلده، وهنا تختلف الرواية عنه فبعضهم يرى أنه تاب وبعضهم يرى أنه كان يعمل في السر ضد أفلح. وأهم ما أثاره من آراء: أنه أنكر الخطبة في الجمعة وقال إنها بدعة. وأنكر إرسال الإمام الجباة لأخذ الزكاة. وأنه يرى أن ابن الأخ الشقيق أحق بالميراث من الأخ لأب. وأن بيع المضطر بالجوع لا ينفذ. وهناك انتقادات على أفلح بخصوصه وهي انتقادات شخصية، وقد كفرهم المارغيني بعد أن ذكر غير هذه الأقوال. الفرقة الثالثة: الخلفية: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 من فرق الإباضية بالمغرب الخلفية، هذه الفرقة تنسب إلى خلف بن السمح بن أبي الخطاب عبد الأعلى المعافري، كان جده إماما للإباضية في المغرب، ثم عين السمح واليا من قبل إمام الإباضية حينذاك عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم، ثم توفي السمح فبادر الناس بتولية خلف دون استشارة الإمام وبدأ يتصرف تصرف الولاة. ولكن حين بلغت هذه الأحداث الإمام عبد الوهاب رأى أن هذا التصرف غير صحيح ولا يمكن التغاضي عنه فكتب إلى خلف يلومه على تصرفه بتلك العجلة وأمره باعتزال أمر الناس، ولكن خلفا قد ذاق حلاوة الحكم فلم يمتثل لأمره، وهنا بدأت الفتنة في الظهور وصار كل واحد يعد العدة للآخر ووقعت الحروب الطويلة بينهما التي انتهت بانتصار الإمام وهزيمة خلف ونهايته. هذا ما قاله علي يحيى معمر. ويقول المارغيني عنهم: " فليس بيننا وبينهم مسائل إلا واحدة وهي قولهم لكل حوزة إمام لا يعدوها إلى غيرها، وضلوا ضلالا بعيدا لخلافهم الإجماع ونقضهم ما سارت به الأمة أجمعين ". الفرقة الرابعة: الحسينية: أما الفرقة الرابعة من تلك الفرق فهي الحسينية وتنسب إلى رجل يسمى أحمد بن الحسين الأطرابلسي ويلقب أبا زياد، ظهر في القرن الثالث الهجري ويذكر أن له مؤلفات ولكن لم تعرف، وقد امتزجت فرقته بفرقة أخرى تسمى العمدية تنتسب إلى عبد الله بن مسعود، وهي فرقة غامضة فيما يظهر ولهم بعض الآراء كقولهم بأنه يسع الشخص جهل معرفة محمد عليه الصلاة والسلام، وأباحوا الزنا وأخذ الأموال لمن أكره على ذلك يتقي بها ويغرم بعد ذلك، وأن حجة الله تنال بالتفكر في دين الله اضطرارا، وقالوا بأن الله لم ينه المشركين والبالغين عن غير الشرك ولم يأمرهم بغير التوحيد، فإذا وجدوا لزمتهم جميع الفرائض ونهوا عن جميع المعاصي. . الخ آرائهم. ولهم عند المارغيني أقوال أخرى غير هذه، وقد كفرهم أيضا. الفرقة الخامسة: السكاكية: تنسب هذه الفرقة إلى عبد الله السكاك اللواتي وهو من سكان بلدة فنطرار، كان صائغا ماهرا وله إلمام واسع بالكتب فخالف الإباضية في مسائل كثيرة ووجد له أتباعا كثيرين. وكانت الإباضية تعامل أتباعه بأقسى المعاملة بحيث أنهم كانوا إذا مات فيهم سكاكي ربطوا في رجليه حبلا ثم جروه إلى حفرة فيلقى فيها دون صلاة ولا كفن، وقد حكموا على أتباعه بأنهم مشركون وبعضهم يقول بأنهم منافقون، وكانت لهم آراء في غاية البعد والسقوط ومنها: أنهم أنكروا السنة والإجماع والرأي، وزعموا أن الدين يفهم من القرآن فحسب. ويقولون بأن صلاة الجماعة بدعة. ويقولون بأن الآذان بدعة فإذا سمعوه قالوا نهق الحمار. ويقولون لا تجوز الصلاة إلا بمعرفة تفسيره من القرآن. الفرقة السادسة: الفرثية: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 وأخيرا تأتي الفرقة السادسة من فرق الإباضية بالمغرب وهي فرقة الفرثية، وتنسب إلى عالم من علماء الإباضية وهو أبو سليمان بن يعقوب بن أفلح كان بيته بيت علم وفتوى وقد انفرد أو خرج عن جمهور الإباضية ببعض الآراء التي جرت عليه نقمتهم، ومن هذه الآراء أنه كان يرى أن الزكاة لا ينبغي إخراجها عن قرابة المزكي، وأن أكل الجنين لا يجوز، وحرم الديمقراطية العروق ولو بعد غسل مكان الذبح، وكان يرى بأن عرق الجنب والحائض نجسان. ومع أن مؤرخي الفرق يعدون هذه الفرق الست من الإباضية فإن علي يحيى معمر قد نفى كونها من الإباضية، ونفى أن تكون بعضها مجرد فرقة بل هم عنده أناس غضبوا على الحكم فخرجوا عنه كما يخرج غيرهم عن حكامهم، بينما المارغيني منهم يقول بعد نهايته لبحثهم: " وهذه فرق ست من الإباضية قد بينا ما ألحدوا فيه ولم يقصدوا " (1).العجاردة: تنسب العجاردة إلى رجل يسمى عبد الكريم بن عجرد، وقد اختلف في مبدأ أمره فذهب الأشعري والبغدادي إلى أنه كان من أصحاب عطية بن الأسود الحنفي (2).وذهب صاحب كتاب (الأديان) (3) إلى أنه ينتسب إلى رجل يسمى أبا سعيد ثم خالفه، وذهب الشهرستاني (4) إلى أنه - على قول – كان من أصحاب أبي بيهس ثم خالفه، ويذكر بعضهم أنه كان من أهل بلخ. والعجاردة أو الجردية كما يسميها الملطي (5) فرقة من فرق الخوارج الكبيرة، وقد انقسمت فيما بينها إلى فرق كثيرة اختلف أهل المقالات في عددهم لكثرة تفرعهم، وكان تجمعهم في منطقة خراسان وهم أكثر الخوارج بها. وفرقهم إجمالا عند الأشعري (6) خمس عشرة فرقة بما في ذلك الفرق الفرعية للثعالبة إحدى فرق العجاردة وهي الفرقة الأولى منهم:   (1) راجع في بحث تلك الفرق ((مخطوطة المارغيني)) في افتراق فرق الإباضية الست بالمغرب (ص 1 - 7)، وانظر: كتاب ((الإباضية بين الفرق)) (ص 258 – 278)، وانظر: تعليق أبي إسحاق أطفيش على كتاب ((الوضع للجناوني))، وانظر: كتاب ((الأزهار الرياضية)) (2/ 148 – 152، 167، 174، 102 – 112)، وكذا (ص 206). (2) انظر: ((مقالات الأشعري)) (1/ 177)، ((الفرق بين الفرق)) (ص93). (3) كتاب ((الأديان والفرق)) (ص 104). (4) ((الملل والنحل)) (1/ 128). (5) ((التنبيه والرد)) (ص 168). (6) ((المقالات)) (1/ 177، 182). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 الميمونة/الخلفية/الحمزية/الشعيبية/الخازمية/المعلومية/المجهولية/الصلتية/الثعالبة/الأخنسية/المعبدية/الشيبانية/الرشيدية/ المكرمية. أما عند البغدادي (1) فهي عشر فرق. وزاد الشهرستاني (2) على الأشعري فذكر فرقة تسمى الأطرافية منفصلة عن الحمزية. وعند الدبسي (3) عشر فرق إلا أنه سمى الصلتية المصلبة ولم يكفر من تلك الفرق إلا الشيبانية، وذلك " لأنهم قالوا بالجبر ونفي القدرة الحادثة كالجبرية "، وقد جعل ابن حزم (4) العجاردة فرقة من الصفرية وذكرها غيره بأنها فرقة قائمة بنفسها انشقت عن العطوية أو البيهسية كما تقدم. وفيما يلي نقدم تعريفا موجزا بفرق العجاردة السابقة. الفرقة الأولى منهم ذكرها الأشعري وذكر لها رأيا واحدا في الأطفال، وهو أنهم " يزعمون أنه يجب أن يدعى الطفل إذا بلغ، وتجب البراءة منه قبل ذلك حتى يدعى إلى الإسلام ويصفه هو " (5). الميمونية: وهم أتباع ميمون بن خالد كان من العجاردة وهو من أهل بلخ كما ذكر الأشعري، وقد خرج ميمون عن العجاردة بسبب ميله إلى القدرية وقوله بأن خير العبد وشره من نفسه، وإثبات الفعل للعبد خلقا وإبداعا، ووافقهم في الاستطاعة وقال بأنها تكون قبل الفعل وفي الإرادة أيضا؛ فقد قال بأن الله تعالى يريد الخير ولا يريد الشر وأنه لا يريد معاصي العباد ولا مشيئة له في ذلك. وقد كفرهم علماء الفرق لما عرف عنهم من أقوال تخرج صاحبها عن الإسلام كاستحلالهم نكاح ذوات المحارم، وإنكار سورة يوسف أنها من القرآن (6).الخلفية: وهي الفرقة الثالثة من فرق العجاردة قال الأشعري إنهم " أصحاب رجل يقال له خلف "، وقال الشهرستاني: " الخلفية أصحاب خلف الخارجي وهم خوارج كرمان ومكران " (7). الحمزية: تنسب هذه الفرقة إلى رجل يسمى حمزة بن أكرك أو أدرك كما يقول الشهرستاني، ظهر سنة 179 في خلافة هارون الرشيد وغلب على خراسان وسجستان ومكران وقهستان وكرمان، وكان له أتباع كثيرون وكان له معارك عنيفة مع بعض فرق الخوارج وهزم الجيوش، وعاث في الأرض فسادا لا يقف في طريقه أحد إلا استحل دمه فخافه الناس وكانوا على وجل منه.   (1) ((الفرق بين الفرق)) (ص 94). (2) ((الملل والنحل)) (1/ 130). (3) ((رسالة الدبس)) (ص 31). (4) ((الفصل)) (4/ 190). (5) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 177). (6) انظر: ((كتاب الأديان والفرق)) (ص 104)، ((مقالات الأشعري)) (1/ 178)، ((الفرق بين الفرق)) (ص280)، ((الملل والنحل)) (1/ 129). (7) انظر: ((كتاب المقالات)) (1/ 177)، ((الملل والنحل)) (1/ 130). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 فكان كلما أرسل إليه جيش لمحاربته هزمه إلى أن انتصب لحربه والي خراسان علي بن عيسى بن ماديان فنصره الله عليه وقتل من قواده ستين قائدا سوى أتباعه، فانهزم إلى سجستان ومنها إلى نهر شعبة، ثم بسط نفوذه على خراسان وكرمان وقهستان وسجستان إلى أن تمكن المأمون من إخماد الثورات التي كانت تشغله، فكتب إلى حمزة كتابا يدعوه فيه إلى الدخول في طاعته فتعاظم حمزة هذا الأمر واستكبر، فأرسل إليه المأمون قائده الشجاع طاهر بن الحسين فدارت بينهم معارك رهيبة انهزم في نهايتها حمزة وهرب إلى كرمان، ثم عاد طاهر بن الحسين فطمع حمزة حينئذ في استعادة ملكه وخرج بجيشه من كرمان ولكن الله قيض له والي نيسابور عبد الرحمن النيسابوري حيث خرج إليه في عشرين ألف مقاتل فهزمه وقتل أكثر جيشه، فنجا حمزة من هذه المعركة مستخفيا بنفسه حيث مات بعد ذلك فاستراح منه الناس وتفرق من بقي من أتباعه. يقول الملطي عن فرقة الحمزية: "وأما الفرقة الثامنة فهم الحمزية يقولون بكل قول الحرورية غير إنهم لا يستحلون أخذ مال أحد حتى يقتلوه، فإن لم يجدوا صاحب المال لم يتناولوا من ذلك المال شيئا دون أن يظهر صاحبه فيقتلوه، فإذا قتلوه حينئذ استحلوا ماله، قد جعلوا هذا شريعة لهم" (1). ولعلهم يبنون استحلالهم للمال بعد قتل صاحبه على أنه غنيمة حربية. ويقول عنهم الدبس: "الفرقة الثانية من العجاردة الحمزية يجب تكفيرهم لأنهم وافقوا الميمونة إلا أنهم قالوا أطفال الكفار في النار".ومن الحمزية فرقة تسمى الأطرافية ورئيسهم يسمى غالب بن شباذك السجستاني، وقد سموا الأطرافية نسبة إلى مذهبهم القاضي بعذر أهل الأطراف في ترك ما لم يعرفوه ولو كان من صميم الشريعة، إذا فعلوا بعقولهم ما يوجبه العقل من الأمور (2). 5 - الشعيبية: هذه فرقة صغيرة تنسب إلى رجل يسمى شعيب بن محمد كان من جملة العجاردة إلا أنه خرج حين قال بالقدر ووافق القدرية، وقد كفرهم الدبس أيضا كسابقتها. 6 - الخارمية: يسميها الأشعري الخازمية بالخاء، ومثله البغدادي، ويسميها الشهرستاني الحازمية وهم أتباع حازم بن علي وهم أكثر عجاردة سجستان، وقد كفرهم الدبس، وكانوا يعتقدون في القدر بالإثبات كأهل السنة وبأن الولاية والعداوة من صفات الله الذاتية، وقالوا بأن الله يتولى الشخص بحسب ما يصير إليه بعد موته. 7 - 8 - المعلومية والمجهولية: هاتان الفرقتان كانتا من الخازمية ثم انفصلتا عن الخازمية لآراء أحدثوها، ثم انفصلت كل منهما عن الأخرى وكفرت إحداهما الأخرى في مسألة معرفة الله بجميع أسمائه فالمعلومية ترى "أن من لم يعرف الله تعالى بجميع أسمائه فهو جاهل به والجاهل به كافر"، بينما ترى المجهولية أن "من عرف الله ببعض أسمائه فقد عرفه" وبهذا كفرت المعلومية" (3).   (1) ([8229]) انظر: ((مقالات الأشعري)) (1/ 177)، ((الفرق بين الفرق)) (ص98، 100)، ((الملل والنحل)) (1/ 129)، ((التنبيه والرد)) (ص56)، ((رسالة الدبس)) (ص 29). (2) ([8230]) ((الملل والنحل)) (1/ 130)، ((رسالة الدبس)) (ص 30). (3) ([8231]) ((المقالات)) (1/ 178)، ((الفرق بين الفرق)) (ص94، 95، 100)، ((الملل والنحل)) (1/ 131، 133)، ((رسالة الدبس)) (ص 29). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 9 - الصلتية: اختلف أهل المقالات في اسم زعيم هذه الفرقة؛ فهو عند الأشعري والشهرستاني عثمان بن أبي الصلت، وهو من العجاردة الحمزية ولكنه خرج عنهم بما قرره من آراء تخالفهم. وفرقته عند أهل المقالات تسمى الصلتية ولكن الملطي سماها الصليدية وسماها الدبس المصلبة ثم كفرها. ويقول الملطي عن هذه الفرقة: "والفرقة التاسعة الصليدية من الحمزية أيضا، يقولون بقول الحرورية والحمزية ويقتلون ويستحلون الأموال على الأحوال كلها، وهم أشر الخوارج وأقذرهم وأكثرهم فسادا ولهم عدد وجمع بناحية سجستان ونواحيها" (1). 10 - الثعالبة: الثعالبة فرقة من العجاردة ولكنها انفصلت عنها بزعامة ثعلبة بن مشكان كما سماه البغدادي، والشهرستاني سماه ثعلبة بن عامر، وسبب انفصال ثعلبة عن عبد الكريم أن رجلا خطب بنت ثعلبة فطلب من ثعلبة بيان المهر، وقيل أن يخبره الخاطب بالمهر أرسل امرأة لترى البنت هل هي بالغ معترفة بالإسلام على الشرط المطلوب أم لا. فقالت أمها للمرأة: هي مسلمة سواء بلغت أم لا. وتطور الأمر إلى أن بلغ عبد الكريم بن عجرد وثعلبة، فكان رأي عبد الكريم أن من كان دون البلوغ في حكم البراءة إلى أن يبلغ فيقر بالإسلام وحينئذ تتم ولايته وإلا فيتبرأ منه، ولكن ثعلبة خالفه وقال: نحن على ولايتهم صغارا وكبارا إلى أن يتبين أمرهم، واشتد بينهما النزاع حتى تبرأ كل واحد من الآخر وانفصل كل واحد بمن وافقه عن الآخر، وصارت الثعالبة فرقة برأسها. وقد انقسمت هذه الفرقة أيضا إلى الفرق الآتية: الفرقة الأولى: الأخنسية: وينسبون إلى رئيسهم الأخنس بن قيس وقد خرج عن قول الثعالبة حين توقف عن جميع من في دار التقية من منتحلي الإسلام وأهل القبلة، وحرم الاغتيال والقتل قبل الدعوة فبرئت منهم الثعالبة (2).الفرقة الثانية: المعبدية: تنسب هذه الفرقة إلى رجل يسمى معبد بن عبد الرحمن، وكان من الثعالبة ثم من الأخنسية، ولكنه خالف الثعالبة والأخنسية فبرئت منه كلتا الفرقتين، خالف الثعالبة في تجويزهم أخذ زكاة عبيدهم وإعطاءهم منها إذا افترقوا، وخالف الأخنسية في الخطأ الذي وقع له في تزويج المسلمات من مشرك، وهذه عبارة الشهرستاني ولم يذكر غيره أن الأخنس جوز تزويج المسلمات من المشركين (3).الفرقة الثالثة من الثعالبة: الشيبانية: تنسب هذه الفرقة إلى شيبان بن سلمة، خرج من أيام أبي مسلم الخراساني فأعان شيبان وناصره في حربه، وناصر أيضا علي بن الكرماني على نصر بن سيار وكان من الثعالبة. فعند ذلك برئت منه الثعالبة وقالوا إنه قتل الموافقين لنا في المذهب وأخذ أموالهم، فادعى قوم من الثعالبة أن شيبان قد تاب ولكن الزيادية من الثعالبة أتباع زياد بن عبد الرحمن رفضوا توبته بحجة أن ذنوبه كانت من مظالم العباد التي لا تسقط بالتوبة، ثم انقسموا فيه فمن قبل توبته صار شيبانيا وقال بقوله، ومن رفضها برئ منه (4). الفرقة الرابعة: الرشيدية أو العشرية: وهم ينسبون إلى رشيد الطوسي الذي خرج عن الثعالبة حين أصر على أن زكاة ما سقي بالأنهار والقنى العشر، فبرئت منه الثعالبة وسموهم العشرية، وكان الذي أفتى بأن فيها العشر هو زياد بن عبد الرحمن وكان فقيه الثعلبية ورئيسهم، وكانت له فرقة تسمى الزيادية وهم أعظم الثعالبة وأكثرهم عددا. أما الفرقة الخامسة والأخيرة من الثعالبة ومن العجاردة أيضا: المكرمية: تنسب هذه الفرقة إلى رجل يسمى مكرم بن عبد الله العجلي كما قال الشهرستاني، وسماه الأشعري وابن حزم أبا مكرم وكان ثعلبيا إلا أنه تفرد عنهم بآراء فبرئت منه الثعالبة عند ذلك (5). المصدر: انظر عن الإباضية أيضا ما يأتي في فرقة الخوارج المعاصرة مبحث دولة الخوارج (الإباضية)   (1) ([8232]) انظر: ((مقالات الأشعري)) (1/ 179)، ((التنبيه والرد)) (ص57)، ((رسالة الدبس)) (ص 30)، ((الفرق بين الفرق)) (ص97)، ((الملل والنحل)) (1/ 129). (2) ([8233]) ((المقالات)) (1/ 180)، ((الملل والنحل)) (1/ 131)، ((الفرق بين الفرق)) (ص 100). (3) ([8234]) ((المقالات)) (1/ 180)، ((الفرق بين الفرق)) (ص 101)، ((الملل والنحل)) (1/ 132). (4) ([8235]) ((المقالات)) (1/ 180)، ((الفرق بين الفرق)) (ص 101)، ((الملل والنحل)) (1/ 132). (5) ([8236]) انظر: ((المقالات)) (1/ 180، 182)، وانظر: ((الملل والنحل)) (1/ 132) وانظر: ((الفصل)) لابن حزم (4/ 190). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 المطلب الخامس: البيهسية وهي إحدى الفرق الرئيسية للخوارج وتنسب إلى أبي بيهس وقد اقتصر الأشعري وابن حزم وصاحب إبانة المناهج على هذه الكنية، ولكنه عند البغدادي هيصم بن عامر، وعند الشهرستاني ابن جابر، وهو أحد بني سعد بن ضبيعة. وأما الملطي فيسميه هيصم بن بيهس بن عامر، وهو خلط في الاسم، ويسميه محمد رشيد رضا بيهس بن جابر، وعند صاحب كتاب (الأديان) الهيضم – بالضاد – بن جابر. وقد أحدث أمورا غضب عليه الحجاج بسببها وذلك في خلافة الوليد بن عبد الملك، فطلب الحجاج أبا بيهس فهرب إلى المدينة فطلبه بها عثمان بن حيان المزيني فظفر به فأودعه السجن، وكان له علاقة وصحبة ومسامرة مع عثمان ولكن هذه الصحبة فقدت عندما جاء الأمر من الوليد بقطع يدي أبي بيهس ورجليه ثم بقتله بعد ذلك؛ فنفذ عثمان هذا الأمر، ومثل بأبي بيهس تلك المثلة المنكرة ثم قتله. يقول صاحب كتاب (الأديان) عنه أنه "ابتدع أشياء لم يبتدعها أحد قبله، منها أنه استحل الهدي قبل محله، والله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ [المائدة:2]، ولم يزل بهم الشيطان حتى استحلوا نكاح المجوس ما لم يستحله أحد ممن مضى، واستحل أكل كل ذي مخلب من الطير وذي ناب من السباع. وذهب إلى قوله تعالى: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [الأنعام: 145] , وما سوى ذلك عنده حلال". إلى أن يقول: "ومن عجائبه أن الإمام إذا كفر كفرت الرعية الشاهد منهم والغائب". . الخ ما حكاه عنه (1).وقد قال الدبس بأن "الفرقة الثانية من الخوارج البيهسية يجب تكفيرهم لأنهم وافقوا القدرية في إسناد أفعال العباد إليهم " (2).وقد جعل الأشعري ومثله الشهرستاني والبغدادي وصاحب (كتاب الأديان) والملطي (3) هذه الفرقة من فرق الخوارج الرئيسية ولم يعزوها إلى إحدى الفرق، ولكن ابن حزم يقول فيهم: "وهم من فرق الصفرين" (4)، ولكن الأكثرية على خلافه كما هو ظاهر.   (1) ([8237]) ((كتاب الأديان)) (ص104). (2) ([8238]) ((رسالة الدبس)) (ص 26). (3) ([8239]) ((المقالات)) (1/ 191)، ((الملل والنحل)) (1/ 125)، ((الفرق بين الفرق)) (ص 108)، وانظر ((إبانة المناهج)) (ص 155) , ((الاعتصام)) (2/ 214). (4) ([8240]) ((الأصل)) (4/ 190). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 المطلب السادس: الصفرية هذه الفرقة الخارجية تنسب إلى زياد بن الأصفر عند الأشعري (1)، والبغدادي (2)، والشهرستاني (3)، وصاحب (كتاب الأديان) (4)، وغيرهم. وقد ترجم لهم الشهرستاني باسم الصفرية الزيادية، وقد نسبهم الأشعري في قول ضعيف فيما يظهر إلى عبيدة وهو شخص لم يوضحه قال إنه "كان ممن خالف نجدة ورجع من اليمامة". فحينما كتب نجدة إلى أهل البصرة وجاء الكتاب وقرئ عليهم وكان هناك ابن إباض وعبيدة هذا، فاختلفوا بسبب ما جاء فيه نحو مخالفيهم؛ إذ كان يرى ابن إباض أن مخالفيهم كفار نعمة، وكان عبيدة يرى أن مخالفيهم مشركون، السيرة فيهم السيرة من أهل حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين حاربوه من المشركين. أما الملطي فقد خلط رحمه الله في نسبة هذه الفرقة وفي اسم زعيمها بما خالف به كل من كتب عن الصفرية، فهو يقول عنهم: "الصفرية وهم أصحاب المهلب بن أبي صفرة، خرجوا على الحجاج مع يزيد بن المهلب فقاتلوا الحجاج ولم يؤذوا الناس ولا كفروا الملة ولا قالوا بشيء من أقوال الخوارج الذين تقدم ذكرهم، حتى هزمهم الحجاج وأبادهم ودخل يزيد في طاعته بعد ذلك" (5).فنسبة هذه الفرقة إلى المهلب بن أبي صفرة غير صحيح إذ كان المهلب من أعدى أعداء الخوارج وهو الذي فتك بهم فتكا ذريعا في عدة معارك رهيبة، وقد عاد الملطي بعد عدة صفحات من قوله هذا فقال: "ومنهم صنف يقال لهم الصفرية سموا بعبيد بن الأصفر" (6). ولعل هذا هو الذي أشار إليه الأشعري. وقد قدمنا أنه كان لهذه الفرقة دولة في المغرب ظهرت بسبب وصول عكرمة مولى ابن عباس فكان يدعو إلى ذلك المذهب، فتأثر البربر كثيرا به إذ كان هو منهم أيضا ويفهم طبيعتهم وما ينسجم معهم ليكون أدعى لقبولهم. وقد أنشأ حلقة تدريس في مسجد القيروان وتركه بنو أمية يعمل ظاهرا في الحياة العامة، مما يدل على أن دعوته كانت سرية وإلا لما تركوه يواصل تدريسه، ثم أخذت الدعوة تنتشر بكثرة الدعاة حتى شملت كثيرا من البربر (7).وقد نسب ابن حزم إليهم (8) فرقة الفضيلية وهي الفضلية عند الأشعري (9)، ومن أقوالهم أن من تلفظ بقول وهو يريد به خلافه في قرارة نفسه فإنه لا يكفر ولو كان هذا الكلام الذي أضمر المقصود منه يؤدي إلى الكفر في حقيقته. وقد بين الملطي اسم صاحب هذه الفرقة بأنه يسمى فضلا أو فضيلا كما قال بعضهم.   (1) ([8241]) ((المقالات)) (1/ 182). (2) ([8242]) ((الفرق بين الفرق)) (ص 90). (3) ([8243]) ((الملل والنحل)) (1/ 137). (4) ([8244]) قطعة من ((كتاب في الأديان والفرق)) (ص 104 (. (5) ([8245]) ((التنبيه والرد)) (ص 56). (6) ([8246]) ((التنبيه والرد)) (ص 167). (7) ([8247]) ((الخلافة والخوارج في المغرب)) (ص 28)، وانظر: ((إبانة المناهج)) (ص 115)، و ((رسالة الدبس)) (ص 27). (8) ([8248]) ((الفصل)) (4/ 190). (9) ([8249]) ((المقالات)) (1/ 197). . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 هذا وفي بيان تلك الفرق المشهورة أحب أن أذكر أن هناك فرقا صغيرة لم يهتم أصحاب المقالات بها اهتماما كبيرا ولم ينسبوها إلى إحدى الفرق المشهورة، وهي: الحسينية: يقول الأشعري عنها فيما يحكيه عن اليمان بن رباب: "وذكر أن صنفا منهم يدعون الحسينية ورئيسهم رجل يعرف بأبي الحسين (1)، ولعله يقصد بها فرقة الحسينية التي ظهرت في المغرب. البدعية: قال الشهرستاني: "البدعية أصحاب يحيى بن أصدم" (2)، وكان من اعتقادهم أنهم من أهل الجنة قطعا، من قال: إن شاء الله فهو شاك بل يجب القطع بأنهم من أهل الجنة كما يزعمون لأنفسهم. الجعدية: قال الملطي: "ومنهم الجعدية: وإنما سموا بمسلم بن الجعد وكان من أهل الكوفة" (3).التغلبية: قال الملطي أيضا عن هذه الفرقة: "ومنهم التغلبية سموا بتغلب رأسهم" (4). وذكر فرقة أخرى تسمى العزرية، فقال: "ومنهم العزرية سموا برأسهم ابن عزرة". وذكر أيضا فرقة لم ينسبها إلى أحد وهي السرية، فقال: "ومنهم السرية". وقد ذكر الملطي أيضا فرقة سماها النجرانية ولم ينسبها إلى أحد، ولعلها فرقة شبيب النجراني، وقد ذكر لهذه الفرقة سببا قال بأنه كان من أسباب تفرقهم وتكفير بعضهم بعضا، وهو سبب تافه بل من أتفه الأمور وأحقرها حيث قال: "ومنهم النجرانية افترقوا في امرأة يقال لها أم نجران – ولعل الملطي نسب هذه الفرقة إليها، غير أن المتبادر إلى الذهن نسبتها إلى شبيب لشهرة فرقته – هاجرت إلى بعض خوارجهم فتزوجت رجلا في الهجرة بالبصرة من قومها، ثم استخفت فتزوجت رجلا من أصحابها سرا، ثم ظهر عليها زوجها الأول من قومها فقربها إليه، فتبرأ منها بعضهم وتولاها بعضهم وكفروا من خالفهم بعضهم بعضا" (5). وهكذا على هذا السبب يبلغ بهم التناحر والعداء، فإن لم يكن قد تحامل عليهم الملطي فهم حقا جديرون بكل ما قيل فيهم من ذم. وذكر صاحب كتاب (الأديان) فرقة تسمى الأعسمية نسبة إلى رئيسهم زياد بن الأعسم، وكان من أمره أنه خرج غاضبا على الأزارقة والنجدات والعطوية على أحداثهم التي أحدثوها والتي رأى أنهم استوجبوا بها البراءة منهم (6). هذا هو الوضع التاريخي لفرق الخوارج الأصلية والفرعية قدمناه أمام عرضنا لآرائهم ومناقشاتنا لها في الباب التالي إن شاء الله. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص206   (1) ([8250]) ((المقالات)) (1/ 198). (2) ([8251]) ((الملل والنحل)) (1/ 134). (3) ([8252]) ((التنبيه والرد)) (ص 170). (4) ([8253]) ((التنبيه والرد)) (ص 168). (5) ([8254]) ((التنبيه والرد)) (ص 168، 169). (6) ([8255]) قطعة من ((كتاب الأديان والفرق)) (ص102، 103). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 تمهيد أشرنا فيما مضى إلى أن الخوارج قد كونوا لهم دولة وصار لهم نفوذ، وإذا تتبعنا حركاتهم الثورية فإننا نجدها متصلة عنيفة، ابتداءً من خروج المحكِّمة على الإمام علي ومن خرج بعدهم على الإمام عليّ في شكل جماعات حربية تثور هنا وهناك عليه وعلى الحكام الأمويين من بعده حرب عصابات، إلى أن جاء نافع بن الأزرق سنة 64هـ، وبدأ الخوارج يظهرون كفرق كبيرة امتدت إلى عصر الدولة العباسية، لا يقر للخوارج قرار أو يستكينون إلا ريثما يتم عددهم وعدتهم يمثلون المعارضة بالتعبير الحديث، وتلك الحركات مدونة في كتب التاريخ والفرق مما لا نرى التطويل بذكره؛ لأنها أحداث تاريخية. إن الخوارج منذ موقعة النهروان كانوا نواة لحركات ثورية قامت ضد الخلافة الإسلامية ابتداء من عهد الإمام علي وامتدادا إلى العصر الأموي فالعصر العباسي، ونواة لتكوين فرق عقائدية متعددة. ونعني بفرق الخوارج تلك التي كان لكل منها كيانها الخاص واسمها الذي تتميز به عن غيرها من الفرق نتيجة للاختلافات التي حدثت بينها في الآراء الاعتقادية وفي موقف كل منها من الجماعة الإسلامية، ولم يكن الخوارج على هذا النحو بعد موقعة النهروان مباشرة، وإنما بدأت تلك المرحلة من تاريخ الخوارج بظهور نافع بن الأزرق وبدء تكوين فرقة الأزارقة وذلك في أوائل الستينات من الهجرة، وبه وبفرقته يبتدئ مؤرخو الفرق – بعد كلامهم على المحكمة الأولى – من التأريخ لفرق الخوارج وذكر آرائها المختلفة – بل المتناقضة أحيانا -، سواء منها الفرق الكبرى أو ما تشعب عن كل منها من فرق صغرى. أما ما قبل هذه المرحلة وهي الفترة التي تقع بين موقعة النهروان وظهور الأزارقة، فقد كان الخوارج فيها مجرد جماعات حربية تثور هنا وهناك على الإمام علي رضي الله عنه أو على الحكم الأموي من بعده، وكانوا جميعا على رأي واحد في المطالبة بتحكيم كتاب الله ورفع المظالم والعدل في تقسيم الفيء، إلى غير ذلك مما مضى عليه سلفهم من أهل النهروان، دون أن تكون بينهم خلافات عقائدية، وليس معنى هذا أن حركات الخوارج انتهت بقيام نافع بن الأزرق وفرقته، بل ظلت تلك الحركات الثورية جنبا إلى جنب مع وجود الفرق العقائدية طوال الحكم العباسي والأموي. ولقد انتشر هؤلاء الخوارج في بقاع كثيرة من الدول الإسلامية وكثير عددهم، وبديهي أن ذلك لا يرجع إلى مجرد هؤلاء التسعة الذين قيل عنهم إنهم هم الذين نجوا من موقعة النهروان، وإنما يرجع – كما قلنا سابقا – إلى وجود هذا العدد الكبير من الخوارج الذين لم يلتحقوا بجيش النهروان وإلى وجود من بقي من هذا الجيش بعد المعركة، وكانوا عددا كثيرا كما رجحنا من قبل، ثم إلى وجود هؤلاء الذين اعتزلوا حرب النهروان من الخوارج شكا منهم في مدى صحة موقفهم في قتال علي مثل فروة بن نوفل وغيره، وقد رأينا أنهم زادوا على 1700 رجل. وكذلك الذين طلبوا الأمان من الخوارج فأمنهم الإمام علي، أضف إلى ذلك الفارين من وجه العدالة والموالي وطلاب الرياسة والمطالبين بالثارات؛ فقد كان هؤلاء جميعا يشكلون حركات خروج على الإمام علي والحكم الأموي من بعده ثم الحكم العباسي. وكان معظمهم من خوارج النهروان وما قبله ولهذا فليس هناك انفصال بين خوارج النهروان والفرق التي ظهرت فيما بعد كما يقول البعض. وإنما تاريخ الخوارج ممتد من أسلاف الخوارج إلى أخلافهم، ولا يمنع هذا من أن الأوضاع التالية في الحكم الأموي والعباسي قد ساعدت على تعميق معنى الخروج وتكثير عدد الخوارج ممن لم يكونوا من المحكمة الأولى. فالخروج دعوة وحركة وأتباع، وكل هذا ينتشر تلقائيا بقوة الدفعة الأولى وامتدادا مع التاريخ وتأثرا بكل الظروف والأوضاع الجديدة. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص125 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 المبحث الأول: حركات الخوارج على الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد النهروان ولقد أخذ هؤلاء الخوارج الذين انتشروا في مختلف البقاع الإسلامية – كما قلنا - في الخروج على الإمام علي رضي الله عنه، ودارت بين الفريقين معارك صغيرة متعددة انتهت بالقضاء على هؤلاء الخوارج على الإمام. ومن هؤلاء الخوارج: أشرس بن عوف الشيباني خرج مع جماعته في موضع يقال له الدسكرة وكانوا مئتين، ولما وصل الأنبار أرسل له علي الأبرش بن حسان مع ثلاثمائة رجل، فلما التقوا انهزم الخوارج وقتل أشرس بالأنبار في ربيع الأول عند الأشعري أو ربيع الآخر من السنة الثامنة والثلاثين عند ابن الأثير (1).وخرج عليه أيضا هلال بن علفة في ماسبذان مع أكثر من مائتين من أتباعه، فوجه إليهم علي رضي الله عنه معقل بن قيس الرياحي، ولما التقوا انهزم الخوارج وقتلوا في شهر جمادى الأولى من السنة الثامنة والثلاثين (2).ثم خرج الأشهب بن بشر أو الأشعث البجلي في 180 رجلا فذهب إلى مكان المعركة التي أصيب فيها سلفه هلال بن علفة فصلى عليهم ودفن من قدر عليه منهم، فأقام بجرجرايا من أرض جوخى، فأرسل إليه علي جيشا عليه جارية بن قدامة أو حجر بن عدي، وذلك في جمادى الآخر سنة 38 فقتل الأشهب وأصحابه (3).ثم خرج سعيد أو سعد بن قفل التيمي في رجب بالبندنيجين مع مائتين من الخوارج، ثم ذهب إلى درزبنجان وهي على فرسخين من المدائن فكتب علي إلى عامله على المدائن سعد بن مسعود الثقفي، فخرج إليهم فقتل الخوارج في رجب سنة 38هـ (4). وأخيرا خرج عليه رجل من أعتى الخوارج مع جيش كله من الموالي ليس فيه من العرب إلا رئيسهم، وهو هذا الخارجي ويسمى أبو مريم السعدي وخمسة آخرون؛ خرج بشهرزور وكان معه مائتا رجل أو أربعمائة كما قيل، وقد اقترب من الكوفة لشجاعته حتى لم يبق بينه وبينها إلا فرسخان أو خمسة فراسخ وقد أرسل إليه علي من يطلب إليه الرجوع إلى الطاعة ودخول الكوفة، فقال: ليس بيننا غير الحرب. فأرسل لهم علي بن أبي طالب شريح بن هانئ في سبعمائة رجل فشد عليهم الخوارج حتى هربوا ولم يبق إلا شريح مع مائتين. فرأى علي أن يخرج بنفسه إليهم وقبل وصوله قد أرسل جارية بن قدامة السعدي يحذرهم العصيان والحرب فلم يسمعوا منه، ولما وصل إليهم علي دعاهم أيضا إلى الطاعة والجماعة فأبوا، فحمل عليهم علي بجيشه فقتلوهم ولم يسلم منهم غير خمسين رجلا طلبوا الأمان، وذلك في شهر رمضان. وأدخل معه إلى الكوفة أربعين رجلا منهم لمداواتهم حتى برئوا (5). ونلحظ هنا أن أولئك الخوارج الذين خرجوا على علي قد قضى عليهم جميعا في سنة 38هـ. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص127   (1) ((مقالات الأشعري)) (1/ 222). ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 372). (2) ((مقالات الأشعري)) (1/ 222). ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 372). (3) ((المقالات)) (1/ 222)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 372). (4) ((المقالات)) (1/ 222)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 372). (5) ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 373). ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 212)، ((الفرق بين الفرق)) (ص 81). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 المبحث الثاني: حركات الخوارج الثورية ضد الحكم الأموي وقد ظل الخوارج يتتابعون في الخروج بعد الإمام علي وخلال الحكم الأموي، وظل حالهم على نحو ما كانوا عليه خلال خلافة الإمام علي؛ ذلك أنه لما استتب الأمر لمعاوية واجتمعت عليه الكلمة – كان الخوارج قد اشتعلت جذوتهم وثبت في أذهانهم فكرة الخروج على بني أمية وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان، فأخذوا في التجمع والتربص للخروج في أي فرصة كانت؛ إذ كان معاوية في نظرهم مغتصبا للحكم لا شك في قتاله، بل هو في نظرهم قربة لله بعكس الإمام علي، فقد كان بعضهم مترددا في مواجهته كما سنرى في تعبير فروة بن نوفل عن هذا التردد. لهذا فبمجرد وفاة الإمام علي انفتحت على معاوية وحكام بني أمية من بعده ثورات وحروب طاحنة، لا يقر للخوارج قرار ولا يستخفون بأنفسهم إلا ريثما تتم عدتهم ويكتمل عددهم؛ فكانوا شوكة في جنب الدولة شغلتهم فترة من الزمن فهم بهذا يمثلون المعارضة بالتعبير الحديث أتم تمثيل. وسنتناول ما اشتهر من أخبار أولئك الخارجين على بني أمية بإيجاز. وكان أول هؤلاء الخارجين: فروة بن نوفل الأشجعي، وسماه البغدادي قرة (1)، خرج سنة 41هـ، كان هذا الرجل ممن اعتزل قتال علي وانحاز معه خمسمائة فارس من الخوارج إلى شهرزور قائلا: " والله ما أدري على أي شيء نقاتل عليا أرى أن أنصرف حتى تتضح لي بصيرتي في قتاله أو أتابعه ". أي أنه كان شاكا في قتال علي، أما معاوية فقد بين موقفه منه بقوله: " قد جاء الآن ما لا شك فيه فسيروا إلى معاوية فجاهدوه ". ثم ذهبوا إلى النخيلة فعسكروا بها وهي مكان قريب من الكوفة، فأرسل لهم معاوية جيشا من أهل الشام ولكن الخوارج هزموه، فلجأ معاوية إلى حيلة يرمي فيها عصفورين بحجر فقال لأهل الكوفة: " والله لا أمان لكم عندي حتى تكفوهم "، فوقع هذا التهديد منهم موقعا عظيما، فخرجوا لقتالهم وكفهم عن الخروج وعندما رآهم الخوارج قالوا لهم: " أليس معاوية عدونا وعدوكم دعونا نقاتله فإن أصبنا كنا قد كفيناكم عدوكم، وإن أصابنا كنتم قد كفيتمونا "؛ فلم يقتنعوا بقولهم هذا، فقالت الخوارج: رحم الله إخواننا من أهل النهر هم كانوا أعلم بكم يا أهل الكوفة، ثم اختطف أشجع صاحبهم وأدخلوه مقهورا إلى الكوفة. ثم مكنته الفرصة فيما بعد فخرج على المغيرة بن شعبة فأرسل له المغيرة شبث بن ربعي أو معقل بن قيس مع فرسان، فلما التقوا قتل فروة بشهرزور أو ببعض سواد العراق (2). وله من الشعر قوله: ما أن نبالي إذا أرواحنا سلمت ... ماذا فعلتم بأجساد وأبشار تجر المجرة والنسران بينهما ... والشمس والقمر الساري بمقدار لقد علمتم وخير العلم أنفعه ... أن السعيد الذي ينجو من النار وابن الأثير ينسب هذه الأبيات إلى عبد الله بن أبي الحوساء وأنه قالها حينما ولي أمر الخوارج وخوف من السلطان أن يصلبه (3). وقوله: وفارقنا أبا حسن عليا ... فما من رجعة أخرى الليالي فحكم في كتاب الله عمرا ... وذاك الأشعري أخا الضلال وقد رثى الخوارج بقوله يصفهم: لطافا براها الصوم حتى كأنها ... سيوف إذا ما الخيل تدمى كلومها (4)   (1) ((الفرق بين الفرق)) (ص82). (2) انظر: ((تاريخ الطبري)) (5/ 166)، و ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 409)، ((البداية والنهاية)) (8/ 22). (3) ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 400). (4) ((شعراء الخوارج)) (ص5 - 6). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 وأما جيش فروة فقد ولوا عليهم عبد الله بن أبي الحوساء الطائي وسماه البغدادي عبد الله بن جوشا (1). وقد ثار هذا الخارجي على معاوية بعد أن أوثق أهل الكوفة صاحبهم فروة فولاه الخوارج أمرهم وكان تهديد معاوية لا يزال له رنين في آذان أهل الكوفة فقاتلوهم حتى قتلوهم هم ورئيسهم ابن أبي الحوساء في ربيع الأول أو الآخر سنة 41هـ (2)، في موضع خروجهم بالنخيلة. ثم خرج عليه حوثرة بن وداع الأسدي في برازلروز، وذلك بعد قتل ابن أبي الحوساء سنة 41هـ؛ حيث اجتمع الخوارج فولوه أمرهم وكان لا يشك في أن قتال علي بن أبي طالب حق، ولهذا عبد الله بن فروة حين شك في ذلك. ولما اجتمع له مائة وخمسون رجلا أتى النخيلة مكان هزيمة سلفه ابن أبي الحوساء، فانضم إليه من بقي من جنود أبي الحوساء وهم عدد قليل. فأراد معاوية أن يضربه بأبيه فأرسله إليه وقال له: اخرج إلى ابنك فلعله يرق إذا رآك. فخرج إليه وناشده وذكره فلم يقبل منه، فأراد أن يثير فيه عطف الأبوة فقال: ألا أجيئك بابنك فلعلك إذا رأيته كرهت فراقه، فرد عليه حوثرة رد المستميت قائلا له: أنا إلى طعنة من يد كافر برمح أنقلب فيه ساعة أشوق مني إلى ابني. فيئس أبوه منه وأخبر معاوية خبره فقال له: يا أبا حوثرة عتا هذا جدا. فأرسل إليه معاوية جيشا بقيادة عبد الله بن عوف في ألفين وكان معه أبا حوثرة، وفي المعركة دعا ابنه إلى البراز فقال له حوثرة: يا أبت لك في غيري سعة. واشتد القتال وتبارز حوثرة: وعبد الله بن عوف، فطعن ابن عوف حوثرة فأراده قتيلا وقتل أصحابه إلا خمسون رجلا دخلوا الكوفة، وقد رأى ابن عوف أن قتيله حوثرة بوجهه أثر السجود فندم على قتله وقال شعرا: قتلت أخا بني أسد سفاها ... لعمر أبي فما لقيت رشدي قتلت مصليا محياء ليل ... طويل الحزن ذا بر وقصد قتلت أخا تقي لا نال دنيا ... وذاك لشقوى وعثار جدي فهب لي توبة يا رب واغفر ... لما قارفت من خطأ وعمد (3). ويذكر البغدادي أنه كان من المستأمنين إلى علي يوم النهروان (4). ويذكر ابن عبد ربه أن حوثرة الأقطع كان أول من خرج من الخوارج بعد قتل علي، والصحيح أن فروة بن نوفل، وقد قال حوثرة حين رأى تجمع أهل الكوفة عليه: " يا أعداء الله أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا سلطانه، واليوم تقاتلون معه لتشدوا سلطانه " وكان يرتجز في حملاته عليهم بقوله: أحمل على هذي الجموع حوثرة ... فعن قريب ستنال المغفرة   (1) ((الفرق بين الفرق)) (ص82). (2) ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 410). (3) ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 410). (4) ((الفرق بين الفرق)) (ص82). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 ويذكر ابن عبد ربه أيضا أن القاتل له رجل من طيئ وأنه ندم حينما رأى أثر السجود في جبهته (1).ثم أراد الخروج عليه سنة 41هـ رجل من محارب يسمى معنا فصغر إلى معين بن عبد الله، كان يريد الخروج وذلك في زمن ولاية المغيرة بن شعبة، فلما علم ذلك المغيرة أرسل إليه وعنده جماعة فأخذه وحبسه وكتب في شأنه إلى معاوية، فكتب إليه معاوية أن يستشهده فإن شهد أن خلافة معاوية حق أطلقه فأحضره المغيرة وقال له: أتشهد أن معاوية خليفة وأنه أمير المؤمنين. فأجابه جواب من هانت عنده المنايا قائلا له في غير مبالاة: " أشهد أن الله عز وجل حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور ". فأمر به فقتله قبيصة الهلالي الذي لاقى فيما بعد حتفه على أيدي الخوارج الذي ائتمروا به (2) انتقاما لقتله معنا. ثم خرج أبو مريم وهو مولى لبني الحارث بن كعب وقد أحب أن يشرك النساء معه في الخروج؛ إذ كانت معه امرأتان قطام وكحيلة، فكان يقال لهم يا أصحاب كحيلة وقطام تعبيرا لهم، وقد أراد بهذا أن يسن خروجهن فعابه أبو بلال فقال له: قد قاتل النساء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين بالشام وسأردهما، فردهما وكان بموضع يقال له بادوربا فوجه إليه المغيرة جابر البجلي فقاتله حتى قتله وانهزم أصحابه (3). ثم خرج رجل يقال له أبو ليلى، أسود طويل الجسم، وقبل أن يعلن خروجه دخل مسجد الكوفة وأخذ بعضادتي الباب، وكان في المسجد عدة من الأشراف، ثم صاح بأعلى صوته: لا حكم إلا لله، فلم يعترض له أحد، ثم خرج وخرج معه ثلاثون رجلا من الموالي بسواد الكوفة، فبعث له المغيرة معقل ابن قيس الرياحي فقتله سنة 42هـ (4). ثم خرج المستورد بن علفة التيمي، وكان بدء خروجهم سنة 42هـ عندما بدءوا يتشاورون في ذلك، ولما جاءت سنة 43هـ أعلنوا الخروج المسلح انتقاما لمصارع إخوانهم، فقد كانت الخوارج يلقى بعضهم بعضا فيذاكرون مصارع إخوتهم بالنهر، فيترحمون عليهم ويحض بعضهم بعضا على الخروج للانتقام من حكامهم الجورة الذين عطلوا الحدود واستأثروا بالفيء، فاجتمع رأيهم على ثلاثة نفر منهم لتولي قيادتهم المستورد بن علفة التيمي، ومعاذ بن جويني الطائي، وحبان بن ظبيان السلمي الذي كان منزله مكانا لا جتماعاتهم، ولكن كل واحد من هؤلاء الثلاثة دفع تولي الخلافة عن نفسه، وأخيرا اتفقوا على أن يتولاها المستورد هذا، وكانوا أربعمائة شخص ونادوه بأمير المؤمنين، وكان المستورد ناسكا كثير الصلاة وله آداب وحكم مأثورة، واتفق على أن يكون الخروج غرة شعبان سنة 43هـ. ولما علم بذلك المغيرة بن شعبة أرسل مدير شرطته قبيصة بن الدمون إلى مكان اجتماعهم وهو منزل حيان كما تقدم، فأخذوهم وجاءوا بهم إلى المغيرة فأودعهم السجن بعد استجوابهم وإنكارهم أن يكون اجتماعهم لشيء غير مدارسة كتاب الله. ثم خرج المستورد إلى الحيرة وصار ملجأ للخوارج فأخذوا يختلفون إليه، فلما خاف أن يفتضح أمرهم لجأ إلى دار صهره سليم بن محدوج، ولكن المغيرة بن شعبة علم بأن الخوارج قد عزموا على الخروج قريبا، فقام في الناس خطيبا فذكر لطفه بهم ومحبته لهم وأنهم سيضطرونه إلى تعديل رأيه فيهم حتى يأخذ الحليم بالسفيه، فأجابه رؤساء القبائل بأنهم مستعدون للقيام معه بمجاهدة من يخالفه ويشق عصى الطاعة.   (1) ((العقد الفريد)) (2/ 216 - 217). وانظر: ((شرح نهج البلاغة)) (4/ 134). (2) ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 412). (3) ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 412). (4) ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 413). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 فوصل كل ما دار في هذا الاجتماع إلى المستورد من غير ابن محدوج الذي رجع كئيبا مهتما، فسأل ابن محدوج عن كل هذا فأخبره وقال له: كرهت أن أعلمكم فتظنوا أنه ثقل علي مكانكم. فقال: له المستورد. قد أكرمت المثوى وأحسنت ونحن مرتحلون عنك. فلما بلغ هذا إلى مسامع الذين في سجن المغيرة قال معاذ بن جوين بن حصين يتحسر: ألا أيها الشارون قد حان لامرئ ... شرى نفسه لله أن يرتحلا أقمتم بدار الخاطئين جهالة ... وكل امرئ منكم يصاد ليقتلا فشدوا على القوم العداة فإنما ... إقامتكم للذبح رأيا مضلالا فيا ليتني فيكم على ظهر سابح (1) ... شديد القصيري (2) دارعا (3) غير أعزلا وياليتني فيكم أعادي عدوكم ... فيسقيني كأس المنية أولا يعز علي أن تخافوا وتطردوا ... ولما أجرد في المحلين (4) منصلا ولو أنني فيكم وقد قصدوا لكم ... أثرت إذا بين الفريقين قسطلا (5) فيا رب جمع قد فللت وغارة ... شهدت وقرن قد تركت مجدلا في أبيات له يتحسر على ما أصاب الخوارج من محن. ثم أرسل المستورد إلى أصحابه أنه مكان الاجتماع سورا وعليهم أن يخرجوا متفرقين مستخفين، فاجتمعوا بها ثلاثمائة رجل ثم انتقلوا إلى الصراة. ولما علم المغيرة بهذا الأمر استشار الناس فيمن يلي حربهم، وكان عنده رؤساء الشيعة، فكل واحد منهم ترجى المغيرة أن يكون هو المتولي حربهم فولى معقل بن قيس الرياحي وجهز معه ثلاثة آلاف رجل هم نقاوة الشيعة وفرسانهم. وقد صار الخوارج إلى بهرسير وأرادوا الدخول إلى المدينة التي كانت بها منازل كسرى، وكان الوالي عليها سماك بن عبيد الأزدي فمنعهم فكتب إليه المستورد هذا الكتاب: " من عبد الله المستورد أمير المؤمنين إلى سماك بن عبيد أما بعد: فقد نقمنا على قومنا الجور في الأحكام وتعطيل الحدود والاستئثار بالفيء، وإنا ندعوك إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وولاية أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما، والبراءة من عثمان وعلي لإحداثهما في الدين وتركهما حكم الكتاب، فإن تقبل فقد أدركت رشدك، وإلا تقبل فقد بالغنا في الإعذار إليك وقد آذناك بحرب فنبذنا إليك على سواء، إن الله لا يحب الخائنين ". فلما قرأ سماك كتابه قال: بئس الشيخ أنا إذا، ثم كتب للمستورد كتابا يدعوه فيه إلى الدخول في الجماعة، وأن يأخذ له الأمان فلم يجبه وأصر على ما هو عليه. وسار معقل إليه، فلما علم به جمع أصحابه واستشارهم قائلا لهم: " إن المغيرة قد بعث إليكم معقل بن قيس وهو من السبئية المفترين الكاذبين فأشيروا علي برأيكم؟ ". فافترقوا في رأيهم بين قائل بالحرب وآخر بدعاء الناس إلى صفهم وإقامة الحجة على مخالفيهم. ولكن كان رأي المستورد غير هذا وهو أن يستعمل المطاولة في حربهم فيخرج من مكان إلى آخر حتى يبددهم، ثم يلقاهم وقد تعبوا فكان هذا رأيهم فصاروا يتنقلون من محل إلى آخر، وكانت تقع بعض المناوشات بينهم وبين رجل كان معه قوة من الفرسان يلازمهم من أصحاب معقل، ولما انتهى به المطاف إلى ديلمايا كانت المعركة النهائية حيث تبارز المستورد مع معقل فضرب كل واحد منهما صاحبه فخرا ميتين، وهزمت الخوارج وقتلوا شر قتلة فلم ينج منهم غير خمسة أو ستة (6)، وقتل المستورد سنة 43هـ.   (1) أي: فرس. (2) القصيري: أسفل الأضلاع. (3) عليه درع. (4) الذي يستحل قتاله أو الذي لا عهد له ولا حرمة. (5) أي الغبار الساطع. (6) انظر: ((تاريخ الطبري)) (5/ 181 - 209)، وانظر: ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 421 - 436)، وانظر: ((شرح نهج البلاغة)) (4/ 134). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 ثم كان خروج سهم بن غالب الهجيمي والخطيم واسمه يزيد بن مالك سنة 46هـ عند الطبري، وعند ابن الأثير إن بدء خروجهما كان سنة 41هـ ونهايته كانت سنة 46هـ، فلما اجتمع لسهم سبعون رجلا خرجوا على ابن أبي عامر الوالي من قبل معاوية. خرج هؤلاء فنزلوا بين الجسرين والبصرة، وهناك أخذوا في ارتكاب جرائم القتل، وكانوا أشرارا يقتلون من يقول إنه مسلم ويتركون من يقول إنه من أي ملة كان، ففي أثناء ذلك الخروج مر بهم الصحابي عبادة بن فرص الليثي راجعا من غزو الكفار، ومعه ابنه وابن أخيه فقال لهم الخوارج: من أنتم؟ قالوا: قوم مسلمون. قالوا: كذبتم. قال عبادة: سبحان الله! اقبلوا منا ما قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم مني، فإني كذبته وقاتلته ثم أتيته فأسلمت فقبل ذلك مني، قالوا: أنت كافر وقتلوه وقتلوا ابنه وابن أخيه. وقد خرج لقتالهم ابن عامر بنفسه فقتل منهم وانتصر عليهم واستأمن بقيتهم، وكان فيهم سهم والخطيم فآمنهم، فلما تولى زياد البصرة – وقيل في ولاية ابن زياد – خاف سهم منه وخرج إلى الأهواز واجتمع إليه الناقمون على بني أمية، ثم أقبل يريد أخذ البصرة ولحسن الحظ أن جيشه قد تفرق عنه حين دخل البصرة حتى لم يبق إلا هو وحده فطلب الأمان لنفسه، ولكن صادف رجلا لا يعرف الرحمة فأخذه وقتله وصلبه في داره، وأما الخطيم فإن زيادا سيره إلى البحرين ثم أذن له في الرجوع إلى البصرة على أنه إذا بات ليلة خارج داره فقد أذن في قتله، وذات ليلة لم يبت في بيته فجاء مسلم بن عمرو وقال لزياد: إن الخطيم لم يبت الليلة في بيته، فأخذه زياد وقتله وانتهت حركتهم. وقد رثى أحد الخوارج سهما بقوله: فإن تكن الأحزاب باءوا بقتله ... فلا يبعدن الله سهم بن غالب (1) ثم خرج قريب بن مرة وزحاف بن زحر الطائي سنة 50هـ. وكان هذان الرجلان ابني خالة وكانا من العابدين المجتهدين بالبصرة، ولما غلبت عليهما شقوتهما خرجا بقلوب تغلي غيظا على المجتمع وقد اختلف في أيهما كان الرئيس، وذلك في ولاية ابن زياد على الكوفة، فحينما خرجا أخذا يستعرضان الناس استعراضا، وكانا قد أشاعا القتل والخوف فيهم لا يبالون بمن قتلوه كائنا من كان ما دام قد وجد أمامهم، حتى إنهم مروا بشيخ ناسك من بني ضبيعة يسمى رؤية الضبعي أو حكاك، فقال حين رآهم: مرحبا بأبي الشعثاء، فلم تشفع له شيخوخته عندهم بل قتلوه، وكانوا إذا مروا ببلد يهرب أهل تلك البلد إلى بيوتهم ويتنادون: الحرورية الحرورية، النجا النجا. وكان رجل من بني قطيعة حين سمع بهم أخذ سيفه فناداه الناس: الحرورية! انج بنفسك، فنادوه: لسنا حرورية نحن الشرط فلا تخف؛ فوقف، فلما أخذوه قتلوه وصاروا يتنقلون بين القبائل فلا يمرون بقبيلة إلا قتلوا من تمكنوا من أخذه، ولما مروا ببني علي من الأزد وكان هؤلاء رماة مهرة وكان فيهم مائة يجيدون الرمي وقفوا لهم ورموهم رميا شديداً، حتى صاح الخوارج: يا بني علي، لا رماء بيننا البقيا. ولكن هذا النداء لم يسمع منهم، فقال رجل يحرض عليهم: لا شيء للقوم سوى السهام ... مشحوذة (2) في غلس الظلام فهربت الخوارج منهم وأتوا مقبرة لبني يشكر ثم أتوا إلى مزينة فقتلهم الناس عن آخرهم. ولما بلغ خبرهما إلى أبي بلال الخارجي لم يرضه اعتراضهما الناس على هذه الصورة الوحشية، فقال: قريب لا قربه الله من الخير، وزحاف لا عفا الله عنه فلقد ركباها عشواء مظلمة. أو نحو هذا الكلام.   (1) انظر: ((تاريخ الطبري)) (5/ 228). وانظر: ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 417، 418). (2) مشحوذة: أي محددة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 ويذكر الطبري وابن الأثير أن خروجهما كان سنة 50 بالبصرة وأن زيادا حين بلغه خروجهما قال لأهل البصرة: والله لتكفنني هؤلاء أو لأبدأن بكم، والله لئن أفلت منهم رجل واحد لا تأخذون العام من عطائكم درهما. أما البغدادي فيذكر أن خروجهما كان على عبيد الله بن زياد فأرسل إليهم عباد بن الحصين الحبطي فقتلهم (1).ثم خرج زياد بن خراش العجلي في مكان يسمى مسكن من أعمال سواد العراق ومعه ثلاثمائة فارس، فأرسل زياد فرقة من الجيش قتلته ومن معه سنة 52هـ (2). ثم خرج طواف بن غلاق سنة 58هـ. وقد كان بالبصرة رجل اسمه جدار يجتمع إليه الخوارج فيعيبون خلافة بني أمية، فلما علم بهم ابن زياد أخذهم وحبسهم ثم اخترع طريقة في العفو عنهم وهي أن يقتتلوا فيما بينهم فمن نجا أطلق سراحه، فقام بعضهم بقتل بعض كأنهم كلاب مسعورة، وكان فيمن نجا طواف بن غلاق. ولما خرجوا عابهم أصحابهم قائلين لهم: قتلتم إخوانكم؟ فقالوا: أكرهنا، وقد يكره الرجل على الكفر وهو مطمئن بالإيمان، فعرضوا الدية على أولياء المقتولين فأبوها، ثم عرضوا عليهم القصاص فأبوا؛ فعظم الندم في نفوسهم على فعلتهم هذه، وكانوا يبكون ويقولون: أما من توبة، وكان طواف قد بلغ به الجزع والحزن مبلغا عظيما فأتى رجلا يسمى الهثهاث فقال له: أما ترى لنا من توبة؟ فقال له: لا أجد لكم إلا آية في كتاب الله وهي ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل: 110]. فخرج طواف في يوم عيد الفطر ومعه سبعون رجلا فأخذوا يقتلون الناس مستعرضين لهم، فاجتمع عليهم الناس فقتلوهم عن آخرهم فقال رجل منهم يرثيهم: يا رب هب لي التقى والصدق في ثبت ... واكف المهم فأنت الرازق الكافي حتى أبيع التي تفنى بآخرة ... تبقى على دين مرداس وطواف وكهمس وأبى الشعثاء إذا نفروا ... إلى الإله وذي الإخبات زحاف (3) ثم كان خروج أبي بلال مرداس بن أدية الحنظلي سنة 61هـ. خرج أبو بلال في أربعين شخصا بناحية الأهواز في توج، وكان عظيم القدر عند الخوارج لا يعدلون به أحدا. كان عابدا مجتهدا كل الخوارج تتولاه وكل فريق ينسبه لنفسه، حتى الشيعة فقد ادعت أنه خرج غاضبا لآل البيت وكان حين خرج يقول لمن لقيه: " إنا لا نريد قتال ولا نروح أحدا، وإنما هربنا من الظلم ولا نأخذ من الفيء إلا أعطياتنا ولا نقاتل إلا من قاتلنا ". وقد مر به مال لعبيد الله بن زياد فاستوقفه وأخذ أعطيات أصحابه ثم ترك الباقي، وقال لمن يحملون ذلك المال: " قولوا لصاحبكم إنما أخذنا أعطياتنا "، فقال له أصحابه: لماذا تترك الباقي؟ قال: " إنهم يقسمون هذا الفيء كما يقيمون الصلاة فلا تقاتلوهم ما داموا على الصلاة ".   (1) انظر: ((تاريخ الطبري)) (5/ 237، 238). ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 463)، ((العقد الفريد)) (1/ 220، 221). ((شرح نهج البلاغة)) (4/ 135)، ((الفرق بين الفرق)) (ص82). (2) ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 491). (3) ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 516، 517). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 وحين بلغت أخبارهم ابن زياد وجه إليهم جيشا مكونا من ألفي رجل بقيادة أسلم بن زرعة الكلابي أو زرعة بن مسلم العامري، ويذكر الطبري أنه ابن حصن التميمي، فالتحموا مع الخوارج في معركة حامية انهزم فيها جيش الخلافة شر هزيمة، فلما وصل المنهزمون إلى ابن زياد غضب عليهم، ثم وجه إلى الخوارج قائدا آخر هو عباد بن أخضر التميمي، وفي أثناء المعركة – وكان يوم جمعة – طلب أبو بلال من عباد وجيشه إمهالهم حتى تؤدى الصلاة فأجابوهم، فلما دخلوا في الصلاة شدوا عليهم فقتلوهم عن آخرهم سنة 61هـ، وهم بين راكع وساجد وقائم في الصلاة وقاعد، فرجع القائد عباد ظافرا إلا أنه قد نال منيته على أيدي بعض الخوارج الذين كانوا في البصرة منهم عبيدة بن هلال؛ فقد استوقفوا عبادا كأنهم خصماء فيما بينهم في رجل قتل أخاهم ولم ينصفهم أحد فقال لهم عباد: اقتلوه قتله الله؛ فنزلوا عليه ضربا بالسيوف حتى قتلوه. وقد رثى الخوارج مرداسا رثاء محزنا خصوصا تلك القتلة التي تمت بالغدر، ومن هذه المراثي قول عمران بن حطان: أصبحت عن وجل مني وإيجاس (1) ... أشكو كلوم جراح ما لها آسي يا عين ابكي لمرداس ومصرعه ... يا رب مرداس اجعلني كمرداس أبقيتني هائما أبكي لمرزئتي ... في منزل موحش من بعد إيناس أنكرت بعدك ما قد كنت أعرفه ... ما الناس بعدك يا مرداس بالناس أما شربت بكأس دار أولها ... على القرون فذاقوا جرعة الكاس فكل من لم يذقها شارب عجلا ... منها بأنفاس ورد بعد أنفاس ومما يجدر ذكره أن أبا بلال كان مع جيش علي في صفين أثناء الحرب بين علي ومعاوية. وقد قيل عن سبب خروجه أن ابن زياد قد توعد امرأة خارجية يقال لها البثجاء فقال لها مرداس: إن التقية لا بأس بها فتغيبي فإن هذا الجبار قد ذكرك. قالت: أخشى أن يلقى أحد بسببي مكروها، ولما أخذها ابن زياد قطع يديها ورجليها ورمى بها في السوق، فمر أبو بلال في السوق فرأى زحام الناس فجاء فلما شاهد البثجاء عض على لحيته، وقال يخاطب نفسه: " هذه أطيب نفسا بالموت منك يا مرداس، ما ميتة أموتها أحب إلي من ميتة البثجاء ". فكانت أمنيته أن يموت كميتة البثجاء التي جادت بنفسها في جهاد ابن زياد (2). وكان أبو بلال شخصية مثالية عند الشيعة والخوارج والمعتزلة، فكل فرقة من هذه الفرق تدعيه كما تقدم. يقول ابن أبي الحديد في هذا: " وكان أبو بلال عابدا ناسكا شاعرا ومن قدماء أصحابنا من يدعيه لما كان يذهب إليه من العدل وإنكار المنكر، ومن قدماء الشيعة من يدعيه أيضا" (3). وفي أوائل الستينات وأثناء خروج أبي بلال الذي تحدثنا عنه آنفا ظهر نافع بن الأزرق بفرقته ثم تتابع ظهور الفرق بعده. ومع ذلك فقد ظل ظهور الخوارج بحركاتهم الحربية التي قدمناها – ظل ظهورهم يتتابع خلال بقية الحكم الأموي.   (1) أي مشفقا متحسبا لما يحدث. (2) ((تاريخ الطبري)) (3/ 313)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 518، 520)، (4/ 94، 95)، ((الفرق بين الفرق)) (ص91 - 93)، ((العقد الفريد)) (1/ 217، 218)، وانظر أيضا: (ص399، 400)، وانظر: ((شرح نهج البلاغة)) (4/ 136). (3) ((تاريخ الطبري)) (3/ 313)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 518، 520)، (4/ 94، 95)، ((الفرق بين الفرق)) (ص91 - 93)، ((العقد الفريد)) (1/ 217، 218)، وانظر أيضا: (ص399، 400)، وانظر: ((شرح نهج البلاغة)) (4/ 136). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 وفي عهد عبد الملك بن مروان بدأ خروج الصالحية التي يجعلها بعض العلماء فرقة من الفرق، بينما هي في الحقيقة حركة ثورية – أكثر منها فرقة دينية – من تلك الحركات التي كانت تحدث بين آونة وأخرى على الخلفاء الأمويين تزعمهم صالح بن مسرح أو ابن مشروح كما يسميه بعضهم، حين خرج في هلال شهر صفر سنة 76هـ، وكون له جماعة حارب بهم جيش الأمويين، وكانت له بعض الآراء التي أخذها من أسلافه من الخوارج قبله. يقول عنه صاحب كتاب (الأديان): " الفرقة السادسة: الصالحية أصحاب صالح بن مشروح استحل من قومه ما استحله منهم ابن العسم من القتل والسبا وغنيمة الأموال، ولم يزل كذلك حتى أهلكه الله ". ويقول الأشعري: " ومن الخوارج أصحاب صالح ولم يحدث صالح قولا تفرد به ويقال إنه كان صفريا ". هذا ما ذكره عنهم الأشعري ولم ينسب إليهم شيئا من الآراء، إلا ما قال عنهم من أنهم أوصلوا الذنب المغلظ إلى أنه عبادة للشيطان، ويذكر ابن الأثير أن اسم زعيمهم هو صالح بن مسرح التميمي وأنه كان رجلا ناسكا مصفر الوجه صاحب عبادة، وكان بدارا وأرض الموصل والجزيرة قد تزعم أصحابه يقرئهم القرآن ويعلمهم الفقه والقصص. فلما اجتمع له أقل ما يريد قيل: (120) وقيل: (110) دعاهم إلى الخروج وكاتب شبيبا في ذلك فأجابه شبيب وأقبل ومعه جماعة من أصحابه إلى دارا، وحينئذ عزم صالح على الخروج، ولكن تلك الجهات قد تحصنت منه، ولما بلغ محمد بن مروان (1) مخرجهم – وهو أمير الجزيرة حينذاك – أرسل إليهم جيشا يقوده عدي بن عدي الكندي في ألف فارس، ولكن صالحا باغتهم فانهزموا هزيمة منكرة وهرب عدي فانتهب الخوارج ما وجدوا في معسكر عدي، وحين أقبلت فلول عدي غضب عليهم محمد بن مروان، فأرسل لهم قائدين أيهما وصل الأول فهو أمير صاحبه أحدهما خالد بن جزء السلمي في ألف وخمسمائة فارس، والثاني الحارث بن جعونة العامري وبعثه في ألف وخمسمائة فارس، فالتقوا بصالح في آمد. ولكن صالحا قسم جيشه إلى قسمين أيضا قسم بقيادة شبيب وكان من أشجع الفرسان وجهه إلى الحارث بن جعونة، وقسم بقيادته هو وتوجه إلى خالد فنشبت المعركة من وقت العصر إلى الليل وكثر الجرحى والقتلى في جيش الخلافة، وقتل من أصحاب صالح ثلاثون رجلا، وفي الليل تم رأيهم على أن يذهبوا إلى الدسكرة. وحين وصلت أخبارهم إلى الحجاج بعث لهم جيشا من أهل الكوفة يبلغ ثلاثة آلاف بقيادة الحارث بن عميرة بن ذي المشعار الهمداني، وحين وصلوا إلى صالح بن مسرح بدأت المعركة وكان صالح في تسعين رجلا واشتدت المعركة جدا فقتل صالح فيها وكاد شبيب أن يقتل وحينذاك نادى من بقي من أصحابه وكانوا 70 رجلا: إلي يا معاشر المسلمين؛ فلاذوا به فقال لأصحابه: ليجعل كل واحد منكم ظهره إلى ظهر صاحبه وليطاعن عدوه، حتى ندخل هذا الحصن ونرى رأينا. وفعلا تقدموا إلى الحصن وتحصنوا به فأمر الحارث بالباب أن يحرق فحرق فقال لأصحابه: إنهم لا يقدرون في الخروج منه ومصبحهم غدا فنقتلهم، وقد بايع الخوارج شبيبا في ليلتهم تلك، ثم أتوا باللبود فبلوها وجعلوها على جمر الباب وخرجوا، فلم يشعر الحارث ومن معه إلا والخوارج يضربون رؤوسهم بالسيوف فصرع الحارث فاحتمله أصحابه وانهزموا نحو المدائن هاربين، فأخذ شبيب كل ما بقي في معسكر الحارث (2).   (1) هذا ما يذكره ابن الأثير والطبري وأكثر أهل الفرق، وأما البغدادي فيذكر أن خروج صالح كان في ولاية بشر بن مروان ويذكر عن المدايني أنه يقول بأن خروج صالح كان في زمن الحجاج. ((الفرق بين الفرق)) (ص110). (2) انظر: ((تاريخ الطبري)) (6/ 215، 223)، ((الكامل)) لابن الأثير (4/ 393، 396)، كتاب ((الأديان)) (ص103)، ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 196، 201). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 وشبيب هذا هو شبيب بن نعيم بن يزيد الشيباني ويكنى بأبي الصحاري، وله من الشجاعة والمعرفة بفنون الحرب ما يكاد يكون خيالا. لقد كان قائدا فذا مجربا للحروب يروغ روغان الثعلب ويهجم هجمة الأسد، قتل من جيش الخلافة الآلاف والعديد من القواد رغم قلة جيشه. ويختلف النقل في كيفية تولي شبيب القيادة بعد صالح؛ فالبغدادي يذكر أن صالحا حين أحس بالموت قال لأصحابه: قد استخلفت عليكم شبيبا وأعلم أن فيكم من هو أفقه منه ولكنه رجل شجاع مهيب في عدوكم فليعنه الفقيه منكم بفقهه. ثم مات وبايع أتباعه شبيبا ". بينما يذكر بعضهم ومنهم ابن الأثير وابن جرير الطبري أن شبيبا تولى أثناء حصار الخوارج في الحصن الذي ألجأهم إليه الحارث بن عميرة في تلك الليلة (1) وبعد مقتل صالح كما تقدم. وتعرف هذه الفرقة أيضا بأصحاب السؤال، فإذا ذكر بعضهم أصحاب السؤال فالمقصود بهم الشبيبية، وقد نسبهم الأشعري إلى البيهسية، ونسبهم غيره إلى الصالحية. وقد خالف شبيب صالحا في مسألة جواز تولي المرأة الإمامة العظمى؛ إذ كان شبيب يجيزها إذا قامت بأمورهم وخرجت على مخالفيهم، ولهذا فقد تولت غزالة قيادتهم بعد مقتل شبيب. وقد اشتهر شبيب بالشجاعة وخوض الحروب فقد دوخ بني أمية وهزم لهم أكثر من عشرين جيشا في خلال سنتين. وجه أول جيش إليه من قبل الحجاج بقيادة عبيد الله بن أبي المخارق ومعه ألف فارس فهزمهم شبيب، ثم وجه إليه الحجاج عبد الرحمن بن الأشعث فهزمهم شبيب، ثم وجه إليه عتاب بن ورقاء التميمي فقتله شبيب هو وزهرة بن حوية. ويذكر الشهرستاني أن شبيبا قتل من جيش الحجاج أربعة وعشرين أميرا كلهم أمراء الجيوش. فكم يكون القتل من أتباعهم؟! وقد استطرد الطبري وابن الأثير وغيرهما من المؤرخين في تفاصيل حروب شبيب وهي كثيرة تركت منها ما يتعلق بدقائق أخبار المعارك والخطط الحربية فيها وذكر المغامرين في اقتحامها، وكلها تشير إلى أنه قلما ينهزم شبيب في معركة إلا لحيلة أو الإعداد لكرة أخرى، في كل تلك المعارك التي خاضها مع جيوش الخلافة وحتى البدو لم يسلموا من شبيب؛ فقد أغار عليهم وأرهبهم في عدة غزوات لهم، وقد داهم الحجاج في عقر داره بالكوفة؛ فقد دخلها هو وأمه غزالة، أو زوجته في قول آخر، وخطبت على منبر الكوفة وفاء بنذرها، وصلى أيضا الصبح في مسجد الكوفة. وقد تنقل في ليلته تلك في أكثر من مساجد الكوفة لا يجد أحدا إلا قتله. وقد خبأ الحجاج نفسه فلم يخرج تلك الليلة إلى أن اجتمع له أربعة آلاف من جنده ثم خرجوا يقتتلون في سوق الكوفة، حتى كثر القتل في أصحاب شبيب فانهزم إلى الأنبار وقد عير الحجاج بتلك الحادثة فقيل فيه: أسد علي وفي الحروب نعامة ... ربداء تجفل من صفير الصافر هلا برزت إلى غزالة في الوغى ... أم كان قلبك في جناحي طائر وفي السنة السابعة والسبعين من الهجرة أو الثامنة والسبعين (على قول) كانت نهاية شبيب إذ مات غريقا، وذلك أنه حين أراد الانصراف من قتال أهل الشام إلى الجهة الأخرى من جسر دجيل الأهواز أمر أصحابه فتقدموا أمامه وتأخر هو في آخرهم وفي أثناء عبوره كان راكبا على حصان وكانت أمام الحصان فرس أنثى فنزا فرسه عليها، فخرج حافره على حرف السفينة فسقط في الماء.   (1) انظر: ((الملل والنحل)) (1/ 127)، ((الفرق بين الفرق)) (ص109–110، 223)، ((الكامل)) لابن الأثير (4/ 396). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 وقد قيل في غرقه سبب آخر وهو ضعيف لا يعتد به، ومفاده أن بعض جيشه كان حانقا عليه لما قتل من أقوامهم فحين تخلف في آخر جيشه قال هؤلاء: ننتهز الفرصة ونقطع به الجسر فندرك ثأرنا، فنفدوا هذا الرأي وأغرقوه. وانتهت حركته وتفرق من بقي من أتباعه (1). وفي عهد عمر بن عبد العزيز سنة 100هـ خرج بسطام اليشكري ويعرف بشوذب وهو رجل من بني يشكر خرج بالعراق، وكان الوالي على العراق عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب. خرج بسطام في مكان يسمى جوخى ومعه ثمانون فارسا أغلبهم من ربيعة، ولما بلغ أمرهم إلى عمر كتب إلى عبد الحميد أن يبعث إليهم رجلا حازما وألا يحركهم بشيء إلا أن يسفكوا دما أو يفسدوا في الأرض، فبعث إليهم عبد الحميد محمد بن جرير في ألفي رجل من أهل الكوفة وأمره بما قال عمر. ثم كتب عمر إلى بسطام يدعوه إلى الطاعة ويسأله عن سبب خروجه ويطلب إليه أن يبعث من قبله من يناظره لتظهر الحجة على أحدهما، فكتب بسطام إلى عمر قد أنصفت ثم بعث وفدا من قبله إلى عمر فتناظرا فظهرت الحجة لعمر ولكن وجهوا إلى عمر سؤالا محرجا قائلين له: " أخبرنا عن يزيد لم تقره خليفة بعدك؟ فاعتذر بأنه لم يوله هو وإنما ولاه غيره "، ولكن هذا الجواب لم يكن كافيا عندهم في هذه المسألة فقال له الخوارج: " أفرأيت لو وليت مالا لغيرك ثم وكلته إلى غير مأمون عليه أتراك كنت أديت الأمانة إلى من ائتمنك؟ "، فقال لمن تولى المحاورة وكانا اثنين: أنظراني ثلاثا، فخرجا من عنده. وحين علم بنو أمية بهذا خافوا خروج الخلافة عنهم فيقال إنهم دسوا له سما فتوفي في تلك الأيام الثلاثة، ومناظرتهم مشهورة في كتب التاريخ. وبعد وفاة عمر أمر عبد الحميد محمد بن جرير بمناجزتهم قبل أن يبلغ الخوارج موت عمر وقبل أن يرجع وفدهم فعلموا حينذاك أن حدثا قد حدث في الخليفة وأنه قد مات، فحملت الخوارج على محمد بن جرير فهزموه شر هزيمة فأرسل لهم يزيد، تميم بن الحباب في ألفين ولما التقوا قال لهم تميم: إن يزيد لا يفارقكم على ما فارقكم عليه عمر، فلعنوه ولعنوا يزيد معه، ونشبت المعركة فانهزم تميم وجيشه، فوجه إليهم يزيد جيشا آخر بقيادة الشحاج بن وداع في ألفين فكان مصيره مصير من سبقه، وهكذا وقفوا كأنهم القدر المحتوم لا يستطيع أحد أن ينال منهم مطلبا إلى أن جاء مسلمة بن عبد الملك الكوفة فشكا أهلها إليه ما لاقوه من شوذب وخوفوا مسلمة منه، فأرسل مسلمة حينذاك قائدا شجاعا هو سعيد بن عمرو الحرشي في عشرة آلاف فارس، فالتقوا في معركة حامية الوطيس كانت فيها نهاية الخوارج؛ فقد أفنوهم عن آخرهم وانتهى بسطام وانتهت حركته (2).   (1) انظر: ((تاريخ الطبري)) (6/ 224 - 284)، ((الكامل)) لابن الأثير (4/ 396 - 433)، وانظر: ((الفرق بين الفرق)) (ص109–112)، ((الملل والنحل)) (1/ 128)، ((التنبيه والرد)) (ص55)، وانظر: ((العقد الفريد)) (1/ 219–220)، ((البداية والنهاية)) (9/ 19)، ((مروج الذهب)) (3/ 147). (2) ((تاريخ الطبري)) (6/ 555، 556، 575، 578)، وانظر: ((الكامل)) لابن الأثير (5/ 45 - 48)، وانظر أيضاً (ص68 - 70). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 وفي سنة 105هـ, خرج عقفان ومعه ثمانون رجلا في خلافة يزيد بن عبد الملك فأشير على يزيد أن لا يرسل جيشا لمحاربته بل يرسل إلى كل رجل مع عقفان رجلا من أقاربه حتى يرده عن الخروج بالاستعطاف والتلطف إليه، وفعلا نجحت هذه الخطة حتى بقي عقفان وحده فأرسل إليه يزيد أخاه فاستعطفه فرده عن الخروج، وانتهت فتنة كادت أن لا تنتهي إلا بضحايا كثيرة. فلما توفي يزيد وتولى هشام بن عبد الملك ولاه أمر العصاة فاشتد حتى أنه لم يرحم ولده الذي جاء من خراسان غاضبا على الخليفة فقد قبض عليه عقفان وأرسله إلى هشام مقيدا، فقال هشام: لو خاننا عقفان لكتم أمر ابنه ثم عفا عنه لأبيه وولى عقفان أمر الصدقة (1). وهذه هي الطريقة التي ينبغي اتباعها ولو أن خلفاء بني أمية سلكوا هذه الطريقة الحسنة لكان الأمر عكس ما وقع من فتن قتل فيها الآلاف المؤلفة بين مستحق وغير مستحق. ثم خرج مسعود العبدي سنة 105هـ أيضا. هذا الخارجي يسمى مسعود بن أبي زينب العبدي ومكان خروجه البحرين، وقد أخذ في التوسع إلى أن بلغ اليمامة فخرج إليه عاملها سفيان بن عمرو العقيلي فالتقوا بالخضرمة واقتتلوا قتالا شديدا، وقتل مسعود فتولى بعده رجل يسمى هلال بن مدلج، واستمرت المعركة يوما آخر كاملا إلى أن جاء المساء فتفرق الخوارج منهزمين حتى بقي هلال ومعه جماعة قليلة تحصن بحصن كان هناك، ولكن لم يدم بقاؤه فيه فقد نصبت السلالم عليه وأخذ هلال فقتل واستأمن من بقي منهم (2).وفي نفس السنة خرج مصعب بن محمد الوالبي، خرج هو ومن معه إلى أن وصلوا إلى مكان يسمى حزة من مقاطعة الموصل فأرسل لهم هشام جيشا فالتقوا هناك في معركة انتهت بقتل مصعب وكثير من الخوارج (3). ثم خرج الصحاري بن شبيب سنة 119هـ. جاء هذا الرجل إلى خالد بن عبد الله والي العراق من قبل هشام بن عبد الملك يسأله الفريضة مع أهل الشرف فهزئ به خالد وقال: وما يصنع ابن شبيب بالفريضة؟، فلم يظهر الصحاري أي تغير ثم ودع خالدا وخرج، ولكن ذلك الخروج قد هز ضمير خالد فخاف أن يفتق عليه أمرا يكرهه فأرسل في طلبه من يرده فقال لهم: أنا كنت عنده آنفا فأبوا أن يتركوه فجرد سيفه عليهم فتركوه فذهب مستخفيا بنفسه إلى أن وصل إلى مكان يسمى جبل كما يقول الطبري، أو حبل كما يقول ابن الأثير، ينزله ناس من بني تيم اللات من ثعلبة فاستمالهم إليه فقبل منه بعضهم، وتوقف آخرون، وأبى غيرهم وقالوا: نحن في عافية، فخرج الصحاري بمن أطاعه وكانوا ثلاثين فارسا حتى أتى المناذر، وحين بلغ أمره خالدا قال: قد كنت خفتها منه فأرسل إليهم جيشا التحم معهم في معركة انتهت بالقضاء على الصحاري ومن معه جميعا (4). وفي هذه السنة أيضا خرج كثارة. ويسمى بهلول بن بشر ويلقب كثارة، كان عابدا مجتهدا وكان على جانب عظيم من الشجاعة والخبرة الحربية، وكان السبب في خروجه أنه ذات يوم أرسل غلاما ليشتري له من أحد المحلات خلا بدرهم، فجاء الغلام بخل وكان قد التبس على صاحب المحل الاسم ولم يتأكد من الغلام فسارع وأعطاه خمراً، وحين جاء الغلام بالخمر إلى كثارة وقال لغلامه: ارجع فخذ الدرهم. فامتنع البائع من رد الدرهم.   (1) ((الكامل)) لابن الأثير (5/ 118). (2) ((الكامل)) لابن الأثير (5/ 118). (3) انظر: ((الكامل)) لابن الأثير (5/ 118 - 119). (4) ((تاريخ الطبري)) (7/ 137 - 138)، ((الكامل)) لابن الأثير (5/ 213). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 وأراد الله أن يتطور هذا النزاع فذهب كثارة إلى حاكم تلك المنطقة ليشكو أمره فأجابه الحاكم بغاية القسوة قائلا له: "الخمر خير منك ومن قومك. وعندها عقد بهلول العزم على الخروج ولكنه أخفى ذلك حتى يتم حجه، فذهب إلى مكة وفيها قابل بعض أصدقائه والذين يرون رأيه فعزموا على الخروج معه وتحت إمرته واتعدوا مكانا سموه من نواحي الموصل، فلما اجتمعوا في تلك القرية أجمع رأيهم على أن لا يمروا بأحد إلا قالوا له بأنهم راجعون من عند الخليفة هشام وأنهم ذاهبون إلى خالد لتولي بعض الأعمال وكانوا يأخذون في طريقهم دواب البريد إلى أن وصلوا تلك القرية التي اشترى فيها الخل. قال بهلول: نبدأ بهذا العامل فنقتله، وقال أصحابه: إن الغرض الأهم هو قتل خالد. فقال كثارة له: إني لأرجو أن أقتل هذا وخالدا فبدأ وقتله وبلغت أخبارهم خالدا فحذرهم الناس، ثم خرج خالد إلى الحيرة ومنها أرسل لهم ثمانمائة رجل، وعندما بدأت الحرب بينهم انهزموا أمام الخوارج. فلما وصلت أخبارهم خالدا بعث إليهم جيشا آخر يقوده رجل من بني شيبان وحين لقيهم بهلول شد عليهم فقال له ذلك القائد: نشدتك بالرحم فإني جانح مستجير فكف عنه. وانهزم أصحابه ثم طمحت نفس كثارة إلى قتل الخليفة هشام نفسه ما دام كثارة قد خرج لله، ثم عزم على السير لقتل هشام ولكن عمال هشام خافوا إن وصل كثارة إلى الشام أن ينتقم منهم الخليفة، فجند له خالد جندا من أهل العراق ومثله عامل الجزيرة، ووجه إليه هشام أيضا جندا من أهل الشام لاستغاثة عامل الموصل به، فبلغت الأمداد عشرين ألفا يقابلهم الخوارج وهم سبعون رجلا، كما ذكر المؤرخون، فنشبت معركة بينهم حامية قتل فيها كثارة وتفرق من بقي من أتباعه منهزمين إلى الكوفة، فتلقاهم عبيد أهل الكوفة وسفلتهم فرموهم بالحجارة حتى قتلوهم (1). ثم خرج الضحاك بن قيس سنة 127هـ، وقتل سنة 128هـ. خرج الضحاك بالعراق وكثر أتباعه حتى بلغوا مائة وعشرون ألفا فاستولى على عدة مناطق، وكان ذلك في زمن مروان بن محمد بن محمد ولم يستطع أحد من قواد مروان إيقافه، وأخيرا قرر الضحاك الذهاب لملاقاة مروان فاجتمعوا في مكان من كفر نوثا يسمى الغز فدارت معركة قتل فيها الضحاك. فولى الخوارج عليهم رجلا يسمى الخبيري صبيحة الليلة التي قتل فيها الضحاك، وبدأت معركة بين الخبيري وجند الخلافة وفيهم مروان نفسه، فانتصر الخبيري على القلب من جيش مروان حتى دخل فيهم ووصل إلى حجرة مروان، فانهزم مروان حتى خرج عن العسكر بستة أميال منهزما وكانت ميمنة مروان وميسرته ثابتة، فاقتحم بعض جيش مروان على الخبيري ومن معه فقتل الخبيري، وأخبر بذلك مروان فرجع. وانصرف أهل عسكر الخبيري، وولوا عليهم شيبان بن عبد العزيز ثم ارتحلوا من ذلك المكان، فتبعهم مروان يقيم عليهم إذا أقاموا ويحاربهم إذا حاربوا فصاروا يتنقلون من مكان إلى مكان وهم ينقصون ما بين متسلل بنفسه وبين مقتول، إلى أن تفرقوا وذهب كل إلى جهة فأخذ شيبان في بعض تلك الجهات فقتل بعمان (2).   (1) ([8296]) انظر: ((تاريخ الطبري)) (7/ 130، 134). ((الكامل)) لابن الأثير (5/ 209 - 212). (2) ([8297]) ((تاريخ الطبري)) (7/ 345 – 353). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 وأخيرا كان خروج عبد الله بن يحيى الملقب "بطالب الحق" سنة 128هـ، وقتل سنة 130هـ، وهو من حضرموت، كان مشهورا بأنه من العباد المجتهدين وكان السبب في ظهوره هو أبا حمزة الشاري، فقد كان أبو حمزة يحج في كل سنة ويدعو من يتوسم فيه الإجابة إلى خلاف مروان بن محمد والخروج عليه، وكان ممن التقى بهم طالب الحق فدعاه إلى رأيه وحسن له الخروج على مروان، فقال له عبد الله بن يحيى: "يا رجل أسمع كلاما حسنا وأراك تدعو إلى حق، فانطلق معي فإني رجل مطاع في قومي"، فخرج معه إلى حضرموت وهناك بايعه أبو حمزة على الخلافة وعلى الخروج على مروان، فكتب إلى علماء البصرة من الإباضية يشاورهم في الخروج فكتبوا إليه: إن استطعت أن لا تقيم يوما واحدا فافعل فإن المبادرة بالعمل الصالح أفضل، ولست تدري متى يأتي عليك أجلك، ولله خيرة من عباده يبعثهم إذا من لنصرة دينه، ويخص بالشهادة منهم من يشاء. وهنا عزم على الخروج وبدأ في التوسع، فأخذ منطقة حضرموت وامتد سلطانه إلى صنعاء، حين سار إليها في ألفين، فقابله عامل مروان على صنعاء القاسم بن عمر في مكان يسمى لحج، ودارت بينهم معركة انتصر فيها الخوارج، وواصلوا زحفهم إلى صنعاء، فمكث فيها طالب الحق شهرا يحسن السيرة في أهلها، وألان جانبه لهم فكثر أتباعه ووافاه الخوارج من كل مكان وبسط سيطرته على تلك المناطق، فبعث إليه مروان بن محمد عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي، فالتقى هو وطالب الحق فدارت معركة قتل فيها طالب الحق وحمل رأسه إلى مروان بالشام سنة 130هـ (1). وكان هذا هو آخر عهد بني أمية بالخوارج حيث انتهت دولتهم في عام 132هـ بقيام الدولة العباسية. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص129   (1) ([8298]) انظر: ((كشف الغمة)) (ص307 – 314)، ((تاريخ الطبري)) (7/ 348، 400)، و ((الكامل)) لابن الأثير (5/ 351، 392). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 المبحث الثالث: حركات الخوارج الثورية على الدولة العباسية رأينا سابقا كيف أن الخوارج منذ أن فارقوا علي بن أي طالب رضي الله عنه أخذوا في تضخيم السخط على مخالفيهم والحث الشديد على محاربتهم وتضخيم خطاياهم، في كل مسألة ينادون بأعلى أصواتهم لا حكم إلا لله لا لعلي ولا لبني أمية ولا لبني العباس ولا لأحد، الحرب، الحرب، لهذا فقلما يجتمع منهم جماعة إلا وسارعوا وأعلنوها حربا شعواء لا يمكن أن تنتهي إلا بمنتصر ومهزوم. فقد خاضوا مع بني أمية كما تقدم حربا لا هوادة فيها كلفوا أنفسهم خسائر ضخمة، وكلفوا الخلافة من الأنفس والأموال ما لو أنفق في جهاد الكفار لكان مفخرة إسلامية. استمر الخوارج طوال عهد الدولة الأموية وهم في صراع حاد معها فأوهنوا قوتها وأوهنت قوتهم، وكانوا كالشجا في حلق كل خليفة لا يخف ألمه إلا ليبدأ من جديد، وهكذا إلى أن غير الله الحال وانتهت الدولة الأموية برأسها وخلفتها الدولة العباسية ولا زال مرجل الخوارج يغلي ولكنه يغلي على بقية جمر كاد أن يصير رمادا واختلف خوارج اليوم عن خوارج الأمس، فالخوارج على بني أمية كانوا أكثر جمعا وأشد بأسا، أما الخوارج على بني العباس فكانوا كما وصفهم أحمد أمين بقوله: "كانوا الخوارج في حالة الاحتضار وحركاتهم التي أتوا بها في العهد العباسي تشبه حركة المذبوح" (1). ومن هنا توالت عليهم الهزائم فلا يخرجون على خليفة إلا ورماهم بكل ما لديه من ثقل إلى أن أصبحوا في وضع لا يمكنهم فيه أن يلفتوا إليهم نظرا، فلا يخشى بأسهم ولا يحسب لقوتهم مثل ما كان لأسلافهم. يقول أحمد أمين في نتيجة هزائمهم: "وكانت هذه الهزائم المتوالية للخوارج سببا في ضعف أمرهم وقلة شأنهم؛ فلم يعد لهم من القوة والقتال أثر في التاريخ كبير" (2). ولنبدأ الآن بذكر أشهر الخارجين على الدولة العباسية، وأول الخارجين كان: هو الجلندي الذي خرج على السفاح، ويسمى الجلندي بن مسعود بن جيفر الأزدي، فقد أراد هو وأصحابه من أهل عمان صد جيش الخلافة عن دخول بلادهم، وكان قائد جيش الخليفة أبي العباس السفاح، رجلا يسمى خازم بن خزيمة فالتقوا في الصحراء فاقتتلوا قتالا شديدا يوما كاملا، ثم استأنفوا القتال في اليوم الثاني في معركة لا تقل عن اليوم الأول، ثم هدأت الأمور قليلا ولكنهم استأنفوها على أشدها. وقد فكر جيش خازم في حيلة أشار بها عليهم رجل من أهل الصغد وهي أن يجعل كل جندي على طرف سنانة مشاقة، وهي ما خلص من القطن والكتان والشعر، ويرووها بالنفط ثم يشعلوا فيها النيران ثم يقذفوها على بيوت الجلندي وأصحابه، وتمت هذه الفكرة بنجاح فاشتعلت النار في البيوت وكانت من خشب فاشتغل أصحاب الجلندي بإخراج أهلهم وأموالهم عن النار، وعندها مال عليهم جيش خازم يقتلونهم كيف شاءوا وانتهت المعركة بقتل عشرة آلاف منهم، ثم أخذت رؤوسهم وبعث بها إلى البصرة فمكثت أياما ثم بعث بها إلى الكوفة إلى أبي العباس كما هي عادة أهل التجبر والقهر في من يقع تحت سطوتهم" (3). وخرج بعد ذلك ملبد بن حرملة الشيباني على المنصور بناحية الجزيرة بالعراق، وكان فيه شجاعة شبيب ودهائه وخبرته بالحرب وأنواعها.   (1) ([8299]) ((ضحى الإسلام)) (3/ 335). (2) ([8300]) ((ضحى الإسلام)) (3/ 335). (3) ([8301]) انظر: ((تاريخ الطبري)) (7/ 463)، وانظر ((تاريخ ابن كثير)) (10/ 57). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 خرج إليه في أول الأمر ألف فارس من المرابطين في الجزيرة فهزمهم، ثم تتابعت الجيوش بعد ذلك على حربه فسارت إليه روابط الموصل فهزمهم، ثم سار إليه يزيد بن حاتم المهلبي فهزمه، وعجز الناس عنه فبعث إليه أبو جعفر المنصور مولاه المهلهل بن صفوان في ألفين من نخبة الجند فهزمهم، ثم وجه إليه آنذاك آخر خراسانيا يسمى نزارا فهزمهم، ثم وجه إليه صالح بن مشكان فهزمهم، ثم وجه إليه صالح بن صبيح فانهزم أيضا، ثم سار إليه حميد بن قحطبة فهزمه هو الآخر. فأرهب الناس وأهمهم أمره، ثم وجه إليه أبو جعفر عبد العزيز بن عبد الرحمن وضم إليه زياد بن مشكان فانهزما أيضا، فبعث إليه المنصور خازم بن خزيمة في ثمانية آلف فدارت بينهم معركة قتل في نهايتها ملبد وأكثر جيشه وهرب من بقي منهم متسللين بأنفسهم (1). وقد خرج على المنصور أيضا أهل المغرب بقيادة أبو حاتم الإباضي. ويسمى يعقوب بن حبيب، وكان عامل تلك الجهة وهي طرابلس يسمى الجنيد بن بشار فكتب إلى عمر بن حفص القائد العام لإفريقية يستمده فأمده بعسكر التقى مع الإباضية في معركة فانهزموا أمام أبي حاتم إلى قابس، فلحقهم وحاصرهم فيها، ثم حاصر القيروان وكثر أتباعه وضيق عليها الحصار مدة ثمانية أشهر حتى أكلوا دوابهم وكلابهم. وفي هذه الأثناء جاءهم الخبر بوصول عمر بن حفص فاستبشروا وجاء عمر حتى نزل مكانا يسمى الهريش، فلما علم أبو حاتم ترك حصار القيروان وحول جمعه لملاقاة عمر، فلما علم بهم عمر، وكان في سبعمائة فارس ذهب إلى تونس فتبعه البربر فعاد إلى القيروان مسرعا وأدخل إليها كل ما يلزم من دواب وطعام وغير ذلك، فجاء أبو حاتم إلى القيروان وحاصرها كحصار المرة الأولى حتى أجهدها وكانوا في أثناء الحصار تحصل بينهم مناوشات غير مجدية، وهنا عزم عمر على منازلتهم كيفما كانت النتيجة ثم التحم معهم في معركة قتل فيها، فقام بالأمر بعده أخوه لأمه حميد بن صخر فوادع الثائرين ريثما يجيء مدد الخليفة المكون من ستين ألفا على رأسهم يزيد بن حاتم بن قتيبة ابن المهلب، ثم حصلت حروب عدة قضي فيها على تلك الحركات جميعها في معارك بلغت 375 معركة فيما قيل (2).ثم خرج الصحصح بالجزيرة على الرشيد، وكان عامله على الجزيرة يسمى أبو هريرة محمد بن فروخ فوجه إليه الصحصح جيشا ولكنه انهزم، ثم توسع الصحصح وخرج إلى الموصل فلقيه عسكرها واقتتلوا فقتل منهم كثيرا، ثم رجع إلى الجزيرة فسير إليه الرشيد جيشا القتوا به في دورين في معركة قتل فيها الصحصح وأصحابه (3). ثم خرج على الرشيد أيضا الوليد بن طريف التغلبي بالجزيرة واستولى عليها وعلى نصيبين ووصل إلى أرمينية وأذربيجان وحلوان وأراضي السواد، فوجه إليه الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني وقد أراد يزيد أن يطاوله ليضعفه ويمكر به، إلا أن البرامكة كانت في نفوسهم حزازة عليه فقالوا للرشيد: إنما يتجافى يزيد عن الوليد للرحم لأنهما كليهما من وائل وأخذوا يهونون أمر الوليد فكتب إليه الرشيد كتاب مغضب وقال له: "لو وجهت أحد الخدم لقام بأكثر مما تقوم به ولكنك مداهن متعصب، وأقسم بالله إن أخرت مناجزته لأوجهن إليك من يحمل رأسك"، فقام يحرض أصحابه قائلا لهم: "فداكم أبي وأمي إنما هي الخوارج ولهم حملة فاثبتوا، فإذا انقضت حملتهم فاحملوا عليهم فإنهم إذا انهزموا لم يرجعوا"، ثم نشبت المعركة فقتل الوليد، فرثته أخته بقصيدة منها: بتل تباثا رقم قبر كأنه ... على علم فوق الجبال منيف ألا يا لقومي للنوائب والردى ... ودهر ملح بالكرام عنيف   (1) ([8302]) ((تاريخ الطبري)) (7/ 495، 498). (2) ([8303]) ((الكامل)) لابن الأثير (5/ 599، 601). (3) ([8304]) ((الكامل)) لابن الأثير (6/ 112). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 فيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف فتى لا يحب الزاد إلا من التقى ... ولا المال إلا من قنا وسيوف فلا تجزعا يا ابني طريف فإنني ... أرى الموت نزالا بكل شريف (1). ثم خرج عبد السلام بن هشام اليشكري بالجزيرة أيضا وكثر أتباعه بها وذلك في زمن المهدي، فبعث إليه المهدي الجيش تلو الجيش وهو يهزمهم أولا بأول، فأرسل المهدي إلى القائد الذي بحيالهم ويسمى شبيب بن واج ألف فارس، وكان المهدي قد قوى نفوسهم فجعل لكل جندي ألف درهم وألحقهم بشبيب، فلما وصلوا إليه خرج بهم في طلب عبد السلام، فانهزم منهم عبد السلام، فاتبعوه حتى أتى قنسرين فأحيط به وقتل هناك (2). ثم كان خروج يوسف بن إبراهيم البرم على المهدي بخراسان ناقما على المهدي سيرته فتبعه خلق كثير في تلك النواحي. فبعث إليه المهدي يزيد من مزيد الشيباني فالتقوا في معركة أسر فيها البرم، فوجه به يزيد إلى المهدي ومعه وجوه أصحابه فلما وصلوا إلى المهدي أمر بقطع يدي يوسف ورجليه وضرب عنقه وعنق أصحابه الذين معه (3). وكان آخر الخارجين على المهدي يس التميمي وكان خروجه بالموصل محكما، وكان على رأي صالح بن مسرح واجتمع له خلق كثير وأخذ في التوسع فأخذ أكثر ربيعة والجزيرة، فخرج لقتاله عسكر الموصل ولكنه هزمهم. فوجه المهدي قائدين أحدهما أبو هريرة محمد بن فروخ، والآخر هرثمة بن أعين فدارت بينهما معارك انتهت بقتله وانهزم من بقي من أتباعه (4). وبانهزامه انتهت حركات الخوارج ضد الدولة العباسية في المشرق والمغرب، وإن أصبحت للإباضية منهم دولة في عمان والمغرب نتناولها بالدراسة في الفصل التالي. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص155   (1) ([8305]) ((الكامل)) لابن الأثير (6/ 141 - 143). (2) ([8306]) ((تاريخ الطبري)) (8/ 130، 142). (3) ([8307]) ((تاريخ الطبري)) (8/ 124). (4) ([8308]) ((الكامل)) لابن الأثير (8/ 124). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 المبحث الأول: شجاعتهم وسرعة اندفاعهم لقد بلغ الخوارج القمة في الإقدام على الموت في ساحات القتال لا يهابون بطش أحد ولا يقف دون غضبهم حاجز، وقد اشتهروا شهرة لا يخطئها مطلع على أحوالهم في مجال الشجاعة النادرة والاستبسال في المعارك، وقد ساعد على شجاعتهم النادرة وجود العدة الكافية من خيل جياد وأسلحة تامة؛ ذلك أنهم كانوا سريعي الإغارة والتحرك من مكان إلى مكان، فكانوا يتخيرون ركوب الخيل الجياد. وأعتقد أن تلك الشجاعة وذلك الاستبسال لو وجه وجهة صحيحة لكان له أثر بالغ في مجرى التاريخ فكانوا جنودا عاملين في نشر الفتوحات الإسلامية بدلا من حربهم للمسلمين وإضعافهم لقوة الدولة الإسلامية، وكذلك لو عومل الخوارج معاملة حسنة بالصبر والحكمة لخفت تلك الثورة العنيفة، ولكن موقف الحكام تجاههم كان موقفا عنيدا زاد الطين بلة، فلو عولجوا ببعض الحكمة والرأفة لقل أو لربما انعدمت تلك المعارك التي ذهب ضحيتها آلاف البشر مما لا يحصيهم إلا الله. وهذا يذكرنا بموقف يزيد بن عبد الملك حين أرسل إلى الخارجي عقفان أخاه يستعطفه حتى رده عن خروجه، فلما ولي هشام بن عبد الملك ولاه أمر العصاة فقدم ابنه من خراسان غاضبا فشده وثاقا وبعث به إلى هشام فأطلقه لأبيه، وقال: لو خاننا عقفان لكتم أمر ابنه، واستعمل عقفان على الصدقة فبقى عليها إلى أن توفي هشام (1). فبنو أمية وبعدهم بنو العباس لو كانوا قد سلكوا معهم مثل هذا المسلك لتغير الوضع بالنسبة لهم أو لم يكن - على أقل تقدير – يمثل ما كانوا عليه من الحدة والعنف، ولكنهم كانوا لا يراعون في الخوارج إلا ولا ذمة يقتلونهم قتلا تقشعر منه الجلود، مستعملين في ذلك كل ما استطاعوه من بطش وإرهاب ضدهم. ومن هنا جاش غضب الخوارج إضافة إلى ما كان في اعتقادهم من أن المجتمع قد فسد، والحكام قد خرجوا عن طاعة الله وتحكيم كتابه فأطاعوا الشيطان وخرجوا عن حكم الله – كما كانوا يتصورون-، فكانت شجاعتهم واستبسالهم أمرا طبيعيا إزاء هذه الأوضاع. .... ومن الشنائع التي تروى أيضا في شدتهم على مخالفيهم وغلظ قلوبهم عليهم ما يروى عنهم من أنهم أخذوا امرأة فقتلوا أباها بين يديها وكانت جميلة، ثم أرادوا قتلها فقالت: أتقتلون من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين. فقال قائل منهم: دعوها. فقالوا: قد فتنتك ثم قدموها فقتلوها (2). وكما اشتهر رجالهم بالشجاعة اشتهرت نساؤهم كذلك فاشتهرت عدة منهن بمواقف عجيبة في الثبات، كانت المرأة يؤتى بها أسيرة حتى يوقف بها أمام الحجاج ذلك الجبار المخيف فلا تخضع له بل ترى وكأنها غير مكترثة به ....... وهكذا أدت الشجاعة بالخوارج إلى التهور في الحرب وسفك الدماء إلى هذا الحد السيء. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص231   (1) ((الكامل)) لابن الأثير (5/ 118). (2) انظر: ((شرح نهج البلاغة)) (4/ 164). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 المبحث الثاني: مبالغتهم في العبادة والزهد اشتهر الخوارج بالمبالغة في العبادة فقد بلغوا فيها مبلغا عظيما، وكذلك كان لهم اشتغالهم الدائم بقراءة القرآن قد لا يدركه الكثير من غيرهم. يصفهم جندب الأزدي بقوله: " لما عدلنا إلى الخوارج ونحن مع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، قال: فانتهينا إلى معسكرهم فإذا لهم دوي كدوي النحل من قراءة القرآن وإذا فيهم أصحاب البرانس – أي الذين كانوا معروفين بالزهد والعبادة- " (1).وقد وصف زعيم منهم وهو عبد الله بن وهب بأنه ذو الثفنات (2) لشدة عبادته واجتهاده وكثرة سجوده، حتى أصبحت يداه كثفنات الإبل من كثرة وضعها على الأرض. وهذا أبو بلال مرداس كان من عبادهم وزهادهم مر بأعرابي وهو يداوي بعيره بالقطران فهرج البعير من شدة القطران، فوقف عليه أبو بلال فلما رآه غشي عليه، فقام الأعرابي يرقيه ظانا أن به مسا فلم أفاق قال له: قد رقيتك، قال له: ليس بي شيء مما خفته علي، وإنما ذكرت به قطران جهنم فأصابني ما رأيت (3).بل لقد وصل الاجتهاد في العبادة ببعضهم إلى حد المغالاة والخروج عن الرفق بالنفس إلى الأمر المذموم، فقد طلب ابن زياد من مولى عروة بن حدير أن يصف له أمر عروة بعدما قتله قائلا له: صف لي أمره واصدق، فقال:: أأطنب أم اختصر؟ فقال: بل اختصر، قال: ما أتيته بطعام في نهار قط، ولا فرشت له فراشا بليل قط. قال الشهرستاني بعد أن ذكر هذه الحادثة: " هذه معاملته واجتهاده وذلك خبثه واعتقاده " (4)، وقد ذكر ابن أبي الحديد في ترجمته المختصرة له أنه كان له أصحاب وأتباع وشيعة (5).وحتى نافع بن الأزرق وهو المشهور بسفك الدماء يكتب إلى أهل البصرة ويذم في كتابه الدنيا ويصفها بأنها غرارة مكارة ينبغي الحذر منها ومن الركون إليها، في كلام عذب أخاذ عليه فصاحة العرب وقوة حجتهم، فمنه قوله: " فلا تغتروا ولا تطمئنوا إلى الدنيا فإنها غرارة مكارة لذتها نافذة ونعمتها بائدة، حفت بالشهوات اغترارا وأظهرت حبره وأضمرت عبره، فليس آكل منها أكلة تسره ولا شارب شربة تؤنقه إلا دنا بها درجة إلى أجله وتباعد بها مسافة من أمله، وإنما جعلها الله دارا لمن تزود منها إلى النعيم المقيم والعيش السليم، فلن يرضى بها حازم دارا ولا حليم بها قرارا، فاتقوا الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " (6).   (1) ((تلبيس إبليس)) (ص93)، ((فتح الباري)) (12/ 296). (2) ((الكامل)) للمبرد (2/ 155). (3) ((الملل والنحل)) (1/ 118). (4) ((الملل والنحل)) (1/ 118). (5) ((شرح نهج البلاغة)) (4/ 132). (6) ((الكامل)) للمبرد (2/ 179). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 وأما خلفه أبو حمزة الخارجي فله خطبة مشهورة خطبها حين دخل المدينة المنورة غازيا وصف في هذه الخطبة أصحابه بالعبادة قائلا: " يا أهل المدينة بلغني أنكم تنتقصون أصحابي، قلتم: شباب أحداث وأعراب جفاة، ويلكم يا أهل المدينة وهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شبابا أحداثا، شباب والله مكتهلون في شبابهم، غضية عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أقدامهم، قد باعوا الله عز وجل أنفسا تموت بأنفس لا تموت، قد خالطوا كلالهم بكلالهم، وقيام ليلهم بصيام نهارهم، منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مروا بآية خوف شهقوا: خوفا من النار، وإذا مروا بآية شوق شهقوا شوقا إلى الجنة ". ........ وقد روي عن ابن ملجم ما يحير العقل من تناقضهم في سلوكهم الديني، فبينما هم شديدو الغلو في الدين والعبادة إذا هم شديدو الحقد على خيار الصحابة ومستحلون لدمائهم. فهذا ابن ملجم يقتل علي بن أبي طالب، ومع ذلك يقف عند القصاص منه كأثبت الناس وأعبدهم، يقول ابن الجوزي: " فلما مات علي رضي الله عنه أخرج ابن ملجم ليقتل، فقطع عبد الله بن جعفر يديه ورجليه فلم يجزع ولم يتكلم، فكحل عينيه بمسمار محمي فلم يجزع وجعل يقرأ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ [العلق: 1 - 3] حتى ختمها، وإن عينيه لتسيلان فعولج على قطع لسانه فجزع، فقيل له: لم تجزع، فقال: أكره أن أكون في الدنيا مواتا لا أذكر الله " (1).ومثله في هذا عروة بن حدير الذي تحدثنا عنه آنفا، فبينما هو يتبرأ من خيار الصحابة علنا دون خوف أحد إذا به من أعبد الناس وأصومهم، وقد قتله ابن زياد بعد أن تمت بينهما المناقشة الحادة التي يحكيها الشهرستاني بقوله: " وعروة بن حدير نجا بعد ذلك من حرب النهروان وبقي إلى أيام معاوية، ثم أتي به إلى زياد بن أبيه ومعه مولى له، فسأله زياد عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقال فيهما خيرا، وسأله عن عثمان فقال: كنت أوالي عثمان على أحواله في خلافته ست سنين ثم تبرأت منه بعد ذلك للأحداث التي أحدثها، وشهد عليه بالكفر، وسأله عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فقال: كنت أتولاه إلى أن حكم الحكمين ثم تبرأت منه بعد ذلك، وشهد عليه بالكفر، وسأله عن معاوية فسبه سبا قبيحا ثم سأله عن نفسه فقال: أولك لزنية وآخرك لدعوة وأنت فيما بينهما بعد عاص ربك، فأمر زياد بضرب عنقه ثم دعا مولاه فقال له: صف لي أمره واصدق، فقال: أأطنب أم اختصر؟ فقال: بل اختصر، فقال: ما أتيته بطعام في نهار قط ولا فرشت له فراشا بليل قط " (2). .......... ولقد كان خليقا بهم وهم على هذه الدرجة من العبادة والورع أن يعفوا عما وقعوا فيه من المحارم وما لغوا فيه من دماء المسلمين، ولكن تدينهم على هذا النحو الذي كانوا عليه ليس هو الصورة الصحيحة للتدين المثمر الذي يحول بين صاحبه وبين محارم الله. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص240   (1) ((تلبيس إبليس)) (ص94). (2) ((الملل والنحل)) (1/ 118). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 المبحث الثالث: فصاحتهم وقوة تأثيرهم وقد اشتهر الخوارج بالفصاحة وقوة الأسلوب وعرض مذهبهم والدعاء إليه بصورة شيقة تجذب إليهم القلوب وتتأثر بكلامهم أيما تأثر، فلهم خطب وأشعار وأمثال ومناظرات مشهورة في كتب الأدب تتميز بفصاحتها وقوة تأثيرها، ومن أمثلة ذلك: " إن عبد الملك بن مروان أتي برجل منهم فبحثه فرأى منه ما شاء فهما وعلما، ثم بحثه فرأى منه ما شاء الله أدبا ودهيا، فرغب فيه واستدعاه إلى الرجوع عن مذهبه فرآه مستبصرا محققا، فزاده في الاستدعاء فقال له: لتغنك الأولى عن الثانية وقد قلت فسمعت فاسمع أقل، قال له: قل: فجعل يبسط له من قول الخوارج ويزين له مذهبهم بلسان طلق وألفاظ بينة ومعان قريبة، فقال عبد الملك بعد ذلك على معرفته: لقد كاد يوقع في خاطري أن الجنة خلقت لهم وأني أولى بالجهاد منهم، ثم رجعت إلى ما ثبت الله علي من الحجة ووقر في قلبي من الحق فقلت له: لله الآخرة والدنيا، وقد سلطني الله في الدنيا ومكن لنا فيها وأراك لست تجيب بالقول. والله لأقتلنك إن لم تطع" (1) الخ. وقد وصف ابن زياد أسلوب الخوارج وقوة بيانهم بقوله: "لكلام هؤلاء أسرع إلى القلوب من النار إلى اليراع " (2).ويصفهم الشيخ أبو زهرة بقوله إنهم " اتصفوا بالفصاحة وطلاقة اللسان والعلم بطرق التأثير البياني، وكانوا ثابتي الجنان لا تأخذهم حبسة فكرية ويقول: " وكانوا يحبون الجدل والمناقشة ومذاكرة الشعر وكلام العرب، وكانوا يذاكرون مخالفيهم حتى في أزمان القتال "، ويقول أيضا:" وقد كان التعصب يسود جدلهم فهم لا يسلمون لخصومهم بحجة ولا يقتنعون بفكرة مهما تكن قريبة من الحق وواضحة الصواب، بل لا تزيدهم قوة الحجة عند خصومهم إلا إمعانا في اعتقادهم وبحثا عما يؤيده " (3). المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص245   (1) انظر: ((الكامل)) للمبرد (2/ 146). (2) ((الكامل)) للمبرد (2/ 155). (3) ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (1/ 76). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 المبحث الرابع: صدقهم في الحديث ومع فصاحة الخوارج ولباقتهم، فقد اشتهروا بالصدق والنفرة عن الكذب لأنهم يعتبرونه من صفات الجبناء الذي لا مكان لهم عندهم، يقول المبرد: " قال أبو العباس: والخوارج في جميع أصنافها تبرأ من الكاذب ومن ذي المعصية الظاهرة " (1).وقد وصفهم ابن تيمية بأنهم " ليسوا ممن يتعمد الكذب بل هم معروفون بالصدق حتى يقال إن حديثهم من أصح الحديث" (2)، وقال في تفضيلهم على الرافضة: وهم أصح منهم عقلا وقصدا، والرافضة أكذب وأفسد دينا " (3).ويصفهم بأن بدعتهم لم تكن عن زندقة وإلحاد بل كانت عن جهل وضلال في معرفة معاني الكتاب (4). المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص247   (1) ((الكامل)) للمبرد (2/ 106). (2) ((منهاج السنة)) (1/ 15). (3) ((منهاج السنة)) (1/ 164). (4) ((منهاج السنة)) (1/ 15). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 المبحث الخامس: ميلهم إلى الجدل وقوتهم فيه لقد بذل الخوارج في الدفاع عن آرائهم وجعل السيطرة لها على الناس جهدا كبيرا، سواء كان ذلك بقوتهم الحربية أو كان بقوتهم الجدلية، وقد حفلت كتب التاريخ والأدب بذكر مجادلاتهم مع الإمام علي وابن عباس وغيرهما من أعلام المسلمين، كعبد الملك بن مروان وعمر بن عبد العزيز، ويطول بنا القول لو ذهبنا نذكر أخبار تلك المناظرات والمحاورات التي دارت بينهم وبين خصومهم، وظهر فيها قوتهم في الجدال ولددهم في الخصومة، وذلك لكثرة هذه الأخبار وطول تلك الفترة والمناظرات، وقد سبق أن ذكرنا ما دار بينهم وبين الإمام علي وابن عباس وعمر بن عبد العزيز من مناظرات تتعلق بأسباب خروجهم أو بموقفهم من قضية التحكيم إلى غير ذلك من الموضوعات التي كانت مثار خلاف بين الفريقين. ...... بل لقد كان عقلاء الخوارج ومفكروهم يشكون من كثرة انتشار الجدل بينهم الذي كان سببا مباشرا من أسباب تفرق الخوارج، على نحو ما يصفه الصلت بن مرة بقوله: قل للمحلين قد قرت عيونكم ... بفرقة القوم والبغضاء والهرب كنا أناسا على دين فغيرنا طول الجدال وخلط الجد باللعبما كان أغنى رجالا ضل سعيهم عن الجدال وأغناهم عن الخطب (1) هذه بعض الخصائص الدينية والخلقية والعقلية التي كانت تغلب على الخوارج، والتي كان لها أثرها الواضح في سلوكهم مع أنفسهم ومع بعضهم ومع الأمة والدولة على نحو ما عرضنا هذا السلوك في فصول هذا الباب. ولو استقامت بهم الوجهة لكان خليقا بهذه الخصائص أن تضع أقدامهم على الطريق الصحيح من العمل إلى الله والدعوة إلى دينه. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص248   (1) ((الكامل)) للمبرد (2/ 238). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 المطلب الأول: بين العقل والشرع في التحسين والتقبيح للعلماء اتجاهان في تحديد موقف الخوارج من العقل الاتجاه الأول: وهو اتجاه من يذهب إلى أن الخوارج يرون قدرة العقل على إدراك المعرفة بنفسه مستقلاً عن السمع، وأن السمع إنما يأتي مصدقاً لأحكامه، وبناء على هذا الاتجاه يصح لنا أن نصف الخوارج بأنهم عقلانيون، وذلك لأنهم قدموا العقل في كثير من القضايا مدعين أنه يستطيع أن يصل إلى معرفة الأشياء الحسنة والأشياء القبيحة بنفسه وأن العدل ما يقتضيه العقل، وهذا هو مذهب المعتزلة. وفي هذا يذكر الشيخ المفيد أن المعتزلة والخوارج والزيدية متفقون في هذا الاعتقاد، أي القول باستطاعة العقل معرفة الواجبات الشرعية، دون السمع، يقول الشيخ المفيد في هذا: " أما المعتزلة والخوارج والزيدية فعلى خلاف ذلك أجمعوا وزعموا أن العقول تعمل بمجردها عن السمع" (1). وقد ظهر تمسك الخوارج بالتحسين والتقبيح والعقليين في أكثر أمورهم التي ادعوا أن العقل يدرك حقيقتها دون الرجوع إلى الحكم الشرعي فيها لتصحيح الحكم بحسنها أو قبحها، بل العقل يدرك في كل خصلة مدى قبحها أو حسنها، بما في الفعل من خاصية يدرك العقل حين وردوها عليه الحكم فيها، والشروع حين يحكم فيها بحكم إنما يأتي كمخبر عنه وليس مثبتاً للحكم فيها. وفي هذا يقول البغدادي بعد أن ذكر بعض الفرق التي اتفقت في الاعتقاد في هذا الباب وهم الثنوية والتناسخية والبراهمة والخوارج والكرامية والمعتزلة ... إلخ، اتفق هؤلاء كلهم فيما يذكر: " فصاروا إلى أن العقل يستدل به على حسن الأفعال وقبحها على معنى أنه يجب على الله الثواب والثناء على الفعل الحسن، ويجب عليه الملام والعقاب على الفعل القبيح، والأفعال على صفة نفسية من الحسن والقبيح، وإذا ورد الشرع بها كان مخبراً عنها لا مثبتاً لها" (2).بينما الأمر عند أهل الحق في التحسين والتقبيح كما يقول: " أن العقل لا يدل على حسن الشيء وقبحه في حكم التكليف من الله شرعاً" (3).وقد اعتبر ابن الجوزي الخوارج هم أول من نادى بتحسين العقل وتقبيحه، أي قبل ظهور المعتزلة، وما المعتزلة عنده إلا آخذة عن الخوارج هذا الأصل ومقلدة، لهم ويقول في ذلك: " ومن رأي هؤلاء (يعني الخوارج) أحدث المعتزلة في التحسين والتقبيح إلى العقل وأن العدل ما يقتضيه" (4).ويقول عنهم عثمان بن عبد العزيز الحنبلي في مخطوطته "منهج المعارج": " ومن رأيهم (الخوارج) أخذت المعتزلة التحسين والتقبيح بالعقل وضرب الأمثال به، وأن العدل ما يقتضيه" (5).   (1) نقلاً عن ((آراء الخوارج)) (ص 165). (2) ((نهاية الأقدام)) (ص 370، 371). (3) ((نهاية الأقدام)) (ص 370، 371). (4) ((تلبس إبليس)) (ص 96). (5) نقلاً عن ((آراء الخوارج)) (ص 117). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 وهناك فرقة من الخوارج وهي "الأطرافية" تزعم أن العقل يعرف الواجبات العقلية وأنه يعرف به أيضاً الواجبات الدينية، ولهذا فقد رأوا أن أهل الأطراف النائية من البلدان معذورون فيما لم يعرفوا عن الشرع نصاً في أمر من الأمور إذا عملوا ما يقره العقل. يقول الشهرستاني عن هذه الفرقة: إنهم " عذروا أصحاب الأطراف في ترك ما لم يعرفوه من الشريعة إذا أتوا بما يعرف لزومه من طريق العقل وأثبتوا واجبات عقلية" (1)، وقد وصف الشهرستاني كذلك المحكمة الأولى بأنهم من "أشد الناس قولاً بالقياس" (2)، والقياس استعمال للعقل في تعديه الحكم وإن كان قائماً على أساس من النص الشرعي. بل لقد رأينا يسند إلى ذي الخويصرة الذي يعتبره زعيم الخوارج الأول القول بالتحسين والتقبيح العقليين حيث يقول: " وذلك (يعني به قول ذي الخويصرة للنبي صلى الله عليه وسلم: " هذه قسمة ما أريد بها وجه الله") خروج صريح على النبي صلى الله عليه وسلم، ولو صار من اعترض على الإمام الحق خارجياً فمن اعترض على الرسول أحق بأن يكون خارجياً، أو ليس قولاً بتحسين العقل وتقبيحه وحكماً بالهوى في مقابلة النص واستكباراً على الأمر بقياس العقل" (3). الاتجاه الثاني: وفي مقابل القول السابق أن الخوارج يقولون بقدرة العقل على الحكم على الأشياء والأفعال؛ نجد من يعكس الأمر ويذهب إلى أن الخوارج لا ترى للعقل أي ميزة في الحكم على الأفعال من حسن وقبيح، وهذا الرأي قد قال به أحمد الصابوني الماتريدي فيما يرويه عنه الطالبي بقوله: إنه - أي الصابوني- " يزعم أن الخوارج المحكمة يرون مع الملاحدة والروافض والمشبهة أن العقل لا يعرف به شيء ولا يوجب شيئاً من الأحكام العقلية أو الشرعية لا على الأفعال ولا على الأشياء". وقد اعتبر الطالبي رأي أحمد الصابوني كأنه خبر آحاد خاصة أنه لم يبين لنا سنده ولا مصدره، بخلاف من تقدم النقل عنهم وهم القائلون بعقلانية الخوارج، فإنهم أولى – على حد تعبيره – بقبول قولهم منه لكثرة إطلاعهم على آراء الخوارج (4).وما قاله الصابوني هنا عن الخوارج يتفق مع ما ذكره الأشعري عن حاكٍ لم يعين اسمه حكى عن الخوارج أنهم " لا يرون على الناس فرضاً ما لم تأتهم الرسل، وأن الفرائض تلزم بالرسل واعتلوا بقول الله عز وجل: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15] (5). ولعلنا بعد أن عرضنا هذين الاتجاهين في تحديد موقف الخوارج بين العقل والنقل فيما يتعلق بالمعرفة وإدراك حسن الأفعال وقبحها – لعلنا بعد عرضنا لهذين الاتجاهين نجد أن الاتجاه الأول وهو القول بأن الخوارج عقليون؛ قد تضافرت على توثيقه وشرحه أقوال كثرة من العلماء لم تتوافر للاتجاه الثاني وهو القول بأن الخوارج يرجعون بالمعرفة وبالتحسين والتقبيح إلى الشرع. فالأشعري يحكي ذلك عن حاك مجهول لم يذكر اسمه كما قلنا، وقد قلنا من قبل كذلك أن الطالبي قد جعل قبول أقوال العلماء الكثيرين في الاتجاه الأول أولى من قبول كلام الصابوني الذي لم يبين مصدره ولا سنده فيه، ولا يفوتنا أن ننوه بالأسماء التي حكمت على الخوارج بأنهم عقليون كالبغدادي والشهرستاني وابن الجوزي والشيخ المفيد وعثمان الحنبلي.   (1) ((الملل والنحل)) (1/ 130). (2) ((الملل والنحل)) (1/ 116). (3) [8334])) ((الملل والنحل)) (1/ 21). (4) نقلاً عن ((آراء الخوارج)) ص 168، ((البداية)) للصابوني (ص168) (5) ((المقالات)) (1/ 206). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 وإن كنا نجد من الواجب علينا أن نختم هذه الكلمة بالإشارة إلى تلك الصعوبة التي شرحناها في مقدمة هذا البحث، وهي أننا في كثير من الأحيان نأخذ آراء الخوارج من كتب غيرهم، وفيما يتعلق بهذه المسألة بالذات فإنه لم يقع لي فيما اطلعت عليه من كتب الخوارج المطبوعة والمخطوطة نص فيها، وإنما رجحنا كفة الفريق الأول من العلماء لما قدمناه من مبررات. وإذا أردنا أن نضع الاتجاه العقلي في ميزان الإسلام؛ فالواجب في هذا المقام أن يقال ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية من أن "ما أخبرت به الرسل من تفاصيل اليوم الآخر وأمرت به من تفاصيل الشرائع لا يعلمه الناس بعقولهم، كما أن ما أخبرت به الرسل من تفصيل أسماء الله وصفاته لا يعلمه الناس بعقولهم، وإن كانوا قد يعلمون بعقولهم جمل ذلك" (1).ويجب أن يعتقد كل مسلم أن لا حسن ولا قبح ولا عقل في مقابلة الشرع، فإذا صح النص عن الله تعالى أو عن رسوله؛ وجب التسليم له دون معارضته بأي نوع من المعارضة، فإن معارضة العقل للنقل خطأ واضح معلوم الفساد كما قال ابن القيم رحمه الله (2). وأخيراً فإن مذهب السلف في هذا الباب هو الاعتقاد بأنه ليس في فعل من الأفعال معنى حسن يقتضي وجوبه أو ندبه أو ثواب فاعله أو معنى قبيح يقتضي كراهيته وحرمته وجزاء ذلك، بل الأفعال كلها سواسية، بل حسن الفعل هو أمر الله تعالى به، وقبحه هو نهي الله تعالى عنه، وليس فيه معنى يوجب ذلك حتى لو أمر بشيء كان حسناً، فإذا ما نهى عنه بعد ذلك صار قبيحاً، وبالعكس إذا نهى عن أمر كان قبيحاً، فإذا أمر به بعد ذلك كان حسناً، ولا سبيل إلى العلم بذلك إلا بالشرح والوحي. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص253   (1) ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (3/ 115). (2) انظر: ((مختصر الصواعق)) (ص84). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 المطلب الثاني: بين ظاهر النص والتأويل هل الخوارج يقولون بالتأويل أم بظاهر النص فقط؟ تعريف التأويل في اللغةيطلق التأويل في اللغة على عدة معاني، منها التفسير والمرجع والمصير والعاقبة، وتلك المعاني موجودة في القرآن والسنة: قال الله تعالى هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ [الأعراف: 53] , وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه لابن عباس: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)) (1). تعريفه في الاصطلاح: عند السلف له معنيان: 1 - يطلق بمعنى التفسير والبيان وإيضاح المعاني المقصودة من الكلام، فيقال: تأويل الآية كذا؛ أي معناها. 2 - يطلق بمعنى المآل والمرجع والعاقبة فيقال هذه الآية مضى تأويلها، وهذه لم يأت تأويلها. والفرق بينهما: أنه لا يلزم من معرفة التأويل بمعنى التفسير معرفة التأويل الذي هو بمعنى المصير والعاقبة، فقد يعرف معنى النص ولكن لا تعرف حقيقته كأسماء الله وصفاته فحقيقتها وكيفيتها كما هي غير معلومة لأحد بخلاف معانيها. 3 - وعند الخلف من علماء الكلام والأصول والفقه هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح. وهذا التأويل مرفوض عند السلف واعتبروه تحريفاً باطلاً في باب الصفات الإلهية، وقد ظهر هذا المعنى للتأويل متأخراً عن عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة، بل ظهر مع ظهور الفرق ودخلوا منه إلى تحريف النصوص، وكانت له نتائج خطيرة؛ إذ كلما توغلوا في تأويل المعاني وتحريفها بعدوا عن المعنى الحق الذي تهدف إليه النصوص، وبالنسبة لموقف الخوارج فإن العلماء اختلفوا في الحكم على الخوارج بأنهم نصِّيُّون أو مؤولون.1 - فذهب بعضهم إلى أن الخوارج نصيون يجمدون على المعنى الظاهر من النص دون بحث عن معناه الذي يهدف إليه، وهذا رأي أحمد أمين (2) وأبي زهرة (3).2 - وذهب آخرون إلى أن الخوارج يؤولون النصوص تأويلاً يوافق أهوائهم، وقد غلطوا حين ظنوا أن تأويلهم هو ما تهدف إليه النصوص، وعلى هذا الرأي ابن عباس وشيخ الإسلام ابن تيمية (4).وابن القيم (5).3 - ومن العلماء من ذهب إلى القول بأن الخوارج ليسوا على رأي واحد في هذه القضية؛ بل منهم نصيون ومنهم مؤولون، كما ذهب إلى هذا الأشعري في مقالاته (6). وهذا هو الراجح فيما يبدو من آراء الخوارج، ولا يقتصر الأمر على ما ذكره من اعتبار بعض الفرق نصيين وبعضهم مؤولين مجتهدين، وإنما يتردد أمر الخوارج بين هذين الموقفين داخل الفرقة الواحدة، والواقع أن لكل من المواقف الثلاثة ما يبرر حكمهم على الخوارج، كما يتضح ذلك جلياً في مواقف الخوارج المختلفة. ويبدو لي أن التأويل الذي نفاه الأستاذ أحمد أمين والشيخ أبو زهرة رحمهما الله إنما هو التأويل الصحيح الذي يفهم صاحبه النص على ضوء مقاصد الشريعة. وأما التأويل الذي يثبته للخوارج أصحاب الاتجاه الثاني ويذمونهم به –فهو حمل الكلام على غير محامله الصحيحة وتفسيره تفسيراً غير دقيق.   (1) روى البخاري شطره الأول (143)، ورواه أحمد (1/ 266) (2397)، والطبراني (10/ 238)، وابن حبان (15/ 531)، والحاكم (3/ 615). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (8/ 299): ثابت. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 279): لأحمد طريقان رجالهما رجال الصحيح. وقال ابن حجر في ((تهذيب التهذيب)) (5/ 279): رواه أحمد بإسناد لا بأس به وبعضه في الصحيح. وقال الألباني في ((تصحيح العقائد)) (167): إسناده صحيح وهو في الصحيحين دون قوله: (وعلمه التأويل). (2) ((ضحى الإسلام)) (3/ 334). (3) ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (1/ 66). (4) ((النبوات)) (ص89). (5) ((النونية)) (ص85). (6) ((مقالات الأشعري)) (1/ 183). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 لعب التأويل دوراً بارزاً في مفاهيم الناس، وكانت له نتائج خطيرة في حياتهم، خصوصاً تلك التأويلات المذمومة التي جرت على المسلمين محناً شتى بسبب سوء الفهم لكثير من القضايا الإسلامية، وكانت له آثاراً سيئة إذ فرق بين كلمة المسلمين وباعد بينهم وبين جوهر الشريعة وأساسها المتين. ولقد تدرج أهل التأويل من سيئ إلى أسوأ في فهم المعاني التي يدعون معرفتها، وذلك لأنهم كلما توغلوا في تأويلٍ كلما بعدوا عن المعنى الصحيح الذي تهدف إليه النصوص، وفيما يتعلق بموقف الخوارج بين الوقوف عند ظاهر النص الشرعي وتأويله، نجد هناك أيضاً اتجاهين في تصوير موقفهم من هذه القضية: الاتجاه الأول: القول بأنهم نصيون يقفون عند ظاهر النصوص الشرعية دون تأويل لها أو اجتهاد فيها، وهذا ما يراه أحمد أمين رحمه الله، فهو يرى أنهم يقدمون النص على التأويل؛ لأنهم كما يذكر على بساطتهم البدوية التي لا تعرف التعمق في المعاني واستخراجها، كما هي عادة أهل المعرفة، ويذكر أنهم لو عاشوا في العصر العباسي لكانوا ظاهرية تماماً. فيقول:"ومن أكبر مظاهر بساطتهم وعدم تفلسفهم أن الناظر فيما روى لنا من جدلهم ومناظراتهم يرى أنهم التزموا حرفية الكتاب والسنة ولم يتعمقوا في التأويل، فلو أنهم عاشوا في العصر العباسي لكانوا من أهل الظاهر الذين لا يقولون بقياس ويرون اتباع ظواهر النصوص من غير تأويل، وقد أدى تمسك الخوارج بظواهر النصوص إلى سخافات" (1).ويصفهم أبو زهرة بأنهم يتمسكون بظواهر الألفاظ تمسكاً شديداً غير ملتفتين إلى المعاني التي تطلب من وراء الألفاظ، وهم على غاية ما يتصور من التحمس والاندفاع إلى تأييد ما رأوه صواباً، ولو أدى ذلك إلى إزهاق أرواحهم ثمناً للدفاع عن ذلك الرأي، يصف أبو زهرة هذا الاندفاع بقوله: "وهم في دفاعهم وتهورهم مستمسكون بألفاظ قد أخذوا بظواهرها وظنوا هذه الظواهر ديناً مقدساً لا يحيد عنه مؤمن" (2).ولهذا كانت مناظرات الإمام علي لهم في بعض المواقف ليست بالرجوع إلى النصوص؛ لأنهم سطحيون في فهمها يفسرونها بما يحبون من موافقة آرائهم، وهذا ما عناه أبو زهرة بقوله: " ولأنهم يتمسكون بظواهر الألفاظ نرى علياً عندما ناقشهم في هذا لم يجادلهم بالنصوص؛ لأنهم لا يأخذون إلا بظواهرها، بل كان يناقشهم بعمل الرسول صلى الله عليه وسلم" (3). الاتجاه الثاني: أما الاتجاه الثاني في تصوير موقف الخوارج بين الالتزام بظاهر النص والتأويل، فيذهب أصحابه إلى القول بأن الخوارج خاضوا غمار التأويلات التي أنتجت من المآسي والحروب ما جعلهم محل بغض لدى جميع مخالفيهم. ويرد ابن القيم رحمه الله افتراق الفرق الإسلامية إلى ثلاث وسبعين فرقة إلى بلية التأويل، ويرى أنه كان السبب في نشأة الخوارج وفي مقتل الخليفتين الراشدين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ثم أدى بالخوارج إلى تلك المعتقدات الباطلة التي اشتهرت عنهم، مثل القول بتخليد أهل الكبائر في النار، ونكرانهم شفاعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وغيرهما من الأقوال الخاطئة، يقول ابن القيم مقرراً الأحداث التي وقعت بسبب التأويل ودور الخوارج فيه: هذا وأصل بلية الإسلام من ... تأويل ذي التحريف والبطلان وهو الذي فرق السبعين بل ... زادت ثلاثا قول ذي البرهان وهو الذي قتل الخليفة جامع القر ... آن ذا النورين والإحسان وهو الذي قتل الخليفة بعده ... أعني علياً قاتل الأقران ويقول أيضاً: وهو الذي أنشأ الخوارج مثل ... إنشاء أخبث الحيوان   (1) انظر: ((مختصر الصواعق)) (ص84). (2) ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (1/ 66). (3) [8347])) ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (ص73). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 ولأجله شتموا خيار الخلق ... بعد الرسل بالعدوان والبهتان ولأجله قد خلدوا أهل الكبا ... ئر في الجحيم كعابد الأوثان ولأجله قد أنكروا شفاعة المختا ... ر فيهم غاية النكران (1) ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن أهل البدع كالخوارج وغيرهم هم أهل أهواء وشبهات يتبعون فيما يحبون ويبغضون ما تحبه أنفسهم ويوافق أهواءهم من تأويلات فاسدة، " فكل فريق منهم قد أصل لنفسه ديناً وضعه إما برأيه وقياسه الذي يسميه عقليات، وإما بذوقه وهواه الذي يسميه ذوقيات، وإما بتأوله القرآن ويحرف فيه الكلم عن مواضعه ويقول إنه إنما يتبع القرآن كالخوارج". ولكن بدعة الخوارج كما يقولون: " كان قصد أهلها متابعة النص والرسول، لكن غلطوا في فهم النصوص وكذبوا بما يخالف ظنهم من الحديث ومعاني الآيات" (2).ويقول ابن حجر عن انحراف الخوارج في التأويل مع كثرة العبادة والزهد: "وكان يقال لهم القراء لشدة احتياجهم في التلاوة والعبادة إلا أنهم كانوا يتأولون القرآن على غير المراد منه، ويستبدون برأيهم ويتنطعون في الزهد والخشوع وغير ذلك " (3).وقد وصف ابن عباس الخوارج الذين اشتهروا بقراءتهم للقرآن وعبادتهم التي يبالغون في أدائها بأنهم "يؤمنون بمحكمه ويضلون عند متشابهه" (4)؛ وذلك بسبب ما أخطؤوا فيه من تأويلات باطلة معتقدين صحتها، وبالتالي طبقوها في أقوالهم وأفعالهم التي تميزت بالانحراف البين في كثير من الآراء. وقد أرسله علي بن أبي طالب إليهم ليراجعهم ويطلب منهم العودة، فلما رجع قال له علي رضي الله عنه: " ما رأيت؟ فقال ابن عباس: والله ما سيماهم بسيما المنافقين، إن بين أعينهم لأثر السجود وهم يتأولون القرآن" (5).وكان من نتيجة تأويلهم القرآن وتتبعهم لمتشابهه أن كفروا الناس وأئمة مخالفيهم؛ لأنهم حكموا بغير ما أنزل الله فاستحقوا الكفر - بزعمهم -، وهذا هو الباعث لهم على تكفير غيرهم فيما يراه سعيد بن جبير، كما أخرج عنه ابن المنذر أنه قال: "المتشابهات آيات في القرآن يتشابهن على الناس إذا قرأوهن، ومن أجل ذلك يضل من ضل، فكر فرقة يقرأون آية من القرآن يزعمون أنها لهم، فمنها يتبع الحرورية من المتشابه قول الله: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44] , ثم يقرأون معها ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ [الأنعام: 1].، فإذا رأو الإمام يحكم بغير الحق قالوا: قد كفر، فمن كفر عدل بربه، ومن عدل بربه فقد أشرك به؛ فهذه الأئمة مشركون" (6).وقال السيوطي أيضاً ومثله الشوكاني: " وأخرج عبدالرازق وأحمد وعبد ابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7] قال: " هم الخوارج" (7).   (1) ((نونية ابن القيم)) (ص85). (2) [8349])) ((النبوات)) (ص 89). (3) ((فتح الباري)) (12/ 283). (4) ((الاعتصام)) (1/ 55). (5) ((شرح نهج البلاغة)) (3/ 310) (6) تفسير ((الدر المنثور)) (2/ 4). (7) رواه أحمد (5/ 262) (22313)، والطبراني (8/ 272)، وابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (2/ 60). وانظر: ((الدر المنثور)) (2/ 5)، و ((فتح القدير)) (1/ 318). قال ابن كثير في ((تفسيره)) (2/ 7): أقل أقسامه أن يكون موقوفاً من كلام الصحابي ومعناه صحيح. وصححه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 353) – كما أشار لذلك في مقدمته -. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 وقد أخبر عمر بن عبد العزيز عن بعض جرائم الخوارج متأولين القرآن على غير وجهه؛ وذلك في قوله لوفد الخوارج الذين أرسلوهم لمناظرته في المسائل التي نقموها على بني أمية، فكان من كلام عمر أن قال لهم: " فأخبروني عن عبد الله بن وهب الراسبي حين خرج من البصرة هو وأصحابه يريدون أصحابكم بالكوفة، فمروا بعبد الله بن خباب فقتلوه وبقروا بطن جاريته، ثم عدوا على قوم من بني قطيعة فقتلوا الرجال وأخذوا الأموال وغلوا الأطفال في المراجل، وتأولوا قول الله: إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح: 27] ,، فلم يسعهم إلا الاعتراف بذلك" (1).ومن أقبح تأويلات الخوارج وأحقها بالمقت ما ذكره علماء الفرق كالأشعري والبغدادي والشهرستاني وغيرهم عن فرقة الأزارقة والحفصية من الإباضية من تأويلهم لبعض الآيات كذباً وافتراء بتأويلاتهم الباطلة، كما وقع لهم في حق الإمام علي رضي الله عنه (2)، مما سنذكره عند عرض موقفهم من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. ومما تقدم بيانه نعرف مدى تعلق الخوارج بالتأويل، وأنه كان السبب في كثير من أخطائهم الجسيمة التي ارتكبوها بحجة أن القرآن يطلب منهم ذلك، حين فتحوا لأنفسهم باب التأويل الذي لم يسبقهم إليه أحد فيما يرى الطالبي، ويقرر ذلك بقوله: "ونحن نزعم أن الخوارج هم أول من فتح باب التأويل في تاريخ الفرق الإسلامية وفي تاريخ هذه الملة، وكان لتأويلاتهم نتائج عملية خطيرة أقبتها بدورها آراء نظرية". ويرى أيضاً أن تطور آراء الخوارج منذ نشأتهم كان أساسه التأويل والجدل ومجاوزة ظاهر النصوص إلى ما يوافق ما يرونه من آراء وما يعتقدونه من اعتقادات (3).وكان من مذهب قطري – وهو من رؤساء الخوارج – أن المتأول المخطئ معذور لا ينبغي معاقبته، ولهذا فقد قال لمن طلب واليه أن يقتل المقعطر وهو أحد شجعانهم بقتيل منهم، فقال لهم قطري معتذراً له: "رجل تأول فأخطأ في التأويل ما أرى أن تقتلوه" (4).والتأويل مظهر من مظاهر التفكير الحر الذي تميز به الخوارج ولجؤوا إليه في معارضة المذاهب الأخرى، وهذا هو ما يراه جولد زيهر حيث يقول: " وفي العهد الذي كان المذهب الخارجي فيه لا يزال مضطرباً مهوشاً لم يبلغ درجة التماسك والاستقرار، ولم يصبح نظاماً وضعياً محكماً كانت قد ظهرت عند فقهاء الخوارج نزعات عقلية دفعت بهم إلى التفكير في المسائل الدينية تفكيراً حراً، وذلك عندما غلبت على مذهبهم المظاهر السلبية التي عارضوا بها مذهب أهل السنة" (5).وهكذا نجد أنفسنا في تصوير موقف الخوارج من النصوص الشرعية بين الوقوف عند ظاهرها وإعمال العقل فيها بالاجتهاد والتأويل – نجد أنفسنا في هذه القضية بين هذين الاتجاهين السابقين، ولكنا في الوقت ذاته نرى الإمام الأشعري لا يطلق أياً من هذين الحكمين على الخوارج جميعاً، بل يمايز بين النصيين منهم والاجتهاديين فيقول: "وهم صنفان، فمنهم من يجيز الاجتهاد في الأحكام كنحو النجدات وغيرهم، ومنهم من ينكر ذلك ولا يقول إلا بظاهر القرآن وهم الأزارقة" (6).بل إننا نجد أن لا يؤاخذه على أي فعل يفعله الإنسان حتى ولو كان نكاح المحرمات مادام ذلك صادراً عن اجتهاد خاطئ. وهذا ما يرويه عنه ابن أبي الحديد في قوله عند بيان الأحداث التي أحدثها نجدة فجرت عليه نقمة أتباعه ...   (1) ((جامع بيان العلم وفضله)) (ص 129). (2) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 183)، ((الفرق بين الفرق)) (ص 104)، ((الملل والنحل)) (1/ 120). (3) ((آراء الخوارج)) (ص 107/ 117). (4) ((تاريخ الطبري)) (6/ 303). (5) ((العقيدة والشريعة)) (ص 193). (6) ((المقالات)) (ص 206). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 " ومنها قوله: إن المجتهد المخطئ بعد الاجتهاد معذور ... فمن استحل محرماً من طريق الاجتهاد فهو معذور" (1). والواقع أن الإمام الأشعري كان على حق عندما أدرك أنه لا يمكن وصف جميع الخوارج بأنهم نصيون أو بأنهم مؤولون، ولا يقتصر الأمر على ما ذكره من اعتبار بعض الفرق نصيين وبعضهم مؤولين مجتهدين، وإنما يتردد أمر الخوارج بين هذين الموقفين داخل الفرقة الواحدة وعلى حسب اختلاف مواقفهم من مسائل العقيدة. ويبدوا أن الذين حكموا على الخوارج بأنهم نصيون كان- لهم ما يبرر حكمهم مما وجدوه في موقف الخوارج من بعض مسائل الخلاف، وأن الذين حكموا عليهم بأنهم متأولون للنصوص على غير تأويلها الصحيح، حاملون لها على غير محاملها- وجدوا في مواقف الخوارج من بعض مسائل العقيدة ما يبرر حكمهم هذا، وكل نظر إلى ناحية معينة. ولو نظرنا في آرائهم واستدلالاتهم لوجدنا هاتين الظاهرتين موجودتين عند الخوارج، فمرة يقفون هذا الموقف ومرة يقفون ذاك، بل ربما أدى بهم التمسك بظاهر النص دون تأويل صحيح له ودون جمع بينه وبين غيره من النصوص، ربما أدى بهم ذلك إلى حمله على غير محمله الصحيح، وسوف يتبين لنا ذلك بوضوح بعد عرضنا لمختلف أراء الخوارج ومواقفهم، وأنهم يقفون من النصوص أحد هذين الموقفين تبعاً لما يخدم أغراضهم ويساير آراءهم. ويبدو لي أن التأويل الذي نفاه الأستاذ أحمد أمين والشيخ أبو زهرة إنما هو التأويل الصحيح الذي يفهم فيه صاحبه النص الشرعي على ضوء الجمع بينه وبين غيره من النصوص الأخرى، وعلى ضوء مقاصد الشريعة العامة. أما التأويل الذي يثبته للخوارج أصحاب الاتجاه الثاني فهو حمل الكلام على غير محامله الصحيحة وتفسيره تفسيراً غير دقيق، وهذا النوع من التأويل لا أظن أن أحمد أمين وأبا زهرة كانا يطلبانه من الخوارج عندما ذموهم بأنهم كانوا نصيين لا مأولين، وإنما كانا يقصدان التأويل الصحيح الذي ذكرناه من قبل. وهذا النوع الفاسد من التأويل مذموم شرعاً وهو أساس انحراف الفرق الضالة عن جادة الصواب في آرائها وأحكامها، وهو الذي ذم الله به أقواماً تتبعوا متشابه القرآن ابتغاء تأويله، وما دخل على الفلاسفة والصوفية والمعتزلة وغيرهم من المأولين للنصوص على هذا النحو الفاسد- ما دخل عليهم خطؤهم في الرأي وفهم الشرع إلا من قبل ميلهم إلى التأويل وإخراج النص عن ظاهره وهو الأمر الذي أدى بهم إلى حمل النصوص على غير محاملها الصحيحة وتفسيرها بغير ما يصح فيها من تفسير. وقد وصف ابن القيم التأويل بأنه شر من التعطيل لأنه - كما يذكر - يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها (2). المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص258   (1) ((شرح نهج البلاغة)) (4/ 134). (2) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (ص32). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 تمهيد لم يكن للخوارج بصفة عامة بحوث مدونة في المسائل الكلامية التي تتعلق بالإلهيات والنبوات والسمعيات، اللهم إلا ما حكي عنهم من آراء قليلة في بعض المسائل الاعتقادية، مما لا يشكل مذهباً متكاملاً في العقيدة كمذاهب الفرق الأخرى، وسوف نورد في هذا المبحث بعض مسائل الإلهيات وما كان للخوارج أو لبعضهم فيها من رأي. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص267 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 1 - صفات الله تعالى هذه المسألة لم أجد فيما تيسر لي الاطلاع عليه من كتب علماء الفرق بياناً لرأي الخوارج فيها بصفة عامة. وقد ذكر الشهرستاني عن فرقة الشيبانية قولاً لأبي خالد زياد بن عبد الرحمن الشيباني في صفة العلم لله أنه قال: ((إن الله لم يعلم حتى خلق لنفسه علما، وأن الأشياء إنما تصير معلومة له عند حدوثها)) (417). وأما بالنسبة لفرقة الإباضية بخصوصهم –فقد تبين من أقوال علمائهم أنهم يقفون منها موقف النفي أو التأويل؛ بحجة الابتعاد عن اعتقاد المشبهة فيها كما تقدم. وموضوع الصفات والبحث فيها يحتاج إلى دراسة مستقلة، وبالرجوع إلى أي كتاب من كتب السلف يتضح الحق فيها بكل يسر وسهولة. وأما بالنسبة لما ذكر عن رأي زياد بن عبد الرحمن أو الإباضية؛ فلا شك أنه لا يتفق مع المذهب الحق- مذهب السلف- ولو كان الأمر يخص زياد بن عبد الرحمن وحده لما كان له أدنى أهمية، ولكن الأمر أخطر من ذلك، فقد اعتقدت الجهمية ذلك أيضاً. وبطلان هذا القول ظاهر والتناقض فيه واضح. فإن صفات الله عز وجل قديمة بقدمه غير مخلوقة، وما يخلق الله من الموجودات فإنما يخلقه عن علم وإرادة؛ إذ يستحيل التوجه إلى الإيجاد مع الجهل، ثم كيف علم الله أنه بغير علم حتى يخلق لنفسه علماً؟ هذا تناقض ظاهر. لم أجد- فيما اطلعت عليه – من كتب علماء الفرق بياناً لرأي الخوارج في الصفات الإلهية بصفة عامة والصفات الخبرية بصفة خاصة، اللهم إلا ما ذكره الشهرستاني عن رأي فرقة الشيبانية في صفة العلم بقوله: "وينقل عن زياد بن عبد الرحمن الشيباني ابن خالد أنه قال: إن الله تعالى لم يعلم حتى خلق لنفسه علماً، وإن الأشياء إنما تصير معلومة له عند حدوثها" (1). وبطلان هذا القول ظاهر؛ فصفات الله قديمة بقدمه غير مخلوقة وما يخلق الله من الموجودات إنما يخلقه عن علم وإرادة، فيستحيل التوجيه إلى الإيجاد مع الجهل، ثم كيف علم الله أنه بغير علم حتى يخلق لنفسه علماً؟! هذا تناقض ظاهر. وأما الإباضية فقد رجعنا إلى كتبهم هم أنفسهم لنرى رأيهم في الصفات الإلهية، فتبين لنا أنهم يقفون منها موقف النفي أو التأويل بحجة الابتعاد عن اعتقاد المشبهة فيها، ويرون أن إثباتها يؤدي إلى التشبيه المذموم الذي حذروه – بزعمهم- بينما هو لم يخطر على بال الصحابة الذين تلقوا تعليمهم الصافي من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم طرياً قبل أن تعرف تلك التعقمات الباطلة والخوض في تلك المهامه المقفرة من علم الكلام. وخلاصة القول ما يذهب إليه الإباضية في هذا المقام هو أنهم يرجعون صفات العلم والقدرة والإرادة .. إلخ تلك الصفات التي أثبتها الله لنفسه، والتي هي صفات كمال، من لم يتصف بها كان فيه من النقص والعيب ما لا يدرك إلا في الجمادات - أرجعوا تلك الصفات، إلى الذات فقالوا: إنه عالم بذاته وقادر بذاته .. وهكذا، كما يقول صاحب كتاب (الأديان) الإباضي: "وقال أهل الاستقامة: إن الله سبحانه عالم بذاته، وقادر بذاته لا بقدرة سواه، وحي بذاته، ومريد بذاته، ومتكلم بذاته، وسميع وبصير بذاته، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" (2). وقال أحمد بن النضر وهو من الإباضية أيضاً: وهو السميع بلا أداة تسمع ... إلا بقدرة قادر وحداني وهو البصير بغير عين ركبت ... في الرأس بالأجفان واللحظان جل المهيمن عن مقال مكيف ... أو أن ينال دراكه بمكان أو أن تحيط به صفات معبر ... أو تعتريه هماهم الوسنان (3) ويقول السالمي: أسماؤه وصفات الذات ليس بغير ... الذات بل عينها فافهم ولا تحلا ولا يحيط به سبحانه بصر ... دنيا وأخرى فدع أقوال من نصلا   (1) ((الملل والنحل)) (1/ 133). (2) ((الأديان والفرق)) (ص 57). (3) كتاب ((الدعائم)) (ص 34). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 وهو على العرش والأشياء استوى وإذا ... عدلت فهو استواء غير ما عقلا وإنما استوى ملك ومقدرة ... له على كلها استيلاء وقد عدلا كما يقال استوى سلطانهم فعلا ... على البلاد فحاز السهل والجبلا (1) وأنهم يشاركون في تأويل الصفات الخبرية غيرهم من الفرق المأولة كالمعتزلة والأشاعرة وفيما يتعلق بالصفات الخبرية التي ذكرنا تأويلها التي أولها السالمي في أبياته السابقة. فقد شنع الورجلاني أيضاً على الذين يثبتونها لله مدعياً أنهم رجعوا بذلك إلى التشبيه الذي وقع فيه عباد الأوثان ومن هذه الصفات التي أوردها صفات: اليد، والوجه، والجنب، والساق، والعين، واليمين، والاستواء، وهو يرى أن مخالفي الإباضية المثبتين لتلك الصفات يمتنعون - كما يقول - من مذهب المسلمين الذين صرفوا هذه المعاني إلى ما يليق بالباري سبحانه وتعالى وموجود في لغة العرب أن اليد النعمة والقدرة والوجه ذاته، واليمين القدرة والقوة، والجنب والكتف والساق والشدة".ثم قال أيضا: "ولم يصرحوا (أي الإباضية) بالمعنى المكروه والأولون (أي المثبتون لتلك الصفات بدون تأويل) قد ردوا على الله عز وجل قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ تجاهلوا فهم جاهلون" (2).وقد استدل العيزابي عقلياً على ضرورة تأويل تلك الصفات بقوله في الاستواء: "الحمد لله الذي استوى على العرش أي ملك الخلق واستولى عليه وإلا لزم التحيز وصفات الخلق" (3).وقال في الحجاب: "الحمد لله الذي احتجب عن خلقه لا بحجاب إذ الحجاب من صفات خلقه بل بمنه إياهم عن مشاهدته" (4). وهكذا قال في النزول والمجيء وغيرها من صفات أخرى ذكرها ثم أولها تأويلاً باطلاً لا معنى له غير التعطيل. وقد عقد الربيع بن حبيب فصلاً في مسنده "الجامع الصحيح" أورد فيه عدة أحاديث عن الصحابة، كلها تشير إلى التأويل المحض للصفات التي تقدم ذكرها، وغيرها عن علي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما من الصحابة بما لا يمكن استقصاؤه هنا. فقد فسر فيما يرويه عن ابن عباس وغيره قوله تعالى وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] , أي في ملكه، وفسر اليد "بالملك والقدرة" ومثلها اليمين، وأن قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ أي بل رزقه مبسوط على جميع خلقه. وفسر مجيء الله بمجيء أمره لفصل القضاء. وأول قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] , إلى معنى ارتفاع ذكره، وثناؤه على خلقه. وفسر الوجه بالذات، والعين بالحفظ، والنفس بالعلم، والسابق بالشدة، وهكذا يورد الربيع بن حبيب الأحاديث والآثار الكثيرة في تأويل الصفات وإنكار الرؤية (5). والواقع أن موضوع الصفات الإلهية من أهم الموضوعات في مباحث الإلهيات؛ وذلك لعلاقته بتوحيد الله تعالى في ذاته وصفاته. ولسنا بصدد عرض اختلافات المذاهب في تلك القضية بين التعطيل والتمثيل والتأويل، ولكننا نقتصر في المقام على مجرد التعقيب على رأي الإباضية مبينين ما فيه من زيف وبطلان على هدي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم.   (1) ((غاية المراد)) (ص 7). (2) ((الدليل لأهل العقول)) (ص 32). (3) ((الحجة في بيان المحجة)) (ص 6). (4) ((الحجة في بيان المحجة)) (ص 18). (5) انظر: ((الجامع الصحيح)) من (ص 35 - 60). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 ففيما يتعلق بنفيهم لصفات الكمال الإلهي من العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والحياة وغيرها، وأنه ليس هناك إلا الذات مجردة عن صفاتها القائمة بها؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد أثبت لنفسه تلك الصفات، وقال تعالى في إثبات صفة العلم: أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء: 166] , وقال تعالى: حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ [التوبة: 6] , وقد سمى الله تعالى نفسه بالأسماء الحسنى كالحي القيوم، وعالم الغيب والشهادة، والقوي المتين، والسميع البصير، إلى غير ذلك من الأسماء المشتقة التي يستحيل تسمية الله تعالى بها بدون أن تقوم بها مصادرها الاشتقاقية وهي الصفات القائمة بذاته تعالى من العلم والحياة والسمع والبصر .. إلخ، ولو لم يكن إلا الذات لكان العلم قدرة، والقدرة إرادة، ثم كيف تكون الذات الإلهية مجردة عن كمالاتها ثم يكون لها علم بالأشياء أو قوة عليها أو إرادة لها؟! إن من المستحيل وجود الذات بدون صفات، وهكذا يستحيل خلو الذات الإلهية من صفاتها القائمة بها. هذا ولم يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة أو السلف الصالح مثل هذا النفي لصفات الله تعالى عن ذاته، بل نعتوه سبحانه وتعالى بكل نعوت الكمال والعظمة والجلال، دون أن يجدوا فيما أثبتوه له تشبيهاً له سبحانه وتعالى بخلقه، فكما تنزهت ذاته عن مشابهة ذوات المخلوقين، فكذلك تتنزه صفاته عن مشابهة صفاتهم. وفيما يتعلق بالصفات الخبرية التي أولها الإباضية – سواء منها صفات الذات أو صفات الفعل- فإنهم لم يفعلوا أكثر من ترديدهم لما قاله غيرهم من المؤولة. ومذهب السلف في أمثال هذه الصفات هو ما قاله عنهم ابن تيمية من "أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله، ومن غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل" (1)، وهذا هو التوحيد في الصفات كما سماه بذلك في كتابه (الرسالة التدمرية) (2).ويقول ابن القيم: "لا ريب أن الله وصف نفسه بصفات وسمي نفسه بأسماء، وأخبر عن نفسه بأفعال، وأخبر أنه يحب ويكره ويمقت ويغضب ويسخط ويجيء ويأتي وينزل إلى السماء الدنيا، وأنه استوى على عرشه، وأن له علماً وحياة وقدرة وإرادة وسمعاً وبصراً ووجهاً، وأن له يدين وأنه فوق عباده وأن الملائكة تعرج إليه وتنزل من عنده، وأنه قريب وأنه مع المحسنين ومع الصابرين ومع المتقين، وأن السموات مطويات بيمينه، ووصفه رسوله بأنه يفرح ويضحك، وأن قلوب العباد بين أصابعه وغير ذلك" (3). ثم استمر ابن القيم بعد هذا الكلام في مناقشة المتأولة لتلك الصفات، مثبتاً في مواضع كثيرة عقيدة السلف وطريقتهم في إثبات تلك الصفات لله تعالى على ما يليق بجلال الله وعظمته دون تعطيل أو تمثيل أو تأويل، مما يطول المقام لو نقلنا كلامه فيه. ويقول ابن تيمية: "ومن تمام التوحيد أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله، ويصان ذلك عن التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل" (4).   (1) ((الفتوى الحموية)) (ص 101). (2) ((الرسالة التدمرية)) (ص 6). (3) ((مختصر الصواعق)) من (ص 16 - 29). (4) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 284). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 فقد وصف الله نفسه بعدة صفات فقال تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27]، وقال تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء [المائدة: 64] , وقال تعالى إخباراً عن عيسى أنه قال: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [المائدة: 116] , وقال تعالى وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] , وقوله: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ [البقرة: 210] , وقوله: رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ [المائدة: 19] ,، وقوله: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54]. وقوله في الكفار وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [الفتح: 6] ,، وقوله اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ [محمد: 28] ,، وقوله كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ [التوبة: 46] , وقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] ,، وكذا قوله: أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك: 16] ,ووصفه رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((ينزل ربنا إلى سماء الدنيا)) (1)، وبقوله: ((يعجب ربك من الشاب ليست له صبوة)) (2)، وقوله: ((يضحك الله إلى رجلين قتل أحدهما الآخر ثم يدخلان الجنة)) (3)، وقوله للجارية: ((أين الله؟ قالت: في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة)) (4).وفي إثبات ما تقدم يقول ابن قدامة رحمه الله: "فهذا وأمثاله مما صح سنده وعدلت رواته، نؤمن به ولا نرده، ولا نجحده، ولا نتأوله بتأويل يخالف ظاهره، ولا نشبهه بصفات المخلوقين ولا بسمات المحدثين، ونعلم أن الله سبحانه لا شبيه له ولا نظير، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] , وكل ما يتخيل في الذهن إن خطر بالبال فإن الله تعالى بخلافه" (5). وهكذا يرد مذهب السلف في الصفات الخبرية كل ما ادعاه الإباضية وغيرهم من المأولة؛ من أن إثبات هذه الصفات يؤدي إلى التشبيه وإثبات الجوارح، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فإثبات الكتاب والسنة لتلك الصفات هو في حدود قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص: 1 - 2] , وهذا التنزيه لا يتنافى مع إثبات الكمالات لله تعالى، حسبك أن ترى آية التنزيه في القرآن أثبتت لله صفتي السمع والبصر مع إثبات صفات الكمال، قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ، فسمعه وبصره ليس كأسماعنا وأبصارنا، وهكذا كل ما وصف الله به من الصفات وأسند إليه من الأفعال. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص267   (1) رواه مسلم (758). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) رواه أحمد (4/ 151) (17409)، والطبراني (17/ 309)، وأبو يعلى (3/ 288). من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 273)، والسخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (ص151): إسناده حسن. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2843): إسناده جيد. (3) رواه البخاري (2826)، ومسلم (1890). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (4) رواه مسلم (537). من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه. (5) انظر: ((لمعة الاعتقاد)) (ص 12 - 14) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 2 - رؤية الله تعالى لقد كثر الجدل بين علماء الفرق حول مسالة رؤية الله، وأخذ كل فريق يؤيد مذهبه بأدلة يزعم أنها تؤيد ما يذهب إليه من إثبات الرؤية أو نفيها. أما فيما يتعلق بغرضنا هنا وهو بيان موقف الخوارج بصفة عامة والإباضية منهم بصفة خاصة من هذه المسألة، فإن الخوارج يذهبون إلى استحالتها تنزيهاً لله بزعمهم-يقول النووي: " زعمت طائفة من أهل البدع المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة أن الله تعالى لا يراه أحد من خلقه وأن رؤيته مستحيلة عقلاً" (1).ويقول ابن أبي العز: " المخالف في الرؤية الجهمية والمعتزلة، ومن تبعهم من الخوارج والإمامية" (2). وقد استدل الإباضية على نفيها من القرآن الكريم بقوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 13].ويصف صاحب كتاب (الأديان) هذا الدليل بأنه يقر أن " الله سبحانه نفى عن نفسه الرؤية محكمة غير متشابهة ولا متصرفة في المعاني، وهو قوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ " (3). ويستدلون أيضاً بقوله تعالى: وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف: 143]. ويرد صاحب كتاب (الأديان) على من يحتج بقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22، 23]، الذي يستدل به على إثبات الرؤية – يرد عليه بتأويل الآية تأويلاً بعيداً لا يخفى فيه التكليف والتعسف وهو من التأويلات المذمومة؛ فقد فسر نَّاضِرَةٌ بأنها حسنة مشرقة مستبشرة بثواب ربها وفسر إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ أي منتظرة لما يأتيها من خيره وإحسانه. واستشهد بعدة أبيات شعرية على أن ناظرة تأتي بمعنى منتظرة، ومنها قول الشاعر: فإن يك صدر هذا اليوم ولى فإن غداً لناظره قريبوبعد أن أورد تلك الشواهد قال: " فقد دل الكتاب واللغة على صحة ما ذهبنا إليه وبطلان ما ذهب إليه مخالفونا " (4) ويعني بهم المثبتين للرؤية. أما من السنة فقد استدلوا بأحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث مسروق الذي يرويه عن عائشة رضي الله عنها: (يا أمتاه هل رأى محمد ربه ليلة الإسراء؟ فقالت: لقد قف شعري (أي قام فزعاً) مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب؟! من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء) إلخ الحدث (5). كما رواه صاحب (وفاء الضمانة) الإباضي (6) .. ثم قال معقباً عليه: " والحديث دليل لأصحابنا كالمعتزله على نفي الرؤية دنيا وأخرى؛ لأن ما كان نفيه تنزيهاً يكون عاماً في الدنيا والآخرة.   (1) ((شرح النووي)) (3/ 15). (2) ((شرح الطحاوية)) (ص 129). (3) كتاب ((الأديان والفرق)) (ص 51). (4) كتاب ((الأديان والفرق)) (ص 52). (5) رواه البخاري (4855)، ومسلم (177). من حديث عائشة رضي الله عنها. (6) ((وفاء الضمانة)) (ص 376/ 377). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 وقد أورد الربيع بن حبيب الإباضي في صحيحه عدة أحاديث في نفي الرؤية منها قوله: " قال الربيع: بلغني عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنه خرج ذات يوم، فإذا هو برجل يدعو ربه شاخصاً بصره إلى السماء رافعاً يده فوق رأسه فقال له ابن عباس: ادع ربك بأصبعك اليمنى واسأل بكفك اليسرى واغضض بصرك، وكف يدك، فإنك لن تراه ولن تناله. فقال الرجل: ولا في الآخرة؟ قال: ولا في الآخرة، فقال الرجل: فما وجه قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، قال ابن عباس: ألست تقرأ قوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، ثم قال ابن عباس: إن أولياء الله تتنضر وجوههم يوم القيامة وهو الإشراق ثم ينظرون إلى ربهم متى يأذن لهم في دخول الجنة بعد الفراغ من الحساب". ثم أورد روايات كثيرة عن ابن عباس في نفي الرؤية لله تعالى. والملاحظ هنا أن المؤلف أورد أولاً في هذا الحديث عن ابن عباس أنه نفى رؤية الله في الدنيا والآخرة في إجابته للسائل، ثم أورد أخيراً عن ابن عباس إثبات الرؤية لأولياء الله وذلك في قوله: (ثم ينظرون إلى ربهم متى يأذن لهم في دخول الجنة) (1).وربما يقصد بنظرتهم إلى ربهم أي ينتظرون أمره وإذنه. ومن الأمثلة أيضاً قوله: " قال: حدثنا أفلح بن محمد عن أبي عمر السعدي عن علي بن أبي طالب في قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، قال: تنضر وجوههم وهو الإشراق، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، قال: تنظر متى يأذن لهم في دخول الجنة ".ثم قال الربيع أيضاً: " وقال علي بن أبي طالب وعبدالله بن عباس وعائشة أم المؤمنين ومجاهد وإبراهيم النخعي ومكحول الدمشقي وعطاء بن يسار وسعيد ابن المسيب وسعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم وأبو صالح صاحب التفسير وعكرمة ومحمد بن كعب وابن شهاب الزهري: " أن الله لا يراه أحد من خلقه " (2).ومما يجدر ذكره هنا تعليقاً على ما أسند إلى هؤلاء الصحابة والتابعين من نفي الرؤية أن ابن تيمية نفى أن يكون قد ورد عن أحد من السلف نفي الرؤية في الآخرة بقوله: " ولم يثبت عن أحد منهم (يعني ابن عباس وعائشة وأبا ذر رضي الله عنهم) إثبات الرؤية بالعين في الدنيا، كما لم يثبت عن أحد منهم إنكار الرؤية في الآخرة " (3).وما كان للصحابة أن ينفوا الرؤية بعدما أثبتها الله لنفسه وأثبتها رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد ناقش الورجلاني أيضاً بحث الرؤية بفصل طويل في كتابه (الدليل لأهل العقول) ورد على الأشعري إثباته لرؤية الله في الدار الآخرة وخطأه فيما لم يخطئ فيه (4).ويقول صاحب كتاب (العقود الفضية) منهم كذلك نافياً إمكانية إمكان رؤية الله تعالى: " فالإباضية يمنعون ذلك، والمنع قول عائشة من الصحابة وقتادة والزمخشري وغيرهم من المعتزلة والشيعة، والحجة قوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ، والإدراك يكون بالقليل كما يكون بالكثير، فنفي ذلك عن نفسه، وبقوله تعالى لموسى عليه السلام: قَالَ لَن تَرَانِي، وهو يقتضي التأبيد، والأحاديث الواردة أحادية، وتقبل التأويل لتنطبق مع الآيات، ولأن يلزم من يقول بالرؤية إثبات الجهة واللون لله تعالى وهو باطل" (5).   (1) مسند الربيع (3/ 35). (2) مسند الربيع (ص 37). (3) ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (ص 65). (4) ((الدليل لأهل العقول)) (ص 63 – 68). (5) ((العقود الفضية)) (ص 387). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 وكل هذه الحجج التي أوردها الحارثي في حجج باطلة مردودة على من قال بها؛ لأن استدلاله بالآيات غير صحيح وليست قاطعة في نفي الرؤية في الدار الآخرة. وما أسنده إلى أم المؤمنين عائشة وغيرها من الصحابة في نفي الرؤية في الآخرة فهو غير صحيح أيضاً عند السلف كما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية (1). وأما الزمخشري والمعتزلة والشيعة، فليس بحجة في مثل هذه المسائل التي لا تثبت إلا بالنقل الصحيح، والنقل الصحيح ولله الحمد إنما هو في جانب أهل الحق القائلين بإثبات رؤية ربهم يوم القيامة. نعم إن الأبصار لا تدركه تعالى ولا تحيط به ولكنها تراه كما يليق بجلاله، وهذا مالم تنفه الآية، بل قد تفيد إثبات الرؤية؛ إذ أن نفي الإدراك يقتضي إثبات الرؤية من غير إدراك ولا إحاطة، وهذا الجواب في نهاية الحسن مع اختصاره كما قاله النووي (2).وهو ما عليه أكثر العلماء، يقول ابن تيمية: " وكذلك لا تدركه الأبصار إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء" (3).وقد جزم إسماعيل ابن علية بأن المراد بقوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ أي في الدنيا (4). وأما استدلاله بقول الله لموسى: لَن تَرَانِي، على نفي الرؤية مطلقاً فهو غير صحيح، وقد علق الله رؤيته على ممكن وهو استقرار الجبل، والمعلق على الممكن ممكن. وأما تفسير صاحب كتاب (الأديان) لناظرة بمعنى "منتظرة " فإنه غير صحيح في هذا المقام؛ وذلك لأن النظر " إذا وصل بإلى تعين للرؤية ولا يجوز حمله على الثواب، فإن نفي رؤية الثواب لا يكون إنعاماً، وقد أورد النظر في معرض الإنعام، واللفظ نص في رؤية البصر بعدما نفيت عنه التأويلات الفاسدة " (5).وقال الهراس عن تأويل ناظرة بمعنى منتظرة، وإن إلى بمعنى النعمة، والتقدير ثواب ربها منتظرة قال عن هذا التأويل إنه" تأويل مضحك" (6).ويقول العيزابي مستدلاً على نفي الرؤية: " الحمد لله الذي لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأن الرؤية توجب الحلول واللون والتحيز والطول والعرض والجهات والتركيب والعجز والحدوث، وغير ذلك من صفات الخلق" (7).ويقول علي يحيى معمر إن المتطرفين من الإباضية " يفرون من كل ما يوهم التشبيه ولو بتأويل بعيد فراراً شديداً " (8)، ويذكر عن جابر بن زيد أنه اقتدى بالصحابة في نفي الرؤية مثل حديث عائشة رضي الله عنها: " من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية" (9). والواقع أن هذا النفي هنا إنما هو في الدنيا أي أن أم المؤمنين لم تنف وقوع الرؤية في الآخرة، وإنما نفت وقوعها قبل يوم القيامة. ولكن الإباضية وهم ينفون الرؤية عمموا دلالة الحديث ليستقيم لهم الاستدلال به على نفي الرؤية مطلقاً.   (1) انظر: ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (4/ 65). (2) ((شرح النووي)) على مسلم (3/ 6). (3) ((الرسائل التدمرية)) (ص 35). (4) كتاب ((السنة)) (1/ 58). (5) ((نهاية الأقدام)) (ص 369). (6) ((شرح العقيدة الواسطية)) (ص 86). (7) ((الحجة في بيان المحجة)) (ص 5)، انظر: ((غاية المراد)) (ص 7). (8) ((الإباضية بين الفرق)) (ص 227). (9) ((الإباضية في موكب التاريخ)) (ص 60). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 وقد حاول علي يحيى معمر أن يوفق بين المثبتين للرؤية من السلف والنافين لها من الخوارج المعتزلة وغيرهم من أهل البدع فذهب إلى القول بأن بعض علماء أهل السنة يقولون بأن الرؤية معناها حصول كمال العلم بالله تبارك وتعالى. وعبر آخرون منهم بأن الرؤية – فيما يقول- تقع بحاسة سادسة هي كمال العلم. ثم قال: " واختلفت تعابير الكثير منهم ولكنها تتلاقى في النهاية على نفي كامل الصورة التي يتخيلها الإنسان لصورة رائي ومرئي، وما تستلزمه من حدود وتشبيه وتتفق في النهاية على الابتعاد عما يشعر بأي تشبيه في أي مراتبه بالمحدودية في كل أشكالها " (1).وقال مثبتاً رأي المعتدلين منهم في الرؤية: " المعتدلون من الإباضية لا يمنعون أن يكون معنى الرؤية هو كمال العلم به تعالى، ويمنعون الرؤية بالصورة المتخيلة عند الناس" (2). والواقع أن كمال العلم شيء والرؤية شيء آخر؛ لأن الرؤية انكشاف تام لا يكون إلا عن طريق الأبصار، أما كمال العلم فهو بالعقل. وتفسير الرؤية بالكمال في العلم تأويل للفظها بغير ما يستعمل به في العربية. ثم إن الرؤية لا تستلزم التشبيه في جانب الله تعالى والاتصاف بأوصاف الحوادث التي ذكروها؛ لأنها رؤية الله كما يليق بذاته، ويجري الأمر في مسألة الرؤية على نحو ما يجرى عليه من صفات الله تعالى وأفعاله من تنزهه فيها عن مشابهة المخلوقين، وحيث لا تتساوى ذاته بذواتهم، فلا يلزم من رؤيتهم له ما يلزم من رؤية بعضهم لبعض.   (1) ((الإباضية بين الفرق)) (ص 245). (2) ((الإباضية بين الفرق)) (ص 246). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 413 وإذا انتهينا إلى هذا الحد من الرد على المانعين لرؤية الله تعالى نقلاً وعقلاً، فإننا نقرر هنا أن السلف يذهبون إلى إثبات ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتاً حقيقياً بعيداً عن تأويلات أهل البدع الذين يذهبون إلى نفي رؤية الله تعالى، التي ثبت صحتها ووجب اعتقادها على كل مسلم، بعد أن دلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على صحة وقوعها يوم القيامة. لقد ثبت بإجماع السلف والأئمة أن الله تعالى يرى في الآخرة، يراه أهل محبته ورضوانه، وهو خير ما وعد الله به عباده المؤمنين، بل هو كمال النعيم في الدار الآخرة كما قاله ابن القيم (1) رحمه الله، لا يشك في صحة وقوعه إلا أهل البدع والضلالات. ويطول بنا القول لو أردنا إثبات الأدلة على الرؤية وأقوال السلف في هذا الأمر، ومن تلك الأدلة التي وردت في القرآن الكريم قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22 - 23] , وقوله تعالى: لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26] , فقد فسرت الزيادة بأنها النظر إلى الله تعالى كما ذهب إليه علماء السلف (2).وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ [15 - 17] , يقول الدرامي: " ففي هذا دليل أن الكفار كلهم محجوبون عن النظر إلى الرحمن عز وعلا، وأن أهل الجنة غير محجوبين عنه" (3).ومثله قوله تعالى: وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق: 35] , فسرها أنس بن مالك (بأن الله يتجلى لهم كل جمعة) (4).ومن السنة ما جاء عن جرير قال: ((كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر قال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا)) (5).وكذا ما جاء عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا)) (6). فلا اعتبار لكلام هؤلاء المبطلين في نفي الرؤية مع قول الله عز وجل وقول الرسول الكريم وقول السلف الصالح الذين لهم القدم الراسخة في العلم. يقول الطحاوي: " والرؤية حق لأهل الجنة بغير إحاطة ولا كيفية كما نطق به كتاب ربنا وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ".ويقول ابن أبي العز معلقاً على هذا الكلام: " المخالف في الرؤية: الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية، وقولهم باطل مردود بالكتاب والسنة، وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين وأهل الحديث وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبون إلى السنة والجماعة " (7).   (1) ((طريق الهجرتين)) (ص 59). (2) انظر: ((الرد على الجهمية)) (ص 46)، وانظر: (ص 52): وانظر: كتاب ((السنة)) (ص 45). (3) ((الرد على الجهمية)) (ص 45). (4) ((الرد على الجهمية)) (ص 53). (5) رواه البخاري (7434). (6) رواه أحمد (5/ 324) (22816)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (4/ 419)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (428). وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2459). (7) ((شرح الطحاوية)) (ص 129). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 ويقول ابن تيمية: " إن كون الله يرى بجهة من الرائي ثبت بإجماع السلف والأئمة، مثل ما روى اللالكائي عن علي بن أبي طالب أنه قال: إن من تمام النعمة دخول الجنة والنظر إلى الله في جنته. وعن عبدالله بن مسعود أنه قال في مسجد الكوفة وبدأ باليمين قبل الحديث فقال: (والله ما منكم من إنسان إلا أن ربه سيخلو به يوم القيامة كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر قال فيقول: " ما غرك بي يا ابن آدم (ثلاث مرات)؟ ماذا أجبت المرسلين (ثلاثا)؟ كيف عملت فيما علمت؟) (1). وعن أشهب قال: وسئل مالك عن قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ: أينظر الله عز وجل؟ قال: نعم، فقلت: إن أقواماً يقولون: ينظر ما عنده. قال: بل ينظر إليه نظراً. وعن الأوزاعي إنه قال: إني لأرجو أن يحجب الله جهماً وأصحابه أفضل ثوابه الذي وعده أولياءه حيث يقول: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، فجحد جهم وأصحابه أفضل ثوابه الذي وعد أولياءه. وعن عبدالله بن المبارك قال: ما حجب الله عنه أحداً إلا عذبه ثم قرأ: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ قال: بالرؤية" (2).ومن أراد التوسع في هذا فإن في كتابات شيخ الإسلام ابن تيمية غنى لكل طالب، وقد جاء في كتابه (بيان تلبيس الجهمية) بعدة أقوال عن علماء السلف كلها تثبت وقوع رؤية الله تعالى، ولابن القيم في كتابه (حادي الأرواح) (3) فصل طويل أورد فيه مالا مزيد بعده من النقل والاحتجاج لإثبات الرؤية وإبطال كل ما احتج به أهل البدع من نفيها أدلة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأقوال الأئمة الأربعة. وخلاصة القول في هذه المسألة أن رؤية الله تعالى تعتبر عند السلف أمراً معلوماً من الدين بالضرورة لا يماري فيها أحد منهم. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص275   (1) رواه الطبراني (9/ 182) , وعبد الله بن أحمد في ((السنة)) (2/ 498) ,بدون ذكر "ثلاث مرات" قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 350): رجال الكبير رجال الصحيح غير شريك بن عبد الله وهو ثقة وفيه ضعف ورجال الأوسط فيهم شريك أيضا وإسحاق بن عبد الله التميمي ووثقه ابن حبان وبقية رجاله رجال الصحيح. (2) ((بيان تلبيس الجهمية)) (ص 415/ 418). (3) [8411])) انظر: ((حادي الأرواح)) (ص 196 - 240)، وانظر: (الإبانة)) (ص 10)، (ص 12 - 19)، وانظر: ((الرد على الجهمية)) (ص 53/ 54)، ((لمعة الاعتقاد)) (ص 19). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 3 - القول بخلق القرآن هذه المسألة من المسائل التي أخذت من الوقت والجهد وشدة الجدال بين أرباب المذاهب الكلامية أكثر مما ينبغي لها، فقد سفكت بسببها دماء كثيرة وجرت من أجلها محن عظيمة وبلايا متتالية على العلماء في زمن المأمون والمعتصم، واشتد الأمر وغصت السجون بالمخالفين فيها القائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود. وكان أكبر من تزعم تلك الفتنة ابن أبي دؤاد الذي اشتهر بأنه من أكابر من ناضل في سبيل القول بخلق القرآن، فغلب المأمون على أمره ووقع تحت تأثيره، وجرى ما قد كتبه الله في سابق علمه. ولست الآن بصدد التأريخ لما حدث في تلك الفتنة وإنما نقصد هنا بيان رأي الخوارج في مسألة القول بخلق القرآن، الذي لم يعد – ولله الحمد – يذكر على لسان أحد إلا في بطون الكتب وبين مدارسات العلماء. لقد ذكر علماء الفرق أن الخوارج قد قالوا بخلق القرآن واعتقدوه حقاً لا يمارى فيه بزعمهم، ولهم شبه واهية وتأويلات بعيدة، وفي ذلك يروي الأشعري أن الخوارج كلهم يقولون بأن القرآن مخلوق بإجماع منهم على هذا الحكم فيقول: " والخوارج جميعاً يقولون بخلق القرآن" (1).ويقول ابن جميع الإباضي في مقدمة التوحيد: " وليس منا من قال إن القرآن غير مخلوق" (2).وقد بين الورجلاني الإباضي أدلتهم على خلق القرآن، وناقش فيه المخالفين لهم بقوله: "والدليل على خلق القرآن أن لأهل الحق عليهم أدلة كثيرة، وأعظمها استدلالهم على خلقه بالأدلة الدالة على خلقهم هم فإن أبوا من خلق القرآن أبينا لهم من خلقهم، وقد وصفه الله عز وجل في كتابه وجعله قرآناً عربياً مجعولاً " (3).   (1) [8412])) ((المقالات)) (1/ 203). (2) [8413])) ((مقدمة التوحيد)) (ص 19). (3) [8414])) ((الدليل لأهل العقول)) (ص 50)، ثم انظر: (ص 68 – 72). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 416 ثم جاء بالأدلة وهي الآيات التي ذكر فيها نزول القرآن وهي كثيرة مثل قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1]، وقوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ [الشعراء: 193]، وقوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ [الدخان: 3]، وغيرها من الآيات. ويقول الحارثي الإباضي في إثبات رأي الخوارج في القول بخلق القرآن أيضاً: " فعند المحققين من الإباضية أنه مخلوق إذ لا تخلو الأشياء إما أن تكون خالقاً أو مخلوقاً، وهذا القرآن الذي بأيدينا نقرؤه مخلوق لا خالق؛ لأنه منزل ومتلو وهو قول المعتزلة" (1).وفيما يتعلق بموقف السلف في هذه القضية فإنهم يمتنعون عن وصف القرآن بما لم يوصف به على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ألسنة الصحابة من أنه مخلوق أو غير مخلوق. وفي هذا يقول ابن تيمية مبيناً رأي السلف في هذه المسألة: " وكما لم يقل أحد من السلف إنه مخلوق فلم يقل أحد منهم إنه قديم، لم يقل واحداً من القولين أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا من بعدهم من الأئمة ولا غيرهم، بل الآثار متواترة عنهم بأنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله" (2).ويقول ابن قدامة: " ومن كلام الله تعالى القرآن العظيم وهو كتاب الله المبين وحبله المتين، وتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين، بلسان عربي مبين، منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود" (3).وقد كفر كثير من علماء السلف من قال بخلق القرآن أورد منهم الأشعري عدداً كبيراً ثم قال: " ومن قال إن القرآن مخلوق وإن من قال بخلقه كافر، من العلماء وحملة الآثار ونقلة الأخبار لا يحصون كثرة ". ويقول أيضاً: " وقد احتججنا لصحة قولنا إن القرآن غير مخلوق من كتاب الله عز وجل، وما تضمنه من البرهان وأوضحه من البيان ولم نجد أحداً ممن تحمل عنه الآثار وتنقل عنه الأخبار ويأتم به المؤتمون من أهل العلم يقول بخلق القرآن، وإنما قال ذلك رعاع الناس وجهال من جهالهم ولا موقع لقولهم" (4).ومثله ما أورده الدرامي والإمام أحمد بن حنبل من أقوال لعلماء السلف يكفرون فيها من قال بخلق القرآن (5)، وهي أقوال كثيرة لا حاجة بنا إلى سردها هنا لأن مضمونها كما قلنا واحد، وهو إثبات القول بعدم خلق القرآن وتكفير من قال بخلقه. وأما احتجاج القائلين بخلق القرآن بقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: 3]، أي خلقناه قرآناً عربياً؛ فهذا احتجاج باطل إذ أن جعل التي بمعنى خلق تتعدى إلى مفعول واحد، وهنا تعدت إلى مفعولين فهي ليست بمعنى خلق (6). وينفض أيضاً احتجاجهم هذا قوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف: 19]. وكذا قوله تعالى: وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً [النحل: 91]. فهل يصح جعل في هاتين الآيتين وأمثالهما بمعنى خلق، هذا لا يمكن؛ فلو كانت جعل تأتي بمعنى خلق دائماً على ما قالوه لكان المعنى واضحاً وهو أن قريشاً خلقت الملائكة، وكذا الآية الأخرى وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً تعالى الله وتقدس!!   (1) ((العقود الفضية)) (ص 287). (2) ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (3/ 20). (3) ((لمعة الاعتقاد)) (ص 17). (4) انظر: ((الإبانة)) (ص 29)، وانظر: ((شرح الطحاوية)) (ص 106). (5) انظر: كتاب ((السنة)) (ص 15 - 29)، ((الرد على الجهمية)) من (ص 85 - 89). (6) انظر: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز الحنفي (ص 112/ 113). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 وأما الاحتجاج على خلقه بإنزاله، فإن هذا لا دلالة لهم فيه وذلك أن الإنزال أو النزول لا يعرف من إطلاقه على الحقيقة إلا أنه هبوط من مكان عال إلى مكان أسفل منه، وقد أثبت الله تعالى أن القرآن منزل منه تعالى بمعنى أنه تكلم به نبيه عليه الصلاة والسلام بواسطة جبريل عليه السلام الذي نزل به إلى قلب سيد المرسلين، وهذا هو الواضح والمعروف فيه. ولهذا فقد فهمه الصحابة ولم يبحثوا فيما وراءهم لعلمهم بأنه غير مقصود، ولكن الجهلة من المبتدعة القائلين بخلقه تجاوزوا هذا الأمر الواضح وتعسفوا النصوص على ما يوافق أهواءهم المنحرفة، مع أن النزول والتنزيل والإنزال في الحقيقة كما يقول العلامة ابن القيم: "مجيء الشيء أو الإتيان به من علو إلى أسفل، هذا المفهوم منه لغة وشرعاً " (1). ولا يلزم منه خلق المنزل فقد أسند النزول إلى الله عز وجل وهو قديم، كما وصفه به رسوله أنه ينزل إلى سماء الدنيا. وقد حاول علي يحيى معمر الإباضي أن يجعل الخلاف بين القائلين بخلق القرآن وبين النافين به خلافاً لفظياً، إذا أهمل جانباً التطرف- كما يقول – ويعني به أنه لما اشتد الجدل بين الطرفين في مسألة خلق القرآن انقسموا إلى فريقين " فتطرف جانب حتى زعم أن، المصاحف والحروف قديمة، وتطرف جانب آخر حتى نفى صفة الكلام عن الله تبارك وتعالى " (2).ويرى أن " يكفي أن يلتقي المسلمون على حقيقتين في هذا الموضوع، وهي أن الله تبارك وتعالى سميع بصير متكلم، وأن القرآن الكريم كلام الله عز وجل أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم " (3). ولا شيء فيما يريد علي معمر أن يجمع عليه الناس في هذه القضية، لولا أنه لم يوضح رأيه في خلق القرآن، بل اكتفى بالقول بأنه كلام الله أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم وهو كذلك لولا أن الإباضية يستدلون على خلق القرآن بإنزاله، فلا يكفي إذا ما رآه كافياً للتوفيق بين القائلين بخلق القرآن أو إنزاله، وبين القائلين بعدم خلقه. هذا ولابد من الإشارة إلى أن بعض العلماء من الإباضية قد خرج عن القول بخلق القرآن، فصاحب (كتاب الأديان) وهو إباضي يرد على المعتزلة ويبطل قولهم بخلقه فيقول: " فإن عارض معارض واحتج بقول الله سبحانه: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا [السجدة: 4]، فكل شيء بين السماء والأرض فهو مخلوق قلنا لهم: وقد قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ [الحجر: 85]، فالحق الذي خلق به السموات والأرض وما بينهما هو كلامه وهو خارج عن الأشياء " (4). ومن أئمة الإباضية القائلين بأن القرآن غير مخلوق أيضاً أبو النضر العماني فإنه كان ينكر ذلك القول إنكاراً شديداً وله قصيدة طويلة يرد بها على القائلين بخلق القرآن بلغت خمسة وسبعون بيتاً، وهي قصيدة جيدة فيها إبطال كل ما احتج به القائلون بخلقه، يقول في هذه القصيدة: يا من يقول بفطرة القرآن ... جهلاً ويثبت خلقه بلسان لا تنحل القرآن منك تكلفاًً ... ببدائع التكليف والبهتان هل في الكتاب دلالة من خلقه ... أو في الرواية فاتنا ببيان الله سماه كلاماً فادعه ... بدعائه في السر والإعلان ألا فهات وما أظنك واجداً ... في خلقه يا غر من برهان (5)   (1) ((مختصر الصواعق)) (ص 278). (2) ((الإباضية بين الفرق)) (ص 244/ 245). (3) ((الإباضية بين الفرق)) (ص 244/ 245). (4) نقلاً عن ((آراء الخوارج)) (ص 154/ 155). (5) انظر: كتاب ((الدعائم)) (ص 31 – 35). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 ثم يشرع في الرد بالتفصيل مبيناً أن الجعل في قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ليس نصاً صريحاً في الخلق، ثم استدل بدعاء إبراهيم الوارد في قوله تعالى: رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا [إبراهيم: 35]، وقوله رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ [إبراهيم: 40] ... إلخ. وعلى كل حال فإن الخوارج لم يقتصروا على القول بخلق القرآن، بل كانت منه طائفتان أقدمتا على مالم يخطر على بال مسلم يؤمن بأن القرآن كله كلام الله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأنه كله حق من فاتحته إلى خاتمته، لم يدخله باطل في كل آياته- لم يخطر هذا القول في حسبان مسلم يؤمن بالله رباً وبمحمد نبياً، فضلاً عن اعتقاده، هاتان الطائفتان هما العجاردة والميمونية فقد أنكرتا سورة يوسف، وادعتا بأنها ليست من القرآن، وحجتهم في هذا أن القرآن جاء بالجد، وسورة يوسف اشتملت على قصص الحب والعشق. وقد جزم كثير من العلماء بصحة ما نسب إلى الميمونية والعجاردة في هذا الاعتقاد، وإن كان الأشعري قد حكى عنهم هذا القول وهو غير جازم بصحته حيث قال: "وحكى لنا عنهم مالم نتحققه أنهم يزعمون – يعني العجاردة – أن سورة يوسف ليست من القرآن" (1).وتبعه الشهرستاني فذكر هذا القول على أنه قد حكي عنهم، ولكن صاحب (كتاب الأديان) يقول عنهم: "وينكرون سورة يوسف أنها ليست من القرآن، ويقولون هي قصة من القصص خلافاً لأهل الاستقامة – يعني بهم الإباضية- يقولون: القرآن كله كلام الله" (2).وكما قال الأشعري في العجاردة، قال في الميمونة، فحكى عنهم هذا القول وهو غير مثبت من صحته، ولكن البغدادي قد بين سند هذا القول إليهم بأنه من حكاية الكرابيسي وذلك في قوله: " وحكى الكرابيسي عن الميمونية من الخوارج أنهم أنكروا أن تكون سورة يوسف من القرآن، ومنكر بعض القرآن كمنكر كله" (3).ويزيد الشهرستاني في السند الكعبي والأشعري فيقول: " وحكى الكعبي والأشعري عن الميمونية إنكار كون سورة يوسف من القرآن " (4). ويجزم صاحب كتاب (الأديان والفرق) بأن ميموناً أنكر سورة يوسف أنها من القرآن، وذلك في قوله عنه: "وأنكر سورة يوسف أنها ليست من القرآن على قول عبدالكريم بن عجرد" (5). المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص286   (1) ((المقالات)) (ص 178، ((الملل والنحل)) (1/ 128). (2) قطعة من ((كتاب الأديان)) (ص 104). (3) ((الفرق بين الفرق)) (ص281). (4) [8429])) ((الملل والنحل)) (1/ 129). (5) [8430])) ((الأديان والفرق)) (1/ 177) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 419 4 - القدر الخوارج في مسألة القدر ثلاث طوائف: الطائفة الأولى منهم ذهبت إلى القول بإنكار القدر، والقول بخلق الإنسان لأفعاله الاختيارية، وهم بهذا الرأي يذهبون إلى قول القدرية. وتضم هذه الطائفة من فرق الخوارج الميمونية، والحمزية، والحارثية، والشبيبية. وقد ذهبت الميمونية إلى القول بأن الله تعالى لما خلق الخلق أودع فيهم القدرة على اختيار كل ما يريدون من أفعال وأعمال ليس لله مع مشيئتهم مشيئة، فهم الخالقون لأفعالهم خيرها وشرها دون أن يكون لله في ذلك أي أثر. قال الأشعري عنهم: " والذي تفردوا به القول بالقدر على مذهب المعتزلة، وذلك أنهم يزعمون أن الله سبحانه فوض الأعمال إلى العباد وجعل لهم الاستطاعة إلى كل ما كلفوا، فهم يستطيعون الكفر والإيمان جميعاً، وليس لله سبحانه وتعالى في أعمال العباد مشيئة وليست أعمال العباد مخلوقة لله " (1).ومثل هذا ما أورده البغدادي عنهم (2)، ويقول عنهم الشهر ستاني: "الميمونية أصحاب ميمون بن خالد، كان من جملة العجاردة، إلا أنه تفرد عنهم بإثبات القدر خيره وشره من العبد، وإثبات الفعل للعبد خلقاً وإبداعاً، وإثبات الاستطاعة قبل الفعل، والقول بان الله تعالى يريد الخير دون الشر وليس له مشيئة في معاصي العباد" (3).وبمثل قول الميمونية في القدر قالت الحمزية، فصارت هذه الفرقة قدرية، وهم ينسبون إلى زعيمهم حمزة بن أكرك الذي كان في الأصل من العجاردة الخازمية، فلما قال في القدر بقول القدرية أكفرته الخازمية وتبرأت منه (4).وقد خرجت عن فرقة الإباضية فرقة تسمى الحارثية أتباع حارث الإباضي، هذه الفرقة قد مالت إلى القدرية فقالوا بقولهم مخالفين سائر فرق الإباضية، فيذكر الأشعري عنهم أنهم " قالوا في القدر بقول المعتزلة وخالفوا فيه سائر الإباضية" (5)، ولكن" أكفرهم سائر الإباضية في ذلك " (6).وممن قال في القدر بقول القدرية من الخوارج أيضاً الشبيبية، وهم أتباع شبيب، فقد قالت هذه الفرقة بقول المعتزلة، فبرئت منهم البيهسية وكانت تقول: " إن الله تعالى فوض إلى العباد، فليس لله في أعمال العباد مشيئة" (7).الطائفة الثانية: وهم الذين ذهبوا إلى القول بالجبر كما قال جهم بن صفوان، وهم طائفة من الأزارقة زعموا أن العبد مجبر على أفعاله، وأنه لا استطاعة له أصلاً، وقد ذكرهم ابن حزم ووصفهم بأنهم يوافقون قول جهم بن صفوان في هذا الباب (8).ومثل هذه الطائفة من الأزارقة فرقة الشيبانية، فإنها تقول بالجبر أيضاً كالجهم فيما يذكر الشهرستاني عنهم بقوله: "ومن مذهب شيبان أنه قل بالجبر ووافق جهم بن صفوان في مذهبه إلى الجبر" (9).   (1) ((المقالات)) (1/ 177). (2) ((الفرق بين الفرق)) (ص280). (3) ((الملل والنحل)) (1/ 129). (4) ((المقالات)) (1/ 177)، ((الفرق بين الفرق)) (ص 98). (5) ((المقالات)) (ص 184)، ((الملل والنحل)) (1/ 136). (6) ((الفرق بين الفرق)) (ص 105). (7) ((المقالات)) (1/ 194)، ((الملل والنحل)) (1/ 127). (8) ((الفصل)): (3/ 22). (9) ((الملل والنحل)) (1/ 133). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 أما الطائفة الثالثة: فهم المعتدلون الذين قالوا بقول أهل السنة في إثبات القدر خيره وشره، حلوه ومره، ومن الله تعالى، وأن الله خالق كل شيء وأن الإنسان فاعل لأفعاله الاختيارية مكتسب لها محاسب عليها. وقد ذهب إلى هذا القول بعض فرق الخوارج كالإباضية، وكفرق أخرى مثل الشعيبية أصحاب شعيب الذي انفصل عن الميمونية فأثبت شعيب خلافاً لميمون خلق الله لأعمال العباد وعموم مشيئته، كما قال الأشعري ومثله البغدادي والشهرستاني في حكايتهم لاعتقاده بأنه يقول: " إن الله تعالى خالق أعمال الخلق، والعبد مكتسب لها قدرة وإدارة، مسئول عنها خيراً أو شراً، مجازى عليها ثواباً وعقاباً، ولا يكون شيء في الوجود إلا بمشيئة الله تعالى " (1).وعلة مثل هذا الاعتقاد فرقة الخلفية، أصحاب خلف، هذه الفرقة أثبتت القدر والاستطاعة والمشيئة، وقالت في هذه الثلاثة بقول أهل السنة فأضافوا القدر خيره وشره إلى الله تعالى (2)، وكانت لهم معارك حامية مع الحمزية أتباع حمزة بن أكرك في بلاد كرمان حرباً وجدالاً. ومثلها تماماً في الاعتقاد فرقة الخازمية كما نص على ذلك الأشعري والبغدادي والشهرستاني فقالوا: لا خالق إلا الله ولا يكون إلا ما شاء الله وإن الاستطاعة مع الفعل، وكفروا الميمونية لميلهم إلى القدرية في هذا الباب. وممن قال بإثبات القدر وأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى من فرق الخوارج المجهولية، كما أثبت الأشعري والشهرستاني وغيرهما من علماء الفرق عنهم ذلك الاعتقاد أما رأي الإباضية في باب القدر فهم يؤمنون بأن الله خالق كل شيء خلق العبد وفعله، وهم يبتعدون عن مذهبي الجبرية والقدرية فيقولون: أفعالنا خلق من الله ونحن المكتسبون لها، والمجازون عليها ثواباً من الله أو عقاباً، يقول النفوسي في متن عقيدة التوحيد الإباضية: فأفعالنا خلق من الله كلها ... ومنا اكتساب بالتحرك بالبدن (3) ويقول السالمي: وبالقضاء وبالرحمن قدره ... وأنه خالق أفعالنا جللا لكنه لا بجبر كان منه لنا ... وعلمه سابق في كل ما جهلا وإنما الفعل مخلوق ومكتسب ... فالخلق لله والكسب لمن فعلا (4)   (1) انظر: ((الملل والنحل)) (1/ 131)، ((المقالات)) (1/ 178)، ((الفرق بين الفرق)) (ص 95). (2) ((المقالات)) (1/ 177)، ((الملل والنحل)) (1/ 130)، الفرق (ص96)، ((رسالة الدبسي)) (ص 30). (3) ((متن النونية)) (ص 12). (4) ((غاية المراد)) (ص 9). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 421 وقال العيزابي منهم: " الحمد لله الذي أفعالنا خلق منه وكسب منا لا جبر، ولو كانت إجباراً لم يكن عليها مدح ولا ذم، ولا ثواب ولا عقاب، ولا أمر ولا نهي، ولا كتاب ولا رسول، ولا نصب دليلاً" (1).ويقول علي يحيى معمر في كتابه (الإباضية بين الفرق الإسلامية): " يبدوا أنه لا خلاف بين الإباضية وأهل السنة في موضوع القدر" (2).ثم قال في موضع آخر مبيناً عقيدة الإباضية في القدر وأن من اعتقادهم: " أن الإيمان لا يتم حتى يؤمن المسلم بالقدر خيره وشره أنه من الله تبارك وتعالى، وأن أفعال الإنسان خلق من الله واكتساب من الإنسان، ويبتعدون عن رأي المجبرة كما يبتعدون عن رأي من يقول الإنسان يخلق أفعاله" (3).وهكذا في كتابه الآخر (الإباضية في موكب التاريخ)، وزاد مستدلاً على ذلك بالآيات الآتية: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96]، أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54]، هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر: 3] , اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62] , (4).وقد نقل عنهم علماء الفرق هذا الرأي كالأشعري والشهرستاني (فيما يحكيه عن الكعبي) والبغدادي (5).والاستطاعة عند جمهورهم مع الفعل وليس قبله، وهي التي يحصل بها الفعل، قال قطب الأئمة: " وأما الاستطاعة فيه عندنا مع الفعل لا قبله" (6).ويقول الحارثي في بيانه لاعتقاداتهم: " ومن ذلك أنهم يؤمنون بالقضاء والقدر أنه من الله، وأن الخير والشر من الله، وكسب من العباد، وهم يوافقون أهل السنة في هذا، والحجة قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، ولو ثبت للعباد خلق لزم ثبوت شريك، هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ، هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ (7). والواقع أن الرأي الأخير وهو القائم على الإيمان بالقدر الأزلي، وخلق الله لكل شيء في الكون، وفعل العبد لأفعاله الاختيارية ومسئوليته عنها، وهو مذهب السلف الصالح- والواقع أن هذا المبدأ هو الحق وهو أصح المبادئ في هذا المقام، فهو مقتضى الإيمان بالله المتفرد بالربوبية والألوهية في الكون، ومقتضى ما جاء في الشرع من التكليف والجزاء، فمذهب كل من الجبرية والقدرية مردود، وقد أخطأ الخوارج الذين قالوا بهذين المذهبين الباطلين. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص293   (1) [8444]) ((الحجة في بيان المحجة)) (ص 23). (2) [8445]) ((الإباضية بين الفرق)) (ص 248). (3) [8446]) ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص 357). (4) [8447]) ((الإباضية في موكب التاريخ)) (ص 60) (5) [8448]) انظر: ((مقالات الأشعري)) (1/ 187)، ((الفرق بين الفرق)) (ص 105)، ((الملل والنحل)) (ص 134). (6) [8449]) ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص 484). (7) [8450]) ((العقود الفضية)) (ص 290). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 422 1 - وجود الجنة والنار قبل يوم القيامة ينكر الخوارج وجود الجنة والنار قبل يوم القيامة، يقولون إن خلقهما لا يتم إلا في الدار الآخرة، وهذا ما ذكره ابن حزم عنهم بقوله: "ذهبت طائفة من المعتزلة والخوارج إلى أن الجنة والنار لم يخلقا بعد".ويقول عن أدلتهم على دعواهم هذه: " وما نعلم لمن قال إنهما لم يخلقا بعد حجة أصلاً أكثر من أن بعضهم قال: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال وذكر أشياء من أعمال البر من عملها غرس له في الجنة كذا وكذا شجرة، ويقول الله تعالى حاكياً عن امرأة فرعون أنها قالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ. قالوا: ولو كانت مخلوقة لم يكن في الدعاء في استئناف البناء والغرس معنى" (1).والواقع أن الجدال فيك كونهما موجودتين الآن أو غير موجودتين جدال لا ينبغي أن يحتدم بهذه الحدة بين أولئك النافين لوجودهما الآن سواء كانوا من الخوارج أو من غيرهم، فالجنة والنار موجودتان قد أعدت كل منهما لأهلها كما تقرره الآيات البينات والأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو مذهب جمهور المسلمين كما حكاه ابن حزم (2). وأما ما احتج به المنكرون سابقاً من أن الجنة لو كانت موجودة الآن لما ذكر في الأحاديث أن الأعمال الصالحة يغرس بها لصاحبها شجر في الجنة، فهو قول غير صحيح إذ أن البيت الجميل المتكامل البناء والحسن لا يمنع أن يزداد فيه من أنواع التحسينات والنقوش والزخرفة ما يزده جمالاً وحسناً. وأما الأدلة على وجودهما الآن فهي كثيرة جداً من الكتاب والسنة، وقد ذكر العلماء كثيراً من تلك الأدلة، ومن ذلك قوله تعالى عن الجنة إنها أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133]، وعن النار إنها أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران: 131]، وقوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم: 13].ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء والمعراج: ((ثم انطلق بي جبرائيل حتى أتى سدرة المنتهى فغشيها ألوان لا أدري ما هي. قال: ثم دخلت الجنة فإذا هي جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك)) (3).ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة)) (4).وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه رأى الجنة وتناول منها عنقوداً وقال لهم: ((ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا)) (5).وعن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء)) (6). .وفي حديث آخر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم)) (7). إلى آخر ما ورد من الأحاديث في هذا الباب تدحض رأي القائلين بعدم وجود الجنة والنار الآن كالخوارج ومن قال بقولهم من المعتزلة والقدرية. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص298   (1) ((الفصل)) (4/ 81). (2) ((الفصل)) (4/ 81). (3) رواه البخاري (3342)، ومسلم (163). (4) رواه البخاري (1379)، ومسلم (2866). (5) رواه البخاري (748)، ومسلم (907). (6) رواه البخاري (3241). (7) رواه البخاري (3259). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 423 2 - عذاب القبر وأما عذاب القبر فأكثر الخوارج تنكره، وتزعم أنه غير صحيح ولم يلتفتوا إلى ما جاء فيه من الأحاديث الصحيحة التي تؤكد ثبوته. يقول الأشعري: " والخوارج لا يقولون بعذاب القبر ولا ترى أحداً يعذب في قبره" (1).ويقول ابن حزم كذلك: " قال أبو محمد: ذهب ضرار بن عمرة الغطفاني أحد شيوخ المعتزلة إلى إنكار عذاب القبر وهو قول من لقينا من الخوارج " (2). وأما الإباضية فإنهم غير متفقين على نفي عذاب القبر أو ثبوته، بل انقسموا إلى فريقين؛ فريق يقول بثبوته وآخر ينفيه، وهذا ما يذكره النفوسي بقوله: وأما عذاب القبر ثبت جابر ... وضعفه بعض الأئمة بالوهن وأما ورود الناس للنار إنه ... ورود يقين العلم واللمح بالعين (3) وأما مذهب السلف في عذاب القبر فهو الاعتقاد بأن ذلك كائن لا محالة، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق، وأن الشخص يعذب فيه أو ينعم على هيئة لا يعلمها إلا الله تعالى وحده، وهذا العذاب هو جزء يسير من عذاب يوم القيامة كما قال تعالى في ثبوت ذلك عن آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب [غافر: 46].يقول الطبري عن تعذيب آل فرعون: " إنهم لما هلكوا وأغرقهم الله جعلت أرواحهم في أجواف طير سود فهي تعرض على النار كل يوم مرتين غدواً وعشياً إلى أن تقوم الساعة" (4). وقد جاءت الأحاديث بصحة القول بوجود عذاب القبر أو نعيمه بروايات عديدة توجب الاعتقاد الجازم بصحة وقوعه ومنها: 1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)) (5).2 - ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من أنه دعا لجنازة بدعاء قال فيه: ((وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر- أو: من عذاب النار)) (6).3 - عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: ((خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر، ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال: "استعيذوا من عذاب القبر مرتين أو ثلاثا)) (7). والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً كلها تدل دلالة واضحة لا لبس فيها ولا غموض على حقيقة عذاب القبر، فلا يكذب به بعد ورود هذه الأحاديث إلا من هلك، فالإيمان بذلك عند السلف من الضروريات المسلمة، يقول ابن أبي العز عن حديث البراء الآنف الذكر: " وذهب إلى موجب هذا الحديث جميع أهل السنة والحديث، وله شواهد من الصحيح".ثم أورد عدة شواهد للبخاري وأبي حاتم ثم قال: "وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلاً وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا يتكلم في كيفيته إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته لكونه لا عهد له به في هذه الدار" (8).وأما إنكار من ينكر عذاب القبر بحجة أن الميت يفنى فيه ويصبح تراباً، أو بحجة أن من أحرق أو أكلته السباع لا يمكن تعذيبه، فإنه أمر لا ينبغي اعتباره في مقابلة النصوص الثابتة، إذ أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يعذب الميت ويحاسبه في أي صورة كان؛ فإن التعذيب ليس على الجسد المعهود فقط فإذا ذهب انتهى عذابه، وإنما الروح هو الذي يعذب أو ينعم في القبر قبل يوم القيامة، ولا مانع في قدرة الله أن يصل العذاب إلى الجسد بأي طريقة وعلى أي نحو كان؛ لأن " عذاب القبر يكون للنفس والبدن جميعاً باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس وتعذب مفردة عن البدن ومتصلة به" (9)، وليس على الله شيء مستحيل. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص300   (1) ((المقالات)) (1/ 206). (2) ((الفصل)) (4/ 66). (3) ((متن النونية)) (ص 27). (4) ((تفسير الطبري)) (24/ 71). (5) رواه البخاري (1377)، ومسلم (588). (6) رواه مسلم (963) (7) رواه أبو داود (4753)، وأحمد (287) (18557)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 300). وقال: إسناده صحيح. وصححه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (2/ 22) - كما أشار لذلك في مقدمته - والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده صحيح رجاله رجال الصحيح. (8) ((شرح الطحاوية)) (ص 347). (9) ((شرح الطحاوية)) (ص 348). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 3 - الشفاعة ينكر معظم الخوارج ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت الشفاعة في أهل المعاصي من أمته، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة المتواترة والآيات القرآنية. قال ابن حزم: " قال أبو محمد: اختلف الناس في الشفاعة فأنكرها قوم وهم المعتزلة والخوارج، وكل من تبع أن لا يخرج أحد من النار بعد دخولها " (1). ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان موقف الخوارج من الشفاعة: "وأما الوعيدية من الخوارج والمعتزلة فزعموا أن شفاعته إنما هي للمؤمنين خاصة في رفع الدرجات، ومنهم من أنكر الشفاعة مطلقاً ". ويقول أيضاً: " وعند الخوارج والمعتزلة أنه لا يشفع لأهل الكبائر، لأن الكبائر لا تغفر ولا يخرجون من النار بعد أن يدخلوها لا بشفاعة ولا بغيرها " (2).ويقول علي بن علي الحنفي شارح الطحاوية: " والمعتزلة والخوارج أنكروا شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الكبائر" (3).ويقول المرداوي: " شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم نوع من السمعيات قد وردت بها الآثار حتى بلغت مبلغ التواتر المعنوي وانعقد عليها إجماع أهل الحق، قبل ظهور الخوارج الذين ينكرون الشفاعة" (4).وقد ذكر صاحب إحدى الرسائل المخطوطة في الفرق الإسلامية اعتقاد طائفة من الخوارج فقال: "وهم قوم يرون القرآن مخلوقاً وينكرون الميزان والصراط والشفاعة والحوض وعذاب القبر، وقولهم قول المعتزلة" (5). وقد استند الخوارج في نفيهم الشفاعة إلى آيات من القرآن الكريم أخذوها على ظاهرها، وقصروا معناها على ما يريدون من حكم، غير ملتفتين إلى غيرها من الآيات والأحاديث التي أثبتت الشفاعة، ومن هذه الآيات التي استندوا إليها في نفي الشفاعة: قوله تعالى: فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: 48]، وقوله تعالى فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ [الشعراء: 100]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ [البقرة: 254]، وأمثال هذه الآيات التي يدل ظاهرها على إبطال الشفاعة (6). أما الشفاعة عند الإباضية فإنهم يثبتونها ولكن لغير العصاة بل للمتقين، وكأن المتقي أحوج إلى الشفاعة من المؤمن المذنب في رأيهم. يقول صاحب كتاب الأديان منهم: " والشفاعة حق للمتقين وليست للعاصين" (7). وقال السالمي: وما الشفاعة إلا للتقي كما ... قد قال رب العلا فيها وقد فصلا " (8) وقد استشهد الربيع بن حبيب لهذا الرأي في مسنده بما رواه عن جابر بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ليست الشفاعة لأهل الكبائر من أمتى"، " يحلف جابر ابن زيد عند ذلك ما لأهل الكبائر شفاعة؛ لأن الله قد أوعد أهل الكبائر النار في كتابه، وإن جاء الحديث عن أنس بن مالك أن الشفاعة لأهل الكبائر فوالله ما عنى القتل والزنى والسحر، وما أوعد الله عليه النار".   (1) ((الفصل)) (4/ 63). (2) ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (1/ 10، 11)، ((التوسل والوسيلة)) (ص 131). (3) ((شرح الطحاوية)) (ص 181). (4) ((اللآلي البهية)) (ص 94). (5) ((رسالة في افتراق الفرق الإسلامية)) (ص 299). (6) انظر: ((الفصل)) (4/ 63)، ((التوسل والوسيلة)) (ص 11)، ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) ابن تيمية (1/ 116). (7) كتاب ((الأديان)) (ص 53). (8) ((غاية المراد)) (ص 9). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 425 ويقول الربيع أيضاً: " حتى بلغنا أن الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته إذا كانوا مؤمنين متقين".واستشهد الربيع بن حبيب لهذا الرأي أيضاً بما رواه من قوله صلى الله عليه وسلم ((يا بني عبدالمطلب إن الله أمرني أن أنذركم فإني لا أغني عنكم الله شيئاً، ألا إن أوليائي منكم المتقون؛ ألا لا أعرفن ما جاء الناس غداً بالدين فجئتم الدنيا تحملونها على رقابكم، يا فاطمة بنت محمد، ويا صفية عمة محمد، اشتريا أنفسكما من الله فإني لا أغنى عنكما من الله شيئاً)) (1).وهذا ما قرره الحارثي أيضاً في نفي الشفاعة في كتابه (العقود الفضية) (2).والواقع أن الآيات التي استدل بها الخوارج على نفي الشفاعة والتي ذكرناها من قبل، إنما تدل على نفي الشفاعة عن أهل الشرك أو نفي الشفاعة التي يثبتها الكفار لشركائهم من الأصنام، أو نفي الشفاعة التي تكون بغير إذن الله ورضاه (3)، كما تدل على ذلك ظواهر الآيات. وأما ما ورد في مسند الربيع بن حبيب فهو خال من السند الصحيح ومعارض بما ورد في الصحيحين من الأحاديث التي تثبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنواع الشفاعات المختلفة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((يخرج قوم من النار بعد ما مسهم منها سفع فيدخلون الجنة فيسميهم أهل الجنة الجهنميين)) (4).ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((يخرج من النار .. بالشفاعة كأنهم الثعارير. قلت: ما الثعارير؟ قال: الضغابيس، وكان قد سقط فمه فقلت لعمرو بن دينار: أبا محمد، سمعت جابر بن عبدالله يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج بالشفاعة من النار؟ قال: نعم)) (5).ومنها ما ورد في حديث أنس رضي الله عنه وهو حديث طويل ورد في طلب أهل الموقف من الأنبياء عليهم السلام من يشفع لهم إلى الله لفصل القضاء، وكل يعتذر بذنب أصابه حتى يأتوا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فيشفع لهم عند ذلك (6).وقد أخرج الإمام مسلم أحاديث كثيرة في ثبوت الشفاعة فذكر منها قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها فيستجاب له فيؤتاها، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)) (7).وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً)) (8). على غير هذا من الأحاديث التي أوردها الإمام مسلم في هذا الباب. والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً، ولسنا بصدد البحث في تفاصيل الشفاعة من أقسامها وشروطها ... الخ، وإنما الغرض هو إثبات وجودها الذي ينفيه الخوارج. والإيمان بثبوت الشفاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بناء على ما صح فيها من الأحاديث هو إجماع الأمة، وهو مذهب السلف الصالح رضي الله عنهم جميعاً، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " أجمع المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للخلق يوم القيامة بعد أن يسأل الناس ذلك وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة". ويقول أيضاً: " والرسول صلى الله عليه وسلم يستشفع به إلى الله أي يطلب منه أن يسأل ربه الشفاعة في الخلق أن يقضي الله بينهم، وفي أن يدخلهم الجنة، ويشفع في أهل الكبائر من أمته، ويشفع في بعض من لا يستحق النار أن لا يدخلها، ويشفع في من دخلها أن يخرج منها، ولا نزاع بين جماهير الأمة أنه يجوز أن يشفع لأهل الطاعة المستحقين للثواب".ويقول أيضاً: " ومذهب أهل السنة والجماعة أن يشفع في أهل الكبائر، ولا يخلد أحد في النار من أهل الإيمان، بل يخرج من النار من في قلبه حبة إيمان أو مثقال ذرة " (9). المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص303   (1) ((الجامع الصحيح)) (4/ 31 – 34). (2) انظر: ((العقود الفضية)) (ص 286). (3) انظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) (ص 128). (4) رواه البخاري (6559). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (5) رواه البخاري (6558). (6) رواه البخاري (7510) , ومسلم (193). (7) رواه مسلم (199). (8) رواه مسلم (199). (9) انظر: ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (1/ 10 - 11)، وكذا ((التوسل والوسيلة)) (ص11، 131)، وانظر: ((مجموعة فتاوى شيخ الإسلام)) (1/ 116). وإذا أردت مزيداً من التفاصيل في مبحث الشفاعة فانظر كتاب ((الحياة الآخرة ما بين البعث إلى دخول الجنة أو النار)) لكاتب هذه الأسطر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 426 4 - الميزان أما الميزان فيعتقد الإباضية أنه ليس ميزاناً له عمود وكفتان ولسان كما هو المشهور، وإنما يثبتون وزن الله للنيات والأعمال بمعنى تمييزه بين الحسن منها والسيئ وأن الله يفصل بين الناس في أمورهم ويقفون عند هذا الحد. يقول النفوسي الإباضي في متن النونية: فوزن أفاعيل العباد تميز ... لينظر في عقبى مسيء ومحسن وليس بميزان العمود وكفه ... بل الوزن للنيات من كل دين (1) ويقول السالمي: وما هنالك ميزان يقام كما ... قالوا عمود وكفات لما عملا وإنما الوزن حق منه عز ألم ... تسمع إلى آية الأعراف محتفلاً (2) وقد أراد معمر أن يوفق بين معتقد الإباضية ومعتقد أهل السنة فقال: " كلا من الإباضية وأهل السنة مؤمنون أن الله سبحانه وتعالى يوم الجزاء يفصل بين عباده، وإن قوله تعالى الفصل، ووزنه الحق، وحكمه العدل، وكفى هذا لقاءً بينهما" (3). ولكن هذا التوفيق غير كامل لنفيهم حقيقة الميزان الثابت بالكتاب والسنة وإن كان هناك اتفاق بينهم على ما ذكر من المعاني الأخرى. والواقع أن الآيات والأحاديث كلها تشير إلى أن هناك ميزاناً توضع فيه الحسنات والسيئات، وذلك أن الله تعالى قال: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء: 47]، ويعتقد علماء السلف أنه ميزان حقيقي له لسان وكفتان توزن به أعمال العباد (4) بناء على الأحاديث الواردة في ذلك – وإن امتنعوا عن تكييفهما -، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك كله لا ينكره إلا أهل البدع. يقول الأصفهاني: " كل ما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم من عذاب القبر، ومنكر ونكير، وغير ذلك من أهوال القيامة و الصراط والميزان والشفاعة والجنة والنار؛ فهو حق لأنه ممكن وقد أخبر الصادق فليزم صدقه" (5).ويقول ابن تيمية: " أنه قد استفاضت بأخبار يوم القيامة تلك الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكرها إلا أهل البدع من خوارج ومعتزلة " (6). ويقول علي بن علي الحنفي مثبتاُ وزن الأعمال والعباد أنفسهم وكفتي الميزان: " والذي دلت عليه السنة أن ميزان الأعمال له كفتان حسيتان مشاهدتان". ثم استدل بحديث صاحب البطاقة قال: " فثبت وزن الأعمال والعامل وصحائف الأعمال، وثبت أن الميزان له كفتان، والله تعالى أعلم بما وراء ذلك من الكيفيات" (7). وقد أراد الله تعالى لبيان كمال عدله وظهور أمره للعيان أن ينصب الموازين القسط ليوم القيامة، فلا تظلم نفس شيئاً، وإن كان مثقال حبة من خردل. وأما نفي وزن الأعمال بأي حجة من الحجج كالقول بأنها أعراض لا تقبل الوزن بخلاف الأجسام فإن هذا قول خاطئ سببه قياس قدرة الله تعالى بقدرة العبد الضعيفة، فلا يستحيل على الله تعالى أن يزن الأعمال وزناً ظاهراً يرى للعيان، بل ويوزن العبد نفسه كما جاء في الحديث: " توضع الموازين يوم القيامة فيؤتى بالرجل فيوضع في كفه"، وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة. قال: اقرءوا إن شئتم فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)) [الكهف:105]. وقال صلى الله عليه وسلم في حق ابن مسعود حين ضحك الصحابة من دقة ساقيه: ((والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد)) (8) (9). المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص308   (1) ((متن النونية)) (ص 25). (2) ((غاية المراد)) (ص 9). (3) ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص 246). (4) انظر: ((لمعة الاعتقاد)) (ص 22)، ((مختصر الواسطية)) (ص 90). (5) ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (ص 146) ضمن ((الفتاوى الكبرى)). (6) ((الفتاوى الكبرى)) (5/ 149). (7) انظر: ((شرح الطحاوية)) (ص 336 – 337). انظر: ((الحياة الآخرة ما بين البعث إلى دخول الجنة أو النار))، ففيها تفاصيل واسعة عن هذا الموضوع إن شاء الله تعالى. (8) رواه أحمد (1/ 420) (3991)، والطيالسي (355)، وأبو يعلى (9/ 209)، وابن حبان (15/ 546)، والطبراني (9/ 78). قال ابن كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (2/ 29): إسناده جيد قوي. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 292): رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني من طرق وأمثل طرقها فيه عاصم بن أبى النجود وهو حسن الحديث على ضعفه، وبقية رجال أحمد وأبى يعلى رجال الصحيح. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2750): إسناده حسن وهو صحيح بطرقه. (9) انظر ((شرح الطحاوية)) (ص 336، 337) وانظر ((الحياة الآخرة ما بين البعث إلى دخول الجنة أو النار)) ففيها تفاصيل واسعة عن هذا الموضوع إن شاء الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 427 5 - الصراط وكما أنكر الإباضية الميزان أنكروا كذلك الصراط وقالوا إنه ليس بجسر على ظهر جهنم كما وصف في الأحاديث النبوية، يقول السالمي: وما الصراط بجسر مثل ما زعموا ... وما الحساب بعد مثل من ذهلا (1) أما السلف فإنهم يعتقدون بأن الصراط هو جسر جهنم، وقد بوب البخاري رحمه الله على هذا بقوله: " باب الصراط جسر جهنم" ثم أورد عدة أحاديث منها حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه وفيه يقول صلى الله عليه وسلم: ((ويضرب جسر جهنم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأكون أول من يجيز ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم، وبه كلاليب مثل شوك السعدان غير أنها لا يعلم قدر عظمها إلا الله، فتخطف الناس بأعمالهم، منهم الموبق بعمله ومنهم المخردل ثم ينجو)) (2).ويقول ابن قدامة: " والصراط حق وتجوزه الأبرار ويزل عنه الفجار" (3).ويقول ابن حجر عن الصراط إنه " الجسر المنصوب على جهنم لعبور المسلمين عليه إلى الجنة (4)،، وكذا عند الشوكاني (5)، وهذا هو اعتقاد السلف فيه (6). المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص310   (1) ((غاية المراد)) (ص 9). (2) رواه البخاري (6573). (3) ((لمعة الاعتقاد)) (ص 23). (4) [8496])) ((فتح الباري)) (11/ 446). (5) [8497])) ((فتح القدير)) (3/ 344). (6) [8498])) ((مختصر الواسطية)) (ص93)، وانظر: ((شرح النووي)) (1/ 20). وقد استوفينا بحثه بتوفيق الله في ((الحياة الآخرة))، فارجع إليه إن شئت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 428 تمهيد بحث العلماء في حقيقة الإيمان واختلفوا في ذلك أشد الاختلاف، فمنذ أن خرج الخوارج والنزاع قائم فيه بين عامة الطوائف كما قال ابن تيمية (1). واختلافهم في حقيقته، وفي الفرق بينه وبين الإسلام، هل هما سواء أو هما مختلفان أو بينهما عموم وخصوص؟ وهل الإيمان يزيد وينقص أم أنه لا يتغير؟ وهل الأعمال من الإيمان وداخلة في حقيقته أم إنها من مكملاته؟ وقد بحث الخوارج في موضوع الإيمان على هذا النحو كما بحثه غيرهم. وقد رتب الخوارج على بحثهم فيه نتائج خطيرة ولا سيما في حكمهم على مرتكبي الذنوب وما إذا كان قد بقي من إيمانهم أو زال عنهم. والواقع أنهم - شأن غيرهم من الفرق- قد اختلفوا فيما بينهم في مبحث الإيمان كاختلافهم في غيره من المباحث، واختلفوا كذلك فيما بينهم فيما رتبوه على آرائهم في الإيمان من أحكام وإن كنا سنرى أن كل هذه الاختلافات في الرأي لم تكن لفرق رئيسية فيهم، وإنما كان بعضهم لأفراد ولطوائف شذت عن معظمهم في الرأي، وهذا هو ما سنبينه في عرضنا التالي لآرائهم في حقيقة الإيمان ومنزلة العمل منه. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص313 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 429 المطلب الأول: حقيقة الإيمان في بيان حقيقة الإيمان عند الخوارج نجد أن لهم في ذلك اتجاهين أما الاتجاه الأول: فهو ما يراه أبو بيهس زعيم فرقة البيهسية ووافقته عليه فرقة الشبيبية إحدى فروع البيهسية وهو أن الإيمان عبارة عن المعرفة والإقرار، المعرفة بالله ورسله وما جاء به محمد جملة، والولاية لأولياء الله سبحانه والبراءة من أعداء الله والإقرار بكل ذلك. يقول الأشعري في تقريره لرأي أبو بيهس هذا: "وزعم أبو بيهس أنه لا يسلم أحد حتى يقر بمعرفة الله، معرفة رسوله ومعرفة ما جاء به محمد، والولاية لأولياء الله سبحانه والبراءة من أعداء الله" (2). ويقول الشهرستاني في بيانه لآراء بيهس: "والإيمان هو أن يعلم كل حق وباطل، وأن الإيمان هو العلم بالقلب دون القول والعمل، ويحكى عنه أنه قال: الإيمان هو الإقرار والعمل وليس هو أحد الأمرين دون الآخر. وعامة البيهسية على أن العلم والإقرار والعمل كله إيمان" (3). أي أنهم يخالفون أبا بيهس في حقيقة الإيمان. ومما يجدر ذكره أن أبا بيهس انفرد عن أكثر الخوارج بهذا الرأي، وهو إخراج العمل من الإيمان، بينما أن دخول العمل في حقيقة الإيمان هو ما يقول به عامة الخوارج كما سنرى فيما بعد. وهكذا عند الشبيبية حيث "زعموا أن الرجل يكون مسلما إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وتولى أولياء الله وتبرأ من أعدائه، وأخد بما جاء من عند الله جملة وإن لم يعلم سائر ما افترض الله سبحانه عليه مما سوى ذلك أفرض هو أو لا، فهو مسلم حتى يبتلى بالعمل به فيسأل" (4). ونحو هذا عند الشهرستاني إلا أنه قال في تمام النص أنهم يقولون: "ولا يضره أن لا يعلم حتى يبتلى به فيسأل" (5). وتعبير الشبيبية هنا بالإسلام لا يختلف عن تعبير سابقيهم بالإيمان فهما عند الخوارج بمعنى واحد كما سنرى فيما بعد، وإذا كانوا قد أضافوا الشهادتين كجزء منه ولا يكون ذلك إلا نطقا باللسان إلا أنهم كما رأينا لا يذكرون العمل بأنه جزء من الإسلام، بل يكون الشخص مسلما حتى يبتلى بالعمل فيسأل كما يقول الأشعري والشهرستاني. وفي هذا تظهر موافقتهم لأبي بيهس. أما الاتجاه الثاني: فهو اتجاه عامة الخوارج وهو أن حقيقة الإيمان هو المعرفة بالقلب والإقرار باللسان والعمل بكل ما جاء به الشرع، فلا إيمان لأحد عندهم لا يتحقق فيه القول والعمل بأوامر الشرع ونواهيه، وهو مالا طريق لنا سواه للاستدلال على ما في قرارة نفسه من تصديق. يقول ابن حزم: "وذهب سائر الفقهاء وأصحاب الحديث والمعتزلة والشيعة وجميع الخوارج إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب وبالدين والإقرار به باللسان والعمل بالجوارح". ويثبت ابن حزم أيضا أن الخوارج "يقولون بذهاب الإيمان جملة بإضاعة الأعمال" (6). أي أن الإيمان لا يتجزأ فإما أن يأتي به الشخص كاملا، وحينئذ يسمى مؤمنا أو ينقص منه بعض الأعمال فيخرج عن الإيمان. ويثبت ابن تيمية أن الخوارج ترى أن "الإيمان المطلق يتناول جميع ما أمر الله به ورسوله، وأنه لا يتبعض". فمتى ذهب بعض ذلك فيلزم تكفير أهل الذنوب (1) كما قال. ويقول أحمد أمين: "وأهم ما قرره الخوارج في ذلك أن العمل بأوامر الدين من صلاة وصيام وصدق وعدل جزء من الإيمان وليس الإيمان الاعتقاد وحده، فمن اعتقد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ثم لم يعمل بفروض الدين وارتكب الكبائر – فهو كافر" (2). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 430 ويقول الشيخ عبدالعزيز المحمد السلمان: "وعند الخوارج والمعتزلة أنه لا يسمى مؤمنا إلا من أدى الواجبات واجتنب الكبائر، ويقولون: إن الدين والإيمان قول وعمل واعتقاد، ولكن لا يزيد ولا ينقص. فمن أتى كبيرة كالقتل واللواط وقذف المحصنات ونحوها كفر عند الحرورية واستحلوا منه ما يستحلون من الكفار" (3)؛ لأنه في نظرهم قد خرج عن الإيمان بفعل هذه المعاصي التي عملها والتي أيضاً تحل منه ما يحل من الكفار. ويقول صاحب كتاب (الأديان) مثبتا لحقيقة الأعمال في الإيمان: "ولا ينفع إيمانا إلا بالعمل كما قال المسلمون: الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان" (4). والخوارج يتفقون في الرأي مع مذهب السلف في حقيقة الإيمان من أنه تصديق وقول وعمل. وقد أشار القاسم بن سلام إلى عدم انفراد الخوارج في قولهم بدخول الأقوال والأعمال في حقيقة الإيمان وإلى مشابهتهم للسلف في ذلك وإن اختلفوا عنهم في ما رتبوه على ذلك من نتائج، يقول في كتابه (الإيمان): "ولم ينفرد الخوارج بالقول بأن الإيمان قول وعمل، وإنما هو قول أهل السنة، وكل ما انفرد به الخوارج أنهم كفروا من لم يعمل وأقر باللسان" (5). واعتبار العمل جزءاً من الإيمان هو ما أطبق عليه السلف جميعاً. يقول الإمام أبو الحسن علي بن خلف بن بطال المالكي المغربي في شرح صحيح البخاري عن دخول الأقوال والأعمال في حقيقة الإيمان: "مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ... فإيمان من لم تحصل له الزيادة ناقص" (6). ويقرر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا إيمان بلا عمل فيقول: "ففي القرآن والسنة من نفي الإيمان لم يأت بالعمل مواضع كثيرة، ودلالة الشرع على أن الأعمال الواجبة من تمام الإيمان لا تحصى كثرة" (7). ثم ذكر تعاريف السلف للإيمان وأنهم يعرفونه بعبارات مختلفة وكلها صحيح ومؤداها واحد، فهم "تارة يقولون: هو قول وعمل، وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية، وتارة يقولون: قول وعمل ونية واتباع السنة، وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح. وكل هذا صحيح" (8). وقد عرفه الشيخ بدر الدين الحنبلي في مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية بقوله: "وهو قول وعمل يزيد وينقص، يزيد بالطاعة والحسنات، وينقص بالفسوق والعصيان" (9). وقال البخاري: "وهو قول وفعل" (10). وقال علي بن علي الحنفي: "ولا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل، وأعني بالقول التصديق بالقلب والإقرار باللسان" (11). ويروي ابن حجر عن أبي القاسم اللالكائي قوله: "وروى بسنده الصحيح عن البخاري قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص" (12). ونحو هذا عند الشافعي فقد"قال الحاكم في مناقب الشافعي: حدثنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص" (13). ثم قال: "وقد استدل الشافعي وأحمد وغيرهما على أن الأعمال تدخل في الإيمان بهذه الآية: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ – إلى قوله- دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 1: 5]. قال الشافعي: ليس عليهم أحج من هذه الآية" (14). وقد اورد البخاري في صحيحه عدة تراجم كلها تشير إلى أن الأعمال من الإيمان، كقوله: "باب قيام ليلة القدر من الإيمان، باب الجهاد من الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان، باب صوم رمضان احتساباً من الإيمان، باب الصلاة من الإيمان" (1). إلى آخر ما ذكره من أمثال هذه التراجم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 431 ويقول النووي عن دخول الأعمال في الإيمان عند السلف: "وأما إطلاق اسم الإيمان على الأعمال فمتفق عليه عند أهل الحق، ودلائله في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تشهر، قال تعالى: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة: 143]، وأجمعوا على أن المراد صلاتكم" (2). وإذا كانت الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان عند السلف – كما رأينا – فإن ذلك باعتبارها شرط كمال فيه، قال ابن حجر بعد أن عرف الإيمان عند السلف بأنه "هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان"، قال: "وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله، ومن هنا نشأ لهم القول بالزيادة والنقص" (3). بينما هي عند الخوارج جزء من حقيقة الإيمان، ولهذا رتبوا عليها كفر مرتكبي الذنوب، وبناءً على اعتبار العمل شرطاً في كمال وجود الإيمان، فإن السلف لا يطلقون اسم الإيمان الكامل على أحد إلا إذا كان غير مرتكب لكبيرة، ولا يطلقون على من أخل بفريضة من فرائض الإسلام الإيمان إلا مقيداً بمعصية، فيقال: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته. قال النووي: "ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة، أو بدل فريضة؛ لأن اسم الشيء مطلقاً يقع على الكامل منه، ولا يستعمل في الناقص ظاهراً إلا بقيد، ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)) (4) (4) أي كامل الإيمان. ويذكر ابن تيمية في حق من لم يستكمل الإيمان أن التحقيق عنده فيه "أن يقال: إنه مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، ولا يعطى الاسم المطلق، فإن الكتاب والسنة نفيا عنه الاسم المطلق، واسم الإيمان يتناوله فيما أمر الله به ورسوله؛ لأن ذلك إيجاب عليه وتحريم عليه، وهو لازم له كما يلزمه غيره، وإنما الكلام في اسم المدح المطلق" (5). ويقول السلمان في هذا الحكم: "وأما أهل السنة فقالوا: الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية"، وإن "من أتى كبيرة فهو عندهم مؤمن ناقص الإيمان، وبعبارة أخرى مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، وفي الآخرة تحت مشيئة الله" (6). وهكذا يتضح لنا مذهب الخوارج بصفة عامة في حقيقة الإيمان، ومشابهتهم للسلف في قولهم بدخول الأقوال والأعمال في تلك الحقيقة، وإن اختلفوا عنهم في جعل الأعمال جزءا حقيقياً من الإيمان يضيع الإيمان، بضياعه، وفيما رتبوه على ذلك من أحكام تتصل بمرتكب الكبيرة كما سنرى فيما بعد، بينما جعله السلف جزءاً مكملاً يتوقف عليه كمال الإيمان. وإن كان لنا ملاحظة على تعبير ابن حجر، فهو اعتباره شرطا للكمال جزءاً من الحقيقة. وليس الأمر كذلك، وإلا للزمه ما رتبه الخوارج من ضياع الحقيقة بضياع جزئها، ثم إن شرط الشيء غير جزئه، لأن الشرط خارج عن الحقيقة، والجزء داخل فيها. وإذا كنا قد ذكرنا فيما سبق إجماع كتاب المقالات على أن الخوارج يعتبرون العمل جزءاً أساسياً من الإيمان، بل لا يكون الإيمان إلا بالعمل عندهم، فإننا نجد أن الدكتور عبدالحليم محمود رحمه الله، في كتابه (التفكير الفلسفي في الإسلام) يخرج عن هذا الإجماع ويقرر بأن الخوارج لم يبحثوا مسألة الإيمان مسألة الإيمان والعمل، وذلك في قوله: "إن الخوارج باعتبارهم خوارج لا رأي لهم خاصاً بهم في مسألة الدين الأساسية من إيمان بالله، ومن بحث في صفاته، ومن دراسة في البعث" (7). والواقع أن الخوارج باعتبارهم خوارج كان لهم رأيهم الخاص في الإيمان وعلاقة العمل به، وهو الذي بنوا عليه موقفهم من الخلفاء خاصة والمسلمين عامة، الذين خرجوا عليهم، حيث كفرهم الخوارج واستحلوا منهم ما يستحلون من الكفار، على أساس رأيهم في دخول العمل في حقيقة الإيمان كما ذكرنا، فهو مبحث متصل بقضية الخروج نفسها، إلى جانب مبحث الإمامة العظمى، وغيرها مما يتصل بخروجهم، أو يكون من مباحث الدين، وإن لم يكن له علاقة بذلك الخروج. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص258 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 432 المطلب الثاني: زيادة الإيمان ونقصه وبناءً على ما قدمنا من أن الخوارج يقولون باعتبار العمل جزءاً من الإيمان، يقوم رأيهم في مسألتي زيادة الإيمان ونقصه وحكم مرتكب الكبيرة، وسوف نبين رأيهم في حكم مرتكب الكبيرة في الفصل التالي. أما فيما يتعلق بالمسألة الأولى وهي زيادة الإيمان ونقصه، فإن الخوارج ينقسمون فيها إلى فريقين: الإباضية منهم بصفة خاصة، وبقية غيرهم من الخوارج بصفة عامة، فغير الإباضيين من الخوارج يرون أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فهو إما أن يبقى كله، وإما أن يذهب كله (8)، وذهاب الإيمان عندهم يكون بنقص بعض الأعمال، أو ارتكاب بعض الكبائر، وعلى هذا فإن نقص البعض يؤدي إلى ذهاب الكل في نظرهم. وقد سبق أن ذكرنا عند عرضنا لحقيقة الإيمان عندهم ما أثبته ابن حزم عنهم من أنهم "يقولون بذهاب الإيمان جملة بإضاعة الأعمال"، أي أنه ليس هناك زيادة ولا نقص فيه. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض بيانه لأهل البدع في زيادة الإيمان ونقصانه: "وأما قول القائل: إن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله، فهذا ممنوع، وهذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان، فإنهم ظنوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله، لم يبق منه شيء، ثم قالت الخوارج والمعتزلة: هو مجموع ما أمر الله به ورسوله، وهو الإيمان المطلق، كما قال أهل الحديث، قالوا: فإذا ذهب شيء منه لم يبق مع صاحبه من الإيمان شيء، فيخلد في النار" (1). ويستطرد ابن تيمية في هذا الموضوع، ويكرر أن رأي الخوارج هو القول بذهاب الإيمان جملة عن أهل الذنوب، وأنهم متى خرجوا عن الإيمان خرجوا عن الإسلام أيضاً، إذ لا فرق بين الإسلام والإيمان عندهم فيقول: "وأما الخوارج والمعتزلة فيخرجونهم من اسم الإيمان والإسلام، فإن الإيمان والإسلام عندهم واحد، فإذا خرجوا عندهم من الإيمان خرجوا من الإسلام. ومما يجدر ذكره هنا أن الخوارج وإن أشبهوا المعتزلة في قولهم بعدم زيادة الإيمان ونقصه، وخروج مرتكب الكبيرة من مفهوم الإيمان، إلا أن المعتزلة يجعلونه في منزلة بين المنزلتين، ويحكمون عليه بالخلود في النار، وأما الخوارج فإنهم يحكمون عليهم بالكفر، كما سنفصل رأيهم بعد قليل في حكم مرتكب الكبيرة. ويقول بدر الدين الحنبلي في مختصره لفتاوى ابن تيمية عن رأي الخوارج في زيادة الإيمان ونقصه: "فأولئك – يعني بهم الخوارج والمعتزلة – اعتقدوا أن الإيمان متى ذهب بعضه ذهب جميعه" (2). وعلى هذا فإن الإيمان عندهم لا ينقص بالمعصية، بل إن الشخص يخرج عن الإيمان ويحبط ما قدم من خير بمجرد أن يرتكب أي كبيرة؛ لأن الإيمان إما أن يبقى جملة أو يذهب جملة، فلا زيادة ولا نقص ولا مغفرة لكبيرة، فهي تهدم الإيمان ولا تنقصه. كما يقول أيضاً في تأكيد ما سبق: "وخالف الخوارج والمعتزلة فقالوا: إن من أتى كبيرة استحق العقوبة حتماً، فتحبط جميع حسناته بتلك الكبيرة، ويستحق التخليد في النار، لا يخرج منها بشفاعة ولا غيرها" (3).   (1) [8499])) ((الإيمان)) (ص 186) (2) [8500])) ((مختصر الفتاوى المصرية)) (ص 204) (3) ((مختصر الفتاوى المصرية)) (ص 576) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 433 أما الفريق الثاني من الخوارج – وهم الإباضية كما قلنا – فإنهم يرون أن الإيمان يزيد وينقص، وهم بذلك يخالفون عامة الخوارج، ويتفقون في هذا القول مع مذهب السلف، ومن يذهب إليه من غيرهم من المتكلمين. يقول علي يحيى معمر الإباضي: "يرى الأشاعرة أن الإيمان يزيد وينقص، ويرى الحنفية وإمام الحرمين أنه لا يزيد ولا ينقص، ويتفق الإباضية مع الأشاعرة في هذه المقالة" (1).وقد أورد الربيع بن حبيب في مسنده الجامع الصحيح (وهو أصح كتب الحديث عند الإباضية) هذين الحديثين اللذين يدلان على أن الإيمان يتفاضل، فقال: ((وسئل النبي صلى الله عليه وسلم أي المؤمن أفضل إيمانا؟ فقال: أحسنهم خلقا)) (2)، وقال صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان مائة جزء، أعظمها قول: لا إله إلا الله: وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) (3). وسوف نرى عند دراستنا التالية لحكم مرتكب الكبيرة عند الخوارج، كيف أن الإباضية مع موافقتهم في القول بزيادة الإيمان ونقصه للسلف والأشعرين، أنهم وإن لم يحكموا على مرتكب الكبيرة بالكفر كفر ملة كبقية الخوارج إلا أنهم يخالفون السلف والأشعريين، فيحكمون عليه بالكفر كفر نعمة. ولقد كان مقتضى القول بزيادة الإيمان ونقصه أن لا يخرج مرتكب الكبيرة عن حقيقة الإيمان عند الإباضية، وهذا هو ما ذهبوا إليه فعلاً – كما ذهب إليه السلف والأشعريون، إلا أن الإباضية خالفوهم، فقالوا بالحكم عليه بلقب الكفر، وإن لم يكن كفر ملة كما قلنا، وبغض النظر عن ما يبنيه الخوارج من أحكام على ما يرونه في مسألة زيادة الإيمان ونقصه – مما سيكون موضع دراستنا وتعقيبنا قريباً – فإنه يتبين لنا مما سبق أنهم يذهبون في هذه المسألة إلى رأيين: الرأي الأول: هو القول بعدم زيادته ونقصه، بل هو إما أن يبقى كله أو يذهب كله بذهاب بعضه، وهذا رأي عامة الخوارج. الرأي الثاني: وهو القول بزيادة الإيمان ونقصه، وهو ما تقول به الإباضية منهم، والواقع أن الحق الذي يؤيده الكتاب والسنة، ويشهد له صحيح المعقول، وتؤكده أقوال السلف في هذه المسألة، هو القول بزيادة الإيمان ونقصه، فإن الناس يختلفون في أداء الأوامر واجتناب النواهي، وفي الرضى بما قدر الله، واليقين به تعالى، والتوكل عليه على درجات يلحظها الشخص في نفسه وفي غيره، ففي بعض الأوقات يحس الإنسان أن إيمانه وثقته بالله أقوى منها في بعض الأحيان. وهذا هو ما دل عليه كلام الله، وكلام رسول الله، وكلام العلماء من سلف الأمة وخلفها، قال تعالى إخباراً عن المنافقين الذين في قلوبهم مرض في مساءلتهم غيرهم عند نزول الآيات: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة: 124]، وقال تعالى في وصف المؤمنين عندما رأوا الأحزاب من حولهم: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب: 22]، وقال تعالى مبيناً حالة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه حينما خوفوا من قريش وغيرهم: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً [آل عمران: 173].   (1) ((الإباضية بين الفرق)) (ص 441) (2) رواه الطبراني في الأوسط (4671) والحاكم (4/ 582) من حديث ابن عمر. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الهيثمي ((مجمع الزوائد)) (5/ 320): رجاله ثقات. (3) ((الجامع الصحيح)) (3/ 7) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 434 وقال تعالى في السبب الذي من أجله جعل أصحاب النار ملائكة، وفي عدتهم أيضاً وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر: 31]، وقال تعالى في أصحاب الكهف: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف: 13]، وقال تعالى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى. والآيات في هذا المعنى كثيرة في كتاب الله تعالى، وإذا ثبتت الزيادة، فإن مقابلها وهو النقص ثابت أيضا؛ لأن ما قبل الزيادة يقبل النقص، وقد استدل البخاري رحمه الله في صحيحه بهذه الآيات، وأثبت أن الإيمان "يزيد وينقص" (1). وأما الأدلة من الحديث فقد وردت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تشير إلى أن الإيمان يزيد وينقص، وأن الناس يتفاضلون فيه. قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) (2). قال علي الحنفي: "والمراد نفي الكمال" ((3)، وقد وصف صلى الله عليه وسلم النساء بنقصان العقل والدين؛ قال: أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين (4). فقد وصفهن عليه السلام بنقص الدين، وذلك بسبب نقص الطاعات. قال النووي: "وإذا ثبت هذا، علمنا أن من كثرت عبادته زاد إيمانه ودينه، ومن نقصت عبادته نقص دينه" (5).أما نقص الإيمان بالمعاصي، فقد وردت عدة أحاديث فيها ذكر مجموعة من المعاصي، تنقص إيمان من ارتكب منها واحدا، كما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) (6)، وفي رواية عن أبي هريرة: ((ولا ينتهب نهبة ذات شرف، يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن)) (7). إلا أن هذا الحديث وما في معناه ليس المراد به نفي الإيمان مطلقاً كما تقول الخوارج، ولكن المقصود به نفي كمال الإيمان. يقول النووي: "فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله" (8).   (1) ((صحيح البخاري)) (1/ 17)، وانظر: ((شرح الطحاوية)) (ص 288). (2) رواه مسلم (44). من حديث أنس رضي الله عنه. (3) ((شرح الطحاوية)) (ص 290) (4) رواه البخاري (304) , من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, ومسلم (79) , من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (5) ((شرح النووي)) (1/ 68) (6) رواه البخاري (5578)، ومسلم (57). (7) رواه مسلم (57). (8) ((شرح النووي)) (1/ 41)، وانظر: ((اللمع)) (ص124) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 435 وورد في الحديث أن الأعمال تتفاضل، وأن بعضها يفضل بعضها، والمفضول يكون ناقصاً عن الفاضل، كما يشير إليه حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في روايته الآتية: "قالوا: يا رسول الله، أي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده".وقد أورده البخاري شاهداً على قبول الإيمان للزيادة والنقص (1)؛ لأنه كما قال ابن حجر: "الإسلام والإيمان عنده مترادفان" (2).ويشهد لهذا أيضاً حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودوا، فيلقون في نهر الحيا – أو: الحياة – شك مالك، وهو أحد رواة الحديث- فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية)) (3).وقد وردت عن السلف أقوال كثيرة في زيادة الإيمان ونقصه، أورد منها البخاري ما قاله معاذ لأحد الصحابة: "اجلس بنا نؤمن ساعة"، وقول ابن مسعود: "اليقين الإيمان كله"، وقول ابن عمر: "لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر" (4). ومثل ما سبق عند البخاري ما ورد عن أبي الدرداء رضي الله عنه، حيث قال: "من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم ينقص".وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه: "اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً" (5). وقد استفاض النقل عن السلف أنهم يرون الإيمان يزيد وينقص. يقول بدر الدين الحنبلي في مختصر الفتاوى، بعد أن عرف الإيمان بأنه قول وعمل – قال: وهو – أي الإيمان – "يزيد وينقص، يزيد بالطاعة والحسنات وينقص بالفسوق والعصيان" (6).ويقول أيضاً: "والإيمان يتبعض ويتفاضل الناس فيه" (7).ويقول الأشعري في إبانة قول أهل الحق والسنة – إنهم يقولون: إن "الإيمان يزيد وينقص" (8)، وهذا هو ما يذهب إليه أصحاب الحديث وأهل السنة ويقرون به ((9). وأخيراً نقول: إن ما يراه أهل السنة والجماعة من أن الإيمان يزيد وينقص، وأن أهله يتفاضلون فيه كل بما رزقه الله ووفقه وشرح صدره، لذلك هو ما يشهد به العقل ويثبته الواقع، إذ أن من أول البديهيات التي تدل على تفاضل الناس في الإيمان ما يشاهد من إخلاص بعضهم وقوة صبرهم على احتمال أوامر الله ونواهيه بصدر رحب، وطمأنينة تامة، بينما نر البعض الآخر لا يؤدي ما أوجبه الله عليه إلا بكره من نفسه وكسل تام، وهذا أمر ظاهر. ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم وهم خير الأمة يعرفون تفاضلهم فيه، كما تشهد بذلك أقوالهم، وإنه لمن غير الإنصاف والعدل أن نقول: إن إيمان ويقين أي شخص كان كإيمان أبي بكر ويقينه، وحبه للرسول صلى الله عليه وسلم، وتعظيمه له، إلا إذا كابرنا الحق وتجنبنا الطريق الواضح، كما هو رأي الخوارج في عدم زيادة الإيمان ونقصه، وقد قدمنا كثيرا من النصوص والبراهين التي تبطل زعمهم هذا، ويكفي دليلاً على بطلانه – بعد تلك الأدلة- ما رتبوه عليه من نتائج خطيرة، كتكفيرهم لعصاة المسلمين، والقول بتخليدهم في النار، واستحلالهم أخذ أموالهم، وسبي نسائهم وذراريهم، كما سنبين هذا في بحث الكبيرة إن شاء الله. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص258   (1) رواه البخاري (11). ورواه مسلم (42). (2) ((فتح الباري)) (1/ 55) (3) رواه البخاري (22). (4) ((صحيح البخاري)) (1/ 8). وقال ابن حجر في ((تغليق التعليق)) (1/ 18): لم أقف عليه. (5) رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل في ((السنة)) (1/ 368). وانظر: ((شرح الطحاوية)) (ص290). (6) ((مختصر الفتاوى المصرية)) (ص267)، وانظر ((الإبانة للأشعري)) (ص10). (7) ((مختصر الفتاوى المصرية)) (ص142)، وانظر: ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (ص144) (8) ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص10) (9) ((المقالات)) (1/ 347) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 436 المطلب الثالث: العلاقة بين الإسلام والإيمان لا يرى الخوارج أن هناك فرقاً بين مفهومي الإيمان والإسلام، فهما بمعنى واحد عندهم، وفي هذا يقول ابن تيمية في معرض بيانه لأقوال الناس في الإيمان والإسلام: "وآخرون يقولون: الإيمان والإسلام سواء، وهم المعتزلة والخوارج وطائفة من أهل الحديث والسنة" (1).ويقول الطالبي: "ومن هنا فإن الخوارج وحدوا بين مفهوم الإيمان ومفهوم الإسلام، أي بين الاعتقاد والفعل – على حد تعبيره – ففلسفتهم فلسفة عملية واقعية" (2).وقد وافق الخوارج بهذا القول ما يراه بعض أهل السنة، كالبخاري رحمه الله، فإنه يرى أن الإسلام والإيمان مترادفان كما نقل عنه ابن حجر ذلك (3).وهو أيضاً رأي لبعض علماء الفرق، كابن حزم الظاهري، فإنه يرى أن الإسلام هو الإيمان، والإيمان هو الإسلام، لا فرق بينهما، واستدل بهذه الآية الكريمة: فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات: 35 – 36]، قال: "فهذا نص جلي على أن الإسلام هو الإيمان، وقد وجب قبل بما ذكرنا أن أعمال البر كلها هي الإسلام، والإسلام هو الإيمان، فأعمال البر كلها إيمان، وهذا برهان ضروري لا محيد عنه" (4).ويذكر الأشعري أن من اعتقاد أصحاب الحديث، وأهل السنة أن الإسلام عندهم غير الإيمان (5).وقد قال الشهرستاني أيضاً بالتفريق بين معنى الإسلام والإيمان والإحسان، وذلك في قوله: "فكان الإسلام مبدأ والإيمان وسطاً والإحسان كمالاً" (6).ويرى ابن تيمية أن بين الإسلام والإيمان تداخلاً، فالإيمان أخص من الإسلام وإذا ثبت الأخص ثبت الأعم، ولا عكس، بحيث لا يوصف بالإيمان من ثبت له وصف الإسلام فقط إلا بدليل منفصل، يقول ابن تيمية: "فتبين أن ديننا يجمع الثلاثة، لكن هو درجات ثلاث: مسلم ثم مؤمن ثم محسن، فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين" (7).ويؤكد ابن تيمية هذا المعنى أيضاً بقوله: "الإسلام فرض، والإيمان فرض، والإسلام داخل فيه، فمن أتى بالإيمان الذي أمر به فلابد أن يكون قد أتى بالإسلام المتناول لجميع الأعمال الواجبة، ومن أتى بما سمي إسلاماً لم يلزم أن يكون قد أتى بالإيمان إلا بدليل منفصل" (8).   (1) ((الإيمان)) (ص354). (2) ((آراء الخوارج)) ص139). (3) ((فتح الباري)) (1/ 55). (4) ((الفصل)) (3/ 195). (5) ((المقالات)) (1/ 347). (6) ((الملل والنحل)) (1/ 40/41). (7) كتاب ((الإيمان)) (ص7). (8) كتاب ((الإيمان)) (ص350). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 437 وقد أكثر في كتابه (الإيمان)، من إثبات الفرق بين مسمى الإيمان ومسمى الإسلام، ومن جعل مسمى هذا، مسمى هذا فنصوص الكتاب والسنة تخالف ذلك (1). ويثبت أنه إذا ذكر الإيمان مع الإسلام، فإنه يجعل الإسلام هو الأعمال الظاهرة، كالشهادتين والصلاة والزكاة والصوم .. إلخ، ويجعل الإيمان ما في القلب من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله .. إلخ. وإذا ذكر اسم الإيمان مجرداً، فإنه حينئذ يدخل فيه الإسلام والأعمال الصالحة ((2).وهذا ما يؤكد أيضاً الشيخ بدر الدين الحنبلي في مختصره لفتاوى ابن تيمية حيث يقول: "فالإيمان المطلق يدخل الإسلام، كما في (الصحيحين) عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لوفد عبد القيس: ((أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم)) (3). فأما إذا اقترن لفظ الإيمان بالعمل وبالإسلام، فإنه يفرق بينهما، واستدل على هذا بقوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وبحديث جبريل حيث سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، ثم قال: "ففرق بين الإيمان والإسلام، لما فرق السائل بينهما، وفي ذلك النص – يعني به حديث عبدالقيس – أدخل الإسلام في الإيمان لما أفرده بالذكر" (4). وغاية القول عند ابن تيمية أن الإيمان إذا ذكر وحده كان الإسلام لازماً له وداخلاً فيه دون العكس، إلا بدليل منفصل، أما إذا ذكرا معاً فإنه يجب التفريق بينهما في المفهوم، وهذا خلاف ما رواه الخوارج من الترادف بينهما مجتمعين أو متفرقين. وللشوكاني رأي يخالف كل ما تقدم من آراء، فيقول موضحاً الفرق بين الإسلام والإيمان، ومعتبراً ما عداه أقوالاً مضطربة متناقضة: " وقد أوضح الفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الإسلام والإيمان في الحديث في (الصحيحين) وغيرهما، الثابت من طرق، أنه سئل عن الإسلام فقال: ((أن تشهد أن لا إله إلا الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان، وسئل عن الإيمان فقال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره)) (5)، فالمرجع في الفرق بينهما هو هذا الذي قاله الصادق المصدوق، ولا التفات إلى غيره مما قاله أهل العلم في رسم كل واحد منهما برسوم مضطربة مختلفة متناقضة. وأما في الكتاب العزيز من اختلاف مواضع استعمال الإسلام والإيمان، فذلك باعتبار المعاني اللغوية والاستعمالات العربية، والواجب تقديم الحقيقة الشرعية على اللغوية، والحقيقة الشرعية هي هذه التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجاب سؤال السائل له عن ذلك بها" (6). والشوكاني بهذا القول يوافق بعض المتكلمين الذين يجعلون الإيمان هو التصديق فقط، ويجعلون العمل خارجاً عن حقيقته. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص330   (1) كتاب ((الإيمان)) (ص352). (2) ((الإيمان)) (ص10). (3) رواه البخاري (53)، ومسلم (17). من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. (4) ((مختصر الفتاوى)) (ص132). (5) رواه البخاري (50)، ومسلم (9). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (6) ((فتح القدير)) (5/ 89). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 438 المطلب الأول: الحكم بتكفير العصاة كفر ملة الحكم بتكفير العصاة كفر ملة، وأنهم خارجون عن الإسلام ومخلدون في النار مع سائر الكفار. وهذا رأي أكثرية الخوارج. وعلى هذا الرأي من فرق الخوارج: المحكِّمة والأزارقة والمكرمية والشبيبية من البيهسية واليزيدية والنجدات، إلا أنهم مختلفون في سبب كفره: فعند المكرمية أن سبب كفره ليس لتركه الواجبات أو انتهاك المحرمات، وإنما لأجل جهله بحق الله إذ لم يقدره حق قدره. وأما النجدات فقد فصلوا القول بحسب حال المذنب، فإن كان مصراً فهو كافر، ولو كان إصراره على صغائر الذنوب، وإن كان غير مصر فهو مسلم حتى وإن كانت تلك الذنوب من الكبائر، وهو تفصيل بمحض الهوى والأماني الباطلة. وهذا هو الرأي الأول: وهو أنهم كفار ملة خارجون عن الإسلام بارتكابهم الكبائر، مخلدون في النار مع سائر الكفار بتلك المعاصي، وهذا رأي الأزارقة بالإجماع، كما يذكر الشهرستاني فيقول: "اجتمعت الأزارقة على أن من ارتكب كبيرة من الكبائر كفر كفر ملة خرج به عن الإسلام جملة، ويكون مخلداً في النار مع سائر الكفار" (1).ويقول الأشعري عنهم كذلك: "والأزارقة تقول إن كل كبيرة كفر ... وإن كل مرتكب معصية كبيرة ففي النار خالداً مخلداً"، وهذا هو ما يذكره عنهم غيره من العلماء كالملطي، وابن الجوزي، والجيطاني من الإباضية، وابن تيمية، وابن حزم، وغيرهم" (2).ويذكر الشهرستاني أن العجاردة أيضاً كالأزارقة يكفرون أهل الكبائر، إلا أنه لم يبين نوع الكفر الذي يقولون به، فقال في معرض تعداده لآرائهم: "ويكفرون بالكبائر" (3). وهذا يتبادر منه إلى الذهن أنهم يكفرونه كفر ملة، ولكن صاحب كتاب (الأديان) الإباضي يذكر أن رأي العجاردة هذا ورأي أهل الاستقامة – ويعني بهم الإباضية – واحد، وهو الحكم على مرتكب الكبيرة بأنه كافر كفر نعمة، على حسب ما تقوله الإباضية، وذلك في قوله الآتي: "ويكفرون أهل الكبائر كفر نعمة على قول أهل الاستقامة" (4). ومن الفرق الأخرى التي توافق الأزارقة أيضاً في الحكم على مرتكب الكبيرة بأنه كافر- المكرمية، إلا أنهم يختلفون عنهم في سبب كفره، فعند المكرمية أن كفره ليس من حيث تركه للواجبات التي أمر الله بها، أو ارتكابه للمحظورات، بل من حيث أنه جهل حق الله عليه، فلم يقدره حق قدره، وذلك في كل كبيرة يرتكبها، بينما هو عند الأزارقة كافر، بسبب ما ارتكب من محظورات. يقول الأشعري عن رأي المكرمية هذا: ومما تفردوا به أنهم زعموا أن تارك الصلاة كافر، وليس هو من قبل تركه الصلاة كفر، ولكن من قبل جهله بالله، وكذلك قالوا في سائر الكبائر، وزعموا أن من أتى كبيرة فقد جهل الله سبحانه وتعالى وبتلك الجهالة كفر لا بركوبه المعصية". وكذلك نقل عنهم البغدادي والشهرستاني وابن حزم (5).   (1) ((الملل والنحل)) (1/ 122). (2) انظر: ((المقالات)) (1/ 170)، و ((التنبيه والرد)) (ص54)، ((تلبيس إبليس)) (ص95)، ((قواعد الإسلام)) (ص37)، ((الإيمان)) (ص202)، ((الفصل)) (4/ 45)، ((إبانة المناهج)) (ص163) (3) [8538])) ((الملل والنحل)) (1/ 138). (4) [8539])) كتاب ((الأديان)) (ص104). (5) [8540])) انظر: ((المقالات)) (1/ 182)، ((الفرق بين الفرق)) (ص103)، ((الملل والنحل)) (1/ 133)، ((الفصل)) لابن حزم (4/ 191). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 439 ولم يكن الأزارقة هم أول من كفر مرتكب المعاصي من الخوارج، بل إن ذلك الحكم عند المحكمة الأولى الذين يسميهم الملطي بالشراة، ويذكر عنهم بأنهم يكفرون أهل الكبائر والمعاصي، فإذا كانت المحكمة تكفر بالمعاصي، فإن الأزارقة قد قالوا بقولهم أيضاً، ولم يشتهر القول بتكفير المحكمة لأهل الذنوب كاشتهاره عند الأزارقة. قال الملطي: "والشراة كلهم يكفرون أصحاب المعاصي ومن خالفهم في مذهبهم، مع اختلاف أقاويلهم ومذاهبهم" (1).ومثل هذا عند البغدادي أيضا، فقد ذكر عن المحكمة الأولى أنهم يكفرون أهل الكبائر وخيار الصحابة رضوان الله عليهم بقوله: "فهذه قصة المحكمة الأولى وكان دينهم إكفار علي وعثمان وأصحاب الجمل ومعاوية وأصحابه والحكمين، ومن رضي بالتحكيم وإكفار كل ذي ذنب ومعصيته" (2).وتكفير أهل الذنوب هو رأي الشبيبية من البيهسية، إلا أنها غالت فيه، فحكمت بالكفر على من اجترح ذنبا، ولو كان جاهلاً الحكم فيه، فقالوا: إن من "واقع حراماً لم يعلم تحريمه فقد كفر" (3).ونجد نحو هذه المقالات عند يزيد بن أنيسة وأصحابه حيث يكفرون كل مذنب، حتى مرتكب الصغيرة، فعنده أن "أصحاب الحدود من موافقيه وغيرهم كفار مشركون، وكل ذنب صغير أو كبير فهو شرك" (4). أما النجدات فقد فصلوا القول في مرتكب الذنوب وجزائه، وذلك باختلاف حاليه: الإصرار على الذنب وعدمه، فهم يرون أن من ارتكب من المعاصي شيئاً وهو مصر عليه فهو كافر مشرك، ولو كانت هذه المعاصي من صغائر الذنوب، كالنظرة الصغيرة، والكذبة الصغيرة، وأن من ارتكب من تلك المعاصي شيئاً وهو غير مصر عليه فهو مسلم، ولو كانت هذه المعاصي من كبائر الذنوب كالزنى والسرقة وشرب الخمور وغيرها. يقول الأشعري: "وزعموا أن من نظر نظرة صغيرة، أو كذب كذبة صغيرة، ثم أصر عليها فهو مشرك، وأن من زنى وسرق وشرب الخمر غير مصر فهو مسلم" (5). وكذا عند البغدادي والشهرستاني وابن حزم.   (1) [8541])) ((التنبيه والرد)) (ص51). (2) [8542])) ((الفرق بين الفرق)) (ص81). (3) [8543])) ((الملل والنحل)) (1/ 127). (4) [8544])) ((رسالة الدبسي)) (ص28)، ((الملل والنحل)) (1/ 136). (5) ((المقالات)) (1/ 175)، ((الفرق بين الفرق)) (ص89)، ((الملل والنحل)) (1/ 124)، ((الفصل)) (4/ 190). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 440 ولهم تفصيل آخر بالنسبة لمرتكبي الذنوب إذا كانوا من موافقيهم أو مخالفيهم، وهو أن مرتكب الكبيرة إذا كان منهم فهو غير كافر، بل هو من أهل الولاية. وإذا كان من مخالفيهم فهو كافر من أهل النار، ثم زعموا أن موافقيهم إن عذبهم الله فلعله يعذبهم بذنوبهم في غير نار جهنم، ثم يدخلهم الجنة. قال الأشعري: "وتولوا أصحاب الحدود والجنايات من موافقيهم، وقالوا: لا ندري لعل الله يعذب المؤمنين بذنوبهم، فإن فعل فإنما يعذبهم في غير النار بقدر ذنوبهم ولا يخلدهم في العذاب، ثم يدخلهم الجنة". وبنحو هذا قال البغدادي والشهرستاني (1) وقال ابن حزم عنهم: "وقالوا (أي النجدات): أصحاب الكبائر منهم ليسوا كفارا، وأصحاب الكبائر من غيرهم كفار" (2).هذا بالنسبة لارتكاب الكبائر، أما الصغائر فلا يكفرون بها، كما قال عنهم الجيطالي في نصه الآتي: "وقالت النجدية منهم: الكبائر كلها شرك، وأما الصغائر فلا" (3).ومثل هذه التفرقة في حكم مرتكب الكبيرة بين من يكون من الخوارج ومن يكون من غيرهم نجدها عند الحسينية، وهم من إباضية المغرب، فيرجئون الحكم في موافقيهم، وأما مخالفوهم المرتكبون للكبائر فهم عندهم كفار مشركون، وهذا هو ما يرويه الأشعري عن اليمان بن رباب من أن الحسينية يقولون "بالإرجاء في موافقيهم خاصة، كما حكي عن نجدة، ويقولون فيمن خالفهم: إنهم بارتكاب الكبائر كفار مشركون" (4). وكأنهم بهذا الحكم الخاطئ يحاكون اليهود والنصارى فيما ذكره الله عنهم بقوله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18]، والغريب في هذا التفكير أن يتصور الشخص أن صدور ذنب ما من الذنوب ثم يختلف الناس في حكم ارتكابه، فبعضهم يكفر به، والبعض الآخر لا يكفر به، أو مسكوت عنه، مع أن الكل من أهل التكليف، هذا هو اتباع الهوى والأماني الباطلة. ولا شك أن النجدات بقولهم هذا يجمعون بين الخطأ في الرأي والتناقض في المذهب، فإلى جانب خطئهم في القول بتكفير مرتكبي الذنوب -كما سنبين ذلك فيما بعد- يتناقضون مع أنفسهم فيفرقون في ذلك الحكم بين من هو منهم، ومن هو من غيرهم، بينما لا فرق بين الاثنين في ارتكاب كل منهما للمعصية، وهو مناط الحكم بالكفر عندهم، بل لقد كان من هو منهم أولى بالتزام الشريعة والتكفير إذا اقترفت معصية ما دام رأيهم تكفير مرتكبي الكبيرة، بخلاف غيرهم ممن لا يرون هذا الرأي، ولا مجال للعصبية المذهبية في التفرقة بينهم وبين غيرهم ما دام مناط الحكم بالتكفير واحدا. وإلا فهو التفرقة بين المتماثلين، والتناقض في الجمع بين النقيضين: التكفير وعدمه في حق مرتكب الكبيرة ومثل ما قلناه هنا عن النجدات، نقوله عن الحسينية، فلا معنى للإرجاء والتوقف في حكم مرتكب الكبيرة إذا كان منهم ما دام مناط الحكم بالتكفير كما قلنا واحدا، وهو ارتكاب الكبيرة، وإلا فهو التفرقة بين المتماثلين والعصبية المذهبية.   (1) ((المقالات)) (1/ 175)، ((الفرق بين الفرق)) (ص89)، ((الملل والنحل)) (1/ 124). (2) ((الفصل)) (4/ 190). (3) ((قواعد الإسلام)) (ص37). (4) ((المقالات)) (1/ 198). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 441 ورغم ما تقدم من أقوال مؤرخي الفرق من أن النجدات يكفرون أهل الكبائر، إلا أن هناك روايات تخالف ما ذكر عنهم، وهو أنهم لا يكفرون صاحب الكبيرة، أو يكفرونه كفر نعمة لا كفر ملة، على نحو ما تقوله الإباضية. وهذا ما أشار إليه الطالبي بقوله: "وأما النجدات فيروى عنهم أنهم لا يكفرون صاحب الكبيرة، وأنهم لا يكفرون عليا" (1)، ثم عزا هذا الرأي إلى عثمان العامري الحنبلي في كتابه المخطوط (منهج المعارج).وقد ذكر البغدادي عنهم تكفيرهم لمرتكبي الكبيرة كفر نعمة فقال: "وقالت النجدات منهم: إنه – يعني صاحب الكبيرة – كافر بنعمة، وليس بمشرك" (2). وهذا القول قاله البغدادي في كتابه (أصول الدين) بينما هو يذكر في كتابه (الفرق بين الفرق) كما أشرنا إليه سابقاً أن المصر على الذنب يكون مشركاً، وإن صغر هذا الذنب وكما فرق القائلون بتكفير مرتكبي الذنوب بين مرتكب الكبيرة أو الصغيرة، وكذلك بين من كان مصراً ومن لم يكن كذلك، إلى غير ذلك من الاعتبارات السابقة – فإن هناك من أصحاب هذا الرأي من يفرقون في هذا الحكم حسب اعتبارات أخرى. فالصفرية - كغيرهم من الفرق السابقة - يرون أن أهل الذنوب كفار، قال الأشعري: "ومن قول الصفرية وأكثر الخوارج أن كل ذنب مغلظ كفر وكل كفر شرك، وكل شرك عبادة للشيطان"، ونحوه عند البغدادي والجيطالي (3).لكن قوماً من الصفرية يذهبون إلى التفرقة بين من ارتكب ذنباً فحد عليه، وحينئذ يكفر، أو لم يحد عليه، فيبقى على الإيمان إلى أن يحد، وهذا ما يرويه الأشعري حكاية عن اليمان بن رباب الخارجي بقوله: "وحكى اليمان بن رباب الخارجي أن قوماً من الصفرية وافقوا بعض البيهسية على أن كل من واقع ذنباً عليه حرام لا يشهد عليه بأنه كفر حتى يرفع إلى السلطان ويحد عليه، فإذا حد عليه فهو كافر، إلا أن البيهسية لا يسمونهم مؤمنين ولا كافرين حتى يحكم عليهم. وهذه الطائفة من الصفرية يثبتون لهم اسم الإيمان حتى تقام عليهم الحدود. وهكذا عند البغدادي (4). وينظر بعض الصفرية في الحكم بالتكفير إلى العمل نفسه، فإن وجد له حد في كتاب الله، كالزنا والسرقة والخمر والقتل، فلا يسمى صاحبه إلا بذلك الاسم، فيقال له: زان وسارق وشارب خمر هكذا، وحكمه أنه غير كافر، ولكنه ليس بمؤمن أيضاً، وفي هذا رفع للنقيضين كما لا يخفى. أو لم يوجد له حد مبين في كتاب الله، كترك الصلاة والحج والصوم ونحو ذلك، فمرتكبه كافر وليس بمؤمن كذلك. يقول البغدادي: "وقد زعمت فرقة من الصفرية أن ما كان من الأعمال عليه حد واقع لا يسمى صاحبه إلا بالاسم الموضوع له، كزان وسارق وقاذف وقاتل عمد وليس صاحبه كافراً ولا مشركاً، وكل ذنب ليس فيه حد كترك الصلاة والصوم- فهو كفر وصاحبه كافر، وأن المؤمن المذنب يفقد اسم الإيمان في الوجهين جميعا" (5). ونحو هذا عند الشهرستاني وابن حزم. وفيما يتعلق بالبيهسية، فإنهم يرون أن أهل الذنوب مشركون، ومثلهم من جهل الدين، إلا في ذنب لم يحكم الله فيه بتغليظ عذاب فاعله، فهذا مغفور.   (1) ((آراء الخوارج)) (ص142) عن (منهج المعارج) (ص350). (2) ((أصول الدين)) (ص250). (3) ((المقالات)) (1/ 196)، ((الفرق بين الفرق)) (ص91)، ((قواعد الإسلام)) (ص39). (4) ((المقالات)) (1/ 197)، ((الفرق بين الفرق)) (ص91). (5) ((الفرق بين الفرق)) (ص91، ((الملل والنحل)) (1/ 137)، ((الفصل)) (4/ 191). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 442 والتائبون من الذنوب في مواضع الحدود المقرون على أنفسهم بارتكابها هؤلاء مشركون كفرة أيضاً؛ لأن الحدود عندهم لا تقع إلا على كافر معلوم الكفر، وبإقراره وتوبته علم كفره حينذاك، وهذا من أغرب ما يكون، أي أن نحكم على الشخص حين يعلن توبته. قال الأشعري: "وقالت البيهسية: الناس مشركون بجهل الدين، مشركون بمواقعة الذنوب، وإن كان ذنب لم يحكم الله فيه حكماً مغلظاً، ولم يوقفنا على تغليظه فهو مغفور ... وقالوا: التائب في موضع الحدود وفي موضع القصاص، والمقر على نفسه يلزمه الشرك، إذا أقر من ذلك بشيء وهو كافر؛ لأنه لا يحكم بشيء من الحدود والقصاص إلا على كل كافر يشهد عليه بالكفر عند الله" (1).ويقابل هذا التشدد منهم تساهل وتسامح مع السكارى، حتى كان السكران حين يرتكب جريمة سكر تسقط عنه جميع التكاليف الشرعية، وجميع ما يصدر عنه في تلك الحال من آثام، "وكل ما كان في السكر من ترك الصلاة، أو شتم الله سبحانه، فهو موضوع لا حد فيه، ولا حكم، ولا يكفر أهله بشيء من ذلك، ما داموا في سكرهم" (2). إلا أن طائفة منهم تسمى العوفية تقول: "السكر كفر إذا كان معه غيره من ترك الصلاة ونحوه" (3).وبعض البيهسية يقولون: "من واقع زنا لم نشهد عليه بالكفر حتى يرفع إلى الإمام أو الوالي ويحد" (4). وقبل الرفع إلى الإمام أو الوالي يبقى حكمه معلقاً لا مؤمناً ولا كافراً، والبغدادي ينسب هذا الرأي لكل البيهسية، وكأن الطهارة من الآثام بالحدود لا ترفع عنه الإثم. وهذا خلاف ما عليه المسلمون، فإن وقوع الحد على المذنب وخصوصاً التائب المقر بذنبه تجعله في عداد التائبين الذين عفى الله عنهم، كما قال عليه الصلاة والسلام في حق ماعز: ((لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم)) (5)، وفي حق الغامدية قال عليه السلام لعمر حين سأله عن الصلاة عليها: ((لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم)) (6)، وقال عليه الصلاة والسلام في بيان أن الحدود كفارة لمن وقعت عليه: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا – وقرأ هذه الآية كلها: - فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارته، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه إن شاء غفر له وإن شاء عذبه)) (7).ولا يستبعد منهم هذا التشدد والتنطع، فقد خالفوا ما قرره القرآن في بعض الأحكام، فبينما الله تعالى يقول: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر: 18] , إذا بهم يقررون أنه إذا كفر الإمام كفرت الرعية (8).ويجدر بنا في نهاية سياقنا لآراء الخوارج القائلين بتكفير العصاة أن نذكر أن منهم من تردد بين الحكم بتوليهم، أو التبرؤ منهم، أو التوقف في شأنهم، وهم فرقة الضحاكية من الخوارج، وهذا ما ذكره الأشعري عن هذه الفرقة بقوله: "واختلفوا في أصحاب الحدود، فمنهم من برئ منهم، ومنهم من تولاهم، ومنهم من وقف، واختلف هؤلاء في أهل دار الكفر عندهم، فمنهم من قال: هم عندنا كفار إلا من عرفنا إيمانه بعينه، ومنهم من قال: هم أهل دار خلط فلا نتولى إلا من عرفنا فيه إسلاماً، ونقف فيمن لم نعرف إسلامه، وتولى بعض هؤلاء بعضاً على اختلافهم، وقالوا: الولاية تجمعنا" (9). المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص336   (1) ((المقالات)) (1/ 295، ((الفرق بين الفرق)) (ص109). (2) ((المقالات)) (1/ 195، ((الفرق بين الفرق)) (ص109). (3) ((الفرق بين الفرق)) (ص109، ((الملل والنحل)) (1/ 127). (4) ((المقالات)) (1/ 194، ((الفرق بين الفرق)) (ص109، ((الملل والنحل)) (1/ 127). (5) رواه مسلم (1695). (6) رواه مسلم (1696). (7) رواه البخاري (6784). وقوله وقرأ هذه الآية كلها يشير إلى الآية رقم 12 من سورة الممتحنة. (8) ((المقالات)) (1/ 194)، ((الفرق بين الفرق)) (ص109)، ((الملل والنحل)) (1/ 126). (9) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 189). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 443 المطلب الثاني: الحكم بتكفير العصاة كفر نعمة وعلى هذا المعتقد فرقة الإباضية كما تقدم. ومع هذا فإنهم يحكمون على صاحب المعصية بالنار إذا مات عليها، ويحكمون عليه في الدنيا بأنه منافق، ويجعلون النفاق مرادفاً لكفر النعمة ويسمونه منزلة بين المنزلتين أي بين الشرك والإيمان وأن النفاق لا يكون إلا في الأفعال لا في الاعتقاد. وهذا قلب لحقيقة النفاق؛ إذ المعروف أن المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله كان نفاقهم في الاعتقاد لا في الأفعال، فإن أفعالهم كانت في الظاهر كأفعال المؤمنين. أدلتهم: تلمس الخوارج لما ذهبوا إليه من تكفير أهل الذنوب بعض الآيات والأحاديث، وتكلفوا في رد معانيها إلى ما زعموه من تأييدها لمذاهبهم، وهي نصوص تقسم الناس إلى فريقين: مؤمن وكافر، قالوا: وليس وراء ذلك الحصر من شيء. ونأخذ من تلك الأدلة قوله تعالى: 1 - هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ [التغابن: 2]. 2 - وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44]. 3 - ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ: 17]. إلى غير ذلك من الآيات. ووجه استدلالهم بالآية الأولى: أن الله تعالى حصر الناس في قسمين: قسم ممدوح وهم المؤمنون، وقسم مذموم وهم الكفار، والفساق ليسوا من المؤمنين، فإذاً هم كفار لكونهم مع القسم المذموم واستدلالهم هذا لا يسلم لهم؛ أن الناس ينحصرون فقط في الإيمان أو الكفر. فهناك قسم ثالث وهم العصاة لم يذكروا هنا، وذكر فريقين لا يدل على نفي ما عداهما، والآية كذلك واردة على سبيل التبعيض بمن، أي بعضكم كفار وبعضكم مؤمن. وهذا لا شك في وقوعه، ولم تدل الآية على مدعي الخوارج أن أهل الذنوب داخلون في الكفر. وأما وجه استدلالهم بالآية الثانية: فقد زعموا أنها شاملة لكل أهل الذنوب؛ لأن كل مرتكب للذنب لابد وأنه قد حكم بغير ما أنزل الله. وقد شملت الفساق؛ لأن الذي لم يحكم بما أنزل الله يجب أن يكون كافراً، والفاسق لم يحكم بما أنزل الله حين فعل الذنب. وهذا الاستدلال مردود كذلك؛ لأن الآية قد تكون واردة على من استحل الحكم بغير ما أنزل الله، أما أن يدعي الشخص إيمانه بالله ويعترف بأن الحق هو حكم الله فليس الكافر، وإنما هو من أصحاب المعاصي حتى تقام عليه الحجة (1). وأما وجه استدلالهم بالآية الثالثة: فهو أن صاحب الكبيرة لا بد وأن يجازى –على مذهبهم- وقد أخبر الله في القرآن الكريم أنه لا يجازي إلا الكفور، والفاسق ثبت مجازاته عندهم فيكون كافراً. وهذا الدليل مردود عليهم، وينقضه أن الله يجازي الأنبياء والمؤمنين وهم ليسوا كفاراً، وبأن الآية كانت تعقيباً لبيان ذلك العقاب الذي حل بأهل سبأ، وهو عقاب الاستئصال، وهذا ثابت للكفار لا لأصحاب المعاصي (2).وأما ما استدلوا به من السنة على بدعتهم في تكفير العصاة من المسلمين فقد أساءوا فهم الأحاديث وحمَّلُوها المعاني التي يريدونها، ومن تلك الأحاديث ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن)) (3). ولهم أدلة أخرى نكتفي منها بهذا الحديث.   (1) انظر: ((تفسير الفخر الرازي)) لهذه الآيات من سورة سبأ. وانظر: ((تفسير الطبري)) (6/ 252)، ((فتح القدير)) (2/ 45). (2) انظر: ((تفسير الفخر الرازي)) لهذه الآيات من سورة سبأ. وانظر: ((تفسير الطبري)) (6/ 252)، ((فتح القدير)) (2/ 45). (3) رواه البخاري (5578)، ومسلم (57). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 444 فقد فهموا من هذا الحديث نفي الإيمان بالكلية عن من فعل شيئاً مما ذكر في الحديث، وهذا لا حجة لهم فيه، فإن الحديث –كما يذكر العلماء- إما أن يكون وارداً فيمن فعل شيئاً مما ذكر مستحلاً لتلك الذنوب، أو أن المراد به نفي كمال الإيمان عنهم، أو أن نفي الإيمان عنهم مقيد بحال مواقعتهم لتلك الذنوب. ولو كانت تلك الكبائر تخرج الشخص عن الإيمان لما اكتُفي بإقامة الحد فيها، ولهذا فقد ذكر بعض العلماء أن هذا الحديث وما أشبهه يؤمن بها ويمر على ما جاء، ولا يخاض في معناها. وقال الزهري في مثل هذه الأحاديث: (أمروها كما أمرها من قبلكم) (1).وقد جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: ((ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة قلت: وإن زنى وإن سرق ثلاثاً، ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر قال: فخرج أبو ذر وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر)) (2). والكلام في أهل الكبائر مبسوط في موضعه من كتب التوحيد وكتب الفرق، والمقصود هنا هو التنبيه على خطأ الخوارج فيما ذهبوا إليه من تكفير أهل الذنوب من المسلمين، مخالفين ما تضافرت النصوص عليه من عدم كفر مرتكبي الذنوب كفر ملة إلا بتفصيلات مقررة في مذهب السلف. وهذا هو الرأي الثاني من آراء الخوارج وهو للإباضية، وهم يرون في ذلك أن من ارتكب كبيرة من الكبائر فهو موحد إذ أنه غير مشرك لكنه ليس بمؤمن إذ أنه يخلد في النار خلود الكافرين إذا مات وهو على كبيرته، وهو لذلك كافر كفر نعمة لا كفر ملة. يقول قطب الأئمة منهم في رسالته (المخطوطة) لدى سالم بن يعقوب الجبري: "وأما كون مرتكب الكبيرة موحداً غير مؤمن فهو مذهبنا" (3).ويقول الأشعري عنهم: "وقالوا إن كل طاعة إيمان ودين وإن مرتكبي الكبائر موحدون وليسوا بمؤمنين" (4).وقال أيضاً: "والإباضية يقولون: إن جميع ما افترض الله سبحانه على خلقه إيمان، وإن كل كبيرة فهي كفر نعمة لا كفر شرك، وإن مرتكبي الكبائر في النار خالدون مخلدون فيها" (5).وكذا الشهرستاني فيما يرويه عن الكعبي أن هذا الرأي هو رأي الإباضية بالإجماع، وهو ما أكده الحارثي الإباضي (6). ولا ندري وجهاً للتفرقة بين التوحيد والإيمان في حكم مرتكب الكبيرة، حيث يثبتون له التوحيد وينفون عنه الإيمان. فالتوحيد إيمان بالله الواحد، اللهم إلا أن يكون مرادهم هو وصفه بالتوحيد لمجرد نطقه بكلمة التوحيد ولو ظاهراً. ثم إنهم عندما ينفون عن المذنب الإيمان يلزمهم القول بتكفيرهم له كفر ملة فنفي أحد النقيضين يستلزم ثبوت الآخر، فما وجه حكمهم على الذنب بالتكفير كفر نعمة لا كفر ملة وهو عندهم غير مؤمن ومخلد في النار كما هو مذهب عامة الخوارج، ثم إنهم يستدلون على عدم إيمانه بخلوده في النار، بينما أن خلوده في النار إنما هو نتيجة لعدم إيمانه وهذا خلط وتناقض في الرأي وما ذكرناه سابقاً من حكم الإباضية على مرتكبي الكبائر بالخلود في النار خلود الكافرين إنما هو في شأن من مات مصراً على كبيرته، وفي هذا يقول النفوسي من علمائهم: ودنا بإنفاذ الوعيد وحكمه ... وتخليد أهل النار في النار والهون فحد الكبير الحد في عاجل الدنا ... وسوء عذاب النار يا شر مسكن   (1) انظر: ((شرح النووي لصحيح مسلم)) (2/ 41 - 42). (2) رواه البخاري (5827)، ومسلم (94). من حديث أبي ذر رضي الله عنه. (3) نقلاً عن ((الإباضية بين الفرق)) (ص484). (4) ((المقالات)) (1/ 185، وانظر: ((الإباضية بين الفرق)) (ص320). (5) ((المقالات)) (1/ 189، وانظر (ص204) وانظر: ((الفصل)) لابن حزم (4/ 46) وانظر ((العقود الفضية)) (ص285). (6) ((الملل والنحل)) (1/ 135) وانظر: ((العقود الفضية)) (ص170، ص288). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 445 ثلاثة أسماء معان تجاوزت ... كبير وكفر والعقاب بمقرن فمن مات من أهل الكبائر آبياً ... مصراً فما أقصاه عن جنة العدن (1) وصاحب (كتاب الأديان) وهو إباضي أيضاً بعد أن استشهد بقوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا [الزمر:73]، وقوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا [الزمر:71]، وقوله تعالى: وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران: 131]، قال: "فقد سمى الله من دخل النار كافراً لعيناً، وكل من عصى الله بكبيرة ومات مصراً عليها فقد كفر بنعمة الله ويخلد في النار بكبيرته" (2).ثم أثبت أيضاَ أن هذا هو اعتقاد أهل الاستقامة ويعني بهم الإباضية وأن من اعتقادهم "أن صاحب الكبيرة إذا مات مصراً يرى حسناته محبطة وسيئاته مثبتة، وصاحب التوبة والإقلاع عن المعصية يرى حسناته مثبتة وسيئاته محبطة" (3).وفي هذا يقول الأشعري أيضاً: "وقالوا الإصرار على أي ذنب كان كفر" (4). وهو عندهم في منزلة البراءة والبعد حتى يتوب من ذنبه كما تقول مصادر الإباضية (5). والحكم على مرتكب الكبيرة بأنه كافر كفر ملة لا كفر نعمة قائم على تفرقتهم بين التكذيب بالعقائد وارتكاب الكبائر بحيث يستوجب أولهما الشرك وثانيهما مجرد كفرالنعمة، وفي هذا يذكر السالمي: أن الكفر عند الإباضية ينقسم إلى كفر شرك وإلى كفر نعمة ومثل لكلا النوعين بأمثلة، فمثل لكفر الشرك بالله "بالتكذيب بشيء من كتب الله أو تكذيب بنبي من أنبيائه، أو رد حرف من كتب الله، وكإنكار الموت والبعث أو الحشر أو الحساب أو الجنة". ومثل لكفر النعمة "بارتكاب شيء من كبائر الذنوب من المعاصي الظاهرة، أو الباطنة".   (1) ((متن النونية)) في عقيدة التوحيد (ص18). (2) من كتاب في ((الأديان والفرق)) (ص55). (3) من كتاب في ((الأديان والفرق)) (ص58). (4) ((المقالات)) (1/ 187). (5) انظر: ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص47)، وانظر: ((العقود الفضية)) (ص289). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 446 ومثل للمعاصي الباطنة "بالعجب والكبر والحسد والرياء وما تولد منها من الأخلاق الرديئة".ومثل للمعاصي الظاهرة أو الكبائر الظاهرة "بالزنا والربا وظلم العباد وإيذاء المسلمون وتخويفهم ومكابرة الحق ومعاندة أهله وشرب الخمر ولبس الذهب والحرير" (1) إلخ. ومع ما قدمنا من تكفير الإباضية لمرتكب الكبيرة كفر نعمة لا كفر ملة، فإننا نجد بعضهم يخرج عن هذا المبدأ بل يغالي في خروجه فيعتبر ارتكاب صغيرة من الصغائر شركاً، وهذا هو ما يذكره ابن حزم عن فرقة الحارثية من الإباضية ويعده من حماقاتهم فيقول: "ومن حماقاتهم قول بكر ابن أخت عبدالواحد بن زيد؛ فإنه كان يقول: كل ذنب صغيراً أو كبيراً ولو كان أخذ حبة خردل بغير حق أو كذبة خفيفة على سبيل المزاح - فهي شرك بالله وفاعلها كافر مشرك مخلد في النار إلا أن يكون من أهل بدر، فهو كافر مشرك من أهل الجنة وهذا حكم طلحة والزبير رضي الله عنهما عندهم" (2).وقد رد عليه علي يحيى معمر الإباضي رداً عنيفاً مدعياً بأن هذا البكر المجهول النسب الذي لا يعرف إلا بابن أخت عبد الواحد شخص مجهول لا يعرفه الإباضية، وإنما أثبته ابن حزم من الإباضية لأنه - على حد تعبير معمر- لم يجد له مكاناً فوضعه مع الإباضية وكأنه لقيط مجهول، فقد قال ما نصه: " وهذه كما يرى القارئ الكريم ليست من حماقات الإباضية، وإنما هي من حماقات العالم الكبير ابن حزم الأندلسي وللعلماء الكبار حماقاتهم ... إن العالم الكبير أبا محمد بن حزم وهو يصنف المسلمين على فرق يعثر على هذا الرجل فلا يجد له مكاناً، ثم يأتي به يسوقه حتى يجد فراغاً بين صفوف الإباضية فيلقيه هناك ثم ينسبه إليهم ثم يلقي عليهم تبعة حماقاته" (3).ومهما يكن من رأى علي يحيى في رواية ابن حزم عن الحارثية هؤلاء، فإن ابن حزم يروي عنهم كذلك أن العصاة أهل الحدود يجب استتابتهم بعد إقامة الحد عليهم فإن تابوا تركوا وشأنهم وإن أبوا فيجب قتلهم، وذلك في قوله الآتي: "وقالت طائفة من أصحاب الحارث الإباضي أن من زنا أو سرق أو قذف فإنه يقام عليه الحد ثم يستتاب مما فعل، فإن تاب ترك، وإن أبى التوبة قتل على الردة" وقد رد علي معمر على ابن حزم في ذلك أيضاً فقال: "ولم يذكر أحد أن أئمة الإباضية تجاوزوا حدود الله في إقامة الحد فقتلوا من لا يلزمه القتل. والإباضية لا يحكمون على من لزمه الحد بالردة تاب أو لم يتب، وإسناد هذا القول إليهم كذب عليهم" ثم ذكر أن الشخص المحدود "لا يخلو إما أن يقام عليه الحد بعد اعترافه وإعلانه للتوبة كماعز مثلاً فهذا لا يختلف اثنان في صدق توبته ووجوب ولايته، وإما أن يجب عليه الحد ويقام وهو مصر على معصيته ولا يعلن التوبه مما ارتكب، وهذا لا خلاف بين اثنين من الإباضية في وجوب البراءة منه". والواقع أن مذهب السلف هو أنهم لا يبرأون ممن أقيم عليه الحد ولا يعتبرونه كافراً، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه والصحابة من بعده يصلون على من مات في الحد بل ويترحمون عليه كما قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: ((استغفروا لماعز بن مالك قال الراوي: فقالوا: غفر الله لماعز بن مالك)).   (1) ((تلقين الصبيان)) (ص123 - 127). (2) ((الفصل)) (4/ 191). (3) ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص51)، والواقع أنه ليس مجهولاً كما تصوره علي معمر فإن هذا الرجل كان من أصحاب الحسن البصري كما ذكر عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 447 وإلى جانب من ينكر عن الإباضية - ما عدا الحارثية منهم - حكمهم على مرتكب الكبيرة بكفر النعمة - نجد من ينسب إليهم القول بأنه منافق وأنهم يوافقون بذلك أهل السنة، وهذا هو ما يذكره علي يحيى معمر وغيره من الإباضية - كما سيأتي - من أن رأي الإباضية في مرتكب الكبائر أنه منافق وليس بمشرك، وأن أهل السنة والإباضية يتفقون ويلتقون لقاء كاملاً - كما قال- في أن مرتكب الكبيرة يدخل النار، وهذا في الآخرة، أما في الدنيا فأحكامه لا تختلف عن أحكام المسلمين، وأنهم في هذا تبع لرأي الحسن البصري. ونفى أن يكون رأي الإباضية في أهل الكبائر كرأي الخوارج، فإن الإباضية فيما يقول: " لا يرون رأي الخوارج وإنما يرون رأي الحسن البصري فيعتبرون مرتكب الكبيرة منافقاً وليس مشركاً، وهنا يلتقي الإباضية وأهل السنة لقاءً كاملاً بقطع النظر عن التسميات؛ فيتفقون جميعاً عن غيرهم من المسلمين". والواقع أن قول معمر باتفاق الإباضية وأهل السنة على دخول مرتكب الكبيرة النار ليس على إطلاقه، فأهل السنة يقولون: إنه تحت المشيئة إن شاء الله عذبه ثم أدخله الجنة وإن شاء عفا عنه. ثم إنه أغفل القول بالتخليد في النار وعدمه مكتفياً بحكمه على مرتكب الكبيرة بدخول النار، بينما رأينا أن الإباضية يحكمون بخلوده فيها كما هو مذهب عامة الخوارج، ويقول قطب الأئمة مفرقاًبين النفاق والشرك: "ونحن لا نتوقف في النفاق بل نجزم أنه غير شرك ونقطع بذلك". بينما الأشعري يذكرأنهم لم يجزموا بحكم فيه بل اختلفوا على ثلاث فرق: الفرقة الأولى منهم يزعمون أن النفاق براءة من الشرك - زاد البغدادي قوله: "براءة من الشرك والإيمان جميعاً" -، واحتجوا في ذلك بقول الله عز وجل: مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء [النساء: 143]. والفرقة الثانية منهم يقولون: إن كل نفاق شرك لأنه يضاد التوحيد. والفرقة الثانية منهم يقولون: لسنا نزيل اسم النفاق عن موضعه وهو دين القوم الذين عناهم الله بهذا الإسم في ذلك الزمان ولا نسمي غيرهم بالنفاق ... وقال القوم الذين زعموا أن المنافق كافر وليس بمشرك: إن المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا موحدين، وكانوا أصحاب كبائر. زاد الشهرستاني: "فكفروا بالكبيرة لا بالشرك" وننتهي من عرضنا لرأي الإباضية في حكم مرتكب الكبيرة - إذا استثنينا قول الحارثية بتكفيره كفر ملة - أنهم يحكمون عليه بكفر النعمة والنفاق فهل هما بمعنى واحد عندهم فلا يكون بينهم خلاف في هذا الحكم؟ وهل يعتبر كفر النعمة والنفاق منزلة بين منزلتي الشرك والإيمان؟ هذا ما تجيب عليه أقوال الإباضيين في بحثنا التالي عن حقيقة القول بالمنزلة بين المنزلتين عندهم. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي- ص345 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 448 المطلب الثالث: حقيقة القول بالمنزلة بين المنزلتين عند الإباضية يقف الإباضية من هذه المسألة بين أمرين، بين النفي من جهة، والإثبات من جهة أخرى. وذلك باعتبارين مختلفين: فإثباتهم للمنزلة بين المنزلتين يقصدون به النفاق الذي يحكمون به على مرتكب الكبيرة - كما قدمنا - حيث يثبتونه منزلة بين منزلة الإيمان والشرك، ويبدو كذلك أن النفاق عندهم معنى مرادفاً لمعنى كفر النعمة، بل هذا هو ما يؤكده كلام أبي إسحاق الإباضي مثبتاً رأيهم في أنهم يطلقون النفاق على الكبائر المرادفة لكفر النعمة حيث يقول: "ولهذا أطلق أصحابنا النفاق عليها - يعني بها الكبائر - كما أطلقوا الكفر، فصار النفاق فيها مرادفاً لكفر النعمة" (1) وكذلك يعتبر تبغورين الإباضي أن الحكم بالنفاق على مرتكبي الكبائر يتساوى مع الحكم عليهم بكفر النعمة، فهو يقسم الناس إلى ثلاث فرق: مؤمنون ومشركون ومنافقون، وهذا القسم الأخير يعتبرهم موحدين وليسوا بمشركين ولا بمؤمنين، وهو يقول في ذلك: "الفريق الثالث - ويعني بهم المنافقين - هم قوم أعلنوا كلمة التوحيد وأقروا بالإسلام ولكنهم لم يلتزموا به سلوكاً وعبادة فهم ليسوا مشركين لأنهم يقرون بالتوحيد، وهم ليسوا بمؤمنين لأنهم لا يلتزمون ما يقتضيه الإيمان" (2) ... إلى أن يقول: "وقد أطلق الإباضية على هذا القسم الثالث اسم المنافقين وكفار النعمة" (3) فالنفاق كما هو واضح مرادف لكفر النعمة وهو المراد بالمنزلة بين المنزلتين عندهم، وقد قال أيضاً في تأكيد هذا: "الأصل الخامس في المنزلة بين المنزلتين وهو النفاق بين الشرك والإيمان" (4) ويقول الجناوني أيضاً في هذا المعنى - بالإضافة إلى بيان تبغورين السابق: "وأما المنزلة بين المنزلتين فهي منزلة النفاق بين منزلة الإيمان ومنزلة الشرك" (5). ثم استدل بقوله تعالى: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب:73]. فالإباضية يعتبرون المنافق في منزلة بين المنزلتين هما منزلة الشرك والإيمان كما قدمنا، ثم يجعلون المنافق موحداً، فمنزلة التوحيد هذه تقع إذاً بين منزلتي الشرك والإيمان، كما قال أبو محمد عبدالله بن سعيد السدويكشي في حاشيته على متن الديانات لأبي ساكن عامر بن علي الشماخي؛ شارحاً ما قاله أبو ساكن في هذا الموضوع: "قوله: ندين بأن منزلة النفاق بين منزلة الإيمان ومنزلة الشرك: يعني أن المنافق ليس بمشرك ولا بؤمن بل هو موحد".ثم يمضي في شرحه إلى أن يقول: "الحاصل أنا نقول بمنزلة النفاق بين منزلة الإيمان والشرك، ونقول بأن لا منزلة بين الإيمان والكفر" (6) ثم إن الإباضية يرون بعد هذا أن النفاق لا يكون إلا في الأفعال لا في الاعتقاد كما يقول السدويكشي أيضاً: "والذي عليه أصحابنا ومن وافقهم أن النفاق في الأفعال لا في الاعتقاد" (7).   (1) نقلا عن ((الإباضية بين الفرق)) (ص322). (2) ((الإباضية بين الفرق)) (ص320). (3) ((الإباضية بين الفرق)) (ص321). (4) ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص316). (5) كتاب ((الوضع)). (6) نقلا عن ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) عن كتاب ((المقالات)) (ص315) (7) نقلا عن ((الإباضية بين الفرق)) (ص315) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 449 والمعروف أن المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نفاقهم في الاعتقاد، وأما الأفعال فكانت أفعالهم كأفعال المؤمنين ظاهراً وإنما كان النفاق فيهم في اعتقادهم أن طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم غير صحيحة وأنهم على الهدى والحق مع إتيانهم بأفعال الإسلام، ولعل هذا هو الذي جعل السدويكشي يربط النفاق بالأفعال حيث جاءت منهم على غير تصديق وإذعان. وغاية القول في هذا المقام أن الإباضية حينما يحكمون على مرتكب الكبيرة بالنفاق؛ فإنهم يجعلونه في منزلة بين منزلتي الشرك والإيمان ويساوون بينه وبين ما يحكمون به على مرتكب الكبيرة من كفر الملة. أما نفي الإباضية للمنزلة بين المنزلتين في بعض أقوالهم فمرادهم به في أن يكون بين الإيمان والكفر منزلة، فهما ضدان لا يتقابلان تضاد الحياة والموت والحب والبغض بإجماع الأئمة عندهم، وفي ذلك يقول تبغورين الإباضي فيما ينقله عنه علي بن يحيى في كتابه (الإباضية بين الفرق): "الأصل السادس: لا منزلة بين المنزلتين، وذلك أن معناه لا منزلة بين المنزلتين أي بين الإيمان والكفر، وهما ضدان كالأضداد كلها شبه الحركة والسكون والحياة والموت، وقد أجمعت الأمة في أصلهم على أن من ليس بمؤمن فهو كافر" (1). ولقائل أن يقول: إن هذا هو رأي الخوارج الذين تتبرأ منهم الإباضية، أي القول بأن الشخص إما أن يكون مؤمناً بفعل الطاعات أو كافرا بارتكاب المعاصي، وقد استدل تبغورين بالآيات والأحاديث الآتية التي هي أدلة الخوارج أنفسهم الذين يكفرون أهل الذنوب كفر ملة، ومن الآيات التي استدل بها قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ [التغابن:2]، وقوله: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3]، وقوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران: 106 – 107] وقوله تعالى: وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس: 38 - 42].واستدل من السنة بقوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس بين العبد والكفر إلا ترك الصلاة)) (2)، ((ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) (3)، ((الرشا في الحكم كفر)) (4) ... إلخ. وبما قدمناه عن الإباضية من إثباتهم للنفاق أنه منزلة بين منزلتي الشرك والإيمان وأنه لا منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان - يظهر لنا خطأ الجناوني عندما فسر نفيهم للمنزلة بين المنزلتين بأنهم ينفون وقوعها بين الشرك والإيمان وهو خلاف ما ذكره غيره من الإباضية؛ حيث يقول: "وأما قولهم: لا منزلة بين المنزلتين - أي لا منزلة بين منزلة الإيمان ومنزلة الشرك - بدليل قوله تعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان: 3] , أي إما مقر بالوحدانية وإما جاحد لها" (5). وقد قدمنا أن إثبات المنزلة بين المنزلتين يريدون به إثبات النفاق منزلة بين منزلتي الإيمان والشرك - وقد نقلناه عن الجناوني سابقا - وأن نفي تلك المنزلة إنما يقصدون به نفي وجود منزلة بين الكفر والإيمان، وبهذا يظهر تناقض الجناوني مع نفسه بالإضافة إلى خطئه في التفسير. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص352   (1) (ص318). (2) رواه مسلم (82). من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (3) رواه البخاري (121)، ومسلم (65). من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنهما. (4) رواه البيهقي (10/ 139)، وأبو يعلى (9/ 173)، والطبراني (9/ 226). موقوفاً على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. قال البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (5/ 146): رواه الطبراني موقوفًا بإسناد صحيح. وقال حسين أسد محقق ((مسند أبي يعلى)): إسناده صحيح. (5) انظر: كتاب ((الوضع)) (بتعليق أطفيش). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 450 المطلب الرابع: وجوب الوعد والوعيد ظهر فيما سبق أن الخوارج يقولون بأن العصاة من أهل الكبائر إذا ماتوا على كبائرهم دون توبة - إنهم ليس لهم إلا مصير واحد وهو النار مخلدين فيها، وقولهم هذا وقول المعتزلة في هذا الموضوع قول واحد وهو تخليدهم في النار، إلا أن الخوارج يرون أن عذابهم كعذاب الكفار، والمعتزلة تخالفهم في هذا وترى أن عذابهم ليس كعذاب الكفار (1)، بل هم أقل منهم في الدرجة حتى مع خلودهم في النار. قال الأشعري: "وأجمع أصحاب الوعيد من المعتزلة أن من أدخله الله النار خلده فيها" (2). فالخوارج كما هو المشهور عنهم وكما تبين مما سبق بحثه أنهم من أشد الفرق الإسلامية مبالغة في مسألة ارتكاب الذنوب وإخراج أهلها من الإيمان؛ إذ أن الإيمان قول وعمل، فإذا خالف عمله الحق بارتكاب بعض الذنوب فلا بقاء لإيمانه وهو من أصحاب النار، وقد وصف الله نفسه بأنه عدل يجازي كل واحد بما عمل وهو علام الغيوب، فلا يمكن أن يكون المؤمن والكافر والطائع والعاصي والبر والفاجر في ميزانه تعالى واحدا؛ فهذا خلاف العدل الذي تنزه الله عنه وإلا كان الأمر بالإيمان والطاعة والنهي عن الكفر والمعاصي لا معنى له. ثم قالوا: إن الله صادق، وقد قال في كتابه الكريم: إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:9]، وقال تعالى: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ [ق: 28،29]، فلا يتصور أن يخلف الله وعده أو وعيده وإلا جاز عليه القول بأنه يقول شيئا ثم يبدو له أن المصلحة في خلافه فيترك الأول، وهذا مستحيل على الله، وهو من صفات الناس لنقص عقولهم وتجدد الأمور لديهم.   (1) ((المقالات)) (1/ 204). (2) ((المقالات)) (ص334). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 451 كذلك فإن المعروف بداهة أن من استحق العذاب لا يستحق الثواب، ومن استحق الإحسان لا يستحق الإساءة وإلا لزم الجمع بين النقيضين، وعلى هذا فإن الناس في الدار الآخرة ينقسمون إلى قسمين: شقي وسعيد. فمن استحق الشقاء لا يستحق السعادة، ومن استحق السعادة لا يستحق الشقاء - قال تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 106 - 108]، وكذا قوله تعالى: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: 7]. إلى غير هذه الآيات التي في هذا السياق. وبهذه النظرة الضيقة "يكونون غير مراعين لآيات الرحمة والعفو، لأن الرحمة كما يقال فوق العدل، ومذهبهم هذا يؤدي إلى شيء من اليأس في ظاهر الأمر ولكنهم يقولون إن من تاب فقد نجا" (1). وبهذا يفتحون للمذنب طريقا إلى الرحمة وأملا ضعيفا إلا أنه طريق محفوف بالمخاطر فأقل زلة قد تجعله من أهل النار. والإباضية في ذلك كبقية الخوارج يرون أن الله لا يخلف وعده ولا يبطل وعيده، كما قال صاحب كتاب (الأديان) الإباضي: "ومن اعتقاد أهل الاستقامة أن الله لا يخلف وعده ولا يبطل وعيده" (2). ويقول علي معمر أيضا في هذه المسألة: "كما لا يجوز خلف الوعد كذلك لا يجوز خلف الوعيد" (3). فهم مجمعون على أن الله لا يخلف وعده ولا وعيده، كما قال تعالى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ [ق: 29]. وهذا هو استدلالهم من القرآن. واستدلوا من الشعر العربي ببيت لأحد الشعراء وهو قوله: قوم إذا وعدوا أو أوعدوا عمروا ... صدق الرواية ما قالوا بما فعلوا وهذا ما يعبر عنه الجناوني في قوله: "وأما الوعد والوعيد فقد اتفق الموحدون كلهم على أن الله صادق في وعده ووعيده" (4). ثم استدل بالآية السابقة وبقول الشاعر المتقدم. ويرد أبو إسحاق أطفيش على القائلين بتخلف وعد الله بأن هذا القول والقول بالبداء على الله واحد لا فرق بينهما، فقال: "والحق أنه لا دليل على تخلف وعد الله بل هو من القول بالبداء على الله" (5). ويقول النفوسي منهم مثبتا اعتقادهم في هذا الباب: ودنا بإنفاذ الوعيد وحكمه ... وتخليد أهل النار في النار والهون (6) وفيما يتعلق بوجوب الوعد والوعيد فإن أهل السنة يقولون إن إخلاف الوعد مذموم، وذلك غير إخلاف الوعيد فهو كرم وتجاوز كما يفعل أهل الشرف بعبيدهم حين يتوعدونهم ثم يعفون عنهم ويخلفون ما توعدوهم به من العقاب؛ ولهذا فقد "قال أهل السنة: وإخلاف الوعيد كرم ويمدح به بخلاف الوعد" (7). وقد أجاب أبو عمرو بن العلاء عمرو بن عبيد القدري حين قال له ابن عبيد: "وقد ورد من الله تعالى الوعد والوعيد والله تعالى يصدق وعده ووعيده" قال البغدادي: "فأراد بهذا الكلام أن ينصر بدعته التي ابتدعها في أن العصاة من المؤمنين خالدون مخلدون في النار" - أجاب أبو عمرو بن العلاء عن قول ابن عبيد بقوله: "فأين أنت من قول العرب: إن الكريم إذا أوعد عفا وإذا وعد وفى، وافتخار قائلهم بالعفو عند الوعيد حيث قال:   (1) ((آراء الخوارج)) (ص146). (2) من ((كتاب ((الأديان)) والفرق (ص55). (3) ((الإباضية بين الفرق)) (ص440). (4) كتاب ((الوضع)) للجناوني. (5) كتاب ((الوضع)) للجناوني. (6) كتاب ((متن النونية)) في عقيدة التوحيد (ص18). (7) ((الأسئلة والأجوبة على الواسطية)) (ص84) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 452 وإني إذا أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي فعده من الكرم لا من الخلق المذموم" (1).ووجوب الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب عند الإباضية لا يرجع إلى الإيجاب على الله لأن أحدا لا يوجب عليه سبحانه وتعالى شيئا بل هو مقتضى الحكمة الإلهية. فيرون وجوب الثواب والعقاب في حق الحكمة لأن الحكمة تقتضي أن يثاب المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويرون أن الذين يقولون بوجوب الثواب والعقاب على الله وهم المعتزلة قد أساءوا الأدب مع ربهم لأنهم لم يحترزوا بكلمة "في حق الحكمة"، وهذا ما قاله أحد أئمتهم أبو يعقوب يوسف ابن إبراهيم الوارجلاني: "إن الله لا يجب عليه شيء لأنه لا موجب عليه، وإنما الوجوب في الحكمة، واجب عليه الثواب في حق الحكمة والعقاب كذلك (2). ويقول أيضا في إيضاح وجوب الثواب والعقاب إضافة إلى ما تقدم: "وأما الصنف الثاني من المكلفين بنو آدم والجن، فهؤلاء من واجب الحكمة أن يجب لهم الأجر والثواب على الله تعالى من جهة الحكمة ومقتضاها لا من جهة إيجاب موجب" (3).والقول بإيجاب شيء على الله فيه إساءة أدب لا يليق بجناب الله كما قال الوارجلاني أيضا يرد على الموجبين: "فالذين قالوا إن الثواب حتم على الله قد أساءوا الأدب، إنما كان ينبغي لهم أن يقولوا: حتم في واجب الحكمة" (4) إلخ. بعد بيان هذا الاختلاف عند الخوارج في حكم مرتكبي الذنوب أحب أن أشير إلى أن ما ذكره الدكتور عبدالحليم محمود والشيخ أبو زهرة رحمهما الله عن الخوارج، من أنهم على رأي واحد في أمر العصاة وهو حكمهم عليهم جميعا بالتكفير فيه تساهل؛ فقد رأينا كيف اختلفوا في موقفهم من أهل الكبائر بين تكفيرهم كفر ملة أو تكفيرهم كفر نعمة، وكذلك اختلف حكمهم على مرتكبي المعاصي من حيث هي كبيرة أو صغيرة ومن حيث الإصرار عليها وعدمه، وكذلك من حيث كون العصاة منهم أو من غيرهم ... إلخ. فقول الدكتور عبدالحليم: "ورأيهم في مرتكب الكبيرة يتفقون جميعا عليه" (5)، وقول الشيخ أبي زهرة: "فالخوارج يكفرون مرتكب الكبيرة ويعدونه مخلدا في النار" (6) -لا يتفق مع تلك الأحكام المختلفة. ولعلهما استندا في هذا القول إلى الكعبي - وهو من شيوخ المعتزلة - الذي ادعى إجماع الخوارج على تكفير مرتكبي الذنوب، وكذلك ابن أبي الحديد حيث يقول: "واعلم أن الخوارج كلها تذهب إلى تكفير أهل الكبائر" (7)، وذلك يخالف قول الأشعري: "وأجمعوا على أن كل كبيرة كفر إلا النجدات فإنها لا تقول ذلك" (8).ولهذا قال البغدادي: "والصواب ما حكاه شيخنا أبو الحسن عنهم، وقد أخطأ الكعبي في دعواه إجماع الخوارج على تكفير مرتكبي الذنوب منهم" (9).ومثل هذا التعميم في إطلاق الأحكام على الخوارج ما نراه عند القاضي عبدالجبار في ادعائه أن الخوارج جميعا لا يفرقون بين الصغيرة والكبيرة، بل يعتبرون كل الذنوب من الكبائر فيقول: "وقد أنكرت الخوارج أن يكون في المعاصي صغيرة وحكمت بأن الكل كبيرة" (10). وقد رأينا من قبل تفرقتهم جميعا بين الصغيرة والكبيرة وتفرقتهم كذلك بين مرتكب كل منهما في الحكم، اللهم إلا الحارثية من الإباضية. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص357   (1) ((الفرق بين الفرق)) (ص365). (2) ((الدليل لأهل العقول)) (ص56). (3) ((الدليل لأهل العقول)) (ص56). (4) ((الدليل لأهل العقول)) (ص58). (5) ((التفكير الفلسفي)) (ص191). (6) ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (2/ 55). (7) ((شرح نهج البلاغة)) (8/ 113). (8) ((المقالات)) (1/ 167). (9) ((الفرق بين الفرق)) (ص73). (10) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص632). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 453 المطلب الخامس: أدلة الخوارج على تكفير العصاة والرد عليها • أ- أدلتهم من الكتاب والرد عليها: . • ب- أدلة الخوارج من السنة والرد عليها:. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 454 أ- أدلتهم من الكتاب والرد عليها: استدل الخوارج على مذهبهم بقوله تعالى: 1 - وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44].ووجه استدلالهم بالآية أنهم ادعوا شمولها للفساق لأن الفاسق لم يحكم بما أنزل الله فيجب أن يكون كافرا كما هو ظاهر الآية، "وهذا نص صريح في موضع النزاع" (1). كما قالوا: لأن كل مرتكب للذنوب لابد وأنه قد حكم بغير ما أنزل الله فهو داخل تحت هذا الخطاب. والرد عليهم أنا نقول لهم: إما أن يكون الشخص مستح للحكم بغير ما أنزل الله ولم يجعله له دستورا ولم يرجع إليه بالكلية؛ فهذا لا شك في كفره ولا خلاف حينئذ، وإما أن يكون الشخص غير مستحل للحكم بغير ما أنزل الله ويعترف بأن القرآن هو المرجع الوحيد للأحكام ولكنه يحكم في بعض أموره بغير ما أنزل الله فهذا لا يخرج عن دائرة الإيمان ما دام أنه غير مستحل لمخالفته الكتاب والسنة، بل يدعي أنه مسلم وأنه يطبق حكم الله ولكنه يخرج عنه أحيانا. وفي هذا يقول ابن عباس في معنى قوله تعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ ... إلخ الآية: "من جحد الحكم بما أنزل الله فقد كفر ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق" (2).وقال أيضا: "إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه وإنه ليس كفر ينقل من الملة بل دون كفره" (3).وقال عطاء بن أبي رباح معنى قوله تعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ... هُمُ الظَّالِمُونَ ... هُمُ الْفَاسِقُونَ -: "قال: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق" (4).وقد أورد الشوكاني في معناها عدة أقوال ومنها أن هذا الحكم "محمول على أن الحكم بغير ما انزل الله وقع استخفافا أو استحلالا أو جحدا" (5). وقد أجاب أبو جعفر بن أحمد عن استدلال الخوارج بالآية هذه بقوله: "وجوابنا أن هذا مما لا يصح لكم التعلق به؛ لأن صريح هذه الآية ينطق بأن من لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر؛ لأن "ما" تقتضي العموم والاستغراق وهذا مما لا نخالفكم فيه فإنا نقول: من لم يحكم بكل ما أنزل الله فهو كافر ولكن ليست هذه حال الفاسق الذي اختلفنا فيه؛ فإنه ما من فاسق إلا وقد حكم بكثير مما أنزل الله".ثم بين وجها آخر لمعنى الآية وهو أن تكون واردة في المستحل - كما قدمنا - قال: "فيتأول الآية على ما ذكرناه أولا من أن من لم يحكم بشيء مما أنزل الله فهو كافر، وعلى أن من لم يحكم بما أنزل الله مستحلا ورادا على الله فهو كافر" (6).ويقول القاضي عبدالجبار: "إن الآية وردت في شأن اليهود ولا شك في كفر اليهود" (7). وهو قول لبعض المفسرين؛ فقد أورد الطبري رحمه الله في تفسيره لهذه الآية أربعة أقوال في المراد بهذه الصفة، ونسب كل قول إلى من قال به من السلف. وهذه الأقوال الأربعة نلخصها بإيجاز فيما يلي: القول الأول: أن لاكفر في هذا الموضع يراد به اليهود بخصوصهم لجحدهم الكثير من الأحكام التي كانت في التوراة، كحكمهم في الزانين المحصنين وكتمانهم الرجم، وقضائهم في بعض قتلاهم بدية كاملة وفي بعض بنصف الدية على حسب هواهم، وكحكمهم في الأشراف بالقصاص وفي الأدنياء بالدية.   (1) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص722). (2) ((فتح القدير)) (2/ 45). (3) ((فتح القدير)) (2/ 45). (4) ((فتح القدير)) (2/ 45). (5) ((فتح القدير)) (2/ 42). (6) ((إبانة المناهج)) (ص164). (7) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص722). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 455 القول الثاني: إن الله عني بالكافرين أهل الإسلام وبالظالمين اليهود وبالفاسقين النصارى. القول الرابع: أن معنى الكفر في الآية أي "ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به، فأما الظلم والفسق فهو للمقر به" (1).وقد قصر ابن أبي الحديد حكم الآية على اليهود فقط فقال: "والجواب أن هذا مقصور على اليهود لأن ذكرهم هو المقدم في الآية" (2). 2 - واستدل الخوارج على ما اعتقدوه من كفر مرتكب الذنب بقوله تعالى: فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل:14 - 16]، ووجه استدلالهم بها أن الله تعالى قد أخبر بأن هذه النار التي تتلظى هي لشقي مكذب متول عن أمر الله، فهو فاسق والفاسق في النار، وقد بين الله تعالى أن النار أعدت للكافرين، وصاحب الكبيرة الفاسق من أهل النار وإذا كان من أهل النار فهو كافر لأنها أعدت لهم لا للمؤمنين. والجواب عن هذا: أن الله وصف هذا الذي يصلى هذه النار بأنه مكذب ومتول عن أمر الله ونهيه، ولا شك أن من كانت هذه صفته فهو كافر، ولكن هذه الصفة لا تنطبق على فاسق مصدق بآيات الله وهذا ما ننازعهم فيه، بل إن هذا الدليل هو عليهم أكثر مما هو لهم كما يرى القاضي عبدالجبار، حيث يقول جوابا عن الاستدلال بهذه الآية: "وجوابنا لا تعلق لكم بظاهر الآية؛ لأنه قال: لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل: 15،16]، وليس هذا حال الفاسق فإذا لو كنا مستدلين بها عليكم لكان أولى" (3).على أن العصاة وإن دخلوا النار بذنوبهم فإن دخولهم ليس بلازم لهم يقول الشوكاني في معنى قوله تعالى: لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى: "أي لا يصلاها صليا لازما على جهة الخلود إلا الأشقى وهو الكافر، وإن صليها غيره من العصاة فليس صلية كصلية" (4). وقد أجاب ابن أبي الحديد وجعفر بن أحمد بجواب آخر: يقول ابن أبي الحديد: "وغير ممتنع أن يكون في الآخرة نار مخصوصة لا يصلاها إلا الذين كذبوا وتولوا، ويكون للفساق نار أخرى غيرها" (5).ويقول جعفر بن أحمد: "وجوابنا أن الآية لا تدل على شيء مما ذهبوا إليه لأنه ذكر النار بلفظ التنكير، فصريح الخطاب يقتضي أن في جهنم نارا مخصوصة لا يصلاها إلا شقي مكذب، فمن أين أنه ليس هناك نار أخرى يصلاها الفاسق، وهذا الكلام لا يقتضي نفيها بل قد ثبت أن في جهنم طبقات ودركات، بعضها يختص بالكفار وبعضها يختص بالفساق. على أن الله تعالى وصف هذا الأشقى المذكور بصفة لا توجد في الفاسق وهو كونه مكذبا ومتوليا عن أمر الله، وهذه ليست حال الفاسق فإن كلامنا معهم في فاسق مصدق بآيات الله وهو موضع الخلاف. فأما المكذب فلا خلاف بيننا وبينهم في أنه كافر" (6). وهذا الجواب منهم قائم على أساس ما يراه المعتزلة من وجود نار خاصة بالفاسقين، والقول في هذا أن الله يعذب الفاسق في أي مكان أراد من النار ثم يعفو إذا شاء عنه ويدخله الجنة ولا يدخله في النار، كما تقول الخوارج ومن يرى رأيهم. وقد فسر الطبري معنى قوله تعالى: لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل: 15،16]: "أي الذي كذب بآيات الله وأعرض عنها ولم يصدق بها" (7). وعلى هذا فإن الفاسق ليس ممن كذب بآيات ربه وأعرض عنها ولم يصدق بها؛ فإن هذا كافر وهو ما وردت الآية فيه بخلاف الفاسق فإنه لا زال تحت كلمة الإسلام وتحت مشيئة الله تعالى.   (1) ((تفسير الطبري)) (6/ 252 - 257). (2) ((شرح نهج البلاغة)) (8/ 115). (3) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص723). (4) ((فتح القدير)) (5/ 453). (5) ((شرح نهج البلاغة)) (8/ 115). (6) ((إبانة المناهج)) في نصيحة الخوارج (ص164). (7) ((جامع البيان)) (3/ 226). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 456 3 - واستدل الخوارج بقوله تعالى: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ [سبأ:17]، ووجه استدلالهم بالآية: أن صاحب الكبيرة لابد أن يجازى وقد أخبر تعالى أنه لا يجازى إلا الكافر، والفاسق ثبتت مجازاته عندهم فيكون كافرا بثبوت الجزاء، فلا فرق بينهما. ومفهومهم لهذا الدليل مردود عليهم؛ إذ أنه ينتقض بأن الله يجازي الأنبياء والمؤمنين وليسوا كفارا، وبأن الآية كانت تعقيبا لبيان ذلك العقاب الذي حل بأهل سبأ وهو عقاب الاستئصال وهذا ثابت للكفار كما أوضحت الآية. يقول ابن أبي الحديد: "والجواب أن المراد بذلك: وهل نجازي بعقاب الاستئصال إلا الكفور؛ لأن الآية وردت في قصة سبأ لكونهم استؤصلوا بالعقوبة" (1).وفي هذا يقول أيضا جعفر بن أحمد: "ظاهر الآية يقتضي أن المجازاة لا تثبت إلا لمن هو كافر وقد أجمعنا على خلافه؛ فإن الأنبياء والمؤمنين يجازون وليسوا بكفار" - إلى أن قال: "فمتى قالوا إنا أثبتنا مجازاة الأنبياء والمؤمنين بدلالة أخرى، قلنا: فنحن أيضا نثبت مجازاة الفساق بدلالة أخرى، فأما هذه الآية فإنها محمولة عندنا على عقاب الاستئصال وفيه وردت، فإن الله تعالى ذكرها في آخر قصة سبأ وعقب بها حكاية حالهم وما جرى لهم وعليهم" (2). 4 - واستدلوا بقوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [آل عمران: 106]، ووجه استدلالهم بذلك أن مسودي الوجوه هم الكفرة، والفساق ليسوا ممن ابيضت وجوههم فيلحقون بمن اسودت وجوههم وهم الكفرة بدليل أن الله قسم المكلفين إلى قسمين: قسم ابيضت وجوههم فهم مؤمنون في الجنة، وقسم اسودت وجوههم فهم كفار في النار، خصوصا وأن الله قد نص على كفرهم وهذا ما يثبت أن الفاسق كافر. والحقيقة أن هذه الآية لا تدل على الحصر المانع من وجود قسم آخر وذلك لما يأتي: 1 - إن ذكر فريقين بخصوصهما لا يدل على الحصر ونفي ما عداهما كما يشهد لهذا آيات من القرآن الكريم، كقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء [النور: 45]، فالآية لا تدل على حصر جميع المخلوقات فيها، بل قد ثبت بالمشاهدة أن فيه دواباً تمشي على أكثر من أربع، فتخصيص الآية بذكر هذين الفريقين لا ينفي وجود فريق ثالث وهم العصاة من المؤمنين، ويكون عذابهم غير عذاب الكفار الأصليين أو المرتدين المخلدين في النار.   (1) ((شرح نهج البلاغة)) (8/ 116). (2) ((إبانة المناهج)) (ص165، وانظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص725). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 457 2 - إن الله تعالى ذكر في هذه الآية المرتدين بعد إيمانهم ولم يذكر بقية أصناف الكفار من يهود ونصارى ووثنيين وغير هؤلاء من أناف الكفار، فهي ليست حاصرة لأصناف الكفار، فضلا عن أن تكون حاصرة لأصناف الناس بصفة عامة في المؤمنين والكافرين فقط. وقول جعفر بن حمد: "وجوابنا أن هذه الآية لا تدل على شيء مما ذهبوا إليه ولا تبين عن موضع الخلاف؛ لأن غاية ما فيها أنه ذكر فريقين موصوفين بصفتين، وذلك لا يقتضي نفي ما عداهما من ثالث ورابع؛ لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداهما" - إلى أن يقول: "فبان أن تخصيص الله تعالى بهذين الفريقين بالذكر لا يقتضي نفي ما عداهما؛ فيجوز على هذا أن يكون الفسقة فريقا ثالثا يوكون حكمهم المصير إلى النار وإن لم يذكرهم في هذه الآية، بل قد ذكرهم في آيات أخر ولا يدل على كفرهم، على أن الله تعالى ما ذكر في هذه الآية من الكفار إلا المرتدين بعد الإسلام بدليل قوله تعالى: أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ، ولم يذكر فيها الكافر الأصلي كالملحد والوثني واليهودي والنصراني، فإذا لم يكن تخصيصه للمرتدين بالذكر دلالة على نفي من عداهم من أهل الكفر ولا على دخولهم في جملة الكفار" (1).وقال القاضي عبدالجبار مجيبا عن هذا الاستدلال ورادا على الخوارج قولهم: "ثم نقول لهم: ليس في تخصيص الله تعالى بعض مسودي الوجوه بالذكر ما يدل على أن لا مسودي الوجوه غيره، فإن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه" (2). 5 - واستدلوا بقوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ، وقوله: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ [الآيات الحاقة 19 - 25]. ويقوم استدلالهم بهذه الآيات ونحوها على أن الله تعالى قسم الناس إلى قسمين: القسم الأول يؤتى كتابه بيمينه وهم المؤمنون، والقسم الآخر يؤتى كتابه بشماله وهم الكافرون، والفاسق لا يؤتى كتابه بيمينه بل بشماله فإذ هو كافر. ويرد عليهم بأن الله ذكر فريقين ثم وصفهما بهذه الصفات فلا يمنع أن يكون هناك فريق آخر لم يذكره له صفة أخرى وهم الفساق، ثم إن قوله تعالى فيما بعد في شأن من أوتي كتابه بشماله: إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ [الحاقة: 33] يدل على أنه غير مؤمن وهذا لا شك في كفره، ولا خلاف، وإنما الخلاف في الفاسق المؤمن بالله والذي يعترف بأن الله سبحانه سيجازيه على أعماله ولا يجحد تحريمها وإنما غلبت عليه شهوته، وهذا ما لم تذكره الآية (3)، وهو تحت المشيئة. 6 - واستدلوا بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ [التغابن: 2] على أن الله تعالى حصر الناس في هذين القسمين إما مؤمن أو كافر، وقد امتدح المؤمنين وذم الكفار، والفساق ليسوا من القسم الممدوح وهم المؤمنون، فإذا هم من القسم الآخر المذموم وهم الكفار، ولأن الفاسق ليس بمؤمن فيكون كافرا. ويرد عليهم: 1 - بما تقدم في قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ من أن التخصيص لا ينفي ما عدا المخصص وإثبات الصنفين لا يدل على نفي الثالث.   (1) ((إبانة المناهج)) (ص164، 165). (2) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص723) وانظر ((شرح نهج البلاغة)) (8/ 116). (3) انظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص725،724)، وانظر: ((إبانة المناهج)) (ص165). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 458 2 - أن الآية واردة على سبيل التبعيض بمن أي أن بعضكم كافر وبعضكم مؤمن، وهذا لا شك في وقوعه إلا أن أهل الكبائر لم يذكروا هنا كما يدعي الخوارج. يقول جعفر بن أحمد: "وهذا لا يمنع من أن يكون بعض منهم فاسقا، ألا تر أنه لو ذكره عقب قوله: وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ لم يكن مناقضا في الكلام. ولو كان تخصيصه لمن ذكره يدل على نفي من عداه لكان متى ذكر الفاسق مناقضا، وهذا مما لا شك في فساده" (1).ويقول الملطي في بيان احتجاجهم بالآية مع قوله تعالى: وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة: 5] وقوله: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان: 3]، وما رد من أمثال هذه الآيات إنهم يقولون: "لم يجعل الله بين الكفر والإيمان منزلة ثالثة، ومن كفر وحبط عمله فهو مشرك والإيمان رأس الأعمال وأول الفرائض في عمل، ومن ترك ما أمره الله به فقد حبط عمله وإيمانه ومن حبط عمله فهو بلا إيمان والذي لا إيمان له مشرك كافر" (2).وقد رد عليهم الملطي بأن الفاسق له منزلة بين الإيمان والكفر، واستدل بآية القذف وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور: 4]، ثم قال: "فهم فساق لا مؤمنون ولا كافرون - وهو رأي المعتزلة - كما قال الله عز وجل وأجمعت عليه الأمة، مجمعة على اسم الفسق لأهل الكبائر" (3). ونود هنا أن ننبه إلى أننا إذا كنا قد رددنا على احتجاج الخوارج بالآيات السابقة بأنها لا تمنع وجود قسم ثالث وهم الفاسقون؛ فنحن لا نقول بقول من نقلنا عنهم في رد الاحتجاج بهذه الآيات بأن هؤلاء الفاسقين في منزلة بين المنزلتين؛ منزلتي الإيمان والكفر، فذلك أصل المعتزلة لا نقول به، وإنما نقول بأن هؤلاء الفاسقين فريق غير كاملي الإيمان، فهم كفار وغير كاملي الإيمان، بل يقال لأحدهم: إنه مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وأنهم من الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا. 7 - ومما استدلوا به على تكفير مرتكبي الكبائر أن تارك الحج - وهو مرتكب للكبيرة بتركه الحج - وقد سماه الله كافرا فقال تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 97]. ووجه استدلالهم بهذه الآية أنهم قالوا إن الله تعالى قد نص على أن تارك الحج كافر، وهذا الاستدلال لا يسلم لهم وذلك لأن الآية مجملة فيها احتمال أنه يريد تارك الحج، وفيها احتمال أنه يريد تارك اعتقاد وجوبه لأن الله تعالى لم يذكر الترك، فلم يقل: "ولله على الناس حج البيت ومن تركه فقد كفر"، وإنما بين أن الحج واجب على المستطيع، ثم أثبت أن من كفر بالله فالله غني عنه. أويكون المراد به ترك الحج مستحلا لتركه فهو كافر وهذا لا شك في كفره. وهذا ما أجاب به كثير من العلماء عن هذه الشبهة من شبه الخوارج في تكفير أهل الذنوب. يقول جعفر بن أحمد: "هذه الآية لا تدل على ما راموه لأنه لا ذكر فيها لترك الحج ولا لذكر تاركه، وإنما ذكر الله تعالى فيها أن من كفر فإن الله غني عنه وبين فيها وجوب الحج على من استطاع إليه سبيلاً، فإن أوجبوا تعليق آخر الآية بأولها ودأبوا على ذلك لم يضرنا تسليمه، فإن المذكور في أول الآية هو وجوب الحج لأن لفظة "على" موضوعة للإيجاب، ولا شك أن من لم يعترف بوجوب الحج ولم يقر بلزومه فهو كافر، وهذه ليست حال الفاسق، فإن الخلاف واقع بيننا وبينهم في فاسق أقر بوجوب الحج ولم يفعله. وليس في هذا ذكر حكم هذا" (4).وقد أجاب الطبري عن معنى الآية بقوله: "يعني بذلك جل ثناؤه: ومن جحد ما ألزمه الله من فرض حج بيته فأنكره وكفر به؛ فإن الله غني عنه وعن حجه وعمله وعن سائر خلقه من الجن والإنس". وقد ذكر أقوالا أخرى إلا أن هذا القول هو أجمعها (5). ويقول الأستاذ أبو زهرة في الرد على الخوارج في استدلالهم بهذه الآية: "وآية الحج ليس الكفر وصفا لمن لم يحج، إنما الكفر فيها لمن أنكر فريضة الحج".وقال في تفنيد تلك الأدلة التي استدل بها الخوارج: "وكل هذه الدلائل تمسك بظواهر النصوص، وأكثرها كان الحديث فيه عن مشركي مكة فهي أوصاف لهم" (6).   (1) ((إبانة المناهج)) (ص165، و ((شرح نهج البلاغة)) (8/ 118). (2) ((التنبيه والرد)) (ص52). (3) ((التنبيه والرد)) (ص53). (4) انظر: ((إبانة المناهج)) (ص166، ((شرح الأصول الخمسة)) (ص722، ((شرح نهج البلاغة)) (8/ 114). (5) ((جامع البيان)) (4/ 19). (6) ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (1/ 73). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 459 ب- أدلة الخوارج من السنة والرد عليها: قدمنا فيما مضى أدلة الخوارج من القرآن الكريم على بدعتهم في تكفير العصاة من أهل الذنوب، والآن سنستعرض أدلتهم من السنة النبوية مع إبطال ما استدلوا به ورد شبهاتهم حول الأحاديث التي استندوا إليها في تلك البدعة (1). ومن هذه الأحاديث:1 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه عند البخاري ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن)) (2). فقد فهم الخوارج من هذا الحديث نفي الإيمان عن مرتكبي هذه المعاصي نفيا تاما، وإذا نفي عنهم الإيمان فإنهم يكونون من الكفار ذلك أن الكفر والإيمان نقيضان إذا انتفى أحدهما ثبت الآخر. والواقع أن قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني .. إلخ)) (3) - جاء مقيدا لنفي الإيمان بحين مواقعة الزنا، ومقتضاه كما يقول ابن حجر: "أنه لا يستمر بعد فراغه" قال: "وهذا هو الظاهر" (4). ويؤيد هذا ما ورد من روايات كثيرة عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما تفيد رفع الإيمان عن الشخص المقترف لجريمة الزنا في حالة مواقعته له ويكون فوقه كالظلة، فإذا أقلع عاد إليه. وهذا المعنى على فرض أن الحديث لا كلام في صحته، بينما الواقع أن فيه كلاما كثيرا للعلماء، قال الطبري: "اختلف الرواة في أداء لفظ هذا الحديث وأنكر بعضهم أن يكون صلى الله عليه وسلم قاله" (5).ويرى ابن حجر أن الحديث مصروف عن ظاهره وذلك لاختلاف الحكم في حد الزنا وتنوعه، فقال: "ومن أقوى ما يحمل على صرفه عن ظاهره إيجاب الحد في الزنا على أنحاء مختلفة، في حق الحر المحصن والحر البكر وفي حق العبد، فلو كان المراد بنفي الإيمان ثبوت الكفر لاستووا في العقوبة؛ لأن المكلفين فيما يتعلق بالإيمان والكفر سواء" (6).   (1) انظر: ((العقود الفضية)) (ص286). (2) رواه البخاري (2475)، ومسلم (57). (3) رواه البخاري (5578)، ومسلم (57). (4) ((فتح الباري)) (12/ 59). (5) ([8649]) نقلا عن ((فتح الباري)) (12/ 59). (6) ((فتح الباري)) (12/ 60)). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 460 ويذكر النووي أن "هذا الحديث مما اختلف العلماء في معناه"، ثم يذكر أن الصحيح من هذه المعاني هو نفي أن يكون الفاعل كامل الإيمان ولا عبرة عنده بتلك الاختلافات، "فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان".ثم يذكر أن السبب الحامل له على هذا التأويل ورود نصوص كثيرة تشهد بخلافه فيقول: "وإنما تأولناه على ما ذكرناه لحديث أبي ذر وغيره: ((من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق)) (1). وحديث عبادة بن الصامت الصحيح المشهور: ((أنهم بايعوه صلى الله عليه وسلم على أن لا يسرقوا ولا يزنوا ولا يعصوا ... إلى آخره. ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم: فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن فعل شيئا من ذلك فعوقب في الدنيا فهو كفارته، ومن فعل ولم يعاقب فهو إلى الله تعالى إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه)) (2). فهذان الحديثان مع نظائرهما في الصحيح، مع قول الله عز وجل: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48]، مع إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك بل هم مؤمنون ناقصوا الإيمان، إن تابوا سقطت عقوبتهم وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة فإن شاء الله تعالى عفا عنهم وأدخلهم الجنة أولا، وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة. وكل هذه الأدلة تضطرنا إلى تأويل هذا الحديث وشبهه". وهذا التأويل كما يقول: "ظاهر سائغ في اللغة مستعمل فيها كثيرا"، وهناك أقوال للعلماء في تأويله تلمسوها باجتهادهم وهي محتملة إلا أن بعضها غلط، قال النووي ينبغي تركه فقد "تأول بعض العلماء هذا الحديث على من فعل ذلك مستحلا له مع علمه بورود الشرع بتحريمه"، وبعضهم قال: "ينزع منه اسم المدح الذي يسمى به أولياء الله المؤمنين، ويستحق اسم الذم فيقال: سارق، وزان، وفاجر، وفاسق". "وحكي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معناه ينزع منه نور الإيمان، وقال المهلب: ينزع منه بصيرته في طاعة الله تعالى، وذهب الزهري إلى أن هذا الحديث وما أشبهه يؤمن بها ويمر على ما جاءت ولا يخاض في معناها وإنا لا نعلم معناها. وقال: أمروها كما أمرها من قبلكم".وقال النووي بعد أن أورد تلك الآراء: "وقيل في معنى الحديث غير ما ذكرته مما ليس بظاهر بل بعضها غلط فتركتها، وهذه الأقوال التي ذكرتها في تأويله كلها محتملة والصحيح في معنى الحديث ما قدمناه أولاً" (3). وقد زاد ابن حجر فذكر أقوالا منها: 1 - أن هذا الحديث "خبر بمعنى النهي"، والمعنى: لا يزنين مؤمن ولا يسرقن مؤمن. وقد أخرجه الطبري من طريق محمد بن زيد بن واقد بن عبدالله بن عمر. 2 - "أن يكون بذلك منافقا نفاق معصية لا نفاق كفر"، ويعزى هذا الرأي إلى الأوزاعي. 3 - أن معنى نفي كونه مؤمنا أنه شابه الكافر في عمله. 4 - معنى قوله ليس بمؤمن أي ليس بمستحضر في حالة تلبسه بالكبيرة جلال من آمن به. 5 - معنى نفي الإيمان نفي الأمان من عذاب الله. 6 - أن المراد به الزجر والتنفير ولا يراد ظاهره.   (1) رواه البخاري (5827)، ومسلم (94). (2) رواه البخاري (18)، ومسلم (1709). (3) ((شرح النووي)) (2/ 41، 42). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 461 7 - أنه يسلب الإيمان حال تلبسه بالكبيرة، فإذا فارقها عاد إليه. وقد تبين المازري فائدة هذه التأويلات بأنها "تدفع قول الخوارج ومن وافقهم من الرافضة أن مرتكب الكبيرة كافر مخلد في النار إذا مات من غير توبة، وكذا قول المعتزلة إنه فاسق مخلد في النار؛ فإن الطوائف المذكورين تعلقوا بهذا الحديث وشبهه وإذا احتمل ما قلناه اندفعت حجتهم" (1).وقد أشار ابن حجر رحمه الله إلى الجمع بين حديث: ((لا يشرب الخمر وهو مؤمن))، وبين قوله صلى الله عليه وسلم في رجل يسمى عبدالله ويلقب حمارا كان يشرب الخمر، فلما جلده رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تلعنوه فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله)) (2): أن المراد به – كما قال ابن حجر- نفي كمال الإيمان لا أنه يخرج عن الإيمان جملة (3).2 - واستدل الخوارج على تكفير أهل الذنوب بما ورد في الأحاديث التي يدل ظاهرها على تكفير المسلمين المتقاتلين فيما بينهم، وذلك كما جاء في حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: ((لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)) (4)، فحملوه على أنه وارد في تكفير الموصوفين بما ذكر. وللعلماء في معنى هذا الحديث سبعة أقوال وهي: 1 - أن ذلك كفر في حق المستحل بغير حق. 2 - أن المراد كفر النعمة وحق الإسلام. 3 - أنه يقرب من الكفر ويؤدي إليه. 4 - أنه فعل كفعل الكفار. 5 - المراد حقيقة الكفر، ومعناه لا تكفروا بل دوموا مسلمين. 6 - حكاه الخطابي وغيره أن المراد بالكفار المتكفرون بالسلاح، وهذا بعيد فيما يظهر.7 - وهو للخطابي أيضا أن معناه لا يكفر بعضكم بعضا فتستحلوا قتال بعضكم بعضا (5).وقد رجح النووي من تلك الأقوال القول الرابع وهو أن فعل القتل يشبه فعل الكفار، ويقول ابن حزم أن الحديث على ظاهره وإنما في هذا اللفظ النهي على أن يرتدوا بعده إلى الكفر فيقتتلوا في ذلك فقط، وليس في هذا اللفظ أن القاتل كافر" (6). وهذا – حسب ما ظهر لي- هو أحسن الأقوال وأقربها إلى معنى الحديث أي أن المنع متوجه إلى النهي عن أن يرتدوا إلى الكفر، الذي يترتب عليه ضرب بعضهم رقاب بعض لعدم المانع لهم حينئذ وهو الإسلام. ومثل قول ابن حزم في القوة الأول والسابع من الأقوال التي ذكرها النووي رحمه الله. وقول الخوارج بتكفير المتقاتلين غير سديد، فقد سمى الله المتقاتلين من المؤمنين إخوانا مع أنهم من أهل الكبائر بتلك المقاتلة، فقال تعالى مخاطبا جميع المؤمنين بما فيهم القتلة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة: 178].   (1) ((فتح الباري)) (12/ 61 - 62، وانظر: ((كتاب الإيمان)) لابن تيمية (ص269، 275). (2) رواه البخاري (6780). (3) ((فتح الباري)) (12/ 76). (4) رواه البخاري (121)، ومسلم (65). من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه. (5) ((شرح النووي)) (2/ 55). (6) ((الفصل)) (3/ 237). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 462 فقد خاطب الله الناس بوجوب القصاص واصفا لهم جميعاً بالإيمان بما فيهم القتلة، وقد نص تعالى في هذه الآية على أن القاتل الذي وجب عليه القصاص وولي المقتول أخوان، وقد سمى المتقاتلين مؤمنين بقوله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]، وقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10].3 - واستدلوا أيضاً بحديث عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) (1). يطلق الفسق في الشرع على الخروج عن الطاعة. والسباب من الأمور القبيحة وأقبح ما يكون إذا كان بغير حق فإنه "حرام بإجماع الأمة وفاعله فاسق كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم". قال النووي: "وأما قتاله بغير حق فلا يكفر به عند أهل الحق كفرا يخرج به من الملة كما قدمناه في مواضع كثيرة إلا إذا استحله، فإذا تقرر هذا فقيل في تأويل هذا الحديث أقوال: أ- أنه في المستحل. ب- أن المراد كفر الإحسان والنعمة وأخوة الإسلام لا كفر الجحود. ج- أنه يؤول إلى الكفر بشؤمه. د- أنه كفعل الكفار.4 - واستدل الخوارج بقوله صلى الله عليه وسلم: ((أيما امرىء قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه)) (2)، وما ورد في معناه من أحاديث، مذهب السلف أهل الحق أنه لا يكفر المسلم بالمعاصي والسباب نوع من أنواع المعاصي، ولهذا فقد ذكر النووي رحمه الله أن "هذا الحديث مما عده بعض العلماء من المشكلات من حيث أن ظاهره غير مراد". ثم ذكر أوجهاً لتأويله وهي: 1 - أن يكون الحديث وارداً في حق من استحل تكفير أخاه المسلم معتقداً ذلك. 2 - أن يكون المراد رجوع معصية تكفيره ونقيصته عليه هو.3 - التحذير من أن يسترسل الشخص في مثل هذا القول فيؤول به إلى الكفر؛ لأن المعاصي كما قيل بريد الكفر (3).4 - واستدل الخوارج على تكفير مرتكبي الكبائر بحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً فيها أبداً، ومن شرب سماً فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)) (4). قال النووي: "وأما قوله صلى الله عليه وسلم فهو في نار جهنم خالدا مخلداً فيها أبداً فقيل فيه أقوال: 1 - أنه محمول على من فعل ذلك مستحلا مع علمه بالتحريم، فهذا كافر وهذه عقوبتهم. 2 - أن المراد بالخلود طول المدة والإقامة المتطاولة لا حقيقة الدوام كما يقال: خلد الله ملك السلطان.3 - أن هذه جزاؤه ولكن تكرم سبحانه وتعالى فأخبر أنه لا يخلد في النار من مات مسلماً" (5).وأهل السنة على أن قاتل نفسه ليس بكافر كما في حديث جابر رضي الله عنه: ((أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هل لك في حصن حصين ومنعة، قال: حصن كان لدوس في الجاهلية، فأبى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم للذي ذخر الله للأنصار". فلما هاجر النبي عليه السلام إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه، فاجتووا المدينة فمرض فجزع فأخذ مشاقص له فقطع بها براجمه (6)، فشخبت يداه حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه فرآه وهيئته حسنه ورآه مغطياً يديه، فقال له: ما صنع بك ربك فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه عليه السلام. فقال: ما لي أراك مغطياً يديك، قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت، فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم وليديه فاغفر)) (7).قال النووي: إن في الحديث "حجة لقاعدة عظيمة لأهل السنة أن من قتل نفسه أو ارتكب معصية غيرها ومات من غير توبة فليس بكافر ولا يقطع له بالنار، بل هو في حكم المشيئة"، قال: "وهذا الحديث شرح للأحاديث التي قبله الموهم ظاهرها تخليد قاتل النفس وغيره من أصحاب الكبائر" (8). المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص363   (1) رواه البخاري (48)، ومسلم (64). (2) رواه البخاري (6104)، ومسلم (60). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (3) ((شرح النووي)) (2/ 50). (4) رواه البخاري (5787)، ومسلم (109). (5) ((شرح النووي)) (2/ 125). (6) البراجم: مفاصل الأصابع. (7) رواه مسلم (116). (8) ((شرح النووي)) (2/ 132). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 463 المطلب السادس: أدلة الإباضية على تكفير المذنبين كفر نعمة والرد عليها أما أدلة الإباضية على تكفيرهم المذنبين من أهل القبلة كفر نعمة فقد قال ابن حزم: "قال أبو محمد: وما نعلم لمن قال: هو منافق- حجة أصلا. ولا لمن قال إنه كافر نعمة، إلا أنهم نزعوا بقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ [إبراهيم:28 - 29]، قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لأن كفر النعمة عمل يقع من المؤمن والكافر" (1). والواقع أن الربيع بن حبيب الإباضي أورد في مسنده أحاديث كثيرة يستدل لها على صحة مذهب الإباضية، وكثير منها قد استدل به غيرهم من الخوارج على تكفير العصاة كفر ملة، فقد أورد المؤلف تحت قوله: "باب الحجة على من قال إن أهل الكبائر ليسوا بكافرين" عدة أحاديث تحت هذه الترجمة لم يذكر أسانيد الكثير منها، نذكر منها ما يأتي:1 - قال صلى الله عليه وسلم ((إذا قال رجل لرجل: أنت عدوي فقد كفر أحدهما)) (2).2 - قال صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه: ((لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)) (3).3 - وكان ابن مسعود يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الرشوة في الحكم كفر)) (4).4 - وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا زنا الزاني سلب الإسلام، فإذا تاب ألبسه)). (5) ثم قال المؤلف: "فهذه الأحاديث كلها تثبت الكفر لأهل القبلة وهي أكثر من أن تحصى" (6).5 - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا إيمان لمن لا صلاة له)) (7).6 - عن النبي عليه السلام قال: ((ليس بين العبد والكفر إلا ترك الصلاة)) (8)، وبغض النظر عن مدى صحة هذه الأحاديث أو بعضها فإن الوصف بالكفر الوارد في هذه الأحاديث وغيرها قد حمله الإباضية على كفر النعمة لا كفر الملة. وفيما يتعلق بأدلة الخوارج – أي الإباضية – على مذهبهم من القرآن الكريم؛ فقد ذكر علي يحيى معمر منها قوله تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 97]، وقوله تعالى: لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل:40]، وقوله تعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44].وقد أول كل ما ورد في هذه النصوص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم على أنها واردة في كفر النعمة ولهذا يقول: "يحسب كثير ممن لا علم له أن الإباضية يتفقون مع الخوارج في تكفير العصاة كفر شرك، ولا يعرفون أن الإباضية يطلقون كلمة الكفر على عصاة الموحدين الذين ينتهكون حرمات الله ويقصدون بذلك كفر النعمة" (9). المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص384   (1) ((الفصل)) (3/ 231). (2) رواه الخلال في ((السنة)) (4/ 60)، وابن بطة في ((الإبانة)) (3/ 22). (3) رواه البخاري (121)، ومسلم (65). من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه. (4) رواه الطبراني (9/ 226). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 202): رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح. وقال السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (394): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (2213): رواه الطبراني موقوفا بإسناد صحيح. (5) لم نجده بهذا اللفظ. (6) انظر: ((مسند الربيع بن حبيب)) (3/ 2 - 6). (7) رواه الطبراني (6/ 44). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 239): رواه الطبراني ورجاله ثقات. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (4/ 413): وهذا إسناد حسن، ورجاله كلهم ثقات. (8) رواه مسلم (82). من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (9) ((الإباضية في موكب التاريخ)) (1/ 89). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 464 المطلب السابع: تعقيب على آراء الخوارج في أمر العصاة إن الاجتراء على تكفير أحد يدعي الإسلام بذنب من الذنوب لا يجوز، إلا إذا جاء بما يدل على كفره بمقتضى الأحكام الشرعية التي يثبت بها كفره في الدنيا وعذابه في الآخرة، وليس للعقل الحكم بكفر أحد بسبب معصية من المعاصي إلا بدلالة شرعية تبين ما يستحق الشخص المسلم بفعله الكفر وما لا يستحق من كتاب الله أو سنة نبيه أو إجماع العلماء عليه. ونقول: إن الكفر لا يجوز إطلاقه على أحد إلا بحق، لأن الكفر له أحكام خاصة، فتهرق به دماء وتبطل به حقوق، وغير ذلك من أحكام الدنيا، وفي الآخرة قد توعد الله صاحبه بالعذاب الشديد، لهذا فلا يجوز الاجتراء على القول بكفر أحد وتخليده في النار إلا بما وافق الحق. ولهذا كان لابد من التفرقة الواضحة بين الكفر والفسق، حتى نبطل تكفير الخوارج لأصحاب الذنوب، فالواقع أن دراستنا السابقة لمذهب الخوارج في حكم العصاة وأدلتهم – تدلنا على أنهم خلطوا بين حقيقتي الكفر والفسق، فسموا الفاسق كافر وأثبتوا له أحكامه. ونحب أن نكشف هنا عن خطئهم في هذا المقام؛ ذلك أن توحيدهم بين الكفر والفسق يكون على أحد وجهين: 1 - إما أن يكون التوحيد بينهما في اللفظ فقط دون إثبات أحكام أحدهما للآخر؛ فيسمون الفسق كفراً أو الفاسق كافرا ولو لم يثبت له شيء من أحكام الكفار، وهذا الوجه لم يقل به الخوارج وهو باطل في نفسه كذلك، لأن الكفر في الشرع قد ورد لمعاصي مخصوصة فلا يسمى كافرا إلا من ارتكبها كالكفر بالله واستحلال محارمه وإنكار ما عرف من دينه بالضرورة، بخلاف الفسق الذي يتمثل في ارتكاب الذنوب الأخرى دون استحلال لها. وقد مايز الله تعالى بين الكفر والفسق والعصيان بقوله تعالى: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات:7]، فقد فصل الله تعالى بين الكفر والفسق وجعل كل واحد مستقلاً بنفسه والمعطوف غير المعطوف عليه؛ فصار الكفر نوعا والفسق نوعا آخر، والعصيان كذلك، فكرهها جميعا إلى قلوب المؤمنين وحبب إليهم الإيمان. وفي بيان هذه الأنواع يقول محمد بن نصر المروزي: "لما كانت المعاصي بعضها كفر وبعضها ليس بكفر فرق بينهما فجعلهما ثلاثة أنواع: منها كفر، ونوع منها فسوق وليس بكفر، ونوع عصيان وليس بكفر ولا فسوق، وأخبر أنه كرها كلها إلى المؤمنين. ولما كانت الطاعات كلها داخلة في الإيمان، وليس فيها شيء خارجا عنه لم يفرق بينها، فيقول: حبب إليكم الإيمان والفرائض وسائر الطاعات، بل أجمل ذلك فقال: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ، فدخل في ذلك جميع الطاعات" (1) الخ. ويقول الشوكاني في تفسيره الآية: "أي جعل كل ما هو من جنس الفسوق ومن جنس العصيان مكروها عندكم، والعصيان جنس ما يعصى الله به" (2). 2 - وإما أن يكون توحيدهم بين الكفر والفسق لفظا ومعنى وحكما، فيدعون أن أحكام الكفار وأحكام العصاة الفسقة سواء، لا فرق بينهما في الحكم الدنيوي والأخروي.   (1) ((فتح القدير)) (5/ 60). (2) ((إبانة المناهج في نصيحة الخوارج)) (ص164). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 465 وهذا هو ما يذهب إليه الخوارج وهو باطل أيضا، لأن الله تعالى قد أثبت الإيمان للعصاة الفسقة في أحكام كثيرة نذكر منها على سبيل المثال ما ورد في آية اللعان بين الزوجين فإن مما لا شك فيه أن أحد الزوجين كاذب فيما نفاه عن نفسه، وإذا كان كاذباً –والكذب كبيرة- فإنه فاسق كما نص القرآن الكريم على فسقه إن كان كاذبا، وقد شرع الله بينهما اللعان لأن بقاء الزوجية قبل اللعان غير منتف مع فسق أحد الزوجين – كما قلنا. قال في إبانة المناهج: "فلو كان الفسق كفرا والكافر فاسقا لكانت الزوجية مرتفعة بينهما؛ إذ لا مناكحة بين مؤمن وكافر سيما إذا كان كفره ردة بعد إسلام متقدم، فكان يجب أن لا يصح وقوع الملاعنة بينهما؛ لأن الملاعنة إنما شرعت بين الزوجين لا بين الأجنبيين. فلما علمنا صحة اللعان بين القاذف وزوجته؛ علمنا أنه لم يكفر واحد منهما مع أن أحدهما فاسق بلا مرية، وذلك يوضح بطلان مذهب الخوارج في أن كل فاسق كافر وفي ذلك غنى لكل منصف" (1). ثم إنه لم ينقل عن الصحابة ولا عن التابعين أنهم حكموا في الفساق بحكم الكفار في الحقوق والواجبات، بل اعتبروا الفاسق مسلما وعاملوه معاملة المسلمين في جميع الحقوق. يقول جعفر بن أحمد مبينا الفرق بين معاملة الكافر والمسلم عند سلف الأمة: "ومما يدل على ذلك ما ظهر من إجماع الصحابة والتابعين؛ فإنه معلوم من أحوالهم أنهم لم يحكموا في الفاسق بأحكام الكفار فلم يحرموا ميراثه من المسلمين، ولا حكموا بحرمة زوجته عليه لأجل فسقه، ولا منعوا من دفنه في مقابر المسلمين، وهذا أظهر من أن يخفى على متأمل لولا شدة الميل عن الصواب والانحراف وقوة التعصب للآباء والأسلاف" (2). هذا وقد تبين مما سبق أنه لا حجة للخوارج في كل ما استدلوا به من أحاديث على كفر مرتكب الكبيرة إذ أن تلك الأحاديث لم تدل دلالة صريحة على كفره كفر ملة، بينما نجد في الجانب الآخر ما يضاد هذا القول من نصوص صريحة واضحة لا تحتمل أي تأويل أو جدل؛ ذلك أن قوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [النساء:48]، فهذه الآية بيان واضح بأن الله يغفر الذنوب كلها ما عدا الشرك به تعالى، وهذا هو القول الحق في هذا الباب وهو الاعتقاد بأن الله يغفر الذنوب مهما كانت ما دام أن العبد قد اجتنب الإشراك بربه الذي هو المحبط الوحيد للعمل. وأما من مات على كبيرة غير تائب فأمره إلى الله إن شاء عذبه ثم أخرجه إلى الجنة برحمته، وإن شاء عفا عنه، ولا يخلد في النار غير الكافرين (3).   (1) ((إبانة المناهج)) (ص164). (2) انظر: ((اللآلئ البهية)) (ص76). (3) ((صحيح البخاري)) (1/ 10). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 466 وأما ما استدلوا به من تلك الأحاديث السابقة فهي كما رأينا كلها إما أن تحمل على أنها واردة في حق المستحل لذلك، أو تكون واردة للزجر، أو غير ذلك مما قاله العلماء، على أنه قد وردت أحاديث صريحة في أن العصاة تحت المشيئة إذا ماتوا من دون توبة، ووردت أحاديث أخرى تدل دلالة صريحة على أن أهل الكبائر يدخلون الجنة وإن عذبوا بالنار بقدر ذنوبهم لكنهم يخرجون منها ولا يخلدون خلود الكافرين، وهذا هو ما يقتضيه العدل، ومن هذه الأحاديث:1 - ما جاء عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه)) (1). فالحديث صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم على مرتكب الكبيرة الذي مات قبل أن يتوب بأنه كافر وإنما قال: "فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه"؛ فالاحتمال قائم في أن يعفو الله عنه تلك الذنوب ما دام قد اجتنب الشرك. وأما ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن أهل النار يجازون فيها بقدر ذنوبهم ثم يخرجون منها، فمثل قوله عليه السلام: ((يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودوا، فيلقون في نهر الحياء: أو الحياة- شك مالك، أحد رواة الحديث- فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية)) (2).ويقول صلى الله عليه وسلم: ((يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير))، وفي رواية: ((من إيمان)) بدل: ((خير)) (3).وقال صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا الجنة، رجل يخرج من النار حبوا)) إلخ الحديث (4).وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنا وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق- ثلاثا- ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر. قال: فخرج أبو ذر وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر)) (5).   (1) رواه البخاري (18)، ومسلم (1709). (2) رواه البخاري (22)، ومسلم (184). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (3) رواه البخاري (44)، ومسلم (193). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (4) رواه البخاري (6571)، ومسلم (186). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (5) رواه البخاري (5827)، ومسلم (94). من حديث أبي ذر رضي الله عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 467 ولا يخفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتيه مرتكب الكبيرة فيقيم عليه الحد ولا يطلب إليه أن يعلن إسلامه من جديد، ولو كان مرتكب الكبيرة كافرا لاستتابه عليه الصلاة والسلام، ولطلب منه إعلان إسلامه من جديد. وهذا ما لم يروه أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في كبيرة ولا في صغيرة، على ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من جلد الزناة أو رجمهم، وجلد أهل الخمر. كما أنه لم ينقل عن الصحابة ولا عن أحد من العلماء أنه قال بتكفير أهل الذنوب كفر ملة، أو قال بتخليدهم في النار. وأما ما ورد من الأحاديث التي تصف من اقترف عملا من أعمال الجاهلية بأنه منهم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين عير رجلا بأمه: ((إنك امرؤ فيك جاهلية)) (1)؛ فإن هذا لا يدل على أن من وجدت فيه خصلة من خصال الجاهلية أنه يكفر بذلك، وقد بوب البخاري رحمه الله على هذا الحكم بقوله: "باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك" (2)، فلا دلالة للخوارج على تكفير أهل الذنوب وتخليدهم في النار. فمذهب أهل السنة والجماعة إذا أنه لا يخلد أحد من المؤمنين في النار مهما كان جرمه، فإن تاب فلا كلام فيه، وإن لم يتب فأمره مفوض لربه. قال النووي: "واعلم أن مذهب أهل السنة وما عليه أهل الحق من السلف والخلف أن من مات موحدا دخل الجنة قطعا على كل حال ... وأما من كانت له معصية كبيرة ومات من غير توبة فهو في مشيئة الله تعالى، فإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة أولاً ... وإن شاء عذبه القدر الذي يريده سبحانه وتعالى ثم يدخله الجنة ... وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به من الأمة على هذه القاعدة، وتواترت بذلك نصوص يحصل بها العلم القطعي، فإذا تقررت هذه القاعدة حمل عليها جميع ما ورد من أحاديث الباب وغيره، فإذا ورد حديث في ظاهره مخالفة وجب تأويله عليها ليجمع بين نصوص الشرع" (3). ولكن لماذا تمسك الخوارج ببدعة القول بتكفير العصاة وتخليدهم في النار، يقول الدكتور عزت عطية جوابا عن هذا السؤال:"الواقع أن القول بهذه البدعة كان وسيلة ساذجة لتجويز قتل المخالفين من المسلمين والتنفيس عن الأحقاد الكامنة في النفوس والوصول إلى أغراض أخرى لهم عن هذا الطريق" (4).ومع موقف الخوارج هذا من خصومهم من المسلمين إلا أننا نستبعد أن يكون هو الدافع إلى تكفيرهم العصاة، فقولهم هذا مبني على مذهبهم في الإيمان وعلاقة العمل به، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الذي حمل الخوارج على القول بتخليد أهل الكبائر في النار أنهم اعتقدوا أن المطلق يتناول جميع ما أمر الله به ورسوله، فمتى ذهب بعض ذلك فيلزم تكفير أهل الذنوب" (5) والقول بذهاب الإيمان بذهاب بعض الأعمال قد نفاه أهل السنة ولم يقولوا به؛ قال ابن تيمية: "فإن هذا القول من البدع المشهورة، وقد اتفق الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين على أنه لا يخلد في النار أحد ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، واتفقوا أيضا على أن نبينا صلى الله عليه وسلم يشفع فيمن يأذن الله له بالشفاعة فيه من أهل الكبائر من أمته" (6). المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص386   (1) رواه البخاري (30)، ومسلم (1661). من حديث أبي ذر رضي الله عنه. (2) شرح النووي (1/ 217). (3) ((البدعة)) (ص408). (4) ((الإيمان)) (ص185، وانظر: ((الإبانة للأشعري)) (ص10). (5) انظر: ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (ص14). (6) ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (1/ 16). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 468 تمهيد هذه هي مشكلة الخوارج الكبرى منذ نشأوا: وطوال عهد الدولة الأموية وزمن متقدم من عهد الدولة العباسية، شغلتهم قضية الإمامة عملياً، فجردوا السيوف ضد الحكام المخالفين لهم، ناقمين عليهم سياستهم في الرعية من عدم تمكينهم من اختيار إمامهم بأنفسهم، ثم سياستهم الداخلية في الناس، وشغلتهم فكرياً بتحديد شخصية الإمام وخصائصه ودوره في المجتمع، وكانوا يظهرون بمظهر الزاهد عن تولي الخلافة حينما يكون الأمر فيما بينهم وحرباً لا هوادة فيها ضد المخالفين لهم. حكم الإمامة عند الخوارج: الإمامة منصب خطير وضرورة اجتماعية؛ إذ لا يمكن أن ينعم الناس بالأمن وتستقر الحياة إلا بحاكم يكون هو المرجع الأخير لحل الخلافات وحماية الأمة، وقد أطبق على هذا جميع العقلاء. أما بالنسبة للخوارج فقد انقسموا فيها إلى فريقين: 1 - الفريق الأول: وهم عامة الخوارج. هؤلاء يوجبون نصب الإمام والانضواء تحت رايته والقتال معه ما دام على الطريق الأمثل الذي ارتأوه له. 2 - الفريق الثاني: وهم المحكّمة والنجدات والإباضية فيما قيل عنهم. وهؤلاء يرون أنه قد يستغنى عن الإمام إذا تناصف الناس فيما بينهم وإذا احتيج إليه فمن أي جنس كان مادام كفئاً لتولي الإمامة (1). ومن مبرراتهم: 1 - استنادهم إلى المبدأ القائل: لا حكم إلا لله، والمعنى الحرفي لهذا المبدأ يشير صراحة إلى أنه لا ضرورة لوجود الحكومة مطلقاً. 2 - أن الحكم ليس من اختصاص البشر بل تهيمن عليه قوة علوية. 3 - إن الضروري هو تطبيق أحكام الشريعة، فإذا تمكن الناس من تطبيقها بأنفسهم فلا حاجة إلى نصب خليفة. 4 - ربما ينحصر وجود الإمام في بطانة قليلة وينعزل عن الأغلبية فيكون بعيداً عن تفهم مشاكل المسلمين فلا يبقى لوجوده فائدة. 5 - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشر صراحة ولا وضع شروطاً لوجود الخلفاء من بعده.6 - أن كتاب الله لم يبين حتمية وجود إمام، وإنما أبان وأمرهم شورى بينهم (2).هذه مبرراتهم، فهل بقي القائلون بالاستغناء عن نصب الإمام على مبدأهم؟ والجواب بالنفي؛ فإن المحكمة حينما انفصلوا ولوا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي، والنجدات حينما انفصلوا تزعمهم نجدة بن عامر، وأما ما قيل عن الإباضية من أنهم يقولون بالاستغناء عن نصب الإمام (3).فإن مصادرهم التي تيسرت لي قراءتها تذكر أن هذا القول إنما نسبه إليهم خصومهم، بقصد الإشاعة الباطلة عنهم (4). وأما تلك المبررات التي نسبت إلى من ذكرناهم فلا شك أنها مبررات واهية ولا تكفي للقول بالاستغناء عن نصب الخليفة؛ أما القول بعدم وجود الإنسان الكامل؛ فإنه لا يمنع من نصب الإمام حيث يختار أفضل الموجودين.   (1) ((مقالات الأشعري)) (1/ 205)، ((مروج الذهب)) (3/ 236). (2) ((آراء الخوارج)) للطالبي (ص125)، ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص123). (3) كما يذكر لوريمر في كتابه ((دليل الخليج)) (6/ 3303). (4) ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص290). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 469 ومن التصور الساذج القول بتناصف الناس فيما بينهم. وأما انعزال الإمام فإن مدار الأمر على التزامه بواجباته الشرعية وعدم إيجاد الحجب بينه وبين رعيته، وذلك مناط الحكم بضرورة وجود الإمام شرعاً وعقلاً. وقد ذهبت الخلفية من الخوارج الإباضية إلى أن كل إقليم أو حوزة يستقل بها إمامها، فلا يجوز لإمام أن يجمع بين حوزتين (1) , ويكون لهذه المناطق أئمة بعدد تلك المناطق وهذا باطل ولا يتفق مع روح الإسلام وأهدافه، لأن ذلك يؤدي إلى المشاحنات والعداوة وتفريق كلمة المسلمين، وحينما قرروا أن كل إقليم ينبغي أن يكون مستقلا عن الآخر لا يخضع إقليم ولا منطقة لمنطقة أخرى تجاهلوا دعوة المسلمين إلى الاتحاد الذي يكمن فيه عزهم وقوتهم. شروط الإمام: وضع الخوارج شروطاً قاسية لمن يتولى الإمامة ومنها: أن يكون شديد التمسك بالعقيدة الإسلامية، مخلصاً في عبادته وتقواه حسب مفهومهم. أن يكون قوياً في نفسه ذا عزمٍ نافذ وتفكير ناضج وشجاعة وحزم. أن لا يكون فيه ما يُخلُّ بإيمانه من حب المعاصي واللهو. ألا يكون قد حُدَّ في كبيرة حتى ولو تاب. أن يتم انتخابه برضى الجميع، لا يغني بعضهم عن بعض. ولا عبرة بالنسب أو الجنس كما يقولونه ظاهراً دعاية لمذهبهم وفي باطنهم يملأهم التعصب، وكون الإمام ينتخب برضى أهل الحل والعقد، وهذا مبدأ إسلامي لم يأت به الخوارج، كما يقول بعض المستشرقين دعاية للخوارج. ولم يلتفت الخوارج إلى ما صح من الأحاديث في اشتراط القرشية لتولي الخلافة وتقديم قريش فيها عند صلاحية أحدهم لها. ولم يشترط الشرع في الإمام أن يكون ليله قائماً ونهاره صائماً، أو أنه لا يلم بأي معصية، أو أن يكون انتخابه برضى كل المسلمين من أقصاهم إلى أدناهم، لا يغني بعضهم عن بعض في مبايعتهم له كما يزعمه الخوارج (2). محاسبة الإمام والخروج عليه: يعيش الإمام عند الخوارج بين فكي الأسد –عكس الشيعة- فالخوارج ينظرون إلى الإمام على أنه المثل الأعلى وينبغي أن يتصف بذلك قولاً وفعلاً، وبمجرد أقل خطأ ينبغي عليهم القيام في وجهه ومحاسبته، فإما أن يعتدل وإما أن يعتزل. ومن غرائبهم ما يروى عن فرقة البيهسية منهم والعوفية، فقد اعتبر هؤلاء كفر الإمام سبباً في كفر رعيته، فإذا تركه رعيته دون إنكار فإنهم يكفرون أيضاً (3)، ولا شك أن هذا جهل بالشريعة الإسلامية، وعلى هذا فما تراه من كثرة هروبهم وخروجهم على أئمتهم أو أئمة مخالفيهم يعتبر أمراً طبيعياً إزاء هذه الأحكام الخاطئة. وقد حث الإسلام على طاعة أولي الأمر والاجتماع تحت رايتهم إلا أن يُظهروا كفراً بواحاً، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وينبغي معالجة ذلك بأخف الضرر، ولا يجوز الخروج عليهم ما داموا ملتزمين بالشريعة بأي حال.   (1) نقلاً عن ((آراء الخوارج)) (ص 128). لكن عموم الإباضية لا تجيز هذا حسب ما جاء في ((مدارج الكمال)) (ص172). (2) ((مدارج الكمال)) للسالمي (ص171)، ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (ص1/ 71)، ((التفكير الفلسفي)) (1/ 191) للدكتور عبد الحليم محمود، ((آراء الخوارج)) (ص121)، ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص126). (3) ((مقالات الأشعري)) (1/ 194)، ((الطرماح بن حكيم)) (ص55)، ((الملل والنحل)) (1/ 126) , ((الفرق بين الفرق)) (ص109)، ((التنبيه والرد)) للملطي (ص169). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 470 نشأ الخوارج كقوة مستقلة بعد قضية التحكيم - كما قدمنا - وصار لهم نفوذ وكلمة وقوة فعلية كان لها أثرها البالغ في شغل الخلفاء والولاة وتصدع كيان الأمة الإسلامية زمناً طويلاً، وقد كانت مشكلة الإمامة من أهم العوامل التي أدت إلى نشأتهم وشغلت أكبر قسط من نشاطهم منذ أن اختلفوا على إمامة الإمام علي رضي الله عنه وطوال عهد الخلفاء الأمويين وإلى زمن متقدم في الدولة العباسية، وهم ناقمون على هؤلاء الخلفاء سياستهم في الرعية من عدم تمكينهم من اختيار إمامهم بأنفسهم ثم سياستهم الداخلية في الناس. وقد شغلتهم مشكلة الإمامة فكرياً بتحديد شخصية الإمام وخصائصه ودوره في المجتمع وعملياً بالسعي المتواصل ولو بالقوة في سبيل إصلاح سياسة الأئمة، ومن هنا كان الخوارج يزعمون أن خروجهم كان لأجل إسقاط الحكام الظلمة وأئمة الجور - كما يعبرون عنهم - وإقامة حكمهم العادل الذي يطبق أحكام الإسلام كما هي قولاً وفعلاً، وكان خطباؤهم وقوادهم يركزون على هذه الناحية في كل مقال لهم. فكانوا يرون أن في سكوتهم عن ولاة الدولة الأموية والعباسية وعدم مقاومتهم بكل ما يستطيعون من قوة مداهنة في الدين ورضا بالكفر، وأن دينهم يحتم عليهم مقاومة أئمة الجور مهما كانت التضحيات، ولهذا فهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 471 يخوضون معارك يعلمون تمام العلم أنهم لن يخرجوا منها إلا أشلاء، ولكنهم يخوضون غمارها رجاء أن يهدوا من قوة الحكام شيئاً فشيئاً، امتثالاً لما يوجبه عليهم الغضب لله وإعزاز دينه بقتال أولئك الظلمة وإسقاط حكمهم الجائر. وليس لهم – كما يقولون – مطمع من مطامع الدنيا ولا يريدون اكتساب فخر من مفاخرها البراقة التي يسعى إليها أكثر الناس، من جمع الأموال والسيطرة، وبناء القصور الفاخرة، وطلب العيشة الناعمة، التي يتهالك عليها مخالفوهم – كما يقولون -، فليس منصب الخلافة عندهم مغنماً بل هو مسئولية خطيرة أمام الله لا يستهين بها إلا جاهل لا يقدر ثقلها؛ لذا فإنهم عندما يكون الأمر لهم يزهدون عن توليها، ويتدافعون فيما بينهم هرباً من تبعاتها، فمما يذكر عن زهدهم عنها أنهم حينما أرادوا تولية عبدالله بن وهب خليفة عليهم أبى وتحرج من ذلك، ولكنهم كرروا الطلب والإلحاح عليه حتى قبلها؛ قال المبرد: " قال أبو العباس: ذكر أهل العلم من الصفرية أن الخوارج لما عزموا على البيعة لعبد الله بن وهب الراسبي من الأزد تكره ذلك فأبوا من سواه ولم يريدوا غيره، فلما رأى ذلك منهم قال: يا قوم استبينوا الرأي، أي دعوه يغب" (1).ويقول الشهر ستاني: " وكان يمتنع عليهم تحرجا ويستقبلهم ويومئ إلى غيره تحرزاً فلم يقتنعوا إلا به" (2)، وهذا موقف أول رئيس لهم فكان عمله هذا قدوة لمن بعده؛ إذ كان في نظرهم من أحق أهل الأرض بالخلافة عن جدارة ومقدرة، ومع ذلك فإنه خاف على نفسه وتحرج ولم يقبلها إلا بعد الإلحاح الصادق منهم، فقبلها كما يذكر عن نفسه لا حباً في الإمارة، ولم يدعها خوفاً من الموت، ومما يجدر ذكره أنه لم يقبلها إلا بعد أن عرضت على زملاء له في مثل قدرته وكفاءته لا يختلفون عنه ولكنهم رفضوها رفضاً باتاً، وذلك حينما قرروا الخروج إلى بعض كور الجبال فأخذوا في التشاور وتداولوا الرأي فيما بينهم في انتخاب خليفة لهم، " فقال حمزة بن سنان الأسدي – كما يروي المبرد – " يا قوم إن الرأي ما رأيتم فولوا أمركم رجلاً منكم، فإنكم لابد لكم من عماد وسناد وراية تحفون بها وترجعون إليها، فعرضوها على زيد بن حسين الطائي فأبى، وعرضوها على حرقوص بن زهير فأبى وعلى حمزة بن سنان وشريح بن أوفى العبسي فأبيا، وعرضوها على عبدالله بن وهب فقال: هاتوها أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا ولا أدعها فرقاً من الموت؛ فبايعوه" (3). ومثل هذا الموقف موقف آخر كان في زمن الدولة الأموية في ولاية المغيرة بن شعبة على الكوفة؛ حيث يروي المحل بن خليفة تدافع الخوارج عن تولي الخلافة، وكان أبرزهم ثلاثة أشخاص هم المستورد بن علفة التيمي من تيم الرباب وحيان بن ظبيان السلمي، ومعاذ بن جوين بن حصين الطائي السنبسي. قال المحل بن خليفة فيما يرويه عنه الطبري: " إن الخوارج في أيام المغيرة بن شعبة فزعوا إلى ثلاثة نفر منهم: المستورد بن علفة التيمي من تيم الرباب، وإلى حيان بن ظبيان السلمي، وإلى معاذ بن جوين بن حصين الطائي السنبسي ... فاجتمعوا في منزل حيان بن ظبيان السلمي فتشاوروا فيمن يولون عليهم. قال: فقال لهم المستورد: يا أيها المسلمون والمؤمنون أراكم الله ما تحبون وعزل عنكم ما تكرهون، ولوا عليكم من أحببتم فوالذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ما أبالي من كان الوالي علي منكم، وما شرف الدنيا نريد وما البقاء فيما من سبيل، وما نريد إلا الخلود في دار الخلود.   (1) ((الكامل)) للمبرد (2/ 105). (2) ((الملل والنحل)) (1/ 111). (3) ((الكامل)) للمبرد (2/ 336)، ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص 125). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 472 فقال حيان بن ظبيان: أما أنا فلا حاجة لي فيها، وأنا بك وبكل امرئ من إخواني راض، فانظروا من شئتم منكم فسموه فأنا أول من يبايعه، فقال لهم معاذ بن جوين بن حصين: إذا قلتما أنتما هذا وأنتما سيدا المسلمين وذووا أنسابهم في صلاحكما ودينكما وقدركما، فمن يرأس المسلمين وليس كلكم يصلح لهذا الأمر؟! وإنما ينبغي أن يلي على المسلمين إذا كانوا سواءً في الفضل أبصرهم بالحرب، وأفقههم في الدين، وأشدهم اضطلاعاً بما حمل، وأنتما بحمد الله ممن يرضى بهذا الأمر فليتوله أحدكما. قالا: فتوله أنت فقد رضيناك فأنت والحمد لله الكامل في دينك ورأيك، فقال لهما: أنتما أسن منى فليتوله أحدكما، فقال حينئذ جماعة من حضرهما من الخوارج: قد رضينا بكم أيها الثلاثة فولوا أيكم أحببتم. فليس في الثلاثة رجل إلا قال لصاحبه: تولها أنت فإني بك راض وإني فيها غير ذي رغبة، فلما كثر ذلك بينهم قال حيان بن ظبيان: فإن معاذ بن جوين قال: إني لا ألي عليكما وأنتما أسن مني، وأنا أقول لك مثل ما قال لي ولك لا ألي عليك وأنت أسن مني، أبسط يدك أبايعك، فبسط يده فبايعه، ثم بايعه معاذ بن جوين، ثم بايعه القوم جميعاً" (1). من هذه المحاورة يظهر عدم رغبتهم في تولي الخلافة حينما يكون الأمر فيما بينهم، فإنهم يعتبرونها عبئاً ثقيلاً ومسئولية عظمى أمام الله يوم القيامة. ويذكر المبرد أن مرداساً وأصحابه حينما خرجوا " أرادوا أن يولوا أمرهم حريثاً فأبى فولوا مرداساً (2).ويذكر الباروني أنه بعد وفاة الإمام عبد الرحمن بن رستم تحيروا فيمن سيقبل الخلافة من السبعة الأشخاص الذين عينهم الإمام لتوليها بعده ومن بينهم ولده عبد الوهاب، وأنهم صاروا – كما يذكر – يتداولون الأمر شهراً كاملاً دون أن يتحملها أحد لحرج موقفها فيقول في وصف ذلك: " ثم اجتمع أهل الشورى منهم والصالحون للنظر فيمن يولونه الأمر بعده، ولشدة تحريهم رحمهم الله لم يقصدوا أحداً إلا وتبرأ منها ودفعها علماً بحرج موقفها، وبقي الأمر كذلك موقوفاً نحو شهر كامل لم يثبت لهم فيها قرار ولم يستقر لهم رأي ... " (3) إلخ. وأيا كان الرأي في زهدهم عن تولي الإمامة فإنها كانت – كما قلنا – أهل عامل في نشأتهم وكان إصلاح أمرها أهم ما يشغلهم، بياناً لحكمها وشرائطها وكيفية إصلاح سياسة الأئمة فيها على نحو ما سنبينه في هذا الفصل. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص393   (1) ((تاريخ الطبري)) (5/ 175). (2) ((الكامل)) للمبرد (2/ 156). (3) ((الأزهار الرياضية في أئمة وملوك الإباضية)) (2/ 99). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 473 المطلب الأول: حكم الإمامة الإمامة منصب خطير لابد من إقامته؛ إذ لا يمكن أن ينعم الناس بالحياة ويسود الأمن بينهم وتنتظم الأمور إلا بحاكم يكون المرجع في تطبيق الشرع وحماية الأمة وإقامة العدل بين أفرادها. وقد أطبق على هذا جميع العقلاء، فماذا كان موقف الخوارج إزاء هذه المسألة؟ والجواب أنا نجدهم قد انقسموا فيها إلى فريقين: الفريق الأول: وهم عامة الخوارج، وهؤلاء يوجبون نصب الإمام والانضواء تحت رايته والقتال معه ما دام على الطريق الأمثل الذي ارتأوه له. الفريق الثاني: هم المحكمة والنجدات والإباضية فيما يقال عنهم، وهؤلاء يرون أنه قد يستغنى عن الإمام ولا تعود إليه حاجة إذا عرف كل واحد الحق الذي عليه للآخر فوفاه حقه ولم يتعد أحد على أحد بظلم أو أذى، ولكنهم يقولون: إن احتيج إليه فمن أي جنس كان ما دام كفئاً لتولي الإمامة، وهو ما تقول به عامة الخوارج. قال ابن حزم: " اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حاشا النجدات من الخوارج فإنهم قالوا: لا يلزم الناس فرض الإمامة، وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم " (1).ويقول المسعودي: إن النجدات يقولون: " إن الإمامة غير واجب نصبها" (2).ويقول الأشعري: "وحكى زرقان عن النجدات أنهم يقولون: إنهم لا يحتاجون إلى إمام، وإنما عليهم أن يعملوا كتاب الله فيما بينهم" (3).ويقول الشهرستاني عن النجدات حاكياً عن الكعبي: " وأجمعت النجدات على أنه لا حاجة للناس إلى إمام قط، وإنما عليهم أن يتناصفوا فيما بينهم، فإن هم رأوا أن ذلك لا يتم إلا بإمام يحمله عليه فأقاموه – جاز" (4).   (1) ((الفصل)) (4/ 87). (2) ((مروج الذهب)) (3/ 236). (3) ((المقالات)) (1/ 205). (4) ((الملل والنحل)) (1/ 124)، وانظر: ((تاريخ الفكر العربي)) (ص 207). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 474 فالأمر إذا عندهم راجع إلى المصلحة وما تقتضيه لا إلى أنه واجب وجوباً شرعياً يتحتم عليهم إنفاذه. أما المحكمة فيقول الشهرستاني عن رأيهم في الاستغناء عن نصب الإمام: " وجوزوا أنه، لا يكون في العالم إمام أصلاً" (1)، فهم كما يذكر رحمه الله كانوا أسبق إلى القول بالاستغناء عن الإمام من النجدات، ولكن لم يشتهر هذا القول على ألسنة العلماء كما اشتهر عن النجدات، اللهم إلا ما ذكره الشهرستاني عنهم. وربما كان ذلك منهم في أول أمرهم حيث نادوا: " لا حكم إلا لله " وفهم الإمام على أن من شعارهم هذا قولهم بعدم الحاجة إلى أمير، ولهذا رد عليهم قائلاً: " كلمة حق يراد بها باطل، نعم إنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة، وأنه لابد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي؛ حتى يستريح بر ويستراح من فاجر" (2).ولكن المحكمة لم يبقوا على هذا فيما الرأي فيما بعد، بل كان أول ما عملوه بعد انفصالهم عن الإمام علي هو تولية عبد الله بن وهب الراسبي، ولهذا قال ابن أبي الحديد مجيباً عن قول الإمام علي في الخوارج: إنهم يقولون: لا إمرة: " قيل إنهم كانوا في بدء أمرهم يقولون ذلك ويذهبون إلى أنه لا حاجة إلى الإمام، ثم رجعوا عن ذلك القول لما أمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي " (3).أما ما قيل عن الإباضية من أن رأيهم هو القول بالاستغناء عن نصب الإمام فقد ذهب إليه ج. ج. لوريمر وفي ذلك يقول: "ويختلف الإباضيون الأول عن كل من السنة والشيعة في رفضهم الرأي القائل بأن الإسلام في حاجة إلى رئيس ظاهر دائم". ويقول أيضاً: " وفي حين سمحوا بتعيين إمام أو زعيم روحي تعييناً قانونياً إذا ما اقتضت الظروف؛ أصروا بشكل خاص على أن يكون منتخباً في كل حالة، وإلا تكون الخلافة أو الإمامة وراثية " (4). ولكن الإباضيين ينفون هذا القول عنهم ويعدونه من مزاعم خصومهم وأنها إشاعة من الإشاعات المغرضة، وأن " من يزعم أن الإباضية يجيزون أن تبقى الأمة المسلمة بدون دولة" مخطئ وجاهل بالمذهب الإباضي وقواعده. كما قال علي يحيى معمر. وينقل في هذا عن العلامة نور الدين السالمي في شرحه على مسند الربيع بن حبيب قوله: "والإمامة فرض بالكتاب والسنة والإجماع والاستدلال" (5). ويقول السالمي في كتاب (غاية المراد): إن الإمامة فرض حينما وجبت ... شروطها لا تكن عن رفضها غفلا وباطل سيرة فيها الإمامة في اثنين ... لو بلغا في المجد ما كملا (6) وبهذا يتبين موقف الإباضية من الإمامة، وينتهي القول إلى أنهم يوجبون نصب الإمام كغيرهم من الناس. ولابد من وقفة أمام رأي النجدات في الاستغناء عن الإمام، فهي التي تزعمت هذا القول، وإن كنا سنرى فيما بعد أنها هي أيضاً لم تطبق هذا القول ولم تعمل بمقتضاه بالفعل، حيث بايعوا نجدة بن عامر بالإمامة. إن ما ذهب إليه النجدات في هذا المقام يعتبر خروجاً على إجماع عامة الخوارج الذين يرون ضرورة نصب الإمام. والواقع أنه لا يشك إنسان عاقل في أن بقاء الأمة من دون إمام يؤدي بالحياة إلى الفوضى والظلم وتشتيت الكلمة وإثارة الحروب المدمرة. لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا   (1) ((الملل والنحل)) (1/ 116). (2) ((شرح نهج البلاغة)) (2/ 307). (3) ((شرح نهج البلاغة)) (2/ 308). (4) ((دليل الخليج)) (6/ 3303، 3404) (5) انظر: ((الإباضية بين الفرق)) (ص 289، 290). (6) ((غاية المراد)) (ص 18). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 475 فالقول بالاستغناء عن الإمام قول في غاية البعد والسقوط، يقول النووي " وأجمعوا – أي المسلمون – على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة، ووجوبه بالشرع لا بالعقل" (1).ويقول القاضي عبد الجبار: " اتفقت الأمة على اختلافها في أعيان الأئمة أنه لابد من إمام يقوم بهذه الأحكام وينفذها" (2). وهو رأي واضح لا حاجة إلى الإطالة فيه، ولكن النجدات لم تلتفت إلى الناحية الشرعية بل التفتت إلى العقل ورأت أنه لا يمنع أن يتناصف الناس فيما بينهم إذا وجدت الألفة والمحبة، وهذا أقرب إلى الخيال. يريد النجدات بزعمهم هذا أن ينشأ مجتمع مثالي يعرف فيه كل شيء واجبه تجاه مجتمعه فيقف عند حقه، تحجزه أخلاقه عن ارتكاب أي ضرر بالغير، كل شخص قد جعل القرآن إمامه وحاكمه يعرف فيه واجبه نحو الغير، ولعل هذا بعض ما يمكن أن يتعلل به القائلون من النجدات وغيرهم بالاستغناء عن نصب الإمام. فلننظر إلى الواقع: هل طبق النجدات هذا القول فاستغنوا عن نصب أمير منهم؟! لا شك أن الأمر كان بالعكس فنجده نفسه وهو أول زعيم لهم، لم يطبق هذا الرأي بل كان هو الحاكم على فرقته بعد إزاحته لأبي طالوت، ولقد كان يرسل ولأنه على المناطق التي تحت سيطرته ثم كان لا يرسل سرية أو جيشاً إلا اختار لهم أميراً، كما أرسل ابنه إلى القطيف أميراً على سرية، ومن هنا يشك الطالبي في صحة ما نسب إلى نجدة وأنه كما قال: " يمكن أن يكون أصحابه هم الذين أحدثوه من بعد، ولعلهم أولوا قول المحكمة الأولى لا حكم إلا لله وفهموا منه أنه لا حاجة إلى إمام ولا إلى حاكم ".ولكنه عاد فاعتذر لهم عن هذا الرأي الذي ينسب إليهم بأنه ناتج عن حياتهم القبلية، وذلك في قوله: " ومن وجهات النظر التي أبداها هؤلاء مبرر- يبدو أنه من طبيعة الحياة العربية القبلية – وهو أن الناس متساوون كأسنان المشط، فكيف تجب طاعة أحدهم لمن هو ند له؟! ونظير هذا بالنسبة لعامة الناس، كذلك القول بالنسبة للمجتهدين، فإذا تساووا في الفضل والتدين والاجتهاد والمعارف فكيف نستطيع أن نلزمهم بطاعة أحدهم؟! " (3). ونضيف إلى التبرير السابق الذي قدمه الطالبي لمبدأ النجدات عوامل أخرى يرجع إليها بعض الدارسين الإباضيين، هذا المبدأ الذي يجيز النجدات فيه الاستغناء عن الإمامة فيذكر السالمي عن نظر النجدات في هذه المسألة ما حاصله: 1 - أن النظرية الأساسية التي ارتكزت عليها فكرة الخوارج وخصوصاً الأزارقة والصفرية والنجدات - كانت المبدأ القائل: لا حكم إلا لله، والمعنى الحرفي لهذا المبدأ يشير صراحة إلى أنه لا ضرورة لوجود الحكومة مطلقاً. 2 - أن الحكم " ليس من اختصاص البشر، بل تهيمن عليه قوة علوية ". 3 - أن الضروري هو تطبيق أحكام الشرع والتمشي بموجب القرآن الكريم والسنة، وإذا استطاع المسلمون تطبيق هذه الأحكام والتمشي حسب ما جاء به الإسلام؛ فإنه لا ضرورة مطلقاً لوجود خليفة أو إمام؛ وعلى هذا فالإمامة ليست التزاماً دينياً يجب تنفيذه. 4 - قالوا: إن وجود الخليفة أو الإمام لا يكون مفيداً في الأوقات كلها؛ لأنه ربما يكون بسبب من الأسباب عاجزاً عن الاتصال بجميع أتباعه وينحصر في بطانة قليلة من الأفراد وينعزل عن الأغلبية ... وبالتالي يكون أبعد ما يكون عن التفهم لمشاكل المسلمين. 5 - أن على الخليفة أن يتمتع بكفاءات معينة خاصة تجعله جديراً بتولي أمور المسلمين، ومن المحتمل أن لا يكون هذا الرجل الذي يحمل تلك الكفاءات متوفراً في جميع الأوقات، وينتج عن القول بضرورة وجود الخليفة أن نقع في مسألتين محذورتين.   (1) ((شرح النووي)) (12/ 205). (2) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص 751). (3) ((آراء الخوارج)) (ص 125). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 476 أ- انتخاب خليفة لا تتوفر فيه الكفاءات المطلوبة، وبذلك نخالف النصوص والمنطق. ب- أو أن لا نعين إماماً وبذلك نخالف الافتراض القائل بضرورة وجود الخليفة. 6 - أن انتخاب الإمام قد يكون سبباً في إيجاد حرب أهلية بين المسلمين أنفسهم. 7 - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشر صراحة أو وضع شروطاً لوجود خلفاء من بعده.8 - أن كتاب الله لم يبين حتمية وجود إمام وإنما أبان وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ (1). ولا شك أن كل تلك المبررات التي قيلت عن رأي النجدات كلها اعتذارات غير مفيدة في تبرير رأيهم هذا في مقابل إجماع السلف وعامة الأمة ومنهم الخوارج على وجوب نصب الإمام، وما استند إليه هذا الوجوب من أدلة شرعية وضرورات اجتماعية. قال ابن حزم بعد أن ذكر أن القول بوجوب الإمامة قد أجمعت عليه جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج: " قال أبو محمد: وقول هذه الفرقة (يعني النجدات) ساقط يكفي من الرد عليه وإبطاله إجماع كل من ذكرنا على بطلانه" (2). والواقع أن تلك المبررات التي ذكرت لرأي النجدات مبررات باطلة فليس الناس سواءً، بل هم متفاوتون في الكمال، بحيث يمكن اختيار أفضلهم لإمامة الجماعة الإسلامية، والتزام الناس بالأحكام الشرعية يمنع من وقوع الحرب الأهلية بينهم بسبب اختيار الإمام كما يقال. وأما القول بعدم وجود الإنسان الكامل فإنه لا يمنع من نصب الإمام حيث يختار لهذا المنصب أفضل الموجودين، ومن التصور الساذج القول بتناصف الناس فيما بينهم وقيامهم بواجباتهم وحفظهم لحقوق الآخرين، دون وجود قيادة حاكمة يرجع إليها الناس في كل ذلك طوعاً أو كرهاً حتى تستقيم أمور الأمة ومدار الأمر بعد ذلك على التزام الإمام بواجباته الشرعية فلا يجعل بينه وبين الأمة من الحجب ما يحول بينه وبين رعاية مصالحهم؛ فذلك مناط الحكم بضرورة الإمام شرعاً وعقلاً. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص397   (1) راجع: ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص 123). (2) ((الفصل)) (4/ 87). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 477 المطلب الثاني: وحدة الإمامة يرى أكثر الخوارج كغيرهم من الفرق أن الإمامة يجب أن تسند إلى إمام واحد، وأن البيعة تلزم للمتقدم، فمهما كان صلاح الأخير وفضله لا ينبغي العدول إليه، بل يجب قتاله حتى يعود إلى من رضيت به الأمة، والقول بإقامة إمام واحد مسألة بدهية أطبق عليها جميع العقلاء، إذ لا يمكن أن تتحقق المصلحة وتجتمع الكلمة إلا برجوع الجميع إلى إمام واحد تختاره الجماعة من أهل الحل والعقد، يرعى المصالح ويرد الظالم عن ظلمه ويوصل كل حق إلى صاحبه فهل خرج عن هذا الأمر الواضح أحد؟ نعم لقد خرج عنه بعض الخوارج وهم الحمزية والخلفية من الإباضية فجوزوا أن يجتمع إمامان في وقت واحد، فيذكر الشهرستاني عن رئيس فرقة الحمزية قول: " وجوز حمزة إمامين في عصر واحد مالم تجتمع الكلمة ولم تقهر الأعداء" (1).أما الخلفية من الخوارج الإباضية فقد رأت أن كل إقليم ينبغي أن يكون مستقلاً عن الآخر لا يخضع إقليم لإقليم أو منطقة لمنطقة أخرى، ويكون لهذه المناطق أئمة بعدد مناطق تلك الحوزة من الأرض، قال أبو حفص عمرو بن جميع الإباضي: "وذهبت الخلفية من الإباضية إلى أن كل إقليم أو حوزة يستقل بها إمامها فلا يجوز لإمام أن يجمع بين حوزتين" (2). والواقع أن هذا مما لا يتفق مع روح الإسلام وأهدافه، فإن تاريخ المسلمين الأوائل لم يعد فيه منهم إلا اختيار إمام واحد للمسلمين جميعاً، ويكون الذي يعين ولاته على الأمصار والجهات المختلفة فلا يستقل كل وال بإقليمه وإنما يكونون جميعاً تحت قيادة هذا الإمام الواحد، ولأن المؤمنين أمة واحدة فلا ينبغي أن يكون لها إمام واحد، وتعدد الأئمة في الأقاليم المختلفة كما تدعو إليه الخلفية لا ينتج عنه إلا كثرة المشاحنات وظهور الاختلافات بين هذه الأقاليم وضعف المسلمين كما يدلنا تاريخهم عندما تفرقت دويلاتهم وانفردت كل مجموعة من الناس برئيس حتى ضعفوا. وقد جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وأنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فتكثر. قالوا: فما تأمرنا قال: فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم)) (3). وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: ((من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعمه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)) (4). وهذا يرشدنا إلى المنع من تعدد الأئمة الذي نتج عنه كثرة الاختلافات والمشاحنات كما يدل عليه تاريخ المسلمين قديماً وحديثاً حتى تفرقت كلمة المسلمين وضعفت الرابطة الإسلامية التي كانت مصدر عز الإسلام وقوته. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص406   (1) ((الملل والنحل)) (1/ 130). (2) نقلاً عن ((آراء الخوارج)) (ص 128)، ولكن عموم الإباضية لا تجيز هذا، انظر ((مدارج الكمال)) (ص 172). (3) رواه البخاري (3455)، ومسلم (1842). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (4) رواه مسلم (1844). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 478 المطلب الثالث: شروط الإمام يشترط الخوارج في من يرتضونه إماماً أن تتوفر فيه عدة صفات تجعله جديراً بحمل الأمانة، وأهم هذه الشروط مما يأتي: 1 - أن يكون شديد التمسك بالعقيدة الإسلامية مخلصاً في عبادته وتقواه كثير التعبد والطاعات – على طريقتهم. 2 - أن يكون قوياً في نفسه ذا عزم نافذ وتفكير ناضج وشجاعة وحزم، كما يقول السالمي: وليك ذا شجاعة وحزم ... مرتدياً بعفة وحلم وغيره على انتهاك الحرم ... وذا وفا بعده والذمم (1). 3 - أن لا يكون فيه ما يخل بإيمانه من حب المعاصي واللهو واتباع الهوى، يقول السالمي أيضاً: ولم يكن على كبير حدا ... وحتى ولو تاب وأبدى الرشدا (2). 4 - أن يكون انتخابه برضى الجميع لا يغني بعضهم عن بعض في ذلك. 5 - لا عبرة بالنسب أو الجنس أو اللون. هذه بعض شروطهم التي ذكرتها المصادر عنهم، وقد وصف الأستاذ أبو زهرة موقفهم من طريقة اختيار الخليفة بأنه من آرائهم السديد المحكم، فقال في معرض بيانه للآراء التي تجمع فرق الخوارج " وأول هذه الآراء – وهو من بين آرائهم السديدة المحكمة – أن الخليفة لا يكون إلا بانتخاب حر صحيح يقوم به عامة المسلمين لا فريق منهم " (3).ويقول فيه الدكتور عبد الحليم محمود: " أما رأيهم في الإمامة فإنه هو الرأي الذي يؤيد الاتجاه الحديث، ويؤيده كل مخلص لدينه ووطنه" (4). ويكون هذا المنتخب من أي جنس كان، سواء كان عربياً أم أعجمياً، قرشياً أو غير قرشي، بل يرون أن الأفضل تولية من لا نسب له ولا عشيرة معه ليسهل توجيهه إلى ما يريدون، ويسهل أيضاً خلعه أو قتله عندما يستحق ذلك في نظرهم."وليست لعربي دون أعجمي والجميع فيها سواء بل يفضلون أن يكون الخليفة غير قرشي ليسهل عزله أو قتله إن خالف الشرع وحاد عن الحق، إذ لا تكون له عصبية تحميه ولا عشيرة تؤويه، وعلى هذا الأساس اختاروا منهم عبد الله بن وهب الراسبي وأمروه عليهم وسموه أمير المؤمنين وليس بقرشي" (5).ويقول ابن الجوزي عن شروط الخوارج في الخليفة: (ومن رأي الخوارج أنه لا تختص الإمامة بشخص إلا أن يجتمع فيه العلم والزهد فإذا اجتمعا كان إماماً نبطياً" (6) (أي من أخلاط الناس وأوباشهم).وبالإضافة إلى ما تقدم فإنه يولون جانب الشجاعة والمهارة اهتماماً خاصاً، كما عبر عن هذه المسألة معاذ بن جوين الخارجي حين يقول: " وإنما ينبغي أن يلي على المسلمين إذا كانوا سواء في الفضل أبصرهم بالحرب وأفقههم في الدين وأشدهم اضطلاعاً بما حمل" (7).أي إن الخوارج يرون أن المهارة الحربية والشجاعة من صفات الخليفة الضرورية وذلك نظراً لحروبهم الدائمة مع مخالفيهم، وهذا ما يعبر عنه الإباضية بالإمام الشاري وهو بمعنى الفدائي، وقد عرفه السالمي بقوله: "هو الذي يتمتع بالثقة المطلقة من قبل أتباعه جميعاً ويعلن الجهاد ولا يجوز له الهرب من ساحة الميدان، ويقوده شعاران في المعركة: النصر أو الموت" (8). لأن الأئمة عند الخوارج ينحصرون في أربعة: 1 - الإمام الشاري، وقد تقدم تعريفه. 2 - إمام الدفاع: وهو الذي يتولى القيادة وعامة أتباعه في الحرب في الظروف العصيبة. 3 - إمام الظهور: وهو الذي تتم بيعته في السلم عن اختيار ورضى جميع المسلمين. 4 - إمام الكتمان: وهو الإمام الذي ترجع إليه الإباضية في حل مشكلاتهم عندما يكونون تحت سيطرة حكومية من غير الإباضية ولا يستطيعون مناوءتها بالقوة.   (1) ((مدارج الكمال)) (ص 171). (2) ((مدارج الكمال)) (ص 171). (3) ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (1/ 71). (4) ((التفكير الفلسفي)) (1/ 191). (5) ((تاريخ المذاهب)) (1/ 71). (6) ((تلبيس إبليس)) (ص 96). (7) ((تاريخ الطبري)) (5/ 175). (8) ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص 126). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 479 وقد رأينا فيما سبق أن الخوارج ينادون بالاختيار الحر لرئيس الأمة، ويكون من بين أفرادها، لا يتمتع بأي ميزة غير كفاءته في إدارة شؤون المسلمين، وقد وصفوا بذلك بأنهم جمهوريون وأنهم ديمقراطيون إلخ ... وإن نظرتهم هذه تستند إلى قوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ. يقول الطالبي: " تعتبر الخوارج ممثلة للنزعة الإجماعية أو الاتجاه الجمهوري في الفقه السياسي، وهي نظرة قرآنية لأن مصدر السلطة في الشريعة الإسلامية إنما هو اختيار الأمة وانتخابها، ومبدأ الشورى نص عليه القرآن بلا نزاع ولا فرق في ذلك بين مسلم ومسلم ولا نظر إلى الجنس أو اللون" (1).وقد زعم الأستاذ ألبير نصري بأن الخوارج هم أول من نادى بأن الأمة هم مصدر السلطة، وبالتالي كانوا أول من نادى بالاختيار الحر للإمام – فيقول: " إن الخوارج هم أول من ادعى في الإسلام أن الأمة هي مصدر السلطة فكان موقفهم هذا خطوة أولى نحو القول بحق الاختيار الحر رئيس الأمة، وهذا هو لب الديمقراطية، وإن جعلوا هذه الديمقراطية محدودة " (2).ويقول السالمي عن الإمامة في عمان: " كانت الإمامة تستند إلى قواعد وجذور قوية، كانت تستند إلى أساس ديمقراطي يتساوى فيه الغني والفقير والقوي والضعيف أمام قوانين الشريعة السمحاء؛ ولذا فإن بذور الحكم الجمهوري قد نبتت في عمان ومجتمعها الإباضي وكانت بذور صالحة في تربة صالحة" (3).وقال أيضاً: " ولذا فإن بذور الديمقراطية قد نشأت في هذا المجتمع وتطورت في سبيل مصلحة الشعب نفسه" (4).والواقع أن ما زعمه ألبير نصري من أن الخوارج هم أول من نادى بالانتخاب الحر للإمام - زعم باطل تاريخياً وموضوعياً؛ فإننا بتتبعنا لتاريخ المسلمين الأول نجد أنهم قد اختاروا الخلفاء اختياراً حراً كما في اختيارهم للخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين، وأنهم لم يخرجوا عن قوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ، فإذا ليس الخوارج هم أول من نادى باختيار الخليفة عن طريق الشورى ورضى الناس، يقول رفعت فوزي: " ولم يكن الخوارج هم أول من نادى بأن تكون الخلافة شورى بين المسلمين " (5). أما القول الذي انفرد به الخوارج في موضوع الإمامة، فهو عدم اشتراط القرشية فيها، فمسألة أحقية قريش بالخلافة غير واردة في مفهوم الخوارج إذ أنها مسؤولية عظمى يتساوى الناس في صلاحيتهم لتوليها، فما معنى ربطها بأناس بخصوصهم؟! وهم في هذا الاتجاه لا ينظرون إلى ما ورد في ذلك من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إلى ما قاله جمهور الصحابة والتابعين وسلف الأمة، بل حكموا فيها مجرد رأيهم وما تميل إليه نفوسهم. يقول الأشعري: " ويرون أن الإمامة في قريش وغيرهم إذا كان القائم بها مستحقاً لذلك ولا يرون إمامة الجائر" (6).واعتبر الشهرستاني تجويز الخوارج للإمامة في غير قريش من بدعهم التي خرجوا من أجلها في الزمن الأول، فبعد أن ذكر خرافتهم في القول بالاستغناء عن الإمام قال مصوراً رأيهم: "وإن احتيج إليه فيجوز أن يكون عبداً أو حراً أو نبطياً أو قرشياً" (7).وقال ابن حزم: " وذهبت الخوارج كلها وجمهور المعتزلة وبعض المرجئة إلى أنها جائزة في كل من قام بالكتاب والسنة قرشياً كان أو عربياً أو ابن عبد" (8).   (1) ((آراء الخوارج)) (ص 121). (2) ((أهم الفرق الإسلامية)) السياسية والكلامية (ص 12). (3) ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص 129، 130). (4) ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص 126). (5) ((الخلافة والخوارج)) في المغرب العربي (ص 14). (6) ((المقالات)) (1/ 204). (7) ((الملل والنحل)) (1/ 116). (8) ((الفصل)) (4/ 89). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 480 وهذا الرأي قد قام به قدماء المعتزلة أيضاً فيما يرويه ابن أبي الحديد بقوله: "وقد اختلف الناس في اشتراط النسب في الإمامة، فقال قوم من قدماء أصحابنا - يعني المعتزلة -: إن النسب ليس بشرط فيها أصلاً وإنها تصلح في القرشي وغير القرشي، إذا كان فاضلاً مستجمعاً للشرائط المعتبرة، واجتمعت الكلمة عليه وهو قول الخوارج" (1).ويقول ابن حجر: "وقالت الخوارج وطائفة من المعتزلة، يجوز أن يكون الإمام غير قرشي وإنما يستحق الإمامة من قام بالكتاب والسنة سواء أكان عربياً أو أعجمياً" (2).ولهذا فهم كما يذكر تسموا بالخلفاء لأنهم لا يعتبرون القرشية شرطاً في الخلافة كما ينص على هذا بقوله: " إن الخوارج في زمن بني أمية تسموا بالخلافة واحداً بعد واحد ولم يكونوا من قريش" (3).وهذا بناء على أن " الخلافة حق لكل مسلم وغايتها إقامة الأحكام" (4). أما رأي الإباضية في اشتراط قرشية الإمام فهو لا يخرج عن رأي عامة الخوارج في عدم اشتراط هذا الشرط وعدم ارتباطها بجنس أو لون أو أسرة أو قبيلة، بل المدار في من يصلح لها أن يكون كفئاً في دينه وخلقه وعلمه وعقله، فإذا وجد عدد من الناس فيهم هذه الكفاءة أمكن حينئذ النظر إلى ناحية الجنس وغيره من أسباب المفاضلة. وهذا ما يقوله علي معمر، ومثله الحارثي الإباضي عن الخلافة أنها: " لا يمكن أن تخضع لنظام وراثي ولا أن ترتبط بجنس أو قبيلة أو أسرة أو لون، إنما يجب أن يشترط فيها الكفاءة المطلقة، الكفاءة الدينية والكفاءة الخلقية والكفاءة العلمية والكفاءة العقلية، فإذا تساوت هذه الكفاءات في مجموعة من الناس أمكن أن تجعل الهاشمية أو القرشية أو العروبة من أسباب المفاضلة، أو من وسائل الترجيح أما في غير ذلك فليس لها حساب" (5). ونحو هذا عند السالمي. ويقول علي معمر أيضاً: " ولم يكن الإباضية أو الخوارج هم أول من قال بهذا، وإنما سبقتهم إليه كبار الصحابة عندما ناقشوا أول خليفة في الإسلام"، واستدل المؤلف على هذا بالأدلة الآتية: 1 - قول الأنصار يوم السقيفة: " منا أمير ومنكم أمير"؛ إذ لم يكن الأنصار يعرفون أنه يجوز أن يتولى الإمارة غير قرشي لما قالوا ذلك، ولكن هذا الدليل يتطرق إليه ضده وهو احتمال أن يكونوا قالوا هذا القول قبل أن يعرفوا النص الذي يثبت الخلافة في قريش ولهذا فقد رجعوا إلى رشدهم حين بين لهم أبو بكر هذه المسألة. 2 - من أدلتهم أيضاً قول عمر رضي الله عنه: " لو كان سالم مولى حذيفة حياً لبايعته"؛ فلو كان غير القرشي لا يصح أن يتولى لما قال ذلك، وقد أجيب عن هذا وما في معناه مما ورد على لسان عمر رضي الله عنه باحتمالين ذكرهما ابن حجز وهما:   (1) ((شرح نهج البلاعة)) (9/ 87). (2) ((فتح الباري)) (13/ 118). (3) ((فتح الباري)) (13/ 119). (4) ((تاريخ الفكر العربي)) (ص 207). (5) ((الإباضية في موكب التاريخ)) (ص 63)، وانظر: ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص 129)، وانظر: ((العقود الفضية)) (ص 290). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 481 1 - إما أن يكون الإجماع انعقد بعد عمر على اشتراط أن يكون الخليفة قرشياً. 2 - وإما أن يكون قد تغير اجتهاد عمر في ذلك (1).3 - استنتجوا من قول أبي بكر رضي الله عنه – أن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش – بأن هذا تعليل لطاعة العرب لهم فإذا تغير الحال تغير موضع الاختيار (2)، وهكذا عللوه مع أنه ظاهر في أحقية قريش بالخلافة وهذا ما فهم منه الصحابة المهاجرون منهم والأنصار بدليل تسليمهم بالطاعة لأبي بكر رضي الله عنه حينما بين لهم هذا الدليل. وهذا القول عليه أكثر المعتزلة كما يذكر ابن أبي الحديد ذلك بقوله: " وقال أكثر أصحابنا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الأئمة من قريش)) (3) أن القرشية شرط إذا وجد في قريش من يصلح للإمامة، فإن لم يكن فيها من يصلح فليست القرشية شرطاً فيها" (4).ولا يخفى أن دعوى الخوارج استحقاق الخلافة لمن كان أهلاً لها من أي طبقة كان – هذه الدعوى قد اجتذبت بعض الموالي والعجم متطلعين إلى الخلافة، ومن الدلائل على ذلك أنه لما اشتد النزاع بين الخوارج انفصل قسم كبير منهم عن قطري وولوا عليهم عبد ربه الصغير وكان أكثرهم من الموالي والعجم، وكان سبب انفصالهم هذا أنهم طلبوا من قطري أن يعزل المقعطر، " فأبى قطري أن يعزله فقال له القوم: إنا خلعناك وولينا عبد ربه الصغير، فانفصل إلى عبد ربه أكثر من الشطر وجلهم الموالي والعجم وكان هناك منهم ثمانية آلاف وهم القراء" (5). ولنا أن نتساءل هل كان الخوارج صادقين في قولهم إن الإمامة حق مشاع لكل من كان كفئاً لها؟ وهل وصل أحد من الموالي إلى الحكم مصداقاً لهذه النظرية على كثرة عدد الموالي الذين كانوا في تلك الحروب مع الخوارج؟ والواقع أن الخوارج وإن نادوا بتلك الشعارات البراقة كانوا في غاية العصبية للعروبة، وكان أكثرهم من ربيعة وكانت تلك العصبية ظاهرة فيهم، فإن تولى أحد الموالي ولاية، فإنما هي حالة طائرة أملتها الظروف ريثما ينتخبون عربياً مكانه كما وقع لأبي طالوت وثابت التمار وغيرهما من الموالي. يقول عبدالرحمن النجم: " وقد انضم إلى الخوارج عدد من الموالي واشتركوا في الثورات التي قامت ضد الحكم الأموي، ووصل بعضهم إلى مركز الرئاسة ومنهم أبو طالوت سالم بن مطر الذي قاد الحركة في مراحلها الأولى في اليمامة، وثابت التمار الذي اختاره الخوارج رئيساً لهم بعد عزل نجدة ولكنه خلع بسرعة" (6). وقد أرجع النجم هذه السرعة في عزله إلى العصبية التي كانت مستعرة بين عرب الخوارج (7). وقد رد كثير من العلماء على الخوارج رأيهم في جواز تولي الإمامة من غير قريش بناء على الأحاديث الواردة في أحقية قريش بالخلافة، وهذه الأحاديث منها ما جاء خبراً مطلقاً عن الخلافة أنها في قريش، ومنها ما جاء مقيداً بشرط.   (1) انظر: ((فتح الباري)) (13/ 119). (2) انظر: ((الإباضية بين الفرق)) (ص 464). (3) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (4/ 26)، والحاكم (4/ 85). من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والحديث حسنه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 472)، وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (2757): صحيح. (4) ((شرح نهج البلاغة)) (9/ 87). (5) ((الكامل)) للمبرد (2/ 237). (6) ((البحرين في صدر الإسلام)) (ص 133). (7) ((البحرين في صدر الإسلام)) (ص 137). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 482 أما الأحاديث المطلقة فمنها: 1 - جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان)) (1).2 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الناس تبع لقريش في هذا الشأن؛ مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم)) (2).3 - حديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الناس تبع لقريش في الخير والشر)) (3).فهذه هي الأحاديث العامة، وقد ورد ما يقيد عمومها باستقامة قريش على الدين والمحافظة عليه كما جاء في حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أنه قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين)) (4). وقد أورد ابن حجر رحمه الله روايات عدة في حصر الخلافة في قريش ثم استشهد بكلام العلماء في هذا الباب، ومنه قول القرطبي: " هذا الحديث - يشير إلى حديث: " ما بقي منهم اثنان" المتقدم - خبر عن المشروعية أي لا تنعقد الإمامة الكبرى إلا لقريش مهما وجد منهم أحد".   (1) رواه البخاري (3501). (2) رواه البخاري (3495)، ومسلم (1818). (3) رواه مسلم (1819). (4) رواه البخاري (3500). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 483 وقال القاضي عياض: " اشتراك كون الإمام قرشياً مذهب العلماء كافة، وقد عدوها في مسائل الإجماع ولم ينقل عن أحد من السلف فيها خلاف وكذلك من بعدهم في جميع الأمصار".ولكن ابن حجر يذكر أنه لا يتم القول بالإجماع إلا بتأويل ما ورد عن عمر رضي الله عنه في إرادته جعل الخلافة في معاذ بن جبل وهو أنصاري ليس من قريش، وذلك في قوله: (إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حي استخلفته ... فإن أدركني أجلي وقد مات أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل) – فأجاب ابن حجر عن دعوى الإجماع هذه التي ذكرها القاضي بأنه: " لعل الإجماع انعقد بعد عمر على اشتراط أن يكون الخليفة قرشياً أو تغير اجتهاد عمر في ذلك" (1).وقد ذكر الإجماع على حصر الخلافة في قريش النووي، فقال بعد ذكره للأحاديث الدالة على ذلك: "هذه الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر أن الخلافة مختصة بقريش لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة فكذلك بعدهم، ومن خالف فيه من أهل البدع أو عرض بخلاف من غيرهم فهو محجوج بإجماع الصحابة والتابعين فمن بعدهم بالأحاديث الصحيحة " (2).وقال أيضا: "ولا اعتداد النظام ومن وافقه من الخوارج وأهل البدع أنه يجوز كونه من غير قريش" (3).ويذكر البغدادي أن من أصول السلف أنهم " قالوا من شرط الإمامة النسب من قريش" (4).ويؤكد هذا المعنى أيضاً ابن حزم الأندلسي فيقرر عن عدد من الفرق الإسلامية أنهم يرون وجوب جعل الإمامة في قريش في ولد فهر بن مالك، وأن من هذه الفرق فرقة أهل السنة فقال: "ثم اختلف القائلون بوجوب الإمامة على قريش؛ فذهب أهل السنة وجميع الشيعة وبعض المعتزلة وجمهور المرجئة إلى أن الإمامة لا تجوز إلا في قريش خاصة من كان ولد فهر بن مالك ... " (5).ثم قال: " فصح أنه ليس يجوز البتة أن يوقع اسم الإمامة مطلقاً ولا اسم أمير المؤمنين إلا على القرشي لجميع أمور المؤمنين كلهم أو الواجب له ذلك وإن عصاه كثير من المؤمنين ... وكذلك اسم الخلافة بإطلاق لا يجوز أيضاً إلا لمن هذه صفته" (6).وقد جعل الشيخ أبو عبد الله محمد بن علي الحنبلي الأحاديث التي وردت في استحقاق قريش الخلافة بأنها تدل على أن قريشاً يشتركون جميعهم في استحقاقها؛ حيث قال: " من الأحكام ما تشترك فيه قريش كلها نحو الإمامة الكبرى" (7).ومع ما ورد من الأحاديث في هذا المقام وأقوال العلماء فإن الخوارج لم يبعثوا بذلك، يقول الدكتور عزت عطية: "وأما الخوارج فلم يبعثوا بالنصوص والأخبار الواردة في ذلك وتمسكوا ببدعتهم" (8). ولا شك أن الخوارج أو بعضهم قد سمع ما قيل في يوم السقيفة إذ أن هذا الموقف كان معروفاًً في ذهن كل واحد، فإنه لازال طرياً في مسامع الناس حين خرج الخوارج على علي، فيبعد أن لا يسمع أحد منهم بما روي هناك من أن الأئمة في قريش. ويقول ابن حجر مبطلاً احتجاج من احتج بتولية الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة وأسامة وغيرهم على أن الخلافة غير لازمة في قريش – بقوله: " وأما ما احتج به من لم يعين الخلافة في قريش من تأمير عبدالله بن رواحة وزيد بن حارثة وأسامة وغيرهم في الحروب، فليس من الإمامة العظمى في شيء، بل فيه أنه يجوز للخليفة استنابة غير القرشي في حياته" (9).   (1) ((فتح الباري)) (13/ 119). (2) ((شرح النووي)) على مسلم (12/ 200). (3) ((شرح النووي)) على مسلم (12/ 200). (4) ((الفرق بين الفرق)) (ص 349). (5) ((الفصل)) (4/ 89). (6) ((الفصل)) (ص 90). (7) ((مختصر الفتاوى المصرية)) (ص 566). (8) ((البدعة)) (ص 409). (9) ((فتح الباري)) (13/ 119). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 484 ولنا أن نتساءل هل شرط القرشية على إطلاقه؟ وهل الأحاديث الواردة في ذلك دالة على الوجوب مطلقاً أم أن هناك احتمالات أخرى في الموضوع؟ قبل الإجابة على هذا التساؤل نورد ما ذكره ابن حجر من أن الأحاديث التي وردت في استحقاق قريش الخلافة جاءت على ثلاثة أوجه وهي:1 - وعيدهم باللعن إذا لم يحافظوا على المأمور به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((الأمراء من قريش ما فعلوا ثلاثاً: ما حكموا فعدلوا، واسترحموا فرحموا، وعاهدوا فوفوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله)) (1). قال ابن حجر: وليس في هذا ما يقتضي خروج الأمر عنهم.2 - وعيدهم بأن يسلط عليهم من يبالغ في أذيتهم لقوله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر قريش إنكم أهل هذا الأمر ما لم تحدثوا، فإذا غيرتم بعث الله عليكم من يلحاكم كما يلحى القضيب)) (2). يقول ابن حجر: " وليس في هذا أيضاً تصريح بخروج الأمر عنهم وإن كان فيه إشعار به ".3 - الإذن في القيام عليهم وقتالهم، والإيذان بخروج الأمر عنهم لقوله صلى الله عليه وسلم: ((استقيموا لقريش ما استقاموا لكم، فإن لم يستقيموا فضعوا سيوفكم على عواتقكم فأبيدوا خضراءهم، فإن لم تفعلوا فكونوا زارعين أشقياء)) (3). وهذا الحديث صريح في جواز الخروج عليهم عندما ينطبق عليهم حكمه وهو عدم استقامتهم؛ إذ أنهم حينئذ كغيرهم من أهل الضلال عندما انتفى عنهم موجب تقديمهم وهو لزوم شرع الله ولا يلتفت إلى نسبهم. ولعل هذا هو ما يمكن أن يكون المدار الذي تجتمع عليه الأحاديث بحيث يقال إنهم أولى بالإمامة من غيرهم إذا كانوا صالحين، وإن كان في المجتمع غيرهم من أهل الصلاح، وأما إذا لم يكونوا كذلك وكان غيرهم أصلح منهم وجب تولية الصالح حيث لم يأمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بتولية غير الصالحين من قريش أو من غيرهم. والأمر بين في هذا لولا أن الخوارج غلب عليهم الحقد واتباع ما تهوي أنفسهم فأنفوا من الرجوع إلى ما تقتضيه الأحاديث من أولوية قريش إذا كانوا صالحين وحكموا بالأولوية لغير قريش. ولا ينبغي جحد فضل قريش وميزتهم على غيرهم عند صلاحهم، فقد وردت أحاديث كثيرة في بيان ذلك ويكفيهم فضلاً اختيار الله لرسوله منهم. ويشهد لما ذهبنا إليه في مدى اشتراط القرشية في الإمام ما انتهى إليه اجتهاد الشيخ أبي زهرة رحمه الله في هذا الأمر، فقد جمع بين الأحاديث التي توجب طاعة ولي الأمر مهما كان جنسه وإن كان عبداً حبشياً، وبين قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن هذا الأمر في قريش)) (4). وغيره من الأحاديث - بأن "النصوص في مجموعها لا تستلزم أن تكون الإمامة في قريش وأنه لا تصح ولاية غيرهم، بل إن ولاية غيرهم صحيحة بلا شك، ويكون حديث ((الأمر في قريش)) من قبيل الإخبار بالغيب كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الخلافة بعدي ثلاثون ثم تصير ملكاً عضوضاً)) (5)، أو يكون من قبيل الأفضلية لا الصحة)) (6). المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص408   (1) رواه أحمد (4/ 421) (19797)، وأبو يعلى (6/ 323). من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 187): رواته ثقات. وقال العراقي في ((محجة القرب)) (188): صحيح. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 196): رجاله رجال الصحيح خلا سكين بن عبد العزيز وهو ثقة. وحسنه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 478). وقال الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2189): صحيح لغيره. (2) رواه أحمد (1/ 458) (4380)، وأبو يعلى (8/ 438). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 195): رجال أحمد رجال الصحيح، ورجال أبي يعلى ثقات. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1552): وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. (3) رواه أحمد (5/ 277) (22442)، والطبراني في ((الأوسط)) (8/ 15) وفي ((الصغير)) (1/ 134). من حديث ثوبان رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 195): رواه الطبراني في ((الصغير))، و ((الأوسط)) ورجال الصغير ثقات. وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/ 125): رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعا وله شاهد. وضعفه الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (1643). (4) رواه البخاري (3500). (5) رواه أبو داود (4646)، والترمذي (2226)، وأحمد (5/ 221) (21978)، والبيهقي (8/ 159). من حديث سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الترمذي: هذا حديث حسن قد رواه غير واحد عن سعيد بن جهمان ولا نعرفه إلا من حديث سعيد بن جهمان. وقال ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (1/ 113): محفوظ من حديث سفينة. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (5/ 92) – كما أشار لذلك في المقدمة -. وصححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (459). (6) ((تاريخ المذاهب)) (1/ 91). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 485 المطلب الرابع: محاسبة الإمام والخروج عليه يرى الخوارج أن الإمام هو المثل الأعلى، ولهذا فيجب أن يكون متصفاً بذلك قولاً وفعلاً، فإن خطأه ليس كخطأ غيره من الناس، فإذا أخطأ خطيئة ما يجب فوراً محاسبته والخروج عليه، فإما أن يعتدل وإما أن يعتزل ولو أدى هذا إلى قتله؛ فإنه حق مشروع لهم حينئذ. وهكذا يعيش الإمام عندهم بين فكي الأسد يحاسب على كل ما يصدر منه محاسبة دقيقة لا تأخذهم فيه لومة لائم فلا طاعة لجائر؛ لأنهم ينكرون الجور أشد الإنكار ولا يعترفون بإمام يعتقدون أنه قد جار في حكمه، قال الأشعري: " ولا يرون إمامة الجائر" (1)، ويحل عليه الخروج عندهم إذا ارتكب ذنباً ولم يتب منه، أو أظهر جور في حكمه، أو كان فيه تقصير عن إقامة الحدود؛ فإن الخروج عليه حينئذ يكون واجباً وقتاله حق واستشهاد، " فهم مشهور بتشددهم وصرامتهم وجرأتهم في محاسبة رؤسائهم" (2).وإشهار السيف في وجهه ووجوه أتباعه من إقامة الدين وإظهاره عالياً؛ لأن الظلمة لا ولاية لهم، ولا تجب طاعتهم؛ فقد قال تعالى: لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124]، وهذا دليل واضح عندهم على وجوب إقصائه عن الحكم إذا ظلم في حكمه أو جار. يقول الشهرستاني في بيانه لموقف الخوارج من الإمام: " وإن غير السيرة وعدل عن الحق وجب عزله أو قتله" (3).ويقول البغدادي فيما يرويه عن الكعبي: إن من الأمور التي أجمعت عليها الخوارج إجماعهم على " وجوب الخروج على الإمام الجائر" (4). وهم كما سبق لا يرون للإمام ميزة إلا إقامة الأحكام الشرعية، ولهذا فمراجعته وانتقاده أمر عادي، ولقد أدت هذه النظرية من سلفهم القديم إلى المغالاة والشطط التي دفعت بذي الخويصرة بغير حق إلى نقد النبي صلى الله عليه وسلم نفسه فيما توهمه ظلماً في توزيع الغنائم. قال ابن حزم في كلامه عن خروج الخوارج على علي ومحاربته وعدم الرضى بخلافته وأن هذا كان بسبب جهلهم وقلة علمهم قال: " ولكن حق لمن كان إحدى يمينه ذو خويصرة الذي بلغ ضعف عقله وقلة دينه إلى تجويره رسول الله في حكمه والاستدراك، ورأى نفسه أورع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا وهو يقر أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، وبه اهتدى وبه عرف الدين، ولولاه لكان حماراً أو أضل" (5).   (1) ((المقالات)) (1/ 204)، وانظر: ((الإسلام والحضارة العربية)) (2/ 62 /63). (2) انظر: ((الطرماح بن حكيم)) (ص 55). (3) ((الملل والنحل)) (1/ 116). (4) ((الفرق بين الفرق)) (ص 73). (5) ((الفصل)) (4/ 157). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 486 فإذا كانت هذه حال سلفهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بمن بعده من الخلفاء؟! ولهذا فهم قلما يثبتون على إمام ويخضعون له خضوعاً تاماً إلا قليلاً، فنتج عن هذا الموقف ثم من المواقف الأخرى، وهو كثرة حروبهم مع مخالفيهم أو مع بعضهم البعض – كثرة أئمتهم. ومن غرائبهم ما يروى عن فرقة العوفية فقد اعتبرت كفر الإمام سبباً في كفر رعيته، وذلك في قولهم: "إذا كفر الإمام فقد كفرت الرعية الغائب منهم والشاهد" (1)؛ لهذا فينبغي أن يحال بينه وبين الحكم عندما يبدو منه أمر مكفر بأي وسيلة كانت، وإلا فقد كفروا هم أيضاً، فلا أشد من هذه المبالغة في تكفير الناس بغير حق، فإذا كفر الإمام بالمشرق فمن أي وجه تكفر رعيته بالمغرب، بل من أي وجه يكفر حتى ولده الذي هو في بيته مادام متمسكاً بالإسلام؟! ومن هذا القبيل ما قاله الملطي حاكياً عن رئيس البيهسية هيصم بن عامر بأنه قد افترى " فزعم أن حكم الإمام بالكوفة حكماً يستحق به الكفر، ففي تلك الساعة يكفر من كان في حكم ذلك الإمام بخراسان والأندلس، وعلى الإمام إذا أبصر كفره فتاب منه أرسل إلى أهل حكمه كلهم يستتيبهم من الكفر وإن لم يشعروا به، فإن أبي أن يتوب منه وقال ما لي أن أتوب مما لا شك فيه ولم أعلم به ضربت عنقه" (2).   (1) انظر: ((المقالات)) (1/ 194، ((الملل والنحل)) (1/ 126، ((الفرق بين الفرق)) (ص 109). (2) ((التنبيه والرد)) (ص 169، ((الفصل)) لابن حزم (4/ 190). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 487 وهذه أحكام خاطئة لا تصدر إلا عن عقول جاهلة بمعاني الشريعة وأحكامها، وعلى هذا فما تراه من كثرة حروبهم وخروجهم على أئمتهم أو أئمة مخالفيهم يعتبر أمراً طبيعياً إزاء هذه الأحكام الخاطئة تجاه الإمام؛ فهو عندهم مراقب مراقبة صارمة لا تغتفر له خطيئته، ولا يقبل له عذر في الخطأ إلا بعد الاعتراف والتوبة، أمام طائفة من المؤمنين. فقد " كان المجتمع الإباضي - كما يقول السالمي - يحرص حرصاً شديداً على مراقبة أئمته طيلة الوقت ... فقد كانت جميع خطواته محسوبة عليه، وغلطة بسيطة غير متعمدة تبدر منه عفواً كانت كافية لإثارة الضجة من حوله، وربما أدت إلى عزله وإن كان الخطأ بسيطاً جداً، فعليه أن يعترف به أمام كبار أعلام المسلمين وأن يطلب المغفرة من الله وأن يتوب إليه، وقد قيل بأن كبار العلماء قاموا بمحاسبة الإمام عزان بن قيس لأنه أرسل إلى بلده الرستاق بعض القطع النحاسية التي كسبوها في المعركة، وقد اعترف بخطئه وطلب المغفرة من الله" (1).ومع أن النص يشير إلى الغلو والتشدد المفرط، إذ أن الخطأ اليسير غير المتعمد يكون كافياً لإثارة الضجة والمداولات العنيفة التي قد تؤدي إلى عزل الإمام وسقوطه، وما يتبع سقوطه من فتن ومخاوف- لا يرى الإباضية أن هذا تشدداً بل هو مثل عليا تمثل عصر الخلفاء الراشدين في بساطتهم وعدلهم، كما يذكر السالمي ذلك عن فرقة الإباضية فيقول: " وبحكم بساطتها وعدم غلوها ومثلها العليا استطاعت أن تعيش حتى يومنا هذا، واستطاعت أن تقيم حكم الإمامة الذي انقطع بموت الخلفاء الراشدين وأن توصل حبله" (2).وإضافة إلى ما ذكره السالمي فيما سبق فإن الأشعري يقول عنهم: " ولكنهم يرون إزالة أئمة الجور ومنعهم أن يكونوا أئمة بأي شيء قدروا عليه، بالسيف أو بغير السيف" (3).ولكننا نجد من علماء الإباضية من ينكر أن يكون من رأيهم وجوب الخروج على الأئمة الجورة، بل من رأيهم جواز الخروج وعدمه، وأيضاً يستثنون من جواز الخروج إذا لم يؤد ذلك إلى فتنة أكبر من فتنة الخروج عليه، وإن نازعهم في صحة هذا الاستثناء بعض الكتاب المحدثين، مثل أحمد صبحي الذي اعتبر قول الإباضية المتأخرين وخصوصاً علي يحيى معمر بأنه يجوز الخروج إذا لم يؤد ذلك إلى فتنة أكبر- أنه لم يكن من آراء الخوارج الأصلية – بما فيهم الإباضية واتهم علي يحيى معمر بتقريب مذهب الإباضية إلى مذهب الأشعرية القائلين بهذا التحفظ (4). ولكننا نجد نصوصاً كثيرة من علماء الإباضية تشهد لما ذهب إليه علي يحيى من جواز الخروج على الأئمة ما لم تكن فتنة أكبر. قال أبو يعقوب الوارجلاني: " وأجزنا الخروج عليهم والكون معهم، فإن خرجنا عليهم قاتلناهم حتى نزيل ظلمهم على البلاد والعباد، وإن لم نخرج عليهم ورضينا بالكون معهم وتحتهم فجائز لنا" (5).ويقول قطب الأئمة محمد يوسف أطفيش: " ونحن بعد لا نقول بالخروج على سلاطين الجور الموحدين، ومن نسب إلينا وجوب الخروج فقد جهل مذهبنا " (6).ويقول علي يحيى معمر: " يجب على الأمة المسلمة أن تقيم دولة عادلة، فإذا كانت الدولة القائمة جائزة جاز البقاء تحت حكمها وتجب طاعتها في جميع ما لا يخالف أحكام الإسلام، على أنه ينبغي للمسلمين أن يستنيموا على الظلم وإنما ينبغي لهم أن يحاولوا تغيير الحكم إذا كان ذلك لا يسبب في إحداث أضرار جسيمة بالأمة " (7).   (1) ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص 126). (2) ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص 128). (3) ((مقالات الأشعري)) (1/ 204). (4) ((الإباضية بين الفرق)) (ص 456). (5) نقلاً عن ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص 289). (6) نقلاً عن ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص 291). (7) ((الإباضية بين الفرق)) (ص 292). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 488 ويقول أبو يعقوب الوارجلاني أيضاً: " اعلم يا أخي أن مذهب أهل الدعوة في الخروج على الملوك والظلمة والسلاطين الجورة جائز وليس كما تقول السنية أنه لا يحل الخروج عليهم ولا قتالهم، بل التسليم لهم على ظلمهم أولى. قالوا: وقد اختلف الأئمة في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: قول أهل الدعوى أنه جائز الخروج عليهم وقتالهم ومناصبتهم والامتناع من إجراء أحكامهم علينا إذا كنا في غير حكمهم، وأما إذا كنا تحت حكمهم فلا يسعنا الامتناع في كثير من أحكامهم، وإن أردنا الشراء والخروج جاز لنا" (1).ويقول الثعاريتي عن الإمام: " وللأمة عزله بموجب كأن يقع منه ما يخل بأمور المسلمين، فإن أدى عزله إلى الفتنة ارتكب أخف الضررين" (2). وبعد فهل كان الخوارج فيما ذهبوا إليه من وجوب الخروج على الحكام – هل كانوا فيه على صواب أم على خطأ؟ وذلك بالاستناد إلى ما ورد من نصوص واضحة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقبل إيراد بعض تلك النصوص نقول: إنه لا يخفى على أحد مقدار الخسارة التي تلحق بالأمة حين يخرج بعض الناس على الإمام الشرعي، ويؤيده البعض الآخر وما ينتج عن هذا من تشتت الكلمة ودخول الأهواء في كل أمر، وتعاظم الحقد في صدور الناس وسفك الدماء المستحقة والبريئة على حد سواء من جراء تلك الفتن الأهلية، كما وقع ذلك في كل وقت من الأوقات التي يغلب فيها الجهل على العلم والظلم على العدل ولهذا فقد حث الإسلام على الوحدة واجتماع الكلمة. يقول الله تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران: 103]، ويقول الله تعالى آمراً عباده بالتعاون فيما بينهم على الخير واجتناب الشر: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2]. وقد أمر الله بطاعة أولي الأمر إذ أنه لابد لكل مجتمع من وال لأمرهم يكون مرجعاً في قضاياهم، وإلا لفسد الأمر واختل النظام ووقعت الفوضى وبطل تنفيذ شرع الله، فلهذا أوجب طاعتهم التامة بعد أن أمر بطاعته هو جل وعلا وطاعة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [النساء: 59] والولاة من أولي الأمر. وقد وردت عدة أحاديث تشير إلى وجوب طاعة أولي الأمر وتحريم الخروج عليهم، ومنها: 1 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني)) (3)، أي أنه اعتبر طاعة الأمير كأنها طاعة له وعصيانه كأنه عصيان له.2 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)) (4)؛ فقد أوجب صلى الله عليه وسلم طاعة الأمير مهما كان جنسه أو لونه أو منزلته عند الناس، ما دام أنه قد نصب أميراً شرعياً على الأمة.3 - قال صلى الله عليه وسلم في التحذير من مفارقة الجماعة بالخروج على الإمام: عن ابن عباس يرويه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية)) (5).   (1) ((الإباضية بين الفرق)) (ص 458). (2) ((الإباضية بين الفرق)) (ص 485). (3) رواه البخاري (7137)، ومسلم (1835). (4) رواه البخاري (693). (5) رواه البخاري (7054)، ومسلم (1849). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 489 والأحاديث في هذا الباب كثيرة كلها توجب طاعة أولي الأمر لتتم وحدة الأمة ويقوم كيانها به، على أنه وإن تظاهرت الأحاديث بطاعة أولي الأمر والرضا بحكمهم، إلا أن تلك الطاعة ليست على إطلاقها فقد قيدت طاعة الحاكم بما إذا كان ملتزماً لحكم الله غير آمراً بالمعصية، أما إذا كان بخلاف ذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية خالقه تعالى. يقول صلى الله عليه وسلم: ((السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) (1).4 - عن علي رضي الله عنه قال: ((بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية وأمّر عليهم رجلاً من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه، فغضب عليهم وقال: أليس قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني قالوا: بلى، قال: عزمت عليكم لما جمعتم حطباً وأوقدتم ناراً ثم دخلتم فيها، فجمعوا حطباً فأوقدوا فلما هموا بالدخول فقام ينظر بعضهم إلى بعض فقال بعضهم: إنما تبعنا النبي صلى الله عليه وسلم فراراً من النار أفندخلها؟! فبينما هم كذلك إذ خمدت النار وسكن غضبه، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها أبداً، إنما الطاعة في المعروف)) (2). وهذا اللفظ في البخاري وقد أورد مسلم عدة روايات في مثل هذا المعنى، وهي واضحة في عدم طاعتهم في المعصية المحرمة. إلا أنه لا ينبغي أن يفهم منها أنه بمجرد ارتكاب الحاكم المعصية يباح الخروج عليه كما ترى ذلك الخوارج، إذ أن المعاصي لا يمكن أن يخلو عنها بشر، فإذا أبيح الخروج على الحاكم لأنه عصى سترتكب حينئذ من المعاصي أضعاف ما ارتكب، إضافة إلى أن خلفه الذي سينصب لابد وأن يعصي معصية ما فيفضي ذلك إلى الفوضى وارتكاب المنكرات فيضعف الدين، وتبطل حكم التشريع الربانية. فلا يجوز الخروج على الحكام ما داموا ملتزمين بالشريعة محافظين على الصلاة وسائر شعائر الإسلام، إلا أن يظهروا كفراً بواحاً فيه دليل لنا عليه من كتاب الله وسنة نبيه، أو أن يأمروا الناس بترك شعيرة من شعائر الإسلام كالصلاة أو الحج وغيرهما من شعائر الإسلام، أو يأمرونهم بفعل المعاصي. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص422   (1) رواه البخاري (7144)، ومسلم (1839). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (2) رواه البخاري (7145)، ومسلم (1840). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 490 المطلب الخامس: رأي الخوارج في إمامة المفضول اختلف الخوارج في صحة إمامة المفضول مع وجود الفاضل إلى فريقين: ذهب فريق منهم إلى عدم الجواز، وأن إمامة المفضول تكون غير صحيحة مع وجود الأفضل. وذهب الفريق الآخر منهم إلى صحة ذلك، وأنه تنعقد الإمامة للمفضول مع وجود الأفضل، كما هو الصحيح (1). اختلف الخوارج في صحة إمام المفضول مع وجود الفاضل إلى فريقين متقابلين: 1 - فذهب الفريق الأول منهم إلى عدم الجواز وأن إمامة المفضول تكون غير صحيحة مع وجود الأفضل.2 - وذهب الفريق الآخر منهم إلى صحة ذلك وأنه تنعقد الإمامة للمفضول مع وجود الأفضل، وفي هذا يقول أبو محمد بن حزم: " ذهبت طوائف من الخوارج، وطوائف من المعتزلة، وطوائف من المرجئة، منهم محمد بن الطيب الباقلاني ومن اتبعه وجميع الرافضة من الشيعة إلى أنه لا يجوز إمامة من يوجد في الناس أفضل منه. وذهبت طائفة من الخوارج وطائفة من المعتزلة وطائفة من المرجئة وجميع الزيدية من الشيعة وجميع أهل السنة إلى أن الإمامة جائزة لمن غيره أفضل منه " (2).والإباضية من هذا الفريق الثاني الذي يجوز إمامة المفضول مع وجود الفاضل، قال الثعاريتي الإباضي: " وتجوز (أي الإباضية) إمامة المفضول مع وجود الفاضل خلافاً لقوم كالإمامية، هذا ما عليه أصحابنا وهو بعينه مذهب الأشاعرة " (3).ومن هنا فإن الطالبي لم يكن دقيقاً عندما أطلق الحكم بأن الخوارج بصفة عامة لا يجيزون إمامة المفضول مع وجود الفاضل، عندما قال: " ولا يجوز عند الخوارج أن، يتولى الإمامة شخص مفضول إذا وجد من هو أفضل منه" (4). فقد تبين لنا مما سبق من كلام ابن حزم والثعاريتي أن بعضهم يجيز ذلك. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص430   (1) ((الفصل)) لابن حزم (4/ 163)، ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص462)، ((آراء الخوارج)) لعمار الطالبي (128). (2) ((الفصل)) (4/ 163). (3) نقلاً عن ((الإباضية بين الفرق)) (ص 462). (4) ((آراء الخوارج)) (ص 128). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 491 المطلب السادس: رأي الخوارج في إمامة المرأة إمامة المرأة: الإمامة مسئولية عظمى وعبء ثقيل يتطلب سعة الفكر وقوة البصيرة ورباطة الجأش، ويتطلب أيضاً مزايا عديدة جعل الله معظمها في الرجال دون النساء، ولقد علم بالضرورة أن الخلفاء والقواد العظام الذين سطرت لهم الصفحات البيضاء في التاريخ كان معظمهم من الرجال، ولا أدل على هذا من اختيار الله جل وعلا لرسالته والتبليغ عنه ممن علم فيه الكفاءة والكمال وذلك من جنس الرجال فقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً [الأنبياء: 7]، وما ذاك إلا لما يعلم من تحمل الرجال لمتاعب المسؤولية العظمى وما أودعه في تركيبهم من أسرار. وقد أطبق جميع العقلاء على أن الخلافة لا يصلح لها النساء، وقد روي ابن حزم في قوله الآتي اتفاق جميع المسلمين على عدم جواز تولي المرأة الإمامة العظمى فقال: "قال أبو محمد: وجميع فرق أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة المرأة " (1).ولكن نجد فرقة من فرق الخوارج وهي الشبيبة كان لها تأثير بالغ في محاربة جيش الخلافة وانتصارهم عليه مرات عديدة – تذهب إلى جواز تولي المرأة الإمامة العظمى، وذلك أن شبيب بن يزيد الشيباني زعيم هذه الطائفة كان في جيش صالح بن مسرح الذي ثار على الخلافة الأموية في زمن عبد الملك بن مروان، فقابله جيش الخلافة على باب حصن جلولا فانهزم صالح جريحاً، فلما أشرف على الموت استخلف شبيباً هذا فأحدث في زمنه القول بجواز تولي المرأة الإمامة العظمى فيذكر عنه البغدادي: " إنه مع أتباعه أجازوا إمامة المرأة منهم إذا قامت بأمورهم وخرجت على مخالفيهم، وزعموا أن غزالة أم شبيب كانت الإمام بعد قتل شبيب إلى أن قتلت، واستدلوا على ذلك بأن شبيباً لما دخل الكوفة أقام أمه على منبر الكوفة حتى خطبت" (2). وهنا يسجل العلماء على هذه الفرقة تناقضهم واتباعهم الهوى في انتقادهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين خرجت تطالب بدم عثمان أول الأمر مجتهدة فتأولوا عليها قول الله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب: 33]، فقالوا إنها خالفت ما أمرها الله به من الستر والحجاب والقرار في البيت، فإذا كانوا ينتقدون خروج عائشة وهي مع محرمها محجبة تقية، فكيف أجازوا لنسائهم تولية الإمامة العظمى والخروج على الحكام يحاربن معهم في ميادين القتال، فقد كانت نساؤهم – كما ذكرنا في خصائصهم – يقلدن السيوف ويركبن ظهور الخيل ويحضرن المعارك ويبارزن الشجعان حتى اشتهرن بتلك الصفات. وعائشة رضي الله عنها خرجت مع جندها الذي كل واحد منهم محرم لها، لأنها أم جميع المؤمنين بنص القرآن، ولم تخرج لطلب الإمامة العظمى، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن المرأة بأنها ناقصة عقل ودين، فكيف يجوز إلقاء مصير الأمة على عاتق امرأة واحدة لا تقبل شهادتها بمفردها على رغم أنوف دعاة المرأة إلى الخروج عن قانونها الذي جعلها الله فيه، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) (3). المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص432   (1) ((الفصل)) (4/ 110). (2) ((الفرق بين الفرق)) (ص 110 – 111). (3) رواه البخاري (4425). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 492 المطلب السابع: الفرق بين الخوارج والشيعة في الإمامة وإذا أردنا أن نقارن بين آراء الخوارج والشيعة في الإمامة نجد أن بينهم بوناً شاسعاً في هذه القضية كما نتبين ذلك فيما يأتي: 1 - فالخوارج منهم من يقول بالاستغناء عن الإمام، والشيعة على العكس ترى أن وجود إمام من آل البيت أصل من أصول الدين. 2 - الإمامة عند الخوارج حق مشاع بين كل طبقات المجتمع إذا وجد الكفء، بينما الشيعة تحصر الخلافة في علي ونسله من بعده. 3 - الخوارج لا تقول بعصمة الأئمة والشيعة تدعى عصمتهم.4 - لا يعتقد الخوارج رجعة أحد أئمتهم، والشيعة تعتقد رجعة الإمام المنتظر، والقول بعدم رجعة أحد هو قول عامة الخوارج إلا فرقة شذت عنهم تسمى الخلفية ورئيسهم يسمى مسعود بن قيس، ففي أثناء محاربة حمزة بن أكرك لهذه الفرقة وهزيمتها هرب مسعود بن قيس فغرق في واد ومات غريقاً، إلا أن طائفته لم تصدق بموته واعتقدوا رجعته، وصاروا ينتظرونه (1) انتظار الشيعة للإمام المنتظر الذي يسألون له الرجوع وتعجيل الخروج في كل لفظة يذكر فيه المهدي ويرمزون لذلك بحرفي " عج".5 - يرى الخوارج جواز الخروج مع أي شخص كان مادام مستقيماً على الحق، بينما الشيعة يرون أنه لا يجوز الخروج على مخالفيهم إلا مع وجود الإمام الحق، وبدونه لا يجب ولا يلزم بل هو إضرار بالغير، ولا صحة لإمامة من ليس من أهل البيت، فمتى وجد هؤلاء جاز الخروج معهم على الحكام الجائرين وبدونهم لا يجوز (2).6 - التقية عند الشيعة واجبة ويحضون على التزامها دائماً وخصوصاً عندما تقتضي الظروف، أما الخوارج فلا مكان لها عند الأزارقة منه ولا مكان للتقية العملية عند الصفرية كذلك، أما الشيعة فإنهم جميعاً يوجبونها، يقول أحمد أمين: " وعلى عكس الشيعة في القول بالتقية الخوارج "، ويقول: " وحياة الشيعة والخوارج السياسية مظهر من مظاهر قولهم في التقية، فالخارجي يعلن الخروج على الإمام في صراحة ولو كان وحده " (3). 7 - يرى الزيدية من الشيعة جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل، وهم بذلك يخالفون معظم الخوارج الذين يمنعون ذلك. وإذا كانت هذه الفوارق تمثل اختلافاً حاداً بين الخوارج والشيعة في كثير من مسائل الإمامة، فإن هذا الخلاف لم يكن جديداً فيما بينهم فقد بدأ حاداً في قضية الإمامة منذ أول أمرهم حينما انفصل الخوارج عن الشيعة على عهد الإمام علي رضي الله عنه. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص435   (1) انظر: ((الفرق بين الفرق)) (ص 99). (2) انظر: ((إبانة المناهج)) (ص 166). (3) ((ضحى الإسلام)) (3/ 249). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 493 المبحث السادس: آراء الخوارج في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل عظيم من أصول الدين الإسلامي لا يماري فيه مسلم لوروده في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104]، والآيات في هذا المعنى كثيرة. ويقول صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) (1).وهذا الأمر عام لكل من يصلح له هذا الخطاب، ويقول عليه الصلاة والسلام موجباً – حتى على الجالسين على الطرقات – الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما يرويه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إياكم والجلوس بالطرقات، فقالوا: يا رسول الله ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه، فقالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (2). والأحاديث في هذا الباب كثيرة. وقد اتفق على القول بوجوب تغيير المنكر كل الفرق – وإن اختلف بعضهم عن بعض في الطريقة التي يتم بها – ومنهم الخوارج، يقول ابن حزم في هذا: " وذهبت طوائف من أهل السنة وجميع المعتزلة وجميع الخوارج والزيدية إلى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يكن دفع المنكر إلا بذلك" (3).ويقول القاضي عبدالجبار: " وجملة ما نقول في هذا الموضع أنه لا خلاف بين الأمة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (4). وقد اتفق أهل العلم على أنهما فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الآخرين. يقول الحنبلي في مختصر الفتاوى لابن تيمية: " والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، وكل واحد من الأمة مخاطب بقدر قدرته، وهو من أعظم العبادات" (5).والخوارج – كما قدمنا – كغيرهم من الفرق الإسلامية التي تنادي بإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنهم غالوا في تطبيقه فأوجبوا الخروج تغييراً للمنكر ولو لأدنى سبب وعلى أي حال، حتى ولو كان السبب إهمال الإمام لسنة من السنن مهما كانت، ويقول الشهرستاني: إنهم " يرون الخروج على الإمام إذا خالف السنة حقاً واجباً" (6).ويقول صاحب إبانة المناهج: إن من أصولهم " القول بالخروج على الإمام الجائر" (7)، ويقول فلهوزن: "وتغيير المنكر واجب على كل فرد بلسانه وبيده، وهذا المبدأ إسلامي عام، ولكن تحقيقه بمناسبة وغير مناسبة كان علامة دالة على الخوارج" (8). وسنتبين طريقتهم فيما يأتي من عرض أقوالهم. يقول أول رئيس للخوارج وهو عبد الله بن وهب الراسبي مخاطباً أتباعه حين اجتمعوا في منزله موجباً عليهم القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخروج من أجله: "وما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن وينسبون إلى حكم القرآن أن تكون هذه الدنيا التي إيثارها عناء؛ آثر عندهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقول بالحق، فاخرجوا بنا" (9).   (1) رواه مسلم (49) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (2) رواه البخاري (6229). (3) ((الفصل)) (4/ 171). (4) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص 741). (5) ((مختصر الفتاوى)) (ص 579). (6) ((الملل والنحل)) (1/ 115). (7) ((إبانة المناهج)) (ص 154). (8) ((الخوارج والشيعة)) (ص 41). (9) ((تلبيس إبليس)) (ص 92). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 494 وهذا النص يوضح تمام الوضوح نظرهم إلى فكرة تغيير المنكر وحمل الناس على التزام المعروف كما يريدون، فهو يدعو إلى الخروج المسلح وترك شهوات الدنيا والرغبة في الآخرة وخوض المعارك والاستشهاد في سبيل الله؛ لأجل تغيير المنكرات التي يرونها في مجتمعهم ذلك. والخوارج – وهو ما تميزوا به كما قلنا – أرادوا بإقامة هذا الأمر حمل كافة الناس على قبول آرائهم واعتبار كل شيء لا يوافق ما يعتقدونه منكراً يجب الامتناع عنه، وكانوا يولون ذلك أكبر الاهتمام والمحافظة البالغة على تطبيقه تطبيقاً كاملاً صغر الأمر أو كبر دون هوادة في ذلك مهما كانت النتائج، ولو أدى تغيير المنكر إلى الجهاد الجماعي لمخالفيهم بامتشاق السيف وخوض الحروب، خصوصاً إذا كان المرتكب لذلك المنكر – في نظرهم – أحد حكام المسلمين الذي يمثل بطبيعة وظيفته الخلافة الإسلامية، ويناط به الحكم بما أنزل الله، فإن الخروج عليه أوجب وأولى، وفي هذا يقول أحد علمائهم وهو سليمان ابن عبد الله الباروني أن الشراة هم الذين "اشتروا آخرتهم بدنياهم، بمعنى أنهم تخلوا عن الدنيا وعاهدوا الله على إنكار المنكر والأمر بالمعروف بدون مبالاة ولا خوف من الموت ولو أدى بهم ذلك إلى القتال" (1). وكان زعماؤهم يرددون في كل خطبة لهم على مسامع إخوانهم الخوارج أن تغيير المنكر من الأمور الواجبة عليهم التي لا يعذر الله من قصر في القيام بها؛ نظراً لما شاع في المجتمع من المظالم وإضاعة معالم الدين. يقول حيان بن ظبيان وهو أحد رؤسائهم يخاطب أصحابه: " فانصرفوا بنا رحمكم الله إلى مصر فلنأت إخواننا فلندعهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلى جهاد الأحزاب، فإنه لا عذر لنا في القعود وولاتنا ظلمة، وسنة الهدى متروكة، وثأرنا الذين قتلوا إخواننا في المجالس آمنون" (2).ويقول أيضاً معاذ بن جوين الطائي في "دوافع خروجهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم الإعذار في ذلك: " يا أهل الإسلام إنا والله لو علمنا أنا إذا تركنا جهاد الظلمة وإنكار الجور كان لنا به عند الله عذر لكان تركه أيسر علينا وأخف من ركوبه، ولكنا قد علمنا واستيقنا أنه لا عذر لنا وقد جعل لنا القلوب والأسماع حتى ننكر الظلم ونغير الجور ونجاهد الظالمين" (3).   (1) ((الأزهار الرباضية)) (ص 210). (2) ((تاريخ الطبري)) (ج، 5/ 174). (3) ((تاريخ الطبري)) (5/ 174) وانظر (ص 310)، وانظر ((الكامل)) للمبرد (2/ 179). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 495 ويجري هذا المجرى في بيان دوافع الخوارج للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يقوله صالح بن مسرح مخاطباً جماعته: "ما أدري ما تنتظرون؟! حتى متى أنتم مقيمون؟ هذا الجور قد فشا، وهذا العدل قد عفا، ما تزداد هذه الولاة على الناس إلا غلواً وعتواً وتباعداً عن الحق وجرأة على الرب، فاستعدوا وابعثوا إلى إخوانكم الذين يريدون من إنكار الباطل والدعاء إلى الحق مثل الذي تريدون فيأتوكم فنلتقي وننظر فيما نحن صانعون، وفي أي وقت إن خرجنا نحن خارجون".ويقول شبيب مخاطباً صالح بن مسرح المذكور: " اخرج بنا رحمك الله، فوالله ما تزداد السنة إلا دروساً، ولا يزداد المجرمون إلا طغياناً" (1).فدوافع الخوارج في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما جرت على ألسنتهم دوافع دينية تتمثل في ما بدا لهم من شيوع المنكرات والمظالم بين الناس والحكام ومن اندراس معالم الدين في المجتمع، بل إن نافع بن الأزرق كان يرى أن مخالفيهم كفار يجب جهادهم كجهاد الكفار الذين لم ينطقوا بكلمة الشهادة، فقد جاء في كتابه إلى أهل البصرة قوله يحثهم على الخروج: " والله إنكم لتعلمون أن الشريعة واحدة والدين واحد، ففيم المقام بين أظهر الكفار؟ ترون الظلم ليلاً ونهاراً، وقد ندبكم الله إلى الجهاد" (2) إلخ. ويقول الطبري: " وكانت الخوارج يلقى بعضهم بعضاً ويتذاكرون مكان إخوانهم بالنهروان، ويرون في الإقامة الغبن والوكف وأن في جهاد أهل القبلة الفضل والأجر" (3).وقد بالغوا في حب الجهاد والاستبسال فيه إلى حد وصفه أبو زهرة بأنه هوس واضطراب في أعصابهم وليس مجرد شجاعة كما يرى فيقول: " بل هناك صفات أخرى منها: حب الفدا، والرغبة في الموت والاستهداف للمخاطر من غير داع قوي يدفع إلى ذلك، وربما كان منشؤه هوساً عند بعضهم واضطراباً في أعقابهم لا مجرد الشجاعة " (4).فكانوا إذا دعوا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستعملون في سبيل تحقيقه كل ما لديهم من قدرة، ولا ينظرون إلى العواقب أياً كانت تلك العواقب، وكانوا كما يصفهم أحمد أمين " أشد وأقسى وأعنف، فمتى اعتقدوا الحق في شيء نفذوه بالسيف، ولهذا كان تاريخهم سلسلة حروب وخروج على الخليفة". ويقول أيضاً: " فالواجب في نظر الخوارج يجب أن يفعل ثم لتكن النتيجة ما تكون، وظلوا مخلصين لهذا المبدأ طوال العهد الأموي وصدر الدولة العباسية حتى أبيدوا " (5).وقد اعتبر العلامة ابن القيم هذا الاندفاع والعنف في تحقيق ما يريدون بأنه من تعصب أهل البدع لبدعهم، وأنهم يخرجون بعدهم في قوالب متنوعة بحسب تلك البدع، فيرى أن الخوارج أخرجت استحلال قتال الناس في قالب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك في قوله: " وأخرجت الخوارج قتال الأئمة والخروج عليهم بالسيف في قالب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " (6).   (1) ((تاريخ الطبري)) (5/ 219). (2) ((تاريخ الطبري)) (5/ 174، وانظر (ص 310، ((الكامل)) للمبرد (2/ 179). (3) ((تاريخ الطبري)) (5/ 174). (4) ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (1/ 67). (5) ((ضحى الإسلام)) (3/ 67). (6) ((إغاثة اللهفان)) (2/ 81). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 496 فهو يختلف مع الأستاذ أبي زهرة في تعليل ذلك الاندفاع الذي تميز به الخوارج. وأياً كانت دوافع الخوارج في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد كانوا متحمسين في القياس به مستعملين في ذلك كل ما في إمكانهم من قول وفعل، فقد كانوا يستعملون فصاحتهم وقوة بيانهم لإظهار معايب خصومهم واضحة أمام الناس لإثارة مشاعرهم ضدهم وبالتالي لتهوين الخروج المسلح عليهم بحجة أنهم ظلمة جائرون مرتكبون لما حرم الله من معاص ومنكرات يجب عليهم تغييرها كما يفرضه عليهم الدين، يصفهم صاحب (كتاب الأديان والفرق) بأنهم: " أول من أنكر المنكر على من عمل به، وأول من أبصر الفتنة وعابها على أهلها لا يخافون في الله لومة لائم " (1). وهكذا فقد اعتبروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمراً جماعياً يجب على الكل القيام به في أي وقت وعلى أي حال، كما يشهد بذلك فعلهم. والواقع أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – كما ذكرنا من قبل – أصل من أصول الدين، مجمع على وجوبه بين الأمة لما ورد من نصوص في كتاب الله وسنة نبيه توجب القيام به؛ حفظاً لكيان الأمة من التردي في مسالك الرذيلة، ونصحاً للناس؛ لئلا يصبح المجتمع على اتفاق فيما بينهم على ارتكاب الجرائم وانتهاك الأعراض، فتحل عليهم نقمة الله وغضبه. ومن لطف الله أن جعل وجوبه على الكفاية، إذا قام به من يكفي سقط عن الجميع، وأنه لم يكلف أحداً بهداية أحد بل أوجب تعالى إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعل نتيجة ذلك إليه تعالى وحده؛ لئلا يهن الشخص وييأس من استجابة الناس له؛ فيترك فضيلة القيام الأمر. وقد يخدع الشيطان بعض الناس فيريه أنه هو نفسه على محذور فكيف ينصح الآخرين، وهذا من وساوس الشيطان ومكائده التي يريد بها حصر كل إنسان في نفسه فقط؛ ولهذا فيجب على الشخص أن يدعو إلى ذلك وإن كان على تقصير في نفسه إذ الكمال لله وحده تعالى، ولعل في نهيه لغيره ما يعود عليه بالخير فيرتدع عن كثير مما ينهي الناس عنه حياء من الله. وقد يظن بعض الناس بأن القيام بتلك المهمة إنما يتولاها من كان من أهل السلطة فقط، وهذا خطأ؛ إذ أن الله لم يسند القيام به إلى أحد بخصوصه، سواء كان حاكماً أو محكوماً، أفراداً أو جماعات، فإن كل واحد يتعين عليه القيام بما يعرف من أمر الإسلام؛ لأن هناك منكرات ظاهرة يعرفها كل شخص فلا يعذر بترك الإنكار حين يتعين عليه ذلك بحجة أنه غير عالم. وهناك منكرات قد تخفى على بعض الناس بحيث لم يتبين له الحكم فيها، وهنا يسقط عنه وجوب تغييره، وعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يسير على ما نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق في ذلك؛ حيث جعل لتغيير المنكر مراتب ودرجات وأولها التغيير باليد وهو أجدى الطرق وأحسنها، فإن لم يتيسر ذلك انتقل إلى ذلك إلى الدرجة الثانية وهو التغيير باللسان فحسب أثمر ذلك أم لم يثمر، فإن كان المجتمع قد تشبع بحب الفساد ووصل الحال إلى حد لا يمكن معه الإصلاح باليد أو باللسان؛ انتقل إلى أضعف الدرجات وهو الإنكار بالقلب، وهو إن كان ليس تغييراً للمنكر إلا استشعار للمسؤولية وإنكار على المفسدين حتى يشعروا بأنهم عزلة عن المجتمع الإسلامي، ولابد أن يقلعوا عن فسادهم إذا أرادوا العودة إلى مجتمعهم، ومن ناحية أخرى فإن في الإنكار بالقلب ضمان لعدم تأثر الصالحين بفساد المفسدين. وفيما يتعلق بمسلك الخوارج في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ضوء ما قدمنا من حدود الشريعة؛ فإننا نجد أن الخوارج لا لوم عليهم في مناداتهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما يلامون على ما تميزوا به من اندفاع وتهور في تغيير المنكر على أي حال دون النظر في عواقب الأمور من تحقيق لمصلحة أو دفع لمضرة، فكانوا يمتشقون السيوف بمجرد ظهور أي مظلمة أو ذنب مهما كان، ولهذا فقد ارتكبوا في سبيل تحقيق ذلك أفظع الجرائم وأشنعها، وارتكبوا من المنكرات في إزالة ما يرونه منكراً ما يزيد على أضعافه، وجلبوا من المضار أكثر مما أرادوا النفع، وهذا هو ما يبعد بهم عن هدي الإسلام في إقامة تلك القاعدة الجليلة. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص437   (1) ((كتاب الأديان)) (ص 97). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 497 تمهيد: إن الصراحة في القول والجهر بما تنطوي عليه النفس دون مراعاة أحد أو الخوف منه سواء كان حاكما أو محكوما يتمثل في أوضح صورة لدى الخوارج؛ فهم يرون أن عدم الجهر بالقول الذي يعتقده الشخص حقا ليس من صفات الرجل الواثق من عقيدته، بل هو من صفات المنافقين المرتابين، وقد كانت سيرتهم في الخروج والكفاح مثلا واضحا، لذلك كما رأينا في تاريخنا لحركات الخوارج الثورية وما ذكرناه من أمثلة شجاعتهم وصراحتهم في إعلان الخروج. ولقد كان نافع بن الأزرق أقوى معبر عن ذلك بما ذهب إليه من تحريم التقية وما أقام على ذلك من أدلة، وإن كان هناك من أجازها مطلقا من بعض فرق الخوارج الأخرى مخالفة له في ذلك، ومن توسط في أمرها كما سنبين ذلك فيما بعد. ولقد كان الاختلاف في شأن التقية من الأسباب التي فرقت بين نافع بن الأزرق زعيم الأزارقة وبين نجدة زعيم النجدات وهما من أوائل الخوارج وأشدهم بأسا، قال الشهرستاني مبينا سبب ذلك الاختلاف بينهما: "وكان سبب اختلافهما أن نافعا قال: التقية لا تحل والقعود عن القتال كفر" – إلى أن يقول: "وخالفه نجدة وقال: التقية جائزة" (1). وعلى أساس آراء الخوارج المختلفة في التقية منعا أو تجويزا، تختلف مواقفهم من القعدة منهم بين مخالفيهم على سبيل رفضا لقعودهم أو إقرارا لهم عليه، ولهذا فإننا نبدأ فيما يلي ببيان رأي الخوارج في التقية قبل أن نحدد مواقفهم المختلفة من القعدة. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص447   (1) ((الملل والنحل)) (1/ 125). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 498 أ- القول بعدم جواز التقية وهذا هو رأي الأزارقة، فقد كان نافع بن الأزرق زعيمهم من أشد المبغضين لها ويرى أنها تنافي وجوب الجهاد الذي رفضه الله على المسلمين لقوله تعالى: وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً [التوبة:36]، إذ إن القائل بالتقية لا يمكن أن يندفع إلى قتالهم ما دام يجد ملجأ في التقية وبالتالي فإنه يضعف فيه ذلك العزم والصدق الذي أراده الله من المجاهد، ولذلك فقد "برئوا من أهل التقية" (1) كما قال الأشعري، وبالتالي فلا محل لها عندهم ولا منزلة لها بينهم سواء كانت في الأقوال أو الأفعال. وقد عد الشهرستاني هذا القول من بدعهم وضلالتهم أي قولهم: "إن التقية غير جائزة في قول ولا عمل" (2).ويقول أحمد أمين مقارنا بين الخوارج والشيعة في الأخذ بالتقية: "وعلى عكس الشيعة في القول بالتقية الخوارج فقالوا: لا تجوز بحال من الأحوال ولو عرضت النفس والمال والعرض للأخطار، وحياة الشيعة والخوارج السياسية مظهر من مظاهر قولهم في التقية، فالخارجي يعلن الخروج على الإمام في صراحة ولو كان وحده ويحاربه ولو كان في نفر قليل مهما بلغ عدوه من العدد" (3). وكلام أحمد أمين يصدق على الأزارقة وأصحاب الحركات الثورية من الخوارج، وقد يصدق على غيرهم من الفرق الأخرى التي ترفض التقية وإن لم يروي المؤرخون في ذلك عنهم شيئا بخلاف من يجيزون التقية كالنجدات والصفرية والإباضية وغيرهم ممن سنعرض رأيهم في هذا الفصل. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص448   (1) ((المقالات)) (1/ 173). (2) ((الملل والنحل)) (1/ 122، ((البحرين في صدر الإسلام)) (ص128). (3) ((ضحى الإسلام)) (3/ 249). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 499 ب- القول بجواز التقية قولا وعملا وهو رأي النجدات، قال الشهرستاني فيما يحكيه عن الكعبي: "وحكى الكعبي عن النجدات أن التقية جائزة في القول والعمل كله وإن كان في قتل النفوس" (1). وتحليل النجدات للتقية، والرضى عن القعدة إنما هو لهم، أما أهل الذمة فإنهم لا ينفعهم القول بالتقية، بل يستحلون دماءهم وأموالهم ومن لم يحرمها فهو منهم في منزلة البراءة، وفي هذا يقول الأشعري: "وحكي عنهم أنهم استحلوا دماء أهل المقام وأموالهم في دار التقية وبرئوا ممن حرمها" (2). وهذا بخلاف ما عرف عن الخوارج من تسامح مع أهل الذمة وتواصيهم بهم خيرا في أنفسهم وأموالهم كما اشتهرت بذلك أكثر فرقهم. ومن القائلين بجوازها من الخوارج أيضا: أبو بلال مرداس، الشخصية المثالية المحبوب لدى كل فرقهم، ويتبين تجويزه لها من موقفه مع البلجاء المرأة الخارجية المشهورة بمواقفها العنيدة من ابن زياد، فقد قال لها أبو بلال مشفقا عليها من بطش ابن زياد: "إن الله قد وسع على المؤمنين التقية فاستتري؛ فإن هذا المسرف على نفسه الجبار العنيد قد ذكرك" (3).وممن أجازها أيضا من الفرق الأخرى الإباضية فهي جائزة، بل قد تكون واجبة كما يظهر من الأحاديث التي ذكرها الربيع بن حبيب في مسنده، قال الربيع بن حبيب: "باب ما جاء في التقية. ثم أورد الحديث الآتي: قال جابر: سئل ابن عباس عن التقية فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((رفع الله عن أمتي: الخطأ، والنسيان، وما لم يستطيعوا، وما أكرهوا عليه)) (4). قال: "وقال ابن مسعود: ما من كلمة تدفع عني ضرب سوطين إلا تكلمت بها، وليس الرجل على نفسه بأمين إذا ضرب أو عذب أو حبس أو قيد" (5)، أي وهو يجد خلاصا في الأخذ بالتقية. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص449   (1) ((الملل والنحل)) (1/ 124، ((البحرين في صدر الإسلام)) (ص128). (2) ((الملل والنحل)) (1/ 24). (3) ((الكامل)) للمبرد (2/ 154). (4) رواه ابن عدي (2/ 150) بنحوه وينظر ((التلخيص الحبير)) (2/ 150). (5) ((مسند الربيع بن حبيب)) (3/ 12). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 500 ج- القول بجواز التقية القولية دون العملية وهو قول الصفرية الذين توسطوا بين الأزارقة والنجدات، حيث أجازوا التقية في الأقوال لا في الأعمال حسبما ذكر الشهرستاني عنهم ذلك بقوله: "وقالوا التقية جائزة في القول دون العمل" (1).بل تختلف الأحكام عندهم في حال التقية عنها في حال العلانية، فقد جوز الضحاك وهو من الصفرية التزوج في حال التقية من مخالفيهم ومنعها في دار العلانية والغلبة لهم، ويختلف أيضا تنظيم الزكاة وسهامها في دار التقية، فقد جعلها زياد بن الأصفر سهما واحدا في حال التقية، كما يذكر ذلك الشهرستاني أيضا في قوله: "ونقل عن الضحاك منهم أنه جوز تزويج المسلمات من كفار قومهم في دار التقية دون دار العلانية، ورأى زياد بن الأصفر جميع الصدقات سهما واحدا في حال التقية" (2) المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص450   (1) ((الممل والنحل)) (1/ 137). (2) ((الملل والنحل)) (1/ 137). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1 د- أدلة المانعين للتقية استدل نافع على تحريم التقية بآيات من القرآن الكريم وردت في الأصل، إما في المشركين أي مشركي العرب وغيرهم، وإما في المنافقين، ولكن نافعا جعل حكمها شاملا لمخالفيه من أهل القبلة ومنطبقا عليهم، فاستدل على منع التقية بقوله تعالى: وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً، وبما جاء في أمر الله المؤمنين بالجهاد على ما تيسر من حال بعد أن قطع العذر في التخلف فقال: انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً، أي أن الله أمر بقتل المشركين أمرا عاما دون استثناء لحال من الأحوال يجوز فيه القعود عن قتالهم على سبيل التقية. واستدل أيضا بقوله تعالى: لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ [النساء:95]، وذلك أن الله تعالى وإن كان قد عذر الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون ومن كانت إقامته لعلة، إلا أنه فضل مع ذلك المجاهدين، وأخبر أنهم لا يستوون عنده في الثواب (1) مع غيرهم من أصحاب الأعذار ومنهم القاعدون عن القتال تقية، وقد استدل نافع كذلك على تحريم التقية بما وصف الله به القعدة في قوله تعالى: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ [التوبة:90]، أي أن القعود عندهم من صفات المكذبين لله ورسوله وهم غير المؤمنين. واستدل أيضا بأن الله قد ذم الذين يخشون غيره من الناس أو تكون خشيتهم من الناس أشد من خشيتهم من الله وهو من لوازم صفات أهل التقية، وذلك في قوله تعالى: إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [النساء:77]، ثم مدح تعالى نقيض هؤلاء وهم المجاهدون الذين لا يبالون بغيرهم فقال تعالى: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ [المائدة:54] (2). المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص451   (1) ((الكامل)) للمبرد (2/ 179). (2) ((الملل والنحل)) (1/ 125) , ((العقد الفريد)) (2/ 297). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 هـ - أدلة القائلين بجواز التقية وقد استدل نجدة على جواز التقية بقوله تعالى: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ [آل عمران:28]، وبقوله تعالى: وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ [غافر:28]، وبقوله تعالى: لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة:91]، وبقوله تعالى: لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 95].فقال: إن الله قد جعلهم وهم قعدة كما صرحت الآية بذلك مؤمنين وإن كان قد فضل عليهم المجاهدين فإنه ليس دليل على تحريمها؛ إذ لو كانت محرمة لما سماهم مؤمنين، ولما كانت مفاضلة بينهم، ولعل هذا التوجيه للآية أولى من استدلال نافع بها على تحريم التقية كما قدمنا (1). والسلف يرون أن التقية رخصة أباحها الله بشروطها لمن احتاج إليها، والذين أجازوا اعتمدوا على ظاهر قوله تعالى: إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً، ولا يرى بها بأسا ما دامت الغلبة للكفار حيث لا ينجي صاحب التقية منهم إلا إظهار ولائه لهم وموافقته إياهم في الظاهر. وبعضهم قال: إن التقية لا تجوز، خصوصا بعد أن أعز الله الإسلام وانتشر بين الناس وصار المسلمون أهل قوة ومنعة، يقول الشوكاني بعد إيراده الآية إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً: "وفي ذلك دليل على جواز الموالاة لهم مع الخوف منهم، ولكنها تكون ظاهرا لا باطنا، وخالف في ذلك قوم من السلف فقالوا: لا تقية بعد أن أعز الله الإسلام (2).والذين أجازوها من السلف يرون أنها لا تكون إلا باللسان فقط لا يتعدى حكمها إلى العمل بحال، كما نقل ذلك عنهم ابن جرير في تفسيره (3) فقد استشهد بأقوال عدد من العلماء كلهم لا يجيز في التقية إلا القول باللسان مع إضمار عداوة الكفار، وهكذا السيوطي رحمه الله، فقد أورد عدة روايات في حكم التقية وأنها لا تكون إلا باللسان فقط عندما تقتضي الضرورة ذلك (4). المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص452   (1) انظر ((الكامل)) للمبرد (2/ 177) وانظر: ((شرح نهج البلاغة)) (4/ 136، 137). (2) ((فتح القدير)) (1/ 331). (3) ((تفسير الطبري)) (3/ 228، 229). (4) ((الدر المنثور)) (2/ 16). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 المطلب الثاني: موقف الخوارج من القعدة اختلف موقف الخوارج تجاه القعدة وتباينت أقوالهم فكانوا فيهم على رأيين: أ- الرأي الأول: هو اعتبار القعدة من أهل البراءة وأنهم كفار كمخالفيهم من بقية الناس، وهذا الرأي قد ذهبت إليه الأزارقة وعلى رأسهم نافع بن الأزرق وهو من إحداثه التي عددها الأشعري في قوله عنه: "والذي أحدثه البراءة من القعدة والمحنة لمن قصد عسكره وإكفار من لم يهاجر إليه" (1).وقد جاء في كتابه إلى أهل البصرة الذين عابهم فيه بالقعود بين مخالفيهم الظالمين، غير ملتفتين إلى ما يناديهم به القرآن الكريم من آيات تحثهم على الخروج وعلى وجوب جهاد مخالفيهم وتذم القعود – جاء في هذا الكتاب قوله لهم: "والله إنكم لتعلمون أن الشريعة واحدة والدين واحد ففيم المقام بين أظهر الكفار؟ ترون الظلم ليلا ونهارا، وقد ندبكم الله إلى الجهاد فقال: وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً [التوبة: 36]، ولم يجعل لكم في التخلف عذرا في حال من الحال فقال: انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً [التوبة: 41] , وإنما عذر الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون ومن كانت إقامته لعلة، ثم فضل عليهم مع ذلك المجاهدين فقال: لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ [النساء: 95] , (2). وقد اشتد عنف الأزارقة على القعدة فأجمعوا على أنهم مشركون وإن كانوا من موافقيهم في الرأي، يقول البغدادي: "ومنها – يعني من بدع الأزارقة – قولهم: إن القعدة ممن كان على رأيهم عن الهجرة إليهم مشركون، وإن كانوا على رأيهم". وهكذا عند الشهرستاني وابن حزم وابن الجوزي وابن الأثير وغيرهم من علماء الفرق والتاريخ. ب- الرأي الثاني: هو القول بأن القعدة غير كفار ولا مشركين، وأن القعود ليس فيه بأس ما دام الشخص على عقيدة راسخة وولاء تام وكره لمخالفيهم، وعلى هذا بعض فرق الخوارج، ومن هؤلاء: النجدات وهم من قدماء الخوارج، فقد رأوا أن القعود بين المخالفين تحت ستار التقية أمر لا غبار عليه حتى ولو بلغت التقية قتل من هم على رأيهم تنفيذا لأوامر مخالفيهم المقيمين معهم. ولقد كان قول نافع بإكفار القعدة سببا في رجوع نجدة عن الانضمام إليه، وذلك أنه قد أراد اللحاق بعسكر نافع للانضمام إليه، ولكنه في أثناء الطريق لقيه جماعة من أصحاب نافع الذين كانوا في جيشه فأخبروه بأن نافعا قد ابتدع بدعا منكرة ومنها تكفيره للقعدة وأنهم خرجوا عنه بسبب ما أحدث من أحداث، وكان من بين هؤلاء: أبو فديك وعطية الحنفي وراشد الطويل ومقلاص وأيوب الأزرق وغيرهم، ثم ثنوا نجدة عن عزمه ورجع إلى اليمامة ناقما على نافع تلك الأحداث ومنها تكفيره القعدة، وقد اشتد في خلافه مع نافع في هذه المسألة فاعتبر القول بإكفار القعدة كفرا من قائله، يقول البغدادي عن النجدات: "وكفروا من قال بإكفار القعدة منهم عن الهجرة إليهم" (3).ويقول الشهرستاني في هذا حاكيا عن الكعبي: "وحكى الكعبي عن النجدات أن التقية جائزة في القول والعمل كله وإن كان في قتل النفوس" (4).   (1) ((المقالات)) (1/ 169). (2) ((الكامل)) (2/ 179). (3) ((الفرق بين الفرق)) (ص87). (4) ((الملل والنحل)) (1/ 124). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 وقد جاء في كتاب نجدة الذي وجهه إلى نافع عتاب شديد له بسبب تكفيره القعدة، يقول فيه: "وأكفرت الذين عذرهم الله في كتابه من قعدة المسلمين وضعفتهم فقال جل ثناؤه وقوله الحق ووعده الصدق: لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة: 19]، ثم سماهم بأحسن الأسماء فقال: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ... " إلخ. فلما قرأ نافع كتاب نجدة أجاب عن كل مسألة فيه، أما بخصوص القعدة فقد قال مدافعا عن رأيه: "وعبت علي ما دنت به من إكفار القعدة وقتل الأطفال واستحلال الأمانة، وسأفسر لك لم ذلك إن شاء الله أما هؤلاء القعدة فليسوا كمن ذكرت ممن كان بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا بمكة مقهورين محصورين لا يجدون إلى الهرب سبيلا ولا إلى الاتصال بالمسلمين طريقا، وهؤلاء قد فقهوا في الدين وقرأوا القرآن، والطريق لهم نهج واضح وقد عرفت ما يقول الله فيمن كان مثلهم إذ قال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء: 97]، وقال: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللهِ [التوبة: 81]، وقال: وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة: 90]، فخبر بتعذيرهم وأنهم كذبوا الله ورسوله، وقال: سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة: 90] , فانظر إلى أسمائهم وسماتهم" (1). وهكذا تباين موقف الأزارقة والنجدات في القعدة. ولكن نجد بعض العلماء يذكر عن النجدات خلاف ما تقدم، فالأشعري يذكر عنهم قولهم: إن "من ثقل عن هجرتهم فهو منافق" (2).ويقول ابن حزم عنهم كذلك "وقالوا من ضعف عن الهجرة إلى عسكرهم فهو منافق، واستحلوا دم القعدة وأموالهم" (3). فهناك حكمان: الأول هو تجويزهم القعود على سبيل التقية، والثاني الذي يذكره الأشعري وابن حزم هنا أنهم يرون أن من ضعف عن الهجرة إليهم فهو منافق، وهذا يشير إلى أنهم يحرمون القعود باعتباره نفاقا، مع العلم بأن قعود المستضعف لا يكون إلا تقية، والتقية عند النجدات جائزة لا شيء فيها، فهل هم يجيزون التقية ويحرمون القعود على سبيل التقية؟ وهذا تناقض، وهو خلاف المشهور عنهم من تجويزهم القعود والتقية.   (1) انظر: ((العقد الفريد)) (2/ 396 - 398). (2) ((المقالات)) (1/ 175). (3) ((الفصل)) (4/ 190). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 وقد سبق القول – كما ذكرنا آنفا- أنهم لا يرون بالقعود بأسا، بل إنهم يعتبرون من يكفر القاعد عن الهجرة إليهم كافرا، وبذلك يتضح أن الحكم الأول أولى بالقبول عن النجدات لكثرة رواته عنهم وشهرتهم به واتساقه مع مذهبهم في القول بالتقية، بخلاف رواية الأشعري وابن حزم التي تتناقض مع قولهم هذا وهو تجويز التقية، بالإضافة إلى أن ما ذكر على لسان نجدة في أمر القعدة في خطابه إلى نافع بن الأزرق لا ينبغي أن يقابل برواية أخرى تخالفه. أما العوفية من البيهسية فقد أجازت القعود كالنجدات ورأت أن لا بأس به إلا لمن قد هاجر أو خرج مهاجرا، فإنهم اختلفوا فيه على فرقتين: "فرقة تقول: من رجع من دار هجرتهم ومن الجهاد إلى حال القعود نبرأ منهم، وفرقة تقول: لا نبرأ منهم؛ لأنهم رجعوا إلى أمر كان حلالا لهم" (1). وهذا نص الأشعري ومثله البغدادي والشهرستاني. وقد أجازت القعود فرقة المعلومية أيضا فتولوا القعدة، قال البغدادي: "وهذه الفرقة – يعني المعلومية – تدعي إمامة من كان على دينها وخرج بسيفه على أعدائه من غير براءة منهم عن القعدة عنهم" (2).أما الصفرية فإنهم لم يكفروا القعدة إذا كانوا من موافقيهم، يقول الشهرستاني عنهم: "إنهم لم يكفروا القعدة عن القتال إذا كانوا موافقين في الدين والاعتقاد" (3)، بل غالوا في تجويزها حتى صار عامتهم قعدا كما ذكر المبرد (4).وهكذا العجاردة فإنهم قد اعتبروا القعدة المعروفين بحب الدين والتمسك به من أهل ولايتهم وإن كانوا مقيمين بين مخالفيهم، إلا أنهم فضلوا الهجرة إليهم ولم يوجبوها كالأزارقة، فهم "يتولون القعدة إذا عرفوهم بالديانة ويرون الهجرة فضيلة لا فريضة"، وهذا القول موافق لما تقوله الإباضية في هذا الباب كما يقول صاحب كتاب (الأديان الإباضي) (5). ولعل موقف أصحاب هذا الرأي الأخير من القعدة أكثر تسامحا من موقف الأزارقة المتشدد إلى درجة الغلو حتى مع من هم على مثل رأيهم بمجرد وجودهم مع المخالفين لهم من عامة المسلمين. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص454   (1) ((المقالات)) (1/ 192) ((الفرق بين الفرق)) (ص109) ((الملل والنحل)) (1/ 126). (2) ((الفرق بين الفرق)) (ص97). (3) ((الملل والنحل)) (1/ 137). (4) ((الكامل)) (2/ 180). (5) كتاب ((الأديان والفرق)) (ص104). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 تمهيد في الولاية والبراءة عند الخوارج الحب في الله والبغض في الله والولاية لأولياء الله والبراءة من أعداء الله، هذه مبادئ إسلامية مقررة، وعلى أساس تقريرها والالتزام بها يتحدد موقف المسلم من غير توليا أو تبريا، والخوارج بصفة عامة يلتزمون بهذا المبدأ ولكنهم ينحرفون في تطبيقه على مخالفيهم من المسلمين فيتبرأون منهم ولا يتولون إلا أنفسهم، فعلى أساس ضرورة الالتزام بمبدأ الولاية والبراءة يزن الخوارج أعمال مخالفيهم فيحددون موقفهم منهم وآراءهم فيهم، وإن كانوا –كما قلنا- ينحرفون في نظرتهم إلى غيرهم وما ينبني عليها من أحكام. ونحب قبل أن نحدد رأي الخوارج في مخالفيهم وموقفهم منهم أن نقدم هذه الكلمة عن مبدأ الولاية والبراءة في نظر الخوارج بصفة عامة والإباضية بصفة خاصة، حيث عنيت مصادر هؤلاء ببيان حقيقتها وأهميتها ووجوبها والشرائط الموجبة لها والأدلة الشرعية على ذلك كله. يقول المبرد: "والخوارج في جميع أصنافها تبرأ من الكاذب ومن ذي المعصية الظاهرة" (1)، ومعروف أن الخوارج يعتبرون كل من سواهم، من أصحاب المعاصي الظاهرة. والولاية والبراءة عند الإباضية تأتي في الأهمية بعد التوحيد، فمن لم يوال أو يعاد فإنه لا دين له، إذ أن صاحب الدين لابد أن يكون على أحد أمرين: إما مواليا لأولياء الله فهو مؤمن، أو مبغضا لهم فهو غير مؤمن. ونوجز الحديث عنهم بما تدعو إليه الحاجة في هذا المقام مستغنين عن تفصيلاتهم الكثيرة في هذا الموضوع. فقد عرف الجيطالي الولاية بقوله: "والولاية في الشريعة: إيجاب الترحم والاستغفار للمسلمين" (2). وعرفها النفوسي الإباضي بقوله: فإن قيل ما معنى الولاية قل له ... دعاؤك بالغفران والحب بالضمن (3)   (1) ((الكامل)) للمبرد (2/ 106). (2) ((قواعد الإسلام)) (ص45). (3) ((متن النونية)) في عقيدة التوحيد (ص11). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 ويستشهد الجيطالي على تفسيره للولاية والبراءة ووجوبهما من القرآن بقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19].ومن السنة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لابن مسعود: ((يا ابن مسعود أي عرى الإسلام أوثق؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: الولاية في الله والبغض في الله)) (1) (2).ويستشهد الإباضية كذلك على وجوبها بما روي عن ابن عمر أنه قيل له: إن فلانا يقرئك السلام، فقال رضي الله عنه: (لقد بلغني أنه يقول بالقدر فإذا كان باقيا على شيء من ذلك فلا تبلغه عني السلام). وبما روى أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (من رأينا منه خيرا وظننا فيه خيرا، قلنا فيه خيرا وتوليناه، ومن رأينا منه شرا وظننا فيه شرا، قلنا فيه شرا وتبرأنا منه). وبقوله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان)) (3)، وكذلك قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَه (4) [المجادلة:22].والولاية في الله والبراءة في الله كذلك تتمثل فيها حقيقة الإيمان، يقول الجيطالي في ذلك "وكذلك عند أصحابنا رحمهم الله الولاية في الله والبغض في الله هي حقيقة الإيمان، فمن لم يدن بها فلا دين له ولا ولاية له عندهم" (5)، ومن ثم كانت الولاية والبراءة من أوجب الواجبات بعد التوحيد، يقول النفوسي: ومما يلي التوحيد في الضيق فرضه ... براءة موسى مع ولاية محسن فمن لم يوال أو يعاد فإنه ... من الدين صفر الكف واهي التدين (6) وتجب معرفة الولاية والبراءة عندهم عند بلوغ الشخص سن التكليف، فحينئذ لا عذر لمن يجهلها، وتكون في حقه "فريضة مضيقة من لم يعتقد فرضيتها فهو مشرك" (7)، ويجب على المكلف القيام بولايتين: ولاية جملة وهي باتفاق الأمة، وولاية أشخاص، وهذه فيها خلاف عندهم، وفي هذا يقول الجيطالي: "فليس بين الأمة اختلاف في ولاية الجملة، وإنما الاختلاف بينهم في ولاية الأشخاص" (8).وفي ذلك يقرر قطب الأئمة أن ولاية الجملة وبراءتها فرض على كل مسلم بنص الكتاب والسنة والإجماع، ولا يوجد خلاف إلا في ولاية الأشخاص وبراءتها هل هي واجبة أم غير واجبة؟ ثم يرجح أنها واجبة، بخلاف غيرهم فإنه لم يوجبها ويوضح هذا بقوله: "ولاية الجملة وبراءتها فريضتان بالكتاب والسنة والإجماع على كل مكلف عند بلوغه إن قامت عليه الحجة"، ثم قال: "وأما ولاية الأشخاص وبراءتها فواجبتان قياسا عليهما، ولورود أحاديث في حب الإخوان في الله ومدح حبهم في القرآن" (9). ويقسم الإباضية الولاية إلى أقسام:1 - ولاية الجملة: ويمثلون لها بالأنبياء والرسل وأصحاب الكهف وأصحاب الأخدود والسحرة (10) وأمثالهم.   (1) رواه الطيالسي (1/ 50)، والطبراني (10/ 171)، والحاكم (2/ 522)، والبيهقي (10/ 233). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (3/ 72) - تخريجا لسند الطبراني-: وهذا إسناد حسن في الشواهد والمتابعات، ورجاله ثقات، وفي بعضهم كلام لا يضر فيه. (2) ((قواعد الإسلام)) (ص45). (3) رواه أبو داود (4681)، وابن أبي شيبة (7/ 130). والحديث سكت عنه أبو داود. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 71) – كما أشار لذلك في المقدمة -. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (4) انظر: ((الإباضية في موكب التاريخ)) (ص86،87). (5) انظر: ((قواعد الإسلام)) (ص45). (6) ((متن النونية)) (ص11). (7) ((قواعد الإسلام)) (ص45). (8) ((قواعد الإسلام)) (ص45). (9) ((الإباضية في موكب التاريخ)) (ص84)، نقلا عن الشامل لأبي إسحاق. (10) يقصد سحرة آل فرعون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 2 - ولاية الأفراد: وهذه تنقسم إلى قسمين: مسمى كآدم، وغير مسمى كمؤمن آل فرعون وأمثالهما. 3 - ولاية الذكور وهم نوعان: الأنبياء والأولياء. 4 - ولاية الإناث وهي نوعان أيضا: مسميات كمريم بنت عمران، وغير مسميات كامرأة فرعون وأمثالها. وهذه الأقسام هي التي وردت في القرآن للأولياء الموصوفين بالعصمة والاصطفاء كما قال الجيطالي. 5 - ولاية البيضة: أي ولاية الإمام العادل الذي لم يظهر منه ما يخل بإسلامه في أقوال وأفعاله. 6 - ولاية الخارج من الشرك إلى الإسلام، وتكون عندما يدخل المشرك في الإسلام ويترك اقتراف المعاصي.7 - ولاية الخارج من مذهب مخالفيهم إلى مذهب أهل الوفاق (أي الإباضية)، وهذا لا يخلو إما أن يكون من المتدينين سابقا أو من غير المتدينين، فإذا كان من غير المتدينين فيكفي لولايته توبته ورجوعه إلى المسلمين، وأما إن كان من المتدينين فقد أوثقوه باجتيازه لشروط وامتحان عسير لولايته، يقول الجيطالي: "فالمتدين تكون ولايته حتى يرجع من مقالته إلى مقالة المسلمين قصدا، وأيضا يعدد أخطاءه ويتوب منها ويعترف فيها بالخطأ واحدة بعد أخرى" (1). وكأن هذه الشروط وضعت للمتدين حتى لا يرجع إلى تدينه القديم على مذهب مخالفيهم الذي تاب منه ودخل في المذهب الإباضي معترفا بخطئه فيما سلف. وليست الولاية في الله لأي إنسان اتفق، بل لابد فيها من شروط دينية دقيقة إذا توفرت في شخص ما حق له الولاية وفي هذا يقول السالمي: ثم الولاية توحيدا تكون ... وأخرى طاعة إن شرطها حصلا كذا البراءة والشرط الذي وجبت ... به الولاية أن تلفيه ممتثلا (2) ومن شروط الإباضية التي يشترطونها في من يكون أهلا للولاية: 1 - أن يظهر حلية وحالة ترضاها العين. 2 - أن ينقل عنه الوفاء في الدين قولا وعملا.3 - سكوت القلب إلى ما تؤدي إليه الحواس لقوله صلى الله عليه وسلم: ((استفت قلبك)) (3). ويقول أبو راس: إنه يجمعها قول الشيخ أبي نصر – أحد علمائهم: إذا رضيت إذن وعين بما رأت ... ووافق في دين الإله المهيمن (4) المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص459   (1) ((قواعد الإسلام)) (ص51). (2) ((غاية المراد)) (ص11). (3) رواه أحمد (4/ 228) (18035) , والدارمي (2/ 320) , وأبو يعلى (3/ 162) , من حديث وابصة بن معبد رضي الله عنه, قال النووي في ((المجموع)) (9/ 150): إسناده إسناد البخاري, وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 23): إسناده حسن, وقال الألباني في ((صحيح الترغيب)) (1734): حسن لغيره. (4) ((غاية المراد)) (ص12). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 1 - موقفهم من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم لا يعترف الخوارج بالإمامة الكاملة لأحد من الصحابة إلا بإمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إمامة شرعية لا شك في صحتها ولا ريب في شرعيتها، وأنها كانت برضى المؤمنين ورغبتهم، وقد سارا على الطريق المستقيم الذي أمر الله به لم يغيرا ولم يبدلا حتى توفاهما الله على ما يرضي الله من العمل الصالح والنصح للرعية، وهذا حق، فلقد كانا رضي الله عنهما كذلك لا يشك في ذلك إلا هالك، ولقد كان موقف الخوارج إزاءهما موفقا. ثم بعد وفاتهما انتخبت الأمة خليفتين آخرين هلك فيهما الخوارج وخرجوا عن الحق والصواب في تقديرهم لهما ولم يوفقوا في القول فيهما وأكثروا من الافتراءات الكاذبة عليهما، ووصفوهما بما كرمهما الله عنه وقد بلغ بعضهم في بغضهم إلى المغالاة التي تؤدي إلى الكفر الصريح، وفي هذا يقول الأشعري: "والخوارج بأسرها يثبتون إمامة أبي بكر وعمر، وينكرون إمامة عثمان - رضوان الله عليهم - في وقت الأحداث التي نقم عليه من أجلها، ويقولون بإمامة علي قبل أن يحكم وينكرون إمامته لما أجاب إلى التحكيم" (1).ويقول ج. ج لوريمر: "وقد وافقوا السنة في اعتبار أبي بكر وعمر من الخلفاء المنتخبين، وبالتالي فهما جديران بالاحترام، ولكنهم اختلفوا مع السنة والشيعة في رفضهم لباقي الخلفاء واعتبارهم مغتصبين" (2).بل يذكر الجيلاني أن الخوارج أنكرت إمامة علي مطلقا (3)، - كما قال الطالبي في اعتذاره عن مبالغة الجيلاني هذه. أما فيما يتعلق بموقفهم من عثمان رضي الله عنه – وهو موقف كما قلنا في غاية الخطأ والبعد عن الحق – فنحن لا نذكره عنهم افتراء بل ننقله من كتبهم، ومن أهمها كتاب (كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة)؛ فإن قارئه يحس أنه أمام خصم عنيد لا يتورع عن اتهام خصمه وإقامة الحجة عليه بأي قول كان، وسنورد من أقواله ما يبين صحة ما قدمنا. فمنها قوله يصفه بأنه أشد فتنة من الدجال وذلك حسب روايته التي اختلقها على لسان ابن مسعود رضي الله عنه فيقول: "وبلغنا أنه – يعني ابن مسعود – ذكره أي ذكر عثمان – حديثا قال النبي صلى الله عليه وسلم لقوم وفيهم عثمان وعبدالله وكانوا يتذاكرون الدجال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فيكم من هو أشد على أمتي من الدجال وأعظم فتنة. فقال ابن مسعود: أفلان يا رسول الله؟ قال: أفلان؟ قال: لا، حتى استكملهم ولم يبق إلا هو وعثمان، وفي كلهم يقول النبي: لا، قال ابن مسعود لعثمان: أما هذا فهذا آخر أيامي من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة وأنت صاحبها يا عثمان)) (4). فهذه روايته عن ابن مسعود المفتراة التي يكذبها شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان بالجنة، ويكذبها حب الرسول له وتاريخه في نصرة الإسلام.   (1) ((المقالات)) (1/ 204). (2) ((دليل الخليج)) (6/ 3404). (3) ((الغنية)) (1/ 77). (4) ((كشف الغمة)) (ص268). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 أما روايته عن عائشة فيقول فيها: "وقالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت شيخا أقر على نفسه بمثل ما أقر عثمان، وخرجت بمصحف كان معها وقالت أشهد بالله بأن عثمان كفر بما في هذا المصحف". فهل تشهد عليه بالكفر المستوجب للنار في مقابلة شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالجنة وثنائه عليه في كثير من المناسبات؟! ثم ينقل بعد ذلك الأقوال قولا للمقداد بن الأسود يحذر فيه الصحابة من تولية عثمان لأنه لم يشهد بيعة الرضوان وفر يوم أحد فقال: (وأقبل المقداد بن الأسود الكندي فناشدهم الله وقال: لا تولوا أمركم رجلا لم يشهد بيعة الرضوان وفر يوم الأحد (1) – يعني عثمان بن عفان). فهل يعقل أن يقف الصحابي الجليل من صحابي مثله هذا الموقف وهو يعرف قدره ومنزلته بين المسلمين؟! وهل يعيره بعدم حضوره بيعة الرضوان وقد بايع بيعة غبطه عليها جميع المسلمين؛ فقد بايع عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث ضرب بيمينه على شماله وقال: ((هذه لعثمان)) (2)؟! وقد كان غياب عثمان في أنبل وأشرف مهمة وهي الوساطة للصلح بين الرسول وقريش، وأما فراره يوم أحد فما كان ليعيره بما عفى الله عنه وهو يتلوه في كل حين. ثم يلمزه المؤلف باللقب الذي سماه به خصومه نعثل، ويضيف هذا اللقب إلى المسلمين عموما، وهو اللقب الذي كان يكرهه عثمان ويتبرأ منه، فقال المؤلف: "ولقبه المسلمون نعثلا حين أحدث الأحداث". وقد افترى عليه فزعم أنه عطل الحدود واستعمل السفهاء من قرابته وحرق كتاب الله، وولى الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو من أفسد أهل زمانه –على الكوفة، وارتقى المنبر في موضع رسول الله صلى الله عليه وسلم. إلى أن يقول: "وتجبر وتكبر فقيل: إنه كان يمر بخيلائه وجنوده على بيت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فتخرج قميص رسول الله فتقول: يا عثمان هذه برد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تبل وسنته قد بليت، فيقول لها: اسكتي يا حميراء وإلا سلطت عليك من لا يرحمك"!! إلى آخر ما قاله من سباب وفحش يطول نقله نثرا ونظما. وهذه الافتراءات لا تقل عن افترائه على علي بن أبي طالب بأنه كان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرض الناس وعليه سلاحه ومثله طلحة بن عبيد الله، ورد على الذين يقولون بأن علي بن أبي طالب غير راض بقتله بأنهم على خطأ. وجاء في كتاب (الكفاية) قوله: "فإن قال: ما قولكم في عثمان بن عفان؟ قلنا له: في منزلة البراءة عند المسلمين". ثم أورد كلاما فارغا واحتجاجا محجوجا على أن عثمان يستحق أن يكون في منزلة البراءة عندهم (3). ومثل ما تقدم في (كشف الغمة) نجده في (كتاب الأديان) إلا أنه زاد عليه فذكر موقف الأمة تجاه قتله، وأنهم انقسموا فيه إلى ثلاث فرق: فرقة قتلته، وفرقة وقفت عنه، وفرقة طالبت بدمه. ثم يبين موقف هذه الفرق بقوله المفترى: "فالفرقة القاتلة له فعلي بن أبي طالب وأصحابه من أهل المدينة والمهاجرون والأنصار". وهذا كلام ظاهر الافتراء إذ أن القاتلين له هم أهل الأهواء الذين جاؤوا من مصر والعراق واجتمعوا في المدينة وغلبوا أهلها على أمرهم وأخافوهم خوفا شديدا وكانت لهم السيطرة الفعلية فيها حتى تولى الإمام علي.   (1) هكذا النص. (2) رواه البخاري (3698) , من حديث عبد الله بن عمر. (3) انظر لمزيد التفصيل: كتاب ((كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة)) (ص265 – 304). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 ويذكر أن "الفرقة الواقفة عند سعد بن أبي وقاص وعبدالله بن عمر ومحمد ابن مسلمة وأسامة بن زيد، والفرقة الطالبة بدمه فطلحة بن عبدالله والزبير بن العوام بن أبي سفيان".وبعد هذا البيان للأشخاص سمى كل فرقة باسم مختلق يناسب ميول الخوارج تجاه عثمان فيقول: "فسميت الفرقة الأولى وهي القاتلة أهل الاستقامة، والفرقة الواقفة الشكاك، والفرقة الطالبة بدمه العثمانية" (1) وكما تقدم نجد مثله عند الورجلاني (2) لترى موقفهم من خلفاء المسلمين الراشدين الذين توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، الذين اتبعوه في ساعة العسرة والذين لو أنفق أحد ممن بعدهم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، وقد وصفوا عثمان رضي الله عنه بأوصاف يخيل فيها للسامع أنه أمام إمبراطور عنيد لم يدخل الإسلام قرارة نفسه، ولقد ردوا قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10]، فاعتبروا خيرة السلف الذين قام الإسلام بفضل الله ثم بجهادهم في منزلة البراءة ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقد جاء في كتاب عبدالله بن إباض ذكْرٌ تٌهَمٍ كثيرة وجهها إلى عثمان ثم قال بعدها: "فلو أردنا أن نخبرك بكثير من مظالم عثمان لم نحصها إلا ما شاء الله، وكل ما عددت لك بعمل عثمان يكفر الرجل أن يعمل ببعض هذا، وكان من عمل عثمان أنه لم يحكم بما أنزل الله وخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم والخليفتين الصالحين أبي بكر وعمر" (3). فهل يتصور أن يترك عثمان الحكم بما أنزل الله ويحكم رسول الله بغيره؟! ولماذا لم يبين ابن إباض بأي قانون حكم إن كان ما زعمه صحيحا؟! ولولا إرادة إثبات موقف الخوارج عموما والغلاة من الإباضية خصوصا من عثمان لما كان هناك ما يدعو إلى ذكر تلك المفتريات الكاذبة. والواقع أن موقف الخوارج من عثمان موقف خاطئ، فعثمان رضي الله عنه كان من السابقين الأولين إلى الإسلام الذين مدحهم الله في كتابه، وأثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الذين جاهدوا مع رسول الله في غزواته لإعلاء كلمة الله، وكان على غاية من الكرم والإحسان، وقد زوجه الرسول صلى الله عليه وسلم بابنتيه، وأهم من هذا كله فقد شهد له الرسول بالجنة وبشره بها وهو حي يمشي على الأرض، وله مناقب عديدة مشهورة ولا يقع فيه بالذم أو التنقيص إلا من سفه نفسه وهو أشهر من أن يمدح، ولقد صدق عليه قول الشاعر: وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل ولقد امتحن الله هؤلاء الناقصين بذمه؛ لهوانم عليه لما في قلوبهم من الجفاء والغلظة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما فيما يتعلق بموقف الخوارج من الإمام علي رضي الله عنه فقد اعترفوا بأنه خليفة شرعي إلى أن حكم ومن هنا خرج عن الصراط المستقيم في نظرهم، ولم يعد خليفة للمسلمين، ولا سمع ولا طاعة له على أحد، لأنه حكم البشر في كتاب الله فكفر- كما زعموا -.   (1) قطعة من ((كتاب الأديان)) (ص26 – 27). (2) انظر: كتاب ((الدليل لأهل العقول)) للوارجلاني (ص27، 28). (3) انظر: ((كشف الغمة)) (ص289 – 295)، وانظر: ((الدليل لأهل العقول)) (ص27،28). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 وكما كان عثمان في منزلة البراءة عندهم كان علي مثله أيضا في منزلة البراءة كما ذكر صاحب كتاب (كشف الغمة) تحت عنوان: "فصل من كتاب (الكفاية) – قوله: "فإن قال: ما تقولون في علي بن أبي طالب؟ قلنا له: إن عليا مع المسلمين في منزلة البراءة". ثم ذكر الأسباب التي توجب البراءة منه، وهي تركه حرب معاوية والتحكيم وقتاله أهل النهروان. ويزعم أنه كان يضع الأحاديث لمصلحته، وذلك حين يورد المحاورة الآتية بين علي وابن عباس وما نتج عنها بقوله: "ثم إن عليا ندم على قتل أهل النهروان وقال لابن عباس: ما صنعنا؟ قتلنا خيارنا وقرءانا، وأظهر للناس الندامة فأتوه وقالوا: كأنهم يحاجونه: أمرتنا بقتلهم ثم تندم، فإنك مقتول، ففزع من هذا فأخذ في تسكين أصحابه بالكذب فقال: لولا أن تنظروا (1) لأحدثكم بما جعل لكم من المخرج على لسان نبيه؛ إذ قال: "سيخرج من بعدي قوم صعاب شبابهم قصارى شأنهم يمرقون من الدين كمروق السهم من الرمية". فالمؤلف يزعم أن هذا الحديث – وهو من أحاديث المروق الصحيحة – يزعم أنه من وضع علي بن أبي طالب إرضاء للعامة. وما جرأه على هذا الافتراء إلا سوء معتقده وعدم معرفته بقدر الصحابة وورعهم، فيظن أنهم يتقولون على رسول الله لمصلحتهم الشخصية وحاشاهم من ذلك. وكذا قوله: "وإن عليا قال: إن في قتلاهم – يعني أهل النهروان – شيطانا وهو يعني به الورع الناسك" – يشير إلى ذي الثدية، حيث قال بعد أسطر: "فلما تذكر من ثدي الرجل ذكره قال له ابنه: يا أبت ذلك مولا (2) تأمله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اسكت يا بني، إن الجواب خدعة، ففتح لأصحابه أبواب الكذب فاتخذوها خلقا"!!   (1) هكذا النص ولعله "تبطروا". (2) هكذا النص. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 فهل يعتقد مسلم يعرف قدر الصحابة أن عليا سيبلغ إلى هذا الحد الذي لا يجرؤ عليه إلا من قل حظه من الدين ولا يبالي بالكذب ووضع الأحاديث؟! ولكن نجد إماما آخر من أئمتهم هو العيزابي الإباضي يأتي بحديث المروق فلا يتجاسر على نسبته إلى علي بأنه وضعه ويرى أن الحديث ثابت، ولكنه يرد معناه إلى الصفرية وأنهم هم المعنيون به (1) ويقول الورجلاني "وأما علي فقد حكم بأن من حكم فهو كافر ثم رجع على عقبيه وقال: من لم يرض بالحكومة كافر، فقاتل من رضي الحكومة وقتله، وقاتل من أنكر الحكومة وقتله، وقتل أربعة آلاف أواب من أصحابه واعتذر، فقال: إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم، فقد قال الله عز وجل فيمن قتل مؤمنا واحدا: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا إلى قوله: عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]، فحرمه الله من سوء بخته الحرمين وعوضه دار الفتنة العراقين، فسلم أهل الشرك من بأسه وتورط في أهل الإسلام بنفسه" (2).وقد اشتهر عن الخوارج تكفيرهم لعلي رضي الله عنه وأنهم مجمعون على كفره هو وعثمان وطلحة والزبير وعائشة ومعاوية وعمرو بن العاص وأهل التحكيم (3).ويقول ج. ج لوريمر عن موقف الإباضية وأنهم يكفرون عليا كما قلنا وإن هذا الموقف قد سجله عليهم حتى علماء هذا العصر – يقول لوريمر عن جماعة المطاوعة منهم: "ويعتقد المطوعون أن الخليفة عليا لم يكن مسلما على الإطلاق بل كان كافرا" (4). ويقصد لوريمر بالمطوعين فرقة من الإباضية في عمان في غاية التشدد في أمور الدين وذكر بعض الأمثلة على ذلك، وقد كان لهؤلاء المطوعين دور هام في توجيه سياسة الحكام في عمان. بل لقد بلغت الجرأة بحفص بن أبي المقدام – زعيم الحفصية من الإباضية – أن يتأول آيات القرآن بما يتفق مع بغضهم للإمام علي رضي الله عنه وما يلصقونه به من تهم فيزعم – وهو كاذب في هذا، مفتر على الله غير الحق – أن قوله تعالى: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا [الأنعام:71] – أن الحيران هو علي بن أبي طالب، وأن الأصحاب الذين يدعون إلى الهدى هم أهل النهروان، وقد قال بقول نافع في زعمه أن الآية: ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا، والآية: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ أنهما نزلتا في علي وابن ملجم (5) كما سيأتي بيانهما في الرد على نافع.   (1) ((وفاء الضمانة)) (3/ 23). (2) ((الدليل لأهل العقول)) (ص28). (3) انظر: ((رسالة الدبسي)) (ص13) وانظر: ((المقالات)) (1/ 204)، ((الملل والنحل)) (1/ 115، و ((الفرق بين الفرق)) (ص73، و ((التنبيه والرد)) (ص53). (4) ((دليل الخليج)) (6/ 3406). (5) انظر: ((المقالات)) (1/ 183، 184) ((الفرق بين الفرق)) (ص104). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 ومن الغريب أن ابن أبي الحديد الشيعي يذكر فيما يحكيه عن أبي جعفر – من شيوخه – أن معاوية هو الذي أغرى سمرة بن جندب حتى يقول بأن نزول هاتين الآيتين كان في علي وابن ملجم، وهذا بعيد كل البعد أن يتدنى الصحابة إلى هذا السخف، وهو ما يثبته ابن أبي الحديد بقوله: "قال أبو جعفر: وقد روي أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم، حتى يروي أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ إلى وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ [البقرة: 204، 205]، وأن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم وهو قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ [البقرة: 207]، فلم يقبل فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل، فبذل له ثلاثمائة ألف درهم فلم يقبل، فبذل له أربعمائة ألف فقبل وروي ذلك" (1). وكلا القولين: أي قول حفص وقول أبي جعفر باطل، بل هو من أشنع الأباطيل وأكذب الكذب. ومع هذا فلابد أن نذكر أنه قد اعتدل فريق من الإباضية في حق الإمام علي رضي الله عنه، وأورد شواهد في فضائله وأن الذين يسبونه ويشتمونه هم الصفرية لا الإباضية فقد أورد مؤلف كتاب (وفاء الضمانة بأداء الأمانة) الحديث الآتي:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سب الأنبياء قتل، ومن سب أصحابي جلد، ومن سب عليا فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله)) (2) (3)، ثم قال: "أشار إلى الصفرية الذين يحكمون بشركه لقتله أهل النهر كما قال صلى الله عليه وسلم له: ((تهلك فيك طائفتان مفرطة – يعني الصفرية -، وغالية - يعني الروافض-))، وكان لعلي من يبغضه ويشتمه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حسدا بما لا يستحق الشتم به، وليس من الشتم أن يقال: استحق كذا بفعله كذا فإن ذلك لحكم الله وقياما بالحق" (4).وقد أورد علي يحيى معمر فصلا طويلا بين فيه اعتقاد الإباضية في الصحابة بأنهم يقدرونهم حق قدرهم ويترضون عنهم ويرون السكوت عما جرى بينهم، وأنهم لا يبغضون الإمام عليا ولا ينقصونه قدره، ومن هذه النقول ما قاله عن أبي إسحاق أطفيش في رده على الأستاذ محمد بن عقيل العلوي أنه قال له: "أما ما زعمت من شتم أهل الاستقامة لأبي الحسن علي وأبنائه فمحض اختلاف" (5).ثم قال: "ولم يكن يوما من الأصحاب شتم له أو طعن، اللهم إلا من بغض الغلاة، وهم أفذاذ لا يخلو منهم وسط ولا شعب" (6).ويقول عن الثعاريتي أنه كان يقول: "وكيف يجوز لمن يؤمن بالحي الذي لا ينام أن يكفر صهر نبيه عليه السلام الذي لم يسجد قط للأصنام" (7). ويقول البدر الثلاثي من أبيات في ديوانه: بنت الرسول زوجها وابناها ... أهل لبيت قد فشى سناه رضى الإله يطلب الثلاثي ... لهم جميعا ولمن عناها وكذا ما قاله أيضا أبو حفص عمرو بن عيسى التندميرتي الإباضي من أبيات قال فيها: وعلى الهادي صلاة نشرها ... عنبر ما خب ساع ورمل وسلام يتوالى وعلى ... آله والصحب ما الغيث هطل سيما الصديق والفاروق والجامع ... القرآن والشهر البطل (8)   (1) ((شرح نهج البلاغة)) (4/ 73). (2) رواه الطبراني في ((الصغير)) (1/ 393) بدون: (ومن سب عليا .. ). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/ 260): رواه الطبراني في ((الصغير)) و ((الأوسط)) عن شيخه عبيدالله بن محمد العمرى رماه النسائي بالكذب. وقال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (206): موضوع. (3) ((دليل الخليج)) (6/ 3406). (4) ((وفاء الضمانة بأداء الأمانة)) (3/ 22). (5) نقلا عن ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص283). (6) ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص286). (7) ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص289). (8) ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص287). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 وقد وردت عن الإباضية أقوال كثيرة في مدح الصحابة عموما، وأنهم لا يختلفون في موالاتهم ولكنهم يرون أنه" لا غبار على من صرح بخطأ المخطئ منهم بدون الشتم والثلب بعد التثبت من ذلك والتبين، وإن أمسك لعموم الأحاديث الواردة فيهم وترك الأمر إلى الله فهو محسن" (1). كما قاله أبو إسحاق أطفيش. ولعل كلمة أبي إسحاق هذه تصلح عذرا عن الإباضية بأن المبغضين لعلي منهم إنما هم الغلاة منهم، وأما أكثريتهم فتقول بموالاته، ويكون اعتبار المبغضين له شواذا، وهذا ما يقرب بينهم وبين السلف. أما الشخصية الهامة في الخوارج فهو نافع بن الأزرق، فإنه لم يختلف عن بقية الخوارج في غلوه في بغض الإمام علي حيث زعم أن الله تعالى أنزل فيه آية تتلى إلى يوم القيامة تصفه بأقبح الصفات من نفاق وعداوة للإسلام، حين زعم أن الله تعالى أنزل في شأنه: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة: 204]، وفي المقابل أشقى خلق الله يصفه بأن الله أنزل فيه وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة: 207] , (2)، وهذا لا يشك مسلم أنه محض افتراء على الله لا يصدقه عاقل. أولاً لما عرف عن علي من فضائل وأعلاها حب الله ورسوله، وثانيا أن الله أنزل القرآن منجما على حسب الحوادث وقد عرف أهل العلم سبب نزول كل آية، فهل حادثة علي وعبدالرحمن بن ملجم وقعت في حياة الرسول حتى يمكن القول بأنها نزلت فيها؟! وأهل التفسير يذكرون أن سبب نزول الآية الأولى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ إلخ الآية الكريمة كانت في الأخنس بن شريق على أحد الأقوال، وأما الآية الثانية هنا وهي قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ؛ فقد نزلت في صهيب حين هاجر إلى مكة على أحد الأقوال (3)، فلم يكن سبب النزول هو ما يراه نافع، ولكن البغض والجهل يخرج المرء عن الحقيقة، فقد كانوا في غاية البغض لعلي رضي الله عنه كما قال عمران بن حطان مفتيهم وشاعرهم الأكبر في ابن ملجم: يا ضربة من تقى ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا أني لأذكره يوما فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا ومثل نافع صالح بن مسرح، فقد جاء في كتابه قوله مبينا رأيه في عثمان وعلي معا رضي الله عنهما: "وولي المسلمين من بعده – يعني بعد عمر- عثمان، فاستأثر بالفيء وعطل الحدود وجار في الحكم، واستذل المؤمن وعزز المجرم فثار إليه المسلمون فقتلوه، فبرئ الله منه ورسوله وصالح المؤمنين، وولي أمر الناس من بعده علي بن أبي طالب فلم ينشب أن حكم في أمر الله الرجال وشك في أهل الضلال وركن وأدهن، فنحن من علي وأشياعه براء" (4). وما قلناه من الدفاع عن عثمان سابقا نقوله عن علي رضي الله عنه، وما قيل فيه من ذم فإنه من مزاعم المفتري عليه وهي أكذب من أن يصدقها أو يهتم بردها أحد، وما ظنك بابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره ومن تربى على يديه وفي بيت النبوة، ومن شهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم مشاهده واشتهر فيها بأنه الشجاع المقدام؟! لقد أسلم رضي الله عنه مبكرا فلم تلحقه تلك الاعتقادات الجاهلية، وقد زوجه الرسول صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة أم الحسن والحسين رضي الله عنهما، وبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وما نسب إليه من رضاه بقتل عثمان، أو إدهانه في تحكيم كتاب الله، فهذا كذب محض وافتراء من حاقد جاهل، وهو بريء من هذه الأكاذيب، ولو رجع هؤلاء لعقولهم وحكموها لكانت رادعة لهم عن تنقصه، زاجرة لهم عن شتمه، فضلا عن رجوعهم إلى النصوص الشرعية. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص464   (1) ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص283). (2) انظر: ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 170) , ((الملل والنحل)) (1/ 120). (3) ((تاريخ الطبري)) (6/ 217). (4) ((تاريخ الطبري)) (6/ 217). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 ب- موقفهم من بعض كبار الصحابة يعتقد الخوارج تكفير بعض الصحابة رضي الله عنهم مع أن بعضهم من المشهود لهم بالجنة، ولكن الخوارج حسب اعتقادهم المعكوس فهم يرون أنهم قد كفروا ببعض الذنوب التي اقترفوها مع أنها كانت في الحقيقة لم تكن ذنوبا أو كانت ناتجة عن اجتهاد كما سيتضح لنا ذلك فيما بعد، نقول هذا عنهم ونحن نقطع بأنه لا عصمة لبشر عن الذنوب بعد الأنبياء. وأول من اشتد الخوارج في تكفيرهم من الصحابة – بعد عثمان وعلي رضي الله عنهما – معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري وأهل التحكيم ومن رضي بهم من غيرهم، قال الأشعري: "ويكفرون معاوية وعمر بن العاص وأبا موسى الأشعري" (1).وقد وقفوا موقف العداء المستحكم من معاوية وعمرو بن العاص فكفروهما، ووصفوهما بكل صفة سوء ونفوا عنهما كل خير، بل وأثبتوا لهما النار، كما يقول الورجلاني: "وأما معاوية ووزيره عمرو بن العاص فهما على ضلالة لانتحالهما ما ليس لهما بحال، ومن حارب المهاجرين والأنصار فرقت بينهما الدار وصار من أهل النار (2)، ولا يستبعد منهم أن يقفوا هذا الموقف، بل وأشد منه ما داموا قد وقفوا ممن هو خير منهما ذلك الموقف المشين .. وقد وصف زعيم الإباضية عن عبدالله بن إباض معاوية بن أبي سفيان – كما جاء في كتابه إلى عبدالملك – بعدة صفات يزعم فيها أن الرجل يكفر بأقل منها، فقد جاء في ذلك الكتاب قوله: "فلا تسأل عن معاوية ولا عن عمله ولا صنيعه، غير أنا قد أدركناه ورأينا عمله وسيرته في الناس، ولا نعلم من الناس شيئا لأحد أترك من الغنيمة التي قسم الله، ولا يحكم بحكم حكمه الله، ولا أسفك لدم حرام منه، فلو لم يصب من الدماء إلا دم ابن سمية لكان في ذلك ما يكفره".ثم قال مبينا رأي الإباضية في عثمان ومعاوية ويزيد جميعا: "فإنا نشهد الله وملائكته أنا براء منهم وأعداء لهم بأيدينا وألسنتنا وقلوبنا، نعيش على ذلك ما عشنا ونموت عليه إذا متنا ونبعث عليه إذا بعثنا، نحاسب بذلك عند الله" (3).وفي كل ما تقدم مخالفة صريحة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)) (4)؛ مما يقتضي عفة لسان المسلم عن أن يخوض في أعراض هؤلاء الصحابة على هذا النحو الشائن، فضلا عن مخالفتهم لما ورد في معاوية وعمرو بن العاص من ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يجب أن نكل أمرهما إلى الله في ما اجتهدا فيه من أمر.   (1) ((المقالات)) (1/ 204). (2) ((الدليل لأهل العقول)) (ص28). (3) ((كشف الغمة)) (ص295). (4) رواه البخاري (3673)، ومسلم (2541). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 أما موقف الخوارج من الحسن رضي الله عنه فإنه هو نفس موقفهم من أبيه، فالمراجع لكتاب (كشف الغمة) يجد المؤلف يكيل الافتراءات ويغمز فيه بما لا يصح؛ فيذكر أن الحسن لما تولى الخلافة خدعه معاوية كما خدع أباه من قبل بما حمل إليه من أوقار الذهب ومناه بالخلافة بعده، وأنه ترك ما كان يطلب بالأمس من كتاب الله وسنة نبيه وقتال الفئة الباغية، وأن أهل النخيلة اجتمعوا لحرب معاوية ولكنه وبمساعدة أهل الكوفة والحسن قتلوهم، مع أن المؤرخين يذكرون أن الحسن امتنع عن تولي محاربتهم وقال لمعاوية: لو كنت أريد قتال أحد من أهل القبلة لبدأت بك، ولكن تركتها حقنا للدماء. فمن أين لمؤلف (كشف الغمة) أن الحسن تولى قتال أهل النخيلة؟! ثم يوالي افتراءه الذي يدل على عدم احترامه للسلف الصالح فيلمز الحسن بأنه باع آخرته بدنياه، وحرض أصحابه على الدخول في طاعة معاوية، وأن ابن عباس غضب عليه غضبا شديدا وقال له: إنكم لأحقر أهل بيت من العرب ثم شبههم ببني إسرائيل وجبنهم حين أبوا ملاقاة عدوهم فضربهم الله بالتيه (1).وفي كتاب (الكفاية): "فإن قال: ما تقولون في الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب؟ قلنا: إنهما في البراءة، فإن قال: من أين أوجبتم عليهما البراءة وهما ابنا فاطمة بنت رسول الله؟ قلنا: أوجبنا عليهما البراءة بولايتهما لأبيهما على ظلمه وغشمه وجوره، وبقتلهما عبدالرحمن بن ملجم رحمه الله، وتسليمهما الإمامة لمعاوية بن أبي سفيان، وليس قرابتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمغنية عنهما شيئا؛ لأن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم قال في بعض ما يوصي به قرابته: ((يا فاطمة بنت رسول الله، ويا صفية عمة رسول الله، ويا بني هاشم؛ اعملوا لما بعد الموت)) (2).هذا ما حكاه المؤلف عن كتاب (الكفاية)، أما هو فيقول: "ثم إن الحسن بن علي ولي أمر أبيه من بعده، فباع دينه وأمر ربه بأواق من الذهب والفضة" (3). فإذا كان قصد الحسن جمع الذهب والفضة – كما يزعم مؤلف كشف الغمة – فمما لا شك فيه أن توليه الخلافة هو الأفضل لجمعهما لا التنازل عنها، ولم يعلم صاحب (كشف الغمة) أن تنازل الحسن كان تصديقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: ((ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين)) (4)، وقد وقع كما قال عليه السلام، فلم يفسر صاحب (كشف الغمة) تنازل الحسن إلا لانخداعه برؤية بريق أواقي الذهب والفضة.   (1) راجع ((كشف الغمة)) (ص289). (2) انظر: ((كشف الغمة)) (ص288 - 289، وكذا (ص305). (3) ((كشف الغمة)) (ص302). (4) رواه البخاري (2704). من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 وما قاله عن الحسن فإنه رد عليه، فلقد كان الحسن رضي الله عنه ذا خلق فاضل ودين وورع، لا يهمه شرف الخلافة ولا العلو في الأرض، فقد فضل أن تحقن دماء المسلمين وينعم الناس بالأمن والهدوء، ولو كان ذلك على هضم حقه في الخلافة بعد أن تمت له البيعة بها، فقد كان رضي الله عنه لا يوازن بين مصلحته ومصلحة المسلمين بل يقدم مصلحة المسلمين ويبقى مصلحته ذخرا عند الله؛ لينال ثوابها يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. أما موقف غلاة الإباضية من طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام فهو لا يقل عن موقفهم من علي وعثمان فهما عندهم في منزلة البراءة والبعد، وينسبون هذا الموقف الخاطئ إلى جميع المسلمين، كما جاء في كتاب (الكفاية)، "فإن قال قائل: فما تقولون في طلحة والزبير بن العوام؟ قلنا: إنهما عند المسلمين بمنزلة البراءة" (1).ويوضح الورجلاني أيضا موقف الإباضية منهما بأنهما ممن أوجب الله لهما النار وحرم عليهما الجنة بعكس ما نطق به من لا ينطق عن الهوى، فقد بشرهما الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة وهم يبشرونهما بالنار!! – يقول الورجلاني: "وأما علي بن أبي طالب فإن ولايته حق عند الله تعالى – يعني به قبل التحكيم – وكانت على أيدي الصحابة وبقية الشورى، ثم قاتل طلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين فقتاله حق عند الله لشقهم العصا عصا الأمة، ونكثهم الصفقة، فسفكوا الدماء وأظهروا الفساد، فحل لعلي قتالهم وحرم الله عليهم الجنة، فكانت عاقبتهما إلى النار والبوار" (2) فسبحان الله العظيم! ما أجرأ أهل الزيغ على شتم الصحابة الأخيار الذين نصروا الإسلام بأنفسهم وأموالهم وكانوا من جنوده البواسل في ساعة العسرة، قبل أن يوجد آباء وأجداد هؤلاء المعتدون الذين ينتقصونهم ويحكمون عليهم بالنار، لقد كان طلحة والزبير رضي الله عنهما من خيار الصحابة ومن المشهود لهم بالجنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، ولهم مواقف مشرفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كانت في السلم أو في الحرب من طاعة وتضحية وإقدام في مجاهدة الكفار، وما أحرى بالمسلم أن يترك تنطع الخوارج والشيعة في موقفهم من الصحابة، فإنه لا يقف موقفهم أحد فيسلم إلا أن يتداركه الله برحمته ويلهمه التوبة. يجب علينا أن نحسن الظن بالصحابة وأن نعتبر ما جرى بينهم من فتن لأمور وحكم أرادها الله، ونكل أمرهم فيها إلى الله ولا نقول فيهم إلا خيرا ونترحم عليهم وهم سلفنا وخيارنا رضي الله عنهم أجمعين. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص476   (1) ((كشف الغمة)) (ص304). (2) ((الدليل لأهل العقول)) (ص28). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 المطلب الثاني: موقف الخوارج من عامة المسلمين المخالفين لهم • أ- موقف الغلاة منهم: . • ب- موقف المعتدلين منهم:. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 أ- موقف الغلاة منهم: يذكر الأشعري أن الخوارج مجمعون على أن مخالفيهم يستحقون السيف حلال دماؤهم، إلا فرقة الإباضية فإنها لا ترى ذلك إلا مع السلطان كما عبر عن هذا بقوله: "وأما السيف فإن الخوارج جميعا تقول به وتراه، إلا أن الإباضية لا ترى اعتراض الناس بالسيف، ولكن يرون إزالة أئمة الجور ومنعهم من أن يكونوا أئمة بأي شيء قدروا عليه، بالسيف أو بغير السيف" (1).ويقول الشاطبي في كلامه عن الاختلافات الضالة التي أدت بالمسلمين إلى تكفير بعضهم بعضا وسفكوا بسببها دماءهم - قال: "ألا ترى كيف كانت ظاهرة في الخوارج الذين أخبر بهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان)) (2).وقد اختلف علماء الفرق في تحديد أول من حكم بتشريك أهل القبلة وتكفيرهم، هل هم الأزارقة أم هم المحكمة الأولى؟، فهناك من يرى أن الأزارقة هم الذين ابتدعوا القول بإكفار المسلمين، يقول الأشعري: "وأول من أحدث الخلاف بينهم نافع بن الأزرق الحنفي، والذي أحدثه البراءة من القعدة والمحنة لمن قصد عسكره وإكفار من لم يهاجر إليه" (3).ويرى البغدادي أن الأزارقة هم الذين ابتدعوا القول بتشريك المسلمين، أما المحكمة فلم يحكموا عليهم إلا بالكفر، وذلك حسب قوله: "ومنها - أي من بدع الأزارقة - قولهم بأن مخالفيهم من هذه الأمة مشركون، وكانت المحكمة الأولى يقولون إنهم كفرة لا مشركون" (4).ومثل ما ذكره البغدادي في هذا المقام نجده عند صاحب كتاب (الأديان الإباضي)، فإنه يرى أن نافعا لم يسبقه أحد بالقول بتشريك المخالفين واستحلال دماء أطفال مخالفيه، ويرى أن الخوارج كلهم على حق وصواب أحربهم في الخروج، لولا زلة الخوارج نافع بن الأزرق وخروجه على أهل الحق، كما يرى المؤلف (5).   (1) ((المقالات)) (1/ 204). (2) ((الاعتصام)) (2/ 233) والحديث رواه البخاري (3344) ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد. (3) ((المقالات)) (1/ 169). (4) ((الفرق بين الفرق)) (ص83). (5) ((كتاب الأديان)) (ص97). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 والواقع أنه سيتبين لنا فيما يأتي من دراستنا لما صدر عن المحكمة الأولى من أقوال وأفعال، وما دار بينهم وبين مخالفيهم من محاورات ومناظرات، أنهم كانوا سابقين إلى تكفير مخالفيهم من المسلمين وتشريكهم ومعاملتهم على هذا الأساس، وأن الأزارقة لم يكونوا في ذلك إلا تبعا لهم، وإن كانوا قد غالوا في هذا الموقف غلوا شديدا كما سنرى فيما بعد. وأول ما نستشهد به على موقف المحكمة الأولى من مخالفيهم من المسلمين هو ما ذكره قيس بن سعد بن عبادة في محاورته لهم ليرجعوا إلى الطاعة والجماعة، ويخطئهم في موقفهم تجاه المسلمين حين اعتبروهم مشركين؛ فسفكوا دماءهم واستحلوا حرماتهم ومنه قوله يقرر عليهم أفعالهم: "فإنكم ركبتم عظيما من الأمر تشهدون علينا بالشرك، والشرك ظلم عظيم، وتسفكون دماء المسلمين وتعدونهم مشركين" (1). فهذه شهادة من شاهد عيان بأن المحكمة الأولى كانوا يعدون مخالفيهم مشركين، هذا ما رواه عنه الطبري. ويذكر نصر بن مزاحم المنقري أن المحكمة قالوا بتشريك مخالفيهم وعلى رأسهم الإمام علي، فبرئ علي منهم وبرئوا منه وافترقوا على هذا، وذلك في قوله عنهم: "فبرئوا من علي وشهدوا عليه بالشرك وبرئ علي منهم" (2)، وكما أشرك - في نظرهم- الإمام علي أشرك كذلك ابنه الحسن رضي الله عنهما؛ فقد أقبل عليه الجراح بن سنان - وذلك بعد مصالحته معاوية - وقال له: "أشركت كما أشرك أبوك، ثم طعنه في أصل فخده" (3).فالمحكمة كما ظهر مما سبق قد حكمت بالشرك على مخالفيهم، وقد حكموا أيضا عليهم بالكفر كما يرويه عنهم الملطي بقوله: "والفرقة السابعة: الحرورية، يقولون بتكفير الأمة" (4). ومن الحوادث التي تثبت تكفيرهم لمخالفيهم وبالتالي استحلالهم لدمائهم ما هو معروف مشهور من قتلهم عبدالله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من المسلمين. فقد ورد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه "بعث إلى أهل النهروان أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا نقتلهم بهم ثم أنا تارككم وكاف عنكم حتى ألقى أهل الشام، فلعل الله يقلب قلوبكم ويردكم إلى خير مما أنتم عليه من أمركم، فبعثوا إليه: كلنا قتلهم وكنا نستحل دماءهم ودماءكم" (5). فلو لم يكونوا معتقدين كفرهم وخروجهم عن الإسلام في زعمهم لما استحلوا دماءهم. وقد كان رجل يسمى الخريت بن راشد من أشد الخارجين على علي وعلى المسلمين عموما، فقد كان في طريقه يقتل كل من يقول إنه مسلم ويخلي سبيل من لا يعتقد الإسلام، وكان هذا الفعل منه مصداقا للحديث القائل: ((يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان))، أو كما قال عليه السلام (6).هذا الرجل خرج على الإمام علي فيمن أطاعه من قومه وغيرهم، وفي أثناء سيرهم نحو قرية يقال لها نفر- حدث ما بينه كتاب أحد عمال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ويسمى قرظة بن كعب الأنصاري يخبره فيه بمسير الخوارج، قال فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فإني أخبر أمير المؤمنين أن خيلا مرت بنا من قبل الكوفة متوجهة نحو نفر وأن رجلا من دهاقين أسفل الفرات قد صلى يقال له: زاذان فروخ أقبل من قبل أخواله بناحية نفر فعرضوا له، فقالوا: أمسلم أنت أم كافر؟ فقال: بل أنا مسلم قالوا: فما قولك في علي؟ قال: أقول فيه خيرا، أقول: إنه أمير المؤمنين وسيد البشر، فقالوا له: كفرت يا عدو الله. ثم حملت عليه عصابة منهم فقطعوه" (7).   (1) ((تاريخ الطبري)) (5/ 83). (2) ((وقعة صفين)) (ص518). (3) ((تلبيس إبليس)) (ص95). (4) ((التنبيه والرد)) (ص56). (5) ((تاريخ الطبري)) (5/ 83). (6) رواه البخاري (3344)، ومسلم (1064). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. بلفظ: ( ... يقتلون أهل الإسلام. ويدعون أهل الأوثان ... ). (7) ((تاريخ الطبري)) (5/ 117) .. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 بل إنهم قالوا في تكفير الناس لأقل سبب حتى حكموا على أنفسهم بالكفر حين قبلوا التحكيم أول الأمر، ففي أثناء محاورتهم مع علي أقروا على أنفسهم أنهم قد كفروا ثم تابوا، وأن هذا الحكم عام على الجميع حتى على نفسه، فإن عليه إذا أراد الإسلام أن يعلن كفره وتوبته، هكذا بلغ بهم العناد والجهل فقالوا له: "إنا حكمنا، فلما حكمنا أثمنا وكنا بذلك كافرين وقد تبنا، فإن تبت كما تبنا فنحن منك ومعك، وإن أبيت فاعتزلنا فإنا منابذوك على سواء، إن الله لا يحب الخائنين"، فأجابهم علي رضي الله عنه بقوله: "أصابكم حاصب ولا بقي منكم وابر - أي أحد -! أبعد إيماني برسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله أشهد على نفسي بالكفر؟! لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين" (1). وهكذا يتبين لنا مما سبق ومن غيره مما لم نرد إطالة القول بذكره ثبوت تكفير المحكمة وتشريكهم لأهل القبلة، ومعاملتهم لهم على هذا الأساس، وقد تابعهم على ذلك الخوارج فيما بعد ولا سيما نافع بن الأزرق. ويذكر المبرد أن نافعا كان لا يرى أول الأمر أن مخالفيه مشركون، ولا يرى أيضا قتل الأطفال حتى جاء مولى لبني هاشم فقال له تلك المقالة، فانتهره بادي الأمر ولكنه ما زال به حتى أقنعه بذلك الرأي الخاطئ، ومن هنا أخذ في تطبيقه بكل قسوة وعنف، يقول المبرد: "ولم يزالوا على رأي واحد يتولون أهل النهر ومرداسا ومن خرج معه، حتى جاء مولى لبني هاشم إلى نافع فقال له: إن أطفال المشركين في النار وإن من خالفنا مشرك، فدماء هؤلاء الأطفال لنا حلال، قال له نافع: كفرت وأدللت على نفسك، قال له: إن لم آتك بهذا من كتاب الله فاقتلني: وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح: 26، 27]، فهذا أمر الكافرين وأمر أطفالهم، فشهد نافع أنهم جميعا في النار ورأى قتلهم" (2).   (1) ((تاريخ الطبري)) (5/ 84). (2) ((الكامل)) للمبرد (2/ 176). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 وأيا كان الأمر، فإن كون هذا الموقف لنافع ابتداء أو بعد تلك المحاورة، فالمهم أنه اقتنع به، بل وغالى فيه حتى أصبح الأزارقة هم أكبر من تزعم القول بتشريك المخالفين وإخراجهم عن الملة واستباحة كل شيء منهم، وقد أتبعوا قولهم بالفعل فسفكوا الدماء، وانتهكوا المحرمات، وقتلوا مخالفيهم كبارهم وصغارهم، لم يراعوا في ذلك فيهم إلا ولا ذمة، وقد تواترت أقوال العلماء في ذلك يؤيد بعضهم بعضا على أن الأزارقة هم شر الفرق وأشدهم على أهل الإسلام. وقد ذكر موقفهم من مخالفيهم علماء الإسلام، ومنهم الأشعري حيث قال في معرض بيانه لأقوال الأزارقة: وإنهم يقولون: "إن الدار دار كفر، يعنون دار مخالفيهم" (1). وما دام مخالفوهم بهذه الصفة، فلا بأس في حقهم حتى في ارتكاب ما ينافي الأخلاق والعرف بين الناس، فيجوز خيانة الأمانة، وعدم أدائها إليهم، "واستحلوا خفر الأمانات التي أمر الله بأدائها، وقالوا: قوم مشركون لا ينبغي أن تؤدى الأمانة إليهم" (2).ويقول البغدادي: "وزعم نافع وأتباعه أن دار مخالفيهم دار كفر" (3).ويقول الملطي: "فصنف منهم يقال لهم الأزارقة وهم أصعب الخوارج وأشرهم فعلا وأسوأهم حالا" (4)؛ وذلك بما اعتقدوه في الناس وما فعلوه بهم، بل إنهم يعتبرون حتى أنفسهم مشركين بمخالطتهم مخالفيهم والإقامة معهم حتى يخرجوا عنهم فيثبت إسلامهم عند ذاك، وإلا فهم مثلهم مشركون، كما يقول ابن الجوزي مبينا ذلك: "وكان أصحاب نافع بن الأزرق يقولون: نحن مشركون ما دمنا في دار الشرك، فإذا خرجنا فنحن مسلمون، قالوا: ومخالفونا في المذهب مشركون" (5) وهذا يدل على غاية جهلهم وتعصبهم لرأيهم، فهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم حين كان في مكة قبل الهجرة بين المشركين مشركا بسبب مقامه؟! هذا منهم ضلال إضافة إلى ضلالتهم في اعتبارهم المسلمين المخالطين لهم مشركين، ولكن الله قد جعل بأسهم بينهم يقتل بعضهم بعضا ويغنم بعضهم مال بعض شأن أهل الأهواء والبدع، بقول صاحب كتاب (الأديان): "واجمعوا على تشريك أهل القبلة وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم، ومنهم من يستحل قتل السريرة والعلانية، واعترضوا الناس بالسيف على غير دعوة ومنهم من لا يستحل قتل السريرة وهم مختلفون فيما بينهم، يقتل بعضهم بعضا، ويغنم بعضهم مال بعض، ويبرأ بعضهم من بعض" (6).   (1) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 170). (2) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 174). (3) ((الفرق بين الفرق)) (ص84). (4) ((التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع)) (ص167). (5) ((تلبيس إبليس)) (ص95). (6) من ((كتاب الأديان والفرق)) (ص97). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 وقد استدل نافع بالآيات التي وردت في المشركين زاعما أنها تشمل مخالفيه من المسلمين، وذلك حين قام خطيبا في أصحابه يذكرهم بنعمة الله عليهم حيث عرفهم من الحق ما لم يعرفه غيرهم، وأنه لا ينبغي لهم ولاية أحد من مخالفيهم، فلا يجوز التزوج منهم، أو موارثتهم، أو حتى الإقامة معهم، ومن قوله في ذلك: "فقد أنزل الله تبارك وتعالى: بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ [التوبة:1]، وقال: وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221]، فقد حرم الله ولايتهم، والمقام بين أظهرهم، وإجازة شهادتهم وأكل ذبائحهم، وقبول علم الدين عنهم، ومناكحتهم وموارثتهم، وقد احتج الله علينا بمعرفة هذا وحق علينا أن نعلم هذا الدين الذين خرجنا من عندهم ولا نكتم ما أنزل الله، والله عز وجل يقول: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ [البقرة:174] ".قال الطبري: "فاستجاب له إلى هذا الرأي جميع أصحابه" (1) وقد أورد الشاطبي رحمه الله قصة عجيبة لهم تدل على فساد اعتقادهم وخروجهم عن الجادة بقتلهم من يقول إنه مسلم دون التحقيق من صدقه أو كذبه، وكأنما قول المخالف لهم: أنا مسلم يساوي قوله أنه كافر، كما سنراهم حين يأخذون عبادة بن قرط الذي رجع من غزو الكفار الحقيقيين، والذي جاءهم حين سمع الأذان لا ليشاهد كيفية الصلاة ولكن ليدخل في الصلاة مسلما مؤمنا بربه ونبيه، هذه القصة عبر عنها الشاطبي بقوله: "روي في حديث خرجه البغوي في معجمه عن حميد بن هلال أن عبادة بن قرط غزا فمكث في غزاته تلك ما شاء الله ثم رجع مع المسلمين منذ زمان، فقصد نحو الأذان يريد الصلاة، فإذا هو بالأزارقة - صنف من الخوارج - فلما رأوه قالوا: ما جاء بك يا عدو الله؟ قال: ما أنتم يا إخوتي، قالوا: أنت أخو الشيطان لنقتلنك، قال: أما ترضون مني بما رضي به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قالوا: وأي شيء رضي منك؟ قال: أتيته وأنا كافر، فشهدت أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلى عني. قال: فأخذوه فقتلوه" (2).   (1) ((تاريخ الطبري)) (5/ 567). (2) ((الاعتصام)) (2/ 226). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 فهل بعد فعلتهم هذه حماقة أو جهالة؟! رجل يحدثهم بموقفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أشد من موقفه معهم، فيقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامه بغض النظر عما سلف منه وهم لا يقبلونه، فهل كانوا أحرص على الإسلام وأغير من رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام؟! ويذكر ابن حزم تفرقتهم بين المسلمين والذميين في المعاملة فيقول: "وقالوا باستعراض كل من لقوه من غير أهل عسكرهم ويقتلونه إذا قال: أنا مسلم، ويحرمون قتل من انتمى إلى اليهود أو إلى النصارى أو المجوس، وبهذا شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم بالمروق من الدين كما يمرق السهم من الرمية، إذ قال عليه السلام إنهم يقتلون أهل الإسلام، ويتركون أهل الأوثان، وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم إذ أنذر بذلك، وهو من جزئيات الغيب فخرج كما قال" (1).ويقول ابن عبد ربه كذلك: "فقال نافع باستعراض الناس والبراءة من عثمان وعلي وطلحة والزبير، واستحلال الأمانة وقتل الأطفال" (2).وقد عاب نجدة بن عامر على نافع ما ذهب إليه من تكفيره للقعدة واستحلاله قتل الأطفال، ثم رأيه في عدم أداء الأمانة إلى من ائتمنه من مخالفيه، واستدل عليه في كل ما تقدم بأدلة من القرآن (3)، وذلك في كتاب أرسله نجدة إليه. وقد أجاب نافع عن كتاب نجدة بكلام جاء فيه بالنسبة لمخالفيهم قوله: "وأما استحلال الأمانات، فمن خالفنا فإن الله عز وجل أحل لنا أموالهم كما أحل لنا دماءهم، فدماؤهم حلال طلق، وأموالهم فيء للمسلمين" (4). وفي هذا تبرير منه لأمر باطل بأمر باطل مثله، فما أحل الله له دماء المسلمين حتى يبني عليه استحلاله لأموالهم. وقد وصف سليمان مظهر معاملتهم لمخالفيهم بأنهم "كانوا يأتون بأفظع المنكرات، كأنهم لا يدينون بإله ولا يعرفون شفقة ولا رحمة" (5).ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنهم يستحلون من مخالفيهم المسلمين ما لا يستحلون من الكافر الأصلي (6).ومثل تشدد الأزارقة تجاه مخالفيهم في حكمهم عليهم بالشرك واستحلال دمائهم وأموالهم - ما نجده عند طائفة من فرقة البيهسية فهي تقول بأن مخالفيهم مشركون حلال دماؤهم وأموالهم، وهي لا تقل في ذلك عنفا عن الأزارقة، يقول الأشعري مبينا أقوال هذه الطائفة: "وقالت: الدار دار شرك وأهلها جميعا مشركون، وتركت الصلاة إلا خلف من تعرف، وذهبت إلى قتل أهل القبلة وأخذ الأموال، واستحلت القتل والسبي على كل حال" (7).ثم زاد هذا تأكيدا في موضع آخر عن حاك لم يعينه يذكر أن هذا الحكم هو ما يعتقده جميع البيهسية، فهو يقول: "وحكي أن البيهسية تقول بقتل أهل القبلة وأخذ الأموال، وترك الصلاة إلا خلف من تعرف، والشهادة على الدار بالكفر" (8).ومثل هذه الطائفة من البيهسية التي استحلت قتل مخالفيهم وغنيمة أموالهم مثلها طائفة من الصفرية إلا أن هذه الطائفة تفوق تلك بتعمقها بدرجة أكبر في الفوضوية والجهل، فهي تعتبر القتل مقصودا لذاته من أي ملة كان، سواء كان مؤمنا في ميزانهم أم كافر، من غير تمييز، وذلك فيما يذكره ابن حزم بقوله: "وقالت طائفة من الصفرية بوجوب قتل كل من أمكن قتله من مؤمن عندهم أو كافر، وكانوا يؤولون الحق بالباطل" (9). فإذا كانوا بهذه المثابة فكيف يمكن أن يتعايشوا مع الناس، بل كيف يمكن تعايشهم أيضا فيما بينهم؟! اللهم إلا كتعايش الحيوانات المتوحشة في الغابات. ونضيف إلى هؤلاء الغلاة المتشددين من الخوارج مع غيرهم بل مع الخوارج أنفسهم حمزة بن أكرك، فمع أنه كان لا يرى قتل مخالفيه إلا بعد إعلان الحرب؛ إلا أنه بلغت به الشدة على من لا يوافقه على آرائه أن يعتبره كافرا مشركا وإن كان من الخوارج القعدة الذين يواليهم، وكان مفسدا متجاوزا حد الرحمة مع مخالفيه، وهو ما يذكره عنه البغدادي في قوله: "ثم إنه والى القعدة من الخوارج مع قوله بتكفير من لا يوافقه على قتال مخالفيه من فرق هذه الأمة مع قوله بأنهم مشركون، وكان إذا قاتل قوما وهزمهم أمر بإحراق وعقر دوابهم، وكان مع ذلك يقتل الأسرى من مخالفيهم" (10). وله مواقف عديدة وحروب عنيفة مع فرق الخوارج الذين أبوا من موافقته والدخول في طاعته، فقد تابع عليهم الحملات حتى أباد كثيرا منهم في معارك رهيبة تمثلت فيها غاية القسوة والبطش. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي- ص481   (1) ((الفصل)) (4/ 189، وانظر: ((الكامل)) لابن الأثير (4/ 167). (2) ((العقد الفريد)) (1/ 223). (3) ((العقد الفريد)) (2/ 396). (4) ((العقد الفريد)) (ص397). (5) ((قصة الديانات)) (ص551). (6) ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (3/ 355). (7) ((المقالات)) (1/ 194). (8) ((المقالات)) (ص205). (9) ((الفصل)) (4/ 190). (10) ((الفرق بين الفرق)) (ص98). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 ب- موقف المعتدلين منهم: ورغم ما تقدم من تشدد الخوارج تجاه مخالفيهم إلا أننا نجد بعض الفرق منهم قد خففت من وطأتها وإن كان تخفيفا لا يكاد يذكر، فنجد مثلا الأخنسية منهم يحرمون الغدر وشبهه بمخالفهم، أو قتله قبل الدعوة ما دام شخصا مجهول الحال، أما إذا عرف بما يوجب قتله عندهم فإنه يقتل كيف ما كان، وهذا ما يقوله الأشعري عنهم: "ويحرمون الاغتيال والقتل في السر، وإن يبدأ بأحد من أهل البغي من أهل القبلة بقتال حتى يدعى إلا من عرفوه بعينه" (1).بل وصل بهم التسامح إلى أن جوزوا تزويج المسلمات من مخالفيهم المشركين أهل الكبائر والذنوب، وهذا ما يرويه الشهرستاني عنهم بقوله: "وقيل إنهم جوزوا تزويج المسلمات من مشركي قومهم أصحاب الكبائر" (2).ويؤيد ما قاله الشهرستاني عنهم ما جاء في كتاب (الأديان) لمؤلفه الإباضي؛ حيث يذكر أنهم في حكمهم المتقدم يوافقون الإباضية إلا في مسألة سبي وغنيمة مخالفيهم، فإنهم على مذهب الخوارج كما قال عن رئيسهم الأخنس: "وجوز تزويج نساء أهل الكبائر من قومهم على أصول أهل الاستقامة، إلا أنه خالفهم في السبي والغنيمة من أهل القبلة على مذهب الخوارج" (3). ومثل هذا التسامح الضئيل من الأخنسية نجده عند الحمزية من العجاردة أو العجاردة كلهم على ما جاء في تعبيرات بعض علماء الفرق عنهم، نجد هذه الفرقة لا تبيح قتل مخالفيهم من أهل القبلة أو استحلال أموالهم، إلا بعد إعلان الحرب وخوضها، فإذا قامت الحرب فإن الأموال لا تباح حتى يقتل أصحابها، فيعتبر قتل صاحب المال تحليلا ورفعا للإثم في أخذ ماله، أي أن ارتكاب جريمة القتل تبيح جريمة استحلال ماله في ميزانهم المعكوس. يقول الأشعري فيما يحكيه عن أحد الرواة المسمى زرقان: "وحكى زرقان أن العجاردة أصحاب حمزة لا يرون قتل أهل القبلة ولا أخذ المال في السر حتى يبعث الحرب" (4).أما البغدادي فيعمم الحكم على جميع العجاردة بقوله: "والعجاردة لا يرون أموال مخالفيهم فيئا إلا بعد قتل صاحبه" (5).وأما الشهرستاني فيجعل الحكم ليس للعجاردة ولا للحمزية ولكنه من أقوال عبدالكريم بن عجرد رئيس العجاردة، وأنه مما تفرد به عبدالكريم كما هو الظاهر من قوله عنه: "ولا يرى المال فيئا حتى يقتل صاحبه" (6).   (1) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 180، ((الفرق بين الفرق)) (ص101)، ((الملل والنحل)) (1/ 132). (2) ((الملل والنحل)) (1/ 132). (3) من ((كتاب الأديان)) (ص105). (4) ((المقالات)) (1/ 177). (5) ((الفرق بين الفرق)) (ص94). (6) ((الملل والنحل)) (1/ 128). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 ولعل أكثر الخوارج اعتدالا تجاه مخالفيهم وأكثر تسامحا معهم والشخصية المثالية لدى الخوارج بل والشيعة أيضا هو أبو بلال مرداس بن أدية، فقد كان معتدلا زاهدا مجتهدا في العبادة معظما عند كل الخوارج، وكان مسالما، فعندما خرج بأصحابه فارا بدينه من أحكام الظلمة – يعني حكام بني أمية – لقيه أحد أصدقائه فأشار عليه بعدم الخروج خوفا عليه من بطش زياد، فطمأنه بأنه سوف لا يخيف آمنا ولا يجرد سيفا إلا على من قاتله. وكان مما أثار هيجانه وجعله يخرج أن زيادا ذات يوم خطب على المنبر وكان مرداس يسمعه، فكان من قوله: "والله لآخذن المحسن منكم بالمسيء، والحاضر منكم بالغائب، والصحيح بالسقيم". وهذا بالطبع ما لا تحتمله الخوارج، إذ يعلن جوره في أحكامه علانية غير مبال بالخوف من الله أو على الأقل من فتنة الناس، فثارت ثائرة مرداس "فقام إليه مرداس فقال: قد سمعنا ما قلت أيها الإنسان، وما هكذا ذكر الله عز وجل عن نبيه إبراهيم عليه السلام إذ يقول: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى [النجم: 37 - 41] وأنت تزعم أنك تأخذ المطيع بالعاصي، ثم خرج عقب هذا اليوم" (1).ويثبت المبرد هنا أن المعتزلة والشيعة تنتحله، وأنه حينما أراد الخروج بعدما عيل صبره وانتهى أمله في صلاح حكامه – قال: "والله ما يسعنا المقام بين هؤلاء الظلمة تجري علينا أحكامهم مجانبين للعدل مفارقين للفصل، والله إن الصبر على هذا لعظيم وإن تجريد السيف وإخافة السبيل لعظيم، ولكننا ننتبذ عنهم ولا نجرد سيفا ولا نقاتل إلا من قاتلنا" (2).   (1) ((الكامل)) للمبرد (2/ 136). (2) ((الكامل)) للمبرد (2/ 155، 156). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 فهو يرى أنه بين خيارين: إما أن يستكين لظلم الولاة وهذا عظيم أو يجرد السيف في وجوههم وهذا عظيم أيضا لما يترتب عليه من سفك الدماء، ولكنه أراد حلا وسطا وهو الهرب بدينه وعدم تجريد السيف، ولكن هذا الحل لا يمكن أن يقبله الحكام الأمويون بالبداهة. ومن المعتدلين من الخوارج أبو بيهس هيصم بن جابر الضبعي، ولكنه اعتدال غير كامل، فقد أحل المقام بين مخالفيه وجوز مناكحتهم وموارثتهم ولكنه اعتبرهم في الأحكام الدنيوية منافقين يظهرون الإسلام ويخفون النفاق، وأما حكمهم عند الله، فقد زعم بأنه حكم المشركين (1).وكذلك صالح بن مسرح، فقد كان يرى أنه يجب دعوة مخالفيه قبل قتالهم؛ لأنه أقطع للعذر وأبلغ في الحجة عليهم، بينما كان شبيب وهو الزعيم الثاني بعد صالح يحبذه على القول بالفتك بمخالفيهم قبل الدعوة، فحينما اجتمع شبيب بصالح بعد المكاتبة بينهما واتفاقهما على الخروج – يروي بنفسه ما جرى بينه وبين صالح بن مسرح فيقول: "لما هممنا بالخروج، اجتمعنا إلى صالح بن مسرح ليلة خرج، فكان رأيي استعراض الناس لما رأيت من المنكر والعدوان والفساد في الأرض، فقمت إليه فقلت يا أمير المؤمنين: كيف ترى في السيرة في هؤلاء الظلمة؛ أنقتلهم قبل الدعاء أو ندعوهم قبل القتال؟ وسأخبرك برأيي فيهم قبل أن تخبرني فيهم برأيك، أما أنا فأر أن نقتل كل من لا يرى رأينا قريبا كان أو بعيدا، فإنا نخرج على قوم غاوين طاغين باغين قد تركوا أمر الله واستحوذ عليهم الشيطان، فقال: لا بل ندعوهم، فلعمري لا يجيبك إلا من يرى رأيك وليقاتلنك من يرزي عليك والدعاء أقطع لحجتهم وأبلغ في الحجة عليهم، قال: فقلت له: فكيف تر فيمن قاتلنا فظفرنا به؟ ما تقول في دمائهم وأموالهم؟ فقال: إن قتلنا وغنمنا فلنا وإن تجاوزنا وعفونا فموسع علينا ولنا. قال: فأحسن القول وأصاب رحمة الله عليه وعلينا" (2). فهذه المحاورة الفقهية السياسية في شأن مخالفيهم تعلقت بأمور هي: هل عليهم دعوة مخالفيهم قبل القتال أو لا؟ وهل الأسرى يجب قتلهم أو استبقاؤهم؟ ثم الحكم في الأموال ثم الغنائم، وهكذا. وهذا يفيد أنهم نوعا ما كانوا أخف وطأة من الأزارقة وإن كانوا قد عقدوا العزم على قتال مخالفيهم أو يذعنوا لطاعتهم؛ لأنهم في نظرهم خارجون عن تطبيق الإسلام الصحيح، فيجب أن توضع الحلول لتلك المسائل التي تعلقت بمخالفيهم، ولهذا فقد أنكر صالح على نافع بن الأزرق غلوه وعلى ابن إباض في تقصيره في الحكم على مخالفيهم، فقال لابن إباض: "برئ الله منك فقد قصرت، وبرئ من ابن الأزرق فقد غلا" (3). ونحب أن نذكر هنا موقف الإباضية من مخالفيهم، سواء ما قاله علماء الفرق أو ما قالوه هم عن أنفسهم، لنرى مدى التقارب أو التباعد بينهم وبين غيرهم من فرق الخوارج في هذه المسألة. والواقع أن حكم الإباضية في مخالفيهم قد تميز بنوع من الاعتدال وحب التقارب مع غيرهم، فهم لا يحكمون عليهم بالشرك، وإن كانوا لا يعتبرونهم كاملي الإسلام بل هم كفار.   (1) انظر: ((العقد الفريد)) (1/ 223). (2) ((تاريخ الطبري)) (6/ 219). (3) ((الكامل)) لابن الأثير (4/ 168). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 وهذا التعبير هو ما يستعمله الأشعري والبغدادي والشهرستاني. يقول الأشعري: "وجمهور الإباضية يتولى المحكمة كلها إلا من خرج، ويزعمون أن مخالفيهم من أهل الصلاة كفار وليسوا بمشركين" (1).وهكذا عند البغدادي، فقد ذكر أنهم يرون أن مخالفيهم "براء من الشرك والإيمان وأنهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين ولكنهم كفار" (2). وكذا عند الشهرستاني (3).وقد زاد البغدادي حكما آخر عن الإباضية وهو أنهم يعتبرون مخالفيهم محاربين لله ولرسوله، فيكون قد تميز بذكر حكمين لمخالفيهم، أي أنهم كفار وأنهم محاربون، وذلك في قوله: "وزعموا أنهم – يعني مخالفي الإباضية – في ذلك محاربين لله ولرسوله لا يدينون دين الحق" (4). ولكن هل يطبقون حكم المحاربين عليهم؟ سنرى فيما بعد ما يقوله الإباضية عن أنفسهم. وقد انتقد على معمر هذا الأسلوب في حكم الإباضية على مخالفيهم ووصفه بأنه أسلوب موهم غامض، وأن كثيرا مما قيل عن الإباضية في هذا الباب "إنما هو – كما يقول معمر – تشنيعات وتلفيقات من ناس يريدون أن يوقدوا نار الفتنة ضد الإباضية، وأن يجعلوهم مكروهين من بقية إخوانهم المسلمين فينسبون إليهم عقائد ومقالات يبرأون منها وممن يقول بها، ويسوقون عنهم أقوالا في غاية الغموض والإبهام؛ لإثارة الرأي العام ضدهم ... إلخ" (5). ومن هذه الإيهامات – كما يرى – ذلك التعبير الذي تقدم عند الأشعري ومن أخذ عنه، حيث لم يبينوا ما إذا كان المسلمون في نظر الإباضية كفار ملة أو كفار نعمة. وقد تقدم أن الإباضية يرون أن مخالفيهم من المسلمين كفار نعمة لا كفار ملة، ولا ندري كيف جمع الأشعري والبغدادي بين القول بتكفير الإباضية لمخالفيهم تكفيرا مطلقا، والقول باعتبار دارهم دار توحيد إلا معسكر السلطان؟! يقول الأشعري في هذا: "وزعموا أن الدار – يعنون دار مخالفيهم – دار توحيد إلا معسكر السلطان فإنه دار كفر، يعني عندهم" (6). وهكذا عند البغدادي إلا أنه قصر الدار على مكة، فهي دار التوحيد عندهم إلا معسكر السلطان، فالأشعري يذكر أنهم عمموا الحكم على جميع دور مخالفيهم، والبغدادي خصصها بدور مكة والتناقض في هذه الرواية عن الإباضية ظاهر إذا كانا يقصدان هنا بتكفير الإباضية لمخالفيهم أنه كفر ملة، وإلا كان تساهلا منهم في التعبير عن مذهب الخوارج. أما رأي الإباضية في الدار فإنهم يقسمونها إلى قسمين: دار إسلام ودار كفر، ودار الكفر لا تنطبق بأي حال على دور مخالفيهم من المسلمين، سواء في ذلك عامة الناس أو معسكر السلطان، خلافا لما ذكره الأشعري وغيره من اعتبارمعسكر السلطان دار كفر عند الإباضية، ودار الإسلام لا تخلو عندهم عن أربع صور هي: 1 - أن يكون أهل الوطن كلهم مسلمين والسلطان عادل ملتزم بالمنهج الإسلامي، وفي هذه الصورة تكون الدار دار إسلام ومعسكر السلطان معسكر إسلام. 2 - أن يكون أهل الموطن مسلمين ولكن حاكمهم وصل إلى الحكم بطرق غير مستكملة للشروط، ولكن بعد أن تسلم زمان الحكم التزم المنهج الإسلامي، وهذه الصورة في الحكم كسابقتها.   (1) ((المقالات)) (1/ 184). (2) ((الفرق بين الفرق)) (ص103). (3) ((الملل والنحل)) (1/ 134). (4) ((الفرق بين الفرق)) (ص103). (5) ((الإباضية بين الفرق)) (ص33، 43). (6) انظر: ((المقالات)) (1/ 185) , و ((الفرق بين الفرق)) (ص106). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 3 - أن يكون أهل الوطن مسلمين ويصل حاكمهم إلى الحكم بطرق شرعية، ولكنه بعد أن يتم له الأمر ينحرف، وفي هذه الصورة تكون الدار دار إسلام ومعسكر السلطان معسكر إسلام إلا أنه معسكر بغي وظلم.4 - أن يكون أهل الوطن مسلمين ويصل حاكمهم إلى الحكم بطرق غير شرعية ولم يلتزم المنهج الإسلامي، ففي هذه الحال "تعتبر الدار دار إسلام، ومعسكر السلطان معسكر إسلام، إلا أنه معسكر بغي وظلم وعدوان" (1). فالإباضية إذا لا يرون في هذه الصور من صور الحكم في بلاد الإسلام صورة يعتبرون فيها دار المسلمين من غيرهم دار كفر ولا معسكر سلطانهم كذلك، وأقصى ما وصفوا به معسكر السلطان هو البغي والظلم والعدوان. أما ما يذكره أهل الفرق عن معاملة الإباضية لغيرهم فهو القول بأن الإباضية يعتبرون أن مخالفيهم حلال مناكحتهم وموارثتهم ... وحرام قتلهم وسبيهم في السر إلا من دعا إلى الشرك في دار التقية ودان به ... وأنهم أجازوا شهادة مخالفيهم على أوليائهم وحرموا الاستعراض إذا خرجوا وحرموا دماء مخالفيهم حتى يدعوهم إلى دينهم. هكذا قيل عن سماحة الإباضية في حالة السلم، أما في حالة الحرب فيوصفون بأنهم لا يستحلون من أموال مخالفيهم بعد المعركة غير عدة الحرب وما يتقوى به عليه من السلاح والخيل ونحوهما.   (1) انظر: ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص295). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 كذلك من عاداتهم أنهم لا يتبعون المنهزمين في الحرب إذا كانوا من أهل القبلة، إلا أن يكونوا من المشبهة، فهم عندهم كأهل الردة يجوز قتلهم وسبيهم وغنيمة أموالهم واتباع المنهزم منهم. وفي المعركة لا يقتلون النساء ولا الأطفال على عكس ما يفعله الأزارقة (1).ومع هذا التسامح الذي ذكره الأشعري وغيره عن الإباضية إلا أنه يقول عنهم: "وقالوا جميعا أن الواجب أن يستتيبوا من خالفهم في تنزيل أو تأويل، فإن تاب وإلا قتل، كان ذلك الخلاف فيما يسع جهله أو فيما لا يسع جهله" (2). ويبقى هنا إشكال في هذا التعبير وهو: هل يستتيبون جميع المخالفين لهم عندما يكونون في دارهم أو في غير دارهم؟ أم أن هذا خاص بالأسرى؟ ومهما كان فكيف يبلغ بهم التشدد والتعصب حتى إنهم يقتلون من خالفهم، ولو كان هذا الخلاف فيما يسعه جهله، فإن هذا تشدد ظاهر. والواقع أن كتاب الإباضية ينفون هذه المعاملة لمخالفيهم عن أنفسهم، فيرى علي يحيى معمر – وهو أكبر من تزعم الدفاع عن الإباضية – أن الأشعري لم يلتزم بتحري الحقيقة في آراء الإباضية وإنما أخذها عن أناس مغرضين كانوا يهدفون إلى تشويه الإباضية عند مخالفيهم والتشنيع عليهم، واعتبر أن قول الأشعري: "وقالوا جميعا أن الواجب أن يستتيبوا من خالفهم في تنزيل أو تأويل، فإن تاب وإلا قتل"، وبين قوله عنهم: "ويزعمون أن مخالفيهم من أهل الصلاة كفار وليسوا بمشركين، حلال مناكحتهم وموارثتهم، حرام قتلهم وسبيهم" – اعتبر ذلك من أمثلة تناقض أهل المقالات والمؤرخين – وبالذات الأشعري – في شأن الإباضية، إلا أنه لم يجعل المسئولية كاملة على الأشعري، وإنما على من ألقى إليه هذه المعلومات الخاطئة حسب زعمه (3).ويشهد لما تقدم من رأي علي يحيى معمر ما رد به صاحب كتاب (الأديان والفرق) الإباضي على الأزارقة؛ من تخطئتهم في تشريكهم أهل القبلة ثم معاملتهم لهم على هذا الأساس الذي لا يقره الإباضية الذين أجازوا التعامل مع مخالفيهم في كل المجالات، وأن الإباضية لا يستحلون من مخالفيهم غير دمائهم في الحرب إذا وقعت بينهم – فقال: "وأما نقض ما احتجوا به – يعني الأزارقة – من تشريك أهل القبلة واستعراضهم بالسيف، فإن الله سبحانه حكم في أهل القبلة خلاف ما حكم به في المشركين، وأنه لم يحكم في أهل البغي بالسبي والغنيمة، وإنما حكم فيهم بدمائهم وحلها، ولم يحل منهم غير دمائهم، ولما قتل المسلمون عثمان لم يستحلوا منه غير دمه ولم يسبوا له عيالا ولا غنموا له مالا" (4).ونحو ما تقدم نجده عند عالم آخر من علمائهم هو أبو زكريا يحى بن الخير الجناوني، فقد أجاز معاملة المخالفين معاملة حسنة غير أنه ينبغي أن يدعوا إلى ترك ما به ضلوا، فإن أصروا ناصبهم إمام المسلمين الحرب حتى يذعنوا للطاعة ولا يحل منهم غير دمائهم (5).   (1) انظر: ((المقالات)) (1/ 285، و (ص188) وانظر: ((الفرق بين الفرق)) (ص103). (2) ((المقالات)) (1/ 186) ومثله البغدادي (ص107). (3) انظر: ((الإباضية بين الفرق)) (ص27،28). (4) قطعة من ((كتاب في الأديان)) (ص99). (5) كتاب ((الوضع)) للجناوني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 ولعل هذا الاستثناء يؤيد ما قاله الأشعري من ضرورة استتابة المخالفين وإلا قتلوا، وإن جعله معمر من التهم التي قيلت في الإباضية. ويوضح السالمي أيضا موقف الإباضية من مخالفيهم بإيضاح بين، وذلك في قوله: "لا نرى الفتك بقومنا - يعني مخالفيهم - ولا قتلهم غيلة في السر؛ لأن الله لم يأمر به في كتابه ولم يفعله أحد من المسلمين". ويقول أيضا: "نرى أن مناكحة قومنا وموارثتهم لا تحرم علينا ما داموا يستقبلون قبلتنا". ويقول عن الاستعراض الذي تدين به الأزارقة: "ولا نرى استعراض الناس بالسيف ما داموا يستقبلون القبلة" (1).ويقول الورجلاني عن مخالفيهم وما يكون عليه الإباضية في ساحة الحرب تجاههم: "وإن حاربناهم فإنا لا نتبع مدبرا ولا نجهز على جريح، وأموالهم مردودة عليهم إلا ما كان لبيت المال، فإنا نحوزه على وجهه ولا نتورع عن جميع ما في أيديهم من المظاليم عندنا إذا كان جائزا في مذهبهم وما كان في أيديهم من بيت مال المسلمين فإنا نأخذه ولا نرده إليهم، ونصرفه في وجوهه، وإن كان مظلمة رددناها إلى أهلها". ويرى الثعاريتي - وهو أحد علماء الإباضية - أن ما قيل عن الإباضية من تحليلهم لغنيمة أموال مخالفيهم من سلاحهم وكراعهم عند الحرب غير صحيح، "إذ تآليف أصحابنا - كما يقول - كلها ناطقة بتحريم أموال أهل القبلة في الحرب وغيرها للغني والفقير" (2). وأما ما حكاه الأشعري وغيره عنهم من استباحتهم قتل المشبهة وسبيهم وغنيمة أموالهم واتباع موليهم باعتبار أنهم مرتدون، فإن الإباضية لا تقر هذا التعبير على عمومه، بل يرون أنه صيغ بهذا الالتواء بقصد التشنيع على الإباضية كما يرى معمر، وذلك لأنه يشمل بعض من يعاملهم الإباضية معاملة المسلمين وإن اعتبروهم من المشبهة بسبب خطئهم في التعبير عن ذات الله تعالى، ذلك أن المشبهة عندهم ثلاثة أقسام: مجسمة وهم الذين يصفون الله بأنه جسم كالأجسام ثم يحددونه، وشبه مجسمة وهم كالمجسمة يحددونه، ولكن يحتجزون بقولهم "ونحن لا نعرف ذلك" كما عبر علي معمر، فأهل هذين القسمين هم عند الإباضية مشركون مرتدون، يقول معمر عن رأي الإباضية فيهم: "فالمجسمة يعتبرهم الإباضية مشركين لا فرق بينهم وبين عبدة الأوثان بسبب تصورهم وتصويرهم لإلههم بصورة المخلوق المحدود".أما القسم الثالث فهم الذين "يثبتون المعاني الحرفية لبعض الكلمات التي وردت في القرآن تثبت له الحركة أو الجوارح كاليد والعين والساق والمجيء والنزول والاستواء والمسرة والضحك، فيمسكون عن تأويلها بالمعنى المناسب ويقولون: كما أراد الله". وأهل هذا القسم يعتبرهم الإباضية مشبهة بسبب خطئهم في التأويل ولكنهم يعاملونهم معاملة المسلمين، ولا يطلقون عليهم اسم المشبهة إلا في مواطن الجدل العنيف (3). وهكذا يتضح لنا ما قلناه سابقا من تسامح الإباضية في حكمهم على مخالفيهم ومعاملتهم لهم، حتى كانو بذلك أقرب فرق الخوارج إلى الجماعة الإسلامية. ولقد اعتبر هذا الموقف المتسامح عند الإباضية بمثابة تغير في موقف قدماء الخوارج المتشدد من مخالفيهم. ولقد علل الغرابي رحمه الله تساهل الإباضية فأرجعه إلى سببين: الأول: هو أنهم ضعفوا لكثرة حروبهم، فهم يريدون أن يتقربوا من مخالفيهم شيئا فشيئا حتى لا تقوم بينهم الحرب.   (1) نقلا عن ((الإباضية بين الفرق)) (ص311). (2) نقلا عن ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص285). (3) انظر: ((الإباضية بين الفرق)) (ص335 - 337). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 الثاني: هو "أنهم لما اتسعت مداركهم وعرفوا ما لم يكن يعرفه سلفهم الذين كانوا من عرب البادية وفيهم سذاجة وعدم عمق في التفكير؛ كانوا أكثر تسامحا مع مخالفيهم من سلفهم".ولكنه لم يجزم بواحد من هذين السببين بل قال: "ولا مانع من أن يكون قد اجتمع لديهم السببان معا" (1). والمهم هنا هو أن نعرف موقف الإباضية من هذا التحليل السابق الذكر هل يعترفون بأنهم أكثر تساهلا من خلفهم؟ وهل فعلا أضعفتهم الحروب الدموية مع مخالفيهم؛ فأحبوا التقرب إليهم اتقاء شرهم؟ وهل يعترفون بأن سلفهم كانوا على جانب من البداوة التي كانت تظهر في سذاجتهم وعدم عمق في تفكيرهم الذي كان سطحيا يأخذ الأمور ببراءة البدوي وطباعه أم أنهم كانوا ضد ذلك وضد تلك الصفات؟ سنجد أن المدافع الأكبر عن الإباضية – علي يحيى معمر – يتصدى للرد على هذه التهم كلها ويصفها بأنها افتراضات غير صحيحة، وأن القول بسلف متشدد وخلف متساهل كان من جزاء ربط الإباضية بالخوارج، وهو ربط يصفه المؤلف بأنه انسياق مع كتاب المقالات من غير رجوع إلى كتب الإباضية ومصادرها. ثم يذكر أنه لا مانع من تغير الاجتهادات في غير القطعيات، بل هو من محاسن الشريعة، ولم يخل منها مذهب من المذاهب الإسلامية، إلى أن يقول عن الغرابي بخصوصه: "ومع هذا فأنا أؤكد للأستاذ الغرابي أن المسائل التي أوردها لم يتغير فيها رأي خلف الإباضية عن سلفهم، فيما عدا مسألة واحدة هي مسألة أطفال المشركين، فقد كانت عند السلف خلافية، ورجح الخلف أنهم من أهل الجنة خدما للمسلمين طبقا للأحاديث الواردة في الموضوع". وقد استشهد بعدة أمثلة تبين اجتهاد الخلف وتيسيرهم في بعض المسائل. أما القول بأن الحروب أضعفتهم فأحبوا مسالمة الناس، فقد نفى معمر صحة هذا، ولم يثبت من حروبهم غير الحركة التي قام بها طالب الحق في الجزيرة العربية طيلة عهد الدولة الأموية، ثم جاء ببيان لدول الإباضية التي قامت في الشرق والغرب أثبت من خلاله أن الإباضية كانوا لا يعتدون على أحد من مجاوريهم (2)، ومن ثم فلم يكن تسامحهم عن غيرهم ناشئا عن ضعف. ويجدر بنا أن نقرر هنا أن الإباضية لم يكونوا جميعا على هذا القدر الذي تقدم من التسامح في الحكم على مخالفيهم في معاملتهم لهم، بل كان منهم المغالون في التشدد تجاه مخالفيهم، ومن الشواهد على ذلك ما رواه الجيطالي الإباضي عن الإمام عبدالوهاب: "أنه قال: سبعون وجها تحل بها الدماء، فأخبرت منها لأبي مرداس بوجهين فقال: من أين هذا، من أين هذا؟ وفي كتاب سير المشائخ أن الإمام كان يقول: عندي أربعة وعشرون وجها تحل بها دماء أهل القبلة، ولم تكن منهم عند أبي مرداس رحمه الله إلا أربعة أوجه، وقد شدد علي فيهم" (3).وقد اعتبر علي معمر معرفة الإمام عبدالوهاب بهذه الأوجه الكثيرة التي تحل بها دماء المسلمين أهل القبلة من باب السعة في العلم – كما يرى (4).   (1) ((تاريخ الفرق الإسلامية)) (ص281، 282). (2) انظر لهذا ((الفصل)): كتاب ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص70 إلى ص82). (3) ((قواعد الإسلام)) (ص105). (4) ((الإباضية في موكب التاريخ)) (2/ 39). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 أما المارغيني فإنه يحكم على مخالفيهم بالهلاك والنار في الدار الآخرة وأن الشخص ليس على شيء ما دام غير متمسك بالمذهب الإباضي قولا وعملا حتى يلقى الله به سعيدا مقبول العمل. يقول المارغيني في رسالته عن مشائخهم: "وقالت المشائخ: إن هذا الدين الذي دان به الوهبية من الإباضية من المحكمة دين المصطفى صلى الله عليه وسلم هو الحق عند الله، وهو دين الإسلام، من مات مستقيما عليه فهو مسلم عند الله، ومن شك فيه فليس على شيء منه، ومن مات على خلافه أو مات على كبيرة موبقة فهو عند الله من الهالكين أصحاب النار" (1).فقد قصر الإسلام عند الله على المذهب الإباضي ومن جاء بغيره فهو على هلاك وتبار؛ بل ويتبرأون ممن لا يدين بالقول بخلق القرآن من أهل السنة، كما في قول ابن جميع الإباضي: "وليس منا من قال إن القرآن غير مخلوق ... ولا من قال إن جميع من يحل دمه يحل ماله" (2).ومما جاء في تزكية مذهبهم وإبطال ما خالفه قول العيزابي الإباضي: "الحمد لله الذي جعل الحق مع واحد في الديانات، فنقول معشر الإباضية الوهبية: الحق ما نحن عليه، والباطل ما عليه خصومنا؛ لأن الحق عند الله واحد، ومذهبنا في الفروع صواب يحتمل الخطأ ومذهب مخالفينا خطأ يحتمل الصدق" (3).   (1) ((رسالة في فرق الإباضية المغرب)) (ص13). (2) ((مقدمة التوحيد)) لابن جميع (ص19). (3) ((الحجة في بيان المحجة)) (ص37). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 أما الوارجلاني من علمائهم المشهورين فقد قضى على أمة أحمد بالهلاك والثبور، ولم ينج منهم إلا من كان على المذهب الإباضي، ويورد أدلة على ذلك واستشكالات، ثم يذكر جوابها مدعيا أن حديث افتراق الأمم قد نص على هلاك من عدا الإباضية، وأن السبب في بقاء الإباضية على الحق هو أنهم لم يقلدوا الآباء دون محاسبتهم كما كان الحال عند غيرهم، بل اتبعوهم تقييدا لا تقليدا. ومن تساؤلاته قوله: "فإن قال قائل: هذه أمة أحمد صلى الله عليه وسلم قد قضيتم عليها بالهلاك وبالبدعة والضلال، وحكمتم عليها بدخول النار ما خلا أهل مذهبكم. قلنا: إنما قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نحن بقوله حيث يقول: ((ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلهن في النار ما خلا واحدة ناجية، كلهم يدعي تلك الواحدة)) (1).ولئلا يستعظم المستمع هذا الكلام جاء بما يجول في خاطره من أسئلة وأهمها ما ذكره بقوله: "فإن قال قائل: هذه أمة أحمد قد أصيبت باتباع أوائلها وما يدريكم لعلكم أنتم أيضا ممن أصيب باتباع أوائله، ولم قضيتم أن أوائلكم على الهدى وأوائل غيركم على الردى، وأوائلكم غير معصومين كأوائل غيركم؟ ". هذا سؤال ولا شك مهم، ولكن المؤلف قد أجاب بما لا مقنع فيه، أجاب بما حاصله أن الإباضية اتبعوا أوائلهم بعد المحاسبة لهم، وأن أوائلهم عولت على الوزن بالقسطاس المستقيم والبرهان القويم وهو الكتاب والسنة ورأي المسلمين، وذلك أنهم كانوا دائما مع الفرقة المحقة، ولا شك أن هذه الدعوى بطبيعة الحال تدعيها كل فرقة، وهذا ديدن أصحاب المذاهب، ولهم أن يفخروا بما يرون أنه من مفاخرهم، ولكن ماذا معهم من الفخر حين يفخرون بأنهم كانوا في جانب الجيش الذين قتلوا عثمان، ثم في جانب الجيش الذين خرجوا على علي؟! كما ذكر المؤلف (2).وقد أورد صاحب (العقود الفضية) كثيرا من النصوص عن علمائهم تشهد بأن المذهب الإباضي هو خير المذاهب وأصوبها، لا يقبل الله من غيره أي مذهب، وأن من خالفه فليس له إلا النار وبئس المصير، ومن تلك النصوص ما جاء عن أبي الحسن علي بن محمد البسياني قوله: "فَحصْتُ الأديان ظهرا وبطنا فلم أجد دينا أصفى من ديننا، ولو علمنا غيره خيرا منه لما سمحنا لجهنم بأنفسنا"، إلى أن يقول: "فعلمنا أنه هو الدين الذي لا يرضى الله إلا به، لأنه مذهب منزه صريح صحيح واضح من طريق الشريعة لا من طريق اللغة" (3).ومنها قول السالمي: "والله الذي لا إله إلا هو إن الحق لمع هذه العصابة" (4). ومنها قول جاعد بن خميس بن مبارك الخروصي: "إني لأقسم بالله قسم من بر في يمينه فلا حنث، أن من مات على الدين الإباضي الصحيح غير ناكث لما عاهد الله عليه من قبل ولا مغير حقيقته، كلا ولا مبدل طريقته – أنه من السعداء، ومن أهل الجنة مع الأنبياء والأولياء، وأن من مات على خلافه فليس له في الآخرة إلا النار وبئس المصير" (5).   (1) رواه ابن ماجه (3993) وأحمد (3/ 120) (12229) والطبراني في ((الأوسط)) (8/ 22) وأبو يعلى (7/ 32) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه, بلفظ: (ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة) قال العراقي في ((الباعث على الخلاص)) (16): إسناده صحيح, وقال ابن كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (1/ 27): إسناده جيد قوي على شرط الصحيح, وقال السخاوي في ((الأجوبة المرضية)) (2/ 569): رجاله رجال الصحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (2) انظر: كتاب ((الدليل لأهل العقول)) (ص35 إلى 37). (3) ((العقود الفضية)) (ص169). (4) ((العقود الفضية)) (ص172). (5) ((العقود الفضية)) (ص172). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 ويقول مؤلف (كشف الغمة) في تشنيعه على مخالفيهم: "ووجدنا من خالفنا يجمع بين الأضداد، ويساوي بين أهل الصلاح والفساد، ويجمع بين القاتل والمقتول، والظالم والمظلوم، فيتولونهم ويستغفرون لهم ... فهذا من أوضح السبل وأبين الأدلة وأقوى حجة على من خالفنا" (1). ومن أجل كتبهم الفقهية عندهم وأكبرها كتاب (النيل وشفاء العليل)، هذا الكتاب يذكر فيه مؤلفه عن معاملة الإباضية لمخالفيهم بأنهم يعاملونهم على حسب ظاهر الفرق ومعتقداتها: "ويحكم فيهم بحكم التوحيد من دعاء إلى ترك ما به ضلوا، وما هم عليه من إظهار بدعتهم، ومن جواز مناكحتهم ومؤاكلة لذبائحهم والحج معهم". أما الأئمة فإنهم يقفون منهم موقفا صلبا لا هوادة فيه، فالحكم فيهم أن "يبرأ من إمامهم وقائدهم وعسكرهم ومقويهم على خلافهم، وإن مؤذنا أو قاضيا؛ لما في ذلك من الآثار والأحاديث فيمن كثر سواد قوم فهو منهم، ومن ثم كره الغزو والجهاد معهم وحضور جوامعهم ومجالسهم".ثم يتطرق إلى مسائل فرعية لا ترتفع إلى درجة البراءة أو عدمها لتفاهة الخلاف فيها فيقول: "وهل يبرأ منهم بعلامات انفردوا بها كرفع اليدين وترك التسمية في الصلاة والقنوت فيها ونحو ذلك أو لا؟ قولان" (2).ويذكر في موضع آخر بعض المسائل في الأسماء والصفات، وبعض المسائل الكلامية التي دانوا بها، وأن من خالفهم فيها "حل قتله"، وقد يستغرب السامع حينما تمر عليه تلك الخلافات الكلامية التي أحل المؤلف بها سفك دماء مخالفيهم، وذلك في قوله الآتي: "ومن قصد لخصلة مما دانوا به وخالفوا فيه غيرهم، كقدم الأسماء والصفات ونفي زيادتها على الذات، والرؤية، وحدوث الكلام، وإثبات الخلود والكسب للعبد، والخلق والأمر لله تعالى، وخطئها، أو ما اجتمعت عليه الأمة – حل قتله" (3). ولكن يكون في دور الظهور والغلبة لهم لا في دور الكتمان. وهكذا نجد بعض أصوات الإباضية ترتفع بمثل هذا التشدد في الحكم على مخالفيهم واستحلال دمائهم، والتبرؤ منهم مما لا يتفق مع ما هو معروف عن المذهب الإباضي من أنه أكثر مذاهب الخوارج تسامحا مع غيرهم من المسلمين، وهذا يدل على أن في الإباضية من قد خرج عن تلك التعاليم التي توحي إليهم بالتسامح مع مخالفيهم، ولين جانبهم معهم. ومما تجدر الإشارة إليه أن أولئك العلماء الذين قدمنا ذكرهم، من أفاضل العلماء عند الإباضية ومن المعتبرين عندهم في المذهب من قدماء علمائهم، ولكن يبدو أن هذا الاتجاه المتشدد عندهم لم يكن هو السائد في الأوساط الإباضية، بل كان السائد هو التسامح، ولهذا اعتبر المذهب الإباضي – كما قلنا- أقرب المذاهب إلى الجماعة الإسلامية، وكان ذلك سببا في بقائه وبقاء أتباعه حتى الآن دون فرق الخوارج الأخرى. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص491   (1) ((كشف الغمة)) (ص306). (2) ((النيل وشفاء العليل)) (3/ 1061 – 1062). (3) ((النيل وشفاء العليل)) (3/ 1067). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 المطلب الثالث: موقف الخوارج من أهل الذمة ومن غريب أمر الخوارج أن تلك الشدة التي اتصفوا بها وتلك الاستهانة المتناهية بسفك الدماء، إنما كانت على من يخالفهم ممن يقول إنه مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فكأنهم يقاتلون المسلمين لينشروا الإسلام بزعمهم، وفي مقابل ذلك نجد أن معاملتهم لأهل الذمة كانت على النقيض من معاملتهم للمسلمين، فقد كانوا معهم على ما لا يتصور من اللين والمسامحة. والشواهد على هذه الدعوى كثيرة في كتب الفرق والمؤرخين، وقد سبق أن ذكرنا قصة زاذان فروخ الذي جاء ذكره في كتاب أحد عمال علي رضي الله عنه حينما خرج الخريت بن راشد عن طاعة علي وأعلن الحرب عليه، ففي أثناء سيرهم وجدوا هذا الرجل فعرضوا له يسألونه: أمسلم أنت أم كافر؟ فقال: بل أنا مسلم، فسألوه عن علي، فأجابهم بالحق فقالوا له: كفرت يا عدو الله، ثم حملوا عليه فقطعوه قطعا وأشلاء متناثرة، ويضيف الطبري قائلا: "ووجدوا معه رجلا من أهل الذمة فقالوا: ما أنت؟ قال: رجل من أهل الذمة، قالوا: أما هذا فلا سبيل عليه" (1).وحين بلغ عليا رضي الله عنه هذا الموقف الخاطئ منهم أجاب عن كتاب عامله بجواب جاء فيه: "أما بعد، فقد فهمت ما ذكرت من العصابة التي مرت بك فقتلت البر المسلم وأمن عندهم المخالف الكافر، وأن أولئك قوم استهواهم الشيطان فضلوا، وكانوا كالذين حسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا؛ فأسمع بهم وأبصر يوم تخبر أعمالهم" (2).بل إنهم كانوا إذا وجدوا غير مسلم يتواصون به خيرا كما حدث في أثناء خروجهم إلى النهروان فقد "لقوا مسلما ونصرانيا فقتلوا المسلم وأوصوا بالنصراني خيرا، وقالوا: احفظوا ذمة نبيكم" (3).وقد استراب من موقفهم هذا حتى من لا يدين بالإسلام من النصارى وغيرهم، فقد حدث أثناء سيرهم إلى النهروان أن مروا بنخل فساموا رجلا نصرانيا جنى نخلته فوهبها لهم، ولكنهم استعفوا عن أكلها بالمجان و"قالوا: ما كنا نأخذها إلا بثمن" فتعجب النصراني وقال لهم: "ما أعجب هذا! أتقتلون مثل عبد الله بن خباب ولا تقبلون مني جني نخلة إلا بثمن؟! " (4).ويذكر ابن الأثير من أعاجيبهم أنهم ساروا "حتى نزلوا تحت نخل مواقير فسقطت منه رطبة فأخذها أحدهم فتركها في فيه فقال آخر: أخذتها بغير حلها وبغير ثمن، فألقاها، ثم مر بهم خنزير لأهل الذمة، فضربه أحدهم بسيفه، فقالوا: هذا فساد في الأرض فلقي صاحب الخنزير فأرضاه" (5).   (1) ((تاريخ الطبري)) (5/ 117). (2) ((تاريخ الطبري)) (5/ 117). (3) ((العقد الفريد)) (2/ 390). (4) ((العقد الفريد)) (2/ 391). (5) ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 342). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 وقد حدث هذا وعبد الله بن خباب ينظر إليهم، فلما شاهد فعلهم ظن أن وراءه دينا وعقلا؛ فطمع في العفو عنه وإطلاقه من قبضتهم؛ لأنهم اعتبروا قتل الخنزير من الفساد في الأرض فما الظن بقتل ابن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ولكنهم كانوا على عكس ما رأى منهم وأمل، فقد ذبحوه ولم يندموا على قتله كما ندموا على قتل الخنزير، وكان الأولى بهم أن يندموا على قتل النفس المحرمة، ولكنه الجهل واتباع الهوى. وقد كان الاتصاف باليهودية والنصرانية من الأمور المنجية من قتلهم، فمن قال إنه يهودي أو نصراني أو على أي دين كان آمن عندهم، غير مدعي الإسلام؛ فمما يذكر من حيل الناس في النجاة من قبضتهم ما يرويه الأصمعي عن عيسى بن عمر قال: "بينما ابن عرباض يمشي مقدما لطيه إذ استقبلته الخوارج يجزون الناس بسيوفهم، فقال لهم: هل خرج إليكم في اليهود شيء؟ قالوا: لا، قال: فامضوا راشدين، فمضوا وتركوه" (1).ويصف المبرد بعض تلك المواقف الخاطئة بما يحكيه عن واصل بن عطاء حينما كان هو ورفقته سائرين فاجتازوا بالخوارج؛ يقول المبرد: "وحدثت أن واصل بن عطاء أبا حذيفة أقبل في رفقة فأحسوا الخوارج، فقال واصل لأهل الرفقة: إن هذا ليس من شأنكم، فاعتزلوا ودعوني وإياهم، وكانوا قد أشرفوا على العطب فقالوا: شأنك، فخرج إليهم، فقالوا: ما أنت وأصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده، فقالوا: قد أجرناكم، قال: فامضوا مصاحبين، فإنكم إخواننا، قال: ليس ذلك لكم قال الله تبارك وتعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ [التوبة: 6]، فأبلغونا مأمننا، فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا: ذلك لكم، وصاروا بأجمعهم حتى بلغوهم المأمن" (2). وقد مر رجل يسمى الفرز بن مهزم العبدي بجماعة من الأزارقة فسألوه عن خبره وأرادوا قتله، فأقبل على قطري وقال: إني مؤمن مهاجر فسأله عن أقاويلهم فأجاب إليها، فخلوا عنه، وفي ذلك يقول: فشدوا وثاقي ثم ألجوا خصومتي ... إلى قطري ذي الجبين المفلق وحاججتهم في دينهم فحججتهم ... وما دينهم غير الهوى والتخلق (3) وقال ابن الجوزي في ذلك: "قال القرشي: وحدثنا أبو جعفر المدايني قال: خرج قوم من الخوارج بالبصرة فلقوا شيخا أبيض الرأس واللحية، فقالوا له: من أنت؟ قال: أعهد إليكم في اليهود بشيء؟ أو بدا لكم في قتل أهل الذمة؟ قالوا: اذهب عنا إلى النار" (4).ومن هنا يتبين لنا أن أحمد أمين كان محقا حين يصفهم بأنهم "محدودو النظر ضيقوا الفكر في نظرهم إلى مخالفيهم" (5). ويجدر بنا في نهاية هذه المسألة أن نذكر أن النجدات خالفوا الخوارج في حفظهم لدماء أهل الذمة فساووا بينهم وبين مخالفيهم من المسلمين في إهدار دمائهم. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص510   (1) ((العقد الفريد)) (2/ 464). (2) ((الكامل)) للمبرد (2/ 106) ((الأذكياء)) (ص122). (3) ((شرح نهج البلاغة)) (1/ 161). (4) ((الأذكياء)) لابن الجوزي (ص128). (5) ((ضحى الإسلام)) (3/ 332). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 المطلب الرابع: حكم الخوارج في أطفال مخالفيهم لابد وأن يكون في حكم العقل تمييز بين معاملة الصغير الذي لم يبلغ سن التكليف وبين الكبير المكلف. والخوارج لم يتفقوا على حكم واحد في الأطفال، سواء كان ذلك في الدنيا أو في الآخرة، ونوجز أهم آرائهم في هذه القضية فيما يلي: منهم من اعتبرهم في حكم آبائهم المخالفين فاستباح قتلهم باعتبار أنهم مشركون لا عصمة لدمائهم ولا لدماء آبائهم. ومنهم من جعلهم من أهل الجنة ولم يجوز قتلهم. واعتبرهم بعضهم خدماً لأهل الجنة ومنهم من توقف فيهم إلى أن يبلغوا سن التكليف ويتبين حالهم. والإباضية تولوا أطفال المسلمين وتوقفوا في أطفال المشركين، ومنهم من يلحق أطفال المشركين بأطفال المؤمنين. أما القول الأول: فهو للأزارقة، واستدلوا بقول الله تعالى: إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح: 27] , وتبعهم في هذا بعض فرق الخوارج كالعجاردة والحمزية والخلفية. وأما القول الثاني: فهو للنجدات والصفرية والميمونية، واستدلوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)) (1)، والذين توقفوا في الحكم عليهم قالوا: لم نجد في الأطفال ما يوجب ولايتهم ولا عداوتهم إلى أن يبلغوا فيدعوا إلى الإسلام فيقروا به أو ينكروه. هذه خلاصة أهم آراء الخوارج في هذه القضية، والواقع أن هذه المسألة من المسائل الخلافية بين العلماء. فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن أطفال المؤمنين إذا ماتوا على الإيمان فإن الله تعالى يدخلهم الجنة من آبائهم وإن نقصت أعمالهم عنهم لتقر أعين آبائهم بهم، فيكونون مع آبائهم في الجنة؛ تفضلاً من الله تعالى، على ضوء قوله عز وجل: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور: 21] (2) , ونقل ابن القيم عن الإمام أحمد أنه قال بأنهم في الجنة دون خلاف. وبعضهم ذهب إلى أنهم تحت المشيئة. وجدير بالذكر أن أطفال المؤمنين الذين نتحدث عنهم هنا هم الذين يعتبرهم الخوارج أطفال المشركين. وأما أطفال المشركين الذين هم عبدة الأوثان ومن في حكمهم فإن العلماء اختلفوا فيهم اختلافاً كثيراً. فذهب بعضهم إلى التوقف في أمرهم فلا يحكم لهم بجنة ولا نار وأمرهم إلى الله. أنهم في النار. أنهم في الجنة. أنهم في منزلة بين المنزلتين، أي الجنة والنار. أن حكمهم حكم آبائهم في الدنيا والآخرة، تبعاً لآبائهم حتى ولو أسلم الأبوان بعد موت أطفالهم لم يحكم لأطفالهما بالنار. أنهم يمتحنون في عرصات القيامة بطاعة رسول يرسله الله إليهم، فمن أطاعه منهم دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار. وقد استعرض ابن القيم أدلة القائلين بهذه الآراء وانتهى إلى نصرة الرأي الأخير ثم قال: "وبهذا يتألف شمل الأدلة كلها وتتوافق الأحاديث ويكون معلوم الله الذي أحال عليه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (الله أعلم بما كانوا عاملين)) (3).   (1) رواه البخاري (1385)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 241) (3) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 وأيَّد ابن حزم القول بأن أطفال المشركين في الجنة، وكذا النووي، وقد توقف شيخ الإسلام في الحكم عليهم. وأما استباحة قتل النساء والذرية –كما يرى الخوارج- فقد أخطأوا حين جوزوا ذلك سواء كانوا من المسلمين أو من المشركين، فقد صحت الأحاديث بالمنع من قتلهم، إلا أن يكون ذلك في بيات لا يتميز فيه الأطفال والنساء فلا بأس من قتلهم إذا وقع دون عمد (1) المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 292 هذا هو موقف الخوارج من مخالفيهم بصفة عامة، وإتماما للبحث، لابد من بيان موقفهم من أطفال مخالفيهم، لأنه لابد وأن يكون في حكم العقل تمييز بين معاملة الصغير الذي لم يبلغ سن التكليف وبين الكبير المكلف، ونحب أن نبين موقف الخوارج، هل كانوا جميعا على هذا المبدأ الذي قدمناه أم كان بعضهم من الجفاء بحيث لا يميز بين الصغير والكبير في الحكم والمعاملة فيهم؟ وللإجابة عن ذلك نقول بصفة إجمالية: إن الخوارج لم يتفقوا على حكم واحد في الأطفال، سواء كان ذلك الحكم في الدنيا أو في الآخرة، فمنهم من عاملهم أشد المعاملة وأقساها فاعتبرهم في حكم آبائهم المخالفين، فاستباح قتلهم باعتبار أنهم مشركون من أهل النار كآبائهم، والمشرك بالطبع غير معصوم الدم. ومنهم من اعتبرهم أبرياء يخطئ من يستبيح قتلهم أو الحكم عليهم بدخول النار، بل هم من أهل الجنة، وقد جعلهم بعضهم خدما لأهل الجنة. ومنهم من توقف فيهم ما داموا تحت سن التكليف، إلى أن يبلغوا ويختاروا لأنفسهم الدين الذي يرتضونه، ومن هنا تحدد معاملتهم، ومنهم من تولى أطفال المؤمنين وتوقف في أطفال المشركين. فمن حكم عليهم بأنهم تابعون لآبائهم في شركهم عاملهم في الدنيا بحسب ذلك الحكم، ومن تولاهم ورأى أنهم ليسوا بكفار وأن حكمهم ليس كحكم آبائهم – عاملهم بالحسنى في الدنيا؛ فحرم قتلهم وحرم القول فيهم بأنهم من أهل النار، ومن توقف فيهم عاملهم كذلك بالحسنى إلى أن يبلغوا مبلغ التكليف. وفيما يلي تفصيل هذا الإجمال:1 - أما القول باتباع أطفال المخالفين لآبائهم واعتبارهم مشركين كآبائهم تستباح دماؤهم، فهو قول الأزارقة، وقد عد العلماء هذا القول من بدع نافع بن الأزرق الذي تولى كبره هو وأتباعه، يقول الأشعري فيهم: "ويرون قتل الأطفال" (2).ويوضح قولهم أيضا البغدادي، فيقول في بيانه لبدعهم: "ومنها أنهم استباحوا قتل نساء مخالفيهم، وقتل أطفالهم، وزعموا أن الأطفال مشركون، وقطعوا بأن أطفال مخالفيهم مخلدون في النار" (3).وهكذا عند الشهرستاني وابن حزم وابن الأثير. ويقول ابن الجوزي: "وأباح هؤلاء – يعني الأزارقة – قتل النساء والصبيان من المسلمين وحكموا عليهم بالشرك" (4). ومن البديهي أن يكون أطفال المخالفين عند الأزارقة تبعا لآبائهم في عذاب الآخرة، كما كانوا تبعا لهم في شركهم واستباحة دمائهم في الدنيا.   (1) انظر: ((التفسير القيم)) (ص451)، ((فتح القدير)) (5/ 98)، ((جامع البيان)) (27/ 25)، ((طريق الهجرتين)) (387) , ((الفصل)) لابن حزم (4/ 74). (2) ((المقالات)) (1/ 170). (3) ((الفرق بين الفرق)) (ص82، ((الملل والنحل)) (1/ 121، ((الكامل)) لابن الأثير (4/ 167، ((الفصل)) لابن حزم (4/ 189). (4) ((تلبيس إبليس)) (ص95). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 وقد استدل الأزارقة في قولهم بتعذيب الأطفال في النار من القرآن الكريم بقوله تعالى حاكيا عن نوح عليه السلام قوله: إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:27].ومن السنة بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: ((يا رسول الله، أين أطفالي منك؟ قال: في الجنة، قالت: فأطفالي من غيرك؟ قال: في النار. فأعادت عليه فقال لها: إن شئت أسمعتك تضاغيهم)) (1).وبما روي أيضا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الوائدة والموؤودة في النار)) (2). واستدلوا أيضا بدليل عقلي، فقالوا لمن حكم بدخولهم الجنة: إن كانوا عندكم في الجنة فهم مؤمنون؛ لأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، فإن كانوا مؤمنين فيلزمكم أن تدفنوا أطفال المشركين مع المسلمين، وأن لا تتركوه يلتزم إذا بلغ دين أبيه فتكون ردة وخروجا عن الإسلام إلى الكفر، وينبغي لكم أن ترثوه وتورثوه من أقاربه المسلمين. قال ابن حزم بعد ذكر استدلالاتهم تلك: "هذا كل ما احتجوا به، ما يعلم لهم حجة غير هذا أصلا" (3) وممن قال بتعذيب الأطفال تبعا لآبائهم بعد الأزارقة العجاردة، فإنهم كانوا يقولون إن "أطفال المشركين في النار مع آبائهم" (4)، وكذا الحمزية والخلفية فإنهم يعتبرون الأطفال كلهم- أي من مخالفيهم – من أهل القبلة أو من المشركين؛ هؤلاء عندهم كلهم في النار، وتعتبر الشبيبية من هذا الفريق المتشدد، حيث حكموا على أطفال المؤمنين" بأنهم مؤمنون أطفالا وبالغين حتى يكفروا، وأن أطفال الكفار كفار أطفالا وبالغين حتى يؤمنوا" (5).   (1) رواه أبو يعلى (12/ 504)، والطبراني (23/ 16). قال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (2/ 113): فيه انقطاع. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 220): رواه الطبراني وأبو يعلى ورجالهما ثقات إلا أن عبد الله بن الحارث بن نوفل وابن بريدة لم يدركا خديجة. وقال العراقي في ((المغني)) (4/ 39): إسناده منقطع. وقال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (24/ 644): مرسل. (2) رواه أبو داود (4717)، وابن حبان (16/ 521)، والطبراني (10/ 93). والحديث سكت عنه أبو داود. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 105) – كما أشار لذلك في المقدمة -. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (3) ((الفصل)) (4/ 73). (4) ((الملل والنحل)) (1/ 128). (5) ((المقالات)) (1/ 194). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 2 - وأما قول الخوارج ببراءة أطفال مخالفيهم فهو قول النجدات، أتباع نجدة ابن عامر، فإنهم كانوا لا يرون قتل الأطفال بل يرونهم معذورين بصغرهم عن تحمل التبعات التي تقع على آبائهم، ويظهر من كتاب نجدة الذي كتبه إلى نافع أنه كان يرى أن قتل الأطفال ليس من صفات الرحماء الذين مدحهم الله في كتابه، وأن القائد ينبغي عليه التمسك بالعدل وإنصاف المظلوم، وقتل هؤلاء الأطفال ظلم وإغواء من الشيطان. فمما جاء فيه قوله يعاتبه: "ثم استحللت قتل الأطفال، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلهم، وقال جل ثناؤه: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام: 146] ,". فأجابه نافع بقوله: "وأما أمر الأطفال فإن نبي الله نوحا كان أعرف بالله يا نجدة مني ومنك: وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح: 26، 27]، فسماهم بالكفر وهم أطفال، وقبل أن يولدوا، فكيف جاز ذلك في قوم نوح ولا يجوز في قومنا؟! والله يقول: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ [القمر: 43] " (1).ومثل النجدات في هذا الرأي ما يذهب إليه الصفرية، فإنهم لا يجوزون قتل أطفال مخالفيهم كما تفعل الأزارقة، يقول البغدادي: "غير أن الصفرية لا يرون قتل أطفال مخالفيهم ونسائهم، والأزارقة يرون ذلك" (2). وهذا الحكم عام عندهم حتى في أطفال المشركين، فلم يروا قتلهم، وبالتالي فإنهم لا يجوزون القول بأنهم في النار، وفي ذلك يقول عنهم الشهرستاني: "ولم يحكموا بقتل أطفال المشركين وتكفيرهم وتخليدهم في النار" (3).ويصفهم الأشعري بأنهم: "لا يوافقون الأزارقة في عذاب الأطفال" (4) بل يحرمونه، وقد كان هذا الحكم ناتجا عن رأيهم فيهم في الدنيا وأنهم معذورون بصغرهم الذي يوجب عدم مؤاخذتهم بما يؤاخذ به الكبار. وقريب مما ذهب إليه النجدات والصفرية قول من يذهب إلى الجزم بأن الأطفال على أي اعتقاد كان كلهم في الجنة، وهذه الفرقة القائلة بهذا القول هي فرقة الميمونة اتباع ميمون الذي كان يقول: "إن أطفال المشركين والكفار كلهم في الجنة، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)) (5) ومن الغريب أن ميمونا كان يدين بقول القدرية، ولكنه "زعم مع ذلك أن أطفال المشركين في الجنة" (6)، كما يذكر البغدادي والشهرستاني.3 - وأما الذين توقفوا من الخوارج في أمر أطفال مخالفيهم فهم فريق من الصلتية حيث لم يجدوا في الأطفال ما يوجب ولايتهم ولا عدواتهم إلى أن يبلغوا، وفي ذلك يقول الشهرستاني عنهم: "ويحكى عن جماعة منهم (أي الصلتية) أنهم قالوا ليس لأطفال المشركين والمسلمين ولاية ولا عداوة حتى يبلغوا فيدعوا إلى الإسلام فيقروا أو ينكروا" (7).ولعل هذا الفريق من الصلتية أوضح في التوقف في أمر الأطفال من زعيمهم عثمان بن أبي الصلت الذي كان يقول: "إذا استجاب لنا الرجل وأسلم توليناه وبرئنا من أطفاله؛ لأنه ليس لهم إسلام حتى يدركوا فيدعوا إلى الإسلام فيقبلونه" (8).   (1) ((العقد الفريد)) (2/ 397،398). (2) ((الفرق بين الفرق)) (ص91). (3) ((الملل والنحل)) (1/ 137). (4) ((المقالات)) (1/ 182). (5) رواه البخاري (1385)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (6) ((الفرق بين الفرق)) (ص280، ((الملل والنحل)) (1/ 129). (7) ((الملل والنحل)) (1/ 129). (8) ((المقالات)) (1/ 179، ((الفرق بين الفرق)) (ص97). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 فإذا لم يكن للأطفال من المسلمين ما يدعو إلى ولايتهم، فليس لهم من الكفر ما يدعو إلى البراءة منهم، كما ذهب إليه ابن أبي الصلت، وهذا هو ما يدعو إلى التوقف التام في شأنهم. وهذا الموقف هو نفسه موقف فرقة الثعالبة، فهم يقولون: "ليس لأطفال الكافرين ولا لأطفال المؤمنين ولاية ولا عداوة ولا براءة حتى يبلغوا فيدعوا إلى الإسلام فيقروا به أو ينكروه" (1)، وظاهر هذا الكلام أنهم توقفوا في الحكم فيهم. ولكن الأشعري بعدما ذكر ما سبق عنهم، عاد فقال بعد قليل من كلامه السابق: "ومن قول الثعالبة في الأطفال: إنهم يشتركون في عذاب آبائهم، وأنهم ركن من أركانهم، يريدون بذلك أنهم بعض من أبعاضهم" (2). فكيف يتم هذا الحكم مع ما نقله عنهم من قولهم السابق بالتوقف في شأنهم قبل البلوغ؟! إلا أن يكون ذلك التوقف في الدنيا وأما في الآخرة فإنهم يوجبون لهم النار، وإلا لكان تناقضا في النقل عنهم. ولقد كان القول بولاية الأطفال أو عدمه قبل البلوغ هو السبب في انشقاق ثعلبة عن عبدالكريم بن عجرد زعيم العجاردة، فقد كان عبدالكريم يرى القول بالبراءة من الأطفال قبل البلوغ، بينما ثعلبة كان يقول: "نحن على ولايتهم صغارا وكبارا إلى أن يتبين لنا منهم إنكار للحق" (3).ولكن أغلبية العجاردة فيما يظهر مختلفون في حكم الأطفال، فالذي عليه أكثرهم هو وجوب البراءة منهم قبل البلوغ، ووجوب دعوتهم إلى الإسلام حين بلوغهم، بل يذكر البغدادي أنهم مجمعون على هذا القول (4)، أما الأقلية منهم فقد توقفوا فيهم إلى أن يبلغوا سن الرشد ويلفظوا بالإسلام، وهذه الطائفة منهم ذكرها ابن حزم (5).4 - وآخر أقوال الخوارج في هذا المقام هو ما يذهب إليه الإباضية، فقد تولوا أطفال المسلمين وتوقفوا في أطفال المشركين فلم يحكموا لهم بنعيم أو جحيم، يقول قطب أئمتهم: "منا من توقف في أطفال المشركين، ومنا من يقول إنهم في الجنة" (6).ويقول ابن جميع منهم: "وولاية أطفال المسلمين، وأما أطفال المشركين والمنافقين فالوقوف فيهم" (7). ويقول صاحب (كتاب الأديان): "قال أبو محمد أيده الله: اختلفت أصحابنا في أطفال المشركين والمنافقين على قولين: فقالت طائفة منهم: حكمهم في الدنيا والآخرة حكم آبائهم قياسا على حكم أولاد المؤمنين" إلى أن يقول عن هذه الطائفة: "وقالوا: لما كان أطفال المؤمنين يتنعمون مع آبائهم بالاتفاق، ولم يعملوا عملا صالحا يجاوزون عليه، جاز أن يعذب أطفال المشركين والمنافقين بما لم يعملوا، ولله أن يفعل ما يشاء وهو على كل شيء قدير. وقالت الفرقة الأخرى: أطفال المؤمنين ينعمون مع آبائهم" ثم وقفت هذه الفرقة في أطفال غير المؤمنين قالوا: لأن الله سبحانه لم يتعبدنا بأن نعلم بأنهم في الجنة أو في النار، فلما كان القول فيهم مما يسع جهله، وكانت الأخبار الواردة فيهم مختلفة أحكامها في الظاهر، رأينا الاعتصام بالسكوت عن حكمهم ورأينا الوقوف أسلم في أمرهم".ثم قال مؤلف هذا الكتاب: "وعلى هذا المذهب الأخير أدركنا أشياخنا رحمهم الله" (8).   (1) ((المقالات)) (1/ 180). (2) ((المقالات)) (1/ 182). (3) ((الفرق بين الفرق)) (ص101). (4) ((الفرق بين الفرق)) (ص94، ((الأديان والفرق)) (ص104). (5) ((الفصل)) (4/ 191). (6) انظر: ((الإباضية بين الفرق)) (ص484). (7) ((مقدمة التوحيد)) (ص11). (8) ((الأديان والفرق)) (ص22 - 24). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 ويذكر الأشعري والشهرستاني أن كثيرا من الإباضية قد توقفوا في إيلام أطفال المشركين في الآخرة "فجوزوا أن يؤلمهم الله سبحانه في الآخرة على غير طريق الانتقام، وجوزوا أن يدخلهم الجنة تفضلا".ولكن يختلف الشهرستاني معه في أسباب مجازاتهم بالنار، فالأشعري يذكر أنهم يقولون: إن الله يؤلمهم ولكن ليس على سبيل الانتقام (1)، والشهرستاني يقول: إنه على سبيل الانتقام. وعلى كل حال فإن كان على طريق الانتقام فما ذنبهم حتى ينتقم الله منهم؟! وإن كان على غير طريق الانتقام، فما الداعي لتعذيبهم بدون استحقاق منهم لذلك الانتقام؟! وهناك من الإباضية من يلحق أطفال المشركين بأطفال المؤمنين، فلا يتوقف فيهم، بل يقول إنهم من أهل الجنة وهو ما يقوله أطفيش في تعليقه على قول السالمي: "ولا نرى قتل الصغير من أهل قبلتنا ولا غيرهم". قال أبو إسحاق تعليقا على ذلك: "لأن حكم الأطفال أنهم من أهل الجنة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((سألت الله في اللاهين فأعطيناهم خدما لأهل الجنة))، وهذا رد لقول الخوارج إن الأطفال تبع لآبائهم مستدلين على زعمهم بقوله تعالى في قوم نوح: وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا حملا للآية على قاعدتهم" (2). وإزاء اختلاف الخوارج في الحكم على أطفال مخالفيهم على هذا النحو، نحب أن نعقب ببيان رأي علماء السلف في قضية أطفال المؤمنين الذين يعتبرهم الخوارج مخالفين لهم، وكذلك أطفال المشركين. أما أطفال المؤمنين فإن بعض أهل العلم يذهب إلى أن هؤلاء الأطفال إن كانوا كبارا وقد ماتوا على الإيمان؛ فإن الله تعالى يدخلهم الجنة مع آبائهم، وإن نقصت أعمالهم عنهم، لتقر أعين آبائهم بهم وإن كانوا صغارا فإنهم مع آبائهم في الجنة تفضلا من الله تعالى عليهم، دون أن ينقص دخولهم من عمل آبائهم شيئا (3).وقد جزم الإمام أحمد بأنهم في الجنة باتفاق العلماء، يقول شمس الدين ابن القيم: "وأما أطفال المسلمين فقال الإمام أحمد: لا يختلف فيهم أحد، يعني أنهم في الجنة " (4)، وهناك من يخالف هذا الحكم على أطفال المؤمنين، ويرى أنهم تحت المشيئة، كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله. ويروي السيوطي عن عبدالله بن أحمد عن علي: قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المؤمنين وأولادهم في الجنة؛ وإن المشركين وأولادهم في النار)) (5). والحكم على أطفال المؤمنين بالجنة ينقض ما ذهب إليه نافع بن الأزرق ومن على رأيه من الحكم عليهم بدخول النار، وجدير بالذكر أن أطفال المؤمنين الذين نتحدث عنهم هنا هم الذين يعتبرهم ابن الأزرق ومن على رأيهم أطفال مشركين، فمخالفوهم في نظرهم مشركون، كما تقدم، وأما أطفال المشركين الذين عند أهل الحق عبدة الأوثان ومن في حكمهم؛ فإن العلماء قد اختلفوا فيهم اختلافا كثيرا حاصله:1 - التوقف في أمرهم، فلا يحكم لهم بجنة ولا نار، ويقولون فيهم: ((الله أعلم ما كانوا عاملين)) (6). 2 - أنهم في النار. 3 - أنهم في الجنة.   (1) ((المقالات)) (1/ 189، ((الملل والنحل)) (1/ 135). (2) نقلا عن ((الإباضية بين الفرق)) (ص479). (3) انظر: ((التفسير القيم)) (ص451، ((فتح القدير)) (5/ 98، ((جامع البيان)) (27/ 25، ((الدر المنثور)) (6/ 119، ((حادي الأرواح)) (ص279،281). (4) ((طريق الهجرتين)) (ص387). (5) ((الدر المنثور)) (6/ 119) والحديث رواه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائده على ((المسند)) (1/ 134) (1131) قال الذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (3/ 642) منكر. وقال الهيثمي في ((المجمع)) (7/ 217): فيه محمد بن عثمان ولم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح. (6) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 4 - أنهم في منزلة بين المنزلتين – أي بين الجنة والنار-، وهذا قول ضعيف، إذ أن الحياة الآخرة، إما أن يكون صاحبها في الجنة أو في النار، وقد دعاهم إلى هذا القول أنهم رأوا أن هؤلاء الأطفال ليس لهم إيمان فيدخلون به الجنة، وليس لآبائهم من الفوز ما يلحقهم بهم، وليس لهم أيضا أعمال يستحقون بها النار. 5 - أنهم خدم أهل الجنة ومماليكهم. 6 - أنهم تحت مشيئة الله تعالى، يحكم فيهم بما يريد، فيجوز أن يعذبهم، وأن يرحمهم، وأن يرحم بعضهم ويعذب بعضهم، ولكن هذا لا يقال إلا بدليل ينص على أحد الأمور، وهو رأي كثير من أهل البدع كالجبرية وغيرهم. 7 - أن حكمهم حكم آبائهم في الدنيا والآخرة، أي تبعا لآبائهم "حتى ولو أسلم الأبوان بعد موت أطفالهم لم يحكم لأفراطهما بالنار". 8 - أنهم يمتحنون في عرصات القيامة بطاعة رسول الله إليهم، فمن أطاعه منهم دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، فيكون بعضهم من أهل الجنة، وبعضهم من أهل النار. وقد استعرض ابن القيم أدلة القائلين بهذه الآراء، وانتهى من نقدها إلى نصرة هذا الرأي الأخير، وقال: "وبهذا يتألف شمل الأدلة كلها، وتتوافق الأحاديث، ويكون معلوم الله الذي أحال عليه النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)).وقد بسط ابن القيم القول في حكم الأطفال؛ وأورد هذه الآراء وناقشها في كتابه (طريق الهجرتين) (1).وقد أيد ابن حزم القول بأن أطفال المشركين في الجنة، وأكثر من الاحتجاج عليه والرد على من يقول بغير ذلك، ورد على الأزارقة في كل ما احتجوا به لرأيهم، وبين أن تلك الحجج كلها غير صحيحة، أما الآية: فذكر أن نوحا لم يقل ذلك على جميع الكفار، بل عن كفار قومه الذين أخبره الله عنهم بقوله تعالى: أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ [هود: 36]، وعندها أيقن بأن بقاءهم لا فائدة وراءه للإيمان، فدعى عليهم بخصوصهم، لما علم بنهاية أمرهم، وأجاب عن حديث خديجة بأنه "ساقط مطرح لم يروه قط من فيه خير"، وعن حديث الوائدة بأن تلك المؤودة كانت قد بلغت الحنث بخلاف قول من أخبره بأنها لم تبلغ الحنث، فقال هذا إنكارا لقولهما، وتمام الحديث: عن سلمة بن يزيد الجعفي قال: ((أتيت أنا وأخي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا له: إن أمنا ماتت في الجاهلية، وكانت تقري الضيف، وتصل الرحم، فهل ينفعها من عملها ذلك شيء؟ قال: لا، قلنا: فإن أمنا وأدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤودة والوائدة في النار، إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم)) (2) (3). وقد قال كثير من المفسرين بما أورده ابن حزم من تخصيص نوح بالدعاء على كفار قومه فقط (4)، وأما حديث خديجة فقد ذكر ابن القيم أنه معلوم من وجهين: 1 - أحدهما أن محمد بن عثمان أحد رواة الحديث مجهول. 2 - أن زاذان الراوي للحديث عن علي لم يدركه.   (1) ((طريق الهجرتين)) (ص387 - 396). (2) رواه أحمد (3/ 478) (15965)، والطبراني (7/ 40). قال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (18/ 119): صحيح من جهة الإسناد. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 123): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح والطبراني في الكبير بنحوه. وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (7143): صحيح. (3) انظر: ((الفصل)) (4/ 74). (4) انظر: ((الدر المنثور)) (6/ 270، ((فتح القدير)) (5/ 301). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 وأما حديث خديجة وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن شئت أسمعتك تضاغيهم)) – فقد حكم عليه بأنه حديث باطل موضوع. وقد قال عن حديث الوائدة: "وكونها مؤودة لا يمنع من دخولها النار بسبب آخر"، وذكر أن أحسن ما يقال فيه: إن المؤودة "في النار ما لم يوجد سبب يمنع من دخولها النار" (1).أما شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه يرى التوقف في أطفال المشركين، وقال بأن أصح الأوجه فيهم جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في (الصحيحين) عنه أنه قال: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة" الحديث. قيل: يا رسول الله، أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير؟ قال: أعلم بما كانوا عاملين)) (2)، فلا يحكم على معين منهم لا بجنة ولا نار، ويرى أنهم يوم القيامة، يمتحنون في عرصات القيامة، فمن أطاع الله حينئذ دخل الجنة، ومن عصى دخل النار، ودلت الأحاديث الصحيحة أن بعضهم في الجنة وبعضهم في النار (3).بل لقد جزم الإمام النووي بأن أطفال الكفار في الجنة إذا ماتوا قبل البلوغ (4)، واختار هذا الرأي دون القول بدخولهم النار، أو بالتوقف في شأنهم، ويذكر البعلي الحنبلي أن أصحاب أحمد قد اختلفوا في الأطفال، فبعضهم قال: يعذبون تبعا لآبائهم، وبعضهم قال: يدخلون الجنة، ويذكر أن "أكثر نصوص أحمد الوقف، ولا يحكم بجنة ولا بنار" (5). وغاية القول أن أطفال المشركين الحقيقيين، سواء في نظر المسلمين أو في نظر الأزارقة ومن معهم – غاية القول في شأنهم التوقف في الحكم عليهم، فلا يصح حكم الخوارج عليهم بدخول النار. أما مسألة جواز قتل الأطفال ومن في حكمهم من العجزة كالنساء، فقد أخطأت الأزارقة فيه حين زعموا جواز ذلك، سواء كانوا من المسلمين أو من المشركين، فقد وردت أحاديث صحيحة تمنع من قتلهم، إلا أن يكون ذلك في بيات لا يتميز فيه الأطفال والنساء، فلا بأس حينئذ في قتلهم إذا وقع دون عمد، فيكونون كآبائهم في حكم قتلهم وإهدار دمائهم. ومن الأدلة على هذا ما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: ((وجدت امرأة مقتولة في بعض تلك المغازي، فنهى رسول الله عن قتل النساء والصبيان)) (6).وكذا حديث الصعب بن جثامة قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم، فقال: ((هم منهم)) (7).قال النووي بعد إيراد حديث ابن عمر: "أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث، وتحريم قتل النساء والصبيان، إذا لم يقاتلوا، فإن قاتلوا، قال جماهير العلماء: يقتلون" (8).وقال ابن حجر في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((هم منهم)): "أي في الحكم في تلك الحالة، وليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم، بل المراد إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء إلا بوطأ الذرية، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم جاز قتلهم" (9). المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص514   (1) ((طريق الهجرتين)) (ص395). (2) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) ((الفتاوى الكبرى)) (2/ 178). (4) ((شرح النووي)) (12/ 50). (5) ((مختصر الفتاوى)) (1/ 255). (6) رواه البخاري (3015)، ومسلم (1744). (7) رواه البخاري (3012)، ومسلم (1745). (8) ((شرح النووي)) (12/ 48). (9) ((فتح الباري)) (6/ 147). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 المبحث الأول: الحوار والمناقشة وإزالة الشبه لقد حاور الصحابة رضي الله عنهم الخوارج، وحاولوا من خلال هذا الحوار مناقشة الأمور التي خالفت فيها الخوارج وكانت سبب خروجهم، وحاولوا إزالة الشبه التي عرضتها الخوارج وجعلتها مبررا ومسوغا لخروجهم. وكان هذا الحوار وتلك المناقشة أكثر من مرة، وفي أكثر من موضع ومن أكثر من شخص، وكان الحوار ناجحا إذ من خلاله زالت شبه جماعة من الخوارج، وعادوا إلى الحق، وانضموا إلى الجماعة. يروي الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أن عبد الله بن شداد (1) جاء إلى عائشة رضي الله عنها فقالت: "يا عبدالله بن شداد هل أنت صادقي عما أسألك عنه؟ فحدثني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي، فقال: ومالي لا أصدقك؟ قالت: فحدثني عن قصتهم، قال: فإن عليا لما كاتب معاوية وحكم الحكمين؛ خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس، فنزلوا بأرض يقال لها حروراء من جانب الكوفة، وأنهم عتبوا عليه فقالوا: انسلخت من قميص ألبسكه الله، واسم سماك به الله، ثم انطلقت فحكمت في دين الله ولا حكم إلا لله، فلما أن بلغ على ما عتبوا عليه وفارقوه عليه، أمر فأذن مؤذن لا يدخل على أمير المؤمنين رجل إلا رجلا قد حمل القرآن، فلما أن امتلأت الدار من قراء الناس؛ دعا بمصحف إمام عظيم فوضعه بين يديه فجعل يصكه بيده ويقول: أيها المصحف! حدث الناس. فناداه الناس فقالوا: يا أمير المؤمنين ما تسأل عنه إنما هو مداد في ورق، ونحن نتكلم بما روينا منه، فماذا تريد؟ قال: أصحابكم هؤلاء الذين خرجوا؛ بيني وبينهم كتاب الله، يقول الله تعالى: في كتابه في امرأة من رجل وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا [النساء: 35]. فأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم دما وحرمة من امرأة ورجل، ونقموا علي أن كاتبت معاوية كتبت: علي بن أبي طالب، وقد جاءنا سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية حين صالح قومه قريشا .. (2). وأكمل القصة ثم إنه بعث إليهم عبدالله بن عباس ليناظرهم. وقيل إن عليا رضي الله عنه ذهب إليهم وناظرهم فيما نقموا عليه حتى رجعوا ودخلوا معه الكوفه، ثم إنهم عاهدوا فنكثوا ما عاهدوا عليه (3). ونلحظ أن عليا رضي الله عنه أراد في جمع قراء الناس أن يلزم الخوارج الحجة، وأن يبين للناس أن إدعاء الخوارج على علي رضي الله عنه أنه حكم الرجال لا أساس له من الصحة، فأراد إيضاح حقيقة ما حصل من قبول التحكيم، وأنه عين ما يريدون من تحكيم كتاب الله عز وجل، وأنه رضي الله عنه ما خرج عن حكم الكتاب العزيز، ولكن عقول هؤلاء الخوارج قاصرة عن إدراك حقيقة الأمر، ونظرهم محدود، قد غطت الشبهات أعينهم فما عادوا يبصرون إلا من خلالها. ولقد جاء رضي الله عنه بالحجة المقنعة فجاء بالمصحف فوضعه بين يديه وجعل يصكه بيده ويقول: أيها المصحف حدث الناس!   (1) عبدالله بن شداد بن الهاد الليثي أبو الوليد، المدني، من كبار التابعين الثقات، وكان معدودا في الفقهاء، مات بالكوفة مقتولا سنة 81هـ وقيل بعدها. انظر ((التقريب)) (1/ 422). (2) رواه عبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (1/ 86) (656). قال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (7/ 291): إسناده صحيح. وحسنه الوادعي في ((الصحيح من دلائل النبوة)) (601). وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده حسن. (3) انظر ((البداية والنهاية)) (7/ 281). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 إن كل من له عقل يعلم أن المصحف لن يرد ولن يتحدث أو يحكم، وإنما الحكم بكتاب الله يكون بالرجوع إلى العلماء الحافظين له العاملين بمعانيه ومقاصده، وهذا ما فعله علي رضي الله عنه من تحكيم صحابيين جليلين، واشترط عليهما تحكيم الكتاب والسنة، فيرجع إلى مقتضى النصوص لا إلى الأهواء والمصالح الشخصية. وهذه مقدمة ما احتج به رضي الله عنه وما رد به على اعتراضات الخوارج، وبنود هذه المناظرة هي التي ناظرهم بها عبدالله بن عباس رضي الله عنهما لما بعثه إلى الخوارج، فيحتمل أن ابن عباس سمع عليا رضي الله عنه لما قال ما قال عند جمع قراء الناس، ثم سار إلى الخوارج في ديارهم، وناظرهم فيما نقموا واعترضوا، وهذا نص المناظرة التي جرت بين عبدالله بن عباس وبين الخوارج. يقول عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: (لما خرجت الحرورية اعتزلوا في دار، وكانوا ستة آلاف، وأجمعوا على أن يخرجوا على علي، فكان لا يزال يجيء إنسان، فيقول: يا أمير المؤمنين! إن القوم خارجون عليك. فيقول دعوهم؛ فإني لا أقاتلهم حتى يقاتلوني، وسوف يفعلون. فلما كان ذات يوم؛ أتيته قبل صلاة الظهر، فقلت لعلي: يا أمير المؤمنين! أبرد بالصلاة؛ لعلي أكلم هؤلاء القوم. قال: فإني أخافهم عليك. قلت: كلا، وكنت رجلا حسن الخلق، لا أؤذي أحدا. فأذن لي، فلبست حلة من أحسن ما يكون من اليمن، وترجلت، ودخلت عليهم في دار النهار وهم يأكلون، فدخلت على قوم لم أر قط أشد منهم اجتهادا، جباهم قرحة من السجود، وأياديهم كأنها ثفن الإبل، وعليهم قمص مرحضة، مشمرين، مسهمة وجوههم. فسلمت عليهم، فقالوا: مرحبا بك يا ابن عباس! وما هذه الحلة عليك؟! قلت: ما تعيبون مني، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ما يكون في ثياب اليمنية، ثم قرأت هذه الآية: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف: 32]. فقالوا: فما جاء بك؟ قلت لهم: أتيتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار، ومن عند ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وصهره - وعليهم نزل القرآن؛ فهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحدا -؛ لأبلغكم ما يقولون، وأبلغهم ما تقولون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 فقالت طائفة منهم: لا تخاصموا قريشا؛ فإن الله عز وجل يقول بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف: 58]. فانتحي لي نفر منهم، فقال اثنان أو ثلاثة: لنكلمنه. قلت: هاتوا؛ ما نقمتكم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه؟ قالوا: ثلاث. قلت: ما هن؟ قال: أما إحداهن؛ فإنه حكم الرجال في أمر الله، وقال الله: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ [الأنعام: 57]. ما شأن الرجال والحكم؟ قلت: هذه واحدة. قالوا: وأما الثانية؛ فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم؛ إن كانوا كفارا؛ لقد حل سبيهم، ولئن كانوا مؤمنين؛ ما حل سبيهم ولا قتالهم. قلت: هذه ثنتان، فما الثالثة؟ وذكر كلمة معناها. قالوا: محى نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين؛ فهو أمير الكافرين. قلت: هل عندكم شيء غير هذا؟ قالوا: حسبنا هذا. قلت لهم: أرأيتكم إن قرأت عليكم من كتاب الله جل ثناؤه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يرد قولكم؛ أترجعون؟ قالوا: نعم. قلت: أما قولكم: "حكم الرجال في أمر الله؛ فإني أقرأ عليكم في كتاب الله أن قد صير الله حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم، فأمر الله تبارك وتعالى أن يحكموا فيه. أرأيت قول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ [المائدة: 95]. وكان من حكم الله أنه صيره إلى الرجال يحكمون فيه، ولو شاء يحكم فيه، فجاز من حكم الرجال. أنشدكم بالله! أحكم الرجال في إصلاح ذات البين وحقن دمائهم أفضل أو في أرنب؟! قالوا: بلى؛ بل هذا أفضل. وفي المرأة وزوجها: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا [النساء: 35]. فنشدتكم بالله! حكم الرجال في صلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في بضع امرأة؟! خرجت من هذه؟ قالوا: نعم. قلت: وأما قولكم: "قاتل ولم يسب ولم يغنم"؛ أفتسبون أمكم عائشة تستحلون منها ما تستحلون من غيرها وهي أمكم؟ فإن قلتم: إنا نستحل منها ما نستحل من غيرها؛ فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمنا؛ فقد كفرتم: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب: 6]. فأنتم بين ضلالتين، فأتوا منها بمخرج. أفخرجت من هذه؟ قالوا: نعم. وأما محي نفسه من أمير المؤمنين؛ فأنا آتيتكم بما ترضون: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صالح المشركين، فقال لعلي: ((اكتب يا علي! هذا ما صالح عليه محمد رسول الله. قالوا: لو نعلم أنك رسول الله، ما قاتلناك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: امح يا علي! اللهم إنك تعلم أني رسول الله، امح يا علي! واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله)) (1)، والله لرسول الله صلى الله عليه وسلم خير من علي، وقد محى نفسه، ولم يكن محوه نفسه ذلك محاه من النبوة! أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم. فرجع منهم ألفان، وخرج سائرهم، فقتلوا على ضلالتهم، قتلهم المهاجرين والأنصار) (2).   (1) انظر ((السيرة النبوية)) لابن هشام (3/ 203) ط/ مكتبة الكليات الأزهرية. (2) رواه عبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (1/ 342) (3187)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 167)، وعبدالرازق في ((المصنف)) (10/ 157)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 318)، وابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 362). قال الوادعي في ((الصحيح المسند)) (711): حسن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 لقد حوت هذه المناظرة كثيرا من شروط المناظر، وضوابط المناظرة وطرق إحكام الرد وإفحام الخصم وذلك كالآتي: شروط المناظر: ينبغي أن يختار المناظر اختيارا بأن يكون قوي الحجة، غزير العلم، ذكيا فطنا حاضر البديهة، حسن الجواب، حسن الخلق والهيئة، متواضعا حليما متأنيا، تقيا منصفا (1). ولقد توافرت هذه الشروط في حبر الأمة عبدالله بن عباس، ووجد نفسه أهلا لذلك فاستأذن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لمناظرتهم، فخاف علي عليه، فقال ابن عباس: "كلا" وعلل ذلك بما يتصف به من صفات من أنه رجل حسن الخلق لا يؤذي أحدا. وقد اهتم بمنظره وهيئته إذ أول ما يطالع الخصم هيئة المناظر قبل حديثه، لذلك لبس رضي الله عنه حلة من أحسن ما يكون من اليمن وترجل. ضوابط المناظرة، وطرق إحكام الرد وإفحام الخصم: 1 - اختيار الوقت المناسب للحوار والمناظرة، وقد اختار ابن عباس وقتا مناسبا ليتمكن من الحديث معهم دون مقاطعة من أحد أو انصراف من آخر، فاختار وقت فراغهم وعدم انشغالهم لا بالعمل ولا بالعبادة، فجاءهم وهم يأكلون، والطعام موضع حديث.2 - اختيار المكان المناسب الذي يتيح للمعارض الحديث بحرية وأمان، فيظهر كل ما يعترض عليه وما يشكل عنده، إذ غرض المناظرة والحوار إيضاح موضع الإشكال وإزالة الشبهة، فسار ابن عباس رضي الله عنه إلى الخوارج في دارهم (2).3 - تحديد موضوع المناظرة، فينبغي أن يكون موضوعا محددا تدور حوله المناظرة، فإذا أجيب عنه انتقل إلى غيره، حتى لا يتشتت الذهن مع موضوعات شتى، وينبغي أن يصرح ويحدد موضوع المناظرة بوضوح حتى لا يقع إشكال من أحد الطرفين، لذلك حدد ابن عباس رضي الله عنهما مدار الحوار فقال: "هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه" (3).4 - الإقرار بما عند الخصم من الخير والحق، فابن عباس رضي الله عنه وصف اجتهادهم في العبادة ولم يكتمه، وهذا من الإنصاف والتجرد عن الهوى (4).5 - تذكير الخصم بالرغبة الصادقة في الحوار والاستماع إليه، وبيان أن الهدف هو الوصول إلى الحق، لذلك يبين ابن عباس سبب مجيئه فقال: "لأبلغكم ما يقولون وأبلغهم ما تقولون" (5).6 - تحديد الأصل الذي يرجع إليه ويحتج به، وينبغي أن يكون متفق على صحته عند الخصمين، وقد حدد ابن عباس رضي الله عنه ذلك فقال: "أرأيتكم إن قرأت عليكم من كتاب الله جل ثناؤه وسنة نبيه ما يرد قولكم أترجعون؟ " (6).7 - توثيق المعلومات بالأدلة التي يحتج بها الطرفان (7)، فابن عباس رضي الله عنه لا يذكر شيئا إلا ويستدل عليه من كتاب الله أو سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.8 - استماع حجة الخصم كاملة، وعدم العجلة بالجواب حتى يعلم ما عند القوم كله، ويتصور مرادهم، ووجه اعتراضهم بشكل متكامل، ثم يجيبهم بجواب يقطع حجتهم، وهذا ما فعله ابن عباس رضي الله عنه فاستمع إلى اعتراضاتهم الثلاثة، ثم أجاب عنها واحدة واحدة (8).   (1) انظر: ((الرد على المخالف)) لبكر أبو زيد (ضمن مجموعة الردود) (57). (2) انظر ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (2/ 25) ((حوار الحضارات وطبيعة الصراع بين الحق والباطل)) لموسى إبراهيم البراهيم (247). (3) انظر ((الرد على المخالف)) (60). (4) انظر ((حوار الحضارات)) (242)، ((الرد على المخالف)) (62). (5) انظر ((الفقيه والمتفقه)) (2/ 25). (6) انظر ((مناظرات أئمة السلف مع حزب إبليس وأفراخ الخلف دراسة وتحليلا)) لسليم الهلالي (62،64). (7) انظر ((حوار الحضارات)) (243)، ((مناظرات أئمة السلف)) (64)، ((الرد على المخالف)) (66). (8) انظر ((الفقيه والمتفقه)) (2/ 31)، ((مناظرات أئمة السلف)) (61). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 9 - العلم بحال الخصم، وتوقع ردة فعله، ومحاولة الاستفادة من ذلك في إقامة الحجة عليه، فابن عباس رضي الله عنه كان يعلم زهد الخوارج وتقشفهم في العبادة وغلوهم في ذلك، فلما أراد السير إليهم لبس حلة من أحسن ما يكون من اليمن، فأنكروا عليه ذلك - وكان يتوقع إنكارهم – فرد عليهم أن هذا وارد في الكتاب والسنة، وفي رده عليهم قرر أمرين: الأول: جهلهم بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، الثاني: أنهم لجهلهم يعيبون وينكرون أمورا هي واردة في الكتاب والسنة، مثل هذا الأمر، ومثل إنكارهم على علي أمر التحكيم. وإن كان لم يصرح بهذين الأمرين أو يعلنهما، ولكنهما ينفذان للنفوس والأذهان.10 - إظهار حقيقة الخصم إن كان جاهلا بالكتاب والسنة (1) عن طريق إضعاف موقفه بالحجة والدليل، وهذا ما فعله ابن عباس أول ما قدم إليهم أنكروا عليه أمر حلته، فبين جهلهم وأنه أعلم منهم بما ورد في الكتاب والسنة، وقرر أنه شاهد ما لم يشاهدوا من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك لما سئل ما جاء بك؟ زاد في الإجابة ليؤكد هذا الأمر فقال: "أتيتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار، ومن عند ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وصهره، وعليهم نزل القرآن، فهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحد".   (1) انظر ((مناظرات أئمة السلف)) (63). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 فهو ها هنا يؤكد أمرين: الأول: فهم الصحابة رضي الله عنه للقرآن الكريم وعلمهم بتأويله إذ عليهم نزل، بخلاف الخوارج الذين قرؤوا القرآن فظنوا أنهم ساووا الصحابة في الفهم، فبين ميزة الصحابة وتفردهم بنزول القرآن بين أظهرهم. الثاني: بيان جهل الخوارج، وإظهار حقيقتهم، وأنه ليس فيهم صحابي واحد، فبهذه المقدمة قرر أمرين: عمق علم المعترض عليهم، والذي يقتضي قوة حجتهم وقوة موقفهم، جهل المخالفين المعترضين مما يضعف موقفهم.11 - للمناظر أن يشترط على الخصم إن هو أفحمه وأقام عليه الحجة أن يرجع عن قوله، ويقر بخطئه (1)، لذلك قال ابن عباس: "أرأيتكم إن قرأت عليكم من كتاب الله ... أترجعون؟ قالوا: نعم "فاشترط عليهم وقبلوا، وهذا من إقامة الحجة عليهم.12 - من طرق إحكام الرد وإفحام الخصم: الاستدلال على جواز أصل ما اعترضوا عليه، والاستدلال بما يحتجون به، إذ كانوا معترضين على تحكيم الرجال في أمر الله مطالبين بتحكيم الكتاب، فبين لهم أن الله عز وجل قد صير حكمه إلى الرجال في مسائل، فينبغي ألا يعارض حكم الله في تحكيم الرجال، ولو اعترضوا لصاروا هم المخالفين لحكم الله، فنقض شبهتهم وقلبها عليهم (2).13 - من طرق إحكام الردود وإفحام الخصم: استخدام القياس وذلك لما قال لهم "أحكم الرجال في إصلاح ذات البين، وحقن دمائهم أفضل أو في أرنب" وقال: "أفضل من حكمهم في بضع امرأة"؟! وهذا من أحسن القياس وأوضحه (3).14 - من طرق إحكام الردود وإفحام الخصم: نقض حجة الخصم بأن يمثل لقوله بمثال هو باطل عنده، ليعلم الخصم أن بطلان قوله كبطلان ما مثله به (4)، وذلك حينما رد عليهم ابن عباس لما قالوا: "قاتل ولم يسب ولم يغنم"، فهذا أمر عام جاء له بمثال هم يبطلونه فقال: "أفتسبون أمكم عائشة تستحلون منها ما تستحلون من غيرها وهي أمكم؟ ... " (5) ثم بين لهم اللوازم الباطلة التي تلزم من قولهم هذا، فدل على بطلان الملزوم.15 - إحكام النقض، للشبه المعروضة، وكشف زيفها وتصييرها هباء منثورا (6)، فهذا ابن عباس رضي الله عنه قد أحكم نقض شبههم وقررهم بذلك.16 - حسن الصياغة بالتزام اللسان العربي الفصيح، والإتيان بالكلام الطيب بعيدا عن الشتم والفظاظة في الرد، والاقتصاد في السياق، فيؤتى بالألفاظ على قدر المعاني دون تطويل لا حاجة له، أو تكرار يخل ويمل (7). ولقد كان ابن عباس رضي الله عنه حسن الصياغة بكل معاييرها في هذه المناظرة فتأمل. 17 - التنبيه إلى وجوب النظر إلى حقيقة الأمر وإلى واقع الحال، والبعد عن السطحية والغلو، فقال في جوابه عن الاعتراض الأخير في مسح علي اسم الإمرة في كتاب التحكيم، "ولم يكن محوه نفسه ذلك محاه عن النبوة".   (1) انظر ((الفقيه والمتفقه)) (2/ 53)، ((مناظرات أئمة السلف)) (77). (2) انظر ((الفقيه والمتفقه)) (2/ 56)، ((مناظرات أئمة السلف)) (73). (3) انظر ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/ 213، 215). (4) انظر ((الفقيه والمتفقه)) (2/ 55)، ((مناظرات أئمة السلف)) (73). (5) رواه عبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (1/ 342) (3187)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 167)، وعبدالرازق في ((المصنف)) (10/ 157)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 318)، وابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 362). قال الوادعي في ((الصحيح المسند)) (711): حسن. (6) انظر ((الرد على المخالف)) (65). (7) انظر ((الفقيه والمتفقه)) (2/ 27 - 28)، ((الرد على المخالف)) (67 - 70). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 18 - العلم بعقلية الخصم وطريقة تفكيره حتى تجري المناظرة وفق ما يناسب ذلك، فنلحظ أن ابن عباس رضي الله عنهما استمع إلى حججهم، ثم تولى الإجابة عن المسائل وهم يستمعون، وهو في أثناء ذلك ينقلهم من مسألة إلى مسألة، ومن جزئية إلى جزئية، ويجيب بشكل مباشر وواضح، ويقررهم على كل واحدة، وهم يقرون "بنعم، وبلى"، وهذا من فقه ابن عباس رضي الله عنه وعلمه بطبيعتهم الحادة المتسرعة، ونظرتهم القاصرة، وسطحية التفكير فهم ليسوا بأهل جدل وكلام، ثم إنهم يتأثرون بالعصبية، وقد يعزلهم الصخب الجماعي عن التفكير والفهم، ومتابعة الحوار، لذلك قالوا كل اعتراضاتهم، ثم تولى الإجابة دون مقاطعات. لذلك ينبغي عند مناقشة مثل هذا النوع أن يكون الحوار فرديا لا جماعيا قدر الإمكان حتى يعزلوا عن تأثير الجماعة، وتخف وطأة العصبية (1)، ويكون المجال أرحب للتفكير والموازنة فيما يطرح عليهم، وفيما عندهم من خلفيات.   (1) انظر كيف حاولوا منع الحوار حينما قالت جماعة "لا تخاصموا قريشا". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 وينبغي تكرار المناقشة والرد على الشبهات أكثر من مرة، ومن أكثر من شخص مع مراعاة وقت زمني بين كل مرة وأخرى، إذ في هذه الجماعات من هم مغرورون قد تأثروا بالشعارات البراقة التي يرفعها الخوارج من الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحكيم كتاب الله، فتدفع طائفة منهم العاطفة الدينية الجياشة، وحب الخير للانضمام إلى هذه الجماعات، ولكن ما إن يبدأ الحوار، وتناقش الأمور، ويفكر المرء بما يقال حوله، فالشبهة سرعان ما تزول بإذن الله. يقول جابر بن عبدالله رضي الله عنه: "بعثنا عثمان بن عفان في خمسين راكبا وأميرنا محمد بن مسلمة الأنصاري (1) حتى أتينا ذا خشب، فإذا رجل معلق المصحف في عنقه، تذرف عيناه دموعا، بيده السيف وهو يقول: ألا إن هذا – يعني المصحف- يأمرنا أن نضرب بهذا يعني السيف – على ما في هذا – يعني المصحف فقال محمد بن مسلمة: اجلس، فقد ضربنا بهذا على ما في هذا قبلك، فجلس فلم يزل يكلمهم – أي ابن مسلمة رضي الله عنه – حتى رجعوا (2).ومن مناظرات الصحابة للخوارج وإلزامهم بالأصل الذي يقرون به، ما جرى بين عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما حيث يقول: "لقيني ناس ممن كان يطعن على عثمان ممن يرى رأي الخوارج، فراجعوني في رأيهم وحاجوني القرآن. قال: فلم أقم معهم ولم أقعد، فرجعت إلى الزبير منكسرا فذكرت ذلك له، فقال الزبير رضي الله عنه: إن القرآن قد تأوله كل قوم على رأيهم وحملوه عليه، ولعمر الله إن القرآن لمعتدل مستقيم، وما التقصير إلا من قبلهم، ومن طعنوا عليه من الناس فإنهم لا يطعنون على أبي بكر وعمر، فخذهم بسنتهما وسيرتهما، قال عبدالله: فكأنما أيقظني بذلك، فلقيتهم فحاججتهم بسنة أبي بكر وعمر، فلما أخذتهم بذلك قهرتهم وضعف قولهم" (3).ونجد أن المناقشة وإقامة الدليل والإجابة على التساؤلات تزيل كثيرا من الشبه التي تعترض الخوارج وتدعوهم إلى الخروج على الجماعة المسلمة وقتالهم: ومن ذلك ما أخرجه مسلم عن يزيد الفقير (4) قال: كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج (5)، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ثم نخرج على الناس، وقال: فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبدالله يحدث القوم جالسا إلى سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإذا هو قد ذكر الجهنميين، قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله ما هذا الذي تحدثون، والله يقول: رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [آل عمران:192]. كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج: 22]. فما هذا الذي تقولون؟ قال: فقال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: فهل سمعت بمقام محمد صلى الله عليه وسلم يعني الذي يبعثه الله فيه؟ قلت: نعم. قال: فإنه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج قال: ثم نعت وضع الصراط ومرور الناس عليه. وقال: وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك. قال: غير أنه قد زعم أن قوما يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها. قال: يعني: فيخرجون كأنهم عيدان السماسم (6)، قال: فيدخلون نهرا من أنهار الجنة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس، فرجعنا قلنا: ويحكم أترون الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجعنا فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد (7). المصدر: الصحابة بين الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص444   (1) محمد بن مسلمة الأوسي الأنصاري، أبو عبدالرحمن صحابي من الأمراء، شهد بدرا وما بعدها إلا تبوك، اعتزل الفتنة فلم يشهد الجمل ولا صفين، مات بالمدينة عام 43هـ، وقيل عام 46هـ. انظر ((الإصابة)) (3/ 383) دار الفكر، الطبقات (3/ 443). (2) ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (321) نقلا عن ((تحقيق مواقف الصحابة)) لمحمد أمحزون (2/ 198). (3) ((تاريخ دمشق)) (506) نقلا عن تحقيق مواقف الصحابة لمحمد أمحزون (2/ 198). (4) يزيد الفقير هو يزيد بن صهيب الكوفي ثم المكي أبو عثمان قيل له الفقير لأنه أصيب في فقار ظهره فكان يألم منه حتى ينحني له. انظر ((شرح صحيح مسلم)) (3/ 50). (5) شغفني: أي لصق بشغاف قلبي وهو غلافه، وأما رأي ((الخوارج)) فهو تكفير أصحاب الكبائر وخلودهم في النار. انظر ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (3/ 50). (6) السماسم جمع سمسم، وعيدانه تراها إذا قلعت وتركت في الشمس ليؤخذ جسها دقاقا سودا كأنها محترقة، فشبه بها هؤلاء. انظر ((شرح صحيح مشلم)) (3/ 51). (7) رواه مسلم (191). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 المبحث الثاني: الوعظ والنصيحة إن تقديم النصيحة والوعظ لهذه الفئة الضالة مما فعله الصحابة رضي الله عنهم تبرئة للذمة ونصحا للأمة. ولقد أقدم كثير من الصحابة على وعظ ونصح الخوارج في أكثر من موطن، ومن ذلك أن عليا رضي الله عنه أتاه رجلان من الخوارج زرعة بن البرج الطائي، وحرقوص بن زهير السعدي وأنكروا عليه أمر الحكومة وطلبوا منه أن يتوب .. وقال له زرعة: أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله عز وجل قاتلتك، أطلب بذلك وجه الله ورضوانه، فقال له علي: بؤسا لك، ما أشقاك! كأني بك قتيلا تسفي عليك الريح، قال: وددت أن قد كان ذلك، فقال له علي: لو كنت محقا كان في الموت على الحق تعزية عن الدنيا، إن الشيطان قد استهواكم، فاتقوا الله عز وجل، إنه لا خير لكم في دنيا تقاتلون عليها. فخرجا من عنده يحكمان. بل مازال نصح الصحابة للخوارج ووعظهم لهم مستمرا حتى لما شارفوا على القتال في النهروان واصطفوا، تقدم لهم قيس بن سعد بن عبادة فوعظهم فيما ارتكبوه من الأمر العظيم والخطب الجسيم فلم ينفع، كذلك أبو أيوب الأنصاري أنبهم ووبخهم ووعظهم، وتقدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إليهم وخطبهم ووعظهم وخوفهم وأنذرهم وتوعدهم وحذرهم (1).وكذلك فعل عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه إذ كان له غلام اسمه فيروز قد لحق بالخوارج من الشق الآخر، فلما كان وقت القتال: نادوه: يا فيروز يا فيروز، هذا عبدالله بن أبي أوفى، فقال: نعم الرجل لو هاجر، قال عبدالله: ما يقول عدو الله؟ فقيل له: يقول نعم الرجل لو هاجر، فقال: أهجرة بعد هجرتي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((طوبى لمن قتلهم وقتلوه)) (2). إن هذا الوعظ والنصح قد أثر في جماعة من الخوارج، وذلك أن عليا لما رفع راية الأمان مع أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه انضم إليها جماعة من الخوارج، وانصرف آخرون إلى الكوفة، وإن كان في ظاهر الأمر عدم تفاعلهم مع هذه المواعظ إلا أنها تظل تؤثر في جماعة. المصدر: الصحابة بين الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص456   (1) انظر ((البداية والنهاية)) لابن كثير (7/ 288)، ((تاريخ ابن خلدون)) (2/ 180). (2) رواه عبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (4/ 357) (19172)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (906). قال الألباني في ((ظلال الجنة)): إسناده حسن. وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): حديث صحيح وهذا إسناد حسن رجاله ثقات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 المبحث الثالث: الترغيب والترهيب قد يكون من بين صفوف الخوارج من لديه تطلعات للسلطة وحب للرئاسة، فينفع مع هذا الصنف استمالته وترغيبه. ولقد حاول علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يستميل رؤوس الخوارج بالمنصب، وأن يستصلحهم بالمال وتتألف قلوبهم بذلك، لأنه إذا تابع الرأس تابع من معه، وإذا رجع وكف رجعوا وكفوا، أو أحدث خللا في صفوفهم. يروي الطبري أن علي بن أبي طالب قبل أن يفد على الخوارج بحروراء ليحاورهم سأل عن أي رؤوس الخوارج هم له إطافة وطاعة، فقيل له: يزيد بن قيس، فجاء رضي الله عنه إلى يزيد بن قيس ودخل فسطاطه، وأمره على أصبهان والري، ثم خرج حتى انتهى إلى الخوارج وهم يخاصمون ابن عباس، ثم كلمهم (1) حتى أثناهم عما هم فيه وقررهم فرجعوا معه، ودخلوا إلى الكوفة (2).وسلك الصحابة أيضا مسلك الترهيب والتخويف لعله يجدي معهم ويكون رادعا لهم، وقد تقدم كيف أن عليا لما اصطفوا للقتال في النهروان جاءهم وهددهم وحذرهم وسفه رأيهم (3).وكذلك لما كان في الكوفة في بداية الأمر كانوا يقاطعونه في خطبه ويقولون: لا حكم إلا لله. وفي مرة قالوها، فقال علي رضي الله عنه: "الله أكبر! كلمة حق يراد بها باطل، إن سكتوا عممناهم، وإن تكلموا حججناهم، وإن خرجوا علينا قاتلناهم. فوثب يزيد بن عاصم من الخوارج فقال: ... يا علي أبالقتل تخوفنا! أما والله إني لأرجو أن نضربكم بها عما قليل غير مصفحات، ثم لتعلمن أينا أولى بها صليا (4).وكان المغيرة بن شعبة قد ولي أمر قتال الخوارج لمعاوية فكان رضي الله عنه يخطب في الناس، ويتهدد الخوارج (5). والملاحظ أن فئة الخوارج هذه لا يجدي معها كثيرا التهديد بالقتل إذ هو شهادة في نظرهم وهو غايتهم، والمطلوب إظهار قوة المسلمين وقوة ولاة الأمر حتى يحد من خروجهم وتقمع شوكتهم، إذ هم لا يندحرون إلا بالقتال غالبا. المصدر: الصحابة بين الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص457   (1) تقدم أن الروايات تعددت وذكرت أن عليا سار إليهم وحاورهم وأن ابن عباس كذلك، وهذه الرواية توفق بين الأمرين. (2) انظر ((تاريخ الطبري)) (3/ 110). (3) انظر ((تاريخ ابن خلدون)) (2/ 180). (4) انظر ((تاريخ الطبري)) (3/ 114). (5) انظر ((تاريخ ابن خلدون)) (3/ 143). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 المبحث الرابع: ذم الخوارج وذم صنيعهم، ونشر النصوص النبوية الواردة في حقهم لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يروون ما سمعوه عن المصطفى المختار عليه الصلاة والسلام، وكان مما رووه ما سمعوه عن الخوارج، ثم لما خرجت الخوارج عمد الصحابة إلى نشر هذه النصوص النبوية وبيان أن هؤلاء الخوارج الحرورية هم المرادون بهذه النصوص (1).كما كان الصحابة رضي الله عنهم يظهرون ذم الخوارج، وينددون بصنيعهم من قتل للمسلمين ونهب للأموال، وإفساد في البلاد. وكان الناس يسألونهم هل سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا عنهم فيحدثونهم بما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم (2).قال سعيد بن جهمان (3): (دخلت على ابن أبي أوفى وهو محجوب البصر فسلمت عليه فرد علي السلام. فقال: من هذا؟ فقلت: أنا سعيد بن جهمان، فقال: ما فعل والدك؟ فقلت: قتلته الأزارقة. قال: قتل الله الأزارقة كلها. ثم قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا إنهم كلاب أهل النار. قال: قلت: الأزارقة كلها أو الخوارج؟ قال: الخوارج كلها)) (4).وكذلك ما فعله أبو أمامة رضي الله عنه لما رأى رؤوس الخوارج معلقة على جسر دمشق أظهر ذمهم وروى ما ورد فيهم، فقال: ((شر قتلى قتلوا تحت أديم السماء وخير قتيل من قتلوا، كلاب أهل النار، قد كان هؤلاء مسلمين فصاروا كفارا. فقيل له: يا أبا أمامة: هذا شيء تقوله؟ قال: بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (5). وكان ابن عمر رضي الله عنهما يراهم شرار الخلق. المصدر: الصحابة بين الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص458   (1) انظر صحيح مسلم كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة ومن يخاف على إيمانه (7/ 173) النووي. (2) انظر سؤالهم لأبي سعيد عن الحرورية، وسؤالهم لسهل بن حنيف، وانظر سؤالهم لأبن أبي بكرة عن أبيه في ((السنة)) لعبدالله بن أحمد بن حنبل (2/ 633، 635، 637). (3) سعيد بن جهمان أبو حفص الأسلمي، صدوق له أفراد، مات سنة 136 هـ. انظر ((ميزان الاعتدال)) (2/ 131)، ((التقريب)) (1/ 292). (4) رواه ابن أبي عاصم في ((السنة)) (905)، وعبدالله بن أحمد في ((السنة)) (2/ 647). وقال الألباني في ((ظلال الجنة)): إسناده حسن. (5) رواه ابن ماجه (176)، والحاكم (2/ 163)، والطبراني (8/ 268). وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 المبحث الخامس: تحذير الناس من مسلكهم ببيان سوء فعلتهم، وإنزال نصوص قرآنية فيهم حتى لا يغتر بهم علمنا كيف أن الصحابة رضي الله عنهم عمدوا إلى إظهار النصوص النبوية الذامة للخوارج، وصرحوا بأنهم المرادون بهذه النصوص، وهم في كل ذلك يحذرون الناس من مسلكهم، ويبينون لهم سوء فعلتهم من قتل المسلمين وترويع الآمنين. يقول ابن عباس رضي الله عنهما محذرا من الخوارج: "كلام الحرورية ضلالة" (1).   (1) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (4/ 644). وابن بطة في ((الإبانة)) (1/ 286). وانظر ((جامع بيان العلم)) لابن عبدالبر (2/ 1168). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 ولقد أنزل الصحابة رضي الله عنهم نصوصا من القرآن الكريم على الخوارج، وتنوعت أقوالهم في ذلك ولا تعارض، إن تعددت صفات الخوارج، فذكر كل صحابي صفة من الصفات، كل هذا تحذيرا من مسلكهم وذما لفعالهم، فالخوارج هم:1 - الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة:27] (1).2 - إن الَذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا [الأنعام: 159]، (2).3 - هم الأخسرون أعمالا كما قال الله تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف: 103 - 104] (3).4 - هم من زاغت قلوبهم ومالت عن اتباع الحق كما قال تعالى فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: 5] (4).5 - هم المتبعون للشبهات كما قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران: 7] (5).6 - هم من تسود وجوههم يوم القيامة كما قال الله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران: 106 - 107] (6).وهذه الآيات لا تخص الخوارج، بل تعم كل من اتصف بتلك الأوصاف، والصحابة رضي الله عنهم أنزلوها على الحرورية إما لأنهم سئلوا عنها على الخصوص وهل الآية تشملهم فأجابوا عن السؤال. أو لأن الخوارج هم أول من ابتدع في دين الله وخرج على جماعة المسلمين بالسيف، وكان المقصود التحذير منهم (7).ومن مواقف الصحابة مع الخوارج تحذير الناس منهم، وتنبيههم على عدم الاغترار بما يظهر عليهم من الزهد والعبادة وقراءة القرآن، فذكر لعبدالله بن عباس رضي الله عنهما الخوارج وما يصيبهم عند قراءة القرآن، قال: "يؤمنون بمحكمه ويضلون عند متشابهه" وقرأ: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [آل عمران: 7] (8).وفي مرة أخرى ذكر له الخوارج واجتهادهم وصلاتهم فقال: "ليس هم بأشد اجتهادا من اليهود والنصارى وهم على ضلالة" (9).   (1) ذكره سعد بن أبي وقاص. انظر ((صحيح البخاري))، كتاب التفسير، باب قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا (8/ 425) فتح. (2) ذكره أبو هريرة وأبو أمامة رضي الله عنهما. انظر ((الاعتصام)) للشاطبي (44)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/ 435). (3) ذكره علي بن أبي طالب رضي الله عنه. انظر كتاب ((السنة)) لعبدالله بن أحمد بن حنبل (2/ 636)، ((فتح الباري)) (8/ 425). (4) ذكره أبو أمامة، وسعد بن أبي وقاص. انظر كتاب ((السنة)) لعبد الله بن أحمد بن حنبل (2/ 641)، ((السنة)) للمروزي (75)، ((الاعتصام)) (46،48). (5) ذكره أبو أمامة، وسعد بن أبي وقاص. انظر كتاب ((السنة)) لعبد الله بن أحمد بن حنبل (2/ 641)، ((السنة)) للمروزي (75)، ((الاعتصام)) (46،48). (6) ذكره أبو أمامة، انظر ((السنة)) للمروزي (75). (7) انظر ((الاعتصام)) (48). (8) انظر كتاب ((الشريعة)) للآجري (1/ 343). (9) رواه الآجري في ((الشريعة)) (1/ 343). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 ولقد حرص علي بن أبي طالب رضي الله عنه على تحذير الناس من مسلك الخوارج، حتى أنه لما انتهى من النهروان جعل يمشي بين القتلى ويقول: (بؤسا لكم! لقد ضركم من غركم! فقال أصحابه: يا أمير المؤمنين ومن غرهم؟ قال: الشيطان وأنفس بالسوء أمارة غرتهم بالأماني، وزينت لهم المعاصي، ونبأتهم أنهم ظاهرون) (1). فينبغي على ولاة الأمر علماء وأمراء من تحذير الناس من الفكر الضال المنحرف، وتوعيتهم بخطورته حتى لا يتسلل إلى النفوس. كما ينبغي على الآباء ملاحظة أبنائهم فكرا وسلوكا ومحاورتهم، ومناقشتهم في الأفكار المنحرفة وتحذيرهم منها، وبناء معتقد صحيح وفكر واعي يحول دون تسلل هذه البدع إلى النفوس. وإن رأى الآباء أو ولاة الأمر بادرة من أحد، ورغبة في اللحاق بأهل البدع والانسياق ورائهم، فعليهم منعه حتى يعود إلى رشده، فهذا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما يرسل إلى حوثرة بن وادع الأسدي (2) أباه ليرده (3). المصدر: الصحابة بين الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص459   (1) انظر ((البداية والنهاية)) لابن كثير (7/ 288). (2) هو: حوثرة بن وادع بن مسعود الأسدي، من الشجعان الزعماء، كان من أنصار علي بن أبي طالب، وشهد معه كثيرا من الوقائع، فارقه بعد التحكيم واعتزل حتى قتل علي، ثم خرج على معاوية مع أصحابه، فأرسل إليه جيشا فقتل عام 41هـ. انظر ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 164)، الأعلام (2/ 326). (3) انظر ((تاريخ ابن خلدون)) (3/ 142)، وانظر ((البداية والنهاية)) (7/ 286). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 المبحث السادس: هجرهم لقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب هجر أهل البدع، وأن هجرهم زجر لهم (1).ولم يبرز هجر الصحابة رضي الله عنهم للخوارج كموقف واضح متكرر منهم لأن الخوارج أنفسهم منعزلون عن الجماعة المسلمة، وإن كان ورد عن بعض الصحابة رضي الله عنهم ترك مخاطبتهم ومخالطتهم، من ذلك ما قاله جندب بن عبدالله لفرقة دخلت عليه من الخوارج. فقالوا: ندعوك إلى كتاب الله، فقال: أنتم؟ قالوا: نحن، قال: أنتم؟ قالوا: نحن، فقال: يا أخابيث خلق الله في اتباعنا تختارون الضلالة، أم في غير سنتنا تلتمسون الهدى؟! اخرجوا عني (2).وكذلك هجر عبدالله بن عمر سماع بدعهم، فقد قيل لابن عمر: إن نجدة (3) يقول: كذا وكذا، فأدخل إصبعيه في أذنيه مخافة أن يدخل قلبه منه شيء (4).لذلك يرى الإمام أحمد بن حنبل وجوب مقاطعة الخوارج وهجرتهم وترك التعامل معهم، فلا يباع ولا يشترى منهم، بل ولا يكلموا ولا يصلى عليهم (5)، زجرا لهم على بدعتهم. المصدر: الصحابة بين الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص462   (1) انظر: ((هجران أهل البدع))، أو ((الزجر بالهجر)) لجلال الدين السيوطي (42)، ((شرح السنة)) للبغوي (1/ 219، 224)، ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (13/ 106)، ((هجر المبتدع)) لبكر أبو زيد (21). (2) انظر ((إعلام الموقعين)) (4/ 139). (3) نجدة بن عامر الحروري من رؤوس الخوارج. (4) انظر ((ذم الكلام)) للهروي (4/ 32). (5) انظر ((السنة)) للخلال (155، 157). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 المبحث السابع: الإجابة عن أسئلتهم، وعدم صدهم، ومراسلتهم إن دعت الحاجة تقدم أن الهجر من العقوبات والزواجر لأهل البدع، ولكن هذا الهجر لا يتنافى مع الإجابة عن أسئلتهم إن هم سألوا، أو بيان وتوضيح مشكلة إن هم استفهموا، فإن جاءوا طالبين للعلم، مستفهمين لا معاندين مخاصمين فإنهم يجابون ولا يصدون، والذي يتولى إجابتهم ومناقشتهم هو العالم العارف لا الجاهل العامي. فلقد كتب نجدة الحروري إلى عبدالله بن عباس رضي الله عنهما يسأله عن خلال، فقال: ابن عباس: (إن الناس يقولون: إن ابن عباس يكاتب الحرورية، ولولا أني أخاف أن أكتم علما لم أكتب إليه، فكتب إليه نجدة: أما بعد، فأخبرني: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ وهل كان يضرب لهن بسهم؟ وهل كان يقتل الصبيان؟ وعن الخمس، لمن هو؟ فكتب إليه ابن عباس: إنك كتبت تسألني: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ وقد كان يغزو بهن، يداوين المرضى ويحذين (1) من الغنيمة، فأما السهم فلم يضرب لهن بسهم. وكتبت: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل الصبيان؟ وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتل الصبيان، فلا تقتل الصبيان إلا أن تكون تعلم ما علم الخضر من الصبي الذي قتل، فتميز الكافر من المؤمن، فتقتل الكافر وتدع المؤمن. وكتبت تسألني: عن الخمس، لمن هو؟ وإنا نقول: هو لنا، فأبى قومنا علينا ذلك، فصبرنا عليه) (2). نجد هذه المكاتبة محدودة الأسئلة والأجوبة إلا أن ابن عباس رضي الله عنهما أراد أن يستغل الفرصة لينهي نجدة عن بعض بدعه، وينبهه إلى الشبه التي تحول بينه وبين الحق. فلما سأله نجدة عن قتل الصبيان، بين له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل الصبيان، ولعلم ابن عباس بمنهج الخوارج في الاستدلال، واتباعهم للمتشابه من النصوص، أخبره أن قتل الخضر للصبي (3) الذي قد يستدلون له على جواز قتل الصبيان ويعارضون به فعل الرسول صلى الله عليه وسلم – أنه كان عن علم من الله، وليس أمرا عاما، فإن كنت تعلم علمه فافعل فعله، وإن كنت لا تعلم علمه وأنت لا تعلم فلا تقتل الصبيان (4). ثم لما سأله عن الخمس، قال: هو لنا، ثم زاد في الإجابة وقال: فأبى قومنا علينا ذلك فصبرنا عليه، أي: مع علمنا أن الخمس لنا، وأن قومنا منعونا منه وخالفوا نصوص الكتاب والسنة، إلا أننا لم نكفرهم ولم نتبرأ منهم، فمازالوا قومنا، ولم يدفعنا ذلك للخروج عليهم بالسيف بل صبرنا على ذلك، وهذا هو المنهج، الصبر على جور الولاة وعدم الخروج عليهم بالسيف كما تفعل الخوارج. ومن أسئلة الخوارج للصحابة، سؤالات نافع بن الأزرق الحروري لعبدالله بن عباس، فسأله أسئلة عدة وكان ابن عباس يجيب (5). ولم ير ذلك يعارض الهجر. بل إن عبدالله بن عباس بادر إلى مكاتبة نجدة الحروري لما كانت المصلحة مقتضية لذلك، فإن نجدة منع الميرة عن الحرمين فكتب إليه ابن عباس ينهاه عن ذلك ويقول إن ثمامة بن أثال (6) لما أسلم قطع الميرة عن مكة وهم مشركون، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أهل مكة أهل الله فلا تمنعهم الميرة)). فخلاها لهم (7). وإنك قطعت الميرة ونحن مسلمون، فخلاها لهم نجدة (8). المصدر: الصحابة بين الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص463   (1) يحذين: يعطين. (2) رواه مسلم (1812). (3) كما ورد في سورة الكهف آية رقم (74، 80). (4) النجدات أتباع نجدة الحروري لا يجيزون قتل الصبيان بخلاف الأزارقة الذين جوزوا ذلك. انظر ((الفرق بين الفرق)) (56). (5) انظر ((الإتقان في علوم القرآن)) لجلال الدين السيوطي (301 – 327) حيث سرد هذه الأسئلة وإجابات ابن عباس عليها. (6) هو: ثمامة بن أثال بن النعمان اليمامي الحنفي، أبو أمامة: صحابي، سيد أهل اليمامة. قاتل المرتدين من أهل البحرين مع العلاء الحضرمي، توفي حوالي عام 12هـ. انظر: ((الاستيعاب)) (1/ 203)، ((الإصابة)) (1/ 203) ط/ دار الفكر. (7) الحديث رواه البخاري (4372)، ومسلم (1764). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الزيلعي في ((نصب الراية)) (3/ 402): وحديث ثمامة في ((الصحيحين)) ليس فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم لثمامة أن يرد الميرة على أهل مكة. وانظر: ((الاستيعاب)) (1/ 204) هامش ((الإصابة))، و ((الإصابة)) (1/ 203). (8) انظر ((تاريخ ابن خلدون)) (3/ 147)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 353). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 المبحث الثامن: عدم الاعتداء عليهم بل السير فيهم السيرة العادلة لقد كان موقف الصحابة رضي الله عنهم من الخوارج موقفا عادلا منصفا، فالصحابة قوم عدول يتقون الله عز وجل فيمن خالفهم. فنجد أن الخوارج رغم شغبهم المتكرر على علي رضي الله عنه، ومقاطعته في خطبته أكثر من مرة بقولهم "لا حكم إلا الله "، واتهامهم إياه بالكفر، وطلبهم منه التوبة من أمر الحكومة (1)، إلا أنه رضي الله عنه سار معهم السيرة العادلة، ولم يبدأهم بالقتال، ولم يعتد عليهم بقول ولا بفعل (2). بل كلما شغبوا عليه، وأثاروا العامة وقالوا: لا حكم إلا لله وهو في خطبته، ينهاهم ويقول: "الله أكبر كلمة حق يلتمس بها باطل! أما إن لكم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدؤنا، ثم رجع إلى مكانه الذي كان فيه من خطبته (3).ثم إنه رضي الله عنه لم يقابلهم بجيش لقتالهم حتى قتلوا عدد من المسلمين، واعتدوا وأفسدوا في الأرض، حينها سار إليهم، ولم يبدأهم بالقتال بل أرسل إليهم يناشدهم الله ويأمرهم أن يرجعوا، فلم تزل رسله تختلف إليهم حتى قتلوا رسوله، فلما رأى ذلك نهض إليهم فقاتلهم حتى فرغ منهم (4) ... المصدر: الصحابة بين الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص465   (1) أمر الحكومة، ما حصل من التحكيم في صفين. (2) انظر ((منهاج السنة النبوية)) (5/ 248). (3) انظر ((تاريخ الطبري)) (3/ 114)، ((البداية والنهاية)) (7/ 284). (4) انظر ((تاريخ الطبري)) (3/ 125). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 المبحث التاسع: إعطاء الأمان لمن رجع منهم ومحاولة استصلاحه، وإعلان الكف عمن كف منهم ورجع لقد كان لإعطاء الأمان، وفتح باب الرجعة والتوبة للخوارج أثر كبير في رجوع جماعات كثيرة منهم خاصة إذا بانت قوة الدولة وقدرتها على السيطرة على الأوضاع، والتضييق عليهم. فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه رفع راية أمان مع أبي أيوب الأنصاري يوم النهروان لمن يرجع من الخوارج، فأعطى الأمان لكل من اعتزل القتال واعتزل جيش الخوارج سواء انضم لراية أبي أيوب أو سار إلى الكوفة أو إلى المدائن فهو آمن. لذلك ناداه أبو أيوب وقال: "من جاء هذه الراية منكم ممن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن، ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن، إنه لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم في سفك دمائكم" (1). فاعتزل من الخوارج قرابة الثلث لما فتح باب التوبة والعودة وأعطوا الأمان، وبين لهم أن سفك الدماء ليس هو المقصود بل إقامة الحق وتحكيم أمر الله عز وجل هو المطلوب. إن من الوسائل الناجحة في التعامل مع الخوارج إعطاؤهم الأمان إن عادوا، وإعلان الكف عمن كف منهم، وأنه لن يبدأهم بقتال إلا إذا بدؤه (2). المصدر: الصحابة بين الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص466   (1) انظر ((تاريخ الطبري)) (3/ 121). (2) انظر ((تاريخ الطبري)) (3/ 114). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 المبحث العاشر: قتالهم قال الله تعالى: مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا [الكهف: 17]. إنه إذا انغلقت القلوب عن سماع صوت الحق، وحجبت العقول عن الحوار والمناقشة لم يبق إلا تحكيم أمر الله عز وجل فيهم برد بغيهم إذ هم أعرضوا عما تقدم، لذلك قال علي رضي الله عنه للخوارج: "ولا نقاتلكم حتى تبدؤونا". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 فلما بدأ الخوارج باستعراض المسلمين وقتلهم كان لابد من حفظ أمن البلاد، وإقامة حدود الله، فسار علي رضي الله عنه والصحابة الفضلاء معه لقتال الخوارج. لقد وردت نصوص نبوية عديدة، تحض على قتال الخوارج، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)) (1)، ويقول: ((قتالهم حق على كل مسلم)) (2)، ويبين عليه الصلاة والسلام أجر من يقاتلهم فيقول: ((فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة)) (3).كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن علياً رضي الله عنه سيلي هذا الأمر، يقول علي بن أبي طالب: إني دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة، فقال: ((كيف أنت وقوم كذا وكذا (4)؟ فقلت: الله ورسوله أعلم. قال: ثم أشار بيده فقال: قوم يخرجون من قبل المشرق يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ... الحديث)) (5).ولكن كانت النصوص صريحة بوجوب قتال الخوارج. اتفقت كلمة الصحابة رضوان الله عليهم على قتالهم، وقاتلهم علي بن أبي طالب وجمع من الصحابة. وكان عبدالله بن عمر يرى أن قتال الحرورية حقا واجبا على المسلمين (6). لذلك أراد رضي الله عنه أن يقاتل نجدة الحروري حين أتى المدينة يغير على ذراريهم، فقيل له: إن الناس لا يبايعونك على هذا، فتركه (7). وقال رضي الله عنه: "ما آسى من الدنيا إلا على ثلاث: ظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، وألا أكون قاتلت هذه الفئة الباغية التي حلت بنا" (8).ويقول معاوية بن قرة (9): "خرج محكم في زمان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج عليه بالسيف رهط من أصحاب رسول الله منهم عائذ بن عمر (10) (11).ويقول الأزرق بن قيس (12): "كنا بالأهواز نقاتل الخوارج وفينا أبو برزة الأسلمي رضي الله عنه" (13).وكذلك قاتلهم معاوية بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة (14).   (1) رواه البخاري (7432)، ومسلم (1064). (2) انظر كتاب ((السنة)) لعبدالله بن أحمد بن حنبل (2/ 621)، وقال محقق الكتاب: إسناده صحيح. (3) رواه البخاري (3611). (4) قال عبدالله بن إدريس أحد رواة الحديث عند قوله: "وقوم كذا كذا وصف صفتهم. انظر ((السنة)) لعبدالله بن أحمد بن حنبل (2/ 623). (5) رواه عبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (1/ 160) (1379)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (429). وقال الألباني: إسناده صحيح. وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده جيد. (6) كتاب ((السنة)) لعبدالله بن أحمد بن حنبل (2/ 639)، ((الفتاوى)) (28/ 380). (7) كتاب ((السنة)) لعبدالله بن أحمد بن حنبل (2/ 639)، ((الفتاوى)) (28/ 380). (8) انظر ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (4/ 185). (9) معاوية بن قرة بن إياس بن هلال المزني ثقة عالم مات سنة 113هـ. انظر ((التقريب)) (2/ 261)، ((التهذيب)) (10/ 216). (10) هو: عائذ بن عمرو بن هلال بن عبيد المزني أبو هبيرة البصري، صحابي شهد الحديبية، مات في ولاية عبيدالله بن زياد سنة 61هـ. انظر ((الإصابة)) (2/ 262) انظر ((تاريخ الطبري)) / دار الفكر، ((التقريب)) (1/ 390). (11) كتاب ((السنة)) لعبد الله بن أحمد بن حنبل (2/ 640). (12) الأزرق بن قيس الحارثي البصري ثقة مات بعد سنة 120هـ. ((التقريب)) (1/ 51)، ((التهذيب)) (1/ 200). (13) كتاب ((السنة)) لعبدالله بن أحمد بن حنبل (2/ 640). (14) انظر ((تاريخ ابن خلدون)) (3/ 142، 143). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 ولما عزم علي بن أبي طالب على قتال الخوارج وأراد السير إليهم بين للمسلمين مبررات قتالهم، وأعلمهم بحكم هذا القتال ووجوبه، وبشرهم بالأجر الجزيل لمن يقاتل الخوارج كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء. يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية)) (1)، لو يعلم الجيش الذي يصيبونهم ما قضى لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم لاتكلوا عن العمل. وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد وليس له ذراع على رأس عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض، فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام (2) وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم. والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم فإنهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا في سرح الناس، فسيروا على اسم الله. يقول زيد بن وهب الجهني (3)، وكان في الجيش الذين كانوا مع علي رضي الله عنه لقتال الخوارج: مررنا على قنطرة (4). فلما التقيا وعلى الخوارج يومئذ عبدالله بن وهب الراسبي، فقال لهم: ألقوا الرماح وسلوا سيوفكم من جفونها، فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء. فرجعوا فوحشوا برماحهم (5)، وسلوا السيوف، وشجرهم الناس برماحهم (6). قال: وقتل بعضهم على بعض وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان. فقال علي رضي الله عنه: (التمسوا منهم المخدج، فالتمسوه فلم يجدوه. فقام علي رضي الله عنه بنفسه حتى أتى ناسا قد قتل بعضهم على بعض، قال: أخروه، فوجدوه مما يلي الأرض. فكبر ثم قال: صدق الله وبلغ رسوله ... الحديث) (7).فالصحابة رضي الله عنهم بينوا للناس مبررات قتالهم للخوارج، وشجعوهم على ذلك، وبينوا الأجر العظيم في قتالهم. بل إن عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما كان يجزل العطايا من الأموال لمن يقاتلهم (8).   (1) رواه مسلم (1066). (2) كان علي رضي الله عنه وأصحابه قد أعدوا جيشا للقاء معاوية وأهل الشام وردهم إلى الطاعة، ولكن لما أفسد ((الخوارج)) في العراق وسفكوا الدم الحرام، خطب علي جيشة وسار بهم إليهم، وكانت موقعة النهروان. انظر ((تاريخ الطبري)) (3/ 17 - 121). (3) هو: زيد بن وهب أبو سليمان الكوفي من أجلة التابعين وثقاتهم، متفق على الاحتجاج به. هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبض وزيد في الطرق، مات حوالي سنة 90هـ. انظر ((ميزان الاعتدال)) (2/ 107)، ((التقريب)) (1/ 277). (4) هي قنطرة الدبرجان وهناك خطبهم علي رضي الله عنه. انظر ((شرح صحيح مسلم)) (7/ 172). (5) فوحشوا برماحهم: أي: رموا بها عن بعد. انظر ((شرح صحيح مسلم)) (7/ 172). (6) شجرهم الناس: أي: مددوها إليهم وطاعنوهم بها، انظر ((صحيح مسلم)) (7/ 172). (7) رواه مسلم (1066). (8) انظر ((تاريخ ابن خلدون)) (3/ 146). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 أما عن سنة الصحابة رضي الله عنهم في قتالهم الخوارج فتتضح من خلال ما فعله علي رضي الله عنه والصحابة معه حينما قاتلوهم في النهروان، ويمكن تلخيص شيء منها في الآتي:1 - إن الخوارج لا يبدءون بقتال، ولا يعتدى عليهم بالقتل ما داموا فقط يرون رأي الخوارج، ولا يقاتلون حتى يقتلوا المسلمين أو يقطعوا السبيل حينها يجب على ولي الأمر ردعهم وقتالهم (1).2 - يجب إقامة الحجة عليهم، وتقديم النصح لهم، ووعظهم قبل بدئهم بالقتال (2).قال الطبري: "لا يجوز قتال الخوارج وقتلهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم بدعائهم إلى الرجوع إلى الحق، والإعذار إليهم" (3). 3 - إعطاء الأمان لمن يستسلم ويرجع عن باطله وضلاله، ولم يتعرض لقتل المسلمين.4 - لا يجهز على جريحهم، ولا يتبع مدبرهم – إلا إن كان فارا يتقوى – ولا يسبى منهم سبي، إذ لم يعاملهم علي معاملة الكفار المرتدين، ولم يعاملهم معاملة أهل البغي كأهل الجمل وصفين، بل جعلهم قسما ثالثا (4).5 - لذلك أخذ ما كان في ساحة المعركة من سلاح وكراع وقسمه بين أصحابه، وهذا لم يفعله مع أهل الجمل. كما أنه لم يأخذ كل أموال الخوارج كالكفار المرتدين، بل أخذ ما كان في ساحة المعركة (5). 6 - الاستمرار في قتال الخوارج ما قاتلوا وأفسدوا وخرجوا على المسلمين بالسيف، ولا يكف عنهم حتى يكفوا عن المسلمين. فعلي رضي الله عنه بعد النهروان خرج عليه جماعات من الخوارج فقاتلهم، وكذلك فعل معاوية رضي الله عنه (6).7 - إن فرت جماعات من الخوارج لتتقوى وتخرج فإنهم يطاردون لتستأصل فلولهم، وتقهر قوتهم، وتكسر شوكتهم (7). مسألة: أ- ما حكم الواحد المقدور عليه إن كان على رأي الخوارج؟ يختلف حكمه باختلاف حاله، ولولي الأمر أن يتعامل معه حسب خطره، وحسب مصلحة المسلمين، فله حبسه أو قتله، أو تخلية سبيله. يقول ابن تيمية رحمه الله: "فأما قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج كالحرورية، والرافضة ونحوهم فهذا فيه قولان للفقهاء، هما روايتان عن الإمام أحمد، والصحيح أنه يجوز قتل الواحد منهم كالداعية إلى مذهبه ونحو ذلك ممن فيه فساد ... فإذا لم يندفع فسادهم إلا بالقتل قتلوا. ولا يجب قتل كل واحد منهم إذا لم يظهر هذا القول، أو كان في قتله مفسدة راجحة" (8). - ما الحكم إذا تاب الخارجي وأراد الرجوع إلى الحق، فما الحكم فيما سفك من دم أو سلب من مال؟ سئل الإمام أحمد بن حنبل عن ذلك فقال: "هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فرأوا أن يهدر كل دم أصيب على تأويل القرآن. قيل له: مثل الحرورية؟ قال: نعم، قال: فأما قاطع طريق فلا" (9). واستثنى من ذلك أن يوجد المال قائما بعينه فإنه يعاد إلى أصحابه (10). المصدر: الصحابة بين الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص467   (1) انظر ((فتح الباري)) (12/ 299)، ((شرح السنة)) للبربهاري (71)، ((الأحكام السلطانية)) لأبي يعلى محمد الفراء (54). (2) وهكذا فعل علي رضي الله عنه، انظر ((تاريخ الطبري)) (3/ 120، 125)، ((الأحكام السلطانية)) (54). (3) انظر ((فتح الباري)) (12/ 299). (4) انظر ((شرح السنة)) للبربهاري (71)، ((الفتاوى)) (28/ 281). (5) انظر ((تاريخ الطبري)) (3/ 121)، ((الفتاوى)) (28/ 275، 281، 253). (6) انظر ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 211). (7) انظر ((تاريخ ابن خلدون)) (3/ 142،143). (8) انظر ((الفتاوى)) (28/ 273)، انظر ((التنبيه والرد)) للملطي (183)، ((فتح الباري)) (12/ 299)، ((تاريخ الطبري)) (3/ 123)، ((تاريخ ابن خلدون)) (3/ 143) وقصة علي مع البزار بن الأخنس. (9) انظر ((السنة للخلال)) (152). (10) ((السنة للخلال)) (155، 157). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 الفصل الحادي عشر: محاورات علي بن أبي طالب رضي الله عنه للخوارج وقعت بين الإمام علي وبين الخوارج -قبل نشوب المعركة- عدة محاورات، وحينما طلب منهم علي رضي الله عنه بيان أسباب خروجهم عنه أجابوه بعدة أشياء منها: لماذا لم يبح لهم في معركة الجمل أخذ النساء والذرية كما أباح لهم أخذ المال؟ لماذا محى لفظة أمير المؤمنين وأطاع معاوية في ذلك عندما كتب كتاب (الهدنة في صفين)، وأصر معه على عدم كتابة (علي أمير المؤمنين)؟ قوله للحكمين: إن كنت أهلاً للخلافة فأثبتاني. بأن هذا شك في أحقيته للخلافة. لماذا رضي بالتحكيم في حق كان له. هذه أهم الأمور التي نقموا عليه من أجلها كما يزعمون، وقد أجابهم عن كل تلك الشبه ودحضها جميعاً حيث أجابهم عن الشبهة الأولى والتي تدل على جهلهم بما يلي: أباح لهم المال بدل المال الذي أخذه طلحة والزبير من بيت مال البصرة، ثم هو مال قليل. النساء والذرية لم يشتركوا في القتال وهم أيضاً مسلمون بحكم دار الإسلام ولم تكن منهم ردة تبيح استرقاقهم. قال لهم: لو أبحت لكم استرقاق النساء والذرية فأيكم يأخذ عائشة سهمه فخجل القوم من هذا ورجع معه كثير منهم كما قيل. وأجابهم على الشبهة الثانية: 1 - بأنه فعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، وذكر -إن صحت الرواية- أنه قال: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لي منهم يوماً مثل ذلك. والله أعلم بصحة هذه الرواية التي يتناقلها المؤرخون، ذلك أن معاوية رضي الله عنه ما كان يطالب بالخلافة حتى يحق له أن يطلب محو كلمة (أمير المؤمنين). ومعاوية كذلك كان يعرف أسبقية علي وفضله، وإنما النزاع حول أمر آخر غير الخلافة، اللهم إلا أن يكون هذا الفعل من صنيع المفاوضين دون علم معاوية بذلك. وأجابهم عن الشبهة الثالثة على افتراض صحة الرواية عنه: بأنه أراد النصفة لمعاوية ولو قال: احكما لي؛ لم يكن تحكيماً، ثم استدل بقصة وفد نصارى نجران ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم إلى المباهلة لإنصافهم. وأجابهم عن الشبهة الرابعة: بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكّم سعد بن معاذ في بني قريظة في حق كان له. ثم نشبت المعركة مع من بقي منهم على عناده وهزم الخوارج شر هزيمة، وتذكر بعض كتب الفرق أنه لم يَنْجُ من الخوارج إلا تسعة، ولم يُقتل من جيش عليّ إلا تسعة (316)، وصار هؤلاء التسعة من الخوارج هم نواة الخوارج في البلدان التي ذهبوا إليها، وفي هذا نظر (317)، وقتل زعيم الخوارج في هذه المعركة وهو عبد الله بن وهب الراسبي سنة 37 هـ أو 38هـ. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 235 أرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عباس رضي الله عنهما إلى الخوارج بحروراء ليناظرهم في حجتهم في خروجهم لإرجاعهم إلى الطاعة، وقد تناول المؤرخون وأهل الفرق ذكر كيفية تلك المناظرة بروايات مختلفة كما سنرى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 فيذكر ابن الأثير أن ابن عباس رضي الله عنه لما أرسله علي إليهم وأوصاه أن لا يعجل إلى خصومتهم حتى يأتي، فلما وصل إليهم أقبلوا إليه يكلمونه فلم يصبر أن راجعهم الكلام فقال لهم: ما نقمتم من الحكمين وقد قال تعالى: إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35]، فكيف بأمة محمد صلوات الله وسلامه عليه؟! فرد الخوارج الجواب مفصلا بقولهم: أما ما جعل الله حكمه إلى الناس وأمرهم بالنظر فيه فهو إليهم، وما حكم فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا فيه، حكم في الزاني مائة جلدة وفي السارق القطع فليس للعباد أن ينظروا في هذا". فاستشهد ابن عباس بقوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ [المائدة:95]، ولكن هذه الآية عندهم ليست بدليل له فليس الحكم في الصيد والحرث وبين المرأة وزوجها كالحكم في دماء المسلمين، وادعوا أن الله أمضى حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يرجعوا (1).ويذكر ابن عبد ربه أن ابن عباس لما وصل إلى الخوارج رحبوا به وأكرموه فرأى منهم جباها قرحة لطول السجود وأيديا كثفنات الإبل، وعليهم قمص مرحضة (2)، وهم مشمرون وأنهم قالوا له: إنا أتينا ذنبا عظيما حين حكمنا الرجال في دين الله فإن تاب كما تبنا وينهض لمجاهدة عدونا رجعنا. وأن ابن عباس أخذ في تقريرهم بحجج سلموا بصحتها واقتنعوا بصدقها حيث أخذ يناشدهم الله إلا صدقوا مع أنفسهم فقال لهم: أما علمتم أن الله أمر بتحكيم الرجال في أرنب تساوي ربع درهم تصاد في الحرم، وفي شقاق رجل وامرأته؟ فقالوا: اللهم نعم. قال: فأنشدكم الله هل علمتم أن رسول الله أمسك عن القتال للهدنة بينه وبين أهل الحديبية؟ قالوا: نعم، ولكن عليا محا نفسه من خلافة المسلمين. قال ابن عباس: ليس ذلك يزيلها عنه وقد محا رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه من النبوة، وقال سهيل بن عمرو: لو علمت أنك رسول الله ما حاربتك، فقال للكاتب: ((اكتب محمد بن عبد الله)). وقال لهم ابن عباس حينما قالوا له: إن عليا قد كفر حين حكم فليتب – قال لهم ابن عباس: "ما ينبغي لمؤمن لم يشب إيمانه بشك أن يقر على نفسه بالكفر" (3).   (1) ([9144]) انظر: ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 327). (2) ([9145]) مرحضة: أي مغسولة. (3) ([9146]) انظر: ((العقد الفريد)) (2/ 389)، ((إبانة المناهج)) (ص162)، ((شرح نهج البلاغة)) (2/ 273). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 وقد ذكر صاحب (إبانة المناهج) المحاورة بين ابن عباس والخوارج وأنهم قالوا له في انتقادهم عليا: إنه قاتل ولم يسب ولم يغنم؛ لئن كانوا كفارا لقد حلت لنا أموالهم، ولئن كانوا مؤمنين لقد حرمت علينا دماؤهم، وأنه محا عن اسمه إمارة المؤمنين فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين. فأجابهم ابن عباس على الشبهة الأولى بقوله: "وأما قولكم إنه قاتل ولم يسب ولم يغنم؛ أتسبون أمكم عائشة أم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها؟! فقد كفرتم، وإن زعمتم أنها ليست بأمكم فقد كفرتم وخرجتم من الإسلام. إن الله تعالى يقول: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب: 6]. فأنتم ترددون بين ضلالين فاختاروا أيهما سلمتم أخرجت من هذه. قالوا: اللهم نعم". إلى آخر ما في تلك المحاورة التي ألزمهم فيها الحجة مما لا نطيل القول بذكره (1). وذكر الشاطبي أن ابن عباس أتى الحرورية وهم قائلون بعد أن استأذن من علي وطلب إليه أن لا يفوته بالصلاة بل يبرد حتى يأتي القوم، فأتاهم وعليه حلة فقالوا: ما هذه الحلة عليك؟ قال: قلت: ما تعيبون من ذلك؟! فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أحسن ما يكون من الثياب اليمنية، قال: ثم قرأت هذه الآية قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف:32]، فقالوا: ما جاء بك؟ قال: جئتكم من عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فيكم منهم أحد ومن عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله، جئت لأبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم. فقال بعضهم: لا تخاصموا قريشا فإن الله يقول: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ، فقال بعضهم: بلى فلنكلمه: قال: فكلمني منهم رجلان أو ثلاثة (2). ثم روى الشاطبي المناظرة التي جرت بينهم بما لا يكاد يختلف عن روايات غيره ممن سبق وكلها تظهر إلزام ابن عباس للخوارج بالحجة التي تدمغهم في خروجهم على الإمام علي رضي الله عنه. ولكن الواضح يختلف عند صاحب (كشف الغمة) في إيراده لهذه المناظرة؛ فقد أورد ما ذكره ابن عباس في مجادلته لهم، ولكنه ذكر حججا طويلة للخوارج يقرون بها ابن عباس، وفي كل مرة يقول: اللهم نعم – حاصلها أن التحكيم في قضية الصيد لا يكون إلا لمن لا يستحل قلته، وأما معاوية وعمرو بن العاص فهم يستحلون دماء المسلمين ويستحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله – حسب افترائه -؛ فلا تجوز حكومتهم في هذه المسألة وإن تحكيم علي لأبي موسى وهو الرجل الشاك في قتال الفئة الباغية، وممن كان يخذل عن القتال – أمر لا يجوز الوقوع فيه أيضا. والمناقشة طويلة ومعروفة لا تخرج عما تقدم.   (1) ([9147]) ((إبانة المناهج)) (ص163). (2) انظر: ((الاعتصام)) للشاطبي (ص187 - 188)، ((تلبيس إبليس)) (ص91 - 92). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 إلا أن المؤلف انفرد بذكر أشياء لم يذكرها غيره، وهي أنه كان من ضمن الشروط أن أيما رجل أحدث حدثا من أصحاب علي ودخل في دين معاوية وحكمه؛ فليس لعلي إقامة ذلك الحد عليه لدخوله في دين معاوية وحكمه، وكذلك من أحدث من أصحاب معاوية ودخل في دين علي فليس لمعاوية إقامة ذلك الحد عليه. فهل كان من المعقول أن يتفق علي ومعاوية على تعطيل الحدود فيما بينهما؟! وقد ساق صاحب كشف الغمة ذلك الحوار كله على نحو يدلل فيه على أن معاوية وجيشه هم فئة باغية لا يجوز ترك قتالهم حتى يفيئوا إلى أمر الله، ولكن عليا لم يقف - في نظره – عند هذا الحكم الشرعي فيهم لهذا فهم براء منه. ثم قال المؤلف أخيرا يبين ما انتهت إليه محاورة ابن عباس للخوارج: "وانصرف من عندهم – يعني ابن عباس – وهو مقر لهم ومعترف لهم أنهم قد خصموه ونقضوا عليه ما جاء به مما احتج به عليهم، فقال له علي: ألا تعينني على قتالهم. فقال له: لا والله لا أقاتل قوما خصموني في الدنيا وإنهم يوم القيامة لي أخصم وعلي أقوى إن لم أكن معهم لم أكن عليهم واعتزل عنه ابن عباس رضي الله عنه ثم فارقه". ويذكر أيضا أنه قال لعلي: "فكف عن القوم فإني على ما أفلجوه" (1).ولا يخفى ما فيه رواية هذا المؤلف الخارجي لمناظرة ابن عباس من الهوى والميل إلى جانب الخوارج بإظهارهم وكأنهم في موقفهم هذا يلتزمون الحق ويلزمون الخصوم بالحجة، حتى عاد ابن عباس من عندهم مقرا لهم وملزما بحجتهم كما يزعم، خلافا لما ذكر جميع المؤرخين وكتاب (الفرق)، مهما اختلفت رواياتهم في إيراد تلك المناظرة وفي ذكر عدد من رجع من الخوارج مع ابن عباس بعد أن ألزمهم الحجة؛ ذلك أن ابن عبد ربه يذكر أن الذين رجعوا مع ابن عباس ألفان وبقي أربعة آلاف (2). أما ابن كثير فيذكر أن ابن عباس ناظر الخوارج ثلاثة أيام فرجع منهم أربعة آلاف (3). وقد بالغ صاحب إبانة المناهج فذكر أن الذين رجعوا مع ابن عباس عشرون ألفا وبقي أربعة آلاف (4).   (1) ([9149]) ((كشف الغمة)) (ص281 - 287). (2) ([9150]) ((العقد الفريد)) (2/ 389). (3) ([9151]) ((البداية والنهاية)) (7/ 281). (4) ([9152]) ((إبانة المناهج)) (ص163). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 وأياً كانت النتيجة التي انتهى إليها ابن عباس، وأيا كان العدد الذي عاد معه من الخوارج قبل أن يناظرهم الإمام علي بنفسه حسب الروايات السابقة، فهناك رواية أخرى للطبري وابن الأثير فيها أن علياً لحق بابن عباس وهو لا يزال يناظرهم، فقال لابن عباس كما يروي الطبري: "انته عن كلامهم ألم أنهك رحمك الله. ثم تكلم فحمد الله عز وجل ثم أثنى عليه فقال: اللهم إن هذا مقام من أفلج فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة ومن نطق فيه وأوعث فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا. ثم قال لهم: من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكوا. قال علي: فما أخرجكم علينا؟ قالوا: حكومتكم يوم صفين. قال: أنشدكم بالله أتعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف فقلتم: نجيبهم إلى كتاب الله قلت لكم: إني أعلم بالقوم منكم. إنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن إني صحبتهم وعرفتهم أطفالا ورجالا فكانوا شر أطفال وشر رجال؛ امضوا على حقكم وصدقكم فإنما رفع القوم هذه المصاحف خديعة ودهنا ومكيدة فرددتم علي رأيي وقلتم: لا، بل نقبل منهم. فقلت لكم: اذكروا قولي لكم ومعصيتكم إياي، فلما أبيتم إلا الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن، وأن يميتا ما أمات القرآن وإن أبيا فنحن من حكمهما براء. قالوا له: فخبرنا أتراه عدلا تحكيم الرجال في الدماء. فقال: إنا لسنا حكمنا الرجال إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق إنما يتكلم به الرجال. قالوا: فخبرنا عن الأجل لم جعلته فيما بينك وبينهم. قال: ليعلم الجاهل ويثبت العالم ولعل الله يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة". وبعد انتهاء هذه المحاورة طلب منهم أن يدخلوا الكوفة فدخلوا من عند آخرهم (1).وقد أظهر الخوارج في نهاية المحاورة أنهم اعترفوا بصحة ما قاله، وأنهم أتوا ذنبا كفروا به ثم تابوا وقالوا له: "فتب كما تبنا نبايعك وإلا فنحن مخالفون"، ويزعمون أنه بايعهم على هذا. وقد كذبوا كما يقول الطبري وابن الأثير في هذا الزعم (2)، لأنهم رتبوا عليه خروجهم إلى النهروان حينما أشيع أن عليا رجع عن اعترافه بخطئه في التحكيم حسب ما يرويه أبو رزين بقوله: "فخرج إليهم علي فكلمهم حتى وقع الرضا بينه وبينهم فدخلوا الكوفة فأتاه رجل فقال: إن الناس قد تحدثوا أنك رجعت لهم عن كفرك. فخطب الناس في صلاة الظهر فذكر أمرهم فعابه وقال: من زعم أني رجعت عن الحكومة فقد كذب ومن رآها ضلالا فهو أضل منها". فوثبوا من نواحي المسجد يقولون: (لا حكم إلا لله)، واستقبله رجل منهم واضعا أصبعيه في أذنيه فقال: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر: 65]، فقال علي: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [الروم: 60] وحين شاهد على هذا النفور منهم جعل يقلب يديه على المنبر ويقول: "حكم الله عز وجل ينتظر فيكم – مرتين، إن لكم عندنا ثلاثا: لا نمنعكم صلاة في هذا المسجد، ولا نمنعكم نصيبكم من هذا الفيء ما كانت أيديكم في أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا" (3). فكان الناس يقولون لعلي: إنهم خارجون عليك. فقال: "لا أقاتلهم حتى يقاتلوني وسيفعلون" (4). ويبدوا من هذا – إن صحت الرواية السابقة عنه – أن الخوارج حينما رجعوا لو عوملوا ببعض الأناة ربما كانت تلك العاصفة قد مرت بسلام، لولا ما جاء به ذلك الرجل إلى الإمام علي ثم قيام الإمام علي بإعلان تكذيب ما نسب إليه على رؤوس الناس وإخبارهم أنه لم يرجع عن الحكومة وأن الذين رأوها ضلالا هم الضلال، فإن هذا – وإن كان هو اللائق بالإمام علي الذي لا يعرف الخداع والمداهنة – هو الذي جر عليه غضب هؤلاء وانهدم ما أمله فيهم حين رجوعهم من حروراء إلى الكوفة؛ فقد صدق ما توقعه منهم من قتالهم له فخرجوا من الكوفة متواعدين على اللقاء بالنهروان وإن حيث كانت الموقعة الكبرى بين الفريقين بزعامة عبد الله بن وهب الراسبي. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص75   (1) ([9153]) ((تاريخ الطبري)) (5/ 65/66)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 328)، ((الكامل)) للمبرد (2/ 117). (2) ([9154]) ((تاريخ الطبري)) (5/ 66)، ((الكامل)) (3/ 329). (3) ([9155]) ((تاريخ الطبري)) (5/ 74)، ((البداية والنهاية)) (7/ 285). (4) ([9156]) ((تلبيس إبليس)) (ص91)، ((العقد الفريد)) (2/ 388). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 تمهيد رأينا في حركات الخوارج الثورية على الخلافة الأموية والعباسية كيف أنها لم تفد في تحقيق ما يريدون من الإصلاح في الأوضاع السياسية والاجتماعية والدينية خلال هاتين الدولتين بل ولم يستطع الخوارج أن يقيموا من خلالها مجتمعا خاصا بهم يحكمهم حسب آرائهم، وإنما كانت تلك الحركات مجرد فورات سرعان ما ينتهي أمرها – طال الأمد أو قصر – بإضعاف شوكة الخوارج أو القضاء على فلولهم المهزومة. وإذا كانوا قد شغلوا الخلافة الإسلامية خلال هذه السنوات الطويلة فإن الصراع الذي دار بينهم وبينها لم تكن محصلة إيجابية بالنسبة لهم أو لغيرهم، وإنما كانت محصلته هو إنهاك قوة الدولة وقوتهم هم أيضا في تلك الحروب الأهلية الضارية. حقا قد كانت جيوش الخلافة بالمرصاد لهذه الحركات الثائرة وسط الدولة الإسلامية وفي المناطق التي سهل على تلك الجيوش لقاؤهم بها ولا سيما إبان قوة هذه الدولة. ومع ذلك فقد أفلح بعض الخوارج في بعض المناطق الوعرة في الدولة الإسلامية كعمان وفي الأطراف النائية لتلك الدولة كالمغرب العربي – أفلح هؤلاء الخوارج في إقامة دولة لهم كان لهم فيها حكم ولهم عليها سلطان، وتتمثل تلك الدولة الخارجية في دولة الإباضية في عمان ودولتهم هم والصفرية في المغرب العربي، وسوف نوجز الحديث هنا عن هاتين الدولتين وأئمتهم وموقف الخلافة الإسلامية منهم. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص161 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 المطلب الأول: دولة الإباضية في عُمان دخل المذهب الإباضي إلى عمان مبكرا واستقر هناك وتكون له أتباع وأخذوا في الازدياد مع مرور الزمن إلى أن أصبح كما يقول لوريمر: " يتمتع بنفوذ واسع أو على الأقل له من النفوذ مثل ما لغيره "، " وسرعان ما تبنى أهل عمان مبادئ المذهب الإباضي ويقال إنه بمطلع القرن 13م لم تصبح هذه المبادئ مسيطرة فقط ولكنها أصبحت لها صفة عامة تقريبا " (1). وهكذا انتشر المذهب الإباضي في تلك البقاع النائية من الجزيرة العربية ذات المسالك الوعرة التي ساعدتهم في استقلالهم الذي طالما كانوا ينزعون إليه في عهد الدولتين الأموية والعباسية، متأثرين بنظريتهم الخاصة تجاه الخلافة الوراثية في دمشق أو بغداد وهو ما لا يتفق وآراؤهم الاعتقادية. أما عن الكيفية التي دخل بها المذهب إلى هناك فمن المعروف أن معركة النهروان قد أتت على قسم كبير منهم ونجا منها من كتبت له النجاة، وبعدها فر من بقي منهم إلى مناطق بعيدة عن مركز الخلافة وأخذوا في نشر مبادئ الخوارج بين القبائل التي آوتهم يغمرهم الحقد الدفين على ما ناله إخوانهم من قتل على يد الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأتباعه، ومن هنا يذهب لوريمر إلى القول بأن الذي أنشأ المذهب في عمان هو رجل من الخوارج الذين نجوا من تلك المعركة. " ويقال إن مبادئ الإباضية أدخلها إلى عمان أحد الخوارج الذين نجوا من الهلاك الذي حل بجماعتهم كحزب سياسي على يد علي بن أبي طالب في معركة النهروان، وهذا يؤكد أن مذهب الإباضية يرجع في أصله إلى الخوارج" (2). بينما يرى السالمي أن انتشار المذهب الإباضي في عمان كان على يدي عبد الله بن إباضي ويقول في ذلك: " والرواة المسلمون يذكرون بأنه قدم إلى عمان رجلان أحدهما الإمام عبد الله بن إباضي ونشر هناك مبادئ المحكمة (3) " وسوف يكون لنا في الفصل التالي حديث عن فرقة الإباضية وعن بدء نشأتها وسبب نسبتها بعد ذلك إلى عبد الله بن إباضي. وعلى كل فقد اشتد ساعد المذهب الإباضي في عمان ومن هنا اتجهوا إلى التفكير في إقامة دولة باسمهم مستقلة بنفسها عن التبعية للخلافة العباسية، وقد بدأت محاولة تكوين تلك الدولة سنة 129هـ في آخر دولة بني أمية وأول دولة بني العباس. فلما أنس أهل عمان من أنفسهم القوة ثاروا بقصد الاستقلال عن الخلافة وكان ذلك على عهد السفاح وولاية أخيه المنصور على العراق الذي عين بدوره واليا من قبله على عمان، إلا أن العمانيين كانت نظرتهم كنظرة أسلافهم من الخوارج يرون أن توارث الخلافة أمر غير شرعي، لهذا فلم تكن الدولة العباسية بأحسن حالا من الدولة الأموية عندهم. فقامت الثورة في عمان وانتخبوا أول إمام لهم وهو " الجلندي بن مسعود بن جيفر الأزدي " ولكنه لم يدم في الحكم إلا سنتين وشهرا واحدا؛ إذ إن نزعته إلى استقلال عمان عن الدولة العباسية أغضبتهم عليه فتقابل في معركة مع جيش الخلافة الذي يقوده خازم بن خزيمة، والتحموا في معركة أسفرت عن قتل الجلندي وأصحابه وانتهت حركة النزوع إلى الإمامة وظلت عمان جزءا من الدولة العباسية إلى سنة 177هـ.   (1) ((دليل الخليج)) (6/ 3403). (2) ((دليل الخليج)) (6/ 3403). (3) ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص131). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 فقام إمام آخر لهم وهو " محمد بن أبي عفان الأزدي " واجتمعوا على طاعته ولكنهم نقموا عليه أخيرا أنه تجاوز الحدود وتكبر، فخلعوه سنة 179هـ وولوا عليهم إماما آخر ويسمى " الوارث بن كعب الخروصي " فأحسن فيهم السيرة وأحبوه، واجتمعت عليه كلمتهم وحارب بهم جيش الخلافة الذي أرسل لإخضاعهم بقيادة عيسى بن جعفر عم الخليفة هارون الرشيد فانتصر الوارث وأخذ عيسى أسيرا وأودع السجن إلى أن قتل، ثم انتهت مدة الوارث ومات غريقا في أثناء محاولته إنقاذ سجناء كان السيل قد داهمهم بعد حكم دام اثني عشر عاما أي أنه تولى إلى سنة 192هـ. فبايع الإباضية بعده " غسان بن عبد الله " وكان يوصف بحزم وبأس فأمن البلاد وقضى على الفتن وازدهرت في عهده عمان، بل وحاول أن يوسع نفوذه إلى الهند ولكنه توفي قبل تحقيق هدفه سنة 207هـ. فبايع الإباضية بعده الإمام " عبد الملك بن حميد الأزدي " فسار فيهم سيرة ارتضوها كسابقه إلى أن توفي سنة 226هـ. فاختير بعده الإمام " المهنا بن جيفر اليحمدي الخروصي "، فحمد الإباضية سيرته وانتعشت على عهده البلاد وكان رجلا مهيبا حازما لا يجرؤ أحد على التكلم في مجلسه كما يصفه علماء الإباضية (1)، وكون له جيشا كثيفا وأسطولا قويا إلى أن توفي سنة 237هـ. فانتخبوا بعده الإمام " الصلت بن مالك الخروصي " بالإجماع، وقد حدث في أثناء حكمه اعتداء من الحبشة فهاجموا جزيرة سقطرى واحتلوها وقتلوا عامل الصلت عليها، فكون عند ذاك الإمام الصلت جيشا وكون أسطولا يبلغ أكثر من مائة سفينة التحم من الأحباش في معركة انتصر فيها الإمام وانهزمت الأحباش تاركين سقطرة للإمام الصلت، وكانت ولايته طويلة؛ لهذا فقد طلب منه أن يتنازل نظرا للمصلحة في ذلك، فتنازل سنة 273هـ وعاش كواحد من الناس إلى أن توفي. وبعد تنازله عين الإمام " راشد بن النظر اليحمدي الخروصي "، وفي عهده برزت العصبية القبلية بين العدنانية واليمانية واشتد ساعدها حتى كاد أن يذهب ضحية لها؛ فقد أراد خصومه الإطاحة به ولكنه قاومهم في معركة تسمى معركة الروضة انتصر فيها على معارضيه وقتل منهم كثيرا، واستمر أربع سنوات أرغم في نهايتها على التنازل سنة 280هـ. فتولى الأمر بعده الإمام " عزان بن تميم الخروصي " سنة 277هـ، واشتد ضرام العصبية القبلية واشتعلت الفتن وأصبح الأمر على غاية ما يتوقع من المكروه فأنشب بأنصاره معركة مع معارضيه فهزمهم، فذهب بعض من المنهزمين مستصرخين المعتضد الخليفة العباسي لنصرتهم على عزان ومن معه، فكانت فرصة ذهبية للعباسيين للانقضاض على عمان والاستيلاء عليها وإعادتها إلى حظيرة الخلافة، فأمر عامله محمد بن بور بفتح عمان فوجه هذا خمسة وعشرين ألفا لفتحها، فلما علم أهل عمان بهذا الجيش خافوا منه وصاروا يتسللون هربا عن الإمام عزان إلى أن بقي معه من بقي، فتقابل مع جيوش الخلافة في معركة انتهت بقتل الإمام بل وبانتهاء الإمامة من عمان لمدة أربعين عاما أي من سنة 280 إلى سنة 320هـ، حين تولى الإمام " سعيد بن عبد الله بن محمد بن محبوب "، وكان مطاعا في الكل موصوفا بالصلاح بينهم إلى أن قتل سنة 328هـ. وبعد سعيد بايع الإباضية رجلا أخباره مجهولة عند الإباضية ويسمى " راشد بن الوليد ". يقول عنه محمد السالمي أنه " تولى الإمامة بعد سعيد بن عبد الله وأخباره مجهولة لقلة التواريخ" (2). وقد حاول أن يصد جيش الخلافة العباسية ولكنه انهزم ثم أمنه العامل العباسي وبعده بقليل مات سنة 342هـ، وانتهت الإمامة ودخلت عمان في طاعة الدولة العباسية إلى سنة 407هـ.   (1) انظر: ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص135). (2) ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص141). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 فبايع الإباضية الإمام " الخليل بن شاذان "، وطرد عامل الدولة العباسية هناك واجتمعوا على طاعة الخليل إلى أن أسر من قبل العباسيين، فاختاروا بعده رجلا يسمى محمد بن علي ثم أطلق العباسيون الخليل فلما عاد تنازل له " محمد بن علي " عن رضى فاستمر الخليل حاكما إلى سنة وفاته 435هـ. فتولى الإمام بعده الإمام " راشد بن سعيد " واجتمعوا على طاعته إلا ما كان من قبيلتي نهد وعقيل فإنهم ثاروا عليه، ولكنه أخمد ثورتهم واستمر في الحكم إلى أن توفي فيقال إنهم بايعوا بعده ابنه حفص واستمر من سنة 445هـ إلى 453هـ، ولكن محمد السالمي ينفي هذا تماما (1). ثم تولى بعده أئمة غير مشهورين ومنهم الإمام راشد بن علي الخروصي ولم يرض بعض العلماء عن سيرته، فطلبوا منه التوبة عن أعماله ففعل، فتولى بعده الإمام " عامر بن راشد بن الوليد الخروصي "، وقد أحسن القيام بأمور الحكم إلى أن توفي. فتولى بعده الإمام " محمد بن غسان بن عبد الله الخروصي "، وقد استمر في الحكم إلى أن توفي والناس مجمعون على طاعته. فتولى بعده الإمام " الخليل بن عبد الله بن عمر بن محمد بن الخليل بن شاذان " فنقل العاصمة إلى نزوى ثم استمر في مقاتلة بني نبهان إلى أن توفي. ثم تولى إمامة عمان الإمام " محمد بن أبي غسان ". يقول عنه محمد السالمي: " وأخباره قليلة لم نقف على أي شيء منها مع شدة البحث" (2).ثم تولى بعده الإمام " موسى بن أبي المعالي بن نجاد "، التقى مع محمد بن مالك في معركة قتل فيها موسى بن أبي المعالي ثم تفرق الناس بعده شيعا وهان أمرهم كما قال السالمي، ثم تولى بعده الإمام " خنبش بن محمد بن هشام "، قال السالمي عنه: " ولم نقف على شيء من أخباره " (3). هذا وقد ظهرت الفتن وافتراق الكلمة في عمان وكانوا لا يولون هذا إلا ليظهر ذاك. فتتابع على البلاد أمراء ضعاف ثم أرادوا العودة إلى الإمامة العامة وفعلا تتابع على عمان عدة أئمة منهم: " الحواري بن مالك " من عام 809 إلى 832هـ. " أبو الحسن بن خميس بن عامر " تولى 839هـ، وقد صادف بعض الفتن واستمر إلى أن توفي سنة 846هـ.   (1) ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص146). (2) ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص148). (3) ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص148). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 ثم تولى بعد مدة انقطعت فيها الإمامة الإمام " عمر بن الخطاب بن محمد "، وقد بويع عام 885هـ، وقد ثار عليه النباهتة الذين كانوا ينافسونه في أخذ السلطة إلا أنه انتصر عليهم في معركة. وبعد وفاته تولى الإمام " محمد بن إسماعيل الحاضري " سنة 906هـ، فأحسن السيرة وأحبته الرعية وأرجع البلاد الأمن والهدوء إلى أن توفي. فبايع الناس بعده ابنه الإمام " بركات بن محمد بن إسماعيل " سنة 942هـ فبدأ الاختلاف فيما بينهم واقتتلوا ولم يعد ذلك الهدوء السابق واستمر بهم الأمر من سيء إلى أسوأ، وكثرت الفتن إلى أن توفي الإمام بركات وظهر بعده " أمراء محليون ضعاف لا هم لهم إلا تأكيد نفوذهم والسيطرة على مقدرات الناس دون وجه حق " (1).وبعد أن شهدت البلاد بعض الفتن والتحولات برز أئمة اليعاربة الذين جعلوا عمان " أقوى دولة في المحيط الهندي والخليج العربي وكانت أساطيلها الحربية تحمي إمبراطورية كبيرة " (2)، وعظم شأنهم واستتب الأمن. ويقول ج. ج. لوريمر: " تميز عهد اليعاربة على العموم بأنه كان عهد أمن داخلي ورخاء ازدادت فيه الثروة وانتصر التعليم كما تميز أيضا بازدياد هائل ومفاجئ في القوة البحرية أدت بالعمانيين إلى القرصنة والدخول في حروب خاطفة غير منتظمة، ابتداء من سنة 1677 "، وقد أفاض المؤلف بذكر مقدار قوتهم الحربية ذاكرا لها بالأرقام (3). وأول أئمة اليعاربة هو: الإمام " ناصر بن مرشد اليعربي ": تولى الإمامة والبلاد في حالة من الفوضى فوجه اهتمامه إلى بناء الجبهة الداخلية فأحكم قبضته على البلاد، " وبمجرد انتخابه لتولي الإمام في سنة 1625 أحال هذا المنصب من مجرد ظل باهت كما كان إلى حقيقة ماثلة بالقوة " (4)، ثم وجه اهتمامه إلى تدخل البرتغاليين والفرس في بلاده فجهز لهم جيشا انتصر عليهم واسترد منهم بالقوة منطقة جلفار " وأخضع الأقاليم الداخلية بما فيها الشرقية ". ولم يبق لهم إلا مسقط وصحار أتم تحريرهما خلفه الإمام " سلطان بن سيف اليعربي "، ووسع نفوذه فاستولى على سواحل الهند الغربية وكنج، وافتتح ممباسة وكلوة وزنجبار وهي من سواحل أفريقيا الشرقية والتحم مع البرتغاليين في معارك الساحل الهندي في بومباي، وكون إمبراطورية كبيرة إلى أن توفي. فخلفه ابنه الإمام " بلعرب بن سلطان اليعربي " فاتجه اهتمامه إلى الإصلاحات الداخلية فبنى الحصون والقلاع وغرس الأشجار وأحيا موات الأرض. إلى أن ثار عليه أخوه " سيف بن سلطان "، فأحكم قبضته على البلاد، ووسع نفوذه وقوي أمره، وأنشأ بعض الإصلاحات الداخلية كالزراعة وتربية المواشي. إلى أن توفي فخلفه الإمام " سلطان بن سيف بن سلطان اليعربي " سنة 160هـ، وقد دام حكمه سبع سنوات حارب خلالها الفرس وانتصر عليهم في مواقع كثيرة واهتم بالإصلاحات الداخلية والعمران، يقول عنه الشيخ السالمي: " لقد هم أن يجعل عمان كجنتي مأرب فحال الحمام بينه وبين ما يؤمل، والآجال تقطع الآمال " (5).   (1) ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص153، 154). (2) ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص153، 154). (3) ((دليل الخليج)) (2/ 637). (4) ((دليل الخليج)) (2/ 633). (5) ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص160). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 وبعد وفاته خلفه صبي مراهق يسمى " سيفا " فأرادت العامة أن يتولى الإمام هو ولكن العلماء رأوا أنه لا يجوز توليته مادام في هذا السن، فولوا سرا عن العامة رجلا له قوة في الحكم إلا أنه ليس من العلماء ولكنه كان تحته قبضة العلماء؛ فلا يمضي أمرا إلا بعد أخذ رأيهم فيه، هذا الرجل هو " مهنا بن سلطان بن ماجد اليعربي "، وصرفوا العامة بالمداراة ولبث هذا سنة في الحكم، ثم ثار عليه " يعرب بن بلعرب بن سلطان اليعربي " سنة 1133هـ، فاستقام له الأمر مؤقتا، ثم انفتحت عليه الفتن وتفرق الناس عنه وأرغم على التنازل عن الحكم إلى الإمام " سيف بن سلطان بن سيف اليعربي " سنة 1135هـ، وكان صغير السن ثم رأوا أن يعزلوه فعزل. ثم تولى الأمر " محمد بن ناصر العامري "، وهذا لقي من ثار عليه أيضا فقتل فرجع سيف إلى الحكم، وهكذا دخلوا في فوضى وتفرق. إلى أن جاء حكم البوسعديين فتعاقبوا على الحكم، وكان المؤسس الأول لحكمهم هو الإمام " أحمد بن سعيد "، كان واليا من قبل الإمام سيف علي صحار. هذا ما قاله السالمي عنه، ولكن نجد أن ج. ج. لوريمر يقول عنه بأنه كان تاجرا وقد وضع الإمام سيفه ثقته فيه (1). وكان هذا الرجل عالي الهمة قلما تحين الفرصة إلا وينتهزها لصالحه، وكان الفرس هم العقبة الوحيدة أمامه فعقد معهم معاهدة فلما اشتد ساعده بدأ بالفرس فأقام وليمة كبيرة دعاهم لحضورها، وفي أثنائها ألقى عليهم القبض وقتلهم ثم أجبر الحامية الفارسية في مسقط على الاستسلام فقتل منهم الضباط وكبار رجالهم، وأرسل الباقين في سفن إلى إيران مخفورين وفي أثناء سيرهم أكمل بهم الجنود الباقي فأغرقوا بهم المراكب ورجعوا. ولا تزال نفسه تتطلع إلى مزيد من الانتصارات، إلا أنه واجه مشكلة كبيرة وهي تصدي " بلعرب بن حمير اليعربي " لمحاربته، فقد كان هذا الأخير قد عين نفسه إماما وعندما سمع بأن أحمد بن سعيد نصب إماما أعد جيشا لإخضاعه فتحصن منه أحمد بن سعيد في قلعة صغيرة بالجبال، وقد رأى – من فطنته – أن يخرج متسللا في زي أعرابي يقود الجمال فاتصل بأتباعه فاجتمع له منهم بضع مئات، ثم قادهم إلى جيش بلعرب المحاصر فما شعروا إلا والطبول تضرب من كل جهة فاندهش بلعرب وظن أنه قد حوصر من قبل جيش غاز قوي فهرب، ولكنه وقع في قبضة أحد أبناء عم أحمد فذبحه فصفا الجو لأحمد بن سعيد ولم يقم أحد لمنافسته فما مات إلا وقد سيطر سيطرة مطلقة على جميع أجزاء عمان. هذا موجز من تاريخه وقد توسع في أخباره ج. ج. لوريمر كثيرا وبين منزلته القيادية وعلاقاته مع الدول الأخرى (2).ويقول السالمي عنه: " وقد أصدر القاضي – يعني به مفتي عمان آنذاك – قرارا يعلن فيه أن أحمد هو منقذ البلاد ويستحق أن يرفع ليكون إماما للمسلمين، وفعلا أصبح أحمد بن سعيد إمام عمان الفعلي وحاكمها المطلق " (3). وما جاء بعده من أسرته فإنهم في نظر الإباضية ليسوا أئمة وإنما هم سلاطين؛ إذ إن الحكم أصبح بعد أحمد بن سعيد وراثيا، وهو الأمر الذي يبطل الإمامة عندهم.   (1) ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص163، 165). (2) ((دليل الخليج)) (2/ 642)، وقد فصل المؤلف أخباره في (ص 644 - 657). (3) ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص164). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 وقد قام الإمام " عزان بن قيس " بمحاولة لإرجاع البلاد إلى حكم الإمامة الذي غاب عنها زمن، وقد شد أزره علماء البلاد بما أوحوا به إلى العامة من الاستبشار ووجوب نصرته فاجتمع له من القبائل من استجاب له فبدأ محاولته لضم أجزاء عمان إلى إمامته: يقول لوريمر عن علو كلمة العلماء الإباضية في عهد عزان ومنهم سعيد بن خلفان كبير علمائهم ومقدمهم عند الإمام -: " وأضفى سعيد بن خلفان على حكومة عزان طابعا دينيا مسرفا في التعصب، فاستبدل علم عمان الأحمر من قديم الزمان بعلم المطوعة الأبيض، ومنع التدخين وشرب الخمر ومنع الاستماع إلى الأغاني والموسيقى بجميع ألوانها، وألزم أهل مسقط جميعا بالاختلاف إلى المساجد بانتظام وصدرت إليهم التعليمات باتباع السنة في تربية الذقون وحف الشوارب " (1). ولهذا فقد كانت بريطانيا غير راضية عن سيرته هذه وإن سترها لوريمر بأقواله المختلفة، ومنها أنه كان مغتصبا وأن مستشاريه كانوا سيئي التصرف في الأمور، وأنه ليس من أسرة البوسعيديين الذين هم أحق بحكم عمان في نظر الإنجليز الذين لمسوا فيهم من إيثار طاعة بريطانيا والسير في رغباتها ما يرضيهم، وهو ما نقمه عليهم علماء الإباضية هناك، وكان عزان ينظر إلى الإنجليز الذين لمسوا فيهم من إيثار طاعة بريطانيا والسير في رغباتها ما يرضيهم، وهو ما نقمه عليهم علماء الإباضية هناك، وكان عزان ينظر إلى الإنجليز بأنهم استعماريون لا ينبغي ربط أي علاقة بهم فامتنع عن التعاون معهم أو تقريبهم. ومن هنا أخذ الإنجليز يحرضون عليه خصومه ومن أشدهم " تركي بن سعيد " يقول الدكتور جمال زكريا قاسم: " على أنه مما يستلفت النظر أنه في خلال الفترة التي قضاها عزان بن قيس في الحكم لم تقم بينه وبين الحكومة البريطانية أية علاقات وربما يرجع ذلك إلى التعاليم الإباضية التي لا تقر وجود هذه العلاقات فضلا عن أن الحكومة البريطانية لم تعترف بالوضع القائم في عمان " (2). وقد أراد عزان أن يوسع من نفوذه، فهاجم مسقط وكاد أن يأخذها لولا أن تدخل بريطانيا قد حال بينه وبين امتلاكها فاتجه وأخذ البريمي وامتلكها ثم اتجه إلى إخضاع القبائل البدوية، ولكنها اجتمعت عليه والتحمت معه في معركة " ضنك "، فانهزم جيشه ولم ينج إلا هو ونفر يسير معه وكانت إقامته بمطرح تشكل تهديدا للقضاء على أسرة البوسعيديين، فرأت بريطانيا أن إعادة الإمام إلى عمان إذا انتصر عزان سيقضي على مصالحها لهذا أرسلت تركي بن سعيد – السابق الذكر – إلى لنجة لاستمالة القبائل التي هناك وتأليبهم على عزان، فلما تم له ما أراد أقبل بجيش قاصدا مطرح لإخضاعها وللقضاء على الإمام فنشبت هناك معركة أسفرت عن قتل الإمام عزان وتفرق أتباعه بين الناس.   (1) ((دليل الخليج)) (2/ 748). (2) ((دراسة لتاريخ الإمارات العربية)) (ص109). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 وبعد قتل عزان خفت صوت الإمام إلى سنة 1913م، فأخذت الدعوة تنتشر بين الناس في عمان الداخلية للرجوع إلى الإمامة ومحاربة الحكم الوراثي (سلاطين البوسعيد) " فاجتمع أئمة الإباضية وانتخبوا سالم بن راشد الخروصي إماما "، ووصفت هذه الحركة من قبل الإباضية بأنها " حركة ثورية مباركة " فسار فيهم الإمام سالم سيرة ارتضوها من عمل بكتاب الله وسنة نبيه إلى سنة 1920م, فدبرت له مؤامرة اغتيل فيها. فولى الإباضية عليهم بعده الإمام " محمد بن عبد الله الخليلي " (1) الذي امتد حكمه أربعا وثلاثين سنة، " وقد عم الهدوء والسلام " تلك المناطق الداخلية في عهده رغم ما كان يلاقيه من تآمر سلاطين مسقط والإنجليز على إسقاط الإمامة هناك وضمها إلى سلطان مسقط البوسعيدي، وقد استمرت الحرب بينهم سبع سنوات ثم تم التوصل إلى معاهدة تعرف بمعاهدة السيب (والسيب يقع على بعد 30 كم تقريبا من العاصمة مسقط ويتكون من بيوت قليلة وفيه المطار للعاصمة مسقط). واستمرت هذه المعاهدة إلى أن توفي الإمام الخليلي فأراد سلطان مسقط أن يهتبل الفرصة لضم عمان الداخلية إلى سلطنته، ولكن الإباضيين فوتوا عليه الفرصة وولوا عليهم بعده الإمام " غالب بن علي الهنائي "، الذي بويع بالإمامة سنة 1954م – 1373هـ، وقد جعل جل اهتمامه في ربط عمان بالدول العربية، " فقد قام بتبادل التمثيل الدبلوماسي مع جميع البلدان التي تتعاطف معه آملا من ذلك أن تكون عمان كأي دولة من الدول العربية ووجد من يشاطره هذا الأمل، إلا أن هذا التحرك من جانب الإمام قد أخاف بريطانيا وسلطان مسقط إذ إن رجوع الإمام إلى عمان معناه انتهاء مصالح بريطانيا ونفوذها هناك؛ خصوصا وأن آبار البترول قد جذبتهم إليها وأن التخلي عنها لا يمكن بحال. ومن هنا أخذت بريطانيا وحليفها سلطان مسقط سعيد بن تيمور في تنظيم الخطط الحربية للقضاء على الإمام بالقول والفعل. وفجأة وبدون مقدمات زحفت السيارات العسكرية إلى مدينة عبرى ومنها إلى العاصمة نزوى التي أصبحت تحت أيديهم فانتقلت الإمامة إلى رؤوس الجبال حيث قرر الإباضية التحصن بالجبال، خصوصا الجبل الأخضر، وشن الحملات الهجومية من هناك واستمرت تلك الحرب الضارية بين قوات الإمام وبين سلطان مسقط والإنجليز، وكانت قوات الإمام تحرز بعض الانتصارات بعد خسائر فادحة، إلا أن بريطانيا صبت جام غضبها عليهم؛ يتمثل ذلك في أسراب الطائرات والقنابل والصواريخ المدمرة " (2). وكانت نهاية الإمامة في عمان بعد تلك المعارك التي دارت بين أتباعها من جهة والسلاطين والإنجليز من جهة أخرى، ولم تفلح الجهود السياسية والحربية في إعادة الإمامة للبلاد وإنما تمكن السلاطين البوسعيديين من عمان ولا يزالون حتى الآن يتوارثون الحكم فيها. وقد شهدت عمان نهضة قوية في عهدهم. وإذا لم يكن السلاطين بالمذهب الإباضي فإن هذا المذهب لا يزال له سلطانه، ولا سيما في الجوانب الفقهية عند العلماء والعامة. وقبل أن ننتهي من الحديث عن دولة الخوارج في عمان نحب أن نذكر هنا أن الخوارج بسطوا نفوذهم على بعض المناطق الأخرى في المشرق غير عمان؛ فقد بسط نافع بن الأزرق نفوذه على الأهواز إلى كرمان وتمكنوا من دولاب وسلبرى وسلي، وغيرهما من تلك النواحي، وبسط نجدة نفوذه على اليمامة والبحرين والقطيف وصنعاء، وخلفه على تلك المناطق أبو نزيك، إلى غير ذلك من أمثال تلك الظواهر التي لا نقف عندها لأنها تمثل وضعا من أوضاع الحكم المنظم والمستقر ولم تدم إلا سنوات قليلة، بل كان بعضها لا يبقى إلا شهورا؛ ولهذا لم ندخلها في الحديث عن دولة الخوارج مكتفين بذكرها عند الحديث عن تلك الفرق التي بسطت سلطانها وقتا ما على هذه المنطقة أو تلك. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص163   (1) انظر: ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص171). (2) انظر: ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص232، 254). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 المطلب الثاني: دولة الإباضية في المغرب انتشر المذهب الإباضي في المغرب على يد دعاة مخلصين وجدوا من البربر آذانا صاغية، فاستغلوا ذلك لنشر مذهبهم الذي طورد في المشرق القريب من عاصمة الخلافة الإسلامية فقد رأوا أنه حفاظا على بقاء مذهبهم وإقامة سلطة باسمه لابد وأن تكون بعيدة عن بطش الخلافة، فاختاروا المغرب بين قبائل البربر فقام للخوارج في المغرب مذهبان مذهب الإباضية ومذهب الصفرية، وكان مما ساعدهما في الانتعاش شيئا فشيئا اعتدال دعوتهم التي تهادن الحكام تحت ستار التقية وتعامل المخالفين بقدر من التسامح إلى أن بلغوا ما أرادوا، ولولا هذا الاعتدال لكان مصيرهم لا يقل عن مصير أولئك الذين قلما يجتمع لهم أقل عدد إلا وأعلنوها ثورة وعصيانا مسلحا فتنقض عليهم جيوش الخلافة حتى يبادوا، وقد أبيدوا بالفعل وما نشأت خوارج المغرب إلا نتيجة من نتائج تلك الإبادة في المشرق. لقد كانت البصرة إحدى القواعد الأساسية لدعاة المذهب الإباضي، ومنها انطلق دعاة الإباضية الذين انتشروا في المغرب لتأسيس دولتهم هناك. وكان زعماء هذه القاعدة هم أوائل علماء المذهب وعلى رأسهم أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة. فكان الدعاة ينتشرون منها إلى الأماكن المعينة، بل وكان الخارجون على الخلافة لا يخرجون إلا بعد استشارتهم كما كان الحال في خروج طالب الحق في جزيرة العرب وأبو الخطاب (أحد حملة العلم) كما يسميهم الإباضية في المغرب، ثم خلفه عبد الرحمن الرستمي ومن جاء بعده من أولاده فكانوا لا يبرمون أمرا ذا بال إلا عن مشورة علماء المذهب في البصرة. وقد رزق مذهب الإباضية في المغرب أنصارا مخلصين في إقامته وإعلانه أمثال سلمة بن سعد الذي " كان يقول في مبدأ أمره: " وددت أن يظهر هذا الأمر يوما واحدا فما أبالي أن تضرب عنقي " (1). وابن مغطير الجناوني، وغيرهما من الرجال الذين كانوا يذهبون من المغرب إلى البصرة ثم يرجعون بعد أن يتزودوا بالعلم والفقه في المذهب دعاة ومجاهدين وقضاة في دولتهم الناشئة. وقد انتقل مع المذهب الإباضي إلى المغرب مذهب الصفرية – كما قلنا – وانتشر هناك على يد عكرمة مولى ابن عباس وهو بربري في الأصل ولهذا كان لدعوته إلى المذهب الصفري تأثير بين البربر لمعرفته بدخائل نفوسهم، وكان يدعو إلى مذهبه سرا ثم أخذ في الانتشار إلى أن صار مذهبا قويا فيما بعد، خصوصا وقد كان المهاجرون من المشرق الذين هربوا من اضطهاد الخلفاء يرتادون المغرب لبث دعوتهم في هذه المناطق النائية عن الخلافة الإسلامية، ولم يحدد المؤرخون بالضبط متى بدأ المذهب الخارجي ينتشر هناك. يقول الدكتور رفعت فوزي عن تحديد نشأة الإباضية والصفرية بالمغرب: " وإذا كانت الروايات التاريخية لا تبين لنا بالتحديد متى قدم إلى المغرب أول من دعوا إلى مذهب الخوارج وهما سلامة بن سعيد وعكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما؛ فإنه يمكن القول بأنهما قدما في أواخر القرن الأول أو أوائل القرن الثاني" (2). ويجب أن نلاحظ هنا أن تلك القبائل التي كانت محط الأنظار لنشر المذهب الخارجي بينهم كانت متأرجحة بين اعتناق المذهب الخارجي والبعد عنه، وأغلبهم كان يميل مع القوي صاحب الغلبة، فإذا جاء من هو أقوى منه كان الحال معه كسابقه وهكذا. لقد كان البربر منذ أسلموا مخلصين في إسلامهم يشتركون في جميع المعارك التي يخوضها الجيش الإسلامي، وكانوا عندما يعاملون بالعدل والرفق كما وصفهم الطبري: " من أسمع أهل البلدان وأطوعهم إلى زمان هشام بن عبد الملك أحسن أمة سلاما وطاعة ".   (1) ((الإباضية في موكب التاريخ)) (2/ 25). (2) ((الخلافة والخوارج في المغرب العربي)) (ص29). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 وقد ظلوا كذلك إلى أن بدأوا يحسون بالظلم من قبل ولاة الخليفة هشام وأسوأهم سيرة كان عبيد الله بن الحبحاب من قبل هشام، الذي كان جل اهتمامه في جمع الأموال والتحف وبعثها إلى دمشق لإرضاء الخليفة هناك كغيره من ولاة تلك المناطق. وصادفت هذه المحنة وجود دعاة الخوارج بينهم فكانوا كلما دعوهم إلى الخروج على الخلافة الأموية بسبب ما يفعله ولاتهم من مظالم يتأبون عن الاستجابة لهم قائلين: إن هذا ليس ذنب الخليفة حتى نختبره، فيقول لهم دعاة الخوارج: إن هؤلاء العمال لا يقدمون إلا بأمر من الخليفة نفسه، فلم يقبلوا منهم. وهكذا ظلوا كلما دعاهم الخوارج قالوا: " إنا لا نخالف الأئمة بما تجني العمال ولا نحمل ذلك عليهم، فقالوا لهم: إنما يعمل هؤلاء بأمر أولئك، فقالوا لهم: لا نقبل ذلك حتى نبورهم " أي نختبرهم. وأخيرا وبعد أن طفح الكيل خرج بضعة عشر يرأسهم ميسرة المطغري متوجهين إلى دمشق ليشكوا ما حل بهم إلى الخليفة هشام، إلا أنه لسوء الحظ لم يقابلهم بل احتجب عنهم إلى أن نفذت نفقاتهم، فعزموا على الرجوع إلى بلادهم وهنا ذهبوا إلى الأبرش وحملوه رسالة منهم ليؤديها إلى هشام كالإعذار لما سيفعلونه فيما بعد، جاء في هذه الرسالة: " أبلغ أمير المؤمنين أن أميرنا يغزو بنا وبجنده فإذا أصاب نفلهم دوننا، وقال هم أحق به؛ فقلنا: هو أخلص لجهادنا لأنا لا نأخذ منه شيئا، إن كان لنا فهم منه في حل وإن لم يكن لنا لم نرده، وقالوا إذا حاصرنا مدينة قال: تقدموا، وأخر جنده: فقلنا: تقدموا فإنه ازدياد في الجهاد ومثلكم كفى إخوانه، فوقيناهم بأنفسنا وكفيناهم، ثم إنهم عمدوا إلى ماشيتنا فجعلوا يبقرونها على السخال يطلبون الفراء الأبيض لأمير المؤمنين فيقتلون ألف شاة في جلد، فقلنا: ما أيسر هذا لأمير المؤمنين، فاحتملنا ذلك وخليناهم وذلك، ثم إنهم سامونا أن يأخذوا كل جميلة من بناتنا، فقلنا: لم نجد هذا في كتاب ولا سنة ونحن مسلمون فأحببنا أن نعلم أعن رأي أمير المؤمنين ذلك الإمام لا. فأخذ الأبرش هذه الرسالة وقال: نفعل، وأخيرا ولما يئسوا من الوصول إلى هشام ويئسوا من إنصافهم كتبوا أسماءهم وأنسابهم وأعطوا الوزراء قائلين لهم: " هذه أسماؤنا وأنسابنا فإن سألكم أمير المؤمنين عنا فأخبروه " (1)، ثم رجعوا.   (1) انظر ((تاريخ الطبري)) (4/ 254). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 وبالتأمل في تلك الرسالة نجد فيها حرارة الشكوى ومدى ما حل بهم إن صدقوا في كل ما ذكروه؛ إذ إن تلك الجرائم التي ارتكبت بحقهم لا يمكن السكوت عنها، وهنا وقر في قلوبهم ما قاله الخوارج سابقا ورجعوا في غاية الغضب والعزم على الخروج عن الطاعة، فبدأوا بعامل هشام على أفريقية فقتلوه ثم استولوا على أفريقية، ولما علم هشام بذلك سأل عن أسماء ذلك الوفد الذي جاء إليه فرفعت إليه أسماؤهم فإذا هم الذين وقفوا ببابه فاحتجب عنهم. وهناك سبب آخر يعزوه الأستاذ رفعت إلى صاحب كتاب (أخبار مجموعة)، الذي يرى أن سبب قيام خوارج المغرب بالثورة إنما هو " الاقتداء بالخوارج في المشرق أصحاب النهروان والأزارقة في الخروج على سلطان الخلافة والتحرر من ربقتها والكيد لها " (1).ويروي عن صاحب فجر الأندلس رأيا آخر، وهو أن تلك الثورة كانت سياسية قبل أن تكون دينية وذلك في قوله: " لسنا نجد على أي الأحوال من أخبار هذه الثورة الكبيرة دليلا واضحا على صفرية القائمين بالحركة أو إباضيتهم، والأسلم أن نسميهم خوارج سياسيين لا دينيين " (2). وعلى كل فقد اشتعلت الثورة وسموا ميسرة أمير المؤمنين، ثم التحموا مع جيش الخلافة في معارك عظيمة عبأ فيها هشام ثلاثين ألفا لمقاتلة الخوارج، وحينما التقوا انهزمت جيوش الخلافة شر هزيمة واستتب الأمر للخوارج وبسطوا نفوذهم بقوة وبأس جعل الخليفة ييأس من استعادة أفريقية بعد هزيمة جيشه الذي أرسله بقيادة كلثوم بن عياض أمام قائد الخوارج خالد بن حميد الزناتي الذي حقق للخوارج استقلال المغرب حتى صار المغرب فيما بعد ملجأ كل ناقم على الخلافة الأموية (3). ثم صارت الأمور بعد ذلك في صراع الخوارج والخلافة يتبادل الطرفان فيه النصر والهزيمة حتى انتهت الدولة الأموية وأعقبتها الدولة العباسية، فبدأت في مقاومة الخوارج بالمغرب وكان رئيسهم إذ ذاك هو أبو الخطاب؛ وهو أحد حملة العلم الخمسة الذين ذهبوا إلى البصرة وعادوا منها إلى المغرب يحملون فكرة إقامة دولة باسمهم، كما أشار عليهم زعيم المذهب الديني في البصرة أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة الذي تعتبره الإباضية من خيرة أسلافها وعلمائها الأجلاء. فأخذ نجم الإباضية في الظهور على يدي أبي الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري الذي كان مقيما بطرابلس بعد الخطط لجعلها عاصمة لهم، وكانت البيعة له في غرب طرابلس في مكان يسمى " صياد " واتفقوا فيه على وضع خطة للقبض على زمام السلطة في طرابلس، وهي أن يوضع الرجال في جواليق مربوطة من أسفلها على جمال كل رجلين على جمل ثم يدخلون طرابلس فلا يفطن الناس إلى ما بها، وعندا يتوسطون المدينة يخرج الإباضية الذين بها مصلتين سيوفهم ثم تفتح الجواليق فيخرج الرجال على هيئة حربية كل رجل يحمل سلاحه، ثم جاء الموعد ونجحت الخطة وحين خرجوا كانوا ينادون لا حكم إلا لله ولا طاعة إلا لأبي الخطاب، وتم الاستيلاء على المدينة فعين عبد الرحمن الرستمي وهو أحد حملة العلم الخمسة أيضا على طرابلس قاضيا (4).   (1) ((الخلافة والخوارج في المغرب)) (ص67)، وهو يعزو هذا الرأي إلى ((أخبار مجموعة)) (ص31، 32). (2) ((الخلافة والخوارج في المغرب)) (ص68)، وهو يعزو هذا الرأي إلى ((فجر الأندلس)) (ص149). (3) هذا ما أشار إليه الأستاذ رفعت فوزي في كتابه ((الخلافة والخوارج في المغرب)) (ص83)، والواقع أن الخليفة قد عبأ الجيوش المتلاحقة لإخماد تلك الثورات، انظر ((الكامل)) لابن الأثير (5/ 192). (4) ((الخلافة والخوارج في المغرب)) (ص108). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 فأخذ هذا الرجل بما أوتي من قوة فكر ونفاذ بصيرة في تجميع الإباضية من حوله وأحل التعصب للمذهب بدل التعصب القبلي، حتى نجح بهم في إقامة دولة للإباضية استمرت ما يقارب مائة وخمسة وعشرين عاما. ومنذ أن تم النصر للإباضية في طرابلس بدأوا ينظرون إلى ما حولهم فحشدوا الجيوش للاستيلاء على القيروان لإنقاذها من بغي ورفجومة (1) الذين عاثوا فيها فسادا، وسارت الحملة إليهم في ستة آلاف رجل، وعرضوا في طريقهم على قابس فاحتلوها ثم واصلوا السير إلى القيروان فحاصروها مدة، ثم خدعوا ورفجومة وأوهموهم أنهم منهزمون منهم، فلما خرجوا في لحاقهم عطف الإباضية عليهم فقتلوهم قتلا ذريعا عند مكان يسمى رقادة. ثم خرج أبو الخطاب عن القيروان بعد أن ولى عليها عبد الرحمن بن رستم. وبعد القضاء على ورفجومة رجع أبو الخطاب إلى طرابلس ولكن حدث أن ذهب أحد أتباعه ويسمى جميل السدراتي – لمنافرة وقعت بينه وبين أبي الخطاب – إلى أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي طالبا منه إنقاذ ذلك الجزء من المغرب من حكم أبي الخطاب، فبعث إليهم أبو جعفر الجيش بعد الجيش وهم ينهزمون أمام الإباضية، ولكن الإباضية عادوا فانهزموا أخيرا على يد محمد بن الأشعث وانتصر عليهم الانتصار الحاسم (2)، فقتل أبو الخطاب وكل من كان معه أثناء المعركة وتفرقت الإباضية في الجبال والأماكن النائية. ثم جاء مؤسس الدولة الإباضية الحقيقي وهو عبد الرحمن بن رستم وهو الذي إليه " يعزى الفضل في تكوين دولة الخوارج الإباضية، كان حكمها في أسرته من بعده " (3)، وهو فارسي الأصل من طبقة حكام الفرس الأكاسرة وقد انتقل بعد مقتل أبي الخطاب إلى تيهرت التي صارت فيما بعد عاصمة الإباضية، فاجتمعت عليه كلمة الإباضية وسلموا عليه بالخلافة سنة 160هـ، وكان جل أتباعه من قبائل البربر لواته ورجالة ونفزاوة ولماية ونفوسة التي اشتهر بأنها قلعة حصينة للإباضية. وقد أصبحت تاهرت من أعظم المدن وأجملها وقد فصل القول فيها الشيخ سليمان بن عبد الله الباروني وذكر كثيرا من دقائق أخبارها يعجب له السامع، واستشهد بعدة شواهد من كلام غير الإباضية نفيا لما قد يتوهم من مبالغته في وصفها كما يقول (4)، وقد تأسست هذه المدينة واكتمل عمرانها سنة 136هـ. وقد سار عبد الرحمن في حكمه سيرة ارتضاها الإباضية وتوالت عليه الإعانات من إباضية المشرق، الإعانات المعنوية والمادية وكان على اتصال في قضاياها المهمة بعلماء المشرق الإباضي؛ يقول محمود إسماعيل: " واستطاع عبد الرحمن بهذه الأموال تسليح رجاله من الإباضية، وتمكن بفضلهم - على حد تعبيره – من بسط سيادة الدولة على سائر قبائل البربر" (5).   (1) ورفجومة هم قبيلة من قبائل البربر، انظر ((الإباضية في موكب التاريخ)) (1/ 51). (2) انظر ((الإباضية في موكب التاريخ)) (1/ 53)، وانظر ((الكامل)) لابن الأثير (5/ 317). (3) ((الخلافة والخوارج في المغرب العربي)) (ص107). (4) انظر: الصفحات الأولى من كتاب ((الأزهار الرياضية)) (جـ2). (5) ((الخوارج في المغرب الإسلامي)) (ص113). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 وكان يجاور دولته دولة الصفرية التي اتخذت سجلماسة عاصمة لها حين تكونت سنة 140هـ، وقد تمت بين عبد الرحمن وملك الصفرية علاقة مصاهرة إذ تزوج ابن ملك الصفرية، ويسمى مدارا، بكريمة عبد الرحمن وبذلك أمن ذلك الجانب، ولولا تلك المصاهرة لجرى بينهم من الحروب والفتن الشيء الكثير وهذا من حنكة عبد الرحمن ومهارته في الأمور. وقد استمر الحال بالإباضية هناك في هدوء واستقرار إلى أن توفي عبد الرحمن الرستمي سنة 171 تقريبا، " وكي يضمن استمرار ذلك الاستقرار لدولته أوصى قبل وفاته بتعيين مجلس شورى يختار إمام الدولة من بين أعضائه " (1). فبايع الإباضية بعده ابنه عبد الوهاب بن عبد الرحمن الرستمي في هذا التاريخ، فاجتمعت عليه كلمة الإباضية وأحبوه لما امتاز به من الصلاح والحزم ولم ينقموا عليه أمرا إلا ما كان من ابن فندين وهو ممن بايعه فإنه خرج عنه غاضبا؛ لأنه لم يشركه في حكمه ولم يسند إليه منصبا وهذا تعليل الإباضية لخروجه عن طاعة عبد الوهاب، ولكن هذا التعليل ينفيه بعضهم ويرى أنه من صنع الإباضية لتشويه مطلب ابن فندين في حمل الإمام على اتخاذ مجلس شورى يأخذ برأيه وأسباب أخرى غير هذا (2).ثم انضم إلى ابن فندين ثائر آخر من الإباضية الطامعين في الحكم وهو شعيب المصري حسب ما تقول مصادر الإباضية، ويقول غيرهم بأن هذا الحكم على شعيب " مبالغ فيه والأقرب للتصديق أنه توجه لنصح عبد الوهاب وإنهاء الخلاف في تاهرت، فلما لم يجبه انضم إلى ابن فندين " (3). وحينذاك دبر هذا الرجلان الثورة لنزع الحكم من عبد الوهاب فأنشبوا معركة على أبواب عاصمة الإباضية بتيهرت انهزم فيها الثوار وقتل ابن فندين؛ وهرب شعيب إلى طرابلس ناقما على الإمام مظهرا البراءة منه، فلما وصلت هذه الأخبار إلى علماء الشرق من الإباضية أجمعوا على البراءة منه ومن ابن فندين. وبموت ابن فندين اختفت المشاكل التي كانت شاغلة لعبد الوهاب وهدأت الأمور، ولكن هذا الهدوء كدرته ثورة أخرى قام بها قبائل من البربر تدين بالاعتزال وأكثرهم من قبيلة زنانة، التحموا معه في معركة طلب فيها من الثائرين عقد هدنة للنظر في الأصلح من الأمور فعقدت الهدنة وهنا كتب الإمام إلى أهل جبل نفوسة طالبا منهم المدد، ولما جاءه ما طلب التحم معهم في معركة أخرى انتصر فيها الإمام وظفر بتلك الطائفة من الواصلية المعتزلة وأذعنوا بالطاعة، وكانت تنشأ بين الحين والآخر بعض الانشقاقات فلا تلبث أن تنتهي. وامتد سلطان الإمام إلى طرابلس وما حولها وقد دامت خلافته 19 سنة إذ توفي في سنة 190هـ تقريبا، وهو الصحيح عند الباروني من بين الأقوال التي قيلت في ذلك (4)، تاركا وراءه ثورة خلف بن السمح في اشتعال. وبعد وفاة عبد الوهاب بايع الإباضية ابنه أفلح بن عبد الوهاب بن عبد الرحمن الرستمي، فأمر أبو عبيدة وكان واليا من قبل عبد الوهاب على طرابلس بمحاربة خلف، وبعد مراسلات بينهما لم تجد نفعا التحموا في معركة انتصر فيها أبو عبيدة، وكانت تلك المعركة في 13 من شهر رجب سنة 221هـ، إلا أن هذه المعركة لم تنه عصيان خلف بل ثار مرة ثانية بعد وفاة أبي عبيدة وتولية العباس بن أيوب مكانه فراسل خلفا لإعادته إلى الطاعة، ولما لم تفلح معه المراسلة تقابلوا في معركة انهزم فيها خلف وتفرق جمعه ومات بعد ذلك منكسرا (5).   (1) ((الخوارج في المغرب الإسلامي)) (ص114). (2) راجع: ((الخوارج في المغرب الإسلامي)) (ص117). (3) ((الخوارج في المغرب)) (ص117). (4) ((الأزهار الرياضية)) (2/ 163). (5) ((الخوارج في المغرب الإسلامي)) (ص123). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 وبعد خلف جاء ثائر آخر هو فرج بن نصر النفوسي المعروف (بنفاث) والذي تنسب إليه فرقة النفاثية من الإباضية وكان له اطلاع في العلم، إلا أنه أخرجه الغضب لنفسه إذ لم يول ولاية في دولة أفلح حسب ما تقول مصادر الإباضية، وهذا لا ينفي أن تكون ثورته انتقاما من حكم الرستميين الذين جعلوا الخلافة وراثية ولكنه لم تكن له شوكة أو منازلة مع جيش أفلح بل كان خروجه بمجرد الكلام فقط، وأخيرا غمض أمره وانتهى دوره إلى أن حانت وفاة الإمام أفلح وكان المرشح لتوليها بعده هو ابنه ابن اليقظان محمد بن أفلح، إلا أنه حين وفاة والده كان مسجونا في بغداد وذلك أنه كان قد اختطف في حجه وأودع سجن بغداد، فبايع الناس بعد وفاة أفلح ابنه أبا بكر بن أفلح، إلا أنه لم يكن مرضيا من جميع الناس، ووقعت فتن في عهده وحروب أهلية. وقد عاد ابن اليقظان من بغداد إثر إطلاقه من السجن فنظم الأمور وأحبه الناس فتمت بيعته سنة 241هـ، واجتمعت عليه الكلمة وأتته وفود البيعة من كل أرجاء مملكته واستتب الأمن وكثر الرخاء إلى أن توفي سنة 281هـ. وبعد وفاته بايع الإباضية ابنه أبا حاتم يوسف بن محمد باتفاق الكافة ولم ينكر أحد في الظاهر أي أمر، إلا أنه كان في نفوس بعض الناس ميل عنه ومنهم عمه يعقوب بن أفلح إلا أنه لم يحرك ساكنا حينئذ، ثم حدثت فتنة بعد ذلك بقيادة بعض المشايخ مسموعة الكلمة وتطور الخلاف إلى أن أصبح لا يمكن حله إلا بالمعركة، وجمع كل فريق ما عنده من قوة استعدادا لخوض الحرب. وقد استدل أهل مدينة تيهرت زعامتهم إلى عم أبي حاتم السابق الذكر يعقوب بن أفلح بينما كان الإمام محاصرا لها من خارجها ولم يبق إلا الدخول في المعركة، فابتدأت رحاها بين الإمام وعمه فأهرقت الدماء وتقطعت السبل وعاش الناس في أشد الضيق، إلى أن توسط بعض أهل الإصلاح بين الإمام وعمه لعقد هدنة وصلح على أن يقف كل منهما عن منازعة الآخر مدة أربعة أشهر حتى ينظر الناس في أمورهم ورجاء ما يمن الله به من حسن تدبيره. وقد حدث في أثناء هذه المدة أن استمال الإمام كثيرا من الناس ووعدهم ومناهم إلى أن مال إليه أكثر أهل المدينة (مدينة تيهرت)، فرأى يعقوب ومن معه من خاصته أن الخطر قد أحدق بهم وهنا قرروا الهرب إلى طرابلس التي كانت الفتنة فيها وفي جبل نفوسة على أشدها ليكونوا على بعد عن الإمام. وهنا دخل الإمام المدينة بعد أن كان مقيما خارجها في أثناء تلك الأربعة الأشهر وصفي له الجو في تيهرت وما حولها، باستثناء طرابلس ونفوسة وما حولهما فقد وقعت فيها بعض الفتن الداخلية ثم أعقبهم نزول جيش إبراهيم بن الأغلب التابع للخلافة العباسية فقتل أهل نفوسة قتلا ذريعا وانهزموا شر هزيمة. ومن هنا بدأ نجم دولة الإباضية الرستمية في الأفول شيئا فشيئا إلى أن توفي الإمام أبو حاتم سنة 294هـ مقتولا على يد أبناء أخيه باتفاق تم بينهم للاستيلاء على الحكم، وشايعهم على هذا بعض الناس فقتلوه ثم تولى بعده اليقظان بن أبي اليقظان وهو ابن أخيه، وبمجرد توليه بدأ انقراض دولة بني رستم على يد الشيعة وذلك على يد عبيد الله الشيعي وظهور دعوته في المغرب، فقد احتل مولاه ويكنى بأبي عبد الله الحجاني تيهرت العاصمة الإباضية وقضى على أسرة بني رستم وانتهى أمرهم وذلك في سنة 296هـ، فرثاهم علماء الإباضية بالمراثي المحزنة ورثوا تيهرت وما أصابها من خراب بعد بني رستم. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص177 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 أولا: موقف الإباضية من سائر المخالفين تتسم معاملة الإباضية لمخالفيهم باللين والمسامحة وجوزوا تزويج المسلمات من مخالفيهم. وهذا ما يذكره علماء الفرق عنهم، إضافة إلى أن العلماء يذكرون عنهم كذلك أن الإباضية تعتبر المخالفين لهم من أهل القبلة كفار نعمة غير كاملي الإيمان ولا يحكمون بخروجهم من الملة، إلا أن هذا المدح ليس بالاتفاق بين العلماء؛ فهناك من يذكر عن الإباضية أنهم يرون أن مخالفيهم محاربون لله ولرسوله وأنهم يعاملون المخالفين لهم أسوأ المعاملة. والحقيقة أن القارئ لكتب علماء الفرق يجد أنهم متعارضون في النقل عنهم إلا أن يقال: إن طائفة من الإباضية معتدلون وآخرون متشددون. ولهذا وجد علي يحيى معمر ثغرة في كلام علماء الفرق ليصفهم بالتناقض والاضطراب في النقل إلى آخر ما أورد من انتقادات لا تسلم له على إطلاقها. وذلك أنك تجد في بعض كلام علماء الإباضية أنفسهم الشدة في الحكم على المخالفين لهم ووصفوهم بأنهم الكفار وأنهم من أهل النار ما لم يدينوا بالمذهب الإباضي، وتجد آخرين يتسامحون في معاملة المخالفين لهم ويبدو عليهم اللين تجاههم. وتجد التعصب في حكمهم على المخالفين ظاهراً قوياً من قراءتك لكتاب (مقدمة التوحيد) لابن جميع، وكتاب (الحجة في بيان المحجة في التوحيد بلا تقليد) للعيزابي، ورسالة في فرق الإباضية بالمغرب للمارغيني، وكتاب (الدليل لأهل العقول) للورجلاني، وكذا العقود الفضية، وكشف الغمة الجامع لأخبار الأمة- فإن القارئ لهذه الكتب يجد التشدد تجاه المخالفين قائماً على أشده كما تشهد بذلك مصادرهم المذكورة. ومع هذا فإن العلماء والمتقدمين وكثيراً من المتأخرين يذكرون عبارات كثيرة تصف الإباضية بالتسامح واللين تجاه المخالفين ممن يدعون الإسلام إلا معسكر السلطان فإنه دار بغي وحرابة، ومع ذلك نفى علي يحيى معمر أن يكون من مذهب الإباضية أنهم يرون أن معسكر السلطان معسكر بغي وحرابة، ولكنه-وهو يقسم حكام المسلمين في كتابه (الإباضية بين الفرق الإسلامية) - جعل هذا الوصف ينطبق على الحاكم الذي يخرج عن العدل ولا يطبق أحكام الإسلام كاملة (1). ومن خلال الأمثلة الآتية من كلام العلماء حول موقف الإباضية من المخالفين لهم تجد مصداق ما قدمنا إجماله فيما يلي: 1 - اللين والتسامح مع المخالفين أ- ما قاله عنهم كتَّاب (الفرق). ب- ما قالوه هم في كتبهم. أما ما قاله علماء الفرق عنهم: فمثلاً نجد أن الأشعري يقول: (وأما السيف فإن الخوارج جميعاً تقول به وتراه، إلا أن الإباضية لا ترى اعتراض الناس بالسيف) (2).وقال أيضاً: (وجمهور الإباضية يتولى المحكِّمة كلها إلا من خرج، ويزعمون أن مخالفيهم من أهل الصلاة كفار ليسوا بمشركين) (3).ثم قال عنهم كذلك: (وزعموا أن الدار أي دار مخالفيهم- دار توحيد إلا معسكر السلطان فإنه دار كفر يعني عندهم) إلى أن قال: (وفي المعركة لا يقتلون النساء ولا الأطفال على عكس ما يفعله الأزارقة) (4).أما البغدادي والشهرستاني فيذكران عن الإباضية أنهم يرون أن مخالفيهم براء من الشرك والإيمان، وأنهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين ولكنهم كفار (5).   (1) انظر: ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص28،27). (2) ((المقالات)) (1/ 204). (3) ((المقالات)) (1/ 184). (4) ((المقالات)) (1/ 185). (5) ((الفرق بين الفرق)) (ص103)، و ((الملل والنحل)) (1/ 134). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 وأما ما قالوه هم عن أنفسهم: فنجد صاحب (كتاب الأديان) الإباضي وهو يعدد آراء الأخنس –زعيم فرقة الأخنسية –يقول: (وجوَّز تزويج نساء أهل الكبائر من قومهم على أصول أهل الاستقامة) (1).ونجده كذلك يؤكد على أنه لا يجوز من أهل القبلة إلا دماءهم في حالة قيام الحرب بينهم وبين الإباضية (2). ويأتي أبو زكريا الجناوني فيؤكد أنه يجوز معاملة المخالفين معاملة حسنة، غير أنه ينبغي أن يدعو إلى ترك ما به ضلوا فإن أصروا ناصبهم إمام المسلمين الحرب حتى يذعنوا للطاعة ولا يحل منهم غير دمائهم وهناك نصوص في مسامحة الإباضية للمخالفين لهم من حسن المعاملة وعدم اغتيالهم أو استعراضهم وتحريم أموالهم. يذكرها عنهم علي يحيى معمر مع عزوها إلى قائليها في كتابه (الإباضية بين الفرق الإسلامية)، في معرض نقده كلام علماء الفرق عن الإباضية (3). لا نرى ضرورة للتطويل بنقلها هنا. 2 - الشدة على المخالفين: 1 - ما يقوله عنهم علماء الفرق: يقول البغدادي عنهم: (إنهم يرون أن المخالفين لهم كفار وأجازوا شهادتهم وحرموا دماءهم في السر واستحلوها في العلانية ... وزعموا أنهم في ذلك محاربون لله ولرسوله ولا يدينون دين الحق، وقالوا باستحلال بعض أموالهم دون بعض والذي استحلوه الخيل والسلاح، فأما الذهب والفضة فإنهم يردونها على أصحابها عند الغنيمة) (4).وقد سبق قول الأشعري عنهم: وقالوا جميعاً: إن الواجب أن يستتيبوا من خالفهم في تنزيل أو تأويل، فإن تاب وإلا قتل، كان ذلك الخلاف فيما يسع جهله وفيما لا يسع (5). 2 - ما قالوه هم في كتبهم: روى الجيطالي الإباضي عن الإمام عبد الوهاب أنه قال: سبعون وجهاً تحل بها الدماء، فأخبرت منها لأبي مرداس بوجهين فقال: من أين هذا من أين هذا؟ وفي كتاب سير المشائخ أن الإمام كان يقول: عندي أربعة وعشرين وجهاً تحل بها دماء أهل القبلة، ولم تكن منهم عند أبي مرداس رحمه الله إلا أربعة أوجه وقد شدد علي فيهم (6).ويقول المارغيني منهم: (وقالت المشائخ إن هذا الدين الذي دنا به الوهبية من الإباضية من المحكِّمة دين المصطفى صلى الله عليه وسلم هو الحق عند الله وهو دين الإسلام، من مات مستقيماً عليه فهو مسلم عند الله، ومن شك فيه فليس على شيء منه، ومن مات على خلافه أو مات على كبيرة موبقة فهو عند الله من الهالكين أصحاب النار) (7) وقال العيزابي منهم: (الحمد لله الذي جعل الحق مع واحد في الديانات فنقول معشر الإباضية الوهابية: الحق ما نحن عليه والباطل ما عليه خصومنا؛ لأن الحق عند الله واحد، ومذهبنا في الفروع صواب يحتمل الخطأ ومذهب مخالفينا خطأً يحتمل الصدق) (8).ولا يقلُّ الورجلاني تشدداً عن من سبق، فهو يقول: فإن قال قائل: هذه أمة أحمد صلى الله عليه وسلم قد قضيتم عليها بالهلاك وبالبدعة والضلال وحكمتم عليها بدخول النار ما خلا أهل مذهبكم. قلنا: إنما قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم-لا نحن- بقوله: حيث يقول: ((ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهن في النار ما خلا واحدة ناجية كلهم يدعي تلك الواحدة .. )) (9) وهناك نصوص كثيرة أخرى في تزكية مذهبهم وبطلان ما عداه من المذاهب، وأن الله لا يقبل أي دين غير دين الإباضية والوهبية عن (صاحب العقود الفضية) (10).والسالمي (11) وجاعدين خميس الخروصي (12) وصاحب (كشف الغمة) (13)، وصاحب (النيل وشفاء العليل) (14) وابن جميع (15) وغيرهم من علماء الإباضية.   (1) ((كتاب الأديان)) (ص 105). (2) ((كتاب الأديان)) (ص 99). (3) انظر: ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص335، 385). (4) ((الفرق بين الفرق)) (ص 103). (5) ((المقالات)) (1/ 186). (6) ((قواعد الإسلام)) (ص 105). (7) ((رسالة في فرق الإباضية)) للمغرب (ص 13). (8) ((الحجة في بيان المحجة في التوحيد بلا تقليد)) (ص37). (9) بهذا اللفظ غير موجود ولكن روي بألفاظ مقاربة كما عند أبي داود (4597) وأحمد (4/ 102) (16979) ورواه ابن أبي عاصم في ((السنة)) (1/ 4) وفي ((المذكر والتذكير)) له (1/ 86) وقال الألباني صحيح لغيره. (10) ((العقود الفضية)) (ص 169). (11) ((العقود الفضية)) (ص 172). (12) ((العقود الفضية)) (ص 172). (13) ((كشف الغمة)) (ص306). (14) انظر: ((النيل وشفاء العليل)) (3/ 1061، 1062). (15) ((مقدمة التوحيد)) (ص19). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 ثانيا: موقف الإباضية من الصحابة موقف الإباضية من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم من الأمور المتفق عليها عند سائر الخوارج الترضي التام والولاء والاحترام للخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما، لم تخرج فرقة منهم عن ذلك. أما بالنسبة للخليفتين الراشدين الآخرين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما فقد هلك الخوارج فيهما وذموهما مما برأهما الله عنه. والذي يهمنا، أن نشير هنا إلى رأي الإباضية في الصحابة رضوان الله عليهم بإيجاز، تاركين تفصيل الحجج والردود عليها لمقام آخر: 1 - موقف الإباضية من عثمان رضي الله عنه: من الأمور الغريبة جداً أن تجد ممن يدعي الإسلام ويؤمن بالله ورسوله من يقع في بغض الصحابة؛ خصوصاً من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة وثبتت بذلك النصوص في حقه. فعثمان رضي الله عنه صحابي جليل شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، أما بالنسبة للخوارج فقد تبرءوا منه ومن خلافته، بل وحكموا عليه بالارتداد والعياذ بالله وحاشاه من ذلك. وفي كتاب (كشف الغمة) لمؤلف إباضي من السب والشتم لعثمان ما لا يوصف، ولم يكتف بالسب والشتم، وإنما اختلق روايات عن بعض الصحابة يسبون فيها عثمان بزعمه ويحكمون عليه بالكفر (1)، ولا شك أن هذا بهتان عظيم منه. ويوجد كذلك (كتاب في الأديان) (2) وكتاب آخر اسمه (الدليل لأهل العقول) (3) للورجلاني، فيهما أنواع من السباب والشتم لعثمان ومدح لمن قتلوه؛ حيث سماهم فرقة أهل الاستقامة، وهم في الحقيقة بغاة مارقون لا استقامة لهم إلا على ذلك. 2 - وأما بالنسبة لموقفهم من علي رضي الله عنه: فإنه يتضح موقفهم منه بما جاء في كتاب (كشف الغمة) تحت عنوان فصل من كتاب (الكفاية) قوله: فإن قال ما تقولون في علي بن أبي طالب، قلنا له: إن علياً مع المسلمين في منزلة البراءة، وذكر أسباباً- كلها كذب- توجب البراءة منه في زعم مؤلف هذا الكتاب، منها حربه لأهل النهروان وهو تحامل يشهد بخارجيته المذمومة. وقد ذكر لوريمر عن موقف المطاوعة –جماعة متشددة في الدين- كما يذكر قوله: (ويعتقد المطوعون أن الخليفة علياً لم يكن مسلماً على الإطلاق؛ بل كان كافراً!!) (4).كما تأول حفص بن أبي المقدام بعض آيات القرآن على أنها واردة في علي، وقد كذب حفص (5).ومن الجدير بالذكر أن علي يحيى معمر –المدافع القوي عن الإباضية يزعم أن الإباضية لا يكفرون أحداً من الصحابة، وأنهم يترضون عن علي رضي الله عنه فهو ينقل عن كتاب وفاء الضمانة بأداء الأمانة مدحاً وثناءً لعلي (6). وأورد علي يحيى معمر فصلاً طويلاً بيّن فيه اعتقاد الإباضية في الصحابة بأنهم يقدرونهم حق قدرهم، ويترضون عنهم ويسكتون عما جرى بينهم، ونقل عن أبي إسحاق أطفيش في رده على الأستاذ محمد بن عقيل العلوي أنه قال له: أما ما زعمت من شتم أهل الاستقامة لأبي الحسن علي وأبنائه فمحض اختلاق. ونقل عن التعاريتي أيضاً مدحه للصحابة خصوصاً علياً وأبناءه، وكذلك التندميري الإباضي. وأخيراً قال علي يحيى معمر: (ولم يكن يوماً من الأصحاب شتم له أو طعن، اللهم من بعض الغلاة، وهم أفذاذ لا يخلو منهم وسط ولا شعب) (7).   (1) ((كشف الغمة)) (ص268). (2) ((كتاب الأديان)) (ص27،26). (3) ((الدليل لأهل العقول)) (ص28،27). (4) ((دليل الخليج)) (6/ 3406). (5) انظر: ((المقالات)) (1/ 183). (6) ((وفاء الضمانة)) (3/ 22). (7) ((الإباضية بين الفرق)) (ص278). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 وهذه الحقيقة التي اعترف بها أخيراً تجعل ما ملأ به كتابه (الإباضية بين الفرق) من الشتائم على كل كتّاب الفرق غير صحيح، فما الذي يمنع أن يكون نقل هؤلاء العلماء يصدق على أقل تقدير على هؤلاء الأفذاذ الذين أشار إليهم، مع أن ما يذكره علي يحيى معمر لا يتفق مع النصوص المستفيضة عن علماء الإباضية في ذمهم لبعض الصحابة، فهل الورجلاني يُعتبر- على حد التعبير السابق ليحيى معمر- من الغلاة المتشددين، وهو من هو في صفوف الإباضية؟ فهذا الرجل يواصل في كتابه (الدليل لأهل العقول) تكفيره وشتمه لمعاوية رضي الله عنه ولعمرو بن العاص، بل قد قال زعيم الإباضية عبد الله بن إباض نفسه في كتابه لعبد الملك عن معاوية ويزيد وعثمان كما يرويه صاحب (كشف الغمة): (فإنا نُشهد الله وملائكته أنا براء منهم وأعداء لهم بأيدينا وألسنتنا وقلوبنا، نعيش على ذلك ما عشنا، ونموت عليه إذا متنا، ونبعث عليه إذا بعثنا، نحاسب بذلك عند الله) وكفى بهذا خروجاً. وصاحب (كشف الغمة) الجامع لأخبار الأمة يشتم الحسن والحسين رضي الله عنهما، وأوجب البراءة منهما بسبب ولايتهما لأبيهما على ظلمه وغشمه، كما يزعم- كذلك بسبب قتلهما عبد الرحمن بن ملجم، وتسليمهما الإمامة لمعاوية، وهي أسباب لا يعتقدها من عرف الصحابة الذين شهد الله ورسوله لهم بالسابقة والفضل، ولكن انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر، وصدق الشاعر حين قال: وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني فاضل ونفس الموقف الذي وقفه الخوارج عموماً والإباضية أيضاً من الصحابة السابقين- وقفوه أيضاً من طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، وأوجب لهما الورجلاني النار (1). وقد بشرهما الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، وهؤلاء يوجبون عليهما النار، فسبحان الله ما أجرأ أهل البدع والزيغ على شتم خيار الناس بعد نبيهم الذين نصروا الإسلام بأنفسهم وأموالهم وأولادهم ومات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو راضٍ عنهم!! قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)) (2) وأنه لما يحار فيه الشخص هذا الموقف من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان أخص أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم غير مرضيين عند هذه الطوائف من خوارج وشيعة فمن المرضي بعد ذلك؟   (1) انظر: ((كشف الغمة)) (ص304)، و ((الدليل لأهل العقول)) (ص 28). (2) رواه البخاري (3673)، ومسلم (2541). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 المطلب الرابع: عقائد الإباضية من الأمور الطبيعية أن تخرج هذه الفرقة وغيرها من الفرق عن المعتقد السليم في بعض القضايا ما دامت قد خرجت عن أهل السنة والجماعة وارتكبت التأويل، ولا بد كذلك أن توجد لها أقوال فقهية تخالف فيها الحق إلى جانب أقوالهم في العقيدة، ولا يسعنا هنا ذكر جميع مبادئ فرقة الإباضية العقديّة والفقهية، فهذا له بحث مستقل خصوصاً ما يتعلق بالمسائل الفقهية، فإن دارس الفرق قلما يوجه همه إلى إيضاحها وتفصيلاتها إلا عند الضرورة. والذي نود الإشارة إليه هنا أن للإباضية أفكاراً عقدية وافقوا فيها أهل الحق، وعقائد أخرى جانبوا فيها الصواب. 1 - أما ما يتعلق بصفات الله تعالى: فإن مذهب الإباضية فيها أنهم انقسموا إلى فريقين: فريق نفى الصفات نفياً تاماً خوفاً من التشبيه بزعمهم، وفريق منهم يرجعون الصفات إلى الذات، فقالوا إن الله عالم بذاته وقادر بذاته وسميع بذاته إلى آخر الصفات، فالصفات عندهم عين الذات، قال أحمد بن النضر: وهو السميع بلا أداة تسمع ... إلا بقدرة قادر وحداني وهو البصير بغير عين ركبت ... في الرأس بالأجفان واللحظان جل المهيمن عن مقال مكيف ... أو أن ينال دراكه بمكان ويقول السالمي: أسماؤه وصفات الذات ... ليس بغير الذات بل عينها فافهم ولا تحلا وهو على العرش والأشيا استوى ... وإذا عدلت فهو استواء غير ما عقلا وإنما استوى ملك ومقدرة ... له على كلها استيلاء وقد عدلا كما يقال استوى سلطانهم فعلى ... على البلاد فحاز السهل والجبلا (1) وقال العيزابي منهم: (الحمد لله الذي استوى على العرش أي ملك الخلق واستولى عليه، وإلا لزم التحيز وصفات الخلق) وهذا في حقيقته نفي للصفات، ولكنه نفي مغطى بحيلة إرجاعها إلى الذات وعدم مشابهتها لصفات الخلق، وقد شنع الورجلاني منهم على الذين يثبتون الصفات بأنهم مشبهة كعباد الأوثان، وأن مذهب أهل السنة هو –حسب زعمه- تأويل الصفات، فاليد النعمة والقدرة، والوجه الذات ومجيء الله مجيء أمره لفصل القضاء، لأن إثبات هذه الصفات لله هو عين التشبيه؛ كما يزعم (2).ومعلوم لطلاب العلم أن هذا ليس هو مذهب السلف الذين يثبتون الصفات لله كما وصف نفسه في كتابه الكريم ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تشبيه ولا تعطيل ولا تحريف ولا تكييف ولا تمثيل. قال ابن تيمية في بيان مذهب السلف: (إنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل) (3) ويقول ابن القيم: (لا ريب أن الله وصف نفسه بصفات وسمى نفسه بأسماء، وأخبر عن نفسه بأفعال، وأخبر أنه يحب ويكره ويمقت ويغضب ويسخط ويجيء ويأتي وينزل إلى السماء الدنيا، وأنه استوى على عرشه، وأن له علماً وحياة وقدرة وإرادة وسمعاً وبصراً ووجهاً، وأن له يدين وأنه فوق عباده، وأن الملائكة تعرج إليه وتنزل من عنده، وأنه قريب، وأنه مع المحسنين ومع الصابرين ومع المتقين، وأن السماوات مطويات بيمينه، ووصفه رسوله بأنه يفرح ويضحك، وأن قلوب العباد بين أصابعه وغير ذلك) (4). فهل يعتبر هذا الوصف تشبيه لله بخلقه؟ قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ [البقرة: 140]. وطريقة السلف في إثبات كل صفة لله، أنهم يقولون فيها: إنها معلومة والكيف مجهول والسؤال عنها بدعة، وأن الله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11]. وهذه الآية أساس واضح في إثبات الصفات لله.   (1) ((غاية المراد)) (ص7). (2) ((الحجة في بيان المحجة)) (ص6، 18). (3) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 26). (4) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (16 - 29). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 ولم ير أهل السنة أن إثبات الصفات يؤدي إلى التشبيه لمعرفتهم أن الاتفاق في التسمية لا يستلزم الاتفاق في الذات، فالله سميع وبصير والإنسان سميع بصير، وبين الذاتين ما يعرفه كل عاقل من الفرق، ومن تصور التشبيه فقد جمع بين التشبيه والتعطيل. والحاصل أن الإباضية هنا وافقوا المعتزلة والأشاعرة وغيرهم من أهل الفرق في باب الصفات، معتمدين على عقولهم وعلى شبهات وتأويلات باطلة، على أن الإباضية أنفسهم مختلفون في إثبات صفات الله تعالى؛ فإباضية المشرق يختلفون عن إباضية المغرب، ذلك أن إباضية المشرق تعتقد أن صفات الله تعالى حادثة، وإباضية المغرب تعتقد أنها قديمة؛ وبين الفريقين من التباعد في هذا ما لا يخفى (1). 2 - وأما عقيدة الإباضية في استواء الله وعلوه فإنهم يزعمون أن الله يستحيل أن يكون مختصاً بجهة ما؛ بل هو في كل مكان. وهذا قول بالحلول وقول الغلاة الجهمية، ولهذا فقد فسر الإباضية معنى استواء الله على عرشه باستواء أمره وقدرته ولطفه فوق خلقه، أو استواء ملك ومقدرة وغلبة، وإذا قيل لهم: لم خص العرش بالاستيلاء والغلبة؟ أجابوا بجواب وقالوا: لعظمته، وقد خرجوا بهذه التأويلات عن المنهج الشرعي إلى إعمال العقل واللغة بتكلف ظاهر مخالف للاعتقاد السليم والمنطق والفطرة. 3 - وذهبت الإباضية في باب رؤية الله تعالى إلى إنكار وقوعها؛ لأن العقل –كما يزعمون- يحيل ذلك ويستبعده، واستدلوا بقوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103]. وأوَّلوا معنى الآية تأويلاً خاطئاً على طريقة المعتزلة. ومن أدلتهم قوله تعالى: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف: 143].واستدلوا من السنة بحديث عائشة حين سئلت عن الرسول صلى الله عليه وسلم: هل رأى ربه ليلة الإسراء؟ فأجابت بالنفي (2) كما رواه صاحب (وفاء الضمانة) (3)، وقد أورد الربيع بن حبيب صاحب كتاب (الجامع الصحيح) أو (مسند الربيع)، الذي هو عندهم بمنزلة صحيح البخاري ومسلم عند أهل السنة، ويعتبرونه أصح كتاب بعد القرآن كما يزعمون- أورد عدة روايات عن بعض الصحابة تدل على إنكارهم رؤية الله تعالى (4). والواقع أن كل استدلالاتهم التي شابهوا فيها المعتزلة، إما استدلالات غير صحيحة الثبوت، أو صحيحة ولكن أوَّلوها على حسب هواهم في نفي الرؤية. فإن الآية الأولى ليس فيها نفي الرؤية: وإنما نفي الإحاطة والشمول، فالله يرى ولكن من غير إحاطة به عز وجل. وقوله لموسى: لن تراني أي في الدنيا، وقد علق الله إمكان رؤيته تعالى بممكن، وهو استقرار الجبل. وحديث عائشة إنما أرادت نفي أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه في ليلة الإسراء، وليس المقصود نفي الرؤية مطلقاً، فهذا لم ترده أم المؤمنين، ومن فهم النفي مطلقاً فهو سيء الفهم جاهل بالنصوص.   (1) انظر: ((الإباضية عقيدة ومذهبا)) للدكتور صابر طعيمة (ص35). (2) رواه البخاري (4855)، ومسلم (177). من حديث عائشة رضي الله عنها. (3) ((وفاء الضمانة)) (ص377،276) (4) انظر: ((مسند الربيع بن حبيب)) (3/ 35). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 وخلاصة القول في هذه المسألة، أن رؤية الله تعالى تعتبر عند السلف أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، لا يماري فيها أحد منهم بعد ثبوتها في كتاب الله تعالى وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وفي أقوال الصحابة رضي الله عنهم وفي أقوال علماء السلف قاطبة رحمهم الله تعالى.4 - ومن عقائد بعض الإباضية في كلام الله تعالى القول بخلق القرآن، بل حكم بعض علمائهم كابن جميع والورجلاني أن من لم يقل بخلق القرآن فليس منهم. (1). وقد عرف المسلمون أن القول بخلقه من أبطل الباطل، إلا من بقي على القول بخلقه منهم وهم قلة شاذة بالنسبة لعامة المسلمين، وموقف السلف واضح فيها وهو موقف إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله، وهو القول بأن القرآن كلام الله تعالى/، منه بدأ وإليه يعود، ولا يتسع المقام هنا لبسط شُبه القائلين بخلقه وأدلة من يقول بعدم خلقه وردهم على أولئك المخطئين. ومن قذف الله الإيمان والنور في قلبه يعلم أن الله تعالى تكلم بالقرآن، وبلغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم والكلام صفة لله تعالى، ومما ينبغي الإشارة إليه هنا أن بعض الإباضية قد خرج عن القول بخلق القرآن، كصاحب (كتاب الأديان) (2). وكذا أبو النضر العماني (3)، وردا على من يقول بخلقه، وبسطا الأدلة في ذلك وبهذا يتضح أن الإباضية قد انقسموا في هذه القضية إلى فريقين.5 - وقد اعتدل الإباضية في مسألة القدر ووافقوا أهل السنة، فأثبتوا القدر خيره وشره من الله تعالى، وأن الله خالق كل شيء، وأن الإنسان فاعل لأفعاله الاختيارية مكتسب لها محاسب عليها، وبهذا المعتقد صرح زعمائهم كالنفوسي (4) والعيزابي (5) والسالمي (6) وعلي يحيى معمر (7). 7 - وقد اختلف الإباضيون في إثبات عذاب القبر. فذهب قسم منهم إلى إنكاره موافقين بذلك سائر فرق الخوارج. وذهب قسم آخر إلى إثباته، قال النفوسي في متن النونية: وأما عذاب القبر ثبت جابر ... وضعفه بعض الأئمة بالوهن (8) ومعتقد السلف جميعاً هو القول بثبوت عذاب القبر ونعيمه، كما صحت بذلك النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة، ومن أنكره فليس له دليل إلا مجرد الاستبعاد ومجرد الاستبعاد ليس بدليل. 7 - ويثبت الإباضيون وجود الجنة والنار الآن ويثبتون الحوض ويؤمنون بالملائكة والكتب المنزلة.8 - وأما بالنسبة للشفاعة: فإن الإباضيون يثبتونها ولكن لغير العصاة بل للمتقين، وكأن المتقي في نظرهم أحوج إلى الشفاعة من المؤمن العاصي. قال صاحب كتاب (الأديان): والشفاعة حق للمتقين وليست للعاصين (9). وقال السالمي: وما الشفاعة إلا للتقي كما ... قد قال رب العلا فيها وقد فصلا (10). وذكر الربيع بن حبيب روايات عن الرسول صلى الله عليه وسلم تدل في زعمه على هذا المعتقد، وقرر الحارثي في كتابه (العقود الفضية) تلك القضية. (11).   (1) ((مقدمة التوحيد)) (ص19)، ((الدليل لأهل العقول)) (ص50). (2) ((كتاب الاديان)) (ص104). (3) ((كتاب الدعائم)) (ص31 - 35). (4) ((متن النونية)) (ص12). (5) ((الحجة في بيان المحجة)) (ص23). (6) ((غاية المراد)) (ص 9). (7) ((الإباضية بين الفرق)) (ص 248). (8) ((متن النونية)) (ص27). (9) انظر ((كتاب الأديان)) (ص53). (10) ((غاية المراد)) (ص9). (11) ((مسند الربيع بن حبيب, الجامع الصحيح)) (4/ 34،31). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 ومذهب أهل السنة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يشفع في عصاة المؤمنين أن لا يدخلوا النار، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها بعد إذن الله ورضاه، وثبت أن الله يقبل شفاعته في ذلك وشفاعة الصالحين من عباده بعضهم في بعض.9 - وأما الميزان الذي جاءت به النصوص وثبت أن له كفتين حسيتين مشاهدتين توزن فيه أعمال العباد كما يوزن العامل نفسه، فإن الإباضية تنكر هذا الوصف، ويثبتون وزن الله للنيات والأعمال بمعنى تمييزه بين الحسن منها والسيئ، وأن الله يفصل بين الناس في أمورهم، ويقفون عند هذا الحد غير مثبتين ما جاءت به النصوص من وجود الموازين الحقيقية في يوم القيامة (1).وعلى الصفات التي جاءت في السنة النبوية.10 - وكما أنكر الإباضية الميزان أنكروا كذلك الصراط، وقالوا: إنه ليس بجسر على ظهر جهنم (2)، وذهب بعضهم - وهم قلة- إلى إثبات الصراط بأنه جسر ممدود على متن جهنم حسبما نقله د/صابر طعيمة عن الجيطالي من علماء الإباضية (3)، والسلف على اعتقاد أن الصراط جسر جهنم، وأن العباد يمرون عليه سرعة وبطئاً حسب أعمالهم ومنهم من تخطفه كلاليب النار فيهوي فيها.11 - ووافق –معظم الإباضية- السلف في حقيقة الإيمان من أنه قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية (4)، وقد خالف بعضهم فذهب إلى أن الإيمان يزيد ولا ينقص وقد نقل الدكتور صابر طعيمة بعض الأدلة من كتبهم على هذا الرأي (5). 12 - وزيادة الإيمان ونقصانه مسألة خالف فيها الإباضية سائر الخوارج الذين يرون أن الإيمان جملة واحدة لا يتبعض، وأن العبد يكفر ويذهب إيمانه بمجرد مواقعته للذنب ويسمونه كافراً ومخلداً في النار في الآخرة، إلا أن الإباضية مع موافقتهم للسلف في الحكم، لكنهم يسمون المذنب كافراً كفر نعمة ومنافقاً. يقول إعوشت: ((فالكفر إذن عند الإباضية ينقسم إلى ما يلي: 1 - كفر نعمة ونفاق ويتمثل في المسلم الذي ضيع الفرائض الدينية أو ارتكب الكبائر أو جمع بينهما ... )) (6). وفي الآخرة مخلد في النار إذا مات من غير توبة (7)، وكأن الحال يقتضي أنهم لا يطلقون عليه كلمة الكفر ولا النفاق، ولا يحكمون عليه بالخلود في النار بل هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ونجد هنا الإباضية وافقوا أيضاً سائر الخوارج في الحكم على مرتكب الكبيرة بالخلود في النار إذا مات قبل التوبة، بناء على اعتقاد إنفاذ الوعيد لا محالة. واستدلوا بسائر أدلة الخوارج على كفر مرتكب الكبيرة وخلوده في النار، وأهل السنة لا يرون ذلك؛ بل يقولون: إذا مات المذنب قبل التوبة فأمره إلى الله وهو تحت المشيئة، ويقولون أيضاً: إن إخلاف الوعد مذموم وإخلاف الوعيد كرم وتجاوز.   (1) ((متن النونية)) (ص25). (2) انظر ((غاية المراد)) (ص9). (3) ((قناطر الخيرات)) (1/ 318 –319) نقلا عن ((الإباضية عقيدة ومذهباً)) (ص126). (4) ((كتاب الأديان)) (ص53) , ((غاية المراد)) (ص7). (5) ((الإباضية عقيدة ومذهباً)) (ص116 - 117). (6) ((الإباضية بين الفرق))، علي معمر (ص289)، ((غاية المراد)) للسالمي (ص18). (7) ((متن النونية)) (ص18). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 13 - وأما مسألة الإمامة والخلافة فقد ذكر بعض العلماء عن الإباضية في مسألة الإمامة والخلافة، أن الإباضية يزعمون أنه قد يستغنى عن نصب الخليفة ولا تعود إليه حاجة إذا عرف كل واحد الحق الذي عليه للآخر، وهذا القول أكثر ما شهر عن المحكِّمة والنجدات. وأما الإباضية فقد ذكر هذا القول عنهم ج. لوريمر في كتابه (دليل الخليج) (1)، ولكن بالرجوع إلى كتب الإباضية نجد أنهم ينفون هذا القول عنهم ويعتبرونه من مزاعم خصومهم عنهم، وإن مذهبهم هو القول بوجوب نصب حاكم للناس، ومن قال غير هذا عنهم فهو جاهل بمذهبهم على حد ما يقوله علماؤهم كالسالمي وعلي يحيى معمر وغيرهما. قال السالمي: (والإمامة فرض بالكتاب والسنة والإجماع والاستدلال) (2). وموقفهم هذا يتفق مع مذهب أهل السنة فإنهم يرون وجوب نصب الحاكم حتى وإن كانوا جماعة قليلة، فلو كانوا ثلاثة في سفر لوجب تأمير أحدهم، كما دلت على ذلك النصوص الثابتة، وأن من قال بالاستغناء عن نصب الحاكم فقد كابر عقله وكذب نفسه ورد عليه الواقع من حال البشر، وصار ما يقوله من نسيج الخيال، وأدلته على الاستغناء مردودة واهية. والخوارج كافة ينظرون إلى الإمام نظرة صارمة هي إلى الريبة منه أقرب، ولهم شروط قاسية جداً قد لا تتوفر إلا في القليل النادر من الرجال، وإذا صدر منه أقل ذنب فإما أن يعتدل ويعلن توبته وإلا فالسيف جزاؤه العاجل. وقد جوَّز الإباضية كأهل السنة صحة إمامة المفضول مع وجود الفاضل إذا تمت للمفضول؛ خلافاً لسائر الخوارج (3).14 - وجوز الإباضية التقية خلافاً لأكثر الخوارج (4) وقد أورد الربيع بن حبيب في (مسنده) روايات في الحث عليها تحت قوله: (باب ما جاء في التقية)، ومنه قال جابر: سئل ابن عباس عن التقية فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((رفع الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما لم يستطيعوا وما أكرهوا عليه)). (5). قال: (وقال ابن مسعود ما من كلمة تدفع عني ضرب سوطين إلا تكلمت بها، وليس الرجل على نفسه بأمين إذا ضرب أو عذب أو حبس أو قيد) أي وهو يجد خلاصاً في الأخذ بالتقية. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 256   (1) ((دليل الخليج)) لوريمر (6/ 3303)، وانظر: ((الفصل)) لابن حزم (4/ 87). (2) ((الإباضية بين الفرق))، علي معمر (ص289)، ((غاية المراد)) للسالمي (ص18). (3) ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص462). (4) انظر: ((مسند الربيع بن حبيب)) (3/ 12). (5) ((مسند الربيع بن حبيب)) (3/ 12)، وأما بهذا اللفظ بزيادة وما لم يستطيعوا، فليست موجودة، وأيضا بلفظ رفع ليس لها أصل بل روي بلفظ وضع كما عند ابن ماجه (2045) والدارقطني (4/ 170) والبيهقي (6/ 84) وصححه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 المطلب الخامس: فقه الإباضية استمد الإباضية فقههم من نفس المصادر التي استمدت منها المذاهب الفقهية، واستخدموا نفس طرق الفقهاء في استنباط الأحكام. فمصادر أدلة التشريع عندهم: القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس، والاستدلال. وإن كانوا قد استندوا في بعض آرائهم على أحاديث وردت عن طريق أئمتهم لم تثبت عند علماء الحديث (1).وتذهب الإباضية إلى أن أحاديث الآحاد توجب العمل فقط، ولا يحتج بها في العقائد، فوافقوا بذلك المتكلمين من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم (2). ومن المسائل التي خالفوا فيها فقهاء المسلمين: - أنكروا جواز المسح على الخفين، وقالوا إن الصلاة لا تجوز إلا بغسل الرجلين. - انفردوا بقولهم إن الركعتين الأولتين من الظهر والعصر يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب فقط دون سورة؛ مع أن قراءة سورة مع الفاتحة سنة ثابته عن الرسول صلى الله عليه وسلم عند جميع المذاهب.- ذهبت الإباضية إلى أن القنوت في الصلاة لا يجوز، وأن رفع الأيدي في التكبير، وتحريك السبابة عند التشهد، والجهر بكلمة "آمين" بعد قراءة الفاتحة في الصلاة، وزيادة "الصلاة خير من النوم" في آذان الفجر؛ كله لا يجوز (3). المصدر: الصحابة بين الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص411   (1) ((مسند الربيع بن حبيب)) (100)، ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) لمحمد أبو زهرة (78). (2) انظر ((دراسة عن الفرق)) (100)، ((الخوارج)) (103). (3) انظر ((دراسة عن الفرق)) (99 - 106). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 المبحث الثاني: جماعة التكفير والهجرة (جماعة المسلمين) • المطلب الأول: التعريف . • المطلب الثاني: التأسيس وأبرز الشخصيات. • المطلب الثالث: الأفكار والمعتقدات. • المطلب الرابع: مبادئهم وأصولهم. • المطلب الخامس: أخطاؤهم في المنهج. • المطلب السادس: أماكن الانتشار. • مراجع للتوسع:. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 المطلب الأول: التعريف جماعة المسلمين كما سمت نفسها، أو جماعة التكفير والهجرة كما أطلق عليها إعلامياً، هي جماعة إسلامية غالية نهجت نهج الخوارج في التكفير بالمعصية، نشأت داخل السجون المصرية في بادئ الأمر، وبعد إطلاق سراح أفرادها، تبلورت أفكارها، وكثر أتباعها في صعيد مصر، وبين طلبة الجامعات خاصة. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 أولا: التأسيس تبلورت أفكار ومبادئ جماعة المسلمين التي عرفت بجماعة التكفير والهجرة في السجون المصرية وخاصة بعد اعتقالات سنة 1965م التي أعدم على إثرها سيد قطب وإخوانه بأمر من جمال عبد الناصر حاكم مصر آنذاك. لقد رأى المتدينون المسلمون داخل السجون من ألوان العذاب ما تقشعر من ذكره الأبدان، وسقط الكثير منهم أمامهم شهداء بسبب التعذيب، دون أن يعبأ بهم القساة الجبارون، في هذا الجو الرهيب ولد الغلو ونبتت فكرة التكفير ووجدت الاستجابة لها. في سنة 1967م طلب رجال الأمن من جميع الدعاة المعتقلين تأييد رئيس الدولة جمال عبد الناصر فانقسم المعتقلون إلى فئات: ـ فئة سارعت إلى تأييد الرئيس ونظامه بغية الإفراج عنهم والعودة إلى وظائفهم وزعموا أنهم يتكلمون باسم جميع الدعاة، وهؤلاء كان منهم العلماء وثبت أنهم طابور خامس داخل الحركة الإسلامية، وثمة نوع آخر ليسوا عملاء بالمعنى وإنما هم رجال سياسة التحقوا بالدعوة بغية الحصول على مغانم كبيرة. ـ أما جمهور الدعاة المعتقلين فقد لجأوا إلى الصمت ولم يعارضوا أو يؤيدوا باعتبار أنهم في حالة إكراه. ـ بينما رفضت فئة قليلة من الشباب موقف السلطة وأعلنت كفر رئيس الدولة ونظامه، بل اعتبروا الذين أيدوا السلطة من إخوانهم مرتدين عن الإسلام ومن لم يكفرهم فهو كافر، والمجتمع بأفراده كفار لأنهم موالون للحكام وبالتالي فلا ينفعهم صوم ولا صلاة. وكان إمام هذه الفئة ومهندس أفكارها الشيخ علي إسماعيل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 ثانيا: من أبرز الشخصيات - الشيخ علي إسماعيل: كان إمام هذه الفئة من الشباب داخل المعتقل، وهو أحد خريجي الأزهر، وشقيق الشيخ عبد الفتاح إسماعيل أحد الستة الذين تم إعدامهم مع الأستاذ سيد قطب، وقد صاغ الشيخ علي مبادئ العزلة والتكفير لدى الجماعة ضمن أطر شرعية حتى تبدو وكأنها أمور شرعية لها أدلتها من الكتاب والسنة ومن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في الفترتين: المكية والمدنية، متأثراً في ذلك بأفكار الخوارج؛ إلا أنه رجع إلى رشده وأعلن براءته من تلك الأفكار التي كان ينادي بها. ـ شكري أحمد مصطفى (أبو سعد) من مواليد قرية الحواتكة بمحافظة أسيوط 1942م، أحد شباب جماعة الإخوان المسلمين الذين اعتقلوا عام 1965م لانتسابهم لجماعة الأخوان المسلمين وكان عمره وقتئذ ثلاثة وعشرين عاماً. ـ تولى قيادة الجماعة داخل السجن بعد أن تبرأ من أفكارها الشيخ علي عبده إسماعيل. ـ في عام 1971م أفرج عنه بعد أن حصل على بكالوريوس الزراعة ومن ثم بدأ التحرك في مجال تكوين الهيكل التنظيمي لجماعته. ولذلك تمت مبايعته أميراً للمؤمنين وقائداً لجماعة المسلمين ـ على حد زعمهم ـ فعين أمراء للمحافظات والمناطق واستأجر العديد من الشقق كمقار سرية للجماعة بالقاهرة والإسكندرية والجيزة وبعض محافظات الوجه القبلي. ـ في سبتمبر 1973م أمر بخروج أعضاء الجماعة إلى المناطق الجبلية واللجوء إلى المغارات الواقعة بدائرة أبي قرقاص بمحافظة المنيا بعد أن تصرفوا بالبيع في ممتلكاتهم وزودوا أنفسهم بالمؤن اللازمة والسلاح الأبيض، تطبيقاً لمفاهيمهم الفكرية حول الهجرة. ـ في 26 أكتوبر 1973م اشتبه في أمرهم رجال الأمن المصري فتم إلقاء القبض عليهم وتقديمهم للمحاكمة في قضية رقم 618 لسنة 73 أمن دولة عليا. ـ في 21 ابريل 1974م عقب حرب أكتوبر 1973م صدر قرار جمهوري بالعفو عن مصطفى شكري وجماعته، إلا أنه عاود ممارسة نشاطه مرة أخرى ولكن هذه المرة بصورة مكثفة أكثر من ذي قبل، حيث عمل على توسيع قاعدة الجماعة، وإعادة تنظيم صفوفها، وقد تمكن من ضم أعضاء جدد للجماعة من شتى محافظات مصر، كما قام بتسفير مجموعات أخرى إلى خارج البلاد بغرض التمويل، مما مكن لانتشار أفكارهم في أكثر من دولة. ـ هيأ شكري مصطفى لأتباعه بيئة متكاملة من النشاط وشغلهم بالدعوة والعمل والصلوات والدراسة وبذلك عزلهم عن المجتمع، إذ أصبح العضو يعتمد على الجماعة في كل احتياجاته، ومن ينحرف من الأعضاء يتعرض لعقاب بدني، وإذا ترك العضو الجماعة اُعتُبِرَ كافراً، حيث اعتبر المجتمع خارج الجماعة كله كافراً. ومن ثم يتم تعقبه وتصفيته جسدياً. ـ رغم أن شكري مصطفى كان مستبداً في قراراته، إلا أن أتباعه كانوا يطيعونه طاعة عمياء بمقتضى عقد البيعة الذي أخذ عليهم في بداية انتسابهم للجماعة. ـ وكما هو معلوم وثابت أن هذه الجماعة جوبهت بقوة من قبل السلطات المصرية وبخاصة بعد مقتل الشيخ حسين الذهبي وزير الأوقاف المصري السابق، وبعد مواجهات شديدة بين أعضاء الجماعة والسلطات المصرية تم القبض على المئات من أفراد الجماعة وتقديمهم للمحاكمة في القضية رقم 6 لسنة 1977م التي حكمت بإعدام خمسة من قادات الجماعة على رأسهم شكري مصطفى، وماهر عبد العزيز بكري، وأحكام بالسجن متفاوتة على باقي أفراد الجماعة. ـ في 30 مارس 1978م صبيحة زيارة السادات للقدس تم تنفيذ حكم الإعدام في شكري مصطفى وإخوانه. ـ بعد الضربات القاسية التي تلقتها الجماعة اتخذت طابع السرية في العمل، الأمر الذي حافظت به الجماعة على وجودها حتى الآن، ولكنه وجود غير مؤثر ولا ملحوظ لشدة مواجهة تيار الصحوة الإسلامية من أصحاب العقيدة والمنهج السلفي لهم بالحوار والمناظرات سواء كان داخل السجون والمعتقلات أم خارجها، مما دفع الكثير منهم إلى العودة إلى رشده والتبرؤ من الجماعة. - ماهر عبد العزيز زناتي (أبو عبد الله) ابن شقيقة شكري مصطفى ونائبه في قيادة الجماعة بمصر وكان يشغل منصب المسؤول الإعلامي للجماعة، أعدم مع شكري في قضية محمد حسين الذهبي رقم 6 لسنة 1977م. وله كتاب الهجرة. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 المطلب الثالث: الأفكار والمعتقدات - إن التكفير عنصر أساسي في أفكار ومعتقدات هذه الجماعة. ـ فهم يكفرون كل من أرتكب كبيرة وأصر عليها ولم يتب منها، وكذلك يكفرون الحكام الذين لا يحكمون بما أنزل الله بإطلاق ودون تفصيل، ويكفرون المحكومين لأنهم رضوا بذلك وتابعوهم أيضاً بإطلاق ودون تفصيل، أما العلماء فيكفرونهم لأنهم لم يكفروا هؤلاء ولا أولئك، كما يكفرون كل من عرضوا عليه فكرهم فلم يقبله أو قبله ولم ينضم إلى جماعتهم ويبايع إمامهم. أما من انضم إلى جماعتهم ثم تركها فهو مرتد حلال الدم، وعلى ذلك فالجماعات الإسلامية إذا بلغتها دعوتهم ولم تبايع إمامهم فهي كافرة مارقة من الدين المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 المطلب الرابع: مبادئهم وأصولهم • أولا: مبدأ الحد الأدنى من الإسلام . • ثانيا: مبدأ قاعدة التبين. • ثالثا: مبدأ قاعدة تعارض الفرائض. • رابعا: تكفيرهم لمرتكبي الكبائر:. • خامسا: زعمهم أنهم جماعة آخر الزمان. • سادسا: دعواهم أن زعيمهم هو المهدي المنتظر. • سابعا: زعمهم بتميز جماعتهم. • ثامنا: دعواتهم إلى الأمية ومحاربة التعليم. • تاسعا: دعوتهم إلى اعتزال المجتمع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 أولا: مبدأ الحد الأدنى من الإسلام ويريدون بذلك أن الإسلام يتمثل في جملة من الفرائض التي ينبغي اداؤها فمن لم يؤدها أو قصر فيها أو ترك بعضاً منها فلا يعتبر مسلماً. وشبهو الإسلام بغاية معينة "كالإسكندرية مثلا"، فمن أراد أن يصل الإسكندرية عليه أن يقطع جملة الاميال التي تفصل بينه وبينها، فمن قطع جميع المسافة ما عدا الميل الأخير فلا يعتبر واصلاً إلى غايته، وكذلك من قام بكل الفرائض ماعدا فريضة واحدة فلا يعتبر مسلماً (1). ولاشك أن هذا فهم غريب لا سند له ولا أساس، إذ أن الأمور كلها كما يقول أبو عبيد، يستحق الناس بها أسماءها على ابتدائها والدخول فيها، ثم يفضل بعضهم بعضا وقد شملهم فيها اسم واحد، فالمصلي يطلق على من استفتح الصلاة وعلى الراكع والساجد والقائم والجالس فيها فكلهم يلزمه، اسم المصلى. ولو أن قوماً أمروا بدخول دار فدخلها أحدهم، فلما تعب الباب أقام مكانه وجاوزه الآخر بخطوات، ومضى الثالث إلى وسطها قيل لهم جميعاً داخلون وبعضهم فيها أكثر قدماً من بعض، فهذا الكلام هو المعقول عند العرب السائد فيهم، فكذلك المذهب في الإيمان إنما هو دخول في الدين (2). صحيح أن الإسلام يتمثل في جملة من الفرائض التي يلزم أداؤها، ولكن هذا لا يعني أنه لا يطلق اسم الإسلام إلا على من قام بها جميعاً، كما أن من قصر في اداء بعض منها لا يسلبه هذا اسم الإسلام ولا يخرجه منه. المصدر: دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين - الخوارج والشيعة - أحمد محمد أحمد جلي/ ص 111   (1) ((البينة)) "التحليل الفكري لطائفة التكفير والهجرة" جمال سلطان، (ص: 50). (2) ((كتاب الإيمان)) أبو عبيد القاسم بن سلام (ص: 27). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 ثانيا: مبدأ قاعدة التبين استندت جماعة التكفير والهجرة على هذه القاعدة في تحديد أسس العلاقة بين جماعتهم وبين المجتمع الذي يعيشون فيه، وتتمثل هذه القاعدة في قولهم إن المجتمع لا يحكم عليه بالإسلام حتى يتضح أن افراده استوفوا فرائض الإسلام وأدوها. وذلك أن الافراد الذين هم خارج "جماعة المسلمين" وفرقتهم لا يضمن أنهم يقيمون فرائض الإسلام كاملة والتي تمثل الحد الأدنى للحكم بالإسلام على أحد من الناس حيث لا توجد الهيئة التي تستوفى ذلك منهم، وكذلك فهم ناقضون للجماعة والبيعة كفريضة، وعلى ذلك فلا نستطيع أن نحكم لهم بالإسلام، ومن ناحية أخرى لم نتبين منهم كفراً بواحاً يوجب طردهم من الإسلام فلا نستطيع أن نحكم عليهم بالكفر. وعليه فالحكم الشرعي في من هو خارج جماعة المسلمين "فرقتهم"، هو التوقف فيهم حتى تبينهم، والبينة هي لزومهم الجماعة مبايعة أمامها أو من ينوب عنه، فمن أجاب إليها كان مسلماً، ومن رفضها كان كافراً" (1). وقاعدة التبين هذه شبيهة بمبدأ الاستعراض الذي قال به وطبقه الازارقة من الخوارج (2). المصدر: دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين - الخوارج والشيعة – أحمد محمد أحمد جلي/ ص 116   (1) ((البينة))، (ص: 36). (2) ((البينة))، (ص: 59). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 ثالثا: مبدأ قاعدة تعارض الفرائض وتنص هذه القاعدة على أن للمسلمين هدفاً أولاً وأكبر هو إقامة الحكومة الإسلامية أو الخلافة وتعبيد الأرض لله، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف الأعظم قد تقتضي الضرورة التخلي عن جزء من الحق إذا تعارض مع الهدف الأول للجماعة المسلمة لاسيما في مرحلة الاستضعاف، حين تكون الحاجة ماسة لتلك القاعدة، وحيث لا نكاد نقوم بفريضة إلا على حساب أخرى، فلابد من إجراء المفاضلة بين الفرائض على أساس تقديم الأهم أو ما يحقق مصلحة الجماعة أو يدفع الأذى عنها (1). وتبعاً لهذا أمروا أفراد جماعتهم بحلق اللحية لأنها تعوق الحركة، وتعرض أمن الجماعة للخطر، وتركوا إقامة الجمعة وقالوا أن من شروط الجمعة التمكين وأنهم في حالة الاستضعاف، كما ذهبوا إلى أن الضرورة الأمنية لحركة الجماعة تستدعي التوقف عن العمل بفريضة الجمعة (2). ولاشك أن هذا خلط شنيع بين أمور كثيرة مرده إلى اضطراب مفاهيم هذه الجماعة وتداخلها، وعدم تمييزهم بين حالة الاكراه التي رخص فيها للمسلم أن يظهر التخلي ظاهراً حتى عن معتقده كما في حالة عمار بن ياسر، وبين جعل مصلحة الجماعة الخاصة وأمنها، مقياساً للقيام بالفرائض وعدم القيام بها، وعدم فهمهم للاستضعاف وما يتبعه من رخص، وعدم التمكين وما ينتج عنه من اعذار، وكل هذه مسائل لا يحكم فيها بالرأي الشخصي والهوى الغالب بل تخضع لضوابط شرعية وأصول دينية لابد من مراعاتها، والدقة في تطبيقها تجنباً للزيغ وأتباع الهوى والانقياد له. المصدر: دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين - الخوارج والشيعة – أحمد محمد أحمد جلي/ ص 119   (1) ((البينة))، (ص: 64). (2) ((البينة))، (ص: 52 - 53). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 رابعا: تكفيرهم لمرتكبي الكبائر: ذهبت جماعة التكفير والهجرة – كما ذهب الخوارج من قبل، إلى أن ارتكاب الكبائر يخرج من الملة ويحكم على فاعله بالكفر، وقالوا أن كلمة كفر في الشريعة استخدمت للدلالة على نقيض الإيمان، وهي تشتمل على كلمات الفسق والظلم والعصيان، وأن هذه الكلمات الثلاث تدل على معنى واحد وهو الكفر الملى، والاختلاف بينها يعود إلى الاختلاف في مداخل الكفر لا في حقيقته، تماماً كما أن كلمات المؤمنين والمسلمين والقانتين ... في قوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ ... الآية [الأحزاب: 35]، تدل على معنى واحد وحكم واحد وهو الإيمان عند الجميع والخلاف في الأسماء يعود إلى اختلاف مداخل الإيمان (1).وساووا كما فعل الخوارج بين الخطأ في الاعتقاد والخطأ في العمل وانكروا التفرقة بينهما وقالوا: لم يحدث أن فرقت الشريعة بين الكفر العملي والكفر القلبي، ولا أن جاء نص واحد يدل أو يشير أدنى إشارة إلى أن الذين كفروا بسلوكهم غير الذين كفروا بقلوبهم واعتقادهم، بل كل النصوص تدل على أن عصيان الله عملاً والكفر به سلوكاً وواقعاً هو بمفرده سبب العذاب في النار والحرمان من الجنة وأنكروا أن يكون الاستحلال أو الجحود شرطاً للحكم على كفر مرتكب الكبيرة وقالوا: "أما شرط الاستحلال أو الجحود القلبي أو اللساني فشرط زائد متكلف ما اشترطه عقل ولا كتاب ولا سنة ولا يجيزه التعامل الواقعي الملموس بين الناس – فإن العقل والواقع والشرع كل هؤلاء لا يفرق من حيث النتيجة الحقيقة بين من جحد حقاً لأحد من الناس بلسانه وبين من أمر به ثم اشتركا جميعاً في منعه وجحده بالسلوك والجارحة، بل لعل المقر بلسانه الجاحد بسلوكه أكبر جرماً عند الناس وأغيظ لهم من الآخرة (2). المصدر: دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين - الخوارج والشيعة – أحمد محمد أحمد جلي/ ص 122   (1) انظر ((الحكم بغير ما أنزل الله)) (ص: 161). (2) ((الحكم بغير ما أنزل الله)) (ص: 167). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 خامسا: زعمهم أنهم جماعة آخر الزمان كما ادعى الخوارج من قبل أنهم "الجماعة المسلمة" وحكموا على من عداهم بالكفر، فقد فعل بالمثل جماعة التكفير والهجرة، إذ زعموا أنهم جماعة المسلمين وأن زعيمهم هو المهدي المنتظر، وعلى يديه سيتم انتصار الإسلام وظهوره على سائر الأديان. ومما احتجوا به على أنهم جماعة آخر الزمان ما يلي: أن الرسالات الإلهية لا تأتي إلا بعد فساد الأرض، وكذلك جماعة الحق لا تظهر إلا بعد أن يعم الفساد كما هو حاصل الآن "كان موعد نزول رسول الله بعد ما فسد أهل الأرض عربهم وعجمهم كما هو النص الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الفساد ملأ الأرض وهذه سنة ثابتة، إن الله ينزل القطر من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وأنه ينزل نصره على رسله إذا استيأسوا، وسنة الله كذلك أن لا يأذن لجماعة الحق أن تقوى إلا عندما يظهر الفساد ويزداد، وكل ما في الأرض ممقوتون بعصيانهم لله ورسوله وهذا ميقات الجماعة الإسلامية لإقامة دولة الإسلام" وقد ربطوا ظهور جماعتهم بظهور الدجال ونزول عيسى بن مريم، وزعموا أن ظهور الدجال ونزول عيسى قد أوشك، واستشهدوا لذلك بسيطرة اليهود على الأرض، وتمكنهم من رقاب النصارى والمشركين" (1). ودعوى جماعة التكفير والهجرة أنهم جماعة آخر الزمان دعوى باطلة لا سند لها ولا أساس من الشرع والدين، وقد كانت أحداث التاريخ وما آل إليه مصير الجماعة دعواهم هذه إذ انتهى أمر الجماعة قبل أن يظهر أمرهم أو يدركوا شيئا مما زعموا. واستشهدوا ببعض الآيات القرآنية التي زعموا أنها تشير إليهم وقالوا "أنهم جماعة الحق في آخر الزمان الذين تشملهم آية وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ [الجمعة: 3]. وآية فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54] ورأوا أيضاً أن قول الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح: 28]. ينطبق على جماعتهم "جماعة آخر الزمان" وزعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم توفاه الله دون أن يظهر الإسلام على جميع الأديان وهذا يعني أن جماعتهم هي وحدها التي سوف يحقق الله على يدها معاني هذه الآية الكريمة. وقالوا "فقد كلفهم الله – أي جماعة آخر الزمان – سبحانه وتعالى من الناحية التي يعلمها ويريدها بما لم يكلف به صحابة النبي صلى الله عليه وسلم حيث سوف يتم على يد جماعة آخر الزمان ظهور الإسلام على كافة الأديان والملل ويعبد الله لا يشرك به شيئاً، ولا يبقى بيت من وبر أو مدر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، ويتم الله قدرته ونعمته على عباده وينتصر هو ورسله وحزبه على العالمين ويمكن لهم في الأرض كما وعد بذلك" (2). المصدر: دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين - الخوارج والشيعة – أحمد محمد أحمد جلي/ ص 122   (1) ((رسالة التوسمات، كيف تعمل الجماعة الإسلامية اليوم))، نقلاً عن ((الحكم بغير ما أنزل الله)) (ص: 215). (2) ((الحجيات))، نقلاً عن ((الحكم بغير ما أنزل الله)) (ص: 215 - 216). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 سادسا: دعواهم أن زعيمهم هو المهدي المنتظر نتيجة لدعواهم أنهم جماعة آخر الزمان، ذهب جماعة التكفير والهجرة إلى أن قائدهم "شكري مصطفى"، هو مهدي هذه الأمة المنتظر، ولن تستطيع السلطة قتله وسوف يذهب كل جهد تبذله في هذا السبيل ادراج الرياح، لأن الله سبحانه وتعالى سوف يحفظه ليجاهد اليهود والنصارى ويرفع رايات النصر في كل صقع من أصقاع العالم الفسيح، ويظهر الله به دينه على كافة الأديان والملل ويمكن له في الأرض ما شاء أن يمكن" (1). وقد اهتم جماعة التكفير والهجرة بقضية المهدي المنتظر واحتلت حيزاً واسعاً في رسائلهم وفصلوا القول عن الفترة التي تسبق ظهور المسيح عليه السلام وفيها يظهر المهدي، وتدور معركة فاصلة بين الدجال وعيسى عليه السلام .. تنتهي بمقتل الدجال، كما تحدثوا عن خروج ياجوج وماجوج. ويبدو من رسائلهم أنهم يعتقدون أنه لا أمل في إصلاح الأمة إلا على يد "الجماعة المسلمة" ومهديها المنتظر. ولكن هذا لن يكون إلا بعد تدمير الكافرين أي بعد حرب مدمرة بين القوتين العظميين يهلك فيها الناس ويدمر فيها السلاح الحديث من قنابل ذرية وصواريخ ولا يبقى إلا السلاح الفطري القديم من سيوف وحراب ورماح وخيول تكون عدة للمسلمين فتتحقق سنة الله في الأرض!! (2). المصدر: دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين - الخوارج والشيعة – أحمد محمد أحمد جلي/ ص 131   (1) ((الحكم بغير ما أنزل الله)) (ص: 216). (2) ((الحكم بغير ما أنزل الله)) (ص: 216 - 217). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 سابعا: زعمهم بتميز جماعتهم وقد زعم جماعة التكفير والهجرة أن جماعتهم "جماعة المسلمين" جماعة متميزة لا تربطها رابطة بتاريخ المسلمين العام، وأنها لا صلة لها بأي من الجماعات الإسلامية المعاصرة. وقد كتب عبد الرحمن أبو الخير، الذي كان عضواً في الجماعة مبيناً موقفهم من هذه القضايا فقال: "وأختلفنا منذ اليوم الأول في الفرعيات": 1 - سحب الكفر على عصور التاريخ الإسلامي منذ القرن الرابع للهجرة. 2 - كون جماعتنا هي الجماعة الوحيدة المسلمة في العالم. 3 - تكفير الأخوان المسلمين كشخص معنوي من شخصيات الحركة الإسلامية. فبينما كنت أعتبر جماعة الشيخ شكري هي امتداد عضوي تاريخي للأخوان المسلمين، وصدى لمحنتها، كان الشيخ شكري يعتبر جماعته لا يربطها بأي جماعة على وجه الأرض أو عصر من عصور الخلافة وخاصة الخلافة العثمانية، أية صلة، فهي عنده ليست امتداداً عضوياً للاخوان المسلمين أو اية جماعة أخرى من جماعات الحركة الإسلامية أو الخلافة العثمانية.4 - عدم الاعتداد بالتاريخ الإسلامي، فقد كان شكري يعتبره وقائع غير ثابتة الصحة وأن التاريخ عنده هو أحسن القصص الوارد في القرآن الكريم، ولذا يحرم دراسة عصور الخلافة الإسلامية أو الاهتمام بها في حين كنت أرى أن التاريخ الإسلامي هو تاريخ دار الإسلام كلها المتصلة الحلقات منذ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وحتى نجاح الغارة العالمية التي اشترك فيها العرب والعجم ضد آخر الخلفاء السلطان عبد الحميد الثاني بن عبد المجيد آل عثمان في عام 1909م تاريخ الانقلاب الاتاتوركي" (1). المصدر: دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين - الخوارج والشيعة – أحمد محمد أحمد جلي/ ص 133   (1) انظر، ((ذكرياتي مع جماعة المسلمين))، (ص: 34 - 36). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 ثامنا: دعواتهم إلى الأمية ومحاربة التعليم ورغم أن هذه الجماعة زعمت أنها الجماعة الوحيدة المؤهلة لحمل رسالة الإسلام وتنفيذها، فإنها لم تعد نفسها لحمل هذه الرسالة، بل أنها دعت إلى الأمية وعدم التعلم زاعمين أنهم بذلك يتشبهون بذلك الجيل الأول الذي حمل الدعوة ومدعين أنه لا يمكن الجمع بين العلوم الشرعية والعلوم المادية أو علوم الكفار كما يقولون. ففي رسالة التوسمات، يقولون عن خصائص جماعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم تتعلم - أي الجماعة الأولى – الدين للدنيا، ولم يكونوا يتعلمون لعمارة الأرض وبناء الدور، فتلك صفة الكافرين يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم: 7]، حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يجهل أثر تأبير النخل، ويقول نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. فلابد أن نكون مثلهم أميين نوجه كل جهدنا ووقتنا لنتعلم الكتاب والحكمة، وما دون ذلك فهو ضلال مبين. ومتى يتعلم الإسلام من أمضى أكثر من نصف عمره في تعلم الجاهلية، ومن أجل هذا نقول إن الدعوة إلى محو الأمية فكرة يهودية لشغل الناس بعلوم الكفر عن تعلم الإسلام. ووجود من يقرأ ويكتب بيننا لا ينفي أننا نحن أمة أمية نوجه كل وقتنا لتعلم الإسلام" (1).ولا شك أن هذا خلط واضح وسفسطة عرجاء، إذ أن هنك فرقاً بين القول أن الجماعة الأولى لم تتعلم الدين للدنيا، وبين القول أنها تركت التعلم أصلاً. كما أن هناك فرقاً بين أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أمياً رسولاً، الأمر الذي يعد معجزة له، وبين أن تكون الجماعة المسلمة غير متعلمة "أمية" والذي هو نقص في حقها. وقد أخطأت جماعة الهجرة فهم معنى الأمية الوارد وصفاً للرعب في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ [الجمعة: 2]. فالأمية في هذه الآية لا تعني الشائع المقابل للثقافة والمعرفة، بل أنها مستخدمة هنا كاصطلاح مقابل للفظ "أهل الكتاب" الذين أرسلت إليهم رسالات الهية كاليهود والنصارى، بينما الأميون هم العرب الذين لم يتلقوا رسالات ولم يبعث فيهم رسول ومن ثم فلا علم لهم برسالات السماء، ويؤيد هذا قول ابن عباس: "الأميون أي العرب كلهم، من كتب منهم ومن لم يكتب، لأنهم لم يكونوا أهل كتاب" (2). وما ورد من مقابلة بين أهل الكتاب والأميين في قوله تعالى: وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران: 20]. المصدر: دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين - الخوارج والشيعة – أحمد محمد أحمد جلي/ ص 133   (1) ((التوسمات))، نقلاً عن: ((الحكم بغير ما أنزل الله)) ص: 237. (2) ((تفسير القرطبي: الجامع لأحكام القرآن)) أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (19/ 91). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 تاسعا: دعوتهم إلى اعتزال المجتمع ووفقاً لتصورهم القاصر وفهمهم السقيم للعلاقة بين الدين والعلم، وجهت جماعة الهجرة اتباعها إلى هجرة المعاهد والمدارس والجامعات والوظائف الحكومية تحقيقاً لهذا المفهوم الساذج عن العلم والتعليم، وتطبيقاً لفكرتهم عن الهجرة وعزلة الناس ومفاصلة المجتمع بمؤسساته ونظمه. إذ أن هذه الجماعة، كما سبق أن أشرنا – تزعم أنها جماعة المسلمين الوحيدة وأن من عداهم ليسوا بمسلمين، ومن ثم اتخذوا موقفاً تجاه المجتمع بأسره وأعلنوا المفاصلة التامة بينهم وبين مجتمع المسلمين الذي وصفوه بالجاهلية والكفر ... واعتزلوا مؤسساته التعليمية ودور العبادة فيه، ويقول زعيمهم شكري مبرراً ظاهرة منع اتباعه من دخول الجامعات والمدارس والمعاهد "أنني أقول للطاغوت أنا لا أشكل عقبة في خطتك فقط بحجبى النساء عن الجامعات والمدارس، أقول للطاغوت ها انذا أريحك من مشاكل تعليمهم وانتقالاتهم، وهجرتي لا تشكل خطراً انقلابياً عليك، واساهم بذلك في تخفيف مشاكل الإسكان. وبترك الوظائف اريحك من المرتبات التي تدفع لنا" (1). وفكرت هذه الجماعة في أن تعتزل المجتمع ويسكن أفرادها في قرى منعزلة في الصحراء بعيداً عن المجتمع الجاهلي كي يعبدوا الله وحده حتى تتيسر لهم الهجرة إلى أرض الله الواسعة فراراً من سلطان الجاهلية"، فلجئوا إلى الكهوف والجبال والمغارات، وامتنعوا عن التزاوج من أفراد المجتمع المسلم، وقالوا: أن الله تعالى حرم علينا نكاح المشركات – حاشا أهل الكتاب، ولما كانت النساء اللائى هن خارج جماعة المسلمين وفرقتهم متوقفاً فيهن، فقد وجب التوقف عن الزواج منهن وتحريمه لاحتمال كونهن مشركات، واستشهدوا لموقفهم هذا ببعض الآيات القرآنية التي فسروها تفسيراً خاصاً لكي توافق مذهبهم وأهواءهم. المصدر: دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين - الخوارج والشيعة – أحمد محمد أحمد جلي/ ص 137   (1) ((ذكرياتي مع جماعة المسلمين)) (ص: 84)، و ((الحكم وقضية تكفير المسلم)) (ص: 307). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 المطلب الخامس: أخطاؤهم في المنهج • أولا: أقوالهم في فهم الكتاب والسنة . • ثانيا: ردهم للإجماع. • ثالثا: طعنهم في الصحابة وردهم لأقوالهم. • رابعا: آراؤهم في التقليد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 أولا: أقوالهم في فهم الكتاب والسنة زعمت جماعة الهجرة أن القرآن لا يحتاج إلى تفسير، ومن ثم يمكن أن تؤخذ الأحكام منه ومن السنة مباشرة وقالوا في ذلك: "من اعتقد أن كلام الله ورسوله يحتاج إلى شرح فقد كفر لأنه اعتقد بأن كلام البشر أبين وأوضح من كلام الله" (1) واستدلوا على رأيهم هذا بقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [إبراهيم: 4]، وقوله تعالى: الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [سورة هود: 1]. كما احتجوا أيضاً بقولهم: هل كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أبين أم كلام غيرهما؟. فإن قالوا كلام الله أبين وجب عليهم اتباعه وكفونا مؤونة الرد عليهم، وإن قالوا العكس فقد كفروا وصادموا النصوص. وقالوا أيضاً: "وهل يحتاج الله تبارك وتعالى إلى شارح بغير إذنه أم لا يحتاج، فإن قالوا: لا يحتاج كفونا مؤونة الرد عليهم، وأن قالوا يحتاج فقد اشركوا بالله العظيم ما لم ينزل به سلطاناً" (2).ولا شك أن هذا جدل سقيم وسفسطة فارغة مبعثها الخطأ في فهم المراد بالتفسير فالتفسير لا يعني - كما فهم جماعة الهجرة - أن كلام الله غامض ويحتاج إلى شرح بشري ليكون مفهوماً عند الناس، بل أن كلام الله تعالى يحتاج إلى عدة واستعداد بشري لفهم معانيه وإدراك مراميه، ومن ثم كانت الحاجة إلى التفسير الذي هو علم نزول الآيات وشؤونها وأقاصيصها، والأسباب النازلة فيها ثم ترتيب مكيها ومدنيها ومحكمها ومتاشبهها وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفسرها، وحلالها وحرامها ووعدها ووعيدها وأمرها ونهيها وعبرها وأمثالها" (3). وليس كل إنسان أهلاً لهذا، بل لا ينهض بهذه المهمة إلا من ألم بعلوم اللغة والنحو والصرف والبلاغة وعلم القراءات والناسخ والمنسوخ وعلم أسباب النزول وعلم أصول الدين والتوحيد والحديث النبوي وعلم أصول الفقه" (4). المصدر: دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين - الخوارج والشيعة - أحمد محمد أحمد جلي/ ص 139   (1) ((الحكم بغير ما أنزل الله))، (ص: 128). (2) ((الحكم بغير ما أنزل الله))، (ص: 128) (3) ((الإتقان في علوم القرآن)) السيوطي (ص: 225). (4) ((التفسير والمفسرون)) محمد حسين الذهبي (1/ 265). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 ثانيا: ردهم للإجماع أنكرت جماعة التكفير والهجرة الإجماع، وزعموا كفر من يعتقد حجيته، وأن من يعتقده يكون قد اتخذ جمهور الناس آلهة وارباباً من دون الله سبحانه وتعالى، فقد جاء في كتابهم الحجيات قولهم: "الاجماع ليس حجة، وإنما الحجة في مستنده إذا ظهر، وإن لم يظهر فلا يصح أن يشرع لنا الرجال ديناً ثم نطيعهم فيكونوا الهة وأرباباً من دون الله" (1).ومثل هذه الآراء تدل على جهل بمعنى الاجماع وشروطه، فالاجماع ليس أقوال وآراء الرجال مجردة بل هو كما يقول الأصوليون "اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول على حكم شرعي في واقعة" (2). ولا يكون الاجماع حجة إلا إذا تحققت أركانه بأن أحصى جميع المجتهدين في العصر، وعرضت عليهم الواقعة لمعرفة حكمها الشرعي وأبدى كل مجتهد منهم رأيه صراحة في حكمها بالقول لمعرفة حكمها الشرعي وأبدى كل مجتهد منهم رأيه صراحة في حكمها بالقول أو بالفعل، مجتمعين أو منفردين، واتفقت آراؤهم جميعاً على حكم واحد في هذه الواقعة، فإذا تحققت هذه الأركان كان الحكم المتفق عليه قانوناً شرعياً واجباً اتباعه ولا يجوز مخالتفه (3). ومستند كل مجتهد نصوص الشرع وأدلته، ومن ثم فهو حجة قطعية عند أهل السنة والجماعة إذا علم وكان صريحاً وله أدلة على حجيته وسنه من الكتاب والسنة والنظر. ومن العجيب أن جماعة التكفير والهجرة الذين رفضوا اجماع مجتهدي الأمة، جعلوا البديل له أقوال وأفعال أميرهم الذي اعتبروه حجة الله في أرضه وأميراً للمؤمنين، وقالوا أنه لا يجوز لأحد عصيان أمره والتردد في تنفيذ رغباته واجتهاداته" (4).   (1) ((رسالة الحجيات))، نقلاً عن ((الحكم بغير ما أنزل الله)) (ص: 61). (2) انظر ((علم أصول الفقه))، عبد الوهاب خلاف (ص: 45). (3) انظر ((علم أصول الفقه))، عبد الوهاب خلاف (ص: 45). (4) انظر ((الحكم بغير ما أنزل الله)) (ص: 70). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 ثالثا: طعنهم في الصحابة وردهم لأقوالهم شن جماعة التكفير والهجرة هجوماً عنيفاً على الصحابة رضوان الله عليهم، محاولين اثبات أنهم ليسوا أهلا للاقتداء بهم أو الأخذ عنهم، وقالوا في رسالة الحجيات "إذا قيل أن الصحابي هو كل من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه وسمعه فقد كان من بين هؤلاء منافقون واعراب لم يدخل الإيمان في قلوبهم ومرتدين ... الخ (1) ولا شك أن هذا جهل فاضح وعدم معرفة بمن هو الصحابي، فالصحابي كما عرفه علماء المسلمين: هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام ومن ثم فمن لقى النبي مؤمناً ثم ارتد ومات على الردة فلا يعد من الصحابة، ولا أ؛ د يعد المنافقين من الصحابة، بل أن المنافقين كانوا معروفين أن لم يكن باعيانهم فبصفاتهم التي بينتها سورة المنافقين والآيات التي نزلت فيهم، ولا أحد من الذين صنفوا في الصحابة أو كتبوا عنهم عدوهم من جملتهم" (2).وزعم أصحاب التكفير والهجرة، أن الاختلاف بين الصحابة دعاة إلى رد أقوالهم وعدم الاقتداء بهم فقالوا: إذا قيل إن الصحابي من شهد له بالصلاح أو بشر بالجنة، أو أنه من كان من أصحاب بدر والشجرة ... الخ فهؤلاء اختلفوا والحق واحد واختلافهم يستلزم عدم الاقتداء بهم ولا ضرورة للارتباط بين التقوى والفتيا، إذ الفتيا تسلتزم العلم والصدق" (3). واختلاف الصحابة وتنازعهم لم يكن في مسائل العقيدة كالأسماء والصفات والأفعال، بل كانت كلمتهم متفقة في هذه ولم يلجأوا إلى التأويل والتحريف فيها، ولكنهم تنازعوا واختلفوا في مسائل الأحكام، وقد وضع العلماء ضوابط للأخذ بأقوال الصحابة وتجريجها إذا اختلفوا (4)، ولم يكن هذا مدعاة لرد أقوالهم جملة أو التشكيك فيها كما فعل جماعة التكفير والهجرة. ويقولون أيضاً أنه إذا أريد بالصحابة الذين لازموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفوا أسباب النزول وربطوا بين النص والواقع فإنهم لا يعدون أن يكونوا سبباً من الأسباب التي حفظ الله بها الدين وفقاً لقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] فسمعنا ما سمعوا ونقلوا إلينا ما رأوا مما لابد من حفظه وما هو مهم في حفظ النص. فهم يريدون أن يقولوا أنهم بلغهم ما بلغ الصحابة، وزادوا على ذلك فزعموا أنه لا مزية للصحابة في فهم الدين والعلم باللغة التي نزل بها القرآن، بل اوردوا بعض الأشارات التي زعموا أنها تسند رأيهم حيث أخطأ فيها الصحابة فهم المعنى أو جهلوه (5). المصدر: دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين - الخوارج والشيعة – أحمد محمد أحمد جلي/ ص 143   (1) انظر ((الحكم بغير ما أنزل الله)) (ص: 9). (2) انظر في تحقيق هذه المسألة: ((منهج النقد عند المحدثين)) مصطفى الأعظمي (ص: 110 - 111). (3) ((الحكم بغير ما أنزل الله)) (ص: 79 - 80). (4) انظر ((إعلام الموقعين عن رب العالمين)) ابن قيم الجوزية (1/ 49، 30). (5) ((الحكم بغير ما أنزل الله)) (ص: 80 - 82). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 رابعا: آراؤهم في التقليد شن جماعة التكفير أيضاً هجوماً على التقليد، وهاجموا من أباح التقليد وأجازه، وزعموا أن أول كفر وقع في الملة كان عن طريق التقليد. ويقولون في ذلك: "المقلد عندهم – المسلم بزعمهم – هو من يقلد المجتهد ويأخذ عنه المسألة الفقهية ويقبل حكمه فيها من غير أن يسأله عن الدليل"، وسنثبت بإذن الله أن أول كفر وقع في هذه الأمة هو كفر التقليد أو ترك الهدى – الاجتهاد فيه – إلى التقليد، قال تبارك وتعالى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 31] ووصلت بهم الحماقة إلى أن أوجبوا التقليد على العامة وحرموا عليهم الاجتهاد في دين الله (1). المصدر: دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين - الخوارج والشيعة – أحمد محمد أحمد جلي/ ص 146   (1) ((الحجيات))، نقلا عن ((الحكم بغير ما أنزل الله)) (ص: 29). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 المطلب السادس: أماكن الانتشار انتشرت هذه الجماعة في معظم محافظات مصر وفي منطقة الصعيد على الخصوص، ولها وجود في بعض الدول العربية مثل اليمن والأردن والجزائر وغيرها. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 مراجع للتوسع: أـ كتب ورسائل الجماعة: (مخطوطات غير مطبوعة). ـ رسالة الحجيات شكري مصطفى "أبو سعد". ـ رسالة التوسعات شكري مصطفى "أبو سعد". ـ كتاب الخلافة شكري مصطفى "أبو سعد". ـ رسالة الهجرة ماهر البكري "أبو عبد الله". ـ رسالة إجمال تأويلهم والرد عليها "أبو عبد الله". ـ ذكرياتي مع جماعة المسلمين ـ التكفير والهجرة ـ عبد الرحمن أبو الخير الكويت 1980م. ب ـ كتب ورسائل لغير الجماعة: ـ الأصولية في العالم العربي ـ ريتشارد جرير دكمجيان دار الوفاء ـ المنصورة. ـ ظاهر الغلو في التكفير، د. يوسف القرضاوي دار الاعتصام القاهرة. ـ الحكم وقضية تكفير المسلم، سالم البهنساوي ـ الكويت 1981م. ـ دعاة لا قضاة، حسن الهضيبي، القاهرة 1977م. ـ الغلو في الدين ـ عبد الرحمن اللويحق المطيري. ـ ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة ـ عبد الله القرني. ـ الحكم بغير ما أنزل الله وأهل الغلو ـ محمد سرور بن نايف زين العابدين. ـ تحكيم القوانين ـ محمد بن إبراهيم آل الشيخ. ـ حكم تفكير المعين والفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة ـ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ. ـ الإيمان الأوسط ـ ابن تيمية. ـ أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة اللالكائي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 المبحث الأول: الحكم بتكفير الخوارج وقد استند الذين كفروهم على ما ورد من أحاديث المروق المشهورة عند علماء الفرق؛ رادين الخوارج إلى سلفهم القديم ذي الخويصرة وموقفه الخاطئ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم موقف الخوارج أيضاً من الصحابة خصوصاً الإمام علياً وغيره ممن شارك في قضية التحكيم. والأحاديث الواردة فيهم كثيرة غير أن علي يحيى معمر يرى أن هذه الأحاديث إنما تصدق –على فرض صحتها كما يذكر- على المرتدين في زمن أبي بكر رضي الله عنه (1) وما رأيت أحداً من العلماء سبقه إلى هذا القول. ثم إن ما في الأحاديث من أوصاف الخوارج من كثرة قراءتهم للقرآن وتعمقهم في العبادة لا ينطبق على هؤلاء المرتدين في زمن أبي بكر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد كفرهم كثير من العلماء، لا نرى التطويل بذكر أسمائهم هنا. وإذا كان بعض العلماء يتحرج عن تكفيرهم عموماً فإنه لا يتحرج عن تكفير بعض الفرق منهم، كالبدعية من الخوارج الذين قصروا الصلاة على ركعة في الصباح وركعة في المساء. والميمونية- حيث أجازوا نكاح بعض المحارم كبنات البنين وبنات البنات وبنات بني الأخوة، ثم زادوا فأنكروا أن تكون سورة يوسف من القرآن لاشتمالها –فيما يزعمون- على ذكر العشق (2) والحب، والقرآن فيه الجد، وكذا اليزيدية منهم، حيث زعموا أن الله سيرسل رسولاً من العجم فينسخ بشريعته شريعة محمد صلى الله عليه وسلم (3). المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 295 وقد نظر الذين كفروا الخوارج أو كفروا بعضهم إلى ما أحدثوه من عقائد وأحكام مخالفة لما هو معلوم من الدين بالضرورة، فكفروهم ومن هؤلاء المكفرين من رد سلفهم القديم إلى ذي الخويصرة، ونظر إلى ما ورد في حقهم من الأحاديث التي تصفهم بالمروق من الدين؛ فكفرهم.   (1) ((الإباضية في موكب التاريخ)) (1/ 29). (2) انظر: ((الملل والنحل)) (1/ 129). والقرآن لم يَدْعُ الناس إلى العشق وضرب المواعيد الفاجرة، وإنما دعى إلى ما تضمنته هذه السورة الكريمة من العفة وتقديم خوف الله على خوف غيره وكبح جماح النفس الأمارة بالسوء والشهوات الطائشة، ولو صار العشاق على حسب ما تضمنته سورة يوسف لصاروا أولياء. (3) ((الفصل)) لابن حزم (4/ 188). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 وقد وردت عن علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة جملة من هذه الأحاديث الصحيحة ومنها:1 - حديث علي رضي الله عنه، وفيه وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سيخرج قوم في آخر الزمان، حداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة)) (1).2 - حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((يخرج في هذه الأمة – ولم يقل: منها- قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم- أو: حناجرهم- يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، فينظر الرامي إلى سهمه، إلى نصله، إلى رصافه، فيتمارى في الفوقة هل علق بها من الدم شيء)) (2).3 - حديث عبدالله بن عمر، وذكر الحرورية فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية)) (3).4 - حديث ذي الخويصرة التميمي عن أبي سعيد قال: ((بينا النبي صلى الله عليه وسلم يقسم جاء عبدالله بن ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك من يعدل إذا لم أعدل؟! قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه قال: دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته، وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نضيه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل إحدى يديه – أو قال: ثدييه – مثل ثدي المرأة – أو قال: مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس. قال أبو سعيد: أشهد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فنزلت فيه: وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ)) (4).5 - حدثنا يسير بن عمرو قال: قلت لسهل بن حنيف: هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الخوارج شيئا؟ قال: سمعته يقول وأهوى بيده قبل العراق: ((يخرج منه قوم يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية)) (5).وقد أورد ابن حجر عدة روايات عن الصحابة تصف الخوارج بأنهم شرار الخلق والخليقة، وأنهم أبغض خلق الله، وأنه يقتلهم خير الخلق والخليقة، وهي روايات كثيرة (6)، ثم أورد أسماء طائفة من العلماء الذين كفروهم، كالبخاري، حيث قرنهم بالملحدين، وأفرد عنهم المتأولين بترجمة، وبذلك صرح القاضي أبو بكر بن العربي – فيما يذكر ابن حجر – حيث صرح بكفرهم في شرح الترمذي، وقال: إن هذا هو الصحيح، مستندا إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ((يمرقون من الإسلام))، وبقوله: ((ولأقتلنهم قتل عاد)) (7)،وفي لفظ: ((ثمود)) (8)، ولحكمهم على من خالف معتقدهم بالكفر والتخليد في النار، فكانوا هم أحق بالاسم منهم، وبقوله: ((هم شر الخلق والخليقة)) (9)، ولا يوصف بذلك إلا الكفار، ولقوله: "إنهم أبغض الخلق إلى الله تعالى" (10).ومثله ما نقله ابن حجر عن السبكي، حيث يرى أن الصحيح هو القول بكفرهم، وذلك بسبب تكفيرهم أعلام الصحابة، لتضمنه تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في شهادته (11)   (1) رواه البخاري (6930)، ومسلم (1066). (2) رواه البخاري (6931)، ومسلم (1064). (3) رواه البخاري (6932). (4) رواه البخاري (3610)، ومسلم (1063). (5) رواه البخاري (6934). (6) انظر: ((فتح الباري)) (12/ 286). (7) رواه البخاري (3344). (8) رواه البخاري (4351)، ومسلم (1064). (9) رواه مسلم (1067). (10) نقلا عن ((فتح الباري)) ج12/ 299). (11) نقلا عن ((فتح الباري)) (12/ 299) .. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 لهم بالجنة، وكذا القرطبي فقد قال في المفهم: "والقول بتكفيرهم أظهر في الحديث" (1) وقال أيضا: "فعلى القول بتكفيرهم، يقاتلون ويقتلون، وتسبى أموالهم، وهو قول طائفة من أهل الحديث في أموال الخوارج، وعلى القول بعدم تكفيرهم يسلك بهم مسلك أهل البغي إذا شقوا العصا، ونصبوا الحرب" (2). وهذا يدل على أنه غير جازم بالحكم فيهم، وإن كان يرى ترك تكفيرهم أسلم لقوله: "وباب التكفير باب خطر، ولا تعدل بالسلامة شيئا" (3).ونقل ابن حجر أيضا عن صاحب الشفا قوله: "وكذا نقطع بكفر كل من قال قولا يتوصل به إلى تضليل الأمة أو تكفير الصحابة" (4).ثم قال: "وحكاه صاحب الروضة في كتاب الردة عنه وأقره" (5).ويروي ابن الجوزي كثيرا من مذامهم، ثم أورد حديثا بسند ينتهي إلى عبدالله بن أبي أوفى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الخوارج كلاب أهل النار" (6).وقال الملطي: "جاء رجل إلى طاوس من أهل الجند، فقال: يا أبا عبدالرحمن علي غزوة في سبيل الله، فقال: عندك هؤلاء، فاحمل على هؤلاء الخبثاء، فإن ذلك يؤدي عنك" (7)،وهذا يشير إلى تكفيرهم. ولقد بالغ الملطي فادعى إجماع الأمة على تكفير الخوارج، فقال مخاطبا لهم: "وأنتم بإجماع الأمة مارقون، خارجون من دين الله، لا اختلاف بين الأمة في ذلك" (8).وقد أنكر عليه الطالبي دعوى الإجماع هذه بأنه من الصعب أن يثبت زعمه الإجماع على إكفار الخوارج" (9).وممن كفرهم أيضا أبو المظفر شاهور الإسفراييني فيما ذكره عنه الطالبي أيضا، وذلك لأنهم "كفروا الصحابة"، "ويجزم (يعني الإسفراييني) بأن من كان اعتقاده كاعتقادهم، فإنه لا شبهة تعترض أهل الديانة في خروجه عن الملة" (10) .. وهذا هو رأي الزيدية جميعا فيما ينقله الطالبي عن الشيخ المفيد بقوله: "ويصرح الشيخ المفيد بأن الزيدية قاطبة مجمعة على أن الخارجين على الإمام علي بن أبي طالب كفار، بسبب خروجهم عليه، وأنهم مخلدون في النار" (11)، وهو اعتقاد جميع الشيعة في الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه. وفي هذا يقول ابن أبي الحديد: "وأما الخوارج فإنهم مرقوا عن الدين بالخبر النبوي المجمع عليه، ولا يختلف أصحابنا في أنهم من أهل النار" (12)،ثم صرح بأن الخوارج والمعتزلة على اتفاق في كل المسائل، ماعدا خروجهم على علي، فهو الفارق فيما بينهم، وهو الذي أحبط أعمالهم عنده، كما في قوله: "ولا ريب أن الخوارج إنما برئ أهل الدين والحق منهم – يعني بأهل الدين والحق المعتزلة- لأنهم فارقوا عليا، وبرئوا منه، وما عدا ذلك من عقائدهم نحو القول بتخليد الفاسق في النار، والقول بالخروج على أمراء الجور، وغير ذلك من أقاويلهم، فإن أصحابنا يقولون بها ويذهبون إليها، فلم يبق ما يقتضي البراءة منهم إلا براءتهم من علي" (13).   (1) نقلا عن ((فتح الباري)) (ص301). (2) ((فتح الباري)) (12/ 301). (3) ((فتح الباري)) (12/ 301). (4) ((فتح الباري)) (ص300). (5) ((فتح الباري)) (ص300). (6) ((تلبيس إبليس)) (ص96. قال ابن تيمية بعد أن ذكر الحديث: "قال الإمام أحمد: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه" ((مجموعة الرسائل)) (5/ 197). (7) ((التنبيه والرد)) (ص172). (8) ((التنبيه والرد)) (ص54). (9) ((آراء الخوارج)) (ص21). (10) ((آراء الخوارج)) (ص23). (11) ((آراء الخوارج)) (ص23). (12) انظر: ((شرح نهج البلاغة)) (1/ 9). (13) انظر: ((شرح نهج البلاغة)) (5/ 131). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 وقد أرجع علي يحيى معمر الإباضي كل ما جاء من أحاديث المروق إلى المرتدين الذين خرجوا على أبي بكر رضي الله عنه بقوله: "فإن أحاديث المروق - إذا صحت - لا يكون المقصود منها إلا أصحاب الثورة الأولى أولئك الذين خرجوا على خلافة أبي بكر، منكرين للشريعة أو لأصل من أصولها" (1). فهو يشك في صحة أحاديث المروق، وعلى فرض صحتها – حسب تعبيره – فإنه يقصرها على المرتدين، والواقع أنها أحاديث صحيحة جاءت في الصحيحين، والقول بأنها واردة على المرتدين في زمن أبي بكر رضي الله عنه، لم أر فيما تيسر لي قراءته أن أحدا قد قال بهذا سواه. ثم إن ما في الأحاديث من أوصاف الخوارج من كثرة قراءتهم للقرآن وتعمقهم في العبادة لا ينطبق على هؤلاء المرتدين. وقد ذكر الشاطبي عدة آيات في ذم البدع وسوء منقلب أصحابها، "وذكر عن بعض السلف أنه أولها على الخوارج" (2)، ويذكر أنه حينما وقف أبو أمامة على سبعين رأسا من الخوارج قتلوا فنصبت رؤوسهم، أنه وصفهم بأنهم كلاب جهنم فيما يرويه عنه أبو غالب، واسمه حرور قال: (كنت بالشام، فبعث المهلب سبعين رأسا من الخوارج، فنصبوا على درج دمشق فكنت على ظهر بيت لي، فمر أبو أمامة فنزلت فاتبعته، فلما وقف عليهم دمعت عيناه، وقال: "سبحان الله! ما يصنع السلطان ببني آدم – قالها ثلاثا- كلاب جهنم، كلاب جهنم، شر قتلى تحت ظل السماء- ثلاث مرات، خير قتلى من قتلوه، طوبى لمن قتلهم أو قتلوه، ثم التفت إلي فقال: أبا غالب، إنك بأرض هم بها كثير فأعاذك الله منهم، قلت: رأيتك بكيت حين رأيتهم، قال: بكيت رحمة حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام) (3).وفيما ينسب إلى الإمام علي، أنه فسر قوله تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف: 103 - 104] بأنهم الحرورية (4).ويصفهم الشهرستاني بقوله: "فهم المارقة الذين قال فيهم (يعني الرسول صلى الله عليه وسلم): ((سيخرج من ضئضئي هذا الرجل قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)) (5).وممن كفرهم أيضا، الدبسي في رسالته، وذلك بسبب تكفيرهم بعض الصحابة، وبما اعتقدوا من اعتقادات، ثم قال: "وفي شرح العقائد: من قذف عائشة رضي الله عنها فهو كافر، ومن أنكر شفاعة الشافعين يوم القيامة فهو كافر، وفي محيط البرهان: من أنكر الجنة أو النار أو القيامة أو الصراط أو الميزان أو الصحائف المكتوبة فهو كافر، وكذا من قال بخلق القرآن فهو كافر" (6). وأحب هنا أن أقول بأن من تشكك من العلماء في كفر الخوارج عموما؛ فإنه لا يشك في كفر بعض الفرق منهم. فالبدعية من الخوارج قصروا الصلاة على ركعة في الصباح وركعة في المساء. والميمونة أجازت نكاح بعض المحارم التي علم تحريمها من الدين بالضرورة، ثم زادت فأنكرت سورة يوسف أنها من القرآن.   (1) ((الإباضية في موكب التاريخ)) (1/ 29). (2) ((الاعتصام)) (1/ 53 - 68). (3) رواه البيهقي (8/ 188). وقال الذهبي في ((المهذب)) (6/ 3304): عن أبي غالب حزور وهو صويلح قد ضعفه النسائي. (4) ((الاعتصام)) (ص65). (5) ((الملل والنحل)) (1/ 115). (6) ((فرق الشيعة والخوارج وتكفير غلاتهم)) (ص2) وانظر: (ص13، ص26). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 وفي هؤلاء يقول ابن حزم: "وقد تسمى باسم الإسلام من أجمع جميع فرق الإسلام على أنه ليس مسلما، مثل طوائف من الخوارج غلوا فقالوا: إن الصلاة ركعة بالغداة وركعة بالعشي فقط، وآخرون استحلوا نكاح بنات البنين، وبنات بني الأخوة، وبنات بني الأخوات، وقالوا: إن سورة يوسف ليست من القرآن. وآخرون منهم قالوا: يحد الزاني والسارق ثم يستتابون من الكفر، فإن تابوا وإلا قتلوا" (1).ولا شك أن هذا كفر صريح، لا يحتمل أي تأويل، ولا يقل عنهم في الكفر فرقة اليزيدية، فإن إمامهم يزيد بن أنيسة "زعم أن الله سيبعث رسولا من العجم، وينزل عليه كتابا من السماء يكتب في السماء، وينزل عليه جملة واحدة، فتترك شريعة محمد ودان بشريعة غيرها، وزعم أن ملة ذلك النبي الصائبة وليس هذه الصائبة التي عليها الناس اليوم، وليس هم الصابئين الذين ذكرهم الله في القرآن ولم يأتوا بعد" (2).ويذكر البغدادي أن يزيد "كان – مع هذه الضلالة – يتولى من شهد لمحمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة من أهل الكتاب، وإن لم يدخل في دينه، وسماهم بذلك مؤمنين، وعلى هذا القول يجب أن يكون العيسوية والموشكانية من اليهود مؤمنين؛ لأنهم أقروا بنبوة محمد عليه السلام ولم يدخلوا في دينه" (3). وهذا تناقض ظاهر من يزيد، إذ كيف يشهد بالإيمان ويتولى من شهد لمحمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة من أهل الكتاب وهو لم يدخل في الإسلام بل بقي على دينه؟ ولهذا صدق عليه قول البغدادي: "وليس بجائز أن يعد في فرق الإسلام من يعد اليهود من المسلمين، وكيف يعد من فرق الإسلام من يقول بنسخ شريعة الإسلام" (4). ومما يجدر ذكره أن هذه الفرقة قد عدها الأشعري والبغدادي والشهرستاني وابن حزم من فرق الإباضية، وأن الإباضية منهم من وقف في يزيد، ومنهم من برئ منه، وجلهم تبرأ منه، هكذا يقول الأشعري. ويقول البغدادي: "وكان على رأي الإباضية من الخوارج، ثم إنه خرج عن قول جميع الأمة".ويقول ابن حزم: "قال أبو محمد: إلا أن جميع الإباضية يكفرون من قال بشيء من هذه المقالات ويبرأون منه ويستحلون دمه وماله". ومن هنا رأينا علي يحيى معمر يرد على ابن حزم بسبب نسبته هذه الفرقة إلى الإباضية، ويشنع عليه بأنه كيف ساغ له نسبتها إلى الإباضية مع أنها تعتقد أقوالا تخرجها إلى الكفر، ثم كيف ساغ له أن يجعلها من الإباضية وهو نفسه يقول: إن الإباضية تكفرها وتستحل منها الدم والمال (5).   (1) ((الفصل)) (2/ 114) , وانظر: ((الفرق بين الفرق)) (ص280، 281) , ((رسالة الدبسي)) (ص29). (2) ((مقالات الأشعري)) (1/ 184، ((الملل والنحل)) (1/ 136) , وانظر ((الفصل)) (4/ 189). (3) ((الفرق بين الفرق)) (ص280). (4) ((الفرق بين الفرق)) (ص280). (5) انظر: ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص46). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 والحقيقة أن ابن حزم إنما ذكر ما ذكره قبله كتاب المقالات، مع أنه لا مانع في الواقع من أن تنبت هذه الفرقة في أحضان الإباضية ثم تنحرف في عقائدها وتخرج عن آرائها. وقد كفر البغدادي فرقة الأزارقة، حيث يجعلها مع الفرق الخارجة عن الإسلام كاليزيدية والميمونية، فبعد أن ذكر أحداثهم قال: "وأكفرتهم الأمة في هذه البدع التي أحدثوها بعد كفرهم الذي شاركوا فيه المحكمة الأولى، فباءوا بكفر على كفر، كمن باء بغضب على غضب، وللكافرين عذاب مهين" (1).ومن أشهر بدعهم إنكارهم حد الرجم على المحصنين "إذ ليس في القرآن ذكره" (2)، بينما هو ثابت بالسنة من أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وعليه مضى الصحابة. وقد قال عمر رضي الله عنه: (إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، فلذا رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله) (3). فتكون هذه الآية التي ذكرها عمر بن الخطاب رضي الله عنه مما نسخت تلاوته وبقي حكمه. وهذه هي أقوال العلماء الذين كفروا الخوارج، أو كفروا بعض فرقهم، وتلك هي مبررات تكفيرهم لهم، وترجع هذه المبرروات إلى ما اتصف به الخوارج من مروق عن الدين، كما وصفتهم به الأحاديث النبوية، ولما ورد من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ولأقتلنهم قتل عاد)) (4)،وفي لفظ: ((ثمود)) (5)، ولحكمهم على مخالفيهم بالكفر والتخليد في النار. وكذا تكفيرهم أعلام الصحابة رضوان الله عليهم ومحاربتهم عليا رضي الله عنه، وكذلك نكرانهم لكثير مما ورد من أخبار الآخرة، ثم لما تميز به بعضهم من آراء تخريجهم عن الإسلام صراحة: كالبدعة، والميمونة، واليزيدية. والواقع أن الحكم عليهم بالكفر لم يكن من قبل علماء السلف ومؤرخي الفرق فقط، وإنما حكم به بعضهم على بعض أيضا، ولاسيما ما حكمت به فرقه الإباضية على غيرها من الفرق كما سنرى، فلقد كانت لهذه الفرقة مواقف عدائية من كثير من فرق الخوارج غير المحكمة، فإنها تتولاها وتترضى عنها وتعتبرها سلفهم الصالح، أما ما عداها كالأزارقة والنجدات والصفرية وغيرهم، فإنها هي الفرق الخارجية حقيقة في نظرهم، ولهذا فقد كفروهم ودارت بينهم وبين هذه الفرق المعارك الدامية في بعض مراحلهم التاريخية.   (1) ((الفرق بين الفرق)) (ص84). (2) انظر: ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 173) , ((الملل والنحل)) (1/ 121). (3) رواه البخاري (6829)، ومسلم (1691). من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. (4) رواه البخاري (3344). (5) رواه البخاري (4351)، ومسلم (1064). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 فالأزارقة، وهي من أقدم الفرق المشهورة للخوارج كانت عند الإباضية من أهل الضلال والتقول على الله بالكذب، ومن المستحلين لكل ما حرم الله من دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، كما يصفونهم، وأنهم أول من خالف اعتقاد أهل الاستقامة (أي الإباضية) وأنهم أول من شق عصا المسلمين وفرق جماعتهم. يقول عنهم صاحب (كتاب الأديان)، بعدما تقدم من أوصافهم: "ومما أضلهم الله به وأعمى أبصارهم، أنهم أنزلوا أهل القبلة بمنزلة حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة أهل الشرك وأهل الأوثان" – إلى أن يقول: "فترك نافع بن الأزرق وأتباعه كتاب الله وسنة نبيه، وخالفوا سيرة المسلمين قبلهم" (1)،ولا يقل عنه في تكفير الأزارقة الورجلاني، فقد جعل الأحاديث الواردة في المارقة على الأزارقة، وأنهم هم المارقة حقيقة (2).أما موقفهم من النجدات: فإن هذه الفرقة لم تكن عندهم أحسن حالا من سابقتها، فقد تناولها صاحب (كتاب الأديان) المتقدم بالنقد، وذكر أحداثها التي أحدثتها في الدين، وأن نجدة ذاته كما قال عنه: "قد انتحل أمورا لم يأذن الله بها، ولم يرها المسلمون، قد ابتدع أمورا شرعها له الشيطان وزينها له"، ولم يزل عدو الله نجده يبتدع القول حتى نقم عليه أصحابه فقتلوه ثم تفرقوا فيما بينهم، ويقول فيهم وفي الأزارقة جميعا: "والكل منهم والحمد لله ضال مضل، جاير حايد عن السبيل" (3).ومثلهم الصفرية عند صاحب وفاء الضمانة، فإنهم عنده هم المقصودون بأحاديث المروق، ولا تصدق إلا عليهم، مع أنه يذكر أن الإباضية والصفرية كانوا يدا واحدة في النهروان، حتى أحدثوا استحلال دماء وأموال أهل المعاصي، فتركوهم، وذلك في قوله: "وكان الصفرية مع أهل الحق منا في النهروان، ولما ظهر منهم استحلال دماء أهل التوحيد وأموالهم بالكبائر أو بالمعاصي هاجروهم وفارقوهم" (4).وأحاديث المروق التي أوردها المؤلف مشهورة لا حاجة إلى إعادتها هنا، إلا أنه لا بأس أن نذكر حديثا استشهد به المؤلف كتبرير لحربهم الصفرية، وهو قوله: قال صلى الله عليه وسلم: ((تكون أمتي فرقتين، فتخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهما بالحق)) (5)، ثم قال: "وما زال أصحابنا من أهل عمان يقاتلون الصفرية" (6). ومثل تلك الفروق في الضلال عند الإباضية فرقة الأعسمية أتباع زياد بن الأعسم، فيذكر صاحب (كتاب الأديان) أنه خرج ناقما على الأزارقة والنجدية والعطوية ويلعنهم، ثم تابعهم في أمور أهلكه الله بها."منها: أنه اعتبر حرب أهل القبلة كحرب رسول الله مع أهل الأوثان، وأنه يرى قتل قومه سرا وعلانية، وأنه تابع الأزارقة والنجدية والعطوية على أعظم ما استحلوا من الجور، فتابعه على ذلك من تابعه حتى هلك، ولم يزل الشيطان يزين لهم حتى صيرهم شيعا مفترقين، يقتل بعضهم بعضا، ويستحل بعضهم حرمة بعض، وشهد بعضهم على بعض بالشك"، ونحو هذا قال أيضا في فرقة العطوية أتباع عطية بن الأسود المنشقة عن النجدات (7). هذا آخر ما تيسر لي ذكره في الرأي الأول، وهو القول بتكفيرهم، والآن سنعرض أقوال الذين قالوا بعدم تكفيرهم. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص527   (1) انظر: ((كتاب ((الأديان)) والفرق (ص97/ 99/101). (2) انظر: ((الدليل لأهل العقول)) (ص30). (3) ((وفاء الضمانة)) (ص22 - 23). (4) ((وفاء الضمانة)) (ص22 - 23). (5) رواه أحمد (3/ 25) (11212)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 158)، والبيهقي (8/ 187). والحديث أصله في ((الصحيح)) رواه مسلم (1064) بلفظ: (تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين. يقتلها أولى الطائفتين بالحق). (6) ((وفاء الضمانة)) (ص23). (7) ((كتاب ((الأديان)) (ص102 - 103). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 المبحث الثاني: الحكم بعدم تكفير الخوارج أما الرأي الثاني: وهو القول بعدم تكفير الخوارج؛ فأهل هذا الرأي يقولون: إن الاجتراء على إخراج أحد من الإسلام أمر غير هين، نظراً لكثرة النصوص التي تحذر من ذلك إلا من ظهر الكفر من قوله أو فعله فلا مانع حينئذ من تكفيره بعد إقامة الحجة عليه. ولهذا أحجم كثير من العلماء أيضاً عن إطلاق هذا الحكم عليهم وهؤلاء اكتفوا بتفسيقهم، وأن حكم الإسلام يجري عليهم لقيامهم بأمر الدين- وأن لهم أخطاء وحسنات كغيرهم من الناس، ثم إن كثيراً من السلف لم يعاملوهم معاملة الكفار كما جرى لهم مع علي رضي الله عنه وعمر بن عبد العزيز؛ فلم تسبى ذريتهم وتغنم أموالهم. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 296 يرى أصحاب هذا الرأي أن الاجتراء على إخراج أحد من الإسلام أمر غير هين، نظرا لما ورد من نصوص تحذر من مثل هذا الحكم أشد التحذير، إلا لمن عرف من الكفر بقول أو فعل، فلا مانع حينئذ من تكفيره إذا لم يكن له تأويل فيما ذهب إليه، ولهذا أحجم كثير من العلماء عن إطلاق هذا الحكم. يقول القاضي عياض: "كادت هذه المسألة (أي مسألة تكفير الخوارج) تكون أشد إشكالا عند المتكلمين من غيرها حتى سأل الفقيه عبدالحق الإمام أبا المعالي عنها فاعتذر بأن إدخال كافر في الملة وإخراج مسلم عنها عظيم في الدين. قال: وقد توقف قبله القاضي أبو بكر الباقلاني، وقال: ولم يصرح القوم بالكفر، وإنما قالوا أقوالاً تؤدي إلى الكفر" (1).ويقول القرطبي: "وباب التكفير باب خطر، ولا نعدل بالسلامة شيئا" (2).   (1) ((فتح الباري)) (12/ 300). (2) ((فتح الباري)) (12/ 301). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 وأهل هذا الرأي، وإن كانوا قد تورعوا عن تكفيرهم على العموم، إلا أنهم مختلفون في حقيقة أمرهم، فمنهم من يرى أنهم وإن كانوا غير خارجين عن الإسلام لكنهم فسقة؛ لأنهم قد شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم طبقوا بالفعل أركان الإسلام، وهذا يمنع من تكفيرهم أو إلحاقهم بمن لا يقر بذلك، وتفسيقهم إنما كان لما عرف عنهم من تكفيرهم المسلمين، واستباحة دمائهم وأموالهم. وهذا الرأي هو لأكثر أهل الأصول من أهل السنة فيما يرويه ابن حجر بقوله: "وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فساق، وأن حكم الإسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين ومواظبتهم على أركان الإسلام، وإنما فسقوا بتكفيرهم المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد، وجرهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم والشهادة عليهم بالكفر والشرك" (1).وذهب البعض الآخر من القائلين بعدم تكفيرهم إلى أن الخوارج فرقة كبقية فرق المسلمين، وأنهم وإن كانوا على ضلال فإن ذلك لا يخرجهم عن جملة فرق المسلمين التي وجد لها حسنات وأخطاء، وهذا ما يقوله الخطابي فيما يذكره عنه ابن حجر، جازما بأن هذا الحكم (أي عدم إخراجهم عن الإسلام) أمر مجمع عليه لدى علماء المسلمين وذلك في قوله: "أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالتهم فرقة من فرق المسلمين، وأجازوا مناكحتهم، وأكل ذبائحهم، وأنهم لا يكفرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام" (2).ومثل الخطابي ابن بطال، فقد قال أيضا: "ذهب جمهور العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين عن جملة المسلمين " (3)، من الكفر فروا، "ولكن ابن حجر يشك فيما يظهر في صحة هذا القول عن علي، ويرى أنه على فرض صحته فإنه يحمل على أنه لم يكن قد اطلع على معتقداتهم التي أوجبت تكفيرهم عند من يراه" (4).ويؤيد ما ذهب إليه ابن بطال ما أخرجه الطبري بسند صحيح عن عبدالله ابن الحارث عن رجل من بني نضر عن علي وذكر الخوارج، فقال: (إن خالفوا إماما عدلا فقاتلوهم، وإن خالفوا إماما جائرا، فلا تقاتلوهم، فإن لهم مقالا" (5).ويروي ابن أبي الحديد عن علي رضي الله عنه روايات تفيد أنه كان لا يرى كفر الخوارج، ولا استباحة دمائهم، ومنها قوله: (لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه)؛ ثم قال ابن أبي الحديد في تفسيره: "قال الرضي رحمه الله: يعني معاوية وأصحابه"، ويقول ابن أبي الحديد أيضا عن الخوارج: "ولهم في الجملة تمسك بالدين ومحاماة عن عقيدة اعتقدوها، وإن أخطأوا فيها ... ولا ريب في تلزم الخوارج بالدين" (6).ونلاحظ على ابن أبي الحديد هنا أنه عندما يحكم عليهم حين خروجهم على الإمام علي يرى بأنهم من أهل النار (7)!! ومن الذين تورعوا عن تكفيرهم، ورأى أن حكمهم هو حكم غيرهم من الفرق الإسلامية – الشاطبي، فهو يرى أن الخوارج غير كافرين، مستندا في حكمه هذا إلى ما ورد من روايات عن السلف، وخصوصا ما كان من موقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكذا عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، حيث عاملوهم معاملة أهل الإسلام.   (1) ((فتح الباري)) (12/ 300). (2) ((فتح الباري)) (12/ 300). (3) ((فتح الباري)) (12/ 301). (4) ((فتح الباري)) (12/ 301). (5) ((فتح الباري)) (12/ 315). وقال ابن حجر: إسناده صحيح. (6) ((شرح نهج البلاغة)) (5/ 78، 79). (7) ابن أبي الحديد رافضي متلون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 يقول الشاطبي في هذا: "وقد اختلف الأمة في تكفير هؤلاء الفرق أصحاب البدع العظمى، ولكن الذي يقوى في النظر، وبحسب الأثر؛ عدم القطع بتكفيرهم، والدليل عليه عمل السلف الصالح فيهم".ثم استشهد بما جرى لهم مع علي وعمر بن عبدالعزيز، قال: "فإنه لما اجتمعت الحرورية وفارقت الجماعة لم يهيجهم علي ولا قاتلهم، ولو كانوا بخروجهم مرتدين لم يتركهم لقوله عليه الصلاة والسلام: ((من بدل دينه فاقتلوه ... )) (1)، وعمر بن عبدالعزيز أيضا لما خرج في زمانه الحرورية بالموصل أمر بالكف عنهم على ما أمر به علي رضي الله عنه ولم يعاملهم معاملة المرتدين" (2). ولعل الشاطبي رحمه الله يشير بما ذكره من أن عليا لم يهيجهم ولم يقاتلهم؛ أنه لم يتسرع إلى قتلهم أول الأمر، بل قال بأنه سوف يعاملهم معاملة حسنة، فلا يمنعهم المساجد، ولا يحرمهم الفيئ، ما دامت أيديهم معه وما داموا لم يرتكبوا محرما، ولكنهم حين خرجوا وقتلوا ابن خباب وغيره، حاربهم في معركة النهروان الشهيرة حتى أفناهم. ومن الذين اعتبروا الخوارج فرقة إسلامية كغيرها من الفرق الأخرى الشافعي فيما ينقله عنه الطالبي بقوله: "وأما الإمام الشافعي فإنه لم يفرق بين مذهب الخوارج وبين غيره من مذاهب الفرق الأخرى في عدم التكفير بها" (3).والقول بعدم تكفيرهم هو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد أورد حول الحكم على الخوارج نقاشا طويلا، خلص منه إلى أنهم ليسوا كفارا ولا مرتدين، وإنما هم فئة باغية، وأورد حججا على صحة ما يراه في هذا الحكم، بما جرى لهم مع علي وابن عباس وغيرهما من الصحابة الذين لم يحكموا بردتهم، بل عاملوهم معاملة المسلمين، خصوصا حين انتهت تلك الحروب التي اشتعلت بينه وبينهم في النهروان، فهو كما يقول: "لم يسب لهم ذرية، ولا غنم لهم مالا، ولا سار فيهم سيرة الصحابة في المرتدين، كمسيلمة الكذاب وأمثاله، بل كانت سيرة علي والصحابة في الخوارج مخالفة لسيرة الصحابة في أهل الردة، ولم ينكر أحد على علي ذلك، فعلم اتفاق الصحابة على أنهم لم يكونوا مرتدين عن دين الإسلام" (4).ويذكر أن عليا لم يحاربهم لأنهم كفار، وإنما حاربهم لدفع ظلمهم وبغيهم (5) .... إلخ ما أورده رحمه الله. ولكن شيخ الإسلام رحمه الله وإن لم يقل بكفرهم لكنه يعتبرهم من شرار الخلق وممن يجب قتالهم، وهذا رأي كثير من علماء المسلمين، وإن كان هناك من لا يرى وجوب قتالهم، فقد كان الحسن البصري ينهى عن مقاتلة الخوارج – فيما يبدو- فقد أتاه رجل فقال له. "يا أبا سعيد إن هؤلاء استنفروني لأقاتل الخوارج، فما ترى؟ فقال: إن هؤلاء أخرجتهم ذنوب هؤلاء، وإن هؤلاء يرسلونك تقاتل ذنوبهم، فلا تكن القتيل منهم، فإن القوم أهل خصومة يوم القيامة" (6). وقال خريم معظما قتال الخوارج، وناهيا عن حربهم فيما ينقله الملطي عنه: ولست بقاتل رجلا يصلي ... على سلطان آخر من قريش له سلطانه وعلي ذنبي ... معاذ الله من سفه وطيش أأقتل مسلما في غير ذنب ... فلست بنافعي ما عشت عيشي (7). وقال مروان بن الحكم لأيمن بن خزيم: "ألا تخرج تقاتل؟ فقال: إن أبي وعمي شهدا بدرا مع رسول الله، وإنهما عهدا إلي أن لا أقاتل أحدا يقول: لا إله إلا الله، فإن جئتني ببراءة من النار، قال: اخرج فلا حاجة لنا فيك" (8). المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص539   (1) رواه البخاري (2962) من حديث ابن عباس. (2) ((الاعتصام)) (2/ 186). (3) نقلا عن ((آراء الخوارج)) (ص21). (4) ((منهاج السنة)) (3/ 60 - 62). (5) انظر: ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (3/ 282) و (3/ 357,352). (6) انظر: ((التنبيه والرد)) (ص170، 171). (7) انظر: ((التنبيه والرد)) (ص170، 171). (8) انظر: ((التنبيه والرد)) (ص170، 171). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 المبحث الثالث: تعقيب على إطلاق الحكم بالتكفير والواقع أن الحكم بتكفير الخوارج على الإطلاق فيه غلو، وأن الحكم بالتسوية بينهم وبين غيرهم من فرق المسلمين فيه تساهل، يغالي من يكفرهم جميعا؛ لأنهم لم يعلنوا الكفر، بل هم كما هو المعروف عنهم أهل عبادة وتهجد وصوم. ثم إنهم لم يعاملوا من الإمام علي والصحابة معاملة الكفار أو المرتدين، وما انحرفوا عن الحق من آراء ومواقف وأحكام إنما كان بناء عن تأويل تأولوا عليه الآيات والأحاديث، ومع أنه تأويل فاسد إلا أنهم لم يتعمدوا به الكفر، ولم يسعوا به إلى هدم الإسلام، بل طلبوا الحق – كما قال الإمام علي – فأخطؤه اللهم إلا من أنكر منهم ما هو معلوم من الدين بالضرورة. ومع ذلك فإنه يقصر أو يتساهل في الحكم عليهم من يرى أنهم كغيرهم من فرق المسلمين الأخرى؛ لأنهم سفاكون للدماء يستعرضون الناس استعراضا دون تمييز، بخلاف الفرق الأخرى التي لم يستحل أصحابها من دماء المسلمين وأموالهم ما استحله الخوارج. وقد مر بنا ما قاله العلماء في حكمهم عليهم، وهو كما رأينا لم يكن حكما قاطعا من جانب واحد بل إنهم اختلفوا فيه اختلافا بينا متعارضا، وما ذاك إلا لخطورة أمر التكفير من جهة، وغموض أمرهم من جهة أخرى، حيث جمعوا بين المتناقضات في سلوكهم مع الله ومع خلقه. وفيما يظهر لي أن لا يعمم الحكم على جميع الخوارج، بل يقال في حق كل فرقة بما تستحقه من الحكم، حسب قربها أو بعدها عن الدين، وحسب ما يظهر من اعتقاداتها وآرائها، أما الحكم عليهم جميعا بحكم واحد مدحا أو ذما، فإنه يكون حكما غير دقيق؛ لأن الخوارج كما مر بنا لم يكونوا على رأي واحد في الاعتقاد، بل منهم المعتدل ومنهم المغالي. يقول ابن حزم: "وأقرب فرق الخوارج إلى أهل السنة أصحاب عبدالله بن يزيد الإباضي الفزاري الكوفي، وأبعدهم الأزارقة" (1). أو يقال: إن من انطبقت عليه تلك الصفات التي وردت في الأحاديث بذمهم كان حكمه أنه مارق عن الدين، وفي حكم الكفار، وأما من لم تنطبق عليه تلك الصفات، وذلك باحتمال أن يكون الشخص دخل في مذهبهم بقصد حسن من إعلاء كلمة الله في الأرض، أو من إيقاف حكام الجور عند حدهم، أو يكون الشخص مخدوعا بهم، أو له أي تأويل كان، فإن هذا لا ينبغي التسرع في تكفيره، خصوصا وهو يدعي الالتزام بجميع شرائع الإسلام. أما تكفيرهم بسبب خروجهم عن طاعة الحكام، سواء كان ذلك الخروج بحق أو بغير حق، فهذا لا يخلو منه زمان أو مكان، فإن كان الخروج بحق، كأن يغير الحاكم الحكم بما أنزل الله ويستبدل به قانونا من وضع البشر، أو كان من محض هواه؛ فهذا لا يقال في حق الخارج عليه أي لوم، وأما إن كان الخروج بغير حق بل كان لمجرد أغراض، وارتكب في ذلك الخروج ما يوجب تكفير صاحبه، فهذا الذي يقال فيه إنه عاص وخارج بغير حق، ويجب على الأمة حينئذ إرجاعه إلى الحق والوقوف في وجهه. المصدر: الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص544   (1) ((الفصل)) (2/ 112). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 مراجع للتوسع أولاً: مراجع فرقة الخوارج ومنها: (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين): لأبي الحسن الأشعري. (الملل والنحل): للشهرستاني. (الفرق بين الفرق): للبغدادي. (الفصل في الملل والأهواء والنحل): لابن حزم. (التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع): للملطي. (التبصير في أمور الدين): للإسفراييني. (الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها) لغالب علي العواجي. (آراء الخوارج): للدكتور عمار الطالبي. (فرق المسلمين والمشركين): للرازي. (المواقف): للإيجي. ثانياً: مراجع فرقة الإباضية بخصوصهم: (الإباضية بين الفرق الإسلامية): لعلي يحيى معمر. (الإباضية في موكب التاريخ): لعلي يحيى معمر. (العقود الفضية): للحارثي. (الدليل لأهل العقول): للورجلاني. (متن النونية): للنفوسي. كتاب (الأديان): لمؤلف إباضي مجهول الاسم. (أجوبة ابن خلفون). (تلقين الصبيان ما يجب على الإنسان): للسالمي. كتاب (الدعائم): لأحمد بن النضر. (مسند الربيع بن حبيب) أو (الجامع الصحيح). (مدارج الكمال نظم مختصر الخصال): للسالمي. (الإباضية عقيدة ومذهباً): د. صابر طعيمة. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 298 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 المبحث الأول: الشيعة لغة أطلقت كلمة الشيعة مراداً بها الأتباع والأنصار والأعوان والخاصة. قال الأزهري: (والشيعة أنصار الرجل وأتباعه، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة) (1).وقال الزبيدي: (كل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، وكل من عاون إنساناً وتحزب له فهو شيعة له، وأصله من المشايعة وهي المطاوعة والمتابعة) (2). استعمال مادة (شيعة) في القرآن الكريم: وردت كلمة شيعة ومشتقاتها في القرآن الكريم مراداً بها معانيها اللغوية الموضوعة لها على المعاني التالية: 1 - بمعنى الفرقة أو الأمة أو الجماعة من الناس: قال الله تعالى: ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا [مريم:69] أي من كل فرقة وجماعة وأمة (3). 2 - بمعنى الفرقة: قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام:159] أي فرقاً (4). 3 - وجاءت لفظة أشياع بمعنى أمثال ونظائر: قال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر:51] أي أشباهكم في الكفر من الأمم الماضية (5).4 - بمعنى المتابع والموالي والمناصر (6):قال تعالى: فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ [القصص:15] (7). المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 306   (1) ((تهذيب اللغة)) (3/ 61). (2) ((تاج العروس)) (5/ 405). (3) انظر: ((تفسير القرآن العظيم)) (3/ 131). (4) ((تفسير القرآن الحكيم - تفسير المنار)) (8/ 214). (5) ((جامع البيان)) (27/ 112). (6) ((فتح القدير)) (4/ 163). (7) انظر: ((تهذيب اللغة)) (3/ 63). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 المبحث الثاني: الشيعة اصطلاحا ً اختلفت وجهات نظر العلماء في التعريف بحقيقة الشيعة، نوجز أقوالهم فيما يلي: أنه علم بالغلبة على كل من يتولى علياً وأهل بيته. كقول الفيروزأبادي: (وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى علياً وأهل بيته، حتى صار اسماً لهم خاصاً) (1). هم الذين نصروا علياً واعتقدوا إمامته نصاً، وأن خلافة من سبقه كانت ظلماً له. هم الذين فضّلوا علياً على عثمان رضي الله عنهما. الشيعة اسم لكل من فضل علياً على الخلفاء الراشدين قبله رضي الله عنهم جميعاً، ورأى أن أهل البيت أحق بالخلافة، وأن خلافة غيرهم باطلة. وكلها تعريفات غير جامعة ولا مانعة إلا واحداً منها. مناقشة تلك الأقوال: أما التعريف الأول: فهو غير سديد، لأن أهل السنة يتولون علياً وأهل بيته، وهم ضد الشيعة. وأما التعريف الثاني: فينقضه ما ذهب إليه بعض الشيعة من تصحيحهم خلافة الشيخين، وتوقف بعضهم في عثمان، وتولي بعضهم له كبعض الزيدية فيما يذكر ابن حزم (2). ثم أيضاً ما يبدو عليه من قصر الخلافة في علي فقط دون ذكر أهل بيته. والتعريف الثالث غير صحيح كذلك؛ لانتقاضه بما ذهب إليه بعض الشيعة من البراءة من عثمان. كقوله كثير عزة: برأت إلى الإله من ابن أروى ... ومن دين الخوارج أجمعينا ومن عمر برئت ومن عتيق ... غداة دعي أمير المؤمنينا ويبقى الراجح من تلك التعريفات الرابع منها لضبطه تعريف الشيعة كطائفة ذات أفكار وآراء اعتقادية (3). المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 307   (1) ((القاموس المحيط)) (3/ 9 49)، ونحوه عند الأزهري في ((تهذيب اللغة)) (3/ 61). (2) انظر: ((الفصل)) (4/ 92). (3) انظر: ((الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة)) (ص 145). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 إن لفظة الشيعة لا تطلق إلا على أتباع الرجل وأنصاره فيقال: فلان من شيعة فلان أي ممن يهوون هواه كما قال الزبيدي: كل قوم اجتمعوا على أمر فهم الشيعة وكل من عاون إنساناً وتحزب له فهو شيعة له, وأصله من المشايعة وهي المطاوعة والمتابعة. فلم يكن استعمال هذه اللفظة في العصر الأول من الإسلام إلا في معناه الأصلي والحقيقي هذا كما لم يكن استعمالها إلا لأحزاب سياسية وفئات متعارضة في بعض المسائل التي تتعلق بالحكم والحكام، وقد شاع استعمالها عند اختلاف معاوية مع علي رضي الله تعالى عنهما بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه فكان يقال عن أنصار الخليفة الراشد الرابع والأحق بالخلافة من معاوية وغيره وكانوا يشايعونه ويناصرونه في حروبه مع معاوية رضي الله عنه كما كان شيعة معاوية يرون الأمر بالعكس للجوء قتلة عثمان بن عفان إلى معسكر علي رضي الله عنه وتحت كنفه حسب زعمهم وما دام هؤلاء كذلك لم يكونوا معتقدين بثبوت الخلافة وأحقيتها لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فإن قتل القتلة ونفذ فيهم حد السيف رجعوا إليه وإلى التسليم بخلافته والانقياد لأمره كما نقله المؤرخون أن معاوية رضي الله عنه قال لمن بعث إليه من قبل علي رضي الله عنه من عدي بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبي وشبيث بن ربعي وزياد بن حفصة يدعونه إلى الجماعة والطاعة:" أما بعد فإنكم دعوتموني إلى الجماعة والطاعة، فأما الجماعة فمعنا هي، وأما الطاعة فكيف أطيع رجلاً أعان على قتل عثمان وهو يزعم أنه لم يقتله؟ ونحن لا نرد ذلك عليه ولا نتهمه به ولكنه آوى قتلة عثمان فيدفعهم إلينا حتى نقلتهم ثم نحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة " (1).وقال بمثل هذه المقولة لأبي الدرداء ولأبي أمامة المبعوثين أيضاً من قبل علي رضي الله عنه:" اذهبا إليه فقولا له: فليقدنا من قتلة عثمان ثم أنا أول من بايعه من أهل الشام " وقبل ذلك حينما أرسل علي رضي الله عنه جرير بن عبد الله إلى معاوية يدعوه إلى بيعته " طلب معاوية عمرو بن العاص ورؤوس أهل الشام فاستشارهم فأبوا أن يبايعوا حتى يقتل قتلة عثمان أو أن يسلم إليهم قتلة عثمان "وإن المؤرخين ذكروا أيضاً أن أبا الدرداء وأبا أمامة عندما رجعا إلى علي قالا له ذلك، فقال: هؤلاء الذين تريان فخرج خلق كثير فقالوا: كلنا قتلة عثمان فمن شاء فليرمنا " (2) هذا ولسنا الآن بصدد بيان أسباب الحروب التي دارت بين علي رضي الله عنه وبين معاوية رضي الله عنه وغيره ولكننا نريد أن نبين هنا أن فئتين عظيمتين من المسلمين ـ كما عبر عنها الرسول العظيم عليه الصلاة والسلام في مدحه الحسن رضي الله عنه ـ انحاز كل واحدة منهما إلى جانب وشايعت وناصرت من رأوا الحق معه فسميت كل طائفة من هاتين الطائفتين شيعة علي وشيعة معاوية ولم يكن الخلاف بينهما إلا خلافاً سياسياً محضاً, طائفة كانوا يرون علياً رضي الله عنه خليفة صاحب حق شرعي حيث انعقدت له الخلافة بمشورة أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار وقوم رأوا أحق الناس بها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما حيث أنه يريد الثأر لدم الإمام المظلوم صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته للمسلمين الذي أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة المشهورة لأخذ الثأر عنه يوم الحديبية وسميت فيما بعد هذه البيعة بيعة الرضوان حيث أنزل الله رضاه لكل من بايع لأجله (3).   (1) [9367]- ((البداية والنهاية)) (7/ 257) ط بيروت الطبري (5/ 6)، ((الكامل)) (3/ 290). (2) -[9368] ((البداية والنهاية)) (7/ 253 - 259) ط بيروت (3) [9369]- بقوله جل وعلا لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ * الفتح:18* الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 وكذلك أطلقت هذه اللفظة على حزب سياسي موحد لبني علي وبني العباس بتركيب شيعة آل محمد مقابل شيعة بني أمية ولم يكن إطلاقها إلا لبيان رأي سياسي في من تولى الحكم وفي من يحق أن يتولاه وقد صرح بذلك شيعي مشهور ناقلاً عن كتاب (الزينة) للسجستاني: ثم بعد مقتل عثمان وقيام معاوية وأتباعه في وجه علي بن أبي طالب وإظهاره الطلب بدم عثمان واستمالته عدداً عظيماً من المسلمين إلى ذلك صار أتباعه يعرفون بالعثمانية وصار أتباع علي يعرفون بالعلوية مع بقاء إطلاق اسم الشيعة عليهم واستمر ذلك مدة ملك بني أمية ". (1) ونقل أيضاً من نقيب الشيعة بحلب: كل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض فهم شيعة, وشيعة الرجل أتباعه وأنصاره ويقال: شايعه كما يقال: والاه من الولي والمشايعة, وكأن الشيعة لما اتبعوا هؤلاء القوم واعتقدوا فيهم ما اعتقدوا سموا بهذا الاسم لأنهم صاروا أعواناً لهم وأنصارا وأتباعا، فأما من قبل حين أفضت الخلافة من بني هاشم إلى بني أمية وتسلمها معاوية بن صخر من الحسن بن علي وتلقفها من بني أمية ومالوا إلى بني هاشم وكان بنو علي وبنو عباس يومئذ في هذا شرع فلما انضموا إليهم واعتقدوا أنهم أحق بالخلافة من بني أمية وبذلوا لهم النصرة والموالاة والمشايعة سموا شيعة آل محمد, ولم يكن إذ ذاك بين بني علي وبني العباس افتراق في رأي ولا مذهب, فلما ملك بنو العباس وتسلمها سفاحهم من بني أمية نزغ الشيطان بينهم وبين بني علي فبدا منهم في حق بني علي ما بدا فنفر منهم فرقة من الشيعة " (2) وقد كررنا لفظ السياسة حيث نقصد من ورائها أنه لم يكن بين القوم خلاف ديني يرجع إلى الكفر والإسلام كما أقر بذلك سيدنا علي رضي الله عنه حيث قال مخاطباً جنده عن معاوية وعساكره: أوصيكم عباد الله تقوى الله فإنها خير ما تواصى به العباد وخير عواقب الأمور عند الله وقد فتح باب الحرب بينكم وبين أهل القبلة (3) ". هذا وقد زاد علي رضي الله عنه المسألة وضوحاً وبياناً في كتاب له كتبه إلى أهل الأمصار يقص فيه ما جرى بينه وبين أهل صفين ويبين فيه حكم من ناضلوه وقاتلوه وموفقه منهم: وكان بدء أمرنا التقينا والقوم من أهل الشام والظاهر أن ربنا واحد ونبينا واحد ودعوتنا في الإسلام واحدة ولا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله صلى الله عليه وسلم الأمر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براء (4) ". ولأجل ذلك منع أصحابه من سب أهل الشام وأنصار معاوية وشتمهم إياهم أيام حربهم بصفين: إني أكره لكم أن تكونوا سبابين ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتهم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر وقلتم مكان سبكم إياهم " اللهم احقن دمائنا ودمائهم وأصلح ذات بيننا وبينهم (5) ".   (1) [9370]- ((أعيان الشيعة)) لمحسن الأمين / الجزء الأول القسم الأول (ص 12). (2) [9371]- ((غاية الاختصار في أخبار بيوتات العلوية المحفوظة من الغبار)) لسيد تاج الدين بن حمزة الحسيني نقيب حلب. (3) [9372]- ((نهج البلاغة)) (ص 367) ط بيروت. (4) [9373] ((نهج البلاغة)) (4480). (5) [9374] ((نهج البلاغة)) (323). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 ويؤيد ذلك حديث شيعي مشهور رواه الكليني في صحيحه (الكافي) عن جعفر بن محمد الباقر ـ الإمام السادس المعصوم حسب زعم الشيعة ـ أنه قال: ينادي مناد من السماء أول النهار ألا إن علياً صلوات الله عليه وشيعته هم الفائزون. قال: وينادي مناد آخر النهار: ألا إن عثمان وشيعته هم الفائزون (1). ومن طريف ما ذكرنا أن أبا العالية وهو تابعي مشهور أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو شاب ولكنه لم يسلم إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه روى عنه أبو خلدة أنه قال: قال أبو العالية: لما كان زمان علي ومعاوية وإني لشاب القتال أحب إلي من الطعام الطيب فجهزت بجهاز حسن حتى أتيتهم فإذا صفان ما يرى طرفاهما إذا كبر هؤلاء كبر هؤلاء وإذا هلل هؤلاء هلل هؤلاء فراجعت نفسي فقلت: أي الفريقين أنزله كافرا؟ ومن أكرهني على هذا؟ قال: فما أمسيت حتى رجعت وتركتهم (2) ولا ننكر أنه كان هناك أناس تأثروا بدسائس يهودية وأفكار مدسوسة وخرجوا عن الجادة المستقيمة وأعطوا هذا الخلاف صبغة دينية أمثال السبأيين وغيرهم ممن وقعوا في حبائل اليهودية المبغضة للإسلام وهم الذين كانوا يؤججون نار الحرب كلما خبت نيرانها ولكن عامة الناس كانوا على منأى عنها. فهذه هي بداية استعمال هذه اللفظة ثم اختص بكل من يوالي علياً وأولاده ويعتقد الاعتقادات المخصوصة والمستقاة من دسائس عبد الله بن سبأ اليهودي وغيره من الذين أرادوا هدم عمارة الإسلام وكيانه وتشويه عقائده وتعليماته كما قال ابن الأثير في نهايته: وأصل الشيعة: الفرقة من الناس وتقع على الواحد والاثنين والجمع والذكر والمؤنث بلفظ واحد ومعنى واحد وقد غلب هذا الاسم على كل من يزعم أنه يتولى علياً رضي الله عنه وأهل بيته حتى صار لهم اسماً خاصاً, فإذا قيل من الشيعة عرف أنه منهم, وفي مذهب الشيعة كذا أي عندهم وتجمع الشيعة علي شيع وأصلها من المشايعة وهي المتابعة والمطاوعة (3). المصدر: الشيعة والتشيع لإحسان إلهي ظهير - ص8   (1) [9375] ((الكافي في الفروع)) (8/ 209). (2) [9376] ((سير أعلام النبلاء)) للإمام الذهبي (4/ 210) طبقات ابن سعد (7/ 114). (3) [9377]- ((النهاية)) لابن الأثير (2/ 244). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 الفصل الثاني: متى ظهر التشيع؟ اختلفت أقوال العلماء من الشيعة وغيرهم في تحديد بدء ظهور التشيع تبعاً لاجتهاداتهم. وقد قدمنا بيان السبب في مثل هذا الخلاف، وحاصل الأقوال هنا: 1 - أنه ظهر مبكراً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى يديه حيث كان يدعو إلى التوحيد ومشايعة علي جنباً إلى جنب. وقد تزعم هذا القول محمد حسين الزين من علماء الشيعة وغيره (1). وهو ما ذكره النوبختي أيضاً في فرقه (2) وهو ما أكده أيضاً الخميني (3) في عصرنا الحاضر، بل ذهب حسن الشيرازي إلى القول: (بأن الإسلام ليس سوى التشيع, والتشيع ليس سوى الإسلام، والإسلام والتشيع اسمان مترادفان لحقيقة واحدة أنزلها الله، وبشر بها الرسول صلى الله عليه وسلم) (4). 2 - أنه ظهر في معركة الجمل حين تواجه علي وطلحة والزبير، وقد تزعم هذا القول ابن النديم حيث ادعى أن الذين ساروا مع علي واتبعوه سمّوا شيعة من ذلك الوقت (5).3 - أنه ظهر يوم معركة صفين، وهو قول لبعض علماء الشيعة كالخونساري، وابن حمزة، وأبو حاتم. كما قال به أيضاً غيرهم من العلماء، مثل ابن حزم، وأحمد أمين (6) (7). 4 - أنه كان بعد مقتل الحسين رضي الله عنه، وهو قول كامل مصطفى الشيبي وهو شيعي؛ حيث زعم أن التشيع بعد مقتل الحسين أصبح له طابع خاص (8). 5 - أنه ظهر في آخر أيام عثمان وقوي في عهد علي رضي الله عنهما (9). والواقع أن القول الأول الذي قالت به الشيعة مجازفة وكذب صريح لا يقبله عقل ولا منطق، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما بعث لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الوثنية إلى التوحيد، وإلى جمع الكلمة وإلى عدم التحزب، والقرآن والسنة مملوءان بالدعوة إلى الله وعدم الفرقة. وقد قال محمد مهدي الحسيني الشيرازي (10): وقد سماهم بهذا الاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال مشيراً إلى علي عليه السلام: ((هذا وشيعته هم الفائزون)) (11) وهذا باطل.   (1) (الشيعة والتشيع) (ص19). (2) (فرق الشيعة للنوبختي) (ص39). (3) (الحكومة الإسلامية) (ص136). (4) (الشعائر الحسينية) (ص11). (5) (الفهرست لابن النديم) (ص249). (6) بهذا الاسم (أحمد أمين) كاتبان الأول مصري صاحب كتاب ((ضحى الإسلام وفجر الإسلام وبدأ الإسلام)) والآخر رافضي وهو صاحب كتاب ((التكامل في الإسلام)). (7) (الشيعة والتشيع) (ص25) .. (8) انظر: (الصلة بين التصوف والتشيع) (ص23) .. (9) انظر: (رسالة في الرد على الرافضة) (ص 42) .. (10) (قضية الشيعة) (ص3) .. (11) أخرجه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (24/ 333) وابن الغطريف في جزئه عن أبي سعيد الخدري، وقال عنه الألباني في ((الضعيفة)) (4925) موضوع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 ولعل الراجح من تلك الأقوال هو القول الثالث -أي بعد معركة صفين- حين انشقت الخوارج وتحزبوا في النهروان، ثم ظهر في مقابلهم أتباع وأنصار علي حيث بدأت فكرة التشيع تشتد شيئاً فشيئاً .. على أنه -فيما يبدو- لا مانع أن يوجد التشيع بمعنى الميل والمناصرة والمحبة للإمام علي وأهل بيته قبل ذلك - إذا جازت تسمية ذلك تشيعاً - لا التشيع بمعناه السياسي عند الشيعة، فإن هؤلاء ليسوا شيعة أهل البيت وإنما هم أعداؤهم والناكثون لعهودهم لهم في أكثر من موقف. وأما ادعاء من يدعي بأن هذه اللفظة كانت شائعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما كان التشيع موجوداً في عصره والشيعة موجودون في زمنه فلا ينهض به دليل ولا يقوم به برهان كما قال محمد الحسين في (أصل الشيعة وأصولها). إن أول من وضع بذرة التشيع في حقل الإسلام ـ هو نفس صاحب الشريعة ـ يعني أن بذرة التشيع وضعت مع بذرة الإسلام جنباً إلى جنب وسواء بسواء ولم يزل غارسها يتعاهدها بالسقي والعناية حتى نمت وازدهرت في حياته (1) ثم أثمرت بعد وفاته. وبمثل ذلك القول قال الآخر: " إن التشيع ظهر في أيام نبي الإسلام الأقدس الذي كان يغذي بأقواله عقيدة التشيع لعلي عليه السلام وأهل بيته ويمكنها في أذهان المسلمين ويأمر بها في مواطن كثيرة (2) ". ولم يظن المظفري الشيعي هذا كافياً فقال: إن الدعوة إلى التشيع ابتدأت من اليوم الذي هتف فيه المنقذ الأعظم محمد صلوات الله عليه صارخاً بكلمة لا إله إلا الله في شعاب مكة وجبالها ... فكانت الدعوة للتشيع لأبي الحسن عليه السلام من صاحب الرسالة تمشي منه جنباً لجنب مع الدعوة للشهادتين (3) ".   (1) [9389]- واستشهد على ذلك بروايات واهية موضوعة ومكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تصح منها ولا رواية واحدة مثل (أن علياً وشيعتهم لهم الفائزون) وعلى ذلك قال ابن الحديد الشيعي الغالي: أن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة فإنهم وضعوا في بدء الأمر أحاديث مختلقة في فضائل أئمتهم حملهم على وضعها عداوة خصومهم ((شرح نهج البلاغة)) (1/ 783). (2) [9391]- ((أصل الشيعة وأصولها)) (ص 87). (3) [9392]- ((تاريخ الشيعة)) لمحمد حسين المظفري (ص 8، 9) ط قم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 ولا يخفى ما فيه من المجازفة بالقول والغلو لأن معناه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدع إلى الإسلام وإلى وحدانية الله عز وجل والإقرار برسالته وطاعته وإلى الاتحاد والاتفاق والتآلف والمحبة والمودة بل كان يدعو إلى التحزب والتفرق والتشيع لعلي دون غيره كما أنه حسب دعوى المظفري كان يجعل علياً شريكاً له في نبوته ورسالته مع أن كلام الله المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي أنزله الرحمن وضمن حفظه قرآنه وبيانه خال من كل هذا بل وبعكس ذلك أنه مليء بالدعوة إلى طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والاعتصام بحبل الله وحده والتمسك بالقرآن والسنة والتجنب لما سواهما كما أمر المسلمين بالاتفاق والاتحاد والتسمي باسم الإسلام والمسلمين وكذلك الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) لا تشتمل ولا تصرح إلا بهذا كله لا غير فلقد قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ [الأنفال:20] وقال: َأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33] وقال: ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقال: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء:115] وقال: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] وقال: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ [النساء:65] وقال جلا وعلا: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103] وقال: وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46] وقال: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون:52] وقال: ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً وقال: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران:19] وقال: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].   (1) [9393]- والعجب كل العجب أن الشيعة الذين ينكرون الأحاديث الصحاح لرسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه لأن رواة هذه الأحاديث وحملتها هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلهم ارتدوا ـ عياذا بالله حسب زعمهم ـ يثقون بروايات هؤلاء ومروياتهم. ولا ندري كيف أن الشيعة يتمسكون بالروايات الموضوعة الباطلة والأحاديث الواهية المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لأنه اختلق هذه الروايات واخترعها رجال منهم أو وضعها رواتهم والدعاة إلى أباطيلهم وأضاليلهم. وقلما تجد الشيعة يتمسكون بحديث صحيح أو يعتقدون بل كل بضاعتهم الموضوعات أو الأساطير والقصص. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 وأخيرا أخبر الكون ومن في الكون بأنه لم يرسل نبيه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين إلا بما أرسل به الرسل والأنبياء من قبل حيث أمره أن يقول: قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ [الأحقاف:9] وكما قال: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ [الشورى:13] ولقد بين جلا وعلا سبحانه وتعالى مجملاً بما أرسل الرسل من قبله حيث قال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]. كما فصل في مواضع عديدة من القرآن بذكر كل واحد منهم برسالته وبمثل ذلك تماماً وردت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة. وأما القوم فهم على خلاف ما بينه الرب جل وعلا وبينه رسوله العظيم عليه الصلاة والسلام حيث يزعمون أنه لم يرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلا للدعوة إلى التشيع والتفرق وإلى الإشراك في ذات الله وصفاته وإشراكه علياً وأولاده في النبوة والرسالة والإطاعة ثم يسردون لإثبات ذلك روايات كلها باطلة وموضوعة رواية ودراية رواية, حيث إن الرواة الذين رووا تلك الأحاديث شيعة ضالون ووضاعون كذابون, ولم ترد هذه الروايات في كتب موثوقة معتمدة, ودراية حيث تعارض القرآن ونصوصه كما تخالف العقل, لأن العقل يقتضي أن لا يكون الشرائع مقصودها ومهمتها الدعوة إلى الحب لأشخاص والولاية لهم وبسبب هذه الولاية دخولهم في الجنة ونجاتهم من النار, كما أن الآيات القرآنية تنفي ذلك نفيا باتا حيث لم يجعل الحب وحتى حب الله كافياً للفوز والنجاح في الآخرة حيث قال الله عز وجل: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 وما الاتباع إلا الإيمان بالله والعمل الصالح حسب أوامر الله ونبيه صلى الله عليه وسلم والاجتناب عن نواهي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [يونس:9] وقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ [البروج:11].ولقد اضطربت أراء القوم أنفسهم في بدأ نشأة التشيع وتكوينه حيث قال إمام الشيعة في الفرق النوبختي أن نشأته لم تكن إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كتب: قبض رسول الله صلى الله عليه وآله في شهر ربيع الأول سنة عشر من الهجرة وهو ابن ثلاث وستين سنة وكانت نبوته عليه السلام ثلاثاً وعشرين سنة وأمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، فافترقت الأمة ثلاث فرق (فرقة منها) سميت الشيعة وهم شيعة علي بن أبي طالب عليه السلام ومنهم افترقت صنوف الشيعة كلها، وفرقة منهم ادعت الإمرة والسلطان وهم الأنصار ودعوا إلى عقد الأمر لسعد بن عبادة الخزرجي وفرقة " مالت إلي بيعة أبي بكر بن أبي قحافة وتأولت فيه أن النبي صلى الله عليه وآله لم ينص على خليفة بعينه وأنه جعل الأمر إلى الأمة تختار لأنفسها من رضيته, واعتقد قوم منهم برواية ذكروها أن رسول الله صلى الله عليه وآله أمره في ليلته التي توفي فيها بالصلاة بأصحابه فجعلوا ذلك الدليل على استحقاقه إياه, وقالوا: رضيه النبي صلى الله عليه وآله لأمر ديننا ورضيناه لأمر دنيانا وأوجبوا له الخلافة بذلك فاختصمت هذه الفرقة وفرقة الأنصار وصاروا إلى سقيفة بني ساعدة ومعهم أبو بكر وعمر وأبوعبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة الثقفي وقد دعت الأنصار إلى العقد لسعد بن عبادة الخزرجي والاستحقاق للأمر والسلطان فتنازعوا هم والأنصار في ذلك حتى قالوا: منا أمير ومنكم أمير فاحتجت هذه الفرقة عليهم بأن النبي عليه السلام قال: ((الأئمة من قريش) (1) وقال بعضهم أنه قال: ((الإمامة لا تصلح إلا في قريش)) (2) فرجعت الأنصار ومن تابعهم إلى أمر أبي بكر غير نفر يسير مع سعد بن عبادة ومن اتبعه من أهل بيته فإنه لم يدخل في بيعته حتى خرج إلى الشام مراغماً لأبي بكر وعمر فقتل هناك بحوران قتله الروم وقال آخرون: قتلته الجن فاحتجوا بالشعر المعروف وفي روايتهم أن الجن قالت: قد قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده ... ورميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده وهذا قول فيه بعض النظر لأنه ليس في المتعارف أن الجن ترمي بني آدم بالسهام فتقتلهم فصار مع أبي بكر السواد الأعظم والجمهور الأكثر فلبثوا معه ومع عمر مجتمعين عليهما راضين بهما (3) وأما ابن النديم الشيعي فيرى أن تكوين الشيعة لم يكن إلا يوم وقعة الجمل حيث قال:   (1) [9394]- رواه أحمد (3/ 129) (12329) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (3/ 467) والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (6/ 357). من حديث أنس رضي الله عنه. قال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (8/ 532): رجاله رجال الصحيح. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 195): رجال أحمد ثقات. وقال العراقي في ((المغني)) (4/ 129): إسناده صحيح. وقال ابن حجر في ((الفتح)) (1/ 246): متواتر، وصححه الألباني في ((الإرواء)) (520). (2) [9395] لم نجده بهذا اللفظ. (3) [9396]- ((فرق الشيعة)) النوبختي (ص 23 - 24). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 ولما خالف طلحة والزبير (1) عليا رضي الله عنه وأبيا إلا الطلب بدم عثمان وقصدهما علي عليه السلام ليقاتلهما حتى يفيئا إلى أمر الله تسمى من اتبعه على ذلك باسم الشيعة ". ومنهم من قال: اشتهر اسم الشيعة يوم صفين (2) ". وبمثل ذلك القول قال ابن حمزة وأبو حاتم وغيرهما من الشيعة وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه وبمثل هذا القول قال ابن حزم في (الفصل) (3) من المتقدمين وأحمد أمين (4) وغيره الكثيرون الكثيرون من المتأخرين. ويقول شيعي معاصر: إن استقلال الاصطلاح الدال على التشيع إنما كان بعد مقتل الحسين حيث إن التشيع أصبح كياناً مميزاً له طابع خاص (5). ولأجل ذلك اضطر محسن الأمين إلى أن يقول: سواء كان إطلاق هذا الاسم في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أو بعد الجمل فالقول بتفضيل علي عليه السلام وموالاته الذي هو معنى التشيع كان موجوداً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم واستمر بعده إلى اليوم (6) ". والمظفري يقول: فكان التجاهر بالتشيع أيام عثمان (7). وهو الصحيح (لأن الأسماء لا توجد قبل المسميات) ولا الأحزاب قبل الخلافات فلما وجد الخلاف تحزب لكل رأي حزب وتعصبوا جماعات وفرقاً فآنذاك وجدت الجماعات ووجدت لها الأسماء ولم يكن هناك خلاف بين المسلمين ولم يتعصب له أشخاص قبل مقتل عثمان ذي النورين رضي الله عنه وقبل النتائج التي نتجت من قتله وبعد تولية علي رضي الله عنه إمرة المؤمنين وخلافة المسلمين وعندئذ نشأ الخلاف فمنهم من رأى رأي علي رضي الله عنه وأنصاره, ومنهم من رأى رأي طلحة والزبير ثم رأي معاوية وأتباعه وهناك تحزب حزبان سياسيان كبيران بين المسلمين شيعة علي وشيعة معاوية وكل واحد من هؤلاء يرى رأيه في تولية الحكم وتدبير الأمور ودينهما واحد وعقائدهم واحدة متفقة كما بيناه آنفاً. نعم كان هناك خلاف قبل شهادة عثمان رضي الله عنه والذي جر إلى قتل عثمان ولكنه لم يكن إلا بين قادة اليهود والمخدوعين المغترين الواقعين في حبائل الدسائس اليهودية الأثيمة وبين المسلمين وإمامهم كما سيأتي بيانه في باب مستقل كما أنه وقعت الخلافات البسيطة الطفيفة ولكنها لم تبق إلا للحظات لرجوع الفريق الثاني إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم امتثالاً لقول الله عز وجل: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]. وحصيلة البحث أن التشيع الأول لم يكن مدلوله العقائد المخصوصة والأفكار المدسوسة، كما لم تكن الشيعة الأولى إلا حزباً سياسياً يرى رأي علي رضي الله عنه دون معاوية رضي الله عنه في عصر علي. وأما بعد استشهاده وتنازل الحسن عن الخلافة فكانوا مطاوعين لمعاوية أيضاً، مبايعين له، كما حصل مع إمامهم الحسن وأخيه الحسين وقائد عساكره قيس بن سعد، ولم يكن بينهم خلاف ديني ولا نزاع قبلي ولا عصبية الحسب والنسب، وكانوا يفدون على الحكام ويصلون خلفهم، كما كان الحسن والحسين هما ابنا علي وفاطمة وسبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفدان على معاوية). المصدر: الشيعة والتشيع لإحسان إلهي ظهير - ص14   (1) [9397]- ((الفهرست)) لابن النديم (ص 249) (2) [9398]- ((روضات الجنات)) للخوانساري (ص 88) (3) [9399]- ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (4/ 79) (4) [9400]- ((فجر الإسلام)) (ص266 ط 8) (5) [9401]- ((الصلة بين التصوف والتشيع)) لكامل مصطفى الشيبي (ص 23). (6) [9402]- ((أعيان الشيعة)) القسم الأول الجزء الأول (ص 13). (7) [9403]- ((تاريخ الشيعة)) لمحمد حسين المظفري (ص 15) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 الفصل الثالث: المراحل التي مر بها مفهوم التشيع كان مدلول التشيع في بدء الفتن التي وقعت في عهد علي رضي الله عنه بمعنى المناصرة والوقوف إلى جانب علي رضي الله عنه ليأخذ حقه في الخلافة بعد الخليفة عثمان، وأن من نازعه فيها فهو مخطئ يجب رده إلى الصواب ولو بالقوة. وكان على هذا الرأي كثير من الصحابة والتابعين، حيث رأوا أن علياً هو أحق بالخلاقة من معاوية بسبب اجتماع كلمة الناس على بيعته، ولا يصح أن يفهم أن هؤلاء هم أساس الشيعة ولا أنهم أوائلهم، إذ كان هؤلاء من شيعة علي بمعنى من أنصاره وأعوانه. ومما يذكر لهم هنا أنهم لم يكن منهم بغي على المخالفين لهم، فلم يكفروهم، ولم يعاملوهم معاملة الكفار بل يعتقدون فيهم الإسلام، وأن الخلاف بينهم لم يعدُ وجهة النظر في مسألة سياسية حول الخلافة وقد قيل: إن علياً كان يدفن من يجده من الفريقين دون تمييز بينهم. وقد أثمر موقف الإمام علي هذا فيما بعد، إذ كان تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية انطلاقاً من هذه المواقف الطيبة التي أبداها والده رضي الله عنهما. ولم يقف الأمر عند ذلك المفهوم من الميل إلى علي رضي الله عنه ومناصرته، إذ انتقل نقلة أخرى تميزت بتفضيل علي رضي الله عنه على سائر الصحابة، وحينما علم علي بذلك غضب وتوعد من يفضله على الشيخين بالتعزير، وإقامة حد الفرية عليه (1). وقد كان المتشيعون لعلي في هذه المرحلة معتدلين، فلم يكفروا واحداً من المخالفين لعلي رضي الله عنه ولا من الصحابة، ولم يسبوا أحداً، وإنما كان ميلهم إلى علي نتيجة عاطفة وولاء. وقد اشتهر بهذا الموقف جماعة من أصحاب علي، قيل منهم أبو الأسود الدؤلي، وأبو سعيد يحيى بن يعمر، وسالم بن أبي حفصة، ويقال: إن عبد الرزاق صاحب (المصنف في الحديث) وابن السكيت على هذا الاتجاه (2). ثم بدأ التشيع بعد ذلك يأخذ جانب التطرف والخروج عن الحق، وبدأ الرفض يظهر وبدأت أفكار ابن سبأ تؤتي ثمارها الشريرة فأخذ هؤلاء يظهرون الشر، فيسبون الصحابة ويكفرونهم ويتبرءون منهم، ولم يستثنوا منهم إلا القليل كسلمان الفارسي، وأبي ذر، والمقداد، وعمار بن ياسر، وحذيفة. وحكموا على كل من حضر (غدير خم) بالكفر والردة لعدم وفائهم –فيما يزعم هؤلاء – ببيعة علي وتنفيذ وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بعلي في (غدير خم) المذكور. وكان عبد الله بن سبأ هو الذي تولى كبر هذه الدعوة الممقوتة الكافرة، وقد علم علي بذلك فنفاه إلى المدائن وقال: (لا تساكنني ببلدةٍ أبداً).وأخيراً بلغ التشيع عند الغلاة إلى الخروج عن الإسلام، حيث نادى هؤلاء بألوهية علي. وقد تزعم هذه الطبقة ابن سبأ، ووجد له آذاناً صاغية عند كثير من الجهال، ومن الحاقدين على الإسلام. وقد أحرق علي رضي الله عنه بالنار كل من ثبت أنه قال بهذا الكفر، وكان له مع ابن سبأ موقف نذكره بالتفصيل عند ذكر فرقة السبئية (3). المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 313   (1) انظر: ((مختصر التحفة الاثني عشرية)) (ص 5 - 6). (2) انظر: ((مختصر التحفة الاثني عشرية)) (ص5)، وهم ثقاة كما في ((تقريب التهذيب)) إلا سالم بن أبي حفصة، فقد قال عنه: صدوق في الحديث إلا أنه شيعي غال انظر: (1/ 279)، وقال عن عبد الرزاق بن همام: ثقة حافظ ... وكان يتشيع (1/ 505). (3) انظر: ((مختصر التحفة)) (ص 3)، ((الشيعة والتشيع)) (ص 40 - 41). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 الفصل الرابع: أسماء الشيعة الشيعة: وهو أشهر اسم من أسمائهم، ويشمل جميع فرقهم، ولا خلاف بين العلماء في إطلاقه عليهم كاسم علم. الرافضة: وقد أطلقه عليهم بعض العلماء فجعله اسماً لجميع الشيعة. الزيدية: وهي تسمية لبعض الناس يطلقونها على جميع الشيعة (1). وكل هذه الأسماء الثلاثة وردت من خلال كتابات بعض العلماء عن طائفة الشيعة، واختيار كل منهم للاسم الذي يطلقه عليهم لا أن هذه التسميات بالاتفاق أو بهذا الترتيب. والواقع أن إطلاق اسم الرافضة على عموم الشيعة، بمن فيهم بعض فرقهم كالزيدية التي نشأت في نهاية القرن الأول للهجرة غير سديد، لأن التسمية -رافضة- إنما أخذت من قول زيد بن علي لبعض الشيعة: (رفضتموني) (2) فسموا الرافضة. وليس معنى هذا أنهم لم يكونوا على عقيدة الرفض بل هم رافضة، ولهذا طلبوا من زيد أن يكون رافضياً مثلهم فامتنع. لكن لم تجرِ هذه التسمية عليهم قبل ذلك، ومعنى هذا أن الشيعة كان لهم وجود قبل زيد تحت أسماء أخرى كما سيأتي بيانه. وكذا إطلاق اسم الزيدية على جميع فرق الشيعة (3) يرد عليه اعتراض، فقد كانت الشيعة لهم وجود قبل زيد الذي تنسب إليه الزيدية متمثلاً في فرق السبئية والكيسانية. ثم إن الزيدية لا تقول بكل مقالات الشيعة الغلاة، بل بينهما خلافات حادة في كثير من الآراء، وسباب كما ذكره البغدادي، وهو واضح من موقف زيد نفسه فلم يرفض زيد خلافة الشيخين ولم يسبهما. ويتضح من هذا أن إطلاق اسم الشيعة على كل طوائف التشيع لا يرد عليه اعتراض إذا أريد به اسم علم، بغض النظر عن صدق هذا الاسم عليهم أو عدم صدقه، فقد يكون الاسم من المسلمين وصاحبه من الملحدين، وقد يكون العكس، فلا تأثير للأسماء في الحقيقة والواقع. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 316   (1) انظر: ((الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة)) (ص 146). (2) انظر: ((الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة)) (ص 146). (3) انظر: ((الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة)) (ص 146). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 تمهيد انقسمت الشيعة إلى فرق عديدة، أوصلها بعض العلماء إلى يقارب سبعين فرقة (1). وبدراسة تلك الفرق قد يتضح أن منهم الغلاة الذين خرجوا عن الإسلام وهم يدَّعونه ويدَّعون التشيع، ومنهم دون ذلك، ويمكن أن نقتصر على دراسة أربع فرق كان لها دور بارز في العالم الإسلامي وهي: - السبئية. - الكيسانية. - الزيدية. - الرافضة. والرافضة الاثنا عشرية هي الواجهة البارزة في عصرنا الحاضر للتشيع. وقبل الخوض في تفاصيل تلك الفرق نذكر السبب في تفرق الشيعة ذلك التفرق، ونذكر أيضاً السبب في عدم اتفاق العلماء على عدد فرق الشيعة. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 318   (1) ((مختصر التحفة الاثني عشرية))، القسم الأول من الكتاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 المبحث الأول: السبب في تفرق الشيعة من الطبيعي جداً أن يحصل خلاف بين الشيعة، شأنهم شأن بقية الفرق أهل الأهواء، فما داموا قد خرجوا عن النهج الذي ارتضاه الله لعباده، واستندوا إلى عقولهم وأهوائهم فلا بد أن نتوقع الخلافات خصوصاً حينما يكون الخلاف مراداً لذاته. ونضيف إلى هذا أنه ربما يعود تفرق الشيعة إلى عدة أسباب بعضها ظاهر وبعضها غير ظاهر، ومن ذلك: أولاً: اختلافهم في نظرتهم إلى التشيع: إذ منهم الغالي المتطرف الذي يسبغ على الأئمة هالة من التقديس والإطراء، وعلى من خالفهم أحط الأوصاف وأشنع السباب، بل وإطلاق الكفر عليهم، مما يكون بعد ذلك هوة عميقة لاختلاف وجهات النظر، ومنهم من اتصف بنوع من الاعتدال، فلا يرى أن المخالفين لهم كفار وإن كانوا على خطأ كما يرى هؤلاء. ثانياً: اختلافهم في تعيين أئمتهم من ذرية علي. فمنهم من يقول هذا، ومنهم من يقول ذلك، كما سيتضح ذلك من دراستنا لهذه الطائفة حينما ندرس مواقف الاثني عشرية والزيدية والنصيرية والباطنية في تعيين الأئمة، وكيفية تسلسلهم فيها. ثالثاً: كون التشيع مدخلاً لكل طامع في مأرب: وحينما كان التشيع مدخلاً لكل طامع في مأرب فقد أحدث هؤلاء الطامعون في السلطة، أو في الانتقام من الآخرين أو في حب الظهور – أحدث هؤلاء انشقاقاً كبيراً بين صفوف الشيعة حينما طلبوا تحقيق أغراضهم بالتظاهر بالتشيع لآل البيت، ثم البدء بما يهدفون إليه. فمثلاً دخلت الباطنية عن طريقهم، وتزعم المختار عن طريقهم، وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 319 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 المبحث الثاني: عدد فرقهم وكشأن العلماء في اختلافهم في عدد الفرق نجدهم قد اختلفوا في عدد فرق الشيعة. فالأشعري (1) مثلاً يذكر أنهم ثلاث فرق رئيسية، وما عداها فروع. بينما نرى البغدادي (2) وهو يسمي الشيعة الروافض – أي بما فيهم السبئية والزيدية- يعدهم أربعة أصناف والباقي فروعاً لهم. ويعدهم الشهرستاني (3) خمس فرق والباقي فروعاً لهم. وبعضهم يعدهم أكثر بكثير من هذه الأعداد كما قدمنا، والأقرب إلى الصواب أن يقال: إن من أكبر فرقهم أكثرهم نفوذاً ووجوداً في العالم الإسلامي إلى اليوم فرقة الإمامية الرافضة وفرقة الزيدية. ومما لا شك فيه أن هذا الاختلاف تكمن وراءه أسباب. فما هي تلك الأسباب أو الظاهر منها؟ المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 320   (1) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 65). (2) ((الفرق بين الفرق)) (ص21). (3) ((الملل والنحل)) (1/ 147). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 المبحث الثالث: السبب في عدم اتفاق العلماء على عدد فرق الشيعة؟ ذكرنا قبل قليل أن فكرة التشيع قد جذبت إليها كثيراً من أهل الأهواء والأغراض، وهؤلاء بدءوا يُدخلون في الإسلام ما لا يتفق مع الإسلام، بل يتفق مع هواهم، فأضافوا إلى الفكر الشيعي أفكاراً جديدة أسهمت في كثرة تفرق من ينتسب إلى التشيع. وهذه الكثرة والظهور المتتابع جعلت العلماء لا يتفقون في عدهم لهم، ومن هنا بدأ علماء الفرق يسجلون ما يصل إليهم من عدد فرق الشيعة، فجاء عدّهم غير منضبط لتجدد الأفكار الشيعية وتقلبها. وربما أيضاً لتباعد هؤلاء العلماء فيما بينهم، ولكثرة ظهور الفرق الشيعية أيضاً في تتابع لم يمكِّن العلماء من ملاحقته ورصده، بل وربما يوجد لكثير من هذه الفرق رغبة ملحة في صرف الأنظار عنهم فيحاولون زيادة التشويش لصرف التوجيه إليهم ودراستهم ومتابعة حركاتهم المريبة، ليتم لهم تنفيذ مآربهم بهدوء دون أن يفطن الناس لهم. إضافة إلى ذلك التشويش الحاصل فعلاً في طريقتهم عند طباعة كتبهم بحيث لا يهتدي الشخص إلى المكان الذي يريد تسجيله عليهم للاختلاف البعيد بين طبعات الكتاب الواحد، واختلاف الصفحات. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 321 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 المطلب الأول: التعريف بالسبئية ومؤسسها السبئية هم أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي. قيل: إنه من الحيرة (1) بالعراق، وقيل: –وهو الراجح- إنه من أهل اليمن من صنعاء (2)، وقيل أصله رومي (3). أظهر الإسلام في زمن عثمان خديعة ومكراً، وكان من أشد المحرضين على الخليفة عثمان رضي الله عنه حتى وقعت الفتنة. وهو أول من أسس التشيع على الغلو في أهل البيت، ونشط في التنقل من بلد إلى بلد؛ الحجاز والبصرة والكوفة، ثم إلى الشام، ثم إلى مصر وبها استقر، ووجد آذاناً صاغية لبثّ سمومه ضد الخليفة عثمان والغلو في علي، وهذا النشاط منه في نشر أفكاره مما يدعو إلى الجزم بأن اليهود يموِّلونه، إذ كلما طرد من بلد انتقل إلى آخر بكل نشاط، ولاشك أنه يحتاج في تنقله هو وأتباعه إلى من يموِّلهم وينشر آراءهم، ومن يتولى ذلك غير اليهود الذين آزروه في إتمام خطته ليجنوا ثمارها بعد ذلك الفرقة وتجهيل المسلمين والتلاعب بأفكارهم. وقد بدأ ينشر آراءه متظاهراً بالغيرة على الإسلام، ومطالباً بإسقاط الخليفة إثر إسلامه المزعوم. ثم دعا إلى التشيع لأهل البيت وإلى إثبات الوصاية لعلي إذ إنه –كما زعم- ما من نبي إلا وله وصي، ثم زعم بعد ذلك أن علياً هو خير الأوصياء بحكم أنه وصي خير الأنبياء. ثم دعا إلى القول بالرجعة (4) ثم إلى القول بألوهية علي، وأنه لم يقتل بل صعد إلى السماء، وأن المقتول إنما هو شيطان تصور في صورة علي، وأن الرعد صوت عليّ، والبرق سوطه أو تبسمه، إلى غير ذلك من أباطيله الكثيرة. وفيما أرى أنه قد بيّت النية لمثل هذه الدعاوى، ولهذا لم يفاجئه موت علي بل قال وبكل اطمئنان وثبات لمن نعاه إليه: (والله لو جئتمونا بدماغه في صرة لم نصدق بموته، ولا يموت حتى ينزل من السماء ويملك الأرض بحذافيرها) (5). وهذه الرجعة التي زعمها لعلي كان قد زعمها لمحمد صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: (إنه ليعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع، ويكذب بأن محمداً يرجع). واستدل بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص:85]. وقد كذب عدو الله وأخطأ فهم الآية أو تعمد ذلك في أن المعاد هنا هو رجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا قبل يوم القيامة، فلم يقل بهذا أحد من المفسرين، وإنما فسروا المعاد بأنه: الموت. أو الجنة. أو أنه رجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه يوم القيامة. أو رجوعه إلى مكة (6). وهي أقوال لكل واحد منها حظ من النظر بخلاف قول ابن سبأ، فإنه قول يهودي حاقد كاذب على الله دون مبالاة. وقد تبرأ جميع أهل البيت من هذا اليهودي، ويذكر أن بعض الشيعة قد تبرأ منه أيضاً (7).   (1) انظر: ((الفرق بين الفرق)) (ص 235). (2) انظر: ((تاريخ الطبري)) (4/ 340). (3) انظر: ((البداية والنهائية)) (7/ 173). (4) انظر: ((المقالات)) للأشعري (1/ 86). (5) انظر: ((الفرق بين الفرق)) (ص 234). (6) انظر: ((تفسير القرآن العظيم)) (3/ 402 - 403). (7) انظر: ((مقالات القمي)) (ص20). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 322 إن عبد الله بن سبأ كان يهودياً من أهل صنعاء. أمه سوداء " وقد كان عبد الله بن سبأ هذا يهودياً في قلبه حفيظة على الدين الجديد الذي أزال ما كان اليهود يتمتعون به من الهيمنة والسلطان على عرب المدينة والحجاز عامة، فأسلم في أيام عثمان، ثم تنقل في بلاد الحجاز، ثم ذهب إلى البصرة، ثم إلى الكوفة، ثم إلى الشام، وهو يحاول في كل بلد ينزل بها أن يضل ضعاف الأحلام، ولكنه لم يستطع السبيل إلى ذلك، فأتى مصر فأقام بين أهلها، وما فتئ يلفتهم عن أصول دينهم، ويزيد لهم بما يزخرفه من القول حتى وجد مرتعاً خصباً، وكان مما قاله لهم: إني لأعجب كيف تصدقون أن عيسى بن مريم يرجع إلى هذه الدنيا وتكذبون أن محمداً يرجع إليها؟. وما زال بهم حتى انقادوا إلى القول بالرجعة وقبلوا ذلك منه، فكان هو أول من وضع لأهل هذه الملة القول بالرجعة وقبلوا ذلك منه، إنه قد كان لكل نبي وصي، وأن علي بن أبي طالب هو وصي محمد صلى الله عليه وسلم! وليس في الناس من هو أظلم ممن احتجر وصية رسول الله ولم يجزها، بل هو يتعدى ذلك فيثب على الوصي ويقتسره على حقه، وإن عثمان قد أخذ حق علي وظلمه، فانهضوا في هذا الأمر، وليكن سبيلكم إلى إعادة الحق لأهله الطعن على أمرائكم وإظهار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنكم تستميلون بذلك قلوب الناس، واتخذ لهذه الدعوة وأنصار بَثَّهم في الأمصار، وما زال يكاتبهم ويكاتبونه حتى نفذ قضاء الله، وكان الضحية الأولى لهذه المؤامرة ذلك الخليفة الذي قتل مظلوماً، وبين يديه كتاب الله واعتدى على منزله وحرمه، وكان قضاء الله قدراً مقدورا (1). ولقد ذكره أقدم المؤرخين الطبري (2) عنه بقوله: كان عبد الله بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء أمه سوداء فأسلم زمان عثمان ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم فبدأ بالحجاز ثم البصرة ثم الكوفة ثم الشام فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام فأخرجوه حتى أتى مصر فاعتمر فيهم فقال لهم فيما يقول: لعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب بأن محمد يرجع وقد قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص:85] فمحمد أحق بالرجوع من عيسى.   (1) ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/ 50) الهامش ط مصر. (2) [9422]- بهذا الاسم يوجد أكثر من مؤلف ولكن أشهرهم هو الطبري أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن غالب الآملي السني إمام المفسرين توفي في 310هـ، ويوجد آخر مشهور عند الشيعة بنفس الاسم والكنية وهو أبو جعفر، محمد بن جرير بن رستم الطبري الآملي المازندراني من الرجال البارزين في فقه الشيعة في القرن الخامس الهجري ومن معاصري الشيخ الطوسي والشيخ النجاشي وله مؤلفات منها ((دلائل الإمامة والرواة من أهل البيت)) و ((غريب القرآن ونور المعجزات)) وغيرها توفي في القرن الخامس الهجري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 قال: فقبل ذلك عنه ووضع لهم الرجعة فتكلموا فيها ثم قال لهم بعد ذلك: أنه كان ألف نبي ولكل نبي وصي وكان علي وصي محمد ثم قال: محمد خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصياء ثم قال بعد ذلك: من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ووثب على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتناول أمر الأمة ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حق وهذا وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم فانهضوا في هذا الأمر فحركوه وابدءوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس وادعوهم إلى هذا الأمر فبث دعاته وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون فيقرأه أولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم حتى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الأرض إذاعة يريدون غير ما يظهرون ويسرون غير ما يبدون فيقول أهل كل مصر: إنا لفي عافية مما فيه الناس وجامعه محمد وطلحة من هذا المكان قالوا فأتوا عثمان فقالوا: يا أمير المؤمنين أيأتيك عن الناس الذي يأتينا قال: لا والله ما جاءني إلا السلامة قالوا: فإنا قد أتانا وأخبروه بالذي أسقطوا إليهم قال فأنتم شركائي وشهود المؤمنين فأشيروا علي قالوا: نشير عليك أن تبعث رجالاً ممن تثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليك بأخبارهم فدعا محمد بن مسلمة فأرسله إلى الكوفة وأرسل أسامة بن زيد إلى البصرة وأرسل عمار بن ياسر إلى مصر وأرسل عبد الله بن عمر إلى الشام وفرق رجالاً سواهم فرجعوا جميعاً قبل عمار فقالوا: أيها الناس ما أنكرنا شيئاً ولا أنكره أعلام المسلمين ولا عوامهم وقالوا جميعاً الأمر أمر المسلمين إلا أن أمراءهم يقسطون بينهم ويقومون عليهم واستبطأ الناس عماراً حتى ظنوا أنه قد اغتيل فلم يفجأهم إلا كتاب من عبد الله بن سعد بن أبي سرح يخبرهم أن عمار قد استماله قوم مصر وقد انقطعوا إليه منهم عبد الله بن السوداء وخالد بن ملجم وسودان بن حمران وكنانة بن بشر (1) ".وبمثل ذلك قال ابن كثير وابن الأثير (2) ... ثم كان في مصر، ومن مصر جاء مع قتلة عثمان إلى المدينة. خرج أهل مصر في أربع رفاق على أربعة أمراء، المقلل يقول ستمائة والمكثر يقول ألف على الرفاق عبد الرحمن بن عديس البلوي وكنانة بن بشر الليثي وسودان بن حمران السكوني وقتيرة بن فلان السكوني وعلى القوم جميعاً الغافقي بن حرب العكي، ولم يجترئوا أن يعلموا الناس بخروجهم إلى الحرب وإنما خرجوا ومعهم ابن سوداء (3) ". المصدر: الشيعة والتشيع لإحسان إلهي ظهير - ص29   (1) [9423]- ((الطبري)) (5/ 98 - 99). (2) [9424]- ((البداية والنهاية)) (7/ 167) ط بيروت (3) [9425]- ((الطبري)) (5/ 103، 104). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 المطلب الثاني: الأفكار اليهودية المدسوسة ولقد أخبرنا عن أفكار ابن السوداء هذا، والتي حملها من اليهود المبغضين لرسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين وأمته أشد البغض وما جاء به عن الله تبارك وتعالى، الناقمين عليه وعليهم، والمكايدين والماكرين له ولهم، من أول يوم دخلوا يثرب وحولوها إلى المدينة، وقضوا على يهود قينقاع وبني النضير وبني المصطلق ويهود خيبر وغيرهم، يخبرنا عن كل ذلك أقدم مؤرخ شيعي، وأول من كتب في الفرق من القوم ألا وهو النوبختي أبو محمد الحسن بن موسى من أعلام الشيعة في القرن الثالث للهجرة فقال: " السبئية: أصحاب عبد الله بن سبأ وكان ممن أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وتبرأ منهم، وقال: إن علياً ـ عليه السلام ـ أمره بذلك، فأخذه علي فسأله عن قوله هذا، فأقر به، فأمر بقتله، فصاح الناس إليه: يا أمير المؤمنين أتقتل رجلاً يدعو إلى حبكم أهل البيت وإلى ولايتك والبراءة من أعدائك؟. فصيره إلى المدائن. وحكى جماعة من أهل العلم من أصحاب علي ـ عليه السلام ـ أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم ووالى علياً ـ عليه السلام ـ وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون بعد موسى ـ عليه السلام ـ بهذه المقالة، فقال بعد إسلامه في علي ـ عليه السلام ـ بمثل ذلك، وهو أول من شهر القول بفرض إمامة علي ـ عليه السلام ـ وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه، فمن هناك قال من خالف الشيعة: إن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية، ولما بلغ عبد الله بن سبأ نعي علي بالمدائن قال للذي نعاه: كذبت لو جئتنا بدماغه في سبعين صرة وأقمت على قتله سبعين عدلاً لعلمنا أنه لم يقتل، ولا يموت حتى يملك الأرض (1) ". ويذكر أبو عمرو بن عبد العزيز الكشي من علماء القرن الرابع للشيعة في أقدم كتاب شيعي في الرجال عديدا من الروايات عن عبد الله بن سبأ وعقائده وأفكاره نثبت بعضاً منها هاهنا: حدثني محمد بن قولويه. قال: حدثني سعد بن عبد الله. قال حدثنا يعقوب بن يزيد ومحمد بن عيسى عن علي بن مهزيار عن فضالة بن أيوب الأزدي عن أبان بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لعن الله عبد الله بن سبأ إنه ادعى الربوبية في أمير المؤمنين عليه السلام، وكان والله أمير المؤمنين عليه السلام عبداً لله طائعاً، الويل لمن كذب علينا، وأن قوماً يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا، نبرأ إلى الله منهم، نبرأ إلى الله منهم ". وبهذا الإسناد عن يعقوب بن يزيد عن ابن أبي عمير وأحمد بن محمد بن عيسى عن أبيه والحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي حمزة الثمالي قال: قال علي بن الحسين ـ صلوات الله عليهما: لعن الله من كذب علينا إني ذكرت عبد الله بن سبأ فقامت كل شعرة في جسدي، لقد ادعى أمراً عظيماً ماله لعنه الله، كان علي ـ عليه السلام ـ والله عبداً صالحاً أخا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما نال الكرامة من الله إلا بطاعته لله ولرسوله صلى الله عليه وآله، وما نال رسول الله صلى الله عليه وآله الكرامة من الله إلا بطاعته لله.   (1) [9426]- ((فرق الشيعة)) للنوبختي (ص 41، 42) ط المطبعة الحيدرية نجف بتعليق آل بحر العلوم ط 1959م. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 وبهذا الإسناد: عن محمد بن خالد الطيالسي عن ابن أبي نجران عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ إنا أهل بيت صديقون لا نخلوا من كذاب يكذب علينا ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس، كان رسول الله صلى الله عليه وآله أصدق الناس لهجة وأصدق البرية كلها وكان مسيلمة يكذب عليه، وكان أمير المؤمنين عليه السلام أصدق من برأ الله بعد رسول الله وكان الذي يكذب عليه ويعمل في تكذيب صدقه ويفتري على الله الكذب عبد الله بن سبأ. وذكر بعض أهل العلم أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم ووالى علياً ـ عليه السلام ـ وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون (وصي موسى بالغلو) فقال في إسلامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله في علي ـ عليه السلام ـ مثل ذلك، وكان أول من أشهر بالقول بفرض إمامة علي وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه وكفرهم فمن هنا قال من خالف الشيعة إن أصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهودية (1) ". وقال الحلي الشيعي الحسن بن علي في كتابه (الرجال) المشهور: " عبد الله بن سبأ رجع إلى الكفر وأظهر الغلو، كان يدعي النبوة وأن علياً ـ عليه السلام ـ هو الله، فاستتابه عليه السلام ثلاثة أيام فلم يرجع، فأحرقه في النار في جملة سبعين رجلاً ادعوا فيه ذلك (2) ".ومثل ذلك القول قال إمام متأخري الشيعة في الرجال الماماقاني كتابه (تنقيح المقال (3) " وذكر مؤرخ شيعي إيراني في تاريخه بالفارسية: إن عبد الله بن سبأ توجه إلى مصر حينما علم أن مخالفيه (أي عثمان بن عفان) كثيرون هناك، فتظاهر بالعلم والتقوى، حتى افتتن الناس به، وبعد رسوخه فيهم بدا يروج مذهبه ومسلكه، وإن لكل نبي وصياً وخليفة، فوصي رسول الله وخليفته ليس إلا علياً، المتحلي بالعلم والفتوى، والمتزين بالكرم والشجاعة، والمتصف بالأمانة والتقى، وقال: إن الأمة ظلمت علياً، وغصبت حقه، حق الخلافة والولاية، ويلزم الآن على الجميع مناصرته ومعاضدته وخلع طاعة عثمان وبيعته، فتأثر كثير من المصريين بأقواله وآرائه، وخرجوا على الخليفة عثمان (4) ". ومثل ذلك قال الرجالي الشيعي الإسترا آبادي: إن عبد الله بن سبأ كان يدعي النبوة ويزعم أن أمير المؤمنين "ع" هو الله تعالى، فبلغ أمير المؤمنين ذلك فدعاه وسأله، فأقر، وقال: نعم أنت هو. فقال له أمير المؤمنين: قد سخر منك الشيطان، فارجع عن هذا وتب ثكلتك أمك، فأبى، فحبسه ثلاثة أيام، فلم يتب، فأحرقه بالنار (5) ". ولكن ابن أبي الحديد الشيعي الغالي المعتزلي شارح النهج يخالف ذلك بأن علياً أحرقه فإنه يرى أن القول بتأليه علي لم يظهره عبد الله بن سبأ إلا بعد وفاة علي ـ رضي الله عنه ـ فأظهره واتبعه قوم فسموا السبئية (6) ". ويؤيده في ذلك من السنة عبد القادر البغدادي ولكنه يضيف إلى ذلك أن علياً لم يحرقه خوفاً من شماتة أهل الشام حيث يذكر ابن سبأ والسبئية: السبئية أتباع عبد الله بن سبأ الذي غلا في علي ـ رضي الله عنه ـ وزعم أنه كان نبياً، ثم غلا فيه حتى زعم أنه إله، ودعا إلى ذلك قوماً من غواة الكوفة، ورفع خبرهم إلى علي ـ رضي الله عنه ـ فأمر بإحراق قوم منهم في حفرتين، حتى قال بعض الشعراء في ذلك: لترم بي الحوادث حيث شاءت ... إذا لم ترم بي في الحفرتين   (1) [9427]- ((رجال الكشي)) (ص 100 - 101). (2) [9428]- ((كتاب الرجال)) للحلي (ص 469) ط طهران ط 1383هـ. (3) [9429]- (2/ 184) ط إيران. (4) [9430]- ((تاريخ شيعي)): ((روضة الصفا في اللغة الفارسية)) (2/ 292) ط طهران. (5) [9431]- ((منهج المقال)) (ص 203). (6) [9432]- ((شرج نهج البلاغة)) (2/ 309). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 ثم إن علياً ـ رضي الله عنه ـ خاف من إحراق الباقين منهم شماتة أهل الشام، وخاف اختلاف أصحابه عليه، فنفى ابن سبأ إلى سباط المدائن، فلما قتل علي ـ رضي الله عنه ـ زعم ابن سبأ أن المقتول لم يكن علياً، وإنما كان شيطانا تصور للناس في صورة علي، وأن علياً صعد إلى السماء كما صعد إليها عيسى بن مريم ـ عليه السلام ـ وقال: كما كذبت اليهود والنصارى في دعواها قتل عيسى كذلك كذبت النواصب والخوارج في دعواها قتل علي، وإنما رأت اليهود والنصارى شخصاً مصلوباً شبهوه بعيسى، كذلك القائلون بقتل علي رأوا قتيلا يشبه علياً فظنوا أنه علي، وعلي قد صعد إلى السماء، وأنه سينزل إلى الدنيا وينتقم من أعدائه وزعم بعض السبئية أن علياً في السحاب وأن الرعد صوته والبرق صوته، ومن سمع من هؤلاء صوت الرعد قال: عليك السلام يا أمير المؤمنين. وقد روي عن عامر بن شراحيل الشعبي أن ابن سبأ قيل له: إن علياً قد قتل، فقال: إن جئتمونا بدماغه في صرة لم نصدق بموته، لا يموت حتى ينزل من السماء ويملك الأرض بحذافيرها. وهذه الطائفة تزعم أن المهدي المنتظر إنما هو علي دون غيره، وفي هذه الطائفة قال إسحاق بن سويد العدوي قصيدة بريء فيها من الخوارج والروافض والقدرية منها هذه الأبيات: برئت من الخوارج لست منهم ... من الغزال منهم وابن باب ولكني أحب بكل قلبي ... وأعلم أن ذاك من الصواب رسول الله والصديق حبا ... به أرجو غداً حسن الثواب ... وقال المحققون من أهل السنة: إن ابن السوداء كان على هوى دين اليهود، وأراد أن يفسد على المسلمين دينهم بتأويلاته في علي وأولاده لكي يعتقدوا فيه ما اعتقدت النصارى في عيسى ـ عليه السلام ـ فانتسب إلى الرافضة السبئية حين وجدهم أعرق أهل الأهواء في الكفر ودلس ضلالته في تأويلاته (1). وذكر هذه وعقائده وجماعته من الشيعة كل من سعد القمي المتوفي 301هـ (2) ". والطوسي شيخ الطائفة. (3) والتستري في (قاموس الرجال) (4) وعباس القمي في (تحفة الأحباب) (5) والخوانساري في (روضات الجنات) (6) والأصبهاني في (ناسخ التواريخ) وصاحب (روضة الصفا) في تاريخه (7) ". كما ذكر عقائده علماء من السنة كالبغدادي في (الفرق بين الفرق) كما مر آنفاً. وبمثل هذا قال الإسفراييني في كتابه (التبصير (8) والرازي في اعتقادات فرق المسلمين والمشركين (9) وابن حزم في الفصل وغيرهم. وقال الشهرستاني تحت عنوان السبئية: السبئية أصحاب عبد الله بن سبأ الذي قال لعلي ـ عليه السلام: أنت أنت يعني أنت الإله، فنفاه إلى المدائن، وزعموا أنه كان يهودياً فأسلم، وكان في اليهودية يقول في يوشع بن نون وصي موسى مثل ما قال في علي ـ عليه السلام ـ وهو أول من أظهر بالرفض بإمامة علي، ومنه انشعبت أصناف الغلاة، وزعموا أن علياً حي لم يقتل وفيه الجزء الإلهي، ولا يجوز أن يستولى عليه، وهو الذي يجيء في السحاب والرعد صوته والبرق سوطه، وإنه سينزل بعد ذلك إلى الأرض فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورا، وإنما أظهر ابن سبأ هذه المقالة بعد انتقال علي ـ عليه السلام ـ (10) ".   (1) [9433]- ((الفرق بين الفرق)) (ص 233 ـ 235) ط مصر. (2) [9434]- ((المقالات والفرق)) لسعد بن عبد الله الشيعي القمي: (ص 21) ط طهران 1963م. (3) [9435]- ((رجال الطوسي) (ص 51) ط نجف 1961 م. (4) [9436]- (5/ 463). (5) [9437]- (ص 184) (6) [9438]- ((روضات الجنات)) (7) [9439]- (3/ 393) ط إيران. (8) [9440]- (ص 108 - 109) (9) [9441]- (ص 57) ط دار الكتب العلمية (10) [9442]- ((الملل والنحل)) (2/ 11): بهامش (الفصل). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 وقال ابن عساكر في (تاريخه) عن جابر قال: لما بويع علي ـ رضي الله عنه ـ خطب الناس فقام إليه عبد الله بن سبأ فقال له: أنت دابة الأرض، فقال له: اتق الله، فقال له: أنت الملك، فقال اتق الله، فقال له: أنت خلقت الخلق وبسطت الرزق، فأمر بقتله، فاجتمعت الرافضة فقالت: دعه وانفه إلى سابط المدائن (1) " ... وأخيراً ننقل ما كتبه أحمد أمين عنه وعن جماعته: انتشرت الجماعة السرية في آخر عهد عثمان تدعو إلى خلعه وتولية غيره، ومن هذه الجمعيات من كانت تدعو إلى علي، ومن أشهر الدعاة له عبد الله بن سبأ ـ وكان من يهود اليمن فأسلم ـ فقد تنقل في البصرة والكوفة والشام ومصر يقول: إنه كان لكل نبي وصي، وعلي وصي محمد، فمن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ووثب على وصيه، وكان من أكبر الذين ألبوا على عثمان حتى قتل (2) ". " وأنه وضع تعاليم لهدم الإسلام، وألف جمعية سرية لبث تعاليمه، واتخذ الإسلام ستاراً يستر به نياته، نزل البصرة بعد أن أسلم ونشر فيها دعوته فطرده واليها، ثم أتى الكوفة فأخرج منها، ثم جاء مصر فالتف حوله ناس من أهلها، وأشهر تعاليمه: الوصاية والرجعة. فأما الوصاية فقد أبناها قبل، وكان قوله فيها أساس تأليب أهل مصر على عثمان، بدعوى أن عثمان أخذ الخلافة من علي بغير حق، وأيد رأيه بما نسب إلى عثمان من مثالب، وأما الرجعة فقد بدأ قوله بأن محمداً يرجع، وكان مما قاله: العجب ممن يصدق أن عيسى يرجع، ويكذب أن محمداً يرجع، ثم نراه تحول ـ ولا ندري لأي سبب ـ إلى القول بأن علياً يرجع. وقال ابن حزم: إن ابن سبأ قال ـ لما قتل علي ـ لو أتيتموني بدماغه ألف مرة ما صدقنا موته، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وفكرة الرجعة هذه أخذها ابن سبأ من اليهودية، فعندهم أن النبي إلياس (عليه السلام) صعد إلى السماء، وسيعود فيعيد الدين والقانون، ووجدت الفكرة في النصرانية أيضاً في عصورها الأولى (3) ". فهذا هو عبد الله بن سبأ وهذه دعوته وأفكاره وعقائده، وهذه هي الأفكار التي حملها من اليهودية والمجوسية وغيرها بخطة مدبرة ومؤامرة محكمة من قبل أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم والإسلام وأعداء الأمة وقادتها وأبطالها لبث سمومها بين المسلمين باسم الإسلام. وسوف نرى ونحقق كيف اعتنق الشيعة هذه الأفكار وتمسكوا بهذه العقائد، وكيف تطور التشيع الأول وتغيرت الشيعة الأولى وتسربت فيهم نفس الأفكار التي كان يرد عليها ويعارضها علي ـ رضي الله عنه ـ وكيف توغل في الشيعة من كان يطاردهم ويتبرأ منهم منهم ويؤدبهم ويقتلهم علي، ويلعنهم أبناءه وأولاده. المصدر: الشيعة والتشيع لإحسان إلهي ظهير - ص29   (1) [9443]- ((تهذيب تاريخ)) ابن عساكر (7/ 430). (2) [9444]- ((فجر الإسلام)) (4 35). (3) [9445]- ((فجر الإسلام)) (ص 269 - 270). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 المطلب الثالث: منكروا ابن سبأ والرد عليهم أولاً: موقف المستشرقين: أما المستشرقون فأنكروه، وقالوا: إنه شخصيةٌ وهميةٌ تخيلها محدثوا القرن الثاني، ومن هؤلاء المستشرقين الذين أنكروه اليهودي الإنكليزي الدكتور برنارد لويس ( LEWIS,B.) (1) ويوليوس فلهوزن ( WELLHAUSEN-J) (2) اليهودي الألماني الذي بدأ دراسته باللاهوت. وفرييدلاندر ( FRIEDLAENDER) (3) الأمريكي والأمير كايتاني ( CETANI) (4) الإيطالي. ومن المعلوم عند العقلاء المنصفين أن ديننا وعقيدتنا وتاريخنا وما يتعلق بتراثنا لا يمكن أن نعتمد فيه على تقولات ودراسات هؤلاء الحاقدين الذين ينضوون تحت راية الحروب الصليبية بمنهج وأسلوب فكري، لا أسلوب السيف والبارود، ولو كانوا أصحاب نوايا صادقة لشرح الله صدورهم بالإيمان لما اطلعوا على صفاء الإسلام ونقاء ثوبه، ولكنهم كرسوا جهودهم وأفْنَوا حياتهم في إلقاء الشُبهات والشكوك والضلال والريب بكل ما يتعلق بالقرآن والسنة والعقائد والنظم الإسلامية والتاريخ الإسلامي. ومعظم هؤلاء المستشرقين من القسس واليهود، وأعمالهم ومناهجهم تنظم ما بين الكنيسة ودوائر المخابرات ووزارات الخارجية إلا أفراداً هوايتهم العلمُ والبحثُ وهم قلةٌ قليلةٌ. المصدر: ابن سبأ حقيقة لا خيال للدكتور سعد الهاشمي ثانياً: أتباع المستشرقين: أما أتباع المستشرقين الذين خدعوا بهم وغرَّهم منهجهم العلميُّ المزعوم فيرددون ما يطرحون من أفكار ودراسات ويدندنون حول معتقداتهم لينالوا الزلفى منهم وعلى رأسهم الدكتور طه حسين (5) الذي غُذّي حُجيرات مُخه بفكر المستشرقين حتى كان يقول: "إنني أفكرُ بالفرنسية وأكتبُ بالعربية" (6). ويكفيه خزياً أنه كان مطية لليهود. فدعاة الشيوعية في مصر في مطلع هذا العصر كانوا يهوداً وهم "هنري كوريل، وداؤول كوريل، وريمون أجيون" وكان هؤلاء وغيرهم يمولون الحركات الشيوعية بالمال وقيل بالجنس أيضاً. وقد تعاقدوا مع الدكتور طه حسين على إصدار مجلة الكتاب المصري، وكان الدكتور طه حسين قد أعلن تأييدهُ لمفهوم اليهودية التلمودية باكرا حين أنكر وجود إبراهيم وإسماعيل, وكذب القرآن والتوراة, ولم يكن يُعرف في هذا الوقت الباكر أن ذلك تمهيدٌ لتحقيق أهداف الصهيونية (7) وغير ذلك من الأفكار والضلالات التي لم يجرؤ حتى المستشرقون بالإفصاح والإعلان عنها (8). أضواء على طه حسين:   (1) انظر: ((أصول الإسماعيليين والإسماعيلية))، تعريب خليل جلو وجاسم الرجب، (ص86 - 87). (2) انظر: ((الخوارج والشيعة)) ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي. (3) انظر: ((عبد الله بن سبأ والشيعة)) نشره في المجلة الأشورية (1909 - 1910). (4) انظر: ((أصول الإسماعيلية)) لبرنارد، ويرى بعض المستشرقين أن لابن سبأ حقيقة منهم: دينولد ألين نيكلسن ( eynlod Allen Nicholson) ( ت:1945م) في كتابه ((تاريخ العرب الأدبي في الجاهلية وصدر الإسلام)) ترجمة د. صفاء خلوصي، (ص 325). وإجناس كولد صِهَر ( Ignaz Goldzige ( ت:1921م) في كتابه ((العقيدة والشريعة في الإسلام))، (ص 229) وراجع تفصيل آراءهم في رسالة ((عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام)) للشيخ سليمان بن حمد العودة (ص 62 - 73). (5) انظر: ((علي وبنوه))، (ص98 - 100) و ((الفتنة الكبرى)). (6) انظر: ((طه حسين)) للأستاذ/ أنور الجندي، (ص43 - 44). (7) انظر: ((المخططات التلمودية الصهيونية في غزو الفكر الإسلامي)) للأستاذ/ أنور الجندي، (ص80) ط (2/ 1077م). (8) انظر: طه حسين للأستاذ أنور الجندي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 ومن المعلوم عن طه حسين أن أباه جاء إلى صعيد مصر – مديرية المنيا- من بلدٍ غير معلوم من الغرب وكان يعملُ وزاناً في شركة يهودية للسكر، وطه حسين هو الذي تبنى إصدار قرار بتعيين الحاخام اليهودي (حاييم ناحوم أفندي) حينذاك عضواً في مجمع اللغة العربية في القاهرة ليكون عيناً على المفكرين ورجال اللغة، كما أنه عين عدداً من الأستاذة الأجانب في كلية الآداب استوردهم، وبعضهم يهود وكلهم كانوا يحاربون الإسلام أو يشككون فيه. وأول دكتوراه منحتها (كلية الآداب) في جامعة القاهرة تحت إشراف الدكتور طه حسين كانت بعنوان (القبائل اليهودية في البلاد العربية) تقدم بها (إسرائيل ولفنسون) عميد جامعة هادسا في تل أبيب الآن (1). بعد هذه الأضواء التي تظهر لنا بوضوح ولاء الدكتور طه حسين لليهود لا نستغرب إنكاره لابن سبأ. يقول طه حسين: إن أمر السبئية وصاحبهم ابن السوداء إنما كان مُتكلفاً منحولاً قد اخترُع بأضَرَة فحين كان الجدال بين الشيعة وغيرهم من الفرق الإسلامية، أراد خصوم الشيعة أن يدخلوا في أصول هذا المذهب عنصراً يهودياً إمعاناً في الكيد لهم والنيل منهم .. إلخ كلامه (2). أدلة الدكتور طه حسين: ويستدل على ما ذهب إليه البلاذري لم يذكر شيئاً عن ابن السوداء ولا أصحابه في أمر عثمان. ثم يستغرب الدكتور طه حسين كيف أن حادثة تحريق عليّ للذين ألَّهوه والتي ذكرها الطبري كيف لم يذكرها بعض المؤرخين ولم يُؤقتها، وإنما أهملوها إهمالاً تاماً؟!. الرد عليه: أما عدم ذكر البلاذري لابن سبأ فلا يعني أسطورة وجوده؛ لأنه قد يذكر بعض المؤرخينَ ما لا يذكره البعضُ الآخر منهم، ثم هل التزم البلاذري بذكر كل الوقائِع والأحداث؟: وربما لو ذكر البلاذري أخبار ابن سبأ وأصحابه لقال البلاذري لا يعتمدُ على أخباره؛ لأنه غير متفق على توثيقه. أما حادثة تحريق الإمام علي رضي الله عنه للذين ألُّهوه فسنذكرها في موقف الإمام علي من عبد الله بن سبأ وأصحابه، حيث ذُكرتْ في أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل، وهذه الروايات تغني عن الروايات التاريخية. إضافة إلى ذلك فقد ذُكرت في الكتب الموثقة عند الشيعة. الدكتور محمد كامل حسين: واعتبر الدكتور محمد كامل حسين قصة ابن سبأ أقرب إلى الخرافات منها إلى أي شيء آخر (3) متابعاً في ذلك الدكتور طه حسين، ولم يذكر أي دليل لما يراه. الدكتور حامد حفني داود: وكذلك يرى الدكتور حامد حفني داود رئيس قسم اللغة العربية بجامعة عين شمس أن ابن سبأ من أعظم الأخطاء التاريخية التي أفلتتْ من زمام الباحثين وغمَّ عليهم أمرها فلم يفقهوها ويفطنوا لها. هذه المفتريات التي افتروها على الشيعة حتى لفقوا عليهم قصة عبد الله بن سبأ فيما لفقوه واعتبروها مغمزا يغمزون به عليهم (4). الرد عليه: والدكتور حامد هذا أحد المخدوعين بفكرة التقريب، بل أحدُ الدُعاة إليها، فلا يستغرب منه هذا الكلام مادام يتقربُ من المشككين بكتاب الله والطاعنينَ في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين ينالون من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أمثال مرتضى العسكري صاحب كتاب (خمسون ومائة صحابي مختلق) وكتاب (أحاديث أم المؤمنين عائشة). المصدر: ابن سبأ حقيقة لا خيال للدكتور سعد الهاشمي ثالثاً: الشيعة الذين ينكرون ابن سبأ   (1) انظر: ((مع رجال الفكر في القاهرة)) لمرتضى العسكري، (ص 166) ط الأولى (1394هـ/1974م) القاهرة. (2) انظر: ((علي وبنوه)) لطه حسين، (ص 98 - 100). (3) انظر: ((أدب مصر الفاطمية)) (ص 7). (4) انظر: ((التشيع ظاهرة طبيعية في إطار الدعوة الإسلامية)) (ص 18) وكتاب: ((مع رجال الفكر في القاهرة)) لمرتضى العسكري، (ص 93). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 أما الشيعة في العصر الحاضر فينكرون وجود ابن سبأ؛ والسبب الحقيقي لإنكارهم إياه عقيدته، التي بثها وتسربتْ إلى فِرق الشيعة حتى المتأخرة منها، وسنذكر أقوال وآراء المنكرين ثم نثبتُ وجوده وعقيدته من المصادر المعتمدة عند الشيعة. محمد جواد مغنية وابن سبأ: عبد الله بن سبأ في نظر الشيخ جواد مغنية هو البطلُ الأسطوري الذي اعتمد عليه كل من نسب إلى الشيعة ما ليس له به علمٌ وتكلمَ عنهم جهلاً وخطأ أو نفاقاً وافتراء (1). مرتضى العسكري وابن سبأ: وزعم مرتضى العسكرى أنه ناقش جميعَ من ذهبوا إلى وجود عبد الله بن سبأ وخرج بنتيجةٍ هي أنه ابن سبأ (شخصية وهمية خرافية ابتدعها واختلقها سيف بن عمر (2) وصنف كتاباً خاصاً بابن سبأ بعنوان: (عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى). الدكتور على الوردي وابن سبأ: وأما الدكتور على الوردي صاحب (وعاظ السلاطين) فيرى أن ابن سبأ هو نفسهُ عمار بن ياسر ويستدل على ذلك بما يلي: أن ابن سبأ كان يُكنى بابن السوداء ومثله في ذلك عمار. كان عمار من أبٍ يماني، ومعنى هذا أنه كان من أبناء سبأ فكلُ يماني يَصحُ أن يقال عنه أنه ابن سبأ. وعمار فوق ذلك كان شديد الحب لعلي بن أبي طالب يدعو له ويُحْرضُ الناسَ على بيعته في كل سبيل. وقد ذهب عمار في أيام عثمان إلى مصر وأخذ يُحرّضُ الناس هناك على عثمان فضجَ الوالي منه وهمّ بالبطش به. ويُنسب إلى ابن سبأ قوله: إن عثمان أخذ الخلافة بغير حقٍ وإن صاحبها الشرعي هو علي بن أبي طالب. 6و7 - قضايا تتعلق بدور عمار في حرب الجملِ، وفي علاقته مع أبي ذر الغفاري، ويستخلص الوردي أن ابن سبأ لم يكن سوى عمار بن ياسر، فقد كانت قريش تعتبر عماراً رأس الثورة على عثمان، ولكنها لم تشأ في أول الأمر أن تُصرح باسمه، فرمزت عنه بابن سبأ أو ابن السوداء، وتناقل الرواةُ هذا الرمز غافلين وهم لا يعرفون ماذا كان يجري وراء الستار (3).ويقول الدكتور: ويبدوا أن هذه الشخصية العجيبة اخترعتْ اختراعاً وقد اخترعها أولئك الأغنياء الذين كانتْ الثورة موجهةُ ضدهم (4). الدكتور كامل الشيبي وابن سبأ: ثم يأتي بعد الوردي كاتبٌ آخر هو الدكتور مصطفى الشيبي الذي تابعَ الوردي في أوهامِه وخبطهِ العشوائي، وحاول أن يُعزّزَ ما ذهب إليه بإيراد نصوص تثبت القضايا التي وردتْ في محتوياته، وتابع كذلك الدكتور طه حسين في حرقِ الإمام علي رضي الله عنه للسبئية فيقول: أما قضية إحراق علي المزعوم للسبئية فإنه خبرٌ مختلق من أساسه ولم يرد على صورة فيها ثقةٌ في كتاب معتبرٍ من كتب التاريخ. ولعل أصل هذا الحادث يتصل بإحراق خالد بن عبد الله القسري (بياناً) وخمسة من أتباعه الغُلاة، ثم لما تقدم بها الزمن زُحزحتْ الحادثة إلى الأمام قليلاً حتى اتصلت بعلي (5).   (1) انظر: ((التشيع))، (ص 18). (2) انظر: ((التشيع)) (ص18 - 19). (3) انظر: و ((عاظ السلاطين)) للدكتور علي الوردي، (ص274 - 278). (4) انظر: ((عاظ السلاطين)) (ص151). (5) انظر: ((الصلة بين التصوف والتشيع))، (ص 41 - 45). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 الرد على الوردي والشيبي: أما ما ذهب إليه الوردي وتابعُه الشيبي وغيرهُ بأن عبد الله بن سبأ هو نفسهُ عمار بن ياسر فكُتب الجرح والتعديل والرجال الموثقة عند الشيعة تردُ على هذا القول؛ وذلك أن كتبهم ذكرتْ ترجَمة عمار بن ياسر في أصحاب الإمام علي رضي الله عنه والرواة عنه، وتعدُه من الأركان الأربعة (1) وذكرت ترجمة عبد الله بن سبأ وتذكر اللعنة عليه، وتمدح عماراً فكيف نجمع بين هاتين الترجمتين (2)؟. وأما تحريق السبئية فسوف نذكر الأدلة الصحيحة في موقف الإمام منهم. الدكتور عبد الله فياض وابن سبأ: وكذلك أنكره الدكتور عبد الله فياض في كتابه (تاريخُ الإمامية وأسلافهم من الشيعة) وهو كتابٌ مطعمٌ بآراء المستشرقين، وكان المشرفُ عليه الدكتور قسطنطين زريق أحد أساتذة دائرةِ التاريخ بالجامعة الأمريكية ببيروت. يقول الدكتور فياض: يبدو أن ابن سبأ كان شخصيةً إلى الخيال أقربُ منها إلى الحقيقةِ، وأن دوره -إن كان له دورٌ- قد بُولغ فيه إلى درجةِ كبيرةٍ لأسباب دينية وسياسية، والأدلةُ على ضعفِ قصةِ ابن السوداء كثيرة (3) ويستدل بما ذهب إليه مرتضى العسكري اتهام سيف بن عمر البرجمي (ت:170) باختلاق هذه الشخصية، ويزعُم التناقض والمبالغة في الروايات. ويعززُ موقفهُ برأي الوردي، ومتابعة الشيبي. طالب الرفاعي وابن سبأ: ويظهر بعد هؤلاء المدعو طالب الحسيني الرفاعي فيقول في حاشيتهِ على مقدمة محمد باقر لكتاب (تاريخ الإمامية) والتي طبعها تاجُر الكتب الخانجي بالقاهرة سنة 1397هـ/ 1977م باسم (التشيع ظاهرة طبيعية في إطار الدعوة الإسلامية) على أنه لو كان ابن سبأ هذا حقيقةُ تاريخيةُ ثابتةً فعلاً، فإنه كما سنذكره مفصلاً في مبحثٍ خاص به لا صلة إطلاقاً بين أفكاره وبين ما اشتملت عليه عقيدةُ الشيعة من الوصية لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام؛ لأنها قائمة على روايات في صحاح الفريقين من السنة والشيعةِ كما هي موجودة أيضاً في كتب الفريقين في التفسير والتاريخ وأصول الاعتقاد. ومن ثم فالقول بأن التشيع نتيجةٌ من نتائج الفكرة السبئية –كما يدعي- رأي باطل (4). ولا يستغرب هذا الكلام من هذا الرجل الذي زعَم أن أول من قال بالرجعةِ عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ لأنه قال إن الرسول صلى الله عليه وسلم: لم يُمت ولنْ يموتَ، إضافة إلى افتراءاته وضلالاته وتزييفه للحقائق الثابتة الصحيحة. الرد على الأقوال وعرض لمصادر ترجمة ابن سبأ: هذه أقوال بعض شيعة العصر الحاضر، وكأنهم لم ينظروا في كتب عقائدهم وفرقهم، ومروياتهم ورجالهم وكتب الجرح والتعديل عندهم.   (1) الأركان الأربعة هم: عمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وسلمان الفارسي، وجندب بن جنادة (أبو ذر) الغفاري (فرق الشيعة) (ص 36 - 37 و40) ط (1969م) الرابعة. (2) انظر: بعض كتبهم مثلاً: ((رجال الطوسي))، (ص 46) (ص 51) ((رجال الحلي))، (ص 469،255) ((أحوال الرجال)) للكشي، و ((قاموس الرجال)) للتستري، و ((تنقيح المقال)) للمامقاني وغير ذلك. (3) انظر: ((تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة))، (ص 92 - 100) " (1975) مؤسسة الأعلمي. (4) انظر: ((التشيع ظاهرة طبيعية))، (ص 20). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 وهذه طائفة من الكتب الموثّقةٍ عند الشيعة التي ذكرت عبد الله بن سبأ ومزاعمه وعقيدتُه، والتي حملتْ الإمام علياً رضي الله عنه وأهل بيته الطاهرين على تكذيب ابن سبأ والتبرؤ منه ومن أصحاب السبئية وما نسبه إلى أهل البيت. أول من هذه المصادر المهمة النادرة التي ذكر فيها ابن سبأ: (رسالة الإرجاء) للحسن بن محمد بن الحنفية الفقيه الموثّق الذي كان يقول: من خلع أبا بكر وعمر فقد خلع السُّنّة. المتوفي سنة خمس وتسعين للهجرة (1) والتي رواها عنه الثقاتُ من الرجال عند الشيعة. ثانياً: كتاب (الغارات) لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد سعيد بن هلال الثقفي الأصفهاني –الذي وثقه ابن طاووس- توفي في حدود 283هـ وكتابه (الغارات) طبع أنجمن آثار ملي إيران. ثالثاً: كتاب (المقالات والفرق) لسعد بن عبد الله الأشعري القمي المتوفي سنة 301هـ، وهو مطبوع في طهران سنة 1963هـ. رابعاً: فرق الشيعة لأبي محمد الحسن بن موسى النوبختي من أعلام القرن الثالث الهجري، طبعة كاظم الكتبي في النجف عدة طبعات، وكذا طبعة المستشرق ريتر في استانبول/ 1931م. خامساً: (رجال الكشي) لأبي عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي وهو معاصر لابن قولويه المتوفي سنة 369هـ، ط/ مؤسسة الأعلمي للمطبوعات كربلاء. سادساً: (رجالُ الطوسي) لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي المتوفي سنة 460هـ، ط/ الأولى في النجف 1381هـ/ 1961م، نشر محمد كاظم الكتبي. سابعاً: (شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة)، لعز الدين أبي حامد عبد الحميد بن هبة الله المدائني الشهير بابن أبي الحديد المعتزلي الشيعي المتوفي سنة 656هـ، ط/ الأولى الميمنية 1326هـ وغيرها. ثامناً: (الرجال) للحسن بن يوسف الحلي، المتوفي سنة 726هـ، طبعة طهران 1311هـ/ وطبعة النجف 1961م. تاسعاً: (روضات الجنات)، لمحمد باقر الخوانساري المتوفي سنة 1315هـ، طبعة إيران 1307هـ. عاشراً: (تنقيحُ المقال في أحوال الرجال) للشيخ عبد الله الماماقاني المتوفي سنة 1351هـ، طبعة النجف 1350هـ في المطبعة المرتضوية. حادي عشر: (قاموس الرجال) لمحمد تقي التستري منشورات مركز نشر الكتاب طهران 1382هـ. ثاني عشر: (روضة الصفا) تاريخ عند الشيعة معتمد بالفارسية (2/ 292) طبعة إيران. ثالث عشر: دائرة المعارف المسماة بمقتبس الأثر ومجدد ما دثر لمحمد حسين الأعلمي الحائري، ط/ 1388هـ/ 1968م في المطبعة العلمية بقم. رابع عشر: (الكنى والألقاب) لعباس بن محمد رضا القمى، ت:1359هـ، ط/ العرفان صيدا. هذا ما تيسر لنا من كتب القوم التي اطلعنا عليها، وهناك عدد كبير من كتبهم المخطوطة والمطبوعة فيها ذكر ابن سبأ والسبئية منها: (حلُّ الإشكال) لأحمد طاووس المتوفي سنة 673هـ. و (الرجال) لابن داود المؤلف سنة 707هـ، و (التحرير الطاووسي) للحسن بن زين الدين العاملي، المتوفي سنة 1011هـ و (مجمع الرجال) للقهبائي المؤلف سنة 1016هـ، و (نقد الرجال) للتفرشي الذي ألفه سنة 1015هـ، و (جامع الرواة) للأردبيلي المؤلف سنة 1100هـ، و (موسوعة البحار) للمجلسي المتوفي سنة 1110هـ (2) وابن شهر آشوب المتوفي سنة 588هـ (3) وابن محمد طاهر العاملي (ت:1138هـ) (4). المصدر: ابن سبأ حقيقة لا خيال للدكتور سعد الهاشمي   (1) انظر: ((خلاصة تهذيب الكمال)) (1/ 220) ط (1392) (1972م) القاهرة، و ((رسالة الارجاء)) مخطوطة في دار الكتب الظاهرية في آخر كتاب ((الإيمان)) لمحمد بن يحيى العدني (243هـ) مجموع (104) وانظر: ((تاريخ التراث العربي)) (1/ 210) (2) انظر: ((بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار)) ط (3) بيروت (25/ 286 - 287). (3) انظر: ((مناقب آل أبي طالب)) لابن شهر آشوب (1/ 227ـ228) ط/ النجف. (4) انظر: ((مقدمة مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار في تفسير القرآن))، (ص 62) وما بعدها، ط/مؤسسة مطبوعاتي إسماعيليان، إيران مم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 المطلب الرابع: عقيدة ابن سبأ وضلالاته بعد أن ذكرنا طائفةً من كتب الشيعةِ الموثّقة والمعتمدة عندهم، نذكر أهم الأمور التي اعتقدها ابن سبأ وحمل أتباعه على الاعتقاد بها والدعوة إليها، وهكذا تسربتْ هذه الأفكارُ الضالةُ إلى فرق الشيعة؛ والسبب في استدلالنا في بيان معتقدِ هذا اليهودي من كتبهم ومن رواياتهم عن المعصومين عندهم: لأنهم يقولون: "إن الاعتقاد بعصمةِ الأئمة جعل الأحاديث التي تصدر عنهم صحيحةٌ دون أن يشترطوا إيصال سندها إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما هو الحال عند أهل السنة (1).ويقولون أيضاً: (ولما كان الإمام معصوماً عند الإمامية فلا مجال للشك فيما يقول) (2).ويقول المامقاني: إن أحاديثنا كلها قطعية الصدور عن المعصوم (3). وكتاب الماماقاني من أهم كتب الجرح والتعديل عندهم. بعد هذه الأقوال التي تُلزم القوم بقبول الأخبار المروية في مصنفاتهم، نذكر أهم الضلالات التي نادى بها ابن سبأ وهي: 1 - القول بالوصية: وهو أول من قال بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي، وأنه خليفته على أمته من بعده بالنص. 2 - أول من أظهر البراءة من أعداء علي رضي الله عنه –بزعمه- وكاشفَ مخالفيه وحكم بكفرهم. والدليل على مقالته هذه ليس من تاريخ الطبري، ولا من طرق سيف بن عمر، بل ما رواه النوبختي والكشيّ والماماقاني والتستري، وغيرهم من مؤرخي الشيعة. يقول النوبختي:"وحكى جماعةٌ من أهل العلم من أصحاب علي عليه السلام أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم ووالى علياً عليه السلام، وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون وصّي بعد موسى على نبينا وآله وعليهما السلام بالغلو. فقال في إسلامه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله في علي عليه السلام بمثل ذلك وهو أول من شهر القول بفرض إمامة علي عليه السلام وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه – يقول النوبختي- فمن هنا قال من خالف الشيعة إن أصل الرفض مأخوذ من اليهود" (4) وفي هذا المقام نشير إلى أن فكرة الوصية التي اعتمد عليها ابن سبأ ذُكرتْ في التوراة في أصحاح (18) من سفر (تثنية الاشتراع) وفيه أنه لم يخلُ الزمان أبداً من نبي يخلفُ موسى ومن نوعه ولكل نبي خليفته إلى جانبه يعيشُ أثناء حياته. ويقول النوبختي عند ذكره السبئية: أصحاب عبد الله بن سبأ وكان ممن أظهر الطعنَ على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وتبرأ منهم، وقال إن علياً عليه السلام أمره بذلك (5). 2 - كان أول من قال بألوهية وربوبية علي رضي الله عنه. 3 - كان أول من ادعى النبوة من فِرق الشيعة الغُلاة.   (1) انظر: ((تاريخ الإمامية))، (ص 158). (2) ((تاريخ الإمامية))، (ص 140). (3) انظر: ((تنقيح المقال)) (1/ 177). (4) انظر: ((فرق الشيعة)) للنوبختي، (ص 44) و ((رجال الكشي)) (101) مؤسسة الأعلمي بكربلاء، و ((تنقيح المقال في أحوال الرجال)) للمامقاني، ط/ المرتضوية في النجف 1350هـ، , ((قاموس الرجال)) (5/ 462). (5) انظر: ((فرق الشيعة))، (ص 44). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 والدليل على ذلك ما رواه الكشي بسنده عن محمد بن قولويه القمي قال: حدثني سعد بن عبد الله ابن أبي خلف القسي، قال: حدثني محمد بن عثمان العبدي عن يونس بن عبد الرحمن عن عبد الله بن سنان، قال: حدثني أبي عن أبي جعفر رضي الله عنه، أن عبد الله بن سبأ كان يدعي النبوة وزعم أن أمير المؤمنين رضي الله عنه، هو الله، - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- فبلغ ذلك أمير المؤمنين رضي الله عنه فدعاه وسأله فأقرّ بذلك، وقال: نعم أنت هو، وقد كان ألقي في روعي أنك أنت الله وأني نبيّ، فقال له أمير المؤمنين رضي الله عنه: ويلك قد سَخِرَ منك الشيطانُ فارجع عن هذا ثكلتك أمك وتُبْ، فأّبى فحبسه واستتابه ثلاثة أيام فلم يتب فأحرقه بالنار. والصواب أنه نفاه إلى المدائن بعد أن شفع له على ما سنبينه في موقف الإمام منه، وقال –أي الإمام- أنّ الشيطان استهواه فكان يأتيه ويلقي في روعه ذلك (1).وروى الكشي بسنده أيضاً عن محمد بن قولويه قال: حدثني سعد بن عبد الله قال: حدثني يعقوب بن يزيد ومحمد بن عيسى عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم قال: سمعت أبا عبد الله رضي الله عنه يقول وهو يحدث أصحابه بحديث عبد الله بن سبأ وما ادعى من الربوبية في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: إنه لما ادعى ذلك استتابه أمير المؤمنين رضي الله عنه فأبى أن يتوب وأحرقه بالنار (2).5 - كان ابن سبأ أول من أحدث القول برجعة علي رضي الله عنه إلى الدنيا بعد موته وبرجعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول مكان أظهر فيه ابن سبأ مقالته هذه في مصر فكان يقول: العجبُ ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذّب برجوع محمد وقال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص:85]، فمحمد أحق بالرجوع من عيسى فقيل ذلك عنه ووضع لهم الرجعة فتكلموا فيها (3).فإن لم يرض القوم برواية ابن عساكر الثقة التي رواها في تاريخه وكذا غيره فاسمع ما قالته السبئية لمن أخبرهم بمقتل سيدنا علي رضي الله عنه ونعاه، قالوا له: "كذبت يا عدو الله لو جئتنا –والله- بدماغه ضربة فأقمت على قتله سبعين عدلاً ما صدّقناه ولعلمنا أنه لم يمت ولم يُقتل وأنه لا يموت حتى يسوق العرب بعصاه ويملك الأرض .. إلخ (4). وهذا الخبر ذكره سعد بن عبد الله الأشعري القمي صاحب كتاب (المقالات والفرق) الذي هو موضع ثقة عند الشيعة، ونقل النوبختي في فرق الشيعة مقالة السبئية أيضاً وهي:"أن علياً لم يقتل ولم يمت ولا يقتل ولا يموت حتى يسوق العرب بعصاه ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملُئتْ ظلماً وجوراً"   (1) انظر: ((رجال الكشي))، (ص 98) ط/ مؤسسة الأعلمي للمطبوعات كربلاء، و ((قاموس الرجال)) (5/ 461) و ((تنقيح المقال في أحوال الرجال)) للمامقاني، ط/ المرتضوية في النجف (1350هـ) (2/ 183 - 184). (2) انظر: ((رجال الكشي))، (ص 98) ط/ مؤسسة الأعلمي للمطبوعات كربلاء، و ((قاموس الرجال))، و ((تنقيح المقال في أحوال الرجال)) للمامقاني، ط/ المرتضوية في النجف (1350هـ)، (ص 99 - 100) (2/ 183 - 184). (3) انظر: ((تاريخ دمشق)) مخطوط نسخة مصورة منه في معهد المخطوطات في جامعة الدول العربية رقم (602) ((تاريخ في ترجمة عبد الله بن سبأ))، وكذا في ((تهذيب تاريخ دمشق)) لابن بدران (7/ 428) وهذا النص في ((تاريخ الطبري)) أيضاً. (4) انظر: ((المقالات والفرق)) لسعد بن عبد الله الأشعري القمي، ت (301) (ص 31) ط/ طهران (1963) تحقيق الدكتور محمد جواد مشكور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 بقي علينا في هذا المقام أن نعرف مفهوم عقيدة الرجعة عند الشيعة. يقول محمد رضا المظفر: "إن الذي تذهب إليه الإمامية أخذاً بما جاء عن آل البيت عليهم السلام أن الله تعالى يُعيدُ قوماً من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها فيعزُّ فريقاً ويذلُّ فريقاً آخر، ويديلُ المحقين من المبطلين والمظلومين منهم من الظالمين، وذلك عند قيام مهدي آل محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، ولا يرجعُ إلا من علتْ درجته في الإيمان أو من بلغ من الفساد ثم يصيرون بعد ذلك إلى الموت، ومن بعده إلى النشور وما يستحقونه من الثواب أو العقاب كما حكى الله تعالى في قرآنه الكريم، تمنى هؤلاء المرتجعين الذين لم يصلحوا بالارتجاع فنالوا مقت الله أن يخرجوا ثالثاً لعلهم يصلحون: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غافر:11] (1).وروى القمي- وهو الثقة عندهم- بسنده إلى أبي عبد الله حيث فسر قوله تعالى: يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [ق:42] بالرجعة، وقال صيحة القائم من السماء ذلك يوم الخروج قال هي: الرجعة (2).واشترط الشيعة في الرجعة من محض الإيمان أو الكفر فيقول القمي: "حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن المفضل عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا [النمل:82] قال: ليس أحد من المؤمنين قتل إلا يرجع حتى يموت ولا يرجع إلا من محض الإيمان محضاً ومن محض الكفر محضاً (3).والتفسير الصحيح لهذه الآية التي استدل بها المظفر ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: "هي مثل التي في البقرة وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة:28] كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم ثم أخرجهم فأحياهم ثم يميتهم ثم يحييهم بعد الموت. أخرجه الفريابي وعبد الله بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه (4).وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: كنتم أمواتاً قبل أن يخلقكم فهذه ميتة ثم أحياكم فهذه حياة، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة فهما ميتتان وحياتان فهو كقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28] (5).   (1) انظر: ((عقائد الإمامية)) لمحمد رضا المظفر، ط (2) (1381هـ) (ص 67 - 68). (2) انظر: ((تفسير القمي)) (2/ 327). (3) انظر: ((تفسير القمي)) (2/ 130/131). (4) انظر: ((الدر المنثور في التفسير بالمأثور)) للسيوطي (5/ 347). (5) ((الدر المنثور في التفسير بالمأثور)) للسيوطي (5/ 347). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 6 - ادعى ابن سبأ اليهودي: أن علياً رضي الله عنه هو دابة الأرض, وأنه هو الذي خلق الخلق وبسط الرزق. قال ابن عساكر: "روى الصادق عن آبائه الطاهرين عن جابر قال: لما بُويعَ علي رضي الله عنه خطب الناس فقام إليه عبد الله بن سبأ فقال له: أنت دابة الأرض فقال له: اتق الله، فقال له: أنت الملك. فقال اتق الله, فقال: أنت خلقت الخلق وبسطت الرزق، فأمر بقتله فاجتمعت الرافضةُ فقالت: دَعْهُ وانْفِهِ إلى ساباط المدائن (1).فإن لم يرض القوم برواية الحافظ ابن عساكر نذكر بعض روايات كتبهم .. المعتمدة منها: ما رواه القمي في تفسيره الموثق عندهم، قال القمي: فأما قوله: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً إلى قوله: بآياتنا [النمل:82] فإنه حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمير المؤمنين وهو نائم في المسجد قد جمع رملاً ووضع رأسه عليه فحركه برجله ثم قال له: قم يا دابة الله فقال: رجل من أصحابه: يا رسول الله أيسمى بعضنا بعضاً بهذا الاسم؟ فقال: لا والله ما هو إلا له خاصة, وهو الدابة التي ذكر الله في كتابه: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ [النمل:82]، ثم قال: يا علي إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة ومعك ميسم (2) تسم به أعداءك، فقال رجل لأبي عبد الله عليه السلام: إن الناس يقولون هذه الدابة إنما تكلمهم؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: كلمهم الله في نار جهنم إنما هو يكلمهم من الكلام (3). ومنها ما رواه رواتهم الثقات عندهم عن علي رضي الله عنه أنه قال: "ولقد أعطيت الست علم المنايا والبلايا والوصايا وفصل الخطاب، وإني لصاحبُ الكرّات –أي الرجعات إلى الدنيا- ودولة الدول، وإني لصاحبُ العصا والميسم، والدابة التي تكلم الناس". وروى علي بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره عن أبي عبد الله رضي الله عنه قال: قال رجل لعمار بن ياسر، يا أبا اليقظان آية في كتاب الله أفسدت قلبي، قال عمار: وأية آية هي، فقال: هذه الآية –أي: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ [النمل:82]. فأية دابة الأرض هذه؟ قال عمار: والله ما أجلس ولا آكل ولا أشرب حتى أريكها، فجاء عمار مع الرجل إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه وهو يأكل تمراً وزبداً فقال: يا أبا اليقظان هلم، فجلس عمار يأكل معه فتعجب الرجل منه فلما قام عمار قال الرجل: سبحانه الله حلفت أنك لا تأكل ولا تشرب حتى ترينيها، قال عمار: أريتكها إن كنت تعقل (4).7 - وقالت السبئية: إنهم لا يموتون وإنما يطيرون بعد مماتهم وسموا بـ (الطيارة) يقول ابن طاهر المقدسي: وأما السبئية فإنهم لهم الطيارة يزعمون أنهم لا يموتون وإنما موتهم طيران نفوسهم في الغلس (5).   (1) انظر: ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر مخطوط نسخة من مصورة في معهد المخطوطات في جامعة الدول العربية، رقم (602 تاريخ) و ((تهذيب تاريخ دمشق)) (7/ 430). (2) الميسَم: المكواة أو الشيء الذي يُوسم به الدّواب. انظر: ((تهذيب اللغة)) (13/ 114) و ((القاموس المحيط)) (4/ 188). (3) انظر: ((تفسير القمي)) (2/ 130/131). (4) انظر: ((مجمع البيان في تفسير القرآن)) لأبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي من علماء الإمامية في القرن السادس، (4/ 234) ((العرفان صيدا)) (1355هـ/1937م) و ((تفسير القمي)) (2/ 131). (5) انظر: ((البدء والتاريخ)) (5/ 129) ط (1916م). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 ولقد استخدم أئمة الجرح والتعديل من الشيعة هذه التسمية وهي من ألفاظهم في تجريح الرواة. يقول الطوسي وهو أحد الأئمة الأثبات عند الشيعة في ترجمة نصر بن صباح يُكنى أبا القاسم من أهل بلخ – وبلخ في أفغانستان- لقي جلة من كان في عصره من المشايخ والعلماء، وروى عنهم إلا أنه قيل كان من (الطيارة) غالٍ (1). ونصر بن الصباح هذا عده الماماقاني من الأئمة الذين صنفوا في معرفة الرجال – أي عند الشيعة – وقال أي الماماقاني في التعليقة: من تتبع الرجال يظهر عليه أن المشايخ قد أكثروا من النقل عنه على وجه الاعتماد وقد بلغ إلى حد لا مزيد عليه، وذكر له الماماقاني كتاب (معرفة الناقلين) وكتاب (فرق الشيعة) (2). 8 - وقال قوم من السبئية بانتقال روح القدس في الأئمة وقالوا: (بتناسخ الأرواح) يقول ابن طاهر المقدسي: ومن الطيارة (أي السبئية) قوم يزعمون أن روح القدس كانت في النبي كما كانت في عيسى ثم انتقلت إلى علي ثم إلى الحسن ثم إلى الحسين ثم كذلك في الأئمة. وعامة هؤلاء يقولون بالتناسخ والرجعة (3) ولعل كتاب الحسن بن موسى النوبختي المسمي بـ (الرد على أصحاب التناسخ) صنفه النوبختي في الرد عليهم (4). 9 - وقالت: السبئية: هُدينا لوحي ضلّ عنه الناس وعلم خفي عنهم. 10 - وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم تسعة أعشار الوحي، ولقد رد على مقالتهم هذه أحد أئمة أهل البيت وهو الحسن بن محمد بن الحنفية في رسالته التي سماها بـ (الإرجاء) والتي رواها عنه الرجال الثقات عند الشيعة فيقول: ومن قول هذه السبئية هُدينا لوحي ضلّ عنه الناس، وعلمٍ خفي عنهم، وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله كتم تسعة أعشار الوحي. ولو كتم صلى الله عليه وآله شيئاً مما أنزل الله عليه لكتم شأن امرأة زيد، وقوله تعالى: تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ [التحريم:1] (5). وقال الحافظ الجورجاني (ت 259هـ) عن ابن سبأ: زعم أن القرآن جزء من تسعة أجزاء وعلمه عند علي فنهاه علي بعدما همّ به (6).11 - وقالوا: إن علياً في السحاب، وإن الرعد صوته، والبرق سوطه، ومن سمع من هؤلاء صوت الرعد قال: عليك السلام يا أمير المؤمنين (7) ولقد أشار إلى معتقدهم هذا إسحاق بن سويد العدوي في قصيدة له برئ فيها من الخوارج والروافض والقدرية، منها: برئتُ من الخوارج لسْتُ منهم ... من الغزّال منهم ابن باب ومن قومٍ إذا ذكروا عليا ... يُردُّون السّلام على السّحاب (8) وعقب الشيخ محيي الدين عبد الحميد –رحمه الله- على هذا المعتقد بقوله: "ولا زلت أرى أطفال القاهرة يجرون وقت هطول الأمطار، ويصيحون في جريهم: (يا بركة علي زودِ) (9) أقول: ليس الأطفال فقط بل بعض الذين قال الله تعالى فيهم في آخر سورة الشعراء: والشعراء يتبعهم الغاوون [الشعراء:] منهم الشاعر محمد عبد المطلب في قصيدته العلوية التي ألقاها في سنة 1919م في الجامعة المصرية والتي – القصيدة – جاوزت الأربعمائة بيت: أجَدّك ما النياق وما سرُاها ... تخوض بها المهامه والأكاما وما قطرُ الدخان إذا استقلت ... بها النيران تضطرم اضطراما فهب لي ذات أجنحة لعليّ ... بها ألقى على السُحاب الإماما وغير ذلك من المقالات والآراء الضالة. المصدر: ابن سبأ حقيقة لا خيال للدكتور سعد الهاشمي   (1) انظر: ((رجال الطوسي))، (ص 515). (2) انظر: ((مقياس الهداية ملحق تنقيح المقال)) للمامقاني، (ص 121). (3) انظر: ((البدء والتاريخ)) (5/ 129) (1916). (4) انظر: ((مقدمة فرق الشيعة)) للنوبختي، (17) من الطبعة (1969م). (5) انظر: ((شرح ابن أبي الحديد)) (2/ 309) الطبعة الميمنية (1326هـ). (6) انظر: ((ميزان الاعتدال)) (2/ 426). (7) انظر: ((الفرق بين الفرق))، (ص 234) وذكر هذا المعتقد ابن أبي الحديد في ((شرح نهج البلاغة)) (2/ 309). (8) انظر: ((الفرق بين الفرق))، (ص 234) و ((الكامل في الأدب)) للمبرد (2/ 142). (9) انظر: ((مقالات الإسلاميين))، (ص 85). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 المطلب الخامس: موقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأهل بيته من ابن سبأ اختلفت الروايات عن موقف علي رضي الله عنه من ابن سبأ حينما ادعى ألوهيته: بعض الروايات تذكر أن علياً استتابه ثلاثة أيام فلم يرجع فأحرقه في جملة سبعين رجلاً (1).وبعض الروايات تذكر أن ابن سبأ لم يظهر القول بألوهية علي إلا بعد وفاته، وهذا يؤيد الرواية التي تذكر أنه نفاه إلى المدائن حينما علم ببعض أقواله، وغلوه فيه (2). وبعض الروايات تذكر أن علياً علم بمقالة ابن سبأ في دعوى ألوهيته، ولكنه اكتفى بنفيه خوف الفتنة واختلاف أصحابه عليه، وخوفاً كذلك من شماتة أهل الشام. وكان هذا بمشورة ابن عباس رضي الله عنهما، أو الرافضة كما قيل في هذه الرواية (3). والواقع أن الروايات التي تذكر أن علياً ترك ابن سبأ فلم يحرقه واكتفى بنفيه مع عظم دعواه وشناعة رأيه فيه –أمر فيه نظر، بل غير وارد كما أتصور، إذ يستبعد - حسبما يظهر لي- أن يتركه علي يعيث في الأرض فساداً، ويدعو إلى ألوهيته أو نبوته أو وصايته أو التبرأ من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يكتفي بنفيه فقط إلى المدائن، وهو يعلم أنه باق على غلوه، وأنه سيفسد كل مكان يصل إليه. ويمكن أن يقال –وهو أقل اعتذار: إنه تركه لعدم ثبوت تلك الأقوال عنده؛ لأن ابن سبأ كان يرمي بها من خلف ستار. أو لأن دعوى الألوهية لم توجد إلا بعد وفاة علي رضي الله عنه كما يرى بعضهم، وأنه حينما نفاه إلى المدائن كانت دعواه لم تصل إلى حد تأليهه لعلي رضي الله عنه. وقد جرأت هذه الدعوى الكثير بعد ذلك على دعوى الألوهية لأشخاص من آل البيت بل ومن غيرهم. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 324 قال علي رضي الله عنه: "سيهلك في صنفان محب مفْرط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق وخير الناس فِيَّ حالاً النمط الأوسط فالزموه السواد الأعظم فإن يد الله على الجماعة (4). وهكذا شاء الله أن ينقسم الناس في علي رضي الله عنه إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: مبغض، وهؤلاء هم الذين تكلموا فيه بل غالى بعضهم فقالوا بكفره كالخوارج. والقسم الثاني: أفرط في حبه وذهب به الإفراط إلى الغلو حتى جعلوه بمنزلة النبي بل ازدادوا في غيهم فقالوا بألوهيته: وأما السواد الأعظم فهم أهل السنة والجماعة من السلف الصالح حتى الوقت الحاضر فهم الذين أحبوا علياً وآل بيته المحبة الشرعية، أحبوهم لمكانتهم من النبي صلى الله عليه وسلم.   (1) ((منهج المقال)) (ص203) للاسترابادي. وكذا قال الشيعي الحسن بن علي في كتابه ((الرجالي)) (ص469) نقلاً عن ((الشيعة والتشيع)) (ص56 - 57). (2) ((شرح نهج البلاغة)) (2/ 309)، وانظر: ((الملل والنحل)) للشهرستاني (ص157). (3) انظر: ((الفرق بين الفرق)) (ص235). (4) انظر: ((شرح نهج البلاغة)) (2/ 306). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 ولقد جابه عليّ رضي الله عنه القسم الأول فقاتلهم بعد أن ناظرهم وأخباره معهم معروفة مسرودة في كتب التاريخ، ونريد أن نرى موقفه هو وأهل بيته من ابن سبأ وأتباعه. لما أعلن ابن سبأ إسلامه وأخذ يظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويكسب قلوب فريق من الناس إليه, أخذ يتقرب من علي بن أبي طالب ويظهر محبته له فلما اطمأن لذلك أخذ يكذب ويفتري على عليّ بن أبي طالب نفسه, قال عامر الشعبي –وهو أحد كبار التابعين توفي 103هـ: أول من كذب عبد الله بن سبأ, وكان ابن السوداء يكذب على الله ورسوله وكان عليّ يقول مالي ولهذا الحميت الأسود (والحميت هو المتين من كل شيء) (1) يعني ابن سبأ وكان يقع في أبي بكر وعمر (2). وروى ابن عساكر أيضاً: أنه لما بلغ علي بن أبي طالب أن ابن السوداء ينتقص أبابكر وعمر دعا به، ودعا بالسيف وهمّ بقتله، فشفع فيه أناس فقال: والله لا يُساكنني في بلد أنا فيه، فسيره إلى المدائن (3).وقال ابن عساكر أيضاً: روى الصادق –وهو أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق ولد سنة 83هـ في المدينة المنورة وتوفي فيها سنة 148هـ - وهو الإمام السادس المعصوم عند الشيعة، روى عن آبائه الطاهرين، عن جابر قال: لما بويع علي رضي الله عنه خطب الناس فقام إليه عبد الله بن سبأ فقال له أنت دابة الأرض (4) فقال له: اتق الله، فقال له: أنت الملك، فقال: اتق الله، فقال له: أنت خلقت الخلق وبسطت الرزق، فأمر بقتله فاجتمعت الرافضة فقالت: دعه وانفِه إلى ساباط المدائن فإنك إن قتلته بالمدينة – يعني الكوفة – خرج أصحابه علينا وشيعته, فنفاه إلى ساباط المدائن فثم القرامطة والرافضة، أي كانت بعد ذلك وبجهود ابن سبأ مركزاً يتجمعون فيه، قال: أي جابر – ثم قامت إليه طائفة وهم السبئية وكانوا أحد عشر رجلاً قال: ارجعوا فإني علي بن أبي طالب أبي مشهور وأمي مشهورة وأنا ابن عم محمد صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لا نرجع دع داعيك، فأحرقهم في النار وقبورهم في صحراء أحد عشر مشهورة، فقال: من بقي ممن لم يكشف رأسه منهم علنا أنه إله، واحتجوا بقول ابن عباس: لا يعذب بالنار إلا خالقها (5).   (1) انظر: ((القاموس المحيط)) (1/ 152) ط (1952) القاهرة. (2) انظر: ((تاريخ دمشق)) المخطوطة المصورة في معهد المخطوطات رقم (602 تاريخ) في ترجمة عبد الله بن سبأ، وانظر: ((تهذيب تاريخ)) ابن عساكر (7/ 430). (3) انظر: ((تهذيب تاريخ)) ابن عساكر (7/ 430). (4) يشير إلى الآية الكريمة. (5) ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر المخطوط، وانظر: ((تهذيب تاريخ)) ابن عساكر (7/ 430 - 431). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 هذا موقف الإمام علي رضي الله عنه في ابن سبأ وأتباعه، نفاه إلى المدائن وأحرق طائفة من أتباعه، ومن لم يقتنع بهذه الروايات والتي بعضها رواها أحد المعصومين عند القوم وأبى إلا المكابرة والعناد، نذكر له ما ورد في حرق هؤلاء في الروايات الصحيحة عند أهل السنة والجماعة وبعدها روايات القوم. روى البخاري في (صحيحه) في كتاب الجهاد، باب لا يعذب بعذاب الله، بسنده إلى عكرمة أن علياً رضي الله عنه حرق قوماً فبلغ ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تعذبوا بعذاب الله)) ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من بدّل دينه فاقتلوه)) (1).وروى البخاري في (صحيحه) في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، بسنده إلى عكرمة نحوه وفيه قال: "أتى عليّ رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم" (2).ورواه كذلك أبو داود في (سننه): في كتاب الحدود، باب الحكم فيمن ارتد الحديث الأول بسنده إلى عكرمة بلفظ آخر وفي آخره فبلغ ذلك علياً فقال ويح ابن عباس، وروى كذلك النسائي في سننه (3) نحوه. ورواه الترمذي في (الجامع): في كتاب الحدود، باب ما جاء في المرتد، وفي آخر، فبلغ ذلك علياً فقال: صدق ابن عباس: قال أبو عيسى، هذا حديث صحيح حسن، والعمل على هذا عند أهل العلم في المرتد (4).وروى البخاري أيضاً في (صحيحه) في كتاب استتابه المرتدين والمعاندين وقتالهم بسنده إلى عكرمة نحوه، وفيه قال: أتى عليّ رضي الله عنه (5) بزنادقة فأحرقهم. وروى الطبراني في المعجم الأوسط من طريق سويد ابن غفلة "أن علياً بلغه أن قوماً ارتدوا عن الإسلام فبعث إليهم فأطعمهم ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا، فحفر حفيرة ثم أتى بهم فضرب أعناقهم ورماهم فيها ثم ألقى عليهم الحطب فأحرقهم ثم قال: صدق الله ورسوله" (6).   (1) رواه البخاري (3017) (2) انظر ((صحيح البخاري)) (6922) و ((فتح الباري))، ط/ السلفية (6/ 151). (3) انظر: ((سنن النسائي)) (المجتبى) (5/ 105) الحكم في المرتد. (4) انظر: ((جامع الترمذي)) _ (4/ 59) مصطفى الحلبي (1395هـ/1975م). (5) انظر: ((صحيح البخاري مع فتح الباري))، ط/السلفية (12/ 267) وقال الحافظ بن حجر في ((النكت الظراف)) (5/ 108) أخرجه ابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان عن عبد الرحمن بن عبيد عن أبيه قال: "كان الناس يأخذون العطاء والرزق مع الناس ويعبدون الأصنام في السر ... " فذكر القصة، وأخرجها الحاكم في ((تاريخ نيسابور)) في ترجمة علي بن إبراهيم في وجه آخر، وعقب الحافظ على قول النسائي في محمد بن بكر أحد الرواة بأنه ليس بالقوي قال الحافظ قد تابعه أبو قرة موسى بن طارق عن ابن جريج، وصححه ابن حبان من طريقه. (6) رواه الطبراني في ((الأوسط)) (7/ 140) (7101) قال الهيثمي في ((المجمع)) (6/ 262) فيه الحسن بن زياد اللؤلؤي وهو متروك وانظر: ((فتح الباري)) (12/ 271). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 وفي الجزء الثالث, من حديث أبي طاهر المخلص من طريق عبد الله بن شريك العامري عن أبيه قال: قيل لعلي إن هنا قوماً على باب المسجد يدعون أنك ربهم فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون؟ قالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا، فقال: ويلكم إنما أنا عبد مثلكم آكل كما تأكلون وأشرب كما تشربون إن أطعت الله أثابني إن شاء الله وإن عصيته خشيته أن يعذبني, فاتقوا الله وارجعوا فأبوا، فلما كان الغد غدوا عليه فجاء قنبر فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام فقال: أدخلهم فقالوا كذلك, فلما كان الثالث قال: لئن قلتم ذلك لأقتلنّكم بأخبث قتلة فأبوا إلا ذلك فقال: يا قنبر ائتني بفعلة معهم مرورهم فخدَّ لهم أخدوداً بين باب المسجد والقصر وقال: احفروا فأبعدوا في الأرض وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود وقال إني طارحكم فيها أو ترجعوا، فأبوا أن يرجعوا فقذف بهم حتى إذا احترقوا قال: إني رأيت أمراً منكراً ... أو قدت ناري ودعوت قنبرا وقال ابن حجر: هذا سند حسن (1).إضافة إلى هذه الروايات، فقد روى الكليني في كتابه (الكافي) –الذي هو بمنزلة صحيح البخاري عند القوم، روى في كتاب الحدود في باب المرتد بسنده من طريقين عن أبي عبد الله أنه قال: أتى قوم أمير المؤمنين عليه السلام فقالوا: السلام عليك يا ربنا فاستتابهم فلم يتوبوا فحفر لهم حفيرة وأوقد فيها ناراً وحفر حفيرة أخرى إلى جانبها وأفضى ما بينهما فلما لم يتوبوا ألقاهم في الحفيرة وأوقد في الحفيرة الأخرى ناراً حتى ماتوا (2). ونقل الماماقاني وهو فوق الثقة عند القوم بعض النصوص في ذم الغلاة ومنهم السبئية ما رواه محمد بن الحسن وعثمان بن حامد قالا: حدثنا محمد بن يزداد عن محمد بن الحسين عن موسى بن بشار عن عبد الله بن شريك عن أبيه قال: بينا علي رضي الله عنه عند امرأته عن عترة وهي أم عمر إذ أتاه قنبر فقال: إن عشرة نفر بالباب يزعمون إنك ربهم فقال: أدخلهم قال: فدخلوا عليه فقال: ما تقولون. فقالوا: نقول إنك ربّنا وأنت الذي خلقتنا وأنت الذي رزقتنا فقال لهم: ويلكم لا تفعلوا إنما أنا مخلوق مثلكم، فأبوا فقال لهم: ويلكم ربي وربكم الله ويلكم توبوا وارجعوا، فقالوا: لا نرجع عن مقالتنا أنت ربنا ترزقنا وأنت خلقتنا، فقال: قنبر ائتني بالفعلة، فخرج قنبر فأتاه بعشرة رجال مع الزيل والمرور فأمرهم أن يحفروا لهم في الأرض فلما حفروا أخدوداً أمر بالحطب والنار فطرح فيه حتى صار ناراً تتوقد قال لهم: توبوا قالوا: لا نرجع فقذف عليّ بعضهم ثم قذف بقيتهم في النار قال عليّ: إني إذا بصرت شيئاً منكراً ... أوقدت ناراً ودعوت قنبراً (3) ويبدو أن علياً رضي الله عنه قد كرر عقابه لغير هؤلاء أيضاً، وهم الزط. فقد روى النسائي في سننه (المجتبى) عن أنس أن علياً أتي بناس من الزط يعبدون وثناً فأحرقهم، قال ابن عباس إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بّدل دينه فاقتلوه)) (4).وأخرج ابن أبي شيبة من طريق قتادة: "أن علياً أتي بناس من الزط يعبدون وثناً فأحرقهم" (5) وحكم الحافظ ابن حجر على هذا الحديث بالانقطاع ثم قال: فإن ثبت حُمل على قصة أخرى، فقد أخرج ابن أبي شيبة أيضاً من طريق أيوب عن النعمان أنه قال: شهدت علياً في الرحبة، فجاءه رجل فقال إن هنا أهل بيت لهم وثن في دار يعبدونه فقام يمشي إلى الدار فأخرجوا إليه تمثال رجل قال فألهب عليهم الدار (6).   (1) انظر: ((فتح الباري)) (12/ 271). (2) انظر: ((الكافي للكليني)) (7/ 257 - 259). (3) انظر: ((مقياس الهداية))، (3/ 89 - 90) تنقيح المقال. (4) رواه البخاري (3017). (5) رواه النسائي (4065) وأحمد (1/ 322) (2968) وصححه الألباني (6) انظر: ((فتح الباري)) (12/ 270). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 وروى الكشي في كتابه (معرفة أخبار الرجال) بعد ترجمة عبد الله بن سبأ تحت عنوان (في سبعين رجلاً من الزط الذين ادعوا الربوبية في أمير المؤمنين عليه السلام بسنده إلى أبي جعفر أنه قال: إن علياً عليه السلام لما فرغ من قتال أهل البصرة أتاه سبعون رجلاً من الزط فسلموا عليه وكلموه بلسانهم فرد عليهم بلسانهم، وقال لهم: إني لست كما قلتم أنا عبد الله مخلوق، قال: فأبوا عليه, وقالوا له: أنت أنت هو, فقال لهم: لئن لم ترجعوا عما قلتم فِيِّ وتتوبوا إلى الله تعالى لأقتلنكم. قال: فأبوا أن يرجعوا أو يتوبوا. فأمر أن يحفر لهم آباراً فحُفرت ثم خرق بعضها إلى بعض ثم قذفهم فيها ثم طم رؤوسها ثم ألهب النار في بئر منها ليس فيها أحد فدخل الدخان عليهم فماتوا" وفي بحار الأنوار نقلاً عن مناقب آل أبي طالب فخدّ عليه السلام لهم أخاديد وأوقد ناراً فكان قنبر يحمل الرجل بعد الرجل على منكبه فيقذفه في النار ثم قال: إني إذا أبصرت أمراً منكراً ... أوقدت ناراً ودعوت قنبراً ثم احتفرت حفراً فحفراً ... وقنبر يحطم حطماً منكراً وعقّب على هذا الخبر ابن شهر آشوب بقوله: "ثم أحيا ذلك رجل اسمه محمد بن نصير النميري البصري زعم أن الله تعالى لم يظهره إلا في هذا العصر وإنه عليّ وحده، فالشرذمة النصيرية ينتمون إليه: وهم قوم إباحية تركوا العبادات والشرعيات واستحلت المنهيّات والمحرّمات، ومن مقالهم: أن اليهود على الحق ولسنا منهم، وإن النصارى على الحق ولسنا منهم" (1). ومن المناسب ما دمنا نتكلم عن تحريق علي بن أبي طالب لأصحاب ابن سبأ والزنادقة أن نذكر حادثة أخرى ذكرها ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة يقول ابن أبي الحديد: "وروى أبو العباس أحمد بن عبيد بن عمار الثقفي عن محمد بن سليمان بن حبيب المصيصي المعروف بنوين: وروى أيضاً عن علي بن محمد النوفلي عن مشيخته: "أن علياً عليه السلام مر بقوم وهم يأكلون في شهر رمضان نهاراً فقال أسفر أم مرضى قالوا: لا، ولا، واحدة منها، قال: فمن أهل الكتاب أنتم فتعصمكم الذمة والجزية قالوا: لا، أنت أنت، يومئون إلى ربوبيته، فنزل عليه السلام عن فرسه فألصق خده بالأرض، وقال: ويلكم إنما أنا عبد من عبيد الله فاتقوا الله وارجعوا إلى الإسلام، فأبوا فدعاهم مراراً فأقاموا على كفرهم، فنهض إليهم وقال: شدوهم وثاقاً وعليّ بالفعلة والنار والحطب ثم أمر بحفر بئرين فحفرنا فجعل إحداهما سرباً والأخرى مكشوفة وألقى الحطب في المكشوفة وفتح بينهما فتحاً وألقى النار في الحطب فدخن عليهم وجعل يهتف بهم ويناشدهم ليرجعوا إلى الإسلام، فأبوا فأمرهم بالحطب والنار فألقى عليهم فأحرقوا فقال الشاعر: لترم في المنية حيث شاءت ... إذا لم ترمني في الحفرتين إذا ما حشنا حطباً بنار .. ... فذاك الموت نقداً غير دين فلم يبرح عليه السلام حتى صاروا حمماً (2). هذه هي الروايات التي وقفنا عليها في الأحاديث الصحيحة والحسنة والروايات التاريخية وكذلك من كتب القوم المتعلقة بالأصول والفقه والرجال والتاريخ التي تدل بكل وضوح على أن علياً رضي الله عنه قد حرق الزنادقة ومن اعتقد فيه الربوبية ومنهم أصحاب ابن سبأ الملعون.   (1) انظر: ((مناقب آل أبي طالب)) لابن شهر آشوب (1/ 227) و ((بحار الأنوار)) (25/ 285). (2) انظر: ((شرح نهج البلاغة))، لابن أبي الحديد (2/ 308 - 309). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 أما هو فكما تذكر الروايات – سواء روايات أهل السنة الجماعة وروايات الشيعة – أن علياً رضي الله عنه اكتفى بنفيه إلى المدائن بعد أن شفع له الرافضة. قال النوبختي في كتابه (الشيعة في ترجمة ابن سبأ): وكان ممن أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة، وتبرأ منهم وقال: إن علياً عليه السلام أمره بذلك، فأخذه علي فسأله عن قوله هذا فأقر به، فأمر بقتله، فصاح الناس عليه يا أمير المؤمنين أتقتل رجلاً يدعو إلى حبكم أهل البيت وإلى ولايتك، والبراءة من أعدائك فصيره إلى المدائن (1). ابن سبأ يدعو في المدائن لدعوته إن عبد الله بن سبأ وجد بعد نفيه مكاناً مناسباً لبث أفكاره وضلالاته بعد أن ابتعد من سيف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فأخذ ينظم أتباعه وينشر أفكاره بين جيش الإمام المرابط في المدائن، ولما جاءهم خبر استشهاد علي رضي الله عنه كذبه هو وأصحابه، ولنستمع للخبر كما يرويه الخطيب البغدادي بسنده إلى زحر بن قيس الجعفي الذي قال عنه علي رضي الله عنه: من سره أن ينظر إلى الشهيد الحي فلينظر إلى هذا – يقول زحر: بعثني عليّ على أربعمائة من أهل العراق وأمرنا أن ننزل المدائن رابطة قال: فوالله إنا لجلوس عند غروب الشمس على الطريق إذ جاءنا رجل قد أعرق دابته قال فقلنا: من أين أقبلت؟ فقال من الكوفة فقلنا متى خرجت؟ قال: اليوم، قلنا فما الخبر؟ قال خرج أمير المؤمنين إلى الصلاة, صلاة الفجر فابتدره ابن بجرة وابن ملجم فضربه أحدهما ضربة إن الرجل ليعيش مما هو أشد منها، ويموت مما هو أهون منها، قال ثم ذهب. فقال عبد الله بن وهب السبئي – ورفع يده إلى السماء-: الله أكبر، الله أكبر، قال: قلت له ما شأنك؟ قال: لو أخبرنا هذا أنه نظر إلى دماغه قد خرج عرفت أن أمير المؤمنين لا يموت حتى يسوق العرب بعصاه. وفي رواية الجاحظ في البيان والتبيين (لو جئتمونا بدماغه في مائة صرة لعلمنا أنه لا يموت حتى يذودكم بعصاه" (2).نعود لرواية الخطيب قال: – أي زحر- فو الله ما مكثنا إلا تلك الليلة حتى جاءنا كتاب الحسن بن علي: من عبد الله حسن أمير المؤمنين إلى زحر بن قيس أما بعد: فخذ البيعة على من قبلك، قال: فقلنا أين ما قلت؟ قال: ما كنت أراه يموت" (3).وقال الحسن بن موسى النوبختي: "ولما بلغ عبد الله بن سبأ نعي علي بالمدائن قال للذي نعاه: كذبت لو جئتنا بدماغه في سبعين صرة وأقمت على قتله سبعين عدلاً لعلمنا أنه لم يمت ولم يقتل ولا يموت حتى يملك الأرض" (4). رواية عبد الجبار الهمداني في موقف ابن سبأ قال عبد الجبار الهمداني المعتزلي المتوفي سنة 415هـ عند كلامه عن موقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه من ابن سبأ والسبئية: "واستتابهم أمير المؤمنين فما تابوا فأحرقهم، وكانوا نفراً يسيراً، ونفى عبد الله بن سبأ عن الكوفة إلى المدائن، فلما قُتل أمير المؤمنين عليه السلام قيل لابن سبأ: قد قُتل ومات ودُفِن فأين ما كنت تقول من مصيره إلى الشام؟ فقال: سمعته يقول: لا أموت حتى أركل برجلي من رحاب الكوفة فأستخرج منها السلاح وأصير إلى دمشق فأهدم مسجدها حجراً حجراً وأفعل وأفعل فلو جئتمونا بدماغه مسروداً لما صدقنا أنه قد مات، ولما افتضح بهت، وادعى على أمير المؤمنين ما لم يقله. والشيعة الذين يقولون بقوله الآن بالكوفة كثير، وفي سوادها والعراق كله يقولون: أمير المؤمنين كان راضياً بقوله وبقول الذين حرقهم، وإنما أحرقهم لأنهم أظهروا السر، ثم أحياهم بعد ذلك قالوا: وإلا فقولوا لنا لمَ لم يحرق عبد الله بن سبأ؟ قلنا: عبد الله ما أقر عنده بما أقر أولئك، وإنما اتهمه فنفاه، ولو حرقه لما نفع ذلك معكم شيئاً، ولقلتم إنما حرقه لأنه أظهر السر" (5). المصدر: ابن سبأ حقيقة لا خيال للدكتور سعد الهاشمي   (1) انظر: ((فرق الشيعة)) للنوبختي، (ص 44) و ((قاموس الرجال)) (5/ 436). (2) انظر: ((البيان والتبيين)) للجاحظ (3/ 81) ط (1968) القاهر. (3) انظر: ((تاريخ بغداد)) (8/ 488). (4) انظر: ((فرق الشيعة)) للنوبختي، ط/ النجف، (ص 43) و ((قاموس الرجال)) (5/ 463). (5) انظر: ((تثبيت دلائل النبوة)) (2/ 539 - 550). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 المطلب السادس: موقف أتباع عبد الله بن سبأ لما سمعوا بمقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أما أتباع ابن سبأ فلم يكتفوا بالتكذيب بل ذهبوا إلى الكوفة معلنين ضلالات معلمهم وقائدهم ابن سبأ. فقد روى سعد بن عبد الله القمي صاحب (المقالات والفرق) وهو ثقة عند القوم "أن السبئية قالوا للذي نعاه: كذبت يا عدو الله لو جئتنا –والله- بدماغه ضربة فأقمت على قتله سبعين عدلاً ما صدقناك ولعلمنا أنه لم يمت ولم يُقتل وإنه لا يموت حتى يسوق العربَ بعصاه ويملك الأرض ثم مضوا من يومهم حتى أناخوا بباب عليّ فاستأذنوا عليه استئذان الواثق بحياته الطامع في الوصول إليه، فقال لهم من حضره من أهله وأصحابه وولده: سبحان الله، ما علمتم أن أمير المؤمنين قد استشهد؟ قالوا: إنا لنعلم أنه لم يُقتل ولا يموت حتى يسوق العرب بسيفه وسوطه كما قادهم بحجته وبرهانه، وإنه ليسمع النجوى ويعرف تحت الدثار الثقيل ويلمع في الظلام كما يلمع السيف الصقيل الحسام" (1).وكان من هؤلاء رجل يقال له رشيد الهجري الذي صرح بمعتقده أمام عامر الشعبي، قال الشعبي: "دخلت عليه يوماً فقال: خرجت حاجاً فقلت: لأعهدن بأمير المؤمنين عهداً فأتيت بيت علي عليه السلام فقلت لإنسان: استأذن لي على أمير المؤمنين قال: أو ليس قد مات؟ قلت: قد مات فيكم والله إنه ليتنفس الآن تنفس الحي، فقال: أما إذ عرفت سر آل محمد فادخل، قال فدخلت على أمير المؤمنين وأنبأني بأشياء تكون، فقال له الشعبي: إن كنت كاذباً فلعنك الله، وبلغ الخبر زياداً –فبعث إلى رشيد الهجري فقطع لسانه وصلبه على باب دار عمرو بن حريث" (2).ذكر الحافظ الذهبي هذا الخبر في تذكرة الحفاظ وفيه: فقلت: لإنسان استأذن لي على سيد المرسلين. فقال هو نائم، وهو يظن أني أعنى الحسن، فقلت: لست أعني الحسن إنما أعني أمير المؤمنين وإمام المتقين وقائد الغر المحجّلين. قال أو ليس قد مات؟ فقلت: أما والله إنه ليتنفس الآن بنفس حيّ ويعرف من الدثار الثقيل (3)؛ ولذلك كان عامر الشعبي يقول: ما كُذب على أحدٍ في هذه الأمة ما كذب على علي (4). ورشيد هذا قال عنه ابن حبان: كان يؤمن بالرجعة (5).وذكره الطوسي في ضمن أصحاب علي رضي الله عنه وسماه رشيد الهجري الرياش بن عدي الطائي (6).ويعتبر رشيد من أبواب الأئمة، كان باباً للحسين بن علي رضي الله عنهما (7). المصدر: ابن سبأ حقيقة لا خيال للدكتور سعد الهاشمي   (1) انظر: ((المقالات والفرق)) لسعد بن عبد الله القمي (ت:301هـ) (ص 21) ط/ طهران 1963م، تحقيق الدكتور محمد جواد مشكور. (2) انظر: ((المجروحين)) لابن البستى (1/ 298) وانظر: ((ميزان الاعتدال)) (2/ 52). (3) انظر: ((تذكرة الحافظ)) (1/ 84) ط/ إحياء التراث. (4) ((تذكرة الحافظ)). (1/ 82). (5) انظر: ((المجروحين)) (1/ 298) و ((ميزان الاعتدال)) (2/ 53). (6) انظر: ((رجال الطوسي)) (41). (7) انظر: ((العلويون فدائيوا الشيعة المجهولون)) لعلي عزيز العلوي، (ص 31) الطبعة الأولى (1972م) والباب هو حلقة الوصل بين الشيعة والإمام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 المطلب السابع: موقف أهل بيت النبي الكريم من ابن سبأ وتصدى أهل بيت النبي الكريم لعبد الله بن سبأ كما تصدى له أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فكذّبوه وتبرؤوا من مقالاته وضلاله. فقد روى الكشي بسنده عن محمد بن قولويه قال: حدثني سعد بن عبد الله قال: حدثنا يعقوب بن يزيد ومحمد بن عيسى عن علي بن مهزيار عن فضالة بن أيوب الأزدي عن أبان بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "لعن الله عبد الله بن سبأ إنه ادعى الربوبية في أمير المؤمنين وكان والله طائعاً، الويل لمن كذب علينا وإن قومنا يقولون فينا مالا نقول في أنفسنا نبرأ إلى الله منهم" (1).وروى الكشي بسنده أيضاً عن محمد بن قولويه قال: حدثني سعد بن عبد الله قال: حدثنا يعقوب بن يزيد عن ابن أبي عمير وأحمد بن محمد بن عيسى عن أبيه والحسين بن سعد عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي حمزة الثمالي قال: قال علي بن الحسين رضي الله عنه: "لعن الله من كذب علينا إني ذكرت عبد الله بن سبأ فقامت كل شعرة في جسدي لقد ادعى أمراً عظيماً ماله لعنه الله, كان عليّ عبداً لله صالحاً أخاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم, وما نال الكرامة من الله إلا بطاعته ولرسوله، وما نال رسول الله صلى الله عليه وسلم الكرامة إلا بطاعة الله" (2).وروى أيضاً الكشي بسنده عن محمد بن خالد الطيالسي عن ابن أبي نجران عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله رضي الله عنه: "إنا أهل بيت صديقون لا نخلوا من كذاب يكذب علينا ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق الناس لهجة وأصدق البرية كلها, وكان مسيلمة يكذب عليه وكان أمير المؤمنين أصدق من برأ الله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الذي يكذب عليه ويعمل في تكذيب صدقه ويفتري على الله الكذب عبد الله بن سبأ لعنه الله" (3). هذه روايات الكشي عن أئمة أهل البيت. ومن المعلوم أن كتاب الكشي المسمى بـ (معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين) عمد إليه إمام الشيعة الثقة الثبت عندهم (الطوسي) الذي يلقبونه بشيخ الطائفة المتوفي سنة 460هـ عمد إلى كتاب الكشي فهذبه وجرده من الزيادات والأغلاط وسماه بـ (اختيار الرجل) وأملاه على تلاميذه في المشهد في الغروي، وكان بدء إملائه يوم الثلاثاء 26 صفر سنة 456هـ نص على ذلك السيد رضي الدين علي بن طاووس في (فرج المهموم) نقلاً عن نسخة بخط الشيخ الطوسي المصرح فيها بأنها اختصار رجال كتاب (الرجال) لأبي عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي واختياره. فالموجود في هذه الأزمنة من المخطوط منه والمطبوع سنة 1317هـ في بمبئي بل وفي زمان العلامة الحلي إنما هو اختيار الشيخ الطوسي لا رجال الكشي الأصل فإنه لم يوجد له أي أثر حتى اليوم (4). وبهذه النقول والنصوص الواضحة المنقولة من كتب القوم تتضح لنا حقيقة شخصية ابن سبأ اليهودي ومن طعن من الشيعة في ذلك فقد طعن في كتبهم التي نقلت لعنات الأئمة المعصومين عندهم على هذا اليهودي (ابن سبأ) , ولا يجوز ولا يتصور أن تخرج اللعنات من المعصوم على مجهول، وكذلك لا يجوز في معتقد القوم تكذيب المعصوم. هذا ما تيسر لنا في إثبات هذه الشخصية، أما الكلام عن دوره في مقتل عثمان رضي الله عنه، ودوره في عهد علي رضي الله عنه، وأثره في فرق الشيعة، ورواة الأخبار فيحتاج إلى كتابة أخرى. رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8] رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:53] المصدر: ابن سبأ حقيقة لا خيال للدكتور سعد الهاشمي   (1) انظر: ((رجال الكشي))، (ص 100) مؤسسة الأعلمي كربلاء، و ((تنقيح المقال في أحوال الرجال)) للمامقاني (2/ 183 - 184) ط/ المرتضوية (1350هـ) و ((قاموس الرجال)) (5/ 461). (2) انظر: ((رجال الكشي))، (ص 100) مؤسسة الأعلمي كربلاء، و ((تنقيح المقال في أحوال الرجال)) للمامقاني (2/ 183 - 184) ط/ المرتضوية (1350هـ) و ((قاموس الرجال)) (5/ 461). (3) انظر: انظر: ((رجال الكشي))، (ص 100) مؤسسة الأعلمي كربلاء، و ((تنقيح المقال في أحوال الرجال)) للمامقاني (2/ 183 - 184) ط/ المرتضوية (1350هـ) و ((قاموس الرجال)) (5/ 462). (4) انظر: ((رجال الطوسي))، (ص 62) الأولى النجف (1381هـ/1961م). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 المبحث الثاني: الكيسانية بدأ ظهور هذه الفرقة بعد قتل الخليفة الراشد علي رضي الله عنه، وعرفوا بهذه التسمية واشتهروا بموالاتهم لمحمد بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية، وظهر تكونهم بعد تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنهما (1). فحينما تم الصلح مالوا عن الحسن والحسين وقالوا بإمامة محمد بن الحنفية، وقالوا: إنه أولى بالخلافة بعد علي، وهو وصي علي بن أبي طالب، وليس لأحد من أهل بيته أن يخالفه أو يخرج بغير إذنه. وقالوا: إن الحسن خرج لقتال معاوية بأمر محمد بن الحنفية، وإن الحسين خرج لقتال يزيد بإذن ابن الحنفية، بل وقالوا: بأن من خالف ابن الحنفية فهو مشرك كافر. وفرقة من هؤلاء الكيسانية قالوا: إن الإمامة لعلي ثم الحسن ثم الحسين ثم لابن الحنفية لأنه أولى الناس بالإمامة كما كان الحسين أولى بها بعد الحسن (2). وقد اختلف في كيسان زعيم الكيسانية: فقيل: إن كيسان رجل كان مولى لعلي بن أبي طالب. وقيل: بل كان تلميذاً لمحمد بن الحنفية (3).وقيل: بل هو المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب، وقد كان يلقب بكيسان (4). وهذا غير صحيح, لأن قيام الكيسانية كان قبل ظهور أمر المختار كما تقدم. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 328   (1) ((مقالات القمي)) (ص26). (2) ((مقالات القمي)) (ص23). وانظر لمزيد الأخبار: ((فرق الشيعة)) للنوبختي. (3) ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 147). (4) انظر: ((مقالات القمي)) (ص 21). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 المطلب الأول: كيف صارت الكيسانية مختارية؟ حينما تقرأ بعض كلام علماء الفرق تجد أن فيه مشكلة خفية وخلطاً في التسمية، إذ يجعل بعضهم الكيسانية هي نفسها فرقة المختارية التي تزعمها المختار ابن أبي عبيد كما فعل القمي وغيره (1). وبعضهم يجعل الكيسانية فرقة مستقلة، تزعمها رجل يقال له كيسان كما فعل الشهرستاني وغيره. والذي يتضح لي أن الكيسانية عندما نشأت كانت فرقة مستقلة، تزعمهم رجل يسمى كيسان الذي هو تلميذ لمحمد بن الحنفية أو مولى لعلي، وحينما جاء المختار بن أبي عبيد انضم إليه هؤلاء وكونوا بعد ذلك فرقة المختارية ... ولقد كان لفرقة المختارية أحداث هامة في التاريخ بقيادة المختار. فمن هو المختار بن أبي عبيد الذي تلقفته الكيسانية للانقضاض به على قتلة الحسين ابن علي رضي الله عنه؟ المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 329   (1) ((مقالات القمي)) (ص21). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 المطلب الثاني: مؤسس المختارية (المختار بن أبي عبيد الثقفي) هو المختار بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي، ولد في الطائف في السنة الأولى للهجرة، ووالده صحابي استشهد في معركة الجسر حينما كان قائداً لجيش المسلمين في فتح العراق، وقام بكفالة المختار عمه سعيد بن مسعود الثقفي الذي كان والياً على الكوفة لعلي رضي الله عنه. وقد نشأ المختار على جانب من الذكاء والفطنة مراوغاً ماكراً غير صادق في تشيعه، وإنما كان يريد من ورائه تحقيق طموحه السياسي بأي وجه، وله مواقف تشهد بصحة هذا القول عنه ذكرها أهل التاريخ والفرق (1). وقد لقب بكيسان لأسباب هي: منهم من يقول: إنه نسبة إلى الغدر (2)، لأن كيسان في اللغة العربية اسم للغدر، وكان المختار كذلك. أنه أطلق عليه هذا اللقب باسم مدير شرطته المسمى بكيسان (3) والملقب بأبي عمرة الذي أفرط في قتل كل من شارك ولو بالإشارة في قتل الحسين، فكان يهدم البيت على من فيه، حتى قيل في المثل: (دخل أبو عمرة بيته) كناية عن الفقر والخراب. أنه أطلق على المختار هذا اللقب باسم كيسان الذي هو مولى علي بن أبي طالب (4).وذهب بعض الشيعة ومنهم النوبختي (5) إلى أن هذا اللقب أطلقه عليه محمد بن الحنفية على سبيل المدح، أي لكيسه، ولما عرف عنه من مذهبه في آل البيت؛ لأن الكيسانية زعموا أن محمد بن الحنفية هو الذي كلف المختار بالثورة في العراق لأخذ الثأر للحسين، وهذا ليس بصحيح كما سيأتي. وقد كان للمختار أدوار مع ابن الزبير، وخاض معارك في العراق خرج منها ظافراً فأعجبته نفسه، وأخذ يسجع كسجع الكهان، ويلمح لأناس ويصرح لآخرين أنه يوحى إليه، فانفض عنه كثير من أصحابه، وقُتل في حربه مع مصعب بن الزبير سنة 67هـ، وتفرق أتباعه (6)، وصدق عليه الحديث الذي روته أسماء بنت أبي بكر وغيرها أنه كذاب ثقيف (7). المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 331   (1) انظر ترجمته في البداية (8/ 289)، وانظر: ((الملل والنحل)) (1/ 147). (2) ((القاموس المحيط)) (2/ 275). (3) ((مقالات القمى)) (ص21)، ((فرق النوبختي)) (ص45). (4) ((مقالات القمى)) (ص22)، ((فرق النوبختي)) (ص45). (5) ((فرق الشيعة)) (ص48). (6) ((تاريخ الطبري)) (6/ 65). (7) ((سنن الترمذي)) (4/ 499). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 المطلب الثالث: التعريف بمحمد بن الحنفية واختلاف الشيعة بعده أما ابن الحنفية الذي جعله المختار واجهة له ... فهو محمد بن علي بن أبي طالب، وأمه خولة، قيل: بنت جعفر، وقيل: بنت أياس الحنفية، وهي من سبي اليمامة في حروب الردة، صارت إلى علي. وقيل: إنها سندية وكانت أمة لبني حنيفة فنسبت إليهم. ولد ابن الحنفية سنة 16هـ في عهد عمر بن الخطاب، ونشأ شجاعاً فاضلاً عالماً، دفع إليه أبوه الراية يوم الجمل وعمره 21سنة، وقد تنقل بعد وفاة والده فرجع إلى المدينة ثم انتقل إلى مكة ثم منى في عهد ابن الزبير ثم إلى الطائف، ثم قصد عبد الملك بن مروان بالشام وتوفي سنة 81هـ قيل بالطائف، وقيل بأيلة من فلسطين، وقيل لم يمت بل حبسه الله في جبل رضوى القريب من ينبع، وهذا من تحريف الشيعة. وبعد وفاته اختلف الشيعة فيما بينهم: فذهب بعضهم إلى أنه مات وسيرجع. وذهب آخرون إلى أنه لا زال حياً بجبل رضوى قرب المدينة عنده عينان نضاختان، إحداهما تفيض عسلاً، والأخرى تفيض ماءً، عن يمينه أسد يحرسه، وعن يساره نمرٌ يحرسه، والملائكة تراجعه الكلام، وأنه المهدي المنتظر، وأن الله حبسه هناك إلى أن يؤذن له في الخروج، فيخرج ويملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً. وفي هذه الخرافات يقول السيد الحميري أو كثيرعزة على رواية في قصيدة له: ألا حي المقيم بشعب رضوى ... واهد له بمنزله السلاما وقل ياابن الوصي فدتك نفسي ... أطلتَ بذلك الجبل المقاما وما ذاق ابن خولة طعم موت ... ولا وارت له أرض عظاما لقد أمسى بجانب شعب رضوى ... تراجعه الملائكة الكلاما وإن له لرزقاً كل يوم ... وأشربه يعل بها الطعاما أضر بمعشر وآلوك منا ... وسموك الخليفة والإماما وعادوا فيك أهل الأرض طرا ... مقامك عنهم سبعين عاما وقد اختلف الكيسانية في سبب حبس ابن الحنفية بجبل رضوى: ذهب بعضهم - وأراد أن يقطع التساؤل- إلى القول بأن سبب حبسه سر الله، لا يعلمه أحد غيره، وهو تخلص من هذه الكذبة التي زعموها في حبسه. وبعضهم قال: إنه عقاب من الله له بسبب خروجه بعد قتل الحسين إلى يزيد بن معاوية، وطلبه الأمان له، وأخذه عطاءه. بعضهم قال: إنه بسبب خروجه من مكة قاصداً عبد الملك بن مروان هارباً من ابن الزبير ولم يقاتله (1). والحقيقة أنك لا تدري كيف تبلدت عقول هؤلاء إلى حد أن يعتقدوا هذا الاعتقاد الغريب في أن الله غضب على ابن الحنفية من مجرد زيارته لهؤلاء الحكام من المسلمين، والذين لهم يد مشكورة في انتشار رقعة الإسلام، فأوصل الله –بزعمهم- عقابه إلى هذا الحد من السنين الطويلة التي شكى منها الحميري سبعين عاماً، وقد بقي الكثير جداً والتي ستمتد إلى أن يغير هؤلاء الحمقى عقيدتهم هذه. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 332   (1) أوردها القمي في "مقالاته" (ص21 - 32)، والنوبختي في "فرقه" (ص51) باختصار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 المبحث الرابع: الزيدية • المطلب الأول: التعريف . • المطلب الثاني: نشأة الزيدية. • المطلب الثالث: موقف زيد من حكام بني أمية. • المطلب الرابع: الأفكار والمعتقدات. • المطلب الخامس: الجذور الفكرية والعقائدية. • المطلب السادس: موقفهم من الإمامة. • المطلب السابع: آراء زيد والزيدية. • المطلب الثامن: أشهر الفرق الزيدية. • المطلب التاسع: فرق جارودية اليمن. • المطلب العاشر: أئمة الزيدية ودورهم في نشر القبورية في اليمن. • المطلب الحادي عشر: الانتشار ومواقع النفوذ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 المطلب الأول: التعريف الزيدية إحدى فرق الشيعة، نسبتها ترجع إلى مؤسسها زيد بن علي زين العابدين الذي صاغ نظرية شيعية في السياسة والحكم، وقد جاهد من أجلها وقتل في سبيلها، وكان يرى صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم جميعاً، ولم يقل أحد منهم بتكفير أحد من الصحابة ومن مذهبهم جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 المطلب الثاني: نشأة الزيدية بعد قتل الحسين بن علي (1) ظهرت معظم الفرق التي تزعم التشيع، بل وأخذت دعوى التشيع تتصاعد في الغلو. وفي أيام علي بن الحسين الملقب بزين العابدين طمع الشيعة في استجلابه إليهم غير أنه كان على ولاء تام ووفاء كامل لحكام بني أمية متجنباً لمن نازعهم (2)، بل إن يزيد بن معاوية وهو خليفة كان يكرمه ويجلسه معه، ولا يأكل إلا معه (3). وقد أنجب أولاداً، منهم: زيد بن علي بن الحسين. محمد بن علي بن الحسين الملقب بالباقر والد جعفر الصادق. عمر بن علي بن الحسين (4). وقد اختلف الشيعة في أمر زيد بن علي، ومحمد بن علي أيهما أولى بالإمامة بعد أبيهما؟ فذهبت طائفة إلى أنها لزيد فسموا زيدية، وهؤلاء يرتبون الأئمة ابتداءً بعلي رضي الله عنه، ثم ابنه الحسن، ثم الحسين، ثم هي شورى بعد ذلك بين أولادهما - كما ترى الجارودية منهم (5) - ثم ابنه علي بن الحسين زين العابدين، ثم ابنه زيد وهو صاحب هذا المذهب، ثم ابنه يحيى بن زيد، ثم ابنه عيسى بن زيد - كما ترى الحصنية منهم فيما يذكره القمي (6) -، وبعد ذلك يشترطون في الإمام أن يخرج بسيفه سواء كان من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين. وذهبت طائفة أخرى إلى أن الإمامة لمحمد بن علي بن الحسين المكنى بأبي جعفر الباقر (7). ونحن هنا بصدد دراسة الزيدية كيف قامت؟ وما هي مواقف الناس منهم؟ وقد وصف أبو زهرة الزيدية بأنهم (أقرب فرق الشيعة إلى الجماعة الإسلامية، وأكثر اعتدالا، وتشيعهم نحو الأئمة لم يتسم بالغلو؛ بل اعتبروهم أفضل الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتدلوا في مواقفهم تجاه الصحابة، فلم يكفروهم وخصوصاً من بايعهم علي رضي الله عنه واعترف بإمامتهم) (8).هكذا قال عنهم، والذي يظهر لي أن هذا الحكم غير صحيح على جميع الزيدية- فإن بعض طوائفهم رافضة، وهم الذين خرجوا عن مبادئ زيد وآرائه، سواء كانوا متقدمين أو متأخرين فقد قسم أبو زهرة الزيدية من حيث الاعتقاد إلى قسمين (9): المتقدمون منهم؛ المتبعون لأقوال زيد، وهؤلاء لا يعدون من الرافضة، ويعترفون بإمامة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.   (1) لمعرفة موقف يزيد من قتل الحسين انظر ((البداية والنهاية)) (8/ 191 - 194) (2) انظر: ((الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة)) (ص154)، ((الشيعة والتشيع)) (ص204) (3) ((الإمام زيد)) (ص23) (4) وتسمية علي بن الحسين ابنه باسم عمر إفحام لكذب الشيعة فيما يدعون من كراهية علي لأبي بكر وعمر؛ حيث إنهم يجنبون أولادهم التسمية باسم خيار الصحابة مثل أبي بكر وعمر وعائشة، بل ومثله سمى علي رضي الله عنه أولاده بأسماء أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم (5) ((المقالات والفرق)) (ص18) (6) انظر: ((المقالات والفرق)) (ص74) (7) انظر: ((الشيعة والتشيع)) (ص204) (8) ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (1/ 47)، وانظر: ((تاريخ الفرق الإسلامية)) للغرابي (ص296)، و ((أهم الفرق الإسلامية)) للنيفر (ص80) (9) ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (1/ 52) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 وقسم من المتأخرين منهم، وهؤلاء يعدون من الرافضة، وهم يرفضون إمامة الشيخين ويسبونهما ويكفرون من يرى خلافتهما. وهذا يحتاج من الزيدية إلى إعادة النظر؛ ليتقاربوا من إخوانهم أهل السنة، وإلا أصبحوا في صف الإمامية الرافضة، وعموماً فإن مذهبهم في الإمامة يحصرونه في أولاد فاطمة فقط من غير تحديد بأحد منهم، وإنما يشترطون أن يكون كل فاطمي اجتمعت فيه خصال الولاية من الشجاعة والسخاء والزهد، وخرج ينادي بالإمامة - يكون إماماً واجب الطاعة، سواء كان من أولاد الحسن أوالحسين (1)، عكس الاثني عشرية الذين حرصوا على الأئمة في أولاد الحسين فقط. زيد بن علي وهو الذي تنسب إليه الطائفة الزيدية: وهو زيد بن علي بن الحسين بن علي، ولد سنة 80هـ تقريباً، وتوفي سنة 122هـ، وأمه أمة أهداها المختار إلى علي زين العابدين فأنجبت زيداً (2).وكان زيد - كما تذكر الكتب التي تترجم له - شخصية فذة، صاحب علم وفقه وتقوى، واتصل بواصل بن عطاء وأخذ عنه، واتصل بأبي حنيفة وأخذ عنه (3)، وكان أبو حنيفة يميل إلى زيد ويتعصب له، وقد قال في خروجه لحرب الأمويين: (ضاهى خروجه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر) كما يذكر ذلك أبو زهرة (4). المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي - 1/ 334 ـ تنقل في البلاد الشامية والعراقية باحثاً عن العلم أولاً وعن حق أهل البيت في الإمامة ثانياً، فقد كان تقيًّا ورعاً عالماً فاضلاً مخلصاً شجاعاً وسيماً مهيباً مُلمًّا بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ـ تلقى العلم والرواية عن أخيه الأكبر محمد الباقر الذي يعد أحد الأئمة الاثني عشر عند الشيعة الإمامية. • أما ابنه يحيى بن زيد فقد خاض المعارك مع والده، لكنه تمكن من الفرار إلى خراسان حيث لاحقته سيوف الأمويين فقتل هناك سنة 125هـ. • فُوِّض الأمر بعد يحيى إلى محمد وإبراهيم. ـ خرج محمد بن عبد الله الحسن بن علي (المعروف بالنفس الزكية) بالمدينة فقتله عاملها عيسى بن ماهان. ـ وخرج من بعده أخوه إبراهيم بالبصرة فكان مقتله فيها بأمر من المنصور • أحمد بن عيسى بن زيد ـ حفيد مؤسس الزيدية ـ أقام بالعراق، وأخذ عن تلاميذ أبي حنيفة فكان ممن أثرى هذا المذهب وعمل على تطويره. • من علماء الزيدية القاسم بن إبراهيم الرسي بن عبد الله بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما (170ـ242هـ) تشكلت له طائفة زيدية عرفت باسم القاسمية. • جاء من بعده حفيده الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم (245ـ298هـ) الذي عقدت له الإمامة باليمن فكان ممن حارب القرامطة فيها، كما تشكلت له فرقة زيدية عرفت باسم الهادوية منتشرة في اليمن والحجاز وما والاها. • ظهر للزيدية في بلاد الديلم وجيلان إمام حسيني هو أبو محمد الحسن بن علي بن الحسن بن زيد بن عمر بن الحسين بن علي رضي الله عنهما والملقب بالناصر الكبير (230 ـ 304هـ) وعرف باسم الأطروش، فقد هاجر هذا الإمام إلى هناك داعياً إلى الإسلام على مقتضى المذهب الزيدي فدخل فيه خلق كثير صاروا زيديين ابتداء. • ومنهم الداعي الآخر صاحب طبرستان الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن زيد بن الحسن بن علي رضي الله عنهما، الذي تكونت له دولة زيدية جنوب بحر الخزر سنة 250هـ. • وقد عرف من أئمتهم محمد بن إبراهيم بن طباطبا، الذي بعث بدعاته إلى الحجاز ومصر واليمن والبصرة. ومن شخصياتهم البارزة كذلك مقاتل بن سليمان، ومحمد بن نصر. ومنهم أبو الفضل بن العميد والصاحب بن عباد وبعض أمراء بني بويه. • استطاع الزيدية في اليمن استرداد السلطة من الأتراك إذ قاد الإمام يحيى بن منصور بن حميد الدين ثورة ضد الأتراك عام 1322هـ وأسس دولة زيدية استمرت حتى سبتمبر عام 1962م حيث قامت الثورة اليمنية وانتهى بذلك حكم الزيود ولكن لا زال اليمن معقل الزيود ومركز ثقلهم المصدر: الموسوعة الميسرة   (1) ((الملل والنحل)) (1/ 154)، وانظر: ((فرق الشيعة)) للنوبختي (ص43) (2) انظر ((ترجمته في كتاب الإمام زيد)) (ص22) (3) وبعض العلماء كالشهرستاني يصرح بتلمذة زيد لواصل ولأبي حنيفة، ولكن الأستاذ أبو زهرة يرى أنها ليست تلمذة بمعنى الكلمة، وإنما كان اتصاله بزيد على سبيل المذاكرة لتساويهما في العمر؛ إذ إن واصل بن عطاء وزيد بن علي ولدا في سنة 80هـ، ولكن هذا لا يمنع أن يتتلمذ ويتأثر زيد بواصل، وأن يتتلمذ كذلك على أبي حنيفة، فإن تأثر زيد بهما، وتأثر الزيدية بعد ذلك بالمعتزلة والحنيفية ظاهر على سبيل التلمذة لا المذاكرة التي يذهب إليها أبو زهرة، ولهذا قيل: ((الزيدية معتزلة في الأصول، حنفية في الفروع)). (4) ((الإمام زيد)) (ص72)، وهذا النقل يحتاج إلى توثيق فلم نجده في كتب التراجم والتاريخ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 المطلب الثالث: موقف زيد من حكام بني أمية خرج زيد على الحكام الأمويين، وأشهر السلاح في وجوههم، فما هو الدافع لزيد على هذا الخروج؟ والجواب هو حسب ما قيل في بعض المصادر أن زيداً خرج على بني أمية منكراً للظلم والجور، وبعضها يذكر أنه لم يكن يريد الخروج، ولا طلب الخلافة، ولكن حدث في تصرف هشام بن عبد الملك وعماله إهانات وإساءة لزيد لم يطق أن يعيش معها مسالماً لهشام بن عبد الملك، وذلك أن زيداً أحس أن والي المدينة من قبل هشام ويسمى خالد بن عبد الملك ابن الحارث ووالي هشام على العراق يوسف بن عمر الثقفي يتعمدان الإساءة له، وربما تصور أن ذلك بإيعاز من الخليفة هشام، فقرر أن يذهب للشام ويشرح أمره لهشام ليزيل ما في نفسه من تخوف أن يثور عليه زيد. لكن حدث ما لم يكن في حسبانه، فقد قابله الخليفة مقابلة غير لائقة به حاصلها: أن زيداً وقف بباب هشام فلم يؤذن له بالدخول مدة، فكتب له كتاباً يشرح أمره ويطلب الإذن له فكتب هشام في أسفل الكتاب: ارجع إلى أميرك بالمدينة. فعزم زيد على مقابلته وقال: والله لا أرجع إلى خالد أبداً. وأخيراً أذن له وقد رتب هشام الأمر، فوكل به من يحصي عليه جميع ما يقول، وحينما صعد زيد إلى هشام قال زيد: والله لا يحب الدنيا أحد إلا ذل. فلما مثل بين يدي هشام لم ير موضعاً للجلوس فيه حيث انتهى به المجلس، وقال: يا أمير المؤمنين، ليس أحد يكبر عن تقوى الله، ولا يصغر دون تقوى الله. فقال هشام: اسكت لا أم لك. أنت الذي تنازعك نفسك الخلافة وأنت ابن أمة. فقال له: يا أمير المؤمنين، إن لك جواباً إن أجبتك أحببتك به، وإن أحببت أمسكت- ولو أن هشاماً يريد العافية لقال له أمسك - فقال: بل أجب. فقال: إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات، وقد كانت أم إسماعيل أمة لأم إسحاق، فلم يمنعه ذلك أن بعثه الله نبياً، وجعله للعرب أباً، وأخرج من صلبه خير البشر محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم تقول لي هذا وأنا ابن فاطمة وابن علي؟ فقال هشام: اخرج. فقال زيد: أخرج، ولا أكون إلا حيث تكره. ومن هنا قرر أنه بين أمرين أحلاهما مر؛ فاختار الخروج (1). وكم أسديت له من النصائح للرجوع عن رأيه، ولكنه - وبدفع من الشيعة- واصل سيره إلى أهل الكوفة الذين عاهدوه على نصرته ثم نكسوا على أعقابهم حين تراءى الجمعان، جيش الخلافة وهؤلاء، وفي هذا الموقف الحرج قام هؤلاء وسألوه - ليأخذوا حجة في الهرب ولرداءة معتقدهم- قالوا له: إنا لننصرك على أعدائك بعد أن تخبرنا برأيك في أبي بكر وعمر اللذين ظلما جدك علي بن أبي طالب. فقال زيد - دون نفاق -: إني لا أقول فيهما إلا خيراً، وما سمعت أبي يقول فيهما إلا خيراً، وقد كانا وزيرا جدي، وإنما خرجت على بني أمية الذي قتلوا جدي الحسين، وأغاروا على المدينة يوم الحرة، ثم رموا بيت الله بالمنجنيق والنار. فلما سمعوا هذا الجواب تفرقوا عنه ورفضوه. فقال لهم: رفضتموني؟ فسموا رافضة، وبقي في شرذمة قليلة سرعان ما قضى عليهم يوسف ابن عمر، وقد قتل زيد ودفن في ساقية فاستخرجه يوسف وكتب إلى الخليفة، فأمره هشام أن يصلبه مدة وأن يحرقه، وتم ذلك فيما ذكره علماء الفرق والمؤرخون (2) المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي - 1/ 337   (1) والله أعلم عن صحة ذلك كله، وقد علمت أن أكثر المؤرخين يتجوزون في نقل الأخبار اعتماداً على الرواة تاركين لمن جاء بعدهم مهمة تحقيقها (2) انظر: ((الكامل)) لابن الأثير (5/ 229) (ص235)، ومن (242) (ص247) وانظر: ((مروج الذهب)) (3/ 217 - 220). وانظر: ((البداية والنهاية)) (9/ 329 - 330). وانظر: ((مقاتل الطالبين)) (ص86 - 102. ويجب أن تدرك المبالغات التي ذكرها المسعودي والأصفهاني صاحب مروج الذهب بناء على تشيعهما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 المطلب الرابع: الأفكار والمعتقدات • يُجيزون الإمامة في كل أولاد فاطمة، سواء أكانوا من نسل الإمام الحسن أم من نسل الإمام الحسين ـ رضي الله عنهما. ـ الإمامة لديهم ليست بالنص، إذ لا يشترط فيها أن ينص الإمام السابق على الإمام اللاحق، بمعنى أنها ليست وراثية بل تقوم على البيعة، فمن كان من أولاد فاطمة وفيه شروط الإمامة كان أهلاً لها ـ يجوز لديهم وجود أكثر من إمام واحد في وقت واحد في قطرين مختلفين. ـ تقول الزيدية بالإمام المفضول مع وجود الأفضل إذ لا يُشترط أن يكون الإمام أفضل الناس جميعاً بل من الممكن أن يكون هناك للمسلمين إمام على جانب من الفضل مع وجود من هو أفضل منه على أن يرجع إليه في الأحكام ويحكم بحكمه في القضايا التي يدلي برأيه فيها. • معظم الزيدية المعاصرين يُقرُّون خلافة أبي بكر وعمر، ولا يلعنونهما كما تفعل فرق الشيعة، بل يترضون عنهما، إلا أن الرفض بدأ يغزوهم - بواسطة الدعم الإيراني -، ويحاول جعلهم غلاة مثله. • يميلون إلى الاعتزال فيما يتعلق بذات الله، والاختيار في الأعمال. ومرتكب الكبيرة يعتبرونه في منزلة بين المنزلتين كما تقول المعتزلة. • يخالفون الشيعة في زواج المتعة ويستنكرونه. • يتفقون مع الشيعة في زكاة الخمس وفي جواز التقية إذا لزم الأمر. • هم متفقون مع أهل السنة بشكل كامل في العبادات والفرائض سوى اختلافات قليلة في الفروع مثل: ـ قولهم "حي على خير العمل" في الأذان على الطريقة الشيعية. ـ صلاة الجنازة لديهم خمس تكبيرات. ـ يرسلون أيديهم في الصلاة. ـ صلاة العيد تصح فرادى وجماعة. ـ يعدون صلاة التروايح جماعة بدعة. ـ يرفضون الصلاة خلف الفاجر. ـ فروض الوضوء عشرة بدلاً من أربعة عند أهل السنة. • باب الاجتهاد مفتوح لكل من يريد الاجتهاد، ومن عجز عن ذلك قلد، وتقليد أهل البيت أولى من تقليد غيرهم. • يقولون بوجوب الخروج على الإمام الظالم الجائر ولا تجب طاعته. • لا يقولون بعصمة الأئمة عن الخطأ. كما لا يغالون في رفع أئمتهم على غرار ما تفعله معظم فرق الشيعة الأخرى. ـ لكن بعض المنتسبين للزيدية قرروا العصمة لأربعة فقط من أهل البيت هم علي وفاطمة والحسن والحسين ـ رضي الله عنهم جميعاً. • لا يوجد عندهم مهدي منتظر. • يستنكرون نظرية البداء التي قال بها المختار الثقفي، حيث إن الزيدية تقرر أن علم الله أزلي قديم غير متغير وكل شيء مكتوب في اللوح المحفوظ. • قالوا بوجوب الإيمان بالقضاء والقدر مع اعتبار الإنسان حراً مختاراً في طاعة الله أو عصيانه، ففصلوا بذلك بين الإرادة وبين المحبة أو الرضا وهو رأي أهل البيت من الأئمة. • مصادر الاستدلال عندهم كتاب الله، ثم سنة رسول الله، ثم القياس ومنه الاستحسان والمصالح المرسلة، ثم يجيء بعد ذلك العقل، فما يقر العقل صحته وحسنه يكون مطلوباً وما يقرر قبحه يكون منهياً عنه. وقد ظهر من بينهم علماء فطاحل أصبحوا من أهل السنة، سلَفِيي المنهج والعقيدة أمثال: ابن الوزير وابن الأمير الشوكاني المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 المطلب الخامس: الجذور الفكرية والعقائدية • يتمسكون بالعديد من القضايا التي يتمسك بها الشيعة كأحقية أهل البيت في الخلافة وتفضيل الأحاديث الواردة عنهم على غيرها، وتقليدهم، وزكاة الخمس، فالملامح الشيعية واضحة في مذهبهم على الرغم من اعتدالهم عن بقية فرق الشيعة. • تأثر الزيدية بالمعتزلة فانعكست اعتزالية واصل بن عطاء عليهم وظهر هذا جلياً في تقديرهم للعقل وإعطائه أهمية كبرى في الاستدلال، إذ يجعلون له نصيباً وافراً في فهم العقائد وفي تطبيق أحكام الشريعة وفي الحكم بحسن الأشياء وقبحها. • أخذ أبو حنيفة عن زيد، كما أن حفيداً لزيد وهو أحمد بن عيسى بن زيد قد أخذ عن تلاميذ أبي حنيفة في العراق، وقد تلاقي المذهبان الحنفي السُّني والزيدي الشيعي في العراق أولاً، وفي بلاد ما وراء النهر ثانياً مما جعل التأثر والتأثير متبادلاً بين الطرفين. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 المطلب السادس: موقفهم من الإمامة حصر الإمامة في أبناء البطنين: وكما اهتم الإمام الهادي بنشر مذهبه، الذي أخذ في الظهور في عهده في بعض مخاليف نجد اليمن، الذي خضع لنفوذه، فقد اهتم أيضاً هو مَنْ خلفه من الأئمة في اليمن بأمر الإمامة، وحصرها في أبناء البطنين: الحسن والحسين، حتى جعلها أصحاب هذا المذهب أصلاً من أصول الدين الخمسة المتضمنة لعقائدهم، وهي الأصول الخمسة المعروفة عند المعتزلة، إلا أن الزيدية استبدلوا الإمامة بالمنزلة بين المنزلتين المشهورة عند المعتزلة. كما خص الهادوية شروطها بفصلٍ خاص من كتاب السير، وهو آخر أبواب كتب الفقه عندهم، وهي أن يكون الإمام: ذكراً، حراً، علوياً، فاطمياً، سليم الحواس والأطراف، مجتهداً، عدلاً، سخياً، يضع الحقوق في مواضعها، مدبراً، أكثر رأيه الإصابة، مقداماً حيث يجوز السلامة، لم يتقدمه مجاب، وطريقها الدعوة، لا التوريث، ولا يصح إمامان (1).وقد أوجز الإمام يحيى بن حمزة المتوفى سنة (749هـ) هذه الشروط في قوله: "أن يكون عالماً بأصول الشريعة، ومتمكناً من الفتوى في أحكام الشرع، أن يكون ذا رأي وسياسة للحرب والسلم، أن يكون شجاعاً مجتمع القلب، لا يضعف عند لقاء عدوه، أن يكون له ورع يحجزه عن الوقوع في المحرمات، ويمنعه عن الإخلال بشيء من الواجبات" (2).   (1) ((متن الأزهار))، ((كتاب السير)). وهذا من الناحية النظرية، وأما الناحية العملية، فإنه قد ظهر أكثر من إمام في وقت واحد، وفي صقع واحد. ولكنه لا يدوم الأمر لهم جمعياً، إذ يتغلب أقواهم، وينتهي مصير الآخر إما إلى السجن، وهذا في أفضل الحالات، وإما إلى فرارهم إلى مناطق نائية لا تطول إليهم يد الإمام المتغلب وفي الغالب تنتهي حياة المهزوم إلى الموت قتلاً. (2) ((المعالم الدينية)) (ص 144). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 على أنه قد ولي الإمامة كثيرٌ من الأئمة العاطلون عن أهم شروطها، وهو العلم والعدل. كما ظهر في اليمن عدد من الأئمة في وقت واحد، وذلك كما حدث - على سبيل المثال- في عصر الإمام يحيى بن حمزة، إذ عارضه ثلاثة أئمة آخرون هم: علي ابن صلاح بن إبراهيم بن تاج الدين، والمطهر بن محمد بن المطهر بن يحيى، وأحمد بن علي الفتحي. وقد استدلت الزيدية على حصر الإمامة في الحسنين وفي أبنائهما إلى آخر أيام الدنيا بشروطها المذكورة، وعدم تجويزها في غيرهم ببعض آيات وأحاديث أولوها تأويلاً على مقتضى مذهبهم، بعيداً عن معنى ظاهر اللفظ وسياق المعنى، وذلك لتطابق عقيدتهم، مخالفين في ذلك الإمامية الذين حصروها في اثنى عشر إماماً، ومخالفين كذلك الإسماعيلية الذين يعتقدون الستر لأئمتهم من بعد زوال الدولة الفاطمية، ومع هذا، فإنهم - أي أئمة الزيدية- لم يحتجوا بحديث ((الأئمة من قريش)) (1). لأنهم لو أثبتوه حديثاً لبطل حصر الإمامة في أبناء البطنينفقد قال الإمام المنصور القاسم بن محمد المتوفى سنة 1029هـ/ 1620م: "وهذا الحديث غير صحيح، لقول عمر بن الخطاب: (لو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لما شككت فيه) (2). وسالم المذكور ليس من قريش، ولم ينكر من حضر من الصحابة على عمر، ولو كان الحديث صحيحاً لأنكروا عليه، مع أنه آحادي لا يثبت الاحتجاج به في المسألة؛ لأنها من أصول الدين، وإن ثبت، فهو مجمل بينه خبر الوصي عليه السلام، وهو قوله: (الأئمة من قريش في هذا البطن من هاشم) (3) " (4) وقال المقبلي معبقاً على ما ذهب إليه أبو بكر: "وهذا اعتبار منه محض، ولا شك في أنه اعتبار صالح، نظراً إلى تلك الحادثة، والنبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى جميع الخلق" (5). ثم ترى أن في بعضها: ((لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان)) (6) وفي بعضها: ((الناس تبع لقريش في الخير والشر)) (7) ولا يأمر صلى الله عليه وسلم باتباع الشر، وقد تكلف الناس الاستدلال بتلك الأحاديث على أن الإمارة في قريش، وأنها محصورة عليهم، وكان يلزمهم أن القضاء محصورٌ في الأزد، والأذان في الحبشة" (8). على أنه قد تولى الإمامة كثير من الأئمة العاطلين عن أهم شروطها وهو العلم والعدل، كما اجتمع على حكم اليمن عدد من الأئمة في وقت واحد، وذلك على سبيل المثال كما حددت في عصر الإمام يحيى بن حمزة، فقد قام ثلاثة أئمة آخرون معارضون له. الاحتساب: أما إذا خلت البلاد عند الزيدية من رجل تتحقَّقُ فيه شروط الإمامة كلها أو أكثرها، فإنه كان يقوم رجل على طريق الصلاحية والاحتساب بالنهي عن المنكر بلسانه وسيفه على مراتبه، والأمر بالمعروف بلسانه دون سيفه، وسد الثغور، وتجييش الجيوش للدفع عن المسلمين، وحفظ ضعيفهم، وحفظ الأوقاف، وتفقد المناهل والمساجد والسبل، والمنع من التظالم، ولا يشترط فيه أن يكون علوياً فاطمياً. ويجب على المحتسب أن ينعزل عند ظهور الإمام؛ لأن الإمامة رئاسة عامة لشخص في الدين والدنيا. والفرق بين المحتسب والإمام: أن الإمام يختص بأربع خصال: إقامة الجمع، وأخذ الأموال كرهاً، وتجييش الجيوش لمحاربة الظالمين، وإقامة الحدود على من وجبت عليه، وقتل من امتنع من الانقياد لها. والمحتسب لا ولاية له على شيء من أموال الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز له قبضها إلا أن يأذن له أربابها، ويأمرون بذلك (9). المصدر: الزيدية نشأتها ومعتقداتها للقاضي إسماعيل بن علي الأكوع - ص68   (1) رواه أحمد في ((المسند)) (3/ 183) (12923) والنسائي في الكبرى (467) وأبو يعلى (6/ 321) والطبراني (729) والحاكم (4/ 85) (6962) قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 186): إسناده جيد, وقال الذهبي في ((المهذب)) (6/ 3241): إسناده صحيح, وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (8/ 532): رجاله رجال الصحيح, وقال ابن حجر في ((الفتح)) (1/ 246): متواتر, وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2758). (2) أورده صاحب الكشاف في تفسيره وقال ابن حجر في تخريجه لم أجده (3) لم نجد هذا الأثر (4) ((الأساس لعقائد الأكياس)) (ص 161). (5) ((الأبحاث المسددة)) (ص 252). (6) رواه البخاري (3501) ومسلم (1820) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. (7) رواه مسلم (1819) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. (8) ((الأبحاث المسددة)) (ص 253). (9) (مخطوط مجهول الاسم والمؤلف 73 ورقة موجود في مكتبة الدولة في برلين برقم (4944). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 المطلب السابع: آراء زيد والزيدية للشيعة عموماً آراء متضاربة متناقضة وأفكار تأثرت بجهات شتى من وثنية ومجوسية ويهودية ونصرانية إلا القليل منهم. وأما بالنسبة لزيد فإن آراءه كما ذكر علماء الفرق والمؤرخين نوجزها فيما يلي: في السياسة: - يرى زيد جواز ولاية المفضول، أي أن الإمامة عنده ليست وراثة، فإذا اقتضت المصلحة تقديم المفضول فلا بأس بذلك، وكان مع تفضيله لعلي على أبي بكر يرى أن خلافة الشيخين خلافة صحيحة. ولمّا قيل له في ذلك قال: (كان علي بن أبي طالب أفضل الصحابة إلا أن الخلافة فوضت إلى أبي بكر لمصلحة رأوها، وقاعدة دينية راعوها، من تسكين ثائرة الفتنة وتطييب قلوب العامة، فإن عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة كان قريباً، وسيف أمير المؤمنين من دماء المشركين من قريش لم يجف بعد والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي، فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل ولا تنقاد له الرقاب كل الانقياد، وكانت المصلحة أن يكون القيام بهذا الشأن لمن عرفوا باللين والتودد والتقدم بالسن والسبق في الإسلام، والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ) (1) إلى آخر كلامه. وفي هذا الجواب بعض الأمور التي فيها نظر، فإن الصحابة ما كانوا ليحقدوا عليه قتل أقربائهم من المشركين، وأما الشدة فإن عمر كان أشهر منه فيها وقد ولاه الصحابة أمرهم. - القول بعدم عصمة الأئمة أو وصايتهم من النبي صلى الله عليه وسلم كما تقول الإمامية وبعض فرق الزيدية، فإن زعمهم عصمة الأئمة أو وصايتهم كان أساسه الاعتقاد الخاطئ أن تولي الأئمة كان من النبي صلى الله عليه وسلم. والنبي ما كان يتصرف إلا بوحي، ومن غير المعقول أن يختار الله ورسوله الأئمة ثم يجري عليهم الخطأ في أحكامهم وهم المرجع للدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن زيداً لم يلتفت إلى هذا القول الخاطئ والاعتقاد الباطل فيما قيل عنه (2)؛ إذ لم تثبت العصمة لأحد غير الأنبياء فيما كلفوا بتبليغه.- لم يقل بالمهدي المنتظر ولا بالغائب المكتوم (3).   (1) ((الملل والنحل)) (1/ 155)، ((الإمام زيد)) (ص188) (2) انظر: ((الإمام زيد)) (ص191)، ولكن الزيدية في عصرنا الحاضر يقولون بعصمتهم انظر: ((نصيحة الإخوان)) (ص4) (3) وقد زعمت الجارودية من الزيدية أن محمداً بن عبد الله بن الحسن لم يمت، وأنه يخرج ويغلب، وفرقة أخرى زعمت أن محمداً بن القاسم صاحب الطالقان حي لم يمت، وأنه يخرج ويغلب، وفرقة قالت مثل ذلك في يحيى بن محمد صاحب الكوفة انظر: ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 141). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 وهي من عقائد الشيعة الأساسية، فكل طائفة منهم لها مهدي وغائب مكتوم، وتفرقوا في هذه الخرافة طوائف متعارضة: فالمهدي عند الكيسانية هو محمد بن الحنفية، وعند الاثني عشرية محمد بن الحسن العسكري، وعند بقية طوائفهم أئمة مهديون ينتظرون خروجهم بغتة يملأون الأرض عدلاً بزعمهم. وسبب هذه الخرافة أنهم يعتقدون أن لآل البيت مزية عن غيرهم فهم يحيون قروناً، وأن الخلافة لا تخرج من أيديهم سواء كانوا ظاهرين أو مستترين، ولم يلتفت زيد إلى وجود مهدي سيخرج، كما يذكر عنه أبو زهرة (1).والواقع أن أهل السنة يؤمنون بمجيء مهدي في آخر الزمان على ما بينته الأحاديث (2)، لكن هؤلاء الشيعة استغلوا هذه القضية استغلالاً خاطئاً، وقررها علماؤهم وزعماؤهم لأغراض سياسية أكثر منها دينية.- حكم في مرتكب الكبيرة بأنه في منزلة بين المنزلتين تبعاً لرأي المعتزلة: وقيل: إنه خالفهم في تخليده في النار، وقال: لا يخلد في النار إلا غير المسلم (3) هكذا ذكر عنه أبو زهرة.- ولكن الأشعري ينقل عن فرق الزيدية القول بتخليد مرتكب الكبيرة في النار كما تقول الخوارج (4) والمعتزلة، وإنهم مجمعون على ذلك. وأهل الحق يقولون: هم تحت المشيئة، ولا يقولون بحتمية دخولهم النار ولا بتخليدهم فيها.- قال بالإيمان بالقضاء والقدر من الله تعالى، وأن العبد فاعل لفعله حقيقة، وله قدرة واختيار بتمكين الله له، وبها يحاسب فيثاب أو يعاقب كما يذكره عنه أبو زهرة (5) رغم أن الزيدية معتزلة في الأصول بسبب تلمذة زيد لواصل بن عطاء الغزال زعيم المعتزلة.- لم يقل بالبداء على الله، وهو القول بحدوث حوادث جديدة متغيرة في علم الله - على حسب ما يحدث-، وهذا القول تزعمته الكيسانية وكثير من الروافض، واعتقاده كفر. ومذهب زيد أن علم الله تعالى أزلي قديم، وأن كل شيء بتقديره سبحانه، وأن من النقص في علم الله أن يغير إرادته لتغير علمه (6) ولم يتأثر بعقائد الإمامية في هذا.- لم يقل بالرجعة المزعومة عند الشيعة. وهي بدعة غريبة، وهي أن كثيراً من العصاة سيرجعون إلى الدنيا ويجازون فيها قبل يوم القيامة، وينتصف أهل البيت ممن ظلموهم، كما أنه يرجع أقوام آخرون لا عقاب عليهم لينظروا ما يحل بمن ظلم أهل البيت (7)، إلى غير ذلك من الآراء التي تهم أهل الاختصاص والتفرغ لدراستها. ولكن: هل استمر الزيدية على هذه المبادئ التي قيلت عن زيد؟ الجواب: لا، فقد جاءت طوائف حرفت مذهب زيد، ورفضوا خلافة الشيخين (8)، وقالوا بالرجعة (9) وعصمة الأئمة وغير ذلك من أقوال فرقهم الأربع التي هي: الجارودية، والسليمانية أو الجريرية، والبترية أو الصالحية، واليعقوبية. وأشهرها الجارودية. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي - 1/ 343   (1) انظر: ((الإمام زيد)) (ص195) (2) توجد فروق بين أهل السنة والرافضة في المهدي كثيرة؛ هذا أحدها، ومنها تسمية المهدي عند أهل السنة اسمه محمد بن عبد الله، وعند الرافضة محمد بن الحسن العسكري المهدي عند أهل السنة يحكم بالشريعة الإسلامية، ومهدي الرافضة يحكم بحكم داود. المهدي عند أهل السنة نعمة، ومهدي الرافضة نقمة وبلاء. المهدي عند أهل السنة يتميز بالعدل بين الناس، ومهدي الرافضة لإعلاء أمرهم فقط، المهدي عند أهل السنة يفر إلى البيت الحرام ويتبعه الناس فيبايعونه دون حرص منه عليها، أما المهدي عند الرافضة فهو يخرج بمشيئته على اختلاف بينهم في مكان خروجه، المهدي عند أهل السنة له مدة محدودة، ومهدي الرافضة ليس لحكمه تحديد. إلى آخر الفروق بين أهل السنة والرافضة في قضية المهدي. (3) انظر: ((الإمام زيد)) (ص204) (4) انظر: ((المقالات)) (1/ 149)، ((تاريخ الفرق الإسلامية)) (294) (5) انظر: ((الإمام زيد)) (ص208) (6) ((الإمام زيد)) (ص 211)، وانظر مواقف الرافضة منه: ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 113) (7) انظر: ((مقالات الأشعري)) (1/ 144) عن فرقة البترية منهم، و (ص145) عن فرقة اليعقوبية حيث ظلوا على رأي زيد في إنكار الرجعة (8) كما هو مذهب الجارودية فيهما ومذهب السليمانية في تكفيرهم عثمان رضي الله عنه عند الأحداث التي نقمت عليه، أو البراءة منه كما هو مذهب البترية أصحاب الحسن بن صالح بن حي، والنعيمية أصحاب نعيم بن اليمان حيث تبرءوا من عثمان ومن محارب علي، وشهدوا عليه بالكفر، وذكر الأشعري بعد ذكره ما تقدم أن الفرقة الخامسة من الزيدية يتبرءون من أبي بكر وعمر. (9) كالفرقة الخامسة منهم فإنهم لا ينكرون رجعة الأموات قبل يوم القيامة، ((المقالات)) (1/ 145). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 الجارودية: نسبة إلى أبي الجارود زياد بن المنذر الكوفي الهمذاني، وقيل الثقفي، وقيل: الهندي، وقيل: زياد بن منقذ العبدي، وقيل: زياد بن أبي زياد. وصفه ابن النديم بقوله: "من علماء الزيدية، أبو الجارود، ويكنى أبا النجم زياد بن منذر العبدي، يقال: إن جعفر بن محمد بن علي عليهم السلام سئل عنه، فقال: ما فعل أبو الجارود؟ أرجأ بعدما أولى، أما إنه لا يموت إلا بها. ثم قال: لعنه الله، فإنه أعمى القلب، أعمى البصر. وقال فيه محمد بن سنان: أبو الجارود لم يمت حتى شرب المسكر، وتولى الكافرين (1). توفى سنة 150هـ، وقيل: سنة 160هـ. ومع هذا الاضطراب العجيب في اسمه، وفي كنيته، وفي لقبه، وفي نسبه، وأيضاً في تاريخ وفاته، فقد أطلق عليه الباقر أبو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين رحمه الله اسم (سرحوب)، وفسره بأنه شيطان أعمى يسكن البحر. وكان لأبي الجارود أصحاب وأتباع ذكر منهم: فضل الرسان، وأبو خالد الواسطي. وقد زعموا - أي الجارودية- أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي بالوصف والإشارة دون التسمية والتعيين، وهو الإمام بعده، والناس قصَّرُوا حيث لم يتعرفوا الوصف، ولم يطلبوا الموصوف، وإنما نصبوا أبا بكر باختيارهم، فكفروا بذلك" (2) وهذا هو ما دفع الشيخ المفيد إلى أن يُلحق الجارودية بغلاة الشيعة، ويقرنها بالإمامية (3). وذكر الدامغاني أن هذه المقالة مخالفة لمقالة زيد بن علي، إلا أنه استدرك ذلك، وانفرد بقوله: "وقليل من يوجد عليها الآن منهم، وإنما الظاهر الآن من أقوالهم التوقف في أمر الشيخين". (وهذا مخالف للواقع) مع الاعتقاد أن الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو علي. وأنهما قد أخطأا في التقدم عليه خطأ لا يقطع بأنه فسق، فلذلك توقفوا في حالهما. قالوا: "وإنما توقفنا فيهما لوجوه: لما لم يكن النص على علي جلياً، كقوله: هو الخليفة بعدي على أمتي، والقائم عليهم مقامي، ونحو ذلك، وإنما قال: هو وصيي، وقاضي ديني، ومسلمي إلى ربي، وهو مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي، ومن كنت مولاه فعلي مولاه. والحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا، وأبوهما خيرٌ منهما، ونحو ذلك مما يستنبط منه بالاستدلال أن المراد به الخلافة، فلما لم يفهم ذلك بصريح اللفظ، لم يجز أن يهلك؛ لأنا نجوز أنهم فهموا من هذه الأدلة غير الخلافة، كما فهمه من بعدهم من المخالفين. وثانيها: أن الذين رووا هذه الأحاديث اعتقدوا الخلافة في أبي بكر وعمر، فدل على أنهم فهموا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد الخلافة بها. وثالثها: أن الصحابة كالمجمعين على ذلك. وفي تخطئة جميعهم حرج عظيم؛ لأنه يقطع الثقة بالشريعة، لأنهم الذين نقلوها إلى الأمة. ورابعها: أنها وردت أحاديث عدة أن أبا بكر وعمر من أهل الجنة، وبأن أهل بدر قد غفر لهم، ولو عملوا ما شاءوا، وخبر النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن ينقلب، والأحاديث هذه يجوز فيها الصحة، فالتوقف فيهم أمان، والوقيعة فيهم خطر.   (1) ((الفهرست)) (ص 226 - 227)، ((الملل والنحل)) (1/ 159، 162). (2) ((أوائل المقالات)) (ص 84)، ((مسائل الإمامة)) (ص 42)، ((مقالات الإسلاميين)) (ص 66)، ((شرح رسالة الحور العين)) (ص 155)، ((الجوهرة الخالصة))، ((المنية والأمل)) (ص 97)، ((الملل والنحل)) (1/ 157، 159)، ((توضيح المسائل العقلية))، ((المستطاب))، ((مقدمة ابن خلدون)) (2/ 534) ((الخطط المقريزية)) (2/ 352). (3) ((أوائل المقالات)) (ص 40) نقلاً عن كتاب ((مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة)) (1/ 162). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 وخامسها: أن علياً صاحب الحق لم ينقُل عنه أحدٌ أنه سبهما، ولا تبرأ منهما، ولا حكى أنهما من الكفار، ولا من أهل النار، ثم قال: وقد روي أنه دعا لهما، وشارك سعيهما في الإسلام، وعاضدهما في أمرهما، وجاهد معهما بنفسه ورأيه ولسانه، وبايعهما ونصرهما. قالت الزيدية: فلذلك نتوقف في حالهما، ونعتقد أنهما من فضلاء الصحابة جرت منهما خطيئة في الإمامة، الله سبحانه أعلم بحالهما فيها، ونقوله: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:141] ويزعمون أن هذه الطريقة طريقة جميع العلوية كزين العابدين, وعبدالله بن الحسن وأولادهما، وهي طريقة أتقياء الشيعة (1). وزعمت طائفة من الجارودية أن محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، المعروف بالنفس الزكية حي لم يقتل، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وقد انتظروه - كما انتظره قوم من المغيرية- وأنكروا قتله (2) وزعمت طائفة أخرى منهم أن الموصوف بهذه الصفات هو يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي (3)، بينما زعمت طائفة ثالثة أن المشار إليه بهذه الصفات محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي ابن الحسين (4) (صاحب الطالقان)، وهم مختلفون في الأحكام والسير، فبعضهم يزعم أنَّ علمَ ولد الحسن والحسين رضي الله عنهم كعلم النبي صلى الله عليه وسلم، فيحصل لهم العلم قبل التعلم فطرة وضرورة، وبعضهم يزعم أن العلم مشترك فيهم وفي غيرهم، وجائز أن يؤخذ عنهم وعن غيرهم من العامة (5). السليمانية أو الجريرية: نسبة إلى سليمان بن جرير، ويزعمون أن الإمامة شورى، وأنها تصلح بعقد رجلين من خيار المسلمين، وأنها قد تصلح في المفضول، وإن كان الفاضل أفضل في كل حال، وأن علياً كان الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنهم أثبتوا بيعة أبي بكر وعمر باختيار الأمة حقاً اجتهادياً، غير أن الأمة أخطأت في البيعة لهما خطأ لا تستحق عليه اسم الكفر، ولا اسم الفسوق، وهي بذلك قد تركت الأصلح. وبرئت هذه الفرقة من عثمان للأحداث التي أحدثها، وأكفروه بذلك وكذلك أكفروا عائشة والزبير وطلحة رضي الله عنهم بإقدامهم على قتال علي رضي الله عنه، كما طعنوا في الرافضة لقولهم بالبداء، وهو أنهم إذا أظهروا قولاً أنه سيكون لهم قوة وشوكة وظهور، ثم لا يكون الأمر على ما أظهروه، قالوا: بدا لله تعالى في ذلك. ولقولهم أيضاً: بالتقية (6)، وهي أن يقولوا شيئاً، فإذا قيل لهم: إنه ليس بحق، وظهر لهم البطلان، قالوا: إنما قلناه تقية، وفعلناه تقية.   (1) ((الجوهرة الخالصة)) (2) ((مسائل الإمامة)) (ص46) ((سير أعلام النبلاء)) (6/ 218)، ((الأنساب في مادة "الدرارودية")) (2/ 160)، ((الملل والنحل)) (1/ 159). (3) ((الفصل)) (4/ 179)، ((المنية والأمل)) (97). (4) ((شرح رسالة الحور العين)) (ص 151)، ((سير أعلام النبلاء)) (10/ 192)، ((المنية والأمل)) (ص 97)، ((الملل والنحل)) (1/ 159). (5) ((الملل والنحلل) (1/ 159). (6) ((مقالات الإسلاميين)) (ص 68)، ((الجوهرة الخالصة))، ((شرح رسالة الحور العين)) (ص 155)، ((الملل والنحل)) (1/ 159 - 160)، ((الفرق بين الفرق)) (ص 16)، ((المنية والأمل)) (ص 97)، ((الخطط المقريزية)) (2/ 352). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 البترية: أصحاب كثير النوا، الملقب بالأبتر، وقد سموا بذلك لتركهم الجهر بالبسملة بين السورتين، وقيل: لما أنكر سليمان بن جرير النص على علي، سماه المغيرة ابن سعيد أبتر، وتدعي الصالحية أيضاً، نسبة إلى الحسن بن صالح بن حي الهمذاني المتوفى سنة 169هـ. وقد ذهبوا إلى أن عليا أفضل الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وأولاهم بالإمامة، وأن بيعة أبي بكر وعمر ليست بخطأ؛ لأن عليا ترك ذلك لهما، وسلم لهما الأمر راضياً، وفوّض الأمر طائعاً، وترك حقه راغباً، فنحن راضون، مسلمون لما سلم، لا يحل لنا غير ذلك، كما أنهم لا يرون لعلي إمامة إلا حين بويع. أما عثمان، فإنهم يقفون فيه وفي قتلته، ولا يقدمون عليه بإكفار، وإن كان قد حكي أن الحسن بن صالح كان يتبرأ من عثمان بعد الأحداث التي نقمت عليه (1). وقال المهدي أحمد بن يحيى المرتضى: "وخالف متأخروهم هاتين الفرقتين، حيث أثبتوا إمامة علي عليه السلام بالنص القطعي الخفي، وخطؤوا المشايخ لمخالفته، وتوقفوا في تفسيقهم، واختلفوا في جواز الترضي عنهم". هذه هي فرق الزيدية المشهورة التي نشأت في المئة الثانية للهجرة، وأصحابها كلهم متفقون على أفضلية علي بن أبي طالب على من سواه بعد رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم مختلفون على تفاوت فيما بينهم في أحكامهم على من تقدمه من الخلفاء الراشدين، مخالفين في ذلك إمامهم زيد بن علي، وإن كانت (الصالحية) أو (البترية) أقرب إلى ما كان عليه زيد بن علي، وكذلك إلى حد ما (الجريرية)، كما أفاد يحيى بن الحسين في "طبقاته" بقوله: "فالذي كان من قبل - أي من قبل المائتين- هم الصالحية والجريرة، وهو الذي كان عليه زيد بن علي. وأما سائر الفرق، فإنما حدثت بعد ذلك، وخالفت زيد بن علي في أصوله وفروعه، ولم يوفقوا إلا في النزر اليسير"، ثم قال: "إلى هنا انتهى ذكر الزيدية الذين كانوا على المذهب الأول، وهو مذهب زيد بن علي" (2).   (1) ((مسائل الإمامة)) (ص 44) ((مقالات الإسلاميين)) (ص68)، ((شرح رسالة الحور العين)) (ص 155)، ((الجوهرة الخالصة))، ((الملل والنحل)) (1/ 161)، ((الفرق بين الفرق)) (ص 16)، ((المنية والأمل)) (23 - 24، 97 - 98)، ((الخطط المقريزية)) (2/ 532). (2) ((المستطاب)). ((طبقات الزيدية الصغرى)). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 زيدية الجيل والديلم: ثم لم ينتظم للزيدية بعد استشهاد زيد بن علي وابنه يحيى، ومحمد بن عبدالله النفس الزكية، وأخيه إبراهيم أمر حتى ظهر الناصر الأطروش الحسن بن علي بن عمر ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بخراسان سنة 284هـ وقيل سنة 287هـ، فطلب مكانه فاختفى، واعتزل الأمر سنة 302هـ، ثم صار إلى بلاد الجيل والديلم، فدعا الناس دعوة إلى الإسلام على مذهب زيد بن علي، فدانوا بذلك، ونشؤوا عليه وبقيت الزيدية في تلك البلاد ظاهرين (1). ولكنها مالت بعد ذلك عن القول بإمامة المفضول، وطعنت في الصحابة طعن الإمامية (2)، وذلك بعد ظهور الدولة البويهية (32 - 447هـ/ 932 - 1055م) التي كانت زيدية، ثم تحولت إلى شيعية غلاة، وابتدعت بدعاً ليس عليها أثارةٌ من علم، لا من كتاب ولا من سنة، ومنها على سبيل المثال الاحتفال بعيد الغدير، وتجريم من تقدم علياً من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم جميعاً.   (1) ((الطبري)) (10/ 149)، ((الكامل لابن الأثير)) (8/ 26). (2) ((الملل والنحل)) (1/ 156)، ((المستطاب))، ((مقدمة ابن خلدون)) (2/ 525) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 زيدية اليمن: كما ظهر في اليمن يحيى بن الحسين بن القاسم الرّسي، الذي قدم إليها من الحجاز سنة (284هـ/ 897م) فدعا إلى نفسه بالإمامة، وتلقب بالهادي، وكان عالماً مجتهداً كبيراً، أخذ الأصول (علم الكلام) عن شيخه أبي القاسم البلخي المعتزلي، وأقواله في الأصول متابعة له في الغالب. وأما في الفروع استقلَّ فيه باجتهاده فخالف زيد بن علي في ما ذهب إليه من اجتهاد، ولم يتقيد بأقواله التي تضمنها (مجموع الفقه الكبير) لزيد بن علي و (الجامع الكافي) لأقوال زيد بن علي، ولم يبق لمذهب زيد بن علي الأول في الأصول والفروع منه متابع. ومع هذا فقد تغلب اسم المذهب الزيدي على مذهب الإمام الهادي؛ وذلك لأن الهادي وأتباع مذهبه يقولون بإمامة زيد بن علي، ووجوب الخروج على الظلمة، ويعتقدون فضله وزعامته، ويحصرون الإمامة في من قام ودعا من أولاد الحسنين، وهو جامع لشروط الإمامة المدونة في كتبهم، فمن قال بإمامته فهو زيدي، وإن لم يلتزم مذهبه في الفروع، فإن أكثر الزيدية على رأي غيره في المسائل الاجتهادية والمسائل النظرية، وكذلك أئمتهم؛ كالقاسم والهادي والناصر، فهم ينتسبون إلى زيد بن علي، مع أنهم كانوا مثله في الاجتهاد، ويخالفونه في كثير من المسائل (1).   (1) ((هداية الراغبين))، ((الرحيق)) (ص 16). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 وهذا هو ما أكده الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى بقوله: "فالزيديه - أي زيدية اليمن- منسوبةٌ إلي زيد بن علي لقولهم جميعاً بإمامته، وإن لم يكونوا على مذهبه في مسائل الفروع، وهي تخالف الشافعية والحنفية في ذلك؛ لأنهم إنما نسبوا إلى أبي حنيفة والشافعي، لمتابعتهم لهما في الفروع. قال الحاكم: "والزيدية يجمع مذهبهم تفضيل علي على سائر الصحابة، وأوليته بالإمامة، وقصرها من بعد الحسنين في البطنين، أي في ذريتهما، واستحقاقها إنما يثبت بالفضل والطلب لا بالوراثة كما تقوله العباسية، ويعتقدون وجوب الخروج على الجائرين، ويرون القول بالتوحيد والعدل والوعد والوعيد كالمعتزلة (1).وقد أضاف الإمام يحيى بن حمزة إلى ما تقدم ما يلي: "فمن كان على عقيدته في الديانة والمسائل الإلهية، والقول بالحكمة، والاعتراف بالوعد والوعيد، وحصر الإمامة في الفرقة الفاطمية، والنص في الإمامة على الثلاثة الذين هم علي وولده، وأن طريق الإمامة الدعوة في من عداهم، فمن كان مقراً في هذه الأصول، فهو زيدي" (2).كذلك فإن الزيدية الهادوية في اليمن جعلوا علياً وفاطمة والحسنين معصومين كالأنبياء، وأن إجماعهم حُجَّة، كما أن إجماع علماء أبنائهم أيضاً حجة لأنهم هم وحدهم آل محمد من بين أمة محمد. وإجماع الآل حجة، وأن علياً بخاصة معصوم، وقوله حجة كحجة الكتاب والسنة (3).وحينما قدم الإمام الهادي يحيى بن الحسين إلى اليمن كان متأخرو الزيدية في الجيل والديلم قد انقسموا إلى قاسمية وناصرية (4)، وكان يخطّئ بعضهم بعضاً، حتى خرج المهدي أبو عبدالله الداعي، وألقى إليهم: أن كل مجتهد مصيب (5)، وكذلك كان زيدية اليمن يعتقدون أن المصيب في الاجتهاديات واحد، والحق معه إلى زمن الإمام المتوكل أحمد بن سليمان. وذكر الإمام محمد بن إبراهيم الوزير أن الزيدية (زيدية اليمن) فرقة واحدة من الشيعة قد تفرقت إلى مخترعة ومطرفية وجارودية وصالحية وحسينية وفي الفروع مؤيدية وهادوية وناصرية وقاسمية، وأهل الكوفة منهم على مذهب أحمد بن عيسى والحسن بن يحيى ومحمد بن منصور كما ذكره صاحب (الجامع الكافي)، ووقع بينهما تفسيق وتأثيم على الاختلاف في الفروع كما حكاه أبو العباس في تلفيقه رحمه الله (دع عنك الأصول)، واشتد خلافهم من بعد الإمام المنصور بالله في الأئمة، فافترقوا على الداعي وعلى الإمام أحمد بن الحسين افتراقاً قبيحاً كفر بعضهم بعضاً (6).   (1) ((المنية والأمل)) (ص 96). (2) ((الرسالة الوازعة)) (ص 28). (3) ((المنية والأمل)) (ص 102)، ((اليمن: الإنسان والحضارة)) (ص 102). (4) الناصرية: نسبة إلى الناصر الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين الملقب بالأطروش، لطرش كان في أذنيه، ولد سنة 230هـ ودعا إلى نفسه بالإمامة في الجبل والديلم، وتلقب بالناصر، توفى قتلاً سنة 304هـ. ((الحريق)) (ص 11). (5) ((المنية والأمل)) (ص 97). (6) ((العواصم والقواصم)) (3/ 457). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 وقد اعتمد الإمام الهادي يحيى بن الحسين في استنباط فقهه الذي اجتهد فيه، واختاره مذهباً له على أدلة مروعة عن أسلافه؛ منها ما هو مرسل، ومنها ما هو موقوف، ولم يلتفت إلى الأدلة المروية عند أهل السنة، فيستنبط منها أحكام فقهه، كما فعل أئمة المذاهب الأربعة المشهورون: الشافعي والحنفي والمالكي والحنبلي، ولكنه تجاهلها، بل وأنكر صحتها كما بين ذلك الإمام المهدي أحمد بن يحيى بن المرتضى في كتابه (الغايات)، ناقلاً عن الهادي يحيى ابن الحسين في ذكر المخالف؛ حيث قال: "ولهم - أي أهل السنة- كتابان يسمونهما بالصحيحين (صحيح البخاري وصحيح مسلم)، ولعمري عن الصحة لخاليان" وعقب المهدي على كلام الهادي بقوله: ولعمري إنه - أي الهادي- لا يقول ذلك على غير بصيرة) أو كما قال (1). وهذا هو ما جنح إليه الإمام المهدي نفسه، وأكد على ذلك بقوله شعراً: إذا شئت أن تختار لنفسك مذهباً ... ينجيك يوم الحشر من لهب النار فدع عنك قول الشافعي ومالك ... وحنبل والمروي عن كعب أحبار وخذ من أناسٍ قولهم ورواتهم ... روى جدهم عن جبرائيل عن الباري (2) كذلك فإن أحمد بن سعد الدين المسوري، المتوفى سنة 1079هـ/ 1668م قد أعلن في رسالته المسماة (الرسالة المنقذة من الغواية في طريق الرواية) التي صنفها سنة 1052هـ "أن كل ما في الأمهات الست لا يحتج به وأنه كذب (3)؛ وذلك لأن الهادي ومن سار على دربه من الأئمة وأبتاع مذهبه لا يعتدون بها في شيء، لأن رواتها لم يكونوا من الشيعة في اعتقادهم، ولهذا فإنهم يقتصرون على الأحاديث المروية عن أسلافهم وبأسانيدهم، كما أوضح ذلك الإمام عبدالله بن حمزة المتوفى سنة (614هـ/ 1217م) في كتابه (المجموع المنصوري) حينما أجاب على الفقيه عبدالرحمن بن المنصور بن أبي القبائل صاحب (الرسالة الخارقة) بقوله: كم بين قولي عن أبي عن جده ... وأبي أبي فهو النبي الهادي وفتى يقول: حكى لنا أشياخنا ... ما ذلك الإسناد من إسنادي ما أحسن النظر البليغ لمنصفٍ ... في مقتضى الإصدار والإيراد خذ ما دنا ودع البعيد لشأنه ... يغنيك دانيه عن الأبعاد (4) وهذا هو ما ذهب إليه الهادي بن إبراهيم الوزير المتوفى سنة (822هـ/ 1419م) حينما أراد أن يقنع أخاه محمداً الذي نبذ التقليد بعد أن ملك زمام الاجتهاد، وعمل بأحكام الكتاب وصحيح السنة، ليعود إلى ما كان عليه من التمسك بالمذهب الهادوي مبيناً له الفرق بين إسناد أسلافه وإسناد أهل السنة، فقال في قصيدته الدالية المشهورة مخاطبا أخاه: مالي أراك وأنت صفوةُ سادةٍ ... طابت شمائلهم لطيب المحتد تمتاز عنهم في مأخذ علمهم ... وهم الذين علومهم تروي الصدي أخذوا مباني علمهم وأصوله ... عن أهلهم من سيد عن سيد سند عن الهادي وعن آبائه ... لا عن كلام مسدد بن مسرهد سند عن الآباء والأجداد في ... أحكامهم وفنونهم والمفرد (5) ... ... وللعلامة عبدالله بن علي الوزير: في كفة الميزان ميل واضح ... عن مثل ما في سورة الرحمن فاجزم بخفض النصب وارفع رتبة ... للدين واكسر شركة الميزان (6)   (1) ((المنار في المختار من جواهر البحار الزخار)) (1/ 352). (2) البيت الأخير ورد في ((الرسالة المنقذة من الغواية في طرق الرواية)) لأحمد بن سعد الدين المسوري منسوباً للناصر الأطروش بلفظ: وقولهم مسند عن قول جدهم عن جبرئيل عن الباري إذا قالوا (3) ((بهجة الزمن في أخبار سنة 1052هـ)). (4) ((العقد الفاخر الحسن))، ((توضيح المسائل العقلية))، ((القول المعقول والمنقول في إيقاظ أهل التكاسل والغفول)). (5) ((الجواب الناطق بالحق اليقين الشافي لصدور المتقين)). (6) ((مقدمة الروض النضير)) (1/ 65). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 فهم لهذا يؤثرون العمل بما قرره علماءُ مذهبهم، ولا سيما في العبادات على ما سواه، حتى لو كان مصادماً لأدلة الكتاب والسنة؛ مثال ذلك: إذا تعارض ما رجحه أهل المذهب في مسألة ما مع النص من الكتاب، أو من السنة، أو منهما معاً، فإنه يقال في هذه الحال: والمذهب بخلافه؛ ضارباً بالدليل عرض الحائط، فمن أمثلة ذلك أن الله تعالى أحل للمسلمين أكل طعام أهل الكتاب، وكذلك زوج المسلم بالكتابية (1)، وذلك قول قوله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ [المائدة:5]، لكن المذهب الهادوي لم يأخذ بما أحله الله للمسلمين، في هذه الآية الكريمة، ولعل هذا هو ما حمل نشوان بن سعيد الحميري المتوفى سنة بضع وسبعين وخمس مئة على إعلان إنكاره لبعض المقلدين من علماء عصره، لإيثاره رأي الإمام الهادي يحيى بن الحسين على قول الله تعال، وذلك في قوله: إذا جادلت بالقرآن خصمي ... أجاب مجادلاً بكلام يحيى فقلت: كلامُ ربك عنه وحي ... أتجعل قول يحيى عنه وحيا (2) على أن هذا الأمر ليس خاصاً بالمذهب الزيدي، ولكنه شائع في بعض المذاهب الأخرى، وهو ما أشار إليه الإمام الشوكاني في كتابه (أدب الطلب) وهو يتحدث عن المقلدين في جميع المذاهب الإسلامية بقوله: "إنهم اعتقدوا أن إمامهم الذي قلدوه ليس في علماء الأمة من يساويه أو يدانيه، ثم قبلت عقولهم هذا الاعتقاد، وزاد بزيادة الأيام والليالي حتى بلغ إلى حد يتسبب عنه أن جميع أقواله صحيحة، جارية على وفق الشريعة، ليس فيها خطأ ولا ضعف، وأنه أعلم الناس بالأدلة الواردة في الكتاب والسنة على وجه لا يوفق عليه منها شيء، ولا تخفى منها خافية، فإذا أسمعوا دليلاً في كتاب الله أو سنة رسوله، قالوا: لو كان هذا راجحاً على ما ذهب إليه إمامنا، لذهب إليه، ولم يتركه، لكنه تركه لما هو أرجح منه عنده، فلا يرفعون لذلك رأساً، ولا يرون بمخالفته بأساً". ثم أكد هذا القول بقوله: "وهذا صنيعٌ قد اشتهر عنهم، وكاد يعمهم قرناً بعد قرن، وعصراً بعد عصر، على اختلاف المذاهب، وتباين النحل، فإذا قال لهم القائل: اعملوا بهذه الآية القرآنية، أو بهذا الحديث الصحيح، قالوا: لست أعلم من إمامنا حتى نتبعك، ولو كان هذا كما تقول، لم يخالفه من قلدناه، فهو لم يخالفه إلا على ما هو أرجح منه.   (1) ذكر الإمام محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله أن زيد بن علي وحفيده أحمد بن عيسى والإمام يحيى ابن حمزه جوزوا نكاح الكتابية. ((العواصم والقواصم)) (8/ 214). (2) ((المستطاب)). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 197 ثم خلص إلى القول بما هو عليه الحال عند المقلدين من الزيدية في اليمن، فقال: "وأما في ديارنا هذه فقد لقنهم من هو مثلهم في القصور، والبعد عن معرفة الحق ذريعة إبليسية، ولطيفة مشؤومة؛ هي أن دواوين الإسلام: الصحيحان والسنن الأربع، وما يلحق بها من المسندات والمجاميع المشتملة على الستة إنما يشتغل بها، ويكرر درسها، ويأخذ منها ما تدعو حاجته إليه من لم يكن من أتباع أهل البيت؛ لأن المؤلفين لها لم يكونوا من الشيعة، فيدفعون بهذه الذريعة جميع السنة المطهرة، لأن السنة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي ما في تلك المصنفات، ولا سنة غير ما فيها، هؤلاء وإن كانوا يعدون من أهل العلم، ولا يستحقون أن يذكروا مع أهله، ولا تنبغي الشغلة بنشر جهلهم، وتدوين غباوتهم، لكنهم لما كانوا قد تلبسوا بلباس أهل العلم، وقبلوا ما يلقنونهم من هذه الفواقر، فضلوا وأضلوا وعظمت بهم الفتنة، وحلت بسببهم الرزية، فشاركوا سائر المقلدة في ذلك الاعتقاد في أئمتهم الذين قلدوهم، واختصموا من بينهم بهذه الخصلة الشنيعة، والمقالة الفظيعة، فإن أهل التقليد من سائر المذاهب يعظمون كتب السنة، ويعترفون بشرفها، وأنها أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وأنها هي دواوين الإسلام وأمهات الحديث وجوامعه التي عول عليها أهل العلم في سابق الدهر ولاحقه، بخلاف أولئك، فإنها عندهم بالمنزلة التي ذكرنا، فضموا إلى شنيعة التقليد شنيعة أخرى هي أشنع منها، وإلى بدعة التعصب بدعة أخرى هي أفظع منها. ولو كان لهم أقل حظ من علم، وأحقر نصيب من فهم لم يخف عليهم أن هذه الكتب لم يقصد مصنفوها إلا جمع ما بلغ إليهم من السنة بحسب ما بلغت إليه مقدرتهم، وانتهى إليه علمهم، لم يتعصبوا فيها لمذهب، ولا اقتصروا فيها على ما يطابق بعض المذاهب دون بعض، بل جمعوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ليأخذوا كل عالم منها بقدر علمه، وبحسب استعداده".ثم قال: "ومن لم يفهم هذا، فهو بهيمة لا يستحق أن يخاطب بما يخاطب به النوع الإنساني، وغاية ما ظفر به من الفائدة بمعاداة كتب السنة التسجيل على نفسه بأنه متبدع أشد ابتداعه، فإن أهل البدع لم ينكروا جميع السنة، ولا عادوا كتبها الموضوعة لجمعها، بل حق عليهم اسم البدعة عند سائر المسلمين لمخالفة بعض مسائل الشرع" (1). المصدر: الزيدية نشأتها ومعتقداتها للقاضي إسماعيل بن علي الأكوع - ص25   (1) ((أدب الطلب)) (ص 49 - 51). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 198 المطلب التاسع: فرق جارودية اليمن • 1 - الحُسَيْنية:. • 2 - المُطَّرِّفية:. • 3 - المخترعة:. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 1 - الحُسَيْنية: نسبة إلى الحسين بن القاسم بن علي العياني، الذي دعا إلى نفسه بالإمامة سنة (393هـ/ 1002)، وتلقب بالمهدي، وقد زعم أنه المهدي المنتظر الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أفضلُ من النبي، وأن كلامه ومصنفاته أفضلُ من القرآن، وأبهر في ظهور المعنى، وقطع كلام الخصم، وأنه - كما ذكر الحجوري في (روضته) - "فوق الملكوتية ودون الربوبية". وكان يطلب من الناس الأخماس - موافقة للعبيدية- في كل شيء من الحلية والأموال حتى في العبيد والإماء، والثلث في سائر الأشياء من الحبوب وغيره. فمن ساعده في ذلك وإلا حكم عليه بحكم اليهود في فرض الجزية وسلب السلاح، ومن تعذّر عن ذلك قتله وصلبه". وقد انتهى أمره بأن قَتَلَتْه همدان في ذي عرار من حقل اليون شمال صنعاء في صفر سنة (404هـ/ 1013م)، وقد أقام شيعته في موضع مصرعه قبراً يزعمون أنه مدفون فيه، ويجتمع عنده الشيعة في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة سنوياً للاحتفال بيوم الغدير المشهور عندهم، ولا يزال شيعة اليمن يحتفلون بهذه المناسبة حتى اليوم. وزعم أتباعه أنه المهدي المنتظر، وأنه حي لم يمت ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً، ويرون أن من لم يقل بقولهم هذا فيه، فهو في النار. ثم افترق أتباعه وأشياعه إلى فرقتين: فرقة تزعم أنه يأتيهم في السر، ولا ينقطع عن زيارتهم في حال مغيبه، وأنهم لا يفعلون شيئاً إلا بأمره، وفرقة تبطل ذلك، وتقول: إنه لا يُشاهد بعد الغيبة إلى وقت ظهوره وقيامه، وإنما هم يعملون بما وضع في كتبه. ولهم أقوال غريبة كثيرة، منها: صحة التيمم مع وجود الماء (1). وقد استمرت هذه الفرقة إلى المئة الثامنة للهجرة، ثم تلاشت (2).   (1) ((المستطاب)) (لوحة 59). (2) ((شرح رسالة الحور العين)) (ص 156 - 157)، ((العواصم والقواصم)) (3/ 421)، ((الفضائل))، ((أنباء الزمن في أخبار سنة 401هـ))، ((طبقات الزيدية (المستطاب))، ((مطلع البدور استطراداً في ترجمة القاسم بن الحسين الزيدي))، ((وفي ترجمة محمد بن جعفر بن القاسم)). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 2 - المُطَّرِّفية: فرقة تنسب إلى مطرف بن شهاب، من أعلام أواخر المئة الرابعة وأوائل المئة الخامسة للهجرة، وكانوا من شيعة الإمام الهادي يحيى بن الحسين، وأتباع مذهبه في الفروع، ولا يرون جواز الخروج عنه، ويعتقدون الحقَّ في الاجتهادات مع واحد، فلذلك حظروا الخروج عن مذهبه (1) ولما تبين لهم أن الإمام المنصور عبدالله بن حمزة قد خالف الهادي في بعض مسائل الفروع، أنكروا عليه ذلك، فكان هذا الإنكار من أسباب الشقاق بينه وبينهم، ومع أنه القائل: "إننا نهابُ نصوص الهادي كما نهاب نصوص القرآن (2) وكانت المطرفيهُ على جانب عظيم من الإقبال على العلم والاشتغال به، والإخلاص في الطاعة والعبادة، ولهم زهد زائد على جميع الناس في زمانهم (3).أما في الأصول، فإنهم كانوا على مذهب المعتزلة، متابعين في ذلك - كالهادي- أبا القاسم البلخي، إلا أنهم أظهروا القول بخلق العناصر الأربعة: الماء والتراب والهواء والنار، وبالانفعال في ما عدا ذلك (4)، لأنهم يعتقدون أن التأثير لله في أصول الأشياء دون فروعها، كما أنهم أيضاً خالفوا الزيدية في أهم مبادئهم الأصولية، وهي الإمامة، فإنهم لم يشترطوا النسب في من يتولاها كما فعلت الزيدية، ورأيهم في هذا يتفق مع الرأس القائل: "إن الإمامة جائزة في جميع الناس لا يختص بها قومٌ دون قوم آخرين، وإنما تستحق بالفضل والطلب، وإجماع كلمة الشورى، وهذا هو ما ذهب إليه إبراهيم بن سيار النظام ومن قال بقوله من المعتزلة وغيرهم. وذلك كما جاء في قولهم: الإمامة لأكرم الخلق وخيرهم عند الله، واحتجوا بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [الحجرات:13]، فنادى جميع خلقه الأحمر والأسود والعربي والعجمي، ولم يخص أحداً منهم دون أحد، فقال: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]. فمن كان أتقى لله وأكرمهم عنده، وأعلمهم بالله، وأعلمهم بطاعته كان أولى بالإمامة، والقيام في خلقه، كائناً من كان منهم، عربياً أو أعجمياً (5). ولكن هذا القول لم يرق للإمام عبدالله بن حمزة، ولم يقبل للمطرفية اجتهادهم في هذه المسألة، فكفرهم بالإلزام (وهو أن تلزم الغير على ما يقال به ما لا يقول به)، وجعل حكمهم حكم الحربيين، واستحل دماءهم وأموالهم، وأخرب ديارهم ومساجدهم، وحكم بأنها مساجد ضرارية (6) وسماهم روافض (7) الشيعة، مع أنهم كانوا من شيعته والمتابعين له، والملتزمين جمعته وجماعته بعد أن بايعوه عقب دعوته بالإمامة إلى نفسه (8). ولما كان اعتقاد نشوان بن سعيد الحميري يتفق مع اعتقاد المطرفية في جواز صحة الإمامة في غير أبناء البطنين، فإن الإمام عبدالله بن حمزة قد حكم عليه بمثل ما حكم على المطرفية، وذلك حينما أعلن نفسه إماماً، فقال الإمام عبدالله بن حمزة: أما الذي عند جدودي فيه ... فيقطعون لسنه من فيه ويتمون ضحوة بنيه ... إذ صار حق الغير يدعيه ...   (1) ((الفضائل)). (2) الإرشاد للإمام القاسم بن محمد، وذكر أيضاً في الفرائض في ذوي الأرحام في (والعم لأم والعمة مطلقاً) وقد دلني على ذلك الأخ العلامة أحمد بن علي الآنسي نائب رئيس الاستئناف الأسبق. (3) ((الفضائل)). (4) ((العواصم والقواصم)) (5/ 268). (5) ((شرح رسالة الحور العين)) (ص 152). (6) ((الفضائل)). (7) ذكر عباس بن منصور البريهمي في كتابه ((البرهان في معرفة عقائد أهل الإيمان) (ص 67)، وأسعد بن عبدالله اليافعي في ((الفرق الثنتين وسبعين)) (ص 76)، وأبو محمد اليمني في كتابه ((الفرق)) (لوحة 145)، وعلي بن محمد الفخري في كتابه ((تلخيص البيان في ذكر فرق أهل الأديان)) (ص 196)، أن المطرفية انفردت بالقول بأن الصلاة في غير الثوب الذي يلبسه المصلى دين قدين، وسب السلف الصالح ثواب عظيم، وهم أكثر الزيدية غلوا في السب. (8) ((الفضائل)). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 3 - المخترعة: فرقة عرفت بهذا الاسم، لقولهم: باختراع الله الأعراض في الأجسام، وأنها لا تحصل بطبائهها - كما تقول المطرفية- وهم يقولون: بإمامة علي بالنص، وخطأ المشايخ بالتقدم عليه، ومخالفة ذلك النص والتوقف في تفسيقهم (1).وقد جرى بينهم وبين المطرفية نزاع شديد وخلاف مرير، انتهى بزوال المطرفية على يد الإمام عبدالله بن حمزة، وكان رئيس المخترعة علي بن شهر من بيت أكلب من قاع البون شمال صنعاء، وقد تابع أبا هاشم البلخي (2) وهذه الفرقة هي ما عليها هادوية اليمن حتى اليوم. كذلك فقد أضاف الشريف عبدالصمد بن عبدالله الدامغاني (3) إلى ما تقدم ذكره أموراً أخرى عن الزيدية، وذلك في قوله: "وأما ما نقم على الزيدية، فأمورٌ كثيرة. منها: اعتقادهم - ومعهم أكثر المعتزلة- أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشفع لعصاة الأمة، وهذا مخالف للعقل والنقل، فالعقل ظاهرٌ بلا مرية؛ لأن العاصي في الآخرة كالغريق في البحر يحتاج إلى استنقاذ، والمطيع كالذي في البر سالماً يريد أن يرتقي إلى منزلة عالية، فالغريق أولى بالاستنقاذ من ترقية السليم، ولا يظهر فضل النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة على المورود، وأما النقل فأحاديث كثيرة تقضي بأن الشفاعة ثابتة لعصاة الأمة، ومنه الحديث الذي يتخذه المؤذن في دعائه قبل الإقامة وهو: "اللهم وابعثه المقام المحمود الذي وعدته وشفعه في أمته، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر المؤذن بذلك، وما يتعلقون به - أي الزيدية- من قوله تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28]، وقوله تعالى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18]. فلا يصح التعلق به؛ لأنه وارد في الكفار، إذ لا شفاعة لهم بالإجماع. ومنها: اعتقادهم والمعتزلة أن الإنسان لا يدخل الجنة إلا بعمله، وهذا من أبعد ما يكون، وما يكون عمله في جنب معاصيه لو خلص، وفي جنب نعم الله تعالى عليه. كيف وشوائب الأعمال فائتة للحصر والتعداد، والحديث كله قاضٍ بأن الجنة لا تُستحق إلا بالتجاوز والرحمة، لا بمجرد العمل، ولذلك أراد النبي صلى الله عليه وسلم تقرير أمته على ذلك بقوله: ((لا يدخل الجنة أحد بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بعفوه)) (4) , وهو صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، مع أنه معصوم، لا يجوز عليه ما يستحق به النار، وإنما أراد أن توطن أمتُه أنفسها على ذلك، وإنما يقال: إن الرحمة والتجاوز مع العمل لقوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56]، لا المتمردين. ومنها: أنهم وبعض المعتزلة يعتقدون بكفر كثير من المخالف لهم في العقيدة، ويجاهدونهم كما يجاهد المشركون، وهذا مخالف للشريعة النبوية، فإن الأحاديث قضت بأن المقر بالشهادتين يحقن ماله ودمه، ووافقهم في ذلك بعض أهل السنة كالمالكية، فإنهم يكفرون من سب صحابياً ويوجبون قلته. ولا دليل معهم عليه؛ لأنهم وقعوا في بعضهم بعض في الفتنة واليد واللسان، كحال علي ومعاوية؛ لأن العلة في ذلك واحدة، وهي الوقيعة في صحابي، والذنب عظيم لا يزال عظيماً ممن وقع، وغير العظيم لا يبلغ مبلغ العظيم ممن وقع أيضاً، ولا يقول أحد من الأئمة: إن بعض الصحابة قد كفر بوقيعته في صحابي آخر بحال.   (1) ((المنية والأمل)) (ص 99). (2) ((الفضائل)). (3) نسبة إلى دامغان: بلد كبير بين الري وقومس ((معجم البلدان)). (4) رواه البخاري (5673) ومسلم (2816) (75) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: (لن يدخل أحدا عمله الجنة قالوا ولا أنت يا رسول الله قال، ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله بفضل ورحمة). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 ومنها: أنهم يشترطون في الخلافة شروطاً لم يرد الشرع بأكثرها، وكذا يشترطونها في إمام الصلاة، ولذلك لا يدوم لهم إمام، لعدم كمال الشروط. ومنها: أنهم يجوزون خليفتين في زمان واحد إذا تباعد قطراهما، كما كان ناصر الأطروش بالعجم، وهادي اليمن في اليمن، ويعتقدون أن قول كل واحد منهما نافذ حتى ولو أفتى أحدهما بقتل الآخر نفذت فتواه. وهذا جرم عظيم في الدين، مع مخالفته للدليل الواضح المبين. فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا قام خليفتان فاقتلوا الآخر منهما)) (1)، ولأن ذلك يفرق أمر الأمة، ويشتت كلمتهم، وينثر نظامهم، ويمحق جماعتهم، ويرهن فيهم، ويسطي عليهم العدو، ولذلك قيل في المثل: "سيفان في غمد لا يجتمعان" ... , ومنها: أن فيهم الوسواس في وضوئهم وصلاتهم وعقيدتهم، وكل ذلك مخالف للشريعة. ومنها: أنهم يخالفون زيد بن علي إمامهم في أكثر الفروع، مع انتسابهم إليه، ويزعمون أنهم أخذوا بفروع أتباعه كما أخذت الشافعية بفروع أصحاب الشافعي، والمالكية بفروع أصحاب مالك، والحنفية بفروع محمد بن الحسن الشيباني وأبي يوسف وزفر أصحاب أبي حنيفة، وليس بصحيح؛ لأن أصحاب كل فقيه ممن رووا زادوا على فرع إمامهم وفروعها، ونقحوا الصحيح منها. والزيدية لم يفعلوا ذلك في فقه زيد بن علي، بل جعلوه كآحاد المخالفين في مسائل الفقه، وجعلوا عمدتهم في المذهب ثلاثة أئمة: من أولاد الحسن اثنين، ومن أولاد الحسين واحد.   (1) رواه مسلم (1853) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 وكلهم من أتباع زيد في العقيدة والإمامة، وفروعهم توافق الحنفية أكثر من غيرهم من الفقهاء. وبلداتهم اللاتي يظهرون فيها، ويكون لهم الشوكة على أهلها بالعجم جيلان وديلمان وبعض جرجان وأصفهان (أصبهان) والري والعراق الأعلى: الكوفة والأنبار (1) وبالحجاز مكة وجميع بلدان الحجاز، إلا المدينة، فإن الشوكة فيها للاثنى عشرية (2) وهم في نجد اليمن ظاهرون على منه كصنعاء وصعدة وذمار ونحوها، ولهم في سهولها بلدان أيضاً، كمدينة حلي وما بينها وبين اليمن من بلد المخلاف. ومنهم بالمغرب جماعة كثيرة في جبال يقال لها: أوراس، ولهم أخلاط في أمصار السنية يتسترون بمذهب أبي حنيفة، لأن أبا حنيفة كان من رجال زيد بن علي ومن أتباعه. وهم أتقى الشيعة لولا ما نُقم عليهم" (3). المصدر: الزيدية نشأتها ومعتقداتها للقاضي إسماعيل بن علي الأكوع - ص73   (1) قد تحول سكان هذه المناطق أو معظمهم إلى مذهب الاثنى عشرية (الإمامية). (2) كان هذا في عصر الدامغاني مؤلف (الجوهرة الخالصة)، المعروفة برسالة الدامغاني، أما اليوم، فسكان هذه المناطق من أهل السنة ولله الحمد. وكان هذا التحول قد حدث في عهد الملك العادل نور الدين محمود زنكي رحمه الله الذي أظهر بحلب – كما ذكر المقريزي في ((الذهب المسبوك)) (ص 68) - مذهب أهل السنة، وكان أهلها من الرافضة، وأبطل الأذان بحي على خير العمل، وأنشأ بها المارس على مذاهب الأئمة الأربعة، ثم في عهد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، الذي كان له الفضل في طرد الغزاة الصليبيين الإفرنجة من بلاد الشام، كما تم على يديه القضاء على الدولة الفاطمية التي حكمت شمال إفريقية ومصر وبلاد الشام، وامتد نفوذها إلى الحجاز، ثم إلى اليمن بوساطة الدولة الصليحية. (3) هكذا كانت الزيدية في عصر الدامغاني. أما اليوم، فإن أكثر العلويين المنتسبين مذهباً إلى زيد بن علي، ونسباً إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ومن اعتزى إليهم من أهل اليمن –وما أكثرهم- قد تحول بعد قيام الثورة الإيرانية سنة 1979م إلى شيعة اثني عشرية تحت غطاء مذهب الإمام زيد بن علي. ولو كان الأمر يتعلق بهؤلاء شخصياً، لهان الخطب، ولكنهم يسعون بنشاط دائم إلى التبشير بهذا المذهب بالدعاية له وتوزيع كتبه مجاناً، غير ما يباع منها في مكتبات خاصة بأثمان زهيدة، وذلك للانتقام من النظام الجمهوري الذي نشر التعليم على نطاق واسع في ربوع اليمن، مراعياً في ذلك توحيد مناهج التربية بعيداً عن المذهبية الضيقة، ليكون مقبولاً لدى أتباع المذهبين الشافعي والزيدي على حد سواء. والذي سهل لأهل السنة في المناطق السائد فيها المذهب الهادوي الزيدي ممارسة شعائر العبادة في المساجد عنا بحرية تامة من دون خوف ولا وجل، فأقبل كثير من الناس على قراءة كتب السنة طواعية؛ لتأكدهم أنهم هم السبيل الوحيد لإزالة الفوارق المذهبية وتوحيدهم على قلب رجل واحد، فتمحى من ذاكرتهم الأحكام التي كانت تصدر من بعض الحكام بالتكفير والتفسيق لمخالفته مذهبياً، مع أنه يوجد في العلويين من كان قد ترك التقليد وعمل بأحكام الكتاب وصحيح السنة عن فهم وإيمان واعتقاد، لكنهم تحولوا عن ذلك لدوافع سياسية: يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ومنهج الحق له واضح مع أنهم يعلمون أن الإمام الهادي يحيى بن الحسين قد هاجم المذهب الجعفري في كتبه، وذكر أن أتباعه على غير حق في ما ذهبوا إليه من عصمة الأئمة الاثنى عشرية، والقول بالتقية، والبداء، وتكفير من سواهم من أصحاب المذاهب الأخرى ((رسائل العدل والتوحيد)) (ص 75). وكان الأحرى بأتباع مذهب الإمام الهادي – إذا كانوا حريصين على نفي ما رسخ في أذهان أتباع المذاهب الأربعة من أن المذهب الزيدي لا يختلف عن المذهب الجعفري، وأنهما يصدران من مشكاة واحدة. أن يلتزموا بما كان عليه الإمام زيد بن علي رضي الله عنه الذي ينتسبون إلى مذهبه اسماً، فيرفضون من رفضهم، ويترضون على من ترضى عنهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعملون بما جاء في مجموع زيد بن علي من رفع اليدين وضمهما في الصلاة والتأمين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 المطلب العاشر: أئمة الزيدية ودورهم في نشر القبورية في اليمن رغم أن الغلو لدى الزيدية الأولى لم يكن خارجاً عن الحدّ، ورغم أن اتجاهها هو اتجاه المعتزلة المعتمدين على العقل النافين للخوارق والكرامات كما هو معلوم، إلا أننا نجد أئمة الزيدية في اليمن - وبعد قرون من إنشاء دولتهم وتتابع العشرات من أئمتهم- نجدهم ينحرفون انحرافاً شديداً في هذه المسألة، والذي يظهر - والله أعلم- أن باعث الأئمة لذلك كان باعثاً سياسياً أكثر منه باعثاً عقديا، ولكن وجود المشاهد والقباب ووجود سدنةٍ يتأكلون منها ويبنون بها مجداً وجاهاً على أنقاض عقائد الأمة حوّلها إلى مزارات مقدسة يعتقد فيها العوام وأشباههم مالا يجوز اعتقاده إلا في الله تعالى، ومن أجل السياسة أيضاً يتغاضى الأئمة عن ذلك ويتركون العامة يغرقون في بحر الخرافة والشرك وهم ينظرون. وأئمة الزيدية يبنون المشاهد للسياسة ويهدمونها للسياسة كذلك؛ فالدليل على أنهم يبنونها للسياسة ما بدر من الإمام عبدالله بن حمزة وذلك أنه عاش في آخر القرن السادس وبداية القرن السابع (1)، وهو أول من سن لأئمة الزيدية سنة البناء على المشاهد حيث لم يُسجَّل لأحد من الأئمة قبل عصره شيء من ذلك. والذي يظهر لي- والله أعلم- أنه إنما فعل ذلك مضاهاة لمعاصريه من الأيوبيين الذين عُرِف عنهم أنهم يبنون على قبور سلاطينهم البنايات الضخمة في مصر والشام، وفي اليمن كذلك (2)،فلعله أراد أن يُظْهِر بذلك شيئاً من أبهة الملك للأئمة وهم أموات كما هي لهم وهم أحياء، وقد لاحظ ذلك الأستاذ محمد محمود الزييري في كتيِّبه"الإمامة وخطرها على وحدة اليمن" حيث قال: (بهذه النفسية يمارس الإمام أعباء منصبه، وتكاد هذه الأعباء تنحصر في استصفاء ثروة الشعب باسم الزكاة وقمع الانتفاضات الشعبية باسم الجهاد وقتال البغاة، ثم بناء مسجد باسم الأمام تضاف إلى جواره غالباً قبة الضريح لهذا الإمام تمدّ نفوذه الروحي حتى وهو في القبر) (3). وهذا الذي نسبه الزبيري إلى الإئمة يجب أن يحدَّد بأئمة القرن السابع فَمَنْ بعدهم، وأن أولئك الأئمة قد عمَّروا على معظم قبور الأئمة السابقين مشاهد وقباباً. وقد خَطَا هذا الإمام بالقبورية في الديار الزيدية خطوات كبيرة جداً، إذ لم يكتف بأن يبني لنفسه مشهداً في حياته أو يوصِي أن يبُنى له ذلك بعد وفاته، وإنما سن ذلك عملياً في حياته بأمر إمامي وتهديد شديد اللهجة لأهل قرية "لصف" حيث قتِل عندهم أخوه إبراهيم بن حمزة وهو يقاتل الأيوبيين، فلما حصل ذلك كتب لهم الإمام عبدالله بن حمزة هذه الرسالة يهدِّدهم فيها إذا لم يبنوا عليه مشهداً أنه سينقل جثمانه عنهم، وهذا نص الرسالة:   (1) ((تاريخ اليمن المسمى فرجة الهموم والحزن في حوادث وتاريخ اليمن)) تأليف العلامة عبد الواسع بن يحيى الواسعي، طبع مكتبة اليمن الكبرى صنعاء الطبعة الثانية سنة (1990م) ص (197). (2) انظر تراجم سلاطينهم في اليمن في الفضل المزيد من تاريخ زبيد وغيره من تواريخ اليمن، وفيها يذكرون كيف يُقْبر سلاطين الأيوبيين. (3) ((الإمامة وخطرها على وحدة اليمن (ص13 - 14) للأستاذ محمد محمود الزبيري طبع دار الكلمة صنعاء بدون تاريخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 (بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله المنصور بالله أمير المؤمنين إلى كافة الساكنين بلصف من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإنا نحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، ونسأله لنا ولكم التوفيق لما يحب ويرضى0أما بعد: فقد بلغنا جفوتكم للشهيد الذي توفي بين أظهركم، وحطَّ رحله بين أفنيتكم، وجاد بنفسه دون بلادكم، واستقبل بوجهه العدوّ صبراً واحتساباً حين زاغت الأبصار فشلاً، وبلغت القلوب الحناجر وجلاً، وظن قوم بالله الظنونا جزعاً، وابتلي المؤمنون بالهزيمة امتحاناً، وزلزلوا بالحادثة اختباراً، فرخص عنده من الموت ما غلا عند غيره، وغلا عنده من الفرار ما رخص عند سواه, وعلم القصد فتم العزم، ومضى على البصيرة على مناهج السلف الصالح مستقبلاً لكثرة العدو وعزمه، ومستصغراً لعظيمة نجده، فبلغنا أنكم هاجرون لقبره، قالون لمصرعه، قد صغّرتم منه ما عظّم الله سبحانه جهلاً، وجهلتم ما علم الصالحون حيرة وشكاً، كأنكم لم تسمعوا أقوال محمد صلى الله عليه وآله فينا - أهل البيت خاصة - ((أقرب الناس مني موقفاً يوم القيامة بعد حمزة وجعفر رجلٌ منا أهل البيت خرج بسيفه فقاتل إماماً ظالماً فقُتِل))، فهلا - رحمكم الله - استشفيتم بتراب مصرعه من الأدواء، وسألتم بتربة مضجعه رفع الأسواء، واستمطرتم ببركة قبره من رحمة ربكم طوالع الأنواء, وعظَّمتم حاله كما يُعَظَّم حال الشهداء، وأوجبتم من حقه ما ضّيع الأعداء، وعمَّرتم على قبره مشهداً، وجعلتموه للاستغفار مثابة ومقصداً، ونذرتم له النذر تقرباً، وزرتموه تودداً إلى الله سبحانه وإلى رسوله صلى الله عليه وآله وإلينا تحبُّباً، فقد رُوِّينا عن أبينا صلى الله عليه في حديث فيه بعض الطول (أنه نظر إلى الحسن والحسين عليهما السلام وهما يلعبان بين يديه فبكى فهابه أهل المنزل أن يسألوه، فوثب عليه الحسين عليه السلام فقال: ما يبكيك يا أبتي؟ فقال: إني سررت بكما اليوم سروراً لم أسرّ به قبله مثله، فجاءني جبريل فأخبرني أنكم قتلى، وأن مصارعكم شتى، قال: يا أبتي فمن يزورنا على تباين قبورنا؟ قال: قوم من أمتي يريدون بذلك برّي وصلتي إذا كان يوم القيامة أتيت حتى آخذ بأعضادهم فأنجيهم من أهوالها وشدائدها) (1) ألا فاعلموا بعد الذي بلغنا عنكم أنا قد قَلَيْنا له جواركم، ورغبنا به عن داركم، وعزمنا بعد الخيرة لله سبحانه وتعالى على نقله من أوطانكم إلى من يعرف حقه، ويتيقن فضله وسبقه، فلو رعيتم له حرمه القرابة وفضل وراثة النبوة (تأمل)! لعلمتم حرمة ذلك الدم الزكي، وكثر عليه منكم الباكون، والبواكي، فإن كان ذلك من غرضكم فإنا نفعله إن شاء الله تعالى، وإن لم يكن من إرادتكم فلسنا بتاركيه بتوفيق الله سبحانه، والسلام) (2).والرسالة لم تقتصر على بناء المشهد عليه بل تعدت إلى طلب الاستشفاء بتراب مصرعه، والسؤال بتربته، والاستمطار بقبره، فهل كان الإمام فعلاً- وهو من هو في العلم والعقل والدهاء - هل كان يعتقد ذلك؟! أظنه لم يكن كذلك وإنما كما قلت سابقاً يريد إسباغ الهيبة وإضفاء المكانة على مشهد وقبر أخيه، ولذلك فإنه حينما لم يتم الإصغاء إليه فأنه نقل جثمانه إلى قرية الزاهر بالجوف حيث قُبِر هناك (3).   (1) أورده السمهودي (ت 911هـ) في ((خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى)) بدون إسناد، وكذلك هو في كتاب ((كامل الزيارات)) لابن قولويه القمي، وفي إسناده من يتهمونه هم أنفسهم بالكذب مثل محمد بن علي القرشي (2) ((هجر العلم)) (1/ 223 - 225) (3) ((هجر العلم)) (1/ 224). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 والإمام الثاني الذي كرر نفس الأسلوب هو الإمام يحيى بن محمد حميد الدين الذي أمر في رسالة أخرى قبيلة أرحب ببناء تابوت وقبة على قبر الإمام أحمد بن هاشم الويسي المتوفي سنة (1269هـ) والمدفون في "دار أعلا" من أرحب للتبرك به، وهدَّدهم إن لم يفعلوا ذلك بأنه سينقل رفاته إلى مكان آخر، فما كان من أهل أرحب إلا أن بنوا له قبة ووضعوا على قبره تابوتاً (1).، والذي جعلني أدَّعي أن الباعث على ذلك هو السياسة أن الإمام يحيى كذلك كان عالماً وعاقلاً ولم يكن من السذاجة بحيث يعتقد أن ذلك مما يحبه الله ويرضاه، ثم إنه في نفس الوقت أو بعده بقليل كان ابنه وولي عهده الإمام أحمد بن يحيى يهدم قبور أولياء الصوفية في الديار الشافعية. تلك هي الحوادث والتصرفات التي تدل على أن أئمة الزيدية يبنون المشاهد لأجل السياسة وإن كان قد ترتب على ذلك خلل كبير في عقيدة الكثير من العوام وأشباههم، كما صور ذلك الإمام الشوكاني رحمه الله حين ذكر ما يجري عند مشهد الإمام أحمد بن الحسين صاحب ذيبين (2). وبعد أن ألِفَ علماءُ تلك البلاد هذه المشاهد -وكان القائمون وراءها أئمة مجتهدين - ركنوا إلى ذلك الواقع، وأحسنوا الظن بمن سن تلك السنة وتابعوهم عليها، ليس بالفعل فقط ولكن بالإفتاء أيضاً، وهذه نقلة خطيرة جداً، وتحول كبير في هذا المسار عند الزيدية، والذي أفتى بذلك هو الإمام الجليل يحيى بن حمزة الذي أثنى عليه الإمام الشوكاني رحمه الله في البدر الطالع ثناءً عاطراً (3)، رغم رده عليه في هذه الفتوى، والفتوى المقصودة هي مانقلها عنه الإمام المهدي في البحر الزخار حيث قال: (مسألة (ي) ولابأس بالقباب والمشاهد على الفضلاء لاستعمال المسلمين ولم ينكر) (4).ثم تبع الإمام المهدي على ذلك الإمام يحيى فقال في الأزهار وهو يتكلم عما يندب في القبر ومنه رفعه قدر شبر (وكره ضد ذلك والإنافة بقبر غير فاضل) (5). ومن المعلوم أن الإمام الشوكاني قد ردّ على هذه الفتوى بكتابه المشهور "شرح الصدور في تحريم رفع القبور ". هذا ما يتعلق ببناء المشاهد والقباب وأما هدم تلك المشاهد وكونه للسياسة كذلك فهو أظهر، وإليك هاتين الواقعتين: أما الواقعة الأولى فهي ما حدث من هدم للقبور المشرفة والمشاهد المقامة عليها أيام الإمام المتوكل على الله المعاصر للشوكاني، حيث إنه أجاب أئمة الدعوة النجدية إلى هدم بعض المشاهد في صنعاء وما حولها، وكتب بذلك إلى سائر الجهات، ذكر ذلك الإمام الشوكاني في "البدر الطالع" وصاحب كتاب (حوليات يمانية) (6).وقد جزمت بأن الأمر كان سياسة لا تديناً؛ لأن ذلك الإمام بينما كان يرضخ للنجديين ويداهنهم كما عبر بذلك صاحب الحوليات كان في نفس الوقت يكاتب الأتراك والمصريين للقدوم إلى الجزيرة والقضاء على الدولة النجدية (7).   (1) ((هجر العلم)) (1/ 255). (2) انظر: ((الدر النضيد)) (ص48) 0 (3) ((البدر الطالع)) (2/ 332 - 332) (4) ((البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار)) تأليف الإمام أحمد بن يحيى المرتضى (2/ 132)، طبع دار الحكمة اليمانية صنعاء تصوير عام (1409هـ-1988م) عن الطبعة الأولى (1366هـ-1947م) (2/ 132) 0 (5) ((الأزهار في فقه الأئمة الأطهار)) (1/ 361) للإمام المهدي صاحب ((البحر الزخار مع شرحه السيل الجرار)) تحقيق محمد إبراهيم زايد طبع دار الكتب العلمية ببيروت الطبعة الأولى الكاملة (1405هـ-1985م). (6) الباب الثالث (ص 547). (7) انظر ((ذكريات الشوكاني)) (ص 113) - إلى آخر الكتاب تحقيق د. صالح رمضان محمود طبع دار العودة (1983م) و ((حوليات يمانية)) (ص 22 - 23) تحقيق عبدالله محمد الحبشي لم يسم المؤلف طبع دار الحكمة اليمانية صنعاء ط الأولى (1411هـ-1991م). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 والواقعة الثانية التي تدل على أن من أئمة الزيدية من يهدم القبور لأجل السياسة هي حادثة هدم بعض القبور في الديار الشافعية من اليمن، والتي قام بها الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين حيث أزال القبة التي على قبر الفقيه أحمد بن موسى بن عجيل عام (1348هـ)، حينما كان والياً للعهد بعد أن تغلب على معارضة قبيلة الزرانيق - التي كانت تعرف من قبل بالمعازبة- لامتداد نفوذ الإمام يحيى إلى بلادها ودخولها تحت حكمه، كما أزال الإمام أحمد كذلك التابوت من على قبر أحمد بن علوان في يفرس من ناحية جبل حبشى عام (1362هـ) (1).، قد يقول قائل لم لا تحمل هذا العمل على المحمل الحسن وتجريه على أفضل تقدير وتجعله من باب إزالة المنكر؟ فأقول: إن الذي يمنع من حمله على ذلك هو عدم إقدام الإمام أحمد عندما كان ولياً للعهد، أو بعد أن أصبح إماماً على إزالة شيء من مشاهد البلاد الزيدية، فلو كان الأمر لوجه الله لما فعله في ناحية وتركه في ناحية أخرى، قد يكون بعض مشاهدها أشد من تلك التي هدمها، كما قال القاضي إسماعيل الأكوع حفظه الله (2)، ومما يؤكد صلة المشاهد الزيدية بالسياسة أن معظم المشاهد المعظمة في الديار الزيدية هي للأئمة وحواشيهم، وقلّ أن تجد مشهداً لرجل فقير أوضعيف، وإليك قائمة بأهم المشاهد الزيدية وستكون إن شاء الله على حسب التسلسل الزمني لإنشائها: 1) مشهد الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة من منطقة ظفار ذيبين. 2) مشهد الأمير عماد الدين يحي بن حمزة (أخو عبدالله بن حمزة) بمدينة كحلان. 3) مشهد الإمام أحمد بن الحسين المعروف بأبي طير في مدينة ذيبين.4) مشهد الإمام يحيى بن حمزة (وليس أخو عبدالله بن حمزة بل هو من ذرية الحسين وليس من ذرية الحسن (3). (2) ومشهده بمدينة ذمار.5) مشهد الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بصعدة (4).ومعه عدد من أبنائه وأحفاده ومشهد الإمام المهدي باني تلك المشاهد. 6) مشهد الإمام صلاح الدين بصنعاء. 7) مشهد الإمام المهدي لدين الله أحمد بن المرتضى حصن الظفير حجة. 8) مشهد الإمام المهدي صلاح بن علي بن محمد بن أبي القاسم بصعدة. 9) مشهد الإمام الناصر محمد بن يوسف بن صلاح بن المرتضى بمدينة ثلا. 10) مشهد الإمام شرف الدين يحيى بن شمس الدين أحمد بن يحيى المرتضى بظفير حجة. 11) مشهد مدرسة الإمام شرف الدين بثلا، وفيه عدد من أبنائه وبناته وذويه. 12) مشهد الأمير صلاح الدين بن شمس الدين بن الإمام شرف الدين بمدينة ثلا. هذه بعض المشاهد وقد تركت الكثير سواها وهي كلها موجودة مشاهدة للعيان، وقد كتب عنها كتابة تاريخية أثرية الدكتور علي سعيد سيف في رسالته المقدمة للدكتوراه من جامعة صنعاء باسم "الأضرحة في اليمن من القرن الرابع إلى القرن العاشر"، فيمكن لمن أراد معرفتها بدقة أن يرجع إلى هناك. مع العلم أن أكثر هذه المشاهد تضم إلى جوار من هي باسمه عدداً من أبنائه وأحفاده وزوجاته، وهذا يثبت أن أئمة الزيدية قد ساهموا في نشر مظاهر القبورية في جهاتهم كسائر حكام اليمن. المصدر: القبورية في اليمن لأحمد بن حسن المعلم - ص 264 - 270   (1) ((هجر العلم)) (1/ 222 - 223). (2) ((هجر العلم)) (1/ 222 - 223). (3) انظر ((البدر الطابع)) (2/ 332 - 333). (4) وهو مؤسس الدولة الزيدية باليمن توفي سنة (298هـ) ولكن المشهد لم يعمر إلا مابين سنة (733) و (750هـ) وهي فترة حكم الإمام المهدي لدين الله علي بن محمد الذي كان أول من بنى مشاهد مقبرة صعدة على قبور الإمام الهادي وبنيه، انظر: ((الأضرحة)) (ص 161). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 المطلب الحادي عشر: الانتشار ومواقع النفوذ • قامت دولة للزيدية أسسها الحسن بن زيد سنة 250هـ في أرض الديلم وطبرستان. • كما أن الهادي إلى الحق أقام دولة ثانية لها في اليمن في القرن الثالث الهجري. • انتشرت الزيدية في سواحل بلاد الخزر وبلاد الديلم وطبرستان وجيلان شرقاً، وامتدت إلى الحجاز ومصر غرباً وتركزت في أرض اليمن. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 المطلب الأول: معنى الرافضة لغة واصطلاحا ً الرفض في اللغة يأتي بمعنى الترك. يقال: رفض يرفض رفضاً، أي ترك. وعرفهم أهل اللغة بقولهم: والروافض كل جند تركوا قائدهم (1) هذا هو معنى الرفض في اللغة. وأما في الاصطلاح: فإنه يطلق على تلك الطائفة ذات الأفكار والآراء الاعتقادية الذين رفضوا خلافة الشيخين وأكثر الصحابة، وزعموا أن الخلافة في علي وذريته من بعده بنص من النبي صلى الله عليه وسلم، وأن خلافة غيرهم باطلة. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 344   (1) انظر: ((الصحاح)) للجوهري (3/ 1078)، وانظر: ((القاموس المحيط)) (ص344). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 المطلب الثاني: سبب تسميتهم بالرافضة أطلقت هذه التسمية على الرافضة لأسباب كثيرة: 1 - لأنهم رفضوا مناصرة زيد بن علي –كما تقدم -. 2 - أو لرفضهم أئمتهم وغدرهم بهم. 3 - أو لرفضهم الصحابة وإمامة الشيخين. 4 - أو لرفضهم الدين. 5 - وهناك تعليل لبعض الشيعة وهو أنهم سموا بهذه التسمية من قبل خصومهم للتشفي منهم. ولكن توجد رواية في الكافي عن جعفر بن محمد أن الله هو الذي سماهم رافضة، وهذا ينقص ما زعموه أنهم لا يستحقون هذه التسمية. وكل تلك التعليلات غير الخامس تصدق عليهم. جاء في الكافي عن محمد بن سليمان عن أبيه أنه قال: قلت لأبي –عبيد الله – جعفر_: جعلت فداك إنّا قد نبزنا نبزاً أثقل ظهورنا وماتت له أفئدتنا واستحلت به الولاة دماءنا قال: فقال أبو عبد الله –ع- الرافضة؟ قلت: نعم. قال: لا والله ما هم سموكم به ولكن الله سماكم به (1). ولعل الراجح هو (الأول) ولا منافاة بينه وبين الأول، لأنهم كانوا رافضة يرفضون الشيخين وقد رفضوا زيداً كذلك إذ لم يرض مذهبهم. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 344   (1) انظر: ((الشيعة والتشيع)) نقلاً عن الكافي – ((كتاب الروضة)) (ص34). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 المطلب الثالث: وقت وجودهم قبل اتصالهم بزيد وجدت هذه الطائفة قبل انضمامهم لزيد بن علي، وكانت عقيدتهم هي الرفض، ولهذا طلبوا من زيد أن يوافقهم على أهوائهم ويتبرأ من الشيخين فخيب آمالهم وانفصلوا عنه. وسبب ذلك يعود إلى تشبعهم بأفكار اليهودي ابن سبأ، وانحرافهم التام عن التشيع لأهل البيت الذي كان عبارة عن الحب والمناصرة. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 345 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 المطلب الرابع: أسماؤهم قبل اتصالهم بزيد ومن أسمائهم في تلك الفترة: 1 - الخشبية.2 - الإمامية (1). وسبب تسميتهم بالخشبية: أنهم – كما قيل- كانوا يقاتلون بالخشب ولا يجيزون القتال بالسيف إلا تحت راية إمام معصوم من آل البيت. وسبب تسميتهم بالإمامية: لزعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة علي رضي الله عنه نصاً ظاهراً ويقيناً صادقاً، ولم يكتف فيه بالوصف بل صرح بالاسم لعلي ولأولاده من بعده – كما يدعي هؤلاء. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 345   (1) انظر: ((الفصل)) لابن حزم 4/ 185، وانظر: ((الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة)) (ص176). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 المطلب الخامس: فرق الروافض لقد تفرقت الشيعة الروافض إلى أقسام كثيرة لم يتفق العلماء على عددها، ولا على اعتبار من هم الأصول ومن هم الفروع منهم. ولا حاجة إلى التطويل بذكر جميع تلك الفرق الأصول والفروع؛ إذ الكل يجمعهم معتقد واحد حول الإمامة وأحقية علي بها، وأولاده من بعده، ورفض من عداهم. وأشهر فرق الروافض: الشيعة الاثنا عشرية -كما سندرسهم بالتفصيل-، وفرقة أخرى منهم تسمى المحمدية. وسنقتصر على دراسة هاتين الطائفتين ليتضح من خلالهما مدى تناقض الشيعة في عقائدهم الهامة مثل الإيمان بالمهدي (1) والرجعة (2) وغير ذلك من عقائدهم، إضافة إلى أن هذه الفرقة لا تزال طائفة منهم – وهم الذين صدقوا بقتل زعيمهم الذي ينتسبون إليه- النفس الزكية- يأتون إلى قبره- الذي ظنوا بأنه دفن في مكانه ذلك –يأتون إليه ويتمسحون به ويدعون عنده إلى اليوم. أولاً: المحمدية: خلاصة أمر هذه المحمدية أنهم طائفة يعتقدون أن الإمام والمهدي المنتظر هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي، ويعرف بالنفس الزكية. ولد محمد سنة 93هـ (3)، ويوصف بأنه كان فاضلاً صاحب عبادة وورع، ولذا أطلق عليه لقب النفس الزكية. خرج بالمدينة المنورة سنة 145هـ على أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي، فبعث إليه المنصور بعيسى بن موسى الهاشمي، فدارت المعركة على محمد فسقط قتيلاً بعد مدة قليلة من إعلان خروجه، وقد احتز عيسى رأس محمد وأرسله إلى أبي جعفر المنصور (4) جرياً على العادة التي سنها الأمويون من قبل لإرهاب المخالفين. ومما يجدر ذكره أن شخصاً ماكراً اسمه المغيرة بن سعيد العجلي كانت له آراء ضالة استغل توجه الناس إلى محمد بن علي بن الحسن فأخذ يدعو الناس إلى البيعة لمحمد، وجدَّ في ذلك، وزعم للناس أن المهدي المنتظر قد خرج، وأنه محمد بن الحسن، وبشر الناس بأن ملكه سيمتد طويلاً ويعيد الأمور إلى نصابها ويملأ الأرض عدلاً، وأن على الجميع أن يبادروا بالطاعة والانطواء تحت لوائه للقيام بواجبهم نحو المهدي. وحينما قتل محمد في أول لقاء مع عيسى بن موسى أسقط في يد أتباعه من هؤلاء الحمقى الذين صدقوا أقواله وانقسموا فيما بينهم، فطائفة تبرأت من المغيرة وقالوا: لا يجوز لنا متابعته بعد أن ظهر كذبه، فإن محمد بن عبد الله بن الحسن مات مقتولاً ولم يملك ولا يملأ الأرض عدلاً، ولو كان هو المهدي لتكفل الله بظهوره. وطائفة أخرى –لأغراض في أنفسهم ولبقاء شوكتهم- استمروا على الولاء للمغيرة ولمحمد بن عبد الله بن الحسن، ولجأوا إلى أقوال السبئية، فقالوا: إن محمداً لم يقتل، وإنما المقتول كان شيطاناً تصور للناس في صورة محمد بن عبد الله بن الحسن، وأن محمداً لا يزال حياً في جبل حاجر بنجد، ولا بد أن يظهر مرة أخرى، ويملأ الأرض عدلاً، وأن البيعة ستعقد له بين الركن والمقام في بيت الله الحرام بمكة (5). وقد ذكر لي بعض أهل المعرفة أن جماعة من الشيعة يأتون إلى مكان في المدينة المنورة خلف مسجد ثنية الوداع لزيارته لاعتقادهم أنه قبر محمد بن عبد الله بن الحسن، وقد أزيل هذا المكان في مشروع. ويظهر أن هؤلاء الشيعة هم من القسم الذين صدقوا بموته وفارقوا المغيرة. وقد استمر المغيرة على ضلالاته حتى قتله خالد بن عبد الله القسري. ثانياً: الاثنا عشرية: هذه هي الواجهة الرئيسية والوجه البارز للتشيع في عصرنا الحاضر وهم القائمون على نشر هذا المذهب الرافضي والممول له بشتى الطرق والأساليب، وقد تحقق لهم الكثير مما أرادوه في العالم الإسلامي وذلك لما يبذلونه من مساعدات مادية ومعنوية. فتعتبر هذه الطائفة أشهر فرق الشيعة، وأكثرها انتشاراً في العالم، وإليها ينتمي أكثر الشيعة في إيران والعراق وباكستان وغيرها من البلدان التي وصلت إليها العقيدة الشيعية، ولهم نشاط ملموس في كثير من البلدان في الآونة الأخيرة؛ حيث توغلوا إلى أماكن من بلدان المسلمين ما كان لهم فيها ذكر. وهم مجموعة من الطوائف المختلفة الآراء بعضها معلن وبعضها مستتر، ويجمعهم هدف عام واحد وهو علو المذهب الاثنا عشري الجعفري الذي زعم الخميني أن أتباعه يبلغون 200 مليون شيعي، كان النواة الأولى فيها لمذهب التشيع هو الرسول وعلي بن أبي طالب وخديحة، حيث بدأ الرسول – حسب زعمه- يدعو للتشيع من نقطة الصفر (6). المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 345   (1) لأن مهدي الاثني عشرية غير مهدي المحمدية. (2) لأن المحمدية تؤمن برجعة كل الأموات قبل يوم القيامة. (3) ((حركة النفس الزكية)) (ص55). (4) انظر: ((مقاتل الطالبين)) (ص185). (5) انظر لأخبار هذه الفرقة: ((الفرق بين الفرق)) (ص240 - 242). (6) انظر كتابه: ((ولاية الفقيه)) (ص136 - 137). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 المطلب السادس: أسماء الاثنا عشرية وسبب تلك التسميات للاثني عشرية أسماء تطلق عليهم، بعضها من قبل مخالفيهم وبعضها من قبلهم هم، وهذه الأسماء هي: أولاً: الاثنا عشرية (1). وسبب تسميتهم بها لاعتقادهم وقولهم بإمامة اثني عشر رجلاً من آل البيت، ثبتت إمامتهم –حسب زعمهم- بنص من النبي صلى الله عليه وسلم، وكل واحد منهم يوصي بها لمن يليه. وأولهم: علي – رضي الله عنه- وآخرهم محمد بن الحسن العسكري المزعوم الذي اختفى في حدود سنة 260هـ، وسيعود بزعمهم ويملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، ويسير الخير بين الناس وافراً إلى آخر مزاعمهم الكثيرة، وفيه قال الشيرازي: (كما تسمى الشيعة بالاثني عشرية لأنهم يعتقدون بإمامة الأئمة الاثني عشرية) (2). وهؤلاء الأئمة الاثنا عشر هم: علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-. الحسن بن علي –رضي الله عنه-. الحسين بن علي –رضي الله عنه-. علي بن الحسين. محمد بن علي بن الحسين الباقر. جعفر بن محمد بن الحسين –أبو عبد الله- الصادق-. موسى بن جعفر الكاظم. علي بن موسى –الرضي-. محمد بن علي –الجواد-. علي بن محمد الهادي. الحسن بن علي العسكري. محمد بن الحسن العسكري الغائب الموهوم، كما يسميه الشيخ إحسان إلهي –رحمه الله تعالى-. ومن الملاحظ أن الشيعة الاثني عشرية حصروا الإمامة في أولاد الحسين بن علي دون أولاد الحسن –رضي الله عنهما-، ولعل السبب في ذلك يعود إلى تزوج الحسين بن علي بنت ملك فارس يزدجرد، ومجيء علي بن الحسين منها. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 349 ولكل إمام من هؤلاء الأئمة الاثني عشر لقب عرف به، وهذه الألقاب هي على الترتيب: عليٌ المرتضى، والحسن المجتبى، والحسين الشهيد، وعلى زين العابدين السجاد، ومحمد الباقر، وجعفر الصادق، وموسى الكاظم، وعلي الرضا، ومحمد الجواد التقي، وعلي الهادي النقي، والحسن العسكري الزكي، ومحمد المهدي القائم بالحجة. المصدر: إسلام بلا مذاهب لمصطفى الشكعة - ص 190 ثانياً: الجعفرية: نسبة إلى جعفر بن محمد الصادق الذي بنوا مذهبهم في الفروع على أقواله وآرائه –كما يزعمون- وهو بريء من أكاذيب الشيعة هذه، فإنهم يسندون إليه أقوالاً واعتقادات لا يقول بها من له أدنى بصيرة في الإسلام، فكيف به؟ وهذا الاسم من أحب الأسماء إليهم بخلاف تسميتهم بالرافضة، فإنهم يتأذون منه، وهم أحق بتسميتهم بالرافضة لا الجعفرية؛ لأنهم لا يعرفون مذهب جعفر الصادق، وإنما هي تخرصات جمعوها، وتلفيقات استحسنوها ثم نسبوها إليه (3)، وأكثرها مما لا يرضي الله ورسوله، بل ولا يقوله عاقل ولا طالب علم يعرف الشريعة الإسلامية، ومع ذلك يتبجح الشيعة بانتسابهم إليه ظلماً وزوراً. يقول الخميني مفتخراً: نحن نفخر بأن مذهبنا جعفري ففقهنا هذا البحر المعطاء بلا حد، وهو من آثار جعفر الصادق (4). ويقول الشيرازي: كما تسمى الشيعة بالجعفرية لأن الإمام جعفر بن محمد الصادق –ع- تمكن أن يوسع نشر الإسلام أصولاً وفروعاً وآداباً وأخلاقاً، وأما سائر الأئمة فلم يتمكنوا من ذلك لما كانوا يلاقونه من الاضطراب، كما في زمان علي والحسن والحسين. –ع-؛ والكبت والإرهاب من أيدي الخلفاء الأمويين والعباسيين. لكن الإمام الصادق –ع- حيث كان في زمن التصادم بين بني أمية وبني العباس اغتنم الموقف فرصة لنشر حقائق الإسلام بصورة واسعة، والشيعة أخذوا منه أكثر معالم الدين، ولذا نسبوا إليه (5). المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 350   (1) انظر: ((الفرق الإسلامية)) (ص80)، و ((الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة)) (ص181). (2) ((قضية الشيعة)) (ص4). (3) انظر: ((مؤتمر النجف)) (ص101) من ((الخطوط العريضة)). (4) ((الوصية الإلهية)) (ص5). (5) ((قضية الشيعة)) (ص3). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 وإذا كانت قد سميت بالجعفرية من باب تسمية العام باسم الخاص، ... فإنها سميت بذلك لأمر أهم، وهو أنها تستمد أمور دينها من فقه الإمام جعفر الصادق، فلقد كان إماماً لجميع المسلمين بالمعنى العام، كأبي حنيفة والشافعي والأوزاعي ومالك وابن حنبل، وكان من ذوي الرأي الصائب والفتوى الصالحة في أمور الدين، فضلاً عن أنه كان إماماًَ لدى الإمامية، له ما لبقية أئمتهم من الولاية والوصاية. لقد كان جعفر الذي تنتسب إليه الجعفرية غزير العلم في الدين، وافر الحكمة، كامل الأدب، زاهدًا ورعًا متسامحاً بعيدًا عن الغلو، ولم يكن يؤمن بالغيبة أو الرجعة أو التناسخ، كما أنه كان بعيدًا عن الاعتزال. وكان السيد الإمام ينتسب من ناحية الأب إلى العترة النبوية المباركة، ومن ناحية الأم إلى أبي بكر الصديق، وله أقوال بالغة حد الجمال في الإيمان والصلة بالله والبعد عن التطرف. فمن أقواله: "إن الله تعالى أراد بنا شيئاً وأراد منا شيئاً، فما أراده بنا طواه عنا، وما أراده منا أظهره لنا، فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا"؟ وكان يقول في القدر: "هو أمر بين أمرين: لا جبر ولا تفويض". ومن أقواله في الدعاء: "اللهم لك الحمد إن أطعتك، ولك الحجة إن عصيتك، لا صنع لي ولا لغيري في إحسان، ولا حجة لي ولا لغيري في إساءة" (1). المصدر: إسلام بلا مذاهب لمصطفى الشكعة - ص 190 رابعاً: الإمامية: إما نسبة إلى الإمام (الخليفة) لأنهم أكثروا من الاهتمام بالإمامة في تعاليمهم كما هو واقع بحوثهم. أو لزعمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نص على إمامة علي وأولاده. واختار هذا التعريف الشهرستاني (2)، وهو التعريف الذي ذكره الشيرازي منهم حيث قال: وتسمى الشيعة بالإمامية لأنهم يعتقدون بإمامة علي – أمير المؤمنين- وأولاده الأحد عشر (3).أو لانتظارهم إمام آخر الزمان الغائب المنتظر – كما يزعمون- (4). خامساً: الخاصة: وهذه التسمية هم أطلقوها على أنفسهم وأهل مذهبهم. وقد ذكر العلماء كثيراً من الأمور التي شابه الشيعة اليهود فيها (5)، ومن ذلك تسميتهم لأنفسهم الخاصة، ومن عداهم العامة كما فعلت اليهود حينما سموا أنفسهم –شعب الله المختار-، وسموا من عداهم- الجوييم أو الأمميين-وتوجد بينهم وبين اليهود مشابهات في أشياء كثيرة سنذكر بعضها بعد قليل. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 352   (1) ((الملل والنحل)) (1/ 147) .. (2) ((الملل والنحل)) (1/ 62). (3) ((قضية الشيعة)) (ص3). (4) انظر: ((الشيعة والتشيع)) (ص271). (5) انظر: ((أوجه الشبه بين اليهود والرافضة في العقيدة)) رسالة ماجستير للجميلي، وانظر كتاب: ((رسالة في الرد على الرافضة)). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 المطلب السابع: سبب انتشار مذهب الرافضة (الاثنا عشرية) وأماكن انتشارهم لقد انتشر هذا المذهب الرديء انتشاراً واسعاً، وسبب ذلك يعود –فيما يظهر لي- إلى أمور من أهمها: جهل كثير من المسلمين بحقيقة دينهم الإسلامي. وإلى جهلهم بحقيقة مذهب الرافضة. وإلى نشاط هؤلاء الروافض في نشره بشتى الوسائل. وقد اغتر بهم كثير من المسلمين متناسين أو جاهلين أنه لا فائدة للإسلام أو للمسلمين من شخص يدعي الإسلام ثم يلعن الصحابة ويكفرهم ويحكم عليهم بالردة، ويرى بأن القرآن فيه تحريف وزيادة ونقص، ثم ينتظر المهدي الذي يأتي ويسفك دماء أهل السنة بدون رحمة، كما قرروه في كتبهم تنفيساً عن أحقادهم عليهم. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 353 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 المطلب الثامن: أهم الأماكن التي انتشر فيها هذا المذهب 1 - إيران: وهو المذهب الرسمي للدولة، وقد أعلن الخميني في دستورهم أن دين الدولة يقوم على المذهب الجعفري. 2 - العراق. 3 - الهند. 4 - باكستان. وفي هذه البلدان أعداد منهم، وقد انبثوا في بقاع من سوريا ولبنان ودول الخليج، وكثير من البلدان الإسلامية مستغلين غفلة أهل السنة. ولم أثبت هنا أعدادهم في تلك البلدان لعدم اقتناعي بصحة تلك الأعداد التي تذكر عنهم؛ لما يحصل في الغالب من مغالطات في ذكر عدد نسبة السنة أو الشيعة في أي بلد لأغراض سياسية ودعائية. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 354 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 المطلب التاسع: فرق الاثني عشرية وانقسامها انقسمت الشيعة الاثنا عشرية إلى فرق كثيرة (1)، من أهمها وأشدها خطراً وأكثرها نفوذاً وشوكة وتأثيراً في المجتمع الشيعي، ومن أشدها نشاطاً في دعوى ظهور المهدي: الشيخية والرشتية، بغض النظر عن الخلاف بينهم وبين الاثني عشرية. أولاً: الشيخية: قال الألوسي: وقد يقال لهم الأحمدية (2)، وهي طائفة تنتسب إلى رجل يقال له الشيخ أحمد بن زين الدين الإحسائي البحراني، المولود سنة 1166هـ، والمتوفي سنة 1243هـ، وهو شيخ ضال ملحد، له آراء كفرية وزندقة ظاهرة، ومهد السبيل بآرائه لظهور ملاحدة جاءوا بعده. وأما بالنسبة للشيعة فقد مجدوه، وذكروا له ألقاباً هائلة من التبجيل والتعظيم، فأطلقوا عليه –كذباً وزوراً- ترجمان الحكماء، لسان العرفاء، غرة الدهر، فيلسوف العصر ... إلخ. وقد عاش الإحسائي كاتباً ومدرساً في مدن الشيعة الهامة، مثل كربلاء وطوس وغيرهما من البلدان، ونشر أفكاره ومعتقداته الضالة، وكون له أتباعاً كان لهم أثر في قيام حركات أخرى كالبابية والبهائية. أهم معتقدات الإحسائي: زعم أن الله –تعالى عن قوله- تجلى في علي وفي أولاده الأحد عشر، وأنهم مظاهر الله، وأصحاب الصفات الإلهية، وهي عقيدة حلولية مستمدة من عقائد البراهمة وغلاة الصوفية. أرجع وجود هذا الكون وما فيه إلى وجود الأئمة، وأنهم هم العلة المؤثرة في وجوده إذ لولاهم ما خلق الله شيئاً، وبمثل هذا قال الغلاة عبارتهم المشهورة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم – بما لا يرضاه-: ((لولاك لولاك ... لما خلقت الأفلاك)) (3) وهو غلو فاحش يجب التوبة منه. وزعم في محمد بن الحسن العسكري المهدي المزعوم عند الشيعة مزاعم غريبة، منها أن المهدي المذكور يتجلى ويظهر في كل مكان في صورة رجل يكون هو المؤمن الكامل، أو الباب إلى المهدي، وتحل فيه روح المهدي، ثم ادعى لنفسه وجود هذه الصفة فيه، وضلل كثيراً ممن سار على شاكلته إلى أن هلك. ثانياً: الرشتية: وبعد هلاك الشيخ أحمد الإحسائي قام بأمر الشيخية أحد تلامذته وخريجيه، ويسمى كاظم الحسني الرشتي (4) سنة 1242هـ .. ونهج نفس المنهج والطريق التي عليها سلفه في كثير من المسائل، وخالفه في أخرى، إلا أنه زاد الطين بلة حين: إنه حل فيه روح الأبواب كما حل في الإحسائي، ولكن آن الأوان لانقطاع الأبواب ومجيء المهدي نفسه. ومن هنا بدأ يلتمس ظهور المهدي، وهو في الحقيقة إنما بحث عن صيد فوجده، حيث وقع اختياره على شخصية من تلاميذه ليجعل منه المهدي المنتظر بعد أن لمس أن هذه الدعوى يمكن أن تجد لها أتباعاً. وقد نشر الرشتي مذهبه الفاسد حتى صارت له أماكن كثيرة وأتباع كثيرون من شيعة إيران وعربستان وأذربيجان والكويت، وانتشرت أفكاره أيضاً في الهند وباكستان، وافتتحت فيهما مراكز كثيرة، وتأتيهم المساعدات من تلك الأماكن التي وصل انتشار الشيخية إليها. وهناك فرقة أخرى هي محل نظر في إلحاقها بالشيعة الاثني عشرية أو الصوفية، وتسمى النوربخشية نسبة إلى رجل يسمى محمد نور بخش القوهستاني المولود سنة 795 هـ (5). المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 355   (1) عند الأشعري 30 فرقة بالزيدية. وفي ((مختصر التحفة الاثني عشرية)) أنهم 39 فرقة (ص21). (2) ((مختصر التحفة الاثني عشرية)) (ص22). (3) أورده الصغاني في موضوعاته (78) وقال الألباني في الضعيفة (282) موضوع (4) ((مختصر التحفة الاثني عشرية)) (ص22). (5) انظر: ((الشيعة والتشيع)) (ص307 - 314). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 هناك اختلاف حدث بين الاثني عشرية في القرون المتأخرة وهو اختلاف ما يسمى باختلاف الأخباريين والأصوليين، فافترقت الاثني عشرية إلى فرقتين متحاربتين متعاديتين حملت إحداهما على الأخرى وشنعت الأخرى على الأولى وكثر التنازع حتى اتهم الإخباريون الأصوليين بالخروج عن التشيع الحقيقي الأصلي وكتبت الكتب وألفت الرسائل وتحزبت الأحزاب فقال الأخباريون: نعتقد بظاهر ما وردت به الأخبار متشابهة كانت أم غير متشابهة، فنجري المتشابهات على ظواهرها ونقول فيها ما قاله سلفنا وبعبارة صريحة أكثر: أن الإخباريين هم الذين يتمسكون بظواهر الحديث مقابل الأصوليين الذين يرون الأدلة العقلية: من الأدلة الشرعية ومن المعروف أن الحديث عند الشيعة: ما نقل عن أحد أئمتهم المعصومين حسب زعمهم الاثني عشري، ومن رسول الله أيضا، فكل ما نقل عن هؤلاء فهو حديث عندهم وهو حجة لأنه منقول عن معصوم وحجة, فما دام أصحاب الأئمة نقلوا هذه الروايات من الأئمة فإنها لا تحتاج إلى النظر والتحقيق, لا عن السند لأنه من صاحب الإمام، ولا عن المتن لأنه من الإمام، وعقول الناس قاصرة عن إدراك كنه ما يقول الإمام, هذا هو مذهب الإخبارية، أي العمل بالأخبار المنقولة عن المعصومين - بزعمهم - أو المنسوبة إليهم بدون النظر إلى شيء آخر, وأما الأصوليون فرأوا أن هناك دليل العقل ومنه البراءة الأصلية والاستصحاب وغيرها, واتهم الأخباريون الأصوليين: إن الباعث لهم على اختراع هذه القواعد الأصولية هو أنسهم بكتب المخالفين للإمامية بلا ضرورة داعية إليه وبدون قيام حجة حاكمة ويعد من أعيان الطائفة الإخبارية: الحرالعاملي صاحب (وسائل الشيعة)، والنوري الطبرسي صاحب (مستدرك الوسائل) ومحمد حسين كاشف الغطاء، ونعمة الله الجزائري، وغيرهم. ومن أعيان الطائفة الثانية في الآونة الأخيرة: السيد دلدار علي، والطبطبائي، ومحسن الحكيم، والخوئي وشريعت مداري، والخميني، وغيرهم. المصدر: بحث تفصيلي عن رافضة المدينة النخاولة لأبي عبد الله الأثري الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 الفصل السابع: دول الشيعة والتأثير في المذهب تميزت بعض الفترات بسيطرة الشيعة على مناطق واسعة، حيث قامت لهم ممالك ودول، فالدولة البويهية حكمت العراق وفارس والري والكرج والأهواز والدولة العبيدية (الفاطمية) دانت لها المغرب ثم مصر وأجزاء من الشام والدولة الحمدانية في الموصل والشام، والقرامطة حكموا البحرين والحجاز، والدولة السامنانية قامت في بلاد ما وراء النهر. في هذه الفترة وضعت أسس ومبادئ التشيع، ووضع عن آل البيت أقوال وأفعال لم تصدر عنهم ألبتة نتيجة هيمنة الدول الشيعية، وكثر القتال وزادت الفتن بين السنة والشيعة ثم جاءت الدولة الصفوية فزاد الغلو في المذهب، والمجاهرة بطاماته، وبعد أن كانت إيران أكثرية سنية أصبحت بعدهم أكثرية شيعية وبعد ذلك جاءت الثورة الخمينية في إيران وأعادت آثارهم. المصدر: بحث تفصيلي عن رافضة المدينة النخاولة لأبي عبد الله الأثري الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 الفصل الثامن: أثر الفلسفة القديمة في الشيعة لا شك أن الشيعة فرقة إسلامية إذا استبعدنا مثل "السبئية" الذين ألهوا علياً ونحوهم؛ لا شك أنها في كل ما تقول تتعلق بنصوص قرآنية أو أحاديث منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن مع ذلك اشتملت آراؤها على أفكار فلسفية أرجعها علماء العراق والغرب إلى مصادرها من المذاهب الفلسفية والدينية السابقة على الإسلام، والحضارة الفارسية التي انتهت بظهور الإسلام. فبعض العلماء الأوروبيين، منهم الأستاذ دروزي؛ يقرون أن (أصل "المذهب الشيعي" نزعة فارسية، إذ إن العرب تدين بالحرية، والفرس يدينون بالملك وبالوراثة في البيت المالك، ولا يعرفون معنى الانتخاب للخليفة، وقد انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ولم يترك ولداً، فأولى الناس بعده ابن عمه علي بن أبي طالب، فمن أخذ الخلافة كأبي بكر وعمر وعثمان، فقد اغتصب الخلافة من مستحقها، وقد اعتاد الفرس أن ينظروا إلى الملك نظرة فيها معنى التقديس، فنظروا هذا النظر نفسه إلى علي وذريته، وقالوا: إن طاعة الإمام واجب، وطاعته طاعة لله سبحانه تعالى) (1).وقرر بعض العلماء الأوروبيين أن (الشيعة) أخذت من اليهودية أكثر مما أخذت من الفارسية، مستدلاً بأن عبد الله بن سبأ، أول من أظهر الدعوة إلى تقديس علي كان يهودياً، وقرر هؤلاء أنه مع تلك الآثار اليهودية في المذهب الشيعي فالمذهب الشيعي كان مباءة للعقائد الآسيوية القديمة كالبوذية وغيرها (2).ولعل هذا القول الذي قرر أن هذا المذهب الشيعي استقى من اليهودية بعض مبادئه، قد استفاده الأوروبيون من أقوال للشعبي وكلام لابن حزم الأندلسي، فقد كان الشعبي يقول عن الشيعة: "إنهم يهود هذه الأمة"، وقال ابن حزم في (الفصل): "سار هؤلاء الشيعة في سبيل اليهود القائلين: إن إلياس عليه السلام، وفنحاس ابن العازار بن هارون عليه السلام أحياء إلى اليوم، وسلك هذا بعض الصوفية، فزعموا أن الخضر وإلياس عليهما السلام حيان إلى الآن" (3). وفي الحق، أنا نعتقد أن الشيعة قد تأثروا بالأفكار الفارسية حول الملك والوراثة، والتشابه بين مذهبهم ونظام الملك الفارسي واضح. ويزكي هذا أكثر أهل فارس إلى الآن من الشيعة، وأن الشيعة الأولين كانوا من فارس. وأما اليهودية فإذا كانت توافق بعض آرائهم، فلأن الفلسفة الشيعية اقتبست من نواح مختلفة، وكان المنزع فارسياً في جملته وإن استندوا إلى أقوال إسلامية. والشيعة الحاضرون وأكثر المعتدلين ينكرون أن يكون مثل عبد الله بن سبأ منهم، لأنه ليس مسلماً في نظرهم فضلاً عن أن يكون شيعياً، ونحن نوافقهم كل الموافقة. المصدر: تاريخ المذاهب الإسلامية لمحمد أبو زهرة   (1) [9680] راجع في ذلك ((فجر الإسلام)) الدكتور أحمد أمين. (2) [9681] ((السيادة العربية)) 99. (3) [9682] ((الفصل)) (4/ 4/م180). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 المبحث الأول: معنى نزعة التشيع يقابل الباحث في الشيعة والتشيع مصطلحات تحتاج إلى تحرير وتمييز، ذلك أن مصطلح الشيعة مرّ بعدة مراحل، تطور المفهوم خلالها من مسمى لم يكن يعد قصد أصحابه تفضيل بعض الصحابة على بعض مع الاحتفاظ لهم بالمحبة وسلامة الصدر، إلى مفهوم عقدي ومذهبي لم يكتف منتحلوه بمسألة الاختلاف بالتفضيل بين عثمان وعلي رضي الله عنهما، بل إلى اعتبار علي وصي رسول الله وهو الأجدر والأحق بالخلافة من أبي بكر وعمر فضلا عن عثمان، بل غالى بعض أصحاب هذه النزعة إلى اعتبار الخلفاء قبله مغتصبين للخلافة، ومن لم ير ذلك من الأصحاب فهو متهم في دينه مختل في عقيدته، ومن هنا انتحلت الروايات في انتقاص الصحابة، والتجني عليهم، في الوقت الذي انتحلت فيه روايات أخرى مبالغة في وصف علي ووصفه بما لا يرضى أن يوصف هو به (1). وعلى ذلك فالشيعة الأولى مصطلح لا يدخل فيما نحن بصدده وحتى نميزه عن غيره نعرف به ونحدد المقصود منه. الشيعة الأولى: جاء في (صحيح البخاري) – في كتاب الجهاد – " عن أبي عبد الرحمن وكان عثمانياً، فقال لابن عطية وكان علوياً: إني لأعلم ما الذي جرّأ صاحبك- يعني علياً – على الدماء إلخ" (2). قال الحافظ في الفتح معلقاً: وقوله " وكان عثمانياً " أي يقدم عثمان على علي في الفضل، وقوله " وكان علوياً " أي يقدم علياً في الفضل على عثمان وهو مذهب مشهور لجماعة من أهل السنة بالكوفة (3).وقال ابن عبد البر – رحمه الله –: " وقف جماعة من أئمة أهل السنة والسلف في علي وعثمان – رضي الله عنهما – فلم يفضلوا أحداً منهما على صاحبه منهم مالك بن أنس، ويحيى بن سعيد القطان، وأما اختلاف السلف في تفضيل علي فقد ذكر ابن أبي خيثمة في كتابه من ذلك ما فيه كفاية، - ثم نقل ابن عبد البر إجماع عامة أهل السنة على تفضيل عثمان فقال: وأهل السنة اليوم على ما ذكرت لك من تقديم أبي بكر في الفضل على عمر، وتقديم عمر على عثمان، وتقديم عثمان على علي، وعلى هذا عامة أهل الحديث من زمن أحمد بن حنبل إلا خواص من جلّة الفقهاء وأئمة العلماء فإنهم على ما ذكرنا عن مالك ويحيى القطان وابن معين، فهذا ما بين أهل الفقه والحديث في هذه المسألة، وهم أهل السنة، وأما اختلاف سائر المسلمين في ذلك فيطول ذكره، وقد جمعه القوم (4) وهذا الذي ذكره ابن عبد البر عن مالك في تقديم علي على عثمان ذكر ابن تيمية رحمه الله رواية أخرى عنه تخالفه، حين نقل ما استقر عليه أهل الحديث وأئمة الفقه في ذلك فقال: " وأما جمهور الناس ففضلوا عثمان، وعليه استقر أمر أهل السنة، وهو مذهب أهل الحديث، ومشايخ الزهد والتصوف، وأئمة الفقهاء كالشافعي وأصحابه، وأحمد وأصحابه، وأبي حنيفة وأصحابه، وإحدى الروايتين عن مالك وأصحابه، قال مالك: لا أجعل من خاض في الدماء كمن لم يخض فيها، وقال الشافعي وغيره إنه بهذا قصد والي المدينة الهاشمي، ضرب مالك، وجعل طلاق المكره سببا ظاهراُ (5)   (1) [9683] ورد عن علي بأسانيد جيدة أنه قال لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر إلا جلدته حد المفترى. ((فتاوى ابن تيمية)) (28/ 475). كما جاء ذلك مصرحاً به في الرواية الأخرى في استتابة المرتدين، باب ما جاء في المتأويلين ((صحيح البخاري)) (8/ 45). (2) ([9684]) رواه البخاري (3081). (3) ([9685]) ((فتح الباري)) (6/ 191)، (21/ 306). (4) ذكره في كتابه ((الاستيعاب في معرفة الأصحاب)) تحت ترجمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (5) [9687] ((منهاج السنة)) (4/ 202). ذكره في كتابه ((الاستيعاب في معرفة الأصحاب)) تحت ترجمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 كما نقل عن " مالك " – رحمه الله – رأياً ثالثاً يفيد توقفه وعدم تفضيل أحدهما على صاحبه وهو الذي حكاه ابن القاسم عن مالك عمن أدركه من المدنيين (1). ويحدد ابن تيمية مصطلح الشيعة الأولى ورأيهم في تقديم الصحابة فيقول: وكانت الشيعة الأولى لا يشكون في تقديم أبي بكر وعمر، وأما عثمان فكثير من الناس- يقصد من هؤلاء- يفضل عليه علياً، وهذا قول كثير من الكوفيين وغيرهم، وهذا القول الأول للثورى ثم رجع عنه ... وأما جمهور الناس ففضلوا عثمان وعليه استقر أمر أهل السنة قال أيوب السختياني: من لم يقدم عثمان على علي فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار " (2). وبعد أن ينقل ابن تيمية في الفتاوى استقرار أمر أهل السنة على تقديم عثمان يشير إلى أن هذه المسألة الخلافية ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة، لكن المسألة التي يضلل المخالف فيها هي مسألة الخلافة (3). وهو بهذا يؤكد الفرق الذي أشرنا إليه آنفاً، ويحدد مصطلح التشيع الذي نريد أن نتحدّث عنه كنزعة مذهبية كان لها أثرها في الكتابة التاريخية، فمتى نشأت هذه النزعة وما هو أثرها؟ المصدر: نزعة التشيع وأثرها في الكتابة التاريخية لسليمان بن حمد العودة   (1) [9688] ((منهاج السنة)) (4/ 202). وقال ابن تيمية معلقاً على هذا الرأي: وهذا يحتمل السكوت عن الكلام في ذلك فلا يكون قولا وهو الأظهر، ويحتمل التسوية بينهما. (2) [9689] ((منهاج السنة)) (4/ 202)، وقريبا منه في المصدر نفسه (2/ 178). (3) [9690] ((الفتاوى)) (3/ 153). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 المبحث الثاني: نشأة التشيع لا أريد هنا استعراض مختلف الآراء في نشأة التشيع والترجيح بينها- قلت أمر يطول، وليس هو المقصود بهذه الدراسة- بل الهدف الإشارة إلى تاريخ النشأة وأصولها. ولئن كان الناس في الفتنة صاروا شيعتين – كما يقول ابن تيمية – شيعة عثمانية وشيعة علوية، فهذا يؤكد أن زمن الفتنة بين الصحابة بداية الاختلاف لكن ذلك لا يعني استواء التشيع بالمفهوم المذهبي والانتحال العقدي الذي كان له أثره فيما بعد، وابن تيمية يؤكد هذا وهو يشير- في النص نفسه – إلى أنه ليس كل من قاتل مع علي كان يفضله على عثمان، بل كان كثير منهم يفضل عثمان عليه كما هو قول سائر أهل السنة (1). ولكن ذلك كذلك لا يعني عدم القول بظهور بذور التشيع في تلك الفترة، وخاصة بعد ظهور عبد الله بن سبأ اليهودي – أواخر أيام عثمان – وإعلانه أفكاراً غريبة لم يقل بها أحد من قبله كالقول بالوصية لعلي، والرجعة للأئمة، وسب الصحابة وغيرها من الأفكار التي أصبحت بعد من أصول ومنطلقات التشيع، ولهذا نقل الأئمة عن سواهم اعتبار عبد الله بن سبأ مبدأ الرفض والتشيع (2). ونقلوا أن علياً " طلب أن يقتل عبد الله بن سبأ أول الرافضة حتى هرب منه " (3). وهذا ليس قصراً على أهل السنة وحدهم، بل لم يستطع الشيعة أنفسهم إنكار هذه الحقيقة، ومدونات الشيعة المتقدمة تثبت أهل أصل الرفض إنما كان من عبد الله بن سبأ. ومع التسليم بكون المصطلح لم يتبلور، والشيعة- الرافضة- لم تجتمع وتصير لهم قوة إلا بعد مقتل الحسين، بل لم يظهر اسم الرفض – كما يقول ابن تيمية – إلا حين خروج زيد بن علي بن الحسين بعد المائة الأولى لما أظهر الترحم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما رفضته الرافضة فسمّوا " رافضة " اعتقدوا أن أبا جعفر هو الإمام المعصوم، واتبعه آخرون فسمّوا " زيدية " نسبة إليه (4). أقول مع التسليم بذلك فتبقى عقائد السبئية وأفكار عبد الله بن سبأ التي طرحها لأول مرّة، ومازالت الشيعة تتشبث بها في المنطلقات الأساسية والبذور الأولى لنزعة التشيع، ومن أبرزها: الوصية، والرجعة، وسب الصحابة. ومعنى الوصية- كما وضعها ابن سبأ – " أنه كان ألفُ نبي ولكل نبي وصي، وكان علي وصي محمد، ثم قال: محمد خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصياء، ثم قال بعد ذلك: من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله ووثب على وصي رسول الله " (5). وينشأ عن القول بالوصية القول بفرض إمامة الموصى له- وهذا هو المقصود – وكان ابن سبأ – كما يقول القمي أول من قال بفرض إمامة علي (6). وأول من أظهر القول بالنص بإمامة علي كما يقول الشهرستاني (7). أما الرجعة فتعني رجعة الأموات إلى الدنيا، وابن سبأ أول من قال ذلك (8). وكان يقول: العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع, ويكذب بأن محمداً يرجع، وقد قال الله: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص: 85]. فمحمد أحق بالرجوع من عيسى، ووضع لهم الرجعة فتكلموا فيها (9). ومن لوازم هذه العقيدة عندهم الاعتقاد بأن علياً حي لم يمت، ولهذا فالشيعة يقولون: بأن علياً لم يقتل ولم يمت ولا يموت حتى يملك الأرض، ويسوق العرب بعصاه (10). أما سب الصحابة فيؤكد علمان من أعلام الشيعة – القمي، والنوبختي – بأن عبد الله بن سبأ كان أول من أظهر الطعن في أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وتبرأ منهم (11). ويقول الهيتمي: أن السبئية – وهم أصل التشيع كما سبق- كانوا يسبون أصحاب رسول الله إلا قليلا منهم، وينسبونهم إلى الكفر والزندقة ويتبرأون منهم (12). أكتفي بإيراد هذه النماذج من معتقدات الشيعة. لأنها ستبدوا لنا أكثر من غيرها وضوحا حين الحديث عن نماذج من أثر نزعة التشيع في الكتابة التاريخية. والآن لنحدد أثر النزعة المذهبية – بشكل عام- في الكتابة التاريخية ثم نتوقف بشيء من البيان والتفصيل عن أثر نزعة التشيع بشكل خاص. المصدر: نزعة التشيع وأثرها في الكتابة التاريخية لسليمان بن حمد العودة   (1) [9691] ((منهاج السنة)) (2/ 178). (2) [9692] انظر: ((الفتاوى)) (28/ 483). (3) [9693] انظر القمي: ((المقالات والفرق)) (ص 20)، النوبختي: ((فرق الشيعة)) (ص 20)، ابن المرتضى: ((طبقات المعتزلة)) (ص 5 - 6). (4) [9694] ((الفتاوى)) (4/ 490). (5) [9695] انظر: ((تاريخ الطبري)) (4/ 430). (6) [9696] ((المقالات والفرق)) (ص20). (7) [9697] ((الملل والنحل)) (1/ 155). (8) [9698] السكسكي: ((البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان)) (ص 50). (9) [9699] ((تاريخ الطبري)) (4/ 140). (10) [9700] القمي: ((المقالات والفرق)) (ص 19). (11) [9701] القمي: ((المقالات والفرق)) (ص 20)، و (فرق الشيعة)) للنوبختي (ص 44). (12) [9702] ((الصواعق المحرقة)) (ص 6). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 المبحث الثالث: أثر النزعة المذهبية تشكل النزعة المذهبية – أيّاً كانت – مورداً من موارد الزلل والتحريف وتعد واحدة من أبرز أسباب الكذب في التاريخ، وكيف لا يكون ذلك كذلك وصاحب النزعة إنما يحاول بشكل إرادي أو لا إرادي أن يفسر الحدث وفق مشربه، ويصور الأمور كما يشتهي ويعتقد. ولقد تطرق ابن خلدون - رحمه الله- في مقدمته للكذب في الأخبار والأسباب المقتضية، فذكر – أول ما ذكر من ذلك – النزعة للمذهب والتشيع للآراء فقال: " ولما كان الكذب متطرقاً للخبر بطبيعته وله أسباب تقتضيه، وإنما التشيعات للآراء والمذاهب، فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهله، وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها من الانتقاد والتمحيص فتقع في قبول الكذب ونقله (1). المصدر: نزعة التشيع وأثرها في الكتابة التاريخية لسليمان بن حمد العودة   (1) [9703] انظر: ((مقدمة ابن خلدون)) نشر دار إحياء التراث العربي (ص 35). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 المبحث الرابع: نزعة التشيع وإذا كان هذا في عموم النزعات المذهبية، فلنزعة التشيع – وهي موضع البحث – من ذلك نصيب وافر، ويشخص لنا شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – داء المذهبية عند الرافضة، وعمق الكذب عن الشيعة حين يقول: ولهذا كانوا أكذب فرق الأمة، فليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة أكثر كذبا ولا أكثر تصديقا للكذب وتكذيبا للصدق منهم، وسيما النفاق فيهم أظهر من في سائر الناس، وهي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: ((آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان)) (1) وفي رواية: ((أربع من كن فيه كان منافقا خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) (2) وكل من جربهم يعرف اشتمالهم على هذه الخصال، ولهذا يستعملون " التقية " التي هي سيما للمنافقين واليهود ويستعملونها مع المسلمين يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح: 11]. ويحلفون ما قالوا وقد قالوا، ويحلفون بالله ليرضوا المؤمنين والله ورسوله أحق أن يرضوه ... (3). وينتهي – ابن تيمية – إلى أنهم شرّ من عامة أهل الأهواء، وأحق بالقتال من الخوارج، وهذا – كما يقول – هو السبب فيما شاع في العرف العام أن أهل البدع هم الرافضة (4). وأنهم إن لم يكونوا شراً من " الخوارج " المنصوصين فليسوا دونهم (5) , ثم يعرض للمقارنة بين النحلتين، ومؤكداً أن الخوارج أقل ضلالا من الروافض مع أن كل واحدة من الطائفتين مخالفة لكتاب الله وسنة رسول الله ومخالفة لصحابته وقرابته، ومخالفون لسنة خلفائه الراشدين ولعترته أهل بيته (6). وينقل لنا في كتابه (منهاج السنة) اتفاق أهل العلم بالنقل والرواية والإسناد على أن الرافضة أكذب الطوائف، وأن الكذب فيهم قديم (7). ثم يقول: ومن تأمل كتب الجرح والتعديل المصنفة في أسماء الرواة والنقلة وأحوالهم مثل كتب يحيى من معين، والبخاري، وأبي أحمد بن عدي، والدارقطني، وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ويعقوب بن سفيان الفسوي، وأحمد بن صالح العجلي، والعقيلي، ومحمد بن عبد الله بن عمار الموصلي، والحاكم النيسابوري، والحافظ عبد الغني بن سعيد المصري، وأمثال هؤلاء الذين هم جهابذة ونقاد وأهل معرفة بأحوال الإسناد رأي المعروف عندهم الكذب في الشيعة أكثر منهم في جميع الطوائف (8). ثم ينقل – ابن تيمية – تحرج أصحاب الصحيح عن النقل عن خيارهم فضلا عن من دونهم فيقول: حتى أن أصحاب الصحيح كالبخاري لم يرو عن أحد من قدماء الشيعة مثل: عاصم بن ضمرة، والحارث الأعور, وعبد الله بن سلمة, وأمثالهم، مع أن هؤلاء من خيار الشيعة (9). ثم يوثق ابن تيمية نقولاً عن الأئمة الأعلام في كذب الرافضة، فيروي عن " مالك " قوله: وقد سئل عن الرافضة: لا تكلمهم ولا ترو عنهم فإنهم يكذبون (10).   (1) رواه البخاري (33) ومسلم (59) (2) رواه البخاري (34) ومسلم (58) (3) [9706] انظر ((الفتاوى)) (28/ 479). (4) [9707] انظر ((الفتاوى)) (28/ 482). (5) [9708] انظر ((الفتاوى)) (28/ 477). (6) [9709] انظر ((الفتاوى)) (28/ 483 - 493). (7) [9710] ((منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية)) (1/ 16). (8) [9711] ((منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية)) (1/ 18). (9) [9712] ((منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية)) (1/ 18). قال ابن تيمية معلقا على هذه النصوص: وهذه آثار ثابتة قد رواها أبو عبد الله بن بطة في (الإبانة الكبرى) هو وغيره. ((المنهاج)) (1/ 16 - 17). (10) [9713] ((المنهاج)) (1/ 16). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 وكان يقول: نزّلوا أحاديث أهل العراق منزلة أحاديث أهل الكتاب لا تصدّقوهم ولا تكذّبوهم (1). ولما اشتهرت الكوفة اختصت بالكذب فقد شبّهها " مالك" رحمه الله بدار الضرب، فقد قال له عبد الرحمن ابن مهدي: يا أبا عبد الله سمعنا في بلدكم أربعمائة حديث في أربعين يوماً، ونحن في يوم واحد نسمع هذا كله. فقال له عبد الرحمن: ومن أين لنا دار الضرب، أنتم عندكم دار الضرب تضربون بالليل وتنفقون بالنهار (2). وعن الشافعي قوله: لم أر أحد أشهد بالزور من الرافضة (3)، وعن الأعمش أنه قال: أدركت الناس وما يسمّونهم إلا الكذابين يعني أصحاب المغيرة بن سعيد, (4) وهم من الرافضة. كما نقل ابن تيمية عن يزيد بن هارون قوله: نكتب عن كل صاحب بدعة إذا لم يكن داعية إلا الرافضة فإنهم يكذبون (5). وعن شريك– مع أن فيه تشيعاً – قوله–: احمل العلم عن كل من لقيت إلا الرافضة فإنهم يضعون الحديث ويتخذونه ديناً. ويعلق ابن تيمية على كلام شريك هذا بقوله: وشريك هذا هو ابن عبد الله القاضي قاضي الكوفة من أقران الثوري وأبي حنيفة، وهو من الشيعة الذي يقول بلسانه أنا من الشيعة، وهذه شهادته فيهم (6). وفوق ذلك ينقل الذهبي عن ابن المبارك قوله: الدين لأهل الحديث, والكلام والحيل لأهل الرأي، والكذب للرافضة (7). وقد ثبت عن الشعبي أنه قال: ما رأيت أحمق من الخشبية (8) لو كانوا من الطير لكانوا رخماً، ولو كانوا من البهائم لكانوا حمراً، والله لو طلبت منهم أن يملؤا هذا البيت ذهباً على أن أكذب على علي أعطوني، ووالله ما أكذب عليه أبداً (9). وهو القائل: أحذركم أهل هذه الأهواء المضلّة وشرّها (10). ولم تكن الشيعة تتورع عن الكذب البتة، وفي هذا يقول حماد بن سلمة: حدثني شيخ لهم قال: كنا إذا اجتمعنا استحسنا شيئا جعلنا حديثاً (11). ولفرط كذبهم وتزويرهم امتنع بعض الأئمة الأعلام عن الحديث في فضائل علي، حتى قال سفيان الثوري: منعتنا الشيعة أن نذكر فضائل علي (12). وكان يقول: إذا كنت بالشام فاذكر مناقب علي وإذا كنت بالكوفة فاذكر مناقب أبي بكر وعمر (13). وقال الشعبي – قد ذكرت الرافضة يوماً عنده –: " لقد بغضوا إلينا حديث علي بن أبي طالب (14). وقد أكد ابن أبي الحديد – مع تشيعه – تأصل الكذب في الرافضة فقال: " إن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة، فإنهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلقة في صاحبهم، وحملهم على وضعها عداوة خصومهم (15). أكتفي بإيراد هذه النصوص ولعل فيها كفاية لبيان المقصود، وإلا فهناك غيرها لمن تأمل. المصدر: نزعة التشيع وأثرها في الكتابة التاريخية لسليمان بن حمد العودة   (1) [9714] ((منهاج السنة)) (1/ 309). (2) [9715] ((منهاج السنة)) (1/ 309) لهذا قال أحد الباحثين إن الكذب في الكوفة نشأ مع التشيع جنباً إلى جنب " يحيى اليحيى: مرويات أبي مخنف في ((تاريخ الطبري)) (ص 40). (3) [9716] ((منهاج السنة)) (1/ 16). (4) [9717] ((منهاج السنة)) (1/ 16). (5) [9718] ((منهاج السنة)) (1/ 16). (6) [9719] ((منهاج السنة)) (1/ 16). (7) [9720] ((المنتقى من منهاج الاعتدال)) (ص 480) ط: السلفية. (8) [9721] المقصود بهم الشيعة، فقد نقل ابن تيمية النص في موطن آخر بلفظ " الشيعة " ((المنهاج)) (1/ 8)، كما نقل ابن تيمية أن مصطلح الرافضة إنما ظهر لما رفضوا زيد بن علي بن الحسين في خلافة هشام ((المنهاج)) (1/ 9). (9) [9722] ((منهاج السنة)) (1/ 7 - 8). (10) [9723] ((منهاج السنة)) (1/ 7). (11) [9724] ((الموضوعات)) لابن الجوزي (1/ 39). (12) [9725] أبو نعيم: ((حلية الأولياء)) (7/ 27). (13) [9726] أبو نعيم: ((حلية الأولياء)) (7/ 027). (14) [9727] ابن عبد ربه: ((العقد الفريد)) (2/ 223). وصفه ابن كثير بالشيعي الغالي ((البداية والنهاية)) (13/ 190). (15) [9728] ((شرح نهج البلاغة)) (11/ 48 - 49). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 تمهيد ولعل آن الأوان لأن ننتقل من التوصيف النظري إلى التطبيق العملي لنتبين من خلاله كذب الشيعة وافتراؤهم من خلال المرويات التاريخية التي رووها، والمصنفات التي ألفوها. ومن هنا سوف يكون الحديث عن نزعة التشيع جامعا بين الرواة والمصنفات. ولئن لم يكن بالإمكان تقصي كل راو، والإحاطة بكل مصنف شيعي فحسبنا الوقوف على نماذج من هذا وذاك. المصدر: نزعة التشيع وأثرها في الكتابة التاريخية لسليمان بن حمد العودة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 المطلب الأول: الرواة الشيعة: سأكتفي بإيراد نموذجين لرواة الشيعة، ونموذجين آخرين للمصنفات الشيعية، لا بقصد الحصر لأثر نزعة التشيع في الكتابة التاريخية بقدر ما أقصد منها إبراز نموذج لأثر هذه النزعة في مروياتنا ومصنفات أسلافنا. (أ) لوط بن يحيى (أبو مخنف) وهو من رواة المتقدمين (ت 157 هـ) والمكثرين حتى بلغت مروياته في تاريخ الطبري (1) رواية، وفي فترة مهمة من فترات التاريخ الإسلامي ابتدأت من وفاة الرسول حتى سقوط الدولة الأموية سنة 132هـ (2). وهذا الراوي غارق في التشيع من أخمص قدميه حتى شحمة أذنيه ولهذا قال عنه ابن عدي: شيعي محترق (3). ولئن كان أمره مكشوفا لعلماء الجرح والتعديل وأرباب التاريخ المتقدمين، فليس الأمر كذلك لبعض المؤرخين المتأخرين الذين تناقلوا مروياته دون نظر أو تمحيص، ويكشف لنا المتقدمين حقيقته فيقول ابن معين: ليس بشيء (4). وقال ابن حيان: رافضي يشتم الصحابة ويروي الموضوعات عن الثقات (5). وقال فيه الذهبي: إخباري تالف لا يوثق به (6) ومثله قال ابن حجر (7). أما ابن عدي فقد فضل القول فيه فقال: حدث بأخبار من تقدم من السلف الصالحين، ولا يبعد منه أن يتناولهم، وهو شيعي محترق صاحب أخبارهم، وإنما وصفته للاستغناء عن ذكر حديثه فإني لا أعلم من الأحاديث المسندة ما أذكره، وإنما له من الأخبار المكروه الذي لا أستجيز ذكره (8). وقد ذكره العقيلي في الضعفاء مشيراً إلى تضعيف ابن معين له (9). تلك نصوص تكفي لإدانة أبي مخنف وتعرف بها وإليكم ما يثبت إدانته من خلال بعض مروياته وسأقتصر كذلك على نموذجين. الرواية الأولى في سقيفة بني ساعدة: ذكر الطبري ضمن أحداث سنة (11) للهجرة خبر ما جرى بين المهاجرين والأنصار في أمر الإمامة في سقيفة بني ساعدة- بسنده عن أبي مخنف قال: اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: نولي هذا الأمر بعد محمد عليه السلام سعد بن عبادة، وأخرجوا سعداً وهو مريض، فلما اجتمعوا تكلم فيهم بصوت ضعيف كان يبلغ القوم عنه ابن له أو بعض بني عمه، وكان مما قاله – بعد أن ذكره سابقة الأنصار وجهادهم وأن لهم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب!! وأن العرب دانت لرسول الله بأسيافهم وتوفي الله رسوله وهو راض الناس " (10). ثم إن القوم أجابوه بأجمعهم: أن قد وفقت في الرأي وأصبت في القول ولن نعدوا ما رأيت ونوليك هذا الأمر، ثم ترادوا الكلام بينهم فقالوا: فإن أبت مهاجرة قريش فقالوا: نحن المهاجرون وصحابة رسول الله الأولون ونحن عشيرته وأولياؤه فعلام تنازعوننا هذا الأمر بعده! فقالت طائفة منهم: فإنا نقول إذاً: منّا أمير ومنكم أمير، ولن نرضى بدون هذا الأمر أبداً، فقال سعد بن عبادة حين سمعها: هذا أول الوهن (11). وأتى عمر الخبر فأقبل إلى منزل النبي، فأرسل إلى أبي بكر وأبو بكر في الدار، وعلي بن أبي طالب دائب في جهاز رسول الله وبعد مجيئه تكلم أبو بكر، ثم عمر، ثم قام الحباب بن المنذر فتكلم، ومما قال:   (1) ((الملل والنحل)) (1/ 163). (2) [9730] انظر: يحي اليحى: مرويات أبي مخنف في ((تاريخ الطبري)) (ص 487). (3) [9731] ((الكامل في ضعفاء الرجال)) (6/ 2110). (4) [9732] يحي بن معين: ((تاريخ يحي بن معين)) (2/ 500). (5) [9733] ((لسان الميزان)) (4/ 366). (6) [9734] ((ميزان الاعتدال)) (3/ 419، 430). (7) [9735] ((لسان الميزان)) (4/ 492). (8) [9736] ((الكامل في ضعفاء الرجال)) (6/ 2110). (9) [9737] ((الضعفاء الكبير)) (4/ 18 - 19). (10) [9738] ((تاريخ الطبري)) (3/ 218). (11) [9739] ((تاريخ الطبري)) (3/ 219، 220، 221). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 " يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموه فأجلوهم عن هذه البلاد .. فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم ... إلى أن قال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، أما والله لئن شئتم لتقيدنها جذعة، فقال عمر: إذاً يقتلك الله! قال: بل إياك يقتل ... (1). وعن أبي مخنف قال عبد الله بن عبد الرحمن: فأقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر وكادوا يطؤون سعد بن عبادة، فقال ناس من أصحاب سعد، اتقوا سعداً لا تطؤوه، فقال عمر: اقتلوه قتله الله! ثم قام على رأسه فقال: لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضدك، فأخذ يعد بلحية عمر فقال: والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة، فقال أبو بكر: مهلا يا عمر! الرفق ها هنا أبلغ، فأعرض عنه عمر، وقال سعد: أما والله لو أن بي قوة ما أقوى على النهوض لسمعت مني في أقطارها وسككها زئيراً يحجرك وأصحابك ... الخ (2). هذه مقتطفات من رواية أبي مخنف الطويلة في حادثة السقيفة ويظهر منها التعدي على الصحابة وتصويرهم بصورة لا تليق بمن هو أقل منهم من صالحي المسلمين فكيف بخيار الأمة وأصحاب رسول الله؟ فهو يصوّر القضية صراعا على السلطة يتناسى معه الأصحاب كل فضيلة وسابقة في الدين لمن سواهم، وهل يليق بالأنصار أن ينسبوا لأنفسهم فضلا دون المهاجرين فيعتبروا أنفسهم أصحاب سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب! وهو يعلمون تقديم المهاجرين عليهم في القرآن، أو أن يستبدوا لهذا الأمر دون الناس؟ وهل يعقل أن يعتبر زعماء الأنصار أن اختيار أمير من المهاجرين وآخر من الأنصار أول الوهن! كما يلاحظ رائحة التشيع التي تفوح من الرواية وأبو مخنف يبرز عليا وحده مهتما بجهاز رسول الله، وغيره من أمثال أبي بكر في داره وعمر لا يعلم حتى يأتيه الخبر؟ وليت شعري أيليق بنبلاء الرجال الذين جمع الله قلوبهم على التقى، وآخى الرسول بينهم حتى كان الرجل منهم يرث أخاه بعد موته – حتى نسخ ذلك – هل يليق بهؤلاء أن تصدر منهم لإخوانهم عبارات الجلاء عن بلادهم؟ " فإن أبو عليكم ما سألتم فأجلوهم عن هذه البلاد ". أما إعادة نعرات الجاهلية، فتلك قد اندثرت في نفوس أولئك الأخيار، لكنها حية في نفوس الشعوبيين وأصحاب النزعات المذهبية المنحرفة، وبالتالي يحاولون إسقاطها على أولئك القرون الظاهرة وهم منها براء. وهكذا تمتلئ الرواية بألفاظ المهاترة والكلمات البذيئة، بل ربما وصلت إلى الاعتداء والضرب بين الصحابة! وتلك آفة الروايات المختلقة، وهي أثر من آثار معتقد الشيعة في سب الصحابة والنيل منهم، فهل ينتبه قرّاء التاريخ لمثل هذه المرويات الساقطة، وهل يستتبع ذلك همم عالية لنقدها سنداً ومتناً؟! خاصة إذا علم أن هناك مرويات أخرى في مصادر أخرى، وعن طريق رواة موثقين في هذه الحادثة أو غيرها (3). الرواية الثانية: في قصة الشورى: وقد ساقها الطبري في تاريخه بسند فيه" أبو مخنف " وبمتن طويل أقتبس منه الفقرات التالية:   (1) [9740] انظر: ((تاريخ الطبري)) (3/ 219). (2) [9741] انظر ((تاريخ الطبري)) (3/ 222). (3) [9742] ذكر الأستاذ يحيى اليحيى أن البخاري أخرج في صحيحه ثلاث روايات في السقيفة، وأخرج الإمام أحمد في مسنده خمس روايات، والنسائي رواية واحدة، وابن أبي شيبة أربع روايات، وابن سعد ثلاث روايات، هذا فضلا عن روايات المؤرخين كالبلاذري، والذهبي وابن كثير، وغيرهم، بل أن الطبري نفسه ساق روايات آخرى لا ينتهي سندها إلى أبي مخنف (انظر ((مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري)) (ص 112، 126) وقد استقصى، وقارن اليحيى بين هذه الروايات ورواية أبي مخنف فليرجع إليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 قال العباس لعلي (رضي الله عنهما) – بعد أن حدّد عمر الستة النفر الذين تكون فيهم – لا تدخل معهم، قال علي: أكره الخلاف، فقال له العباس: إذاً ترى ما تكره (1). وهكذا يبدأ أبو مخنف الرواية بامتعاض العباس من دخول علي ويحذره مما يكره إن قبل، وكأنه بذلك يصوّر العباس مدركاً لأمر غاب عن علي، وأن الأمر مبيت على غير ما يأملون؟! قال علي للعباس – حين تلقاه – عدلت عنّا، فقال: وما علمك؟ قال: قرن بي عثمان، وقال: كونوا مع الأكثر فإن رضي رجلان رجلاً، ورجلان رجلاً، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني، بله أني لا أرجو إلا أحدهما فرد عليه العباس مذكرا بما قاله له حين سمي في الستة ثم أوصاه قائلا: احفظ عني واحدة: كلما عرض عليك القوم فقل: لا، إلا أن يولوك، واحذر هؤلاء الرهط فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم لنابه غيرنا ... فقال علي: أما لئن بقي عثمان لأذكرنه ما أتى، ولئن مات ليتداولنها بينهم، ولئن فعلوا ليجدني حيث يكرهون (2). وأعتقد أن ما ورد في الرواية من عبارات نابية غريبة، واتهام مشين بين الصحابة كاف لسقوطها متناً، فضلا عن سقوطها سنداً!! كما ورد في الرواية أن عبد الرحمن بن عوف دعا علياً فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده؟ قال: أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي، ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي، قال: نعم فبايعه، فقال علي: حبوته حبو دهر، ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك، والله كل يوم هو في شأن (3). وهذا الجزء من الرواية لا يختلف في غرابته عما قبله، وقد كفانا الحافظ ابن كثير مؤنة الرد عليه، حيث أبان في تاريخه بكلام جزل تفرد الرواة الشيعة وغيرهم من القصاص برواية هذه الأخبار الساقطة حيث قال ما نصه: " وما يذكره كثير من المؤرخين كابن جرير وغيره عن رجال لا يعرفون أن علياً قال لعبد الرحمن: خدعتني، وإنك إنما وليته لأنه صهرك وليشاورك كل يوم في شأنه إلى غير ذلك من الأخبار المخالفة لما ثبت في الصحاح فهي مردودة على قائليها وناقليها، والله أعلم. والمظنون بالصحابة خلاف ما يتوهم كثير من الرافضة وأغبياء القصاص الذين لا تمييز عندهم بين صحيح الأخبار وضعيفها ومستقيمها وسقيمها وميادها وقويمها والله الموفق للصواب (4). وهكذا تمتلئ الرواية بكثير من الأخطاء والتجاوزات والمغالطات ويكشف عورها غيرها من الروايات الصحيحة (5). (ب) هشام بن محمد بن السائب الكلبي:   (1) [9743] ((تاريخ الطبري)) (4/ 228). (2) [9744] ((تاريخ الطبري)) (4/ 229 –230). (3) [9745] ((تاريخ الطبري)) (4/ 233). (4) [9746] ((البداية والنهاية)) (7/ 161). (5) [9747] وردت قصة الشورى بروايات صحيحة وبمصادر أخرى، فقد أخرجها البخاري في صحيحه من طريقين، وابن حبان وغيرهما انظر: يحيى اليحى: ((مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري)) (ص 170، 180). كما تطرق العلماء لقصة البيعة لعثمان ولم يذكروا غرائب رواية أبي مخنف بل أكدوا بيعة علي وغيره لعثمان، ومن قدم علياً عليه فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار واتهمهم بما ليس فيهم انظر: ((فتاوى ابن تيمية)) (4/ 427 - 428)، ((مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري)) (ص175). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 232 وهذا راو آخر من رواة الشيعة، وممن أكثر الرواية عنهم إمام المؤرخين ابن جرير الطبري، إذ بلغت رواياته في تاريخ الطبري ما يقرب من ثلاثمائة رواية شملت تاريخ الأنبياء والسيرة النبوية وتاريخ الخلفاء وطرفا من أخبار الدولة الأموية (1). وقد تحدث أئمة الجرح والتعديل عن تشيعه وغرابة مروياته قال العقيلي: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: سمعت أبي يقول: هشام بن محمد بن السائب الكلبي من يحدّث عنه؟! إنما هو صاحب سمر ونسب، ما ظننت أن أحداً يحدّث عنه (2). وقال عنه ابن حبان: من أهل الكوفة، يروي عن أبيه ومعروف مولى سليمان والعراقيين العجائب والأخبار التي لا أصول لها، وكان غالياً في التشيع، وأخباره في الأغلوطات أشهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفها (3). وقال الذهبي: هشام لا يوثق به، ونقل عن ابن عساكر قوله: رافضي ليس بثقة، مات سنة أربع ومائتين، وقيل: أن مصنفاته أزيد من مائة وخمسين مصنفاً؟! (4). وهاك نموذجين من مروياته: النموذج الأول: اتهام معاوية باختلاق الكتب: روى الطبري من حديث هشام عن أبي مخنف: أن معاوية لما أيس من قيس أن يتابعه على أمره شق عليه ذلك لما يعرف من حزمه وبأسه وأظهر للناس قيله أن قيس بن سعد قد تابعهم فادعوا الله له وقرأ عليهم كتابه الذي لان له فيه وقاربه، قال: واختلق معاوية كتابا من قيس بن سعد فقرأه على أهل الشام. ثم أورد الطبري نص الخطاب، وموقف علي بن أبي طالب واستنكاره لذلك، ثم رد قيس بن سعد عليه، وما جرى بينهما من محاورة في كلام يطول (5). هكذا يقتفي هشام أثر شيخه أبي مخنف في النيل من الصحابة وتشويه صورتهم، مستخدما في ذلك تزوير الحقائق، وهل بعد اتهام معاوية باختلاق الكتب لتدعيم موقفه شيء؟! النموذج الآخر: وصف معاوية بأوصاف مشينة وفي مقابل الصورة الأخرى يختلق هشام رواية أخرى، يتهم فيها معاوية – على لسان قيس بن سعد – بالزيغ والضلال، وقول الزور، بل وفوق ذلك بكونه طاغوتا من طواغيت إبليس؟! وإليك قطعة من نص هذه الرسالة: " ... من قيس بن سعد إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد: فإن العجب من اغترارك بي وطمعك في واستسقاطك رأيي، أتسومني الخروج من طاعة أولى الناس بالإمرة، وأقولهم للحق، وأهداهم سبيلا، وأقربهم من رسول الله وسيلة، وتأمرني بالدخول في طاعتك، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم للزور، وأضلهم سبيلا وأبعدهم من الله عز وجل ورسوله، ولد ضالين مضلين، طاغوت من طواغيت إبليس!! ... (6). أكتفي بهذين النموذجين من رواة الشيعة، وأكتفي بهذه النماذج الواقعية من مروياتهم، لأن الدراسة لا تهدف إلى حصر النماذج والمرويات قدر ما تهدف إلى إبراز النزعة وأثرها في المرويات التاريخية، لأنتقل بعد ذلك إلى نماذج المصادر الشيعية وما تفصح به من غثاء المرويات السقيمة والأخبار الواهية والتشويه المتعمد خير قرون الأمة! المصدر: نزعة التشيع وأثرها في الكتابة التاريخية لسليمان بن حمد العودة   (1) [9748] محمد السلمي: ((نزعة التشيع وأثرها في الكتابة التاريخية))، ندوة مسجلة اشترك في إلقائها د/ سليمان بن حمد العودة، أ/محمد بن صامل السلمي، أ/يحيى بن إبراهيم اليحيى – وقد سحبت على (الاستنسل) ولم تطبع في كتاب حتى كتابة هذا البحث– (ص17)، وانظر في كثرة ((مرويات هشام في تاريخ الطبري فهارس الطبري)) (10/ 443 - 444). (2) [9749] ((الضعفاء الكبير)) (4/ 339). (3) [9750] ((المجروحين من المحدثين والمتروكين)) (3/ 91). (4) [9751] ((ميزان الاعتدال)) (4/ 304 - 305). (5) [9752] ((تاريخ الطبري)) (4/ 553). (6) [9753] ((تاريخ الطبري)) (4/ 551).، وانظر: سند الرواية عن هشام عن أشياخه (4/ 547) من المصدر نفسه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233 المطلب الثاني: المصنفات الشيعية (أ) وقعة صفين: وهو أحد كتب نصر بن مزاحم المنقري الكوفي المتوفي سنة 212هـ، وله كتب أخرى أمثال: (الغارات) كتاب (الجمل) (مقتل حجر ابن عدي)، (مقتل الحسين بن علي (1). ونصر بن مزاحم هذا من أعلام الشيعة الغالين، قال فيه العقيلي: كان يذهب إلى التشيع وفي حديثه اضطراب وخطأ كثير، ثم ساق له نموذجا يمثل انحرافه في المرويات في تفسير قوله تعالى: وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر: 33]. قال نصر: الذي جاء بالصدق محمد، والذي صدق به علي، ثم علق العقيلي على ذلك بقوله: وهذا لا يتابع عليه (2). كما ترجم له الخطيب في تاريخه، ونقل طرفا من أقوال العلماء فيه، فعن الجوزجاني قوله: كان نصر زائغاً عن الحق مائلاً، ثم علق الخطيب بقوله: أراد بذلك غلوه في الرفض، كما أنه نقل عن صالح بن محمد قوله: نصر بن مزاحم روى عن الضعفاء أحاديث مناكير، وعن الحافظ أبي الفتح محمد بن الحسين قوله: نصر بن مزاحم غال في مذهبه (3) , وقال عنه الذهبي: رافضي جلد تركوه، ثم نقل عن أبي خيثمة: كان كذّاباً. وعن أبي حاتم: واهي الحديث متروك، وقال الدارقطني: ضعيف (4). كما ذكره ابن عدي في الضعفاء وساق عدداً من أحاديث رواها، ثم علق ابن عدي بقوله: " وهذه الأحاديث لنصر بن مزاحم مع غيرها مما لم أذكرها عمن رواها عامتها غير محفوظة " (5). نماذج من وقعة صفّين: ومن مروياته أسوق النماذج التالية: نقل أو اختلق صاحب (وقعة صفين) خطبة علي حين عزم على الخروج إلى صفين، وكان مما جاء فيها:" سيروا إلى أعداء السنن والقرآن، سيروا إلى بقية الأحزاب، قتلة المهاجرين والأنصار .. " (6). وفي خطبة أخرى لا تقل سوءا عن سابقتها ينسب نصر بن مزاحم إلى علي أن سبب امتناع معاوية عن البيعة إنما كان ثأراً لدماء في الجاهلية إذ يقول: " ثم التفت – يعني علياً – إلى الناس فقال: فكيف يبايع معاوية علياً وقد قتل أخاه حنظلة، وخاله الوليد، وجدّه عتبة في موقف واحد، والله ما أظن أن يفعلوا، ولن يستقيموا لكم دون أن نقصد فيه المرّان، وتقطع على هامتهم السيوف وتشرحوا حواجبهم بعمد الحديد، وتكون أمور جمة بين الفريقين (7). وحاشا علياً أن يقول مثل ذلك، وقاتل الله داء النزعة المذهبية وتلك آثارها. وفي رواية ثالثة يصوّر – صاحب (وقعة صفين) – معاوية رجلا محتالاً يبحث عن رجال يتحدثوا له في مسبّة علي ويقول: " لما قدم عبيد الله بن عمر بن الخطاب على معاوية بالشام أرسل معاوية إلى عمرو بن العاص فقال: إن الله قد أحيا لك " عمر " بالشام بقدوم " عبيد الله " وقد رأيت أن أقيمه خطيبا فيشهد على علي بقتل عثمان وينال منه، فقال: الرأي ما رأيت، فبعث إلى عبيد الله فأتاه فقال له معاوية: يا ابن أخي إن لك اسم أبيك فانظر بملء عينيك وتكلم بكل فيك فاصعد المنبر واشتم علياً واشهد عليه أنه قتل عثمان ". فاقتنع بذلك، ولكنه حينما صعد المنبر وبدا له غير ذلك، وأحجم عن الحديث عن علي هجره معاوية واستخف بحقه وفسقه!! (8). ولنصر في وقعة صفين مرويات غير هذه، وهي تخرج من مشكاته.   (1) [9754] انظر: محمد السلمي: ((منهج كتابة التاريخ الإسلامي)) (ص 489). (2) [9755] ((الضعفاء الكبير)) (4/ 300). (3) [9756] ((تاريخ بغداد)) (13/ 283). (4) [9757] ((الميزان)) (4/ 235، 254). (5) [9758] ((الكامل في ضعفاء الرجال)) (7/ 2502). (6) [9759] نصر بن مزاحم: ((وقعة صفين)) (ص 94). (7) [9760] ((وقعة صفين)) (ص 102). (8) [9761] ((وقعة صفين)) (ص82). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 234 وفوق ذلك نقل عنه الطبري في تاريخه روايات لا تقف عند سب معاوية واتهامه وحده، بل تشمل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وطلحة، وأبا موسى الأشعري, وغيرهم من الصحابة أجمعين، وحتى علي لم يسلم من أذاه. فهو يرى – في إحدى رواياته – أن دم عثمان ثلاثة أثلاث: ثلث على صاحبة الهودج – يعني عائشة – وثلث على صاحب الجمل الأحمر – يعني طلحة - وثلث على علي بن أبي طالب (1). بل ينسب إلى عائشة ما هو أكبر من ذلك فقد روى أنها قالت: اقتلوا نعثلا – تعني عثمان – فقد كفر؟! (2). أما أبو موسى فعداده في المنافقين في مرويات " نصر" حيث ينقل على لسان " الأشتر ": أنه قال له: فوالله إنك لمن المنافقين قديما، ثم أمره الأشتر بالخروج من القصر، وأن الناس دخلوا ينتهبون متاع أبي موسى حتى منعهم الأشتر فكفوا عنه!! (3). (ب) تاريخ المسعودي (مروج الذهب) وهو نموذج آخر للمصنفات الشيعية التي مزخر بالمرويات الواهية، وتشيع المسعودي وانحرافه في الكتابة التاريخية وبخاصة تاريخ الصحابة غير خاف على العلماء قديما وحديثا. فابن العربي المتوفي سنة 543هـ حذر منه في كتابه القيّم: (العواصم من القواصم) في عاصمة: " الاحتراز من المفسرين والمؤرخين وأهل الآداب حيث نسبهم إلى الجهالة بحرمات الدين، أوهم على البدعة مصرين (4) إلى أن قال: ومن أشد شيء على الناس جاهل عاقل أو مبتدع محتال (5) إلى أن قال: " وأما المبتدع المحتال فالمسعودي، فإنه يأتي منه متاخمة الإلحاد فيما روى من ذلك، وأما البدعة فلا شك فيه " (6). وكثيرا ما ينعي ابن العربي على بعض أرباب التاريخ ويصفهم ب " الطائفة التاريخية الركيكة " (7). وهم الذين يصفون بعض الصحابة بالبلاهة والضعف والخداع، ولعل "المسعودي " في عداد هؤلاء عند " ابن العربي ". وكيف لا يكون كذلك وابن العربي يتحدث عن الذين ينشئون أحاديث فيها استحقار الصحابة والسلف، والاستخفاف بهم واختراع الاسترسال في الأقوال والأفعال عنهم، وخروج مقاصدهم عن الدين إلى الدنيا، وعن الحق إلى الهوى (8) ثم يتحدث بعد ذلك عن المسعودي. أما بن تيمية فقد قال: " وفي تاريخ المسعودي من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله تعالى (9). كما تعرض الحافظ ابن حجر لنقد المسعودي وكتبه فقال: " وكتبه طافحة بأنه كان شيعياً معتزلياً حتى أنه قال في حق ابن عمر أنه امتنع من بيعة علي بن أبي طالب ثم بايع بعد ذلك يزيد بن معاوية والحجاج لعبد الملك بن مروان، وله من ذلك أشياء كثيرة " (10). أما ابن خلدون فقد ترددت عباراته عن المسعودي بين القدح والمدح، والإعجاب والذم، ففي بداية حديثه في " المقدمة" ذكر وهو يتحدث عن مشاهير المؤرخين ما في كتب المسعودي من المطاعن والمغامز فقال:   (1) [9762] ((تاريخ الطبري)) (4/ 465). (2) [9763] ((تاريخ الطبري)) (4/ 459). (3) [9764] ((تاريخ الطبري)) (4/ 487). (4) [9765] هذا القول من ابن العربي – رحمه الله – ليس على إطلاقه فهناك من أصحاب هذه الفنون أئمة موثُقُون، ويكفي أن يستثني ابن العربي من هؤلاء الإمام الطبري فحسب، فهناك غيره على شاكلته، بل لقد أجاد المحقق " محب الدين الخطيب " حين لفت النظر إلى أن في تاريخ الطبري من الأخبار الواهية ما لا يقبل وقد أبان عنه الطبري في مقدمته، والمعول في ذلك على دراسة الأسانيد ونقد المتون سواء أكان عند الطبري أم غيره. (5) [9766] ((العواصم من القواصم)) تحقيق محب الدين الخطيب (ص 248). (6) [9767] ((العواصم من القواصم)) (ص 249). (7) [9768] (المصدر نفسه) (ص 174). (8) [9769] (المصدر نفسه) (ص248). (9) [9770] ((منهاج السنة)) (2/ 163). (10) [9771] ((لسان الميزان)) (4/ 225). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 235 " وإن كان في كتب المسعودي والواقدي من الطعن والغمز ما هو معروف عند الأثبات ومشهور بين الحفظة الثقات " (1). ثم ذكر ابن خلدون نماذج من الوهم والخطأ في تاريخ المسعودي (2). وفي موطن آخر يشير " ابن خلدون " إلى نوع من أنواع التأليف في التاريخ، هو ذكر الأحوال العامة للآفاق والأخبار والأعصار، ثم قال: فذلك أسّ للمؤرخ، ومثل ذلك بمروج الذهب للمسعودي، قال: إن المسعودي بذلك صار إماماً للمؤرخين يرجعون إليه، وأصلا يعولون في تحقيق الكثير من أخبارهم عليه (3). والذي يظهر أن مدح ابن خلدون للمسعودي لعموم منهجه، وشموله في كتابه لأحداث المشرق والمغرب، والعرب والعجم، ووصفه الجبال والبلدان والبحار، والممالك والدول، وهذا حق، لكن فرق بين هذا وبين تحقيق الروايات والبعد عن السواقط والمنكرات، وهو ما نحن بصدده (4). ومن الباحثين المحدثين يؤكد الدكتور السويكت على الميول الشيعية القوية عند المسعودي (5)، وعلى تعاطفه العلوي في معالجته التاريخ الإسلامي وأثرها على أحكامه على الرغم من محاولته الظهور بالمؤرخ الحيادي المصنف! (6). وأنه خدم التشيع جيداً وبطريقة تخفى على كثير من الناس (7). وأن ما دونه في مؤلفاته من معلومات عن التاريخ الإسلامي الأول لم يكن محل رضا من العلماء المسلمين المحققين، بسبب عدم التزامه في بالمنهج الإسلامي القويم الذي يحفظ لصحابة رسول الله مكانتهم في النفوس (8). كما يلاحظ أن نزعة المسعودي الشيعية قد أثرت على كتابته في تاريخ الخلفاء الراشدين والأمويين، ولم يستطع أن يكتب تاريخا مجردا من الهوى (9). وبعد: فقد آن الأوان لنقل بعض مرويات المسعودي التي لم تكن ولن تكون محل رضا العلماء المسلمين والباحثين المنصفين. نماذج لروايات في كتاب المسعودي (مروج الذهب) إذا كان للمسعودي عدد من المصنفات في التاريخ (10) فحسبنا في هذه الدراسة أن نقف على واحد من أشهر كتبه وأكثرها رواجا وهو " مروج الذهب ". وقبل نقل المرويات يسجل على المسعودي في " مروج الذهب" الملاحظات التالية:1) اختصر الحديث في خلافة أبي بكر الصديق اختصارا مخلا، حيث لم يتجاوز حديثه ثماني صفحات قال في نهايتها معللا ذلك: وقد أعرضنا عن ذكر كثير من الأخبار في هذا الكتاب للاختصار والإيجاز (11). ولا أدري لماذا يكون الاختصار هنا، بينما في خلافة علي تبلغ ثمانين صفحة، ومع ذلك يعتذر في النهاية عن حصر مناقب علي وفضائله معللا ذلك بعرضه في كتب أخرى (12).2) ليس ذلك فحسب بل الأدعى من ذلك أن المتأمل بالتمرد الندم على قبول الخلافة (13). وهو لم يقبلها إلا خشية الفتنة (14).   (1) [9772] ((مقدمة ابن خلدون)) (ص 4). (2) [9773] ((مقدمة ابن خلدون)) (ص10، 12). (3) [9774] ((مقدمة ابن خلدون)) (ص 32). (4) [9775] وهذا الرأي الذي أراه هو ما استلمحه من رأي الدكتور سليمان السويكت في كتابه: منهج المسعودي في كتابه ((التاريخ)) (ص 442). (5) [9776] سليمان السويكت: ((منهج المسعودي في كتابه التاريخ)) (ص 74، 358). (6) [9777] ((منهج المسعودي في كتابه التاريخ)) (ص 397، 359). (7) [9778] ((منهج المسعودي في كتابه التاريخ)) (ص 400). (8) [9779] ((منهج المسعودي في كتابه التاريخ)) (ص 444). (9) [9780] ((منهج المسعودي في كتابة التاريخ)) (ص 368). (10) [9781] انظر: السويكت: ((منهج المسعودي في كتابة التاريخ)) – الفصل الخامس: المسعودي مؤرخا – (ص 305). (11) [9782] ((مروج الذهب)) (2/ 310). (12) [9783] ((مروج الذهب)) (2/ 437). (13) [9784] ((مروج الذهب)) (2/ 308). (14) [9785] ((مروج الذهب)) (2/ 307). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 236 وإشارة المسعودي – في معرض حديثه عن خلافة أبي بكر – إلى إمامة المفضول (1) يؤكد ذلك كله؟! 3) يصف المسعودي نهاية عمر وعثمان بالقتل (2) ونهاية علي بالاستشهاد (3).4) تعدى المسعودي وتجاوز في حديثه على كثير من الصحابة الذين كانت لهم مواقف مع علي، ووصفهم بما لا يليق بمكانتهم، كطلحة والزبير، وعائشة، ومعاوية أجمعين (4). نماذج من كتابة المسعودي في (المروج) النموذج الأول: التهكم بمعاوية ومن معه؟ يقول المسعودي (5): وبلغ – يعني معاوية- من إحكامه للسياسة وإتقانه لها واجتذابه قلوب خواصه وعوامه أن رجلا من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشق في حالة منصرفهم عن صفين فتعلق به رجل من دمشق فقال: هذه ناقتي أخذت مني بصفين، فارتفع أمرهما إلى معاوية، وأقام الدمشقي خمسين رجلا بينة يشهدون أنها ناقته، فقضى معاوية على الكوفي، وأمره بتسليم البعير إليه، فقال الكوفي: أصلحك الله إنه جمل وليس بناقة، فقال معاوية: هذا حكم قد مضى، ودس إلى الكوفي بعد تفرقهم فأحضره وسأله عن ثمن بعير فدفع إليه ضعفه، وبرّه وأحسن إليه، وقال له: أبلغ علياً أني أقاتله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل. ثم يتمادى المسعودي – في بقية ورايته – بالتهكم والسخرية بمعاوية واستغفال من معه إلى درجة يقول معها: وقد بلغ من أمرهم في طاعتهم له أنه صلّى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء؟! إلى أن يقول: ثم ارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن جعلوا لعن علي سنة ينشأ عليها الصغير ويهلك عليها الكبير! (6). ثم يقول السمعودي: وذكر بعض الإخباريين أن قال لرجل من أهل الشام من زعمائهم وأهل الرأي والعقل منهم: من أبو تراب هذا الذي يلعنه الإمام على المنبر؟ قال: أراه لصاً من لصوص الفتن (7). النموذج التالي: بين معاوية والحسن (رضي الله عنهما) ومع أن الحسن بن علي رضي الله عنهما صالح معاوية، وتنازل له عن الخلافة، وحقق بذلك نبوءة النبي حيث قال: ((إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين) (8). وباركت الأمة هذه الخطوة، وأكبرت للحسن صنيعه، وخرج المعتزلون للفتنة من الصحابة وبايعوا معاوية وسمي العام عام الجماعة لاجتماع الناس وانقطاع الحرب (9). إلا أن الرافضة لم ترض بذلك، وبات علماؤهم يسردون روايات ساقطة في الوقيعة بين الحسن ومعاوية. فالمسعودي يذكر– مثلا– أن معاوية وراء قتل الحسن بن علي وأنه دسّ إلى زوجته " جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي " إنك إن احتلت في قتل الحسن وجهت إليك بمائة ألف درهم، وزوجتك من يزيد، فكان ذلك الذي بعثها على سمّه (10)   (1) [9786] ((مروج الذهب)) (2/ 311). (2) [9787] ((مروج الذهب)) (2/ 329، 355). (3) [9788] انظر: ((منهج المسعودي في كتابة التاريخ)) (ص 359) = ولم أقف على ذلك في حديث المسعودي عن علي، بل ذكر مقتل أمير المؤمنين علي (2/ 423). (4) [9789] انظر: ((منهج المسعودي في كتابة التاريخ)) (ص 260). (5) [9790] ((مروج الذهب)) (3/ 41 - 42). (6) [9791] ((مروج الذهب)) (3/ 43). (7) [9792] يلاحظ أن المسعودي في كتابه لا يستخدم الإسناد في الروايات، وإنما يكتفي قال المسعودي، وذكر بعض الإخباريين أو نحوها من العبارات. (8) [9793] رواه البخاري (2704). (9) [9794] ابن حجر: ((الفتح)) (13/ 63). (10) [9795] ((مروج الذهب)) (3/ 5). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 237 وثمة رواية أخرى ينقلها المسعودي وعزوها إلى ابن جرير الطبري ويسندها إلى محمد بن حميد الرازي وفيها سرور معاوية حين بلغه موت الحسن، وأنه كبرتكبيرة كبر معه أهل الخضراء، ثم كبر أهل المسجد بتكبيرهم، وأن ابن عباس حين بلغه ذلك دخل على معاوية فقال: علمت يا ابن عباس أن الحسن توفي، قال: ألذلك كبرت؟ قال: نعم، قال: أما والله ما موته بالذي يؤخر أجلك ولا حفرته بسادة حفرتك، ولئن أصبنا به فلقد أصبنا قبله بسيد المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين ثم بعده بسيد الأوصياء، فجبر الله تلك المصيبة، ورفع تلك العترة، فقال: ويحك يا ابن عباس ما كلمتك قط إلا وجدتك معداً (1). وهكذا يبدو النفس الشيعي واضحاً في هذه الرواية، فالحسن وابن عباس في جانب، ومعاوية في جانب آخر، وفوق ذلك فعلي يحشر في الرواية حشراً، ويوصف بسيد الأوصياء!! ومعاوية لا يسر فحسب بموت الحسن ويخفي ذلك في نفسه، بل يعلنه على الملأ، وتتلاقى تكبيرات أهل الخضراء وأهل المسجد مع تكبيراته، أذلك لانتصار المسلمين في معركة، أم تراه لهلاك طاغية؟! كلا وإنما فرحاً بموت سبط رسول الله؟ سبحانك هذا بهتان عظيم!! وبعد فهذه نماذج مختصرة أكتفي بإيرادها، وأقتصر بها عما سواها من نماذج، لأن هذه الدراسة لا تهدف إلى حصر الرواة الشيعة وليس القصد منها جمع المرويات الشيعية وإنما القصد الإبانة عن هذه النزعة وأثرها في الكتابة التاريخية، والتمثيل لها القدر الذي يكشف للقارئ وجودها وخطرها، ويهديه بعد إلى تتبع نظائرها، ورصد مثيلاتها، والتعرف على أصحابها، وأرجو أن تكون حلقة في سلسلة لدراسات أوسع، وبداية لبحوث أعمق في هذا الميدان، فليس ينقصنا في الدراسات التاريخية جمع النصوص والتأليف بينها. وإنما الذي نحتاج إليه كشف مخبئ النصوص ومعرفة من وراءها، وتتبع عورات بعض الرواة والكشف عن مناهجهم ونزعاتهم وأثر ذلك على مروياتهم، وهذا وذاك من الوسائل الناجعة لإعادة كتابة تاريخنا، وهو المنهج الأقوم والأسلوب الأمثل لرسم الصورة الحقيقية لحضارتنا وتاريخ أسلافنا. والله من وراء القصد وصلى الله على نبينا محمد. المصدر: نزعة التشيع وأثرها في الكتابة التاريخية لسليمان بن حمد العودة   (1) [9796] ((مروج الذهب)) (3/ 8). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 238 المبحث السادس: تناقض كتب الشيعة الإمامية الاثني عشرية إن الكتب الرئيسة التي تعتبر مصادر الأخبار عند الاثني عشرية هي ثمانية يسمونها: "الجوامع الثمانية"، كما في (مفتاح الكتب الأربعة: 1/ 5). ويقولون: بأنها هي المصادر المهمة للأحاديث المروية عن الأئمة، كما في (أعيان الشيعة): (1/ 288) (مفتاح الكتب الأربعة): (1/ 5). قال عالمهم المعاصر محمد صالح الحائري: "وأما صحاح الإمامية فهي ثمانية، أربعة منها للمحمدين الثلاثة الأوائل، وثلاثة بعدها للمحمدين الثلاثة الأواخر، وثامنها لحسين - المعاصر - النوري" (الحائري/ "منهاج عملي للتقريب "مقال نشر في مجلة رسالة الإسلام في القاهرة، كما نشر مع مقالات أخرى منتخبة من المجلة باسم "الوحدة الإسلامية" (ص: 233). أول هذه المصادر وأصحها عندهم (الكافي) انظر في التعريف بالكافي: (الذريعة): (17/ 245) النوري/ (مستدرك الوسائل): (3/ 432) (مقدمة الكافي) (الحر العاملي) / (وسائل الشيعة): (20/ 71) وقد أشارت هذه المصادر إلى أن هذا الكتاب أصح الكتب الأربعة المعتمدة عندهم، وأنه كتبه في فترة الغيبة الصغرى التي بواسطتها يجد طريقاً إلى تحقيق منقولاته ... ، مع أنه الكتاب الوحيد من بين الكتب الأربعة الذي ورد فيه أساطير الطعن في كتاب الله، وبلغت أحاديث الكافي كما يقول العاملي: (16099) حديثاً (أعيان الشيعة): (1/ 280) وقد طبع عدة طبعات، وشرحه عدد من شيوخهم، وقد رأيت من شروحه: مرآة العقول للمجلسي، وقد اعتنى بالحكم على أحاديث (الكافي) من ناحية الصحة والضعف ... وقد صحح روايات هي كفر بإجماع المسلمين كروايات تحريف القرآن. كما اطلعت أيضاً على شرح المازندراني للكافي المسمى (شرح جامع) وكذلك (الشافي شرح أصول الكافي). لمحمد بن يعقوب الكليني، ثم كتاب: (من لا يحضره الفقيه) انظر في التعريف بهذا الكتاب: الخوانساري/ (روضات الجنات): (6/ 230 - 237) و (أعيان الشيعة): (1/ 280) مقدمة (من لا يحضره الفقيه) وقد اشتمل على (176) باباً أولها باب الطهارة وآخرها باب النوادر، وبلغت أحاديثه (9044) وقد ذكر في مقدمة كتابه أنه ألفه بحذف الأسانيد لئلا تكثر طرقه، وأنه استخرجه من كتب مشهورة عندهم وعليها المعول، ولم يورد فيه إلا ما يؤمن بصحته). لشيخهم المشهور عندهم بالصدوق محمد بن بابويه القمي (المتوفي سنة 381هـ‍). ثم (تهذيب الأحكام) انظر في التعريف به: النوري الطبرسي/ (مستدرك الوسائل) (4/ 719) (الذريعة): (4/ 504) مقدمة (تهذيب الأحكام). وقد ألفه لمعالجة التناقض والاختلاف الواقع في رواياتهم، وبلغت أبوابه (393) باباً، أما عدد أحاديثه فسيأتي الحديث عنها، و (الاستبصار) ويقع الكتاب في ثلاثة أجزاء، جزآن منه في العبادات، والثالث في بقية أبواب الفقه، وبلغت أبوابه (393) باباً، وحصر المؤلف أحاديثه بـ (5511) وقال: حصرتها لئلا يقع زيادة أو نقصان، وقد جاء في الذريعة أن أحاديثه (6531) وهو خلاف ما قاله المؤلف. (انظر: (الذريعة): (2/ 14) (أعيان الشيعة): (1/ 280) حسن الخرسان، في تقديمه للاستبصار) كلاهما لشيخهم المعروف بـ"شيخ الطائفة" أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (المتوفي سنة 360هـ‍). قال شيخهم الفيض الكاشاني (المتوفي سنة 1091هـ): "إن مدار الأحكام الشرعية اليوم على هذه الأصول الأربعة، وهي المشهود عليها بالصحة من مؤلفيها" (الوافي): (1/ 11). وقال أغا بزرك الطهراني - من مجتهديهم المعاصرين - وهي: "الكتب الأربعة والمجاميع الحديثية التي عليها استنباط الأحكام الشرعية حتى اليوم" (الذريعة): (2/ 14). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 239 هذه هي المصادر الأربعة المتقدمة عندهم، ثم ألف شيوخهم في القرن الحادي عشر وما بعده مجموعة من المدونات ارتضى المعاصرون منها أربعة سموها بالمجاميع الأربعة المتأخرة وهي: (الوافي) ويقع في 3 مجلدات كبار، وطبع في إيران، وبلغت أبوابه (273) باباً، وقال شيخهم محمد بحر العلوم - من المعاصرين - بأنه يحتوي على نحو خمسين ألف حديث. (لؤلؤة البحرين) "الهامش" (ص122) بينما يذكر محسن الأمين بأن مجموع ما في الكتب (44244) حديثاً (أعيان الشيعة): (1/ 280) لشيخهم محمد بن مرتضى المعروف بملا محسن الفيض الكاشاني (المتوفي سنة 1091هـ‍) و (بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار) , قالوا: بأنه أجمع كتاب في الحديث، جمعه مؤلفه من الكتب المعتمدة عندهم. انظر في التعريف به: (الذريعة): (3/ 27) (أعيان الشيعة): (1/ 293) لشيخهم محمد باقر المجلسي (المتوفي سنة 1110 أو 1111هـ‍)، و (وسائل الشيعة) هو أجمع كتاب لأحاديث الأحكام عندهم، جمع فيه مؤلفه رواياتهم عن الأئمة من كتبهم الأربعة التي عليها المدار في جميع الأعصار - كما يقولون - وزاد عليها روايات أخذها من كتب الأصحاب المعتبرة تزيد على 70 كتاباً، كما ذكر صاحب الذريعة، ولكن ذكر الشيرازي في مقدمة الوسائل بأنها تزيد على (180) ولا نسبة بين القولين، وقد ذكر الحر العاملي أسماء الكتب التي نقل عنها فبلغت - كما حسبتها - أكثر من ثمانين كتاباً، وأشار إلى أنه رجع إلى كتب غيرها كثيرة، إلا أنه أخذ منها بواسطة من نقل عنها (طبع في ثلاثة مجلدات عدة مرات، ثم طبع أخيراً بتصحيح وتعليق بعض شيوخهم في عشرين مجلداً). الشيرازي (مقدمة الوسائل) (أعيان الشيعة): (1/ 292 - 293) (الذريعة): (4/ 352 - 353) الحر العاملي (وسائل الشيعة): (1/ 4 - 8)، (20/ 36 - 49) إلى تحصيل مسائل الشريعة تأليف شيخهم محمد بن الحسن الحر العاملي (المتوفي سنة 1104هـ‍)، و (مستدرك الوسائل) قال أغا بزرك الطهراني: "أصبح كتاب (المستدرك) كسائر المجاميع الحديثية المتأخرة في أنه يجب على المجتهدين الفحول أن يطلعوا عليها ويرجعوا إليها في استنباط الأحكام، وقد أذعن بذلك جل علمائنا المعاصرين" (الذريعة): (2/ 110 - 111) ثم استشهد ببعض أقوال شيوخهم المعاصرين باعتماد المستدرك من مصادرهم الأساسية (الذريعة): (2/ 111). ولكن يبدو أن بعض شيوخهم لم يوافق على ذلك فنجد صاحب (أحسن الوديعة) ينتقد بشدة هذا الكتاب ويقول بأنه: "نقل منه عن الكتب الضعيفة الغير معتبرة ... والأصول الغير ثابتة صحة نسخها، حيث إنها وجدت مختلفة النسخ أشد الاختلاف"، ثم قال بأن: أخباره مقصورة على ما في البحار، وزعها على الأبواب المناسبة للوسائل، كما قابلته حرفاً بحرف محمد مهدي الكاظمي (أحسن الوديعة) (ص 74) لحسين النوري الطبرسي (المتوفي سنة 1320هـ‍). إثبات زيف الكتب الثمانية: هناك كتب كثيرة عندهم قالوا: إنها في الاعتبار والاحتجاج كالكتب الأربعة، كما ذكر ذلك المجلسي في مقدمة (بحاره) انظر: (‍1/ 26) قال المجلسي بأن: كتب الصدوق ما عدا خمسة فيها لا تقصر في الاشتهار عن الكتب الأربعة (نفس الموضع من المرجع السابق). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 240 وقال: "وكتاب (بصائر الدرجات) من الأصول المعتبرة التي روى عنها الكليني وغيره". (المرجع السابق) (1/ 27) وهكذا قال في عدد كبير من كتبهم. والحر العاملي في الوسائل انظر: (وسائل الشيعة): (ج‍20, الخاتمة) وكما نجد ذلك في مقدمات تلك الكتب. ويبدو أن تخصيص ما سلف بالذكر، إما لأنها مجاميع كبيرة، أو قد يكون لمجرد محاكاة أهل السنة وللدعاية المذهبية، ومما يوضح ذلك أنهم اعتبروا مثلاً من المجاميع الثمانية المتقدمة كتاب (الوافي) وعدوه أصلاً مستقلاً، مع أنه عبارة عن جمع لأحاديث الكتب الأربعة المتقدمة (الكافي والتهذيب والاستبصار ومن لا يحضره الفقيه) فكيف يعد أصلاً خامساً، ومستقلاً، وهو تكرار لأحاديث الكتب الأربعة؟! وكذلك اعتبروا (الاستبصار) للطوسي مصدراً مستقلاً من المصادر الأربعة المتقدمة، وهو لا يعدو أن يكون اختصاراً لكتاب (تهذيب الأحكام) للطوسي، كما صرح بذلك الطوسي في مقدمة (الاستبصار): (1/ 2 - 3) وكما يبدو واضحاً لمن شاء المقارنة بين الكتابين، فالدعاية المذهبية واضحة في صنيعهم هذا ... وتجد أن (بحار الأنوار) وضعه مؤلفه في خمس وعشرين مجلداً، ولما كبر المجلد الخامس والعشرين جعل شطراً منه في مجلد آخر فصار المجموع (26) مجلداً، انظر: (الذريعة): (3/ 27) فقام المعاصرون وزادوا فيه كتباً ليست من وضع المؤلف كـ (جنة المأوى) للنوري الطبرسي، و (هداية الأخبار) للمسترحمي، ومجلدات في الإجازات ليبلغوا به في طبعة جديدة مائة وعشرة مجلدات تبدأ من الصفر, حيث إن المجلد الأول يحمل رقم صفر!. كلون من المظاهر الثقافية الشكلية، والدعاية المذهبية. وهم مغرمون بهذا الاتجاه الدعائي, وتجد أن مجموعة كبيرة منهم تكلف بالكتابة في موضع "ما"، ويصرف لها المرتبات من الحوزات العلمية، فإذا انتهى العمل نسب لواحد منهم أو لأحد شيوخهم كأنه هو الذي قام بهذا العمل الذي لا يقوم به إلا جمع من الناس، كما يلاحظ ذلك في كتاب (الغدير) وغيره، ولهم هوس في ادعاء السبق، حيث تجد في كتاب (الشيعة وفنون الإسلام) بأن للشيعة السبق في كل علم، مع أن الروافض لم يعرف عنهم شيء من هذا إلا ما أخذوه عن أهل السنة، ولهم مفردات تفضح أمرهم، وترى في أعيان الشيعة للعاملي احتسابه لكثير من أئمة أهل السنة من طائفته لمجرد ما يذكر في تراجمهم من وجود ميل للتشيع عندهم، وهو أمر لا يدخلهم في مسلك الروافض، إذ محبة أهل البيت الحقيقية هي في أهل السنة أكثر من الرافضة. أما موضوع هذه المدونات فإن (التهذيب) و (الاستبصار) و (من لا يحضره الفقيه) و (وسائل الشيعة) و (مستدرك الوسائل) كلها في الفقه، وكذلك (الكافي) فإن المجلدين الأول والثاني في الأصول وسائر المجلدات الباقية في الفقه وهو مما يسمى (فروع الكافي). ويلاحظ التشابه في كثير من مسائلهم الفقهية مع أهل السنة؛ مما يؤكد ما يقول بعض أهل العلم من أخذهم لذلك من أهل السنة انظر: (منهاج السنة النبوية): (3/ 246) ولهم مفردات غريبة، ومسائل منكرة لا تخطر على البال تستحق أن يكتب فيها تأليف خاص، وقد جمع جزءاً منها شيخهم المرتضى في كتاب سماه (الانتصار) وقد وقفت عليه في طبعته الأخيرة (1405هـ‍، دار الأضواء، بيروت) وقد طبع قبل ذلك ضمن الجوامع الفقهية بطهران سنة (1267هـ‍) ومستقلاً سنة (1315هـ‍) ويسمى: (مسائل الانفرادات في الفقه) (لؤلؤة البحرين) (ص 320). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 241 وقد نقل ابن عقيل الحنبلي بعض هذه المسائل، وهو يتعجب منها، وقد سجلها ابن الجوزي في المنتظم (المنتظم): (8/ 120) من خط ابن عقيل، كما أشار إليها في الموضوعات بقوله: "ولقد وضعت الرافضة كتاباً في الفقه وسموه (مذهب الإمامية) وذكروا فيه ما يخرق إجماع المسلمين بلا دليل أصلاً (الموضوعات): (1/ 338). أما بالنسبة للقسم الباقي من هذه المدونات وهي (أصول الكافي) و (بحار الأنوار) فهي تتعلق بمسائل: التوحيد، والعدل، والإمامة ... وأكثر ما فيها يدور حول عقائدهم وآرائهم في الإمامة والأئمة الاثني عشر والنص عليهم، وصفاتهم، وأحوالهم، وزيارة قبوهم، والحديث عن أعدائهم، وعلى رأسهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونلحظ أن كل شيء - في الغالب - يدور في فلك الإمامة والأئمة. والقارئ لهذه الأحاديث في هذه المدونات وغيرها من كتب الرواية عندهم يجد أن هناك فرقاً واضحاً وكبيراً بين الروايات التي ترد عن طريق أهل السنة ويطلق عليها الحديث، وبين الروايات التي ترد عن طريق الشيعة ويطلق عليها اللفظ نفسه، فكتب السنة الستة وغيرها إذا روت حديثاً فهو منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي أحاديثه هو. أما كتب الحديث عند الشيعة فهي تأتي بالرواية عن أحد أئمتهم الاثني عشر ويعتقدون - كما مر - أن لا فرق بين ما يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أحد أئمتهم. كما أن القارئ لكتب الحديث عندهم لا يجد إلا القليل النادر منها هو المسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر ما يروونه في (الكافي) واقف عند جعفر الصادق، وقليل منها يعلو إلى أبيه محمد الباقر، وأقل من ذلك ما يعلوا إلى أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - ونادراً ما يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. كما يلحظ أن مدوناتهم الأربع المتأخرة ألفت في القرن الحادي عشر وما بعده، وآخرها ألفه النوري الطبرسي (المتوفي سنة 1320هـ‍) وهو من معاصري الشيخ محمد عبده. وقد جمع فيه ثلاثة وعشرين ألف حديث عن الأئمة (الذريعة): (21/ 7). لم تعرف من قبل، فهي متأخرة عن عصور الأئمة بمئات السنين، فإذا كان هؤلاء قد جمعوا تلك الأحاديث عن طريق السند والرواية فكيف يثق عاقل برواية لم تسجل طيلة أحد عشر قرناً أو ثلاثة عشر قرناً!! وإذا كانت مدونة في كتب فلم يعثر على هذه الكتب إلا في القرون المتأخرة؟!! صرح بعض أصحاب هذه المدونات بأنه عثر على كتب لم تدون في كتبهم المعتمدة من قبل. يقول المجلسي: "اجتمع عندنا بحمد الله سوى الكتب الأربعة نحو مائتي كتاب، ولقد جمعتها في (بحار الأنوار) (اعتقادات المجلسي) (ص 24) مصطفى الشيبي/ (الفكر الشيعي) (ص61) وذكر شيخهم الحر العاملي بأنه توفر عنده أكثر من ثمانين كتاباً عدا الكتب الأربعة، وقد جمع ذلك في وسائل الشيعة" انظر: (الوسائل) ج‍1، المقدمة، و (الذريعة): (4/ 352 - 353). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 242 أما شيخهم المعاصر النوري الطبرسي فهو أيضاً قد عثر على كتب لم تدون من قبل رغم أنه من المعاصرين، يقول أغا بزرك الطهراني: "والدافع لتأليفه عثور المؤلف على بعض الكتب المهمة التي لم تسجل في جوامع الشيعة من قبل (الذريعة): (21/ 7) وجعلوا هذه الأحاديث المكتشفة والتي جمعها مستدرك الوسائل مما لا يستغنى عنه، قال آيتهم الخراساني - كما ينقل صاحب (الذريعة) - بأن الحجة للمجتهد في عصرنا هذا لا تتم قبل الرجوع إلى المستدرك، والاطلاع على ما فيه من الأحاديث" (الذريعة) (2/ 111) فهل يعني هذا أنه قبل تأليف (المستدرك) لا حجة عندهم في قول شيخهم؟! فانظر وتعجب ... وقد تستمر مسيرة الاكتشاف للكتب والروايات، ولم يجمع تلك الروايات متقدموهم، ولم لم تذكر تلك الكتب وتسجل في كتبهم القديمة؟! كيف لم يسجلها الكليني وهو بحضرة السفراء الأربعة سفراء المهدي؟! وقد سماه الكافي لأنه كاف للشيعة، وقد عرضه على مهديهم - بواسطة السفراء - فقال: كاف لشيعتنا – كما سلف، انظر: (مقدمة الرسالة) - بل إن الطوسي قال بأنه جمع في كتابه (تهذيب الأحكام) جميع ما يتعلق بالفقه من أحاديث أصحابهم وكتبهم وأصولهم، لم يتخلف عن ذلك إلا نادر قليل وشاذ يسير (الاستبصار): (1/ 2). فهل هذه الكتب وضعت فيما بعد في أيام الدولة الصفوية، ونسبت لشيوخهم الأوائل؟ هذا ليس ببعيد. بل إن كتبهم الأربعة الأولى لم تخل من دس وزيادة، وآية ذلك أن كتاب (تهذيب الأحكام) للطوسي بلغت أحاديثه (13950) حديثاً كما ذكر ذكر أغا بزرك الطهراني في الذريعة (الذريعة): (4/ 504) ومحسن العاملي في (أعيان الشيعة) (أعيان الشيعة): (1/ 288) وغيرهما من شيوخهم المعاصرين، في حين أن الشيخ الطوسي نفسه صرح في كتابه (عدة الأصول) بأن أحاديث (التهذيب) وأخباره تزيد على (5000) ومعنى ذلك أنها لا تصل إلا إلى (6000) في أقصى الأحوال، انظر: (الإمام الصادق): (ص485). فهل زيد عليها أكثر من الضعف في العصور المختلفة؟! الدليل المادي الملموس أمامنا يؤكد ذلك. وأيضا تراهم اختلفوا هل كتاب (الروضة) - وهو أحد كتب (الكافي) التي تضم مجموعة من الأبواب، وكل باب يتضمن عدداً كبيراً من الأحاديث - هل هو من تأليف الكليني أم مزيد فيما بعد على كتابه (الكافي)؟ (روضات الجنات): (6/ 188 - 176) فكأن أمر الزيادة شيء طبيعي ووارد في كل حال. بل الأمر أخطر من ذلك فإن شيخهم الثقة عندهم حسين بن حيدر الكركي العاملي (المتوفي سنة 1076هـ‍) قال: إن كتاب (الكافي) خمسون كتاباً بالأسانيد التي فيه لكل حديث متصل بالأئمة (المصدر السابق: 6/ 114) بينما نرى شيخهم الطوسي (المتوفي سنة 360هـ‍) يقول: كتاب (الكافي) مشتمل على ثلاثين كتاباً، أخبرنا بجميع رواياته الشيخ ... " (الفهرست): (ص161). فهل زيد على الكافي للكليني فيما بين القرن الخامس، والحادي عشر عشرون كتاباً؟ مع أن كل كتاب يضم عشرات الأبواب، وكل باب يشمل مجموعة من الأحاديث!! لعل هذا أمر طبيعي، فمن كذب على رسول الله والصحابة والقرابة فمن باب أولى أن يكذب على شيوخه ... ، وشواهد هذا الباب كثيرة .... نكتفي بهذا لمن كان له عقل .... ونتعرض في الدراسة التالية لمدى صحة الروايات في تلك الكتب. المصدر: مختصر من أصول مذهب الشيعة - د/ ناصر بن عبد الله القفاري الجزء: 5 ¦ الصفحة: 243 المبحث الأول: أقسام أخبار الشيعة أما أقسام أخبارهم فاعلم أن أصولهم عندهم أربعة: صحيح وحسن وموثق وضعيف. أما الصحيح: فكل ما اتصل رواته بالمعصوم بواسطة عدل إمامي. وعلى هذا فلا يكون المرسل والمنقطع داخلاً في الصحيح لعدم اتصالهما وهو ظاهر، مع أنهم يطلقون عليهما لفظ الصحيح، كما قالوا: روى ابن أبي عمير في الصحيح كذا وكذا. ولا يعتبرون العدالة في إطلاق الصحيح، فإنهم يقولون: رواية المجهول الحال صحيحة كالحسين بن الحسن بن أبان فإنه مجهول الحال نص عليه الحلي في "المنتهى" مع أنها مأخوذة في تعريفه. وكذا لا يعتبر عندهم كون الراوي إمامياً في إطلاق الصحيح فقد أهملوا قيود التعريف كلها. وأيضاً قد حكموا بصحة حديث من دعا عليه المعصوم بقول: أخزاه الله وقاتله الله، أو لعنه, أو حكم بفساد عقيدته, أو أظهر البراءة منه. وحكموا أيضًا بصحة روايات المشبّهة والمجسّمة ومن جوّز البداء عليه تعالى، مع أن هذه الأمور كلها مكفرة، ورواية الكافر غير مقبولة فضلاً عن صحتها، فالعدالة غير معتبرة عندهم وإن ذكروها في تعريف الصحيح، لأن الكافر لا يكون عدلاً البتة. وحكموا أيضاً بصحة الحديث الذي وجدوه في الرقاع التي أظهرها ابن بابويه مدعياً أنها من الأئمة. ورووا عن الخطوط التي يزعمون أنها خطوط الأئمة، ويرجحون هذا النوع على الروايات الصحيحة الإسناد عندهم. هذا حال حديثهم الصحيح الذي هو أقوى الأقسام الأخرى وأعلاها. وأما "الحسن" فهو عندهم ما اتصل رواته بالمعصوم بواسطة إمامي ممدوح من غير نص على عدالته. وعلى هذا فلا يكون المرسل والمنقطع داخلين في تعريف الحسن أيضاً. من أن إطلاقه عليهما شائع عندهم حيث صرح فقهاؤهم أن رواية زرارة في مفسد الحج إذا قضاه في عام آخر حسن، مع أنها منقطعة. ويطلقون لفظ الحسن على غير الممدوح حيث قال ابن المطهر الحلي طريق الفقيه إلى منذر بن جيفر حسن, مع أنه لم يمدحه أحد من هذه الفرقة. وأما (الموثق) ويُقال له: (القوي) أيضاً, فكل ما دخل في طريقه من نص الأصحاب على توثيقه مع فساد عقيدته وسلامة باقي الطريق عن الضعف، مع أنهم أطلقوا الموثق أيضاً على طريق الضعيف، كالخبر الذي رواه السكوني عن أبي عبد الله عن أمير المؤمنين، وكذا أطلقوا القوي على رواية نوح بن دراج وناجية بن أبي عمارة الصيداوي وأحمد بن عبد الله بن جعفر الحميري مع أنهم إمامية ولكنهم ليسوا بممدوحين ولا مذمومين. وأما (الضعيف) فكل ما اشتمل طريقه على مجروح بالفسق ونحوه أو مجهول الحال (1).واعلم أن العمل بالصحيح واجب عندهم اتفاقاً، مع أنهم يروون بعض الأخبار الصحيحة ولا يعملون بموجبها، كما روى زرارة عن أبي جعفر قال: إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: أطعموا الجدّة السُّدس ولم يفرض الله له شيئاً (2). وهذا خبر موثق. وروى سعد بن أبي خلف عن أبي الحسن الكاظم قال: سألته عن بنات الابن والجدة. فقال: للجدة السدس، والباقي لبنات الابن وهذا خبر صحيح عندهم، فهم يقولون ما لا يفعلون. ثم اعلم أن أكثر علماء الشيعة كانوا يعملون سابقاً بروايات أصحابهم بدون تحقيق وتفتيش، ولم يكن فيهم من يميز رجال الإسناد، ولا من ألّف كتاباً في الجرح والتعديل، حتى صنّف الكشي سنة أربعمائة تقريباً كتاباً في (أسماء الرجال وأحوال الرواة) وكان مختصراً جداً لم يزد الناظر فيه إلا تحيراً. لأنه أورد فيه أخباراً متعارضة في الجرح والتعديل ولم يمكنه ترجيح أحدها على الآخر (3). ثم تكلم الغضائري في الضعفاء والنجاشي وأبو جعفر الطوسي في الجرح والتعديل وصنفوا فيه كتباً طويلة. ولكنهم أهملوا فيها توجيه التعارض بالمدح والقدح ولم يتيسر لهم ترجيح أحد الطرفين، ولهذا منع صاحب (الدراية) تقليدهم في باب الجرح والتعديل. المصدر: أخبار الشيعة وأحوال رواتها لمحمود شكري الألوسي تحقيق وتعليق محمد مال الله   (1) ((الدراية)) (24). (2) ((الكافي)) (7/ 114)، ((التهذيب)) للطوسي (9/ 211)، وانظر: ((دعائم الإسلام)) للقاضي النعمان (2/ 278)، ((من لا يحضره الفقيه)) (4/ 281)، ((الاستبصار)) (4/ 162). (3) وهذا دأب علماء الرجال عند الشيعة، ولم ينفرد الكشي بإيراد المتناقضات في الرجل الواحد، والمشكلة لمتتبع التراجم في كتب الشيعة أنه ما من ذم يرد في رجل ممدوح عندهم إلا قالوا إن هذا الكلام ورد مورد تقيّة ليدفعوا عنه تهمة التشيع ولئلا يكون موضع تهمة وشبهة عند المسلمين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 244 المبحث الثاني: الأدلة عند الشيعة اعلم أن الأدلة عندهم أربعة: كتاب، وخبر، وإجماع، وعقل. أما (الكتاب) فهو القرآن المنزل الذي لم يبق حقيقاً بأن يستدل به بزعمهم الفاسد، لأنه لا اعتماد على كونه قرآناً إلا إذا أُخذ بواسطة الإمام المعصوم، وليس القرآن المأخوذ من الأئمة موجوداً في أيديهم، والقرآن المعروف غير معتدّ به عند أئمتهم بزعمهم وأنه لا يليق بالاستدلال به لوجهين: الأول: لما روي جماعة من الإمامية عن أئمتهم أن القرآن المنزل وقع فيه تحريف في كلماته عن مواضعها، بل أسقط منه بعض السور (1) وترتيبه هذا أيضاً غير معتدّ لكونه متغيراً عن أصله، وما هو موجود الآن في أيدي المؤمنين هو مصحف عثمان الذي كتبه (2) وأرسل منه سبع نسخ إلى أطراف العالم وألجأ الناس على قبوله وقراءته على ما رتبه وآذى من خالف ذلك، فلا يصح التمسك به ولا يعتمد على نظمه من العام والخاص والظاهر والنص ونحوها، لأنه يجوز أن يكون هذا القرآن الذي بين أيدينا كله أو أكثره منسوخاً بالآيات أو السور التي أسقطت منه أو مخصوصاً بها. الثاني: أن نقلة هذا القرآن مثل ناقلي التوراة والإنجيل، لأن بعضهم كانوا منافقين كالصحابة العظام والعياذ بالله تعالى، وبعضهم كانوا مداهنين في الدين كعوامّ الصحابة فإنهم تبعوا رؤساءهم أي بزعمهم طمعاً في زخارف الدنيا، فارتدوا عن الدين كلهم إلا أربعة أو ستة (3) فغيّروا خطاب الله تعالى، فجعلوا مثلاً مكان (من المرافق) إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6] (4) ومكان (أئمة هي أزكى) أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ [النحل:92]. فكما أن التوراة والإنجيل لا يُعمل بهما أصلاً فكذلك هذا القرآن، وكما أن التوراة والإنجيل نُسِخا بالقرآن المجيد فكذلك القرآن نُسخت أشياء كثيرة منه ولا يُعلم نواسخها إلا الأئمة الثلاثة. وأما (الخبر) فقد مرّ بيانه مفصلاً فتذكر. ثم إن ناقل الخبر إما من الشيعة أو غيرهم، ولا اعتبار لغيرهم أصلاً، لأن الصدر الأول من غيرهم (5) الذي هو منتهى الأسانيد كانوا مرتدين ومحرفين كتاب الله تعالى ومعادين أهل بيت النبوة. فلابد أن يكون من الشيعة، وبين الشيعة اختلاف كثير في أصل الإمامة وتعيين الأئمة وعددهم، ولا يمكن إثبات قول من أقوالهم إلا بالخبر، لأن كتاب الله تعالى لا اعتماد عليه، ومع ذلك فهو ساكت عن هذه الأمور، فلو توقف ثبوت الخبر وحجّيته على ثبوت ذلك القول لزم الدور الصريح وهو محال.   (1) مثل سورة الولاية. (2) إن مسألة جمع القرآن من قبل عثمان رضي الله عنه من المآثر والمناقب التي يجب أن تُكتب بمداد من الذهب في سجل تاريخ هذا الصحابي رضي الله عنه، ولكنها في نظر أحفاد ابن سبأ مثلبة يتفوه بها ويسطرها الحاقدون في ثنايا بحثهم عن حياة عثمان رضي الله عنه ويروجون لها ويجعلونها من المطاعن. (3) ((رجال الكشي)) (8)، ((الكافي)) (2/ 244)، ((الاختصاص)): (6، 10)، ((تأويل الآيات)) (1/ 123)، ((الرواشح السماوية)): (71، 141)، ((بحار الأنوار)) (22/ 333، 351)، 352، 400)، (28/ 236)، (64/ 165)، (108/ 306، 308)، (110/ 6)، ((كتاب الأربعين)) (291). (4) ((فصل الخطاب)) (256)، ((تفسير البرهان)) (1/ 451). (5) أي الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 245 وأما (الإجماع) فباطل أيضاً، لأن كونه حجة ليس بالأصالة بل لكون قول المعصوم في ضمنه، فمدار حُجّيته على قول المعصوم لا على نفس الإجماع، وثبوت عصمة الإمام وتعيينه إما بخبره أو بخبر معصوم آخر، فقد جاء الدور الصريح أيضاً. وأيضاً إجماع الصدر الأول والثاني – يعني قبل حدوث الاختلاف في الأمة – غير معتبر، لأنهم أجمعوا على: خلافة أبي بكر وعمر، وحرمة المتعة (1) وتحريف الكتاب، ومنع ميراث النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وغصب فَدَك من البتول (2). وبعد حدوث الاختلاف في الأمة وتفرّقهم بفرق مختلفة كيف يتصور الإجماع، ولا سيما في المسائل الخلافية المحتاجة إلى الاستدلال وإقامة الحجة القاطعة. وأما (العقل) فهو باطل أيضاً لأن التمسك به إما في الشرعيات أو غيرها، فإن كان في الشرعيات فلا يصح التمسك به عند هذه الفرقة أصلاً، لأنهم منكرون أصل القياس ولا يقولون بحجّيته.   (1) انظر كتابنا ((الشيعة والمتعة)). (2) انظر كتابنا ((شبهات حول الصحابة والرد عليها)) (أبو بكر الصديق (ص148) وما بعدها). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 246 وأما في غير الشرعيات فيتوقف العقل على تجريده عن شوائب الوهم والإلف والعادة والاحتراز عن الخطأ في الترتيب والفكر في صورة الأشكال، وهذه الأمور لا تحصل إلا بإرشاد إمام، لأن كل فرقة من طوائف بني آدم يثبتون بعقولهم أشياء وينكرون أشياء أُخر، وهم متخالفون فيما بينهم بالأصول والفروع، ولا يمكن الترجيح بالعقل فقط، فالتمسك إذن بقول الإمام، ومع ذلك لا يمكن إثبات الأمور الدينية بالعقل الصرف لأنه عاجز عن معرفتها تفصيلاً بالإجماع. نعم يمكنه معرفتها إذا كان مستمداً من الشريعة. وهاهنا فائدة جليلة لها مناسبة مع هذا المقام، وهي أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إني تارك فيكم الثقلين، فإن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله وعترتي أهل بيتي)) (1). وهذا الحديث ثابت عند الفريقين أهل السنة والشيعة، وقد علم منه أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أمرنا في المقدمات الدينية والأحكام الشرعية بالتمسك بهذين العظيمي القدر, والرجوع إليهما في كل أمر، فمن كان مذهبه مخالفاً في الأمور الشرعية اعتقاداً وعملاً فهو ضال، مذهبه باطل وفاسد لا يُعبأ به. ومن جحد بهما فقد غوى، ووقع في مهاوي الردى. وليس المتمسك بهذين الحبلين المتينين إلا أهل السنة، لأن كتاب الله ساقط عند الشيعة عن درجة الاعتبار كما سبق بيانه قريباً، وقد روى الكليني عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله: أن القرآن الذي جاء به جبريل إلى محمد صلَّى الله عليه وسلَّم سبعة عشر ألف آية (2). وروي عن محمد نصر أنه قال في (لم يكن) اسم سبعين رجلاً من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم (3).وروي عن سالم بن سلمة قال: قرأ رجل على أبي عبد الله وأنا أسمعه حروفاً من القرآن ليس مما يقرأه الناس. فقال أبو عبد الله: مه اكفف عن هذه القراءة واقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم، فإذا قام القائم اقرأ كتاب الله على حده (4). وروى الكليني وغيره عن الحكم بن عتيبة قال: قرأ علي بن الحسين (وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبي ولا محدّث) قال: وكان علي بن أبي طالب محدّثاً.   (1) رواه الترمذي (3788) بنحوه من حديث زيد بن أرقم وقال: حسن غريب. وقال الألباني في صحيح الترمذي: صحيح. (2) قال المجلسي في ((مرآة العقول في شرح أخبار الرسول)) (12/ 525): "موثق، وفي بعض النسخ عن هشام بن سالم موضع هارون بن سالم، فالخبر صحيح، ولا يخفى أن هذا الخبر وكثير من الأخبار الصحيحة صريحة في نقص القرآن وتغييره وعندي أن الأخبار في هذا الباب متواترة معنى، وطرح جميعها يُوجب رفع الاعتماد عن الأخبار رأساً، بل ظني أن الأخبار في هذا الباب لا يقصر عن أخبار الإمامة فكيف يثبتونها بالخبر؟ ". أي كيف يُثبتون الإمامة بالخبر إذا طرحوا أخبار التحريف؟. (3) ((الكافي)) (2/ 631)، ((بحار الأنوار)) (52/ 364)، ((مشارق الشموس الدرية)) (126)، ((مسند الرضا)) للعطاردي (1/ 385). (4) ((الكافي)) (2/ 633)، ((بصائر الدرجات)) (193)، ((وسائل الشيعة)) (4/ 821)، ((بحار الأنوار)) (89/ 88)، ((معجم أحاديث المهدي)) (4/ 44)، ((إثبات الهداة)) للحر العاملي (3/ 643)، ((حلية الأبرار)) (2/ 643)، ((تفسير نور الثقلين)) (3/ 170). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 247 وروي عن محمد بن الجهم وغيره عن أبي عبد الله أن أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ [النحل:92]. ليس كلام الله، بل محرّف عن موضعه، والمُنزّل (أئمة هي أزكى من أئمتكم).وقد تقرّر عندهم أن سورة (الولاية) سقطت وكذا أكثر (سورة الأحزاب) فإنها كانت مثل (سورة الأنعام) فأسقط منها فضائل أهل البيت وأحكام إمامتهم. وأُسقط لفظ (ويلك) قبل قوله تعالى لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا [التوبة:40]. وكذا أُسقط لفظ (بعلي بن أبي طالب) بعد قوله تعالى: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ [الأحزاب:25] (1) وكذا لفظ (آل محمد) الواقع بعد (ظلموا) من قوله تعالى وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227] (2) إلى غير ذلك من الأقوال والترهات. وأما العترة الشريفة فهي بإجماع أهل اللغة تُقال لأقارب الرجل، والشيعة ينكرون نسبة بعض العترة كرقية وأم كلثوم ابنتي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. ولا يعدون بعضهم داخلاً في العترة كالعباس عم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأولاده كالزبير بن صفية عمة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم بل يبغضون أكثر أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنهم ويسبونهم كزيد بن علي بن الحسين الذي كان عالماً متقياً وكذا يحيى ابنه وكذا إبراهيم وجعفر ابني موسى الكاظم ولقبوا الثاني بالكذاب مع أنه من كبار أولياء الله تعالى. ولقبوا أيضاً جعفر بن علي أخا الإمام العسكري بالكذاب، ويعتقدون أن الحسن بن الحسن المثنى وابنه عبد الله المحض وابنه محمداً الملقب بالنفس الزكية ارتدوا وحاشاهم من كل سوء. وكذلك يعتقدون في إبراهيم بن عبد الله وزكريا بن محمد الباقر ومحمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ومحمد بن القاسم بن الحسن ويحيى بن عمر الذي كان من أحفاد زيد بن علي بن الحسين، وكذلك يعتقدون في جماعة حسنيين وحسينيين كانوا قائلين بإمامة زيد بن علي بن الحسين، إلى غير ذلك من الأمور الشنيعة التي يعتقدونها في حق العترة الطاهرة، نعوذ بالله من جميع ذلك، ونبرأ إليه جلّ شأنه من سلوك هاتيك المسالك. فقد بان لك أن الدين عند هذه الطائفة الشنيعة قد انهدم بجميع أركانه وانقضّ ما تشيّد من محكم بنيانه، حيث إن كتاب الله تعالى قد سبق لك اعتقادهم فيه وعدم اعتمادهم على ظاهره وخافيه، ولا يمكنهم أيضاً التمسك بالعترة المطهرة بناء على زعمهم الفاسد من أن بعضهم كانوا كفرة. المصدر: أخبار الشيعة وأحوال رواتها لمحمود شكري الألوسي تحقيق وتعليق محمد مال الله   (1) ((بحار الأنوار)) (24/ 398)، ((فصل الخطاب)) (321). (2) ((تفسير القمي)) (2/ 125)، ((فصل الخطاب)) للنوري (294)، ((منهاج البراعة شرح نهج البلاغة)) للخوئي (2/ 215). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 248 المبحث الثالث: طبقات الشيعة وأما أحوال رجال أسانيدهم وطبقات أسلاف الشيعة، وأصول الضلالات كانوا عدة طبقات: الطبقة الأولى: هم الذين استفادوا هذا المذهب بلا واسطة، من رئيس المضلين إبليس اللعين وهؤلاء كانوا منافقين، جهروا بكلمة الإسلام وأضمروا في بطونهم عداوة أهله، وتوصلوا بذلك النفاق إلى دخول في زمرة المسلمين والتمكن من إغوائهم وإيقاع المخالفة والبغض والعناد فيما بينهم، ومقتداهم على الإطلاق عبد الله بن سبأ اليهودي الصنعاني الذي كان شراً من إبليس وأعرف منه في الإضلال والتضليل، وأقدم منه في المخادعة والغرور بل شيخه في المكر والشرور، وقد مارس زماناً في اليهودية فنون الإغواء والإضلال وسعى مجتهداً في طرق الزور والاحتيال فأضل كثيراً من الناس واستزل جماً غفيراً أطفأ منهم النبراس، وطفق يغير عقائد العوام ويموه عليهم الضلالات والأوهام، فأظهر أولاً محبة كاملة لأهل البيت النبوي، وحرض الناس على ذلك الأمر العلي، ثم بين وجوب لزوم جانب الخليفة الحق وأن يُؤثر على غيره، وأن ما عداه من البغاة فاستحسنه جمّ من العوام الغفير، وقبله ناس من الجهلة كثيرون، فأيقنوا بصلاحه واعتقدوا بإرشاده ونصحه. ثم فرّع على ذلك فروعاً فاسدة وجزئيات كاسدة فقال: إن الأمير رضي الله عنه هو وصيّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأفضل الناس بعده وأقربهم إليه، واحتج على ذلك بالآيات الواردة في فضائله والآثار المروية في مناقبه، وضم إليها من موضوعاته وزاد عليها من كلماته وعباراته. فلما رأى أن ذلك الأمر قد استقر في أذهان أتباعه, واستحكمت هذه العقيدة في نفوس أشياعه ألقى إلى بعض هؤلاء ممن يعتمد عليه: أن الأمير وصيّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم استخلفه بنص صريح، وهو قوله تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ [المائدة:55] (1) ولكن الصحابة قد ضيعوا وصيته عليه الصلاة والسلام وغلبوا الأمير بالمكر والزور وظلموه فعصوا الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وارتدوا عن الدين - إلا القليل منهم - محبة في الدنيا وطمعاً في زخارفها. واستدل على ذلك بما وقع بين فاطمة رضي الله تعالى عنها وبين أبي بكر رضي الله عنه في مسألة فدك (2) إلى أن ينتهي الأمر إلى الصلح. ثم أوصى أتباعه بكتمان هذا الأمر وعدم نسبته إليه وقال: "لا تظهروا للناس أنكم أتباعي لأن غرضي إظهار الحق والهداية إلى الطريق المستقيم دون الجاه والشهرة عند الناس". فمن تلك الوسوسة ظهر القيل والقال ووقع بين المسلمين التفرّق والجدال، وانتشر سب الصحابة الكرام وذاع الطعن فيهم من أولئك الطغام، حتى إن الأمير رضي الله عنه قد خطب فوق المنبر خطباً كثيرة في ذم هؤلاء القوم وأظهر البراءة منهم وأوعد بعضهم بالضرب والجلد. فلما رأى ابن سبأ أن سهمه هذا أيضاً قد أصاب هدفاً واختلّت ذلك عقائد أكثر المسلمين اختار أخص الخواص من أتباعه وألقى إليهم أمراً أدهى من الأول وأمرّ، وذلك بعد أن أخذ عليهم ميثاقاً غليظاً أن الأمير رضي الله عنه يصدر منه ما لا يقدر عليه البشر من قلب الأعيان، والإخبار بالمغيبات، وإحياء الموتى، وبيان الحقائق الإلهية والكونية، وفصاحة الكلام، والتقوى والشجاعة، والكرم، إلى غير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، فهل تعلمون منشأ هذه الأمور؟ فلما أظهروا العجز عن ذلك قال لهم: إن هذه كلها من خواص الألوهية التي تظهر في بعض المظاهر، ويتجلّى اللاهوت في كسوة الناسوت، فاعلموا أن علياً هو الله، ولا إله إلا هو.   (1) انظر كتابنا ((الإمامة في ضوء الكتاب والسنة)) (1/ 5 - 35). (2) ((الإمامة في ضوء الكتاب والسنة)) (1/ 5 - 35). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 249 فلما وصلت هذه المقالة إلى الأمير رضي الله عنه أهدر دماء تلك الطائفة وتوعدهم بالإحراق في النار، واستتابهم فأجلاهم إلى المدائن، فلما وصلوا إليها أشاعوا تلك المقالة الشنيعة. وأرسل ابن سبأ بعض أتباعه إلى العراق وأذربيجان، ولما لم يستأصلهم أمير المؤمنين رضي الله عنه بسبب اشتغاله بما هو أهم راج مذهبه واشتهر وذاع وانتشر، فقد بدأ أولاً بتفضيل الأمير وثانياً بتكفير الصحابة، وثالثاً بألوهية الأمير ودعا الناس على حسب استعدادهم، وربط رقاب كل من اتبعه بحبل من حبال الغواية، فهو قدوة لجميع الفرق الرافضة، وإن أكثر أتباعه وأشياعه من تلك الفرق يذكرونه بالسوء لكونه قائلاً بألوهية الأمير ويعتقدون أنه مقتدى الغلاة فقط، ولذا ترى أخلاق اليهود وطبائعهم موجودة في جميع فرق الشيعة، وذلك مثل الكذب، والبهتان، وسب أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وكبائر أئمة الدين وحملة كلام الله تعالى وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم وحمل كلام الله تعالى والأحاديث على غير ظاهرها، وكتم عداوة أهل الحق في القلب، وإظهار التملّق خوفاً وطمعاً، واتخاذ النفاق شعاراً ودثاراً، وعدّ التقية من أركان الدين، ووضع الرقاع المزورة ونسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة، وإبطال الحق وإحقاق الباطل لأغراض دنيوية. وهذا الذي ذُكر قطرة من بحر وذرّة من جبل. وإذا تفكرت في سورة البقرة وحفظت ما ذكر الله تعالى فيها من صفات اليهود الذميمة ترى جميعها مطابقة لصفات هذه الفرقة مطابقة النعل بالنعل. الطبقة الثانية: جماعة ممن ضعف إيمانهم من أهل النفاق، وهم قتلة عثمان (1) وأتباع عبد الله بن سبأ الذين كانوا يسبون الصحابة الكرام، وهم الذين انخرطوا في عسكر الأمير وعدّوا أنفسهم من شيعته خوفاً من عاقبة ما صدر منهم من تلك الجناية العظمى، وبعض منهم تشبثوا بأذيال الأمير طمعاً في المناصب العالية ورفعة المراتب فحصل لهم بذلك مزيد من الأمنية وكمال الطمأنينة، ومع ذلك فقد أظهروا للأمير رضي الله عنه ما انطووا عليه من اللؤم والخبائث فلم يستجيبوا لدعوته وأصروا على مخالفته، وظهرت منهم الخيانة على ما نصبوا عليه، واستطالت أيديهم على عباد الله تعالى وأكل أموالهم، وأطالوا ألسنتهم في الطعن على الصحابة. وهذه الفرقة هم رؤساء الروافض وأسلافهم ومسلّموا الثبوت عندهم، فإنهم وضعوا بناء دياناتهم وإيمانهم في تلك الطبقة على رواية هؤلاء الفساق المنافقين ومنقولاتهم، فلذا كثرت روايات هذه الفرقة عن الأمير رضي الله عنه بواسطة هؤلاء الرجال. وقد ذكر المؤرخون سبب دخول أولئك المنافقين في هذا الباب وقالوا إنهم قبل وقوع التحكيم كانوا مغلوبين لكثرة الشيعة الأولى في عسكر الأمير وتغلبهم، ولما وقع التحكيم وحصل اليأس من انتظام أمور الخلافة وكادت المدة المعينة للخلافة تتم وتنقرض وتخلفها نوبة العضوض رجعت الشيعة الأولى من دومة الجندل التي كانت محل التحكيم إلى أوطانهم لحصول اليأس من نصرة الدين وشرعوا بتأييده بترويج أحكام الشريعة والإرشاد ورواية الأحاديث وتفسير القرآن المجيد، كما أن أمير المؤمنين رضي الله عنه دخل الكوفة واشتغل بمثل هذه الأمور، ولم يبق في ركاب أمير المؤمنين إذ ذاك من الشيعة الأولى إلى القليل ممن كانت له دار في الكوفة.   (1) انظر تفصيل ذلك كتاب ((الخليفة المفترى عليه)) صادق عرجون، فإنه - والحق يُقال - أفضل كتاب تناول بالتحليل شخصية أولئك القتلة المجرمين. وكذلك انظر كتابنا ((عثمان رضي الله عنه)) من سلسلة ((شبهات حول الصحابة والرد عليها)). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 250 فلما رأت هاتيك الفرقة الضالة المجال في إظهار ضلالتهم أظهروا ما كانوا يخفونه من إساءة الأدب في حق الأمير وأتباعه الأحياء منهم والأموات، ومع هذا كان لهم طمع في المناصب أيضاً لأن العراق وخراسان وفارس والبلاد الأُخرى الواقعة في تلك الأطراف كانت باقية بعدُ في تصرّف الأمير وحكومته، والأمير رضي الله عنه عاملهم بما عاملوه. ولما كانت الروايات من أهل السنة في هذا الباب غير معتدّ بها لمزيد عدواتهم لفرق الشيعة على حد زعمهم، وجب النقل من كتب الشيعة المعتبرة مما صنفه الإمامية. ولما نعى الأمير بخبر قتل محمد بن أبي بكر في مصر كتب كتاباً إلى عبد الله بن عباس، فإنه كان حينئذٍ عامل البصرة، وهو مذكور في كتاب (نهج البلاغة) الذي هو عند الشيعة أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى: "أما بعد فإن مصر قد افتتحت، ومحمد بن أبي بكر استشهد، فعند الله نحتسبه ولداً صالحاً وعاملاً كادحاً وسيفاً قاطعاً وركناً دافعاً. وكنت قد حثثت الناس على لحاقه، وأمرتهم بغياثه قبل الوقعة، ودعوتهم سراً وجهراً وعوداً وبدءاً، فمنهم الآتي كارهاً ومنهم المُتعلّل كاذباً، ومنهم القاعد خاذِلاً. أسأل الله أن يجعل لي منهم فرجاً عاجلاً. فوالله لولا طمعي عند لقاء العدو في الشهادة، وتوطيني نفسي على المنية، لأحببت أن لا أبقى مع هؤلاء يوماً واحداً ولا ألتقي بهم أبداً". وكذا لما أُخبر بقدوم سفيان بن عوف الذي كان من بني غامد وأمير أمراء معاوية (رضي الله عنه) وركبانه ببلد الأنبار وقتلهم أهله خطب خطبة مندرجة فيها هذه العبارة المشيرة للإرشاد: "والله يميتُ القلبَ ويجلب الهمّ ما نرى من اجتماع هؤلاء على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، فقبحاً وترحاً حين صرتم غرضاً يُرمى: يغار عليكم ولا تغيرون، وتُغزون ولا تغزون، ويُعصى الله وترضون، فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم هذه حمارة القيظ أمهلنا حتى ينسلخ عنا الحر، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام البرد قلتم هذه صبارة القُرّ أمهلنا حتى ينسلخ عنا البرد. كل هذا فراراً من الحر والقر، فإذا كنتم من الحر والقرّ تفرّون فأنتم والله من السيف أفرّ، يا أشباه الرجال ولا رجال، حُلُومُ الأطفال، وعُقُولُ ربات الحجول. لوددتُ أني لم أعرفكم، معرفةٌ والله جرَّت ندماً، وأعقبت سَدَماً". وأيضاً يقول في هذه الخطبة: "قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحاً. وشحنتُم صدري غيظاً، وجرّعتُمُوني نُغَبَ التهمام أنفاساً، وأفسدتم عليَّ رأيي بالخذلان والعصيان، حتى قالت قُريشٌ: إن ابن أبي طالب رجلٌ شُجاعٌ ولكن لا علم له بالحرب، لله أبوهم وهل أحد منهم أشدّ لها مِراساً وأقدم فيها مقاماً مني، لقد نهضتُ فيها وما بلغت العشرين، وها أنا ذرفتُ على الستين ولكن لا رأي لمن لا يُطاع". ويقول في خطبة أخرى: "أيها الناس المجتمعةُ أبدانهم، المختلفةُ أهواؤهم، كلاكم يوهي الصُّمُّ الصِّلاب، وفعلكم يُطمع فيكمُ الأعداء. تقولون في المجالس كيت وكيت، فإذا حضر القتال قلتم: حيدي حياد. ما عزَّت دعوة من دعاكم ولا استراح قلبُ من قاساكم. أعاليل بأضاليل ... " إلخ. ويقول:"المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم فقد فاز والله بالسَّهم الأخيب. ومن رَمَى بكم فقد رمى بأفوَقَ ناصل. أصبحتُ والله لا أُصدقُ قولكم، ولا أطمع في نصركم ولا أوعِدُ العدوّ بكم". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 251 ويقول في خطبة أخرى إذ استنفر الناس إلى أهل الشام:" أفٍ لكم، لقد سئمت عتابكم، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضاً، وبالذلّ من العزّ خلفاً؟ إذا دعوتكم إلى جهاد أعدائكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غَمرة، ومن الذُّهول في سكرة، يُرتج عليكم حَواري فتعمهون، وكأن قلوبكم مألوسةٌ فأنتم لا تعقلون، ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي، وما أنتم بركن يُمال بكم ولا زوافِر عز يفتقر إليكم، ما أنتم إلا كإبل ضلّ رعاتها. فكلما جُمعت من جانبٍ انتشرت من آخر، وبئس لعمر الله سعرُ نار الحرب أنتم، تُكادون ولا تكيدون، وتُنقص أطرافكم ولا تمتعضون، لا يُنام عنكم وأنتم في غفلة ساهون". وأيضاً يقول في خطبة أخرى:"مُنيت بمن لا يُطيع إذا أمرت، ولا يُجيب إذا دعوت. لا أباً لكم، ما تنظرون بنصركم ربّكم؟ لا دين يجمعكم ولا حمية تُحمشكم. أقول فيكم مُستصرخاً، وأناديكم متغوّثاً، فلا تسمعون لي قولاً، ولا تطيعون لي أمراً، حتى تكشف الأمور عن عواقب المساءة، فما يُدرك بكم ثأر، ولا يُبلغ منكم مرام. دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الحمل الأسرّ، وتثاقلتم تثاقل النّضو الأدبر. ثم خرج إليّ منكم جُنيد متذائب ضعيف كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ [الأنفال:6]. ويقول: "كم أُداريكم كما تُدارى البِكار العَمِدة والثيابِ المتداعية إن حيصت من جانبٍ تهتكت من آخرَ، وكلما أطلّ عليكم مِنسر من مناسر أهل الشام أغلق كل رجل منكم بابه وانجحر انجحار الضبَّة في جحرها والضبع في وجارها". وأيضاً في خطبة أخرى:"من رمى بكم فقد رمى أفوق ناصل، إنكم والله لكثير في الباحات، قليل تحت الرايات". وهذه الخطب كلها ذكرها الرضي في (نهج البلاغة) وغيره من الإمامية أيضاً رووها في كتبهم. وقال علي بن موسى بن طاووس (1) سبط محمد بن الحسن الطوسي: إن أمير المؤمنين كان يدعو الناس على منبر الكوفة إلى قتال البغاة، فما أجابه إلا رجلان، فتنفس الصعداء وقال: أين يقعان. ثم قال ابن طاووس: إن هؤلاء مع اعتقادهم فرض طاعته وأنه صاحب الحق، وأن الذين ينازعونه على الباطل. وكان عليه السلام يداريهم ولكن لا تجديه المداراة نفعاً. وقد سمع قوماً من هؤلاء ينالون منه في مسجد الكوفة ويستخفون به، فأخذ بعضادتي الباب وأنشد متمثلاً: هنيئاً مريئاً غير داء مُخامر ... لعزّة من أعراضنا ما استحلّت فيئس منهم كلهم، ودعا على هؤلاء الذين يدّعون شيعته بقوله: "قاتلكم الله، وقبحاً لكم وترحاً". ونحوها. وكذا حلف على أن لا يُصدّق قولهم أبداً. ووصفهم في مواضع كثيرة بالعصيان لأوامره وعدم استماعهم وقبولهم لكلامه، وأظهر البراءة من رؤيتهم. وهؤلاء لم يكن لهم وظيفة سوى الحطّ على حضرة الأمير رضي الله عنه وذمهم له، وحاشاه. وقد علم أيضاً أن شيعة ذلك الوقت كانوا كلهم مشتركين في هذه الأحوال، وداخلين في هذه المساوئ إلا رجلين منهم، فإذا كان حال الصدر الأول والقرن الأفضل الذين هم قدوة لمن خلفهم من بعدهم وأسوة لأتباعهم ما سمعت ذكره، فكيف بأتباعهم؟ فويلٌ لهم مما يكسبون.   (1) هو رضى الدين أبي القاسم علي بن موسى بن طاووس الهالك سنة 664هـ‍، انظر ترجمته: ((نقد الرجال)) للتفرشي (244)، ((أمل الآمل)) للحر العاملي (2/ 205)، ((لؤلؤة البحرين)) للبحراني (239)، ((منتهى المقال)) للقمي (357)، ((خاتمة المستدرك)) للنوري (الطبعة القديمة) (3/ 467)، و ((الذريعة)) للطهراني (12/ 182). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 252 الطبقة الثالثة: هم الذين اتبعوا السيد المجتبى السبط الأكبر وقرة عين البتول الإمام الحسن رضي الله عنه، بعد شهادة الأمير رضي الله عنه، وبايعه قدر أربعين ألفاً على الموت، ورغبّوه في قتال معاوية (رضي الله عنه) وخرجوا إلى خارج الكوفة، وكان قصدهم إيقاعه في ورطة الهلاك، وقد أزعجوه في أثناء الطريق بطلب وظائفهم منه، وظهر منهم في حقه سوء الأدب ما ظهر، كما فعل المختار الثقفي من جرّ مصلاه من تحت قدمه المباركة، وهو الذي كان يعدّ نفسه من أخصّ شيعته، وكطعن آخر بالسنان فخذ الإمام رضي الله عنه حتى تألم منه ألماً شديداً. فلما قامت الحرب على ساق، وتحققت المقاتلة، رغبوا إلى معاوية (رضي الله عنه) لدنياه وتركوا نصرة الإمام، مع أنهم كانوا يدّعون أنهم من شيعته المخصوصين وشيعة أبيه، وأنهم أحدثوا مذهب التشيع وأسسوه. ذكر ذلك المرتضى في كتابه (تنزيه الأنبياء والأئمة) عند ذكر عذر الإمام الحسن عن صلح معاوية وخلع نفسه من الخلافة وتفويضها إليه. وذكر أيضاً نقلاً عن كتاب (الفصول) للإمامية أن رؤساء هذه الجماعة كانوا يكتبون معاوية (رضي الله عنه) خفياً على الخروج للمحاربة مع الإمام، بل بعضهم أراد الفتك به رضي الله عنه، فلما تحققت هذه الأمور عنده رضي بالصلح مع معاوية (رضي الله عنه) وخلع الخلافة عن نفسه. الطبقة الرابعة: هم أكثر أهل الكوفة الذين طلبوا حضرة السبط الأصغر وريحانة سيد البشر صلى الله عليه وسلم الحسين رضي الله تعالى عنه، وكتبوا إليه كتباً عديدة في توجهه إلى طرفهم، فلما قرب من ديارهم مع الأهل والأقارب والأصحاب, وأخذت الأعداء تؤجج نيران الحرب في مقابلته، تركه أولئك الكذابون وتقاعدوا عن نصرته وإعانته، مع كثرة عدد الأعداء وقوة شوكتهم. بل رجع أكثرهم مع الأعداء خوفاً وطمعاً، وصاروا سبباً لشهادته وشهادة كثير ممن معه، حتى مات الأطفال والصبيان الرضع من شدة العطش، وأغروا ذوات الخدور والمستورات بالحجب من بيت النبوة وأطافوهم في البلاد والقرى والبوادي (1) وقد نشأ ذلك من غدرهم وعدم وفائهم ومخادعتهم وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].الطبقة الخامسة: وهم الذين كانوا في زمن استيلاء المختار على العراق والبلاد الأُخر من تلك الأقطار، وكانوا معرضين عن الإمام السجّاد لموافقته المختار، وينطقون بكلمة محمد بن الحنفية ويعتقدون إمامته، مع أنه لم يكن من أولاد الرسول صلى الله عليه وسلم (2) ولم يقم دليل على إمامته (3). وهذه الفرقة قد خرجت في آخر الأمر على الدين وحادت عن جادة المسلمين بما قالوا من نبوّة المختار ونزول الوحي إليه.   (1) هذا من مختلقات الرافضة وأما الحقيقة فخلاف ذلك. (2) ومع هذا فلا يمكن أن ننفي عنه رحمه الله تعالى بأنه هاشمي قرشي من أولاد علي رضي الله عنه وإن كانت أمه من سبي بني حنيفة. (3) وهل قام دليل واحد على ادعاء الرافضة بإمامة أئمتهم المزعومين حتى ينفي المؤلف رحمه الله تعالى إقامة الدليل على إمامة محمد بن الحنفية رحمه الله تعالى؟ إن فرق الشيعة لا يعجزهم اختلاق الأدلة على إمامة من يرونه أنه إمام. وابن الحنفية رحمه الله تعالى أرفع شأناً من أن ينساق وراء هؤلاء الرعاع وأجلّ قدراً من أن يجعل المختار الثقفي الكذاب داعية لإمامته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 253 الطبقة السادسة: هم الذين حملوا زيداً الشهيد على الخروج، وتعهدوا بنصرته وإعانته، فلما جدّ الأمر وحان القتال أنكروا إمامته بسبب أنه لم يتبرأ من الخلفاء الثلاثة، فتركوه في أيدي الأعداء ودخلوا به الكوفة فاستشهد وعاد رزء الحسين. وكنا بواحد فصرنا باثنين. ولبئس ما صنعوا. ولو فرضنا أنه لم يكن إماماً أفلم يكن من أولاد الإمام، مع أن من علم صحة نسبه وإن كان من العصاة يجب على الأمة إعانته ونصرته ولا سيما إذا كان على الحق، ولم يلزمه من عدم التبري ذنب ولم تلحقه منه نقيصة. وقد نقل الكشي روايات صحيحة عن الأئمة الأطهار تدل على أن سبّ الخلفاء الثلاثة لا يحتاج إليه في النجاة ودخول الجنة، وقد كان مظلوماً فإعانة المظلوم واجبة, وفرض عين مع القدرة عليها. الطبقة السابعة: هم الذين يدّعون صحة الأئمة والأخذ عنهم، مع أن الأئمة كانوا يُكفرونهم ويكذبونهم. ولنذكر لك نبذة يسيرة من عقائد أسلافهم حيث أن هذا الكتاب لا يسع ذلك على سبيل الاستقصاء، ولكن ما لا يُدرك كله لا يترك كله. فنقول: إن منهم من كان يعتقد أن الله تعالى جسم ذو أبعاد ثلاثة كالهشامين وشيطان الطاق والميثمي، ذكر ذلك الكليني في (الكافي). ومنهم من أثبت له صورة جلّ شأنه كهشام بن الحكم وشيطان الطاق. ومنهم من اعتقد أن الله تعالى مجوّف من الرأس إلى السرة، ومنها إلى القدم مصمت كهشام بن سالم والميثمي. ومنهم من اعتقد أن عزّ اسمه لم يكن عالماً في الأزل (1) كزرارة بن أعين وبكير بن أعين وسليمان الجعفري ومحمد بن مسلم الطحان وغيرهم. ومنهم من أثبت له مكاناً وحيزّاً وجهة وهم الأكثرون منهم. ومنهم من كفر بالله تعالى فلم يعتقد بالصانع القديم ولا بالأنبياء ولا بالبعث والمعاد كديك الجن الشاعر وغيره. ومنهم من كان من النصارى ويُعلن ذلك جهاراً ويتزيى بزيهم، ومع ذلك لم يترك صحبة قومه كزكريا بن إبراهيم النصراني الذي روى عنه أبو جعفر الطوسي في كتابه (التهذيب). ومنهم من قال في حقهم جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: يروون عنا الأكاذيب ويفترون علينا أهل البيت كالتبّان المكنى بأحمد. ومنهم من حذّر الأئمة منهم ومن نقلة الأخبار ورواة الآثار عن الأئمة العظام. روى الكليني عن إبراهيم الخراز ومحمد بن الحسين قالا: دخلنا على أبي الحسن الرضا فقلنا: إن هشام بن سالم والميثمي وصاحب الطاق يقولون: إن الله تعالى أجوف من الرأس إلى السرّة والباقي مصمت. فخر ساجداً ثم قال: سبحانك، ما عرفوك ولا وحّدوك، فمن أجل ذلك وصفوك. وقد دعا الإمام على هؤلاء وعلى زرارة بن أعين فقال: أخزاهم الله. وروى الكليني أيضاً عن علي بن حمزة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: سمعت هشام بن الحكم يروي عنكم: أن الله جسم صمدي نوري معرفته ضرورية يمنّ بها على من يشاء من عباده. فقال: سبحان من لا يعلم أحد كيف هو، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ولا يحدّ ولا يحسّ ولا يحيط به شيء ولا جسم ولا صورة ولا تخطيط ولا تحديد. ومنهم من كان منكراً لموت الإمام الصادق بأنه هو المهدي الموعود به، ويُنكرون إمامة الأئمة الباقين. وأكثر رواة الإمامية كانوا واقفية كما لا يخفى من راجع أسماء رجالهم حيث يقولون في مواضع شتى: إن فلاناً كان من الواقفية (2).   (1) وهو البداء كما يزعمون. (2) انظر على سبيل المثال: ((اختيار معرفة الرجال)) (1/ 63، 120، 194، 270، 378، 397، 404، 405، 406). (2/ 659، 748، 768، 769، 772، 774، 830، 858). ((رجال الطوسي)): (201، 242، 333، 343، 344، 345، 346، 348، 349، 350، 353، 354، 355، 357، 358، 359، 360، 361، 362، 364، 366، 370، 380، 382، 474، 501). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 254 فهاتان الفرقتان منكرتان لعدد الأئمة وتعيين أشخاصهم. ومُنكر الإمامة كمُنكر النبوة كافر. ومع هذا يروي علماء الشيعة عنهم في صحاحهم. ومنهم من لم يعلم إمام وقته وقضى عمره في التردّد والتحيّر، فدخل في هذا الوعيد "من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية" كالحسن بن سماعة بن مهران, وابن فضّال وعمرو بن سعيد وغيرهم من رواة الأخبار. ومنهم من اخترع الكذب وأصرّ على ذلك كأبي عمرو بن خرقة البصري. ومنهم من طرده الإمام جعفر الصادق عن مجلسه ثم لم يُجوّز له مجيئه إليه كابن مسكان. ومنهم من أقرّ بكذبه كأبي بصير. ومنهم من كان من البدائية الغالية كدارم بن الحكم, وزياد بن الصلت, وابن هلال الجهمي, وزرارة بن سالم. ومنهم من كان يكذب بعضهم بعضاً في الرواية كالهشامين وصاحب الطاق والميثمي. واعلم أن جميع فرق الشيعة يدّعون أخذ علومهم من أهل البيت، وتنسب كل فرقة منهم إلى إمام، ويروون عنهم أصول مذهبهم وفروعه، ومع ذلك يُكذّب بعضهم بعضاً، ويُضلّل أحدهم الآخر مع ما بينهم من التناقض في الاعتقادات ولاسيما في الإمامة، فذلك أوضح دليل وأقوى برهان على كذب تلك الفرق كلها، وذلك لأن الروايات المختلفة والأخبار المتناقضة لا يمكن ورودها من بيت واحد وإلا يلزم كذب بعضهم، وقد قال الله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33] وقد علم أيضاً من التواريخ وغيرها أن أهل البيت ولا سيما الأئمة الأطهار من خيار خلق الله تعالى بعد النبيين (1) وأفضل سائر عباده المخلصين. والمقتفين لآثار جدهم سيد المرسلين صلَّى الله عليه وسلَّم، فلا يمكن صدور الكذب عنهم، فعلم أنهم بريئون مما ترويه عنهم تلك الفرق المضلة بعضهم بعضاً، بل قد وضعتها كل فرقة من هذه الفرق ترويجاً لمذهبهم، ولذا وقف فيها التخالف. وأما الاختلاف الواقع عند أهل السنة فليس كذلك لوجهين: الأول أنه اختلاف اجتهادي، فإنهم يعلمون من زمن الصحابة إلى زمن الفقهاء الأربعة أن كل عالم مجتهد، ويجوز للمجتهد العمل برأيه المستنبط من دلائل الشرع فيما ليس فيه نص. واختلاف الآراء طبيعي لنوع الإنسان، وليس ذلك اختلاف الرواية حتى يدل على الكذب والافتراء (2).   (1) لا يمكننا التسليم بهذا القول على إطلاقه، فالصدّيق ثم الفاروق ثم ذو النورين ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعاً بإجماع الأمة أفضل الخلق بعد نبينا صلَّى الله عليه وسلَّم، وهل يمكننا تفضيل خرافة السرداب عند الرافضة أو من قبله عدا علي والحسنين رضي الله عنهم جميعاً على المهاجرين والأنصار؟. ونحن لا ننتقص من قدر آل البيت ولكن ليس للعاطفة سبيل في عقيدتنا وإسلامنا رضي من رضي وسخط من سخط، ولا نستطيع من أجل سواد عيون الرافضة أن ننتقص من أسلافنا وقدوتنا لنُرضي الرافضة، ونحن نعلم وكافة المطلعين على عقيدة الرافضة أن الولاء المزعوم لأهل البيت ليس بولاء نابع من الإسلام ولكنه ستار يتخذونه للكيد للإسلام وأهله، وهل أوضح من تكفيرهم للأمة واستحلال دمائهم وأعراضهم وأموالهم. (2) انظر كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ((رفع الملام عن الأئمة الأعلام)). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 255 الثاني: إن اختلافهم كان في فروع الفقه لا في أصول الدين، واختلاف الفروع للاجتهاد جائز فلا يكون دليلاً لبطلان المذهب، وذلك كاختلاف المجتهدين من الإمامية في المسائل الفقهية كطهارة الخمر ونجاسته وتجويز الوضوء بماء الورد وعدمه. ولننبهك على كيفية أخذ الشيعة العلم من أهل البيت، فاعلم أن الغلاة – وهم أقدم من جميع الفرق الشيعية وأضلهم – قد أخذوا مذهبهم عن عبد الله بن سبأ حيث موّه عليهم قصداً لإضلالهم أنه أخذ ذلك عن الأمير رضي الله عنه، وزعمت المختارية والكيسانية (1) أنهم قد أخذوه عن الأمير والحسنين وعن محمد بن علي وعن أبي هاشم ابنه، والزيدية (2) عن الأمير والحسنين وزين العابدين وزيد بن علي ويحيى بن زيد، والباقرية (3) عن خمسة, أعني الأمير إلى الباقر، والناووسية (4) عن هؤلاء الخمسة والإمام الصادق، والمباركية (5) عن هؤلاء الستة وإسماعيل بن جعفر. والقرامطة (6) عن هؤلاء السبعة ومحمد بن إسماعيل، والشميطية (7) عن هؤلاء الثمانية ومحمد بن جعفر وموسى وعبد الله وإسحاق أبناء جعفر. والمهدوية عن اثنين وعشرين، وهم كانوا يعتقدون أن جميع سلاطين مصر والمغرب الذين خلوا من نسل محمد الملقب بالمهدي أئمة معصومون، ويزعمون أن العلم المحيط بجميع الأشياء كان حاصلاً لهم، وهؤلاء السلاطين أيضاً كانوا يدّعون ذلك كما تشهد لذلك تواريخ مصر والمغرب. والنزارية عن ثمانية عشر أولهم أمير المؤمنين وآخرهم المستنصر بالله، والإمامية الاثنا عشرية عن اثني عشر أولهم الأمير وآخرهم الإمام محمد المهدي.   (1) انظر ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص27). (2) انظر ((الفرق بين الفرق)) (ص16). (3) انظر ((الفرق بين الفرق)) (ص45). (4) انظر ((مختصر التحفة)) (ص16). (5) فرقة من "الإسماعيلية أصحاب المبارك، يعتقدون الإمام بعد جعفر ابنه الأكبر إسماعيل ثم ابنه محمد وهو خاتم الأئمة والمهدي المنتظر ((مختصر التحفة)) (17). (6) من الإسماعيلية وهم أصحاب قرمط، وهو المبارك، وقال بعض العلماء اسم رجل آخر من سواد الكوفة اخترع ما عليه القرامطة، وقيل هو اسم أبيه، وأما المخترع نفسه فاسمه حمدان، وكان ظهوره سنة سبعين ومائتين، وقيل إن قرمط اسم لقرية من قرى واسط منها حمدان المخترع، وهو قرمطي وأتباعه قرامطة، وكان ظهوره فيها، وقيل غير ذلك، ومذهبهم أن إسماعيل بن جعفر خاتم الأئمة وهو حي لا يموت، ويقولون بإباحة المحرمات ((مختصر التحفة)) (17). (7) أصحاب يحيى بن أبي الشميط يزعمون أن الإمامة تعلقت بعد الصادق بكل من أبنائه الخمسة بهذا الترتيب: إسماعيل، ثم محمد، ثم موسى الكاظم، ثم عبد الله الأفطح، ثم إسحاق ((مختصر التحفة)) (17). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 ولا حدّ لعلمائهم في الكثرة، وقدماؤهم المشاهير: سليم بن قيس الهلالي، وأبان بن تغلب، وهشام بن سالم، وصاحب الطاق، وأبو الأحوص داود بن أسد، وعلي بن منصور، وعلي بن جعفر، وبيان بن سمعان المُكنّى بأبي أحمد المشهور بالجزري، وابن أبي عمير محمد بن زياد الأزدي، وعبد الله بن المغيرة البجلي، والنصري واسمه الحارث بن المغيرة، وأبو بصير، ومحمد بن حكيم، ومحمد بن فرج الرخجي، وإبراهيم بن سليمان الخزاز، ومحمد بن الحسين، وسليمان بن جعفر الجعفري، ومحمد بن مسلم الطحان، وبكير بن أعين، وزارة بن أعين وأبناؤهما، وسماعة بن مهران الحضرمي، وعلي بن أبي حمزة البطائني، وعيسى وعثمان وعلي وهؤلاء الثلاثة بنو فضّال، وأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، ويونس بن عبد الرحمن القمي، وأيوب بن نوح النخعي، وحسن بن العباس بن الحريش الرازي، وأحمد بن إسحاق، وجابر الجعفي، ومحمد بن جمهور العمي، والحسين بن سعيد الأهوازي، وعبد الله وعبيد الله ومحمد وعمران وعبد الأعلى كلهم بنو علي بن أبي شعبة وأولادهم وجدّهم. وأما المصنفون من الاثني عشرية فصاحب (معالم الأصول) فخر المحققين محمد بن الحسن ابن مطهر الحلّي، ومحمد بن علي الطرازي، ومحمد بن عمر الجعابي، وأبو الفتح محمد بن علي الكراجكي، وإبراهيم بن علي الكفعمي (1) وجلال الدين حسن بن أحمد شيخ الشيخ المقتول، ومحمد بن الحسن الصفار (2) وأمان بن بشر البغال، وعبيد بن عبد الرحمن الخشعي، وفضل بن شاذان القمي، ومحمد بن يعقوب الكليني الرازي، وعلي بن الحسين بن بابويه القمي، والحسين ابنه أيضاً، وعبيد الله بن علي الحلبي، وعلي بن مهزيار الأهوازي، وسلار: حمزة بن عبد العزيز الديلمي الطبرستاني، وعلي بن إبراهيم بن هاشم القمي (3) وابن براج: عبد العزيز بن نحرير وابن زهرة: حمزة بن علي، وابن إدريس المفتري على الشافعي المشهور، والذي جرّأه على ذلك مشاركته له الكُنية، ومعين الدين المصري، وابن جنيد، وحمزة أبو الصلاح، وابن المشرعة الواسطي، وابن عقيل، والغضائري، والكشي, والنجاشي, والملا حيدر العاملي, والبرقي, ومحمد بن جرير الطبري الآملي, وابن هشام الديلمي, ورجب بن محمد بن رجب البرسي (4). واعلم أن جميع فنونهم من الكلام والعقائد والتفسير مستمدة من كتب غيرهم، والمعتمد من كتب أخبارهم الأصول الأربعة: أحدها (الكافي) المشهور بالكليني، وثانيها (من لا يحضره الفقيه) وثالثها (التهذيب) ورابعها (الاستبصار).   (1) مؤلف كتاب ((البلد الأمين)) وهو كتاب مشهور عند الشيعة وفيه من الخزعبلات والخرافات الشيء الكثير، انظر ترجمته: أمل الآمل للحر العاملي (1/ 28)، ((معجم رجال الحديث)) (1/ 260)، ((تنقيح المقال)) للمامقاني (1/ 27). (2) مؤلف كتاب ((بصائر الدرجات)) يُعد عند الشيعة من أصحاب إمامهم الحادي عشر، وكتاب موضع ثقة وقبول عند الشيعة رغم ما يحتويه من الغلو والطعن في الصحابة وهو ممن يعتقد بتحريف القرآن مثل بقية علماء الشيعة. انظر: ((الفهرست)) للنجاشي (251)، ((الفهرست)) للطوسي (143)، ((الكني والألقاب)) للقمي (2/ 279)، ((بحار الأنوار)) (1/ 27)، ((الذريعة)) للطهراني (3/ 124). (3) انظر ترجمته: ((الفهرست)) للنجاشي (183)، ((رجال الحلي)) (10)، ((معجم رجال الحديث)) (11/ 193)، ((الفهرست)) للطوسي (119)، ((الذريعة)) (4/ 302). (4) انظر ترجمته: ((أمل الآمل)) (2/ 117 - 118)، ((الكني والألقاب)) (2/ 148)، ((بحار الأنوار)) (1/ 10)، ((الذريعة)) (18/ 362)، (21/ 34). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 257 وصرح علماؤهم بأن العمل بكل ما في هذه الأربعة واجب، وكذلك صرحوا بأن العمل برواية الإمامي الذي يكون دونه أصحاب الأخبار أيضاً واجب بهذا الشرط كما نص على ذلك أبو جعفر الطوسي والمرتضى وفخر الدين الملقب بالمحقق الحلي، مع أنه يوجد في تلك الكتب الأربعة من رواية المجسمة كالهشامين وصاحب الطاق، ورواية من اعتقد أن الله تعالى لم يكن عالماً في الأزل كزرارة وأمثاله كالأحولين، وسليمان الجعفري، ورواية من كان فاسد المذهب ولم يكن معتقداً بإمام أصلاً كبني فضّال وابن مهران وغيرهم، ورواية بعض الوضاعين الذين لم يخف حالهم على الشيعة كجعفر الأودي وابن عياش (أحمد بن محمد الجوهري) وكتاب (الكافي) مملوء من رواية ابن عياش، وهو بإجماع هذه الفرقة كان وضّاعاً كذّاباً. والعجيب من المرتضى (1) مع علمه بهذه الأمور كان يقول: إن أخبار فرقتنا وصلت إلى حد التواتر. وأعجب من ذلك أن جمعاً من ثقاتهم رووا وحكموا عليه بالصحة، وآخرين كذلك حكموا عليه بأنه موضوع مفترى، وهذه الأخبار كلها في صحاحهم، كما أن ابن بابويه حكم بوضع ما روي في تحريف القرآن وآياته، ومع ذلك فتلك الروايات ثابتة في (الكافي) بأسانيد صحيحة بزعمهم، إلى غير ذلك من المفاسد، والله سبحانه يحقُّ الحقّ وهو يهدي السبيل. المصدر: أخبار الشيعة وأحوال رواتها لمحمود شكري الألوسي تحقيق وتعليق محمد مال الله   (1) هو علي بن الحسين ابن موسى بن محمد بن موسى. ولد في رجب سنة 355هـ‍، وهلك في الخامس والعشرين من ربيع الأول سنة436هـ‍. انظر ترجمته: ((تنقيح المقال)) (2: 284)، ((الخلاصة)): (95)، ((رجال ابن داود): ((136))، ((رجال النجاشي)) (2: 102)، ((روضات الجنات)) (1: 295)، ((رياض العلماء)) (4/ 20)، ((الفهرست)): (98). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 258 المبحث الأول: بداية وضع الأخبار ... الفرق التي ظهرت في تاريخ الإسلام، ولها عقائد خاصة بها، لم تظهر كتبها إلا بعد استقرار عقائدها، ووضوحها لدى معتنقيها. وهذا أمر بدِهى، أن الكتب إنما توضع لتأييد هذه العقائد، والدعوة لها، فلابد أن تسبق العقائد هذه الكتب. بل إن هناك مرحلة تلي العقائد وتسبق الكتب، وهي وضع الأخبار وتناقلها والاحتجاج بها قبل أن تجمع في كتاب، وقبل أن يوضع كتاب مرة واحدة. فبالنسبة للشيعة مثلا وجدنا بعد موت كل إمام حدوث تفرق جديد، فكانت كل فرقة تحتج بأخبار تؤيد ما انتهت إليه في تلك المرحلة، إلى أن تصل إلى الإمام الأخير الذي تستقر عنده آراؤها، وما كانت أي فرقة لتضع أخباراً في إمام إلا بعد ولادته، لأنها لا تعلم الغيب في واقع الأمر، وإن زعم منها من زعم أنه يعلم مثل هذا العلم. وللبيان أثبت بعض ما جاء في كتاب من كتب الشيعة أنفسهم، وهو كتاب (فرق الشيعة) للحسن بن موسى النوبختي، وسعد بن عبدالله القمي، والاثنان عاشا في القرن الثالث، وأدركا بداية القرن الرابع. يبين الكتاب تفرق الشيعة بعد موت الإمام جعفر الصادق، ومما جاء فيه: لما توفي أبو عبدالله بن محمد، افترقت بعده شيعته ست فرق وكانت وفاته بالمدينة في شوال سنة ثمان وأربعين ومائة، وهو ابن خمس وستين سنة، وكان مولده في سنة ثلاث وثمانين، ودفن في القبر الذي دفن فيه أبوه وجده في البقيع، وكانت إمامته أربعا وثلاثين سنة إلا شهرين، وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر بن قحافة. ففرقة منها قالت: إن جعفر بن محمد حي لم يمت، ولا يموت حتى يظهر ويلي أمر الناس، وهو القائم المهدي، وزعموا أنهم رووا عنه أنه قال: إن رأيتم رأسي قد أهوى عليكم من جبل فلا تصدقوا فإنني أنا صاحبكم، وأنه قال لهم: إن جاءكم من يخبركم عني أنه مرضني وغسلني وكفنني ودفنني فلا تصدقوه، فإني صاحبكم، صاحب السيف، وهذه الفرقة تسمى الناووسية، وسميت بذلك لرئيس لهم من أهل البصرة يقال له فلان بن فلان الناووس. وفرقة زعمت: أن الإمام بعد جعفر ابنه إسماعيل بن جعفر، وأنكرت موت إسماعيل في حياة أبيه، وقالوا: كان ذلك على جهة التلبيس من أبيه على الناس، لأنه خاف فغيبه عنهم، وزعموا: أن إسماعيل لا يموت حتى يملك الأرض، ويقوم بأمور الناس، وأنه هو القائم لأن أباه أشار إليه بالإمامة بعده، وقلدهم ذلك له، وأخبرهم أنه صاحبهم والإمام لا يقول إلا الحق، فلما أظهر موته علمنا أنه قد صدق، وأنه القائم لم يمت. وهذه الفرقة هي الإسماعيلية الخالصة. وأم إسماعيل وعبدالله ابني جعفر بن محمد هي فاطمة بنت الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب. وأمها أسماء بنت عقيل بن أبي طالب. وفرقة ثالثة زعمت: أن الإمام بعد جعفر هو ابنه محمد بن إسماعيل بن جعفر، وأمه أم ولد، وقالوا: إن الأمر كان لإسماعيل في حياة أبيه، فلما توفي قبل أبيه جعل جعفر بن محمد الأمر لمحمد بن إسماعيل، وكان الحق له، ولا يجوز غير ذلك, لأن الإمامة لا تنتقل من أخ إلى أخ بعد الحسن والحسين، ولا تكون إلا في الأعقاب، ولم يكن لأخوى إسماعيل عبدالله وموسى في الإمامة حق، كما لم يكن لمحمد بن الحنفية فيها حق مع علي بن الحسين. وأصحاب هذه المقالة يسمون المباركية، برئيس لهم كان يسمى المبارك مولى إسماعيل بن جعفر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 259 فأما الإسماعيلية الخالصة فهم الخطابية أصحاب أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدى الأجدع. وقد دخلت منهم فرقة في فرقة محمد بن إسماعيل، وأقروا بموت إسماعيل بن جعفر في حياة أبيه، وهم الذين خرجوا في حياة أبي عبدالله جعفر بن محمد فحاربوا عيسى بن موسى بن محمد بن عبدالله بن العباس، وكان عاملا على الكوفة، فبلغه عنهم أنهم أظهروا الإباحات، ودعوا إلى نبوة " أبي الخطاب "، وأنهم مجتمعون في مسجد الكوفة قد لزموا الأساطين يرون الناس أنهم لزموها للعبادة، فبعث إليهم رجلا من أصحابه في خيل ورجال ليأخذهم ويأتيه بهم، فامتنعوا عليه وحاربوه، وكانوا سبعين رجلاً، فقتلهم جميعاً فلم يفلت منهم إلا رجل واحد أصابته جراحات فسقط بين القتلى فعد فيهم، فلما جن الليل خرج من بينهم فتخلص، وهو أبو سلمة سالم بن مكرم الجمال الملقب بأبى خديجة. وذكر بعد ذلك أنه قد تاب ورجع، وكان ممن يروي الحديث، فحارب عيسى محاربة شديدة بالحجارة والقصب والسكاكين التي كانت مع أتباعه، وجعلوا القصب مكان الرماح، وقد كان أبو الخطاب قال لهم: قاتلوهم فإن قصبكم يعمل فيهم عمل الرماح والسيوف، ورماحهم وسيوفهم وسلاحهم لايضركم ولا يعمل فيكم، ولا يحتك في أبدانكم، فجعل يقدمهم عشرة عشرة للمحاربة، فلما قتل منهم نحو ثلاثين رجلا، قالوا له ياسيدنا، ما ترى ما يحل بنا من القوم؟ وما ترى قصبنا لا يعمل فيهم ولا يؤثر، وقد يكسر كله، وقد عمل سلاحهم فينا وقتل من ترى منا؟ فذكر رواة العامة أنه قال لهم إن كان قد بدا لله فيكم فما ذنبى؟ وقال رواة الشيعة أنه قال لهم: يا قوم قد بليتم وامتحنتم، وأذن في قتلكم وشهادتكم، فقاتلوا على دينكم وأحسابكم، ولا تعطوا بلدتكم فتذلوا مع أنكم لا تتخلصون من القتل، فموتوا كراما أعزاء واصبروا فقد وعد الله الصابرين أجراً عظيما، وأنتم الصابرون. فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم، وأسر أبو الخطاب، فأتي به عيسى بن موسى، فأمر بقتله فضربت عنقه في دار الرزق على شاطئ الفرات وأمر بصلبه وصلب أصحابه فصلبوا، ثم أمر بعد مدة بإحراقهم فأحرقوا، وبعث برءوسهم إلى المنصور، فأمر بها فصلبت على باب مدينة بغداد ثلاثة أيام، ثم أحرقت. فلما فعل ذلك قال بعض أصحابه: إن أبا الخطاب لم يقتل، ولا قتل أحد من أصحابه، وإنما لبس على القوم وشبه عليهم، وإنما حاربوا بأمر أبي عبدالله جعفر بن محمد، وخرجوا متفرقين من أبواب المسجد ولم يرهم أحد، ولم يجرح منهم أحد، وأقبل القوم يقتل بعضهم بعضا على أنهم يقتلون أصحاب أبي الخطاب، وإنما يقتلون أنفسهم، حتى جن عليهم الليل، فلما أصبحوا نظروا في القتلى فوجدوهم كلهم منهم، ولم يجدوا من أصحاب أبي طالب قتيلا ولا جريحا، ولا وجدوا منهم أحدا. وهذه الفرقة هي التي قالت: إن أبا الخطاب كان نبياً مرسلاً، أرسله جعفر بن محمد، ثم إنه صيره بعد ذلك حين حدث هذا الأمر من الملائكة - لعن الله من يقول هذا. ثم خرج بعد ذلك من قال بمقالته من أهل الكوفة وغيرهم إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر بعد قتل أبي الخطاب، فقالوا بإمامته وأقاموا عليها. وصنوف الغالية افترقوا بعده على مقالات كثيرة، واختلفوا في رئاسات أصحابهم ومذاهبهم، حتى تراقى بعضهم إلى القول بربوبيته، وأن الروح التي صارت في آدم ومن بعده من أولي العزم من الرسل صارت فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 260 وقالت فرقة منهم: إن روح جعفر بن محمد تحولت عن جعفر في أبي الخطاب، ثم تحولت بعد غيبة أبي الخطاب في محمد بن إسماعيل بن جعفر، ثم ساقوا الإمامة على هذه الصفة في ولد محمد بن إسماعيل. وتشعبت منهم فرقة من المباركية ممن قال بهذه المقالة، تسمى القرامطة، وإنما سميت بهذا برئيس لهم من أهل السواد من الأنباط كان يلقب بقرمطويه، وكانوا في الأصل على مقالة المباركية ثم خالفوهم وقالوا: لا يكون بعد محمد صلى الله عليه وسلم وآله إلا سبعة أئمة: علي بن أبي طالب وهو إمام رسول، والحسن والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، ومحمد بن إسماعيل بن جعفر وهو الإمام القائم المهدي، وهو رسول. وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم وآله انقطعت عنه الرسالة في حياته في اليوم الذي أمر فيه بنصب علي بن أبي طالب رضي الله عنه للناس بغدير خم، فصارت الرسالة في ذلك اليوم إلى أمير المؤمنين وفيه، واعتلوا في ذلك بخبر تأولوه، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) (1)، وأن هذا القول منه خروج من الرسالة والنبوة، وتسليم منه ذلك لعلي بن أبي طالب بأمر الله عز وجل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وآله بعد ذلك صار مأموما لعلي بن أبي طالب، محجوجا به، فلما مضى علي رضي الله عنه صارت الإمامة في الحسن، ثم صارت من الحسن في الحسين، ثم صارت في علي بن الحسين، ثم في محمد بن علي، ثم كانت في جعفر بن محمد، ثم انقطعت عن جعفر في حياته فصارت في إسماعيل بن جعفر كما انقطعت الرسالة عن محمد صلى الله عليه وآله في حياته. ثم إن الله عز وجل بدا له في إمامة جعفر وإسماعيل فصيرها في محمد بن إسماعيل، واعتلوا في ذلك بخبر رووه عن جعفر بن محمد أنه قال: ما رأيت مثل بداء لله في إسماعيل، وزعموا أن محمد بن إسماعيل حي لم يمت وأنه غائب مستتر في بلاد الروم، وأنه القائم المهدي، ومعنى القائم عندهم أنه عندهم أنه يبعث بالرسالة، وبشريعة جديدة ينسخ بها شريعة محمد صلى الله عليه وآله، وأن محمد بن إسماعيل من أولي العزم، وأولو العزم عندهم سبعة: " نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وآله وعليهم، وعلي رضي الله عنه، ومحمد بن إسماعيل " على معنى أن السموات سبع، وأن الأرضين سبع، وأن الإنسان بدنه سبع: يداه ورجلاه، وظهره، وبطنه، وقلبه، وأن رأسه سبع: عيناه وأذناه، ومنخراه، وفمه وفيه لسانه وفمه بمنزلة صدره الذي فيه قلبه، والأئمة سبع كذلك وقلبهم محمد بن إسماعيل، واعتلوا في نسخ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وآله وتبديلها، بأخبار رووها عن أبي عبدالله جعفر بن محمد أنه قال: لو قام قائمنا علمتم القرآن جديداً " وأنه قال: ((إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء)) (2)   (1) رواه النسائي في (الكبرى) (8399) وابن ماجه (121) من حديث سعد بن أبي وقاص قال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (7/ 353): إسناده حسن وصححه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)) (98). (2) رواه مسلم (145) .. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 261 ونحو ذلك من أخبار القائم، وزعموا أن الله تبارك وتعالى جعل لمحمد بن إسماعيل جنة آدم، ومعناها عندهم الإباحة للمحارم وجميع ما خلق في الدنيا، وهو قول الله عز وجل: وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا [البقرة: 35] يعني محمد بن إسماعيل وأباه إسماعيل، وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ [البقرة: 35] أي موسى بن جعفر بن محمد، وولده من بعده، ومن ادعى منهم الإمامة، وزعموا أن محمد بن إسماعيل هو خاتم النبيين الذي حكاه الله عز وجل في كتابه، وأن الدنيا اثنتا عشرة جزيرة في كل جزيرة حجة، وأن الحجج اثنا عشر، ولكل حجة داعية، ولكل داعية يد، يعنون بذلك أن اليد رجل له دلائل وبراهين يقيمها كدلائل الرسل، ويسمون الحجة الأب، والداعية الأم، واليد الابن يضاهئون قول النصارى في ثالث ثلاثة، أن الله الأب, والمسيح الابن، وأمه مريم، فالحجة الأكبر هو الرب، وهو الأب، والداعية هي الأم، واليد هو الابن - كذب العادلون بالله وضلوا ضلالا بعيداً، وخسروا خسرانا مبينا. وزعموا أن جميع الأشياء التي فرضها الله تعالى على عباده، وسنها نبيه صلى الله عليه وسلم وآله، وأمر بها ظاهر وباطن، وأن جميع ما استعبد الله به العباد في الظاهر من الكتاب والسنة، أمثال مضروبة، وتحتها معان هي بطونها، وعليها العمل، وفيها النجاة، وأن ما ظهر منها هي التي نهى عنها، وفي استعمالها الهلاك والشقاء وهي جزء من العقاب الأدنى، عذب الله بهم قوما، وأخذهم به ليشقوا بذلك، إذ لم يعرفوا الحق، ولم يقوموا به ولم يؤمنوا. وهذا أيضاً مذهب عامة أصحاب أبي الخطاب - ومع ذلك استحلوا استعراض الناس بالسيف وسفك دمائهم، وأخذ أموالهم، والشهادة عليهم بالكفر والشرك على مذهب البيهسية والأزارقة من الخوارج، في قتل أهل القبلة وأخذ أموالهم والشهادة عليهم بالكفر، واعتلوا في ذلك بقول الله تعالى عز وجل: فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ [التوبة: 5] قالوا: إن قتلهم يجب أن يكون بمنزلة نحر الهدي وتعظيم شعائر الله، وتأولوا في ذلك قول الله: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32]. ورأوا سبي النساء وقتل الأطفال، واعتلوا في ذلك بقول الله تبارك وتعالى: لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح: 26] وزعموا أنه يجب عليهم أن يبدأوا بقتل من قال بالإمامة ممن ليس على قولهم، وخاصة من قال بإمامة " موسى بن جعفر " وولده من بعده، وتأولوا في ذلك قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة: 123]، فالواجب أن يبدأوا بهؤلاء ثم بسائر الناس، وعددهم كثير إلا أنه لا شوكة لهم ولا قوة، وكانوا كلهم بسواد الكوفة واليمن أكثر، ونواحي البحر واليمامة وما والاها، ودخل فيهم كثير من العرب فقووا بهم وأظهروا أمرهم، ولعلهم أن يكونوا زهاء مائة ألف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 262 وقالت الفرقة الرابعة من أصحاب أبي عبدالله جعفر بن محمد: إن الإمام بعد جعفر ابنه محمد، وأمه أم ولد يقال لها: حميدة، وهو موسى وإسحق بنو جعفر بن محمد لأم واحدة. وتأولوا في إمامته خبرا، وزعموا أن بعضهم روى لهم أن محمد بن جعفر دخل ذات يوم على أبيه وهو صبي صغير، فدعاه أبوه فعدا إليه فكبا في قميصه، ووقع لحر وجهه، فقام إليه جعفر وقبله، ومسح التراب عن وجهه، ووضعه على صدره، وقال: سمعت أبي يقول: إذا ولد لك ولد يشبهني، فسمه باسمي، فهو شبيهي وشبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وعلى سنته، فجعل هؤلاء الإمامة في محمد بن جعفر، وفي ولده من بعده. وهذه الفرقة تسمى السميطية، وتنسب إلى رئيسهم يقال له " يحيى بن أبي السميط "، وقال بعضهم هم الشميطية لأن رئيسهم كان يقال له "يحيى بن أبي شميط ". والفرقة الخامسة منهم قالت: الإمامة بعد جعفر في ابنه عبدالله بن جعفر الأفطح، وذلك أنه كان عند مضى جعفر أكبر ولده سنا، وجلس مجلس أبيه بعده، وادعى الإمامة بوصية أبيه، واعتلوا أي الأفطحية بحديث يروونه عن أبيه وعن جده أنهما قالا: الإمامة في الأكبر من ولد الإمام: فمال إلى عبدالله والقول بإمامته جل من قال بإمامة أبيه، غير نفر يسير عرفوا الحق وامتحنوا عبدالله بالمسائل في الحلال والحرام والصلاة والزكاة والحج وغير ذلك فلم يجدوا عنده علما، وهذه الفرقة القائلة بإمامة عبدالله بن جعفر هي " الفطحية" وسموا بذلك لأن عبدالله كان أفطح الرأس، وقال بعضهم كان أفطح الرجلين، وقال بعض الرواة أنهم نسبوا إلى رئيس لهم من أهل الكوفة يقال له عبدالله بن فطيح. ومال إلى هذه الفرقة عامة مشايخ الشيعة وفقهائها، ولم يشكوا في أن الإمامة في عبدالله بن جعفر وفي ولده من بعده. فلما مات عبدالله ولم يخلف ذكراً، ارتاب القوم واضطربوا وأنكروا الروايات الكثيرة عن علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد من أن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسنين، ولا تكون إلا في الأعقاب وأعقاب الأعقاب إلى انقضاء الدنيا، فرجع عامة الفطحية عن القول بإمامته سوى قليل منهم، إلى القول بإمامة موسى بن جعفر. وقد كانت جماعته من شيعة عبدالله قد رجعوا في حياته عن إمامته لروايات وقفوا عليها رووها عن جعفر أنه قال " إن الإمامة بعدي في ابني موسى، وأنه دل عليه، وأشار إليه، وأعلمهم في عبدالله أمورا لا يجوز أن تكون في الإمام ولا يصلح من كانت فيه للإمامة، وروى بعضهم أن جعفر قال لموسى: يابني إن أخاك سيجلس مجلسي ويدعي الإمامة بعدي فلا تنازعه ولا تتكلمن فإنه أول أهلي الذين لحقوا بي. فلما توفي عبدالله رجعت شيعته عن القول به، وثبتت طائفة على القول بإمامته ثم بإمامة موسى بن جعفر من بعده. وعاش عبدالله بعد أبيه سبعين يوما أو نحوها. وقالت الفرقة السادسة منهم: إن الإمام هو موسى بن جعفر بعد أبيه، وانكروا إمامة عبدالله، وخطأوه في فعله وجلوسه مجلس أبيه وادعائه الإمامة. هذا هو التفرق الذي حدث بعد موت الإمام جعفر الصادق. وأضيف هنا ما جاء في الكتاب عن تفرق الشيعة بعد الإمام الحادي عشر، وهو الحسن العسكري: قال المؤلفان في بيان هذا التفرق: وتوفي ولم ير له خلف ولم يعرف له ولد ظاهر، فاقتسم ما ظهر من ميراثه أخوه جعفر وأمه، وهي أم ولد يقال لها عسفان، ثم سماها أبوه حديثا، فافترق أصحابه من بعده فرقا: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 263 ففرقة منها قالت: إن الحسن بن علي حي لم يمت، وإنما غاب، وهو القائم، ولا يجوز أن يموت الإمام ولا ولد له، ولا خلف معروف ظاهر، لأن الأرض لا تخلو من إمام، وقد ثبتت إمامة الحسن بن علي، والرواية قائمة أن للقائم غيبتين فهذه الغيبة إحداهما، وسيظهر ويعرف ثم يغيب غيبة أخرى، وذهبوا في ذلك إلى بعض مذاهب الواقفة على موسى بن جعفر. وإذا قيل لهذه الفرقة: ما الفرق بينكم وبين الواقفة؟ قالوا: إن الواقفة أخطأت في الوقوف على موسى لما ظهرت وفاته لأنه توفي عن خلف قائم أوصى إليه وهو الرضا رضي الله عنه، ولأنه رحمه الله عليه توفي عن بضعة عشر ذكرا، كل إمام ظهرت وفاته كما ظهرت وفاة آبائه وله خلف ظاهر معروف فهو ميت لا محالة، وإنما القائم المهدي الذي يجوز الوقوف على حياته من ظهرت له وفاة عن غير خلف، فيضطر شيعته إلى الوقوف عليه إلى أن يظهر، لأنه لا يجوز موت إمام بلا خلف، فقد صح أنه غاب. وقالت الفرقة الثانية: إن الحسن بن علي مات وعاش بعد موته، وهو القائم المهدي، واعتلوا في ذلك برواية اعتلت بها فرقة من واقفة موسى بن جعفر رووها عن جعفر بن محمد، أنه قال: إنما سمي القائم قائما لأنه يقوم بعدما يموت، فالحسن بن علي قد مات ولا شك في موته، ولا خلف له، ولا وصي موجود، فلا شك أنه القائم، وأنه حي بعد الموت، لأن الأرض لا تخلو من حجة ظاهر، فهو رضي الله عنه غائب مستتر، وسيظهر ويملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا. وإنما قالوا: إنه حي بعد الموت، وأنه مستتر خائف لأنه لا يجوز عندهم أن تخلو الأرض من حجة قائم على ظهرها، عدل حي ظاهر أو خائف مغمور، للخبر الذي روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في بعض خطبه: (اللهم إنك لا تخلي الأرض من حجة لك ظاهر أو مغمور، لئلا تبطل حججك وبيناتك). فهذا دليل على أنه عاش بعد موته. وليس بين هذه الفرقة والفرقة التي قبلها فرق أكثر من أن هذه صححت موت الحسن بن علي رضي الله عنه، وأن الأولى قالت إنه غاب وهو حي وأنكرت موته، وهذه أيضاً شبيهة بفرقة من الواقفة على موسى بن جعفر رضي الله عنه. وإذا قيل لهم: من أين قلتم هذا؟ وما دليلكم عليه؟ رجعوا إلى تأول الروايات. وقالت الفرقة الثالثة: إن الحسن بن علي توفي ولا عقب له، والإمام بعده أخوه، جعفر، وإليه أوصى الحسن، ومنه قبل جعفر الوصية وعنه صارت إليه الإمامة. فلما قيل لهم: إن الحسن وجعفر ما زالا متهاجرين متصارعين متعاديين طول زمانهما، وقد وقفتم على صنايع جعفر ومخالفي الحسن، وسوء معاشرته له في حياته، ولهم من بعد وفاته في اقتسام مواريثه، قالوا: إنما ذلك بينهما في الظاهر، فأما في الباطن فكانا متراضيين، متصافيين، لا خلاف بينهما، ولم يزل جعفر مطيعا له، سامعا منه، فإذا ظهر فيه شىء من خلافه فعن أمر الحسن، فجعفر وصي الحسن، وعنه أفضت إليه الإمامة. ورجعوا إلى بعض قول الفطحية في عبدالله وموسى, وزعموا أن موسى بن جعفر إنما كان إماما بوصية أخيه عبدالله إليه، وعن عبدالله صارت إليه الإمامة لا عن أبيه، وأقروا بإمامة عبدالله بن جعفر وثبوتها بعد إنكارهم لها وجحودهم إياها، وأوجبوا فرضها على أنفسهم ليصححوا بذلك مذهبهم. وكان رئيسهم والداعي لهم إلى ذلك رجل من أهل الكوفة من المتكلمين يقال له علي الطاحي الخزار، وكان مشهورا في الفطحية، وهو ممن قوى إمامة جعفر وأمال الناس إليه، وكان متكلما محجاجا، وأعانته على ذلك أخت الفارس بن حاتم بن ماهويه القزوينى، غير أن هذه أنكرت إمامة الحسن بن علي رضي الله عنه، وقالت: إن جعفرا أوصى أبوه إليه لا إلى الحسن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 264 وقالت الفرقة الرابعة: إن الإمام بعد الحسن هو جعفر، وأن الإمامة صارت إليه من قبل أبيه، لا من قبل أخيه محمد ولا من قبل الحسن. ولم يكن محمد إماما، ولا الحسن أيضاً، لأن محمدا توفي في حياة أبيه، وتوفي الحسن ولا عقب له، وكان مدعيا مبطلا، والدليل على ذلك أن الإمام لا يموت حتى يوصي ويكون له خلف، والحسن قد توفي ولا وصي له، ولا ولد، فادعاؤه الإمامة باطل، والإمام لا يكون من لا خلف له ظاهر معروف مشار إليه، ولا يجوز أيضاً أن تكون الإمامة في الحسن وجعفر لقول أبي عبدالله جعفر بن محمد وغيره من آبائه صلوات الله عليهم أن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام، فدلنا ذلك على أن الإمامة لجعفر، وأنها صارت إليه من قبل أبيه لا من قبل أخويه. أما الفرقة الخامسة: فإنها رجعت إلى القول بإمامة محمد بن علي المتوفي في حياة أبيه، وزعمت أن الحسن وجعفر ادعيا ما لم يكن لهما، وأن أباهما لم يشر إليهما بشيء من الوصية والإمامة. ولا روي عنه في ذلك شىء أصلا، ولا نص عليهما بشيء يوجب إمامتهما، ولا هما في موضع ذلك وخاصة جعفر: فإن فيه خصالا مذمومة، وهو بها مشهور، ولا يجوز أن يكون مثلها في إمام عدل. وأما الحسن فقد توفي ولا عقب له، فعلمنا أن محمدا كان الإمام، قد صحت الإشارة من أبيه إليه، والحسن قد توفي ولا عقب له، ولا يجوز أن يموت إمام بلا خلف، ثم رأينا جعفر في حياة الحسن وبعد مضيه، ظاهر الفسق، غير صائن لنفسه، معلنا بالمعاصي، وليس هذا صفة من يصلح للشهادة على درهم، فكيف يصلح لمقام النبي صلى الله عليه وسلم وآله، لأن الله عز وجل لم يحكم بقول شهادة من يظهر الفسق والفجور، فكيف يحكم له بإثبات الإمامة مع عظم فضلها وخطرها وحاجة الخلق إليها. وإذ هي السبب الذي يعرف به دينه ويدرك رضوانه، فكيف تجوز في مظهر الفسق، وإظهار الفسق لا يجوز تقية، هذا ما لايليق بالحكيم عز وجل، ولا يجوز أن ينسب إليه تبارك وتعالى، فلما بطل عندنا أن تكون الإمامة تصلح لمثل جعفر، وبطلت عمن لا خلف له، لم يبق إلا التعلل بإمامة أبي جعفر محمد بن علي أخيهما، إذ لم يظهر منه إلا الصلاح والعفاف، وإن له عقبا قائما معروفا، مع ما كان من أبيه من الإشارة بالقول مما لا يجوز بطلان مثله، فلابد من القول بإمامته وأنه القائم المهدي، أو الرجوع إلى القول ببطلان الإمامة أصلا، وهذا مما لايجوز. وقالت الفرقة السادسة: إن لحسن بن علي ابنا سماه محمدا، ودل عليه، وليس الأمر كما زعم من ادعى أنه توفي ولا خلف له، وكيف يكون إمام قد ثبتت إمامته ووصيته، وجرت أموره على ذلك، وهو مشهور عند الخاص والعام، ثم توفي ولا خلف له، ولكن خلفه قائم وولد قبل وفاته بسنين، وقطعوا على إمامته وموت الحسن، وأن اسمه محمد، وزعموا أن أباه أمر بالاستتار في حياته مخافة عليه، فهو مستتر خائف في تقية من عمه جعفر وغيره من أعدائه وأنها إحدى غيباته، وأنه هو الإمام القائم، وقد عرف في حياة أبيه ونص عليه، ولا عقب لأبيه غيره، فهو الإمام لا شك فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 265 وقالت الفرقة السابعة: بل ولد للحسن ولد بعده بثمانية أشهر، والذين ادعوا له ولدا في حياته كاذبون مبطلون في دعواهم، لأن ذلك لو كان، لم يخف كما لم يخف غيره، ولكنه مضى ولم يعرف له ولد، ولا يجوز أن يكابر في مثل ذلك ويدفع العيان والمعقول والمتعارف. وقد كان الحبل فيما مضى قائماً ظاهراً ثابتا عند السلطان، وعند سائر الناس، وامتنع من قسمة ميراثه من أجل ذلك، فقد ولد له ابن بعد وفاته بثمانية أشهر، وقد كان أمر أن يسمى محمداً. وأوصى بذلك وهو مستور لا يرى. واعتلوا في تجويز ذلك وتصحيحه بخبر يروى عن أبي الحسن الرضا رضي الله عنه، أنه قال: ستبتلون بالجنين في بطن أمه والرضيع، فهذا هو. وقالت الفرقة الثامنة: أنه لا ولد للحسن أصلاً، لأنا قد امتحنا ذلك وطلبناه بكل وجه وفتشنا عنه سرا وعلانية وبحثنا عن خبره في حياة الحسن بكل سبب فلم نجده ولو جاز لنا أن نقول في مثل الحسن بن علي وقد توفي ولا ولد له ظاهر معروف أن له ولدا مستوراً لجازت مثل هذه الدعوى في كل ميت عن غير خلف، ولجاز مثل ذلك في النبي صلى الله عليه وآله، أن يقال خلف ابنا نبيا رسولا، ولجاز أن تدعي الفطحية أن عبدالله بن جعفر بن محمد خلف ولدا ذكرا إماما، وأن أبا الحسن الرضا رضي الله عنه خلف ثلاثة بنين غير أبي جعفر، أحدهم الإمام، لأن مجيء الخبر بوفاة الحسن بلا عقب، كمجيء الخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم وآله لم يخلف ذكرا من صلبه ولا خلف عبدالله بن جعفر ابنا ولا كان للرضا أربعة بنين، فالولد قد بطل لا محالة. ومع ذلك فهناك حبل قائم ... فإنه لا يجوز أن يمضي الإمام ولا خلف له فتبطل الإمامة وتخلو الأرض من الحجة. واحتج أصحاب الولد على هؤلاء بالخبر الذي روي عن جعفر أن القائم يخفى على الناس حمله وولادته، وقالوا: أنكرتم علينا أمرا وقلتم بمثله, قلتم إن هناك حبلا قائما. فإن كنتم اجتهدتم في طلب الولد فلم تجدوه فأنكرتموه لذلك فقد طلبنا معرفة الحبل وتصحيحه أشد من طلبكم، واجتهدنا فيه أشد من اجتهادكم، فاستقصينا في ذلك غاية الاستقصاء فلم نجده، فنحن في الولد لذلك أصدق منكم، لأنه قد يجوز في العقل والعادة والتعارف أن يكون للرجل ولد مستور لا يعرف في الظاهر ثم يعرف بعد ذلك ويصح نسبه. وقال المنكرون: الأمر الذي ادعيتموه منكر شنيع ينكره عقل كل عاقل، ويدفعه التعارف والعادة مع ما فيه من كثرة الروايات الصحيحة عن الأئمة الصادقين، أن الحبل لا يكون أكثر من تسعة أشهر، وقد مضى للحبل الذي ادعيتموه سنون، وأنكم على قولكم بلا صحة ولا بينة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 266 وقالت الفرقة التاسعة: إن الحسن بن علي قد صحت وفاته كما صحت وفاة آبائه بتواطؤ الأخبار التي لايجوز تكذيب مثلها، وكثرة المشاهدين لموته وتواتر ذلك عن الولي له والعدو، وهذا ما لا يجب الارتياب فيه، وصح بمثل هذه الأسباب أنه لا خلف له فلما صح عندنا الوجهان ثبت أنه لا إمام بعد الحسن بن علي، وأن الإمامة انقطعت وذلك جائز في المعقول والقياس والتعارف، كما جاز أن تنقطع النبوة بعد محمد، فلا يكون بعد محمد صلى الله عليه وسلم وآله نبي، فكذلك جاز أن تنقطع الإمامة لأن الرسالة والنبوة أعظم خطراً وأجل والخلق إليها أحوج، والحجة بها ألزم، والعذر بها أقطع، لأن معها البراهين الظاهرة والأعلام الباهرة، ومع ذلك فقد انقطعت، فكذلك يجوز أن تنقطع الإمامة. واعتلوا في ذلك بخبر يروي عن الصادق: أن الأرض لا تخلو من حجة، إلا أن يغضب الله على أهل الأرض بمعاصيهم، فيرفع عنهم الحجة إلى وقت، فهذا عندنا ذلك الوقت، والله يفعل ما يشاء، وليس في قولنا هذا بطلان الإمامة. وهذا أيضاً جائز من وجه آخر كما جاز أن لا يكون قبل النبي صلى الله عليه وسلم وآله فيما بينه وبين عيسى رضي الله عنه نبي، ولا وصي، ولما رويناه من الأخبار أنه كانت بين الأنبياء فترات، ورووا ثلاثمائة سنة وروي مائتا سنة، ليس فيها نبي ولا وصي، وقد قال الصادق رضي الله عنه: إن الفترة هي الزمان الذي لا يكون فيه رسول ولا إمام، والأرض اليوم بلا حجة، إلا أن يشاء الله فيبعث القائم من آل محمد صلى الله عليه وسلم وآله، فيحي الأرض بعد موتها، كما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم وآله على حين فترة من الرسل، فجدد ما درس من دين عيسى ودين الأنبياء قبله صلى الله عليهم، فكذلك يبعث القائم إذا شاء عز وجل والحجة علينا إلى أن يبعث القائم - وظهوره: الأمر والنهي المتقدمان والعلم الذي في أيدينا مما خرج عنهم إلينا، والتمسك بالماضي، مع الإقرار بموته، كما كان أمر عيسى رضي الله عنه ونهيه، وما خرج من علمه وعلم أوصيائه، والتمسك بالإقرار بنبوته وبموته، والإقرار بمن ظهر من أوصيائه، حجة على الناس قبل ظهور نبينا صلى الله عليه وسلم وآله. وهذه الفرقة لا توجب قيام القائم، ولا خروج مهدي، وتذهب في ذلك إلى بعض معاني البداء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 267 وقالت الفرقة العاشرة: إن محمد بن علي، الميت في حياة أبيه، كان الإمام بوصية من أبيه، وإشارته ودلالته ونصه على اسمه وعينه، ولا يجوز أن يشير إمام قد ثبتت إمامته وصحت على غير إمام، فلما حضرت الوفاة محمدا لم يجز أن يوصي ولا يقيم إماما، ولا يجوز له أن يوصي إلى أبيه، إذ إمامة أبيه ثابتة عن جده ولا يجوز أيضاً أن يأمر مع أبيه وينهى ويقيم من يأمر معه ويشاركه. وإنما ثبتت له الإمامة بعد مضي أبيه، فلما لم يجز إلا أن يوصي فقد أوصى إلى غلام لأبيه صغير كان في خدمته يقال له نفيس، وكان عنده ثقة أمينا، ودفع إليه الكتب والوصية، وأمره إذا حدث به حدث الموت أن يؤدي ذلك كله إلى أخيه جعفر، ما فعل الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لما خرج إلى الكوفة، فقد دفع كتبه والوصية وما كان عنده من السلاح وغيره إلى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وآله واستودعها ذلك كله، وأمرها أن تدفعه إلى علي بن الحسين الأصغر إذا رجع إلى المدينة، فلما انصرف علي بن الحسين من الشام إليها، دفعت إليه جميع ذلك، وسلمته له، فهذا بتلك المنزلة في الإمامة لجعفر بوصية " نفيس " إليه عن محمد أخيه، فإن نفيسا لما خاف على نفسه لما علم أهل الدار قصته وأحسوا بأمره وحسدوه، ونصبوا له وبغوه الغوائل، وخشي أن تبطل الإمامة وتذهب الوصية دعا جعفرا وأوصى إليه، ودفع إليه جميع ما استودعه أخوه الميت في حياة أبيه، ودفع إليه الوصية على نحو ما أمره، وهكذا ادعى جعفر أن الإمامة صارت إليه من قبل محمد أخيه، لا من قبل أبيه وهذه الفرقة تسمى النفيسية. وقالت فرقة من النفيسية أنكروا إمامة الحسن رضي الله عنه: لم يوص أبوه إليه، ولا غير وصيته إلى محمد ابنه، وهذا عندهم جائز صحيح، فقالوا بإمامة جعفر من هذا الوجه وناظروا عليها. وهذه الفرقة تتقول على أبي محمد الحسن بن علي رضي الله عنه تقولا شديداً، وتكفره وتكفر من قال بإمامته، وتغلو في القول في جعفر، وتدعي أنه القائم، وتفضله على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وتقدمه على الحسن والحسين وجميع الأئمة، وتعتل في ذلك: أن القائم أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله. وأخذ نفيس ليلا وألقي في حوض كان في الدار كبير فيه ماء كثير، فغرق فيه فمات وهذه الفرقة هي النفيسية الخالصة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 268 وقالت الفرقة الحادية عشرة منهم: لما سئلوا عن ذلك وقيل لهم ما تقولون في الإمام: أهو جعفر أم غيره؟ قالوا: لا ندري ما نقول في ذلك أهو من ولد الحسن أم من إخوته فقد اشتبه علينا الأمر ولسنا نعلم أن للحسن بن علي ولدا أم لا، أم الإمامة صحت لجعفر أم لمحمد، وقد كثر الاختلاف، إلا أنا نقول: إن الحسن بن علي كان إماما مفترض الطاعة ثابت الإمامة، وقد توفي رضي الله عنه وصحت وفاته، وأن الأرض لا تخلو من حجة، ونحن نتوقف ولا نقدم على القول بإمامة أحد بعده إذ لم يصح عندنا أن له خلفا وخفي علينا أمره حتى يصح لنا الأمر ويتبين، ونتمسك بالأول كما أمرنا أنه إذا هلك الإمام، ولم يعرف الذي بعده فتمسكوا بالأول حتى يتبين لكم الآخر، فنحن نأخذ بهذا ونلزمه، ولا ننكر إمامة أبي محمد، ولا ننكر موته، ولا نقول إنه رجع بعد موته، ولا نقطع على إمامة أحد من ولد غيره ولا ننتميه حتى يظهر الله الأمر إذا شاء ويكشفه ويبينه لنا، وهذه الفرقة لا تثبت لجعفر بن علي إمامة أحد من ولده ولا من غيره، بوجه من الوجوه ولا تثبت إمامة إمام إلا بوصية أبيه إليه، ووصية ظاهرة، ولم تثبت لجعفر وصية ظاهرة ولا باطنة، وكل إمام اختلف المؤتمون به في مخرج إمامته ممن هي، وممن أوصى إليه، ومن أقامه فهي باطلة لا تثبت، وأصحاب جعفر يختلفون في إمامة جعفر ومخرجها، فبعضهم يقول إنها له بوصية أبيه إليه وإقامته، وبعضهم يدعيها له من قبل أخيه محمد الميت في حياة أبيه، وبعضهم يدعيها له عن أخيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 269 وقالت الفرقة الثانية عشرة: منهم وهم الإمامية: ليس القول كما قال هؤلاء كلهم، بل لله عز وجل في الأرض حجة من ولد الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا، وأمر الله بالغ، وهو وصي لأبيه قائم بالأمر بعده هاد للأمة مهدي على المنهاج الأول والسنن الماضية، ولا تكون الإمامة في الأخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام ولا يجوز ذلك، ولا تكون إلا في عقب الحسن بن علي بن محمد إلى فناء الخلق وانقطاع أمر الله ونهيه ورفعه التكليف عن عباده متصلا ذلك ما اتصلت أمور الله. ولو كان في الأرض رجلان، لكان أحدهما الحجة، ولو مات أحدهما لكان الآخر الحجة ما اتصل أمر الله، ودام نهيه في عباده وتكليفه قائما في خلقه. ولا يجوز أن تكون الإمامة في عقب من لم تثبت له إمامة، ولم تلزم العباد به حجة ممن مات في حياة أبيه، ولا في ولده ولا في وصي له من أخ ولا غيره، ولو جاز ذلك لصح مذهب أصحاب إسماعيل بن جعفر بن محمد ولثبتت إمامة ابنه محمد بن إسماعيل بعد مضي جعفر بن محمد، وكان من قال بها من المباركية والقرامطة محقا مصيبا في مذهبه، وهذا الذي ذكرناه هو المأثور عن الأئمة الصادقين مما لا دفع له بين هذه العصابة من الشيعة الإمامية، ولا شك فيه عندهم ولا ارتياب لصحة مخرج الأخبار المروية فيه وقوة أسبابها، وجودة أسانيدها وثقة ناقليها. ولا يجوز أن تخلو الأرض من حجة، ولو خلت ساعة لساخت الأرض ومن عليها ولا يجوز شيء من مقالات هذه الفرق كلها، فنحن متمسكون بإمامة الحسن بن علي، مقرون بوفاته، معترفون بأن له خلفا من صلبه، وأن خلفه هو الإمام من بعده، حتى يأذن الله عز وجل له فيظهر ويعلن أمره، كما ظهر وعلن أمر من مضى قبله من آبائه، إذ الأمر لله تبارك وتعالى يفعل ما يشاء، ويأمر بما يريد من ظهور وخفاء، ونطق وصموت، كما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم وآله في حال نبوته بترك إظهار أمره، والسكوت والإخفاء من أعدائه والاستتار وترك إظهار النبوة التي هي أجل وأعظم وأشهر من الإمامة، فلم يزل كذلك سنين إلى أن أمره بإعلان ذلك، وعند الوقت الذي قدره تبارك وتعالى، فصدع بأمره وأظهر الدعوة لقومه، ثم بعد الإعلان بالرسالة، وإقامة الدلائل المعجزة والبراهين الواضحة اللازمة بها الحجة وبعد أن كذبته قريش وسائر الخلق من عرب وعجم، وما لقى من الشدة ولقيه أصحابه من المؤمنين، أمرهم بالهجرة إلى الحبشة، وأقام هو مع قومه حتى توفي أبو طالب فخاف على نفسه وبقية أصحابه، فأمره الله عند ذلك بالهجرة إلى المدينة، وأمره بالاختفاء في الغار والاستتار من العدو، فاستتر أياما، خائفا مطلوبا، حتى أذن الله له وأمره بالخروج، وكما قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: اللهم إنك لا تخلي الأرض من حجة لك على خلقك ظاهراً معروفا، أو خافياً مغموداً كيلا تبطل حجتك وبيناتك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 270 وبذلك أمرنا، وبه جاءت الأخبار الصحيحة المشهورة عن الأئمة الماضين، وليس للعباد أن يبحثوا عن أمور الله ويقفوا أثر ما لا علم لهم به، ويطلبوا إظهاره، فستره الله عليهم وغيبه عنهم وقال الله عز وجل لرسوله: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36] فليس يجوز لمؤمن ولا مؤمنة طلب ما ستره الله، ولا يجوز ذكر اسمه ولا السؤال عن مكانه حتى يؤمر بذلك، إذ هو رضي الله عنه مغمود خائف مستور بستر الله تعالى، وليس علينا البحث عن أمره، بل البحث عن ذلك وطلبه محرم ولا يحل، لأن في طلب ذلك وإظهار ما ستره الله عنا وكشفه وإعلان أمره والتنويه باسمه معصية لله والعون على سفك دمه رضي الله عنه ودماء شيعته وانتهاك حرمته، أعاذ الله من ذلك كل مؤمن ومؤمنة برحمته وفي ستر ذلك والسكوت عنه حقنها وصيانتها وسلامة ديننا والانتهاء إلى أمر الله وأمر أئمتنا وطاعتهم. وفقنا الله وجميع المؤمنين بطاعته ومرضاته بمنه ورأفته، ولا يجوز لنا ولا لأحد من المؤمنين أن يختار إماما برأيه ومعقوله واستدلاله، وكيف يجوز هذا وقد حظره الله جل وتعالى على رسله وأنبيائه وجميع خلقه، فقال في كتابه إذ لم يجعل الاختيار إليهم في شيء من ذلك: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب: 36] وقال: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص: 68] وإنما اختيار الحجج والأئمة إلى الله عز وجل وإقامتهم إليه فهو يقيمهم ويختارهم ويخفيهم إذا شاء ويظهرهم ويعلن أمرهم إذا أراد ويسترهم إذا شاء فلا يبديهم، لأنه تبارك وتعالى أعلم بتدبيره في خلقه وأعرف بمصلحتهم، والإمام أعلم بأمور نفسه وزمانه وحوادث أمور الله منا. وقد قال أبو عبدالله الصادق رضي الله عنه: " وهو ظاهر الأمر، معروف المكان، لا ينكر نسبه ولا تخفى ولادته وذكره شائع مشهور في الخاص والعام: من سماني باسم فعليه لعنة الله " ولقد كان الرجل من شيعته يلقاه في الطريق فيحيد عنه ولا يسلم عليه تقية، فإذا لقيه أبو عبدالله شكره على فعله وصوب له ما كان منه وحمده عليه، وذم من تعرف إليه وسلم عليه وأقدم عليه بالمكروه من الكلام. وكذلك وردت الأخبار عن أبي إبراهيم موسى بن جعفر رضي الله عنه من منع تسميته مثل ذلك، وكان أبو الحسن الرضا يقول: لو علمت ما يريد القوم مني لأهلكت نفسى عندي بما لايوثق ديني، بلعب الحمام والديكة وأشباه ذلك، هذا كله لشدة التستر من الأعداء ولوجوب فرض استعمال التقية فكيف يجوز في زماننا هذا ترك استعمال هذا مع شدة الطلب وجور السلطان وقلة رعايته لحقوق أمثالهم، ومع ما لقي رضي الله عنه من " صالح بن وصيف " لعنه الله، وحبسه إياه ولأهل بيته، والأمر بقتله، وطلب الشيعة، وما نالهم منه من الأذى والتعنت، وتسميته من لم يظهر خبره ولا اسمه وخفيت ولادته. وقد رويت أخبار كثيرة: أن القائم تخفى على الناس ولادته ويخمل ذكره ولا يعرف اسمه ولا يعلم مكانه ولا يعرف إلا أنه لا يقوم حتى يظهر ويعرف أنه إمام ابن إمام، ووصي ابن وصي، يؤتم به قبل أن يقوم، ومع ذلك فإنه لابد من أن يعلم أمره ثقاته وثقات أبيه، وإن قالوا، لأن الإشارة بالوصية من إمام إلى إمام بعده لا تصح ولا تثبت إلا بشهود عدول من خاصة الأولياء أقل ذلك شاهدان فما فوقهما، إلا أن لا يكون للإمام الماضي إلا ولد واحد فيستغني بذلك عن الإشارة إليه على ما يروي عن أبي جعفر محمد بن الرضا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 271 ومع هذا فإن الرضا لم يدع الإشارة إليه، والوصية والإشهاد على ذلك لأنه لابد منه، إذ السنة جارية من رسول الله بذلك، ومن الأئمة من بعده، وإذ قد فعله أمير المؤمنين بالحسن وفعله الحسن بالحسين مع وصية رسول الله وإشارته إليه أن الإمامة في عقب الحسن بن محمد ما اتصلت أمور الله ولا ترجع إلى أخ، ولا عم، ولا ابن عم، ولا ولد ولد مات أبوه في حياة جده، ولا يزول عن ولد الصلب، ولا يكون أن يموت إمام إلا ولد له لصلبه وله ولد. فهذه سبيل الإمامة، وهذا المنهاج الواضح والفرض الواجب اللازم الذي لم يزل عليه الإجماع من الشيعة الإمامية الصحيحة التشيع عليه، وعلى ذلك كان إجماعنا إلى يوم مضى الحسن بن علي رضوان الله عليه. وقالت الفرقة الثالثة عشرة: مثل مقالة الفطحية، والفقهاء منهم أهل الورع والعبادة، مثل عبدالله بن بكير بن أعين ونظرائه، فزعموا: أن الحسن بن علي توفي، وأنه كان الإمام بعد أبيه بوصية أبيه إليه، وأن جعفر بن علي هو الإمام بعده، كما كان موسى بن جعفر إماما بعد عبدالله بن جعفر، للخبر الذي روي: أن الإمامة في الأكبر من ولد الإمام إذا مضى، وأن الخبر الذي روي عن الصادق رضي الله عنه: أن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام صحيح لا يجوز غيره، وإنما ذلك إذا كان للماضي خلف من صلبه فإنها لا تخرج منه إلى أخيه، بل تثبت في خلفه، وإذا توفي ولا خلف له رجعت إلى أخيه ضرورة، لأن هذا معنى الحديث عندهم، وكذلك قالوا في الحديث الذي روي: أن الإمام لا يغسله إلا إمام، وأن هذا عندهم صحيح لا يجوز غيره، وأقروا: أن جعفر بن محمد رضي الله عنه غسله موسى، وادعوا أن عبدالله أمره بذلك, لأنه كان الإمام بعد عبدالله، فلذلك جاز أن يغسله موسى، فهذه الأخبار بأن الإمام لا يغسله إلا الإمام صحيحة جائزة على هذا الوجه، فهؤلاء الفطحية الخلص الذين يجيزون الإمامة في أخوين إذا لم يكن الأكبر منهما خلف ولدا، والإمام عندهم " جعفر بن علي " على هذا التأويل ضرورة، وعلى هذه الأخبار والمعاني التي وصفناها ... مما سبق نلاحظ ما يأتي:- ـ عندما وقفت الناووسية عند الإمام الصادق، واعتبرته القائم المهدي، بدأت في وضع الأخبار التي تؤيد عقيدتها، ولم تستطع أن تقوم بهذا قبل موته. ـ والإسماعيلية الخالصة قامت بمثل هذا بالنسبة لإسماعيل بن جعفر. ـ والمباركية جعلت الإمامة لمحمد بن إسماعيل بن جعفر، ويذكر التاريخ تفرقها بعد ذلك لعدة فرق، ومنهم القرامطة الذين زعموا أن محمد بن إسماعيل هو خاتم النبيين، واستباحوا المحارم وجميع ما خلقه الله!! ومع وضوح كفرهم استدلوا بما يؤيد عقيدتهم. ـ والفرقة الرابعة التي قالت بإمامة محمد بن جعفر، وفي ولده من بعده، وضعت من الأخبار ما يدل على إمامته، ولم تستطع أن تضع ما ينص على أسماء من يأتي بعده. ـ والفرقة الخامسة وضعت أيضاً من الأخبار ما يدل على إمامة عبدالله بن جعفر، ولم تستطع أن تضع ما ينص على أسماء من يأتي بعده. فلما مات ولم يخلف ذكرا حدث التفرق المذكور، وأنكر القوم ما أنكروا من الروايات، ووضعوا روايات جديدة تتفق مع العقيدة الجديدة، وانظر مثلا إلى هذه الرواية: قال جعفر لموسى: " يا بني إن أخاك - يقصد عبدالله - سيجلس مجلسي، ويدعي الإمامة بعدي، فلا تنازعه ولا تتكلمن، فإنه أول أهلي الذين لحقوا بي ". فهذه الرواية التي ذكرت للاستدلال على إمامة موسى بن جعفر لم توضع قبل موت عبدالله بن جعفر، لأن الوضاعين من هؤلاء الشيعة لم يكونوا يعرفون من الذي سيموت قبل الآخر. ـ والفرقة السادسة التي قالت بإمامة موسى بن جعفر بعد أبيه صارت بعد وفاته خمس فرق. ولعل في هذا ما يكفى لبيان ما أردت بيانه. فالشيعة الاثنا عشرية التي نتحدث عنها كانت انبثاقا من إحدى الفرق الخمس السابقة، وخمس الفرق كلها كانت إحدى الفرق الست السابقة. وكل فرقة من الفرق الخمسة افترقت بعد ذلك عدة فرق. وإذا واصلنا المسيرة نجد أن الشيعة اتباع الحسن العسكري - الإمام الحادى عشر عند الاثني عشرية - انقسمت بعد موته إلى ما يقرب من عشرين فرقة، وكل فرقة تضع من الأخبار ما يؤيد عقيدتها الجديدة، ولا يمكن وضع هذه الأخبار قبل وفاة الإمام. ونلحظ أن كل هذه الفرق أكدت أن الحسن العسكري لا خلف له ما عدا فرقة مع فرقة الإمامية. ومعنى هذا أن الشيعة الاثني عشرية لم تبدأ في وضع الأخبار التي تتصل بالاثني عشر إماما إلا بعد الحسن العسكري، أي في النصف الثاني من القرن الثالث. وبعد هذا تبدأ مرحلة الكتب. والواقع العملي يؤيد ما بينته هنا، فكتب الحديث الأربعة المعتمدة عندهم أولها ظهر في القرن الرابع، وهو الكافي، ثم جاء بعده باقي الكتب. المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص671 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 272 المبحث الثاني: الأصول الأربعمائة قال مؤلف كتاب (دراسة حول الأصول الأربعمائة) (ص 7): بلغ الرواة عنه – أي الإمام الصادق – أربعة آلاف رجل، وانصرفت طائفة كبيرة من هؤلاء لضبط ما رووه عن الإمام سماعاً في كتاب خاص في مواضيع الفقه والتفسير والعقائد وغيرها، وقد اصطلح التاريخ الشيعي على تسمية هذه الكتب بالأصول، كما حصرها في أربعمائة أصل، وهذا ما نعنيه بالأصول الأربعمائة. ا. هـ وتحدث المؤلف بعد هذا مباشرة عن الاختلاف حول تحديد مفهوم الأصل، ثم ذكر أسماء أصحاب الأصول، ولكن عددهم لم يبلغ الثمانين، ثم قدم دراسة حول الأصول بصفة عامة، ثم تعريفاً مقتضباً للأصول الموجودة كاملة، أو الموجود قسم منها، وبلغ العدد ثمانية وعشرين. وانتهى بعد ذلك إلى نتيجة البحث فقال:- " وقد توصلنا من هذا البحث إلى النتائج التالية ": أولاً: أن الأصل مما اصطلح عليه علماء الشيعة في القرن الخامس الهجري. ثانياً: أن المحدثين ذكروا في تحديد مفهوم الأصل أقوالاً كانت في الغالب مجرد حدس وتخمين كما صرح بذلك السيد محسن الأمين. وأن لكلمة الأصل معنيين: الأول: المعنى الاصطلاحي وهو عبارة عن الحاوي للحديث المروي سماعاً من الإمام الصادق غالبا ومن تأليف رواته وقد استشهدنا لذلك بنصوص المتقدمين، وأن أغلب من ذكرهم الطوسي والنجاشي في أصحاب الأصول هم من أصحاب الإمام الصادق ودراسة الأصول الموجودة. الثاني: المعنى اللغوي بمعنى المصدر والمرجع – كما في عصرنا – وذلك حيث تستعمل في غير كتب الحديث من العلوم المختلفة أو تستعمل قبل القرن الخامس الهجري. ثالثاً: تحديد زمن التأليف بعصر الإمام الصادق أي من روى عنه وينافي ذلك أن يروى عن أبيه الباقر أو ابنه الكاظم. رابعاً: إن أريد من الأصل مفهومه اللغوي فأصول أحاديث الشيعة عدداً ستة آلاف وستمائة – تقريباً. وإن أريد مفهومه الاصطلاحي المذكور فلا يزيد على المائة عددا والمذكور منها في فهرستي الطوسي والنجاشي لا تزيد على نيف وسبعين أصلاً. خامساً: أن أعيان الأصول قد أهملت نظراً لاحتواء الكتب الأربعة وجوامع الحديث لهذه الأصول وغيرها من مصادر أحاديث الشيعة، ولأجل ذلك استغنى المحدثون عن الأصول بأعيانها لوجود مضامينها ورواياتها في هذه الكتب المتأخر تأليفها زمناً عن زمن تأليف الأصول ولم أقف – حسب تتبعي – للأصول التي ذكرها الشيخ الطوسي على أكثر من ثلاثة أصول موجودة اليوم، ومن الكتب التي وصفت بأنها أصول على أكثر من سبعة وعشرين كتاباً، وعساني أوفق للاطلاع عليها في المستقبل. ويقول الشهيد الثاني بهذا الصدد: كان قد استقر أمر الإمامية على أربعمائة مصنف سموها أصولاً فكان عليها اعتمادهم، وتداعت الحال إلى أن ذهب معظم تلك الأصول ولخصها جماعة في كتب خاصة تقريبا على المتناول، وأحسن ما جمع منها (الكافي) و (التهذيب) و (الاستبصار) و (من لا يحضره الفقيه). انتهى كلام المؤلف. ولو صح كلامه فإنه يعني أن التدوين كان للآراء والاجتهادات الفقهية وغيرها، كما كان للأحاديث التي رواها الإمام الصادق، والشيعة يرون أن كل ما صدر عنه يعتبر من السنة، ولكن الإمام الصادق نفسه لا يمكن أن يرى العصمة لنفسه أو حق التشريع، ويندر أن يوجد في عصره من يرى عصمته إلا الغلاة. فما يصح نقله عن الإمام الصادق لا يختلف عما ثبت عن الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وغيرهم من الأئمة الأعلام إلا فيما نراه من الاختلاف بين هؤلاء الأئمة المجتهدين أنفسهم. أما ما يدون في عصر الإمام الصادق افتراء عليه فإن الافتراء لا يتجاوز عصره والعصور السابقة، ولا يمكن أن يتصل بمن يأتي بعده مما يعد في علم الغيب. ولسنا هنا في حاجة إلى دراسة هذه الأصول، أو البحث عن أصحابها، ولكن الذي يعنينا هو أن ما يخص الشيعة الاثني عشرية لم يظهر في هذا العصر حتى يدون، ولذا عجبت كل العجب من عنوان أحد هذه الأصول، وقد ذكره المؤلف في ص 47، والعنوان: " مقتضب الأثر في الأئمة الاثني عشر "! ... ومن غير الممكن على الإطلاق أن يوضع هذا العنوان في عصر الإمام الصادق، فما كان أحد في وقته يعرف أسماء من يأتي بعده، حيث لا يعلم الغيب إلا الله، ولكن يمكن أن يوضع هذا العنوان بعد الإمام الحادي عشر، وتنسب الأقوال المفتراة إلى الصادق أو غيره، هذا هو الواقع الذي يمكن أن يكون. فلو نسب هذا العنوان إلى من عاش في عصر الصادق فإن هذا يعني أن واضع العنوان يفتري على من عاش في عصر الإمام. وعلى كل حال بعد قراءة العنوان جاء ما يلي: " تأليف أحمد بن محمد بن عياش الجوهرى، المتوفي سنة 401 هـ ". إذن عاش المؤلف بعد الإمام الحادي عشر، بل بين وفاة كل منهما قرن ونصف، فهذا هو الذي يتفق مع ما سبق بيانه. المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص693 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 273 المبحث الثالث: الجرح والتعديل عند الشيعة والرافضة رأينا من قبل الجرح والتعديل عن الجمهور، والموقف من الرواية عن أهل البدع، وما يتصل بالعدالة والضبط. والصحابة الكرام، خير أمة أخرجت للناس، شهد لهم ربهم عز وجل وكفى بالله شهيدا، وشهد لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم، وما أعظمها من شهادة! ولذلك فهم ليسوا في حاجة إلى شهادة بعد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعدالتهم أمر معلوم مسلم به عند جمهور المسلمين. ومن طعن فيهم ممن ينتسب إلى الإسلام كاد أن يخرج عن الملة إن لم يكن قد خرج بالفعل. وتبعاً للجرح والتعديل عند الفرق يحكم على الأحاديث، وتؤلف الكتب. وقبل أن أبين الجرح والتعديل عند سلف عبدالحسين، وأثر هذا في كتبهم التي قال إنها مقدسة، وصحاح متواترة، أردت أن أوضح موقف " الحاكم " كما جاء في كتابه (معرفة علوم الحديث) وهو شيعي لكنه غير رافضى، حتى لا نخلط بين موقف الشيعة وموقف الرافضة. تحدث الحاكم عن أصح الأسانيد فقال (ص 55): إن أصح أسانيد أهل البيت: جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي إذا كان الراوي عن جعفر ثقة. وأصح أسانيد الصديق: إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر. وأصح أسانيد عمر: الزهري عن سالم عن أبيه عن جده. وأصح أسانيد المكثرين من الصحابة لأبي هريرة: الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، ولعبدالله بن عمر مالك عن نافع عن ابن عمر، ولعائشة عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن القاسم بن محمد ابن أبي بكر، عن عائشة. سمعت أبا بكر أحمد بن سلمان الفقية يقول: سمعت جعفر بن أبي عثمان الطيالسى يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة ترجمة مشبكة بالذهب. ومن أصح الأسانيد أيضاً محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب بن زهرة القرشي عن عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد القرشي عن عائشة. وأصح أسانيد عبدالله بن مسعود: سفيان بن سعيد الثوري عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم بن يزيد النخعي عن علقمة بن قيس النخعي عن عبدالله بن مسعود. وأصح أسانيد أنس: مالك بن أنس عن الزهري عن أنس. وأصح أسانيد المكيين: سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر. وأصح أسانيد اليمانيين: معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة. ومما ذكره الحاكم نرى أنه لا يختلف عن جمهور المسلمين في نظرته للصحابة الكرام، وفي التوثيق بصفة عامة على خلاف ما نراه عند الرافضة. وفي ص 56 يقول: إن أوهى أسانيد أهل البيت: عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن الحارث الأعور، عن علي. وفي ص 63 تحدث عن معرفة فقه الحديث فقال: " فأما فقهاء الإسلام، أصحاب القياس والرأي والاستنباط والجدل والنظر، فمعروفون في كل عصر وأهل كل بلد. ونحن ذاكرون بمشيئة الله في هذا الموضع فقه الحديث عن أهله ليستدل بذلك على أن أهل هذه الصنعة من تبحر فيها لا يجهل فقه الحديث، إذ هو نوع من أنواع هذا العلم. فمن أشرنا إليه من أهل الحديث محمد بن مسلم الزهري " وذكر الحاكم بإسناده بعد هذا عن مكحول قال: " ما رأيت أحداً أعلم بسنة ماضية من الزهري ". وفي ص 240 بدأ الحديث عن النوع التاسع والأربعين فقال: " هذا النوع من هذه العلوم معرفة الأئمة الثقات المشهورين من التابعين وأتباعهم ممن يجمع حديثهم للحفظ والمذاكرة، والتبرك بهم وبذكرهم من الشرق إلى الغرب ". وأول من ذكرهم من هؤلاء الأئمة الإمام الزهري. وفي عصرنا وجدنا الرافضة والمستشرقين – لهدف واحد خبيث – يطعنان في هذا الإمام الجليل. ومن الأئمة الأعلام الذين ذكرهم: الإمام سفيان الثوري (ص 245)، وسيأتي في نماذج من الجرح والتعديل ما قاله الرافضة في هذا الإمام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 274 و (مستدرك الحاكم) معروف مشهور، وسبق الإشارة إليه، غير أنه جمع الصحيح والحسن والضعيف والموضوع. وممن عرف بالتشيع كذلك النسائي، صاحب (السنن)، أحد الكتب الستة المعتمدة عند جمهور المسلمين، وعبدالرزاق صاحب (المصنف)، وابن عبدالبر، صاحب الكتب الكثيرة النافعة. انظر (منهاج السنة) لابن تيمية (7/ 13، 373)، ومنهج هؤلاء في الجرح والتعديل يعتبر من منهج الجمهور. أما أسلاف عبدالحسين فإن منهجهم تأثر بعقيدتهم في الإمامة، فكما رفضوا الخلافة الراشدة للشيخين وذي النورين، رفضوا ما ثبت عنهم من أخبار، وطعنوا فيهم وفيمن لم يقل بقول عبدالله بن سبأ في الوصي بعد النبي، ولذلك طعنوا وجرحوا من شهد لهم ربهم عز وجل والرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم. وفي ظلمات هذه الجهالة ألفت كتبهم. نماذج من الجرح والتعديل الجرح والتعديل عند هؤلاء القوم – كما رأينا – يرتبط بعقيدتهم الباطلة في الإمامة، ووضعت كتبهم – كما سنرى – لتأييد هذه العقيدة. وكتب الرجال عندهم طعنت في خير جيل عرفته البشرية وجرحت صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، ورضي عن الصحابة الكرام البررة. ولم يسلم من الطعن إلا من اشتهر في التاريخ بولائه لعلي بن أبي طالب. وقولهم بعصمة الأئمة جعلهم لا ينظرون إليهم على أنهم رواة ثقات بل جعلوهم مصدرا للتشريع، فأقوالهم سنة واجبة الاتباع كسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون أدنى فرق، وأشرت إلى هذا من قبل. وسأكتفي هنا ببيان بعض النماذج مما جاء في كتب الرجال عندهم. وأصول هذه الكتب الرجالية خمسة هي: (رجال البرقي)، و (رجال الكشي)، و (رجال الشيخ الطوسي)، و (فهرسته)، و (رجال النجاشي). وقد رجع إلى هذه الأصول وغيرها عبدالله الماماقانى في كتابه (تنقيح المقال في علم الرجال). والمؤلف يلقبونه بالعلامة الثاني آية الله، أما علامتهم الأول فهو ابن المطهر الحلي الذي رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية. كما أشرت من قبل، وكتاب (تنقيح المقال) من أكبر الكتب حجماً ومكانة عندهم. وإليك بعض النماذج مما جاء في هذا الكتاب. ـ علي بن أبي طالب: أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام، مناقبه وفضائله لا يسع البشر عدها وإحصاءها، قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي. وقد ورد أنه لو كان البحر مداداً، والأشجار أقلاماً وأوراق الأشجار قرطاساً، والجن والإنس كتاباً، لما أحصوا مناقبه!! (جـ 2 ص 264). ـ محمد بن أبي بكر بن أبي قحافة: جليل القدر عظيم المنزلة من خواص علي رضي الله عنه وحوارييه. أتته النجابة من قبل أمه أسماء بنت عميس لا من قبل أبيه. من أنجب النجباء، من أهل بيت سوء. بايع أمير المؤمنين على البراءة من أبيه، ومن الخليفة الثاني، وقال له: أشهد أنك إمام مفترض الطاعة، وأن أبي في النار ... إلخ. (انظر ترجمته في ملحق الجزء الثاني (ص 57، 58) وينسب الرافضة هذه الأقوال للإمامين الباقر والصادق، وحاشاهما - رضي الله تعالى عنهما - أن ينطقا بمثل هذا الكفر الذي لا يقوله إلا عبدالله بن سبأ وأمثاله وأتباعه) ـ عبدالله بن عمر بن الخطاب العدوي خليفة العامة: بالغت العامة في مدحه، ومن لاحظ ترجمته المتفرقة وأمعن النظر فيها لم يعتمد على خبره ... إلخ (2/ 201) ـ عبدالله بن عمرو بن العاص: كان كأبيه في الرأي والنفاق، والكذب على الله ورسوله، والخروج مع معاوية بصفين، وكفى بذلك جرحا ... إلخ (2/ 200)، وفي ترجمته أخذ الرافضي يلعنه ويلعن أباه!). ـ عبدالرحمن بن عوف: في ترجمته اتهام له ولذي النورين عثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنهما، وفي نهاية الترجمة قال: لا أعتمد على روايته، لأن من خان في الأصول لا يوثق به في الفروع (2/ 146: 147) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 275 ـ خالد بن الوليد: تعاقد مع أبي بكر على قتل علي رضي الله عنه، ثم ندم أبو بكر خوفاً من الفتنة، سماه العامة سيف الله، والأحق بتسميته سيف الشيطان ... زنديق، أشهر من كفر إبليس في العداوة لأهل البيت .. إلخ. (اقرأ ترجمته (1/ 394) تجد هذا الكفر والضلال والمفتريات وغيرها). ـ أنس بن مالك: جاء في ترجمته أنه كان من المنحرفين عن علي رضي الله عنه، الكاتمين لمناقبه حباً للدنيا، فدعا عليه بالعمى فكف بصره، وأنه كان يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم!. (انظر أكاذيب وأباطيل هؤلاء الرافضة في ترجمته (1/ 154: 155). ـ النعمان بن بشير: كان منحرفا عن علي رضي الله عنه، وعدواً له، فزندقته لا شك فيها .. إلخ (3/ 272)، وفي الترجمة غير هذا من التكفير واللعن لهذا الصحابي الجليل ولغيره من الكرام البررة). ـ معاذ بن جبل: في ترجمته أنه مالأ عدو الله أبا بكر وعمر، على ولي الله علي بن أبي طالب، والبشرى بالنار له ولأبي بكر وعمر وأبي عبيدة وسالم، وأن الصحابة هلكوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلا أربعة .. إلى غير ذلك مما لا يصدر إلا عن الكفار والضالين. (انظر هذا الضلال في ترجمته (3/ 220 - 221). ـ سفيان الثورى: إذا كان هؤلاء القوم قد طعنوا وكفروا خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الصحابة الكرام، وخيرهم جميعا الشيخان الصديق والفاروق، رضي الله تعالى عنهم جميعاً، إذا كان الأمر قد انحط إلى هذا الدرك الأسفل، فلا نعجب بعد هذا إذا طعنوا في أئمة المسلمين بعد الصحابة. ففى ترجمة الإمام سفيان الثوري يذكرون أكاذيب ينسبونها إلى الإمام الصادق افتراء على الله تعالى وعلى الصادق رضي الله عنه، ثم يعقبون عليها بما يأتي: يتبين أمران:- أحدهما: أن سفيان الثوري كذاب خبيث مدلس معاند يهودي، قد آثر دنياه على آخرته على علم منه بذلك بنص الصادق. والآخر: أن مذهب العامة ـ أي جمهور المسلمين ـ مبني على الأكاذيب!! من بدايته إلى نهايته، أعاذنا الله تعالى من ذلك، ولا جمع الله بيننا وبينهم في الدنيا ولا الآخرة. انظر (2/ 37: 38). وبعد .... فلعل هذه التراجم ـ مع قلتها ـ كافية لبيان منهج الرافضة في الجرح والتعديل، واجترائهم على الله عز وجل، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى الصحابة الكرام، وعلى أئمة المسلمين سواء أكانوا من أهل البيت الأطهار أم من غيرهم. وإذا جئنا إلى التطبيق العملي فإنا نرى هذا المنهج مطبقا في كتبهم التي قال عنها الرافضي عبدالحسين إنها مقدسة، متواترة صحيحة، وما هي إلا هدم للإسلام أصوله وفروعه، وامتداد لمآرب عبدالله بن سبأ. وفي الجزء الرابع في خاتمة الكتاب سنجد مثل هذه التراجم عندما نتحدث عن أبي القاسم الخوئي المرجع الأعلى للشيعة في العراق، وعن كتابه (معجم رجال الحديث)، مما يبين استمرار غلو الرافضة وزندقتهم حتى عصرنا إلا من عصم ربي من معتدلي الشيعة غير الرافضة. المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص 696 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 276 المبحث الرابع: مفهوم السنة عندهم قال أحد علمائهم المعاصرين:- " السنة في اصطلاح الفقهاء: قول النبي أو فعله أو تقريره " ثم قال: " أما فقهاء الإمامية بالخصوص - فلما ثبت لديهم أن المعصوم من آل البيت يجري قوله مجرى قول النبي، من كونه حجة على العباد واجب الاتباع - فقد توسعوا في اصطلاح السنة إلى ما يشمل قول كل واحد من المعصومين أو فعله أو تقريره، فكانت السنة باصطلاحهم: قول المعصوم أو فعله أو تقريره. والسر في ذلك أن الأئمة من آل البيت - عليهم السلام - ليسوا هم من قبيل الرواة عن النبي والمحدثين عنه، ليكون قولهم حجة من جهة أنهم ثقات في الرواية، بل لأنهم هم المنصوبون من الله تعالى على لسان النبي لتبليغ الأحكام الواقعية، فلا يحكون إلا عن الأحكام الواقعية عند الله تعالى كما هي، وذلك من طريق الإلهام كالنبي من طريق الوحي أو من طريق التلقي من المعصوم قبله كما قال مولانا أمير المؤمنين رضي الله عنه: (علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم ألف باب من العلم ينفتح لي من كل باب ألف باب) (1). وعليه فليس بيانهم للأحكام من نوع رواية السنة وحكايتها، ولا من نوع الاجتهاد في الرأي والاستنباط من مصادر التشريع, بل هم أنفسهم مصدر للتشريع، فقولهم: (سنة) لا حكاية السنة. وأما ما يجيء على لسانهم أحياناً من روايات وأحاديث عن نفس النبي صلى الله عليه وسلم، فهي إما لأجل نقل النص عنه كما يتفق في نقلهم لجوامع كلمه، وإما لأجل إقامة الحجة على الغير، وإما لغير ذلك من الدواعي. وأما إثبات إمامتهم، وأن قولهم يجري مجرى قول الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو بحث يتكفل به علم الكلام " (2). وما أظننا بحاجة إلى بيان أثر الإمامة هنا، فهي أوضح من أن يطال فيها الحديث، فجعلوا الإمام كالنبي المرسل: العصمة لهم جميعاً، والسنة قول المعصوم أو فعله أو تقريره يستوي في هذا أن يكون المعصوم هو الرسول الكريم وأن يكون أحد أئمة الجعفرية. ولذلك رأينا من قبل أنهم جعلوا للإمام ما للنبي المصطفى من بيان القرآن الكريم وتقييد مطلقة، وتخصيص عامة. ورأينا كذلك أن الإخباريين منعوا العمل بظاهر القرآن الكريم لأنهم لا يستمدون شريعتهم إلا مما ورد عن أئمتهم. وحتى يكون الإمام مصدراً للتشريع قائماً بذاته جعل له الإلهام مقابلاً للوحي بالنسبة للرسول ـ صلى الله عليه وسلم. وهذا العالم الجعفري ـ مع شططه ـ يمثل جانب الاعتدال النسبي، فقد رأينا غيره يذهب إلى بقاء الوحي مع الأئمة وإن لم ينزل بقرآن جديد. وما ذكره هذا العالم لا يصح إلا بما أشار إليه في الفقرة الأخيرة من إثبات إمامة الأئمة ... . المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص703   (1) أخرجه ابن حبان في ((الضعفاء)) (2/ 14)، وابن عدي في ((الكامل)) (2/ 450) وقال الألباني في ((الضعيفة)) (6627) موضوع (2) ((أصول الفقه)) لمحمد رضا المظفر (3/ 51 –52). وانظر: ((الأصول العامة للفقه المقارن)) (ص 122)، واقرأ فيه كذلك: ((سنة أهل البيت)) (ص 145) وما بعدها، وراجع ((تجريد الأصول)) (ص 47)، و ((ضياء الدراية)) (ص 14). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 277 المبحث الخامس: مراتب الحديث الإخباريون من الجعفرية ـ وهم قلة قليلة ـ لا علم لهم بمصطلح الحديث، فهم يتلقون بالقبول كل ما ورد عن أئمتهم في كتب الحديث المعتمدة عندهم، بل يرون تواتر " كل حديث وكلمة بجميع حركاتها وسكناتها الإعرابية والبنائية وترتيب الكلمات والحروف " (1) وكتب الحديث هذه أربعة ظهرت في القرنين الرابع والخامس، وأصحابها يرون صحة ما أثبتوا في كتبهم. والجعفرية الاثنا عشرية ظلوا قرابة ثلاثة قرون بعد ظهور هذه الكتب لا يفترقون كثيراً عن النزعة الإخبارية، فأول من وضع مصطلح الحديث وبين مراتبه عندهم هو الحسن بن المطهر الحلي الملقب بالعلامة الذي توفي سنة 726 هـ (2). والحديث عند جمهور الجعفرية ينقسم إلى متواتر وأخبار آحاد. وأثر عقيدتهم الباطلة يظهر في المتواتر باشتراطهم " أن لا يكون ذهن السامع مشوباً بشبهة أو تقليد يوجب نفي الخبر ومدلوله " (3) وندرك الأثر هنا عندما نراهم يقولون: " بهذا الشرط يندفع احتجاج مخالفينا في المذهب على انتفاء النص على أمير المؤمنين رضي الله عنه - بالإمامة " فإذا ما نقل بالتواتر أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينص على إمامة أحد من بعده فالاتهام يوجه إلى السامعين، وبذلك يصلون إلى هدفهم بعدم حجية هذا النقل. وعلى العكس من هذا نراهم يذهبون إلى تواتر حديث الثقلين والغدير (4). فعقيدة الإمامة توجههم في رفض الأخذ بالتواتر أو رفع غيره إلى مرتبته، ما دام الخبر متعلقاً بهذه العقيدة. وأخبار الآحاد عندهم تنقسم إلى أربع مراتب، هي أصول الأقسام وإليها يرجع كل تقسيم آخر، وهذه المراتب هي: الصحيح، والحسن، والموثق، والضعيف. فأما الصحيح عندهم فهو: " ما اتصل سنده إلى المعصوم بنقل العدل الإمامي عن مثله في جميع الطبقات حيث تكون متعددة " (5). وزاد بعضهم في التعريف أن يكون العدل ضابطاً، ورأى صاحب (مقباس الهداية) أن قيد العدل يغني عن ذلك، فمن ليس ضابطا فليس بعدل أي أنهم متفقون على أن شروط الصحة هي:- 1. اتصال السند إلى المعصوم بدون انقطاع. 02 أن يكون الرواة إماميين في جميع الطبقات. 03 وأن يكونوا كذلك عدولا ضابطين.   (1) ((تنقيح المقال في أحوال الرجال)) (ص 183). (2) انظر ((ضياء الدراية)): (ص23). (3) ((ضياء الدراية)): (ص 17). (4) انظر ((الأصول العامة للفقه المقارن)): (ص 196). (5) ((مقباس الهداية في علم الدراية)) (ص 33)، و ((ضياء الدراية)) (ص 21). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 278 وأثر الإمامة هنا يبدو إلى جانب تحديد المعصوم - في اشتراط إمامية الراوي، فالحديث لا يرقى لمرتبة الصحيح ما لم يكن الرواة من الجعفرية الاثني عشرية في جميع الطبقات. وأول واضع لأقسام الحديث عندهم يوضح سبب هذا الاشتراط بقوله: " لا تقبل رواية الكافر، وإن علم من دينه التحرز عن الكذب، لوجوب التثبت عند الفاسق، والمخالف من المسلمين، إن كفرناه فكذلك، وإن علم منه تحريم الكذب - خلافاً لأبي الحسن لاندراجه تحت الآية، وعدم علمه لا يخرجه عن الاسم، ولأن قبول الرواية تنفيذ الحكم على المسلمين، فلا يقبل كالكافر الذي ليس من أهل القبلة. احتج أبو الحسن بأن أصحاب الحديث قبلوا أخبار السلف كالحسن البصري وقتادة وعمر بن عبيد، مع علمهم بمذهبهم، وإنكارهم على من يقول بقولهم، والجواب المنع من المقدمتين، ومع التسليم فنمنع الإجماع عليه وغيره ليس بحجة. والمخالف غير الكافر لا تقبل روايته أيضاً لاندراجه تحت اسم الفاسق " (1).ويقول الماماقاني (2): " الموافق للتحقيق هو أن العدالة لا تجامع فساد العقيدة وأن الإيمان شرط في الراوي ". ويقول أيضاً: " وهو الذي اختاره العلامة في كتبه الأصولية وفاقاً للأكثر لقوله تعالى:- إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6] ولا فسق أعظم من عدم الإيمان، والأخبار الصريحة في فسقهم بل كفرهم لا تحصى كثرة ". يستفاد مما سبق: أن الإيمان شرط في الراوي، وخبر الفاسق يجب التأكد من صحته، وغير الجعفري كافر أو فاسق، فخبره لا يمكن بحال أن يكون صحيحاً، وهنا لا يبدو أثر الإمامة فحسب بل يظهر التطرف والغلو والزندقة. ويأتي بعد الصحيح: الحسن:، وهو " ما اتصل سنده إلى المعصوم بإمامي ممدوح مدحاً مقبولا معتداً به، غير معارض بذم، من غير نص على عدالته، مع تحقق ذلك في جميع مراتب رواة طريقة، أو في بعضها. (3) ويستفاد من هذا النص أنهم يشترطون للحسن: اتصال السند إلى المعصوم بدون انقطاع. أن يكون جميع الرواة إماميين. وأن يكون ممدوحين مدحاً مقبولاً معتداً به، دون معارضة بذم، وبالطبع الذم غير المقبول لا يعتد به. ألا ينص على عدالة الراوي، فلو كان الرواة عدولاً لأصبح الحديث صحيحا كما عرفنا من دراستنا للصحيح. تحقق ذلك في جميع مراتب رواة طريقه، أو في بعضها. يفهم من هذا أن جميع الرواة غير ثابتي العدالة، أو بعضهم كذلك والآخرين عدول، فالمعروف أن الحديث يحمل على أدنى مرتبة في الرواة - فلو فقد شرطا آخر غير العدالة لما أصبح حسناً. ويقول صاحب (ضياء الدراية) (ص 24): " ألفاظ المدح على ثلاثة أقسام ": ما له دخل في قوة السند، مثل صالح وخير. ما له دخل في قوة المتن لا في السند، مثل فهيم وحافظ. ما ليس له دخل فيهما، مثل شاعر وقارئ. فالأول يفيد في كون السند حسنا أو قويا، والثاني ينفع في مقام الترجيح، والثالث لا عبرة له في المقامين، بل هو من المكملات ". ويقول عن الجمع بين القدح والمدح (الصفحة ذاتها): " القدح بغير فساد المذهب قد يجامع المدح لعدم المنافاة بين كونه ممدوحاً من جهة، ومقدوحاً من جهة أخرى ". وأثر عقيدة الإمامة في هذا النوع يبدو فيما يأتي: اشتراط إمامية الراوي.   (1) ((تهذيب الوصول إلى علم الأصول)) (ص 77 – 78). (2) هو صاحب كتاب ((تنقيح المقال في علم الرجال))، وكتاب ((مقباس الهداية في علم الدراية)) وله مكانته عند الجعفرية وعلى الأخص في هذا المجال، والنقل من كتابه الأول (ص 207). (3) ((مقباس الهداية)): (ص 34)، ((ضياء الدراية)): (ص23). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 279 قبول رواية الإمامي غير ثابت العدالة، ورفض رواية غير الإمامي كائناً من كان، وبالغاً ما بلغ من العدالة والتقوى والورع. قبول رواية الإمامي الممدوح المقدوح أحياناً بشرط ألا يكون القدح بفساد المذهب، وفساد المذهب يعني الخروج عن الخط الجعفري: فهذا قدح لا يغتفر (1). ويأتي بعد الحسن الموثق، وهو: " ما اتصل سنده إلى المعصوم بمن نص الأصحاب على توثيقه، مع فساد عقيدته، بأن كان من أحد الفرق المخالفة للإمامية، وإن كان من الشيعة، مع تحقق ذلك في جميع رواة طريقه أو بعضهم مع كون الباقين من رجال الصحيح " (2). وهذا التعريف يفيد اشتراط ما يأتي: اتصال السند إلى المعصوم. أن يكون الرواة غير إماميين، ولكنهم موثقون من الجعفرية على وجه الخصوص. أو يكون بعضهم كذلك، والآخرون من رجال الصحيح، حتى لا يدخله ضعف آخر، فيكفي أن دخل في الطريق من ليس بإمامي. وأثر عقيدة الإمامة هنا يبدو فيما يأتي:- جعل الموثق بعد الصحيح والحسن لوجود غير الجعفرية في السند. التوثيق لا يكون إلا من الجعفرية أنفسهم، ولذلك قال صاحب (ضياء الدراية): " توثيق المخالف لا يكفينا، بل الموثق عندهم ضعيف عندنا، والمدار في الموثق إنما هو توثيق أصحابنا ". ويوضح الماماقاني توثيق أصحابه بقوله: " يمكن معرفة غير الإمامي الموثق بأن يكون الإمام قد اختاره لتحمل الشهادة أو أدائها، في وصية، أو وقف، أو طلاق، أو محاكمة، أو نحوها، أو ترحم عليه أو ترضاه، أو أرسله رسولاً إلى خصم له أو غير خصمه، أو ولاه على وقف أو على بلدة، أو اتخذه وكيلاً، أو خادماً ملازماً، أو كاتباً، أو أذن له في الفتيا والحكم أو أن يكون من مشايخ الإجازة أو تشرف برؤية الإمام الثاني عشر الحجة المنتظر أو نحو هذا " (3). فالتوثيق إذن لا يخرج عن النطاق الجعفري الاثني عشري. مع هذا النوع من التوثيق لا يدخل السند مع الموثقين إلا رجال الصحيح، وعلى الرغم من ذلك يبقى هذا القسم في المرتبة الثالثة. وبعد الموثق يأتي: الضعيف، وهو " ما لم يجتمع فيه شرط أحد الأقسام السابقة، بأن اشتمل طريقة على مجروح بالفسق ونحوه، أو على مجهول الحال، أو ما دون ذلك كالوضاع " (4). وفي الحديث عن الصحيح رأينا كيف أنهم اعتبروا غير الجعفري كافراً أو فاسقاً فروايته ضعيفة غير مقبولة. ولا تقبل من غير الجعفري إلا من نال توثيق الجعفرية. وعلى هذا الأساس يرفضون الأحاديث الثابتة عن الخلفاء الراشدين الثلاثة وغيرهم من أجلاء الصحابة، والتابعين، وأئمة المحدثين والفقهاء، ما داموا لا يؤمنون بعقيدة الإمامية الاثني عشرية. فالروايات التي يدخل في سندها أي من هؤلاء الصديقين الصالحين الأئمة الأعلام الأمناء، تعتبر روايات ضعيفة في نظر هؤلاء القوم الذين لا يكادون يفقهون حديثا. المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص705   (1) انظر في ألفاظ الذم والقدح، والمذاهب الفاسدة في نظر الجعفرية: ((ضياء الدراية)): (ص 50: 53). (2) ((مقباس الهداية)): (ص 35)، وراجع ((ضياء الدراية)): (24 - 25). (3) انظر: ((تنقيح المقال)): (ص 210 ـ 211). (4) ((مقباس الهداية)): (35)، وراجع ((ضياء الدراية)): (ص 25). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 280 المبحث السادس: التعارض والترجيح روى الكليني في أصول الكافي عن عمر بن حنظلة قال: " سألت أبا عبدالله عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان، وإلى القضاة، أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً، وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به قال تعالى: يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ [النساء:60] قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران إلى ما كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد، والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله. قلت: فإن كان كل رجل اختار رجلاً من أصحابنا، فرضيا أن يكون الناظرين في حقهما، واختلفا فيما حكما، وكلاهما: اختلفا في حديثكم؟ قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر. قال: قلت فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا، لا يفضل واحد منهما على الآخر؟ قال: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيأخذ به من حكمنا. ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك. قلت: فإن كان الخبران عنكما (1) مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة، وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة. قلت: جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة، ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة والآخر مخالفاً لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ قال: ما خالف العامة ففيه الرشاد. فقلت: جعلت فداك، فإن وافقهما الخبران جميعاً؟ قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل، حكامهم وقضاتهم، فيترك، ويؤخذ بالآخر. قلت: فإن وافق حكامهم الخبران جميعاً؟ قال: إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات (2) هذه الرواية يسميها الجعفرية الرافضة مقبولة ابن حنظلة، وفي باب الترجيح عندهم هي " العمدة في الباب، المقبولة التي قبلها العلماء بأن راويها صفوان بن يحيى الذي هو من أصحاب الإجماع، أي الذين أجمع العصابة على تصحيح ما يصح عنهم: كما رواها المشايخ الثلاثة في كتبهم " (3) ويقول المظفر: " من الواضح أن موردها التعارض بين الحاكمين، لا بين الراويين، ولكن لما كان الحكم والفتوى في الصدر الأول يقعان بنص الأحاديث، لا أنهما يقعان بتعبير من المحاكم أو المفتى كالعصور المتأخرة استنباطاً من الأحاديث تعرضت هذه المقبولة للرواية والراوي، لارتباط الرواية بالحكم. ومن هنا استدل بها على الترجيح للرواية المتعارضة " (4). ثم يقول بعد بيان انحصار دليل مخالفة العامة في هذه المقبولة: والنتيجة أن المستفاد من الأخبار أن المرجحات المنصوصة ثلاثة: الشهرة وموافقة الكتاب والسنة ومخالفة العامة. وهذا ما استفاده الشيخ الكليني في مقدمة الكافي (5). وهذه المقبولة التي اعتبرت العمدة في باب الترجيح بصفة عامة، والدليل الوحيد على مخالفة العامة –أي جمهور المسلمين – بصفة خاصة، أقول: هذه المقبولة مرفوضة من وجهة نظرنا لما يأتي:   (1) يقصد الباقر والصادق. (2) ((الكافي)) (1/ 67 - 68). (3) ((أصول الفقه)) للمظفر: (3/ 217) ويعني بالمشايخ الثلاثة أصحاب كتب الحديث عندهم وهم: الكليني والصدوق والطوسي. (4) ((أصول الفقه)) للمظفر: (3/ 219). (5) ((أصول الفقه)) للمظفر: (3/ 223). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 281 أنها اعتبرت كل حاكم أو قاض غير جعفري اثني عشري طاغوتاً أمرنا أن نكفر به بنص القرآن الكريم. أنها اعتبرت أخذ الحق الثابت سحتاً ما دام أخذه عن طريق هؤلاء الحكام والقضاة. أنها جعلت حكم الحكم الجعفري الرافضي كحكم الله تعالى، ومن لم يقبله فكأنما أشرك بالله سبحانه. أنها تدعو إلى مخالفة جمهور المسلمين حتى عند ظهور موافقتهم للكتاب والسنة. فالإمام الصادق أعمق إيماناً، وأرفع شأنا من أن يصدر منه هذه الجهالة، وإنما تصدر هذه الرواية عن غال، يفتري على الأئمة، يريد لأمة الإسلام أن تفترق ولا تتحد. وبعد هذا نرى أثر عقيدة الإمامة في باب الترجيح عند الجعفرية يظهر فيما يأتي: 1. جعلوا المشهور عندهم مقدما على غيره، حتى قدموه على ما وافق الكتاب والسنة، فالمشهور الجعفري المخالف للكتاب والسنة مقدم على غيره الموافق للكتاب والسنة. ثم " إنهم لا يزالون يقدمون المشهور على غيره ولو كان راوي الغير أعدل وأصدق " (1) وهذا مما جعل غلاة الجعفرية يسيرون إلى أهدافهم من طريق ممهد، ولنضرب لهذا مثلا لعله كاف لما أردنا توضيحه. صاحب كتاب (فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب) قال عن الروايات التي يرى أنها تثبت - على حد افترائه - تحريف القرآن الكريم:" الأخبار الدالة على ذلك تزيد على ألفي حديث، وادعى استفاضتها جماعة كالمفيد، والمحقق والداماد، والعلامة المجلسي وغيرهم " فهذه روايات جعفرية مشهورة مستفيضة، فلما تعارضت مع كتاب الله تعالى: حيث أخبر سبحانه بأنه الحافظ لكتابه العزيز ولا تبديل لكلماته، حرفوا معناه كما رأينا من قبل في الجزء الثاني، فهؤلاء القوم لم يناقضوا أنفسهم هنا، فهم غلاة في المبدأ وغلاة في التطبيق. ولكن الذين يمثلون جانب الاعتدال النسبي عند الجعفرية أبوا أن يهدم الإسلام من أساسه فرفضوا الأخذ بهذه الروايات، وكان عليهم إذن أن يغيروا المبدأ حتى لا يناقضوا أنفسهم عند التطبيق. فهم يتفقون مع الغلاة في تقديم المشهور، واختلفوا معهم عندما جاء المشهور الجعفري لتقويض البناء الإسلامي. 2. جعلوا من المرجحات مخالفة العامة، أي عامة المسلمين، فما خالف الأمة الإسلامية أولى بالقبول عندهم مما وافقهم، استناداً إلى المقبولة المرفوضة فهي مستندهم الوحيد، وهي التي تزعم أن الإمام الصادق قال: ما خالف العامة ففيه الرشاد. ولعل هذا من أخطر المبادئ التي جعلت بين الجعفرية الرافضة وسائر الأمة الإسلامية هوة – سحيقة عميقة – فابتعد الجعفرية كثيراً عن الخط الإسلامي الصحيح، لأنهم استقروا " على تقديم مخالف العامة على موافقهم، من غير ملاحظة المرجحات السندية وجوداً وعدماً، حتى لو كان الخبر مستفيضاً يحملونه على التقية عند التعارض " (2). والحمل على التقية هنا يعني أن الخبر في ذاته لا يحمل قرائن التقية لأنهم يقولون: " الذي يكون من الشرائط لحجية الخبر هو أن لا يكون في الخبر قرائن التقية بحيث يستفاد من نفس الخبر أنه صدر تقية، والذي يكون مرجحاً، مجرد المخالفة والموافقة للعامة من دون أن يكون في الخبر الموافق قرائن التقية " (3).وهم يعودون بهذا المبدأ الهدام إلى عصر الصحابة الكرام: فيقولون: " بأن الرشد في خلافهم، وأن قولهم في المسائل مبني على مخالفة أمير المؤمنين رضي الله عنه فيما يسمعونه منه " (4).   (1) ((فوائد الأصول)) (4/ 291) وقال المظفر بعد حديث عن المفاضلة بين المرجحات: " والنتيجة أنه لا قاعدة هناك تقتضي تقديم أحد المرجحات على الآخر، ما عدا الشهرة التي دلت المقبولة على تقديمها " ((أصول الفقه)) (3/ 227). (2) ((الحاشية على الكفاية)) (2/ 203). (3) ((فوائد الأصول)) (4/ 293). (4) ((الحاشية على الكفاية)) (2/ 190). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 282 ثم يقولون: " التعليل بأن الرشد في خلافهم محتمل لوجوه: الأول - أن يكون إصابة الواقع غالباً في مخالفتهم، فهم غالباً في ضلالة وبعد عن الواقع. والثاني - أن يكون نفس مخالفتهم رشداً، فالمخالفة لهم حسن ذاتاً. والثالث - أن يكون ذلك من جهة صدور الخبر الموافق تقية، فيكون الأخذ بالخبر المخالف رشداً من باب تمامية وجه صدوره بخلاف الموافق " (1). وبعد: فإنا لا نعجب عندما ينفث غلاة الجعفرية الرافضة وزنادقتهم سمومهم بمثل هذه الأقوال، ولكن لا ندري كيف يصبح هذا المبدأ مقبولا عند الجعفرية جميعاً؟ وكنا ننتظر، من معتدليهم نسبياً ودعاة التقريب منهم، أن يقفوا موقفاً يتفق مع اعتدالهم الظاهري، ودعوتهم للتقريب بين المذاهب الإسلامية. ونضرب مثلا هنا - والأمثلة جد كثيرة - يبين كيف تمكن واضعو هذا المبدأ من توجيه المذهب الجعفري وجهة بعيدة عن أمة الإسلام في كثير من الأحكام، وبالطبع على غير أساس من الحق، والمثل هو ما رواه الكليني: " عن زرارة بن أعين، عن أبي جعفر قال: سألته عن مسألة فأجابني، ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني، ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلما خرج الرجلان قلت يا ابن رسول الله، رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان، فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه، فقال: يا زرارة: إن هذا خير لنا، وأبقى لنا ولكم، ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا، ولكان أقل لبقائنا وبقائكم ". فهنا إذن ثلاث فتاوى تعطي أحكاماً مختلفة لمسألة واحدة، ولا أساس لهذا الاختلاف سوى عدم اجتماع الشيعة على حكم واحد، حتى لا يكشف أمرهم، فيصبحوا عرضة للقتل. ولكن هذه الفتاوى عند الجعفرية الاثني عشرية سنة ومصدر تشريع، فعند الترجيح يؤخذ بما خالف الأمة الإسلامية، ويترك ما وافقها، حتى إذا كان المتروك موافقاً للكتاب والسنة: على أن هذا ما حضره زرارة ويمكن أن يأتي آخرون، فتكثر الروايات، وتختلف الأحكام بغير دليل شرعي، والترجيح لما خالف جمهور المسلمين. المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص712   (1) ((الحاشية على الكفاية)) (2/ 193). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 283 المبحث السابع: الكتب الأربعة للجعفرية الاثني عشرية كتب كثيرة تروي عن الرسول -صلى الله عليه وسلم وكذلك عن أئمتهم، ولكن الذي يعنينا هنا الكتب المعتمدة لديهم، فغير المعتد ليس بحجة لهم أو عليهم. وهذه الكتب المعتمدة أربعة: أولها (الكافي) لأبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني، الملقب بحجة الإسلام وثقته، المتوفي سنة 329هـ. والثاني (من لا يحضره الفقيه) لمحمد بن بابويه القمي، الملقب بالصدوق، المتوفي سنة 381 هـ. والآخران هما (التهذيب) و (الاستبصار)، وكلاهما لمحمد بن الحسن الطوسي شيخ الطائفة، المتوفي سنة 460 هـ. والكافي له المقام الأعلى عند الجعفرية، يقول عبدالحسين المظفر في مقدمته لأصول الكافي: " ولما كان البحث يدور حول كتابنا هذا، فقد عرفت ما سجله على صفحاته مؤلفه من الأحاديث التي يبلغ عددها زهاء سبعة عشر ألف حديث، وهي أول موسوعة إسلامية استطاع مؤلفها أن يرسم بين دفتيها مثل هذا العدد من الأحاديث، وقد كلفته هذه المجموعة أن يضحي من عمره عشرين سنة قضاها في رحلاته متنقلا من بلدة إلى أخرى، لا يبلغه عن أحد مؤلف، أو يروي حديثا، إلا وشد الرحال إليه، ومهما كلفه الأمر فلا يبرح حتى يجتمع به، ويأخذ عنه، ولذلك تمكن من جمع الأحاديث الصحيحة. وهذه الأحاديث التي جاءت في (الكافي) جميعها ذهب المؤلف إلى صحتها، ولذلك عبر عنها بالصحيحة ". ويقول: "ويعتقد بعض العلماء أنه عرض على القائم رضي الله عنه (يعنى الإمام الثاني عشر) فاستحسنه وقال: كاف لشيعتنا " (1)." وقد اتفق أهل الإمامة، وجمهور الشيعة على تفضيل هذا الكتاب، والأخذ به والثقة بخبره، والاكتفاء بأحكامه. وهم مجمعون على الإقرار بارتفاع درجته وعلو قدره، على أنه القطب الذي عليه مدار روايات الثقات المعروفين بالضبط والإتقان إلى اليوم، وعندهم أجل وأفضل من جميع أصول الأحاديث " (2) فلا خلاف إذن بين الجعفرية حول مكانة الكافي، ولكنا ذكرنا من قبل أن مراتب الحديث المعروفة عند متأخري الجعفرية ظهرت على يد علامتهم الحلي، أي بعد الكليني بقرابة أربعة قرون، والكليني يذهب إلى أن كل ما جمعه في الكافي صحيح، فماذا يعنى بالصحيح هنا؟ يوضح هذا أحد كتابهم فيقول: "إن الصحيح عند المتقدمين هو الذي يصح العمل به والاعتماد عليه، ولو لم يكن من حيث سنده مستوفياً للشروط التي ذكرناها، والصحيح في عرف المتأخرين هو الجامع لتلك الشروط " (3)   (1) (ص 19). (2) (ص 20). (3) ((دراسات في الكافي للكليني والصحيح للبخاري)) لهاشم معروف الحسني (ص 43). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 284 ثم يقول بعد حديث عن الكليني وكتابه: " المتحصل من ذلك أن الذين اعتمدوا على (الكافي)، واعتبروا جميع مروياته حجة عليهم فيما بينهم وبين الله سبحانه، هؤلاء لم يعتمدوا عليها إلا من حيث الوثوق والاطمئنان بالكليني الذي اعتمد عليها، وكما ذكرنا فإن وثوق الكليني بها لم يكن مصدره بالنسبة إلى جميعها عدالة الرواة، بل كان في بعضها من جهة القرائن التي تيسر له الوقوف عليها نظراً لقرب عهده بالأئمة عليهم السلام، ووجود الأصول المختارة في عصره. هذا بالاضافة إلى عنصر الاجتهاد والذي يرافق هذه البحوث في الغالب. يؤيد ذلك أن الكليني نفسه لم يدع بأن مرويات كتابه كلها من الصحيح المتصل سنده بالمعصوم بواسطة العدول، فإنه قال في جواب من سأله تأليف كتاب جامع يصح العمل به، والاعتماد عليه، قال: وقد يسر لي الله تأليف ما سألت، وأرجو أن يكون بحيث توخيت. وهذا الكلام منه كالصريح في أنه قد بذل جهده في جمعه وإتقانه، معتمدا على اجتهاده وثقته بتلك المجاميع والأصول الأربعمائة التي كانت مرجعاً لأكثر المتقدمين عليه، ومصدراً لأكثر مرويات كتابه " (1).   (1) ((دراسات في الكافي للكليني والصحيح للبخاري)): (ص 126) والأصول الأربعمائة يراد بها ما اشتمل على كلام الأئمة، أو روى عنهم بلا واسطة كما يعتقد الجعفرية، ويعتقدون كذلك أن ما في هذا الأصول قد جمع في الكتب الأربعة المعتمدة عندهم. انظر ((ضياء الدراية)) الباب العاشر (ص 71) وما بعدها و (ص 86)، وراجع الفصل الأول من هذا القسم). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 285 ويقول الحسني أيضا: " والشيء الطبيعى أن تتضاءل تلك الثقة التي كانت للكافي - على مرور الزمن بسبب بعد المسافة بين الأئمة عليهم السلام وبين الطبقات التي توالت مع الزمن بمجيء دور العلامة الحلي: انفتح باب التشكيك في تلك الروايات على مصراعيه بعد أن صنف الحديث إلى الأصناف الأربعة، فتحرر العلماء من تقليد المتقدمين فيما يعود إلى الحديث، وعرضوا مرويات الكافي وغيره على أصول علم الدراية وقواعده، فما كان منها مستوفياً للشروط المقررة أقروا العمل به والاعتماد عليه، وردوا ما لم تتوفر فيه الشروط المطلوبة. وعلى هذا الأساس، توزعت أحاديث الكافي التي بلغت ستة عشر ألف حديث ومائة وتسعة وتسعين حديثاً على النحو التالي: الصحيح منها خمسة آلاف واثنان وسبعون حديثاً، والحسن مائة وأربعة وأربعون حديثاً، الموثق ألف ومائة وثمانية وعشرون حديثاً، القوي (1) ثلاثمائة وحديثان, والضعيف تسعة آلاف وأربعمائة وخمسة وثمانون حديثاً (2). ومما تجدر الإشارة إليه أن اتصاف هذا المقدار من روايات الكافي بالضعف لا يعني سقوطها بكاملها عن درجة الاعتبار، وعدم جواز الاعتماد عليها في أمور الدين، ذلك لأن وصف الرواية بالضعف من حيث سندها، وبلحاظ ذاتها لا يمنع من قوتها من ناحية ثانية كوجودها في أحد الأصول الأربعمائة، أو بعض الكتب المعتبرة، أو موافقتها للكتاب والسنة، أو لكونها معمولاً بها عند العلماء وقد نص أكثر الفقهاء أن الرواية الضعيفة إذا اشتهر العمل بها والاعتماد عليها تصبح كغيرها من الروايات الصحيحة وربما تترجح عليها في مقام التعارض (3).والكافي يقع في ثمانية أجزاء تضم الأصول والفروع: فالأصول وهي التي تتصل بالعقائد، تقع في الجزأين الأول والثاني. والفروع في الفقه تقع في خمسة أجزاء، أما الجزء الأخير وهو الروضة، فيقول عنه الدكتور حسين علي محفوظ: لما أكمل الكليني كتابه هذا، وأتم رد مواده إلى فصولها، بقيت زيادات كثيرة من خطب أهل البيت، ورسائل الأئمة وآداب الصالحين وطرائف الحكم وألوان العلم مما لاينبغي تركه، فألف هذا المجموع الأنف، وسماه (الروضة) لأن الروضة منبت أنواع الثمر، ومعدن ألوان الزهر. والروضة على كل حال مرجع قيم وأصل شريف ... إلخ (4). هذا هو الكافي، الكتاب الأول عند الجعفرية، أما الكتب الثلاثة الأخرى فإنها تقتصر على الروايات المتصلة بالأحكام الفقهية، أي أنها تلتقي مع الفروع من (الكافي). ولذلك عندما نبحث عن أثر عقيدة الإمامة في الكتب الأربعة سندرس أولاً الأصول مع الروضة، ثم نجعل (الفروع) من (الكافي) مع بقية الكتب الأربعة ... فالكافي مملوء بهذا الضلال المضل، وعلى الأخص في الأصول والروضة، وهي الأجزاء التي نبدأ الآن الحديث عنها، وبيان ما بها من ضلال وزيغ تأثراً بعقيدة الرفض الباطلة، وبما نادى به ابن سبأ اللعين. أولاً: الجزء الأول من أصول الكافي:   (1) في ((ضياء الدراية)): قد يقال للموثق (القوى) لقوة الظن بجانبه بسبب توثيقه، قال المامقاني: وهو وإن كان صحيحاً لغة ولكنه خلاف الاصطلاح. ونقل عن غيره أن القوى هوالمروى الإمامي غير الممدوح ولا المذموم. وعرفه غير أحد من المتأخرين، بأنه ما خرج عن الأقسام المذكورة ولم يدخل في الضعيف. ثم قال: وكيف ما كان عده الأكثر من أقسام الموثق، وبعضهم جعله أصلاً مستقلاً انظر (ص 25). (2) ويبقى ثمانية وستون بغير ذكر؟ (3) ((دراسات في الكافي)): (ص 129 – 130) وراجع ما كتب آنفاً عن الترجيح وعلى الأخص مخالفة العامة التي لم يشر لها هنا. (4) ((مقدمة الروضة)) (ص 9). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 286 عندما ننظر في الجزء الأول من (أصول الكافي) نجد أن أكثر من ثلثيه يقع تحت عنوان كتاب (الحجة)، قال الكليني في خطبة (الكافي): " ووسعنا قليلاً كتاب (الحجة)، وإن لم نكمله على استحقاقه لأنا كرهنا أن نبخس حظوظه كلها، وأرجو أن يسهل الله ـ جل وعز ـ إمضاء ما قدمنا من النية، إن تأخر الأجل صنفنا كتاباً أوسع وأكمل منه، نوفيه حقوقه كلها " (ص 9). والكتاب كما يبدو من عنوانه يتعلق بالحجة أي الإمام، فالكتاب نفسه إذن أثر من آثار عقيدة الإمامة الباطلة! وننظر في أبواب كتاب (الحجة) هذا فنرى " باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدث " (ص 167). والرواية الأولى: عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عن قول الله عز وجل وكان " رسولاً نبياً " ما الرسول وما النبي؟ قال النبي الذي يرى في منامه، ويسمع الصوت ولا يعاين الملك. والرسول الذي يسمع الصوت، ويرى في المنام ويعاين الملك. قلت: " الإمام ما منزلته؟ قال: يسمع الصوت ولا يرى، ولا يعاين الملك، ثم تلا هذه الآية: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ [الحج:52] ولا محدث).وضم الباب ثلاث روايات أخرى (1). وذكر الكليني بعد هذا ثلاث روايات بأن " الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام حتى يعرف ". وفي " باب أن الأرض لا تخلو من حجة " (ص 178 –179) ذكر الكليني ثلاث عشرة رواية منها: عن أبي عبدالله: أن الأرض لا تخلو إلا وفيها إمام كيما إن زاد المؤمنون شيئاً ردهم وإن نقصوا شيئاً أتمه لهم (2). وعنه: أن الله أجل وأعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل. وعنه أيضاً: لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت. وعن أبي جعفر: لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله. وفي " باب أنه لو لم يبق في الأرض إلا رجلان لكان أحدهما الحجة " (179 - 180) ذكر خمس روايات منها: " عن أبي عبدالله: لو كان الناس رجلين لكان أحدهما الإمام وقال: إن آخر من يموت الإمام لئلا يحتج أحد على الله عز وجل – أنه تركه بغير حجة لله عليه ". وذكر الكليني أربع عشرة رواية في " باب معرفة الإمام والرد إليه " (ص 180 - 185) منها: " عن أبي حمزة عن أبي جعفر قال: إنما يعبد الله من يعرف الله فأما من لايعرف الله فإنما يعبده هكذا ضلالاً. قلت: جعلت فداك فما معرفة الله؟ قال: تصديق الله عز وجل، وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم، وموالاة علي والائتمام به وأئمة الهدى والبراءة إلى الله عز وجل من عدوهم، هكذا يعرف الله عز وجل " (3).وعن أبي عبدالله: " كان أمير المؤمنين إماماً ثم كان الحسن إماما ثم كان الحسين إماماً، ثم كان علي بن الحسين إماماً ثم كان محمد بن علي إماماً، من أنكر ذلك كان كمن أنكر معرفة الله تبارك وتعالى: ومعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم " (4). وترى الكليني بعد هذا يحرف معانى بعض آي القرآن الكريم ليؤيد ما سبق وليصل إلى الافتراء بأن أصحاب الثلاثة ضلوا أي أصحاب الخلفاء الراشدين الثلاثة. وفي " باب فرض طاعة الأئمة " يذكر سبع عشرة رواية، منها ما نسبه للإمام الصادق: " نحن الذين فرض الله طاعتنا، لا يسع الناس إلا معرفتنا، ولا يعذر الناس بجهالتنا من عرفنا كان مؤمناً، ومن أنكرنا كان كافراً ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالاً " (5). وفي " باب في أن الأئمة شهداء الله عز وجل على خلقه " (ص 190 - 191) يذكر خمس روايات ويحرف معاني بعض آيات القرآن الكريم، ليجعل أئمة الجعفرية الرافضة هم الشهداء على الناس.   (1) انظر (ص 177). (2) ومعنى هذا أن إمامهم الثاني عشر يقوم بهذا الدور الآن. (3) (ص 180). (4) (ص 181). (5) (ص 187)، وانظر الباب: (ص185: 190). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 287 وفي " باب أن الأئمة هم الهداة " (191 - 192) يذكر أربع روايات، ويحرف معنى الآية السابعة من سورة الرعد إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد:7] فيؤول كلمة هاد بأنها الإمام علي، ثم أئمة الشيعة الجعفرية من بعده. وفي " باب أن الأئمة ولاة أمر الله وخزنة علمه " (ص 192 - 193) يذكر ست روايات منها: عن أبي جعفر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال تبارك وتعالى: " استكمال حجتي على الأشقياء من أمتك من ترك ولاية علي والأوصياء من بعدك، فإن فيهم سنتك وسنة الأنبياء من قبلك، وهم خزاني على علمي من بعدك ". ثم قال الرسول: " لقد أنبأني جبريل رضي الله عنه بأسمائهم وأسماء آبائهم ". وفيها: " عن أبي عبدالله إن الله عز وجل خلقنا فأحسن خلقنا وصورنا فأحسن صورنا وجعلنا خزانه في سمائه وأرضه، ولنا نطقت الشجرة، وبعبادتنا عبدالله عز وجل، ولولانا ما عبدالله ". وفي " باب أن الأئمة خلفاء الله عز وجل في أرضه وأبوابه التي منها يؤتى " (ص 193 - 194) يذكر الكليني ثلاث روايات ويذكر أن الأئمة المراد من قول الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ [النور:55]. وفي " باب أن الأئمة نور الله عز وجل " (ص 194 - 196) يذكر هذه الروايات: عن أبي خالد الكابلي، عن أبي جعفر: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]. قال: يا أبا خالد، النور والله نور الأئمة من آل محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، وهم والله نور الله الذي أنزل، وهم نور الله في السموات والأرض. والله يا أبا خالد لنور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار، وهم والله ينورون قلوب المؤمنين، ويحجب الله عز وجل نورهم عمن يشاء فتظلم قلوبهم، والله يا أبا خالد لا يحبنا عبد ويتولانا حتى يطهر الله قلبه، ولا يطهر الله قلب عبد حتى يسلم لنا ويكون سلماً لنا، فإذا كان سلماً لنا سلمه الله من شديد الحساب، وآمنه من فزع يوم القيامة الأكبر ". وعن أبي عبدالله في تفسير النور في (الآية 157) من الأعراف " النور في هذا الموضع على أمير المؤمنين والأئمة ". وعن أبي جعفر في نُورًا تَمْشُونَ بِهِ [الحديد: 28] يعني إماماً تأتمون به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 288 وعن صالح بن سهل الهمداني قال: قال أبو عبدالله في قول الله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ [النور:35]. فاطمة عليها السلام فِيهَا مِصْبَاحٌ النورالحسن الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الحسين الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ فاطمة كوكب دري بين نساء أهل الدنيا يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ إبراهيم رضي الله عنه لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ لا يهودية ولا نصرانية يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ يكاد العلم ينفجر بها وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ إمام منها بعد إمام يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء يهدي الله للأئمة من يشاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ [النور:35].قلت: أَوْ كَظُلُمَاتٍ قال: الأول وصاحبه يَغْشَاهُ مَوْجٌ الثالث مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ الثاني بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ معاوية لعنه الله وفتن بني أمية إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ المؤمن في ظلمه فتنتهم لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا إماماً من ولد فاطمة عليها السلام فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ إمام يوم القيامة (1). وقال في قوله تعالى: يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم أئمة المؤمنين يوم القيامة تسعى بين يدي المؤمنين وبأيمانهم حتى ينزلوهم منازل أهل الجنة. وعن علي بن جعفر عن أخيه موسى مثله. وعن أبي الحسن يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ قال: يريدون ليطفئوا ولاية أمير المؤمنين بأفواههم ... " والله متم نوره: والله متم الإمامة، والإمامة هي النور وذلك قوله عز وجل: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8] قال: النور هو الإمام.   (1) يقصد الكليني بالأول والثاني والثالث الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم، وفي الآية التى ذكرها من سورة النور " 40 "، ولكنه ذكر أجزاء منها ونصها أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ * النور:40* ومع ظهور زندقة الكليني وموقفه من خير البشر بعد الرسول، يطلق عليه الرافضة: حجة الإسلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 289 وفي " باب أن الأئمة هم أركان الأرض " (196 - 198) يروي الكليني: عن أبي عبدالله: ما جاء به علي آخذ به، وما نهى عنه انتهى عنه، جرى له من الفضل مثل ما جرى لمحمد - صلى الله عليه وسلم، ولمحمد - صلى الله عليه وسلم - الفضل على جميع من خلق الله عز وجل، المتعقب عليه في شيء من أحكامه كالمتعقب على الله وعلى رسوله، والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حد الشرك بالله. كان أمير المؤمنين باب الله الذي لا يؤتى إلا منه، وسبيله الذي من سلك بغيره هلك، وكذلك يجرى لأئمة الهدى واحداً بعد واحد، جعلهم الله أركان الأرض أن تميد بأهلها، وحجته البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثرى، وكان أمير المؤمنين كثيراً ما يقول: أنا قسيم الله بين الجنة والنار، وأنا الفاروق الأكبر، وأنا صاحب العصا والميسم، ولقد أقرت لي جميع الملائكة والروح والرسل بمثل ما أقروا به لمحمد رضي الله عنه، ولقد حملت على مثل حمولته وهي حمولة الرب، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعى فيكسى، وأدعى فأكسى، ويستنطق وأستنطق فأنطق على حد منطقه، ولقد أعطيت خصالاً ما سبقني إليها أحد قبلي: علمت المنايا والبلايا والأنساب، وفصل الخطاب، فلم يفتني ما سبقني، ولم يعزب عني ما غاب عني، أبشر بإذن الله وأؤدي عنه، كل ذلك من الله مكنني فيه بعلمه. وذكر الرواية السابقة أيضاً بطريق آخر، وذكر مضمونها بطريق ثالث، وفيها أن الأئمة " جعلهم الله أركان الأرض أن تميد بهم، والحجة البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثرى ".ثم ذكر رواية مماثلة عن أبي جعفر، وفيها أن الإمام علياً قال: " وإني لصاحب الكرات (1) ودولة الدول، وإني لصاحب العصا والميسم، والدابة التي تكلم الناس ". وفي " باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته " (ص 198 - 205) يذكر الكليني فيما يرويه: إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل رضي الله عنه بعد النبوة ... فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا فقرنا حتى ورثها الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم فقال جل وتعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:68] فكانت له خاصة فقلدها صلى الله عليه وسلم علياً بأمر الله تعالى على رسم مما فرض الله. فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان بقوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ [الروم:56] فهي في ولد علي خاصة إلى يوم القيامة، إذ لا نبي بعد محمد، فمن أين يختار هؤلاء الجهال الإمام المطهر من الذنوب، والمبرأ من العيوب، المخصوص بالعلم الموسوم بالحلم، نظام الدين، وعز المسلمين، وغيظ المنافقين، وبوار الكافرين. الإمام واحد دهره، لا يدانيه أحد، ولا يعادله عالم، ولا يوجد منه بدل ولا له مثل ولا نظير، مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه ولا اكتساب، بل اختصاص من المفضل الوهاب، فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام، أو يمكنه اختياره .. راموا إقامة الإمام بعقول حائرة ناقصة، وآراء مضلة، فلم يزدادوا منه إلا بعداً، قاتلهم الله أنى يؤفكون، ولقد راموا صعباً، وقالوا إفكاً وضلوا ضلالاً بعيداً، ووقعوا في الحيرة، إذ تركوا الإمام عن بصيرة، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين.   (1) في الحاشية فسرها بقوله: أي الرجعات إلى الدنيا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 290 رغبوا عن اختيار الله واختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل بيته إلى اختيارهم، والقرآن يناديهم: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص:68] وقال عز وجل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] وقال: مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ القلم أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ "إلى" إِن كَانُوا صَادِقِينَ [القلم:36 - 41]. وأن العبد إذا اختاره الله عز وجل لأمور عباده شرح صدره لذلك، وأودع قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلم إلهاماً، فلم يعي بعده بجواب، ولا يحير فيه عن الصواب، فهو معصوم مؤيد موفق مسدد، قد أمن من الخطايا والزلل والعثار. وفي " باب أن الأئمة ولاة الأمر وهم الناس المحسودون الذين ذكرهم الله عز وجل " (ص 205 - 206) يذكر الكليني خمس روايات منها: إن الإمام الباقر سئل عن قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [النساء:59] فكان جوابه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً [النساء:51]، يقولون لأئمة الضلالة والدعاة إلى النار: هؤلاء أهدى من آل محمد سبيلا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَن يَلْعَنِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا [النساء:52] يعنى الإمامة والخلافة. فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا [النساء:53] نحن الناس الذين عنى الله. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ [النساء:54] نحن الناس المحسودون على ما آتانا الله من الإمامة دون خلق الله أجمعين. وفي " باب أن الأئمة هم العلامات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه " (ص 206 - 207) يذكر ثلاث روايات. وفي " باب أن الآيات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه هم الأئمة " (ص 207) يذكر ثلاث روايات، يحرف بها معاني بعض آي القرآن الكريم كما فعل في الباب السابق. وفي " باب ما فرض الله - عز وجل، ورسوله - صلى الله عليه وسلم. من الكون مع الأئمة" (ص 208 - 210)، يذكر سبع روايات، روايتين أن الأئمة هم مراد الله تعالى من قوله: اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]. وينسب خمساً من الروايات للرسول -صلى الله عليه وسلم، فيزعم أنه قال: ((من سره أن يحيا حياتي، ويموت ميتتى، ويدخل الجنة. فليتول علي بن أبي طالب وأوصياءه من بعده)). وفي بعضها: ((لقد أتاني جبرائيل بأسمائهم، وأسماء آبائهم، وأحبائهم والمسلمين لفضلهم)). وفي رواية أخرى: ((إلى الله أشكو أمر أمتي، المنكرين لفضلهم، القاطعين فيهم صلتي، وأيم الله ليقتلن ابني، لا أنالهم الله شفاعتي)). ونجد تحريف الكليني لمعاني بعض آيات القرآن المجيد في الأبواب التالية " باب أن أهل الذكر الذين أمر الله الخلق بسؤالهم هم الأئمة " (ص 210 - 212) ثلاث روايات. " باب أن من وصفه الله تعالى في كتابه بالعلم هو الأئمة " (ص 212) روايتان. " باب أن الراسخين في العلم هم الأئمة " (ص 213) ثلاث روايات. " باب أن الأئمة قد أوتوا العلم وأثبت في صدورهم " (ص 213 - 214) خمس روايات. " باب في أن من اصطفاه الله من عباده، وأورثهم كتابه هم الأئمة " (ص 214 - 215، أربع روايات). " باب أن القرآن يهدي للإمام " (ص 216، روايتان). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 " باب أن النعمة التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الأئمة " (ص 217، أربع روايات). " باب أن المتوسمين الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه هم الأئمة والسبيل فيهم مقيم " (ص 218 - 219، خمس روايات). ويذكر الكليني روايتين في " باب أن الأئمة في كتاب الله إمامان: إمام يدعو إلى الله، وإمام يدعو إلى النار " (ص 215 - 216) وأولى الروايتين هي: عن أبي جعفر: لما نزلت هذه الآية: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:71] قال المسلمون: يا رسول الله، ألست إمام الناس كلهم أجمعين؟ قال:: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا رسول الله إلى الناس أجمعين، ولكن سيكون من بعدي أئمة على الناس من الله من أهل بيتي، يقدمون في الناس فيكذبون، ويظلمهم أئمة الكفر والضلال وأشياعهم، فمن والاهم واتبعهم وصدقهم فهو مني ومعي وسيلقاني، ألا ومن ظلمهم وكذبهم فليس مني ولا معي، وأنا منه بريء. وفي" باب عرض الأعمال على النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة " (ص 219 - 220) يذكر ست روايات منها: عن عبدالله بن أبان الزيات، وكان مكينا عند الرضا قال: قلت للرضا: ادع الله لي ولأهل بيتي، فقال: أو لست أفعل؟ والله إن أعمالكم لتعرض علي في كل يوم وليلة قال: فاستعظمت ذلك، فقال لي: أما تقرأ كتاب الله عز وجل: وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105] قال: هو والله علي بن أبي طالب. وفي " باب أن الطريقة التي حث على الاستقامة عليها ولاية علي " (ص 220)، يذكر روايتين. وفي " باب أن الأئمة معدن العلم، وشجرة النبوة ومختلف الملائكة " (ص 221) يذكر ثلاث روايات. وفي " باب أن الأئمة ورثة العلم، يرث بعضهم بعضاً العلم " (ص 221 ـ 223) يذكر ثماني روايات. وفي " باب أن الأئمة ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء، الذين قبلهم " (ص 223 - 226) يذكر سبع روايات، منها: كتب الرضا: أما بعد، فإن محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان أمين الله في خلقه، فلما قبض صلى الله عليه وسلم كنا أهل البيت ورثته، فنحن أمناء الله في أرضه عندنا علم البلايا والمنايا وأنساب العرب، ومولد الإسلام، وإنا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الإيمان، وحقيقة النفاق. وإن شيعتنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم، أخذ الله علينا وعليهم الميثاق، يردون موردنا ويدخلون مدخلنا، ليس على ملة الإسلام غيرنا وغيرهم ... كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ (من أشرك بولاية علي) مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ (من ولاية علي) إن الله (يا محمد) وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ [الشورى:13] (1). من يجيبك إلى ولاية علي. عن أبي الحسن الأول أن الله يقول: وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [النمل:75]، ثم قال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32] فنحن الذين اصطفانا الله عز وجل، أورثنا هذا الذي فيه تبيان كل شىء. وفي " باب أن الأئمة عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله وأنهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها " (ص 227 - 228) يذكر روايتين تفيدان معنى الباب. ويذكر الكليني ست روايات في " باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة، وأنهم يعلمون علمه كله " (ص 228 - 229). والجزء الأول من الباب يتفق مع ما ذكرناه من ذهاب الكليني إلى وقوع النقص في كتاب الله تعالى، والجزء الأخير يذكرنا بما قلنا عن القرآن الناطق   (1) *الشورى: 13*، والآية محرفة، فنصها كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 292 وفي " باب ما أعطى الأئمة من اسم الله الأعظم " (ص 230) يذكر ثلاث روايات تفيد أن الذي أحضر عرش بلقيس كان عنده حرف واحد من اسم الله الأعظم، وهو ثلاثة وسبعون حرفا، على حين أن أئمة الجعفرية عندهم اثنان وسبعون، واستأثر الله سبحانه بحرف واحد. وفي " باب ما عند الأئمة من آيات الأنبياء " (ص 231 - 232) يذكر خمس روايات هي: عن أبي جعفر: كانت عصا موسى لآدم فصارت إلى شعيب، ثم صارت إلى موسى بن عمران، وإنها لعندنا، وإن عهدي بها آنفا وهي خضراء كهيئتها حين انتزعت من شجرتها، وإنها لتنطق إذا استنطقت، أعدت لقائمنا يصنع بها ما كان يصنع موسى، وإنها لتروع وتلقف ما يأفكون، وتصنع ما تؤمر به، إنها حيث أقبلت تلقف ما يأفكون. يفتح لها شعبتان: إحداهما في الأرض والأخرى في السقف وبينهما أربعون ذراعا، تلقف ما يأفكون بلسانها. وعن أبي عبدالله: ألواح موسى عندنا، وعصا موسى عندنا، ونحن ورثة النبيين. وعن أبي عبدالله: قال أبو جعفر: إن القائم إذا قام بمكة وأراد أن يتوجه إلى الكوفة نادى مناديه: ألا لا يحمل أحد منكم طعاما ولا شرابا، ويحمل حجر موسى بن عمران وهو وقر بعير، فلا ينزل منزلا إلا انبعث عين منه، فمن كان جائعا شبع، ومن كان ظامئا روي، فهو زادهم حتى ينزلوا النجف من ظهر الكوفة. وعن أبي جعفر: خرج أمير المؤمنين ذات ليلة بعد عتمة وهو يقول: همهمة همهمة وليلة مظلمة، خرج عليكم الإمام وعليه قميص آدم، وفي يده خاتم سليمان، وعصا موسى. والرواية الأخيرة تبين أن قميص يوسف جاء إبراهيم من الجنة، فحماه من النار، وأن هذا القميص عندهم من الرسول صلى الله عليه وسلم. وفي " باب ما عند الأئمة من سلاح رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتاعه " (ص232 - 237) يذكر تسع روايات تفيد أن الأئمة عندهم كل ما ترك الرسول صلى الله عليه وسلم. وفي بعض الروايات أن من هذا المتاع ما هو من الجنة، وفي رواية عن أمير المؤمنين أن رسول صلى الله عليه وسلم كلمه حماره قائلاً: " بأبي أنت وأمي: إن أبي حدثني، عن أبيه عن جده، عن أبيه، أنه كان مع نوح في السفينة، فقام إليه نوح فمسح على كفله، ثم قال: يخرج من صلب هذا الحمار حمار يركبه سيد النبيين وخاتمهم. فالحمد لله الذي جعلني ذلك الحمار " وفي " باب أن مثل سلاح رسول الله مثل التابوت في بني إسرائيل " (ص 238) ذكر أربع روايات، وهي تفيد أن أي أهل بيت وجد التابوت على بابهم أوتوا النبوة، ومثلهم من صار إليه السلاح، فإنه يؤتى الإمامة. وفي " باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة " (ص 238 ـ 242) ذكر الكليني ثماني روايات هي: 1 - عن أبي بصير قال: دخلت على أبي عبدالله رضي الله عنه فقلت له: جعلت فداك إنني أسألك عن مسألة، ههنا أحد يسمع كلامي؟ قال: فرفع أبو عبدالله رضي الله عنه سترا بينه وبين بيت آخر فاطلع فيه ثم قال: يا أبا محمد سل عما بدا لك. قال: قلت: جعلت فداك إن شيعتك يتحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم عليا رضي الله عنه باباً يفتح له منه ألف باب؟ قال: فقال يا أبا محمد، علم رسول صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه ألف باب يفتح من كل باب ألف باب. قال: قلت هذا والله العلم. قال: فنكث ساعة في الأرض ثم قال: إنه لعلم وما هو بذاك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 293 قال: ثم قال: يا أبا محمد، وإن عندنا الجامعة، وما يدريهم ما الجامعة؟ قال: قلت: جعلت فداك وما الجامعة؟ قال: صحيفة طولها سبعون ذراعا بذراع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإملائه من فلق فيه، وخط على بيمينه، فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج الناس إليه حتى الأرش في الخدش. وضرب بيده إلي فقال: تأذن لي يا أبا محمد؟ قال: قلت: جعلت فداك إنما أنا لك فاصنع ما شئت، قال: هذا والله العلم، قال: إنه لعلم وليس بذاك. ثم سكت ساعة ثم قال: وإن عندنا الجفر، وما يدريهم ما الجفر؟ قال: قلت: وما الجفر؟ قال: وعاء من أدم، فيه علم النبيين والوصيين، وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل، قال: قلت: إن هذا هو العلم، قال: إنه لعلم وليس بذاك. ثم سكت ساعة ثم قال: وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام، وما يدريهم ما مصحف فاطمة رضي الله عنه؟ قال: قلت: وما مصحف فاطمة عليها السلام؟ قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد، قال: قلت: هذا والله العلم، قال: إنه لعلم وما هو بذاك. ثم سكت ساعة ثم قال: إن عندنا علم ما كان وعلم ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، قال: قلت: جعلت فداك هذا والله العلم. قال: إنه لعلم وليس بذاك. قال: قلت: جعلت فداك فأي شيء العلم؟ قال: ما يحدث بالليل والنهار، الأمر من عبد الأسر، والشيء بعد الشيء إلى يوم القيامة. 2 - عن حماد بن عثمان قال: سمعت أبا عبدالله رضي الله عنه يقول: تظهر الزنادقة في سنة ثمان وعشرين ومائة، ذلك أنني نظرت في مصحف فاطمة عليها السلام قال: قلت: وما مصحف فاطمة؟ قال: إن الله تعالى لما قبض نبيه عليه الصلاة والسلام دخل على فاطمة عليها السلام من وفاته من الحزن ما لايعلمه إلا الله عز وجل، فأرسل الله إليها ملكا يسلي غمها ويحدثها، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه فقال: إذ أحسست بذلك وسمعت الصوت، فقولي لي. فأعلمته بذلك، فجعل أمير المؤمنين رضي الله عنه يكتب كلما سمع حتى أثبت من ذلك مصحفا. قال: ثم قال: أما إنه ليس فيه شيء من الحلال والحرام، ولكن فيه علم ما يكون. 3 - عن الحسن بن أبي العلاء قال: سمعت أبا عبد الله رضي الله عنه يقول: إن عندي الجفر الأبيض: قلت: فأي شيء فيه؟ قال: زبور داود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، ومصحف إبراهيم رضي الله عنه، والحلال والحرام، ومصحف فاطمة ما أزعم أن فيه قرآنا، وفيه ما يحتاج الناس إلينا ولا نحتاج إلى أحد، حتى فيه الجلدة، ونصف الجلدة، وربع الجلدة، وأرش الخدش. وعندى الجفرالأحمر، قال: قلت: وأي شيء في الجفر الأحمر؟ قال السلاح، وبذلك إنما يفتح للدم يفتحه صاحب السيف للقتل. فقال له عبد الله بن أبي يعفور: أصلحك الله أيعرف هذا بنو الحسن؟ فقال: أي والله كما يعرفون الليل أنه ليل، والنهارأنه نهار، ولكنهم يحملهم الحسد على الجحود والإنكار، ولو طلبوا الحق بالحق لكان خيراً لهم.4 - عن سليمان بن خالد قال: قال أبوعبدالله: إن في الجفرالذين يذكرونه لما يسوؤهم، لأنهم لا يقولون الحق (1) والحق فيه، فليخرجوا قضايا علي وفرائضه إن كانوا صادقين، وسلوهم عن الخالات والعمات، وليخرجوا مصحف فاطمة عليها السلام، فإن فيه وصية فاطمة عليها السلام، ومعه سلاح رسول الله صلى الله عليه وسلم ?وإن الله عز وجل يقول: (فأتوا بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (2).   (1) أي في المسائل إذا سئلوا عنها، وقوله: والحق فيه يعني في الجفر وهو خلاف ما يقولون. وقوله فليخرجوا إلخ يعني ليس عندهم ولا يدرون ما فيه من ذلك (الحاشية). (2) *الأحقاف:4*، والآية هكذا: اِئْتُونِي بِكِتَابٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 294 5 - عن أبي عبد الله: هو (آي الجفر) جلد ثور مملوء علما، قال له فالجامعة؟ قال: تلك صحيفة طولها سبعون ذراعا في عرض الأديم مثل فخذ الفالج فيها كل ما يحتاج الناس إليه، وليس من قضية إلا وهي فيها، حتى أرش الخدش. إن فاطمة مكثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وسبعين يوما، وكان داخلها حزن شديد على أبيها، وكان جبرئيل عليه السلام يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها ويطيب نفسها، ويخبرها عن أبيها ومكانه، ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها، وكان علي يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة. 6 - عن أبي عبدالله قال: إن عندنا كتابا إملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وخط علي صحيفة فيها كل حلال وحرام. 7 - عبدالملك بن أعين قال لأبي عبدالله: إن الزيدية والمعتزلة قد أطافوا بمحمد بن عبدالله فهل له سلطان؟ فقال: والله إن عندى لكتابين فيهما تسمية كل نبي وكل ملك يملك الأرض، لا والله ما محمد بن عبدالله في واحد منهما. 8 - كتاب فاطمة: ليس من ملك يملك الأرض إلا وهو مكتوب فيه باسمه واسم أبيه، وما وجدت لولد الحسن فيه شيئا. وفي" باب في أن الأئمة يزدادون في ليلة يوم الجمعة " (ص 253 - 254) يذكر ثلاث روايات عن أبي عبدالله منها: إذا كان ليلة الجمعة وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم - العرش ووافى الأئمة معه ووافينا معهم، فلا ترد أرواحنا إلى أبداننا إلا بعلم مستفاد، ولولا ذلك لأفقدنا. وفي " باب لولا أن الأئمة يزدادون لنفد ما عندهم " (ص254 - 255) يذكرأربع روايات. ويذكر أربع روايات كذلك تحت " باب أن الأئمة يعلمون جميع العلوم التى خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل " (ص 255 - 256) وفي "باب نادر فيه ذكر الغيب " (256 –257) يذكر أربع روايات، منها رواية تعجب لوجودها في هذا الكافي، وهي: عن أبي عبدالله: " يا عجبا لأقوام يزعمون أنا نعلم الغيب، ما يعلم الغيب إلا الله عز وجل. لقد هممت بضرب جاريتي فلانة فهربت مني، فما علمت في أي بيوت الدار هي ". كلمة حق جرى بها قلم لا يعرف الحق، لذا كان عجيبا، ولكن سرعان ما زال هذا العجب، فالرواية التالية عن نفس الإمام أنه سئل " الإمام يعلم الغيب؟ فقال: لا ولكن إذا أراد أن يعلم الشيء أعلمه الله ذلك " فالكليني إذن لم يذكر الرواية الأولى للأخذ بها، ولكن ليهدم هذا المعنى المستقر في أخلاد المؤمنين ببيان أن الأئمة لا يعلمون الغيب إلا بإرادتهم عن طريق الله سبحانه، فما أهون أن يعلم مكان الجارية إذا أراد! والأبواب التالية توضح ما أراده الكليني: " باب أن الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا علموا " (ص 158) فيه ثلاث روايات. " باب أن الأئمة يعلمون متى يموتون، وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم " (ص 258 –260) فيه ثماني روايات. " باب أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون، وأنه لا يخفى عليهم الشيء " (ص 260 - 262) فيه ست روايات. " باب جهات علوم الأئمة " (ص264) فيه ثلاث روايات تفيد أن هذه الجهات هي الوارثة والإلهام. " باب أن الأئمة لو ستر عليهم لأخبروا كل امرئ بما له وعليه " (ص 264 - 265) فيه روايتان. وفي " باب أن الله عز وجل لم يعلم نبيه علما إلا أمره أن يعلمه أمير المؤمنين وأنه كان شريكه في العلم " (ص362) يذكر ثلاث روايات. وفي " باب التفويض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى الأئمة في أمر الدين (ص 265 - 268) يذكر عشر روايات. وفي " باب في أن الأئمة بمن يشبهون ممن مضى، وكراهية القول فيهم بالنبوة " (ص 268 - 270)، يذكر سبع روايات. وفي " باب أن الأئمة محدثون مفهمون " (ص 270 - 271) يذكر خمس روايات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 295 وفي " باب فيه ذكر الأرواح التي في الأئمة " (ص 271 - 272) يذكر ثلاث روايات تفيد أن هذه الأرواح خمس: روح الإيمان وروح القوة، وروح الشهوة، وروح الحياة، والخامسة روح القدس وهي خاصة بالأنبياء " فإذا قبض النبي صلى الله عليه وسلم - انتقل روح القدس فصار إلى الإمام، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو، والأربعة الأرواح تنام وتغفل وتزهو وتلهو وروح القدس كان يرى به ". وفي " باب الروح التي يسدد الله بها الأئمة " (ص 273 - 274) يذكر ست روايات، منها أن الإمام الصادق قال عن قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الشورى:52] قال: "خلق من خلق الله - عز وجل - أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره ويسدده، وهو مع الأئمة من بعده " ومنها أن الإمام الصادق قال: ما سبق أيضاً عن قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85] وأنه كذلك قال: منذ أنزل الله عز وجل ذلك الروح على محمد صلى الله عليه وسلم ما صعد إلى السماء وأنه لفينا. وفي " باب وقت ما يعلم الإمام جميع علم الإمام الذي كان قبله " (ص274 - 275) يذكر ثلاث روايات. وفي " باب أن الأئمة في العلم والشجاعة والطاعة سواء" (ص275) يذكر ثلاث روايات ويحرف معنى آية كريمة. وفي " باب أن الإمام يعرف الإمام الذي يكون من بعده، وأن قول الله تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58] فيهم عليهم الصلاة والسلام نزلت " (ص 276 ـ 277) يذكر سبع روايات، ويحرف معنى آيات أخريات: وفي " باب أن الإمامة عهد من الله عزوجل معهود من واحد إلى واحد " (ص 277 ـ 279)، يذكر أربع روايات منها: عن أبي بصير قال: كنت عند أبي عبد الله فذكر الأوصياء وذكرت إسماعيل فقال: لا والله يا أبا محمد، ما ذاك إلينا، وما هو إلا إلى الله عز وجل، ينزل واحد بعد واحد (1). وفي " باب أن الأئمة لم يفعلوا شيئا ولا يفعلون إلا بعهد من الله عز وجل، وأمر منه لا يتجاوزونه " (ص279 - 284) يذكر أربع روايات مطولة، والكليني هنا يخرج لنا بطريقة جديدة في الافتراء على الله عز وجل، فالروايات تفيد أن جبرئيل – رضي الله عنه - نزل على محمد- صلى الله عليه وسلم - بكتاب كل إمام يفك خاتما، وينفذ ما بالجزء الذي يخصه من الكتاب.   (1) أراد الكليني من هذه الرواية إبطال ما ذهبت إلية الطائفة الأخرى من الإمامية وهى طائفة الإسماعيلية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 296 ومن هذه الروايات: عن أبي عبد الله: (أن الوصية نزلت من السماء على محمد كتابا (1) لم ينزل على محمد كتاب مختوم إلا الوصية، فقال جبرئيل: يا محمد هذه وصيتك في أمتك عند أهل بيتك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي أهل بيتي يا جبرئيل؟ قال: نجيب الله منهم وذريته، ليرثك علم النبوة كما ورثه إبراهيم رضي الله عنه، وميراثه لعلي وذريتك من صلبه. قال: وكان عليها خواتيم، قال ففتح علي الخاتم الأول ومضى لما فيها، ثم فتح الحسن الخاتم الثاني ومضى لما أمر به فيها، فلما توفي الحسن فتح الحسين الخاتم الثالث فوجد فيها أن قاتل فاقتل وتقتل واخرج بأقوام للشهادة، لا شهادة لهم إلا معك، قال: ففعل) إلخ. ومنها ... (وأن الحسين قرأ صحيفته التي أعطيها، وفسر له ما يأتي بنعي وبقي فيها أشياء لم تقض، فخرج للقتال ... وكانت تلك الأمور التي بقيت أن الملائكة سألت الله تعالى في نصرته فأذن لها، ومكثت تستعد للقتال وتتأهب لذلك حتى قتل، فنزلت وقد انقضت مدته وقتل، فقالت الملائكة: يارب أذنت لنا في الانحدار وأذنت لنا في نصرته، فانحدرنا وقد قبضته، فأوحى الله إليهم: أن الزموا قبره حتى تروه قد خرج فانصروه، وابكوا عليه وعلى ما فاتكم من نصرته، فإنكم قد خصصتم بنصرته وبالبكاء عليه، فبكت الملائكة تعزيا وحزنا على ما فاتهم من نصرته، فإذا خرج يكونون أنصاره). وفي " باب الأمور التى توجب حجة الإمام (ص284 - 285) يذكر ست روايات تفيد أن الأمور هي: الفضل، والوصية والسلاح وأن يكون الإمام أكبر ولد أبيه ما لم يكن فيه عاهة كإسماعيل بن جعفر. ومن هذه الروايات: الإمام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس، ولا طير ولا بهيمة، ولا شيء فيه الروح، فمن لم يكن هذه الخصال فيه فليس هو بإمام. وفي " باب ثبات الأمانة في الأعقاب، وأنها لاتعود في أخ ولا عم ولا غيرهما من القرابات (ص285 - 286) يذكر خمس روايات، ويستثنى الحسين من عدم العودة في الأخ. وفي " باب ما نص الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم على الأئمة واحدا فواحدا " (ص 286 - 292) يذكر سبع روايات وفي إحداها إبطال إمامة محمد بن الحنفية. وفي " باب الإشارة والنص على أمير المؤمنين " (ص292 - 297) يذكر تسع روايات، وفيها تحريف لبعض آي القرآن الكريم نصا ومعنى، وفيها تخطئة وإنكار لنص آيه كريمة، وتعريض بالشيخين: الصديق والفاروق رضي الله تعالى عنهما، وبأنهما ارتدا .. إلخ. ويعقد الكليني بعد هذا أحد عشر بابا كل باب للإشارة والنص على أحد الأئمة بحسب الترتيب الزمني إلى أن يصل إلي الإمام الثاني عشر في باب الإشارة والنص إلى صاحب الدار في (ص329) ويضمن هذه الأبواب ثلاثة وتسعين رواية؟! وبعد الباب الأخير يأتي " باب في تسمية من رآه " (ص329 - 332) يذكر خمس عشرة رواية لتسمية من رأى إمامهم الأخير. وباب في النهي عن الاسم (ص332 - 333) يذكر أربع روايات وفيها: لا يرى جسمه ولا يسمي اسمه. " وباب نادر في حال الغيبة " (ص333 - 335) فيه ثلاث روايات. " وباب في الغيبة " (ص335 - 343) يذكر الكليني فيه إحدى وثلاثين رواية يستفاد منها أن إمامهم الثاني عشر يشهد المواسم ويرى الناس ولا يرونه. وأن له غيبتين إلخ. وفي بعض الروايات تحريف لمعاني آيات من القرآن الكريم، وفي بعض التحريف تحديد لزمن الغيبة، ففي قوله تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ [التكوير:16] يروي روايتين أن المراد هو " إمام يخنس سنة ستين ومائتين " (2).   (1) أي مكتوبا بخط إلهي مشاهد من عالم الأمر كما أن جبرائيل عليه السلام كان ينزل عليه في صورة آدمي مشاهد من هناك (هذا تفسير الحاشية). (2) (ص 341). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 297 وفي" باب ما يفصل به بين دعوى المحق والمبطل في أمر الإمامة " (ص343 – 367) يذكر تسع عشرة رواية منها: رواية بطريقين عن أبي جعفر: أن محمد بن علي المسمى بابن الحنفية طلب من علي بن الحسين بعد استشهاد أبيه الحسين ألا ينازعه في الإمامة لأنه أحق بها. ولكن عليا خوف عمه من عقاب الله تعالى، وطلب الاحتكام للحجر الأسود، فسأل ابن الحنفية الحجر فلم يجبه، فقال علي بن الحسين لو كنت إماما لأجابك، ثم سأل علي الحجر فتحرك حتى كاد أن يزول عن موضعه، ثم أنطقه الله عز وجل بلسان عربي مبين، وشهد بأن الوصية لعلي (1).وفي رواية عن موسى بن جعفر أنه أثبت إمامته لمن طلب الإثبات بأن أمر شجرة لتأتيه، فجاءت تخد الأرض خدا حتى وقفت بين يديه، ثم أشار إليها فرجعت (2).وعن محمد بن علي الرضا: أن عصا في يده نطقت وقالت: إن مولاي إمام هذا الزمان وهو الحجة (3). وفي " باب كراهية التوقيت " (ص 368 - 369) يذكر سبع روايات، الأولى هي:- عن أبي جعفر: (إن الله تبارك وتعالى قد كان وقت هذا الأمر في السبعين، فلما أن قتل الحسين اشتد غضب الله تعالى على أهل الأرض فأخره إلى أربعين ومائة، فحدثناكم فأذعتم الحديث، فكشفتم قناع الستر، ولم يجعل الله له بعد ذلك وقتاً عندنا، ويمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب). وفي رواية: (إذا حدثناكم الحديث فجاء على ما حدثناكم به فقولوا: صدق الله، وإذا حد ثناكم الحديث فجاء على خلاف ما حدثناكم به فقولوا: صدق الله تؤجروا مرتين). وفي " باب التمحيص والامتحان " (ص369 - 371) يذكر ست روايات. وفي " باب من عرف إمامه لم يضره تقدم هذا الأمر أو تأخر" (ص371 - 372) يذكر سبع روايات وفي" باب من ادعى الإمامة وليس لها بأهل، ومن جحد الأئمة أو بعضهم، ومن أثبت الإمامة لمن ليس لها بأهل " (ص372 - 374) يذكر اثنتي عشرة رواية، وهذه الروايات يستفاد منها أن غير أئمة الجعفرية الرافضة كفار وإن كانوا فاطميين علويين، ومن تبعهم كان مشركا بالله. وفي الروايات تحريف لمعاني آيات ذكرت، وتكفير لفلان وفلان، أي الصديق والفاروق – ومن والاهما، وقاعدة عامة لظاهر القرآن وباطنه " وأن القرآن له ظهر وبطن، فجميع ما حرم الله في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الجور، وجميع ما أحل الله تعالى في الكتاب هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الحق ". وفي " باب من مات وليس له إمام من أئمة الهدى " (ص376 - 377) يذكر أربع روايات تفيد أنه يموت ميتة جاهلية. وفي " باب فيمن عرف الحق من أهل البيت ومن أنكر " (ص377 - 378) يذكر أربع روايات منها: عن الرضا: الجاحد منا له ذنبان، والمحسن له حسنتان. وفي " باب ما يجب على الناس عند مضي الإمام (ص 378 - 380) يذكر ثلاث روايات. وفي " باب أن الإمام متى يعلم أن الأمر قد صار إليه " (ص380 - 382) يذكر ست روايات.   (1) انظر (ص 348). (2) انظر (ص 353). (3) انظر (ص 353). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 298 وفي " باب حالات الأئمة في السن " (ص382 - 384) يذكر ثماني روايات. وفي " باب أن الإمام لا يغسله إلا إمام من الأئمة " (1) (ص384 - 385) يذكر ثلاث روايات. وفي " باب مواليد الأئمة (ص385 - 389) يذكر ثماني روايات منها: عن أبي عبد الله: إن الله تبارك وتعالى إذا أحب أن يخلق الإمام أمر ملكا فأخذ شربة من ماء تحت العرش فيسقيها أباه، فمن ذلك يخلق الإمام، فيمكث أربعين يوما وليلة في بطن أمه لا يسمع الصوت. ثم يسمع بعد ذلك الكلام، فإذا ولد بعث ذلك الملك فيكتب بين عينيه: " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم " (115: الأنعام) فإذا مضى الإمام الذي كان قبله رفع لهذا منار من نور ينظر به إلى أعمال الخلائق فبهذا يحتج الله على خلقه (2) وفي الباب أكثر من رواية تفيد هذا المعنى باختلاف في مكان الكتابة. وفي " باب خلق أبدان الأئمة وأرواحهم وقلوبهم " (ص389 - 390) يذكر أربع روايات منها: عن أبي جعفر: إن الله خلقنا من أعلى عليين، وخلق قلوب شيعتنا مما خلقنا، وخلق أبدانهم من دون ذلك، فقلوبهم تهوى إلينا لأنها خلقت مما خلقنا، ثم تلا هذه الآية: كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُون [المطففين:18 - 21] وخلق عدونا من سجين، وخلق قلوب شيعتهم مما خلقهم منه، وأبدانهم من دون ذلك، فقلوبهم تهوى إليهم لأنها خلقت مما خلقوا منه، ثم تلا هذه الآية كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ [المطففين:7 - 9]. وفي " باب التسليم وفضل المسلمين " أي للأئمة (ص390 - 392)، يذكر ثماني روايات. وفي " باب أن الواجب على الناس بعد ما يقضون مناسكهم، أن يأتوا الإمام فيسألون عن معالم دينهم، ويعلمونه ولا يتهم ومودتهم له " (ص392 - 393) يذكر ثلاث روايات منها: نظر أبو جعفر إلى الناس يطوفون حول الكعبة فقال: هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية، إنما أمروا أن يطوفوا بها ثم ينفروا إلينا يعلمونا ولا يتهم ومودتهم، ويعرضوا علينا نصرتهم. ومنها أنه نظر إلى أبي حنيفة وسفيان الثوري في ذلك الزمان وهم حلق في المسجد فقال: هؤلاء الصادون عن دين الله بلا هدى من الله ولا كتاب مبين، إن هؤلاء الأخابث لو جلسوا في بيوتهم، فجال الناس فلم يجدوا أحدا يخبرهم عن الله تبارك وتعالى، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يأتونا فنخبرهم عن الله تبارك وتعالى، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم. وفي " باب أن الأئمة تدخل الملائكة بيوتهم، وتطأ بسطهم وتأتيهم بالأخبار " (ص393 - 394)، يذكر أربع روايات. وفي " باب أن الجن يأتيهم: فيسألونهم عن معالم دينهم ويتوجهون في أمورهم " (ص394 - 397) يذكر سبع روايات تفيد معنى الباب، وأن بعض الناس رأوا الجن يخرجون من عند الأئمة، وفي رواية: إن ثعبانا جاء وأمير المؤمنين يخطب، فأمر بعدم قتله، وصعد الثعبان إليه فقال أمير المؤمنين: من أنت؟ فقال الثعبان: عمرو بن عثمان خليفتك على الجن، وإن أبي مات، وأوصاني أن آتيك فأستطلع رأيك .. إلخ. وفي " باب في الأئمة أنهم إذا ظهر أمرهم حكموا بحكم داود وآل داود (3) ولا يسألون البينة " ص (397 - 398) يذكر خمس روايات. وفي " باب أن مستقى العلم من بيت آل محمد صلى الله عليه وسلم " (ص398 - 399) يذكر روايتين   (1) ولذلك فهم يرون أن الإمام الثاني عشر عندما يموت يكون الحسين قد رجع إلي الحياة فيقوم بغسله ‍‍‍‍‍‍‍! ‍‍‍‍‍‍‍ (2) (ص 387). (3) وليس بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم!! الحنين إلى عبد الله بن سبأ، اليهودي أول من قال بفكرة الوصي بعد النبي!! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 299 وفي " باب أنه ليس شيء من الحق في يد الناس إلا ما خرج من عند الأئمة وأن كل شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل " (ص399 - 400). يذكر ست روايات. وفي " باب فيما جاء أن حديثهم صعب مستعصب " (ص401 - 402) يذكر خمس روايات. وفي " باب ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنصيحة لأئمة المسلمين، واللزوم لجماعتهم ومن هم؟ " (ص403 - 405) يذكر خمس روايات تؤيد فرقته الرافضة. وفي " باب ما يجب من حق الإمام على الرعيه وحق الرعيه على الإمام " (ص405 - 407) يذكر سبع روايات. وفي " باب أن الأرض كلها للإمام " (407 - 410) يذكر ثماني روايات تفيد معنى الباب، وأن الله تعالى أورث أئمة الجعفرية الأرض كلها، فأداءالخراج يجب أن يكون لهم. ومما جاء في " باب نادر" (ص411 - 412): عن جابر عن أبي جعفر قال: قلت له: لم سمي أمير المؤمنين؟ قال: الله سماه وهكذا أنزل في كتابه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] وأن محمداً رسولي وأن علياً أمير المؤمنين؟ (1) وفي " باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية " (ص412 - 436)، يذكر الكليني اثنتين وتسعين رواية: ويبدو من العنوان أن الكليني أراد هنا أن يخضع كتاب الله لهواه، فيحرف معناه ليؤيد عقيدته في الإمامة، أراد إذا أن يجعل آيات الله تعالى تتحدث عن أئمة الجعفرية. ولكن الكليني لم يكتف بهذا فسلك مسلك شيخه علي بن إبراهيم القمي صاحب التفسير الضال المضل الذي تحدثنا عنه، ولذا ترى الكليني هنا يحرف نصوص آيات قرآنية، ويطعن في الصحابة الكرام بصفة عامه، فيصمهم بالكفروالردة والنفاق، ويطعن في الخلفاء الراشدين الثلاثة بصفة خاصة باعتبار أنهم – كما يفتري - اغتصبوا الولاية من أمير المؤمنين، ويطعن في الشيخين بصفة أخص. والروايات التي تحمل تحريف نصوص الآيات الكريمة هي الروايات أرقام (8، 23، 25، 26، 27، 28، 31، 32، 43، 47، 48، 58، 59، 60، 62، 63، 64، 91). والطعن في الصحابة الكرام البررة في أكثر الروايات، أما الروايات التي تطعن في الخلفاء الراشدين الثلاثة فهي أرقام:17، 42، 73، 83. والروايات التى تطعن في أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما –هي:3، 14، 43، 79. ونكتفي هنا بذكر رواية واحدة من روايات الباب، وهي الرواية رقم 91 (ص442 - 435) وهي: عن محمد بن الفضيل عن إمامهم الحادي عشر: قال: سألته عن قول الله عز وجل: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8] قال: يريدون ليطفئوا ولاية أمير المؤمنين بأفواههم. قلت وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ [الصف:8] قال: والله متم الإمامه لقوله عز وجل: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن: 8] فالنور هو الإمام: قلت: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ كُلِّهِ [الصف:9] قال: هو الذي أمر رسوله بالولاية لوصيه والولاية هي دين الحق، قلت: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ قال: يظهر على جميع الأديان عند قيام القائم، قال الله: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولاية القائم وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ بولاية علي، قلت: هذا تنزيل؟ قال: نعم أما هذا الحرف فتنزيل وأما غيره فتأويل.   (1) الآية الكريمة في سورة الأعراف (172) والجزء الأخير " وأن محمدا رسولي وأن عليا أمير المؤمنين " زيادة من الكليني ليثبت ضلاله " الله سماه وهكذا أنزل في كتابه ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 300 قلت: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا قال: إن الله تبارك وتعالى سمى من لم يتبع رسوله في ولاية وصيه منافقين، وجعل من جحد وصية إمامته كمن جحد محمدا، وأنزل بذلك قرآنا: يا محمد إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ (بولاية وصيك) قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ [المنافقون: 1] (بولاية علي لكافرون) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ [المجادلة: 16] (والسبيل هو الوصي) إنهم ساء ما كانوا يعملون. ذلك بأنهم آمنوا (برسالتك) ثم كفروا (بولاية وصيك) فطبع (الله) على قلوبهم فهم لا يفقهون وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله قال: وإذا قيل لهم ارجعوا إلى ولاية علي يستغفر لكم النبي من ذنوبكم لووا رءوسهم " قال الله ورأيتهم يصدون: (عن ولاية علي) وهم مستكبرون عليه. ثم عطف القول من الله بمعرفته بهم فقال: سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [المنافقون:6] يقول الظالمين لوصيك. قلت: أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الملك:22] قال: إن الله ضرب مثل من حاد عن ولاية علي كمن يمشي على وجهه لا يهتدي لأمره وجعل من تبعه سويا على صراط مستقيم، والصراط المستقيم أمير المؤمنين. قال: قلت: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40] قال: يعنى جبرئيل عن الله في ولاية علي قال: قلت: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ [الحاقة:41] قال: قالوا: إن محمدا كذاب على ربه وما أمره الله بهذا في علي, فأنزل الله بذلك قرآنا فقال: (إن ولاية علي) (تنزيل من رب العالمين ولو تقول علينا (محمد) بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين) ثم عطف القول فقال: إن (ولاية علي) ُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ [الحاقة:48] (العالمين) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ [الحاقة:49] وإن (عليا) (لحسرة على الكافرين). وإن (ولايته) (لحق اليقين. فسبح (يا محمد) باسم ربك العظيم) يقول اشكر ربك العظيم الذي أعطاك هذا الفضل. قلت: قوله: وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ [الجن:13] قال الهدى الولاية، آمنا بمولانا فمن أمن بولاية مولاه فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا قلت: تنزيل قال: لا تأويل قلت: قوله قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا [الجن:21] قال: إن رسول الله دعا الناس إلى ولاية علي فاجتمعت إليه قريش فقالوا: يا محمد اعفنا من هذا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 301 هذا إلى الله ليس إلي، فاتهموه، وخرجوا من عنده فأنزل الله (قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ (إن عصيته) أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ) (في علي) قلت: هذا تنزيل قال: نعم ثم قال توكيدا: (وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (في ولاية على) فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) قلت: حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا يعني بذلك القائم وأنصاره، قلت: (واصبر على ما يقولون) قال: يقولون فيك وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (وَذَرْنِي (يا محمد) وَالْمُكذِّبِينَ (بوصيك) أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا) قلت: إن هذا تنزيل؟ قال: نعم .. إلخ (1). وفي " باب فيه نتف وجوامع من الرواية في الولاية " (436 ـ 438)، يذكر تسع روايات يستفاد منها أن ولاية أئمة الجعفرية الإمامية الرافضة ولاية الله تعالى جاء بها كل الأنبياء، وكتبت في جميع صحفهم، ويؤمن بها ما لا يحصى من الملائكة، منكرها كافر، وجاهلها ضال، ومن اتخذ معهم أئمة آخرين كان مشركاً، ومن جاء بهذه الولاية دخل الجنة. وفي " باب في معلافتهم أولياءهم والتفويض إليهم " (ص 438 ـ 439)، يذكر ثلاث روايات هي: 1 - عن أبي عبد الله: إن رجلا جاء إلى أمير المؤمنين وقال له: إني أحبك وأتولاك، فكذبه. فكرر ثلاثا فقال له: كذبت ما أنت كما قلت، إن الله خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام، ثم عرض علينا المحب لنا، فوالله ما رأيت روحك فيمن عرض، فأين كنت؟ فسكت الرجل عند ذلك ولم يراجعه". وفي رواية أخرى قال أبو عبد الله: كان في النار.2 - عن أبي جعفر: إنا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الإيمان وحقيقة النفاق. 3 - عن عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله قال: سألته عن الإمام فوض الله إليه كما فوض إلى سليمان بن داود؟ فقال نعم. وذلك أن رجلا سأله عن مسألة فأجابه فيها، وسأله آخر عن تلك المسألة فأجابه بغير جواب الأول، ثم سأله آخر فأجابه بغير جواب الأولين ثم قال: (هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ (أعط) بِغَيْرِ حِسَابٍ) (2) وهكذا هي في قراءة على ... إلخ. وفي أبواب التاريخ " يذكر الكليني روايات نرى في الحاشية رفضا لبعضها وطعنا في سندها، ولكن أثر الإمامة يبدو كذلك فيما لم يطعن فيه، مثال هذا ما رواه أن أبا جعفر المنصور أمر بإحراق دار الإمام جعفر الصادق، فخرج يتخطى النار، ويمشي فيها، ويقول: أنا ابن أعراق الثرى، أنا ابن إبراهيم خليل الله (3). وفي " باب ما جاء في الاثني عشر والنص عليهم (ص252 - 535) يذكر الكليني عشرين رواية، نذكر هنا نص إحدى الروايات:   (1) لترى التحريف راجع سورة: التغابن (8)، والمنافقين (1،3،5،6) والحاقة (43،46، 48، 52) والجن (21،24)، والمزمل (10،11). (2) (39: سورة ص)، ولكنه حرفها فجعل (أعط) بدلا من (أمسك). (3) انظر (ص 473). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 302 عن أبي بصير، عن أبي عبد الله، قال: قال أبي لجابر بن عبد الله الأنصاري: إن لي إليك حاجة فمتى يخف عليك أن أخلو بك فأسألك عنها؟ فقال له جابر: أي الأوقات أحببته، فخلا به في بعض الأيام فقال له: يا جابر أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد أمي فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أخبرتك به أمي أنه في ذلك اللوح المكتوب؟ فقال جابر: أشهد بالله أني دخلت على أمك فاطمة عليها السلام في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم فهنيتها بولادة الحسن ورأيت في يديها لوحا أخضر، ظننت أنه من زمرد، ورأيت فيه كتابا أبيض، شبه لون الشمس، فقلت لها: بأبي وأمي يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا اللوح؟ فقالت هذا لوح أهداه الله إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيه اسم أبي واسم بَعلي واسم ابني واسم الأوصياء من ولدي، وأعطانيه أبي ليبشرني بذلك. قال جابر: فأعطتنيه أمك فاطمة عليها السلام فقرأته واستنسخته. فقال له أبي: فهل لك ياجابر أن تعرضه علي؟ فقال: نعم فمشى معه أبي إلى منزله فأخرج صحيفة من رق فقال: يا جابر انظر في كتابك لأقرأ أنا عليك. فنظر جابر في نسخته فقرأه فما خالف حرف حرفا فقال جابر: فأشهد بالله أني هكذا رأيته في اللوح مكتوبا. ونص الكتاب هو: بسم الله الرحمن الرحيم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 303 هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لمحمد نبيه ونوره وسفيره وحجابه ودليله نزل به الروح الأمين من عند رب العالمين، عظم يا محمد أسمائي، واشكر نعمائي ولا تجحد آلائي، إني أنا الله لا إله إلا أنا، قاصم الجبارين ومديل المظلومين وديان الدين، إني أنا الله لا إله إلا أنا فمن رجا غير فضلي، أو خاف غير عدلي، عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين. فإياي فاعبد وعلي فتوكل، إني لم أبعث نبياً فأكملت أيامه وانقضت مدته إلا جعلت له وصيا. وإني فضلتك على الأنبياء وفضلت وصيك على الأوصياء وأكرمتك بشبليك وسبطيك حسن وحسين، فجعلت حسنا معدن علمي بعد انقضاء مدة أبيه، وجعلت حسينا خازن وحيي، وأكرمته بالشهادة وختمت له بالسعادة، فهو أفضل من استشهد وأرفع الشهداء درجة. جعلت كلمتي التامة معه وحجتي البالغة عنده، بعترته أثيب وأعاقب، أولهم علي سيد العابدين، وزين أوليائي الماضين، وابنه شبه جده المحمود: محمد الباقر علمي والمعدن لحكمتى، سيهلك المرتابون في جعفر الراد عليه كالراد على، حق القول مني لأكرمن مثوى جعفر ولأسرنه في أشياعه وأنصاره وأوليائه، أتيحت بعد موسى فتنة عمياء حندس لأن خيط فرضي لاينقطع، وحجتي لا تخفى، وأن أوليائي يسقون بالكأس الأوفي، من جحد واحداً منهم فقد جحد نعمتي، ومن غير آية من كتابي فقد افترى علي، ويل للمفترين الجاحدين عند انقضاء مدة موسى عبدي وحبيبي، وخيرتي في علي، وليي وناصري، ومن أضع عليه أعباء النبوة، وأمتحنه بالاضطلاع بها، يقتله عفريت مستكبر يدفن في المدينة التي بناها العبد الصالح إلى جنب شر خلقي ـ حق القول مني لأسرنه بمحمد ابنه وخليفته من بعده ووارث علمه، فهو معدن علمي وموضع سري، وحجتي علي خلقي. لا يؤمن عبد به إلا جعلت الجنة مثواه، وشفعته في سبعين من أهل بيته كلهم قد استوجبوا النار، وأختم بالسعادة لابنه علي وليي وناصري والشاهد في خلقي وأميني على وحيي، أخرج منه الداعي إلى سبيلي، والخازن لعلمي الحسن وأكمل ذلك بابنه "محمد" رحمة للعالمين، عليه كمال موسى وبهاء عيسى وصبر أيوب فيذل أوليائي في زمانه، وتتهادى رؤوسهم كما تتهادى رؤوس الترك والديلم، فيقتلون ويحرقون، ويكونون خائفين مرعوبين وجلين تصبغ الأرض بدمائهم، ويفشو الويل والرنة في نسائهم، أولئك أوليائي حقا، بهم أدفع كل فتنة عمياء حندس، وبهم أكشف الزلازل وأدفع الآصار والأغلال، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون. قال عبد الرحمن بن سالم: قال أبو بصير: لو لم تسمع في دهرك إلا هذا الحديث لكفاك فصنه إلا عن أهله. وفي " باب صلة الإمام " (ص537 - 538) يذكر سبع روايات منها: عن أبي عبدالله: ما من شيء أحب إلى الله من إخراج الدراهم إلى الإمام وأن الله ليجعل له الدرهم في الجنة مثل جبل أحد، ثم قال: إن الله يقول في كتابه: مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً (1). قال: هو والله في صلة الإمام خاصة. وعنه: درهم يوصل به الإمام أفضل من ألفي درهم فيما سواه من وجوه البر.   (1) (245: البقرة)، والآية الحادية عشرة من سورة الحديد مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ * الحديد:11* يروى الكليني كذلك أنها نزلت في صلة الإمام خاصة. وما يوصل به الإمام يوصل به علماء الجعفرية بعد عصر الأئمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 304 وفي " باب الفيء والأنفال وتفسير الخمس وحدوده وما يجب فيه " (538 - 549) يكتب الكليني صفحة عن الباب، ثم يذكر ثمانياً وعشرين رواية منها: عن الإمام الصادق " نحن قوم فرض الله طاعتنا، لنا الأنفال، ولنا صفو المال " (1). ويفسر ابنه موسى الكاظم ـ كما يزعم الكليني ـ صفو المال بقوله: " للإمام صفو المال: أن يأخذ من هذه الأموال صفوها، الجارية الفارهة، والدابة الفارهة، والثوب والمتاع بما يحب أو يشتهي، فذاك له قبل القسمة وقبل إخراج الخمس " (2). وعن الإمام الصادق أيضاً: " من أين دخل على الناس الزنى؟ .. من قبل خمسنا أهل البيت إلا شيعتنا الأطيبين، فإنه محلل لهم لميلادهم " (3). وبانتهاء هذا الباب ينتهي كتاب (الحجة). وإذا نظرنا في بقية الجزء الأول فإنا نراه لا يخلو من التأثر بعقيدة الإمامة. مثال هذا: ما يطالعنا في خطبة الكتاب: " دعوا ما وافق القوم فإن الرشد في خلافهم " (4)، وفي كتاب (فضل العلم) "يغدو الناس على ثلاثة أصناف: عالم ومتعلم وغثاء، فنحن العلماء وشيعتنا المتعلمون وسائر الناس غثاء " (5)، والرواية عن الإمام الصادق. وعن ابنه موسى " لعن الله أبا حنيفة، وكان يقول: قال علي، وقلت: (6)، وعن الإمام علي: " ذلك القرآن فاستنطقوه .. ولن ينطق لكم، أخبركم عنه .. إلخ " (7). وعن سليم بن قيس الهلالي قال: قلت لأميرالمؤمنين: إني سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئاً من تفسير القرآن وأحاديث عن نبي الله صلى الله عليه وسلم غير ما في أيدى الناس، ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنتم تخالفونهم فيها، وتزعمون أن ذلك كله باطل، أفترى الناس يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم متعمدين، ويفسرون القرآن بآرائهم، قال: فأقبل علي فقال: قد سألت فافهم الجواب، إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً، ومحكماً ومتشابهاً ووهماً، وقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهده حتى قام خطيباً فقال: أيها الناس قد كثرت علي الكذابة، كمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، ثم كذب عليه من بعده، وإنما آتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس: رجل منافق يظهر الإيمان متصنع بالإسلام لا يتأثر ولا يتحرج أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم متعمداً، فلو علم الناس أنه منافق كذاب لم يقبلوا منه ولم يصدقوه، ولكنهم قالوا هذا قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآه وسمع منه وأخذوا عنه وهم لا يعرفون حاله، وقد أخبره الله عن المنافقين بما أخبره، ووصفهم بما وصفهم، فقال عز وجل: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون: 4]، ثم بقوا بعده فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان فولوهم الأعمال وحملوهم على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله، فهذا أحد الأربعة. ورجل سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يحمله على وجهه ووهم فيه ولم يتعمد كذباً.   (1) (ص 546). (2) (ص 540). (3) (ص 546). (4) (ص 8)، راجع المقبولة التى نقلناها من هذا الجزء وناقشناها في الحديث عن الترجيح. (5) (ص 34). (6) (ص 56). (7) انظر (ص 61)، وراجع ما كتبناه عن القرآن الناطق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 305 ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا أمر به، ثم نهى عنه، وهو لا يعلم - أو سمعه ينهى عن شيء، ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ. وآخر رابع لم يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مبغض للكذب خوفاً من الله وتعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لم ينسه، بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمع، لم يزد فيه ولم ينقص منه، وعلم الناسخ من المنسوخ ... وقد كنت أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم دخلة، وكل ليلة دخلة، فيخلينى فيها أدور معه حيث دار، وقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري (1). وتنظر مثلا في باب النوادر من كتاب (التوحيد) (ص 143 - 146) تجد ما يأتي: عن الحارث بن المغيرة النصري قال: سئل أبو عبدالله عن قول الله تبارك وتعالى: كُلُّ شيء هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88] فقال: ما يقولون فيه؟ قلت: يقولون يهلك كل شىء إلا وجه الله، فقال: سبحان الله! لقد قالوا قولاً عظيماً، إنما عنى بذلك وجه الله الذي يؤتى منه. وعن أبي جعفر: " نحن المثاني الذي أعطاه الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، ونحن وجه الله نتقلب في الأرض بين أظهركم، ونحن عين الله في خلقه، ويده المبسوطة بالرحمة على عباده، عرفنا من عرفنا، وجهلنا من جهلنا وإمامة المتقين ". وعن أبي عبدالله في قول الله عز وجل: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180] قال: نحن والله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملاً إلا بمعرفتنا. وعنه: إن الله خلقنا فأحسن خلقنا وصورنا فأحسن صورنا، وجعلنا عينه في عباده، ولسانه الناطق في خلقه، ويده المبسوطة على عباده بالرأفة والرحمة، ووجهه الذي يؤتى منه وبابه الذي يدل عليه وخزانه في سمائه وأرضه، بنا أثمرت الأشجار، وأينعت الثمار، وجرت الأنهار، وبنا نزل غيث السماء وينبت عشب الأرض، وبعبادتنا عبدالله، ولولا نحن ما عبدالله. وعن أسود بن سعيد قال: كنت عند أبي جعفر فأنشأ يقول ابتداء منه من غير أن أسأله: نحن حجة الله، ونحن باب الله، ونحن لسان الله، ونحن وجه الله, ونحن عين الله في خلقه، ونحن ولاة الله في عباده. وعن أمير المؤمنين: أنا عين الله وأنا يد الله، وأنا جنب الله, وأنا باب الله. وعن أبي الحسن موسى: يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ [الزمر:56] قال: جنب الله أمير المؤمنين، وكذلك ما كان بعده من الأوصياء بالمكان الرفيع إلى أن ينتهي الأمر إلى آخرهم. وعن أبي جعفر: بنا عبدالله وبنا عرف الله وبنا وحد الله تبارك وتعالى ومحمد حجاب الله تبارك وتعالى. وعن أبي جعفر: وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [البقرة:57، الأعراف: 160] قال: إن الله تعالى أعظم وأعز وأجل وأمنع من أن يظلم ولكن خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه وولايتنا ولايته حيث يقول: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ [المائدة: 55] يعنى الأئمة منا. ثانياً: الجزء الثاني من (أصول الكافي):   (1) (ص 62: 64)، وفي الحاشية (ص63) " أي أئمة الضلال بسبب وضع الأخبار أعطوا هؤلاء المنافقين الولايات، وسلطوهم على الناس " ف الكليني هنا يريد بافترائه اتهام الخلفاء الراشدين الثلاثة بأنهم أئمة ضلال والذين تولوا الإمارة في عهدهم من الصحابة الكرام، كانوا منافقين، وصلوا إلى الإمارة بتعمد الكذب على رسول الله فشجعهم الخلفاء على هذا الكذب بجعلهم عمالا لهم. وأراد الكليني إيجاد سند يؤيد غلاة الجعفرية الذين انفصلوا عن الأمة الإسلامية بإسناد الرواية للإمام على كرم الله وجهه وبرأه مما قال زنادقة الرافضة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 306 بعد عرضنا للجزء الأول أعتقد أننا لسنا في حاجة إلى أن نطيل الحديث عن الجزء الثاني، ذلك أن هذا الجزء يتحدث في جملته عن الإيمان والكفر، والجزء السابق بين مفهوم الإيمان والكفر عند الكليني، وأمثاله من غلاة الفرقة الضالة وزنادقتهم. كما رأينا في كثير من رواياته، فقد ربط الإيمان والكفر بإمامة الجعفرية الإمامية فالمؤمن بها هو المؤمن، ومنكرها كافر، إلى غير ذلك مما رأينا. فهذا الجزء إذن يعتبر امتدادا للجزء الأول، فيكفي أن نورد بعض الأمثلة لنرى أن الكليني ظل سائرا في نفس الطريق الذي رسمه لنفسه تأثراً بعقيدته في الإمامة. من هذه الأمثلة ما رواه عن أبي جعفر قال: " إن الله تبارك وتعالى حيث خلق ماء عذبا وماء أجاجا فامتزج الماءان، فأخذ طينا من أديم الأرض فعركه عركا شديداً، فقال لأصحاب اليمين وهم كالذر يدبون: إلى الجنة بسلام، وقال لأصحاب الشمال: إلى النار ولا أبالي، ثم قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا، أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، ثم أخذ الميثاق على النبيين، فقال: ألست بربكم وأن هذا محمد رسولي، وأن هذا علي أمير المؤمنين؟ قالوا: بلى فثبت لهم النبوة. وأخذ الميثاق على أولي العزم أنني ربكم، ومحمد رسولي، وعلي أمير المؤمنين وأوصياؤه من بعده ولاة أمري وخزان علمي – عليهم السلام -، وأن المهدي أنتصر به لديني، وأظهر به دولتي، وانتقم به من أعدائي، وأعبد به طوعا وكرها. قالوا: أقررنا يارب وشهدنا. ولم يجحد آدم ولم يقر، فثبتت العزيمة لهؤلاء الخمسة في المهدي، ولم يكن لآدم عزم على الإقرار به وهو قوله عز وجل: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه:115] قال: إنما هو فترك (1). ثم أمر نارا فأججت، فقال لأصحاب الشمال: ادخلوها، فهابوها. وقال لأصحاب اليمين: ادخلوها فدخلوها فكانت عليهم بردا وسلاما. فقال أصحاب الشمال: يارب أقلنا فقال قد أقلتكم اذهبوا فادخلوها فهابوها، ثم ثبتت الطاعة والولاية والمعصية (2). وعنه أيضاً قال: " إن الله عز وجل خلق الخلق فخلق من أحب مما أحب، وكان ما أحب أن خلقه من طينة الجنة، وخلق من أبغض مما أبغض وكان ما أبغض أن خلقه من طينة النار. ثم بعثهم في الظلال. فقلت: وأي شيء الظلال؟ فقال: ألم تر إلى ظلك في الشمس شيئا وليس بشيء. ثم بعث منهم النبيين فدعوهم إلى الإقرار بالله عز وجل: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87] ثم دعوهم إلى الإقرار بالنبيين فأقر بعضهم وأنكر بعض. ثم دعوهم إلى ولايتنا، فأقر بها والله من أحب وأنكر من أبغض وهو قوله: فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ [يونس:74]. ثم قال أبو جعفر رضي الله عنه: كان التكذيب ثم (3).وعنه كذلك قال: " بني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية " (4).وفي رواية أخرى زاد: فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه، يعنى الولاية (5).وعن عجلان أبي صالح قال: قلت لأبي عبدالله رضي الله عنه: أوقفني على حدود الإيمان. فقال الخمس وأداء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وولاية ولينا، وعداوة عدونا، والدخول مع الصادقين " (6). وعن زرارة عن أبي جعفر قال: " بني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية. قال زرارة: قلت وأي شيء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل، لأنها مفتاحهن، والوالي هو الدليل عليهن. أما لو أن رجلا قام ليله، وصام نهاره، وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره، ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه، ويكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له على الله جل وعز حق في ثوابه، ولا كان من أهل الإيمان" (7).والكليني لا يكتفي بربط الإيمان والكفر بالإمامة ولكن يربطهما كذلك بمبادئ الجعفرية، استمع إليه مثلا وهو يروي عن الإمام الصادق: " إن تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له ", " التقية من دين الله "، " والله ما عبدالله بشيء أحب إليه من الخبء. قلت: وما الخبء   (1) جاء في الحاشية: أي معني النسيان هنا الترك، لأن النسيان غير مجوز على الأنبياء عليهم السلام. أو كان في قراءتهم عليهم السلام فترك مكان فنسى، ولعل السر في عدم عزم آدم على الإقرار بالمهدي استبعاده أن يكون لهذا النوع الإنساني اتفاق على أمر واحد " والآية الكريمة في (سورة طه: 115). (2) (ص 8). (3) (ص10). (4) (ص 18). (5) (ص 18). (6) (ص18). (7) (ص 18 - 19). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 307 الفصل الثاني عشر: التفسير وأصوله عند الشيعة الاثني عشرية • المبحث الأول: القرآن الصامت والقرآن الناطق . • المبحث الثاني: الظاهر والباطن. • المبحث الثالث: القرآن الكريم والتحريف. • المبحث الرابع: التبيان للطوسي وتفاسير الطبرسي. • المبحث الخامس: التفسير بعد الطوسي والطبرسي. • المبحث السادس: نظرة عامة لباقي كتب التفسير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 308 المبحث الأول: القرآن الصامت والقرآن الناطق • المطلب الأول: الإمام كالنبي . • المطلب الثاني: مذهب الإخباريين. • المطلب الثالث: قول الأصوليين. • المطلب الرابع: النسخ بعد عصر النبوة. • المطلب الخامس: التخصيص. • المطلب السادس: كتمان الحكم تقية أو للتدرج. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 309 المطلب الأول: الإمام كالنبي ذكرنا من قبل قول الجعفرية بأن الإمام كالنبي في عصمته وصفاته وعلمه، ولذلك فهم يشيرون إلى القرآن الكريم والإمام بقولهم: ذلك القرآن الصامت وهذا القرآن الناطق، فالإمام هو ـ في رأيهم ـ القرآن الناطق (1)، ودوره بالنسبة للقرآن الصامت كدور النبي صلى الله عليه وسلم سواء بسواء. المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص451   (1) انظر ((الشيعة والتشيع)) (ص 45)، ويزعمون أن الإمام علياً قال: " ذلك القرآن فاستنطقوه فلن ينطق لكم، أخبركم عنه. إن فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم، وبيان ما أصبحتم فيه مختلفين. فلو سألتموني عنه لأخبرتكم عنه لأني أعلمكم ". (ص 3) من ((مقدمة تفسير القمي))، وانظر ((الكافي)) (1/ 61)، (8/ 50). ويزعمون كذلك أن الإمام الصادق قال: " إن الكتاب لم ينطق ولن ينطق " وأن أباه الباقر قال: " القرآن ضرب فيه الأمثال للناس، وخاطب الله نبيه به ونحن، فليس يعلمه غيرنا ". ((تفسير القمي)) (2/ 295، 425). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 310 المطلب الثاني: مذهب الإخباريين وما دام القرآن الكريم صامتاً فلابد من الرجوع إلى القرآن الناطق حتى يوضح مراد الله تعالى، ولهذا قال الإخباريون من الجعفرية (1): لا يجوز العمل بظاهر القرآن الكريم!! وقال جمهور الجعفرية ـ وهم الأصوليون ـ بحجية الظواهر ولكنهم قالوا: لا يجوز الاستقلال في العمل بظاهر الكتاب بلا مراجعة الأخبار الواردة عن الأئمة. (2) المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس- ص451   (1) ينقسم الجعفرية إلى أصوليين وإخباريين: الأصوليون يعتمدون على الاستنباط والاجتهاد وإعمال العقل، فهم يبحثون ويفكرون بذهنية أصولية، وهم أصحاب علم أصول الفقه عند الجعفرية. والإخباريون لا يعتمدون إلا على متون الأخبار التي تروى عن أئمتهم. ويرى الأصوليون أن الحركة الإخبارية ظهرت في أوائل القرن الحادى عشر على يد الميرزا محمد أمين الاسترابادى، واستفحل أمرها بعده وبخاصة في أواخر القرن الحادى عشر وخلال القرن الثاني عشر، على حين يرى الإخباريون أن الاتجاه الإخباري كان هو الاتجاه السائد بين الفقهاء الإمامية إلى نهاية عصر الأئمة ولم يتزعزع هذا الاتجاه إلا في أواخر القرن الرابع وبعده ـ (2) حين بدأ جماعة من علماء الإمامية ينحرفون عن الخط الإخباري، ويعتمدون على العقل في استنباطهم، ويربطون البحث الفقهي بعلم الأصول تأثراً بالطريقة السنية في الاستنباط، ثم أخذ هذا الانحراف ـ كما يقولون ـ في التوسع والانتشار. والإخباريون الآن قلة قليلة بالنسبة للأصوليين، والقسم الكثير منهم في البحرين، وهم أيضاً عدد قليل انظر ((المعالم الجديدة للأصول)) (ص 76 ـ 82)، و ((فقه الشيعة الإمامية)) (1/ 48 ـ 50) وانظر كذلك ((موقف الإخباريين من علم الأصول)) في الحاشية للقمى (2/ 211). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 311 المطلب الثالث: قول الأصوليين وناقش الأصوليون الإخباريين فيما ذهبوا إليه: قال صاحب (فوائد الأصول) بعد أن بين حجية الظواهر: " نسب إلى الإخباريين عدم جواز العمل بظاهر الكتاب العزيز، واستدلوا على ذلك بوجهين، الأول: العلم الإجمالى بتقييد وتخصيص كثير من المطلقات والعمومات الكتابية، والعلم الإجمالى كما يمنع عن جريان الأصول العملية، يمنع عن جريان الأصول اللفظية من أصالة العموم والإطلاق التي عليها مبنى الظهورات. الثاني: الأخبار الناهية عن العمل بالكتاب. ولا يخفى ما في كلا الوجهين، أما الأول فلأن العلم الإجمالى ينحل بالفحص عن تلك المقيدات والمخصصات، والعثور على مقدار منها يمكن انطباق المعلوم بالإجمال عليها ... وأما الثاني فلأن الأخبار الناهية عن العمل بالكتاب وإن كانت مستفيضة، بل متواترة، إلا أنها على كثرتها بين طائفتين: طائفة تدل على المنع عن تفسير القرآن بالرأي والاستحسانات الظنية، وطائفة تدل على المنع عن الاستقلال في العمل بظاهر الكتاب من دون مراجعة أهل البيت الذين نزل الكتاب في بيتهم صلوات الله عليهم، ولا يخفى أن مفاد كل من الطائفتين أجنبي عما يدعيه الإخباريون " (1). فالإخباريون يمنعون العمل بظاهر الكتاب، والأصوليون يمنعونه كذلك إلا بعد الرجوع إلى أقوال الأئمة، ويندرج تحت هذا الظاهر مثل العام والمطلق وغيرهما مما هو ظاهر في معنى, ومحتمل لمعنى آخر، فالعام ظاهر في العموم مع احتمال التخصيص، والمطلق ظاهر في الإطلاق مع احتمال التقييد فيرون إذن وجوب الرجوع إلى الأئمة وما روي عنهم بمعرفة مراد الله عزوجل. قال أحد علمائهم المعاصرين (2): " لا يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص "، ويوضح هذا بقوله: " لا شك في أن بعض عمومات القرآن الكريم والسنة الشريفة لها مخصصات منفصلة شرحت المقصود من تلك العمومات، وهذا معلوم من طريقة صاحب الشريعة، والأئمة الأطهار ـ عليهم الصلاة والسلام. حتى قيل: ما من عام إلا وقد خص. ولذا ورد عن أئمتنا ذم من استبدوا برأيهم في الأحكام، لأن في الكتاب المجيد والسنة عاماً وخاصاً، ومطلقاً ومقيداً، وهذه الأمور لا تعرف إلا من طريق آل البيت، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه. وهذا ما أوجب التوقف في التسرع بالأخذ بعموم العام قبل الفحص، واليأس من وجود المخصص، لجواز أن يكون هذا العام من العمومات التي لها مخصص موجود في السنة أو الكتاب لم يطلع عليه من وصل إليه العام. وقد نقل عدم الخلاف بل الإجماع على عدم جواز الأخذ بالعام قبل الفحص واليأس ". اهـ. والسنة ـ عند الجعفرية تتسع لتشمل أقوال أئمتهم، وهم مجمعون على الأخذ بما ورد من كلام الأئمة مخصصا لكثير من عمومات القرآن الكريم، ومقيداً لكثير من مطلقاته، وما قام قرينة على صرف جملة من ظواهره، ويعتبرون هذا من الأمور القطعية التي لا يشك فيها أحد (3) ولكن المخصصات التي ترد عن الأئمة أتعتبر من باب النسخ أم التخصيص؟ خلاف وقع بين الجعفرية! المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص452   (1) ((فوائد الأصول)) (3/ 48)، وانظر كذلك ((الأصول العامة)) للفقه المقارن (ص 102 ـ 105) و ((أصول الفقه)) للمظفر (3/ 130: 134، 138، 141). (2) هو الشيخ محمد رضا المظفر، من كبار علمائهم. انظر كتابه ((أصول الفقه)) (1/ 136). وهو الذي نقلنا عنه الأصول اللفظية آنفاً. (3) انظر ((أصول الفقه)) للمظفر (1/ 141 - 142). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 312 المطلب الرابع: النسخ بعد عصر النبوة فمنهم من ذهب إلى أن المخصصات ناسخة لحكم العمومات، لأن العام لما ورد وصل وقت العمل به بحسب الغرض، فتأخير الخاص عن وقت العمل لو كان مخصصاً ومبيناً لعموم العام يكون من باب تأخير البيان عن وقت الحاجة. وهو قبيح من الحكيم، لأن فيه إضاعة للأحكام ولمصالح العباد بلا مبرر. فوجب أن يكون ناسخا للعام، والعام باق على عمومه يجب العمل به إلى حين ورود الخاص، فيجب العمل ثانيا على طبق الخاص. وكيف يمكن النسخ بعد عصر النبوة وانقطاع الوحي؟ قيل " إن انقطاع الوحي لا يلازم عدم تحقق النسخ بعده صلى الله عليه وسلم لأنه يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أودع الحكم الناسخ إلى الوصي، وأودع الوصي إلى وصي آخر إلى أن يصل زمان ظهوره وتبليغه. وقد وردت أخبار عديدة في تفويض دين الله تعالى إلى الأئمة، وعقد في الكافي باب في ذلك، وبعد هذا لا يصغى إلى شبهة عدم إمكان تحقق النسخ بعد النبي صلى الله عليه وسلم " (1). ومن المعلوم أن حلال محمد صلى الله عليه وسلم حلال إلى يوم القيامة، وحرامه صلى الله عليه وسلم حرام إلى يوم القيامة، وهم يروون هذا أيضا عن أئمتهم، فأنى يتحقق النسخ؟ يقول السيد أبو القاسم الخوئي ـ مرجعهم السابق بالعراق: " الظاهر منه ـ أي من الخبر ـ عرفاً بيان استمرار الشريعة المقدسة، وأنها لا تنسخ بشريعة أخرى، فالمراد منه أن كل ما يكون إلى يوم القيامة متصفاً بالحلية أو الحرمة فهو حلال محمد صلى الله عليه وسلم أو حرامه، فأحكامه صلى الله عليه وسلم مستمرة إلى يوم القيامة، ولا تنسخ بشريعة أخرى " (2). المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص454   (1) ((فوائد الأصول)) (4/ 274). (2) ((أجود التقريرات)) (ص 512). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 313 المطلب الخامس: التخصيص ومن الجعفرية من جعل هذه المخصصات كاشفة عن اتصال كل عام بمخصصه، فهي ليست تخصيصاً طارئاً بعد عصر النبوة، وإنما اختفت تلك المخصصات المتصلة ووصلت إليهم المخصصات المنفصلة. وقال الشيخ الطوسي: " لكثرة الدواعي إلى ضبط القرائن والمخصصات المتصلة، واهتمام الرواة إلى حفظها ونقلها، فمن المستحيل عادة أن تكون مخصصات متصلة بعد المخصصات المنفصلة وقد خفيت كلها علينا. وأجيب عن هذا بأنه لا وجه لهذه الاستحالة، فإنا نرى أن كثيراً من المخصصات المنفصلة المروية من طرقنا عن الأئمة مروية عن العامة ـ أي جمهور المسلمين - بطرقهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيكشف ذلك عن اختفاء المخصصات المتصلة علينا " (1). المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص456   (1) ((فوائد الأصول)) (4/ 274). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 314 المطلب السادس: كتمان الحكم تقية أو للتدرج ومن الجعفرية من ذهب إلى التخصيص كذلك، ولكن على أساس أن هذه المخصصات " هي المخصصات حقيقة، ولا يضر تأخرها عن وقت العمل بالعام، لأن العمومات المتقدمة لم يكن مفادها الحكم الواقعي، بل الحكم هو الذي تكفل المخصص المنفصل ببيانه. وإنما تأخر بيانه لمصلحة كانت هناك في التأخير، وإنما تقدم العموم ليعمل به ظاهراً إلى أن يرد المخصص، فيكون مفاد العموم حكماً ظاهرياً، ولا محذور في ذلك، فإن المحذور إنما هو تأخر الخاص عن وقت العمل بالعام إذا كان مفاد العام حكماً واقعياً لا حكماً ظاهرياً " (1).ويوضح عالم آخر هذا الرأي فيقول: " العام يجوز أن يكون وارداً لبيان حكم ظاهري صوري لمصلحة اقتضت كتمان الحكم الواقعي، ولو لمصلحة التقية، أو لمصلحة التدرج في بيان الأحكام كما هو معلوم من طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في بيان أحكام الشريعة، مع أن الحكم الواقعي التابع للمصالح الواقعية الثابتة للأشياء بعناوينها الأولية إنما هو على طبق الخاص. فإذا جاء الخاص يكون كاشفاً عن الحكم الواقعي، فيكون مبيناً للعام ومخصصاً له، وأما الحكم العام الذي ثبت أولاً، ظاهراً وصورة، إن كان قد ارتفع وانتهى أمره، فإنه إنما ارتفع لارتفاع موضوعه، وليس هو من باب النسخ " (2).ثم يعقب على هذا بقوله: " وإذا جاز أن يكون العام وارداً على هذا النحو من بيان الحكم ظاهراً وصورة: فإن ثبت ذلك كان الخاص مخصصاً، أي كان كاشفاً عن الواقع قطعاً. وإن ثبت أنه في حدود بيان الحكم الواقعي للمصالح الواقعية الثابتة للأشياء بعناوينها الأولية، فلا شك في أنه يتعين كون الخاص ناسخاً له. وأما لو دار الأمر بينهما، إذ لم يقم دليل على تعيين أحدهما، فأيهما أرجح في الحمل؟ فنقول الأقرب إلى الصواب هو الحمل على التخصيص " (3).ومع هذا الترجيح فقد رأى غيره أن هذه الحالة لا يجوز حملها إلا على النسخ (4).   (1) ((فوائد الأصول)) (4/ 274). (2) ((أصول الفقه)) المظفر (1/ 144). (3) ((فوائد الأصول)) (1/ 144). (4) انظر ((الآراء المختلفة والترجيحات في الحاشية على الكفاية)) (2/ 198 - 199)، و ((فوائد الأصول)) (4/ 273)، و ((أجود التقريرات)) (ص 506: 512) و ((البيان)) (ص 424: 428). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 315 وكتمان الحكم الواقعي تقية, هذا أمر غير معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم, وما أظن الشيعة يقولون به، فما يجوز لمسلم أن يعتقده، فلعلهم أرادوا التقية بالنسبة للأئمة؛ بمعنى أن الإمام يكتم هذا الحكم، لأنه لو أظهره خشي على نفسه وعلى شيعته، ومن هنا تكون التقية. وهذا الرأي وإن كان غير مقبول أصلاً، إلا أنه يتمشى مع عقيدة الجعفرية. أما التدرج في بيان الأحكام الذي يعتقده الجعفرية فيوضحه عالمهم المشهور محمد الحسين آل كاشف الغطاء بقوله: " يعتقد الإمامية أن لله بحسب الشريعة الإسلامية من كل واقعة حكما حتى أرش الخدش، وما من عمل من أعمال المكلفين من حركة أو سكون إلا ولله فيه حكم من الأحكام الخمسة: الوجوب، والحرمة، والندب، والكراهة، والإباحة. وما من معاملة على مال، أو عقد نكاح، ونحوها إلا وللشرع فيه حكم صحة أو فساد. وقد أودع الله سبحانه جميع تلك الأحكام عند نبيه خاتم الأنبياء، وعرفها النبي بالوحي من الله أو الإلهام، ثم إنه ـ سلام الله عليه ـ حسب وقوع الحوادث أو حدوث الوقائع أو حصول الابتلاء، وتجدد الآثار والأطوار، بين كثيرا منها للناس، وبالأخص لأصحابه الحافين به، الطائفين كل يوم بعرش حضوره، ليكونوا هم المبلغين لسائر المسلمين في الآفاق وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143] وبقيت أحكام كثيرة لم تحصل الدواعي والبواعث لبيانها، إما لعدم الابتلاء بها في عصر النبوة، أو لعدم اقتضاء المصلحة لنشرها ... والحاصل أن حكمة التدرج اقتضت بيان جملة من الأحكام، وكتمان جملة، ولكنه ـ سلام الله عليه ـ أودعها عند أوصيائه، كل وصي يعهد به إلى الآخر لينشره في الوقت المناسب له حسب الحكمة من عام مخصص، أو مطلق مقيد، أو مجمل مبين، إلى أمثال ذلك، فقد يذكر النبي عاماً ويذكر مخصصه بعد برهة من حياته، وقد لا يذكره أصلا، بل يودعه عند وصيه إلى وقته " (1) من الواضح البين بعد هذا أن ما ذكره الجعفرية بالنسبة للقرآن الناطق- أي الإمام ـ أثر من آثار عقيدتهم في الإمامة، فأقوالهم هنا لا تصح إلا بصحة عقيدتهم, حتى يكون للإمام ما للنبي صلى الله عليه وسلم من البيان والتخصيص والتقييد، بل النسخ، وحتى لا ينتهي التدرج بانقطاع الوحي وانتقال صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وإنما يبقى دور لمن جعلوهم شركاءه صلى الله عليه وسلم في الرسالة. وما ذكره الشيعة هنا ليس مسألة نظرية، وإنما يبين أصول التفسير، والتشريع أيضاً، وسنرى تطبيقاً عملياً لها في كتبهم التي تناولت بالدراسة كتاب الله تعالى، وعند الحديث عن كتبهم سنرى ثلاثة كتب في التفسير ظهرت في القرن الثالث الهجري، وأن هذه الكتب جعلت كتاب الله تعالى أشبه بكتاب من كتب الشيعة، فأكثر الآيات خاصة بالأئمة وولايتهم، وكفر من ينكر هذه الولاية، إلى غير ذلك من الغلو والضلال كما سيتضح، وسنرى هذا في عشرات من كتب التفسير الشيعي الأخرى. والجعفرية لم يبدأوا التفكير في علم الأصول إلا في القرن الرابع الهجري، ولم يدخل هذا العلم دور التصنيف والتأليف إلا في القرن الخامس (2). إذا عرفنا هذا أمكن القول بأن ما ذكره الشيعة هنا من علم الأصول إنما كان استنتاجاً من تلك الكتب الثلاثة، أو تبريراً لها، حيث إنها كانت تعتمد على روايات تزعم نسبتها للأئمة. المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس- ص456   (1) ((أصل الشيعة وأصولها)) (ص 145 ـ 146). (2) راجع التصنيف في ((علم الأصول)) (ص 54) وما بعدها من كتاب المعالم الجديدة للأصول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 316 المطلب الأول: حجية الظواهر ذكرنا آنفاً موقف الإخباريين من ظاهر القرآن الكريم، ورد جمهور الجعفرية عليهم. فهم يرون حجية الظهور. قال مرجعهم السابق بالعراق عن حجية ظواهر القرآن: " لاشك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخترع لنفسه طريقة خاصة لإفهام مقاصده، وأنه كلم قومه بما ألفوه من طرائق التفهيم والتكلم، وأنه أتى بالقرآن ليفهموا معانيه، وليتدبروا آياته، فيأتمروا بأوامره ويزدجروا بزواجره، وقد تكرر في الآيات الكريمة ما يدل على ذلك، كقوله تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24] (1) وقوله تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الزمر: 27]. وقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 192]. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِين [الشعراء: 193 - 194]. بِلِسَانٍ عَرَبيٍّ مُّبِينٍ [الشعراء: 195]. وقوله تعالى: هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 138]. وقوله تعالى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الدخان: 58]. وقوله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر: 17]. وقوله تعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء: 82]. إلى غير ذلك من الآيات الداله على وجوب العمل بما في القرآن، ولزوم الأخذ بما يفهم من ظواهره. ومما يدل على حجية ظواهر الكتاب، وفهم العرب لمعانيه، أن القرآن نزل حجة على الرسالة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد تحدى البشر على أن يأتوا ولو بسورة من مثله، ومعنى هذا أن العرب كانت تفهم معاني القرآن من ظواهره، ولو كان القرآن من قبيل الألغاز لم تصح مطالبتهم بمعارضته، ولم يثبت لهم إعجازه، لأنهم ليسوا ممن يستطيعون فهمه، وهذا ينافي الغرض من إنزال القرآن، ودعوة البشر إلى الإيمان به ... إلخ " (2). وقال عالم آخر عن حجية الظواهر (3): "هي أوضح من أن يطال فيها الحديث مادام البشر في جميع لغاته قد جرى على الأخذ بظواهر الكلام، وترتيب آثارها ولوازمها عليها، بل لو أمكن أن يتخلى عنها لما استقام له التفاهم بحال، لأن ما كان نصاً في مدلوله مما ينتظم في كلامه لا يشكل إلا أقل القليل. وبالضرورة أن عصر النبي صلى الله عليه وسلم ما كان بدعاً من العصور، لينفرد به الناس في أساليب تفاهمهم بنوع خاص من التفاهم لا يعتمد الظهور ركيزة من ركائزه، وما كان للنبي صلى الله عليه وسلم طريقة خاصة في التفاهم انفرد بها عن معاصريه، وإلا لكانت أحدوثة التاريخ، فالقطع بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لطريقتهم في التفاهم كاف في إثبات حجية الظواهر. وقد نزل القرآن بلغة العرب، وتبنى طريقتهم في عرض أفكاره، وكان لكلامه ظاهر يفهمونه ويسيرون على وفقه " (4) اللجوء للتأويل تأييداً للعقيدة: ومع القول بحجية الظاهر، إلا أنهم ـ كما رأينا من قبل ـ جعلوا للإمام ما للنبي صلى الله عليه وسلم من بيان المراد من قول الله تعالى، وتخصيص عامه، وتقييد مطلقه. وفي الجزء الأول وجدنا أنهم لما لم يجدوا من ظاهر القرآن الكريم ما يؤيد عقيدتهم لجأوا إلى التأويل، وناقشناهم فيما ذهبوا إليه فلم نجد لهم دليلا يمكن الاحتجاج به. وإذا كانت العقيدة من أساسها ليس لها ما يؤيدها من كتاب الله تعالى فكيف بما يتبعها من عقائد وتفريعات؟ المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص460   (1) يقصد المؤلف بالرقم الأول رقم السورة وهي سورة محمد، وباقي السور التي أشار إلى أرقامها هي على الترتيب: الزمر، الشعراء، آل عمران، الدخان، القمر، النساء. (2) ((البيان)) للخوئي (ص 281: 282)، وراجعه إلى (ص 291). (3) هو العالم محمد تقي الحكيم، أستاذ الأصول والفقه المقارن في كلية الفقه بالنجف بالعراق. انظر كتابه ((الأصول العامة)) (ص 102: 107). (4) ((الأصول العامة)) (ص 102: 103) وانظر كذلك للجعفرية في حجية الظواهر: ((فوائد الأصول)) (3/ 47 - 48)، و ((أصول الفقه)) للمظفر (1/ 24، 30: 32)، (3/ 129 - 130، 134، 141)، و ((المعالم الجديدة للأصول)) (ص 139: 145). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 317 المطلب الثاني: الباطن والشيعة الاثنا عشرية لم يقفوا عند حد التأويل الذي أشرنا إليه، فهم ينسبون للنبي صلى الله عليه وسلم وللأئمة أنهم قالوا: إن للقرآن ظهراً وبطناً، ولبطنه بطنا إلى سبعة أبطن، أو إلى سبعين بطناً! (1) وهم لا ينفردون بالقول بأن للقرآن الكريم ظاهرا وباطنا، فقد قيل به قديماً وحديثاً. قال أستاذنا الجليل المرحوم علي حسب الله تحت عنوان ظاهر القرآن وباطنه: " إذا سمع المرء كلاماً عربياً تبادر إلى ذهنه ما يدل عليه الكلام بحسب وضعه العربي، فإذا تدبره فقد يفهم منه مقاصد مطوية وأغراضاً خفية، فالمتبادر الأول: هو ظاهر الكلام، ويكاد يدركه كل عارف باللغة. والمفهوم الثاني: هو باطنه وهو لا يدرك إلا بشيء من التدبر. وللقرآن ظاهر وباطن بهذا المعنى، وكلاهما مراد، غير أن الثاني لا يعتد به إلا إذا لم يكن مناقضاً للأول، وكان له شاهد من مقاصد الدين ومراميه " (2). والإمام الغزالي من قبل أفاض في الحديث عن الظاهر والباطن، وقسم الباطن إلى خمسة أقسام: القسم الأول: أن يكون الشيء في نفسه دقيقاً تكل أكثر الأفهام عن دركه، فيختص بدركه الخواص. القسم الثاني: من الخفيات التي يمتنع الأنبياء والصديقون عن ذكرها، ما هو مفهوم في نفسه لا يكل الفهم عنه، ولكن ذكره يضر بأكثر المستمعين ولا يضر بالأنبياء والصديقين. القسم الثالث: أن يكون الشيء بحيث لو ذكر صريحاً لفهم ولم يكن فيه ضرر، ولكن يكنى عنه على سبيل الاستعارة والرمز. القسم الرابع: أن يدرك الإنسان الشيء جملة ثم يدركه تفصيلاً بالتحقيق والذوق. القسم الخامس: أن يعبر بلسان المقال عن لسان الحال، فالقاصرالفهم يقف على الظاهر ويعتقده نطقاً، والبصير بالحقائق يدرك السر فيه. ثلث القرآن في الأئمة!! وثلثه في عدوهم!!: فالجعفرية إذن لم ينفردوا بالقول بالباطن جملة، ولكن أثر عقيدتهم في الإمامة ـ إلى جانب ما سبق ـ ظهر في التوسع في القول بالباطن إلى غير حد، حتى أن بعضهم ـ كما سيأتي ـ اعتبر ثلث القرآن فيهم، وثلثه في عدوهم، وبعضهم جعل الربع لا الثلث، وهؤلاء وأولئك نسبوا هذا الضلال للأئمة الأطهار افتراء عليهم، حتى يضلوا غيرهم، وبذلك أخضعوا كتاب الله تعالى لأهوائهم، وحرفوه ليصبح أقرب ما يكون إلى كتاب من كتب الفرق، ولم يفترقوا كثيراً عن الإسماعيلية الباطنية. وعند تناولنا لكتبهم سنرى أنهم مختلفون، فمن ناشد للاعتدال نسبيا مقترب منه، إلى راغب في الضلال هابط إلى الغلو. وقبل الحديث عن هذه الكتب نتحدث عن موضوع جد خطير، حيث يتعلق بصيانة القرآن الكريم من النقص والتحريف. المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص462   (1) انظر ((الميزان)) (1/ 5)، وانظر ((الكافي)) (1/ 374). (2) ((أصول التشريع الإسلامي)) (ص 25 ـ 26). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 318 المطلب الأول: لماذا قالوا بالتحريف؟ بالرجوع إلى كتب الجعفرية نجد جدلاً حول التحريف بين معتدليهم نسبيا وغلاتهم، ونتعرض لهذا الأمر بإيجاز قدر المستطاع قبل الحديث عن كتبهم بشيء من التفصيل: فمن المقطوع به عند جمهور المسلمين أنه لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ [يونس:64] وأن الله تعالى هو الذي تعهد بحفظ القرآن الكريم: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، ولذا هيأ له، وسيهيئ له من يحفظه إلى يوم القيامة. وقد كتب على عهد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وجمع ما كتب عند الصديق ثم الفاروق، ثم كان المصحف الإمام الذي كتب في خلافة ذي النورين كما هو معلوم، فحفظ في السطور والصدور على مر القرون، وكلما أصاب المسلمون تقدماً وجهوه قدر استطاعتهم لحفظ كتاب الله تعالى، هذا ما نلمسه جميعا بغير خلاف. والذين حاولوا هدم الإسلام وجهوا مردة شياطينهم للطعن في القرآن المجيد، لكن هيهات، فباءوا بمرارة الفشل، وبغضب ممن علم القرآن. ولا عجب في مسلك هؤلاء الكفار، ولكن العجب كل العجب أن نجد ممن ينتمي إلى الإسلام من يضل ضلال هؤلاء الكفار! فغلاة الاثني عشرية عز عليهم أن يخلو القرآن الكريم من نصوص ظاهرة صريحة تؤيد عقيدتهم في الإمامة، فلم يكتفوا بالتأويلات الفاسدة كما سنرى، بل أقدموا على جريمة مدبرة، فطعنوا في الصحابة الأكرمين، وعلى الأخص الخلفاء الراشدون الذين سبقوا الإمام علياً، وأرادوا من هذا الطعن الافتراء عليهم بأنهم غير أمناء على تنفيذ الشريعة ونقلها، وحفظ كتاب الله العزيز، ولذا انتهوا من هذا الطعن إلى أنهم اغتصبوا الخلافة، وحرفوا القرآن الكريم حتى لا يفتضح أمرهم، ولا يظهر حق علي في الخلافة والأئمة من بعده!! المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص465 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 319 المطلب الثاني: أشهر كتب الغلاة ومن أشهر كتب هؤلاء الغلاة كتاب (فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب) قال مؤلفه حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي (1) في ص (2) هذا كتاب لطيف وسفر شريف، عملته في إثبات تحريف القرآن، وفضايح أهل الجور والعدوان ".وذكر روايات كثيرة تفيد التحريف, منها: " لما انتقل سيد البشر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من دار الفناء، وفعلا صنما قريش ما فعلا من غصب الخلافة الظاهرية، جمع أمير المؤمنين عليه السلام القرآن كله ووضعه في إزار، وأتى به إليهم وهم في المسجد، فقال لهم: هذا كتاب الله سبحانه، أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعرضه عليكم لقيام الحجة عليكم يوم العرض بين يدي الله تعالى. فقال فرعون هذه الأمة ونمرودها: لسنا محتاجين إلى قرآنك .. فنادى ابن أبي قحافة بالمسلمين وقال لهم: كل من عنده قرآن من آية أو سورة فليأت بها، فجاءه أبو عبيدة بن الجراح, وعثمان، وسعد بن أبي وقاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وأبو سعيد الخدرى، وحسان بن ثابت، وجماعات المسلمين، وجمعوا هذا القرآن، أسقطوا ما كان فيه من المثالب التي صدرت عنهم بعد وفاة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، فلذا ترى الآيات غير مرتبطة!! والقرآن الذي جمعه أمير المؤمنين عليه السلام بخطه محفوظ عند صاحب الأمر عجل الله فرجه، فيه كل شيء حتى أرش الخدش " (2).ومنها ما نسب للإمام الصادق " لو قرئ القرآن كما أنزل لألفيتمونا فيه مسمين " (3). المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص466   (1) ولد سنة 1254 هـ بإحدى كور طبرستان، وتوفي بالكوفة سنة 1320 هـ، وهو صاحب كتاب ((مستدرك وسائل الشيعة)) الذي طبع بالقاهرة مع ((الوسائل)) للحر العاملي. (2) ص 9 ـ 10، ويقصد الضالون بصنمى قريش الصديق والفاروق وفرعون هذه الأمة ونمرودها الفاروق كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا * الكهف:5* ويراد بصاحب الأمر إمامهم الثاني عشر، وفي روايات أخرى يطلق هؤلاء الضالون على الراشدين الثلاثة: عجل هذه الأمة وفرعونها وسامريها انظر (ص 155، 156، 218) من الكتاب المذكور. (3) (ص 14). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 320 المطلب الثالث: سورة الولاية في كتاب دبستان المذاهب ونقل عن صاحب كتاب (دبستان المذاهب) قوله: " بعضهم يقولون: إن عثمان أحرق المصاحف، وأتلف السور التي كانت في فضل علي وأهل بيته، منها هذه السورة: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ, وذكر سورة كاملة مفتراة، ثم عقب عليها بقوله: " ظاهر كلامه أنه أخذها من كتب الشيعة، ولم أجد لها أثراً فيها، غير أن الشيخ محمد بن علي بن شهر أشوب المازندراني ذكر في كتاب (المثالب) على ما حكي عنه، أنهم أسقطوا من القرآن تمام سورة الولاية، ولعلها هذه السورة " (1). هذه نماذج قليلة ذكرناها بنصها، والكتاب كله يخبط في ظلام هذا الضلال، ثم يفتري هذا على أهل البيت الأطهار، فمن أولئك الغلاة المفترون؟ المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص467   (1) انظر (ص 156، 157) من ((فصل الخطاب)). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 321 المطلب الرابع: من القائلون بالتحريف؟ قال مؤلف الكتاب السابق: " وقوع التغيير والنقصان فيه هو مذهب الشيخ الجليل علي بن إبراهيم القمي شيخ الكليني، في تفسيره صرح بذلك في أوله، وملأ كتابه من أخباره، مع التزامه في أوله بأن لا يذكر فيه إلا مشايخه وثقاته. ومذهب تلميذه ثقة الإسلام الكليني رحمه الله على ما نسبه إليه جماعة لنقله الأخبار الكثيرة الصريحة في هذا المعنى في كتاب (الحجة)، خصوصاً كتاب (النكت والنتف من التنزيل)، وفي (الروضة)، ومن غير تعرض لردها أو تأويلها (1). واستظهر المحقق السيد محسن الكاظمي في (شرح الوافية) مذهبه من الباب الذي عقده فيه وسماه " باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة عليهم السلام "، فإن الظاهر من طريقته أنه إنما يعقد الباب لما يرتضيه. قلت: وهو كما ذكره، فإن مذاهب القدماء تعلم غالباً من عناوين أبوابهم، وبه صرح أيضاً العلامة المجلسي في مرآة العقول. وبهذا يعلم مذهب الثقة الجليل محمد بن الحسن الصفار في كتاب (البصائر) من الباب الذي له أيضاً فيه، وعنوانه هكذا " باب في الأئمة أن عندهم لجميع القرآن الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وهو أصرح في الدلالة مما في الكافي، ومن باب " أن الأئمة محدثون ". وهذا المذهب صريح الثقة محمد بن إبراهيم النعماني، تلميذ الكليني صاحب كتاب (الغيبة) المشهور، في تفسيره الصغير الذي اقتصر فيه على ذكر الآيات وأقسامها، وهو بمنزلة الشرح لمقدمة (تفسير علي بن إبراهيم)، وصريح الثقة الجليل سعيد بن عبد الله القمي في كتاب (ناسخ القرآن ومنسوخه) كما في المجلد التاسع عشر من البحار، فإنه عقد فيه باباً ترجمته " باب التحريف في الآيات التي هي خلاف ما أنزل الله عزوجل مما رواه مشايخنا رحمة الله عليهم من العلماء من آل محمد " (2).واستمر المؤلف في ذكر القائلين بالتحريف (3) إلى أن قال: " ومن جميع ما ذكرناه ونقلناه بتتبعى القاصر، يمكن دعوى الشهرة العظيمة بين المتقدمين، وانحصار المخالف فيهم بأشخاص معينين يأتي ذكرهم. قال السيد المحدث الجزائري في الأنوار ما معناه أن الأصحاب قد أطبقوا على صحة الأخبار المستفيضة بل المتواترة الدالة بصريحها على وقوع التحريف في القرآن كلاماً ومادة وإعراباً والتصديق بها " (4). ثم قال: " ومن جميع ذلك ظهر فساد ما ذكره المحقق الكاظمي من انحصار القائل به في علي بن إبراهيم والكليني، أو مع المفيد وبعض متأخري المتأخرين " (5).ثم اتهم الصحابة ـ خير أمة أخرجت للناس ـ بالكفر والعناد والجبروت والغباء، ليصل إلى أنهم ليسوا أهلاً لجمعه كما أنزل (6).   (1) انظر دراستنا لكتاب ((الحجة)) من الجزء الأول لـ ((أصول الكافي))، وكذلك دراستنا لـ ((روضة الكافي))، في كتاب ((أثر الإمامة في الفقه الجعفري وأصوله)) (ص 296: 355)، وفي الجزء الثالث من هذه الموسوعة. (2) ((فصل الخطاب)) (ص 25 ـ 26). (3) وممن ذكرهم محمد بن مسعود العياشي صاحب أحد تفاسيرهم المشهورة، انظر (ص 26). (4) ((فصل الخطاب)) (ص 30). (5) ((فصل الخطاب)) (ص 31 ـ 32). (6) انظر (ص 82). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 322 وأكثر من ذكر الروايات كرواية الكليني عن الإمام الصادق: " إن القرآن الذي جاء به جبريل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم سبعة عشرألف آية " (1).وقال: " إن الأخبار الدالة على ذلك ـ أي التحريف ـ تزيد على ألفي حديث، وادعى لاستفاضتها جماعة كالمفيد والمحقق والداماد والعلامة المجلسي وغيرهم (2).ثم قال: " واعلم أن تلك الأخبار منقولة من الكتب المعتبرة التي عليها معول أصحابنا في إثبات الأحكام الشرعية، والآثار النبوية، إلا كتاب (القراءات) لأحمد بن محمد السياري، فقد ضعفه أئمة الرجال، فالواجب علينا ذكر بعض القرائن الدالة على جواز الاستناد لهذا الكتاب " (3).وقال أحد مفسري الجعفرية (4): " أما اعتقاد مشايخنا رحمهم الله في ذلك, فالظاهر من ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني ـ طاب ثراه ـ أنه كان يعتقد التحريف والنقصان في القرآن، لأنه روي روايات في هذا المعنى في كتابه (الكافي) ولم يتعرض لقدح فيها، مع أنه ذكر في أول الكتاب أنه كان يثق بما رواه فيه، وكذلك أستاذه علي بن إبراهيم القمي، فإن تفسيره مملوء منه، وله علو فيه، وكذلك الشيخ أحمد بن أبي طالب الطبرسي قدس سره، فإنه أيضاً نسج على منوالهما في كتاب (الاحتجاج).وقال أحد كتابهم المعاصرين في مقدمة كتبها لـ (تفسير القمي): " هذا التفسير، كغيره من التفاسير القديمة، يشتمل على روايات مفادها أن المصحف الذي بين أيدينا لم يسلم من التحريف والتغيير، وجوابه أنه لم ينفرد المصنف بذكرها، بل وافقه فيه غيره من المحدثين المتقدمين والمتأخرين عامة وخاصة " (5). ثم ذكر القائلين بالتحريف فقال بأنهم " الكليني, والبرقي، والعياشي, والنعماني، وفرات بن إبراهيم، وأحمد بن أبي طالب الطبرسي صاحب (الاحتجاج)، والمجلسي، والسيد الجزائري، والحر العاملي، والعلامة الفتوني، والسيد البحراني، وقد تمسكوا في إثبات مذهبهم بالآيات والروايات التي لا يمكن الإغماض عنها. والذي يهون الخطب أن التحريف اللازم على قولهم يسير جداً مخصوص بآيات الولاية، فهو غير مغير للأحكام ولا للمفهوم الجامع الذي هو روح القرآن، فهو ليس بتحريف في الحقيقة، فلا ينال لغير الشيعة أن يشنع عليهم من هذه الجهة " (6). المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص467   (1) الكتاب نفسة (ص 211)، ومعلوم أن القرآن الكريم آياته لا تصل إلى ستة آلاف وثلاثمائة، ومعني رواية الكليني أن أكثر من عشرة آلاف آية حذفت. " جاء في ((البرهان)) للزركشي (1/ 251): عدد آياته في قول علي رضي الله عنه ـ ستة آلاف ومائتان وثمان عشرة. وعطاء: ستة آلاف ومائة وسبع وسبعون. وحميد: ستة آلاف ومائتان واثنتا عشرة. وراشد: ستة آلاف ومائتان وأربع ". (2) (ص: 227). (3) (ص: 228). (4) هو محمد بن مرتضى المدعو بمحسن، انظر كتابه ((الصافي)) (1/ 19). (5) انظر المقدمة المذكورة (ص 22). (6) ((تفسير القمي)) ـ المقدمة نفسها (ص 23 ـ 24). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 323 المطلب الخامس: معتدلو الشيعة يتصدون لحركة الغلاة هذه حركة من حركات التشكيك والتضليل قام بها غلاة الشيعة الاثني عشرية، وسنعود للحديث عن بعض هؤلاء الغلاة عند تناولنا لكتبهم، ولكن المهم هنا هو أن المعتدلين – إلى حد ما - من إخواننا الجعفرية قد تصدوا لهذه الحركة قديماً وحديثاً، وكشفوا القناع عن هذا الباطل، وفندوا مزاعم القائلين بالتحريف، وبينوا أن ما ذكر من روايات منسوبة لأهل البيت ـ تمسك بها القائلون بالتحريف ـ منها ما يحتمل التأويل ولا يفيد وقوع التحريف، والباقي يضرب به عرض الحائط. وأشهر من تصدى منهم لحركة التضليل في القديم محمد بن بابويه القمي، الملقب بالصدوق صاحب كتاب (من لا يحضره الفقيه)، أحد كتب الحديث الأربعة المعتمدة عند الجعفرية، والسيد الشريف المرتضى، وتلميذه الشيخ الطوسي: صاحب (تفسير التبيان)، وصاحب كتابين من كتب الحديث الأربعة السابقة، وشيخ مفسري الجعفرية أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي (1).ومما ذكره السيد المرتضى قوله: " القرآن معجزة النبوة، ومأخذ العلوم الشرعية، والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد " (2).وقال: " إن القرآن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجموعاً مؤلفاً على ما هو عليه الآن، واستدل على ذلك بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان حتى عين على جماعة من الصحابة في حفظهم له، وأن كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم ويتلى عليه، وأن جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم عدة ختمات، وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعاً مرتباً غير مبتور ولا مبثوث، وذكر أن من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته " (3).وقال الشيخ الطوسي: " أما الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به أيضاً، لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها، والنقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، وهو الذي نصره المرتضى، وهو الظاهر في الروايات. غير أنه رويت روايات كثيرة، من جهة الخاصة والعامة، بنقصان كثير من آي القرآن، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملا، والأولى الإعراض عنها، وترك التشاغل بها، لأنه يمكن تأويلها. ولو صحت لما كان ذلك طعنا على ما هو موجود بين الدفتين، فإن ذلك معلوم صحته، لا يعترضه أحد من الأمة ولا يدفعه " (4).وقال الصدوق: " اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم هو ما بين الدفتين: وهو ما في أيدى الناس، وليس بأكثر من ذلك ... ومن نسب إلينا أنا نقول أنه أكثر من ذلك فهو كاذب " (5).   (1) وفاة هؤلاء على الترتيب: (381، 436، 460، 548) هـ. (2) ((مقدمة مجمع البيان)) (ص 15). (3) ((مقدمة مجمع البيان)) (ص 15) وانظر رأى الطبرسي في الصفحة ذاتها. (4) ((التبيان)) (1/ 3). (5) ((رسالته في الاعتقادات)): (ص 93). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 324 هذا موقف المعتدلين نسبيا في القديم، أما في الحديث فأكثر شيعة اليوم يتفقون في الظاهر مع جمهور المسلمين في أن القرآن الكريم هو ما بين الدفتين بلا زيادة أو نقصان، ومن شذ برأيه منهم، حتى كاد يخرج عن الإسلام، فلا يعتد به، ولذا قال محمد الحسين آل كاشف الغطاء: يعتقد الشيعة الإمامية " أن الكتاب الموجود في أيدى المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه ـ أي إلى محمد صلى الله عليه وسلم ـ للإعجاز والتحدي، ولتعليم الأحكام، وتمييز الحلال من الحرام، وأنه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة، وعلى هذا إجماعهم، ومن ذهب منهم أو من غيرهم من فرق المسلمين إلى وجود نقص فيه أو تحريف فهو مخطئ بنص الكتاب العظيم إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم الظاهرة في نقصه أو تحريفه ضعيفة شاذة، وأخبار آحاد، لا تفيد علماً ولا عملاً، فإما أن تؤول بنحو من الاعتبار، أو يضرب بها الجدار " (1).وعندما خرج صاحب (فصل الخطاب) بكتابه تصدى له كثير من علماء الشيعة وسفهوا رأيه، وبينوا خطأ ما جاء به جملة وتفصيلاً. منهم ـ على سبيل المثال ـ السيد أبو القاسم الخوئي مرجعهم السابق بالعراق (2) والشيخ محمد جواد البلاغي النجفي (3) والشيخ محمد تقي الحكيم (4). فلسنا في حاجة إذن إلى ذكر شبهات الضالين، وبيان بطلانها، فقد تكفل إخواننا الجعفرية بهذا، بل إن الإخباريين الذين يرون صحة جميع الأخبار الواردة عن أهل البيت، ولذا ذهبوا إلى القول بالتحريف، وجدنا منهم من ينكر هذا التحريف. قال مرجعهم السابق بالكويت: " مذهبنا ـ ومذهب كل مسلم ـ بأن القرآن الكريم المتداول بين أيدينا ليس فيه أي تحريف بزيادة أو نقصان، وما ذكر في بعض الأحاديث بأن فيه تحريفاً ونقصاناً فهو مخالف لعقيدتنا في القرآن الذي هو الذكر المحفوظ، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " (5). هذا اتجاه طيب، وهداية مرجوة، فلعل الله عزوجل يهدي باقي إخواننا الجعفرية الصراط المستقيم، وإن كان هؤلاء الذين يمثلون جانب الاعتدال إلى حد ما في المذهب الجعفري عز عليهم أن يكون الغلاة الضالون القائلون بالتحريف جعفريين، ولذا حاولوا إبعاد هذه التهمة عمن له مكانة عالية بينهم، وإلصاقها بجمهور المسلمين! ومن المقطوع به أن جمهور المسلمين ليس منهم من يقول بالتحريف. فلا نعرف أحداً من جمهور المسلمين يقول بأن الصحابة الكرام أسقطوا شيئاً من القرآن الكريم كما قال غلاة الجعفرية، والجعفرية يدركون هذا تماماً ولذا حاولوا نسبة هذا الجرم الشنيع لغيرهم بقولهم بأن القول بنسخ التلاوة قول بالتحريف، ليصلوا من هذا إلى أن أكثر أهل السنة قائلون بالتحريف!   (1) ((أصل الشيعة وأصولها)) (ص 133). (2) انظر كتابه ((البيان)) (ص 215 ـ 278) وبعد بحثه قال تحت عنوان " النتيجة " (ص 278): " ومما ذكرناه: قد تبين للقارئ أن حديث تحريف القرآن حديث خرافة وخيال، لا يقول به إلا من ضعف عقله، أو من لم يتأمل في أطرافه حق التأمل، أو من ألجأه إليه بحب القول به، والحب يعمى ويصم، وأما العاقل المنصف المتدبر فلا يشك في بطلانه وخرافته ". (3) انظر (مقدمته لتفسير شبر) (ص 16: 19). (4) راجع كتابه ((الأصول العامة للفقه المقارن)) (ص 107: 117). (5) (تعليق على مقال) (ص 13). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 325 ونسخ التلاوة يعني أن آيات نزلت، ثم أمر الله تعالى برفعها، وقد أتى الله تعالى بمثلها أو بخير منها مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106] أي أن الشارع الحكيم هو الذي أمر بهذا الرفع. فهذا النسخ لو سلمنا بوجوده فإنه كما يقول أستاذنا الجليل المرحوم الدكتور مصطفى زيد: " لا يعتبر مطعناً ولا شبه مطعن في القرآن الكريم الذي تكفل الله ـ عزوجل ـ بحفظه من التغيير والتبديل، وهو الذي جمع بين دفتي المصحف، ولا يعتبر مطعناً ولا شبه مطعن كذلك في الوحي الذي تنزل به جبريل على قلب محمد، ما دام المرفوع منه قد رفع في عهد التنزيل، ولم ترفع منه كلمة واحدة بعد أن انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى. (النسخ في القرآن الكريم 1/ 282: 283). فما بين الدفتين هو القرآن الكريم الذي أمرنا بتلاوته وتدبره، وتنفيذ أحكامه، بغير زيادة أو نقصان، فكيف يقال بأن النسخ تحريف؟ على أن الجعفرية الذين تصدوا لحركة التضليل في الماضى قائلون بهذا النسخ، بل مدافعون عنه، فكيف غاب هذا عن شيعة اليوم وهم يخلطون بين النسخ والتحريف ليصلوا إلى مأربهم! ولنذكر مثلاً شيخ الطائفة الطوسي، قال في تفسيره (التبيان) (1/ 13): لا يخلو النسخ في القرآن الكريم من أقسام ثلاثة، أحدها: نسخ حكمه دون لفظه , الثاني: ما نسخ لفظه دون حكمه كآية الرجم، فإن وجوب الرجم على المحصنة لا خلاف فيه، والآية التي كانت متضمنة له منسوخة بلا خلاف وهي قوله (والشيخ والشيخة إذا زنيا) , والثالث: ما نسخ لفظه وحكمه، وذلك نحو ما رواه المخالفون عن عائشة أنه كان فيما أنزل الله عشر رضعات ". وقال في موضع آخر (1/ 394): " وقد أنكر قوم جواز نسخ القرآن، وفيما ذكرناه دليل على بطلان قولهم، وجاءت أخبار متظافرة بأنه كانت أشياء في القرآن نسخت تلاوتها ". والنوع الثالث لأن روايته عن المخالفين ـ أي غير الجعفرية ـ قال عنه الطوسي بأنه:" مجوز وإن لم يقطع بأنه كان "، أما النوع الثاني فإنه يؤيده برواية الشيخ والشيخة، ويقول: بأنها رواية مشهورة، فهذه الرواية من روايات الجعفرية كذلك، ورواها أيضا علي بن إبراهيم القمي الذي ينسب رواياته إلى الإمامين الباقر والصادق انظر (تفسيره) (2/ 95)، وانظر كذلك (مجمع البيان) (1/ 180 ـ 181) لترى اتفاق الطبرسي مع الطوسي في النسخ ". ولسنا بهذا نؤيد إمكان وقوع هذا النسخ أو عدم إمكانه، ولكنا نبين لإخواننا الجعفرية أن شيخ طائفتهم الذي دافع عن القول بعدم التحريف، دافع عن القول بنسخ التلاوة، لأن النسخ من الشارع الحكيم والتحريف من البشر بعد عصر التنزيل، فالنسخ والتحريف مختلفان تماماً، فكيف إذن يغيب هذا عن مرجع الجعفرية السابق بالعراق فيقول: " غير خفي أن القول بنسخ التلاوة هو بعينه القول بالتحريف والإسقاط " " (البيان) ص (244) ثم يستمر ليقول: " وعلى ذلك فيمكن أن يدعي أن القول بالتحريف هو مذهب أكثر علماء أهل السنة! لأنهم يقولون بجواز نسخ التلاوة " ثم يقول في ص (225): " قد عرفت أن القول بعدم التحريف هو المشهور، بل المتسالم عليه بين علماء الشيعة ومحققيهم! " ويشير إلى ما ذكره الطبرسي في (مجمع البيان) (1/ 15) من الاستدلال على بطلان القول بالتحريف. ولو استمر مرجع الجعفرية إلى ص (180) لوجد استدلال الطبرسي كذلك على نسخ التلاوة! وما الرأي عند السيد فيمن ذكروا من الضالين القائلين بالتحريف؟ أليسوا من علماء الشيعة؟ أولا يعد أكثرهم عند الشيعة من المحققين؟ كالقمي، والعياشي، والكليني، والنعماني، والمجلسي وغيرهم. أفلا يذكر السيد الخوئي ما ذهب إليه في كتابه (معجم رجال الحديث) (1/ 3 - 64) من صحة تفسير علي بن إبراهيم القمي، شيخ الكليني، وأن روايات كتاب (التفسير) هذا " ثابتة وصادرة من المعصومين عليهم السلام، وأنها انتهت إليه بوساطة المشايخ والثقات من الشيعة "؟ أو لم يقرأ السيد تلك الروايات ليرى فيها النص على القول بتحريف القرآن الكريم؟ وقد حكم هو بصحتها! وإذا صدر هذا منه فماذا تنتظر من غيره؟! وبعد: فقد أوجزت هنا سائلاً الله تعالى ألا أكون تركت ما يجب ذكره، أو ذكرت ما يجب تركه. المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص471 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 326 المطلب السادس: كتب التفسير الشيعي في القرن الثالث • الكتاب الأول: تفسير الحسن العسكري . • الكتاب الثاني: تفسير القمي. • الكتاب الثالث: تفسير العياشي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 327 الكتاب الأول: تفسير الحسن العسكري قصة إملاء الكتاب: التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري يرويه أبو يعقوب يوسف بن محمد ابن زياد، وأبو الحسن علي بن محمد بن سيار، ويقولان: إن الإمام أملى عليهما هذا التفسير، ويذكران قصة لهذا الإملاء. وهو تفسير لم يكمل، وإنما يتناول الفاتحة وسورة البقرة إلى قبيل خاتمتها بأربع آيات. المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص478 غلو وضلال: وهو كتاب يبين عقيدة الإمامة، وما يتصل بها عند غلاة الجعفرية، ويخضع الآيات الكريمة لهذه العقيدة الفاسدة، ذاكراً ما يأباه ديننا الحنيف، وكل عقل سليم لم يمرضه الهوى والضلال. والكتاب مملوء بالافتراء على الله تعالى، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أهل البيت الأطهار. فالكتاب إذن ليس تفسيراً بالمعنى الصحيح، وإنما هو كتاب من كتب الفرق الضالة، ولنضرب لذلك الأمثال حتى يحكم القارئ بنفسه. المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص479 كفر من أنكر ولاية علي: جاء في تفسير قوله تعالى: والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4]. قال الإمام: " قال الحسن بن علي: من دفع فضل أمير المؤمنين على جميع من بعد النبي فقد كذب بالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وسائر كتب الله المنزلة، فإنه ما نزل شيء منها إلا وأهم ما فيه ـ بعد الأمر بتوحيد الله تعالى والإقرار بالنبوة ـ الاعتراف بولاية علي والطيبين من آله. ولقد حضر رجل عند علي بن الحسين فقال له: ما تقول في رجل يؤمن بما أنزل الله على محمد، وما أنزل على من قبله، ويؤمن بالآخرة، ويصلي ويزكي، ويصل الرحم، ويعمل الصالحات، ولكنه مع ذلك يقول ما أدري الحق لعلي أو لفلان، فقال له علي بن الحسين: ما تقول أنت في رجل يفعل هذه الخيرات كلها إلا أنه يقول: لا أدري: النبي محمد أو مسيلمة؟ هل ينتفع بشيء من هذه الأفعال؟ فقال: لا. فقال: وكذلك قال صاحبك هذا، كيف يكون مؤمنا بهذه الكتب من لا يدري: أمحمد النبي أم مسيلمة الكذاب؟ وكذلك كيف يكون مؤمناً بهذه الكتب، أو منتفعا به، من لا يدري أعلي محق أم فلان " (1). المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص479 شهادة البساط والسوط والحمار للوصي:   (1) (ص 32: 33). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 328 وفي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] قال الإمام: " فلما ذكر هؤلاء المؤمنين، ومدحهم بتوحيد الله وبنبوة محمد رسول الله، ووصيه علي ولي الله، ذكر الكافرين المخالفين لهم في كفرهم فقال: إن الذين كفروا بما آمن به هؤلاء المؤمنون بتوحيد الله تعالى، وبنبوة محمد رسول الله، وبوصيه علي ولي الله، وبالأئمة الطاهرين الطيبين، خيار عباده الميامين، القوامين بمصالح خلق الله تعالى، سواء عليهم ءأنذرتهم وخوفتهم أم لم تنذرهم ولو تخوفهم فهم لا يؤمنون. قال محمد بن علي الباقر: إن رسول الله لما قدم المدينة، وظهرت آثار صدقه، وآيات حقه، وبينات نبوته، كادته اليهود أشد كيد: وقصدوه أقبح قصد، يقصدون أنواره ليطمسوها، وحججه ليبطلوها، وكان ممن قصده للرد عليه وتكذيبه مالك بن الصيف، وكعب بن الأشرف، وحيي بن الأخطب، وأبو ياسر بن الأخطب، وأبو لبابة بن عبد المنذر، وشيبة. فقال مالك لرسول الله: يا محمد تزعم أنك رسول الله؟ قال رسول الله: كذلك قال الله خالق الخلق أجمعين. قال: يا محمد لن نؤمن أنك رسوله حتى يؤمن لك هذا البساط الذي تحتنا، ولن نشهد لك أنك من الله جئتنا حتى يشهد لك هذا البساط. وقال أبو لبابة بن عبد المنذر: لن نؤمن لك يا محمد أنك رسول الله، ولا نشهد لك به، حتى يؤمن ويشهد لك به هذا السوط الذي في يدي. وقال كعب الأشرف: لن نؤمن لك أنك رسول الله ولن نصدقك به حتى يؤمن لك هذا الحمار الذي أركبه، فقال رسول الله: إنه ليس للعباد الاقتراح على الله تعالى، بل عليهم التسليم لله، والانقياد لأمره، والاكتفاء بما جعله كافيا. أما كفاكم أن أنطق التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم بنبوتي، ودل على صدقي، وبين فيها ذكر أخي ووصيي وخليفتي في أمتي، وخير ما أتركه على الخلائق من بعدي، علي بن أبي طالب؟ فلما فرغ رسول الله من كلامه هذا أنطق الله البساط فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهاً واحداً أحداً صمداً قيوماً أبداً، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، ولم يشرك في حكمه أحداً. وأشهد أنك يا محمد عبده ورسوله، أرسلك بالهدى ودين الحق ليظهرك على الدين كله ولو كره المشركون. وأشهد أن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أخوك ووصيك، وخليفتك في أمتك وخير من تركته على الخلائق بعدك، إن من والاه فقد والاك، ومن عاداه فقد عاداك، ومن أطاعه فقد أطاعك، ومن عصاه فقد عصاك " (1).وتستمر القصة لتبين أن البساط تحرك وأوقع من عليه، وأنه نطق ثانياً ليبين أن الله تعالى أنطقه ليشهد هذه الشهادة، وأنه لا يجلس عليه إلا المؤمنون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمان والمقداد وأبي ذر وعمار: قوموا فاجلسوا عليه، فإنكم بجميع ما شهد به هذا البساط مؤمنون، فجلسوا عليه. وبمثل هذا شهد السوط، ثم الحمار، ثم قال: فلما انصرف القوم من عند رسول الله ولم يؤمنوا أنزل الله يا محمد: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ [البقرة:6] (2). المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص480 قصص خرافية: وفي الحديث عن قوله تعالى: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ [البقرة: 7] قصص خرافية عن علي: كسائل طلب منه مساعدته لقضاء دينه فنادته الملائكة من السماء ليخبر السائل بأن يضع يده على ما يشاء لتكون ذهباً، ففعل وقضى دينه، وبقي له كذا وكذا إلخ (3). المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص481   (1) (ص 34). (2) انظر (ص 34: 36). (3) انظر (ص 36: 41). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 329 يوم الغدير ومابعده: وفي تفسير: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: 8] يقول: قال الإمام: قال العالم موسى بن جعفر: "إن رسول الله لما أوقف أمير المؤمنين في يوم الغدير موقفه المشهور " وذكر صاحب (التفسير) هنا أخذ البيعة من الصحابة وأولهم أبو بكر وبعده عمر، ثم قال: "ثم إن قوماً من متمرديهم وجبابرتهم تواطؤوا بينهم لئن كانت لمحمد كائنة ليدفعن هذا الأمر من علي، ولا يتركونه له، فعرف الله ذلك من قبلهم، وكانوا يأتون رسول الله ويقولون: لقد أقمت علينا أحب خلق الله إلى الله وإليك وإلينا، فكفيتنا به مؤنة الظلمة لنا والجبارين في سياستنا، وعلم الله من قلوبهم خلاف ذلك من مواطأة بعضهم لبعض، أنهم على العداوة مقيمون، ولدفع الأمر عن مستحقه مؤثرون، فأخبر الله ـ عز وجل ـ محمداً عنهم فقال: يا محمد، ومن الناس من يقول آمنا بالله الذي أمرك بنصب علي إماماً وسايساً لأمتك ومدبراً، وماهم بمؤمنين بذلك، ولكنهم تواطؤوا على إهلاكك وإهلاكه، يوطنون أنفسهم على التمرد على علي إن كانت بك كائنة " (1). المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص482 اتهام الشيخين والصحابة بالنفاق والكذب والكفر!! ثم يستمر الكتاب بعد ذلك في جعل الآيات متصلة ببيعة الصحابة للإمام علي، واتهام الصحابة الأكرمين ـ وفي مقدمتهم الصديق والفاروق ـ بالنفاق والكذب والكفر!! فعند الحديث عن قوله تعالى: يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة: 9] يقول: " قال الإمام: قال موسى بن جعفر: لما اتصل ذلك من مواطأتهم، وقيلهم في علي، وسوء تدبيرهم عليه، برسول الله فدعاهم وعاقبهم، فاجتهدوا في الإيمان، وقال أولهم: يا رسول الله، والله ما اعتددت بشيء كاعتدادي بهذه البيعة، ولقد رجوت أن يفتح الله بها لي في قصور الجنان، ويجعلني فيها من أفضل النزال والسكان. وقال ثانيهم: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما وثقت بدخول الجنة والنجاة من النار إلا بهذه البيعة، والله ما يسرني إن نقضتها أو نكثت بعد ما أعطيت من نفسي ما أعطيت، وأن لي طلاع ما بين الثرى إلى العرش. وقال ثالثهم: يا رسول الله، لقد صرت من الفرح والسرور بهذه البيعة والفتح من الآمال في رضوان الله، وأيقنت أنه لو كانت ذنوب أهل الأرض كلها علي لمحصت عني بهذه البيعة. ثم تتابع بمثل هذا الاعتذار من بعدهم من الجبابرة والمتمردين. فقال الله عزوجل لمحمد: يخادعون الله: يعني يخادعون رسول الله بائتمان خلاف ما في جوانحهم، والذين آمنوا كذلك أيضاً، الذين سيدهم وفاضلهم علي بن أبي طالب. ثم قال: وما يخادعون ما يضرون من تلك الخديعة إلا أنفسهم، فإن الله غني عنهم وعن نصرتهم، ولولا إمهاله لهم لما قدروا على شيء من فجورهم وطغيانهم، وما يشعرون أن الأمر كذلك، وأن الله يطلع نبيه على نفاقهم وكذبهم وكفرهم، ويأمره بلعنهم في لعنة الظالمين الناكثين، وذلك اللعن لا يفارقهم في الدنيا، ويلعنهم خيار عباد الله، وفي الآخرة يبتلون بشدائد عقاب الله " (2). المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص482   (1) (ص: 41 ـ 42). (2) (ص: 42). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 330 زعمه بأن الصحابة لا يؤمنون بأي دين!! وهو يرى بأن هؤلاء الصحابة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ لا يؤمنون بأي دين!! فمثلاً عند الحديث عن قوله تعالى: وَإِذَا قيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11 - 12] يقول: " قال العالم موسى بن جعفر: إذا قيل لهؤلاء الناكثين للبيعة في يوم الغدير، لا تفسدوا في الأرض بإظهار نكث البيعة بعباد الله المستضعفين، فتشوشون عليهم دينهم، وتحيرونهم في مذاهبهم، قالوا: إنما نحن مصلحون، لأنا لا نعتقد دين محمد ولا غير دين محمد ... إلخ (1) المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص482 دعوة موسى لولاية علي!! والكتاب كله تقريباً يدور حول الإمامة وما يتصل بها، وكأن القرآن الكريم ما نزل إلا لدعوة الناس إلى إمامة الإمام علي! ثم إن هذه الدعوة ليست قاصرة على أمة محمد ـ صلوات الله عليه ـ فعند قوله تعالى: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة: 53] يقول: " لما أكرمهم الله بالكتاب والإيمان به والانقياد له، أوحى الله بعد ذلك إلى موسى ... يا موسى: تأخذ على بني إسرائيل أن محمداً خير النبيين وسيد المرسلين، وأن أخاه ووصيه علياً خير الوصيين، لعلكم تهتدون: أي لعلكم تعلمون أن الذي شرف العبد عند الله ـ عزوجل ـ هو اعتقاد الولاية كما شرف به أسلافكم " (2). المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص484 قصص خرافية: والكتاب لا يكتفي بهذا الضلال في تحريف القرآن الكريم ليتفق مع هواه وغيه، وإنما يذكر من الخرافات ما يذكرنا بالقصص الخرافية للأطفال! فمثلاً عندما يتحدث عن سبب نزول قوله تعالى: في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة: 10] يقول: " قال الإمام: قال موسى بن جعفر: إن رسول الله لما اعتذر هؤلاء المنافقون إليه بما اعتذروا، وتكرم عليهم بأن قبل ظواهرهم، ووكل بواطنهم إلى ربهم، لكن جبريل أتاه فقال: يا محمد، إن العلي الأعلى يقرئك السلام ويقول: أخرج بهؤلاء المردة الذين اتصل بك عنهم في علي نكثهم لبيعته، وتوطينهم نفوسهم على مخالفتهم علياً، ليظهر من عجايب ما أكرمه الله به من طواعية الأرض والجبال والسماء له، وسائر ما خلق الله، لما أوقفه موقفك وأقامه مقامك، ليعلموا أن ولي الله علياً غني عنهم، وأنه لا يكف عنهم انتقامه منهم إلا بأمر الله الذي له فيه وفيهم التدبير الذي هو بالغه " (3). وذكر أنه خرج صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء وعلي، حيث استقر عند سفح بعض جبال المدينة، فسأل ربه فانقلبت ذهباً، ثم فضة، ثم انقلبت الأشجار إلى رجال شاكي السلاح، وأسود ونمور وثعابين، وكلها ناجت وصي رسول الله بأنها تحت أمره ... إلخ. فمرضت قلوب القوم لما شاهدوا من ذلك. مضافاً إلى ما كان من مرض حسدهم لعلي بن أبي طالب، فقال الله عند ذلك: فِي قلُوبِهِم مَّرَضٌ [البقرة:10] (4). المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص484 معجزات الإمام علي:   (1) (ص 44). (2) (ص 100). (3) (ص 42: 43). (4) انظر (ص 43: 44). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 331 وعند تفسير قوله تعالى: وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23] يتحدث عن المعنى ـ وهو متصل بالولاية كسائر الآيات ـ ثم يتحدث عن معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعجزات الإمام علي، ومن هذه المعجزات التي ذكرها: الغمامة التي أظلت الرسول الكريم في تجارته للشام، وكان مكتوباً عليها " لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلي سيد الوصيين، وشرفته بأصحابه الموالين له ولعلي ولأوليائهما، والمعادين لأعدائهما " (1).ومنها: تسليم الجبال والصخور والأحجار على الرسول صلى الله عليه وسلم، وتبشيره بوصيه وباب مدينة علمه علي بن أبي طالب (2).ومنها: أن شجرتين تلاصقتا ليقضي الرسول حاجته، وأن نظير هذا كان لعلي بن أبي طالب لما رجع من صفين، حيث تلاصقت شجرتان كان بينهما أكثر من فرسخ (3). المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص485   (1) انظر (ص 60). (2) انظر (ص 61). (3) انظر (ص 64). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 332 صكوك الغفران: وحتى يغرر بضعاف العقول، وجهلة القوم، ليؤمنوا بهذه الخرافات، ويسيروا في ظلمات هذا الضلال، يصدر صكوك الغفران! وقد بين أن جهنم أعدت للكافرين بولاية علي، المنافقين في اظهار الرضا عن البيعة كما أشرنا من قبل. ثم يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون للصك قيمته حتى يمكن التأثير على هذا الصنف من الناس. اقرأ مثلاً ما كتب عن قوله تعالى: أُوْلَئِكَ الذِينَ اشْتَرُوُاْ الضلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ [البقرة: 16] فإنك تجد الحديث عن البيعة، والافتراء على الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه قال: " أما إن من شيعة علي لمن يأتي يوم القيامة وقد وضع له في كفة ميزانه من الآثام ما هو أعظم من الجبال الرواسي، والبحار الثبار، يقول الخلائق: هلك هذا العبد، فلا يشكون أنه من الهالكين، وفي عذاب الله من الخالدين. فيأتيه النداء من قبل الله عزوجل: يأيها العبد الخاطئ الجاني هذه الذنوب الموبقات، فهل بإزائها حسنات تكافئها، فتدخل جنة الله برحمة الله؟ أو تزيد عليها فتدخلها بوعد الله؟ يقول العبد: لا أدري، فيقول منادي ربنا عزوجل: فإن ربي يقول: ناد في عرصات القيامة: ألا إني فلان بن فلان، من أهل بلد كذا وكذا، وقرية كذا وكذا، قد رهنت بسيئات كأمثال الجبال والبحار، ولا حسنات لي بإزائها، فأي أهل هذا المكان لي عنده يد أو عارفة فليغثني بمجازاتى عنها، فهذا أوان أشد حاجتى إليها. فينادي الرجل بذلك، فأول من يجيبه علي بن أبي طالب: لبيك لبيك، أيها الممتحن في محبتي، المظلوم بعداوتي، ثم يأتي هو ومعه عدد كثير وجمع غفير، وإن كانوا أقل عدداً من خصمائه الذين لهم قبله الظلامات، فيقول ذلك العدد: يا أمير المؤمنين، نحن إخوانه المؤمنون، كان بنا باراً ولنا مكرماً، وفي معاشرته إيانا مع كثرة إحسانه إلينا متواضعاً، وقد بذلنا له جميع طاعاتنا، وبذلناها له. فيقول على: فبماذا تدخلون جنة ربكم؟ فيقولون: برحمته الواسعة التي لا يعدمها من والاك يا أخا رسول الله، فيأتي النداء من قبل الله عزوجل: يا أخا رسول الله، هؤلاء إخوانه المؤمنون قد بذلوا له، فأنت ماذا تبذل له؟ فإني أنا الحاكم ما بيني وبينه من الذنوب، قد غفرتها له بموالاته إياك، وما بينه وبين عبادي من الظلامات فلابد من فصل الحكم بينه وبينهم. فيقول علي: يا رب أفعل ما تأمرني. فيقول الله عزوجل: يا علي، اضمن لخصمائه تعويضهم عن ظلاماتهم قبله، فيضمن لهم علي ذلك، ويقول لهم: اقترحوا على ما شئتم اعطيكموه عوضاً عن ظلاماتكم قبله. فيقولون: يا أخا رسول الله تجعل لنا ... ثواب نفس من أنفاسك ليلة بيوتك على فراش محمد رسول الله. فيقول علي: قد وهبت ذلك لكم. فيقول الله عزوجل: فانظروا يا عبادي الآن إلى ما نلتموه من علي بن أبي طالب فدى لصاحبه من ظلاماته، ويظهر لكم ثواب نفس واحد في الجنان من عجايب قصورها وخيراتها: ثم قال رسول الله: أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم المعدة لمخالفي أخي ووصيي علي بن أبي طالب " (1). بعد هذا العرض أظن أن القارئ قد تأكد بنفسه مما قلته من أن هذا الكتاب ليس تفسيراً بالمعنى الصحيح، وإنما هو كتاب من كتب الفرق الضالة التي رزئ بها الإسلام، وأنه أثر من آثار الغلو في عقيدة الإمامة. المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص486 لمن هذا الكتاب؟ يبقى هنا أن نتساءل: لمن هذا الكتاب؟ أهو فعلاً للإمام الحسن العسكري؟ أظن لا، بل أكاد أقطع بهذا؛ فهذا الرجل الطاهر الصالح ليس كافراً وليس ضالاً، وإنما كفر وضل أولئك الذين غالوا فيه، وفي آبائه الكرام البررة. ومن الشيعة أنفسهم من يرى عدم صحة نسبة الكتاب للإمام، ويطعن في السند، ويرى أنه مشتمل على المناكير. وأشار إلى هذا صاحب كتاب (الذريعة) عند حديثه عن هذا التفسير، غير أنه أطال في محاولة إثبات أن هذا الكتاب من إملاء الإمام، وسود بهذا تسع صفحات في الجزء الرابع " ص (285 - 293)، وقال عن المناكير التي ذكرنا شيئاً منها: ليس فيه إلا بعض غرائب المعجزات مما لا يوجد في غيره! والكتب التي اطلعت عليها لغير غلاة الشيعة لا تشير إلى هذا التفسير، ولا تنقل عنه، فلو كان عندهم كتاب إمام يرونه القرآن الناطق، لالتزموا بما جاء فيه. ولكن هذا في رأيي لا يكفي، فكان الواجب الإشارة إلى الكتاب وما به من كفر وضلال. ويبقى أن بعض شيعة الأمس واليوم من المتطرفين الغلاة يعتقدون صحة نسبة هذا التفسير للإمام العسكرى، وبعض مفسريهم نقله كاملاً. المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص488   (1) (ص: 48 ـ 49). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 333 الكتاب الثاني: تفسير القمي منزلة الكتاب وصاحبه عند الشيعة: ثاني هذه الكتب الثلاثة (تفسير القمي): لأبي الحسن علي بن إبراهيم بن هاشم القمي، وهو يشمل القرآن الكريم كله. وصاحب الكتاب كان في عصر الإمام العسكري، وعاش إلى سنة (307) هـ، وهو ثقة عند الشيعة، يعتبر من أجل الرواة عندهم، وقد أكثر من النقل عنه تلميذه محمد بن يعقوب الكليني في كتابه (الكافي)، الكتاب الأول في الحديث عند الجعفرية الاثني عشرية. وقال آقابزرك الطهراني ـ صاحب (الذريعة) ـ عن الكتاب بأنه أثر نفيس وسفر خالد مأثور عن الإمامين أبي جعفر الباقر وأبي عبد الله الصادق (1).وقال السيد طيب الموسوي الجزائري في مقدمته عنه (2) بأنه " تحفة عصرية، ونخبة أثرية لأنها مشتملة على خصائص شتى قلما تجدها في غيرها، فمنها: 1 - أن هذا التفسير أصل أصوله للتفاسير الكثيرة. 2 - أن رواياته مروية عن الصادقين عليهما السلام مع قلة الوسائط والإسناد، ولهذا قال في الذريعة: " إنه في الحقيقة تفسير الصادقين عليهما السلام ". 3 - مؤلفه كان في زمن الإمام العسكري. 4 - أبوه الذي روى هذه الأخبار لابنه كان صحابياً للإمام الرضا. 5 - أن فيه علماً جماً من فضائل أهل البيت عليهم السلام التي سعى أعداؤهم لإخراجها من القرآن.6 - أنه متكفل لبيان كثير من الآيات القرآنية التي لم يفهم مرادها تماماً إلا بمعونة إرشاد أهل البيت التالين للقرآن (3). وبادئ ذي بدء أحب أن أسجل الدهشة والعجب! فكيف يحتل الكتاب وصاحبه هذه المكانة عند إخواننا الجعفرية وهو من أوائل الغلاة الضالين الذين قادوا حركة القول بتحريف القرآن الكريم؟! ونقلنا هذا من قبل، ونقلنا كذلك ما ذكره الجزائري في مقدمته للكتاب من ذهاب القمي إلى القول بتحريف القرآن الكريم ودفاع الجزائري عنه وعن هذا التحريف (4)!! والقمي في مقدمته لتفسيره يذكر هذا الذي يذهب إليه، ويضرب له أمثلة ببعض آيات يرى أنها محرفة (5) والكتاب كله بعد ذلك مملوء بالضلال المضل من ذكر التحريف، والجدل لتخطئة بعض آيات الله تعالى، أو الزعم بفساد الترتيب والنظم (6). المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص489 مظاهر الغلو والضلال: أثر عقيدة الإمامة في الكتاب يظهر فيما يأتي: أولاً: القول بتحريف القرآن الكريم:   (1) انظر كلمته: (1 ص 5 ـ 6) من ((تفسير القمي))، وراجع ما ذكره عن ((تفسير القمي في الذريعة)) (4/ 302: 309). (2) راجع (ص 15). (3) انظر (ص 20). (4) انظر (ص 23 ـ 24) من المقدمة المذكورة. (5) راجع مقدمة تفسيره (ص 10 ـ 11). (6) انظر مثلاً: (1/ 110، 118، 122، 125، 126، 272). إلخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 334 ما ذكرناه آنفاً من القول بالتحريف، وبينا من قبل أن عقيدة أولئك الغلاة هي التي دفعتهم إلى ما ذهبوا إليه ونزيد ذلك بياناً بقليل من الأمثلة التي ما أكثرها في هذا التفسير!! نسب للإمام أبي جعفر أنه قال: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ يا على فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًاً [النساء:64] هكذا نزلت. ثم قال: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65] (1) وفي سورة الزخرف قال تعالى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ [الزخرف: 57 - 59] (2). وواضح أن الآيات تتحدث عن المسيح، ولكنه يذكر الآية الأخيرة هكذا " إن علي إلا عبد ... " ثم يقول: " فمحي اسمه من هذا الموضع " (3).وفي سورة محمد يري أن اسم علي أسقط في موضعين ذكرهما في كتابه (4). المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص491 ثانياً: الطعن في الصحابة: نتيجة لما ذكرته من التلازم بين القول بالتحريف والطعن في خير أمة أخرجت للناس صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تحملوا معه أعباء الرسالة ونشرها، والدفاع عنها والتضحية من أجلها بالنفس والأهل والمال والوطن، نتيجة هذا التلازم نرى القمي يقدم على هذا الجرم، فيطعن في الصحابة الأكرمين، ويتهمهم بالكفر والنفاق والإشراك ليصل إلى القول بالتحريف، وإسقاط أسماء الأئمة، واغتصاب الخلافة! ولنذكر بعض الأمثلة:   (1) 1/ 142، والآيتان من سورة النساء (64 ـ 65)، والخطاب فيهما للرسول الكريم، فجعله القمي للإمام علي فزاد " يا علي " مرتين، أي أن هذه الزيادة حذفت من القرآن الكريم، وهذا يذكرنا بالفرقة الغرابية ـ من غلاة الشيعة ـ التي قالت بأن الرسالة كانت لعلي فأخطأ جبريل ونزل على محمد!! (2) الآيات (57 ـ 59). (3) (2/ 286). (4) انظر (2/ 301 ـ 302). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 335 في سورة المائدة " الآية السابعة ": وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ [المائدة: 7] يقول القمي: " لما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الميثاق عليهم بالولايه قالوا سمعنا وأطعنا، ثم نقضوا ميثاقهم ". ثم يقول عن قوله تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ [المائدة:13] يعني نقض عهد أمير المؤمنين (1).وسورة القصص: طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:1 - 6] (2) وهذه الآيات الكريمة بالنص تتحدث عن موسى وفرعون نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ [القصص:3] ولكن القمي يقول عن فرعون وهامان وجنودهما: " هم الذين غصبوا آل محمد حقهم وقوله " منهم " أي من آل محمد " ما كانوا يحذرون " أي من القتل والعذاب، ولو كانت هذه الآية نزلت في موسى وفرعون لقال: ونرى فرعون وهامان وجنودهما منه ما كانوا يحذرون أي من موسى، ولم يقل منهم " (3).وفي سورة الزمر: وَقَالَ لَهمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ [الزمر: 73] يقول: " أي طابت مواليدكم لأنه لا يدخل الجنة إلا طيب المولد: قال أمير المؤمنين: إن فلاناً وفلاناً غصبوا حقنا واشتروا به الإماء، وتزوجوا به النساء، ألا وإنا قد جعلنا شيعتنا من ذلك في حل لتطيب مواليدهم" (4).   (1) (1/ 163). (2) من أول السورة إلى الآية السادسة. (3) (2/ 133)، ومعلوم أن ضمير الجمع كضمائر الجمع السابقة تعود على قوم موسى لا عليه هو. (4) (2/ 254)، والمراد بفلان وفلان الشيخان الصديق والفاروق حيث اعتبر خلافتهما غصباً، وهذا الافتراء طعن للإمام نفسه، فقد زوج ابنته سيدنا عمر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 336 وفي سورة الزخرف يقول: نزلت هاتان الآيتان هكذا قول الله تعإلى: حَتَّى إِذَا جَاءنَا [الزخرف:38]- يعني فلاناً وفلاناً ـ يقول أحدهما لصاحبه حين يراه – يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف:38] فقال الله لنبيه: قل لفلان وفلان وأتباعهما (وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ آل محمد حقهم أَنَّكمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ) ثم قال الله لنبيه: أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [الزخرف:40]، فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ [الزخرف:41] يعني من فلان وفلان، ثم أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ في علي إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) يعني إنك على ولاية علي، وعلى هو الصراط المستقيم (1). وسورة محمد كلها تقريباً تدور حول الطعن والتحريف فأولها: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:1] يقول القمي: " نزلت في الذين ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وغصبوا أهل بيته حقهم، وصدوا عن أمير المؤمنين وعن ولاية الأئمة، أضل أعمالهم: أي أبطل ما كان تقدم منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجهاد والنصرة " (2).ثم يقول: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ في علي وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) هكذا نزلت. " ثم يقول: نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الآية هكذا: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ في علي فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ). (3) وهكذا يستمر في ضلاله. وسورة الرحمن كلها تقريباً تسير على هذا النمط، وإن ركز فيها على اتهام الشيخين بالكفر ودخول النار (4). هذه نماذج كافية لبيان ما أردنا حتى لا يطول بنا الحديث، نذكره مضطرين، ونسأله تعالى أن يحفظ العقل والدين. المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص492 ثالثاً: جعل الأئمة هم المراد من كلمات الله:   (1) (2/ 286)، وما ذكره هنا فيه جمع بين الطعن في الشيخين والصحابة وذكر للتحريف، ونص الآيات الكريمة هو: حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُالصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ *الزخرف: 38: 43 *. (2) (2/ 300). (3) (2/ 302). (4) انظر (2/ 344، 346)، وهو هنا يستخدم أكثر من رمز من الرموز التي يبدو أنها كانت متداولة بين حزبه السرى في هذا الوقت، فالدولة العباسية التي حكمت عصر القمي ما كانت لتسمح للعلويين بالظهور والمجاهرة بآرائهم. ولعل ظلم الأمويين للشيعة وما لاقوه على أيدى أبناء عمومتهم العباسيين، ساعد على هذا التطرف والضلال، ولكنه لا يبرره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 337 إلى جانب التحريف نجده يؤول كلمات بأن المراد منها الأئمة ـ كلهم أو بعضهم ـ مع أنه لا ذكر لهم ولا إشارة إليهم من قريب أو بعيد في تلك المواضع، بل إن بعضها مختص بالله تعالى: كقوله تعالى: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر: 69] أي بنور الله عزوجل، ولكن الكتاب يقول: " قال أبو عبد الله: رب الأرض يعني إمام الأرض، فقلت فإذا خرج يكون ماذا؟ قال: إذاً يستغني الناس عن ضوء الشمس ونور القمر، ويجتزون بنور الإمام! " (1). وقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ ... [الرعد: 28] يقول القمي: " الذين آمنوا: الشيعة، وذكر الله: أمير المؤمنين والأئمة " (1/ 365). وفي موضع آخر يفسر الذكر بولاية علي في قوله تعالى: الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي [الكهف:101] (2/ 47). ويفسر الشرك بأنه " من أشرك بولاية علي " في قوله تعالى في سورة الشورى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى: 13] ولذا يفسر ما تدعوهم إليه بقوله: " من ولاية علي " (2/ 105). وفي آخر الرحمن: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:78] يروي عن أئمتهم " نحن جلال الله وكرامته " (2/ 346). وبعض الآيات تختص بالقرآن الكريم كمفتتح سورة البقرة ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [البقرة:1 - 2] فيقول القمي بأن المراد بالكتاب هنا علي بن أبي طالب! (1/ 30). وفي سورة يونس: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس:15] يقول القمي: أو بدله يعني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، قلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ يعنى في علي بن أبي طالب. (1/ 310). وفيها أيضاً: لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ [يونس:64] فيقول: " أي لا يغير الإمامة " (1/ 314). وقوله تعالى: وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ [الإسراء: 73] قال القمي: " يعنى أمير المؤمنين " (2/ 24). وفي سورة الحج: وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ [الحج:55] أي من القرآن الكريم، فيقول القمي: " أي في شك من أمير المؤمنين ". ويقول كذلك عن (الآية): وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [الحج:57] بأن معناها " ولم يؤمنوا بولاية أمير المؤمنين والأئمة " (2).وفي سورة الطور: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ [الطور:33] يتحدث عنها القمي فيقول: أم يقولون ـ يا محمد تقوله: يعنى أمير المؤمنين، بل لا يؤمنون أنه لم يتقوله ولم يقمه برأيه، ثم قال: فليأتوا بحديث مثله: أي برجل مثله من عند الله (3). وقد رأينا من قبل أن آيات كريمة خاصة بالرسول وبالمسيح صلوات الله عليهما، حرفها القمي ليجعلها للإمام على.   (1) (2/ 253)، وهذا القول قريب من أولئك الذين قالوا بألوهية على في حياته فأحرقهم بالنار، فعلى شيعته ومحبيه ـ إن كانوا صادقين أن يحرقوا الكتاب، ويبينوا ضلال صاحبه، لا أن يرفعوه مقاماً عليا. (2) (2/ 86). (3) (2/ 333). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 338 وهناك كذلك ما هو متصل بيوم القيامة فجعل للإمام، جاء في تفسيره (2/ 112) ما يأتي: " إن الليل والنهار اثنتا عشرة ساعة، وإن علي بن أبي طالب، أشرف ساعة من اثنتى عشرة ساعة، وهو قول الله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا [الفرقان:11] وهو لا يكتفي بهذا، وإنما يحاول أن يجعل الإمام هو المراد من كثير من آيات الله تعالى دون نظر إلى ما هو مختص بالله تعالى ورسله وكتبه واليوم الآخر كما رأينا، وما هو مختص بالحيوان أو الجماد حتى يكاد يحط من قدر الإمام وهو يحاول أن يرفعه! انظر مثلاً إلى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة: 26]، فإنك تعجب وقد حاول القمي من قبل أن يرفع الإمام علي إلى مرتبة الألوهية، ينزل به هنا إلى مرتبة الحشرات الضارة حيث يجعله المراد من كلمة " بعوضة " (1).بعد هذا لا يستبعد منه أن يجعل الإمام المراد من أي آية يظن أنها تدل على الاهتمام والرفع من قيمة الإمام. ويوضح الجزائري في مقدمته للكتاب سر هذا التأويل فيقول: " الله تعالى كان عالماً بأعمال أمة نبيه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، بأنهم يلعبون بالدين، ويهتكون بنواميس حماته في كل حين ... فحينئذ لم يؤمن منهم أن لا يبقوا أسامي الأئمة أو فضائلهم في القرآن، فلذا لم يكن بد إلا أن يبينها الله تعالى بالكناية والاستعارة كما هو دأب القرآن وأسلوبه في أكثر آياته، فإن له ظاهراً يتعلق بشيء وباطناً بشيء آخر " (2).ثم يقول: " ومن هنا قال أبو جعفر: إن القرآن نزل أثلاثاً: ثلث فينا وفي أحبائنا، وثلث في أعدائنا وعدو من كان قبلنا، وثلث سنة ومثل " (3).ثم عقب على هذا بقوله: " فانكشف مما ذكرنا أن كل ما ورد في القرآن من المدح كناية وصراحة فهو راجع إلى محمد وآله الطاهرين، وكل ما ورد فيه من القدح كذلك فهو لأعدائهم أجمعين، السابقين منهم واللاحقين، ويحمل عليه جميع الآيات من هذا القبيل وإن كان خلافاً للظاهر " (4). فهذا التأويل الفاسد إذن نتيجة للقول بالتحريف، والطعن في الصحابة الكرام. المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص495 رابعا: ما يتصل بعقيدة الإمامة 1 ـ الرجعة:   (1) (ص 19). (2) انظر ((التفسير)) (1/ 34). (3) (ص 21) من المقدمة المذكورة. (4) انظر مقدمته للتفسير (ص 24، 25). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 339 القمي يرى أشياء تتصل بعقيدته في الإمامة، ولذا يضمنها تفسيره. فهو مثلا يؤمن بالرجعة، أي رجعة الأئمة قبل يوم القيامة، ورجعة من غصبوهم حقهم ـ على حد زعمه ـ ليقتص الأئمة من أعدائهم. وعلى هذا جعل من الأمور الأساسية التي اشتمل عليها القرآن الكريم الرد على من أنكروا الرجعة. واستدل بقوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا [النمل:83] فقال: " أيحشر الله في القيامة من كل أمة فوجاً ويدع الباقين "؟ ثم قال: ومثله كثير نذكره في مواضعه (1). ومن هذا الذي ذكره قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص:85]. قال: يعني الرجعة. يرجع إليكم نبيكم صلى الله عليه وسلم وأمير المؤمنين والأئمة (2).وفي سورة " ق " يقول: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمنَادِ [ق:41] باسم القائم واسم أبيه ... والصيحة ـ صيحة القائم من السماء .. والخروج الرجعة (3).وفي سورة النحل: فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ [النحل:22] قال القمي: يعني أنهم لا يؤمنون بالرجعة أنها حق قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ يعني أنها كافرة وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ يعني أنهم عن ولاية علي مستكبرون (4). ويستمر في تفسيره للسورة الكريمة فيقول: فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ [النحل:34] من العذاب في الرجعة ... وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [النحل:38] قال القمي: الكفار كانوا لا يحلفون بالله، وإنما أنزلت في قوم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قيل لهم ترجعون بعد الموت قبل القيامة فحلفوا أنهم لا يرجعون (5). المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص499 2 ـ نزول الوحي على الأئمة: والقمي ممن ذهب إلى أن الوحي لم ينقطع بانتقال الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى، لأن الإمام يقوم مقامه! فعند تفسيره لسورة القدر يقول: معنى ليلة القدر أن الله يقدر فيها الآجال والأرزاق، وكل ما يحدث من موت أو حياة، أو خصب أو جدب، أو خير أو شر، كما قال الله فيها فِيهَا يُفرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4] إلى سنة. وقال تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا [القدر:4] تنزل الملائكة وروح القدس على إمام الزمان، ويدفعون إليه ما قد كتبوه من هذه الأمور (6).ونسب للإمام أبي جعفر أنه سئل: " تعرفون ليلة القدر؟ فقال: وكيف لا نعرف ليلة القدر والملائكة يطوفون بنا فيها " (7). المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص501 3 ـ الأئمة يعلمون الغيب: وهو يرى أن الأئمة يعلمون الغيب، ولهذا نراه عند تفسير قوله تعالى: عَالِمُ الْغَيبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ [الجن: 26 - 27]. يقول: يعني علياً المرتضى من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو منه (8).   (1) انظر مقدمته للتفسير (ص 24). والآية هي رقم 83: النمل ومعناها أنهم يحشرون فوجاً، أي زمراً، فلا يبقى أحد، ونحن مأمورون بالإيمان بيوم القيامة، لا بيومين: يوم لأئمة الجعفرية ويوم للقيامة. (انظر مناقشة هذه العقيدة وبيان بطلانها بالأدلة العقلية والنقلية في ((مختصر التحفة الاثني عشرية)) (ص 200 - 203) (2) (2/ 147). (3) (2/ 327). (4) (1/ 383). (5) (1/ 385). (6) انظر (2/ 431). والآية الكريمة التي استدل بها هي الرابعة من سورة الدخان. ونصها فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * الدخان:4* وليس فيها " إلى سنة " كما ذكرها. (7) (2/ 432). (8) (2/ 390). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 340 فعلم الغيب ليس خاصاً بالله تعالى والمصطفين من الرسل الكرام، وإنما هوـ حسب افترائه ـ خاص بالإمام علي مع الله عز وجل! وحتى يظهر أن علم الأئمة يحيط بكل شىء يأتي بأشياء لا سبيل إلى العلم بها في ذلك الوقت، وإن اكتشف بعضها في عصر الكشوف العلمية للكون ومظاهره. وإذا كان كثير من الكشف العلمي يأتي بوجوه جديدة من وجوه الإعجاز القرآني، ويستحيل التناقض بين نظرية علمية صحيحة وبين القرآن الكريم، إلا أن هذه الكشوف كشفت عن كذب القمي ومفترياته. فهو ينسب للإمام علي أنه قال: " الأرض مسيرة خمسمائة عام، والشمس ستون فرسخاً في ستين فرسخاً، والقمر أربعون فرسخاً في أربعين فرسخاً، بطونهما يضيئان لأهل السماء، وظهورهما يضيئان لأهل الأرض، والكواكب كأعظم جبل على الأرض " (1)! ويزعم أن الإمام علي بن الحسين بين علة كسوف الشمسين بوجود بحر بين السماء والأرض، إذا كثرت ذنوب العباد، وأراد الله أن يستعتبهم بآية، أمر الملائكة الموكلين فجعلوا الشمس أو القمر في ذاك البحر (2).وفي موضع آخر ينسب للأئمة أن الأرض على الحوت، والحوت على الماء، والماء على الصخرة، والصخرة على قرن ثور أملس، والثور على الثرى (3).وفي أول سورة الشورى حم عسق [الشورى:1 - 2] يقول: " قاف جبل محيط بالدنيا من زمرد أخضر، فخضرة السماء من ذلك الجبل " (4). المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص502 4 ـ نفى العلم عمن اشتهروا به من غيرهم: والقمي لا يكتفي بمثل هذه المفتريات ليبين إحاطة الأئمة بكل شيء علماً، ولكن تحدث عن غيرهم ممن لهم مكانتهم العلمية لينفي عنهم ما اشتهروا به من العلم، حتى لا يبقى في المجال العلمي إلا أئمة الجعفرية! فمثلا ابن عباس اشتهر بأنه حبر الأمة وترجمان القرآن، انظر إلى هذا القمي وهو يتحدث عن ابن عباس، بل عن أبيه عم الرسول صلى الله عليه وسلم: نسب للإمام أبي جعفر الباقر أنه قال: جاء رجل إلى أبي علي بن الحسين فقال: إن ابن عباس يزعم أنه يعلم كل آية نزلت في القرآن في أي يوم نزلت، وفيمن نزلت، فقال أبي: سله فيمن نزلت: وَمَن كَانَ فِي هذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً [الإسراء:72] وفيمن نزلت: وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ [هود:34] وتستمر الرواية لتذكر بأن الرجل ذهب إلى ابن عباس فسأله، فلم يجبه، بل أورد أسئلة أخرى، فبين الإمام سبب النزول بقوله: بأن الآية الأولى نزلت في ابن عباس وفي أبيه، والثانية نزلت في أبيه (5)!! المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص503   (1) (2/ 17). (2) انظر (2/ 14 ـ 15). (3) انظر (2/ 58 ـ 59). (4) (2/ 268)، وفي سورة " ق " قال " ق: جبل محيط بالدنيا من وراء يأجوج ومأجوج " (2/ 323). ومما يضحك ـ ومن شر البلية ما يضحك ـ أن نجد في عصرنا من يؤمن بهذه الخرافات والأكاذيب، بل يتخذ منها دليلاً على علم الأئمة وعصمتهم!! " انظر مثلاً ج 2 حاشية (ص 15 ـ 16، 58 ـ 59) " والروايات لو ثبتت لأثبتت لأهل البيت وحاشاهم ـ الجهل والافتراء! ولكن ما أكثر المتظاهرين بحب آل البيت وآل البيت منهم براء! (5) انظر (2/ 23). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 341 5 ـ أحكامهم الفقهية كالمتعة والخمس: ثم لا ينسى القمي ما ارتبط بعقيدته من الأحكام الفقهية، فيعرضها بطريقة يأباها كتاب الله تعالى، ففي سورة مريم: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم:83] قال: نزلت في مانعى الخمس والزكاة (1).وفي سورة ق " الآية 26 ": الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [ق: 26] قال: "هو ما قالوا نحن كافرون بمن جعل لكم الإمامة والخمس " (2).وفي سورة النساء يحرف الآية الرابعة والعشرين فيقول: فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ إلى أجل مسمى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً [النساء:24] ويعقب بقوله: فهذه الآية دليل على المتعة (3). المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص504 خامساً: أسباب النزول: في ذكر القمي لأسباب النزول نرى أثر الإمامة واضحاً، ولنضرب بعض الأمثلة: 1 ـ تحالف الصحابة مع إبليس: في سورة سبأ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ [سبأ:20] قال: لما أمر الله نبيه أن ينصب أمير المؤمنين للناس في قوله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ في على [المائدة:67] (4) بغدير خم فقال: " من كنت مولاه فعلي مولاه "، فجاءت الأبالسة إلى إبليس الأكبر، وحثوا التراب على رءوسهم، فقال لهم إبليس: ما لكم؟ فقالوا: إن هذا الرجل قد عقد اليوم عقدة لا يحلها شيء إلى يوم القيامة. فقال لهم إبليس: كلا، إن الذين حوله قد وعدوني فيه عدة لن يخلفوني، فأنزل الله على رسوله: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ [سبأ:20] (5). المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص505 2 ـ البيعة يوم الغدير: وعن البيعة أيضاً عند قوله تعالى: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى [القيامة:31] (6) يقول: كان سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى بيعة علي يوم غدير خم، فلما بلغ الناس وأخبرهم في علي ما أراد الله أن يخبره، رجعوا الناس فاتكأ معاوية على المغيرة بن شعبة وأبي موسى الأشعري، ثم أقبل يتمطى نحو أهله ويقول: ما نقر لعلي بالولاية أبداً، ولا نصدق محمداً مقالته ... فصعد رسول الله المنبر وهو يريد البراءة منه، فأنزل الله: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة:16] (7) فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسمه (8). المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص506   (1) (2/ 53). (2) (2/ 326). (3) (1/ 136)، ونص الآية الكريمة فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً *النساء:24*. (4) " في على " زيادة من تحريفهم، وقد ضمت الرواية إلى التحريف اتفاق الصحابة الكرام مع إبليس على نقض البيعة. (5) (2/ 201). (6) الآية 31 من سورة القيامة، وهي وسبأ مكيتان، وموقف الغدير بلا خلاف حتى بين الشيعة أنفسهم كان بعد حجة الوداع. (7) سورة القيامة الآية 16 وهي تتحدث عن القرآن الكريم، فالآيات التالية لها هي إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ * القيامة:17 - 19*. (8) (2/ 397). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 342 3 ـ مصير من غصبوا الولاية: وفي قوله تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة: 18]، قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الذين غصبوا آل محمد حقهم، فيعرض عليهم أعمالهم، فيحلفون به أنهم لم يعملوا فيها شيئاً كما حلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا أن لا يردوا الولاية في بني هاشم، وحين هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة!! فلما أطلع الله نبيه وأخبره، حلفوا له أنهم لم يقولوا ذلك، ولم يهموا به، حتى أنزل الله على رسوله: يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ [التوبة:74] (1). المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص506 4 ـ القائم يطالب بدم الحسين: وفي سورة الحج: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج: 39] ... قال: إن العامة ـ أي جمهور المسلمين ـ يقولون نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخرجته قريش من مكة، وإنما هي للقائم إذا خرج يطلب بدم الحسين (2). المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص507 5 ـ حادث الإفك اتهام لأم المؤمنين لا تبرئة إلهية لها!!   (1) (2/ 358). (2) (2/ 84 ـ 85). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 343 حادث الإفك معروف مشهور، ونزل القرآن الكريم بتبرئة أم المؤمنين السيدة عائشة، فعز على القمي أن يبرئ الله تعالى صاحبه الجمل، وابنة أبي بكر أول من اغتصب الخلافة في رأيه! ولهذا قام القمي بإفك جديد، فجعل من الحديث عن الإفك اتهاماً للسيدة عائشة لا تبرئة لها!! فعند قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ [النور: 11] قال: فإن العامة رووا أنها نزلت في عائشة، وما رميت به في غزوة بني المصطلق من خزاعة، وأما الخاصة فإنهم رووا أنها نزلت في مارية القبطية، وما رمتها به بعض النساء المنافقات ".ثم ذكر رواية عن الإمام أبي جعفر أنه قال: " لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حزن عليه حزناً شديداً، فقالت منافقة: ما الذي يحزنك عليه؟ فما هو إلا ابن جريج! فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وأمره بقتله " (1) وفي سورة الحجرات ذكر قصة اتهام فلانة لمارية، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم علياً بأن يقتل جريجاً، وأن هذا كان سبب نزول قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6] (2) وفي سورة التحريم قال عن كلمة أبكاراً التي جاءت في ختام الآية الخامسة " عرض عائشة لأنه لم يتزوج ببكر غير عائشة " (3) وبعد هذا في نفس الصفحة ورد ما يأتي: " ثم ضرب الله مثلا فقال: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا [التحريم:10] فقال: والله ما عنى بقوله فخانتاهما إلا الفاحشة، وليقيمن الحد على فلانة فيما أتت في طريق ... وكان فلان يحبها، فلما أرادت أن تخرج إلى ... قال لها فلان: لا يحل لك أن تخرجي من غير محرم، فزوجت نفسها من فلان " (4) وإذا كان القمي ذكر بأن الخاصة ـ أي الشيعة ـ رووا أن فلانة، وهي إحدى المنافقات، جاءت بالإفك، ولم يصرح باسمها، فإن غيره من الجعفرية قد صرح باسمها وقال بأنها عائشة (5). وضرب المثل بامرأة نوح وامرأة لوط يعتبره الجعفرية تعريضاً بالسيدتين عائشة وحفصة من أمهات المؤمنين (6)، والقمي هنا يؤكد أن الخيانة المرادة هي الفاحشة، ثم مهد لإلصاقها بمن برأها الله تعالى! المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص507 سادساً: القرآن كتاب (تاريخ اثني عشري)!! عندما آلت الخلافة إلى الإمام علي كرم الله وجهه ـ لم تسلم له، وخاض عدة معارك، ولاقى الشيعة بعد ذلك ما لاقوا في ظل الحكم الأموي. وقد تحدثت كتب التاريخ عن ذلك مفصلاً، ولكن القمي يحاول أن يغير من طبيعة القرآن الكريم ليصله بكتب التاريخ عند الجعفرية، فتسمع عن البصرة والجمل وبني أمية من وجهة النظر الجعفري، ولنضرب لذلك الأمثال:   (1) (2/ 99). (2) انظر (2/ 318 ـ 319) والآية هي " 6 ". (3) (2/ 377). (4) منقول بالنص وفيه النقط. (5) انظر ((تفسير شبر)) (ص 338). (6) بل يعتبره بعضهم تصريحاً لكفرهما، قال المجلسي: " لا يخفي على الناقد البصير والفطن الخبير ما في تلك الآيات من التعريض بل التصريح بنفاق عائشة وحفصة وكفرهما! ". ((بحار الأنوار)) (22/ 33). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 344 1 ـ أصحاب الجمل والبصرة: في سورة الأعراف: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40] ولن يلج الجمل في سم الخياط، فالكفار إذن لن يدخلوا الجنة، ولكن القمي إذا به يقول: " نزلت هذه الآية في طلحة والزبير والجمل جملهم " (1)! ويقول أيضا: إن أصحاب الجمل نزلت فيهم من سورة التوبة: وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ [التوبة: 12] (2).وفي سورة النجم يقول بأن المؤتفكة هي البصرة، وقال: ائتفكت بأهلها مرتين، وعلى الله تمام الثالثة، وتمام الثالثة في الرجعة (3).وفي سورة الحاقة يقول بأن البصرة أيضاً هي المؤتفكات (4). 2 ـ بنو أمية: أما بنو أمية فإنا نصادفهم كثيراً ونحن نقرأ هذا التفسير العجيب، وما دام ثلث القرآن في أعداء الجعفرية ـ كما زعموا ـ فلابد إذن أن يكون للأمويين نصيب كبير! انظر مثلا تفسيره لقوله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأنفال:55]. يقول: نزلت في بنى أمية، فهم أشر خلق الله، هم الذين كفروا في باطن القرآن، فهم لا يؤمنون (5).ولهذا نجد كثيرا من الآيات التي تتناول الكفار يجعلها لبني أمية (6). 3 ـ بنو السباع: والقمي عاش في العصر العباسي الأول، والعلويون رأوا الحكم يذهب لغيرهم، ثم لم يسلموا من ظلم ذوي القربى، فالعباسيون ـ من وجهة النظر الجعفرية ـ لا يفترقون كثيراً عن الأمويين، ولكن القمي لا يستطيع أن يصرح بهم عند الحديث عن كفرهم فيسميهم بني السباع بدلاً من بني العباس (7). 4 ـ الاتفاق على قتل علي! وعندما تناول بعض الأحداث التاريخية الأخرى وضع قصصاً خيالية غريبة، فمثلا عند قوله تعالى: فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الروم:38] نراه يتحدث عن ذلك في خمس صفحات، ويأتي بقصيدة يقول بأن السيدة فاطمة الزهراء ـ رضي الله تعالى عنها ـ احتجت بها على الصديق، وكذلك احتج الإمام علي، وخاف الصديق من ضياع الحكم نتيجة هذا الموقف، فبعث إلى الفاروق الذي أشار بقتل علي! وأمر خالد بن الوليد بقتله فوافق خالد، إلى آخر تلك الخرافة (8).   (1) (1/ 230). (2) انظر (1/ 283)، وتكملة الآية الكريمة وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ *التوبة:12*. (3) انظر (2/ 340 ـ 341). (4) انظر (2/ 384). (5) (1/ 279). (6) انظر مثلاً: (1/ 156، 196، 211، 371)، و (2/ 68، 80، 123، 242، 243، 255، 384). (7) انظر (2/ 242). (8) انظر (2/ 155: 159). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 345 5 ـ كفر أصحاب بيعة الرضوان: وعندما تحدث عن صلح الحديبية قال: " فلما أجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلح أنكر عامة أصحابه، وأشد ما كان إنكاراً فلان، فقال: يا رسول الله، ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ فقال: بلى! قال: فنعطي الذلة في ديننا؟ قال: إن الله وعدني ولن يخلفني. قال لو أن معي أربعين رجلاً لخالفته " (1). والمعروف أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ صاحب الجزء الأول من هذه المناقشة، فافترى القمي هذه الزيادة المنكرة " لو أن معي أربعين رجلا لخالفته "، وقال: بأن عامة أصحابه الذين أنكروا الصلح أكثروا القول على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إن لم تقبلوا الصلح فحاربوهم. ويزيد فريته بأنهم حاربوا فعلاً، وهزموا هزيمة قبيحة، إلى أن قام علي بسيفه فتراجعت قريش (2).ثم يستمر ليقول: بأن عامة الصحابة هؤلاء هم الذين عناهم الله تعالى بقوله: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ [الفتح:6] (3).وهكذا يستمر هذا القمي ليجعل عامة أصحاب بيعة الرضوان من أصحاب النار، وهم الذين رضي الله عنهم بنص القرآن الكريم، ويطعن في ترتيب آيات سورة الفتح ليصل إلى ضلاله (4)! 6 ـ الفرق الأخرى: ونراه كذلك يخضع القرآن الكريم للحديث عن الفرق الأخرى، فمثلا عند قوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وجوههم مُّسودةٌ [الزمر:60] يقول: " من ادعى أنه إمام وليس بإمام يوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ... وإن كان علوياً فاطمياً " (5). 7 ـ القائم وجيش السفياني: وكثير من فرق الشيعة قالت بعودة بعض الأئمة قبل يوم القيامة، ومنهم من وقف عند إمام معين، وقال: بأنه لم يمت وإنما أظهر موته تقية، إلى غير ذلك مما تذكره كتب التاريخ. وكان من صدى هذا أن بعض الأمويين قالوا بعودة رجل منهم أسموه السفياني: فزاد بعض الجعفرية خرافة أخرى وهي أن المهدي عندما يرجع سيقابل جيش السفياني ويهزمه! وإذا بنا نجد هذا في تفسير القمي! فعند قوله تعالى: وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ [هود:8] قال: هم والله أصحاب القائم، يجتمعون والله إليه في ساعة واحدة، فإذا جاء إلى البيداء يخرج إليه جيش السفياني، فيأمر الله الأرض فتأخذ أقدامهم، وهو قوله: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ [سبأ:51 - 52] يعني بالقائم (6).وفي قوله تعالى: أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [طه:113] قال يعني ما يحدث من أمر القائم والسفياني (7). وبهذا يصبح تفسير القمي مرجعاً من مراجع التاريخ لغلاة الجعفرية! المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص509 سابعا: طرق التغرير والتضليل: والقمي قد خالف ظاهر القرآن الكريم، وحرف معانيه إلى جانب القول بتحريف نصه، وأتى بما لا يحتمله كتاب الله تعالى بل يعارضه، وخالف ما أجمعت عليه الأمة في أكثر الآيات وما يتعلق بها، وجعل أكثرها ـ مكية ومدنية ـ متعلقة ببيعة غدير خم التي قال الجعفرية أنفسهم بأنها بعد حجة الوداع. وزعم أن صفوة هذه الأمة كفار ومشركون ومنافقون، إلى غير ذلك مما يبرأ منه الإسلام والعقل السليم.   (1) (2/ 311 ـ 312). وفي الأصل: فقال نعم! (2) انظر (2/ 312). (3) انظر (2/ 315)، والآية الكريمة ـ هي السادسة من سورة الفتح. (4) انظر (2/ 315). (5) (2/ 251). (6) (2/ 205). (7) (2/ 65). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 346 ورأينا من قبل كيف حاول صاحب (التفسير) المنسوب للإمام العسكري أن يغرر بضعاف العقول، وجهلة القوم، ليؤمنوا بخرافاته، ويسيروا في ظلمات ضلاله. والقمي هو الآخر قد حاول القيام بنفس الدور فسلك لذلك عدة طرق: 1 ـ جل آرائه نسبها للأئمة وعلى الأخص الإمامان الباقر والصادق. كما أشرنا في مقدمة الحديث عن الكتاب. 2 ـ ذهب إلى أن القرآن الكريم لا يفهم معناه ولا يدرك مراده إلا عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وهؤلاء الأئمة. نسب للإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ أنه قال: " ذلك القرآن فاستنطقوه، فلن ينطق لكم، أخبركم عنه، إن فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم، وبيان ما أصبحتم فيه مختلفين، فلو سألتموني عنه لأخبرتكم عنه لأني أعلمكم " (1) ونسب للإمام الصادق أنه قال: إن الكتاب لم ينطق، ولن ينطق، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم. هو الناطق بالكتاب، قال الله: هَذَا بكتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ [الجاثية:29] فقال أحدهم: إنا لا نقرؤها هكذا، فقال الإمام: هكذا والله نزل بها جبريل على محمد، ولكنه فيما حرف من كتاب الله تعالى (2).ونسب للإمام الباقر أنه قال: " القرآن ضرب فيه الأمثال للناس، وخاطب الله نبيه به ونحن، فليس يعلمه غيرنا " (3).وذهب إلى أن من لا يقبل تأويل الكتاب فهو مشرك كافر (4).3 - وضع أسساً غريبة للتفسير، فإلى جانب القول بأن القرآن أصابه التحريف، ولا يؤخذ تأويله إلا عن طريقهم، نراه يذهب إلى أن هناك آيات لا يعرف تأويلها إلا بعد وقت نزولها! ويتحدث عن هذا النوع فيقول: " وأما ما تأويله بعد تنزيله فالأمور التي حدثت في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبعده من غصب آل محمد حقهم، وما وعدهم الله به من النصر على أعدائهم، وما أخبر الله به من أخبار القائم وخروجه، وأخبار الرجعة والساعة " (5).ويذهب إلى أن هناك آيات " مما خاطب الله به نبيه صلى الله عليه وسلم والمعنى لأمته، وهو قول الصادق: إن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بإياك أعني واسمعي يا جارة " (6).وذهب إلى ما هو أبعد من هذا، فقال بأن هناك " ما هو مخاطبة لقوم ومعناه لقوم آخرين! فقوله (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ (أنتم يا معشر أمة محمد) فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا)، فالمخاطبة لبني إسرائيل، والمعنى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم (7) ". وبهذه الأسس استطاع أن يحرف القرآن الكريم نصاً ومعنى ليصل إلى ضلاله.   (1) ((المقدمة)) (ص 3). (2) انظر (2/ 95)، ونص الآية الكريمة هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ * الجاثية: 29 * فحرف الآية الكريمة لأنها تعارضت مع ما ذهب إليه. (3) (2/ 425). (4) انظر (2/ 260). (5) (مقدمة تفسيره) (ص 14). (6) (مقدمة تفسيره) (ص 14). (7) (نفس المقدمة) (ص 16)، والآية هي الرابعة من سورة الإسراء، والتحريف واضح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 347 4 - وقد ذهب إلى تكفير غير المعتنقين عقيدته في الإمامة، الرافضين لتحريفه، لم ينس ـ من وقت لآخر في تفسيره ـ بيان أن الشيعة سيدخلون الجنة حتى فساقهم العصاة! فمثلاً في قوله تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ [الحج:40]، يقول: بأن الله سبحانه وتعالى يدفع بمن يعمل كل فريضة من الشيعة عمن لا يعملها، ولو أجمعوا على الترك لهلكوا (1). وفي سورة طه وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا [طه: 108] يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لعصاة الشيعة، فكلهم يدخل الجنة (2).وفي سورة المؤمنون: وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 100] " يقول: البرزخ هو أمر بين أمرين، وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة .. وهو قول الصادق: والله ما أخاف عليكم إلا البرزخ، فأما إذا صار الأمر إلينا فنحن أولى بكم (3).وفي سورة غافر: غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ [غافر:3] قال: ذلك خاصة لشيعة أمير المؤمنين (4).وفي سورة "ق ": أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [ق: 24] يقول: بأن الآية الكريمة مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وعلي، ويبين أنهما في منزلة خاصة دون الخلق جميعا؛ وأن رضوان يأتي بمفاتيح الجنة فيأخذها الرسول صلى الله عليه وسلم ويعطيها علياً وكذلك يفعل مالك بمفاتيح جهنم، فيأخذ علي المفاتيح ويقعد إلى شفير جهنم، فتنادي: ياعلي جزني، قد أطفأ نورك لهيبي! فيقول لها علي: ذري هذا وليي، وخذي هذا عدوي! فلجهنم يومئذ أشد مطاوعة لعلي من غلام أحدكم لصاحبه (5).وفي سورة الرحمن: فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ [الرحمن: 39] قال: " منكم "، يعني من الشيعة. معناه أنه من تولى أمير المؤمنين، وتبرأ من أعدائه عليهم لعائن الله، وأحل حلاله، وحرم حرامه، ثم دخل في الذنوب ولم يتب في الدنيا، عذب لها في البرزخ، ويخرج يوم القيامة وليس له ذنب يسأل عنه يوم القيامة (6).وفي سورة الحاقة " الآية 19 ": فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [الحاقة: 19] قال: كل أمة يحاسبها إمام زمانها، ويعرف الأئمة أولياءهم وأعداءهم بسيماهم، وهو قوله تعالى: وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ [الأعراف:46] وهم الأئمة يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ [الأعراف:46] فيعطون أولياءهم كتابهم بيمينهم فيمرون إلى الجنة بلا حساب، ويعطون أعداءهم كتابهم بشمالهم فيمرون إلى النار بلا حساب " (7). المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص514   (1) (1/ 83). (2) انظر (2/ 64: 65). (3) (2/ 94). (4) (2/ 254). (5) انظر (2/ 324 ـ 326). (6) (2/ 345). (7) (2/ 384). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 348 الكتاب الثالث: تفسير العياشي منزلة العياشي كالقمي تلك أهم آثار الإمامة في تفسير القمي الذي يمثل جانب الغلو والتطرف في هذه العقيدة كتفسير العسكري. والتفسير الثالث الذي طالعنا به القرن الثالث هو تفسير العياشي، لمحمد بن مسعود العياشي، المتوفي في حدود سنة (320) هـ، والذي يعد من الثقات عند الشيعة الاثني عشرية. وفي صدر التفسير كتب محمد حسين الطباطبائي مقدمة حول الكتاب ومؤلفه، قال فيها: " وقد بعث الله رجالاً من أولي النهى والبصيرة، وذوي العلم والفضلة، على الاقتباس من مشكاة أنوارهم – أي الأئمة – والأخذ والضبط لعلومهم وآثارها، وإبداع ذخائرها في كتبهم، وتنظيم شتاتها في تأليفهم، ليذوق بذلك الغائب من منهل الشاهد، ويرد به اللاحق مورد السابق. وإن من أحسن ما ورثناه من ذلك كتاب التفسير المنسوب إلى شيخنا العياشي رحمه الله، وهو الكتاب القيم الذي يقدمه الناشر اليوم إلى القراء الكرام. فهو لعمري أحسن كتاب ألف قديماً في بابه، وأوثق ما ورثناه من قدماء مشايخنا من كتب التفسير بالمأثور. أما الكتاب فقد تلقاه علماء هذا الشأن منذ ألّف إلى يومنا هذا – ويقرب من أحد عشر قرناً – بالقبول من غير أن يذكر بقدح أو يغمض فيه بطرف. وأما مؤلفه الشيخ الجليل أبو النضر محمد بن مسعود بن العياش التميمي الكوفي السمرقندي، من أعيان علماء الشيعة، وأساطين الحديث والتفسير بالرواية، من عاش في أواخر القرن الثالث من الهجرة النبوية. أجمع كل من جاء بعده من أهل العلم على جلالة قدره وعلو منزلته وسعة فضله، وإطراء علماء الرجال متسالمين على أنه ثقة, عين صدوق في حديثه، ومن مشايخ الرواية، يروي عنه أعيان المحدثين: كشيخنا الكشي صاحب (الرجال) وهو من تلامذته، وشيخنا جعفر بن محمد بن مسعود العياشي وهو ولده إلخ ". منهج العياشي وأهدافه كالقمي: من هذا نرى أن العياشي وتفسيره عند الشيعة في منزلة تشبه منزلة القمي وتفسيره. بدراسة تفسير العياشي يظهر لنا أنه كان يسير مع القمي في طريق واحد، فلا فرق بينهما في المنهج والأهداف، والغلو والتطرف والضلال، وما أخذناه على تفسير القمي يتسم به أيضاً تفسير العياشي، وإليك البيان: أولاً: القول بتحريف القرآن الكريم يشترك العياشي مع القمي في محاولة التشكيك في كتاب الله العزيز، والدعوة إلى القول بتحريفه. ولذلك وجدنا صاحب كتاب (فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب) يذكر العياشي مع القائلين بالتحريف، ويقول بأنه روى في أول تفسيره أخباراً عامة صريحة في التحريف، وأن نسبة القول بالتحريف إلى العياشي كنسبة القول به إلى علي بن إبراهيم القمي، بل صرح بنسبته إلى العياشي جماعة كثيرة (1). وينقل عن العياشي بعض الأخبار التي استدل بها على التحريف. منها ما رواه عن الإمام الصادق أنه قال: " لو قرئ القرآن كما أنزل لألفيتمونا فيه مسمين " (2). ومنها ما رواه عن الإمام الباقر أنه قال: تنزل جبرائيل بهذه الآية على محمد صلى الله عليه وسلم هكذا: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللهُ في علي بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللهُ) (3) وفي تفسير العياشي نجد كثيراً من مثل هذا الضلال: فتحت عنوان: " ما عنى به الأئمة من القرآن " (1/ 13) يذكر عدة أخبار، منها الخبر السابق عن الإمام الصادق، ويرويه أيضاً عن الإمام الباقر، كما يروي عن الإمام الباقر أنه قال: " لولا أنه زيد في كتاب الله ونقص منه ما خفي حقنا على ذي حجى، ولو قد قام قائمنا فنطق صدقه القرآن ".   (1) انظر ((فصل الخطاب)) (ص 26). (2) ((فصل الخطاب)) (ص 14). (3) ((فصل الخطاب)) (ص 232)، والآية الكريمة هي رقم 90 من سورة البقرة، وحرفها بزيادة " في علي ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 349 وعن الإمام الصادق: " إن القرآن قد طرح منه آي كثيرة، ولم يزد فيه إلاَّ حروف، وقد أخطأت بها الكتبة، وتوهمتها الرجال ". وفي أول سورة البقرة يروي العياشي عن الصادق أنه قال: كتاب (علي لا ريب فيه). وعن عمر بن يزيد، قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106]، فقال: كذبوا، ما هكذا هي! إذا كان ينسى وينسخها أو يأتي بمثلها لم ينسخها. قلت: هكذا قال الله. قال: ليس هكذا قال تبارك وتعالى. قلت: فكيف قال؟ قال: ليس فيها ألف ولا واو، قال: ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها مثلها، يقول: ما نميت من إمام أو ننسه ذكره نأت بخير منه من صلبه مثله (1).   (1) الآية الكريمة هي (رقم 106) من سورة البقرة، وحرفها ليصل إلى تأويله الذي يعد تحريفاً آخر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 350 وفي تفسير العياشي لسورة النساء يذكر الرواية التالية: عن جابر قال: قلت لمحمد بن علي: قول الله في كتابه: الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ [النساء:137] قال: هما والثالث والرابع وعبدالرحمن وطلحة، وكانوا سبعة عشر رجلاً. قال: لما وجّه النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعمّار بن ياسر رحمه الله إلى أهل مكة قالوا: بعث هذا الصبي، ولو بعث غيره يا حذيفة إلى أهل مكة؟ وفي مكة صناديدها، وكانوا يسمّون عليَّا الصبي لأنه كان اسمه في كتاب الله الصبي لقول الله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وهو صبي وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (1) فقالوا: والله الكفر بنا أولى مما نحن فيه، فساروا فقالوا لهما، وخوَّفوهما بأهل مكة، فعرضوا لهما وغلَّظوا عليهما الأمر، فقال علي صلوات الله عليه: حسبنا الله ونعم الوكيل، ومضى، فلما دخلا مكَّة أخبر الله نبيه بقولهم لعلي وبقول علي لهم، فأنزل الله بأسمائهم في كتابه، وذلك قول الله: (ألم تر إلى الَّذِينَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (2) إلى قوله: وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:174] وإنما نزلت ألم تر إلى فلان وفلان لقوا عليا وعماراً فقال: إنَّ أبا سفيان وعبدالله بن عامر وأهل مكة قد جمعوا لكم فاخشوهم فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، وهما اللذان قال الله: الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ [النساء:137] إلى آخر الآية، فهذا أول كفرهم .. والكفر الثاني قول النبي عليه وعلى آله السلام: يطلع عليكم من هذا الشعب رجل فيطلع عليكم بوجهه؛ فمثله عندالله كمثل عيسى، لم يبق منهم أحد إلاَّ تمنى أن يكون بعض أهله، فإذا بعلي قد خرج وطلع بوجهه, وقال: هو هذا، فخرجوا غضاباً وقالوا: ما بقي إلاَّ أن يجعله نبيَّا، والله الرجوع إلى آلهتنا خير ممّا نسمع منه في ابن عمّه، وليصدّنا علي إن دام هذا، فأنزل الله: وَلَمَّا ضرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ [الزخرف:57] إلى آخر الآية فهذا الكفر الثاني. وزاد الكفر بالكفر حين قال الله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة:7] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا علي أصبحت وأمسيت خير البريَّة، فقال له الناس: هو خير من آدم ونوح ومن إبراهيم ومن الأنبياء، فأنزل الله: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ إلى سَمِيعٌ عَلِيمٌ [آل عمران:33] قالوا: فهو خير منك يا محمد؟ قال الله: (قُلْ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) ولكنَّه خير منكم وذريَّته خير من ذريتكم، ومن اتَّبعه خير ممَّن اتبعكم، فقاموا غضاباً وقالوا: زيادة الرجوع إلى الكفر أهون علينا مما يقول في ابن عمه، وذلك قول الله: ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا [النساء:137].وفي تفسير سورة النحل يروي العياشي عن أبي جعفر أنه قال: نزل جبرائيل هذه الآية هكذا: (وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ في علي قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) (3)   (1) (الآية 33) من سورة فصلت، وحرفها بزيادة (وهو صبي). (2) (173: آل عمران) وتبدأ بقول الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ * آل عمران:173* بدون: (ألم تر إلى)، وقول العياشي " وإنما نزلت " فيه تحريف يذكرنا بكلام مسيلمة الكذاب. (3) (2/ 257)، والآية الكريمة (رقم 24) من سورة النحل، وحرفها بزيادة (في علي). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 351 ويروي عن إسماعيل الحريري قال: قلت لأبي عبدالله: قول الله: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل:90] قال البغى: اقرأ كما أقول لك يا إسماعيل (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى حقه) قلت: جعلت فداك إنَّا لا نقرأ هكذا في قراءة زيد، قال: ولكنّا نقرأها هكذا في قراءة علي، قلت، فما يعني بالعدل؟ قال: شهادة أن لا إله إلاَّ الله، قلت: والإحسان؟ قال: شهادة أن محمداً رسول الله، قلت: فما يعني بإيتاء ذي القربى حقّه، قال: أداء إمامة إلى إمام بعد إمام، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ قال: ولاية فلان وفلان (1). ثانياً الطعن في الصحابة الكرام: الرواية التي ذكرتها دون اختصار من تفسير العياشي لسورة النساء لبيان موقفه من تحريف القرآن الكريم توضح أمرين آخرين، هما طعنه في خير أمة أخرجت للناس، الصحابة الكرام الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وعلى الأخص من بشر منهم بالجنة غير علي رضي الله عنه، كالشيخين، وذي النورين، وطلحة والزبير، والأمر الآخر موقفه من أسباب النزول، ومفتريات هذا الضال الممجوجة ليتفق سبب النزول مع ضلاله. وإذا كانت الرواية وضعها العياشي ليقول بأن الخلفاء الراشدين الثلاثة، وغيرهم من خيرة الصحابة، كفروا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يرى ويروي أن الصحابة الكرام جميعاً ارتدوا عن الإسلام بعد الرسول صلى الله عليه وسلم إلاَّ ثلاثة هم: المقداد وأبو ذر وسلمان الفارسي (2). وتفسيره مملوء محشو بالطعن في الصحابة وتكفيرهم، ونذكر بعض الأمثلة: يروي عن جابر قال: سألت أبا عبدالله صلى الله عليه وسلم عن قول الله:   (1) (2/ 267)، والآية الكريمة هي التسعون في سورة النحل، وحرفها بزيادة " حقه "، ثم جاء التأويل الذي ذهب إليه ليكون تحريفاً آخر، وطعناً في الصديق والفاروق، والصحابة الكرام لأنهم بايعوا كلاً منهما، وهو قول هذا الضال: " ولاية فلان وفلان ". (2) انظر ((تفسير الصافي)) (1 ورقة 148). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 352 وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ [البقرة:165] قال: فقال: هم أولياء فلان وفلان (1) اتخذوهم أئمة من دون الإمام الذي جعل الله للناس، فلذلك قال الله تبارك وتعالى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَاب إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ إلى قوله: مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً [البقرة:165 - 167] قال: ثم قال أبو جعفر: والله يا جابر هم أئمة الظلم وأشياعهم (2).وفي رواية أخرى: أعداء علي هم المخلدون في النار أبد الآبدين، ودهر الداهرين (3).وروى عن عبدالله النجاشي قال: سمعت أبا عبدالله يقول: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا [النساء:63] يعني والله فلاناً وفلاناً, وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ إلى قوله: تَوَّابا رَّحِيمًا [النساء:64] يعني والله النبي وعليًّا بما صنعوا، أي لو جاءوك بها يا علي فاستغفروا مما صنعوا، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء:64 - 65] ثم قال أبو عبدالله: هو والله علي بعينه ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ على لسانك يا رسول الله يعني به ولاية علي وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء:65] لعلي بن أبي طالب (4).وروى عن أبي عبدالله قال: والله لو أن قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجوا البيت، وصاموا شهر رمضان، ثم لم يسلموا إلينا لكانوا بذلك مشركين.   (1) يقصد الخلفاء الراشدين الثلاثة، ومن بايعهم. (2) ((تفسير العياشي)) (1/ 72)، والآيات الكريمة في سورة البقرة من (165/ 167)، ومن الواضح أنها تتحدث عن المشركين عبده الأوثان " ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً."، فجعلها العياشي: من دون الإمام (3) 1/ 73. (4)، (2) (ا /255)، والآيات الكريمة من سورة النساء: من (63 إلى 65)، وقبل هذه الآيات جاء قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا * النساء:61*، فجعل العياشي النفاق لخير الناس بعد الرسول، وهما أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 353 وروى عن جابر عن أبي جعفر قال: سألته عن هذه الآية: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:20 - 21] قال: اَّلذين يدعون من دون الله الأول والثاني والثالث، كذَّبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: والوا علياً واتبعوه، فعادوا علياً ولم يوالوه، ودعوا الناس إلى ولاية أنفسهم، فذلك قول الله: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ قال: وأما قوله: لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا فإنه يعني: لايعبدون شئياً، وَهُمْ يُخْلَقُونَ، فإنه يعني وهم يعبدون، وأما قوله: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء يعني كفارغير مؤمنين، وأما قوله: وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ فإنه يعني أنهم لا يؤمنون، أنهم يشركون، إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فإنه كما قال الله، وأما قوله: فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فإنه يعني لايؤمنون بالرجعة أنها حق، وأما قوله: قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ فإنه يعني قلوبهم كافرة، وأما قوله: وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ فإنه يعني عن ولاية علي مستكبرون، قال الله لمن فعل ذلك وعيداً منه (لاَ جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ عن ولاية علي) (1). ثالثاً جعل الأئمة هم المراد من كلمات الله: في أصول التفسير عند العياشي نجد العنوان التالي (2) "في ما أنزل القرآن " وتحت هذا العنوان يذكر روايات منها: عن أبي جعفر قال: نزل القرآن على أربعة أرباع. ربع فينا، وربع في عدونا، وربع فرائض وأحكام، وربع سنن وأمثال، ولنا كرائم القرآن. وعن أمير المؤمنين قال: نزل القرآن أثلاثاً: ثلث فينا وفي عدونا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام. ونجد عنواناً آخر، وهو: " ما عنى به الآئمة من القرآن " (3) وأشرنا إلى هذا العنوان من قبل، وذكرنا بعض رواياته لبيان التحريف. وأضيف بعض الروايات الأخرى: عن أبي عبدالله قال: من لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكب الفتن. وعن أبي جعفر قال: لنا حق في كتاب الله المحكم من الله، لومحوه فقالوا ليس من عندالله، أو لم يعلموا، لكان سواه. وعنه أيضاً: إذا سمعت الله ذكر أحداً من هذه الأمة بخير فنحن هم، وإذا سمعت الله ذكر قوماً بسوء ممن مضى فهم عدونا. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سموهم بأحسن أمثال القرآن، يعني عترة النبي صلى الله عليه وسلم: هذا عذب فرات فاشربوا، وهذا ملح أجاج فاجتنبوا. وعن عمر بن حنظلة، عن أبي عبدالله، عن قول الله: قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ [الرعد:43]؟ فلما رآني أتتبع هذا وأشباهه من الكتاب قال: حسبك، كل شيء في الكتاب من فاتحته إلى خاتمته مثل هذا فهو في الأئمة عنى به.   (1) (2/ 256: 257)، والآيات الكريمة في سورة النحل: من (20 إلى 23)، وحرفها بزيادة " عن ولاية على " ويقصد بالأول والثاني والثالث: الخلفاء الراشدين المهديين، وبدلاً من أن يستحل دم هذا العياشي أجمعت طائفته على توثيقه وعلو منزلته!! وما وجدنا أحداً من دعاة التقريب يطعن فيه! فماذا يراد بالتقريب إذن؟! (2) ((تفسير العياشي)) (1/ 9). (3) (1/ 13). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 354 هذه بعض الأصول التي وضعها العياشي، ونسبها للأئمة الأطهار حتى يحكم فريته. وفي ظلماتها يمكن معرفة ما عليه هذا التفسير من جعل الأئمة هم المراد من كثير من كلمات القرآن الكريم، وحصر هذا يطول ذكره، ويكفي أن نذكر بعض الأمثلة: يروي العياشي عن سلام عن أبي جعفر في قوله: آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا [البقرة:136] قال: إنما عنى بذلك عليَّا والحسن والحسين وفاطمة، وجرت بعدهم في الأئمة. قال: ثم يرجع القول من الله في الناس فقال: فَإِنْ آمَنُواْ يعني الناس بِمِثْلِ مَآ آمَنتُم بِهِ يعني عليَّا وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من بعدهم فَقَدِ اهْتدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [البقرة:137] (1). وعن أبي عبدالله في قول الله صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً [البقرة:138] قال: الصبغة معرفة أمير المؤمنين بالولاية في الميثاق (2). وعن بريد بن معاوية العجلي عن أبي جعفر قال: قلت له: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143] قال نحن الأمَّة الوسطى، ونحن شهداء الله على خلقه، وحجّتْه في أرضه (3). وعن أبي عبدالله في قوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة: 124] قال: أتمهن بمحمد وعلي والأئمة من ولد علي (4).وعن أبي جعفر أن الولاية هي المراد من قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ [المائدة:66] (5) وعن أبي عبدالله، وعن أبيه، أن أصحاب القائم - أي الإمام الثاني عشر-هم الأمة المعدودة التي قال الله في كتابه: وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ [هود:8] (6). وعن أبي جعفر أن علياً هو المراد من كلمة النور في قوله تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ [الأعراف157] (7). وعن أبي عبدالله في قوله تعالى: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل:16] قال: هم الأئمة (8). وعن أبي جعفر: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ: وهو محمد، وَالإِحْسَانِ: وهو على، وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى [النحل:90] وهو قرابتنا. أمر الله العباد بمودتنا وإيتائنا، ونهاهم عن الفحشاء والمنكر: من بغى على أهل البيت، ودعا إلى غيرنا (9).   (1) (1/ 62)، والآيتان الكريمتان في سورة البقرة: (136، 137)، وقبلهما وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * البقرة:135*?. (2) (1/ 62)، والآية الكريمة هي (رقم 138) من سورة البقرة، أي بعد الآيات السابقة. (3) (1/ 62)، والآية الكريمة هي (رقم 143) من السورة نفسها. (4) (1/ 57)، الآية الكريمة هي (رقم 124) من السورة نفسها أيضاً. (5) (1/ 330)، والآية الكريمة هي (رقم 66) من سورة المائدة. (6) (2/ 140، 141)، والآية الكريمة الثامنة من سورة هود. (7) (2/ 31)، والآية الكريمة هي (رقم 157) من سورة الأعراف. (8) (2/ 256)، والآية الكريمة هي (رقم 16) من سورة النحل. (9) (2/ 267)، وسبق من قبل ذكر رواية أخرى عن أبي عبدالله في التحريف لهذه الأية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 355 والعياشي يرفع الأئمة لمرتبة الألوهية كالقمي: فعند تفسير قوله تعالى: لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ [النحل:51] يروي العياشي عن أبي عبدالله أنه قال: يعني بذلك: ولا تتخذوا إمامين إنما هو إمام واحد (1). وعند قوله عز وجل: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، بقوله: طائعين للأئمة. وفي قوله سبحانه: فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، يروي العياشي أن العمل الصالح: المعرفة بالأئمة، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا: التسليم لعلي، ولا يشرك معه في الخلافة من ليس له ذلك، ولا هو من أهله (2). هذه نماذج كافية لبيان أن العياشي كالقمي في هذا الضلال، وكل ما قيل عن القمي يمكن أن نراه من خلال هذه النماذج، وأختمها بما ختمت به دراستي عن العياشي في كتاب (أثر الإمامة في الفقه الجعفري وأصوله): ص (208، 209) ": وفي سورة (هود) يتحدث عن سبب نزول آيات من (12) إلى (24) فيقول: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمير المؤمنين في آخر صلاته، رافعاً بها صوته يسمع الناس، يقول: " اللهم هب لعلي المودة في صدور المؤمنين، والهيبة والعظمة في صدور المنافقين فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا [مريم:96 - 97] بني أمية. فقال رمع (3): والله لصاع من تمر في شن بال أحب إلي مما سأل محمد ربه، أفلا سأله ملكاً يعضده؟ أو كنزاً يستظهر به على فاقته؟ فأنزل الله فيه عشر آيات من هود أولها فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ [هود:12] إلى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ [هود:13] ولاية علي قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ إلى: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ في ولاية علي فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ [هود:14] لعلي ولايته مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا يعني فلاناً وفلاناً نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ أمير المؤمنين وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً قال: كان ولاية علي في كتاب موسى أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ في ولاية علي إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ إلى قوله: وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ إلى قوله: هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [هود:12 - 24] (4). المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص581   (1) (2/ 261)، والآية الكريمة هي (رقم 51) من سورة النحل. (2) انظر ما سبق في كتابي: ((أثر الإمامة في الفقه الجعفري وأصوله)) – (ص 205). (3) قال المجلسي: " رمع كناية عن عمر لأنه مقلوبه ((بحار الأنوار)) (36/ 101). (4) ((بحار الأنوار)) (36/ 100 - 101)، والآيات ثلاث عشرة لا عشر آيات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 356 المطلب الأول: أصول التفسير عند الطوسي والطبرسي وننتقل بعد هذا الحديث عن أولئك الذين يمثلون شيئا من الاعتدال عند مفسري الجعفرية، وأول هؤلاء شيخ الطائفة في زمانه أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (1). وإذا كان الصدوق والشريف المرتضى من الجعفرية الذين سبقوا للتصدي لحركة التضليل والتشكيك في كتاب الله تعالى، فإن الطوسي أول من تصدى لهذه الحركة بطريقة عملية، حيث ألف تفسيره الكبير (التبيان)، فبين أن القرآن الكريم هو ما بين الدفتين بغير زيادة أو نقصان كما نقلنا من قبل، ثم وضع أسساً للتفسير، وطبقها في تفسيره، فصان كتاب الله تعالى من التحريف في المعنى إلى درجة كبيرة. وننقل هنا ما ذكره الطوسي فيما يتعلق بالتفسير. قال في كتابه (التبيان) (1/ 4 – 6): " اعلم أن الرواية ظاهرة في أخبار أصحابنا بأن تفسير القرآن لا يجوز إلاَّ بالأثر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الأئمة - رضي الله عنهم، الذين قولهم حجة كقول النبي صلى الله عليه وسلم، وأن القول بالرأي فيه لا يجوز والذي نقول في ذلك: إنه لا يجوز أن يكون في كلام الله تعالى وكلام نبيه تناقض وتضاد. وقد قال الله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:3] وقال: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ? [الشعراء:195] وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم:4] وقال: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89] (2) مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شيء [الأنعام:38]، فكيف يجوز أن يصفه بأنه عربي مبين، وأنه بلسان قومه، وأنه بيان للناس، ولا يفهم بظاهره شيء. وهل ذلك إلاَّ وصف له باللغز والمعمى الذي لا يفهم المراد به إلاَّ بعد تفسيره وبيانه. وذلك منزه عنه القرآن. وقد مدح الله أقواماً على استخراج معاني القرآن فقال: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 38، وقال في قوم يذمهم حيث لم يتدبروا القرآن ولم يتفكروا في معانيه: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] محمد:24 [، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي "، فبين أن الكتاب (حجة)،كما أن العترة حجة، وكيف يكون حجة ما لايفهم به شيء؟ وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا جاءكم عني حديث، فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فاقبلوه، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط " وروي مثل ذلك عن أئمتنا رضي الله عنهم، وكيف يمكن العرض على كتاب الله، وهو لا يفهم به شيء؟ وكل ذلك يدل على أن ظاهر هذه الأخبار متروك.] والذي نقول به: إن معاني القرآن على أربعة أقسام: أحدها: ما اختص الله تعالى بالعلم به، فلا يجوز لأحد تكلف القول فيه ولا تعاطي معرفته، وذلك مثل قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ [الأعراف:187]، ومثل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان:34] إلى آخرها. فتعاطي معرفة ما اختص الله تعالى به خطأ.   (1) ولد الطوسي سنة 385 هـ، وهاجر إلى العراق فهبط بغداد، ثم انتقل إلى الكوفة والنجف، كان ينتمى أولاً إلى مذهب الشافعي، ثم أخذ الكلام والأصول عن الشيخ المفيد رأس الإمامية. له كثير من الكتب. توفي سنة 460. راجع ترجمته في ((هدية العارفين)) (2/ 72) " جعل له (تفسيري الطبرسي)! " و ((معجم المؤلفين)) (9/ 202). (2) نص الآية وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ * النحل: 89 *. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 357 وثانيها: ما كان ظاهره مطابقاً لمعناه فكل من عرف اللغة التي خوطب بها عرف معناها، مثل قوله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الأنعام:151]، ومثل قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:]، وغير ذلك. وثالثها: ما هو مجمل لا ينبئ ظاهره عن المراد به مفصلاً، مثل قوله تعالى: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ [البقرة:43]، ومثل قوله تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97]، وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، وقوله: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعلُومٌ [المعارج:24]، وما أشبه ذلك. فإن تفصيل أعداد الصلاة وعدد ركعاتها، وتفصيل مناسك الحج وشروطه، ومقادير النصاب في الزكاة لا يمكن استخراجه إلاَّ ببيان النبي صلى الله عليه وسلم، ووحي من جهة الله تعالى، فتكلف القول في ذلك خطأ ممنوع منه، يمكن أن تكون الأخبار متناولة له. ورابعها: ما كان اللفظ مشتركاً بين معنيين فما زاد عنهما، ويمكن أن يكون كل واحد منهما مراداً. فإنه لا ينبغي أن يقدم أحد به فيقول: إن مراد الله فيه بعض ما يحتمل لأمور، وكل واحد يجوز أن يكون مراداً على التفصيل، والله أعلم بما أراد. ومتى كان اللفظ مشتركاً بين شيئين، أو ما زاد عليها، ودل الدليل على أنه لايجوز أن يريد إلاَّوجهاً واحداً، جاز أن يقال: إنه هو المراد. ومتى قسمنا هذه الأقسام نكون قد قبلنا هذه الأخبار، ولم نردها على وجه يوحش نقلتها والمتمسكين بها، ولا منعنا بذلك من الكلام في تأويل الآي جملة. وقال في موضع آخر: " ينبغي لمن تكلم في تأويل القرآن أن يرجع إلى التاريخ، ويراعي أسباب نزول الآية على ما روي، ولا يقول على الآراء والشهوات " (1) المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص533   (1) ((التبيان)) (9/ 325 - 326). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 358 المطلب الثاني: الفرق بينهما وبين الجمهور هذا ما ذكره الشيخ الطوسي، وهو يتفق مع جمهور المفسرين فيما عدا حديثه عن المشترك، حيث جعل للأئمة ما للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا ليس بمستغرب منه، لأنه يتفق مع عقيدته في الإمامة. ولم يجعل للصحابة الكرام دوراً في التفسير، وهم الذين تلقوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم. والقرن الذي تلاه - أي القرن السادس الهجري - ظهر فيه إمام المفسرين عند الجعفرية أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (1) الذي أخرج كتاباً في التفسير هو (مجمع البيان)، ثم ألف كتاباً آخر أصغر منه أسماه (جوامع الجامع)، وله كتاب ثالث (2). وقد سلك مسلك الشيخ الطوسي، وتأثر به إلى حد كبير، فهما يمثلان جانب الاعتدال النسبي عند مفسري الجعفرية في القديم كما أشرنا من قبل. ومع أنهما يمثلان شيئا من الاعتدال، إلاَّ أن تناولهما لكتاب الله تعالى لم يسلم من التأثر بعقيدتهما في الإمامة، وأهم مظاهر التأثر نراها فيما يأتي: أولاً: اللجوء لتأويل بعض آيات الكتاب المجيد للاستدلال على عقيدة الإمامة: فالذين ذهبوا إلى القول بتحريف القرآن المجيد لم يضطروا للاستدلال على عقيدتهم عن طريق التأويل ما دام هؤلاء الغلاة قد زعموا أن القرآن الكريم نص على الإمامة التي يعتقدونها، أما هما فقد وقفا طويلاً أمام بعض آيات الله تعالى: يؤولان ويجادلان لإثبات عقيدتهم، مثال هذا ما نقلناه عنهما في الجزء الأول، وذلك عند الحديث عن آية الولاية والتطهير وعصمة الأئمة.   (1) توفى سنة 548 هـ. (2) قال صاحب ((الذريعة)) (4/ 310): ((تفسير الكاف الشاف من كتاب الكشاف))، أو الوجيز، هو ثالث تفاسير الطبرسي. والكتاب المذكور وجدته في مكتبة لندن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 359 ثانياً: ذكرهما لبعض القراءات الموضوعة والشاذة ذات الصلة بالمذهب: مثال هذا ما جاء في تفسير سورة آل عمران عند قوله تعالى: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران:33]، فإنهما يذكران أن قراءة أهل البيت " وآل محمد على العالمين " (1).وفي سورة الفرقان عند قوله تعالى: وَاجْعَلْنَا للْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، يفسرها الطوسي بقوله: " بأن يجعلهم ممن يقتدى بأفعالهم الطاعات "، ولكنه يذكر أن قراءة أئمتهم: " وَاجْعَلْ لنَا من الْمُتَّقِينَ إِمَامًا " (2) والطبرسي يذكر للإمام الصادق أقوالاً في هذه الآية الكريمة يجعلها خاصة بأئمة الجعفرية. كقول الإمام فيها: " إيانا عنى " وقوله: " هذه فينا ". ولا يكتفي بهذا بل يذكر ما يتفق مع الغلاة القائلين بالتحريف، فيخطئ ما جاء بالمصحف الشريف ليصل إلى القراءة التي ذكرها الطوسي، والرواية هي: " عن أبي بصير قال: قلت: واجعلنا للمتقين إماماً، فقال:- أي الإمام الصادق: " سألت ربك عظيماً، إنما هي: واجعل لنا من المتقين إماماً " (3).وفي قوله تعالى: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ [الأحزاب:25]، يقول الطوسي: " بالريح والملائكة "، وقيل بعلي، وهي قراءة ابن مسعود، وكذلك هو في مصحفه " (4). وقال الطبرسي: " وكفى الله المؤمنين القتال بالريح والجند، وعن ابن مسعود أنه كان يقرأ: وكفى الله المؤمنين القتال بعلي " (5). وفي قوله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [النساء:24]، يذكران قراءة لتأييد رأي فقهي ارتبط بالمذهب الجعفري، وهو إباحتهم لزواج المتعة، هذه القراءة هي زيادة " إلى أجل مسمى " بعد فما استمعتم به منهن (6).   (1) انظر ((التبيان)) (2/ 441)، و ((مجمع البيان)) (2/ 433). (2) انظر ((التبيان)) (7/ 512). (3) انظر ((جوامع الجامع)) (ص 326). (4) ((التبيان)) (8/ 331). (5) ((جوامع الجامع)) (ص 370). (6) انظر ((التبيان)) (6/ 166)، و ((جوامع الجامع)) (ص 83 – 84) وراجع تحريف القمي لها الذي ذكرناه في (ص 188). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 360 ثالثاً: أسباب النزول: في ذكرهما لبعض أسباب النزول يبدو أثر الإمامة واضحاً، فمثلاً عند قوله تعالى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ [الزخرف:57] (1)، يذكر الطوسي سبب النزول فيقول: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوماً لعلي: " لولا إني أخاف أن يقال فيك ما قالت النصارى في عيسى لقلت فيك قولاً لا تمر بملأ إلاَّ أخذوا التراب من تحت قدميك، أنكر ذلك جماعة من المنافقين وقالوا: لم يرض أن يضرب له مثلاً إلاَّ بالمسيح، فأنزل الله الآية " (2) أما الطبرسي فيذكر سبباً آخر، قال: " المروي عن أهل البيت أن أمير المؤمنين قال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فوجدته في ملأ من قريش، فنظر إلي ثم قال: يا علي، إنما مثلك في هذه الأمة مثل عيسى ابن مريم، أحبه قوم وأفرطوا في حبه فهلكوا، وأبغضه قوم وأفرطوا في بغضه فهلكوا، واقتصد فيه قوم فنجوا، فعظم ذلك عليهم وضحكوا، فنزلت الآية " (3) وفي سورة النحل: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل: 91] قال الطبرسي بأن الإمام الصادق قال: " نزلت هذه الآية في ولاية علي والبيعة له حين قال النبي صلى الله عليه وسلم سلموا على علي بإمرة المؤمنين (4) وفي سورة القلم قال الطبرسي: " لما رأت قريش تقديم النبي صلى الله عليه وسلم علياً قالوا: افتتن به محمد صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: ن وَالْقَلَمِ إلى قوله: بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ، وهم النفر الذين قالوا ما قالوا، وَهُوَ أَعلَمُ بِالْمُهْتَدِين [القلم:1 - 7] علي بن أبي طالب " (5) وسورة عبس سبب نزولها معروف مشهور، ولكن الطوسي يرفض ما ذكره المفسرون (6)،ويذهب إلى أنها " نزلت في رجل من بني أمية كان واقفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أقبل ابن مكتوم تنفر منه وجمع نفسه وعبس في وجهه، وأعرض بوجهه عنه، فحكى الله تعالى ذلك وأنكر معاقبة على ذلك " (7) وإذا وجدنا بين أسباب النزول ما يتصل بالإمام علي وبيعته، وهو لم يصح من طريق، ويقطع برفضه كون النزول في مكة، وسياق الآيات الكريمة كذلك، إلاَّ أنا نجد الأمر يختلف بالنسبة لغير أبي الحسن، مثال هذا ما جاء في سورة الليل: فالطبرسى يورد رواية تبين أن أبا الدحداح هو المراد من قوله تعالى: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى [الليل:5] ثم يقول ... " وعن ابن الزبير قال: إن الآية نزلت في أبي بكر، لأنه اشترى المماليك الذين أسلموا مثل بلال وعامر بن فهيرة وغيرهما، وأعتقهم، والأولى أن تكون الآيات محمولة على عمومها في كل من يعطي حق الله من ماله " (8)   (1) (57: الزخرف)، والسورة الكريمة مكية، فكيف غاب هذا عن الطوسي وهو يذكر هذه الرواية، ويتحدث عن المنافقين! أوجدت جماعات المنافقين في العهد المكى!! (2) ((التبيان)) (9/ 209 –210). (3) ((جوامع الجامع)) (ص 436)، وانظر ((مجمع البيان)) (9/ 53). (4) ((جوامع الجامع)) (ص 249)، وسورة النحل نزلت في العهد المكى كذلك، والبيعة المزعومة قالوا إنها كانت بعد حجة الوداع! (5) ((جوامع الجامع)) (ص 504)، وسورة القلم ليست مكية فحسب، بل من أوائل ما نزل، فهى بعد العلق: أول سور القرآن الكريم نزولاً، وقت أن كان على بن أبي طالب – رضي الله تعالى عنه – صبياً! (6) انظر ((التبيان)) (10/ 268). (7) ((التبيان)) (10/ 269). (8) انظر ((مجمع البيان)) (10/ 501 - 502) .. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 361 أما الطوسي فإنه لا يذكر سبباً للنزول (1). رابعاً: جعل الأئمة هم المراد من كلمات الله:   (1) انظر ((التبيان)) (10/ 363) وما بعدها، وحمل الآيات على عمومها لا ينفى سبب النزول، فكما هو معلوم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وشتان بين موقفهما هنا وموقفهما من الآيات التي وضع المفترون أسباباً لنزولها تتصل بأئمتهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 362 ذكرنا من قبل أن أولئك الغلاة الذين عز عليهم خلو القرآن من ذكر الأئمة ووجوب ولايتهم، ذهبوا إلى القول بالتحريف وإسقاط أسماء الأئمة وآيات الولاية. وهنا نجد الدافع نفسه يدفع الطوسي والطبرسي إلى شيء آخر هو اللجوء إلى تأويل كثير من آي القرآن الكريم حتى يكون للأئمة والولاية ذكر، ولنضرب لذلك بعض الأمثلة التي ما أكثرها! في سورة النساء: وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء: 83]، يروى الطبرسي عن أئمته أن " فضل الله ورحمته النبي وعلي عليهما السلام " (1). وفي نفس السورة وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بهِ قَبْلَ مَوْتِه [النساء: 159] يروي الطبرسي عن الإمامين الباقر والصادق: " حرام على روح امرئ أن تفارق جسدها حتى ترى محمداً وعلياً بحيث تقر عينها أو تسخن " (2). وفي سورة الأعراف وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف: 44] فينقل الطبرسي عن تفسير القمي، عن الإمام الرضا أنه قال: المؤذن أمير المؤمنين علي. ويذكر كذلك أن الإمام عليا قال: أنا ذلك المؤذن، وعن ابن عباس: إن لعلي في كتاب الله أسماء لا يعرفها الناس. ويقول الطبرسي أيضاً: فهو المؤذن بينهم يقول: ألا لعنة الله على الذين كذبوا بولايتي واستخفوا بحقي (3). وعند الحديث عن أصحاب الأعراف في الآيات التالية يقول الطوسي بأن علياً قسيم الجنة والنار، ويزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا علي، كأني بك يوم القيامة وبيدك عصا موسى، تسوق قوماً إلى الجنة وآخرين إلى النار " (4). ويروي الطبرسي عن أمير المؤمنين قال: " نحن نوقف يوم القيامة بين الجنة والنار، فمن نصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنة، ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار " (5). وفي سورة النمل: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ [النمل:82] يذكر الطبرسي أن الإمام علياً هوهذه الدابة، وينقل عن تفسير العياشي ما يفيد هذا (6) وفي سورة محمد: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد: 30] يروي الطبرسي أن لحن القول بغضهم علي بن أبي طالب (7)   (1) ((جوامع الجامع)) (ص 92)، ولكن الطوسي لم يشر لعلي. انظر ((التبيان)) (3/ 274). (2) ((التبيان)) (ص 101)، وأنكر الطوسي هذا قائلاً " لم يجر لمحمد ذكر فيما تقدم، ولا ها هنا ضرورة موجبة لرد الكناية عليه، وما هذه صورته لا تجوز الكناية عنه ((التبيان)) (3/ 387). (3) انظر ((مجمع البيان)) ط مكتبة ((الحياة)) (8/ 63)، والآية الكريمة التالية التي تحدثت عن أولئك الظالمين هي " الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالأخرة كافرون ". ولا ندري أين على وولايته هنا؟ على أن الطوسي لم يذكر علياً هنا. انظر ((التبيان)) (4/ 406). (4) ((التبيان)) (4/ 411)، ومن المعلوم – كما نص القرآن الكريم في أكثر من موضع – أن مثل هذا الأمر يكلف به الملائكة. (5) ((جوامع الجامع)) (ص 146). (6) انظر ((مجمع البيان)) ط مكتبة الحياة 20/ 251، والطوسي أشار إلى أنها من الإنس ولكنه لم يذكر علياً ولا غيره. انظر ((التبيان)) (8/ 119 - 120). (7) انظر ((مجمع البيان)) (9/ 106) ولكن الطوسي لم يشر لهذا، انظر ((التبيان)) (9/ 305) .. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 363 وفي سورة " ق ": أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [ق: 24] يزعم الطبرسي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كان يوم القيامة يقول الله لي ولعلي: " ألقيا في النار من أبغضكما، وأدخلا في الجنة من أحبكما ". وذلك قوله عز اسمه: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (1). ونجد الطوسي والطبرسي لا يقتصران في التأويل على ذكر الإمام علي، فقد جعلا لغيره من الأئمة نصيباً، ومن أمثلة هذا ما نقرؤه عند تأويلهما لقوله تعالى في سورة البقرة: فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة: 37] فالطوسي بعد أن ذكر الروايات المختلفة في تأويل الكلمات يقول: " في أخبارنا توسله - أي آدم- بالنبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، وكل ذلك جائز " (2). والطبرسي بعد ذكره لتلك الروايات يقول:" قيل - وهي رواية تختص بأهل البيت عليهم السلام - إن آدم رأى مكتوباً على العرش أسماء معظمة مكرمة، فسأل عنها، فقيل له: هذه الأسماء أجل الخلق منزلة عند الله تعالى، والأسماء: محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين، فتوسل آدم عليه السلام إلى ربه بهم في قبول توبته ورفع منزلته " (3). ونجد الزعم كذلك بأن الأئمة هم حبل الله (4) في قوله تعالى في سورة آل عمران " الآية 103 ": وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران: 103]. وهم المخاطبون في قوله تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ [النساء:58] فيرويان عن أئمتهما أن هذا أمر لكل واحد من الأئمة أن يسلم الأمر إلى ولي الأمر بعده (5). وهم أولو الأمر في الآية التي تلتها يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [النساء:59] (6) وفي الآية الثالثة والثمانين من نفس السورة: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ [النساء:83] (7). وهم أهل الذكر (8) فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [الأنبياء: 7] وهم المصطفون (9) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر: 32]. وهم من أذن له الرحمن (10) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النبأ: 38].   (1) ((مجمع البيان)) (9/ 147) ولكن الطوسي أيضاً لم يذكر هذا – انظر ((التبيان)) (9/ 366 – 367). (2) ((التبيان)) (1/ 169). (3) ((مجمع البيان)) (1/ 89). (4) ذكر الطبرسي في المراد بحبل الله ثلاثة أقوال: أحدها بأنه القرآن، وثانيها أنه دين الإسلام، وثالثها أنه أئمة الجعفرية، ثم قال: والأولى حمله على الجميع، وأيد قوله بإحدى روايات الغدير التي أثبتنا عدم صحتها في أكثر من كتاب – انظر ((مجمع البيان)) (2/ 482). أما الطوسي فلم يذكر القول الثالث: انظر ((التبيان)) (2/ 545 – 546). (5) انظر ((التبيان)) (3/ 234)، ((جوامع الجامع)) (ص 89). (6) راجع ((التبيان)) (3/ 236 - 237)، و ((جوامع الجامع)) (ص 89). (7) راجع ((التبيان)) (3/ 273)، و ((جوامع الجامع)) (ص 89). (8) انظر ((التبيان)) (7/ 232)، و ((جوامع الجامع)) (ص 289). (9) انظر ((التبيان)) (8/ 243)، و ((جوامع الجامع)) (ص 389). (10) انظر ((مجمع البيان)) (9/ 427)، والطوسي لم يشر لهذا – انظر ((التبيان)) (10/ 249). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 364 والأئمة الذين ورد ذكرهم كثيراً في هذين التفسيرين نجد لولايتهم حظاً من التأويل، فعند قوله تعالى في سورة البقرة " الآية 208 ": يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:208] يرويان عن أصحابهما أن السلم الدخول في الولاية (1). وفي الآية السابعة من سورة المائدة: وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [المائدة:7]. يرويان دخول الولاية في المراد بالميثاق (2). وفي سورة طه " الآية 82 ": وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه: 82] يرويان أن الاهتداء إلى الولاية (3).وسورة محمد " الآية 26 ": ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ [محمد:26]، روى الطبرسي أن ما نزل الله في الولاية (4). وإمامهم الثاني عشر - الإمام المهدي - نجد له ذكراً خاصاً. فعند قوله تعالى في سورة البقرة: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3]، نراهما يدخلان في الإيمان بالغيب ما رواه أصحابهما من زمان غيبة المهدي ووقت خروجه (5).وفي سورة الأنبياء " الآية: 105 ": وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105]، يروي الطبرسي عن الإمام الباقر، أن هؤلاء الوارثين هم أصحاب المهدي في آخر الزمان (6). وفي سورة النور: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور: 55] يرويان عن أئمتهم " هم والله شيعتنا أهل البيت، يفعل ذلك بهم على يد رجل منا، وهو مهدي هذه الأمة " (7). وفي سورة الفتح: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الفتح: 28]، يذكر " أنه إذا خرج المهدي صارالإسلام في جميع البشر، وتبطل الأديان كلها " (8). وبعد: فهذه أهم آثار الإمامة في تفسير هذين الشيخين: الطوسي والطبرسي، وإن كان الثاني - كما يظهر- أكثر تأثراً من شيخ الطائفة، وهما وإن لم يجنبا كتاب الله تعالى هذه الناحية الطائفية -التي ليس لها مستند من كتاب ولا سنة كما أثبتنا - إلاَّ أنهما مع هذا من أكثر الشيعة اعتدالاً، أو أقلهم غلواً. ويبدو البون شاسعاً عند المقارنة بينهما وبين من سبقهما من الغلاة. ولذلك جاء القول بالاعتدال النسبي أو إلى حد ما نتيجة المقارنة بغلاتهم الضالين، وإلا فجانب الغلو والتطرف فيهم، وفي أمثالهم، واضح بين! المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص537   (1) راجع ((التبيان)) (2/ 185)، و ((مجمع البيان)) (2/ 302). (2) راجع ((التبيان)) (3/ 459 – 460)، و ((جوامع الجامع)) (ص 106). (3) انظر ((التبيان)) (7/ 196)، و ((جوامع الجامع)) (ص 284). (4) انظر ((مجمع البيان)) (1/ 105)، والطوسي لم يشر للولاية " انظر ((التبيان)) (9/ 304 – 305) ". (5) انظر ((التبيان)) (9/ 255)، و ((مجمع البيان)) (1/ 38). (6) ((جوامع الجامع)) (ص 296)، وروى الطوسي عن الإمام نفسه قال: " إن ذلك وعد للمؤمنين بأنهم يرثون جميع الأرض " " ((التبيان)) (7/ 284) ". (7) ((جوامع الجامع)) (ص 318)، وانظر ((التبيان)) (7/ 457). (8) ((التبيان)) (9/ 336)، وانظر ((مجمع البيان)) (9/ 127). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 365 المطلب الأول: تفسير الصافي ذكرنا من قبل أن الشيعة بعد هذا في تناولهم لكتاب الله تعالى منهم من سلك منهجا فيه شيء من الاعتدال، أو سلك مسلك الغلو، ومنهم من جمع بين المسلكين أو اقترب من أحدهما. ومن الكتب التي اطلعت عليها: تفسير الصافي، لمحمد بن مرتضى المدعو بمحسن. انتهى مؤلفه من كتابته سنة (1075) هـ. وقد حاول أن يأتي بكل ضلالة جاءت في الكتب الثلاثة التي رزئ بها القرن الثالث الهجري، والتي تحدثنا عنها، وهي تفاسير الحسن العسكري والعياشي والقمي، وزاد كذلك في النقل عن بعض الكتب الأخرى كروايات التحريف والتأويلات الفاسدة التي رواها الكليني في كتابه (الكافي). فهذا الكتاب إذن يمثل جانب الغلو والتطرف، ويعد استمراراً لحركة التضليل والتشكيك، ولذلك نقرأ فيه القول بتحريف القرآن الكريم، ومهاجمة الصحابة الأكرمين، والتأويلات التي تجعل من كتاب الله تعالى كتاباً من كتب فرق الغلاة، وغير ذلك مما ذكرناه عند تناولنا للكتب الثلاثة. فهو يرى أن تفسير القرآن الكريم لا يصح إلاَّ عن طريق أئمة الجعفرية " فكل ما لايخرج من بيتهم فلا تعويل عليه " (1) والرسول صلى الله عليه وسلم فسره لرجل واحد هو الإمام علي (2) ويهاجم من يأخذ التفسير المروي عن الصحابة لأن " أكثرهم كانوا يبطنون النفاق، ويجترئون على الله، ويفترون على رسول الله في عزة وشقاق " (3).وهو يرى أن جل القرآن إنما نزل في أئمة الجعفرية، وفي أوليائهم، وأعدائهم (4) ويذكر روايات كثيرة في تحريف القرآن الكريم (5)، بل يزعم أن في القرآن الكريم من التنافر والتناكر ما يدل على التحريف. مثال هذا ما نصه: " وأما ظهورك على تناكر قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء [النساء:3]، وليس يشبه القسط في اليتامى نكاح النساء، ولا كل النساء أيتاماً، فهو مما قدمت ذكره من إسقاط المنافقين من القرآن، وبين القول في اليتامى وبين نكاح النساء من الخطاب والقصص أكثر من ثلث القرآن " (6).وصاحب الصافي يعقب على روايات التحريف بقوله: " المستفاد من مجموع هذه الأخبار، وغيرها من الروايات عن طريق أهل البيت، أن القرآن الذي بين أظهرنا ليس بتمامه كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، بل منه ما هو خلاف ما أنزل الله، ومنه ما هو مغير محرف، وأنه قد حذف منه أشياء كثيرة، منها اسم علي في كثير من المواضع، ومنها لفظْة آل محمد غير مرة. ومنها أسماء المنافقين في مواضعها، ومنها غير ذلك. وأنه ليس أيضاً على الترتيب المرضي عند الله وعند رسوله " (7).ولا يكتفي بذكر هذه الروايات، والتعقيب عليها، ولكن يذكر آراء الطبرسي والصدوق والطوسي في عدم التحريف، ويرد عليهم بما يبين مدى غلو هذا الضال المضل (8).   (1) ((تفسير الصافي)) (1/ 2). (2) انظر ((تفسير الصافي)) (4/ 11)، وانظر (1/ 6، 7، 8) " نبذ مما جاء في أن علم القرآن كله إنما هو عند أهل البيت ". (3) ((تفسير الصافي)) (1/ 2). (4) انظر ج 1 الورقة الثامنة وما بعدها. (5) انظر (1 / - 18)، والتفسير كله مملوء بذكر آيات كثيرة محرفة. (6) (1/ 17، 18). (7) (1/ 18). (8) انظر (1/ 19، 20)، ومن رده يظهر اعتقاده بأن عندهم قرآناً غير القرآن الكريم الذي بأيدي المسلمين، وأن ما بين الدفتين هو المحرف، وأما قرآنهم فليس بمحرف!! والعجيب أن هذا المتظاهر بالإسلام وحب آل البيت بدلاً من أن يستباح دمه وتحرق كتبه نراه احتل مكاناً عالياً عند كثير من الشيعة الاثني عشرية!. وتفسيره مطبوع ومنتشر في الوسط الشيعي! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 366 ومن أحاديثه عن الصحابة - رضوان الله تعالى عنهم، أنهم كانوا أهل ردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ ثلاثة هم: المقداد, وأبو ذر, وسلمان الفارسي! وأن أربعة اجتمعوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسم، هم: أبو بكر وعمر وابنتاهما عائشة وحفصة (1)!! والكتاب كله يسير في ظلمات الضلال، ولنزد ذلك بياناً ببعض الأمثلة: في أول سورة البقرة الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [البقرة:1 - 2] ينقل عن العياشي عن الإمام الصادق أنه قال: " كتاب علي لا ريب فيه "، ويعقب على هذا بقوله: " ذاك تفسيره، وهذا تأويله، وإضافته الكتاب إلى علي بيانية، يعني أن ذلك إشارة إلى علي. والكتاب عبارة عنه، والمعنى أن ذاك الكتاب الذي هو علي لا مرية فيه ". ثم يفسر المتقين بأنهم الشيعة، ويقول: " وإنما خص المتقين بالاهتداء به لأنهم المنتفعون به " (2).وعند قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] (3) يقول: " كابن أبي وأصحابه، وكالأول والثاني وأضرابهما من المنافقين، الذين زادوا على الكفر الموجب للختم والغشاوة والنفاق، ولا سيما عند نصب أمير المؤمنين للخلافة والإمامة " (4). ثم يذكر ما نقلناه من قبل عن تفسير الحسن العسكري لهذه الآية الكريمة، وذكره للغدير، وخيانة خير أمة أخرجت للناس (5).وفي تفسيره لسورة القدر نراه يتفق مع القمي وينقل عنه ما ذكرناه من قبل، بل يزيد عنه بأن وجود القرآن متعلق بوجود الإمام!! وكلامه بالنص بعد أن ذكر رواية عن الإمام أبي عبدالله بأنه لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن: " وذلك لأن في ليلة القدر ينزل كل سنة من تبيين القرآن وتفسيره ما يتعلق بأمور تلك السنة إلى صاحب الأمر، فلو لم يكن ليلة القدر لم ينزل من أحكام القرآن ما لا بد منه في القضايا المتجددة، وإنما لم ينزل ذلك إذا لم يكن من ينزل عليه، وإذا لم يكن من ينزل عليه لم يكن قرآناً، لأنهما متصاحبان لن يفترقا حتى يردا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حوضه كما ورد في الحديث المتفق عليه " (6). إذن يمكن القول بأن تفسير الصافي لا يقل غلواً عن التفاسير الثلاثة بل زاد عنها. المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص550   (1) انظر هذه المفتريات العجيبة في (1/ 148)، (4/ 133). (2) (1/ 30). (3) (1/ 31) – ويريد بالأول والثاني الخليفتين – رضي الله تعالى عنهما. أفضل المسلمين بعد رسول الله، كما ثبت في النص المتواتر عن الإمام على كرم الله وجهه. (4) راجع (ص 168). (5) انظر (4 ورقة 177). (6) (1 ورقة 23) – والحديث الذي أشار إليه هو الذي أثبتنا عدم صحته من أي طريق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 367 المطلب الثاني: (البرهان في تفسير القرآن) وممن عاصر صاحب الصافي السيد هاشم البحراني " توفي سنة (1107) أو سنة (1109) " وله كتاب: (البرهان في تفسير القرآن) جمع فيه كثيراً من الروايات الجعفرية في تفسير القرآن الكريم (1). والكتاب لا يختلف كثيراً عن تفسير الصافي، فهو يسير في طريق الضلال نفسه، يحرف كتاب الله تعالى نصاً ومعنى، ويطعن في حفظة الكتاب الكريم، وحملة الشريعة من الصحابة الكرام الأطهار، ويذكر من الروايات المفتراة ما يؤيد ضلاله. ونستطيع أن ندرك منهج هذا التفسير الضال المضل، وأثر الإمامة فيه، من الأبواب التي نراها في الجزء الأول قبيل البدء في تفسير السور الكريمة، ومن الأخبار التي أثبتها البحراني في هذا الكتاب، فلنضرب بعض الأمثلة. ذكر البحراني " باب في أن القرآن لم يجمعه كما أنزل إلاَّ الأئمة، وعندهم تأويله ". وتحت هذا الباب نجد ستة وعشرين خبراً (2).وفي " باب فيما نزل عليه القرآن من الأقسام " (3) يذكر عن أمير المؤمنين أنه قال: نزل القرآن أثلاثاً: ثلث فينا وفي عدونا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام. وعن أبي عبدالله: إن القرآن نزل على أربعة أرباع. ويذكر " باب في أن القرآن نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة " (4) و" باب فيما عنى به الأئمة في القرآن"، وفيه، لو قرئ القرآن كما أنزل لألفيتنا فيه مسمين كما سمى من قبلنا (5). ويقول البحراني: وأما ما هو على خلاف ما أنزل الله فهو قوله: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] .. وأما ما هو محرف منه قوله: " لَّكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ الله إِلَيْكَ في علي" كذا نزلت (6).وأما ما تأويله بعد تنزيله: فالأمور التي حدثت في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وبعده، في غصب آل محمد صلى الله عليه وسلم حقهم، وما وعدهم الله تعالى من النصرة على أعدائهم، وما أخبر الله سبحانه به نبيه من أخبار القائم وخروجه، وأخبار الرجعة (7). وأما ما هو مخاطبة لقوم ومعناه لقوم آخرين فقوله: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ [الإسراء:4] أنتم يا معشر أمة محمد (8). وأما الرد على من أنكر الرجعة فقوله: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا [النمل:83] (9) ومن هذا يتضح منهج هذا البحراني، ونزيد لك بياناً بشيء مما جاء في تفسيره للآيات الكريمة. مما جاء في تفسيره للفاتحة: غير المغضوب عليهم النصاب، والضالين [الفاتحة:7] الشكاك الذين لا يعرفون الإمام " ويروي عن أبي جعفر أنه قال: "إن الله عز وجل خلق جبلاً محيطاً بالدنيا، من زبرجدة خضراء، وإنما خضرة السماء من خضرة ذلك الجبل، وخلق خلفه خلقاً لم يفترض عليهم شيئاً مما افترض على خلقه من صلاة وزكاة، وكلهم يلعن رجلين من هذه الأمة سماهما ". ويروي عنه أيضاً أنه قال: " من وراء شمسكم هذه أربعون عين شمس، ما بين عين شمس إلى عين شمس أربعون عاماً، فيها خلق كثير، ما يعلمون أن الله تعالى خلق آدم أو لم يخلقه. وإن من وراء قمركم هذا أربعون قرصاً، وبين القرص إلى القرص أربعون عاماً، فيها خلق كثير لا يعلمون أن الله - عز وجل- خلق آدم أو لم يخلقه، قد ألهموا كما ألهمت النحلة لعنة الأول والثاني في كل الأوقات، وقد وكل بهم ملائكة متى لم يلعنوا عذبوا " (10).وفي أول سورة البقرة يذكر ما رأيناه من قبل في تفسير الصافي فيقول " كتاب علي لا ريب فيه " (11).وهكذا نرى من هذه الأمثلة القليلة (12) أن هذا التفسير كسابقه يسير في طريق الضلال، ويعتبر امتداداً للحركة التي مني بها القرن الثالث، ويمثل جانب الغلو والتطرف. المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص554   (1) راجع اتجاه التأليف في تلك الفترة (ص 82 - 83) من كتاب ((المعالم الجديدة للأصول)). (2) انظر (ص 15 - 17). (3) انظر (ص 21). (4) انظر (ص22). (5) انظر (ص 22، 23). (6) (ص 34)، والآية الكريمة التي حرفها هذا المفتري الضال نصها هو " لَّكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ * النساء:166*. (7) (ص 35). (8) (ص 36)، والآية الكريمة المذكورة هي الرابعة من سورة الإسراء. (9) (ص 37)، والآية الكريمة في سورة النمل 83 وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ * النمل:83*. (10) انظر (ص 47)، ولاحظ بها أخباراً أخرى متشابهة. ويقصد هذا الضال بالأول والثاني خير الناس بعد الرسول، الخليفتين الراشدين أبا بكر وعمر. (11) انظر (ص 53). (12) راجع أيضاً الخبر، الذي نقلناه من تفسير الميزان نقلاً عن هذا التفسير (ص 260). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 368 المطلب الثالث: بحار الأنوار وممن عاصر صاحبي الصافي والبرهان المولى محمد باقر المجلسي، المتوفي سنة (1111) هـ، وهو من أشهر علماء الجعفرية، وله مكانته عندهم. وللمجلسي موسوعته الكبرى (بحار الأنوار)، تحدث فيها عن أشياء كثيرة، يعنينا منها هنا ما يتصل بكتاب الله تعالى، وأثر الإمامة فيه والمجلسي لم يؤلف بحاره للتفسير، وإنما لخدمة المذهب الجعفري الاثني عشري، فالحديث عن القرآن الكريم جاء من هذا الباب. وقد جعل كتاباً للإمام تحته مئات الأبواب، ضمتها مجموعة من أجزاء البحار. ومن هذه الأبواب " أبواب الآيات النازلة فيهم ": أي في الأئمة كما يزعم، وهي تقع في أكثر من ستمائة صفحة في جزأين (1). ومنها كذلك " أبواب الآيات النازلة في شأنه الدالة على فضله وإمامته "، أي في شأن الإمام علي، وهي تقع فيما يقرب من أربعمائة وخمسين صفحة في جزأين كذلك (2). ويكفي أن نذكر عناوين بعض هذه الأبواب ليظهر مدى غلو هذا الضال، فمن أبوابه: باب أنهم - أي الأئمة - آيات الله وبيناته وكتابه (3) وأن الأمانة في القرآن الإمامة (4) وأنهم أنوار الله تعالى وتأويل آيات النور فيهم (5) وتأويل المؤمنين والإيمان والمسلمين والإسلام بهم وبولايتهم ... والكفار والمشركين والكفر والشرك والجبت والطاغون واللات والعزى والأصنام بأعدائهم ومخالفيهم (6) وأنهم خير أمة وخير أئمة أخرجت للناس (7) وأنهم جنب الله ووجه الله ويد الله وأمثالها (8) وأنه - أي الإمام علياً - المؤمن والإيمان والدين والإسلام والبينة والسلام وخير البرية في القرآن الكريم ... وأعداؤه " الكفر والفسوق والعصيان" (9) وأنه أنزل فيه - صلوات الله عليه - الذكر والنور والهدى والتقى في القرآن (10) وأنه النبأ العظيم والآية الكبرى (11). والمجلسي ينقل عن التفاسير الثلاثة الضالة التي ظهرت في القرن الثالث الهجري، وعن غيرهما من كتب غلاة الشيعة، ولكنه لا يكتفي بالنقل، وإنما كثيراً ما يذكر رأيه سواء في هذه الأجزاء أو في غيرها من كتابه (البحار). وإذا كان تأليف الأبواب على هذه الصورة يدل على فساد عقيدته التي تنزل به إلى درك الغلاة، فإن ذكر الآراء يكشف عن حقيقته بوضوح يمنع المماحكة وخلق الأعذار، وهاك بعض ما جاء في كتابه نقل عن (الكافي) ثلاث روايات عن الإمام أبي جعفر قال: نزل جبريل بهذه الآية على محمد صلى الله عليه وسلم: بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللهُ [البقرة:90] في علي " بَغْيا"" وقال: نزل جبرائيل بهده الآية على محمد صلى الله عليه وسلم هكذا: وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا في علي فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ [البقرة:23] وقال: نزل بهذه الآية هكذا: (يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا (في علي) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا) وبعد هذه الروايات قال المجلسي:   (1) الجزءان هما: (23 من ص 167) إلى آخر الجزء (ص 393)، و (ج 24) كله وعدد صفحاته (402). (2) (35 من ص183) إلى آخر الجزء (ص 436)، وج 36 من أوله إلى ص 192. (3) باب (11 ج 23 ص 206 - 211). (4) باب (16 ج 23 ص 273 – 283). (5) باب (18 ج 3 ص 204 - 205). (6) باب 21 ج 23 ص 354 - 390). (7) باب (46 ج 24 ص 153 - 158). (8) باب (53 ج 24 ص 191 - 203). (9) باب (13 ج 35 ص 336 - 352). (10) باب (20 ج 35 ص 394 - 407). (11) باب (25 ج 36 ص 1 - 4). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 369 بيان: قوله: " على عبدنا في علي لعله كان شكهم فيما يتلوه صلى الله عليه وسلم في شأن علي، فرد الله عليهم بأن القرآن معجزة، ولا يمكن أن تكون من عند غيره. وأما الأية الثالثة فصدرها في أوائل سورة النساء هكذا: يَا أَيهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم [النساء:47] وآخرها في آخر تلك السورة هكذا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا النساء:174 [، ولعله سقط من الخبر شيء، وكان اسمه في الموضعين، فسقط آخر الأولى وأول الثانية من البين، أو كان في مصحفهم عليهم السلام إحدى الآيتين كذلك، ولا يتوهم أن قوله: مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم في الأولى ينافي ذلك، إذ يمكن أن يكون على هذا الوجه أيضاً الخطاب إلى أهل الكتاب، فإنهم كانوا مبغضين لعلي لكثرة ما قتل منهم، وكان اسمه مثبتاً عندهم في كتبهم كاسم النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا قوله: أُوتُواْ الْكِتَابَ، وإن احتمل أن يكون المراد بالكتاب القرآن.] وذكر المجلسي بعد هذا روايات أخرى عن الكافي أيضاً فيها آيات محرفة كذلك، وقال عن التحريف في بعضها: " يحتمل التنزيل والتأويل "، واحتمل في موضع آخر وجود الآيات المحرفة في مصحف خاص بأئمتهم كما ذكر من قبل (1). ثم أورد المجلسي ثلاث روايات من (الكافي) عن الإمام أبي عبدالله جعفر الصادق هي (2): عنه في قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [آل عمران:90] قال: نزلت في فلان وفلان وفلان وفلان: آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر، وكفروا حيث عرضت عليهم الولاية حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فعلي مولاه، ثم آمنوا بالبيعة لأمير المؤمنين رضي الله عنه، ثم كفروا حيث مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقروا بالبيعة، ثم ازدادوا كفراً بأخذهم من بايعه بالبيعة لهم، فهؤلاء لم يبق فيهم من الإيمان شيء. وعنه في قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى [محمد:25] فلان وفلان وفلان، ارتدوا عن الإيمان في ترك ولاية أمير المؤمنين رضي الله عنه، قلت: قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ [محمد:26] قال: نزلت والله فيهما وفي أتباعهما، وهو قول الله عز وجل الذي نزل به جبرائيل " ع " على محمد صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ في علي سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ قال: دعوا بني أمية إلى ميثاقهم ألا يصيروا الأمر فينا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعطونا من الخمس شيئاً، وقالوا: إن أعطيناهم إياه لم يحتاجوا إلى شيء، ولا يبالوا ألاَّ يكون الأمر فيهم، فقالوا: سنطيعكم في بعض الأمر الذي دعوتمونا إليه، وهو الخمس ألا نعطيهم منه شيئاً، وقوله: كرهوا ما نزل الله والذي نزل الله ما افترض على خلقه من ولاية أمير المؤمنين، وكان معهم أبو عبيدة، وكان كاتبهم، فأنزل الله: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم [الزخرف:79 - 80]   (1) انظر (23/ 374). (2) راجعها في (23/ 375 – 376). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 370 والرواية الثالثة أنه قال في قوله تعالى " 25: الحج ": وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ [الحج:25]، نزلت فيهم: حيث دخلوا الكعبة، فتعاهدوا وتعاقدوا على كفرهم، وجحودهم بما نزل في أمير المؤمنين رضي الله عنه، فألحدوا في البيت بظلمهم الرسول ووليه، فبعداً للقوم الظالمين. وبعد هذه الرواية قال المجلسي: بيان: قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ [النساء:137] أقول: الآية في سورة النساء هكذا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً [النساء:137]، وفي سورة آل عمران هكذا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ [آل عمران:90]، ولعله - ضم جزءاً من إحدى الآيتين إلى جزء من الأخرى لبيان اتحاد مفادها، ويحتمل أن يكون في مصحفهم " ع " هكذا، والظاهر أن المراد بالإيمان في الموضعين الإقرار باللسان فقط، وبالكفر الإنكار باللسان أيضاً، كما صرح به في تفسير علي بن إبراهيم. قوله: بأخذهم من بايعه بالبيعة: لعل المراد بالموصول أمير المؤمنين رضي الله عنه، والمستتر في قوله: بايعه راجع إلى أبي بكر، والبارز إلى الموصول، ويحتمل أن يكون المستتر راجعاً إلى الموصول، والبارز إليه، أي أخذوا الذين بايعوا أمير المؤمنين يوم الغدير بالبيعة لأبي بكر، ولعله أظهر. قوله: فلان وفلان وفلان: هذه الكنايات يحتمل وجهين: الأول أن يكون المراد بها بعض بني أمية كعثمان وأبي سفيان ومعاوية، فالمراد بالذين كرهوا ما نزل الله أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، إذ ظاهر السياق أن فاعل " قالوا " الضمير الراجع إلى " الذين ارتدوا " والثاني أن يكون المراد بالكنايات أبا بكر وعمر وأبا عبيدة، وضمير " قالوا " راجعاً إلى بني أمية بقرينة كانت عند النزول، والمراد بالذين كرهوا الذين ارتدوا، فيكون من قبيل وضع المظهر في موضع المضمر. نزلت والله فيهما: أي في أبي بكر وعمر، وهو تفسير للذين كرهوا. وقوله: وهو قول الله: تفسير لما نزل الله، وضمير " دعوا " راجع إليهما وأتباعهما، " وقالوا " أي هما وأتباعهما. قوله، في بعض الأمر: لعلهم لم يجترئوا أن يبايعوهم في منع الولاية فبايعوهم في منع الخمس، ثم أطاعوهم في الأمرين جميعاً، ولا يبعد أن تكون كلمة " في " على هذا التأويل تعليلية، أي نطيعكم بسبب الخمس لتعطونا منه شيئا. وقوله: " كرهوا ما نزل الله " إعادة للكلام السابق لبيان أن ما نزل الله في علي هو الولاية، إذ لم يظهر ذلك مما سبق صريحاً، ولعله زيدت الواو في قوله: " والذي " من النساخ، وقيل: قوله مرفوع على قول الله من قبيل عطف التفسير، فإنه لا تصريح في المعطوف عليه، بأن النازل فيهما في أتباعهما كرهوا أم قالوا (1). وبعد أن انتهى المجلسي من بيانه السابق ذكر عشرات الروايات التي تحمل التحريف لكتاب الله تعالى، والتكفير لمن رضي الله عنهم ورضوا عنه من الصحابة الكرام البررة، ثم قال: اعلم أن إطلاق لفظ الشرك والكفر على من لم يعتقد إمامة أمير المؤمنين والأئمة من ولده " ع " وفضل عليهم غيرهم، يدل على أنهم كفار مخلدون في النار (2). ثم أورد ما يؤيد به رأيه، فقال: " قال الشيخ المفيد قدس الله روحه - في كتاب المسائل: اتفقت الإمامية على أن من أنكر إمامة أحد من الأئمة، وجحد ما أوجبه الله تعالى له من فرض الطاعة، فهو كافر ضال مستحق للخلود في النار، وقال في موضع آخر: اتفقت الإمامية على أن أصحاب البدع كلهم كفار، وأن على الإمام أن يستتيبهم عند التمكن بعد الدعوة لهم، وإقامة البينات عليهم، فإن تابوا من بدعهم، وصاروا إلى الصواب وإلا قتلهم لردتهم عن الإيمان، وأن من مات منهم على ذلك فهو من أهل النار ". ومن هذا نرى أن كتاب (بحار الأنوار) للمجلسي يعتبر امتداداً لحركة التضليل والتشكيك في كتاب الله العزيز، ويمثل جانب الغلو والتطرف عند الجعفرية الاثني عشرية. المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص557   (1) (23/ 376 - 378). (2) (23/ 390)، وفي موضع آخر عقد المجلسي باباً كاملاً أسماه " باب كفر الثلاثة ونفاقهم وفضائح أعمالهم " ويعني بالثلاثة الخلفاء الراشدين!! انظر كتابة (8/ 208) إلى 252 طبع حجر ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 371 المطلب الرابع: تأويل الآيات الباهرة والمجلسي ليس أول من عني بجمع الآيات التي أجرم الضالون من طائفته بتحريفها في اللفظ أو المعنى، فمن قبله مثلاً شرف الدين بن علي النجفي الذي ألف كتاباً أسماه (تأويل الآيات الباهرة في فضل العترة الطاهرة)، ونقل المجلسي عنه بعض رواياته (1). والكتاب لا يجمع الآيات تحت أبواب - كما فعل المجلسي، وإنما يسير بترتيب السور الكريمة. وفي ذكره لبعض آيات سورة البقرة يجمع أكثر ما جاء به من التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري. والتحريف في النص يكثر نقله عن القمي، وتلميذه الكليني. ولسنا في حاجة لذكر أمثلة، فالكتاب كله صورة واضحة لهذا الضلال والإضلال (2). وسيأتي ذكر لكثير من كتبهم مثل هذا الكتاب. المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص564   (1) انظر مثلاً ((بحار الأنوار)) (23/ 168). (2) الكتاب مخطوط بدار الكتب المصرية تحت رقم 38 مواعظ شيعة، ومصور بمكتبة جامعة الدول العربية تحت رقم 97 تاريخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 372 المطلب الخامس: تفسير شبر: ويبدو أن حركة التضليل والتشكيك كانت أقوى من الحركة المضادة، ذلك أن الكتب الضالة التي ظهرت في القرن الثالث منها كتاب ينتسب إلى إمام، وآخر لمفسر يوثقونه كل توثيق، أحد تلاميذه هو الكليني، صاحب كتاب (الحديث الأول) عند الجعفرية، وقد نقل عن شيخه القمي مئات الروايات في التحريف والتكفير وغير ذلك، والثالث للعياشي وهو في مكانة القمي عندهم، ولهذا ما وجدت أو قرأت من كتاب من كتب التفسير الجعفري يصل إلى كتاب (التبيان) للطوسي في اعتداله النسبي أو قلة غلوه (1). ولكن ظهر بعض التفاسير التي لم ترتفع إلى هذا المستوى، ولم تنزل إلى ذلك الدرك الأسفل. ومن هذه الكتب تفسير القرآن الكريم للسيد عبدالله شبر. ولنتبين أهم آثار الإمامة في هذا التفسير ومدى غلوه نعرض ما يأتي:   (1) ربما ظهر شيء في السنوات الأخيرة لا علم لي به، وسيأتي الحديث عن ((التفسير الكاشف)) لمغنيه، و ((تفسير البيان)) لمرجعهم الحالي بالعراق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 373 أولا ً: بالنسبة للقول بتحريف القرآن الكريم أو عدم تحريفه لم أجد لشبر نصاً صريحاً، ولكن يبدو أنه يميل إلى القول بالتحريف، ويظهر هذا الترجيح مما يكثر منه على أنه من القراءات، ومن هذه القراءات. في سورة آل عمران الآيات: (102، 104، 110)، فالآية الأولى هي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102] ولكن شبراً يذكر أنها قرئت " تقية " و " مسلّمون " وواضح أن تحريف التقوى بالتقية لتأييد مبدأ من مبادئ الجعفرية، وأما الكلمة الأخرى فيقول عنها شبر " وقرئ بالتشديد أي منقادون للرسول ثم للإمام من بعده " (1) والآية الثانية: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104] يبدل كلمة " أمة " بأئمة (2) أي أئمة الجعفرية. وكذلك فعل في الآية الثالثة: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ [آل عمران:110] فيقول: " هم آل محمد عليهم السلام، وقرئ كنتم خير أئمة " (3). وفي سورة الحجر: قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتقِيمٌ [الحجر:41] يبدل الجار والمجرور باسم الإمام علي فيقول: " صراط عَلِىٍّ بالإضافة (4). وفي سورة الحج: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52] يقول شبر: " وعنهم أي أئمته أو محدث بفتح الدال، هو الإمام يسمع الصوت ولا يرى الملك (5). وغير هذا كثير. ومما يرجح كذلك انضمام شبر إلى القائلين بالتحريف، موقفه من الآية التاسعة من سورة الحجر إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] حيث أولها بقوله: " وإنا له لحافظون عند أهل الذكر واحداً بعد واحد إلى القائم أو في اللوح ... وقيل الضمير للنبي " (6). ثانياً: نجد شبراً ممن يطعن في الصحابة الأبرار، وأمهات المؤمنين الطاهرات: فمثلاً آيات سورة النور التي تحدثت عن الإفك لتبرئة أم المؤمنين السيدة عائشة - رضي الله عنها، نرى شبراً يجعل فيها اتهاماً لمن برأها الله تعالى فيقول: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ تحمل معظمه مِنْهُمْ من الآفكين لَهُ عذَابٌ عَظِيمٌ [النور:11] في الآخرة. أو في الدنيا بجلدهم، نزلت في مارية القبطية وما رمتها به عائشة من أنها حملت بإبراهيم من جريج القبطي، وقيل في عائشة" (7).   (1) ((تفسير شبر)) (ص 96). (2) انظر ((تفسيره)) (ص 96). (3) (ص 97). (4) تفسيره (ص 264). (5) (ص 328)، ومعني هذا التحريف أن الإمام مرسل يوحى إليه! (6) قال الأستاذ محمد حسين الذهبي رحمه الله: " نجد شبراً يعتقد بأن القرآن بدل وحرف، ولما اصطدم بقوله تعالى في الآية التاسعة من سورة الحجر إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * الحجر:9* نجده يتفادى هذا الاصطدام بالتأويل " ثم نقل تأويله للآية الكريمة. " انظر ((التفسير والمفسرون)) (2/ 191) ". (7) (ص 238). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 374 وفي سورة التوبة " الآية 40 ": إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا [التوبة:40] يعز على شبر أن ينزل من السماء تكريم لأبي بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه ولا يكتفي بنفي هذا التكريم، بل يفتري على الله تعالى مرة أخرى، ويجعل من الآية الكريمة اتهاماً لأفضل المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ ولا مدح فيه إذ قد يصحب المؤمن الكافر كما: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ [الكهف:37] لاَ تَحْزَنْ: فإنه خاف على نفسه، وقبض واضطرب حتى كاد أن يدل عليهما، فنهاه عن ذلك إِنَّ اللهَ مَعَنَا عالم بنا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ طمأنينة عَلَيْه ِ على الرسول، وفي إفراده صلى الله عليه وسلم بها ههنا مع اشتراك المؤمنين معه حيث ذكرت ما لايخفى. ثالثاً: نجد شبراً يغالي في أئمته، ويخضع القرآن الكريم لهذا الغلو، فيضيف إلى التحريف في النص تحريفاً في المعنى. انظر مثلاً تأويله لسورة القدر حيث يقول: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا [القدر:4]: جبرائيل أو خلق أعظم من الملائكة بِإِذْنِ رَبِّهِم يأمره كل سنة إلى النبي وبعده إلى أوصيائه، مِّن كُلِّ أَمْرٍ: بكل أمر قدر في تلك السنة أو من أجله، سَلَامٌ هِيَ [القدر:4 - 5]: قدم الخبر للحصر أي ما هي إلاَّ سلامة أو سلام؛ لكثرة سلام الملائكة فيها على ولي الأمر (1). وفي سورة المعارج، بعد أن ذكر أنها مكية، يقول: سَأَلَ سَائِلٌ: دعا داع، بِعَذَابٍ وَاقِعٍ [المعارج:1]: نزلت لما قال بعض المنافقين يوم الغدير: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، فرماه الله بحجر فقتله (2). وفي الآية الثامنة من سورة هود يقول: وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ [هود:8]: أوقات قليلة، قال الصادق: هي أصحاب المهدي عدة أصحاب أهل بدر (3). هذا بعض ما جاء في تفسير شبر، وأظنه يكفي لبيان أثر الإمامة فيه، وهو وإن كان في منزلة بين المنزلتين، إلاَّ أنه إلى الغلو أقرب، وعن الاعتدال أكثر بعداً. المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص565   (1) (ص 562). (2) (ص 531). (3) (ص 228). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 375 المطلب السادس: كنز العرفان هذا لون آخر من التفاسير، وهي تختص بآيات الأحكام فقط، رجعت إلى كتابين أحدهما يمثل جانب الاعتدال النسبي، والآخر سار في طريق الغلاة. الكتاب الأول هو: (كنز العرفان في فقه القرآن)، لمقداد بن عبدالله السيوري الحلي (1) والكتاب ينتصر للأحكام التي استقر عليها رأي الشيعة الجعفرية، مخالفين بها كل المذاهب أو بعضها، فمثلاً عند قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ [المائدة:6]، نراه يقف طويلاً عند عجز الآية، محاولاً إثبات أن الواجب مسح الرجلين لا غسلهما (2). وعند قوله عز وجل: وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]، حاول أن يثبت وجوب رد السلام في أثناء الصلاة (3). والانتصار للفقه الشيعي الجعفري من باحث جعفري أمر متوقع، بل لا ينتظر غيره، ولكنه ينتهي أحياناً إلى آراء أثر الإمامة يبدو فيها واضحاً، ومن أمثلة هذه الأراء ما يأتي: عند قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28] ينتهي إلى أن في الآية أحكاماً هي: أن المشركين أنجاس نجاسة عينية لا حكمية، وأن آثارهم وكل ما باشروه برطوبة نجس أيضاً، وأنه لا يجوز دخولهم المسجد الحرام، وكذا باقي المساجد لنصوص الأئمة. ثم يقول: " لا فرق بينهم وبين الكفار عندنا في جميع ما تقدم للإجماع المركب، فإن كل من قال بنجاستهم عيناً قال بنجاسة كل كافر، ولأن أهل الذمة مشركون " (4). وبالبحث عن باقي الكفار عندهم نجد أن الجعفرية توسعوا في مفهوم الكفر فحكموا بكفر كثير من المسلمين، حتى أن بعضهم اعتبر غير الجعفري كافراً مشركاً. وفي قوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]: يذكر مشروعية الصلاة على الآل تبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وجواز الصلاة عليهم " لا تبعاً له بل إفراداً كقولنا اللهم صلى على آل محمد، بل الواحد منهم لا غير "، وأن الصلاة عليهم واجبة في الصلاة، ومستحبة في غيرها، ثم يقول: " والذين يجب الصلاة عليهم في الصلاة، هم الأئمة المعصومون لإطباق الأصحاب على أنهم هم الآل، ولأن الأمر بذاك مشعر بغاية التعظيم المطلق الذي لا يستوجبه إلاَّ المعصومون، وأما فاطمة عليها السلام فتدخل أيضاً لأنها بضعة منه صلى الله عليه وسلم ".ويذكر كذلك أن أئمته هم القائمون مقام الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن مقام إمامتهم اغتصب (5). وفي قوله سبحانه: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ [النساء: 101] ينتهي إلى أحكام منها قوله: " وجوب القصر، وإن كان عاماً لظاهر الآية، لكنه عندنا مخصوص بما عدا المواضع الأربعة: مسجد مكة، والمدينة، وجامع الكوفة، والحائر الشريف، وعليه إجماع أكثر الأصحاب، لأن الإتمام فيها أفضل، لكونها مواضع شريفة تناسب التكثير من العبادة فيها " (6). المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص570   (1) عاش إلى أوائل القرن التاسع الهجري. (2) انظر (ص 9، 10). (3) انظر (ص 70 - 71). (4) انظر (ص: 21 - 22). (5) انظر كتابه (ص 58 – 61). (6) (ص 88)، وجامع الكوفة فيه محراب أمير المؤمنين على رضي الله عنه، وفيه ضربه بالسيف الشقي اللعين عبدالرحمن بن ملجم. راجع ما كتب عن المسجد ونظرة الشيعة في الجزء الرابع. والمسجد الرابع هو الحاير الحسيني بكربلاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 376 المطلب السابع: زبدة البيان ذلك هو الكتاب الأول، أما الكتاب الثاني فهو (زبدة البيان في أحكام القرآن)، لأحمد بن محمد الشهير بالمقدسي الأردبيلي ولنتبين مدى غلوه، وأثر الإمامة فيه نعرض ما يأتي:- في كتاب الطهارة ذكر أن الإيمان المطلق عند الجعفرية يدخل فيه التصديق والإقرار " بالولاية والإمامة والوصاية لأهل البيت بخصوص كل واحد واحد " (1). ثم قال: فلنشر إلى ما يدل على كون أمير المؤمنين إماماً، وهو غير محصور، ونقتصر على نبذ منه. منه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [المائدة:54]. ومما قاله في الآية الكريمة: " ظاهر أنها في أمير المؤمنين وأصحابه الذين ارتدوا بعده من الخوارج، ومحاربيه يوم الجمل وصفين وغيره ". واستمر لبيان أنها فيه، واستدل بأحاديث لا تصلح للاستدلال هنا، وبأخرى موضوعة، إلى أن قال: وبالجملة الأوصاف كلها موجودة فيه، ويؤيد كونها فيه قوله تعالى متصلاً بالآية المذكورة: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة:55] مع إجماع المفسرين على أنها في شأنه (2).وفي كتاب الصلاة عاد الأردبيلى للحديث عن الآية الخامسة والخمسين من سورة المائدة إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ [المائدة:55] ليستدل بها على إمامة أمير المؤمنين، والأئمة الأحد عشر من ولده الذين تصدقوا في حال ركوعهم كذلك (3). وفي كتاب الطهارة ذكر قوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124]، واستدل بها على وجوب عصمة الأئمة (4). وفي كتاب النكاح: ذكر أول سورة التحريم، وتحدث عن أسباب النزول، ثم قال: " وفي السبب شيء عظيم لحفصة، ولعائشة أعظم، حيث كذبت وغدرت وفتنت، وأمرت بهذه المناكير، وحصل الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم بذلك (5). واستدلالاً بالآية الخامسة: عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا [التحريم:5] قال: " وبالجملة هذه تدل على عدم اتصافهما بهذه الصفات، واتصاف غيرهما بها (6). وبعد ذلك تحدث عن ضرب المثل بامرأة نوح وامرأة لوط، ثم قال:" ولعل فيه تسلية للنبي وغيره من المؤمنين، بأنه لا يستبعد حصول امرأة غير صالحة للنبي وغيره، ودخولها النار، مع كون جسدها مباشراً لجسده، ووجود الزوجية، وهي صريحة في ذلك، والمقصود واضح فافهم. وكذا رجاء من يتقرب بتزويجه وزوجيته صلى الله عليه وسلم، ولهذا كانت أم حبيبة بنت أبي سفيان أخت معاوية أيضاً عنده صلى الله عليه وسلم، وهي إحدى زوجاته، وأبوها كان أكبر رءوس الكفار، وصاحب حروبه صلى الله عليه وسلم وأخرى صفية بنت حيي بن أخطب بعد أن أعتقها، وقد قتل أبوها على الكفر، وأخرى سودة بنت زمعة، وكان أبوها مشركاً ومات عليه، وقيل: قد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنتيه قبل البعثة بكافرين يعبدان الأصنام". بعد هذا لسنا في حاجة إلى ذكر المزيد لبيان أن هذا الكتاب يمثل جانب الغلو والتطرف والضلال المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص573   (1) (ص 10). (2) انظر الكتاب (ص 10 – 14)، وراجع ما كتبته عن ((آية الولاية)) في الجزء الأول. (3) انظر (ص 107 - 110). (4) انظر (47 - 48). (5) (ص 565). (6) (ص: 571). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 377 المطلب الثامن: الميزان بعد الحديث عن كتب للجعفرية الاثني عشرية ظهرت في القرون السابقة أرى أن ننظر فيما كتب علماؤهم المعاصرون، لنرى إلى أي مدى لا يزال التأثر بعقيدة الإمامة في تناولهم لكتاب الله العزيز. ومن أكثر الكتب انتشاراً وشهرة، ولها مكانتها عند شيعة اليوم كتاب (الميزان في تفسير القرآن) ": للسيد محمد حسين الطباطبائي (1). وأهم آثار الإمامة في هذا الكتاب تبدو فيما يأتي:-أولا ً: عندما ينتصر لعقيدته في الإمامة، أو لشيء متصل بها، يقف من التحريف موقفاً غير حميد، ففي الحديث عن آية التطهير سبق أن أوردت قوله الذي يفيد احتمال وضع الصحابة للآيات في غير موضعها حيث قال (16/ 330): " الآية لم تكن بحسب النزول جزءاً من آيات نساء النبي، ولا متصلة بها، وإنما وضعت بينها: إما بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم، أو عند التأليف بعد الرحلة " (2). وعند الحديث عن موقف شبر من التحريف ذكرت ما نسبه لأئمته من زيادة كلمة " أو محدث " بعد قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ [الحج: 52]، وذكرت كذلك (تفسير شبر) للمحدث بأنه الإمام يسمع الصوت ولا يرى الملك. وصاحب (الميزان) نراه يقول: " الروايات في معنى المحدث عن أئمة أهل البيت كثيرة جداً، رواها في (البصائر) و (الكافي) و (الكنز) و (الاختصاص) وغيرها. وتوجد في روايات أهل السنة أيضاً " (3). وإذا كان قوله ينحصر في معنى المحدث، إلاَّ أن روايات أئمته التي أشار إليها تتناول زيادة الكلمة في الآية الكريمة ومعناها (4). أما روايات أهل السنة فنجدها في الصحيحين وغيرهما: ففي البخاري " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر)) (5). وفي مسلم: عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: ((قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون، فإن يك في أمتى منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم)). قال ابن وهب: تفسير محدثون ملهمون " (6).وفي الترمذي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((قد كان يكون الأمم محدثون، فإن يك في أمتي أحد فعمر بن الخطاب)) وزاد الترمذي: " قال سفيان بن عيينة: محدثون يعني مفهمون " (7). فهذه الروايات إذن ليس فيها تحريف للقرآن الكريم، أو زعم استمرار الوحي وسماع صوته. وعند قوله: فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [النساء:24]. روى عن أئمته بأنها إنما نزلت فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [النساء:24]، ثم يعقب بقول عام يبين رأيه في هذه الرواية وأمثالها حيث يقول: " لعل المراد بأمثال هذه الروايات الدلالة على المعنى المراد من الآية دون النزول اللفظي " (8).   (1) سبق ثناؤه على تفسير العياشي – الضال المضل – بدلاً من أن يكفره، مما يبين اتجاه صاحب ((تفسير الميزان)) هذا: فلم ينكر تحريفه للقرآن الكريم، ولا تكفيره للصحابة الكرام، ولا غير ذلك من ضلاله الذي بيناه. (2) راجع ما كتب عن ((آية التطهير)) في الجزء الأول. (3) ((الميزان)) (3/ 240). (4) انظر ((الكافي)) (1/ 176 – 177) " باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدث ". (5) رواه البخاري (3689). (6) مسلم (2398). (7) رواه الترمذي (3693) وقال صحيح ومثله قال الألباني. (8) (4/ 308). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 378 فهو إذن لا يجزم بالتحريف أو عدمه، أي أنه في منزلة بين القمي والطوسي. ثانياً: بينا لجوء الطوسي والطبرسي لتأويل بعض آي القرآن الكريم للاستدلال على عقيدة الإمامة، وهنا نجد صاحب (الميزان) يزيد عنهما غلواً وافتراء، فمثلاً آية الولاية التي تحدثنا عنها في الجزء الأول، نرى الطباطبائى يتناولها في أكثر من عشرين صفحة محاولاً أن يثبت بها الولاية، وضلال من لا يشاركه عقيدته، ويذكر أن علياً حاج أبا بكر بها فاعترف بأن الولاية لعلي (1).وعند قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [النساء:59]. نراه يقول: " على الناس أن يطيعوا الرسول فيما بينه بالوحي، وفيما يراه من الرأي، وأما أولو الأمر منهم - كائنين من كانوا - لا نصيب لهم من الوحي، وإنما شأنهم الرأي الذي يستصوبونه، فلهم افتراض الطاعة نظير ما للرسول في رأيهم وقولهم، ولذلك لما ذكر وجوب الرد والتسليم عند المشاجرة لم يذكرهم بل خص الله والرسول ". (2) ثم قال: " وبالجملة لما لم يكن لأولي الأمر هؤلاء خيرة في الشرائع، ولا عندهم إلا ما لله ورسوله من الحكم - أعني الكتاب والسنة - لم يذكرهم الله سبحانه وتعالى ثانيا، عند ذكر الرد. فلله تعالى إطاعة واحدة وللرسول وأولي الأمر إطاعة واحدة " (3). ويبدو الاعتدال هنا في اختصاص الوحي بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ولكنه جعل رأي أولي الأمر كرأي الرسول سواء بسواء، وطاعتهم داخلة في طاعة الرسول، لينتهي من هذا إلى وجوب عصمتهم والنص عليهم، وأنهم هم أئمة الجعفرية! وذكر روايات تؤيد ما ذهب إليه، فأحال كتاب الله تعالى إلى كتاب من كتب الإمامة عند الجعفرية.   (1) راجع تفسيره (6/ 2: 24). (2) (4/ 413). (3) (4/ 414)، وانظره إلى (ص 439). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 379 ونكتفي هنا بذكر إحدى رواياته، وتعقيبه عليها، ليتضح مدى الغلو والافتراء، وهاك نص الرواية: " في (تفسير البرهان) عن ابن بابويه، بإسناده عن جابر بن عبدالله الأنصارى, لما أنزل الله عز وجل على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [النساء:59] قلت: يا رسول الله عرفنا الله ورسوله، فمن أولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال: هم خلفائي ياجابر، وأئمة المسلمين من بعدي، أولهم علي بن أبي طالب، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر، ستدركه ياجابر، فإذا لقيته فأقرئه مني السلام، ثم الصادق جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم علي بن محمد، ثم الحسين بن علي، ثم سميي محمد وكنيي، حجة الله في أرضه، وبغيته في عباده، ابن الحسن بن علي، ذاك الذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض ومغاربها، ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه بالإيمان. قال جابر: فقلت له: يارسول الله فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أي والذي بعثني بالنبوة إنهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجلاها سحاب، يا جابر هذا من مكنون سر الله ومخزون علم الله فاكتمه إلا عن أهله! " ثم عقب الطباطبائى بقوله: " وعن النعماني ... عن علي في ما معنى الرواية السابقة، ورواها علي بن إبراهيم بإسناده عن سليم عنه، وهناك روايات آخرى من طرق الشيعة وأهل السنة! ومنها ذكر إمامتهم بأسمائهم، من أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى كتاب (ينابيع المودة) وكتاب (غاية المرام) للبحراني، وغيرهما " (1).ثالثاً: وهو يتحدث عن منهجه في التفسير، واستدلاله بالروايات قال: " وضعنا في ذيل البيانات متفرقات من أبحاث روائية، نورد فيها ما تيسر لنا إيراده من الروايات المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأئمة أهل البيت عليهم السلام، من طرق العامة والخاصة. وأما الروايات الواردة عن مفسري الصحابة والتابعين فإنها على ما فيها من الخلط والتناقض لا حجة فيها على مسلم " (2). وبالاطلاع على هذه الأبحاث الروائية وجدنا أنه لا يفترق كثيراً عن القمي والعياشي وأضرابهما، وعنهم أخذ أكثر رواياته، ولنضرب بعض الأمثلة:   (1) (4/ 435 – 436)، وانظر تفسيره إلى (ص 439) تجد روايات أخرى موضوعة كذلك – لتأييد ما ذهب إليه. (2) (1/ 11 - 12). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 380 من هذه الروايات " أن آدم لما أكرمه الله تعالى بإسجاد ملائكته له، وبإدخاله الجنة، قال: هل خلق الله بشراً أفضل مني؟ فعلم الله عز وجل ما وقع في نفسه فناداه، ارفع رأسك يا آدم، وانظر إلى ساق العرش، فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوباً: لا إله إلاَّ الله، محمد رسول الله، علي بن أبي طالب أميرالمؤمنين، وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. فقال آدم: يا رب من هؤلاء؟ فقال عز وجل: يا آدم، هؤلاء ذريتك، وهم خير منك ومن جميع خلقي، ولولاهم ما خلقتك، ولا الجنة ولا النار، ولا السماء ولا الأرض، فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد، فأخرجك عن جواري، فنظر إليهم بعين الحسد وتمنى منزلتهم، فتسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي نهي عنها، وتسلط على حواء فنظرت إلى فاطمة بعين الحسد حتى أكلت من الشجرة كما أكل آدم، فأخرجهما الله تعالى من جنته، وأهبطهما من جواره إلى الأرض ".ثم عقب صاحب (الميزان) بقوله: " وقد ورد هذا المعنى في عدة روايات، بعضها أبسط من هذه الرواية وأطنب، وبعضها أجمل وأوجز " (1). وروى عن الكليني في قوله تعالى " 37: البقرة ": فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ [البقرة:37] قال: " سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ". وعقب بقوله: " وروي هذا المعنى أيضاً الصدوق والعياشي والقمي وغيرهم " (2). وروى عن الكليني أيضاً: " إن الله أعز وأمنع من أن يظلم، أو ينسب نفسه إلى الظلم، ولكنه خلطنا بنفسه، فجعل ظلمنا ظلمه، وولايتنا ولايته، ثم أنزل الله بذلك قرآناً على نبيه فقال: وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [البقرة: 57] , الأعراف:160 [(3)] وعن الكافي كذلك: " إذا جحدوا ولاية أمير المؤمنين فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (4).وعن العياشي أن الإمام الصادق قال: " الذين باءوا بسخط من الله هم الذين جحدوا حق علي وحق الأئمة منا أهل البيت، فباءوا بسخط من الله " (5).وعنه كذلك في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة: 159] عن الإمام الصادق: نحن نعنى بها، والله المستعان، إن الواحد منا إذا صارت إليه لم يكن له أو لم يسعه إلاَّ أن يبين للناس من يكون بعده (6).وعن العياشي أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((لا دين لمن لا تقية له)) (7).وعن القمي والكافي في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24]، رويا أنها نزلت في ولاية الإمام علي (8). ومن هذا كله يتضح أثر الإمامة في هذا التفسير، وهو بلا شك أكثر غلواً من تفسير الطوسي، بل من الطبرسي، وأبحاثه الروائية نقلها من القمي والعياشي والكليني وغيرهم، فهو في هذا لا يكاد يفترق عن باقي الضالين. المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص576   (1) (1/ 144 - 145). (2) (1/ 149). (3) (1/ 193)، والآية هي رقم (57) من سورة البقرة (160): الأعراف. (4) (1/ 219). (5) (4/ 73). (6) ((الميزان)): (1/ 397). (7) (3/ 174). (8) انظر (9/ 59 – 60)، والآية الكريمة في سورة الأنفال: الآية (24). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 381 المطلب التاسع: التفسير الكاشف إذا كان التبيان للطوسي - كما رأينا - هو أكثر الكتب اعتدالاً أو أقلها غلواً، فإن عصرنا شهد بعض الكتب في التفسير الشيعي لا تقل عنه اعتدالا، ولا تزيد عنه غلوا. من هذه التفاسير كتابان: أحدهما (التفسير الكاشف) للعالم الجعفري اللبناني المشهور: محمد جواد مغنية، ومظاهر الاعتدال نراها فيما يأتي: أولاً: في بيانه لمنهجه في التفسير، حيث يقول: اعتمدت - قبل كل شيء - في تفسير الآية وبيان المراد منها على حديث ثبت في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لأنها ترجمان القرآن، والسبيل إلى معرفة معانيه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [الحشر:7]. فإذا لم يكن حديث من السنة اعتمدت ظاهر الآية، وسياقها، لأن المتكلم الحكيم يعتمد في بيان مراده على ما يفهمه المخاطب من دلالة الظاهر، كما أن المخاطب بدوره يأخذ بهذا الظاهر، حتى يثبت العكس. وإذا أوردت آية ثانية في معنى الأولى، وكانت أبين وأوضح، ذكرتهما معاً، لغاية التوضيح، لأن مصدر القرآن واحد، ينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض. وإذا تعارض ظاهر اللفظ مع حكم العقل وبداهته، أولت اللفظ بما يتفق مع العقل باعتباره الدليل والحجة على وجوب العمل بالنقل. وإذا تعارض ظاهر اللفظ مع إجماع المسلمين في كل عصر ومصر على مسألة فقهية حملت الظاهر على الإجماع، كقوله تعالى: إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة: 282] (1) حيث دلت " فاكتبوه " على الوجوب، والإجماع قائم على استحباب كتابة الدين، فأحمل الظاهر على الاستحباب دون الوجوب. أما أقوال المفسرين فلم أتخذ منها حجة قاطعة، ودليلاً مستقلاً، بل مؤيداً ومرجحاً لأحد الوجوه إذا احتمل اللفظ لأكثر من معنى، فلقد بذل المفسرون جهوداً كبرى للكشف عن معاني القرآن وأسراره وإبراز خصائصه وشوارده، وأولوا كتاب الله من العناية ما لم يظفر بمثلها كتاب في أمة من الأمم قديمها أو حديثها. وإن في المفسرين أئمة كباراً في شتى علوم القرآن التي كانت الشغل الشاغل للمسلمين في تاريخهم الطويل، فإذا لم تكن أقوال هؤلاء الأقطاب حجة، كقول المعصوم، فإنها تلقي ضوءاً على المعنى المراد، وتمهد السبيل إلى تفهمه (2). ثانياً: في التزامه بهذا المنهج إلى حد كبير: مثال هذا ما ذكره في تفسير الفاتحة عند قوله تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ [الفاتحة:7] قال: " جاء في بعض الروايات أن المغضوب عليهم هم اليهود، والضالين هم النصارى، ولكن لفظ الآية عام لا تخصيص فيه، ولا استثناء، فكل مطيع تشمله نعمة الله ورحمته، وكل عاص ضال ومغضوب عليه " (3). وعند تفسير الآيات من (111 إلى 113) من سورة البقرة، أشار إلى أن اليهود والنصارى يكفر بعضهم بعضاً، ثم وضع عنواناً نصه: " أيضاً المسلمون يكفر بعضهم بعضاً "، وتحت هذا العنوان قال:   (1) (282): سورة البقرة، والآية كتبت في ((التفسير الكاشف)) خطأ حيث سقط منها " إلى أجل مسمى " (2) (1/ 16). (3) (1/ 35). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 382 وإذا كان اليهود بحكم الطائفة الواحدة، لأن التوراة تعترف بعيسى، والإنجيل يعترف بموسى، فبالأولى أن تكون السنة والشيعة طائفة واحدة، حقيقة وواقعة: لأن كتابهم واحد، وهو القرآن، لا قرآنان، ونبيهم واحد، وهو محمد، لا محمدان، فكيف إذن يكفر بعض من الفريقين إخوانهم في الدين؟ ولو نظرنا إلى هذه الآية: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة: 113]، ولو نظرنا إليها بالمعنى الذي بيناه، واتفق عليه جميع المفسرين، ثم قسنا من يرمي بالكفر أخاه المسلم ـ لو نظرنا إلى الآية، وقسنا هذا بمقياسها لكان أسوأ حالاً ألف مرة من اليهود والنصارى .. لقد كفر اليهود النصارى وكفر النصارى اليهود، وَهُمْ يتْلُونَ الْكِتَابَ أي التوراة والإنجيل، فكيف بالمسلم يكفر أخاه المسلم، وهو يتلو القرآن؟ فليتق الله الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب، وقلوبهم عمى عن معانيه ومراميه (1). وفي تفسير سورة الأنفال " الآيات (72 , 75) تحدث عن المهاجرين والأنصار فقال: ما قرأت شيئاً أبلغ من وصف الإمام زين العابدين " ع " للمهاجرين والأنصار وهو يناجي ربه، ويطلب لهم الرحمة والرضوان بقوله: " اللهم أصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا، وأبلوا البلاء الحسن في نصره، وكاتفوا وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له، حيث أسمعهم حجة رسالاته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته، وانتصروا به، ومن كانوا منطوين على محبته، يرجون تجارة لن تبور في مودته ... فلا تنس لهم اللهم ما تركوا لك وفيك ... وكانوا مع رسولك لك إليك ". وبعد أن ذكر الشيخ مغنية قول الإمام قال: ملحوظة: هذه المناجاة جاءت في الصحيفة السجادية التي تعظمها الشيعة، وتقدس كل حرف منها، وهى رد مفحم لمن قال: إن الشيعة ينالون من مقام الصحابة (2). وفي تفسير سورة الرعد " الآيات 35 , 38 " قال تحت عنوان " الشيعة الإمامية والصحابة ": دأب بعض المأجورين والجاهلين على إثارة الفتن والنعرات بين المسلمين لتشتيت وحدتهم وتفريق كلمتهم، دأبوا على ذلك عن طريق الدس والافتراء على الشيعة الإمامية، وذلك بأن نسبوا إليهم النيل من مقام الصحابة، وتأليه علي، والقول بتحريف القرآن الذي يهتز له العرش ... وما إلى ذلك من الكذب والبهتان ... وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ [الرعد: 36] قال الطبرسي: " يريد الله سبحانه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا به، وصدقوه وأعطوا القرآن، وفرحوا بإنزاله " ... ولو كانوا ينالون من مقام الصحابة لاتجه شيخهم الطبرسي في تفسير هذه الآية إلى غير هذا الوجه (3). وفي تفسير سورة التحريم يقول عن الآية الرابعة: إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4]: أي مالت إلى الحق، ثم يقول مشيراً إلى حفصة وعائشة من أمهات المؤمنين: فإن تابتا وأصلحتا فقد مال قلباهما إلى أمر الله والإخلاص لرسوله، وإن أصرتا على التعاون ضد الرسول فإن الله وليه وناصره، وأيضاً يعينه ويؤازره جبريل، وجميع الملائكة والمؤمنين الصالحين (4).وبعد تفسير سورة الليل يقول: قال الشيخ محمد عبده: روى المفسرون هنا أسباباً للنزول، وأن الآيات نزلت في أبي بكر، ومتى وجد شيء من ذلك في الصحيح لم يمنعا من التصديق به مانع، ولكن معنى الآيات لا يزال عاماً (5).   (1) (1/ 180). (2) (3/ 515). (3) (4/ 412). (4) (7/ 364). (5) (7/ 576). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 383 من هذا نرى أن الشيخ مغنية في تفسيره يمثل جانب الاعتدال النسبي عند الجعفرية في المنهج والتطبيق، وبالطبع لا يخلو تفسيره من التأثر بعقيدته في الإمامة، فعلى سبيل المثال: نراه ينسب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: " ذاك القرآن الصامت وأنا القرآن الناطق " (1)، وناقشنا هذا من قبل (2). كما نراه يتحدث عن عصمة أهل البيت (3)، وعن الإمامة وفكرة العصمة (4). ويتحدث عن المهدي المنتظر في أكثر من موضع (5) غير أنه كان يذكر بعض الأحاديث التي صحت عن طريق أهل السنة. ويتحدث عن التقية ويقول: " من خص التقية بالشيعة فقط، وشنع بها عليهم، فهو إما جاهل، وإما متحامل ". ويفصل القول في الحديث عن الخمس، ويهاجم أبا سفيان وحفيده يزيد، ذاكرا قول الشاعر: فابن حرب للمصطفى وابن هند ... لعلي وللحسين يزيد (6) وفي تفسير سورة آل عمران " الآيات (33 , 37) يضع هذا العنوان: " فاطمة ومريم "، ويذكر تحته حقاً وباطلاً، ويشير إلى أن فاطمة كمريم، وعلي كزكريا، كان كلما دخل عليها وجد عندها رزقاً من عند الله تعالى (7). وفي تفسير سورة النساء " الآيتين (95، 96) يتحدث عن تفسير الآيتين، وتحت عنوان: " علي وأبو بكر "، يجادل ليصل إلى أفضلية علي بجهاده وعلمه، وفي آخر جدله العقيم يقول: منزلة علي من العلم لا تدانيها منزلة واحد من الصحابة على الإطلاق، وكفى شاهداً على ذلك ما تواتر عن الرسول الأعظم ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)) (8). وقد حفظ التراث الإسلامي من علم علي ما لم يحفظه لأبي بكر، ولا لغيره من الصحابة. وفي سورة المائدة: وعند تفسير الآية الثالثة من السورة، تحت عنوان " إكمال الدين وإتمام النعمة "، نراه يتظاهر بأنه يعرض رأي كل من الشيعة والسنة فقط، لينتهي من هذا إلى خلافة علي ‍‍! ويشير إلى كتاب (الغدير) ككتاب قيم، وأن هذا الكتاب ذكر رواة حديث الغدير، وهم (120) صحابياً، (840) تابعاً، (360) إماماً وحافظاً للحديث، وفيهم الحنفي والشافعي وغيرهما، كل ذلك نقله عن كتب السنة. وعند تفسير الآية الخامسة والخمسين من السورة إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة:55] يذكر كغيره أنها نزلت في علي بن أبي طالب. ثم يعود إلى الغدير عند تفسير الآية السابعة والستين من سورة المائدة أيضاً يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ... [المائدة:67] ويذكر أن الشيعة استدلوا بأحاديث رواها أهل السنة (9).وعند تفسير الآية الثالثة والثلاثين من سورة الأحزاب: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33] يذكر ما ذهب إليه الشيعة، وبين أدلتهم، محاولا إثبات صحة ما ذهبوا إليه (10).وفي سورة الشورى، عند تفسير الآية الثالثة والعشرين: قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23]، يقول عن البحر المحيط: هم علي وفاطمة والحسن والحسين، ويقول أيضاً: ونقل بعض المفسرين رواية، في سندها معاوية، ومؤدى هذه الرواية أن معنى الآية: قل يا محمد لقريش: ناشدتكم الرحم أن لا تؤذوني. ثم أخذ يناقش ليثبت أنها في الأربعة (11). هذه بعض الأمثلة التي تبين أثر الإمامة في هذا التفسير، ومع هذا كله فالشيخ مغنية يمثل جانب الاعتدال إلى حد ما في عصرنا الحديث، وتفسيره يبين منهجه الذي يمثل الحق في بعض جوانبه، غير أنه لا يخلو من الغلو والضلال. المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص583   (1) (1/ 10)، (1/ 39). (2) راجع (ص 135) وما بعدها. (3) انظر (1/ 88). (4) (1/ 196 - 199). (5) انظر (1/ 206) (5/ 57) (5/ 302). (6) انظر (3/ 482 - 484). (7) انظر (2/ 50 - 51). (8) رواه الحاكم في ((المستدرك)) (3/ 137) والطبراني في ((الكبير)) (11/ 65) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال يحيى ابن معين في ((تهذيب التهذيب)) (7/ 427): لا أصل له. وقال الإمام أحمد في ((تهذيب التهذيب)) (6/ 320): -فيه- أبو الصلت الهروي روى أحاديث مناكير .. أما هذا فما سمعنا به. وقال ابن الجوزي في ((الموضوعات)) (2/ 115): لا يصح من جميع الوجوه. وحكم الألباني بوضعه في ((السلسلة الضعيفة)) (2955). (9) انظر (3/ 96 – 99). (10) انظر (6/ 216 – 218). (11) انظر (6/ 522 –523). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 384 المطلب العاشر: البيان والكتاب الثاني الذي يمثل جانب الاعتدال، والبعد عن الغلو إلى حد ما ظهر في عصرنا هذا، هو " (البيان في تفسير القرآن) ألفه السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي "، المرجع السابق للجعفرية بالعراق. ومع أن الكتاب لم يظهر منه إلاَّ المجلد الأول الذي يشمل المدخل وتفسير الفاتحة، إلاَّ أننا انتهينا إلى هذا الرأي لما يأتى: أولا ً: جاء في مقدمة الكتاب: " سيجد القارئ إني لا أحيد في تفسيري هذا عن ظواهر الكتاب ومحكماته، وما ثبت بالتواتر أو بالطرق الصحيحة من الآثار الواردة عن أهل بيت العصمة من ذرية الرسول صلى الله عليه وسلم، وما استقل به العقل الفطري الصحيح الذي جعله الله حجة باطنة كما جعل نبيه - صلى الله عليه وعلى آله-وأهل بيته المعصومين عليهم السلام حجة ظاهرة، وسيجد القارئ أيضاً إني كثيراً ما أستعين بالآية على فهم أختها، وأسترشد القرآن إلى إدراك معاني القرآن، ثم أجعل الأثر المروي مرشداً إلى هذه الاستفادة (1).وفي بيانه لأصول التفسير قد فصل ما أجمله هنا (2). ثانيا: أنه قد أسهب وأفاض في إثبات صيانة القرآن الكريم من التحريف (3) وهو لا يكفر المخالفين لطائفته، بل يرى ويروي أن الإسلام يدور مدار الإقرار بالشهادتين (4).ثالثاً: أنه أفاض كذلك في الحديث عن حجية ظواهر القرآن (5). رابعاً: أنه التزم بمنهجه هذا في تفسيره لفاتحة الكتاب، والقارئ لتفسيره يلمس هذا بوضوح. ومع هذا فأثر الإمامة نراه في قوله بصحة إطلاق الأسماء الحسنى على الأئمة (6)، وبوجوب طاعتهم والخضوع لهم والتوسل بهم (7) وفضل السجود على التربة الحسينية (8) وجواز تقبيل قبورهم وتعظيمها (9) وأن عبادتهم لله تعالى لا يرقى إليها إلاَّ المعصوم (10) وأنهم المأذون لهم في الشفاعة فيشفعون للشيعة، فلا يردهم ربهم عز وجل (11). هذا ما جاء في ثنايا تفسيره تأثراً بعقيدته، وهو لا ينزله عن مرتبة الطوسي في تبيانه. وبالطبع نتمنى أن يجعلوا ما يتصل بالإمامة في كتب أخرى غير كتب التفسير، ولكن السيد الخوئي إذا أتم تفسيره على المنهج الذي بينه فإنه أفضل بكثير من الكتب المنتشرة في الوسط الجعفري الآن. وبعد: فهذه الكتب تمثل منهجين مختلفين في التفسير عند شيعة اليوم، يبين أحدهما أن الوسط الجعفري لما يتطهر من أولئك الذين يخضعون كتاب الله العزيز لأهوائهم وشهواتهم تأثراً بعقيدتهم في الإمامة، ويكشف الآخر عن وجود من ينشد الاعتدال، ويحكم العقل لا الهوى إلى حد ما، وإن لم يخل من الغلو والضلال. المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص 592   (1) (ص 22). (2) انظر (ص 421: 427). (3) راجع (ص 215: 278). (4) راجع (ص 509، 563، 564). (5) انظر (ص281 - 291). (6) انظر (ص 461). (7) راجع (ص 499، 501، 502). (8) راجع (ص 505). (9) انظر (508). (10) انظر (ص 510). (11) انظر (ص 515). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 385 المبحث السادس: نظرة عامة لباقي كتب التفسير بعد الدراسة السابقة لستة عشركتابا من كتب التفسير الشيعي ننظر في (الذريعة إلى تصانيف الشيعة) لأقابزرك الطهراني، لمزيد من التوضيح. في كتاب (الذريعة) نجد الإشارة إلى عدد كبير جداً من كتب التفسير الشيعي، ونجد عنوان بعض هذه الكتب يغني عن النظر فيها، فهي مثل ما ذكرته من قبل عند الحديث عن كتاب (تأويل الآيات الباهرة في فضل العترة الطاهرة). وبعض هذه الكتب لا يظهر أثر الإمامة في العنوان ولكن يظهر هذا الأثر عند الإشارة إلى موضوع الكتاب , ونذكر هنا عدداً من هذه الكتب التي حاول أصحابها إخضاع كتاب الله المجيد لأهوائهم، كما نثبت شيئاً من تعليق صاحب كتاب (الذريعة). وترتيب الكتاب ألفبائي، فلا حاجة لذكر الأجزاء والصفحات. آيات الأئمة: فارسي، في بيان الآيات المتعلقة بالإمامة، وفضائل الأئمة، لمؤلفه مير محمد علي الأريجاني الطهراني المتوفي بها سنة (1323). آيات الأئمة: وذكر في حرف التاء بعنوان (تفسير آيات الأئمة) فارسي. قال صاحب (الذريعة): في ذكر آيات تستخرج منها بالزبر والبينات أسماء الأئمة، وبعض أوصافهم وخصوصياتهم، للعالم الكامل ميرزا علي نقي الهمداني، المتوفي عام (1297). (3) (الآيات البينات): أو: (بيان الآيات بالزبر والبينات): قال: للمولى المعاصر يوسف بن أحمد بن يوسف الجيلاني النجفي، استخرج فيه بالزبر والبينة أسامي المعصومين الأربعة عشر، وبعض خصوصياتهم من ستين آية من آيات القرآن. قلت: مراده بالمعصومين الذين أشركهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، الأئمة الاثنا عشر، والسيدة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها. ونلاحظ ثناءه على الضالين، ورضاه وإعجابه بضلالهم، ومشاركته لهم في الغلو والتضليل، وهذا واضح بيّن ملازم لصاحب (الذريعة) وسيأتي ما يؤكد هذا. (4) (آيات الحجة والرجعة): قال: في تفسير الآيات المتعلقة بهم، مع بيان واف، والنكات الدقيقة، وذكر الروايات المروية عنهم في تفسيرها وتأويلها للعلامة الشيخ محمد علي بن المولى حسن علي الهمداني الحاير، المولود سنة (1293). رأيت النسخة الأصلية عنده، استخرج فيها (313) آية من القرآن الشريف على عدد أصحاب الحجة وأنصاره وقت ظهوره. قلت: يشير هنا إلى خرافة الإمام الثاني عشر التي ذكرتها في الجزء السابق، ومثل هذا كتاب (ما نزل من القرآن في صاحب الزمان) لأبي عبدالله الجوهري أحمد بن محمد " انظر (إيضاح المكنون) (2/ 241) "، وغير هذا كتب أخرى سيأتي ذكرها. (5) الآيات النازلة في ذم الجائرين على أهل البيت: للمولى حيدر علي الشرواني. (6) (الآيات النازلة في فضائل العترة الطاهرة): قال: وهي (500) آية من القرآن في فضائل أمناء الرحمن، جمعها مع تفسيرها وبيانها الشيخ تقي الدين عبدالله حاجي ... ويأتي في حرف الميم كتب كثيرة تحت عنوان ما نزل في أهل البيت، أو في علي، أو في صاحب الزمان، كلها في هذا الموضوع. (7) آيات الولاية: فارسي، لميرزا أبي القاسم بن محمد الشيرازي. قال: فسر فيه إحدى وألف آية من كتاب الله العزيز النازلة: خمسمائة منها في حق أهل البيت وولايتهم باتفاق المفسرين - هكذا قال المفترون! - والباقي حسب تفاسير أهل البيت الذين نزل فيهم القرآن، وهم أعرف به، من طرق أصحابنا الإمامية خاصة. قلت: إذن يقصد اتفاق المفسرين جميعاً لا مفسري فرقته خاصة! قدرة عجيبة على الافتراء!! (8) تأويل الآيات: لأبي إسحاق بن مجير الأصفهاني. وآخر: للسيد الأمير روح الأمين الحسيني الأصفهاني. (9) تأويلات القرآن: لكمال الدين أبي الغنائم عبدالرزاق الكاشاني، المتوفي سنة (730). (10) (تأويل الآيات التي تعلق بها أهل الضلال): الجزء: 5 ¦ الصفحة: 386 للمولى عبدالرشيد بن الحسيني بن محمد الإسترابادي. قال: وله كتاب (مناقب النبي والأئمة). قلت: ماذا يريد بأهل الضلال؟ لعله يقصد خير أمة أخرجت للناس كما سيظهر من موقفهم من قوله تعالى في سورة الليل وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى [الليل:17 - 18]، حيث إنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه. (11) (تأويل الآيات الباهرة في فضل العترة الطاهرة): فارسي، لمحمد تقي بن محمد باقر الطهراني الأصفهاني، المتوفي سنة (1322). قلت: سبق الحديث عن كتاب بالعربية يحمل العنوان نفسه. (12) (تأويل الآيات الظاهرة في فضل العترة الطاهرة): للسيد شرف الدين علي الحسيني الإسترابادي، المتوفي سنة (940). قال: جمع فيه تأويل الآيات التي تتضمن مدح أهل البيت، ومدح أوليائهم، وذم أعدائهم من طرقنا، وطرق أهل السنة ـ هكذا قال!! وينقل فيه عن (كنز الفوائد) للشيخ الكراكجي المتوفي سنة (449)، وعن كتاب ما نزل من القرآن في أهل البيت لابن الجحام، الذي سمع منه الدلعكبري سنة (328)، وعن كشف الغمة للأربلي المتوفي سنة (692)، وعن كتب العلامة الحلي. (13) (تأويل الآيات النازلة): قال: في فضل أهل البيت وأوليائهم، يقرب من عشرين ألف بيت لبعض الأصحاب ... قال الفيض في أول كتاب (الصافي): إن جماعة من أصحابنا صنفوا كتباً في تأويل القرآن على هذا النحو، جمعوا فيها ما ورد عنهم في تأويل آيه: إما بهم، أو بشيعتهم، أو بعدوهم، على ترتيب القرآن، وقد رأيت منها كتاباً يقرب من عشرين ألف بيت. (14) (تأويل ما نزل في النبي وآله). (15) (تأويل ما نزل في شيعتهم). (16) (تأويل ما نزل في أعدائهم): قال: هذه الثلاثة كلها لأبي عبدالله محمد بن العباس المعروف بابن الجحام، الذي سمع منه الدلعكبرى سنة (328). وذكر الشيخ - أي الطوسي - في رجاله ثمانية كتب أخرى له أيضاً، لكن النجاشي لم يذكر منها إلا كتاب (المقنع) و (الدواجن) و (ما نزل من القرآن في أهل البيت)، وهذا الكتاب هو الذي مر أنه ينقل عنه السيد شرف الدين علي في كتابه (تأويل الآيات الظاهرة) أحاديث كثيرة. (17) (تفسير الآيات البينات النازلة في فضائل أهل بيت سيد الكائنات): فارسي، للسيد مصطفى بن أبي القاسم الموسوي النجفي - ولد سنة (1320). (18) (تفسير الأئمة لهداية الأمة): لمحمد رضا بن عبدالحسين النصيري الطوسي، عاش في القرن الحادي عشر. قال: وتفسيره هذا كبير، يقال إنه في ثلاثين مجلداً. وديدن هذا المفسر أن يذكر عدة آيات، مع ترجمتها إلى الفارسية، ثم يشرع في تفسير الآيات على ما هو المأثور، وترجمة الأحاديث بالفارسية، ثم تفسيرها بالعربية. وينقل غالباً عن تفسيري العياشي والبيضاوي، وينقل عن كتب الاحتجاج للطبرسي، وتمام تفسير الإمام العسكري، وتمام تفسير القمي ... إلخ. و (مختصر تفسير الأئمة). لمؤلف الأصل، وهو فارسي محض، في ست مجلدات. (19) (تفسير أبي الجارود): قال: اسمه زياد بن منذر، المتوفي سنة (150)، وتنسب إليه الزيدية الجارودية، ويروي تفسيره عن الإمام الباقر أيام استقامته. قلت: يقصد قبل أن يصبح زيدياً، ولعل الصواب: أيام ضلاله البعيد، والإمام الباقر رضي الله عنه بريء مما في هذا التفسير؛ فالقمي أخرجه في تفسيره الذي تحدثنا عنه بالتفصيل. (20) (تفسير الحافظ محمد بن مؤمن النيسابوري): ذكر المؤلف أنه استخرج تفسيره من اثني عشر تفسيراً قال صاحب (الذريعة): ويأتي كتاب: (نزول القرآن في شأن علي) للشيخ محمد بن مؤمن الشيرازي، والظاهر أنه هو الحافظ المذكور. (21) تفسير (المصابيح بما نزل من القرآن في أهل البيت): لأبي العباس أحمد بن الحسن الإسفرائيني. (22) تفسير المنشي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 387 قال: لعله للأمير محمد رضا الحسيني منشي الممالك، المعاصر للشيخ الحر، والساكن بأصفهان حين تأليف " الأمل " سنة (1097)، وصفه فيه بأنه كبير أكثر من ثلاثين مجلداً، عربي وفارسي، جمع فيه الأحاديث وترجمتها، ويظهر من بعض هذه الخصوصيات أنه غير تفسير الأئمة السابق ذكره، وإن شاركه في بعضها. (23) تفسير النعماني: قال: هو أبو عبدالله محمد بن إبراهيم بن جعفر، تلميذ ثقة الإسلام الكليني. جعل مقدمة تفسيره روايات رواها بإسناده إلى الإمام الصادق، وهي التي دونت مفردة مع خطبة مختصرة وتسمى بـ " المحكم والمتشابه "، طبعت في إيران، وقد أوردها بتمامها العلامة المجلسي في مجلد القرآن من البحار. قلت: الكليني، الذي يراه الشيعة ثقة الإسلام، بينت مدى ضلاله وافترائه في الجزء الثالث، وهو تلميذ القمي الذي سبق الحديث عن تفسيره، ويأتي النعماني ليكمل سلسلة الضلال، وعلامتهم المجلسي تحدثنا عنه في هذه الدراسة من قبل، ويبقى تقديرنا وإجلالنا للعالم العابد المجتهد الإمام الصادق، المبرأ مما نسبه إليه هؤلاء الضالون. (24) تفسير ميرزا هادي: قال: ابن السيد علي، من أحفاد مير كلان الهروي البجستاني الخراساني الحائري المعاصر، وهو تكميل لتفسير علي بن إبراهيم القمي بإيراد الأحاديث المروية، من طرق العامة - أي غير فرقته - المطابقة لروايات الأئمة المذكورة في تفسير القمي. قلت: وأي روايات تطابق ما جاء في تفسير هذا الضال ما لم تكن من الروايات الموضوعة؟ (25) تفسير آية وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124] قال: للمولى محمد رفيع الكيلاني، المتوفي بها سنة (1161)، وتفسيره هذا جزء لطيف في الإمامة، وإثبات عصمة الإمام. قلت: ذكرت أقوالهم في هذه الآية الكريمة، وبينت بطلان ما ذهبوا إليه في الجزء السابق، وبينت أن العصمة التي جعلوها لأئمتهم لم يصل إليها خير البشر وهم رسل الله عليهم الصلاة والسلام. (26) تفسير آية إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ [آل عمران:69] لميرزا محمد التنكابني، قال في قصصه إنه يقرب من ألف بيت. قلت: قد يبدو عجيباً أن نورد هذا الكتاب في هذا الموضع، فما علاقة الإمامة بالحديث عن بيت الله الحرام بمكة المكرمة ـ زاده الله تعظيماً وتشريفاً؟! ولكني وجدتهم يقولون هنا: " وفيه بيان تأويله بكربلاء "! فذكرني هذا بقول شاعر هؤلاء القوم الذي ذكره صاحب كتاب (الأرض والتربة الحسينية): ومن حديث كربلا والكعبة ... بان لكربلا علو الرتبة ولنا أن نسأل: أفيكون التقريب وداره بالقاهرة لنؤمن بهذا الكفر الصراح؟ أم يجب أن يكون في طهران لتنقية عقيدتهم حتى يكونوا مثلنا؟ (27) تفسير آية التطهير إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33] ذكر صاحب (الذريعة) أربعة كتب بهذا العنوان، أحدها فارسي. وقولهم في هذه الآية الكريمة ناقشته بتوسع في الجزء السابق. (28) تفسير آية وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [الليل:17] ذكر صاحب (الذريعة) كتابين بهذا العنوان. قلت: الذي دفعهم للكتابة هو ما روي أن الآية الكريمة وما بعدها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، كما روى البزار عن ابن الزبير، والحاكم عن الزبير، وابن أبي حاتم عن عروة. وخير البشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما ثبت بالتواتر عن علي نفسه رضي الله عنهما - يعتبر في نظر هؤلاء القوم مغتصباً للخلافة، ولذلك جعلوه تحت الآيات التي تتحدث عن الكفار والمنافقين، والجبت والطاغوت، وأرادوا أن يبعدوا عنه هذه الآيات الكريمة من سورة الليل. (29) تفسير آية الكرسي: لعطاء الله بن محمود الحسيني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 388 قلت: لا يبدو أي نوع من الربط بين آية الكرسي التي يتحدث فيها رب العزة عن نفسه، وبين الإمامة، غير أنني وجدت في الذريعة القول بأن في هذا التفسير دلالة على تشيع المؤلف، وقوة فهمه، وكثرة علمه، وأنه لا يبعد أن يكون من علماء الدولة الصفوية. ورأينا من قبل أن بعض هؤلاء رفع الأئمة لمرتبة الألوهية، كما أننا نعرف ما أصاب الإسلام على يد الدولة الصفوية الشيعية. (30) تفسير آية كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] لحسين بن دلدار علي. قلت: مر من قبل تحريفهم لهذه الآية الكريمة، حيث ذكروا أنها نزلت هكذا " كنتم خير أئمة ... "، وجعلوها لأئمتهم. هذه بعض كتب التفسير التي ذكرها صاحب (الذريعة) في الهمزة تحت كلمة " آيات "، وفي التاء تحت كلمتي " تأويل " و " تفسير ". ونجد غير هذه الكتب في مواضع أخرى، فمثلاً نراه يقول في (4/ 318): (تفسير نور الأنوار ومصباح الأسرار)، و (نور التوفيق)، و (نور الثقلين)، كلها تأتي - أي تأتي في النون. ويقول في الجزء نفسه ص: (268): (تفسير تنزيل الآيات الباهرة)، وكذا " التنزيل " متعددا، و " التنزيل في أمير المؤمنين "، و " التنزيل من القرآن "، و " التنزيل والتعبير "، يأتي الجميع بعنوان: " التنزيل ". وقال في الجزء الثالث بعد الحديث عن " تأويل الآيات الباهرة في فضل العترة الطاهرة ": قد ذكرنا في الجزء الأول آيات الأئمة، وآيات الفضائل، والآيات النازلة في فضائل العترة الطاهرة، وآيات الولاية، وغيرها. ويأتي في حرف الميم ما يقرب من عشرين كتاباً من تأليفات قدماء المحدثين، بعنوان (ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين) أو في أهل البيت، أو في الحجة، أو في الخمسة وغيرها، وكل واحد من هذه الكتب يصح أن يعد من كتب الحديث، لأنه دون فيه نوع خاص من الأحاديث، أي خصوص ما روي عنهم عليهم السلام في بيان الآيات التي نزلت في فضائل أهل البيت عليهم السلام ومناقبهم، ويصح أن يعد من كتب التفسير: لأنه يذكر فيه تفسير تلك الآيات وتأويلها، وشرحها، وبيان المراد منها، ولا سيما مع ترتيب تلك الآيات في أكثر هذه الكتب على ترتيب سور القرآن, من سورة فاتحة الكتاب إلى سورة الناس كما هو الترتيب في كتب التفاسير. والداعي إلى إفراد القدماء والمتأخرين هذا النوع من الأحاديث واستقلالها بالتأليف هو تخصيص النصف أو الثلث أو الربع من الآيات الشريفة التي وردت أخبار كثيرة على اختلافها في التعبير بأنها نزلت في أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم ومواليهم وأعدائهم، وقد أورد الفيض بعضها بالمقدمة الثالثة في أول الصافي، وذكر وجه عدم التنافي بينها، ودون كل منهم ما وصل إليه من هذا النوع من الحديث ليعرف الناس تفاصيلها. قلت: سبق الحديث عن كتاب (الصافي) وبيان ما وصل إليه من ضلال وتضليل. وما يقوله صاحب (الذريعة) هنا يؤكد ما قلته عن صاحب (تفسير الصافي) وأمثاله من غلاة الشيعة الاثني عشرية. ومن يقرأ الذريعة يلحق مؤلفها بهؤلاء الغلاة الضالين، وقوله آنفاً خير شاهد. وبعد كل ما سبق أعتقد أن معالم التفسير الشيعي الاثني عشري قد اتضحت إلى حد كبير، فدراستنا لستة عشر كتاباً من القرن الثالث إلى العصر الحديث بينت اتجاهات التفسير خلال هذه القرون. ونظرتنا إلى ثلاثين كتاباً مما جاء في كتاب (الذريعة)، جعلت الصورة أكثر وضوحاً، وهذه الكتب منها ما كان في النصف الأول من القرن الثاني، وهو (تفسير أبي الجارود)، ومنها ما هو في العصر الحديث. وتفسير أبي الجارود الذي نقله القمي يشير إلى أن حركة التشكيك والتضليل بدأت مع بداية عصر التدوين، والتفاسير الحديثة الكثيرة تشير إلى استمرار هذه الحركة الضالة، وعدم توقفها. وإلى جانب الثلاثين كتاباً، ذكرت إشارة صاحب (الذريعة) لعشرين كتاباً في موضع واحد، وتعليقه على ما جاء بها، وهذا يدل على ضخامة هذه الحركة الضالة، وربما يعطي السمة الغالبة للتفسير الشيعي، نسأل الله تعالى الهداية والرشاد. المصدر: مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع لعلي السالوس - ص594 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 389 الفصل الثالث عشر: الشيعة ومخالفتهم أهل البيت إن الشيعة حاولوا خداع الناس بأنهم موالون لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم أقرب الناس إلى الصحة والصواب من بين طوائف المسلمين، وأفضلهم وأهداهم لتمسكهم بأقارب النبي صلى الله عليه وسلم وذويه، وإن المتمسكين بأقوالهم، والعاملين بهديهم، والسالكين مسلكهم، والمتتبعين آثارهم وتعاليمهم هم وحدهم لا غيرهم. ولقد فصلنا القول فيما قبل أن القوم لا يقصدون من أهل البيت أهل بيت النبوة، وأنهم لا يوالونهم ولا يحبونهم، بل يريدون ويقصدون من وراء ذلك علياً رضي الله عنه وأولاده المخصوصين المعدودين. ونريد أن نثبت في هذا الباب أن الشيعة لا يقصدون في قولهم إطاعة أهل البيت واتباعهم لا أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ولا أهل بيت علي رضي الله عنه فإنهم لا يهتدون بهديهم. ولا يقتدون برأيهم، ولا ينهجون منهجهم، ولا يسلكون مسلكهم، ولا يتبعون أقوالهم وآراءهم، ولا يطيعونهم في أوامرهم وتعليماتهم بل عكس ذلك, يعارضونهم ويخالفونهم مجاهرين معلنين قولاً وعملاً، ويخالفون آراءهم وصنيعهم مخالفة صريحة. وخاصة في خلفاء النبي الراشدين، وأزواجه الطاهرات المطهرات، وأصحابه البررة، حملة هذا الدين ومبلغين رسالته إلى الآفاق والنفس، وناشرين دين الله، ورافعين راية الله، ومعلنين كلمته، ومجاهدين في سبيله حق جهاده، ومقدمين مضحين كل غال وثمين في رضاه، راجين رحمته، خائفين عذابه، قوامين بالليل، صوامين بالنهار الذين ذكرهم الله عز وجل في كتابه المحكم: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]. ذكرهم فيه جل وعلا: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16]. وقال تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191]. وقال وهو أصدق القائلين حيث يصف أصحاب رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:29]. وقال سبحانه، ما أعظم شأنه، في شركاء غزوة تبوك: لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:117]. كما قال في الذين شاركوه في غزوة الحديبية: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [الفتح: 18 - 19]. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 390 وقال: فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللهِ وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران:195] وشهد بإيمانهم الحقيقي الثابت بقوله: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 74] وذكر السابقين من الأصحاب المهاجرين منهم والأنصار: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100] كما ذكر المهاجرين والأنصار عامة وضمن لهم الفلاح والنجاح بقوله: لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:8 - 9] ويذكر جل مجده المؤمنين المنفقين قبل الفتح - أي فتح مكة - وبعده مثنياً عليهم مادحاً فيهم: لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد:10] ثم يقرن ذكر الأصحاب مع نبيه وصفيه المصطفى صلوات الله وسلامه عليه بدون فاصل حيث يذكرهم جميعاً معاً في قوله عز من قائل: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:68] وأيضاً في قوله: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ [المائدة:55] وأيضاً: وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105] وأيضاً: لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ [التوبة:88] وقال: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8] وأيضاً: بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ [الفتح:12] وقال: فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [الفتح:26] يذكر الله المؤمنين من أمة محمد وعلى رأسهم أصحاب النبي عليه السلام المؤمنين الأولين الحقيقيين قارناً ذكرهم بذكر النبي صلى الله عليه وسلم. وقال سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 391 كما ذكر الله عز وجل خروج نبيه من مكة وهجرته منها مع ذكر خروج أصحابه وهجرتهم حيث قال: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [الممتحنة:1] , كما ذكر صديقه ورفيقه في الغار: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ [التوبة:40] , ويقول في أزواجه المطهرات: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب:6] , ويقول: يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء [الأحزاب:32] وغير ذلك من الآيات الكثيرة الكثيرة. فلنرى الشيعة الزاعمين اتباع أهل البيت، المدّعين موالاتهم وحبهم، ونرى أئمتهم المعصومين - حسب قولهم - آل البيت ماذا يقولون في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وماذا يعتقدون فيهم؟ وهل أهل بيت النبي يبغضون أصحاب نبيهم، ويشتمونهم، بل ويكفرونهم، ويلعنونهم كما يلعنهم هؤلاء المتزعمون؟ أم يوالونهم، ويتواددون إليهم، ويتعاطفونهم ويساعدونهم في مشاكلهم، ويشاورونهم في أمورهم، ويقاسمونهم همومهم وآلامهم، ويشاركونهم في دينهم ودنياهم، ويشاطرونهم الحكم والحكومة، ويبايعونهم على إمرتهم وسلطانهم، ويجاهدون تحت رايتهم، ويأخذون من الغنائم التي تحصل من طريقهم، ويتصاهرون معهم، يتزوجون منهم ويزوجونهم منهم، يسمون أبناءهم بأسمائهم، يذاكرونهم في مجالسهم، ويرجعون إليهم في مسائلهم، ويذكرون فضائلهم ومحامدهم، ويقرّون بفضل أهل الفضل منهم، وعلم أهل العلم، وتقوى المتقين، وطهارة العامة وزهدهم. نسرد هذا كله وقد عاهدنا أن لا نرجع إلا إلى كتب القوم أنفسهم لعل الحق يظهر، والصدق يجلو، والباطل يكبو، والكذب يخبو، اللهم إلا نادراً نذكر شيئاً تأييداً واستشهاداً، لا أصلاً، ولا استدلالاً، ولا استقلالاً، ولا يكون إلزام الخصم إلا من كتبهم هم، وبعباراتهم أنفسهم، ومن أفواه أناس يزعمونهم أئمتهم، وهم منهم براء وقد قيل قديماً: إن السحر ما يقرّبه المسحور. والحق ما يشهد به المنكر، وما نريد من وراء ذلك إلا الإظهار بأن أئمة الحق وأهل البيت ليسوا مع القوم في القليل ولا في الكثير، ولعل الله يهدي به أناساً اغتروا بحب أهل البيت حيث ظنوا أن معتقدات الشيعة وضعها أئمة أهل البيت، وأسسوا قواعدها، ورسخوا أصولها، فهم يحبونهم، ويبغضون أعداءهم - حسب زعمهم - الذين غصبوا حقهم وحرموهم من ميراث النبي، وظلموهم. ويتبين إن شاء الله علاقة الشيعية الحقيقية بآل البيت وعلاقتهم معهم. فها هو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الخليفة الراشد الرابع عندنا، والإمام المعصوم الأول عندهم، وسيد أهل البيت - يذكر أصحاب النبي عامة، ويمدحهم، ويثني عليهم ثناء عاطراً بقوله: لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فما أرى أحداً يشبههم منكم! لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا سجداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم! كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم! إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف، خوفاً من العقاب، ورجاء للثواب" (نهج البلاغة) (ص143) دار الكتاب بيروت 1387هـ‍ بتحقيق صبحي صالح، ومثل ذلك ورد في (الإرشاد) ص126). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 392 وهذا هو سيد أهل البيت يمدح أصحاب النبي عامة، ويرجحهم على أصحابه وشيعته الذين خذلوه في الحروب والقتال، وجبنوا عن لقاء العدو ومواجهتهم، وقعدوا عنه وتركوه وحده، فيقول موازناً بينهم وبين صحابة رسول الله: ولقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا: ما يزيدنا ذلك إلا إيماناً وتسليماً، ومضياً على اللقم، وصبراً على مضض الألم، وجداً في جهاد العدو، ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما: أيهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرة لنا من عدونا، ومرة لعدونا منا، فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت، وأنزل علينا النصر، حتى استقر الإسلام ملقياً جرانه، ومتبوئا أوطانه. ولعمري لو كنا نأتي ما أتيتم، ما قام للدين عمود، ولا اخضر للإيمان عود. وأيم الله لتحتلبنها دماً، ولتتبعنها ندماً" (نهج البلاغة) بتحقيق صبحي صالح (ص91، 92) ط بيروت). ويذكرهم أيضاً مقابل شيعته المنافقين المتخاذلين، ويأسف على ذهابهم بقوله: أين القوم الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرءوا القرآن فأحكموه، وهيجوا إلى القتال فولهوا وله اللقاح إلى أولادها، وسلبوا السيوف أغمادها، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً وصفاً صفاً، بعض هلك وبعض نجا، لا يبشرون بالأحياء ولا يعزون عن الموتى، مرة العيون من البكاء، خمص البطون من الصيام، ذبل الشفاه من الدعاء، صفر الألوان من السهر، على وجوههم غبرة الخاشعين، أولئك إخواني الذاهبون، فحق لنا أن نظمأ إليهم ونعض الأيدي على فراقهم" (نهج البلاغة) بتحقيق صبحي صالح (ص177، 178). ويذكرهم، ويذكر بما فازوا به من نعيم الدنيا والآخرة، ولهم حظ وافر من كرم الله وإحسانه، حيث يقول: واعلموا عباد الله أن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، وأكلوها بأفضل ما أكلت، فحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبرون، ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلغ والمتجر الرابح، أصابوا لذة زهد الدنيا في دنياهم، وتيقنوا أنهم جيران الله غداً في آخرتهم، لا ترد لهم دعوة ولا ينقص لهم نصيب من لذة" (نهج البلاغة) (ص383) بتحقيق صبحي صالح). ويمدح المهاجرين من الصحابة في جواب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما فيقول: فاز أهل السبق بسبقهم، وذهب المهاجرون الأولون بفضلهم (نهج البلاغة) (ص383) بتحقيق صبحي صالح). وأيضاً: "وفي المهاجرين خير كثير تعرفه، جزاهم الله خير الجزاء" (نهج البلاغة) (ص383) بتحقيق صبحي صالح). كما مدح الأنصار من أصحاب محمد عليه السلام بقوله: هم والله ربوا الإسلام كما يربي الفلو مع غنائهم، بأيديهم السباط، وألسنتهم السلاط" (نهج البلاغة) (ص557) تحقيق صبحي صالح). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 393 ومدحهم مدحاً بالغاً موازناً أصحابه ومعاوية مع أنصار النبي بقوله: أما بعد! أيها الناس فوالله لأهل مصركم في الأمصار أكثر من الأنصار في العرب، وما كانوا يوم أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمنعوه ومن معه من المهاجرين حتى يبلغ رسالات ربه إلا قبيلتين صغير مولدها، وما هما بأقدم العرب ميلاداً، ولا بأكثرهم عدداً، فلما آووا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ونصروا الله ودينه، رمتهم العرب عن قوس واحدة، وتحالفت عليهم اليهود، وغزتهم اليهود والقبائل قبيلة بعد قبيلة، فتجردوا لنصرة دين الله، وقطعوا ما بينهم وبين العرب من الحبائل وما بينهم وبين اليهود من العهود، ونصبوا لأهل نجد وتهامة وأهل مكة واليمامة وأهل الحزن والسهل (وأقاموا) قناة الدين، وتصبروا تحت أحلاس الجلاد حتى دانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم العرب، ورأى فيهم قرة العين قبل أن يقبضه الله إليه، فأنتم في الناس أكثر من أولئك في أهل ذلك الزمان من العرب". (الغارات) (2/ 479، 480). وسيد الرسل نفسه يمدح الأنصار حسب قول الشيعة "اللهم اغفر للأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، يا معشر الأنصار! أما ترضون أن ينصرف الناس بالشاه والنعم، وفي سهمكم رسول الله صلى الله عليه وسلم " (تفسير منهج الصادقين) (4/ 240) أيضاً (كشف الغمة) (1/ 224). وكذلك "قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الأنصار كرشي وعيني، ولو سلك الناس واديا، وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار)) (تفسير منهج الصادقين) (4/ 240) أيضاً (كشف الغمة) (1/ 224). ويروي المجلسي وهو الملا محمد باقر بن محمد تقي المجلسي، ولد سنة 1037هـ‍، ومات سنة 1110هـ‍، من ألد أعداء السنة وخصومهم، ولم ير مثله في الشيعة المتأخرين سليط اللسان، بذياً، فاحشاً، لا يتكلم بكلمة إلا ويتدفق الفحش والهجاء من كلامه، يسمونه "خاتمة المجتهدين" و"إمام الأئمة في المتأخرين"، يقول القمي: المجلسي إذا أطلق فهو شيخ الإسلام والمسلمين، مروج المذهب والدين، الإمام، العلامة، المحقق، المدقق ... لم يوفق أحد في الإسلام مثل ما وفق هذا الشيخ العزم وأمير الخضم والطود الأشم من ترويج المذهب، وإعلاء كلمة الحق، وكسر صولة المبتدعين، وقمع زخارف الملحدين، وإحياء دارس سنن الدين المبين، ونشر آثار أئمة المسلمين بطرق عديدة وأنحاء مختلفة أجلها وأبقاها الرائقة الأنيقة الكثيرة" (الكنى والألقاب) (3/ 121). وقال الخوانساري: هذا الشيخ كان إماماً في وقته في علم الحديث وسائر العلوم، وشيخ الإسلام بدار السلطنة أصفهان، رئيساً فيها بالرياسة الدينية والدنيوية، إماماً في الجمعة والجامعة ... ولشيخنا المذكور مصنفات منها كتاب (بحار الأنوار) الذي جمع فيه جميع العلوم وهو يشتمل على مجلدات، وكتب كثيرة في العربية والفارسية" (روضات الجنات) (2/ 78) وما بعد) عن الطوسي رواية موثوقة عن علي بن أبي طالب أنه قال لأصحابه: أوصيكم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تسبوهم، فإنهم أصحاب نبيكم، وهم أصحابه الذين لم يبتدعوا في الدين شيئاً، ولم يوقروا صاحب بدعة، نعم! أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في هؤلاء" (حياة القلوب) للمجلسي" (2/ 621). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 394 ويمدح المهاجرين والأنصار معاً حيث يجعل في أيديهم الخيار لتعيين الإمام وانتخابه، وهم أهل الحل والعقد في القرن الأول من بين المسلمين وليس لأحد أن يرد عليهم، ويتصرف بدونهم، ويعرض عن كلمتهم، لأنهم هم الأهل للمسلمين والأساس كما كتب لأمير الشام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما رداً عليه دعواه بإمرة المؤمنين وحكم المسلمين، فإن الإمام من جعله أصحاب محمد إماماً لا غير، فها هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه يذكّر معاوية بهذه الحقيقة ويستدل بها على أحقيته بالإمامة، والكلام من كتاب القوم. "إنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضى، فإن خرج منهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبي قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى" (نهج البلاغة) (3/ 7) ط بيروت تحقيق محمد عبده و (ص367) تحقيق صبحي). فماذا موقف الشيعة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن كلامه هذا حيث يجعل: أولاً: الشورى بين المهاجرين والأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبيدهم الحل والعقد رغم أنوف القوم. ثانياً: اتفاقهم على شخص سبب لمرضات الله وعلامة لموافقته سبحانه وتعالى إياهم. ثالثاً: لا تنعقد الإمامة في زمانهم دونهم، وبغير اختيارهم ورضاهم (وقد حل الإشكال من هذا أيضاً بأن الإمامة والخلافة في الإسلام لا تنعقد إلا بالشورى والانتخاب، لا بالتعيين والوصية والتنصيص كما يزعمه الشيعة مخالفين نصوص أئمتهم ومعصوميهم حسب زعمهم). رابعاً: لا يرد قولهم ولا يخرج من حكمهم (أي الصحابة) إلا المبتدع أو الباغي، والمتبع والسالك غير سبيل المؤمنين. خامساً: يقاتل مخالف الصحابة، ويحكم السيف فيه. سادساً: وفوق ذلك يعاقب عند الله لمخالفته رفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبائه، المهاجرين منهم والأنصار رضي الله عنهم ورضوا عنه وأولاد عليّ على شاكلته. فها هو علي بن الحسين الملقب بزين العابدين - الإمام المعصوم الرابع عند القوم - وسيد أهل البيت في زمانه يذكر أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، ويدعو لهم في صلاته بالرحمة والمغفرة لنصرتهم سيد الخلق في نشر دعوة التوحيد وتبليغ رسالة الله إلى خلقه فيقول: فاذكرهم منك بمغفرة ورضوان اللهم وأصحاب محمد خاصة، الذين أحسنوا الصحابة، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكاتفوه وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلقوا بعروته، وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته، اللهم ما تركوا لك وفيك، وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا الحق عليك، وكانوا من ذلك لك وإليك، واشكرهم على هجرتهم فيك ديارهم وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه ومن كثرة في اعتزاز دينك إلى أقله، اللهم وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان خير جزائك، الذين قصدوا سمتهم، وتحروا جهتهم، لو مضوا إلى شاكلتهم لم يثنهم ريب في بصيرتهم، ولم يختلجهم شك في قفو آثارهم والائتمام بهداية منارهم مكانفين وموازرين لهم، يدينون بدينهم، ويهتدون بهديهم، يتفقون عليهم، ولا يتهمونهم فيما أدوا إليهم" (صحيفة كاملة لزين العابدين (ص13) ط مطبعة طبي كلكته الهند 1248هـ‍). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 395 وواحد من أبنائه حسن بن علي المعروف بالحسن العسكري - الإمام الحادي عشر عند القوم - يقول في تفسيره: إن كليم الله موسى سأل ربه هل في أصحاب الأنبياء أكرم عندك من صحابتي؟ قال الله: يا موسى! أما علمت أن فضل صحابة محمد صلى الله عليه وسلم على جميع صحابة المرسلين كفضل محمد صلى الله عليه وسلم على جميع المرسلين والنبيين" (تفسير الحسن العسكري) (ص65) ط الهند، وأيضاً (البرهان) (3/ 228) واللفظ له). وكتب بعد ذلك في تفسير الحسن العسكري "إن رجلاً ممن يبغض آل محمد وأصحابه الخيرين أو واحداً منهم يعذبه الله عذاباً لو قسم على مثل عدد خلق الله لأهلكهم أجمعين" (تفسير الحسن العسكري) (ص196). ولأجل ذلك قال جده الأكبر علي بن موسى الملقب بالرضا - الإمام الثامن عند الشيعة - حينما سئل "عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهديتم (وينبغي الانتباه أننا ننقل هذه الرواية من الشيعة أنفسهم، فالرواية روايتهم وهي حجة عليهم). وعن قوله عليه السلام: دعوا لي أصحابي:؟ فقال عليه السلام: هذا صحيح" (نص ما ذكره الرضا نقلاً عن كتاب (عيون أخبار الرضا) لابن بابويه القمي الملقب بالصدوق تحت قول النبي: أصحابي كالنجوم (2/ 87). هذا ونقل ما قاله ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وابن عم علي رضي الله عنه عبد الله بن عباس - فقيه أهل البيت وعامل علي رضي الله عنه - أنه قال في حق الصحابة: إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماءه خص نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بصحابة آثروه على الأنفس والأموال، وبذلوا النفوس دونه في كل حال، ووصفهم الله في كتابه فقال: رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، قاموا بمعالم الدين، وناصحوا الاجتهاد للمسلمين، حتى تهذبت طرقه، وقويت أسبابه، وظهرت آلاء الله، واستقر دينه، ووضحت أعلامه، وأذل بهم الشرك، وأزال رؤوسه ومحا دعائمه، وصارت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى، فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزاكية، والأرواح الطاهرة العالية، فقد كانوا في الحياة لله أولياء، وكانوا بعد الموت أحياء، وكانوا لعباد الله نصحاء، رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها، وخرجوا من الدنيا وهم بعد فيها" (مروج الذهب) (3/ 52، 53) دار الأندلس بيروت). ويروي ابن علي بن زين العابدين محمد الباقر رواية تنفي النفاق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتثبت لهم الإيمان ومحبة الله عز وجل كما أوردها العياشي والبحراني (هو هاشم بن سليمان بن إسماعيل، ولد في قرية من القرى "التوبلي" في منتصف القرن الحادي عشر ومات في السنة 1107هـ‍. قال فيه الخوانساري "فاضل عالم ماهر مدق فقيه عارف بالتفسير والعربية والرجال، وكان محدثاً فاضلاً، جامعاً متتبعاً للأخبار بما لم يسبق إليه السابق سوى شيخنا المجلسي، ومن مصنفاته (البرهان في تفسير القرآن) (روضات الجنات) (8/ 181) أيضاً أعيان الشيعة") في تفسيريهما تحت قول الله عز وجل: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 396 عن سلام قال: كنت عند أبي جعفر، فدخل عليه حمران بن أعين، فسأله عن أشياء، فلما هم حمران بالقيام قال لأبي جعفر عليه السلام: أخبرك أطال الله بقاك وأمتعنا بك، إنا نأتيك فما نخرج من عندك حتى ترق قلوبنا، وتسلوا أنفسنا عن الدنيا، وتهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثم نخرج من عندك، فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا؟ قال: فقال أبو جعفر عليه السلام: إنما هي القلوب مرة يصعب عليها الأمر ومرة يسهل، ثم قال أبو جعفر: أما إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله نخاف علينا النفاق، قال: فقال لهم: ولم تخافون ذلك؟ قالوا: إنا إذا كنا عندك فذكرتنا روعنا، ووجلنا، نسينا الدنيا وزهدنا فيها حتى كأنا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك، فإذا خرجنا من عندك، ودخلنا هذه البيوت، وشممنا الأولاد، ورأينا العيال والأهل والمال، يكاد أن نحول عن الحال التي كنا عليها عندك، وحتى كأنا لم نكن على شيء، أفتخاف علينا أن يكون هذا النفاق؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا، هذا من خطوات الشيطان. ليرغبنكم في الدنيا، والله لو أنكم تدومون على الحال التي تكونون عليها وأنتم عندي في الحال التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة، ومشيتم على الماء، ولولا أنكم تذنبون، فتستغفرون الله لخلق الله خلقاً لكي يذنبوا، ثم يستغفروا، فيغفر الله لهم، إن المؤمن مفتن تواب، أما تسمع لقوله: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ [البقرة:222] وقال: اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ [هود:] 52 (تفسير العياشي) (1 ص109، و "البرهان" ج1 ص215). وأما ابن الباقر جعفر الملقب بالصادق يقول: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألفا، ثمانية آلاف من المدينة، وألفان من مكة، وألفان من الطلقاء، ولم ير فيهم قدري ولا مرجئ ولا حروري ولا معتزلي، ولا صاحب رأي، كانوا يبكون الليل والنهار ويقولون: اقبض أرواحنا من قبل أن نأكل خبز الخمير" كتاب (الخصال) للقمي (ص640) ط مكتبة الصدوق طهران). هذا ولقد روي علي بن موسى الرضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من زارني في حياتي أو بعد موتي فقد زار الله تعالى" (عيون أخبار الرضا) لابن بابويه القمي (1/ 115). ورسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين وسيد الخلائق نفسه يشهد لأصحابه بالسعادة والجنة حيث يقول، ويرويه القمي (هو أبو جعفر محمد بن علي بن الحسن بن بابويه القمي الملقب بالصدوق، من مواليد أوائل القرن الرابع من الهجرة، وتوفي سنة (381) من الهجرة، ونشأ بقم، وقبر بالري، هو من كبار القوم ومحدثيهم، وكتابه (من لا يحضر الفقيه) أحد الكتب الأربعة التي تعد من أهم الكتب وأصحها في الحديث عند الشيعة، كما أن له مصنفات عديدة أخرى، وهو من المكثرين، كما أن كتبه عمدة لمذهب الشيعة، يقول الشيعة فيه: لم ير في القميين مثله في حفظه وكثرة علمه" (أعيان الشيعة) (1/ 104) و (الخلاصة) للحلي). كما يقولون: ولد هو وأخوه بدعوة صاحب الأمر علي يد السفر الحسين بن الروح، فإنه كان الواسطة بينه وبين ابن البابويه" (روضات الجنات) للخوانساري (6/ 136). قال فيه المجلسي: وثقه جميع الأصحاب لما حكموا بصحة جميع أخبار كتابه يعني صحة جميع ما قد صح عنه من غير تأمل، بل هو ركن من أركان الدين" (نقلاً عن الخوانساري (2/ 132) محدث القوم وإمامهم والملقب بالصدوق في كتابه الذي طبعته الشيعة أنفسهم "عن أبي أمامة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طوبى لمن رآنى وآمن بي" كتاب ا (لخصال) لابن بابويه (2/ 342). وروى الميري القمي (هو أبو العباس عبد الله بن جعفر بن الحسن الحميري القمي. "شيخ القميين ووجههم، ثقة من أصحاب محمد العسكري، قدم الكوفة سنة نيف وتسعين ومائتين، وسمع أهلها منه، فأكثروا، وصنف كتباً كثيرة منها كتاب (قرب الإسناد) (الكنى والألقاب) (2/ 177). "وهو من أساتذة الكليني، قد روي عنه في الكافي روايات عديدة، وله مكاتبات مع أبي الحسن، كما أنه كاتب مع أبي محمد"- من أئمة الشيعة المزعومين – (مقدمة قرب الإسناد ص2) مثل هذه الرواية عن جعفر بن باقر عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من زارني حياً وميتاً كنت له شفيعاً يوم القيامة" " (قرب الإسناد) (ص31) ط طهران). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص 30 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 397 الفصل الرابع عشر: موقف الشيعة من الصحابة ... وأما الشيعة الذين يزعمون أنهم أتباع أهل البيت والمحبون الموالون لهم، فإنهم يرون رأيا ... محترقين على جهادهم المستمر، ومنتقمين على فتوحاتهم الجبارة الكثيرة التي أرغمت أنوف أسلافهم، وكسرت شوكة ماضيهم ومزقت جموع أحزابهم، ودمرت ديارهم وأوكار كفرهم، الصحابة الذين أذلوا الشرك والمشركين، وهدموا الأوثان والأصنام التي كانوا يعبدونها ويعتكفون عليها، أزالوا ملكهم وسلطانهم، وخربوا قصورهم وحصونهم ومنازلهم، وأنزلوا فيها الفناء، وأعلوا عليها راية التوحيد وعلم الإسلام شامخاً مترفرفاً، فاجتمع أبناء المجوس واليهود، وأبناء البائدين الهالكين الذين أرادوا سد هذا النور النير، والوقوف في سبيل وطريق هذا السيل العرم، اجتمعوا ناقمين، حاقدين، حاسدين، محترقين، واقتنعوا بقناع الحب لآل البيت - وآل البيت منهم براء - وسلّوا سيوف أقلامهم وألسنتهم ضد أولئك المجاهدين المحسنين، رفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المشغوفين بحبه، والمفعمين بولائه، والمميتين في إطاعته واتباعه، والراهنين كل ثمين ونفيس في سبيله، والمضحين بأدنى إشاراته الآباء والأولاد والمهج، المقتفين آثاره، المتتبعين خطواته، السالكين منهجه، الغر الميامين رضوان الله عليهم أجمعين. فقال قائلهم: إن الناس كلهم ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أربعة".كتاب (سليم بن قيس العامرى) (ص 92) ط دار الفنون بيروت). (والغريب أن أبناء اليهودية الأثيمة يطيعون مثل هذه الكتب الخبيثة المليئة من العيب والشتم لأهل خير القرون وخير الأمة، ثم يتضوغون عن الكتب التي كتبت رداً عليهم مثل كتاب (الشيعة والسنة) للمؤلف لتبيين مذهبهم، وإظهار ما يكنونه في صدورهم تجاه الأمة المرحومة ومحسنيها، ويقولون: إنه لا ينبغي كتابة مثل هذه الكتب وطبعها ونشرها في زمان، المسلمون أحوج ما يكون إلى الاتحاد والاتفاق، ونحن لا ندري أي اتحاد ووفاق يريدون؟ نحن لا نسب القوم ولا نشتم قادتهم، بل كل ما نعمل نبدي للرأي العام ما عمله القوم الأمس وما يعملونه اليوم. فمن أي شيء يخافون؟ ثم ولم نفهم من بعض من يسمي نفسه متنوراً، واسع الأفق، فسيح القلب، وسيع الظرف، محباً للتقريب والوفاق من أهل السنة، البلهاء أو المغترين، لا نفهم منهم حينما يعترضون علينا بأننا لم نقم بإحقاق الحق وإبطال الباطل؟ ولم ندافع عن أولئك القوم الذين لو ما كانوا كنا عباد البقر أو النجوم أو اللات والمناة والعزى والثالث، أو الحجر والشجر، ولو ما رفعوا راية الإسلام، وحملوا لواء التوحيد ما عرفنا ربنا عز وجل ونبينا وقائدنا محمداً صلوات الله وسلامه عليه، وما علمنا ماذا أنزله الرحمن على عبده وحبيبه، وما تركه المصطفى من سنته وحكمته، وما عرفنا القرآن الذي أنزله نوراً وهدى ورحمة للعالمين. نعم: يقلق مضاجع هؤلاء المتنورين هذا، ولا يفجعون عن كتاب (سليم بن قيس العامري) الذي قال فيه جعفرهم – نعم جعفرهم، لا الجعفر الصادق الذي نعرفه ونعلمه – قال: من لم يكن عنده من شيعتنا ومحبينا كتاب (سليم بن قيس العامري) فليس عنده من أمرنا شيء, وهو سر من أسرار محمد صلى الله عليه وسلم،- الكتاب الذي لم نجد صفحة من صفحاته، ولا ورقة من أوراقه إلا وهي مليئة بأقذر الشتائم وأخبث السباب، وكتاب سليم ومثله كتب للقوم لا تعد ولا تحصى، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فنقول لهؤلاء القوم عديمي الغيرة، وفاقدي الحمية: فليهنأ لكم التنور، وليهنأ لكم التوسع، فأما نحن فلن ولن نتحمل هذا، ولن ولن نسكت عن ذلك إن شاء الله ما دامت العروق يجري فيها الدم، وما دام الروح في الجسد واللسان يتكلم). هذا ومثل هذا كثير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 398 ولقد تقدم بخاري القوم محمد بن يعقوب الكليني إلى أبعد من ذلك فقال: كان الناس أهل ردة بعد النبي إلا ثلاثة المقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي كتاب (الروضة من الكافي) (8/ 245). ومثل هذا ذكر المجلسي "هلك الناس كلهم بعد وفاة الرسول إلا ثلاثة أبو ذر والمقداد وسلمان" (حيات القلوب) للمجلسي فارسي (2/ 640). ولسائل أن يسأل هؤلاء الأشقياء وأين ذهب أهل بيت النبي بما فيهم عباس عم النبي، وابن عباس ابن عمه، وعقيل أخ لعلي، وحتى علي نفسه، والحسنان سبطا رسول الله؟ ألا تستحيون من الله؟ ثم وأكثر من ذلك قال الكليني في موضع آخر من كتابه: إن الناس يفزعون إذا قلنا: إن الناس ارتدوا، فقال: إن الناس عادوا بعد ما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل جاهلية، إن الأنصار اعتزلت (يعني عن أبي بكر) فلم تعتزل بخير (أي لم يكن اختيارهم لاختيار الحق أو ترك الباطل، بل اختاروا باطلاً مكان باطل آخر للحمية والعصبية – كما ذكر المحشي الملعون على هذه الرواية -) جعلوا يبايعون سعداً وهم يرتجزون ارتجاز الجاهلية (كذب وزور – يا كذاب!) يا سعد! أنت المرجأ، وشعرك المرجل، وفحلك المرجم" كتاب (الروضة من الكافي) (2/ 296). ومعناه أنه لم يبق ولا واحد، لا أبو ذر ولا سلمان ولا المقداد؟ هذا ويذكر شيعي معاصر عكس ذلك تماماً حيث أن القوم يدعون بأن الصحابة ارتدوا – عياذاً بالله – بعد أن أسلموا، ولكن أحداً من بقايا القوم الناقمين ينكر حتى دخولهم في الإسلام كما يقول وهو يرد علينا بأننا لم ننصف في اتهامنا الشيعة – حسب زعمه – بأنهم يكفرون أصحاب الرسول العظيم عليه السلام، وفي أثناء الرد يقر ويثبت ما ذكرناه، فانظر إليه كيف يستأسر في حبله نفسه بنفسه "ومع ذلك فإني أقول: إن العرب لم يؤمنوا بمحمد إلا بعد أن قرعت الدعوة الإسلامية أسماعهم (انظر إلى الحقد كيف يتدفق، والبغض كيف يظهر للأمة العربية التي لبّت رسالة الإسلام في باكورة عهدها، وحملتها وأدتها إلى العالم أجمع) أي أن محمد صلى الله عليه وسلم دعاهم أولاً للإسلام فآمن من آمن .. ومنهم من تأخر عن ذلك، ومنهم من ماطل كثيراً، ومنهم من دخل في الإسلام نفاقاً، ومنهم من دخل خوفاً ورهباً بعد أن ضاقت عليه الأرض، ولم يدخل في الإسلام أحد بدلالة عقله إلا شخصية واحدة (وحتى خرّجوا علياً وأهل بيت النبي حيث لم يذكروا فيمن ذكر إلا سلمان) خرجت من بلادها طلباً للحقيقة، ولاقت صعوبات وأخطاراً حتى ظفرت بالحقيقة عند محمد (يعني سلمان) فآمنت به" كتاب (الشيعة والسنة في الميزان) (ص20، 21) لمؤلف مجهول المقنع بقناع س – خ ط بيروت – أي الكتاب الذي حاول مجهوله عبثاً الرد على كتابنا (الشيعة والسنة) حيث لم يستطع في الكتاب كله تغليط عبارة واحدة أو مصدر واحد من العبارات أو المصادر التي ذكرناها في الكتاب، ولا مسألة واحدة، أو نتيجة من النتائج التي استنتجناها في كتابنا كله، ولله الحمد والمنة على ذلك التوفيق الصائب والشرف الذي أولانا الله عز وجل للدفاع عن حرمات النبي، ومقدسات الإسلام، ومحبي الملة الحنيفية البيضاء، اللهم ألهمنا الرشد والسداد، واجعلنا من الذين يعرفون القول ويتبعون أحسنه، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10]). ويكتب القمي تحت تفسير قوله تعالى: وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ [المائدة:71] نزل كتاب الله يخبر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: وحسبوا أن لا تكون فتنة أي لا يكون اختبار، ولا يمتحنهم الله بأمير المؤمنين عليه السلام فعموا وصموا قال حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ثم عموا وصموا حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقام أمير المؤمنين عليه السلام عليهم فعموا وصموا فيه حتى الساعة" (تفسير القمي) لعلي بن إبراهيم (1/ 175، 176) ط مطبعة النجف 1386هـ‍). هذا ومثل هذا كثير (انظر لذلك كتابنا (الشيعة والسنة). فهذا هو موقف الشيعة من الصحابة، وذلك هو موقف أهل البيت منهم. المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص44 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 399 المطلب الأول: موقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه من الصديق هذا ونريد بعد ذلك أن نبّين موقف أهل البيت من ثاني اثنين إذ هما في الغار، من الصديق الأكبر رضي الله عنه، فيقول فيه ابن عم النبي وصهره، زوج ابنته، ووالد سبطيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يذكر بيعة أبي بكر الصديق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند انثيال (انثيال الناس أي انصبابهم من كل وجه كما ينثال التراب كما قاله ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة) الناس على أبي بكر، وإجفالهم (الإجفال الإسراع) إليه ليبايعوه: فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر، فبايعته ونهضت في تلك الأحداث حتى زاغ الباطل وزهق وكانت "كلمة الله هي العليا" ولو كره الكافرون، فتولى أبو بكر تلك الأمور فيسر، وسدد، وقارب، واقتصد، فصحبته مناصحاً، وأطعته فيما أطاع الله (فيه) جاهداً" (الغارات) (1/ 307) تحت عنوان "رسالة علي عليه السلام إلى أصحابه بعد مقتل محمد بن أبي بكر"). ويذكر في رسالة أخرى أرسلها إلى أهل مصر مع عامله الذي استعمله عليها قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري "بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المسلمين، سلام عليكم فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو. أما بعد! فإن الله بحسن صنعه وتقديره وتدبيره اختار الإسلام ديناً لنفسه وملائكته ورسله، وبعث به الرسل إلى عباده (و) خص من انتخب من خلقه، فكان مما أكرم الله عز وجل به هذه الأمة وخصهم (به) من الفضيلة أن بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم – (إليهم) فعلمهم الكتاب والحكمة والسنة والفرائض، وأدّبهم لكيما يهتدوا، وجمعهم لكيما (لا) يتفرقوا، وزكاهم لكيما يتطهروا، فلما قضى من ذلك ما عليه قبضه الله (إليه فعليه) صلوات الله وسلامه ورحمته ورضوانه إنه حميد مجيد. ثم إن المسلمين من بعده استخلفوا امرأين منهم صالحين عملاً بالكتاب وأحسنا السيرة ولم يتعديا السنة ثم توفاهما الله فرحمهما الله" (الغارات) (1/ 210) ومثله باختلاف يسير في (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد، و (ناسخ التواريخ) (ج3 كتاب2 ص241) ط إيران، و (مجمع البحار) للمجلسي. ويقول أيضاً وهو يذكر خلافة الصديق وسيرته: فاختار المسلمون بعده (أي النبي صلى الله عليه وسلم) رجلاً منهم، فقارب وسدد بحسب استطاعة على خوف وجد" (شرح نهج البلاغة) للميثم البحراني (ص400). ولم اختار المسلمون أبا بكر خليفة للنبي وإماماً لهم؟ يجيب عليه المرتضى رضي الله عنه وابن عمة الرسول زبير بن العوام رضي الله عنه بقولهما: وإنا نرى أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار وثاني اثنين، وإنا لنعرف له سنة، ولقد أمره رسول الله بالصلاة وهو حي" (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد الشيعي (1/ 332). ومعنى ذلك أن خلافته كانت بإيعاز الرسول عليه السلام. وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه قال هذا القول رداً على أبي سفيان حين حرضه على طلب الخلافة كما ذكر ابن أبي الحديد جاء أبو سفيان إلى علي عليه السلام، فقال: وليتم على هذا الأمر أذل بيت في قريش، أما والله لئن شئت لأملأنها على أبي فصيل خيلاً ورجلاً، فقال علي عليه السلام: طالما غششت الإسلام وأهله، فما ضررتهم شيئاً، لا حاجة لنا إلى خيلك ورجلك، لولا أنا رأينا أبا بكر لها أهلاً لما تركناه" (شرح ابن أبي الحديد) (1/ 130). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 400 ولقد كررّ هذا القول ومثله مرات كرات، وأثبتته كتب القوم في صدورها وهو أن علياً كان يعدّ الصديق أهلاً للخلافة، وأحق الناس بها، لفضائله الجمة ومناقبه الكثيرة حتى حينما سئل قرب وفاته بعد ما طعنه ابن الملجم من سيكون الإمام والخليفة بعدك؟ فقال كما روي عن أبي وائل والحكيم عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قيل له: ألا توصي؟ قال: ما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوصي، ولكن قال: (أي رسول) إن أراد الله خيراً فيجمعهم على خيرهم بعد نبيهم" (تلخيص الشافي) للطوسي (2/ 372) ط النجف). وأورد مثل هذه الرواية "علم الهدى" علي بن الحسين بن موسى المشهور بالسيد المرتضى للشيعة في كتابه (الشافي): عن أمير المؤمنين عليه السلام لما قيل له: ألا توصي؟ فقال: ما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوصي، ولكن إذا أراد الله بالناس خيراً استجمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم" (الشافي) (ص171) ط النجف). فهذا هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه يتمنى لشيعته وأنصاره أن يوفق الله لهم رجلاً خيراً صالحاً كما وفق للأمة الإسلامية المجيدة بعد أن اصطدموا بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم برجل خير صالح، أفضل الخلائق بعد نبيه صلى الله عليه وسلم بأبي بكر الصديق رضي الله عنه إمام الهدى، وشيخ الإسلام، ورجل قريش، والمقتدى به بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حسب ما سماه سيد أهل البيت زوج الزهراء رضي الله عنهما كما رواه السيد مرتضى علم الهدى في كتابه عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رجلاً من قريش جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: سمعتك تقول في الخطبة آنفا: اللهم أصلحنا بما أصلحت به الخلفاء الراشدين، فمن هما؟ قال: حبيباي، وعماك أبو بكر وعمر، وإماما الهدى، وشيخا الإسلام. ورجلا قريش، والمتقدى بهما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، من اقتدى بهما عصم، ومن اتبع آثارهما هدي إلى صراط المستقيم" (تلخيص الشافي) (2/ 428). هذا وقد كرر في نفس الكتاب هذا "إن علياً عليه السلام قال في خطبته: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر"، ولم لا يقول هذا وهو الذي روى "أننا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم على جبل حراء إذ تحرك الجبل، فقال له: قر، فإنه ليس عليك إلا نبي وصديق وشهيد" (الاحتجاج) للطبرسي. فهذا هو رأي علي رضي الله عنه في أبي بكر، نعم! رأي علي الخليفة الراشد الرابع عندنا، والإمام المعصوم الأول عند القوم، الذي يدعون فيه أن من أنكر ولايته فقد كفر، كما قالوا: الموالي له ناج، والمعادي له كافر هالك، والمتخذ دونه وليجة ضال مشرك" (فرق الشيعة) للنوبختي" (ص41) ط النجف 1951م، و (تفسير القمي) (ج1 156) نجف ط تحت آية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ [النساء:137]) وقد نقلوا من أئمتهم "أبى الله عز وجل أن يتولى قوم قوماً يخالفونهم في أعمالهم معهم يوم القيامة، كلا ورب الكعبة" كتاب (الروضة من الكافي) للكليني (8/ 254). فالمفروض من القوم الذين يدعون موالاة علي وبنيه أن يتبعوه وأولاده في آرائهم ومعتقداتهم في أصحاب النبي ورفقائه، وخاصة في صاحبه في الغار، الذي نقلنا فيه كلام سيد أهل البيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ورأيه وعقيدته التي نقلوها في كتبهم هم، وبعباراتهم أنفسهم، التي ذكرناها آنفا، وكما نحن ذاكرين آراء بقية أهل البيت فيه إن شاء الله. المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص48 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 401 المطلب الثاني: موقف ابن عباس من الصديق إن ابن عباس هو ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وابن عم علي، وكان أحد عماله الذي قال فيه الجعفر بن باقر: إن ابن عباس لما مات وأخرج خرج من كفنه طير أبيض يطير، ينظرون إليه يطير نحو السماء حتى غاب عنهم فقال (يعني جعفر) وكان أبي يحبه حباً شديداً" (رجال الكشي) تحت عنوان عبد الله بن عباس (ص55) ط كربلاء). ويقول عنه المفيد محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي من أجلّ مشائخ الشيعة، ورئيسهم وأستاذهم: كان أمير المؤمنين يتعشى ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين، وليلة عند عبد الله بن العباس" (الإرشاد) (ص14). فهذا ابن عباس يقول وهو يذكر الصديق: رحم الله أبا بكر، كان والله للفقراء رحيماً، وللقرآن تالياً، وعن المنكر ناهياً، وبدينه عارفاً، ومن الله خائفاً، وعن المنهيات زاجراً، وبالمعروف آمراً. وبالليل قائماً، وبالنهار صائماً، فاق أصحابه ورعاً وكفافاً، وسادهم زهداً وعفافاً" (ناسخ التواريخ) (ج5 كتاب2 ص143، 144) ط طهران). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص53 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 402 المطلب الثالث: موقف الحسن بن علي رضي الله عنهما من الصديق هذا ويقول ابن أمير المؤمنين عليّ ألا وهو الحسن نعم! الحسن بن علي - الإمام المعصوم الثاني عند القوم، والذي أوجب الله اتباعه على القوم حسب زعمهم - يقول في الصديق، وينسبه إلى رسول الله عليه السلام أنه قال: إن أبا بكر مني بمنزلة السمع" (عيون الأخبار) (1/ 313) أيضاً "كتاب (معاني الأخبار) (ص110) ط إيران). وكان حسن بن علي رضي الله عنهما يوقر أبا بكر وعمر إلى حد حتى جعل من إحدى الشروط على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما "إنه يعمل ويحكم في الناس بكتاب، وسنة رسول الله، وسيرة الخلفاء الراشدين، - وفي النسخة الأخرى - الخلفاء الصالحين" (منتهى الآمال) (ص212 ج2) ط إيران). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص53 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 403 المطلب الرابع: موقف الإمام الرابع علي بن الحسن بن علي من الصديق وأما الإمام الرابع للقوم علي بن الحسن بن علي، فقد روي عنه أنه جاء إليه نفر من العراق، فقالوا في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فلما فرغوا من كلامهم قال لهم: ألا تخبروني أنتم الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8]؟ قالوا: لا، قال: فأنتم الَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9] قالوا: لا، قال: أما أنتم قد تبرأتم أن تكونوا من أحد هذين الفريقين، وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله فيهم: يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10]، اخرجوا عني، فعل الله بكم" (كشف الغمة) للأربلي (2/ 78) ط تبريز إيران). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص54 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 404 المطلب الخامس: موقف محمد بن علي بن الحسين الملقب بالباقر من الصديق وأما ابن زين العابدين محمد بن علي بن الحسين الملقب بالباقر - الإمام الخامس المعصوم عند الشيعة - فسئل عن حلية السيف كما رواه علي بن عيسى الأربلي في كتابه (كشف الغمة): "عن أبي عبد الله الجعفي عن عروة بن عبد الله قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي عليهما السلام عن حلية السيف؟ فقال: لا بأس به، قد حلى أبو بكر الصديق سيفه، قال: قلت: وتقول الصديق؟ فوثب وثبة، واستقبل القبلة، فقال: نعم الصديق، فمن لم يقل له الصديق فلا صدق الله له قولاً في الدنيا والآخرة" (كشف الغمة) (2/ 147). ولم يقل هذا إلا لأن جده رسول الله صلى الله عليه وسلم الناطق بالوحي سماه الصديق كما رواه البحراني الشيعي في تفسيره (البرهان) عن علي بن إبراهيم، قال: حدثني أبي عن بعض رجاله عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار قال لأبي بكر: كأني انظر إلى سفينة جعفر وأصحابه تعوم في البحر، وانظر إلى الأنصار محبتين (مخبتين خ) في أفنيتهم، فقال أبو بكر: وتراهم يا رسول الله؟ قال: نعم! قال: فأرنيهم، فمسح على عينيه فرآهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت الصديق" (البرهان) (2/ 125). ويروي الطبرسي عن الباقر أنه قال: ولست بمنكر فضل أبي بكر، ولست بمنكر فضل عمر، ولكن أبا بكر أفضل من عمر" (الاحتجاج) للطبرسي (ص230) تحت عنوان "احتجاج أبي جعفر بن علي الثاني في الأنواع الشتى من العلوم الدينية" ط مشهد كربلاء). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص54 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 405 المطلب السادس: موقف جعفر بن محمد بن علي من الصديق ثم ابنه أبو عبد الله جعفر الملقب بالسادس - الإمام المعصوم السادس حسب زعم القوم - سئل عن أبي بكر وعمر كما رواه القاضي نور الله الشوشتري الشيعي الغالي، الذي قتل سنة 1019 "إن رجلاً سأل عن الإمام الصادق عليه السلام، فقال: يا ابن رسول الله! ما تقول في حق أبي بكر وعمر؟ فقال عليه السلام: إمامان عادلان قاسطان، كانا على حق، وماتا عليه، فعليهما رحمة الله يوم القيامة" (إحقاق الحق) للشوشتري (1/ 16) ط مصر). وروى عنه الكليني في الفروع حديثاً طويلاً ذكر فيه "وقال أبو بكر عند موته حيث قيل له: أوصِ، فقال: أوصي بالخمس والخمس كثير، فإن الله تعالى قد رضي بالخمس، فأوصي بالخمس، وقد جعل الله عز وجل له الثلث عند موته، ولو علم أن الثلث خير له أوصى به، ثم من قد علمتم بعده في فضله وزهده سلمان وأبو ذر رضي الله عنهما، فأما سلمان فكان إذا أخذ عطاه رفع منه قوته لسنته حتى يحضر عطاؤه من قابل. فقيل له: يا أبا عبد الله! أنت في زهدك تصنع هذا، وأنت لا تدري لعلك تموت اليوم أو غداً؟ فكان جوابه أن قال: مالكم لا ترجون لي بقاء كما خفتم على الفناء، أما علمتم يا جهلة أن النفس قد تلتاث على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما يعتمد عليه، فإذا هي أحرزت معيشتها اطمأنت، وأما أبو ذر فكانت له نويقات وشويهات يحلبها ويذبح منها إذا اشتهى أهله اللحم، وأنزل به ضيف، أو رأى بأهل الماء الذين هم معه خصاصة، نحر لهم الجزور أو من الشياه على قدر ما يذهب عنهم بقرم اللحم، فيقسمه بينهم، ويأخذ هو كنصيب واحد منهم لا يتفضل عليهم، ومن أزهد من هؤلاء وقد قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال" كتاب (المعيشة) (الفروع من الكافي) (5/ 68). فأثبت أن منزلة الصديق في الزهد من بين الأمة المنزلة الأولى، وبعده يأتي أبو ذر وسلمان. وروى عنه الأربلي أنه كان يقول: "لقد ولدني أبو بكر مرتين" (كشف الغمة) (2/ 161). لأن "أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وأمها (أي أم فروة) أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر" (فرق الشيعة) للنوبختي (ص78). ويروي السيد مرتضى في كتابه (الشاف) عن جعفر بن محمد أنه كان يتولاهما، ويأتي القبر فيسلم مع تسليمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم " كتاب (الشافي) (ص238) أيضاً (شرح نهج البلاغة) (4/ 140) ط بيروت). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص56 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 406 المطلب السابع: موقف الحسن العسكري ويطول الكلام وما أروعه وأجمله، ولكن نحن نختصر الطريق، فنأتي إلى الإمام الأخير الموجود عند القوم وهو حسن بن علي الملقب بالحسن العسكري - الإمام الحادي عشر المعصوم - فيقول وهو يسرد واقعة الهجرة أن رسول الله بعد أن سأل علياً رضي الله عنه عن النوم على فراشه قال لأبي بكر رضي الله عنه: أرضيت أن تكون معي يا أبا بكر تطلب كما أطلب، وتعرف بأنك أنت الذي تحملني على ما أدعيه فتحمل عني أنواع العذاب؟ قال أبو بكر: يا رسول الله! أما أنا لو عشت عمر الدنيا أعذب في جميعها أشد عذاب لا ينزل عليّ موت صريح ولا فرح ميخ وكان ذلك في محبتك لكان ذلك أحب إلي من أن أتنعم فيها وأنا مالك لجميع مماليك ملوكها في مخالفتك، وهل أنا ومالي وولدي إلا فداءك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا جرم أن اطلع الله على قلبك، ووجد موافقاً لما جرى على لسانك جعلك مني بمنزلة السمع والبصر، والرأس من الجسد، والروح من البدن" ("تفسير الحسن العسكري" ص164، 165 ط إيران). هذا ولقد سردنا الروايات، ونقلناها من كتب القوم أنفسهم عن محمد رسول الله إمام الكونين ورسول الثقلين فداه أبواي وروحي صلى الله عليه وسلم، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه - الإمام الأول المعصوم إلى الإمام الأخير الظاهر حسب زعمهم - وإكمالاً للبحث، وإتماماً للفائدة نريد أن نروي ههنا روايتين آخرين نقلت من أهل بيت علي أيضاً ومن كتب القوم أنفسهم. المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص57 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 407 المطلب الثامن: موقف زيد بن علي بن الحسين فالأولى من زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب شقيق محمد الباقر وعم جعفر الصادق الذي قيل فيه: كان حليف القرآن" (الإرشاد) للمفيد (ص268) تحت عنوان "ذكر أخوته" – أي الباقر -). "واعتقد كثير من الشيعة فيه بالإمامة، وكان سبب اعتقادهم ذلك فيه خروجه بالسيف" (الإرشاد) للمفيد (ص268). ويقول أبو الفرج الأصفهاني الشيعي نقلاً عن الأشناني عن عبد الله بن جرير أنه قال: رأيت جعفر بن محمد (أي الجعفر الصادق) يمسك لزيد بن علي بالركاب، ويسوي ثيابه على السرج (مقاتل الطالبين) للأصفهاني (ص129) ط دار المعرفة بيروت). فهذا هو زيد بن زين العابدين بن الحسين وقد سئل عن أبي بكر كما يذكر صاحب ناسخ التواريخ ((ناسخ التواريخ) للمرزا تقي خان سيبهر معاصر الشاه ناصر الدين وابنه مظفر الدين، له (ناسخ التواريخ) فارسي مطبوع لم يعمل مثله (أعيان الشيعة) تحت عنوان (طبقات المؤرخين) قسم1 ج2 ص132) الشيعي "إن ناساً من رؤساء الكوفة وأشرافها الذين بايعوا زيداً حضروا يوماً عنده، وقالوا له: رحمك الله، ماذا تقول في حق أبي بكر وعمر؟ قال: ما أقول فيهما إلا خيراً كما لم أسمع فيهما من أهل بيتي (بيت النبوة) إلا خيراً، ما ظلمانا ولا أحد غيرنا، وعملاً بكتاب الله وسنة رسوله" (ناسخ التواريخ) (2/ 590) تحت عنوان "أحوال الإمام زين العابدين"). ويقول: لما سمع أهل الكوفة منه هذه المقالة رفضوه، ومالوا إلى الباقر، فقال زيد: رفضونا اليوم، ولذلك سموا هذه الجماعة بالرافضة" (ناسخ التواريخ) (2/ 590). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص58 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 408 المطلب التاسع: موقف سلمان الفارسي الصحابي الجليل والرواية الثانية، والرأي الثاني من شخص نسجت الشيعة حوله الأساطير أي سلمان الفارسي الذي قيل فيه: سلمان المحمدي، ذلك رجل منا أهل البيت و"إن سلمان من أهل البيت" (رجال الكشي) (ص18، 20) ط الأعلمي كربلاء). و"كان الناس أهل ردة بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة، المقداد وأبو ذر وسلمان رحمة الله وبركاته عليهم" (الروضة من الكافي) (8/ 245). وقال فيه علي: إن سلمان باب الله في الأرض، من عرفه كان مؤمناً، ومن أنكره كان كافراً" (رجال الكشي) (ص70). فهذا السلمان يقول: إن رسول الله كان يقول في صحابته: ما سبقكم أبو بكر بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في قلبه" (مجالس المؤمنين) للشوشتري (ص89). هذا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً عليه إلى هذا الحد بأن أبا بكر لما أراد مبارزة ابنه يوم بدر وهو فارس، مدجج، منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: شم سيفك، وارجع إلى مكانك، ومتعنا بنفسك" (كشف الغمة) (1/ 190) وجعل بقاءه متعة له عليه الصلاة والسلام. فهذا آخر ما أردنا إدراجه في هذا الباب. المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص59 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 409 المطلب العاشر: خلافة الصديق وبعد ما ذكرنا أهل بيت النبي وموقفهم وآراءهم تجاه سيد الخلق بعد أنبياء الله ورسله أبي بكر الصديق رضي الله عنه نريد أن نذكر أنه لم يكن خلاف بينه وبين أهل البيت في مسألة خلافة النبي وإمارة المؤمنين وإمامة المسلمين، وأن أهل البيت بايعوه كما بايعه غيرهم، وساروا في مركبه، ومشوا في موكبه، وقاسموه هموم المسلمين وآلامهم، وشاركوه في صلاح الأمة وفلاحها، وكان علي رضي الله عنه أحد المستشارين المقربين إليه، يشترك في قضايا الدولة وأمور الناس، ويشير عليه بالأنفع والأصلح حسب فهمه ورأيه. ويتبادل به الأفكار والآراء، لا يمنعه مانع ولا يعوقه عائق، يصلي خلفه، ويعمل بأوامره، ويقضي بقضاياه، ويستدل بأحكامه ويستند، ويسمي أبناؤه بأسمائه حباً له وتيمناً باسمه وتودداً إليه. وفوق ذلك كله يصاهر أهل البيت به وبأولاده، ويتزوجون منهم ويزوجون بهم، ويتبادلون ما بينهم التحف والصلات، ويجري بينهم من المعاملات ما يجري بين الأقرباء المتحابين والأحباء المتقاربين، وكيف لا؟ وهم أغصان شجرة واحدة وثمرة نخل واحدة، لا كما يظنه أبناء اليهودية البغيضة، ومكايدين للأمة المحمدية المجيدة، والحاسدين الناقمين على حملة الإسلام ومعلني كلمته ورافعي رايته. أما خلافة الصديق رضي الله عنه فبصحتها وانعقادها وقيامها يستدل علي بن أبي طالب رضي الله عنه على صحة خلافته وانعقادها كما يذكر وهو يردّ على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أمير الشام "إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضى، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبي قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى" (نهج البلاغة) (ص366، 367) ط بيروت بتحقيق صبحي صالح). وقال: إنكم بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي، وإنما الخيار للناس قل أن يبايعوا، فإذا بايعوا فلا خيار" (ناسخ التواريخ) (ج3 الجزء2). وهذا النص واضح في معناه، لا غموض فيه ولا إشكال بأن الإمامة والخلافة تنعقد باتفاق المسلمين واجتماعهم على شخص، وخاصة في العصر الأول باجتماع الأنصار والمهاجرين، فإنهم اجتمعوا على أبي بكر وعمر، فلم يبق للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، كما ذكرنا قريباً روايتين عن علي بن أبي طالب في الغارات للثقفي, هو: أبو إسحاق إبراهيم الثقفي الكوفي الأصبهاني الشيعي، ولد في حدود المائتين أو قبلها بسنين، ومات بأصبهان سنة 283هـ‍، هو من أجلاء الرواة المؤلفين للشيعة كما ذكره النوري الطبرسي "وأما إبراهيم الثقفي المعروف الذي اعتمد عليه الأصحاب فهو من أجلاء الرواة المؤلفين كما يظهر من ترجمته، ويروي عنه الأجلاء" (المستدرك) (3/ 549، 550). وسماه الخوانساري في روضات الجنات "الشيخ المحدث" المروج الصالح السديد أبو إسحاق إبراهيم الثقفي الأصفهاني صاحب كتاب (الغارات) الذي ينقل عنه في (البحار) كثيراً (ص4). "وله نحواً من خمسين مؤلفاً لطيفاً" (أعيان الشيعة) (القسم 2 ص103) بأن الناس انثالوا على أبي بكر، وأجفلوا إليه، فلم يكن إلا أن يقر ويعترف بخلافته وإمامته. وهناك رواية أخرى في غير (الغارات) تقر بهذا عن علي أنه قال وهو يذكر أمر الخلافة والإمامة: رضينا عن الله قضاءه، وسلمنا لله أمره. فنظرت في أمري فإذا طاعتي سبقت بيعتي إذ الميثاق في عنقي لغيري" (نهج البلاغة) (ص81 خطبة 37 ط بيروت بتحقيق صبحي صالح). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 410 ولما رأى ذلك تقدم إلى الصديق، وبايعه كما بايعه المهاجرون والأنصار، والكلام من فيه وهو يومئذ أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، ولا يتقي الناس، ولا يظهر إلا ما يبطنه لعدم دواعي التقية حسب أوهام القوم، وهو يذكر الأحداث الماضية فيقول: فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر، فبايعته، ونهضت في تلك الأحداث فتولى أبو بكر تلك الأمور وسدد ويسر وقارب واقتصد، فصحبته مناصحاً، وأطعته فيما أطاع الله جاهداً" (منار الهدى) لعلي البحراني الشيعي (ص373) أيضاً (ناسخ التواريخ) (3/ 532). ولأجل ذلك رد على أبي سفيان وعباس حينما عرضا عليه الخلافة لأنه لا حق له بعد ما انعقدت للصديق كما مر بيانه. وفيما كتب إلى أمير الشام معاوية بن أبي سفيان أقرّ أيضاً بخلافة الخليفة الأول الصديق وأفضليته، ودعا له بعد موته بالمغفرة والإحسان، وتأسف على انتقاله إلى ربه كما يكتب "وذكرت أن الله اجتبى له من المسلمين أعواناً أيّدهم به، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام كما زعمت وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة الصديق وخليفة الخليفة الفاروق" ولعمري أن مكانهما في الإسلام لعظيم، وإن المصائب بهما لجرح في الإسلام شديد يرحمهما الله، وجزاهم الله بأحسن ما عملا" (ابن ميثم (شرح نهج البلاغة) ط إيران ص488). وروى الطوسي, هو: محمد بن الحسن بن علي الطوسي ولد سنة 385 هـ، ومات في 460هـ، بنجف، ويلقب بشيخ الطائفة" (تنقيح المقال) (105/ 3). "هو عماد الشيعة، ورافع أعلام الشيعة، شيخ الطائفة على الإطلاق، ورئيسها الذي تلوى إليه الأعناق، صنف في جميع علوم الإسلام، وكان القدوة في ذلك والإمام، وقد ملأت تصانيفه الأسماع، تتلمذ على الشيخ المفيد والسيد المرتضى وغيرهم" (الكنى والألقاب) (2/ 357). هو من مصنفي الكتابين من الصحاح الأربعة (التهذيب) و (الاستبصار). "وصنف في كل فنون الإسلام، وهو المهذب للعقائد والأصول والفروع، وجميع الفائل تنسب إليه" (روضات الجنات) (6/ 216) عن علي أنه لما اجتمع بالمهزومين في الجمل قال لهم: فبايعتم أبا بكر، وعدلتم عني، فبايعت أبا بكر كما بايعتموه .. ، فبايعت عمر كما بايعتموه فوفيت له بيعته .. فبايعتم عثمان فبايعته وأنا جالس في بيتي، ثم أتيتموني غير داع لكم ولا مستكره لأحد منكم "هل الخلافة منصوصة؟ وفيه دليل واضح أن علي بن أبي طالب لم يكن يعتقد بأن الخلافة والإمامة لا تنعقد إلا بنص و"إن الإمامة عهد من الله عز وجل معهود من واحد إلى واحد" (الأصول من الكافي، كتاب (الحجة) (1/ 277). "وإنه عهد من رسول الله إلى رجل فرجل" (الأصول من الكافي) (1/ 277). وانظر لتفصيل ذلك كتب القوم "أصل الشيعة وأصولها" لمحمد حسين آل كاشف الغطاء، و (الاعتقادات) لابن بابويه القمي، و (الألفين) للحلي، و (بحار الأنوار) للمجلسي وغيره. لأنه لو كان يعتقد هذا لما اعتقد لأبي بكر الخلافة، ولم يدخل في مستشاريه وفوق ذلك لم يقل لأهل الجمل هذه الجمل التي نقلناها منه "ثم أتيتموني غير داع لكم" ولأنه لو كان إماماً من الله لم يزل دعوتهم إليه، ولم يقل لهم قبل ذلك حينما دعوه إلى البيعة له بعد قتل عثمان ذي النورين رضي الله عنه: دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول – إلى أن قال – وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً" (كلام علي لما أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان، نهج البلاغة خطبه 92 ص136 ط بيروت). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 411 وهل هناك دليل أصدق من كلامه بأنه لم يكن يريد الخلافة التي يعد الشيعة منكريها أكفر من اليهود والمجوس والنصارى والمشركين كما يقول مفيدهم: اتفقت إمامية على أن من أنكر إمامة أحد من الأئمة، وجحد ما أوجبه الله تعالى من فرض الطاعة فهو كافر، مستحق للخلود في النار" ("بحار الأنوار) للمجلسي (23/ 390) نقلاً عن "المفيد"). ويقول الكليني محدثهم الأكبر: إن قول الله تعالى: "سأل سائل بعذاب واقع للكافرين بولاية علي ليس له دافع" هكذا والله نزل بها جبرئيل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم " كتاب (الحجة من الأصول في الكافي) (1/ 422). وقال منتسباً كذباً وزوراً إلى محمد الباقر أنه قال: إنما يعبد الله من يعرف الله، فأما من لا يعرف الله فإنما يعبده هكذا ضلالاً، قلت: جعلت فداك، فما معرفة الله؟ قال: تصديق الله عز وجل وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم، وموالاة علي والائتمام به وبأئمة الهدى عليهم السلام، والبراءة إلى الله عز وجل من عدوهم (باب معرفة الإمام والرد إليه من الأصول في الكافي (1/ 180). وعلى ذلك يقول الصدوق ابن بابويه القمي مصرحاً: اعتقادنا فيمن جحد إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة من بعده أنه كمن جحد نبوة جميع الأنبياء، واعتقادنا فيمن أقر بأمير المؤمنين وأنكر واحداً من بعده من الأئمة إنه بمنزلة من أقر بجميع الأنبياء، وأنكر نبوة نبينا محمد" (الاعتقادات) للقمي (ص130). فما العمل حينما علي بن أبي طالب نفسه ينكر الإمامة، والنص من أقدس كتب القوم، الذين ينكرون القرآن، ويقولون بالتحريف والتغيير والتبديل فيه (كما بيناه بالأدلة الواضحة والبراهين القاطعة من كتب القوم أنفسهم في كتابنا (الشيعة والسنة) عملاً بقول القائل: من فمك أدينك). نعم! من أقدس كتبهم ألا وهو "نهج البلاغة" حيث يقول علي المرتضى رضي الله عنه نفسه عن نفسه أن أكون مقتدياً خير لي من أن أكون إماماً، فلنكرر قوله مرة ثانية: دعوني، والتمسوا غيري، فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً" (نهج البلاغة خطبه 92 ص136 ط بيروت). ويؤيد ذلك أن علياً لم يكن يرى الأمر كما يراه المتزعمون لولايته ما رواه ابن أبي الحديد عن عبد الله بن عباس أنه قال: خرج علي عليه السلام على الناس من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه، فقال له الناس: كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا حسن؟ قال: أصبح بحمد الله بارئاً قال: فأخذ العباس بيد علي، ثم قال: يا علي! أنت عبد العصا بعد ثلاث أحلف لقد رأيت الموت في وجهه، وإني لأعرف الموت في وجوه بني عبد المطلب، فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاذكر له هذا الأمر إن كان فينا أعلمنا، وإن كان في غيرنا أوصى بنا، فقال: لا أفعل والله إن منعناه اليوم لا يؤتيناه الناس بعده، قال: فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم" ("شرح نهج البلاغة" ج1 ص132). وقد نص ابن أبي الحديد بعد ذكر أخبار السقيفة وبيعة أبي بكر "واعلم أن الآثار والأخبار في هذا الباب كثيرة جداً ومن تأملها وأنصف علم أنه لم يكن هناك نص صريح ومقطوع لا تختلجه الشكوك، ولا يتطرق إليه الاحتمالات" (شرح نهج البلاغة) (1/ 135). وقال أيضاً رضي الله عنه مخاطباً طلحة والزبير، والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة، ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها" (نهج البلاغة) (ص322). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 412 هذا ومثل ذلك روى نصر بن مزاحم, هو: أبو الفضل نصر بن مزاح التميمي الكوفي الملقب بالعطار "إنه من جملة الرواة المتقدمين، بل الواقعة في درجة التابعين وطبقة الثلاثة الأوائل من الأئمة الطاهرين" (روضات الجنات) (8/ 166). وقال النجاشي: مستقيم الطريقة، صالح الأمر، صاحب كتاب (صفين) و (الجمل) و (مقتل الحسين) وغيرها من الكتب (النجاشي (ص301 و302) الشيعي أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أرسل حبيب بن مسلمة الفهري وشرحبيل بن سمط ومعن بن يزيد ليطالبوه بقتلة عثمان ذي النورين رضي الله عنه، فرد عليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد الحمدلة والبسملة "أما بعد! فإن الله بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فأنقذ به من الضلالة وأنعش به من المهلكة وجمع به بعد الفرقة، ثم قبضه الله إليه وقد أدى ما عليه، ثم استخلف أبو بكر عمر وأحسنا السيرة، وعدلا في الأمة .. ثم ولي أمر الناس عثمان، فعلم بأشياء عابها الناس عليه، فسار إليه ناس فقتلوه، ثم أتاني الناس وأنا معتزل أمرهم، فقالوا لي: بايع، فأبيت عليهم، فقالوا لي: بايع، فإن الأمة لا ترضى إلا بك، وإنا نخاف إن لم تفعل أن يفترق الناس، فبايعتهم" كتاب (صفين) ط إيران (ص105). ولقد ذكر المؤرخ الشيعي أن أبا بكر رضي الله عنه لما أراد استخلاف عمر بعده اعترض عليه بعض من الناس. فقال علي لطلحة، لو استخلف أبو بكر أحداً غير عمر لما نطيعه (تاريخ روضة الصفا) فارسي (ص206) ط بمبئي) فبايعتموني كما بايعتم أبا بكر وعمر وعثمان، فما جعلكم أحق أن تفوا لأبي بكر وعمر وعثمان ببيعتهم منكم ببيعتي" (الأمالي) لشيخ الطائفة الطوسي (2/ 121) ط نجف). والطبرسي أيضاً ينقل عن محمد الباقر ما يقطع أن علياً كان مقراً بخلافته، ومعترفاً بإمامته، ومبايعاً له بإمارته كما يذكر أن أسامة بن زيد حب رسول الله لما أراد الخروج انتقل رسول الله إلى الملأ الأعلى فلما وردت الكتاب على أسامة انصرف بمن معه حتى دخل المدينة، فلما أرى اجتماع الخلق على أبي بكر انطلق إلى علي بن أبي طالب فقال: ما هذا؟ قال له علي هذا ما ترى، قال أسامة: فهل بايعته؟ فقال: نعم" (الاحتجاج) للطبرسي (ص50) ط مشهد عراق). ولقد أقر بذلك شيعي متأخر وإمام من أئمة القوم محمد حسين آل كاشف الغطاء بقوله: لما ارتحل الرسول من هذه الدار إلى دار القرار، ورأى جمع من الصحابة أن لا تكون الخلافة لعلي إما لصغر سنه أو لأن قريشاً كرهت أن تجتمع النبوة والخلافة لبني هاشم – إلى أن قال – وحين رأى أن الخليفة الأول والثاني بذلا أقصى الجهد في نشر كلمة التوحيد وتجهيز الجيوش وتوسيع الفتوح، ولم يستأثروا ولم يستبدوا بايع وسالم" (أصل الشيعة وأصولها) ط دار البحار بيروت 1960 (ص91). وبقي سؤال فلماذا تأخر عن البيعة أياماً؟ يجيب عليه ابن أبي الحديد "ثم قام أبو بكر، فخطب الناس واعتذر إليهم وقال: إن بيعتي كانت فلتة وقى الله شرها وخشيت الفتنة، وأيم الله! ما حصرت عليها يوم قط، ولقد قلدت أمراً عظيماً مالي به طاقة ولا يدان، ولوددت أن أقوى الناس عليه مكاني، وجعل يعتذر إليهم، فقبل المهاجرون عذره، وقال علي والزبير: ما غضبنا إلا في المشورة وإنا لنرى أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف له سنه، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس وهو حي" (شرح نهج البلاغة) لأبي أبي الحديد (1/ 132). وأورد ابن أبي الحديد رواية أخرى في شرحه عن عبد الله بن أبي أوفي الخزاعي قال: كان خالد بن سعيد بن العاص من عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء المدينة وقد بايع الناس أبا بكر، فاحتبس عن أبي بكر فلم يبايعه أياماً وقد بايع الناس وأتى بني هاشم الظهر والبطن والشعار دون الدثار والعصادون اللحا، فإذا رضيتم رضينا وإذا سخطتم سخطنا حدثوني إن كنتم قد بايعتم هذا الرجل قالوا: نعم! قال على برد ورضا من جماعتكم؟ قالوا: نعم! قال: فأنا أرضى وأبايع إذا بايعتم أما والله! يا بني هاشم إنكم لطوال الشجر الطيب الثمر، ثم إنه بايع أبا بكر" (شرح نهج البلاغة) (1/ 134، 135). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص61 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 413 المطلب الحادي عشر: اقتداء علي بالصديق في الصلوات وقبوله الهدايا منه هذا ونذكر بعد ذلك أن علياً رضي الله عنه كان راضياً بخلافة الصديق ومشاركاً له في معاملاته وقضاياه، قابلاً منه الهدايا، رافعاً إليه الشكاوى، مصلياً خلفه، عاملاً معه المحبة والأخوة، محباً له، مبغضاً من يبغضه. وشهد بذلك أكبر خصوم الخلفاء الراشدين وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بهديهم، وسلك بمسلكهم، ونهج بمنهجهم. فالرواية الأولى التي سقناها قبل ذلك أن علياً قال للقوم حينما أرادوه خليفة وأميراً: وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً" (نهج البلاغة) (ص136) تحقيق صبحي صالح).ويذكرهم بذلك أيام الصديق والفاروق حينما كان مستشاراً مسموعاً، ومشيراً منفذاً كلمته كما يروي اليعقوبي الشيعي الغالي (1) في تاريخه وهو يذكر أيام خلافة الصديق: "وأراد أبو بكر أن يغزو الروم فشاور جماعة من أصحاب رسول الله، فقدموا وأخروا، فاستشار علي بن أبي طالب فأشار أن يفعل، فقال: إن فعلت ظفرت؟ فقال: بشرت بخير، فقام أبو بكر في الناس خطيباً، وأمرهم أن يتجهزوا إلى الروم (تاريخ اليعقوبي) (ص132، 133) ج2 ط بيروت 1960م). وفي رواية: "سأل الصديق علياً كيف ومن أين تبشر؟ قال: من النبي حيث سمعته يبشر بتلك البشارة، فقال أبو بكر: سررتني بما أسمعتني من رسول الله يا أبا الحسن! يسرّك الله" (تاريخ التواريخ) ج2 كتاب (2 ص158) تحت عنوان "عزام أبي بكر"). ويقول اليعقوبي أيضاً: وكان ممن يؤخذ عنه الفقه في أيام أبي بكر علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود" (تاريخ اليعقوبي) (ص138 ج2). فقدم علياً على جميع أصحابه، وهذا دليل واضح على تعاملهم مع بعضهم وتقديمهم علياً في المشورة والقضاء, (وفي هذا المعنى توجد روايات كثيرة عندنا أن أبا بكر استشار أصحابه في مسائل ومشاكل وفيمن استشارهم كان علياً رضي الله عنه، فقدم رأيه على آرائهم، انظر لذلك البداية والنهاية لابن الكثير ورياض النضرة لمحب الطبري وكنز العمال وتاريخ الملوك والأمم للطبري وتاريخ ابن خلدون وغيرها من الكتب، ولكنا لما عاهدنا أن لا نذكر شيئاً إلا من كتب القوم أعرضنا عن سردها). ويؤيد ذلك الشيعي الغالي محمد بن النعمان العكبري الملقب بالشيخ المفيد حيث بوّب باباً خاصاً في كتابه (الإرشاد) قضايا أمير المؤمنين عليه السلام في إمارة أبي بكر.   (1) هو: أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر الكاتب العباسي الشيعي، "كان جده من موالي أبي المنصور، وكان رحالة يحب الأسفار، ساح في بلاد الإسلام شرقاً وغرباً، ودخل أرمينية سنة 260، ثم رحل إلى الرمنه وعاد إلى مصر وبلاد المغرب، فألف في سياحة البلاد كتاب ((البلدان)) وله تاريخ معروف بالتاريخ اليعقوبي إلى غير ذلك، توفي سنة 284" ((الكني والألقاب)) (3/ 246). "وأما صاحب الأعيان فعده في طبقات المؤرخين من الشيعة" ((أعيان الشيعة)). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 414 ثم ذكر عدة روايات عن قضايا علي في خلافة أبي بكر، ومنها: "إن رجلاً رفع إلى أبي بكر وقد شرب الخمر، فأراد أن يقيم عليه الحد فقال له: إني شربتها ولا علم لي بتحريمها لأني نشأت بين قوم يستحلونها ولم أعلم بتحريمها حتى الآن فارتج على أبي بكر الأمر بالحكم عليه ولم يعلم وجه القضاء فيه، فأشار عليه بعض من حضر أن يستخبر أمير المؤمنين عليه السلام عن الحكم في ذلك، فأرسل إليه من سأله عنه، فقال أمير المؤمنين: مر رجلين ثقتين من المسلمين يطوفان به على مجالس المهاجرين والأنصار ويناشدانهم هل فيهم أحد تلا عليه آية التحريم أو أخبره بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإن شهد بذلك رجلان منهم فأقم الحد عليه، وإن لم يشهد أحد بذلك فاستتبه وخلّ سبيله، ففعل ذلك أبو بكر فلم يشهد أحد من المهاجرين والأنصار أنه تلا عليه آية التحريم، ولا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فاستتابه أبو بكر وخلى سبيله وسلم لعلي (عليه السلام) في القضاء به" (الإرشاد) للمفيد ص107 ط إيران). هذا وكان يتمثل أوامره كما حدث أن وفداً من الكفار جاءوا إلى المدينة المنورة، ورأوا بالمسلمين ضعفاً وقلة لذهابهم إلى الجهات المختلفة للجهاد واستئصال شأفة المرتدين والبغاة الطغاة، فأحس منهم الصديق خطراً على عاصمة الإسلام والمسلمين، فأمر الصديق بحراسة المدينة وجعل الحرس على أنقابها يبيتون بالجيوش، وأمر علياً والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود أن يرأسوا هؤلاء الحراس، وبقوا ذلك حتى أمنوا منهم" (شرح نهج البلاغة) (4/ 228 تبريز). وللتعامل الموجود بينهم، وللتعاطف والتوادد والوئام الكامل كان علي وهو سيد أهل البيت ووالد سبطي الرسول صلوات الله وسلامه عليه يتقبل منه الهدايا دأب الأخوة المتشاورين ما بينهم والمتحابين كما قبل الصهباء الجارية التي سبيت في معركة عين التمر، وولدت له عمر ورقية "وأما عمر ورقية فإنهما من سبيئة من تغلب يقال لها الصهباء سبيت في خلافة أبي بكر وإمارة خالد بن الوليد بعين التمر" (شرح نهج البلاغة) (2/ 718) أيضاً (عمدة الطالب) ط نجف (ص361). "وكانت اسمها أم حبيب بنت ربيعة" (الإرشاد) (ص186). وأيضاً منحه الصديق خولة بنت جعفر بن قيس التي أسرت مع من أسر في حرب اليمامة وولدت له أفضل أولاده بعد الحسنين محمد بن الحنفية. "وهي من سبي أهل الردة وبها يعرف ابنها ونسب إليها محمد بن الحنفية" (عمدة الطالب) الفصل الثالث (ص352) أيضاً "حق اليقين" (ص213). كما وردت روايات عديدة في قبوله هو وأولاده الهدايا المالية والخمس وأموال الفيء من الصديق رضي الله عنهم أجمعين، وكان علي هو القاسم والمتولي في عهده على الخمس والفيء، وكانت هذه الأموال بيد علي، ثم كانت بيد الحسن، ثم بيد الحسين، ثم الحسن بن الحسن، ثم زيد بن الحسن" (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحدد (4/ 118). ولقد ورد في أبي داود عن علي رضي الله عنه أنه قال: اجتمعت أنا والعباس وفاطمة وزيد بن حارثة عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت يا رسول الله! إن رأيت أن توليني حقنا من هذا الخمس في كتاب الله عز وجل فاقسمه حياتك كيلا ينازعني أحد بعدك فافعل، قال: ففعل ذلك قال: فقسمته حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ولانيه أبو بكر حتى إذا كان آخر سنة من سني عمر رضي الله عنه فإنه أتاه مال كثير، فعزل حقنا ثم أرسل إلي، فقلت: بنا عنه العام غنىً وبالمسلمين إليه حاجة فأردده عليهم، فرده عليهم" (أبو داود كتاب الخراج، فمسند أحمد مسندات علي). هذا وكان يؤدي الصلوات الخمس في المسجد خلف الصديق، راضياً بإمامته، ومظهراً للناس اتفاقه ووئامه معه" (الاحتجاج) للطبرسي 53، أيضاً كتاب (سليم بن قيس) (ص253) أيضاً "مرآة العقول" للمجلسي (ص388) ط إيران). وقال الطوسي في صلاة علي خلف أبي بكر: فذاك مسلم لأنه الظاهر" (تلخيص الشافي) (ص354) ط إيران). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص68 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 415 المطلب الثاني عشر: مساعدة الصديق في تزويج علي من فاطمة وكان للصديق مَنّ على عليّ المرتضى رضي الله عنهما حيث توسط له في زواجه من فاطمة رضي الله عنها وساعده فيه، كما كان هو أحد الشهود على نكاحه بطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يرويه أحد أعاظم القوم ويسمى بشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي عن الضحاك بن مزاحم أنه قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: أتاني أبو بكر وعمر، فقالا: لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له فاطمة، قال: فأتيته، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك، ثم قال: ما جاء بك يا علي وما حاجتك؟ قال: فذكرت له قرابتي وقدمي في الإسلام ونصرتي له وجهادي، فقال يا علي! صدقت، فأنت أفضل مما تذكر، فقلت: يا رسول الله! فاطمة تزوجنيها" (الأمالي) للطوسي (1/ 38). وأما المجلسي الذي لا يستطيع أن يذكر أصحاب النبي وخاصة الصديق والفاروق إلا ويسبق ذكرهم بالسباب القبيحة والشتائم الفضيحة والألقاب الخبيثة الرديئة مثل (الملاعين) و"مسودي الوجوه" و"الشياطين" - عياذاً بالله - كما سيأتي بيانها في محلها، فالمجلسي اللعان هذا يذكر هذه الواقعة ويزيدها بياناً ووضوحاً حيث يقول: في يوم من الأيام كان أبو بكر وعمر وسعد بن معاذ جلوساً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتذاكروا ما بينهم بزواج فاطمة (كم كان أصحاب رسول الله الصادق الأمين عليه السلام البررة يتفكرون في أمور النبي صلى الله عليه وسلم، ويهمهم ما كان يهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه لحبهم النبي، ووفائهم به، ما أجمل المطاع وما أحسن الاتباع) عليها السلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 416 فقال أبو بكر: أشراف قريش طلبوا زواجها عن النبي ولكن الرسول قال لهم بأن الأمر في ذلك إلى الله - ونظن أنها لعلي بن أبي طالب - وأما علي بن أبي طالب فلم يتقدم بطلبها إلى رسول الله لأجل فقره وعدم ماله، ثم قال أبو بكر لعمر وسعد: هيا بنا إلى علي بن أبي طالب لنشجعه ونكلفه بأن يطلب ذلك من النبي، وإن مانعه الفقر نساعده في ذلك (وكم كانوا رحماء بينهم، متوادين، متحابين، متعاطفين رغم أنوف القوم وزعمهم؟) فأجاب سعد ما أحسن ما فكرت به، فذهبوا إلى بيت أمير المؤمنين عليه السلام فلما وصلوا إليه سألهم ما الذي أتى بكم في هذا الوقت؟ قال أبو بكر: يا أبا الحسن! ليس هناك خصلة خير إلا وأنت سابق بها فما الذي يمنعك أن تطلب من الرسول ابنته فاطمة، فلما سمع عليّ هذا الكلام من أبي بكر نزلت الدموع من عينيه وسكبت، وقال: قشرت جروحي ونبشت وهيجت الأماني والأحلام التي كتمتها (وليس عند القوم حياء حتى يختلقون القصص كهذه قصصاً خرافية، وعبارت سافلة منحطة، وينسبونها إلى الشخصيات المباركة المقدسة؟ أهم منتهون؟) منذ أمد، فمن الذي لا يريد الزواج منها؟، ولكن يمنعني من ذلك فقري (وما فقره؟ فروى الشيعة المغالون عنه كالقمي والمجلسي ما نصه: لما أراد رسول الله أن يزوج فاطمة من عليّ أسرّ إليها، فقالت: يا رسول الله! أنت أولى بما ترى غير أن نساء قريش تحدثني عنه أنه رجل دحداد البطن، طويل الذراعين، ضخ الكراديس، أنزع، عظيم العينين، لمنكبيه مشاشاً كمشاش البعير، ضاحك السن، لا مال له؟ – والرسول لم ينكر هذه الأوصاف فيه – بل قال – حسب رواية القوم -: يا فاطمة! أما علمت أن الله أشرف على الدنيا فاختارني على رجال العالمين، ثم اطلع فاختارك على نساء العالمين، يا فاطمة! إنه لما أسري بي إلى السماء وجدت مكتوباً على صخرة بيت المقدس "لا إله إلا الله محمد رسول الله أيدته بوزيره، ونصرته بوزيره" فقلت: ومن وزيري؟ فقال: علي بن أبي طالب" (تفسير القمي) (1/ 336) أيضاً (جلاء العيون) (1/ 185) واستحي منه بأن أقول له وأنا في هذا الحال إلخ (جلاء العيون) للملا مجلسي (1/ 169) ط كتاب فروشي إسلامية طهران، ترجمة من الفارسية). ثم وأكثر من ذلك أن الصديق أبا بكر هو الذي حرض علياً على زواج فاطمة رضي الله عنهم، وهو الذي ساعده المساعدة الفعلية لذلك، وهو الذي هيأ له أسباب الزواج وأعدها بأمر من رسول الله إلى الخلق أجمعين صلى الله عليه وسلم كما يروي الطوسي أن علياً باع درعه وأتى بثمنه إلى الرسول. "ثم قبضه رسول الله من الدراهم بكلتا يديه، فأعطاها أبا بكر وقال: ابتع لفاطمة ما يصلحها من ثياب وأثاث البيت، أردفه بعمار بن ياسر وبعدة من أصحابه، فحضروا السوق، فكانوا يعرضون الشيء مما يصلح فلا يشترونه حتى يعرضوه على أبي بكر، فإن استصلحه اشتروه ... حتى إذا استكمل الشراء حمل أبو بكر بعض المتاع، وحمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا معه الباقي" (الأمالي) (1/ 39) أيضاً "مناقب" لابن شهر آشوب المازندراني (2/ 20) ط الهند، أيضاً (جلاء العيون) فارسي (1/ 176). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 417 ولا هذا فحسب بل الصديق ورفاقه هم كانوا شهوداً على زواجه بنص الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب منه كما يذكر الخوارزمي الشيعي والمجلسي والأربلي أن الصديق والفاروق وسعد بن معاذ لما أرسلوا علياً إلى النبي صلى الله عليه وسلم انتظروه في المسجد ليسمعوا منه ما يثلج صدورهم من إجابة الرسول وقبوله ذلك الأمر، فكان كما كانوا يتوقعون، فيقول علي: فخرجت من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا لا أعقل فرحاً وسروراً، فاستقبلني أبو بكر وعمر، وقالا لي: ما ورائك؟ فقلت: زوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة ففرحا بذلك فرحاً شديداً ورجعا معي إلى المسجد فلما توسطناه حتى لحق بنا رسول الله، وإن وجهه يتهلل سروراً وفرحاً، فقال: يا بلال! فأجابه فقال: لبيك يا رسول الله! قال: اجمع إلي المهاجرين والأنصار فجمعهم ثم رقي درجة من المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال: معاشر الناس إن جبرئيل أتاني آنفا وأخبرني عن ربي عز وجل أنه جمع ملائكته عند البيت المعمور، وكان أشهدهم جميعاً أنه زوج أمته فاطمة ابنة رسول الله من عبده علي بن أبي طالب، وأمرني أن أزوجه في الأرض وأشهدكم على ذلك" ("المناقب" للخوارزمي (ص251، 252) أيضاً (كشف الغمة) (1/ 358) أيضاً (بحار الأنوار) للمجلسي (10/ 38، 39) أيضاً (جلاء العيون) (1/ 184). ويكشف النقاب عن الشهود الأربلي في كتابه (كشف الغمة) حيث يروي: "عن أنس أنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فغشيه الوحي، فلما أفاق قال لي: يا أنس! أتدري ما جاءني به جبرئيل من عند صاحب العرش؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: أمرني أن أزوج فاطمة من علي، فانطلق فادع لي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وطلحة والزبير وبعددهم من الأنصار، قال: فانطلقت فدعوتهم له، فلما أن أخذوا مجالسهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن حمد الله وأثنى عليه ثم إني أشهدكم أني زوجت فاطمة من عليّ على أربعمائة مثقال فضة" (كشف الغمة) (1/ 348، 349) ط تبريز، (بحار الأنوار) (1/ 47، 48). هذا ولما ولد لهما الحسن كان أبو بكر الصديق، الرفيق الجد الحسن في الغار والصديق لوالده علي، والمساعد القائم بأعباء زواجه كان يحمله على عاتقه، ويداعبه ويلاعبه ويقول: بأبي شبيه بالنبي غير شبيه بعلي" (تاريخ اليعقوبي) (2/ 117): وبنفس القول تمسكت فاطمة بنت الرسول رضي الله عنها. انظر لذلك (تاريخ اليعقوبي) (2/ 117). وكانت العلاقات وطيدة إلى حد أن زوجة أبي بكر أسماء بنت عميس هي التي كانت تمرّض فاطمة بنت النبي عليه السلام ورضي الله عنها في مرض موتها، وكانت معها حتى الأنفاس الأخيرة وشاركها في غسلها وترحيلها إلى مثواها " وكان (علي) يمرضها بنفسه، وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس رحمها الله على استمرار بذلك" (الأمالي) للطوسي (1/ 107). و"وصتها بوصايا في كفنها ودفنها وتشييع جنازتها فعملت أسماء بها" (جلاء العيون) (ص235، 242). و"هي التي كانت عندها حتى النفس الأخير، وهي التي نعت علياً بوفاتها" (جلاء العيون) (ص237). و"كانت شريكة في غسلها" (كشف الغمة) (1/ 504). وكان الصديق دائم الاتصال بعلي من ناحية لتسأله عن أحواله بنت النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ما يزعمه القوم. "فمرضت (أي فاطمة رضي الله عنها) وكان علي يصلي في المسجد الصلوات الخمس، فلما صلى قال له أبو بكر وعمر: كيف بنت رسول الله؟ " كتاب (سليم بن قيس) (ص353). ومن ناحية أخرى من زوجه أسماء حيث كانت هي المشرفة والممرضة الحقيقية لها. و"لما قبضت فاطمة من يومها فارتجت المدينة بالبكاء من الرجال والنساء، ودهش الناس كيوم قبض فيه رسول الله، فأقبل أبو بكر وعمر يعزيان علياً ويقولان: يا أبا الحسن! لا تسبقنا بالصلاة على ابنة رسول الله" كتاب (سليم بن قيس) (ص255). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص72 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 418 المطلب الثالث عشر: المصاهرات بين الصديق وآل البيت وكانت العلاقات وثيقة أكيدة بين بيت النبوة وبيت الصديق لا يتصور معها التباعد والاختلاف مهما نسج المسامرون الأساطير والأباطيل، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41]. فالصديقة عائشة بنت الصديق أبي بكر كانت زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أحب الناس إليها مهما احترق الحساد ونقم المخالفون، فإنها حقيقة ثابتة، وهي طاهرة مطهرة - بشهادة القرآن مهما جحدها المبطلون وأنكرها المنكرون. ثم أسماء بنت عميس التي جاء ذكرها آنفا كانت زوجة لجعفر بن أبي طالب شقيق علي، فمات عنها وتزوجها الصديق وولدت له ولداً سماه محمداً الذي ولاه علي على مصر، ولما مات أبو بكر تزوجها علي بن أبي طالب فولدت له ولداً سماه يحيى. وحفيدة الصديق كانت متزوجة من محمد الباقر - الإمام الخامس عند القوم وحفيد علي رضي الله عنه - كما يذكر الكليني في أصوله تحت عنوان مولد الجعفر: "ولد أبو عبد الله عليه السلام سنة ثلاث وثمانين ومضى في شوال من سنة ثمان وأربعين ومائة وله خمس وستون سنة، ودفن بالبقيع في القبر الذي دفن فيه أبوه وجده والحسن بن علي عليهم السلام وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر" كتاب (الحجة من الأصول في الكافي) (1/ 472) ومثله في (الفرق) للنوبختي). ويقول ابن عنبة: أمه (أي جعفر) أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، ولهذا كان الصادق عليه السلام يقول: ولدني أبو بكر مرتين. كما أن القاسم بن محمد بن أبي بكر حفيد أبي بكر، وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب حفيد علي كانا ابني خالة كما يذكر المفيد وهو يذكر علي بن الحسين بقوله: والإمام بعد الحسن بن علي ابنه أبو محمد علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام، وكان يكنى أيضا أبا الحسن. وأمه شاه زنان بنت يزدجرد بن شهريار بن كسرى ويقال: إن اسمها كان شهربانويه وكان أمير المؤمنين ولى حريث بن جابر الحنفي جانباً من المشرق، فبعث إليه بنتي يزدجرد بن شهريار بن كسرى، فنحل ابنه الحسين شاه زنان منهما فأولدها زين العابدين ونحل الأخرى محمد بن أبي بكر، فولدت له القاسم بن محمد بن أبي بكر فهما ابنا خالة" (الإرشاد) للمفيد (ص253) ومثله في (كشف الغمة) و (منتهى الآمال) للشيخ عباس القمي (2/ 3). وأما المجلسي فذكر ذلك في (جلاء العيون) ولكنه صحح الروايات التي جاء بها المفيد وابن بابويه بأن شهربانويه لم تكن سبيت في عهد علي كما ذكره المفيد ولا في عهد عثمان كما ذكره ابن بابويه القمي، بل كانت من سبايا عمر كما رواه القطب الراوندي ثم يقر بعد ذلك بأن قاسم بن محمد بن أبي بكر وزين العابدين بن الحسين بن علي هما ابنا خالة (جلاء العيون) الفارسي (ص673، 674). وذكر أهل الأنساب والتاريخ قرابة أخرى وهي تزويج حفصة بنت عبد الرحمن بن الصديق من الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم بعد عبد الله بن الزبير أو قبله. ثم إن محمد بن أبي بكر من أسماء بنت عميس كان ربيب علي وحبيبه، وولاه إمرة مصر في عصره. "وكان علي عليه السلام يقول: محمد ابني من ظهر أبي بكر" (الدرة النجفية) للدنبلي الشيعي (شرح نهج البلاغة) (ص113 ص إيران). وكان من حب أهل البيت للصديق والتوادد ما بينهم أنهم سموا أبنائهم بأسماء أبي بكر رضي الله عنه، فأولهم علي بن أبي طالب حيث سمى أحد أبنائه بأبي بكر كما يذكر المفيد تحت عنوان "ذكر أولاد أمير المؤمنين وعددهم وأسمائهم ومختصر من أخبارهم". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 419 "محمد الأصغر المكنى بأبي بكر، وعبيد الله، الشهيدان مع أخيهما الحسين بألطف أمهما ليلى بنت مسعود الدارمية" (الإرشاد) ص186). وقال اليعقوبي: وكان له من الولد الذكور أربعة عشر ذكر الحسن والحسين وعبيد الله وأبو بكر لا عقب لهما أمهما يعلى بنت مسعود الحنظلية من بني تيم" (تاريخ اليعقوبي) (2/ 213). وذكر الأصفهاني في (مقاتل الطالبيين) تحت عنوان "ذكر خبر الحسين بن علي بن أبي طالب ومقتله ومن قتل معه من أهله" وكان منهم "أبو بكر بن علي بن أبي طالب وأمه يعلى بنت مسعود .. ذكر أبو جعفر أن رجلاً من همدان قتله، وذكر المدائني أنه وجد في ساقيه مقتولاً، لا يدرى من قتله" (مقاتل الطالبين) لأبي الفرج الأصفهاني الشيعي ط دار المعرفة بيروت (ص142) ومثله في (كشف الغمة) (2/ 64) (جلاء العيون) للمجلسي (ص582). وهل هذا إلا دليل حب ومؤاخاة وإعظام وتقدير من عليّ للصديق رضي الله عنهما. والجدير بالذكر أنه ولد له هذا الولد بعد تولية الصديق الخلافة والإمامة، بل وبعد وفاته كما هو معروف بداهة. وهل يوجد في الشيعة اليوم المتزعمين حب علي وأولاده رجل يسمى بهذا الاسم، وهل هم موالون له أم مخالفون؟ ونريد أن نلفت الأنظار أن علياً لم يسم بهذا الاسم ابنه إلا متيمناً بالصديق وإظهاراً له الولاء والوفاء وحتى بعد وفاته وإلا لا يوجد في بني هاشم رجل قبل علي يسمي ابنه بهذا الاسم حسب علمنا ومطالعتنا كتب القوم فبمن سمى ابنه آنذاك؟ ثم ولم يقتصر عليّ بهذا التيمن والتبرك وإظهار المحبة والصداقة للصديق، بل بعده بنوه أيضاً مشوا مشيه ونهجوا منهجه. فهذا هو أكبر أنجاله وابن فاطمة وسبط الرسول الحسن بن علي - الإمام المعصوم الثاني عند القوم - أيضا يسمي أحد أبنائه بهذا الاسم كما ذكره اليعقوبي. "وكان للحسن من الولد ثمانية ذكور وهم الحسن بن الحسن وأمه خولة وأبو بكر وعبد الرحمن لأمهات أولاد شتى وطلحة وعبيد الله" (تاريخ اليعقوبي) (2/ 228) (منتهى الآمال) (1/ 240). ويذكر الأصفهاني "إن أبا بكر بن الحسن بن علي بن أبي طالب أيضاً كان ممن قتل في كربلاء مع الحسين قتله عقبة الغنوي" (مقاتل الطالبين) (ص87). والحسين بن علي أيضاً سمى أحد أبنائه باسم الصديق كما يذكر المؤرخ الشيعي المشهور بالمسعودي في "التنبيه والإشراف" عند ذكر المقتولين مع الحسين في كربلاء. "وممن قتلوا في كربلاء من ولد الحسين ثلاثة، علي الأكبر وعبد الله الصبي وأبو بكر بنوا الحسين بن علي" (التنبيه والإشراف) (ص263). وقيل: "إن زين العابدين بن الحسن كان يكنى بأبي بكر أيضاً" (كشف الغمة) (2/ 74). وأيضاً حسن بن الحسن بن علي، أي حفيد علي بن أبي طالب سمى أحد أبنائه أبا بكر كما رواه الأصفهاني عن محمد بن علي حمزة العلوي أن ممن قتل مع إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب كان أبو بكر بن الحسن بن الحسن. والإمام السابع عند الشيعة موسى بن جعفر الملقب بالكاظم أيضاً سمى أحد أبنائه بأبي بكر. وأما الأصفهاني فيقول: إن ابنه علي - الإمام الثامن عندهم - هو أيضاً كان يكنى بأبي بكر، ويروي عن عيسى بن مهران عن أبي الصلت الهروي أنه قال: سألني المأمون يوماً عن مسألة، فقلت: قال فيها أبو بكرنا، قال عيسى بن مهران: قلت لأبي الصلت: من أبو بكركم؟ فقال: علي بن موسى الرضا كان يكنى بها وأمه أم ولد" (مقاتل الطالبين) (ص561، 562). والجدير بالذكر أن موسى الكاظم هذا سمى أحد بناته أيضاً باسم بنت الصديق، الصديقة عائشة كما ذكر المفيد تحت عنوان "ذكر عدد أولاد موسى بن جعفر وطرف من أخبارهم". وكان لأبي الحسن موسى عليه السلام سبعة وثلاثون ولداً ذكراً وأنثى منهم علي بن موسى الرضا عليهما السلام وفاطمة وعائشة وأم سلمة" (الإرشاد) (ص302، 303) (الفصول المهمة) 242، (كشف الغمة) (2/ 237). كما سمى جده علي بن الحسين إحدى بناته، عائشة" (كشف الغمة) (2/ 90). وأيضاً - الإمام العاشر المعصوم حسب زعمهم - علي بن محمد الهادي أبو الحسن سمى أحد بناته بعائشة، يقول المفيد: وتوفي أبو الحسن عليهما السلام في رجب سنة أربع وخمسين ومائتين، ودفن في داره بسرّ من رأى، وخلف من الولد أبا محمد الحسن ابنه. وابنته عائشة" (كشف الغمة) (ص334) و (الفصول المهمة) (ص283). وقبل أن ننهي نودّ أن نذكر بأن هناك في الهاشمية كثير من تسموا أنفسهم، أو سموا أبناءهم بأبي بكر نذكر منهم ابن الأخ لعلي بن أبي طالب وهو عبد الله بن جعفر الطيار بن أبي طالب فإنه سمى أحد أبنائه أيضاً باسم أبي بكر كما ذكره الأصفهاني في مقالته: قتل أبو بكر بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب يوم الحرة في الوقعة بين مسرف بن عقبة وبين أهل المدينة. وهذا من إحدى علائم الحب والود بين القوم خلاف ما يزعمه الشيعة اليوم من العداوة والبغضاء، والقتال الشديد والجدال الدائم بينهم. المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص77 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 420 المطلب الرابع عشر: قضية فدك وقبل أن ننتقل إلى الفاروق وعلاقته مع أهل البيت لا بد لنا أن نقف برهة غير يسيرة على سؤال يطرح حول اختلاف هؤلاء الأشراف الكرام البررة، ألا وهو إن كان حبهم وودادهم هكذا كما ذكر فماذا كانت قضية فدك؟ التي طالما نفخ إليها المنفخون المنافقون أعداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكبروها، وفخموها لمقاصدهم الخبيثة، ومطاعمهم السيئة، وأرادوا منها إثبات التفرقة والخلاف الشديد بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وخاصة بين بيت النبوة وبين المسلمين عامة، فإن أهل البيت كانوا في جانب وكان السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وبقية الأمة في جانب آخر. حاشا وكلا أن يكون كذلك، والمسألة لم تكن كبيرة وذات أهمية وأبعاد مثلما جعلوها فقط للطعن واللعن، والقضية كلها كانت بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي وبويع أبو بكر بخلافة رسول الله وإمارة المؤمنين أرسلت إليه بنت رسول الله فاطمة تسأله ميراثها من رسول الله عليه الصلاة والسلام مما أفاء الله على نبيه من فدك ("فدك" قرية بخيبر، وقيل: بناحية الحجاز، فيها عين ونخل، أفاء الله على نبيه صلى الله عليه وسلم (لسان العرب) (10/ 473) فأجابها أبو بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث، ما تركنا فهو صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال يعني مال الله ... وإني والله لا أغيّر شيئاً من صدقات النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت عليها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولأعملن فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي. ولما ذكر هذا الصديق لفاطمة رضي الله عنها تراجعت عن ذلك ولم تتكلم فيها بعد حتى ماتت، بل وفي بعض الروايات الشيعية أنها رضيت على ذلك كما يرويه ابن الميثم الشيعي في نهج البلاغة: "إن أبا بكر قال لها: إن لك ما لأبيك، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ من فدك قوتكم، ويقسم الباقي ويحمل منه في سبيل الله، ولك على الله أن أصنع بها كما كان يصنع، فرضيت بذلك وأخذت العهد عليه به" (شرح نهج البلاغة) لابن ميثم البحراني (5/ 107 ط طهران). ومثل ذلك ذكر الدنبلي في شرحه (الدرة النجفية) (ص331، 332 ط إيران). ولكن الشيعة لم يعجبهم بأن ترضى فاطمة بهذا القضاء بتلك السهولة، فسودوا صفحات وأوراقاً كثيرة، وكتبوا بخصوص ذلك كتباً عديدة ملأها الطعن والشتائم على أصحاب الرسول وتكفيرهم وتفسيقهم واتهامهم بالردة والخروج من الإسلام والظلم والجور على أهل البيت حيث أن أهل المعاملة والقضية لم يتكلموا، لا بقليل ولا بكثير كما نحن ذكرناه من الشيعة أنفسهم، بل وأكثر من ذلك نقل أئمة القوم أنفسهم بأن أبا بكر لم يكتف على الكلام فقط بل أعقبه بالعمل كما يروي ابن الميثم والدنبلي وابن أبي الحديد والشيعي المعاصر فيض الإسلام علي نقي. "إن أبا بكر كان يأخذ غلتها (أي فدك) فيدفع إليهم (أهل البيت) منها ما يكفيهم، ويقسم الباقي، فكان عمر كذلك، ثم كان عثمان كذلك، ثم كان علي كذلك" (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد ج4، أيضاً (شرح نهج البلاغة) لابن ميثم البحراني (5/ 107) (الدرة النجفية) (ص332) (شرح النهج) فارسي لعلي تقي (5/ 960) ط طهران). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 421 ولكن القوم كيف يرضيهم هذا؟ فقال كبيرهم المجلسي (وقل من يوجد مثل المجلسي جريئاً في السباب والشتائم وهو لا يذكر صاحباً من أصحاب النبي إلا ويلعنه ويفسقه ويكفره، وقد كتب في بحث فدك أن أبا بكر لما طلب الشهود من فاطمة على أن فدك لها قال له علي: أتطلب الشهود؟ هل الشهود كل شيء؟ قال: نعم، فقال له علي: إن شهد الشهود بأن فاطمة زنت ماذا تعمل؟ قال: أقيم عليها الحد كما أقيم على سائر الناس (عياذاً بالله) (حق اليقين) للمجلسي (ص193) فانظر جرأته وتسرعه كيف يتكلم، ولا يستحي؟): إن من المصيبة العظمى والداهية الكبرى غصب أبي بكر وعمر فدك من أهل بيت الرسالة .... وإن القضية الهائلة أن أبا بكر لما غصب الخلافة عن أمير المؤمنين، وأخذ البيعة جبراً من المهاجرين والأنصار (؟) وأحكم أمره طمع في فدك خوفاً منه بأنها لو وقعت في أيديهم يميل الناس إليهم بالمال، ويتركون هؤلاء الظالمين (يعني أبا بكر ورفاقه) فأراد إفلاسهم حتى لا يبقى لهم شيء، ولا يطمع الناس فيهم وتبطل خلافتهم الباطلة، ولأجل ذلك وضعوا تلك الرواية الخبيثة المفتراة: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة" (حق اليقين) فارسي للملا مجلسي (ص191) تحت "مطاعن أبي بكر"). وقد سلك مسلكه كثيرون وكم هم؟ كي ينبشوا الضغائن التي لم يكن لها وجود في العالم، ولكن بلهاء القوم لم يعرفوا أن البيت الذي نسجوه كان بيت العنكبوت ولا يبقى أمام عاصفة الحق. فالرواية التي ردوها هذا حسداً ونقمة على الصديق لم يعلموا أن إمامهم الخامس المعصوم رواها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي كتابهم أنفسهم، نعم! في كتابهم (الكافي) الذي يعدونه من أصح الكتب ويقولون فيه: إنه كاف للشيعة، يروي الكليني في هذا الكافي عن حماد بن عيسى عن القداح عن أبي عبيد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة .. وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر" (الأصول من الكافي) كتاب فضل العلم، باب العالم والمتعلم (1/ 34). ورواية أخرى أن جعفر أبا عبد الله قال: إن العلماء ورثة الأنبياء، وذاك أن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم" (الأصول من الكافي) باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء (1/ 32). فماذا يقول المجلسي ومن شاكله في هذا؟ وفي الفارسية بيت من الشعر إن كانت هذه جريمة ففي مدينتكم ترتكب أيضاً. وهناك روايتان غير هذه الرواية رواهما صدوق القوم تؤيد هذه الرواية وتؤكدها وهي: "عن إبراهيم بن علي الرافعي، عن أبيه، عن جدته بنت أبي رافع قالت: أتت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنيها الحسن والحسين عليهما السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شكواه الذي توفي فيه، فقالت: يا رسول الله هذان ابناك فورّثهما شيئاً قال: أما الحسن فإن له هيبتي وسؤددي وأما الحسين فإن له جرأتي وجودي" كتاب (الخصال) للقمي (ص77). والرواية الثانية: "قالت فاطمة عليها السلام: يا رسول الله! هذان ابناك فانحلهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما الحسن فنحلته هيبتي وسؤددي, وأما الحسين فنحلته سخائي وشجاعتي" كتاب (الخصال) للقمي (ص77). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 422 ثم وأراد المجلسي وغيره، وهم كثيرون من القوم أن يثبتوا أن أبا بكر ورفاقه لم يعملوا هذا إلا لأن يفلسوا علياً وأهل البيت كيلا يجلب الناس إليهم بالمال والمنال، فيا عجباً على القوم وعقولهم هل هم يظنون علياً وأهل بيته أمثال طلاب الحكم والرئاسة في هذه العصور المتأخرة بأنهم يطلبونها بالمال والرشى، وإن كانت القضية هكذا فالمال كان متوفراً عندهم لأن الكليني يذكر ويروي عن أبي الحسن - الإمام العاشر عند القوم - أن الحيطان السبعة كانت وقفت على فاطمة عليها السلام وهي: (1) الدلال (2) والعوف (3) والحسنى (4) والصافية (5) وما لام إبراهيم (6) والمثيب (7) والبرقة" كتاب الوصايا (الفروع من الكافي) (7/ 47، 48). فهل من يملك العقارات السبعة ينقصه من المال شيء؟ ثم وهل يظنون النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجعل أموال الدولة أمواله وملكه؟ وهذا ما لا يرضاه العقل، وحتى هذا العصر، عصر السلب والنهب، وعصر اللامبالاة وعدم التمسك بالدين، ففي مثل هذا العصر إن الملوك والحكام لو استولوا على بقعة من بقاع الأرض، أو فتحوها لا يجعلونها ملكاً لهم دون غيرهم، بل يجعلونها ملكاً للدولة يتصرفون فيها في مصالح الرعية وشئون العامة والخاصة، فهل كان الرسول فداه أبواي وروحي صلى الله عليه وسلم في نظر القوم ممن يؤثرون أنفسهم على الناس؟ سبحان الله ما هذا إلا إفك مفترى، والرسول العظيم الرؤوف الرحيم بريء ورفيع من هذا. وهناك شيء آخر وهو إن كانت أرض فدك ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تكن السيدة فاطمة رضي الله عنها وريثة وحيدة لها، بل كانت ابنتا الصديق والفاروق وارثتين أيضاً فحرم الصديق والفاروق ابنتيهما كما حرما فاطمة، ثم وعباس عم النبي كان حياً وهو من ورثته بلا شك. وثالثاً - إن المعترضين من الشيعة لا يعرفون بأن في مذهبهم لا ترث المرأة من العقار والأرض شيئاً، فلقد بوّب محدثوهم أبواباً مستقلة في هذا الخصوص، فانظر إلى الكليني، فإنه بوّب باباً مستقلاً بعنوان "إن النساء لا يرثن من العقار شيئاً" ثم روى تحته روايات عديدة. "عن أبي جعفر - الإمام الرابع المعصوم عند القوم - قال: النساء لا يرثن من الأرض ولا من العقار شيئاً" (الفروع من الكافي) كتاب المواريث (7/ 137). وروى الصدوق ابن بابويه القمي في صحيحه (من لا يحضره الفقيه) عن أبي عبد الله جعفر - الإمام الخامس عندهم - أن ميسرا قال: سألته (أي جعفر) عن النساء ما لهن من الميراث؟ فقال: فأما الأرض والعقارات فلا ميراث لهن فيه" (الفروع من الكافي) كتاب الفرائض والميراث (4/ 347). ومثل هذه فإنها لكثيرة، وقد ذكروا على عدم الميراث في العقارات والأراضي اتفاق علمائهم (انظر لذلك كتب القوم في الفقه). فما دامت المرأة لا ترث العقار والأرض فكيف كان لفاطمة أن تسأله فدك – حسب قولهم – وهي عقار لا ريب فيها، لا يختلف فيها اثنان، ولا يتناطح فيها كبشان. وأما إغضاب الصديق فاطمة والقول بأنها رجعت ولم تكلمه حتى ماتت. نعم! إنها رجعت عن القول بوراثة فدك، ولم تكلمه في هذا الموضوع حتى آخر حياتها. وأما غصب حقوقها فها هو المجلسي وهو على تعنّفه وتعنّته يضطر إلى أن يقول: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 423 إن أبا بكر لما رأى غضب فاطمة قال لها: أنا لا أنكر فضلك وقرابتك من رسول الله عليه السلام، ولم أمنعك من فدك إلا امتثالاً بأمر رسول الله، وأشهد الله على أني سمعت رسول الله يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، وما تركنا إلا الكتاب والحكمة والعلم، وقد فعلت هذا باتفاق المسلمين ولست بمتفرد في هذا، وأما المال فإن تريدينها فخذي من مالي ما شئت لأنك سيدة أبيك وشجرة طيبة لأبنائك، ولا يستطيع أحد أن ينكر فضلك" (حق اليقين) (ص201، 202) – ترجمة من الفارسية). فهل بعد هذا يمكن لأحد أن يقول: إن أبا بكر أغضبها، وغصب حقها، وأراد إيذاءها، وأقلقها، وأفلسها لأغراضه وأهدافه؟ اللهم إلا من عمي قلبه، وتحجر عقله، وأفلس ذهنه، واختلت حواسه؟ فالعمارة التي أرادوا بنائها على هذا الأساس الواهي لإقامة المآتم ومجالس اللعن والطعن على غصب حقوق أهل البيت، وإثبات المنافرة والعداوة بين خلفاء النبي وأصحابه وبين أهل بيته كانت مهدمة يوم أرادوا بناءها، والقصة التي أرادوا أن ينسجوها من الوهم والخيال راحت على أدراج الرياح وكانت هباء منثوراً، وقبل ذلك أقام القيامة على السبئيين سيد أهل البيت وزوج فاطمة، عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما يوم تولى الأمر كما ذكره السيد مرتضى الملقب بعلم الهدى إمام الشيعة: "إن الأمر لما وصل إلى علي بن أبي طالب كلّم في رد فدك، فقال: إني لأستحيي من الله أن أرد شيئاً منع منه أبو بكر وأمضاه عمر" (الشافي) للمرتضى (ص231) أيضاً (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد ج4). ولأجل ذلك لما سئل أبو جعفر محمد الباقر عن ذلك وقد سأله كثير النوال "جعلني الله فداك أرأيت أبا بكر وعمر هل ظلماكم من حقكم شيئاً أو قال: ذهبا من حقكم بشيء؟ فقال: لا والذي أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيراً ما ظلمانا من حقنا مثقال حبة من خردل، قلت: جعلت فداك أفأتولاهما؟ قال: نعم ويحك تولهما في الدنيا والآخرة، وما أصابك ففي عنقي" (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد (4/ 82). وأخو الباقر زيد بن علي بن الحسين قال أيضاً في فدك مثل ما قاله جده الأول علي بن أبي طالب وأخوه محمد الباقر لما سأله البحتري بن حسان وهو يقول: قلت لزيد بن علي عليه السلام وأنا أريد أن أهجن أمر أبي بكر: إن أبا بكر انتزع فدك من فاطمة عليها السلام، فقال: إن أبا بكر كان رجلاً رحيماً، وكان يكره أن يغير شيئاً فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتته فاطمة فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني فدك، فقال لها: هل لك على هذا بينة، فجاءت بعلي عليه السلام فشهد لها، ثم جاءت أم أيمن فقالت: ألستما تشهدان أني من أهل الجنة قالا: بلى، قال أبو زيد: يعني أنها قالت لأبي بكر وعمر: قالت: فأنا أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها فدك فقال أبو بكر: فرجل آخر أو امرأة أخرى لتستحقي بها القضية، ثم قال زيد: أيم الله! لو رجع الأمر إليّ لقضيت فيه بقضاء أبي بكر" (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد (4/ 82). فهل بعد هذا يحتاج الأمر إلى الإيضاح أكثر من ذلك؟ وقبل أن نأتي إلى آخر الكلام نريد أن نثبت ههنا روايتين رواهما الكليني في هذا الخصوص، فأما الأولى فهي التي رواها عن أبي عبد الله جعفر أنه قال: الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، أو قوم صالحوا، أو قوم أعطوا بأيديهم، وكل أرض خربة وبطون الأودية فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء" (الأصول من الكافي) كتاب (الحجة) باب الفيء والأنفال (1/ 539). وهذه صريحة في معناها بأن الإمام بعد النبي أحق الناس بالتصرف فيها. والرواية الثانية التي نذكرها هي طريفة ومروية أيضاً في الأصول من الكافي أن أبا الحسن موسى - الإمام السابع للقوم - ورد على المهدي، ورآه يردّ المظالم فقال: يا أمير المؤمنين! ما بال مظلمتنا لا ترد؟ فقال له: وما ذاك يا أبا الحسن؟ قال: فدك، فقال له المهدي: يا أبا الحسن! حدّها لي، فقال: حد منها جبل أحد، وحد منها عريش مصر، وحد منها سيف البحر، وحد منها دومة الجندل" (الأصول من الكافي" باب الفيء والأنفال (1/ 543). يعني نصف العالم كله، انظر إلى القوم وأكاذيبهم، فأين قرية من خيبر من نصف الدنيا؟ فيا عجباً للقوم ومبالغتهم، كيف يعظمون الحقير، وكيف يكبرون الصغير؟ وفي هذه دليل لمبالغات القوم وترهاتهم. وعلى ذلك نُتم هذا البحث في فدك وفضائل أمير المؤمنين وخليفة رسول الله الصادق الأمين وأفضليته وأحقيته بالخلافة والإمامة بعد النبي عليه الصلاة والسلام، وحبه لأهل بيت النبي في ضوء أقوال أهل البيت وأفعالهم، ومن كتب القوم أنفسهم، وثم ننتقل إلى الرجل الثاني الخليفة الراشد الفاروق، الفارق بين الحق والباطل، رضي الله عنه وأرضاه. المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص83 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 424 تمهيد وأما عمر بن الخطاب، فارس الإسلام وأمير المؤمنين، عبقري الملة، وقطب رحى المسلمين، وباني مجدهم، ومؤسس شوكتهم، وفاتح القيصرية، وهازم الكسروية، ورافع راية الله، ومعلي كلمته، موصل الدين من قلب الجزيرة إلى أقصى العالم، وناشر العدل، ومنفذ الشريعة الغراء على كل قريب وبعيد، ومساو بين كل جبار عنيد ومحتقر حقير، غير خائف في الحق لومة لائم، ولا آبه من عذل عاذل، ماحي الشرك والبدعة والكفر والضلال، حامي الحق والشريعة، الفارق بين الحق والباطل، العادل بين الرعية, خاصتهم وعامتهم أميرهم ومأمورهم، المعز لدين الله والحق، والمذل للطاغوت والكفر والأوثان، الأمين الراشد، المرشد المصلح رضي الله تعالى عنه كان محبوباً إلى أهل بيت النبي كما كان حبيباً إلى سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه صلوات الله وسلامه عليه وهو يمشي على الأرض رضي الله عنه: ((دخلت الجنة .. ورأيت قصراً بفنائه جارية، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب)) (متفق عليه). (1) وقال عليه السلام، والذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى: ((بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة (الصديق) فنزع منها ذنوباً -الذنوب: الدلو وفيها ماء- أو ذنوبين وفي نزعه ضعف، والله يغفر له ضعفه، ثم استحالت غرباً -دلو عظيمة- فأخذها عمر بن الخطاب فلم أر عبقرياً ينزع نزع عمر حتى ضرب الناس بعطن "أي حتى أرووا إبلهم فأبركوها، وضربوا لها عطناً، وهو مبرك الإبل حول الماء " – وفي رواية – حتى روى الناس وضربوا بعطن)) (2) (متفق عليه). (من تعليقات الشيخ الألباني على مشكاة المصابيحوقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه)) (رواه الترمذي). (3) فهذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلسان نبيه صلى الله عليه وسلم، ولقد ذكرنا منه أحاديث ثلاثة من إمام الكونين ورسول الثقلين فداه أبواي وروحي صلى الله عليه وسلم من كتب السنة المعتبرة خلاف عهدنا ودأبنا في هذا الكتاب بأننا لا ننقل شيئاً إلا من كتب القوم أنفسهم لأننا سوف نروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه - سيد أهل البيت، والإمام المعصوم الأول عند القوم - أنه يؤيد هذه الأحاديث الثلاثة بأقواله الواضحة، وتصريحاته المكشوفة، والمروية المذكورة المورودة في بطون كتب القوم وأوراقها وصفحاتها. فلنرى ماذا يقول أهل البيت وسادتهم في هذا المصلح المحسن للأمة الإسلامية البيضاء. المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص 91   (1) رواه البخاري (3679) ومسلم (2394) (2) رواه البخاري (3664) ومسلم (2392) (3) رواه الترمذي (3682) وأحمد (2/ 53) (5145) وابن حبان (6889) والحاكم (3/ 93) (4501) قال الترمذي حسن غريب، وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين، وقال الذهبي على شرط مسلم، وقال الألباني صحيح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 425 المطلب الأول: موقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه من الفاروق عمر رضي الله عنه يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يذكر الفاروق وولايته مصدقاً لرؤيا سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم الذي رآه وبشر به عمر بن الخطاب رضي الله عنه. "ووليهم وال، فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه" ("نهج البلاغة" بتحقيق صبحي الصالح تحت عنوان "غريب كلامه المحتاج إلى التفسير" ص557 ط دار الكتاب بيروت، أيضاً (نهج البلاغة) بتحقيق الشيخ محمد عبده ج4 ص107 ط دار المعرفة بيروت). وقال الميثم البحراني الشيعي، شارح نهج البلاغة، وكذلك الدنبلي شرحاً لهذا الكلام "أن الوالي عمر بن الخطاب، وضربه بجرانه كناية بالوصف المستعار عن استقراره وتمكنه كتمكن العير البارك من الأرض" ("شرح نهج البلاغة" لابن الميثم ج5 ص463، أيضاً "الدرة النجفية" ص394). ويقول ابن أبي الحديد المعتزلي الشيعي تحت هذه الخطبة، ويذكرها من أولها "وهذا الوالي هو عمر بن الخطاب، وهذا الكلام من خطبة خطبها في أيام خلافته طويلة يذكر فيها قربه من النبي صلى الله عليه وسلم واختصاصه له، وإفضاءه بأسراره إليه حتى قال فيها: فاختار المسلمون بعده بآرائهم رجلاً منهم فقارب وسدد حسب استطاعته على ضعف وجد كانا فيه، ثم وليهم بعده وال، فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه" (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد (4/ 519). فانظر إلى عليّ وكيف يطبق هذه الأوصاف على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما تصديقاً لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حرفاً بحرف، ويجعل الفاروق مصداقاً لبشارته عليه السلام، وكيف يقر ويعترف بأن الدين قد استقر في عهده المبارك، والإسلام قد تمكن في الأرض في أيام خلافته الميمونة، فهل لمتمسك أن يتمسك من الشيعة بقول علي بن أبي طالب - الإمام المعصوم عندهم الذي لا يخطئ –؟ ثم والخطبة التي مدح فيها عمر، وجعله مورد ومصداق بشرى الرسول هي خطبة ألقاها في أيام خلافته حيث لم يكن هناك ضرورة للتقية الشيعية التي ألصقوها تهمة بخيار الخلائق رضوان الله ورحمته عليهم. وكم هناك من خطب لعليّ، المنقولة في (نهج البلاغة) التي تدل على نفس المعنى بأن الفاروق كان سبباً لعز الدين، ورفعة الإسلام، وعظمة المسلمين، وتوسعة البلاد الإسلامية، وأنه أقام الناس على المحجة البيضاء، واستأصل الفتنة، وقوم العوج وأزهق الباطل، وأحيا السنة طائعاً لله خائفاً منه، فانظر إلى ابن عم رسول الله ووالد سبطيه وهو يبالغ في مدح الفاروق، ويقول: "لله بلاد فلان، فقد قوم الأود، وداوى العمد وخلف الفتنة، وأقام السنة، ذهب نقي الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها وسبق شرها، أدى إلى الله طاعته، واتقاه بحقه، رحل وتركهم في طرق متشعبة لا يهتدي بها الضال، ولا المستيقن المهتدي" (نهج البلاغة) تحقيق صبحي صالح (ص350) (نهج البلاغة) تحقيق محمد عبده (2/ 322). ويقول ابن أبي الحديد: العرب تقول: لله بلاد فلان أي در فلان .. وفلان المكنى عنه عمر بن الخطاب، وقد وجدت النسخة التي بخط الرضى أبي الحسن جامع نهج البلاغة وتحت فلان عمر .. وسألت عنه النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد العلوي فقال لي: هو عمر، فقلت له: أثنى عليه أمير المؤمنين عليه السلام؟ فقال: نعم" (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد (3/ 92 جزء12). ومثله ذكر ابن الميثم (انظر لذلك (شرح النهج) لابن الميثم (4/ 96، 97) والدنبلي وعلي نقي في الدرة النجفية (ص257) وشرح النهج الفارسي (4/ 712). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 426 هذا فلينظر كيف يعلن علي رضى الله عنه على ملأ الشهود عن الفاروق رضي الله عنه بصوته الرفيع أنه قوم العوج، وعالج المرض، وعامل بالطريقة النبوية، وسبق الفتنة وتركها خلفا، لم يدركها هو، ولا الفتنة أدركته، وانتقل إلى ربه وليس عليه ما يلام عليه، أصاب خير الولاية والخلافة، ولحق الرفيق الأعلى، ولم يلوث في القتل والقتال الذي حدث بين المسلمين طائعاً لله، غير عاص، واتقى الله في أداء حقه، ولم يقصر فيه ولم يظلم. فهذا هو الذي يليق أن يضرب الدين في عصره العطن. وكان عليّ وهو قائد أهل البيت يعد الفاروق ملجأ للإسلام، ومأوى للمسلمين ومرجعهم، فانظر كيف يصفه بهذه الأوصاف ولقد استشاره في الخروج إلى غزو الروم فقال له: إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم فتنكب، لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم. ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً محرباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى، كنت ردأ للناس ومثابة للمسلمين" (نهج البلاغة) تحقيق صبحي صالح ص193). ويكتب ابن أبي الحديد تحته شرحاً لهذه الخطبة "فتنكب مجزوم لأنه عطف على تسر وكهفة أي كهف يلجأ إليه، ويروي كانفة أي جهة عاصمة .. ، وحفزت الرجل أحفزه أي دفعته وسقته سوقاً شديداً وردأ أي عوناً، ومثابة أي أمنا، ومنه قوله تعالى: مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً [البقرة: 125]، أشار عليه السلام أن لا يشخص بنفسه حذراً أن يصاب فيذهب المسلمون كلهم لذهاب الرأس، بل يبعث أميراً من جانبه على الناس ويقيم هو في المدينة، فإن هزموا كان مرجعهم إليه" (شرح نهج البلاغة) (2 جزء8 ص369، 370). والقارئ حينما يقرأ هذه الخطبة يعرف الحب المتدفق من خلال الكلمات للفاروق والحرص على شخصه وحياته، والرجاء والتمني لبقائه في الحكم والخلافة ذخرا للإسلام والمسلمين رغم أنوف المبغضين والطاعنين فيه، ثم الجدير بالذكر أن الفاروق رضي الله عنه كان مصمماً للمسير إلى المعركة بنفسه والمرتضى علي رضي الله عنه كان يعرف ذلك، ومع ذلك أراد منعه قدر المستطاع لما كان يراه سبباً لعز الإسلام ومجده وشموخه، وأن لا يمسه سوء حتى لا تنقلب على الإسلام ودولته قالة ولا تدور عليه الدائرة، وأكثر من ذلك أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان يريد أن ينيب عنه في العاصمة الإسلامية علي بن أبي طالب رضي الله عنهما (يأتي ذكره في محله مفصلاً) وكانت له فرصة ذهبية لأخذه زمام الأمور واسترداد الحقوق الموهمة التي يظنها القوم بأنها سلبت، وقد ملؤوا من ذكرها الكتب والصحف ولطالما بكوا عليها بكاء مراً وبكاء إخوة يوسف حيث القضية بالعكس تماماً، لأن الذي ينيبون عنه، ويصيرون وكلاءه ومحاميه ومدافعيه، بل ومحاربيه ومقاتليه يظهر الأمر منعكساً تماماً، وكان عليّ طوال مدة خلافته هكذا معه لا يريد أن يلقي نفسه في المخاطر فصار كالرقيب عليه، محافظاً على حياته، ساهراً على مصالحه، راجياً له البقاء والدوام، ناصحاً مناصحاً لله وفي الله وصلاح الأمة وفلاحها، ولذلك لما استشاره في الشخوص لقتال الفرس بنفسه منعه من ذلك وقال له: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 427 "إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة. وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعدّه وأمدّه، حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيث طلع، ونحن على موعود من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده، ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه: فإن انقطع النظام تفرق الخرز وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً. والعرب اليوم، وإن كانوا قليلاً، فهم كثيرون بالإسلام، عزيزون بالاجتماع! فكن قطباً واستدر الرحا بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك. إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا: هذا أصل العرب، فإذا اقتطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك، وطمعهم فيك. فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين، فإن الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره. وأما ما ذكرت من عددهم، فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة" (نهج البلاغة) بتحقيق صبحي (ص203، 204) تحت عنوان "ومن كلام له (أي علي) عليه السلام وقد استشاره عمر في الشخوص لقتال الفرس بنفسه"). فهل بعد ذلك شك لشاك بأن علياً رضي الله عنه كان يعدّ الفاروق مصداقاً لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخبر عنه، وبشر به المسلمين بأن الإسلام يبلغ مداه في عصره وعهده، ولذلك يقول علي رضي الله عنه: ونحن على موعود من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده إلخ. فإنه بذلك يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ((ثم استحالت غرباً فأخذها عمر بن الخطاب، فلم أر عبقرياً ينزع نزع عمر حتى ضرب الناس بعطن)). (1) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأكثر من ذلك يلفت أنظار الناس بكلامه هذا إلى وعد الله عز وجل كما ورد في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:55]. فالمقصود من انتباهه وتوجيهه بقوله: ونحن على موعود من الله: بأن الله وعد المؤمنين والعاملين الصالحات التمكن في الأرض والاستخلاف، فنحن المؤمنين وأنت أيها الفاروق أميرنا، والله ينجز وعده في عهدك وخلافتك، وينصر جنده الذين يقاتلون تحت رايتك وقيادتك الحكيمة وتوجيهاتك الرشيدة لأن دين الله لا بد له أن يظهر ويغلب - حتى يبلغ بجرانه، لأنك أنت القيم بأمره، ومدبر لقضاياه، وبك شأنه ومكانه، فإن أنت فقدت ضاع الأمر، وانتشر الجمع، وضعفت القوة، وانكسرت الشوكة، وافترق الناس حتى لن يرجى اجتماعهم واتحادهم بعد ذلك أبداً (فكان كما قال، فتحت أبواب الفتن بعد شهادته ولم تغلق بعده حتى اليوم، وقد ورد في ذلك المعنى حديثاً أيضاً) فإذا انقطع النظام تفرق الجزر وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً. وأيضاً أشار بذلك إلى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب)) (2) , - رواه المجلسي في (بحار الأنوار) عن محمد الباقر –" (بحار الأنوار) ج4 كتاب السماء والعالم) فإن دعاء الرسول لا بد له أن يقبل.   (1) رواه البخاري (3664) ومسلم (2392) (2) رواه ابن ماجه (105) وابن حبان (6882) والحاكم (3/ 89) (4484) وقال صحيح على شرط الشيخين، وقال الحافظ في ((الفتح)) (7/ 48) أخرجه الحاكم بإسناد صحيح، وأورده الألباني في ((الصحيحة)) (3225). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 428 ونبّه سيد أهل البيت الناس مع من فيهم الذين يدعون أنهم شيعته بأن الفاروق ليس كواحد من الناس، بل إنه قطب، وعليه يدور رحى الإسلام والعرب المسلمين، فلولا القطب ليس للرحى بأن تدور، وأنى لها ذلك؟ ولذلك يلح عليه بقوله: فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتفضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها: لأنهم يعرفون أن الفاروق هو الأصل، وإن استؤصل لا يبقى للفرع أثر، وإنه هو القطب، وإن كسر تنكسر الرحى ولا تدور، وأيضا إنك أنت الحامي حمى القوم، وحافظ عوراتهم، فلا نتركك بأن تبرح عنا وتدخل نفسك في غمار الموت، لأننا لا نستغني عنك، ونستغني بك قوماً آخرين. فما أحسن ما عبّر بهم علي بن أبي طالب ما يختلج في صدره، ويكنه في ضميره، ويعتقد به في معتقداته تجاه الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ورضيا عنه. هذا وكان علي رضي الله عنه يعتقد أن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه، وكان يرى بأنه محدث بأخبار الرسول، ولذلك لم يكن يخالف سيرته وعمله حتى وفي الأمور الصغيرة والتافهة، وقد نقل الدينوري الشيعي أنه لما قدم الكوفة "قيل له: يا أمير المؤمنين! أتنزل القصر؟ قال: لا حاجة لي في نزوله، لأن عمر بن الخطاب كان يبغضه، ولكني نازل الرحبة، ثم أقبل حتى دخل المسجد الأعظم فصلى ركعتين، ثم نزل الرحبة" (الأخبار الطوال) لأحمد بن داود الدينوري (ص152). وكذلك لما تكلم في رد فدك أبي أن يعمل خلاف ما فعله عمر، فهذا هو السيد مرتضى يقول: فلما وصل الأمر إلى علي بن أبي طالب كلم في رد فدك، فقال: إني لأستحي من الله أن أردّ شيئاً منع منه أبو بكر، وأمضاه عمر" كتاب (الشافي في الإمامة) (ص213) أيضاً (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد). وننقل هنا روايات ثلاثة تأييداً لهاتين الروايتين نقلناها من كتب القوم. الأولى من حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أنه قال: لا أعلم علياً خالف عمر، ولا غيّر شيئاً مما صنع حين قدم الكوفة" (رياض النضرة) لمحب الطبري (2/ 85). والرواية الثانية "أن أهل نجران جاءوا إلى علي يشتكون ما فعل بهم عمر، فقال في جوابهم: إن عمر كان رشيد الأمر، فلا أغير شيئاً صنعه عمر" (البيهقي) (10/ 130) (الكامل) لابن أثير (2/ 201) ط مصر، (التاريخ الكبير) للإمام البخاري (4/ 145) ط الهند، كتاب (الخراج) لابن آدم (ص23) ط مصر، "كتاب (الأموال) (ص98) (فتوح البلدان) (ص74). والرواية الثالثة أن علياً قال حين قدم الكوفة: ما كنت لأحل عقدة شدها عمر" كتاب (الخراج) لابن آدم (ص23) أيضاً (فتوح البلدان) للبلاذري (ص74) ط مصر). وما كان كل هذا إلا لأنه يراه رجلاً ملهماً حسب إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، ورجلاً مسدداً يدور معه الحق أينما دار. وأما كون عمر رجلاً من أهل الجنة كما ورد في ذلك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رويناه، فلقد شهد بذلك علي بن أبي طالب وابن عمه وأحد قواده من المعتمدين وأمرائه الموثوقين عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 429 ولقد أورد هذه الرواية ابن أبي الحديد أن الفاروق لما طعن، وطعنه أبو لؤلؤة المجوسي الفارسي دخل عليه ابنا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم فيقول ابن عباس: فسمعنا صوت أم كلثوم (بنت علي رضي الله عنه) واعمراه، وكان معها نسوة يبكين فارتج البيت بكاء، فقال عمر: ويل أم عمر إن الله لم يغفر لهم، فقلت: والله! إني لأرجو أن لا تراها إلا مقدار ما قال الله تعالى: وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم: 71] , إن كنت ما علمنا لأمير المؤمنين وسيد المسلمين تقضي بالكتاب وتقسم بالسوية، فأعجبه قولي، فاستوى جالساً فقال: أتشهد لي بهذا يا ابن عباس؟ فكعكعت أي جبنت، فضرب عليّ عليه السلام بين كتفي وقال: اشهد، وفي رواية لم تجزع يا أمير المؤمنين؟ فوالله لقد كان إسلامك عزاً، وإمارتك فخراً، ولقد ملأت الأرض عدلاً، فقال: أتشهد لي بذلك يا ابن عباس! قال: فكأنه كره الشهادة فتوقف، فقال له علي عليه السلام: قل: نعم، وأنا معك، فقال: نعم" (ابن أبي الحديد) (3/ 146) ومثل هذا في "كتاب (الآثار) (ص207) (سيرة عمر) لابن الجوزي (ص193) ط مصر). وأكثر من هذا أن علياً - وهو الإمام المعصوم الأول عند القوم - كان يؤمن بأنه من أهل الجنة لما سمعه من لسان خيرة خلق الله محمد المصطفى الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، ولأجل ذلك كان يتمنى بأن يلقى الله بالأعمال التي عملها الفاروق عمر رضي الله عنه في حياته، كما رواه كل من السيد مرتضى وأبو جعفر الطوسي وابن بابويه وابن أبي الحديد. لما غسل عمر وكفن دخل علي عليه السلام فقال: صلى الله عليه وآله وسلم ما على الأرض أحد أحب إلي أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجي (أي المكفون) بين أظهركم" كتاب (الشافي) لعلم الهدى (ص171) و (تلخيص الشافي) للطوسي (2/ 428) ط إيران، و (معاني الأخبار) للصدوق (ص117) ط إيران). ووردت هذه الرواية في كتب السنة بتمامها في (المستدرك) للحاكم (3/ 93) مع (التلخيص) للذهبي و (مسند أحمد) (مسندات علي) (وطبقات ابن سعد) (أحوال عمر) (3/ 269، 270) ط ليدن) ومثله ورد في البخاري ومسلم. وأما ابن أبي الحديد فيذكر "طعن أمير المؤمنين فانصرف الناس وهو في دمه مسجى لم يصل الفجر بعد، فقيل: يا أمير المؤمنين! الصلاة، فرفع رأسه وقال: لاها الله إذن، لا حظ لامرئ في الإسلام ضيع صلاته، ثم وثب ليقوم فانبعث جرحه دماً فقال: هاتوا لي عمامة، فعصب جرحه، ثم صلى وذكر، ثم التفت إلى ابنه عبد الله وقال: ضع خدي إلى الأرض يا عبد الله! قال عبد الله: فلم أعج بها وظننت أنها اختلاس من عقله، فقالها مرة أخرى: ضع خدّي إلى الأرض يا بني، فلم أفعل، فقال الثالثة: ضع خدّي إلى الأرض لا أم لك، فعرفت أنه مجتمع العقل، ولم يمنعه أن يضعه هو إلا ما به من الغلبة، فوضعت خدّه إلى الأرض حتى نظرت إلى أطراف شعر لحيته خارجة من أضعاف التراب وبكى حتى نظرت إلى الطين قد لصق بعينه، فأصغيت أذني لأسمع ما يقول فسمعته يقول: يا ويل عمر وويل أم عمر إن لم يتجاوز الله عنه، وقد جاء في رواية أن علياً عليه السلام جاء حتى وقف عليه فقال: ما أحد أحب إلي أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى" (شرح النهج) لابن أبي الحديد (3/ 147). فهل بعد ذلك مجال لقائل أن يقول بأن علياً وهو سيد أهل البيت لم يكن يعدّ عمر رجلاً من أهل الجنة؟ فمن من الناس يرجى أن يكون عمله وصحيفته كصحيفته وعمله؟. فهل هناك أكثر من ذلك؟ نعم! هناك أكثر وأكثر، فلقد شهد علي رضي الله عنه: "إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر" كتاب (الشافي) (2/ 428). وقال فيه وفي أبي بكر في رسالته: إنهما إماما الهدى، وشيخا الإسلام، والمقتدى بهما بعد رسول الله، ومن اقتدى بهما عصم" (تلخيص الشافي) للطوسي (2/ 428).وأيضا روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن أبا بكر مني بمنزلة السمع، وإن عمر مني بمنزلة البصر)). (1) (عيون أخبار الرضا) لابن بابويه القمي (1 ص313) أيضاً (معاني الأخبار) للقمي (ص110) أيضاً (تفسير الحسن العسكري). والجدير بالذكر أن هذه الرواية رواها عليّ عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد رواها عن علي ابنه الحسن رضي الله عنهما. المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص92   (1) لم يرد بهذا اللفظ، وورد بلفظ (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أبا بكر وعمر فقال هذان السمع والبصر) رواه الترمذي (3671) وقال حديث مرسل، وأخرجه الحاكم (3/ 73) (4432) وقال صحيح الإسناد وقال الذهبي حسن، وأورده الألباني في ((الصحيحة)) (815) وللحديث ألفاظ أخرى غير هذا بعضها متكلم فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 430 المطلب الثاني: مدح أهل البيت الفاروق هذا ولقد مدحه ابن عباس رضي الله عنه وهو أحد أعلام أهل بيت النبوة وسادتهم وابن عم النبي عليه السلام بقوله: رحم الله أبا حفص كان والله حليف الإسلام، ومأوى الأيتام، ومنتهى الإحسان، ومحل الإيمان، وكهف الضعفاء، ومعقل الحنفاء، وقام بحق الله صابراً محتسباً حتى أوضح الدين، وفتح البلاد، وآمن العباد" (مروج الذهب) للمسعودي الشيعي (3/ 51) (ناسخ التواريخ) (2/ 144) ط إيران). هذا وقد بالغ في مدحه سائر أهل البيت كما مر في ذكر الصديق رضي الله عنه عن زين العابدين علي بن الحسين بن علي، وعن ابنه محمد الباقر، وزيد الشهيد، وعن ابن الباقر جعفر، الملقب بالصادق، وأنه كان يأتي إلى قبرهما ويسلم عليهما، وكان يتولاهما، كل شيء من ذلك في ضمن ذكر الصديق أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله عنهما. وقبل أن ننتقل إلى شيء آخر نريد أن نضيف إلى ما ذكرنا رواية أخرى أوردها الكليني في كتاب (الروضة من الكافي). إن جعفر بن محمد - الإمام السادس المعصوم لدى الشيعة - لم يكن يتولاهما فحسب، بل كان يأمر أتباعه بولايتهما أيضاً، فيقول صاحبه المشهور لدى القوم أبو بصير: كنت جالساً عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخلت علينا أم خالد التي كان قطعها يوسف بن عمر تستأذن عليه. فقال أبو عبد الله عليه السلام: أيسرّك أن تسمع كلامها؟ قال: فقلت: نعم، قال: فأذن لها. قال: وأجلسني على الطنفسة، قال: ثم دخلت فتكلمت فإذا امرأة بليغة، فسألته عنهما (أي أبي بكر وعمر) فقال لها: توليهما، قالت: فأقول لربي إذا لقيته: إنك أمرتني بولايتهما؟ قال: نعم" (الروضة من الكافي) (8/ 101) ط إيران تحت عنوان "حديث أبي بصير مع المرأة"). فهذا هو الإمام السادس للقوم الذي جعلوا مذهبهم على اسمه، وشريعتهم على رسمه، حيث سموا أنفسهم جعفريين، ومذهبهم الجعفري، لا يتولى أبا بكر وعمر نفسه بل يأمر أتباعه أيضاً بتوليهما، فرحمة الله عليهم جميعاً، ورحمة ربنا على من يتمثل بأمره وأمر آبائه في ولاية أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وغيرهما وأصحاب النبي صلوات الله وسلامه ورضوانه عليهم أجمعين. المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص103 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 431 المطلب الثالث: تزويج المرتضى أم كلثوم من الفاروق وعلى هذا زوج علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابنته التي ولدتها فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم من الفاروق رضي الله عنه حينما سأله زواجها منه رضي بما يطلب، وثقة فيه، واعتماداً به، وإقراراً بفضائله ومناقبه، واعترافاً بمحاسنه وجمال سيرته، وإظهاراً بأن بينهم من العلاقات الوطيدة الطيبة والصلات المحكمة المباركة ما يحرق قلوب الحساد من اليهود وأعداء الأمة المجيدة، ويرغم أنوفهم، ولقد أقر بهذا الزواج كافة أهل التاريخ والأنساب وجميع محدثي الشيعة وفقهائهم ومكابريهم ومجادليهم وأئمتهم المعصومين حسب زعمهم، ولقد أوردنا روايات بخصوص ذلك في كتابنا (الشيعة والسنة). وإتماماً للفائدة وإكمالا للبحث نورد ههنا بعض الروايات الأخرى التي لم نوردها هناك، فيقول المؤرخ الشيعي أحمد بن أبي يعقوب في تاريخه تحت ذكر حوادث سنة (17) من خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "وفي هذه السنة خطب عمر إلى علي بن أبي طالب أم كلثوم بنت علي، وأمها فاطمة بنت رسول الله، فقال علي: إنها صغيرة! فقال: إني لم أرد حيث ذهبت. لكني سمعت رسول الله يقول: كل نسب وسبب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي وصهري، فأردت أن يكون لي سبب وصهر برسول الله، فتزوجها وأمهرها عشرة آلاف دينار" (تاريخ اليعقوبي) (2/ 149، 150). وأيضاً ذكر ذلك الطبري في تاريخه (تاريخ الأمم والملوك) (5/ 16) ط مصر القديم) وابن كثير في (البداية والنهاية) (7/ 139) وابن الأثير في (الكامل) (3/ 29) ط دار الكتاب بيروت) و (طبقات ابن سعد) (ص340) ط ليدن وأبو الفداء في تاريخه وغيرهم وهم كثيرون. وأقر بذلك الزواج أصحاب الصحاح الأربعة الشيعية أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني في كافيه بأن علياً زوج ابنته أم كلثوم من الفاروق رضي الله عنهما. وروى أيضاً عن سليمان بن خالد أنه قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام - جعفر الصادق - عن امرأة توفي زوجها أين تعتد؟ في بيت زوجها أو حيث شاءت؟ قال: بلى حيث شاءت، ثم قال: إن علياً لمّا مات عمر أتى أم كلثوم فأخذ بيدها فانطلق بها إلى بيته" (الكافي في الفروع) كتاب الطلاق، باب المتوفي عنها زوجها (6/ 115، 116) وفي نفس الباب رواية أخرى عن ذلك، وأورد هذه الرواية شيخ الطائفة الطوسي في صحيحه (الاستبصار) أبواب العدة، باب المتوفي عنها زوجها (3/ 353) ورواية ثانية عن معاوية بن عمار، وأوردهما في (تهذيب الأحكام) باب في عدة النساء (8 ص161). وهنالك رواية أخرى رواه الطوسي عن جعفر - الإمام السادس عندهم - عن أبيه الباقر أنه قال: ماتت أم كلثوم بنت علي وابنها زيد بن عمر بن الخطاب في ساعة واحدة لا يدرى أيهما هلك قبل، فلم يورث أحدهما من الآخرة وصلي عليهما جميعاً" (تهذيب الأحكام) كتاب الميراث، باب ميراث الغرقى والمهدوم، (9/ 262). وذكر هذا الزواج من محدثي الشيعة وفقهائها السيد مرتضى علم الهدى في كتابه (الشافي) (ص116) وفي كتابه (تنزيه الأنبياء) (ص141 ط إيران) وابن شهر آشوب في كتابه (مناقب آل أبي طالب) (ج3 ص162 ط بمبئى الهند) والأربلي في "كشف الغمة في معرفة الأئمة" (ص10 ط إيران القديم) وابن أبي الحديد في "شرح نهج البلاغة" (ج3 ص124) ومقدس الأردبيلي في "حديقة الشيعة" (ص277) ط طهران) والقاضي نور الله الشوشتري الذي يسمونه بالشهيد الثالث في كتابه (مجالس المؤمنين) (ص76) ط إيران القديم، أيضاً (ص82). ويقول وهو يذكر المقداد بن الأسود: إن النبي أعطى بنته لعثمان، وإن الولي زوج بنته من عمر" (مجالس المؤمنين) (ص85). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 432 وأيضاً ذكر هذا الزواج في كتابه (مصائب النواصب) (ص170) ط طهران) وأيضاً السيد نعمت الله الجزائري في كتابه (الأنوار النعمانية) والملا باقر المجلسي في كتابه (بحار الأنوار) (باب أحوال أولاده وأزواجه (ص621) ط طهران) والمؤرخ الشيعي المرزه عباس علي القلي في تاريخه (تاريخ طراز مذهب مظفري) فارسي، باب حكاية تزويج أم كلثوم من عمر بن الخطاب) ومحمد جواد الشري في كتابه (أمير المؤمنين) (ص217) تحت عنوان "علي في عهد عمر" ط بيروت) والعباسي القمي في (منتهى الآمال) (1/ 186) فصل6 تحت عنوان "ذكر أولاد أمير المؤمنين" ط إيران القديم) وغيرهم الذين بلغ عددهم حد التواتر، ولا ينكر ذلك إلا مكابر جاهل أو مجادل متنكر. ولقد استدل بهذا الزواج فقهاء الشيعة على أنه يجوز نكاح الهاشمية من غير الهاشمي، فكتب الحلّي في شرائع الإسلام "ويجوز نكاح الحرة العبد، والعربية العجمي، والهاشمية غير الهاشمي" (شرائع الإسلام) في الفقه الجعفري للحلي، كتاب النكاح، المتوفي 672). وكتب تحت هذا شارح الشرائع زين الدين العاملي الملقب بالشهيد الثاني "وزوج النبي ابنته عثمان، وزوج ابنته زينب بأبي العاص بن الربيع، وليسا من بني هاشم، وكذلك زوّج علي ابنته أم كلثوم من عمر، وتزوج عبد الله بن عمرو بن عثمان فاطمة بنت الحسين، وتزوج مصعب بن الزبير أختها سكينة، وكلهم من غير بني هاشم" (مسالك الأفهام شرح شرائع الإسلام) باب لواحق العقد ج1). ونريد أن نختم الكلام في هذا الموضوع برواية ابن أبي الحديد المعتزلي الشيعي. "إن عمر بن الخطاب وجه إلى ملك الروم بريداً، فاشترت أم كلثوم امرأة عمر طيباً بدنانير، وجعلته في قارورتين وأهدتهما إلى امرأة ملك الروم، فرجع البريد إليها ومعه ملء القارورتين جواهر، فدخل عليها عمر وقد صبت الجواهر في حجرها، فقال: من أين لك هذا؟ فأخبرته فقبض عليه وقال: هذا للمسلمين، قالت: كيف وهو عوض هديتي؟ قال: بيني وبينك، أبوك، فقال علي عليه السلام: لك منه بقيمة دينارك والباقي للمسلمين جملة لأن بريد المسلمين حمله" (شرح نهج البلاغة) (4/ 575) ط بيروت 1375هـ‍). ولقد ذكر هذا الزواج علماء الأنساب والتراجم أيضاً مثل البلاذري في (أنساب الأشراف) (1/ 428) ط مصر) وابن حزم في (جمهرة أنساب العرب) (ص37، 38) ط مصر) والبغدادي في كتابه (المحبر) (تحت عنوان أصهار علي) (ص56 و437) ط دكن) والدينوري في "المعارف" (تحت عنوان بنات علي ص92 ط مصر وأيضاً ص79، 80 تحت عنوان أولاد عمر بن الخطاب) وغيرهم. المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص104 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 433 المطلب الرابع: إكرام الفاروق أهل البيت واحترامه إياهم ولم تكن هذه العلاقات من طرف واحد بل كل الأطراف كانوا معتنين بهذه العلاقات فكان الفاروق يجل أهل بيت النبي أكثر مما كان يجل أهل بيته هو، وكان يحترمهم ويقدمهم في الحقوق والعطاء على نفسه وأهل بيته، ولقد ذكر المؤرخون قاطبة أن الفاروق لما عيّن الوظائف المالية والعطاءات من بيت المال قدّم على الجميع بني هاشم لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاحترامه أهل بيته عليه الصلاة والسلام. فها هو اليعقوبي يذكر ذلك بقوله: ودون عمر الدواوين، وفرض العطاء سنة (20) وقال: قد كثرت الأموال فأشير عليه أن يجعل ديواناً، فدعا عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم بن نوفل بن عبد مناف (وكلهم أقرباء علي أخوه وأبناء عمه، هكذا كان الفاروق، فالعدل – العدل) وقال: اكتبوا الناس على منازلهم وابدءوا ببني عبد مناف، فكتب أول الناس علي بن أبي طالب في خمسة آلاف، والحسن بن علي في ثلاثة آلاف، والحسين بن علي في ثلاثة آلاف (اللهم إلا أهل السنة، فإنهم ذكروا في كتبهم أن الفاروق "فرض لأبناء البدريين ألفين ألفين إلا حسناً وحسيناً فإنه ألحقهما بفريضة أبيهما لقرابتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففرضت لكل واحد منهما خمسة آلاف درهم، وفرض للعباس خمسة آلاف درهم لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم " (طبقات ابن سعد) (3/ 213، 214) وكتاب (الخراج) لأبي يوسف (ص43 - 44) ط مصر، وفتوح البلدان (ص454، 455) وكتاب (الأموال) لأبي عبيد بن سلام ولقد روى البلاذري، ويحيى بن آدم، والطرابلسي وغيرهم عن جعفر بن محمد الباقر عن محمد الباقر وعن عبد الله بن الحسن وعن علي بن أبي طالب "إن عمر أقطع علياً ينبع فأضاف إليها غيرها" (فتوح البلدان للبلاذري (ص20) وكتاب (الخراج) ليحيى بن آدم (ص78) ط مصر القديم والإسعاف في أحكام الأوقاف للطرابلسي (ص8) ط مصر .. ولنفسه أربعة آلاف (ومع هذا لا يستحي من الله من يقول: إن عمر غصب حقوق أهل البيت، وهذا هو اليعقوبي يلطم على وجوههم لطمات من الحق الذي وفقه الله أن يقره ويعترف به، وعمر يومئذ أمير المؤمنين، وعلي دونه) .. وكان أول مال أعطاه مالاً قدم به أبو هريرة من البحرين (نعم! أبو هريرة الذي يبغضه القوم أشد البغض، ليس إلا لأنه روى أحاديث سمعها من لسان رسول الله في مناقب أصحابه البررة، وخاصة الصديق والفاروق، نعم! ذلك أبو هريرة الذي جاء بالمال، فأخذ كلهم من مال الله الذي أتى به هو) مبلغه سبعمائة ألف درهم، قال (يعنى الفاروق): اكتبوا الناس على منازلهم، واكتبوا بني عبد مناف، ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه، ثم أتبعوهم عمر بن الخطاب وقومه، فلما نظر عمر قال: وددت والله أني هكذا في القرابة برسول الله، ولكن ابدءوا برسول الله ثم الأقرب فالأقرب منه حتى تضعوا عمر بحيث وضعه الله" (تاريخ اليعقوبي) (2/ 153) ط بيروت). وأما ابن أبي الحديد فقال: لا بل ابدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأهله، ثم الأقرب فالأقرب، فبدأ ببني هاشم، ثم ببني عبد المطلب ثم بعبد شمس ونوفل، ثم بسائر بطون قريش، فقسم عمر مروطاً بين نساء المدينة، فبقي منها مرط حسن، فقال بعض من عنده: أعط هذا يا أمير المؤمنين! ابنة رسول الله التي عندك يعنون أم كلثوم بنت علي عليه السلام، فقال: أم سليط أهديه فإنها ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تزفر لنا يوم أحد قرباً" (نهج البلاغة) لابن أبي الحديد (3/ 113، 114). هذا ولقد ثبت أن الفاروق كان يقدر ويكرم أهل البيت، ويكن لهم من الاحترام ما لم يكن للآخرين، وحتى وأهل بيته وخاصته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 434 وذكر أن ابنة يزدجرد كسرى إيران أكبر ملوك العالم آنذاك لما سبيت مع أسارى إيران أرسلت مع من أرسل إلى أمير المؤمنين وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر الفاروق الأعظم رضي الله عنه، وتطلع الناس إليها وظنوا أنها تعطي وتنفل إلى ابن أمير المؤمنين والمجاهد الباسل الذي قاتل تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوات عديدة، لأنه هو الذي كان لها كفو، ولكن الفاروق لم يخصها لنفسه ولابنه ولا لأحد من أهل بيته، بل رجح أهل بيت النبوة فأعطاها لحسين بن علي رضي الله عنهما، وهي التي ولدت علي بن الحسين رضي الله عنه الذي بقي وحيداً من أبناء الحسين في كربلاء حياً وأنجب وتسلسل منه نسله" (فليحذر الذين يدعون أنهم من نسل الحسين، ثم يسبون الفاروق، ويعدونه ظالماً حق آل محمد، وغاصباً لخلافتهم، لولاه لما كان لهم وجود، وإن كان غاصباً فكيف رضي الحسين بأخذ الجارية منه التي سبيت في معركة من معاركه التي أقيمت تحت لوائه وحسب توجيهاته؟ فليتدبر، وهل من مفكر؟). ولقد ذكر ذلك نسابة شيعي مشهور ابن عنبة "إن اسمها شهربانو قيل: نهبت في فسخ المدائن فنفلها عمر بن الخطاب من الحسين عليه السلام" (عمدة الطالب في أنساب أبي طالب) الفصل الثاني تحت عنوان عقب الحسين ص192). كما ذكر ذلك محدث الشيعة المعروف في صحيحه الكافي في الأصول، عن محمد الباقر أنه قال: لما قدمت بنت يزدجرد على عمر أشرف لها عذارى المدينة، وأشرق المسجد بضوئها لما دخلته، فلما نظر إليها عمر غطت وجهها وقالت: أف بيروج باداهرمز، فقال عمر: أتشتمني هذه وهمّ بها، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ليس ذلك لك، خيرها رجلاً من المسلمين وأحسبها بفيئه، فخيرها فجاءت حتى وضعت يدها على رأس الحسين عليه السلام، فقال لها أمير المؤمنين: ما اسمك؟ فقالت: جهان شاه، فقال لها أمير المؤمنين: بل شهربانويه، ثم قال للحسين: يا أبا عبد الله! لتلدن لك منها خير أهل الأرض، فولدت علي بن الحسين عليه السلام، وكان يقال لعلي بن الحسين عليه السلام: ابن الخيرتين، فخيرة الله من العرب هاشم ومن العجم فارس. وروي أن أبا الأسود الدؤلي قال فيه: وإن غلاماً بين كسرى وهاشم لأكرم من نيطت عليه التمائم" (الأصول من الكافي) (1/ 467) ناسخ التواريخ (10/ 3، 4). وقبل ذلك ساعد أباه علياً في زواجه من فاطمة رضي الله عنهما كما مر سابقاً. وإن الفاروق كان يبدأ الخمس والفيء بأهل بيت النبوة كما كان الرسول عليه السلام يعمل به، وبعده أبو بكر، ولقد ذكرنا هذا سابقاً عند ذكر الصديق وفدك "وكان أبو بكر يأخذ غلتها ويدفع إليهم منها ما يكفيهم، ويقسم الباقي، وكان عمر كذلك، وكان عثمان كذلك، ثم كان عليّ (على شاكلتهم وطريقتهم) كذلك" (شرح نهج البلاغة) لابن ميثم (5/ 107) أيضاً (الدرة النجفية) (ص332) وابن أبي الحديد أيضاً). ومن إكرامه وتقديره لأهل البيت ما ذكره ابن أبي الحديد عن يحيى بن سعيد أنه قال: أمر عمر الحسين بن علي على أن يأتيه في بعض الحاجة, فلقي الحسين عليه السلام عبد الله بن عمر فسأله من أين جاء؟ قال: استأذنت على أبي فلم يأذن لي فرجع الحسين ولقيه عمر من الغد، فقال: ما منعك أن تأتيني؟ قال: قد أتيتك، ولكن أخبرني ابنك عبد الله أنه لم يؤذن له عليك فرجعت، فقال عمر: وأنت عندي مثله؟ وهل أنبت الشعر على الرأس غيركم" (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد (3/ 110). هذا وكان يقول في عامة بني هاشم ما رواه علي بن الحسن عن أبيه حسين بن علي أنه قال: قال عمر بن الخطاب: عيادة بني هاشم سنة، وزيارتهم نافلة" (الآمالي) للطوسي (2/ 345) ط نجف). ونقل الطوسي هذا والصدوق أيضاً أن عمر لم يكن يستمع إلى أحد يطعن في علي بن أبي طالب ولم يكن يتحمله، ومرة "وقع رجل في علي عليه السلام بمحضر من عمر، فقال: تعرف صاحب هذا القبر؟ .. لا تذكر علياً إلا بخير، فإنك إن آذيته آذيت هذا في قبره" (الآمالي) للطوسي (2/ 46) أيضاً (الآمالي) للصدوق (ص324) ومثله ورد في مناقب لابن شهر آشوب (2/ 154) ط الهند). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص109 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 435 المطلب الخامس: حب آل البيت ومبايعتهم إياه وكان أهل بيت النبوة يتبادلون معه هذا الحب والتقدير والاحترام، ولم يستمعوا ولم يصغوا إلى من يتكلم فيه، أو يطعنه بطعنة، أو يعرّضه بتعريض، بل تبرؤا ممن فعل به هذا، وأنكروا عليه كما سيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى. وأكثر من ذلك كافؤوه على احترامه لهم وتقديره بهم حتى أعطوه ثمرة من ثمار النبوة، وزوّجها منه، وأطاعوه، وأخلصوا له الوفاء والطاعة، وناصحوه، وشاوروه بأحسن ما رأوه، واستوزرهم وتوزروه، وأنابهم فقبلوا نيابته، وجاهدوا تحت رايته، ولم يتأخروا في تقديم النصيحة له وما يطلب منهم وفق الكتاب والسنة، وبذلوا له كل غال وثمين. فها هو علي بن أبي طالب يقر بذلك في رسالته التي أرسلها إلى أصحابه بمصر بعد مقتل محمد بن أبي بكر عامله على مصر، فيقول بعد ذكر الأحداث التي وقعت عقب وفاة الرسول العظيم صلوات الله وسلامه عليه: "فتولى أبو بكر تلك الأمور فلما احتضر بعث إلى عمر، فولاّه فسمعنا وأطعنا وناصحنا (وهذا رغم أنف كل من يأبى وينكر، ورغم أنف المتستر بنقاب س-خ، والملتجئ إلى الكذب، القائل في كتابه رداً علينا – وفي رده يثبت ما قلناه ويقر ما أثبتناه – وهو يظن بأنه يكذبنا ويكذب الحقائق الدامغة التي لا مفر عنها، فيقول بعد ما ينقل فضائل أبي بكر وعمر التي أوردناها يقول: لو كنت حاضراً تحت منبر علي حينما بكى، وخطب هذه الخطبة المفصلة في الثناء عليهما لقلت له: ما جرّأنا على مخالفتهما وانتقاصهما إلا أنت يا علي! لامتناعك أنت وأهل بيت رسول الله والخلّص من أصحاب رسول الله عن البيعة لهما مما اضطررتم عمر أن يحمل الحطب، ويأتي لدارك يريد حرقها بمن فيها. وفيها ابنة رسول الله ويقال له: إن فيها ابنة رسول الله. ويقول: وإن .. حتى أخرجاك قهراً. ولم تبايع أنت إلا بعد ستة أشهر وبعد موت زوجتك غاضبة عليهما على فعلتهما معك ومعها، حتى أوصتك أن تدفنها ليلاً – وقد فعلت – احتجاجاً على فعلهما معكما؟. فإذا كنت تعلم – يا علي – أن هذه منزلتهما عند رسول الله فلماذا فعلت – أنت وأصحابك وزوجك – هذا الفعل وجرأتمونا على نقدهما على ارتكابهما ذلك الفعل؟. ثم ولم تكتف – يا علي – حتى تدعي في خطابك مع معاوية بن أبي سفيان الذي عيرك هذه الحادثة وذكر أنهم أخرجاك كالجمل المخشوش، فقلت له مفتخراً: وأوجب لي رسول الله فيكم ولايته غداة غدير خم ثم وكيف تدعي يا علي (أن رسول الله لا يرى كرأيهما رأياً، ولا يحب كحبهما حباً) وإنا نقرأ في التاريخ عدة قضايا رغب فيها عمر وخالفه رسول الله. فقد رأى عمر بعد وقعة بدر، أن يقدم رسول الله عمه العباس ويضرب عنقه، وتقدم أنت أخاك عقيلاً وتضرب عنقه، وخالفه رسول الله لأنه أخذ الدية وأطلقهما. وهكذا رأى عمر يوم فتح مكة أن يأمره رسول الله بضرب عنق أبي سفيان فامتنع رسول الله وأطلق سراحه وجعل بيته مأمناً للخائفين. وأخيراً وليس آخراً. قول رسول الله عند موته: آتوني بكتف وقرطاس لأكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده. فخالف عمر في ذلك وقال: عندنا كتاب الله ما فرط فيه من شيء مما أوجد رسول الله وأغضبه فطرده. وقال: قوموا فقاموا. إلى كثير من أمثال هذه المخالفات فلماذا لا تقول الصحيح يا علي؟ ثم هبك – يا علي – علمت أنه في حياته لم يتجاوزوا أمره ورأيه، ولكن كيف علمت ذلك بعد وفاة رسول الله. وهل أعلمك رسول الله بذلك. وحينما وقعت بينهما – بين أبو بكر وعمر – مشادة في قضية خالد بن الوليد، كان رأي رسول الله مع من منهما. ولا شك أن علياً سيقول: لعن الله الكاذب المفتري" كتاب (الشيعة والسنة في الميزان لصاحب قناع س – خ ص88، 89، 90 ط بيروت). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 436 نعم وأنا أيضاً أقول: لعن الله الكاذب المفتري سواء كان صاحب برقع س-خ أو الصافي. فشركما لخيركما الفداء ولقد كذّبه علي بن أبي طالب حيث يقول: أيها السائل الكاذب المفتري الجريء على الجلوس تحت منبر لا أراك إلا من سلالة ابن ملجم حيث تسب وتشتم صهري زوج بنتي من فاطمة الزهراء بنت الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وتنسب إليّ ما لم أقله وما لم أفعله، وتكذب الفاروق وتكذبني، ثم تدعي حبي وولائي، وتقول بأنني أنا جرأتك عليهما، لست إلا من سلالة ابن سبأ الذي تنكر وجوده خوفاً ووجلاً من أفعاله وأعماله وأقواله التي تطابق أقوالك وآراءك حتى لا تفضح، ولا يطلع الناس على سريرتك وفضائحك. وأنت تعلم أنني أنا الذي قتلته وحرقته لما أراد فتنة في الدين. وفساداً في الشريعة واضطراباً في المسلمين، وقد ذكره أسلافك وقومك، فتأتي أنت في القرن الرابع عشر وتنكر وتتنكر، وقبلك كلهم اعترفوا بوجوده وأعماله القبيحة الشنيعة فلعنة الله على الكاذب والمنكر والمفتري. لاَّ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ [النساء:148] فمن الكاذب والمفتري، أنت أو صاحبك؟ وأما سيد أهل البيت فمعاذ الله أن يناله سوء سريرتك وسلاطة لسانك، ثم وكم من خطب علي تنكرها؟، وأي عدد من العبارات تنكر عليها، وها قد ذكرنا خطبة علي وتدعي موالاته من كتابك أنت، نعم أنت وقومك، فأنتم جمعتموه، وأنتم علقتم عليه وحققتموه، وأنتم طبعتموه، ثم وأنتم قدمتموه إلى العالم بقولكم: ولأجل ذلك صار كتابه (أي الغارات) هذا، وسائر كتبه مرتعاً للشيعة، ومشرعاً لهم، فقلما تجد كتاباً معروفاً للشيعة يخلو من ذكره وروايته فالأولى أن نشير إلى جماعة ممن يروي عنه أو عن كتبه بلا واسطة أو معها" (مقدمة الغارات) للثقفي ص ع). ومعنى هذا أن هذا الكتاب من أهم مراجع الشيعة، ومنها سرقوا كثيراً، فبفضل الله ومنّه فقد أثبتنا مرغمين أنوف المنكرين بأن علياً بايع الصديق والفاروق، وأخلص لهما الوفاء، ويقر بذلك نفسه وهذا بعد وفاتهما، فماذا يقول المنصفون؟ ألا يقولون: لعن الله الكاذب والمفتري ... وتولى عمر الأمر، وكان مرضي السيرة، ميمون النقيبة (الغارات) للثقفي (1/ 307) والنقيبة هي النفس، وقيل: الطبيعة "رجل ميمون النقيبة مبارك النفس، مظفر بما يحاول" كما قال ابن منظور الأفريقي، وقال ابن السكيت: إذا كان ميمون الأمر ينجح فيما حاول ويظفر، وقال ثعلب: إذا كان ميمون المشورة، وفي حديث مجدي بن عمرو: إنه ميمون النقيبة أي متنجح الفعال، مظفر المطالب" (لسان العرب) لابن منظور الأفريقي (1/ 768). أي لم نتأخر في بيعته، ولم نبخل بالسمع والطاعة والمناصحة، لأن سيرته كانت طيبة، ونفسه كان ميموناً مباركاً، ناجحاً في أفعاله، مظفراً في مطالبه. ولقد أثبت هذا الطوسي شيخ الطائفة لدى القوم في أماليه حيث يروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: فبايعت عمر كما بايعتموه، فوفيت له بيعته حتى لما قتل جعلني سادس ستة، ودخلت حيث أدخلني" (الأمالي) للطوسي (2/ 121) ط نجف). فبايعه علي بن أبي طالب، وسمعه، وأطاعه، وناصحه، ورضي بما أمر به، ودخل اللجنة التي جعلها لانتخاب الخليفة منها، وكان وزيره ومشيره وقاضيه، ولقد ذكرنا مواقع عديدة استشار فيها الفاروق من مستشاريه، وكان من بينهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعمل بمشورته فيها دون غيره كما ذكر اليعقوبي المؤرخ الشيعي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 437 "إن عمر شاور أصحاب رسول الله في سواد الكوفة، فقال له بعضهم: تقسمها بيننا، فشاور علياً، فقال: إن قسمتها اليوم لم يكن لمن يجيء بعدنا شيء! ولكن تقرها في أيديهم يعملونها، فتكون لنا ولمن بعدنا. فقال: وفقك الله! هذا الرأي" (تاريخ اليعقوبي) (2/ 151، 152). وكذلك وردت الروايات الكثيرة في المسائل القضائية أن علياً كان في طرف والباقين في جانب آخر فرجح الفاروق قضاء عليّ ورأيه، ولقد بوب المفيد الملقب بالشيخ باباً مستقلاً بعنوان "ذكر ما جاء من قضاياه في إمرة عمر بن الخطاب" وأورد تحته قضايا مختلفة كثيرة حكم فيها عمر بقضاء علي رضي الله عنهما، ومنها: "إن عمر أتي بحامل قد زنت فأمر برجمها فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: هب أن لك سبيلاً عليها أي سبيل لك على ما في بطنها والله تعالى يقول: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام: 164] فقال عمر: لا عشت لمعضلة لا يكون لها أبو الحسن ثم قال: فما أصنع بها؟ قال: احتط عليها حتى تلد، فإذا ولدت ووجدت لولدها من يكفله فأقم عليها الحد، فسري بذلك عن عمر وعول الحكم به على أمير المؤمنين عليه السلام" (الإرشاد) (ص109). وأيضا ذكر المفيد: إنه استدعى امرأة كانت تتحدث عندها الرجال، فلما جاءها رسله فزعت وارتاعت وخرجت معهم فأملصت ووقع إلى الأرض ولدها يستهل ثم مات فبلغ عمر ذلك فجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم عن الحكم في ذلك فقالوا بأجمعهم: نراك مؤدباً، ولم ترد إلا خيراً، ولا شيء عليك في ذلك وأمير المؤمنين عليه السلام جالس لا يتكلم في ذلك، فقال له عمر: ما عندك في هذا يا أبا الحسن؟ فقال: قد سمعت ما قالوا: قال: فما عندك؟ قال: قد قال القوم ما سمعت، قال: أقسمت عليك لتقولن ما عندك، قال: إن كان القوم قاربوك فقد غشوك وإن كانوا ارتاؤا فقد قصروا الدية على عاقلتك لأن قتل الصبي خطأ تعلق بك فقال: أنت والله نصحتني من بينهم والله لا تبرح حتى تجري الدية على بني عدي ففعل ذلك أمير المؤمنين عليه السلام (الإرشاد) (ص110). وأيضاً "عن يونس عن الحسن أن عمر أتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر فهم برجمها، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: إن خاصمتك بكتاب الله خصمتك إن الله تعالى يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف: 15] ويقول جل قائلاً: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة: 233] فإذا أتمت المرأة، الرضاعة سنتين، وكان حمله وفصاله ثلاثين شهراً، كان الحمل منها ستة أشهر، فخلى عمر سبيل المرأة وثبت الحكم بذلك فعمل به الصحابة والتابعون ومن أخذ عنه إلى يومنا هذا" (الإرشاد) (ص110). وأيضاً "إن امرأة شهد عليها الشهود أنهم وجدوها في بعض مياه العرب مع رجل يطأها ليس ببعل لها، فأمر عمر برجمها وكانت ذات بعل، فقالت: اللهم إنك تعلم أني بريئة، فغضب عمر وقال: وتجرح الشهود أيضاً، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ردوها واسألوها فلعل لها عذراً، فردت وسئلت عن حالها فقالت: كان لأهلي إبل فخرجت في إبل أهلي وحملت معي ماء ولم يكن في إبل أهلي لبن وخرج خليطنا وكان في إبله لبن، فنفد مائي فاستسقيته فأبى أن يسقيني حتى أمكنه من نفسي فأبيت، فلما كادت نفسي تخرج أمكنته من نفسي كرها، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: الله أكبر فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة: 173] فلما سمع ذلك عمر خلى سبيلها. وعمل الفاروق في جميع هذه القضايا بقضاء عليّ، ونفّذ ما قاله لأنه كان يقول حسب رواية شيعية: علي أقضانا" (الأمالي) للطوسي (1/ 256) ط نجف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 438 فهذه قضاءاته، وتلك مشوراته، أفبعد هذا يمكن القول بأن علياً كان يخالف عمر رضي الله عنهما، أو كان بينهما شيء؟، حتى ويقال إنه لم يبايعه هو وذووه. فهل يتصور أن شخصاً لا يعترف ولا يقرّ بولاية أحد وخلافته ثم يشترك في الشورى في المسائل المهمة والنوائب الملمة، ويبدي رأيه الصائب، ويؤخذ بقوله ويقضى بين الناس، وينفذ قضاؤه؟. وأكثر من ذلك وأصرح ما ورد أنه لم يكن قاضياً ومشيراً ووزيراً لصهره ونائب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمير المؤمنين وخليفة المسلمين عمر بن الخطاب فحسب، بل كان نائباً له في الحكم والحكومة فأنابه عمر سنة (15) من الهجرة لما استمد أهل الشام عمر على أهل فلسطين وشاور أصحابه فمنعه علي، وقال له: لا تخرج بنفسك، إنك تريد عدواً كلباً، فقال عمر: إنص أبادر بجهاز العدو موت العباس بن عبد المطلب إنكم لو فقدتم العباس لينقض بكم الشر – فانظر حب الفاروق لأهل بيت النبي وخاصة لعمه – كما ينتقض الحبل" (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد ج2 جزء 8 ص370). فشخص عمر إلى الشام. "وإن علياً عليه السلام هو كان المستخلف على المدينة" (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد ج2 جزء 8 ص370). هذا ولقد ذكر المؤرخون أن الفاروق رضي الله عنه أناب المرتضى رضي الله عنه ثلاث مرات في الحكم وعلى عاصمة المؤمنين سنة (14) من الهجرة عندما أراد غزو العراق بنفسه. وسنة (15) عند شخوصه لقتال الروم" (البداية والنهاية) لابن كثير (7/ 35) وص55 ط بيروت، أيضاً (الطبري) (4/ 83) و (ص159) ط بيروت). وعند خروجه إلى أيلة سنة (17) من الهجرة" (الطبري). ولأجل ذلك قال علي رضي الله عنه لما عزموا على بيعته: أنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً" (نهج البلاغة) (ص136) تحقيق صبحي). يشير بذلك إلى وزارته أيام الصديق وخاصة عصر الفاروق رضي الله عنهم. ولأجل ذلك كان يقاتل هو وبنوه وأهله وذووه تحت رايته، ويقبلون منه الغنائم والهدايا والجواري والسبايا، ولو لم يكن خلافته حقاً لما كان القتال تحت رايته جهاداً، ولم يكن الجواري والإماء جوارياً وإماءً، ولم يجز قبولها والتمتع بها، وقد ثبت هذا كله كما ذكرناه سابقاً، وكما روى الشيعة أن حسن بن علي سبط رسول الله عليه الصلاة والسلام قاتل تحت لواء الفاروق، وجاهد أيام خلافته وتحت توجيهاته وإرشاداته في الجيش الذي أرسل إلى غزو إيران ويقولون: إن في أصفهان مسجداً يعرف بلسان الأرض! ‍ ولقد سمي بهذا الاسم لأن حضرة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام لما جاء إلى أصفهان أيام خلافة عمر بن الخطاب مجاهداً في سبيل الله غازياً وفاتحاً لهذه البلاد مع عساكر الإسلام نزل في موضع هذا المسجد فتكلمت معه الأرض فسميت هذه البقعة لسان الأرض لتكملها معه" (تتمة المنتهى) للعباس القمي (ص390) ط إيران). وهذا وذلك دليل صدق على ما قلناه. وأخيراً نريد أن نختم هذا البحث على مظهر يدل دلالة واضحة على حب أهل البيت الفاروق الأعظم رضوان الله عليهم أجمعين، وذلك المظهر هو تسمية أهل البيت أبناءهم باسم الفاروق عمر، حباً وإعجاباً بشخصيته، وتقديراً لما أتى به من الأفعال الطيبة والمكارم العظيمة، ولما قدم إلى الإسلام من الخدمات الجليلة، وإقراراً بالصلات الودية الوطيدة والتي تربطه بأهل بيت النبوة، والرحم، والصهر القائم بينه وبينهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 439 فأول من سمى ابنه باسمه الإمام الأول المعصوم الذي لا يخطئ حسب معتقد القوم، ولقد سمى ابنه من أم حبيب بنت ربيعة البكرية التي منحها الصديق أبو بكر رضي الله عنه، عمر كما ذكر المفيد واليعقوبي والمجلسي والأصفهاني وصاحب (الفصول)، فيقول المفيد في باب "ذكر أولاد أمير المؤمنين وعددهم وأسمائهم": فأولاد أمير المؤمنين سبعة وعشرون ولداً ذكراً وأنثى (1) الحسن (2) الحسين. (6) عمر (7) رقية كانا توأمين أمهما أم حبيب بنت ربيعة" (الإرشاد) للمفيد (ص176). ويقول اليعقوبي: وكان له من الولد الذكور أربعة عشر ذكراً الحسن والحسين ومحسن مات صغيراً، أمهم فاطمة بنت رسول الله .. وعمر، أمه أم حبيب بنت ربيعة البكرية" (تاريخ اليعقوبي) (2/ 213) كذلك (مقاتل الطالبين) (ص84) ط بيروت). وأما المجلسي فيذكر "عمر بن علي من الذين قتلوا مع الحسين في كربلاء، وأمه أم البنين بنت الحزام الكلابية" (جلاء العيون) فارسي، ذكر من قتل مع الحسين بكربلاء (ص570). وصاحب (الفصول) يقول تحت ذكر أولاد علي بن أبي طالب: وعمر من التغلبية، وهي الصهباء بنت ربيعة من السبي الذي أغار عليه خالد بن الوليد بعين التمر، وعمّرعمر هذا حتى بلغ خمسة وثمانين سنة فحاز نصف ميراث علي عليه السلام، وذلك أن جميع إخوته وأشقائه وهم عبد الله وجعفر وعثمان قتلوا جميعهم قبله مع الحسين - يعني أنه لم يقتل معهم - بالطف فورثهم" ("الفصول المهمة" منشورات الأعلمي طهران ص143، (عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب) (ص361) ط نجف، (تحفة الإهاب) (ص251، 252) (كشف الغمة) (1/ 575). هذا وتبعه الحسن في ذلك الحب لعمر بن الخطاب رضي الله عنهم، فسمى أحد أبنائه عمر أيضاً. يكتب المفيد في باب "ذكر ولد الحسن بن علي عليهما السلام وعددهم وأسماؤهم". "أولاد الحسن بن علي خمسة عشر ولداً ذكراً وأنثى (1) زيد. (5) عمر (6) قاسم (7) عبد الله أمهم أم ولد" (الإرشاد) (ص194) (تاريخ اليعقوبي) (2/ 228) (عمدة الطالب) (ص81) (منتهى الآمال) (1/ 240) (الفصول المهمة) (ص166). ويقول المجلسي: كان عمر بن الحسن ممن استشهد مع الحسين بكربلاء" (جلاء العيون) (ص582). ولكن الأصفهاني يرى أنه لم يقتل، بل كان ممن أسر فيقول: وحمل أهله (الحسين بعد قتله) أسرى وفيهم عمر، وزيد، والحسن بنو الحسن بن علي بن أبي طالب" (مقاتل الطالبين) (ص119). وابنه الثاني من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسين رضي الله عنه أيضاً سمى أحد أبنائه باسم عمر، كما ذكر المجلسي تحت ذكر من قتل من أهل البيت مع الحسين بكربلاء "قتل من أبنائه الحسين كما هو المشهور علي الأكبر، وعبد الله الذي استشهد في حجره، وبعضهم قالوا أيضاً: قتل من أبنائه هو عمر وزيد" (جلاء العيون) للمجلسي (ص582). هذا ومن بعد الحسين ابنه علي الملقب بزين العابدين سمى أحد أبنائه أيضاً باسم عمه وزوجة عمته وصديق جده، عمر، كما ذكر المفيد في باب "ذكر ولد علي عليه السلام" قال: ولد علي بن الحسين عليهما السلام خمسة عشر ولداً (1) محمد المكنى بأبي جعفر الباقر أمه أم عبد الله بنت الحسن (6) عمر لأم ولد" (الإرشاد) (ص261) (كشف الغمة) (2/ 105) (عمدة الطالب) (ص194) (منتهى الآمال) (2/ 43) (الفصول المهمة) (ص209). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 440 وأما الأصفهاني فيذكر أن عمر هذا كان من أشقاء زيد بن علي من أمه وأبيه كما يقول تحت ترجمة زيد بن علي: وزيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وأمه أم ولد أهداها المختار بن أبي عبيدة لعلي بن الحسين فولدت له زيداً وعمر وعلياً وخديجة. اشترى المختار جارية بثلاثين ألفاً، فقال لها: أدبري فأدبرت، ثم قال لها: أقبلي فأقبلت، ثم قال: ما أدري أحداً أحق بها من علي بن الحسين فبعث بها إليه وهي أم زيد بن علي" (مقاتل الطالبين) (ص127). والجدير بالذكر أن كثيراً من أولاد عمر هذا خرجوا على العباسيين مع من خرج من أبناء عمومتهم ("وتفاصيلهم موجودة في "المقاتل" وغيره من كتب هذا النوع). وكذلك موسى بن جعفر الملقب بالكاظم - الإمام السابع لدى القوم - سمى أحد أبنائه باسم عمر كما ذكر الأربلي تحت عنوان أولاده (كشف الغمة) (ص216). فهؤلاء الأئمة الخمسة المعصومون لدى القوم يظهرون لعمر الفاروق ما يكنونه في صدورهم من حبهم وولائهم له وبعد وفاته بمدة. أوَ هناك مظهر أكبر من هذا المظهر على ودهم وإخلاصهم لشخصية إسلامية فذة، وعبقري لم يفر أحد فريه، عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وبعد هؤلاء الوجوه جرى هذا الاسم في أولادهم كما ورد ذكر أولئك في كتب الأنساب والتاريخ والسير، وأورد بعضاً منها الأصفهاني في "المقاتل" والأربلي في "كشف الغمة" يقول الأصفهاني: فمن الذين خرجوا طلباً للحكم والحكومة من الطالبيين مثل يحيى بن عمربن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الذي خرج أيام المستعين. وعمر بن إسحاق بن الحسن بن علي بن الحسين "الذي خرج مع الحسين المعروف بصاحب فخ أيام موسى الهادي" (مقاتل الطالبين) للأصفهاني (ص456) ط بيروت). و"عمر بن الحسن بن علي بن الحسن بن الحسين بن الحسن" (مقاتل الطالبين) أيضاً (ص446). إلى يومنا هذا غير هذا الشيعة منهم. ولكننا اكتفينا بالخمسة الأول لما لهم حجة على القوم لقولهم بعصمتهم وإمامتهم، فهذا هو موقف أهل البيت من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عمر الفاروق الأعظم، رضي الله عنهم أجمعين، مثل الصديق رضي الله عنه كانوا يجلونه، ويوقرونه، ويعظمونه، ويتولونه، ويخلصون له الوفاء والطاعة، ويحيون اسمه بعده بتسمية أبنائهم باسمه، ويصاهرونه، ويتقربون إليه. المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص113 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 441 المبحث الثالث: موقف أهل البيت من ذي النورين وأما ذو النورين ثالث الخلفاء الراشدين، وصاحب الجود والحياء، حب رسول الله وزوج ابنتيه رقية وأم كلثوم، وعديم النظير في هذا الشرف الذي لم ينله الأولون ولا الآخرون في أمة من الأمم، وعديل علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين، وأول مهاجر بعد خليل الله عليه السلام، الذي حمل راية الإسلام وأداها إلى آفاق لم تبلغ إليها من قبل، وفتح على المسلمين مدناً جديدة وبلاداً واسعة شاسعة، وأمد المسلمين من جيبه الخاص بإمدادات كثيرة، وشرى لهم بئر رومة حينما لم يكن لهم بئر يستقون منها الماء بعد هجرتهم إلى طيبة التي طيبها الله بقدوم صاحب الرسالة صلوات الله وسلامه عليه، كما اشترى لهم أرضاً يبنون عليها المسجد الذي هو آخر مساجد الأنبياء. ولم يكن إمداداته هذه ومساعداته لعامة المسلمين ومصالحهم الاجتماعية مثل تجهيز جيش العسرة وغيرها فحسب بل كان خيراً، جواداً، كريماً، منفقاً الأموال وناثرها وحتى على الخاصة كما كان على العامة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 442 وهو الذي ساعد - الإمام المعصوم الأول الذي يعدونه أفضل من الأنبياء والمرسلين، وملائكة الله المقربين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه في زواجه، وأعطاه جميع النفقات كما يقر بذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه بنفسه أني لما تقدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم طالباً منه زواج فاطمة قال لي: بع درعك وائتني بثمنها حتى أهيئ لك ولابنتي فاطمة ما يصلحكما، قال علي: فأخذت درعي فانطلقت به إلى السوق فبعته بأربع مائة درهم سود هجرية من عثمان بن عفان، فلما قبضت الدراهم منه وقبض الدرع مني قال: يا أبا الحسن! ألست أولى بالدرع منك وأنت أولى بالدراهم مني؟ فقلت: نعم، قال: فإن هذا الدرع هدية مني إليك، فأخذت الدرع والدراهم وأقبلت إلى رسول الله فطرحت الدرع والدراهم بين يديه، وأخبرته بما كان من أمر عثمان فدعا له النبي بخير" (المناقب) للخوارزمي (ص252، 253) ط نجف، (كشف الغمة) للأربلي (1/ 359) و (بحار الأنوار) للمجلسي (ص39، 40) ط إيران). – يقول محمد بن الحسن الصفار في بصائر الدرجات عن عبد الله بن الوليد السمان قال: قال لي أبو الجعفر عليه السلام: يا عبد الله! ما تقول الشيعة في علي وموسى وعيسى؟ قلت: جعلت فداك، وعن أي حالات تسألني؟ قال: أسألك عن العلم، قال: هو والله أعلم منهما، قال: يا عبد الله! أليس يقولون إن لعلي ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من العلم قلت: نعم! قال: فخاصمهم فيه أن الله قال لموسى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ [الأعراف: 145] فأعلمنا أنه لم يبين له الأمر كله، وقال الله تبارك وتعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89] وعن علي بن إسماعيل عن محمد بن عمر الزيات قال: قال أبو عبد الله "ع": أي شيء تقول الشيعة في موسى وعيسى وأمير المؤمنين عليهم السلام؟ قلت: يزعمون أن موسى وعيسى أفضل من أمير المؤمنين قال: أيزعمون أن أمير المؤمنين علم ما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم، ولكن لا يقدمون على أولي العزم من الرسل أحداً، قال: قال أبو عبد الله "ع" فخاصمهم بكتاب الله قلت: في أي موضع منه؟ قال: قال الله لموسى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ [الأعراف: 145]، وقال الله لعيسى: وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ [الزخرف: 63] , وقال تبارك وتعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، وعن علي بن محمد ..... قال أبو عبد الله "ع": إن الله خلق أولي العزم من الرسل، وفضلهم بالعلم، وأورثنا علمهم، وفضلنا عليهم في علمهم، وعلم رسول الله ما لم يعلموا، وعلمنا علم الرسول وعلمهم" (نقلاً عن (الفصول المهمة) للحر العاملي (ص151، 152). وأيضاً يروي ابن بابويه القمي في كتابه (عيون أخبار الرضا) "عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن آبائه عن علي عليهم السلام أن جبريل هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إن الله جل جلاله يقول: لو لم أخلق علياً عليه السلام لما كان لفاطمة ابنتك كفؤ على وجه الأرض آدم فمن دونه" (عيون أخبار الرضا) (1/ 225). وعلق عليه السيد لاجوردي بقوله: وقد استدل بعض المحققين بهذه الفقرة من الحديث على أفضليتهما عليهما السلام على جميع الأنبياء" (أيضاً). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 443 وقد أدرج الحر العاملي هذه الرواية عن الطوسي في التهذيب تحت باب عنوانه "باب أن النبي والأئمة الاثني عشر أفضل من سائر المخلوقات من الأنبياء والأوصياء والملائكة وغيرهم" (انظر (الفصول المهمة) (ص151) ط قم إيران). وذكر تحت ذلك رواية أخرى عن الرضا أيضاً "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما خلق الله خلقاً أفضل مني ولا أكرم عليه مني قال علي: فقلت: يا رسول الله! فأنت أفضل أم جبرئيل؟ قال: إن الله فضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين، وفضلني على جميع النبيين والمرسلين، والفضل بعدي لك يا علي والأئمة بعدك، وإن الملائكة لخدمنا وخدام محبينا – إلى أن قال -: فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سبقناهم إلى معرفة ربنا وتسبيحه وتهليله وتقديسه – إلى أن قال -: ثم إن الله تبارك وتعالى خلق آدم، فأودعنا صلبه، وأمر الملائكة بالسجود له تعظيماً لنا وإكراماً، وكان سجودهم لله عز وجل عبودية، ولآدم إكراماً وطاعة لكوننا في صلبه، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سجدوا لآدم كلهم أجمعون)) (الفصول) (ص153) أيضاً (عيون أخبار الرضا) (1/ 262) تحت عنوان "أفضلية النبي والأئمة على جميع الملائكة والأنبياء عليهم السلام") , وعلى ذلك كان ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عباس يقول: رحم الله أبا عمرو (عثمان بن عفان) كان والله أكرم الحفدة وأفضل البررة، هجاداً بالأسحار، كثير الدموع عند ذكر النار، نهاضاً عند كل مكرمة، سباقاً إلى كل منحة، حبيباً، أبياً، وفياً: صاحب جيش العسرة، ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم " (تاريخ المسعودي) (3/ 51) ط مصر، أيضاً (ناسخ التواريخ) للمرزه محمد تقي (5/ 144) ط طهران). هذا وقد أشهده رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن أشهده على زواج علي من فاطمة كما يروون عن أنس أنه قال عليه الصلاة والسلام: ((انطلق فادع لي أبا بكر وعمر وعثمان ..... وبعددهم من الأنصار، قال: فانطلقت فدعوتهم له، فلما أن أخذوا مجالسهم قال ..... إني أشهدكم أني قد زوجت فاطمة من علي على أربعمائة مثقال من فضة)) (كشف الغمة) (1/ 358) أيضاً (المناقب) للخوارزمي (ص252) و (بحار الأنوار) للمجلسي (10/ 38). وكفى لعلي فخراً بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجه إحدى بناته فاطمة، وأدخله بذلك في أصهاره وأرحامه، وهذا الذي جعل الشيعة يقولون بأفضلية علي وإمامته وخلافته بعده، فكيف إذا زوج ابنتين لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي زوجه بنتاً بعد بنت؟. وكفى لعثمان فخراً بأنه كان هو المنفق على هذا الزواج، والمهيئ له الأسباب، وأحد الشهود عليه، كما أنه يكفيه فخراً بأنه لم ينل في الدنيا أحد مثل ما ناله هو من الشرف والمكانة حيث تزوج من ابنتي نبي صلى الله عليه وسلم، ولم يوجد له شبيه ونظير في مثل ذلك، لأن عثمان تزوج بنته رقية بمكة، وأيضاً بأمر من الله سبحانه تعالى لأنه ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. وبعد وفاتها زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته الثانية أم كلثوم رضي الله عنها كما يقر ويعترف بذلك علماء الشيعة أيضاً، فها هو المجلسي - وهو الشيعي المتعصب المشهور اللعان السباب المعروف - يذكر ذلك في كتابه (حياة القلوب) نقلاً عن ابن بابويه القمي بسنده الصحيح المعتمد عليه بقوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد له من خديجة القاسم، وعبد الله الملقب بالطاهر، وأم كلثوم، ورقية، وزينب، وفاطمة، وتزوج علي من فاطمة، وأبو العاص بن ربيعة من زينب، وكان رجلاً من بني أمية (المصاهرات بين بني أمية وبني هاشم: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 444 وهذا يدل على أنه لم يكن بين بني هاشم وبني أمية من المباغضة والمنافرة والعداوة التي اخترعها وابتكرها أعداء الإسلام والمسلمين، ونسجوا الأساطير والقصص حولها، ولقد رأينا بني أمية مع بني هاشم بالعكس أنهم أبناء أعمام وإخوان، وخلان، بل هم أقرب الناس ما بينهم يتبادلون الحب والأفكار، ويتقاسمون الهموم والآلام، ويمشون ويتماشون جنباً إلى جنب وحتى نقل علماء الشيعة ومؤرخوها أن أبا سفيان وهو رئيس بني أمية وسيد قومه أيامه كان من كبار أنصار علي، ومؤيدي بني هاشم يوم السقيفة، ولقد ذكر اليعقوبي كان ممن تخلف عن بيعة أبي بكر أبو سفيان بن حرب، وقال: أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي هذا الأمر عليكم غيركم؟ وقال لعلي بن أبي طالب: امدد يدك أبايعك، وعلي معه قصي، وقال: بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم ... ولا سيما تيم بن مرة أو عدي فما الأمر إلا فيكم وإليكم ... وليس لها إلا أبو حسن علي أبا حسن فاشدد بها كف حازم ... فإنك بالأمر الذي يرتجى ملي وإن امرأ يرمي قصي وراءه ... عزيز الحمى، والناس من غالب قصي (تاريخ اليعقوبي) (2/ 126) و (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد أيضاً). ويذكر ابن بابويه القمي أن الأنصار المخلصين لعلي كانوا اثني عشر رجلاً من المهاجرين والأنصار، وكان واحد من هؤلاء خالد بن سعيد بن العاص الأموي، وادعى هو أمام الملأ: "والله إن قريشاً تعلم أني أعلاها حسباً وأقواها أدباً وأجملها ذكراً وأقلها غنى من الله ورسوله" كتاب (الخصال) (ص361). وكان بين أبي سفيان وبين العباس عم رسول الله وسيد بني هاشم من صداقة يضرب بها الأمثال. كما كانت بينهم المصاهرات قبل الإسلام وبعده، فلقد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بناته الثلاثة من الأربعة من بني أمية من أبي العاص بن الربيع وهو من بني أمية كما مر سابقاً، ومن عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية، وهو مع ذلك ابن بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ولدت مع والد رسول الله عليه الصلاة والسلام عبد الله بن عبد المطلب توأمين "أروى بنت كريز بن حبيب بن عبد شمس وهي أم عثمان رضي الله عنه وأمها أم حكيم وهي البيضاء بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم " (كتب الأنساب مثل (أنساب الأشراف) للبلاذري (5/ 1) ط بغداد، (المحبر) للبغدادي (ص407) ط دكن، (طبقات ابن سعد) (8/ 166) ط ليدن، (أسد الغابة) (5/ 191) (المستدرك) للحاكم (3/ 96) واللفظ له، و (منتهى الآمال) ج1 الفصل التاسع). هذا ولقد تزوج بعد عثمان بن عفان رضي الله عنه من بني هاشم ابنه أبان بن عثمان "وكانت عنده أم كلثوم بنت عبد الله بن جعفر (الطيار) بن أبي طالب شقيق علي" (المعارف) للدينوري (ص86). وحفيدة علي وبنت الحسين سكينة كانت متزوجة من حفيد عثمان زيد بن عمرو بن عثمان رضي الله عنهم أجمعين "وزيد بن عمرو بن عثمان بن عفان هذا هو الذي كانت عنده سكينة بنت حسين، فهلك عنها فورثته" (نسب قريش) للزبيري (4/ 120) و (المعارف) لابن قتيبة (ص94) و (جمهرة أنساب العرب) لابن حزم (1/ 86) (طبقات ابن سعد) (6/ 349). وحفيدة علي الثانية وابنة الحسين فاطمة كانت متزوجة من حفيد عثمان الآخر "محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان. . . . وأمه فاطمة بنت الحسين كان عبد الله بن عمرو تزوجها بعد وفاة الحسن بن الحس بن علي بن أبي طالب" (مقاتل الطالبين) للأصفهاني (ص202) (ناسخ التواريخ) (6/ 534) (نسب قريش) (4/ 114) (المعارف) (ص93) (طبقات) (8/ 348). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 445 ثم تزوجت حفيدة ابن علي، حسن بن علي من حفيد عثمان، مروان بن أبان "وكانت أم القاسم بنت الحسن (المثنى) بن الحسن عند مروان بن أبان بن عثمان بن عفان فولدت له محمد بن مروان" (نسب قريش) (2/ 53) (جمهرة أنساب العرب) (1 ص85) (المحبر) للبغدادي (ص438). (وهل هناك دليل أصرح وأكبر من هذا بأن عثمان انتقل إلى جوار رحمة ربه وكان أهل البيت راضين عنه وعن أهل بيته وإلا لم تكن هذه المصاهرات والقرابات والأرحام، فهل من متفكر يتفكر، ومنصف ينصف، ومتدبر يتدبر، أم على قلوب أقفالها؟) هذا وكانت أم حبيبة بنت أبي سفيان سيد بني أمية متزوجة من سيد بني هاشم وسيد ولد آدم رسول الله الصادق الأمين كما هو معروف لا نحتاج إلى إثباته من كتاب. ثم "هند بنت أبي سفيان كانت متزوجة من الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم فولدت له ابنه محمداً" (الإصابة) (3/ 58، 59) (طبقات ابن سعد) (5/ 15). وأيضاً "تزوجت لبابة بنت عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب، العباس بن علي بن أبي طالب، ثم خلف عليها الوليد بن عتبة (ابن أخ معاوية) بن أبي سفيان" (المحبر) (ص441) (نسب قريش) (ص133) (عمدة الطالب) هامش (ص43). وبعدها "تزوجت رملة بنت محمد بن جعفر – الطيار – ابن أبي طالب سليمان بن هشام بن عبد الملك (الأموي) ثم أبا القاسم بن وليد بن عتبة بن أبي سفيان" "كتاب (المحبر) (ص449). وكذلك تزوجت ابنة علي بن أبي طالب رملة من ابن مروان بن الحكم ابن أبي العاص بن أمية معاوية بن عمران "ورملة بنت علي أنها أم سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفي" (الإرشاد) للمفيد (ص186). (نعم! مروان بن الحكم الذي جعله الشيعة غرضاً لطعنهم في الإمام المظلوم الشهيد عثمان بن عفان رضي الله عنه، فهذا هو المروان الذي يتزوج ابنه من ابنة علي المرتضى رضي الله عنه – الإمام المعصوم الأول حسب زعمهم -) "وكانت رملة بنت علي عند أبي الهياج ..... ثم خلف عليها معاوية بن مروان بن الحكم بن أبي العاص" (نسب قريش) (ص45) (جمهرة أنساب العرب) (ص87). وكذلك زينب بنت الحسن المثنى أمها فاطمة بنت الحسن نجيبة الطرفين "وكانت زينب بنت حسن بن حسن بن علي عند الوليد بن عبد الملك بن مروان (الأموي) " (نسب قريش) (ص52) تحت ذكر أولاد الحسن المثنى، و (جمهرة أنساب العرب) (ص108) تحت ذكر أولاد مروان بن الحكم). وكذلك تزوجت حفيدة علي بن أبي طالب من حفيد مروان الحكم "ونفيسة بنت زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب تزوجها وليد بن عبد الملك بن مروان فتوفيت عنده، وأمها لبابة بنت عبد الله بن عباس" (طبقات ابن سعد) (5/ 234) (عمدة الطالب) في أنساب آل أبي طالب (ص70). هذا ومثل هذه المصاهرات لكثيرة جداً بين بني أمية وبني هاشم، وقد اكتفينا ببيان بعض منها، وفيها كفاية لمن أراد الحق والتبصر، ولكن من يضلل الله فلا هادي له. وعلى ذلك كتب علي المرتضى رضي الله عنه في كتاب له إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما "لم يمنعنا قديم عزنا ولا عادي طولنا على قومك، أن خلطناكم بأنفسنا، فنكحنا وأنكحنا فعل الأكفاء" (نهج البلاغة) تحقيق صبحي صالح (ص386، 378) وتحقيق محمد عبده (3/ 32). أو بعد هذا يبقى مجال لقائل أن يقول بأن بين بني أمية وبني هاشم كانت المنافرة والمعاداة والتحاسد والتباغض؟ وهذه الأشياء هي التي تشكلت بعد ذلك بصورة قتال ومشاجرات بين علي وابنه الحسن ومعاوية وابنه يزيد والحسن إلى آخر الكلام مع أن هذا القول لا أصل له ولا أساس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 446 والمعروف أن بني أمية وبني هاشم كلهم أبناء أب واحد، وأحفاد جد واحد، وأغصان شجرة واحدة قبل الإسلام وبعد الإسلام، كلهم استقوا من عين واحدة ومنبع صاف واحد، وأخذوا الثمار من دين الله الحنيف الذي جاء به محمد رسول الله الصادق الأمين، المعلم، القائل أن لا فرق بين عربي وعجمي، ولا بين أسود وأحمر، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، فليس الفخر بحسب دون حسب ونسب دون نسب من تعليمات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من إرشاداته وتوجيهاته، ولا من شأنه ودأبه، وهو القائل في خطبة حجة الوداع حسب رواية شيعية. "الناس في الإسلام سواء، الناس طف الصاع لآدم وحواء، لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بتقوى الله، ألا هل بلغت؟ قالوا نعم! قال: اللهم اشهد، ثم قال: لا تأتوني بأنسابكم، وأتوني بأعمالكم ..... ثم قال: إن المسلم أخو المسلم لا يغشه، ولا يخونه ولا يغتابه، ولا يحل له دمه، ولا شيء من ماله إلا بطيبة نفسه، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد" (تاريخ اليعقوبي) (2/ 110، 111) تحت عنوان حجة الوداع) كما تزوج عثمان بن عفان أم كلثوم وماتت قبل أن يدخل بها، ثم لما أراد الرسول خروجه إلى بدر زوّجه من رقية" (حياة القلوب) للمجلسي (2/ 588) باب 51). وأورد الحميري رواية عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: لرسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة. القاسم والطاهر وأم كلثوم ورقية وفاطمة وزينب، فتزوج علي عليه السلام فاطمة عليها السلام، وتزوج أبو العاص بن ربيعة وهو من بني أمية زينباً، وتزوج عثمان بن عفان أم كلثوم ولم يدخل بها حتى هلكت، وزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانها رقية" (قرب الإسناد) (ص6، 7). وروى بمثل هذه الرواية العباس القمي في (منتهى الآمال) عن جعفر الصادق، والماماقاني في (تنقيح الرجال) (المنتهى) (1/ 108) (التنقيح) (3/ 73). وأقر بذلك الشري حيث كتب: "وما كان عثمان دون الشيخين صحبة ولا سابقة، فهو من المسلمين الموقرين، وهو صهر الرسول مرتين، تزوج ابنة الرسول رقية، وولد له منها ولد، عبد الله توفي وعمره ست سنين وكانت أمه توفيت قبل وفاته، وزوجه النبي بنته الثانية أم كلثوم، فلم تلبث أم كلثوم معه طويلاً وتوفيت في أيام أبيها" كتاب " (أمير المؤمنين) لمحمد جواد الشيعي تحت عنوان على في عهد عثمان (ص256). ولقد ذكر المسعودي تحت ذكر أولاده صلى الله عليه وسلم: "وكل أولاده من خديجة خلا إبراهيم وولد له صلى الله عليه وسلم القاسم، وبه كان يكنى وكان أكبر بنيه سناً، ورقية وأم كلثوم، زكانتا تحت عتبة وعتيبة ابني أبي لهب (عمه) فطلقاهما لخبر يطول ذكره فتزوجهما عثمان بن عفان واحدة بعد واحد" (مروج الذهب) (2/ 298) ط مصر). ورداّ على من ينكرون رقية وأم كلثوم بنات النبي نذكر رواية من الكليني والعروسي الحويزي تحت باب مولد النبي: "وتزوج خديجة وهو ابن بضع وعشرين سنة، فولد له منها قبل مبعثه عليه السلام القاسم، ورقية، وزينب، وأم كلثوم، وولد له بعد المبعث الطيب والطاهر وفاطمة عليها السلام" (الأصول من الكافي) (1/ 439، 440) (نور الثقلين) للعروسي (3/ 303). هذا ولقد شهد بذلك علي بن أبي طالب أيضاً كما شهد لعثمان الإيمان والصحبة وعلماً مثل علمه، ومعرفة مثل معرفته، وسبقاً في الإسلام مثل سبقه، وهذا كله في كلامه الذي قال لعثمان حينما سأله الناس مخاطبته إياه: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 447 "فدخل عليه فقال: إن الناس ورائي وقد استفسروني بينك وبينهم، ووالله ما أدري ما أقول لك! ما أعرف شيئاً تجهله: ولا أدلك على أمر لا تعرفه، إنك لتعلم ما نعلم. ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه. وقد رأيت كما رأينا، وسمعت كما سمعنا، وصحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما صحبنا. وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطاب بأولى بالعمل منك، وأنت أقرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشيجة رحم منهما، وقد نلت من صهره ما لم ينالا. فالله الله في نفسك! فإنك - والله - ما تبصر من عمى، ولا تعلم من جهل" (نهج البلاغة) تحقيق صبحي صالح (ص234). فانظر ماذا يقول الخليفة الراشد الرابع عندنا والإمام المعصوم الأول عندهم؟ فهل بعد هذا شك لشاك وريب لمرتاب بأن علياً أفضل منه وأعلم وأعرف بخفايا الأمور التي جهلها ذو النورين، أو هو أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشيجة وصلة رحم، أو هو يعلم من جهل ويبصر من عمي؟، وهذا بعد إقرار واعتراف من علي بن أبي طالب وشهادة منه رضي الله عنهما. هذا وقد أنزله رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة الفؤاد كما رووا عنه أنه قال إن أبا بكر مني بمنزلة السمع، وإن عمر مني بمنزلة البصر، وإن عثمان مني بمنزلة الفؤاد" (عيون أخبار الرضا) (1/ 303) ط طهران). وهينئاً له أن يجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة فؤاده، ويروي عنه سبطه وابن سيدة نساء أهل الجنة فاطمة، حسين بن علي رضي الله عنهم أجمعين" (عيون أخبار الرضا) (1/ 303). وحسن بن علي أيضاً" (تفسير الحسن العسكري) و (معاني الأخبار) (ص110). ولقد مدحه من أهل البيت غير الحسن والحسين وأبيهما علي بن أبي طالب رضي الله عنهم كما أورد الكليني عن جعفر بن الباقر - الإمام السادس المعصوم عندهم - أنه قال في مدحه، ومبشراً إياه هو وأتباعه بالجنة قائلاً: ينادي مناد من السماء أول النهار ألا إن علياً صلوات الله عليه وشيعته هم الفائزون، قال: وينادي مناد آخر النهار ألا إن عثمان وشيعته هم الفائزون" (الكافي في الفروع) (8/ 209). ويبين جعفر أيضاً مقام عثمان بن عفان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثقته فيه، ونيابته عنه، وإخلاص عثمان للنبي عليه السلام والوفاء والاتباع لا نظير له كما يبين إحدى الميزات التي امتاز بها عثمان دون غيره، وهو جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى يديه لعثمان، وبيعته بنفسه عنه، وكل ذلك في قصة صلح الحديبية حيث يقول: فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (عثمان بن عفان) فقال: ((انطلق إلى قومك من المؤمنين فبشرهم بما وعدني ربي من فتح مكة، فلما انطلق عثمان لقي أبان بن سعد فتأخر عن السرح فحمل عثمان بين يديه ودخل عثمان فأعلمهم وكانت المناوشة، فجلس سهيل بن عمرو عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس عثمان في عسكر المشركين وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، وضرب بإحدى يديه على الأخرى لعثمان، وقال المسلمون: طوبى لعثمان قد طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كان ليفعل، فلما جاء عثمان قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطفت بالبيت؟ فقال: ما كنت لأطوف بالبيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطف به)) ثم ذكر القصة وما فيها" كتاب (الروضة من الكافي) (8/ 325، 326). وهل هناك إطاعة فوق هذه الطاعة بأن شخصاً يدخل الحرم ولا يطوف بالبيت لأن سيده ومولاه رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يطف به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 448 وذكر مثل ذلك المجلسي في كتابه (حياة القلوب) قال: ((لما وصل الخبر إلى رسول الله بأن عثمان قتله المشركون. قال الرسول: لا أتحرك من ههنا إلا بعد قتال من قتلوا عثمان فاتكأ بالشجرة، وأخذ البيعة لعثمان))، ثم ذكر القصة بتمامها. هنالك وآنذاك نزلت الآية لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18] وأيضاً إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] (حياة القلوب) (2/ 424) ط طهران). فهذا هو الإمام الشهيد المظلوم الثالث رضي الله عنه وأرضاه. مبايعة علي له وكان علي يرى صحة إمامته وخلافته لاجتماع المهاجرين والأنصار عليه، وكان يعد خلافته من الله رضى، ولم يكن لأحد الخيار أن يرد بيعته بعد ذلك، أو ينكر إمامته حاضراً كان أم غائباً كما قال في إحدى خطاباته رداً على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: إنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان لله رضى، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى" (نهج البلاغة) (ص368) تحقيق صبحي). وكان هو أحد الستة الذين عينهم الفاروق ليختار منهم خليفة المسلمين وأمير المؤمنين، ولما بايعه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بعد ما استشار أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار، ورأى بأنهم لا يريدون غير عثمان بن عفان رضي الله عنه بايعه أول من بايعه، ثم تبعه علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "فأول من بايع عثمان عبد الرحمن بن عوف ثم علي بن أبي طالب" (طبقات ابن سعد) (3/ 42) ط ليدن، أيضاً "البخاري" باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان). ويذكر ذلك على المرتضى رضي الله عنه بقوله: لما قتل (يعني الفاروق) جعلني سادس ستة، فدخلت حيث أدخلني، وكرهت أن أفرق جماعة المسلمين وأشق عصاهم فبايعتم عثمان فبايعته" (الأمالي) للطوسي (2 الجزء18 ص121 ط نجف). وقال: لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري، والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا على خاصة التماساً لأجر ذلك وفضله" (نهج البلاغة) تحقيق صبحي صالح (ص102). وكتب تحته ابن أبي الحديد المعتزلي الشيعي في شرحه أن عبد الرحمن بن عوف قال لعلي: بايع إذاً وإلا كنت متبعاً غير سبيل المؤمنين ..... فقال: لقد علمتم أني أحق بها من غيري ..... ثم مد يده فبايع" ابن أبي الحديد، أيضاً (ناسخ التواريخ) (2 كتاب 2 ص449 ط إيران). وكان من المخلصين الأوفياء له، مناصحاً: مستشاراً، أو قاضياً كما كان في خلافة الصديق والفاروق، ولقد بوب محدثو الشيعة ومؤرخوها أبواباً مستقلة ذكروا فيها أقضيته في خلافة ذي النورين رضي الله عنهم أجمعين. ولقد ذكر المفيد في (الإرشاد) تحت عنوان "قضايا علي في زمن إمارة عثمان" ذكر فيها عدة قضايا حكم بها علي ونفذها عثمان رضي الله عنه فيقول: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 449 إن امرأة نكحها شيخ كبير فحملت، فزعم الشيخ أنه لم يصل إليها وأنكر حملها، فالتبس الأمر على عثمان، وسأل المرأة هل افتضك الشيخ؟ وكانت بكراً قالت: لا، فقال عثمان: أقيموا عليها الحد، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: إن للمرأة سمين سم للمحيض وسم للبول، فلعل الشيخ كان ينال منها فسال ماؤه في سم المحيض، فحملت منه، فاسأل الرجل عن ذلك؟ فسئل، فقال: قد كنت أنزل الماء في قبلها من غير وصول إليها بالافتضاض فقال أمير المؤمنين عليه السلام: الحمل له والولد ولده، ورأى عقوبته على الإنكار فصار عثمان إلى قضائه بذلك وتعجب منه" (الإرشاد) (ص122، 113) ط مكتبة بصيرتي قم، إيران). وأيضا "إن رجلاً كانت له سرية فأولدها ثم اعتزلها وأنكحها عبداً له ثم توفي السيد فعتقت بملك ابنها لها وورث ولدها زوجها، ثم توفي الابن فورثت من ولدها زوجها فارتفعا إلى عثمان يختصمان تقول: هذا عبدي ويقول: هي امرأتي، ولست مفرجاً عنها، فقال عثمان: هذه مشكلة وأمير المؤمنين حاضر فقال عليه السلام: سلوها هل جامعها بعد ميراثها له؟ فقالت: لا، فقال: لو أعلم أنه فعل ذلك لعذبته، اذهبي فإنه عبدك، ليس له عليك سبيل، إن شئت أن تسترقيه أو تعتقيه أو تبيعه فذلك لك" (الإرشاد) (ص113). وروى الكليني في صحيحه عن أبي جعفر محمد الباقر أنه قال: إن الوليد بن عقبة حين شهد عليه بشرب الخمر قال عثمان لعلي عليه السلام: اقض بينه وبين هؤلاء الذين زعموا أنه شرب الخمر فأمر علي عليه السلام فجلد بسوط له شعبتان أربعين جلدة" (الكافي في الفروع) (7/ 215) باب ما يجب فيه الحد من الشراب). وقد ذكر اليعقوبي "إن الوليد لما قدم على عثمان، قال: من يضربه؟ فاحجم الناس لقرابته وكان أخا عثمان لأمه، فقام عليّ فضربه" (تاريخ اليعقوبي) الشيعي (2/ 165). ولا يكون هذا الفعل والعمل إلا ممن يقرّ ويصحّح خلافة الخليفة، ويتمثّل أوامر الأمير، ويشارك الحاكم في حكمه، وكان علي بن أبي طالب وأولاده، وبنو هاشم معه، يطاوعون الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه. ويدل على ذلك قول علي رضي الله عنه لما أراده الناس على البيعة بعد شهادة الإمام المظلوم ذي النورين رضي الله عنه، المنقول في أقدس كتب القوم "دعوني والتمسوا غيري وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم" (نهج البلاغة) تحقيق صبحي صالح (ص136). ذو النورين وعلاقاته مع أهل البيت كما يدل على ذلك قبول الهاشميين المناصب في خلافته ومنه كقبول المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب القضاء (الاستيعاب) (أسد الغابة) (الإصابة) وغيرها). والحارث بن نوفل أيضاً (طبقات) و (الإصابة). وقبول عبد الله بن عباس الإمارة على الحج سنة (35). (تاريخ اليعقوبي) (2/ 176). وجهادهم تحت رايته، وفي العساكر والجيوش التي يكونها ويسيرها ويجهزها إلى محاربة الكفار وأعداء الأمة الإسلامية، فاشترك في المعارك الإسلامية سنة (26) من الهجرة إلى أفريقية ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (الكامل لابن الأثير) (3/ 45). وإلى برقة وطرابلس وأفريقية كل من الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب وعمهم ابن عم نبيهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين تحت قيادة عبد الله بن أبي سرح (تاريخ ابن خلدون) (2/ 103). واشترك كل من الحسن والحسين وعبد الله بن عباس تحت راية سعيد بن العاص الأموي في غزوات خراسان وطبرستان وجرجان (تاريخ الطبري) (الكامل لابن الأثير) (البداية والنهاية) (تاريخ ابن خلدون). وغير ذلك من الغزوات والمعارك. وكان يهدي إليهم الغنائم والهدايا كما كان يبعث إليهم الجواري والخدام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 450 ولقد نقل الماماقاني عن الرضا - الإمام الثامن المعصوم عندهم - أنه قال: إن عبد الله بن عامر بن كريز لما افتتح خراسان أصاب ابنتين ليزدجرد ابن شهريار ملك الأعاجم، فبعث بهما إلى عثمان بن عفان فوهب إحداهما للحسن والأخرى للحسين فماتتا عندهما نفساوين" (تنقيح المقال في علم الرجال) للمقامقاني (3/ 80) ط طهران). فكان عثمان بن عفان يكرم الحسن والحسين ويحبهما، ولذلك لما حوصر من قبل البغاة، أرسل عليّ ابنيه الحسن والحسين وقال لهما: اذهبا بسيفكما حتى تقوما على باب عثمان فلا تدعا أحداً يصل إليه" (أنساب الأشراف) للبلاذري (5/ 68، 69) ط مصر). وبعث عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبناءهم ليمنعوا الناس الدخول على عثمان، وكان فيمن ذهب للدفاع عنه ولزم الباب ابن عم عليّ عبد الله بن عباس، ولما أمّره ذو النورين في تلك الأيام الهالكة السوداء على الحج قال: والله يا أمير المؤمنين! لجهاد هؤلاء أحب إلي من الحج، فأقسم عليه لينطلقن" (تاريخ الأمم والملوك) أحوال سنة 35). وكما اشترك علي المرتضى رضي الله عنه أول الأمر بنفسه في الدفاع عنه "فقد حضر هو بنفسه مراراً، وطرد الناس عنه، وأنفذ إليه ولديه وابن أخيه عبد الله بن جعفر" (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد (10/ 581) ط قديم إيران). "وانعزل عنه بعد أن دافع عنه طويلاً بيده ولسانه فلم يمكن الدفع" (شرح ابن ميثم البحراني) (4/ 354) ط طهران). "نابذهم بيده ولسانه وبأولاده فلم يغن شيئاً" (شرح ابن أبي الحديد) تحت "بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر"). وقد ذكر ذلك نفسه حيث قال: والله لقد دفعت عنه حتى حسبت أن أكون آثما" (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد (3/ 286). لأن ذا النورين منعهم عن الدفاع وقال: اعزم عليكم لما رجعتم فدفعتم أسلحتكم، ولزمتم بيوتكم" (تاريخ خليفة بن خياط) (1/ 151، 152) ط عراق). "ومانعهم الحسن بن علي وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة ..... وجماعة معهم من أبناء الأنصار فزجرهم عثمان، وقال: أنتم في حل من نصرتي" (شرح النهج) تحت عنوان محاصرة عثمان ومنعه الماء). وجرح فيمن جرح من أهل البيت وأبناء الصحابة حسن بن علي رضي الله عنهما وقنبر مولاه" (الأنساب) للبلاذي (5/ 95) (البداية) تحت "قتلة عثمان"). ولما منع البغاة الطغاة عنه الماء خاطبهم عليّ بقوله: أيها الناس! إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين، إن الفارس والروم لتؤسر فتطعم فتسقي، فوالله لا تقطعوا الماء عن الرجل، وبعث إليه بثلاث قرب مملوءة ماء مع فتية من بني هاشم" (ناسخ التواريخ) (2/ 531) ومثله في (أنساب الأشراف) للبلاذري (5/ 69). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 451 وأخيراً نريد أن ننقل من المسعودي طرفاً من الفاجعة التي نزلت، والكارثة التي ألمت "فلما بلغ علياً أنهم يريدون قتله بعث بابنيه الحسن والحسين مع مواليه بالسلاح إلى بابه لنصرته، وأمرهم أن يمنعوه منهم، وبعث الزبير ابنه عبد الله، وطلحة ابنه محمداً، وأكثر أبناء الصحابة أرسلهم آباؤهم اقتداء بما ذكرنا، فصدوهم عن الدار، فرمى من وصفنا بالسهام، واشتبك القوم، وجرح الحسن، وشج قنبر، وجرح محمد بن طلحة، فخشي القوم أن يتعصب بنو هاشم وبنو أمية، فتركوا القوم في القتال على الباب، ومضى نفر منهم إلى دار قوم من الأنصار فتسوروا عليها، وكان ممن وصل إليه محمد بن أبي بكر ورجلان آخران، وعند عثمان زوجته، وأهله ومواليه مشاغل بالقتال، فأخذ محمد بن أبي بكر بلحيته، فقال: يا محمد! والله لو رآك أبوك لساءه مكانك، فتراخت يده، وخرج عنه إلى الدار، ودخل رجلان فوجداه فقتلاه، وكان المصحف بين يديه يقرأ فيه، فصعدت امرأته فصرخت وقالت: قد قتل أمير المؤمنين، فدخل الحسن والحسين ومن كان معهما من بني أمية، فوجدوه قد فاضت نفسه رضي الله عنه، فبكوا، فبلغ ذلك علياً وطلحة والزبير وسعداً وغيرهم من المهاجرين والأنصار، فاسترجع القوم، ودخل علي الدار، وهو كالواله الحزين وقال لابنيه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب؟ ولطم الحسن وضرب صدر الحسين، وشتم محمد بن طلحة، ولعن عبد الله بن الزبير" (مروج الذهب) للمسعودي (2/ 344) ط بيروت). ثم كان هو وأهله ممن دفنوه ليلاً، وصلوا عليه كما يذكر ابن أبي الحديد المعتزلي الشيعي: "فخرج به ناس يسير من أهله ومعهم الحسن بن علي وابن الزبير وأبو جهم بن حذيفة بين المغرب والعشاء، فأتوا به حائطاً من حيطان المدينة يعرف بحش كوكب وهو خارج البقيع فصلوا عليه" (شرح النهج) لابن أبي الحديد الشيعي (1/ 97) ط قديم إيران وج1 ص198 ط بيروت). وكان من حب أهل البيت إياه أنهم زوجوا بناتهم من أبنائه وإياه، ولقد زوجه خير خلق الله ابنتيه، وسموا أسماء أبنائهم باسمه كما ذكر المفيد أن واحداً من أبناء علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان اسمه عثمان: "فأولاد أمير المؤمنين سبعة وعشرون ولداً ذكراً وأنثى (1) الحسن (2) الحسين (10) عثمان أمه أم البنين بنت حزام بن خالد بن ورام" (الإرشاد) للمفيد (ص186) تحت عنوان "ذكر أولاد أمير المؤمنين"). وذكر الأصفهاني أنه قتل مع أخيه الحسين بكربلاء. "قتل عثمان بن علي وهو ابن إحدى وعشرين سنة، وقال الضاحك: إن خولي بن يزيد رمى عثمان بن علي بسهم فأوهطه (أي أضعفه) وشد عليه رجل من بني أبان بن دارم فقتله وأخذ رأسه" (مقاتل الطالبين) (ص83) (عمدة الطالب) (ص356) ط نجف، و (تاريخ اليعقوبي) (2/ 213). فهذا هو ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه صهر رسول الله وحبيبه في الدنيا والآخرة، وحبيب أهل البيت وابن عمهم وعمتهم، وقريبهم، يحبهم ويحبونه مثل الصديق والفاروق: "وأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشيجة رحم منها، ونال من صهره ما لم ينالا" (نهج البلاغة) تحقيق صبحي صالح (ص234) كما قاله المرتضى علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وهذا هو موقفهم تجاهه وتجاه الصديق والفاروق الخلفاء الراشدين المهديين الثلاثة، بينّاه من كتب القوم أنفسهم، ومن المصادر الأصلية الموثوقة المعتمدة لديهم بذكر الصفحات والمجلدات. المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص132 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 452 الفصل السادس عشر: موقف الشيعة من الخلفاء الراشدين الثلاثة وأما الشيعة الذين يتزعمون حب أهل البيت وولاءهم، وينسبون مذهبهم إليهم، ويدّعون اتباعهم واقتداءهم، فإنهم عكس ذلك تماماً، يخالفون الصديق والفاروق وذا النورين ويبغضونهم أشد البغض، ويعاندونهم، ويسبونهم، ويشتمونهم، بل ويفسقونهم ويكفرونهم، ويعدون هذه السباب والشتيمة واللعان من أقرب القربات إلى الله، ومن أعظم الثواب والأجر لديه، فلا يخلو كتاب من كتبهم ولا رسالة من رسائلهم إلا وهي مليئة من الشتائم والمطاعن في أخلص المخلصين لرسول الله فداه أبواي وروحي، وأحسن الناس طراً، وأتقاهم لله، وأحبهم إليه، حملة شريعته، ومبلغي ناموسه ورسالته، ونوّاب نبيه المختار وتلامذته الأبرار، وهداة أمته الأخيار، عليهم رضوان الله الستار الغفار جلّ جلاله وعمّ نواله. فروى الملا محمد كاظم في كتابه: "عن أبي حمزة الثمالي - وهو يكذب على زين العابدين - قال - من لعن الجبت (أي الصديق) والطاغوت (أي الفاروق) لعنة واحدة كتب الله له سبعين ألف ألف حسنة، ومحى عنه ألف ألف سيئة، ورفع له سبعين ألف ألف درجة، ومن أمسى يلعنهما لعنة واحدة كتب له مثل ذلك، قال مولانا علي بن الحسين: فدخلت على مولانا أبي جعفر محمد الباقر، فقلت: يا مولاي حديث سمعته من أبيك؟ قال: هات يا ثمالي، فأعدت عليه الحديث قال: نعم يا ثمالي! أتحب أن أزيدك؟ فقلت: بلى يا مولاي، فقال: من لعنهما لعنة واحدة في كل غداة لم يكتب عليه ذنب في ذلك اليوم حتى يمسي، ومن أمسى لعنهما لعنة واحدة لم يكتب عليه ذنب في ليلة حتى يصبح، قال: فمضى أبو جعفر، فدخلت على مولانا الصادق، فقلت: حديث سمعته من أبيك وجدك؟ فقال: هات يا أبا حمزة! فأعدت عليه الحديث، فقال حقاً يا أبا حمزة، ثم قال عليه السلام: ويرفع ألف ألف درجة، ثم قال: إن الله واسع كريم" (أجمع الفضائح) للملا كاظم، و (ضياء الصالحين) (ص513). ثم وهم يؤمرون على أن يعملوا بذلك: "ونحن معاشر بني هاشم نأمر كبارنا وصغارنا بسبهما والبراءة منهما" (رجال الكشي) (ص180). فلا يوجد شتيمة إلا وهم يطلقونها على هؤلاء الأخيار البررة. فها هو عياشيهم يكتب في تفسيره في سورة البراءة عن أبي حمزة الثمالي أنه قال: قلت (للإمام): ومن أعداء الله؟ قال: الأوثان الأربعة، قال: قلت: من هم؟ قال: أبو الفصيل, ورمع, ونعثل, ومعاوية، ومن دان بدينهم، فمن عادى هؤلاء فقد عادى أعداء الله" (تفسير العياشي) (2/ 116) أيضاً (بحار الأنوار) للمجلسي (7/ 37). ثم فسّر المعلق على هذه المصطلحات الثلاثة حاكياً عن الجزري أنه قال: كانوا يكنون بأبي الفصيل عن أبي بكر لقرب البكر بالفصيل ويعني بالبكر، الفتى من الإبل. والفصيل: ولد الناقة إذا فصل عن أمه، وفي كلام بعض أنه كان يرعى الفصيل في بعض الأزمنة فكني بأبي الفصيل، وقال بعض أهل اللغة: أبو بكر بن أبي قحافة ولد بعد عام الفيل بثلاث سنين، وكان اسمه عبد العزى - اسم صنم - وكنيته في الجاهلية أبو الفصيل، فإذا أسلم سمي عبد الله وكني بأبي بكر - وأما كلمة رمع فهي مقلوبة من عمر، وفي الحديث أول من رد شهادة المملوك رمع، وأول من أعال الفرائض رمع. وأما نعثل فهو اسم رجل كان طويل اللحية قال الجوهر: وكان عثمان إذا نيل منه وعيب شبه بذلك" (تفسير العياشي) (2/ 116) ط طهران9. انظر إلى هؤلاء القوم لا يستحيون من إطلاق لفظه الأوثان على هؤلاء الأخيار الأبرار. وهل لسائل أن يسأل أين هذا من قول محمد الباقر - الإمام الخامس المعصوم عندهم - في جواب سائل سأله هل ظلماكم من حقكم شيئاً؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 453 قال: لا والذي أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيراً ما ظلمنا من حقنا مثقال حبة من خردل" (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد). ثم ولماذا أعطى علي رضي الله عنه ابنته لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنتيه من ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه إن كان كافراً؟ وثم لماذا مدحه عليّ وأهل البيت وغيرهم، ولماذا دافع عنه هو وأبناؤه، وجرح أحدهما وهو الإمام المعصوم لدى القوم أيضاً؟ فهل من مجيب؟ هذا وإن كان عثمان كافراً فلماذا لم يمنع علي رضي الله عنه ابن أخيه من تزويج ابنته من ابن عثمان أبان، ولماذا لم تمتنع سكينة بنت الحسن من زواجها من حفيده زيد وغير ذلك، ولماذا سمّى عليّ ابنه باسمه؟. ويمشي العياشي في غلوائه وبغضه للخلفاء الراشدين، فيخترع الخرافات والأكاذيب والقصص ويقول: فلما قبض نبي الله صلى الله عليه وسلم كان الذي كان لما قد قضى من الاختلاف، وعمد عمر فبايع أبا بكر ولم يدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد، فلما رأى ذلك علي عليه السلام ورأى الناس قد بايعوا أبا بكر خشي أن يفتتن الناس ففرغ إلى كتاب الله وأخذ يجمعه في مصحف، فأرسل أبو بكر إليه أن تعال فبايع، فقال علي: لا أخرج حتى أجمع القرآن، فأرسل إليه مرة أخرى فقال: لا أخرج حتى أفرغ، فأرسل إليه الثالثة ابن عم له يقال قنفذ، فقامت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها تحول بينه وبين عليّ عليه السلام فضربها فانطلق قنفذ وليس معه علي، فخشي أن يجمع عليّ الناس فأمر بحطب فجعل حوالي بيته، ثم انطلق عمر بنار فأراد أن يحرق على عليّ بيته وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم، فلما رأى علي ذلك خرج فبايع كارهاً غير طائع" (تفسير العياشي) (2/ 307، 308) أيضاً (البحار) (8/ 47). شجاعة علي: وهذا مع قول علي: إني والله لو لقيتهم واحداً وهو طلاع الأرض كلها ما باليت ولا استوحشت" (نهج البلاغة) (ص452) تحقيق صبحي). وهو الذي يحكون عنه أن أبا وائلة يقول: كنت أماشي فلاناً - أي عمر كما صرح باسمه المجلسي في حياة القلوب - إذ سمعت منه همهمة، فقلت له: مه، ماذا يا فلان؟ فقال: ويحك أما ترى الهزبر القضم ابن القضم، والضارب بالبهم، الشديد على من طغى وبغى، بالسيفين والراية، فالتفت فإذا هو علي بن أبي طالب، فقلت له: يا هذا هو علي بن أبي طالب، فقال: ادن مني أحدثك عن شجاعته وبطولته، بايعنا النبي يوم أحد على أن لا نفرّ، ومن فرّ منا فهو ضال ومن قتل منا فهو شهيد والنبي زعيمه، إذ حمل علينا مائة صنديد تحت كل صنديد مائة رجل أو يزيدون، فأزعجونا عن طحونتنا، فرأيت علياً كالليث يتقي الذر وإذ قد حمل كفاً من حصى فرمى به في وجوهنا ثم قال: شاهت الوجوه وقطت وبطت ولطت، إلى أين تفرون؟ إلى النار، فلم نرجع، ثم كرّ علينا الثانية وبيده صفيحة يقطر منها الموت، فقال: بايعتم ثم نكثتم، فوالله لأنتم أولى بالقتل ممن قتل، فنظرت إلى عينيه كأنهما سليطان يتوقدان ناراً، أو كالقدحين المملوءين دماً، فما ظننت إلا ويأتي علينا كلنا، فبادرت أنا إليه من بين أصحابي فقلت: يا أبا الحسن! الله الله، فإن العرب تكرّ وتفرّ وإن الكرة تنفي الفرة، فكأنه عليه السلام استحيى فولى بوجهه عني، فما زلت أسكن روعة فؤادي، فوالله ما خرج ذلك الرعب من قلبي حتى الساعة" (تفسير القمي) (1/ 114، 115). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 454 ورووا في شجاعة عليّ قصصاً كثيرة، ومنها ما رواه القطب الراوندي: "إن علياً بلغه عن عمر ذكره شيعته فاستقبله في بعض طرق البساتين وفي يد علي قوس فقال: يا عمر! بلغني عنك ذكرك شيعتي فقال: أربع على ظلعك فقال عليه السلام: إنك لههنا، ثم رمى بالقوس على الأرض فإذا هو ثعبان كالبعير فاغراً فاه وقد أقبل نحو عمر ليبتلعه فصاح عمر, الله الله ,يا أبا الحسن! لا عدت بعدها في شيء، وجعل يتضرع إليه فضرب بيده إلى الثعبان فعادت القوس كما كانت فمضى عمر إلى بيته مرعوباً" كتاب (الخرائج والجرائح) (ص20، 21) ط بمبئي 1301هـ‍). وأيضاً ما ذكره سليم بن قيس العامري الشيعي اللعان السباب الخبيث أن علياً شتم عمر وهدده بقوله: والله لو رمت ذلك يا ابن صهاك لأرجعت إليك يمينك، لئن سللت سيفي لأغمدته دون إزهاق نفسك فرمّ ذلك، فانكسر عمر وسكت وعلم أن علياً إذا حلف صدق، ثم قال على: يا عمر! ألست الذي هم بك رسول الله وأرسل إلي فجئت متقلداً بسيفي، ثم أقبلت نحوك لأقتلك فأنزل الله عز وجل: فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [مريم: 84] قال ابن عباس: ثم إنهم تآمروا وتذاكروا فقالوا: لا يستقيم لنا أمر مادام هذا الرجل حياً، فقال أبو بكر: من لنا بقتله؟ فقال عمر: خالد بن الوليد، فأرسلا إليه، فقالا: يا خالد! ما رأيك في أمر نحملك عليه؟ قال: احملاني على ما شئتما، فوالله! إن حملتماني على قتل ابن أبي طالب لفعلت، فقالا: والله ما نريد غيره, قال: فإني لها، فقال أبو بكر: إذا قمنا في الصلاة، صلاة الفجر، فقم إلى جانبه ومعك السيف، فإذا سلمت فاضرب عنقه، قال: نعم! فافترقوا على ذلك، ثم إن أبا بكر تفكر فيما أمر به من قتل علي وعرف إن فعل ذلك وقعت حرب شديدة وبلاء طويل، فندم على أمره فلم ينم ليلته تلك حتى أتى المسجد وقد أقيمت الصلاة فتقدم فصلى بالناس مفكراً لا يدري ما يقول، وأقبل خالد بن الوليد متقلداً بالسيف حتى قام إلى جانب عليّ وقد فطن عليّ ببعض ذلك، فلما فرغ أبو بكر من تشهده صاح قبل أن يسلم يا خالد! لا تفعل ما أمرتك، فإن فعلت قتلتك، ثم سلم عن يمينه وشماله، فوثب علي عليه السلام فأخذ بتلابيب خالد وانتزع السيف من يده ثم صرعه وجلس على صدره وأخذ سيفه ليقتله واجتمع عليه أهل المسجد ليخلصوا خالداً فما قدروا عليه، فقال العباس حلفوه بحق القبر لما كففت فحلفوه بالقبر فتركه وقام فانطلق إلى منزله" كتاب (سليم بن قيس العامري) (ص256،257). هذا ولقد بالغوا وأكثروا في شجاعته وقالوا: كان يملك من القوة حتى "إن علياً ركض برجله الأرض يوماً فتزلزلت الأرض" (تفسير البرهان "مقدمة") (ص74). وتزلزلت يوماً فركضها حتى سكنت كما يكذب الصافي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 455 "عن فاطمة عليها السلام قالت: أصاب الناس زلزلة على عهد أبي بكر وفزع الناس إلى أبي بكر وعمر فوجدوهما قد خرجا فزعين إلى علي عليه السلام، فتبعهما الناس إلى أن انتهوا إلى باب علي عليه السلام فخرج عليهم غير مكترث لما هم فيه، فمضى واتبعه الناس حتى انتهوا إلى تلعة فقعد عليها وقعدوا حوله وهم ينظرون إلى حيطان المدينة ترتج جائية وذاهبة، فقال لهم علي: كأنكم قد هالكم ما ترون؟ قالوا: وكيف لا يهولنا ولم نر مثلها قط؟ فحرّك شفتيه وضرب بيده الشريفة، ثم قال: مالك اسكني، فسكنت بإذن الله، فتعجبوا من ذلك أكثر من تعجبهم الأول حيث خرج إليهم، قال لهم: فإنكم تعجبتم من صنعي؟ قالوا: نعم! قال أنا الرجل الذي قال الله: إذا زلزلت الأرض زلزالها وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا الزلزلة:1 - 3 [, فأنا الإنسان الذي يقول لها: مالك، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا] الزلزلة:4 [, إياي تحدث" (الصافي) (ص571).] وأكثر من ذلك، أنه صرع إبليس يوماً بقوته الجبارة كما رواه ابن بابويه القمي في (عيون أخبار الرضا) (2/ 72). هذا ومثل هذا كثير. وما دمنا بدأنا في هذا نريد أن نكمل البحث بإيراد حكاية باطلة غريبة تدل على أكاذيب القوم وأساطيرهم التي نسجوها، وبنوا عليها مذهبهم، وأسسوا عليها عقائدهم، وهي منقولة من "كتاب (الأنوار النعمانية) للسيد نعمة الله الجزائري فإنه يقول: روى البرسي في كتابه لمّا وصف وقعة خيبر "وإن الفتح فيها كان على يد علي وإن جبريل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستبشراً بعد قتل مرحب، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن استبشاره فقال: يا رسول الله! إن علياً لما رفع السيف ليضرب به مرحباً أمر الله سبحانه إسرافيل وميكائيل أن يقبضا عضده في الهواء حتى لا يضرب بكل قوته ومع هذا قسمه نصفين وكذا ما عليه من الحديد وكذا فرسه ووصل السيف إلى طبقات الأرض، فقال لي الله سبحانه: يا جبرئيل بادر إلى تحت الأرض وامنع سيف علي عن الوصول إلى ثور الأرض حتى لا تنقلب الأرض، فمضيت فأمسكته فكان على جناحي أثقل من مدائن قوم لوط وهي سبع مدائن قلعتها من الأرض السابعة ورفعتها فوق ريشة واحدة من جناحي إلى قرب السماء وبقيت منتظراً لأمر إلى وقت السحر حتى أمرني الله بقلبها، فما وجدت لها ثقلاً كثقل سيف عليّ فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: لم لا قلّبتها من ساعة رفعتها؟ فقال: يا رسول الله! إنه قد كان فيهم شيخ كافر نائم على قفاه، وشيبته إلى السماء، فاستحى الله سبحانه أن يعذبهم، فلما كان وقت السحر انقلب ذلك الشائب عن قفاه فأمرني بعذابها، وفي ذلك اليوم أيضاً لما فتح الحصن وأسروا نسائهم فكان فيهم صفية بنت ملك الحصن، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم وفي وجهها أثر شجة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقالت: إن علياً لما أتى الحصن وتعسر عليه أخذه أتى إلى برج من بروجه، فهزّه فاهتز الحصن كله، وكل من كان فوق مرتفع سقط منه وأنا كنت جالسة فوق سريري فهويت من عليه، فأصابني السرير فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: يا صفية! إن علياً لما غضب وهزّ الحصن غضب الله لغضب علي فزلزل السماوات كلها حتى خافت الملائكة ووقعوا على وجوههم وكفى به شجاعة ربانية، وأما باب خيبر فقد كان أربعون رجلاً يتعاونون على سدّه وقت الليل، ولما دخل الحصن طار ترسه من يده من كثرة الضرب فقلع الباب وكان في يده بمنزلة الترس يقاتل فهو في يده حتى فتح الله عليه" (الأنوار النعمانية) لنعمة الله الجزائري). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 456 وهذا مع رواية اليعقوبي الشيعي "وبلغ أبا بكر وعمر أن جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول الله، فأتوا في جماعة حتى هجموا الدار، وخرج علي ومعه السيف، فلقيه عمر، فصارعه عمر فصرعه، وكسر سيفه، ودخلوا الدار فخرجت فاطمة فقالت: والله لتخرجن أو لأكشفن شعري ولأعجن إلى الله! فخرجوا وخرج من كان في الدار وأقام القوم أياماً ثم جعل الواحد بعد الواحد يبايع" (تاريخ اليعقوبي) (2/ 126). ولا ندري، من الصادق من القوم؟ نعمة الله الجزائري وسليم بن قيس العامري والقطب الراوندي والقمي والمجلسي أو العياشي واليعقوبي؟ لا ندري، أم كلهم كذبة يكذبون ويحكون، ولا يدرون أن أهل البيت لم يقولوا، ولم يكونوا هكذا، ولو كانوا أو قالوا لما قالوا في أبي بكر، هو الصديق، وفي عمر، أنه ميمون النقيبة ومرضي السيرة، ولم يسموا أبناءهم بأسمائهم، ولم يناكحوهم ويعاشروهم ويمدحوهم بعد موتهم، فلا نستطيع أن نقول بعد رواية هذه الأشياء كلها: اللهم إلا أن أهل البيت كانوا صادقين في أفعالهم وأعمالهم، ومصيبين في أقوالهم وأحوالهم، والشيعة يكذبون عليهم، ويخالفونهم في معتقداتهم، ويعادون أحباءهم ورحماءهم وأقاربهم وقادتهم وأمراءهم وحكامهم، الذين أخلصوا لهم الطاعة والمناصحة والولاء والمشورة كما بينّاه سابقاً بالتفصيل. وإلا فهل يعقل من مثل ذلك الرجل الشجاع الباسل، البطل الكمّي أن يجبره أبو بكر على بيعته، وعمر على تزويجه من بنته، وعثمان على رضائه بتقديمه، وتسمية أبنائه بأسمائهم رضوان الله عليهم أجمعين، ومعه من أهل بيته وأنصاره من معه؟.والظاهر أن القوم مع إظهارهم ولاء أهل البيت يخالفونهم في بغضهم الخلفاء الراشدين وأصحاب نبي الله المختارين النجباء، الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفداه أبوي وروحي: ((طوبى لمن رآني وآمن بي)) (1) كتاب (الخصال) (2/ 342). وعلى كل وإننا لنذكر مخالفة القوم أهل البيت في عدائهم لأرحام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصهاره. فيقول العياشي أيضاً في ذي النورين رضي الله عنه أن الآية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى [البقرة:264] نزلت في عثمان" (تفسير العياشي) (1/ 147) (البحار) (8/ 217). وأما القمي فليس أقل من العياشي في اللعن والطعن والتفسيق والتكفير، فيذكر تحت قول الله عز وجل: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112] ما بعث الله نبياً إلا وفي أمته شيطانان يؤذيانه ..... وأما صاحبا محمد فحبتر وزريق" (تفسير القمي) (2/ 242). ولقد نقلنا عنه روايات عديدة في كتابنا (الشيعة والسنة). وأما البحراني فهو على شاكلتهما، فيكتب تحت قول الله عز وجل ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة:40] محترقا من معيّة الصديق النبي عليه الصلاة والسلام في سفره من مكة إلى المدينة، مهاجراً إلى الله، مصاحباً أبا بكر بأمر من الله وثقة في الصديق، ورغبة في صحبته، يقول: أمر رسول الله علياً فنام على فراشه، وخشي من أبي بكر أن يدلّهم عليه فأخذه معه إلى الغار" (البرهان) (2/ 127).   (1) رواه أحمد (3/ 71) (11691) وأبو يعلى (2/ 519) (1374) وابن حبان (7230) والطبراني (8025) قال الهيثمي في المجمع (10/ 67) رواه أحمد والطبراني بأسانيد ورجالها رجال الصحيح غير أيمن بن مالك الاشعري وهو ثقة، وقال البوصيري في الإتحاق (1/ 15) رجاله ثقات، وصححه الألباني في الصحيحة (1241) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 457 ويكذب على أبي جعفر حيث يقول: إنه قال: إن رسول الله أقبل يقول لأبي بكر في الغار: اسكن، فإن الله معنا - إلى أن قال - تريد أن أريك أصحابي من الأنصار في مجالسهم يتحدثون، وأريك جعفر وأصحابه في البحر يعومون، فقال: نعم، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على وجهه، فنظر الأنصار جالسين في مجالسهم، ونظر إلى جعفر وأصحابه في البحر يغوصون، فأضمر تلك الساعة أنه ساحر" (البرهان) (ص125) و (الروضة من الكافي) (8/ 262). وأما الفاروق، المطفئ نار المجوسية، والمكسر أصنام الكسروية وشوكتها، والهادم مجد اليهودية وعزها، المحبوب إلى حبيب الرب، والمبغوض إلى أعدائه وأعداء أمته، أبناء اليهود والمجوس، يقول فيه البحراني تحت قول الله عز وجل: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا [الفرقان: 29] وكان الشيطان هو الثاني، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا [الفرقان:28] يعنى الثاني لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي [الفرقان:29] يعني الولاية" (البرهان) (3/ 166). ويمتد في غلوائه، ويتجاهر بالفحش والبذاءة حيث يقول: إبليس وما بمعناه كالمبلسين سيأتي في الشيطان تأويله بالثاني، ومنه يمكن استفادة تأويل إبليس به أيضاً لاتحاد المسمى بهما، وفي بعض الأخبار عن الأصبغ بن نباتة أن علياً عليه السلام أخرجه مع جمع فيهم حذيفة بن اليمان إلى الجبانة، وذكر معجزة عنه عليه السلام إلى أن قال: فقال علي عليه السلام: يا ملائكة ربي ايتوني الساعة بإبليس الأبالسة، وفرعون الفراعنة، فوالله! ما كان بأسرع من طرفة عين حتى أحضروه عنده, فلما جرّوه بين يديه قام وقال: واويلاه من ظلم آل محمد، واويلاه من اجترائي عليهم، ثم قال: يا سيدي ارحمني، فإني لا أحتمل هذا العذاب، فقال عليه السلام: لا رحمك الله ولا غفر لك, أيها الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان، ثم التفت إلينا، فقال: سلوه حتى يخبركم من هو؟ فقلنا له: من أنت؟ فقال أنا إبليس الأبالسة وفرعون هذه الأمة، أنا الذي جحدت سيدي ومولاي أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين، وأنكرت آياته ومعجزاته الخبر، والظاهر أن المراد به الثاني حيث كان هو رأس المفسدين، وهو الذي أوّل به الشيطان في القرآن" (البرهان، "مقدمة") (ص98). وأما محسن المسلمين والإسلام عثمان بن عفان فقد كتب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: قد أقلتك إسلامك فاذهب فأنزل الله تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا [الحجرات:17] إلخ" (البرهان) (4/ 215). ويظهر بغضه وحقده للجميع فيقول تحت قول الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ [النساء:49] المراد هم الذين سموا أنفسهم بالصديق والفاروق وذي النورين" (البرهان، "مقدمة") (ص172). (وقد أعماه الحسد والحقد والجهل حتى لم يدر بأن واحداً من هؤلاء الثلاثة لم يسم نفسه بهذه الأسماء، ولم ترد رواية في ذلك، بل سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته بهذه الأسماء والألقاب كما مر سابقاً، والبغيض اللعان لم يدر أيضاً بأن الثابت في الروايات وكتب القوم أن علياً رضي الله عنه هو الذي سمى نفسه بهذه الأسماء، وأطلقها بنفسه على نفسه "أنا الصديق وأنا الفاروق" (الاحتجاج) للطبرسي (1/ 95) فافهم وتدبر) ويحكم ويتحكم أن المراد بـ مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [القارعة:6] عليّ وشيعته، والمراد بـ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ [القارعة:8] الثلاثة وأتباعهم ("مقدمة" ص333). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 458 ويتقدم في تحكمه واستهزائه لأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وأزواجه حيث يقول: إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ [النور:11] نزلت في عائشة وحفصة وأبي بكر وعمر لما قذفوا مارية القبطية وجريحاُ" (البرهان) (3/ 127). ومفسرهم الرابع الكاشاني ليس أقل لوماً ولا خبثاً من الآخرين من بني قومه، وهو الذي كتب تحت قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا [النساء:137] نزلت في الأول والثاني والثالث والرابع (يعني معاوية) وعبد الرحمن وطلحة" (تفسير صافي) للكاشاني (ص136) ط إيران بالحجم الكبير). وكتب تحت قول الله عز وجل: وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ [التوبة: 74] لما أقام الرسول علياً يوم غدير خم كان بحذائه سبعة نفر من المنافقين، وهم أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة والمغيرة بن شعبة، قال عمر: "ألا ترون عينيه كأنهما عينا مجنون - يعني النبي -، يقوم ويقول: قال لي ربي" - أستغفر الله من نقل هذه الخرافة وهذا الكفر، ولعنة الله على الكاذبين – (الصافي) (ص236) الحجم الكبير و (ص715 ج1) الحجم الصغير). وشاتمهم الخامس المسمي نفسه بالمفسر، العروسي الحويزي، فيقول تحت قول الله تعالى: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ [الحجر:44] عن أبي بصير قال: يؤتى بجهنم لها سبعة أبواب بابها الأول للظالم وهو زريق وبابها الثاني لحبتر والباب الثالث للثالث والرابع لمعاوية والخامس لعبد الملك والسادس لعسكر بن هوسر والسابع لأبي سلامة، فهم باب لمن اتبعهم" (نور الثقلين) (3/ 18). وعلق المحشي اللعين على هذه الأسماء بقوله: قال المجلسي: زريق كناية عن الأول لأن العرب يتشاءم بزرقة العين، والحبتر هو الثعلب ولعله إنما كنى عنه لحيلته ومكره، وفي غيره من الأخبار وقع بالعكس وهو أظهر إذا الحبتر بالأول أنسب، ويمكن أن يكون هنا أيضاً المراد ذلك، وإنما قدم الثاني لأنه أشقى وأفظ وأغلظ، وعسكر بن هوسر كناية عن بعض خلفاء بنى أمية أو بني العباس. وكذا أبي سلامة كناية عن أبي جعفر الدوانيقي، ويحتمل أن يكون عسكر كناية عن عائشة وسائر أهل الجمل، إذ كان اسم جمل عائشة عسكراً وروى أنه كان شيطاناً" (نور الثقلين (3/ 18) ط قم – إيران). وكتب تحت قول الله عز وجل: َالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل: 20 - 21] قال: الذين يدعون من دون الله الأول والثاني والثالث، كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: والوا علياً واتبعوه، فعادوا علياً ولم يوالوه، ودعوا الناس إلى ولاية أنفسهم فذلك قول الله: والذين يدعون من دون الله أموات غير أحياء كفار غير مؤمنين وهم مستكبرون يعني عن ولاية علي" (نور الثقلين) (3/ 47). محدثو الشيعة وفقهاؤهم: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 459 فهؤلاء هم مفسروا الشيعة اللعانون السبابون الشتامون، المكفرون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والأخيار منهم، الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، وها هي كتبهم في التفسير، كتب الشتائم والسباب، واللعائن والمطاعن، كتب القذائف والتهم، وعلى من؟ على الذين شهد الله بطهارتهم ونقائهم وصفائهم، وبشرهم بالفوز والفلاح والجنة والرضى، أصحاب رسول الله ورفاقه، تلامذته ومريديه الذين عاشروا الرسول، وبايعوه، ناصروه وأيدوه. هاجروا معه وتركوا لأجله أقاربهم وعشائرهم، أولادهم وأموالهم، ديارهم وأوطانهم، واتبعوا النور الذي أنزل معه، وجاهدوا تحت رايته، وبذلوا كل غال وثمين بإشاراته. وحملوا رايته بعده وأعلوها على شواهق الجبال، وأوصلوها إلى ما وراء الأبحر، الصديق والفاروق وذي النورين رضي الله عنهم أجمعين، الذين قدّرهم أهل البيت حق التقدير، وعظموهم ومجدوهم، وبالغوا في إكرامهم، وأثنوا عليهم في حياتهم وبعد وفاتهم ثناء عاطراً، وقدموا لهم ثمار قلوبهم وأفذاذ أكبادهم، وجعلوا هديهم هدف العين، وانتهجوا منهجهم واقتدوا بمسلكهم. وأما الشيعة المتزعمين حبهم واتباعهم فعلوا عكس ذلك، وخالفوهم مخالفة صريحة، ظاهرة باهرة، حيث لا يخلو كتاب من كتبهم إلا وهو مليء من أردأ القول وأفحش الكلام كما نقلناه من الذين يدعون بأنهم مفسروا القوم، وعلم التفسير منهم بريء، وحاشا لله أن يكون المفسرون كهؤلاء. وأما محدثو الشيعة وفقهائهم فهم على شاكلتهم، فلا يخلوا كتاب من كتبهم عن مثل هذه الترهات والافتراءات، مخالفين تماماً أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيت علي رضي الله عنه، مبغضين محبي رسول الله ومحبوبيه، لاعنين أرحام رسول الله وأصهاره وأزواجه أمهات المؤمنين. فلنلق نظرة عابرة على موقف محدثي الشيعة وفقهائهم. فها هو الكليني كبير القوم ومحدثهم يبيّن عقيدته ويظهر سريرة نفسه، ويكشف عن قرارة قلبه عندما يكتب تحت قول الله عز وجل: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:7]- يعني أمير المؤمنين - أي علي - ووَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات: 7] الأول والثاني والثالث" (الأصول من الكافي) (1/ 426). ويصرح أكثر حيث يقول: لما رأى رسول الله تيماً وعدياً وبني أمية (يقصد به أبا بكر الصديق الذي كان من تيم، والفاروق الذي كان من عدي، وذا النورين الذي كان من بني أمية) يركبون منبره أفزعه، فأنزل الله تبارك وتعالى قرآناً يتأسى به وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى [البقرة: 34] ثم أوحى إليه يا محمد! إني أمرت فلم أطع فلا تجزع أنت إذا أمرت فلم تطع في وصيك أيضاً" (الأصول من الكافي) كتاب (الحجة) (1/ 426) ط طهران). ويكتب تحت قول الله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى [محمد:25] فلان وفلان وفلان، ارتدوا عن الإيمان في ترك ولاية أمير المؤمنين عليه السلام، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ [محمد:26] قال: نزلت والله فيهما وفي أتباعهما، وهو قول الله عز وجل الذي نزل به جبرئيل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُسَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ [محمد:26] (في علي عليه السلام) كتاب (الحجة من الكافي) (1/ 420). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 460 ويروي عن عبد الملك بن أعين أنه قال: قلت لأبي عبد الله: خبرني عن الرجلين؟ قال: ظلمانا حقنا في كتاب الله عز وجل، ومنعا فاطمة صلوات الله عليها ميراثها من أبيها، وجرى ظلمهما إلى اليوم قال – وأشار إلى خلفه – ونبذا كتاب الله وراء ظهورهما" كتاب (الروضة من الكافي) (8/ 102). كما روي عن الكميت الأسدي أنه قال: قلت: خبرني عن الرجلين؟ قال: فأخذ الوسادة فكسرها في صدره ثم قال: والله يا كميت! ما أهريق محجمة من دم، ولا أخذ مال من غير حله، ولا قلب حجر عن حجر إلا ذاك في أعناقهما" كتاب (الروضة) (ص103). ويكذب أيضاً أن حنان بن سويد روى عن أبيه أنه قال: سألت أبا جعفر عنهما فقال: يا أبا الفضل! ما تسألني عنهما فوالله ما مات منا ميت قط إلا ساخطاً عليهما يوصي بذلك الكبير منا الصغير، إنهما ظلمانا حقنا، ومنعانا فيئنا، وكانا أول من ركب أعناقنا وبثقا علينا بثقا في الإسلام، لا يسكر أبداً حتى يقوم قائمنا أو يتكلم متكلمنا" كتاب (الروضة من الكافي) (8/ 102). ويقول مصرحاً: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً كئيباً حزيناً، فقال له علي عليه السلام: ما لي أراك يا رسول الله كئيباً حزيناً؟ قال: وكيف لا أكون كذلك وقد رأيت في ليلتي هذه أن بني تيم وبني عدي وبني أمية يصعدون منبري هذا يردون الناس عن الإسلام قهقرى" كتاب (الروضة من الكافي) (ص345). كما روي عن أبي جعفر أنه قال: ما كان ولد يعقوب أنبياء لكنهم كانوا أسباط أولاد الأنبياء، ولم يكن يفارقوا الدنيا إلا السعداء، تابوا وتذكروا ما صنعوا، وإن الشيخين فارقا الدنيا ولم يتوبا ولم يتذكرا ما صنعا بأمير المؤمنين عليه السلام فعليهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" كتاب (الروضة من الكافي) (ص246). وأما ابن بابويه القمي أحد كتّاب الصحاح الأربعة الشيعية والملقب بالصدوق يكتب طاعنا في الصديق الأكبر والفاروق الأعظم رضي الله عنهما: "أن أبا بكر لما بُويع ذهب أنصار علي إليه، فتكلموا في الأمر، فقال لهم علي رضي الله عنه: وقد اتفقت عليه الأمة التاركة لقول نبيها والكاذبة على ربها، ولقد شاورت في ذلك أهل بيتي، فأبوا إلا السكوت لما تعلمون من وغر صدور القوم وبغضهم لله عز وجل ولأهل بيت نبيه عليه السلام، وإنهم ليطالبون بثأرات الجاهلية، والله! لو فعلتم ذلك لشهروا سيوفهم مستعدين للحرب والقتال كما فعلوا ذلك حتى قهروني وغلبوني على نفسي ... ولكن ايتوا الرجل فأخبروه بما سمعتم من نبيكم، ولا تجعلوه في شبهة من أمره ليكون ذلك أعظم للحجة عليه وأزيد وأبلغ في عقوبته إذ عتا ربه، وقد عصا نبيه وخالفا أمره، قال: فانطلقوا حتى حفوا بمنبر رسول الله يوم جمعة .. وكان أول من بدا وقام خالد بن سعيد بن العاص بإدلاله ببني أمية - إلى أن قال - فقال له عمر بن الخطاب: اسكت يا خالد فلست من أهل المشورة، ولا ممن يرضى بقوله، فقال خالد: بل اسكت أنت يا ابن الخطاب فوالله! إنك لتعلم أنك تنطق بغير لسانك، وتعتصم بغير أركانك، والله! إن قريشاً لتعلم أني أعلاها حسباً وأقواها أدباً وأجملها ذكراً وأقلها غنى من الله ورسوله وإنك لجبان عند الحرب، بخيل في الجدب، لئيم العنصر، مالك في قريش مفخر" كتاب (الخصال) (ص463) ط مكتبة الصدوق طهران). هذا ويقول في ذي النورين رضي الله عنه: إن في التابوت الأسفل ستة من الأولين وستة من الآخرين .. والستة من الآخرين فنعثل ومعاوية وعمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري، ونسي المحدث اثنين" كتاب (الخصال) (ص485). وذكر في موضع آخر من كتاب (الخصال): الجزء: 5 ¦ الصفحة: 461 "شر الأولين والآخرين اثنا عشر، ستة من الأولين وستة من الآخرين، ثم سمى الستة من الأولين، ابن آدم الذي قتل أخاه، وفرعون وهامان وقارون والسامري والدجال اسمه في الأولين ويخرج في الآخرين، وأما الستة من الآخرين فالعجل وهو نعثل، وفرعون وهو معاوية، وهامان هذه الأمة وهو زياد، وقارونها وهو سعيد والسامري وهو أبو موسى عبد الله بن قيس لأنه قال كما قال سامري قوم موسى: لا مساس أي لا قتال، والأبتر وهو عمرو بن العاص" كتاب (الخصال) (ص458، 459). ويقول: وحب أولياء الله والولاية لهم واجبة، والبراءة من أعدائهم واجبة، من الذين ظلموا آل محمد عليهم السلام. وهتكوا حجابه فأخذوا من فاطمة عليها السلام فدك (انظر كيف يتهجم على الصديق في معاملة رضيت فيها فاطمة بنت الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنها رضيت ولكن من يرضي قوم عبد الله بن سبأ النجل اليهودي الذي يسعى بين الأمة لتفريق كلمتها وتمزيق وحدتها وتشتيت شملها؟) ومنعوها ميراثها، وغصبوها وزوجها حقوقها، وهموا بإحراق بيتها (قصة باطلة، موضوعة، مختلقة، اختلقوها للطعن على الفاروق الأعظم). وأسسوا الظلم وغيروا سنة رسول الله، والبراءة من الناكثين والقاسطين والمارقين واجبة. والبراءة من الأنصاب والأزلام أئمة الضلال وقادة الجور كلهم أولهم وآخرهم واجبة" "كتاب (الخصال) (2/ 607) ط مطبعة الحيدري طهران). ويكذب على النبي صلى الله عليه وسلم والصديق والصديقة رضي الله عنهما، ويكبّ عليهما ما يكنّه من البغض والحقد والحسد والضغينة، وينسج هذه الحكاية الباطلة الخبيثة فيقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: ((يا علي! من أحبك ووالاك سبقت له الرحمة، ومن أبغضك وعاداك سبقت له اللعنة، فقالت عائشة: يا رسول الله! ادع الله لي ولأبي لا نكون ممن يبغضه ويعاديه، فقال صلى الله عليه وسلم: اسكتي إن كنت أنت وأبوك ممن يتولاه ويحبه فقد سبقت لكما الرحمة، وإن كنتما ممن يبغضه ويعاديه فقد سبقت لكما اللعنة، ولقد جئت أنت وأبوك إن كان أبوك أول من يظلمه وأنت أول من يقاتله غيري)). كتاب (الخصال) (2/ 556). ويقول: إن جعفراً سئل "ما بال أمير المؤمنين لم يقاتل فلاناً وفلاناً وفلاناً؟ قال: لآية في كتاب الله عز وجل لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح:25]، قيل: وما يعني بتزايلهم؟ قال: ودائع مؤمنين في أصلاب قوم كافرين" (علل الشرائع) لابن بابويه (ص147) ط نجف). وزاد "لم لم يجاهد أعداءه خمساً وعشرين سنة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاهد في أيام ولايته؟ لأنه اقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم في تركه جهاد المشركين بمكة ثلاثة عشرة سنة بعد النبوة وبالمدينة تسعة عشر شهراً، وذلك لقلة أعوانه عليهم، وكذلك علي عليه السلام (ومن الغرائب أن القوم لا يذكرون أسماء واحد من أئمتهم إلا ويعقبونها بالكلمة الكاملة "عليه السلام أو عليهم السلام" في وقت يجردون اسم النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً، وأحياناً يكتفون بذكر حرف "ص" فقط، وهذا يدل على معتقد القوم تجاه أئمتهم وتجاه النبي عليه الصلاة والسلام) ترك مجاهدة أعدائه لقلة أعوانه عليهم" (علل الشرائع) (ص147). فانظر إلى الأساطير كيف نسجت، والقصص كيف اخترعت، ولا يشبع من تسميتهم بأئمة الضلالة والجور والدعاة إلى النار، بل يزداد في غلوائه وتعديه على الخلفاء الراشدين، ويشبههم بمشركي مكة أعداء رسول الله وخصوم دينه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 462 نعم! يشبه هؤلاء البررة الأخيار، حملة راية الله، مبلغي كلمة الله، وناشري دين الله، أحباء رسول الله ومحبيه، الذين في عصورهم وعهودهم وأيامهم تحققت مبشرات رسول الله ونبوءاته التي جعلها آية صدق على نبوة نبيه ورسوله المصطفى، روحي له ولأحبائه الفداء صلى الله عليه وسلم، البشائر التي ذكرها هذا الجريء المفتري نفسه في كتابه عن البراء بن عازب أنه قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق عرضت له صخرة عظيمة شديدة في عرض الخندق لا تأخذ فيها المعاول فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآها وضع ثوبه فأخذ المعول، وقال: بسم الله وضرب ضربة فكسر ثلثها، فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة، ثم ضرب الثانية فقال: بسم الله، ففلق ثلثاً آخر، فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض، ثم ضرب الثالثة ففلق بقية الحجر، فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا" كتاب (الخصال) (1/ 162). فمن الذي تحققت في خلافته هذه النبوءات؟ ومن الذي عبر عنه الناطق بالوحي "أعطيت مفاتيح الشام، وأعطيت مفاتيح فارس، وأعطيت مفاتيح اليمن"؟. ومن جعله قائم مقام نفسه حتى عبر عن إعطاء المفاتيح إياه كإعطائها لنفسه، وهل من مجيب؟ فهذا هو صدوقهم الذي جعلوا كتبه أصح الكتب، ولا بعد كتاب الله، لأن كتاب الله محرف مغير فيه حسب اعتقادهم، وقصداً حاولنا التركيز في كتاب واحد من كتبه – وكلها على شاكلته – لكي يعرف القارئ والباحث حشده وملأه من الحنق والحقد على خيار خلق الله بعد الأنبياء والرسل عليهم السلام ورضوان الله عليهم. وأما محدثهم الأقدم - كما يسمونه - الذي استفاد منه الكليني والصدوق وغيرهما ورووا عنه في كتبهم، وهو سليم بن قيس فلم يجد سباً قبيحاً ولا شتيمة خبيثة إلا وقد استعملها فيهم حتى بلغت جرأته إلى أن قال كذباً على عليّ أنه قال: تدري من أول من بايع "أبا بكر" حين صعد المنبر؟ قلت: لا ولكن رأيت شيخاً كبيراً يتوكأ على عصاه بين عينيه سجادة شديدة التشمير صعد المنبر أول من صعد وهو يبكي ويقول: الحمد لله الذي لم يمتني حتى رأيتك في هذا المكان، ابسط يدك، فبسط يده فبايعه، ثم قال: يوم كيوم آدم، ثم نزل فخرج من المسجد. فقال علي عليه السلام: يا سلمان! أتدري من؟ قلت: لا، ولكن ساءتني مقالته كأنه شامت بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال علي عليه السلام: فإن ذلك إبليس .. – إلى أن قال – ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين" كتاب (سليم بن قيس) (ص80، 81). واخترع في ذم الخلفاء الراشدين، وسادة أصحاب الرسول، وقادة الأمة قصة يضحك منها حتى السفهاء والأطفال ولكن قيل قديماً: إذا لم تستح فاصنع ما شئت. فانظر إليه كيف ينسج ويخترع قصة طويلة ملؤها سب وشتم: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 463 "فلما رأى علي عليه السلام خذلان الناس إياه وتركهم نصرته واجتماع كلمتهم مع أبي بكر وتعظيمهم إياه لزم بيته، فقال عمر لأبي بكر: ما يمنعك أن تبعث إليه فيبايع فإنه لم يبق أحد إلا قد بايع غيره وغير هؤلاء الأربعة، وكان أبو بكر أرق الرجلين وأرفقهما وأدهاهما وأبعدهما غوراً، والآخر أفظهما وأغلظهما وأجفاهما، فقال له أبو بكر من نرسل إليه: فقال عمر: نرسل إليه قنفذاً وهو رجل فظ غليظ جاف من الطلقاء أحد بني عدي بن كعب، فأرسله وأرسل معه أعواناً وانطلق فاستأذن على عليّ عليه السلام فأبى أن يأذن لهم فرجع أصحاب قنفذ إلى أبي بكر وعمر وهما جالسان في المسجد والناس حولهما فقالوا: لم يؤذن لنا، فقال عمر: اذهبوا فإن أذن لكم وإلا فادخلوا بغير إذن، فانطلقوا فاستأذنوا فقالت فاطمة عليها السلام: أحرج عليكم أن تدخلوا على بيتي بغير إذن فرجعوا وثبت قنفذ الملعون فقالوا: إن فاطمة قالت كذا وكذا فتحرجنا أن ندخل بيتها بغير إذن فغضب عمر وقال: مالنا وللنساء ثم أمر أناساً حوله أن يحملوا الحطب، فحملوا الحطب وحمل معهم عمر فجعلوه حول منزل عليّ وفاطمة وابناها ثم نادى عمر حتى أسمع علياً عليه السلام وفاطمة والله لتخرجن يا علي! ولتبايعن خليفة رسول الله إلا أضرمت عليك النار، فقالت فاطمة عليها السلام: يا عمر! مالنا ولك؟ فقال: افتحي الباب وإلا أحرقنا عليكم بيتكم فقالت: يا عمر! أما تتقي الله تدخل على بيتي فأبى أن ينصرف، ودعا عمر بالنار فأضرمها في الباب ثم دفعه فدخل استقبلته فاطمة عليها السلام وصاحت يا أبتاه فرفع السوط فضرب به ذراعها فنادت يا رسول الله! لبئس ما خلفك أبو بكر وعمر فوثب علي عليه السلام فأخذ بتلابيبه ثم نتره فصرعه ووجأ أنفه ورقبته وهمّ بقتله فذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أوصاه به، فقال: والذي كرم محمداً بالنبوة يا ابن صهاك! لولا كتاب من الله سبق وعهد عهده إليّ رسول الله لعلمت أنك لا تدخل بيتي فأرسل عمر يستغيث فأقبل الناس حتى دخلوا الدار وثار علي عليه السلام إلى سيفه فرجع قنفذ إلى أبي بكر وهو يتخوف أن يخرج على بسيفه لما قد عرف من بأسه وشدته فقال أبو بكر لقنفذ: ارجع فإن خرج وإلا فاقتحم عليه بيته فإن امتنع فأضرم عليهم بيتهم النار فانطلق قنفذ الملعون فاقتحم هو أصحابه بغير إذن وثار علي عليه السلام إلى سيفه فسبقوه إليه وكاثروه وهم كثيرون، فتناول بعض سيوفهم فكاثروه فألقوا في عنقه حبلاً وحالت بينهم وبينه فاطمة عليها السلام عند باب البيت فضربها قنفذ الملعون بالسوط فماتت حين ماتت وإن في عضدها كمثل الدملج من ضربته لعنه الله, ثم انطلق بعلي عليه السلام يعتل عتلاً حتى انتهى به إلى أبي بكر، وعمر قائم بالسيف على رأسه، وخالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل والمغيرة بن شعبة وأسيد بن حضير وبشير بن سعد وسائر الناس حول أبي بكر عليهم السلاح، قال قلت لسلمان: أدخلوا على فاطمة بغير إذن؟ قال: إي والله وما عليها خمار فنادت يا أبتاه يا رسول الله فلبئس ما خلفك أبو بكر وعمر وعيناك لم تتفتأ في قبرك، تنادي بأعلى صوتها، فلقد رأيت أبا بكر ومن حوله يبكون ما فيهم إلا باك غير عمر وخالد والمغيرة بن شعبة وعمر يقول: إنا لسنا من النساء ورأيهن في شيء قال: فانتهوا بعلي عليه السلام إلى أبي بكر وهو يقول: أما والله لو وقع سيفي في يدي لعلمتم أنكم لم تصلوا إلى هذا أبداً، أما والله ما ألوم نفسي في جهادكم، ولو كنت استمكنت من الأربعين رجلاً لفرقت جماعتكم ولكن لعن الله أقواماً بايعوني ثم خذلوني، ولما أن بصر به أبو بكر صاح خلوا سبيله، فقال علي عليه السلام يا أبا بكر ما أسرع ما توثبتم على رسول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 464 الله صلى الله عليه وسلم بأي حق وبأي منزلة دعوت الناس إلى بيعتك ألم تبايعني بالأمس بأمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان قنفذ لعنه الله حين ضرب فاطمة بالسوط حين حالت بينه وبين زوجها وأرسل إليه عمر إن حالت بينك وبينه فاطمة فاضربها فألجأها قنفذ إلى عضادة لبيتها ودفعها فكسر ضلعها من جنبها فألقت جنيناً من بطنها فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت صلى الله عليها من ذلك شهيدة، قال ولما انتهى بعلي عليه السلام إلى أبي بكر انتهره عمر وقال له: بايع ودع عنك هذه الأباطيل فقال له علي فإن لم أفعل فما أنتم صانعون؟ قالوا: نقتلك ذلاً وصغارا، فقال: إذاً تقتلون عبداً لله وأخا رسوله، قال أبو بكر: أما عبد الله فنعم وأما أخا رسول الله فما نقر بهذا, قال: أتجحدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بيني وبينه، قال: نعم، فأعاد ذلك عليه ثلاث مرات ثم أقبل عليهم علي عليه السلام فقال: يا معشر المسلمين والمهاجرين والأنصار وأنشدكم الله أسمعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم كذ وكذا، فلم يدع عليه السلام شيئاً قاله فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية للعامة إلا ذكرهم إياه قالوا: نعم! فلما تخوف أبو بكر أن ينصره الناس وأن يمنعوه، بادرهم فقال كل ما قلت حق قد سمعناه بآذاننا ووعته قلوبنا ولكن قد سمعت رسول الله يقول بعد هذا إنا أهل بيت اصطفانا الله وأكرمنا واختار لنا الآخرة على الدنيا وإن الله لم يكن ليجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة, فقال علي هل أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد هذا معك، فقال عمر: صدق خليفة رسول الله قد سمعته منه كما قال، وقال أبو عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل: قد سمعنا ذلك من رسول الله فقال علي عليه السلام لقد وفيتم بصحيفتكم التي تعاقدتم عليها في الكعبة إن قتل الله محمداً أو مات لتزوّن هذا الأمر عنا أهل البيت، فقال أبو بكر: فما علمك بذلك؟ ما أطعناك عليها فقال عليه السلام: أنت يا زبير وأنت يا سلمان وأنت يا أبا ذر وأنت يا مقداد أسألكم بالله وبالإسلام أما سمعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك وأنتم تسمعون أن فلاناً وفلاناً حتى عدهم هؤلاء الخمسة قد كتبوا بينهم كتاباً وتعاهدوا فيه وتعاقدوا على ما صنعوا، فقالوا: اللهم نعم قد سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك لك, إنهم قد تعاهدوا وتعاقدوا على ما صنعوا وكتبوا بينهم كتاباً إن قتلت أو مت أن يزووا عنك هذا يا علي، قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله فما تأمرني إذا كان ذلك أن أفعل، فقال: ((لك إن وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم ونابذهم وإن أنت لم تجد أعواناً فبايع واحقن دمك))، فقال علي عليه السلام: أما والله لو أن أولئك الأربعين رجلاً الذين بايعوني وفوا لي لجاهدتكم في الله ولكن أما والله لا ينالها أحد من عقبكما إلى يوم القيامة وفيما يكذب قولكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا [النساء:54] فالكتاب النبوة، والحكمة السنة والملك الخلافة ونحن آل إبراهيم، فقام المقداد فقال: يا علي! بما تأمرني؟ والله إن أمرتني لأضربن بسيفي وإن أمرتني كففت فقال علي كف يا مقداد واذكر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أوصاك به فقمت وقلت: والذي نفسي بيده لو أني أعلم أنى أدفع ضيماً وأعز لله ديناً لوضعت سيفي على عنقي ثم ضربت به قدما قدما، أتثبون على أخي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصيه وخليفته في أمته وأبي ولده فأبشروا بالبلاء واقنطوا من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 465 الرخاء، وقام أبو ذر فقال: أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها المخذوله بعصيانها إن الله يقول: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [آل عمران:33 - 34] وآل محمد الأخلاف من نوح وآل إبراهيم من إبراهيم والصفوة والسلالة من إسماعيل وعترة النبي محمد وأهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة وهم كالسماء المرفوعة والجبال المنصوبة والكعبة المستورة والعين الصافية والنجوم الهادية والشجرة المباركة أضاء نورها وبورك زيتها محمد خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم وعلي وصي الأوصياء وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين وهو الصديق الأكبر والفاروق الأعظم ووصي محمد ووارث علمه وأولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم كما قال الله: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الأحزاب:6] فقدموا من قدم الله، وأخروا من أخر الله، واجعلوا الولاية والوراثة لمن جعل الله، فقام عمر فقال لأبي بكر وهو جالس فوق المنبر: ما يجلسك فوق المنبر وهذا جالس محارب لا يقوم فيبايعك أو تأمر به فتضرب عنقه والحسن والحسين عليهم السلام قائمان فلما سمعا مقالة عمر بكيا فضمهما عليه السلام إلى صدره فقال: لا تبكيا فوالله ما يقدران على قتل أبيكما، وأقبلت أم أيمن حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا أبا بكر ما أسرع ما أبديتم حسدكم ونفاقكم، فأمر بها عمر، فأخرجت من المسجد وقال: ما لنا وللنساء؟ (وقام بريدة الأسلمي) وقال: أتثب يا عمر على أخي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي ولده وأنت الذي نعرفك في قريش بما نعرفك, ألستما اللذين قال لكما رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلقا إلى علي وسلما عليه بامرة المؤمنين فقلتما أعن أمر الله وأمر رسوله قال: نعم، فقال أبو بكر: قد كان ذلك ولكن رسول الله قال بعد ذلك: ((لا يجتمع لأهل بيتي النبوة والخلافة))، فقال والله ما قال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لا سكنت في بلدة أنت فيها أمير، فأمر به عمر فضرب وطرد، ثم قال: قم يا ابن أبي طالب فبايع فقال: فإن لم أفعل قال: إذاً والله نضرب عنقك، فاحتج عليهم ثلاث مرات، ثم مد يده من غير أن يفتح كفه فضرب عليها أبو بكر ورضي بذلك منه، فنادى علي عليه السلام قبل أن يبايع والحبل في عنقه (يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلوني) كتاب (سليم بن قيس) (ص83 إلى 89). ولم يشبع بهذه القذارة وهذه الترهات إلا وزادها بأكاذيب أخرى حيث قال: قال الزبير لما بايع أبا بكر لعمر بن الخطاب يا ابن الصهاك! أما والله لولا هؤلاء الطغاة الذين عانوك لما كنت تقدم علي ومعي سيفي لما أعرف من جبنك ولومك، ولكن وجدت طغاة تقوى بهم وتصول، فغضب عمر وقال: أتذكر صهاك؟ (فانظر إلى الكذب الذي يكذب صاحبه ويفضحه. أشجاع مثل الفاروق يحتاج لإثبات شجاعته إلى مثل هذا النباح الذي ينبح؟ وألد خصومه لا يتهمه بمثل ما اتهمه هذا الكذاب الأشر، إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) قال: ومن صهاك؟ وما يمنعني من ذكرها؟ وقد كانت صهاك زانية، أو تنكر ذلك، أوليس كانت أمة حبشية لجدي عبد المطلب فزنى بها جدك نفيل، فولدت أباك الخطاب فوهبها عبد المطلب لجدك بعد ما زنى بها فولدته وإنه لعبد جدي ولد زنا" كتاب (سليم بن قيس) (ص89، 90). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 466 ولا هذا فحسب، بل يتقدم أكثر وأكثر في لومه ونجاسته، وخبثه ويهوديته ويقول: قلت لسلمان: أفبايعت أبا بكر يا سلمان! ولم تقل شيئاً، قال: قد قلت بعد ما بايعت تباً لكم سائر الدهر أو تدرون ما صنعتم بأنفسكم أصبتم وأخطأتم ثم أصبتم سنة من كان قبلكم من الفرقة والاختلاف وأخطأتم سنة نبيكم حتى أخرجتموها من معدنها وأهلها، فقال عمر: يا سلمان أما إذ بايع صاحبك وبايعت فقل ما شئت وافعل ما بدا لك وليقل صاحبك ما بدا له قال سلمان: فقلت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن عليك وعلى صاحبك الذي بايعته مثل ذنوب أمته إلى يوم القيامة ومثل عذابهم جميعاً)) فقال له: قل ما شئت أليس قد بايعت ولم يقر الله عينيك بأن يليها صاحبك، فقلت: أشهد أني قد قرأت في بعض كتب الله المنزلة أنك باسمك ونسبك وصفتك باب من أبواب جهنم فقال لي: قل ما شئت أليس قد أزالها الله عن أهل البيت الذين اتخذتموهم أرباباً من دون الله، فقلت له: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وسألته عن هذه الآية فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [الفجر:25 - 26] فأخبرني أنك أنت هو، فقال لي عمر: اسكت أسكت الله نامتك أيها العبد ابن اللخناء فقال لي عليه السلام: أقسمت عليك يا سلمان! لما سكت فقال سلمان والله! لو لم يأمرني علي بالسكوت لخبرته بكل شيء نزل فيه وكل شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وفي صاحبه. فلما رآني عمر قد سكت قال إنك له لمطيع مسلم، فلما أن بايع أبو ذر والمقداد ولم يقولا شيئاً قال عمر: يا سلمان ألا تكف كما كف صاحبك, والله ما أنت بأشد حباً لأهل هذا البيت منهما ولا أشد تعظيماً لحقهم منهما وقد كفّا كما نرى وبايعا، وقال أبو ذر: يا عمر! أفتعيرنا بحب آل محمد وتعظيمهم، لعن الله - وقد فعل - من أبغضهم وافترى عليهم وظلمهم حقهم وحمل الناس على رقابهم ورد هذه الأمة القهقرى على أدبارها، فقال عمر: آمين لعن الله من ظلمهم حقهم لا والله ما لهم فيها حق وما هم فيها وعرض الناس إلا سواء قال أبو ذر: فلم خاصمتم الأنصار بحقهم وحجتهم قال علي عليه السلام لعمر: يا ابن صهاك فليس لنا فيها حق وهي لك ولابن آكلة الذباب، قال عمر: كفّ الآن يا أبا الحسن إذ بايعت فإن العامة رضوا بصاحبي ولم يرضوا بك فما ذنبي؟ قال علي عليه السلام: ولكن الله عز وجل ورسوله لم يرضيا إلا بي فأبشر أنت وصاحبك ومن اتبعكما ووازركما بسخط من الله وعذابه وخزيه ويلك يا ابن الخطاب لو تدري ما منه خرجت وفيما دخلت وماذا جنيت على نفسك وعلى صاحبك" كتاب (سليم بن قيس) (ص90، 91). وأيضاً "إن تابوتاً من نار فيها اثنا عشر رجلاً ستة من الأولين وستة من الآخرين في جب، في قعر جهنم، في تابوت مقفل، على ذلك الجب صخرة، فإذا أراد الله أن يسعر جهنم كشف تلك الصخرة عن ذلك الجب فاستعرت جهنم من وهج ذلك الجب ومن حره، .... أما الأولون ..... والآخرين، الدجال وهؤلاء الخمسة، أصحاب الصحيفة والكتاب وجبتهم وطاغوتهم الذي تعاهدوا عليه ..... وقال علي عليه السلام لعثمان - وعلي منه بريء. ورب الكعبة! -: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلعنك ثم لم يستغفر الله لك بعد ما لعنك ..... وقال: إن الناس كلهم ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أربعة، إن الناس صاروا بعد رسول الله بمنزلة هارون ومن تبعه، ومنزلة العجل ومن تبعه، فعلي في شبه هارون، وعتيق في شبه العجل، وعمر في شبه السامري - عفوك يا رباه من نقل هذا الهذيان والكفريات – (كتاب سليم بن قيس) (ص91، 92) ط بيروت). ويقول زوراً وبهتاناً وكذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر الناس: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 467 ((سلموا على أخي ووزيري ووارثي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي، بإمرة المؤمنين فإنه زر الأرض الذي تسكن إليه، ولوفقدتموه أنكرتم الأرض وأهلها، فرأيت عجل هذه الأمة وسامريها راجعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: حق من الله ورسوله؟ فغضب رسول الله, ثم قال: حق من الله ورسوله، .. فقالا: ما بال هذا الرجل ما زال يرفع خصيصة ابن عمه)) (كتاب سليم بن قيس) (ص167). وهل يعقل أن الرسول عليه السلام يجعل أحداً أمير المؤمنين وهو حي موجود ثم ولا يعلمه أحد ولا يخبر بذلك في السقيفة عندما جرى هنالك ما جرى بين الأنصار والمهاجرين، ولكن القوم ليس لهم قلوب يفقهون بها، ولا أعين يبصرون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل. وتجرأ هذا اللعين إن كان هو القائل، أو من نسب إليه هذا واخترعه باسمه، وافترى على أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، زوجته، أم المؤمنين - بما فيهم علي وعائلته لأنهم من المؤمنين، وأزواجه أمهاتهم - على الصديقة الطيبة الطاهرة بشهادة القرآن، فقال: دخل علي عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة قاعدة خلفه .... فقعد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عائشة فغضبت وقالت: ما وجدت لإستك موضعاً غير حجري، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((يا حميراء لا تؤذيني في أخي عليّ فإنه أمير المؤمنين وخليفة المسلمين وصاحب الغر المحجلين يجعله الله على صراط فيقاسم النار ويدخل أولياءه الجنة ويدخل أعداءه النار)) (كتاب سليم بن قيس) (ص179). وأخيراً ننقل عنه ما أورده في الخلفاء الراشدين الثلاثة حيث يذكر. أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كتب إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما فيما كتب: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى اثني عشر إماماً من أئمة الضلالة على منبره يردون الناس على أدبارهم القهقهرى، رجلان من قريش، وعشرة من بني أمية، أول العشرة صاحبك الذي تطلب بدمه - أي عثمان – (كتاب سليم بن قيس) (ص196). هذا وما أكثر مثل هذا الكتاب الذي كتب على غلافه: "من لم يكن عنده من شيعتنا ومحبينا كتاب سليم بن قيس العامري فليس عنده من أمرنا شيء، وهو سر من أسرار محمد صلى الله عليه وسلم، الإمام الصادق". والذي قال فيه المجلسي: والحق أنه من الأصول المعتبرة" مقدمة الكتاب (ص13). وقال فيه ابن النديم الشيعي في الفهرست: وكان قيس شيخاً له نور يعلوه وأول كتاب ظهر للشيعة (كتاب سليم بن قيس) مقدمة الكتاب (ص13). وقال الشيخ الجليل للقوم محمد بن إبراهيم الكاتب النعماني في كتاب (الغيبة) المطبوع بإيران: وليس بين جميع الشيعة ممن حمل العلم ورواه عن الأئمة عليهم السلام خلاف في أن كتاب (سليم بن قيس الهلالي) أصل من أكبر كتب الأصول التي رواها أهل العلم وحملة حديث أهل البيت عليهم السلام وأقدمها, لأن جميع ما اشتمل عليه هذا الأصل، إنما هو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمير المؤمنين والمقداد وسلمان الفارسي وأبي ذر ومن جرى مجراهم ممن شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمير المؤمنين وسمع منه، وهو من الأصول التي ترجع الشيعة إليها وتعول عليها" (مقدمة الكتاب) (ص12). أو بعد هذا مجال لقائل مخادع أن يقول: إن فكرة اتهام الشيعة بسب الصحابة وتفكيرهم - كونتها السياسة الغاشمة، وتعاهد تركيزها أناس مرتزقة باعوا ضمائرهم بثمن بخس وتمرغوا على أعتاب الظلمة، يتقربون إليهم بذم الشيعة وقد استغل أعداء الدين هذه الفرصة فوسعوا دائرة الانشقاق لينالوا أغراضهم، ويشفوا صدورهم من الإسلام وأهله، وراح المهرجون يتحمسون لإثارة الفتن وإيقاد نار البغضاء بين المسلمين بدون تدبر وتثبت، وقد ملئت قلوبهم غيظاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 468 وبحكم السياسة وتحكمها أصبحت الشيعة وهي ترمي بكل عظيمة وتهاجم بهجمات عنيفة، واندفع ذووا الأطماع يعرضون ولاءهم للدولة في تأييد ذلك النظام والاعتراف به، وأنه قد أصبح جزءاً من حياة الأمة العقلية وهم يخادعون أنفسهم. ولم يفتحوا باب النقاش العلمي، وحرموا الناس حرية القول، وأرغموهم على الاعتراف بفكر الشيعة والابتعاد عن مذهب أهل البيت ولو سألهم سائل عن الحقيقة وطلب منهم أن يوضحوا لهم ذلك، فليس له جواب إلا شمول ذلك النظام له، ونحن نسائلهم: 1ـ أين هذه الأمة التي تكفر جميع الصحابة ويتبرءون منهم؟ 2ـ أين هذه الأمة التي تدعي لأئمة أهل البيت منزلة الربوبية؟ 3ـ أين هذه الأمة التي أخذت تعاليمها من المجوس فمزجتها في عقائدها؟ 4ـ أين هذه الأمة التي حرفت القرآن وادعت نقصه؟ 5ـ أين هذه الأمة التي ابتدعت مذاهب خارجة عن الإسلام؟ إنهم لا يستطيعون الجواب على ذلك، لأن الدولة قررت هذه الاتهامات فلا يمكنهم مخالفتها. ولا يمكن إقناعهم بلغة العلم. وما أقرب الطريق إلى معرفة الحقيقة لو كان هناك صبابة من تفكير وبقايا من حب الاستطلاع وخوف من الله وحماية للدين" (الإمام الصادق) لأسد حيدر الشيعي (2/ 617، 618) ط بيروت). فنقول له: يا أستاذ! فكرة اتهام الشيعة بسب الصحابة وتفكيرهم - كونتها السياسة الغاشمة: أو إنها حقيقة واسعة واضحة بينة ثابتة مرة؟ وقد أثبتها كتبكم أنتم مهما حاولتم تغطيتها، وطالما قصدتم إخفاءها. فهل بعد نشر مثل هذه الكتب الخبيثة الجريحة تريدون أن تخدعوا المسلمين بأنكم لستم إلا طائفة من طوائف الإسلام وفئة من فئات المسلمين ولو منحرفة؟ فلا والله! لن ينخدع بهذه الأباطيل إلا من يريد أن يخدع نفسه لينال غرضاً من أغراضه، وطامع يعرض ولاءه لهذا أم ذاك، أو جاهل غافل لا يدري عن الحق والحقيقة شيئاً. وهناك كم من المرتزقة وقفوا أقلامهم للطغاة والأشرار الشاتمين لأصحاب رسول الله، والطاعنين لحملة الإسلام وناشري الرسالة، يدافعون عن أولئك الطغاة، ويؤولون أقوالهم وكتاباتهم بتأويلات وتبريرات يمجها العقل ويزدريها الحجى، بائعين ضمائرهم بثمن بخس دراهم معدودة، هاتفين شعار وحدة الأمة واتفاقها واتحادها، وهل يمكن الاتحاد على أعراض الخلفاء الراشدين وهي تنتهك، وحرمات أزواج النبي، أمهات المؤمنين وهي تنتهب وتستلب؟ وهل يمكن أن تجتمع كلمة المسلمين ومثل هذه الكتب تطبع وتنشر؟ ومثل هذه العقائد فإنها تعلن بها وتجهر؟ أو يقال للجريح: لا تتأوه وللمضروب لا تتأفف فلا ولا، تلك إذاً قسمة ضيزى. فأين دعاة التقريب من مغفلي السنة، أو من باع دينه بدنياه؟ أين هؤلاء! ألا ينظرون إلى مثل هذه الكتب، وما أكثرها، وعقائد القوم وما أعمقها؟ فلا يخلوا كتاب من كتب القوم الأصلية إلا وهو مليء من السباب والشتائم، واللعن والطعن مثل كتاب (سليم بن قيس) (ونحن نعرف بأن بعضاً منهم لم يقرءوا من كتب القوم إلا ما كتب تقية لخداع العامة من السنة مثل "أصل الشيعة وأصولها" لمحمد حسين آل كاشف الغطاء، وككتاب أسد حيدر (الإمام الصادق والمذاهب الأربعة). ولقد ذكرنا بعض العبارات من بعضها، وها نحن نلقي نظرة عابرة على البعض الآخر. فمن كتب الشيعة في الحديث والرجال كتاب هام وقديم باسم (معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين) لأبي عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي والذي يعرف برجال الكشي، وهذا الكتاب له ميزة أخرى حيث ذكروا أن شيخ الطائفة أبا جعفر الطوسي الذي أدرج كتاباه (الاستبصار) و (التهذيب) في الصحاح الأربعة الشيعية هو الذي لخصه ورتبه، وبهذا يصير هذا الكتاب لشخصين، لمحدثهم وكبيرهم في الرجال ومعولهم وسندهم وحجتهم الكشي، ولإمامهم وشيخهم شيخ الطائفة الطوسي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 469 فمن هذا الكتاب نورد بعض الروايات التي تنبئ عن خرافات القوم وسخافاتهم، وعن حسدهم وبغضهم هؤلاء الأخيار، صحابة النبي المختار صلى الله عليه وسلم، خلفاءه الراشدين، ونوابه المهديين، رضوان الله عليهم أجمعين. يكتبون فيه: "إن محمد بن أبي بكر بايع علياً عليه السلام من البراءة من أبيه" (رجال الكشي) تحت ترجمة محمد بن أبي بكر (ص61) ص كربلاء). وأيضاً أنه قال لعلي: أشهد أنك إمام مفترض طاعتك وإن أبي في النار" (رجال الكشي) تحت ترجمة محمد بن أبي بكر (ص61) ط كربلاء). و"كان صهيب عبد سوء, يبكي على عمر" (رجال الكشي) (ص41) تحت ترجمة بلا وصهيب). ويقول فيهما: ما أهريق دم، ولا حكم بحكم غير موافق لحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم وحكم علي إلا وهو في أعناقهما" (رجال الكشي) (ص179، 180). وأيضاً: "ما أهريق في الإسلام محجمة من دم، ولا اكتسب مال من غير حله، ولا نكح فرج حرام إلا ذلك في أعناقهما إلى يوم يقوم قائمنا، ونحن معاشر بني هاشم نأمر كبارنا وصغارنا بسبهما والبراءة منهما" (رجال الكشي) (ص180). ويقول في ذي النورين إن الآية يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ [الحجرات:17]. نزلت في عثمان" (رجال الكشي) (ص34). (من الأفضل، علي أم نبي؟ ولا ندري أن الأصل في الفضل هو النبي صلوات الله وسلامه عليه أم علي رضي الله عنه عند القوم لأنه إن كان الفضل والشرف لعلي بسبب النبي صلى الله عليه وسلم بأنه صهره، زوج بنته وقريبه ومطيعه فلم حرم الآخرون المنتسبون إلى الرسول العظيم عليه الصلاة والسلام، فكل من انتسب إليه وصدقه وآمن به وأطاعه وأحبه وقدمه على والديه وولده، وصاهره فهو عظيم يعظم، وكبير يؤقر، ومحترم يحترم حسب منزلته ومقامه، فعلي زوج ابنته فاطمة فيكرم، وجدير به أن يكون، وذو النورين زوج ابنتيه زوجهما رسول الله الناطق بالوحي واحدة بعد واحدة عن رضى القلب وطيب النفس، وأنزله منزلة الفؤاد كما رواه علي، فلم لا يحترم ويعظم ويؤقر وهو مع ذلك ابن بنت عمته الحقيقية، وأول مهاجر في سبيل الله من المؤمنين بإيمانه وإسلامه؟ فعدلاً يا عباد الله. وإننا لنرى بأن القوم لا يجعلون النبي أصلاً وجذراً يعظم ويحترم علي لأجله ونسبته إليه، بل هم يعظمونه ويحترمونه لعلي لأنه أخذ ابنته، وجعله قريبه وحبيبه. لذلك كل من اقترب من علي وناصره وساعده وأيده ودخل في شيعته هو الأفضل والأعلى لا غير، وعلى ذلك اخترعوا تلك الرواية الغريبة العجيبة المكذوبة والموضوعة الباطلة: "إن الصدوق طاب ثراه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أعطيت ثلاثاً، وعلي مشاركي فيها، وأعطي علي ثلاثة ولم أشاركه فيها، فقيل: يا رسول الله وما الثلاث التي شاركك علي؟ قال: لواء الحمد لي وعلي حامله، والكوثر لي وعلي ساقيه، والجنة والنار لي وعلي قسيمها، وأما الثلاث التي أعطي علي ولم أشاركه فيها، فإنه أعطي شجاعة ولم أعط مثلها، وأعطي فاطمة الزهراء زوجة ولم أعط مثلها، وأعطي ولديه الحسن والحسين ولم أعط مثلهما)) (الأنوار النعمانية) لنعمة الله الجزائري). والمجلسي لم يقتنع بهذا فزاد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له فيما قال: ((وخديجة كنتك (أم الزوجة) ولم أعط كنة مثلها، ومثلي رحيمك ولا رحيم لي مثل رحيمك (أب الزوج) وجعفر شقيقك وليس لي شقيق مثله، وفاطمة الهاشمية أمك وأنى لي مثلها)) (بحار الأنوار) للمجلسي (ص511) ط قديم الهند). وهذه الروايات إن دلت - ومثلها كثيرة كثيرة – دلت على حقيقة معتقدات القوم بأنهم يعدون علياً الأصل ونبينا صلى الله عليه وسلم الفرع، كما أنهم يصرحون بأفضليته على رسول الله سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وهذا ظاهر بيّن، لا شك فيه فهذا هو كشيهم وطوسيهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 470 وأما العاملي النباتي فلقد خصص جزءًا مستقلاً من كتابه للطعن واللعن، وبوب الباب بعنوان "باب في الطعن فيمن تقدمه (أي علي) بظلمه وعدوانه، وما أحدث كل واحد في زمانه من طغيانه" - ويكتب تحته - "وهذا الباب ينوع إلى ثلاثة بحسب المشائخ الثلاثة" ("الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم) للعين النباتي (2/ 279) ط مطبعة الحيدري ونشر المكتبة المرتضوية). فكتب فيما كتب في النوع الأول على لسان رافضي مثله: قالوا أبا بكر خليفة أحمد ... كذبوا عليه ومنزل القرآن ما كان تيمي له بخليفة ... بل كان ذاك خليفة الشيطان (الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم) (2/ 299). ويكتب ما في جعبته من الحقد والبغض لصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني اثنين إذ هما في الغار حيث يفتري على محمد بن أبي بكر أنه قال: كنت عند أبي أنا وعمر وعائشة وأخي، فدعا بالويل ثلاثاً وقال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرني بالنار، وبيده الصحيفة التي تعاقدنا عليها، فخرجوا دوني وقالوا: يهجر، فقلت: تهذي؟ قال: لا والله! لعن الله ابن الصهاك، فهو الذي صدني عن الذكر بعد إذ جاءني. فما زال يدعو بالثبور حتى غمضْته، ثم أوصوني لا أتكلم حذراً من الشماتة" (الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم) جص (ص300). هذا ما كتبه هذا الشاتم حشره الله مع مبغضي رسول الله وأصحابه. وأما ما افتراه على عبقري الإسلام، فاتح قيصر، وهازم شوكة الكسروية، ومخرج اليهودية عن جزيرة العرب، وصهر علي بن أبي طالب زوج أم كلثوم أنه قال عند احتضاره: ليتني كنت كبشاً لأهلي، فأكلوا لحمي ومزقوا عظمي، ولم أرتكب إثمي" (الصراط المستقيم) (3/ 25) تحت النوع الثاني). ويكتب هذا اللعان اللعين تحت عنوان "كلام في خساسته وخبث سريرته" ما يستحيي منه الفسقة الفجرة أن قوله تعالى: لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ [المائدة:100] والْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ [النور:26] نزلتا فيه" (الصراط المستقيم) (3/ 28). وتجرأ أكثر، وبلغ إلى الدرك الأسفل من النار حيث كتب:- إذا نسبت عدياً في بني مضر ... فقدم الدال قبل العين في النسب وقدم السوء والفحشاء في رجل وغد زنيم عتل خائن النسب (الصراط المستقيم) (3/ 29) وقال فيهما أعني في الصديق والفاروق:- وكل ما كان من جور ومن فتن ففي رقابهما في النار طوقان (الصراط المستقيم) (3/ 13) وكتب في صاحب الجود والحياء، زوج ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه. كتب في النوع الثالث: "إنه سمي نعثلاً تشبيها بذكر الضباع، فإنه نعثل لكثرة شعره .. ويقال: النعثل، التيس الكبير العظيم اللحية، وقال الكلبي في (كتاب المثالب). كان عثمان ممن يلعب به ويتخنث، وكان يضرب بالدف" ("الصراط المستقيم) (3/ 30). وكتب "ما كان لعثمان اسم على أفواه الناس إلا الكافر" (الصراط المستقيم) (3/ 36). وأخيراً ننقل من هذا الكلب العقور ما قاله في الخلفاء الراشدين الثلاثة رضي الله عنهم وأرضاهم أن قول الله عز وجل: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:23] نزلت في الثلاثة" (الصراط المستقيم ج3 ص40). وأيضاً - والسم من فيه وقلبه يتدفق -. فكن من عتيق ومن غندر أبياً بريئاً ومن نعثل كلاب الجحيم خنازيرها أعادي بني أحمد المرسل (الصراط المستقيم) (3/ 40) فهذه هي العقائد الشيعية في أصحاب رسول الله عامة، وفي الخلفاء الراشدين الثلاثة خاصة، ولا يقول قائل: كان هذا قديماً، وأما المتأخرون فلا يقولون مثل هذا. ولا ينخدع مخدوع، ولا يغتر جاهل بقول البعض: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 471 "وعمدة ما ينقمه غير الشيعة عليهم دعوى القدح في السلف أو أحد ممن يطلق عليه اسم الصحابي. والشيعة يقولون: إن احترام أصحاب نبينا "ص" من احترام نبينا، فنحن نحترمهم جميعاً لاحترامه" ("أعيان الشيعة) (1/ 69) ط بيروت). أما الأول: فلا يهذي بمثل هذه الهذيانات القدامى فقط، بل المتأخرون على شاكلتهم ومنوالهم كما نحن نقلنا من المتقدمين والمتأخرين من المفسرين والمحدثين والفقهاء، وكما سننقله أيضاً. وحتى هذه الكتب ألفها متقدموهم فلم يطبعها إلا المتأخرون، وقد علقوا عليها وحققوها، ومجدوها وبالغوا في مدحها والثناء عليها، ولو لم يكن ترضيهم هذه الكتب وما فيها من الشتائم والسخافات لم يقوموا بنشرها وتمجيدها، وهل يمكن لأهل السنة أن يطبعوا كتاباً يكون فيه تكفير وتفسيق، وطعن ولعن لعلي رضي الله عنه وسبطي رسول الله الحسن والحسين رضي الله عنهما؟ – معاذ الله -. وليس الطبع والنشر فحسب، بل الثناء العاطر والمدح البالغ. فانظر مثالاً لذلك هذا الكتاب بعينه، فالقوم لم يكتفوا بطبعه ونشره وتوزيعه في المسلمين، بل جعلوه "أنفس الأسفار وأحسن ما كتب في مبحث الإمامة، وأشبعها بحثاً وتحقيقاً، وأحكمها بالأدلة النقلية والعقلية والبراهين القاطعة، والأخبار الصحيحة، والآيات الصريحة التي لا تقبل التأويل والتفسير بغير ما هي له وفيه" نص ما كتبه "سماحة الحجة الكبير آية الله الإمام الشيخ آغا بزرك الطهراني"، أحد الأعلام المجتهدين في النجف الأشرف، صاحب تصنيف (الذريعة) وغيره" (انظر مقدمة (2/ 24). ويقول آخر: لعمري! إنه الكتاب العجيب في موضوعه، قال العلامة صاحب الروضات، لم أر بعد كتاب (الشافي) لسيدنا المرتضى علم الهدى مثله، بل راجح عليه لوجوه شتى" (مقدمة "الصراط المستقيم) (1/ 9) لشهاب الدين المرعشي النجفي). ورووا مثل ذلك عن الكحالة ("معجم المؤلفين) (7/ 266). والقمي ("الكنى والألقاب) (2/ 101) والخوانساري (روضات الجنات) (1/ 400) والأصفهاني ("رياض العلماء) (ص586) والحر العاملي (أمل الآمل) (ص23) وغيرهم. وهؤلاء كلهم من المتأخرين. وأما الثاني: أي قول بعض الشيعة بأنهم لا يقدحون في الصحابة ويرون احترامهم لاحترام النبي فليس إلا خدعة يريدون أن يخدعوا بها السذج من السنة، وتقية يظهرون خلاف ما يبطنون ويعتقدون. وأصدق دليل على ذلك تلك القصيدة المدحية التي قرضها السيد محسن الأمين في تعريف هذا الكتاب الخبيث وتمجيده، وقد أوردها في كتابه الكبير عند ذكر هذا الكتاب وتحت ترجمة مؤلفه وهذا مع دعواه أن احترام الصحابة من احترام النبي. فانظر إليه ماذا يقول: هذا الكتاب مبشر برشاد من ... يسلك طرائقه بغير خلاف فكأنه المبعوث أحمد إذا أتى ... في آخر الأديان بالإنصاف وكأنه من بين كتب الشيعة الـ ... مقدمين كسورة الأعراف ينبيك عن حال الرجال وما رووا ... بعبارة تغني وقول شاف فهو الصراط المستقيم ومنهج الد ... ين القويم لسالكيه كافي تأليفه من شهدت له آراؤه ... بكماله في سائر الأوصاف للشيخ زين الدين قطب زمانه ... رب المكارم عبد آل مناف فلقد أنار منار شيعة حيدر ... وأباد من هو للنصوص منافي فجزاءه من أحمد ووصيه ... أهل السماحة معدن الأشراف (أعيان الشيعة) (42/ 32) نقلاً عن ترجمة النباتي للطهراني). لعل هذا يكون تذكرة للمغفلين، وعبرة للمخدوعين، ونصيحة للمغترين، كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره. هذا وكان في ما ذكرنا كفاية لمعرفة القوم وبغضهم لأسلاف هذه الأمة ومحسنيها، ولكن لتتميم البحث، وتكميل الموضوع نذكر روايات يسيرة من كتب أخرى، ومن علمائهم وفقهائهم. ومنهم الأردبيلي فإنه أيضاً خصص قسماً من كتابه للطعن واللعن، والتفسيق والتكفير لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم عامة، وللخلفاء الراشدين الثلاثة خاصة، فيكتب تحت باب مطاعن الخلفاء الثلاثة: "إن الخلفاء الثلاثة تخلفوا عن جيش أسامة وخالفوا أمر النبي في متابعته فكفروا، واستحقوا بكفرهم اللعن" (حديقة الشيعة) (ص233) ط طهران). ويكتب في الصديق والفاروق:- فالله يعلم أن الحق حقهم ... لا حق تيم ولا عديين لا تظلمن أخا تيم أبا حسن ... إذ خصه الله من بين الوصيين خص النبي علياً يوم كفركم ... بالعلم والحلم والقرآن والدين (حديقة الشيعة) (ص233) ط طهران). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 472 الفصل السابع عشر: موقف أهل البيت من أعداء الخلفاء الراشدين • المبحث الأول: موقف علي رضي الله عنه من الشيعة . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 473 المبحث الأول: موقف علي رضي الله عنه من الشيعة • المطلب الأول: رفض التشيع المطلق، وتقييده بالكتاب والسنة . • المطلب الثاني: التصريح بقول من يُكذب عليه حتى لا تنتشر الشائعات. • المطلب الثالث: الإعلام والإعلان بالحق لدحض الشبهات. • المطلب الرابع: الرد على الشبهات، وتوضيح المشكلات التي يروج لها حال ظهورها. • المطلب الخامس: المناقشة والاحتجاج. • المطلب السادس: البيان والإيضاح قبل إيقاع العقوبة. • المطلب السابع: إيقاع العقوبة على من جاء بالبدعة ولو ادعى التشيع. • المطلب الثامن: التحذير منهم ومن كلامهم، وزجر من ينقل أقوالهم. • المطلب التاسع: التحذير من غدر الشيعة بأئمتها، وبيان أنه لا يوثق بهم ولا بتشيعهم. • المطلب العاشر: إعلان البراءة ممن يتخذ التشيع له ستارا لنشر البدع وهدم الدين. • المطلب الحادي عشر: الوصية بالاعتدال في الحب، وبيان معنى التشيع الحق المطلوب لآل البيت. • المطلب الثاني عشر: حكمهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 474 المطلب الأول: رفض التشيع المطلق، وتقييده بالكتاب والسنة إن من أتقى الناس وأعلمهم بالله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لذلك لما جاء شيعته يعلنون نصرته ويؤكدون بيعته بعد خروج الخوارج عليه أعلنوا تشيعهم المطلق له، وولاءهم التام لكنه رضي الله عنه لعلمه وتقواه رفض ذلك، ولم يقبله بإطلاقه بل شرط لهم اتباع السنة، إذ من خالف السنة فليس بناصر لعلي ولا شيعته. يقول الطبري رحمه الله: "ولما خرجت الخوارج من الكوفة أتى عليا أصحابه وشيعته فبايعوه وقالوا: نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت فشرط لهم فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).ثم هو كذلك يرفض التنطع والغلو في الأمر، ويعلم أن الاتباع لا يكون إلا بالكتاب والسنة، لذلك لما جاءه بعد البيعة السابقة ربيعة ابن أبي شداد الخثعمي - وكان شهد معه الجمل وصفين ومعه راية خثعم - قال له علي: "بايع على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ربيعة: على سنة أبي بكر وعمر، قال علي: ويلك! لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونا على شيء من الحق، فبايعه" (2).ويؤكد هذا المعنى حبر الأمة عبدالله بن عباس وهو من أجلاء وأئمة آل البيت، ويعلن أن الاتباع ليس لشخص علي رضي الله عنه أو لشخص غيره، بل الاتباع والنصرة لقول الله وقول رسول الله وذلك أن معاوية بن أبي سفيان سأله: أنت على ملة علي؟ فقال رضي الله عنهم: "ولا على ملة عثمان، أنا على ملة محمد صلى الله عليه وسلم" (3). المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص 520، 521   (1) ((تاريخ الطبري)) (3/ 116). (2) ((تاريخ الطبري)) (3/ 116). (3) انظر ((الإبانة)) (1/ 354) تحقيق رضا معطي، ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)). (1/ 94) ((حلية الأولياء)) (1/ 329). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 475 المطلب الثاني: التصريح بقول من يُكذب عليه حتى لا تنتشر الشائعات لما كثرت الشائعات وبدأت تروج على الأغمار الجهال، وتناقلها العامة كان لابد من التصريح بقول من يكذب عليه قطعا لهذه الشائعات. فلما بدأت تنتشر أقوال الشيعة في تفضيل علي رضي الله عنه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، تصدى علي رضي الله عنه لذلك إذ هو المعني المفضل، وصرح رضي الله عنه بفضلهما وإمامتهما وقال: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، وبعد أبي بكر عمر، ولو شئت أن أسمي لكم الثالث لفعلت" (1).وقال لأصحابه: "ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها؟ أبو بكر وعمر" (2).وليس التصريح فقط بالأفضلية بل في مواطن عدة يصرح رضي الله عنه باتباعه لسنة أبي بكر وعمر، فلا يغير شيئا مما سناه، وكان يتبع الرأي الذي رأياه، فرضي الله عنهم أجمعين (3).ولما بدأت السبئية تروج الشائعة في أن عند علي رضي الله عنه علما خاصا ليس عند غيرهم سأله أبو جحيفة رضي الله عنه وقال له: "هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: لا والذي خلق الحبة وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر" (4).وكذلك كان آل البيت من بعد علي رضي الله عنه الحسن والحسين وعلي زين العابدين، وزيد ومحمد الباقر ابنا علي، وجعفر الصادق كلهم يصرحون بالثناء على الشيخين، ويعلنون رضاهم عن إمامتهما وإمامة عثمان (5)، كل ذلك قطعا للشائعات وتكذيبا للأقوال التي تنسب إليهم بهتانا وزورا. فرضي الله عنهم أجمعين، يقول ابن تيمية عن أهل البيت: "لا نسلم أن الإمامية أخذوا مذهبهم عن أهل البيت: لا الاثنا عشرية ولا غيرهم، بل هم مخالفون لعلي رضي الله عنه وأئمة أهل البيت في جميع أصولهم التي فارقوا فيها أهل السنة والجماعة: توحيدهم، وعدلهم، وإمامتهم، فإن الثابت عن علي رضي الله عنه وأئمة أهل البيت من إثبات الصفات لله، وإثبات القدر، وإثبات خلافة الخلفاء الثلاثة، وإثبات فضيلة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وغير ذلك من المسائل؛ كله يناقض مذهب الرافضة. والنقل بذلك ثابت مستفيض في كتب أهل العلم، بحيث أن معرفة المنقول في هذا الباب عن أئمة أهل البيت يوجب علما ضروريا بأن الرافضة مخالفون لهم لا موافقون لهم" (6). المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص521 - 523   (1) رواه أحمد (1/ 128) (1060) وابن أبي عاصم في ((السنة)) (ص556) وعبدالله بن أحمد في ((السنة)) (1251). (2) رواه أحمد (1/ 115) (934) وانظر كتاب ((السنة)) لابن أبي عاصم (ص557). (3) انظر أمثلة على ذلك: ((الشريعة)) للآجري (4/ 17775، 1787) (5/ 2311) ((السنة)) لابن أبي عاصم (ص555). (4) رواه البخاري (3047) (5) انظر أقوالهم في كتاب ((السنة)) لعبدالله بن أحمد بن حنبل (2/ 557) ((الشريعة)) للآجري (5/ 2316). (6) ((منهاج السنة النبوية)) (4/ 16). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 476 المطلب الثالث: الإعلام والإعلان بالحق لدحض الشبهات لم يكن علي رضي الله عنه يكتفي بالتصريح بالحق وتعليم الناس المعتقد الصحيح، بل كان رضي الله عنه يعلن ذلك، وكان منبر الإعلان آنذاك "خطبة في المسجد" فكان رضي الله عنه يقوم خطيبا ليعلن للناس ويعلمهم الحق، ويقضي على فرصة الذين يعملون في السر، ويدسون الدسائس ويثيرون الشبهات. فخطب علي رضي الله عنه لما لبس على الناس فعله في الإمارة هل هو رأيه أم عن وصية وتوجيه من الرسول صلى الله عليه وسلم، فخطب رضي الله عنه وقال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في الإمارة شيئا، وإنما هو رأي رأيناه) (1).ويروي عون بن أبي جحيفة السوائي فيقول: كان أبي من شرط علي رضي الله عنه، وكان تحت المنبر فحدثني أبي أنه صعد المنبر – يعني عليا – فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر والثاني عمر، وقال: يجعل الله الخير حيث أحب) (2). لذلك على المسئولين توظيف وسائل الإعلام لإعلان الحق ودحض الشبهات والرد على المخالفين. المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص523 - 524   (1) رواه أحمد (1/ 114) (921) والبيهقي في الاعتقاد (336) والحاكم في ((المستدرك)) (3/ 112) (4558) وانظر كتاب ((السنة)) لعبد الله بن أحمد بن حنبل (2/ 570). (2) رواه أحمد (1/ 106) (837) وصححه شعيب الأرناؤوط وانظر كتاب ((السنة)) لعبد الله بن أحمد بن حنبل (2/ 581). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 477 المطلب الرابع: الرد على الشبهات، وتوضيح المشكلات التي يروج لها حال ظهورها لما كانت بدع الشيعة السبئية بدأت تروج في عهد علي رضي الله عنه، وبدأت مزاعم السبئية تلوكها الألسن؛ تصدى علي رضي الله عنه فرد الشبهات وأوضح المشكلات في حينها، وهذا هو الواجب ألا يؤخر بيان الحق فتتشرب النفوس بالشبهات، لذلك لما ظن أن عند علي رضي الله عنه علما خاصا ليس عند غيره، وسئل عن ذلك بادر بالرد، ونفى ذلك كما تقدم سؤال أبي جحيفة له. وفي حادثة أخرى يحدث أبو الطفيل عامر بن واثلة (1) فيقول: سئل علي رضي الله عنه: "هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعلم به الناس كافة إلا كتاب في قراب سيفي هذا، قال: فأخرج صحيفة مكتوب فيها: لعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى محدثا، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من سرق منار الأرض" (2). انظر – رعاك الله – فقه علي إذا لم يكتف رضي الله عنه بالإخبار بل عضد ذلك بشيء محسوس وأخرج الصحيفة ونشرها للناس وقرأها عليهم حتى لا يأتي مدع ويزعم أن في الصحيفة علما خاصا. ويأتيه رجل ويقول له: "ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إليك؟ فيغضب رضي الله عنه وأرضاه ويقول: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إلي شيئا يكتم الناس غير أنه قد حدثني بكلمات أربع. فقال: ما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: ((لعن الله من لعن والده ... )) الحديث (3).ويقوم خطيبا رضي الله عنه ويقول: من زعم أن عندنا شيئا نقرأه إلا كتاب الله عز وجل وهذه الصحيفة فقد كذب (4).   (1) هو: أبو الطفيل عامر بن واثلة بن عبدالله الليثي الكناني الحجازي، كان من شيعة الإمام علي رضي الله عنه، وهو آخر من مات ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم، توفي سنة 100هـ. (2) رواه البخاري في الأدب المفرد (18) وأحمد (1/ 118) (954) والنسائي في ((الكبرى)) (9/ 250) انظر كتاب ((السنة)) لعبدالله بن أحمد بن حنبل (2/ 539) وصححه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (3) انظر كتاب ((السنة)) لعبد الله بن أحمد بن حنبل (2/ 540). (4) انظر كتاب ((السنة)) لعبد الله بن أحمد بن حنبل (2/ 541). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 478 وفي هذا رد على مزاعم الشيعة ممن يدعي أن عند أئمتهم علما خاصا ليس عند غيرهم، أو فهما مسددا من الله، فهذا إمامهم علي بن أبي طالب الذي اتفقوا على إمامته يرد قولهم ويكذبه فكيف بمن هو دونه من الأئمة. وتردد شبهة ثانية، ويروج كذب ابن سبأ من القول إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوصى لعلي رضي الله عنه بالإمامة، فيرد الصحابة ذلك، وتوضح هذه المشكلة؛ ذكروا عند عائشة رضي الله عنها أن عليا رضي الله عنه كان وصيا، فقالت: "متى أوصى إليه وقد كنت مسندته إلى صدري أو قالت: حجري – فدعا بالطست، فلقد انخنث في حجري فما شعرت أنه قد مات، فمتى أوصى إليه"؟ (1).ويؤكد علي رضي الله عنه ذلك فيقوم خطيبا بعد وقعة الجمل ويقول: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في الإمارة شيئا، وإنما هو رأي رأيناه) (2).وعند وفاته رضي الله عنه يكذب مزاعم الشيعة بالوصية، إذ قيل له: ألا توصي؟ فيقول: "ما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فأوصي، اللهم إنهم عبادك فإن شئت أصلحتهم، وإن شئت أفسدتهم) (3).يقول الإمام أحمد بن محمد الهيتمي (4): "فهذه الطرق كلها عن علي متفقة على نفي النص بإمامته، ووافقه على ذلك علماء أهل بيته" (5).ومن الشبه التي ردها علي بن أبي طالب ونفاها: ادعاء عصمته، فقد أنكر رضي الله عنه على من ألمح إلى عصمته، وبين الحق ناصعا وقال: "يهلك في محب مفرط يقرظني بما ليس في، ومبغض مفتر يحمله شنآني على أن يبهتني بما ليس في. ثم قال: وما أمرتكم بمعصية فلا طاعة لأحد في معصية الله تعالى" (6) فلم يثبت لنفسه العصمة رضي الله عنه (7).وقال لمن ادعى ألوهيته: (ويلكم إنما أنا عبد مثلكم آكل الطعام كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء، وإن عصيته خشيت أن يعذبني) (8).   (1) رواه البخاري (2741) ومسلم (1636). (2) رواه أحمد (1/ 114) (921) والبيهقي في ((الاعتقاد)) (336) والحاكم في ((المستدرك)) (3/ 112) (4558) وانظر كتاب ((السنة)) لعبد الله بن أحمد بن حنبل (2/ 570). وانظر في ((إبطال الزعم بالوصية)): ((الصواعق المحرقة)) للهيثمي (1/ 116) ((فتح الباري)) (5/ 361). (3) انظر ((السنة)) لعبدالله بن أحمد بن حنبل (2/ 538). (4) هو: أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي شهاب الدين أبو العباس السعدي الأنصاري، برع في كثير من العلوم كالتفسير والفقه والحديث والحساب والنحو، وله تصانيف متنوعة كثيرة، توفي في مكة عام 973هـ. انظر ((الشذرات)) (8/ 370) ((الأعلام)) (1/ 223). (5) ((الصواعق المحرقة)) للهيتمي (1/ 118) وانظر ((السنة)) للخلال (ص350). (6) رواه أحمد (1/ 160) (1377) والحاكم (3/ 132) (4622) وقال صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي بقوله الحكم بن عبدالملك وهاه ابن معين، والحديث قال الهيثمي في ((المجمع)) (9/ 133) رواه عبدالله والبزار باختصار وأبو يعلى أتم منه وفي إسناد عبدالله وأبى يعلى الحكم بن عبد الملك وهو ضعيف وفي إسناد البزار محمد بن كثير القرشي الكوفي وهو ضعيف، وتكلم عليه الألباني في ((الضعيفة)) (10/ 551) (7) انظر ((الصواعق المحرقة)) (1/ 121). (8) انظر ((فتح الباري)) (12/ 270) وقال ابن حجر: إسناده حسن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 479 ومما أذيع في خلافة علي من الشبهات: الطعن في الشيخين أبي بكر وعمر، والزعم أن عليا أفضل منهما، فيرد علي رضي الله عنه هذه الشبهة ويبين الحق هو وأئمة آل البيت، وينشرون فضائل الصديق والفاروق، ويعلنون ولاءهم لهم، ويجيبون من يسألهم، وقد قام علي رضي الله عنه مرارا يخطب في الناس ويقول: "إن أفضل الأمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر".ويحدث محمد بن الحنفية (1) فيقول: "قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر. قلت ثم من؟ قال: ثم عمر. وخشيت أن يقول عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين" (2).ويبادر علي رضي الله عنه ويسأل أصحابه يوما ويقول: "أخبروني من أشجع الناس؟ قالوا: أنت. قال: أما إني ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع الناس. قالوا: لا نعلم، فمن؟ قال: أبو بكر (3).ويأتي نفر من أهل العراق إلى الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويقولون له: "يا أبا محمد حديث بلغنا أنك تحدثه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أبي بكر وعمر رحمهما الله؟ فقال: نعم. حدثني أبي عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فقال: ((يا علي؛ هذان سيدا كهول أهل الجنة بعد النبيين والمرسلين)) (4).يقول الإمام الآجري رحمه الله تعالى: "فهؤلاء أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم السادة الكرام رضوان الله عليهم يروون عن علي رضي الله عنه مثل هذه الفضيلة في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. جزى الله الكريم أهل البيت عن جميع المسلمين خيرا (5).ويؤكد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولاءه وحبه للصحابة جميعا حتى من اختلف معهم بل وتقاتل، فهو يعلم أن هذا لا يقطع أواصر الأخوة الإيمانية، إذ بعد قتاله في الجمل مع طلحة والزبير رضي الله عنهم أجمعين – والقتال مظنة البغض ولكنها نفوس زكاها الله – يقول: "إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله عز وجل: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [الحجر:47] (6) ويكرر علي رضي الله عنه القول على ابن طلحة لما جاءه ويقول: "إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله عز وجل: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [الحجر:47]، فيقول له رجل: "دين الله أضيق من حد السيف، تقتلهم ويقتلونك، وتكون أنت وهم إخوانا على سرر متقابلين؟! فقال له علي: التراب في فيك فمن عسى أن يكونوا" (7).فالضيق في دين الشيعة التي لم تسع قلوبهم لحب الصحابة كلهم رضي الله عنهم. أما قلوب المؤمنين فقد وسعت حبهم، وجرت ألسنتهم بالترضي عنهم والدعاء لهم كما أمرهم ربهم في قوله: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر: 10] (8).وصدق أنس بن مالك رضي الله عنه حينما قال: "قالوا إن حب عثمان وعلي لا يجتمعان في قلب مؤمن، وكذبوا، قد جمع الله عز وجل حبهما بحمد الله في قلوبنا" (9). المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص524 - 529   (1) محمد ابن الحنفية هو ابن علي بن أبي طالب والحنفية أمه. (2) رواه البخاري (3671) (3) رواه البزار (761) وقال لا نعلمه يروى عن علي إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد، وقال الهيثمي في ((المجمع)) (9/ 47) فيه من لم أعرفه وانظر ((الصواعق المحرقة)) (1/ 76). (4) كتاب ((الشريعة)) (5/ 2316) والحديث أخرجه الترمذي (3665) وابن ماجة (100) وابن حبان (6904) قال الترمذي حسن غريب، وصححه الألباني. (5) كتاب ((الشريعة)) (5/ 2317). (6) ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (3/ 113) ((تفسير الطبري)) (14/ 36) انظر كتاب ((الشريعة)) (5/ 2528). (7) انظر ((الشريعة)) للآجري (5/ 2527) ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (3/ 224). (8) انظر ما تقدم من وجوب الإمساك عما شجر بين الصحابة، في ((التمهيد)) المبحث الثالث (39) وانظر الباب الأول، الفصل الرابع، المبحث الثاني: ((سلامة الصحابة من الفرقة)) (ص230). (9) انظر ((الشريعة)) (4/ 1770). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 480 المطلب الخامس: المناقشة والاحتجاج جاء رجل إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما فقال له: (إن ناسا يزعمون أن عليا يرجع يوم القيامة، فضحك وقال: سبحان الله! لو علمنا ذلك ما زوجنا نساءه ولا ساهمنا ميراثه) (1). فناقشه في صدق هذه الدعوى، وحجه بما فعلوه من تقسيم ميراثه، وتزوج نسائه، وهذا لا يكون إلا لميت. المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص529   (1) انظر ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (3/ 39). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 481 المطلب السادس: البيان والإيضاح قبل إيقاع العقوبة على الإمام إن رأى من مسلم بدعة أن يعاقبه بما يراه مناسبا، ولكن لابد من تقديم البيان للحق، وإيضاح وجه الخطأ حتى لا يكون للمبتدع حجة. عن علقمة (1) قال: سمعت عليا على المنبر فضرب بيده على منبر الكوفة يقول: "بلغني أن قوما يفضلوني على أبي بكر وعمر، ولو كنت تقدمت في ذلك لعاقبت فيه، ولكني أكره العقوبة قبل التقدمة، من قال شيئا من هذا فهو مفتر، عليه ما على المفتري. إن خيرة الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر، وقد أحدثنا أحداثا يقضي الله فيها ما أحب" (2). المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص529 - 530   (1) هو: علقمة بن قيس بن عبدالله النخعي الكوفي، ثقة ثبت فقيه عابد، توفي بعد عام 60هـ. انظر ((التقريب)) (2/ 31) ((التهذيب)) (7/ 276). (2) انظر كتاب ((السنة)) لابن أبي عاصم (ص466) وحسن إسناده الألباني .. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 482 المطلب السابع: إيقاع العقوبة على من جاء بالبدعة ولو ادعى التشيع إذا ابتدع المسلم وأعذر ونبه فقد أقيمت عليه الحجة، واستحق العقوبة إن لم يرجع ويتب. ولقد تصدى علي رضي الله عنه للشيعة المبتدعين، وأوقع العقوبة على كل مبتدع بحسب بدعته لأنه غمام المسلمين. ولقد أظهر رضي الله عنه غضبه من المفضلين وتوعدهم بالجلد، وأبان شدته على السابين وهم بالقتل، وحد المؤلهين له حد المرتدين، فقتلهم وحرقهم بالنار، ولم يعذر هؤلاء المبتدعين أو يسامحهم لأنهم يدعون التشيع له، ويرفعون شعار المحبة، بل أوقع بهم العقوبة. ومن العقوبات التي أنزلها: عقوبة من ادعى ألوهيته، حيث قيل لعلي رضي الله عنه إن هنا قوما على باب المسجد يدعون أنك ربهم، فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون؟ قالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا. فقال: ويلكم إنما أنا عبد مثلكم آكل الطعام كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء، وإن عصيته خشيت أن يعذبني، فاتقوا الله وارجعوا. فأبوا. فلما كان الغد غدوا عليه، فجاء قنبر فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام، فقال: أدخلهم، فقالوا كذلك. فلما كان الثالث قال: لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة، فأبوا إلا ذلك، فقال: يا قنبر ائتني بفعلة معهم مرورهم، فخذ لهم أخدودا بين باب المسجد والقصر، وقال: احفروا فابعدوا في الأرض، وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود، وقال: إني طارحكم فيها أو تراجعوا، فأبوا أن يرجعوا، فقذف بهم فيها حتى إذا احترقوا قال: (إني إذا رأيت أمرا منكرا أوقدت ناري ودعوت قنبرا) (1). فعلي رضي الله عنه عاملهم معاملة المرتدين؛ وعظهم وبين لهم الحق، واستتابهم ثلاثا، فلما أصروا قتلهم تحريقا، وقيل: قتلهم ثم حرقهم، وللإمام تغليظ العقوبة إن رأى ذلك (2).وإن كان عبدالله بن عباس خالفه في طريقة القتل ولم ير تحريقهم بالنار، إذ لما بلغه فعل علي رضي الله عنه قال: "لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تعذبوا بعذاب الله)) ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بدل دينه فاقتلوه)) (3).وكان القول بإيقاع العقوبة على المبتدعة من الرافضة هو قول أئمة آل البيت، لذلك قال الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم لرجل من الرافضة: (والله لئن أمكن الله منكم لنقطعن أيديكم وأرجلكم ولا نقبل منك توبة) (4).ومن العقوبات التي رآها: عقوبة من سب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وتنقص منهما، وهؤلاء هم السابة، وكان علي رضي الله عنه بلغه عن عبدالله بن سبأ أنه كان يسب أبا بكر وعمر، فطلبه، قيل: إنه طلبه ليقتله فهرب منه (5). وقيل: إنه هم بقتله، فكلم فيه، فقال: لا يساكنني ببلد أنا فيه، فنفاه إلى المدائن (6).فالساب للصحابة الكرام يعزر ويغلظ له في العقوبة، بحسب ما يراه الإمام (7).ومن العقوبات التي توعد بها: عقوبة من فضله على أبي بكر وعمر، وقد توعد هؤلاء المفضلة أن يجلدهم جلد المفتري (8).وكان هذا فعل عمر رضي الله عنه فيمن فضله على أبي بكر رضي الله عنهم (9) يقول ابن تيمية رحمه الله: "فإذا كان الخليفتان الراشدان عمر وعلي رضي الله عنهما، يجلدان حد المفتري من يفضل عليا على أبي بكر وعمر، أو من يفضل عمر على أبي بكر – مع أن مجرد التفضيل ليس فيه سب ولا عيب – علم أن عقوبة السب عندهما فوق هذا بكثير" (10). المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص 530 - 532   (1) انظر ((فتح الباري)) (12/ 270) وقال عنه ابن حجر: "وهذا سند حسن". وانظر: ((التنبيه والرد)) للملطي (ص18) ((التبصير في الدين)) للإسفراييني (ص123) ((عقائد الثلاث وسبعين فرقة لليمن)) [(1/ 459) ((الفتاوى)) لابن تيمية (13/ 21) ((تهذيب تاريخ ابن عساكر)) (7/ 433). (2) انظر ((فتح الباري)) (12/ 272) ((منهاج السنة النبوية)) (1/ 307). (3) رواه البخاري (3017) (4) انظر كتاب ((الشريعة)) للآجري (5/ 2382). (5) انظر ((الفتاوى)) (13/ 21) وانظر حكم ساب الصحابة في التمهيد، المبحث الثالث. (6) انظر ((الصارم المسلول على شاتم الرسول)) لابن تيمية (ص584) وعلل ابن تيمية فيه سبب ترك قتل ابن سبأ والاكتفاء بنفيه إلى المدائن فقال: "ويشبه والله أعلم أن يكون إنما تركه خوف الفتنة بقتله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يمسك عن قتل بعض المنافقين، فإن الناس تشتت قلوبهم عقب فتنة عثمان رضي الله عنه، وصار في عسكره من أهل الفتنة أقوام لهم عشائر لو أراد الانتصار منهم لغضبت لهم عشائرهم". وانظر ((تهذيب تاريخ ابن عساكر)) (7/ 433). (7) انظر ((الصارم المسلول)) (ص 567 – 587) ((الصواعق المحرقة)) للهيتمي (1/ 128) ((الشريعة)) للآجري (5/ 2505). (8) انظر ((الصارم المسلول)) (ص585) ((السنة)) لابن أبي عاصم (ص466). (9) انظر ((الصارم المسلول)) (ص585) .. (10) انظر ((الصارم المسلول)) (ص586). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 483 المطلب الثامن: التحذير منهم ومن كلامهم، وزجر من ينقل أقوالهم لقد حذر السلف الصالح من أقوال أهل البدع، وأمروا بهجرهم وترك مجالستهم. يقول عبدالله بن عباس محذرا من الشيعة: "كلام الحرورية ضلالة، وكلام الشيعة هلكة" (1).ويأتيه رجل ناقلا كلامهم مثيرا لشبههم فيزجره ويطرده، يقول عبدالله بن عباس: (إني في المنزل قد أخذت مضجعي للقيلولة، فجاءني الغلام فقال: بالباب رجل يستأذن. فقلت: ما جاء في هذه الساعة إلا وله حاجة؛ أدخله. فدخل، فقلت ما حاجتك؟ فقال: متى يبعث ذاك الرجل؟ قلت: أي رجل؟! قال: علي بن أبي طالب. قلت: لا يبعث حتى يبعث من في القبور. قال: لا أراك تقول كما يقول هؤلاء الحمقى. قال: قلت: أخرجوا هذا عني لا يدخل علي هو ولا ضربه من الناس) (2). المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص523 - 533   (1) انظر ((جامع بيان العلم)) لابن عبدالبر (2/ 1168). (2) انظر ((الشريعة)) للآجري (5/ 2524). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 484 المطلب التاسع: التحذير من غدر الشيعة بأئمتها، وبيان أنه لا يوثق بهم ولا بتشيعهم لقد عرف عن الشيعة غدرهم وخذلانهم لأئمتهم، وجبنهم عند اللقاء، وسرعة تفرق كلمتهم، حتى ضرب بهم المثل فقيل: أغدر من كوفي، والتاريخ على ذلك شاهد، غدرهم بأئمة آل البيت، يقول البغدادي رحمه الله: "روافض الكوفة موصوفون بالغدر، والبخل، وقد سار المثل بهم فيهما، حتى قيل: أبخل من كوفي، وأغدر من كوفي، والمشهور من غدرهم ثلاثة أشياء: أحدها: أنهم بعد قتل علي رضي الله عنه بايعوا ابنه الحسن، فلما توجه لقتال معاوية غدروا به في ساباط المدائن (1) فطعنه سنان الجعفي في جنبه فصرعه عن فرسه، وكان ذلك أحد أسباب مصالحته معاوية.   (1) ساباط المدائن موضع معروف قرب المدائن بالعراق. انظر ((معجم البلدان)) (3/ 166). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 485 والثاني: أنهم كاتبوا الحسين بن علي رضي الله عنه، ودعوه إلى الكوفة لينصروه على يزيد بن معاوية فاغتر بهم، وخرج إليهم، فلما بلغ كربلاء غدروا به، وصاروا مع عبيد الله بن زياد يدا واحدة عليه، حتى قتل الحسين وأكثر عشيرته بكربلاء. والثالث: غدرهم يزيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بعد أن خرجوا معه على يوسف بن عمر، ثم نكثوا بيعته وأسلموه عند اشتداد القتال حتى قتل وكان من أمره ما كان" (1).ولقد ذاق منهم علي رضي الله عنه من الكاسات المرة ما لا يعلمه إلا الله حتى دعا عليهم فقال: "اللهم إني سئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيرا منهم، وبدلهم بي شرا مني" (2).وقيل للحسن بن علي ما حملك على ما فعلت (من تنازله بالخلافة لمعاوية) قال: "كرهت الدنيا، ورأيت أهل الكوفة قوما لا يثق بهم أحدا أبدا إلا غلب، ليس أحد منهم يوافق آخر في رأي ولا هوى، مختلفين لا نية لهم في خير ولا في شر. لقد لقي أبي منهم أمورا عظاما، فليت شعري لمن يصلحون بعدي وهي أسرع البلاد خرابا" (3).لذلك أوصى الحسن بن علي أخاه الحسين بعدم الاغترار بهم، أو الاستجابة لطلبهم بالخروج إليهم أو طلب الخلافة وحذره من تصديق دعواهم له بالنصرة (4).ولما أراد الحسين بن علي الخروج إلى الكوفة مستجيبا لدعوة شيعته هناك جاءه أكابر الصحابة يشيرون عليه بعدم الذهاب، ويحذرونه من غدر هؤلاء الشيعة، ويذكرونه بمواقفهم المخزية من أبيه ومن أخيه؛ جاءه عبدالله بن عباس وقال له: "يا ابن عم، قد بلغني أنك تريد العراق، وإنهم أهل غدر، وإنما يدعونك للحرب، فلا تعجل، وإن أبيت إلا محاربة هذا الجبار وكرهت المقام بمكة فاشخص إلى اليمن، فإنها في عزلة ولك فيها أنصار وإخوان، فأقم بها وبث دعاتك، واكتب إلى أهل الكوفة وأنصارك بالعراق فيخرجوا أميرهم، فإن قووا على ذلك ونفوه عنها، ولم يكن بها أحد يعاديك أتيتهم، وما أنا لغدرهم بآمن، وإن لم يفعلوا أقمت بمكانك إلى أن يأتي الله بأمره، فإن فيها حصونا وشعابا، فقال الحسين: يا ابن عم، إني لأعلم أنك لي ناصح وعلي شفيق، ولكن مسلم بن عقيل كتب إلي باجتماع أهل المصر على بيعتي ونصرتي، وقد أجمعت على المسير إليهم. قال: إنهم من خبرت وجربت، وهم أصحاب أبيك وأخيك وقتلتك غدا مع أميرهم" (5).ويقدم النصح للحسين أيضا أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، ويذكره بوصف علي بن أبي طالب لهم فيقول: "يا أبا عبدالله إني لكم ناصح، وإني عليكم مشفق، وقد بلغني أنه كاتبك قوم من شيعتكم بالكوفة، يدعونك إلى الخروج، فلا تخرج، فإني سمعت أباك بالكوفة يقول: "والله لقد مللتهم، وأبغضتهم، وملوني وأبغضوني، وما بلوت منهم وفاء، ومن فاز بهم فاز بالسهم الأخيب، والله ما لهم ثبات ولا عزم على أمر، ولا صبر على السيف" (6).ومن غدرهم وقلة ولائهم أنهم لم يكتفوا بمراسلة الحسين أنذاك، بل عمدوا إلى مراسلة أخيه محمد بن الحنفية يطلبون منه الخروج. ولكنه رفض وجاء إلى الحسين يخبره بما عرضوا عليه، ويبين سبب رفضه فقال: "إن القوم إنما يريدون أن يأكلوا بنا، ويشيطوا دماءنا" (7).يقول ابن تيمية رحمه الله: "وأما الشيعة فهم دائما مغلوبون مقهورون منهزمون، وحبهم للدنيا وحرصهم عليها ظاهر. ولذلك لما كاتبوا الحسين رضي الله عنه أرسل إليهم ابن عمه ثم قدم بنفسه غدروا به، وباعوا الآخرة بالدنيا، وأسلموه إلى عدوه، وقاتلوه مع عدوه. فأي زهد في الدنيا وأي جهاد عندهم ... هذا ولم يكونوا صاروا بعد رافضة" (8). المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص 533 - 536   (1) ((الفرق بين الفرق)) (ص25). (2) انظر ((آل رسول الله وأولياءه))، لمحمد بن قاسم (ص88) ((نهج البلاغة)) (1/ 65). (3) انظر ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 204). (4) انظر ((الاستيعاب في أسماء الأصحاب)) لابن عبدالبر (1/ 377) بهامش كتاب ((الإصابة)) لابن حجر. (5) انظر ((مروج الذهب)) للمسعودي (3/ 64) وانظر ((تاريخ الطبري)) (3/ 294، 295). (6) انظر ((تهذيب تاريخ دمشق)) لابن عساكر (4/ 329). (7) ((تاريخ الإسلام)) للذهبي حوادث عام (61 – 80 (5) [. (8) انظر ((آل الرسول وأولياؤه)) لمحمد بن قاسم (ص88) وانظر ((الصواعق المحرقة)) للهيتمي (2/ 413، 574). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 486 المطلب العاشر: إعلان البراءة ممن يتخذ التشيع له ستارا لنشر البدع وهدم الدين ما زال أئمة أهل البيت يبرئون ممن ينتحل حبهم ويتشيع لهم وهو يخالف الكتاب والسنة المطهرة، ويعمد إلى الاستتار وراء هذا الحب لينشر البدع. قيل للحسين بن علي: "إن ناسا من شيعة أبي الحسن علي عليه السلام يزعمون أنه دابة الأرض وأنه سيبعث قبل يوم القيامة، فقال: كذبوا، ليس أولئك شيعته، أولئك أعداؤه، لو علمنا ذلك ما قسمنا ميراثه ولا أنكحنا نساءه" (1).ويقول الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم: "مرقت علينا الرافضة كما مرقت الحرورية على علي رضي الله عنه" (2).ويقول جعفر الصادق: "برئ الله ممن تبرأ من أبي بكر وعمر" (3).ويقول: "لقد أمسينا وما أحد أعدى لنا ممن ينتحل مودتنا" (4). المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص 536   (1) انظر ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (3/ 39). (2) انظر كتاب ((السنة)) لعبد الله بن أحمد بن حنبل (2/ 557). (3) انظر ((الشيعة والتشيع)) لظهير (ص216). (4) انظر ((الشيعة والتشيع)) لظهير (ص216). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 487 المطلب الحادي عشر: الوصية بالاعتدال في الحب، وبيان معنى التشيع الحق المطلوب لآل البيت يقول علي رضي الله عنه: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق" (1)؛ لما علم علي رضي الله عنه أن حبه من الإيمان وبغضه من النفاق. خشي رضي الله عنه على محبيه من الغلو في محبته فحذر من ذلك ونهى عنه وقال: "ليحبني قوم حتى يدخلوا النار في حبي، وليبغضني قوم حتى يدخلوا النار في بغضي" (2). وقال: "يهلك في رجلان: مفرط في حبي، ومفرط في بغضي" (3).وسار أئمة آل البيت على منهاجه في طلب الحب المعتدل، ورفض الحب الغالي، فقال علي زين العابدين رضي الله عنه: "يا أهل العراق حبونا حب الإسلام، فوالله إن زال بنا حبكم حتى صار شينا" (4).وقال مشيرا بيده نحو الكوفة: "إن هؤلاء يشيرون إلينا بما ليس عندنا" (5).   (1) رواه مسلم (78) (2) كتاب ((السنة)) لعبد الله بن أحمد بن حنبل (2/ 571) ((السنة)) لابن أبي عاصم (ص462) وصحح الألباني إسناده، ((الشريعة)) (5/ 2532). (3) رواه أحمد (1/ 160) (1377) والحاكم (3/ 132) (4622) وقال صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي بقوله الحكم بن عبدالملك وهاه ابن معين، والحديث قال الهيثمي في ((المجمع)) (9/ 133) رواه عبدالله والبزار باختصار وأبو يعلى أنم منه وفي إسناد عبدالله وأبى يعلى الحكم بن عبد الملك وهو ضعيف وفي إسناد البزار محمد بن كثير القرشي الكوفي وهو ضعيف، وتكلم عليه الألباني في ((الضعيفة)) (10/ 551) (4) انظر كتاب ((السنة)) للخلال (ص500) ((السنة)) لابن أبي عاصم (ص468) ((منهاج السنة النبوية)) (4/ 49). (5) انظر كتاب ((السنة)) لابن أبي عاصم (ص468). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 488 إذا ليس المطلوب هو حب آل البيت فقط، إذ يدخل حبهم النار إذا غلا فيه صاحبه وجاوز الحد المشروع، بل نحبهم رضي الله عنهم الحب الذي أمرنا الله به، وبينه لنا رسول صلى الله عليه وسلم، ونعترف بفضلهم ونتقرب به إلى الله. ولا يقتضي حبهم وموالاتهم معادة غيرهم من الصحابة كما تزعم الشيعة أنه لا ولاء إلا ببراء (1) بل الواجب أن يتسع حبنا للصحابة كلهم رضي الله عنهم فنواليهم ونحبهم (2) ولا يضيق حبنا لهم كما ضاق حب الشيعة ولم يتسع – كما عزموا – إلا لآل البيت (3)؛ وليتهم صدقوا في دعواهم المحبة التي برهانها الاتباع، فما نراهم إلا مخالفين لأئمة آل البيت. يروى أن عليا رضي الله عنه نظر إلى قوم ببابه فقال لقنبر مولاه: من هؤلاء؟ قال: شيعتك يا أمير المؤمنين. قال: ما لي لا أرى فيهم سيما الشيعة. قال: وما سيماهم؟ قال: خمص البطون، يبس الشفاه من الظمأ، عمش العيون من البكاء" (4).إن التشيع الحق الصادق لآل البيت هو تشيع أهل السنة والجماعة المتبعين لقول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، المقتدين بالرسول صلى الله عليه وسلم ومن سار على هديه من الصحابة الكرام وآل بيته الشرفاء، فأهل السنة بحق هم أنصار علي وأتباعه إذ من مذهبهم القول بأن عليا رضي الله عنه وأصحابه أولى الطائفين بالحق في حروبه في الجمل وصفين (5) ومع ذلك يعذرون الخارجين على علي رضي الله عنه، ويقولون: اجتهدوا وأخطأوا، ويجمعون على عدالة الجميع وحبهم. وأما عن حبهم لآل البيت فيقول الآجري رحمه الله: "واجب على كل مؤمن ومؤمنة محبة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو هاشم علي بن أبي طالب وولده وذريته، وفاطمة وولدها وذريتها، والحسن والحسين وأولادهما وذريتهما، وجعفر الطيار وولده وذريته، وحمزة وولده، والعباس وولده وذريته رضي الله عنهم، هؤلاء أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجب على المسلمين محبتهم وإكرامهم، واحتمالهم، وحسن مداراتهم، والصبر عليهم، والدعاء لهم، فمن أحسن من أولادهم وذراريهم فقد تخلق بأخلاق سلفه الكرام الأخيار الأبرار، ومن تخلق منهم بما لا يحسن من الأخلاق دعي له بالصلاح والصيانة والسلامة، وعاشره أهل العقل والأدب بأحسن المعاشرة، وقيل له: نحن نجلك عن أن تتخلق بأخلاق لا تشبه سلفك الكرام الأبرار، ونغار لمثلك أن يتخلق بما نعلم أن سلفك الكرام الأبرار لا يرضون بذلك، فمن محبتنا لك أن نحب لك أن تتخلق بما هو أشبه بك، وهي الأخلاق الشريفة الكريمة، والله الموفق لذلك" (6). يقول الشافعي رحمه الله تعالى: إن نحن فضلنا عليا فإننا ... روافض بالتفضيل عند ذوي الجهل وفضل أبي بكر إذا ما ذكرته ... رميت بنصب عند ذكري للفضل فلا زلت ذا رفض ونصب كلاهما ... بحبهما حتى أوسد في الرمل (7) المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص 536 - 539   (1) انظر ((الملل والنحل)) (1/ 169) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (2/ 697). (2) انظر ((شرح العقيدة الطحاوية)) (2/ 689) ((شرح العقيدة الواسطية)) لمحمد بن عثيمين (2/ 247، 282). (3) انظر أقوال السلف عن فضائل الصحابة كلهم وفضائل آل البيت: كتاب ((الشريعة)) للآجري (4/ 1634) (5/ 2468). (4) انظر ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 201). (5) انظر ((التشيع بين مفهوم الأئمة والمفهوم الفارسي)) لمحمد البنداري (5). (6) انظر كتاب ((الشريعة)) (5/ 2276) (4/ 2066). (7) انظر ((الصواعق المحرقة)) (2/ 387) ((مناقب الشافعي)) للبيهقي (2/ 70). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 489 المطلب الثاني عشر: حكمهم تقدم أن الشيعة فرق عدة، لذلك لا يصح إطلاق حكم التكفير وتعميمه عليهم، أو نفيه عنهم بإطلاق، بل الواجب التفصيل، وبيان الفرقة والقول الذي تقول به ثم الحكم عليه، لأنه قد تتغير بعض أقوال الفرقة، أو يتغير اسمها أو يختلف من بلد إلى بلد (1) وحكم تكفير الشيعة كالآتي:1 - الشيعة المفضلة: الذين ينتهي قولهم بأن عليا أفضل من أبي بكر وعمر، وأنه أحق بالإمامة، دون تعرض لتكفير أحد من الصحابة، فهؤلاء الشيعة المفضلة زيدية أو غيرهم إن كانت هذه بدعتهم فقط فهم لا يكفرون بإجماع السلف والأئمة (2). 2 - الشيعة الغلاة القائلون بألوهية أئمتهم أو نبوتهم أو ادعوا الحلول أو التناسخ أو غيرها من البدع المكفرة، فقد أجمع العلماء على تكفيرهم. وتقدم أن عليا رضي الله عنه عاملهم معاملة المرتدين. 3 - الرافضة "الشيعة الإمامية": وعلامتهم البراءة من الشيخين أبي بكر وعمر، ومنهم من يعتدي عليهم بالسب والشتم وإن لم يقل بالتكفير، وتقدم حكم ساب الصحابة، وأنه يختلف باختلاف السب واختلاف النية، فساب الصحابة يكفر إن كان سبه عن اعتقاد واستحلال للسب، وكان سبه سبا يقدح في دينهم وعدالتهم. وأما إن كان سبه سب غيظ وحنق، وكان السب في أمور الدنيا كوصف بالجبن والبخل فهذا لا يكفر ويجب تعزيره. فالرافضة اثنا عشرية أو غيرهم إن كان سبهم للصحابة سبا يقدح في دينهم أو يتعدى للقول بتكفيرهم فهم يكفرون بذلك. كذلك يكفر من زعم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت، أو زعم أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة ونحو ذلك، فهؤلاء لا خلاف في كفرهم سواء كانوا اثنا عشرية أو غيرهم (3).ويجب مراعاة توفر شروط التكفير وانتفاء موانعه عند تكفير المعين (4). المصدر: موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص 539 - 540   (1) كاختلاف أسماء الغلاة الباطنية أو الإسماعيلية حسب المنطقة. انظر ما تقدم عن غلاة الشيعة (346). (2) انظر ((الفتاوى)) (3/ 219) ((السنة)) للخلال (ص776) ((منهج ابن تيمية في مسألة التكفير)) للمشعبي (2/ 321). (3) انظر ((الصارم المسلول)) (ص586). (4) انظر في ((حكم ساب الصحابة)): ((الفتاوى)) (3/ 219) ((الصارم المسلول)) (ص567) ((الشريعة)) (5/ 2505) ((الصواعق المحرقة)) (1/ 128). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 490 الفصل الثامن عشر: موقف الشيعة الاثني عشرية من الأئمة الأربعة: • المبحث الأول: عداء الشيعة الاثني عشرية للأئمة الأربعة: . • المبحث الثاني: اتهام الأئمة الأربعة بإحداث مذاهب مخالفة للكتاب والسنة. • المبحث الثالث: دعوى الإمامية أن المذاهب الأربعة تجري وفق هوى السلطات:. • المبحث الرابع: طعن الشيعة الإمامية في الإمام أبي حنيفة رحمه الله:. • المبحث الخامس: طعن الشيعة الإمامية في الإمام مالك رحمه الله:. • المبحث السادس: طعن الشيعة الإمامية في الإمام الشافعي رحمه الله:. • المبحث السابع: طعن الشيعة الإمامية في الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله:. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 491 المبحث الأول: عداء الشيعة الاثني عشرية للأئمة الأربعة: كان موقف أعلام الاثني عشرية وأقطابها قديماً وحديثاً من أئمة المذاهب السنية الأربعة وأتباعهم موقف عداءٍ. ولا ينبغي أن يُستغرب هذا منهم بحال؛ فقد نصبوا العداء لمن هم أفضل من هؤلاء وأكمل؛ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه رضي الله عنهم. ومما سوّد به الاثنا عشرية كتبهم من مواقف عدائية تجاه أئمة السنة الأربعة وغيرهم: ما أخرجه الكليني بسنده إلى أبي جعفر الباقر أنه قال -وهو مستقبل الكعبة-: (إنما أُمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا، وهو قول الله: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]- ثم أومأ بيده إلى صدره- إلى ولايتنا. ثم قال: يا سدير (1)! فأُريك الصّادين عن دين الله؟ ثمّ نظر إلى أبي حنيفة وسفيان الثوريّ في ذلك الزمان وهم حِلَقٌ في المسجد، فقال: هؤلاء الصادّون عن دين الله بلا هدى من الله ولا كتابٍ مبين. إن هؤلاء الأخابث لو جلسوا في بيوتهم فجاء الناس فلم يجدوا أحداً يُخْبِرُهم عن الله تبارك وتعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم حتّى يأتونا فنخبرهم عن الله تبارك وتعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم) (2).ويقول شيخهم الأوالي (3): (ذكر نبذة من أحوال أئمتهم الأربعة وسائر علمائهم المبتدعة، وما أحدثوه في الدّين من البدع الفظيعة، لا سيما من بينهم أبو حنيفة صاحب البدع الكسيفة، ومَن ليس له من الله خيفة)! (4).وذكر القاضي عياض في الترتيب أن رجلاً من الإمامية سأل مالكاً رحمه الله: (من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) فقال مالك: أبو بكر. قال: ثم من؟ قال: عمر. قال: ثم من؟ قال: الخليفة المقتول ظلماً عثمان. فكان جواب هذا السائل الرافضي أن قال للإمام: "والله لا أجالسك أبداً" (5). المصدر: موقف الشيعة الاثني عشرية من الأئمة الأربعة لخالد بن أحمد الزهراني ومن صور عدائهم للأئمة الأربعة أيضاً ما جاء على لسان بعض شعرائهم: إذا شئت أن ترضى لنفسك مذهباً ... ينجيك يوم البعث من ألم النار فدع عنك قول الشافعي ومالكٍ ... وأحمد والنعمان أو كعب أحبار (6) ووال أناساً قَولُهُم وحَدِيثُهُم ... روى جَدُّنا عن جبرائيل عن الباري (7) ... ... ... وجاء في مقدمة كتاب (مختلف الشيعة) للحلي ما يبين نظرتهم التهكمية للأئمة الأربعة: قالوا: لأي شيء أخذت نعلك معك وهذا مما لا يليق بعاقل بل إنسان؟ قال: خفتُ أن يسرقه الحنفية كما سرق أبو حنيفة نعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.   (1) هو راوي هذا الخبر. (2) ((أصول الكافي)) (1/ 392 - 393). (3) هو يوسف بن أحمد بن إبراهيم الدرازي الأوالي البحراني، من علماء الاثني عشرية بالبحرين، من مؤلفاته: سلاسل الحديد في تقييد ابن أبي الحديد، توفي بكربلاء عام (1186هـ) ودفن بها. معجم المؤلفين (13/ 268 - 9). (4) انظر: ((الصارم الحديد في عنق صاحب سلاسل الحديد))، لأبي الفوز محمد السويديّ (ق648/أ) (مخطوط)، و ((سلاسل الحديد)) للأوالي. (5) ((ترتيب المدارك في أسماء من روى عن الإمام مالك رحمه الله من شيوخه)) (1/ 174 - 175). (6) هو كعب الأحبار بن مانع، ويكنى أبا إسحاق؛ كان يهودياً فأسلم، وقدم المدينة، ثم خرج إلى الشام فسكن حمص. أسند عن عمر وعائشة وصهيب رضي الله عنهم، وتوفي عام (32هـ). صفة الصفوة لابن الجوزي (4/ 203 - 205). (7) ذكرها بهذا اللفظ المجلسي ((في البحار)) (108/ 117)، والبياضي في ((الصراط المستقيم)) (3/ 207) مع بعض الاختلاف في الألفاظ. وانظر: ((منهاج السنة النبوية)) لشيخ الإسلام (4/ 103)، وما عارض به أهل السنة هذه الأبيات في (4/ 128). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 492 فصاحت الحنفية: حاشا وكلا! متى كان أبو حنيفة في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ بل كان تولد بعد المائة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: فنسيت، لعله كان الشافعي. فصاحت الشافعية وقالوا: كان تولد الشافعي في يوم وفاة أبي حنيفة، وكان أربع سنين في بطن أمه ولا يخرج رعاية لحرمة أبي حنيفة، فلما مات خرج، وكان نشؤه في المائتين من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال: لعله كان مالكاً. فقالت المالكية بمثل ما قالته الحنفية. فقال: لعله أحمد بن حنبل. فقالوا بمثل ما قالته الشافعية. فتوجه العلامة إلى الملك، فقال: أيها الملك! علمت أن رؤساء المذاهب الأربعة لم يكن أحدهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا في زمن الصحابة، فهذه أحد بدعهم أنهم اختاروا من مجتهديهم هذه الأربعة، ولو كان منهم من كان أفضل منهم بمراتب لا يجوزون أن يجتهد بخلاف ما أفتاه واحد منهم. فقال الملك: ما كان واحد منهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة؟ فقال الجميع: لا. فقال العلامة: ونحن معاشر الشيعة تابعون لأمير المؤمنين عليه السلام نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخيه وابن عمه ووصيه. وعلى كل حال فالطلاق الذي أوقعه الملك باطل، لأنه لم تتحقق شروطه، ومنها العدلان، فهل قال الملك بمحضرهما؟ قال: لا. وشرع في البحث مع علماء العامة حتى ألزمهم جميعاً) (1). ويذكر نعمة الله الجزائري قصة غريبة فيقول: وعنه عليه السلام قال: "مر موسى بن عمران برجل رافع يديه إلى السماء يدعو، فانطلق موسى في حاجته، فغاب عنه سبعة أيام، ثم رجع إليه وهو رافع يديه يدعو ويتضرع ويسأل حاجته، فأوحى الله إليه: يا موسى! لو دعاني حتى يسقط لسانه ما استجبت له حتى يأتيني من الباب الذي أمرته به". أقول: هذا يكشف لك عن أمور كثيرة: منها: بطلان عبادة المخالفين، وذلك أنهم وإن صاموا وصلوا وحجوا وزكوا وأتوا من العبادات والطاعات، وزادوا على غيرهم، إلا أنهم أتوا إلى الله تعالى من غير الأبواب التي أمر بالدخول منها، فإنه سبحانه وتعالى قال: وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189]، وقد صح عند المسلمين قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)) (2) وقد جعلوا المذاهب الأربعة وسائط وأبوابا بينهم وبين ربهم وأخذوا الأحكام عنهم) (3). ويقول علي العاملي البياضي صاحب كتاب (الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم) عاقداً باباً بعنوان: باب في تخطئة كل واحد من الأربعة في كثير من أحكامه. وفيه فصول: الأول: فيما أجمعوا عليه. الثاني: فيما اختلفوا فيه. الثالث: فيما أضيف إليهم من المخازي. الرابع: في البخاري. الخامس: فيما أنكر مسلم والبخاري من الأحاديث.   (1) انظر: ((مختلف الشيعة)) للحلي (ص:110) طبع مؤسسة النشر الإسلامي -قم- الطبعة الثالثة (1417هـ). (2) رواه الحاكم في ((المستدرك)) (3/ 137)، والطبراني في ((الكبير)) (11/ 65)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال يحيى ابن معين في ((تهذيب التهذيب)) (7/ 427): لا أصل له. وقال الإمام أحمد كما في ((تهذيب التهذيب)) (6/ 320): -فيه- أبو الصلت الهروي روى أحاديث مناكير .. أما هذا فما سمعنا به. وقال ابن الجوزي في ((الموضوعات)) (2/ 115): لا يصح من جميع الوجوه. وحكم الألباني بوضعه في ((السلسلة الضعيفة)) (2955). (3) انظر: ((قصص الأنبياء)) لنعمة الله الجزائري، تحقيق الحاج محسن (ص:344) طبع دار البلاغة -بيروت- الطبعة الثالثة (1417هـ). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 493 فنقول: أولاً: إن هؤلاء الأربعة ليسوا من الصحابة بل من التابعين، وقد رضيت أهل السنة بنسبة جملة المذهب إليهم، وقد عدلت عن نسبته إلى نبيهم، التي هي أوكد لتعظيمه وحرمتهم، من نسبته إلى قوم يخطّئ بعضهم بعضاً، وربما يلعن بعضهم بعضاً، وقد اعترفوا بكمال دينهم في حياة نبيهم في قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]. فاختلاف الأربعة إن كان لاختلاف في المقال، فقد وثقوا بمن شهدوا عليهم بالفسق والضلال، وإن كان لا حاجة دعتهم إليه، فكيف يقتدى بمن يشهد على ربه بنقص دينه؟ وإن كان له حاجة فقد قبّحوا ذكر نبيهم حيث وضعوا ما لم يكن في زمانه، وإن كان لزعمهم أنهم أعرف وأهدى لشريعة نبيهم فأتوا بما لم يأت به، فهو بهت لعقولهم مع اختلافهم في أحكامه، ولقد كان أسلافهم ضلالاً قبل ظهورهم. وما الدليل على وجوب الاقتصار على الأربعة دون الأقل منهم أو الزائد عليهم وقد وجد من أتباعهم من يضاهيهم، فلم لا يسري الاسم والتقليد إليهم، إذ كانوا يحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اختلاف أمتي رحمة)) (1)؛ فمن زاد فيه زاد في الرحمة، فكان اختلاف كل شخصين من الأمة أبلغ من تحصيل الرحمة، ولزم كون الائتلاف موجباً للتقية، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصدر الأول مبعّدين من هذه الرحمة) (2). ويقول محمد الرضي الرضوي: "ولو أن أدعياء الإسلام والسنة أحبوا أهل البيت عليهم السلام لاتبعوهم، ولما أخذوا أحكام دينهم عن المنحرفين عنهم كأبي حنيفة والشافعي ومالك وابن حنبل، الذين لم يكن واحد منهم شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نقل عنه شيئاً من حديثه وسنته، قال الله تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، فآية المحبة لأهل البيت عليهم السلام الذين جعل الله مودتهم أجر الرسالة في قوله: قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23] الاتباع لهم في الأقوال، والاقتداء بسيرتهم في الأفعال، والرجوع إليهم لأخذ سنة جدهم منهم عليه السلام؛ لأن أهل البيت أدرى بما في البيت، وأئمة أصحاب المذاهب الأربعة كانوا في حياد عنهم عليه السلام، فأين علامة هذا الولاء الكاذب" (3). وأما هذه المواقف على التفصيل: 1 - رمي الأئمة الأربعة بالجهل ودعوى اعتمادهم في الفقه والحديث على أئمة الاثني عشرية:   (1) قال السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (47): زعم كثير من الأئمة أنه لا أصل له. وقال ملا علي قارئ في ((الأسرار المرفوعة)) (108): قيل لا أصل له أو بأصله موضوع. وحكم الألباني بوضعه في ((ضعيف الجامع)) (230). (2) ((الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم)) لعلي العاملي البياضي (3/ 181) نشر المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، مطبعة الحيدري. (3) كتاب: ((كذبوا على الشيعة)) لمحمد الرضي الرضوي (ص: 279). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 494 من مطاعن الاثني عشرية الكثيرة وافتراءاتهم الجسيمة على أئمة السنة الأربعة: رميهم بالجهل وقلة الفقه في دين الله، وأنهم عالة في ذلك على أئمتهم من أهل البيت وغيرهم، ولذلك نماذج كثيرة في كُتُبِهِم ومصنفاتهم القديمة منها والحديثة. يقول محمّد بن عمر الكشّي عن الإمام أحمد رحمه الله: (جاهلٌ شديد النصب، يستعمل الحياكة، لا يعدّ من الفقهاء) (1).كما أورد محمّد باقر المجلسي في البحار (2) حكايات عدّة في تجهيل الأئمة لا سيما أبي حنيفة النعمان رحمة الله عليهم جميعاً. وعقد باباً في بحاره أيضاً (3) أسماه: (باب أنّ كل علم حقٍّ هو في أيدي الناس فمن أهل البيت وَصَلَهُم) (4).كما عقد علي البياضي (5) في الصراط (6) باباً كاملاً عنون له: (باب في تخطئة كلّ واحد من الأربعة في كثير من أحكامه).ويقول أمير محمد القزويني الشيعي الاثنا عشري: "فمنهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت، فإنه أخذ الفقه عن الإمام جعفر بن محمد الصادق، ومنهم الإمام أحمد بن حنبل، كان شيخه في العلم والحديث محمد بن فضيل بن غزوان الضبي (7)، وكان معه من الشيعة" (8).   (1) نقله عنه البياضي في ((الصراط المستقيم)) (3/ 223). (2) انظر: في ((مناظرات بين أبي حنيفة وجعفر الصادق)) (2/ 286 - 295) و (10/ 212 - 215)، وكذلك في ((مناظرة بين أبي حنيفة وشيطان الطاق)) (10/ 230 - 232). (3) انظر: (2/ 179). (4) وقد زعم الشيعي الاثنا عشري المعاصر هاشم معروف الحسيني أنه ما من إمامٍ من أئمتنا الأربعة إلا وقد تتلمذ على واحدٍ على الأقل من أئمتهم. انظر كتابه: ((المبادئ العامة للفقه الجعفري)) (ص: 364، 365، 370، 376، 382). (5) هو علي بن يونس العاملي النباطي البياضي، زين العابدين، أبو محمد، رافضي جدلي، من تصانيفه: الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم، واللمعة في المنطق. (ت877هـ). أمل الآمل (1/ 135)، ومعجم المؤلفين (7/ 266). (6) انظر: ((الصراط المستقيم)) للبياضي (3/ 181) فما بعدها، واتهامات أخرى للإمام أبي حنيفة بالجهل وقلة العلم في (3/ 211، 213 - 214). (7) روى عنه الثوري والإمام أحمد وابن راهويه وغيرهم. قال الحافظ في ((اللسان)) (7/ 372): (شيعي غال). (8) ((الشيعة في عقائدهم)) (ص:15). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 495 والجواب عن ذلك أن يقال: أولاً: إن مجرّد رواية حديث أو حديثين أو أكثر - كما في رواية الإمام أحمد وغيره عن محمد بن فضيل بن غزوان الضبّي- لا تعني بالضرورة تتلمذ الراوي على المروي عنه، فهناك ما يعرف عند أهل الفن بـ (رواية الأكابر عن الأصاغر) و (رواية الشيوخ عن التلاميذ) (1).كما أن ذلك لا يعني كون المروي عنه أعلم من الراوي، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((فرب حامل فِقْهٍ إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فِقْهٍ ليس بفقيه)) (2).على أنني أشير هنا إلى مغالطة أخرى للاثني عشرية في هذا المجال؛ حيث يعمدون إلى اعتبار كل من قيل فيه إنه شيعي أنه من الروافض أو من الشيعة الغالية، والحقيقة أن أغلب هؤلاء الذين نجد للأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة السنة المعروفين روايات عنهم إنما هم من الشيعة المفضّلة لا من الشيعة الاثني عشرية (3). ثانياً: أن ثمة فرقاً بين رواية أحاديث - لا سيما إن كانت قليلةً - عن شخصٍ، وبين التتلمذ عليه أو الاعتماد عليه في العلم، كما يوهم هؤلاء الشيعة الاثنا عشرية. ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن رواية بعض الأئمة الأربعة أحاديث معدودة على الأصابع عن جعفر الصادق رحم الله الجميع: (فهؤلاء الأئمة الأربعة ليس فيهم من أخذ عن جعفر الصادق شيئاً من قواعد الفقه، لكن رووا عنه أحاديث كما رووا عن غيره، وأحاديث غيره أضعاف أحاديثه) (4). على أننا نقول: إن رواية بعض أئمة أهل السنّة عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق رحمه الله لا غرابة فيها؛ إذ هي رواية أهل السنّة بعضهم عن بعض، فكون الشيعة الاثني عشرية ادّعوه، ومن قَبْلِهِ الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه لا يجعلهما منهم؛ بل هما منهم بريئان كل البراءة. وما سوّدوا به كتبهم ك (الكافي) وغيره من روايات مكذوبة عليهما وعلى غيرهما من أئمة أهل البيت لا يغيّر من الحقيقة شيئاً.   (1) وانظر مثالاً لا حصراً: ((الانتقاء)) (ص:12)، و ((ترتيب المدارك في أسماء من روى عن الإمام مالك رحمه الله من شيوخه)) (1/ 254 - 256). (2) رواه أبو داود (3660) , والترمذي (2656) , وابن ماجه (230) , من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي حديث حسن. وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/ 326) , وابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 386) , والألباني في ((صحيح أبي داود)) , و ((صحيح الترمذي)) , و ((وصحيح ابن ماجه)). (3) الشيعة المفضلة هم الذين يفضلون علياً رضي الله عنه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولكن يعتقدون إمامتهما وعدالتهما ويتولونهما، أما الشيعة الاثنا عشرية فإنهم يعتقدون كفر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ لأنهم يعتقدون وجود النص على إمامة علي رضي الله عنه بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأن من تقدمه في الخلافة غاصب لها. (4) ((منهاج السنة النبوية)) (7/ 533). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 496 ثالثاً: ومما يؤكّد بطلان هذه الدعوى أن أحداً من هؤلاء الأئمة الأربعة وتلاميذهم لم يدع قط مذهب الشيعة الاثني عشرية، ولا ارتضاه لنفسه مذهباً، فكيف يتفق هذا مع زعم أنهم قد استمدوا كل علومهم من فقهٍ وحديثٍ وغيرهما من أئمة الاثني عشرية أو علمائهم؟ ومعلومٌ أن الإناء إنما ينضح بما فيه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (من المعلوم لكل عاقل أنه ليس من علماء المسلمين المشهورين أحدٌ رافضي؛ بل كلهم متّفقون على تجهيل الرافضة وتضليلهم ... وهم دائماً يذكرون من جهل الرافضة وضلالهم ما يُعلم معه بالاضطرار أنهم يعتقدون أن الرافضة من أجهل الناس وأضلّهم، وأبعد طوائف الأمة عن الهدى) (1).ويقول أيضاً رحمه الله: (والله يعلم أني مع كثرة بحثي وتطلّعي إلى معرفة أقوال الناس ومذاهبهم، ما علمتُ رجلاً له في الأمة لسان صدقٍ يُتّهم بمذهب الإمامية، فضلاً عن أن يقال: إنه يعتقده في الباطن) (2).وقال عبد القاهر البغدادي: (ولم يكن بحمد الله ومَنِّهِ في الخوارج ولا في الروافض ... ولا في سائر أهل الأهواء الضّالة قط إمام في الفقه ولا إمام في رواية الحديث) (3). فهذا سرّ ما نجده حتى وقتنا الحاضر من أن بعض أتباع الأئمة الأربعة ربما يُتهم بشيء من الاعتزال أو التصوّف أو الإرجاء، ولكننا لم نسمع قط برافضي حنفي أو مالكي أو شافعي أو حنبلي اشتهر بالتصنيف والتأليف على مذهبهم واتباع أصولهم؛ وما ذلك إلا لِبُعْدِ الرفض كل البعد عن طريقة أهل العلم، ولأنه نقيض للإسلام، والشيء مع نقيضه لا يجتمعان. رابعاً: أنه كيف يُعقل أن يكون الأئمة الأربعة رحمهم الله قد اعتمدوا في العلم على الشيعة الاثني عشرية، وقد شهد القاصي والداني والعدو قبل الصديق بعلم هؤلاء الأئمة وفقههم وضبطهم وصدقهم، في حين أن الإمامية بشهادة أكثر الأمة جَهَلَة وكَذَبَة لا سيما في النقليات؟ قال ابن تيمية رحمه الله: (وقد اتفق عقلاء المسلمين على أنه ليس في طائفة من طوائف أهل القبلة أكثر جَهْلاً وضلالاً وكذباً وبدعاً، وأقرب إلى كل شرّ، وأبعد عن كل خير من طائفته) (4)، يعني الإمامية (5). المصدر: موقف الشيعة الاثني عشرية من الأئمة الأربعة لخالد بن أحمد الزهراني   (1) ((منهاج السنة النبوية)) (4/ 130 - 131). (2) ((منهاج السنة النبوية)) (4/ 131). (3) ((الفرق بين الفرق)) (ص:308). (4) ((منهاج السنة النبوية)) (2/ 607)، وانظر أيضاً: (7/ 416). (5) راجع ((منهاج السنة النبوية)) (4/ 63، 65، 66) للوقوف على نماذج من جهل الإمامية بطرق الاحتجاج وأساليب الاستدلال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 497 المبحث الثاني: اتهام الأئمة الأربعة بإحداث مذاهب مخالفة للكتاب والسنة ومن أقوال علماء الاثني عشرية في هذا قول البياضي عن أئمة المذاهب الأربعة وأتباعهم: (المخالف أخذ دينه عن القياس والاستحسان، ونحن أخذناه عن أئمة الأزمان الذين أخذوا التحريم والتحليل عن جدّهم النبيل عن جبرائيل عن الرب الجليل) (1). كما عقد فصلاً عنون له بقوله: (كلام في القياس عدلوا به عن الكتاب والسنّة)، ثم أنشد في موضع آخر: إن كنت كاذباً في الذي حدثتني ... فعليك وزر أبي حنيفة أو زفر المائلين إلى القياس تعمُّداً ... العادلين عن الشريعة والأثر (2) كما قال أيضاً متكبّراً متعالياً: (فهذه قطرة من بحار اختلافهم، خالفوا فيها كتاب ربّهم وسنّة نبيّهم، ولهم أقوال أخر شنيعة في أحكام الشريعة) (3).وقال علاّمتهم ابن المطهر الحلي في منهاج الكرامة: (وذهب الجميع منهم إلى القول بالقياس، والأخذ بالرأي، فأدخلوا في دين الله ما ليس منه ... وأهملوا أقاويل الصحابة) (4).وأما محمد باقر المجلسي فقد أورد بعض الأخبار عن علمائهم عتبوا فيها على الأئمة السنية مخالفتهم آراء الصحابة رضي الله عنهم - في زعمهم -، ولا سيما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ومن ذلك قول بعضهم: (لا أحد من الفقهاء إلا وقد خالف أمير المؤمنين في بعض أحكامه ورغب عنها إلى غيرها) (5).وقال أيضاً: (وليس في فقهاء الأمصار سوى الشافعي إلا وقد شارك الشافعي في الطعن على أمير المؤمنين، وتزييف كثير من قوله، والردّ عليه في أحكامه ... وهذا ما لا يذهب إليه من وُجد في صدره جزءٌ من مودّته وحقّه الواجب له) (6). والجواب عن هذه الاتهامات الخطيرة يأتي في نقاط: أولاً: إن دعوى اتفاق الأئمة الأربعة أو تواطئهم على مخالفة الكتاب والسنة، لا بينة عليها ولا دليل، وقد تكلّمتُ عن ذلك في المطلب السابق، وسوف أنقل - بعد قليل إن شاء الله تعالى- شيئاً من أقوالهم الدالة على شدة تمسّكهم بالكتاب والسنة في جميع فتاويهم وأحكامهم. وأما بالنسبة لأقوال الصحابة رضي الله عنهم، فكيف يأخذ الروافض على غيرهم مخالفة الصحابة رضي الله عنهم وهم يحكمون بكُفْرِ هؤلاء الصحابة وضلالهم؟! إنه لأمرٌ عجيب وغريب، بل وخدعة ومكرٌ عظيم!! وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (متى كان مخالفة الصحابة والعدول عن أقاويلهم منكراً عند الإمامية؟! هؤلاء متّفقون على محبة الصحابة وموالاتهم وتفضيلهم على سائر القرون، وعلى أن إجماعهم حجّة ... فكيف يطعن عليهم بمخالفة الصحابة من يقول: إن إجماع الصحابة ليس بحجّة، وينسبهم إلى الكفر والظلم؟) (7).   (1) ((الصراط المستقيم)) (3/ 207). (2) ((الصراط المستقيم)) (3/ 210). (3) ((الصراط المستقيم)) (3/ 205)، وانظر أيضاً (3/ 195). (4) ((منهاج الكرامة)) للحلّي (ص: 93) نقلاً عن ((منهاج السنة النبوية)) (3/ 400 - 401). (5) ((بحار الأنوار)) (10/ 444 - 445). (6) ((بحار الأنوار)) (10/ 444 - 445)، وانظر أيضاً: (2/ 286، 288 - 289) فيما يتعلق بالطعن في الأئمة الأربعة وأتباعهم بسبب القول بالقياس، وكذلك (2/ 298) و (10/ 230) (باب الاحتجاج على المخالفين). (7) ((منهاج السنة النبوية)) (3/ 405 - 406). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 498 ثانياً: إن الإمامية الاثني عشرية في طعنهم هذا على الأئمة متناقضون في أنفسهم؛ فتارةً يرمونهم بمخالفة الصحابة رضي الله عنهم، ويعتبرون ذلك جرماً عظيماً لا يُغفر، ثم لا يلبثون أن يقرّوا بأن علوم هؤلاء الأئمة ومعارفهم كلها راجعة إلى علوم الصحابة تارةً أخرى. ولنسمع ما قاله في هذا المعنى علاّمة الإمامية الاثني عشرية، وأعلمهم في زمانه، ابن المطهر الحلي؛ فقد قال في كتابه (منهاج الكرامة): (ومالك قرأ على ربيعة، وربيعة على عكرمة، وعكرمة على ابن عبّاس، وابن عباس تلميذ (1) علي) (2).وقبل هذا بأسطر قال: (وأما الفقه: فالفقهاء كلهم يرجعون إليه) (3)، يعني عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. والحقيقة التي لا ريب فيها: أن علم هؤلاء الأئمة الفقهاء رحمهم الله وفقههم راجعان إلى علم وفقه الصحابة رضي الله عنهم؛ فالإمام أبو حنيفة قد أخذ جل علمه وفقهه عن شيخه حمّاد بن أبي سليمان واختصّ به، وحمّاد تلميذ النخعي (4)، والنخعي تلميذ علقمة، وعلقمة تلميذ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وأما الإمام مالك فمعروف أن علمه عن أهل المدينة الذين أخذوا عن الفقهاء السبعة (5)، وهم تلاميذ أعلام الصحابة، كزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر ونحوهما. والإمام الشافعي تفقّه على المكيين الذين أخذوا عن أصحاب ابن عبّاس رضي الله عنهما، ثم أخذ بعد ذلك عن الإمام مالك. وأما الإمام أحمد فكان على مذهب أهل الحديث؛ أخذ عن أمثال سفيان بن عيينة، وعن عمرو بن دينار، عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما (6). فهل يُعقل أن يُتهم مثل هؤلاء بمخالفة الصحابة أو معارضتهم؟! ثالثاً: أما عن زعمهم مخالفة الأئمة لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في بعض فتاويه وأحكامه، فنقول: إن مخالفة واحدٍ من الصحابة رضي الله عنهم مع موافقة جمهورهم في حكم من الأحكام ليس بقادح، لا سيما إذا انبنت هذه المخالفة على أسس سليمة من كتاب الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم؛ فقول الصحابي ليس بحجّة إذا خالفه غيره من الصحابة -على الصحيح- كما هو مقرر في علم الأصول (7). المصدر: موقف الشيعة الاثني عشرية من الأئمة الأربعة لخالد بن أحمد الزهراني   (1) وهذا من أكاذيب الرافضة، قال ابن تيمية في ((المنهاج)) (7/ 536): (ابن عباس تلميذ علي كلامٌ باطل؛ فإن رواية ابن عباس عن عليّ قليلة، وغالب أخذه عن عمر وزيد بن ثابت وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة). (2) ((منهاج الكرامة)) (ص:179) نقلاً عن ((منهاج السنة النبوية)) (7/ 535). (3) ((منهاج الكرامة)) (ص:178) نقلاً عن ((منهاج السنة النبوية)) (7/ 529). (4) هو إبراهيم بن يزيد النخعي، أبو عمران، الإمام الجليل، وفقيه العراق بلا نزاع، أخذ عن مسروق والأسود وعلقمة، (ت95هـ) ((الشذرات)) (1/ 111). (5) وهم: سعيد بن المسيّب، وعروة بن الزبير، وخارجة بن زيد، والقاسم بن محمد، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وقد نظمهم بعضهم في قوله: إذا قيل من في العلم سبعة أبحر روايتهم ليست عن العلم خارجة فقل هم عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجة (6) انظر: ((منهاج السنة)) (7/ 529 - 530)، و ((إعلام الموقعين)) (1/ 23). (7) وما يُحكى من الخلاف في ذلك إنما هو فيما إذا لم يظهر لقول الصحابي مخالفٌ، كما حقق ذلك فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في ((المذكرة)) (ص:164). انظر: ((مراقي الصعود إلى مراقي السعود)) لمحمد الأمين بن أحمد الجنكي (ص:401)، تحقيق د. محمد المختار الشنقيطي، وراجع أيضاً: ((مجموع فتاوى)) شيخ الإسلام (1/ 283 - 284). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 499 المبحث الثالث: دعوى الإمامية أن المذاهب الأربعة تجري وفق هوى السلطات: وممن أطلقوا هذه الدعوى العارية من الاثني عشرية: هاشم معروف الحسيني (1)، حيث قال: (وقد بَيَّنَ من هذا العرض الموجز لتاريخ المذاهب الأربعة: أن من أقوى الأسباب التي ساعدت على انتشارها، ومكّنتها من البقاء الطويل: أن السلطات الحاكمة في جميع الأدوار كانت السند المتين للمذاهب الأربعة منذ أن ظهرت هذه المذاهب حتى العصور المتأخرة) (2).وهذا الاثنا عشري مرتضى العسكري (3) الذي قال: (ثم أصبح ما تبنّاه الحكّام قانوناً يُعمل به ومثّل الإسلام الرسمي، وأهمل ما خالفه ونبذ المخالف ... وأخيراً ارتأت السلطات أن تَقْسِرَالأمة على الأخذ بفتاوى أحد أئمة المذاهب الأربعة في الفقه ... ولما كان الناس على دين ملوكهم رأوا الإسلام متمثلاً بحُكّامهم وما تَبَنَّوه من حكم وعقيدة وسنة منسوبة إلى النبي، وسمّوا من تابع الحكام بأهل السنة والجماعة) (4).وعلى العموم فإن ما قاله هذان الاثنا عشريان المتعصبان ليس بغريب صدوره عن أي رأي شيعي آخر؛ فهم يعتبرون أئمتهم أئمة الثورة، ودينهم ديناً ثوريّاً قائماً على منازعة من ولاّهم الله أمر المسلمين في كل زمان ومكان (5). ويقول حسين آل عصفور:   (1) مؤلف شيعي اثنا عشري معاصر، صاحب كتاب: ((المبادئ العامة في الفقه الجعفري)). (2) ((المبادئ العامة للفقه الجعفري)) لهاشم الحسيني (ص:385). (3) إمامي اثنا عشري معاصر، كان حياً عام (1391هـ)، وهو مؤلف كتاب: ((خمسون ومائة صحابي مختلَق))، ومؤسس كليّة أصول الدّين (الرافضية) ببغداد. انظر مقدّمة كتابه: ((خمسون ومائة صحابي)) (ص:19) و ((أصل الشيعة وأصولها)) (ص:63). (4) ((أصل الشيعة وأصولها)) - المقدمة (ص:59 - 60). (5) واقرأ إن شئت من كتب القوم: ((ثورة الحسين)) لمحمد مهدي شمس الدين، و ((الشيعة والحاكمون))، لمحمد جواد مغنيّة، و ((الثورة البائسة))، للدكتور موسى الموسوي. وقال الموسوي نفسه في ((الشيعة والتصحيح)) (ص:52) نصّاً: (ولستُ أدري كيف تدّعي الشيعة أنها من أنصار الإمام الحسين سيّد الشهداء وإمام الثائرين وهي تعمل بالتقية؟!). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 500 (لما انتهت النوبة إلى أمير المؤمنين عليه السلام من رب العالمين فهدم بعض قواعدهم المبتدعة في الدين، وبقي كثير لم يقدر على إزالته لكثرة المخالفين، حتى ظهرت الدولة الأموية، فأججوا نيران البدع الشنيعة، وأظهروا الباطل والأحوال الفظيعة، فزادوا على تلك القواعد وهلم جرا، فشادوا ما أسس أولئك، وزادوا في الطنبور نغمة أخرى فارتبك الأمر على الناس، ولا برحوا مشتملين على هذا اللباس، حتى انتهت الرياسة إلى أرجاس بني العباس، أهل القيان والمزامر والكاس. وأكثر الفقهاء من العامة في أيامهم، فرفعوا مكانهم، وأمروا الناس بالأخذ بفتياهم، كان أقرب الفقهاء إليهم أشدهم عداوة لآل الرسول، وأظهرهم لهم خلافاً في الفروع والأصول، كمالك وأبي حنيفة والشافعي وابن حنبل، ومن حذا حذوهم في تلك المذاهب السخيفة، وكان في زمانهم من الفقهاء من هو أعلم، ولكن اشتهر هؤلاء لأنهم لآل محمد أبغض وأظلم، ولما فيهم من التلبيس الذي حملهم عليه إبليس، أظهروا الزهد، والبعد عن الملوك، طلباً لدنيا لا تنال إلا بتركها ظاهراً، ومرآة لهم في السلوك، فمالت إليهم القلوب، ودانت لهم عقول من هم في الضلالة كالأنعام، روجت أسواقهم الكاسدة أقوام أي أقوام، فستروا ما أبدعوا في الدين بإصلاح مموه، وتأويل غير مبين) (1).ويقول شيخهم محمد التيجاني في كتابه (ثم اهتديت): (ربما أن المذاهب الأربعة فيها اختلاف كثير، فليست من عند الله ولا من عند رسوله) (2).ويقول في كتابه (الشيعة هم أهل السنة): (وبهذا نفهم كيف انتشرت المذاهب التي ابتدعتها السلطات وسمتها بمذاهب أهل السنة والجماعة ... ثم يقول: والذي يهمنا في هذا البحث أن نبين بالأدلة الواضحة بأن المذاهب الأربعة لأهل السنة والجماعة هي مذاهب ابتدعتها السياسة) (3). أما الجواب عن هذا الافتراء باختصار فهو أن نقول: إن الأئمة الأربعة وغيرهم من علماء أهل السنة لم يكونوا قط آلة بأيدي الحكّام حتى يقال: إن فتاويهم تجري وفق أهوائهم، وسيرهم تزخر بمواقفهم النبيلة؛ سواء من الحكّام العدول أو غيرهم، كلٌّ بما يستحقه حسب ما دَلَّت عليه النصوص الشرعية. ولو كان الأمر كما يُوهمه الاثنا عشرية، فهل كان الإمام أبو حنيفة ليُضرب ويُحبس حتى الموت بسبب امتناعه عن تولّي القضاء (4)؟! أم كان الإمام مالك ليُضرب ويطاف به في أرجاء المدينة بسبب فتواه (5)؟! وهل كان الإمام أحمد بن حنبل ليُمتحن تلك المحنة العظيمة بسبب مذهبه الحق في القول بعدم خلق القرآن (6)؟! وليجب عن هذه التساؤلات العقلاء من القوم أنفسهم. أما ما يرونه من مذهب هؤلاء الأئمة رحمهم الله من عدم التشهير بولاة الأمر، أو منازعتهم السلطة، أو تحريض الناس عليهم ونحو ذلك، حرصاً على جَمْعِ الكلمة، وعَدَمِ مفارقة الجماعة، فليس هذا بهوى منهم ولا لمصلحة شخصية لأحد منهم أو لمجموعتهم، وإنما ذلك هو مقتضى سنّة النبي صلى الله عليه وسلم التي أنتم يا معشر الشيعة الاثني عشرية من أجهل الناس بها، كما تقتضيه أصول مذهبكم!   (1) عن كتاب ((المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل الخراسانية))، للشيخ حسين آل عصفور الدرازي البحراني (ص:12) منشورات المشرق العربي الكبير جمعية أهل البيت بالبحرين، الطبعة الأولى (1399هـ) (ص: 12). (2) ((ثم اهتديت))، د. محمد التيجاني (ص: 127). (3) ((الشيعة هم أهل السنة))، د. التيجاني (ص:104 - 109). (4) انظر القصة في: ((تاريخ بغداد)) (13/ 324، 328)،و ((الانتقاء)) (ص:171). (5) انظر القصة في: ((الانتقاء)) (ص43 - 44)، و ((شذرات الذهب)) (1/ 290). (6) انظر القصة في: ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (9/ 195 - 204)، و ((البداية والنهاية)) لابن كثير (14/ 393 - 405). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1 ولنذكر هنا بعض الآثار الصحيحة الدالة على صحة منهج الأئمة الأربعة في هذا الباب: ففي الصحيحين عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: ((دعانا النبيّ صلى لله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كُفْراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان)) (1).وفيهما عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث خصال ٍلا يُغلُّ عليهن قلبُ مسلمٍ أبداً: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة؛ فإن دعوتهم تُحيط بهم من ورائهم ... )) الحديث (2).وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة)) (3).وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: ((عليك بالسمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك)) (4)، وفي لفظٍ: ((وإن أكلوا مالك، وضربوا ظهرك)) (5).أما من آثار الصحابة رضي الله عنهم، فقد جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (نهانا كبراؤنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تسبّوا أمراءكم، ولا تَغُشّوهم، ولا تبغضوهم، واتقوا الله واصبروا، فإن الأمر قريب) (6) وبعد هذا الإجمال في معتقد الإمامية الاثني عشرية في الأئمة الأربعة رحمهم الله نأتي إلى تفصيل أقاويلهم في كل إمام .. والله المستعان. المصدر: موقف الشيعة الاثني عشرية من الأئمة الأربعة لخالد بن أحمد الزهراني   (1) رواه البخاري (7055,7056,)، ومسلم (1709). (2) رواه الترمذي (2658)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه, وصححه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 364). وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (1/ 18): مشهور في السنن. وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)). ورواه ابن ماجه (230) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. قال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (21/ 276): ثابت. وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (1/ 18): مشهور في السنن. وصححه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)). (3) رواه مسلم (1855) من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه. (4) رواه مسلم (1836) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (5) رواه ابن حبان (10/ 425) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. (6) رواه ابن أبي عاصم في ((السنّة)) (3/ 34). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2 المبحث الرابع: طعن الشيعة الإمامية في الإمام أبي حنيفة رحمه الله: نقلوا عن أبي حنيفة أنه أجاز وضع الحديث (1). وعلم وورع الإمام وقبول العلماء له يكذب تلك الخزعبلات، والكلام في ضعف الرواية ليس هو الوضع في الحديث، فتنبه!! فقد روى الكليني في (الكافي) عن سماعة بن مهران، عن إمامهم المعصوم السابع أبي الحسن موسى عليه السلام في حديث: (إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به، وإذا جاءكم ما لا تعلمون فها -وأهوى بيده إلى فيه- ثم قال: لعن الله أبا حنيفة، كان يقول: قال علي عليه السلام وقلت أنا وقالت الصحابة) (2).وروى محمد بن عمرو الكشي في كتابه (اختيار معرفة الرجال) المعروف برجال الكشي، عن هارون بن خارجة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ [الأنعام:82] قال: (هذا ما استوجبه أبو حنيفة وزرارة) (3).وفي رواية عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ [الأنعام:82] قال: (أعاذنا الله وإياك من ذلك الظلم، قلت: ما هو؟ قال: هو والله ما أحدث زرارة وأبو حنيفة) (4).ويقول التيجاني: (فهذا أبو حنيفة نجده قد ابتدع مذهباً يقوم على القياس والعمل بالرأي مقابل النصوص الصريحة) (5). وكل هذا مردود بما تواتر عن الإمام أبي حنيفة بأنه من أئمة السنة والحق والهدى، وبما خلفه من علم تعجز الرجال عن حمله. ويكشف يوسف البحراني عن الحقد الدفين تجاه هذا الإمام الجليل فيقول: (إن شاه عباس الأول لما فتح بغداد أمر أن يجعل قبر أبي حنيفة كنيفاً، وقد أوقف وقفاً شرعياً بغلتين وأمر بربطهما على رأس السوق، حتى إن كل من يريد الغائط يركبها ويمضي إلى قبر أبي حنيفة لأجل قضاء الحاجة، وقد طلب خادم قبره يوماً فقال له: ما تخدم في هذا القبر وأبو حنيفة الآن في درك الجحيم؟ فقال: إن في هذا القبر كلباً أسود دفنه جدك الشاه إسماعيل لما فتح بغداد، فأخرج عظام أبي حنيفة وجعل موضعها كلباً أسود، فأنا أخدم ذلك الكلب. وكان صادقاً في مقالته؛ لأن المرحوم الشاه إسماعيل فعل مثل هذا. ومن كراماته: أن حاكم بغداد طلب علماء أهل السنة وعبادهم وقال لهم: كيف ذلك الرجل الأعمى إذا بات تحت قبة موسى بن جعفر عليه السلام يرتد إليه بصره وأبو حنيفة مع أنه الإمام الأعظم لم نسمع له بمثل هذه الكرامة؟ فأجابوه بأن هذا يصير أيضاً من بركات أبي حنيفة، فقال لهم: أحب أن أرى مثل هذا لأكون على بصيرة من ديني، فأتوا رجلاً فقيراً وقالوا له: إنا نعطيك كذا وكذا من الدراهم والدنانير وقل: إني أعمى، وامش متكئاً على العصا يومين أو ثلاثة، ثم تأتي ليلة الجمعة عند قبر أبي حنيفة، فإذا أصبحت فقل: الحمد لله ارتد بصري ببركات صاحب هذا القبر، فقبل كلامهم، ثم بات تلك الليلة تحت قبته، فلما أصبح بحمد الله وهو أعمى لا يبصر شيئاً، فصاح وقال: أيها الناس! حكايتي كذا وكذا، وأنا رجل صاحب عيال وحرفة، فاتصل خبره بصاحب البلد الحاكم، فأرسل إليه فقص قصته واحتيالهم عليه، فألزمهم بما يحتاج إليه من المعاش مدة حياته) (6). المصدر: موقف الشيعة الاثني عشرية من الأئمة الأربعة لخالد بن أحمد الزهراني   (1) انظر: ((الصراط المستقيم)) (3/ 213). (2) انظر: ((الكافي للكليني)) (1/ 58). (3) ((رجال الكشي)) (ص: 149). (4) ((رجال الكشي)) (ص: 145). (5) ((الشيعة هم أهل السنة))، للدكتور محمد التيجاني (ص:88). (6) كتاب ((الكشكول)) ليوسف البحراني - ط دار ومكتبة الهلال - بيروت - الطبعة الأولى (1/ 351). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 المبحث الخامس: طعن الشيعة الإمامية في الإمام مالك رحمه الله: جاء في (الصراط المستقيم) للبياضي أن جعفر بن أبي سليمان ضرب مالكاً وحلقه وحمله على بعير، وروي أنه كان على رأي الخوارج، فسئل عنهم فقال: ما أقول في قوم ولونا فعدلوا فينا؟ (1). ويقول التيجاني: (وهذا مالك قد ابتدع مذهباً في الإسلام) (2). وهذا من الظلم البين، فلقد اشتهر مالك بأنه إمام السنة وقامع البدعة. وعلم مالك ومعرفته بالسنة الشريفة يكذب كل هذا. المصدر: موقف الشيعة الاثني عشرية من الأئمة الأربعة لخالد بن أحمد الزهراني   (1) انظر: ((الصراط المستقيم)) (3/ 220). (2) ((الشيعة هم أهل السنة))، للدكتور محمد التيجاني (ص:88). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 المبحث السادس: طعن الشيعة الإمامية في الإمام الشافعي رحمه الله: الإمام محمد بن إدريس الشافعي عند هؤلاء القوم (ابن زنا)! ففي (الكشكول) ليوسف البحراني ما نصه: (ونقل السيد المشار إليه في الكتاب المذكور نقل بعض علمائهم أن أم محمد بن إدريس لما غاب عنها زوجها جاء إليها بعد أربع سنين فوجدها حاملاً بمحمد فوضعته، فلما بلغ هذا المبلغ من العلم والرئاسة وعرف ذلك الحال ذهب إلى هذا القول. وبعض محققيهم جعل العلة فيه أن أبا حنيفة كان في الوجود ولا يجتمع إمامان ناطقان في عصر واحد، فاستتر الشافعي في بطن أمه أربع سنين، ولما علم بموت أبي حنيفة خرج إلى عالم الوجود. فانظر رحمك إلى هذا المولود المبارك وما جرى من أحواله، وإلى تلك المرأة العفيفة وكيف ألصقت ذلك بزوجها وإلى العلة المذكورة وتلقي أسماعهم لها بالقبول في شأن هذا الرجل الذي صار إماماً في المذهب) (1). من المفارقات والغرائب عند الإمامية الاثني عشرية: رميهم الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله بالتشيع أو الرفض! ومن ذلك قول ابن النديم صاحب (الفهرست): (كان الشافعي شديداً في التشيّع؛ وذكر له رجلٌ يوماً مسألة فأجاب فيها، فقال له: خالفتَ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له: ثبّت لي هذا عن علي بن أبي طالب حتى أضع خدّي على التراب وأقول: قد أخطأتُ، وأرجع عن قولي إلى قوله) (2). وألحق بعضهم أبياتاً من عنده بأبياتٍ شعرية للإمام الشافعي، يقول فيها الإمام: يا راكباً قف بالمحصب من منى ... واهتف بساكن خيفها والناهض سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى ... فيضاً كملتطم الفرات الفائض إن كان رفضاً حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي (3) أما ما زادها الاثنا عشرية على هذه الأبيات فهي: قف ثم ناد بأنني لمحمد ... ووصيه وبنيه لست بباغض أخبرهم أني من النفر الذي ... لولاء أهل البيت لست بناقض وقل ابن إدريس بتقديم الذي ... قدمتموه على عليّ ما رضي (4) ونسبوا إليه أيضاً أبياتاً أخرى زوراً وبهتاناً، منها: شفيعي نبيي والبتول (5) وحيدر (6) ... وسبطاه والسجاد والباقر المجدي وجعفر والثاوي (7) ببغداد والرضا ... وفذاته والعسكريان والمهدي (8) أنا الشيعي في ديني وأهلي (9) ... بمكة ثم داري عسقلية (10) بأطيب مولد وأعز فخر ... وأحسن مذهب يسمو البرية (11)   (1) كتاب ((الكشكول)) ليوسف البحراني، ط دار ومكتبة الهلال - بيروت - الطبعة الأولى (1986م) (3/ 46). (2) ((الفهرست)) لابن النديم (ص:295) طبعة عام (1398هـ - 1978م). (3) ((ديوان الشافعي))، للدكتور محمد زهدي يكن (ص:90 - 91)، و ((شعر الشافعي))، للدكتور مجاهد مصطفى بهجت (ص:149). (4) انظر: ((التحفة الاثنا عشرية)) للدهلوي (ق61/ب) و ((مختصرالتحفة)) للألوسي (ص:34 - 35). (5) انظر في تسميتهم فاطمة رضي الله عنها بالبتول: ((بحار الأنوار)) (43/ 110)، و (87/ 212). (6) يعني علياً رضي الله عنه، وقد ذكر في البيتين كل أئمتهم الاثني عشر. (7) ثوى المكان وثوى به وأثوى به، أي: أطال الإقامة به، ((القاموس)) (ص:1637). (8) انظر: ((التحفة الإثنا عشرية)) (ق61/ب)، و ((مختصر التحفة)) (ص:35)، وقد وقفت على بيتين آخرين شبيهين بهذين مبنى ومعنىً، وقد نسبا إلى شاعر رافضي كما في ((مناقب آل أبي طالب)) للمازندراني (1/ 326). (9) وفي ((شعر الشافعي)) للدكتور مجاهد مصطفى بهجت (ص:213): وأصلي. (10) لعل قائل هذا البيت يشير إلى ما ورد من أن الإمام الشافعي قد حمل إلى عسقلان بعد ولادته في غزة وقبل انتقاله إلى مكة المكرمة. (11) ((مناقب الشافعي)) للرازي (ص:140)، ونقل عنه د. مجاهد بهجت الأول فقط في ((شعر الشافعي)) (ص:213). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 آل النبي ذريعتي ... وهم إليك (1) وسيلتي أرجو بأن أعطى غداً ... بيدي اليمين صحيفتي (2) وتمسّك بعضهم بقصة محنة الإمام الشافعي مع الخليفة هارون الرشيد، حيثُ حُمل الشافعي ومعه مجموعة من العلويين إلى بغداد -مقر الخلافة- بتهمة الطعن في الخليفة ومنازعته أمر الخلافة. فاحتجوا بالقصة على أنها دليل على تشيّع الإمام رحمه الله (3). والجواب: أن رمي هذا الإمام الجليل بالرفض يتعارض مع ما عرف به وروي عنه بأسانيد صحيحة من أقواله المتواترة عنه رحمه الله. كما أن هذا القول يتناقض ومواقف الشافعي من الرفض وأهله، فكيف يكون الشافعي رافضياً وهو القائل: (ما رأيت قوماً أشهد للزور من الرافضة) (4)؟! ويقول يوسف البحراني كاشفاً عن حقده على الإمام العلم الشافعي راداً على ذلك: كذبت في دعواك يا شافعي ... فلعنة الله على الكاذب بل حب أشياخك في جانب ... وبغض أهل البيت في جانب عبدتم الجبت وطاغوته ... دون الإله الواحد الواجب فالشرع والتوحيد في معزل ... عن معشر النصاب يا ناصبي قدمتم العجل مع السامري ... على الأمير ابن أبي طالب محضتم بالود أعداءه ... من جالب الحرب ومن غاصب وتدعون الحب ما هكذا ... فعل اللبيب الحازم الصايب قد قرروا في الحب شرطاً له ... أن تبغض المبغض للصاحب وشاهدي القرآن في (لا تجد) ... أكرم به من نير ثاقب وكلمة التوحيد إن لم يكن ... عن الطريق الحق بالناكب وأنتم قررتم ضابطاً ... لتدفعوا العيب من الغائب بأننا نسكت عما جرى ... من الخلاف السابق الذاهب ونجعل الكل على محمل ال ... خير لنحظى برضى الواهب تباً لعقل عن طريق الهدى ... أصبح في تيه الهوى عازب والإشارة بقولنا: لَا تَجِدُ إلى قوله سبحانه: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22] فإنه غير مؤمن به، ودعواه الإيمان مع ذلك كذب بحت، فلذلك من ادعى في أحد حباً مع حبه لعدوه فهو كاذب) (5). المصدر: موقف الشيعة الاثني عشرية من الأئمة الأربعة لخالد بن أحمد الزهراني   (1) وفي ((ديوان الشافعي)) للدكتور محمد زهدي يكن (ص:54): (إليه). (2) ((مناقب الإمام الشافعي)) للرازي (ص:141)، وعنه د. محمد يكن في ((ديوان الشافعي)) (ص:54)، أما محمد بن شهر آشوب المازندراني (الرافضي) فقد نسب البيتين لمحمد بن السمرقندي. انظر: ((مناقب آل أبي طالب)) (2/ 152)، ووهم العلامة ابن حجر الهيتمي عفا الله عنا وعنه، إذ جزم بنسبة هذين البيتين إلى الإمام الشافعي في ((الصواعق)) (2/ 524). (3) انظر: ((مناقب الشافعي)) للرازي (ص:141)، و ((طبقات الشافعية)) لابن كثير (ق14) - نقلاً عن ((منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة)) (2/ 492). (4) انظر: ((آداب الشافعي)) لابن أبي حاتم (ص: 189). (5) كتاب ((الكشكول)) ليوسف البحراني، ط دار ومكتبة الهلال - بيروت - الطبعة الأولى (1986م) (2/ 117). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 المبحث السابع: طعن الشيعة الإمامية في الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: ومن طعنهم في الإمام أحمد: نسبة القول بوجوب بغض علي رضي الله عنه إلى الإمام أحمد، وفي هذا يروي البياضي الشيعي الاثنا عشري عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: (لا يكون الرجل سنياً حتى يبغض علياً ولو قليلاً) (1)، وادعى أن ذلك في مسند أسماه: مسند جعفر. والجواب عن ذلك أن يقال: إن من أحالك إلى مجهول لم ينصفك، فكيف بمن أحالك إلى معدوم، فهذا المسند الذي أحال إليه البياضي في هذا الافتراء الشنيع على الإمام أحمد معدوم. ثم إن الإمام أحمد قد خصص في كتاب (فضائل الصحابة) مائة وتسعاً وتسعين صفحة كلها في فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ويذهب نعمة الله الجزائري إلى أشد من ذلك فيقول: (حماقة أحمد بن حنبل: وروى أحمد بن حنبل أنه لو جاء رجل فقال: إني حلفت بالطلاق أن لا أكلم في هذا اليوم من هو أحمق، فكلم رافضياً لحنث؛ لأنه خالف الإمام علياً عليه السلام، فإنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه قال في أبي بكر وعمر: ((هذان سيدا كهول أهل الجنة)) (2) والرافضة يسبونهما. أقول: الأحمق من يروي هذا الحديث ويصدقه، والصحيح ما روي أنه لا كهل في الجنة إلا إبراهيم الخليل؛ لأنهم أرادوا معارضة الحسن والحسين (رضي الله عنه) سيدا شباب أهل الجنة، فوقعوا في المناقضة من حيث لا يشعرون) (3). ويقول صاحب كتاب: (علل الشرائع): (وحدثنا أبو سعيد محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق المذكر النيسابوري بنيسابور قال: سمعت عبد الرحمن بن محمد بن محمود يقول: سمعت إبراهيم بن محمد بن سفيان يقول: (إنما كانت عداوة أحمد بن حنبل مع علي بن أبي طالب عليه السلام أن جده ذا الثدية الذي قتله علي بن أبي طالب يوم النهر وان كان رئيس الخوارج). حدثنا أبو سعيد أنه سمع هذه الحكاية من إبراهيم بن محمد بن سفيان بعينها. حدثنا أبو سعيد محمد بن الفضل قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن محمود قال: سمعت محمد بن أحمد بن يعقوب الجوزجاني قاضي هراة يقول: سمعت محمد بن فورك الهروي يقول: سمعت علي بن خشرم يقول: كنت في مجلس أحمد بن حنبل فجرى ذكر علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: لا يكون الرجل مجرماً حتى يبغض علياً قليلاً، قال علي بن خشرم: فقلت: لا يكون الرجل مجرماً يحب كثيراً. وفي غير هذه الحكاية قال علي بن خشرم: فضربوني وطردوني من المجلس. حدثنا الحسين بن يحيى البجلي قال: حدثنا أبي عن ابن عوانة عن عطاء بن السايب قال: حدثني ابن عبادة بن الصامت قال: حدثني أبي عن جدي قال: إذا رأيت رجلاً من الأنصار يبغض علي بن أبي طالب فاعلم أن أصله يهودي) (4). المصدر: موقف الشيعة الاثني عشرية من الأئمة الأربعة لخالد بن أحمد الزهراني   (1) انظر: ((الصراط المستقيم)) (3/ 224). (2) رواه الترمذي (3665) وابن ماجه (95)، من حديث علي رضي الله عنه. قال الترمذي: غريب من هذا الوجه والوليد بن محمد الموقري يضعف في الحديث ولم يسمع علي بن الحسين من علي. وحسنه السخاوي في ((البلدانيات)) (273). وقال أحمد شاكر في تحقيقه لـ ((مسند أحمد)) (2/ 38): إسناده صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)). (3) ((زهر الربيع)) لنعمة الله الجزائري، الطبعة الأولى (ص:525). (4) عن كتاب: ((علل الشرائع)) للصدوق، منشورات مؤسسة الأعلمي، بيروت - الطبعة الأولى (1048هـ) (ص: 178). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 المبحث الأول: الشيعة وإهانتهم أهل البيت: إن الشيعة لم يكونوا يوماً من الأيام محبين لأهل البيت ومطيعين لهم، بل ثبت ذلك بنصوص الكتب الشيعية أنهم لم ينشئوا ولم يوجدوا من أول يوم إلا لإفساد العقائد الإسلامية الصحيحة ومخالفتها، ولإضرار المسلمين وسبهم وشتمهم، وإهانة أعيانهم وأسلافهم، وعلى رأسهم حامل الشريعة الحنيفية البيضاء، إمام هذه الأمة المجيدة، وأصحابه، وتلامذته، ونوابه الراشدين، وأهل بيته الطيبين. وإننا لما خصصنا هذا الكتاب لذكر الشيعة وعلاقتهم مع أهل البيت بسبب تقولهم أنهم غريسة أولئك الناس وشجرتهم، وهم - أي أهل البيت - أسسوا قواعد مذهبهم، وأرسخوا أصول معتقداتهم، وأكثر من ذلك هم الذين كونوهم وأنشؤوهم وربوهم، ولهم بهم علاقة ليس لأحد غيرهم مثلها. فصلنا القول في مزاعمهم وادعاءاتهم، وعرّفنا مدى صلتهم بهم في الأبواب السابقة، وإطاعتهم ومتابعتهم إياهم، وحبهم لهم. وأما في هذا الباب والأخير من كتابنا نريد أن نتقدم بالقارئ والباحث إلى الأمام بخطوة أخرى، ونبين أن القوم لم يكتفوا بمخالفة أهل البيت وعصيانهم وبالكذب والافتراء عليهم، بل ازدادوا، وبلغوا إلى حد الإساءة والإهانة، الإساءة العلنية، والإهانة الصريحة الجلية، لا الخفية الغير الظاهرة مثلما عاملوا الآخرين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم طبقاً بطبق وحذوا بحذو بدون فرق وتمييز، لأنهم لم يتقنعوا بقناع حب آل البيت إلا للسب والشتم في خلفاء رسول الله ورفاقه، ولما فرغوا منهم أكبوا ما في جعبتهم على من تقنعوا بقناع حبهم واسمهم لأن الغرض ليس بغض أولئك وحب هؤلاء، وبناء هذا وهدم ذاك، بل الهدف الوحيد التشويه والتشكيك على المسلمين، وإثارة البغضاء والأحقاد فيما بينهم، وهدم الكيان الإسلامي والأمة الإسلامية، وإلا فهل من الممكن أن يهان أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيت علي رضي الله عنه؟ بل ونبي الله نفسه صلوات الله وسلامه عليه وعلي رضي الله عنه؟. المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص205 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 المبحث الثاني: تطاول الشيعة على خاتم النبيين: نعم! نبي الله الصادق المصدوق الذي فضله الله على كافة خلقه، ومن فيهم من رسل الله وأوليائه، والذي امتدت رسالته على الكونين، وفرضت إمامته على الثقلين، ونيطت قيادته إلى يوم التناد وأطيلت زعامته إلى ما بعد هذا اليوم، حيث يكون لواء الحمد بيده، وتحته يكون آدم ومن دونه من النجباء والأخيار. نعم! يهينون هذا النبي الأعظم الذي فضل على الأنبياء والرسل بصفات لم يعطوها، وخصائل لم ينالوها، قالوا فيه: إن علياً وازن بينه وبين نفسه فقال: أنا قسيم الله بين الجنة والنار، وأنا الفاروق الأكبر، وأنا صاحب العصا والميسم، ولقد أقرت لي جميع الملائكة والرسل بمثل ما أقروا به لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولقد حملت على مثل حمولة الرب، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعى فيكسى، وأدعى فأكسى، ويستنطق واستنطق - إلى هذا نحن سواء وأما أنا - ولقد أوتيت خصالاً ما سبقني إليها أحد قبلي. علمت المنايا والبلايا والأنساب وفصل الخطاب، فلم يفتني ما سبقني، ولم يعزب عني ما غاب عني" (الأصول من (الكافي) " كتاب (الحجة) ص196، 197). فالرسول العظيم عليه الصلاة والسلام يساوي علياً في خصائل، ولم يحصل له خصائل أخرى لأنه بشر، وليس للبشر مهما بلغ شأنه ومقامه أن يتحلى بها قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ [الكهف:110] وإِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34] ولَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65] وأما علي فهو ما فوق النبي لأنه ما فوق البشر، ولعله .. ؟ معاذاً لله! وفعلاً قالوه حيث ذكروا أنه قال: أنا وجه الله، وأنا جنب الله، وأنا الأول، وأنا الآخر، وأنا الظاهر، وأنا الباطن، وأنا وارث الأرض، وأنا سبيل الله، وبه عزمت عليه" (رجال الكشي ص184). وهذا ليس بمستبعد من القوم لأنهم تعودوا على ذلك، وتجرؤا على تصغير شأن نبي الله صلى الله عليه وسلم مقابل علي رضي الله عنه، ولقد ذكرنا عدة روايات فيما مضى (في الباب الثاني بعنوان "من الأفضل؟ علي، أم نبي") تبرهن ذلك نستغني عن ذرها ههنا، ونورد ههنا ما لم نوردها سابقاً، فلقد أورد العياشي والحويزي في تفسيريهما رواية تدل على علو مكانة علي فوق النبي صلى الله عليه وسلم، فيكتبان تحت قول الله عز وجل: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]: أن المراد من الصلوات: "رسول الله, أمير المؤمنين, وفاطمة, والحسن, والحسين، والوسطى أمير المؤمنين" (تفسير العياشي" 1/ 128 ط طهران، أيضاً "نور الثقلين" 1/ ص238 ط قم). وهل هناك إساءة فوق هذا إلى سيد الخلائق ورسول الثقلين صلى الله عليه وسلم؟ نعم! هناك أشنع من هذه وأقبح، ما ذكره الحويزي نقلاً من الصدوق أن الرسول لم يرسل إلا لتبليغ ولاية علي إلى الناس، ولو لم يبلغ ما أمر بتبليغه من ولاية علي لحبط عمله – عياذاً بالله -. وإليك النص: روى الصدوق في "الأمالي" أن رسول الله قال لعلي: ((لو لم أبلغ ما أمرت به من ولايتك لحبط عملي)) (تفسير نور الثقلين 1/ 654). ولم لا يكون كذلك؟ والحال أنه لم يرفع ذكره -لا يؤاخذنا الله بنقل كفريات القوم - إلا بعلي، ولم يوضع عنه وزره إلا به، كما ذكر البحراني عن ابن شهر آشوب تحت قوله: وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ [الشرح:2] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 "ثقل مقاتلة الكفار وأهل التأويل بعلي بن أبي طالب عليه السلام" (البرهان" في تفسير القرآن 4/ 475) وعن البرسي وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4] بعلي صهرك، قرأها النبي صلى الله عليه وسلم، وأثبتها ابن مسعود وانتقصها عثمان" (البرهان في تفسير القرآن 4/ 475). ولأجل ذلك كان رسول الله يدعو الله ويسأله بحرمة علي، كما ينقل البحراني عن السيد رضي من كتابه (المناقب الفاخرة في العترة الطاهرة) عن ابن مسعود أنه قال: ((خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته راكعاً وساجداً وهو يقول: اللهم بحرمة عبدك علي اغفر للعاصين من أمتي)) - ولم يكتفوا بذلك، بل زادوا في غلوائهم حيث قالوا -: إن النبي خلق من نوره السماوات والأرض، وهو أفضل من السماوات والأرض، ولكن علي خلق من نوره العرش والكرسي، وعلي أجل من العرش والكرسي" (البرهان 4/ 226) فهذا هو نبي في نظرهم، وذاك هو علي أفضل وأعلى من الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وبالغوا فيه عمداً وقصداً لتقليل مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم، وجاوزوا كل الحدود حتى قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: لما عرج به إلى السماء رأى علياً وأولاده قد وصلوا إليها من قبل، فسلم عليهم وقد فارقهم في الأرض" (تفسير البرهان" 2/ 404 نقلاً عن البرسي). وروى أيضاً عن الصدوق في أماليه أن رسول الله قال: ((لما عرج بي إلى السماء دنوت من ربي، حتى كان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى، قال: يا محمد! من تحبه من الخلق؟ قلت: يا رب! علياً، قال: التفت يا محمد! فالتفت عن يساري، فإذا علي بن أبي طالب عليه السلام" (تفسير البرهان 2/ 404). وليس هذا، بل وأكثر من ذلك، لما سئل النبي: ((بأي لغة خاطبك ربك ليلة المعراج؟ قال: خاطبني بلغة علي بن أبي طالب، حتى قلت: أنت خاطبتني أم علي؟)) (كشف الغمة 1/ 106). فعلي في كل مقام قبل نبي، فهو قبله في السماء، وقبله عند الرب، وبلغته يخاطبه الله، وبصوته يتكلم، وهو أعلى منه خلقة، وبه رفع ذكره ووضع عنه وزره، وبحرمته أجيبت دعوته، وبقوته وقيت نفسه، وحفظت روحه، وقويت عضده، وقام دينه. وبهذا قال شيعي متحضر معاصر: بنى الدين فاستقام ولولا ضرب ماضيه ما استقام البناء" (أصل الشيعة وأصولها لمحمد حسين آل كاشف الغطاء ص68، الطبعة التاسعة). وقال الآخر: بالشيعة قام الإسلام، وبسيف إمامهم أسس الإسلام وثبتت دعائمه" (أعيان الشيعة) لمحسن الأمين (ج1، القسم الأول ص123). وقبلهما القمي أهان رسول الله العظيم حيث اختلق هذه القصة الباطلة الموضوعة أن رسول الله: "كان بمكة، ولم يجسر عليه أحد لموضع أبي طالب، وأغروا به الصبيان، وكان إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمونه بالحجارة والتراب، فشكى ذلك إلى علي عليه السلام - فانظر إلى التعبير السيئ والإهانة الصريحة لذلك النبي الأشهم، بطل الأبطال، وفارس الفرسان وقائد الشجعان - فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! إذا خرجت فأخرجني معك، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أمير المؤمنين عليه السلام، فتعرض الصبيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم كعادتهم، فحمل عليهم أمير المؤمنين عليه السلام، فكان يقضمهم في وجوههم وآنافهم وآذانهم" (تفسير القمي" 1/ 114). ويقولون: إنه هو الذي وقى رسول الله يوم الغار" (نور الثقلين" 2/ 219). فعلي هو هو كل شيء ولم يرسل نبي الله محمد خاتم الأنبياء وسيد الرسل إلا ليدعوا الناس إليه ويحببه إلى الناس، وأما نفسه فليس بشيء مقابل علي - نستغفر الله ونتوب إليه من هذه الإهانات والهفوات - كما رووا عن ابن بابويه القمي وغيره عن جعفر أنه قال: عرج بالنبي عليه السلام إلى السماء مائة وعشرين مرة، ما من مرة إلا وقد أوحى الله فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالولاية لعلي أكثر ما أوصاه في سائر الفروض" (مقدمة تفسير البرهان" ص22). وأيضاً "إن جبرائيل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد! ربك يقرئك السلام ويقول: فرضت الصلاة ووضعتها عن المريض، وفرضت الصوم ووضعته عن المريض والمسافر، وفرضت الحج ووضعته عن المقل المدقع وفرضت الزكاة ووضعتها عمن لا يملك النصاب، وجعلت حب علي بن أبي طالب عليه السلام ليس فيه رخصة" (مقدمة البرهان، نقلاً عن البرقي في محاسنه ص22). وكذبوا على الله عز وجل أنه قال: علي بن أبي طالب حجتي على خلقي، ونوري في بلادي، وأميني على علمي لا أدخل النار من عرفه وإن عصاني، ولا أدخل الجنة من أنكره ولو أطاعني" (البرهان" مقدمة ص23). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص252 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 المبحث الثالث: التطاول على الأنبياء: وإن القوم لم يتقولوا بمثل هذه الأقاويل، ولم يتفوهوا بمثل هذه الترهات ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب، بل قالوا بمثل هذه المقالات وأكثر بخصوص رسل الله السابقين وأنبيائه والمرسلين، فلقد تجرؤا على موسى والخضر عليهما الصلاة والسلام حيث قالوا: إن جعفر كان أعلم منهما، فلقد أورد الكليني عن سيف التمار أنه قال: كنا مع أبي عبد الله عليه السلام جماعة من الشيعة في الحجر، فقال: علينا عين؟ فالتفتنا يمنة ويسرة، فلم نر أحداً، فقلنا: ليس علينا عين، فقال: ورب الكعبة! ورب البنية! ثلاث مرات – لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما، ولأنبئتهما بما ليس في أيديهما" (الأصول من (الكافي) " كتاب (الحجة) 1/ 261). وأهانوا أولي العزم من الرسل، واختلقوا قصة غريبة، فقالوا: إن علياً لما ولد، ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ولكنه رآه ماثلاً بين يديه، واضعاً يده اليمنى في أذنه اليمنى وهو يؤذن ويقيم بالحنفية، ويشهد بواحدانية الله وبرسالته وهو مولود ذلك اليوم، ثم قال لرسول الله: اقرأ؟ فقال له: اقرأ – وبعده النص حرفياً -: لقد ابتدأ بالصحف التي أنزلها الله عز وجل على آدم، فقام بها شيث فتلاها من أول حرف فيها إلى آخر حرف فيها، حتى لو حضر بها شيث لأقر له إنه أحفظ له منه، ثم قرأ توراة موسى، حتى لو حضره موسى لأقر بأنه أحفظ لها منه، ثم قرأ زبور دؤاد، حتى لو حضره دؤاد لأقر بأنه أحفظ لها منه، ثم قرأ إنجيل عيسى، حتى لو حضره عيسى لأقر بأنه أحفظ لها منه، ثم قرأ القرآن، فوجدته يحفظ كحفظي له الساعة من غير أن أسمع منه آية" (روضة الواعظين ص84). كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً. هذا ولقد قالوا إنه ينادي مناد يوم القيامة: "أين خليفة الله في أرضه؟ فيقوم دؤاد عليه الصلاة السلام، فيأتي النداء من عند الله عز وجل: لسنا إياك أردنا، وإن كنت لله خليفة، ثم ينادي (مناد) أين خليفة الله في أرضه؟ فيقوم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة السلام، فيأتي النداء من قبل الله عز وجل: يا معشر الخلائق! هذا علي بن أبي طالب خليفة الله في أرضه، وحجته على عباده" (كشف الغمة" 1/ 141). وأهانوا رسل الله وأنبيائه حيث قالوا: إن نبي الله أيوب لم تتغير نعمة الله عليه إلا لإنكاره ولاية علي، كذلك صفي الله يونس عليه السلام لم يحبس في بطن الحوت إلا لإنكاره أيضاً، وكذلك يوسف وقبله آدم عليهما السلام. فأورد الحويزي رواية في تفسيره أنه قال: دخل عبد الله بن عمر على زين العابدين، فقال: يا ابن الحسين! أنت الذي تقول: إن يونس بن متى إنما لقي من الحوت ما لقي، لأنه عرضت عليه ولاية جدي، فتوقف عندها؟ قال: بلى! ثكلتك أمك، قال: فأرني آية ذلك إن كنت من الصادقين؟ فأمر بشد عينيه بعصابة وعيني بعصابة، ثم أمر بعد ساعة بفتح أعيننا، فإذا نحن على شاطئ البحر تضرب أمواجه، فقال ابن عمر: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 يا سيدي! دمي في رقبتك، الله الله في نفسي، فقال: هيه وأريه إن كنت من الصادقين. ثم قال: يا أيتها الحوت! قال: فأطلع الحوت رأسه من البحر مثل الجبل العظيم وهو يقول" لبيك لبيك يا ولي الله! فقال: من أنت؟ قال: حوت يونس يا سيدي! قال: ايتنا بالخبر، قال: يا سيدي! إن الله تعالى لم يبعث نبياً من آدم إلى أن صار جدك محمد إلا وقد عرض عليه ولايتكم أهل البيت، فمن قبلها من الأنبياء سلم وتخلص، ومن توقف عنها وتتعتع في حملها لقي ما لقي آدم من المصيبة، وما لقي نوح من الغرق، وما لقي إبراهيم من النار، وما لقي يوسف من الجب، وما لقي أيوب من البلاء. وما لقي دؤاد من الخطيئة، إلى أن بعث الله يونس فأوحى الله إليه أن يا يونس! تول أمير المؤمنين" (تفسير نور الثقلين) (3/ 435). ومثلها أورد البحراني في مقدمة تفسيره (البرهان) عن سلمان أنه قال لعلي رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا قتيل كوفان! أنت حجة الله الذي به تاب على آدم، وبك أنجى يوسف من الجب، وأنت قصة أيوب وسبب تغيير نعمة الله عليه" (البرهان مقدمة ص27). ونقل عن (معاني الأخبار) أن أبا عبد الله سئل عن قول علي رضي الله عنه: إن أمرنا صعب مستعصب، لا يقر به إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان، فقال: إن في الملائكة مقربين وغير مقربين، ومن الأنبياء مرسلين وغير مرسلين، ومن المؤمنين ممتحنين وغير ممتحنين، فعرض أمركم على الملائكة فلم يقر به إلا المقربون، وعرض على الأنبياء فلم يقر به إلا المرسلون، وعرض على المؤمنين فلم يقر به إلا الممتحنون" (مقدمة البرهان ص26). وكتبوا عن أبي الأنبياء آدم صلوات الله وسلامه عليه "أن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه، فتاب عليه، هي سؤاله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين" (كتاب الخصال لابن بابويه القمي 1/ 270, تحت عنوان "الكلمات التي تلقاها آدم من ربه"). فهذه هي عقيدة القوم التي يكنونها في صدورهم، ويخفونها في كتبهم، وهذه هي الإهانات التي يوجهونها إلى نجباء الله وأصفيائه، رسل الله وأنبيائه مع من فيهم سيد الرسل والأنبياء وإمام المرسلين بدعوى حب أهل البيت وموالاتهم. المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص257 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 المبحث الرابع: إهانة أهل البيت: • المطلب الأول: إهانة العباس رضي الله عنه: . • المطلب الثاني: إهانة عبد الله وعبيد الله ابني العباس رضي الله عنهم:. • المطلب الثالث: عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه:. • المطلب الرابع: إهانة ابن النبي:. • المطلب الخامس: إهانة بنات النبي:. • المطلب السادس: إهانة علي رضي الله عنه:. • المبحث السادس: إهانتهم فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم:. • المطلب السابع: إهانتهم الحسن بن علي رضي الله عنهما:. • المطلب الثامن: إهانتهم للحسين بن علي رضي الله عنهما:. • المطلب التاسع: إهانتهم لبقية أهل البيت:. • المطلب العاشر: إهانتهم لعلي بن الحسين:. • المطلب الحادي عشر: إهانتهم لمحمد الباقر وابنه:. • المطلب الثاني عشر: إهانتهم لموسى بن جعفر:. • المطلب الثالث عشر: إهانتهم لعلي بن موسى بن جعفر:. • المطلب الرابع عشر: إهانتهم للقانع ابن الرضا:. • المطلب الخامس عشر: إهانتهم لعلي بن محمد بن الحسن بن موسى:. • المطلب السادس عشر: إهانتهم للعسكري:. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 المطلب الأول: إهانة العباس رضي الله عنه: فلقد قالوا في عباس رضي الله عنه وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنو أبيه إن الآية: لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ [الحج: 13]: نزلت فيه (رجال الكشي ص54). وأيضاً إن قول الله عز وجل: وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً [الإسراء: 72] , وقول الله عز وجل: وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ [هود: 34]: نزلتا فيه" (رجال الكشي ص52، 53). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير 260 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 المطلب الثاني: إهانة عبد الله وعبيد الله ابني العباس رضي الله عنهم: وأما أبناء عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيدا بني هاشم، وعامل علي وصفية عبد الله بن عباس، وأخوه عبيد الله بن عباس فقالوا فيهما: إن أمير المؤمنين قال: اللهم العن ابني فلان - يعني عبد الله وعبيد الله كما في الهامش - وأعم أبصارهما كما أعميت قلوبهما الأجلين في رقبتي، واجعل عمى أبصارهما دليلاً على عمى قلوبهما" (رجال الكشي ص52 تحت عنوان دعاء علي على عبد الله وعبيد الله ابني عباس). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص260 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 المطلب الثالث: عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه: وأما عقيل بن أبي طالب وشقيق علي فقد قالوا فيه نقلاً عن علي بن أبي طالب أنه قال - وهو يذكر قلة أعوانه وأنصاره -: ولم يبق معي من أهل بيتي أحد أطول به وأقوى، أما حمزة فقتل يوم أحد، وجعفر قتل يوم مؤتة، وبقيت بين خلفين خائفين ذليلين حقيرين، العباس وعقيل" (الأنوار النعمانية) للجزائري، (مجالس المؤمنين) (ص78 ط إيران القديم). ومثله ذكر الكليني عن محمد الباقر أنه قال: وبقي معه رجلان ضعيفان، ذليلان، حديثا عهد بالإسلام. عباس وعقيل" (الفروع من الكافي) (كتاب الروضة). والمعروف أن العباس والعقيل وآلهما من أهل بيت النبوة كما أقر به الأربلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: من أهل بيتك؟ قال: آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل عباس" (كشف الغمة 1/ 43). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص260 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 المطلب الرابع: إهانة ابن النبي: هذا ولقد رووا رواية باطلة أخرى فيها تصغير لشأن ابن النبي، وتحقيره إياه مقابل حفيده من فاطمة رضي الله عنهم أجمعين وخلاصة ما قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً وعلى فخذه الأيسر إبراهيم ولده، وعن يمينه حسين حفيده، وكان يقبل هذا تارة وذاك تارة أخرى، فنظر جبريل وقال: إن ربك أرسلني وسلم عليك، وقال: لا يجتمع هذان في وقت واحد، فاختر أحدهما على الآخر، وافد الثاني عليه، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إبراهيم وبكى، ونظر إلى سيد الشهداء (انظر إلى التعبير الركيك، والموازنة بين ابن علي وابن نبي) وبكى، ثم قال: إن إبراهيم أمه مارية، فإن مات لا يحزن أحد عليه غيري، وأما الحسن فأمه فاطمة وأبوه علي فإنه ابن عمي وبمنزلة روحي، وإنه لحمي ودمي، فإن مات ابنه يحزن وتحزن فاطمة، فخاطب جبريل وقال: يا جبريل! أفديت إبراهيم الحسين، ورضيت بموته كي يبقى الحسين ويحيى" (حياة القلوب) للمجلسي (ص593) أيضاً (المناقب) لابن شهر آشوب. المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص261 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 المطلب الخامس: إهانة بنات النبي: وأهانوا بنات النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة حيث نفوا عنهن أبويته، وقالوا: إن النبي لم ينجبهن، بل كن ربيبات، فيذكر حسن الأمين الشيعي: ذكر المؤرخون أن للنبي أربع بنات، ولدى التحقيق في النصوص التاريخية لم نجد دليلاً على ثبوت بنوة غير الزهراء عليها السلام منهن، بل الظاهر أن البنات الأخريات كن بنات خديجة من زوجها الأول قبل محمد صلى الله عليه وسلم " (دائرة المعارف الإسلامية الشيعية 1/ ص27 ط دار المعارف للمطبوعات بيروت). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص262 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 المطلب السادس: إهانة علي رضي الله عنه: هذا وعلي - الإمام المزعوم عند القوم، والمعصوم الأول عندهم - شأنه شأن الآخرين، فلقد أهانوه، وصغروه، واحتقروه، ونسبوه إلى الجبن والذل، واتهموه بالتذلل والمسكنة وقالوا: إن أبا بكر رضي الله عنه لما بويع بالخلافة، وأنكر علي خلافته، وامتنع عن بيعته فقال أبو بكر لقنفذ: ارجع، فإن خرج وإلا فاقتحموا عليه بيته، وإن امتنع فأضرم عليهم بيتهم النار، فانطلق قنفذ الملعون، فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن، وثار علي عليه السلام إلى سيفه، فسبقوه إليه وكاثروه، فتناول بعض سيوفهم فألقوا في عنقه حبلاً، وحالت بينه وبينهم فاطمة عليها السلام عند باب البيت، فضربها قنفذ الملعون بالسوط، فماتت حين ماتت وإن في عضدها كمثل الدملج من ضربته لعنه الله، ثم انطلق بعلي عليه السلام يعتل عتلاً - أي يجرجر عنيفاً – حتى انتهى به إلى أبي بكر - إلى أن قال - فنادى علي عليه السلام قبل أن يبايع والحبل في عنقه: يا ابن أم! إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني" (كتاب سليم بن قيس ص84 و89). فهذا هو علي بن أبي طالب في نظر الشيعة، وهكذا يصورونه جباناً، خائفاً، مذعوراً، ملبباً، وهو الذي اختلقوا فيه القصص، واخترعوا فيه الأساطير، فيه، وفي قوته وشجاعته وطاقته وجرأته وبسالته، وقد مر بيان بعضها سابقاً. وليس هذا فحسب، بل اتهموه بالجبن والهوان إلى حد قالوا فيه على لسان زوجته ابنة النبي صلى الله عليه وسلم، فاطمة رضي الله عنها أنها لامته، وغضبت عليه، وطعنته، وشنعت عليه بعد ما طالبت فدك وتشاجرت مع الصديق والفاروق رضي الله عنهم أجمعين، ولم يساعدها علي في تلك القضية حسب زعمهم قالت له: يا ابن أبي طالب! اشتملت مشيمة الجنين، وقعدت حجرة الظنين - إلى آخر ما قالته –" (الأمالي) للطوسي (ص259)، (حق اليقين) للمجلسي (ص203، 204) (الاحتجاج) للطبرسي. "وإن فاطمة عليها السلام لامته على قعوده وهو ساكت" (أعيان الشيعة ص26، القسم الأول). وأكثر من ذلك أنهم قالوا: إن عمر بن الخطاب غصب ابنته ولم يستطع أن يمنعه من ذلك، فلقد قال الكليني أن أبا عبد الله قال في تزويج أم كلثوم بنت علي: إن ذلك فرج غصبناه" (الكافي في الفروع 2/ 141 ط الهند). وأيضاً: "إن علياً لم يكن يريد أن يزوج ابنته أم كلثوم من عمر، ولكنه خاف منه، فوكل عمه عباس ليزوجها منه" (حديقة الشيعة لمقدس الأردبيلي ص277). وهذا، والذي رفض قبول الخلافة والإمارة حينما قدمت إليه بقوله: دعوني والتمسوا غيري: يهينونه بالكذب عليه، ويحطون عن مكانته ومقامه، ويصورونه كالعامي الحريص الذي يجري خلف المناصب ويسعى لأجلها مستعملاً في سبيلها كل الوسائل، والوسائل التي تأبى نفوس أبيه شريفة اختيارها وإتيانها، نعم! يجعلونه كصاحب الهوس والهوى والأغراض ليستخدم للحصول عليها حسبه ونسبه وحتى زوجته وأولاده، فانظر إليهم وإهانتهم لسيد أهل البيت ماذا يقولون فيه في كتابهم المهم، المعتمد الموثوق لما بويع أبو بكر، ووصل الخبر إلى مسامع علي، قال: إن هذا الاسم لا يصلح إلا لي، وسكت عنه يومه ذلك: "فلما كان الليل حمل علي فاطمة عليها السلام وأخذ بيدي ابنيه الحسن والحسين عليهما السلام، فلم يدع أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أتاه في منزله، فناشدهم الله حقه، ودعاهم إلى نصرته، فما استجاب منهم رجل" (كتاب سليم بن قيس ص82، 83). وهل هناك إهانة أكبر من هذه أن يقال عن مثل علي رضي الله عنه أنه حمل زوجته ابنة النبي على حمار، وأخذ سبطيه، وذهب إلى أبواب الناس يستعطفهم ويستنصرهم ويستجديهم؟ سبحان الله: ما أشنع الكذب وما أقبحه! ثم زادوا على ذلك: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 "إن علياً عليه السلام لما رأى خذلان الناس إياه، وتركهم نصرته واجتماع كلمتهم مع أبي بكر وتعظيمهم إياه لزم بيته" (كتاب سليم بن قيس ص83). فليلاحظ الكلمات والحروف، ولتكرر النظرة على هذه العبارة القصيرة تنبئ وتخبر الوجوه الأصلية والآراء الحقيقية تجاه علي رضي الله عنه كيف يحقر ويصغر، ويصور مطروداً مسترداً من قبل الناس أجمعين. ولقد ذكر محدث القوم ابن بابويه القمي مثل هذه الروايات في كتابه حيث ذكر قصة طويلة أن أنصار علي وأعوانه القليلين كيف ردوا على أبي بكر، وامتنعوا عن قبول خلافته وإمارته، وتكلموا ضده جهراً وعلناً على رؤوس الأشهاد، فلما سمع أصحاب أبي بكر بذلك حضروا إليه: شاهرين السيوف، وقال قائل منهم: والله! ‍لئن عاد منكم أحد، فتكلم بمثل الذي تكلم به لنملأن أسيافنا منه، فجلسوا - أي أصحاب علي – في منازلهم، ولم يتكلم أحد بعد ذلك" (كتاب الخصال للقمي 2/ 465). هذه من ناحية، ومن ناحية أخرى أهانوا المرتضى علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث وصفوه بكل قبح في صورته ومزاجه، وأنه كان مفلساً فقيراً لا مال له: "من بيت مفلس أخذ جميع أبنائه الآخرون ليكفوا صاحبه مؤنتهم، ويخففوا عنه ثقلهم" (مقاتل الطالبين لأبي الفرج ص26). ولأجل ذلك رفضت فاطمة الزواج منه لما قدمه إليها أبوها، وهذا هو النص: "فلما أراد - رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن يزوجها من علي أسر إليها، فقالت: يا رسول الله أنت أولى بما ترى غير أن نساء قريش تحدثني عنه أنه رجل دحداح البطن، طويل الذراعين ضخم الكراديس، أنزع، عظيم العينين، لمنكبيه مشاشاً كمشاش البعير، ضاحك السن، لا مال له" (تفسير القمي 2/ ص336). ولقد ذكر الأصفهاني عن ابن أبي إسحاق أنه قال: أدخلني أبي المسجد يوم الجمعة، فرفعني، فرأيت علياً يخطب على المنبر شيخاً أصلع، ناتئ الجبهة، عريض ما بين المنكبين، له لحية ملأت صدره، في عينه اطرغشاش" (يعني لين في العين) (مقاتل الطالبين ص27). وقال في وصف جامع: كان عليه السلام أسمر مربوعاً، وهو إلى القصر أقرب، عظيم البطن، دقيق الأصابع، غليظ الذراعين، حمش الساقين، في عينيه لين، عظيم اللحية، أصلع، ناتئ الجبهة" (مقاتل الطالبين ص27). وهناك رواية في (الكافي) أوردها الكليني تبين أن فاطمة رضي الله عنها لم ترض بعلي حتى بعد الزواج، ولم تقبله عن طيب قلبها، والرواية هذه: "لما زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً فاطمة عليهما السلام دخل عليهما وهي تبكي، فقال لها: ما يبكيك؟ فوالله! لو كان في أهلي خير منه ما زوجتكه، وما أنا زوجته، ولكن الله زوجك" (الفروع من الكافي). وذكر الأربلي عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا بريدة نعود فاطمة، فلما أن دخلنا عليهما أبصرت أباها دمعت عيناها، قال: ما يبكيك يا ابنتي؟ قالت: قلة الطعم، وكثرة الهم، وشدة الغم – وفى رواية أخرى قالت: والله! لقد اشتد حزني، واشتدت فاقتي، وطال سقمي" (كشف الغمة 1/ ص149، 150). فهذا هم القوم، وهذا هو دأبهم، وماذا يرجى ويتوقع من الذين يتطاولون على صحبة رسول الله، الصديق والفاروق وذي النورين وغيرهم من الأخيار الأطهار، والذين يجترؤن على رسل الله وأنبيائه وسيد المرسلين، أيحترمون علياً وأهل بيته؟ كلا! لا يمكن أن يكون كذلك. وأهانوا علياً، وسيده رسول الله، وزوجته رضي الله عنهما جميعاً في رواية باطلة خرافية، قبيحة وسخيفة، حيث ذكروا: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 "كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحاف ليس له لحاف غيره، ومعه عائشة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام بين عليّ وعائشة، ليس عليهم لحاف غيره، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل حطّ بيده اللحاف من وسطه بينه وبين عائشة" (كتاب سليم بن قيس ص221). هل هناك إهانة أكبر من هذه الإهانة؟ نعم! هناك أكبر وأكثر، منها ما رواها القوم أن علياً أتى رسول الله (صلى الله عليه) وسلم وعنده أبو بكر وعمر، فيقول: فجلست بينه وبين عائشة، فقالت له عائشة: ما وجدت إلا فخذي وفخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مه يا عائشة! " (البرهان في تفسير القرآن 4/ 225). ومرة أخرى جاء "فلم يجد مكاناً، فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه: ههنا (يعني خلفه) وعائشة قائمة خلفه وعليها كساء، فجاء علي فقعد بين رسول الله وبين عائشة، فغضبت وقالت: ما وجدت لإستك موضعاً غير حجري، فغضب رسول الله وقال: يا حميراء! لا تؤذيني في أخي" (كتاب سليم بن قيس العامري ص179). هذا وكانوا يهينونه ويخذلونه بعد ما تولى الحكم وصار خليفة للمسلمين وأميراً للمؤمنين فلم يكن يذهب بهم إلى معركة ولا إلى حرب إلا وكانوا يتسللون منها ملتمسين الأعذار، وبدون العذر أيضاً خفية تارة وجهراً تارة أخرى، وكتب التاريخ مليئة بخذلانهم إياه، وتركهم وحده في جميع المعارك التي خاضها، والحروب التى أججت نيرانها وابتلي بها وعلى ذلك كان يقول: قاتلكم الله: لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدرى غيظاً، وجرعتموني نغب التهمام أنفاساً، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب - إلى أن قال - ولكن لا رأي لمن لا يطاع" (نهج البلاغة ص70، 71). وقال: ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً، وسراً وإعلاناً، وقلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا. فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنت الغارات، وملكت عليكم الأوطان. وهذا أخو غامد وقد وردت خيله الأنبار، وقد قتل حسان بن حسان البكري، وأزال خيلكم عن مسالحها، ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، والأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها، وقلائدها ورعثها، ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام. ثم انصرفوا وافرين. ما نال رجلاً منهم كلهم، ولا أريق لهم دم، فلو أن امرءا مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً، فيا عجباً! عجباً - والله - يميت القلب ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم! فقبحاً لكم وترحاً، حين صرتم غرضاً يرمى: يغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون! فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم: هذه حمارة القيظ، أمهلنا يسبخ عنا الحر، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: هذه صبارة القر، أمهلنا ينسلخ عنا البرد، كل هذا فراراً من الحر والقر، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون، فأنتم والله من السيف أفر" (نهج البلاغة ص70، 71). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص262 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 المبحث السادس: إهانتهم فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأهانوا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم الحسن والحسين، زوجة علي، فاطمة الزهراء رضي الله عنهم أجمعين، ونسبوا إليها أشياء لم يتصور صدورها من أية امرأة مؤمنة مسلمة، دون أن تصدر من بضعة الرسول وسيدة نساء أهل الجنة، ومنها أنهم قالوا إنها كانت دائمة الغضب على ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه، وكانت تعترض عليه وتشكوه إلى أبيها في أشياء كثيرة، صغيرة وتافهة، كما مر بيانها سابقاً، وحتى على أمور الخير كما يروي محدثهم ابن الفتال النيسابوري (1): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس لعليّ حديقة، فباعها علي، وقسم كل ما أخذ منها إلى فقراء المدينة ومساكينها حتى لم يبق درهم واحد. فلما أتى المنزل قالت له فاطمة عليها السلام: يا ابن عم! بعت الحائط الذى غرسه والدي؟ قال: نعم! بخير منه عاجلاً أو آجلاً، قالت: فأين الثمن؟ قال: دفعته إلى أعين استحييت أن أذلها بذل المسألة، قالت فاطمة: أنا جائعة، وابناي جائعان، ولا شك أنك مثلنا في الجوع، لم يكن منه لنا درهم، وأخذت بطرف ثوب علي عليه السلام فقال علي: يا فاطمة! خلني، فقالت: لا والله! أو يحكم بيني وبينك أبي، فهبط جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! الله يقرئك السلام ويقول: اقرأ علياً مني السلام، وقل لفاطمة: ليس لك أن تضربي على عليّ يديه" (روضة الواعظين 1/ 125). وكذلك ما نسبوا إليها أنها تقدمت إلى أبي بكر وعمر بقضية فدك، "وتشاجرت معهم، وتكلمت في وسط الناس، وصاحت، وجمع لها الناس" (كتاب سليم بن قيس" ص253). ومرة "أخذت بتلابيب عمر، فجذبته إليها" (الكافي في الأصول). وأيضاً هددت أبا بكر "لئن لم تكف عن عليّ لأنشرن شعري ولأشقن جيبي" (تفسير العياشي 2/ 67، ومثله في الروضة من (الكافي) 8/ 238). وأنها دخلت مع الخلفاء في المعارك حتى وأحرق بيتها وضربت ووجع به جنبها، وكسر ضلعها، وألقت جنينها من بطنها - عياذاً بالله من هذه الخرافات وماتت في مثل هذه الظروف ونتيجة هذه الصدمات" (كتاب سليم بن قيس ص84، 85). هذا ومثل هذا كثير. المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص268   (1) هو محمد بن الحسن الفتال الفارسي النيسابوري "متكلم جليل القدر، فقيه، عالم، زاهد، ورع، قتله أبو المحاسن عبد الرزاق رئيس نيسابور" ((رجال الحلي)) ص259 ط إيران. "وكان من شيوخ الشيعة في المائة الخامسة"، وله كتاب ((روضة الواعظين)) ((تأسيس الشيعة)) ص395. و"إنه شيخ جليل من شيوخ الشيعة وأعلام الطائفة، وكان مدرساً، متكلماً، فقيهاً، عالماً، مقرئاً، مفسراً، متديناً، زاهداً من العلماء الأمناء المعتمدين" (نقلاً عن مقدمة الكتاب ص11 لمحمد مهدي الخراساني ط قم إيران) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 المطلب السابع: إهانتهم الحسن بن علي رضي الله عنهما: وأما الحسن رضي الله عنه فلم يهن أحد مثل ما أهين هو من قبل الشيعة، فإنهم بعد وفاة أبيه علي رضي الله عنه جعلوه خليفته وإماماً لهم، ولكنهم لم يلبثوا إلا يسيراً حتى خذلوه مثل ما خذلوا أباه، وخانوه أكثر مما خانوا علياً رضي الله عنه. يقول المؤرخ الشيعي اليعقوبي: وأقام الحسن بعد أبيه شهرين، وقيل: أربعة أشهر، ووجه بعبيد الله بن عباس في اثني عشر ألفاً لقتال معاوية فأرسل معاوية إلى عبيد الله بن عباس فجعل له ألف ألف درهم، فسار إليه في ثمانية آلاف من أصحابه ووجه معاوية إلى الحسن، المغيرة بن شعبة، وعبد الله بن شعبة وعبد الله بن عامر، وعبد الرحمن بن أم الحكم، وأتوه وهو بالمدائن نازل في مضاربه، ثم خرجوا من عنده وهم يقولون ويسمعون الناس: إن الله قد حقن بابن رسول الله الدماء، وسكن به الفتنة، وأجاب إلى الصلح، فاضطرب العسكر ولم يشك الناس في صدقهم، فوثبوا بالحسن، فانتهبوا مضاربه وما فيها، فركب الحسين فرساً له ومضى في مظلم ساباط، وقد كمن الجراح بن سنان الأسدي، فجرحه بمعول في فخذه، وقبض على لحية الجراح ثم لواها فدق عنقه. وحمل الحسن إلى المدائن وقد نزف نزفاً شديداً، واشتدت به العلة، فافترق عنه الناس، وقدم معاوية العراق، فغلب على الأمر، والحسن عليل شديد العلة، فلما رأى الحسن أن لا قوة به، وأن أصحابه قد افترقوا عنه فلم يقوموا له، صلح الحسن مع معاوية: ولقد يخجل القوم حينما يسمعون هذه الكلمة أعني صلح الحسن مع معاوية رضي الله عنهما ومبايعته إياه، ويتقولون بأشياء، ويتأولون بتأويلات يمجها العقل ويزدريها الفكر، وحصيلة ما يقولون إنه صالحه ولكنه لم يبايعه، ولم يسلم إمرته وخلافته. فنحن احترازاً من الإطالة نورد ههنا رواية واحدة من كتب القوم، ونظن أنها تكون كافية لمن أراد التبصر، ولقد أورد هذه الرواية كبيرهم في الرجال عن أبي عبد الله جعفر أنه قال: إن معاوية كتب إلى الحسن بن علي صلوات الله عليهما أن اقدم أنت والحسين وأصحاب علي، فخرج معهم قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري وقدموا الشام، فأذن لهم معاوية وأعد لهم الخطباء فقال: يا حسن! قم فبايع، فقام فبايع، ثم قال للحسين! قم فبايع، ثم قال: يا قيس! قم فبايع فالتف إلى الحسين عليه السلام (بدل الحسن لما كان يعرف من شدته وإنكاره على أخيه في مسألة الصلح) ينظر ما بأمره، فقال: يا قيس! إنه إمامي يعني الحسين عليه السلام – وفي رواية: فقام إليه الحسن، فقال له بايع يا قيس! فبايع –" (رجال الكشي ص102) معاوية (تاريخ اليعقوبي 2/ 215). وقد قال المسعودي الشيعي في كتابه أن الحسن رضي الله عنه لما خطب بعد اتفاقه مع معاوية رضي الله عنه قال: يا أهل الكوفة! لو لم تذهل نفسي عنكم إلا لثلاث خصال لذهلت: مقتلكم لأبي، وسلبكم ثقلي، وطعنكم في بطني، وإنى قد بايعت معاوية فاسمعوا وأطيعوا. وقد كان أهل الكوفة انتبهوا سرداق الحسن ورحله وطعنوا بالخنجر في جوفه، فلما تيقن ما نزل به انقاد إلى الصلح" (مروج الذهب 2/ 431). وأهانوه إلى أن: شدوا على فسطاطه وانتهبوه حتى أخذوا مصلاه من تحته، ثم شد عليه عبد الرحمن بن عبد الله الجعال الأزدي، فنزع مطرفة عن عاتقه، فبقي جالساً متقلداً السيف بغير رداء" (الإرشاد للمفيد ص190). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 "وطعنه رجل من بني أسد الجراح بن سنان في فخذه، فشقه حتى بلغ العظم. وحمل الحسن على سرير إلى المدائن اشتغل بمعالجة جرحه، وكتب جماعة من رؤساء القبائل إلى معاوية بالطاعة سراً، واستحثوه على سرعة المسير نحوهم، وضمنوا له تسليم الحسن إليه عند دنوهم من عسكره أو الفتك به، وبلغ الحسين عليه السلام ذلك فازدادت بصيرة الحسن عليه السلام بخذلانهم له، وفساد نيات المحكمة فيه وما أظهروه له من سبه وتكفيره، واستحلال دمه، ونهب أمواله" (كشف الغمة ص540، 541، واللفظ له، الإرشاد ص190، الفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة ص162 ط طهران). هذا وكانوا يهينونه بلسانهم كما كانوا يؤذونه بأيديهم، ولقد ذكر الكشي عن أبي جعفر أنه قال: جاء رجل من أصحاب الحسن عليه السلام يقال له سفيان بن أبي ليلى وهو على راحلة له، فدخل على الحسن عليه السلام وهو مختبئ في فناء داره، فقال له: السلام عليك يا مذل المؤمنين! قال وما علمك بذلك؟ قال: عمدت إلى أمر الأمة فخلعته من عنقك وقلدته هذه الطاغية يحكم بغير ما أنزل الله" (رجال الكشي" ص103). ثم بين الحسن وأوضح ما فعلت به شيعته وشيعة أبيه وما قدمت إليه من الإساءات والإهانات، وأظهر القول وجهر به فقال: أرى والله معاوية خير إلي من هؤلاء يزعمون أنهم لي شيعة، ابتغوا قتلي، وأخذوا مالي. والله! لأن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي وآمن به في أهلي خير من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتي وأهلي، والله: لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوا بي إليه سلماً. والله لئن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير، ويمن عليّ فيكون سنة على بني هاشم آخر الدهر ولمعاوية لا يزال يمن بها وعقبه على الحي منا والميت" (الاحتجاج للطبرسي ص148). وأهانوه حيث قطعوا الإمامة من عقبه وأولاده، بل أفتوا بكفر كل من يدعي الإمامة من ولده بعده. المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص 270 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 المطلب الثامن: إهانتهم للحسين بن علي رضي الله عنهما: وأما الحسين فلم يكن أسعد من أخيه وأمه وأبيه حظاً مع إظهار مغالاة القوم ومبالغتهم في حبه وولائه، فأهانوه رضي الله عنه وأرضاه قولاً وفعلاً، فقالوا: إن أمه فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهت حمله، وردت بشارة ولادته عدة مرات كما لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يقبل بشارة ولادته، ووضعته فاطمة كرها، ولكراهة أمه لم يرضع الحسين من فاطمة رضي الله عنهما. وهذه الروايات من أهم كتب الحديث عند القوم وأصحها مثل البخاري عند السنة، فيروي الكليني عن جعفر أنه قال: جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن فاطمة عليها السلام ستلد غلاماً تقتله أمتك من بعدك، فلما حملت فاطمة بالحسين عليه السلام كرهت حمله، وحين وضعته كرهت وضعه، ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: لم تر في الدنيا أم تلد غلاماً تكره، ولكنها كرهته لما علمت أنه سيقتل، قال: وفيه نزلت هذه الآية: وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا [الأحقاف:15] " (الأصول من الكافي) كتاب (الحجة) 1/ ص464، باب مولد الحسين). وإهانته! وأية إهانة؟ وإساءة! وأية إساءة؟ وكذب! وما أكبره؟ "ولم يرضع الحسين من فاطمة عليها السلام، ولا من أنثى كان يؤتى بها النبي، فيضع إبهامه في فيه فيمص منها ما يكفيه اليومين والثلاث" (الأصول من (الكافي) " ص465). هذا وعاملوه معاملتهم أخيه وأبيه من قبل، فلقد ذكر جميع مؤرخي الشيعة أن أهل الكوفة، التي كان مركزاً للشيعة، والتي قالوا فيها ما قالوا، وإن جعفراً ذكرها بقوله: إن ولايتنا عرضت على السموات والأرض والجبال والأمصار، ما قبلها قبول أهل الكوفة" (بصائر الدرجات للصفار" الجزء الثاني الباب العاشر). والتي قالوا فيها: إن الله قد اختار من البلدان أربعة فقال: والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين، فالتين المدينة والزيتون بيت المقدس وطور سيناء الكوفة وهذا البلد الأمين مكة" (مقدمة البرهان ص223). كتبوا من هذه الكوفة كتباً إلى الحسين نحواً من مائة وخمسين كتاباً، كتبوا فيها: بسم الله الرحمن الرحيم! للحسين بن عليّ أمير المؤمنين من شيعته وشيعة أبيه عليّ أمير المؤمنين. سلام الله عليك، أما بعد! فإن الناس منتظروك، ولا رأي لهم غيرك فالعجل! العجل! يا ابن رسول الله! والسلام عليكم ورحمة الله" (كشف الغمة 2/ 32، واللفظ له، "الإرشاد" ص203، "الفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة" ص182). وكتاباً آخر: أما بعد! فقد اخضرت الجنات، وأينعت الثمار، فإذا شئت فأقبل على جند لك مجندة، والسلام" (الإرشاد للمفيد ص203، أيضاً إعلام الورى للطبرسي ص223 واللفظ له). ولما تتابعت إليه كتب الشيعة، وتوالى الرسل أرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل، فانثل عليه أهل الكوفة "واجتمعوا حوله، فبايعوه وهم يبكون، وتجاوز عددهم من ثمانية عشر ألف" (الإرشاد للمفيد ص205). وبعد أيام كتب إليه مسلم بن عقيل: "إن لك مائة ألف سيف ولا تتأخر" (الإرشاد للمفيد ص220). فكتب رداً عليه وعليهم: "قد شخصت من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم وجدوا فإنى قادم إليكم" (الإرشاد للمفيد ص220). ولكن انقلبت الأمور وتقلبت الشيعة كشأنهم ودأبهم سابقاً، وقتل مسلم بن عقيل بدون ناصر ومعين، ولما بلغ الحسين نعيه وواجهه عسكرابن زياد من الكوفة و"خرج إليهم في إزار ورداء ونعلين، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس! إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم أن أقدم علينا، فإنه ليس لنا إمام، لعل الله يجمعنا بك على الهدى والحق، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم، فأعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم، وإن لم تفعلوا، وكنتم لقدومي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذى جئت منه إليكم" (الإرشاد ص224). ثم خذلوه، وأعرضوا عنه، وأسلموه للعدو حتى قتل في نفر من أهل بيته ورفاقه، كما يذكر محسن الأمين: "ثم بايع الحسين من أهل العراق عشرون ألفاً غدروا به وخرجوا عليه. وبيعته في أعناقهم، وقتلوه" (أعيان الشيعة القسم الأول ص34). ويكتب اليعقوبي الشيعي أن أهل الكوفة لما قتلوه: "انتهبوا مضاربه وابتزوا حرمه، وحملوهن إلى الكوفة، فلما دخلن إليها خرجت نساء الكوفة يصرخن ويبكين، فقال علي بن الحسين: هؤلاء يبكين علينا، فمن قتلنا"؟ (تاريخ اليعقوبي 1/ 235). فهؤلاء هم الشيعة وأولئك أهل البيت وهذه معاملاتهم وأحوالهم مع أهل البيت الذين يدعون أنهم محبون وموالون لهم. المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص273 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 المطلب التاسع: إهانتهم لبقية أهل البيت: وبقية أهل بيت علي وأهل بيت النبي لم ينجوا من إيذائهم وإضرارهم وإساءتهم وإهانتهم، فكفروا وفسقوا، وسبوا وشتموا جميع من خرجوا ثأراً للحسين وطلباً للحق، والحكم والحكومة، وادعوا الإمامة والزعامة غير الثمانية من أولاد الحسين سواء كانوا من ولده أو ولد الحسن أو علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، من محمد بن الحنفية، وابنه أبي هاشم، وزيد بن زين العابدين، وابنه يحيى، وعبد الله بن المحض بن الحسن المثنى، وابنه محمد الملقب بنفس زكية، وأخيه إبراهيم، وابني جعفر بن الباقر عبد الله الأفطح ومحمد، وحفيدي الحسن المثنى حسين بن علي ويحيى بن عبد الله، وابني موسى الكاظم زيد وإبراهيم، وابن علي النقي جعفر بن علي وغيرهم الكثيرين الكثيرين من العلويين والطالبيين الذين ذكرهم الأصفهاني في "مقاتل الطالبيين" وغيره، في غيره من الطالبيين من أولاد جعفر بن أبي طالب وعقيل بن أبي طالب، كما اعتقدوا كفر جميع من ادعى الإمامة من العباسيين أهل بيت النبي باعتراف القوم بأنفسهم وأبناء عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك فاطميي مصر, ولا أدري كيف يتبناهم شيعة عصرنا ويقولون: إنها كانت دولة شيعية، وإنهم بناة مجدنا ودعاة مذهبنا، ومؤسسوا العلم والحضارة في مصر، ومنشؤوا المساجد ودور الكتب والجامعات" (الشيعة في الميزان للمغنية ص149 وما بعد، أعيان الشيعة ص264 القسم الثاني). مع تكفيرهم إياهم واتفاقهم على خروجهم من الإسلام والملة الإسلامية الحنيفية. فلقد كتب محضر في عصر الخليفة القادر العباسي في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعمائة. وعليه توقيعات من أشراف القوم ونقبائهم، وخصوصاً من يلقب بنقيب الأشراف وجامع نهج البلاغة، السيد رضي وأخيه السيد مرتضى، واحتفاظاً على التاريخ والوثيقة التاريخية ننقلها بتمامها ههنا:- "إن الناجم بمصر وهو منصور بن نزار الملقب بالحاكم – حكم الله عليه بالبوار والخزي والنكال – ابن معد بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد – لا أسعده الله – فإنه لما سار إلى المغرب تسمى بعبيد الله وتلقب بالمهدي، هو ومن تقدمه من سلفه الأرجاس الأنجاس - عليه وعليهم اللعنة - أدعياء خوارج، لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب، وإن ذلك باطل وزور، وإنهم لا يعلمون أن أحداً من الطالبيين توقف عن إطلاق القول في هؤلاء الخوارج إنهم أدعياء، وقد كان هذا الإنكار شائعاً بالحرمين في أول أمرهم بالمغرب، منتشراً انتشار يمنع مع أن يدلس على أحد كذبهم، أو يذهب وهم إلى تصديقهم، وإن هذا الناجم بمصر هو وسلفه كفار وفساق فجار زنادقة ولمذهب الثنوية والمجوسية معتقدون، قد عطلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وسفكوا الدماء، وسبوا الأنبياء، ولعنوا السلف، وادعوا الربوبية. التوقيعات:- الشريف الرضي، السيد المرتضى أخوه، وابن الأزرق الموسوي، ومحمد بن محمد بن عمر بن أبي يعلى العلويون. والقاضي أبو محمد عبد الله بن الأكفاني، والقاضي أبو القاضي أبو القاسم الجزري، والإمام أبو حامد الإسفرائيني وغيرهم الكثيرون الكثيرون" (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لجمال الدين تسفري بردى الأتابكي، المتوفى 874هـ‍ ,4/ 229، 230، أيضاً. "شذرات الذهب" و"تاريخ الإسلام" للذهبي و"مرآة العقول" و"المنتظم" و"عقد الجمان")، ولقد اخترعوا روايات بخصوص ذلك، منها أن أبا جعفر الباقر سئل عن قول الله عز وجل: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ [الزمر:60] قال: من قال إني إمام وليس بإمام. قال: قلت وإن كان علوياً؟ قال: وإن كان علوياً. قلت: وإن كان من ولد علي بن أبي طالب عليه السلام؟ قال: وإن كان – وفي رواية عن ابنه جعفر أنه قال: وإن كان فاطمياً علوياً" (الأصول من (الكافي) 1/ 372). وأيضاً "من ادعى الإمامة وليس من أهلها فهو كافر" (الأصول من (الكافي) " 1/ 372). هذا وأما الثمانية من أولاد الحسين الذين خلعوا عليهم لقب الإمام، والتاسع الموهوم لم يكونوا بأقل توهيناً وتحقيراً وتصغيراً من قبل القوم أنفسهم، فإنهم تكلموا فيهم، وشنعوا عليهم، وخذلوهم، وأذلوهم، وضحكوا عليهم، واتهموهم بتهم هم منها براء، كفعلتهم مع آبائهم، مع الحسنين، وعلي بن أبي طالب، وصنيعهم مع سيد الكونين ورسول الثقلين صلى الله عليه وسلم، وأنبياء الله ورسله. المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص276 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 المطلب العاشر: إهانتهم لعلي بن الحسين: فأهانوا علي بن الحسين الملقب بزين العابدين، والذي يعدونه إماماً مطاعاً، ومتبعاً مبايعاً بعد أبيه بقولهم إنه كان أجبن من عامي وعادي، ولقد أقر بعبودية يزيد قاتل الحسين - حسب زعمهم - والرواية من كتابهم (الكافي) عن ابن زين العابدين محمد الباقر أنه قال: إن يزيد بن معاوية دخل المدينة وهو يريد الحج، فبعث إلى رجل من قريش فأتاه، فقال له يزيد: أتقر لي أنك عبد لي، إن شئت بعتك وإن شئت استرقيتك. فقال له الرجل: والله يا يزيد! ما أنت بأكرم مني في قريش حسباً ولا كان أبوك أفضل من أبي في الجاهلية والإسلام، وما أنت بأفضل مني في الدين ولا بخير مني، فكيف أقر لك بما سألت؟ فقال له يزيد: إن لم تقر لي والله لقتلتك، فقال له الرجل: ليس قتلك إياي بأعظم من قتلك الحسين بن علي عليهما السلام ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به فقتل. ثم أرسل إلى علي بن الحسين عليهما السلام فقال له مثل مقالته للقرشي، فقال له علي بن الحسين عليهما السلام: أرأيت إن لم أقر لك أليس تقتلني كما قتلت الرجل بالأمس؟ فقال له يزيد لعنه الله بلى فقال له علي بن الحسين عليهما السلام قد أقررت لك بما سألت، أنا عبد مكره، فإن شئت فأمسك وإن شئت فبع" (الروضة من الكافي 8/ 234، 235). هذا وقد أهانوه وآذوه في ولده ووالدته، فلقد قالوا: إنه سئل أحد أئمتهم المعصومين من شيعته: "إن لي جارين، أحدهما ناصب والآخر زيدي، ولا بد من معاشرتهما، فمن أعاشر؟ فقال: هما سيان، من كذب بآية من كتاب الله فقد نبذ الإسلام وراء ظهره وهو المكذب بجميع القرآن والأنبياء والمرسلين، قال: ثم قال: إن هذا نصب لك وهذا الزيدي نصب لنا" (الروضة من (الكافي) 8/ 235). وأوذي في والدته وأهين حيث قالوا: إن جميع الناس ارتدوا بعد قتل الحسين إلا الخمسة، أبو خالد الكابلي ويحيى بن أم الطويل وجبير بن مطيع وجابر بن عبد الله والشبكة زوجة الحسين بن علي" (مجالس المؤمنين للشوشتري، المجلسي الخامس ص144 ط طهران). ولا ندري أين ذهبت أمه شهربانو حيث عدت شبكة، ولم تذكر تلك. المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص278 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 المطلب الحادي عشر: إهانتهم لمحمد الباقر وابنه: وأما محمد الباقر وابنه جعفر فهما المظلومان الحقيقيان لأنه لا يوجد فضيحة ولا قبيحة إلا وقد نسبوها إليهما من الجبن والنفاق والغدر والخيانة والكذب، وباسمهما اخترعوا مذهباً، واختلقوا مسلكاً وهما لا يدريان عنه وعنهم شيئاً، فلقد قالوا إن الباقر كان يحل ما حرمه الله خوفاً وجبناً. فمثلاً كان يفتي "أن ما قتل البازي والصقر فهو حلال - مع كونه حراماً –" (الفروع من (الكافي) 6/ 208، باب صيد البزاة والصقور وغير ذلك). ولقد أورد روايات عديدة في حرمة ما قتله البازي والصقر. ويقول له زرارة بن أعين من كبار رواة الشيعة ومشائخهم الذين عليهم مدار المذهب. يقول في محمد الباقر: شيخ لا علم له بالخصومة" (الأصول من الكافي). هذا ولقد نقلوا أن زرارة بن أعين قال: سألت محمد الباقر: "عن مسألة فأجابني، ثم جاءه رجل فسأله عنها، فأجابه بخلاف ما أجابني، ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلما خرج الرجلان قلت: يا ابن رسول الله! رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه؟ فقال: يازرارة! إن هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم، ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا ولكان أقل لبقائنا وبقائكم. قال: ثم قلت لأبي عبد الله عليه السلام: شيعتكم لو حملتموهم على الأسنة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين، قال: فأجابني بمثل جواب أبيه" (الأصول من (الكافي) " كتاب (فضل العلم) ص65 ط طهران). وقالوا عن جعفر أيضاً أنه مدح أبا حنيفة أمامه، وذمه بعد ما خرج من عنده كما رواه الكليني عن محمد بن مسلم أنه قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام وعنده أبو حنيفة فقلت له: وجعلت فداك رأيت رؤيا عجيبة فقال لي: يا ابن مسلم! هاتها فإن العالم بها جالس وأومأ بيده إلى أبي حنيفة، قال: فقلت: رأيت كأني دخلت داري وإذا أهلي قد خرجت علي فكسرت جوزاً كثيراً ونثرته علي، فتعجبت من هذه الرؤيا فقال أبو حنيفة: أنت رجل تخاصم وتجادل لئاماً في مواريث أهلك، فبعد نصب شديد تنال حاجتك منها إن شاء الله، فقال: أبو عبد الله عليه السلام: أصبت والله يا أبا حنيفة، قال: ثم خرج أبو حنيفة من عنده فقلت: جعلت فداك إنى كرهت تعبير هذا الناصب، فقال: يا ابن مسلم! لا يسؤك الله، فما يواطئ تعبيرهم تعبيرنا. ولا تعبيرنا تعبيرهم وليس التعبير كما عبره، قال: فقلت له: جعلت فداك فقولك: أصبت وتحلف عليه وهو مخطئى؟ قال: نعم! حلفت عليه أنه أصاب الخطأ" (كتاب الروضة من الكافي) 8/ 292، تعبير منامات). هذا ولقد نسبوا إليه أنه قال: إني لأتكلم على سبعين وجهاً، لي في كلها المخرج" (بصائر الدرجات الجزء السادس). وقد ذكرنا سابقاً -انظر لذلك الباب الثالث "الشيعة وأكاذيبهم على أهل البيت" من هذا الكتاب- ما نسبوا إليهما من خرافات وقبائح ما يستحيي من ذكرها الإنسان. ونذكر ههنا رواية واحدة فقط ما رواها الكشي عن زرارة أنه قال: والله! لو حدثت بكل ما سمعته من أبي عبد الله لانتفخت ذكور الرجال على الخشب" (رجال الكشي ص123، ترجمة زرارة بن أعين). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص279 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 المطلب الثاني عشر: إهانتهم لموسى بن جعفر: وأما موسى بن جعفر فأهانوه، وأهانوا أمه فقالوا: إن ابن عكاشة دخل على أبي جعفر وكان أبو عبد الله عليه السلام قائماً عنده، فقدم إليه عنباً، فقال: حبة حبة يأكله الشيخ الكبير والصبي الصغير وثلاثة وأربعة يأكله من يظن أنه لا يشبع، وكله حبتين حبتين فإنه يستحب. فقال لأبي جعفر عليه السلام: لأي شيء لا تزوج أبا عبد الله فقد أدرك التزويج؟ قال: وبين يديه صرة مختومة، فقال: أما إنه سيجيء نخاس من أهل بربر فينزل دار ميمون، فنشتري له بهذه الصرة جارية، قال: فأتى لذلك ما أتى، فدخلنا يوماً على أبي جعفر عليه السلام فقال: ألا أخبركم عن النخاس الذي ذكرته لكم قد قدم، فاذهبوا فاشتروا بهذه الصرة منه جارية، قال: فأتينا النخاس فقال: قد بعت ما كان عندي إلا جاريتين مريضتين إحداهما أمثل من الأخرى، قلنا: فأخرجهما حتى ننظر إليهما فأخرجهما، فقلنا: بكم تبيعنا هذه المتماثلة قال: بسبعين ديناراً، قلنا أحسن، قال: لا أنقص من سبعين ديناراً، قلنا له: نشتريها منك بهذه الصرة ما بلغت ولا ندري ما فيها وكان عنده رجل أبيض الرأس واللحية قال: فكوا وزنوا، فقال النخاس: لا تفكوا فإنها إن نقصت حبة من سبعين ديناراً لم أبايعكم، فقال الشيخ: ادنوا، فدنونا وفككنا الخاتم ووزنا الدنانير، فإذا هى سبعون ديناراً لا تزيد ولا تنقص، فأخذنا الجارية فأدخلناها على أبي جعفر عليه السلام وجعفر قائم عنده فأخبرنا أبا جعفر بما كان، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال لها: ما اسمك؟ قالت: حميدة، فقال حميدة في الدنيا، محمودة في الآخرة، أخبريني عنك أبكر أنت أم ثيب؟ قالت: بكر, قال: وكيف ولا يقع في أيدي النخاسين شيء إلا أفسدوه، فقال: قد كان يجيئني مني مقعد الرجل من المرأة، فيسلط الله عليه رجلاً أبيض الرأس واللحية، فلا يزال يلطمه حتى يقوم عني، ففعل بي مراراً وفعل الشيخ به مراراً فقال: يا جعفر! خذها إليك، فولدت خير أهل الأرض موسى بن جعفر عليهما السلام" (الأصول من الكافي) كتاب (الحجة)، باب مولد موسى بن جعفر 1/ 4779. وتكلموا في علمه وعقله حيث قالوا: إنه سئل عن امرأة تزوجت ولها زوج؟ قال: ترجم المرأة، ولا شيء على الرجل، فلقيت أبا بصير (1) فقلت له: إني سألت أبا الحسن عن المرأة التي تزوجت ولها زوج، قال: ترجم المرأة ولا شيء على الرجل، قال: فمسح صدره (أبو بصير) وقال: ما أظن صاحبنا تناهى حكمه بعد – وفي رواية أخرى: أظن صاحبنا ما تكامل علمه" (رجال الكشي" 153، 154). وكان أبو بصير المرادي هذا يتهم موسى بن جعفر أنه رجل الدنيا كما ذكر الكشي عن حماد بن عثمان أنه قال: خرجت أنا وابن أبي يعفور وآخر إلى الحيرة أو إلى بعض المواضع، فتذاكرنا الدنيا فقال أبو بصير المرادي: أما إن صاحبكم لو ظفر بها لاستأثر بها" (رجال الكشي" ص154). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص281   (1) من كبار الشيعة ومشائخهم الذين قال فيهم جعفر: لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست" ((رجال الكشي ص152)) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 المطلب الثالث عشر: إهانتهم لعلي بن موسى بن جعفر: وأما علي بن موسى بن جعفر هو الذى قالوا عنه: إنه كان يرى جواز إتيان الرجل المرأة في دبرها ("الاستبصار" باب إتيان النساء ما دون الفرج، 3/ 343). وحكوا عنه نفس القصة التى حكوا عن أبيه موسى بن جعفر: عن هاشم بن أحمد قال: قال أبو الحسن الأول عليه السلام: هل علمت أحداً من أهل المغرب قدم؟ قلت: لا، فقال عليه السلام: بلى قد قدم رجل أحمر فانطلق بنا، فركب وركبنا معه حتى انتهينا إلى الرجل، فإذا رجل من أهل المغرب معه رقيق فقال له: اعرض علينا، فعرض علينا تسع جوار كل ذلك يقول أبو الحسن عليه السلام لا حاجة لي فيها، ثم قال له: اعرض علينا، قال: ما عندي شيء فقال له: بلى أعرض علينا قال: لا والله، ما عندي إلا جارية مريضة فقال له: ما عليك أن تعرضها؟ فأبى عليه، ثم انصرف عليه السلام ثم إنه أرسلني من الغد إليه، فقال لي: قل له كم غايتك فيها؟ فإذا قال: كذا وكذا. فقل: قد أخذتها، فأتيته، فقال: ما أريد أن أنقصها من كذا فقلت: قد أخذتها وهو لك، فقال: هي لك، ولكن من الرجل الذي كان معك بالأمس؟ فقلت: رجل من بني هاشم، فقال: من أي بني هاشم؟ فقلت: من نقبائهم، فقال: أريد أكثر منه، فقلت: ما عندي أكثر من هذا، فقال: أخبرك عن هذه الوصيفة إني اشتريتها من أقصى بلاد المغرب، فلقيتني امرأة من أهل الكتاب، فقالت: ما هذه الوصيفة معك؟ فقلت: اشتريتها لنفسي، فقالت: ما ينبغي أن تكون هذه الوصيفة عند مثلك! إن هذه الجارية ينبغي أن تكون عند خير أهل الأرض، فلا تلبث عنده إلا قليلاً حتى تلد منه غلاماً يدين له شرق الأرض وغربها، قال: فأتيته بها، فلم تلبث عنده إلا قليلاً. حتى ولدت له علياً عليه السلام" ("عيون أخبار الرضا" لابن بابويه 1/ 17، 18، "الأصول من (الكافي) " للكليني 1/ 486). وهل من المعقول أن مثل موسى بن جعفر وجعفر بن باقر لا يجدان امرأة من بني هاشم وغيرهم من الأشراف ليتزوجا بها ومن الحرائر حتى اضطر إلى اشتراء جوار وإماء ومن النخاسين الذين جردوهما من الملابس وجلسوا منهن مجلس الرجل من المرأة. فيا للعجائب المضحكات المبكيات معاً. ثم وقد نسبوا إلى هذا الرضا بأنه كان يعشق ابنة عم المأمون وهى تعشقه كما يذكر ابن بابويه القمي في بيان علاقات ذي الرياستين وأبي الحسن الرضا: "وأظهر ذو الرياستين عداوة شديدة على الرضا عليه السلام وحسده على ما كان المأمون يفضل به، فأول ما ظهر لذي الرياستين من أبي الحسن عليه السلام أن ابنة عم المأمون كانت تحبه وكان يحبها، وكان ينفتح باب حجرتها إلى مجلس المأمون، وكانت تميل إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام وتحبه، وتذكر ذا الرياستين وتقع فيه، فقال ذو الرياستين حين بلغه ذكرها له: لا ينبغي أن يكون باب دار النساء مشرعاً إلى مجلسك، فأمر المأمون بسده، وكان المأمون يأتي الرضا عليه السلام يوماً والرضا عليه السلام يأتي المأمون يوماً، وكان منزل أبي الحسن عليه السلام بجنب منزل المأمون، فلما دخل أبو الحسن عليه السلام إلى المأمون ونظر إلى الباب مسدوداً قال: يا أمير المؤمنين ما هذا الباب الذي سددته؟ فقال: رأى الفضل ذلك وكرهه، فقال عليه السلام: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما للفضل والدخول بين أمير المؤمنين وحرمه؟ قال: فما ترى؟ قال: فتحه والدخول إلى ابنة عمك ولا تقبل قول الفضل فيما لا يحل ولا يسع، فأمر المأمون بهدمه ودخل على ابنة عمه، فبلغ الفضل ذلك فغمه" ("عيون أخبار الرضا" ص153، 154). وينسبونه إلى جبن ومذلة بقولهم لما أرسل إليه الجلودي - أحد أمراء الرشيد - لينهب بيته ويسلب أمواله، فبدل أن يدافع عنه وعن أهل بيته وعن شرفه وحرمه وحرماته بدأ يدفع إليه الأموال: "فدخل الحسن أبو الرضا عليه السلام، فلم يدع عليهن شيئاً حتى أقراطهن وخلاخيلهن وأزرارهن إلا أخذه منهن وجميع ما كان في الدار من قليل وكثير - ودفعها إليه –" ("عيون أخبار الرضا" 2/ 161). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص283 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 المطلب الرابع عشر: إهانتهم للقانع ابن الرضا: وأما ابن الرضا محمد الملقب بالقانع والمكنى بأبي جعفر الثاني، فقد شكوا في بنوته للرضا وترددوا في قبول إمامته لاسوداد وجهه وتغير لونه، وقالوا إن الذين سبقوا إلى الشك فيه هم عمومته وإخوته كما نقلوا عن علي بن جعفر بن الباقر أنه قال له إخوته (أي الرضا):ما كان فينا إمام قط حائل اللون (1) فقال لهم الرضا عليه السلام: هو ابني، قالوا: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قضى بالقافة (2) فبيننا وبينك القافة، قال: ابعثوا أنتم إليهم، فأما أنا فلا، ولا تعلموهم لما دعوتموهم ولتكونوا في بيوتكم. فلما جاؤوا أقعدونا في البستان واصطف عمومته وإخوته وأخواته، وأخذوا الرضا عليه السلام وألبسوه جبة صوف وقلنسوة منها، ووضعوا على عنقه مسحاة وقالوا له: ادخل البستان كأنك تعمل فيه، ثم جاؤا بأبي جعفر عليه السلام فقالوا: ألحقوا هذا الغلام بأبيه، فقالوا: ليس له ههنا أب ولكن هذا عم أبيه، وهذا عمه، وهذه عمته، وإن يكن له ههنا أب فهو صاحب البستان، فإن قدميه وقدميه واحدة، فلما رجع أبو الحسن عليه السلام قالوا: هذا أبوه" ("الأصول من الكافي 1/ 322، 323). انظر إلى هذه المسرحية وكيف يحكون عنها؟ وكم فيها من الإساءات إلى أهل بيت علي رضي الله عنه؟ ويقولون عنه إنه كان جباناً خوافاً إلى أنه لما طلبه المعتصم العباسي مرة ثانية إليه: "بكى حتى اخضلت لحيته ثم التفت فقال: عند هذه يخاف علي" (الأصول من الكافي 1/ 322، 323). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص285   (1) حال لونه أي: تغير واسود، كما في هامش الأصل. (2) جمع القائف وهو الذي يعرف الآثار والأشباه ويحكم بالنسب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 المطلب الخامس عشر: إهانتهم لعلي بن محمد بن الحسن بن موسى: وأما ابنه علي فيقولون: إنه مات أبوه وكان في الثامنة من عمره، فاختلفوا في إمامته وتكلموا كثيراً حولها حتى أثبتوها بشهادة رجل لم يكن منهم وبعد إجباره على تلك الشهادة (انظر تفصيل تلك القصة في كتاب (الحجة)، باب الإشارة والنص على أبي الحسن الثالث 1/ 324). ويقولون: إنه مع إمامته "لم يسلم إليه تركته من الضياع والأموال والنفقات والرقيق، وجعل عبد الله بن المساور قائماً عليها إلى أن يبلغ من قبل أبيه" (الأصول من الكافي 1/ 325). مع أنهم يحكون عن أبيه: "إنه استأذن عليه قوم من أهل النواحي من الشيعة فأذن لهم، فدخلوا فسألوه في مجلس واحد عن ثلاثين ألف مسألة فأجاب عليه السلام وله عشر سنين" (الأصول من الكافي كتاب (الحجة)، باب مولد محمد بن علي 1/ 496).وما أدري لم يستصغرونه حتى يضطرون إلى القائم يقوم بأمره إلى أن يبلغ ثم ويتهمونه بأنه لم يكن يعرف من سيكون الإمام بعده حتى إنه (أي علي بن محمد) جعل الإمامة إلى الأكبر من ولده - يعني إلى أبي جعفر محمد - ولم يدر أنه لا يبقى بعده بل سيموت في حياته، فلما مات قال: ما أنا الذي أخطأت ولكن الله لم يعلم من الذي سيكون الإمام بعدي وإليك النص: بدا (1) لله في أبي محمد (يعني ابنه الثاني الحسن العسكري) بعد أبي جعفر (يعني ابنه الأكبر محمداً) ما لم يكن يعرف له كما بدا في موسى بعد مضي إسماعيل (يعني ابني جعفر) ما كشف به عن حاله وهو كما حدثتك نفسك وإن كره المبطلون" (الإرشاد للمفيد ص337). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص286   (1) معناه: النسيان والجهل لله تعالى. انظر لتفصيل ذلك كتاب (الشيعة والسنة) الباب الأول، مسألة البدا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 المطلب السادس عشر: إهانتهم للعسكري: وأما الحادي عشر حسن بن علي الملقب بالعسكري فيقولون عنه: إنه شكر الله عزوجل على وفاة أخيه الأكبر محمد بن علي لما سمع أن الإمامة تصل إليه بعد ما شق جيوبه ولطم خدوده كما ذكره المفيد في (الإرشاد ص326 والأربلي في "كشف الغمة" (الإرشاد ص405). هذا وأما الثاني عشر الموهوم فكفى فيه القول أنهم يصرحون في كتبهم أنفسهم أنه لم يولد ولم يعثر عليه ولم ير له أثر مع كل التفتيش والتنقيب، ثم يحكون حكايات، وينسجون الأساطير، ويختلقون القصص والأباطيل في ولادته وأوصافه، إما موجود ولد، وإما معدوم لم يولد؟ غير مولود ومولود! ومعدوم وموجود! فأية إساءة أكبر منها؟ وأية إهانة أكثر منها. وإليكم النص من أهم كتبهم هم، فيروون عن أحمد بن عبيد الله بن خاقان أنه قال في قصة طويلة أن الحسن العسكري: لما اعتل بعث السلطان إلى أبيه أن ابن الرضا قد اعتل، فركب من ساعته فبادر إلى دار الخلافة ثم رجع مستعجلاً ومعه خمسة من خدم أمير المؤمنين كلهم من ثقاته وخاصته، فيهم نحرير فأمرهم بلزوم دار الحسن وتعرف خبره وحاله، وبعث إلى نفر من المتطببين فأمرهم بالاختلاف إليه وتعاهده صباحاً ومساءً، فلما كان بعد ذلك بيومين أو ثلاثة أخبر أنه قد ضعف، فأمر المتطببين بلزوم داره وبعث إلى قاضي القضاة فأحضره مجلسه وأمره أن يختار من أصحابه عشرا ممن يوثق به في دينه وأمانته وورعه، فأحضرهم فبعث بهم إلى دار الحسن وأمرهم بلزومه ليلاً ونهاراً، فلم يزالوا هناك حتى توفي عليه السلام فصارت سر من رأى ضجة واحدة وبعث السلطان إلى داره من فتشها وفتش حجرها وختم على جميع ما فيها وطلبوا أثر ولده وجاؤا بنساء يعرفن الحمل، فدخلن إلى جواريه ينظرن إليهن، فذكر بعضهن أن هناك جارية بها حمل فجعلت في حجرة ووكل بها نحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم، ثم أخذوا بعد ذلك في تهيئته وعطلت الأسواق وركبت بنو هاشم والقواد وأبي وسائر الناس إلى جنازته، فكانت سر من رأى يومئذ شبيهاً بالقيامة، فلما فرغوا من تهيئته بعث السلطان إلى أبي عيسى بن المتوكل فأمر بالصلاة عليه، فلما وضعت الجنازة للصلاة عليه دنا أبو عيسى منه فكشف عن وجهه فعرضه على بني هاشم من العلوية والعباسية والقواد والكتاب والقضاة والمعدلين وقال: هذا الحسن بن علي بن محمد بن الرضا مات حتف أنفه على فراشه حضره من حضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان ومن القضاة فلان وفلان ومن المتطببين فلان وفلان، ثم غطى وجهه وأمر بحمله فحمل من وسط داره ودفن في البيت الذي دفن فيه أبوه. لما دفن أخذ السلطان والناس في طلب ولده وكثر التفتيش في المنازل والدور وتوقفوا عن قسمة ميراثه ولم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية التي توهم عليها الحمل لازمين حتى تبين بطلان الحمل، فلما بطل الحمل عنهن قسم ميراثه بين أمه وأخيه جعفر وادعت أمه وصيته وثبت ذلك عند القاضي" (كتاب (الحجة) من الكافي ص505، الإرشاد للمفيد ص339، 340، كشف الغمة ص408، 409، الفصول المهمة ص289، جلاء العيون 2/ 762، إعلام الورى للطبرسي ص377، 378). وما أحسن ما كتب أحد كتاب السنة في هذا أن مهدي الشيعة وقائمهم مختلق معدوم موهوم، وإن قرآنهم كذلك معدوم غير موجود، وإن مذهبهم أيضاً مخترع موضوع، وسيكون معدوماً إن شاء الله. وهذه الرواية التي ذكرها جميع مؤرخي الشيعة ومؤلفيها ومحدثيها تهدم ما أرادوا بنائه على الأساطير والقصص من ولادة الإمام الثاني عشر ونشأته وإمامته، وأن لا يكون كذلك فهم لا يريدون من ذكر هذه الروايات وثبتها إلا إهانته وإيذاءه حيث ينسبونه إلى عدم الوجود والولادة وهو مولود وموجود! فالعدل، العدل. ولقد كتب المفيد وغيره "فلم يظهر ولده في حياته، ولا عرفه الجمهور بعد وفاته وتولى جعفر بن علي أخو أبي محمد عليه السلام وأخذ تركته وسعى في حبس جواري أبي محمد واعتقال حلائله .. وحاز جعفر ظاهراً تركة أبي محمد عليه السلام واجتهد في القيام عند الشيعة مقامه" ("الإرشاد" ص345 "إعلام الورى" ص380). فهذا هو الثاني عشر إن كان لهم الثاني عشر، وفعلاً اعتقد القوم منهم إمامته وسموا بالجعفرية، ولكن الشيعة سبوه وشتموه كعادتهم مع الآخرين، فقالوا فيه أي جعفر بن محمد: هو معلن الفسق فاجر، ماجن، شريب للخمور، أقل من رأيته من الرجال، وأهتكهم لنفسه، خفيف، قليل في نفسه" (الأصول من الكافي 1/ 504). ويسمونه جعفر الكذاب وغير ذلك من الأوصاف الكثيرة القبيحة. المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص287 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 الفصل العشرون: أهل البيت وبيانهم لحقيقة الشيعة: وقبل أن ننتهي من هذا نريد أن نثبت ههنا أن أهل البيت كانوا على علم ومعرفة من صنيع هؤلاء القوم ومعاملاتهم معهم، وعلى ذلك لم يقصروا بدورهم أيضاً في بيان حقيقة هؤلاء القوم على الناس، وتنوير الرأي العام، وكيل اللعنات والحملات العشواء ضدهم، من أولهم إلى آخرهم. فأول المبتلين بهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يتأن ولم يتأخر في إيقافه إياهم موقف المجرمين المتخاذلين، والمتعنتين المعاندين الطاعنين. فقال: أحمد الله على ما قضى من أمر، وقدر من فعل، وعلى ابتلائي بكم أيتها الفرقة التي إذا أمرت لم تطع، وإذا دعوت لم تجب إن أمهلتم خضتم، وإن حوربتم خرتم، وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم، وإن جئتم إلى مشاقة نكصتم. لا أبا لغيركم! ما تنتظرون بنصركم والجهاد على حقكم؟ الموت أو الذل لكم؟ فوالله لئن جاء يومي - وليأتيني - ليفرقن بيني وبينكم، وأنا لصحبتكم قال، وبكم غير كثير، لله أنتم! أما دين يجمعكم! ولا حمية تشحذكم! أوليس عجباً أن معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه على غير معونة ولا عطاء، وأنا أدعوكم - وأنتم تريكة الإسلام، وبقية الناس - إلى المعونة أو طائفة من العطاء، فتفرقون عني وتختلفون عليّ؟ إنه لا يخرج إليكم من أمري رضى فترضونه، ولا سخط فتجتمعون عليه، وإنّ أحبّ ما أنا لاق إليّ الموت! قد دارستكم الكتاب، وفاتحتكم الحجاج، وعرفتكم ما أنكرتم، وسوغتكم ما مججتم، لو كان الأعمى يلحظ، أو النائم يستيقظ" (نهج البلاغة ص258، 259). وقال مرة أخرى مخاطباً إياهم: أف لكم! لقد سئمت عتابكم! أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضاً؟ وبالذل من العز خلفاً؟ إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم، كأنكم من الموت في غمرة، ومن الذهول في سكرة. يرتج عليكم حواري فتعمهون، وكأن قلوبكم مألوسة، فأنتم لا تعقلون. ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي، وما أنتم بركن يمال بكم، ولا زوافر عز يفتقر إليكم ما أنتم إلا كإبل ضل رعاتها، كلما جمعت من جانب انتشرت من آخر، لبئس - لعمر الله - سعر نار الحرب أنتم. تكادون ولا تكيدون، وتنتقص أطرافكم فلا تمتعضون (الامتعاض هو: الغضب)، لا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون، غلب والله المتخاذلون! وأيم الله! إني لأظن بكم أن لو حمس الوغى، واستحر الموت، قد انفرجتم عن أبي طالب انفراج الرأس" (نهج البلاغة ص78). ومرة أخرى يبين للناس ما هم في الجبن والمخاذلة والفساد والباطل فيقول: كم أداريكم كما تداري البكار العمدة، والثياب المتداعية! كلما حيصت من جانب تهتكت من آخر، كلما أطل عليكم منسر من مناسر أهل الشام أغلق كل رجل منكم بابه، وانحجر انحجار الضبة في جحرها، والضبع في وجارها. الذليل والله من نصرتموه! ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل (السهم مكسور الفوق، عار عن النصل). - إنكم والله - لكثيرة في الباحات قليل تحت الرايات، وإني لعالم بما يصلحكم، ويقيم أودكم، ولكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي أضرع الله خدودكم، وأتعس جدودكم! لا تعرفون الحق كمعرفتكم الباطل، ولا تبطلون الباطل كإبطالكم الحق! " ("نهج البلاغة" ص98، 99). وأيضاً "وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تغضبون! وأنتم لنقض ذمم آبائكم تأنفون! وكانت أمور الله عليكم ترد، وعنكم تصدر، وإليكم ترجع، فمكنتم الظلمة من منزلتكم، وألقيتم إليهم أزمتكم، وأسلمتم أمور الله في أيديهم، يعملون بالشبهات، ويسيرون في الشهوات، وأيم الله، لو فرقوكم تحت كل كوكب، لجمعكم الله لشر يوم لهم" ("نهج البلاغة" ص154). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 و"كأني أنظر إليكم تكشون كشيش الضباب، لا تأخذون حقاً ولا تمنعون ضيماً، قد خليتم والطريق، فالنجاة للمقتحم، والهلكة للمتلوم" (نهج البلاغة ص180). وقال متأسفاً ويائساً عنهم: فإن استقمتم هديتكم، وإن اعوججتم قومتكم، وإن أبيتم تداركتكم، لكانت الوثقى، ولكن بمن وإلى من؟ أريد أن أداوي بكم وأنتم دائي كناقش الشوكة بالشركة، وهو يعلم أن ضلعها معها! اللهم قد ملت أطباء هذا الداء الدوي، وكلت النزعة بأشطان الركى! أين القوم الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرؤا القرآن فأحكموه، وهيجوا إلى الجهاد فولهوا وله اللقاح إلى ولدها، وسلبوا السيوف أغمادها، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفا، وصفاً صفا. بعض هلك وبعض نجا، لا يبشرون بالأحياء، ولا يعزون عن الموتى. مرة العيون من البكاء، خمص البطون من الصيام: ذبل الشفاه من الدعاء، صفر الألوان من السهر. على وجوههم غبرة الخاشعين. أولئك إخواني الذاهبون. فحق لنا أن نظمأ إليهم، ونعض الأيدي على فراقهم" ("نهج البلاغة" ص177، 178). وأخيراً يكب عليهم جعبته، ويدعو عليهم ويقول: ما هي إلا الكوفة، أقبضها وأبسطها، إن لم تكوني إلا أنت تهب أعاصيرك فقبحك الله!. اللهم إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيراً منهم، وأبدلهم بي شراً مني، اللهم مث (أي أذب، من الإذابة) قلوبهم كما يماث الملح في الماء" ("نهج البلاغة" ص66، 67). هذا وقد قال الحسن ما ذكرنا سابقاً: أرى والله معاوية خير لي من هؤلاء يزعمون أنهم لي شيعة، ابتغوا قتلي وأخذوا مالي" (الاحتجاج للطبرسي ص148). وقد قال أيضاً: عرفت أهل الكوفة وبلوتهم، ولا يصلح لي من كان منهم فاسداً، إنهم لاوفاء لهم ولا ذمة في قول ولا فعل، إنهم مختلفون ويقولون لنا إن قلوبهم معنا، وإن سيوفهم لمشهورة علينا" ("الاحتجاج" ص149). وقال الحسين بن علي وهو واقف في كربلاء: يا شيث بن ربعي! ويا حجار بن أبحر! ويا قيس بن الأشعث! ويا يزيد بن الحارث! (أسماء شيعته) ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعت الثمار واخضر الجناب وإنما تقدم على جند لك مجندة" (الإرشاد للمفيد ص234. أيضاً إعلام الورى بأعلام الهدى للطبرسي ص242). وقال الحر بن يزيد التميمي نيابة عنه وهو واقف أمامه في كربلاء يوم مقتله: يا أهل الكوفة! لامكم الهبل والعبر أدعوتم هذا العبد الصالح حتى إذا جاءكم أسلمتموه وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه، ثم عدوتم عليه لتقتلوه وأمسكتم بنفسه وأخذتم بكظمه وأحطتم به من كل جانب لتمنعوه التوجه في بلاد الله العريضة فصار كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضراً، وجلأتموه ونساءه وصبيته وأهله من ماء الفرات الجاري يشربه اليهود والنصارى والمجوس وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه. فهاهم قد صرعهم العطش بئس ما خلفتم محمداً في ذريته لا سقاكم الله يوم الظمأ" (الإرشاد ص234، 235، إعلام الورى للطبرسي ص243). وهؤلاء الذين أخبر عنهم الفرزدق الشاعر: "يا ابن رسول الله! كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمك مسلم بن عقيل" ("كشف الغمة" 2/ 38). ونقل المفيد أنه قال: حججت بأمي سنة ستين فبينا أنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم إذ لقيت الحسين بن علي عليهما السلام خارجاً من مكة مع أسيافه وأتراسه، فقلت: لمن هذا القطار؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 فقيل: للحسين بن علي عليهما السلام فأتيته فسلمت عليه وقلت له: أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحب بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله ما أعجلك عن الحج؟ فقال: لو لم أعجل لأخذت، ثم قال لي: من أنت؟ قلت: امرؤا من العرب، فلا والله ما فتشني عن أكثر من ذلك، ثم قال لي: أخبرني عن الناس خلفك، فقلت: الخبير سألت. قلوب الناس معك وأسيافهم عليك، والقضاء ينزل من السماء والله يفعل ما يشاء" (الإرشاد ص218). وأما الحسين: فلما رأى عليه السلام وحدته ورزأ أسرته وفقد نصرته تقدم على فرسه إلى القوم حتى واجههم وقال لهم: يا أهل الكوفة قبحاً لكم وتعساً حين استصرختمونا والهين فأتينا موجفين، فشحذتم علينا سيفاً كان في أيماننا، وحششتم علينا ناراً نحن أضرمناها على أعدائكم وأعدائنا، فأصبحتم ألباً على أوليائكم ويداً لأعدائكم، من غير عدل أفشوه فيكم، ولا ذنب كان منا إليكم، فلكم الويلات, هلا إذ كرهتمونا والسيف ماشيم والجأش ما طاش والرأي لم يستحصد, ولكنكم أسرعتم إلى بيعتنا إسراع الدنيا، وتهافتّم إليها كتهافت الفراش، ثم نقضتموها سفهاً وضلة وطاعة لطواغيت الأمة وبقية الأحزاب ونبذة الكتاب، ثم أنتم هؤلاء تتخاذلون عنا وتقتلونا، ألا لعنة الله على الظالمين، ثم حرك إليهم فرسه وسيفه مصلت في يده وهو آيس من نفسه" ("كشف الغمة" 2/ 18، 19). وأخيراً هؤلاء الذين دعوهم إلى كربلاء دعا عليهم كدعاء أبيه على شيعته، فيذكر المفيد: "ثم رفع الحسين عليه السلام يده وقال: اللهم إن متعتهم إلى حين ففرقهم فرقاً واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترضي الولاة عنهم أبداً، فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا فقتلونا" (الإرشاد ص241، أيضاً إعلام الورى للطبرسي ص949). وأما علي بن الحسين الملقب بزين العابدين فأبان عوارهم وأظهر عارهم وكشف عن حقيقتهم فقال: إن اليهود أحبوا عزيراً حتى قالوا فيه ماقالوا، فلا عزير منهم ولا هم من عزير، وإن النصارى أحبوا عيسى حتى قالوا فيه ماقالوا فلا عيسى منهم ولا هم من عيسى، وأنا على سنة من ذلك، إن قوماً من شيعتنا سيحبونا حتى يقولوا فينا ما قالت اليهود في عزير وما قالت النصارى في عيسى، فلا هم منا ولا نحن منهم. هذا، وشيعته خذلوه وتركوه، ولم يبق منهم إلا الخمسة كالرواية التي رويناها قبل، وأيضاً ما رواه فضل بن شاذان (رجال الكشي ص107). أو ثلاثة كما ذكر جعفر بن الباقر أنه قال: ارتد الناس بعد قتل الحسين عليه السلام إلا ثلاثه، أبو خالد الكابلي, ويحيى بن أم الطويل, وجبير بن مطعم, - وروى يونس بن حمزة مثله وزاد فيه: وجابر بن عبد الله الأنصاري" (رجال الكشي ص113). وأما محمد الباقر فكان يائساً من الشيعة إلى حد حتى قال: لو كان الناس كلهم لنا شيعة لكان ثلاثة أرباعهم لنا شكاكاً والربع الآخر أحمق" ("رجال الكشي" ص179). ويشير جعفر أنه لم يكن لأبيه الباقر مخلصون من الشيعة إلا أربعة أو خمسة كما روى: إذا أراد الله بهم سوءا صرف بهم عنهم السوء، هم نجوم شيعتي أحياءاً وأمواتاً، يحيون ذكر أبي، بهم يكشف الله كل بدعة، ينفون عن هذا الدين انتحال المبطلين وتأول الغالين. ثم بكى فقلت: من هم؟ فقال: من عليهم صلوات الله عليهم ورحمته أحياء وأمواتاً بريد العجلي, وزرارة, وأبو بصير, ومحمد بن مسلم" (رجال الكشي ص124). وأما الباقر فكان لا يعتمد حتى ولا على هؤلاء، فكما روي عن هشام بن سالم عن زرارة أنه قال: سألت أبا جعفر عن جوائز العمال؟ فقال: لا بأس به، ثم قال: إنما أراد زرارة أن يبلغ هشاماً إني أحرم أعمال السلطان" ("رجال الكشي" ص140). ثم وكيف كان هؤلاء؟ فأعرفهم عن جعفر أيضاً، ولقد روى مسمع أنه سمع أبا عبد الله يقول: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 لعن الله بريداً، لعن الله زرارة" (رجال الكشي ص134). وأما أبو بصير فقالوا: إن الكلاب كان تشغر في وجه أبي بصير" (رجال الكشي ص155). وأما جعفر بن الباقر فإنه أظهر شكواه عن شيعته بقوله حيث خاطب: أما والله لو أجد منكم ثلاثة مؤمنين يكتمون حديثي ما استحللت أن أكتمهم حديثاً" (الأصول من الكافي ج1 ص496 ط الهند). ولأجل ذلك قال له أحد مريديه عبد الله بن يعفور كما رواه بنفسه: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إني أخالط الناس فيكثر عجبي من أقوال لا يتولونكم ويتولون فلاناً وفلاناً لهم أمانة وصدق ووفاء، وأقوام يتولونكم ليس لهم تلك الأمانة ولا الوفاء ولا الصدق" (الأصول من الكافي 1/ 375 ط طهران). وفوق ذلك شكاكاً في القوم كله، ولأجل ذلك لم يك يفتيهم إلا بفتاوى مختلفة حتى لا يفضوها إلا الأعداء والمخالفين كما مر بيانه مفصلاً. وإنه كان كثيراً ما يقول: ما وجدت أحداً يقبل وصيتي ويطيع أمري إلا عبد الله بن يعفور" ("رجال الكشي" ص213). ومرة خاطب شيعته فقال: ما لكم وللناس قد حملتم الناس عليّ؟ إني والله ما وجدت أحداً يطيعني ويأخذ بقولي إلا رجلاً واحداً عبد الله بن يعفور، فإني أمرته وأوصيته بوصية فاتبع أمري وأخذ بقولي" (الأصول من الكافي ص215). وأما ابنه موسى فإنه وصفهم بوصف لا يعرف وصف جامع ومانع لبيان الحقيقة مثله، وبه نتم الكلام، فإنه قال: لو ميزت شيعتي لم أجدهم إلا واصفة، ولو امتحنتهم لما وجدتهم إلا مرتدين، ولو تمحصتهم لما خلص من الألف واحد، ولو غربلتهم غربلة لم يبق منهم إلا ما كان لي، إنهم طالما اتكؤوا على الأرائك، فقالوا: نحن شيعة علي" (الروضة من الكافي 8/ 228). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص290 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 المطلب الأول: العنصرية أساس في عقائد اليهود والروافض: إن أطماع اليهود في البيئة التي حملت لواء الإسلام والقيام بالدعوة إليه قديمة جداً، فبعد أن نزح اليهود إلى الجزيرة العربية نقلوا معهم من الأساطير التي شاعت بينهم إبان الأسر البابلي العقائد الكثيرة والأطماع العديدة، وكان من بين هذه الأساطير اليهودية عقيدة التناسخ التي أصبحت مصدراً رئيسياً عند الإمامية عندما قالوا بعقيدة "الرجعة" التي اعتنقوها كتعبير عن مشاعر الانتقام والحقد الذي انطوت عليه نفوس بعض الذين زعموا ظلم آل البيت من أعدائهم، وقد ساعد العمل السري والتحريف العقائدي الذي دعا إليه عبد الله بن سبأ في إشاعة جو من الاضطراب السياسي والعقدي في الأمصار الإسلامية كنوع من الحرب النفسية وتعميق مشاعر الإحباط والهزيمة في كيان الأمة الإسلامية. والجدير ذكره أن اليهود وجدوا منذ عصر الفتنة التي أعقبت مقتل عثمان مسرحاً لنقل الفكر الباطني إلى الساحة الإسلامية، وكان ذلك بسبب سماحة الفكر الإسلامي الذي تقبل كل العناصر التي تظاهرت بالإسلام، حتى شاعت في وقت مبكر الأفكار اليهودية التي تدور حول جملة من العقائد تناقض عقيدة الإسلام والتي كان من أهمها عقائد: "الإمامة" و"الوصية" و"الرجعة" و"الغيبة" و"العصمة"، إلى غير ذلك من العقائد الوضعية، والقول بالظاهر والباطن في تناول النصوص. ومقارنة بسيطة بين عقائد اليهود في القول بالتناسخ، وبين عقائد غلاة الباطنية التي تزعم أن الأموات يرجعون إلى الدنيا للانتقام من أعدائهم توضح أثر اليهود التناسخي على الإمامية في القول بعقيدة الرجعة. وقد أوضح الشهرستاني هذه العلاقة وذكر أن الإمامية عرفوا التناسخ والرجعة عند اليهود، وقد بنيت فكرة تأليه الأئمة في القول بالعصمة على المعتقد الذي استهدف تقديس علي رضي الله عنه بتأثير من عقيدتي الرجعة والغيبة التي تصورهما أسطورة القول بالتناسخ اليهودية والتي تفرعت في اتجاهات ثلاثة: الأول: القول بالإمام المعصوم. والثاني: القول بعقيدة خاتم الأوصياء. والثالث: القول بعقيدة القداسة الإلهية لعلي رضي الله عنه. وهذه العقائد الثلاث اعتبرت علماً خاصاً يطلق عليه "العلم السري" الذي يعبر عن عقيدة الرجعة عند الإمامية، كنوع من الاعتقاد الخاص الذي لم يشرعه الإسلام، ولم يقل به أحد من المسلمين حتى من تفلسف منهم وتأثرت مقالاته بالأفكار والمبادئ ذات النزعة التجسيمية أو التعطيلية. ولما كان التراث الفارسي في مجال العقيدة الدينية القديمة قبل ظهور الإسلام يقوم هو الآخر على فكر التناسخ، فإن العمل الباطني وجد المجال مهيئاً أمام العناصر التي اندست في المحيط الإسلامي، وكان أن تشكلت مقومات المذهب الإمامي بحيث يبدأ التناقض مع الإسلام بصدام يعتمد على المقولات العقدية ضد الخطاب العربي عند الأمة العربية باعتبارها منذ ظهور الإسلام العقل الصحيح والترجمان الصريح والأداة الراشدة للتعبير عن دين الإسلام؛ فمثلاً في ظل عقيدة الرجعة تعتقد الإمامية: أن أول عمل للغائب أن يبدأ بقتل العرب. فقد جاء في كتاب (الإرشاد) للشيخ المفيد (1)، و (أعلام الورى) للطبرسي (2)، وكتاب (الغيبة) للنعماني (3) فيما نسبت وادعت روايات الإمامية إلى أبي جعفر أنه قال: (لو يعلم الناس ما يصنع القائم إذا خرج لأحب أكثرهم ألا يروه مما يقتل من الناس، أما أنه لا يبدأ إلا بقريش فلا يبدؤها إلا بالسيف ولا يعطيها إلا السيف حتى يقول كثير من الناس: هذا ليس من آل محمد، لو كان من آل محمد لرحم).   (1) ((الإرشاد)) للشيخ المفيد، مطبوعات الأعلمي، (ص364). (2) ((أعلام الورى)) للطبرسي، (ص361). (3) كتاب ((الغيبة)) للنعماني، (ص235). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 ويتوسع المفيد والطبرسي فيرويان من هذا المعتقد العدواني صورة أشد وأفظع في العدوان، إذ يرويان فيما تنسب روايات الإمامية عن جعفر معتقداً يقول: (وإذا قام القائم من آل محمد أقام خمسمائة من قريش تضرب أعناقهم، ثم أقام خمسمائة تضرب أعناقهم، يفعل ذلك ست مرات).وأما الطوسي (1) في كتاب (الغيبة) فيروي عن جعفر: أنه إذا خرج القائم لم يكن بينه وبين قريش إلا السجن، وأما الصافي صاحب التفسير العمدة عند الإمامية فيقول: (لو قام قائمنا رد بالحميراء - يعني أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها - حتى يجلد الحد وينتقم لابنة محمد صلى الله عليه وسلم). والعجيب الغريب هو أن ما في اليهودية من معتقدات عنصرية أخذت بها الصهيونية المحدثة، فهو ما يطالع الباحث من سياق المقولات الإمامية معتقداً بعد الآخر، فالمهدي اليهودي الذي تحدثت عنه أسفار العهد القديم وشروحه من التلمود وغيره، بأنه يهدم قصور دمشق حجراً حجراً هو المهدي الرافضي الذي يقتل أمة العرب والمسلمين بدءاً بأصحاب محمد. والإمام المعصوم في عصر السبي اليهودي، هو الإمام المعصوم في الفكر الإمامي الذي تتدافع عمليات عنفه وعدوانه ضد الأجيال المؤمنة عقب وثوب المذهب إلى السلطة مرتدياً الثوب الثوري ورافعاً الشعار الديني الباطني التحريفي. واللافت للنظر أن المطلع على كتاب (الأنوار النعمانية) (2) لواحد من أئمة الروافض سيقف أمام معتقد أسطوري يفسر تلك الظواهر العدوانية الشاذة التي يقول بها الروافض عبر التاريخ، وتعتمد على أصل خرافي أسطوري. ولا بأس عندهم أن يعبروا عنها حتى في حرم الله في البيت الحرام بالعدوان المسلح، وممارسة العنف ضد المسالمين في بيت الله الحرام، أو برفع الشعارات التي لا تمت للنشاط الديني بصلة. يروي صاحب (الأنوار النعمانية) هذه الأسطورة التي تدل على حجم التركيبات العقدية المتناقضة في فكر الإمامية، تقول هذه العقيدة المستندة إلى خرافة أسطورية: (إن بقاع الأرض تفاخرت، فافتخرت الكعبة على بقعة كربلاء فأوحى الله عز وجل إليها أن اسكني يا كعبة ولا تفخري على كربلاء فإنها البقعة المباركة التي قال الله فيها لموسى أني أنا الله، وهي موضع المسيح وأمه في وقت ولادته). ومن مثل هذه المقولة تتشكل معظم جوانب الاعتقاد في القضايا الأساسية عند الإمامية في القديم والحديث. وعندما نقلب صفحات التاريخ المعاصر ما الذي يعثر عليه الباحث من جوانب الاعتقاد الإمامي الذي يشكل ملامح المدرسة الإمامية في العنف والإرهاب وممارسة العدوان ضد حرمات المسلمين، وخاصة منها ما يتعلق بقدسية الحرمين الشريفين وعدم الإلحاد فيهما. إن ما تناقلته وكالات الأنباء وما صورته الكاميرات من اقتحام أنصار المذهب لبيت الله الحرام وقتل الأبرياء ذات يوم في تاريخ المسلمين المعاصر، لأكبر برهان عما تنطوي عليه عقائد المذهب ضد المسلمين. المصدر: الأصول العقدية للإمامية لصابر طعيمة   (1) ((الغيبة)) للطوسي، (ص90). (2) ((الأنوار النعمانية)) للجزائرى (2/ 86). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 المطلب الثاني: أثر اليهودية في المنهج الإمامي: على ضوء نقول وتفاسير المصادر الإمامية ذات الجذر التاريخي في تناول عقائد القوم، تبرز من سمات النقل والوضع والدس علامة بارزة عند تناول النصوص، وهذه السمة هي (التأويل) وهي قاسم مشترك بين كل المصادر الإمامية, وهذا التأويل في تناول النصوص الدينية له جذر يهودي عندما اضطروا إليه لتمرير أخطاء العهد القديم امتد فيما بعد إلى معظم العقائد الباطنية، وكان في مقدمتهما: المنهج الإمامي في تناول النصوص الدينية. وأسبابه ودواعيه- كما يذكر الدكتور عبد الرحمن بدوي- عديدة، لكن من أهمها كما تقوم الشواهد على ذلك: التحرر من قيد النص المقدس ابتغاء التوفيق بينه وبين الرأي الذي يذهب إليه صاحب التأويل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 التحرر من قيد النص المقدس ابتغاء التوفيق بين ما يفهم من صريح اللفظ وبين ما يقتضيه العقل. الرغبة في تعميق صريح النص المقدس ابتغاء مزيد من العمق في الآراء التي يحتويها, ومن هذه الدواعي يتبين أن ما يلجئ إلى التأويل هو الاضطرار إلى الأخذ بنص يعد مقدساً أو مقيداً، ولولا هذا لما كان ثم أي داع إلى التأويل (1).وهذه الدواعي تصدق على كل من قال بالتأويل بالباطن، سواء لدى اليهود أو المسيحيين أو غيرهم، أما حجة الباطنية فإنهم قالوا: لكل ظاهر باطن ولكل تنزيل تأويل (2)، فلظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب من القشر، وأنها بصورها توهم عند الجهال الأغبياء صوراً جلية، وهي عند العقلاء والأذكياء رموز وإشارات إلى حقائق معينة وأن من تقاعد عقله عن الغوص على الخفايا والأسرار والبواطن والأغوار، وقنع بظواهرها مسارعاً إلى الاغترار بما كان تحت الأواصر والأغلال، وأرادوا بالأغلال التكليفات الشرعية، فإن من ارتقى إلى علم الباطن انحط عنه التكليف واستراح من أعبائه وهم المرادون بقوله تعالى وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157] وربما موهوا بالاستشهاد عليه بقولهم: إن الجهال المنكرين للباطن هم الذين أريدوا بقوله تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13] (3).ولقد عرف التأويل الرمزي أو الباطني لدى اليهود وانتقل إليهم من الفلسفة اليونانية. يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي: (انتقل التأويل الرمزي إلى اليهود على يد فيلون اليهودي (4) في القرن الأول الميلادي الذي يعد من أكبر ممثلي النزعة إلى التأويل في العصر القديم وإن كان قد سبقه في اليهودية كثيرون أولوا الكتب المقدسة في العهد القديم تأويلاً رمزياً، وهو نفسه يشير إليها لكن فيلون ذرف عليهم بأن جعل من التأويل مذهباً قائماً برأسه ومنهجاً في الفهم) (5).والذين قالوا بالتأويل قبل فيلون هم (يهود الإسكندرية، إذ كانوا يشرحون التوراة شرحاً رمزيا على غرار شرح الفيثاغوريين والأفلاطونيين والرواقيين لقصص الميثولوجيا وعبادات الأسرار) (6)، وكان هذا هو الطريق الوحيد أمامهم لجعلها مقبولة لدى اليونان، ويوجد في نسخة التوراة السبعينية آثار من هذا الاتجاه الرمزي الذي انتشر بين يهود الإسكندرية (7).   (1) ((مذاهب الإسلاميين)) (2/ 10). (2) ((خطط المقريزي)) (2/ 100) (3) ((فضائح الباطنية)) للإمام الغزالي: (ص11، 12) تحقيق وتقديم د. عبد الرحمن بدوي، نشر الدار القومية للطباعة والنشر القاهرة 1964. (4) فيلون الإسكندري ولد بالإسكندرية عام (20 أو30 ق. م) ومات بعد (54 من القرن الأول للميلاد) في زمن الحواريين وقد كان كبير المنزلة بين أبناء جنسه اليهود وطائفته. يقول عنه د. يوسف كرم: "كان كبير القدر في قومه، فمما يذكر عنه أنه في أواخر أيامه ذهب في وفد إلى روما يشكو معاملة الحاكم الروماني على مصر لأهل ملتها، ويعد فيلون من أشهر المؤلفين الذين كتبوا التوراة وشرحوها باليونانية. راجع أميل بريهيه ((الآراء الدينية والفلسفية)) لفيلون الإسكندري (ص6)، وما بعدها طبعة الحلبي (1954م)، و ((تاريخ الفلسفة اليونانية)) (ص 247)، دار بيروت لبنان. (5) ((مذاهب الإسلاميين)) (2/ 11، 12). (6) ((تاريخ الفلسفة اليونانية)) (ص248) , د. يوسف كرم. (7) ((نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام)) (1/ 74) , د .. النشار, "والسبعينية هي: أقدم الترجمات وأشهرها قام بها في القرن الثالث ق. م تلبية لدعوة بطليموس فيلاديف اثنان وسبعون عالما وهذا العدد هو أصل التسمية"، هامش ((تاريخ الفلسفة اليونانية)) (ص247). راجع أيضا ترجمات العهد القديم في رسالة الدكتوراه ((تأثر اليهودية بالأديان القديمة)). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 ولذلك فإن بعض اليهود كانوا لا يقرءون التوراة إلا في هذه الترجمة اليونانية (1) ومن تأويلاتهم أنهم قالوا عن التوراة التي هي في جملتها تاريخ بني إسرائيل، وما أصابوا من نعم حين كانوا يرعون شريعة الله، وما عانوا من نقمة حين كانوا يعصونها: إنها تمثل قصة النفس مع الله، تدنو النفس من الله بقدر ابتعادها عن الشهوة فتصيب رضاه وتبتعد منه بقدر انصياعها للشهوة، فينزل بها سخطه. وكانوا يؤولون الفصل الأول من "سفر التكوين" مثلا بأن الله خلق عقلاً خالصاً في عالم المثل هو الإنسان المعقول ثم صنع على مثال هذا العقل عقلا أقرب إلى الأرض (هو آدم) وأعطاه الحس (وهو حواء) معونة ضرورية له فطاوع العقل الحس وانقاد للذة الممثلة بالحية التي وسوست لحواء، فولدت النفس في ذاتها الكبرياء (وهو قابيل) وجمع الشرور وانتفى منها الخير (وهو هابيل) وماتت موتاً خلقياً. وأولوا عبور البحر الأحمر بأنه رمز لخروج النفس من الحياة الحسية، وسبعة أغصان الشمعدان بأنها رمز للسيارات السبع، وأولوا الحجرين الكريمين اللذين يحملهما الكائن الأكبر بأنهما رمز للشمس والقمر أو لنصفي الكرة الأرضية، والآباء الذين يعود إليهم إبراهيم بأنهم رمز للكواكب (2).وأولوا إبراهيم بأنه (التنور) و (العقل)، وزوجته سارة بأنها الفضيلة، والفصح بأنه إما تطهير الروح أو خلق العالم (3).أما فيلون فقد اصطنع هذا الضرب من التأويل، غير أنه يقف به عند حد، وإن كان يتابع الفلاسفة أحياناً على خلاف قصد الشريعة (4)، وقد دفعه إلى اتخاذ هذا المذهب (التأويل الرمزي) الحملة التي قام بها المفكرون اليونانيون على ما في التوراة (العهد القديم) من قصص وأساطير ساذجة أو غير معقولة: مثل برج بابل، والحية التي أغرت حواء في الجنة وغيرها، فاضطر فيلون إلى الدفاع عن "التوراة" بتأويل هذه المواضيع الأسطورية وغير المعقولة الواردة في التوراة تأويلا بالباطن، ورأى أن التأويل بالباطن هو روح النص المقدس، وأن التفسير بالمعنى الحرفي هو مجرد جسم هذا النص المقدس للنص سيؤدي حتماً إلى الفكر والإحالة (5).ويذكر أميل ابريهيه أن التأويلات التي ذكرها فيلون باعتبارها مأثورة تتناول تقريبا كل الأسفار الخمسة الأولى من الكتاب المقدس، أي التوراة، وأنه بلا ريب مجرد حالة عرضية أن نجد الأكبر عدداً من هذه التآويل يتصل بحياة إبراهيم، ولكن توجد أخرى عن آدم والجنة, وعن يوسف وعن الخروج وعن المعجزات, وعن صلاة موسى وغير ذلك (6).   (1) ((تاريخ الفلسفة اليونانية)) (ص247) , د. يوسف كرم. (2) ((تاريخ الفلسفة اليونانية)) (ص248). (3) ((مذاهب الإسلاميين)) (2/ 12). (4) ((تاريخ الفلسفة اليونانية))، (ص249). (5) ((مذاهب الإسلاميين)) (2/ 12). (6) ((الآراء الدينية والفلسفية)) لفيلون الإسكندري، (ص87). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 والغرض الأساسي عند فيلون من استعمال التأويل الرمزي ومحاولة تطبيقه على نصوص التوراة هو تحويل أشخاص قصص التوراة إلى رموز يعبر بها عن جوانب الخير والشر في النفس الإنسانية ونزعاتها المختلفة، فقصة بدء الخليقة تمثل عند فيلون رموزاً إيحائية تفسر حالات النفس الإنسانية تفسيراً داخلياً، كما أنها تمثل عنده تقلبات النفس البشرية بين حالات الخير والشر والرذيلة والفضيلة: فآدم مثال للنفس العارية عن الفضيلة والرذيلة نراه يخرج من هذه الحالة بالإحساس المرموز له (حواء) التي تغريها اللذة والسرور المرموز لهما بالحية، وبهذا تلد النفس العجب المرموز له بـ (قابيل) مع كل ما يتبع ذلك من سوء، ومن ثم نجد الخير المرموز له بـ (هابيل) يخرج من النفس ويبتعد عنها، وأخيراً تفنى النفس الإنسانية في الحياة الأخلاقية ولكن تنمو بذور الخير التي في النفس بسبب الأمل والرجاء المرموز له بـ (أنيوس) والندم المرموز له بـ (إدريس)، ثم ينتهي الأمر بعد ذلك إلى العدالة المرموز له بـ (نوح)، ثم بالجزاء على ذلك وهو التطهير التام المرموز له بـ (الطوفان) (1). هذا نموذج لشرحه وتفسيره لأشخاص التوراة تفسيراً رمزيّاً، ومن خلال ذلك التأويل نستطيع أن ندرك كيف تحولت الشخصيات الدينية عنده إلى رموز لحالات نفسية معينة (2). ويحتمل أيضاً أن يكون التأويل الرمزي قد انتقل أولاً إلى السبئية عن طريق عبد الله بن سبأ فهو يهودي بل من علماء اليهود، ولا يستبعد اطلاعه على حركة التأويل عند اليهود قبل فيلون وبعده. ويؤيد هذا الاحتمال ما قام به ابن سبأ من عرض لأفكار يهودية كالرجعة والوصية واستناده فيهما على التأويل، وجاء من بعده تلميذه ابن حرب ونقل عقيدة الأسباط من الفكر اليهودي وقام بتأويل آيات من القرآن تؤيد دعواه. وبيان بن سمعان صاحب (البيانية) كان ذا أصل يهودي وقال هو الآخر بالتأويل، وخاصة عند تفسيره لقول الله تعالى: هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ [آل عمران:138] واتصل اليهود بالكيسانية اتصالاً وثيقاً، وكان التأويل من الأسس الهامة لدى الكيسانية، والمغيرة بن سعيد العجلي كان على صلة باليهود، وقد قال بالتأويل الذي يسب فيه الصحابة ويلعنهم، وهو ما يبغيه اليهود ويهدفون إليه، ثم ما فعله فيما بعد كما سنراه في الصفحات القادمة غلاة الإمامية يؤكد انتقال التأويل من اليهود إلى الإمامية هو أن مؤسس الباطنية وهي الشجرة التي أثمرت فكر الغلو الإمامي فيما بعد يهودي كما سبق، وقد ذكرناه في كتابنا (العقائد الباطنية وحكم الإسلام فيها).وقد قال عن هذا المؤسس الحمادي: إنه جعل لكل آية في كتاب الله تفسيرا، ً ولكل حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأويلاً وزخرف الأقوال وضرب الأمثال وجعل لآي القرآن شكلاً يوازيه ومثلاً يضاهيه) (3).وقد استخدم عبد الله بن ميمون التأويل فأدخله إلى الباطنية وتوسع فيه، وكان أبوه ميمون من قبل قد وضع كتابا في التأويل الباطني وأخذ يؤول الآيات القرآنية بما يتفق مع عقيدته في إمامة إسماعيل وابنه محمد وأسبغ عليهما قداسة كبرى (4) وأضاف ابن ميمون إلى ما فعله أبوه فتطورت العقيدة تطوراً ملحوظاً وأخذ هو يجمع ويلفق بين مختلف الآراء مستعيناً بالتأويل (5). المصدر: الأصول العقدية للإمامية لصابر طعيمة   (1) راجع: ((الآراء الدينية والفلسفية)) لفيلون"، (ص 73 - 95)، ((الإمام ابن تيمية وموقفه من التأويل)) (ص2، 4، 5). (2) ((الإمام ابن تيمية وموقفه من قضية التأويل))، (ص2، 5) , دكتور محمد السيد الجلنيد. (3) ((كشف أسرار الباطنية))، (ص197). (4) ((نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام)) (2/ 379) , د. النشار. (5) ((نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام)) (2/ 390) , د. النشار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 المطلب الثالث: تشابه الشيعة واليهود في تكفير غيرهم واستباحة دمائهم وأموالهم: حيث يتشابه الشيعة واليهود في تكفير غيرهم واستباحة دمائهم وأموالهم فيعتقد اليهود أنهم هم المؤمنون فقط أما الأُمميون فهم عندهم كفرة وثنيون لا يعرفون الله تعالى. فقد جاء في التلمود صفحة (100) ما نصه " كل الشعوب ماعدا اليهود وثنيون , وتعاليم الحاخامات مطابقة لذلك " انتهى. وحتى المسيح عليه السلام عيسى بن مريم لم يسلم من تكفير اليهود فقد جاء في التلمود وصفهم المسيح عليه السلام بأنه كافر لا يعرف الله عياذاً بالله تعالى. وجاء في موضع آخر من التلمود صفحة (99) ما نصه " إن المسيح كان ساحراً ووثنياً فينتج أن المسيحيين وثنيون أيضاً مثله " عياذاً بالله تعالى. يعتقد اليهود أيضاً أن هؤلاء المخالفين سيدخلون النار وأنهم يكونون خالدين مخلدين فيها جاء في التلمود صفحة (67) ما نصه " النعيم مأوى أرواح اليهود ولا يدخل الجنة إلا اليهود أما الجحيم فمأوى الكفار من المسيحيين والمسلمين ولا نصيب لهم فيها سوى البكاء لما فيها من الظلام والعفونة " انتهى. أما ما يتعلق بنظرة اليهود لغيرهم في هذه الحياة أقول: فيعتقد اليهود أنه ليس لغيرهم أي حرمة فحقوقهم جميعها مهدرة ودماءهم وأموالهم وأعراضهم مباحة لليهود بل إنه قد جاءت النصوص في أسفارهم المقدسة وفي كتاب (التلمود) على وجه الخصوص بالحث والترغيب على قتل كل من كان ليس يهودياً بل وأخذ أمواله بأي وسيلة كانت ومن النصوص الدالة على استباحة دمائهم غيرهم ما جاء في التلمود صفحة (146) بلفظ " حتى أفضل القويم يجب قتله .. " انتهى. ويقول إلكوت سيموني وهو أحد علماء التلمود ما نصه: " كل من يسفك دم شخص غير تقي – يعني غير يهودي – عمله مقبول عند الله كمن يقدم قرباناً إليه " انتهى من كتاب (فضح التلمود) صفحة (146). وجاء في التلمود أيضاً ما نصه: " قتل الصالح من غير اليهود ومحرم على اليهودي أن ينجي أحداً من الأجانب من الهلاك أو يخرجه من حفرة يقع فيها بل عليه أن يسدها بحجر " انتهى. أما من يقتل واحدا من الأجانب عند اليهود فإنه يقدم أعظم فضيلة في دين اليهود يستحق أن يكافأ عليها بالخلود في الفردوس الأعلى حيث جاء في التلمود ما نصه: " إن من يقتل مسيحياً أو أجنبياً أو وثنياً يكافأ بالخلود في الفردوس " انتهى. هذا ما جاء في كتب اليهود قديمها وحديثها من النصوص التي تدل على استباحتهم دماء مخالفيهم بل واعتقادهم أن سفك دم غير اليهود من أهم الواجبات وأفضل القربات التي يستحق فاعلها أن يكافأ عليها بالخلود في جنة الفردوس. أما استباحتهم أموال مخالفيهم فقد دلت عليه كذلك نصوص كثيرة من أسفارهم المقدسة ككتاب (التلمود) الذي جاء فيه ما نصه:" إن السرقة غير جائزة من الإنسان - أي من اليهودي - أما الخارجون عن دين اليهود فسرقتهم جائزة " انتهى. وجاء في نص آخر ما نصه: " حياة غير اليهود ملك لليهودي فكيف بأمواله " انتهى. وكذلك أحبابي في الله وإخواني في الله فإن التلمود يمنع اليهودي من رد ما يجده من أموال غير اليهودي إلى أصحابها ومن فعل ذلك فإنه يكون آثماً بفعله هذا حيث جاء عن أحد أحبار اليهود ما نصه: " إذا رد أحد إلى غريب ما أضاعه فالرب لا يغفر له أبداً " انتهى. ومعنى الغريب هو الذي من غير اليهود. أما عن الربا فهو محرم عند اليهود فيما بينهم أما مع الأجنبي أي غير اليهودي فيجوز عندهم إقراضه بالربا وذلك لأنهم يرون أنه وسيلة من وسائل استرجاع أموال الأجانب التي هي في الأصل ملك لليهود كما زعموا, فقد جاء في التلمود صفحة (81) ما نصه:" غير مصرح لليهودي أن يقرض الأجنبي إلا بالربا " انتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 وكذلك فإن اليهود يستبيحون أعراض المخالفين لهم بل ليست لها عندهم أي حرمة فالزنا مباح عندهم بغير اليهودية ويعللون ذلك بتعليلات غريبة كما جاء في التلمود ما نصه " اليهودي لا يخطئ إذا اعتدى على عرض الأجنبية لأن كل عقد نكاح عند الأجانب فاسد لأن المرأة غير اليهودية تعتبر بهيمة والعقد لا يوجد بين البهائم " انتهى. وجاء في نص آخر للتلمود ما نصه: " لليهودي الحق في اغتصاب النساء غير المؤمنات - أي غير اليهوديات - وإن الزنا بغير اليهود ذكوراً كانوا أم إناثاً لا عقاب عليه لأن الأجانب من نسل الحيوانات " انتهى. وبعد أن تعرفنا إخواني في الله على معتقد اليهود في تكفير غيرهم واستباحة دمائهم وأموالهم ننتقل الآن إلى الشيعة الإمامية الاثني عشرية وننظر هل يوافقون أسيادهم من اليهود في تكفير غيرهم واستباحة دمائهم وأموالهم .. أقول إخواني في الله: إن الشيعة يعتقدون أنهم هم المؤمنون فقط, وأن ما عداهم من المسلمين كفار مرتدون ليس لهم في الإسلام نصيب , أما سبب تكفير الشيعة للمسلمين فلأنهم لم يأتوا بالولاية التي يعتقد الشيعة أنها ركن من أركان الإسلام فكل من لم يأت بالولاية عند الشيعة فهو كافر كالذي لم يأت بالشهادتين أو ترك الصلاة, بل الولاية مقدمة عندهم على سائر أركان الإسلام ويقصدون بالولاية .. ولاية علي بن أبي طالب رضي الله عنه والأئمة من بعده ولما كانت جميع الفرق الإسلامية لا توافق الشيعة على هذه العقيدة الفاسدة .. حكم الشيعة بكفر جميع هذه الفرق وأخرجوهم من الإسلام واستباحوا دماءهم وأموالهم وعلى رأسهم بالطبع أهل السنة والجماعة, والذين تسميهم الشيعة تارة بالنواصب, وتارة بالعامة, وتارة بالسواد, وتارة بالوهابية. وقد دل على تكفير الشيعة لغيرهم من المسلمين روايات كثيرة قد جاءت في أهم الكتب عندهم وأوثقها. فقد روى البرقي عن أبي عبدالله عليه السلام - إذا ذكرنا اسم أبي عبدالله فهم يقصدون بذلك جعفر الصادق رضي الله عنه - أنه قال: " ما أحد على ملة إبراهيم إلا نحن وشيعتنا وسائر الناس منها براء " انتهى من كتاب (المحاسن) صفحة (147). وكذلك روى الكليني في الروضة من (الكافي) المجلد الثامن صفحة (145) ما نصه عن علي بن الحسين أنه قال: " ليس على فطرة الإسلام غيرنا – يعني أهل البيت – وغير شيعتنا وسائر الناس من ذلك براء " انتهى من كتاب (الكافي). وهكذا إخواني في الله يكفر الشيعة المسلمين ويقصرون الإسلام على أنفسهم ويكذبون في ذلك على أهل البيت رضوان الله عليهم بما هم منه بريئون. ثم إن الشيعة لما كفروا المسلمين عاملوهم معاملة الكفار والمشركين فهم لا يأكلون ذبائح المسلمين لاعتقاد أنهم مشركون حيث جاء في تفسير العياشي عن حمران قال سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول في ذبيحة الناصب, والناصب هنا يعني السني, يقول في ذبيحة الناصب واليهودي يعني يقول سمعت أن عبدالله عليه السلام يقول في ذبيحة الناصبي واليهودي قال: " لا تأكل ذبيحته حتى تسمعه يذكر اسم الله " انتهى من (تفسير العياشي) المجلد الأول صفحة (375). وكذلك أحبابي في الله فإن الشيعة لا يجيزون مناكحة أهل السنة ففي كتاب (الكافي) للكليني عن الفضيل ابن يسار قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن نكاح الناصب يعني السني؟ " قال: لا والله ما يحل " انتهى من كتاب (الكافي) المجلد الخامس صفحة (350). وجاء في كتاب (الاستبصار) للطوسي المجلد الثالث صفحة (184) عن فضيل ابن يسار عن أبي جعفر قال ذكر الناصب - يعني السني – فقال: " لا تناكحهم ولا تأكل ذبيحتهم ولا تسكن معهم " انتهى من كتاب (الاستبصار) للطوسي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 بل ويصرح الخميني بتحريم نكاح أهل السنة في كتابه (تحرير الوسيلة) فيقول: " لا يجوز للمؤمنة أن تنكح الناصب -يعني السني- المعلن بعداوة أهل البيت عليه السلام " ....... إلى أن قال: " وكذا لا يجوز للمؤمن أن ينكح الناصبية " يعني المرأة السنية. " وكذا لا يجوز للمؤمن – أي الشيعي – أي ينكح الناصبية والغالبة لأنهما بحكم الكفار وإن انتحلا دين الاسلام ".انتهى من كتاب (تحرير الوسيلة) المجلد الثاني صفحة (260). أما الصلاة فإن الشيعة لا يُجيزون الصلاة خلف أهل السنة ويرون الصلاة خلفهم باطلة إلا إذا كانت للمداراة والتقية. ففي كتاب (المحاسن النفسانية) عن الفضيل ابن يسار قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن مناكحة الناصب والصلاة خلفه؟ فقال: " لا تناكحه .. ولا تصلي خلفه " انتهى من كتاب (المحاسن) صفحة (161). ويؤيد هذا ما ذكره نعمة الله الجزائري في كتابه (الأنوار النعمانية) المجلد الثاني صفحة (306) حيث قال ما نصه: " وأما الناصبي -يعني السني- وأما الناصبي وأحواله وأحكامه فهو مما يتم ببيان أمرين الأول: في بيان معنى الناصب الذي ورد في الأخبار أنه نجس وأنه شر من اليهودي والنصراني والمجوسي وأنه كافر نجس بإجماع علماء الإمامية رضوان الله عليهم " انتهى كلامه من كتاب (الأنوار النعمانية). وجاء أيضاً إطلاقهم لفظ الناصبي على إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى حيث يصف النباطي وهو من علماء الشيعة المشهورين في القرن التاسع ويصف الإمام أحمد بقوله: " هو من أولاد ذي الثدية جاهل شديد النصب " وذي الثدية .. هو رئيس الخوارج في زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فيقول هذا النباطي: أن الإمام أحمد من أولاد ذي الثدية جاهل شديد النصب انتهى من كتاب (الصراط المستقيم) إلى مستحق التقديم المجلد الثالث صفحة (223). أما موقف الشيعة من دماء المسلمين وأموالهم .. فهم يستبيحون دماء المسلمين وأموالهم وبخاصة أهل السنة والجماعة بل قد جاءت روايات من كتبهم بالحث على قتل أهل السنة وأخذ أموالهم أينما وجدت فقد روى إمامهم المجلسي في كتابه (بحار الأنوار) بسنده عن ابن فرقد قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام .. ما تقول في قتل الناصبي؟ قال: " حلال الدم أتقي عليك " أي أخاف عليك " فإن قدرت أن تقلب عليه حائطاً أو تغرقه في ماء لكي لا يشهد به عليك فافعل " قلت فما ترى في ماله؟ قال: " توه ما قدرت عليه " انتهى من كتاب ((بحار الأنوار)) للمجلسي. فدلت هذه الرواية إخواني في الله على استباحتهم دماء أهل السنة وأموالهم تماماً مثل أسيادهم اليهود. وشيعة اليوم هم على هذه العقيدة حيث يقول إمامهم المعاصر وحجتهم العظمى آية الله الخميني عند حديثه عن الخمس في كتابه (تحرير الوسيلة) ما نصه: " والأقوى إلحاق الناصبي – يعني السني – بأهل الحرب في إباحة ما غنمتم منهم وتعلق الخمس به بل الظاهر جواز أخذ ماله أين وجد وبأي نحو كان ووجوب إخراج خمسه " انتهى من كتاب (تحرير الوسيلة) المجلد الأول صفحة (318). فهذا هو الخميني إخواني في الله يفتي أتباعه الشيعة بإباحة أموال أهل السنة وأخذها أينما وجدت وبأي وسيلة ولم يرد عليه في قوله هذا عالم واحد من علمائهم المعاصرين مما يدل على إجماعهم على تلك الفتوى التي ذكر فيها الخميني موقفه من أهل السنة بكل صراحة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 كذلك فإن علماء الشيعة يجوزون أخذ الربا من مخالفيهم وهم يوافقون بذلك أسيادهم اليهود حيث جاء في كتاب (الكافي) , وكتاب (من لا يحضره الفقيه) , وكتاب (الاستبصار) ما نسبوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كذباً وزوراً أنه قال " ليس بيننا وبين أهل حربنا ربا نأخذ منهم ألف درهم بدرهم ونأخذ منهم ولا نعطيهم " انتهى. كما جاء في كتاب من لا يحضره الفقيه عن الصادق ما نصه " ليس بين المسلم وبين الذمي ربا .. ولا بين المرأة وبين زوجها ربا " انتهى كلامه من كتاب (من لا يحضره الفقيه) ,, المجلد الثالث صفحة (180). أما ما يتعلق بنظرة الشيعة لأهل السنة في الحياة الآخرة فإن الشيعة يعتقدون أن أهل السنة وكل من خالفهم من طوائف المسلمين أنهم خالدون مخلدون في النار وأنهم مهما تعبدوا واجتهدوا فإن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله يوم القيامة فقد روى الصدوق في (عقاب الأعمال) عن الصادق أنه قال: " إن الناصب لنا أهل البيت لا يبالي صام أم صلى زنا أم سرق إنه في النار , إنه في النار " انتهى من كتاب (ثواب الأعمال وعقاب الأعمال) صفحة (215) , وأورد هذه الرواية أيضاً المجلسي في كتابه ((بحار الأنوار)) المجلد السابع والعشرين صفحة (235). وكذلك عن أبان بن تغلب قال: قال أبو عبدالله عليه السلام " كل ناصب – يعني سني – وإن تعبد واجتهد يصير إلى هذه الآية: عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:3 - 4] " انتهى من كتاب (ثواب الأعمال وعقاب الأعمال) للصدوق صفحة (247). وجاء في كتاب (المحاسن) صفحة (184) عن علي الخدمي قال: قال أبو عبدالله عليه السلام: " إن الجار يشفع لجاره والحميم لحميمه ولو أن الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين شفعوا في ناصب – أي سني – ما شفعوا " انتهى. والآن أحبابي في الله نحاول أن نلخص تشابه الشيعة واليهود في تكفير غيرهم واستباحة دمائهم وأموالهم في النقاط التالية: أولاً: يكفر اليهود كل من عداهم ويعتقدون أنهم وثنيون وليسوا على دين صحيح كما جاء في التلمود: " كل الشعوب ماعدا اليهود وثنيون وتعاليم الحاخامات مطابقة لذلك ". وكذلك تكفر الشيعة كل من عداهم ويزعمون أنه ليس على ملة الإسلام أحد غيرهم حيث أنهم رووا عدة روايات عن أئمتهم تقول: " ما أحد على فطرة الإسلام غيرنا وغير شيعتنا وسائر الناس من ذلك براء ". ثانياً: يزعم اليهود أن كل الناس ما عداهم سيدخلون النار ويكونون خالدين مخلدين فيها كما جاء في التلمود أن: (النعيم مأوى أرواح اليهود ولا يدخل الجنة إلا اليهود, أما الجحيم فمأوى الكفار من المسيحيين والمسلمين ولا نصيب لهم فيها سوى البكاء لما فيها من الظلام والعفونة) , وكذلك تعتقد الشيعة أن كل الناس ما عداهم وأئمتهم سيدخلون النار كما رووا عن أئمتهم أنهم قالوا: (صرنا ونحن وهم - أي الشيعة - وسائر الناس همج للنار وإلى النار). ثالثاً: يقوم دين اليهودية ودين الشيعة على التعصب والعنصرية فكل من اليهود والشيعة يقطعون لطوائف معينة بأنهم خالدون في النار .. فكما يقطع اليهود للمسلمين والمسيحيين بأنهم خالدون في النار تقطع الشيعة للنواصب - أي أهل السنة- بأنهم خالدون في النار كما رووا عن أئمتهم أنهم قالوا " كل ناصب وإن تعبد واجتهد يصير إلى هذه الآية: عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:3 - 4]. رابعاً: يقطع كل من اليهود والشيعة للمسلمين بأنهم سيدخلون النار وذلك بجامع حقد كل من اليهود والشيعة عليهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 خامساً: يستبيح اليهود دماء مخالفيهم كما جاء في التلمود ما نصه: " حتى أفضل القويم يجب قتله " وتستبيح كذلك الشيعة دماء مخالفيهم كما جاء في كتبهم أن أبا عبدالله سئل عن قتل الناصب -أي السني- فقال: (حلال الدم والمال). سادساً: يستعمل اليهود الغدر والاحتيال لقتل مخالفيهم كما جاء في التلمود ما نصه: " محرم على اليهودي أن ينجي أحداً من الأجانب من هلاك أو يخرجه من حفرة يقع فيها بل عليه أن يسدها بحجر " , وكذلك الشيعة يستعملون الطرق نفسها للتخلص من مخالفيهم كما رووا عن أبي عبدالله أنه سئل عن قتل الناصبي -يعني السني- فقال: " حلال الدم والمال أتقي عليك فإن قدرت أن تقلب عليه حائطاً أو تغرقه في ماء لكي لا يشهد به عليك فافعل ". سابعاً: يستبيح اليهود أموال مخالفيهم ويأمرون أتباعهم بأخذها بأي وسيلة كما جاء في التلمود ما نصه: " إن الله سلط اليهود على أموال باقي الأمم ودماءهم " , وكذلك الشيعة يستبيحون أموال المسلمين ويحثون أتباعهم على أخذها أينما وجدت وبأي طريقة كانت كما رووا عن الصادق أنه قال: " خذ مال الناصبي حيث وجدت وابعث بالخمس " وكما يقول الخميني: (والظاهر جواز أخذ ماله - أي الناصب – أين وجد وبأي نحو كان). ثامناً: يحرم اليهود التعامل بالربا فيما بينهم ويجيزون لأنفسهم أخذ الربا من غيرهم كما جاء في سفر التثنية ما نصه: " للأجنبي تقرض بربا لكن لأخيك لا تقرض بربا " انتهى. وكذلك الشيعة يحرمون التعامل بالربا فيما بينهم ويجيزون أخذ الربا من أهل الذمة وأهل السنة كما جاء في كتبهم ما نصه: " ليس بين الشيعي والذمي ولا بين الشيعي والناصبي ربا " انتهى. تاسعاً: محرم في التشريع اليهودي زواج اليهودي بغير اليهودية ومن فعله كان آثماً مخالفاً للتعاليم اليهودية كما جاء في سفر الخروج , وكذلك الشيعة يحرمون الزواج من غيرهم وخاصة من أهل السنة ويرون أن من فعل ذلك فقد انتهك محارم الله حيث تروي الشيعة في مراجعهم عن أبي جعفر أنه سئل عن مناكحة الناصبي والصلاة خلفه فقال: " لا تناكحه ولا تصلي خلفه " انتهى. هذه هي بعض النقاط التي يتفق فيها الشيعة واليهود في عقيدة تكفيرهم لغيرهم واستباحة دمائهم وأموالهم ويلاحظ ذلك التشابه الكبير بينهما حتى في النصوص والروايات الأمر الذي يجعلنا نؤكد أن أصل هذه العقيدة انتقلت إلى الشيعة من أسفار اليهود ومن كتاب (التلمود) ثم حُورت في روايات مكذوبة على ألسنة آل البيت رضوان الله عليهم مع تغيرات طفيفة في بعض العبارات وذلك ليتناسب مع وضع الشيعة. المصدر: موسوعة فرق الشيعة لممدوح الحربي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 المطلب الرابع: تشابه الشيعة واليهود في تحريف كتب الله تعالى: ونبدأ باليهود فإن كتاب اليهود المقدس يتكون من تسعة وثلاثين سفراً الخمسة الأولى منها ينسبونها إلى موسى عليه السلام ويدعون أنها هي التوراة المنزلة على موسى عليه السلام وأنه كتبها بيده وباقي أسفار العهد القديم يزعمون أنها كتبت على يدي أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام , ولكن الحق والصواب أن الله سبحانه وتعالى أعطى التوراة لموسى مكتوبةً في الألواح , وأن فيها موعظة لبني إسرائيل وتفصيلاً لكل شيء وأن الله تعالى أمر نبيه موسى أن يأخذ بما فيها من الأحكام ويلتزم بها وأن يأمر قومه أن يأخذوا بأحسنها وقد أخبر الله أيضاً في آيةٍ أخرى أن اليهود أنفسهم كتبوا التوراة ولكنهم أخفوا كثيراً منها قال تعالى: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام:91] بل إن اليهود قد نقضوا الميثاق الذي أخذه الله عليهم بحفظها ونسوا شيئاً منها وهذا إهمال منهم للكتاب الذي استأمنهم الله عليه قال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:13]. وبهذا إخواني في الله يتضح من خلال هذه الآية أن التوراة الصحيحة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام فُقدت بسبب تحريفهم لجزء منها ونسيانهم جزءً آخر, ولذا فقد طلب الله عز وجل في القرآن الكريم من الذين زعموا صحة التوراة كاملة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتوا بها كاملة ولكنهم لم يأتوا بها لأن التوراة التي بأيديهم غير تلك التي نزل بها الوحي قال الله تعالى قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:93] فهذه الآية الكريمة قطعت بعدم صحة التوراة كاملة ولو كانت توجد عند اليهود ولو نسخةً واحدة لأتوا بها ولكن الله علم أنه لا توجد عندهم نسخة للتوراة صحيحة وإلا لما تحداهم بذلك. ولقد ذمهم الله سبحانه وتعالى - أي ذم اليهود - على تضييعهم للتوراة, وشبههم بالحمير لاتفاق الحمير واليهود في حمل الكتب وعدم الاستفادة منها قال تعالى مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة:5] وأما المدقق في نصوص التوراة يعلم علم اليقين أن كاتبها غير موسى عليه السلام وإن من يستعرض الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم وهي الأسفار التي ينسبونها إلى موسى عليه السلام ويزعمون أن موسى عليه السلام كتبها بيده يعلم علماً لا يشوبه أدنى شك أن هذه الأسفار ليست من كتابة موسى عليه السلام ولا يمكن أن يكون قد كتبها بيده , بل الذي تدل عليه النصوص أن هذه الأسفار قد كُتبت بعد عصر موسى عليه السلام بفترة ليست قصيرة , وقد ذكر المحققون قديماً وحديثاً أمثلةً كثيرة تؤكد من خلالها استحالة نسبة هذه الأسفار كاملة إلى موسى عليه السلام. ونحاول أن نضرب بعض الأمثلة على ذلك: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 المثال الأول: ورد في سفر التثنية الإصحاح الرابع والثلاثين خبر موت موسى ودفنه في أرض مؤاب حيث تقول الرواية في التوراة ما نصه " فمات هناك موسى عبد الرب في أرض مؤاب حسب قول الرب ودفنه في الجواء في أرض مؤاب مقابل بيت فغور ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم وكان موسى ابن مئةٍ وعشرين سنة حين مات " انتهى من سفر التثنية. فأي عاقلٍ يمكن أن يصدق أن موسى عليه السلام قد كتب خبر موته ودفنه وبكاء بني إسرائيل عليه في التوراة , ومن تأمل هذا النص خرج بأمرٍ مهم وهو عبارة: ولم يعرف قبره إلى هذا اليوم التي جاءت في سفر التثنية تدل دلالة قاطعة على أن هذه الجملة قد كُتبت بعد موسى عليه السلام بفترةٍ طويلةٍ جداً , وأدى طول هذه الفترة إلى استحالة معرفة قبر موسى عليه السلام وهذا لا يحدث عادةً إلا بانقراض أجيالٍ عديدة من أبناء اليهود بين موت موسى عليه السلام وتأليف هذا السفر. أما المثال الثاني: فقد ورد في سفر الخروج ما نصه: " فقال الرب لموسى انظر أنا جعلتك إلهاً لفرعون وهارون أخوك يكون نبيك " انتهى. إن ورود هذا النص في التوراة عند اليهود لدليل قاطع على وقوع التحريف فيها إذ كيف يعقل أن يقول الله لموسى جعلتك إلهاً وما أُرسل موسى وسائر الأنبياء إلا بالدعوة إلى التوحيد وإفراد الله بربوبيته وألوهيته سبحانه وتعالى. وكذلك يعترف أحبار اليهود وعلماؤهم بوقوع التحريف في التوراة من بعد موسى عليه السلام فيقول السامويل بن يحيى بعدما أسلم وقد كان من كبار أحبارهم ما لفظه: " علماؤهم وأحبارهم -أي اليهود- يعلمون أن هذه التوراة التي بأيديهم لا يعتقد أحد من علمائهم وأحبارهم أنها المنزلة على موسى ألبته, لأن موسى صان التوراة عن بني إسرائيل ولم يبثها فيهم وإنما سلمها إلى عشيرته أولاد ليوي ولم يبذل موسى من التوراة لبني إسرائيل إلا نصف سورة يقال لها: هائينزو وهؤلاء الأئمة الهارونيون الذين كانوا يعرفون التوراة ويحفظون أكثرها قتلهم بختنصر على دم واحد يوم فتح بيت المقدس ولم يكن حفظ التوراة فرضاً ولا سنة بل كان كل واحدٍ من الهارونيين يحفظ فصلاً من التوراة " انتهى كلام الإمام السامويل بن يحيى من كتاب (إفحام اليهود) صفحة (135). إذاً أحبابي في الله وبعد أن عرفنا أن كاتب التوراة المحرفة ليس موسى عليه السلام، يرد علينا سؤال مهم جداً وهو من الذي كتب هذه التوراة المحرفة فنقول وبالله التوفيق والسداد، بالرجوع إلى ما كتبه العلماء والمحققون عن هذا الموضوع نجد أنهم يؤكدون: أن كاتب التوراة بعد التحريف هو عزراء الوراق وأن كتابته للتوراة كانت بعد غزو بختنصر ملك بابل لأورشليم وتحطيم الهيكل وقتله عدداً كبيراً من اليهود يقول ابن حزم في كتابه (الفِصل) ما نصه: " إن عزراء الوراق هو الذي أملى على اليهود التوراة من حفظه وكان إملاء عزراء للتوراة بعد أزيد من سبعين سنة من خراب بيت المقدس " انتهى. ويؤكد ذلك الإمام السامويل بن يحيى المغربي فيقول ما لفظه: " فلما رأى عزراء أن القوم قد أُحرق هيكلهم وزالت دولتهم وتفرق جمعهم ورُفع كتابهم جمع من محفوظاته ومن الفصول التي يحفظها الكهنة ما لفق منه هذه التوراة التي بأيديهم الآن ولذلك بالغوا في تعظيم عزراء - أي اليهود- هذا غاية المبالغة وزعموا أن النور إلى الآن يظهر على قبره الذي عند بطائح العراق لأنه عمل لهم كتاباً يحفظ دينهم فهذه التوراة التي بأيديهم على الحقيقة كتاب عزراء وليس كتاب الله " انتهى من كتاب (إفحام اليهود) صفحة (139). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 50 والآن ننتقل إخواني في الله إلى الشيعة وإلى تحريفهم للقرآن الكريم فتعتقد الشيعة في القرآن الكريم أنه محرف ومبدل وأنه زيد فيه ونقص منه آيات كثيرة وأن الناقص منه يعادل ضعفي القرآن الموجود الآن بين أيدي المسلمين بل ويعتقدون أن الصحابة وعلى رأسهم الخلفاء الثلاثة أبو بكر, وعمر, وعثمان رضي الله عنهم هم الذين حرفوا القرآن وأسقطوا منه هذا الجزء الكبير, ويرون أن الذي أُسقِط من القرآن يدور حول موضوعين رئيسيين: الأول: فضائل آل البيت وبالأخص علي بن أبي طالب رضي الله عنه والنص على إمامته في القرآن. والأمر الثاني: فضائح المهاجرين والأنصار الذين تعدهم الشيعة منافقين لم يدخلوا في الإسلام إلا للكيد له , هذه هي عقيدة الشيعة في القرآن الكريم كما صرح بها كبار علمائهم في أشهر كتب التفسير والحديث عندهم. ولكن إخواني في الله بعض علماء الشيعة المعاصرين ينكرون هذه العقيدة وإنكارهم لهذه العقيدة لم يكن نابعاً عن اقتناعٍ بفسادها ورجوعٍ منهم إلى الحق بل الذي دلت عليه فلتات ألسنتهم وزلات أقلامهم أنهم على عقيدة سلفهم الخبيثة لم يحيدوا عنها قدر أُنملة, لكن لما رأوا إنكار المسلمين لهذه العقيدة واستهجانها خافوا من النتائج التي قد تلحقهم في حالة ما لو صرحوا بهذه العقيدة فلجأوا إلى ستار النفاق والمكر والخديعة والتي يطلق عليها في قاموس الشيعة الاثني عشرية باسم التقية. وكذلك إخواني في الله فإن كبار علماء الشيعة الذين جاءوا في الفترة التي امتدت من القرن الأول إلى نهاية القرن الثالث عشر الهجري , جميعهم مجمعون على أن القرآن الكريم قد حدث فيه تحريف وتغيير وتبديل , إلا أربعةً منهم لم يصرحوا بهذه العقيدة وما عدا هؤلاء الأربعة فجميع مفسريهم ومحدثيهم يصرحون بتحريف القرآن الكريم وأحاول أن أُورد أسماء كبار علماء الشيعة الذين صرحوا في مؤلفاتهم المعتمدة بتحريف القرآن الكريم في تلك الفترة وما يُثبت قولهم في تحريف القرآن كما أنني سأراعي بإذن الله تعالى في ذكرهم الترتيب الزمني لتاريخ وفياتهم. وأول علمائهم هو سليم بن قيس الهلالي المتوفى عام (90) للهجرة حيث يروي سليم بن قيس في كتابه المعروف بكتاب (سليم بن قيس) عدة أخبار مفادها التحريف وفيها خبر طويل يرويه بسنده إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول فيه: " إن الأحزاب - يعني سورة الأحزاب- تعدل سورة البقرة والنور - يعني سور النور -ستون ومائة آية, والحجرات ستون آية, والحجر تسعون ومائة آية فما هذا " انتهى كلامه من كتاب (سليم بن قيس) صفحة (122). ومعنى كلام إمامهم سليم بن قيس هو: أن سورة الأحزاب التي عدد آياتها ثلاث وسبعون آية هي في الأصل وقبل التحريف تعادل سورة البقرة والتي عدد آياتها مئتان وست وثمانون آية , أما سورة النور فعند سليم بن قيس مائة وستون آية , بينما الموجود بين دفتي المصحف أربع وستون آية , أما سورة الحجرات فستون آية عند إمامهم سليم بن قيس وبين دفتي المصحف ثمانية عشر آية , وأما سورة الحجر فعند سليم بن قيس شيخ الشيعة الإمامية مائة وتسعون آية والموجود في قرآن المسلمين هو تسع وتسعون آية , وبهذا يعتقد علماء الشيعة الإمامية وعلى رأسهم شيخهم سليم بن قيس: أن القرآن قد حذف فيه الكثير والكثير من الآيات التي تتكلم في فضائل آل البيت وفضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه على وجه الخصوص. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 ثاني علمائهم إخواني في الله هو: محمد بن حسن الصفار المتوفى سنة (290) للهجرة , حيث روى في كتابه المشهور (بصائر الدرجات) عن أبي جعفر الصادق أنه قال: " ما من أحد من الناس يقول إنه جمع القرآن كله كما أنزل الله إلا كذاب وما جمعه وما حفظه كما أُنزل إلا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده " من كتاب (بصائر الدرجات) للصفار صفحة (213). وفي رواية أخرى عنه قال: " ما يستطيع أحد أن يدعي أنه جمع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأوصياء " انتهى. ويقصد هنا بالأوصياء الأئمة الاثني عشر. ننتقل إلى إمامهم الثالث وهو: علي بن إبراهيم القمي المتوفى سنة (307) للهجرة, فقد ذكر في مقدمة تفسيره المجلد الأول الصفحة الثامنة ما نصه: " فالقرآن منه ناسخ ومنسوخ ومنه محكم ومنه متشابه ومنه عام ومنه خاص ومنه تقديم ومنه تأخير ومنه مقطع ومنه معطوف ومنه حرف مكان حرف ومنه على خلاف ما أنزل الله " انتهى من مقدمة تفسيره , كما ذكر ظلماً وبهتاناً أمثلة على ما ذكر من القرآن الكريم وأخذ يغير ويبدل ويقدم ويؤخر في كتاب الله مضاهياً بذلك أساتذته من اليهود في تحريف الكلم عن مواضعه عياذاً بالله تعالى. رابعاً: إمامهم محمد بن يعقوب الكليني المتوفى سنة (328) للهجرة, فبعد القمي إخواني في الله جاء تلميذه الذي يعد محدث الشيعة الأكبر وهو محمد بن يعقوب الكليني والذي وضع لهم كتاب (الكافي) الذي هو عندهم -أي عند الشيعة- بمنزلة صحيح البخاري عند أهل السنة, فماذا يقول إمامهم الكليني في كتابه (الكافي). يروي الكليني إخواني في الله عن علي بن محمد عن بعض أصحابه عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: " دفع إلي أبو الحسن عليه السلام مصحفاً وقال لا تنظر فيه ففتحته وقرأت فيه لم يكن الذين كفروا - يعني سورة البينة - فوجدت فيه اسم سبعين رجلاً من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم قال: فبعث إلي ابعث إلي بالمصحف " انتهى من (أصول الكافي) المجلد الثاني صفحة (631). ويروي الكليني أيضاً عن أبي عبدالله قال: " إن القرآن الذي جاء به جبريل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم سبعة عشر ألف آية " انتهى. فيلزم من هذا أحبابي في الله أن يكون ثلثا القرآن قد فقد , وليس هذا فقط بل يروي إمامهم الكليني أن عندهم قرآناً آخر يعدل القرآن الموجود عند المسلمين بثلاث مرات ولا يوجد فيه حرف واحد مما يوجد في القرآن الكريم. جاء في كتاب (الحجة من الكافي) عن أبي بصير عن أبي عبدالله أنه قال: " وإن عندنا لمصحف فاطمة وما يدريهم ما مصحف فاطمة عليها السلام قال: قلت وما مصحف فاطمة عليها السلام قال مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد " انتهى. خامساً: إمامهم محمد بن مسعود بن عياش المعروف بالعياشي فمِن مَن قال بتحريف القرآن من علماء الشيعة المشهورين إمامهم العياشي صاحب (تفسير العياشي) الذي يعد من أهم التفاسير وأقدمها عند الشيعة فقد روى العياشي في مقدمته لهذا التفسير المجلد الأول صفحة (13) ما نصه: " عن أبي عبدالله قال: " لو قُرئ القرآن كما أُنزل لألفيتنا فيه مسمين " انتهى. يعني لو لم يحرف هذا القرآن لقرأت أسماء الأئمة من آل البيت ولكن الصحابة هم الذين حرفوا وحذفوا هذه الأسماء كما تعتقد الشيعة وعلى رأسهم إمامهم العياشي. وجاء أيضاً في هذا التفسير عن أبي جعفر أنه قال: " إن القرآن قد طُرح منه آيٌ كثير ولم يزد فيه إلا حرف أخطأت به الكتبة وتوهمها الرجال " انتهى من تفسير العياشي المجلد الأول صفحة (180). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 سادساً: إمامهم المفيد المتوفى سنة (413) للهجرة, الذي يُعد من مؤسسي المعتقد الشيعي حيث نقل إجماعهم على التحريف ومخالفتهم لسائر الفرق الإسلامية في هذه العقيدة قال شيخهم المفيد في كتابه (أوائل المقالات) صفحة (48) ما نصه: " واتفقوا - أي الشيعة - أن أئمة الضلال - يعني الصحابة رضوان الله عليهم - خالفوا في كثير من تأليف القرآن وعدلوا فيه عن موجب التنزيل وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأجمعت المعتزلة والخوارج والمرجئة وأصحاب الحديث على خلاف الإمامية في جميع ماعددناه " انتهى كلامه من كتاب (أوائل المقالات). سابعاً: إمامهم أبو منصور الطبرسي المتوفى سنة (620) للهجرة, فقد روى الطبرسي في كتابه (الاحتجاج) صفحة (156) عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع علي عليه السلام القرآن وجاء به إلى المهاجرين والأنصار وعرضه عليهم لما قد أوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فتحه أبو بكر خرج في أول صفحة فتحها فضائح القوم - يعني فضائح الصحابة - فوثب عمر وقال: يا علي اردده فلا حاجة لنا فيه, فأخذه عليه السلام وانصرف, ثم أحضروا زيد بن ثابت وكان قارئا للقرآن فقال له عمر: إن علياً جاء بالقرآن وفيه فضائح المهاجرين والأنصار وقد رأينا أن تؤلف القرآن وتسقط منه ما كان فضيحة وهتكاً للمهاجرين والأنصار فأجابه زيد إلى ذلك " انتهى من كتاب (الاحتجاج) للطبرسي. بل ويزعم الطبرسي أن الله تعالى عندما ذكر قصص الجرائم في القرآن صرح بأسماء مرتكبيها لكن الصحابة حذفوا هذه الأسماء فبقيت هذه القصص بدون تصريح, يقول الطبرسي في كتابه (الاحتجاج) صفحة (249) ما نصه: " إن الكناية عن أصحاب الجرائر العظيمة من المنافقين في القرآن ليست من فعله تعالى وإنها من فعل المغيرين والمبدلين - يعني الصحابة رضوان الله عليهم -الذين جعلوا القرآن عضين واعتاضوا الدنيا من الدين " انتهى كلامه من كتاب (الاحتجاج). فهذه عقيدة إمامهم الطبرسي إخواني في الله, في القرآن الكريم وما أظهره لا يعد شيئاً مما أخفاه في نفسه وذلك تمسكاً بمبدأ النفاق والخداع الذي يسمونه التقية حيث يقول في كتابه السابق - أي الطبرسي - ما نصه: " ولو شرحت لك كل ما أُسقط وحُرف وبُدل مما يجري هذا المجرى لطال وظهر ما تحضر التقية إظهاره من مناقب الأولياء ومثالب الأعداء " انتهى كلامه من كتاب (الاحتجاج) صفحة 254. ثامناً: إمامهم الفيض الكاشاني المتوفى سنة (1091) للهجرة, ويعد من كبار علمائهم ومفسريهم , وهو صاحب (تفسير الصافي) الذي مهد لكتابه هذا باثنتي عشرة مقدمة خصص المقدمة السادسة لإثبات تحريف القرآن وعنون لهذه المقدمة بقوله: المقدمة السادسة (في نُبذٍ مما جاء في جمع القرآن وتحريفه وزيادته ونقصه وتأويل ذلك) , وبعد أن ذكر الروايات التي استدل بها على تحريف القرآن والتي نقلها من أوثق المصادر المعتمدة عندهم خرج بالنتيجة التالية حيث قال ما نصه: " والمستفاد من هذه الأخبار وغيرها من الروايات من طريق أهل البيت عليهم السلام أن القرآن الذي بين أظهرنا ليس بتمامه كما أُنزل على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بل منه ما هو خلاف ما أنزل الله ومنه ما هو مغير محرف وأنه قد حذف منه أشياء كثيرة منها اسم علي عليه السلام في كثير من المواضع, ومنها لفظة آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) غير مرة, ومنها أسماء المنافقين في مواضعها, ومنها غير ذلك, وأنه ليس أيضاً على الترتيب المرضي عند الله وعند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انتهى كلامه من تفسير الصافي المجلد الأول صفحة (44). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 وقال حينما تكلم عن تصريحه: أن هناك من الآيات ما حذفت. أقول: هذا الذي سوف أبينه بإذن الله تعالى في محاضرة مستقلة بعنوان: الشيعة والقرآن الكريم وأبين أنواع الحذف الذي تعتقد به الشيعة الاثنا عشرية حيث إنهم يعتقدون إن الحذف في القرآن ينقسم إلى ثلاثة أقسام , القسم الأول: حذف في السور أي أن هناك الكثير من السور قد حذفت. والقسم الثاني أو النوع الثاني من الحذف: حذف في بعض الآيات والقسم الثالث أو النوع الثالث الذي تعتقد به الشيعة الامامية هو: حذف في بعض الكلمات كإسقاط بعض أسماء الأئمة والأولياء. التاسع: هو إمامهم محمد باقر المجلسي المتوفى سنة (1111) للهجرة, والذي يلقب عندهم بشيخ الإسلام فقد جمع في موسوعته المسماة (بحار الأنوار) مئات الروايات الدالة صراحة على تحريف القرآن، ومنها ما روي عن أبي عبدالله أنه قال: " والله ما كَنَ الله في كتابه حتى قال يا ويلتى لم أتخذ فلاناً خليلاً وإنما هي في مصحف علي عليه السلام يا ويلتى ليتني لم أتخذ الثاني خليلاً " انتهى من (بحار الأنوار) المجلد الرابع صفحة (19) , طبعاً يعنون بالثاني إخواني في الله عمر رضي الله عنه حيث يزعمون أن أبا بكر رضي الله عنه يتبرأ منه يوم القيامة عياذاً بالله تعالى. ومن أراد التوسع أحبابي في الله فعليه بالرجوع إلى كتاب (بحار الأنوار) للمجلسي المجلد الرابع والعشرين , فهناك عشرات الصفحات التي تدل على تحريف القرآن الكريم عند الشيعة الإمامية وعلى رأسهم إمامهم محمد باقر المجلسي. عاشراً: إمامهم نعمة الله الجزائري المتوفى سنة (1112) للهجرة, الذي يقول في كتابه (الأنوار النعمانية) المجلد الأول صفحة (79) وهو يتهم الصحابة رضوان الله عليهم بتحريف القرآن فيقول ما نصه: " ولا تعجب من كثرة الأخبار الموضوعة فإنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم - يعني الصحابة – قد غيروا وبدلوا في الدين ما هو أعظم من هذا كتغييرهم القرآن وتحريف كلماته وحذف ما فيه مدائح آل الرسول والأئمة الطاهرين وفضائح المنافقين وإظهار مساوئهم " انتهى كلامه من كتابه (الأنوار النعمانية). وبهذا إخواني في الله يظهر ما بين الشيعة وأسيادهم اليهود من تشابه كبير في تحريفهم لكتب الله تعالى وهذا يؤكد لنا أن أصل المعتقد الشيعي مقتبس ومأخوذ من عقائد المغضوب عليهم أبناء القردة والخنازير وهم اليهود. المصدر: موسوعة فرق الشيعة لممدوح الحربي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 المطلب الخامس: تشابه الشيعة واليهود في الوصية بالإمامة: ونبدأ باليهود حيث يرى اليهود ضرورة تنصيب وصي بعد النبي صلى الله عليه وسلم -أي بعد نبي اليهود عليه السلام- وهو موسى يقوم مقامه في إرشاد الناس من بعده , وقد جاءت عدة نصوص في التوراة وغيرها من أسفار اليهود تبين أن الله تعالى طلب من موسى عليه السلام أن يوصي ليوشع بن نون قبل موته ليكون مرشداً لبني إسرائيل من بعده, جاء في سفر العدد الإصحاح السابع والعشرين ما نصه: " فقال الرب لموسى: خذ يوشع بن نون رجلاً فيه روح وضع يدك عليه وأوقفه قدام العازر الكاهن وقدام كل الجماعة وأوصه أمام أعينهم إلى أن قال ففعل موسى كما أمره الرب أخذ يوشع وأوقفه قدام العازر الكاهن وقدام كل الجماعة ووضع يده عليه وأوصاه كما تكلم الرب عن يد موسى " انتهى. أقول: إخواني في الله هذا النص يدل دلالة واضحة على ضرورة تنصيب وصي بعد موسى عليه السلام ويعرف هذا من عدة أوجه: الوجه الأول: طلب الله تعالى من موسى أن يوصي قبل موته. الوجه الثاني: أن مما يدل على أهمية هذا المنصب أن الله تعالى لم يترك الاختيار لموسى أو لبني إسرائيل في اختيار الوصي بعد موسى بل نص عليه سبحانه وتعالى بنفسه وسماه هو يوشع بن نون كما يعتقدون. ومن هذا النص يمكن أن نستنتج منها نظرة اليهود إلى الوصي والوصية والتي تتلخص في النقاط التالية: أولاً: وجوب تعيين الوصي عند اليهود. ثانياً: أن الله تعالى هو الذي يتولى تعيين الوصي بنفسه. ثالثاً: أن للوصي عند اليهود منزلة عظيمة تعادل منزلة النبي. رابعاً: أنه يمكن أن يوحي الله تعالى إلى الوصي كما يوحي إلى النبي. والآن ننتقل أحبابي في الله إلى اعتقاد الشيعة الإمامية الاثني عشرية في مسألة الوصية بالإمامة وقبل الحديث في عقيدة الوصية عند الشيعة لابد من توضيح منزلة الإمامة من دين الشيعة وذلك لما بين عقيدة الوصية والإمامة عندهم من ترابط كبير. فمنزلة الإمامة عند الشيعة هي ركن من أركان الإسلام ولا يتم إيمان المرء إلا بالإتيان بها, جاء في أصول (الكافي) عن أبي جعفرعليه السلام أنه قال: " بني الإسلام على خمس على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم ينادى بشيء كما نودي بالولاية " انتهى. بل إن الإمامة عندهم إخواني في الله مقدمة على سائر أركان الإسلام فقد روى الكليني عن أبي جعفر أنه قال: " بني الإسلام على خمسة أشياء على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية قال زرارة فقلت: وأي شيء من ذلك أفضل فقال: الولاية " انتهى من كتاب (الكافي) المجلد الثاني صفحة (18). إذن الولاية أفضل من الصلاة والزكاة والحج والصوم كما ذكر ذلك الكليني في كتابه (الكافي). وعندهم أيضاً أحبابي في الله - أي عند الشيعة - أن من أتى بأركان الإسلام يأتي بجميع أركان الإسلام ولم يأت بالولاية فإن تلك الأعمال لا تقبل منه ولا تنجيه من عذاب الله يوم القيامة, وقد بالغ هؤلاء في الإمامة, حتى إنهم زعموا أن الأرض لا يمكن أن تبقى بدون إمام, ولو بقيت بدون إمام ولو لساعة واحدة لساخت بأهلها , فقد روى الصفار في كتابه (بصائر الدرجات) باباً كاملاً في هذا المعنى عنون له بقوله: " باب أن الأرض لا تبقى بغير إمام ولو بقيت لساخت " ومما أورد تحته من الروايات ما رواه عن أبي جعفر قال: " لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لساخت بأهلها كما يموج البحر بأهله " انتهى من كتاب (بصائر الدرجات) للصفار صفحة (508). أما عقيدة الشيعة في الوصية فتتلخص إخواني في النقاط التالية: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 أولاً: اعتقادهم أن الوصي بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب وأن الله هو الذي اختاره لذلك , وأن اختيار علي لهذا المنصب لم يكن من قبل النبي صلى الله عليه وسلم , وإنما جاء من الله تعالى. جاء في كتاب (بصائر الدرجات) عن أبي عبدالله عليه السلام قال: " عرج بالنبي صلى الله عليه وآله إلى السماء مائة وعشرين مرة, ما من مرة - أي يعرج فيها - إلا وقد أوصى الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بولاية علي والأئمة من بعده أكثر مما أوصاه بالفرائض " انتهى. ثانياً: اعتقاد الشيعة الإمامية أن الله تعالى ناجى علياً رضي الله عنه, حيث يروي شيخهم المفيد في كتابه (الاختصاص) صفحة (327) هذه الرواية التي تقول عن حمران بن أعين قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: " بلغني أن الرب تبارك وتعالى قد ناجى علياً عليه السلام فقال: أجل قد كانت بينهما مناجاة بالطائف نزل بينهما جبريل " انتهى. وكما روت الشيعة كذباً وزوراً عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: ((إن الله ناجى علياً يوم الطائف ويوم عقبة تبوك ويوم خيبر)) انتهى من كتاب (الاختصاص) للمفيد صفحة (328). ثالثاً: اعتقادهم نزول الوحي على الأوصياء فقد روى الصفار في كتابه (بصائر الدرجات) صفحة (476) رواية عن سماعة بن مهران قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: " إن الروح خلق أعظم من جبريل وميكائيل كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسدده ويرشده وهو مع الأوصياء من بعده " انتهى. وكذلك روى محمد باقر المجلسي في كتابه (بحار الأنوار) المجلد السادس والعشرين صفحة (55) عن أبي عبدالله أنه قال: " إن منا لمن يُنكت في أذنه, وإن منا لمن يرى في منامه, وإن منا لمن يسمع الصوت مثل صوت السلسلة التي تقع على الطست " انتهى. رابعاً: اعتقادهم أن الأئمة بمنزلة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) , حيث جاء في كتاب (الكافي) المجلد الأول صفحة (270) عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: " الأئمة بمنزلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنهم ليسوا بأنبياء ولا يحل لهم من النساء ما يحل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فأما ما خلا ذلك فهم فيه بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " انتهى. إذن هذه هي عقيدة الشيعة في الوصية أحبابي في الله كما جاءت بها رواياتهم المنسوبة إلى أئمتهم المعصومين والثابتة في أهم المصادر عندهم من اعتقادهم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الوصي من بعد النبي صلى الله عليه وسلم , وأن اختيارعلي لهذا المنصب جاء من فوق سبع سماوات من الله تعالى وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عرج به إلى السماء مائةً وعشرين مرة في كل مرة يوصيه الله تعالى بولاية علي والأئمة من بعده. والآن أحبابي في الله نحاول أن نلخص تشابه الشيعة واليهود في الوصية بالإمامة في النقاط التالية: أولاً: اتفاق اليهود والشيعة على ضرورة تنصيب وصي بعد النبي وقد شبهت اليهود الأمة التي بغير وصي بالغنم التي لا راعي لها وقالت الشيعة إن الأرض لو بقيت بغير إمام لساخت , وكلا القولين يحتم وجوب تنصيب وصي وأنه لا غنى للناس عنه. ثانياً: اتفاق اليهود والشيعة على أن الله تعالى هو الذي يتولى تعيين الوصي , وليس للنبي اختيار وصي من بعده , وقد دلت نصوص اليهود أن الله هو الذي أمر موسى أن يتخذ يوشع وصياً له , ودلت روايات الشيعة أن الله تعالى هو الذي أمر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أن يتخذ علياً وصياً وأن ولاية علي جاءت من فوق سبع سماوات. ثالثاً: اتفاق الشيعة واليهود على أن الله يكلم الأوصياء ويوحي إليهم فقد زعم اليهود أن الله خاطب يوشع مباشرة أكثر من مرة كما دلت على ذلك نصوص كتبهم وكذلك الشيعة زعموا أن الله ناجى علياً رضي الله عنه أكثر من مرة في أكثر من موضع على حسب ما جاءت به رواياتهم. رابعاً: ينزل اليهود والشيعة الوصي منزلة النبي كما جاء ذلك في أسفار اليهود وفي روايات الشيعة ومن كتبهم المعتمدة. المصدر: موسوعة فرق الشيعة لممدوح الحربي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 المطلب السادس: تشابه الشيعة واليهود في المسيح والمهدي المنتظرين فاليهود ينتظرون خروج رجل من آل داوود يحكم العالم ويعيد لليهود عزهم ومجدهم ويستعبد جميع الشعوب ويسخرهم لخدمة اليهود, ويطلقون على هذا الرجل الذي سيأتي بزعمهم في آخر الزمان باسم المسيح المنتظر , حيث جاء في تلمود اليهود ما نصه: " إن المسيح يعيد قضيب الملك إلى بني اسرائيل فتخدمه الشعوب وتخضع له الممالك وعندئذٍ يمتلك كل يهودي (2800) عبداً و (310) أبطال يكونون قائمين تحت إمرته " انتهى. كما أكد وجود هذه العقيدة عند اليهود إمامهم العظيم السامويل بن يحيى المغربي الذي هداه الله للإسلام فألف كتاباً في الرد على اليهود أسماه (إفحام اليهود) جاء فيه ما لفظه: " وينتظرون - أي اليهود - وينتظرون قائماً يأتيهم من آل داوود النبي إذا حرك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم ولا يبقى إلا اليهود وأن هذا المنتظر بزعمهم هو المسيح الذي وعِدوا به إلى أن قال رحمة الله عليه: ويعتقدون أيضاً أن هذا المنتظر متى جاءهم يجمعهم بأسرهم إلى القدس وتصير لهم دولة ويخلوا العالم من سواهم ويحجم الموت عن جنابهم المدة الطويلة " انتهى. ويعتقد اليهود كذلك أن المسيح عندما يخرج يجمع مشتتي اليهود من كل أنحاء الأرض ويكون منهم جيشاً عظيماً ويكون مكان اجتماعهم في جبال أورشليم في القدس حيث جاء في سفر أشعيا الاصحاح السادس والستين ما نصه: " ويحضرون كل إخوانكم من كل الأمم تقدمة للرب على خيل وبمركبات وبهوادج وبغال وهجن إلى جبل قدسي أورشليم ". وهذا الاجتماع ليس مقصورا على الأحياء فقط بل حتى الأموات من اليهود يحييهم الله ويخرجهم من قبورهم لينضموا إلى جيش اليهود الذي يقوده المسيح كما جاء في سفر حزقيال الإصحاح (37). وبعد أن يجمع المسيح اليهود من كل أنحاء الأرض يقوم بجمع الأمم الأخرى الذين ظلموا اليهود ويحاكمهم ويقتص منهم على ما فعلوه باليهود كما جاء في سفر حزقيال الإصحاح الثالث. أما نتيجة هذه المحاكمة إخواني في الله فقد وضحها سفر زكريا الإصحاح (13) وهو أنه يقتل في ذلك اليوم ثلثا العالم على يد مسيح اليهود المنتظر , وفي عهد المسيح المنتظر كذلك تتغير أجسام اليهود وتطول أعمارهم ومن التغير الذي يحدث لليهود بزعمهم أن أعمارهم تطول فيعمرون قروناً كثيرة وكذلك تتغير أجسامهم فتصل قامة اليهودي في ذلك الوقت إلى مائتي ذراع حيث جاء في التلمود عند اليهود ما نصه: " إن حياة الناس حينئذٍ ستطول قروناً والطفل يموت في سن المئة وقامة الرجل ستكون مائتي ذراع " انتهى. وفي عهد المسيح أيضاً كما يعتقد اليهود تكثر الخيرات عند اليهود بزعمهم , فتنبع الجبال لبناً وعسلاً وتطرح الأرض فطيراً وملابس من الصوف كما جاء ذلك في سفر يوئيل الإصحاح الثالث ما نصه: " ويكون في ذلك اليوم أن الجبال تقطر عصيراً والتلال تفيض لبناً وجميع ينابيع يهوذا تفيض ماءً " انتهى. وبعد أن عرفنا عقائد اليهود في مهديهم ومسيحهم المنتظر , ننتقل الآن إلى الشيعة وعقيدة المهدي المنتظر عندهم , فمن أبرز عقائد الشيعة الاثني عشرية , إخواني في الله , التي تكاد تمتلئ بها كتبهم عقيدة المهدي المنتظر , ويقصد الشيعة بالمهدي المنتظر هو: محمد بن الحسن العسكري وهو الإمام الثاني عشر عندهم, ويطلقون عليه الحجة , كما يطلقون عليه القائم , ويزعمون أنه ولد سنة (255) هـ , واختفى في سرداب سر من رأى سنة (265) هـ , وهم ينتظرون خروجه في آخر الزمان لينتقم من أعدائهم وينتصر لهم , ولا زال الشيعة يزورونه في سرداب سر من رأى ويدعونه للخروج دائماً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 جاء في كتاب (بحار الأنوار) للمجلسي المجلد (52) صفحة (291) عن أحد موالي أبي الحسن عليه السلام قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن قوله: أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا [البقرة:148] , قال: وذلك والله أن لو قد قام قائمنا يجمع الله إليه شيعتنا من جميع البلدان. انتهى. إذن فالشيعة جميعهم يجتمعون إلى القائم من كل أنحاء الأرض تماماً مثل اعتقاد اليهود. وكذلك فإن مهدي الشيعة يخرج الصحابة من قبورهم ويعذبهم , وأول ما يبدأ به هو إخراج خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم , أبي بكر وعمر رضي الله عنهما , فيعذبهما ثم يحرقهما فقد روى المجلسي في كتابه (بحار الأنوار) عن بشير النبال عن أبي عبدالله عليه السلام قال: " هل تدري أول ما يبدأ به القائم عليه السلام , قلت: لا. قال: يخرج هذين رطبين غضين فيحرقهما ويذريهما في الريح ويكسر المسجد " , ويقصد هنا بهذين هما صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين. وفي رواية أخرى طويلة يرويها المفضل عن جعفر الصادق وفيها " قال المفضل: يا سيدي ثم يسير المهدي إلى أين , قال عليه السلام إلى مدينة جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: يا معشر الخلائق هذا قبر جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: نعم يا مهدي آل محمد, فيقول: ومن معه في القبر؟ فيقولون: صاحباه وضجيعاه أبو بكر وعمر فيقول: أخرجوهما من قبريهما فيخرجان غضين طريين لم يتغير خلقهما ولم يشحب لونهما .. إلى أن يقول: فيكشف عنهما أكفانهما وأمر برفعهما على دوحةٍ يابسةٍ نخرة فيصلبهما عليها " انتهى. وكذلك إخواني في الله فإن مهدي الشيعة متعصب جداً , فلا يقاتل من أجل عقيدة أو دين وإنما يقاتل بعض الأجناس دون بعض. ومن الذين يقتلهم هذا المهدي المزعوم العرب وبخاصة قبيلة قريش حيث روى المجلسي في (بحار الأنوار) المجلد (52) صفحة (355) " عن أبي عبدالله أنه قال: إذا خرج القائم أي مهدي الشيعة لم يكن بينه وبين العرب وقريش إلا السيف " انتهى. وعن أبي جعفر قال:" لو يعلم الناس ما يصنع القائم إذا خرج لأحب أكثرهم أن لا يروه مما يقتل من الناس أما إنه لا يبدأ إلا بقريش فلا يأخذ منها إلا السيف ولا يعطيها إلا السيف حتى يقول كثير من الناس ليس هذا من آل محمد لو كان من آل محمد لرحم " انتهى من كتاب (الغيبة) صفحة (154) وكتاب ((بحار الأنوار)) المجلد (52) صفحة (354). وكذلك الأموات فإنهم لا يسلمون من عذاب مهدي الشيعة لأنه يخرجهم من قبورهم فيضرب أعناقهم كما روى المفيد في (الإرشاد) صفحة (364) والمجلسي في ((بحار الأنوار)) المجلد (52) صفحة (338) " عن أبي عبدالله أنه قال: إذا قام القائم من آل محمد عليه السلام أقام خمسمائة من قريش فضرب أعناقهم ثم خمسمائةٍ أُخرى حتى يفعل ذلك ست مرات ". وكذلك فإن مهدي الشيعة أحبابي في الله يقتل ثلثي العالم , تماماً كما يفعل مسيح اليهود , حتى لا يبقى إلا الثلث وهذا الثلث هم الشيعة طبعاً فقد روى إمامهم الأحسائي في كتاب (الرجعة) صفحة (51) " عن أبي عبدالله عليه السلام قال: لا يكون هذا الأمر حتى يذهب ثلثا الناس فقيل له: فإذا ذهب ثلث الناس فما يبقى؟ قال عليه السلام: أما ترضون أن تكونوا الثلث الباقي ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 وإذا جاء مهدي الشيعة أحبابي في الله فإنه يقوم بهدم كل المساجد مبتدئا بالكعبة والمسجد الحرام ثم بمسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى لا يبقى مسجد على وجه الأرض إلا هدمه , جاء في رواية عن المفضل بن عمر " أنه سأل جعفر بن محمد الصادق عدة أسئلة عن المهدي وأحواله ومنها: يا سيدي فما يصنع بالبيت؟ - أي ماذا يصنع المهدي بالكعبة – قال: ينقضه فلا يدع منه إلا القواعد التي هي أول بيت وضع للناس ببكة في عهد آدم عليه السلام والذي رفعه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام منها " انتهى من كتاب (الرجعة) صفحة (184). وجاء في كتاب (الإرشاد) للإمام المفيد صفحة (365) عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: " إذا قام القائم -أي مهدي الشيعة- ... سار إلى الكوفة فيهدم بها أربعة مساجد ولم يبق مسجداً على وجه الأرض له شرف إلا هدمه وجعله جماء " انتهى. وكذلك إخواني في الله فإن مهدي الشيعة تنبع له عينان من ماء ولبن , حيث جاء في كتب الشيعة أنه عندما يخرج المهدي ستنبع له في الكوفة عينان من ماء ولبن , وأنه يحمل معه حجر موسى الذي انبجست منه اثنتا عشرة عيناً فكلما أراد الطعام أو الشراب نصبه. ومن هذه الروايات ما رواه إمامهم المجلسي في كتابه ((بحار الأنوار)) المجلد (52) صفحة (335) عن أبي سعيد الخراساني عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام قال: " إذا قام القائم بمكة وأراد أن يتوجه إلى الكوفة نادى مناديه أن لا يحمل أحد منكم طعاماً ولا شراباً ويحمل حجر موسى الذي انبجست منه اثنتا عشرة عيناً فلا ينزل -أي المهدي- منزلاً إلا نصبه فانبجست منه العيون فمن كان جائعاً شبع ومن كان ظمآن روي فيكون زادهم حتى ينزلوا النجف -أي مدينة النجف وهذه المدينة من المدن المقدسة عند الشيعة- من ظاهر الكوفة فإذا نزلوا ظاهرها انبعث منه الماء واللبن دائماً فمن كان جائعاً شبع ومن كان عطشاناً روي " انتهى من كتاب (بحار الأنوار) للمجلسي. وأيضاً أحبابي في الله وإخواني في الله فإن الشيعة الإمامية يزعمون أن في زمن مهديهم تتغير أجسامهم وتقوى أسماعهم وأبصارهم , ويكون للرجل منهم قوة أربعين رجلاً حيث جاء في كتاب (الكافي) للكليني المجلد الثامن صفحة (241) عن أبي الربيع الشامي قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: " إن قائمنا إذا قام مد الله عز وجل لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم حتى لا يكون بينهم وبين القائم بريد يكلمهم فيسمعون وينظرون إليه وهو في مكانه " انتهى. وهنا نحاول أن نلخص تشابه الشيعة واليهود في عقيدة المسيح اليهودي والمهدي الشيعي تحت النقاط التالية: أولاً: عندما يعود مسيح اليهود يضم مشتتي اليهود من كل أنحاء الأرض , ويكون مكان اجتماعه مدينة اليهود المقدسة وهي القدس أو ما يسمونها بأورشالييم أو أورشليم , وكذلك عندما يخرج مهدي الشيعة يجتمع إليه الشيعة من كل مكان , ويكون مكان اجتماعهم المدينة المقدسة عند الشيعة وهي مدينة الكوفة. ثانياً: عند خروج مسيح اليهود يحيي الأموات من اليهود , ويخرجون من قبورهم لينضموا إلى جيش المسيح , وعندما يخرج ويرجع مهدي الشيعة يحيي الأموات من أتباعه الشيعة ويخرجون من قبورهم لينضموا إلى معسكر المهدي. ثالثاً: عندما يأتي مسيح اليهود تخرج جثث العصاة ليشاهد اليهود تعذيبهم , وعندما يأتي ويخرج مهدي الشيعة يُخرج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من قبورهم فيعذبهم , وعلى رأسهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعائشة الصديقة رضي الله عنهم أجمعين. رابعاً: يحاكم مسيح اليهود كل من ظلم اليهود ويقتص منهم , وكذلك يحاكم مهدي الشيعة كل من ظلم الشيعة ويقتص منهم. خامساً: يقتل مسيح اليهود ثلثي العالم , وكذلك يقتل مهدي الشيعة ثلثي العالم كما ذكرنا ذلك آنفاً من رواياتهم المعتمدة. سادساً: عندما يخرج مسيح اليهود تتغير أجسام اليهود , فتبلغ قامة الرجل منهم مائتي ذراع , وكذلك تطول أعمارهم وعندما يخرج مهدي الشيعة تتغير أجسام الشيعة فتصير للرجل منهم قوة أربعين رجلاً ويطأ الناس بقدميه وكذلك يمد الله لهم في أسماعهم وأبصارهم. سابعاً: في عهد مسيح اليهود تكثر الخيرات عند اليهود فتنبع الجبال لبناً وعسلاً وتطرح الأرض فطيراً وملابس من الصوف , وفي عهد مهدي الشيعة تكثر الخيرات عند الشيعة وينبع من الكوفة نهران من الماء واللبن يشرب منهما الشيعة. المصدر: موسوعة فرق الشيعة لممدوح الحربي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 المطلب السابع: تشابه الشيعة واليهود في غلوهم بأئمتهم وحاخاماتهم: ونبدأ باليهود حيث عُلم عنهم غلوهم في حاخاماتهم , والحاخام هو: مسمى لعلماء اليهود , ومن هذه النصوص ما صرحوا به في تلمودهم من اعتبارهم أن كتاب (التلمود) الذي يمثل أراء الحاخامات أفضل من التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام حيث جاء في التلمود صفحة (45) ما نصه: " التفت يا بني إلى أقوال الحاخامات أكثر من التفاتك إلى شريعة موسى " انتهى. وجاء في التلمود أيضاً ما نصه: " اعلم أن أقوال الحاخامات أفضل من أقوال الأنبياء, وزيادة على ذلك يلزمك اعتبار أقوال الحاخامات مثل الشريعة, لأن أقوالهم هي قول الله الحي فإذا قال لك الحاخام: أن يدك اليمنى هي اليسرى وبالعكس فصدق قوله ولا تجادله, فما بالك إذا قال لك: إن اليمنى هي اليمنى واليسرى هي اليسرى " انتهى. وهكذا أحبابي في الله فإن اليهود يرون أن أقوال الحاخامات هي أقوال الله , ويجب أن تؤخذ أقوال الحاخامات دون أي جدال, حتى ولو كانت خاطئة, جاء في التلمود ما نصه: " من يجادل حاخامه أو معلمه فقد أخطأ وكأنما جادل العزة الإلهية ". وقد بلغ من غلوهم في الحاخامات أنْ زعموا: أن الله تعالى -عياذاً بالله تعالى- يستشير الحاخامات في حل بعض المشاكل كما جاء في التلمود ما نصه: " إن الله يستشير الحاخامات على الأرض عندما توجد مسألة معضلة لا يمكن حلها في السماء ". وكذلك فإن اليهود يعتقدون بعصمة الحاخامات , يقول الحاخام روسكي , وهو أحد كتبة التلمود معلقاً على خلاف وقع بين حاخامين , يقول: " إن الحاخامين المذكورين قالا الحق لأن الله جعل الحاخامات معصومين من الخطأ ". أما إذا انتقلنا إخواني في الله إلى الشيعة الإمامية الاثني عشرية، وإلى غلوهم في أئمتهم فإن الشيعة قد غالوا في أئمتهم حتى رفعوهم فوق البشر، وأطلقوا عليهم من الصفات التي لا تليق لأحد من البشر، بل هي مما اختص به رب العالمين دون سائر المخلوقين سبحانه وتعالى، ومن هذه الصفات التي يطلقونها على أئمتهم ادعاؤهم أنهم يعلمون الغيب، وأنهم لا يخفى عليهم شيء في السماوات ولا في الأرض، وأنهم يعلمون ما كان وما سيكون إلى قيام الساعة عياذاً بالله تعالى من هذا الكفر-. فقد جاء في كتاب (بحار الأنوار) للمجلسي المجلد السادس والعشرين صفحة (27) عن الصادق عليه السلام أنه قال: " والله لقد أُعطينا علم الأولين والآخرين – يعني الأئمة – فقال له رجل من أصحابه: جعلت فداك أعندكم علم الغيب فقال له ويحك إني لا أعلم ما في أصلاب الرجال وأرحام النساء ويحكم وسعوا صدوركم، ولتبصر أعينكم، ولتعي قلوبكم، فنحن حجة الله تعالى في خلقه " انتهى من كتاب (بحار الأنوار) للمجلسي المجلد السادس والعشرين صفحة (27). وجاء كذلك في كتاب (الكافي) للكليني المجلد (1) صفحة (261) وأيضاً في كتاب (بحار الأنوار) للمجلسي المجلد (26) صفحة (28) عن عبدالله بن بشر عن أبي عبد الله أنه قال: " إني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض وأعلم ما في الجنة وأعلم ما في النار وأعلم ما كان وما يكون " انتهى -عياذاً بالله تعالى-. هذا ما يعتقده الشيعة في أئمتهم فهم يعتقدون أنهم يعلمون الغيب , بل ويعلمون ما في أصلاب الرجال وما في أرحام النساء , ويعلمون ما في السماوات وما في الأرض, بل ويعلمون ما في الجنة وما في النار -عياذاً بالله تعالى-. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 وكذلك من مظاهر غلو الشيعة في أئمتهم اعتقادهم أنهم معصومون وقد نقل إجماعهم على عصمة الأئمة شيخهم المفيد حيث قال ما لفظه: " إن الأئمة القائمين مقام الأنبياء في تنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وحفظ الشرائع وتأديب الأنام معصومون كعصمة الأنبياء " انتهى من كتاب (أوائل المقالات) صفحة (71). أما إمامهم المعاصر وآيتهم العظمى الخميني فإنه يرى أن فضل الأئمة لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل حيث يقول في كتابه (الحكومة الإسلامية) صفحة (52) ما نصه: " فإن للإمام مقاماً محموداً ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون", ثم يقول: " وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل ". والآن أحبابي في الله نحاول أن نلخص تشابه الشيعة واليهود في غلوهم بأئمتهم وحاخاماتهم في النقاط التالية: أولاً: يدعي اليهود أن بعض حاخاماتهم يعلمون الغيب , ويدعي الشيعة أن أئمتهم يعلمون الغيب , وأنه لا يخفى عليهم شيء في السماوات ولا في الأرض , بل وإنهم يعلمون ما في أصلاب الرجال وما في أرحام النساء, ويعلمون ما في الجنة والنار, ويعلمون ما كان وما سيكون إلى قيام الساعة. كما ذكرنا ذلك آنفاً من كتبهم المعتمدة وبالصفحة والمجلد. ثانياً: يعتقد اليهود أن دينهم لا يكتمل إلا بقراءة ثلاثة تعاليم: تعاليم التوراة , وتعاليم المشنا , وتعاليم الغامارا , وهذه الأصول الثلاثة التي تقوم عليها ديانة اليهود , وأنه لا غنى للإنسان عن هذه التعاليم الثلاثة كما جاء في تلمود اليهود , وكذلك يعتقد الشيعة أن الإسلام لا يكتمل برسالة النبي صلى الله عليه وسلم , بل لابد أن يضاف إليه تعاليم علي بن أبي طالب وتعاليم الحسين بن علي رضي الله عنهم أجمعين وأن الإنسان لا يمكن أن يستغني عن هذه التعاليم الثلاثة. ثالثاً: يدعي اليهود أن حاخاماتهم أفضل من الأنبياء , ولهذا قالوا: أقوال الحاخامات أفضل من أقوال الأنبياء , وكذلك تدعي الشيعة أن أئمتهم أفضل من الأنبياء , كما قال إمامهم الخميني عن الأئمة ما لفظه: " وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقام لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل ". رابعاً: يعتقد اليهود بعصمة حاخاماتهم وأن الله جعلهم معصومين من الخطأ والنسيان , وكذلك تعتقد الشيعة الإمامية بعصمة أئمتهم وأنه لا يجوز عليهم سهو ولا غفلة ولا خطأ ولا نسيان. خامساً: غالى اليهود في حاخاماتهم حتى قالوا: يلزمك اعتبار أقوال الحاخامات مثل الشريعة , أي مثل التوراة , وكذلك غالت الشيعة الإمامية في أئمتهم حتى قال الخميني: " إن تعاليم الأئمة كتعاليم القرآن يجب تنفيذها ". وقالت اليهود: "من جادل حاخامه فكأنما جادل العزة الإلهية ". وقال الشيعة الإمامية: " الراد على الأئمة كالراد على الله تعالى ". سادساً: فمع غلو اليهود في أنبيائهم وحاخاماتهم والشيعة في أئمتهم , إلا أنهم خذلوهم وتركوا نصرتهم في أصعب المواقف وفي وقت كانوا في أمس الحاجة لمؤازرتهم , فقد خذل اليهود موسى عليه السلام وذلك عندما أمرهم بالقتال ودخول الأرض المقدسة بعد أن أخرجهم من مصر وحررهم من ذل العبودية لفرعون , فكان جوابهم -أي اليهود- له كما أخبر الله تعالى عنهم قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]. وكذلك الشيعة خذلوا أئمتهم في مواطن عديدة وتركوا مناصرتهم في أصعب الظروف , فقد خذلوا إمامهم الأول علياً رضي الله عنه مرات كثيرة وتقاعسوا عن القتال معه في أحرج المواقف التي واجهها , وخذلوا أيضاً أبناءه من بعده , حيث خذلوا الحسين رضي الله عنه أعظم خذلان حيث كتبوا له كتباً عديدة ليتوجه إليهم, فلما قدم عليهم رضي الله عنه ومعه الأهل والأقارب والبنات والأصحاب تركوه وقعدوا عن نصرته وإعانته , بل رجع أكثرهم مع أعدائه خوفاً وطمعاً وصاروا سبباً في شهادته رضي الله عنه , وشهادة كثير من أهل بيته ومن بينهم الأطفال والنساء رضي الله عنهم , وأسأل الله عز وجل أن يغمسهم في أنهار الجنة. وكذلك خذلوا زيداً بن علي بن الحسين فقد تعاهدوا بنصرته وإعانته , فلما جد الأمر وحان القتال أنكروا إمامته لعدم براءته من الخلفاء الثلاثة , فتركوه في أيدي الأعداء حتى قتل رحمة الله عليه. المصدر: موسوعة فرق الشيعة لممدوح الحربي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 المطلب الثامن: تشابه الشيعة واليهود في قدحهم في الأنبياء والصحابة: ونبدأ باليهود , أسياد الشيعة , حيث إن الطعن على أنبياء الله وانتقاصهم سمة بارزة من سمات اليهود , ومن قرأ كتب اليهود وجدها تعج بكثير من المطاعن على أنبياء الله , والقدح فيهم ورميهم بأبشع الجرائم مما هم منه براء. ومن التهم الباطلة التي يلصقها اليهود بنبي الله لوط عليه السلام تلك التهمة الجائرة التي زعموا فيها أن لوطاً عليه السلام زنى بابنتيه - عياذاً بالله تعالى- كما جاء ذلك مفصلاً في الإصحاح التاسع عشر من سفر التكوين عندهم , أما رسول الله هارون عليه السلام فقد افتروا عليه أعظم فرية حيث زعموا أنه صنع لبني إسرائيل عجل من الذهب ليعبدوه عندما تأخر عليهم موسى عليه السلام في الجبل , وأما داوود عليه السلام فيرمونه بالزنا بامرأة أحد ضباط جيشه ثم تدبيره بعد ذلك مقتل زوج هذه المرأة بعد علمه أن هذه المرأة قد حملت منه -عياذاً بالله تعالى-. وأما عيسى وأمه عليهما السلام فلم يترك اليهود جريمة إلا ألصقوها بهما, ومن هذه الجرائم والافتراءات رمي اليهود لمريم بالزنا حيث أنهم يعتقدون أنه قد جاءت به عن طريق الخطيئة أي الزنا -عياذاً بالله تعالى- , بل قد تجرأ اليهود على جميع الأنبياء فرموهم بالنجاسة كما جاء في سفر أرميا الإصحاح الثالث والعشرين ما نصه: " لأن الأنبياء والكهنة تنجسوا جميعاً بل في بيتي وجدت شرهم يقول الرب ". أما قدح الشيعة في الصحابة رضوان الله عليهم , فإن الشيعة يعادون ويبغضون الصحابة وأمهات المؤمنين رضوان الله عليهم أشد البغض , ويعتقدون أنهم كفار مرتدون, بل يتقربون إلى الله بسبهم ولعنهم ويعدون ذلك من أعظم القربات, ويوضح هذا المعتقد شيخهم ومحدثهم محمد باقر المجلسي الذي يقول في كتاب (حق اليقين) صفحة (519) ما نصه: " وعقيدتنا في التبرء أننا نتبرأ من الأصنام الأربعة: أبي بكر, وعمر, وعثمان, ومعاوية, والنساء الأربع: عائشة, وحفصة, وهند, وأم الحكم, ومن جميع أشياعهم وأتباعهم, وأنهم شر خلق الله على وجه الأرض, وأنه لا يتم الإيمان بالله ورسوله والأئمة إلا بعد التبرء من أعدائهم ". كما أن شيخهم القمي روى في تفسيره عن أبي عبدالله عليه السلام أنه قال: " ما بعث الله نبياً إلا وفي أمته شيطانان يؤذيانه ويضلان الناس بعده, فأما صاحبا نوح: فخنطيفوس وخَرام, وأما صاحبا إبراهيم: فمكفل ورزام, وأما صاحبا موسى: فالسامري ومرعقيبا, وأما صاحبا عيسى: فبولس وموريتون, وأما صاحبا محمد: فحبتر وزريق " , ويعنون بحبتر: عمر رضي الله عنه , وزريق: أبا بكر الصديق رضي الله عنه , وهذه من الرموز التي يستعملونها في كتبهم للطعن في الشيخين. أما إمامهم العياشي فيعبر عن حقده الأسود الدفين على هؤلاء الخلفاء برواية أخرى مصطنعة يرويها عن جعفر بن محمد أنه قال: " يؤتى بجهنم لها سبعة أبواب, بابها الأول للظالم, وهو زريق - يعني أبا بكر - وبابها الثاني لحبتر - يعني عمر -, والباب الثالث للثالث -يعني عثمان-, والرابع لمعاوية, والخامس لعبدالملك, والباب السادس لعسكر بن هوسر, والباب السابع لأبي سلامة, فهم أبواب لمن تبعهم " انتهى من تفسير العياشي المجلد الثاني صفحة (432). ويروي الصدوق " عن أبي الجارود قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام أخبرني بأول من يدخل النار, قال: إبليس ورجل عن يمينه ورجل عن يساره " انتهى من كتاب (ثواب الأعمال) صفحة (255). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 ولا يخفى إخواني في الله أنهم يقصدون بالرجلين هنا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما. وتلك هي نماذج لما جاء في كتب الشيعة من الطعن والقدح في الصحابة وأمهات المؤمنين , وإلا فكتبهم تمتلئ بتلك الروايات المزيفة على ألسنة الأئمة في القدح في خيار هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم كما امتلأت قلوبهم بالبغض والحقد عليهم. والآن أحبابي في الله نحاول أن نلخص تشابه الشيعة واليهود في قدحهم في الأنبياء والصحابة في النقاط التالية: أولاً: زعم اليهود أن عيسى عليه السلام وأتباعه كفرة مرتدون خارجون عن الدين , وزعمت الشيعة أيضاً أن الصحابة كفار مرتدون عن الإسلام ولم يدخلوا في الدين إلا نفاقاً ورياءاً. ثانياً: رمى اليهود مريم عليها السلام بالفاحشة مع تبرئة الله تعالى لها , ورمى الشيعة عائشة رضي الله عنها بالفاحشة مع تبرئة الله تعالى لها. ثالثاً: زعمت اليهود أن عيسى عليه السلام يعذب أشد العذاب في لجات الجحيم , وزعمت الشيعة أن الخلفاء الراشدين الثلاثة يعذبون في تابوت في نار جهنم يتعوذ أهل النار من حر ذلك التابوت. رابعاً: يستعمل اليهود والشيعة الرموز لمن أرادوا الطعن فيه في كتبهم حتى لا ينفضح أمرهم أمام الناس , فيرمز اليهود لعيسى بعدة رموز منها: جيشو وهو مقتبس من تركيب أحرف كلمات ثلاث هي " إيماش شيمو فيزكر " أي ليمحى اسمه وذكره ويرمزون إليه أيضاً بذلك الرجل, وبابن النجار, وابن الحطاب, كما يرمزون لمريم رضي الله عنها بميري. وكذلك ترمز الشيعة في كتبهم للخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين برموز تشبه رموز اليهود , فيرمزون لأبي بكر وعمر بالجبت والطاغوت , أو بصنمي قريش , أو بزريق وحبتر , أو بفرعون وهامان , أو العجل والسامري , وجاءت هناك ألفاظ أخرى تقول: أعرابيان من هذه الأمة , أو الأول والثاني, أو فلان وفلان وغيرها من الرموز. كما يرمزون لعثمان بن عفان رضي الله عنه برمز نعثل أو الثالث , ويرمزون لمعاوية رضي الله عنه بالرابع , ولبني أمية بأبي سلامة , ويرمزون لعائشة رضي الله عنها بأم الشرور, أو بصاحبة الجمل, أو بعسكر ابن هوسر. المصدر: موسوعة فرق الشيعة لممدوح الحربي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 المطلب التاسع: تشابه الشيعة واليهود في تقديسهم لأنفسهم: نبدأ باليهود حيث يدعي اليهود أن الله تعالى اصطفاهم وفضلهم على سائر الناس وميزهم عن باقي شعوب الأرض, بأن جعلهم شعبه المختار, كما جاء في سفر التثنيه ما نصه: " لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك " انتهى وجاء في التلمود ما نصه: تتميز أرواح اليهود عن باقي الأرواح بأنها جزء من الله كما أن الابن جزء من والده. انتهى. وكذلك يعتقدون: أن الله ميزهم عن غيرهم من الناس في كافة الأحكام والتشريعات الدنيوية والأخروية, ومن ذلك اعتقادهم أنه: لولا اليهود لم يخلق الله هذا الكون, وأن كل ما فيه فإنه ملك لليهود ومسخر لخدمتهم, جاء في التلمود ما نصه: " لو لم يخلق الله اليهود لانعدمت البركة من الأرض ولما خلقت الأمطار والشمس ". وكذلك فإن اليهود يعتقدون: بأن النار ليست لهم فلا يدخلها اليهود أبداً, جاء في التلمود ما نصه: "إن النار لا سلطان لها على مذنبي بني إسرائيل, ولا سلطان لها على تلامذة الحكماء ". أما الجنة فهم يرون أنها موقوفة عليهم, فلن يدخلها إلا شعب الله المختار اليهود حيث جاء في التلمود ما نصه: " وهذه الجنة اللذيذة لا يدخلها إلا اليهود الصالحون أما الباقون فيزجون بجهنم النار ". وفي نص آخر يقولون: " النعيم مأوى أرواح اليهود, ولا يدخل الجنة إلا اليهود, أما الجحيم فمأوى الكفار من المسيحيين والمسلمين, ولا نصيب لهم فيه سوى البكاء, لما فيها من الظلام والعفونة والطين ". هذا بالنسبة لليهود, أما إذا انتقلنا إلى الشيعة , وتقديسهم لأنفسهم فإن الشيعة تدعي كما ادعى اليهود من قبلهم أنهم خاصة الله تعالى وصفوته, وأن الله تعالى اختارهم من بين كل الناس وميزهم عن غيرهم بكثير من المزايا , ابتداءً من خلق أرواحهم التي يزعمون أي الشيعة أن الله تعالى خلقها من نور عظمته , وانتهاءً بإدخالهم الجنة وخلودهم فيها منعمين بما أعده الله لهم فيها من النعيم المقيم , ومن هذه المزاعم أحبابي في الله: اعتقاد الشيعة الإمامية أن الله تعالى خلق أرواحهم من طينة غير الطينة التي خلق منها باقي البشر , وأن أصل طينتهم مخلوقة من نور الله تعالى أو من طينة مكنونة تحت العرش , كما صرحت بذلك رواياتهم الواردة في كتبهم المعتمدة عندهم, ومثال ذلك ما جاء في كتاب (بصائر الدرجات) صفحة (70) عن أبي عبدالله أنه قال: " إن الله جعل لنا شيعة فجعلهم من نوره وصبغهم في رحمته ". ويروي الكليني في (الكافي) المجلد الأول صفحة (389) عن أبي عبدالله أنه قال: " إن الله خلقنا من نور عظمته ثم صور خلقنا من طينة مخزونة مكنونة من تحت العرش ". أما إمامهم المفيد فيروي في كتاب (الاختصاص) صفحة (216) عن الإمام الصادق أنه قال: " خلقنا الله من نور عظمته وصنعنا برحمته وخلق أرواحكم منا أي من الشيعة أي من أئمة الشيعة ". وروى إمامهم العياشي في تفسيره المجلد الثاني صفحة (105) عن عبدالرحمن بن كثير أن أبا عبدالله عليه السلام قال له: " يا عبدالرحمن شيعتنا والله لا تختم الذنوب والخطايا هم صفوة الله الذين اختارهم لدينه ". كما جاء في (أمالي الطوسي) عن جعفر بن محمد عليهما السلام أنه قال:" نحن خيرة الله من خلقه وشيعتنا خيرة الله من أمة نبيه ". أما ذنوب الشيعة أحبابي في الله فإن الله تعالى يغفرها لهم مهما بلغت حتى أنهم زعموا: أن هنالك ملائكة لله عز وجل ليس لها عمل إلا إسقاط الذنوب عن الشيعة, كما روى إمامهم الصدوق ذلك في أماليه كذباً , والمجلسي مثله في (بحار الأنوار) بهتاناً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي رضي الله عنه: ((يا علي إن شيعتك مغفور لهم على ما كان فيهم من ذنوب وعيوب)). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 64 بل إن الشيعة أحبابي في الله زعموا: أن النار لا تحرقهم حتى في الدنيا ولو فعلوا أبشع الجرائم وأكبر الكبائر, حيث روى صاحب (عيون المعجزات) " أن رجلاً من شيعة علي أتى إليه وقال: أنا رجل من شيعتك وعلي ذنوب وأريد أن تطهرني منها في الدنيا لأرتحل إلى الآخرة وما علي ذنب فقال عليه السلام - أي قال علي رضي الله عنه -: قل لي بأعظم ذنوبك فقال: أنا ألوط بالصبيان , أنا ألوط بالصبيان , فقال أيما أحب إليك ضربة بذي الفقار أو أقلب عليك جداراً أو أحزم لك ناراً فإن ذلك جزاءً من ارتكب ما ارتكبته فقال - أي ذلك الرجل -: يا مولاي أحرقني بالنار فأخرج الإمام الرجل وبنى عليه ألف حزمة من القصب وأعطاه مقدحة وكبريتاً وقال له اقدح واحرق نفسك فإن كنت من شيعة علي وعارفيه ما تمسك النار, وإن كنت من المخالفين المكذبين فالنار تأكل لحمك وتكسر عظمك فقدح النار على نفسه واحترق القصب, وكان على الرجل ثياب كتان أبيض لم تلعقها النار - أي لم تصبها النار - ولم يقربها الدخان ". أما الجنة إخواني في الله فتزعم الشيعة: أنها لم تخلق إلا لهم وأنهم يدخلونها بغير حساب حيث روى فرات الكوفي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: " ينادي منادي من السماء عند رب العزة يا علي ادخل الجنة أنت وشيعتك لا حساب عليك ولا عليهم فيدخلون الجنة فيتنعمون فيها ". والآن نلخص تشابه الشيعة واليهود في تقديسهم أنفسهم تحت النقاط التالية: أولاً: يدعي اليهود أنهم شعب الله المختار وأنهم خاصة الله من بين كل الشعوب وأمته المقدسة, وكذلك تدعي الشيعة أنهم شيعة الله وأنصار الله, وأنهم خاصة الله وصفوته من خلقه. ثانياً: يدعي اليهود أنهم أحباء الله وتدعي الشيعة كذلك هذا الأمر. ثالثاً: يزعم اليهود أن الله سخط على كل الأمم ما عدى اليهود وتزعم الشيعة أن الله تعالى سخط على كل الناس إلا الشيعة. رابعاً: يزعم اليهود أن أرواحهم مخلوقة من الله تعالى وليس ذلك لأحد غيرهم , ويزعم الشيعة كذلك أن أرواحهم مخلوقة من نور الله تعالى ولم يجعل الله ذلك لأحد غيرهم إلا للأنبياء. خامساً: يعتقد اليهود: أنه لولا اليهود لم يخلق الله هذا الكون, ولولاهم لانعدمت البركة من الأرض , وكذلك يعتقد الشيعة: أنه لولا الشيعة لم يخلق الله هذا الكون, ولولاهم ما أنعم الله على أهل الأرض. سادساً: يدعي اليهود أنه لا يدخل الجنة إلا اليهود, وغير اليهود يدخلون النار, ويدعي الشيعة أنهم سيدخلون الجنة وأعداءهم سيدخلون النار .. وبهذه المقارنة الأخيرة إخواني في الله يظهر لنا مدى التوافق الكبير بين اليهود والشيعة في العقيدة, الأمر الذي يجعلنا نجزم جزماً قاطعاً بأن أصل التشيع ما هو إلا يهودي خالص وأن الإسلام بريء من هذه العقيدة التي يعتقدها الشيعة في كل زمان وفي كل مكان. المصدر: موسوعة فرق الشيعة لممدوح الحربي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 المطلب الأول: أهمية الإمامة والخلافة عند الرافضة الاثني عشرية: كلما تعمقت في الشيعة والتشيع وعقائد الإمامية أجد أن هناك هوة عظيمة تفصل بين الشيعة والتشيع قد تصل في بعض الأحيان إلى التناقض الصارخ، حيث أرى بوضوح أن التشيع شيء والشيعة شيء آخر، وكلما تعمقت في تاريخ الصراع بين الشيعة والتشيع, تتجلى أمامي العصور الثلاثة التي انبثق فيها الصراع مبتدئا بالعصر الأول, وهو عصر ظهور الصراع الفكري بعد الغيبة الكبرى, الذي مهد الطريق للعصر الثاني, وهو ظهور الدولة الصفوية على يد مؤسسها الشاه إسماعيل الصفوي في عام (907 هـ) وتأسيس الدولة الشيعية في إيران، ومن ثم عصر الثالث وهو عصر الصراع الأخير الذي نشاهده في حياتنا المعاصرة بين الأفكار الشيعية الحديثة والتشيع، تلك الأفكار التي عصفت بالمجتمع الشيعي وأدت إلى نتائج حزينة لا تتحملها الأرض ولا السماء. ولكي نضع النقاط على الحروف في رسالتنا الإصلاحية هذه لابد من طرح الأفكار بصورتها الحقيقية، ومن ثم إنارة الطريق لكي يكون القارىء على بينة من أمره .. الإمامة هي الحجر الأساسي في المذهب الشيعي الإمامي، وهكذا في المذهب الزيدي والإسماعيلي، ومنها يتفرع كل ما هو مثار للجدل والنقاش مع الفرق الإسلامية الأخرى، فالشيعة الإمامية تعتقد: أن الخلافة في علي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعد علي في أولاده حتى الإمام الثاني عشر, الذي هو محمد بن الحسن العسكري الملقب بالمهدي, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألمح إلى الخلافة لعلي من بعده في مواطن كثيرة, ونص على ذلك في مواطن أخرى, أشهرها: في موقع يسمى غدير خم, عند رجوعه من حجة الوداع، حيث عقد البيعة لعلي وقال: " من كنت مولاه فهذا علي مولاه, اللهم وال من والاه, وعاد من عاداه " كان ذلك في شهر ذي الحجة من العام العاشر بعد الهجرة، ....... ، أما الفرق الإسلامية الأخرى فترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخلف أحدا من بعده بل جعل الأمر شورى بين المسلمين نزولا عند نص الكتاب .... هذا هو ملخص الخلاف بين الفريقين ولكل فرقة آراؤها وأدلتها حيث ألف علماء الفريقين في هذا الموضوع مئات الكتب المطولة والمختصرة، ولم تنفع تلك الكتب بطولها وعرضها في زحزحة الشيعة عما تعتقده في الخلافة، أو زحزحة السنة عما تراه أولى بالاتباع، غير أن المشكلة القصوى هي أن الخلاف الفكري لم يتوقف إلى هذا الحد، بل اتخذ شكلا خطيرا، كلما مرت السنوات وبعد العهد عن عصر الرسالة، ولو أن الخلاف بقي محصورا عند هذا الحد لكان الخطب هينا، والعالم الإسلامي لم يشاهد في تاريخه الطويل كثيرا من المحن والمصائب التي حلت به بسبب المتفرعات من فكرة الخلافة والخلاف فيها. وكما أشرنا ... فإن الخلاف الفكري تجاوز حدود البحث العلمي والاختلاف في الرأي، بل اتخذ طابعا حادا وعنيفا عندما بدأت الشيعة تجرح الخلفاء الراشدين وبعض أمهات المؤمنين، وذلك بعبارات قاسية وعنيفة لا تليق بأن تصدر من مسلم نحو مسلم، ناهيك عن أن تصدر من فرقة إسلامية نحو صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم وأزواجه، صحابة لهم مكانة كبيرة في قلوب المسلمين، وأزواج للنبي عبر الله عنهن بأمهات المؤمنين. وهنا ظهر على ساحة الخلاف عدم التكافؤ بين الفريقين في طريقة التفكير والعقيدة، فالفرق الإسلامية كلها تحب علياً وتكرمه, شأنه شأن الخلفاء الذين سبقوه وتحترم أهل بيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وتصلي عليهم في الصلاة في كل صباح ومساء، ولكن الشيعة لها موقف آخر من خلفاء المسلمين موقف فيه العنف والقسوة والكلام الجارح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 فكانت النتيجة ظهور رد فعل عنيف من قبل علماء الفرق الإسلامية الأخرى للدفاع عن أعز وأكرم خلفائهم، فألَّف ودوّن كتاب السنّة وعلماؤها في الشيعة الكتب المطولة والمختصرة معيرة إياها بالكفر مرة وبالخروج عن الإسلام مرة أخرى, وهكذا شغلت فكرة الخلافة حيزاً كبيراً من الكتب الإسلامية عند الفريقين, ولا زالت الأقلام تكتب والمؤلفات تنتشر وكأن المسلمين بكل طبقاتهم لا يواجهون مشكلة في هذه الدنيا المليئة بالأحداث والمكاره إلا مشكلة الخلافة فحسب. لكن الحيرة كل الحيرة هي الطريقة التي اتبعتها الشيعة في معالجتها لمشكلة الخلافة, فهي تتناقض كل التناقض مع سيرة الإمام علي وسيرة أولاده من أئمة الشيعة، ولذلك تتملكني الحيرة والدهشة عندما أرى أن شعار الشيعة هو حب الإمام علي وأولاده, ولكنهم يضربون عرض الحائط سيرة علي والأئمة من ولده. وهنا أود أن أتحدث مع الشيعة بلغتهم وفي نطاق معتقداتهم كي تكون حجة عليهم ولذلك فلا بد من القول إنني أواجه أمرين متناقضين: أحدهما التشيع, والآخر الشيعة، ومن هنا بدأتُ أستنتج أن ذلك الصراع الذي حدث بين الشيعة والتشيع بعد الغيبة الكبرى مباشرة, هو السبب الأساسي لكل الانحرافات التي حدثت في الفكر الشيعي بعد الغيبة الكبرى وإلى يومنا هذا، ونحن نعتقد أن ذلك الانحراف سبب الشقاق بين الشيعة وسائر الفرق الإسلامية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 المطلب الثاني: فكرة الخلافة في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: إذا درسنا موضوع الخلافة في عصر الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وبعد وفاته بصورة مستفيضة لوصلنا إلى نتيجة مؤكدة لا يختلف عليها اثنان هي: أن فكرة الأولوية والأفضلية لخلافة النبي الكريم ظهرت بعد وفاته مباشرة فهذا " عباس بن عبد المطلب " يخاطب الإمام علياً عندما كان مشغولاَ بتجهيز النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وكفنه:" أعطني يدك لأبايعك حتى يقول القوم عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله " فيقول له الإمام:" وهل يطمع فيها طامع غيري, ثم إنني لا أريد أن أبايع من وراء رتاج " ..... واجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة لينظروا في أمر الخلافة وقالت الأنصار للمهاجرين: منا أمير ومنكم أمير (1). وكادت تحدث فتنة بين المجتمعين لولا أن الخليفة " عمر بن الخطاب " حسم الأمر وبايع أبا بكرٍ, فبايعه المسلمون بعد ذلك وترك " سعد بن عبادة " شيخ الخزرج الاجتماع غاضباً لأنه كان يرى نفسه أولى بالخلافة من غيره، وتخلف الإمام " عليّ " عن البيعة بعض الوقت إلا أنه بايع الخليفة الجديد " أبا بكر " وهو راض عن البيعة مقبل عليها، غير أن فكرة الأولوية كانت تراود نفس الإمام ومعه السيدة " فاطمة الزهراء " وبعض صحابة الإمام وبني هاشم حتى أن الخليفة " عمر بن الخطاب " قال لابن عباس وهو يشير إلى " عليّ:" أما والله إن كان صاحبك هذا أولى الناس بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلا أنا خفناه على اثنين: حداثة السن وحبه بني عبد المطلب" (2).ومرة أخرى نستمع إلى الخليفة " عمر بن الخطاب " وهو على فراش الموت يشير إلى الإمام " علي " ويقول: " والله لو وليتموه أمركم لحملكم على المحجة البيضاء" (3). ومن هنا يمكن القول: إن فكرة التشيع لعليٍّ بالمعنى الذي أشرنا إليه ظهرت بعد وفاة النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم واستمرت حتى القرن الثالث الهجري حيث كان التشيع يعني أن الإمام " علياً " أولى بالخلافة وأحق بها من غيره ولكن المسلمين نزولاً لأوامر القرآن الكريم الذي يقول: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى: 38] ارتضوا " أبا بكر " خليفة والإمام ارتضاه كما ارتضاه غيره وبايعه كما بايعه غيره, وهكذا كان موقفه مع الخليفتين: " عمر بن الخطاب " و " عثمان بن عفان " فبايعهما وأخلص لهما في المشورة والرأي. المصدر: الشيعة والتصحيح لموسى الموسوي - ص7   (1) [10523]- رواه البخاري (3668) من حديث عائشة رضي الله عنها. (2) [10524]- ((شرح نهج البلاغة)) (1/ 124). (3) [10525]- ((شرح نهج البلاغة)) (1/ 64). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 68 المطلب الثالث: موقف الإمام علي من الخلافة: أولاً: منزلة الإمام علي التي أدت بالروافض إلى الاعتقاد بأولويته الخلافة: قلنا قبل قليل: أن التشيع كان يعني حب الإمام " علي " وأهل بيته وإعطاءه حق الأولوية في الخلافة, وإعطاء أولاده مثل هذا الحق من بعده, ولا أعتقد أن هناك أحد لا يعرف الأسباب الدافعة إلى هذا الاعتقاد، فالإمام " علي " ترعرع ونشأ في بيت الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وهو يحدثنا عن تلك النشأة بقوله:" وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره ويكنفني إلى فراشه ويُمسني جسده ويشُمني عرفه وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل " (1).   (1) [10526]- ((نهج البلاغة)) (2/ 157). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 ويستمر الإمام في بيان منزلته عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ويقول:" ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة، ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة"؟ فقال: ((هذا الشيطان أيس من عبادته إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي ولكنك وزير وإنك لعلى خير)).ولنستمع إليه مرة أخرى وهو يقول:" ولقد قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن رأسه لعلى صدري ولقد سالت نفسه في كفي فأمررتها على وجهي، ولقد وليت غسله (صلى الله عليه وآله وسلم) والملائكة أعواني فضجت الدار والأفنية .... ملأٌ يهبط وملأٌ يعرج وما فارقت سمعي هيمنة فهم يصلون عليه حتى واريناه في ضريحه فمن ذا أحق به مني حياً وميتاً فانفذوا على بصائركم" (1). وهذا هو الإمام علي يصف نفسه وموقعه من رسول اللهصلى الله تعالى عليه وآله وسلم مرة أخرى في كتاب بعثه واليه في البصرة " عثمان بن حنيف " جاء فيها:" وأنا من رسول الله كالصنو والذراع من العضد " وبعد كل هذا فالإمام هو زوج " الزهراء ", وأبو الحسنين, وبطل المسلمين, ومن أعظم بناة الإسلام, ودافع عن الرسول الكريم ورسالته, بقلبه ولسانه ودمه وعرقه, وهو بعد غلام لم يبلغ الحلم, وقد شاء الله أن تكون شهادته حيث كان مولده, فقد ولد " علي " في بيت الله واستشهد في بيت الله، وقد تكتمل الصورة المشرقة " لعلي " وجهاده وموقعه من قلب الإسلام عندما نعلم علم اليقين وحسب الأحاديث المتواترة الصحيحة التي رواها رواة الشيعة والسنة على السواء في حب الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وآله وسلم " لعلي " وتقديره إياه، فالنبي زوجَّه " فاطمة الزهراء " بأمر من السماء, ورفض أولئك الذين تقدموا لخطبتها بقوله: ((إنما أنتظر بها القضاء)) (2). وعندما نزل القضاء تم ذلك الزواج الميمون بين " علي " و " فاطمة ".وفي غزوة الخندق يصف النبي الكريم " علياً " بجملتين تضاهيان كل الأحاديث التي رويت عنه في فضائل " علي " حقاً عن كل حرف من تلك الكلمات الخالدات المشرقات يعتبر وساماً نبوياً ينصبه محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على صدر " علي بن أبي طالب " إنه وسام أعطى الجهاد والإخلاص والتفاني والإيمان بالله, موقعه السرمدي في حياة الدهر, وتخليد العظماء، والجملتان صدرتا عن الرسول في خلال ساعة أو أكثر منها بقليل, وذلك عندما ذهب " علي " ليلتقي بعدو الإسلام وبطل المشركين " عمرو بن ود " والذي كان يبارز لوحده جماعات ورجالاً قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: ((اللهم برز الإسلام كله إلى الشرك كله)) وعندما وقع "عمرو " صريعاً بسيف "علي" قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: ((ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين)) (3).   (1) [10527]- ((نهج البلاغة)) (2/ 172). (2) [10528]- رواه ابن سعد في ((الطبقات)) (8/ 19) عن علباء بن أحمر اليشكرى. (3) [10529]- رواه الحاكم في ((المستدرك)) (3/ 34) بلفظ: (لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ود يوم الخندق أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة). قال الذهبي في ((التلخيص)): قبح الله رافضيا افتراه. وقال ابن تيمية في ((منهاج السنة)) (8/ 107): موضوع. وأيضاً حكم عليه ابن حجر بالوضع في ((إتحاف المهرة)) (13/ 331). وقال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (400): كذب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 إن المتتبع لحياة الرسول الكريم والإمام يصل إلى نتيجة أكيدة وهي: أن الوشائج التي كانت تربط " محمداً " صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بـ " علي " كانت أقوى بكثير من وشائج القربى, إنها صلات روحية مترابطة متماسكة أصلها في السماء وفرعها في قلبي الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وابن عمه ولذلك لا نستغرب أبداً عندما نلمس في " علي " نفحات من نفحات النبي فهذا هو رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يدافع عن رسالته بكلمته الخالدة التي قالها للمشركين: ((والله لو وضعتم الشمس في يميني والقمر عن يساري لأترك هذا الأمر ما فعلت)) (1). وهذا هو " علي " يدافع عن إيمانه بالله ويقول:" فوالله لو أعطيت الأقاليم السبعة وما تحت أفلاكها أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت". وبعد كل ما ذكرناه ورويناه فقد يكون من الطبيعي أن يرى " علي " نفسه أولى بخلافة محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من غيره، ومن الطبيعي أيضاً أن تعتقد فئة من الناس بذلك وتتحمس لها أشد التحمس وتجد الفكرة لها مؤيدين وأنصاراً, كما أن من الطبيعي أيضاً أن نقرأ في قلب محمد صلى الله عليه وسلم ولسانه ما يدل على استخلاف " علي " بعد وفاته. ثانياً: الإمام علي يؤكد شرعية بيعة الخلفاء: ولكن هل يعني كل هذا - وهذا بيت القصيد وحجر الأساس في كل ما يتعلق بالإمامة وشؤونها المتفرعة منها - أن هناك نصاً إلهياً بتعيين " علي " لخلافة الرسول صلى الله عليه وسلم أم أنها رغبة شخصية من رغبات رسول الله الخاصة؟ الإمام " علي " كان يقول: لا نص عليه من السماء وصحابة " علي " والذين عاصروه كانوا يعتقدون بذلك أيضاً, وقد استمر هذا الاعتقاد حتى عصر الغيبة الكبرى, وهو العصر الذي حدث فيه التغيير في عقائد الشيعة وقلبها رأساً على عقب. ومرة أخرى نقول: أن هناك فرقاً كبيراً بين أن يعتقد الإمام " علي " والذين كانوا معه أنه أولى بخلافة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من غيره , ولكن المسلمين اختاروا غيره وبين أن يعتقد أن الخلافة حقه الإلهي ولكنها اغتصبت منه، والآن فلنستمع إلى الإمام " علي " وهو يحدثنا عن هذا الأمر بكل وضوح وصراحة ويؤكد شرعية انتخاب الخلفاء وعدم وجود نص سماوي في أمر الخلافة:" إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد .... وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار, فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضىً، فإن خرج من أمرهم خرج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين" (2). وقبل أن أتحدث عن موقف الإمام علي بالنسبة للخلفاء الذين سبقوه وقبل أن نسهب في هذا الأمر ونستشهد بأقوال أخرى للإمام, حيث أن لهذا الموقف أهميته القصوى في كشف الحقيقة وإنارة الواقع, لا بد من التفصيل حول رغبات النبي الشخصية وذلك الجانب السماوي الذي كان يصدع به بأمر من الله وبوحي منه. المصدر: الشيعة والتصحيح لموسى الموسوي - ص10   (1) [10530]- رواه ابن إسحاق كما في ((السيرة النبوية)) لابن هشام (1/ 266). وقال الألباني في ((فقه السيرة)) (ص109): ضعيف. (2) [10531]- ((نهج البلاغة)) (3/ 7). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 المطلب الرابع: أقوال الأئمة المعصومين في مسألة الإمامة والتدليل عليها بروايات كتب الشيعة: أولاً: الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام: في كتاب (أصول الكافي) كتاب (الحجة)، باب بعنوان: إن الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام، يروي عن الإمام السادس جعفر الصادق أنه قال: " إن الحجة لا تقوم لله عز وجل على خلقه إلا بإمام حتى يعرف " (1).وقد وردت عدة روايات بهذا المضمون بألفاظ متشابهة في هذا الباب: "الدنيا لا يمكن أن تبقى بغير إمام". وورد باب آخر متصل بالباب السابق بعنوان: "باب أن الأرض لا تخلو من حجة"، وفيه وردت عدة روايات بنفس المضمون وبسند كامل، نذكر منها روايتين:"عن أبي حمزة: قلت لأبي عبد الله: تبقى الأرض بغير إمام؟ قال: لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت" (2). ثانيتهما: "عن أبي جعفر قال: لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله". ثانياً: معرفة الأئمة والتسليم بهم شرط الإيمان: في (أصول الكافي) باب بعنوان: "معرفة الإمام والرد عليه"، وردت فيه الرواية التالية، عن أحدهما أنه قال: "لا يكون العبد مؤمناً حتى يعرف الله ورسوله والأئمة كلهم وإمام زمانه" (3).كما وردت الرواية التالية بسند كامل في نفس الباب: عن ذريح قال: سألت أبا عبد الله عن الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان أمير المؤمنين اإماماً، ثم كان الحسن إماماً، ثم كان الحسين إماماً، ثم كان علي بن الحسين إماماً، ثم كان محمد بن علي إماماً، من أنكر ذلك كان كمن أنكر معرفة الله تبارك وتعالى ومعرفة رسول الله" (4). ثالثاً: حكم الإيمان بالإمامة والأئمة وتبليغها صدرعن طريق الأنبياء كلهم والكتب السماوية كلها: يروى في (أصول الكافي) عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: "ولايتنا ولاية الله لم يبعث نبي قط إلا بها". وفي نفس الصفحة يروي عن الإمام السابع أبي الحسن موسى بن جعفر الصادق أنه قال: "ولاية علي مكتوبة في جميع صحف الأنبياء، ولم يبعث الله رسولاً إلا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ووصية علي رضي الله عنه" (5). رابعاً: الأئمة هم المقصودون بالحكم الذي نزل في القرآن بالإيمان بالله ورسله والنور الذي أنزله الله: وفي (أصول الكافي) في باب: "إن الأئمة نور الله عز وجل" وردت الرواية التالية: "عن أبي خالد الكابلي: سألت أبا جعفر عن قول الله عز وجل: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [التغابن:8]، فقال: يا أبا خالد! النور والله الأئمة" (6). وكلما جاء في آية من آيات القرآن ذكر للنور الذي أنزله الله، والذي يقصد به نور الهداية، أي: القرآن الكريم، وهو المقترن بالأمر الإلهي، أي: الإيمان بالله والرسول تقوم الروايات الشيعية - وهذا ما روي عن الإمام جعفر الصادق والإمام موسى الكاظم - بالقول بأن المقصود في الآيات من نور الله ليس القرآن، بل الأئمة الاثنا عشر، أئمة الشيعة، والحكم جاء بالإيمان جنباً إلى جنب مع الإيمان بالله ورسوله.   (1) ((أصول الكافي)) (ص103). (2) ((أصول الكافي)) (ص104). (3) ((أصول الكافي)) (ص105). (4) ((أصول الكافي)) (ص106). (5) ((أصول الكافي)) (ص276). (6) ((أصول الكافي)) (ص117). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 خامساً: طاعة الأئمة فرض: جاء في (أصول الكافي)، كتاب (الحجة)، في باب بعنوان: "باب فرض طاعة الأئمة" هذه الرواية عن أبي الصباح قال: "أشهد أني سمعت أبا عبد الله يقول: أشهد أن عليّاً إمام فرض الله طاعته، وأن الحسن إمام فرض الله طاعته، وأن الحسين إمام فرض الله طاعته، وأن علي بن الحسين إمام فرض الله طاعته، وأن محمد بن علي إمام فرض الله طاعته) (1).كما يروي أيضا عن الإمام جعفر الصادق في نفس الباب في (أصول الكافي) أنه قال: "نحن الذين فرض الله طاعتنا، لا يسع الناس إلا معرفتنا، ولا يعذر الناس بجهالتنا، من عرفنا كان مؤمناً، ومن أنكرنا كان كافراً، ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالاً، حتى يرجع إلى الهدى الذي افترضه الله عليه من طاعته الواجبة" (2).وهناك رواية أخرى بهذا المضمون عن الإمام محمد الباقر والد الإمام جعفر الصادق، قال الباقر بعد أن أوضح إمامة الأئمة ووجوب طاعتهم: "هذا دين الله ودين ملائكته" (3). سادساً: طاعة الأئمة واجبة كطاعة الرسل: عن أبي الحسن العطار قال: سمعت أبا عبد الله يقول: " أشرك بين الأوصياء والرسل في الطاعة" (4). ويقول العلامة القزويني شارح (أصول الكافي) في شرحه لهذه الرواية: يمكن أن تكون صيغة (أشرك) صيغة أمر، كما يمكن أن تكون صيغة مجهولة للمفرد الغائب، والنتيجة في الحالتين واحدة ... (5). سابعاً: للأئمة حرية الاختيار في التحليل والتحريم: في (أصول الكافي) كتاب (الحجة)، في باب مولد النبي صلى الله عليه وسلم، يروي عن محمد بن سنان أنه طلب من أبي جعفر الثاني، محمد بن علي التقي تفسير سبب وجود الاختلاف بين الشيعة في مسألة الحلال والحرام فقال:"يا محمد! إن الله تبارك وتعالى لم يزل منفرداً بوحدانيته، ثم خلق محمداً، وعليّاً، وفاطمة، فمكثوا ألف دهر، ثم خلق جميع الأشياء، فأشهدهم خلقها، وأجرى طاعتهم عليها، وفوض أمورها إليهم، فهم يحلون ما يشاءون، ويحرمون ما يشاءون، ولن يشاءوا إلا أن يشاء الله تبارك وتعالى" (6).ومن الجدير بالذكر هنا أن العلامة القزويني قد صرح في شرحه لهذا الحديث أن المقصود من محمد وعلي وفاطمة، هم الثلاثة الذين ورد ذكرهم، وجميع الأئمة الذين يولدون من نسلهم (7). وعلى كل حال، فإن ملخص رد الإمام أبي جعفر الثاني محمد بن علي التقي، وهو الإمام التاسع، هو أن للأئمة حرية الاختيار في تحليل ما يرونه حلالاً وتحريم ما يرونه حراماً، ونتيجة لحرية الاختيار هذه فإن إماماً من الأئمة يحلل شيئاً ما أو عملاً ما بينما الإمام الآخر يحرمه، ونتيجة لهذا ظهرت الاختلافات بين الشيعة فيما يتعلق بالتحليل والتحريم. ثامناً: الأئمة معصومون كالأنبياء عليهم السلام: وفي (أصول الكافي) في (باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته) وردت خطبة طويلة للإمام الثائر علي بن موسى الرضا، وقد صرح بعصمة الأئمة عدة مرات، وهو يوضح في خطبته هذه فضائل وخصائص الأئمة، جاء في موضع منها قوله:"الإمام المطهر من الذنوب، والمبرأ من العيوب". ثم يقول بعد ذلك عن صفة الإمام: "فهو معصوم مؤيد، موفق مسدد، قد أمن من الخطأ والزلل والعثار، يخصه الله بذلك، ليكون حجته على عباده وشاهده على خلقه" (8). تاسعاً: حديث عجيب وغريب للإمام جعفر الصادق عن حمل ومولد الأئمة المعصومين:   (1) ((أصول الكافي)) (ص 109). (2) ((أصول الكافي)) (ص110). (3) ((أصول الكافي)) (ص111). (4) ((أصول الكافي)) (ص109). (5) ((الصافي في شرح الكافي)) (3/ 1/58). (6) ((أصول الكافي)) (ص 278). (7) ((الصافي في شرح أصول الكافي)) (3/ 2/149). (8) ((أصول الكافي)) (ص121ـ 122). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 في (أصول الكافي) باب بعنوان: (مواليد الأئمة عليهم السلام)، وهو يحتوي على روايات عجيبة غريبة عن مولد الأئمة، وأغرب رواية تستحق أن تذكر هنا هي أول رواية، وهي طويلة، ولهذا سنكتفي بذكر ملخصها، ويمكن لمن يريد الوقوف على النص مراجعته في الأصل. يقول أبو بصير الصديق الملازم للإمام جعفر الصادق وكاتم أسراره: في اليوم الذي ولد فيه الإمام موسى الكاظم، الإمام السابع، نجل الإمام المذكور، قال الإمام الممدوح: تكون ولادة كل إمام ووصي هكذا، في الليلة التي يكتب فيها الله لحمله أن يستقر، ففي تلك الليلة يرسل الله ملكاً من عنده بكوب من شراب لذيذ نفيس، يحمله إلى الوالد، ويسقيه له، ويقول له: توجه الآن وجامع زوجتك، فقد استقر حمل الإمام الذي يولد في رحم الأم. بهذه المناسبة يفصل الإمام جعفر الصادق الحديث فيقول: (لقد حدث هذا مع جد جدي الإمام الحسين، وهكذا ولد جدي الإمام زين العابدين، ثم حدث معه نفس الشيء، فكان مولد والدي، وهكذا ولدت أنا أيضاً في تلك الليلة التي استقر فيها حمل وليدي الجديد، موسى الكاظم في رحم زوجتي. في تلك الليلة حدث معي نفس الشيء فقد جاءني من عند الله ملك يحمل كوباً من الشراب اللذيذ النفيس، وطلب مني أن أجامع زوجتي، فجامعتها، فكان حملها لابني موسى هذا). وفي هذه الرواية أيضاً أن الإمام والوصي حين يخرج من بطن أمه يأتي هكذا، تكون يده على الأرض، ورأسه مرفوعاً إلى السماء (1). ونقدم الآن آخر رواية في هذا الباب. عاشراً: الخصائص العشر التي تميز الأئمة عن بقية البشر: الراوي هنا زرارة، يقول عن الإمام الباقر: "للإمام عشر علامات، يولد مطهراً مختوناً، وإذا وقع على الأرض وقع على راحتيه، رافعاً صوته بالشهادتين، ولا يجنب، وتنام عيناه ولا ينام قلبه، ولا يتثاءب، ولا يتمطى، ويرى من خلفه كما يرى من أمامه، ونجوه كرائحة المسك، والأرض مأمورة بستره وابتلاعه، وإذا لبس درع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت وفقاً، وإذا لبسها غيره من الناس طويلهم وقصيرهم زادت عليه شبراً" (2). الحادي عشر: حمل الأئمة لا يكون في رحم الأم، بل يكون في جنبها ويولد من فخذها: في (أصول الكافي) ورد القول السابق كواحد من الخصائص التي تميز الأئمة عن غيرهم من البشر، لكن العلامة المجلسي في (حق اليقين): يروي عن الإمام الحادي عشر، الحسن العسكري، فيقول: "حملنا نحن - أوصياء الأنبياء، أي الأئمة - لا يكون في رحم البطن، بل يكون في الجانب، ونحن لا نأتي من خارج الرحم، بل نأتي من أفخاذ الأمهات، لأننا نحن الأئمة نور الله تعالى، لهذا فهو يضعنا بعيداً عن القذارة والنجاسة" (3). ولعل ما يقصده العلامة المجلسي من بيانه لرواية الإمام الحسن العسكري في (أصول الكافي) هي الخصوصية الأولى من خصائص الأئمة، أي: يولد الإمام مطهراً. الثاني عشر: درجة الإمامة أعلى من درجة النبوة: ويقول العلامة باقر المجلسي، السابق الذكر في كتابه: (حياة القلوب): إن "الإمامة أعلى من رتبة النبوة" (4).   (1) ملخص ما ورد في ((أصول الكافي)) (ص244). (2) ((أصول الكافي)) (ص146). (3) ((حق اليقين)) بالفارسية، (ص126)، طبعة إيران. (4) ((حياة القلوب)) (3/ 10). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 الثالث عشر: المؤمنون "الشيعة" بإمامة الأئمة المعصومين, لهم الجنة حتى لو كانوا فجرة فاسقين، والمسلمون الآخرون لهم النار حتى لو كانوا من البررة المتقين: ورد في (أصول الكافي)، باب: (فيمن دان الله عز وجل بغير إمام من الله جل جلاله)، الرواية التالية: عن الإمام الباقر أنه قال: "إن الله لا يستحيي أن يعذب أمة دانت بإمام ليس من الله وإن كانت في أعمالها برة تقية، وإن الله ليستحيي أن يعذب أمة دانت بإمام من الله وإن كانت في أعمالها ظالمة مسيئة" (1). وفي نفس الباب رواية عن أحد مريدي الشيعة المخلصين للإمام جعفر الصادق، ويدعى عبد الله بن أبي يعفور، قدم إلى الإمام المذكور وقال: "إني أخالط الناس، فيكثر عجبي من أقوام لا يتولونكم ويتولون فلاناً وفلاناً، لهم أمانة وصدق ووفاء، وأقوام يتولونكم ليس لهم تلك الأمانة ولا الوفاء والصدق". وتذكر الرواية أن عبد الله بن أبي يعفور قال: ما إن سمع الإمام كلامي حتى جلس غاضباً، وقال لي: "لا دين لمن دان الله بولاية إمام جائر ليس من الله، ولا عتب على من دان بولاية إمام عادل من الله" (2). الرابع عشر: درجة الأئمة تتساوى مع درجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أفضل وأعلى من جميع المخلوقات والأنبياء الآخرين عليهم السلام: في (أصول الكافي) كتاب (الحجة)، ورد حديث طويل للإمام جعفر الصادق عن فضل ودرجة ومرتبة الإمام علي المرتضى ومن بعده من الأئمة، جاء في بدايته ما يلي: (ما جاء به علي آخذ به، وما نهى عنه أنتهي عنه، جرى له من الفضل مثل ما جرى لمحمد، ولمحمد الفضل على جميع خلق الله عز وجل، المتعقب عليه في شيء من أحكامه كالمتعقب على الله وعلى رسوله، والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حد الشرك بالله، كان أمير المؤمنين باب الله الذي لا يؤتى إلا منه، وسبيله الذي من سلك غيره يهلك، وكذلك جرى لأئمة الهدى واحداً بعد واحد). ومما يروونه عن أمير المؤمنين: (الملائكة وجميع الأنبياء سلموا لي كما سلموا لمحمد، وأنا من أرسل الناس إلى الجنة وإلى النار).ورد في الرواية السابقة ما يلي: وكان أمير المؤمنين كثيراً ما يقول: "أنا قسيم الله بين الجنة والنار، وأنا صاحب (العصا والميسم)، ولقد أقرت لي جميع الملائكة والروح والرسل بمثل ما أقروا لمحمد" (3). المصدر: الثورة الإيرانية في ميزان الإسلام لمحمد منظور نعماني - ص112 فما بعدها   (1) ((أصول الكافي)) (ص238). (2) ((أصول الكافي)) (ص238). (3) ((أصول الكافي)) (ص117). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 المطلب الخامس: إبطال ما ادعته الشيعة من عصمة أئمتهم: أما اعتقادهم خوف وقوع الخطأ من الإمام لو لم يكن معصوماً، فإنه من المعلوم عند الناس أن المقصود من تنصيب الإمام هو تنفيذ الأحكام ودرء المفاسد، وحفظ الأمن والنظر في مصالح العامة وغير ذلك، وليس من شرط بقائه في الحكم أن يكون معصوماً. ولم يطالبه الشرع بإصابة عين الحق حتما في كل قضية، وإنما المطلوب منه أن يتحرى العدل بقدر الإمكان، ولا مانع بعد ذلك أن يخطئ ويصيب كبقية الناس. وادعاؤهم أنه لا يجوز عليه الخطأ يكذبه العقل والواقع. وكذلك زعمهم أنه لا بد من إمام معصوم للناس، فإنه لا يكفي إمام واحد فإن البلدان متباعدة، ووجود إمام واحد في كل عصر لا يكفي للجميع، فوجب إذاً أن يكون في كل بلد إمام معصوم يباشر الحكم بنفسه وإلا هلك الناس، ولا يجوز له أن ينيب أحداً مكانه لجواز الخطأ عليه، وفي هذا من العنت ما لا خفاء فيه. ولو طلب من هؤلاء الشيعة الذين يدّعون عصمة أئمتهم أن يأتوا بدليل واحد من القرآن أو السنة النبوية أو عن الصحابة، أو عن إجماع الأمة لما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، إذ القرآن الكريم لم يصرح بعصمة أحد، بل أثبت أن المعصية من شأن الإنسان، فإنه قد صدرت من آدم الذي هو أبو البشر، وأخبر عن موسى بأنه قتل، وعن يونس أنه ذهب مغاضباً. وفيه عتاب من الله تعالى لبعض أنبيائه ورسله بسبب تصرفات صدرت منهم. وورد في السنة النبوية ما يشير إلى ذلك في وقائع صدرت من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ [التوبة:43]، وما ورد في عتابه عن أخذهم الفداء من أسارى معركة بدر، وغير ذلك مما هو معروف في الكتاب والسنة وأقوال علماء الإسلام. ومن العجيب أنه قد صرح كل الأئمة بعدم عصمتهم في كثير من المناسبات، ثم يروي الشيعة بعض ذلك في كتبهم، ثم لا يأخذون بها. روى الكليني في باب التسليم على النساء، عن علي رضي الله عنه أنه كان يكره التسليم على الشابة منهن, ويقول: "أتخوف أن يعجبني صوتها، فيدخل علي أكثر مما أطلب من الأجر" (1). .وكان يقول لأصحابه: "لا تكفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل فإني لست آمن أن أخطئ " (2).ورووا كذلك أن الحسين بن عليّ بن أبي طالب كان يبدي الكراهية من صلح أخيه الحسن مع معاوية، ويقول: "لو جز أنفي كان أحب إلي مما فعله أخي" (3). ومن المعلوم أنه إذا خطأ أحد المعصومين الآخر ثبت خطأ أحدهما بالضرورة، فأين العصمة بعد ذلك؟ ثم إن دعوى عصمة أحد من الناس - إلا ما ورد فيه الخلاف في عصمة الأنبياء- دعوى تعارض الطبيعة البشرية المركبة من الشهوات، كما أنه لا يمدح الإنسان لأنه معصوم، بل يمدح لأنه يجاهد نفسه على فعل الخير كما أخبر الله بذلك في أكثر من موضع من كتابه الكريم. ولهذا رتب الله الجزاء على حسب قيام الشخص بما كلفه الله به، وأعطاه القدرة والإرادة ليكون بعد ذلك طائعاً أو عاصياً، فاعلاً أو تاركاً، ولو عصم الله من المعاصي أحداً -غير الأنبياء- لما كان للتكليف معنى، بل حتى الأنبياء كلفهم الله تعالى ولم يرفع الله عن أحد التكليف وامتثال أمره ونهيه، ما دام الشخص في كامل عقله وصحته، ولو لم يكن الإنسان محلاً للطاعة والعصيان لما كان للتكليف معنى. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 378 - 380   (1) ((الكافي)) 2/ 473، ولو كان علي يدعي العصمة لنفسه – كما يزعم جهال الشيعة- لما خاف الإثم. (2) انظر: ((مختصر التحفة الاثني عشرية)) (ص121). (3) ((مختصر التحفة الاثني عشرية)) (ص121). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 المطلب الأول: التعريف بالتقية ومكانتها عند الرافضة الاثني عشرية: التقية في اللغة يراد بها الحذر. يقال: توقَّيت الشيء أي حذرته. والتقية في مفهوم الشيعة معناها: أن يظهر الشخص خلاف ما يبطن. أي أن معناها: النفاق والكذب والمراوغة والبراعة في خداع الناس، لا التقية التي أباحها الله للمضطر المكره (1). وقد ذمهم في هذا الموقف بعض علمائهم الذين يحبون الإنصاف، فهذا الدكتور موسى الموسوي يقول: (لقد أراد بعض علمائنا –رحمهم الله- أن يدافعوا عن التقية، ولكن التقية التي يتحدث عنها علماء الشيعة وأمْلَتْها عليها بعض زعاماتها هي ليست بهذا المعنى إطلاقا، إنها تعني أن تقول شيئاً وتضمر شيئاً آخر، أو تقوم بعمل عبادي أمام سائر الفرق وأنت لا تعتقد به، ثم تؤديه بالصورة التي تعتقد به في بيتك" (2).ونجد مصداق هذا في أصح الكتب عندهم حيث يروي الكليني عن أبي عبد الله أنه قال: (خالطوهم بالبرانية، وخالفوهم بالجوانية) (3). وللتقية عند الشيعة مكانة مرموقة، ومنزلة عظيمة فقد اعتبروها -على حسب المفهوم السابق عندهم- أصلاً من أصول دينهم لا يسع أحداً الخروج عنها، وقد بحثوها في كتبهم كثيراً، وبينوا أحكامها وما ينال الشخص من الثواب الذي لا يعد ولا يحصى ولا يصدق لمن عمل بها، وعامل الناس بموجبها فخدعهم وموه عليهم، وكم تأثر الناس وانخدعوا بحيل هؤلاء الذين جعلوا التقية مطية لهم. ولبيان منزلة التقية عند الشيعة نورد الأمثلة التالية: - التقية أساس الدين، من لا يقول بها فلا دين له. روى الكليني عن محمد بن خلاد قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن القيام للولاء فقال: قال أبو جعفر عليه السلام: "التقية من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له" (4).وفيما يرويه عن أبي عبد الله أنه قال لأبي عمر الأعجمي: يا أبا عمر، بل وصل اعتناؤهم بالتقية إلى حد تأويل الآيات عليها، مثل قوله تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ [فصلت: 34] قال أبو عبد الله - كما زعم الكليني -: (الحسنة: التقية: والسيئة: الإذاعة) (5).اعتقدوا أن التقية عز للدين، ونشره ذل له. كما روى الكليني عن سليمان بن خالد قال: قال أبو عبد الله: "يا سليمان، إنكم على دين من كتمه أعزه الله، ومن أذاعه أذله الله" (6).   (1) انظر: ((الخطوط العريضة)) (ص7)، ((الشيعة في الميزان)) (ص86)، ((الشيعة وتحريف القرآن)) (ص36). (2) انظر: ((الشيعة والتصحيح)) (ص52). (3) ((الكافي)) (2/ 175). (4) ((الكافي)) (2/ 174). (5) ((الكافي)) (2/ 173). (6) ((الكافي)) (2/ 176). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 ولا شك أن هذا قلب للحقائق، فإن الله عز وجل طلب من الناس جميعاً نشر العلم وبيانه. وقد قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة: 67]، وقال الله: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر:94].وقد امتثل الرسول صلى الله عليه وسلم أمر ربه فلم يكتم من العلم شيئاً، بل وطلب إلى أمته أن ينشروا العلم بكل وسيلة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((بلغوا عني ولو آية)) (1)، وقال: ((نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمع، فرب مبلغ أوعى من سامع)) (2). وقد أثنى الله في كتابه الكريم على الصادقين الشجعان الذين لا يخافون في الله لومة لائم، فقال عز وجل: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب:39] وقال تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب:23 - 24]. كما ذم الله تعالى المنافقين المخادعين للناس فقال تعالى: إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1]. وقال تعالى: وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ [البقرة:14].وليس من هدي الإسلام استحلال الكذب على طريقة الشيعة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً. وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)) (3).- جعل الشيعة ترك التقية مثل ترك الصلاة تماماً. قال القمي: (التقية واجبة، من تركها كان بمنزلة من ترك الصلاة) (4). وهذا من أغرب الأقوال، فإن التقية رخصة جعلها الله في حالة الضرورة القصوى، بشرط أن لا يشرح بالكفر صدراً, فكيف يعاقب من تركها، بل قال البغوي: (والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل وسلامة النية، قال تعالى: إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، ثم هذا رخصة! فلو صبر حتى قتل فله أجر عظيم (5)   (1) رواه البخاري (3461) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. (2)) رواه أبوداود (3660) , والترمذي (2656) , وابن ماجه (230) من حديث زيد ابن ثابت رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي حسن. وقال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (21/ 276): ثابت. وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/ 327). والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) و ((صحيح سنن الترمذي)) و ((صحيح سنن ابن ماجه)) والحديث له طرق كثيرة استوعبها الشيخ عبد المحسن العباد في كتابه ((دراسة حديث نضر الله امرءاً سمع مقالتي)). (3) رواه مسلم (2607) , من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (4) نقلاً عن ((الشيعة والسنة)) (ص157)، عن ((الاعتقادات))، فصل التقية للقمي. (5) ((تفسير البغوي)) (1/ 292). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 - حدد الشيعة لجواز ترك التقية بخروج القائم من آل محمد (المهدي المنتظر).قال القمي: (التقية واجبة لا يجوز رفعها إلى أن يخرج القائم، فمن تركها قبل خروجه فقد خرج على دين الله تعالى، وعن دين الإمامية، وخالف الله ورسوله والأئمة) (1). والحقيقة أن من تركها لا يخرج إلا عن دين الإمامية فقط وعن خرافاتها. - حرفوا معاني الآيات إلى ما يوافق هواهم، وكذبوا على آل البيت. قال القمي: "وقد سئل الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] قال: أعلمكم بالتقية" (2)، أي على هذا التفسير أكرمكم هو أكذبكم على الناس. - زعم الشيعة أن المعيار الصحيح لمعرفة الشيعي من غيره هو الاعتقاد بالتقية، وينسبون إلى الأئمة المعصومين- في زعمهم- أنهم هم الذين قالوا هذا الكلام. فقد رووا عن الحسين بن علي بن أبي طالب الإمام الثالث أنه قال: "لولا التقية ما عرف ولينا من عدونا" (3). ومعنى هذا أن معرفة خداع الناس، والمبالغة فيه هو الذي يميز الشيعة عن غيرهم. - ساوى الشيعة بين التقية وبين الذنوب التي لا يغفرها الله كالشرك. فرووا عن عليّ بن الحسين الإمام الرابع أنه قال: "يغفر الله للمؤمن كل ذنب ويطهره منه في الدنيا والآخرة ما خلا ذنبين، ترك التقية، وترك حقوق الإخوان" (4). ولكن الله تعالى قد قال: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:48] وهذه المواقف للشيعة تجعل من الصعوبة بمكان التفاهم المخلص بينهم وبين المخالفين لهم -خصوصاً أهل السنة- وذلك أن الشيعي إذا رأى أنه في موقف الضعف لجأ إلى التقية، وفي هذه الحال له من الأجر الذي قدّره الشيعة ما يعادل مصافحته لعلي رضي الله عنه, أو الصلاة خلف نبي من الأنبياء (5) , كما افتروا على الله وعلى رسوله. وأقرب مثال على عدم حصول التفاهم تلك المحاولات التي قامت للتقريب بين الشيعة وأهل السنة، ثم خابت الآمال وتيقن أهل السنة أنه لا وفاء ولا إخلاص ولا صدق عند أولئك الذين يتعبدون الله بالتقية. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 380 - 386   (1) ((الشيعة والسنة)) (ص157). (2) ((الشيعة والسنة)) (ص157). نقلا عن كتاب ((الاعتقادات)) للقمي. (3) ((الشيعة والسنة)) (ص157)، نقلا عن كتاب ((الاعتقادات)) للقمي. (4) ((الشيعة والسنة)) (ص158). (5) انظر: ((مختصر التحفة الاثني عشرية)) (ص290). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 المطلب الثاني: أسباب قول الشيعة بالتقية: اختلفت كلمة الشيعة في الأسباب الحاملة لهم على التمسك بالتقية واعتبارها أساساً في الدين، وفيما يلي نوجز أهم ما قيل فيها: قالت طائفة: إن التقية تجب للحفاظ على النفس أو العرض أو المال أو الإخوان. وقالت طائفة: إن التقية تجب لأنها فضيلة، والفضائل يجب التحلي بها، وسواء كانت التقية للحفاظ على النفس أو لغير ذلك فهي واجبة في نفسها، وصاحبها أعرف بحاله، بينما روى الكليني عن أبي جعفر أنه قال: "التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم، فقد أحلّه الله له" (1). والحق أنهم أوجبوا التقية لظروف أحاطت بهم، ورأوا أن لا خلاص لهم إلا بالاتكاء على دعوى التقية. ومن ذلك: أ- أنهم وقفوا على أقوال متضاربة عن الأئمة المعصومين عندهم يختلفون في الشيء الواحد، وتتناقض فيه أقوالهم دون أن يجدوا مبرراً لذلك التناقض؛ فخرجوا من ذلك بدعوى أن ذلك الكلام صدر من الأئمة على سبيل التقية. وهذه الأقوال أكثرها من أكاذيب رواتهم، ليست من الأئمة الذين عرفوا بالشجاعة والصراحة، كما صرح بذلك أحد علماء الشيعة المنصفين (2). ب- ومنها ما وجدوه من كلام الأئمة في مدح الصحابة الذين تبرأ منهم الشيعة ويعتبرونهم كفاراً، فزعموا أن ذلك المدح إنما كان تقية. ومهما كان، فإن التقية التي يراها الشيعة لا يجوز اعتقادها في الإسلام لأنها قائمة على الكذب والخداع. وما رووه عن الأئمة وأنهم كانوا يلجؤون إليها كذب، بل كذَّبوا أنفسهم بأنفسهم حيث يذكرون روايات كثيرة لأناس سألوا بعض الأئمة المعصومين -حسب زعمهم- عن مسائل فأجابوا فيها بجواب، ثم سألوهم بعد مدة فأجابوا فيها بجواب آخر دون أن يوجد أي داع للتقية لصدور تلك الإجابات المختلفة من إمام واحد عن مسألة واحدة بين خاصة الإمام وشيعته وأنصاره كما صرحت بهذا مصادرهم ... وهذا اعتراف منهم بأن الأئمة لا يلجؤون إلى التقية بسبب الخوف وإنما هو بسبب الجهل، ولا شك أن هذا طعن شنيع في أولئك الذين يدعون عصمتهم. فانظر إلى ما أورده النوبختي عن عمر بن رباح، وما أورده عنه أيضاً الكشّي في رجاله أنه سأل أبا جعفر عليه السلام عن مسألة فأجاب فيها بجواب، ثم عاد إليه في عام آخر فسأله عن تلك المسألة بعينها فأجاب فيها بخلاف الجواب الأول فقال لأبي جعفر: هذا خلاف ما أجبتني في هذه المسألة العام الماضي، فقال له: إن جوابنا ربما خرج على وجه التقية فشكك في أمره وإمامته. فلقي رجلاً من أصحاب أبي جعفر يقال له محمد بن قيس فقال له: إني سألت أبا جعفر عن مسألة فأجابني فيها بجواب، ثم سألته عنها في عام آخر فأجابني فيها بخلاف جوابه الأول، فقلت له: لم فعلت ذلك؟ فقال: فعلته للتقية: وقد علم الله أني ما سألته عنها إلا وأنا صحيح العزم على التدين بما يفتيني به وقبوله والعمل به، فلا وجه لاتقائه إياي وهذه حالي. فقال محمد بن قيس: فلعلّه حضرك من اتقاه؟ فقال: ما حضر مجلسه في واحدة من المسألتين غيري، لا، ولكن جوابيه جميعاً خرجا على وجه التبخيت ولم يحفظ ما أجاب به العام الماضي فيجيب بمثله، فرجع عن إمامته وقال: "لا يكون إماماً من يفتي بالباطل على شيء بوجه من الوجوه ولا في حال من الأحوال، ولا يكون إماماً من يفتي تقية بغير ما يجب عند الله" (3). وما أحسن ما أجاب به سليمان بن جرير الشيعي عن تخليط الشيعة في تمسكهم بالتقية ليجعلوها مخرجاً لأكاذيبهم على أئمتهم، حيث قال كما يرويه عنه النوبختي، وهو من كبار علماء الشيعة:   (1) ((الكافي)) (2/ 175). (2) ((الشيعة والتصحيح)) (ص58). (3) ((فرق الشيعة)) (ص81،80). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 (إن أئمة الرافضة وضعوا لشيعتهم مقالتين لا يظهرون معها من أئمتهم على كذب أبداً، وهما القول بالبداء، وإجازة التقية. فأما البداء فإن أئمتهم لما أحلوا أنفسهم من شيعتهم محل الأنبياء من رعيتها في العلم فيما كان ويكون، والإخبار بما يكون في غد، وقالوا لشيعتهم: إنه سيكون في غد وفي غابر الأيام كذا وكذا، فإن جاء ذلك الشيء على ما قالوه، قالوا لهم: ألم نعلمكم أن هذا يكون. فنحن نعلم من قبل الله عز وجل ما علمته الأنبياء، وبيننا وبين الله عز وجل مثل تلك الأسباب التي علمت بها الأنبياء عن الله ما علمت، وإن لم يكن ذلك الشيء الذي قالوا إنه يكون على ما قالوا، قالوا لشيعتهم: بدا لله في ذلك بكونه. وأما التقية، فإنه لما كثرت على أئمتهم مسائل شيعتهم في الحلال والحرام وغير ذلك من صنوف أبواب الدين فأجابوا فيها، وحفظ عنهم شيعتهم جواب ما سألوهم وكتبوه ودوّنوه، ولم يحفظ أئمتهم تلك الأجوبة بتقادم العهد وتفاوت الأوقات، لأن مسائلهم لم ترد في يوم واحد، ولا شهر واحد بل في سنين متباعدة وأشهر متباينة وأوقات متفرقة. فوقع في أيديهم في المسألة الواحدة عدة أجوبة مختلفة متضادة، وفي مسائل مختلفة أجوبة متفقة، فلما وقفوا على ذلك منهم ردوا إليهم هذا الاختلاف والتخليط في جواباتهم وسألوهم عنه، وأنكروا عليهم، فقالوا: من أين هذا الاختلاف وكيف جاز ذلك؟ قالت لهم أئمتهم: إنما أجبنا بهذا للتقية، ولنا أن نجيب بما أحببنا وكيف شئنا لأن ذلك إلينا، ونحن أعلم بما يصلحكم وما فيه بقاؤكم وكف عدوكم عنا وعنكم، فمتى يظهر من هؤلاء على كذب؟ ومتى يعرف لهم حق من باطل) (1). ولا شك أن هذه الصراحة تامة وشهادة على الشيعة منهم، وهذا التخليط إنما هو إفك علمائهم لا من الأئمة الذين ينتسبون إليهم مثل جعفر الصادق وغيره، وقد حاول محمد صادق آل بحر العلوم المعلق على كتاب النوبختي إيجاد مبررات ورد لهذا القول، لكنها مبررات واعتذارات مثل بيت العنكبوت. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 386 - 390   (1) انظر: ((فرق الشيعة)) للنوبختي (ص 85 - 87). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 المطلب الثالث: أدلة الشيعة على جواز التقية والرد عليها: تلمس الشيعة لمبدأ التقية بمفهوم لها نصوصاً حمَّلوها ما لم تحتمله من المعاني التي يعتقدون أنها تؤيد ما يذهبون إليه. ومن تلك الأدلة التي تمسكوا بها ما ذكره بحر العلوم في تعليقه على فرق الشيعة للنوبختي بقوله: (التقية مما دل على وجوبه العقل إذا كانت لدفع الضرر الواجب، وقد دل عليه أيضاً القرآن العظيم)، ثم نقل عن الطبرسي بعض الآيات يحتج بها (648) (1): قوله تعالى: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]. قوله تعالى: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:88 - 89]. قوله تعالى: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28]. قوله تعالى: إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106].وفي هذا يقول محمد مهدي الحسيني الشيرازي عن الشيعة: وهم يرون التقية لقوله تعالى: إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28] (2).والواقع أن استدلالهم بهذه الآيات على التقية التي يرونها استدلال خاطئ وهذه الآيات وآيات أخرى كثيرة ليس فيها دلالة للشيعة على التقية التي هي بمعنى الكذب واستحلاله، بل تشير إلى جواز التورية في ظاهر الكلام إذا لزمت الضرورة، كقول إبراهيم عليه السلام: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]. أي من عملكم وعبادتكم للأوثان، وليس هو من الكذب بل فيه تعريض لمقصد شرعي كما يذكر العلماء (3) , وهو تكسير آلهتهم بعد ذهابهم عنها. وأما الاستدلال بالآية: إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28] فإن معناها الأمر بالاتقاء من الكفار. قال البغوي: "ومعنى الآية أن الله نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين، أو يكون المؤمن في قوم كفار يخافهم فيداريهم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان؛ دفعاً عن نفسه من غير أن يستحل دماً حراماً أو مالاً حراماً، أو يظهر الكفار على عورات المسلمين" (4). وأما الآية إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ [النحل:106] أي إلا من كان حاله مشرفاً على الخطر، واضطر إلى القول بالكفر فله أن يتقول به من غير أن يعتقد ويعمل به، بل يقول ما فيه تورية ومعاريض مع طمأنينة قلبه بالإيمان، وبحيث لا يشرح صدور الكفار بالمدح الظاهر لهم ولديانتهم، وإنما يلجأ إلى المعاريض التي يكون فيها صادقاً، ولا تؤثر في دينه، كأن يقول لهم إنكم على معرفة، وعندكم تقدم ظاهر، قصوركم عالية وبساتينكم مثمرة، ويريد به أنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة غافلون. قال ابن جرير في معنى الآية، بعد أن ذكر أنها نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه: "فتأويل الكلام إذن: من كفر بالله بعد إيمانه إلا من أكره على الكفر، فنطق بكلمة الكفر بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، موقن بحقيقته، صحيح على عزمه، غير مفسوح الصدر بالكفر، لكن من شرح بالكفر صدراً فاختاره وآثره على الإيمان، وباح به طائعاً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم" (5).   (1) انظر: ((فرق الشيعة)) تعليق (ص 85 - 86)، وانظر: ((الكافي)) (2/ 172). (2) ((قضية الشيعة)) (ص6). (3) انظر: ((تفسير القرآن العظيم)) (4/ 13). (4) انظر: ((تفسير البغوي)) (1/ 292). (5) انظر: ((جامع البيان)) (14/ 182). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 ومن الجدير بالذكر أن هذه التقية الشيعية الباطلة لم يقصروها على الناس فقط بل جوزوها حتى على الأنبياء، وهذا خطأ وخلاف الحق، فإن الأنبياء لا يسلكون التقية التي يريدها الشيعة، ولا تجوز أبداً، فالكذب لا يجوز عليهم، وكتمان الحق وإظهار الموافقة للكفار كذلك لا يجوز لهم، وإلا لما انتشرت دعوتهم، ولما ظهر الخلاف بينهم ويبن أقوامهم، ولما حصل عليهم من المتاعب والأخطار ما حصل, مما ذكره الله تعالى في كتابه الكريم مما لم يكن ليقع أبداً لو استعمل الأنبياء التقية الشيعية المملوءة جبناً ونفاقاً، وحاشا أن يسلكوا ذلك. وقد يقول بعض الشيعة في احتجاجهم بالسنة: إننا نجد أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يلين القول ويبتسم في وجوه بعض الفسقة والظلمة، وهذا كما يرى هؤلاء تقية. والواقع أن هذه الأفعال التي صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت من باب المداراة، ومن باب حسن الخلق وتأليف القلوب، مع أنه حصل مثل هذه المواقف لأناس ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف من جانبهم شيئاً حتى يقال إنها تقية منه لهم، ثم لم تكن هذه المداراة في أمور الدين إذ لم يعرف عن أحد من الأنبياء أنه دارى أحداً في دينه، وإنما هو حسن الخلق ومقابلة الناس بالبشر مع تألفهم لأقوامهم، ولا ينافي هذا أن يقع في القلب كراهية ما هم عليه من فجور مع محبة الخير لهم وإرشادهم إليه, وبذل النصح لهم بصدق وإخلاص. وفي مختصر التحفة الاثني عشرية فوائد في هذا المعنى، ارجع إليها إن أحببت الزيادة (1). وفي الختام نود التنبيه إلى أن ما ينسبه الشيعة إلى علي رضي الله عنه من قوله بالتقية –غير صحيح بروايات الشيعة أنفسهم وتناقضهم من حيث لا يعلمون. شأن كل باطل: فقد رووا في كتبهم أن علياً كان يهدد عمر في مواقف كثيرة، بل ويصل أحياناً إلى الضرب والإهانة ورفع الصوت فيما يزعمون، وأن علياً لو شاء لخسف بعمر وبغيره، وهذا يدل على أن علياً ما كان بحاجة إلى التقية. ثم رووا عن علي أيضاً أنه توقف عن بيعة أبي بكر زمناً (ستة أشهر) لو كان يرى وجوب التقية لبايعه وأبطن الخلاف. وعلى هذا فإنهم حين ينسبون إلى الأئمة القول بالتقية، ثم يثبتون لهم صفات لا تليق إلا بالله يعتبر كلامهم متناقضاً. فقد روى الكليني أن الأئمة لا يموتون إلا برغبتهم واختيارهم، وقد أجمع الشيعة على صحة هذا. كما روى أيضاً أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون، وأنه لا يخفى عليهم شيء، ومن كانت هذه صفاته فإن التقية في حقه تعتبر جبناً وخوفاً لا داعي له، وكيف يلجؤون إلى التقية وهم يعلمون كل ما سيجري عليهم. ثم يتناقض كلامهم في القضية الواحدة تبعاً لحال الإمام وظروفه، ولنفرض أنهم يصادفون متاعب من مخالفيهم فهل يجمل بهم الهرب منها بالتقية وخداع الناس؟ فأين فضيلة الصبر وامتثال أمر الله وتحمل المشاق في سبيل الله؟ لأن هذه هي وظيفة الأنبياء والمصلحين من الناس، وهي فضيلة لا يليق بهم تجنبها باستحلال الكذب. وأخيراً فإنه يلزم الشيعة أن يصفوا الحسن بن علي رضي الله عنه بأنه ليس له كرامة وفضل، لأنه لم يلتزم بالتقية مع معاوية، وأن المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل الناس لأنهم أتقاهم أي أكثرهم عملاً بالتقية حسب تفسير الشيعة الخاطئ (659) (2). ولولا شدة التعصب وتزيين الشيطان لهم أعمالهم لرأوا أن هذه الخرافات التي جعلت أعداء الإسلام يسخرون منهم بسببها أنها من أهم ما ينبغي عليهم محاربتها، وأن عليهم أن يحرروا أفكارهم من هذه الشنائع التي هي إلى الوثنية أقرب- وكل ذلك من أهم ما ينبغي عليهم القضاء عليه إذا أرادوا تصحيح دينهم وتحرير عقولهم من هذه المبادئ البدائية: يقول الدكتور الموسوي في رده على علماء الشيعة: (إن على الشيعة أن تجعل نصب أعينها تلك القاعدة الأخلاقية التي فرضها الإسلام على المسلمين، وهي أن المسلم لا يخادع، ولا يداهن، ولا يعمل إلا الحق، ولا يقول إلا الحق ولو كان عليه، وأن العمل الحسن حسن في كل مكان، والعمل القبيح قبيح في كل مكان. وليعلموا أيضاً أن ما نسبوه إلى الإمام الصادق من أنه قال: "التقيّة ديني ودين آبائي" إن هو إلا كذب وزور وبهتان على ذلك الإمام العظيم" (3). المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 390 - 395   (1) ((مختصر التحفة الاثني عشرية)) (ص288 - 296). (2) انظر لمزيد التفاصيل: ((مختصر التحفة الاثني عشرية)) (ص288 - 296).، حيث ذكر أشياء كثيرة يضيق المجال عن ذكرها. (3) - ((الشيعة والتصحيح)) (ص59). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 83 المطلب الرابع: عدم أخذ الأئمة بالتقية: لقد أراد بعض علمائنا رحمهم الله أن يدافعوا عن التقية، ولكن التقية التي يتحدث عنها علماء الشيعة وأملتها عليها بعض زعاماتها هي ليست بهذا المعنى إطلاقاً، إنها تعني أن تقول شيئاً وتضمر شيئاً آخر، أو تقومُ بعمل عبادي أمام سائر الفرق الإسلامية وأنت لا تعتقد به ثم تؤديه بالصورة التي رسموها والأسباب التي كانت وراء انتسابها إلى أئمة الشيعة، ينبغي أن نمعن النظر قليلاً في عمل أئمة الشيعة وفي حياتهم الخاصة والعامة لكي نرى أنهم كانوا أبعد الناس عن التقية وأكثر الناس مقتاً لها، ولنعلم بعد ذلك أنه لم يكن من المعقول أن لا يعمل الشيعة بالتقية وهم يأمرون أتباعهم وشيعتهم بالعمل بها، ولقد ذكرنا في الفصل السابق صورةً واضحة عن حياة الإمام " علي " وصراحته في الحق ولا نريد تكرارها هنا أما ابنه " الحسن " وهو الإمام الثاني للشيعة (1) فكان أبعد الناس من التقية ومخادعة الناس وصلحه مع " معاوية " يشهد بذلك، فصلح " الحسن " عمل ثوريّ وخروج على الرأي العام المحيط بالإمام في عصره، فقد لاقى الإمام " الحسن " معارضة صريحة من كثير من شيعة أبيه الذين كانوا لا يريدون الصلح حتى أن " سليمان بن صرد " وهو من كبار شيعة " علي " خاطب الإمام " الحسن " بقوله:" السلام عليك يا مذل المؤمنين", والمعارضون للصلح كانوا أقوياء وأشداء ونال الإمام " الحسن" منهم الكثير، ولكن لم يفت كل ذلك في عضده وقاوم المعارضة مقاومة الأبطال، فيا ترى لو كانت للتقية مكان في قلب " الحسن " هل كان يصالح " معاوية " أمْ كان يستجيب لنداء الذين كانوا يحثونه على قتاله حتى يبايعه " معاوية " كخليفة منتخب وشرعي للمسلمين؟ ثم يأتي دور الإمام " الحسين " الذي ثار ضد " يزيد بن معاوية " ولم يقبل بنصح أولئك الذين نصحوه بالبقاء في مدينة الرسول ومنعوه من السير إلى العراق، وكل من يتابع الثورة الحسينية يعلم بوضوح أن شهادة الإمام " الحسين " وأولاده وأصحابه وسبي أهل بيته كانت كلها تتجسد أمام " الحسين " قبل المعركة وكان يعلم بها علم اليقين، فَ " الحسين " جمع أصحابه في ليلة العاشر من " محرم " وقال لهم: بأن غداً سيكون القتال من شاء منهم في ذلك الليل المظلم وقال لهم:" اتخذوا الليل جملاً وارحلوا إلى مصائركم", فرحل منهم مَنْ رحل وبقي من بقي ليستشهد مع " الحسين " ويسجل اسمه في سجل الخالدين.   (1) - إطلاق تسمية أئمة الشيعة على هذه الصفوة المختارة من أهل بيت رسول الله هو إطلاق مجازي في حين أن المسلمين كلهم يحترمون أهل بيت الرسول ويرون فيهم القدوة الصالحة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 فهل في مثل هذه الثورة تجد الشيعة أثراً للتقية أو كل ما يمت إلى التقية بصلة؟ ثم يأتي دور الإمام " علي بن الحسين " الملقب بالسجاد وهو الذي عاصر ملحمة " كربلاء " ولم يشترك بالقتال بسبب المرض الذي ألزمه الفراش وقد أسر في ضمن من أسر بعد مقتل أبيه وحمل على جمل أقتب مقيداً بالسلاسل من " كربلاء " إلى " الشام " ولا شك أن تلك الصورة الحزينة المليئة بالدماء والدموع والتي شاهدها " السجاد " في يوم " عاشوراء " والذل والهوان الذي احتمله وهو يسير مع الأسرى بين " كربلاء " و " دمشق " كانت عالقة في ذهنه ليل نهار وقد انصرف الإمام " السجاد " إلى العبادة وكان يكثر من البكاء في آناء الليل وأطراف النهار حتى لقب بالبكّاء، إنه كان من الطبيعي لذلك الحزن السرمدي الذي كان يعصر قلب الإمام أن تتجلى في كلامه وخطبه عبارات تدحض الخلافة الأموية الحاكمة التي كانت حتى ذلك الحين تسب جده الإمام " علياً " على المنابر بعد كل صلاة، فقد ترك الإمام " السجاد " لنا أربعة وخمسين دعاءً جمعت كلها في كتاب واحد وسميت تلك الأدعية (الصحيفة السجادية) إن من يقرأ هذه الأدعية يعلم علم اليقين كيف أن التقية كانت أبعد شيء إلى قلب " السجاد " فقد نسف الإمام في أدعيته تلك الخلافة الأموية الحاكمة نصاً ومضموناً، إنها حقاً أدعية ثورية صدرت من إمام شاهد أضخم الثورات الإسلامية حجماً وأقلها زماناً فإذا لم يستطع أن يشترك فيها بدمه فها هو اشترك فيها بلسانه كالسيف البتار، وهذا هو الإمام " السجاد " مرةً أخرى يطوف بالبيت ويفسح له الحجيج له الطريق إجلالاً وإكراماً والخليفة " هشام بن عبد الملك " يرى كل ذلك ويطوف بين الطائفين والناس في شغل عنه والإمام يرى الخليفة ولا يبالي به فيغتاظ الخليفة لما رأى من الإمام وما رأى من الناس في الإمام فيسأل متجاهلاً: من هذا؟ مشيراً إلى السجاد وتشاء المقادير أن يكون " الفرزدق " الشاعر حاضراً الموقع فيرتجل قصيدته العصماء مخاطباً الخليفة: وليس قولك مَنْ هذا بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا الإمام التقي الطاهر العلم لو يعلم الركن من قد جاء يلثمه ... لقبل الركن منه موضع القدم يغضي حياء ويغضي من مهابته ... فلا يكلم إلا حين يبتسم إن من يمعن النظر في هذا اللقاء الجاف بين الإمام والخليفة الحاكم الذي أغضب هذا الأخير سيعلم علم اليقين أن التقية وكل ما يمت إليها بصلة لم تجد إلى قلب الإمام سبيلاً، ثم يأتي دور الإمام " الباقر " وابنه " الصادق " وهما اللذان أسسا المدرسة الفقهية التي سميت باسم " الفقه الجعفري " وكان الإمامان يدرسان في المدينة في جامع الرسولصلى الله تعالى عليه وآله وسلم ويدليان بآرائهما الفقهية وينشران مذهب أهل البيت بلا خوف ولا وجل، فَ " الباقر " عاصر الخلافة الأموية " والصادق " عاصر نهاية الخلافة الأموية وبداية الخلافة العباسية وكانت الخلافة الأموية والعباسية على اختلافٍ مع الإمامين ولا ترتضي بمدرسة أهل البيت الفقهية، ولكن الإمامين أديا الرسالة وقد تخرج عليهما فقهاء وعلماء كثيرون، وهكذا نرى أن الإمامين كانا يؤديان الواجب غير متهيبين من السلطة التي كانت على خلاف معهما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 ومن الغريب أن بعض رواة الشيعة روت عن الإمام " الصادق " روايات في وجوب التقية على شيعته في حين أنه وشيعته لم يكونوا بحاجة إليها، فالإمام كان يدرِّس في مسجد الرسولصلى الله تعالى عليه وآله وسلم وحوله آلاف من التلاميذ والطلاب والمستمعين وليت شعري أن أعرف كيف يمكن لمدرسة فقهية بهذه السعة وكثرة الطلاب والتلاميذ أن تبنى على التقية وأية تقية استعملها الإمام في بناء مدرسته الفقهية التي كان يضع أساسها أمام المسلمين وبصورة علنية بما فيهم المحب المخلص والعدو الشامت. والإمام " موسى بن جعفر " لم يكن على وفاق مع الخليفة العباسي " هارون الرشيد " وقضى سنوات في سجن الخليفة ببغداد، فلو كان " موسى بن جعفر " يسلك طريق التقية ويخادع الخليفة الذي كان ابن عمه وكانت تتحكم بينهما صلات القربى لما حدث له ما حدث. وعندما آلت الخلافة إلى " المأمون " العباسي عَيَّن الإمام " علي بن موسى " الملقب " الرضا " ولياً للعهد و" علي الرضا " هو الإمام الثامن للشيعة الإمامية غير أن الإمام قضى نحبه في عهد " المأمون " واستمرت الخلافة في العباسيين وبعد وفاة الإمام " الرضا " زَوَّج الخليفة " المأمون " العباسي ابنته " أم الفضل " لابن الرضا " محمد الجواد " لكي لا تنقطع المودة بين الخليفة العباسي والبيت العلويّ، وهذان الإمامان الأب والابن اللذان كان أحدهما ولياً للعهد والآخر صهراً للخليفة لم يكونا بحاجة إلى العمل بالتقية ولم يطلبا من الشيعة أن يتخذوا من التقية وسيلة لمآربهم. وبعد الإمام " الجواد " يأتي دور " عليّ " وابنه " الحسن العسكري " الإمام العاشر والحادي عشر للشيعة، وقد سكنا عاصمة الخلافة العباسية وعاصرا عهد " المتوكل " وابنه " المعتصم " وكان بيت الإمامين موئلاً للزوار وكانا يقومان بشؤون المسلمين الدينية ونشر مذهب " أهل البيت " ومن يتابع حياة هذين الإمامين يعلم أنهما كانا من أبعد الناس عن التقية أيضاً ومع أن عيون الخلفاء كانت تراقبهما وتراقب حركاتهما ودعواتهما إلى مذهب " أهل البيت " التي كانت في الحقيقة معارضة للخلافة العباسية إلا أن الإمامين لم يباليا بذلك وسلكا طريق الحق في أداء رسالتهما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 86 لقد أوردنا هذه الخلاصة من حياة أئمة الشيعة لنثبت أن فكرة التقية التي ظهرت بالمفهوم الشيعي الخاص إنما ظهرت في أواسط القرن الرابع الهجري وهو بعد الإعلان عن غيبة الإمام الثاني عشر وأنها ظهرت في مستهل ظهور عصر الصراع بين الشيعة والتشيع وعندما أرادت الزعامات الشيعية المذهبية والسياسية والفكرية أن تتخذ العمل السريّ وسيلة للقضاء على الخلافة العباسية الحاكمة والإعلان بعدم شرعيتها، وكان من الطبيعي أن يضاف إلى فكرة التشيع لِعَلِيّ وأهل بيته عنصراً جديداً يدعم الفكرة دعماً كبيراً فأضيفت فكرة النص الإلهي - كما قلنا - إلى الخلافة وأصبحت منذ ذلك الحين تشغل حيِّزاً كبيراً من صميم العقيدة، ويمكن القول إن العمل السريّ المذهبيّ بدأ من عصر ظهرت التقية فيه بمظهر الواجب الشرعي الذي يجب أن يتبعه كل من له فكرة دينية ويخشى أن يجهر بها أمام السلطة الحاكمة أو الأكثرية الإسلامية, ولذلك كانت للتقية دور كبير في إسناد الزعامات المذهبية الشيعية التي ظهرت بعد الغيبة الكبرى، فبالتقية استمرت تلك الزعامات في نشاطها وفي مأمن من السلطة الحاكمة, كما أن الأموال كانت تصل إليها تحت غطاء التقية أيضاً, وهكذا أخذت التقية تسري في الفكر الشيعي والعمل الشيعي طيلة قرون عديدة وأخذت طابعاً حزيناً في تكوين الشخصية الشيعية, وإنني لا أشك من أن التقية كانت من أهم الأسباب التي أدت إلى التخلف الفكري والاجتماعي والسياسي للمجتمعات الشيعية أينما وجدت فقد سرت في دمائهم ومنعتهم من الظهور بالمظهر الذي كانوا عليه خوفاً أو خجلاً وحتى في " إيران " القطر الشيعي وعندما كانت السلطة الحاكمة شيعية خالصة كان الشعب الإيراني يسلك طريق التقية كواجب ديني لمواجهة بطش السلطان واستبداده فيضمر لهم بالقلب ما يناقضه في العلن، وهكذا تميز الشعب الإيراني الشيعي كسائر نظرائه من الشيعة بازدواجية الشخصية، وإنني لا أشك أبداً أن التقية -قاتلها الله- لعبت دوراً كبيراً في إبقاء الشيعة بعيدة عن الفرق الإسلامية الأخرى كما أنها سببت في رميها بأمور عجيبة وغريبة ما أنزل الله بها من سلطان وهي بريئة منها، ولكن الدفاع عن تلك الاتهامات والأوهام لاقى صعوبة بالغة بسبب اشتهار الشيعة بالتقية ورميهم بإخفاء الحقيقة في كل شيء ومما يحزن له قلبي ويعصره عصراً هو أن التقية في الفكر الشيعي تجاوزت عامة الناس واستقرت في أعماق قلوب القادة من زعماء المذهب, الأمر الذي كان السبب في دعوتنا لتخليص الشيعة من تلك الزعامات، فعندما يرتضي القائد الديني لنفسه أن يسلك طريق الخداع مع الناس في القول والعمل باسم التقية فكيف ينتظر الصلاح من عامة الناس؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 وفي الوقت الذي أكتب فيه هذه السطور وفي عهد وطأت أقدام الإنسان على سطح القمر وأصبحت الحرية الفكرية والكلامية مقدسة تدافع عن مكنونات الإنسان وعقائده خيراً كانت أو شراً يعيش المجتمع الشيعي بقيادة زعاماته مغلقاً على نفسه بالتقية, فيظهر شيئاً ويبطن شيئاً آخر، فلا أعتقد أنه يوجد زعيم شيعي واحد في شرق الأرض وغربها يستطيع أن يعلن رأيه حتى في كثير من البدع التي ألصقت بالمذهب الشيعي خوفاً ورهبةً من الجماهير الشيعية التي درّبتها الزعامات تلك على العمل بتلك البدع فأصبحت جزءاً من كيانها، فمثلاً - وليس على سبيل الحصر - الشهادة الثالثة (أشهد أن علياً ولي الله) التي يتفق عليها علماء المذهب الشيعي بأنها بدعة لم تكن معروفة في عهد الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم والصحابة وحتى في عهد الإمام " علي " وأئمة الشيعة وكلهم يجمعون على أن من قالها في آذان الصلوات بقصد " الورود " أي أنه وارد في الشريعة عمل عملاً محرماً وأتى ببدعة، مع كل هذا لا يوجد زعيم شيعي واحد يستطيع أن يشير إلى هذا الأمر قولاً أو كتابة، كما أنه لا يوجد زعيم شيعي واحد يستطيع أن يصارح جمهور المسلمين بحقيقة الخلاف السائد بين الشيعة والسنة والعمل على رفعه، وكما قلنا فإن من أهم عناصر الخلاف الموجودة بين الشيعة والسنة هو تجريح الشيعة للخلفاء الراشدين وصحابة الرسولصلى الله تعالى عليه وآله وسلم وبعض أزواجه، وإذا لم يرفع هذا العائق من قائمة الخلاف فسيبقى الخلاف مستحكماً بين الفريقين إلى أبد الآبدين فلا المؤتمرات الإسلامية تجدي ولا الكلمات الإصلاحية الرنانة تنفع ولا خطب المصلحين توقف ثورة الحقد والغضب الكامنة في هذا التجريح المستشري في العقول والقلوب وبطون الكتب وهمس الهامسين. وهنا أيضاً يسلك زعماء المذهب طريق التقية أيضاً في معالجتهم لهذا الأمر فينسبون التجريح والسب والشتم إلى جهال الشيعة في حين أن كتب الرواة والمحدثين والعلماء والفقهاء من الشيعة الإمامية هي التي ذكرت تلك الأقوال ومنها تسربت إلى قلب عامة الشيعة ولسانها، فيا ترى هل تقع الملامة على الخاصة أم على العامة؟ ولا أعتقد زعيماً دينياً واحداً من زعماء المذهب الشيعي قديماً وحديثاً قد قام بغربلة الكتب الشيعية من الروايات التي تنسب زوراً إلى الأئمة في تجريح الخلفاء وغيرها من الروايات التي يحكم العقل السليم ببطلانها وعدم صدورها من الإمام مع أن علماء المذهب كلهم مجمعون أيضاً بأن الكتب التي يعتمدون عليها في الشؤون المتعلقة بالمذهب فيها روايات باطلة غير صحيحة وهم يذعنون بأن هذه الكتب تجمع بين طياتها الصدف والخزف والصحيح والسقيم، ومع ذلك لم يسلك هؤلاء الزعماء طريق إصلاح مثل هذه الروايات، فإذا كانت زعاماتنا الشيعية تتصف بالشجاعة وتؤمن بالمسؤولية الملقاة على عاتقها في رفع الخلاف لتحملت مسؤولية الخلاف بكاملها ولعملت على إزالة مثل هذه الروايات من بطون الكتب وعقول الشيعة ولفتحت صفحةً جديدةً في تاريخ الإسلام ولَعَمَّ الخير على جميع المسلمين، أما الفرار من المسؤولية وإلصاقها بالعوام من الناس تهرباً من الحقيقة والواقع تحت غطاء شرعية التقية فهذا أمر يوحي بالأسف الشديد، وعندما أكتب هذه السطور هناك آلاف مؤلفة من الشيعة الإمامية يعملون بالتقية في أعمالهم الشرعية فهم يحملون معهم التربة الحسينية التي يسجدون عليها في مساجدهم ولكنهم يخفونها في مساجد السنة مقتدياً بإمام المسجد وإذا عادوا إلى بيوتهم أعادوا الصلاة عملاً بالتقية معتمدين على روايات نسبت إلى أئمة الشيعة في التقية وأفتوا علماء الشيعة مستندين عليها في وجوب التقية ولكل هذا نحن نحث الشيعة إلى اتباع التصحيح الآتي: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 ينبغي على الشيعة في كل الأرض أن تقف من التقية موقف الإنسان الكريم الذي يحترم عقيدته وذاته ويجب أن يكون متصفاً بالإباء والشِّيَم التي هي من الأخلاق الفاضلة، وأن يفكر ملياً في الآثار النفسية التي تحدث له هذه الازدواجية في الشخصية والاضطراب بين القول والفعل والتي تتنافى مع الصدق وتتناقض مع صفات المسلم المخلص، فأي كلام أو عمل يصدر من الإنسان وفيه رياء أو خداع لا بد وأن فيه مغايرة مع المنطق أو عمل الجماعة والأكثرية، ولذلك يجب على المسلم الحقيقي أن يقلع عن كلام أو عمل لا يستسيغه المجتمع الإسلامي سراً كان أو جهراً وأن يترفع من الظهور بمظهر الإنسان المرائي المخادع، على القواعد الشيعية ولا سيما المثقفين منهم أن يحاسبوا زعاماتهم المذهبية حساباً عسيراً في سوقهم إياهم على هذا الدرب الشائك لأغراض في نفوسهم، إن على الشيعة أن تجعل نصب أعينها تلك القاعدة الأخلاقية التي فرضها الإسلام على المسلمين وهي أن المسلم لا يخادع ولا يداهن ولا يعمل إلا الحق ولا يقول إلا الحق ولو كان عليه وأن الحسن حسن في كل مكان والعمل القبيح قبيح في كل مكان وليعلموا أيضاً أن ما نسبوه إلى الإمام الصادق من أنه قال: "التقية ديني ودين آبائي) إن هو إلا كذب وزور وبهتان على ذلك الإمام العظيم. المصدر: الشيعة والتصحيح لموسى الموسوي – ص35 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 المطلب الأول: من هو المهدي؟ يؤمن أهل السنة بالمهدي الذي صحت به الأحاديث، ولكن غير مهدي الشيعة الخرافي الذي وصلوا في إيمانهم به وانتظاره وترقبه إلى حد جعلهم محل سخرية العالم منهم، وأخباره عندهم أكثر من أن تذكر، وقد أفرده الطوسيّ بكتابه المسمى: (كتاب الغيبة).إن القول بالمهدي وانتظاره من عقائد الشيعة البارزة والأساسية، ذلك المهدي الذي يزعمون أنه غاب عنهم لأسباب مؤقتة، وسيرجع وسيملأ الأرض عدلاً ورخاءً كما ملئت ظلماً وجوراً (1). ولهذا فهم يقيمون على سردابه بسامرا الذي زعموا أنه مقيم فيه دابة ترابط دائماً ليركبها إذا خرج من سردابه، ويقف جماعة ينادون عليه بالخروج يا مولانا اخرج، يا مولانا اخرج، ويشهرون السلاح، وفي أثناء مرابطتهم لا يصلون خشية أن يخرج وهم في الصلاة فينشغلون بها عن خروجه وخدمته، بل يجمعون الخمسة الفروض. وليس هذا فقط عند السرداب، بل أحياناً يكونون في أماكن بعيدة عن مشهده ويفعلون هذا إما في العشر الأواخر من شهر رمضان، وإما في غير ذلك, يتوجهون إلى المشرق وينادونه بأصوات عالية، يطلبون خروجه مع أنه لا مهدي هناك. وإنما هي خرافة نفذ منها ومن غيرها أعداء الإسلام إلى الطعن في الإسلام وتجهيل حامليه، وإلا فما الداعي لمثل رفع هذه الأصوات وهذه المرابطة المضنية؟ فإنه على فرض أن هذا المهدي موجود هناك، فإنه لا يستطيع أن يخرج إلا بإذن الله، ثم إذا أذن الله له فإنه يحميه وينصره وييسر له كل ما يحتاجه، وليس هو في حاجة إلى أولئك الغلاة الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.   (1) مما ينبغي الإشارة إليه هنا هو: أنه ليس للشيعة مهدي واحد ينتظرون عودته، بل لهم مهديون كثيرون حسب معتقداتهم، وأما مهدي الاثني عشرية فهو "ابن الحسن العسكري" كما سيأتي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 90 فعملهم على كل الاحتمالات باطل لا يؤيده عقل ولا نقل، وكيف سيملأ الله به الأرض عدلاً ورخاءً بعد خروجه ولا يحميه حتى تلك اللحظات عند خروجه؟ أليس هذا تناقضاً؟ لأنه قد تقرر في عقيدتهم حسبما يؤكده الكليني في (الكافي): أن الأرض لا تخلو من إمام حجة إلا إذا كان قبل يوم القيامة بأربعين يوماً، فحينئذ لا يوجد حجة ولا تقبل توبة من أحد (1). ومن الغريب أن يؤكد الكليني أيضاً أنه لا يجوز السؤال عن اسمه بأي حال، وأنه لا يسميه باسمه إلا كافر، ويكتفي عن ذكر اسمه بذكر لقبه القائم، حيث لقب بذلك لأنه يقوم بعد ما يموت حسب الرواية التي أوردها الطوسي عن أبي سعيد الخرساني عن أبي عبد الله (2).وأنه يحج في سنة ماشياً على رجله، ثم لا يرى عليه أثر السفر (3).وأن أقرب ما يكون الناس إلى الله حين ينتظرون الغائب، وأشد ما يكونون بغضاً عند الله حينما يفتقدونه ولم يظهر لهم (4).بل وسمى الكليني أمة محمد صلى الله عليه وسلم أشباه الخنازير والأمة الملعونة لعدم إيمانهم بغيبة المهدي (5) , والتي سوف لا تتأخر كثيراً فقد سأل الأصبغ بن نباته أمير المؤمنين عن مدة الغيبة فقال: ستة أيام، أو ستة أشهر، أو ست سنين (6) , فهو لا يتأخر بعد أن امتن الله به على خلقه، فإن الكليني يذكر أن موسى بن جعفر فسّر قول الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ [الملك:30] (7).قال: إذا غاب عنكم إمامكم، فمن يأتيكم بإمام جديد (8).وقد وقعت علامات كثيرة تبشر بقرب ظهوره، فإنه قبل ظهوره تقع الفتن بين الشيعة ويسمي بعضهم بعضاً كذابين، ويتفل بعضهم في وجوه بعض (9)، ثم أورد الكليني روايات وقصصاً كثيرة حول علم المهدي بالمغيبات وأساطير وخرافات كثيرة ذكرها عنه.   (1) انظر للمزيد من أخباره: كتاب ((الغيبة)) للطوسي، وانظر كتاب الحجة من ((الكافي)) (ص264 - 277) الأبواب التالية: باب في تسمية من رآه عليه السلام, باب في النهي عن الاسم عليه السلام وانظر: ((كتاب الغيبة)) للطوسي. باب نادر في حال الغيبة. وانظر باب في الغيبة وانظر: (ص300) باب كراهية التوقيت -إلى (ص303) باب التمحيص والامتحان. وانظر: باب أنه من عرف إمامه لم يضره تقدم هذا الأمر أو تأخر ثم انظر: باب مولد الصاحب عليه السلام وانظر جزء 2/ 268،266،265،264. وانظر من كتب السلف: ((منهاج السنة)) (1/ 12 - 29)، و ((مختصر التحفة الاثني عشرية)) (ص200 - ) 294، و ((الشيعة والتشيع)) (ص351 - 388). (2) انظر: ((كتاب الغيبة)) (ص260). (3) ((الكافي)) (2/ 268). (4) ((الكافي)) (2/ 269). (5) ((الكافي)) (2/ 272). (6) ((الكافي)) (2/ 273). (7) ((الكافي)) (2/ 274). وقوله تعالى: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * المدثر:8* أي ظهر الإمام (2/ 431). (8) ((الكافي)) (2/ 275). (9) ((الكافي)) (2/ 276). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 وأما الطوسي في كتابه المسمى كتاب (الغيبة) فقد حطب في أخبار المهدي بليل، ولذا فلا أدري ما الذي أذكره عنه في أخبار هذا المهدي غير أني سأشير إلى بعض ذلك فيما يلي: أكد الطوسي أن المهدي الغائب شوهد مرات عديدة حول الكعبة وهو يدعو بهذا الدعاء: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم انتقم لي من أعدائك" (1).وأنه يظهر في كل سنة لخواصه يوماً واحداً، فيحدثهم ويحدثونه، ويقلب لهم الحصى ذهباً (2).وهو لا يحب أن يساكن أحداً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد ذكر الطوسي عنه أنه قال –كما أوصاه أبوه-: (لا أجاور قوماً غضب الله عليهم ولعنهم، ولهم الخزي في الدنيا والآخرة، ولهم عذاب أليم) (3).وقد أورد الطوسي روايات كثيرة تفيد علم المهدي بالمغيبات (4).واقرأ هذا العنوان: "فصل، وأما ظهور المعجزات الدالة على صحة إمامته في زمان الغيبة فهي أكثر من أن تحصى، غير أنا نذكر طرفاً منها" (5) , فإذا استطعت أن تقرأه فإنك ستجد ما يدهش العقل ويضيق الصدر من الأخبار التي لا يحتمل سماعها من له عقل وذوق. واقرأ توقيعات المهدي لنوابه حال غيبته عنهم (6)، وما أورده من الفتاوى والأقوال الجاهلة في تلك التوقيعات المزورة على أيدي أولئك النواب والذين كثر عددهم إلى حد أنهم أصبحوا فريقين متضادين، وكلاء وسماسرة ممدوحين وعددهم عند الطوسي (13) رجلاً، ووكلاء وسماسرة مذمومين وعددهم (6)، له ولسائر الأئمة, ومنهم سفراء ممدوحين وعددهم (3)، وآخرين مذمومين وهم عدد كثير، قال الطوسي بعد أن ذكر عدداً من أسماء السفراء قال: فهؤلاء جماعة المحمودين وتركنا ذكر استقصائهم لأنهم معروفون مذكورون في الكتب, فأما المذمومون فجماعة، ثم ذكر عدداً كثيراً منهم (7). وهناك الكثير من المزاعم والتهويلات حول شخصية هذا المهدي في كتب الشيعة، لعل فيما أشرنا إليه من ذلك ما يكفي لمعرفة مدى ضحالة هذه الأفكار، ونسيان أهلها لعقولهم، وتلاعب الشيطان بهم واستخفافهم بعقول الناس عند شغفهم بتثبيت آرائهم، وإظهار مذاهبهم، وركوبهم لذلك كل صعب وذلول غير مبالين بنتائج تهورهم وشناعة معتقداتهم. أما هذا المهدي عندهم فهو الإمام الثاني عشر من أئمتهم حسب ترتيبهم لهم، واسمه محمد بن الحسن العسكري. ومع كل اهتمام الشيعة بأخباره والتلهف على لقائه فلقد اضطرب كلامهم حوله وتناقضت فيه أقوالهم، ومع أنه –كما هو الصحيح عند أكثر العلماء- أنه شخصية خيالية لا وجود له إلا في أذهان الشيعة الذين يزعمون إمامته وينتظرون خروجه بعد غيبته الكبرى (8) ، ومن تلك التناقضات الشيعية ما تجده من: 1 - اختلاف الشيعة في وجود محمد بن الحسن وولادته. فقد اختلفت كلمتهم في وجود هذا الشخص، فبعضهم ذهب إلى أن الحسن العسكري مات ولم يعرف له ولد أصلاً، وقال هؤلاء بأن الحسن العسكري حين توفي ظن بعضهم أن بجاريته حملاً فوكلوا بها من يراقبها حتى تبين أن لا حمل بها.   (1) انظر ((كتاب الغيبة)) (ص431 - 441). (2) ((كتاب الغيبة)) (ص152). (3) ((كتاب الغيبة)) (ص161). (4) ((كتاب الغيبة)) (ص162). (5) ((كتاب الغيبة)) (ص170). (6) ((كتاب الغيبة)) (ص 172). (7) انظر ((كتاب الغيبة)) (ص199 - 241). (8) لأنهم يزعمون أن له غيبتين: إحداهما: يوم وفاة أبيه وهي الصغرى، ومدتها (68) أو (69) سنة. وثانيهما: الكبرى، وتبدأ من وفاة أبي الحسين علي بن محمد السمري آخر السفراء الأربعة المزعومين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 واستدلوا أيضاً بأن الحسن العسكري حينما مات أخذ أخوه جعفر تركته، ولو كان للحسن ولد لما حصل على ذلك. وذهب آخرون إلى إثبات ولادة محمد بن الحسن، بل وحددها محمد صادق آل بحر العلوم المعلق على فرق الشيعة للنوبختي بأنها كانت يوم الجمعة منتصف شعبان على أشهر الأقوال كما زعم سنة (255) هـ، بينما الكليني في (الكافي) يذكر أنه ولد سنة (256) هـ, (1)، بينما هو يقرر أنه خفي الولادة والمنشأ (2). وهؤلاء الذين أثبتوا ولادته تناقضت أقوالهم واضطربت أفكارهم فيه أيضاً، فبعضهم قال بأنه ولد بعد وفاة والده الحسن بثمانية أشهر، وكذَّبوا من زعم غير هذا كما نص عليه النوبختي. وقال آخرون: إنه ولد قبل وفاة والده بسنين. وقال بعضهم: بخمس سنوات. كما اختلفوا كذلك في تحديد السنة التي اختفى فيها، فبعضهم يجعلها سنة (256) هـ، وآخرون (258) هـ، وغيرهم (255) هـ. كما اختلفوا في اسم أمه على أقوال: فقيل: اسمها نرجس. وقيل: صقيل أو صيقل. وقيل: اسمها حكيمة. وقيل اسمها سوسن (3). وأقاويل أخرى كثيرة مضطربة يطول نقلها، وهذا الاختلاف كله دليل على أن هذا الإمام لم يولد وإنما هو استحساناتهم وتخميناتهم، وهذه الاختلافات تدل أيضاً على مدى تخبطهم وعلى الجهل الذي يخيم عليهم إذ كيف تخفى ولادة محمد بن الحسن العسكري وهم متأكدون –حسب شروطهم في الخلافة والإمامة ورواياتهم العديدة- أن الحسن العسكري هو الإمام الحادي عشر، ولابد أن يخلفه عقب منه هو أكبر أولاده، وهو الذي يتولى الأمر بعده، ويغسله ويصلي عليه كما يقررون ذلك. ثم إن شخصية كهذه تملأ الأرض عدلاً ونوراً لا ينبغي بل ولا يصدق أن تكون ولادته محل خلاف أو خفاء. ولك أن تستنتج من مواقفهم المتناقضة ما يزيدك يقيناً برداءة مذهبهم فيه، هذا مع ما لهم من حكايات وخرافات هي من نسيج الخيال الغير معقول رواها الطوسي في كتابه (الغيبة) عن حكيمة والخادم نسيم، كلها تدور حول ما حدث عند ولادة المهدي مباشرة. فإنه حين سقط من بطن أمه كان يقرأ القرآن بصوت مسموع، وأنه كان متلقياً الأرض بمساجده، وأن والده أمره أن يتكلم فاستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم استفتح فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ثم صلى على أمير المؤمنين -علي بن أبي طالب- وعلى الأئمة إلى أن وقف على أبيه ثم تلا قول الله تعالى: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:5 - 6].كما زعم الطوسي أن خادم الحسن العسكري حينما عطس بحضرة المهدي وكان عُمْر المهدي عشر ليال قال له المهدي: يرحمك الله، قال الخادم: ففرحت بذلك. فقال له: ألا أبشرك في العطاس؟ هو أمان من الموت ثلاثة أيام (4).   (1) ((الكافي)) باب الإشارة والنص إلى صاحب الدار. (2) ((الكافي)) (2/ 277). (3) انظر لأخبار هذا المهدي للشيعة: ((كتاب الغيبة)) لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن أبي الحسن الطوسي؛ حيث جاء بكل مع عندهم من الخرافات والأقاويل في إثباته، وانظر أيضاً: كتاب ((فرق الشيعة)) للنوبختي، وتعليق ((بحر العلوم)) عليها من (ص115 إلى ص 132)، وانظر: ((الفصل)) لابن حزم 4/ 181 - 193، و ((الشيعة والتشيع)) (ص273 إلى ص282). (4) ((كتاب الغيبة)) (ص147،142،139). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 93 وجاء الطوسي بأخبار كثيرة وكلمات نسبها إلى المهدي وهو طفل رضيع لا يعرفها إلا فيلسوف، وأنه حينما ولد كانت الملائكة تهبط وتصعد وتسلم عليه وتتبرك به، وأن روح القدس طار به ليعلمه العلم مدة أربعين يوماً،؟ وأنه حينما ولد كان مكتوباً على ذراعه الأيمن جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81].وزعموا كذلك في رواياتهم على لسان الحسن العسكري أن ابنه المهدي كان ينمو في السنة والواحدة مثل نمو سنتين من غيره (1). كشأن سائر الأئمة، ومزاعم كثيرة ظاهرها يشهد عليها بالكذب والتهويل الأجوف لولا خوف الإطالة لكان في ذكرها ما يتعجب من العاقل على جرأة هؤلاء على التلفيق الذي لا يقبله عقل سليم ولا فطرة نقية، كما فعل الطوسي في كتاب (الغيبة) (ص258)، كلها مثل هذه المبالغات والتلفيقات دون أن يجد الشخص جواباً شافياً لما يدور في ذهنه من أسئلة مهمة. لماذا اختفى المهدي في السرداب مع أنه لا داعي لهذا الخوف ما دامت الملائكة تحميه وتتبرك به وتنصره، فإن ملكاً واحداً يكفيه كل أهل الأرض؟ ثم لماذا يختفي الآن وقد ذهب كل من كان يخاف منهم، وجاء قوم يتلهفون على خروجه ونصرته، فلماذا إذاً تخلف عنهم بدون عذر مقبول، وهم يصيحون ليل نهار عجل الله خروجه؟ ثم لماذا لم يشب ولم ينم الحسن والحسين -سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم- مع عظم مكانتهما مثلما شب ابن الحسن العسكري بتلك العجلة؟ وما الداعي أيضاً لتلك العجلة في تنومه ومصيره أن يختفي في السرداب ثم لا يراه أحد بعد ذلك ولا ينتفع به أحد؟ قد تجد عند الطوسي (2) , وغيره من علمائهم بعض الإجابات التي لفقوها في أسباب غيبته، ولكنها إجابات غير كافية ولا مقنع فيها لأحد، ومن أعجب الأمور أن ينكر الهاشميون وجود ولد الحسن العسكري على مرآى من الناس ومسمع، وذلك حينما ادعى شخص زمن المقتدر الخليفة العباسي أنه هو ابن الحسن العسكري، فجمع الخليفة جميع بني هاشم وعلى رأسهم نقيب الطالبيين أحمد بن عبد الصمد المعروف في كتب التاريخ -بابن الطوما- للبت في أمر هذا الرجل، فشهد الجميع على كذبه بدليل أن الحسن العسكري لم يعقب، فحبس المدعي وشُهّر وضرب. ورغم أن أهل البيت أدرى بما فيه، لكن هؤلاء الشيعة أبوا إلا المكابرة مهما كانت النتائج، وادعوا وجود هذا المهدي, ولا بد أن دافعاً قوياً دفعهم إلى هذه المجازفة، فما هو السبب في هذا الإصرار على وجود هذه الشخصية؟ سنذكر الجواب إن شاء الله في آخر الكلام عن هذه الشخصية. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 395 - 404   (1) انظر إلى هذه المبالغات والتوقيعات التي كان يرسلها المهدي وهو في غيبته - حسب زعمهم - ((كتاب الغيبة)) عدة صفحات منه، وانظر العنوان أخبار بعض من رأى صاحب الزمان وهو لا يعرفه أو عرفه فيما بعد (ص158 - 170)، وانظر: ((معجزات الحجة)) (ص170). في ذكر التوقيعات (ص172، ص 199) التي كان يرسلها له من سردابه بواسطة السفراء الأربعة انظر ص (150،142). (2) انظر: ((كتاب الغيبة)) (ص199،73،66). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 المطلب الثاني: مكان وجود المهدي: اختلف الشيعة في المكان الذي اختفى فيه مهديهم محمد بن الحسن العسكري على أقوال متضاربة توحي لأهل كل مكان ذكروه بقرب المهدي منهم. ومن تلك الأقوال، وهي كثيرة: أنه مختف في سامراء، في سرداب دار أبيه، وهذا من أشهر أقوال الشيعة والمتداول بينهم، وفي كتبهم (1). أنه مختف في المدينة المنورة. قال أبو هاشم الجعفري للحسن العسكري: "يا سيدي هل لك ولد؟ قال: نعم. قلت: فإن حدث حادث فأين أسأل عنه؟ فقال: بالمدينة" (2).أنه مختف بمكة المكرمة (3). وقد أورد الطوسي روايات كثيرة في هذا، وأورد الكليني حديثاً في هذا. وبعضهم قال: هو بذات طوى (4).وبعضهم قال: إنه في اليمن بواد يسمى شمروخ (5).وبعضهم قال: إنه بالطائف حسب رواية الطوسي الطويلة عن علي بن إبراهيم بن مهزيار الأهوازي (6). وكل هذه الخلافات دليل على بطلان تلك الدعوى، والباطل أهله يختلفون فيه حتماً، ولا يخفى التباعد بين هذه الأماكن، وهذا التباعد بينها دليل على أنها افتراضات مبنيّة على هوى وأغراض سياسية، إذ لا يمكن لأي شخص أن يجمع بينها ويصل إلى نتيجة مرضية مهما أوتي من المعرفة والذكاء، ولكن هكذا شريعة الهوى والسياسة, حيث لا تستند على أي أساس ثابت. وإذا كان المهدي قد اختار أن يختفي ويتوارى عن الأنظار فهل يجعل لذلك الاختفاء والهرب عن الناس حداً ومدة يعود بعدها إلى قيادة الشيعة، ومتى يتم ذلك؟ الجواب نذكره فيما يلي.   (1) انظر: رواية محمد بن يعقوب بإسناده عن ضوء بن علي العجلي عن رجل من أهل فارس- ((كتاب الغيبة)) (ص140، 146). (2) ((كتاب الغيبة)) (ص 139). (3) ((كتاب الغيبة)) (2/ 151 - 152)، وانظر: ((الكافي)) (1/ 180). (4) ((كشف الأستار)) للطبرسي (ص 2145)، نقلا عن ((الشيعة والتشيع)) (ص354). (5) ((الأنوار النعمانية)) للجزائري (2/ 65)، نقلاً عن ((الشيعة والتشيع)) (ص354). (6) ((كتاب الغيبة)) (ص159 - 161). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 المطلب الثالث: رجعة المهدي ومتى تتم؟ يؤمن سائر العقلاء أنه لا رجعة لأحد بعد موته ليعيش في الدنيا, ويؤمن المسلمون برجعة واحدة تكون في يوم القيامة حين يجمع الله الخلائق لفصل القضاء، كما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة، بخلاف ما عليه كثير من الشيعة من إمكان ذلك في الدنيا قبل يوم القيامة. فقد قرروا في عقائدهم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته عليّ والحسن والحسين وبقية الأئمة سيرجعون. وفي المقابل يرجع أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية، ويزيد وابن ذي الجوشن، وكل من آذى أهل البيت بزعمهم. كل هؤلاء سيرجعون إلى الدنيا مرة أخرى قبل يوم القيامة عند رجوع المهدي إلى الظهور -كما قرره لهم عدو الله ابن سبأ- يرجعون ليتم عقابهم كما آذوا أهل البيت واعتدوا عليهم ومنعوهم حقوقهم، فينالهم العقاب الشديد ثم يموتون جميعاً، ثم يحيون يوم القيامة للجزاء الأخير مرة أخرى. وقد بلغ بهم كرههم للصحابة أن زعم غلاتهم ومتعصبيهم, وهو الشريف المرتضي, أن أبا بكر وعمر يصلبان على شجرة في زمن المهدي وهي خضراء فتيبس فيضل بسبب ذلك جمع كثير من الناس، وهم يقولون: إن هذين البريئين قد ظلما ولذا صارت الشجرة الخضراء يابسة، وقيل: تكون تلك الشجرة يابسة قبل الصلب ثم تصير رطبة خضراء بعد الصلب فيهتدي كثير من الناس. قال الألوسي: "والعجيب أن هؤلاء الكاذبين مختلفون بينهم في هذا الكذب أيضاً" (1). ولهم في هذه الرجعة أخبارغريبة وخرافات يمجها العقل السليم. وقد أحاطوها بتهويلات عظيمة حتى يخيل للقارئ أن رجوع المهدي هو يوم القيامة الذي أخبر الله عنه، وهل خيالات وخرافات لا يصدقها إلا من لم يمن الله عليه بمعرفة دين الإسلام. وقد ذكر الطوسي أن المهدي يخرج يوم عاشوراء يوم السبت بين الركن والمقام. وهذه الرواية عن أبي جعفر، وذكر رواية عن أبي عبد الله أنه ينادي باسم المهدي ليلة ثلاث وعشرين، ويقوم يوم عاشوراء يوم قتل الحسين (2). وفي بعضها أن جبريل ينادي يوم ستة وعشرين من شهر رمضان باسم القائم، ويقوم في يوم عاشوراء, اليوم الذي قتل فيه الحسين, بين الركن والمقام، فتسير إليه شيعته، ومنهم من يطير طيراناً، ومنهم من يمشي في السحاب، وهم أفضل أصحابه، وتكون الملائكة حوله صافِّين ومعه جميع الكتب المقدسة التي أنزلها الله على الأنبياء من أولهم إلى آخرهم. ثم يأمر بحصر المخالفين للشيعة فينكل بهم، ثم تعلو كلمة الشيعة ويمتد حكمهم إلى جميع الأرض وتكون الغلبة لهم ... إلخ. ويذكر الطوسي عن أبي الحسن الرضا أنه قال: (ينادون في رجب ثلاثة أصوات من السماء .. صوتا منها .. ألا لعنة الله على الظالمين، والصوت الثاني: أزفت الآزفة يا معشر المؤمنين، والصوت الثالث: يرون بدنا بارزاً نحو عين الشمس، هذا أمير المؤمنين، قد كرّ في هلاك الظالمين (3)، وأن أول من تنشق عنه الأرض في الرجعة هو الحسين بن علي رضي الله عنه).   (1) انظر: ((مختصر التحفة الاثني عشرية)) (ص 201). (2) ((كتاب الغيبة)) (ص274). (3) ((كتاب الغيبة)) (ص 268). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 96 وأما عن الغلظة التي سيسير عليها فقد زعموا تنفيساً عن أحقادهم ضد العرب- كما دلّت عليه رواياتهم- أنه بعد رجعة المهدي أول ما يبدأ به أنه يقتل قريشاً ويصلبهم أحياءً وأمواتاً، أي بعد أن يحيي الله من مات منهم فيجازيهم أشد الجزاء بسبب ما فعلوا نحو أهل البيت فيضع السيف فيهم لا يستتيب أحداً منهم، ويستمر في هذا القتل مدة ثمانية أشهر لا يضع السيف عن عاتقه. وزعم الطوسيّ في روايته عن أبي عبد الله أن المهدي يقطع أيدي بني شيبة ويعلقها في الكعبة (1)، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي سلمهم مفتاحها. كما زعموا أن يقتل سبعين قبيلة من قبائل العرب (2).كما افترى علماء الشيعة على الله تعالى وردوا شهادته في كتابه الكريم في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي برأها الله من كل سوء ... فزعموا أن المهدي يقيم عليها الحد، فيجلدها الحد (3)، لعن الله من اعتقد هذا الاعتقاد وأخزاه الله في الدنيا والآخرة، وهذه الزندقة ذكرها الصافي في تفسيره (4).وبعد ذلك قالوا: إنه سيستأنف طريقة جديدة كما استأنف رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، قال الطوسي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إذا قام القائم جاء بأمر غير الذي كان" (5).وقد فسروا هذا الاستئناف بأنه يسير على حكم سليمان بن داود, كما يذكر الطوسي (6)، بل ويهدم ما كان قبله ويستأنف الإسلام من جديد (7).ومعنى هذا أنه يكفر بالإسلام ويبدأ من جديد -على حسب هذه النصوص- هذا هوا الظاهر. ووصل سوء الأدب بأولئك أن اعتقدوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم في الرجعة الثانية لعلي رضي الله عنه يكون جندياً يقاتل بين يدي علي بن أبي طالب، ويبايع كذلك المهدي هو وسائر الأنبياء, كما يروي العياشي عن جعفر أنه قال: لم يبعث الله نبياً ولا رسولاً إلا ردهم جميعاً إلى الدنيا حتى يقاتلون بين يدي علي بن أبي طالب (8).وأن دابة الأرض المذكورة في القرآن هي عليّ بن أبي طالب (9). ونترك خرافات كثيرة يمجها العقل، وتستثقل ذكرها النفس، إن دلت على شيء فإنما تدل على مدى الحقد والكراهية التي كان عليها كتَّاب مثل هذه الأفكار وشدة كيدهم للإسلام ولزعماء المسلمين من الصحابة الكرام فمن بعدهم الذين قضوا على اليهودية والوثنية المجوسية، وأنزلوهم من عروشهم وساووهم بعامة المسلمين. مما أغضب هؤلاء الذين لفقوا مثل هذه الأخبار والترهات في ذم قريش وحكام المسلمين أجمعين، وذم كثير من أهل البيت وزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا كله بخلاف ما هو معلوم من دين الإسلام، بل وجميع الأديان السماوية مجمعة على أن الإنسان إذا انتهى عمره في الدنيا ومات فإنه لا رجعة له إلا للقاء ربه يوم القيامة للحساب والجزاء.   (1) ((كتاب الغيبة)) (ص282). (2) ((كتاب الغيبة)) (ص284). (3) ((تفسير الصافي)) (ص 359)، نقلاً عن ((الشيعة والتشيع)) (ص378). (4) ((تفسير الصافي)) (ص359)، نقلاً عن ((الشيعة والتشيع)) (ص378). (5) ((كتاب الغيبة)) (ص283). (6) ((كتاب الغيبة)) (ص 283). (7) ((بحار الأنوار)) (13/ 194)، نقلاً عن ((الشيعة والتشيع)) (ص382). (8) ((تفسير العياشي)) (1/ 281)، نقلاً عن ((الشيعة والتشيع)) (ص386). (9) ((مختصر التحفة الاثني عشرية)) (ص201). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 وهذا هو ما صرح به الله عز وجل في القرآن الكريم؛ حيث قال رداً على من تمنى الرجعة إلى الدنيا: حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99 - 100]، وهذا هو اعتقاد جميع المسلمين، ولم يقل بخلاف هذا أحد لا سلف الأمة ولا أحد من آل البيت الذي تزعم الشيعة أنهم تبع لهم، والقرآن صريح وواضح في إبطال هذه البدعة، والخرافة العقدية التافهة. وقولهم: إن المهدي هو الذي يحاسب الناس وينزل بهم العقاب بسبب ما قدّموه في حق آل البيت، فإن الإسلام يصرح بأن الله عز وجل يتولى حساب جميع خلقه، ويثيب أو يعاقب. أما البشر، فليس لهم ذلك لقوله تعالى: إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93]. وقول هؤلاء الشيعة إنما اقتبسوه من قول النصارى بأن المسيح هو الذي يتولى حساب الخلق, تشابهت قلوبهم. وقول هؤلاء: إن الرسول يقاتل بين يدي عليّ بن أبي طالب، ويبايعه المهدي الذي هو من ولدهما, إهانة واستخفاف بحق الرسول صلى الله عليه وسلم، وإهانة أيضاً لعلي رضي الله عنه، إضافة إلى تفسيرهم دابة الأرض بأنها علي رضي الله عنه، ولقد صدق عليهم الحديث: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) (1). وأما ما زعموه من عقوبة خيار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من صلبهما على شجرة وهي رطبة فتصبح يابسة، فهو افتراء ومخالفة للعقل والواقع، إذ كيف يعقل أن يجازيا بقتل الحسين وليس لهم بذلك صلة، ثم إن ذنبهما -إن كان أخذ الخلافة ذنب- لا يعقل أن يصل إلى هذا الحد من العقوبة. ثم كيف يجازيهما الله أمام أقوام لم يشهدوا ذنبهما ولم يعرفوا له سبباً؟ إذ الأولى أن يتم جزاءهما أمام من شهد أمرهما في الوقت الذي آذوا فيه أهل البيت حتى تقر أعينهم بجزائهما، مع أن إثبات هذا العقاب يؤدي في النهاية إلى عكس ما يريد الشيعة، ويناقض أقوالهم، وذلك: أن أولئك الناس لو أرجعهم الله إلى الدنيا للجزاء قبيل يوم القيامة لكان أمرهم في الآخرة إلى الجنة، إذ من الظلم أن يعذبوا مرة أخرى، فحصل لهم بتعذيبهم في رجعتهم إلى الدنيا تخفيف وراحة. وهذا ينقض ما ذهب إليه الإمامية، فإنه على أصولهم أن عذاب جهنم لا بد وأن يكون مستمراً على من آذى آل البيت، ثم ما هو الداعي إلى هذه العجلة يخرجهم فيعذبهم ثم يموتون ويعذبون مرة أخرى؟ وأيضاً لماذا لم تكن هذه العجلة في وقت وقوع الجريمة لتكون أنكى؟ أما تركهم هذه المدة كلها ثم يعذبهم في زمن المهدي فهو برود مثل برود الشيعة في أكاذيبهم.   (1) رواه البخاري (3484) من حديث أبي مسعود رضي الله عنه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 أن الخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم الذين حكم الشيعة عليهم بالرجوع، لعظم ما ارتكبوه في حق آل البيت وجزاؤهم الشديد في الدنيا ثم يموتون-بزعمهم- ويبعثون يوم القيامة. ذنوبهم بإقرار الشيعة غصب الخلافة وبعض حقوق آل البيت -على زعم الشيعة-، وهذا الذنب -إذا جاز تسميته ذنباً- لا يصل إلى درجة الكفر بالله والشرك به, بل هو فسق, والفسق لا يصل إلى هذا الحد من العقاب, ولا يوجب الرجعة في الدنيا، ولو كان الأمر يقتضي الرجعة لكان إرجاع الكفرة والمشركين والذين ادعوا الألوهية مع الله- كفرعون ونمرود وغيرهما- أولى بالرجوع، والشيعة لم يقولوا بذلك، فوجب أن يكون -حسب مقياسهم- أن غصب الخلافة أو التعدي على آل البيت أعظم جرماً من الشرك ومن ادعاء الألوهية وقتل الأنبياء بغير حق، وهم لا يقولون بهذا؛ فظهر بطلان قولهم بوجوب إعادة ورجعة أولئك الخلفاء لعقابهم في الدنيا بسبب غصبهم الخلافة، أو أخذ أبي بكر لفدك بغير حق كما يدعون لجهلهم بنص النبي صلى الله عليه وسلم فيها. ثم إن قولهم برجوع النبي صلى الله عليه وسلم وعلي وسائر الأئمة وإخراجهم من قبورهم لحضور هذا العقاب في الرجعة, فيه تعذيب لهم بالموت مرة أخرى، والموت أشد آلام الدنيا ... فلم يجوز الله سبحانه وتعالى إيلام أحبائه عبثاً؟ إذ الموت لا بد أن يشمل كل كائن حيّ، وإذا أحيا الله هؤلاء فلا بد من تجرعهم الموت مرة أخرى -على حسب هذا المعتقد الخرافي-، فكيف يعذب أولياءه بالموت مرتين في الدنيا وغيرهم مرّة واحدة؟ إنه على زعم الشيعة بإعادة هؤلاء وإيقاع العذاب عليهم في الدنيا, فيه نفع لهؤلاء المبعوثين إلى الدنيا إذ يعلمون حينئذ أنهم أخطأوا فيتوبون حتما توبة نصوحاً، والتوبة مقبولة في الدنيا ولو بعد الرجعة، فكيف بعد ذلك يمكن تعذيبهم؟ والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. فوجب على معتقد الشيعة برجعتهم أن يقولوا بأنهم في الآخرة في الجنّة لصدق توبتهم في الدنيا في الحياة الثانية. إلى غير ذلك من الردود التي تدحض مذهب الشيعة في القول بالرجعة، وأنه خلاف العقل والنقل والواقع، والله الهادي إلى سواء السبيل (1). ومما ينبغي الإشارة له هنا أنه قد خرج عن القول بالمهدي على تلك الصورة المزعومة عند الشيعة بعض فرقهم كالزيدية، وقد أنكروا عودة المهدي وردّوها بروايات عن الأئمة أيضاً، وكفى الله المؤمنين القتال. وقد سبقت الإشارة ... إلى أن الشيعة ليسوا كلهم على مذهب واحد في المهدي المنتظر، وإنما اشتهر اسم محمد بن الحسن العسكري بالمهدي المنتظر، لأنها عقيدة الرافضة الإمامية في عصرنا الحاضر. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 404 - 414   (1) انظر: ((مختصر التحفة الاثني عشرية)) (ص201 - 203، ص294). وانظر أيضاً ((بحار الأنوار)) للمجلسي فيما ينقله عنه إحسان إلهي رحمه الله في كتابه ((الشيعة والتشيع)) من (ص376 إلى ص 390). وانظر: دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين صلى الله عليه وسلم 148 - 152. وانظر: ((الشيعة في الميزان)) ص77 - 84. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 المطلب الرابع: متى يخرج المهدي؟ فقد وقَّت بعض الشيعة لخروج المهدي زمناً معيناً، وذلك بعد وفاة الحسن العسكري بزمن، إلا أن الذين وقّتوا خروجه بزمن حينما انتهى التقدير ورأوا أن المسألة ستتضح ويظهر فيها الكذب مددوا هذه الغيبة إلى وقت غير مسمى، واختلقوا لذلك أعذاراً كاذبة، فرواية وردت عن الأصبغ بن نباتة -كما ينقلها الكليني- تذكر أنه سيخرج بعد ستة أيام أو ستة أشهر أو ست سنوات، وهذه الروايات هي المتقدمة والقريبة من وفاة الحسن العسكري (1).ورواية أخرى يذكرها الكليني عن أبي جعفر تذكر أنه سيخرج بعد سبعين سنة، ثم مددت هذه المدة أيضاً حين أفشي السر إلى أجل غير مسمى، وذلك حسب ما روى أبو حمزة الثمالي عن أبي جعفر الباقر: أن الله تبارك وتعالى قد كان وقّت هذا الأمر في السبعين، فلما أن قتل الحسين –صلوات الله عليه- اشتد غضب الله تعالى على أهل الأرض فأخّره إلى أربعين ومائة، فحدَّثناكم فأذعنتم الحديث فكشفتم قناع الستر، ولم يجعل له بعد ذلك وقتاً ... إلخ (2). والواقع أنه لن يخرج حتى تخرج هذه العقيدة من أذهانهم ومعتقداتهم التي صنعها علماؤهم لأغراض ومقاصد كثيرة، في أولها حرب الدولة الإسلامية وإعادة السيطرة الفارسية. وقد أبان سر هذه المهزلة المهدية أحد الشيعة وهو علي بن يقطين حين سئل عن المهدي فأجاب: "إن أمرنا لم يحضر فعلَّلنا بالأماني، فلو قيل لنا: إن هذا الأمر لا يكون إلا إلى مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة –لقست القلوب، ولرجع عامة الناس عن الإسلام، ولكن قالوا: ما أسرعه وما أقربه تألفاً لقلوب الناس، وتقريباً للفرج" (3). فانظر إلى هذه الشهادة عليهم، وقارن بينهم وبين السلف الذين ينتظرون المهدي الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم لترى ثبات السلف وعدم وجود تلك العجلة واللهثة التي توجد في الشيعة، لأن السلف مطمئنون واثقون بدينهم ونبيهم، ويعلمون أن العجلة لا تقدمه ولا تؤخره، ولأنهم كذلك ليست لهم أحقاد يريدون أن يشتفوا من المخالفين لهم عند ظهور المهدي.   (1) ((الكافي)) كتاب الحجة (1/ 272). (2) ((الكافي)) (ص300). (3) ((الكافي)) (ص301). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 المطلب الخامس: سبب إصرار الشيعة على القول بوجود محمد بن الحسن العسكري: عرفنا فيما تقدم عمق هذه الفكرة في أذهان الشيعة وتشبثهم بوجود ابن للحسن العسكري الذي جعلوا منه مهديهم المنتظر، ومكابرتهم وإصرارهم على القول بولادته، فما هو السر في هذا؟ والجواب حاصله: أن الشيعة قد وضعوا شروطاً وقواعد وأوصافاً للإمام, ألزموا أنفسهم بتصديقها وهي من صنع الخيال، وبالتالي فهي صعبة المنال ثم جعلوها جزءاً من العقيدة الشيعية، بحيث لو لم تتحقق لانتقض جزء كبير من تعاليمهم، ولأصبحوا في حرج. وأكثر تلك الشروط هي تقول على الله ومجازفة وحكم على الغيب، فمنها على سبيل المثال لا الحصر: أن الإمام لا يموت حتى يكون له خلف من ذريته هو الذي يتولى الإمامة من بعده حتماً لازماً وقد روى الطوسي عن عقبة بن جعفر قال: قلت لأبي الحسن: قد بلغت ما بلغت وليس لك ولد؟ فقال: يا عقبة بن جعفر، إن صاحب هذا الأمر لا يموت حتى يرى ولده من بعده (1) , أن الإمامة لا تعود في أخوين بعد الحسن والحسين أبداً؛ بل في الأعقاب وأعقاب الأعقاب. ومعنى هذا أن الحسن العسكري - وهو الإمام الحادي عشر- لو مات دون عقب لانتقضت هذه القاعدة، وقد روى الطوسي عن أبي عيسى الجهني قال أبو عبد الله عليه السلام: لا تجتمع الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين رضي الله عنهما، إنما هي في الأعقاب وأعقاب الأعقاب (2) , الإمام لا يغسله إلا إمام هو أكبر أولاده. ولقد ذكر ابن بابويه القمي عن علي بن موسى بن جعفر كثيراً من الشروط التي اشتملت على خرافات وآراء ضالة ليست من الإسلام في شيء، كقولهم: "للإمام علامات: يكون أعلم الناس، وأحكم الناس، وأتقى الناس، وأحلم الناس، وأشجع الناس، وأسخى الناس، وأعبد الناس، ويولد مختوناً، ويكون مطهراً، ويرى من خلفه كما يرى من بين يديه، ولا يكون له ظل. وإذا وقع على الأرض من بطن أمه وقع على راحته رافعاً صوته بالشهادة ولا يحتلم، وتنام عينيه ولا ينام قلبه، ويكون محدثاً، ويستوي عليه درع رسول الله صلى الله عليه وسلم -لأنها محفوظة بزعمهم عند الأئمة يتوارثونها- ولا يرى له بول ولا غائط، لأن الله عز وجل قد وكل الأرض بابتلاع ما يخرج منه، ويكون له رائحة أطيب من رائحة المسك.   (1) ((كتاب الغيبة)) (ص133) , وذكر الكليني على هذا الزعم أحاديث كثيرة في كتاب الحجة في الجزء الأول الذي يبدأ هذا الكتاب من (ص128 إلى ص 459). (2) ((كتاب الغيبة)) (ص136). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 ويكون أولى الناس منهم بأنفسهم، وأشفق عليهم من آبائهم وأمهاتهم، ويكون أشد الناس تواضعاً لله عز وجل، ويكون آخذ الناس بما يأمرهم به، وأكف الناس عما ينهى عنه، ويكون دعاؤه مستجاباً حتى إنه لو دعى على صخرة لانشقت نصفين، ويكون عنده سلاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه محفوظ عند الأئمة والسيف ذو الفقار. ويكون عنده صحيفة فيها أسماء شيعته إلى يوم القيامة، وصحيفة فيها أسماء أعدائهم إلى يوم القيامة، وتكون عنده الجامعة وهي صحيفة طولها سبعون ذراعاً، فيها جميع ما يحتاج إليه ولد آدم ويكون عنده الجفر الأكبر والجفر الأصغر؛ إهاب ماعز وإهاب كبش فيهما جميع العلوم حتى أرش الخدش، وحتى الجلدة ونصف الجلدة وثلث الجلدة، ويكون عنده مصحف فاطمة" (1).ويروي الكليني عن أبي جعفر قال: "للإمام عشر علامات: يولد مطهرا مختوناً، وإذا وقع على الأرض وقع على راحته رافعاً صوته بالشهادتين، ولا يجنب، وتنام عينيه ولا ينام قلبه، ولا يتثاءب، ولا يتمطى، ويرى من خلفه كما يرى من أمامه، ونجوه كرائحة المسك، والأرض موكلة بستره وابتلاعه، فإذا لبس درع رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت عليه وفقاً، وإذا لبسها غيره من الناس طويلهم وقصيرهم زادت عليه شبراً، وهو محدث إلى أن تنقضي أيامه" (2). وبغض النظر عن دراسة هذه الخيالات والخرافات التي يمجها العقل ويرفضها الفكر ويكذبها الواقع، إذ لا يوجد رجل تتوفر فيه هذه الشروط التي لم تتوفر حتى في الأنبياء والرسل عليهم الصلاة السلام مجتمعة – بغض النظر عن ذلك كله, فإن الذي يهمنا هنا هو معرفة السر الذي أصرَّ بموجبه الشيعة على القول بوجود ابن للحسن العسكري يخلف والده في إمامتهم. وقد اتضح مما تقدم أن الذي حمل الشيعة على ذلك الإصرار هي تلك الشروط التي تنص على أن الإمام لا يموت حتى يوجد له عقب من أولاده هو الذي يتولى تجهيزه ودفنه، والقيام بأمر الشيعة بعده حتماً ... وكان موت الحسن من دون ولد يهدم تلك الشروط التي وضعوها. ومن هنا قرّروا أن يوجدوا للحسن ولداً تخلصاً من هذا المأزق الذي وضعوا أنفسهم فيه، وليكن بعد ذلك ما يكون، وهم على ثقة بأن لكل صوت صدى، بل هم واثقون من أن استجابة الأكثر من الناس للخرافات والخزعبلات أقوى من استجابتهم للحق، وأقرب إلى نفوس الكثير من بني آدم. وإضافة إلى ما تقدم في سبب دعواهم وجود المهدي، فإنه ينبغي ملاحظة أنه قد مرت بالشيعة ظروف سياسية واجتماعية ودينية ذاقوا فيها مرارة الحرمان من عدم إقامة دولة لهم تنظر إليهم بالعين التي يريدونها من تقديمهم واعتبار آرائهم، وغير ذلك مما كانوا فيه من العزة والتطاول على الناس، واعتبار عنصرهم أفضل العناصر. وحينما غلبتهم الدولة الإسلامية وبلغ السيل الزبى بإخضاع الدولة الأموية لهم, فكر رؤساؤهم في ذلك الوقت في أمر يجتمع عليه عامتهم؛ لئلا يذوبوا في غيرهم، وييئسوا من استعادة أمرهم، فبدأوا في حبك المخططات السرية والعلنية، وتوجيه أنظار جميع الشيعة إلى الالتفاف حول أمل إذا تحقق عادت به سيادتهم كما يتصورون. وهو انتظار المهدي الغائب (3) , الذي سيزيل عند رجوعه جميع من ناوأهم، ويقضي على قريش بخصوصهم بكل شراسة حتى يقول الناس: لو كان هذا من قريش لما فعل بهم هكذا, حسب ما يرويه النعماني (4)، وحسبما يروونه عنه في كتبهم. وهذه الشراسة والشدة على العرب بخصوصهم ومنهم قريش, تدل دلالة واضحة على أن هذا المهدي ليس له صلة بالعرب، فهو عدو شرس لهم, ليس بينه وبينهم أية عاطفة أو صلة. وفعلاً هذا المهدي ليس من قريش، بل هو مهدي فارسي متعصب ليزدجرد وللأسرة الساسانية التي قضى عليها الإسلام، يتضح ذلك في هذه الرواية التي يرويها الطوسي عن أبي عبد الله أنه قال: "اتقوا العرب فإن لهم خبر سوء، أما إنه لا يخرج مع القائم منهم أحد" (5) وبهذا يتضح أن هذا المهدي مصنوع بمعرفة الشيعة وعلى طريقتهم، حقود شديد، يمثل الغلظة بأجلى صورها. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 414 - 420   (1) ذكرها عنه إحسان إلهي في كتابه ((الشيعة والتشيع)) (ص286)، نقلا عن كتاب القمي (ص 527). (2) كتاب ((الكافي)) (2/ 319). وقد ذكر الكليني في هذا الكتاب في الجزء الأول في كتاب الحجة كثيرا من تلك المبالغات في الأئمة مثل قولهم: باب أن الحجة لا تقوم على خلقه إلا بإمام (ص135). باب أن الأئمة هم أركان الأرض (ص152). باب عرض الأعمال على النبي والأئمة (ص170). باب أن الأئمة معدن العلم وشجرة النبوة ومختلف الملائكة. (3) انظر: ((فجر الإسلام)) (ص275،274)، وانظر: ((دراسة عن الفرق)) (ص 160). (4) ((كتاب الغيبة)) للنعماني، نقلاً عن ((الشيعة والتشيع)) (ص 376). (5) ((كتاب الغيبة)) للطوسي (ص284). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 المطلب السادس: هل الإمام الثاني عشر شخصية حقيقية؟ إنه مما يجعل من قضية رجعة الأئمة إلى الحياة قضية تستدعي الأناة والمراجعة, هو ذلك الكلام الكثير الذي يجري حول ما إذا كان الإمام محمد الثاني عشر شخصية حقيقية أم أنه شخصية وهمية، ذلك أن الإمام الثاني عشر هو أول الأئمة رجوعاً إلى الدنيا، يخرج من السرداب الذي اختفى فيه في مدينة سامرا؛ ليحكم المسلمين، وينشر العدل في أرجاء الأرض، ويمهد لآبائه وأجداده الأحد عشر؛ لكي يرجعوا أو يبعثوا من جديد، يتولى كل واحد منهم بالتسلسل حكم المسلمين ... فإذا ما كان هذا الإمام شخصية وهمية انهارت قضية الرجعة من أولها إلى آخرها. إن الحقيقة الراجحة عند جمهرة المؤرخين المسلمين هي أن الإمام الحسن العسكري - الإمام الحادي عشر- قد مات عن غير ولد له، إذ إن للعلويين سجل مواليد يقوم عليه نقيب، بحيث لا يولد لهم مولود إلا سجل فيه، وهذا السجل لم يسجل فيه للحسن العسكري ولد، ويشيع بين كثير من العلويين المعاصرين أن الحسن العسكري مات عقيماً، فإذا صحت هذه الأخبار يكون المعنى أن شخصية الإمام الثاني عشر شخصية غير حقيقية، وإنما اخترعها من اخترعوا غيرها من الموضوعات الشيعية التي ينكرها كثير من كبار عقلاء علماء الشيعة، فإذا ما كان الأمر على هذا النحو من الحقيقة انهارت عقيدة الرجعة من أولها إلى آخرها. المصدر: إسلام بلا مذاهب لمصطفى الشكعة - ص 205 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 المطلب السابع: أكاذيب الرافضة على المهدي: ومن أكاذيبهم على أهل البيت أنهم نسبوا إليهم الأقوال والروايات التي تنبئ بخروج القائم من أولاد الحسن العسكري الذي لم يولد له مطلقاً في آخر الزمان، وإحيائه أعداء أهل البيت وقتله إياهم حسب زعمهم. كما أورد الكليني - محدث القوم وبخاريهم - عن سلام بن المستنير قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يحدث إذا قام القائم عرض الإيمان على كل ناصب، فإن دخل فيه بحقيقة وإلا ضرب عنقه، أو يؤدي الجزية كما يؤديها اليوم أهل الذمة، ويشد على وسطه الهميان ويخرجهم من الأمصار إلى السواد" (الروضة من (الكافي) (8/ 227). ولا هذا فحسب، بل أورد الصافي مفسر القوم رواية عن جعفر أيضاً أنه قال: إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين عليه السلام بفعال آبائهم" (تفسير الصافي, سورة البقرة (1/ 172). هذا ولا يكتفي على قتل ذراريهم، بل يحيي آباءهم ويقتلهم كما روى المفيد كذباً على جعفر بن الباقر أنه قال: إذا قام القائم من آل محمد صلوات الله وسلامه عليهم فأقام خمسمائة من قريش فضرب أعناقهم، ثم أقام خمسمائة فضرب أعناقهم، ثم خمسمائة أخرى حتى يفعل ذلك ست مرات" (الإرشاد للمفيد ص364). ولقد أورد العياشي أنه يقتل أيضاً يزيد بن معاوية وأصحابه كما يقول: قال أبو عبد الله عليه السلام: إن أول من يكر إلى الدنيا الحسين بن علي عليه السلام وأصحابه ويزيد بن معاوية وأصحابه، فيقتلهم حذو القذة بالقذة". "تفسير العياشي" (2/ 280) تحت قوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ [الإسراء:6]، أيضاً "البرهان" (2/ 408)، أيضاً "الصافي" (1/ 959). ولم يقتنع القوم بهذه الأكاذيب، ولم يشف غليلهم حتى بلغوا إلى أقصاه، فافتروا على محمد الباقر أنه قال: أما لو قام قائمنا ردت الحميراء (أي أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله عنها) حتى يجلدها الحد، وحتى ينتقم لابنة محمد صلى الله عليه وسلم فاطمة عليها السلام منها، قيل: ولم يجلدها؟ قال: لفريتها على أم إبراهيم، قيل: فكيف أخره الله للقائم عليه السلام؟ قال: إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة، وبعث القائم عليه السلام نقمة" (تفسير الصافي, سورة الأنبياء 2/ 108). كما أنهم حكوا روايات كثيرة باطلة، ونسبوها إلى أئمتهم نذكر منها واحداً أن أبا جعفر الباقر قال: كأني بالقائم على نجف الكوفة قد سار إليها من مكة في خمسة آلاف من الملائكة، جبرائيل عن يمينه وميكائيل عن يساره والمؤمنون بين يديه، وهو يفرق الجنود في البلاد .. وأول من يبايعه جبرائيل" (روضة الواعظين 2/ 364، 365، "الإرشاد" ص364). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص237 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 المبحث الخامس: بدع ألصقها الرافضة بالمهدي (الخمس وولاية الفقيه): • المطلب الأول: الاجتهاد والتقليد: . • المطلب الثاني: الخمس في أرباح المكاسب:. • المطلب الثالث: ولاية الفقيه:. • المطلب الرابع: الطرق التصحيحية للتخلص من التقليد والخمس وولاية الفقيه:. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 105 المطلب الأول: الاجتهاد والتقليد: يستند علماء الشيعة الإمامية على فتح باب الاجتهاد بمرسومين صدرا عن الإمام " المهدي " قبيل غيبته والمرسومان وإن كانا يختلفان في المضمون إلا أنهما يتفقان في المفهوم وهما: المرسوم الأول: وأما من الفقهاء من كان صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه. المرسوم الثاني: وأما الحوادث الواقعة فارجعوا إلى رواة أحاديثنا. على هذين المرسومين (حيث أولهما يختص بالمجتهدين والثاني يختص بعوام الشيعة) يعتمد علماء المذهب بفتح باب الاجتهاد وعدم الأخذ بآراء الأموات من الفقهاء, وعليهما يستند المجتهدون في وجوب التقليد على عوام الشيعة، وبعد الغيبة الكبرى تصدى لشؤون الشيعة الدينية علماء المذهب واحداً تلو الآخر ولم تنقطع القيادة المذهبية بين المجتهدين والعامة, وإن شئت قل بين القاعدة والقمة حتى كتابة هذه السطور, وذلك بسبب فتح باب الاجتهاد ووجوب تقليد العوام لرأي المجتهدين، أما الفرق الإسلامية الأخرى فسدت هذا الباب لصعوبات بالغة تعترض العمل الاستنباطي اللهم إلا السلفية يجتهدون في الفروع الفقهية التي لا نص فيها وتخضع لأدلة الاستنباط من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، أما علماء الشيعة فاستبدلوا القياس بالدليل العقلي واتخذوه الأصل الرابع من أصول الاستنباط, ومن أغرب الأمور أن فقهاء الشيعة ينسبون أنفسهم إلى المذهب العقلي في استنباط الأحكام الشرعية, ولكنهم في الحقيقة أبعد الناس عن استعمال العقل في طريقة الاستنباط. وليت شعري أن أعرف كيف يستند علماؤنا - سامحهم الله - على العقل في فهمهم للأحكام الشرعية ولاستنباطهم المسائل الفقهية وهم يسلمون بلا جدل ولا نقاش بروايات نسبت إلى أئمة الشيعة وجاءت في الكتب التي يعتبرونها صحيحة وموثوقة وهي تتناقض مع العقل، نعم إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المقصود من استخدام العقل عند فقهاء الشيعة إنما هو استخدام الأدلة العقلية التي أسس عليها علم أصول الفقه -في التصور الشيعي- العلم الذي لعلماء الشيعة باع طويل في تأسيسه وتأليفه وهي كيفية استخدام الأدلة العقلية لفهم الأحكام الشرعية وبغض النظر عن منطوقها مثل مبحث الظن والقطع والاستصحاب والتعادل والتراجيح وغيرها من الأبحاث الأصولية التي ذكرها علماء " أصول الفقه " في كتبهم، و " أصول الفقه " علم جميل بحد ذاته وله مزاياه العقلية ومع الأسف البالغ إن الفقهاء لم يستخدموها في اللباب بل استخدموها في القشور. وقبل أن أتحدث في النظرية الاجتهادية أود أن أذكر هنا أمرين لا بد من الإشارة إليهما: الأمر الأول: أود أن أشير إلى ذلك الخطأ الرهيب الذي وقع فيه كتاب وباحثون كتبوا وأَلَّفُوا ونشروا عن الشيعة في السنوات الأخيرة، فقد عرَّفوا الشيعة بالأصولية أو الإمامية الأصولية وفسروها بأن الشيعة تريد العودة إلى القهقرى لأنهم ترجموا كلمة " الأصول " بالجذور وزعموا أن الشيعة تعود إلى الجذور والماضي في العقيدة ولم يدركوا قط أن الأصولية لا تعني العودة إلى الجذور بل تعني أن الشيعة الإمامية تستخدم قواعداً عقلية اسمها " أصول الفقه " لاستنباط الأحكام الشرعية في العمل الاجتهادي ولذلك لُقِّبوا بِ " الأصوليين " وهناك مئات الكتب أُلِّفَت في " أصول الفقه " وكلها تبحث عن المباحث العقلية التي ذكرت بعضها قبل قليل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 106 الأمر الثاني: إن هناك فئةً صغيرةً من الشيعة تسمي نفسها " الإخباريين " وهم الذين لم يستخدموا علم الأصول أو بالأحرى الأدلة العقلية في استنباط الأحكام الشرعية، وإن العملية الاجتهادية تتم عندهم بالكتاب والسنة والإجماع ومن أشهر علمائهم الشيخ " حر العاملي " صاحب كتاب (وسائل الشيعة) الذي يعتبر من أهم المصادر الشيعية في الفقه. ولنعد مرةً أخرى إلى الطريقة الاجتهادية التي تمتاز الشيعة بها عن غيرها ونود أن نضيف هنا بأن الطريقة الاجتهادية بحد ذاتها أمر حسن وجميل يتلاءم مع التطور الاجتماعي والفكري, فكما تسير البشرية نحو الأفضل تتحرك نحو الأكمل, لا بد وأنها تصادف أموراً حديثة هي بحاجة إلى قوانين جديدة لم تذكر في المباحث الفقهية من قبل، فالعملية الاجتهادية تسهل استنباط القوانين الشرعية إذا لم تتعارض مع أصول العقيدة، فإذا كان المجتمع متحركاً فلا بد وأن تتحرك القوانين الاجتماعية معه عندما لا تتعارض مع الكتاب والسنة والإجماع، فلو كان علماء الشيعة يسيرون في العمل الاجتهادي كفقهاء للمذهب الجعفري يبينون حلال الله وحرامه شأنهم شأن سائر فقهاء المسلمين الذين وقفوا أنفسهم لله لم يتخذوا على عملهم أجراً ولم يريدوا عليه جزاءً ولا شكوراً, لكانت الشيعة بخير ولكانت الأمة الإسلامية على أحسن ما يرام، ولكن مع الأسف الشديد إن فقهاءنا -عن عقيدة أو عن جهل أو ضرورة- أضافوا بدعتين صريحتين إلى العمل الاجتهادي ومسخوا كل معالم الإخلاص والعمل لله وهما كما قلنا الجناحان الخفاقان على رؤوس الشيعة ما دامت السموات والأرض: الخمس في أرباح المكاسب. وولاية الفقيه. المصدر: الشيعة والتصحيح لموسى الموسوي - ص43 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 المطلب الثاني: الخمس في أرباح المكاسب: تقول الآية الكريمة وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ..... [الأنفال:41] يقول " فضل بن الحسن الطبرسي " وهو من أكابر علماء الإمامية في القرن السادس الهجري في تفسير هذه الآية الكريمة: " اختلف العلماء في كيفية قسمة الخمس ومن يستحقه على أقوال أحدها ما ذهب إليه أصحابنا وهو أن الخمس يقسم على ستة أسهم سهم لله وسهم للرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وهذان السهمان مع سهم ذي القربى للإمام القائم مقام الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وسهم ليتامى آل محمد وسهم لمساكينهم وسهم لأبناء سبيلهم لا يشاركهم في ذلك غيرهم لأن الله سبحانه حرَّم عليهم الصدقات لكونها أوساخ الناس وعوضهم من ذلك بالخمس ..... وقال أصحابنا: إن الخمس واجب في كل فائدة تحصل للإنسان من المكاسب وأرباح التجارة وفي الكنوز والمعادن والغوص وغير ذلك مما هو مذكور في الكتب ويمكن أن يستدل على ذلك بهذه الآية (1) ... " إن تفسير الغنيمة بالأرباح من الأمور التي لا نجدها إلا عند فقهاء الشيعة فالآية صريحة وواضحة بأن الخمس شرعت في غنائم الحرب وليس في أرباح المكاسب وأظهر دليل قاطع على أن الخمس لم يشرع في أرباح المكاسب هو سيرة النبي الكريم صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وسيرة الخلفاء من بعده بما فيهم الإمام " علي " وحتى سيرة أئمة الشيعة حيث لم يذكر أرباب السَّيَر الذين كتبوا سيرة النبي الكريم صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ودونوا كل صغيرة وكبيرة عن سيرته وأوامره ونواهيه أن الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يرسل جباته إلى أسواق المدينة ليستخرج من أموالهم خمس الأرباح مع أن أرباب السير يذكرون حتى أسامي الجباة الذين كان الرسولصلى الله تعالى عليه وآله وسلم يرسلهم لاستخراج الزكاة من أموال المسلمين، وهكذا فإن الذين أرَّخو حياة الخلفاء الراشدين بما فيهم الإمام " علي " لم يذكروا قط أن أحداً منهم كان يطالب الناس بخمس الأرباح أو أنهم أرسلوا جباة لأخذ الخمس، وحياة الإمام " علي " معروفة في الكوفة فلم يحدث قط أن الإمام بعث الجباة إلى أسواق الكوفة ليأخذوا الخمس من الناس أو أنه طلب من عماله في أرجاء البلاد الإسلامية الواسعة التي كانت تحت إمرته أن يأخذوا الخمس من الناس ويرسلونها إلى بيت المال في الكوفة كما أن مؤرخي حياة الأئمة لم يذكروا قط أن الأئمة كانوا يطالبون الناس بالخمس أو أن أحداً قدم إليهم مالاً بهذا الاسم. وكما قلنا قبل قليل إن هذه البدعة ظهرت في المجتمع الشيعي في أواخر القرن الخامس الهجري فمنذ الغيبة الكبرى إلى أواخر القرن الخامس لا نجد في الكتب الفقهية الشيعية باباً للخمس أو إشارةً إلى شمول الخمس في الغنائم والأرباح معاً، وهذا " محمد بن الحسن الطوسي " من أكابر فقهاء الشيعة في أوائل القرن الخامس ويعتبر مؤسس الحوزة الدينية في النجف لم يذكر في كتبه الفقهية المعروفة شيئاً عن هذا الموضوع مع أنه لم يترك صغيرةً أو كبيرةً من المسائل الفقهية إلا وذكرها في تآليفه الضخمة.   (1) [10639]- الطبرسي ((مجمع البيان في تفسير القرآن)) (4/ 543) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 لقد سنت هذه السنة السيئة في عصر كانت فيه الخلافة العباسية والسلطة الحاكمة لا تعتقد بشرعية مذهب أهل البيت وبالنتيجة لا تعترف بفقهائهم لكي تخصص لهم مرتبات يعيشون منها كما كانت الحالة بالنسبة لسائر فقهاء المذاهب الأخرى، ولم تكن الشيعة حتى ذلك التاريخ متماسكة بالمعنى المذهبي حتى تقوم بإعالة فقهائنا فكان تفسير الغنيمة بالأرباح خير ضمان لمعالجة العجز المالي الذي كان يقلق حياة فقهاء الشيعة وطلاب العلوم الدينية الشيعية آنذاك, ولكن هذا لا يعني أن الشيعة لم تساهم في إعالة الفقهاء وطلاب العلوم الدينية، ففي العراق وهوالمهد الأول للشيعة توجد حتى اليوم أملاك وبنايات وأراضي وقفت في القرن الخامس الهجري على الأمور الخيرية للشيعة، وبعد أن أسست هذه البدعة أضيفت إليها أحكام مشددة لكي تحمل الشيعة على التمسك بها وعلى تنفيذها، ولم يكن من بد في حمل الشيعة على قول إعطاء الخمس, وهو الأمر الذي ليس من السهل على أحد أن يرتضيه إلا بالوعيد فدفعه الضرائب في أي عصر ومصر وفي أي مجتمع مهما كان شأنه من الثقافة والديمقراطية والحرية يواجهه امتعاض من الناس، وبما أن فقهاء الشيعة لم تكن لهم السلطة لكي يرضخوا العامّة على استخراج الخمس من أرباح مكاسبهم طوعاً ورغبة فلذلك أضافوا إليها أحكاماً مشددة منها الدخول الأبدي في نار جهنم لمن لم يؤد حق الإمام وعدم إقام الصلاة في دار الشخص الذي لم يستخرج الخمس من ماله أو الجلوس على مائدته وهكذا دواليك، كما أن فقهاء الشيعة أفتوا بأن خمس الأرباح الذي هو من حق الإمام الغائب كما مرت الإشارة إليه يجب تسليمه إلى المجتهدين والفقهاء الذين يمثلون الإمام, وهكذا سرت البدعة في المجتمع الشيعي تحصد أموال الشيعة في كل مكان وزمان، وكثير من الشيعة حتى هذا اليوم يدفع هذه الضريبة إلى مرجعه الديني وذلك بعد أن يجلس الشخص المسكين هذا أمام مرجعه صاغراً ويقبل يده بكل خشوع وخضوع ويكون فرحاً مستبشراً بأن مرجعه تفضل عليه وقبل من حق الإمام، وبعض فقهاء الشيعة ومن بينهم الفقيه " أحمد الأردبيلي " وهو من أبرز فقهاء عصره حتى أنه لقب بِ " المقدس الأردبيلي " أفتوا بعدم جواز التصرف بالخمس في عهد الغيبة الكبرى, كما أن بعض فقهاء الشيعة وهم قليلون أفتوا بأن الخمس ساقط من الشيعة مستندين على رواية عن الإمام " المهدي ": " أبحنا الخمس لشيعتنا " غير أن الأكثرية من فقهاء الشيعة ضربوا عرض الحائط أراء الأقلية وأجمعوا فيما بينهم على وجوب استخراج الخمس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 وكم أتمنى أن يترفع الفقهاء والمجتهدون عن أموال الشيعة ولا يرتضون لأنفسهم أن يكونوا عالة عليهم بذريعةٍ ما أنزل الله بها من سلطان، إن بعض علماء الشيعة يدافع عن أخذهم الخمس من أموال الشيعة بأنها أموال تصرف على المدارس الدينية والحوزات العلمية والشؤون المذهبية الأخرى, ولكن المناقشة ليست في أن تلك الأموال تصرف كيف ولماذا؟ بل المناقشة أصولية وواقعية ومذهبية, وهي أن تلك الأموال تؤخذ زوراً وبطلاناً من الناس، وحتى إذا صرفت في سبيل الله فإنها غير شرعية لا يجوز التصرف فيها، لقد كان باستطاعة فقهاء الشيعة أن يبنوا أنفسهم على الاكتفاء الذاتي وأن يكون الفقيه معتمداً على نفسه شأنه شأن أرباب الصناعات الأخرى, كما أن باستطاعتهم الحصول على أموال لتنمية العلم والعلماء, ولكن باسم التبرعات والهبات, لا باسم الواجب الشرعي وأوامر السماء، وعندما أكتب هذه السطور أعرف مجتهداً من مجتهدي الشيعة لا زال على قيد الحياة وقد ادَّخر من الخمس ما يجعله زميلاً لِ " قارون " الغابر أو القوارين المعاصرين، وهناك مجتهد شيعي في " إيران " قتل قبل سنوات معدودة كان قد أودع باسمه في المصارف مبلغاً يعادل عشرين مليون دولاراً أخذها من الناس طوعاً أو كرهاً باسم الخمس والحقوق الشرعية وبعد التي واللتيا ومحاكمات كثيرة استطاعت الحكومة الإيرانية وضع اليد على تلك الأموال كي لا يقتسمها الورثة فيما بينهم، هذه صورة محزنة من آثار بدعة الخمس التي تبناها فقهاء الشيعة، إن الزعامات المذهبية الشيعية استطاعت البقاء مستقلة عن السلطات الحاكمة حتى في البلاد الشيعية بسبب هذا الرصيد الذي لا ينضب فما دامت الزعامة المذهبية الشيعية ترى نفسها شريكة مع القواعد الشيعية في أرباح مكاسبها في أي زمان ومكان, فإن الاستقرار الفكري لا يجد إلى المجتمع الشيعي سبيلاً والسبب واضح ومعروف, لأن هذه الزعامات بسبب هذه الميزانيات الضخمة التي لا يحتاج الحصول عليها إلى الجباة وعمال الضرائب بل تأتيها طائعة مخلصة استطاعت أن تجعل من زعامة الشيعة صرحاً سياسياً يحرك الشيعة في الاتجاه الذي تريد، فلذلك نرى أن تلك الزعامات استخدمت الشيعة في كثير من أغراضها السياسية والاجتماعية عبر التاريخ. وفي " إيران " القطر الشيعي كانت لنتائج هذا التفاعل بين الشيعة وزعمائها الدينيين آثار سيئة لا تعد ولا تحصى، ولقد وصلت الأمور إلى أبعد ما يتصور من سوء عندما أضيفت إلى بدعة الخمس في أرباح المكاسب, بدعة ولاية الفقيه، وقبل أن نبحث ولاية الفقيه بصورة مسهبة نود أن نضيف هنا لنكون أمناء على التاريخ وصادقين في رسالتنا, هو أن بعض الزعامات الشيعية خدم الفكر الإسلامي وخدم قضايا وطنية في محاربة الاستعمار أو الاستبداد الحاكم مرات ومرات ولكننا عندما نقارن بين استخدام الأكثرية نفوذها في سبيل المصالح الخاصة ونضعها في ميزان لنرى أن كفة المصالح الخاصة تتأرجح على المصالح العامة بصورة تدهش المرء وتوحي إليه بالأسى والحزن. المصدر: الشيعة والتصحيح لموسى الموسوي - ص43 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 المطلب الثالث: ولاية الفقيه: ولاية الفقيه هي الجناح أو البدعة الثانية التي أضيفت إلى سلطة الذين يدّعون أنهم نواب الإمام " المهدي " في عصر الغيبة الكبرى، وهذه الفكرة بالمعنى الدقيق فكرة حلولية دخلت الفكر الإسلامي من الفكر المسيحي القائل: إن الله تجسد في المسيح والمسيح تجسد في الحبر الأعظم, وفي عصر محاكم التفتيش في إسبانيا وإيطاليا وقسم من فرنسا كان " البابا " يحكم المسيحيين وغيرهم باسم السلطة الإلهية المطلقة حيث كان يأمر بالإعدام والحرق والسجن وكان حراسه يدخلون البيوت الآمنة ليل نهار ليعيثوا بأهلها فساداً ونكراً، وقد دخلت هذه البدعة إلى الفكر الشيعي بعد الغيبة الكبرى وأخذت طابعاً عقائدياً عندما أخذ علماء الشيعة يسهبون في الإمامة ويقولون: بأنها منصب إلهي أنيط بالإمام كخليفة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وبما أن الإمام حيّ ولكنه غائب عن الأنظار ولم يفقد سلطته الإلهية بسبب غيبته, فإن هذه السلطة تنتقل منه إلى نوابه, لأن النائب يقوم مقام المنوب عنه في كل شيء، وهكذا أخذت فكرة ولاية الفقيه تشغل حيزاً كبيراً في أفكار فقهاء الشيعة غير أن كثيراً منهم أنكروا الولاية بالمعنى الذي نقدم ذكره وقالوا: إن الولاية خاصة بالرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم والأئمة الاثني عشر من بعده لا تنتقل إلى نواب الإمام، وإن ولاية الفقيه لا تعني أكثر من ولاية القاضي الذي يستطيع تعيين أمين على وقف لا متولي له أو نصب قيِّم على مجنون أو قاصر، ويبدو أن فكرة ولاية الفقيه مع تبني بعض فقهاء الشيعة لها لم تجد الفرصة المواتية للخروج من حيز الفكر إلى حيز العمل إلا بعد أن استلم السلطة في إيران الشاه " إسماعيل الصفوي " وهو العصر الذي عبرنا عنه بعصر الصراع الثاني بين الشيعة والتشيع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 والشاه " إسماعيل " ينحدر من أسرة صوفية كان مقرها مدينة " أردبيل " الواقعة في شمال غربي " إيران " وكان أجداده من أقطاب الحركة الصوفية التي شعارها " حب علي وأهل بيته " وكان لهم نفوذ قويّ في مقاطعة " أذربيجان " التركية وفي عام (907) هـ استطاع الشاه " إسماعيل " أن يُنَصِّبَ نفسه ملكاً على إيران بعد أن كانت الحروب العثمانية الإيرانية قد أنهكت إيران تماماً، ولا شك أنه كانت وراء الشاه " إسماعيل " - الذي توج رسمياً وهو بعد في سن الثالثة عشرة - قيادات صوفية قوية تحرك الملك الفتى إلى مآربها, ولم تكن إيران شيعية عند استلام الشاه " إسماعيل " السلطة, اللهم إلا مدناً قليلة منها " قمّ " و " قاشان " و " نيسابور " فأعلن الشاه المذهب الشيعي مذهباً رسمياً لإيران وبدأت جحافل الصوفية تتحرك بين المدائن الإيرانية تنشد الأشعار والمدائح في حق " علي " وأهل بيته وتحث الناس على الدخول في المذهب الشيعي وأعمل الشاه " إسماعيل " السيف في رقاب الذين لم يعلنوا تشيعهم، ومن طريف القول أن نذكر هنا أن سكان مدينة " أصفهان " كانوا من الخوارج فعندما وصلهم أمر الشاه بقبول التشيع أو قطع الرقاب طلبوا منه أن يمهلهم أربعين يوماً ليكثروا فيها من سب الإمام " علي " ثم يدخلوا في المذهب الجديد فأمهلهم الشاه كما أرادوا وهكذا انضمت "أصفهان" إلى المدن الشيعية الأخرى، ومع أن الشاه " إسماعيل " كان شيعياً بقرارة نفسه وبحكم نشأته ومقامه الصوفيّ إلا أن إعطاء الصفة الشيعية الخالصة لإيران كان يهم النظام الجديد كثيرا, ً فالحروب العثمانية وإن كانت في حقيقتها حروباً إقليمية لها جذورها الماضية, إلا أن الاستمرار في هذه الحرب كان يصطدم بفكرة حرمة حرب المسلم مع المسلم, وقتل المسلم للمسلم, الأمر الذي كان يلاقي معارضة داخل إيران وكانت فكرة الانضمام للخلافة العثمانية والرضوخ لأمر الخليفة الذي كان يلقب بأمير المؤمنين أمراً له أنصاره، ولكن المذهب الجديد الذي أملاه الشاه على الشعب الإيراني أعطى تماسكاً قوياً للإيرانيين وقضى على كل الآمال التي كانت تراود الخليفة العثماني لضم إيران إلى خلافته، وفي حين أن الشاه كان يرى نفسه قطباً صوفياً وملكاً أسس للشيعة مجداً لم يؤسس أحد مثله من قبل إلا أنه رضخ لولاية الفقيه وطلب من " علي بن عبد العال الكركي العاملي " كبير علماء الشيعة بجبل عامل بِ " لبنان " أن يحكم له دعائم السياسة والملك ويجيزه الجلوس على كرسي الملك والحكم باسم الولاية العامة التي هي من صلاحيات الفقيه ولا زالت الكتب التاريخية تحتفظ بالنصوص الواردة في إجازة " الكركي " للشاه، إن رجوع الشاه إلى عالم شيعي في " جبل عامل " بلبنان في إبان حكمه لإسناد نظامه دليل قاطع على أن الزعامة المذهبية الشيعية كان مقرها آنذاك في " جبل عامل " الموطن الثاني للشيعة بعد العراق، ولذلك آياتها, نستغرب أبداً عندما نعلم أن حفيد الشاه " إسماعيل " وهو الشاه " عباس " استقدم من " جبل عامل " العالم الشيعي الكبير الشيخ " بهاء الدين " إلى مقر عاصمته " أصفهان " ليكون المرجع الرسمي للبلاد ولقبه بِ " شيخ الإسلام " ومن كل ما أسلفنا يظهر بوضوح أن فكرة " ولاية الفقيه " كانت موجودة في الفكر الشيعي وعليها كانت تبنى فكرة عدم شرعية الخلافة الإسلامية أو أية حكومة أخرى إلا إذا أجازها وباركها الفقيه الذي يمثل الإمام الحي الغائب المنصوب بأمر الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 112 ومنذ أن أدخل الشاه " إسماعيل الصفوي " الإيرانيين في المذهب الشيعي وحتى كتابة هذه السطور فإن للزعامة المذهبية الشيعية نفوذ واسع وكبير في إيران ويحظى باحترام عظيم من قبل الملوك والحكام، ومع أن العلاقات بين الزعامة المذهبية والزعامة السياسية المتمثلة بالملوك والحكام كانت على خير ما يرام عبر التاريخ إلا أنه كان يحدث في بعض الأحيان صراع بينهما ينتهي بانتصار أحدهما على الآخر، ومنذ أن استطاع الشاه " إسماعيل " أن يجعل من ولاية الفقيه منصباً يعلو على مقام الشاه وكل المناصب الأخرى لم يحدث قط أن فقيهاً من فقهاء الشيعة رشح نفسه للحكم مباشرة، وفكرة ولاية الفقيه بالمفهوم الذي ظهر في تاريخنا المعاصر ومن الناحية التطبيقية لم تكن تدور في خلد الفقهاء، فلم يستخدم الفقهاء في إيران حقهم في ولاية الفقيه أكثر من الوقوف في وجه السلطان الحاكم إذا ما حصلت بينهم المجابهة أو الوقوف مع السلطان في مجابهة الأعداء، وقبل أقل من قرنين وعندما أراد الشاه " فتح علي القاجار " أن يغزو القيصر في عقر داره كان كبير مجتهدي الشيعة السيد " محمد الطباطبائي " الملقب بالمجاهد يتقدم جيوش الشاه وقواده لغزو " روسيا " وقد أفتى بالجهاد باسم ولاية الفقيه، وعندما دحرت إيران في تلك الحرب وتنازل الشاه عن سبعة عشر مدينة كبيرة من أهم المدن الإيرانية إلى روسيا تنازلاً لا رجعة فيه وعاد الجيش المهزوم إلى إيران ومعهم السيد المجاهد استقبلهم الإيرانيون بهتافات الخزي والأوساخ استنكاراً منهم لموقف زعيم ديني يقود إيران نحو الهلاك والكارثة التي لن تنسى. وفي تاريخنا المعاصر وهو عهد الصراع بين الشيعة والتشيع بدأت ولاية الفقيه تظهر على مسارح الأحداث في البلاد الشيعية بصورة حادّة وعنيفة أخذت تعصف بكل القيم الإسلامية والإنسانية على السواء, ولعل من أهم المفارقات التي تدين هذه النظرية هي حدوث ذلك الصراع الرهيب بين الفقهاء أنفسهم حول الفكرة واضطهاد القوة الحاكمة للقوة الفقهية المحكومة، ومع أننا في رسالتنا التصحيحية هذه لا نريد أن نسمي الأشخاص ونعدد الأسماء حتى لا نفقد صفة الحياد التي هي من أهم شروط التوفيق في كل رسالة هي لله، ولكن الأحداث التي نشير إليها هي من الوضوح بمكان ويعرفها كل شيعي ملم بأحداث العالم الشيعي فأحداثها وقعت أمام أعينهم أو على مسمع منهم فلذلك نحن واثقون بأنه لا يوجد شيعي واحد من الذين كتب هذا الكتاب لأجلهم يطالبنا بتوثيق ما يتضمنه هذا الفصل بذكر الأسماء والمصادر, لأن إحداث ولاية الفقيه وما رافقها من المآسي في المجتمعات الشيعية سواء أكانت في إيران أو غيرها لهي أظهر من الشمس في رابعة النهار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 113 وأعود الآن إلى البحث في ولاية الفقيه من الناحية النظرية والعملية معاً فأساس النظرية لدى فقهاء الشيعة يرتكز على الآية الكريمة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [النساء:59] ويقول علماء الشيعة: إن المقصود من أولي الأمر في الآية الكريمة إنما هو الخليفة أو الإمام الشرعي الذي هو الإمام " علي " ومن بعده أولاده حتى الإمام " المهدي " وفي غيبة الإمام " المهدي " تكون الولاية للفقهاء المجتهدين الذين يحلون محل الإمام وهم النواب العامون، وخطأ هذا التفسير أوضح من وضوح الشمس, فقبل كل شيء تصطدم نظرية ولاية الفقيه بنص صريحٍ جاء في القرآن الكريم وضح صلاحية الفقهاء بعبارة واضحة وصريحة، ومن دواعي الأسف والحزن أن كل أولئك الذين أسهبوا في بطلان نظرية الفقيه لم يذكروا هذه النقطة الجوهرية التي تدحض فكرة ولاية الفقيه من أساسها وتنسفها نسفاً أبدياً حتى قيام الساعة، فالآية الكريمة التي تفند ولاية الفقيه وتنص على مقدار صلاحيته هي: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122] فالآية صريحة أن واجب الفقيه هو التبليغ والإرشاد في شؤون الدين وليست في الآية إشارة إلى وجوب إطاعة الفقيه أو ولايته، فليت شعري كيف خفيت هذه الآية الكريمة على العلماء والباحثين ونحن معاشر الشيعة كسائر المسلمين نجمع إجماعاً عاماً على أنه لا اجتهاد أمام النص، إذن فكرة ولاية الفقيه تتعارض مع نص الكتاب ومن يعارض النص الإلهي يعتبر خارجاً عن الإسلام ولنعد إلى الآية الكريمة مرةً أخرى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [النساء:59] إن من يقرأ هذه الآية الكريمة من غير أن يقطع أجزاءها حسب رغبته يعلم علم اليقين أن إطاعة أولي الأمر تختلف عن إطاعة الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأنها إطاعة محددة وفي نطاق صلاحيات أنيطت بالوالي حسب طبيعة عمله حتى أن الحكم في التنازعات بين المسلمين سلب عنه كما تنص الآية، ثم إن الآية واضحة وصريحة أنها نزلت في الذين عينهم الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في عهده كولاة ينوبون عنه في شؤون المسلمين فالآية نزلت في عهد الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وهي تخص عهده والإشارة إليه إشارة شخصية لا عمومية، ولكن حتى إذا أخذنا بعموم الآية وأنها تشمل أولي الأمر بعد عصر الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم) فإنها واضحة في عدم وجوب إطاعة أوامرهم في التنازعات التي تحدث بين المسلمين, الأمر الذي يقلل من شأن أولي الأمر ويفقدهم صلاحية الولاية العامّة أو الولاية المطلقة. وليت شعري أن أعرف كيف استدل المستدلون بهذه الآية على ولاية الفقيه وإعطائه حق التحكم في شؤون المسلمين السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية؟ فإذا كان لا يحق لأولي الأمر التدخل في تنازعات المسلمين كما نص عليه الكتاب حتى لا يتخذ اسم الله ورسوله ذريعة لكي يحكم المجتمع الإسلامي حسب أهوائه وعقائده بدون الأخذ بالشورى فهل يمكن القول أن نائب أولي الأمر يتمتع بحقوق أكثر من المنوب عنه؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 114 وفي إيران وهي مهد ولاية الفقيه في التاريخ المعاصر الذي عبرنا عنه بعصر الصراع الثالث بين الشيعة والتشيع استطاعت ولاية الفقيه أن تحتل الصدارة في الدستور الإيراني الجديد وتحتل أهم المواقع الأساسية منه كما استطاعت أن تسيطر على السلطة المطلقة في البلاد، ولكن مع كل هذا لم يستطع حماة الدستور والذين وضعوه والذين دافعوا عنه من حل التناقضات الصارخة بين التطبيقات العملية وبين النظرية الفقهية, ولذلك أصبحت النظرية في نظر المجتمع الشيعي نظرية مهلهلة ضعيفة وركيكة مع القوة المادية الهائلة التي تساندها, ولعل من أولى هذه المفارقات والتناقضات الصارخة والتي تتساءل الشيعة عنها في كل مكان هي: هل أن ولاية الفقيه منصب ديني أم منصب سياسي؟ فإذا كانت منصباً دينياً لا يخضع للانتخاب ولا يخضع للعزل ولا يخضع للتفريق, فكل من بلغ مرتبة الفقاهة اتصف بصفة الولاية وشملته الحصانة ويجب على المسلمين إطاعة أوامره والرضوخ لولايته، ولكن حدث أن فقهاء نُكبوا وأُهينوا وسُجنوا وشُرِّدوا ولا زال بعضهم قيد الأٍسر والسجن بسبب مواقفهم الفكرية أو السياسية من سلطان الفقيه الحاكم، أما إذا كانت ولاية الفقيه منصباً سياسياً فلماذا ربط بالدين وبالمذهب وظهر في مظهر العقيدة ووجوب الإطاعة لصاحبه؟ ثم كيف يمكن من الناحية العملية أن يتصور المرء ولاية الفقيه عندما يتضارب الفقهاء بينهم في الآراء وكلهم في مدينة واحدة؟ فلمن يا ترى يجب على المسلمين أن يستجيبوا ويطيعوا وكيف يجمعوا بين آراء متضاربة أو متناقضة؟ حقاً إن إسناد قانون كهذا إلى الإسلام إهانة إلى ذلك الدين القيّم الذي أرسله الله ليرفع من القيم الإنسانية، ونظرية ولاية الفقيه تجاوزت إيران وتسربت إلى مناطق شيعية أخرى وبدأت تعصف بالشيعة هناك كما عصفت بها في إيران, وإني أخشى أن يعم البلاء على الشيعة في كل مكان ويهزهم هزاً لا استقرار بعده، فلو علمت الشيعة بالفجائع التي ارتكبت باسم ولاية الفقيه ولا زالت ترتكب لاقتلعت ظل الفقهاء من كل ديار يحلون فيها ولفرت منهم فرار الشاة من الذئب، فأثناء كتابة هذه السطور هناك في إيران القطر الشيعي رد فعل عنيف بالنسبة للمذهب وما رافقه من سلطة الفقهاء والمرجعية المذهبية وذلك بعد أن عانى الشعب الإيراني من ولاية الفقيه ما عاناه، إنه عناء يهدد المجتمع الشيعي في إيران بالخروج من الإسلام أفواجاً أفواجاً، ولذلك إنني أدعو الله مخلصاً أن تصل رسالتي الإصلاحية إلى يد الشيعة في إيران وذلك قبل فوات الأوان وليعلموا أن طريق الخلاص ليس الهدم والإنكار فقط, بل البدء بالبناء والإصلاح، ولكي لا يتصور القارئ الكريم أنني أقصد شخصاً خاصاً من الفقهاء الذين أمسكوا زمام السلطة باسم ولاية الفقيه بل أود القول: إن الفكرة الشمولية تعمّ الجميع ولا نقصد فرداً خاصاً، فنحن عندما نمعن النظر بدقة وتفحص في الأحداث التي تجري على الساحة الإسلامية والشيعية نرى أن ولاية الفقيه تلعب دوراً بارزاً في أحداث تتناقض مع مبادئ الإسلام الصريحة، وإن الأكثرية من الفقهاء لم يقفوا موقفاً مناهضاً منها فالأكثرية بين مؤيد أو محايد, اللهم إلا القليل منهم والذين لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد الواحدة. المصدر: الشيعة والتصحيح لموسى الموسوي - ص43 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 115 المطلب الرابع: الطرق التصحيحية للتخلص من التقليد والخمس وولاية الفقيه: • أولاً - التقليد:. • ثانياً - الخمس:. • ثالثاً - ولاية الفقيه:. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 116 أولاً - التقليد: وهو الأخذ برأي المجتهد والعمل عليه في المسائل الشرعية وقلما يوجد بيت لا توجد فيه رسالة من الرسائل الفقهية التي ألفها المجتهدون لعوام الناس وتسمى بالرسالة العملية مع إضافة أسماء إليها مثل " ذخيرة الصالحين " " صراط النجاة " أو " ذخيرة العباد " وأمثالها، وعن المتتبع لهذه الرسائل العملية يجد أن هؤلاء الفقهاء منذ قرون عدة وحتى هذا اليوم دونوا في أول صفحة من رسائلهم المشار إليها هذه العبارة - يجب على كل مكلف عاقل أن يكون مجتهداً أو مقلداً أو محتاطاً أي عارفاً بموارد الاحتياط وعمل العامي في الفروع من غير تقليد باطل عاطل - وتعني هذه النظرية التي أجمع عليها فقهاء الإمامية منذ الغيبة الكبرى وحتى هذا اليوم أن الذي يعمل بالاحتياط هو في حلٍّ من التقليد والأخذ برأي غيره، العمل الاحتياطي يعني أن يعلم المكلف موارد الاختلاف في المسائل الفرعية يختار الأقرب منها إلى الصواب، أما في أصول العقيدة فلا يجوز التقليد ويجب أن يكون المسلم معتقداً مؤمناً بها عن بصيرة ودراية، فالحل الذي نعرضه على الشيعة ونطلب منهم أن يلتزموا به لضمان سعادتهم في الدنيا والآخرة هو أن يعملوا بالاحتياط وليس في العمل الاحتياطي أي خروج على المذهب أو مغايرة لإجماع فقهاء الشيعة, الأمر الذي يسد على الفقهاء أبواب حث الشيعة على النهوض ضد التصحيح أو تخويفهم بعذاب الله في يوم القيامة، أما إذا حدثت للشيعة مسائل مستحدثة وهي قليلة جداً وأعني بها المسائل التي لم تتطرق إليها أبواب الفقه من قبل فحينئذ يمكن استشارة مجتهد أو مجتهدين لحلها وها أنا - بحول الله وقوته - سأضمن للشيعة إصدار رسالة عملية فقهية تحتوي على الآراء الاحتياطية في المسائل التي هي عامة البلوى وذلك بمساعدة علماء وفقهاء أخلصوا لله في نياتهم ولا يريدون عليه جزاءً ولا شكوراً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 117 ثانياً – الخمس: لقد وقع فقهاء الإمامية في مأزق عظيم عندما أجمعوا أن نصف الخمس وهو حق الله ورسوله والإمام الغائب, ويجب أن يعطى للمجتهد الذي يقلده الشيعي العامي, والنصف الآخر يقسمه على الفقراء الهاشميين واليتامى وأبناء السبيل منهم، فقد غاب عنهم أن كان هذا هو الحكم الشرعي بالنسبة للمقلدين من العوام, ولكن ما هو الحكم بالنسبة للمحتاط الذي لم يأخذ برأي فقيه واحد فهل أن الخمس ساقط عنه؟ أم أنه يستطيع التصرف فيه كما يشاء، ومن هنا يظهر أن بدعة الخمس بالمفهوم الشرعي مع إصرار الفقهاء عليها لم تكن دقيقة, وفيها فجوات تحكي ببطلانها بوضوح، إن بدعة الخمس بالمفهوم الشيعي إنما هو مفهوم مخالف لسنة الرسول والخلفاء الراشدين وأئمة الشيعة, لأن الخمس في الإسلام هو الخمس في الغنائم وليس في أرباح التجارة والمكاسب قط. ومن هنا أطالب الشيعة في هذه الرسالة التصحيحية وأحثهم على أن لا يدفعوا هذه الضريبة التي ما أنزل الله بها من سلطان لأي فقيه وتحت أي غطاء ولكنني أحثهم على المساهمة في الأمور الخيرية ومساعدة الفقراء والمؤسسات الاجتماعية والعلمية مباشرة وبلا وسيط, وليعلموا أن الأمم التي وصلت إلى قمة المجد إنما وصلت بالسخاء والعطاء، وإذا أرادت الشيعة أن تساعد الفقراء والمجتهدين ورجال الدين فنعما وهذا حسن وجميل ولكن على أن تكون مساعدة شخصية لقضاء مآربهم الخاصة لا لكي يكونوا وسطاء في توزيع الأموال على الغير كما هو شأنهم حتى كتابة هذه السطور. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 118 ثالثاً – ولاية الفقيه: وهنا أكرر ما قلته من قبل وهو أنني أعتقد أنه لم يسبق لفكرة دينية في التاريخ البشري كلفت البشرية من الدماء والأحزان والآلام والدموع بقدر ما كلفته ولاية الفقيه عند الشيعة منذ ظهورها وحتى هذا اليوم، ولا أعتقد أننا بحاجة لكي نطلب من الشيعة أن تقاوم هذه الفكرة وتقف ضدها فالفكرة ولله الحمد بدأت تنسف نفسها بنفسها وعندما يبدأ الهدم الداخلي يتفاعل في نظرية أو فكرة بسبب فشلها في التطبيق أو بسبب المآسي التي ترتكب باسمها تكون النظرية في طريقها إلى الاضمحلال والزوال التام. المصدر: الشيعة والتصحيح لموسى الموسوي - ص43 استحدث الدستور الذي ابتدعه الخميني نظرية "ولاية الفقيه"، والتي تزعم بأن الفقيه الذي يرمز له بشخصه يتمتع بولاية عامة وسلطة مطلقة على شئون البشر باعتباره (الوصي) على شئون البلاد والعباد في غيبة الإمام المنتظر. والمادتان الأولى والثانية من الدستور الذي وضعه الخميني تنصان على أن: تكون ولاية الأمر والأمة في غيبة الإمام المهدي - عجل الله فرجه - (هكذا)، للفقيه العادل وهذا النص في الدستور الذي ابتدعه الخميني يعد من المبتدعات في المذهب الإمامي على كثرة ما فيه من مبتدعات. فالقدماء والمحدثون من أئمة المذهب أمثال الكليني والصدوق والمفيد والطبرسي ومرتضى الأنصاري والنائيني لم يتجاوزوا بالفقيه العادل مرتبة (الولاية الخاصة) حيث لا يوجد دليل قطعي مستفاد يدل على وجوب طاعة الفقيه طاعة مطلقة في الأحكام العامة والخاصة، كما أن إثبات الولاية العامة للفقيه ينتهي لا محالة إلى التسوية بينه وبين الإمام المعصوم الذي يقولون به، ومن ثم فمنح الإمام لنفسه الولاية العامة يرفعه إلى مقام الأئمة المعصومين الذين يزعمهم المذهب ويقول بوجودهم. وعليه فالدستور الذي يرمز إليه بدستور الحكومة الإسلامية يستمد مواده وأفكاره من ذاتية واضعه باعتباره فيما ادعاه لنفسه حجة مطلقة ونائبا للإمام الغائب في الفصل بين الأشياء. والعلماء والباحثون يجدون أنفسهم أمام دعوى للقانون أو النظام يقيم الحكومة الإسلامية على أساس (ثيوقراطي) يستند إلى حق إلهي مفروض يسوي بين الدين والمذهب خاصة فيما ورد في المادة الثانية عشرة. ومعظم مواد الدستور الإيراني، والذي راجع مواده الخميني مادة مادة، تستند إلى رأي منفرد بذاته هو رأي (الحاكم المتأله) الذي يدعي لآرائه واجتهاداته العصمة واليقين، حيث يقوم الزعم بأن السلطة الروحية للإمام الخميني ومن ثم من يخلفه تعتبر خارج النطاق الإنساني، فقد نص الدستور في المادة السابعة والخمسين على أن - السلطات الحاكمة في جمهورية إيران الإسلامية هي عبارة عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية التي تمارس تحت إشراف ولاية الأمر وإمامة الأمة -. إن هذا الاعتقاد كما هو واضح يسد منافذ الاجتهاد ويصادر حرية الرأي والاستنباط أمام أهل العلم من مجتهدي الأمة. وهذا الاعتقاد في الإمام لا يمكن أن يصدر عن اعتقاد إسلامي صحيح أو مبدأ يعترف به فقهاء المذاهب الإسلامية، ولكنه يرتد إلى أصول فارسية تدور حول ما يسمى (التوقير) أو الطاعة المطلقة والانقياد التام للسلطة السياسية الدينية التي يمثلها تراث فارس السياسي والديني (لكسرى) قبل الإسلام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 119 ومن دراسة الوقائع المستفادة من قراءة تاريخ الحركات السياسية الهدامة التي ظهرت في بلاد فارس يتبين أنها كانت تعتمد جميعا على دعوى (الولاية الروحية) التي تجعل من قيامها بالإنابة عن المهدي أساساً لبرامجها وخططها للسيطرة على السلطة متخذة من زعم يقول: (إن الولاية فيض دائم أو نبوة مستمرة) لكي تفرض على أنصارها وأتباعها الاستسلام المطلق والطواعية العمياء، وتبلغ التبعية الصارمة لمدعي الولاية الروحية صوراً لا يقبلها دين ولا يقرها عقل، لأنها تبعية قائمة في جوهرها على (التوقير الوثني)، ولذا فإن الواقع الذي تعيشه مجتمعات يسيطر عليها مثل هذا الاعتقاد يمثل حالة من حالات (الفوضوية) المعبرة عن (نزعة طوبائية) تتنكر للواقع وضروراته، ومن ثم تتنكر للإسلام وكل تاريخه وتستبيح في هذه العقيدة أو في ظل هذه الفوضوية هتك الحرمات واغتيال الإنسان والتجاوز على مقدرات الأفراد ومصادرة حقوق الأمة. إن نظرية ولاية الفقيه المطلقة التي قال بها الخميني تنحصر إزاءها إرادة الإنسان وحريته في الاجتهاد والتفكير، وإن الوقائع التي تنكشف كل يوم والتي تنقلها الإذاعات الأجنبية ووكالات الأنباء إنما تشير في محصلتها النهائية إلى حقيقة صارخة ومؤلمة، تلك هي اغتيال الإنسان واغتيال وجوده باسم الإسلام والثورية. والإسلام لا يقر ولا يرضى هذا اللون من القهر السياسي حتى مع خصومه. إن مما يجب أن تنتبه له الأجيال المسلمة في العالم أجمع، أن الأطماع الفارسية التي تعبر عن نفسها بالعدوان والسيطرة والهيمنة ومحاولة ضرب (السيادة العربية) على أرض الأمصار الإسلامية إنما تهدف إلى تمزيق الأمة الإسلامية، ووأد الصحوة التي كانت تباشيرها تؤذن باتجاه مجتمعات عديدة نحو الإسلام عقيدة وشريعة وخطاب عدل وإنصاف، وإن مما يجب أن تنتبه له الأجيال المسلمة أن عقيدة (الولاية الروحية) قد استغلت مثلما كان يحدث عبر أطوار عديدة من التاريخ الوثني لفارس والتاريخ السياسي للإمامية. وكانت عقيدة الولاية الروحية تجسد دائماً وأبداً الأطماع الفارسية ضد جيرانها، وخاصة عندما كان يتاح لهذه الأطماع شخصية فارسية (متميزة بحب الدم والعدوان) تلبس الصفات الروحية المتوهمة أداة لها ووسيلة ضد جيرانها. فدراسة حركات الزنادقة والشعوبية والأبي مسلمية والمقنعية والخرمية والصفوية، تقوم دليلاً على أن هذه الحركات ليست من الإسلام في شيء، متخذة من ادعاء النسب العلوي أداة للتغرير بالسذج والبسطاء لتحقيق مآرب الحقد والأطماع العنصرية وإحياء النزعات الشعوبية التي يفيض بها تاريخ فارس القديم والحديث على السواء. المصدر: الأصول العقدية الإمامية لصابر طعيمة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 120 المطلب الأول: عقيدة الرافضة الاثني عشرية في توحيد الربوبية: أولاً: اعتقاد الرافضة الاثني عشرية بأن الرب هو الإمام: حيث تعتقد الشيعة بأن الرب هو الإمام الذي يسكن الأرض، كما جاء في كتابهم (مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار, صفحة 59) أن علياً - كما يفترون عليه - قال: (أنا رب الأرض الذي يسكن الأرض به)، وكقول إمامهم العياشي في تفسيره (2/ 353) لقول الله تعالى: وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110] , قال العياشي: (يعني التسليم لعلي رضي الله عنه، ولا يشرك معه في الخلافة من ليس له ذلك، ولا هو من أهله) انتهى كلامه. المصدر: موسوعة فرق الشيعة لممدوح الحربي ثانياً: اعتقاد الرافضة الاثني عشرية بأن الدنيا والآخرة بيد الإمام: وكذلك تعتقد الشيعة أن الدنيا والآخرة، كلها للإمام يتصرف بها كيف يشاء، وقد عقد إمامهم الكليني في كتابه (الكافي) 1/ 407 - 410) باباً بعنوان: (باب أن الأرض كلها للإمام) جاء فيه عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: -أما علمتَ أن الدنيا والآخرة، للإمام يضعها حيث يشاء ويدفعها إلى من يشاء- انتهى كلامه. المصدر: موسوعة فرق الشيعة لممدوح الحربي ثالثاً: إسناد الرافضة الاثني عشرية الحوادث الكونية لأئمتهم: كما تُسند الشيعة الحوادث الكونية التي لا يتصرف فيها إلا الله تعالى، إلى أئمتهم، فكل ما يجري في هذا الكون من رعدٍ وبرقٍ وغير ذلك، فأمره إلى أئمتهم كما ذكر ذلك إمامهم المجلسي، في كتابه (بحار الأنوار) (27/ 33): (عن سماعَة بن مهران قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام، فأرعدت السماءُ وأبرقت، فقال أبو عبد الله عليه السلام: أما إنه ما كان من هذا الرعد ومن هذا البرق فإنه من أمر صاحبكم، قلت: من صاحبنا؟ قال: أمير المؤمنين عليه السلام). المصدر: موسوعة فرق الشيعة لممدوح الحربي رابعاً: اعتقاد الرافضة الاثني عشرية أن علياً يركب السحاب: وهذه العقيدة يتوافق فيها الشيعة الإمامية مع الشيعة النصيرية كما سيأتي , وقد أثبت هذا شيخهم المجلسي في كتابه ((بحار الأنوار) 27/ 34) أن علياً أومأ إلى سحابتين، فأصبحت كل سحابة، كأنها بساط موضوع، فركب على سحابة بمفرده، وركب بعض أصحابه على الأخرى، وقال فوقها: "أنا عين الله في أرضه، أنا لسان الله الناطق في خلقه، أنا نور الله الذي لا يُطفأ، أنا باب الله الذي يؤتى منه، وحجته على عباده". المصدر: موسوعة فرق الشيعة لممدوح الحربي خامساً: اعتقاد الرافضة الاثني عشرية أن أئمتهم يعلمون الغيب: وكذلك تعتقد الشيعة إخواني في الله، بأن أئمتهم يعلمون الغيب حيث أقر هذه العقيدة، شيخهم الكليني، إذ بوب في كتابه (الكافي) (1/ 258) باباً بعنوان: (باب أن الأئمة عليهم السلام يعلمون متى يموتون، وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم)، وكذلك بوب في كتابه (الكافي) (1/ 260) باباً بعنوان: (باب أن الأئمة عليهم السلام يعلمون علم ما كان، وما يكون، وأنه لا يخفى عليهم شيء)، وكذلك روى إمامهم المجلسي في كتابه (بحار الأنوار) (26/ 27 - 28) عن الصادق عليه السلام كذباً وزوراً أنه قال: "والله لقد أُعطينا علمُ الأولين والآخرين، فقال له رجل من أصحابه: جُعلت فداك أعندكم علم الغيب؟ فقال له: ويحك إني لأعلم ما في أصلاب الرجال وأرحام النساء". المصدر: موسوعة فرق الشيعة لممدوح الحربي سادساً: اعتقاد الرافضة الاثني عشرية بأن أئمتهم ينزل عليهم الوحي: وكذلك تعتقد الشيعة الإمامية بنزول الوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أئمتهم عن طريق جبريل عليه السلام، بل عن طريق ملك أعظم من جبريل وأفضل, فهم بذلك يُشرعون ويعلمون الغيب، وكل ما هو كائن إلى يوم القيامة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 121 وهذه العقيدة متناثرة في كتب الشيعة ككتب الحديث والتفسير بروايات عديدة، فقد أورد إمامهم محمد بن الحسن الصفار المتوفى عام (290) هـ‍، والذي يعدونه من أصحاب الإمام المعصوم الحادي عشر، كما يعدونه من أقدم المحدثين لديهم، بالإضافة إلى أنه شيخ الكليني الذي يلقب عندهم بحجة الإسلام. فقد روى إمامهم الصفار في كتابه (بصائر الدرجات الكبرى)، والذي هو عبارة عن عشرة أجزاء, أخباراً كثيرة لا تحصى ولا تعد، في إثبات نزول الوحي على أئمتهم عن طريق الملائكة الكرام ‍، ففي الباب السادس عشر من الجزء الثامن باب (في أمير المؤمنين أن الله ناجاه بالطائف وغيرها ونزل بينهما جبريل)، روى تحته قرابة عشر روايات منها: "عن حُمران بن أعين قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك، بلغني أن الله تبارك وتعالى قد ناجى علياً عليه السلام؟ قال: أجل, قد كان بينهما مناجاة بالطائف نزل بينهما جبريل". انتهى لفظه من كتاب (بصائر الدرجات الكبرى) للصفار، (ج 8 الباب السادس عشر ص430) ط إيران. كما أن هذا الأمر لا يختص به علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بل يشاركه فيه جميع الأئمة عند الشيعة الاثني عشرية، كما روى الصفار في كتابه (بصائر الدرجات) في الجزء التاسع تحت عنوان (الباب الخامس عشر في الأئمة عليهم السلام أن روح القدس يتلقاهم إذا احتاجوا إليه)، وقد روى تحت هذا الباب قريباً من ثلاثة عشر رواية، منها عن أسباط عن أبي عبد الله جعفر أنه قال: "قلت: تسألون عن الشيء فلا يكون عندكم علمه؟ قال: ربما كان ذلك. قلت: كيف تصنعون؟ قال: تلقانا به روح القدس". وكذلك ذكر الصفار في كتابه (بصائر الدرجات) عن أبي عبد الله أنه قال: " إنّا لنُزاد في الليل والنهار، ولو لم نزِد لنفد ما عندنا. قال أبو بصير: جُعلت فداك من يأتيكم به؟ قال: إن منا من يعاين. وإن منا من يُنقر في قلبه كيت وكيت، وإن منا لمن يسمع بأذنه وقعاً كوقع السلسلة في الطست. قال: فقلت له: من الذي يأتيكم بذلك؟ قال: خلق أعظم من جبريل وميكائيل". بصائر الدرجات الكبرى للصفار، الباب السابع من (5/ 252). وروى الكليني مثل هذه العقيدة في كتابه (الكافي) تحت عنوان (باب الروح التي يسدد الله بها، الأئمة عليهم السلام)، فعن أسباط بن سالم قال: سأل رجل من أهل بيتِ أبا عبد الله عليه السلام، عن قول الله عز وجل: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]. فقال: "منذ أن أنزل الله عز وجل ذلك الروح على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ما صَعَدَ إلى السماء، وإنه لفينا، وفي رواية: كان مع رسولِ الله يخبره ويسدده، وهو مع الأئمة من بعده" انتهى. كتاب (الكافي) لحجة الإسلام عندهم محمد بن يعقوب الكليني، في الأصول، كتاب (الحجة)، (1/ 273) ط طهران. كما روى الكليني في كتابه (الكافي) في الأصول، (1/ 261) ط إيران: (عن أبي عبد الله قال: إني أعلم ما في السموات وما في الأرض، وأعلم ما في الجنة والنار، وأعلم ما كان وما يكون). وكذلك عقد شيخهم الحر العاملي باباً في كتابه (الفصول المهمة في أصول الأئمة) باب (94 ص 145) جاء فيه: "إن الملائكة ينزلون ليلة القدر إلى الأرض، ويخبرون الأئمة عليهم السلام، بجميع ما يكون في تلك السنة من قضاء وقدر، وإنهم -أي الأئمة- يعلمون كل علم الأنبياء عليهم السلام". المصدر: موسوعة فرق الشيعة لممدوح الحربي سابعاً: اعتقاد الرافضة الاثني عشرية بأن جزءاً من النور الإلهي حلّ في علي رضي الله عنه: وكذلك تعتقد الشيعة بأن جزءاً من النور الإلهي، قد حلّ بعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه، كما نقل ذلك إمامهم الكليني في أصول (الكافي) (1/ 440): (قال أبو عبد الله: (ثم مسحنا بيمينه فأفاضَ نوره فينا) ونقل أيضاً وقال أيضاً: (ولكن الله خلطنا بنفسه). المصدر: موسوعة فرق الشيعة لممدوح الحربي ثامناً: اعتقاد الرافضة الاثني عشرية بأن الأعمال تُعرض على الأئمة: وكذلك يعتقد الشيعة بأن أعمال العباد تُعرض على الأئمة في كل يومٍ وليلةٍ، كما نقل ذلك إمامهم وحجتهم الكليني في الأصول من (الكافي) (1/ 219): "عن الرضا عليه السلام أن رجلاً قال له: ادع الله لي، ولأهل بيتي، فقال: أولست أفعل؟ والله، إن أعمالكم لتُعرض علي في كل يومٍ وليلةٍ". المصدر: موسوعة فرق الشيعة لممدوح الحربي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 122 المطلب الثاني: عقيدة الشيعة الرافضة الاثني عشرية في توحيد الألوهية: أولاً: اعتقاد الرافضة الاثني عشرية بأن أئمتهم الواسطة بين الله وبين خلقه: فتعتقد الشيعة الإمامية بأن أئمتهم الاثني عشر هم الواسطة بين الله وبين خلقه، حيث قال إمامهم المجلسي في كتابه (بحار الأنوار) (23/ 97) عن أئمتهم ما نصه: (فإنهم حُجب الرب، والوسائط بينه وبين الخلق) , وكما بوب شيخهم المجلسي في كتابه المذكور آنفاً باباً بعنوان (باب أن الناس لا يهتدون إلا بهم، وأنهم الوسائل بين الخلق وبين الله، وأنه لا يدخل الجنة إلا من عرفهم). المصدر: موسوعة فرق الشيعة لممدوح الحربي ثانياً: استغاثة الرافضة الاثني عشرية بقبور أئمتهم: حيث تستغيث الشيعة الإمامية بأئمتهم في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى، وأن أئمتهم، الشفاء الأكبر والدواء الأعظم، لمن استشفى بهم كما قال المجلسي في كتابه (بحار الأنوار) (94/ 29) المطبوع بدار إحياء التراث العربي في بيروت ما نصه: إذا كان لك حاجة إلى الله عز وجل فاكتب رقعة على بركة الله، واطرحها على قبرٍ من قبور الأئمة إن شئت، أو فشدها واختمها، واعجن طيناً نظيفاً واجعلها فيه، واطرحها في نهرٍ جارٍ، أو بئرٍ عميقة، أو غديرَ ماء، فإنها تصل إلى السيد عليه السلام، وهو يتولى قضاء حاجتك بنفسه. المصدر: موسوعة فرق الشيعة لممدوح الحربي ثالثاً: اعتقاد الرافضة الاثني عشرية بأن أئمتهم لهم حق التحليل والتحريم في شرع الله تعالى: وكذلك يعتقد الشيعة الإمامية بأن أئمتهم لهم حق التحريم والتحليل والتشريع حيث ذكر إمامهم الكليني في أصول (الكافي) (1/ 441) والمجلسي في (بحار الأنوار) (25/ 340) ما نصه: (خلق أي الله محمداً وعلياً وفاطمة، فمكثوا ألف دهرٍ، ثم خلق جميع الأشياء، فأشهدهم خلقها، وأجرى طاعتهم عليها، وفوض أمورهم إليها، فهم يحلون ما يشاءون ويحرمون ما يشاءون) انتهى كلامهم. المصدر: موسوعة فرق الشيعة لممدوح الحربي رابعاً: عبادة الرافضة الاثني عشرية لقبور أئمتهم والذبح والنذر عندها: كذلك إخواني في الله فإن الشيعة الإمامية، يعبدون قبور أئمتهم، فيذبحون عندها، وينذرون لها، ويحلفون بها، ويطلبون منها حاجاتَهم وحوائجَهم، فيستغيثون بها، ويستعينون فيها، كما يسجدون ويركعون عندها وينذرون الأموال لهذه الأضرحة والمشاهد، حتى بلغ الأمر أن لكل قبر وضريح في إيران، رقماً خاصاً به في البنوك، تجتمع فيه النذور والتبرعات. المصدر: موسوعة فرق الشيعة لممدوح الحربي خامساً: اعتقاد الرافضة الاثني عشرية أن قبر الحسين شفاء من كل داء: وتعتقد الشيعة أيضاً أن قبر الحسين بن علي شفاء من كل داء فقد ذكر شيخهم المجلسي قرابةً من ثلاثٍ وثمانين رواية في كتابه (بحار الأنوار) عن تربة الحسين وفضائلها وأحكامها وآدابها، ومنها قوله: قال أبو عبد الله: حنكوا أولادكم بتربة الحسين فإنه أمان. وقال أيضاً: "ثم يقوم ويتعلق بالضريح ويقول: يا مولاي يابن رسول الله إني آخذ من تربتك بإذنك, اللهم فاجعلها شفاء من كل داء، وعزاً من كل ذل، وأمناً من كل خوف، وغنى من كل فقر". انتهى ما جاء في كتاب (بحار الأنوار) للمجلسي. كما أفتى الخميني لأتباعه ومريديه بأن يأكلوا من تربة الحسين للاستشفاء بها حيث إنه يرى لها فضيلة لا تلحق بها أي تربة حتى تربة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال في كتابه تحرير الوسيلة (2/ 164) ما نصه: "يُستثنى من الطين، طين قبر سيدنا أبي عبد الله الحسين عليه السلام للاستشفاء ولا يجوز أكله بغيره، ولا أكل ما زاد عن قدر الحمصة المتوسطة، ولا يلحق به طين غير قبره، حتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة عليهم السلام". انتهى كلام الخميني. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 بل قد غلت الشيعة الإمامية في الحسين بن علي رضي الله عنهما، حتى أنك ترى ثلاجات الماء التي يضعونها للشرب في شوارع وطرقات دولتهم إيران، قد كُتب عليها (بنو شيد بنام حسين) أي (اشرب باسم الحسين) عياذاً بالله تعالى من هذا الشرك. المصدر: موسوعة فرق الشيعة لممدوح الحربي سادساً: اعتقاد الرافضة الاثني عشرية بأن زيارة قبور أئمتهم أعظم من الحج: كذلك تعتقد الشيعة بأن زيارة مشاهد وقبور أئمتهم أعظم من الحج إلى بيت الله العتيق، قال شيخهم وإمامهم الكليني في فروع (الكافي) (ص59) مانصه: "إن زيارة قبر الحسين تعدل عشرين حجة، وأفضل من عشرين عمرة وحجة". وسأبين لكم إخواني في الله، مدى ما وصل إليه الشيعة الاثنا عشرية من غلوٍ فاحش، في أئمتهم، وزيارة قبور أئمتهم، وذلك عندما أقرأ عليكم بعض أبواب وفهارس، الكتب المعتمدة عند الشيعة الاثني عشرية، والتي تبين غلوهم في أئمتهم، ومن هذه الكتب ما يأتي: فهارس كتاب (الكافي) لمحمد بن يعقوب الكليني دار التعارف – بيروت. من فهارس هذا الكتاب ما يأتي: باب: أن الأئمة عليهم السلام ولاة أمر الله وخزنة علمه. باب: أن الأئمة عليهم السلام نور الله عز وجل. باب: أن الأئمة عليهم السلام إذا شاءوا أن يعلموا علموا. باب: أن الأئمة عليهم السلام يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم. باب: أن الأئمة عليهم السلام يعلمون علم ما كان وما يكون, وأنه لا يخفى عليهم شيء. باب: عرض الأعمال على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام. باب: أن الأئمة معدن العلم وشجرة النبوة ومختلف الملائكة. باب: أن الأئمة ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء الذين من قبلهم. باب: أن الأئمة عليهم السلام عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله عز وجل وأنهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها. باب: أنه لم يجمع القرآن كله, إلا الأئمة عليهم السلام. باب: أن الأئمة عليهم السلام يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل عليهم السلام. فهارس كتاب (بحار الأنوار) لمحمد باقر المجلسي طبعة دار إحياء التراث العربي - بيروت. من فهارس هذا الكتاب ما يأتي: باب: أن الله تعالى يرفع للإمام عموداً ينظر إلى أعمال العباد. باب: أنه لا يُحجب عنهم شيء من أحوال شيعتهم وما تحتاج إليه الأئمة من جميع العلوم، وأنهم يعلمون ما يصيبهم من البلايا ويصبرون عليها، وأنهم يعلمون ما في الضمائر وعلم المنايا والبلايا وفصل الخطاب والمواليد. باب: أن عندهم جميع علوم الملائكة والأنبياء وأنهم أعطوا ما أعطاه الله الأنبياء، وأن كل إمام يعلم جميع علم الإمام الذي قبله. باب: أنهم أعلم من الأنبياء عليهم السلام. باب: أنهم يعلمون متى يموتون وأنه لا يقع ذلك إلا باختيارهم. باب: أحوالهم بعد الموت وأن لحومهم حرام على الأرض، وأنهم يُرفعون إلى السماء. باب: أنهم يظهرون بعد موتهم ويظهر منهم الغرائب. باب: أن أسماءهم عليهم السلام مكتوبة على العرش والكرسي واللوح وجباه الملائكة وباب الجنة وغيرها. باب: أن الجن خدامهم يظهرون لهم ويسألونهم عن معالم دينهم. باب: أنهم يقدرون على إحياء الموتى وإبراء الأكْمه والأبرص وجميع معجزات الأنبياء عليهم السلام. باب: أن الملائكة تأتيهم وتطأ فُرُشَهم، وأنهم يرونهم صلوات الله عليهم أجمعين. باب: أنهم عليهم السلام لا يُحجب عنهم علم السماء والأرض، والجنة والنار، وأنه عرض عليهم ملكوت السموات والأرض، ويعلمون علم ما كان، وما يكون إلى يوم القيامة. كتاب (بصائر الدرجات) لأبي جعفر محمد بن الحسن الصفار طبعة الأعلمي – إيران. من فهارس هذا الكتاب ما يأتي: باب: الأعمال تعرض على رسول الله والأئمة عليهم السلام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 124 باب: عرض الأعمال على الأئمة الأحياء والأموات. باب: في أن الإمام يرى ما بين المشرق والمغرب. باب: في الأئمة أنهم يحيون الموتى ويبرءون الأكمه والأبرص بإذن الله. باب: في أمير المؤمنين أن الله ناجاه بالطائف وغيرها، ونزل بينهما جبريل. باب: في علم الأئمة بما في السموات والأرض، والجنة والنار، وما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة. كتاب (كامل الزيارات) لإمامهم جعفر بن محمد بن قولويه وهذه بعض الأبواب من الفهرس طبعة دار السرور - في بيروت عام (1997) م. باب: من زار الحسين كان كمن زار الله في عرشه. باب: إن زيارة الحسين والأئمة عليهم السلام تعدل زيارة قبر رسول الله وآله. باب: إن زيارة الحسين تحط الذنوب. باب: إن زيارة الحسين تعدل عمرة. باب: إن زيارة الحسين تعدل حجة. باب: إن زيارة الحسين تعدل حجة وعمرة. باب: إن زيارة الحسين يُنفس بها الكرب، ويقضى بها. باب: ما يستحب من طين قبر الحسين وأنه شفاء. باب: إن طين قبر الحسين شفاء وأمان. باب: ما يقول الرجل إذا أكل طين قبر الحسين. باب: إن زائري الحسين يدخلون الجنة قبل الناس. كتاب (نور العين في المشي إلى زيارة قبر الحسين) لمحمد بن حسن طبعة دار الميزان - بيروت أبواب الفهارس: باب: إن زائر الحسين عليه السلام يعطى له يوم القيامة نور يضيئ لنوره ما بين المشرق والمغرب. باب: إن زيارته عليه السلام توجب العتق من النار. باب: إن زيارته غفران ذنوب خمسين سنة. باب: إن زيارة الحسين عليه السلام تعدل الاعتاق والجهاد والصدقة والصيام. باب: إن زيارة الحسين عليه السلام تعدل اثنتين وعشرين عمرة. باب: إن زيارة الحسين عليه السلام تعدل حجة لمن لم يتهيأ له الحج، وتعدل عمرة لمن لم تتهيأ له عمرة. باب: إن الله تبارك وتعالى يتجلى لزوار قبر الحسين عليه السلام ويخاطبهم بنفسه. باب: إن الله جل وعلا يزور الحسين عليه السلام في كل ليلة جمعة. باب: إن الأنبياء يسألون الله في زيارة الحسين عليه السلام. باب: إن النبي الأعظم يعني: محمد صلى الله عليه وسلم والعترة الطاهرة يزورون الحسين عليه السلام. باب: إن إبراهيم الخليل عليه السلام يزور الحسين عليه السلام. باب: إن موسى بن عمران سأل الله جل وعلا أن يأذن له في زيارة قبر الحسين عليه السلام. باب: الملائكة يسألون الله عز وجل أن يأذن لهم في زيارة قبر الحسين عليه السلام. باب: ما من ليلة تمضي إلا وجبرائيل وميكائيل يزورانه صلوات الله عليه. باب: إن زيارة الحسين عليه السلام تعدل ثلاثين حجة مبرورة متقبلة زاكية مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. باب: من زار قبر الحسين عليه السلام كان كمن زار الله فوق كرسيه. باب: من زار الحسين عليه السلام كتبه الله في أعلى عليين. ملف صوتي لشيخهم حسين الفهيد وهو يذكر خطبة منسوبة إلى علي بن أبي طالب عن نفسه كلها كفر وشرك والعياذ بالله - نبرئ الإمام علي من التفوه بها - يقول شيخهم: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 125 "في خطبة له صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيها: أنا عندي مفاتيح الغيب , لا يعلمها بعد رسول الله إلا أنا , أنا ذو القرنين المذكور في الصحف الأولى , أنا صاحب خاتم سليمان , أنا ولي الحساب , أنا صاحب الصراط والموقف , أنا قاسم الجنة والنار بأمر ربي , أنا آدم الأول , أنا نوح الأول , أنا آية الجبار أنا حقيقة الأسرار , أنا مورق الأشجار , أنا مونع الثمار , أنا مفجر العيون , أنا مجري الأنهار , أنا خازن العلم .... أنا حجة الله في السموات والأرض , أنا الراجفة , أنا الصاعقة , أنا الصيحة بالحق , أنا الساعة لمن كذب بها , أنا ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه , أنا الأسماء الحسنى التي أمر أن يدعى بها , أنا ذلك النور الذي اقتبس منه الهدى , أنا صاحب الصور , أنا مخرج من في القبور , أنا صاحب يوم النشور , أنا صاحب نوح ومنجيه , أنا صاحب أيوب المبتلى وشافيه , أنا أقمت السموات بأمر ربي , أنا صاحب إبراهيم , أنا سر الكليم , أنا الناظر في الملكوت , أنا أمر الحي الذي لا يموت , أنا ولي الحق على سائر الخلق , أنا الذي لا يبدل القول لدي , وحساب الخلق إليّ , أنا المفوض إليّ أمر الخلائق , أنا خليفة الإله الخالق .... أنا أرسيت الجبال الشامخات , وفجرت العيون الجاريات , أنا غارس الأشجار ومخرج الألوان والثمار , أنا مقدر الأقوال , أنا ناشر الأموات , أنا منزل القبر , أنا منور الشمس والقمر والنجوم , أنا قيّم القيامة , أنا أقيم الساعة , أنا الواجب له من الله الطاعة , أنا سر الله المخزون , أنا العالم بما كان وما يكون , أنا صلوات المؤمنين وصيامهم , أنا صاحب بدر وحنين , أنا الطور أنا الكتاب المسطور , أنا البحر المسجور , أنا البيت المعمور , أنا الذي دعى الله الخلائق إلى طاعته فكفرت وأصرت ومسخت , وأجابت أمة فنجت .. أنا الذي بيدي مفاتيح الجنان ومقاليد النيران كرامة من الله , أنا مع رسول الله في الأرض وفي السماء ..... إلى آخر هذه الخطبة الشركية المكذوبة عليه رضي الله عنه " المصدر: موسوعة فرق الشيعة لممدوح الحربي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 126 المطلب الثالث: عقيدة الرافضة الاثني عشرية في توحيد الأسماء والصفات: أولاً: الرافضة الاثنا عشرية ينفون صفات الله تعالى: فإن الشيعة الاثنا عشرية هم نفاة في صفات الله تعالى، ولذا فقد نفوا عن الله تعالى صفاته فقالوا: ليس لله سمع ولا بصر، وليس له وجه ولا يد، ولا هو داخل العالم ولا خارجه، ووافقوا بذلك شيوخهم من المعتزلة، بل الصقوا أسماء الله تعالى وصفاته، بأئمتهم كما روى إمامهم الكليني في الأصول من (الكافي) (1/ 143) قوله: قال جعفر بن محمد عليه السلام في قوله تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]: نحن والله الأسماء الحسنى يعني الأئمة، التي لا يقبل الله من عباده عملاً إلا بمعرفتنا. المصدر: موسوعة فرق الشيعة لممدوح الحربي ثانياً: اعتقاد الرافضة الاثني عشرية بأن القرآن مخلوق: وكذلك فإن الشيعة الاثني عشرية وافقوا الجهمية بأن القرآن مخلوق، فقد عقد شيخهم المجلسي في كتابه (بحار الأنوار)، في كتاب القرآن باباً بعنوان: (باب أن القرآن مخلوق) ذكر فيه إحدى عشر رواية على هذا المعتقد الفاسد، وهو كفر صريح قد أجمع عليه أهل القبلة والملة والدين. المصدر: موسوعة فرق الشيعة لممدوح الحربي ثالثاً: إنكار الرافضة الاثني عشرية رؤية الله يوم القيامة: وكذلك نفت الشيعة رؤية الله يوم القيامة، وقد ذكر ذلك شيخهم ابن بابويه في كتابه (التوحيد)، وجمعها المجلسي في كتابه (بحار الأنوار)، على أن الله تعالى لا يُرى يوم القيامة، فوافقوا بذلك الجهمية والمعتزلة والخوارج. المصدر: موسوعة فرق الشيعة لممدوح الحربي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 127 المطلب الأول: عقيدة الرافضة الاثني عشرية في القرآن: عقيدة الشيعة في القرآن، لا بد لمن يتناولها بالعرض أو النقد من أن يرجع إلى أمهات كتب القوم ومراجعهم الأصلية في الحديث والتفسير حتى يكون منصفاً في الحكم، وعادلاً في الاستنتاج، لأنه عليها مدار عقائدهم ومعول خلافاتهم مع الآخرين. وفي ضوء البحث العلمي والنقد الموضوعي يلزم الباحث المنصف أن ينقل ما يكون ثابتاً عن أئمتهم، في كتب الحديث أو التفسير، وخاصة الكتب القديمة التي روت هذه الروايات بالسند، أو وافق على صحتها أئمة القوم المعصومين على ما يقول به المذهب. ونحن نلزم أنفسنا في هذه القضية أن لا نورد شيئاً إلا ويكون صادراً من واحد من الأئمة الاثني عشر، ومن كتب الشيعة في عصر الأئمة قاطبة عن بكرة أبيهم، ولا أستثني منهم واحداً؛ كانوا يعتقدون أن القرآن محرف ومغير فيه، زيد فيه ونقص منه كثير. وإذا ما بدأنا من كتاب (الكافي) للكليني، الذي قيل فيه من قبل علماء المذهب: هو أجل الكتب الأربعة الأصول المعتمد عليها، لم يكتب مثله في المنقول عن آل الرسول، لثقة الإسلام محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي المتوفى سنة (328) هـ (1). (هو عندهم أجل الكتب الإسلامية، وأعظم المصنفات الإمامية، والذي لم يعمل للإمامية مثله، قال المولى أمين الاسترآبادي في محكى فوائده: سمعنا عن مشايخنا وعلمائنا أنه لم يصنف في الإسلام كتاب يوازيه أو يدانيه) (2).وأيضاً (الكافي) .. أشرفها وأوثقها، وأتمها وأجمعها لاشتماله في الأصول من بينها، وخلوه من الفضول وشينها) (3).وذكر الخوانساري أن المحدث النيسابوري قال في مؤلف (الكافي): (ثقة الإسلام، قدوة الأعلام، والبدر التمام، جامع السنن والآثار في حضور سفراء الإمام عليه أفضل السلام، الشيخ أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني الرازي، محيي طريقة أهل البيت على رأس المائة الثالثة، المؤلف لجامع (الكافي) في مدة عشرين سنة، المتوفى قبل الغيبة الكبرى، رضي الله عنه في الآخرة والأولى، وكتابه مستغن عن الإطراء، لأنه كان بمحضر من نوابه عليه السلام، وقد سأله بعض الشيعة من النائية تأليف كتاب (الكافي) لكونه بحضرة من يفاوضه ويذاكره ممن يثق بعلمه، فألف وصنف وشنف، وحكى أنه عرض عليه فقال: كاف لشيعتنا) (4).   (1) ((الذريعة إلى تصانيف الشيعة))، لآغا بزرك الطهراني (17/ 245)، نقلاً عن ((الشيعة والقرآن))، إحسان إلهي ظهير. (2) ((الكنى والألقاب))، للعباس القمي (3/ 98)، ومثله في ((مستدرك الوسائل)) (3/ 532). (3) ((الوافي)) (1/ 6). (4) ((روضات الجنات)) (6/ 116). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 128 فما الذي يقوله الكليني في (الكافي)؟ يروى عن علي بن الحكم عن هشام بن صالح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إن القرآن الذي جاء به جبرائيل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم سبعة عشر ألف آية" (1). والمعروف والثابت بالنقل والتواتر والحفظ أن القرآن ستة آلاف ومائتان وثلاث وستون آية، ومعنى كلام الكليني في (الكافي) أن ثلثي القرآن راح على أدراج الرياح، والموجود هو الثلث، ولقد صرح بذلك جعفر بن الباقر كما ذكر الكليني في كافيه أيضاً تحت باب (ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة عليها السلام):عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن عبد الله الحجال عن أحمد بن عمر الحلبي، عن أبي بصير قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقلت له: جعلت فداك! إني أسألك عن مسألة، ههنا أحد يسمع كلامي؟ قال: يا أبا محمد! سل عما بدا لك. قال: جعلت فداك! إن شيعتك يتحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم علياً عليه السلام باباً يفتح له منه ألف باب؟ قال: فقال: يا أبا محمد! علم رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً عليه السلام ألف باب يفتح من كل باب ألف باب, قال: قلت: هذا والله العلم قال: فنكت ساعة على الأرض ثم قال: إنه لعلم وما هو بذاك (2). قال: ثم قال: يا أبا محمد! وإن عندنا الجامعة، وما يدريهم ما الجامعة؟ قال: قلت: جعلت فداك، وما الجامعة؟ قال: صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإملائه من فلق فيه وخط علي بيمينه، فيها كل حلال وحرام، وكل شيء يحتاج الناس إليه حتى الأرش في الخدش. وضرب بيده إلي فقال: تأذن لي يا أبا محمد؟ قال: قلت: جعلت فداك! إنما أنا لك فاصنع ما شئت، قال: فغمزني بيده وقال: حتى أرش هذا - كأنه مغضب - قال: قلت: هذا والله العلم قال: إنه لعلم وليس بذاك! ثم سكت ساعة، ثم قال: وإن عندنا الجفر، وما يدريهم ما الجفر؟ قال: وعاء من أدم فيه علم النبيين والوصيين، وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل، قال: قلت: إن هذا هو العلم، قال إنه لعلم وليس بذاك! ثم سكت ساعة ثم قال: وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام، وما يدريهم ما مصحف فاطمة عليها السلام؟ قال: قلت: وما مصحف فاطمة عليها السلام؟ قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد، قال: قلت: هذا والله العلم؛ قال إنه لعلم، وما هو بذاك! ثم سكت ساعة ثم قال: إن عندنا علم ما كان وعلم ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، قال: قلت: جعلت فداك! هذا والله هو العلم، قال: إنه لعلم وليس بذاك! قال: قلت: جعلت فداك! فأي شيء العلم؟ قال: ما يحدث بالليل والنهار، الأمر من بعد الأمر، والشيء بعد الشيء، إلى يوم القيامة) (3). فأي قسم هو الذي حذف؟ يبينه الكليني أيضاً من إمامه المعصوم محمد الباقر - الإمام الخامس عند القوم - حيث يروي: (عن أبي علي العشري عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان عن إسحاق بن عمار عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: نزل القرآن أربعة أرباع، ربع فينا وربع في عدونا وربع سنن وربع فرائض وأحكام) (4).ومثله روى عن علي رضي الله عنه حيث أورد الرواية: (عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعاً عن ابن محبوب، عن أبي حمزة، عن أبي يحيى، عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: "نزل القرآن أثلاثاً: ثلث فينا وفي عدونا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام" (5). المصدر: الأصول العقدية الإمامية لصابر طعيمة   (1) ((روضات الجنات)) للخوانساري (6/ 112). (2) ((الكافي" للكليني)) (2/ 634)، كتاب فضل القرآن. (3) ((الأصول من الكافي)) (1/ 239، 240). (4) ((الكافي في الأصول))، كتاب فضل القرآن (2/ 628). (5) ((الكافي في الأصول)) (2/ 627). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 المطلب الثاني: ثبوت التهمة قطعاً: لن أسعى إلى استقصاء الأدلة القطعية على ثبوت هذه العقيدة في حق الإمامية الاثني عشرية. ولن أفعل ذلك سوى أن أشير إلى ذلك إشارة من خلال الحديث باختصار عن أحد الكتب المعتمدة لأحد كبار علمائهم يعتبر أحد أعمدة (المذهب)، وصاحب كتاب من (الكتب الثمانية) التي إليها المرجع في معرفة الفقه الإمامي. فليس الأمر في حاجة إلى كبير جهد لأن يكتشف! ولا أنا أول من (سُجلت) له (براءة) اكتشاف لأفوز بوسام هذا السبق فأحتاج -من أجل بيان هذا (الاكتشاف) العجيب! - إلى بسط الأدلة. وليس الموضوع برمته من الخفاء بحيث يحتاج إلى رحلة استكشافية! بل هو مصرح به في أمهات كتبهم وعلى ألسنة كبار مراجعهم وعلمائهم بلا غموض ولا مواربة! يكفي أن ترجع إلى ما سطره علي بن إبراهيم القمي - شيخ الكليني - في (تفسيره)، والكليني في (كافيه)، والنوري الطبرسي في كتابه (فصل الخطاب .. )، وأبو الحسن العاملي في مقدمته (مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار) على تفسير (البرهان) لهاشم البحراني، والطبرسي في (احتجاجه)، ونعمة الله الجزائري في (أنواره) .. وقائمة طويلة لا تنتهي من هذه المصادر والمراجع. والأمر - بعد ذلك - ثابت لديهم ثبوت (الإمامة) .. هكذا يصرح محققوهم، يقولون: إن روايات التحريف متواترة كتواتر روايات (الإمامة) وطرقها واحدة .. يقول محمد باقر المجلسي عن أخبار أو روايات التحريف: وعندي أن الأخبار في هذا الباب متواترة وطرحها يوجب رفع الاعتماد عن الأخبار رأساً. بل اعتقادي أن الأخبار في هذا الباب لا تقصر عن أخبار الإمامة (1). وكذا قال النوري الطبرسي. فإنكار التحريف يستلزم إنكار (الإمامة) ضرورة ولابد. هذا نص قولهم! فما يفعله بعضهم من الإنكار عندما يخرج على رؤوس الملأ، أو في الكتب الدعائية المؤلفة خصيصاً لترويج المذهب مثل كتاب (المراجعات)؛ مكابرة يستجيزونها تقيةً خوف الفضيحة، لعظم الجريمة! المصدر: تحريف القرآن عند الشيعة تهمة باطلة أم حقيقة ثابتة لطه حامد الدليمي   (1) ((مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول)) (2/ 525). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 130 المطلب الثالث: أقسام المنكرين للتحريف من الإمامية: والمنكرون لوجود هذه العقيدة لديهم من الإمامية: إما أنهم لم يطلعوا على حقيقة مذهبهم فنحيلهم إلى مصادرهم ليطلعوا عليها بأنفسهم، أو إلى بعض من كتب تفصيلاً في هذا الشأن. ولا بأس أن أقيد بعض الدلائل التي تكفي طالب الحق. وإما أنهم يعلمون علم اليقين لكنهم يكابرون! وهؤلاء لا نحيلهم إلى شيء لأنهم ليسوا بحاجة إلى شيء! ولا ينفع معهم الإكثار من إيراد الأدلة لأنهم يعلمون ولكن .. (يتقون) فهم لا يهتدون! المصدر: تحريف القرآن عند الشيعة تهمة باطلة أم حقيقة ثابتة لطه حامد الدليمي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 131 المطلب الرابع: علماء الإمامية متواطئون على القول بالتحريف: القائلون بالتحريف من الإمامية صنفان: الأول: علماء مقصودهم هدم الدين: يعلمون أن الدين كله قائم على أساس حفظ القرآن من الزيادة والنقصان: فبثبوته تثبت أصول الدين جميعاً، وبانهياره تنهار هذه الأصول جميعاً. هل أدركت الآن السر الذي من أجله ابتدأت حجة الله تعالى على خلقه بتحرير هذه القضية الكبرى قبل أي شيء آخر: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [البقرة:2] , ثم ثنّت بإثباتها: وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23]. ولأن أولئك العلماء يشعرون أن أكبر غصة في حلوقهم هي حين يطالبون بالنص الصريح من القرآن على ما أضافوه من أصول إلى الدين ولكي يستريحوا من هذه الغصة، قالوا بنقصه وتحريفه. ولذلك هم يؤكدون على نقصانه دون الزيادة فيه! الثاني: عوام استزلهم أولئك العلماء بعد أن رسّخوا لديهم الاعتقاد بخيانة الأصحاب نقلة الكتاب. فلما استجازوا الطعن في الناقل استسهلوا انتقال الطعن إلى المنقول. وهو المقصود. المصدر: تحريف القرآن عند الشيعة تهمة باطلة أم حقيقة ثابتة لطه حامد الدليمي لست أدري كيف يستطيع المرء أن يقول بتحريف القرآن وهو أمام نص صريح يدحض كل الأقوال حول التحريف، ولست أدري أيضاً كيف يستطيع أحد أن يكون مؤمناً بالقرآن وهو يدلي رأياً يناقض ما جاء فيه والآية الكريمة: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] تغنينا عن الاستدلال بعدم تحريف القرآن المنزل على محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فالوعد الإلهي صريح بأنه تعالى يحفظ الذكر الحكيم من أي تلاعب أو تحريف أو إضافة, والقائلون بالتحريف يشكلون عدداً من علماء الفرق الإسلامية كلها إلا أن علماء الشيعة ومحدثيهم يشكلون الأكثرية المطلقة بين هؤلاء، وقد ذهب رهط من علماء الشيعة إلى عدم التحريف واستشهدوا بالآية الكريمة التي أوردناها, ولكن ذهب آخرون إلى التحريف بإصرار وعناد منهم "النوري " الذي ألَّف كتاباً أسماه (فصل الخطاب في تحريف الكتاب) وذكر في الكتاب المذكور عبارات زعم أنها آيات قرآنية محرَّفة، والمتتبع المنصف لا يشك أبداً أن السبب الذي حدا بالمحدثين أن يذهبوا إلى تحريف الكتاب هو الاستدلال بآيات منصوصة في إمامة " علي " كانت مذكورة في السور والآيات المحرَّفة على حد زعمهم، وبذلك كان بعض أعلام الشيعة يدافع عن عدم وجود نص إلهي في القرآن حول الإمامة بتلك الآيات المزعومة التحريف، وتحريف القرآن يصطدم بعقبة كبيرة لدى أعلام الشيعة وهو إقرار الإمام " علي " في أيام خلافته بهذا القرآن الموجود بين أيدي المسلمين فلو كانت هناك سور أو آيات محرَّفة لتحدث عنها الإمام " علي " وأثبتها في القرآن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 132 إن فكرة تحريف القرآن ليست من الأفكار التي تظهر على الساحة الشيعية كفكرة عامة ذات أبعاد خطيرة لأن الأكثرية الساحقة من الشيعة لم تتقرب إلى هذا البحث ولا تؤمن به بسبب موقف كثير من فقهائنا من عدم التحريف ولكن الفكرة تأخذ طابعاً حزيناً عندما ينشر الناشرون كتباً ألَّفها بعض علمائنا في التحريف وتوزع تلك الكتب على الناس أو تستل منها مقتطفات لتذكر في كتب أخرى ويطلع عليها المسلمون جميعاً، ومن هنا نوجه نداء التصحيح إلى كل الناشرين في البلاد الشيعية كي يقلعوا عن نشر كتب كهذه, لأنها تخالف كتاب الله ونصوصه وتضر بسمعة الإسلام وكتابه الكريم الذي هو الدستور الخالد للمسلمين فإذا ما أصابه وهن أصابهم وإذا أصابته قوة أصابتهم. وكما قلنا فإن الرأي السائد لدى الأكثرية من فقهاء الشيعة هو عدم التحريف، ولكن هذا الرأي يعقبه رأي آخر هو من الغرابة بمكان ولا توجد له أدلة إلا في الروايات التي يرويها رواة الشيعة، ونحن في حركتنا التصحيحية لا نستطيع أن نغفل آراءً شاذة كتلك, وعلينا أن نشير إليها لكي يكون التصحيح جامعاً ومانعاً نذكر رأياً لكبير علماء الشيعة وهو الإمام " الخوئي " الذي يقول في تفسيره " البيان " (ص259) وذلك بعد أن استعرض آراء فقهاء المسلمين ومحدثيهم بما فيهم الشيعة حول التحريف في القرآن أو عدم وقوعه ما هو نصه: (ومما ذكرناه قد تبين للقارئ أن حديث تحريف القرآن حديث خرافة لا يقول به إلا من ضعف عقله أو من لم يتأمل في أطرافه حق التأمل أو من لجأ إليه، يحب القول به والحب يعمي ويصم وأما العاقل المنصف المتدبر فلا يشك في بطلانه وخرافته). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 133 وأما الرأي الثاني الذي أشرنا إليه فهو في (ص222) من الكتاب المذكور وجاء فيه: (إن وجود مصحف لأمير المؤمنين عليه السلام يغاير القرآن الموجود في ترتيب السور مما لا ينبغي الشك فيه وتسالم العلماء والأعلام على وجوده أغنانا عن التكلف لإثباته كما أن اشتمال قرآنه عليه السلام على زيادات ليست في القرآن الموجود وإن كان صحيحاً إلا أنه لا دلالة في ذلك على أن هذه الزيادات كانت من القرآن وقد أسقطت منه بالتحريف بل الصحيح أن تلك الزيادات كانت تفسيراً بعنوان (التأويل وما يؤول إليه الكلام أو بعنوان التنزيل من الله شرحاً للمراد) وبهذه العبارات يريد فقيهنا إثبات مصحف للإمام " علي " يختلف عن القرآن, ولكنه في الوقت نفسه يضيف جملة محيرة وهي: (أو بعنوان التنزيل من الله شرحاً للمراد) ولست أدري ما هذا الإصرار على تسمية شرح للقرآن وتفسير له بالمصحف ثم ما هو هذا الإجماع الذي يدّعيه بقوله: تسالم العلماء والأعلام على وجوده أغنانا عن التكلف لإثباته, ومتى أجمعت العلماء على ذلك اللهم إلا نفر قليل استندوا على كلام ينسب إلى الإمام علي ذكره الطبرسي في الاحتجاج، والمحقق المتتبع لكلمات الإمام وسيرته يشك كل الشك في صدور كلام مثل ذلك عن الإمام لما فيه من غرابة المحتوى، ثم ماذا تعني تلك الجملة المحيرة, هل أن القرآن له شرح إلهي صادر من الله ولكنه ليس جزءاً من القرآن فيكون القرآن المنزل من الله مؤلفاً من متن وشرح متنه في يد الجميع وشرحه عند الإمام علي فقط، وإذا لم تخونني الذاكرة فقد ناقشت موضوع هذا المصحف مع العلامة الكبير الخوئي ولم يأت بشيء أكثر من الاستشهاد على رواية الطبرسي وانتهى الحوار إلى جدل عنيف وحاد أرجو من الله أن يغفر لي إذا ما تجاوزت على حرمة أستاذ درست عليه الفقه وأصول الفقه بعض الوقت وذلك في أيام دراستي عندما كنت في النجف، إن فقهاءنا وعلماءنا يستدلون على وجود مصحف للإمام " علي " برواية يذكرها الطبرسي في كتاب (الاحتجاج) وهي أن الإمام قال:" يا طلحة إن كل آية أنزلها الله تعالى على محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عندي بإملاء رسول الله وخط يدي وتأويل كل آية أنزلها الله تعالى على محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وكل حلال أو حرام أو حكم تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة فهو عندي مكتوب بإملاء رسول الله وخط يدي حتى أرش الخدش (1) ... ) وكما قلنا في هذه الرواية ضعف واضح وغرابة مذهلة ومنها تتفرع أسئلة عديدة لا عد لها ولا حصر وقبل كل شيء لماذا خص الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الإمام علياً بتعليم أحكام تحتاج إليها أمته إلى يوم القيامة ولكن لم يخبر بها أمته بل أخفاها عليهم والقرآن الكريم يقول: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [سبأ:28] ويقول في موضع آخر: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]. ولماذا لم يتحدث الإمام علي عن تلك الأحكام في خلافة الخلفاء الذين سبقوه أو في زمن خلافته؟ ولماذا أخفى أحكاماً تحتاج إليها الأمة إلى يوم القيامة وفيها حلاله وحرامه وحتى أرش الخدش؟ حقاً إنه اضطراب مخل بالتعقل نقرؤه في عقول الذين وضعوا روايات كهذه ونسبوها إلى الإمام علي وأدهى منه أن فقهاءنا - سامحهم الله - استندوا عليها وحكموا عليها حكم المسلّمات. المصدر: الشيعة والتصحيح لموسى الموسوي - ص91   (1) [10650] ((تفسير البيان)) للإمام الخوئي (222) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 134 هناك إجماع من المسلمين والمشتغلين بالعلوم الإسلامية من غير المسلمين على أن الكتاب السماوي الوحيد الذي سلم من التحريف والتبديل والزيادة والحذف هو القرآن الكريم، ونحن المسلمين نلتزم بهذا الاعتقاد، ونقتنع به اقتناع عقل وعقيدة، فالله سبحانه قد أخذ على نفسه عهداً بالمحافظة عليه في قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]. غير أن المتابع لفكر جمهرة علماء الشيعة يرى غير ذلك، ويقرأ شيئاً عجباً في كتبهم، والذين لم يقولوا بتحريفه من هؤلاء قالوا بإمكان حدوث ذلك. إن آية الله الخميني في سياق الحديث عن حكمة عدم النص في القرآن الكريم على أن الإمامة وظيفة إلهية, وفي مسيرة حملته على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في فقرة سبق أن أوردناها: "لو كانت مسألة الإمامة قد تم تثبيتها في القرآن، فإن أولئك الذين لا يعنون بالإسلام والقرآن إلا لأغراض الدنيا والرئاسة، كانوا سيتخذون من القرآن وسيلة لتنفيذ أغراضهم المشبوهة، ويحذفون تلك الآيات من صفحاته، ويسقطون القرآن من أنظار العالمين إلى الأبد" (1). وفي موضع آخر من كتاب (كشف الأسرار) في أمر يتصل أيضاً بالإمامة، يصوغ آية الله الخميني فكرته في أسلوب يوحي إيحاءً مباشراً بأن القرآن من صنع محمد، وما دام الأمر كذلك ومحمد بشر، فإنه من الممكن أن يتعرض القرآن للتحريف. يقول آية الله الخميني ما نصه: "إن النبي أحجم عن التطرق إلى الإمامة في القرآن، لخشية أن يصاب القرآن من بعده بالتحريف، أو تشتد الخلافات بين المسلمين فيؤثر ذلك على الإسلام" (2). إن آية الله الخميني يقول بترجيح تحريف القرآن بسبب النص على أن الإمامة وظيفة إلهية كالنبوة، ويوحي في موقع آخر بأن القرآن من صنع النبي، وهما بادرتان لهما خطرهما؛ لأنهما صادرتان من أكبر مرجع ديني شيعي في هذين العقدين من الزمان، ويبقى أن نتساءل بعد ذلك: هل لما قاله آية الله الخميني جذور في أصول المذهب؟ إن الدراسة والمتابعة تشيران إلى الإجابة بالإيجاب، ذلك أن الكليني يذكر في كتابه (الكافي)، وقد سلف أن ذكرنا أن هذا الكتاب عند الشيعة بمنزلة البخاري عند أهل السنة؛ أن جابراً الجعفي قال: "سمعت أبا جعفر عليه السلام - يعني الإمام الباقر - يقول: ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب، وما جمعه وحفظه كما أنزل إلا علي بن أبي طالب، والصحابة من بعده" (3). ومن الأخبار المعتمدة عن جابر الجعفي هذا أنه كان كذاباً، وحين تحدث الإمام أبو حنيفة النعمان - وهو الإمام الأعظم، وأحد تلاميذ الإمام جعفر، وصاحب الحوار المشهور في شأن القياس مع الإمام محمد الباقر - حين تحدث عن الصدق والكذب عند الرواة قال: ما رأيت فيمن رأيت أفضل من عطاء، ولا أكذب من جابر الجعفي.   (1) ((كشف الأسرار)) (ص130). (2) ((كشف الأسرار)) (ص:149). (3) ((الكافي)) (ص228)، طبعة سنة (1381هـ). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 135 إن منطق الأخبار يكذب جابراً، وبالتالي يكذب رواية الكليني عنه فيما عزاه إلى سيدنا محمد الباقر، بدليل أن علياً كرم الله وجهه لم يكن يعمل في مدة خلافته وهو بالكوفة إلا بمصحف سيدنا عثمان الذي هو بين أيدينا الآن، ولو كان عند سيدنا علي غيره - وهو خليفة حاكم - لعمل به، ولأمر المسلمين بالعمل به وتعميمه، ولو كان عنده مصحف غيره وكتمه عن المسلمين لكان خائناً لله ولرسوله وللمؤمنين، وحاشا أن يكون سيدنا علي كذلك. هذا هو رد أهل السنة على فرية جابر في حديثه إلى الكليني، وفي كذب كليهما على سيدنا محمد الباقر. هذا ما كان من أمر كذب الكليني على سيدنا محمد الباقر. بقي أن نذكر كذبة أكبر وأخطر اقترفها الكليني في حق سيدنا جعفر، وسيدتنا الطاهرة البتول فاطمة الزهراء بنت سيد الخلق والبشر، يزعم الكليني أن سيدنا جعفراً الصادق قال لأبي بصير: "وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام، قال: وما مصحف فاطمة؟ قال الإمام: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله! ما فيه من قرآنكم حرف واحد" (1). ويلح بعض علماء الشيعة إلحاحًا شديدًا - على ما تصوره - على تحريف القرآن الكريم. إن واحداً من كبار علماء النجف في نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر، هو الحاج ميرزا حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي ألف كتاباً سنة (1292) هـ؛ أسماه (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب (رب الأرباب)، ملأه بالأكاذيب حول زيادات زعم أنها أُضيفت إلى القرآن، وآيات حُذفت منه، ولما واجهه علماء الشيعة بالنقد والاعتراض عاد فألف كتاباً آخر يرد فيه على اعتراضاتهم وأسماه (رد بعض الشبهات عن فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب). وقد ضم الكتاب بعض الزيادات من تلفيق المؤلف، فصنع سورة أسماها "سورة ولاية علي" ونسبها إلى الله سبحانه يقول فيها: يا أيها الذين آمنوا بالنبي والولي اللذين بعثناهما يهديانكم إلى الصراط المستقيم .. إلخ. إننا لا نحب الإطالة في هذا الموضوع إجلالاً لكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولكن الأمر الذي لا شك فيه هو أن فريقاً من الشيعة يعتقد التحريف في القرآن الكريم بالزيادة والنقصان، كقولهم: إن آية (وجعلنا علياً صهرك) قد أسقطت من سورة الشرح، مع أن السورة مكية، ولم يكن علي قد أصهر إلى الرسول بعد. كما أن البعض يزعم أن هنالك قرآنين لا قرآناً واحداً، وهي مزاعم ينكرها كثير من عقلاء الشيعة وعلمائهم، وفي مقدمة هؤلاء جميعاً العلامة الدكتور الموسوي الذي يقول: "إن كل ما قيل وذكر في الكتب الشيعية عن مصحف الإمام علي ليس أكثر من إضفاء هالة من الغلو على شخصية الإمام علي، حسب زعم الذين كانوا وراء وضع هذه الأساطير، وإثبات أن الإمام علياً أحق بخلافة الرسول من غيره، ولكنهم في الحقيقة أساءوا إلى الإمام، فأعلنوا أنه يخفي أحكاماً إلهية فيها حدوده وحلاله وحرامه وكل ما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة".ويمضي الدكتور الموسوي قائلاً: "إن بعض علماء الشيعة تحدث في كتبه عن مصحف فاطمة مضافاً إلى مصحف علي"، ويعقب الدكتور الموسوي بأن موقفه من هذا الرأي هو الموقف نفسه من مصحف علي (2). المصدر: إسلام بلا مذاهب لمصطفى الشكعة - ص 208   (1) ((الكافي)) (ص238). (2) ((الشيعة والتصحيح)) (ص134 - 136). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 136 المطلب الخامس: أدلة الإثبات على قولهم بالتحريف: أما العلماء فمتواطئون على هذه العقيدة. لكن بين مصرح وملمح. ولنا على ذلك دليل الإجمال، ودليل التفصيل: أولاً: دليل الإجمال: فإن المنكرين يتظاهرون بالقول بتكفير من اعتقد بالتحريف، وخروجه من الملة (1). فلو كانوا صادقين فيما يقولون لصرحوا بكفر من يقول بالتحريف من علمائهم، وهم كثر وكلامهم صريح. ومنهم من أفرده بمؤلف خاص. لكننا لا نجد أحداً من المنكرين من الأولين والآخرين كفّر واحداً من أولئك القائلين بالتحريف على مدار تاريخهم! بل - وفوق ذلك - يدافعون عنهم دفاعاً مستميتاً، ويوثقونهم أعلى ما يكون التوثيق. خذ الكليني والمفيد والمجلسي والطبرسي مثلاً! ثانياً: دليل التفصيل: فإن كتب القوم مشحونة شحناً بهذه العقيدة. وهذه شواهد قاطعة على ما أقول: شواهد قاطعة: كثير من علماء الإمامية يصرح تصريحاً بأن القرآن لحقه التحريف من قبل الصحابة الذين تآمروا على علي و (أهل بيته) فمحوا فضائلهم التي وردت بنص التنزيل. بل إن بعض هؤلاء العلماء تجرأوا فأفردوا لإثبات ذلك مصنفات كاملة في هذا الموضوع!! مثل المخذول الميرزا حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي في كتابه: (فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب). وهو من كبار علماء ومحدثي الطائفة، وموثق لديهم بالإجماع، فهو صاحب أحد الأصول والمراجع الروائية الثمانية المعتمدة لديهم والمسمى (مستدرك الوسائل) الذي قالوا عنه: "لا يمكن أن يصل العالم إلى درجة الاجتهاد حتى يقرأ كتاب المستدرك للنوري الطبرسي". ولمكانته العظيمة عندهم دفنوه بجوار مرقد علي رضي الله عنه في الإيوان الثالث من صحن المرقد. قال عنه عباس القمي (وهو تلميذه) في كتاب (الكنى والألقاب): (الشيخ الأجل ثقة الإسلام والمسلمين مروج علوم الأنبياء والمرسلين إلخ). عرض موجز لكتاب (فصل الخطاب): يقول الطبرسي هذا في أول صفحة من كتابه المذكور: هذا كتاب لطيف وسفر شريف عملته في إثبات تحريف القرآن وفضائح أهل الجور والعدوان وسميته (فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب). ومخطوطة الكتاب في أربعمائة صفحة. توجد نسخة منها في مكتبة الأوقاف المركزية في بغداد المحروسة تحت رقم (23072). والنسخة الموجودة عندي صورة عنها. والكتاب كله محاولة مخذولة بذل صاحبها فيها جهداً كبيراً من أجل أن يثبت أمرين اثنين فقط, أولهما: تحريف القرآن، والثاني: أن هذا الاعتقاد هو مذهب علماء الطائفة الاثني عشرية جميعاً. أما من صرح منهم بعدم التحريف فيقول عنهم أن ذلك خرج منهم مخرج التقية. وقد استدل على هذا الخروج باستدلالات قوية. وأوّلَ كلامهم بأنهم يقصدون القرآن المحفوظ عند (الإمام الغائب).‍ ملخص الكتاب: وملخص الكتاب: ثلاث مقدمات وبابان: المقدمة الأولى: (ص1 - 23): ذكر فيها جمع القرآن وسببه وأن كيفيته عرّضت القرآن للنقص.   (1) من المعلوم لدى المحققين عدم وجود قول محرر لأي عالم معتبر من علماء الإمامية في أي مصدر من مصادرهم بتكفير معتقد التحريف!! غير أنهم عند الإحراج يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. وقد التقيت الشيخ جواد الخالصي ونحن متوجهون إلى الحج العام الماضي (1426هـ). وأثناء الحديث قلت له: لماذا لا تكفرون من يقول بالتحريف من علمائكم؟ فأجابني: ولماذا نكفر من يقول بالتحريف؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 137 والمقدمة الثانية: (ص23 - 25): ذكر فيها أقسام التغيير الممكن حصوله والممتنع دخوله فيه. وذكر من الصور الحاصلة: نقصان السورة كسورة الحفد وسورة الخلع وسورة الولاية. ونقصان الآية ونقصان الكلمة وتبديلها كتبديل (آل محمد) في سورة آل عمران بـ (آل عمران). ونقصان الحرف كالياء في قوله تعالى: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40] والأصل ترابيا. يريد النسبة إلى (أبي تراب) أي: علي. والهمزة من قوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمران:110] يريد (أئمة). وترتيب السور وترتيب الآيات وترتيب الكلمات .. إلخ. والمقدمة الثالثة: (ص25 - 35): ذكر فيها طائفة كبيرة من علمائهم الذين قالوا بالتحريف. ومنهم من أفرده بمصنف مستقل. حتى قال: إن هذا مما أجمعت عليه الطائفة إلا من شذ. وحمل قول هؤلاء الشاذين على (التقية). وأما الباب الأول: (ص35 - 360): فهو في التدليل على وقوع التحريف في القرآن. والباب الثاني: (ص360 - 398): فهو في الرد على أدلة المنكرين للتحريف. نقل إجماع الطائفة الاثني عشرية على التحريف: وممن صرح بإجماع علماء الطائفة على هذه العقيدة: الشيخ المفيد بقوله: "واتفق علماء الإمامية أن أئمة الضلال خالفوا في كثير من تأليف القرآن وعدلوا فيه عن موجب التنزيل" (1).ومنهم أبو الحسن العاملي بقوله: "إن تحريف القرآن من ضروريات مذهب الشيعة" (2).ومنهم نعمة الله الجزائري بقوله: "إن الأخبار الدالة على وقوع التحريف في القرآن كلاماً ومادةً وإعراباً هي أخبار مستفيضة ومتواترة وصريحة، وإن علماء المذهب قد أجمعوا وأطبقوا على صحتها والتصديق بها" (3).وعدنان البحراني بقوله: "الأخبار في تحريف القرآن لا تحصى وكثيرة، وقد تجاوزت حد التواتر، وهو إجماع الفرقة المحقة، وكونه من ضروريات مذهبهم" (4).بل تجرأ بعضهم كالشيخ يحيى تلميذ الكركي فادعى إجماع أهل القبلة من الخاص والعام على هذه العقيدة (5).   (1) ((أوائل المقالات)) (ص:48). وقال (ص:49): (إن الأخبار جاءت مستفيضة عن أئمة الهدى من آل محمد (صلى الله عليه وسلم) باختلاف القرآن وما أحدثه الظالمون فيه من الحذف والنقصان). (2) ((مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار)) - المقدمة الثانية - الفصل الرابع. (3) ((الأنوار النعمانية)) (2/ 357). (4) ((مشارق الشموس الدرية)) (ص:126). (5) ((فصل الخطاب)) للنوري الطبرسي (ص:31). ونسب القول إلى كتاب ((الإمامة)) للمذكور. وهناك العشرات من علماء الإمامية الذين صرحوا بهذه العقيدة الكفرية. ومن أجمع الكتب التي تناولت هذه العقيدة بالذكر كتاب ((أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية)) - المجلد الأول، وكتاب ((مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة)) - القسم الثاني، كلاهما للدكتور ناصر بن عبد الله القفاري. وكتاب ((القرآن وعلماء أصول ومراجع الشيعة الإمامية الاثني عشرية)) للسيد محمد إسكندر الياسري. فليرجع إليها من أراد التوسع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 138 لا تكفير بل توثيق على أعلى المستويات: قلنا: إن المنكرين من الإمامية لهذه العقيدة يتظاهرون بتكفير من اعتقد بتحريف القرآن. ولكننا لم نر أحداً منهم كفّر عالماً واحداً من علمائهم الذين يصرحون بالاعتقاد بتحريف القرآن تصريحاً واضحاً لا شبهة فيه، حتى الذين ينسبون ذلك إلى المذهب ويقولون: إنه من ضرورياته، وإن إجماع الطائفة حاصل عليه (1).وهذا يدل على أن الجميع يعتقدون هذه العقيدة أو أنهم - على الأقل - لا يستوحشون منها، ولا يرون كفر معتنقها، وأنهم غير جادين في القول بإنكارها. حتى النوري الطبرسي وأمثاله ممن أفردوا لإثباتها مصنفات مستقلة يوثقونه توثيقاً ما بعده توثيق! بل يكابرون مكابرة عجيبة في الدفاع عنه إلى حد أن بعضهم يدعي أن كتابه (فصل الخطاب) إنما ألفه في الرد على من قال بتحريف الكتاب (2)! أصول الدين عند الإمامية بين التعطيل والتبديل: قلنا في أكثر من مناسبة: إن الاختلاف الطائفي هو اختلاف أصولي وليس فروعياً. وذلك بأن تخرج طائفة بأصل جديد تلزم به المسلمين، أو تنكر أصلاً ثابتاً من أصول الدين. والإمامية أضافوا للدين أصولاً كثيرة: اعتقادية وعملية: كالإمامة والعصمة والتقية وخمس المكاسب. وأنكروا أصولاً أخرى ثابتة كأصل حفظ القرآن الذي هو أصل الأصول في الإسلام. ويثبتون في الوقت نفسه أصول الدين الأخرى المتفق عليها كالتوحيد والنبوة والمعاد، والصلاة والحج والزكاة. لكن الملاحظ أنهم حين يثبتون هذه الأصول إنما يثبتونها قولاً وشكلاً، ثم يقومون بتفسيرها تفسيراً ينتج عنه تبديل هذه الأصول حقيقةً ومضموناً. فكأنهم عطلوا هذه الأصول ولكن بطريقة أخرى تختلف قليلاً عن طريقتهم في تعطيل الأصول التي صرحوا بتعطيلها - مثل حفظ القرآن -. مبدأ (الإمام المعصوم) وعلاقته بتعطيل الدين وتبديله: فالتوحيد الذي يقوم على قاعدة التفريق بين الخالق والمخلوق في الحقائق والحقوق، أثبتوه لفظاً ورسماً، وعطلوه - عن طريق الإتيان بفكرة (الإمام المعصوم) - حقيقة ومعنىً. ذلك أن العصمة اللاهوتية التي تجعل من الإنسان مخلوقاً منزهاً عن الخطأ والنسيان، وممتنعاً عن الذنب والعصيان، يعلم الغيب، ويتصرف بالكون: فهو الذي خلص نوحاً من الغرق وإبراهيم من الحرق ... إلخ. هذه العصمة أزالت الفرق المذكور فانهدمت قاعدة التوحيد، ولم يعد هنالك من فارق ذي معنى بين الخالق والمخلوق. وهذا هو الذي جعل المخلوق عندهم يدعى كما يدعى الخالق: تنزل ببابه الحوائج، ويتقرب عنده بالذبائح. يضاهئون بقبره الكعبة: يتوجهون نحوه في صلاتهم، ويحجون إليه يطوفون به ويعرِّفون عنده ويلبّون هناك ويسعون كما يسعى بين الصفا والمروة! ويفتخرون بأن زوار الحسين أكثر عدداً من زوار بيت الله الحرام!! حتى الشكل المكعب للقبر مأخوذ من شكل الكعبة المشرفة!! فماذا بقي من التوحيد؟! وأما النبوة القائمة على أساس التفريق بين النبي والولي فقد بدّلوها ثم عطّلوها بأن خلطوا بين المقامين بالفكرة نفسها (الإمام المعصوم)، ذلك أن طاعة الإمام المعصوم تغني عن طاعة النبي وتُذهِب أي أثر للحاجة إليه، لقد أزاحت هذه الفكرة شخصية النبي وأحلت محلها شخصية الإمام أو الولي؛ لأن الإمام يؤدي وظائف النبي جميعاً، بل إن الإمام يتميز عن النبي بكونه حياً حاضراً، بينما النبي ميت غائب.   (1) قارن ذلك مثلاً بالنكير الذي وصل إلى حد التفسيق بل التكفير! والضجة الهائلة التي أثاروها بوجه محمد حسين فضل الله على قضية في منتهى التفاهة هي إنكاره الأسطورة القائلة بأن عمر بن الخطاب قد كسر ضلع فاطمة! وتأمل كم من كتاب ألفوه للرد عليه وإخراجه من الملة!! (2) انظر ((فصل الخطاب)) التعليق رقم (1) ص (8). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 139 حتى المهدي المزعوم يقولون عنه: هو حي موجود، وأنه فاعل مؤثر ولولاه لما بقي الدين، ولا قامت حجة الله على العالمين، ويضربون له مثلاً بالشمس إذا حجبتها الغيوم فإن أثرها باقٍ متصل ولو من وراء ستار. والواقع شاهد حي يثبت ما نقول: فإن مصادرهم الروائية ليس فيها ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا النزر القليل. وقد حل محله ما يروونه عن (الإمام)، كل ذلك بسبب فكرة (الإمامة) و (العصمة) التي أزالت الفرق بين النبي والولي .. بل يقولون: إن الولي فوق النبي، و (الأئمة) أفضل من الأنبياء عليهم السلام، لكنهم يستثنون -لشناعة القول- واحداً منهم هو محمد صلى الله عليه وسلم من أجل تخفيف وقعه على النفوس. وأما ختم النبوة فلا معنى له بعد استمرار حقيقتها ومعناها وهو (الإمامة المعصومة)، التي يقولون عنها: إنها امتداد للنبوة وتكميل لها، فلم يختم سوى الاسم، وكأن دين الله مجرد أسماء ومصطلحات لا حقيقة لها! فماذا بقي من النبوة؟! حتى المعاد لم يبق له معنى ولا أثر على الواقع بعد أن سُلِّم أمره إلى (الإمام) يقسم الناس: هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار: فمن كان شيعياً اثني عشرياً فهو إلى الجنة مهما حوى من ذنوب وارتكب من آثام! ومن كان غير ذلك فإلى النار، مهما جاء به من حسنات! ناهيك عن أثر عقيدة (الرجعة) في هذا المقام! وأما الصلاة فقد عطلت باسم (الإمام المعصوم) كذلك! عطلت الجمعة حتى مجيء (الإمام)، وحل محلها الخميس الحقير الذي هو في حقيقته زيارة (الإمام). وعطلت الجماعة -إلا ما ندر- لعدم وجود (الإمام). وحلت الحسينيات (والحسينية نسبة إلى الإمام الحسين) ومراقد (الأئمة) محل الجوامع والمساجد. واختصرت أوقات الصلاة إلى ثلاثة، وغُيِّر الأذان واختصر كذلك، ورفع غسل الرجلين من الوضوء تماماً ... إلخ. فماذا بقي من الصلاة؟! وهكذا عطلت بقية الأصول والأركان، فأصول الإمامية جميعاً بين معطل ومبدل، كل ذلك بسبب هذه الفكرة الخطيرة .. (الإمام المعصوم)! وكذلك الحال مع القرآن، فهو بين مبدل ومعطل، وأما (القرآن الصحيح) فعند (الإمام)، وغالب علمائهم يصرحون بتحريفه وتبديله، وهم جميعاً يقومون بتعطيله بواسطة تأويله، وعوامهم -إلا من رحم- مشغولون عنه بكتب الأدعية والزيارات التي يطبع بعضها بخط المصحف ويغلف بمثل غلافه بحيث يصعب التفريق بينهما دون تدقيق. بل القرآن صامت حتى ينطق (الإمام) بمراده، ومبهم حتى يفصح (الإمام) بمقصوده! فماذا بقي من القرآن؟!! المراوغة وراء إلصاق التهمة بأهل السنة: حين يواجه الاثنا عشرية بأدلة اتهامهم بعقيدة التحريف يحاولون التنصل منها بأساليب شتى، منها: إرجاع التهمة إلى المقابل أملاً بإشغاله بالدفاع عن نفسه، وإيهاماً لعوامهم بأن هذا متفق عليه بين الجميع. إن هذا نوع من الأساليب الجدلية غير العلمية، الغاية منها المراوغة وإطالة حبل النقاش، والهروب بعيداً عن موضع النزاع، وصرف الأنظار عنه إلى غيره. إن البحث العلمي يلزمنا بأن نناقش أصل الموضوع وهو: هل الشيعة يقولون بالتحريف أم لا؟ ثم بعد أن ننتهي من هذا يمكن أن نبحث غيره من المسائل. أما اتهام أهل السنة بعقيدة التحريف فباطل عار عن الدليل. وليس وراءه من دافع سوى التعصب واللجاج، ومحاولة إشغال الخصم لا غير، وكل ما في جعبتهم من حجج وروايات يحملونها على التحريف، ثم يلصقونه بأهل السنة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 140 بينما يستلزم الأسلوب العلمي إثبات التهمة من نص كلام المتهم، وليس من خلال روايات تحمل على أسوأ المحامل، لطالما صرح علماء أهل السنة أنها من باب الناسخ والمنسوخ، فنحن نؤمن أن من القرآن ما نسخت تلاوته كما قال تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:106]. والنسخ من فعل الخالق، بينما التحريف من فعل المخلوق. أما أن أحداً من أهل السنة علماء أو عامة له قول ينصص به على التحريف فهذا لا أثر له ألبتة. ونحن حين نتهم الإمامية الاثني عشرية بالتحريف لا نستند على رواياتهم فقط، بل نعتمد على نصوص وأقوال علمائهم المصرحة بذلك تصريحاً تاماً، إضافة إلى رواياتهم التي لا تقبل التأويل. لازم المذهب ليس بمذهب: تقول القاعدة الأصولية: لازم المذهب ليس بمذهب، ومن معاني هذه القاعدة أن لازم قول القائل ليس بقول له ما لم يصرح به؛ لأن القائل قد لا يستحضر لزوم ذلك لقوله. أو يعتقد أن هذا لا يلزمه، وقد يكون محقاً في هذا، فيكون الذي ألزمه مخطئاً. فمثلاً .. الإمامية مذهبهم عدم رؤية الله وعدم سماع كلامه مطلقاً. وهذا يستلزم عدم وجود الله أساساً. لأن الذي لا يرى وجهه ولا يسمع كلامه ولا يدرك بأية حاسة لا فرق بينه وبين المعدوم، فإن هذه هي صفات المعدوم لا الموجود، لكننا لا ننسب هذا القول إليهم - وإن لزمهم - لأنهم لا يقولون به. ونحن حين نتهم الإمامية بالقول بالتحريف لا نتهمهم طبقاً للازم قولهم, وإنما استناداً إلى نص كلامهم مع الاستشهاد برواياتهم، التي لا وجه لتأويلها بغير ما تنص عليه من التحريف. والملاحظ أن الإمامية حين يلزمون أهل السنة بما يدعون أنه لازم لهم يفعلون الشيء نفسه مع أقوال الرب جل وعلا! فأصولهم ليست هي نص ما يقوله الله نفسه، وإنما هي لوازم ألصقوها بأقواله، لو كانت حقاً لصرح الله بها. تناقض صارخ: والعجيب أنهم يدفعون التهمة عن أنفسهم مع وجود النص القولي والنص الروائي الصريح المصحح عندهم، بينما يلقون بالتهمة على غيرهم مع عدم وجود نص بذلك يستندون إليه قط! المصدر: تحريف القرآن عند الشيعة تهمة باطلة أم حقيقة ثابتة لطه حامد الدليمي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 141 المطلب السادس: إبطال عقيدة التحريف طبقاً للمنهج القرآني العقائد التي شذ بها الإمامية الاثنا عشرية عن المسلمين نوعان: نوع لا وجود له - (كالإمامة) و (العصمة) -اخترعوه وأثبتوه. وهذا لا دليل لهم على وجوده من القرآن سوى المتشابهات. ونوع ثابت - كحفظ القرآن - نفَوه وأنكروه. وهذا لا دليل لهم على نفيه سوى الشبهات. والثابت قطعاً لا ينقض بشبهة، بل لا ينقض أصلاً، بل كل ما عارض الثابت أصلاً فهو شبهة باطلة قطعاً. وهذا دليلنا وحجتنا القطعية اليقينية على بطلان عقيدة التحريف طبقاً للمنهج القرآني. ولو جازت الزيادة والنقصان في حرف من القرآن لجاز ذلك في كلمة، وهذا يستلزم جوازه في أكثر من ذلك، وهنا يمسي القرآن كمصدر موثوق للهداية غير ذي معنى؛ لأنه إذا سرى الشك إلى مصدر الهداية تعدى ذلك إلى الهداية نفسها، وعند ذاك يسري الشك إلى أي أصل من أصول الدين الذي تقوم عليه الهداية، ويتمكن أي إنسان من التملص منه بإثارة الشبهات حوله، وكذلك يتمكن من إضافة أي أصل إلى الدين بالطريقة نفسها، ولكن بصورة معكوسة: فينفي الموجود بحجة أنه زائد مضاف، ويثبت المفقود بحجة أنه ناقص محذوف، كما قالوا عن نصوص (الإمامة). مجمل القول أن الاعتقاد بجواز طروء التحريف على القرآن يؤدي إلى تعطيل الدين وتخريبه، فنحتاج إلى نبي جديد يأتي بكتاب جديد يهيمن على هذا الكتاب ويشهد له أو عليه، وهذا مخالف لأصل ختم النبوة؛ فالله تعالى حفظ الكتاب لأنه ختم النبوة، وختم النبوة لأنه حفظ الكتاب، فلا حاجة لبعثة نبي جديد. فلو جاز وقوع التحريف في الكتاب لكنا محتاجين دوماً لبعثة نبي جديد يثبت لنا، ويدلنا قطعاً على مواضع التحريف فيه، وإلا فمن يقوم بهذا الدور؟ هل الروايات؟ كلا .. فإن التحريف إذا تطرق إلى الكتاب كان تطرقه إلى الروايات أولى، فكيف يعالج هذا بهذا؟ أم العقول؟ والعقول مختلفة فعقل من هو الحكم؟ اللهم إلا إذا كان صاحب العقل نبياً يأتيه الوحي من السماء، وهذا مستحيل أيضاً لختم النبوة. لهذا وغيره أجمع المسلمون على حفظ القرآن، وبطلان القول بتحريفه، وتكفير من يقول بهذا القول. الأدلة على حفظ القرآن أظهر من أن تذكر: لا أرى حاجة للتدليل على أصل كل الأصول في دين الإسلام، ألا وهو حفظ القرآن، وتهافت القول بتحريفه، ويكفي في ذلك أن أصحاب دعوى التحريف أنفسهم لا يجرؤون على التصريح بها علناً بصورة لا يتمكنون بعدها من نفي هذه التهمة عنهم، فنراهم يصرحون بها في حال وينكرونها في حال، فمثلاً يذكرونها في كتاب، وينكرونها في آخر، أو في موضع آخر من الكتاب نفسه! ويصرحون بها في المجالس الخاصة، وينكرونها في وسائل الإعلام أو أمام الملأ، مع أنهم يجاهرون بإبراز غيرها من السوءات العقيدية كتجريح الصحابة، وهذا يعني أنهم لو علموا أن لهم حجة - ولو بوجه بعيد - لما اختفوا بها هذا الاختفاء. إن كل مسلم يقرأ في أول آية من كتاب الله بعد مقدمته (سورة الفاتحة) قوله تعالى: ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [البقرة:1 - 2] , ثم أقام الله تعالى الدليل القاطع على نفي الريب عن كتابه الهادي بقوله: وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23]، وأي ريب ينفى عنه إذا جاز عليه التحريف بالزيادة والنقصان؟! ولذلك يقول تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:41 - 42]. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 142 وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:37]. وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115]. وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الكهف:27]. إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]. القرآن هو الشاهد والمشهود: لقد ثبت لنا نحن المسلمين أن القرآن محفوظ من التحريف بالنص القرآني الصريح المكرر المثبت بالحجج القرآنية العقلية الذاتية، أي: من داخل القرآن نفسه، بمعنى أن القرآن يشهد لنفسه بنفسه ويدل على نفسه بنفسه فلا يحتاج إلى شاهد أو دليل من خارجه، وفي هذا يقول تعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء:82]. ويقول: وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ [البقرة:23]. فالله تعالى يحتج لصحة القرآن بحجة عقلية مصدرها القرآن نفسه! فالقرآن هو الدليل وهو المدلول عليه، وهو الشاهد وهو المشهود عليه، وهو الحجة وهو المحتج له به! والدليل على حفظ القرآن نقلاً وعقلاً هو القرآن نفسه! وهذا -في رأيي- أقوى من دليل التواتر، فإن التواتر إذا كان يورث الإيمان، فهذا يمنح الاطمئنان: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]. فلن تجد شيئاً يبعث اليقين ويورث الإيمان ويمنح الاطمئنان إلى صحة القرآن .. كالقرآن. السر في لزوم الإمامية للقول بتحريف القرآن: يدرك الإمامية جيداً عجزهم عن إثبات أصولهم بواسطة القرآن! ولا يستطيعون تمرير هذه الأصول بسهولة في وجوده كاملاً!! فالقرآن صرح بجلاء تام بذكر مسائل دون (الإمامة) و (العصمة) بكثير، كالوضوء والطهارة من الحدث الأصغر والأكبر! فكان قولهم بطروء النقص على القرآن، لتكون هذه (الأصول) مما حذفت نصوصها! والشيء نفسه دفعهم إلى القول بأن الأصول تثبت بالعقل لا بالنقل، كل ذلك لعلمهم يقيناً بعدم وجود ما يثبت أصولهم من النقل القطعي ثبوتاً ودلالة! إذن وجود القرآن كاملاً يحرجهم كثيراً حين يجدون أنفسهم مطالبين أمام الجميع بما يثبت أصولهم من النصوص القرآنية الصريحة. فأصول الإمامية لم تقم على صريح القرآن، ولا فروعهم على صحيح السنة. وهذا يتبين من تأمل المفارقة الأخرى الآتية: لو افترضنا جدلاً أن الله تعالى رفع الكتاب والسنة من الأرض فإن النتيجة الحتمية أن ديننا سيختفي ويزول، بينما دين الإمامية سوف يبقى ويستمر!! لأنهم إنما أسسوه على أوهام سموها (عقليات) وأباطيل سموها (روايات) ألصقوها بمتشابه الآيات المعطلة عن الفعل من الأساس دون ردها إلى (الإمام) أي إلى هذه الروايات في حقيقة الأمر، لاسيما مع وجود المراقد، وهذا كله: (العقليات والروايات والمراقد) لا يزول بزوال الكتاب والسنة! بل ينتعش .. وينتفش!! فسبحان من جعل أصول الحق قائمة على حفظ القرآن وبقائه، وجعل أصول الباطل لا تقوم إلا على تحريف القرآن وإبعاده! المصدر: تحريف القرآن عند الشيعة تهمة باطلة أم حقيقة ثابتة لطه حامد الدليمي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 143 المطلب الأول: التعريف بالرجعة والغاية منها عند الشيعة: تعني الرجعة في المذهب الشيعي: أن أئمة الشيعة مبتدئاً بالإمام علي ومنتهياً بالحسن العسكري الذي هو الإمام الحادي عشر عند الشيعة الإمامية سيرجعون إلى هذه الدنيا ليحكموا المجتمع الذي أرسى قواعده بالعدل والقسط الإمام المهدي الذي يظهر قبل رجعة الأئمة ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً ويمهد الطريق لرجعة أجداده وتسلمهم الحكم وإن كل واحد من الأئمة حسب التسلسل الموجود في إمامتهم سيحكم الأرض ردحاً من الزمن ثم يتوفى مرةً أخرى ليخلفه ابنه في الحكم حتى ينتهي إلى الحسن العسكري وسيكون بعد ذلك يوم القيامة، كل هذا تعويضاً لهم عن حقهم الشرعي في الخلافة والحكومة التي لم يستطيعوا ممارستها في حياتهم قبل الرجعة، والذين كتبوا في الرجعة من أعلام الشيعة فسروا الآية الكريمة: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105] إن الغرض من العباد الصالحين هم أئمة الشيعة، هذه خلاصة الفكرة أشرنا إليها بإجمال كما أنه لا بد من القول أيضاً إن الذين ألَّفوا الكتب في الرجعة واستشهدوا على وقوعها بالروايات التي ذكرها بعض كتب الروايات المنسوبة إلى أئمة الشيعة لم يكتفوا إلى هذا الحد من القول برجعة أئمة الشيعة فقط بل أضافوا عليها أفكاراً أخرى وكلها أيضاً مستوحاة من تلك الروايات الموضوعة التي أشرنا إليها أكثر من مرة وقالوا: إن الرجعة لا تشمل أئمة الشيعة فحسب بل تشمل غيرهم وذكروا أسماء نفر غير قليل من صحابة الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم زعموا أنهم من أعداء الأئمة والذين منعوهم من الوصول إلى حقهم في الحكم كل هذا حتى يتسنى للأئمة الانتقام منهم في هذه الدنيا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 144 وقد يخيل إليّ أن الذين كانوا وراء فكرة الرجعة ووضعوا هذه الروايات لإثباتها لم يقصدوا منها رجعة الأئمة بقدر ما كانوا يقصدون رجعة الأعداء حسب زعمهم وذلك للانتقام منهم لأن هذه الفكرة كانت توطد دعامة التفرقة بين الشيعة والفرق الإسلامية الأخرى تفرقة لا لقاء بعدها، ولو أن الذين كانوا وراء فكرة الرجعة كانوا مخلصين لأئمة الشيعة لم يصوروهم بهذا المظهر الراغب في الحكم حتى أن الله سيعيدهم إلى هذه الدنيا الفانية مرةً أخرى ليحكموا فيها بعض الوقت وهم أئمة لهم جنة عرضها كعرض السموات والأرض أعدت للمتقين، والإمام " علي " يقول:" والله إن دنياكم هذه لأهون عندي من ورقة فم جرادة تقضمها ". ومهما يكن من أمر فنحن مع كل الأسف أمام أفكار من هذا النوع وقد ألف فيها بعض أعلامنا كتباً واشتملت الفكرة حيزاً من العقيدة ولو لم يكن جزءاً منها، والفكرة شبيهة مع فارق كبير إلى الفكرة التناسخية التي جاء بها " فيثاغورس " وتبناها الفيثاغوريون ولها أنصارها حتى اليوم وظهرت في مظاهر مختلفة وتعابير متفرقة ودخلت إلى بعض العقائد البدائية ولكن الذين ألفوا وصنفوا حول رجعة أئمة الشيعة لم يستعملوا المضامين التي استعملها الفيثاغوريون في صحة التناسخ أو بالأحرى انتقال الروح من جسد إلى جسد آخر لأن التناسخيين لا يعتقدون بوحدة الموضوع في عودة الشخص إلى الدنيا بعد الموت ويعتقدون بتعدد الحياة والموت بصور شتى وأنماط مختلفة ولكن فكرة الرجعة تحتفظ بوحدة الموضوع, ولا تكون لأكثر من مرة, غير قابلة للتكرار, حيث يكون بعدها الموت الثاني ومن ثم البعث والنشور، ومن هنا أود القول: إن الذين كانوا وراء فكرة الرجعة لعلهم كانوا من المتأثرين بالفلسفة الفيثاغورية وأدخلوا الفكرة في المذهب, وذلك بعد إجراء تحوير إسلامي عليها, شأنهم شأن كل المبدعين في العقائد والمذاهب ولست أدري أيضاً متى دخلت فكرة الرجعة على وجه التحديد إلى الأوهام, وألفت حولها الكتب إلا أن الذي لا شك فيه أن ظهور مثل هذه الأفكار البعيدة عن التعقل ظهرت في عهد الصراع الأول بين الشيعة والتشيع حيث كانت السذاجة هي الطابع الغالب على الناس والميل إلى الأفكار الغلوائية البعيدة عن المنطق كان له سوق رائج، والبدعة هذه تختلف عن البدع الأخرى التي أضيفت إلى الأفكار الشيعية حيث لم يترتب عليه تنظيم سياسي عملي أو اجتماعي أو اقتصادي اللهم إلا شيء واحد قد يكون هو السبب في اختلاق فكرة الرجعة وهو كما قلنا استكمال العداء وتمزيق الصف الإسلامي بمثل هذه الخزعبلات التي دونت وقيلت في انتقام الأئمة من صحابة الرسول الذين خالفوا النص الإلهي في أمر الإمامة والخلافة فكل حديث من هذا النوع كان ولا يزال يزيد في تأجيج نار الفتنة ويضر بالوحدة الإسلامية ويقضي على كل بادرة من بوادر الألفة والتقريب, وهنا أود أن أذكر قصة حدثت لي قبل سنوات عديدة عندما كنت في النجف مقيماً فقد جاءني أحد المشايخ وطلب مني أن أبتاع منه كتاباً قد فرغ لتوه من تأليفه وطبعه, اسمه (لشيعة والرجعة) فسألته عن فحواه فقال: إثبات رجوع الأئمة إلى هذه الدنيا فسألته من جديد: ومتى يكون ذلك؟ فقال: بعد ظهور " المهدي " الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً فسألته مرةً أخرى: إذن ما هي الفائدة من رجوعهم لأن القسط والعدل قد استتبا والأئمة أعلى شأناً وأجل قدراً من أن يطلبوا الحكم للحكم والإمام " علي " يقول:" إن دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز إلا أن أقيم حقاً وأبطل باطلاً". فقال الشيخ وقد ملكته الدهشة: ولكن في كتبنا روايات تثبت رجوع الأئمة فصحت في وجهه: ألم يكن من الأفضل أن يترك هذا الأمر للمهدي حتى يقول كلمته فيه؟ فولى الشيخ هارباً وهو يقول: وادنياه!!!!!! المصدر: الشيعة والتصحيح لموسى الموسوي - ص98 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 145 المطلب الثاني: إيمان الشيعة الكامل بالرجعة ومروياتهم فيها: إن هذا الموضوع - موضوع الرجعة - هو من المعتقدات الأساسية في المذهب الشيعي. ومفاده أن الأئمة الاثني عشر سيعودون إلى الدنيا في آخر الزمان، الواحد بعد الآخر؛ لكي يحكموا الدنيا تعويضاً لهم عن حرمانهم من حقهم في الحكم الذي حرموا إياه إبان حياتهم، ويكون أول إمام يرجع إلى الدنيا هو الإمام الثاني عشر "محمد بن الحسن العسكري" الذي يمهد الأمر لآبائه وأجداده؛ فيتولون الحكم من بعده واحداً بعد الآخر حسب التسلسل الزمني لهم، فيحكم الواحد منهم فترة من الزمن، ثم يموت مرة أخرى ليتولى بعده الحكم من يليه في الترتيب، وهكذا حتى الإمام الحادي عشر "الحسن العسكري"، وتقوم القيامة بعد ذلك. ولقد نسبت روايات كثيرة في هذا الأمر إلى كل من الإمامين الجليلين: محمد الباقر وولده جعفر الصادق، منها على سبيل المثال: قال أبو عبد الله - يعني: سيدنا جعفراً -: "ينادى باسم القائم - أي: الإمام محمد الثاني عشر- في ليلة ثلاث وعشرين، ويقوم يوم عاشوراء، لكأني به في اليوم العاشر من المحرم قائماً بين الركن والمقام، جبريل عن يمينه ينادي: البيعة لله، فتسير إليه الشيعة من أطراف الأرض تطوى لهم طياً حتى يبايعوه، وقد جاء في الأثر: إنه يسير من مكة حتى يأتي الكوفة، فينزل على نجفنا، ثم يفرق الجنود منها في الأمصار". وروى الحجال عن ثعلبة عن أبي بكر الحضرمي عن سيدنا محمد الباقر قال: "كأني بالقائم عليه السلام على نجف الكوفة، وقد سار إليها من مكة في خمسة آلاف من الملائكة، جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله، والمؤمنون بين يديه، وهو يفرق الجنود في البلاد". وروى عبد الكريم الجعفى قال: "قلت لأبي عبد الله - يعني: سيدنا جعفراً -: كم يملك القائم عليه السلام؟ قال: سبع سنين، تطول حتى تكون السنة من سنيه مقدار عشر سنين من سنيكم، فتكون سنو ملكه سبعين سنة من سنيكم هذه".وروى عبد الله بن المغيرة عن أبي عبد الله - يعني: سيدنا جعفراً الصادق - عليه السلام قال: "إذا قام القائم من آل محمد أقام خمسمائة من قريش فضرب أعناقهم، ثم خمسمائة أخرى، حتى يفعل ذلك ست مرات. قلت - يعني ابن المغيرة -: ويبلغ عدد هؤلاء هذا؟ قال جعفر الصادق: نعم، منهم ومن مواليهم" (1). إن الشيء الذي يدعو إلى التوقف طويلاً والتأمل كثيراً، هو أن هذه الروايات منسوبة إلى إمامين عظيمين جليلين من أئمة بيت النبوة، لم يعرف عنهما شيء من هذا العنف في التفكير أو التعبير، هما: محمد الباقر وولده جعفر الصادق، الأمر الذي أثار ثائرة بعض علماء الشيعة أنفسهم، وفي مقدمتهم الدكتور موسى الموسوي في كتابه (الشيعة والتصحيح) الذي مرّ ذكره.   (1) كتاب ((الإرشاد في تاريخ حجج الله على العباد)) لأبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان المشهور بالشيخ المفيد، (ص398 - 402) طبعة حجر - إيران. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 146 يقول العلامة الدكتور الموسوي: إن مؤلفي هذه الكتب لم يكتفوا من القول برجعة أئمة الشيعة فحسب، بل أضافوا عليها أفكاراً أخرى، وكلها مستوحاة من تلك الروايات الموضوعة، وقالوا: إن الرجعة لا تشمل أئمة الشيعة وحدهم، بل تشمل غيرهم، وذكر أسماء نفر غير قليل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، زعم الشيعة أنهم من أعداء الأئمة، وأنهم منعوهم من الوصول إلى حقهم في الحكم، كل هذا حتى يتسنى للأئمة الانتقام منهم في هذه الدنيا. ويستطرد الدكتور الموسوي قائلاً: ولو أن الذين كانوا وراء فكرة الرجعة مخلصين لأئمة الشيعة لما صوروهم بهذا المظهر الراغب في الحكم، حتى إن الله سيعيدهم إلى هذه الدنيا الفانية مرة أخرى ليحكموا فيها بعض الوقت، وهم أئمة لهم جنة عرضها كعرض السماوات والأرض أعدت للمتقين، والإمام عليٌّ نفسه يقول: "والله! إن دنياكم هذه لأهون عندي من ورقة في فم جرادة تقضمها".ويمضي العلامة الموسوي في النكير على فكرة الرجعة قائلاً: وهذه البدعة تختلف عن البدع الأخرى التي أضيفت إلى الأفكار الشيعية، حيث لم يترتب عليها تنظيم سياسي عملي أو اجتماعي أو اقتصادي، اللهم إلا شيء واحد قد يكون هو السبب في اختلاق فكرة الرجعة، وهو استكمال العداء، وتمزيق الصف الإسلامي بمثل هذه الخزعبلات التي دونت وقيلت في انتقام الأئمة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم) (1). المصدر: إسلام بلا مذاهب لمصطفى الشكعة - ص203 وذكر عباس القمي في (منتهى الآمال) بالفارسية ما ترجمته بالعربية: قال الصادق عليه السلام "ليس منا من لا يؤمن برجعتنا ولا يقر بحل المتعة". ونقل محمد الباقر المجلسي بالفارسية ما ترجمته بالعربية: روى ابن بابويه في علل الشرائع عن الإمام محمد الباقر عليه السلام أنه قال: "إذا ظهر المهدي فإنه سيحيي عائشة ويقيم عليها الحد" ونقل مقبول أحمد الشيعي في ترجمته للقرآن بالأردوية ما ترجمته بالعربية: روي عن الإمام محمد الباقر عليه السلام في تفسير القمي وتفسير العياشي أن المراد في هذه الآية من "الآخرة" الرجعة ومعنى الرجعة أنه سيأتي رسول الله والأئمة عليهم السلام وخاصة من المؤمنين وخاصة من الكفار قبل قيام الساعة إلى الدنيا، لكي يعلى الخير والإيمان، ويقضى على الكفر والعصيان. وذكر الملا محمد الباقر المجلسي في حق اليقين كلاما طويلا بالفارسية حاصله أنه إذا ظهر المهدي عليه السلام (قبيل القيامة) فإنه سينشق جدار قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ويخرج أبا بكر وعمر من قبريهما فيحييهما ثم يصلبهما (والعياذ بالله). ثم يذكر عن المهدي أيضا بالفارسية ما ترجمته بالعربية: ثم يأمر الناس أن يجتمعوا فالظلم والكفر الذي ظهر من بداية العالم إلى نهايته فإثم ذلك الظلم والكفر كله يكتب عليهما (أي أبي بكر وعمر) وما أهريق دم لآل محمد في أي زمان بل كل دم أهريق بغير حق وكل جماع حرام قد حصل وكل مال ربا أو مال حرام قد أكل وكل إثم وظلم وقع حتى ظهور المهدي فإن كل ذلك سيكون معدودا في أعمالهما. ونقل المجلسي بعده أيضا (وروى النعماني عن الإمام محمد الباقر عليه السلام أنه قال: لما يظهر المهدي فأول من يبايعه محمد عليه الصلاة والسلام ثم علي عليه السلام ويساعده الله بالملائكة، وروى الشيخ الطوسي والنعماني عن الإمام الرضا عليه السلام أنه: من علامات ظهور المهدي أن يظهر عاريا أمام الشمس وينادي مناد هذا هو أمير المؤمنين رجع ليهلك الظالمين. وهذا من أعظم أكاذيب الشيعة مخالف لما عليه الدين الإسلامي والإسلام وجميع الأديان السماوية مجمعة على أن الإنسان يعمل في هذه الدنيا ثم يموت ثم يحشر أمام الله يوم القيامة وهناك سيحاسبه الله عن أعماله ولكن الشيعة يريدون افتراء وكذبا أن ينصبوا المهدي في مقام المحاسب للخلق، هذه الروايات مع كونها باطلة فإنها إهانة عظيمة للرسول صلى الله عليه وسلم وسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث جعلوهما يبايعان المهدي الذي سيكون من ولدهما، ثم كون المهدي يظهر عاريا ليس عليه ثياب؟ وأما عن الشيخين الجليلين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وما أظهر لهما من البغضاء والشحناء لا يحتاج إلى تعليق فإنه خلاف النقل والعقل فكيف يعقل أن يحمل شخص أوزار الذين قبله، "فإنه لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور". المصدر: بطلان عقائد الشيعة وبيان زيغ معتنقيها ومفترياتهم على الإسلام من مراجعهم الأساسية لمحمد عبد الستار التونسوي   (1) ((الشيعة والتصحيح)) (ص142 - 143). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 147 أولاً: تعريف البداء: البداء: معناه الظهور بعد الخفاء، كما في قوله تعالى: وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] أي ظهر. ومعناه أيضاً: حدوث رأي جديد لم يكن من قبل، كما في قوله تعالى: ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ [يوسف:35]. وله معان أخرى كلها لا تخرج عن مفهوم تجدد العلم بتجدد الأحداث. وهذه المعاني تستلزم سبق الجهل وحدوث العلم تبعاً لحدوث المستجدات لقصور العقول عن إدراك المغيبات. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 443 أما معنى البداء والفكرة التي بين ثناياه وما تعنيه في زيارة الإمامين العسكريين هو: أن الإمامة حسب التسلسل الموجود في عقيدة الشيعة الإمامية تنتقل من الأب إلى الابن الأكبر مستثنىً من هذه القاعدة " الحسن " و " الحسين " فالإمامة بعد الإمام " الحسن " انتقلت إلى الإمام " الحسين " ولم تنتقل إلى الابن الأكبر " للحسن " وذلك لنص ورد عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم حيث قال: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا)). فقد حدث أن " إسماعيل " وهو الابن الأكبر للإمام " جعفر الصادق " الإمام السادس عند الشيعة قد توفي في عهد أبيه فانتقلت الإمامة إلى أخيه " موسى بن جعفر " الابن الأصغر للصادق وهذا التغيير في مسار الإمامة التي هي منصب إلهي يسمى " بداءً " حصل لله تعالى فانتقلت الإمامة الإلهية بموجبه من " إسماعيل " إلى موسى بن جعفر " ومن ثم إلى أولاده ولم تأخذ الطريق الطبيعي لها, الذي هو انتقال الإمامة من الأب إلى الابن الأكبر، ولكن السؤال المحيّر هنا لماذا تغير مسار الإمامة بداءً ونسبوا شيئاً كهذا إلى الله تعالى لإثبات أمر لم يكن إثباته بحاجة إلى انتقاص من سلطان الله؟ الجواب: هنا يكمن في تلك الملابسات والظروف التي حصلت في عهد الصراع الأول بين الشيعة والتشيع فالإمامة عندما تكون إلهية لا تخضع للانتخاب المباشر ولا يتغير مسارها بموت الإمام الشرعي فحينئذ تنتقل الإمامة هذه حسب الناموس الإلهي الذي لا يتغير من الأب إلى الابن, ولهذا قيلت في الإمامة إنها تكوينية أي لا تخضع لمتغيرات الزمان والمكان شأنها شأن العلة والمعلول الذاتيين الذين لا ينفك أحدهما عن الآخر, وهذا يعني أن الإمام الأب لا سلطة له في تعيين الإمام الذي سيخلفه لأنه معين بإرادة الله، وهذا الصراع الفكري حدث بين الشيعة أنفسهم قبل أن يمتد نحو آفاق أوسع قبيل عصر الغيبة الكبرى مباشرةً وذلك عندما بدأ المذهب الإسماعيلي يظهر على ساحة الأفكار الإسلامية ويهدد وحدة الشيعة بالتمزق الداخلي وكان المذهب الإسماعيلي يرى أن الإمامة الإلهية مستمرة بالصورة التي أرادها الله منذ الأزل وهي في نسل " علي " وأولاده حسب التسلسل السني وهذا يعني أن الإمام الأب لا سلطة له في تعيين الإمام الذي سيخلفه لأنه معين بإرادة الله فإذا مات الوريث الشرعي الذي هو "إسماعيل" فلا يحق لأبيه " الصادق " أن يعين " موسى " ابنه الأصغر بل تنتقل الإمامة إلى الابن الأكبر من ظهر " إسماعيل " وبما أن الشيعة تبنت فكرة الإمامة الإلهية بالصورة نفسها فلكي تخرج من هذا المأزق قالت بفكرة البداء لكي تلقي مسؤولية انتقال الإمامة من "إسماعيل بن جعفر" إلى موسى بن جعفر على الله وليس على الإمام " الصادق " ولتفنيد العقيدة الإسماعيلية، وكما يعلم الجميع فإن الإمامة لا زالت مستمرة عند الإسماعيليين حتى هذا اليوم والإمام عندهم حي حاضر ومن نسل " إسماعيل " ولم يحيدوا عن هذا المنحنى الفكري الذي أملاه عليهم مذهبهم قيد أنملة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 148 ونعود إلى فكرة البداء فنقول: إنها ظهرت في إبان ظهور الفرقة الإسماعيلية التي أخذت تناهض الشيعة وتخرق وحدتها ولذلك لا نجد أثراً لفكرة البداء حتى أوائل القرن الثالث الهجري، وأول إمام يخاطب بشموله للبداء هو الإمام العاشر ومن بعده الحادي عشر للشيعة في حين أنه كان من الأجدر والأولى أن يخاطب الإمام " موسى بن جعفر " بشموله للبداء حيث كان هو موضوعه فلا الإمام " موسى " ولا ابنه " علي الرضا " ولا حفيده " محمد الجواد " قد خوطبوا بكلمة فيها إشارة إلى حصول البداء بحقهم الذي يؤكد لنا أن اللجوء إلى تبني فكرة البداء إنما حصل عندما أخذ التيار الإسماعيلي يشق طرقه إلى الوجود والظهور في أوائل القرن الثالث الهجري وهو عصر الإمام العاشر والحادي عشر للشيعة، لقد التجأ بعض أعلام الشيعة إلى البداء حتى يثبتوا تغيير مسار الإمامة من " إسماعيل " إلى " موسى بن جعفر " في حين أن الإمامة وانتقالها من كابر إلى كابر وبالصورة التي رسمها الشيعة قبل عهد الصراع بين الشيعة والتشيع لم تكن بحاجة إلى القول بالبداء وتغيير الإرادة الإلهية، فبوفاة مرشح الإمامة تنتقل الإمامة إلى المرشح الثاني حسب ما يوصي به الإمام " الصادق " الذي شاهد وفاة ابنه المرشح للإمامة ولا شك أنه قال كلمته في الإمام الذي يتولى شؤون الفتيا والفقه بعده, وفي كلام الإمام وتعيينه الوارث الشرعي فصل الخطاب. إن موضوع البداء احتل جانباً من الكتب الشيعية وأفرد له بعض الأعلام فصولاً أو كتيباً يدافع عن معنى البداء وفحواه, وانتهى الجدل ذاك إلى الأبحاث الفلسفية والكلامية التي احتلت أجزاءً كثيرة من الكتب الكلامية في الإرادة الإلهية, وهكذا الآجال الحتمية والمقدرة والقدر الذي يدفعه الحذر والبلاء الذي تدفعه الصدقات وما إلى ذلك من كلام يعرفه أهل العلم والفضيلة وكل من ألمَّ بالصراع الفكري بين الأشاعرة والمعتزلة وغيرهم من مفكري الإسلام كما أن بعض أعلام الشيعة وجد الحل للخروج من مأزق البداء بالتفصيل بين النسخ التشريعي والنسخ التكويني وقال: إن البداء هو النسخ في التكوين ولست أدري أن الذين كتبوا في البداء هل وجدوا في الآية الكريمة: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] حلاً لتلك المعضلة إن كانت معضلة أم لا؟ ومهما يكن من أمر فإن الذين كتبوا وألَّفوا في البداء لم يضيفوا إلا أوهاماً على أوهام وسفسطة إلى سفسطة ولو أنهم وجدوا حل المعضلة بالآية الكريمة التي أسلفناها لكان لهم خير طريق للخروج من مأزق وضعوا أنفسهم فيه ولم ينته الأمر بهم للخروج منه إلى الطعن في سلطان الله وأنه تعالى كان يريد شيئاً ثم بدا له غيره. المصدر: الشيعة والتصحيح لموسى الموسوي - ص102 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 149 ثانياً: الأدلة على القول بالبداء: تمسك الرافضة بعقيدة البداء تمسكاً شديداً، ولهذا فإن أدلته في كتبهم لا تكاد تحصر. ومن ذلك ما ذكره الكليني في (الكافي)، حيث عقد باباً كاملاً في البداء سماه (باب البداء)، وأتى فيه بروايات كثيرة توضح بجلاء مقدار تعلقهم بعقيدة البداء، منها: عن زرارة بن أعين عن أحدهما عليهما السلام قال: "ما عبد الله بشيء مثل البداء". والحقيقة ما عبد الله بشيء مثل التوحيد له عز وجل والانقياد التام، وأما البداء فهو عقيدة يهودية، من قال بها فقد وصف ربه بالنقص والجهل والتخبط في الاعتقاد. وفي رواية ابن عمير عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام: "ما عُظِّم الله بمثل البداء" (1).وعن أبي عبد الله أنه قال: "لو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه" (2).وعن مرزام بن حكيم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "ما تنبأ نبي قط حتى يقر لله بخمس: بالبداء والمشيئة والسجود والعبودية والطاعة" (3). وهذه لا يظهر أنها خمس؛ فالسجود والعبودية والطاعة كلمات تغني كل واحد منها عن الأخرى. وعن الريّان بن الصلت قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: "ما بعث الله نبياً إلا بتحريم الخمر، وأن يقر لله بالبداء" (4). وهذا غير متيقن فإن شرائع الأنبياء تختلف في الفروع، ولم تتفق دعوة الأنبياء على التأكيد إلا في الدعوة إلى توحيد الله وعبادته. ومن تمجيدهم لمن يقول بالبداء ما رواه الكليني عن جعفر أنه قال: "يحشر عبد المطلب يوم القيامة أمة واحدة، عليه سيما الأنبياء، وهيبة الملوك" (5).وعن أبي عبد الله قال: "إن عبد المطلب أول من قال بالبداء، ويبعث يوم القيامة أمة واحدة، عليه بهاء الملوك وسيما الأنبياء" (6). والمعروف – حسبما يذكر علماء الفرق- أن أول من قال بالبداء في الإسلام وأظهره هو المختار بن أبي عبيد، وأن عبد المطلب لم يدخل الإسلام. ويبدو القول بالبداء واضحاً فيما نقل الكليني عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: يا ثابت، إن الله وقَّت هذا الأمر - أي خروج المهدي - في السبعين، فلما قتل الحسين صلوات الله عليه اشتد غضب الله تعالى على أهل الأرض فأخّره إلى أربعين ومائة، فحدثناكم فأذعتم الحديث، فكشفتم قناع الستر ولم يجعل الله له بعد ذلك وقتا عندنا، يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39].قال أبو حمزة: فحدثت بذلك أبا عبد الله عليه السلام فقال: قد كان ذلك (7). ومفهوم هذا النص أن الله تعالى حينما وقّت خروج المهدي في أربعين ما كان يعلم عن مصير الحسين، فلما قتل الحسين غضب الله تعالى على الناس فأخر خروج المهدي جزاءً لقتله وانتقاماً من الناس. ومعلوم أن نسبة الجهل إلى الله تعالى كفر وردة كما تقدم، فإن الله تعالى قد كتب على الحسين كل ما هو لاقيه قبل أن يخلق السموات والأرض، واشتداد غضب الله تعالى حين قتل الحسين وبتلك الصورة المفاجئة يدل على أنه لم لكن يعلم ذلك، وإلا لاشتد الغضب قبل قتله، ولأخّر ظهور المهدي قبل توقيته في السبعين.   (1) ((الكافي)) (1/ 111). (2) ((الكافي)) (1/ 115). (3) ((الكافي)) (1/ 115). (4) ((الكافي)) (1/ 115). (5) ((الكافي)) (ص371) أبواب التاريخ، مولد النبي صلى الله عليه وسلم. (6) ((الكافي)) (ص371) أبواب التاريخ، مولد النبي صلى الله عليه وسلم. (7) ((الكافي)) (1/ 300). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 150 وبعد أن ذكر الطوسيّ جملة من أخبار البداء قال: فالوجه في هذه الأخبار أن نقول إن صحت: إنه لا يمتنع أن يكون الله تعالى قد وقّت هذا الأمر في الأوقات التي ذكرت، فلما تجدّد ما تجدّد تغيرت المصلحة واقتضت تأخيره إلى وقت آخر، وكذلك فيما بعد ويكون الوقت الأول، وكل وقت لا يجوز أن يؤخر مشروطاً بألا يتجدد ما تقتضي المصلحة تأخيره إلى أن يجيء الوقت الذي لا يغيره شيء فيكون محتوماً (1). وهذا هو إثبات الجهل بعينه لتوقف الأمور على ظهور المستجدات والمصلحة فيها. أول من قال بالبداء على الله تعالى: يبدو أن أول من ادعى البداء على الله تعالى هم اليهود، قالوا: إن الله تعالى خلق الخلق، ولم يكن يعلم هل يكون فيهم خير أو شر، وهل تكون أفعالهم حسنة أم قبيحة، فقد جاء في سفر التكوين في الإصحاح السادس من التوراة ما نصه: (ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم، فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه جداً فقال الرب أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته لأني حزنت أني عملتهم) (2). وهذا النص وأمثاله يفيد صراحة أن الله قد بدت له أمور لم يكن يعلمها، فحزن حزناً شديداً حين رأى معاصي البشر. فالبداء عقيدة يهودية مدوّنة في كتبهم المحرفة، ونفس هذه الأفكار مدونة عند الشيعة، فالكليني -كما رأينا فيما سبق- يروي عن الأئمة فضائل كثيرة لاعتقاد هذا الكفر، حتى وإن ذكر بعض الروايات التي تفيد عدم حصول جهل الله بالأمور قبل ظهورها لكنها لم تكن صريحة مثل النصوص الأخرى التي سبق ذكرها عنهم. ويذكر الكثير من العلماء أن أشد من تزعم القول بالبداء في الإسلام هو المختار بن أبي عبيد الثقفي تغطية لكذبه، قال البغدادي مبيناً سبب ادعاء المختار القول بالبداء على الله تعالى: (وأما سبب قوله بجواز البداء على الله عز وجل فهو أن إبراهيم بن الأشتر لما بلغه أن المختار قد تكهّن وادعى نزول الوحي عليه قعد عن نصرته واستولى لنفسه على بلاد الجزيرة، وعلم مصعب بن الزبير أن إبراهيم بن الأشتر لا ينصر المختار فطمع عند ذلك في قهر المختار، ولحق به عبيد الله بن الحر الجعفي ومحمد بن الأشعث الكندي وأكثر سادات الكوفة غيظاً منهم على المختار لاستيلائه على أموالهم وعبيدهم، وأطمعوا مصعباً في أخذ الكوفة قهراً. فخرج مصعب من البصرة في سبعة آلاف رجل من عنده سوى من انضم إليه من سادات الكوفة، وجعل على مقدمته المهلّب بن أبي صفرة مع أتباعه من الأزد، وجعل أعنة الخيل إلى عبيد الله بن معمّر التيمي، وجعل الأحنف ابن قيس على خيل تميم ...   (1) كتاب ((الغيبة)) (ص263)، وانظر: ((فرق الشيعة)) للنوبختي (ص85) في نقله كلام سليمان بن جرير الشيعي في ذمه القول بالبداء، وأنه حيلة من حيل الروافض. (2) ((الكتاب المقدس))، الإصحاح السادس، سفر التكوين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 151 فلما انتهى خبرهم إلى المختار أخرج صاحبه أحمد بن شميط إلى قتل مصعب في ثلاثة آلاف رجل من نخبة عسكره، وأخبرهم بأن الظفر يكون لهم، وزعم أن الوحي قد نزل عليه بذلك، فالتقى الجيشان بالمدائن، وانهزم أصحاب المختار وقتل أميرهم ابن شميط وأكثر قوّاد المختار، ورجع فلولهم إلى المختار وقالوا له: ألم تعدنا بالنصر على عدونا وقد انهزمنا؟ فقال: إن الله تعالى كان قد وعدني بذلك، لكنه بدا له، واستدل على ذلك بقوله عزّ وجلّ: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]. فهذا كان سبب قول الكيسانية بالبداء) (1).ويقول الشهرستاني في تقريره لهذه القضية: "وإنما صار المختار إلى اختيار القول بالبداء لأنه كان يدعي علم ما يحدث من الأحوال، إما بوحي يوحى إليه، وإما برسالة من قبل الإمام، فكان إذا وعد أصحابه بكون شيء وحدوث حادثة، فإن وافق كونه قوله جعله دليلاً على صدق دعواه، وإن لم يوافق قال: قد بدا لربكم. وكان لا يفرق بين النسخ والبداء. قال: إذا جاز النسخ في الأحكام جاز البداء في الأخبار" (2). ومعلوم عند كافة أهل العلم أن النسخ ليس معناه البداء على الله تعالى، وإنما النسخ رحمة من الله تعالى وتدرّج في الأحكام. ولكن الشيعة أيضاً هم على هذا الرأي، وهو عدم التفريق بين النسخ والبداء، وفي هذا يقول الطوسي."وعلى هذا يتأول أيضاً ما روي من أخبارنا المتضمنة للبداء ويبيّن أن معناها النسخ على ما يريده جميع أهل العدل فيما يجوز فيه النسخ، أو تغير شروطها إن كان طريقها الخبر عن الكائنات" (3). وعلى كل حال فإنه ما من مسلم سليم الفطرة، لم تدنس فطرته بشبهات المبطلين وأقاويل الضالين إلا وهو يعتقد أن الله تعالى لا يلحقه نقص في علمه المحيط بكل شيء، وأن ادّعاء البداء على الله معناه نسبة الجهل إليه جل وعلا، وهذا كفر صريح. ولقد أصبح الشيعة باعتقادهم هذا -كما يقول العلماء- "عاراً على بني آدم وضحكة يسخر منهم كل عاقل بسبب ما اعتقدوه من مثل هذه الضلالات" (4). وبالرجوع إلى القرآن الكريم وإلى السنة النبوية وإلى أقوال أهل العلم، وإلى فطرة كل شخص نجد أن كل ذلك يضحد ما ذهب إليه علماء الشيعة ويبطل القول بالبداء، وأن الذين يطلقون ذلك على الله ما عرفوه وما قدروه حق قدره ... ففي القرآن الكريم آيات تكذب كل زعم يقول بالبداء على الله عز وجل، ومن ذلك: قوله تعالى: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [الأنعام:59]. قوله تعالى: لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى [طه:52]. قوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [الحشر:22]. وفي السنة أحاديث كثيرة تدل على ما دلت عليه تلك الآيات، ومعلوم أن هذه الفكرة لم ترد على أذهان السلف الأوائل؛ بل إنهم كانوا يعتبرونها من وساوس الشيطان ويستعيذون بالله منها، فإن الله قد أحاط بكل شيء علماً، والله لم يثبتها لنفسه والأنبياء لم يقرّوا لله بها -كما زعم الشيعة- وإنما أقر بها اليهود، وروجها عبد الله بن سبأ في الإسلام. وجدّدها المختار، وتلقفها عنهم الحاقدون على الإسلام الذين يطمعون في التلاعب بمفاهيم المسلمين وتشويه معتقداتهم، وليكون ذلك أيضاً غطاءً لما يريدونه من مخططات لهدم الإسلام. ومما لا يتطرق إليه الشك أن الشيعة -وهم يستحلون الكذب على الله وعلى الناس- أنهم هم الذين اخترعوا تلك النصوص ونسبوها إلى بعض العلماء الأجلاء من آل البيت لتكتسب بذلك وجهاً عند عوام المسلمين فيتقبلوها، ليتم لأولئك ما أرادوه من نيات سيئة بيّتوها للإسلام والمسلمين. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 445 - 452   (1) ((الفرق بين الفرق)) (ص50 - 52). (2) ((الملل والنحل)) (1/ 149). (3) كتاب ((الغيبة)) (ص264). (4) انظر: كتاب ((صب العذاب على من سبّ الأصحاب)) ضمن رسالة علمية تحقيق ابن أبي شعيب، وانظر ((مختصر منهاج السنة)) (1/ 173). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 152 المطلب الثاني: حكم من قال بالبداء: وإذا أطلقت هذه المعاني على الإنسان فلا محذور فيها لتحققها فيه، وأما إذا أطلقت على الله عز وجل فلا شك أنها كفر تخرج صاحبها من الملة، ذلك أن الله تعالى عالم الغيب والشهادة، يعلم السر وأخفى، ويعلم ما ظهر وما سيظهر على حد سواء، ومحال عليه عز وجل حدوث الجهل بالشيء فتبدو له البداءات فيه. وهذه العقيدة معلومة من الدين بالضرورة أنها باطلة لدى كافة المسلمين، ولا يتصور اتصاف الله بها إلا من لا معرفة له بربه، واستحوذ عليه الجهل والغباء. فما هو موقف الشيعة من هذه القضية؟. الواقع أن كل كتب الشيعة تؤكد وجود اعتقاد هذه الفكرة عن الله، بل ووصل بهم الغلو إلى حد أنهم يعتبرونها من لوازم الإيمان، كما سيأتي ذكر النصوص عنهم، إلا أن الأشعري يذكر عنهم أنهم اختلفوا في القول بها إلى ثلاث مقالات: فرقة منها يقولون: إن الله تبدو له البداوات، وإنه يريد أن يفعل الشيء في وقت من الأوقات، ثم لا يحدثه بسبب ما يحدث له من البداء، وفسروا النسخ الحاصل في بعض الأحكام على أنه نتيجة لما بدا لله فيها ... تعالى الله عن قولهم. وفرقة أخرى: فرّقوا بين أن يكون الأمر قد اطلع عليه العباد أم لا، فما اطلعوا عليه لا يجوز فيه البداء، وما لم يطلعوا عليه -بل لا يزال في علم الله- فجائز عليه البداء فيه. وذهب قسم منهم إلى أنه: لا يجوز على الله البداء بأي حال. هذا ما قرره الأشعري (1)، ولكن كما قدمنا فإنه بالرجوع إلى مصادر الشيعة الإمامية الرافضة تجد أنهم متمسكون بهذا المبدأ ويقرون أن الله تبدو عليه البداوات، ويذكرون فيه فضائل من يعتقد على الله البداء أكاذيب كثيرة منكرة دون ذكر خلاف بينهم، وقد يصدق كلام الأشعري على بعض المعتدلين ممن مال إلى التشيع، ولم يغلوا فيه غلو الإمامية. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 443 - 445   (1) ((المقالات)) (1/ 113). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 153 المبحث العاشر: الغلو: • المطلب الأول: الغلو النظري: . • المطلب الثاني: الغلوّ العملي:. • المطلب الثالث: مظاهر الغلو:. • المطلب الرابع: موقف الأئمة من الغلو فيهم:. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 154 المطلب الأول: الغلو النظري: والغلو النظري بكل اختصار: اعتقاد الإنسان في حق إنسان آخر أنه قادر على الإتيان بكرامات أو معجزات أو أمور خارقة وغير عادية لا يستطيع الإتيان بها عامة الناس، كما أن الإيمان بتأثير إنسان ما حياً كان ذلك الإنسان أو ميتاً في حياة الآخرين خيراً أو شراً وفي الدنيا والآخرة, هو مظهر كبير من مظاهر الغلو، والغلو النظري المسطور في كتب الروايات والأحاديث ونسبة الأمور العجيبة والخارقة إلى الأئمة والأولياء والمشايخ كانت السبب في تنمية الغلو العملي وما يصدر من عامة الناس في مقابر الأئمة والأولياء والمشايخ في إظهار العبودية وتقديم النذورات وطلب الحاجة المباشرة منهم وأمور أخرى لا تعد ولا تحصى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 155 وفكرة الغلو تحتل قلوب كثير من الناس حتى من غير المسلمين وتشارك الفرق الإسلامية الأخرى الشيعة في غلوهم بالنسبة للأئمة والأولياء نستثني منهم (السلفية) الذين استطاعوا أن يحطموا القيود التي قيدت عقول الناس وقلوبهم على السواء، غير أن الشيعة سبقت الفرق الإسلامية الأخرى في هذا المضمار كثيراً ويعود هذا الإسراف في الغلو إلى كتب الروايات التي لم تهذب, وموقف الفقهاء من تلك الروايات وعدم تفنيدهم لمحتواها، فقد ذكرت كتب الشيعة والتي تعتبر موثوقة قصصاً في معجزات الأئمة وفي كراماتهم هي لا تقل عن تلك التي نجدها في كتب روايات الفرق الإسلامية الأخرى عن المشايخ والأولياء وشيوخ الصوفية، ولا أريد أن أدخل في ذلك الجدل العقيم, هل أن هذه الروايات صادقة أم أنها من نسج الخيال؟ وأنها حيكت في عصر كانت أذهان العامة لا ترتضي ولا تطمئن إلا أن تسمع قصصاً مثيرةً عن حياة كبرائهم، ولكن النقطة الأساسية والتي أرتكز عليها في هذا البحث هي أننا نحن كمسلمين وكأمة نعتقد بأن المعطيات العقلية هي أكثر المعطيات اتباعاً وقبولاً وهي التي تغنينا عن السير أشواطاً وراء السراب، ونحن معاشر الشيعة بالذات قد اتخذنا المذهب العقلي جزءاً من استنباط أحكامنا الفقهية وهناك رواية ذكرها الكليني في (أصول الكافي) متواتراً عن الإمام "الصادق" جاء فيها:"إن أول ما خلق الله العقل فقال له: أقبل فأقبل ثم قال له: أدبر فأدبر ثم قال: فبعزتي وجلالي بك أعاقب وبك أثيب". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 156 ومن هنا اتخذت الشيعة تلك القاعدة العقلية التي تقول: (كل ما حكم به العقل حكم به الشرع) أي أن المستقبلات العقلية التي لا يجد العقل إلا بداً من قبولها أو رفضها فالشرع يحكم بذلك وها أنا أسأل: أين موقف العقل من هذه الخزعبلات التي رواها الرواة بالنسبة لأئمتنا من المعجزات والكرامات؟ وأين العقل من هذا الغلو الجارف الذي يمنع المرء من ذكر الله والتوجه إليه؟ ثم لماذا ونحن الشيعة لا نعطي لأئمتنا حقهم في المرتبة الرفيعة التي يحتلونها؟ وهي الوصول إلى مرتبة الإنسان الكامل الذي هو معجزة تفوق كل المعجزات الأخرى فقد جاء في الحديث عن الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: ((إن الله خلق الإنسان وركّب فيه العقل والشهوة وخلق الملائكة وركب فيها العقل وخلق البهائم وركب فيها الشهوة فمن غلب عقله على شهوته فهو أعلى من الملائكة ومن غلبت شهوته على عقله فهو أدنى من البهائم)) إن هذه المرتبة الإنسانية الكبرى التي أنعم الله بها على الأئمة وعباده الصالحين حيث بلغوا مرتبة هي أعلى من الملائكة تغنيهم ورب الكعبة من أن تنسج حولهم الخزعبلات ما تضحك الثكلى, ثم إن الغلو في بعض الأحيان يجتاز مرحلة المدح وينقلب ذمّاً فمثلاً: إن العصمة التي نسبت إلى الأئمة كما قلنا في فصول سابقة كان الغرض منها تثبيت تلك الروايات الكاذبة التي تتنافى مع العقل والمنطق والتي نسبت إلى الإمام كي يُسَدّ باب النقاش في محتواها على العقلاء والأذكياء ويرغم الناس على قبولها, لأنها صدرت من معصوم لا يخطئ، ولكن العصمة في حقيقة حالها إنما هي تنقيص من حق الإمام لا مدح فيه لأن تفسير العصمة بالمفهوم الشيعي تعني أن الأئمة منذ ولادتهم وحتى وفاتهم لم يرتكبوا معصية بإرادة الله وهذا يعني فقدانهم الإرادة في تفضيل الخير على الشر، ولست أدري أية فضيلة تكتب للمرء عند الله إذا لم يستطع القيام بعمل الشر بسبب إرادة خارجة عن ذاته، نعم إذا كانت العصمة تعني أن الأئمة مع القدرة على الإتيان بالمعاصي لن يأتوا بها لعلو في نفوسهم وملكة قوية في أخلاقهم وحاجز يحجزهم عن معصية الله, فهذا كلام معقول يتلاءم مع المنطق والعقل, ولكن في هذه الحالة لا نستطيع القول: إن هذه النفسية تخص أشخاصاً معدودين وأنها خاصة لأئمتنا فقط بل إنها صفة يستطيع كل إنسان أن يتصف بها إذا التزم حدود الله وأطاع أوامره وانتهى عن نواهيه وحسبنا كتاب الله الذي أعطى لنا مثلاً رائعاً وصورة بليغة لهذه العناية الإلهية في سورة يوسف: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:23 - 24] والعلم اللدني من هذا النوع أيضاً فما هي الفضيلة في اقتباس العلوم بلا جهد ومثابرة وسعي؟ وأدهى من ذلك أن بعض علمائنا ذهبوا إلى أبعد من ذلك وقالوا: إن الإمام يعلم كل شيء وله معرفة بكل العلوم والفنون ولست أدري أيضاً ما هي الفضيلة بالنسبة إليه أن يكون مهندساً أو ميكانيكياً أو عالماً باللغة اليابانية إنما الفضيلة بالنسبة للإمام أن يكون فقيهاً ورعاً وعالماً ربانياً في شؤون الدين وفي هذا كل الفضل, ثم إذا كان القرآن الكريم يقول في رسوله الذي أرسله للناس ضياءً ونوراً قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85] وينفي عنه العلم بالغيب بقوله: وَلَوْ كُنتُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 157 أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ [الأعراف:188] فكيف تسوغ لنا نفوسنا أن ننسب إلى أئمتنا صفات تعلو على صفات رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أم المعاجز والكرامات التي كانت تصدر عن الأنبياء في حين وآخر ويشير إليها القرآن الكريم, فإنها كانت تحدث في عهد التحديات الإنسانية لرسالات السماء وفي عهود كانت البشرية لا تستطيع درك المفاهيم العقلية والفضائل العليا بلغة المنطق والاستدلال, وكان لا بد من حملها إلى طريق الإيمان فأنعم الله على أنبيائه وكرّمهم بالمعاجز ليكونوا حجة على الناس وأرسل الله رسولهصلى الله عليه وسلم بالمعجزة الخالدة وهو القرآن الكريم إنها المعجزة الأبدية التي تبقى ما شاء الله لها أن تبقى، وبمحمد ختمت الرسالة وختمت المعجزات وأكمل الدين وأتمت النعمة وجاء قول الله صريحاً وجلياً: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3] ومرةً أخرى ونحن نتحدث عن الغلو النظري عند الشيعة قبل الغلو العملي ونترك الباب مفتحاً لسائر الفرق الإسلامية الأخرى أن تحدث هي عن الغلو الحاكم في قلوب أبنائها وفي بطون كتبها. إن المؤسف حقاً هو أن الغلو النظري مثل العملي دخل إلى أعماق القلوب عن طريق فقهاء المذهب والمجتهدين فالمسؤولية الأولى والأخيرة تقع على عاتقهم لأنهم هم الذين قادوا العوام على الطريق، فهناك أمور نَسَبَتْها كتب الشيعة إلى الأئمة وتبناها فقهاء المذهب وذكرتها كتب الروايات الموثوقة عندهم مثل " أصول (الكافي) " و " الوافي " و " الاستبصار " و " ومن لا يحضره الفقيه " و " وسائل الشيعة " وغيرها من أهم الكتب والمصادر الشيعية وفي كثير منها الغلو وفي كثير منها الحط من قدر الأئمة ولكن بصورة غير مباشرة، ومع أننا نستثني بعض علمائنا وبعض مراجعنا حيث اتخذوا موقفاً منصفاً ومعتدلاً من الغلو النظري والعملي, غير أن الأكثرية منهم ساروا على درب الغلو من أَلِفِهِ إلى يائه, ولعل من أهم مواضيع الغلوّ: العصمة. العلم اللدني. الإلهام. المعاجز. الإخبار بالغيب. الكرامات. تقبيل الأضرحة وطلب الحاجات. وهنا أود القول بكل صراحة ووضوح هو أنني عندما أطلب غربلة الكتب الشيعية وتهذيبها من الروايات التي تسيء إلى العقل الإنساني بدلاً من أن تصقله أطلب في الوقت نفسه من علماء الفرق الإسلامية الأخرى أن تهذب وتغربل بدورها كتبها من الروايات التي جاءت فيها وهي لا تقل عن الغرابة والسخف من الروايات التي دونت في كتب الشيعة. المصدر: الشيعة والتصحيح لموسى الموسوي - ص56 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 158 المطلب الثاني: الغلوّ العملي: إن الغلو العملي يتجسد في طلب الحاجات الدنيوية والأخروية من الأئمة والاستغاثة بهم بصورة مباشرة، كما أن تقبيل الأضرحة هو أمر شائع في مراقد الأئمة والأولياء معاً، حقاً لقد سئمت من المناقشة والمناظرة مع فقهائنا - سامحهم الله - حول تقبيل الأضرحة وطلب الحاجات من الأئمة وقراءة الزيارة أمام قبورهم بدلاً من قراءة القرآن الكريم فلم أسمع منهم إلا تكراراً لكلمات قيلت فقد أرادوا أن يجدوا العذر في تقبيل الأضرحة بتقبيل الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الحجر الأسود في حين أن عمل الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يعتبر سنة لموقع خاص ومقام خاص حتى أن الخليفة " عمر بن الخطاب " وقف أمام " الحجر " مخاطباً له: (إنك حجر لا تضر ولا تنفع ولكنني رأيت رسول الله يقبلك فأقبلك) (1) وإن الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم يسمح أبداً أن يقبل أحد يده بل كان يصافح زائريه والقادمين إليه كما أننا لم نسمع ولم نقرأ أن الإمام " علياً " سمح لأحد أن يقبل يده أو رداءه وهذا هو الإمام " الصادق " وقد أغضبه رجل عندما أراد أن يقبل عصاه التي يتوكأ عليها بذريعة أنها عصا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال له غاضباً: (ويحك -وهو يشير إلى يده- هذا لحم ودم رسول الله فلماذا تقبل ما لا يضرك ولا ينفعك) ومن الغريب في استدلال علمائنا بتقبيل النبي الكريم للحجر الأسود وجواز تقبيل الأضرحة بالقياس عليه هو أنهم من أشد الناس معارضة للقياس في استنباط الأحكام الشرعية وكما نعرف جعلوا الدليل العقلي بدلاً من القياس في استنباط الأحكام ولكنهم أخذوا به عندما رأوا مصلحة في ذلك، لقد زرت مقابر الأولياء في كثير من البلاد الإسلامية فرأيت الزائرين فيها على النمط الذي نراه في مشاهد أئمتنا ودخلت كنائس المسيحيين في كثير من بلاد العالم فرأيت الناس فيها كما هي فهم يتبركون بتمثال المسيح وبأقدام العذراء, وقد تركوا الله جانباً ويطلبون منهما العون في الدنيا والآخرة، ودخلت معابد البوذيين والشنتو ومعابد الهنود والسيخ فرأيت ما رأيته من قبل في مشاهد المسلمين والمسيحيين معاً في تقديم القربان وطلب الحاجة وتقبيل التماثيل والركوع والخضوع والخشوع أمامها. وهكذا رأيت البشرية تعوم في سراب من الأوهام وحقاً أكبرت أولئك العلماء من المسلمين أمثال ابن حزم الأندلسي ومن حذا حذوه من الذين منحهم الله عقولاً جبارةً اتخذوها مناراً وهدايةً لهم وللآخرين فسبقوا عصورهم بقرون وقرون ووقفوا موقف الساخر الغاضب من هذه الأعمال، ولنقرأ معاً هذه الآيات البينات وقد عالجت هذه الأمور بصراحة ووضوح: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188] وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ [هود:31] قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65] وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16] المصدر: الشيعة والتصحيح لموسى الموسوي - ص56   (1) [10680]- رواه ((البخاري)) (1597). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 159 المطلب الثالث: مظاهر الغلو: ومن مظاهر الغلو في الأئمة: - الأئمة يعلمون الغيب، وفاقوا في ذلك موسى عليه السلام: في باب بعنوان: (إن الأئمة يعلمون ما كان وما يكون وإنه لا يخفى عليهم شيء)، جاءت الرواية الأولى تقول: إن الإمام جعفراً الصادق قال في مجلس يضم خواصه، لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما، ولأنبأتهما ما ليس في أيديهما، لأن موسى والخضر عليهما السلام أعطيا علم ما كان، ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتى تقوم الساعة، وقد ورثناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وراثة (1). - سيشهد الأئمة على أهل زمانهم يوم القيامة: في باب: (إن الأئمة شهداء لله عز وجل على خلقه) رواية عن الإمام جعفر الصادق حين سئل عن الآية التالية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا [النساء:41]. قال الإمام جعفر الصادق: (نزلت في أمة محمد خاصة، في كل قرن منهم إمام منا شاهد عليهم، ومحمد شاهد علينا) (2).والرواية الأخيرة في هذا الباب تقول: قال أمير المؤمنين: (إن الله تبارك وتعالى طهرنا، وعصمنا، وجعلنا شهداء على خلقه، وحجة في أرضه) (3). - جميع الكتب التي نزلت على الأنبياء السابقين كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها موجودة لدى الأئمة، يقرؤونها بلغاتها الأساسية: وفي (أصول الكافي) باب بعنوان: (إن الأئمة عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله عز وجل، وإنهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها)، وهو يحتوي على عدة روايات بهذا المضمون، وتذكر أحداثاً وردت أيضاً بنفس المضمون في الأبواب السابقة، وتذكر إحدى الروايات أن الإمام جعفراً الصادق قال: (وإن عندنا علم التوراة والإنجيل والزبور، وتبيان ما في الألواح) (4).وفي الباب الثاني في (أصول الكافي) يروى عن الإمام جعفر أنه سئل عن قوله: (إن لدينا الجفر الأبيض)، فقال: (زبور داود عليه السلام، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وصحف إبراهيم) (5). - يمتلك الأئمة وسائل عجيبة وغريبة للعلوم، بالإضافة إلى القرآن والحديث: في باب بعنوان: (باب فيه ذكر الصحيفة، والجفر، والجامعة، ومصحف فاطمة) وردت الرواية الأولى، وهي طويلة جدّاً، ونورد ملخصها: (يقول أبو بصير، وهو طبقاً لروايات الشيعة من خواص ومن حاملي أسرار الإمام جعفر الصادق: حضرت إلى جعفر الصادق ذات يوم، وقلت له: إنني أود أن أكشف أمراً خاصاً، فهل هناك من أجنبي هنا؟ فرفع الإمام الحجاب الفاصل بين مجلسنا والمجلس الآخر فلم نشاهد أحداً، ثم قال: سل ما شئت، فسألت سؤالاً عن علم المرتضى والأئمة، ففصل الإمام الحديث عن هذا الأمر). ومما جاء في نهاية الرواية: (وإن عندنا الجفر، قلت: وما يدريهم ما الجفر؟ قال: وعاء من أدم فيه علم النبيين والوصيين وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل، ثم قال: وإن عندنا لمصحف فاطمة قلت: وما يدريهم ما مصحف فاطمة؟ قال: فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد) (6). تحذير هام: من الملاحظ هنا أن الإجابة التي نقلها راوي الرواية أبو بصير عن الإمام جعفر الصادق ذكرت القرآن مرتين هكذا: (قرآنكم)، كما قيل عن مصحف فاطمة: "إنه أكثر من قرآنكم ثلاث مرات، ولا يوجد فيه حرف من قرآنكم".   (1) ((أصول الكافي)) (ص160). (2) ((أصول الكافي)) (ص112). (3) ((أصول الكافي)) (ص113). (4) ((أصول الكافي)) (ص137). (5) ((أصول الكافي)) (ص147). (6) ((أصول الكافي)) (ص146). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 160 وهناك الآلاف من هذه الافتراءات التي افترى فيها أبو بصير وغيره على أئمة أهل البيت، وهي متناثرة في (أصول الكافي)، وغيره من كتب الشيعة، ولا يمكن لأي مؤمن أن يساوره أي شك في إيمان آل البيت حتى يضعوا قرآناً غير القرآن الكريم الذي أنزله الله على رسوله. لقد سمعنا من البوذيين والنصارى وهم يناظروننا ويقولون في (قرآنكم) كذا أو كذا، وجاء في (قرآنكم) هذا وذاك. ونحن على يقين أن الإمام جعفراً الصادق لم يذكر أبداً هذا الأمر عن القرآن الكريم، وتلك الروايات هي في الأصل من اختلاق هؤلاء الرواة، الذين ألفوا المذهب الشيعي، ونسبوا كل هذه الخرافات إلى الإمام جعفر الصادق والإمام الباقر وكبار أهل البيت، وراوي الرواية السابقة أبو بصير هو واحد من أولئك الناس الذين لعبوا دوراً كبيراً في هذا الافتراء الكاذب على آل البيت. ومن الجدير بالذكر هنا أن أبا بصير، وزرارة، وغيرهم من رواة هذه الخرافات -وهم في الأصل مؤلفو المذهب- قد سكنوا منطقة الكوفة، بينما كان الإمام الباقر والإمام جعفر الصادق في المدينة، وكان هؤلاء الناس يذهبون أحياناً من الكوفة إلى المدينة، ثم يعودون إلى الكوفة، لينسبوا ما نسبوه إلى الأئمة داخل مجالسهم الخاصة في الكوفة، وهكذا صارت تلك الروايات هي أساس المذهب الشيعي ... - أعمال العباد تعرض على الأئمة: في (أصول الكافي) باب بعنوان: (باب عرض الأعمال على النبي والأئمة)، وفيه رواية تقول: إن عبد الله بن أبان الزيات، وهو من خاصة الشيعة، طلب من الإمام الرضا رضي الله عنه الدعاء له قائلاً: "ادع الله لي ولأهل بيتي، فقال: أولست أفعل؟ والله إن أعمالكم لتعرض علي في كل يوم وليلة". وتقول الرواية إن عبد الله بن أبان استعظم هذا الأمر، فقال الإمام الرضا: ألم تقرأ هذه الآية القرآنية: وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105]، فالمقصود بـ (المؤمنون) في هذه الآية هو (علي بن أبي طالب) (1).وكتب العلامة القزويني في هذا الشرح: (إن ما قاله الإمام الرضا من تفسير كلمة: (المؤمنون) هو علي رضي الله عنه فقط، ذلك لأن سلسلة الإمامة مستمرة، وإن كان المقصود ليس علياً فقط، بل المراد جميع الأئمة الذين يولدون من نسله) (2). - الملائكة يتوافدون على الأئمة: في (أصول الكافي) باب بعنوان: (إن الأئمة معدن العلم، وشجرة النبوة ومختلف الملائكة). وقد وردت فيه رواية عن الإمام جعفر الصادق، أنه قال: "ونحن شجرة النبوة، بيت الرحمة، ومفتاح الحكمة، ومعدن العلم، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة" (3). - معراج الأئمة كل ليلة جمعة، يصلون إلى العرش، وهناك ينالون العلم الجديد: يروى عن الإمام جعفر الصادق في (أصول الكافي) أنه قال: "إن لنا في ليالي الجمعة لشأن من الشأن. ويؤذن لأرواح الأوصياء الموتى، وروح الوصي الذي بين أظهركم تعرج بها إلى السماء، حتى توافي عرش ربها، فتطوف به أسبوعاً فتصلي عند كل قائمة من قوائم العرش ركعتين، ثم ترد إلى الأبدان التي كانت فيها، فتصبح الأنبياء والأوصياء قد ملئوا سروراً، ويصبح الوصي الذي بين ظهرانيكم وقد زيد في علمه مثل الجم الغفير" (4). وقد وردت عدة روايات بعد هذه الرواية بنفس المضمون.   (1) ((أصول الكافي)) (ص134). (2) ((الصافي)) (3/ 1/140). (3) ((أصول الكافي)) (ص135). (4) ((أصول الكافي)) (ص155). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 161 - نال الأئمة جميع العلوم التي وهبها الله للملائكة والأنبياء والرسل، ونالوا علوماً لم يهبها الله للأنبياء ولا الملائكة: في باب: (إن الأئمة يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل عليهم السلام)، ورد هذا الحديث في أوله: عن أبي عبد الله قال: "إن الله تبارك وتعالى علمني علماً أظهر عليه ملائكته وأنبياءه ورسله، فما أظهر عليه ملائكته ورسله وأنبياءه فقد علمناه، وعلماً استأثر الله به، فإذا بدا لله بشيء منه أعلمنا ذلك، وعرض على الأئمة الذين كانوا من قبلنا" (1). - يتنزل على الأئمة من عند الله كتاب في ليلة القدر كل سنة تنزل به الملائكة والروح: ورد في باب البداء، في (أصول الكافي) رواية عن الإمام جعفر الصادق أنه قال في تفسيره لآية: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]. (وهل يمحو إلا ما كان ثابتاً، وهل يثبت إلا ما لم يكن) (2).ويقول شارح (أصول الكافي) العلامة القزويني: (المقصود بنزول كتاب مفصل في كل سنة هو الكتاب الذي تفسر فيه أحكام الحوادث التي يحتاج إليها إمام ذلك الزمان حتى العام التالي، وهذا الكتاب تتنزل به الملائكة والروح على إمام الزمان ليلة القدر) (3). ويتضح أن المقصود بـ (الروح) لدى الشيعة ليس الروح الأمين جبريل، بل (الروح) لديهم عبارة عن مخلوق، هو عندهم أعظم شأناً من جبريل الأمين وجميع الملائكة. وقد ذكر القزويني في كتابه (الصافي) ذلك الأمر بصراحة، وهناك باب آخر من أصول (الكافي) بعنوان: باب في شأن: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]: (ولقد قضى أن يكون في كل سنة ليلة يهبط فيها تفسير الأمور إلى مثلها من السنة المقبلة) (4). والمفهوم من هذه الرواية هو نفسه ما يفهم من العبارات السابقة لكتاب القزويني (الصافي)، أي: ينزل كتاب من عند الله على الإمام في ليلة القدر كل سنة، يوضح جميع الأحداث والمعاملات التي ستحدث طوال السنة، وحتى ليلة القدر القادمة. - الأئمة يعرفون ساعة موتهم، وموتهم داخل في دائرة اختيارهم: في (أصول الكافي) باب بعنوان: (إن الأئمة يعلمون متى يموتون وإنهم لا يموتون إلا باختيار منهم) (5).وهذا المعنى يفهم من الروايات التي ترد عن الأئمة في الباب المذكور، والرواية الأخيرة في هذا الباب لها مكانتها لدى الشيعة، ومن هنا ننقلها هنا:"عن أبي جعفر قال: أنزل الله عز وجل النصر على الحسين رضي الله عنه حتى كان بين السماء والأرض، ثم خير بين النصر ولقاء الله، فاختار لقاء الله عز وجل" (6). ولنا أن نفكر في السلوك الذي يسلكه الشيعة في مآتمهم التي يقيمونها بمناسبة ذكرى شهادة الحسين في ضوء تلك الرواية. - كان لدى الأئمة معجزات الأنبياء السابقين أيضاً:   (1) ((أصول الكافي)) (ص156). (2) ((أصول الكافي)) (ص85). (3) ((الصافي)) (2/ 229). (4) ((أصول الكافي)) (ص153). (5) ((أصول الكافي)) (ص158). (6) ((أصول الكافي)) (ص159). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 162 في باب بعنوان: (باب ما عند الأئمة من آيات الأنبياء) وردت الرواية الأولى التي ننقل ملخصها، وهي عن الإمام الباقر، وتتعلق بعصا موسى عليه السلام، وهي معجزة موسى الخاصة التي ذكرها القرآن الكريم أكثر من مرة. يُحكى عن الإمام الباقر أنه قال: "إن هذه العصا هي في الأصل عصا آدم عليه السلام، أخذت تنتقل حتى وصلت إلى موسى عليه السلام، وهي الآن لدينا، وسوف تنتقل إلى آخر الأئمة - المهدي - ليقوم عن طريقها بما قام به موسى عليه السلام في زمانه" (1).ويروي فيما بعد عن الإمام الباقر أن أمير المؤمنين علياً المرتضى، خرج ذات ليلة بعد العشاء يقول: "خرج عليكم الإمام، عليه قميص آدم، وفي يده خاتم سليمان، وعصا موسى" (2). - الأئمة يمتلكون الدنيا والآخرة، يهبون من يشاءون ويعطون لمن يشاءون: في (أصول الكافي) كتاب (الحجة)، باب بعنوان: (باب إن الأرض كلها للإمام عليه السلام)، يروى عن أبي بصير أن الإمام جعفراً الصادق قال رداً على سؤال: " أما علمت أن الدنيا والآخرة للإمام يضعها حيث يشاء ويدفعها إلى من يشاء" (3). - الإمامة مركبة من النبوة والألوهية: ما نقلناه من كتب الشيعة ولأهل التشيع عن الأئمة والإمامة يكفي لنعرف ولنفهم أن الأئمة -من وجهة نظر المذهب الشيعي- لهم ما للأنبياء من صفات وخصائص، وكمالات ومعجزات، ودرجتهم أعلى من درجة جميع الأنبياء السابقين، حتى الأنبياء أولوالعزم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، فهم يتساوون تماماً مع خاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وأكثر من هذا، فهم يحملون الصفات الإلهية، وهم يطلعون على عالم الغيب والشهادة لا يخفى عليهم شيء، لا يمكن أن نتصور أن يصدر عنهم أي سهو أو نسيان أو غفلة، يحكمون الكائنات ذرة ذرة، أي لهم سلطة: (كن فيكون)، وهم يملكون الدنيا والآخرة، يهبون من يشاءون ويحرمون من يشاءون ... والبحث في عقائد الشيعة يجعلنا ندرك مدى التقارب والتشابه بينهما وبين المسيحية الحالية المحرفة. المصدر: الثورة الإيرانية في ميزان الإسلام لمحمد منظور نعماني - ص120 فما بعدها   (1) ((أصول الكافي)) (ص140). (2) ((أصول الكافي)) (ص142). (3) ((أصول الكافي)) (ص258). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 163 المطلب الرابع: موقف الأئمة من الغلو فيهم: إن القوم لم يجبلوا إلا على الكذب، ولم يخلقوا إلا مع الكذب كأنهم والكذب توأمان، فلقد كذبوا وما أكثره وأشنعه بأن أئمتهم يملكون الأوصاف الإلهية المختصة بذات الله وجلاله، وأنهم يشاركونه في أموره وتقديراته - سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً-. فهذا هو كلينيهم - وهو كالبخاري عند السنة - يكذب على علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لقد أعطيت خصالاً لم يعطهن أحد قبلي - وحتى الأنبياء -، علمت المنايا والبلايا والأنساب وفصل الخطاب، فلم يفتني ما سبقني، ولم يعزب عني ما غاب عني" (الأصول من (الكافي) 19/ 197). والثابت في كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34]. ومن أوصاف الله عز وجل أنه لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ [سبأ:3]. وأنه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: 65]. وأما القوم فلم يكتفوا على أن يثبتوا الصفات الربانية المختصة بمقامه وشأنه -جل وعلا- لعلي رضي الله عنه مخالفين كتاب الله وتعاليم رسوله صلى الله عليه وسلم، بل أثبتوها لأئمتهم جميعاً، فلقد بوب الكليني باباً مستقلاً: إن الأئمة عليهم السلام يعلمون علم ما كان وما يكون وإنه لا يخفى عليهم الشيء. ثم نقل عن جعفر الصادق - وهو يكذب عليه - أنه قال: إني أعلم ما في السماوات والأرض وأعلم ما في الجنة وما في النار وأعلم ما كان وما يكون. كما كذبوا على أبيه محمد الباقر أنه قال: لا يكون والله عالماً جاهلاً أبداً، عالما بشيء، جاهلاً بشيء، ثم قال: الله أجل وأعز وأكرم من أن يفرض طاعة عبد يحجب عنه علم سمائه وأرضه، ثم قال: لا يحجب ذلك عنه" (الأصول من (الكافي) 1/ 262). وكذبوا على أبي الحسن أنه كان جالساً وعنده إسحاق بن عمار، فدخل عليه رجل من الشيعة، فقال له: يا فلان! جدد التوبة وأحدث العبادة، فإنه لم يبق من عمرك إلا شهر، قال إسحاق: فقلت في نفسي: واعجباه كأنه يخبرنا أنه يعلم آجال الشيعة أو قال: آجالنا، قال: فالتفت إلي مغضباً - لأنه عرف ما اختلج في صدره - وقال: يا إسحاق وما تنكر من ذلك يا إسحاق أما أنه يتشتت أهل بيتك تشتتاً قبيحاً، ويفلس عيالك إفلاساً شديداً" (رجال الكشي ص348) تحت ترجمة إسحاق بن عمار ط كربلاء. هذا، وإله الحق يقول: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ [الأنعام: 59]. وقد أقر بذلك جعفر الصادق وأنكر عنه وعن غيره من أهل البيت الغيب كما رواه القوم أنفسهم عن سدير أنه قال: كنت أنا وأبو بصير ويحيى البزار وداؤد بن كثير في مجلس أبي عبد الله عليه السلام إذ خرج علينا وهو مغضب، فلما أخذ مجلسه قال: يا عجبا لأقوام يزعمون أنا نعلم الغيب، ما يعلم الغيب إلا الله عز وجل، لقد هممت بضرب جاريتي فلانة، فهربت مني فما علمت في أي دار هي؟ " (كتاب (الحجة) من (الكافي) " 1/ 257). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 164 ومثله في رجال الكشي حيث سئل عنه أن أبا الخطاب - أحد تلامذته - يقول: إنك تعلم الغيب وأنت قلت له هذا؟ فقال جعفر: وأما قوله: إني كنت أعلم الغيب فوالله الذي لا إله إلا هو ما أعلم الغيب، ولا آجرني الله في أمواتي ولا بارك لي في أحيائي إن كنت قلت له، قال: (أي الراوي) وقدامه جويرية سوداء تدرج قال (أي جعفر): لقد كان مني إلى أم هذه بخطة القلم فأتتني هذه فلو كنت أعلم الغيب ما كانت تأتيني، ولقد قاسمت مع عبد الله حائطاً بيني وبينه، فأصابه السهل والشرب وأصابني الجبل، فلو كنت أعلم الغيب لأصابني السهل والشرب وأصابه الجبل". (رجال الكشي ص248). وكذبوا على محمد الباقر حيث روى أبو بصير أنه قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: أنتم تقدرون على أن تحيوا الموتى وتبرؤا الأكمه والأبرص؟ قال: نعم بإذن الله، ثم قال لي: ادن مني يا أبا محمد! فدنوت منه، فمسح على وجهي وعلى عيني فأبصرت الشمس والسماء والأرض والبيوت وكل شيء في البلد، ثم قال لي: أتحب أن تكون هكذا أو بك ما للناس وعليك ما عليهم يوم القيامة أو تعود كما كنت ولك الجنة خالصاً؟ قلت: أعود كما كنت، فمسح على عيني، فعدت كما كنت" (كتاب (الحجة) من (الكافي) 1/ 470). ومن أكاذيبهم على أئمتهم أن عندهم جميع الكتب التي أنزلت وأنهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها". (الأصول من (الكافي) ج1 ص227). و"إن الأئمة يعلمون متى يموتون، وإنهم يموتون باختيار منهم". (الأصول من (الكافي) 1/ 258). و"إن الأئمة لو ستر عليهم لأخبروا كل امرئ بما له وما عليه". (الأصول من (الكافي) 1/ 264). و"إن الأئمة تدخل الملائكة بيوتهم، وتطأ بسطهم، وتأتيهم بالأخبار". (الأصول من (الكافي) كتاب (الحجة) 1/ 393). و"عندهم علم لا يحتمله ملك مقرب ولا نبي مرسل". (الأصول من (الكافي) " 1/ 402). و"إن الإمام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس ولا طير ولا بهيمة ولا شيء فيه روح". (قرب الإسناد" للحميري ص146 ط مكتبة نينوى طهران). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص233 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 165 المطلب الأول: منزلة زيارة المراقد عند الشيعة: قد يقول قائل: ما مناسبة الحديث عن زيارة المراقد وهي ليست من أصول الدين ولا أركان الإسلام؟ والجواب: إن زيارة المراقد عند الإمامية تضاهي ركن الحج إلى بيت الله الحرام! بل قد تفضله وتزيد عليه وجوباً وأجراً ومنزلة! ويعد تاركها خارجاً من ملة الإسلام! بل هي شعار وشعيرة لو تخلوا عنها، أو محيت القبور من وجه الأرض لما بقي لهم من وجود، أو علامة تدل على وجودهم! فارتباط الإمامية بالقبور ارتباط وثيق لا انفكاك لهم عنه. وعلاقتهم بها كعلاقة السمك بالماء. فهي إذن أساس وضرورة لا يمكن الاستغناء عنها. ولك أن تتصور إماميا لا يصلي ولا يحضر المساجد لكنك لا تستطيع أن تتصوره بمعزل عن القبور والمشاهد! وكثير من الذين يحرصون على الزيارة لا يحرصون على الصلاة حرصهم عليها. وقد تجد كثيراً منهم لا يصلون أساساً! منزلة كربلاء والنجف ومراقد (الأئمة) وفضيلة زيارتها عند الإمامية, وهذه لمحات سريعة عن منزلة كربلاء والنجف ومراقد الأئمة وفضيلة زيارتها: روى الكليني عن أبي عبد الله عليه السلام (أي جعفر الصادق) أنه قال: إن المؤمن إذا أتى قبر الحسين عليه السلام يوم عرفة واغتسل من الفرات ثم توجه إليه، له بكل خطوة حجة بمناسكها - ولا أعلمه إلا قال - وغزوة! (1) ويروي أيضاً عن أبي عبد الله عليه السلام أن رجلاً جاءه ولم يزر قبر أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: بئس ما صنعت لولا أنك من شيعتنا ما نظرت إليك، ألا تزور من يزوره الله مع الملائكة ويزوره الأنبياء ويزوره المؤمنون (2)! وكربلاء والنجف أفضل عندهم من الكعبة! ويسمى النجف بـ (الأشرف). أي أشرف البقاع على وجه الأرض. فهو أشرف من الكعبة ومن المسجد النبوي وبيت المقدس! والصلاة عند علي أفضل من الصلاة في بيت الله الحرام! جاء في كتاب (منهاج الصالحين) للخوئي المرجع الأكبر للإمامية في زمانه: مسألة (562): تستحب الصلاة في مشاهد الأئمة عليهم السلام بل قيل: إنها أفضل من المساجد. وقد ورد أن الصلاة عند علي بمئتي ألف صلاة (3). أما الصلاة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول عنها: مسألة (561) الصلاة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - تعادل عشرة آلاف صلاة (4). أي إن الصلاة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - دون الصلاة عند علي بعشرين مرتبة!! ويعبر عن ذلك بصراحة محمد صادق الصدر قائلاً: وردت رواية بتفضيل كربلاء على البيت الحرام، ونحن نعلم أن علي عليه السلام خير من الحسين كما نطقت به الروايات فيكون قبره خيراً من قبره فيكون أفضل من الكعبة أيضاً (5)!!! أما المجلسي فيروي هذه الرواية الفاجرة الكافرة وينسبها زوراً إلى الإمام جعفر الصادق رحمه الله وهو منها بريء: إن الله أوحى إلى الكعبة لولا تربة كربلاء ما فضلتك ولولا من تضمه أرض كربلاء ما خلقتك ولا خلقت البيت الذي به افتخرت، فقري واستقري وكوني ذنباً متواضعاً ذليلاً مهيناً غير مستنكف ولا مستكبر لأرض كربلاء, وإلا سخت بك وهويت بك في نار جهنم (6). ويرددون في الكتب الاعتقادية هذا البيت: وفي حديث كربلا والكعبة ... لكربلا بان علو الرتبة (7) بل يسميها الميرزا حسن الحائري الملقب بآية الله دونما أدنى تردد أو تلعثمبـ (مزار المسلمين وكعبة الموحدين) (8)!! المصدر: المنهج القرآني الفاصل بين أصول الحق وأصول الباطل لطه حامد الدليمي   (1) ((فروع الكافي)) (4/ 580). (2) ((فروع الكافي)) (4/ 580). (3) ((منهاج الصالحين)) (ص 147) مسألة (562). (4) ((منهاج الصالحين)) (ص 147) مسألة (561). (5) المسألة (9) (ص5) من كراسة المسائل الدينية وأجوبتها/الجزء الثاني. (6) ((بحار الانوار)) (101/ 107). (7) ((التربة الحسينية)) لمحمد حسين كاشف الغطاء (ص56). (8) [10707]) ((أحكام الشريعة)) (1/ 32). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 166 المطلب الثاني: مظاهر زيارة المراقد: ... لقد غيرت الشيعة مسار الزيارة لمراقد الأئمة التي يجب أن تكون لله إلى زيارة سياسية إعلامية تثقيفية ومذهبية، إنني وعندما أكتب هذه السطور هناك عشرات الآلاف من الشيعة تزور مراقد الأئمة في إيران والعراق والمدينة المنورة كل يوم وفي آناء الليل وأطراف النهار، وعلى ما أعتقد لا يوجد بين هذه الأكثرية الساحقة شيعي واحد يقرأ فاتحة الكتاب أو سوراً من القرآن الكريم عندما يدخل إلى العتبات ويقف أمام قبر من قبور الأئمة، إن العادة جرت للشيعة ومنذ قرون أن تقرأ أمام قبور أئمتها عبارات مطولات اسمها (الزيارة) التي تجمع بين طياتها مدحاً للأئمة والثناء عليهم والتنديد بأعدائهم ثم قليل من الدعاء، وقلما يوجد بيت للشيعة لا يتوفر فيه كتاب?مفاتيح الجنان? وهو الكتاب الذي يحتوي على مئات من الزيارات للأئمة ولأولادهم وكلها على نمط مشابه وبفارق صغير في بعض الأحيان ولنقرأ معاً بعض المقاطع من ?الجامعة الكبيرة? وهي من أهم الزيارات شأناً وتقرأ عند قبر كل إمام من الأئمة وهي من المطولات، فقد روى " الصدّوق " في كتابه (الفقيه) أن الإمام العاشر " علي بن محمد الجواد " علّم أحد خواصه وهو " موسى بن عبد الله النخعي " بهذه الزيارة: "السلام عليكم يا أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي ... وأمناء الرحمن وسلالة رب العالمين ..... أشهد أنكم الأئمة الراشدون المهديون المعصومون المكرمون المقربون المتقون الصادقون ..... الراغب عنكم مارق واللازم لكم لاحق والمعترض في حقكم زاهق والحق معكم وفيكم ومنكم وإليكم وأنتم أهله ومعدنه وميراث النبوة عندكم وآيات الخلق إليكم وحسابهم عليكم وفصل الخطاب عندكم وعزائمه فيكم ..... من والاكم فقد والى الله ومن عاداكم فقد عادى الله ومن أحبكم فقد أحب الله ومن أبغضكم فقد أبغض الله ..... أشهد الله وأشهدكم أنني موال لكم ولأوليائكم، مبغض لأعدائكم ومعاد لهم سلم لمن سالمكم وحرب لمن حاربكم بكم يسلك إلى الرضوان وعلى من جحد ولايتكم غضب الرحمن". (1). وهكذا تستمر الزيارة بمثل هذه العبارات وتختم بعد ذلك بدعاء قصير. إن الزيارة التي ذكرنا مقاطعاً صغيرةً منها هي أكثر الزيارات اعتدالاً ومضموناً إلا أن هناك زياراتٍ أخرى وكثيرةً فيها عنف ٌ وشدّةٌ وفي بعضها تجريح للخلفاء للراشدين لكن الطابع العام في هذه الزيارات هو التنديد بظالمي آل محمد والاعتراف بفضل " علي " وأولاده وأحقيتهم بالإمامة، وهناك زيارات كثيرةٌ أيضاً تخص الإمام " الحسين " تحتوي على التنديد بالأمويين مع السب الصريح في حق كثير منهم بسبب قتلهم " الحسين " ولاشك أن مقتل الإمام "الحسين " في واقعة " كربلاء " وسب الإمام " علياً " على المنابر الذي بدأ به معاوية بن أبي سفيان واستمر حتى خلافة عمر بن عبد العزيز عام (99) هـ الذي رفع السب يعتبر من أهم الأسباب التي أدت إلى ظهور رد فعل عنيف من قبل الشيعة وهو إعطاء السب والشتم صفة دينية وقانونية أدخلت في الزيارات التي تُقرأ أمام قبور الأئمة وأولادهم وحتى هذا اليوم، ومن خلال تفحصي للزيارات التي ذكرتها كتب الزيارات مثل: (مزار البحار) و (مفتاح الجنان) و (ضياء الصالحين) و (مفاتيح الجنان) وغيرها يبدو لي واضحاً أن أسماء الخلفاء الراشدين دخلت في بعض هذه الزيارات صراحةً أو تلميحاً في وقت متأخر عن العصر الذي كتبت فيه هذه الزيارات فلذلك لا نجد لهم ذكراً إلا في قليل منها.   (1) [10708] ((مفاتيح الجنان)) القمّيّ (ص 1008). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 167 إن من يفكر ملياً بالأسباب الكامنة وراء وضع هذه الزيارات وشيوع قراءتها أمام قبور الأئمة والانصراف عن قراءة القرآن الكريم الذي هو كلام الله وله الشرف كل الشرف على كلام المخلوق ليعلم بوضوح أن الغرض منها إنما هو نشر الثقافة المذهبية والتركيز على أهم مبادئها وهو أحقيّة الأئمة بالخلافة من سواهم، ويجب علينا أن نذكر أيضاً أن زيارة قبر الإمام الحسين بدأت بعد مقتله بأربعين يوماً حيث وصلت إلى " كربلاء " أول قافلة تضم أهل بيته وبعض صحابته للسلام عليه واستمرت تلك القوافل بالوفود إلى كربلاء عاماً بعد عام وحتى هذا اليوم، وعندما نعود إلى الأسباب الكامنة التي كانت وراء تلك الاجتماعات التي كانت تحصل عند قبر الإمام " الحسين " من أقاصي البلاد لكسب الثواب ولنشر المذهب الشيعي والتنديد بالخلافة التي تجسدت في الأمويين في بادئ الأمر ثم في العباسيين بعدهم وأنها في نفس الوقت كانت تظاهرات شيعية لتوحيد الصفوف ونشر أهداف المذهب الشيعي، ولهذا فإنني لا أستغرب أبداً عندما أقرأ في كتب الروايات التي هي بين أيدينا روايات تنسب إلى أئمة الشيعة تحث الناس على زيارة الإمام " الحسين " وقد جاء في بعضها:" بكل خطوة يخطوها الزائر في سبيل زيارة الحسين له قصر في الجنة". وحتى أنهم جعلوا لكربلاء مقاماً أعلى من الكعبة وقد قال أحد شعراء الشيعة: وفي حديث كربلاء والكعبة ... لكربلاء بان علوّ الرتبة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 168 كما أن روايات أخرى قالت: "إن من بكى على الحسين أو تباكى غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر". إن مثل هذه الروايات وانتسابها إلى الأئمة أعطت حيوية خارقة في السعي للوصول إلى " كربلاء " مع صعوبة الأسفار ومشاقّها وخطورتها في تلك العهود ولذلك كانت كربلاء في عهد الخلافة الأموية والعباسية تشهد المظاهرات الشيعية الكبرى في شهر محرم وصفر ولا سيما العاشر من محرم وهو اليوم الذي قتل فيه " الحسين " وكان المجتمعون يحتشدون بصمت أمام القبر ويوحدون صفوفهم في قراءة الزيارات التي كانت عملية تثقيفية وراءها حكماء وعلماء أحكموا فيها وضع الخطة التي تجمع الشيعة على خط واحد لا تنفصم عراه، وحقاً كان المخططون في وضع تلك الزيارات عباقرة استطاعوا تفهم النفسية الشيعية في عهد الأمويين والعباسيين تفهماً مطلقاً فجاءت تلك الزيارات وتداولها تداولاً عاماً في المواسم الخاصة بمثابة استمرار منظم في مقاومة الخلافة، وهكذا أصبح التثقيف المذهبي عن طريق تلك الزيارات عاماً وشائعاً وشاملاً رغماً عن إرادة السلطة الحاكمة، لقد حدث كل ذلك في عهد لم تعرف فيه الصحافة ولا المدارس العامة ولا الإعلام الشامل ولا وسائل الطباعة ولا التنظيمات الحزبية، ولذلك لا نجد غرابة عندما نعلم أن " المتوكل " العباسي منع الناس من زيارة الإمام " الحسين " وأمر بحرث قبره حتى يخفي معالمه عن الناس، واليوم وبعد أن انتهى كل شيء ولا يوجد للأمويين ولا للعباسيين وخلافتهم أثر في العالم الإسلامي ولا لذلك التطاحن الفكري حول الخلافة والخلفاء فهل نحن معاشر الشيعة نرغب أن نسير في الطريق نفسه الذي سرنا عليه ثلاثة عشر قرناً ونقف أمام قبور الأئمة ونردد كلاماً رددناه قروناً وقروناً لا فائدة ترجى من ورائه ولا أثر يترتب عليه؟ اللهم إلا بعض المقاطع من الدعوات الخالصة التي تشكل جزءاً صغيراً من الزيارة فحسب، ثم إلى متى سنفضل كلام المخلوق على الخالق؟ وما هي الفائدة التي يجنيها الأئمة أنفسهم من قراءة هذه الخطب الرنانة أمام قبورهم؟ أليس من الأفضل حقاً أن نأخذ بسنة النبي الكريم صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ونتلو آيات من الذكر الحكيم أمام قبور أئمتنا؟ فإن فيها الثواب والرحمة وفيها النور والهدى ليس للزائر فحسب, بل حتى للمزور وإن كان نبياً أو إماماً. المصدر: الشيعة والتصحيح لموسى الموسوي - ص63 وأما الإظهار لهذا الحب فهو أن يزور قبر الحسين أو الرضا أو أحد من الأئمة، ويأخذ صكوك المغفرة والرضوان والجنة، فقد قالوا: زيارة الحسين - أي قبره - عليه السلام تعدل مائة حجة مبرورة ومائة عمرة متقبلة" (الإرشاد للمفيد ص252 ط مكتبة بصيرتي - قم). وكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من زار الحسين بعد موته فله الجنة)) (الإرشاد) للمفيد ص252. ومن لم يستطع زيارته فعليه أن يبكي على شهادته، ويأخذ الجنة كما رووا عن باقر بن زين العابدين أنه قال: لا يخرج قطرة ماء بكاء على الحسين إلا ويغفر الله ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر" (جلاء العيون) للمجلسي الفارسي (2/ 468). و"وجب عليه الجنة" (جلاء العيون) (ص464) تحت العنوان باب البكاء على الحسين. هذا ومن بكى على الرضا فله الجنة أيضاً كما نقلوا عن الرضا أنه قال: وما من مؤمن يزورني فيصيب وجهه قطرة من ماء إلا حرم الله تعالى جسده على النار" (عيون أخبار الرضا 2/ 227). وأما من زار قبره يقولون فيه نقلاً عن ابنه محمد الملقب بالجواد - الإمام التاسع عندهم - أنه قال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 169 من زار قبر أبي بطوس غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر - فإذا كان يوم القيامة وضع له منبر حذاء منبر النبي صلى الله عليه وسلم حتى يفرغ الله من حساب العباد" (عيون أخبار الرضا) (2/ 259). وينقلون عن أبيه موسى بن جعفر - الإمام السابع عندهم - أنه قال: من زار قبر ولدي علي كان له عند الله سبعون حجة مبرورة، قلت - أي الراوي - سبعون حجة؟ قال: نعم وسبعون ألف حجة - الله الله من كذب القوم، ما أشنعه وما أكثر - ثم قال: رب حجة لا تقبل، ومن زاره أو بات عنده كان كمن زار الله تعالى في عرشه – أستغفر الله على نقل هذه الخرافة – قلت: كمن زار الله في عرشه؟ قال: نعم" (عيون أخبار الرضا" 2/ 259). ونقلوا عن علي الرضا أنه قال: سيأتي عليكم يوم تزورون فيه تربتي بطوس، ألا فمن زارني وهو على غسل خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" (عيون أخبار الرضا" 2/ 260) إن القوم قد بلغوا في الكذب ما لم يبلغه الأولون والآخرون وكل واحد من علمائهم وفقهائهم ومحدثيهم يتسابق إلى اختلاق الكذب واختراعه, ويريد أن يزداد ويكثر من الآخر حتى ينسى ماذا قال الأولون وماذا يقول به الآخرون، وإن الجميع ليعرف أن الشيعة لا يعطون لأحد المنزلة التي يجعلونها للحسين بن علي السبط، ولكن ابن بابويه حينما بدأ في ذكر الرضا أكثر في الكذب وبالغ إلى حد نسي مذهبه ومعتقده وغرق في خضم الكذب حتى فضل علي بن موسى الرضا على الحسين حيث ذكر في "الإرشاد" أن زيارة قبر الحسين تعدل مائة حجة، وحينما جاء إلى ذكر الرضا كتب أن زيارة الرضا تعدل عند الله ألف حجة (انظر ص257 لعيون أخبار الرضا) وأكثر من ذلك أنه قال: إن زيارة قبره أفضل من زيارة قبر الحسين كما روى عن علي بن مخرياء أنه قال: قلت لابن أبي جعفر يعني الرضا: جعلت فداك، زيارة الرضا عليه السلام أفضل أم زيارة الحسين؟ فقال: زيارة أبي عليه السلام أفضل" (عيون أخبار الرضا 2/ 261). وأكثر من ذلك أنه قال: "بأن زيارة قبره أفضل من بيت الله العتيق" (عيون 2/ 261). و"لا يزورها مؤمن إلا أوجب الله له الجنة وحرم جسده على النار" (عيون أخبار الرضا 2/ 255). هذا ومن زار أخته فاطمة بنت موسى فله الجنة أيضاً كما رووا عن سعد بن سعد أنه قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن زيارة فاطمة بنت موسى بن جعفر عليهما السلام فقال: من زارها فله الجنة" (عيون أخبار الرضا 2/ 267 باب ثواب زيارة فاطمة عليها السلام بقم). فهذا هو دين القوم وهذا هو مذهبهم المبني على المقابر والمشاهد، والزيارات والبكاء، والحب والولاء، لا العمل ولا الفروض ولا الواجبات، ولا الحدود ولا المنكرات ولا السيئات. المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص231 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 170 يعتقد الشيعة بأن من يزور قبور أئمتهم، أو يسهم في بنائها ينال ألواناً من الثواب لا نهاية لها ولا آخر، - إن هؤلاء الزوار مشمولون بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن الزائر يصيبه ثواب سبعين حجة غير حجة الإسلام، وتمحى خطاياه -.إن آية الله الخميني يورد في كتاب (كشف الأسرار) هذه الرواية منسوبة إلى الإمام جعفر، وهذا نصها: ينقل الشيخ الطوسي عن أبي عامر قوله: "إنني ذهبت إلى الصادق - يعني: الإمام جعفراً - وسألته: ما هو أجر من يزور أمير المؤمنين ويبني قبره؟ فرد على سؤالي قائلاً: يا أبا عامر! لقد روى أبي عن جده الحسين بن علي بأن الرسول قال لأبي: ((إنك ستنتقل إلى العراق وتدفن في أرضه. فقال: يا رسول الله، وما هو أجرمن يزور قبورنا ويقيمها ويجدد العهد معها؟ فقال: يا أبا الحسن! إن الله جعل قبرك وقبور أولادك بقعة من بقاع الجنة وصحناً من صحونها, وإن الله أدخل في قلوب المختارين من خلقه حبكم، وجعلهم يتحملون الأذى والذل من أجلكم، ويقومون بإعادة بناء قبوركم، ويأتون لزيارتكم تقربا إلى الله وزلفى إلى رسوله، وهؤلاء مشمولون بشفاعتي. يا علي! إن من يبني قبوركم ويأتي إلى زيارتها يكون كمن شارك سليمان بن داود في بناء القدس، ومن يزور قبوركم يصيبه ثواب سبعين حجة غير حجة الإسلام، وتمحى خطاياه، ويصبح كمن ولدته أمه تواً. إنني أبشرك بذلك، وبشر أنت محبيك بهذه النعمة التي لم ترها عين، ولم تسمع بها أذن، ولم تطرأ على بال أحد, ألا إن هناك توافه من الناس يلومون زائري قبوركم كما يلومون المرأة الزانية؛ إن هؤلاء هم أشرار أمتي، والله لا يشملهم بشفاعتي)) (1). ومن زيارة قبور الأئمة وبنائها ينتقل آية الله الخميني إلى الحديث عن تربة كربلاء حيث قبر الإمام الحسين رضي الله عنه، ويرى أن طلب الشفاء منها أمر لا حرمة فيه ولا حرج، ويرى أن لها خاصية ليست لأحد، حتى قبر النبي نفسه. يقول آية الله الخميني في كتابه (تحرير الوسيلة): إن هذه التربة، أي تربة كربلاء، تخرق الحجب السبعة، وترتفع على الأرضين السبع، وهذه الخاصية ليست لأحد، حتى قبر النبي (2). والشيء نفسه يذكره الخميني عن التربة الحيدرية أو أرض النجف. ومن العادات المعروفة أن الشيعة يقيمون مجالس للعزاء في شهر المحرم من كل عام، وأن آية الله الخميني لا يحب أن يترك هذه العادة، حتى جعل لها أصولاً دينية وغايات مذهبية، ولا بأس عنده في أن ينال من صحابة رسول الله في سياق حديثه عن هذا الموضوع. يقول آية الله الخميني: إن مجالس العزاء تقام لدى الشيعة في كل مكان، ومع ما في هذه المجالس من نقص إلا أنها تروج تعاليم الدين وأخلاقياته، وتشيع الفضيلة ومكارم الأخلاق والدين الإلهي، والقانون السماوي المتمثل بالمذهب الشيعي المقدس، الذي يدين به أتباع علي عليه السلام.   (1) ((كشف الأسرار)) (ص:8). (2) ((تحرير الوسيلة)) (1/ 141). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 171 ويمضي آية الله الخميني في التحدث عن فضل مجالس العزاء، ولكنه في سياق حديثه لا يلبث أن يعرض بأهل السنة، ويطلق عليهم أصحاب المذاهب الباطلة التي وضعت لبناتها في سقيفة بني ساعدة قائلاً: ولولا ذلك - يعني: لولا مجالس العزاء - لكان الشيعة في عزلة تامة، ولولا هذه المؤسسات الدينية الكبرى - يعني: نفس المجالس - لما كان هناك الآن أي أثر للدين الحقيقي المتمثل في المذهب الشيعي، ولكانت المذاهب الباطلة التي وضعت لبناتها في سقيفة بني ساعدة وهدفها اجتثاث جذور الدين الحقيقي، تحتل الآن مواضع الحق. وعندما رأى رب العالمين أن مغامري صدر الإسلام قد زعزعوا بنيان الدين دفع بعدد من أعوان الحسين بن علي الباقين لكي يعملوا على توعية الناس، ويقيموا مجالس العزاء (1). وأما عن الزيارة فيقرر آية الله الخميني أن ثواب الزيارة أو إقامة التعزية تعادل ثواب ألف نبي أو شهيد. المصدر: إسلام بلا مذاهب لمصطفى الشكعة - ص206 المطلب الثاني: نقض الزيارة الشيعية طبقاً للمنهج القرآني: ما الدليل على هذه الدعوى؟ لا شك أن عملاً عبادياً له هذه المنزلة العظيمة والميزة الشريفة على باقي الأعمال لا بد أن يرد تشريعه والحث عليه والعقاب على تركه بالآيات القرآنية الصريحة الواضحة. ويؤكد عليه فيها أكثر من المساجد والحج وزيارة البيت الحرام. لكننا لا نجد نصاً واحداً في القرآن يذكر النجف وكربلاء وقُم وغيرها، أو يصرح بزيارة القبور، ويحث عليها، أو يذكر منسكا من مناسكها، وحكما من أحكامها وشعائرها! مقارنة مع الحج في القرآن: بينما تجد الحج إلى بيت الله، وفضله، ووجوبه، وذكر أحكامه ومناسكه وشعائره، والتنويه بالكعبة المعظمة ومكة المكرمة قد جاء في عشرات الآيات. منها: سميت سورة من القرآن بسورة (الحج) تضمنت آيات كثيرة عن الحج وأحكامه ومناسكه. هذه بعضها:   (1) ((كشف الأسرار)) (ص192، 193). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 172 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ [الحج:25 - 37] وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:1 - 3] وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ [الطور:1 - 4] لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1 - 2] إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا [النمل:91] فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ [قريش:3] وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [إبراهيم:35] وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة:125] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 173 وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [البقرة:127 - 128] جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ [المائدة:97] الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا [المائدة:2] وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَاذْكُرُواْ اللهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:196 - 203] يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189] وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ [البقرة:191] وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ [التوبة:3] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28] وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الأنفال:34] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 174 ِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:96 - 97] إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158] سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1] قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144] وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:150] (1). هذا بعض ما جاء في القرآن من التصريح بفضل الكعبة، ووجوب الحج إليها، وأحكامه ومناسكه! أما كربلاء والنجف وقم ومشهد، فأشهد أن لا ذكر لها في آية واحدة من القرآن! المساجد في القرآن: وهذا بعض ما جاء في القرآن العظيم من ذكر المساجد، وأحكامها وفضيلة، الصلاة فيها: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:36،37] وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الأعراف:29] وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18] يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31] وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43] لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [البقرة:114] مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله [التوبة:17] إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ [التوبة:18] وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187] وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء:217 - 219]   (1) أرجو أن لا يذهبن الظن بأحد من القراء الكرام إلى أن قصدي من إيراد هذا الحشد الكبير من الآيات هو الاستدلال بها على ثبوت شرعية الحكم المتعلق بما جاءت به من قضايا؛ فيرى أن لا داعي لكل هذا، إنما يكفي بعضه. إنما أرمي إلى بيان الهوة الفاصلة بين الشيعة وبين القرآن! وإبراز التصفير الاستدلالي التام والإفلاس المدقع الذي يعانونه من آياته! وكيف أن قضايا - هي عندهم أدنى بكثير مما يحاولون إثباته من أصول وقضايا خطيرة - قد وردت في القرآن بهذا الكم الكبير من الآيات. فيظهر واضحاً لكل باحث عن الحق أن منهج الشيعة الاستدلالي في واد ومنهج القرآن في واد آخر! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 175 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9] وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12] أما الصلاة في كربلاء، ومرقد علي، ومشاهد الأئمة، فالله يشهد أن لا ذكر لها في آية واحدة من كتابه! لا مراقد ولا قبور في القرآن لقد خلا القرآن الكريم من ذكر كربلاء والنجف وقم ومشهد. وليس فيه إشارة إلى ذكر المراقد أو القبور وزيارتها وبنائها والمشي إليها وما إلى ذلك. وأنت إذا قارنت بين ما وضعوه لها من فضائل فاقت ما ورد في فضل الكعبة بيت الله الحرام -فضلاً عن المساجد الأخرى- وبين الصمت المطبق عنها في القرآن تبين لك قطعاً كذب تلك الروايات وبطلان تلك الفتاوى. وإلا أفكان الله -سبحانه-نسيا؟! أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]. اتباع المتشابه: لو سألت عن كل هذا التعظيم للمشاهد والغلو في زيارتها إلى هذا الحد الخطير: ما أساسه من القرآن؟ لما وجدت جواباً غير آية واحدة متشابهة! هي قوله تعالى: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا [الكهف:21]. ولا شك أن هذا النص غير صريح الدلالة. وما نحتاجه في مثل هذه الأمور العظيمة هو النص الصريح المتكرر كما هو شأن القرآن في مثلها. كما أنه ليس في القرآن أمر بزيارة القبور، ولا نهي عن تركها. وليس فيه ذكر حكم واحد من أحكامها. قارن ذلك بما جاء في القرآن عن المساجد! وإذا جئنا إلى دلالة الآية نجدها ظاهرة في خلاف ما ذهبوا إليه: يقول تعالى: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا [الكهف:21]. فالأمر باتخاذ المسجد على قبور أصحاب الكهف صدر من الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ أي علية القوم وأمرائهم. وهؤلاء ليسوا مصدراً تشريعياً. وهم عادة ما يكونون طغاة متجبرين. ولهجة الطغيان والاستبداد واضحة في عبارتهم: لَنتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا فهو أمر مؤكد لا بد من تنفيذه دون اعتبار لرأي أو دليل. وهذا هو شأن العتاة المستبدين. وهؤلاء ليسوا قدوة لنا. وديننا ناسخ لكل دين. فالقول بمشروعية اتخاذ المساجد على القبور وتعظيم المشاهد والأمر بزيارتها هذا الأمرَ الذي يجعلها أساسا من أساسيات الدين وضرورياته، ليس له من القرآن إلا آية واحدة متشابهة! فاتباعها شأن الزائغين الذين يخترعون أديانهم بآرائهم وأهوائهم. ثم يأتون إلى القرآن يبحثون فيه عما تشابه، تأييداً لما أثبتوه أولاً من خارج القرآن. والصحيح أن نبحث في آرائنا وعقولنا عما يؤيد ما ثبت أولاً بالقرآن. وليس العكس. والفرق كبير جداً بين هذا وذاك. فالأول يستخدم القرآن، والثاني يخدمه. والقرآن سيد مخدوم. وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:40]. المصدر: المنهج القرآني الفاصل بين أصول الحق وأصول الباطل لطه حامد الدليمي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 176 المطلب الأول: الشعائر الحسينية طقوس لم تكن على عهد الأئمة: ... أخي القارئ إن ما يفعله الشيعة في المآتم والحسينيات مثل اللطم والنياحة والتطبير وغيرها لم تكن على عهد الأئمة باعتراف علماء الشيعة، وقد ذكر نجم الدين أبو القاسم الشيعي المعروف بالمحقق الحلي بأن الجلوس للتعزية لم ينقل عن أحد من الصحابة والأئمة، وأن اتخاذه مخالف لسنة السلف (1) ، وهذا يعني أن المآتم والشعائر الحسينية من البدع التي يجب تركها، كما اعترف بهذا شيخهم آية الله العظمى جواد التبريزي عندما وجه له هذا السؤال: ...   (1) ((المعتبر)) (ص94) ويأتي كلامه بنصه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 177 ما هو رأيكم في الشعائر الحسينية وما هو الرد على القائلين بأنها طقوس لم تكن على عهد الأئمة الأطهار عليهم السلام فلا مشروعية لها؟ ... فأجاب: "كانت الشيعة على عهد الأئمة عليهم السلام تعيش التقية وعدم وجود الشعائر في وقتهم لعدم إمكانها لا يدل على عدم المشروعية في هذه الأزمنة، ولو كانت الشيعة في ذاك الوقت تعيش مثل هذه الأزمنة من حيث إمكانية إظهار الشعائر وإقامتها لفعلوا كما فعلنا، مثل نصب الأعلام السوداء على أبواب الحسينيات بل الدور إظهاراً للحزن" (1) .... وبمثل هذا اعترف علامتهم آية الله العظمى علي الحسيني الفاني الأصفهاني (2) حيث أورد هذه الشبهة: .. "إنه لم تعهد هذه الأمور في زمن المعصومين عليهم السلام وهم أهل المصيبة وأولى بالتعزية على الحسين عليه السلام، ولم يرد في حديث أمر بها منهم، فهذه أمور ابتدعها الشيعة وسموها الشعائر المذهبية, والمأثورأن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار, فأجاب الفاني الأصفهاني بقوله: " والجواب واضح جداً أن ليس كل جديد بدعة إذ البدعة المبغوضة عبارة عن تشريع حكم اقتراحي لم يكن في الدين، ولا من الدين، والروايات الواردة في ذم البدعة والمبتدع ناظرة إلى التشريع في الدين، بل هي واردة مورد حكم العقل بقبح التشريع من غير المشرع بعنوان أنه شرع إلهي ومستمد من الوحي السماوي، وإلا فأين محل الشبهات الحكمية التي وردت الروايات بالبراءة فيها وحكم العقل بقبح العقاب عليها؟ وبديهي أن الشعائر الحسينية ليست كذلك كيف والإبكاء مأمور به (3) وهو فعل توليدي يحتاج إلى سبب وهو إما قولي: كذكر المصائب، وإنشاء المراثي، أو عملي: كما في عمل الشبيهفللفقيه أن يحكم بجواز تلك الشعائر لما يترتب عليها من الإبكاء الراجح البتة كما أن التعزية عنوان قصدي ولا بد له من مبرر, ونرى أن مبررات العزاء في الملل المختلفة مختلقة وما تعارف عند الشيعة ليس مما نهى عنه الشرع أو حكم قبحه العقل وعلى المشكك أن يفهم المراد من البدعة ثم يطابقها على ما يشاء إن أمكن" (4).قال حسن مغنية: " جاء العهد البويهي في القرن الرابع الهجري فتحرر هذا اليوم (5)، وتجلى كما ينبغي حزينا في بغداد والعراق كله وخرسان وما وراء النهر والدنيا كلها، إذ أخذت تتوشح البلاد بالسواد، ويخرج الناس بأتم ما تخرج الفجيعة الحية أهلها الثاكلين، وكذلك الحال في العهد الحمداني في حلب والموصل وما والاهم، أما في العهود الفاطمية فكانت المراسيم الحسينية في عاشوراء تخضع لمراسيم بغداد، وتقتصر على الأصول المبسطة التي تجري الآن في جميع الأقطار الإسلامية والعربية، وخاصة في العراق وإيران والهند وسوريا والحجاز فتقام المآتم والمناحات وتعقد لتسكب العبرات وأصبحت إقامة الشعائر الحسينية مظهراً من مظاهر خدمة الحق وإعلان الحقيقة" (6)،   (1) من ((صراط النجاة)) للخوئي (2/ 562) ط 1417هـ. (2) ويأتي تصريح الخونساري وعباس القمي بأن معز الدولة البويهي هو الذي أمر الناس بالنواح والبكاء وإقامة المآتم في السكك والأسواق إلخ. (3) روى أحمد بن فهد الحلي في ((عدة الداعي)) (ص 169) عن الصادق عليه السلام قال: كل عين باكية يوم القيامة إلا ثلاثة عيون: "عين غضت عن محارم الله وعين سهرت في طاعة الله وعين بكت في جوف الليل من خشية الله " فالبكاء يكون من خشية الله، لا كما يكون في الحسينيات والمآتم. (4) ((مقتل الحسين)) لمرتضى عياد ص 192 الطبعة الرابعة. (5) [10718]) أي أن المآتم والحسينيات لم تعرف إلا في هذا اليوم بسبب البويهيين. (6) ((آداب المنابر)) (ص 192) .. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 178 (1) .... ثم يستعرض إمامهم وشهيدهم آية الله حسن الشيرازي الأدوار التي مرت بها هذه الشعائر فيشتكي من الظلم الذي منع الشيعة من إظهار هذه الشعائر فيقول: "غير أن الشيعة لم يقدروا على هذا التعبير الجريء عندما كانوا يرزحون في ظلمات بني أمية وبني العباس وإنما اختلفت عليهم الظروف القاسية والرخية اختلاف الفصول على مشاتل الورد فاختلفت تعبيراتهم باختلافها" (2). ثم ذكر الشيرازي خمسة أدوار: ... الدور الأول: وهو دور الأئمة. قال الشيرازي: "انحصر فيه تعبير الشيعة على تجمع نفر منهم في بيت أحدهم، إنشاد فرد منهم أبيات من الشعر، أو تلاوته أحاديث في رثاء أهل البيت، وبكاء الآخرين بكل تكتم وإخفاء وتقية الحكومات الظالمة أن تطيش بهم في جنون فتطير رؤوسهم" (3). قلت وهذا كلام مردود وهو من كيس الشيرازي لأنه لم يذكر أي مصدر نقل منه هذا الكلام .... الدور الثاني: دور بني العباس. وقد اشتكى الشيرازي من هذا الدور إلا إنه عاد فقال: "فتوسعت مجالس التأبين على الإمام الشهيد وعلت برثائه المنابر ولكن في إطار محدود يفصله عن حركة التشيع" (4). ... قلت: وكلام الشيرازي هذا مردود أيضا بل قام هو بنسفه عندما قال: " ولكن في إطار محدود يفصله عن حركة التشيع" فما الفائدة إذن من استشهادك به؟ ‍‍‍‍‍‍. ... ثم يذكر الشيرازي الدور الثالث فيقول:"دور البويهيين والديالمة والفاطميين وخاصة أيام معز الدولة الديلمي، الذين رفعوا الإرهاب، وأطلقوا طاقات الشيعة، ومكنوهم من إخراج مجالس التأبين عن الدور إلى المجامع والشوارع والساحات العامة، وإعلان الحداد الرسمي العام يوم عاشوراء، إغلاق الأسواق، وتنظيم المواكب المتجولة في الشوارع والساحات" (5) .... ثم يذكر الدور الرابع فيقول: "دور الصفويين وخاصة عهد العلامة المجلسي الذي شجع الشيعة على ممارسة شعائرهم بكل حرية فأضافوا إليها التمثيل الذي كان إبداعاً منهم لتجسيد المأساة" (6) .... ثم يذكر الدور الخامس فيقول: "دور الفقهاء المتأخرين وعلى رأسهم الشيخ مرتضى الأنصاري وآية الله الدربندي حيث أكثرت الشيعة من مواكب السلاسل والتطبير" (7) .... ثم عاد الشيرازي ليعترف بما اعترف به التبريزي والفاني الأصفهاني قال: "ولو أن الشيعة في عهود الأئمة عليهم السلام وجدوا الحرية الكاملة لأقاموا هذه الشعائر القائمة اليوم وأكثر، غير أنهم لم يكونوا يجدون الحرية (الكافي) ة للتعبير الكامل عن مدى انفعالهم في كل العصور" (8). .. فيقول الشيرازي "لأقاموا هذه الشعائر القائمة اليوم" دليل على أن هذه الشعائر القائمة اليوم لم تكن قائمة في تلك العصور التي تكلم عنها. إذن هذه الشعائر لم تكن على عهد الأئمة ولم يأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فهي من محدثات الأمور التي حذرنا منها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)) (9). ... فعلى الشيعي المنصف أن يدرك هذا ويعيد النظر في حضوره ومواظبته على هذه المآتم. ... وقبل أن ننهي هذا الفصل نوقف القارئ الكريم على إجابة محمد حسين فضل الله على من سأله عن تأسيس المأتم الحسيني. قال حسين فضل الله: "المأتم الحسيني أسسه أئمة أهل البيت عليهم السلام الذين كانوا يعقدونه في بيوتهم ويستدعون من يقرأ الأشعار التي تذكر مصيبة الحسين عليه السلام بطريقة عاطفية". وقد سئل بمناسبة سابقة عن تأسيس المأتم الحسيني فأجاب: "لا يبعد أن تأسيس الحسينيات انطلق من فكرة احترام المسجد لأن الناس قد يحتاجون إلى الاستماع لعزاء الحسين عليه السلام أو للمواعظ والإرشادات وفيهم الجنب وفيهم الحائض, ومن جهة عدم جواز تنجيس المسجد فلربما جعلت الحسينيات إلى جانب المساجد لا لتكون بديلة عنها فهذا ما لم يفكر فيه أحد، ولكن من أجل حماية المساجد وإفساح المجال للاستماع للموعظة والذكرى الحسينية حتى يحضرها كل الناس حتى لو أدى ذلك إلى تنجيسها أو ما إلى ذلك ولا نعرف متى بدأ إنشاء الحسينيات". قلت: فلاحظ أنه أول الأمر زعم أن أئمة أهل البيت هم الذين أنشأوا المآتم الحسينية، ثم جاء بعد ذلك ليقول: إنها انطلقت من فكرة احترام المسجد، وأنه لا يعرف متى بدأ إنشاء الحسينيات. المصدر: من قتل الحسين رضي الله عنه؟ لعبد الله بن عبد العزيز   (1) أي أنه قبل البويهيين والفاطميين ليست مظهراً من مظاهر خدمة الحق وإعلان الحقيقة, فجاء هؤلاء وليس الأئمة المعصومون فجعلوها مظهراً من مظاهر خدمة الحق. (2) ((الشعائر الحسينية)) للشيرازي (ص 97 - 98). (3) ((الشعائر الحسينية)) للشيرازي (ص 98). (4) ((الشعائر الحسينية)) (ص 98). (5) ((الشعائر الحسينية)) (ص 99). (6) ((الشعائر الحسينية)) (ص 99). (7) ((الشعائر الحسينية)) (ص 99). (8) ((الشعائر الحسينية)) (ص 100). (9) رواه مسلم (867) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه, بدون لفظ: (وكل ضلالة في النار). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 179 المطلب الثاني: الشيعة يستحدثون بدعة النياحة واللطم: أخي المسلم إن ما يفعله الشيعة في الحسينيات تحت مسمى الشعائر الحسينية هي من البدع التي استحدثها ودعا إليها علماء الشيعة, فقد ألف داعيتهم عبد الحسين شرف الموسوي كتابا سماه (المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة) حاول فيه كعادته في مؤلفاته الدفاع عن البدع والخرافات التي يتعبد بها الشيعة، ومنها: المآتم كما يفهم من عنوان الكتاب، فقد حاول أن يثبت جواز إقامة المآتم من بكاء النبي صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم (1). نعم لقد ذرفت عينا النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هل فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما تفعله الشيعة في مآتمهم؟ ... وهل جعل النبي صلى الله عليه وسلم من موت عمه حمزة رضي الله عنه وغيره مناسبة سنوية يجمع فيها الناس ويتفنن باكيا أو متباكيا لكي يبكي الحاضرون كما يفعل علماء الشيعة وخطباؤهم في الحسينيات؟ ... وهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يوزع شراب العصير في ذكرى مقتل أو موت من ذكرهم هذا الشيعي؟ ‍‍‍. ... ولماذا استعمل عبد الحسين القياس، والقياس محرم في مذهبه؟ ... يقول: "وقد استمرت سيرة الأئمة على الندب والعويل وأمروا أولياءهم بإقامة مآتم الحزن على الحسين جيلاً بعد جيل". ... وقال وهو يرد على من يعيب على الشيعة نياحهم وعويلهم: ... "ولو علم اللائم الأحمق بما في حزننا على أهل البيت، والنصرة لهم، والحرب الطاحنة لأعدائهم، لخشع أمام حزننا الطويل، ولأكبر الحكمة المقصودة من هذا النوح والعويل، ولاذ من الأسرار في استمرارنا على ذلك في كل جيل" (2). ...   (1) ((المجالس الفاخرة)) (ص 17)، ويأتي إن شاء الله تعالى من كلام أئمتهم ما يدحض هذا الافتراء. (2) ((المجالس الفاخرة)) (ص 26 - 27). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 180 ويقسِّم الدكتور الشيعي هادي فضل الله موافق علماء الشيعة من اللطم وغيرها مما يقوم به الشيعة في حسينياتهم إلى قسمين:. 1 - المدرسة الإصلاحية: وتضم فريق المجددين الذي تزعمه محسن الأمين، ومن الأمور التي تركز المدرسة الإصلاحية على الابتعاد عنها وتحرم بعضها هي ضرر النفس بالضرب حتى الإدماء، واختلاق الأخبار، وذكرها، وإقامة الشبيه (أي تمثيل مسرحية لملحمة كربلاء) (1) .... 2 - المدرسة المحافظة وتضم فريق المحافظين الذي تزعمه عبد الحسين صادق وهي تركز على أن كل شيء لك مباح وإن أدى إلى الأذى. ما دام لا نص على حرمته وبالتالي فلاشيء في نظرها محرم مما ذكرته المدرسة الإصلاحية" (2) .... ثم يتعرض هادي فضل الله إلى موقف عبد الحسين شرف الدين الموسوي من المدرستين فيقول: "لقد راح مفكرنا - أي عبد الحسين - يؤكد أن المآتم الحسينية بجميع مظاهرها ليست من الحرام في شيء معتمداً على القاعدة الشرعية التي تنص على أن الأصل في الأشياء الإباحة لا الحرمة، فهو لم يحرم مظاهر المآتم الحسينية كما تفعل المدرسة الإصلاحية " (3) .... وقال حسن مغنية: "وأما فيما يتعلق بإقامة الشعائر الحسينية في عاشوراء فهو أمر له مظاهره، فإذا جاء المحرم رأيت المساجد العاملية والنوادي الحسينية ومداخل القرى مجللة بالسواد، متسربلة بالحزن، عليها علامات الأسى واللوعة، وتراءت وجوه العاملين تعلوها الكآبة، وتتشح بالشجن، فالنفوس منقبضة، والوجوه متجهمة، والقلوب فزعة جزعة، قد تملكها الهلع من فاجعة كربلاء، فهنا وهناك عويل ونواح يكربان القلب، ويوجعان الصدر " (4) ... وقال أيضا: وفي صبيحة اليوم العاشر يكون قد وفد إلى النبطية عشرات الألوف من أبناء الطائفة وغيرها للاشتراك بإحياء الذكرى، ويبدأ الاحتفال بقراءة مصرع الحسين في حسينية النبطية التحتا في الساعة الثامنة صباحا، ينتهي في الساعة التاسعة والنصف تقريبا حيث يجري تمثيل المصرع، فيشترك في التمثيل أبناء النبطية كباراً وصغاراً نساء ورجالاً، بالإضافة إلى من نذره أهله لهذه الغاية من الأطفال، وتمثل في ساحة النبطية العامة واقعة الطف، حيث يشهدها حشد من المؤمنين يقدر بأكثر من خمسين ألفاً، يتم التمثيل في جو عابق بالحماس الديني، ثم يطوف بعد ذلك عدد من الشبان والأطفال في المدينة، وهم عراة الصدور يضربون رؤوسهم بالسيوف والخناجر، وظهورهم بالسلاسل، بشكل يبعث في النفوس الأسى " (5) .... وقال الشيعي المعروف عند قومه الدكتور أحمد الوائلي (6) عندما سئل عن ضرب الشيعة أنفسهم وجرح صدورهم في يوم عاشوراء؟ قال: "سبق للعلماء وأعطوا رأيهم في هذا الموضوع، وقالوا: إن هذا الضرب إن أضر بالنفس فهو محرم، وإذا لم يلحق بالنفس ضرراً فلم يحرم، فهو مجرد تعبير وجداني عن حبهم للحسين" (7) ....   (1) ((رائد الفكر الإصلاحي)) (ص 137). (2) ((رائد الفكر الإصلاحي)) (هامش صفحة 138). (3) ((رائد الفكر الإصلاحي)) (ص 137). (4) ((آداب المنابر)) (ص 176). (5) ((آداب المنابر)) (ص 181). (6) ويسمونه كبير خطباء المنبر الحسيني. (7) مجلة مرآة الأمة الكويتية العدد (1073) 16 يونيو 1997. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 181 ويقول الكاتب الشيعي عبد الهادي عبد الحميد الصالح: "في حالة عدم إيذاء النفس فإن اللطم جائز، ويعتبر نوعا من التعبير عما يجيش داخل النفس، وهي حالة فطرية‍‍، تجاه الإنسان في مشاعره فقد تراه يصفق أو يقوم من مكانة فرحاً بشرط عدم الضرر البليغ بالنفس، وهناك بعض من الفتاوى التي صدرت من بعض العلماء التي حرمت أو على الأقل لا تحبذ عملية التطبير، وهي على كل حال كما أرى حالة من واقع البيئة الاجتماعية تدعوا فعلا إلى تصحيحها وهي قضية لا تعبر بالضرورة عن أصل العقيدة" (1) .. ويقول شيخهم مهدي محمد السويج في كتابه (مائة مسألة مهمة حول الشيعة) ما نصه: "ولهذا ترى اللاطمين في ذكرى مأساة الحسين عليه السلام إنما يعبرون عن العواطف الجياشة، والمودة الصادقة من جانب، كما يعبرون من جانب آخر بنفس لطمهم يعبرون عن السخط على الظالمين ابتداء من هناك وصولاً إلى هنا، وامتداداً حتى النهاية، ففي كل الأزمان يزيد وابن زياد، وفي كل زمان ضعفاء يعبرون عن ذلك باللطم ونحوه" (2) .... ويقول من وصفوه بالأستاذ المحقق طالب الخَرسان: بهذا وأمثاله قامت النائحات في جميع العواصم الإسلامية يندبن الحسين عليه السلام ومن قتل معه من بنيه وإخوته وأنصاره" (3).ونقل شيخهم الدكتور عبد علي محمد حبيل عن شيخهم حسن الدمستاني أنه قال: "النياحة على الحسين واجبة وجوباً عينيا" (4) .... وقال علي الخامنئي: هناك أمور تقرب الناس إلى الله وتعزز تمسكهم بتعاليم الدين، ومن هذه الأمور مراسم العزاء التقليدية، وأن ما أوصانا الإمام (5) بإقامة مواسم العزاء التقليدية هو المشاركة في المجالس الحسينية، ونعي الإمام الحسين، والبكاء عليه، واللطم على الصدور في مواكب العزاء، وهي من الأمور التي تعزز المشاعر الجياشة إزاء أهل البيت ... أجل من المراسم اللطم على الرؤوس والصدور" (6) .... وقال مرجع الشيعة الراحل آية الله العظمى الخميني موجهاً كلامه إلى خطباء الشيعة: "تكليف السادة الخطباء أن يقرءوا المراثي، وتكليف الناس يقتضي أن يخرجوا في المواكب الرائعة، مواكب اللطم. ولكن لتخرج المواكب ولتلطم الصدور، وليفعلوا ما كانوا يفعلونه سابقا " (7) .. وقال أيضا: "إن مواكب اللطم هذه هي التي تمثل رمزاً لانتصارنا، لتقم المآتم والمجالس الحسينية في أنحاء البلاد، وليلق الخطباء مراثيهم، وليبك الناس. ولتمارس مواكب اللطم والردات والشعارات الحسينية ما كانت تمارسه في السابق، واعلموا أن حياة هذا الشعب رهينة بهذه المراسم والمراثي والتجمعات والمواكب" (8). المصدر: من قتل الحسين رضي الله عنه؟ لعبد الله بن عبد العزيز إن الشيعة تحتفل بيوم عاشوراء منذ قرون عديدة وما عدا قراءة الزيارات التي أسهبنا في ذكرها كان الشعراء ينشدون قصائد أمام القبر حتى أن الشاعر العربي الشريف الرضي عندما ألقى قصيدته العصماء أمام قبر الحسين والتي جاء في مطلعها: كربلاء لا زلت كرباً وبلا ................... ووصل إلى هذا البيت: كم على تربك لما صرعوا ... من دم سال ومن قتل جرى بكى وبكى حتى أغمي عليه، والثابت أن أئمة الشيعة كانوا يحتفلون بيوم العاشر من محرم فيجلسون في بيوتهم يقبلون التعازي من المعزين ويطعمون الطعام في ذلك اليوم وكانت تلقى أمامهم خطب أو قصائد في ذكرى شهادة " الحسين " وأهل بيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وفضائلهم.   (1) ((تعال نتفاهم)) (ص 61). (2) ((مائة مسألة مهمة حول الشيعة)) (ص 168 - 169). (3) ((ثورة الطف)) (ص 75). (4) ((ملحمة الطف)) (ص 15). (5) أي الخميني. (6) ((فلسفة عاشوراء)) (ص 8 - 9). (7) ((نهضة عاشوراء)) (ص 107). (8) ((نهضة عاشوراء)) (ص 108). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 182 وفي كربلاء وحول قبر " الحسين " كان الزوار يمرون على هيئة مواكب وآحاد وهم يقرؤون الزيارات التي أشرنا إليها مع بكاء ونحيب كجزء مكمل للاحتفال والزيارة، إنها العادة التي لا زالت جارية في المجالس التي تقام للإمام " الحسين " في العالم الشيعي فلا بد من ختمها بالبكاء لأن: (من بكى أو تباكى على الحسين وجبت عليه الجنة) , كما جاء في بعض الروايات التي تنسب إلى الأئمة ومعاذ الله أن يصدر من الإمام كلاماً كهذا، كما أن الشيعة كانت تلبس السواد في شهر محرم وصفر حداداً على الحسين وهذه العادة أخذت بالتوسع في عهد الصراع الأول بين الشيعة والتشيع وعندما أخذت تظهر الشيعة على مسرح الأحداث السياسي والإسلامي كقوة تريد الإطاحة بالخلافة الحاكمة وكان للبويهيين الذين حكموا إيران والعراق باسم حُماة الخلافة العباسية دوراً بارزاً في تنمية الاحتفالات في أيام عاشوراء, ولكن هذه الاحتفالات أخذت طابعاً عاماً وأصبحت جزءاً من الكيان الشيعي عندما استلم السلطة الشاه " إسماعيل الصفوي " وأدخل إيران في التشيع, وخلق فيها تماسكاً مذهبياً للوقوف أمام أطماع الخلافة العثمانية المجاورة لإيران كما أشرنا إليه, وكان البلاط الصفوي يعلن الحداد في العشر الأول من محرم من كل عام ويستقبل الشاه المعزين في يوم عاشوراء وكانت تقام في البلاط احتفالات خاصة لهذا الغرض تجتمع فيها الجماهير ويحضرها الشاه بنفسه، كما أن الشاه عباس الأول الصفوي الذي دام حكمه خمسين عاماً وهو أكبر الملوك الصفويين دهاءً وقوةً وبطشاً كان يلبس السواد في يوم عاشوراء ويلطخ جبينه بالوحل حداداً على الإمام " الحسين " وكان يتقدم المواكب التي كانت تسير في الشوارع مرددة الأناشيد في مدح الإمام ثم التنديد بقتلته، ولا ندري على وجه الدقة متى ظهر ضرب السلاسل على الأكتاف في يوم عاشوراء وانتشر في أجزاء المناطق الشيعية مثل إيران والعراق وغيرهما, ولكن الذي لا شك فيه أن ضرب السيوف على الرؤوس وشج الرأس حداداً على " الحسين " في يوم العاشر من محرم تسرب إلى إيران والعراق من الهند وفي إبان الاحتلال الإنجليزي لتلك البلاد, وكان الإنجليز هم الذين استغلوا جهل الشيعة وسذاجتهم وحبهم الجارف للإمام " الحسين " فعلموهم ضرب القامات على الرؤوس، وحتى إلى عهد قريب كانت السفارات البريطانية في طهران وبغداد تمول المواكب الحسينية التي كانت تظهر بذلك المظهر البشع في الشوارع والأزقة, وكان الغرض وراء السياسة الاستعمارية الإنجليزية في تنميتها لهذه العملية البشعة واستغلالها أبشع الاستغلال هو إعطاء مبرر معقول للشعب البريطاني وللصحف الحرة التي كانت تعارض بريطانيا في استعمارها للهند ولبلاد إسلامية أخرى وإظهار شعوب تلك البلاد بمظهر المتوحشين الذين يحتاجون إلى قيِّم ينقذهم من مهامه الجهل والتوحش فكانت صور المواكب التي تسير في الشوارع في يوم عاشوراء وفيها الآلاف من الناس يضربون بالسلاسل على ظهورهم ويدمونها بالقامات والسيوف على رؤوسهم ويشجونها تنشر في الصحف الإنجليزية والأوربية وكان الساسة الاستعماريون يتذرعون بالواجب الإنساني في استعمار بلادٍ تلك هي ثقافة شعوبها ولحمل تلك الشعوب على جادة المدنية والتقدم، وقد قيل إن " ياسين الهاشمي " رئيس الوزراء العراقي في عهد الاحتلال الإنجليزي للعراق عندما زار لندن للتفاوض مع الإنجليز لإنهاء عهد الانتداب قال له الإنجليز: نحن في العراق لمساعدة الشعب العراقي كي ينهض بالسعادة وينعم بالخروج من الهمجية، ولقد أثار هذا الكلام " ياسين الهاشمي " فخرج من غرفة المفاوضات غاضباً غير أن الإنجليز اعتذروا منه بلباقة ثم طلبوا منه بكل احترام أن يشاهد فيلماً وثائقياً عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 183 العراق فإذا به فيلم عن المواكب الحسينية في شوارع النجف وكربلاء والكاظمية تصور مشاهد مروعة ومقززة عن ضرب القامات والسلاسل وكأن الإنجليز قد أرادوا أن يقولوا له: هل إن شعبا مثقفا له من المدنية حظ قليل يعمل بنفسه هكذا؟ وهنا أذكر كلاماً طريفاً مليئاً بالحكمة والأفكار النيٍّرة سمعته من أحد أعلام الشيعة ومشايخهم قبل ثلاثين عاماً لقد كان ذلك الشيخ الوقور الطاعن في السن واقفاً بجواري وكان اليوم هو العاشر من محرم والساعة اثنتي عشرة ظهراً والمكان هو روضة الإمام " الحسين " في كربلاء وإذا بموكب المطبرين الذين يضربون بالسيوف على رؤوسهم ويشجونها حداداً وحزناً على " الحسين " دخلوا الروضة في أعداد غفيرة والدماء تسيل على جباههم وجنوبهم بشكل مقزز تقشعر من رؤيته الأبدان ثم أعقب الموكب موكب آخر وفي أعداد غفيرة أيضاً وهم يضربون بالسلاسل على ظهورهم وقد أدموها وهنا سألني الشيخ العجوز والعالم الحرّ: ما بال هؤلاء الناس وقد أنزلوا بأنفسهم هذه المصائب والآلام؟ قلت: كأنك لا تسمع ما يقولون إنهم يقولون: (واحسيناه) أي لحزنهم على " الحسين " ثم سألني الشيخ من جديد: أليس الحسين الآن في مقعد صدق عند مليك مقتدر؟ قلت: نعم, ثم سألني مرةً أخرى: أليس الحسين الآن في هذه اللحظة في الجنة التي عرضها كعرض السموات والأرض أعدت للمتقين؟ قلت: نعم, وهنا تنفس الشيخ الصعداء وقال بلهجة كلها حزن وألم: ويلهم من جهلة أغبياء, لماذا يفعلون بأنفسهم هذه الأفاعيل لأجل إمام هو الآن في جنة ونعيم ويطوف عليه ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من نعيم. في عام (1352) هـ وعندما أعلن كبير علماء الشيعة السيد " محسن الأمين " العاملي تحريم مثل هذه الأعمال وأبدى جرأةً منقطعة النظير في الإفصاح عن رأيه وطلب من الشيعة أن يكفوا عنها لاقى معارضة قوية من داخل صفوف العلماء ورجال الدين الذين ناهضوه ووراءهم " الهمج والرعاع " على حد تعبير الإمام " علي " وكادت خطواته الإصلاحية تفشل لولا أن تبنى جدنا السيد " أبو الحسن " وبصفته الزعيم الأعلى للطائفة الشيعية موقف العلامة الأمين ورأيه في تلك الأعمال معلناً تأييده المطلق له ولفتواه، ولقد أعطى موقف جدنا بعداً كبيراً للحركة الإصلاحية التي نادى بها السيد " الأمين " ومع أن كثيراً من الفقهاء والمجتهدين وقفوا موقفاً معارضاً للسيد " أبو الحسن " كما وقفوا " للأمين " من قبل إلا أن السيد " أبو الحسن " تغلب على الجميع في آخر المطاف بسبب مقامه الرفيع وصموده، وأخذت الجماهير تطيع فتوى الزعيم الأكبر وبدأت تلك الأعمال تقل رويداً رويداً وتختفي من على الساحة الشيعية إلا أنها لم تندثر تماماً حيث بقيت لها مظاهر ضعيفة وهزيلة حتى أن توفي جدنا رحمه الله في عام (1365) هـ وأخذت بعض الزعامات الشيعية الجديدة تحث الناس على تلك الأعمال من جديد فبدأت تنمو مرةً أخرى في العالم الشيعي ولكنها لم تصل إلى ما كانت عليه قبل عام (1352) هـ وبعد أن أعلنت في إيران الجمهورية الإسلامية وتولت ولاية الفقيه السلطة صدرت الأوامر بإحياء تلك الأعمال كجزء من السياسة المذهبية وأخذت الجمهورية الإسلامية الفتية تساعد الفئات الشيعية في كل الأرض وتحثهم مالياً ومعنوياً لإحياء هذه البدعة التي أدخلتها السياسة الاستعمارية الإنجليزية إلى العالم الإسلامي الشيعي قبل مائتي عام, وذلك لتظهر وجه الإسلام والمسلمين بالمظهر الكالح وتبرر استعمارها لبلاد الإسلام كما قلنا من قبل، وعندما أكتب هذه السطور تشاهد المدن الإيرانية والباكستانية والهندية واللبنانية مع الأسف الشديد في يوم العاشر من محرم من كل عام مواكباً تسير في شوارعها بالصورة التي رسمناها، وقبل أن تنتهي ساعات ذلك اليوم فإن صوراً من تلك الهمجية الإنسانية والجنون المفزع تعرض على شاشات التلفزة في شرق الأرض وغربها لتعطي قوة لأعداء الإسلام والمتربصين بالإسلام والمسلمين معاً. المصدر: الشيعة والتصحيح لموسى الموسوي - ص68 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 184 المطلب الثالث: فتاوى كبار علماء الشيعة تُجوّز العمل ببدعة النياحة واللطم وغيرها ... وإليك فتوى أحد كبارهم وهو من أسموه بالإمام المحقق رئيس الفقهاء العظام آية الله العظمى الشيخ محمد حسين النائيني عندما سئل عن شعائرهم وطقوسهم التي يمارسونها في مآتمهم وحسينياتهم: ... الأولى: خروج المواكب العزائية في عشرة عاشوراء ونحوها إلى الطرق والشوارع، مما لا شبهة في جوازه ورجحانه، وكونه من أظهر مصاديق ما يقام به عزاء المظلوم، وأيسر الوسائل لتبليغ الدعوة الحسينية إلى كل قريب وبعيد، لكن اللازم تنزيه هذا الشعار العظيم عما لا يليق بعباده مثله، من غناء أو استعمال آلات اللهو والتدافع في التقدّم والتأخر بين أهل محلتين، ونحو ذلك، ولو اتفق شيء من ذلك، فذلك الحرام الواقع في البين هو المحرم، ولا تسري حرمته إلى الموكب العزائي، ويكون كالناظر إلى الأجنبية حال الصلاة في عدم بطلانها. ... الثانية: لا إشكال في جواز اللطم بالأيدي على الخدود والصدور حد الاحمرار والاسوداد، بل يقوى جواز الضرب بالسلاسل أيضاً على الأكتاف والظهور إلى الحد المذكور، بل وإن تأدى كل من اللطم والضرب إلى خروج دم يسير على الأقوى، وأما إخراج الدم من الناصية بالسيوف والقامات فالأقوى جواز ما كان ضرره مأموناً، وكان من مجرد إخراج الدم من الناصية بلا صدمة على عظمها ولا يتعقب عادة بخروج ما يضر خروجه من الدم، ونحو ذلك، كما يعرفه المتدربون العارفون بكيفية الضرب، ولو كان عند الضرب مأموناً ضرره بحسب العادة، ولكن اتفق خروج الدم قدر ما يضر خروجه لم يكن ذلك موجباً لحرمته، ويكون كمن توضأ أو اغتسل أو صام آمناً من ضرره ثم تبيّن ضرره منه، لكن الأولى، بل الأحوط، أن لا يقتحمه غير العارفين المتدربين ولا سيما الشبان الذين لا يبالون بما يوردون على أنفسهم لعظم المصيبة وامتلاء قلوبهم من المحبة الحسينية. ثبتهم الله تعالى بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. ... الثالثة: الظاهر عدم الإشكال في جواز التشبيهات والتمثيلات التي جرت عادة الشيعة الإمامية باتخاذها لإقامة العزاء والبكاء والإبكاء منذ قرون، وإن تضمنت لبس الرجال ملابس النساء على الأقوى، فإنا وإن كنا مستشكلين سابقاً في جوازه، وقيّدنا جواز التمثيل في الفتوى الصادرة منه قبل أربع سنوات، لكنا لما راجعنا المسألة ثانياً اتضح عندنا أن المحرّم من تشبيه الرجل بالمرأة هو ما كان خروجاً من زي الرجال رأساً، وأخذاً بزي النساء دونما إذا تلبس بملابسها مقداراً من الزمان بلا تبديل لزيه، كما هو الحال في هذه التشبيهات، وقد استدركنا ذلك أخيراً في حواشينا على العروة الوثقى. ... نعم يلزم تنزيهاً أيضاً عن المحرمات الشرعية، وإن كانت على فرض وقوعها لا تسري حرمتها إلى التشبيه، كما تقدّم. الرابعة: الدمام المتعمل في هذه المواكب مما لم يتحقق لنا إلى الآن حقيقته، فإن كان مورد استعماله هو إقامة العزاء وعند طلب الاجتماع تنبيه الراكب على الركوب وفي الهوسات القريبة ونحو ذلك .... ولا يستعمل فيما يطلب فيه اللهو والسرور وكما هو المعروف عندنا في النجف الأشرف فالظاهر جوازه والله أعلم" (1). ... وقد وافقه على هذه الفتوى كما جاءت في المصدر المذكور كل من: 1 - آية الله العظمى ميرزا عبد الهادي الشيرازي بقوله: ما ذكره قدس سره في هذه الورقة صحيح إن شاء الله تعالى. 2 - آية الله العظمى محسن الحكيم الطباطبائي. 3 - آية الله العظمى أبو القاسم الخوئي قال: "ما أفاده شيخنا الأستاذ قدس سره في أجوبته هذه عن الأسئلة البصرية هو الصحيح ولا بأس بالعمل على طبقه ".   (1) نقل الفتوى شيخهم مرتضى عياد في ((مقتل الحسين)) (ص 146). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 185 4 - آية الله العظمى الإمام محمود الشاهرودي. 5 - آية الله الشيخ محمد حسن المظفر. 6 - آية الله العظمى حسين الحمامي الموسوي. 7 - آية الله محمد الحسين آل كاشف الغطاء. 8 - آية الله العظمى محمد كاظم الشيرازي. 9 - آية الله جمال الدين الكبايكاني. 10 - آية الله كاظم المرعشي. 11 - آية الله مهدي المرعشي. 12 - آية الله علي مدد الموسوي الفايني. 13 - آية الله الشيخ يحيى النوري. قال الشيخ مرتضى عياد: "وقد كتب جماعة كبيرة من عظماء الفقهاء فيما سبق ما يخص بالموضوع، ولا يسع المجال لذكر كل ما كتبوه بهذا الصدد". ... ثم ذكر مرتضى عياد فتاوى كثيرة لكثير من علمائهم تجيز العمل بهذه البدع التي استحدثوها في الدين، إليك فقرة من إحداها وهي لمن أسموه بالعلامة الكبيرالزاهد الورع المحدث آية الله الشيخ خضر بن شلال العفكاوي منها: " قد يستفاد من النصوص التي منها ما دل على جواز زيارته ولو مع الخوف على النفس وجواز اللطم عليه والجزع لمصابه بأي نحو كان، ولو علم أنه يموت من حينه". نقل هذا مرتضى عياد في كتابه (مقتل الحسين) (ص153) المطبوع عام (1996م) طبعة مصورة على طبعة المطبعة العلوية في النجف, وقد اطلعت على طبعة دار الزهراء ببيروت عام (1991م) حيث نُقِلَت فتوى الشيخ المذكور مختصرة في الصفحة (154) ونصها: "الذي يستفاد من مجموع النصوص ومنها الأخبار الواردة في زيارة الحسين المظلوم ولو مع الخوف على النفس يجوز اللطم والجزع على الحسين كيفما كان حتى لو علم أنه يموت في نفس الوقت" .... ويقول شيخهم آية الله مرتضى الفيروز آبادي: "إن اللطم على الصدور ونحوه هو مما استقرت عليه سيرة الشيعة في العصور السابقة والأزمنة الماضية، وفيها الأعاظم والأكابر من فقهاء الشيعة المتقدمين والمتأخرين، ولم يسمع ولن يسمع، أن أحداً منهم قد أنكر ذلك ومنع، ولو فرض أن هناك من منع لشبهة حصلت له، أو لاعوجاج في السليقة، فهو نادر والنادر كالمعدوم" (1). ... أما محمد حسين فضل الله فإليك ما صرح به في مسألة اللطم: ... قال: "أما بالنسبة إلى ما يسمى الشعائر الحسينية فإننا نرى أنهاتمثل الأساليب التعبيرية عن الحزن، وعن الولاء، وأساليب التعبير تختلف بين زمن وزمن. فالبكاء أسلوب إنساني في التعبير عن الحزن" (2) .... وقال فضل الله أيضا: "وعلى هذا الأساس فنحن نقول بأنه يمكن للإنسان أن يلطم بحسب ولائه، وبحسب محبته، لكن بشرط أن لا يكون اللطم مضراً بالجسد (3) .... وقال أيضا: "إن اللطم الهادىء هو الذي تلطم صدرك فيه وأنت تستحضر المأساة فكل ما يكون تعبيراً عن الحزن من دون أن يضر الإنسان في بدنه فهو جائز" (4). المصدر: من قتل الحسين رضي الله عنه؟ لعبد الله بن عبد العزيز   (1) ((مقتل الحسين)) (ص 188 - 189) ط4 (1996م) , (ص 170) ط دار الزهراء. (2) ((الندوة)) (1/ 289) لاحظ عدم إتيانه بنص شرعي. الأساليب التعبيرية!!! (3) ((الندوة)) (1/ 337). (4) ((الندوة)) (1/ 339). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 186 المطلب الرابع: عدم جواز التطبير وضرب السلاسل إذا أوجب هتك حرمة التشيع: .. إن الشيعة يتهربون من كل ما من شأنه أن يهتك ستار مذهبهم، حتى وإن كان جائزاً عندهم، وذلك لخداع مخالفيهم، وتلميع صورة التشيع أمامهم، وأكبر مثال على ذلك آيتهم العظمى أبو القاسم الخوئي في موقفه من التطبير وضرب السلاسل، قال محمد حسين فضل الله:"فحتى السيد الخوئي كان يفتي بحرمتها في كتاب (المسائل الشرعية) التي نشرتها الجماعة الإسلامية في أميركا وكندا، فلقد سئل عن التطبير وضرب السلاسل هل يجوز؟ فقال: إذا أوجب هتك حرمة المذهب فلا يجوز. قالوا: كيف ذاك؟ قال: إذا أوجب سخرية الناس بالآخرين" (1). ... فلاحظ كيف أن تحريمها لمجرد هتكها حرمة المذهب!!!. ... هذا وقد سبق لنا نقل موافقة الخوئي لفتوى شيخهم وآيتهم العظمى محمد حسين النائيني والذي أجاز كل ما يقترفونه في مآتمهم من لطم بالأيدي على الخدود والصدور حد الاحمرار إلى ضرب بالسلاسل على الأكتاف والظهور .. إلخ. وعلى هذا ليس لأحد أن يطمئن إلى ما يقررونه، أو إلى ما ينكرونه، لأن عقيدة التقية والكتمان تبيح لهم التدليس على خصومهم، والكذب عليهم، فلو سأل أحد من أهل السنة الخوئي عن حكم اللطم والضرب بالسلاسل وغيرها من بدعهم لإجابة هذا الخوئي (التقوي) (2) بأنه محرم عنده لأنه يهتك حرمة المذهب، لا أنه حرام كما يراه. ... لقد كنت قديما أسأل أهل العلم منهم عن حكم اللطم وغيره فيجيبونني بأنه من فعل العوام، وأنه حرام. ثم أتعجب عندما أجد هؤلاء وهم يحاضرون في المآتم والحسينيات والناس تلطم وتضرب أجسادها بالسلاسل وهم لا ينكرون عليهم، فانعقد اليقين عندي أن القوم يتعمدون عدم الوضوح مع مخالفيهم، وأعجب من ذلك أنه عندما ينكشف أمرهم لا يخجلون .. المصدر: من قتل الحسين رضي الله عنه؟ لعبد الله بن عبد العزيز   (1) ((الندوة)) (1/ 338). (2) لكثرة استعماله التقية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 187 أولاً: حرمة النياحة: .. أخي المسلم إن ما يفعله الشيعة في الحسينيات والمآتم تحت مسمى الشعائر الحسينية، مثل: اللطم والنياحة ولبس السواد والتطبير وغيرها، والتي أفتى علماؤهم وعظماؤهم بجوازها فإنها محرمة على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى ألسنة أئمة أهل البيت الكرام في المصادر الشيعية القديمة والحديثة، واعترف بهذا التحريم شيوخ وأعلام المذهب الشيعي الاثني عشرية، فهذا شيخهم محمد بن الحسين بن بابويه القمي الملقب عند الشيعة بالصدوق. قال: "من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي لم يسبق إليها: ((النياحة من عمل الجاهلية)) (1) ورواه محمد باقر المجلسي بلفظ: ((النياحة عمل الجاهلية)) (2). ... فالنوح الذي استمرت عليه الشيعة جيلاً بعد جيل من عمل الجاهلية كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم. ... كما أن النوح من الأصوات الملعونة التي يبغضها الله ورسوله (صلى اللهعليه وسلم)، كما يرويه علماؤهم المجلسي والنوري والبروجردي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((صوتان ملعونان يبغضهما الله إعوال عند مصيبة وصوت عند نغمة يعني النوح والغناء)) (3). ...   (1) رواه الصدوق في ((من لا يحضره الفقيه)) (4/ 271 - 272) كما رواه الحر العاملي في ((وسائل الشيعة)) (2/ 915)، ويوسف البحراني في ((الحدائق الناضرة)) (4/ 167) والحاج حسين البروجردي في ((جامع أحاديث الشيعة)) (3/ 488). (2) ((بحار الأنوار)) (82/ 103). (3) أخرجه المجلسي في ((بحار الأنوار)) (82/ 101) و ((مستدرك الوسائل)) (1/ 143 - 144) و ((جامع أحاديث الشيعة)) (3/ 488). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 188 فليحذر الشيعي المغرر به من حضور هذه المآتم فإن ما فيه من نوح وعويل هو من الأصوات الملعونة التي يبغضها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. ومن هذه الروايات التي تنهى عما يقترفه الشيعة في الحسينيات، ما جاء في كتاب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه إلى رفاعة بن شداد: "وإياك والنوح على الميت ببلد يكون لك به سلطان" (1) .... ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم من حديث: ((وإني نهيتكم عن النوح وعن العويل)) (2).ومنها ما رواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وإني نهيت عن النوح وعن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نغمة لهو ومزامير شيطان وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان)) (3) .... وعن علي عليه السلام:) ثلاث من أعمال الجاهلية لا يزال فيها الناس حتى تقوم الساعة: الاستسقاء بالنجوم والطعن في الأنساب والنياحة على الموتى ((4) .... ومنها ما رواه الكليني وغيره عن الصادق عليه السلام أنه قال:) لا يصلح الصياح على الميت ولا ينبغي ولكن الناس لا يعرفون ((5) .... وما رواه الكليني أيضا عن الصادق عليه السلام أنه قال: " لا ينبغي الصياح على الميت ولا بشق الثياب" (6) .. وقد سئل الإمام موسى بن جعفر عن النوح على الميت فكرهه (7) .... وروى محمد باقر المجلسي عن علي رضي الله عنه قال: ((لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرني فغسلته، كفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحنطه، وقال لي: احمله يا علي، فحملته حتى جئت به إلى البقيع، فصلى عليه فلما رآه منصبا بكى صلى الله عليه وآله وسلم فبكى المسلمون لبكائه حتى ارتفعت أصوات الرجال على أصوات النساء، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشد النهي وقال: تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب وإنا بك لمصابون وإنا عليك لمحزونون)) (8). ...   (1) أخرجه النوري في ((مستدرك الوسائل)) (1/ 144) والبروجردي في ((جامع أحاديث الشيعة)) (1/ 144) وهو في ((البحار)) (82/ 101). (2) أخرجه بهذا اللفظ الحاج حسين البروجردي في ((جامع أحاديث الشيعة)) (3/ 372). (3) ([10758]) كما في ((مستدرك الوسائل)) (1/ 145) و ((جامع أحاديث الشيعة)) (3/ 486). (4) أخرجه المجلسي في ((بحار الأنوار)) (82/ 101) و ((مستدرك الوسائل)) (1/ 143 - 144) و ((جامع أحاديث الشيعة)) (3/ 488). (5) أخرجه الكليني في ((الكافي)) (3/ 226) والملا محسن الملقب بالفيض الكاشاني في ((الوافي)) (13/ 88) والحر في ((وسائل الشيعة)) (2/ 916) والبروجردي في ((جامع أحاديث الشيعة)) (3/ 483). (6) الكليني في ((الكافي)) (3/ 225)، وأخرجه الفقيه الأكبر محمد بن مكي العاملي في ((ذكرى الشيعة)) (ص 72) والفيض في ((الوافي)) (13/ 88)، والحر في ((الوسائل)) (3/ 914)، والنجفي في ((الجواهر)) (4/ 369)، والبروجردي في ((جامع أحاديث الشيعة)) (3/) 483. (7) أخرجه الحر العاملي في ((وسائل الشيعة)) (12/ 92) وبين أن الكراهية هنا تعني التحريم كما أخرجه البحراني في ((الحدائق)) (4/ 168) وفي (18/ 139) وذكره البروجردي في ((جامع أحاديث الشيعة)) (3/ 488) وهو في ((بحار الأنوار)) (82/ 105). (8) ((بحار الأنوار)) (82/ 100 - 101). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 189 فلاحظ أخي المسلم كيف أن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أنكر عليهم أشد الإنكار ارتفاع أصواتهم بالبكاء .... كما أنه صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الرنة عند المصيبة ونهى عن النياحة والاستماع إليها" (1) .... وروى الكليني عن فضل بن ميسرة قال: كنا عند أبي عبد الله عليه السلام فجاءه رجل فشكى إليه مصيبة أصيب بها. فقال له أبو عبد الله عليه السلام: أما إنك إن تصبر تؤجر، وإلا تصبر يمضي عليك قدر الله الذي قدّر عليك وأنت مأزور" (2) .... وعن الصادق جعفر بن محمد قال: إنّ الصبر والبلاء يستبقان إلى المؤمن، ويأتيه البلاء وهو صبور، وإنّ البلاء والجزع يستبقان إلى الكافر، فيأتيه البلاء وهو جزوع" (3) .. قال محمد بن مكي العاملي الملقب بالشهيد الأول: " والشيخ في المبسوط وابن حمزة حرما النوح وادعى الشيخ الإجماع" (4). ... فالشيخ وهو أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي الملقب بشيخ الطائفة قد حرم النوح، وادعى الإجماع، أي أنه وإلى عصر الطوسي، كان الشيعة مجمعين على تحريم النوح والعويل الذي نسمعه الآن في الحسينيات. فقارن بالله عليك بين هذا وبين فتاوى علمائهم التي مضى إيرادها .... وقال آية الله العظمى محمد الحسيني الشيرازي: "لكن عن الشيخ في المبسوط ابن حمزة بالتحريم مطلقاً" (5).وقال الشيرازي: "ففي الجواهر دعوى القطع بحرمة اللطم والعويل" (6).وقال نجم الدين أبو القاسم جعفر بن الحسن الملقب بالمحقق الحلي المتوفى سنة (676) هـ: "والشيخ استدل بالإجماع على كراهيته-الجلوس للتعزية- إذ لم ينقل عن أحد من الصحابة والأئمة الجلوس لذلك فاتخاذه مخالفة لسنة السلف" (7).وقال محمد بن مكي العاملي: "والشيخ نقل الإجماع على كراهية الجلوس للتعزية يومين أو ثلاثة أيام، ورده ابن إدريس أنه اجتماع وتزاور، وانتصر المحقق: ولم ينقل من أحد من الصحابة والأئمة الجلوس لذلك, فاتخاذه مخالف لسنة السلف ولا يبلغ التحريم، قلت: الأخبار المذكورة مشعرة به فلا معنى لاغترام حجة التزاور وشهادة الإثبات مقدمة " (8).وقال يوسف البحراني معلقاً على روايات تحريم النياحة بما نصه: "وأكثر الأصحاب الإعراض عن هذه الأخبار وتأويلها بل تأويل كلام الشيخ أيضاً بالحمل على النوح المشتمل على شيء من المناهي كما هو ظاهر سياق الحديث الأول. قال في الذكرى بعد نقل القول بالتحريم عن الشيخ وابن حمزة: والظاهر أنهما أرادا النوح بالباطل أو المشتمل على المحرم كما قيده في النهاية، ثم نقل جملة من أخبار النهي، وقال: وجوابه الحمل على ما ذكرناه جمعاً بين الأخبار، ولأنّ نياحة الجاهلية كانت كذلك غالباً، ولأنّ أخبارنا خاصة والخاص مقدّم. أقول: من المحتمل قريباً حمل الأخبار الأخيرة على التقية، فإنّ القول بالتحريم قد نقله في المعتبر عن كثير من أصحاب الحديث من الجمهور" (9) وتقييد الشيخ له في النهاية إن صح ما نقله البحراني عنه مردود بإقرار الشيخ نفسه بإجماع طائفته على تحريمه. فماذا تنتظر بعد هذا أيها الشيعي المنصف؟!! المصدر: من قتل الحسين رضي الله عنه؟ لعبد الله بن عبد العزيز   (1) أخرجه بهذا الفظ الحر العاملي في ((وسائل الشيعة)) (2/ 915) والمجلسي في ((بحار الأنوار)) (82/ 104) ويوسف البحراني في ((الحدائق)) (4/ 167) وهو في كتاب ((الفقه للشيرازي)) (5/ 253). (2) ((الكافي)) (3/ 225)، ((الذكرى)) (ص 71)، ((وسائل الشيعة)) (2/ 913). (3) ((الذكرى)) (ص 71). (4) ((الذكرى)) (ص 72)، ((بحار الأنوار)) (82/ 107). (5) ((الفقه)) (15/ 253). (6) ((الفقه)) (15/ 260). (7) ((المعتبر)) (ص 94). (8) ((الذكرى)) (ص 70). (9) ((الحدائق)) (4/ 168). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 190 ثانياً: حرمة اللطم: ... من الأدلة التي تدين الشيعة على هذه البدعة الشنيعة قول الإمام الباقر: "أشد الجزع الصراخ بالويل والعويل، ولطم الوجه والصدر، وجز الشعر من النواصي، ومن أقام النواحة فقد ترك الصبر، وأخذ في غير طريقه" (1) ... ومنها قول الصادق رحمه الله تعالى: "من ضرب يده على فخذه عند المصيبة حبط أجره" (2) .   (1) رواه الكليني في ((الكافي)) (3/ 222 - 223) وذكره الفقيه الأكبر محمد بن مكي العاملي الملقب بالشهيد الأول في ((ذكرى الشيعة)) (ص 71) والفيض الكاشاني في ((الوافي)) (13/ 87) والحر العاملي في ((وسائل الشيعة)) (2/ 915) والمجلسي في ((بحار الأنوار)) (82/ 89) والبحراني في ((الحدائق)) (4/ 167) والبروجردي في ((جامع أحاديث الشيعة)) (3/ 483 - 484) والنجفي في ((جواهر الكلام)) (94/ 371). (2) تجد هذا الحديث في ((الكافي)) (3/ 225) و ((ذكرى الشيعة)) (ص 71)، و ((الوسائل)) (2/ 914). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 191 أقول: فما بالك بمن يلطم وجهه وصدره، ألا يحبط ذلك الأجر من باب أولى لمخالفته لنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟! ... ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب)) (1) .... وقد ذكر الدكتور محمد التيجاني السماوي الشيعي أنه سأل الإمام محمد باقر الصدر عن هذا الحديث فأجابه بقوله: "الحديث صحيح لا شك فيه" (2) .... ومنها ما جاء عن يحيى بن خالد: ((أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما يحبط الأجر في المصيبة؟ قال: تصفيق الرجل يمينه على شماله، والصبر عند الصدمة الأولى، من رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)) , وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ((أنا بريء ممن حلق وصلق أي حلق الشعر ورفع صوته)) (3) .... ومنها ما رواه جعفر بن محمد عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث المناهي أنه نهى عن الرنة عند المصيبة ونهى عن النياحة والاستماع إليها ونهى عن تصفيق الوجه" (4) .... وقال محمد بن مكي العاملي: "يحرم اللطم والخدش وجز الشعر إجماعاً قاله في المبسوط ولما فيه من السخط لقضاء الله" (5) .... وقال الشيرازي: "وعن المنتهى يحرم ضرب الخدود ونتف الشعور" (6). ويشير الدكتور الشيعي محمد التيجاني السماوي إلى بكاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على عمه أبي طالب وحمزة وزوجته خديجة فيقول: "ولكنه في كل الحالات يبكي بكاء الرحمة ولكنه نهى أن يخرج الحزن بصاحبه إلى لطم الخدود وشق الجيوب فما بالك بضرب الأجسام بالحديد حتى تسيل الدماء؟ " (7) .... ثم يذكر التيجاني أنّ أمير المؤمنين علياً لم يفعل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يفعله عوام الشيعة (8) اليوم وكذلك لم يفعل الحسن والحسين والسجاد الذي قال فيه التيجاني: " إنه حضر محضراً لم يحضره أحد من الناس وشاهد بعينيه مأساة كربلاء التي قتل فيها أبوه وأعمامه وإخوته كلهم، ورأى من المصائب ما تزول به الجبال ولم يسجل التاريخ أنّ أحد الأئمة عليهم السلام فعل شيئاً من ذلك، أو أمر به أتباعه وشيعته (9) ....   (1) ((مستدرك الوسائل)) (1/ 144) و ((جامع أحاديث الشيعة)) (3/ 489) وهو في ((جواهر الكلام)) (4/ 370). (2) ((ثم اهتديت)) (ص 58). (3) ((جامع أحاديث الشيعة)) (3/ 489) و ((مستدرك الوسائل)) (1/ 144). (4) رواه الصدوق في ((من لا يحضره الفقيه)) (4/ 3 - 4) والمجلسي في ((بحار الأنوار)) (82/ 104) والحر العاملي في ((وسائل الشيعة)) (12/ 91). (5) في ((الذكرى)) (ص 72) ونقله صاحب ((الجواهر)) في (4/ 367). (6) ((الفقه)) (15/ 260). (7) في كتابه ((كل الحلول)) (ص 151). وعلى التيجاني أن يبين أن هذا وقت المصيبة وليس إحياءاً لها، فالشيعة لا يكتفون بالمخالفة بل بإحيائها أيضاً. (8) ما يفعله الشيعة هو بناءاً على فتاوى كبار علمائهم, وقد سبق أن نقلنا بعض هذه الفتاوى حيث لا يوجد منكر لذلك من علمائهم على حد كلام آيتهم مرتضى الفيروز أبادي. راجع ((مقتل الحسين)) لمرتضى عياد (ص 170) ط دار الزهراء. (9) ((كل الحلول عند آل الرسول صلى الله عليه وسلم)) (ص 151). أقول: الحمد لله الذي أنطق هذا المعتوه, فاعترف بأن ما يقوم به الشيعة لم يسجله التاريخ عن أحد من الأئمة الذين ينتسبون إليهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 192 وقال أيضاً: "أغلب أهل السنة والجماعة ينتقدون أفعال الشيعة التي يقومون بها بمناسبة عاشوراء من ضرب وتطبير بالسلاسل والحديد حتى تسيل الدماء ورغم أنّ الشيعة في الهند والباكستان يفعلون ذلك وأكثر من غير ذلك، غير أنّ وسائل الإعلام المرئية كالتلفزيون لا تركز إلا على شيعة إيران لحاجة في نفس يعقوب, يعرفها كل متتبع للأحداث، وكل مهتم بشؤون الإسلام والمسلمين" (1).ويضيف التيجاني السماوي المتعصب قائلا: والحق يُقال: إنّ ما يفعله بعض الشيعة من تلك الأعمال ليست هي من الدين في شيء، ولو اجتهد المجتهدون، وأفتى بذلك المفتون، ليجعلوا فيها أجراً كبيراً وثواباً عظيماً، وإنما هي عادات وتقاليد وعواطف تطغى على أصحابها، فتخرج بها عن المألوف وتصبح بعد ذلك من الفولكلور الشعبي الذي يتوارثه الأبناء عن الآباء في تقليد أعمى وبدون شعور، بل يشعر بعض العوام بأنّ إسالة الدم بالضرب هي قربة لله تعالى، ويعتقد البعض منهم بأن الذي لا يفعل ذلك لا يحب الحسين" (2) .... وقال أيضاً: "لم أقتنع بتلك المناظر التي تشمئز منها النفوس وينفر منها العقل السليم، وذلك عندما يعرّى الرجل جسمه ويأخذ بيده حديداً ويضرب نفسه في حركات جنونية صائحاً بأعلى صوته حسين حسين، والغريب في الأمر والذي يبعث على الشك أنك ترى هؤلاء الذين خرجوا عن أطوارهم وظننت أنّ الحزن أخذ منهم كل مأخذ فإذا بهم بعد لحظات وجيزة من انتهاء العزاء تراهم يضحكون ويأكلون الحلوى ويشربون ويتفكهون وينتهي كل شيء بمجرد انتهاء الموكب، والأغرب أنّ معظم هؤلاء غير ملتزمين بالدين، ولذلك سمحت لنفسي بانتقادهم مباشرة عدة مرات وقلت لهم: إنّ ما يفعلونه هو فلكلور شعبي وتقليد أعمى" (3) ... هذا ما أقر به هذا المتعصب المحترق الذي تخصص في الطعن في معتقدات أهل السنة والجماعة وقريب منه قول شيخهم حسن مغنية: "والواقع أنّ ضرب الرؤوس بالخناجر والسيوف وإسالة الدماء ليست من الإسلام في شيء، ولم يرد فيها نص صريح ولكنها عاطفة نبيلة تجيش في نفوس المؤمنين لما أريق من الدماء الزكية على مذابح فاجعة كربلاء" (4). ... ولا ندري كيف نوفق بين قول حسن مغنية: إنّ ضرب الرؤوس بالخناجر والسيوف .. ليست من الإسلام في شيء ولم يرد فيها نص صريح" وبين قوله: "ولكنها عواطف نبيلة " ألا يدرك حسن مغنية أنّ هذه الأمور من المنكرات والبدع الشنيعة؟ المصدر: من قتل الحسين رضي الله عنه؟ لعبد الله بن عبد العزيز   (1) ((كل الحلول)) (ص 147 - 148). (2) ((كل الحلول)) (ص 148). (3) ((كل الحلول)) (ص 149). (4) ((آداب المنابر)) (ص 182). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 193 ثالثاً: لبس السواد في عاشوراء: ويقوم الشيعة بلبس السواد في عاشوراء مع ما رووه من أنه لباس أهل النار، فقد سئل الإمام عن الصلاة في القلنسوة السوداء؟ فقال: لا تصل فيها فإنها لباس أهل النار" (1) .... ورووا عن أمير المؤمنين علي فيما علم أصحابه أنه قال:) لا تلبسوا السواد فإنه لباس فرعون ((2) .... ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يكره السواد إلا في ثلاثة العمامة والخف والكساء (3).وعن جبرئيل عليه السلام أنه هبط على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قباء أسود ومنطقة فيها خنجر، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما هذا الزي؟ فقال: زي ولد عمك العباس يا محمد، ويل لولدك من ولد عمك العباس. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى العباس فقال: يا عم ويل لولدي من ولدك. فقال: يا رسول الله أفأجب نفسي؟ قال: جرى القلم بما فيه)) (4) .... قال شيخهم الحاج محمد رضا الحسيني الحائري: "المشهور بين أصحابنا الإمامية شهرة عظيمة، بل المدعى عليه الإجماع كما في الخلاف، كراهة لبس الثياب السود في الصلاة، بل مطلقا، إلاَّ في الخف والعمامة والكساء، وفي المعتبر الاقتصار على استثناء العمامة والخف ونسب ذلك إلى الأصحاب، وفي المنتهى نسبته إلى علمائنا، وعليه اقتصر في الشرائع والقواعد والإرشاد وفي الدروس، وعن اقتصار المفيد وسلار وابن حمزة الاقتصار على العمامة فقط، وعن الذكرى عدم الاستثناء في كلام كثير من الأصحاب، وفي كشف اللثام أن الكساء لم يستثنه أحد من الأصحاب إلا ابن سعيد" (5).ويختتم الحائري كلامه بقوله: "هذه هي الروايات التي استدل بها الأصحاب لكراهة لبس الثياب السود والصلاة فيها مضافا إلى ما عرفت من دعوى الشهرة الإجماع في المسألة" (6). قلت: إذا كانت هذه الروايات رواياتهم، والإجماع إجماعهم، فلماذا يقوم شيعة اليوم بلبس السواد في الأيام العشر الأولى من محرم؟. لماذا لا يحترم الشيعة رواياتهم وإجماع علمائهم؟ رابعاً: كلمة إلى خطيب أباح النياحة واللطم: قال فقيه الشيعة الأكبر محمد بن مكي العاملي والذي يلقبونه بالشهيد الأول: "والشيخ في المبسوط وابن حمزة حرما النوح وادعى الشيخ الإجماع" (7).وقال آية الله العظمى محمد الحسيني الشيرازي: "لكن الشيخ في المبسوط وابن حمزة القول بالتحريم مطلقا" (8).وقال الشيرازي: "ففي الجواهر دعوى القطع بحرمة اللطم والعويل (9).وقال الشهيد الأول: "يحرم اللطم والخدش وجز الشعر إجماعاً قاله في المبسوط ولما فيه من السخط لقضاء الله" (10).وقال الشيرازي: "وعن المنتهى يحرم ضرب الخدود ونتف الشعور" (11).وقال هاشم الهاشمي في حواره مع فضل الله: "نعم ذهب ابن حمزة والشيخ إلى حرمة النياحة وادعى الشيخ الإجماع عليها في مبسوطه" (12). وقال أيضاً: "نعم ورد النهي عن النياحة في جملة من الأخبار ". فهذه نصوص علمائكم تحرم النوح والعويل واللطم بالإجماع اعتماداً على نصوص شرعية سقنا بعضها فلماذا تقام الحسينيات والمآتم وتضرب بهذا الإجماع عرض الجدار؟!. ... ثم اسمع أيها الخطيب كيف يتربى أهل البيت رضي الله عنهم ويربون أصحابهم على الصبر والاسترجاع لا على النوح والعويل كما تفعل أنت في المآتم والحسينيات. عن موسى بن جعفر رحمه الله قال: نعي إلى الصادق جعفر بن محمد إسماعيل بن جعفر وهو أكبر أولاده وهو يريد أن يأكل، وقد اجتمع ندماؤه فتبسم ثم دعا بطعامه، وقعد مع ندمائه وجعل يأكل أحسن من أكله سائر الأيام، ويحث ندماءه، ويضع بين أيديهم، ويعجبون منه أن لا يرون للحزن أثراً، فلما فرغ قالوا: يا ابن رسول الله لقد رأينا عجبا، أصبت بمثل هذا الابن وأنت كما ترى. قال: وما لي لا أكون كما ترون، وقد جاء في خبر أصدق الصادقين أني ميت وإياكم، إن قوماً عرفوا الموت فجعلوه نصب أعينهم ولم ينكروا من يخطفه الموت منهم وسلموا لأمر خالقهم عز وجل" (13). أرأيت بعد هذا براءة أهل البيت رضي الله عنهم مما يدور في هذه المأتم. المصدر: من قتل الحسين رضي الله عنه؟ لعبد الله بن عبد العزيز   (1) ((من لا يحضره الفقيه)) (1/ 162)، ((وسائل الشيعة)) (3/ 281)، ((نجاة الأمة)) (ص85). (2) ((فقيه من لا يحضره الفقيه)) (1/ 163)، ((وسائل الشيعة)) (3/ 278)، ((نجاة الأمة)) (ص 84). (3) ((من لا يحضره الفقيه)) (1/ 163)، ((نجاة الأمة)) (ص 84). (4) ((من لا يحضره الفقيه)) (1/ 163)، ((وسائل الشيعة)) (3/ 279) , ((نجاة الأمة)) (ص 84 - 85) , ((مستدرك الوسائل)) (1/ 208). (5) ((نجاة الأمة في إقامة العزاء على الحسين والأئمة)) (ص 83). (6) ((نجاة الأمة في إقامة العزاء على الحسين والأئمة)) (ص 85). (7) ((الذكرى)) (ص 72). (8) ((الفقه)) (15/ 253). (9) ((الفقه)) (15/ 260). (10) ((الذكرى)) (ص 77)، ((الجواهر)) (4/ 367). (11) ((الفقه)) (15/ 260). (12) ((حوار مع فضل الله حول الزهراء)) (ص 231). (13) ((عيون أخبار الرضا)) (2/ 2)، ((بحار الأنوار)) (82/ 128)، ((جامع أحاديث الشيعة)) (3/ 511). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 194 المطلب السادس: النساء والحسينيات: إن التحذيرات الواردة في الروايات السابقة تشمل الرجال والنساء على حد سواء، ولمزيد من الفائدة نذكر الروايات التي تطرقت إلى النساء بشكل خاص لكي تعيها وتتدبرها النساء الشيعيات اللاتي يذهبن إلى المآتم والحسينيات حتى لا يقعن في المحظور. قال الحسين رضي الله عنه لأخته زينب عندما لطمت وجهها وأهوت إلى جيبها فشقته وخرت مغشياً عليها: ) يا أُخَيَّة اتقي الله وتعزي بعزاء الله واعلمي أن أهل الأرض يموتون، وأن أهل السماء لا يبقون، وأن كل شيء هالك إلا وجه الله تعالى، الذي خلق الخلق بقدرته فيعودون، وهو فرد وحده، أبي خير مني وأمي خير مني وأخي خير مني ولي ولكل مسلم برسول الله أسوة، فعزاها بهذا ونحوه ثم قال لها:"يا أختاه إني أقسمت عليك فأبري قسمي، إذا أنا قتلت فلا تشقي عليَّ جيبا، ولا تخمشي عليَّ وجهاً، ولا تدعي عليَّ بالويل والثبور ((1).وفي رواية قال: "يا أختاه يا أم كلثوم يا فاطمة يا رباب انظرن إذا قتلت فلا تشققن علي جيبا ولا تخمشن وجها" (2) .... وفي رواية:) يا أختي إني أقسمت عليك فأبري قسمي لا تشقي عليَّ جيبا ولا تخمشي عليَّ وجها ولا تدعي عليَّ بالويل إذا أنا هلكت ((3). ...   (1) أخرجها ابن طاووس في ((الملهوف)) (ص 50) , والشيخ عباس القمي في ((منتهى الآمال)) (1/ 48) , وهي في ((الشعائر الحسينية)) للشيرازي (ص 106) وذكرها الشيخ محمد حسين فضل الله في ((الندوة)) (5/ 209). (2) ذكر هذه الرواية عبد الرزاق الموسوي المقرم في ((مقتل الحسين)) (ص 218) وذكرها رضى القزويني في ((تظلم الزهراء)) (ص 190). (3) تجد هذه الرواية في ((مستدرك الوسائل)) (1/ 144)، وفي ((مظالم أهل البيت)) (ص 264) كما ذكرها محمد تقي آل بحر العلوم في ((مقتل الحسين)) (ص 286)، والدكتور أحمد راسم النفيس في كتابه ((على خطى الحسين)) (ص 116)، ورضى القزويني في ((تظلم الزهراء)) (ص 190)، ومحمد الصدر في ((أضواء على ثورة الحسين)) (ص 103) وأوردها الشيخ عبد الحسين العاملي في كتابه ((المفيد في ذكر السبط الشهيد)) (ص 67) بلفظ:"أقسمت بحقي عليك أنت يا زينب وأنت يا أم كلثوم وأنت يا سكينة وأنت يا رباب فإذا أنا قتلت في هذه الأرض فلا تشققن علي جيباً ولا تخمشن خداً ولا تقلن هجراً". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 195 وروى الصدوق وغيره عن عمر بن أبي المقدام قال: سمعت أبا الحسن وأبا جعفر عليهما السلام يقولان في قول الله عز وجل: وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة:12] قال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة عليها السلام: إذا أنا مت فلا تخمشي عليَّ وجهاً ولا ترخي عليَّ شعراً ولا تنادي بالويل ولا تقيمي عليَّ نائحة. قال: ثم قال: هذا هو المعروف الذي قال الله عز وجل: وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة:12] (1).وعن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة:12] قال: "المعروف أن لا يشققن جيباً ولا يلطمن وجهاً ولا يدعون ويلاً ولا يقمن عند قبر" (2).وعن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعن النائحة المستمعة" (3). قلت: فما الفائدة إذن من الذهاب إلى الحسينيات بعد الوقوف على هذه الأحاديث الصريحة؟ الحذر الحذر. وروى القطب الراوندي في (لب اللباب) (4) أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعن أربعة: امرأة تخون زوجها في ماله أو في نفسها، والنائحة والعاصية، لزوجها والعاق" .... وعندما سمع أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بكاء النساء على قتلى صفين وخرج إليه حرب بن شرحبيل الشامي وكان من وجوه قومه فقال علي عليه السلام: (أتغلبكن نساؤكم على ما أسمع؟! ألا تنهونهن عن هذا الرنين) (5).وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أنعم الله عليه بنعمة فجاء عند تلك النعمة بمزمار فقد كفرها، ومن أصيب بمصيبة فجاء عند تلك المصيبة بنائحة فقد كفرها. وفي رواية فقد أحبطها" (6).وعن جعفر بن محمد عن آبائه رضي الله عنهم في وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: ((يا علي من أطاع امرأته أكبه الله عز وجل على وجهه في النار قال علي رضي الله عنه: وما تلك الطاعة؟ قال: يأذن لها في الذهاب إلى الحمامات والعرسات والنياحات ولبس الثياب الرقاق)) (7).وروى الصدوق وغيره عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أربعة لا تزال في أمتي إلى يوم القيامة: الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة، وإن النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)) (8) .... وعن أبي جعفر الثاني عن آبائه رضي الله عنهم قال: قال رسول لله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لما أسري بي إلى السماء رأيت امرأة على صورة كلب والنار تدخل في دبرها وتخرج من فيها والملائكة يضربون رأسها وبدنها بمقامع من نار فسئل صلى الله عليه وآله وسلم عنها فقال: إنها كانت قينة نواحة حاسدة)) (9).وعن جعفر بن محمد رضي الله عنهما أنه أوصى عندما احتضر فقال: لا يلطمن عليَّ خد، ولا يشقن عليَّ جيب، فما من امرأة تشق جيبها إلا صدع لها في جهنم صدع كلما زادت زيدت" (10).وعن علي رضي الله عنه قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البيعة على النساء أن لا ينحن ولا يخمشن ولا يقعدن مع الرجال في الخلاء) (11). المصدر: من قتل الحسين رضي الله عنه؟ لعبد الله بن عبد العزيز   (1) أخرج هذه الرواية ابن بابويه القمي الملقب بالصدوق في ((معاني الأخبار)) (ص 390) والشيخ البحراني في ((الحدائق الناضرة)) (4/ 167 - 168)، والحر في ((وسائل الشيعة)) (2/ 915 - 916) والنوري في ((مستدرك الوسائل)) (1/ 144)، والشيرازي في ((الفقه)) (15/ 254) والشيخ محمد حسين فضل الله في ((الندوة)) (5/ 72)، انظر ((بحار الأنوار)) (82/ 76). (2) كما في تفسير ((نور الثقلين)) (5/ 308) و ((مستدرك الوسائل)) (1/ 144)، وهو في ((بحار الأنوار)) (82/ 77). (3) أخرجه الحاج النوري في ((مستدرك الوسائل)) (1/ 144) والآقا حسين البروجردي في ((جامع أحاديث الشيعة)) (3/ 487) وهو في ((البحار)) (82/ 93). (4) فيما نقله عنه الحاج النوري في ((مستدرك الوسائل)) (2/ 431). (5) ((جامع أحاديث الشيعة)) (3/ 387) انظر ((البحار)) (82/ 89). (6) هذه الرواية ذكرها الحر العاملي في ((وسائل الشيعة)) (12/ 90) ويوسف البحراني في ((الحدائق)) (18/ 139) كما ذكرها المجلسي في ((بحار الأنوار)) (82/ 103) فانظري أيتها الشيعية كيف يضيع علماء الشيعة بفتاواهم أجر المصيبة. (7) والرواية عند الحر العاملي في ((وسائل الشيعة)) (1/ 376). (8) في ((الخصال)) (ص 226) وذكرها البحراني في ((الحدائق)) (4/ 68) وأعادها في (18/ 139) كما ذكرها الحر في ((وسائل الشيعة)) (12/ 91)، والمجلسي في ((بحار الأنوار)) (22/ 451)، (58/ 226)، (73/ 290)، (82/ 74 - 75) و (ص 93) مختصرة. (9) ((عيون أخبار الرضا)) (2/ 11)، ((بحار الأنوار) (82/ 76)، ((جامع أحاديث الشيعة)) (3/ 487 - 488)، واللفظ للثاني. (10) ((بحار الأنوار)) (82/ 101)، ((جامع أحاديث الشيعة)) (3/ 490). (11) ((بحار الأنوار)) (82/ 101)، ((جامع أحاديث الشيعة)) (3/ 484). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 196 المطلب الأول: حكم الأذان والإقامة عند العلماء: لا خلاف بين المسلمين في مشروعية الأذان وأنه لا ينبغي لأي أحد أن يتركه إلا أن أنظار العلماء تفاوتت في كونه سنة أو واجباً وإليك بعض أقوالهم: 1 - شيخ الطائفة الطوسي في كتابه (النهاية): إذ قال: "الأذان والإقامة سنتان مؤكدتان في جميع الفرائض من الصلوات الخمس، لا ينبغي تركها مع الاختيار، وأشدهما تأكيداً في صلاة الغداة والمغرب ... " ويقول أيضاً: "ولا يجوز ترك الأذان والإقامة معاً في صلاة الجماعة فمن تركهما فلا جماعة له، ومن أذّن وأقام ليصلي وحده ثم جاءه قوم وأرادوا أن يصلوا جماعة فعليه إعادة الأذان والإقامة معاً ... " (النهاية في مجرد الفقه والفتاوى / الطوسي ص 64) 2 - كاظم الطبطبائي اليزدي في العروة الوثقى: قال: "لا إشكال تأكد رجحانهما في الفرائض اليومية، أداء، وقضاء، جماعة وفرادى، حضراً وسفراً، للرجال والنساء، وذهب بعض العلماء إلى وجوبهما، وخصه بعضهم بصلاة المغرب والصبح وبعضهم بصلاة الجماعة وجعلهما شرطاً في صحتها، وبعضهم جعلهما شرطاً في حصول ثواب الجماعة، والأقوى استحباب الأذان مطلقاً, والأحوط عدم ترك الإقامة للرجال في غير موارد السقوط وغير حال الاستعجال والسفر وضيق الوقت" (العروة الوثقى/ كاظم اليزدي - بتعليقة أربعة من العلماء 1/ 457) 3 - السيد عبد الأعلى السبزواري في كتابه (منهاج الصالحين): قال: "يستحب الأذان والإقامة استحبابا مؤكداً في الفرائض اليومية أداءً، وقضاءً، حضراً، وسفراً، في الصحة والمرض، للجامع والمنفرد رجلاً كان أم امرأة، ويتأكدان في الأدائية منها، وخصوصاً المغرب والغداة، وأشدهما تأكد الإقامة خصوصاً للرجال " (منهاج الصالحين / عبد الأعلى السبزواري 1/ 135) المصدر: الشهادة الثالثة في الأذان حقيقة أم افتراء لعلاء الدين البصير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 197 المطلب الثاني: خلو الأذان من الشهادة الثالثة عند الأئمة والعلماء: أن الأمر الخطير والمهم في بحثنا هذا هو أنك سوف تتطلع على أمور ربما كنت تعد صحتها وثبوتها من المسلمات التي لا يختلف فيها اثنان لكنك وبمجرد تصفحك لهذا البحث ستجد أن كثيرا من تلك المسلمات قد بنيت على شفا جرف هار وقاعدة رخوة سرعان ما يسقط ما بني عليها، ومن تلك المسلمات الشهادة الثالثة في الأذان (أشهد أن عليا ولي الله) هذه اللفظة التي ألف سماعها الكبير ونشأ عليها الصغير. فتعال معي عزيزي القارئ بعد أن تترك الهوى خلفك لنقوم بجولة استقرائية لمرويات أهل البيت وأقوال علماء الشيعة الواردة بصدد بيان ألفاظ الأذان لأقف بك عند حقيقة طالما غيبت عنك ألا وهي: " أن لا وجود للشهادة الثالثة في الأذان الوارد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته - عليه السلام - " وإليك بعض تلك الروايات. أولاً: روايات الأئمة لا تذكر الشهادة الثالثة: الرواية الأولى: الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن الأذان فقال: تقول الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله الله، أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، حي على خير العمل، حي على خير العمل، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله. (الاستبصار1/ 305) , (التهذيب 1/ 150). الرواية الثانية: محمد بن علي بن محبوب، عن علي بن السندي، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن زرارة والفضيل بن يسار، عن أبي جعفر- عليه السلام - قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصف الملائكة والنبيون خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فقلنا له كيف أذن، فقال: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حي علي الصلاة، حي الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، حي على خير العمل، حي على خير العمل، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، والإقامة مثلها إلا أن فيها قد قامت الصلاة بين حي على خير العمل، حي على خير العمل وبين الله أكبر، الله أكبر فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلالاً فلم يزل يؤذن بها حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (الاستبصار 1/ 305) (التهذيب 1/ 151) (وسائل الشيعة 4/ 644). الرواية الثالثة: عن أحمد بن محمد، عن الحسين عن فضالة، عن سيف بن عميرة، عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي عبد الله - عليه السلام - وكليب الأسدي عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنه حكى لهما (الأذان والإقامة) فقال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، حي على خير العمل، حي على خير العمل، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والإقامة كذلك (الاستبصار 1/ 358) (وسائل الشيعة 4/ 644) ... وسنعزز صحة هذه الحقيقة الخطيرة بأقوال علماء الشيعة التي اتفقت مع روايات الأئمة على خلو الأذان من الشهادة الثالثة. ثانياً: إجماع فقهاء الإمامية على أن الشهادة الثالثة ليست جزءاً من الأذان والإقامة: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 198 قبل أن نورد أقوال العلماء في عدم ورود الشهادة الثالثة في الأذان أحب هنا أن أذكر كلمة لفضيلة السيد محمد العاملي الكاظمي عضو ديوان النشر والترجمة والتأليف التابع لجامعة مدينة العلم للإمام الخالصي الكبير, والتي ذكرها في كتاب (الاعتصام بحبل الله) مضافاً إليها كلمة مدير ديوان جامعة مدينة العلم الواردة في الكتاب نفسه أجعلها كالمقدمة لهذا المبحث لا سيما وأنها تحتوي على ضوابط تحدد لنا مفهومي السنة والبدعة وأثر البدعة السيىء في الدين، فلك عزيزي القارئ مجمل ما كتبا: إن كل شيء لم يسنه الرسول صلى الله عليه وسلم من العبادات فإحداثه بعده بدعة، ففي حديث عن أمير المؤمنين علي -عليه السلام-: أنه جاءه رجل وسأله عن السنة والبدعة والجماعة والفرقة فقال: "السنة ما سنَّه رسول الله والبدعة ما أحدث بعده، والجماعة أهل الحق وإن كانوا قليلاً والفرقة أهل الباطل وإن كانوا كثيراً". وعليه فالبدعة ما كان على خلاف سنة الرسول بأي نحو من أنحاء المخالفة وكلها محرمة. وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل بدعة ضلالة وكل ضلالة سبيلها إلى النار)). (الفصول المهمة في أصول الأئمة / الحر العاملي ص 203). وتتبع كل ما حُكم بكونه بدعة سنجده على خلاف السنة كتقديم خطبتي العيد على صلاتها .. . إن أي تغيير في العبادة بما جاء به الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم يعد بدعة وحراماً. ففي الأذان مثلا إذا قدمت الشهادة في التوحيد على التكبير أو زيد التكبير أو نقص منه كان بدعة ولا يستلزم عدم التغيير إنكار ما غير فتقديم (أشهد أن لا إله إلا الله) على قول: (الله أكبر) حرام وإن قول: (أشهد أن لا إله إلا الله) ثلاث مرات مع أنه حرام لا يلزم منه إنكار التوحيد. ومن ذلك حرمة قول: (أشهد أن علياً ولي الله) في الأذان فهو حرام لعدم وروده عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أهل بيته - عليه السلام -. وهو كما لو أضاف المؤذن أثناء الأذان سبحان الله، أو لا حول ولا قوة إلا بالله مع شرعيتها خارج الأذان. ولا يلزم من ذلك إنكار ولاية علي - عليه السلام - لأن ما لا يذكر في الأذان من وجوب الصلاة، والصوم، والإقرار بالميعاد، وغير ذلك لا يستلزم إنكار الصلاة والصوم والميعاد، بل الأذان محدود بحدود حددها الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما جاء به الوحي من رب العالمين، ولا يجوز تعدي تلك الحدود حتى ولو كانت بكلمة حق، لأن الفرائض والسنن جاءت محدودة عن الله تعالى وقام رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بتنفيذها وتطبيقها وأمر أمته أن يعملوا بها ويسيروا على هداها، ويسمعوا ويطيعوا. فليس لأحد من علماء الدين وبقية المسلمين أن يزيدوا أو ينقصوا شيئاً من هذه الفرائض والأحكام، لأنهم جميعهم مكلفون بالتنفيذ والتطبيق وأن التشريع من الله تعالى، وعلى الرسول التبليغ فالأحكام التي بلغ النبي صلى الله عليه وسلم بها أمته هي أحكام إلهية جاءت نصوصها في القرآن الكريم والسنة النبوية ولا يمكن تفسيرها أو تأويلها حسب الأهواء والرغبات. ولا يجوز تحويرها وتحريفها في سبيل العنعنات والنزعات. وليست هي قصائد شعرية ليجري عليها التشطير والتخميس. وليست أحكام الإسلام وعلومه وفرائضه كالمستحضرات الطبية يضيف الطبيب اللاحق على ما استحضره الطبيب السابق. أو يرفع قسماً منها لغرض التقوية أو التخفيف من مفعولها. أو إصلاح تلك المستحضرات حسبما يرتئيه هو. ولا كالمخترعات الصناعية فيأتي المهندس اللاحق فيضيف إلى ما اخترعه المهندس السابق ويزيد وينقص حتى يوصل المخترع إلى درجة الكمال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 199 بل إن أحكام الشريعة الإسلامية جاءت محدودة بحدود لا يمكن أن يتعداها أحد، وأقيمت على قواعد لا يجوز تحويل قاعدة منها ولا إضافة قاعدة إليها، ولنضرب على ذلك مثلا: فالأذان، جاءت صيغته بعبارات محدودة معينة، كبقية الأعمال والأحكام في العبادة، فما زيد أو نقص منه كان بدعة وتشريعاً في الدين. فالتشريع لا يجوز لغير النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم لا يأتي بتشريع إلا بوحي من رب العالمين كما قال الله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4] ثم إن النبي صلى الله عليه وسلملم يعين من بعده مشرعاً، بل قال: ((لا نبي بعدي)) (1). حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة لأنه جاء بشريعة هي خاتمة الشرائع. وكمل الله له الدين وأتم عليه نعمته فقال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3]. فالزيادة والنقصان في الأذان وغيره يعدان تشريعاً، وما لم يشرع فهو بدعة. انتهى. (الاعتصام بحبل الله / منشورات ديوان النشر والترجمة والتأليف التابع لجامعة مدينة العلم للإمام الخالصي الكبير في الكاظمية ص 17 - إصدار سنة (1955م) - بتصرف) وقد أجمع فقهاء الشيعة الإمامية، على أن كل زيادة أو نقصان في الأذان والإقامة (هو أمر مبتدع) يؤدي إلى بطلانهما ويأثم من اعتقد جزئية تلك الزيادة واعتبرها فصلا فيهما ومن هذا المنطلق أجمع الفقهاء على أن الشهادة الثالثة ليست جزءاً من الأذان والإقامة. وهنا أهيب بالقارئ الكريم أن يراجع الكتب الفقهية سواء الاستدلالية منها أو الرسائل العملية، فإنه لا محالة سيجد أن كل من ذكر فصول الأذان والإقامة فإنه لم يذكر فيهما الشهادة الثالثة بل وتجده قد صرح بعدم جزئيتهما فيهما وهذه جملة من الكتب القديمة والحديثة كمثال على هذه الحقيقة. أقوال فقهاء الإمامية: 1 - شيخ الطائفة الطوسي: قال: فأما ما روي من شواذ الأخبار من قول أن علياً ولي الله وآل محمد خير البرية فمما لا يجوز عليه في الأذان والإقامة فمن عمل به كان مخطئاً (النهاية في مجرد الفقه والفتاوى / الطوسي ص69). وقال في (المبسوط): فأما قول: أشهد أن علياً أمير المؤمنين وآل محمد خير البرية على ما ورد في شواذ الأخبار فليس بمعمول عليه في الأذان ولو فعله الإنسان لم يأثم به، غير أنه ليس من فضيلة الأذان ولا كمال فصوله (المبسوط / الطوسي 1/ 99). 2 - الشهيدان الأول والثاني: جاء في (اللمعة الدمشقية) وشرحها للشهيدين الأول والثاني, الأول: محمد بن جمال الدين مكي العاملي)، الثاني: زين الدين العاملي, وهما من كبار علماء الشيعة الإمامية في جبل عامل جنوب لبنان في القرنين السابع والعاشر الهجريين, ما نصه: لا يجوز اعتقاد شرعية غير هذه الفصول في الأذان والإقامة، كالشهادة بالولاية لعلي - عليه السلام - وأن محمداً وآله وسلم خير البرية أو خير البشر وإن كان الواقع كذلك, فما كل واقع حقا يجوز إدخاله في العبادات الموظفة شرعا المحدودة من الله تعالى فيكون إدخال ذلك فيها بدعة وتشريعا، كما لو زاد في الصلاة ركعة أو تشهداً ونحو ذلك من العبادات وبالجملة فذلك من أحكام الإيمان لا من فصول الأذان. ويقول الشهيد الأول: قال الصدوق إن ذلك من وضع المفوضة وهم طائفة من الغلاة (مرجعية المرحلة وغبار التغيير / الشيخ جعفر الشاخوري ص 180) (الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية / الشهيد الأول 1/ 573 باب الأذان والإقامة). 3 - المقدس الأردبيلي: قال الأردبيلي ناقلاً كلام الصدوق:   (1) رواه البخاري (3455) ومسلم (1842) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 200 وقال مصنف هذا الكتاب - رضي الله عنه - هذا هو الأذان الصحيح لا يزاد ولا ينقص منه، والمفوضة لعنهم الله قد وضعوا أخباراً وزادوا في الأذان محمد وآل محمد خير البرية مرتين، وفي بعض رواياتهم بعد أشهد أن محمدا رسول الله وأشهد أن علياً أمير المؤمنين حقاً مرتين. ولا شك في أن عليا ولي الله وأنه أمير المؤمنين حقاً، وأن محمداً وآله وسلم صلوات الله عليهم خير البرية، ولكن ليس ذلك في أصل الأذان وإنما ذكرت ليعرف بهذه الزيادة المتهمون بالتفويض والمدلسون أنفسهم في جملتنا. ثم علق المقدس الأردبيلي على ذلك قائلاً: فينبغي اتباعه لأنه الحق ولهذا يشنع على الثاني (يقصد بالثاني: عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حيث يزعم الشيعة أنه أضاف إلى الأذان (الصلاة خير من النوم) بالتغيير في الأذان الذي كان في زمانه صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي ارتكاب مثله مع التشنيع عليه (مرجعية المرحلة وغبار التغيير / الشاخوري ص 180) (مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان / المولى أحمد الأردبيلي 2/ 181) 4 - محمد محسن الفيض الكاشاني: وهو صاحب كتاب (الوافي) الذي يعتبر من الكتب المعتمدة عند الشيعة الإمامية، وصاحب (تفسير الصافي) إذ قال: في كتابه (مفاتيح الشرائع) في معرض تعداد ما يكره في الأذان والإقامة وكذا غير ذلك من الكلام (يقصد أن علياً ولي الله) وإن كان حقا بل كان من أحكام الإيمان لأن ذلك مخالف للسنة فإن اعتقد شرعا فهو حرام (مرجعية المرحلة وغبار التغيير / الشيخ جعفر الشاخوري ص 181) (مفاتيح الشرائع / المولى محمد محسن الفيض الكاشاني 1/ 118). 5 - الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء: نقل الشيخ محمد العاملي الكاظمي قول الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء في كتابه (كشف الغطاء) , وهو من أكابر العلماء وإليه تنتمي الأسرة الحاضرة المعروفة بآل كاشف الغطاء، حيث قال في كتابه هذا عند ذكر الأذان ما نصه: وليس من الأذان قول: أشهد أن علياً ولي الله, أو أن محمداً وآله وسلم خير البرية مرتين مرتين, وأن علياً أمير المؤمنين حقا لأنه من وضع المفوضة لعنهم الله على ما قاله الصدوق: إنما روي منه أن علياً ولي الله وأن محمداً وآله وسلم خير البشر أو البرية من شواذ الأخبار لا يعمل عليه. وما في (المبسوط) من أن قول: أشهد أن علياً أمير المؤمنين وآل محمد خير البرية من الشاذ لا يعول عليه. وما في (المنتهى) ما روي من أن قول: أن علياً ولي الله وآل محمد خير البرية من الأذان من الشاذ لا يعول عليه. ثم إن خروجه من الأذان من المقطوع به بإجماع الإمامية من غير نكير حتى لم يذكره ذاكر بكتاب, ولا قال به أحد من قدماء الأصحاب, ولأنه وضع لشعائر الإسلام دون الإيمان, ولذا ترك فيه ذكر باقي الأئمة - عليهم السلام -. ولأن أمير المؤمنين - عليه السلام - حين نزوله كان رعية للنبي فلا يذكر على المنابر، ولأن ثبوت الوجوب للصلاة المأمور بها موقوف على التوحيد والنبوة فقط على أنه لو كان ظاهرا في مبدأ الإسلام لكان في مبدأ النبوة من الفترة ما كان في الختام. ومن حاول جعله من شعائر الإيمان، فما لزم به لذلك يلزمه ذكر الأئمة عليهم السلام وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم مكرراً من الله في نصبه للخلافة والنبي يستعفي حذراً من المنافقين حتى جاء التشديد من رب العالمين، ولأنه لو كان من فصول الأذان لنقل بالتواتر في هذا الزمان ولم يخف على أحد من آحاد نوع الإنسان وإنما هو من وضع المفوضة الكفار المستوجبين الخلود في النار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 201 ولعل المفوضة أرادوا أن الله تعالى فوض الخلق إلى علي فساعده على الخلق فكان ولياً ومعيناً فمن أتى بذلك قاصداً به التأذين فقد شرع في الدين، ومن قصده جزءاً من الأذان في الابتداء بطل أذانه بتمامه، لكن صفة الولاية ليس لها مزيد شرفية لكثرة معانيها، فلا امتياز لها إلا مع قرينة إرادة معنى التصرف والتسلط فيها كالاقتران مع الله ورسوله في الآية الكريمة ونحوه، لأن جميع المؤمنين أولياء الله، فلو بدل بالخليفة بلا فصل، أو بقول أمير المؤمنين، أو بقول حجة الله تعالى، أو بقول أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحوها كان أولى وأبعد عن توهم العوام أنه من فصول الأذان. ثم قوله: أن علياً ولي الله مع ترك لفظ أشهد أبعد عن الشبهة، ولو قيل بعد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله على محمد سيد المرسلين وخليفته بلا فصل علي ولي الله أمير المؤمنين لكان بعيداً عن الإيهام وأجمع لصفات التعظيم والاحترام. (الاعتصام بحبل الله / ص50 - 52) (كشف الغطاء / جعفر آل كاشف الغطاء ص227). 6 - كاظم اليزدي الطبطبائي: قال في (العروة الوثقى) ما نصه: وأما الشهادة لعلي بالولاية وإمرة المؤمنين فليست جزءا منهما - الأذان والإقامة - ولم يتعرض لاستحباب إكمال الشهادتين بالشهادة الثالثة ولم يذكر الشهادة الثالثة في الأذان، وقد أمضى فتوى العروة الوثقى كل من: 1 - السيد أبو الحسن الأصفهاني. 2 - السيد ضياء الدين العراقي. 3 - السيد الأغا حسين البروجردي. 4 - السيد الأراكي. 5 - السيد الخوئي. 6 - السيد الكلبايكياني. (الاعتصام بحبل الله / ص49) (العروة الوثقى /كاظم اليزدي 1/ 458) 7 - هناك عدد كبير من المراجع والعلماء الكبار يحتاطون في الإقامة لشبهة أنها جزء من الصلاة كما أن سيرة العلماء الذين جاؤوا بعد الغيبة إلى عهود متأخرة على عدم الإتيان. وهذه بعض الرسائل العملية التي ذكرت الأذان والإقامة ولم تذكر الشهادة الثالثة جزءا منهما، أو ذكر استحبابها كأمر مستقل خارج عنهما: 1 - الشيخ محمد حسن صاحب (الجواهر) في كتابه (نجاة العباد). 2 - محمد تقي الشيرازي في الرسالة المنطقية على فتواه. 3 - مهدي الخالصي في الشريعة السمحاء ووافقه الشيخ محمد رضا آل ياسين. 4 - السيد الحيدري في رسالته. 5 - السيد حسن الصدر في كتاب (المسائل المهمة). 6 - السيد أحمد كاشف الغطاء في سفينة النجاة. (الاعتصام بحبل الله / ص 48) ما تقدم هو استعراض يسير لبعض أقوال علماء الشيعة المنكرين للشهادة الثالثة في الأذان، وأن ما ذكرته هنا من أسماء هؤلاء الأعلام لم يكن على وجه التتبع والاستقصاء وإنما هو بقدر ما سمح لنا الوقت به والمتابعة والبحث، ولربما تركت أسماء آخرين لعدم توافر تمام كتبهم عندي. أقول: هلم معي أيها القارئ نسائل علماء الشيعة عن هذه الكتب التي نقلت منها أليست هي مراجع الشيعة؟ أليس هؤلاء أعلامهم وأئمتهم؟ أليس من واجب الباحث أن يراجع تلكم الكتب ثم ينقض ويبرم، ويزن ويرجح؟ فالحق أحق أن يتبع. وظهر لنا مما تقدم من أقوال الأئمة والعلماء أن الصيغة الصحيحة للأذان خالية من ذكر الشهادة الثالثة وهذه حقيقة خطيرة جداً حري بالشيعي أن يقف عندها طويلاً ليتأملها لأنها من الدين الذي سنسأل عنه يوم القيامة وهل اتبعنا فيه الرسول صلى الله عليه وسلم والأئمة, أم تركنا هديهم ولسان حالنا يقول: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ [الزخرف: 23]. المصدر: الشهادة الثالثة في الأذان حقيقة أم افتراء لعلاء الدين البصير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 202 المطلب الثالث: أول من أدخل بدعة الشهادة الثالثة في الأذان: إذا كانت صيغة الأذان الصحيحة الواردة عن الأئمة خالية من ذكر الشهادة الثالثة كما صرح بذلك العلماء فمن هو أول من فعل هذه البدعة بإدخال الشهادة الثالثة في الأذان؟ الجواب: الذي يجيبنا على هذا السؤال ويكشف لنا هذه الحقيقة الخطيرة هو رئيس المحدثين عند الشيعة الإمامية الذي يلقب بالصدوق وهو ابن بابويه القمي فقد ذكر لنا رواية عن أبي عبد الله الصادق - عليه السلام - في كتابه (فقيه من لا يحضره الفقيه) يذكر فيها فصول الأذان فقال: روى أبو بكر الحضرمي وكليب الأسدي عن أبي عبد الله -عليه السلام- أنه حكى لهما الأذان فقال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، حي على خير العمل، حي على خير العمل، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، والإقامة كذلك. ولا بأس أن يقال في صلاة الغداة على أثر حي على خير العمل، (الصلاة خير من النوم) مرتين للتقية. وقال مصنف هذا الكتاب -الشيخ الصدوق- (هذا هو الأذان الصحيح لا يزاد فيه ولا ينقص منه، والمفوضة لعنهم الله قد وضعوا أخباراً وزادوا في الأذان (محمد وآل محمد خير البرية) مرتين، وفي بعض رواياتهم بعد أشهد أن محمد رسول الله (أشهد أن عليا ولي الله) مرتين، ومنهم من روى بدل ذلك (أشهد أن عليا أمير المؤمنين حقا) مرتين. ولا شك في أن عليا ولي الله وأنه أمير المؤمنين حقاً وأن محمداً وآله وسلم صلوات الله عليهم خير البرية، ولكن ليس ذلك في أصل الأذان، وإنما ذكر ذلك ليعرف بهذه الزيادة المتهمون بالتفويض، المدلسون أنفسهم في جملتنا. (من لا يحضره الفقيه 1/ 203) إذن هذه هي الحقيقة الخطيرة التي كشفها لنا الصدوق في تحديد أول من فعل هذه البدعة وهم المفوضة الغلاة. ونظراً لتقدم الصدوق ووثاقته عد كلامه هذا أصلاً يرجع إليه ولذلك ذكره جملة من العلماء الأعلام كالحر العاملي في "الوسائل"، والشيخ محمد حسن في "الجواهر"،والحكيم في "مستمسك العروة", وأشار إليه الشهيد الثاني وكاشف الغطاء. وهكذا ومن ثنايا هذا العرض المبسط ظهر لك خطورة الابتداع في الدين بإدخال ما ليس منه فيه، فإن لم يكن بعقلك بأس فستسلم معي أن الأذان بصورته التي ينادى به الآن في الحسينيات إنما هو أذان مبتدع لم يقل به السلف من الرسول وآل بيته، وإذا لم تكن عزيزي القارئ الشيعي قد خسرت نفسك وبقي فيها مكان للإنصاف وشعور بحب السلامة فعليك أن تعترف بالداء لتبحث عن الدواء، ولا داء إلا ما نزل بالعقول من الجهالة، وران على القلوب من الضلالة. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37]. المصدر: الشهادة الثالثة في الأذان حقيقة أم افتراء لعلاء الدين البصير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 203 المطلب الرابع: تبريرات العلماء على إدخال الشهادة الثالثة ودحضها من قبل الكاظمي: أولاً: تبريرات واهية: سنتطرق ... لبعض التبريرات الواهية التي حاولت أن تجمل ما يفعله الشيعة اليوم من إدخال ألفاظ وأقوال ومنها الشهادة الثالثة - إلى الأذان - وأن تجد لذلك مخارجاً وحِيَلاً تسوغ لهم هذا الفعل وسوف نقف بك أيها القارئ عند جملة من تلك التبريرات مع ما ينقضها بلسان عالم شيعي، وكفى الله المؤمنين القتال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 204 فقد حدد السيد (محمد العاملي الكاظمي) في كتاب (الاعتصام بحبل الله) بعضاً من تلك التبريرات وتعرض لبطلانها فقال: 1 - التبريرالأول: التسامح بذكرها في الأذان والإقامة: بعد أن قام إجماع العلماء على عدم جزئية الشهادة الثالثة فيهما، قال بعضهم أنه لا حرج في ذكرها مع عدم قصد جزئيتها وهذا القول لمثل الشهيد الثاني في (شرح اللمعة ص60) قال في هذا الكتاب ما نصه. ولا تجوز اعتقاد شرعية غير هذه الفصول في الأذان والإقامة والتشهد بالولاية لعلي وأن محمداً وآله وسلم خير البرية أو خير البشر، وإن كان الواقع كذلك فما كل واقع حقاً يجوز إدخاله في العبادات الموظفة شرعاً المحدودة من الله تعالى، فيكون إدخال ذلك فيها بدعة وتشريعاً كما لو زاد في الصلاة ركعة أو تشهداً ونحو ذلك من العبادات, وبالجملة فذلك من أحكام الإيمان لا من فصول الأذان. قال الشهيد الثاني: قال الصدوق: إن إدخال ذلك فيه من وضع المفوضة وهم طائفة من الغلاة, ولو فعل هذه الزيادة أو أحدها بنية أنه منه أثم في اعتقاده - انتهى كلامه. ثم يعلق الشيخ على هذا القول: وهو وإن أفتى بأنه لا حرج في إتيانها مع عدم اعتقاد جزئيتها وأنه لا يبطل الأذان بها، لكن هذا لا يفيد الملتزمين بها المصرين عليها, لأن التزامهم وإصرارهم دليل على أنهم اعتقدوا أن بها خصوصية ومزية لا يقدرون على تركها، فهل أنهم أدركوا ما لم يدركه الشارع المقدس فالتزموا بما لم يأمر به أعوذ بالله من هذا الهوى المتبع. انتهى. (الاعتصام بحبل الله / ص 50 - 52). 2 - التبرير الثاني: القول باستحباب الشهادة الثالثة: قال بعض المتأخرين من العلماء باستحباب إكمال الشهادتين بالشهادة لعلي بالولاية أو إمرة المؤمنين (والشهادتان هما الشهادة لله بالوحدانية وللرسول بالرسالة) وهذا لا علاقة له في فصول الأذان والإقامة باعترافهم فهو أمر خارج عنهما، وقالوا إن الأذان والإقامة أحد موارد هذا الاستحباب والذي يظهر أنهم تكلفوا هذه الفتوى وتكلفوا دليلها لما رأوا من التزام العوام بهذه الشهادة الثالثة في الأذان والإقامة ولم نعرف قائلاً بهذا الاستحباب من المتقدمين، واستدل لمن قال بهذا الاستحباب بخبر لا يقوم به حجة على المدعي وهو الخبر المروي في الاحتجاج للطبرسي. عن الإمام الصادق - عليه السلام: إذا قال أحدكم لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقل علي أمير المؤمنين. يقول الشيخ معلقاً على هذا القول: أولاً: لو سلمنا هذا الاستحباب لكان اللازم الاقتصار على مورد النص وهو قول: علي أمير المؤمنين في مورد قال فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأين هذا من قول: أشهد أن علياً ولي الله وأولاده المعصومين أولياء الله أو حجج الله ونحو ذلك من الأقوال بعد ذكر الشهادتين في الأذان والإقامة؟ انظر إلى الهوى كيف لا يقر له قرار فهو مضطرب لأنه لم يستند إلى ركن وثيق وأهله مضطربون لا قرار لهم وهذا شأن كل ذي هوى. بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ [ق:5]. ثانياً: إن من قال بهذا الاستحباب (إكمال الشهادتين بالشهادة لعلي-عليه السلام-) ما يمنعه من أن يعمل به في تشهد الصلاة، لأن فيه ذكر الشهادتين فيستحب على رأيه إكمالهما بالشهادة لعلي- عليه السلام - فيقول في تشهده: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأشهد أن علياً ولي الله أو أمير المؤمنين). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 205 أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85]. ثالثاً: يكفي من قال بهذا الاستحباب أن يأتي بالمستحب وهو قول: (علي ولي الله أو أمير المؤمنين) مرة واحدة, فلماذا يؤتى بها مرتين على منهاج فصول الأذان في التعداد والكيفية, فما الذي حملهم على ذلك؟ نعم حملهم على ذلك اتباع الهوى والشهوات وتنفيذ الرغبات لا تنفيذ أمر الله أعوذ بالله من الزيغ. رابعاً: إن عملهم هذا في الأذان والإقامة على خلاف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم والأئمة عليهم السلام إذ لم يعهد منهم عمل ذلك, فالقول باستحبابه هو جرأة عليهم وطعن بهم ولو كان مستحبا ما تركوه. انتهى. (الاعتصام بحبل الله / ص 53 - 55) أقول: عندما نتكلم عن الإتيان بالشهادة الثالثة بقصد الجزئية المستحبة - والاستحباب حكم من الأحكام الشرعية - لابد والحالة هذه أن يكون للمفتي دليله على الفتوى بالاستحباب، وإلا لكانت فتواه تقولاً على الله بلا علم والله سبحانه وتعالى يقول: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:44 - 46]، وقال تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36]. فضلا عن خصوصية الأذان وكون الأذان توقيفياً. ففي مسألتنا مشكلتان يجب حلهما: المشكلة الأولى: إن المؤذن القائل بالشهادة الثالثة في الأذان بقصد الجزئية المستحبة، يحتاج إلى دليل قائم على الاستحباب، وإلا ففتواه بالاستحباب أو عمله هذا يكون محرماً، لأنها ستكون دعوى بلا دليل، والشاعر يقول: والدعاوى إن لم تقيموا عليها بينات فأبناؤها أدعياء وسيكون حالها كسائر المستحبات في غير الأذان، فكما لو أن مفتياً أفتى باستحباب شيء بلا دليل وهذا لا يجوز فكذلك لا يجوز القول باستحباب النطق بالشهادة الثالثة لأنها أيضاً بلا دليل. المشكلة الثانية: تكمن في خصوص الأذان، إذ أن الأذان هو أمر توقيفي فزيادة شيء فيه أو إنقاص شيء منه هو تصرف في الشريعة، وهذا الفعل بدعة، فيلزم على القائل بالجزئية الاستحبابية أو المستحبة إقامة الدليل وإلا وصم بالابتداع. 3 - التبرير الثالث: إنها رمز للتشيع: قد أدى قول بعض متأخري فقهاء الإمامية في جواز الإتيان بالشهادة الثالثة في الأذان إلى حدوث منازعات ومهاترات كلامية بينهم وبين القائلين بعدمها ممن ساروا على نهج الفقهاء المتقدمين الذين كانوا يرون عدم شرعية التلفظ بهذه الزيادات وعد قائليها من المفوضة الملعونين على لسان الأئمة والفقهاء المتقدمين. ولعل ما سطره محمد العاملي الكاظمي في كتاب (الاعتصام بحبل الله) من ردود ومناقشات رد فيها على السيد محسن الحكيم نيابة عن شيخه آية الله محمد مهدي الخالصي ما يرسم لنا صورة واضحة لذلك الواقع المعاش في زوايا الحوزات والمنتديات الشيعية، حيث قال: "وسيأتي قريباً ما سأكتبه في تزييف فتوى الحكيم في هذا المقام وأنا تلميذ الخالصي بل أقل تلامذته ليعرف من ذلك مقام الحكيم في الفتيا واستنباط الأحكام الشرعية". فرد على فتوى الحكيم من عشرين وجها، ولا أدري لو رد آية الله الخالصي بنفسه على هذه الفتاوى فكيف سوف يكون الرد؟ ومن كم وجه؟ فهذا يعكس صورة جلية واضحة لما أشرنا إليه من خلاف، وتمزق، وتشرذم، بين فقهاء الإمامية في هذه المسألة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 206 لقد ساق الكاظمي في كتابه المذكور آنفاً سؤالين وردا إلى الحكيم حول الشهادة الثالثة ومدى شرعيتها وقد أجاب عنهما الأخير جواباً لم يشف غليل الكاظمي ولم يرو ظمأه فكر عليهما مذيلاً إياهما بالردود الناقضة لهما وإليك نص السؤالين كما أوردهما الكاظمي مع الرد. الفتوى الأولى سؤال: سماحة حجة الإسلام والمسلمين الإمام السيد محسن الحكيم حفظه الله، ما يقول سماحة مولانا أدام الله ظله على الإسلام والمسلمين في الشهادة الثالثة في الأذان بصورة متصلة وأجركم على المولى جل علا. (قاسم سالم البياتي 12 رمضان 1374هـ). الجواب بسم الله الرحمن الرحيم وله الحمد: الشهادة الأولى لله تعالى بالوحدانية، والشهادة الثانية الشهادة للنبي بالرسالة، والشهادة الثالثة الشهادة لعلي عليه السلام بالولاية، وهذه الشهادة الثالثة يستحب ضمها إلى الشهادتين في كل مورد جيء بهما في الأذان وغيره من الموارد عدا الصلاة، وقد واظب عليها الشيعة في الأذان مواظبة تامة حتى صارت رمزا إلى التشيع، بحيث يكون الأذان الخالي منها دليلاً على كون المؤذن من أبناء السنة، والذي يأتي بها في الأذان لا يأتي بها بعنوان الجزئية من الأذان وإنما يأتي بها بعنوان الاستحباب، لما ذكرنا أنه يستحب ضمها إلى الشهادة للنبي بالرسالة ولأجل ذلك لا تكون بدعة ولا ضلالة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. (السيد محسن الحكيم الطباطبائي). الفتوى الثانية سؤال: بسم الله الرحمن الرحيم وله الحمد وحده سماحة حجة الإسلام السيد محسن الحكيم حفظه الله. تفضلتم فأجبتم على استفتاء للأخ قاسم سالم البياتي حول الشهادة الثالثة وقد جاء: "وهذه الشهادة الثالثة يستحب ضمها إلى الشهادتين في كل مورد جيء بهما في الأذان وغيره من الموارد عدا الصلاة ... " أفتونا مأجورين حفظكم الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 207 1 - عن سبب ودليل استحباب ذكرها في أذان الصلاة عدا كونها شعاراً للشيعة دون السنة. 2 - سبب عدم استحبابها بعد الشهادتين في التشهد في الصلاة إذا أردتم بقولكم عدا الصلاة أي عدا التشهد في الصلاة. 3 - وهل هناك من يقول بالشهادة الثالثة في التشهد عند الصلاة؟ فقد التبس علينا فهم -عدا الصلاة- معنى، وعلة، ودليل. أرجو التفضل بالجواب ولكم الأجر والثواب والداعي لكم بالخير. (السيد مهدي العطار 26 رمضان سنة 1374هـ) الجواب بسم الله تعالى: 1 - الدليل: الرواية التي رواها الطبرسي في (الاحتجاج) الكتاب المشهور المسمى بـ (احتجاج الطبرسي)، وهي رواية القاسم بن معاوية عن الصادق - عليه السلام -: "إذا قال أحدكم: لا إله إلا الله محمد رسول فليقل علي أمير المؤمنين ". وهذه الرواية لا تختص بالأذان وقد فهم منها أن المراد الإعلان منصب أمير المؤمنين- عليه السلام - سواء كان بهذا اللفظ أو بمثل علي ولي الله أو علي حجة الله أو نحو ذلك. 2 - السبب أن هذا القول من كلام الآدميين فلا يجوز في الصلاة، وربما يرى بعض العلماء أن هذا القول من الذكر مثل لا إله إلا الله فلا يضر في الصلاة لكن هذا الرأي ضعيف. 3 - قد سبق في الجواب السابق أن بعض العلماء يرى أن قول: علي ولي الله أو علي أمير المؤمنين من قبيل الذكر فلا يضر وقوعه في أثناء الصلاة، والأظهر أنه ليس من الذكر, فلا يجوز وقوعه في الصلاة والله سبحانه العالم العاصم وهو حسبنا ونعم الوكيل. ردود محمد العاملي الكاظمي على فتاوى محسن الحكيم وهنا يرد الشيخ الكاظمي على فتاوى محسن الحكيم ويفندها من عشرين وجهاً فيقول: المناقشة إننا لا نبغي من وراء مناقشتنا هذه إلا أن نرى الحق حقاً فنتبعه والباطل باطلاً فنجتنبه ونشهد الله على ذلك فنذكر الأمور التالية: أولاً: إن خلو الأذان من كلمة (أشهد أن علياً ولي الله) وأمثالها من ضروريات الدين ومنكر ضروري الدين كافر بإجماع المسلمين ومخالفه فاسق. وقولنا ضروري من ضروريات الدين يدل عليه خلو أحاديث الأذان المتواترة من طرق الشيعة، ومن طرق أهل السنة من هذه الكلمة وهذه الأحاديث كلها دليل قاطع على عدم جواز الإتيان بها في الأذان, لأن الأذان عبادة والعبادة توقيفية, وكل عبادة لم يرد بها نص فهي حرام وبدعة. ثانياً: إن العلماء أطبقوا من صدر الإسلام إلى اليوم على أن هذه الشهادة الثالثة ليست جزءاً من الأذان، ومنهم السيد الحكيم فإن السيد اليزدي في "العروة الوثقى" بعد ذكر الأذان قال: وأما الشهادة لعلي بالولاية وإمرة المؤمنين فليست جزءاً منهما. فعلق السيد الحكيم عليها بقوله: بلا خلاف ولا إشكال. واعترف بذلك أن الشهادة الثالثة ليست جزءاً، ونقل عدم الخلاف من العلماء في ذلك. فإذا قامت ضرورة الدين وعلم إطباق العلماء على عدم الجزئية فأي دليل يدل على جواز إتيانها لا بقصد الجزئية أو استحبابه أنبي جاء بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم فأوحي إليه ما لم يوح إلى خاتم النبيين. نعوذ بالله من هذا الضلال المبين. ثالثاً: قال السيد الحكيم في جواب السؤال الأول: "وقد واظب عليها الشيعة مواظبة تامة حتى صارت رمزا للتشيع ". وهذا القول تخرص في مقابل النص، لأن علماء الشيعة جميعا صرحوا بأنها ليست من الأذان فكيف يواظبون مواظبة تامة على ذكر ما ليس من الأذان في الأذان وكيف يكون رمزا للتشيع ما أنكروه ونفوه، أعوذ بالله أن يكون ما لم يأذن به النبي رمزا للشيعة. قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ [يونس:59]. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 208 رابعاً: ذكر الفقهاء وعلماء الأصول أن الدليل الشرعي هو الكتاب والسنة وزاد بعض الأصوليين دليل العقل والإجماع. والسيد الحكيم زاد دليلاً خامساً هو رمز التشيع. أهكذا تستنبط الأحكام الشرعية؟! خامساً: كيف يرضى الحكيم بعد إقراره أن - الشهادة الثالثة - لم تكن في زمان النبي أن تكون رمزا للشيعة، فيعترف بأن رمز الشيعة ما لم يجىء به النبي ويصدق تهمة النواصب للشيعة بأنهم مبتدعون مخالفون للنبي، ونحن نصرح بالحق والحقيقة هي أن علماء الشيعة يستحيل أن يخالفوا النبي في فتوى فضلاً عن أن تكون مخالفة النبي رمزا لهم وأن هذه البدعة من مختصات المفوضة، والشيخية مفوضة هذا العصر. سادساً: إن الصدوق - قدس سره - وهو شيخ علماء الشيعة منذ ألف سنة تقريبا وكتابه (من لا يحضره الفقيه) أحد الكتب الأربعة التي يرجع إليها الشيعة في استنباط الأحكام ونقل الأحاديث وهو - كالبخاري عند أهل السنة - يصرح في كتابه هذا بأن الشهادة الثالثة من وضع المفوضة لعنهم الله والمفوضة كما يعلمه كل أحد أصروا على مذهبهم في هذا الزمان، ويسمون اليوم باسم الشيخية. ومع تصريح الصدوق كيف يركن إلى قول السيد الحكيم إنها رمز للشيعة وهو يعترف أن الصدوق أقرب إلى زمن الأئمة وأعرف بمذهب أهل البيت منه ومن جميع علماء هذا العصر. سابعاً: استند السيد الحكيم في فتواه إلى احتجاج الطبرسي، وأصغر المحصلين من أهل العلم يعلم أن احتجاج الطبرسي لم يكن مرجعاً في الفتاوى الشرعية لأن أكثر أخباره مراسيل عارية من السند كما اعترف هو به في صدر كتابه. ثامناً: لا يشتبه على أصاغر طلاب العلوم الدينية أن احتجاج الطبرسي لا يقابل بكتاب (الفقيه) للصدوق لأن كتاب (الصدوق) هو المرجع في الفقه فكيف يستند إليه الحكيم ويترك كتاب (الفقيه). تاسعاً: الخبر الذي استند إليه لم يروه غير الاحتجاج وقد رواه مرسلا وعبارته هكذا: روى القاسم بن معاوية قال: قلت لأبي عبد الله إلخ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 209 وبين الطبرسي صاحب الاحتجاج والصادق - عليه السلام - (430) سنة لأن وفاة الصادق - عليه السلام - كانت سنة (150 هـ) ووفاة الطبرسي كانت سنة (588هـ) فكيف يستند إليه السيد الحكيم في قبول ضرورة الدين. عاشراً: إن القاسم بن معاوية لا يوجد له اسم في كتب الرجال ولا في كتب الفقه إلا في كتاب (احتجاج الطبرسي) فلم يعرف حاله ومن هو ولو أرانا السيد الحكيم في كتب الرجال أو الفقه راويا يسمى القاسم بن معاوية أسلمنا له قوله, فكيف يعتمد على راو مجهول في قبال الأحاديث المتواترة وإجماع المسلمين وضرورة الدين، ولا يصح للسيد الحكيم أن يقول أنه يوجد في الرواة (القاسم بن يزيد بن معاوية العجلي) فإن القاسم بن يزيد بن معاوية غير القاسم بن معاوية والقاسم بن يزيد لم يرو هذا الخبر. أحد عشر: في هذا الخبر على تقدير صحته دلالة واضحة على أن المراد منه غير الأذان فإنه يقول: إذا قال أحدكم لا إله إلا الله محمد رسول الله فليقل علي أمير المؤمنين، والأذان ليس قول أحدنا بل هو قول الله الواصل إلينا بواسطة رسول الله، فكيف يشمل الأذان ونحن لا ننفي استحباب قول: علي أمير المؤمنين بعد قول: لا إله إلا الله محمد رسول الله. لكن لا في الأذان الذي هو ليس قولنا لأنه من حدود الله التي لا يسوغ تعديها. اثني عشر: في هذا الخبر ورد فليقل علي أمير المؤمنين وينبغي الاقتصار على هذه اللفظة وهي غير (أشهد أن علياً ولي الله) بلفظ الشهادة وتكريرها مرتين كما تكرر الشهادة مرتين على الطريقة التي يؤذن فيها بالتوحيد والرسالة. فلو صدقنا هذا الخبر وقلنا بشموله للأذان تنزلا فينبغي الاقتصار على لفظ (علي أمير المؤمنين) وتجاوز هذه الجملة إلى (أشهد أن علياً ولي الله) ليس في هذا الخبر ولا غيره وهو البدعة. قال السيد الحكيم: وهذه الرواية لا تختص بالأذان وقد فهم منها أن المراد الإعلان بمنصب أمير المؤمنين عليه السلام سواء كان بهذا اللفظ أو بمثل (علي ولي الله أو علي حجة الله أو نحو ذلك). أقول - أي الخالصي -: قد بينا أن لفظة أحدكم في الحديث دالة على أن المراد بها غير الأذان، ولو فرض عدم دلالتها فتسرية قال أحدكم إلى الأذان وقول فليقل أمير المؤمنين إلى قول: (أشهد أن علياً ولي الله وأشهد أن علياً حجة الله) لا يقتضيه اللفظ وهو قياس, وفقهاء الشيعة لا يعملون بالقياس, وهو من مختصات الإمام أبي حنيفة وأهل الرأي من أصحابه ومع ذلك فإن أبا حنيفة لا يعمل بمثل هذا القياس, لأن القياس عنده حجة إذا أعوزت النصوص ولا يعمل بالقياس إذا وجد نص. والسيد الحكيم عمل (بالقياس) 1 - مع وجود خمسة وعشرين حديثاً عن أئمة أهل البيت على خلافه. 2 - وإطباق كلمة المسلمين من الشيعة وغيرهم على نفيه. 3 - وقيام الضرورة من الدين على رده. أهكذا يكون استنباط الأحكام الشرعية؟ ثلاثة عشر: يقول السيد الحكيم في فتواه: إن كلمة (أشهد أن علياً ولي الله) من كلام الآدميين فلا يجوز في الصلاة. وقد أطبق علماء الشيعة استنادا إلى الروايات عن أهل البيت - عليهم السلام - على أن الكلام في أثناء الأذان والإقامة مكروه فكيف يقول باستحباب المكروه؟. قال المحقق الفيض الكاشاني في مفاتيحه عند ذكر مكروهات الأذان والإقامة ما نصه: يكره الكلام خلالهما الأذان والإقامة ويتأكد في الإقامة للصحيح وغيره وقيل بتحريمه منها وهو شاذ إلى أن قال: ومن كلام المكروه الترجيع، إلى أن قال: وكذا غير ذلك من الكلام وإن كان حقاً بل كان من أحكام الإيمان لأن ذلك كله مخالف للسنة فإن اعتقده شرعاً فهو حرام. فلينظر المتدبر إلى هذا التهافت والتناقض في قول السيد الحكيم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 210 أربعة عشر: إذا اعترف السيد الحكيم بأن الشهادة الثالثة من كلام الآدميين ثبت كونها بدعة في الأذان وحراما ولأن قول الآدميين مكروه في الأذان إذا اتفق، أما الالتزام بقول للآدميين في الأذان على صورة الأذان وشكله فهو بدعة لأنه إدخال قول الآدميين في قول الله على سبيل الإلزام. خمسة عشر: إذا كانت هذه الشهادة من قول الآدميين كما اعترف به السيد الحكيم، فما معنى القول بالاستحباب وهل رأيت قول آدمي مستحباً في عبادة موقوفة من الله مستحبة كانت أم واجبة. أهكذا يكون الفقيه؟ ستة عشر: يقول السيد الحكيم بحيث يكون الأذان الخالي منها دليلاً على أن المؤذن من أبناء السنة. هب أن الأمر كما يقول أفيكون هذا دليلاً على الاستحباب والاستحباب يحتاج إلى أمر من الشارع لا إلى هوى وتعصب. فيقول باستحباب شيء للتعصب على أهل السنة وقد قال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم وسلم): ((كل عصبية في النار)) (1). على أن هذا مخالف لقول الصدوق فإنه قال: إن الأذان المشتمل على مثل هذه الكلمة دليل على أن المؤذن من أبناء (المفوضة) وأبناء السنة مسلمون وأبناء المفوضة مشركون، كما ذكرنا ذلك في عقائد الشيخية لعنهم الله. سبعة عشر: ذكر السيد الحكيم في جواب السؤال الأول البدعة والضلالة ولم يسأل عنها فما غرضه من ذلك نحيل فهم هذا إلى القارئ ليعرف أن السيد الحكيم ماذا يريد أطعناً وإثارة فتنة أو جواب مسألة فقهية. ثمانية عشر: هب أنا سلمنا للسيد الحكيم قوله فالأمر دائر في الشهادة الثالثة في الأذان بين الحرمة كما هو قول الصدوق وجمهور العلماء المتقدمين، أو الجواز أو الاستحباب كما يقول بعض متأخري المتأخرين، وإذا دار الأمر بين الاستحباب والحرمة فإن الاحتياط يقتضي الترك لأن في الترك أمناً من العقاب على كل حال وفي الإتيان بها احتمالا للعقاب على تقدير الحرمه فطريق السلامة والنجاة تركها. وكم من مورد اتفق للسيد الحكيم في رسالته من هذا القبيل فقال بالاحتياط ولا أدري ما الذي حمله هنا على القول بالاستحباب جزماً من دون تحرج ولا إشارة إلى الاحتياط ألا يدل هذا على شيء في نفسه؟ تسعة عشر: قد عرفت حال خبر الاحتجاج وأنه مرسل، مجهول الراوي، غير دال على المطلوب وقد استدل به السيد الحكيم. القرآن في آيات الجمعة هو القرآن، وبماذا نصف القرآن وآياته واضحات بينات صريحة الدلالة مؤكدة بالتأكيدات الشديدة وقد ترك السيد الحكيم العمل بها ونفى وجود الجمعة بل قال بحرمتها، في هذا الزمان بتاتا. فيا لله للإسلام. القرآن لا يعمل به لتخرصات واهية وخبر الاحتجاج مع ما فيه, يعمل به في قبال ضرورة الدين وإجماع المسلمين والأحاديث المتواترة. اللهم إليك المشتكى. عشرين: أصدر السيد الحكيم هذه الفتوى وطاف دعاته سهل العراق وحزنه يحملون الرايات السود يموهون على البسطاء في أمر هب أنه مستحب فلا يستحق مهاجمة من لا يعمل بمستحب مثل هذه المهاجمة وسئل السيد الحكيم عن الشيوعية والشيوعيين مراراً وهم ينكرون وجود الله وإرسال الرسل والشرائع ويستبيحون كل محرم ويهزؤون بالأديان كلها فلم يجب، مع شدة الإلحاح والإصرار، فما حمله على الإسراع بالجواب هنا وترك الجواب هناك؟ اللهم أنت تعلم حال عبادك. قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [الأنبياء:121]. انتهى رد الشيخ الكاظمي على أجوبة محسن الحكيم. (الاعتصام بحبل الله / ص78 - 87) ثم يقول في كتاب (الاعتصام بحبل الله) (ص90) لما انتهينا من طبع الكتاب جاءنا منشوران من النجف الأشرف أحدهما بإمضاء الهيئة العلمية وهذان المنشوران يذكران الشذوذ الكثير، وضعف الاستدلال، والمخالفات للموازين الشرعية التي توجد في فتاوى السيد الحكيم. وجاء كتيب بإمضاء ثلاثة من أكابر علماء النجف يذكرون فيه بطلان الأذان والصلاة إذا أتى بالشهادة الثالثة في الأذان والإقامة, وقد عنون هذا الكتاب باسم (أشهد أن عليا ولي الله) وقد طبعت جميعها في مطابع النجف الأشرف وانتشرت من هناك. انتهى كلامه. أقول: وشهد شاهد من أهلها. وكفى الله المؤمنين القتال. بعد أن قدمنا النص الكامل لفتاوى الحكيم مذيلة بالرد الدقيق والشامل للكاظمي - من غير زيادة ولا نقصان - أعتقد أن ليس ثمة ما يقال بعد، فالأمر واضح ليس به خفاء إلا على من أعمى الله بصيرته وبصره. إذا لم يكن للمرء عين صحيحة فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر. المصدر: الشهادة الثالثة في الأذان حقيقة أم افتراء لعلاء الدين البصير   (1) لم أجده بهذا اللفظ: وروى أبو داود (5121) بلفظ: (ليس منا من دعا إلى عصبية .... ) , من حديث جبير بن مطعم, والحديث سكت عنه أبو داود. وقال ابن حجر في ((هداية الرواة)) (4/ 405): في إسناده انقطاع. وضعفه الألباني في ((ضعيف سنن أبي داود)). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 211 المطلب الخامس: نص الأذان في الجوامع والحسينيات: وإليك نص الأذان الذي يرفع الآن في الجوامع والحسينيات كل يوم لترى كم هي الإضافات التي لحقت بالأذان والله المستعان. أذان اليوم زيادة أعوذ بالله من شر الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً. اللهم صل على محمد وآل محمد. سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. ولله الحمد. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم. أشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم. زيادة أشهد أن علياً ولي الله. أشهد أن علياً وأولاده المعصومين حجج الله. حي على الصلاة، حي على الصلاة. حي على الفلاح، حي على الفلاح. حي على خير العمل، حي على خير العمل. الله أكبر، الله أكبر. لا إله إلا الله، لا إله إلا الله. زيادة إلى أرواح المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات ومن مات على الإيمان أهدي ثواب سورة الفاتحة قبلها الصلاة على محمد وآل محمد، اللهم صل على محمد وآل محمد. هذا نموذج واحد من نماذج الأذان الذي يرفع في المساجد والحسينيات إذ إننا وكما قلنا: نجد أن لكل مؤذن عباراته الخاصة التي يختلف بها عن الآخرين فالإضافات لا تعد ولا تحصى وهي متروكة إلى مزاج كل مؤذن (يقول الشيخ محمد سند في كتابه (الشهادة الثالثة سبب الإيمان أم جزء الأذان) (ص23): "إن الأذان الذي يرفع اليوم في أذربيجان الشيعية -الدولة المستقلة عن الدولة الروسية- يذكر فيه أسماء جميع الأئمة الاثني عشر وليس علياً فقط". المصدر: الشهادة الثالثة في الأذان حقيقة أم افتراء لعلاء الدين البصير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 212 المطلب السادس: ألفاظ الأذان جامعة مانعة لا تقبل الزيادة أو النقصان مما لا شك فيه أن ثمة فرقا واضحا بين قولنا: الحكمة من هذا الحكم وبين قولنا: العلة لهذا الحكم, وإذا كان الناس قد تنازعوا في المعنى الثاني وفي جواز إطلاق القول بأن أحكام الله معللة أم لا، فإن الناس قد اتفقوا على أن للأحكام أسراراً وحكما, قد علمها من علمها وجهلها من جهلها، ولما كان الأذان أحد تلكم الشعائر العظيمة في هذا الدين فقد أحببت هنا أن أقف بك أيها القارئ العزيز عند بعض الحكم التي يمكن أن نتلمسها من وراء ألفاظ الأذان فأقول: إن الرب ـ جل وعلا ـ حكيم. وشرع الحكيم ـ بلا شك ـ حكيم. ولا بد أن يكون لكل أمر من أوامره ـ قولاً أو عملاً ـ حكمةً وسراً يتناسب مع الزمان والمكان والحال، علمه من علمه وجهله من جهله! وشعائر الدين لا نقص فيها فتحتاج إلى زيادة وتكميل، ولا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 213 زيادة فتحتاج إلى تهذيب وتقليل, الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] , والأذان أحد شعائر هذا الشرع الحكيم. كل كلمة من كلماته مختارة بدقة وحكمة. وفيها سر يتناسب مع الزمان والمكان والحال. يبدأ الأذان بطرق السمع فجأة بقول المؤذن: (الله أكبر، الله أكبر) لا يخلو الإنسان من عمل يؤديه أو شاغل يشغله، وقد يكون مستغرقاً في نوم لذيذ، فإذا بصوت المؤذن يفاجئه ويطرق سمعه طرقاً (الله أكبر، الله أكبر) الله أكبر من كل شيء يشغلك، مما يكبر في نفسك أو يعز عليك! نعم: الله أكبر فتهتز المشاعر المؤمنة وتتهيأ النفوس المطمئنة, وبينما هو في ذلك يردد هاتين الكلمتين (الله أكبر، الله أكبر) يأتيه الصوت ثانية بالكلمات نفسها ليؤكد المعنى ويحرك المشاعر والنفوس مرة أخرى. إن أروع ما في هذا الصوت وهذا النداء, إنه يطرق السمع بلا استئذان ويدخل فجأة بلا مقدمات أو توسلات! إنه الحق ولا أحق من الحق وهذه الحقيقة، ولا أكبر من الله الكبير! وإنه الواجب المفروض بل هو أوجب الواجبات وأفرض الفرائض تدعى إليه بلا إطالة ولا مواريه. إن الأمر جد ولا يحتاج إلى مطاولة أو مجاملة. (أشهد أن لا إله إلا الله) والإله: هو الرب تألهه القلوب أي: تحبه وتتعلق به دون غيره فتطيعه وتعبده. إنه الآمر المطاع, والرب المعبود, فلا يجمل بعبد يسمع نداء الرب فلا يستجيب، ويتلقى أمره فلا يطيع! بل يظل في شواغله واهتماماته وعلائقه! ويأتيه النداء ثانية: (أشهد أن محمداً رسول الله) ليؤكد المعنى ويثير كوامن الإيمان في النفس مرة أُخرى. وللرب في كل وقت على عبده عمل يناسبه يعبر به العبد عن طاعته له وعلاقته وتعلقه. فما هو العمل المطلوب؟ ماذا تريد مني ـ أنا العبد ـ أيها الرب الجليل المطاع؟ وهنا يأتي النداء: (أشهد أن محمداً رسول الله) إن لكل عمل مشروع ـ ولا بد ـ شرطين: 1ـ أن يكون لله وحده. 2 ـ أن يكون طبقاً لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المتعلقة بذلك العمل بما شرع الله لا بالأهواء أو البدع. وقد مر الشرط الأول في الشطر الأول من الشهادة وهذا هو الشرط الثاني, أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الرسول المتبوع. وقد كان يلبي النداء ويسارع في الأداء وهو القائل: ((إن أحب العمل إلى الله الصلاة على وقتها)) (1). والقائل صلى الله عليه وسلم: ((صلوا كما رأيتموني أُصلي)) (2). هذه المعاني وغيرها تتداعى وأنت تسمع هذا الشطر من النداء الذي يتكرر مرتين إثارة وتأكيداً. لقد كملت شروط العمل وأسبابه ومثيراته ودوافعه، ولم يبق إلا أن يفصح المنادي عن العمل المطلوب فيأتي النداء: (حي على الصلاة، حي على الصلاة) إنها الصلاة! لقد جاء الأمر بلفظ (حي) تعبيراً عن الحياة. إنك تدعى إلى ما تحيي به قلبك وروحك. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24] وبما أن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء, لذلك لا يردد السامع كلمات النداء نفسها كما هو الشأن في بقية الأذان وإنما يقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله) أنه يتوجه إلى الله ـ جل وعلا ـ الذي (يحول بين المرء وقلبه) أن يمنحه القوة ويحوله إلى أحسن حال وينقله إلى أداء هذا العمل حيث ينبغي أن يؤدى. ولا يكتفي المنادي بذكر المطلوب دون أن يرغب فيه بما لا مزيد عليه فيقول: (حي على الفلاح, حي على الفلاح) فالصلاة هي الفلاح والفوز والظفر.   (1) رواه البخاري (527) , ومسلم (85) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (2) رواه البخاري (631) , من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 214 إن من استجاب للنداء كان الفلاح أي الجنة نصيبه. ومن ترك الصلاة فلا فلاح ولا جنة, فالفلاح والصلاة قرينان لا يفترقان. والفلاح نهاية. والبداية طاعة الله ورسوله. وأعظم ما يطاع الله به ورسوله الصلاة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الصلاة عمود الدين من أقامها أقام الدين ومن هدمها هدم الدين)) (1) والله يطاع بالتوحيد, والرسول يطاع بالاتباع, فجاء تسلسل الكلام مترابطاً وثيقاً حكيماً. ابتدأ بالتوحيد وثنى بالاتباع وثلث بالدعوة إلى الصلاة لينتهي بالفلاح ولا شيء بعد الفلاح كما قال تعالى: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 1 - 5] فيكون مضمون الأذان ـ إلى هذا الحد ـ قد انتهى, وما بقي إلا أن يختم كما يختم على الجواهر الثمينة فجاء الختام بقوله: (الله أكبر، الله أكبر, لا إله إلا الله). إعادة مختصرة لما جاء في أوله وتذكيراً أخيراً للسامع الذي لم يتهيأ أو يتحرك بعد، وأن الله تعالى أكبر من كل شيء يشغله, وإن الانشغال والتعلق والتأله ينبغي أن يكون لله. والكلام إذا أُريد له أن يعاد ينبغي أن يختصر مراعاة للبلاغة وذلك لدلالة ما قبله عليه وإلا كان تطويلاً في غير موضعه. فجاءت خاتمة الأذان مختصرة إلى النصف فالتكبيرات الأربع صارت اثنتين. والشهادة التي كررت مرتين اُختصرت واحدة, ولا داعي لإعادة باقي الكلام, وإلا صار التكرار مملاً خارجاً عن الذوق وضعفت قوة كلام الداعي, وصار كلامه أشبه بالاستعطاف منه بالأمر الإلهي. وعلى هذا الأساس تكون الزيادات التي أضيفت إلى الأذان مما يخل به ويخرجه عن جلاله وجماله ويشير إلى نقصه وعدم كماله لأن البناء الكامل لا يحتاج إلى زيادة. فالروعة الكامنة (في فجائية الابتداء بالتكبير) دون مقدمات ومناسبتها لحال السامع تتبخر تماماً إذا ما أخر التكبير وابتدأ بأي كلام آخر حتى ولو كان قرآناً, فإن لكل مقام مقالاً. والشهادة لعلي بالولاية لا تضيف للنداء بالصلاة معنى مناسباً له بعد التكبير الذي يقطع السامع عما يشغله، وشهادة التوحيد التي تعلقه بالله وحده وهو الأصل، والشهادة بالرسالة التي تجعل العمل طبقاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أفصح المنادي عن المطلوب وهو الصلاة التي هي الفلاح الذي هو الغاية أو النهاية, فلم يبق بعد شيء يمكن أن يضاف. فما وجه النداء بالولاية لعلي أو غيره, وصلته أو مناسبته للصلاة، والصلاة غير متوقفة عليه كما هي متوقفة على الرب المعبود أو الرسول المتبوع! وأما (حي على خير العمل) فمعنى زائد لا داعي له بعد (الفلاح) وأما تكرير التكبيرة الأخيرة فمناف للذوق والبلاغة, فالحال تقتضي الاختصار، والاختصار ينبغي أن يكون فيه تناسب وتناسق, وهذا يعني أن اللفظ الذي كرر مرتين ينبغي أن يعاد مرة واحدة تناسباً وتناسقاً مع اختصار الرباعي إلى اثنين، فيكون القانون الساري واحداً وهو اختصار الألفاظ إلى النصف, وإلا وقع التنافر وصار الأمر بلا قانون, وخرج عن التناسب والتناسق والذوق والبلاغة. وأما (الصلاة خير من النوم) مرتان في النداء الأول لصلاة الصبح فمتناسب جداً مع الحال ومتطابق مع أصول البلاغة التي تقضي بمناسبة المقال لمقتضى الحال. إن أغلب المصلين في هذا الوقت نيام، وللنوم سلطان على النفوس, ليس من اليسير منازعته, فتحتاج الحال إلى محفز خاص لا تحتاجه في بقية الأوقات, وهو (الصلاة خير من النوم) وتستطيع أن تقارن هذا ومناسبته لنداء الصبح مع إضافة (أشهد أن علياً ولي الله) التي لا تعطي أي معنى مناسب فهي محض زيادة بلا فائدة وذلك مناقض للشرع الحكيم! والحمد لله على دين يأسر العقول والقلوب معاً والشكر له أن جعلنا مسلمين. المصدر: الشهادة الثالثة في الأذان حقيقة أم افتراء لعلاء الدين البصير   (1) لم أجده بهذا التمام، وقد أخرج أوله البيهقي في ((شعب االإيمان)) 3/ 1077 (2807) قال الحاكم- كما في ((الشعب)): [فيه] عكرمة لم يسمع من عمر وأظنه أراد ابن عمر. وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (3566). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 215 المطلب الأول: تعريف نكاح المتعة لغة وشرعا وحكمه: أولاً: المتعة لغة اسم مصدر متّع وتدور مادته على معنى الانتفاع والالتذاذ ومنه قول الشاعرالمشعث: تمتع يا مشعث أن شيئاً ... سبقت به الممات هو المتاع أي انتفع وتلذذ. وردت كلمة " المتعة " ومشتقاتها في القرآن (71) مرة، في سور مختلفة (1)، ومعانيها وإن اختلفت راجعة إلى أصل واحد ودائرة حول الانتفاع ولا يستقيم معناها على اعتباره في " المتعة " موضوع البحث (2). فالاستمتاع في اللغة الانتفاع، وكل ما انتفع به فهو متاع، يقال: استمتع الرجل بولده، ويقال فيمن مات في زمان شبابه: لم يتمتع بشبابه قال تعالى في سورة الأنعام: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ [الأنعام:128] وقال تعالى في سورة الأحقاف: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا [الأحقاف:20] يعني تعجلتم بها. وقال تعالى في سورة التوبة: فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ [التوبة:69] يعني بحظكم ونصيبكم من الدنيا (3). وفي الحديث الشريف قال (صلى الله عليه وعلى آله وسلم): ((الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة)) (4). وأما شرعاً فإن لفظ المتعة يطلق على ثلاثة أشياء: 1 - متعة الحج (5).2 - متعة الطلاق (6). 3 - متعة النساء. وما يهمنا هو " متعة النساء " أو " نكاح المتعة " وهو نكاح المرأة لأجل محدود ثم إخلاء سبيلها بانقضائه. (7).فتعريف المتعة اصطلاحاً: بأن يقول الرجل لامرأة: متعيني نفسك بكذا من الدراهم مدة كذا، فتقول له: متعتك نفسي، أو يقول لها الرجل: أتمتع بك أي لابد في هذا العقد من لفظ التمتع. (8). ثانياً: حكمه شرعا:   (1) ((المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم)) لفؤاد عبد الباقي رحمه الله " باب الميم " (ص 833834 - ). (2) ((الأصل في الأشياء الإباحة ولكن المتعة حرام)) (ص78 - 80). (3) ((التفسير الكبير)) أو ((مفاتيح الغيب)) للإمام فخر الدين الرازي (10/ 40). (4) رواه مسلم (1467) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. (5) أي الإحرام بالعمرة في أشهر الحج من عامه. (6) وهي مال يجب على الزوج دفعه لامرأته المفارقة في الحياة بطلاق وما في معناه بشروط مخصوصة. (7) انظر معاجم اللغة كالجوهري في ((الصحاح)) والزبيدي في ((تاج العروس)) وأحمد فارس في ((معجم مقاييس اللغة)) والفيروزآبادي في ((القاموس)) و ((الجمهرة)) لابن دريد و ((لسان العرب)) وغيرها. (8) ((النكاح وقضاياه)) لأحمد الحصري (ص 168). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 216 شرع النكاح في الإسلام، لمقاصد أساسية، قد نص القرآن الكريم عليها صراحة، ترجع كلها إلى تكوين الأسرة الفاضلة قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21] حيث أشارت الآية الكريمة إلى أن مناط السكن إنما هو " الزوجة " لا مطلق المرأة! وبذلك يمكن القول بأن " الزوجة الدائمة " هي التي جرت سنة الله تعالى بجعلها سكنا للرجل، وجعل بينها وبين زوجها مودة ورحمة، بحكم العلاقة الزوجية الصحيحة الدائمة في أسرة تنجب البنين والحفدة على ما ينص عليه قوله تعالى: وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل:72]، وحينما يربط الله تعالى الزواج بغريزة الجنس لم يكن ليقصد مجرد قضاء الشهوة، أي لمجرد سفح الماء، بل قصد أن يكون على النحو الذي يحقق تلك " المقاصد " من تكوين الأسرة التي شرع أحكامها التفصيلية القرآن الكريم من الخطبة، فالزواج، فالطلاق، إذا لم يتفق الزوجان، ثم الرضاعة، والحضانة، والنفقة .... إلخ فالزواج إذاً تبعات وتكاليف جسام لإنشاء أسرة، يحفز عليه غريزة الجنس، تحقيقا للمقاصد العليا الإنسانية التي أشرنا إليها. وعلى هذا، فإن مجرد قضاء الشهوة و " الاستمتاع " مجرداً عن الإنجاب وبناء الأسرة، يخالف مقصد الشارع من أصل تشريع النكاح، لذلك أطلق عليه القرآن الكريم " السفاح " وحذر من اتباع هذا السبيل بقوله تعالى وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [النساء:24]، ومعنى الآية الكريمة صريح، إذ مؤداه، أن تتزوجوا النساء بالمهور، قاصدين ما شرع الله النكاح لأجله، من الإحصان، وتحصيل النسل، دون مجرد سفح الماء، وقضاء الشهوة، كما يفعل الزناة! يرشدك إلى هذا أيضا، ما رواه معقل بن يسار قال: ((جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب ومنصب، إلا أنها لا تلد، فأتزوجها؟ فنهاه، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فنهاه، فقال: تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم)) (1). إذ ليس المقصد مجرد الاستمتاع بالحسن والجمال، كل ذلك دال دلالة واضحة، لا لبس فيه ولا إبهام على ما ذكرنا من " المقاصد " الاجتماعية الرفيعة التي لا يمكن أن تتحقق إلا عن طريق الزواج الصحيح الدائم الذي شرعه الله تعالى أصلاً (2). المصدر: تحريم المتعة في الكتاب والسنة ليوسف جابر المحمدي   (1) رواه أبوداود (2050)، والنسائي (6/ 65) (3227) , والحديث سكت عنه أبو داود. وأشار عبد الحق الإشبيلي في مقدمة ((الأحكام الصغرى)) بأنه صحيح الإسناد. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) و ((صحيح سنن النسائي)): حسن صحيح. وصححه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1143). (2) انظر ((الأصل في الأشياء)) لسائح علي بحث محمد الدريني (ص 8 - 12). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 217 المطلب الثاني: المتعة وصيغتها وشروطها: يجب عند الشيعة أن يذكر في صيغة المتعة الأجر والمدة وعدم الميراث ووجوب العدة وهي خمسة وأربعون يوماً. وقيل: حيضة. وله أن يشترط عدم طلب الولد: عن زُرارة عن أبي عبد الله عليه السلام: قال: لا تكون المتعة إلا بأمرين: أجل مسمى وأجر مسمى (1).عن أبي بصير قال: لا بدّ من أن تقول فيه هذه الشروط: أتزوجك!! متعة كذا وكذا يوماً بكذا وكذا درهماً (2).عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن المتعة؟ قال: مهر معلوم إلى أجل معلوم (3).فالمتعة عند الشيعة مدة معلومة بأجر معلوم يبطل تلقائياً بعد انتهاء الفترة، وأما صيغة المتعة فهي: عن أبان بن تغلب قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: كيف أقول لها إذا خلوت بها؟ قال: تقول: أتزوجك متعة على كتاب اللهّ وسنة نبيه؟! لا وارثَةَ ولا موروثةً كذا وكذا يوماً، وإن شئت كذا وكذا سنة، بكذا وكذا درهماً، وتسمي من الأجر ما تراضيتما عليه قليلاً كان أو كثيراً, فإذا قالت: نعم، فقد رضيت وهي امرأتك!! وأنت أولى الناس بها (4).وعن ثعلبة قال: تقول: أتزوجك!! متعة على كتاب الله وسنة نبيه نكاحاً غير سفاح وعلى أن لا ترثيني ولا أرثك، كذا وكذا يوماً بكذا وكذا درهماً، وعلى أن عليك العدة (5).وعن هشام بن سالم قال: قلت: كيف يتزوج المتعة؟ قال: يقول: أتزوجك كذا وكذا يوماً بكذا وكذا درهماً، فإذا مضت تلك الأيام كانا طلاقها في شرطها ولا عدة لها عليك (6). وإذا نسي ذكر الأجل انعقد دائماً عند الشيعة: عن عبد الله بن بكير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إن سمّى الأجل فهو متعة، وإن لم يُسمّ الأجل فهو نكاح باتّ (7).عن أبان بن تغلب في حديث صيغة المتعة أنه قال لأبي عبد الله عليه السلام: فإني أستحيي (!!!!) أن أذكر شرط الأيام. قال: هو أضرّ عليك. قلت: وكيف؟ قال: لأنك إن لم تشترط كان تزويج (!!) مقامٍ ولزمتك النفقة في العدة وكانت وارثاً، ولم تقدر على أن تطلقها إلا طلاق السنة (8).عن هشام بن سالم قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: أتزوج المرأة متعة مرة مبهمة؟ قال: فقال: ذاك أشدّ عليك، ترثها وترثك، ولا يجوز لك أن تطلقها إلا على طهر وشاهدين. قلت: أصلحك الله فكيف أتزوجها؟ قال: أياماً معدودة بشيء مسمى مقدار ما تراضيتم به، فإذا مضت أيامها كان طلاقها في شرطها ولا نفقة ولا عدة لها عليك (9). المصدر: الشيعة والمتعة لمحمد مال الله   (1) ((الفروع)) للكليني (2/ 437) , ((الوسائل)) (14/ 465). (2) ((التهذيب)) (2/ 188)، ((الاستبصار)) (3/ 146) , ((الوسائل)) (14/ 465). (3) ((التهذيب)) (2/ 189)، ((الوسائل)) (14/ 465). (4) ((الفروع)) للكليني (2/ 44)، ((التهذيب)) (2/ 190)، ((الاستبصار)) (3/ 150) , ((الوسائل)) (14/ 466). (5) ((الفروع)) للكليني (2/ 44)، ((التهذيب)) (2/ 189) , ((الوسائل)) (14/ 466). (6) ((التهذيب)) (2/ 44)، ((الوسائل)) (14/ 466). (7) ((الفروع)) للكليني (2/ 45)، ((الوسائل)) (14/ 466). (8) ((الفروع)) (2/ 44)، ((التهذيب)) (2/ 190)، ((الاستبصار)) (3/ 150)، ((الوسائل)) (14/ 470). (9) ((التهذيب)) (2/ 191)، ((الاستبصار)) (3/ 151)، ((الوسائل)) (14/ 470). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 218 المطلب الثالث: المتعة من أركان الإيمان عند الشيعة: الشيعة إذا استحسنت شيئاً، ممَا يوافق هواها اجتهدت في وضع أُسُسٍ له وجعله من الدين ولو أدى ذلك إلى تلفيق الكلام على لسان أهل البيت رضي الله عنهم. فيذكرون أن جعفراً الصادق قال: ليس منا من لم يؤمن بكرتنا (1) ولم يستحل متعتنا (2). وإذا كانت المتعة من أركان الدين الشيعي فلماذا يترفع عنها أكابرهم في العصر الحاضر؟ وقد جرت بيني وبين بعض الشيعة مناقشة حول المتعة وقد أخذ يسرد لي الروايات الموضوعة على لسان أهل البيت رضوان الله عليهم. فقلت له - ملزماً له: إنني أعتقد صحة هذه الروايات وهلم نقتدي بأولئك الأئمة. فقال: كيف؟ قلت له: تزوجني أختك أو ابنتك لمدة عشرة أيام، كل يوم عشرة دنانير. فغضب مني وقال: أنت ناصبي خبيث. فقلت له: سبحان الله والأئمة المعصومون أحلّوها وأنتم معشر الشيعة لا ترضونها لأنفسكم!! ... لا بد من الترغيب ووضع الثواب، ليتمكنوا من خداع السذج، وليشبعوا الذين سُعار الجنس يسيطر على عقولهم، والشيعة لا يفتقرون إلى وضع المرويات في هذا الشأن، فدينهم مبني على هذا الأساس. فيزعمون أن الله تعالى أحلّ لهم المتعة عوضاً عن المسكرات: عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر قال: إن الله رأف بكم فجعل المتعة عوضاً لكم من الأشربة (3). وعن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى حرم على شيعتنا المسكر من كل شراب وعوّضهم من ذلك المتعة (4). فالشيعة اشترطت على ربهم إنْ هو حرَّمَ عليهم ما يُذهب عقولهم، فلا بد بالمقابل أن يُحلّ لهم ما يشبع شهواتهم. ولا يمكننا أن نتصور أن ربّهم من الضعف إلى هذه الدرجة، ولكن كما يقولون: أهل مكة أدرى بشعابها!! ويفترون على الله تعالى الكذب فيقولون: إن المتعة رحمة من الله جل جلاله خصّ الشيعة بها دون سائر الناس. عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا [فاطر:2] قال: والمتعة من ذلك (5). ويتطاولون على النبي صلى الله عليه وسلم ويجعلون هذا الزنا الصريح خلّة من خلال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بكر بن محمد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن المتعة؟ فقال: إني لأكره للرجل المسلم أن يخرج من الدنيا وقد بقيت عليه خلّة من خلال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقضها (6).وقد وضعت الشيعة مرويات كثيرة في فضل من اقترف جريمة الزنا، فزعمت أن الحق تبارك وتعالى قد غفر للمتمتعات وذلك ليلة الإسراء بالرسول صلى الله عليه وسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أُسري به إلى السماء، قال: لحقني جبرئيل عليه السلام فقال: يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إن الله تبارك وتعالى يقول: إني قد غفرت للمتمتعين، من أمتك من النساء (7). وفي رواية أخرى أن الله تعالى يغفر للمتمتع بقدر الماء الذي مرّ على رأس المتمتع. عن صالح بن عقبة عن أبيه، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت: للمتمتع ثواب؟   (1) يقصد الرجعة. (2) ((من لا يحضره الفقيه)) (2/ 148)، ((وسائل الشيعة)) (4/ 438). (3) ((الروضة من الكافي)) (ص151) , ((وسائل الشيعة)) (14/ 438). (4) ((من لا يحضره الفقيه)) (3/ 151)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 438). (5) ((وسائل الشيعة)) (14/ 439). (6) ((من لا يحضره الفقيه)) (2/ 150) , ((قرب الإسناد)) (ص21)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 442)، ((بحار الأنوار)) (100/ 299). (7) ((من لا يحضره الفقيه للصدوق) (2/ 149)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 442)، ((بحار الأنوار)) (100/ 306). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 219 قال: إن كان يريد بذلك وجه الله تعالى وخلافاً على من أنكرها لم يكلمها كلمة إلا كتب الله له بها حسنة، ولم يمد يده إليها إلا كتب الله له حسنة، فإذا دنا منها غفر الله له بذلك ذنباً، فإذا اغتسل غفر الله له بقدر ما صبّ من الماء على شعره. قلت: بعدد الشعر؟! قال: بعدد الشعر (1). فالراوي استنكر أن يغفر الله تعالى للزاني هذه المغفرة الواسعة رغم نهي المولى تبارك وتعالى عن الزنا، ولكن الإمام المعصوم (!!!) استنكر استفهامه، فأجابه: بنعم. وعلى هذا الأساس فإن بعض نساء الشيعة في الماضي رغبت في اقتراف هذه الخطيئة لا حباً في نيل الثواب المتدفق على الشيعة بسوء أعمالهم، ولكن من أجل أن تعاند عمر رضي الله عنه، ولا يعجب القارئ الكريم من هذا التصرف الذي ينمّ عن عقلية جاهلية ورواسب سبئية، فالشيعة منذ القديم وحتى عصرنا الحاضر لم تختلف عقليتهم ولم ترتفع عن هذا المستوى. عن بشر بن حمزة عن رجل من قريش!! قال: بعثت إليّ ابنة عمّ لي كان لها مال كثير: قد عرفت كثرة من يخطبني من الرجال فلم أزوجهم نفسي، وما بعثت إليك رغبة في الرجال، غير أنه بلغني أنه أحلها الله في كتابه وسنّها رسول اللُّه (صلى الله عليه وسلم وسلم) في سنته!!! فحرّمها زفر، فأحببت أن أطيع الله عز وجل فوق عرشه وأطيع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!! وأعصي زفر فتزوجني متعة!!!، فقلت لها: حتى أدخل على أبي جعفر عليه السلام فأستشيره. قال: فدخلت عليه فأخبرته. فقال: افعل صلّى الله عليكما من زوج!! (2). فهذه المرأة أرادت أن تبرر انحرافها بأنها تخالف عمر رضي الله عنه، وما يضرّ عمر رضي الله عنه إن أرادت هي أو غيرها من نساء الشيعة أن تقترف جريمة الزنا، فالحق تبارك وتعالى هو الذي يحاسب الخلق لا عمر رضي الله عنه. وهذه الرواية تعطينا صورة لأهل التشيع بأنهم يخالفون ما ثبت عن الصحابة رضوان الله عليهم في روايتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم ما حرّمه الله تعالى ورسوله الكريم (صلوات الله وسلامه عليه). والأئمة المعصومون!! يأمرون أتباعهم بضرورة التمتع ولو مرة واحدة، لأنهم يرونها واجبة لا يمكن للشيعة التخلي عنها, لأنها من علامات الإيمان. عن هشام عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إني لأحب للرجل أن لا يخرج من الدنيا حتى يتمتع ولو مرة، وأن يصلي الجمعة في جماعة (3).وعن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: يستحب للرجل أن يتزوج المتعة وما أحبّ للرجل منكم أن يخرج من الدنيا حتى يتزوج المتعة ولو مرّة (4). وعن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال لي: تمتعت؟ قلت: لا. قال: لا تخرج من الدنيا حتى تحيي السنة (5)!!! وعن إسماعيل بن الفضل الهاشّمي قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: تمتعت منذ خرجت من أهلك؟ قلت: لكثرة ما معي من الطروقة أغناني الله عنها. قال: وإن كنت مستغنيَاً فإني أحب أن تحيي سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (6)!!!.   (1) ((من لا يحضر الفقيه)) (2/ 149)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 442)، ((بجار الأنوار)) (100/ 306). (2) ((الفروع من الكافي)) (2/ 47)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 443) , ((بحار الأنوار)) (100/ 307). (3) ((وسائل الشيعة)) (14/ 443). (4) ((وسائل الشيعة)) (14/ 443)، ((بحار الأنوار)) (100/ 305). (5) ((وسائل الشيعة)) (14/ 443)، ((بحار الأنوار)) (100/ 305). (6) ((وسائل الشيعة)) (14/ 443)، ((بحار الأنوار)) (100/ 306). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 220 ويبالغون في الكذب فيزعمون: أن الرجل إذا اغتسل بعد ارتكابه فاحشة الزنا في المتعة خلق الله تعالى من كل قطرة تقطر منه - سبعين ملكاً يدعون له بالمغفرة ويستغفرون له إلى يوم القيامهّ. عن محمد بن علي الهمداني عن رجل سماه (!!!) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما من رجل تمتع ثم اغتسل إلا خلق الله من كل قطرة تقطر منه سبعين ملكاً يستغفرون له إلى يوم القيامة ويلعنون متجنبها إلى أن تقوم الساعة (1). وكذلك فإن الأئمة المزعومين يُرَغّبون أتباعهم في اقتراف ذلك، وإذا لم يكن عنده أجر ذلك ساعده الإِمام المعصوم (!!) ماديّاً حتى يستطيع ممارسة الرذيلة, عن أبي بصير قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقال لي: يا أبا محمد تمتعت منذ خرجت من أهلك؟ قلت: لا؟ قال: ولم؟ قلت: ما معي من النفقة يقصر عن ذلك. قال: فأمر لي بدينار. قال: أقسمت عليك إن صرت إلى منزلك حتى تفعل (2). دينار واحد أجرة المتمتع بها فقط، ولا نستغرب أن تكون أجرة الزانيات بهذا القدر، لأن الشيعة تحاول بقدر الإِمكان إزالة العقبات التي تعترض هذا الطريق!! ومن ضمن اعتقادات الشيعة في المتعة أنه لا كفارة لمن حلف بالله تعالى ألاّ يقترف هذه الجريمة، ويزعمون أنه من ترفع عنها فهو عاص لله تعالى ووضعت الشيعة في ذلك الكثير من الروايات المكذوبة على لسان أهل البيت رضوان الله عليهم، ونضع بين يدي القارئ الكريم بعض تلك المرويات المكذوبة: عن علي السَّائي قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: إني كنت أتزوج المتعة!!! فكرهتها وتشاءمت منها، فأعطيت الله عهداً بين الركن والمقام وجعلت عليّ في ذلك نذراً أو صياماً أن لا أتزوجها. قال: ثم إن ذلك شقّ عليّ وندمت على يميني ولم يكن بيدي من القوة ما أتزوج به في العلانية. قال: فقال لي: عاهدت الله أن لا تطيعه؟! والله لئن لم تطعه لتعصينّه (3). ونحن بدورنا نسأل هذا الرافضي ما سبب كراهته وتشائمه من المتعة الواجبة في دين الشيعة؟ ثم إنه لم يطق أن يصبر على ذلك لأن الشذوذ متمكن منه، وأراد أن يلتمس له مخرجاً، فشكا حاله إلى إِمامه المعصوم!! واستنكر الإمام المعصوم!! يمين هذا الرافضي وأمره بارتكاب المتعة ولا شيء عليه في ذلك!! وعن جميل بن صالح قال: إن بعض أصحابنا!! قال لأبي عبد الله عليه السلام: إنه يدخلني من المتعة شيء فقد حلفت أن لا أتزوج متعة أبداً. فقال أبوعبد الله عليه السلام: إنك إذا لم تطع الله فقد عصيته (4).حتى خرافة سرداب مهديّهم الموهوم فإنه يأمر أتباعه بضرورة المتعة، وإن أقسم على تركها أغلظ الأيمان: عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري أنه كتب إلى صاحب الزمان عليه السلام يسأله عن الرجل ممن يقول بالحقّ (5) ويرى المتعة ويقول بالرجعة إلا أنّ له أهلاً (6) موافقة له في جميع أموره، وقد عاهدها أن لا يتزوج عليها، ولا يتمتع ولا يتسّرى!! وقد فعل هذا منذ تسع عشرة سنة، ووفىّ بقوله فربما غاب عن منزله الأشهر فلا يتمتع ولا تتحرك نفسه أيضاً لذلك، ويرى أن وقوف من معه من أخ وولد غلام ووكيل وحاشية مما يقلّله في أعينهم، ويحب المقام على ما هو عليه محبة لأهله وميلاً إليها وصيانة لها ولنفسه لا لتحريم المتعة، بل يدين الله بها فهل عليه في ترك ذلك مأثم أم لا؟ الجواب: يُستحب له أن يطيع الله تعالى بالمتعة ليزول عنه الحلف في المعصية ولو مرّة واحدة (7). المصدر: الشيعة والمتعة لمحمد مال الله   (1) ((الوسائل)) (14/ 444). (2) ((الوسائل)) (14/ 444). (3) ((الفروع)) من الكافي (43/ 2)، ((التهذيب)) (2/ 186)، ((الاستبصار)) (3/ 142)، ((الوسائل)) (14/ 445). (4) ((من لا يحضره الفقيه)) (2/ 149)، ((الوسائل)) (14/ 445). (5) أي يتشيع. (6) زوجة. (7) ((الاحتجاج)) للطبرسي (ص 171)، ((الغيبة)) للطوسي (ص250)، ((الوسائل)) (14/ 445). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 221 أولاً: لا عدد معين في المتعة: عند الشيعة يجوز التمتع بأكثر من أربع عاهرات. وإن كان عنده أربع زوجات زواج دائم، وذلك لأنهن خليلات مستأجرات فيجوز له أن يجمع ألفاً منهن أو أكثر إذا أراد، وإليك الروايات الدّالة على ذلك: 1 - عن بكر بن محمد قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن المتعة أهي من الأربع؟ فقال: لا (1). 2 - عن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ذكرت له المتعة أهي من الأربع؟ فقال: تزوج منهن ألفاً فإنهن مستأجرات (2). 3 - عن زرارة قال: قلت: ما يحل من المتعة؟ قال: كما شئت (3). 4 - عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في المتعة: ليست من الأربع لأنها لا تطلق ولا ترث وإنما هي مستأجرة (4). 5 - عن عمر بن أذينة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: كم يحل من المتعة؟ قال: فقال: هن بمنزلة الإِماء (5). 6 - عن أبي بصير قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن المتعة أهي من الأربع؟ فقال: لا. ولا من السبعين (6). 7 - محمد بن علي بن الحسين عن الفضيل بن يسار أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن المتعة؟ فقال: هي كبعض إمائك (7). المصدر: الشيعة والمتعة لمحمد مال الله   (1) ((الفروع من الكافي)) (43/ 2)، ((قرب الإسناد)) للحميري (ص 21) ((التهذيب)) للطوسي (2/ 188)، ((الاستبصار)) (3/ 147)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 446). (2) ((الفروع من الكافي)) (2/ 43)، ((التهذيب)) (2/ 188)، ((الاستبصار)) (3/ 147) , ((الوسائل)) (14/ 446). (3) ((الفروع من الكافي)) (2/ 43)، ((التهذيب)) (2/ 188)، ((الاستبصار)) (3/ 148) , ((الوسائل)) (14/ 446). (4) ((الفروع من الكافي)) (2/ 43)، ((التهذيب)) (2/ 188)، ((الاستبصار)) (3/ 148) , ((الوسائل)) (14/ 446). (5) ((الفروع من الكافي)) (2/ 43)، ((الوسائل)) (14/ 447). (6) ((الفروع من الكافي)) (2/ 43)، ((التهذيب)) (2/ 188)، ((الاستبصار)) (3/ 147)، ((من لا يحضره الفقيه)) (2/ 149)، ((الوسائل)) (14/) 447، ((بحار الأنوار)) (100/ 309). (7) ((من لا يحضره الفقيه)) (2/ 149)، ((الوسائل)) (14/ 448). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 222 ثانياً: أجرة المتمتَّّع بها: رغبة من الدين الشيعي في التيسير على معتنقيه في إتيان ما شرعه لهم في هذا البغي، جعلوا أجرة المتمتَّع بها على قدر استطاعته فيجزئ فيه الدرهم والكف من الطعام أو حتى شربة ماء. عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن متعة النساء؟ قال: حلال!! وإنه يُجزئ فيه الدرهم فما فوقه (1).وعن الأحول قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أدنى ما يتزوج به المتعة؟! قال: كفّ من بُرّ (2).وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام: عن أدنى مهر المتعة ما هو؟! قال: كف من طعام دقيق أو سويق تمر (3).وعن يونس .. عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أدنى ما تحل به المتعة كف طعام (4). فما أسهل ارتكاب جريمة الزنا عند الشيعة إذا كان ثمن جسد المرأة عندهم بمثل الذي ذكرناه. ويجعلون الزنا الصريح زواجاً صداقه شربة ماء فيذكرون: عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: جاءت امرأة إلى عمر فقالت: إني زنيت فطهّرني. فأمر بها أن ترجم. فأخبر بذلك أمير المؤمنين عليه السلام فقال: كيف زنيت؟ قالت: مررت بالبادية فأصابني عطش فاستسقيت أعرابيَاً. فأبى أن يسقيني إلا أن أمكنه من نفسي. فلما أجهدني العطش وخفت على نفسي سقاني فأمكنته من نفسي. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: تزويج ورب الكعبة (5). فانظر أخي القارئ كيف يفترون على الإمام علي رضي الله عنه. إن هذه المسألة لو عرضت على صغار طلبة العلم لأفتى بأن هذا زنا يقام عليها الحدّ. فهل إمامهم المعصوم يُحلّ الحرام؟! نحن نكرم علي بن أبي طالب عن هذا الانحدار والانحطاط الفكري، ولكن الشيعة لا يهمّهم إلا وضع المرويات التي تؤيد شذوذهم وانحرافهم. جواز الامتناع عن دفع الأجرة الكاملة للمتمتع بها في حالة رفضها ممارسة الجنس لمدة معينة, أو تبين له أنها متزوجة. من المبادئ الغريبة في المتعة في الدين الشيعي، أنه يجوز للرجل أن يرفض دفع الأجرة مقدماً، بل أنه يحتاط لنفسه، فربما رفضت البغي مواصلة ممارسة الرذيلة معه، فحينئذ يجوز له أن لا يدفع أجرة الأيام التي تخلفت عدا أيام الحيض مثَلاً، إذا اتفق الشيعي مع امرأة على أن يستأجر جسدها لمدة شهر واحد بمبلغ محدد وقدره ستون درهماً مثلاً، ودفع من الأجرة أربعين وبقي عشرون، ثم حدث أن تأخرت عنه مدة خمسة أيام، وانقضت الفترة، وطالبته بتسديد الباقي، ففي هذه الحالة لا يحق لها سوى عشرة دراهم فقط، لأنها لم تواظب على العمل سوى خمسة وعشرين يوماً، وبما أن أجرة اليوم الواحد درهمان، فإنها لا تستحق سوى خمسين درهماً لا ستون. ولا يستغرب القارئ الكريم من هذا المبدأ في الدين الشيعي، فكتب الرافضة، مليئة من هذه النوعية الشاذة.   (1) ((التهذيب)) (2/ 189)، ((الفروع)) للكليني (2/ 45)، ((الوسائل)) (14/ 470). (2) ((التهذيب)) (2/ 189)، ((الفروع)) للكليني (2/ 45)، ((الوسائل)) (14/ 471). (3) ((الفروع)) (2/ 45)، ((الوسائل)) (14/ 471). (4) ((الفروع)) (2/ 45)، ((الوسائل)) (14/ 471). (5) ((الفروع)) (2/ 48) , ((الوسائل)) (14/ 472). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 223 فهذا أحد الشيعة يريد أن يتمتع، ولكنه خائف من المرأة التي سوف يقضي معها في ممارسة الجنس أن لا تواظب على ذلك، واحتار في ذلك، إن هو دفع الأجرة كاملة مقدماً فربما لا تقضي الفترة كاملة، وبعد ذلك يتحسر على فعلته، ففكر في تجزئة المبلغ، واستشار إمامه المعصوم!! في حالته، فأذن له بتجزئته: عن عمر بن حنظلة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أتزوج المرأة شهراً فتريد منّي المهر كاملاً، وأتخوف أن تخلفني؟ قال: يجوز أن تحبس ما قدرت عليه، فإن هي أخلفتك فخذ منها بقدر ما تخلفك (1). وأيضأ عن عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: أتزوج المرأة شهراً فأحبِسُ عنها شيئاً؟ فقال: نعم، خذ منها بقدر ما تخلفك إن كان نصف شهر فالنصف، وإن كان ثلثاً فالثلث (2). وعن إسحاق بن عّمار قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: يتزوج المرأة متعة!! تشترط له أن تأتيه كل يوم حتى توفيه شرطه، أو يشترط أياماً معلومة تأتيه، فتغدر به فلا تأتيه على ما شرطه عليها، فهل يصلح له أن يحاسبها على ما لم تأته من الأيام فيحبس عنها بحساب ذلك؟ قال: نعم. ينظر إلى ما قطعت من الشرط فيحبس عنها من مهرها!! مقدار ما لم تف ماله خلا أيام الطمث فإنها لها, ولا يكون لها إلاّ أحلّ له فرجها (3). وعن عمر بن حنظلة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أتزوج المرأة شهراً بشيء مسمى فتأتي بعض الشهر ولا تفي ببعض؟ قال: يحبس عنها من صداقها مقدار ما احتبست عنك إلا أيام حيضها فإنها لها (4). وفي حالة إن علم أن لها زوجاً مقيماً معها بعد الدخول بها، وقد أعطاها بعض أجرتها، وأخر الباقي، فما الحكم في ذلك من واقع الدين الشيعي؟ الحكم بأنه لا يعطيها ما تبقى من أجرة جسدها، لأنها على حد زعم الشيعة عصت الله تعالى. عن حفص بن البَخْتري، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا بقي عليه شيء من المهر، وعلم أن لها زوجاً، فما أخذته فلها بما استحلّ من فرجها، ويحبس، عليها ما بقي عنده (5). وعن علي بن أحمد بن أشيم قال: كتب إليه الريان بن شبيب - يعني أبا الحسن عليه السلام: الرجل يتزوج المرأة متعة، بمهر معلوم إلى أجل معلوم، وأعطاها بعض مهرها، وأخّرته بالباقي، ثم دخل بها، وعلم بعد دخوله بها، قبل أن يوفيها باقي مهرها، أنها زوّجته نفسها ولها زوج مقيم معها، أيجوز له حبس باقي مهرها أم لا يجوز؟ فكتب: لا يعطيها شيئاً لأنها عصت الله عز وجل (6). وهل يوجد دليل أوضح من هذا، على أن المتعة عند الشيعة ما هي إلا زنا صريح، والمتعة ما هي إلا الوجه الآخر للزنا، وهما وجهان لعملة واحدة. المصدر: الشيعة والمتعة لمحمد مال الله   (1) ((الفروع من الكافي)) (2/ 46)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 481) , ((بحار الأنوار)) (100/ 310). (2) ((الفروع من الكافي)) (2/ 46)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 481) , ((التهذيب)) (2/ 189). (3) ((الفروع من الكافي)) (2/ 46)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 481). (4) ((من لا يحضره الفقيه للصدوق)) (2/ 149)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 482). (5) ((التهذيب)) للطوسي (2/ 189)، ((الفروع من الكافي)) (2/ 46) , ((وسائل الشيعة)) (14/ 482). (6) ((الفروع من الكافي)) (2/ 46)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 482). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 224 ثالثاً: جواز التمتع بالمرأة الواحدة مراراً كثيرة: عند الشيعة يجوز للرجل أن يتمتع بالمرأة الواحدة عدة مرات، وإن بلغت الألف، وإن ترادف عليها مئات الرجال. ولا ضير في ذلك، فإنها بغي مباحة للجميع. ولا بأس بالرجوع إليها كلما كان مسعوراً، ويرغب في ممارسة الرذيلة، وهل دين الشيعة إلا شيوعية الجنس! عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: الرجل يتزوج المتعة، وينقضي شرطها، ثم يتزوجها رجل آخر حتى بانت منه، ثم يتزوجها الأول حتى بانت منه ثلاثاً، وتزوجت ثلاثة أزواج, يحلّ للأول أن يتزوجها؟ قال: نعم، كما شاء, ليس هذه مثل الحُرة، هذه مستأجرة وهي بمنزلة الإِماء (1). وعن أبان عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام: في الرجل يتمتع من المرأة المرّات. قال: لا بأس يتمتع منها ما شاء (2). وعن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام قال: سألته عن رجل تزوج امرأة متعة، كم مرة يرددها ويعيد التزويج؟ قال: ما أحبّ (3). فالتمتع بالزانيات لا حدّ له، وإن ترادف عليها آلاف الرجال، وكيف يزعمون أنها زوجة ويمكنه إعادتها بعد الرابعة بل المائة؟ رابعاً: من أراد التجديد فليزد إذا أراد المتمتع أن يستأنف الدخول بالمتمتَّع بها بعد انتهاء المدة، فيجب عليه أن يزيد من أجرتها وليس له عليها عدة, وذلك لأن المدة قد انتهت فتطوى صفحة من إجارة جسد المرأة وتبدأ أخرى. عن أبي بصير قال: لا بأس أن تزيدك وتزيدها إذا انقطع الأجل فيما بينكما، تقول لها: استحللتك!! بأجل آخر. برضا منها، ولا يحل ذلك لغيرك حتى تنقضي عدتها (4).وعن ابن أبي عفير، عمن رواه!! قال: إذا تزوج الرجل المرأة متعة كان عليها عدة لغيره، فإذا أراد هو أن يتزوجها لم يكن عليها عدة، يتزوجها إذا شاء (5).وعن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: فإذا جاء الأجل يعني في المتعة كانت فرقة بغير طلاق، فإن شاء أن يزيد فلا بد أن يصدقها شيئا قلّ أو كثر (6). وعن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله عليه السلام في كتابه إليه: وأما ما ذكرت أنهم يترادفون المرأة الواحدة (7) فأعوذ بالله أن يكون ذلك من دين الله ودين رسوله. إنما دينه أن يحلّ ما أحلّ الله، ويحرم ما حرّم الله، وإن مما أحلّ الله المتعة من النساء في كتابه!! والمتعة من الحج، أحلهما الله ولم يحرمهما!! فإذا أراد الرجل المسلم أن يتمتع من المرأة!! فعل ما شاء الله وعلى كتابه وسنة نبيه نكاحاً؟! غير سفاح ما تراضيا على ما أحبّا من الأجر، كما قال الله عز وجل!!: فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ [النساء:24] (8) إنْ هما أحبّا مدّا في الأجل على ذلك الأجر أو ما أحبا في آخر يوم من أجلها قبل أن ينقضي الأجل مثل غروب الشمس مدّا فيه وزادا في الأجل ما أحبّا, فإن مضى آخر يوم منه لم يصلح إلا بأمر مستقبل، وليس بينهما عدّة إلا لرجل سواه, فإنْ أرادت سواه, اعتدت خمسة وأربعين يوماً، وليس بينهما ميراث، ثم إن شاءت تمتعت من آخر, فهذا حلال لها!! إلى يوم القيامة إن شاءت تمتعت منه أبداً، وإن شاءت من عشرين بعد أن تعتد من كل من فارقته خمسة وأربعين يوماً، كل هذا لها حلال على حدود الله التي بينها على لسان رسوله، ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه (9). المصدر: الشيعة والمتعة لمحمد مال الله   (1) ((الفروع من الكافي)) (2/ 46)، ((التهذيب)) (2/ 191)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 480). (2) ((الفروع من الكافي)) (2/ 46)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 480). (3) ((قرب الإسناد)) (109)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 480). (4) ((الفروع)) للكليني (2/ 45)، ((التهذيب)) للطوسي (2/ 191)، ((الوسائل)) للحر العاملي (14/ 475). (5) ((الفروع)) للكليني (2/ 45)، ((الوسائل)) للحر العاملي (14/ 475). (6) ((من لا يحضره الفقيه)) للصدوق (2/ 150) , ((الوسائل)) (14/ 476). (7) هذا شأن المتعة، أو قل: الزنا عند الشيعة. (8) انظر قول علماء الإسلام في تفسير هذه الآية الكريمة من هذا الكتاب. (9) ((مختصر البصائر)) (ص85)، ((الوسائل)) (14/ 476). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 225 رابعاً: لا ميراث في المتعة في الدين الشيعي لا ترث الزانية من الزاني وفي اصطلاح الشيعة المتمتَّع بها من المتمتع: عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه!! عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث المتعة قال: إن حدث به ما حدث لم يكن لها ميراث (1).وعن سعيد بن يسار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الرجل يتزوج المرأة متعة! ولم يشترط الميراث؟ قال: ليس بينهما ميراث اشترط أو لم يشترط (2).وعن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: ولا ميراث بينهما في المتعة إذا مات واحد منهما في ذلك الأجل (3). المصدر: الشيعة والمتعة لمحمد مال الله   (1) ((الفروع)) للكليني (2/ 47) , ((الوسائل)) (14/ 486). (2) ((التهذيب)) (2/ 190)، ((الاستبصار)) (3/ 150) , ((الوسائل)) (14/ 487). (3) ((من لا يحضره الفقيه)) (2/ 150) , ((الوسائل)) (14/ 487). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 226 خامسا: التمتع بالأبكار: الشيعة تجوّز التمتع بالبكر دون الحاجة إلى أخذ موافقة وليّها أو إذن أبيها: عن زياد بن أبي الحلال قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لا بأس أن يتمتع بالبكر ما لم يُفْض إليها كراهية العيب على أهلها (1). بمقتضى هذه الرواية بجواز التمتع بالبكر ولكن دون فضّ بكارتها أو بمعنى آخر له الحق في إتيانها من الدبر، وذلك لولع القوم بهذا الشذوذ، وقد وردت روايات كثيرة بهذا الشأن عند الشيعة إن هي اشترطت عليه أو خشيت الفضيحة وجلب العار لأهلها. عن محمد بن أبي حمزة عن بعض أصحابه!! عن أبي عبد الله عليه السلام في البكر يتزوجها الرجل متعة؟!! قال: لا بأس ما لم يفتضّها (2).وفي رواية أخرى عن أبي سعيد القماط عمن رواه!! قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جارية بكر بين أبويها تدعوني إلى نفسها سراً من أبويها أفأفعل ذلك؟ قال: نعم, واتق موضع الفرج. قال: قلت: فإن رضيت بذلك؟ قال: وإن رضيت فإنه عار على الأبكار (3) سبحان الله عار عليهن في أن يؤتين من القبل وليس بعار في أن يؤتين من الدبر!! ولا تخلو مسألة من المسائل عند الشيعة من التناقض، بينما يبيحون التمتع بالأبكار توجد روايات تكره التمتع بهن: عن حفص بن البختري عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل يتزوج البكر متعة؟ قال: يكره للعيب على أهلها (4).بينما في رواية أخرى: عن محمد بن عذامز عمن ذكره!! عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن التمتع بالأبكار؟ فقال: هل جعل ذلك إلا لهن فليستترن وليستعففن (5). وفي رواية أخرى تنهى عن ذلك: عن أبي بكر الحضرمي قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: يا أبا بكر إيّاكم والأبكار أن تزوجوهن متعة (6). وفي رواية أخرى عن عبد الملك بن عمرو قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن المتعة؟ فقال: إن أمرها شديد فاتقوا الأبكار (7). المصدر: الشيعة والمتعة لمحمد مال الله   (1) ((الفروع من الكافي)) (2/ 46)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 457). (2) ((الفروع من الكافي)) (2/ 46)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 458). (3) ((التهذيب)) (2/ 187)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 458). (4) ((التهذيب)) (2/ 188) , ((الاستبصار)) (3/ 146)، ((الفروع من الكافي)) (2/ 46)، ((من لا يحضره الفقيه)) (2/ 149)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 459). (5) ((التهذيب)) (2/ 187)، ((الاستبصار)) (3/ 145)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 458). (6) ((فقه الرضا)) (ص65)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 460). (7) ((فقه الرضا)) (ص66)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 460). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 227 سادساً: جواز التمتع بالمتزوجات لا يوجد في دين من الأديان ولا في مذهب من المذاهب نص يبيح للرجل أن يتزوج امرأة متزوجة إلا في مذهب مزدك وماركس وذلك لشيوعية الجنس وإباحيته عندهما. لأن ذلك من الرذائل التي لا ينبغي للإِنسان إتيانها. وقد تعجب أخي القارئ إن ذكرت لك أن الدين الشيعي يبيح ذلك وينصح أتباعه بإتيانه, ولكن يزول ذلك إن وقفت على مروياتهم في هذا الشأن, فكتبهم مليئة بهذه النماذج. ورغبة منّا في إيضاح ذلك من منطلق علمي نورد بعض مروياتهم وإليك بعضها: عن يونس بن عبد الرحمن عن الرضا عليه السلام قال: قلت له: المرأة تتزوج متعة فينقضي شرطها، وتتزوج رجَلاً آخر قبل أن تنقضي عدتها؟ قال: وما عليك، إنما إثم ذلك عليها (1). وعن فضل مولى محمد بن راشد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت: إني تزوجت امرأة متعة!! فوقع في نفسي أن لها زوجاً ففتشت عن ذلك فوجدت لها زوجاً, قال: ولم فتشت (2)؟. فإمام الشيعة المعصوم؟! استنكر تفتيش الشيعي عن بعل المتمتع بها لأن ذلك جائز في الدين الشيعي, وما دام الأمر كذلك, فالبحث والسؤال منهي عنه لأنه في طاعة, كما تزعم الشيعة ألا ساء ما يَزرون! وعن مهران بن محمد عن بعض أصحابه؟! عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قيل له: إن فلانَاً تزوج امرأة متعة؟! فقيل له: إن لها زوجاً فسألها. فقال أبو عبد الله عليه السلام: ولم سألها (3)؟. وعن محمد بن عبد الله الأشعري قال: قلت! للرضا عليه السلام: الرجل يتزوج بالمرأة فيقع في قلبه أن لها زوجاً؟ فقال: وما عليه؟ أرأيت لو سألها البينة كان يجد من يشهد أن ليس لها زوج (4)؟. المصدر: الشيعة والمتعة لمحمد مال الله   (1) ((من لا يحضره الفقيه)) (2/ 149)، ((الوسائل)) (14/ 456). (2) ((التهذيب)) (2/ 187)، ((الوسائل)) (14/ 457). (3) ((التهذيب)) (2/ 187)، ((الوسائل)) (14/ 457). (4) ((التهذيب)) (2/ 187)، ((الوسائل)) (14/ 457). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 228 سابعاً: التمتع بالزانيات عن زرارة قال: سأله (1) عمّار وأنا عنده, عن الرجل يتزوج الفاجرة متعة؟ قال: لا بأس. وإن كان التزويج الآخر، فليحصن بابه (2).وعن علي بن يقطين قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: نساء أهل المدينة (3)؟ قال: فواسق. قلت: أفأتزوج منهن (4)؟ قال: نعم (5). وعن إسحاق بن جرير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن عندنا بالكوفة امرأة معروفة بالفجور أيحل أن أتزوجها متعة؟! قال: فقال: رفعت راية (6)؟ قلت: لا. لو رفعت راية أخذها السلطان (7). قال: نعم تزوجها متعة!! قال: ثم أصغى إلى بعض مواليه، فأسرّ إليه شيئاً. فلقيت مولاه. فقلت له: ما قال لك؟ فقال: إنما قال لي: ولو رفعت راية ما كان عليه في تزويجها شيء, إنما يخرجها من حرام إلى حلال (8)!! وعن الحسن بن ظريف قال: كتبت إلى أبي محمد عليه السلام (9): قد تركت التمتع ثلاثين سنة (10) ثم نشطت لذلك (11) وكان في الحي امرأة وُصِفت لي بالجمال، فمال قلبي إليها، وكانت عاهراً (12) لا تمنع يد لامس فكرهتها (13) ثم قلت: قد قال الأئمة عليهم السلام: تمتع بالفاجرة فإنك تخرجها من حرام إلى حلال. فكتبت إلى أبي محمد عليه السلام أشاوره في المتعة!! وقلت أيجوز بعد هذه السنين أن أتمتع (14)؟ فكتب: إنما تُحيي سنة وتميت بدعة فلا بأس (15)!! فهذه أخي القارئ نماذج من مرويات الشيعة حول التمتع بالعاهرات، ولا ندري ما الفرق بين المتعة وبين الزنا وهما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة، هي إشباع الرغبات الجنسية دون ضابط أو رابط. ودين الشيعة مليء بالمتناقضات، فتارة يرون جواز التمتع بالعاهرات، وتارة أخرى يُحرم عليهم ذلك, وأن فاعلها زان، فيذكرون أن محمد بن إسماعيل قال: سأل رجل!! أبا الحسن الرضا عليه السلام وأنا أسمع عن رجل يتزوج المرأة متعة!! ويشترط عليها أن لا يطلب ولدها (16) إلى أن قال: فقال: لا ينبغي لك أن تتزوج إلا بمؤمنة أو مسلمة (17) فإن الله عز وجل يقول: الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3] (18). المصدر: الشيعة والمتعة لمحمد مال الله   (1) يقصد جعفر الصادق رضي الله عنه. (2) ((التهذيب)) (2/ 187)، ((الاستبصار)) (3/ 143)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 455). (3) يسأله عن إمكانية التمتع بهن. (4) بالمتعة. (5) ((التهذيب)) للطوسي (2/ 187)، ((الاستبصار)) (3/ 143)، ((وسائل الشيعة)) (4 1/ 455. (6) علامة تدل على أنها بغي بائعة جسد. (7) أي أقام عليها الحد. (8) ((التهذيب)) (2/ 249)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 455). (9) يقصد الحسن بن علي العسكري. (10) وما الذي أصبره على ذلك؟ (11) ربما كان في تلك المدة لا يقوى على ارتكاب الفاحشة!! (12) وافق شن طبقة. (13) يخادع بذلك نفسه أو قل: إمامه المعصوم!! لأنه بعد ذلك يفتش في ملف أكاذيب قومه، لعله يجد ما يوافق شهوته وليبلغ غايته، وقد ظفر بما يريد، لأن دينه ودين قومه لا يحرم حراما. (14) وهل الزنا حلال في وقت وحرام في وقت آخر؟ ما لكم لا تعقلون؟ (15) ((وسائل الشيعة)) (14/ 455)، ((كشف الغمة)) للأردبيلي (307). (16) إذا كان لا يرغب في إلحاق نسب الولد إليه فلماذا يقترف هذا المنكر؟؟ وقد جرت بيني وبين بعض الشيعة محاورة حول دين الشيعة، وبلغ به الغيظ أن شتمني واتهمنى بأنني ابن ... فأجبته: إنك تعرف نسبي, ولو أنني أعرف نسبك لرددت عليك, ولكنكم معشر الشيعة أكثركم أبناء متعة, وربما تكون أنت أحدهم بعد ذلك ولى الأدبار! وانتهت المناقشة!!!. (17) السائل سأله عن نكاح ببغايا متعة، فأجابه بهذا الجواب. (18) ((الكافي في الفروع)) (2/ 44)، ((التهذيب)) (2/ 191)، ((الاستبصار)) (3/ 153)، ((من لا يحضره الفقيه)) (2/ 148)، ((وسائل الشيعة)) (2/ 148). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 229 ثامناً: جواز الاستمتاع بالدبر دون الفرج في المتعة: من شدة ولع الشيعة بنكاح الدبر أجازوا فعل ذلك في المتعة، إن اشترطت عليه. وهذا شذوذ من نساء الشيعة وحماقة تضاف إلى حماقات الشيعة وسخافاتهم. عن عمار بن مروان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت: رجل جاء إلى امرأة فسألها أن تزوجه نفسها (1). فقالت: أزوجك نفسي على أن تلتمس مني ما شئت من نظر والتماس، وتنال مني ما ينال الرجل من أهله إلا أن لا تدخل فرجك في فرجي وتتلذذ بما شئت فإني أخاف الفضيحة. قال: ليس له إلا ما اشترطت (2). ما شاء الله كيف تخشى الفضيحة وقد باعت جسدها لمسعور؟ وكيف تخشى الفضيحة وهي تمكن رجلاً غريباً من الاستمتاع بها مقابل دريهمات معدودة؟ وما هو مقياس الحياء عند نساء الشيعة؟ أفتونا يا حاخامات قم والنجف وذلك لأن مقياس الشرف والعفة مختلف فيه، بانتظار إجابتكم، راجين لكم دوام العفة والطهر ولنسائكم. فالمتعة عند الشيعة ما هي إلا وجه آخر لعملة الزنا والإباحية الجنسية, وفي ذلك يقول د. محمد الأحمدي أبو النور: هكذا لا ولي ولا شهود، بل حرية للمرأة في أن تلبي داعي الجنس مع من تشاء وبما تشاء، وفي المدة التي ترتضيها، لتجدد المدة مرة أخرى، أو لتبحث عن صيد جديد وأجر آخر لمدة أخرى في سوق المتعة؟! ولا نفقة! بل أجر كالجُعْل والهدية التي يقدمها الرجل لخليلته وصديقته نظير متعته، والعلاقة مادية صرفة, فلو أخلت ببعض المدة أخذ منها بعض الأجر. ولا طلاق ولا ميراث .. إذن لا زوجيه؟! ولا حد لمن يريد أن يستمتع بهن في مدة واحدة - ولا حرمة بين المرأة وعمتها أو خالتها إذا أراد أن يجمع بينهما! ولا نسب يلتحق إجباراً .. ولا علاقات إنسانية، ولا التزامات أسرية، ولا نظر إلى تكوين لبنة قوية من وراء هذه العلاقة لمجتمع قوي، بل إباحية وشيوعية للمتعة ما كان يحلم بها (مزدك) لأنها تريد أن تتزيا بزي الشرع والقانون (3). المصدر: الشيعة والمتعة لمحمد مال الله   (1) زواج متعة. (2) ((الفروع من الكافي)) (2/ 48)، ((التهذيب)) (2/ 191) , ((الوسائل)) (14/ 491) وللمزيد انظر: فصل (الخميني ونكاح الدبر) من كتابنا ((مؤلفات الخميني دراسة وتحليل)) - الذي سوف يصدر قريبا إن شاء الله تعالى. (3) ((منهج السنة في الزواج)) (ص 225). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 230 المطلب الخامس: مرويات مكذوبة في التمتع: فمن أكاذيبهم الشنيعة الخبيثة عليه صلى الله عليه وسلم ما ينسبونه إليه زورا وبهتانا أنه قال: ((من خرج من الدنيا ولم يتمتع جاء يوم القيامة وهو أجدع)) ("تفسير منهج الصادقين" للملا فتح الله الكاشاني - فارسي 2/ 489). وأقبح منه وأشنع ما افتروا عليه بأنه قال عليه الصلاة والسلام: ((من تمتع مرة واحدة عتق ثلثه من النار ومن تمتع مرتين عتق ثلثاه من النار ومن تمتع ثلاث مرات عتق كله من النار)) (تفسير منهج الصادقين 2/ 492 نقلاً من "حضرة من خصه الله باللطف الأبدي، خاتم مجتهدي الإمامية بالتوفيق السرمدي، الغريق في بحار رحمة الله الملك الشيخ علي بن عبد العالي روّح الله روحه" في رسالته التي كتبها في باب المتعة). فانظر إلى القوم ما أقبحهم وأكذب بهم، وما ألعنهم وأبعد بهم من الشريعة الإسلامية الغراء، وتعاليمها النقية البيضاء، وما أجرأهم على الملذات والشهوات التي أصبغوا عليها صبغة الدين والشريعة، وما أشجعهم على الافتراء على رسول الله الصادق الأمين، الناهي عن المنكرات، والمحترز المجتنب عن السيئات؟ والقوم لا يريدون من وراء ذلك إلا أن يجعلوا دين الله الخالد لعبة يلعب بها الفساق والفجار، ويسخر به الساخرون والمستهزؤن نقمة عليه, التي ورثوها من اليهودية البغضاء التي أسست هذه العقائد وهذا المذهب - انظر لتحقيق وتثبيت ذلك في كتابنا (الشيعة والسنة) -، وإلا فهل من المعقول أن ديناً من الأديان يحرر متبعيه من الحدود والقيود, ومن الفرائض والواجبات, والتضحيات والمشقات، ويجعل نجاتهم من عذاب الله وفوزهم بنيل الجنة في طاعة الشهوات والملذات؟ -وهذا ليس من المبالغات والمجاذفات بل من الحقائق الثابتة التي لا غبار عليها -. والشيعة أعداء أهل البيت وسيد أهل البيت وإمامهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكتفوا بهذا الكذب ولم يقتنعوا به، بل زادوا وبالغوا حتى بلغوا حد الإساءة والإهانة حيث قالوا - نستغفر الله ونتوب إليه من نقل هذا الكفر-: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من تمتع مرة أمن من سخط الجبار ومن تمتع مرتين حشر مع الأبرار ومن تمتع ثلاث مرات زاحمني في الجنان)) ("تفسير منهج الصادقين" 2/ 493). ولا هذا فحسب بل صرحوا بأسماء أهل البيت وشخصياتهم الذين جعلوهم غرضاً لأسنتهم المشرعة، ولسهامهم المطلقة، وسيوفهم المشهرة، وما أقبح التعبير وما أفظع الكذب والبهتان، فيفترون على نبي الله الطاهر المطهر صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: ((من تمتع مرة كان درجته كدرجة الحسين عليه السلام - الإمام الثالث المعصوم حسب زعمهم - ومن تمتع مرتين كان درجته كدرجة الحسن عليه السلام - الإمام الثاني المعصوم المزعوم - ومن تمتع ثلاث مرات كان درجته كدرجة علي بن أبي طالب عليه السلام الإمام المعصوم الأول لديهم، ختن رسول الله وابن عمه - ومن تمتع أربع مرات فدرجته كدرجتي)) ("تفسير منهج الصادقين" 2/ 493). (وما معنى لقول قائل: أهل النجف خاصة، وكل بلاد الشيعة يرون المتعة عيباً وإن كانت حلالاً" و"الشيعة في كل مكان ترى المتعة عيباً وإن كانت حلالاً وليس كل حلال يفعل" (أعيان الشيعة للسيد محسن أمين ص159). مع أقوال الأئمة التي ذكرت من وجوب المتعة والثواب عليهما، فمن الصادق، هذا أو أئمته؟ ولا ينبئك مثل خبير. فانظر إلى الأكاذيب التي نسجت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والافتراءات التي تقولت عليه، وإلى عمارة الإسلام كيف هدمت، وإلى الشريعة أنها كيف عطلت، وإلى أهل بيت النبوة أنهم كيف أهينوا وجعلوا مساوين لأهل الأهواء والهوس، وكيف عدلوا بالفسقة والفجرة؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 231 أو بعد ذلك يدعي القوم بأنهم محبون لأهل البيت وموالون لهم؟ هذا وللقوم شنائع في هذه المسألة وقبائح، وافتراءات وبهتانات على أهل البيت وسادتهم نورد منها طرفاً. منها ما اخترعوه ونسبوه إلى محمد الباقر - الإمام الخامس عندهم - أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به إلى السماء قال: لحقني جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد! إن الله تبارك وتعالى يقول: إني قد غفرت للمتمتعين من أمتك من النساء" (من لا يحضره الفقيه لابن بابويه القمي الملقب بالصدوق - وهو الكذوب- 3/ 463). وذكر الطوسي مفترياً على أبي الحسن - الإمام العاشر عند الشيعة - أنه قال له علي السائي: جعلت فداك، إني كنت أتزوج المتعة فكرهتها وتشاءمت بها فأعطيت الله عهداً بين الركن والمقام وجعلت على ذلك نذراً وصياماً أن لا أتزوجها ثم إن ذلك شق علي وندمت على يميني، ولكن بيدي من القوة ما أتزوج في العلانية، فقال لي: عاهدت الله أن لا تطيعه! والله لئن لم تطعه لتعصينه" (تهذيب الأحكام للطوسي - أحد الصحاح الأربعة - 7/ 251. والفروع من (الكافي) 5/ 450). وأيضاً رووا عن أبي عبد الله جعفر الصادق - وهم يكذبون عليه - أنه قال: المتعة نزل بها القرآن وجرت بها السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم (الاستبصار للطوسي 3/ 142 باب تحليل المتعة). كما كذبوا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "لولا ما سبقني به ابن الخطاب يعني عمر ما زنى إلا شقي". (البرهان في تفسير القرآن للبحراني 1/ 360، وتفسير العياشي 1/ 233, وتفسير الصافي 1/ 347 , و (الكافي) للكليني 5/ 448 , ومجمع البيان للطبرسي ص32 واللفظ للأول). وحكوا في ذلك قصة طريفة تنبئ عما تخفيه الصدور، والراوي هو محدث القوم الكبير محمد بن يعقوب الكليني عن رجل من قريش أنه قال: بعثت إلي ابنة عمة لي كان لها مال كثير قد عرفت كثرة من يخطبني من الرجال فلم أزوجهم نفسي، وما بعثت إليك رغبة في الرجال غير أنه بلغني أنه أحلها الله عز وجل في كتابه وبينها الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته فحرمها زفر - يعني عمر كما صرح به في الهامش - فأحببت أن أطيع الله عز وجل فوق عرشه، وأطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعصي زفر، فتزوجني متعة، فقلت لها: حتى أدخل على أبي جعفر عليه السلام فأستشيره، فدخلت عليه فخبرته، فقال: افعل، صلى الله عليكما من زوج" ("الفروع من (الكافي) " للكليني باب النوادر 5/ 465). وشددوا في التحريض على هذه القبيحة حتى نسبوا إلى جعفر بن محمد الباقر أنه قال: ليس منا من لم يؤمن بكرتنا - رجعتنا - ويستحل متعتنا" (كتاب الصافي) للكاشاني 1/ 347، أيضاً "من لا يحضره الفقيه" 3/ 458). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص211 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 232 المطلب السادس: موقف الصحابة رضي الله عنهم من نكاح المتعة والرد على من أنكر التحريم: 1 - عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما، متعة الحج ومتعة النساء) (1) 2 - الحسن بن محمد بن علي وأخوه عبد الله عن أبيهما. أن علياً رضي الله عنه قال لابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر (2).3 - عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: رخَّص رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس (3) في المتعة ثلاثا ثم نهى عنها (4).4 - عن الرَّبيع بن سَبْرة الجُهني عن أبيه سبرة أنه قال: ((أذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمتعة، فانطلقت أنا ورجل إلى امرأة من بني عامر كأنها بكرة عيْطاء، فعرضنا عليها أنفسنا، فقالت: ما تُعطي؟ فقلت: ردائي، وقال صاحبي: ردائي، وكان رداء صاحبي أجود من ردائي وكنت أشَبَّ منه، فإذا نظرت إلى رداء صاحبي أعجبها، وإذا نظرت إليَّ أعجبتها، ثم قالت: أنت ورداؤك يكفيني. فمكثت معها ثلاثاً، ثم إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ كان عنده شيء من هذه النساء التي يتمتع فليخل سبيلها)) (5).5 - عن الربيع بن سَبْرة الجُهني أنَّ أباه حدّثه أنه كان مع رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم فقال: ((أيها الناس إني قد أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإنَّ الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليُخَلِّ سبيلَه ولا تأخذوا ممّا آتيتموهن شيئَاً)) (6).6 - عن عبد الملك بن الربيع بن سَبْرة الجُهني عن أبيه عن جده قال: أمرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة ثم لم نخرج منها حتى نهانا عنها (7).7 - عن الربيع بن سَبْرة الجُهني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة وقال: ((ألا إنّها حرامٌ من يومكم هذا إلى يوم القيامة، ومن كان أعطى شيئاً فلا يأخذه)) (8).8 - عن عبد الرحمن بن نُعيم الأَعْرَجي قال: سأل رجلٌ ابن عمر وأنا عنده عن المتعة - متعة النساء فغضب وقال: والله ما كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم زنائين ولا مسافحين)) (9).9 - عن موسى بن أيوب عن عمه علي عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن المتعة. فقال: (إنها كانت لمن لم يجد فلما أنزل الله تعالى النكاح والطلاق والميراث بين المرأة وزوجها نسخت) (10).   (1) رواه سعيد بن منصور في ((سننه) (2/ 396). وصححه (1/ 52)، وروى مسلم (1249) من حديث جابر بلفظ: ( ... فعلمناهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما) (2) رواه البخاري (5115). (3) واد بالطائف، وعام أوطاس والفتح واحد. (4) رواه مسلم (1405). (5) رواه مسلم (1406). (6) رواه مسلم (1406) (21). (7) رواه مسلم (1406) (22). (8) رواه مسلم (1406) (28). (9) رواه أحمد (2/ 103) (5808) , وأبو يعلى في ((مسنده)) (10/ 68) (5706) , قال أحمد شاكر في تحقيقه لـ ((مسند أحمد)) (8/ 110): إسناده حسن. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (4/ 250): رجاله ثقات غير عبد الرحمن بن نعيم قال أبو زرعة لا أعرفه. (10) لم أجده بهذا اللفظ, وروى البيهقي في ((سننه)) (7/ 207) , والدارقطني في (3/ 359) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, بلفظ: (حرم أو هدم المتعة النكاح والطلاق والعدة والميراث). قال ابن حجر في ((فتح الباري)) (9/ 75): -فيه- مؤمل بن إسماعيل عن عكرمة بن عمار وفي كل منهما مقال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 233 10 - عن الربيع بن سبرة عن أبيه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة في حجة الوداع، حتى إذا كنا بعسْفان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العمرة قد دخلت في الحج، فقال له سراقة: يا رسول الله علِّمنا تعليم قوم كأنما ولدوا اليوم، عمرتنا هذه ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: بل للأبد. فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أمرنا بمتعة النساء. فرجعنا إليه فقلنا: أن قد أبينَ إلاّ إلى أجل مسمى. قال: فافعلوا. قال: فخرجت أنا وصاحب لي، عليّ برد وعليه بُرد، فدخلنا على امرأة، فعرضنا عليها أنفسنا، فجعلت تنظر إلى برد صاحبي فتراه أجود من بُردي، وتنظر إليّ فتراني أشبّ منه. فقالت: بُرد مكان بُرد، واختارتني فتزوجتها ببردي، فبتّ معها تلك الليلة. فلما أصبحت غدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: من كان تزوج امرأة إلى أجل فليعطها ما سمى لها، ولا يسترجع مما أعطاها شيئاً، ويفارقها، فإن الله عز وجل قد حرّمها عليكم إلى يوم القيامة)) (1).وكان التابعون يسمون المتعة الزنا الصريح، فقد ذكر سعيد بن منصور في (سننه) (أن عروة بن الزبير كان ينهى عن نكاح المتعة ويقول: هي الزنا الصريح) (2).وأخرج ابن أبي شيبة عن هشام بن الغار قال: (سمعت مكحولاً يقول في الرجل تزوج المرأة إلى أجل، قال: ذلك الزنا) (3).وأيضاً في (المصنف 7/ 502 - 503) عن معمر عن الزهري عن القاسم بن محمد قال: إني لأرى تحريمها في القرآن. قال: فقلت: أين؟ فقرأ عليّ هذه الآية: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المؤمنون:5 - 6] (4). ويذكر لنا الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد 14/ 199) , وابن خلّكان في (وفيات الأعيان 5/ 199)، موقف القاضي الفقيه يحيى بن أكثم من المأمون عندما نادى بتحليل المتعة: عن محمد بن منصور واللفظ لأبي العَيْناء قال: كنّا مع المأمون في طريق الشام، فأمر فنودي بتحليل المتعة. فقال يحيى بن أكثم لي ولأبي العَيْناء: بَكّرا غداً إليه فإن رأيتما للقول وجهاً فقولا وإلا فاسكتا إلى أن أدخل .. فدخلا عليه في حال غيظه فسكتا. فجاء يحيى بن أكثم فجلس وجلسنا. فقال المأمون ليحيى: ما لي أراك متغيراً؟ فقال: هو غم يا أمير المؤمنين لما حدث في الإسلام قال: وما حدث فيه؟ قال: النداء بتحليل الزنا. قال: الزنا؟! قال: نعم المتعة زنا. قال: ومن أين قلت هذا؟ قال: من كتاب الله عز وجل وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: قدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ ... إلى قوله: فمَن ابْتغى وَراء ذلِكَ فَأولئِكَ هُمُ العَادُون [المؤمنون:1 - 7] يا أمير المؤمنين زوجة المتعة ملك يمين؟ قال: لا. قال: فهي الزوجة التي عند الله ترث وتورث وتلحق الولد ولها شرائطها؟ قال: لا. قال: قد صار متجاوز هذين من العادين. وهذا الزهري يا أمير المؤمنين روى عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما محمد بن علي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها بعد أن كان أمر بها. فالتفت إلينا المأمون فقال: أمحفوظٌ هذا من حديث الزهري؟ فقلنا: نعم يا أمير المؤمنين .. رواه جماعة منهم مالك رضي الله عنه. فقال: أستغفر الله نادوا بتحريم المتعة فنادوا بها ...   (1) رواه أحمد (3/ 404) (15381) والطبراني (7/ 108) (6514) , والحديث أصله في مسلم (1406). (2) رواه سعيد ابن منصور في ((سننه)) (1/ 219). (3) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (3/ 552). (4) ((مصنف عبد الرزاق)) (7/ 504)، ((سنن البيهقي)) (7/ 203). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 234 المصدر: الشيعة والمتعة لمحمد مال الله المطلب السابع: موقف آل البيت من نكاح المتعة: وبعد أن أوضحنا موقف الصحابة رضي الله عنهم من نكاح المتعة ألا وهو التحريم تبعاً لتحريم النبي صلى الله عليه وسلم، نجد أن موقف بيت النبوّة من هذا النكاح موافق لموقف الصحابة، وقد وردت عنهم عدة روايات في هذا الشأن نوردها للقراء الكرام من المراجع الشيعية لئلا يقال: إن هذا إفك مبين. فيذكر الطوسي في كتابيه (التهذيب 2/ 186) و (الاستبصار 3/ 142) والحر العاملي في (وسائل الشيعة 14/ 441): عن زيد بن علي عن آبائه عن علي عليه السلام قال: حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر لحوم الحُمُرِ الأهلية ونكاح المتعة. والعجيب أن الحر العاملي عقب على هذه الرواية قائلاً: حمله الشيخ (يقصد الطوسي) وغيره على التقية، يعني في الرواية، لأن إباحة المتعة من ضروريات مذهب الإِمامية. اهـ. ونحن لا نسلّم بأنها وردت مورد تقية, وذلك لوجود عدة روايات عن أهل البيت رضوان الله عليهم تحرّم ذلك. ثم إن الشيعة حسب قول بعض علمائهم لم تستطع تمييز الأخبار الصادرة تقيّة والأخبار المتيقن صدورها عنهم، وفي ذلك يقول يوسف البحراني في كتابه (الحدائق1/ 5 - 6): فلم يعلم من أحكام الدين على اليقين إلا القليل لامتزاج أخباره بأخبار التقيّة، كما اعترف بذلك محمد بن يعقوب الكليني في جامعه ((الكافي)). وعن علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن المتعة. فقال: ما أنت وذاك قد أغناك الله عنها (1). فالإِمام المعصوم!! زجر السائل عن المتعة، خاصة وأنه متزوِج زواجاً دائماً، فالمتعة في هذه الحالة لا تجوز. والشيعة تزعم أن جعفراً الصادق رضي الله عنه قال: إني لأكره للرجل المسلم أن يخرج من الدنيا وقد بقيت عليه خلّة من خلال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقضها (2). قال ذلك عندما سئل عن المتعة!! فكيف يمكن أن نوفق بين الروايتين أو قول المعصومين؟!، إمام ينهى عن ذلك وآخر يأمر بإتيانه؟! ثم إن الصادق الذي. ينسبون له القول بحلّية المتعة نجده يُوَبّخ أصحابه بارتكابهم هذه الفاحشة فيقول: أما يستحي أحدكم أن يرى في موضع العورة، فيحمل ذلك على صالحي إخوانه وأصحابه (3). وعدّ النساء اللواتي يفعلن ذلك بأنّهنّ فواجر: عن هشام بن الحكم عن أبي عبدالله عليه السلام قال: ما تفعلها عندنا إلا الفواجر (4).   (1) ((الفروع من الكافي)) (2/ 43)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 449). (2) ((بحار الأنوار)) (100/ 299)، ((من لا يحضره الفقيه)) (2/ 150)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 442)، ((قرب الإسناد)) (21). (3) ((الفروع من الكافي)) (2/ 44)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 450). (4) ((بحار الأنوار)) (100/ 318)، ((السرائر)) (483). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 235 وَعَدّ اقتراف المتعة بأنها تدنيس النفس: عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن المتعة. فقال: لا تُدَنس نفسك بها (1).ولم يكتف الصادق بالزجر والتوبيخ لأصحابه في ارتكابهم الفاحشة، بل إنه صرّح بتحريمها: عن عمّار قال: قال أبو عبد الله عليه السلام لي ولسليمان بن خالد: قد حرّمت عليكما المتعة (2).فكيف يمكن للصادق أن يحرّم المتعة على أتباعه؟ وهو القائل كما تزعم الشيعة: ما من رجل تمتع، ثم اغتسل إلا خلق الله من كل قطرة تقطر منه سبعين ملكاً يستغفرون له إلى يوم القيامة، ويلعنون متجنبها إلى أن تقوم الساعة (3).وأيضاً: يستحب للرجل أن يتزوج المتعة، وما أحبَ للرجل منكّم أن يخرج من الدنيا - حتى يتزوج المتعة ولو مرة (4). ولقد أقرّ الصادق أن المتعة زنا: قيل لأبي عبد الله عليه السلام: لِمَ جُعِل في الزنا أربعةٌ من الشهود وفي القتل شاهدان؟ قال: إن الله أحلّ لكم المتعة، وعلم أنها سَتُنكر عليكم، فجعل الأربعة الشهود احتياطاً لكم، ولولا ذلك لأتي عليكم، وقلما يجتمع أربعة على شهادة بأمر واحد (5). فهذا إقرار صريح من الصادق بأن المتعة زنا، ولو لم يكن كذلك فلماذا لو اجتمع أربعة شهود وشهدوا بأن فلاناً تمتع يقام عليه حدّ الزنا؟ وما دام ذلك حلالاً فلا ضَيْر لو اجتمع ألف شاهد وشاهد على ذلك وهو حلال. وتذكر الشيعة أن أبا جعفر أعرض عن السائل الذي ناقشه في المتعة حينما ذكر نساءَه وبنات عمه. عن زُرارة قال: جاء عبد الله بن عمير الَّليثي إلى أبي جعفر عليه السلام فقال: ما تقول في متعة النساء؟ فقال: أحلّها الله في كتابه وعلى سُنّة نبيه، فهي حلال إلى يوم القيامة. فقال: يا أبا جعفر مثلك يقول هذا، وقد حرّمها عمر ونهى عنها (6). فقال: وإن كان فعل. فقال: إنّي أعيذك بالله من ذلك أن تحلّ شيئاً حرّمه عمر. فقال: فأنت على قول صاحبك، وأنا على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهلمّ أُلاعنك أنّ الحقّ ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنّ الباطل ما قال صاحبك. قال (7): فأقبل عبد الله بن عمير فقال: يسرك أن نساءك وبناتك وأخواتك وبنات عمك يفعلن (8)؟ قال (9): فأعرض عنه أبو جعفر عليه السلام حين ذكر نساءَه وبنات عمه (10). وإذا كانت المتعة حلالاً فلماذا لا يرتضيها الإِمام التاسع عندهم: محمد بن علي بن موسى لأهله؟ أيحلّها لأتباعه ولا يجوّزها لأهل بيته؟ وهل يوجد دليل - وهم مُقرّون به - أبلغ من هذا على كراهة أهل الييت للمتعة؟ ونجد أيضاً إمامهم الثامن علي بن موسى الرضا يتذمر من أتباعه بإلحاحهم عليه بالإذن في نكاح المتعة، وكان سبب عدم إِذنه لهم خشيته من نساء الشيعة أن يكفرن ويلعن من أباح المتعة لانشغال رجالهن بالمتعة عنهن. عن محمد بن الحسن بن شمون قال: كتب أبوالحسن عليه السلام إلى بعض مواليه: لا تلحوا علي المتعة، إنما عليكم إقامه السنة فلا تشتغلوا بها عن فرشكم وحرائركم، فيكفرن ويتبرّين ويدعين على الآمر بذلك ويلعنَّنا. فالروايات السابقة - وهي من روايات الشيعة - تبين لنا بوضوح أن أهل البيت رضوان الله تعالى عليهم لا يرتضون هذا النكاح الفاسد وأنهم ينهون عنه ولا يجوّزونه, وأما مخالفة الشيعة لأهل البيت في هذه المسألة فلا قيمة لها، لأنهم يعشقون هذه المخالفة، والذي يستقرئ التاريخ يجد أن الشيعة عبر عصورها لم تُخلص الولاء لآل البيت كما تدعيه، بل إنهم وبال عليهم. المصدر: الشيعة والمتعة لمحمد مال الله   (1) ([10939]) ((بحار الأنوار)) (100/ 318)، ((السرائر)) (66). (2) ((الفروع من الكافي)) (2/ 48)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 450). (3) ((وسا ئل الشيعة))، (14/ 444). (4) ((بحار الأنوار)) (100/ 305)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 443). (5) ((من لا يحضره الفقيه)) (2/ 150)، ((وسائل الشيعة)) (4ا/419))، ((علل الشرائع)) (173)، ((المحاسن)) (330). (6) سبق أن بينا أن عمر رضي الله عنه لم يحرم المتعة من تلقاء نفسه، بل إن النبي (صلى الله عليه وسلم) حرمها تحريماً أبدياً إلى يوم القيامة. (7) أي زرارة. (8) أي يتمتعن. (9) أي زراة. (10) ((الفروع من الكافي)) (2/ 42)، ((التهذيب)) (2/ 186)، ((وسائل الشيعة)) (14/ 437). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 236 المبحث الخامس عشر: إعارة الفروج واستئجارها: إعارة الفروج أو نستطيع تسميتها بشيوعية وإباحية الجنس وهذا المبدأ ثابت في مراجعهم المعول عليها لديهم .. ولا داعي في الاسترسال ولنستعرض بعض الروايات الدالة على شيوعية الجنس عندهم تحت ستار المتعة: عن سيف بن عميرة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا بأس بأن يتمتع بأمة المرأة بغير إذنها، فأما أمة الرجل فلا يتمتع بها إلا بأمره (1).وعن ابن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: لا يتمتع بالأمة إلا بإذن أهلها (2) وعن عيسى بن أبي منصور عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا بأس بأن يتزوج الأمة متعة بإذن مولاها (3). عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا عليه السلام قال: سألته عمن يتمتع بالأمة بإذن أهلها؟ قال: نعم. إن الله عز وجل يقول: فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ [النساء:25] (4). وهذا وهم وخيال من الإِمام المعصوم! - إنْ صحّت الرواية - بل هو جهل فاضح بحقيقة الإِسلام. كيف يمكن أن يأمر الله تعالى بالزنا وقد حرمه في كتابه الكريم، وهذه الآية الكريمة في الزواج الشرعي لا في العهر والفجور تحت ستارالمتعة؟! والمتعة عند الشيعة لا تحتاج إلى الإذن والولي، فكيف يفسر هذا الإمام بأن هذه الآية تخص المتعة؟ ومسألة إعارة الفروج ليست مقتصرة على المتعة، بل إنها معتادة يعملون بها وقت ما يشاؤون، وقد ورد في كتبهم العديد من الروايات نذكر بعضها على سبيل المثال: 1 - عن الحسن العطار قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن عارية الفرج؟ فقال: لا بأس به. قلت: فإن كان منه الولد؟ قال: لصاحب الجارية إلا أن يشترط عليه (5). ونحن نتساءل ما الفرق بين هذا وبين نكاح الاستبضاع السائد في الجاهلية؟ وهل أصبح هذا الشيعي إلا كالتيس المستعار! 2 - عن عبد الكريم عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت: الرجل يحل لأخيه فرج جاريته؟ قال: نعم, حل له ما أحل له منها (6). وكيف يحل له وطء جاريته وهي ملك يمينه؟ أبلغ الشذوذ والسعار الجنسي عند الشيعة إلى هذا الحد؟ يحلون ويحرمون وفق أهوائهم! وإمامهم المعصوم!!! لا يفقه من دينه إلا تحليل الفروج وإشاعة الفاحشة بين الناس؟! ونحن نعلم علم اليقين أن أهل البيت رضوان الله عليهم بريئون من هذا براءة الذئب من دم ابن يعقوب، ونحن لا نناقش الرجال وإنما نناقش الأفكار! 3 - عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يكون له المملوكة فيحلها لغيره؟ قال: لا بأس (7). 4 - عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام: في الرجل يحل فرج جاريته لأخيه؟ قال: لا بأس في ذلك. قلت: فإنه أولدها؟ قال: يضم إليه ولده ويرد الجارية على مولاها (8). أأصبحت الإِماء كأي شيء يستعار ثم يُرد؟ ما بال القوم لا يعقلون! بأي كتاب أم بأية سنة استحلوا ذلك؟! 5 - عن إسحاق بن عمار قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن غلام وثب على جارية فأحبلها فاحتجنا إلى لبنها؟ فقال: إن أحللت لهما ما صنعا فطيب لبنها (9).   (1) ((الفروع للكليني)) (2/ 47)، ((التهذيب)) (2/ 188)، ((الاستبصار)) (3/ 220) , ((الوسائل)) (14/ 463). (2) ((الفروع للكليني)) (2/ 47) , ((الوسائل)) (14/ 467). (3) ((الفروع)) (2/ 47)، ((الوسائل)) (14/ 464). (4) ((تفسير العياشي)) (1/ 234)، ((الاستبصار)) (3/ 146)، ((التهذيب)) (2/ 188)، ((الوسائل)) (14/ 264). (5) ((بحار الأنوار)) (100/ 326). (6) ((بحار الأنوار)) (100/ 326). (7) ([10955]) ((بحار الأنوار)) (100/ 326). (8) ([10956]) ((بحار الأنوار)) (100/ 326). (9) ([10957]) ((بحار الأنوار)) (100/ 326). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 237 6 - عن أبي العباس قال: كَنت عند أبي عبد الله عليه السلام فقال له رجل: أصلحك الله ما تقول في عارية الفرج؟ قال: حرام. ثم مكث قليلاً ثم قال: لا بأس بأنْ يحل الرجل جاريته لأخيه (1). ولا ندري إجابته الأخيرة صدرت بعد ذهاب السائل أم استدرك المعصوم!!! وأجابه ما يعتقده صحيحاً، لأن الشيعة تزعم أن أئمتهم المعصومين يستعملون التقية في إجاباتهم للسائلين!!. 7 - عن زرارة قلت لأبي جعفر عليه السلام: الرجل يحل جاريته لأخيه؟ فقال: لا بأس. قلت: فإن جاءت بولد؟ قال: يضم إليه ويرد الجارية على صاحبها. قلت: إنه لم يأذن له في ذلك؟ فقال: إنه قد أذن له وهو لا يدري أن يكون ذلك (2). ربما أذن له أن ينكحها من الدُّبر ولم يأذن له من القُبُل، لذلك فإنه فوجئ بالحمل، والرواية التالية تبين أن الشيعة لهم أن يشترطوا أن لا ينكحها من القبل وأن لا يفتض بكارتها وإنه إن فعل فيغرم عُشر قيمتها: عن الفضيل بن يسار قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن بعض أصحابنا روى عنك أنك قلت: إذا أحلّ الرجل لأخيه المؤمن جاريته فهي له حلال!!!؟ قال: نعم يا فضيل. قلت: ما تقول في رجل عنده جارية له نفيسة وهي بكر أحلّ ما دون الفرج (3) أله أن يفتضّها؟ قال: ليس له إلا ما أحل له منها، ولو أحل له قبلة منها لم يحل له سوى ذلك. قلت: أرأيت إن أحل له دون الفرج فغلبت الشهوة فأفضاها؟ قال: لا ينبغي له ذلك. قلت: فإن فعل يكون زانياً؟ قال: لا ولكن خائناً ويغرم لصاحبها عشر قيمتها (4). أيكون الزنا من القبل فقط، ومن الدبر حلالاً لا شيء فيه؟ المصدر: الشيعة والمتعة لمحمد مال الله نقل أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في الاستبصار عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: الرجل يحل لأخيه فرج جاريته؟ قال: "نعم لا بأس به له ما أحل له منها". ونقل الطوسي في الاستبصار أيضا عن محمد بن مضارب قال: قال لي أبو عبدالله عليه السلام: "يا محمد خذ هذه الجارية تخدمك وتصيب منها, فإذا خرجت فارددها إلينا". وورد في بعض روايات الشيعة عن أحد أئمتهم كلمة:"لا أحب ذلك" أي استعارة الفرج فكتب محمد بن الحسن الطوسي صاحب (الاستبصار) معلقا عليها: "فليس فيه ما يقتضي تحريم ما ذكرناه, لأنه ورد مورد الكراهية، وقد صرح عليه السلام بذلك في قوله: لا أحب ذلك، فالوجه في كراهية ذلك أن هذا مما ليس يوافقنا عليه أحد من العامة ومما يشنعون به علينا، فالتنزه عن هذا سبيله أفضل وإن لم يكن حراما، ويجوز أن يكون إنما كره ذلك إذا لم يشترط حرية الولد, فإذا اشترط ذلك فقد زالت الكراهية". وهذا نوع آخر من الزنا يستحله الشيعة وينسبونه إلى أئمة أهل البيت كذبا وزورا, وإن يتبعون إلا أهواءهم, مع أن الزنا بجميع صوره حرام في الشريعة الإسلامية كما هو معلوم لدى الجميع. المصدر: بطلان عقائد الشيعة وبيان زيغ معتنقيها ومفترياتهم على الإسلام من مراجعهم الأساسية لمحمد عبد الستار التونسوي   (1) ((بحار الأنوار)) (100/ 327). (2) ((بحار الأنوار)) (100/ 327). (3) أي يجوز له أن ينكحها من الدبر. (4) ((بحار الأنوار)) (100/ 327). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 238 المبحث السادس عشر: إتيان النساء من الدبر: • المطلب الأول: مرويات الرافضة المكذوبة في إتيان النساء من الدبر: . • المطلب الثاني: إثبات حرمة إتيان النساء من الدبر من القرآن والسنة:. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 239 المطلب الأول: مرويات الرافضة المكذوبة في إتيان النساء من الدبر: ومن أكاذيبهم على أهل البيت أنهم نقلوا عنهم جواز لواطة النساء، فروى الكليني عن الرضا أنه سأله صفوان بن يحيى: "إن رجلاً من مواليك أمرني أن أسألك، قال: وما هي؟ قلت: الرجل يأتي امرأته في دبرها؟ قال: ذلك له، قال: قلت له: فأنت تفعل؟ قال: إنا لا نفعل ذلك" (الفروع من (الكافي) " للكليني 5/ 40، وأيضاً "الاستبصار" 3/ 243، 244). ورووا عن جعفر أنه سأله رجل عن الرجل: "يأتي المرأة في ذلك الموضع، وفي البيت جماعة، فقال لي ورفع صوته: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كلفه مملوكه ما لا يطيق فليبعه)) -يعني قال هذا خداعاً للناس- ثم نظر في وجوه أهل البيت، ثم أصغى إلي، فقال: لا بأس به" (الاستبصار) لشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي (3/ 343 كتاب النكاح). ورووا أيضاً عن حفيده أبي الحسن الرضا - الإمام الثامن المعصوم عندهم - بعبارة أصرح وأشنع من هذه حيث روى عنه الطوسي أنه سأله رجل عن إتيان الرجل المرأة من خلفها في دبرها، فقال: أحلتها آية من كتاب الله قول لوط عليه السلام: هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [هود: 78]: وقد علم أنهم يريدون الفرج" (الاستبصار 3/ 243)، وأيضاً (تهذيب الأحكام للطوسي 7/ 415). كما رووا عن جعفر بهذه الصراحة عن عبيد الله بن أبي يعفور قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يأتي المرأة في دبرها؟ قال: لا بأس، إذا رضيت، قلت: فأين قول الله عز وجل: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ [البقرة: 222]؟ قال: هذا في طلب الولد" (تهذيب الأحكام للطوسي 7/ 414، باب آداب الخلوة أيضاً) (الاستبصار 3/ 243). ويروون عن يونس بن عمار أنه قال: إني ربما أتيت الجارية من خلفها يعني دبرها وتفززت، فجعلت إلى نفسي إن عدت إلى امرأتي هكذا فعلي صدقة درهم وقد ثقل ذلك علي، قال: ليس عليك شيء وذلك لك" (الاستبصار 3/ 244). هذا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((محاش نساء أمتي -جمع محشة وهي: الدبر- على رجال أمتي حرام)) (من لا يحضره الفقيه 3/ 468 كتاب النكاح باب النوادر). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص221 ذكر أبوجعفر محمد بن الحسن الطوسي في الاستبصار: عن عبدالله بن أبي يعفور قال: سألت أباعبدالله عليه السلام عن الرجل يأتي المرأة في دبرها؟ قال: لا بأس إذا رضيت، قلت: فأين قوله تعالى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ [البقرة: 222]؟ فقال: هذا في طلب الولد، فاطلبوا الولد من حيث أمركم الله، إن الله تعالى يقول: نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة: 223]. ونقل في الاستبصار أيضا عن موسى بن عبدالملك عن رجل قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن إتيان الرجل المرأة من خلفها في دبرها فقال:" أحلتها آية من كتاب الله تعالى قول لوط عليه السلام: هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [هود: 78]: فقد علم أنهم لا يريدون الفرج". وفي الاستبصار أيضا عن علي بن الحكم قال: سمعت صفوان يقول: قلت للرضا عليه السلام: "أن رجلا من مواليك أمرني أن أسألك عن مسألة فهابك واستحيا منك أن يسألك، قال: ما هي؟ قال: للرجل أن يأتي امرأته في دبرها؟ قال: نعم ذلك له". وفي الاستبصار أيضا: عن يونس بن عمار قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام أو لأبي الحسن عليه السلام: أني ربما أتيت الجارية من خلفها يعني دبرها وهي تفزرت فجعلت على نفسي إن عدت إلى امرأة هكذا فعلي صدقة درهم وقد ثقل ذلك علي، قال: ليس عليك شيء وذلك لك". وفي الاستبصار أيضا: عن حماد بن عثمان قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام أو أخبرني من سأله عن الرجل يأتي المرأة في ذلك الموضع، وفي البيت جماعة، فقال لي ورفع صوته: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كلف مملوكه ما لا يطيق فليبعه))، ثم نظر في وجوه أهل البيت ثم أصغى إلي فقال: لا بأس به. وكتب صاحب (الاستبصار) في تعليقه على خبرين ورد فيهما المنع من اللواطة بالنساء فقال: "فالوجه في هذين الخبرين ضرب من الكراهية لأن الأفضل تجنب ذلك وإن لم يكن محظورا .. ويحتمل أيضا أن يكون الخبران وردا مورد التقية لأن أحدا من العامة لا يجيز ذلك". ألا تحتمل الأخبار التي جاءت بالجواز أن تكون هي التي وردت مورد التقية, لأن الناس عموما يشتهون هذه الأمور, فالأئمة لأجلهم ولإرضائهم اختاروا التقية، إن التقية محتملة في كل شيء وفي كل خبر. وعلى كل فإن هذا الأمر ظاهر البطلان ومخالف لما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا كله ما هو إلا اتباع للهوى. المصدر: بطلان عقائد الشيعة وبيان زيغ معتنقيها ومفترياتهم على الإسلام من مراجعهم الأساسية لمحمد عبد الستار التونسوي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 240 المطلب الثاني: إثبات حرمة إتيان النساء من الدبر من القرآن والسنة: قال الله عز وجل: نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة: 223]، إن الله عز وجل أذن لإتيان مقام الحرث, وهو الفرج, ولم يأذن لمقام الفرث وهو الدبر. وقال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ [البقرة: 222]. في هذه الآية منعنا الله عز وجل من إتيان النساء في الفرج عند الحيض مع أنه لم يدم إلا بضعة أيام، فكيف يكون إتيان الدبر جائز مع دوام وجود النجاسة فيه. وأيضا يبين في الآية أن الممنوع من الإتيان هو الفرج فقط وليس الدبر, لأن الحيضة متعلقة بالفرج فقط, أما الدبر فحاله كما هو كان قبل الحيضة, فلو كان جائزا إتيانه قبل الحيضة فلا مانع الآن أيضا, ثم إنه لو كان الأمر كذلك لكانت الآية حينئذ (فاعتزلوا الفروج في المحيض) وليس (فاعتزلوا النساء) كما هو الحال. عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أتى كاهنا فصدقه بما يقول أو أتى امرأته حائضا أو أتى امرأته في دبرها فقد برئ مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)) (1).وقال صلى الله عليه وسلم: ((ملعون من أتى امرأة في دبرها)) (2). اللهم جنبنا الفواحش والمعاصي والفتن ما ظهر منها وما بطن ... آمين ..... المصدر: بطلان عقائد الشيعة وبيان زيغ معتنقيها ومفترياتهم على الإسلام من مراجعهم الأساسية لمحمد عبد الستار التونسوي   (1) رواه أبو داود (3904) , والترمذي (135) وابن ماجه (639) , والحديث سكت عنه أبي داود, وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث حكيم الأثرم عن أبي تميمة الهجيمي, وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (6/ 352): له طرق يتقوى بها فينتهض للاحتجاج. وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) و ((صحيح سنن الترمذي)) ((وصحيح سنن ابن ماجه)). (2) رواه أبو داود (2162) , والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 323) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, قال العجلوني في ((كشف الخفاء)) (2/ 282): رجاله ثقات. وقال أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 271): أسانيده صحاح. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5889). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 241 المبحث السابع عشر: السجود على التربة الحسينية: قلما يوجد بيت للشيعة لا توجد فيه التربة التي تسجد عليها الشيعة في صلواتها وهي من تراب " كربلاء " المدينة التي استشهد " الحسين " فيها ورفاته الطاهرة مدفونة فيها، وإنني أعلم ما يقوله فقهاؤنا حول السجود على التربة الحسينية, حيث فرقوا بين ما يسجد له وما يسجد عليه, وإن السجود على التربة ليس سجوداً لها بل سجوداً عليها, لأن السجدة في المذهب الشيعي لا يجوز أن تكون إلا على التراب ومشتقاته ولا يجوز السجدة على الملبوس والمخيوط والمأكول, إن السجود على التربة الحسينية كما نعرفها, بل يعرفها الشيعة أنفسهم لا تتوقف عند هذا الحد الفقهي أو أنه سجود على التراب وحسب, بل المسألة أبعد من ذلك بكثير, فكثير من الذين يسجدون على التربة يقبلونها ويتبركون بها وفي بعض الأحيان يأكلون قليلاً من تربة " كربلاء " للشفاء, في حين أن أكل التراب حرام في الفقه الشيعي, ثم إنهم صنعوا من التراب هيئات مختلفة يحملونها في جيوبهم وينقلونها معهم في أسفارهم ويعاملونها معاملة تقديس وتكريم، وحتى كتابة هذه السطور هناك ملايين من الشيعة في شرق الأرض وغربها تلتزم بالسجود على تربة " كربلاء " ومساجدها مليئة بها ويعملون بالتقية عندما يقيمون الصلاة في مساجد الفرق الإسلامية الأخرى حيث يخفونها ولا يظهرونها خوفاً من اعتراض غيرهم عليها، وقد التبس الأمر على كثير من غير الشيعة فظنوا أن هذه التربة أصنام تسجد الشيعة عليها, وقد كادت الفتن تحدث في مساجد بلاد لم تعرف شيئاً عن التربة الحسينية ومظاهرها, ولست أدري متى دخلت هذه البدعة في صفوف الشيعة فالرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ما سجد قط على تربة " كربلاء ", وتقديس التراب لم يكن شيئاً مألوفاً عند المسلمين، ومن الجائز أن هذه الظاهرة أخذت في التوسع منذ عهد الصفويين, وعندما أخذت القوافل تزور " كربلاء " في مراسيم خاصة وتعود محملة بآثار من قبر الإمام الحسين, وهناك بدعة أخرى أضيفت إلى استعمال التربة تتجاوز البدع الأخرى, إنها فتوى الفقهاء بجواز إقامة الصلاة التمام للمسافرين بدلاً من القصر عندما يكونوا في الحائر الحسيني بخمسة عشر ذراعاً حول القبر، ومن المجمع عليه عند فقهائنا أن الواجب على المسافر هو إتيان الصلاة قصراً ولكنهم استثنوا الحائر الحسيني من هذه القاعدة, ولست أدري كيف استطاع فقهاؤنا - سامحهم الله - الاجتهاد في أمر لم يكن لموضوعه ومحموله أثر في عهد الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وبعد أن أكملت الشريعة الإسلامية وتوفي الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وانقطع الوحي فيا ترى أن الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أجاز للمسافر الخيار بين القصر والإتمام في حائر الحسين, قبل أن يكون هناك شيء بهذا الاسم أم أن قانوناً إلهياً شرع لموضوع لم يكن له أثر في وقته؟ نعم إن هناك روايات تنسب إلى أئمة الشيعة تقول بمثل هذا الخيار للمسافر وعلى تلك الروايات بنى فقهاؤنا فتاواهم التي أفتوا بها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 242 وقد تعني هذه الفكرة الخطيرة أن الإمام عند فقهائنا يكون مصدر التشريع لا كما كان المتشيعون لأهل البيت يعتقدون في الأئمة قبل ظهور الصراع بين الشيعة والتشيع, وعندما كان التشيع يعني أئمة أهل البيت أدرى بأحكام الإسلام من غيرهم لأن في بيتهم نزل الكتاب كما أشرنا إليه أكثر من مرةٍ ومن المؤسف حقاً أن وجود فكرةٍ كهذه تخالج قلوب كثير من فقهائنا وإن لم يبيحوا بها, وإلا فماذا يعني الفتوى بجواز الخيار لمسافر بين القصر والإتمام في صلواته عندما يكون في حائر الحسين؟ وعلى أي أساس أو قاعدة شرعية امتاز الحسيني بهذا الامتياز؟ ونزل فيه حكم إلهي وسماوي قبل وجود الحائر بنصف قرن؟ ومرةً أخرى نكرر القول: بأن الطريق الوحيد للخلاص من هذا التخلف الفكري العميق الذي أحاط بنا قروناً ويحيط بنا من كل جانب حتى يومنا هذا هو غربلة كتبنا من أمثال هذه الروايات التي تنسب إلى أئمةٍ هداةٍ مهديين هم منها براء، وهكذا غربلة الفقهاء أنفسهم, فكثير منهم وراء هذه البدع وتنميتها, فالأئمة لم يستحدثوا قوانيناً من عندهم وأحكاماً لم يكن لها أثر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولم يدّعوا قط شيئاً كهذا، بل كل ما امتازوا به أنهم أعرف بكتاب الله وسنة جدهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وتلقوا العلم في بيت الرسالة ومهبط الوحي وأخذوا أحكام الشريعة كابراً عن كابر. التصحيح: إذا كانت الشيعة تلتزم بالقاعدة الفقهية التي تبناها فقهاؤنا في السجود على مطلق التراب ومشتقاته وكان فقهاؤنا أيضاً يلتزمون بهذه الفتوى لم يكن الخطب فادحاً وكانت الفرق الإسلامية الأخرى تنظر إلى هذا الرأي بعين الاحترام والقبول، غير أن الشيعة جرياً على عمل فقهائنا تجاوزت هذه القاعدة الفقهية واتخذت منها ديدناً خاصاً وهو السجود على تراب موضع خاص وهو " كربلاء " وصنعت من ترابها أشكالاً مختلفة مطولة ومربعة ودائرية تحملها معها في السفر والحضر على السواء لتسجد عليها كلما حان وقت الصلاة، ولقد تعودت الشيعة أن تخفي التربة عندما تصلي في مساجد الفرق الإسلامية الأخرى عملاً بالتقية أو خوفاً من حدوث بلبلة حولها أو خجلاً من الأكثرية التي تنظر إلى هذا الأمر بنظرات الاستغراب والسخرية، إنه حقاً مدعاة للحزن والألم والأسف, أن تنزل الشيعة نفسها إلى هذه الدرجة من التدني لالتزامها بعمل ما أنزل الله به من سلطان, فلم يكن شيئاً أكثر مقتاً عند الله من هذه الازدواجية في عبادتهم فإذا كانت الشيعة ترى نفسها على حق في السجود على تربة " كربلاء " فلماذا تخشى من الجهر بها أمام إخوانٍ في الدين يجمعهم كتاب واحد ونبي واحد وقبلة واحدة وصلاة واحدة؟ وإن كانت على غير حق فلماذا هذا الإصرار عليه؟ ولماذا ينتابها الخجل والوجل منه؟ وكما قلنا فإن الدور الكبير لظهور هذه الظاهرة الشاذة يعود إلى الفقهاء وأعلام المذهب الذين عودوا الشيعة عليها وهم عليها سائرون حتى كتابة هذه السطور, والحركة التصحيحية التي ننادي بها لا تعني أننا نحث الشيعة على عدم السجود على التراب فرسول الله يقول: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) (1) ورسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يسجد على التراب في مسجده بالمدينة ولكننا نود القول: إن تفضيل أرض على أرض حتى إذا ثبت في الشرع لا يعني الالتزام بالسجود على تلك الأرض وإلا لكان المسلمون يحملون معهم تراب مكة والمدينة والقدس ليسجدوا عليها. إن على الشيعة أن تكسر طوق التبعية الفكرية في أمور فرضت عليها وهي ترى بطلانها كما ترى الشمس, حتى تنضم إلى الصف الإسلامي العريض دخولاً متكافئاً رافعة الرأس قوية الحجة, لا دخولاً فيه ذل التقية والازدواجية في الشخصية, وغمض العين عن الكرامة في سبيل بدع هي أعرف بها من غيرها، وأعود مرةً أخرى وأقول: نحن لا نطلب من الشيعة في صحة السجود على الأرض ومشتقاتها مثل الخشب والحصى والخيزران فلتسجد على ما يصح السجود عليه من بين هذه الأشياء وبذلك تقتدي برسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وبالإمام " علي " والأئمة الذين لم يسجدوا قط على شيء اسمه تربة " كربلاء " وتترك هذا الالتزام الذي يتضمن كل أبعاد الفرقة والبدعة على السواء، وإنني لا أشك أن الفرق الإسلامية الأخرى إذا ما علمت بهذه النظرية الفقهية التي منشؤها الاجتهاد, فإنها قد تضمن مسجداً يتلاءم مع التزام الشيعة في مساجدها وقد توفر لهم الحصير أو ما شابهها من مشتقات الأرض والأشجار وذلك لرفع الحرج عن إخوانٍ لهم في الدين. المصدر: الشيعة والتصحيح لموسى الموسوي - ص80   (1) رواه البخاري (335)، ومسلم (521) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 243 المبحث الثامن عشر: صلاة الجمعة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9] بهذا النص الصريح القاطع شرَّع الإسلام صلاة الجمعة وفرضها على كل من يؤمن بالله ورسوله وكتابه، غير أن الأكثرية من فقهاء الشيعة - سامحهم الله - اجتهدوا أمام النص الصريح وقالوا بالخيار بين صلاة الظهر والجمعة، وأضافوا أن شرط إقامة الجمعة إنما هو حضور الإمام الذي هو الإمام " المهدي " ففي عصر الغيبة تسقط الجمعة من الوجوب العيني, ويكون للمسلمين الخيار في الإتيان بها أو بصلاة الظهر، وقالت فئةٌ أخرى من فقهائنا: إن صلاة الجمعة حرام في عصر الغيبة ويقوم مقامها صلاة الظهر, وهناك قلة من فقهائنا وبعضهم في القمة مثل الشيخ حر العاملي صاحب كتاب (وسائل الشيعة) الذي أفتى بوجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة، ولا أريد أن أدخل أيضاً في جدل فقهي عقيم لم يحل منذ ألف عام عند فقهاء المسلمين ولن يحل إذا ما أردنا أن نتحدث بلغة الروايات التي يستند عليها فقهاء الشيعة، إن كل ما قيل ويقال في إسقاط صلاة الجمعة في عهد غيبة الإمام يصطدم بنص صريح لا اجتهاد فيه, وذلك إذا كنا ملتزمين بدستور الإسلام, فنحن أمام دستور ثابت وصريح وواضح, لم يكن مقيداً بقيود أو مشروطاً بشروط، ولست أدري كيف استطاع فقهاؤنا أن يجتهدوا في نص قرآنيّ بليغ وواضح بالاستناد إلى روايات نسبت إلى أئمة الشيعة، وموقفي من هذه الروايات كلها الموقف نفسه بالنسبة لكل الروايات الموضوعة, فأنا لا أشك أبداً بأن كثيراً من تلك الروايات وضعت في العصر الأول من الصراع بين الشيعة والتشيع وذلك كي يمنع الشيعة من الحضور في صلوات الجمعة التي هي في حقيقتها تظاهرة إسلامية كبرى وعدم الاختلاط بسائر الفرق الإسلامية والمشاركة معها في شعار الإسلام العظيم. وهناك دليل واضح لما ذهبت إليه من الرأي, قد خفي على كل أولئك الذين كتبوا في صلاة الجمعة وأرخوها, وهو: أن ملوك الصفويين الذين كانوا حماة التشيع في إيران وكثير من البدع التي ألصقت بالتشيع إنما ألصقت به بمباركتهم وسياستهم كانوا من أشد أنصار صلاة الجمعة وأكبر المساجد الإيرانية وأضخمها بنيت في عهد ملوك الصفويين، وكان المسجد الرئيسي يسمى " مسجد الجمعة " ولا يوجد مدينة كبيرة في إيران إلا وفيها مسجد من هذا الطراز وكان إمام المسجد يلقب (إمام الجمعة) ويعين بمرسوم خاص من الشاه وكان هذا المنصب منصباً محترماً يناط بكبير العلماء أو شيخ الفقهاء في كثير من الأحيان, وكان هذا المنصب موجوداً في بلاط الأسرة المالكة حتى أن انقرضت الملكية في إيران قبل بضع سنوات ويعني هذا أن فكرة حرمة صلاة الجمعة في عصر الغيبة لم تطرح إلا في بلاد كان الاحتكاك شديداً فيها بين الشيعة وغيرها من الفرق الإسلامية الأخرى, حتى تثني الشيعة من الالتحام بالركب الإسلامي الموحد ولكن في إيران حيث كانت الأكثرية من الشيعة فإن الفقهاء لم يعارضوا صلاة الجمعة وكانت تقام في مساجد البلاد بطولها وعرضها، غير أن فكرة الخيار بين الجمعة أو صلاة الظهر كانت موجودة فقهياً وكانت هناك في المدن الإيرانية مساجد تصلى فيها الجمعة وأخرى تصلى فيها صلاة الظهر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 244 وحتى كتابة هذه السطور فإن بعض فقهاء الشيعة من الأحياء يفتون بوجوب صلاة الجمعة وعدم سقوطها في عصر الغيبة ولكن عدد هؤلاء لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة وكانوا عبر التاريخ الفقهي يعدون بين القلة القليلة، وبعد أن استلم الفقهاء السلطة في إيران أصبحت صلاة الجمعة في ضمن سياسة الدولة الأساسية, وعينت ولاية الفقيه لكل مدينة إماماً يسمى (إمام الجمعة) كما كان يفعل الشاه من قبل, واستحدثوا تسمية جديدة لها وهي " الصلاة العبادي السياسي " فالخطباء في خطبة صلاة الجمعة يتحدثون عن قضايا الساعة والسياسة ومشاكل البلاد وسواها ولا يعني أبداً ماذا يقال في خطبة الجمعة, لأن المهم هو العمل بالفريضة, أما ما يقوله الخطباء فهذا شيء يعود إليهم، ولكن الذي يعنيني أن صلاة الجمعة لا زالت متروكة في كثير من المناطق التي يسكنها الشيعة خارج إيران ولا يصلونها يوم الجمعة في مساجدهم ومن هنا أود أطلب التصحيح والقضاء على هذه الظاهرة التي تتناقض مع روح الإسلام وأهدافه ونص القرآن الكريم. التصحيح: إذا ترك الإتيان بهذا الفرض إلى أئمة المساجد في المناطق التي تسكنها الشيعة, فهذه الفريضة تبقى متروكة لقرون أخرى لأن أئمة مساجد الشيعة في كثير من الأحيان يأتمرون بأمر فقيه أو مرجع من مراجع الشيعة, وإمام كهذا لا يستطيع أن يخرج من فتوى المرجع الذي نصبه في هذا المقام, ولاسيما أن حياته المادية منوطة بعمله والإطاعة لمولاه، ولذلك فإن على القاعدة الشيعية أن تفرض على أئمة مساجدها صلاة الجمعة, وأن تطلب منهم الإتيان بهذه الفريضة وإذا لم يستجيبوا فعليهم أن يصلوا في مساجد أخرى تصلى فيها الجمعة فهذه الفريضة الإلهية لا تسقط بحال, ويجب الإتيان بها في كل الأحوال، وإني لا أشك أبداً أن الطبقة الواعية المثقفة من أبناء الشيعة إذا ما التزمت بهذا الشعار الإسلامي العظيم فإنها ستقضي على مظهر كبير آخر من مظاهر التفرقة التي نهى الله ورسوله الكريم صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عنها وهم بذلك يجددون عصر الوحدة الإسلامية الكبرى ويكونوا من حماته. المصدر: الشيعة والتصحيح لموسى الموسوي - ص88 لا يوجد - حتى - نص متشابه يسوِّغ تركها وتعطيل حكمها, إنما عطلوا نصاً قرآنياً صريحاً بوجوب إقامتها، لا يمكن تأويله أو صرفه عن دلالته، ولا ناسخ له، ولا يوجد نص في القرآن كله عن أي صلاة أخرى يوازيه في صراحته وقوة دلالته. واتبعوا في تعطيله شبهات، يمكن اتباعها لتعطيل أي حكم شرعي! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 245 يقول تعالى عن صلاة الجمعة بصراحة ووضوح: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9] ومن عظمتها عنده سبحانه أطلق عليها اسم (ذكر الله). فصلاة الجمعة خصوص ذكر الله. ومن أعرض عن (ذكر الله) فهو من الخاسرين. كما أخبر تعالى في سورة (المنافقون) التي تلي سورة (الجمعة) فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم [المنافقون: 9 - 10] والمنافقون يمتازون بصفتين: لاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة: 54]. وأعظم الصلاة صلاة الجمعة (ذكر الله). وإليها الإشارة والتمييز بقوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت: 45]. فالتثاقل عنها أو تركها سهواً ولهواً عادة المنافقين. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: ((من ترك ثلاث جمع تهاوناً طبع الله على قلبه)) (1). وقال: ((لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين)) (2). فكيف بمن يعطلها ويتركها ويدعي أن هذا (النفاق) من الشرع! بل وصل الأمر إلى حد تفسيق من يصليها. كما حصل عندنا مؤخراً عندما أفتى أحد المجتهدين بوجوب إقامتها، وتفسيق تاركها. فقوبل بفتوى تساويها في المقدار وتعاكسها في الاتجاه! أما صلاة الجمعة في إيران اليوم فإنما هي على أساس الوجوب التخييري، وجود الإمام العادل عندهم!! ولو سأل سائل عن دليل حرمة صلاة الجمعة، وتعطيل النص القرآني الصريح الوارد في وجوب إقامتها؟ فالجواب هو: إن (الإمام) غائب، والحاكم غير عادل. وعدالة الحاكم تتأتى إما من كونه (الإمام المعصوم) أو (نائبه). وقال بعضهم: يحتمل أن يكون المنادي المشار إليه في الآية (إذا نودي) هو (الإمام)، وأن المقصود بهذا الإمام المحتمل هو (الإمام المعصوم)! ولا شك أن هذه شبهة لا تخطر إلا على بال النوادر من البشر! وذلك بعد طول تفكر واعتصار للفكر. والدين لا يقوم على الوساوس والخطرات. ودعائمه لا تهدم بالشبهات. إن المنادي للصلاة هو المؤذن. وجاء التعبير بالبناء للمجهول (نودي) إشارة إلى عدم اعتبار من هو المنادي! بل إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] مجرد نداء من أيٍ كان! إن شرط (الإمام) ثم استحداث شرط (النائب) مؤخراً أو ما يسمى (بالحاكم العادل) غير موجود في كتاب الله، ولا جاء عن رسول الله، ولا عن علي، ولا غيره من أئمة الدين. إنما هو اجتهاد متأخر لبعض العلماء، دون استناد إلى دليل (ولم يعرف عن أحد من علماء القرن الثالث والرابع قولاً بمقاطعة صلاة الجمعة باعتبار فقدانها لشرط وجود الامام أو إذنه الخاص).   (1) رواه أبو داود (1052) , والنسائي (3/ 88) (1369) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (4/ 583): له –طرق- صحيح. وقال ابن القيم في (أعلام الموقعين) (4/ 334): إسناده جيد. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) و ((صحيح سنن النسائي)): حسن صحيح. (2) رواه مسلم (865). من حديث عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 246 وظل الشيعة يصلون الجمعة إلى منتصف القرن الخامس الهجري. وتحديداً إلى عام (451) هـ أي بعد ذهاب آخر (إمام) بحوالي قرنين من الزمان! وكان أئمة الإسلام كالإمام جعفر بن محمد (رحمه الله)، وغيره من الأئمة يصلونها في مساجد المسلمين الجامعة. مع أن الحاكم - حسب التفسير الإمامي - لم يكن عادلاً! فما الفرق بين (الإمام الغائب) و (الإمام) المقهور غير المتصرف؟ وما الفرق بينه وبين (الإمام) إذا كان في إقليم آخر، وهو مقهور غير متصرف؟ إذ هو غائب - بكل ما في كلمة غائب من معنى- عن الأقاليم الأخرى. بل لا معنى لوجوده في أي مكان يحل فيه إذا كان ممنوعاً من التصرف مقهوراً-كما يقولون- فهل كانت الجمعة أيام (الأئمة) ساقطة عن الناس؟ ولماذا تأخروا قرنين من الزمان حتى يعطلوها؟!! إن هذه المدة المتطاولة ما هي إلا (فترة حضانة) لا بد منها لولادة الفكرة ونضوجها! وإلا فلو كانت من الدين أصلاً لظهرت في حينها تواً ولم تتأخر طيلة هذه المدة قطعاً. مثلها كمثل ولادة فكرة إعطاء خمس المكاسب إلى الفقيه، ليتسلمه نيابة عن (الإمام). إذ لم تظهر إلا بعد قرون! والعجيب أنهم جعلوا الفقيه ينوب عن (الإمام) في أخذ (الخمس)، ولم يجعلوه نائباً عنه في أداء صلاة الجمعة!! مع أن (الخمس) - حسب اعتقادهم - حق خالص لـ (الإمام) - وحق الإنسان لا يجوز التصرف فيه دون إذنه - وصلاة الجمعة حق خالص لله تعالى، لا دخل لأحد من الخلق فيه! وفي كلتا الحالتين أجازوا لأنفسهم التصرف فيما لا يحل لهم التصرف فيه! فمن ناحية أسقطوا حق الله سبحانه دون إذنه. وهو اعتداء عظيم وجرم كبير على حد الشرك بالله. كما قال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21]. ومن ناحية أخرى تصرفوا في حق (الإمام) دون إذنه! ولا شك أن ذلك غير جائز، كما لا يجوز لأي إنسان أن يتصرف في مال الغير في غيبته بحجة المصلحة دون إذنه الصريح. ولأجل هذا كانت الفتوى عند قدماء فقهاء الإمامية بعدم جواز التصرف في أموال (الخمس) من قبل الفقهاء! يقول الشيخ المفيد (ت 413) هـ: إن الخمس حق لغائب لم يرسم فيه قبل غيبته رسماً يجب الانتهاء إليه فوجب حفظه إلى وقت إيابه). والسبب في تعاكس الحكمين هو أن (الخمس) أمر نفعي، وصلاة الجمعة أمر عبادي. طبقاً للقاعدة أو المنهج الذي ذكرناه عن الإمامية في أول الفصل، في تفسيرهم للنصوص المتعلقة بالمسائل العملية. فما كان متعلقاً بالمال وسَّعوه, وما كان متعلقاً بالعبادة ضيقوه. وكلا الأمرين سلكوا إليه سبيل الشبهة والظن وما تهوى الأنفس. المصدر: المنهج القرآني الفاصل بين أصول الحق وأصول الباطل طه حامد الدليمي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 247 المبحث التاسع عشر: الجمع بين الصلاتين: تنفرد الشيعة الإمامية بالجمع بين صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء في الحضر, وموقفي من هذا الخلاف الفقهي يختلف تماماً عن غيره من المسائل الفقهية, إلا أن هذه الظاهرة التي تنفرد بها الشيعة قد تضر بالوحدة الإسلامية الكبرى, ولا سيما أن الأكثرية من فقهاء الشيعة يفتون باستحباب إتيان الصلوات في أوقاتها المحددة, ولكن من الناحية العملية يذهبون إلى الجمع, وقد جرت العادة في مساجد الشيعة على هذا النحو أيضاً، والصلوات الخمس فرضت لأوقات محددة وسميت بها, فوقت العصر يختلف عن الظهر والعشاء من الناحية الزمانية يختلف عن المغرب, ولا شك أن هناك حكمة بالغة إلهية في فرض الصلوات في هذه الأوقات الخمسة, وجعلها عمود الدين ومن أهم الشعائر الإسلامية، وكان الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يصلي في مسجده بالمدينة في الأوقات الخمسة, وهكذا الخلفاء من بعده بما فيهم الإمام " علي ", وهكذا كانت سيرة أئمة الشيعة، وإذا ما جمع الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بين الصلاتين مرةً أو مرتين في غير سفر فقد كان لضرورة أو للترخيص, أما عمله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فكان هو الالتزام بالأوقات الخمسة. وليت شعري أن أعرف هل هناك سبب يجدي بالخير في التظاهر بهذا الاختلاف مع الأكثرية الساحقة من المسلمين, أم أنه عمل سنَّه أناس كان غرضهم عزل الشيعة عن كل مظاهر الوحدة؟ ثم سار عليه الفقهاء وأئمة المساجد وهم يعلمون أو لا يعلمون, ونحن في العملية التصحيحية نهتم بجمع الشمل من الناحية النظرية والعملية على السواء, ورسالتنا هي القضاء الأبدي على كل مظاهر الفرقة الفكرية والعملية, وكل ما يدور حولهما, وهذا لا يتم إلا بالعودة إلى عصر الرسالة والتمسك بسنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على الطريقة التي كان صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يؤديها ولا أعتقد أنه يوجد بين المسلمين شخص واحد يفضل على عمل رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وسنته عمل الآخرين وآراءهم, ومن هنا نحن نهيب بأئمة مساجد الشيعة وبالشيعة أنفسهم أن يلتزموا بالصلوات في أوقاتها ويضعوا نصب أعينهم الصلوات الخمس التي كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يؤديها في مسجده بالمدينة ومعه صحابته من المهاجرين والأنصار, وأن لا يشذوا عن طريق رسمه للمسلمين نبي الإسلام, ففي الاقتداء به وبسنته عزهم وكرامتهم وشوكتهم, وهذا هو الإمام " علي " يكتب إلى أمراء البلاد حول الصلاة وأوقاتها وقد جاء في كتابه: " أما بعد: فصلوا بالناس الظهر حتى تفيء الشمس من مربض العنز وصلوا بهم العصر والشمس بيضاء حية ...... وصلوا بهم المغرب حين يفطر الصائم ...... وصلوا بهم العشاء حين يتوارى الشفق إلى ثلث الليل وصلوا بهم الغداة والرجل يعرف وجه صاحبه .... " (1). المصدر: الشيعة والتصحيح لموسى الموسوي - ص95 عن جعفر الصادق قال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر في مكان واحد من غير علة ولا سبب، فقال له عمر، وكان أجرأ القوم عليه، أحدث في الصلاة شيء؟ قال: لا ولكن أردت أن أوسع على أمتي))، وعنه قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر والعصر حين زالت الشمس، في جماعة من غير علة، وصلى بهم المغرب والعشاء، بعد سقوط الشفق، من غير علة في جماعة، وإنما فعل ذلك ليتسع الوقت على أمته " وذلك لتبرير أن أوقات الصلاة عند الشيعة ثلاثة لا خمسة كأهل السنة والجماعة، وما ورد من الأحاديث في هذا الشأن يفيد جواز الجمع بين صلاتي النهار وصلاتي الليل إذا خَيف الوقوع في الحرج وليس كما يفعل الشيعة. المصدر: الجذور اليهودية للشيعة في كتاب علل الشرائع للصدوق الشيعي لمحمد عبد المنعم بري   (1) ((نهج البلاغة)) (3/ 82). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 248 المبحث العشرون: عقيدة الشيعة السرية في الطينة: تعتقد الشيعة الاثنا عشرية بهذه العقيدة السرية لديهم، والتي يتواصى كبار أئمتهم بكتمانها عن عوامهم، لأنه لو علمها العامي منهم لأفسد عليهم البلاد والعباد. ومختصر هذه العقيدة هو: أن الشيعي خُلق من طينة خاصة، أُخذت من طينة أرض طيبة طاهرة، قد أُجري عليها الماء العذب سبعة أيام مع لياليها، أما المسلم السني والذي يسمونه الناصبي، فقد خُلق من طين أسود ملعون منتن، في غاية الفساد والعفونة، ثم تم الخلط بين الطينتين بوجه عام، فما كان في الشيعي من المعاصي والجرائم فهو من تأثره بطينة السني، وما كان في السني من صلاح وتقوى فهو من تأثره بطينة الشيعي. فإذا كان يوم القيامة فإن سيئات وكبائر الشيعة توضع في صحائف أهل السنة، وحسنات أهل السنة توضع في صحائف الشيعة. وقد ذكر هذه العقيدة الكثير من أئمتهم وشيوخهم، كنعمة الله الجزائري في كتابه (الأنوار النعمانية)، والمجلسي في كتابه (بحار الأنوار). كما تولى تثبيت هذه العقيدة، وإرساءها، شيخُهم الكليني في كتابه (الكافي) , والذي بوب لها بعنوان (باب طينة المؤمن والكافر) ذكر فيها سبعة أحاديث في عقيدة الطينة هذه. وكذلك عقد المجلسي في كتابه (بحار الأنوار) باب بعنوان (الطينة والميثاق)، ذكر تحته سبعة وستين حديثاً ليؤصل هذه العقيدة عند عوام الشيعة. ومن هذه الروايات ما يقوله إمامهم: "يا إسحاق – وهو راوي الخبر - ليس تدرون من أين أتيتم؟ قلت: لا والله، جعلت فداك إلا أن تخبرني. فقال: يا إسحاق إن الله عز وجل لما كان متفرداً بالوحدانية ابتدأ الأشياء لا من شيء، فأجرى الماء العذب على أرض طيبة طاهرة سبعة أيام مع لياليها، ثم نضب الماء عنها فقبض قبضة من صفاوة ذلك الطين وهي طينتنا أهل البيت، ثم قبض قبضة من أسفل ذلك الطين وهي طينة شيعتنا، ثم اصطفانا لنفسه، فلو أن طينة شيعتنا تُركت كما تركت طينتنا، لما زنى أحد منهم، وسرق، ولا لاط، ولا شرب المسكر ولا اكتسب شيئاً مما ذكرت، ولكن الله عز وجل أجرى الماء المالح على أرض ملعونة سبعة أيام ولياليها, ثم نضب الماء عنها، ثم قبض قبضه، وهي طينة ملعونة من حمأ مسنون -أي طين أسود متغير منتن-، وهي طينة خبال، وهي طينة أعدائنا - يعني أهل السنة -، فلو أن الله عز وجل ترك طينتهم كما أخذها، لم تروهم في خلق الآدميين (1)، ولم يقرّوا بالشهادتين، ولم يصوموا ولم يصلوا، ولم يزكوا، ولم يحجوا البيت، ولم تروا أحداً بحسن خلق، ولكن الله تبارك وتعالى جمع الطينتين، طينتكم وطينتهم، فخلطهما وعركهما عرك الأديم، ومزجهما بالمائين، فما رأيت من أخيك من شر اللفظ أو زنى، أو شيء مما ذكرت من شرب مسكر أو غيره، ليس من جوهريته وليس من إيمانه، إنما هو بمسحة الناصب - والناصب هنا هو السني- اجترح هذه السيئات التي ذكرت، وما رأيت من الناصب من حسن وجه وحسن خلق، أو صوم، أو صلاة، أو حج بيت، أو صدقة، أو معروف، فليس من جوهريته، إنما تلك الأفاعيل من مسحة الإيمان اكتسبها وهو اكتساب مسحة الإيمان. قلت: جُعلت فداك فإذا كان يوم القيامة فمه؟ قال لي: يا إسحاق أيجمع الله الخير والشر في موضع واحد؟ إذا كان يوم القيامة نزع الله عز وجل مسحة الإيمان منهم فردها إلى شيعتنا، ونزع مسحة الناصب بجميع ما اكتسبوا من السيئات فردها على أعدائنا، وعاد كل شيء إلى عنصره الأول. قلت: جُعلت فداك تؤخذ حسناتهم فترد إلينا؟ وتؤخذ سيئاتنا فترد إليهم؟ قال: إي والله الذي لا إله إلا هو" انتهى من كتاب، ((بحار الأنوار)) للمجلسي، 5/ 247 - 248.   (1) [10968] وهذا هو نفس اعتقاد اليهود الذين يعتقدون أن البشر لم يخلقوا في صورة البشر إلا لخدمة اليهود وإلا هم كالحمير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 249 المصدر: موسوعة فرق الشيعة لممدوح حربي ذكر محمد بن يعقوب الكليني في (أصول الكافي) (باب طينة المؤمن والكافر) وأتى فيه بروايات نذكر بعضها, عن عبدالله بن كيسان: "عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قلت له: جعلت فداك، أنا مولاك عبدالله بن كيسان، قال: أما النسب فأعرفه وأما أنت فلست أعرفك، قال: قلت له إني ولدت في الجبل ونشأت في أرض فارس, وإنني أخالط الناس في التجارات وغير ذلك, فلأخالط الرجل فأرى له حسن السمت وحسن الخلق وأمانة, ثم أفتشه فأفتشه عن عداوتكم، وأخالط الرجل فأرى منه سوء الخلق وقلة أمانة ودعارة, ثم أفتشه فأفتشه عن ولايتكم، فكيف يكون ذلك؟ قال: فقال لي: أما علمت يا ابن كيسان أن الله جل وعز أخذ طينة من الجنة وطينة من النار فخلطها جميعا, ثم نزع هذه من هذه وهذه من هذه فما رأيت من أولئك من الأمانة وحسن الخلق وحسن السمت فمما مسهم من طينة الجنة وهم يعودون إلى ما خلقوا منه، وما رأيت من هؤلاء من قلة الأمانة وسوء الخلق والدعارة فمما مسهم من طينة النار، وهم يعودون إلى ما خلقوا منه". وأيضا: عن إبراهيم عن أبي عبدالله عليه السلام قال: إن الله جل وعز لما أراد أن يخلق آدم عليه السلام بعث جبريل عليه السلام في أول ساعة من يوم الجمعة فقبض بيمينه قبضة بلغت قبضته من السماء السابعة إلى السماء الدنيا، وأخذ من كل سماء تربة وقبض قبضة أخرى من الأرض السابعة العليا إلى الأرض السابعة القصوى، فأم الله عز وجل كلمته، فأمسك القبضة الأولى بيمينه والقبضة الأخرى بشماله ففلق الطين فلقتين، فذرأ من الأرض ذروا ومن السماوات ذروا، فقال للذي بيمينه: منك الرسل والأنبياء والأوصياء والصديقون والمؤمنون والسعداء ومن أريد كرامته، فوجب لهم ما قال كما قال، وقال للذي بشماله: منك الجبارون والمشركون والكافرون والطواغيت ومن أريد هوانه وشقوته فوجب لهم ما قال كما قال، ثم إن الطينتين خلطتا جميعا، وذلك قول الله عز وجل: إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ [الأنعام:95] فالحب طينة المؤمنين التي ألقى الله عليها محبته، والنوى طينة الكافرين الذين نأوا عن كل خير، وإنما سمي النوى من أجل أنه نأى عن كل خير وتباعد منه، وقال الله عز وجل: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [الروم:19] فالحي المؤمن الذي تخرج طينته من طينة الكافر، والميت الذي يخرج من الحي هو الكافر الذي يخرج من طينة المؤمن، فالحي المؤمن، والميت الكافر، وذلك قول الله عز وجل: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ [الأنعام:122] فكان موته اختلاط طينته مع طينة الكافر، وكان حياته حين فرق الله عز وجل بكلمته فذلك كذلك، يخرج الله عز وجل المؤمن في الميلاد من الظلمة بعد دخوله فيها إلى النور، ويخرج الكافرين من النور إلى الظلمة بعد دخوله النور، وذلك قول الله عز وجل: لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [يس:70] أهـ. ويظهر من هذه الروايات عقيدة الشيعة الفاسدة أن حسنات الكفار ومن ضمنهم عامة أهل السنة والجماعة (أي كل من عدا الشيعة) تعطى للشيعة الروافض، وأن سيئاتهم تحمل على الكفار (من ضمنهم أهل السنة حسب عقيدتهم) وهذا خلاف للعدل الرباني، وينكره العقل وتأباه الفطرة السليمة وقد قال تعالى: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام: 164] وقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر: 38] وقوله تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7 - 8] وقوله تعالى: تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ [البقرة:281] الآية، وغيرها من آيات كثيرة جدا في هذا المعنى وأحاديث كثيرة أيضا صحيحة وصريحة في هذا المعنى ترد على هذه العقيدة الفاسدة، فهي عقيدة باطلة مخالفة للنقل والعقل والعدل. المصدر: بطلان عقائد الشيعة وبيان زيغ معتنقيها ومفترياتهم على الإسلام من مراجعهم الأساسية لمحمد عبدالستار التونسوي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 250 المطلب الأول: المسائل الغريبة: ومن أكاذيبهم الشنيعة الكثيرة على أهل البيت أنهم كذبوا على أبي عبد الله جعفربن الباقر أنه قال: "إن سال من ذكرك شيء من مذي أو ودي وأنت في الصلاة فلا تغسله، ولا تقطع الصلاة ولا تنقض له الوضوء وإن بلغ عقبيك، فإنما ذلك بمنزلة النخامة, وكل شيء يخرج منك بعد الوضوء, فإنه من الحبائل أو من البواسير وليس بشيء " (الفروع من الكافي 3/ 39)، أيضاً (تهذيب الأحكام 1/ 21)، أيضاً (الاستبصار 1/ 94). كما كذبوا على أبيه محمد الباقر بن علي زين العابدين أنه: "سئل عن المذي يسيل حتى يصيب الفخذ؟ فقال: لا يقطع صلاته ولا يغسله من فخذه" (الفروع من الكافي 3/ 40, كتاب الطهارة). ورووا عن عمر بن زيد أنه قال: اغتسلت يوم الجمعة بالمدينة وتطيبت ولبست أثوابي، فمرت بي وصيفة ففخذت لها فأفضيت أنا وأمنت هي، فدخلني من ذلك ضيق فسألت أبا عبد الله عليه السلام عن ذلك، فقال: ليس عليك وضوء ولا عليها غسل" (وسائل الشيعة للحر العاملي كتاب الطهارة 1/ 198). ومن أكاذيبهم أن جعفر الصادق رأى حنان بن سدير وعليه نعل سوداء، فقال: مالك ولبس نعل سوداء؟ أما علمت أن فيها ثلاث خصال؟ قلت: وما هي جعلت فداك؟ قال: تضعف البصر وترخي الذكر وتورث الهم، وهي مع ذلك لباس الجبارين، عليك بلبس نعل صفراء، فيها ثلاث خصال، قال: قلت: وما هي؟ قال: تحد البصر وتشد الذكر وتنفي الهم" (كتاب الخصال لابن بابويه القمي باب الثلاثة 1/ 99). ولسائل أن يسأل ما علاقة النعل بالتشديد والإرخاء؟ ورووا عن أبي الحسن الأول - الإمام السابع عند القوم - أنه قال: النظر إلى الوجه الحسن يجلي البصر. ورووا عن أبيه جعفر أنه قال: أربعة لا يشبعن من أربعة، الأرض من المطر، والعين من النظر، والأنثى من الذكر" ("كتاب الخصال" 1/ 221). وأيضاً رووا عنه أنه قال: النشوة في عشرة أشياء. في الأكل والشرب والنظر إلى المرأة الحسناء والجماع" ("كتاب الخصال" باب العشرة 2/ 443). ورووا أيضاً أنه سئل "هل للرجل أن ينظر إلى امرأته وهى عريانة؟ قال: لا بأس بذلك، هل اللذة إلا بذلك" (الفروع من الكافي 2/ 214 ط الهند). كما سئل أبو الحسن عن "الرجل يقبل فرج امرأته؟ قال: لا بأس" (الفروع من الكافي 2/ 214). ولا ندري ما علاقة أئمة القوم بمثل هذه المسائل، وما الحكمة في بيانها؟ ثم وأي دين هذا الذي يأمر أتباعه بالنظر إلى الحسناوات، وتشديد الذكر، والترغيب في الأكل والشرب والجماع وغير ذلك من الخرافات التي يأبى الإنسان العادي أن يذكرها دون الأئمة والثقاة حسب زعم القوم؟. هذا وقد رووا أيضاً عن جعفر أنه قال: النظر إلى عورة من ليس بمسلم مثل نظرك إلى عورة الحمار" (الفروع من الكافي كتاب الزي والتجمل 6/ 501 ط طهران). وأما عورة المسلم فرووا عن أبي الحسن موسى الكاظم أنه قال: العورة عورتان القبل والدبر، أما الدبر فمستور بالإليتين وأما القبل فاستره بيدك" ("الفروع من الكافي كتاب الزي والتجمل 6/ 501). هذا وليس هذا فحسب، بل هناك فضائح أكثر من هذا حيث قالوا: إن أبا جعفر - محمد الباقر - عليه السلام كان يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بميزر، فقال: فدخل ذات يوم الحمام فتنور - أي جعل النورة على جسمه - فلما أن أطبقت النورة على بدنه ألقى الميزر، فقال له مولى له: بأبي أنت وأمي إنك توصينا بالميزر ولزومه وقد ألقيته عن نفسك؟ فقال: أما علمت أن النورة قد أطبقت العورة؟. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 251 كما رووا عن عبيد الله الدابقي أنه قال: دخلت حماماً بالمدينة، فإذا شيخ كبير وهو قيم الحمام، فقلت: يا شيخ لمن هذا الحمام؟ فقال: لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام، فقلت: كان يدخله؟ قال: نعم، فقلت: كيف كان يصنع؟ قال: كان يدخل فيبدأ فيطلي عانته وما يريه، ثم يلف على طرف إحليله ويدعوني، فأطلي سائر بدنه، فقلت له يوماً من الأيام: الذي تكره أن أراه قد رأيته، فقال: كلا، إن النورة سترته" (الفروع من الكافي كتاب الزي والتجمل 6/ 503). ومن مسائلهم الغريبة، وأكاذيبهم العجيبة أنهم نقلوا عن محمد الباقر أنه قال في رجل زنى بأم امرأته أو ابنتها أو أختها: لا يحرم ذلك عليه امرأته" (الفروع من الكافي 5/ 416). وأيضاً رووا عنه أنه قال: إذا زنى رجل بامرأة أبيه أو جارية أبيه فإن ذلك لا يحرمها على زوجها، ولا تحرم الجارية على سيدها" (الفروع من الكافي ص419). هذا ومثل هذا كثير. ومن المسائل الشنيعة العجيبة الغريبة أنهم قالوا: إن صلاة الجنازة جائزة بغير وضوء كما كذبوا على جعفر أنه قال على جواب سائل سأله عن الجنازة "أصلي عليه بغير وضوء؟ فقال: نعم" (الفروع من الكافي 3/ 178)، أيضاً (من لا يحضره الفقيه 1/ 170). وكتب المحشي تحته "أجمع علماؤنا على عدم شرط هذه الصلاة بالطهارة" ونقل عن "التذكرة" وليست الطهارة شرطاً بل يجوز للمحدث والحائض والجنب أن يصلوا على الجنازة مع وجود الماء والتراب والتمكن، ذهب إليه علماؤنا أجمع" (الفروع من الكافي - الهامش ص178 أيضاً). ورووا عن جعفر محمد الباقر أنه قال: إن الحائض تصلي على الجنازة. وذكروا أيضاً أن أبا جعفر محمد الباقر وابنه جعفر سئلا: إنا نشتري ثياباً يصيبها الخمر وودق الخنزير أبعد حكها نصلي فيها قبل أن نغسلها؟ فقالا: نعم! لا بأس، إنما حرم الله أكله ولم يحرم لبسه ومسه والصلاة فيها" (من لا يحضره الفقيه 1/ 170). هذا ويجعل الحبل من شعر الخنزير ويستقى به الماء من البئر يجوز الوضوء منه كما رووا عن زرارة أنه قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقى به الماء من البئر هل يتوضأ من ذلك الماء؟ قال: لا بأس" (تهذيب الأحكام 1/ 409). وأيضاً رووا عن جعفر أنه قال: إن أمير المؤمنين عليه السلام سئل عن قدر طبخت فإذا في القدر فأرة، قال: يهراق مرقها ويغسل اللحم ويؤكل" (الفروع من الكافي كتاب الطهارة 3/ 7). كما رووا عن جعفر أيضاً "أنه سئل عن الفأرة والكلب يقع في السمن والزيت ثم يخرج منه حياً؟ فقال: لا بأس بأكله" (الفروع من الكافي كتاب الأطعمة 2/ 161). هذا ومن ناحية أخرى شددوا إلى أن قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحم الفحل وقت اغتلامه" - أي وقت شهوته - (الفروع من الكافي كتاب الأطعمة 6/ 260). وهذا تكليف ما لا يطاق لأنه لا يدري أحد أكان الفحل المذبوح في الشهوة أم لا؟ وهناك تيسير ورخصة أكثر من اللزوم حيث نقلوا عن جعفر بن الباقر أنه سئل عن الفأرة والسنور والدجاجة والطير والكلب تقع في البئر؟ قال: ما لم يتفسخ أو يتغير طعم الماء فيكفيك خمس دلاء" (الفروع من الكافي كتاب الطهارة 3/ 5). وسئل جعفر أيضاً عن البئر يقع فيها زنبيل عذرة يابسة أو رطبة، فقال: لا بأس به إذا كان فيها ماء كثير" (تهذيب الأحكام 1/ 416)، أيضاً (الاستبصار 1/ 42). كما نقلوا عنه أيضاً أنه "سئل الصادق عليه السلام عن جلود الميتة يجعل فيها الماء والسمن ما ترى فيه؟ فقال: لا بأس بأن تجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو سمن، وتتوضأ منه وتشرب" كتاب (من لا يحضره الفقيه لابن بابويه القمي 1/ 11). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 252 كما قالوا أيضاً: إن سقطت في رواية ماء فأرة أو جرو أو صعوة ميتة فتنفخ فيها لم يجز شربه ولا الوضوء منه، وإن كان غير متفسخ فلا بأس بشربه والوضوء منه، وتطرح الميتة إذا خرجت طرية، وكذلك الجرة وحب الماء والقربة وأشباه ذلك من أوعية الماء" (كتاب من لا يحضره الفقيه لابن بابويه القمي 1/ 14). ورووا عن جعفر بن الباقر أنه قال: لو أن ميزابين سالا, أحدهما ميزاب بول والآخر ميزاب ماء، فاختلطا، ثم أصابك ما كان به بأس" (الفروع من الكافي 3/ 12، 13)، أيضاً (تهذيب 1/ 42). كما رووا عنه أيضاً أنه قال له أحد: أغتسل في مغتسل يبال فيه ويغتسل من الجنابة، فيقع في الإناء ماء فينزو من الأرض؟ فقال: لا بأس به" (الفروع من الكافي 3/ 14). وروى القمي في كتابه "أن أبا جعفر الباقر عليه السلام دخل الخلاء، فوجد لقمة خبز في القذر، فأخذها وغسلها ودفعها إلى مملوك كان معه، فقال: تكون معك لآكلها إذا خرجت، فلما خرج عليه السلام قال للمملوك: أين اللقمة؟ قال: أكلتها يا ابن رسول الله، فقال: إنها ما استقرت في جوف أحد إلا وجبت له الجنة، فاذهب أنت حر، فإني أكره أن أستخدم رجلاً من أهل الجنة" (كتاب من لا يحضره الفقيه باب أحكام التخلي 1/ 27). وهذه هي أكاذيب القوم أنهم يمنحون صكوك المغفرة على أكل القذرة والخبز. ومن أكاذيبهم المضحكة المبكية أنهم يروون عن جعفر أنه قال: لما ولد النبي صلى الله عليه وسلم مكث أياماً ليس له لبن، فألقاه أبو طالب على ثدي نفسه، فأنزل الله فيه لبنا، فرضع منه أياماً حتى وقع أبو طالب على حليمة السعدية فدفعه إليها" (الأصول من الكافي كتاب الحجة 1/ 458 ط طهران). ومثل ذلك ما ذكروا "لم يرضع الحسين من فاطمة عليها السلام ولا من أنثى، كان يؤتى به النبي فيضع إبهامه في فيه فيمص منها ما يكفيه اليومين والثلاث" (الأصول من الكافي 1/ 465). وانظر إلى القوم كيف يختلقون القصص، وينسجون الأساطير لتمجيد من يرون تمجيده ولو أنهم لا يجيدون اختلاقها، ولا يحسنون نسجها، فيبين فسادها، ويظهر عوارها وحتى للأطفال والصبيان دون الرجال والعقلاء، لكن أنى للقوم أن يفهموا ويبصروا. ومن مثل هذه الأكاذيب ما افتروه على باقر بن زين العابدين أنه قال: ((قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك تلثم فاطمة وتلتزمها وتدنيها منك وتفعل بها ما لا تفعله بأحد من بناتك؟ فقال: إن جبرئيل عليه السلام أتاني بتفاحة من تفاح الجنة فأكلتها، فتحولت ماء في صلبي، ثم واقعت خديجة فحملت بفاطمة، فأنا أشتم بها رائحة الجنة)) (علل الشرائع 1/ 183). ولما كانت فاطمة هكذا لا بد أن يكون علي مثلها في ذلك: فاختلقوا في علي وولادته قصة تشابهها، ولقد أورد الفتال (1) في كتابه أن أبا طالب "أتي بطبق من فواكه الجنة رطبة ورمان، فتناول أبو طالب منه رمانة ونهض فرحاً من ساعته حتى رجع إلى منزله فأكلها فتحولت ماء في صلبه، فجامع فاطمة بنت أسد فحملت بعلي" (روضة الواعظين للفتال 1/ 87 ط قم إيران). ومنها أيضاً ما افتراه صدوقهم على جعفر أنه سئل:   (1) هو محمد بن الحسن بن علي الفتال النيسابوري، الفارسي، قال القمي: الحافظ الواعظ، صاحب كتاب ((روضة الواعظين))، كان من علماء المائة السادسة، ومن مشائخ ابن شهر آسوب" ((الكنى والألقاب)) (3/ 9). قال الحلي: متكلم جليل القدر، فقيه، عالم، زاهد، قتله أبو المحاسن عبد الرزاق رئيس نيسابور" ((رجال الحلي)) (ص295 سنة 508) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 253 "لم لم يبق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولد؟ قال: لأن الله خلق محمداً صلى الله عليه وسلم نبياً وعلياً عليه السلام وصياً فلو كان لرسول الله ولد من بعده لكان أولى برسول الله من أمير المؤمنين فكانت لا تثبت وصية لأمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام" (علل الشرائع 1/ 131 ط نجف). وما دام القوم بدؤوا في الاختراعات والافتراءات فلهم أن يبلغوا ذروتها فكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن حلقة باب الجنة من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب، فإذا دقت الحلقة على الصفيحة طنت وقالت: يا علي)) (روضة الواعظين 1/ 111). وقام آخر - وهو من أهل هذا العصر - وقال: لولا سيف ابن ملجم لكان علي بن أبي طالب من الخالدين في الدنيا" (أصل الشيعة وأصولها ص112 ط بيروت 1960). ولما بلغ علي هذا المقام الرفيع لزم أن يكون لشيعته نصيب من مجده وشرفه فافتروا على نبي الله أنه قال لعلي: ((إن الله حملني ذنوب شيعتك ثم غفرها لي)) (البرهان 2/ 442 ط قم – إيران). ومن مفترياتهم المضحكة على أهل البيت أنهم كذبوا على أبي عبد الله أنه سئل عن الأرض: "على أي شيء هي؟ قال: على الحوت، قلت: فالحوت على أي شيء هو؟ قال: على الماء، قلت: فالماء على أي شيء هو؟ قال على الصخرة، قلت: فعلى أي شيء الصخرة؟ قال: على قرن ثور أملس، قلت: فعلى أي شيء الثور؟ قال: على الثرى، قلت فعلى أي شيء الثرى؟ فقال: هيهات عند ذلك ضل علم العلماء" (تفسير القمي 2/ 59). ومن مضحكاتهم ما افتروا به على علي بن الحسين الملقب بزين العابدين أنه قال: إن لله ملكاً يقال له خرقائيل له ثمانية عشر ألف جناح، ما بين الجناح إلى الجناح خمسمائة عام" (البرهان 2/ 327). ونأتي إلى الأخير حيث لو أردنا الإطالة لما يكفيها الكتاب ولا الكتابان ولا الكتب لأن القوم جبلوا على الكذب فأكثروه، وجعلوه في كل مقام ومكان، مناسباً كان أم غير مناسب، فيذكر ابن بابويه القمي عن أبي الحسن أنه سئل عن الممسوخ فقال: فأما الفيل فإنه مسخ لأنه كان ملكاً زناء لوطياً، ومسخ الدب لأنه كان رجلاً ديوثاً، ومسخت الأرنب لأنها كانت امرأة تخون زوجها ولا تغتسل من حيض ولا جنابة، ومسخ الوطواط لأنه كان يسرق تمور الناس، ومسخ السهيل لأنه كان عشاراً باليمين، ومسخت الزهرة لأنها كانت امرأة فتن بها هاروت وماروت، وأما القردة والخنازير فإنه قوم من بني إسرائيل اعتدوا في السبت، وأما الجري والضب ففرقة من بني إسرائيل، وأما العقرب فإنه كان رجلاً نماماً، وأما الزنبور فكان لحاماً يسرق في الميزان" (علل الشرائع ص485، 486). المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص239 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 254 المطلب الثاني: شكاوى الأئمة من هؤلاء الكذابين: هذا ونختم على شكاوى أئمة القوم من هؤلاء الناس الكذابين وما أكثرهم، ولم يكن واحد من أهل البيت إلا وقد التف حوله أمثال هؤلاء، فافتروا عليه بافتراءات لم يخطر بباله أبداً، واختلقوا القصص والأساطير، ونسبوها إليهم وما أجرأهم على ذلك، وكتب القوم مليئة من تلك الشكاوى والتألم. منها ما رواه الكشي عن ابن سنان أنه قال: قال أبو عبد الله -عليه السلام-: إنا أهل البيت صادقون لا نخلو من كذاب يكذب علينا، فيسقط صدقنا بكذبه عند الناس - ثم عد واحداً بعد واحد من الكذابين - كان رسول الله أصدق البرية لهجة، وكان مسيلمة يكذب عليه، وكان أمير المؤمنين -عليه السلام- أصدق من برأ الله من بعد رسول الله وكان الذي يكذب عليه من الكذب عبد الله بن سبأ لعنه الله، وكان أبو عبد الله الحسين بن علي -عليه السلام- قد ابتلي بالمختار، ثم ذكر أبو عبد الله الحارث الشامي والبنان فقال: كانا يكذبان على علي بن الحسين -عليه السلام- ثم ذكر المغيرة بن سعيد وبزيعا والسري وأبا الخطاب ومعمراً وبشار الأشعري وحمزة اليزيدي وصائب النهدي - أي أصحابه - فقال: لعنهم الله، إنا لا نخلو من كذاب يكذب علينا - كفانا الله مؤنة كل كذاب وأذاقهم الله حر الحديد" (رجال الكشي ص257، 258 تحت ترجمة أبي الخطاب). واشتكى بمثل هذه الشكوى حفيده أبو الحسن الرضا كما نقل عنه أنه قال: كان بنان يكذب على علي بن الحسين -عليه السلام- فأذاقه الله حر الحديد، وكان المغيرة بن سعيد يكذب على ابن جعفر -عليه السلام- فأذاقه الله حر الحديد، وكان محمد بن بشر يكذب على ابن الحسن علي بن موسى الرضا -عليه السلام- فأذاقه الله حر الحديد، وكان أبو الخطاب يكذب على ابن عبد الله -عليه السلام- فأذاقه الله حر الحديد، والذي يكذب علي محمد بن الفرات" (رجال الكشي ص256). ولأجل ذلك قال جعفر بن الباقر: لو قام قائمنا بدأ بكذابي الشيعة فقتلهم (رجال الكشي ص252). هذا وما أحسن ما قاله جعفر - وهو صادق في قوله -: لقد أمسينا وما أحد أعدى لنا ممن ينتحل مودتنا" (رجال الكشي ص259). ذلك ما قاله الشيعة وهذا ما قاله أئمتهم، وقانا الله من الكذب والكذابين. المصدر: الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير - ص 247 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 255 المبحث الأول: مسائل الأعياد: إنهم أوجبوا لعن الصحابة من المهاجرين والأنصار وعائشة وحفصة عقب الصلوات المكتوبة (1)، والكتاب ناص على أنهم من أهل الجنة كما سبق، وأنهم أحدثوا عيد الغدير، وهو الثامن عشر من ذي الحجة، وفضلوه على عيد الفطر والأضحى وسموه بالعيد الكبير (2)، وهو لا أصل له في الشريعة ولم يروَ عن أحد من الأئمة (3).وأحدثوا عيد قتل عمر وهو التاسع من شهر ربيع الأول كما زعموا (4)، روى علي بن مظاهر الواسطي عن أحمد بن إسحاق (5)   (1) فقد روى الكليني عن الحسين بن ثوير وأبي سلمة السراج قالا: "سمعنا أبا عبد الله عليه السلام وهو يلعن في دبر كل مكتوبة أربعة من الرجال، وأربعاً من النساء، فلان وفلان وفلان، ومعاوية ويسميهم، وفلانة وفلانة وهند وأم الحكم أخت معاوية ". ((الكافي)) (3/ 342) , الطوسي في ((تهذيب الأحكام)) (2/ 321). ويعرف كل من عاشر الرافضة بأن هؤلاء الرجال الثلاثة يعنون بهم: أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، والمرأتان هما: عائشة وحفصة رضي الله عنهما، وهذا مشهور بين هذه الفرقة، لا يختلف فيه منهم اثنان. (2) ويدل على ذلك ما أخرجه الطوسي عن محمد بن أحمد بن أبي بصير قال: كنا عند الرضا عليه السلام والمجلس غاص بأهله، فتذاكروا يوم الغدير فأنكره بعض الناس فقال الرضا: ... يا ابن بصير أين ما كنت فاحضر يوم الغدير عند أمير المؤمنين عليه السلام فإن الله يغفر لكل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة ذنوب ستين سنة ويعتق من النار ضعف ما أعتق في شهر رمضان وليلة القدر وليلة الفطر ... )). ((تهذيب الأحكام)) (6/ 24) ,ابن طاوس ((الإقبال)) (ص 468)؛ العاملي ((وسائل الشيعة)) (14/ 388). وينظر ((الغدير)) 1/ 282 للأميني. (3) وهذا العيد من اختراع البويهيين الرافضة الذين سيطروا على الخلافة في بغداد حقبة من الزمان، قال المقريزي: عيد الغدير لم يكن عيداً مشروعاً ولا عمله أحد من سلف الأمة المقتدى بهم، وأوّل ما عرف في الإسلام بالعراق أيام معز الدولة علي بن بويه، فإنه أحدثه سنة (352) هـ فاتخذه الشيعة من حينئذ عيداً. ((الخطط المقريزية)) (2/ 222). (4) الراجح كما قال الطبري إن طعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان: يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين ودفن يوم الأحد صباح هلال المحرم سنة أربع وعشرين. ((تاريخ الطبري)) (2/ 561) , والرافضة يعظمون هذا اليوم على اختلافهم في تحديد تاريخه فبعضهم يحدده بهذا اليوم، والبعض الآخر يحدده بما أرخ له الآلوسي (رحمه الله)، والراجح عند المحققين أنه الأول. قال المجلسي:" وقال جماعة إن قتل عمر بن الخطاب كان في اليوم التاسع من شهر ربيع الأول والناس يسمونه بعيد - بابا شجاع - ... ". ((بحار الأنوار)) (98/ 372). (5) هو أحمد بن إسحاق بن عبد الله بن سعد بن مالك بن الأحوص الأشعري، أبو علي القمي، كان رسول القميين إلى الأئمة فيأتي إليهم ويأخذ المسائل عنهم، ذكره الكليني فيمن رأى إمام الشيعة الغائب في كتاب الحجة من ((الكافي))، وكذلك ذكره شيخ الطائفة وعده من السفراء الذين كانت تردهم كتابات صاحب الزمان حيث قال: " وقد كان في زمان السفراء المحمودين أقوام ثقات ترد عليهم التوقيعات من قبل المنصوبين للسفارة أصلاً ومنهم أحمد ابن إسحاق "!، ويعده الشيعة الإمامية من أوثق رواتهم، له أكثر من كتاب منها: ((كتاب علل الصوم)) و ((مسائل الرجال)). ((رجال النجاشي)) (1/ 234). الطوسي، ((الغيبة)) (ص 414) .. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 256 أنه قال: "هذا اليوم يوم العيد الأكبر ويوم المفاخرة ويوم التبجيل ويوم الزكاة العظمى ويوم البركة ويوم التسلية "، وكان أحمد هذا أول من أحدث هذا العيد، وتبعه بعد ذلك من تبعه من أصحابه، ونسبة هذا العيد إلى الأئمة كذب وافتراء، ولا سند لهم في ذلك (1).وإنهم أوجبوا تعظيم النيروز قال ابن فهد (2) في (المهذب) (3): " إنه أعظم الأيام" (4)، وهو كذب وليس له أصل في الدين، وقد صح عن الأمير لما جاءه في هذا اليوم شخص بحلوى فسأله عن الموجب فقال: اليوم يوم النيروز، فقال: (121/ أ) " نيروزنا كل يوم " (5).وأنهم يجوزون السجود (6) إلى السلاطين الظلمة، مع أن السجود لغير الله تعالى لا يجوز. المصدر: غرائب فقهية عند الشيعة الإمامية لمحمود شكري الألوسي   (1) وتعد هذه الفرقة هذا اليوم من الأيام التي ينبغي إحياؤها بالعبادة والأعمال الحسنة لما فيها من فضيلة عندهم، وقال ابن إدريس بعد ذكره فضيلة أيام ذي الحجة وما وقع فيها، قال: " وفي اليوم السادس والعشرين منه سنة ثلاث وعشرين طعن عمر بن الخطاب، فينبغي للإنسان أن يصوم هذه الأيام، فإن فيها فضلاً كثيراً وثواباً جزيلاً ... ". ((السرائر)) (1/ 319)؛ ((بحار الأنوار)) (58/ 372) المجلسي. (2) هو جمال الدين أحمد بن محمد بن فهد، أبو العباس القمي، له عدة مصنفات منها ((عدة الداعي)) و ((الدر الفريد في التوحيد)) و ((تاريخ الأئمة))، مات سنة (841) هـ. ((أعيان الشيعة)) (3/ 147)؛ ((تنقيح المقال)) (1/ 92)؛ ((أمل الآمال)) (2/ 21)؛ ((معجم المؤلفين)) (2/ 144). (3) هو ((المهذب البارع في شرح النافع في مختصر الشرائع)) لابن فهد الحلي، قال الطهراني: " وأورد في كل مسألة أقوال الأصحاب وأدلة كل قول وبين الخلاف في كل مسألة خلافية، وعين المخالف ". ((الذريعة)) (23/ 292). (4) وبوب النوري باباً في كتابه ((مستدرك الوسائل)) (6/ 352) بعنوان: (استحباب صلاة يوم النيروز والغسل فيه والصوم ولبس أنظف الثياب والطيب وتعظيمه وصب الماء فيه). والأمر نفسه فعله المجلسي فجعل لهذا العيد باباً في كتابه وأخرج عن المعلى بن خنيس عن الصادق أنه قال في يوم النيروز: " إذا كان النيروز فاغتسل والبس أنظف ثيابك وتطيب بأطيب طيبك وتكون ذلك اليوم صائماً ". ((بحار الأنوار)) (59/ 101). ومع ذلك فالروايات المنقولة في كتبهم عن النبي صلى الله عليه وسلم تؤكد نهيه عن الاحتفال بهذه الأيام، وبأن الله تعالى أبدلهم خيراً منها الفطر والأضحى، كما أخرج النوري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله تعالى أبدلكم بيومين يوم النيروز والمهرجان الفطر والأضحى)). ((مستدرك الوسائل)) (6/ 32). فانظر هداك الله إلى تخبط هؤلاء القوم في دينهم. (5) وقد روى هذه الرواية أهل السنة كما روت الإمامية في كتبهم، فمن أهل السنة أخرجها البيهقي، ((السنن الكبرى)) (9/ 235)؛ البخاري، ((التاريخ الكبير)) (4/ 200)؛ الخطيب البغدادي، ((تاريخ بغداد)) (13/ 326). وأخرجه من الإمامية أبو حنيفة ابن حيون، ((دعائم الإسلام)) (2/ 328)؛ النوري، ((مستدرك الوسائل)) (6/ 353). (6) زيادة غير موجودة بالأصل يقتضيها السياق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 257 المبحث الثاني: مسائل الطهارة: وإنهم يحكمون بطهارة الماء الذي استنجي به ولم يطهر المحل، وانتشرت أجزاء النجاسة بالماء حتى زاد وزن الماء بذلك، قال ابن المطهر في (المنتهى): " إن طهارة ماء الاستنجاء، وجواز استعماله مرة أخرى من إجماعيات الفرقة " (1)، مع أن هذا مخالف لنص القرآن، وهو قوله تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ [الأعراف: 157] أي أكلها وأخذها واستعمالها، ولا شك في كون هذا الماء نجساً خبيثاً ومخالف أيضاً لروايات الأئمة، فقد روى صاحب (قرب الإسناد) (2) وصاحب كتاب (المسائل) عن علي بن جعفر (3) أنه قال: " سألت أخي موسى بن جعفر: عن جرة فيها ألف رطل من ماء، وقع فيه أوقية بول، هل يصح شربه أو الوضوء منه؟ قال: لا النجس لا يجوز استعماله " (4).ومن العجب أن مذهب الاثني عشرية: أن الماء إذا كان أقلّ من كرٍّ ينجس بوقوع النجاسة فيه (5)، فمقتضى هذا أن يكون نجاسة ماء الاستنجاء أولى. وإنهم حكموا بطهارة الخمر (6)، كما نص عليه ابن بابويه (7) والجعفي (8) وابن عقيل (9)،   (1) وهذا مقرر في كتبهم كما في ((شرائع الإسلام)) (1/ 22) , ((مختلف الشيعة)) (1/ 236). (2) هو عبد الله بن جعفر القمي الواردة فيه توقيعات إمامهم المنتظر وسماه القمي ((قرب الإسناد إلى صاحب الأمر)). ((رجال النجاشي)) (2/ 19). ولا بد من الإشارة إلى أن مصطلح (قرب الإسناد) عند الشيعة الإمامية: يعنون به مجموع الروايات المروية عن (الأئمة المعصومين) عندهم، ويقابل في مصطلح أهل السنة (الإسناد العالي) وقد ألف عدد من علمائهم كتباً تحمل هذا العنوان من أشهرها كتاب ((قرب الإسناد)) لابن بابويه القمي (والد الصدوق) (ت 329هـ). ينظر ((الذريعة)) (17/ 67 - 71). (3) هو علي بن جعفر الهمداني البرمكي الوكيل، ضعفه النجاشي فقال: " يعرف منه وينكر له مسائل لأبي الحسن العسكري "، ومع ذلك فقد وثقه المامقاني. ((رجال النجاشي)) (2/ 118)؛ ((تنقيح المقال)) (2/ 273). (4) ((مسائل جعفر بن علي)) (ص 198). ولم أجدها في كتاب ((قرب الإسناد))، ولكن أخرجها أيضاً الهمداني، ((مصباح الفقيه)) ((1/ 30 - 31))؛ العاملي ((وسائل الشيعة)) (1/ 156). (5) فروى الكليني عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الكر من الماء كم يكون مقداره؟ قال: إذا كان الماء ثلاثة أشبار في مثله ثلاثة أشبار ونصف في عمقه في الأرض، فذلك الكر من الماء. ((الكافي)) (3/ 3)؛ الطوسي، ((تهذيب الأحكام)) (1/ 42). (6) وقد نقل (علامتهم) الحلي اختلافهم في هذه المسألة الفقهية حيث قال: "وقال أبو علي بن أبي عقيل: من أصاب ثوبه أو جسده خمر أو مسكر لم يكن عليه غسلهما؛ لأن الله تعالى إنما حرمهما تعبداً لا لأنهما نجسان ... ". ثم نقل الحلي اختلاف أصحابه في هذه المسألة. ((مختلف الشيعة)) (1/ 469). (7) حيث قال: " لا بأس بالصلاة في ثوب أصابه خمر لأن الله تعالى حرم شربها ولم يحرم الصلاة في ثوب أصابته ". ((من لا يحضره الفقيه)) (1/ 73). (8) كذا ذكره, ويستبعد أن يكون جابر الجعفي، وربما هو محمد بن الحسين بن حمزة الجعفري، المعروف بأبي يعلى الجعفري من تلاميذ المفيد والمرتضى، مات سنة (465) هـ. ((الذريعة)) (3/ 343). (9) هو أبو محمد الحسن بن علي بن عيسى بن أبي عقيل العماني الحذاء، قال عنه النجاشي: فقيه متكلم ثقة، له كتب في الفقه والكلام. وقال عنه العاملي: هو من قدماء الأصحاب، ويعبر عنه وعن ابن الجنيد بالقديمين، وهما من أهل المائة الرابعة. ((رجال النجاشي)) (1/ 153)؛ ((أعيان الشيعة)) (5/ 158) .. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 258 وهذا الحكم مخالف لقوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90] والرجس في اللغة أشد النجاسة، ولنصوص الأئمة الموجودة في كتب الشيعة، فقد روى صاحب (قرب الإسناد) وصاحب كتاب (المسائل) وأبو جعفر الطوسي عن أبي عبد الله أنه قال: " لا تصل في الثوب قد أصابه الخمر". وإنهم حكموا بطهارة المذي (1)، وهو مخالف للحديث الصحيح المتفق عليه (2)، روى الراوندي عن موسى بن جعفر، عن آبائه، عن علي أنه قال: ((سألت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن المذي؟ فقال: يغسل طرف ذكره)) (3)، وقد أورد أبو جعفر الطوسي أيضاً روايات صريحة في نجاسة المذي (4)، ولكن ليس له العمل والفتوى على ذلك. وإنهم يقولون: بعدم انتقاض الوضوء بخروج المذي (5)، مع أنهم يروون عن الأئمة خلاف ذلك، روى الطوسي عن (علي) بن يقطين عن أبي الحسن أنه قال: " المذي منه الوضوء " (6)، وروى الراوندي عن علي قال: ((قلت لأبي ذر: سل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن المذي، فسأله فقال: يتوضأ منه وضوءه للصلاة)).وإنهم يقولون: بطهارة الودي وهو بول غليظ جزماً بإجماع الشرائع، وأنهم يحكمون بعدم انتقاض الوضوء من خروج الودي (7) مع أنه مخالف لرواية الأئمة، روى الراوندي عن علي مرفوعاً: ((الودي فيه الوضوء)) (8)، وروى غيره عن أبي عبد الله مثل ذلك (9).   (1) قال شيخ الطائفة الطوسي: "المذي والودي لا ينقضان الوضوء ولا يغسل منهما ثوب ". ((الخلاف)) (1/ 37)). وقال (علامتهم) الحلي: " اتفق أكثر علمائنا على أن المذي لا ينقض الوضوء ولا أعلم فيه مخالفاً، إلا ابن الجنيد فإنه قال: إن خرج عقيب شهوة ففيه الوضوء ". ((مختلف الشيعة)) (1/ 260). (2) أي متفق عليه بين أهل السنة والإمامية، ويشير الآلوسي إلى ما أخرجه البخاري عن علي رضي الله عنه قال: (كنت رجلا مذاء فأمرت رجلا أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته، فسأل فقال: توضأ واغسل ذكرك) ((صحيح البخاري))، (266)؛ و ((صحيح مسلم)) (303). (3) النوري، ((مستدرك الوسائل)) (1/ 237). (4) فروى الإمامية عن محمد بن إسماعيل قال: "سألت أبا الحسن (الرضا) عليه السلام عن المذي؟ فأمرني بالوضوء منه، ثم أعدت عليه سنة أخرى فأمرني بالوضوء منه". ابن بابويه، ((من لا يحضره الفقيه)) (1/ 65) , الطوسي، ((تهذيب الأحكام)) (1/ 18). (5) قال (شيخ الطائفة) الطوسي: "فأما المذي والودي فإنهما لا ينقضان الوضوء، والذي يدل على ذلك ... ". ثم أورد روايات عديدة في هذه المسألة منها رواية زيد الشحام قال: " قلت: لأبي عبد الله المذي ينقض الوضوء؟ قل: لا, ولا يغسل منه الثوب ولا الجسد، إنما هو بمنزلة البزاق والمخاط ". ((تهذيب الأحكام)) (1/ 17). (6) أخرجها الطوسي في ((تهذيب الأحكام)) (1/ 19). وقال في كتابه الآخر تعليقاً على هذه الرواية: "ويمكن أن نحمله على ضرب من التقية؛ لأن ذلك مذهب أكثر العامة ". ((الاستبصار)) (1/ 95). ويعني بالعامة: أهل السنة والجماعة على عادته في تأويل الأخبار الموافقة لأهل السنة. (7) تقدم كلام الطوسي قبل قليل في اتفاق هذه الفرقة على طهارة الودي، وأخرج الطوسي رواية عن حريز عمن أخبره عن الصادق قال: "الودي لا ينقض الوضوء إنما هو بمنزلة المخاط والبزاق". ((تهذيب الأحكام)) (1/ 21). (8) النوري، ((مستدرك الوسائل)) (1/ 327). (9) كما أخرج ذلك الطوسي, ((تهذيب الأحكام)) (1/ 20) , ((الاستبصار)) (1/ 94). وقد ترك الطوسي هذه الروايات الصحيحة عن أئمة أهل البيت وأخذ برواية حريز المقطوعة التي صرح فيها بأنه روى (عمن أخبره) عن الصادق، وهذا لفرط جهله وتعصبه لفرقته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 259 وإنهم يحكمون بأنَّ تحريك الذكر ثلاث مرات استبراء له بعد البول، فما خرج منه بعد ذلك فهو طاهر غير ناقض للوضوء أيضاً (1)، وهذا الحكم مخالف لصريح الشرع إذ الخارج من السبيلين نجسٌ، وناقضٌ للوضوء مطلقاً، والاستبراءُ السابق لا دخل له في الطهارة اللاحقة، وعدم انتقاض الوضوء (121/ ب) وأي تأثير في ذلك؟ وهو مخالف أيضاً لروايات الأئمة، روى الصفار عن محمد بن عيسى (2) عن أبي جعفر: " أنه كتب إليه رجل: هل يجب الوضوء إذا خرج من الذكر شيء بعد الاستبراء؟ قال: نعم " (3).وإنهم حكموا بطهارة خرء الدجاجة؛ مع أن نجاسته ثبتت بنصوص الأئمة في كتبهم المعتبرة (4)، روى محمد بن حسن الطوسي عن فارس (5): أنه كتب رجل إلى صاحب العسكر (6) يسأله عن ذرق الدجاج تجوز الصلاة فيه؟ فكتب: لا. (7)، وهذا مخالف لقاعدتهم في الكلية وهي: " أن ذرق الحلال من الحيوان نجس "، نص عليه الحلي في (المنتهى) (8). صفة الوضوء والغسل والتيمم: قالوا: غسل بعض الوجه في الوضوء كاف، مع أن نص الكتاب يدل على وجوب غسله كله، قال تعالى: فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ [المائدة:6] والوجه ما يواجه به، وهو من منبت قصاص الجبهة غالباً إلى آخر الذقن، ومن إحدى شحمتي الأذن إلى الأخرى، وهم قدروا الفرض في غسل الوجه ما يدخل بين الإبهام والوسطى إذا انجرت اليد من الجبهة إلى الأسفل (9)، وليس لهذا التقدير أصل في الشرع أصلاً، ولا فيه رواية عن الأئمة.   (1) فقد أخرج الكليني وغيره عن ابن مسلم قال: " قلت لأبي جعفر عليه السلام: رجل بال ولم يكن معه ماء؟ قال: يعصر أصل ذكره إلى طرف ذكره ثلاث مرات وينتر طرفه، فإن خرج منه بعد ذلك شيء فليس من البول ولكنه من الحبائل ". ((الكافي)) (3/ 19) , الطوسي ((تهذيب الأحكام)) (1/ 356). (2) هو محمد بن عيسى بن عبد الله بن سعيد بن مالك الأشعري، أبو علي القمي قال النجاشي: متقدم عند السلطان ودخل على الرضا وسمع منه. ((رجال النجاشي)) (2/ 227) , ((تنقيح المقال)) (3/ 167). (3) ((تهذيب الأحكام)) (1/ 28) , ((الاستبصار)) (1/ 49). وعلق (شيخ الطائفة) في ((الاستبصار)) على هذه الرواية قائلاً: "يجوز أن يكون محمولا على ضرب من الاستحباب أو على التقية؛ لأن ذلك مذهب كثير من العامة ". (4) ((السرائر)) (1/ 78) , ((شرائع الإسلام)) (1/ 69) , ((الدروس)) (ص 16). (5) هو فارس بن حاتم بن ماهويه القزويني، نزيل سر من رأى، قال النجاشي: قلما روى الحديث إلا شاذاً. ((رجال النجاشي)) (2/ 174) , الحلي ((الخلاصة)) (ص 247). (6) هو الحسن العسكري الإمام الحادي عشر عند الإمامية. (7) ((تهذيب الأحكام)) (1/ 226) , ((الاستبصار)) (1/ 177) , ((عوالي اللآلي)) (3/ 53). (8) وأيضاً في كتابه ((مختلف الشيعة)) (1/ 455). (9) كما ذهب فقهاء الإمامية إلى ذلك ينظر ((الكافي)) (ص83) , ((الهداية)) (ص 62) , ((مختلف الشيعة)) (1/ 287). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 260 والدليل على بطلانه أن الإبهام والوسطى لو جررناهما ممتدين من الأعلى إلى الأسفل، فإذا اتصلتا إلى الذقن لا بد أن تحيطا من الحلق ببعضه من الطرفين، فيلزم أن يكون غسل ذلك القدر من الحلق فرضاً أيضاً، مع أن الحلق لم يعدّه أحدٌ داخلاً في الوجه، ولو بسطنا الإصبعين المذكورتين بمحاذاة الجبهة وقبضناهما بالتدريج، فحدُّ القبض لا يعلم أصلاً، والتقديرات الشرعية تكون لإعلام المكلفين لا للإبهام عليهم. وقالوا: إن الوضوء مع غسل الجنابة حرام (1)، وهذا مخالف لما كان عليه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فإنه كان يتوضأ في غسل الجنابة ابتداء، ثم يصب الماء على البدن في كل غسل (2)، ومخالف لما عليه الأئمة أيضاً روى الكليني: عن محمد بن مبشر عن أبي عبد الله، بن (سعيد) (3)، عن الحضرمي، عن أبي جعفر أنهما قالا: " حين سألهما شخصٌ عن كيفية غسل الجنابة: تتوضأ ثم تغسل " (4).   (1) وهذا من مسلمات المذهب، قال المفيد: " وليس على المجنب وضوء مع الغسل، ومتى اغتسل على ما وصفناه فقد طهر للصلاة، وإن لم يتوضأ قبل الغسل ولا بعده، وإن ارتمس في الماء للغسل من الجنابة أجزأه عن الوضوء للصلاة ". ((المقنعة)) (ص 61) , النراقي ((مستند الشيعة)) (1/ 128). (2) يشير الآلوسي إلى حديث ميمونة رضي الله عنها قالت: ((وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءا لجنابة، فأكفأ بيمينه على شماله مرتين أو ثلاثا، ثم غسل فرجه ثم ضرب يده بالأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثا، ثم مضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه، ثم أفاض على رأسه الماء ثم غسل جسده، ثم تنحى فغسل رجليه، قالت: فأتيته بخرقة فلم يردها فجعل ينفض بيده)). ((صحيح البخاري)) (270). (3) ذكره الآلوسي (رحمه الله) بابن (سعد)، والتصحيح من كتب الإمامية وهو: الحسن بن سعيد بن حماد بن مهران، أبو محمد الأهوازي، ذكره الإمامية ووثقوه، وقالوا: إنه من أصحاب الرضا والجواد. ((رجال النجاشي)) (1/ 171). وذكره من أهل السنة الحافظ ابن حجر في ((لسان الميزان)) (2/ 284). (4) لم أجد هذه الرواية عند الكليني، ولكن أخرجها الطوسي في ((تهذيب الأحكام)) (1/ 140) , ((الاستبصار)) (1/ 126). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 261 وقالوا: إن غسل النيروز سنة كما صرح بذلك ابن فهد، وهذا الحكم محض ابتداع في الدين، إذ لم ينقل في كتبهم أيضاً عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا عن الأئمة أنهم اغتسلوا يوم النيروز، بل لم تكن العرب تعرف ذلك اليوم؛ لأنه من الأعياد الخاصة بالمجوس. وقالوا: إن من وجب عليه القتل حداً أو قصاصاً إذا اغتسل قبل القتل لا يعاد عليه الغسل بعده (1)، بل يجزئ اغتساله كما نص عليه بهاء الدين العاملي في (جامعه) (2)، وأنت خبير بأن علة الحكم قبل القتل غير متحققة البتة، فكيف يترتب الحكم وإذا وجدت (3) كيف لا يترتب؟ فحينئذ يلزم الانفكاك بينهما، والحال أن العلل الشرعية كالعقلية في ترتب (122/ أ) ما يتوقف عليها ويحتاج إليها وجوداً وعدماً. وقالوا: يكفي للتيمم ضربة واحدة (4)، مع أن روايات الأئمة ناطقة بخلاف هذا الحكم، روى العلاء عن محمد بن مسلم عن أحدهما قال: سألته عن التيمم فقال: ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين. (5)، وروى ليث المرادي عن أبي عبد الله نحوه (6)، وروى إسماعيل بن همام الكندي عن الرضا مثل ذلك (7)، وزادوا في التيمم مسح الجبهة، ولا أصل له في الشرع أيضاً (8).وقالوا: إن الخف والقلنسوة والجورب والنطاق والعمامة والتكة (9)، وكل ما يكون على بدن المصلي مما لا يمكن الصلاة فيه وحده يجوز الصلاة بها، وإن كانت متلطخة بعذرة الإنسان وغيرها من النجاسات المغلظة (10)، وهذا الحكم مخالف لصريح الكتاب أعني قوله تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: 4] ولا شك أن هذه الأشياء يطلق عليها لفظ الثياب شرعاً وعرفاً، ولهذا تدخل في يمين تنعقد بلفظ الثياب نفياً وإثباتاً. وقالوا: إن ثياب بدن المصلي - كالأزرار والقميص والسراويل - يجوز الصلاة بها، وإن تلطخت بدم الجروح والقروح (11)، مع أن الدم والصديد ونحوهما - سواء كانت من جرحه أو جرح غيره - نجسة بلا شبهة، وهذا في حق غير المبتلى بهما، وأما في حقه فمعفو عنه؛ لتعسر الاحتراز عن ذلك حينئذ. المصدر: غرائب فقهية عند الشيعة الإمامية لمحمود شكري الألوسي   (1) قال ابن إدريس (وهو من فقهائهم المشاهير) في باب الحدود، في حد تنفيذ القتل بالقاتل: " يجب أن يغتسل قبل موته ولا يجب غسله بعد موته وقتله، وهو المقتول قوداً والمرجوم فإنهما يؤمران بالاغتسال فإذا أغتسلا قتلا ولا يجب غسلهما بعد قتلهما ويجب على من مسهما بعد القتل الغسل ... ". ((السرائر)) (1/ 471) , وكذلك ذكر الرأي نفسه (المحقق) الحلي في ((شرائع الإسلام)) (1/ 82). (2) هو ((الجامع العباسي)) كتاب في الفقه، قال الطهراني وغيره من رجال الإمامية صنفه: " البهائي للشاه عباس الصفوي "، وطبع منه حتى كتاب الحج. ((الذريعة)) (5/ 63). (3) في الأصل (إذا وجدت). والتصحيح من ((التحفة الاثني عشرية)) (ص 214). (4) وهذا ما قرره علمائهم، ينظر المرتضى، ((الناصريات)) (ص 84)؛ ابن زهرة ((الغنية)) (ص 85) , المحقق الحلي ((شرائع الإسلام)) (1/ 71). (5) الطوسي ((تهذيب الأحكام)) (1/ 210) , ((الاستبصار)) (1/ 172). (6) الطوسي ((تهذيب الأحكام)) (1/ 209) , الحر العاملي ((وسائل الشيعة)) (3/ 361). (7) الطوسي ((تهذيب الأحكام)) (1/ 210) , ((الاستبصار)) (1/ 172). (8) قال (شيخ الطائفة) الطوسي:" إن المسح يجب في التيمم ببعض الوجه وهو الجبهة والحاجبان ". ((تهذيب الأحكام)) (1/ 61). (9) التِّكَّة: واحدة التّكك وهي رباط السراويل. ((لسان العرب))، مادة تكك (10/ 406). (10) وهذا ما قرره شيخهم المفيد عندما قال: " وإن أصابت تكته أو جوربه (نجاسة) لم يحرج بالصلاة فيها، وذلك مما لا تتم الصلاة بهما دون ما سواهما من اللباس ". ((المقنعة)) (ص 36). (11) عن ليث قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام الرجل تكون فيه الدماميل والقروح فجلده وثيابه مملوءة دماً وقيحاً؟ فقال: يصلي في ثيابه ولا يغسلها ولا شيء عليه ". ((تهذيب الأحكام)) (1/ 258). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 262 المبحث الثالث: مسائل الصلاة: قالوا: يجوز استقبال غير القبلة في صلاة النافلة قائماً كان المصلي أو قاعداً (1)، وكذا في سجدة التلاوة (2)، وهذا ابتداع في الدين، وأمر لم يأذن به الله، ولا رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأما حالة الركوب في السفر فمخصوصة البتة من عموم وجوب استقبال القبلة، بروايات عن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، والأئمة كما بيّن في محله، وإذا انتفى هذا العذر لا يصح استقبال غير القبلة قال تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:150]، ولقد أنصف هذه المسألة شيخهم المقداد في (كنز العرفان) وحكم بمخالفة هذا الحكم لصريح القرآن. وقالوا: إنَّ مَن صلى في مكان فيه نجاسة - كبراز الإنسان يابسة لا تلتصق ليبسها ببدنه وثوبه في السجود والقعود - جازت صلاته (3)، مع أن وجوب طهارة مكان الصلاة ضروري الثبوت في جميع الشرائع. وقالوا: إنَّ مَن غمس قدميه إلى الركبة ويديه إلى المرفقين في صهاريج بيت الخلاء الممتلئة بعذرة الإنسان وبوله، ثم أزال عين ما التصق به بعد اليبس بالفرك والدلك، من غير غسل وصلى صحت صلاته.   (1) وهذا ما قرره شيخهم ابن بابويه، ((المقنع)) (ص 53) , ابن إدريس ((السرائر)) (1/ 105). (2) قال العاملي في شروط سجدة التلاوة: " ولا يشترط الطهارة ولا استقبال القبلة على الأصح ". ((الدروس)) (ص 84). (3) قال (شيخ الطائفة) الطوسي: " إذا كان موضع سجوده طاهراً صحت صلاته، وإن كان موضع قدميه وجميع مصلاه نجساً إذا كانت النجاسة يابسة ". ((الخلاف)) (1/ 176). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 263 وكذلك إن انغمس جميع بدنه في بالوعة مملوءة من البول والعذرة - وليس على بدنه جرم النجاسة - صحت صلاته أيضاً بلا غسل، مع أن التطهير في هذه الحالات من غير غسل لا يتحقق، كما هو معلوم لكل أحد من العقلاء (122/ ب).وقالوا: لو وجد المصلي بعد الفراغ من الصلاة في ثوبه براز الإنسان، أو الكلب أو الهرة اليابس، أو المني أو الدم صحت صلاته، ولا تجب عليه إعادتها، كما ذكره الطوسي في (التهذيب) وغيره (1)، مع أن طهارة الثوب من شرائط الصلاة، والجهل والنسيان في الحكم الوضعي ليس بعذر. وقالوا: إنَّ مَن صلى عارياً وقد ستر ذكره وأنثييه بطين قليل - ولو من غير ضرورة - صحت صلاته (2)، مع أن ستر العورة واجبٌ على القادر شرعاً، ولا سيما في حالة الصلاة؛ ولهذا خالف جماعة من الإمامية جمهورهم في هذه المسألة مستدلين بالآثار المروية عن أهل البيت (3).وقالوا: إنَّ مَن لطخ لحيته وشاربه وبدنه وثوبه بذرق الدجاج، أو أصاب لحيته وشاربه ووجهه وخده قطرات من بوله، بعد ما استبرأ ثلاث مرّات تصح صلاته بلا غسل (4).وقالوا: يجوز المشي للمصلي في صلاته لوضع عجينة في محل لا يصل إليه كلب أو هرة، ولو كان ذلك المحل بعيداً عن مصلاه لمسافة عشرة أذرع شرعية (5)، مع أن العمل الكثير ولا سيما إذا لم يكن مما يتعلق بالصلاة مبطل لها، لقوله تعالى: وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 238 - 239].   (1) حيث روى عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يصلي وفي ثوبه عذرة إنسان أو سنور أو كلب أيعيد صلاته؟ قال: إن كان لم يعلم فلا يعيد ". ((تهذيب الأحكام)) (2/ 359). (2) ابن إدريس، ((السرائر)) (1/ 252). (3) والروايات في كتب الإمامية ترجح ذلك، ففي رواية وردت عن علي بن جعفر، عن موسى الكاظم أنه قال: " سألته عن رجل عريان، وحضرت الصلاة، فأصاب ثوباً نصفه دم أو كله أيصلي عرياناً؟ فقال: إن وجد ماء غسله، وإن لم يجد ماء صلى فيه، ولم يصلِ عرياناً؛ ولأن طهارة الثوب شرط وستر العورة شرط أيضاً فيتخير ". ابن بابويه، ((من لا يحضره الفقيه)) (1/ 248) , الطوسي، ((تهذيب الأحكام)) (2/ 224). وينظر كلام الحلبي في ((مستند الشيعة)) (1/ 489). (4) والطهارة للصلاة ليست بذات قيمة عند الإمامية، ويروون ذلك عن أئمة أهل البيت الذين طهرهم الله، فأخرج (شيخ الطائفة) الطوسي عن زرارة قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام إن قلنسوتي وقعت في البول فأخذتها فوضعتها على رأسي ثم صليت؟ فقال: لا بأس". ((تهذيب الأحكام)) (2/ 357). ولذلك يقول ابن بابويه: "ومن أصاب قلنسوته أو عمامته أو تكته أو جوربه أو خفه مني أو بول أو دم أو غائط فلا بأس بالصلاة فيه، وذلك لأن الصلاة لا تتم في شيء من هذا وحده ". ((من لا يحضره الفقيه)) (1/ 73). (5) والحركة في الصلاة عند الإمامية لا حرج فيها سواء كانت في المكتوبة أو النافلة، فأخرج العاملي عن الحلبي أنه سأل: " أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يخطو أمامه في الصلاة خطوة أو خطوتين أو ثلاث، قال: نعم لا بأس ". ((وسائل الشيعة)) (5/ 191) , وفي رواية أخرى عن الحلبي أيضاً أنه سأل الصادق: " عن الرجل يقرب نعله بيده أو رجله في الصلاة؟ قال: نعم ". ((وسائل الشيعة)) (7/ 287). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 264 وقالوا: من قرأ في الصلاة (وتعالى جدك) تفسد صلاته (1)، مع أن قوله تعالى: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا [الجن:3] في سورة (الجن) (2) يصح قرأتها في الصلاة، وقالوا: تفسد الصلاة بقراءة بعض السور من القرآن كحم تنزيل السجدة وثلاث سور أخرى (3)، مع أن قوله تعالى: فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل:20] يدل بمنطوقه على العموم، وهؤلاء الفرقة هم يروون عن الأئمة أن الصلاة تصح بقراءة كل سورة من القرآن، ومن العجيب أنهم يحكمون بجواز الصلاة بقراءة ما يعلمه المصلي أنه ليس من القرآن المنزل، بل هو محرّف عثمان وأصحابه، مثل: أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ [النحل: 92] (4). وقالوا: يجوز الأكل والشرب في الصلاة، كما صرح به فقيههم المعتبر صاحب (شرائع الأحكام) (5) في كتابه هذا (6)، مع أن الأخبار المتفق عليها تدل على المنع من الأكل والشرب في الصلاة، وشرب الماء في صلاة الوتر، لمن يريد أن يصوم غداً، وعطش في تلك الصلاة، مجمع على جوازه عندهم (7).وقالوا: لو باشر المصلي امرأة حسناء مباشرة فاحشة، وضمها إلى نفسه، وألصق رأس ذكره بما يحاذي قبلها، وسال المذي الكثير ولو إلى الساق جازت صلاته، كذا ذكره الطوسي وأبو جعفر وغيره من مجتهديهم (8)،   (1) فروى ابن بابويه عن الصادق أنه قال: " أفسد ابن مسعود على الناس صلاتهم بشيئين، بقوله: (تبارك اسمك وتعالى جدك) وهذا شيء قالته الجن بجهالة، فحكاه الله عنها، وبقوله (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) يعني في التشهد الأول، وأما الثاني بعد الشهادتين فلا بأس به ... ". ((من لا يحضره الفقيه)) (1/ 401). وأخرج الرواية أيضاً العاملي في ((وسائل الشيعة)) (6/ 406). (2) زيادة غير موجودة في الأصل يقتضيها السياق. (3) وهذه السور هي: لقمان وحم السجدة والنجم وسورة العلق، وهذه الرواية ثابتة في كتبهم كما نقلها ابن بابويه عن الصادق. ((من لا يحضره الفقيه)) (1/ 306). (4) يشير الآلوسي إلى قول الإمامية بتحريف القرآن، فهم يجوزون القراءة بالقرآن المحرف في الصلاة، وروى عن محمد بن الجهم الهلالي وغيره عن أبي عبد الله أنه قال: " إن أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ * النحل:92* ليس كلام الله بل حرّف عن موضعه، والمنزل: (أئمة أزكى من أئمتكم). ((الكافي)) (1/ 292) , ((تفسير القمي)) (1/ 389). (5) هو كتاب ((شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام))، قال الطهراني: وكتابه هذا من أحسن المتون الفقهية وأجمعها للفروع في فقه الإمامية، وقد ولع به الأصحاب من لدن عصر مؤلفه حتى الآن. ((الذريعة)) (13/ 47). (6) ومؤلفها المعروف عند القوم بالمحقق الحلي ودليله في ذلك: "لعدم وجود نص في إبطال الأكل والشرب للصلاة ". ((شرائع الإسلام)) (1/ 101). (7) ويروون في ذلك الروايات عن أهل البيت، فقد روى ابن بابويه عن سعيد الأعرج أنه قال: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام جعلت فداك إني أكون في الوتر وأكون قد نويت الصوم وأكون في الدعاء وأخاف الفجر، وأكره أن أقطع على نفسي الدعاء وأشرب الماء وتكون القلة أمامي، قال: فقال لي: فاخطِ إليها الخطوة والخطوتين والثلاث واشرب وارجع إلى مكانك، ولا تقطع على نفسك الدعاء ". ((من لا يحضره الفقيه)) (1/ 494) , العاملي في ((الوسائل)) (7/ 280). (8) لأن رواياتهم تقول إن الحركة والمذي لا يبطلان الصلاة أو ينقضان الوضوء، فمثل هذه الحركة أيضاً لا تبطلهما، روى الطوسي: "عن ابن أبي عمير عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ليس في المذي من الشهوة ولا من الإنعاظ ولا من القبلة ولا من مس الفرج ولا من المضاجعة وضوء ولا يغسل منه الثوب ولا الجسد " .. ((تهذيب الأحكام)) (1/ 19) , ((الاستبصار)) (1/ 174). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 265 ولا يخفى أن هذه الحركات مخالفة بالبداهة لمقاصد الشرع، ومنافية لحالة المناجاة. وقالوا: إنَّ المصلي لو لعب بذكره وخصيتيه، بحيث سال منه المذي لا تفسد صلاته. وقال بعضهم: تجوز الصلاة إلى جهة قبور الأئمة بنية مزيد الثواب (1)، مع أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (2). وقالوا: يجوز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء من غير عذر وسفر، وذلك مخالف لقوله تعالى: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ [البقرة: 238] وقوله تعالى: إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا [النساء: 103]. وقالوا: يجوز أن تصلي الصلوات الأربع - أعني الظهر والعصر والمغرب والعشاء - متصلاً بعضها ببعض لانتظار خروج المهدي، مع أن الله تعالى جعل لكل صلاة وقتاً. وقالوا: لا يجوز قصر الصلاة في سفر التجارة دون إفطار الصوم، مع أنه لا فرق بين الصلاة والصوم شرعاً، وقد نص على الفرق ابن إدريس وابن المعلم والطوسي وغيرهم (3)، وروايات الأئمة تدل على عدم الفرق، ففي كتبهم الصحيحة روى معاوية بن وهب عن أبي عبد الله أنه قال: وإذا قصرت أفطرت، وإذا أفطرت قصرت. (4). وقالوا: مَن كان في سفره أكثر من إقامته - كالمكاري والملاح والتاجر الذي يتردد (بفحص الأسواق) (5) - فله أن يقصر صلاة النهار ويتم صلاة الليل، ولو أقام خمسة أيام في أثناء سفره أيضاً، نص عليه القاضي ابن البراج وابن زهرة وأبو جعفر الطوسي في (النهاية) و (المبسوط) (6)، مع أن روايات الأئمة التي وصلت إليهم تدل على خلاف ذلك، ولم تفرق بين الليل والنهار، روى محمد بن بابويه في الصحيح عن أحدهما أنه قال: "المكاري والملاح إذا جدّ بهما سفر فليقصرا " (7)، وروى (محمد) (8) بن مسلم عن الصادق نحوه (9).وقالوا: إن القصر في صلاة السفر مخصوص بالسفر إلى المسجد الحرام والمدينة المنورة، والكوفة وكربلاء، وهذا عند جمهورهم، وأما المختار لجمع - منهم المرتضى - فهو أن جميع مشاهد الأئمة لها هذا الحكم (10)، مع أن قوله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ [النساء: 101] يدل على جواز القصر مطلقاً، وقد كان الأمير كرم الله تعالى وجهه يقصر صلاته في جميع أسفاره، ورواية ابن بابويه السابقة دالة أيضاً على الإطلاق. وقالوا: إنَّ صلاة الجمعة في غيبة الإمام لا تجب، بل زعم أهل أخبارهم أنها حرام (11)، وقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9] من غير تقييد بحضور الإمام. المصدر: غرائب فقهية عند الشيعة الإمامية لمحمود شكري الألوسي   (1) والروايات في هذا المعنى كثيرة، فقد جعل (شيخ الطائفة) باباً بعنوان: (فضل الكوفة والمواضع التي يستحب فيها الصلاة منها، وموضع قبر أمير المؤمنين عليه السلام والصلاة والدعاء عنده). ((تهذيب الأحكام)) (6/ 30)، ثم أورد روايات عديدة في فضيلة الدعاء والصلاة عند هذا القبر. وأخرج العاملي عن شعيب العقرقوفي: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: من أتى قبر الحسين عليه السلام له من الأجر والثواب؟ قال: يا شعيب ما صلى عنده أحد ودعا إلا استجيب عاجله وآجله، قلت: زدني، قال: أيسر ما يقال لزائر الحسين عليه السلام: قد غفر لك فاستأنف اليوم عملاً جديداً ". ((وسائل الشيعة)) (14/ 538). (2) رواه البخاري (1330) , ومسلم (530) , من حديث عائشة رضي الله عنهما. (3) يعني بابن المعلم: المفيد، وينظر كتابه ((المقنعة)) (ص 374)؛ ابن إدريس، ((السرائر)) (1/ 234). (4) ابن بابويه، ((من لا يحضره الفقيه)) (1/ 437)؛ الطوسي، ((تهذيب الأحكام)) (3/ 220). (5) زيادة من مختصر التحفة (ص 217) يقتضيها السياق. (6) ينظر ما قاله (المحقق) الحلي، ((شرائع الإسلام)) (1/ 101) , ابن إدريس، ((السرائر)) (1/ 246). (7) الطوسي ((تهذيب الأحكام)) (3/ 215) , العاملي ((وسائل الشيعة (8/ 491). (8) في الأصل (عبد الملك) والتصحيح من كتب الشيعة. (9) الطوسي ((تهذيب الأحكام)) (3/ 215) , العاملي ((وسائل الشيعة)) (8/ 491). (10) قال زين الدين العاملي: "فيتعين القصر إلا في أربعة مواطن: مسجدي مكة والمدينة المعهودين, ومسجد الكوفة والحائر الحسين ... ". ويعني بالمكان الأخير (كربلاء) ثم قال: "وألحق بعضهم به مشاهد الأئمة ". ((اللمعة الدمشقية)) (2/ 333 - 334) , وينظر الرأي نفسه عند (علامتهم) الحلي في ((قواعد الأحكام)) (ص83). (11) قال الطباطبائي بخصوص صلاة الجمعة: "وفي زمان الغيبة مستحبة جماعة وفرادى، ولا يشترط فيها شرائط الجمعة". ((العروة الوثقى)) (1/ 742) , وينظر أيضاً ما قاله زين الدين العاملي، ((اللمعة الدمشقية)) (1/ 301). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 266 المبحث الرابع: مسائل الصوم والاعتكاف: قالوا: إن الصائم إذا ارتمس في الماء فسد صومه (1)، مع أن مفسداته إنما هي الأكل والشرب والجماع بالإجماع، ولهذا رجع عن هذه المسألة جمع منهم، واختاروا عدم الفساد لصحة الآثار بخلافها. ومن العجيب أن الصوم لا يفسد بالإيلاج على ما ذهب إليه أكثرهم، وقد رأيت في كتاب (الشرائع) الذي هو أحد كتبهم المعتبرة ما نصه: " ويجب الإمساك عن تسعة: الأكل والشرب والجماع قبلاً ودبراً على الأشهر، وفي فساد الصوم بوطئ الغلام (123/ ب) تردد، وإن حرم" (2)، ثم ذكر بعد أسطر في فصل (ما يجب به الكفارة والقضاء): " تجب فيه الكفارة والقضاء على من كذب على الله ورسوله والأئمة، وفي الارتماس قولان: والأشبه أنه يجب القضاء لا الكفارة .. . " (3) إلخ، فانظر هل من له عقل يرضى بمثل هذا الكلام؟ الذي هو بعيد عن الحق بمسيرة ألف عام، وقد روي عن الأئمة خلافه (4)، وأجمع الأمة على أن كل ما يوجب الإنزال، فهو مفسد للصوم، سواءٌ كان الوطء في قبل أو دبر. وقالوا: إنَّ أكل جلد الحيوان لا يفسد الصوم، ولكن عند بعضهم، وعند بعض آخر منهم أن أكل أوراق الأشجار لا يفسد الصوم أيضاً، وعند بعضهم لا يفسد الصوم أكل ما لا يعتاد أكله (5)، ومع هذا لو انغمس في الماء، يجب عليه القضاء والكفارة معاً عند هذا البعض، وإن لم يدخل شيء من الماء في حلقه وأنفه (6).وقالوا: يستحب صوم يوم عاشوراء من الصبح إلى العصر (7)، مع أن الصوم لا يتجزأ في شريعة أصلاً، بل يفسد بفساد جزء منه لقوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ [البقرة: 187].   (1) وهذا الأمر فيه إجماع من هذه الطائفة كما قرر ذلك (شيخ الطائفة) الطوسي في ((النهاية)) (ص 131) , الطباطبائي ((العروة الوثقى)) (2/ 200). (2) ((شرائع الإسلام)) (1/ 319). وقد أباحوا للرجل إتيان المرأة في دبرها، وإن ذلك لا يفسد صومها، حتى لو أنزل الرجل، وينسبون ذلك إلى الأئمة كما روى الطوسي عن الصادق أنه سئل: "عن الرجل يأتي المرأة في دبرها وهي صائمة؟ قال: لا ينقض صومها، وليس عليها غسل ". ((تهذيب الأحكام)) (4/ 319). وأباحوا أيضاً التمتع بالمرأة في نهار رمضان بشرط عدم الإيلاج، فإن أمنى فلا بأس بصيامه، كما أخرج العاملي بإسناده عن علي رضي الله عنه أنه قال: " لو أن رجلاً لصق بأهله في شهر رمضان، فأمنى لم يكن عليه شيء ". ((وسائل الشيعة)) (10/ 98). (3) ((شرائع الإسلام)) (1/ 319). (4) روى النوري بإسناده عن أبي جعفر أنه قال: " في الرجل يعبث بأهله في نهار رمضان حتى يمني أن عليه القضاء والكفارة ". ((مستدرك الوسائل)) (7/ 323). (5) الطباطبائي، ((العروة الوثقى)) (2/ 200) , ((فقه الخوئي)) (12/ 68). (6) وينسبون الروايات إلى الأئمة في ذلك فأخرج العاملي عن إسماعيل بن عبد الخالق قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام هل يدخل الصائم رأسه في الماء؟ قال: لا ولا المحرم ". ((الوسائل)) (12/ 509). وينظر ما قرره فقهائهم عند الطوسي، ((النهاية)) (ص 132) , ((فقه الخوئي)) (12/ 157). (7) وينسبون الروايات في ذلك إلى الأئمة، فعن عبد الله بن سنان قال: "سألت أبا عبد الله عن صيام عاشوراء، فقلت: ما قولك في صومه؟ فقال لي: صمه من غير تبييت وأفطره من غير تشميت، ولا تجعله يوم صوم كاملاً، وليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعة على شربة ماء ... ". أخرجه العاملي، ((وسائل الشيعة)) (10/ 459). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 267 وقالوا: إن صيام اليوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة مؤكّدة، مع أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وجميع الأئمة لم يصوموا هذا اليوم بالخصوص ولم يبينوا ثوابه (1).وقالوا: لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد أقام فيه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو الأئمة الجمعة (2)، وهذا مخالف لقوله تعالى: وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة: 187] , وقالوا: يحرم استعمال الطيب للمعتكف (3) مع أنه مسنون لمن يدخل المساجد بالإجماع. المصدر: غرائب فقهية عند الشيعة الإمامية لمحمود شكري الألوسي   (1) ومن الأمور المحدثة في هذا العصر إفتاء فقهائهم بإباحة التدخين للصائمين خلال نهار رمضان، وقد شاع هذا الأمر بين القوم على ما رأينا بأعيينا بين عوامهم في العراق وفقاً لفتوى أحد مجتهديهم المشهور بالصدر، مع أن الروايات في كتبهم عن الأئمة فيها نهي واضح عن شم الروائح خلال الصيام، فقد أخرج الكليني عن الحسن بن راشد قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الصائم يشم الريحان؟ قال: لا لأنه لذة ويكره له أن يتلذذ ". ((الكافي)) (4/ 113) , الطوسي ((تهذيب الأحكام)) (4/ 267) , العاملي ((وسائل الشيعة)) (10/ 93). (2) قال ابن بابويه: " اعلم أنه لا يجوز الاعتكاف إلا في خمسة مساجد: في المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الكوفة ومسجد المدائن ومسجد البصرة، والعلة في ذلك أنه لا يعتكف إلا في مسجد جامع جمع فيه إمام عدل ". ((المقنع)) (ص 71) , المرتضى ((الانتصار)) (ص96). (3) وحكم المعتكف عندهم كحكم المحرم بالحج، قال (شيخ الطائفة) الطوسي: " وعلى المعتكف أن يتجنب ما يتجنبه المحرم من النساء والطيب والكلام الفاحش والمماراة والبيع والشراء ولا يفعل شيئاً من ذلك ". ((النهاية)) (ص 167) , الحلي ((مختلف الشيعة)) (3/ 589) , العاملي ((اللمعة الدمشقية)) (2/ 157). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 268 المبحث الخامس: مسائل الزكاة: قالوا: لا تجب الزكاة في التبر من الذهب والفضة (1).وقالوا: لو كان عند رجل في ملكه نقود كثيرة مسكوكة، واتخذ منها الحلي أو آلات اللهو سقط عنه زكاتها (2)، وإن احتال بهذا قبل يوم من حولان الحول (3)، كذلك تسقط زكاة تلك النقود إذا كسد رواجها في تلك المدة وراجت نقود أخر مكانها، وهذا مخالف لقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [البقرة: 34]. وحيثما ذكر وجوب الزكاة في كلام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أو الأئمة جاء بلفظ الذهب والفضة لا بلفظ الدراهم والدنانير الرائجة الوقت (4).وقالوا: لا تجب الزكاة في أموال التجارة ما لم تصر نقدين بعد التبدل والتحول (5).وقالوا: لا تجب الزكاة في مال رجل أو امرأة ملكه وجعله أثاثاً لنفسه أو اشترى به متاعاً بنيّة الاكتساب أو الزينة أو بالعكس، وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم: ((أدوا زكاة أموالكم)). (6)، ولا شبهة في كون هذه الأشياء مالاً. وقالوا: يجوز للمزكي أن يسترد مال الزكاة عن المستحق، إذا زال فقره بعد ما تملكه وتصرف فيه (7)، مع أن الصدقات لا تسترد، ولا يصح الرجوع فيها بعد القبض، وأخذ مال الغير بدون إجازته لا يجوز في الشريعة أصلاً، والاستحقاق وقت الزكاة شرط في وقت الأخذ لا في تمام عمره. المصدر: غرائب فقهية عند الشيعة الإمامية لمحمود شكري الألوسي   (1) وقد نسبوا الروايات في ذلك لأهل البيت، فروى الكليني عن الصادق والكاظم أنهما قالا: " ليس على التبر زكاة، إنما هي على الدنانير والدراهم ". ((الكافي)) (3/ 518) , الطوسي ((تهذيب الأحكام)) (4/ 7). (2) قال العاملي: "أما النقدان فيشترط فيهما النصاب والسكة، وهي النقش الموضوع للدلالة على المعاملة الخاصة بكتابة وغيرها، وإن هجرت فلا زكاة في السبائك والممسوح، وإن تعومل به ... ولو اتخذ المضروب بالسكة آلة للزينة وغيرها لم يتغير الحكم .. ". ((اللمعة الدمشقية)) (2/ 30) , وقريب من هذا ما قاله الطباطبائي، ((العروة الوثقى)) (2/ 373). (3) ويدعون وجود روايات في كتبهم تعضد ذلك، ففي (صحيح) علي بن يقطين عن أبي الحسن موسى أنه قال: " لا تجب الزكاة فيما سبك فراراً به من الزكاة، ألا ترى أن المنفعة قد ذهبت فلذلك لا تجب الزكاة ". ((وسائل الشيعة)) (9/ 160). وأخذ بهذه معظم علمائهم، قال المفيد: " إذا صيغت الدنانير حلياً أو سبكت سبيكة لم يجب فيها زكاة، ولو بلغت الوزن مائة وألفاً, وكذلك زكاة في التبر قبل أن تضرب دنانير". ((المقنعة)) (ص 332). (4) وليس هذا هو رأي فقهائهم القدامى، بل هو رأي المعاصرين، قال الخوئي: " والخالص من تلك المواد (الذهب والفضة) لا زكاة فيهما ". ((فقه الخوئي)) (28/ 239). (5) العاملي، ((اللمعة الدمشقية)) (2/ 37) , الطباطبائي ((العروة الوثقى)) (2/ 304). (6) رواه الترمذي (616) , من حديث أبي أمامة رضي الله عنه, وقال: حسن صحيح. وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 68) , وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)). ورواه النسائي (5/ 37) (2477) , من حديث علي رضي الله عنه, وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)). (7) ((العروة الوثقى)) (2/ 354). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 269 المبحث السادس: مسائل الحج قالوا: لو ملك رجلٌ مالاً يكفي لزاده وراحلته ونفقة عياله (124/ أ) ذهاباً وإياباً، ولكن إذا ظن أنه بعد الرجوع من الحج، لا يبقى عنده ما يكفيه لنفقة أكثر من شهر، لا يجب عليه الحج، نص عليه أبو القاسم في (الشرائع) وغيره (1)، وقد أوجب الشارع الحج على من استطاع إليه سبيلا، أي بالزاد والراحلة ونفقة العيال ذهاباً وإياباً، وصحة البدن وأمن الطريق لا غير، فانصرام النفقة بعد المجيء لا يوجب نقصاً في معنى الاستطاعة. وقالوا: لا يجب سترة العورة في الحج، لكن هذا عند بعضهم، وقد قال تعالى: خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف: 31] والروايات الصريحة عن الأئمة ناصة على خلاف ذلك. وقالوا: يجوز للحاج أن يطوفوا عراة كالجاهلية، ولكن بشرط تطيين السوأتين، بحيث لا يظهر لون البشرة، مع أن هذا ليس من شعائر الإسلام. ومن العجيب أن الزنا عند طائفة منهم لو وقع بعد الإحرام بالحج لا يفسده (2)، وهذه ثمرة كشف العورة فيه، وكيف يجوز ذلك والله تعالى يقول: فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197] ولا رفث فوق الزنا في العالم. وقالوا: لو اصطاد أحد في الإحرام مرّة متعمداً تجب عليه الكفارة، وإذا فعل ذلك مرة أخرى لا تجب (3)، مع أن الجناية إذا تكررت تكون أعظم، ونص الكتاب قاضٍ بالكفارة على العامد مطلقاً، قال تعالى: وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء .. [المائدة: 95] (4). المصدر: غرائب فقهية عند الشيعة الإمامية لمحمود شكري الألوسي   (1) أبو القاسم يعرف عند الشيعة الإمامية بـ (المحقق الحلي) وقد ذكر في كتابه المشار إليه شروط الحج فقال: " أن يكون له ما يمول عياله حتى يرجع، فاضلاً عما يحتاج إليه، ولو قصر ماله عن ذلك لم يجب عليه". ((شرائع الإسلام)) (1/ 361). وهذا مشهور بين فقهاء الفرقة، بل نقل المرتضى الإجماع عليه، ((الناصريات)) (ص 105)، ابن زهرة ((الغنية)) (ص 86). (2) قال ابن زهرة: " ومن وطئ قبل الوقوف بعرفة، وإن وطئ بعد الوقوف بالمشعر الحرام لم يفسد حجه، وكان عليه بدنة ... ". ((الغنية)) (ص 159). وينظر أيضاً ما قاله الحر العاملي في ((اللمعة الدمشقية)) (2/ 356). (3) وقد استنكر (علامتهم) الحلي على من قال بإيجاب الكفارة على من اصطاد أكثر من مرة وهو محرم، فقال:" مسألة: تتكرر الكفارة بتكرر الصيد خطأ إجماعاً، وفي تكررها مع العمد قولان ... ". ((مختلف الشيعة)) (/132)؛ وينظر أيضا العاملي ((اللمعة الدمشقية)) (2/ 349)؛ الطباطبائي ((العروة الوثقى)) (2/ 236). (4) وكذلك في الروايات المنقولة عن الأئمة في كتب القوم، منها ما رواه ابن أبي عمير في (الصحيح) قال: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: محرم أصاب صيداً؟ قال: عليه كفارة، قلت: فإن عاد؟ قال: عليه كلما عاد". الطوسي ((تهذيب الأحكام)) (5/ 372). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 270 المبحث السابع: مسائل الجهاد: قالوا: الجهاد خاص بمن كان مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو في زمن خلافة الأمير أو الإمام الحسن قبل صلحه مع معاوية، أو مع الإمام الحسين، أو من سيكون مع الإمام المهدي (1)، ولا يجوز الجهاد عندهم في غير هذه الأوقات الخمسة، مع أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، والآيات الدالة على وجوب الجهاد غير مقيدة بزمان، بل تدل على أن الجهاد وفي جميع الأوقات عبادة، ومستوجب للأجر العظيم قوله تعالى: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ .. [المائدة: 54] , فإنها نزلت في حق الخليفة الأول (2)، وقوله تعالى: سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ .. [الفتح: 16]، فإنها نزلت في حق رفقاء الخليفة الثاني (3).وما وقع عندهم من الجهاد في غير الأوقات المذكورة، فهو فاسد (عندهم) (4)، فيلزم على هذا أن تكون الغنائم في الجهاد الفاسد ليس بمشروعة القسمة، ولا تكون الجواري المأسورة (مملوكة) (5) لأحد ولا يصح التمتع بهن، وقد استخرجوا فتوى عجيبة لتسهيل هذا العسير ونسبها صاحب (الرقاع المزورة) ابن بابويه إلى صاحب الزمان إن تلك الجواري كلها مملوكة للإمام (6)، وقد حلل الأئمة جواريهم لشيعتهم، فبهذه الحيلة يجوز التسري بهن، وإن كانت مأسورة في الجهاد الفاسد. وما يوجب العجب، بل يضحك المغبون أنك لو سألتهم وقلت: كيف تسرى (علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه) (7) بخولة بنت جعفر اليمامية الحنفية (8) التي جاء بها خالد بن الوليد مأسورة في عهد الخليفة الأول، وولد منها محمد بن الحنفية؟ مع أن ذلك الجهاد كان - بزعمهم الفاسد - فاسداً، أجابوك بأنه قد صح عندنا أن الأمير أعتقها أولاً ثم تزوجها (9)، أولا يفقهون (124/ ب) أن الإعتاق لا يتصور بدون الملك، فيلزم أن يملكها أولاً ثم يعتقها، مع أن الإعتاق نوع من التصرف، وبه يثبت المدعى. المصدر: غرائب فقهية عند الشيعة الإمامية لمحمود شكري الألوسي   (1) قال المجلسي بهذا الخصوص: " ولا جهاد إلا مع الإمام ". ((بحار الأنوار)) (99/ 10). (2) وقد روى الطبري عن الضحاك في تفسير هذه الآية قال: "هو أبو بكر وأصحابه لما ارتد من ارتد من العرب عن الإسلام جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردهم إلى الإسلام ". ((تفسير الطبري)) (6/ 283) , وينظر أيضاً ((الدر المنثور)) للسيوطي (3/ 102). (3) وذهب الطبري في تحديد هؤلاء القوم بأنهم أهل فارس والروم، ومعلوم أن قتال هؤلاء كان في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ((تفسير الطبري)) (26/ 82). (4) زيادة من ((مختصر التحفة)) (ص 222) يقتضيها السياق. (5) زيادة من ((مختصر التحفة)) (ص 222) يقتضيها السياق. (6) قال المفيد: "الأنفال لرسول الله صلى الله عيله وسلم في حياته، وهي للإمام القائم بعده ". ((تهذيب الأحكام)) (4/ 132). لأن هذه الدنيا باعتقاد الإمامية للإمام يتصرف فيها كيفما يشاء، فقد روى ابن بابويه القمي عن أبي بصير عن الصادق أنه قال: "إن الدنيا للإمام يضعها حيث يشاء ويدفعها حيث يشاء ... ". ((من لا يحضره الفقيه)) (2/ 39). (7) زيادة من ((مختصر التحفة)) (ص 222) يقتضيها السياق. (8) هي خولة بنت جعفر بن قيس بن مسلمة بن ثعلبة بن يربوع، كانت من سبي اليمامة فصارت إلى علي بن أبي طالب، وقد وهبها له أبو بكر الصديق، قالت أسماء بنت أبي بكر: " رأيتها سندية سوداء وكانت أمة لبني حنيفة ". ((طبقات ابن سعد)) (5/ 91) , (المنتظم) (6/ 228). (9) ويدعي الإمامية أن سبي خولة كان تعدياً من خالد بن الوليد، وأن علياً أبقاها عند أسماء بنت عميس إلى أن خطبها فيما بعد من أخوها، كما أورد ذلك القطب الراوندي في قصة طويلة له. ((الخرائج والجرائح)) (2/ 81 - 82). وكل هذا من أجل حل السراري لهم، وهذه القصة بالأساس من اختراع القطب الراوندي، لأن علياً رضي الله عنه لم يتزوج من إماء السبي خولة فقط، بل تزوج سبية أخرى هي أم عمر، قال ابن أبي الحديد في بيان أولاد الأمير رضي الله عنه: " أما محمد فأمه خوله بنت إياس بن جعفر من بني حنيفة ... وأما عمر ورقية فأمهما سبية من بني تغلب يقال لها: الصهباء سبيت في خلافة أبي بكر، وإمارة خالد بن الوليد بعين التمر ". فإن سلمنا برواية الإمامية بأن خولة قد أعتقت ثم تزوجها الأمير رضي الله عنه، فما تكون إجابة القوم بخصوص الصهباء، وقد صرح أحد علمائهم المعتبرين بأنها سبية، ولم يشر إلى أن الأمير أعتقها؟!. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 271 المبحث الثامن: مسائل النكاح والبيع: قالوا: لا يجوز النكاح والبيع إلا بلغة العرب (1)، مع أن اعتبار اللغات في المعاملات الدنيوية لم يأتِ في شريعة أصلاً، ولا أن الأمير كلف أهل خراسان وفارس في عهد خلافته، بأن يعقدوا معاملاتهم بلسان العرب، بل نفذ أنكحتهم وبيوعهم المنعقدة بلغتهم، وأي دخل للسان العرب في صحة العقود والمعاملات، كالنكاح والبيع والإجارة والطلاق، إذ المقصود بها إظهار ما في الضمير، وهو معين لكل قوم بلغتهم. وقالوا: إن الجد مختار في بيع مال الصغير، وله الولاية عليه مع وجود الأب، وقد تقرر في الشرع عدم دخول الولي الأبعد عند وجود الأقرب في كل باب، وسقوط المدلي عن المدلى به في الولاية والميراث. المصدر: غرائب فقهية عند الشيعة الإمامية لمحمود شكري الألوسي   (1) قال العاملي وهو بصدد كلامه على عقد الزواج: " ولا يجوز بغير العربية مع القدرة ". ((اللمعة الدمشقية)) (5/ 20) ويشمل هذا الأمر البيع أيضاً عند الإمامية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 272 المبحث التاسع: مسائل التجارة: قالوا: إن أخذ الربح من المؤمن في التجارة مكروه (1)، وقد قال الله تعالى: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275] , وقال تعالى: إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ [البقرة: 282] إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ [النساء: 29] والمؤمن وغيره سيان في هذا الباب، إذ مبنى التجارة والبيع على تحصيل النفع، وما توارثه جميع الأمة في كل الأعصار والأمصار على خلاف هذه المسألة. فلو اتجر مؤمن في دار الإسلام تجارة بالمؤمنين لا تجوز له فتصير ديار كثيرة محرومة من هذه الفائدة، وقد قرر الأنبياء والأئمة المؤمنين على تجارتهم فيما بينهم مع أخذ الربح. المصدر: غرائب فقهية عند الشيعة الإمامية لمحمود شكري الألوسي   (1) قال (المحقق) الحلي: " ويكره مدح البائع ... والربح على المؤمن إلا لضرورة ... ". ((شرائع الإسلام)) (2/ 27). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 273 المبحث العاشر: مسائل الرهن والدين: قالوا: يجوز الرهن من غير قبض المرتهن المرهون، وقد جعل القبض في الشرع من لوازم الرهن، قال تعالى: فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ [البقرة: 283] ولا تتحقق الفائدة المقصودة من الرهن بدون القبض؛ لأن المرتهن لا حق له في رقبة المرهون، ولا يجوز الانتفاع بمنافعه بلا إذن الراهن، وليس له إلا القبض حتى يحصل دينه من المرهون لدى الحاجة، فإذا لم يكن هذا أيضاً فائدة فيه للمرتهن، ومع هذا قد خالفوا في هذه المسألة الروايات الصحيحة عن الأئمة، روى محمد بن قيس، عن الباقر والصادق أنهما قالا: " لا رهن إلا مقبوض " (1).وقالوا: يجوز للمرتهن الانتفاع بالمرهون (2)، وهو ربا محض. وقالوا: إنْ ارتهن أحد أمة آخر يجوز له وطؤها، وهو زنا. وقالوا: إنَّ رهن أحد أم ولده جاز، وإن أذن للمرتهن وطأها قبلاً ودبراً جاز أيضاً (3)، ولا يخفى شناعة هذه المسألة ومخالفتها لقواعد الشرع. وقالوا: لو أحال رجل دينه على آخر وهو لا يقبل، لزمت الحوالة, نص عليه أبو جعفر الطوسي وشيخه ابن النعمان (4)، وفي هذا الحكم غاية غرابة، ولم يأتِ في باب (من أبواب) (5) الشريعة أن يلزم دين أحد آخر بلا التزامه، ولو جرى العمل على هذه المسألة لحصل فساد عظيم، إذ يمكن لكل فقير أن يحيل دينه على الأغنياء والتجار في كل بلدة ويبرئ ذمته. المصدر: غرائب فقهية عند الشيعة الإمامية لمحمود شكري الألوسي   (1) العاملي، ((وسائل الشيعة)) (18/ 383). (2) قال (شيخ الطائفة) الطوسي: " وإن أقرض شيئاً وارتهن على ذلك وسوغ له صاحب الرهن الانتفاع به جاز له ذلك سواء كان ذلك متاعاً أو مملوكاً أو جارية أو أي شيء كان ... ". ((النهاية)) (ص 116). (3) ورغم توقف الطوسي في هذا، فإن غيره من فقهاء الإمامية أباحوا ذلك، قال ابن إدريس: " والذي عندي أنه إذا أباح المالك له وطأها من غير اشتراط في القرض ذلك، فإنه جائز حلال ". ((السرائر)) (2/ 65). (4) يعني بابن النعمان: المفيد، ((المقنعة)) (ص 219) , الطوسي ((النهاية)) (ص 323). (5) زيادة من ((مختصر التحفة)) (ص 224) يقتضيها السياق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 274 المبحث الحادي عشر: مسائل الغصب والوديعة: قالوا: (125/ أ) لو غصب رجل مال غيره، وأودعه غيره، يجب على المودع إنكار الوديعة بعد موت المودع، مع أن الله تعالى شدد الوعيد في إنكار الأمانة، وإن كان ذلك المودع غاصباً فعليه ذنبه، ولكن كيف يجوز لهذا الأمين إنكار أمانته والحلف بالكذب؟!.وقالوا: إن لم يظهر مالك ذلك المغصوب بعد التفحص سنة واحدة، يتصدق به على الفقراء، مع أن التصدق من مال الغير بلا إذنه لا يجوز في الشرع؛ لقوله تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء: 58]، وقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ((أدِ الأمانة إلى من ائتمنك, ولا تخن من خانك)) (1)، وهو خبر صحيح نص عليه ابن المطهر الحلي (2). وقالوا: إن غصب أحد مال غيره، وخلطه بماله، بحيث لا يمكن الامتياز بينهما، كاللبن المخلوط باللبن، والسمن بالسمن والبر بالبر ونحوها، يرد الحاكم ذلك المال إلى المغصوب منه، وهذا الحكم ظلم صريح؛ لأن المغصوب منه لا حق له في مال الغاصب، ولا يعالج الظلم بالظلم. وقالوا: إن أودع رجل أمته عند آخر، وأجاز له وطأها متى شاء (جاز) (3) للأمين أن يطأها متى شاء. المصدر: غرائب فقهية عند الشيعة الإمامية لمحمود شكري الألوسي   (1) رواه أبو داود (3535) , والترمذي (1264) , والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: حسن غريب. وحسنه الزرقاني في ((مختصر المقاصد)) (44). وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) و ((صحيح سنن الترمذي)). (2) ورواه الإمامية في كتبهم أيضاً عن الأئمة في ((الكافي)) (8/ 293) , ((تهذيب الأحكام)) (6/ 348). (3) زيادة من ((مختصر التحفة)) (ص 224) يقتضيها السياق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 275 المبحث الثاني عشر: مسائل العارية: قالوا: لو قال رجل لآخر حللت لك جميع منافع هذه الأمة، يكون وطؤها له حلالا طيباً، وإعارة فروج النساء بالخصوص، أو في ضمن جميع المنافع جائزة عندهم، وكذا إعارة أم الولد للوطء، وهذه الأحكام كلها مخالفة لقوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون: 5 - 7]. المصدر: غرائب فقهية عند الشيعة الإمامية لمحمود شكري الألوسي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 276 المبحث الثالث عشر: مسائل اللقيطة: قالوا: إن وجد رجلٌ طفلاً مميزاً ضل عن ورثته، لا يجوز له التقاطه ولا حفظه ببيته، ولا شبهة في أن ترك التقاطه موجب لهلاكه؛ لأنه لصغره عاجز عن دفع المؤذين عن نفسه، غير قادر على كسب نفقته، فالتقاطه أوكد من التقاط الحيوانات. المصدر: غرائب فقهية عند الشيعة الإمامية لمحمود شكري الألوسي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 277 المبحث الرابع عشر: مسائل الإجارة والهبة والصدقة والوقف: قالوا: لا تنعقد الإجارة بغير لسان العرب، وقالوا: من استؤجر لجهاد الكفار ولحراسة الطريق والشوارع من قطاع الطريق في زمن غيبة الإمام المهدي، لا يكون الأجير مستحقاً للأجرة؛ لأن الجهاد في زمن غيبة الإمام فاسد، فلا تصح إجارته. وقالوا: إن جعل شيعي أم ولده أجيراً لخدمة رجل، ولتدبير البيت، وأحل فرجها لآخر، يكون خدمتها للأول ووطؤها للثاني. وقالوا: لا تصح الهبة بغير اللغة العربية، فلو قال رجل ألف مرة باللسان الفارسي مثلاً: بخشيدم بخشيدم لا تكون هبة. وقالوا: إن هبة وطء مملوكته فقط صحيحة، ويكون الفرج عارية. وقالوا: يجوز الرجوع عن الصدقة (1)، وقد قال تعالى: لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم [البقرة: 264] , وقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ((العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه)) (2).وقالوا: يجوز وقف الهرّة، مع أنه لا فائدة في وقفها (3).وقالوا: إن وقف فرج الأمة صحيح فتلك الأمة تخرج (إلى الناس) (4) (125/ ب) ليستمتعوا بها وأجرة هذه المتعة حلال طيب لمن وقفت له (5)، فلم يبقَ فرق بين الشريعة وبين أسلوب الكفار الذين لا دين لهم. المصدر: غرائب فقهية عند الشيعة الإمامية لمحمود شكري الألوسي   (1) قال المرتضى: " ومما انفردت به الإمامية القول بأن من وهب شيئاً غير قاصد به ثواب الله تعالى ووجهه جاز له الرجوع فيه ما لم يتعوض عنه، ولا فرق في ذلك بين الأجنبي وذي الرحم ". ((الانتصار)) (ص 267). (2) رواه البخاري (2623) , ومسلم (1620) , من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (3) كما نقل ذلك (المحقق) الحلي، ((شرائع الإسلام)) (2/ 444) , (العلامة) الحلي، ((قواعد الأحكام)) (ص215). (4) زيادة من ((مختصر التحفة)) (ص227) يقتضيها السياق. (5) قال (المحقق) الحلي: " يصح وقف المملوكة، ينتفع بها مع بقائها ويصح قبضها ". ((شرائع الإسلام)) (2/ 444). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 278 المبحث الخامس عشر: مسائل النكاح: قالوا: يستحب ترك النكاح مع التوقان وخوف الفتنة، مع أنه خلاف سنة الأنبياء والأوصياء، نعم لم يكن الأنبياء والأوصياء يعلمون أن شبق الجماع يمكن أن يدفع بالمتعة وبالفروج المعارة (1).وقالوا: النكاح مكروه إذا كان القمر في العقرب (2)، أو تحت الشعاع وفي المحاق (3)، وهذا مخالف لمقاصد الشرع الذي جاء لإبطال النجوم. وقالوا: إن وطأ جارية لم يكمل لها تسع سنين حرام، وإن كانت ضخمة تطيق الجماع (4)، ولا أصل لهذا الحكم في الشرع. وقالوا: يجوز في النكاح المباح أن يشرط النكاح مرات الجماع في زمان معين، ويكون لكل منهما مطالبة الآخر على وفق الشروط، وقد قال الله تعالى: لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا [البقرة: 235].وقالوا: يجوز وطأ المنكوحة، أو المملوكة، أو الأمة المعارة، أو الموقوفة، أو المودعة، أو المستمتع بها دبراً (5)، مع أن الله تعالى قال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ [البقرة: 222] , وإذا حرم الله تعالى الفرج لنجاسة الحيض، فكيف لا يكون الدبر الذي هو معدن النجاسة حراماً لتلك العلّة؟ وثانياً: لو كان الوطء من الدبر جائزاً لما قال: فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ لا في محل الحيض هو الفرج خاصة، وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: ((ملعون من أتى امرأة في دبرها)) (6)، وقالوا: ((اتقوا محاشن النساء)) (7) أي أدبارهن، وهو خبر صحيح متفق عليه نص عليه المقداد. المصدر: غرائب فقهية عند الشيعة الإمامية لمحمود شكري الألوسي   (1) رغم أنهم يروون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أحب أن يلقى الله طاهراً مطهراً فليستعفف بزوجة)). أخرجه ابن بابويه، ((من لا يحضره الفقيه)) (3/ 385). (2) ويروون في ذلك أخبار عن الأئمة منه ما نسبوه إلى الصادق أنه قال: " من تزوج والقمر في العقرب لم يرَ الحسنى ". أخرجها الكليني، ((الكافي)) (8/ 275) , الطوسي، ((تهذيب الأحكام)) (7/ 407). (3) والرواية في كتبهم عن سليمان الجعفري عن أبي الحسن الرضا أنه قال: "من أتى أهله في محاق الشهر فليسلم لسقط الولد ". أخرجها الكليني، ((الكافي)) (5/ 499) , ابن بابويه ((من لا يحضره الفقيه)) (3/ 402) , الطوسي ((تهذيب الأحكام)) (7/ 411). ولذلك قرر (المحقق) الحلي, بأن الجماع مكروه في ثمانية أوقات: " ليلة خسوف القمر وليلة كسوف الشمس وعند الزوال وعند غروب الشمس حتى يذهب الشفق الأحمر وفي المحاق وبعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس وفي أول ليلة من كل شهر إلا في شهر رمضان، وفي ليلة النصف وفي السفر إذا لم يكن معه ماء يغتسل به وعند هبوب الريح ... ". ((شرائع الإسلام)) (2/ 547) , وينظر أيضاً ما قاله العاملي ((اللمعة الدمشقية)) (5/ 93). (4) والرواية في كتب القوم عن الصادق أنه قال: " لا يدخل بالجارية حتى يأتي لها تسع سنين أو عشر سنين ". ((الكافي)) (5/ 398) , الطوسي ((تهذيب الأحكام)) (7/ 410). (5) وهذا الأمر من مسلمات هذه الفرقة، فأخرج الكليني عن صفوان بن يحيى قال: " قلت للرضا عليه السلام: إن رجلاً من مواليك أمرني أن أسألك عن مسألة هابك واستحيى منك أن يسألك، قال: وما هي؟ قلت: الرجل يأتي امرأته في دبرها؟ قال: له ذلك ". ((الكافي)) (5/ 54) , وأخرجها أيضاً الطوسي ((تهذيب الأحكام)) (7/ 415). (6) - رواه أبو داود (2162) , والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 323) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, قال العجلوني في ((كشف الخفاء)) (2/ 282): رجاله ثقات. وقال أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 271): أسانيده صحاح. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5889). (7) لم أجده بهذا اللفظ، ورواه الدارقطني بلفظ قريب عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: استحيوا فإن الله لا يستحيي من الحق، لا يحل إتيان النساء في حشوشهن) ((سنن الدارقطني)) (3/ 288) قال الطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (3/ 45): جائت الآثار متواترة بذلك. وقال أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 270): إسناده صحيح. وحسنه الشيخ الألباني في ((صحيح الجامع)) (رقم 934). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 279 المبحث السادس عشر: مسائل المتعة: زعموا أن متعة النساء خير العبادات وأفضل القربات (1)، ويروون في فضائلها أخباراً موضوعة مفتراة وهي أنواع: قالوا: يجوز متعة الخلية بالإجماع، ومتعة المشركة والمجوسية، سواء كانت خليّة أو محصنة، إذا تحركت ألسنتهن بقول لا إله إلا الله، وإن لم يكن في قلبهن من معناها شيء (2). وقالوا: تجوز المتعة الدورية - وإن كان الاثنا عشرية ينكرون هذا التجويز - ولكن المحققين منهم لم ينكروها، وذكروا أنها ثابتة في كتبهم، صورتها: أن يستمتع جماعة من امرأة واحدة، ويقرروا الدور والنوبة لكل منهم، فيجامعها من له النوبة من تلك الجماعة في نوبته، مع أن خلط المائين في الرحم لا يجوز في شريعة من الشرائع، إذ لا يثبت حينئذ نسب العلوق لأحد منهم، مع أن حفظ الأنساب هو الفارق بين الإنسان والحيوان. وإذا تأمل العاقل في أصل المتعة، يجد فيها مفاسد مكنونة كلها تدافع الشرع، منها تضييع الأولاد، فإن أولاد الرجل إذا كانوا منتشرين في كل بلدة ولا يكونون عنده، فلا يمكن أن يقوم بتربيتهم، فيعيشون من غير تربية كأولاد الزنا، ولو فرضنا أن أولئك الأولاد كانوا إناثاً، يكون المحذور أزيد والخزي أعظم؛ لأن نكاحهن لا يمكن أن يكون من كفوٍ أصلاً. ومنها احتمال وطء موطوءة الأب للابن نكاحاً أو متعة أو بالعكس، بل يحتمل أن يطأ الرجل بنته، أو بنت ابنه، أو أخته، أو غيرهن من المحارم (126/ أ) في بعض الصور خصوصاً في مدة طويلة، وهو من أشد المحذورات. ومنها عدم تقسيم ميراث من ارتكب المتعة كثيراً، إذ لا يكون ورثته معلومين لا عددهم ولا أسماؤهم ولا أمكنتهم، فلزم تعطيل أمر الميراث، وكذلك لزم تعطيل ميراث من ولد بالمتعة، فإن آباءهم وإخوانهم (3) مجهولون، ولا يمكن تقسيم الميراث ما لم يعلم حصر الورثة في العدد، ويمتنع تعيين سهم من الأسهم ما لم يدر صفات الورثة من الذكورة والأنوثة والحجب والحرمان. بالجملة فالمفاسد كثيرة المترتبة على المتعة مضرة جداً، ولا سيما في الأمور الشرعية كالنكاح والميراث، فلهذا حصر سبحانه أسباب حل الوطء في شيئين: النكاح الصحيح وملك اليمين؛ ليحفظ الولد ويعلم الإرث. المصدر: غرائب فقهية عند الشيعة الإمامية لمحمود شكري الألوسي   (1) ولا يكتفون برواية هذا الأمر في كتبهم ونسبته إلى الأئمة فقط، بل وينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من الدين المتعة ... )). الكليني، ((الكافي)) (6/ 439). (2) قال العاملي: " المتعة لا تنحصر في عدد أو نصاب وإنها تصح بالكتابية ". ((اللمعة الدمشقية)) (5/ 284 - 285). (3) كذا في الأصل، وفي ((مختصر التحفة)) (وأخواتهم) (ص228). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 280 المبحث السابع عشر: مسائل الرضاع والطلاق: قالوا: إن شرب الطفل اللبن خمسة عشرة مرة متوالية يشبع الطفل بكل منها يثبت الحرمة (1)، وإن لم تكن متوالية لا يثبت الحرمة، وإن شبع الطفل بكلّ (2)، مع أن الحكم كان في الابتداء عشر رضعات يحرمن، ثم نسخ وثبت ذلك بإجماع الأمة (3)، وأما قيد التوالي وزيادة الخمس على العشرة، فلم يكن في كلام الله تعالى أصلاً، بل هي من مخترعاتهم، وإبقاء الحكم المنسوخ تشريع من عند أنفسهم، مع أنهم يروون عن الأئمة أن شرب اللبن مطلقاً موجب للحرمة؛ لأن المقام مقام احتياط، وصرح شيخهم المقداد في (كنز العرفان) في بحث كفارة اليمين بوجوب العمل بالأحوط في أمثال هذه المواضع (4).وقالوا: لا يقع الطلاق بغير اللغة العربية (5)، وهو باطل لما قدمنا من أنه لا دخل للغات في العقود. وقالوا: إن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق، أو طلاق، لا يقع، ولو قال ذلك ألف مرة، وإنما يقع إذا قال: طلقتك، مع أن الشارع قد عدّ هذه الصيغ من الطلاق الصريح، وإن كان أصل وضعها للإخبار، وهم قائلون بوقوع الطلاق فيما إذا سأل رجلٌ آخرَ: هل طلقت فلانة؟ فقال: نعم، مع أن الصريح فيه الإخبار (6)، وإلا فكيف يقع في جواب الاستفهام؟.وقالوا: لا يصح الطلاق إلا بحضور شاهدين كالنكاح (7)، مع أن المعلوم قطعاً من الشرع أن الإشهاد في الرجعة والطلاق مستحب قطعاً؛ للنزاع المتوقع، لا أن حضور الشاهدين شرط في الطلاق أو الرجعة كما في النكاح، وهو ما عليه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والأئمة. وقالوا: لا يقع الطلاق بالكنايات، إن كان الزوج حاضراً، مع أنه لا فرق بين حضوره وغيبته (8)،   (1) وينسبون ذلك إلى أئمة أهل البيت كما روى الطوسي عن عمر بن يزيد قال: " سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: خمسة عشر رضعة لا تحرم ". ((تهذيب الأحكام)) (7/ 314). (2) قال المفيد فيما نقله عنه تلميذه الطوسي: " الذي يحرم من الرضاع عشر رضعات متواليات لا يفصل بينهن برضاع امرأة أخرى ". ثم روى عن الصادق أنه قال: " لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وشد العظم ". ((تهذيب الأحكام)) (7/ 312). (3) من ذلك ما أخرجه ((مسلم)) عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: ((كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن)). كتاب الرضاع، باب التحريم خمس رضعات (2/ 1075) (1452). وينظر التفاصيل الفقهية عند ابن حزم، ((المحلى)) (10/ 13) , ابن قدامة ((المغني)) (8/ 138) , الكاساني ((بدائع الصنائع)) (4/ 7). (4) وحرموا ما لم يحرم الله عز وجل، فعندهم إن المولود إذا بلغ لا يحل له الزواج من (القابلة) التي أشرفت على ولادته أو الزواج من ابنتها لأنها تصبح من ضمن المحرمات عليه، حالها كحال الأم من الرضاعة، كما ثبت ذلك في رواية نسبها ابن بابويه عن الصادق، ((من لا يحضره الفقيه)) (3/ 410). (5) كما قرر ذلك ابن إدريس، ((السرائر)) (2/ 278) , قال (المحقق) الحلي: " ولا يقع الطلاق بالكناية ولا بغير العربية مع القدرة على التلفظ باللفظة المخصوصة ولا بالإشارة إلا مع العجز عن النطق ". ((شرائع الإسلام)) (3/ 17). (6) وهذا ما قرره (شيخ الطائفة) الطوسي، ((النهاية)) (ص512) , ابن حمزة، ((الوسيلة)) (ص 325). (7) قال ابن بابويه: "باب الطلاق, اعلم أن الطلاق لا يقع إلا على طهر من غير جماع بشاهدين عدلين في مجلس واحد بكلمة واحدة، ولا يجوز أن يشهد على الطلاق في مجلس رجل، ويشهد بعد ذلك الثاني ". ((المقنع)) (ص 113). (8) قال (شيخ الطائفة) الطوسي: " إذا كتب بطلاق زوجته ولم يقصد بذلك الطلاق لا يقع بلا خلاف، وإن قصد به الطلاق عندنا أنه لا يقع به شيء " .. ((الخلاف)) (2/ 449). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 281 بل هو خلاف قاعدة الشرع، فإن الشارع لم يعتبر في إيقاع الطلاق حضور الزوج وغيبته قط. وقالوا: إن نكح المجبوب - وهو مقطوع الذكر فقط - امرأة، ثم طلقها بعد الخلوة الصحيحة لا تجب العدة عليها، مع أنهم قائلون بثبوت نسب الولد من هذا الرجل إن ولد منها (1)، فاحتمال العلوق من هذا الرجل ثبت أيضاً عندهم، فكيف لا يجب عليها عدة؟.وقالوا: لا يقع الظهار إذا أراد الزوج بإيقاعه إضرار زوجته بترك (126/ ب) الوطء (2)، مع أن الشارع قصد سد باب الإضرار بإيجاب الكفارة على المظاهر، فلو لم يقع الظهار، ولم يجب شيء في الإضرار، لزم المناقضة في مقصود الشارع، ومع ذلك فقولهم مخالف لنص الكتاب والأحاديث والآثار، فإنها وردت بلا تقييد، وهي ثابتة في كتبهم الصحيحة. وقالوا: إن عجز المظاهر عن أداء خصال الكفارة - من تحرير رقبة وصيام شهرين متتابعين وإطعام ستين مسكينا - فليصم ثمانية عشر يوماً (3)، وهذا القدر من الصوم يكفيه، ولا يخفى أن هذا قول من تلقاء أنفسهم، وحكم لم ينزله الله تعالى. وقالوا: يشترط في اللعان كون المرأة مدخولاً بها (4)، مع أن لحوق العار بتهمة الزنا أكثر من غير المدخول بها، وقد تقرر أن اللعان لدفع التهمة، وأنه أيضاً مخالف لقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ [النور:6] فقد ورد بغير تقييد بالدخول. المصدر: غرائب فقهية عند الشيعة الإمامية لمحمود شكري الألوسي   (1) ((شرائع الإسلام)) (3/ 132). (2) قال المرتضى: " ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الظهار لا يثبت حكمه إلا مع القصد والبينة ". ((الانتصار)) (ص141)؛ العاملي ((اللمعة الدمشقية)) (5/ 299). (3) والروايات في كتبهم منسوبة إلى الأئمة ليس في هذه المسألة فقط، بل في كل كفارة فيها صيام شهرين متتالين أو إطعام ستين مسكيناً، ككفارة الجماع في نهار رمضان، وكفارة القتل الخطأ، والرواية أخرجها الكليني، ((الكافي)) (4/ 385) , الطوسي ((تهذيب الأحكام)) (4/ 205) , ابن بابويه، ((من لا يحضره الفقيه)) (2/ 332). قال ابن بابويه: " ومتى عجز عن إطعام ستين مسكيناً صام ثمانية عشر يوماً ". ((من لا يحضره الفقيه)) (3/ 527). (4) قال الطوسي: " ولا يكون اللعان بين الرجل وامرأته إلا بعد الدخول بها، فإن قذفها قبل الدخول بها كان عليه الحد وهي امرأته لا يفرق بينهما ". ((النهاية)) (ص 251). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 282 المبحث الثامن عشر: مسائل الإعتاق والأيمان: قالوا: لا يقع العتق بلفظ العتق (1)، ولعمري إن هذا لشيء عجاب، فأي لفظ أدل على هذا المعنى من هذا اللفظ، وقالوا: لا يقع العتق بلفظ فك الرقبة أيضاً (2)، مع أنه قد وقع في عدة مواضع من القرآن التعبير بهذا اللفظ عن العتق، وصار حقيقة شرعية فيه، كقوله تعالى: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَة فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ [البلد: 11 - 14].وقالوا: لا يصح عتق عبد أو أمة، اعتقاد مذهب أهل السنة أو غيرهم، ممن خالف الاثني عشرية (3)، مع أنه لا دليل لهم على هذا لا من كتاب ولا من سنة، وما ذاك إلا محض عناد وجهل بالمراد، ألا ترى أن عتق العبد الكافر صحيح، فضلاً عن أن يكون له مذهب، وقد ثبت إيمان أهل السنة في كتبهم. وقالوا: لو صار العبد مجذوماً أو أعمى أو زمناً، يعتق نفسه من غير إعتاق (4)، وهذا خلاف ما تقتضيه قواعد الشرع، إذ لا يخرج مال أحد عن ملكه بنفسه بعيب؛ لأن سبب مشروعية العتق هو نفع العبد، وقد صار ههنا لمحض ضرره وهلاكه؛ لأنه حينئذ لا اقتدار له على الكسب ولا نفقة له على سيده، فإن قالوا للعبد نفع بذلك بسبب استراحته من الخدمة، قلنا لا يجوز على المالك تكليف مثل هؤلاء. وقالوا: إن خرجت نطفة السيد من بطن الأمة صارت أم ولد، فعلى هذا يلزم صيرورة كلّ جارية موطوءة أم ولد؛ لأن عادة النساء كذلك. وقالوا: لو رهن رجل أمته، ووطأها المرتهن، وجاءت بولد منه صارت أم ولد له (5)، مع أن وطء المرتهن محض زنا، إذ لا ملك له ولا تحليل، بل إن التحليل أيضاً لا يوجب كونها أم ولد عندهم. وقالوا: لا ينعقد يمين الولد بغير إذن الوالد في غير فعل الواجب وترك القبيح (6)، وكذلك يمين المرأة بغير إذن الزوج فيهما، مع أن ذلك مخالف لقوله تعالى: لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة: 225]، وقوله سبحانه: وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ [المائدة: 89].وقالوا: إن نذر أحد أن يمشي إلى الكعبة (127/ أ) راجلاً، يسقط عنه هذا النذر، نص عليه أبو جعفر الطوسي (7)، مع أنه مخالف لقوله تعالى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [الحج: 29] وقوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان: 7]. وقالوا: يلزم النذر بقصد القلب، من غير أن يتلفظ بلفظ النذر سراً وجهراً، ويسمونه نذر الضمير، مع أنه لا يلزم في الشرع شيء بقصد القلب، من جنس ما لا بد فيه القول، كاليمين والنذر والنكاح والطلاق والعتاق والرجعة والبيع والإجارة والهبة والصدقة وغيرها. المصدر: غرائب فقهية عند الشيعة الإمامية لمحمود شكري الألوسي   (1) قال (شيخ الطائفة) الطوسي: "العتق لا يقع إلا بقوله (أنت حر) مع القصد والنية، ولا يقع العتق بشيء من الكنايات .. ". ((الخلاف)) (3/ 15). (2) كما صرح بذلك (العلامة) الحلي في ((إرشاد الأذهان))، ((الينابيع الفقهية)) (32/ 388). (3) قال (علامتهم) الحلي في ((إرشاد الأذهان)): " ويكره عتق المخالف ". أي الذي يخالف مذهب الإمامية. ((الينابيع الفقهية)) (32/ 389). (4) فأخرج (شيخ الطائفة) الطوسي عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي رضي الله عنه أنه قال: "العبد الأعمى والأجذم والمعتوه لا يجوز في الكفارات؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقهم ". ((تهذيب الأحكام)) (8/ 324) , العاملي، ((وسائل الشيعة)) (22/ 397). (5) وقد قرر ذلك (شيخ الطائفة) في ((المبسوط)). ((الينابيع الفقهية)) (32/ 366). (6) كما صرح بذلك علامتهم الحلي في ((بلوغ المرام)). ((الينابيع الفقهية)) (32/ 148). (7) حيث صرح بذلك في كتابه، ((الخلاف)) (3/ 303). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 283 المبحث التاسع عشر: مسائل القضاء: قالوا: لا ينفذ قضاء القاضي في الحدود، بل لا بد فيها من الإمام المعصوم (1)، فيلزم تعطيل الحدود في زمن غيبة الإمام، أو عدم تسلّط الأئمة كما كانت في الأزمنة الماضية، كذلك ولو كان موجوداً في محل، فمن يقيم الحدود في محل آخر، مع أن ليس في جميع العبادات والمعاملات والكفارات موقوفاً على حضور الإمام، فلتكن إقامة الحدود أيضاً من ذلك. وقالوا: يشترط في القضاء علم الكتابة (2)، مع أنه لا دليل عليه، بل إن الدليل قائم على خلافه، فإن خاتم النبيين عليه أفضل الصلاة والسلام، كان له منصب القضاء بلا ريب؛ لقوله تعالى: أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ [النساء: 105] , ولم يتصف بالكتابة؛ لقوله تعالى: وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت: 48] مع أنه لم يلحقه قصور من ذلك. المصدر: غرائب فقهية عند الشيعة الإمامية لمحمود شكري الألوسي   (1) العاملي، ((اللمعة الدمشقية)) (3/ 62). (2) وجعلوه من شروط القضاء، كما في ((اللمعة الدمشقية)) (2/) 417. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 284 المبحث العشرون: مسائل الدعوى: قالوا: تقبل دعوى امرأة ماتت ابنتها (بأنها تركت عند ابنتها المتوفاة متاعاً أو خادماً بالأمانة وذلك) (1) من غير بينة ولا شهود، نص عليه ابن بابويه، مع أنه مخالف لقوله تعالى: لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النور: 13]، ولقوله عليه الصلاة والسلام: ((البينة على المدعي واليمين على من أنكر)) (2)، وأيضاً لو قبلت الدعاوى من غير بينة لفسد الدين واختل نظام المسلمين. وقالوا: لو ادعى أحد على عدوه بالزنا، وليس عنده شهود على إثبات هذه الدعوى، يحلّف ولا يحد بالقذف، نص عليه شيخهم المقتول في (المبسوط) (3)، مع أن الحلف لا اعتبار له في الحدود، ويجب حد القذف على مدعيه إذا عجز عن إقامة البينة، وكيف لا ننظر إلى العداوة التي هي سبب ظاهر للاتهام والكذب؟. المصدر: غرائب فقهية عند الشيعة الإمامية لمحمود شكري الألوسي   (1) زيادة من ((مختصر التحفة)) (ص234) يقتضيها السياق. (2) رواه البيهقي في ((السنن)) (10/ 252) من حديث ابن عباس رضي الله عنه, والدارقطني (3/ 110) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال النووي في ((شرح مسلم)) (12/ 3): إسناده حسن أو صحيح. وصححه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/ 450) , قال الحافظ ابن حجر: في ((تلخيص الحبير)) (4/ 1529): هو في الصحيحين بلفظ (ولكن اليمين على المدعى عليه). (3) لم أجد للمقتول كتاباً يحمل هذا الاسم والمشهور بين الإمامية من الكتب الفقهية هو كتاب ((المبسوط)) لـ (شيخ الطائفة) الطوسي. أما النص فهو عند الأخير في كتابه ((المبسوط))، نقلاً عن ((الينابيع الفقهية)) (33/ 212). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 285 المبحث الحادي والعشرون: مسائل الشهادة والصيد والطعام: قالوا: تقبل شهادة الصبي الغير بالغ في القصاص (1)، مع أن الطفل ليس له أهلية الشهادة؛ لقوله تعالى: وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ [البقرة: 282] ولا سيما باب القصاص، الذي فيه إتلاف النفس. وقالوا: صيد أهل الكتاب حرام (2)، وذبيحة أهل السنة ميتة (3)، وكذا ذبيحة من لم يستقبل القبلة عند الذبح (4)، وكل ذلك مخالف لقوله تعالى: فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ [الأنعام: 118].وقالوا: لو اصطاد أحد بغير المعتاد من الآلة لا يصير الصيد مملوكاً (5)، مع أنه لا فرق بين الآلة المعتادة وغيرها. وقالوا: لبن الميتة وما لا يؤكل من الحيوان حلال. وقالوا: إن الخبز الذي عجن دقيقه بماء نجس طاهر، كما ذكره الحلي في (التذكرة) (127/ ب).وقالوا: إن الطعام الذي وقع فيه ذرق الدجاج، واضمحل فيه طاهر جائز أكله (6)، وكذا لو طبخ المرق أو نحوه بماء الاستنجاء، أو وقع فيه شيء من خرء الدجاج، وكذا ماء الغدير الذي استنجى فيه كثير من الناس، ووقع فيه دم حيض ونفاس ومذي وودي، وبال فيه كلب، فإنه طاهر يجوز استعماله لشرب وطبخ (7)، وكذا الماء الذي كان قدر نصفه دم مسفوح أو بول حمار أو فرس، مع أن ذلك مخالف لقوله تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ [الأعراف: 157].وقالوا: إن من كان جائعاً ولو غنياً، فنهب طعاماً من مالكه الذي يطلب عليه أزيد من الثمن المتعارف فأكله جاز له ذلك (8). المصدر: غرائب فقهية عند الشيعة الإمامية لمحمود شكري الألوسي   (1) فحكموا بجواز شهادة الغلام إذا بلغ العشر سنين كما رووه في كتبهم، ينظر ((الكافي)) (7/ 377) , ((تهذيب الأحكام)) (6/ 251). (2) فأخرج الكليني عن إسماعيل بن جابر قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال: لا تأكله ". ((الكافي)) (6/ 264). (3) قال المفيد في تقرير هذه المسألة في كتب القوم: " ولا تأكل من ليس على دينك في الإسلام ". ((المقنعة)) (ص571). ويعني بالدين هنا من لا يعتقد مذهب الإمامية. (4) وقد نسبوا الروايات في كتبهم بهذا الخصوص إلى الأئمة، فأخرج الكليني عن محمد بن مسلم قال: " سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل ذبح ذبيحته، فجهل أن يوجهها إلى القبلة؟ قال: كل منها، فقلت: فإنه لم يوجهها؟ قال: لا تأكل منها ... وقال عليه السلام: إذا أردت أن تذبح فاستقبل القبلة ". ((الكافي)) (6/ 233) , الطوسي ((تهذيب الأحكام)) (9/ 59). (5) العاملي ((الدروس)) (ص 576). (6) روى (شيخ الطائفة) الطوسي عن الزبير قال: "سألت أبا عبد الله عليه السلام عن البئر تقع فيه الفأرة أو غيرها من الدواب فتموت، فيعجن من مائها أيؤكل ذلك الخبز؟ قال: إذا أصابته النار فلا بأس به ". ((تهذيب الأحكام)) (1/ 413) , ((من لا يحضره الفقيه)) (1/ 14). (7) لأن النار عندهم تطهر ما وقع في القدر من نجاسات، قال (شيخ الطائفة) الطوسي: "والنار تطهر كلما يكون في القدر من اللحم والتوابل والمرق إذا كانت تغلي، ووقع فيها مقدار أوقية دم أو أقل ". ((النهاية)) (ص 587). (8) (المحقق) الحلي، ((شرائع الإسلام)) (4/ 45). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 286 المبحث الثاني والعشرون: مسائل الفرائض والوصايا: قالوا: إن ابن الابن لا يرث مع وجود الأبوين (1)، مع أن هذا مخالف لقوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ [النساء: 11] وولد الابن داخل في الأولاد بلا شبهة؛ لقوله تعالى: أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ [آل عمران: 61] وقوله تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة: 40] وقوله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ [الأعراف: 27]، ومخالف أيضاً لما ثبت عندهم من الأخبار الصحيحة (2).وقالوا: لا يرث أولاد الأم من دية المقتول (3)، وكذا لا ترث الزوجة من العقار (4)، مع أن النصوص عامة. وقالوا: إن أكبر الأولاد للميت يخصص من تركة أبيه بالسيف والمصحف والخاتم ولباسه، من غير عوض (5)، مع أن ذلك مخالف لنص الكتاب، وبعضهم يجعل الجدات والأعمام وأبناءهم محرومين من الإرث. وقالوا في مسائل الوصايا: إن المظروف تابع للظرف، فلو أوصى أحد لآخر بصندوق يدخل في الوصية ما فيه من النقود والمتاع (6). وقالوا: تصح الوصية بتحليل فرج الأمة لرجل إلى سنة أو سنتين. المصدر: غرائب فقهية عند الشيعة الإمامية لمحمود شكري الألوسي   (1) وقد اعترف (شيخ الطائفة) الطوسي بذلك، وبأن هذا خلاف التنزيل فقال: " وذكر أصحابنا أن ولد الوالد مع الأبوين لا يأخذ شيئاً، وذلك خطأ لأنه خلاف لظاهر التنزيل والمتواتر من الأخبار ". ((النهاية)) (ص 359) , وينظر أيضاً ما قاله العاملي، ((وسائل الشيعة)) (26/ 111). (2) كما روى ذلك الكليني وغيره بإسناد صحيح عندهم عن الصادق أنه قال: " ابن الابن يقوم مقام أبيه ". ((الكافي)) (7/ 88) , الطوسي ((تهذيب الأحكام)) (9/ 317) , العاملي ((وسائل الشيعة)) (26/ 110). (3) قال النعمان: " ولا يعطى الإخوة والأخوات من قبل الأم شيئاً، وكذلك الأخوال والخالات ولا يورثون من الدية شيئاً ". ((المقنعة)) (ص701) , وينظر أيضاً العاملي ((اللمعة الدمشقية)) (8/ 37). (4) وهذا من مسلمات المذهب، كما نسبه الكليني وغيره إلى الباقر أنه قال: " لا ترث النساء من عقار الأرض شيئاً ". ((الكافي)) (7/ 128). وأخرج ابن بابويه رواية قريبة من هذا المعنى عن الصادق، ((من لا يحضره الفقيه)) (4/ 347) , والطوسي ((تهذيب الأحكام)) (9/ 299). (5) فأخرج الكليني وغيره عن حريز عن الصادق أنه قال: "إذا هلك الرجل فترك بنين فللأكبر السيف والدرع والخاتم والمصحف، فإن حدث به حدث فللأكبر منهم ". ((الكافي)) (7/ 85) , ((تهذيب الأحكام)) (9/ 275) , ((الاستبصار)) (4/ 144). (6) يشير الآلوسي إلى ما نسبه الكليني إلى أبي الحسن الرضا أن رجلاً سأله: "عن رجل أوصى لرجل بصندوق، وكان فيه مال؟ فقال الورثة: إنما لك الصندوق وليس لك المال، فقال أبو الحسن عليه السلام: الصندوق بما فيه ". ((الكافي)) (7/ 44) , الطوسي ((تهذيب الأحكام)) (9/ 211). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 287 المبحث الثالث والعشرون: مسائل الحدود والجنايات: قالوا: يجب الحد على المجنون حتى لو زنى بامرأة عاقلة (1)، وهذا مخالف لما ثبت عند الفريقين: ((رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون حتى يفيق ... )) الحديث (2).وقالوا: يجب الرجم على امرأة جامعها زوجها، ثم ساحقت تلك المرأة بكراً، وحملت تلك البكر، وتحد البكر مائة جلدة، مع أن السحاق لم يقل أحد أنه زنا (3).وقالوا: يجب حد القذف على مسلم، إذا قال لآخر: يا ابن الزانية، وكانت أم المقذوف كافرة (4)، مع أن نص القرآن يخصص حد القذف بالمحصنات، والكافرة ليست بمحصنة، بل يجب تعزيره لحرمة ولدها المسلم. وقالوا: لو قتل الأعمى مسلماً معصوماً لا يقتص منه، مع أن القصاص عام للأعمى وغيره (5). وقالوا: لو جاع شخص، وعند آخر طعام لا يعطيه للجائع، يجوز للجائع أن يقتله ويأخذ طعامه، ولا يجب عليه شيء من القصاص والدية، مع أن عدم إطعام الجائع لا يسوغ القتل في شريعة من الشرائع. وقالوا: لو قتل ذمي مسلماً يعطى ورثة المقتول مال القاتل كله، والورثة مخيّرون في جعل الذمي عبداً لهم وفي قتله، وكذا إن كان للذمي أولاد صغار يجوز لورثة المقتول أن يتخذوهم عبيدا ً (128 / أ) وإماء (6)، مع أن الآية تدل على القصاص فقط، ولا يجوز الجمع بين القصاص والدية، فضلاً عن أن يصير القاتل عبداً أو ورثته، قال تعالى: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الإسراء: 15]. المصدر: غرائب فقهية عند الشيعة الإمامية لمحمود شكري الألوسي   (1) ونسبوا ذلك إلى الأئمة، فروى الكليني عن أبان بن تغلب قال: " قال أبو عبد الله عليه السلام: إذا زنى المجنون أو المعتوه جلد، وإن كان محصناً رجم ". ((الكافي)) (7/ 192) , الطوسي ((تهذيب الأحكام)) (10/ 19). (2) رواه أبو داود (4398) , والنسائي (6/ 156) (3432) , وابن ماجه (2041) , من حديث عائشة رضي الله عنها, وروي من حديث علي, وأبي قتادة, وأبي هريرة, ومن حديث ثوبان, وشداد بن أوس. والحديث سكت عنه أبو داود. وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (3/ 392). وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/ 89): إسناده على شرط مسلم. وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (12/ 124): له شاهد وله طرق يقوي بعضها بعضا. وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) و ((صحيح سنن النسائي)) و ((صحيح سنن ابن ماجه)). (3) فروى الطوسي أن الحسن بن علي بن أبي طالب سئل عن: " امرأة جامعها زوجها، فقامت بحرارة جماعه فساحقت جارية بكراً، فألقت عليها النطفة فحملت، فقال عليه السلام: في العاجل تؤخذ هذه المرأة بصداق هذه البكر لأن الولد لا يخرج حتى يذهب بعذره، وينتظر حتى تلد ويقام عليها الحد، ويلحق الولد بصاحب النطفة، وترجم المرأة صاحبة الزوج ". ((تهذيب الأحكام)) (7/ 422). (4) قال الطوسي: " إن قال لمسلم: أمك زانية أو يا ابن الزانية، وكانت أمه كافرة أو أمة كان عليه الحد تاماً ". ((النهاية)) (ص 784) , العاملي ((اللمعة الدمشقية)) (9/ 167). (5) يشير الآلوسي إلى ما أخرجه (شيخ الطائفة) وغيره من الإمامية عن محمد الحلبي قال: "سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل ضرب رأس رجل بمعول فسالت عيناه على خديه، فوثب المضروب على ضاربه فقتله؟ فقال أبو عبد الله: هذان متعديان جميعاً فلا أرى على الذي قتل الرجل قوداً لأنه قتله وهو أعمى، والأعمى جنايته خطأ ". ((تهذيب الأحكام)) (10/ 233) , العاملي ((وسائل الشيعة)) (29/ 399). (6) قال ابن حمزة: " وإن قتل كافر حراً مسلماً أو كفار وأسلموا قبل الاقتصاص كان حكمهم حكم المسلمين، وإن لم يسلموا دفعوا برمتهم مع أولادهم وجميع ما يملكونه إلى ولي الدم إن شاء قتل واسترق الأولاد وتملك الأموال، وإن شاء استرق القاتل أيضاً ". ((الوسيلة)) (ص 345). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 288 الفصل الثالث والعشرون: خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية: • (1) كفر من لا يؤمن بولاية الأئمة الاثني عشر: . • (2) اعتقاد الشيعة بأن أهل السنة أعداء لأهل البيت:. • (3) اعتقاد الشيعة في حل دماء أموال أهل السنة ونجاستهم:. • (4) اعتقاد الشيعة في حرمة الجهاد قبل ظهور المهدي:. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 289 (1) كفر من لا يؤمن بولاية الأئمة الاثني عشر: لقد نصت كتب الشيعة ومراجعهم على أن الإمامة أصل من أصول الدين، وأن من أنكرها أو أنكر أحد الأئمة فهو كافر. وقد نقل صاحب كتاب (حقيقة الشيعة) طرفًا من أقوال أئمة الشيعة في تقرير هذا الاعتقاد، أسوق لك بعضه: يقول رئيس محدثيهم محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق في رسالة الاعتقادات (ص103 - ط مركز نشر الكتاب - إيران 1370) ما نصه: " .. واعتقادنا فيمن جحد إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة من بعده - عليهم السلام - أنه كمن جحد نبوة جميع الأنبياء، واعتقادنا فيمن أقر بأمير المؤمنين وأنكر واحدًا ممن بعده من الأئمة أنه بمنزلة من أقر بجميع الأنبياء وأنكر نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم"، وينقل حديثًا منسوبًا إلى الإمام الصادق أنه قال: " المنكر لآخرنا كالمنكر لأولنا". وينسب أيضًا إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: ((الأئمة من بعدي اثنا عشر؛ أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وآخرهم القائم، طاعتهم طاعتي ومعصيتهم معصيتي، من أنكر واحدًا منهم فقد أنكرني)). وأقوال الصدوق هذه وأحاديثه نقلها عنه علامتهم محمد باقر المجلسي في (بحار الأنوار) (27/ 61 - 62) " (1). "ويقول علامتهم على الإطلاق جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي .. في كتابه الألفين في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ص13 ط3 مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت - 1982: " الإمامة لطف عام والنبوة لطف خاص لإمكان خلو الزمان من نبي حي، بخلاف الإمام لما سيأتي. وإنكار اللطف العام شر من إنكار اللطف الخاص، وإلى هذا أشار الصادق عليه السلام بقوله عن منكر الإمامة أصلاً ورأسًا وهو شرهم". ويقول شيخهم ومحدثهم يوسف البحراني في موسوعته المعتمدة عند الشيعة: " الحدائق الناضرة في أحكام العزة الطاهرة (18/ 153) دار الأضواء - بيروت - لبنان": وليت شعري أي فرق بين من كفر بالله سبحانه وتعالى ورسوله، وبين من كفر بالأئمة عليهم السلام مع ثبوت كون الإمامة من أصول الدين". ويقول الملا محمد باقر المجلسي والذي يلقبونه بالعلم العلامة الحجة فخر الأمة في (بحار الأنوار) (23/ 390): " اعلم أن إطلاق لفظ الشرك والكفر على من لم يعتقد إمامة أمير المؤمنين والأئمة من ولده عليهم السلام وفضَّل عليهم غيرهم يدل أنهم مخلدون في النار". ويقول شيخهم محمد حسن النجفي في جواهر الكلام (6/ 62) ط دار إحياء التراث العربي - بيروت -: " والمخالف لأهل الحق كافر بلا خلاف بيننا .. كالمحكي عن الفاضل محمد صالح في شرح أصول (الكافي) بل والشريف القاضي نور الله في إحقاق الحق من الحكم بكفر منكري الولاية لأنها أصل من أصول الدين". هذا ونقل شيخهم محسن الطباطبائي الملقب بالحكيم كفر من خالفهم بلا خلاف بينهم في كتابه مستمسك العروة الوثقى (1/ 392) ط3 مطبعة الآداب - النجف 1970" (2).ويقول آية الله الشيخ/ عبد الله الماقاني الملقب عندهم بالعلامة الثاني في تنقيح المقال (1/ 208) باب الفوائد - ط النجف 1952): "وغاية ما يستفاد من الأخبار جريان حكم الكافر والمشرك في الآخرة على من لم يكن اثني عشريا" (3).   (1) عبد الله الموصلي ((حقيقة الشيعة)) (ص 36) ط دار الإيمان الإسكندرية الطبعة الثانية 2002. (2) ((حقيقة الشيعة)) (ص37، 38) بتصرف يسير. (3) ((حقيقة الشيعة)) (ص38). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 290 وقال آيتهم العظمى ومرجعهم أبو القاسم الخوئي في كتابه (مصباح الفقاهة) في المعاملات (2/ 11 ط دار الهادي- بيروت): " .. بل لا شبهة في كفرهم - أي المخالفين - لأن إنكار الولاية والأئمة حتى الواحد منهم والاعتقاد بخلافة غيرهم وبالعقائد الخرافية كالجبر ونحوه يوجب الكفر والزندقة وتدل عليه الأخبار المتواترة الظاهرة في كفر منكر الولاية .. أنه لا أخوة ولا عصمة بيننا وبين المخالفين". ويقول شيخهم محمد حسن النجفي وهو يعلن بصراحة عداء الشيعة الشديد لأهل السنة، وذلك في موسوعته الفقهية المتداولة بين الشيعة (جواهر الكلام في شرائع الإسلام) (22/ 62): "ومعلوم أن الله تعالى عقد الأخوة بين المؤمنين بقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]، دون غيرهم، وكيف يُتَصَوَّر الأخوة بين المؤمن وبين المخالف بعد تواتر الروايات وتضافر الآيات في وجوب معاداتهم والبراءة منهم" (1).ويقول علامتهم السيد عبد الله شبر الذي يلقب عندهم بالسيد الأعظم والعماد الأقوم علامة العلماء وتاج الفقهاء رئيس الملة والدين، جامع المعقول والمنقول، مهذب الفروع والأصول، في كتابه (حق اليقين في معرفة أصول الدين) (2/ 188 - طبع بيروت): " وأما سائر المخالفين ممن لم ينصب ولم يعاند ولم يتعصب فالذي عليه جملة من الأئمة كالسيد المرتضى أنهم كفار في الدنيا والآخرة, والذي عليه الأكثر والأشهر أنهم كفار مخلدون في النار في الآخرة" (2). ومن هذه الأقوال السابقة ترى أن اعتقاد الشيعة بكفر أهل السنة هو الذي يبرر لهم عداءهم وخياناتهم لأهل السنة واستباحة دمائهم وأموالهم كما سيأتي.   (1) ((حقيقة الشيعة)) (ص 41، 42، 43). (2) ((حقيقة الشيعة)) (ص 42). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 291 (2) اعتقاد الشيعة بأن أهل السنة أعداء لأهل البيت: ومن أخطر الاعتقادات التي تؤجج نار الخيانة في قلوب الشيعة اعتقادهم بأن أهل السنة أعداء لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يكرهونهم ويبغضونهم وينتقصونهم، فأهل السنة هم الأعداء بل ألد الأعداء، ولذلك يسمونهم النواصب أي الذين ينصبون العداء لأهل البيت! وهاك بعض أقوال شيوخهم ومحدثيهم وفقهائهم التي تبين لهم أن العدو الحقيقي لهم هم أهل السنة لا غير: يقول شيخهم وعالمهم ومحققهم ومدققهم حسين بن الشيخ محمد آل عصفور الدرازي البحراني الشيعي في كتابه (المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل الخراسانية) (ص147 طبع بيروت): " بل أخبارهم عليهم السلام تنادي بأن الناصب هو ما يقال له عندهم سُنيًّا .. ولا كلام في أن المراد بالناصبة هم أهل التسنن". ويقول الشيخ الشيعي علي آل محسن في كتابه (كشف الحقائق) - ط دار الصفوة - بيروت (ص249): "وأما النواصب من علماء أهل السنة فكثيرون أيضًا منهم ابن تيمية وابن كثير الدمشقي وابن الجوزي وشمس الدين الذهبي وابن حزم الأندلسي وغيرهم" (1). وذكر العلامة الشيعي محسن المعلم في كتابه (النصب والنواصب) ط دار الهادي - بيروت في الباب الخامس، الفصل الثالث (ص259) تحت عنوان: "النواصب في العباد أكثر من مائتي ناصب -على حد زعمه- وذكر منهم: "عمر بن الخطاب، وأبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وأم المؤمنين عائشة، وأنس بن مالك، وحسان بن ثابت، والزبير بن العوام، وسعيد بن المسيب، وسعد بن أبي الوقاص، وطلحة بن عبيد الله، والإمام الأوزاعي، والإمام مالك، وأبو موسى الأشعري، وعروة بن الزبير، والإمام الذهبي، والإمام البخاري، والزهري، والمغيرة بن شعبة، وأبو بكر الباقلاني، والشيخ حامد الفقي رئيس أنصار السنة المحمدية في مصر، ومحمد رشيد رضا، ومحب الدين الخطيب، ومحمود شكري الآلوسي .. وغيرهم كثير". فلا أدري من بقي من أهل السنة لم يدخله الشيعة في عداد الأعداء النواصب. ويقول الدكتور الشيعي - محمد التيجاني- في كتابه (الشيعة هم أهل السنة) ط مؤسسة الفجر في لندن وبيروت (ص79): "وبما أن أهل الحديث هم أنفسهم أهل السنة والجماعة فثبت بالدليل الذي لا ريب فيه أن السنة المقصودة عندهم هي بغض علي بن أبي طالب ولعنه، والبراءة منه فهي النصب". ويقول في (ص161): "وغني عن التعريف أن مذهب النواصب هو مذهب أهل السنة والجماعة". ويقول في (ص 163): "وبعد هذا العرض يتبين لنا بوضوح بأن النواصب الذين عادوا عليًّا عليه السلام وحاربوا أهل البيت عليهم السلام هم الذين سموا أنفسهم بأهل السنة والجماعة". ويقول في (ص295): " وإذا شئنا التوسع في البحث لقلنا بأن أهل السنة والجماعة هم الذين حاربوا أهل البيت النبوي بقيادة الأمويين والعباسيين". عقد التيجاني في نفس الكتاب فصلاً بعنوان: (عداوة أهل السنة لأهل البيت تكشف عن هويتهم) وقال في (ص159) منه: "إن الباحث يقف مبهوتًا عندما تصدمه حقيقة أهل السنة والجماعة ويعرف بأنهم كانوا أعداء العترة الطاهرة يقتدون بمن حاربهم ولعنهم وعمل على قتلهم ومحو آثارهم". ثم يقول في (ص164): "تمعن في خفايا هذا الفصل فإنك ستعرف خفايا أهل السنة والجماعة إلى أي مدى وصل بهم الحقد على عترة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتركوا شيئًا إلا وحرفوه". ويقول في (ص299): "وبعد نظرة وجيزة إلى عقائد أهل السنة والجماعة وإلى كتبهم وإلى سلوكهم التاريخي تجاه أهل البيت؛ تدرك بدون غموض أنهم اختاروا الجانب المعاكس والمعادي لأهل البيت عليهم السلام، وأنهم أشهروا سيوفهم لقتالهم وسخروا أقلامهم لانتقاصهم والنيل منهم ولرفع شأن أعدائهم" (2). وهذا غيض من فيض من الأقوال التي تبين اعتقاد الشيعة في عداء أهل السنة لآل البيت، ولسنا هنا في معرض الدفاع لنبين أن أهل السنة لا يبغضون أهل البيت، وإنما يبغضون الذين يبغضون ويسيئون إلى آل بيت رسول الله، ويتقولون عليهم، وينسبون إليهم الكذب. وسترى فيما سنعرض بعد خيانات الشيعة بناء على هذا الاعتقاد؛ كلما خان الشيعي خيانة أو دبر مكيدة لأهل السنة فإنه يعتبر ذلك من حسناته وصالح عمله؛ لأنه ينتصر لآل البيت من مبغضيهم وأعدائهم.   (1) ((حقيقة الشيعة)) (ص46). (2) انظر هذه الأقوال في كتاب ((حقيقة الشيعة)) (ص48 - 50). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 292 (3) اعتقاد الشيعة في حل دماء أموال أهل السنة ونجاستهم: إن الدماء وقتل الأنفس من أهم القضايا التي عالجتها الشريعة الإسلامية بحكمة وشمول، وبينت حرمة الدم خصوصًا إذا كان هذا الدم سيُراق عن طريق الغدر حتى ولو كان هذا الدم دم كافر بالله -عز وجل- قال صلى الله عليه وسلم: ((من أمن كافرًا على دمه ثم غدر به فأنا من القاتل بريء ولو كان مسلما)). ولكن برغم هذا فإن الشيعة يستحلون دماء وأموال أهل السنة، ويفتي علماؤهم بذلك، روى شيخهم محمد بن علي بن بابويه القمي والملقب عندهم بالصدوق وبرئيس المحدثين في كتابه (علل الشرئع) (ص601 ط النجف) عن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول في قتل الناصب -أي السني-؟ قال: "حلال الدم، ولكني أتقي عليك، فإن قدرت أن تقلب عليه حائطًا أو تغرقه في ماء لكيلا يشهد به عليك فافعل، قلت فما ترى في ماله؟ قال: توه ما قدرت عليه". وقد ذكر هذه الرواية الخبيثة شيخهم الحر العاملي في (وسائل الشيعة) (18/ 463) والسيد نعمة الله الجزائري في (الأنوار النعمانية) (2/ 307) إذ قال: "جواز قتلهم - أي النواصب - واستباحة أموالهم" (1). وأما إباحة أموال أهل السنة فيروي محدثو الشيعة وشيوخهم عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: "خذ مال الناصب حيث ما وجدته وادفع إلينا الخمس"، أخرج هذه الرواية شيخ طائفتهم أبو جعفر الطوسي في (تهذيب الأحكام) (4/ 122) و (الفيض الكاشاني في الوافي) (6/ 43 ط دار الكتب الإسلامية بطهران)، ونقل هذا الخبر شيخهم الدرازي البحراني في (المحاسن النفسانية) (ص167)، ووصفه بأنه مستفيض، وبمضمون هذا الخبر أفتى مرجعهم الكبير روح الله الخميني في تحرير الوسيلة (1/ 352) بقوله: "والأقوى إلحاق النواصب بأهل الحرب في إباحة ما اُغْتُنِم منهم وتعلق الخمس به، بل الظاهر جواز أخذ ماله أين وجد وبأي نحو كان ووجوب إخراج خمسه". ونقل هذه الرواية أيضًا محسن المعلم في كتابه (النصب والنواصب) - ط دار الهادي – بيروت (ص615) يستدل بها على جواز أخذ مال أهل السنة لأنهم نواصب في نظره (2). ويقول فقيههم الشيخ/ يوسف البحراني في كتابه (الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة) (12/ 323، 324) ما نصه: "إن إطلاق المسلم على الناصب وأنه لا يجوز أخذ ماله من حيث الإسلام خلاف ما عليه الطائفة المحقة سلفًا وخلفًا من الحكم بكفر الناصب ونجاسته وجواز أخذ ماله بل قتله". ويقول البحراني - أيضًا - في موضع آخر (10/ 360): "وإلى هذا القول ذهب أبو صلاح وابن إدريس وسلار، وهو الحق الظاهر من الأخبار لاستفاضتها وتكاثرها بكفر المخالف ونصبه وشركه وحل ماله ودمه كما بسطنا عليه الكلام بما لا يحوم حوله شبهة النقض والإبرام في كتاب (الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب وما يترتب عليه من المطالب) " (3). وأما عن نجاسة أهل السنة في اعتقاد الشيعة فيقول مرجعهم المرزا حسن الحائري الإحقاقي في كتابه (أحكام الشيعة) (1/ 137 مكتبة جعفر الصادق - الكويت): "النجاسات: وهي اثنا عشر، وعد الكفار منها، ثم عد النواصب من أقسام الكفار". ويقول شيخهم نعمة الله الجزائري في كتاب (الأنوار النعمانية) (2/ 306 ط الأعلمي - بيروت): "وأما الناصب وأحواله، فهو يتم ببيان أمرين: الأول: في بيان معنى الناصب الذي ورد في الأخبار أنه نجس، وأنه أشر من اليهودي والنصراني والمجوسي، وأنه نجس بإجماع علماء الإمامية رضوان الله عليهم" (4). وبناء على هذه الروايات الخبيثة التي كونت اعتقاد الشيعة في كفر أهل السنة واستباحة دمائهم وأموالهم، والحكم بنجاستهم سترى العجب - فيما بعد - حينما نقلب صفحات التاريخ نفتش عن خيانات الشيعة، فالشيعي الذي يقرأ في عقائده وأحكامه أنه مأمور بقتل السني ولكن يستحسن أن يغرقه في الماء أو يقلب عليه حائطًا حتى لا يدع دليلاً يشهد به عليه كما يقول فقهاؤهم - إذا وجد فرصة يتحالف فيها ولو مع الشيطان لقتل النواصب (أهل السنة) فإنه سيراها فرصة ذهبية ولن يتوانى، فلا بأس أن يتحالف مع شياطين التتار أو شياطين الصليبيين أو شياطين الأمريكان والإنجليز.   (1) ((حقيقة الشيعة)) (ص53). (2) ((حقيقة الشيعة)) (ص59). (3) ((حقيقة الشيعة)) (ص60). (4) ((حقيقة الشيعة)) (ص64 - 56) بتصرف يسير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 293 (4) اعتقاد الشيعة في حرمة الجهاد قبل ظهور المهدي: وهذا الاعتقاد الخطير هو الذي يزيد موقف الشيعة وضوحًا عندما تحل الكوارث بالأمة الإسلامية وتراهم يقفون موقف المتفرج، ثم المتحالف مع الأعداء ليأمن الشيعة من ناحية، ولينكلوا بالسنة من ناحية أخرى. ولم يسجل التاريخ للشيعة جهادًا ضد الكفار، إلا أن يكون ضد أهل السنة عن طريق الخيانات التي يفعلونها في القديم والحديث. وتزخر كتب الشيعة بالعديد من المرويات التي تبني هذا الاعتقاد عندهم، ومن ذلك: روى ثقتهم في الحديث محمد بن يعقوب الكليني في (الكافي) (8/ 295) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "كل راية ترفع قبل قيام القائم -أي الإمام الثاني عشر- فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عز وجل"، وذكر هذه الرواية شيخهم الحر العاملي في "وسائل الشيعة" (11/ 37). وروى محدثهم الطبرسي في "مستدرك الوسائل" (2/ 248 ط دار الكتب الإسلامية بطهران) عن أبي جعفر عليه السلام قال: "مَثَلُ من خرج منا أهل البيت قبل قيام القائم عليه السلام مثل فرخ طار ووقع من وكره فتلاعب به الصبيان". وفي الصحيفة السجادية الكاملة (ص 16 ط - دار الحوراء - بيروت) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "ما خرج ولا يخرج منا أهل البيت إلى قيام قائمنا أحد ليدفع ظلمًا أو ينعش حقًا إلا اصطلته البلية وكان قيامه زيادة في مكروهنا وشيعتنا" (1).بل إنهم يذمون أهل السنة لأنهم يجاهدون، روى الملا محسن الملقب بالكاشاني في "الوافي" (9/ 15) والحر في "وسائل الشيعة" (11/ 21) ومحمد حسن النجفي في "جواهر الكلام" (21/ 40): عن عبد الله بن سنان قال: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك ما تقول في هؤلاء الذين يقتلون في هذه الثغور؟ قال: فقال: الويل؛ يتعجلون قتلة في الدنيا وقتلة في الآخرة، والله ما الشهيد إلا شيعتنا ولو ماتوا على فرشهم" (2). المصدر: خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية – محمود محمد عبد الرحمن ص15 - 25   (1) ((حقيقة الشيعة)) (ص 170). (2) ((حقيقة الشيعة)) (ص 172). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 294 المبحث الثاني: خيانات الشيعة لآل البيت إن الخائن لا يلوي على شيء، ولا يفرق مع من يكون خائنًا، ومع من يكون أمينًا، فإن الخيانة داء إذا خالط دماء الإنسان فإنه يجعله خائنًا ولو مع أقرب الناس إليه. والشيعة الذين غالوا في حب آل البيت وعلى رأسهم علي بن أبي طالب ثبتت خيانتهم لهم منذ اللحظات الأولى لظهور التشيع إبَّان الفتن التي ثارت ثائرتها بين الصحابيين الجليلين علي ومعاوية رضوان الله عليهما. خيانتهم لعلي بن أبي طالب: "يا أمير المؤمنين لقد نفدت نبالنا وكلَّت سيوفنا، ونصلت أسنة رماحنا فارجع بنا فلنستعد بأحسن عدتنا ... فأدرك علي أن عزائمهم هي التي كلت ووهنت وليس سيوفهم، فقد بدأوا يتسللون من معسكره عائدين إلى بيوتهم دون علمه، حتى أصبح المعسكر خاليًا، فلما رأى ذلك دخل الكوفة وانكسر عليه رأيه في المسير" (1)."وأدرك الإمام علي أن هؤلاء القوم لا يمكن أن تنتصر بهم قضية مهما كانت عادلة ولم يستطع أن يكتم هذا الضيق فقال لهم: ما أنتم إلا أسود الشرى في الدعة وثعالب رواغة حين تدعون إلى البأس وما أنتم لي بثقة ... وما أنتم بركب يصال بكم، ولا ذي عز يعتصم إليه، لعمر الله لبئس حشاش الحرب أنتم، إنكم تكادون ولا تكيدون وتنتقص أطرافكم ولا تتحاشون .. " (2) والعجيب أن شيعة علي من أهل العراق لم يتقاعسوا عن المسير معه لحرب الشام فقط، وإنما جبنوا وتثاقلوا عن الدفاع عن بلادهم، فقد هاجمت جيوش معاوية عين التمر وغيرها من أطراف العراق، فلم يذعنوا لأمر علي بالنهوض للدفاع عنها حتى قال لهم أمير المؤمنين علي: "يا أهل الكوفة كلما سمعتم بمنسر (3) من مناسر أهل الشام انجحر كل امرئ منكم في بيته وأغلق بابه انجحار الضب في جحره والضبع في وجارها، المغرور من غررتموه ولمن فازكم فاز بالسهم الأخيب، لا أحرار عند النداء، ولا إخوان ثقة عند النجاء، إنا لله وإنا إليه راجعون" (4).   (1) انظر تاريخ الطبري: ((تاريخ الأمم والملوك)) (5/ 89، 90) , وابن الأثير: ((الكامل في التاريخ)) (3/ 349). (2) انظر ((تاريخ الطبري)) (5/ 90)، و ((العالم الإسلامي في العصر الأموي)) (ص91). (3) المنسر هي القطعة من الجيش تكون أمامه. (4) انظر ((تاريخ الطبري)) (5/ 135) , و ((العالم الإسلامي في العصر الأموي)) (ص96). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 295 خيانتهم للحسن بن علي: ولما قتل علي بن أبي طالبرضي الله عنه، وبويع ابنه الحسنرضي الله عنه بالخلافة لم يكن يؤمن بجدوى حرب معاوية وخصوصًا أن شيعته خذلوا أباه من قبل، ولكن عاد شيعتهم من أهل العراق يطالبون الحسن بالخروج لقتال معاوية وأهل الشام فأظهر الحسن حنكة كبيرة دلت على سعة أفقه، فهو لم يشأ أن يواجه أهل العراق من البداية بميله إلى مصالحة معاوية وتسليم الأمر له حقنًا لدماء المسلمين، لأنه يعرف خفة أهل العراق وتهورهم، فأراد أن يقيم من مسلكهم الدليل على صدق نظرته فيهم، وعلى سلامة ما اتجه إليه، فوافقهم على المسير لحرب معاوية وعبأ جيشه وبعث قيس بن عبادة في مقدمته على رأس اثني عشر ألفا، وسار هو خلفه فلما وصلت تلك الأخبار إلى معاوية وتحرك هو أيضًا بجيشه ونزل مسكن، وبينما الحسن في المدائن إذ نادى منادي من أهل العراق أن قيسًا قد قتل، فسرت الفوضى في الجيش وعادت إلى أهل العراق طبيعتهم في عدم الثبات، فاعتدوا على سرادق الحسن ونهبوا متاعه حتى أنهم نازعوه بساطًا كان تحته، وطعنوه وجرحوه .. وهنا فكر أحد شيعة العراق وهو المختار بن أبي عبيد الثقفي في أمر خطير وهو أن يُوثق الحسن بن علي ويسلمه طمعًا في الغنى والشرف، فقد جاء عمه سعد بن مسعود الثقفي (1) وكان وليًّا على المدائن من قبل علي، فقال له: هل لك في الغنى والشرف؟ قال: وما ذاك؟ قال: توثق الحسن وتستأمن به إلى معاوية، فقال له عمه: عليك لعنة الله، أثب على ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوثقه بئس الرجل أنت (2).بل إن الحسن رضي الله عنه كان يقول: "أرى معاوية خيرًا لي من هؤلاء يزعمون أنهم لي شيعة ابتغوا قتلي وأخذوا مالي والله لأن آخذ من معاوية ما أحقن به دمي في أهلي وآمن به في أهلي خير من أن يقتلوني؛ فيضيع أهل بيتي وأهلي، والله لو قتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوا بي إليه سلما، والله لأن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير" (3). خيانتهم للحسين بن علي: بعد وفاة معاويةرضي الله عنه سنة (60) هـ توالت رسائل ورسل أهل العراق على الحسين بن عليرضي الله عنه تفيض حماسة وعطفًا وقالوا له: إنا قد حبسنا أنفسنا عليك، ولسنا نحضر الجمعة (4) مع الوالي فأقدم علينا (5).   (1) هذا هو المختار بن أبي عبيد الثقفي الذي خرج على الدولة الأموية وادعى أنه من شيعة آل البيت وجعل يطالب بدم الحسين، وما كان ذلك منه إلا نفاقًا وستارًا يخفي خلفه مطامعه الشخصية في الملك. (2) انظر ((تاريخ الطبري)) (5/ 159)، و ((العالم الإسلامي في العصر الأموي)) (ص101). (3) انظر ((الاحتجاج)) للطبرسي (ص 148). (4) قال الدكتور موسى الموسوي (شيعي): أن الأكثرية من فقهاء الشيعة اجتهدوا أمام النص الصريح وقالوا بالخيار بين صلاة ظهر الجمعة، وأضافوا أن شرط إقامة الجمعة حضور الإمام الذي هو المهدي، ففي عصر غيبة الأئمة تسقط الجمعة من الوجوب العيني، ويكون للمسلمين الخيار في الإيتان بها أو بصلاة الظهر، وقالت فئة أخرى من فقهائنا بحرمة صلاة الجمعة في غيبة الإمام ويقوم مقامها صلاة الظهر .. ) انظر ((الشيعة والتصحيح)) (ص127). (5) انظر: ((تاريخ الطبري)) (5/ 347). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 296 وتحت إلحاحهم قرر الحسين إرسال ابن عمه مسلم بن عقيل ليستطلع الموقف فخرج مسلم في شوال سنة (60) هـ. وما أن علم بوصوله أهل العراق حتى جاءوه فأخذ منهم البيعة للحسين، فقيل: بايعه اثني عشر ألفا، ثم أرسل إلى الحسين ببيعة أهل الكوفة وأن الأمر على ما يرام (1).وللأسف خدع الحسينرضي الله عنه بهم، وسار إليهم بعد أن حذره كثير من المقربين إليه من الخروج لما يعرفون من خيانة شيعة العراق، حتى قال له ابن عباسرضي الله عنه: "أتسير إلى قوم قد قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، ونفوا عدوهم، فإن كانوا قد فعلوا ذلك فسر إليهم، وإن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر، وعماله تجبى بلادهم فإنما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أن يغروك ويكذبوك ويخالفوك، ويخذلوك، وأن يستنفروا إليك فيكونون أشد الناس عليك .. " (2).وبالفعل ظهر غدر شيعة أهل الكوفة برغم مراسلاتهم للحسين حتى قبل أن يصل إليهم فإن الوالي الأموي عبيد الله بن زياد لما علم بأمر مسلم بن عقيل، وما يأخذ من البيعة للحسين جاء فقتله وقتل مضيفه هانئ بن عروة المرادي، كل ذلك وشيعة الكوفة لم يتحرك لهم ساكن، بل تنكروا لوعودهم للحسينرضي الله عنه واشترى ابن زياد ذممهم بالأموال (3).فلما خرج الحسينرضي الله عنه وكان في أهله وقلة من أصحابه عددهم نحو سبعين رجلاً، وبعد مراسلات وعروض، تدخل ابن زياد في إفسادها دار القتال فقتل الحسينرضي الله عنه وقتل سائر أصحابه، وكان آخر كلامه قبل أن يسلم الروح: "اللهم احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا" (4).بل دعاؤه عليهم مشهور حيث قال قبل استشهاده: "اللهم إن متعتهم ففرقهم فرقًا واجعلهم طرائق قددا ولا ترضي الولاة عنهم أبدًا، فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا فقتلونا" (5). أرأيت سوء صنيع القوم، وكيف كان غدرهم وخيانتهم حتى بآل البيت الذين زعموا حبهم واتخذوه ذريعة في عدائهم لكل من عادوا. وهل بعد خيانتهم لآل البيت يستبعد خيانتهم للأمة عامة، فهم منذ اللحظات الأولى يجبنون عن الحرب ويبيعون ذممهم بالأموال، ويفكرون في الخيانة في مقابل الغنى والشرف، ولو كان الثمن هو تسليم واحد من أكابر آل البيت كما فكر المختار الثقفي أن يسلم الحسن بن علي للأمويين. علمًا بأننا للإنصاف لا بد أن نقرر أن شيعة الصدر الأول في أيام علي والحسن والحسين - رضوان الله عليهم - كان من بينهم فضلاء أخيار كبعض نفر من الصحابة - رضوان الله عليهم - وهؤلاء نربأ بهم عن الخيانة، ومعاذ الله أن نصف أحدًا منهم بها، وإنما مواقف هؤلاء الفضلاء كانت قائمة على الاجتهاد أخطأوا أو أصابوا. وتشيّع أكثر الناس يومئذ يدور في فلك الحب لعليرضي الله عنه وآل بيته بناء على مرويات سمعها الناس في الوصاة بحب هذه العترة الطاهرة، ولكن لم تكن هناك مبادئ مقررة للتشيع كالتقية والرجعة وغير ذلك .. اللهم إلا أن يكون عند نفر من الغلاة الذين ترأسهم عبد الله بن سبأ وقالوا بألوهية عليرضي الله عنه، لكن بعد ذلك جدَّت أمور شكلت فكر الشيعة وجعلت تقفز به في الانحراف من ميدان إلى ميدان، وتدخلت عناصر مغرضة مجوسية ويهودية وغير ذلك وتسترت بالإسلام ثم بالتشيع، وجعلت تسعى لنقض عرى الإسلام عروة بعد عروة. ولعل من أوفى وأعمق الدراسات الحديثة التي بينت الصلة بين التشيع وبين هذه العناصر المغرضة هي دراسة بعنوان "وجاء دور المجوس" للأستاذ/ عبدالله محمد الغريب، كشف فيها بالأدلة العملية زيف كثير ممن ادعوا التشيع ولعبوا بورقة حب آل البيت، ولكنهم في حقيقة أمرهم يعملون على إحياء الأفكار المجوسية وعقائدها من ذرادشتية ومانوية ومزدكية ... وغير ذلك من النحل الباطنية التي تقول بقدم العالم وإنكار الخالق والبعث وغير ذلك من الترهات. فمن سنعرض بعد ذلك خيانتهم- من الشيعة كالإسماعيلية والاثني عشرية والقرامطة والبويهية والفاطميين، وغير ذلك- لم يكونوا في الحقيقة ينتسبون إلى آل البيت ولا حتى بصلة الحب، وإنما هم خونة أعداء للإسلام عمومًا وليس لأهل السنة فقط. المصدر: خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية لمحمود محمد عبد الرحمن - ص29 - 35   (1) ((تاريخ الطبري)) (5/ 348). (2) ((الكامل في التاريخ)) (4/ 37). (3) انظر ((مروج الذهب)) للمسعودي (3/ 67) وما بعدها، و ((العالم الإسلامي في العصر الأموي)) (ص473). (4) انظر: ((تاريخ الطبري)) (5/ 389). (5) انظر ((الإرشاد)) (ص241) , و ((إعلام الورى)) للطبرسي (ص 949). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 297 المبحث الثالث: خيانة الوزير الشيعي علي بن يقطين في عهد هارون الرشيد وهذه واحدة من خيانات الشيعة للدولة العباسية التي أحسنت إليهم كثيرًا حتى وصل بعضهم إلى أعلى المناصب فيها كالوزارة، وصدق القائل إن أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا وخيانة علي بن يقطين نقلها رواة الشيعة أنفسهم، كالعالم الشيعي الملقب بصدر الحكماء ورئيس العلماء نعمة الله الجزائري في كتابه المعروف (الأنوار النعمانية) (2/ 308 طبع تبريز إيران)، ومحسن المعلم في كتابه (النصب والنواصب) (ص622 ط دار الهادي – بيروت) ونصها: "وفي الروايات أن علي بن يقطين وهو وزير هارون الرشيد قد اجتمع في حبسه جماعة من المخالفين، وكان من خواص الشيعة، فأمر غلمانه وهدموا سقف الحبس على المحبوسين فماتوا كلهم وكانوا خمسمائة رجل تقريبًا، فأرادوا الخلاص من تبعات دمائهم فأرسل إلى الإمام مولانا الكاظم فكتب عليه السلام إلى جواب كتابه، بأنك لو كنت تقدمت إلي قبل قتلهم لما كان عليك شيء من دمائهم، وحيث إنك لم تتقدم إليَّ فَكَفِر عن كل رجل قتلته منهم بتيس والتيس خير منه" (1). وقد ذكروا هذه الرواية يستدلون بها على جواز قتل النواصب (أهل السنة) أرأيت إلى هذه الدية القيمة "تيس من المعزي، والتيس خير من الناصب"، وما كان ليكلفه دية إلا أنه قتلهم دون استصدار فتوى منه بقتلهم!!. المصدر: خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية لمحمود محمد عبد الرحمن - ص 39   (1) ((حقيقة الشيعة)) (ص55). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 298 المبحث الرابع: خليفة عباسي يتشيع وتثبت خيانته: الخلافة ليس كلمة هينة وإنما هي بمثابة صمام الأمان للأمة، وهي بمثابة الخيط الذي تنتظم فيه حبات العقد، فإذا قطع هذا الخيط انفرط عقد الأمة، وللأسف فإن بعض الخلفاء العباسيين كان قد تحول من مذهب أهل السنة إلى مذاهب أخرى فمثلاً الخليفة المأمون الذي اعتنق مذهب المعتزلة بفعل الشيطان أحمد بن أبي دؤاد وزيره، وفعل ما فعل في امتحان الناس بمحنة خلق القرآن. وتشيع الخليفة الناصر لدين الله بفعل بعض وزرائه الروافض قال عنه ابن كثير رحمه الله: "الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله أبي المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله .. العباسي .. كان قبيح السيرة في رعيته ظالمًا لهم، فخرب في أيامه العراق وتفرق أهله في البلاد، وكان يفعل الشيء وضده .. وكان اعتنق المذهب الشيعي .. ويقال: كان بينه وبين التتر مراسلات حتى أطمعهم في البلاد، وهذه طامة كبرى يصغر عندها كل ذنب عظيم" (1). المصدر: خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية لمحمود محمد عبد الرحمن - ص 43   (1) ((البداية والنهاية)) (13/ 106، 107) بتصرف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 299 المبحث الخامس: الدولة الفاطمية وخياناتها في محو السنة ونشر التشيع: لقد بذلت الدولة الفاطمية جهودًا خبيثة في محو السنة ونشر التشيع، وكانت خطتها المتبعة أنه في حال غياب الدولة توزع الدعاة سرًا ليقوموا بالدعوة إلى مذهب الإسماعيلية (1) الشيعي، وفي حالة أن تكون لهم دولة فإنهم يجعلون الدين الرسمي للدولة هو المذهب الشيعي. وعندما بدأ الفاطميون دعوتهم في بلاد المغرب، وجدوا أن التشيع كان منتشرًا هناك، لأن دولة الأدارسة التي أقامها إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب سنة (172) هـ هي في الأصل دولة علوية شيعية، فمن ثم أصبحت بلاد المغرب صالحة للدعوة الإسماعيلية، فانتشر التشيع واعتنقه كثير من البربر، حتى إن أكثر وزراء الأغالبة (في تونس) كانوا على المذهب الشيعي، وكان من أبرز الدعاة للفاطميين في تلك البلاد رجل يقال له أبو عبد الله الشيعي من بلاد اليمن، له من ضروب الحيل ما لا يحصى (2).ولم يكتف أبوعبد الله الشيعي بنشر الدعوة للفاطميين في بلاد المغرب، بل أخذ يعمل على بسط نفوذهم في شمال إفريقية فوقعت في يده عدة مدن، وأعلن الفاطميون قيام دولتهم سنة (296) هـ إثر انتصارهم على الأغالبة في موقعة الأربس (3).ورأى الفاطميون بعد أن امتد نفوذهم في بلاد المغرب، أن هذه البلاد لا تصلح لتكون مركزًا لدولتهم، ففضلاً عن ضعف مواردها كان يسودها الاضطراب من حين لآخر، لذلك اتجهت أنظارهم إلى مصر لوفرة ثرواتها وقربها من بلاد المشرق الأمر الذي يجعلها صالحة لإقامة دولة مستقلة تنافس العباسيين (4). وقد وجه الفاطميون أكثر من حملة للاستيلاء على مصر بدءًا من (301 - وحتى 350هـ) وفي سنة (358) هـ عهد الخليفة الفاطمي إلى جوهر الصقلي كتابًا بالأمان وفيه: " ... أن يظل المصريون على مذهبهم أي لا يلزمون بالتحول إلى المذهب الشيعي، وأن يجري الأذان والصلاة وصيام شهر رمضان وفطره والزكاة والحج والجهاد على ما ورد في كتاب الله ورسوله" (5).ولم يكن كتاب جوهر لأهل مصر إلا مجرد مهادنة، وعندما وصل الخليفة المعز لدين الله الفاطمي إلى القاهرة في سنة (362) هـ ركز اهتمامه في تحويل المصريين إلى المذهب الشيعي، واتبعت الخلافة الفاطمية في ذاك عدة طرق منها: إسناد المناصب العليا وخاصة القضاء إلى الشيعيين، واتخاذ المساجد الكبيرة مراكز للدعاية الفاطمية، كالجامع الأزهر وجامع عمرو ومسجد أحمد بن طولون (6)، كذلك أمعن الشيعة الفاطميون في إظهارهم شعائرهم المخالفة لشعائر أهل السنة، الآذان بحي على خير العمل، والاحتفال بيوم العاشر من المحرم الذي قتل فيه الحسين بكربلاء (7). وكان الفاطميون لا يقتصرون في تهييج أهل السنة على إقامة الشعائر الشيعية بل كانوا يرغمون أهل السنة ويعتدون عليهم ليشاركوهم طقوسهم.   (1) الإسماعيلية: وتسمى الإمامية الإسماعيلية، وهم الذين يقولون بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق، وكان أكبر أولاد أبيه جعفر. وهناك الإمامية الموسوية وهم الذين قالوا بإمامة موسى الكاظم بن جعفر الصادق وهم الاثني عشرية. وكلا الإماميتين خبيث. (2) انظر: ((اتعاظ الحنفا)) للمقريزي (ص75 - 77). (3) حسن إبراهيم ((تاريخ الدولة الفاطمية)) (ص50، 51). (4) د/ جمال الدين سرور ((الدولة الفاطمية في مصر)) (ص59). (5) المقريزي ((اتعاظ الحنفا)) (ص148). (6) القلقشندي ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) (3/ 483). (7) المقريزي ((الخطط والآثار)) (1/ 389). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 300 قال المقريزي: "وفي العاشر من المحرم سنة (363) هـ سار جماعة من المصريين الشيعيين والمغاربة في موكبهم ينوحون ويبكون على الحسين، وصاروا يعتدون على كل من لم يشاركهم في مظاهر الأسى والحزن مما أدى إلى تعطيل حركة الأسواق وقيام القلائل" (1).ولما آلت الخلافة إلى العزيز سنة (365) هـ عني كأبيه المعز بنشر المذهب الشيعي وحتم على القضاة أن يصدروا أحكامهم وفق المذهب الشيعي كما قصر المناصب الهامة على الشيعيين، وأصبح لزامًا على الموظفين السنيين الذين تقلدوا بعض المناصب الصغيرة أن يسيروا طبقًا لأحكام المذهب الإسماعيلي، وإذا ما ثبت على أحدهم التقصير في مراعاتها عزل عن وظيفته، وكان ذلك مما دفع الكثيرين من الموظفين السنيين إلى اعتناق المذهب الفاطمي. (2) ولما قبض الحاكم بأمر الله زمام الأمور عمد إلى إصدار كثير من الأوامر والقوانين المبنية على التعصب الشديد للمذهب الفاطمي، فأمر في سنة (395) هـ بنقش سب الصحابة على جدران المساجد وفي الأسواق والشوارع والدروب وصدرت الأوامر إلى العمال في البلاد المصرية بمراعاة ذلك (3).ومن الأسماء الشيعية الشهيرة في العصر الفاطمي وزير الخليفة الفاطمي المستنصر الذي كان يسمى بدر الجمالي، وكان مغاليًا في مذهب الشيعة فأظهر روح العداء والكراهة إزاء أهل السنة فجدد ما كان من أوامر بلعن الصحابة وإضافة عبارة - حي على خير العمل - للأذان وغير ذلك (4). وبرغم ما فعلت الخلافة الفاطمية من محاولات للقضاء على أهل السنة ومذهبهم إلا أن المذهب السني ظل محتفظًا بقوته رغم تحول بعض المصريين إلى المذهب الفاطمي. ولم يؤثر أن الخلافة الفاطمية قامت بغزو أو عمليات عسكرية ضد الفرنجة لتوطيد أركان الإسلام، بل الثابت تاريخيًّا أنهم كانوا حربًا على أهل الإسلام سلمًا على أعدائه، فهم يضيقون الخناق على أهل السنة ويجيشون الجيوش لإرغامهم على التشيع، بينما هم مع الفرنجة سلم لهم، بل يستنجدون بهم على أهل السنة وغير ذلك.   (1) المقريزي ((اتعاظ الحنفا)) (ص198). (2) المقريزي ((الخطط والآثار)) (2/ 486). (3) ابن خلكان ((وفيات الأعيان)) (2/ 166). (4) أبو المحاسن ابن تغري بردي ((النجوم الزاهرة في أخبار ملوك مصر والقاهرة)) (5/ 120) بتصرف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 301 الفاطميون يمالئون الفرنجة ويكتبون إليهم: ومن خيانات الفاطميين وتواطئهم مع الفرنجة ما ذكره المقريزي في "الخطط والآثار" من أن صلاح الدين الأيوبي لما تولى وزارة العاضد الفاطمي - وكان قد ولاه لصغر سنه وضعفه كما ظن به - قوي نفوذه في مصر وأخذت سلطة العاضد في الضعف، حتى ثقلت وطأة صلاح الدين على أهل القصر الفاطمي، وتجلى استبداده بأمر الدولة وإضعاف الخلافة الفاطمية، حنق عليه رجال القصر ودبروا له المكائد، وقد اتفق رأيهم على مكاتبة الفرنجة ودعوتهم إلى مصر فإذا ما خرج صلاح الدين إلى لقائهم قبضوا على من بقي من أصحابه بالقاهرة، وانضموا إلى الفرنجة في محاربتهم والقضاء عليه. (1) وفعلاً جاء الفرنجة إلى مصر وحاصروا دمياط في سنة (565) هـ، وضيقوا على أهلها وقتلوا أمما كثيرة، جاءوا إليها من البر والبحر رجاء. أن يملكوا الديار المصرية وخوفًا من استيلاء المسلمين على القدس، وأرسل إلى عمه نور الدين محمود بدمشق، يستنجده فأمده، وبعث صلاح الدين جيشًا بقيادة ابن أخيه وخاله شهاب الدين وأمدهما بالسلاح والذخائر، واضطروهم للبقاء في القاهرة خشية أن يقوم رجال القصر الفاطمي وجند السودان الناقمين بتدبير المؤامرات ضده. (2) وكان من فضل الله أن رد كيد الفرنجة والشيعة الفاطميين الذين كاتبوهم ففشلت هذه الحملة، وانصرف الفرنجة عن دمياط، وذلك لما تسرب إليهم من قلق من جراء ما عانوه في سبيل تموين قواتهم، وكما وقع الخلاف بين قوادهم على الخطة التي يتبعونها في مهاجمة المدينة، فضلاً عن ذلك بلغهم أن نور الدين محمود قد غزا بلادهم وهاجم حصن الكرك وغيره من نواحيهم وقتل خلقًا من رجالهم، وسبى كثيرًا من نسائهم وأطفالهم وغنم من أموالهم. (3) وهكذا دائمًا في كل خيانة يحدثونها يجعلون الأمة الإسلامية بين شقي الرحى، بين عدو خارجي وعدو داخلي، فاللهم انتقم من الخونة ولو كانوا من أهل السنة. ومن خيانات الفاطميين: أنه لما ضعفت دولتهم في أيام العاضد وصارت الأمور إلى الوزراء، وتنافس شاور وضرغام، فكر شاور في أن يثبت ملكه ويقوي نفوذه، فاستعان بنور الدين محمود؛ فأعانه ولما خلا له الجو لم يف له بما وعد، بل أرسل إلى أملريك ملك الفرنجة في بيت المقدس يستمده، ويخوفه من نور الدين محمود إن ملك الديار المصرية، فسارع إلى إجابة طلبه، وأرسل له حملة أرغمت نور الدين على العودة بجيشه إلى الشام، ولكن سرعان ما عاود نور الدين المحاولة في عام 562هـ، فاستنجد شاور بالفرنجة مرة ثانية وكاتبهم، وجاءت جيوشهم خشية أن يستولي نور الدين على مصر ويضمها إلى بلاد الشام فيهدد مركزهم في بيت المقدس. ولما وصلت عساكر الفرنجة إلى مصر انضمت جيوش شاور والمصريين إليها والتقت بجيوش نور الدين بمكان يعرف بالبابين (قرب المنيا) فكان النصر حليف عسكر نور الدين محمود، ثم سار بعدها إلى الإسكندرية، وكانت الجيوش الصليبية تحاصرها من البحر وجيوش شاور وفرنجة بيت المقدس من البر، ولم يكن لدى صلاح الدين - القائد من قبل نور الدين - من الجند ما يمكنه من رفع الحصار عنها، فاستنجد بأسد الدين شيركوه فسارع إلى نجدته، ولم يلبث الفرنجة وشيعة شاور إلى أن طلبوا الصلح من صلاح الدين فأجابهم إليه شريطة ألا يقيم الفرنجة في البلاد المصرية.   (1) المقريزي ((الخطط والآثار)) (2/ 2). (2) انظر ابن كثير ((البداية والنهاية)) (12: 260). (3) ((البداية والنهاية)) (12/ 260)، حسن الحبشي ((نور الدين والصليبيون)) (ص147) وما بعدها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 302 غير أن الفرنجة لم تغادر مصر عملاً بهذا الصلح بل عقدت مع شاور معاهدة, كان من أهم شروطها كما يقول ابن واصل: "أن يكون لهم بالقاهرة شحنة صليبية - أي حامية - وتكون أبوابها بيد فرسانهم ليمتنع نور الدين محمود عن إنفاذ عسكره إليهم. وكما اتفق الطرفان على أن يكون للصليبيين مائة ألف دينار سنويًّا من دخل مصر" (1). وما أن ذهب الفرنجة في هذا العام حتى عادوا مرة أخرى عام (564) هـ. قال ابن كثير فيها: طغت الفرنج بالديار المصرية وذلك أنهم جعلوا شاور شحنة لهم بها، وتحكموا في أموالها ومساكنها أفواجًا أفواجًا، ولم يبق شيء من أن يستحوذوا عليها ويخرجوا منها أهلها من المسلمين وقد سكنها أكثر شجعانهم فلما سمع الفرنج بذلك أتوا من كل فج وناحية في صحبة ملك عسقلان في جحافل هائلة، فأول ما أخذوا مدينة بلبيس وقتلوا من أهلها خلقًا وأسروا آخرين ونزلوا بها وتركوا أثقالهم موئلاً لهم، ثم تحركوا نحو القاهرة .. فأمر الوزير شاور رجاله بإشعال النار فيها على أن يخرج منها أهلها؛ فهلكت للناس أموال كثيرة، وأنفس، وشاعت الفوضى، واستمرت النيران أربعة وخمسين يومًا، عندئذ بعث العاضد الفاطمي إلى نور الدين بشعور نسائه يقول: أدركني واستنقذ نسائي من الفرنج، والتزم له بثلث خراج مصر، فشرع نور الدين في تجهيز الجيوش لتسييرها إلى مصر، فلما أحس شاور بوصول جيوش نور الدين، أرسل إلى ملك الفرنج يقول: قد عرفت محبتي ومودتي لكم، ولكن العاضد لا يوافقني على تسليم البلد، فاعتذر لهم وصالحهم على ألف ألف دينار وعجل لهم من ذلك ثمانمائة ألف ليرجعوا؛ فانتشروا راجعين خوفًا من عساكر نور الدين وطمعًا في العودة إليها مرة أخرى، وشرع شاور في مطالبة الناس بالذهب الذي صالح به الفرنج وتحصيله وضيق على الناس .. (2). أفرأيت كل هذه المحن التي جلبتها خيانات الرافضة الخبيثة، تستدعي الفرنجة وتقيم لها حاميات، وتنهب أموال البلاد وخيراتها، وتفتك بأعراضها، وتحرق وتدمر وتخرب، وتشترط لنفسها جزءا من دخل البلاد. أليس هذا يشبه إلى حد كبير خياناتهم في العراق، في المرة الأخيرة، كاتبوا الأمريكيين، قاتلوا في صفوفهم، أقاموا قواعدهم، قووا مراكزهم، ونهبوا خيرات البلاد، فإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم انتقم من الخونة ولو كانوا من أهل السنة. ومن خيانات الفاطميين: ما حدث في سنة (562) هـ لما أقبلت جحافل الفرنج إلى الديار المصرية وبلغ ذلك أسد الدين شيركوه فاستأذن الملك نور الدين محمود في الذهاب إليها - وكان كثير الحنق على الوزير شاور الفاطمي- فأذن له فسار ومعه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب .. ولما بلغ الوزير شاور قدوم أسد الدين والجيش معه بعث إلى الفرنج فجاؤوا من كل فج إليه، وبلغ أسد الدين ذلك من شأنهم وأن معهم ألف فارس، فاستشار من معه من الأمراء فكلهم أشار عليه بالرجوع إلى نور الدين إلا أميرًا واحدًا يقال له شرف الدين برغش, فإنه قال من خاف القتل والأسر فليقعد في بيته عند زوجته، ومن أكل أموال الناس فلا يسلم بلادهم إلى العدو، وقال مثل ذلك ابن أخيه صلاح الدين، فعزم الله لهم فساروا نحو الفرنج فاقتتلوا قتالاً عظيمًا، فقتلوا من الفرنج مقتلة عظيمة وهزموهم .. ولله الحمد (3).   (1) ابن واصل ((مفرج الكروب في أخبار بني أيوب)) (ص152). (2) ((البداية والنهاية)) (12/ 255). (3) ((البداية والنهاية)) (12/ 252). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 303 التعاون مع الفرنجة لانتزاع الإسكندرية من يد صلاح الدين: إن أسد الدين شيركوه لما كان قد أظفره الله بالفرنجة في الوقعة السابقة بمصر برغم خيانة الخونة، رأى أن يفتح الإسكندرية، ففتحها واستناب عليها ابن أخيه صلاح الدين، ثم توجه إلى الصعيد فملكه، وعندئذ اتفق الفاطميون مع الفرنجة على حصار الإسكندرية لانتزاعها من يد صلاح الدين في أثناء غياب أسد الدين شيركوه، فامتنع فيها صلاح الدين أشد الامتناع، ولكن ضاقت عليهم الأقوات وضاق عليهم الحال جدا, فسار إليهم أسد الدين شيركوه فصالحه الوزير شاور عن الإسكندرية بخمسين ألف دينار، فأجابه إلى ذلك وخرج منها وسلمها للمصريين ثم عاد إلى الشام، وقرر شاور للفرنجة على مصر في كل سنة مائة ألف دينار وأن يكون لهم شحنة بالقاهرة (1). خيانة الطواشي مؤتمن الخلافة الفاطمية بمصر: لما كانت الفرنجة قد طغت بالديار المصرية عندما جعل لهم الوزير الفاطمي شاور شحنة بالقاهرة، وتحكموا في البلاد والعباد، حتى استنجد الخليفة الفاطمي العاضد بنور الدين محمود أن ينقذه ونساءه من أيدي الفرنجة - وكان الفاطميون هم الذين مكنوا لهم (2) - وكاتب شاور الفرنجة وصالحهم على مال جزيل، ثم جاءت جيوش نور الدين بقيادة أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين واستقر لهم ملك الديار المصرية. وهنا قام الطواشي مؤتمن الخلافة الفاطمية بالكتابة من دار الخلافة بمصر إلى الفرنجة ليقدموا إلى الديار المصرية ليخرجوا منها الجيوش الإسلامية الشامية ولكن حامل الكتاب لقيه في الطريق من أنكر حاله، فحمله إلى صلاح الدين فقرره، فأخرج الكتاب وانكشفت المؤامرة، فأمر بقتل الطواشي، فثار له خدم القصر من السودان، فكانوا نحو خمسين ألفا، وقاتلوا جيش صلاح الدين بين القصرين فهزمهم صلاح الدين وأخرجهم من القاهرة وقتل منهم خلقا (3).بين المعز الفاطمي والإمام أبو بكر النابلسي (4): إن الشيعة برغم ما يتظاهر به بعض ولاتهم وحكامهم من الورع والصلاح وإنصاف المظلوم ... إلا أنهم في كثير من الأحيان ما تنكشف الحقائق عن مخادع كاذب لا يرقب في المؤمنين إلا ولا ذمة. وأشد ما تكون هذه النكاية بالعلماء من أهل السنة. قال ابن كثير - رحمه الله - في ترجمة المعز الفاطمي: " .. كان يدعي إنصاف المظلوم من الظالم، ويفتخر بنسبه وأن الله رحم الأمة بهم، وهو مع ذلك متلبس بالرفض ظاهرًا وباطنًا، كما قال القاضي الباقلاني: إن مذهبهم الكفر المحض، واعتقادهم الرفض، وكذلك أهل دولته ومن أطاعه ونصره ووالاه قبحهم الله وإياه. وقد أحضر بين يديه الزاهد العابد الورع الناسك التقي أبوبكر النابلسي، فقال له المعز: بلغني عنك أنك قلت: لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة ورميت المصريين - أي الفاطميين - بسهم؟   (1) ((البداية والنهاية)) (12/ 252، 253). (2) وهنا يصدق فيهم قول القائل "كم من كلب عض يد صاحبه" و " إن الله لينتقم بالظالم من الظالم ثم يهلكهم جميعًا". (3) ((البداية والنهاية)) (12/ 257، 258). (4) هو أحد أئمة أهل السنة الأثبات وهو من أهل نابلس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 304 فقال النابلسي: ما قلت هذا، فظن أنه رجع عن قوله، فقال له: كيف قلت؟ قال قلت: ينبغي أن نرميكم بتسعة ثم نرميهم بالعاشر، قال: ولم؟ قال: لأنكم غيرتم دين الأمة، وقتلتم الصالحين، وأطفأتم نور الإلهية، وادعيتم ما ليس لكم. فأمر بإشهاره في أول يوم، ثم ضرب في الثاني بالسياط ضربًا شديدًا مبرحًا، ثم أمر بسلخه - وهو حي- وفي اليوم الثالث جيء بيهودي فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن، قال اليهودي: فأخذتني رقة عليه، فلما بلغت تلقاء قلبه طعنته بالسكين فمات رحمه الله, فكان يقال له الشهيد، وإليه ينسب بنو الشهيد من نابلس إلى اليوم" (1). فما أكرم الثبات على الحق، وما أجمل العيش على السنة والموت عليها ولو أن يسلخ الجلد عن اللحم، ونحن لا نعجب مما فعل هذا الرافضي الخبيث قبحه الله، فمجرد أن يكون اسم النابلسي أبوبكر فهذا كاف في إثارة حفيظة هذا الرافضي الخبيث، فهو يكره أبابكر ومن يحب أبا بكررضي الله عنه. تأملات وعبر وتقريرات حول نهاية الدولة الفاطمية: إن من سنة الله في الخلق دفع الناس بعضهم ببعض، ولولا ذلك لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين. فالدولة الفاطمية ملكت (280) سنة وكسرا، ولكنهم صاروا كأمس الذاهب كأن لم يغنوا فيها، وكان أول من ملك منهم المهدي، وكان من (سلمية حدادًا اسمه عبيد وكان يهوديًّا فدخل بلاد المغرب وتسمى بعبد الله وادعى أنه شريف علوي فاطمي، وقال عن نفسه إنه المهدي ... وآخر خلفائهم العاضد بن يوسف بن المستنصر بن الحاكم، قال عنه ابن كثير: " كانت سيرته مذمومة، وكان شيعيًّا خبيثًا، لو أمكنه قتل كل من قدر عليه من أهل السنة .. ". ولما توفي وزال ملك الفاطميين استبشر الناس وأنشد العماد الكاتب: توفي العاضد الدعي فما ... يفتح ذو بدعة بمصر فما وعصر فرعونها انقضى وغدا ‍ ... يوسفها في الأمور متحكما قد طفئت جمرة الغواة وقد داخ ‍ ... من الشرك كل ما اضطرما وصار شمل الصلاح ملتئما ‍ ... بها وعقد السداد منتظما لما غدا مشعر شار بني الـ ‍ ... عباس حقا والباطل اكتتما وبات داعي التوحيد منتظرا ‍ ... ومن دعاة الشرك منتقما وارتكس الجاهلون في ظلم ‍ ... لما أضاءت منابر العلما وعاد بالمستضيء معتليا ‍ ... بناء حق بعد ما كان منهدما أعيدت الدولة التي اضطهدت ‍ ... وانتصر الدين بعدما اهتضما واهتز عطف الإسلام من جلل ‍ ... وافتر ثغر الإسلام وابتسما رواستبشرت أوجه الهدى فرحا ... فليقرع الكفر سنته ندما (2) "وقد كان الفاطميون أغنى الخلفاء وأكثرهم مالا، وكانوا من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم وأنجس الملوك سيرة، وأخبثهم سريرة، ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات، وكثر أهل الفساد، وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد، وكثر بأرض الشام النصرانية والدرزية والحشيشية، وتغلب الفرنج على سواحل الشام بأكمله، حتى أخذوا القدس ونابلس، وعجلون والغور وبلاد غزة وعسقلان وكرك الشوبك وطبرية وبانياس وصور وعكا وصيدا وبيروت وصفد وطرابلس وأنطاكية، وجميع ما والى ذلك إلى بلاد إياس وسيس واستحوذوا على بلاد آمد والرها ورأس العين ... وبلاد شتى، وقتلوا من المسلمين خلقًا وأمما لا يحصيهم إلا الله، وسبوا ذراري المسلمين من النساء والولدان مما لا يحد ولا يوصف وكل هذه البلاد كانت الصحابة قد فتحوها، وصارت دار إسلام، وأخذوا من أموال المسلمين ما لا يحد ولا يوصف ... وحين زالت أيامهم - يعني الفاطميين - وانتقض إبرامهم أعاد الله عز وجل هذه البلاد كلها إلى المسلمين بحوله وقوته وجوده ورحمته" (3).   (1) ((البداية والنهاية)) (11/ 284). (2) ((البداية والنهاية)) (12/ 265). (3) ((البداية والنهاية)) (12/ 267). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 305 وهكذا كل خائن لا يؤسف على هلاكه، ولا يحزن لفواته، بل هلاكه راحة للعباد وزواله أمان للبلاد. وقد صنف غير واحد من الأئمة القدامى في الطعن في نسب الفاطميين وأنهم أدعياء كذبة، لا ينتمون إلى آل البيت، ولا بأدنى صلة، وإنما كانوا ينسبون إلى عبيد وكان اسمه سعيدًا، وكان يهوديًّا حدادا بسلمية بالمغرب. وقد أفرد أبو شامة المؤرخ صاحب (الروضتين) كتابًا سماه (كشف ما كان عليه بنو عبيد من الكفر والكذب والمكر والكيد) وكتب الإمام الباقلاني كتابًا سماه (كشف الأسرار وهتك الأستار)، بين فيه فضائحهم وقبائحهم، ومما قاله الباقلاني عنهم: "هم قوم يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض" (1). وما أحسن ما قاله بعض الشعراء يمدح بني أيوب على ما فعلوه من إزالة الحكم الفاطمي من مصر: أبدتم من بلى دولة الكفر من ‍ ... بني عبيد بمصر إن هذا هو الفضل زنادقة شيعة باطنية مجوس يسرون ‍ ... وما في الصالحين لهم أصل كفرا يظهرون تشيعا ‍ ... ليستروا سابور عمهم الجهل (2) فلله الحمد والمنة أن تحولت الديار المصرية من ديار الشيعة إلى ديار السنة، وأسكن الله صلاح الدين ورجاله بما مهدوا للسنة أعلى درجات الجنة، وحفظ الله مصر من الرفض الخبيث، وجعلها مهدًا للسنة والحديث، وأزال عنها كل غمة، وقيض من رجالها لدينه أعلى الرجال همة. المصدر: خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية لمحمود محمد عبد الرحمن - ص 47   (1) ((البداية والنهاية)) (11/ 346). (2) ((البداية والنهاية)) (12/ 268). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 306 المبحث السادس: خيانة القرامطة القرامطة تدعي النسبة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، وكانت بداية ظهورهم في عام (278) هـ، في عهد الخليفة العباسي المعتضد أحمد بن الموفق طلحة (1).وقد ملك القرامطة الأحساء والبحرين وعمان وبلاد الشام وحاولوا ملك مصر ففشلوا، واستمرت دولتهم حتى سنة (466) هـ حيث قضى عليها عبيد الله بن علي محمد عبد القيسي بمساعدة ملك شاه السلجوقي (2).وأخذت القرامطة تناوئ الدولة العباسية وتحاول الفتك بها، وخاضت ضدها حروبًا كثيرة، تارة سعت بالخيانة، وتارة أخرى أحاطوا بالخلفاء العباسيين الذين كانوا قد بلغوا من الضعف مبلغًا، حتى لم تكن لهم سلطة فعلية، وتجرأت القرامطة على أشرف البقاع؛ الحرم المكي، وسرقوا الحجر الأسود من الكعبة، وأخذوه إلى بلادهم، وأضعفوا الخلفاء، حتى إنه في خلافة الراضي بالله محمد ابن المقتدر العباسي استولى الروم على عامة الثغور، وقدمت عساكر المعز لدين الله أبي تميم الفاطمي إلى مصر، وانقطعت الدعوة العباسية من مصر والشام (3). ومن خيانات القرامطة: ما فعلوه في سنة (294) هـ، من تعرضهم للحجاج أثناء رجوعهم من مكة بعد أداء المناسك فلقوا القافلة الأولى فقاتلوهم قتالاً شديدًا، فلما رأى القرامطة شدة القافلة في القتال، قال: هل فيكم نائب السلطان؟ فقالوا: ما معنا أحد، فقالوا: فلسنا نريدكم، فاطمأنوا وساروا فلما ساروا، أوقعوا بهم وقتلوهم عن آخرهم. وتعقبوا قوافل الحجيج قافلة قافلة يعملون فيهم السيف، فقتلوهم عن آخرهم، وجمعوا القتلى كالتل، وأرسلوا خلف الفارين من الحجيج من يبذل لهم الأمان فعندما رجعوا قتلوهم عن آخرهم، وكان نساء القرامطة يطفن بين القتلى يعرضن عليهم الماء، فمن كلمهن قتلنه، فقيل إن عدد القتلى بلغ في هذه الحادثة عشرين ألفا، وهم في كل ذلك يغورون الآبار، ويفسدون ماءها بالجيف والتراب والحجارة، وبلغ من ما نهبوه من الحجيج ألفي ألفي دينار (4).   (1) ((الكامل في التاريخ)) لـ/ابن الأثير (6/ 363). (2) انظر ((وجاء دور المجوس)) (1/ 70، 71) لـ /عبد الله محمد الغريب. "علمًا بأن القضاء على القرامطة من الناحية العقائدية، فقد اختلطت بفرق باطنية كالنصيرية والدرزية ولا تزال بعض هذه الأفكار موجودة إلى الآن في بعض بلاد الشام وإيران والهند والقطيف ونجران". (3) ((السلوك)) (1/ 17 - 19). (4) ((الكامل في التاريخ)) لـ/ابن الأثير (6/ 432، 433). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 307 خيانة أخرى للقرامطة: وفي سنة (312) هـ سار أبو طاهر الشيعي القرمطي في عسكر عظيم ليلقى الحجيج في رجوعهم من مكة، فأوقع بقافلة تقدمت معظم الحجاج، وكان فيها خلق كثير من أهل بغداد، فنهبهم، واتصل الخبر إلى باقي الحجيج، ولكن دونما فائدة فقد باغتهم القرامطة أيضًا، فأوقعوا بهم وأخذوا دوابهم، وما أرادوا من الأمتعة والأموال والنساء والصبيان، وقتلوا من قتلوا وترك الباقون في أماكنهم منهكين فمات أكثرهم جوعًا وعطشا من حر الشمس، وانقلبت بغداد واجتمع حرم المنكوبين إلى حرم المأخوذين، وجعلنا يُنادين القرمطي الصغير أبو طاهر قتل المسلمين في طريق مكة، والقرمطي الكبير ابن الفرات قتل المسلمين ببغداد، وكانت صورة فظيعة شنيعة وكسر العامة منابر الجوامع وسودوا المحاريب يوم الجمعة، وجاء ابن الفرات الوزير الرافضي القرمطي إلى المقتدر الخليفة العباسي ليأخذ رأيه فيما يفعله، فانبسط لسان المقتدر على ابن الفرات، وقال له: الساعة تقول لي أي شيء نصنع، وما هو الرأي؟ بعد أن زعزعت أركان الدولة وعرضتها للزوال بالميل مع كل عدو يظهر, ومكاتبته ومهادنته وإبعادك رجالي إلى الرقة وهم سيوف الدولة، فمن يدفع الآن؟ ومن الذي سلم الناس إلى القرمطي غيرك، لما يجمع بينكما من التشيع والرفض، ولما توجه الخليفة المقتدر إلى الكوفة ليلقى القرامطة قام المحسن ابن الوزير ابن الفرات الشيعي بقتل كل من كان محبوسًا عنده من المصادرين لأنه كان قد أخذ منهم أموالاً، ولما يوصلها إلى المقتدر، فخاف أن يقروا عليه (1). وهكذا ترى الخيانة الرافضية الخبيثة، مع ضيوف الله وحجاج بيته الحرام، قتل وسلب ونهب واغتصاب، تجويع وتعطيش، ومثل هذا خيانة الإيرانيين في إحداث بعض التفجيرات في الحرم المكي أثناء أداء المناسك في عام. وما هذا إلا لأن القوم لا يرون لمكة حرمة، ولا لكعبتها، وإنما عندهم أن أرض كربلاء أفضل من أرض مكة والمشهد الحسيني أفضل من الكعبة. وإليك بعض أقوالهم من كتبهم في هذا: سئل آياتهم العظمى محمد الحسيني الشيرازي في كتابه (الفقه والعقائد) (ص 370) توزيع مكتبة جنان القدير - الكويت: " يقال إن أرض كربلاء أفضل من أرض مكة، والسجدة على التربة الحسينية أفضل من السجدة على أرض الحرم فهل هذا صحيح؟ فأجاب الشيرازي: نعم. وهذا أيضًا آياتهم وعلامتهم السيد العباسي الحسيني الكاشاني يعنون في كتابه (مصابيح الجنان) (ص 360) ط رقم 59 - دار الفقه، إيران عنوانًا باسم: "أفضلية كربلاء على سائر البقاع"، فقال: وأما أفضلية كربلاء على سائر البقاع حتى الكعبة فلا شك في أن أرض كربلاء أقدس بقعة في الإسلام، وقد أعطيت حسب النصوص الواردة أكثر مما أعطيت أي أرض أو بقعة أخرى من المزية والشرف فكانت أرض الله المقدسة المباركة، وأرض الله الخاضعة المتواضعة وأرض الله التي في تربتها الشفاء، فإن هذه المزايا وأمثالها التي اجتمعت لكربلاء لم تجتمع لأي بقعة من بقاع الأرض حتى الكعبة (2). كما أنهم يرون الذين يحجون البيت الحرام لا حرمة لهم لأنهم يفضلون زيارة قبر الحسين ويرونها تعدل حجة: ففي كتاب (كامل الزيارات) لأبي القاسم جعفر بن محمد الشيعي ط دار السرور - بيروت 1997 عقد أبوابًا كاملة بخصوص هذه المسألة: الباب (63): إن زيارة الحسين عليه السلام تعدل عمرة. الباب (64): إن زيارة الحسين عليه السلام تعدل حجة. الباب (65): إن زيارة الحسين عليه السلام تعدل حجة وعمرة.   (1) ((الكامل في التاريخ)) لـ/ابن الأثير (7/ 312) بتصرف. (2) ((حقيقة الشيعة)) (ص143، 144). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 308 الباب (60): إن زيارة الحسين والأئمة تعدل زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. الباب (59): من زار الحسين عليه السلام كمن زار الله في عرشه (1). جولة سريعة في التاريخ مع خيانات الشيعة القرامطة: سنقلب سريعًا في سجلات التاريخ من كتابي (البداية والنهاية)، و (الكامل في التاريخ)، نشير إشارات إلى خيانات القرامطة وعياثهم بالفساد في الأرض وتعقب أهل السنة والخروج على دولتهم ممثلة في الخلافة العباسية. "وفيها (311) هـ قصد أبو طاهر القرمطي البصرة فوصلها ليلاً في ألف وسبعمائة رجل فوضع السيف في أهل البصرة وهرب الناس إلى الكلأ وحاربوا القرامطة عشرة أيام فظفر بهم القرامطة وقتلوا خلقًا كثيرًا، وطرح الناس أنفسهم في الماء فغرق أكثرهم وأقام أبو طاهر سبعة عشر يومًا يحمل من البصرة ما يقدر عليه من المال والأمتعة والنساء والصبيان ثم انصرف" (2)."وفي سنة (312) هـ دخل أبو طاهر القرمطي الكوفة .. فخرج إليه واليها جعفر بن ورقاء الشيباني فقاتله واجتمع له أمداد من هنا وهناك، ولكن ظفر بهم القرامطة، وتبعوهم إلى باب الكوفة فانهزم عسكر الخليفة، وأقام أبو طاهر ستة أيام يدخل البلد نهارًا ثم يخرج فيبيت في عسكره، وحمل منها ما قدر على حمله من الأموال والثياب وغير ذلك" (3). "وفي سنة (315) هـ خرج القرامطة نحو الكوفة أيضًا وكانوا ألفًا وخمسمائة، وقيل: كانوا ألفين وسبعمائة، وسيَّر لهم الخليفة العباسي جيشًا كثيفًا نحو ستة آلاف سوى الغلمان، ودارت بينهم وقائع في واسط والأنبار .. وكانت سجالاً وقتل فيها من عسكر الخليفة عدد كثير وانهزموا .. وأصاب الناس الذعر من القرامطة فخرج ناس بأموالهم من بغداد لما سمعوا بتوجه القرامطة إليها" (4)." وفي سنة (316) هـ عاث أبو طاهر القرمطي في الأرض فسادا، فدخل الرحبة وقتل من أهلها خلقًا، وطلب منه أهل قرقيسيا الأمان، فأمنهم وبعث سرياه إلى ما حولها من الأعراب فقتل منهم خلقًا حتى صار الناس إذا سمعوا بذكره يهربون من سماع اسمه، وفرض على الأعراب إتاوة يحملونها إلى هجر - مقر القرامطة - كل سنة؛ عن كل رأس دينارين وعاث في نواحي الموصل فسادًا وفي سنجار ونواحيها، وخرب تلك الديار وقتل وسلب ونهب .. ولما رأى الوزير علي بن عيسى ما يفعله القرامطة في بلاد الإسلام وليس له دافع استعفى من الوزارة لضعف الخليفة وجيشه وعزل نفسه .. " (5).   (1) ((حقيقة الشيعة)) (ص 140). (2) ((البداية والنهاية)) (11/ 147) , ((الكامل في التاريخ)) (7/ 15). (3) ((الكامل في التاريخ)) (7/ 22، 23). (4) ((الكامل في التاريخ)) (7/ 31 - 33) بإيجاز. (5) ((البداية والنهاية)) (11/ 157، 158). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 309 " وفي سنة (317) هـ خرج القرامطة إلى مكة في يوم التروية فقاتلوا الحجيج في رحاب مكة وشعابها، وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وجلس أميرهم أبو طاهر لعنه الله على باب الكعبة والرجال تصرع حوله والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام في الشهر الحرام في يوم التروية، الذي هو من أشرف الأيام .. وكان الحجيج يفرون منهم فيتعلقون بأستار الكعبة، فلا يجدي ذلك عنهم شيئا، بل يقتلون وهم متعلقون بها .. ولما قضى القرمطي اللعين أبو طاهر أمره وفعل ما فعل بالحجيج؛ أمر بردم بئر زمزم بإلقاء القتلى فيها وهدم قبتها، وأمر بخلع الكعبة ونزع كسوتها عنها وشقها بين أصحابه .. ثم أمر رجلاً من رجاله بأن يقلع الحجر الأسود، فجاء رجل فضربه بمثقل كان في يده وقال أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ ثم قلع الحجر الأسود، وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم ثنتين وعشرين سنة، حتى ردوه في سنة (339) هـ فإنا لله وإنا إليه راجعون" (1). بعد هذه الجولة السريعة في فترة زمنية لا تتجاوز الست سنوات بحثًا عن خيانات الشيعة القرامطة. أرأيت كيف كانت خيانتهم وإفسادهم في الأرض في ديار المسلمين؟ أرأيت كيف كان ذكرهم يثير الذعر والهلع في قلوب الناس؟ أرأيت كيف كانت فعالهم في حجاج بيت الله الحرام .. فعالاً ما فعلها أهل الجاهلية الأولى، الذين كان الرجل منهم إذا رأى قاتل أبيه في الحرم ما اجترأ على أن يسل سيفه من غمده، فضلاً عن أن يقتل ما تعلق بأستار الكعبة ولاذ بالبيت. إنها فعالاً ما تمكن من مثلها أبرهة النصراني، وما قبلت الحيوانات الأعجمية - الفيلة - أن ترتكبها، فكلما وجهت نحو البيت المشرف لتناله بسوء أعرضت ونأت، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ومن أجل أن تعرف خطر خيانة الشيعة أذكر لك حادثًا جللا عظيمًا يبين لك أن الشيعة لا يجاهدون الكفار بل نكايتهم في أهل السنة، يقاتلونهم ويمالؤون عليهم، ويترتب على هذا اجتراء أعداء الملة على أهل الإسلام ودياره ذلك الحدث هو: " أنه في نفس العام الذي أفسد فيه القرامطة وقاموا بالخروج على الخلافة العباسية سنة (315) هـ، والذي ذكرناه آنفًا حدث أن جاءت الروم إلى ديار المسلمين، ودخلوا بلدة يقال لها سميساط وقاتلوا أهلها وغنموا جميع ما فيها، وضربوا بالناقوس في الجوامع أوقات الصلاة" (2). فهل هؤلاء القوم يتصلون من قريب أو بعيد بآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنهم والله كفار زنادقة، تستروا بالإسلام ورفعوا دعاية حب آل البيت، وفعلوا بالإسلام والمسلمين ما فعلوا. المصدر: خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية لمحمود محمد عبد الرحمن - ص 63   (1) ((البداية والنهاية)) (11/ 160، 161)، و ((الكامل في التاريخ)) (7/ 53، 54). (2) ((الكامل في التاريخ)) (7/ 31)، ((البداية والنهاية)) (11/ 154، 155). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 310 المبحث السابع: خيانات البويهيين: والبويهيون ينتسبون إلى رجل من الديلم (1) يقال له بويه، وكنيته أبو شجاع، كان له أولاد ثلاثة "أبو الحسن علي ولقب عماد الدولة" و "أبو علي الحسن ولقب بركن الدولة" و "أبو الحسين أحمد ولقب بمعز الدولة" وكان الثلاثة قوادًا في جيش ابن كالي صاحب إقليم الديلم في هذا الوقت عندما خرج على الخلافة العباسية؛ فاستولى على عدة أقاليم كأصبهان، وأرَّجان وشيراز .. وغيرها فعظم شأن بني بويه حتى صارت لهم أمور الديلم وما والاه من الأقاليم، وكان خليفة الوقت الراضي بالله محمد بن المقتدر العباسي له وزير شيعي يسمى أبو علي محمد بن علي بن مقلة، أخذ يخطط ويدبر لإزالة الخليفة العباسي والتمكين لبني بويه المتشيعين، فأخذ يكتب للبويهيين يطمعهم في بغداد دار الخلافة، ويصف لهم الحال الذي عليه الخليفة من الضعف، حتى قدم معز الدولة بن بويه إلى بغداد واستولى عليها سنة (334) هـ، ويومها قال الوزير أبو علي محمد بن علي بن مقلة " إنني أزلت دولة بني العباس وأسلمتها إلى الديلم لأني كاتبت الديلم وقت إنفاذي إلى أصبهان، وأطمعتهم في سرير الملك ببغداد، فإني اجتنيت ثمرة ذلك في حياتي" .. وكان لما ملك معز الدولة بغداد خلع الخليفة، ونهب الديلم دار الخلافة حتى لم يبق شيء، وأقام الفضل بن المقتدر العباسي خليفة، ولم يجعل له أمرًا ولا نهيًا ولا رأيا، ولا مكنه من إقامة وزير، بل صارت الوزارة إليه - أي لمعز الدولة بن بويه - يستوزر لنفسه وشنع على بني العباس بأنهم غصبوا الخلافة وأخذوها من مستحقيها وأراد معز الدولة إبطال دعوة بني العباس وإقامة دعوة المعز لدين الله الفاطمي .. وبعث نوابه فتسلموا العراق ولم يبق بيد الخليفة منه شيء البتة إلا ما أقطعه مما لا يقوم ببعض حاجته (2).وفي سنة (352) هـ أمر البويهيون بإغلاق الأسواق في اليوم العاشر من المحرم، وعطلوا البيع ونصبوا القباب في الأسواق، وعلقت عليها المسوح وخرج النساء منتشرات الشعور يلطمن في الأسواق، وأقيمت النائحة على الحسين بن عليّ، وتكرر ذلك طيلة حكم الديالمة ببغداد، والتي استمرت نحو مائة وثلاث سنين، وأصبحت هذه الفعلة تقليدًا دينيًا عند الجعفرية الإمامية الاثني عشرية، ولم يمكن لأهل السنة منع ذلك لكثرة الشيعة وظهورهم وكون السلطان معهم، وكذلك ابتدع معز الدولة بن بويه الاحتفال بعيد يقال له: عيد الغدير، فأمر في العاشر من ذي الحجة بإظهار الزينة في بغداد، وأن تفتح الأسواق بالليل كما في الأعياد وأن تضرب الدبادب والبوقات وأن تشعل النيران في أبواب الأمراء وعند الشرط .. فكان وقتًا عجيبًا مشهودًا، وبدعة شنيعة ظاهرة ومنكرة (3). وفي هذه الآونة التي كان يلهو فيها الشيعة البويهيون ويلعبون ويضعفون سلطان السُّنة كان الروم ينتهكون حرم الديار الإسلامية، قال ابن كثير - رحمه الله - وهو يتحدث عن أحد ملوك الروم في هذا العصر الذي فشت خيانات البويهيين فيه، واسمه نقفور، وجعل يصف الحال المزري الذي وصلت إليه الديار الإسلامية من الذلة والمهانة قال:   (1) الديلم: إقليم جبلي يقع في الجنوب الغربي من بحر قزوين، ويحده في شماله جيلان، وفي شرقه طبرستان، وفي غربه أذربيجان وفي جنوبه جهات قزوين: انظر ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (8/ 97). (2) انظر ((السلوك لمعرفة دول الملوك)) (1/ 25 - 27). (3) ((البداية والنهاية)) (11/ 243) بتصرف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 311 "كان هذا الملعون - أن نقفور الرومي - من أغلظ الملوك قلبًا وأشدهم كفرا، وأقواهم بأسًا، وأحدّهم شوكة، وأكثرهم قتلاً وقتالاً للمسلمين في زمانه، استحوذ في أيامه لعنه الله على كثير من السواحل، وأكثرها انتزعها من أيدي المسلمين قسرًا، واستمرت في يده قهرًا، وأضيفت إلى مملكة الروم قدرًا، وذلك لتقصير أهل ذلك الزمان، وظهور البدعة الشنيعة فيهم، وكثرة العصيان من الخاص والعام منهم، وفشوا البدع فيهم وكثرة الرفض والتشيع منهم، وقهر أهل السنة بينهم، فلهذا أديل عليهم أعداء الإسلام فانتزعوا ما بأيديهم من البلاد مع الخوف الشديد، ونكد العيش والفرار من بلاد إلى بلاد فلا يبيتون ليلة إلا في خوف من قوارع الأعداء، وطوارق الشرور المترادفة، فالله المستعان. وقد ورد – نقفور – هذا حلب في مائتي ألف مقاتل بغتة في سنة (351) هـ وجال فيها جولة ففر من بين يديه صاحبها سيف الدولة، ففتحها اللعين عنوة، وقتل من أهلها من الرجال والنساء ما لا يعلمه إلا الله .. " وبالغ في الاجتهاد في قتال الإسلام وأهله، وجد في التشمير. فالحكم لله العلي الكبير، وقد كان - لعنه الله - لا يدخل في بلد إلا قتل المقاتلة وبقية الرجال وسبى النساء والأطفال، وجعل جامعها اصطبلاً لخيوله وكسر منبرها، واستنكث مأذنتها بخيله ورجله وطبوله .. وكان هذا اللعين - أعني نقفور- قد أرسل قصيدة إلى الخليفة العباسي المطيع لله، نظمها له بعض كتابه مما كان خذله الله وأذله وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة وصرفه عن الإسلام وأصله، يفتخر فيها هذا اللعين، ويتعرض لسب الإسلام والمسلمين، ويتوعد فيها أهل حوزة الإسلام بأنه سيملكها كلها حتى الحرمين الشريفين عما قريب من الأعوام .. ويزعم أنه ينتصر لدين المسيح عليه السلام، وربما يعرض فيها بجناب الرسول عليه من ربه التحية والإكرام ودوام الصلاة مدى الأيام" (1)." وفي سنة (353) هـ عملت الرافضة عزاء الحسين كما تقدم فاقتتل الروافض وأهل السنة قتالاً شديدًا وانتهبت الأموال .. في نفس العام جاء ملك الروم نقفور إلى طرطوس وأذنة والمصيصة وقتل من أهلها نحو خمسة عشر ألفا وعاث فيها الفساد" (2)."وفي سنة (354) هـ في عاشر المحرم منها عملت الشيعة مأتمهم وبدعتهم وغلقت الأسواق وخرجت النساء نائحات سافرات - كما تقدم - واقتتلوا مع أهل السنة قتالاً شديدًا .. وفي شهر رجب منها جاء ملك الروم بجيش كثيف إلى المصيصة فأخذها قسرًا وقتل من أهلها خلقًا، واستاق بقيتهم معه أسارى وكانوا قريبًا من مائتي ألف إنسان، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ثم جاء إلى طرسوس، فسأل أهلها منه الأمان فأمنهم بالجلاء عنها والانتقال منها واتخذ مسجدها الأعظم اصطبلا لخيوله وحرق المنبر ونقل قناديله إلى كنائس بلده، وتنصر بعض أهلها معه لعنه الله .. " (3). " وفي عاشر المحرم من سنة (361) هـ عملت الروافض بدعتهم، وفي المحرم منها - أي نفس الشهر - أغارت الروم على الجزيرة وديار بكر فقتلوا خلقًا من أهل الرها، وصاروا في البلاد كذلك يقتلون ويأسرون ويغنمون إلى أن وصلوا نصيبين ففعلوا ذلك ولم يغن عن تلك النواحي متوليها شيئًا، ولا دافع عنهم، ولا له قوة، فعند ذلك ذهب أهل الجزيرة إلى بغداد وأرادوا أن يدخلوا على الخليفة المطيع لله وغيره يستنصرونه ويستصرخونه، فرثى لهم أهل بغداد، وجاءوا معهم إلى الخليفة فلم يمكنهم ذلك، وكان بختيار بن معز الدولة البويهي - الشيعي الرافضي - مشغولاً بالصيد فذهبت الرسل إليه فبعث الحاجب يستنفر الناس، فتجهز خلق من العامة .. ولكن وقعت بينهم فتنة شديدة بين الروافض وأهل السنة، وأحرق أهل السنة دور الروافض في الكرخ وقالوا: الشر كله منكم .. وأرسل بختيار البويهي إلى الخليفة يطلب منه أموالاً يستعين بها على هذه الغزوة فبعث إليه يقول: لو كان الخراج يجيء إلي لدفعت منه ما يحتاج المسلمون إليه - وذلك أن الخليفة كان في غاية الضعف - ولكن أنت تصرف منه في وجوه ليس بالمسلمين إليها ضرورة، وأما أنا فليس عندي شيء أرسله إليك، فترددت الرسل بينهما وأغلظ بختيار للخليفة في الكلام وتهدده، فاحتاج الخليفة أن يحصل شيئًا فباع بعض ثياب بدنه وشيئًا من أثاث بيته ونقض بعض سقوف داره، وحصل له أربعمائة درهم فصرفها بختيار في مصالح نفسه وأبطل تلك الغزوة، فنقم الناس للخليفة، وساءهم ما فعل به ابن بويه الرافضي من أخذه مال الخليفة، وتركه الجهاد، فلا جزاه الله خيرًا .. " (4). المصدر: خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية لمحمود محمد عبد الرحمن - ص 73   (1) ((البداية والنهاية)) (114/ 243، 244). (2) ((البداية والنهاية)) (11/ 253). (3) ((البداية والنهاية)) (11/ 254، 255). (4) ((البداية والنهاية)) (11/ 271، 272) بتصرف يسير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 312 المبحث الثامن: خيانات الوزير مؤيد الدين أبا طالب محمد بن أحمد العلقمي الشيعي في دخول التتار بغداد: قال ابن كثير - رحمه الله تعالى - في أحداث سنة (642) هـ:"وفيها استوزر الخليفة المستعصم بالله مؤيد الدين أبا طالب محمد بن علي بن محمد العلقمي المشئوم على نفسه وعلى أهل بغداد الذي لم يعصم المستعصم في وزارته، فإنه لم يكن وزير صدق ولا مرضي الطريقة؛ فإنه هو الذي أعان على المسلمين في قضية هولاكو قبحه الله وإياهم" (1). وقال ابن كثير أيضًا في أحداث (656) هـ والتي جاء فيها الطوفان التتاري إلى بغداد دار الخلافة العباسية:   (1) ((البداية والنهاية)) (13/ 164). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 313 "استهلت هذه السنة وجنود التتار قد نازلت بغداد صحبة الأميرين اللذين على مقدمة عساكر سلطان التتار هولاكو خان وجاءت إليهم أمداد صاحب الموصل يساعدونهم على البغاددة وميرته وهداياه وتحفه، وكل ذلك خوفًا على نفسه من التتار، ومصانعة لهم قبحهم الله تعالى .. وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب .. وكان قدوم هولاكو خان بجنوده كلها، وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل .. وهو شديد الحنق على الخليفة بسبب .. أن هولاكو خان لما كان أول بروزه من همدان متوجهًا إلى العراق أشار الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي على الخليفة بأن يبعث إليه بهدايا سَنِيَة ليكون ذلك مداراة له عما يريده من قصد بلادهم، فخذل الخليفة عن ذلك دويداره الصغير أيبك، وقالوا: إن الوزير إنما يريد بهذا مصانعة ملك التتار بما يبعثه إليه من الأموال، وأشاروا بأن يبعث بشيء يسير فأرسل شيئًا من الهدايا فاحتقرها هولاكو خان، وأرسل إلى الخليفة يطلب منه دويداره المذكور وسليمان شاه، فلم يبعثهما إليه، ولا بالا به حتى أزف قدومه ووصل بغداد بجنوده الكثير الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة، ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وجيوش بغداد في غاية الضعف ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس وهم بقية الجيش، فكلهم كانوا قد صرفوا عن إقطاعاتهم حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد، وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله، وذلك كله من آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي، وذلك أنه لما كان في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حرب عظيمة نهبت فيها الكرخ ومحلة الرافضة، حتى نهبت دور قرابات الوزير، فاشتد حنقه على ذلك، فكان هذا مما أهاجه على أن دبر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد وإلى هذه الأوقات، ولهذا كان أول من برز إلى التتار – أي ابن العلقمي – فخرج بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه، فاجتمع به السلطان هولاكو خان لعنه الله، ثم عاد فأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتربوا من منزل السلطان هولاكو خان حجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفسًا، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأنزل الباقون عن مراكبهم ونهبت، وقتلوا عن آخرهم، وأحضر الخليفة بين يدي هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة، فيقال إنه اضطرب كلام الخليفة من هول ما رأى من الإهانة والجبروت، ثم عاد إلى بغداد في صحبته خوجة نصير الدين الطوسي (1) والوزير ابن العلقمي وغيرهما، والخليفة تحت الحوطة والمصادرة، فأحضر من دار الخلافة شيئًا كثيرًا من الذهب والحلي والمصاغ والجواهر والأشياء النفسية، وقد أشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو أن لا يصالح الخليفة، وقال الوزير متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عامًا أو عامين ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك، وحسنوا له قتل الخليفة.   (1) وهذا رافضي خبيث، سنفرد فصلاً للكلام على بعض خياناته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 314 فلما عاد الخليفة إلى السلطان هولاكو أمر بقتله، ويقال: إن الذي أشار بقتله هو الوزير ابن العلقمي والمولى نصير الدين الطوسي، وكان النصير عند هولاكو قد استصحبه في خدمته لما فتح قلاع الألموت وانتزعها من أيدي الإسماعيلية، وكان النصير وزيرًا لشمس الشموس ولأبيه قبله علاء الدين بن جلال الدين، وانتخب هولاكو النصير ليكون في خدمته كالوزير المشير، فلما قدم هولاكو وتهيب من قتل الخليفة هون عليه الوزير ذلك، فقتلوه رفسًا وهو في جوالق لئلا يقع على الأرض شيء من دمه .. فباؤا بإثمه وإثم من كان معه من سادات العلماء والقضاة والأكابر والرؤساء والأمراء وأولي الحل والعقد ببلاده .. ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ، والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقني الوسخ وكمنوا كذلك أيامًا لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة .. وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا لهم أمانًا بذلوا عليه أموالاً جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم، وعادت بغداد بعدما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة، وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش، وإسقاط اسمهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريبًا من مائة ألف مقاتل منهم من الأمراء من هو كالملوك الأكابر والأكاسر، فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبقى سوى عشرة آلاف، ثم كاتب التتار وطمعهم في البلاد وسهل عليهم ذلك وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال، وذلك كله طمعًا منه أن يزيل السنة بالكلية، وأن يظهر البدعة الرافضة، وأن يقيم خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء والمفتين والله غالب على أمره" (1).وكان الوزير ابن العلقمي الرافضي الخائن شديد الحنق على العلماء من أهل السنة، حتى أنه كان يتشفى بقتلهم، ومن أبرزهم في ذلك الوقت الشيخ محي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي وهو وأولاده الثلاثة "عبد الله وعبد الرحمن وعبد الكريم" وأكابر الدولة واحدًا واحدًا، وكان الرجل يستدعى به من دار الخلافة فيذهب به إلى مقبرة الغلال فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه، وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي بن النيار، وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد، وأراد الوزير ابن العلقمي قبحه الله ولعنه أن يعطل المساجد والمدارس ببغداد ويستمر بالمشاهد ومحال الرفض، وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون علمهم وعليها بها (2).   (1) البداية والنهاية (13/ 200ـ 202). (2) انظر البداية والنهاية (13/ 203). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 315 تقديرات ضحايا هذه الخيانة الشيعية: قال ابن كثير رحمه الله: " وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الواقعة، فقيل ثمانمائة ألف وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس، فإنا لله وإنا إليه راجعون" (1)."القتلى في الطرقات كأنها التلال، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو، وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون" (2). بعد عرض تفاصيل هذه الخيانة الرافضية أحب أن أقرر أمرين: الأول: لا نستطيع أن نقول إلا أن حال الخليفة العباسي في ذلك الوقت كان في غاية السوء، وفساد الرأي والتدبير، قال ابن كثير رحمه الله: "ولم تكن أيدي بني العباس حاكمة على جميع البلاد، وكما كانت بنو أمية قاهرة لجميع البلاد والأقطار والأمصار، فإنه خرج عن بني العباس .. دول حتى لم يبق مع الخليفة إلا بغداد وبعض بلاد العراق، وذلك لضعف خلافتهم واشتغالهم بالشهوات وجمع الأموال في أكثر الأوقات" (3). الثاني: العجب كل العجب من أمر هذا الوزير الرافضي كيف فعل ما فعل برغم تسامح الخليفة السني العباسي من استوزاره له في حين أن الشيعة متى صارت لهم دولة فإنهم لا يمكنون أهل السنة من الوصول إلى أي مناصب قيادية وهذا أمر مضطرد حتى الآن عندهم؛ ففي إيران المعاصرة يحكي الأستاذ ناصر الدين الهاشمي في بيان موقف أهل السنة في إيران، وهو يبين الأمور التي يمنع منها السنة هناك مثل بناء المساجد في المدن الكبيرة، ومنع طبع كتبهم، والإفتاء لهم بمذهبهم. قال: "وأهل السنة ممنوعون من العمل في الإدارات الحكومية حيث لا يوظف منهم ولو من حملة شهادات الدكتوراه، لا بالوظائف المهمة ولا غير المهمة، ناهيك عن القلة القليلة الباقية من النظام السابق في الإدارات الحكومية وذلك بعد تطهير واسع بعد الثورة" (4). كلام حول الدافع في خيانة ابن العلقمي: قال ابن كثير رحمه الله في أحداث 655هـ: " وفيها كانت فتنة عظيمة ببغداد بين الرافضة وأهل السنة، فنهبت الكرخ ودور الرافضة حتى دور قرابات الوزير ابن العلقمي وكان ذلك من أقوى الأسباب في ممالأته للتتار" (5). وقد يكون هذا بعض الدافع، ولكن الدافع الحقيقي لخيانة هذا الرافضي الخبيث هو ما يكنه من عقائد، وقد بينا في البداية أنهم لا يرون إقامة الجهاد إلا بحضور المهدي "وهو إمامهم الثاني عشر" روي الكليني صاحب (الكافي) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عز وجل" وذكر هذه الرواية أيضًا شيخهم الحر العاملي في وسائل الشيعة. وفي الصحيفة السجادية الكاملة: "عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما خرج ولا يخرج منا أهل البيت إلى قيام قائمنا أحد ليدفع ظلمًا أو ينعش حقًا إلا اصطلته البلية، وكان قيامه زيادة في مكروهنا وشيعتنا".وروى محدثهم النوري الطبرسي في مستدرك الوسائل: " عن أبي جعفر عليه السلام قال: مثل من خرج منا أهل البيت قبل قيام القائم عليه السلام مثل فرخ طار ووقع من وكره فتلاعبت به الصبيان" (6). فهل كان يرجى من هؤلاء أن يعلنوا الجهاد ضد التتار أو غيرهم وهم يروننا كفارًا، ومهديهم لم يخرج؟ المصدر: خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية - محمود محمد عبد الرحمن - ص 81   (1) البداية والنهاية (13/ 202). (2) البداية والنهاية (13/ 203). (3) البداية والنهاية (13/ 205). (4) أ/ ناصر الدين الهاشمي: ((موقف أهل السنة في إيران)) (ص11) بدون طبعة. (5) ((البداية والنهاية)) (13/ 196). (6) عبد الله الموصلي: ((حقيقة الشيعة)) "ص170، 171ط". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 316 المبحث التاسع: خيانة الشيعة عند دخول التتار إلى بلاد الشام (658هـ) جاء التتار إلى بلاد الشام في عام 658هـ صحبة ملكهم هولاكو خان وجاوزا الفرات على جسور عملوها، ووصلوا إلى حلب في ثاني صفر من هذه السنة، فحاصروها سبعة أيام ثم افتتحوها بالأمان ثم غدروا بأهلها، وقتلوا منهم خلقًا لا يعلمهم إلا الله عز وجل، ونهبوا الأموال، وسبوا النساء والأطفال، وجرى عليهم قريبًا مما جرى على أهل بغداد. ولما سقطت حلب أرسل صاحب حماة بمفاتيحها إلى هولاكو خان فاستناب عليها رجل يقال له خسروشاه، فخرب أسوارها كمدينة حلب، ثم أرسل هولاكو قائده كتبغا إلى دمشق فأخذوها سريعًا بلا مصانعة ولا مدافعة واستناب عليها رجلا منهم يقال له إيل سيان وكان معظمًا لدين النصارى، فاجتمع به قساوسهم وأساقفتهم فعظمهم جدًّا وزار كنائسهم فصارت لهم دولة وصولة بسببه، وذهب طائفة من النصارى إلى هولاكو وأخذوا معهم هدايا وتحف، وقدموا من عنده ومعهم فرمان أمان من جهته فدخلوا من باب توما ومعهم صليب منصوب يحملونه على رؤوس الناس وهم ينادون بشعارهم، ويقولون ظهر الدين الصحيح دين المسيح ويذمون دين الإسلام وأهله، ومعهم أواني خمر لا يمرون بمسجد إلا رشوا عنده خمرًا، فإنا لله وإنا إليه راجعون (1). ومما يدل على خيانة الروافض - هنا أن هولاكو لما أتم تدمير دمشق وبلاد الشام أرسل تقليدًا بولاية القضاء على جميع المدائن الشام والجزيرة والموصل وماردين والأكراد للقاضي كمال الدين عمر بن بدر التفليسي الشيعي، ويدل على تآمر الشيعة أيضًا أنه لما ظفر المسلمون على التتار في واقعة عين جالوت بقيادة الملك المظفر قطز عوّل أهل الشام على الانتقام من الخونة من النصارى الذين استغلوا الفرصة وفعلوا ما فعلوا ومن الشيعة الذين مالئوا التتار وصانعوهم على أموال المسلمين وقتل العامة وشيخهم الفخر محمد بن يوسف بن محمد الكنجي، قال عنه ابن كثير رحمه الله:" شيخًا رافضيًّا كان مصانعًا للتتار على أموال المسلمين، وكان خبيث الطوية، مشرقيًا ممالئًا لهم على أموال المسلمين قبحه الله، وقتلوا جماعة مثله من المنافقين، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين" (2).ومن طريف ما يذكر ويدلل على أن أهل السنة لم يكونوا بغاة ظالمين في الانتقام من النصارى والشيعة بعد ظفرهم بالتتار بحمد الله، أن طائفة منهم همت أن تعاقب اليهود، فقيل لهم أنه لم يكن منهم من الطغيان كما كان من عبدة الصلبان (3). فالله أكبر على السنة وأهلها، لا خيانة ولا ظلم ولا تعدي، وإن عاقبوا قومًا فبمثل ما عوقبوا به، وإن اعتدوا على قوم فبمثل ما اعتُدي به عليهم. وسبحان الله الذي جعل الجزاء من جنس العمل، فإن هؤلاء الخونة كان الله تعالى ينتقم منهم بأيدي من خانوا من أجلهم ومالؤهم حتى أن ابن كثير يذكر أن هولاكو ملك التتار استحضر الزين الحافظي وهو سليمان بن عامر العقرباني، وقال له: ثبت عندي خيانتك، وقد كان هذا المغتر لما قدم التتار مع هولاكو دمشق وغيرها مالأ على المسلمين وآذاهم ودل على عوراتهم، فسلطه الله عليه بأنواع العقوبات، ومن أعان ظالمًا سلطه عليه (4). المصدر: خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية لمحمود محمد عبد الرحمن - ص 91   (1) ((البداية والنهاية)) (13/ 218،219) بتصرف وإيجاز. (2) ((البداية والنهاية)) (13/ 221) بتصريف. (3) ((البداية والنهاية)) نفس الموضوع. (4) انظر ((البداية والنهاية)) (13/ 244). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 317 المبحث العاشر: خيانة الشيعة في بلاد حلب 657هـ لما دخل التتار حلب وقتلوا منها خلقًا كثيرًا، وسلبوا ونهبوا وسبوا كتب الملك الناصر صاحب حلب إلى الملك المغيث صاحب الكرك وإلى الملك المظفر قطز في مصر يطلب منهما نجدة وكانت نفسه قد ضعفت وخارت، وعظم خوف العساكر من هولاكو، وظهرت الشيعة بتيارها الانهزامي، فقال الأمير الشيعي زين الدين الحافظي يعظم شأن هولاكو، ويشير بعدم القتال ووجوب الدخول في طاعة هولاكو، فصاح به الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري وضربه وسبه وقال: أنتم سبب هلاك المسلمين (1). المصدر: خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية لمحمود محمد عبد الرحمن - ص 97   (1) أحمد بن علي المقريزي/ ((السلوك لمعرفة دولة الملوك)) (1/ 419) ط لجنة التأليف والترجمة والنشر الطبعة الثانية 1957م تحقيق محمد مصطفى زيادة – بتصريف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 318 المبحث الحادي عشر: خيانات نصير الدين الطوسي: نصير الدين الطوسي هذا كان معاصرًا للوزير ابن العلقمي، وكان شيعيًّا رافضيًّا خبيثًا مثله، تعددت خياناته؛ فكانت ما بين إعانة على قتل أهل السنة وأخذ أموالهم والقضاء على تراثهم الفكري. أما خيانته في الإعانة على قتل أهل السنة فثابت مستفيض، قال ابن كثير رحمه الله:"الخواجا نصير الدين الطوسي وزر لأصحاب قلاع الألموت من الإسماعيلية، ثم وزر لهولاكو، وكان معه في واقعة بغداد" (1).وقال في موضوع آخر: "كان النصير وزيرًا لشمس الشموس ولأبيه قبله علاء الدين بن جلال الدين، وكانوا ينسبون إلى نزار بن المستنصر العبيدي، وانتخب هولاكو النصير ليكون في خدمته كالوزير المشير، فلما قدم هولاكو وتهيب من قتل الخليفة – أي في واقعة بغداد 656هـ - هون عليه الوزير – الطوسي – ذلك فقتلوه رفسا، وهو في جوالق لئلا يقع على الأرض شيء من دمه وأشار الطوسي بقتل جماعة كبيرة – من سادات العلماء والقضاة والأكابر والرؤساء وأولي الحل والعقد – مع الخليفة فباء بآثامهم" (2). والشيعة الملاعين يمتدحون ما فعله الطوسي من الخيانة، ويترحمون عليه ويرونه نصرًا حقيقيًّا للإسلام، فمثلاً: يقول علامتهم محمد باقر الموسى في روضات الجنات في ترجمة الطوسي (1/ 300، 301): " هو المحقق المتكلم الحكيم المتجبر الجليل .. ومن جملة أمره المشهور المعروف المنقول حكاية استيزاره للسلطان المحتشم في محروسة إيران هولاكو خان بن تولي جنكيز خان من عظماء سلاطين التتارية، وأتراك المغول ومجيئه في موكب السلطان مؤيد مع كمال الاستعداد إلى دار السلام بغداد؛ لإرشاد العباد وإصلاح البلاد، وقطع دابر سلسلة البغي والفساد، وإخماد دائرة الجور والإلباس بإبداد دائرة ملك بني العباس، وإيقاع القتل العام في أتباع أولئك الطغاة إلى أن سال من دمائهم الأقذار كأمثال الأنهار فانهار بها في ماء دجلة، ومنها إلى نار جهنم دار البوار، ومحل الأشقياء والأشرار" (3). فيا سبحان الله! الخيانة إرشاد للعباد وإصلاح للبلاد!! وصدق ربنا – عز وجل – فيما قاله في مثل هؤلاء الخونة المفسدين: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة: 11: 12]. وقد امتدح الخميني نصر الدين الطوسي وبارك خيانته هذه واعتبرها نصرًا حقيقيًّا للإسلام، قال في كتابه (الحكومة الإسلامية):" .. وإذا كانت ظروف التقية تلزم أحدًا منا بالدخول في ركب السلاطين فهنا يجب الامتناع عن ذلك حتى لو أدى الامتناع إلى قتله إلا أن يكون في دخوله الشكلي نصر حقيقي للإسلام والمسلمين مثل دخول علي بن يقطين، ونصير الدين الطوسي رحمهما الله" (4).ويقول أيضًا عنه: " ويشعر الناس بالخسارة أيضًا بفقدان الخواجة نصير الدين الطوسي وأمثاله ممن قدموا خدمات جليلة للإسلام" (5). وهكذا عندما تنتكس الموازين تصبح خيانة الإسلام والمسلمين خدمات جليلة للإسلام والمسلمين!!. ألا لعنة الله على من لم يقيموا الوزن بالقسط وأخسروا الميزان. وتعدت خيانة الطوسي الخيانة في القتل إلى نوع خطير من الخيانة إنه خيانة الأمة الإسلامية في حضارتها، في تراثها وفكرها وثقافتها.   (1) ((البداية والنهاية)) (13/ 267)، وانظر ((شذرات الذهب)) (5/ 340) ط دار الأوقاف – بيروت. (2) ((البداية والنهاية)) (13/ 201) بتصرف. (3) ((حقيقة الشيعة)) (ص54). (4) الخميني: ((الحكومة الإسلامية)) (ص142) ط الرابعة (5) الخميني: ((الحكومة الإسلامية)) (ص128). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 319 فإن الطوسي نظرًا لأنه كان له معرفة بالعلوم وخصوصًا علم الكلام والفلسفة والمنطق .. فطن أن توجيه هذه الضربة القاصمة للأمة الإسلامية في تراثها الحضاري والفكري فسعى في إهلاك المؤلفات وإتلافها وسرقتها واستبقاء الفلاسفة والمنجمين. قال ابن كثير رحمه الله:"وفي سنة 657هـ (1) عمل الخواجة نصير الدين الطوسي الرصد بمدينة مراغة ونقل إليها شيئًا كثيرًا من كتب الأوقاف التي كانت ببغداد، وعمل دارًا للحكمة ورتب فيها الفلاسفة، ورتب لكل واحد في اليوم والليلة ثلاثة دراهم" (2). وقال ابن القيم رحمه الله:"ولما انتهت النوبة إلى نصير الشرك والكفر الملحد، وزير الملاحدة النصير الطوسي وزير هولاكو شفا نفسه من أتباع الرسول الكريم – وأهل دينه، فعرضهم على السيف، حتى شفا إخوانه من الملاحدة، واشتفى هو فقتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدثين، واستبقى الفلاسفة والمنجمين والطبائعيين والسحرة، ونقل أوقاف المدارس والمساجد والربط إليهم، وجعلهم خاصته وأولياءه، ونصر في كتبه قدم العالم وبطلان المعاد وإنكار صفات الرب جل جلاله من علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، وليس فوق العرش إله يعبد ألبته، واتخذ للملاحدة مدارس، ورام جعل إشارات إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن، فلم يقدر على ذلك، فقال هي قرآن الخواص، وذاك قرآن العوام، ورام تغيير الصلاة وجعلها صلاتين فلم يتم له الأمر وتعلم السحر في آخر الأمر، فكان ساحرًا يعبد الأصنام، وصارع محمد الشهرستاني ابن سينا في كتابه سماه (المصارعة) أبطل فيه قوله بقدم العالم وإنكار المعاد ونَفْي علم الرب تعالى وقدرته وخلقه للعالم، فقام له نصير الإلحاد وقعد، ونقضه بكتاب سماه (مصارعة المصارعة) .. وبالجملة فكان هذا الملحد هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر" (3). وقال الشيخ محب الدين الخطيب:" النصير الطوسي. جاء في طليعة موكب السفاح هولاكو، وأشرف معه على إباحة الذبح العام في رقاب المسلمين والمسلمات، أطفالاً وشيوخًا، ورضي بتغريق كتب العلم الإسلامية في دجلة، حتى بقيت مياهها تجري سوداء أيامًا وليالي من مداد الكتب المخطوطة التي ذهب بها نفائس التراث الإسلامي من تاريخ وأدب ولغة وشعر وحكمة، فضلاً عن العلوم الشرعية ومصنفات أئمة السلف من الرعيل الأول، التي كانت لا تزال موجودة بكثرة إلى ذلك الحين، وقد تلف مع ما تلف من أمثالها في تلك الكارثة الثقافية التي لم يسبق لها نظير" (4).ولقد لفتت هذه الخيانة الحضارية والثقافية نظري إلى أمر هام وهو أننا حين نقرأ في كتب تراجم الرجال أو الكتب التي عنيت بتسجيل أسماء الكتب (5) نسمع عن عشرات ومئات من المصنفات الضخام، ولكن نفاجأ بأنه لم يصل إلينا منها إلا القليل، فندرك أن مثل هذه الخيانة الحضارية الثقافية كانت وراء ضياع كثير من هذه المؤلفات القيمة، حتى جاء الاستعمار الحديث فسرق عشرات الموسوعات العلمية من تراث هذه الأمة ونقلها إلى بلاده، ومن يدري لعل أيدي الخيانة الشيعية هي التي فعلت بتراث الأمة حديثًا ما فعلته قديمًا. جدير بالذكر أنه في الحرب الأخيرة على العراق لما جاء التتار الجد بقيادة "هولاكو بوش" بغداد نتيجة الخيانة وسادت الفوضى في البلاد عمد الشيعة إلى أماكن السجلات والوثائق فنهبوها عن آخرها، فإنا لله وإنا إليه راجعون. المصدر: خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية لمحمود محمد عبد الرحمن - ص 101   (1) أي بعد دخول التتار بغداد، وأصبح هذا الكلب متصرفًا في البلاد. (2) ((البداية والنهاية)) (13/ 315). (3) ابن القيم:)) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (((2/ 263) ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة. (4) محب الدين الخطيب:)) الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الاثني عشرية (((ص47،48) ط المركز الإسلامي للإعلام والنشر. (5) من أهم هذه الكتب "كشف الظنون لحاجي خليفة – والفهرست لابن النديم". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 320 المبحث الثاني عشر: خيانات الشيعة ومحاولاتهم الفتك بصلاح الدين الأيوبي لم ينس الشيعة أن صلاح الدين الأيوبي هو الذي أزال دولتهم الفاطمية في مصر ومهد للسنة من جديد، لذلك حاولوا مرارًا الفتك به لإقامة الدولة الفاطمية من جديد، واستعانوا في هذه المؤامرات بالفرنج وكاتبوهم. يقول المقريزي في السلوك:"وفيها – أي سنة 569هـ - اجتمع طائفة من أهل القاهرة على إقامة رجل من أولاد العاضد – آخر خليفة فاطمي بمصر – وأن يفتكوا بصلاح الدين وكاتبوا الفرنج؛ ومنهم القاضي المفضل ضياء الدين نصر الله بن عبد الله بن كامل القاضي، والشريف الجليس، ونجاح الحمامي، والفقيه عمارة بن علي اليماني، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي الأعز سلامة العوريس متولي ديوان النظر ثم القضاء، وداعي الدعاة عبد الجابر بن إسماعيل بن عبد القوي، والواعظ زين الدين بن نجا، فوشى ابن نجا بخبرهم إلى السلطان، وسأله أن ينعم عليه بجميع ما لابن كامل الداعي من الدور والموجود كله، فأجيب إلى ذلك؛ فأحيط بهم وشنقوا .. وتتبع – أي صلاح الدين – من له هوى في الدولة الفاطمية، فقتل كثيرًا وأسر كثيرًا، ونودي بأن يرحل كافة الأجناد وحاشية القصر، وزاجل السودان إلى أقصى بلاد الصعيد، وقبض على رجل يقال له قديد بالإسكندرية من دعاة الفاطميين يوم الأحد خامس عشر من رمضان" (1). وبرغم قتل الخائنين المتآمرين إلا أن الفرنجة جاءوا حسب المكاتبة. قال المقريزي:" وفيها نزل أسطول الفرنج (2) بصقلية على ثغر الإسكندرية لأربع بقين من ذي الحجة بغتة وكان الذي جهز هذا الأسطول غاليالم بن رجار متملك صقلية ولي بعد أبيه في سنة 560هـ .. ولما أرسى هذا الأسطول على البر أنزلوا من طرائدهم ألفًا وخمسمائة فرس، وكانت عدتهم ثلاثين ألف مقاتل، ما بين فارس وراجل وعدة السفن التي تحمل آلات الحرب، والحصار ست سفن والتي تحمل الأزواد والرجال أربعين مركبًا فكانوا نحو الخمسين ألف راجل، ونزلوا على البر مما يلي المنارة، وحملوا على المسلمين حتى أوصلوهم إلى السور، وقتل من المسلمين سبعة، وزحفت مراكب الفرنج إلى الميناء، وكان بها مركب المسلمين فغرقوا منها، وغلبوا على البر وخيموا به، فأصبح لهم على البر ثلاثمائة خيمة، وزحفوا لحصار البلد، ونصبوا ثلاث دبابات بكباشها وثلاثة مجانيق كبار تضرب بحجارة سود عظيمة، وكان السلطان – صلاح الدين – على فاقوس، فبلغه الخبر ثالث يوم نزول الفرنج؛ فشرع في تجهيز العساكر وفتحت الأبواب وهاجم المسلمون الفرنج وحرقوا الدبابات، وأيدهم الله بنصره .. وقتل كثير من الفرنج، وغنم المسلمون من الآلات والأمتعة والأسلحة ما لا يُقدر على مثله إلا بعناء، وأقلع باقي الفرنج في مستهل سنة سبعين" (3). أرأيت كم حجم الخيانة ومقدارها لولا أن مَنَّ الله على صلاح الدين ورجاله ونصرهم، وبالطبع كما قال المقريزي بعد عناء وأرواح ودماء أسيلت، وما هذا إلا بفعل الشيعة. ولم تكد تمضي هذه السنة 569هـ وتدخل سنة 570هـ حتى دبر الشيعة خيانة أخرى لإقامة الدولة الفاطمية والفتك بصلاح الدين. قال المقريزي:   (1) ((السلوك لمعرفة دولة الملوك)) (1/ 53، 54). (2) قال د/ محمد مصطفى زيادة في تعليقه على السلوك: "وهذه الحملة البحرية كانت دليلاً للمؤمراة الثورية التي قام بتدبيرها عمارة اليمني، وقد تقدم أن المتآمرين كاتبوا الفرنج – ولم يكن حاكم صقلية يعلم بما حاق بالمتآمرين، فبعث مراكبه حسب الاتفاق المبيت معهم (10/ 55). (3) ((السلوك لمعرفة دول الملوك)) (1/ 55/56). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 321 " .. وفيها جمع كنز الدولة والي أسوان العرب والسودان وقصد القاهرة يريد إعادة الدولة الفاطمية، وأنفق في جموعه أموالاً جزيلة، وانضم إليه جماعة ممن يهوى هواهم، فقتل عدة من أمراء صلاح الدين، وخرج في قرية طود رجل يعرف بعباس بن شادي، وأخذ بلاد قوص، وانتهب أموالها؛ فجهز السلطان صلاح الدين أخاه الملك العادل في جيش كثيف ومعه الخطير مهذب بن مماتي فسار وأوقع بشادي وبدد جموعه وقتله. ثم سار فلقيه كنز الدولة بناحية طود، وكانت بينهما حروب فر منها كنز الدولة بعد ما قتل أكثر عسكره، ثم قتل كنز الدولة في سابع صفر، وقدم العادل إلى القاهرة ... " (1). ولم تكن هذه الخيانة مجرد مؤامرة للفتك بصلاح الدين السني الذي أزال دولة الشيعة في مصر، وإنما ترتب عليها أن استفحل خطر الفرنجة في بلاد الشام، وعندما عزم السلطان صلاح الدين على التوجه إليهم كان من أهم معوقاته خيانة الشيعة له في داخل سلطنته بمصر. قال ابن كثير رحمه الله:   (1) ((السلوك لمعرفة دول الملوك)) (1/ 57، 58). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 322 "استهلت سنة 570هـ والسلطان الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب قد عزم على الدخول إلى بلاد الشام لأجل حفظه من الفرنج، ولكن دهمه أمر شغله عنه، وذلك أن الفرنج قدموا إلى الساحل المصري في أسطول لم يسمع بمثله في كثرة المراكب وآلات الحرب والحصار والمقاتلة .. ومما عوق الملك الناصر عن الشام أيضًا رجلاً يعرف بالكنز سماه بعضهم عباس بن شادي، وكان من مقدمي الديار المصرية والدولة الفاطمية، كان قد استند إلى بلد يقال له أسوان، وجعل يجمع عليه الناس فاجتمع عليه خلق كثير من الرعاع من الحاضرة والغربان وكان يزعم أنه سيعيد الدولة الفاطمية ويدحض الأتابكة التركية .. " (1)."ولما تمهدت البلاد، ولم يبقى فيها رأس من الدولة العبيدية - الفاطمية - برز صلاح الدين في الجيوش التركية قاصدًا البلاد الشامية، وذلك حين مات سلطانها نور الدين محمود بن زنكي، وأخيف سكانها، وتضعضعت أركانها، واختلف حكامها .. وقصده جمع شملها، والإحسان إلى أهلها، ونصرة الإسلام، ودفع الطغام، وإظهار القرآن، وإخفاء سائر الأديان، وتكسير الصلبان، في رضى الرحمن، وإرغام الشيطان .. فدخل دمشق وجاءه أعيان البلد للسلام عليه فرأوا منه غاية الإحسان .. ثم نهض إلى حلب مسرعًا لما فيها من التخبيط والتخليط، واستناب على دمشق أخاه طغتكين بن أيوب الملقب بسيف الإسلام، فلما اجتاز حمص أخذ ربضها، ولم يشتغل بقلعتها، ثم سار إلى حماه فتسلمها من صاحبها عز الدين بن جبريل، وسأله أن يكون سفيره بينه وبين الحلبيين؛ فأجابه إلى ذلك، فسار إليهم، فحذرهم باسم صلاح الدين؛ فلم يلتفتوا إليه، بل أمروا بسجنه واعتقاله، فأبطأ الجواب على السلطان؛ فبعث إليهم كتابًا يلومهم فيه على ما هم فيه من الاختلاف وعدم الائتلاف .. وذكرهم بأيامه وأيام أبيه وعمه في خدمة نور الدين في المواقف المحمودة التي يشهد بها أهل الدين، ثم سار إلى حلب فنزل على جبل جوشن" (2)."وهنا نزغ الشيطان الإنسي من قبل ابن الملك نور الدين محمود أن يحرض أهل حلب على قتال صلاح الدين وذلك بإشارة من الأمراء المقدمين، فأجابه أهل البلد بوجوب طاعته، على كل أحد، وشرط عليه الروافض منهم أن يعاد الأذان بحي على خير العمل. وأن يذكر في الأسواق، وأن يكون لهم في الجامع الجانب الشرقي، وأن يذكر أسماء الأئمة الاثني عشر بين يدي الجنائز، وأن يكبروا على الجنازة خمسًا، وأن تكون عقود أنكحتهم إلى الشريف بن أبي المكارم حمزة الحسيني، فأجيبوا إلى ذلك كله، فأذن بالجامع وسائر البلد بحي على خير العمل وعجز أهالي البلد عن مقاومة الناصر، وأعملوا في كيده كل خاطر؛ فأرسلوا أولاًً إلى شيبان صاحب الحسبة، فأرسل نفرًا من أصحابه إلى الناصر ليقتلوه؛ فلم يظفر منه بشيء؛ بل قتلوا بعض الأمراء ثم ظهر عليهم فقتلوا عن آخرهم فراسلوا عند ذلك القومص صاحب طرابلس الفرنجي ووعدوه بأموال جزيلة إن هو رحل عنهم الناصر وكان هذا القومص قد أسره نور الدين وهو معتقل عنده مدة عشر سنين، ثم افتدى نفسه .. وكان لا ينساها لنور الدين .. " (3)." وفي سنة 571هـ في رابع عشر ذي الحجة، وثب عدة من الإسماعيلية على السلطان صلاح الدين فظفر بهم بعدما جرحوا عدة أمراء والخواص .. " (4).وفي سنة 573هـ لما خرج السلطان صلاح الدين من القاهرة لجهاد الفرنجة فتوجه إلى عسقلان فسبي وغنم وقتل وأسر، ومضى إلى الرملة وأشرف عليهم الفرنج، وقدمهم البرنس أرناط صاحب الكرك في جموع كثيرة فانهزم المسلمون وثبت السلطان في طائفة فقاتل قتالاً شديدًا، واستشهد جماعة وأخذ الفرنج أثقال المسلمين، فمر بهم في مسيرهم إلى القاهرة من العناء ما لا يوصف ومات منهم، ومن داوبهم كثير، وأسر الفرنج جماعة منهم الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري، ودخل السلطان إلى القاهرة فحلف لا تضرب له نوبة حتى يكسر الفرنج وقطع أخبار جماعة من الأكراد، من أجل أنهم كانوا السبب في هذه الكسرة (5)."وفي سنة 584هـ ثار اثنا عشر رجلاً من الشيعة في الليل ينادون: يال علي! يال علي! وسلكوا الدروب وهم ينادون كذلك ظنًا منهم أن رعية البلد يلبون دعوتهم، ويقومون في إعادة الدولة الفاطمية فيخرجون من في الحبوس ويملكون البلد فلما لم يجبهم أحد تفرقوا" (6). هذه بعض النماذج لخيانات الشيعة ومحاولاتهم الفتك بالملك الناصر - ناصر السنة - صلاح الدين رحمه الله، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. المصدر: خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية لمحمود محمد عبد الرحمن - ص 109   (1) ((البداية والنهاية)) (12/ 287، 288). (2) ((البداية والنهاية)) (12/ 288، 289). (3) ((البداية والنهاية)) (12/ 289). . (4) ((السلوك لمعرفة دول الملوك)) (1/ 61). (5) ((السلوك لمعرفة دول الملوك)) (1/ 64، 65) بتصرف. (6) ((السلوك لمعرفة دول الملوك)) (1/ 101). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 323 المبحث الثالث عشر: خيانات الشيعة لدولة السلاجقة السنية ومعاونة الصليبيين عليها لما زالت دولة بني بويه (الشيعية) وبادت، جاء بعدهم قوم آخرون من الأتراك السلاجقة الذين يحبون أهل السنة ويوالونهم، ويرفعون قدرهم. والله المحمود أبدًا على طول المدى (1) وقاموا بنصرة السنة، وإخماد الرفض وأهله، ولكن هذه الدولة السنية لم تسلم من خيانات الشيعة وغدرهم. ففي سنة 450هـ جاء البساسيري الرافضي الخبيث بجيوش إلى بغداد مقر السلطان السلجوقي طغرلبك - وكان غائبًا عنها - ومعه الرايات البيض المصرية، وعلى رأسه أعلام مكتوب عليها اسم المستنصر بالله الفاطمي، فتلقاه أهل الكرخ الرافضة، وسألوه أن يجتاز من عندهم، فدخل الكرخ وخرج إلى مشرعة الزوايا فخيم بها والناس إذ ذاك في مجاعة شديدة .. ونهب أهل الكرخ الروافض دور أهل السنة بالبصرة وتملك أكثر السجلات والكتب الحكمية، بعد ما نهب دار قاضي القضاة الدامغاني، وبيعت للعطارين، وأعادت الروافض الآذان بحي على خير العمل في نواحي بغداد، وخطب ببغداد للمستنصر بالله العبيدي، وضربت له السكة وحوصرت دار الخلافة، ثم نهبت والروافض في غاية السرور .. وانتقم البساسيري من أعيان أهل السنة ببغداد فأخذ الوزير ابن المسلمة الملقب برئيس الرؤساء وعليه جبة صوف، وطرطور من لبد أحمر، وفي رقبته مخنقة، وأركب جملاً أحمر وطيف به البلد وخلفه من يصفعه بقطعة من جلد، وحين مر على الكرخ - دور الرافضة - نثروا عليه خلقان المداسات، وبصقوا في وجهه، ولعنوه وسبوه .. ثم لما فرغوا من التطوف به جيء به إلى المعسكر؛ فألبس جلد ثور بقرنيه وعلق بكلوب في شدقيه، ورفع إلى الخشبة فجعل يضرب إلى آخر النهار؛ فمات رحمه الله وكان آخر كلامه "الحمد الله الذي أحياني سعيدًا، وأماتني شهيدًا" (2). وقد أصبحت بلاد الشام مسرحًا للمنازعات بين السلاجقة "الذين هم من أهل السنة" والفاطميين "الشيعة" مما أدى إلى تفكك وحدة المسلمين ومهد الطريق أمام الصليبين لغزو بلاد الشام في يسر وسهولة، حيث وصلوا إلى أطرافها في سنة 490هـ. وتبرز هنا خيانات الفاطميين فقد أرسل بدر الجمالي وزير المستعلي - الفاطمي الشيعي - سنة 490هـ سفارة من قبله إلى قادة الحملة الصليبية الأولى تحمل عرضًا خلاصته أن يتعاون الطرفان للقضاء على السلاجقة في بلاد الشام، وأن تقسم البلاد بينهما بحيث يكون القسم الشمالي من الشام للصليبيين في حين يحتفظ الفاطميون بفلسطين.   (1) ابن كثير: البداية والنهاية (12/ 68، 69). (2) البداية والنهاية (12/ 76 - 79) بتصرف وإيجاز. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 324 ولما كان هدف الصليبيين هو السيطرة على بيت المقدس فقد كان ردهم غامضًا واكتفوا ببث شعور الطمأنينة في نفوس الفاطميين واكتشفوا بذلك ضعف المسلمين وتفككهم. ولما قام الأمير "كربوق" صاحب الموصل – من قبل السلاجقة بتجهيز قوة لمنع سقوط أنطاكية بيد الصليبيين وقف الفاطميون موقف المتفرج، ولم يكتفوا بذلك بل استغلوا هذه الفرصة فسيروا جيشًا إلى بيت المقدس الذي كان بيد السلاجقة وحاصروه، ونصبوا عليه أكثر من أربعين منجنيقًا حتى تهدمت أسواره وسيطروا عليه (1).واستغل زعماء الشيعة الإسماعيلية الخلاف بين بعض السلاطين السلاجقة في نحو سنة 488هـ، وتقربوا من رضوان بن تاج الدولة تتش الذي كان على بلاد الشام، وحصلوا عنده على مكانة مرموقة فتشيع لآرائهم، ولم يعبأ بما أحرزه الصليبيون من انتصارات واستيلاء على بعض بلاد الإسلام في آسيا الصغرى (2) فقد استولوا على أنطاكية سنة 491هـ ثم سيطروا على المعرة عام 492هـ ثم واصلوا سيرهم إلى جبل لبنان؛ فقتلوا من به من المسلمين، ثم نزلوا إلى حمص فهادنهم صاحبها على مال يدفعه. قال ابن كثير رحمه الله: "في جمادى الأولى سنة 491هـ ملك الفرنجة أنطاكية بعد حصار شديد بمواطأة بعض المستحفظين على الأبراج وهرب صاحبها .. ولما بلغ الخبر الأمير كربوق صاحب الموصل جمع عساكر كثيرة واجتمع عليه دقاق صاحب دمشق وجناح الدولة صاحب حمص وغيرهما، وسار إلى الفرنج فالتقوا معهم بأرض أنطاكية فهزمهم الفرنج، وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وأخذوا منهم أموالاً جزيلة .. ثم صارت الفرنج إلى معرة النعمان؛ فأخذوها بعد حصار ولا حول ولا قوة إلا بالله" (3). ضياع بيت المقدس بسبب خيانات الشيعة:"وفي سنة 492هـ أخذت الفرنج بيت المقدس ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان، وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل؛ وقتلوا في وسطه أزيد من ستين ألف قتيل من المسلمين، وجاسوا خلال الديار؛ وعلوا ما علوا تتبيرًا، .. وذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى العراق مستغيثين على الفرنج إلى الخليفة والسلطان السلجوقي محمد بن ملكشاه .. وخرج أعيان الفقهاء يحرضون الناس والملوك على الجهاد فلم يفد ذلك شيئًا، فإنا لله وإنا إليه راجعون" (4). وأنشد بعضهم يصور الموقف المهين: مزجنا دمانا بالدموع السواجم ... فلم يبق منا عرضة للمراجم وشر سلاح المرء دمع يريقه ... إذا الحرب شيت نارها بالصوارم فأيها بني الإسلام إن وراءكم ... وقائع يلحقن الذي بالمناصم وكيف تنام العين ملء جفونه ... على هفوات أيقظت كل نائم وإخوانكم بالشام يضحى مقيلهم ... ظهور المذاكي أو بطون القشاعم تسومهم الروم الهوان وأنتم ... تجرون ذيل الخفض فعل المسالم ومنها قوله: وبين اختلاس الطعن والضرب وقفة ... تظل لها الوالدان شيب القوادم وتلك حروب من يغب عن غمارها ‍ ... ليسلم يقرع بعدها هاش نادم سللن بأيدي المشركين قواضبا ‍ ... ستغمد منهم في الكلي والجماجم أرى أمتي لا يشرعون إلى العدا ‍ ... رماحهم والدين واهي الدعائم ويجتنبون النار خوفًا من الردى ‍ ... ولا يحسبون العار ضربة لازم أيرضى صناديد الأعاريب بالأذى ‍ ... ويغضى على ذل كماة الأعاجم فليتهموا إذ لم يذودوا حمية ‍ ... عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم وإن زهدوا في الأجر إذ حمس الوغى ... فهلا أتوه رغبة في المغانم (5)   (1) د/ أنس أحمد كرزون:)) نور الدين محمود زنكي القائد المجاهد (((9 - 11) بتصرف – دار ابن حزم – بيروت 1995م. (2) انظر: مسفر الغامدي: الجهاد ضد الصليبيين (ص51) نقلاً عن زبدة الحلب (2/ 145). (3) البداية والنهاية (12/ 155). (4) البداية والنهاية 12/ 156. (5) الأبيات كلها: من ((البداية والنهاية)) (12/ 156،157). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 325 ومن أجل أن تعلم أن ضياع بيت المقدس كانت نتيجة لخيانات الشيعة وما يحدثونه من قلاقل واضطراب يحول دون استتباب الأمور؛ اسمع ما يقوله ابن كثير رحمه الله تعالى:"في سنة 494هـ عظم خطب الباطنية – الشيعة – بأصبهان نواحيها فقتل السلطان منهم خلقًا كثيرًا وأبيحت ديارهم للعامة، ونودي فيهم أن كل من قدرتم عليه فاقتلوه وخذوا ماله، وكان قد استحوذوا على قلاع كثيرة، وأول قلعة ملكوها في سنة 483هـ، وكان الذي ملكها الحسن بن صباح أحد دعاتهم .. كان يذكر في دعوته أشياء من أخبار أهل البيت وأقاويل الرافضة الضلال، وأنهم ظلموا ومنعوا حقهم الذي أوجبه الله لهم ورسوله، ثم يقول فإذا كانت الخوارج تقاتل بني أمية لعلي، فأنت أحق أن تقاتل في نصرة إمامك علي بن أبي طالب .. وقد تهدده قبل ذلك السلطان ملكشاه، وأرسل إليه بفتاوى العلماء في أمره؛ فلما قرأ الكتاب بحضرة رسول السلطان قال لمن حوله من الشباب: إني أريد أن أرسل منكم رسولاً إلى مولاه فاشرأبت وجوه الحاضرين، ثم قال لشاب منهم: اقتل نفسك؛ فأخرج سكينًا فقتل نفسه، وقال لآخر منهم ألق نفسك من هذا الموضع فرمى نفسه من رأس القلعة إلى أسفل؛ فتقطع ثم قال لرسول السلطان هذا هو الجواب" (1)."يعني أنه في قوم شديدو البأس والنكاية مع طاعتهم له أشد الطاعة، وفي سنة 500هـ حاصر السلطان محمد بن ملكشاه قلاعًا كثيرة من حصون الباطنية فافتتح منها أماكن كثيرة، وقتل منهم خلقًا، واشتد القتال معهم في قلعة حصينة في رأس جبل منيع بأصبهان كان قد بناها السلطان ملكشاه ثم استحوذ عليها رجل من الباطنية يقال له أحمد بن عبد الله بن عطاء، فتعب المسلمون بسبب ذلك، فحاصرها ابنه السلطان محمد سنة حتى افتتحها وسلخ هذا الرجل وحشى جلده تبنًا وقطع رأسه وطاف به في الأقاليم" (2). حصار قلعة من قلاع الباطنية يستهلك من جهد المسلمين سنة كاملة والمسجد الأقصى أسير في أيدي الفرنجة؟ إنهم كالخنجر في الظهر. وفي نفس السنة سعى رضوان الذي تشيع لآراء الإسماعيلية إلى التصدي لزعيم سلاجقة الروم (قلج أرسلان) وهزمه وهو يحاول قتال الصليبيين حول الرها، ولم يكتف بهذا بل انضم إلى الصليبيين ضد الأمير جاولي صاحب حلب سنة 501هـ. ولم يقدر الصليبيون هذا الموقف من رضوان بل حاصروا حلب سنة 504هـ وضيقوا على أهلها حتى أكلوا الميتات وورق الشجر، وفرضوا على رضوان مبلغًا كبيرًا يحمله إليهم (3). حتى أنه إذا حدث وحقق سلاطين المسلمين – من أهل السنة – نصرًا على الفرنجة؛ فإن هذا النصر كان يحزن الشيعة لأنهم يرون فيه قوة لجناب السنة وإلى ذاكرة التاريخ نضرب مثالاً على ذلك: قال أبو الفدا رحمه الله تعالى:"وفي سنة 505هـ بعث السلطان غياث الدين بن محمد بن ملكشاه السلجوقي جيشًا كثيفًا صحبه الأمير مودود بن زنكي صاحب الموصل في جملة أمراء ونواب منهم صاحب تبريز وصاحب مراغة، وصاحب ماردين، وعلى الجميع مودود صاحب الموصل لقتال الفرنجة بالشام؛ فانتزعوا من الفرنجة حصونًا كثيرة، وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا ولله الحمد، ولما دخلوا دمشق دخل الأمير مودود إلى جامعها ليصلي فيه فجاءه باطني في زي سائل فطلب منه شيئًا فأعطاه فلما اقترب منه ضربه في فؤاده فمات في ساعته، ووجد رجل أعمى في سطح الجامع ببغداد معه سكين مسموم فقيل إنه كان يريد قتل الخليفة .. " (4). خيانات الشيعة للسلطان جلال الدين بن خوارزم شاه:   (1) ((البداية والنهاية)) (12/ 166، 167) بتصرف. (2) ((البداية والنهاية)) (12/ 166، 167) بتصرف. (3) مسفر الغامدي: ((الجهاد ضد الصليبيين)) (ص45) نقلاً عن زبدة الحلب (2/ 153). (4) ((البداية والنهاية)) (12/ 173). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 326 كان جلال الدين بن خوارزم شاه من أكبر السلاطين السلاجقة وكان على مذهب السنة. قال ابن كثير في أحداث سنة 624هـ: "فيها كانت عامة أهل تفليس الكرج، فجاؤا إليهم فدخلوها فقتلوا العامة والخاصة ونهبوا وسبوا وخربوا وأحرقوا، وخرجوا على حمية، وبلغ ذلك السلطان جلال الدين فسافر سريعًا ليدركهم فلم يدركهم، وفيها قتلت الإسماعيلية أميرًا كبيرًا من نواب جلال الدين بن خوارزم شاه، فسار إلى بلادهم فقتل منهم خلقًا كثيرًا وخرب مدينتهم وسبي زراريهم ونهب أموالهم، وقد كانوا قبحهم الله من أكبر العون على المسلمين لما قدم التتار إلى الناس وكانوا أضر على الناس منهم" (1). خيانة البدر لؤلؤ الشيعي صاحب الموصل في أواخر سنة 656هـ: "كان بدر الدين لؤلؤ هذا أرمينيا اشتراه رجل خياط، ثم صار إلى الملك نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود الأتاباكي صاحب الموصل وكان مليح الصورة فحظى عنده وتقدم في دولته إلى أن صارت الكلمة دائرة عليه، والوفود من سائر جهات ملكهم إليه، ثم إنه قتل أولاد أستاذه واحدًا بعد واحد إلى أن لم يبقى أحد منهم؛ وصفت له الأمور فاستقل هو بالملك وكان في كل سنة يبعث إلى مشهد علي قنديلاً من ذهب زنته ألف دينار، وهذا دليل على تشيعه، وكان ذا همة عالية شديد الدهاء والمكر بعيد الغور. ثم إنه لما انفصل هولاكو عن بغداد بعد الوقعة الفظيعة سار بدر الدين لؤلؤ لخدمته وطاعته وحمل معه الهدايا والتحف (2) ". وما هذا إلا خيانة لأمانة الجهاد العظمى. وبعد: فهذه بعض نماذج لخيانات الشيعة للدولة السلجوقية، وإضعاف جانبها لأنها كانت على مذهب أهل السنة، نرى فيها الدروس والعبر، ليعتبر من اغتر بحال الروافض وهو يدرس التاريخ لا يعرف شيئًا من مذاهب الدول ونحل الأمم، ولا يفرق بين من هدم الإسلام وسعى في تقويض أركانه وبين من نصره فأعلاه وشيد أركانه. المصدر: خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية لمحمود محمد عبد الرحمن - ص 117   (1) ((البداية والنهاية)) (13/ 173). (2) ((البداية والنهاية)) (13/ 214) بتصرف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 327 المبحث الرابع عشر: أحد ملوك التتار يعتنق مذهب الروافض لقد كان من فضل الله تعالى أن كثيرًا من التتار الذين جاءوا كالوحوش هداهم الله لدين الإسلام، ولكن الأفاعي من الروافض كانوا يسعون لضم من يستطيعون منهم إلى مذهبهم؛ وقد نجح الشيخ/ جمال الدين بن مطهر الحلي تلميذ نصير الطوسي – في ضم ملك التتار خربندا محمد أرغون بن أبغا بن هولاكو ملك العراق وخراسان إلى مذهب الروافض؛ وأقام شعائره في بلاده ولم يزل على الرفض حتى مات، وجرت في أيامه فتن كبار ومصائب عظام بين الروافض وأهل السنة. ثم ولي المُلك من بعده ولده أبو سعيد في سنة 716هـ فلعب به بعض الناس في أول دولته، ثم عدل إلى العدل إقامة السنة؛ فأمر بإقامة الخطبة بالترضي عن الشيخين أولاً ثم عثمان ثم علي – رضي الله عنهم – ففرح الناس بذلك وسكنت الفتن والشرر والقتال الذي كان بين أهل تلك البلاد، كان والده خربندا قد جهز في حياته جيشًا كثيفًا من الروافض وجمع أموالاً عظيمة ليمد بها صاحب مكة الأمير حميصة بن أبي نمي لينصر الروافض، ويقيم الرفض في بلاد الحجاز؛ فأبطل أبو سعيد ذلك كله .. وأخذ الأموال فاستفتى شيخ الإسلام ابن تيمية فأفتى بأنها تصرف في المصالح التي يعود نفعها على المسلمين؛ لأنها كانت معدة لعناد الحق ونصرة أهل البدعة على أهل السنة (1). أرأيت كيف أن القوم لا يضيعون فرصة تسنح لهم في نشر مذهبهم والقضاء على مذهب أهل السنة إلا واهتبلوها. المصدر: خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية لمحمود محمد عبد الرحمن - ص 127   (1) ((البداية والنهاية)) (14/ 77، 78) بتصرف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 328 المبحث الخامس عشر: من خيانات الشيعة النصيرية النصيرية فرقة من فرق الشيعة الغالية، أسسها رجل ضال يقال له محمد بن نصير، كان ينتمي إلى الشيعة الاثني عشرية، ثم خالفهم فأسس فرقة وحده واتخذ من مدينة سامراء مقرًا له، وظل المرجع الأعلى للمذهب النصيري إلى أن هلك سنة 260هـ، وكان قد ادعى النبوة وأن الذي أرسله هو أبو الحسن علي بن أبي طالب (1). وأكثر انتشار النصيرية في بلاد الشام، ولهم اعتقادات فاسدة فهم يؤلهون عليًّا، ويقولون: محمد متصل بعلي ليلاً منفصل عنه نهارًا، وعلي خلق محمدًا، ومحمد خلق سلمان الفارسي، وسلمان خلق الخمسة الذين بيدهم مقاليد السموات والأرض؛ وهم: المقداد: رب الناس وخالقهم الموكل بالرعود والصواعق والزلازل. وأبو ذر: الموكل بدوران الكواكب والنجوم. وعبد الله بن رواحه: الموكل بالرياح وقبض أرواح البشر. وعثمان بن مظعون: الموكل بالمعدة وحرارة الجسم وأمراض الإنسان. وقنبر بن ذاذان: الموكل بنفخ الأرواح في الأجسام. ويحتج النصيريون لهذه العقيدة بأن الإله يحل في الأجسام متى شاء (2)، ويعتبر النصيريون كغيرهم من فرق الشيعة الغالية سب الصحابة من الفروض الدينية لأنهم هم الذين اغتصبوا حق العلويين في الخلافة (3).ولا يؤمن النصيريون بالبعث والحساب، ويقولون بتناسخ الأرواح ويستحلون الخمر والزنا وسائر المحرمات (4). والنصيريون يسمون أنفسهم بالعلويين، ويكرهون اسم النصيريين، ولهم عداء للإسلام والمسلمين تاريخه طويل تمثل في ثورات وخروج على الخلفاء المسلمين تارة، وفي التعاون مع أعداء المسلمين من الخارج تارة أخرى، سواء في القديم أو الحديث. وللعلم هم في سوريا على وجه الخصوص في عصرنا هذا لهم سطوة وسلطان ونفوذ واسع في سائر الدوائر سواء الإعلامية أو السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية. فإلى معرفة شيء من خيانات النصيريين ومن خيانات النصيريين:"في سنة 696هـ تواترت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام فخاف الناس من ذلك خوفًا شديدًا، ولكن خرج جيش من دمشق للقاء التتار، فالتقيا عند وادي سليمة؛ فكسر التتار المسلمين؛ وولي السلطان قازان هاربًا، وقتل جماعة من الأمراء وغيرهم من العوام خلق كثير .. واقتربت التتار من البلد، وكثر العبث بالفساد في ظاهر البلد، ثم فرضت أموال كثيرة على البلد موزعة على أهل الأسواق كل سوق بحسبه من المال، ثم عمل التتار المجانيق ليرموا بها القلعة .. وحل الفزع بالناس، فلزموا بيوتهم، وكان لا يرى بالطرقات أحد إلا القليل، والجامع لا يصلى فيه أحد إلا اليسير، ويوم الجمعة لا يتكامل فيه إلا الصف الأول، وما بعده إلا بجهد جهيد، ومن خرج من منزله في ضرورة يخرج بثياب زيهم ثم يعود سريعًا ويظن أنه لا يعود إلى أهله .. وكان ذلك بتواطأ النصيريين مع التتار وعلى رأسهم يومئذ الشريف القمي محمد بن أحمد بن القاسم المرتضي العلوي والأصيل بن نصير الطوسي والذي قبض ثمن هذه الخيانة مائة ألف درهم .. " (5).   (1) انظر أبي الحسن الأشعري: ((مقالات الإسلاميين)) (ص15)، البغدادي: ((الفرق بين الفرق)) (ص252). (2) انظر: د/ مصطفى الشكعة: ((إسلام بلا مذاهب)) ص 307، 308. (3) انظر: د/ سليمان الحلبي: ((طائفة النصيرية)) (ص95) ط المطبعة السلطانية – القاهرة. (4) انظر: فاروق الدملوجي: ((الألوهية في المعتقدات الإسلامية)) (ص115) – ط بغداد كتاب "الهفت الشريف" "ص64" حققه د/ مصطفى غالب النصيري/ وهو من أهم كتب النصيريين. (5) ((البداية والنهاية)) (14/ 906) بتصرف واختصار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 329 وانظر كيف يتسمى الخائن شريفًا علويًّا، وما هو إلا خسيس سفلي."وفي حين كان هذا العلوي (النصيري) يخون كان رجال أهل السنة وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية ينفخون روح الإيمان في الأمة، ويخرجون للجهاد بأنفسهم حتى أنه في هذه الواقعة السالفة عندما حاصر التتار قلعة دمشق، وطلب السلطان من نائب القلعة تسليمها إلى التتار، امتنع النائب لأن شيخ الإسلام ابن تيمية قد قال له لا تسلمها ولو لم يبق فيها إلا حجر واحد، وكان ذلك في مصلحة المسلمين، فإن الله عز وجل حفظ لهم هذا الحصن والمعقل الذي جعله الله حرزًا لأهل الشام التي لا تزال دار إيمان وسنة حتى ينزل بها عيسى بن مريم عليه السلام" (1). وشاء الله تعالى أن تتحرك العساكر من الديار المصرية لنصرة أهل الشام فلما سمع التتار انشمروا عنها .. وعرفت جماعة ممن كانوا يلوذون بالتتر ويؤذون المسلمين وشنق منهم طائفة وسمر آخرون وكحل بعضهم وقطعت ألسن وجرت أمور كثيرة، ثم سار نائب السلطة في جيش دمشق إلى جبال الجرد وكسروان "وهي الجبال التي كان يسكنها العلويين وعرفت بعد باسمهم". وخرج شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ومعه خلق كثير من المتطوعة لقتال أهل تلك الناحية بسبب فساد نيتهم، وعقائدهم وكفرهم وضلالهم، وما كانوا عاملوا به العساكر لما كسرهم التتار وهربوا حين اجتازوا بلادهم وثبوا عليهم ونهبوهم وأخذوا أسلحتهم وخيولهم، وقتلوا كثيرًا منهم، فلما وصلوا إلى بلادهم جاء رؤساؤهم إلى الشيخ ابن تيمية فاستتابهم وبين للكثيرين منهم الصواب وجعل بذلك خير كثير، وانتصار كبير على أولئك المفسدين، والتزموا برد ما كانوا أخذوا من أموال الجيش، وقرر عليهم أموالاً كثيرة يحملونها إلى بيت المال .. (2). أرأيت كيف كانت خيانة هؤلاء العلويين؟ إنهم لم يهبوا مع الجيش الشامي لقتال التتار والمدافعة عن البلد، وحفظ جناب الأمة. ولا حتى قبعوا في جبالهم دون أن يعينوا على المسلمين ويدلوا على عوراتهم، ولا حتى آووا من فر إليهم من عساكر المسلمين بل سلبوهم ونهبوهم وقتلوا أكثرهم .. فإنا لله وإنا إليه راجعون. ومن خياناتهم: في سنة 705هـ كمن الجيش التتاري لجيش حلب فقتلوا منهم خلقًا من الأعيان وغيرهم، وكثر النوح ببلاد حلب بسبب ذلك .. ولما كان قد ثبت خيانة العلويين الذين يسكنون بلاد الجرد سار إليهم نائب السلطنة بمن بقي معه من الجيوش الشامية، وكان قد تقدم بين يديه طائفة من الجيش مع ابن تيمية فساروا إلى بلاد الجرد والرفض والتيامنة لغزوهم، فنصرهم الله عليهم وأبادوا كثيرًا منهم، ومن فرقهم الضالة، ووطئوا أراضي كثيرة من بلادهم .. وقد حصل بسبب شهود الشيخ ابن تيمية هذه الغزوة خير كثير، وأبان الشيخ علمًا وشجاعة في هذه الغزوة (3). ومن خيانات النصيريين:   (1) ((البداية والنهاية)) (14/ 8). (2) ((البداية والنهاية)) (14/ 8). (3) ((البداية والنهاية)) (14/ 35) بتصرف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 330 قال ابن كثير رحمه الله:"وفي سنة 717هـ خرجت النصيرية عن الطاعة، وكان من بينهم رجل سموه محمد بن الحسن المهدي القائم بأمر الله، وتارة يدعى علي بن أبي طالب فاطر السموات والأرض – تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا – وتارة يدعي أنه محمد بن عبد الله صاحب البلاد، وخرج يكفر المسلمين، وأن النصيرية على الحق، واحتوى هذا الرجل على عقول كثير من كبار النصيريين الضلال، وعين لكل إنسان منهم مائة ألف وبلادًا كثيرة ونيابات، وحملوا على مدينة جبلة فدخلوها وقتلوا خلقًا من أهلها، وخرجوا منها يقولون: لا إله إلا علي، ولا حجاب إلا محمد، ولا باب إلا سلمان، وسبوا الشيخين، وصاح أهل البلد "وا إسلاماه وا سلطاناه وا أميراه"، ولم يكن لهم يومئذ ناصر ولا منجد، وجعلوا يبكون ويتضرعون إلى الله عز وجل، فجمع هذا الضال الأموال فقسمها على أصحابه وأتباعه قبحهم الله أجمعين، وقال لهم لم يبق للمسلمين ذكر ولا دولة ولو لم يبق معي سوى عشرة نفر لملكنا البلاد كلها، ونادى في تلك البلاد أن المقاسمة بالعشر لا غير ليرغب فيه، وأمر أصحابه بخراب المساجد واتخاذها خمارات، وكانوا يقولون لمن أسروه من المسلمين: قل لا إله إلا علي، واسجد لإلهك المهدي الذي يحيي ويميت حتى يحقن دمك، ويكتب لك فرمان، وتجهزوا وعملوا أمورًا عظيمة جدًّا، فجردت إليهم العساكر فهزموهم وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا .. وقتل المهدي أصلهم، ويوم القيامة يكون مقدمهم إلى عذاب السعير" (1). ومن خيانات النصيريين: نقتطف هذه المرة بعض صور الخيانة من أهم كتب النصيريين وهو كتاب (تاريخ العلويين) لمؤلفه النصيري (محمد أمين غالب الطويل). ومما يثير العجب أن هذا النصيري يسمي الخيانة وسيلة ويبررها في كتابه السابق فيقول: "ولما كان لا بد للضعيف المظلوم من التوسل بالخيانة لكي يحافظ على حقوقه أو يستردها – وهذا أمر طبيعي يساق إليه كل إنسان – كان العلويون كلما غصب السنيون أموالهم وحقوقهم يتوسلون بغدر السنيين عند سنوح الفرصة" (2).وقد سنحت الفرصة عندما جاء التتار إلى بغداد (3)، يقول صاحب (تاريخ العلويين): "جاء تيمور لنك بجيوش لا يعرف مقدارها واستولى على بغداد وحلب والشام في سنة 822 - 823هـ، ويدعى أن تيمور لنك كان نصيريًا محضًا من جهة العقيدة، إذ توجد له أشعار دينية موافقة لآداب الطريقة الجنبلانية (النصيرية) وأسباب دخوله في الطريقة هو ذهاب النصيري (السيد بركة) من خراسان إلى الأمير (تيمور) وهو في بلدة بلخ". ثم يقول: "وداوم تيمور لنك في الاستيلاء على البلاد وشيخه السيد بركة يبشره بدوام فتوحاته، حتى جاء إلى بغداد وأخذها من يد السلطان أحمد .. واستولى على الموصل عام 896هـ، وبنى بها مراقد الأنبياء جرجيس ويونس عليهما السلام .. وجاء للرها واغتسل بمحل النبي إبراهيم. ثم جاء لماردين وأعطاها الأمان .. ثم استولى على ديار بكر وعنتاب التي التجأ أميرها إلى حلب" (4). ثم يقول: " وكان نائب حلب هو الأمير العلوي (النصيري) تيمور طاش والذي اتصل بتيمور لنك خفية، واتفق معه على أن يدهم تيمور لنك حلب .. فهاجمها بالفعل ودخلها عنوة .. فأمعن في القتل والنهب والتعذيب مدة طويلة حتى أنشأ من رؤوس البشر تلة عظيمة، وقد قتل جميع القواد المدافعين عن المدينة .. وانحصرت المصائب بالسنيين فقط!! ".   (1) ((البداية والنهاية)) (14/ 83،84). (2) ((تاريخ العلويين)) (ص407) ط بيروت – الطبعة الأولى. (3) هذا الاجتياح التتاري غير الذي كان في سنة 656هـ على يد هولاكو خان. (4) انظر ((تاريخ العلويين)) (ص334) وما بعدها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 331 ثم يقول: "ثم سافر تيمورلنك إلى الشام وقبل سفره جاءت إليه العلوية (النصيرية) درة الصدف بنت سعد الأنصار، ومعها أربعون بنتًا بكرًا من العلويين، وهن ينحن ويبكين ويطلبن الانتقام لأهل البيت وبناتهم اللاتي جيء بهن سبايا للشام .. وسعد الأنصار هذا من رجال الملك الظاهر، وهو مدفون بحلب وله قبر فوقه قبه، فوعدها تيمور بأخذ الثأر ومشت البنات العلويات مع تيمور وهن ينحن ويبكين وينشدن الأناشيد المتضمنة للتحريض على الأخذ بالثأر .. فكان ذلك سببًا في نزول أفدح المصائب التي لم يسمع بمثلها بأهل الشام". ثم يقول: "ولم ينج من بطش تيمورلنك بالشام إلا عائلة من المسيحيين. وأمر تيمورلنك بقتل أهل السنة .. واستثناء العلويين (النصيريين) وبعد الشام ذهب تيمور لبغداد وقتل بها تسعين ألفا .. " (1).هذه بعض خيانتهم في مرحلة الغزو التتاري، أما في الهجمة الصليبية على العالم الإسلامية فإن الصليبيين لم يدخلوا إلى بلاد المسلمين إلا عن طريقهم، ومن مناطق سكناهم – في الغالب- في طرسوس وإنطاكية وغيرها من مناطق نفوذهم .. بل إن مدينة إنطاكية سقطت في يد الصليبيين بفعل الاتفاق الذي وقع بين الزعيم النصيري فيروز وبين قائد الصليبيين بوهموند (2). ومن خيانات النصيريين في العصر الحديث: إن خيانات النصيريين في العصر الحديث أكثر من أن تحصى، فهم دائمًا يتقربون من الاستعمار ويتعاونون معه في مقابل الحصول على بعض المكاسب، فعلى سبيل المثال: تعاون النصيريون مع الاحتلال الفرنسي أثناء انتدابه على سوريا، وكانوا خير عون لهم على الدولة العثمانية – دولة الخلافة يومئذ – وفي مقابل هذا منح الفرنسيون النصيريون مجموعة من الأراضي نعمت بشبه الاستقلال هي التي سميت بجبال العلويين. وقد فاحت رائحة هذه الخيانة من خلال كلام النصيريين أنفسهم وهم يعترفون بالجميل لفرنسا، وما كان جميلاً، بل ثمن خيانة. قال محمد أمين غالب النصيري:"إن الأتراك هم الذين حرموا هذه الطائفة من ذلك الاسم – العلويين – وأطلقوا عليهم اسم النصيريين .. نسبة إلى الجبال التي يسكنونها نكاية بهم واحتقارًا لهم، إلا أن الفرنسيين أعادوا لهم هذا الاسم الذي حرموا منه أكثر من 412سنة أثناء انتدابهم على سوريا .. إذ صدر أمر من القومسيرية العليا في بيروت بتاريخ 1/ 9/1920م بتسمية جبال النصيريين بأراضي العلويين المستقلة" (3). ومن أشهر رؤوس الخونة النصيريين في العصر الحديث رجل يقال له سلمان المرشد من قرية جوبة برغال شرقي مدينة اللاذقية بسوريا .. وكان هذا الرجل قد ادعى الألوهية فآمن به واتبعه كثير من النصيريين ..   (1) ((تاريخ العلويين)) (ص34 - 339). (2) انظر: ((تاريخ العلويين)) (ص293). (3) ((تاريخ العلويين)) (ص391). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 332 وقد مثل الدور تمثيلاً جيدًا، فكان يلبس ثيابًا فيها أزرار كهربية ويحمل في جيبه بطارية صغيرة متصلة بالأزرار فإذا أوصل التيار شعت الأنوار من الأزرار فيخر له أنصاره ساجدين. ومن الطريف أن المستشار الفرنسي الذي كان وراء هذه الألوهية المزيفة كان يسجد مع الساجدين .. ويخاطب سلمان المرشد بقوله يا إلهي (1).وقد استماله الفرنسيون واستخدموه وجعلوا للعلويين نظامًا خاصًا .. فقويت شوكته وتلقب برئيس الشعب العلوي الجبدري الغساني، وعين قضاة وسن القوانين وفرض الضرائب على القرى التابعة له .. وشكل فرقًا خاصة للدفاع سماهم الفدائيين .. وللتعاون الوثيق بينه وبين الاحتلال الفرنسي عندما جلا الفرنسيون عن سوريا تركوا لهذا النصيري وأتباعه من الأسلحة ما أغراهم بالعصيان فجردت الحكومة السورية آنذاك قوة فتكت ببعض أتباعه واعتقلته مع آخرين، ثم أعدم شنقًا في دمشق عام 1946 (2). ومنهم النصيري الخبيث يوسف ياسين والذي طالما سعى في محاربة الدولة العثمانية بخطبه وأشعاره بل وسلاحه. قال الدكتور سليمان الحلبي: "لما احتل الإنكليز فلسطين عام 1918م تطوع يوسف ياسين بالفرقة التي شكلها الإنكليز للعمل مع لورنس والملك عبد الله بالحجاز لمحاربة الأتراك باسم الجيش العربي، فكان يوسف ياسين يخطب في الأندية وفي الشباب بالقدس داعيًا إلى الجهاد ضد الأتراك. وقد نشرت جريدة الكواكب الصادرة في 3/ 9/1918 بالقاهرة لمراسلها بالقدس واصفًا لحفلة أقيمت في النادي العربي لحث الشباب على التطوع في ذلك الجيش، فقال المراسل: وقف الشاب يوسف ياسين وتكلم بصفته جنديًّا في الجيش العربي ثم أنشد قائلاً: سنأخذ هذا الحق بالسيف والقنا شيب وشبان على ضُمر بلقوقد أخذ الإنجليز فلسطين فعلاً، ولكن بالخديعة لا بالسيف ولا بالقنا ولا بالضمر البلق ثم أعطوها لليهود وأقاموا لهم فيها دولة .. " (3).ناهيك عن خيانتهم للأمة الإسلامية بوقوفهم إلى جانب المارونيين النصارى في كثير من الأحداث سواء في سوريا أو لبنان (4). وفي سجلات وزارة الخارجية الفرنسية (رقم 3547 وتاريخها 15/ 6/1936) وثيقة خطيرة تتضمن عريضة رفعها زعماء الطائفة النصيرية في سوريا إلى رئيس الوزراء الفرنسي يلتمسون فيها عدم جلاء فرنسا عن سوريا، ويشيدون باليهود الذين جاءوا إلى فلسطين ويؤلبون فرنسا ضد المسلمين، ووقع على الوثيقة: سليمان الأسد، ومحمد سليمان الأحمد، ومحمود أغا حديد، وعزيز أغا هواش، وسليمان المرشد، ومحمد بك جنيد، وفيما يلي نص الوثيقة نورده لأهميته:   (1) انظر: ((إسلام بلا مذاهب)) (ص309). (2) انظر: خير الدين الزركلي: ((الإعلام)) (3/ 170). (3) ((طائفة النصيرية)) (ص114، 115). (4) ((طائفة النصيرية)) (ص109). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 333 "دولة ليون بلوم، رئيس الحكومة الفرنسية: إن الشعب العلوي الذي حافظ على استقلاله سنة فسنة بكثير من الغيرة والتضحيات الكبيرة في النفوس هو شعب يختلف في معتقداته الدينية وعاداته وتاريخه عن الشعب المسلم "السني" ولم يحدث في يوم من الأيام أن خضع لسلطة من التدخل، وإننا نلمس اليوم كيف أن مواطني دمشق يرغمون اليهود القاطنين بين ظهرانيهم على عدم إرسال المواد الغذائية لإخوانهم اليهود المنكوبين في فلسطين، وإن هؤلاء اليهود الطيبين الذين جاءوا إلى العرب المسلمين بالحضارة والسلام ونثروا على أرض فلسطين الذهب والرخاء ولم يوقعوا الأذى بأحد، ولم يأخذوا شيئًا بالقوة ومع ذلك أعلن المسلمون (السنيون) ضدهم الحرب المقدسة بالرغم من وجود إنكلترا في فلسطين وفرنسا في سوريه، إنا نقدر نبل الشعور الذي يحملكم على الدفاع عن الشعب السوري ورغبته في تحقيق استقلاله، ولكن سوريا لا تزال بعيده عن الهدف الشريف خاضعة لروح الإقطاعية الدينية للمسلمين (السنة) وكسر الشعب العلوي الذي مثله الموقعون على هذه المذكرة نستصرخ حكومة فرنسا ضمانًا لحريته واستقلاله ويضع بين يديها مصيره ومستقبله، وهو واثق أنه لا بد واجد لديهم سندًا قويًّا لشعب علوي صديق قدم لفرنسا خدمات عظيمة" (1).ولم تكن الشيعة النصيرية تكف عن التآمر ضد الدولة العثمانية في محاولة إزالتها فقد ساهم الزعيم النصيري (الشيخ: صالح العلوي) في إسقاط الدولة العثمانية عندما قام بقطع الطريق الذي يصل طرطوس بحماه، فكانت خسائر الأتراك كبيرة نتيجة قطع الطريق عليهم، وقام بعقد اتفاقية مع كمال أتاتورك عام 1920 وبعد ثورة مشبوهة ضد الفرنسيين استسلم صالح العلي فعفا عنه الفرنسيون على عكس ما كانوا يفعلونه مع المجاهدين المسلمين. (2). وهكذا كان تاريخهم يشهد بخيانتهم وممالأتهم المستمرة لأعداء الإسلام في الظاهر والباطن. المصدر: خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية لمحمود محمد عبد الرحمن - ص 131   (1) د/ محمد أحمد الخطيب: ((الحركات الباطنية في العالم الإسلامي)) (ص335) ط عالم الكتب للنشر والتوزيع، الرياض – الطبعة الثانية (1406هـ - 1986). (2) أ/ محمد عبد الغني النواوي: ((مؤامرات الدويلات الطائفية)) (ص263) الطبعة الأولى 1403هـ - 1983. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 334 المبحث السادس عشر: من خيانات الشيعة الاثني عشرية في لبنان بالتحالف مع النصيريين شيعة لبنان اثني عشرية رافضية خبيثة، وهم كسلفهم في الخيانة والبغض لأهل السنة، وما شاع خبره في التاريخ الحديث بالحرب الأهلية في لبنان لم يكن إلا مسلسلاً دمويًّا تضافرت فيه أكثر من جهة، النظام السوري النصيري والشيعة الاثني عشرية في مليشيات أمل وجيش لبنان، ويجمع كل هؤلاء عداؤهم لأهل السنة. "بدأت الحرب الأهلية في لبنان بحادث الأتوبيس في عين الرمانة في 13/ 4/1975 ووجد الفلسطينيون الذي يسكنون المخيمات أنفسهم طرفًا في هذه الحرب .. وتدخلت القوات السورية النصيرية بجيش قوامه 30ألف جندي وخاضت معارك طاحنة تحالف معها أثناءها الشيعة ممثلين في حركة أمل وبعض لواءات الجيش اللبناني ومعهم الموارنة النصارى .. وبدأوا بحصار تل الزعتر .. وكان حصار التجويع ومنع رغيف الخبز، ومنع الأدوية مع القصف الرهيب المتوالي على المخيمات الفلسطينية .. فانطلقوا كالوحوش الكاسرة داخل المخيم يذبحون الأطفال والشيوخ، ويبقرون البطون، ويهتكون أعراض الحرائر .. وسوريا النصيرية تغطي جو هذه المذابح بستار فض الحرب الأهلية .. حتى أنه انهالت عليها المساعدات من الأنظمة العربية تتعهد بتغطية نفقات القوات السورية العاملة في لبنان .. وتم تدمير مخيم تل الزعتر بأكمله" (1).ثم كان الاتجاه إلى مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين خارج صيدا، ويعتبر أكبر مخيم في لبنان؛ إذ كان يقطنه حوالي 45 ألف شخص نصفهم من اللبنانيين الفقراء، ويضم المخيم ملاجئ كثيرة تحت الأرض كان السكان يستخدمونها تفاديًا للغارات الجوية الإسرائيلية .. وبدأ القصف العام حتى في المستشفى الذي دمر فيه جناحين التجأ المرضى إليها أثناء القصف (2).   (1) عبد الله محمد الغريب: ((وجاء دور المجوس)) (2/ 42 - 44) بتصرف. (2) ((وجاء دور المجوس)) (2/ 46). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 335 فهل هذا من فض الحرب الأهلية؟ أم أنه مخطط رافضي خبيث، تنفذ حلقاته وتوزع أدواره بدهاء وخبث، وبالطبع أنكرت القوات النصيرية مسئوليتها عن ما حدث ونسبته إلى اشتباك كان بين الفدائيين."ونمضي بعجلة الزمان سريعًا فإن التقليب في هذه الجراح لا يزيدنا إلا توجعًا وهمًا، لنصل إلى عام 1982 عندما حصل الاجتياح الإسرائيلي للبنان بحوالي 20 ألف جندي، اكتسحت جنوب لبنان بسرعة خاطفة، ثم واصلت سيرها نحو بيروت العاصمة، وهناك استقبلتها المارونية بحفاوة بالغة وأمدتها بالعون والنصيحة .. وقصفت القوات الإسرائيلية بيروت الغربية – بيروت السنة- برًا وبحرًا وجوًا، ومنع الماء والغذاء والدواء عن المسلمين السنة في بيروت الغربية، ومن الأمثلة على القصف الرهيب الذي تعرضت له بيروت الغربية ما حدث في يوم الأحد 1/ 8/1982 حيث استمر القصف الإسرائيلي برًا وبحرًا وجوًا مدة أربع عشرة ساعة متواصلة سقطت خلالها 180 ألف قذيفة، أي بمعدل ما يزيد على 214 قذيفة في الدقيقة الواحدة، وتكرر مثل هذا القصف يومي الثالث والرابع ثم العاشر والثاني عشر من الشهر نفسه، لقد هدمت المنازل وروع الأطفال، وقتل الشيوخ .. وامتزجت دماء المسلمين اللبنانيين بدماء المسلمين الفلسطينيين وبعد هذا أخذ الشيعة الروافض والدروز والعلمانيين يطالبون منظمة التحرير الفلسطينية بالخروج من بيروت بل من لبنان كلها .. وقد حدث" (1)."وقد وقف النظام النصيري السوري من هذا الاجتياح موقف المتفرج .. بل أعلنها صراحة: إن القوات السورية دخلت إلى لبنان لأداء مهمة محددة هي إنهاء الحرب الأهلية .. ولم تذهب لتحارب إسرائيل من هناك" (2)." وكذلك كان موقف الشيعة الروافض في لبنان فقد باركوا هذا النصر، لأن إسرائيل حققت لهم حلمهم في طرد الفلسطينيين من جنوب لبنان، وكانت إذاعات العدو الصهيوني تنقل تصريحات أعيانهم في تأييد إسرائيل" (3).وجملة القول: فإن إسرائيل خاضت حربًا ضروسًا مع المسلمين السنة وحدهم .. وهذا ما أكدته صحيفة الأنباء الكويتية الصادرة بتاريخ 30/ 4/1985 تحت عنوان "الإسرائيليون جردوا المنظمات السنية من السلاح وحدها .. لقد حصر الإسرائيليون عملية التجريد من الأسلحة بالفلسطينيين أولاً ثم بالسنيين من اللبنانيين دون سواهم .. أما الدروز ومليشيات حركة أمل والمارونيون لم يحدث لهم أي تجريد .. فأدركت القيادات الإسلامية السنية أنها في مواجهة استراتيجية أوسع مما كان يرى بالعين المجردة، استراتيجية ترتكز على النظرية الإسرائيلية التي تسوي بين السني اللبناني والفلسطيني المقيم في لبنان، فالمناطق السنية كانت وستبقى الأرض الخصبة لنمو المقاومة الفلسطينية" (4). من خيانات حركة أمل الشيعية: حركة أمل هذه حركة مسلحة نشأت في لبنان، وهي شديدة النكاية ليس في العدو الصهيوني، بل في سكان المخيمات الفلسطينية وبيروت الغربية، وذلك لأنهم سنيون .. وتتلقى حركة أمل دعمها المالي من النظام النصيري في سوريا ومن النظام الاثنى عشري في إيران.   (1) انظر: ((وجاء دور المجوس)) (2/ 49). (2) ((وجاء دور المجوس)) (2/ 50). (3) ((وجاء دور المجوس)) (2/ 52). (4) ((وجاء دور المجوس)) (2/ 52، 53). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 336 وقد قامت حركة أمل بعمل عدة مجازر في أهل السنة، ربما لم يرتكب العدو الصهيوني مثلها."ففي ليلة الاثنين 20/ 5/1982، اقتحمت مليشيات أمل مخيمي صابرا وشاتيلا، واعتقلوا جميع العاملين بمستشفى غزة .. وبدأ القصف المركز بمدافع الهاون والأسلحة المباشرة، وامتد فشمل مخيم برج البراجنة .. وانطلقت حرب أمل المسعورة تحصد الرجال والنساء والأطفال .. وكانت أمل في وضع متميز لأنها قادرة على الكر والفر، وهي التي كانت تفرض المعركة متى أرادت، أما المقاتلون الفلسطينيون فكانوا يدافعون عن أنفسهم ولا يملكون التراجع عن مواقعهم .. ورغم ذلك فقد عجزت حركة أمل عن الصمود أمام المقاتلين الفلسطينيين فترة طويلة .. وهنا أصدر المجرم المحترف الشيعي نبيه بري أوامره لقادة اللواء السادس في الجيش اللبناني لخوض المعركة وليشارك قوات أمل في ذبح المسلمين السنة في لبنان، ولم تمض ساعات إلا واللواء السادس يشارك بكامل طاقاته في المعركة .. جدير بالذكر أن أفراد اللواء السادس كلهم من طائفة الشيعة، وقد خاض هذا اللواء معارك شرسة ضد المسلمين السنة في بيروت الغربية قبل ذلك" (1). "وجرت عدة محاولات لوقف إطلاق النار ولكن دونما جدوى، لأن زعماء حركة أمل الشيعية كانوا مراوغين يعطون الوعود بوقف إطلاق النار ولا يصدرون هذه الأوامر لمليشيات الحركة .. واستمرت الحرب تشتد حينًا وتخف حينًا آخر .. ورغم وقوف اللواء السادس مع حركة أمل في خندق واحد لم تستطع أمل أن تحسم المعركة لصالحها .. فتدخل اللواء الثامن من الجيش اللبناني إلى جانب حركة أمل ضد الفلسطينيين .. وطوق جيش النظام النصيري مخيم الخليل الفلسطيني في منطقة البقاع، وقام باعتقال عدد من شباب المخيم .. وتدخل الطرف الذي تجري لمصلحته كل هذه المعارك إذ اخترقت أسراب من الطائرات اليهودية الأجواء فوق المخيمات محدثة دويًّا هائلاً. وواصلت تحليقها بانخفاض فوق بيروت والجبل كي تتمتع برؤية عمليات التصفية، وتصور أمجاد عملائها، وتدخل مزيدًا من الرعب في قلوب الأطفال والشيوخ والنساء في المخيمات المنكوبة" (2). صحف العالم تتحدث عن فظائع شيعة أمل: وقد تحدثت صحف العالم عن بشاعة ما ارتكبته حركة أمل وأعوانها في حق سكان بيروت الغربية ومخيمات الفلسطينيين فمن ذلك: يقول مراسل صحيفة (صنداي تايمز): " إنه من الاستحالة نقل أخبار المجازر بدقة لأن حركة أمل تمنع المصورين من دخول المخيمات، وبعضهم تلقى تهديدًا بالموت .. وقد جرى سحب العديد من المراسلين خوفًا عليهم من الاختطاف والقتل، ومن تبقى منهم في لبنان يجدون صعوبة في العمل .. " (3). وقالت صحيفة الوطن الكويتية: "لقد منعت حركة أمل واللواء السادس مراسلي الصحف حتى بعد سقوط مخيم صبرا من الدخول وحطموا الكاميرات والأفلام التي استطاع بعض الصحفيين التقاطها لآثار الدماء فقط، فما بالك بالجرائم التي صاحبت الأحداث".   (1) ((وجاء دور المجوس)) (2/ 74). (2) ((وجاء دور المجوس)) (2/ 74 - 81) باختصار. (3) ((صندي تايمز)): بتاريخ 3/ 6/1985 نقلاً عن ((وجاء دور المجوس)) (2/ 89). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 337 وذكرت وكالة الأنباء الفرنسية: " أنه بعد سقوط مخيم صبرا انتشرت مجموعات من الشيعة في الجيش وحركة أمل في حالة عصبية كل عشر وعشرين مترًا لمنع الصحفيين والمصورين من التقاط أيًّة صور. وذكرت صحيفة صنداي تايمز أيضًا أن عددًا من الفلسطينيين قتلوا في مستشفيات بيروت، وأن مجموعة من الجثث الفلسطينية ذبح أصحابها من الأعناق".وذكرت وكالة (أسو شيتدبرس): "عن اثنين من الشهود أن مليشيات أمل جمع العشرات من الجرحى والمدنيين خلال ثمانية أيام من القتال في المخيمات الثلاثة وقتلتهم .. وكان من بينهم نحو 45 من الجرحى في مستشفى غزة .. وذكرت صحيفة (ريبوبليكا) الإيطالية أن فلسطينيًا من المعاقين لم يكن يستطيع السير منذ سنوات رفع يديه مستغيثًا في شتيلا أمام عناصر حركة أمل طالبًا الرحمة .. وكان الرد عليه قتله بالرصاص .. وقالت الصحيفة في تعليقها على الحادث: إنها الفظاعة بعينها" (1).وشاهد مراسل (كونا): "بعض النسوة خرجن من مخيم صابرا وشاتيلا أمام مبنى مستشفى عكا على الطريق العام لمدخل صبرا الجنوبي، وقالت إحداهن: أسفي على الشباب. هذه المعارك المفتعلة لصالح من؟ وقالت الثانية: نحن لسنا أعداء، عدونا المشترك واحد وهو إسرائيل، وهدفنا تحرير أرضنا فلسطين للعودة إلى ديارنا" (2). ولقد بالغت هذه المسكينة في إحسانها الظن بالشيعة حين قالت ولسنا أعداء، وربما لها عذر فهي كغيرها من كثير من أهل السنة الضائعين الذين لا يعرفون العدو من الصديق. وفي تقرير طويل نشره (جون كيفنز) في صحيفة نيويورك تايمز جاء فيه:"دخل مجموعة من الصحفيين إلى مخيم برج البراجنة .. فبدا المخيم تقريبًا محطمًا بصورة سيئة للغاية .. حتى أن بعض الفلسطينيين ذكروا أن إسرائيل لم تفعل بهم ما فعلته بهم حركة أمل .. لقد كانت هناك مرارة في المخيمات ليس فقط تجاه مليشيات أمل بل وربما أكثر تجاه سوريا التي تعتبر على نطاق واسع قد خططت لحصار المخيم وساندته من أجل تحطيم نفوذ ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ولكي تعزز بالوكالة سيطرتها على لبنان" (3). وهذا غيض من فيض، وقليل من كثير من تقارير عالمية تابعت الأحداث في حين غفل عنها أو تغافل كثير من المسلمين السنة، ولا زالوا ينادون بالتقريب ويخدعون بتقية القوم، فإنا لله وإنا إليه راجعون. تعاون الشيعة مع اليهود حقيقة لا وهم: قال الأستاذ/ عبد الله محمد الغريب: "تعاون الشيعة مع العدو الصهيوني في جنوب لبنان حقيقة ثابتة وليس أسطورة اخترعها خصوم الرافضة، فلقد تحدثت الصحف ووكالات الأنباء المحلية والعالمية عن هذا التعاون ولمسه المسلمون والنصارى في الجنوب لمس اليد واعترف به الطرفان الشيعي واليهودي". قالت وكالة رويتر في تقرير لها من النبطية في 1/ 7/1982: "إن القوات الصهيونية التي احتلت البلد سمحت لمنظمة أمل بأن تحتفظ بالمليشيات الخاصة التابعة لها وبحمل جميع ما لديها من أسلحة. وصرح أحد قادة مليشيات منظمة أمل ويدعى حسن مصطفى أن هذه الأسلحة ستستخدم في الدفاع عنا ضد الفلسطينيين، وبعد أن أعلنت إسرائيل عن عزمها الانسحاب من لبنان ضاعفت منظمة أمل من مطاردتها للقوات الفلسطينية في بيروت الغربية والجنوبية، وفي جنوب لبنان، وكانت ادعاءات إسرائيل ضد منظمة التحرير الفلسطينية تشبه ادعاءات أمل، فهل تتم مثل هذه الأمور بشكل عفوي بين الطرفين؟ ".   (1) ((وجاء دور المجوس)) (2/ 90 – 92) بإيجاز. (2) ((وجاء دور المجوس)) (2/ 95). (3) ((وجاء دور المجوس)) (2/ 105، 106) ولم يكن المخطط السوري النصيري يهدف إلا إلى سحق مقاومة أهل السنة وليس المقصود عرفات أو غيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 338 تجيبنا على هذا السؤال صحيفة (الجروزاليم بوست) في عدد لها بتاريخ 23/ 5/1985: " إنه لا ينبغي تجاهل تلاقي مصالح أمل وإسرائيل، التي تقوم على أساس الرغبة المشتركة في الحفاظ على منطقة جنوب لبنان وجعلها منطقة آمنة خالية من أي هجمات ضد إسرائيل .. إن إسرائيل ترددت حتى الآن في تسليم أمل مهمة الحفاظ على الأمن والقانون على الحدود بين فلسطين ولبنان، وإن الوقت قد حان لأن تعهد إسرائيل إلى أمل بهذه المهمة". كما يجيبنا على هذا السؤال رئيس الاستخبارات العسكرية اليهودية إيهود براك حيث يقول: " إنني على ثقة تامة من أن أمل ستكون الجبهة الوحيدة المهيمنة في منطقة الجنوب اللبناني، وأنها ستمنع رجال المنظمات والقوى الوطنية اللبنانية من التواجد في الجنوب والعمل ضد الأهداف الإسرائيلية". ويجيبنا على السؤال – أيضًا- وزير الخارجية السويدي (بيير أوبيرت) الذي أكد في جنيف في 24/ 6/1985 أنه نقل رسالة من رئيس حركة أمل نبيه بري إلى القيادة الإسرائيلية .. إلا أنه رفض إعطاء تفاصيل عن الرسالة .. (1). وفي تقرير نشرته مجلة الأسبوع العربي بتاريخ 24/ 10/1983عن مقابلة أجرتها المجلة مع حيدر الدايخ أحد قادة أمل في الجنوب جاء فيه: "وصلنا إلى معسكر حيدر الدايخ .. وكانت عناصره ترتدي الثياب العسكرية وتحمل الأسلحة .. بعضهم لم يتجاوز العشرين وبعضهم أطلق لحيته فأدركنا عندئذ أن هذه العناصر من أفراد الجيش الشيعي، وأن إسرائيل هي التي تدربهم، خصوصًا عندما شاهدنا على بعد أمتار قليلة من المعسكر (فيلا) يتمركز فيها الإسرائيليون .. وكان أحد الإسرائيليين بين الحين والآخر يرفع منظاره إلى عينيه ويحدق في الوجوه .. اقتربنا من حيدر الدايخ في وسط المعسكر، وقد رفع العالم اللبناني وقد كتبت بعض السيارات (قوات كربلاء) وسألنا حيدر عن سبب التسمية فقال: موقعة كربلاء لها مدلولات كثيرة في نظري، هي مأساة الإمام الحسين الذي حارب الظلم، ونحن نحارب الظلم، وفي رأي أن لبنان كله يمر بكربلاء حاليًا، لأن موقف لبنان مثل موقف الحسين بكربلاء، كان أعداء الإمام كثيرين والأصدقاء تخلوا عنه، وهكذا لبنان، لذلك نسترشد بالإمام الحسين ونمشي على خطاه. وسألنا: أحد عساكر الدايخ عن سبب حمله السلاح فأجاب: إن السبب في حملي السلاح يعود إلى المخاطر التي تتعرض لها الطائفة الشيعية وإلى التفتت الذي قد يعترضها في المستقبل. وسألنا حيدر الدايخ: هل تعتبر أن تسميتكم الجيش الشيعي تعود إلى أن عناصركم من الطائفة الشيعية؟ فقال: نحن في منطقة شيعية وجميع عناصري (أولاد الجنوب اللبناني) هم من الطائفة الشيعية، لكن هذا لا يعني أننا طائفيون، بل ليس لدينا أي بعد أو تفكير طائفي، يا أخي إذا كنا شيعة ماذا نفعل؟ هل نغير هويتنا؟ هل نغير طائفتنا كي نرضي بعض الناس؟ نحن لا يمكن أن نتخلى عن هذه الهوية .... ". ثم يمضي الدايخ في حديثه: " كل الناس تعلم والحكومة أيضًا بأننا نحمل السلاح منذ بداية الأحداث، وخضنا المعارك ضد الإرهاب الفلسطيني وضد التجاوزات التي كانت تحدث في الجنوب". ثم يثني على إسرائيل فيقول: " كنا نحمل السلاح قبل دخول إسرائيل إلى الجنوب، ومع ذلك فإنها فتحت لنا يدها وأحبت أن تساعدنا فقامت باقتلاع الإرهاب الفلسطيني من الجنوب وغيرها ولن نستطيع أن نرد لها الجميل ولن نطلب منها أي شيء لكي لا نكون عبئًا عليها" (2). وأرجو بعد نقل هذه الدلائل على خيانة القوم وتعاونهم مع العدو الصهيوني أن يفيق كل مسلم يرى بعض الفصائل الشيعية في لبنان كحزب الله وهي تحارب إسرائيل فيخدع بمواقفها، إن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد دفاع قومي أو وطني تتأجج ناره وتخمد حسب تقلبات السياسة، فمتى غضبت عليهم إسرائيل حصل التصادم، ومتى رضيت أخمدت النار، وفي الأمر من الخفايا ما سينكشف إن شاء الله ربما لنا، وربما لأجيال من بعدنا. المصدر: خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية لمحمود محمد عبد الرحمن - ص 145   (1) ((وجاء دور المجوس)) (2/ 160 - 162) بإيجاز. (2) ((وجاء دور المجوس)) (2/ 163 - 165). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 339 المبحث السابع عشر: من خيانات الشيعة الدروز: الدروز هي طائفة من الطوائف التي انشقت عن المذهب الإسماعيلي الفاطمي فهي تعد من غلاة الشيعة الإسماعيلية، وهي تنسب إلى أبي محمد الدرزي من أهل موالاته الحاكم بأمر الله الفاطمي .. ولهم معتقدات كفرية أقبحها الاعتقاد في ألوهية الحاكم بأمر الله. ومبنى هذه العقيدة أن الدرزي كان قد صنف كتابًا للحاكم ذكر فيه أن روح آدم انتقلت إلى علي بن أبي طالب وانتقلت روح علي إلى أبي الحاكم ثم انتقلت إلى الحاكم وساعده الدرزي على ادعاء الربوبية .. ويعتقدون بنسخ الشريعة الإسلامية وأنها منسوخة بشريعتهم التي ابتدعوها ... ويعتقدون في تناسخ الأرواح وانتقالها إلى الأحياء في صورة الإنسان والحيوان .. وينكرون الجنة والنار والثواب والعقاب الأخريين .. ويبغضون أهل كل الأديان خصوصًا المسلمين السنة ويستبيحون دماءهم وأموالهم .. وغير ذلك من العقائد الكفرية الباطلة (1). ويتمركز أكثر الدروز الآن في لبنان وهم محيرون للغاية في طبيعة عقيدتهم، هل لازالوا يقولون بألوهية الحاكم أم لا؟ فيرى بعض الباحثين أنهم لا زالوا يؤمنون بطبيعة الحاكم الإلهية، ويرى البعض أنهم تخلو عن بعض هذه المعتقدات لكن السرية الشديدة هي التي تصعّب مسألة الحكم عليهم (2) ولكن تاريخ القوم ولو في العصر الحديث فقط مليء بالخيانات التي كان لها أعظم الأثر في تعريض الأمة للهزائم والانكسارات. فقد قاموا بعدة ثورات متلاحقة تسببت في زعزعة الأمن، وإرباك الدولة العثمانية واستنفاد كثير من الطاقات البشرية والمادية في سبيل القضاء عليها. ولما سير محمد علي باشا جيشًا لاحتلال بلاد الشام بقيادة ابنة إبراهيم بعد أن شق عصا الطاعة على الدولة العثمانية عام 1247هـ كان الدروز من الموالين له والمناوئين للدولة العثمانية. وكان الأمير بشير الشهابي (المتوفي 1266هـ) أمير الدروز وجنوده يقاتلون جنبًا إلى جنب مع جيش محمد علي وقد غدت مهمة إبراهيم باشا بن محمد علي قائد الحملة المصرية بفضل تعاون الأمير بشير مهمة سهلة، فتمكن من الاستيلاء على دمشق وهزم الجيش التركي (العثماني) في حمص، وغير جبال طورس وأوغل في قلب بلاد الأتراك، وكاد ينزل الضربة القاضية برجل أوربا المريض لكن بريطانيا والنمسا وروسيا اضطرته إلى الانسحاب. وقد حرص الدروز على استغلال كل فرصة مناسبة من أجل إقامة دولة درزية ولأجل ذلك هاجروا إلى جبل حوران الذي سمي ذلك بجبل الدروز بعد أن تمكنوا من طرد أهله المسلمين واستقلوا به تمامًا (3). ولم يكف الدروز في هذه المرحلة عن مناوشة المسلمين والنصارى من أهل القرى والبادية وقتالهم، بل قد قاموا في غضون ذلك بمذابح مروعة كالتي وقعت في عام 1298هـ حين هجموا على قريتي الكرك وأم ولد، وذبحوا سكانهما عن بكرة أبيهم، ولم يبقوا حتى على الأطفال الرضع، وقد حاولت الدولة العثمانية تأديبهم أكثر من مرة؛ لكنها فشلت وتراجعت أمام ضغوط الإنكليز. وحين احتل الفرنسيون مصر عام 1213هـ بقيادة نابليون الذي توجه بعد إخضاعها إلى بلاد الشام، وبينما كان محاصرًا لعكا بعث الرسالة الآتية:   (1) القلقشندي: ((صبح الأعشى)) (13/ 248) ط الهيئة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، والنجوم الزاهرة (4/ 176) ودكتور محمد كامل حسين طائفة الدروز تاريخها وعقائدها (ص86 - 127) ط دار المعارف بمصر 1962م. (2) انظر: د/فتحي الزغبي: ((غلاة الشيعة)) (ص216) وما بعدها – الطبعة الأولى 1998م. (3) انظر: ((الانحرافات العقدية والعلمية)) (1/ 575، 576) وفيليب حتى: تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين (2/ 341) ط دار الثقافة بيروت 1959، ترجمة د/ كمال اليازجي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 340 "مخيم عكا 20 آزار 1798م إلى بشير: "بعد السيطرة على مصر دخلت صحراء سيناء .. فأتيت إلى العريش ثم إلى غزة ثم إلى يافا بعد أن التقيت بجيوش الجزار وسحقتها، ومنذ يومين وصلت إلى عكا وأنا أحاصرها الآن. وأسرع إلى إعلامك بكل ذلك لأنك لا شك في أنك تفرح لهزائم هذا الطاغية (يعني الجزار) الذي سبب الكثير من الذعر للإنسانية عامة وللدروز الأباة بشكل خاص، ورغبتي المخلصة هي أن أقيم للدروز استقلالهم وأعطيهم مدينة بيروت ذات المرفأ كمركز تجاري لهم. لذلك فإني أرغب في أن تأتي شخصيًّا أو ترسل حالاً من يمتلك لرسم خطة للتغلب على عدونا المشترك، ويمكنك أن تذيع في جميع القرى الدرزية أن كل من يأتي لنا بالمؤن وخاصة الخمر سيكافأ بسخاء" (1). ويقول الكابتن (بورون): "إن الأمير بشير لم يجب على رسالة نابليون ولكن قوة من الدروز والموارنة انضمتا إلى جيش نابليون الذي كان يحاول إخضاع عكا في آذار 1799، أتت قوة من الخيالة الدروز والموارنة لنجدة نابليون الذي كان يحاول إخضاع عكا .. ثم يقول إن الدروز والموارنة آزروا نابليون، وإن الأمير بشير أمده بالقادة والمستشارين، وإن فارس بك الأطرش قال له: إن جده إسماعيل كان يملك عدة رسائل بإمضاء نابليون موجهة إلى والده إسماعيل، ولكن هذه الأوراق أتى عليها حريق شب في المنزل". ومنذ تاريخ 25/ 7/1920 وحتى 17/ 4/1946 والمسلمون يقاومون الاستعمار الفرنسي بكل ما يملكون من قوة مادية كانت أو معنوية .. غير أن الدروز كان لهم موقف في جبلهم، لقد رحبوا بالغزاة المحتلين، وقدموا لهم كل ما يقدرون عليه من دعم أو مساعدة، واطمأن الفرنسيون إليهم وأمنوا مكرهم ومن ذلك أنه حينما دخل الفرنسيون دمشق بعد معركة ميسلون سنة 1338هـ - 1920م اتخذ القائد الفرنسي (غورو) حرسه الخاص من الدروز بمعرفة متعب الأطرش، مما يدل على الثقة الكاملة التي أولاها الفرنسيون هؤلاء، الفرنسيون أجروا اتصالاتهم ورفعوا عريضة للمسئول الفرنسي يطلبون الاستقلال وهذه مقدمة عريضتهم: "لحضرة رئيس البعثة الفرنسي في دمشق الأفخم: بناء على بلاغاتكم المتكررة للرؤساء الروحيين، لنا الشرف أن نقدم لسيادتكم بالنيابة عن الشعب الدرزي في جبل حوران برنامج الاستقلال المدرج أعلاه الذي يطلبه الشعب لكي تتكرموا بتقديمه لحضرة صاحب الفخامة المندوب السامي؛ راجين أن يتوسل بالتصديق عليه من قبل حكومة الجمهورية الفرنسية المعظمة، واقبلوا فائق احترامنا". وفي 24تشرين الأول عام 1922م أصدر الجنرال غورو وقراره رقم 1641 بإعطاء جبل حوران استقلاله باسم دولة جبل الدروز المستقلة (2). قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. المصدر: خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية لمحمود محمد عبد الرحمن - ص 157   (1) أ/ محمد عبد الغني النواوي: ((رؤية إسلامية في الصراع العربي الإسرائيلي)) (ص31)، ((والانحرافات العقدية والعلمية)) (1/ 576، 577). (2) راجع هذه المراسلات في: ((رؤية إسلامية في الصراع العربي الإسرائيلي)) (ص36 - 49). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 341 المبحث الثامن عشر: من خيانات الشيعة في بلاد الهند قال الدكتور علي بن بخيت الزهراني: "وفي بلاد الهند كان هؤلاء الشيعة ظهيرًا لأعداء الإسلام والمسلمين من الوثنيين الهندوس والسيخ والمستعمرين الإنجليز نكاية في أهل السنة .. واستمرارًا على نفس الطريقة الآثمة في مناصرة الكافرين فمن ذلك أنه كان يوجد في بلدة أجودهيا مسجد كبير من أبنية السلطان بابر وكان الهنادك يعتقدونها أرضًا مقدسة فلما انقرضت الدولة التيمورية غصبوا المسجد وجعلوه جزءًا لمعبدهم وكان ذلك عام 1273هـ، فقدم الشيخ/ غلام حسين الأودي، ومن معه من المسلمين لاستخلاص المسجد من أيديهم فقتلوه وحرقوا المصاحف. فلما سمع ذلك الشيخ أمير علي الأميتهوري دخل لكهنؤ وحرض الولاة وكانوا من الشيعة لاستعادة المسجد، ولكن الوزير الشيعي (تقي علي) كان مرتشيًا والديوان وثنيا، فطفقا يدفعان عن الكفار، ولكن الأمير علي خرج إلى أجودهيا ليأخذ بثأر المسلمين وينتزع المسجد من أيديهم فمنعه الوزير الذكور واستفتى العلماء في ذلك وخلع عليهم ثيابًا فأفتوه بأنه لا يجوز الخروج، وكان واجد على شاه أمير تلك الناحية مغبون العقل والدين مشغولاً بالملاهي والمنكرات فحشد الوزير الجند وأمر بالغارة على أمير علي ومن كان معه من المسلمين فلما كاد يصل إلى أجودهيا أغارت عليه العساكر الشاهانية فاستشهد الشيخ ومن معه من المسلمين" (1).وللعلم فإن في أوائل القرن الثالث عشر الهجري قد شهدت الهند نشاطًا شيعيًا ملحوظًا، حيث أقام أحد علمائهم ويدعي دلدار علي النصير آبادي المتوفي سنة 1235هـ، وأدى الاجتهاد وأقام الجماعة في الجمع والأعياد .. وكانت الشيعة الأمامية في عصره متفرقين في بلاد الهند ليست لهم دعوة إلى مذهبهم وما كانت لهم جامعة تجمعهم، وقد بذل جهده في إحقاق مذهبه وإبطال غيره من المذاهب .. حتى كاد يعم مذهبه في بلاد أوده وتتشيع كل الفرق (2). وهكذا يسعى الروافض ليس في نشر مذهبهم الخبيث فحسب، وإنما في التواطؤ مع الهندوس – عباد البقر – في هدم مساجد المسلمين السنة وتحويلها إلى معابد يصلون فيها للأبقار!! المصدر: خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية لمحمود محمد عبد الرحمن - ص 163   (1) د/ علي بن بخيت الزهراني: ((الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين)) (1/ 581، 582) دار طيبة مكة المكرمة – الطبعة الثانية 1418هـ - 1998م نقلاً عن ((نزهة الخواطر وبهجة السامع والناظر)) (7/ 82). (2) د/ علي بن بخيت الزهراني: ((الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين)) (1/ 583) بتصرف، دار طيبة مكة المكرمة – الطبعة الثانية 1418هـ - 1998م نقلاً عن ((نزهة الخواطر وبهجة السامع والناظر)) (7/ 82). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 342 المبحث التاسع عشر: وقفات مع بعض خيانات الشيعة في البلاد العربية في العصر الحديث تعتبر إيران بمثابة الأم الراعية لكل الشيعة وخصوصًا الاثني عشرية في كل مكان والشيعة أينما توزعوا فإنهم يدينون بالولاء لإيران أكثر من ولاءهم للأرض التي يعيشون فيها. وحكومات إيران ترى في دول الخليج العربي امتدادًا لأرض الإمبراطورية الفارسية القديمة، ولها فيها أطماع تزايدت بعد ظهور النفط في دول الخليج العربي، فجعلت الحكومات الإيرانية تتخذ من شيعة هذه البلاد مثار قلاقل لهذه البلاد وتكأة تعتمد عليها في تنفيذ بعض مآربها. وعندما قامت ثورة الخميني لقيت تأييدًا حافلاً من الشيعة في كافة الأنحاء واعتبرها الشيعة الشرارة الأولى التي ستفجر كل المنطقة. ففي البحرين:"ولم تمض إلا فترة وجيزة حتى أعلنت إيران عن نواياها وصرح مسئول رسمي بالمطالبة بضم البحرين إلى إيران وبعض جزر في الكويت وغير ذلك .. وادعى أن نحو 85? من سكان البحرين هم من الشيعة، وهم مضطهدون وعلى رأسهم رجال الدين الشيعة، وخصوصًا من أسموه حجة الإسلام سيد هادي المدرسي الممثل الخاص في البحرين لآية الله الخميني .. وأذاع راديو طهران في 30/ 8/1979 نداء للسلطة في البحرين بالإفراج عن سيد هادي المدرسي" (1). وعلى أثر هذا قام نحو اثني عشر زعيمًا شيعيًّا في البحرين بتفجير الثورة في أنحاء البلاد وقاموا بإحداث شغب واسع النطاق. وكان المدرسي هذا إيراني أصلاً توطن في البحرين لتنفيذ هذه الأغراض الشيعية الرافضية. وقد ساعد على تعميق الفجوة بين السنة والشيعة من جراء خطبه وتصريحاته المتطرفة، والتي فيها دائمًا نزعة التحيز والولاء لإيران مع النقمة على أهل السنة وخصوصًا الحاكمين في البحرين (2). وفي الكويت: "حدثت أعمال شغب كهذه، حيث قام المدعو أحمد عباس المهري (من عائلة المهري وهم شيعة إيرانيون) بعقد ندوات في مساجد الشيعة، وأخذ يثير قضايا سياسية مثل قضايا الإسكان وإنصاف الشيعة .. وتجاوب معه الشيعة في الكويت بأثرها .. وصدرت الأوامر من الخميني بتسمية المهري الممثل الخاص للخميني في الكويت والمسئول عن صلاة الجمعة فيها .. وتوالت التصريحات في طهران تارة تعرب عن قلقها من المضايقات التي تعرض لها ممثل الخميني وشيعته وتارة تهدد بالتدخل .. والذي جعل اللهجة الإيرانية شديدة في أحداث الكويت هو أن أحمد عباس المهري هذا كان صهرًا للخميني" (3). وفي السعودية:   (1) انظر: ((وجاء دور المجوس)) (1/ 350). (2) انظر: ريتشارد هرير دكمجيان: ((الأصولية في العالم العربي)) (ص213، 214) ط دار الوفاء – المنصورة. (3) انظر: ((وجاء دور المجوس)) (1/ 351، 352). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 343 "حيث يوجد في المنطقة الشرقية تجمعات من الشيعة الاثني عشرية تعتبر سكانيًا امتدادًا للأغلبية الشيعية في إيران والعراق، وقد شهدت المنطقة الشرقية منذ أن استولى الملك عبد العزيز آل سعود عليها عام 1913م معارضات من حين لآخر للحكم السعودي قام بها المواطنون الشيعة. وفي عام 1925 أنشئت جمعية شعبية بقيادة محمد الحبشي لتعبر عن المطالب المحلية وسرعان ما اعتبرتها الحكومة غير قانونية وحين اكتشف النفط، أصبح للمنطقة الشرقية أهمية جديدة حيث عمل كثيرون من المواطنين الشيعة في صناعة النفط، وفي أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها نظم هؤلاء العمال الشيعة عماليا، وأظهروا استياء متزايدًا قبل الحكومة والجالية الأميركية الكبيرة، وفي عام 1948 وصلت القلاقل الشيعية إلى حد الانفجار في مظاهرات واسعة النطاق وفوضى في منطقة القطيف بقيادة محمد بن حسنين الهراج، وقد تم بسهولة سحق المتمردين الذين كانوا يطالبون بالانفصال عن المملكة، وفي عام 1949 اكتشفت الحكومة وجود جماعة ثورية في القطيف تحت اسم جمعية تعليمية، حلت الجمعية، ومات أحد زعمائها في السجن، وقد امتدت هذه الحركة إلى الجبيل حتى تم سحقها في عام 1950، وفي الوقت نفسه كانت هناك مظاهرات عمالية كبيرة خلال 1944، 1949، 1953 احتجاجًا على ظروف العمل، وفي سنة 1970 أحدثت الشيعة قلاقل كبيرة في القطيف – أيضًا- فأرسلت الحكومة الحرس الوطني لاحتواء الاضطرابات، وفي عام 1978 حدث انفجار آخر وتظاهرات أدت إلى اعتقالات وخسائر واسعة النطاق .. وقد تزامنت الاضطرابات الواسعة في القطيف أواخر 1979م مع أيام الحداد الديني الشيعي (عاشوراء) وكان ذلك في أعقاب الثورة الإيرانية، وفي الواقع أن هذا كان بدعوة من آية الله الخميني لشيعة المنطقة الشرقية تضمنت الدعوة إلى الثورة" (1).هذا وقد مر بنا الكلام على خيانات الشيعة في سوريا وفي لبنان، وإضافة إلى ذلك فإن الشيعة في لبنان عندما أعلن الخميني ثورته في إيران قامت بإعلان مبايعتها على أنه إمام المسلمين في كل مكان (2). وهكذا حينما وجدوا فولاءهم ليس للبلد الذي يعيشون على أرضه ويأكلون خيره أو للدين الذي ينتسبون إليه وإنما ولاءهم لإيران ولسياستها الاثني عشرية المتهورة في أكثر المواقف. وفي اليمن:   (1) ((الأصولية في العالم العربي)) (ص203، 204). (2) ((وجاء دور المجوس)) (2/ 1982) عن جريدة الايكونو ميست البريطانية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 344 يقول القاضي حسين بن أحمد العرشي متحدثًا عن الباطنية – أي الشيعة – وأثرهم في زعزعة الأمن وإثارة الثورات في بلاد اليمن:"اعلم أن الباطنية أخزاهم الله تعالى أضر على الإسلام من عبدة الأوثان، وسموا بها لأنهم يبطنون الكفر ويتظاهرون بالإسلام، ويختفون حتى تمكنهم الوثبة وإظهار الكفر، وهم ملاحدة بالإجماع، ويسمون بالإسماعيلية؛ لأنهم ينسبون أئمتهم إلى إسماعيل بن جعفر الصادق وبالعبيدية لدعائهم إلى عبيد الله بن ميمون القداح .. والآن يسمون شيعة لكونهم مظهرين أن أئمتهم من أولاد الرسول حين عرفوا أنهم لا يستقيم لهم إمالة الحق والدخول إلى دهليز المفر إلا بإظهار المحبة والتشيع ولهم قضايا شنيعة وأعمال فظيعة كالإباحية، وغيرها، وينكرون القرآن والنبوة والجنة والنار .. وتراهم إذا وجدوا لأنفسهم قوة أظهروا أمرهم وأعلنوا كفرهم، فإن غلبوا ولم تساعدهم الأيام كمنوا كما تكمن الحية في جحرها، وهم مع ذلك يؤملون الهجوم والوثبة وأن ينهشوا عباد الله .. ولا ينبغي لذي معرفة وقوة أن يعرف منهم أحدًا يقتدر عليه فيتركه وشأنه فإنهم أهلكهم الله تعالى شياطين الأرض" (1). وحتى الشيعة الزيدية في اليمن كانوا يضطهدون أهل السنة هناك حيث كانوا يسيطرون على مقاليد الحكم في ظل الدولة العثمانية، ولما أراد الترك الجلاء عن بلاد اليمن عام 1337هـ، خشي أهل السنة من سيطرة الزيدية على بلادهم .. وحاول بعض أهل السنة المقاومة فلم تتحد كلمتهم، وباغتهم إمام الزيدية في اليمن آنذاك بجيش من قبائل الزيدية ودارت معارك طاحنة استمرت ستة أشهر، ثم هزمت جموع أهل السنة وأذعن جميعهم لحكم الإمام وسيطرة الزيدية .. وفي بلاد الضالع استمرت المعارك بين الزيدية والسنة عامين كاملين كانت الحرب فيها سجالا (2).وكم عذبوا وآذوا وقتلوا من علماء السنة في اليمن كما فعلوا بالشيخ محمد صالح الأخرم، حيث اعتقلوه وهو في شيخوخته، واختطفوا الشيخ مقبل بن عبد الله وقتلوا العلامة محمد بن علي العمراني الصنعاني أحد تلامذة الإمام الشوكاني المشهورين (3). ولعل أحدًا من أهل السنة لا يخدع ويردد أن الزيدية أقرب فرق الشيعة من أهل السنة والجماعة – حيث تتصف بالاعتدال والقصد والابتعاد عن التطرف والغلو – بعدما ذكرنا. ومن أراد المزيد فليراجع كتاب (هدية الزمان في أخبار ملوك الحج وعدن) لمؤلفه (العبدلي مؤرخ حضرموت). ولعل ذلك هو الذي حدا بالشيخ محمد أبي زهرة إلى أن يقول:"وضعف المذهب الزيدي فقد غالبته المذاهب الشيعية الأخرى أو طوته أو لقحته ببعض مبادئها ولذلك كان الذين حملوا اسم هذا المذهب من بعد لا يجوزون إمامة المفضول فأصبحوا يعدون من الرافضة، وهم الذين يرفضون إمامة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وبذلك ذهب من الزيدية الأولى أبرز خصائصها" (4). ومن طريف ما يذكر في قتالات الشيعة الزيدية وأهل السنة في اليمن ما قاله الشيخ الدفتردار:   (1) ((بلوغ المرام شرح مسك الختام فيمن تولى ملك اليمن من ملك وإمام)) (ص21) مطبعة التبريز – القاهرة 1939م. (2) انظر ((الانحرافات العقدية والعلمية)) (1/ 584، 585). (3) ((الانحرافات العقدية والعلمية)) (1/ 586). (4) انظر: الشيخ/ محمد أبو زهرة: ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) 1/ 51. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 345 "حدثني صديق قضى في اليمن ردحًا من الزمن، وشاهد ثورات الزيدية الشافعية وقد انتدب ليدرس بواعثها وأسبابها، فإذا هو يسقط على الحقيقة إذ وجد وقد الفتن من جهل أعشار الشيوخ بمثل القرآن العليا، وقد سمع حديثًا يدور بين شيخين كانا في نظره – كما يقول – أمثل من يعرف هناك، لما يجد بينهما من مودة على اختلاف فرعيهما، وكم كان يتمنى أن تنتقل هذه المودة إلى أتباعهما المساكين المختلفين، سمعهما يتساران بالحديث التالي: قال الشيخ الشافعي: ألا يجدر بنا أن نفهمهم أنهم أخوة يسكنون وطنًا واحدًا وتظلهم سماء واحدة ويجمع كلمتهم وحي واحد واعتصموا بحبل الله جميعًا فكم من نساء رملت، وأسر تداعت وإثم ذلك راجع إلينا. قال الشيخ الزيدي الشيعي: دعهم دعهم فهم أهل لكل شقاق وشتات لأنهم لا يحملون لنا المودة ولا يعطوننا ما نستحقه من أجر؛ فإذا فهموا أن الوحي يجمعهم اكتفوا بأحدنا. قال الشيخ الشافعي: ولكن كيف نلقى الله وحالنا معهم ما تعلم من فتن وتمزيق وخلاف. قال الشيخ الزيدي: لا لا لا تمزيق ولا خلاف، هم المسئولون عن تمزيق أنفسهم ومالنا من أثر إلا أننا تركناهم على حالهم وسرنا مع أهوائهم. قال الشيخ الشافعي: بل نحن المسئولون أمام الله والإنسانية والحكومة لو كانت تدري، أما علمت أن رسول الله هدم مسجدًا شيده المنافقون إرصادًا لتمزيق الكلمة وفتنة للناس عن الهدى، أجل هدمه وهو مسجد!! فكيف حالنا ونحن الذين أغرينا بينهم العداوة والبغضاء؟ قال الشيخ الزيدي: هل تعتقد لو تركناهم على حالهم يجتمعون؟ قال الشيخ الشافعي: طبعًا طبعًا يجتمعون فهذه الحيوانات تسير مجتمعه فهل يكون الإنسان أقل من الحيوانات عقلاً وفكرًا ونفسًا وضميرًا؟ قال الشيخ الزيدي: وكيف تعيش إذا اجتمعوا؟ محال أن نفهمهم الحقيقة فإذا ذلك المبعوث يظهر فجأة بينهما قائلاً: لعيشكما وهم مجتمعون أرغد وأوسع من عيشكما وهم مختلفون لأن لحوم البشر لا تغذي الأحشاء يا أخباث" (1). وهذا الحوار يدلك على أن أئمة الشيعة يرون في إحاطة أنفسهم بهالة من السرية والتقديس سبيل للتكسب والتعيش الرغيد والسلطنة والجاه، فلا إله إلا الله. وفي العراق: الجرح الغائر في أعماق الأمة الإسلامية والذي لم يندمل بعد هناك شيعة ولاءها لإيران، وقد كان الخميني يستخدمهم كأداة تخريبية في العراق في أكثر الأحيان.   (1) ((الإسلام بين السنة والشيعة)): هاشم الدفتردار المدني، ومحمد علي الزغبي (ص 129، 130) ط مطبعة الإنصاف – بيروت 1950م. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 346 وخيانة الشيعة في العراق للأنظمة المتعاقبة في حكمها ترجع إلى شعورهم بالاضطهاد ونقمتهم على حكامهم من أهل السنة وولائهم المتزايد نحو شيعة إيران."فالشيعة في العراق اليوم يعتقدون أن نسبتهم أكثر من 70? ومع ذلك فهم محرومون مضطهدون .. وعلى شيعة العراق أن يتحرروا من القيادة السنية التي تتحكم بهم منذ عصور طويلة (1) كما أن وجود المدن الثلاثة المقدسة عند الشيعة (النجف – كربلاء – الكاظمية) وبها المزارات جعل شيعة العراق يتطلعون إلى التأييد العام في الشيعة في كل مكان إذا هم أعلنوا الثورة" (2).وفعلاً استغل الشيعة ذكرى الأربعين للحسين في 5/ 2/1977 فأطلقوا شرارة الثورة، وقاموا بمظاهرات وحوادث شغب شملت معظم المدن في جنوب العراق، ويبدو أن الأمر كان أكبر من مجرد مظاهرة واضطراب، فلقد كان الشيعة يوزعون نشرات دورية في العراق والخليج تحت عنوان (العراق الحر) (صوت الشعب المضطهد) وفي هذه النشرات كانوا ينادون بالثورة على حكام بغداد، ومن يقرأ هذه النشرات يعلم أنها شيعية لأول وهلة فهم إذا أرادوا وصف ظلم حكام بغداد شبهوهم بهارون الرشيد أو بحكام العصر الأموي وبعد حوادث النجف وكربلاء أسس الشيعة ما يسمى بالجبهة الوطنية الإسلامية في العراق، وأصدروا كتيبًا تحت عنوان برنامج الجبهة الوطنية الإسلامية في 22/ 2/1977 أي بعد الحوادث بأسبوعين (3) .. وقد نظرت حكومة العراق إلى هذا الحزب في ضوء التشجيع الواضح من الخميني للنضالية الشيعية على اعتباره طابورًا خامسًا يهدف إلى توحيد العراق وإيران .. فقامت الحكومة العراقية بعمليات قمع واسعة النطاق .. ووجهت تهمة الخيانة بالتخطيط لإقامة دولة شيعية في العراق إلى بعض زعماء الشيعة وقامت بإعدامهم وكان على رأسهم باقر الصدر وأخته بنت الهدى، وتم إعدامهم في أبريل 1980 (4).وبرغم ما حاول النظام العراقي فيما بعد اتباع سياسة الاسترضاء، فقام بإنفاق مبالغ كبيرة في إعمار المساجد والمراكز الدينية الشيعية في العراق، وإعطاء الحوافز للقادة والأفراد الشيعيين، بل أعلن صدام حسين رئيس النظام أنه من نسل الحسين بن علي، وأعلن ميلاد علي بن أبي طالب عيدًا قوميًّا .. وبرغم ذلك كله فإن كبار أئمة الشيعة رفضوا التعاون مع البعث (5). وظلت روح التذمر موجودة تتحين الفرص من آن لآخر للفتك بهؤلاء الحكام. حول خيانة الشيعة في الحرب الأمريكية على العراق: لم تزل روح التذمر والسخط موجودة عند الشيعة في العراق فهي لا تبرح صدورهم، ومع طلعة كل شمس كانوا يتطلعون إلى إعلان دولة الشيعة في العراق أو التوحيد مع أم الشيعة إيران، وهذا لا يكون إلا بالإطاحة بالنظام الحاكم والتخلص من قيوده. وبمجرد ما واتتهم الفرصة عندما أعلنت أميركا وبريطانيا الحرب على العراق بحجة محاربة الإرهاب وإحلال الديمقراطية .. وجد الشيعة لهم متنفسًا للتخلص من نظام صدام حسين. وظهرت خيانتهم في أنهم لم يشاركوا في المقاومات التي قام بها سواء الجيش أو الشعب العراقي ضد هذا العدو الغازي، ووقفوا موقف المتفرج، ومن يدري لعلهم أعانوا العدو الصليبي وأمدوه بما استطاعوا من المعلومات كما فعل ابن العلقمي والطوسي .. قديمًا أيام التتار. وعندما سقطت بغداد خرج الشيعة في الشوارع كالكلاب المسعورة يخطفون وينهبون ويخربون حتى المستشفيات .. وكل هذا في ظل نظام حماية سادتهم الأمريكيين ..   (1) ((وجاء دور المجوس)) (1/ 364) بتصرف. (2) ((الأصولية في العالم العربي)) (ص183) بتصرف. (3) ((وجاء دور المجوس)) (1/ 366، 367) بتصرف. (4) ((الأصولية في العالم العربي)) (ص185) بتصرف. (5) ((الأصولية في العالم العربي)) (ص189). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 347 واستغل العدو الأمريكي هذه المناظر التي أحدثها الشيعة في العراق في إظهار نفسه بدور المنقذ المخلص لهذا الشعب المضطهد .. والواقع أننا في الوقت الحالي أمام مشكلة معلوماتية يعرف منها حقيقة الأمر تفصيلاً، وذلك لما اكتنف هذه الحرب من غموض، ولكن يومًا سنكشف إن شاء الله هذا الغموض، إما لنا وإما لأجيال بعدنا ليؤكد الحقيقة التي لا تستبعد على القوم وهي تآمرهم وخيانتهم. ومن بعض المقتطفات الإخبارية يمكن أن نرى كيف أن الشيعة كانوا متطلعين إلى زوال النظام العراقي وإحلال نظام شيعي محله أو تكون فيه أغلبية شيعية. والطريف في هذا ما أعلن عن عودة كثير من القادة الشيعيين الذي كانوا قد نفاهم نظام صدام لإحداثهم الشغب وإشعال الثورة في البلاد وتركيزهم بعد العودة على المطالبة بأن تضم الحكومة الجديدة الانتقالية التي أزمعت أمريكا تشكيلها أكبر عدد من رجال الحوزة الدينية الشيعية. نشرت جريدة الأهرام المصرية بتاريخ 12/ 7/2003 بأن محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية (شيعي) عاد إلى العراق وعندما طرحت أمريكا تشكيل مجلس مؤقت لإدارة العراق اشترط ضم أكبر عدد ممكن من الشيعة للمجلس ليشكلوا غالبية مريحة من الأعضاء، على أن توضع صيغة مكتوبة تنص على صلاحيات المجلس التنفيذية كضمان لعدم التراجع .. وأن يتولى رئاسة المجلس الجديد مسعود البرزاني (شيعي). وفي ذات الجريدة في نفس العدد: "ذكرت أن الإمام المهدي مدرسي من أبرز علماء الشيعة العراقيين قد عاد إلى بغداد في يوم 11/ 7/2003 بعد غياب 30سنة قضاها في المنفى .. ألقى مدرسي خطبة أمام أنصاره بمسجد الكاظمية في شمال بغداد طالب فيه بضرورة تنصيب حكومة منتخبة بالعراق بأسرع وقت ممكن وأكد أن حقوق الأقليات في العراق سوف تكون مكفولة إذا وصلت إلى السلطة حكومة تمثل غالبية أبناء الشعب". أرأيت كيف ينظر الشيعة إلى السنة على أنهم أقلية، ويدعي أن حقوقهم ستكون مكفولة عند تشكيل حكومة غالبيتها من الشيعة!! وفي نفس العدد: "ذكر تومي فرانكس القائد السابق للقيادة المركزية الأمريكية أن هناك عناصر إيرانية تنشط في العراق وتحاول التأثير على مجريات الأحداث وأوضح أن هناك رجال دين مدعومين من إيران يشاركون في الحوار السياسي في إطار الطائفة الشيعية كما أن أجهزة المخابرات الإيرانية تنشط في الجنوب العراقي لكن دون تقديم أي دعم عسكري ضد الجنود الأمريكيين". إنهم ينشطون لجني ثمار الخيانة، ولا يعترضون على العدو الأمريكي!! وفي جريدة الأهرام – أيضًا- بتاريخ 22/ 6/2003 ذكرت أن حشدًا كبيرًا من الشيعة في العراق شكلوا مظاهرة سلمية توجهوا بها إلى مقر القيادة الأمريكية البريطانية، وقدم ممثلون عنهم عريضة يطالبون فيها بسرعة تشكيل حكومة عراقية وبإقامة مجالس محلية وحكومية تحت إشراف الحوزة الدينية الشيعية .. ونظم المظاهرة أنصار مقتدى الصدر نجل الإمام آية الله محمد صادق الصدر الذي اغتيل في عام 1995 في النجف. وفي جريدة الأهرام – أيضًا – بتاريخ 16/ 5/ 2003 ذكرت أنه تظاهر نحو 500 عراقي في بغداد للمطالبة بإقامة حكومة إسلامية وأعلنوا رفضهم قيام أي حكومة علمانية تشكلها الولايات المتحدة وطالب المتظاهرون الذين يمثلون الحوزة الشيعية في مدينة النجف بمنع العراقيين حريتهم في اختيار حكومتهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 348 وفي جريدة الأسبوع المصرية بتاريخ 7/ 4/2003 تحت عنوان: "قادة المعارضة العراقية عملاء مباشرون لإسرائيل" ذكرت أنه عندما أطلقت أمريكا ما أسمته إعادة ترتيب العراق روجت دوائر صهيونية عديدة في أمريكا وإسرائيل على حد سواء لاسم (أحمد الجلبي) أحد قادة المعارضة العراقية الواقعين المعترفين بالكيان الصهيوني وإمكانية تعاونه مع هذا الكيان في وقت لاحق في مرحلة ما بعد إعادة ترتيب العراق .. " وكان جلبي في إشارة واضحة تبين موقفه من الكيان الصهيوني قد قال في لقاء صحفي نشرته صحيفة (هاآرتس العبرية) من المفضل ألا يقترب منا القادة الإسرائيليون وألا يبحثون عن اتصال .. مضيفًا: عليهم ألا يسارعوا إلينا عندما نكون في السلطة- وهذا لتمويه وصرف الأعين عن علاقته بالكيان الصهيوني – وأحمد جلبي أحد قادة المعارضة الشيعة يعتبر من وجهة نظر الصهاينة أحد أهم المعارضين المعروفين على الساحة الدولية منذ عام 1991؛ خاصة بعد فشل التمرد الشيعي في ذلك العام والذي نفي على أثره .. علمًا بأنه قد قام بزيارات سرية لإسرائيل عدة مرات التقى فيها بعدد من المسئولين الصهاينة، من أبرزهم (افرايم هاليفي) رئيس المؤسسة الأمنية الإسرائيلية المسماة مجلس الأمن القومي والرئيس السابق لجهاز المخابرات الإسرائيلية الموساد، وليس أحمد جلبي فقط هو من يصارع في هذا المجال .. فهناك غيره كثير على هذه الشاكلة أغلبهم يرى نفسه أحق المتآمرين للحصول على أكبر قدر من الغنائم وأهمها كرسي الحكم. منهم ذلك المعارض الذي يسكن واشنطن (نجيب صالحي) أحد الضباط الكبار في الجيش العراقي قبل أن يفر إلى الولايات المتحدة ليخدم بكل ما أوتي من قوة أعداء العراق. ومنهم – كما جاء في إحدى المجلات البحثية التي يصدرها مركز الدراسات الإسرائيلية عن الحالمين بالحكم في بغداد – الشريف علي بن الحسين من سلالة العائلة الحاكمة التي حكمت العراق قبل الإطاحة بالملكية وإبعادها عن الحكم .. وهو يعتقد أن على العراق العودة إلى النظام الملكي. ومنهم: سعيد صلاح جفعر يقول عنه الإسرائيليون إنه الصديق المخلص لدولة إسرائيل: "إن والد سعيد قدم خدمات جليلة لليهود يوم أن كان وزيرًا للداخلية بالعراق. ولولا مساعدته لما نجحت حملة تهجير اليهود، ويضيف أن سعيد ورث حب إسرائيل واليهود عن أبيه، وقد هرب إلى لندن ليعمل على توحيد قوى المعارضة العراقية وانتخب رئيسًا لبرلمان المنفى خاصة بعد دعم الولايات المتحدة له. وسعيد صالحي هذا له علاقات قوية جدًّا مع قادة يهود العالم خاصة داخل أمريكا وبريطانيا وإسرائيل ذلك إلى جانب دعمهم المالي السري كي يستميل أكبر عدد من المعارضة العراقية لصالح إسرائيل". وفي جريدة الأخبار المصرية بتاريخ 13/ 7/2003 تحت عنوان: "الشيعة يطالبون أمريكا بتعويضهم عن عقود الاضطهاد تحت حكم صدام": "ذكرت الصحيفة أنه في انعقاد أول جلسة لمجلس الحكم الانتقالي والذي مثل الشيعة فيه 13 ممثلاً والسنة 5، والأكراد5، وتركماني1، ومسيحي1، وطالب رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق محمد باقر الحكيم قوات الاحتلال الأمريكي بتعويض الشيعة عن عقود الاضطهاد، وكان قد صرح لوكالة رويتر بأن شيعة العراق قد ينقلبون ضد قوات الاحتلال إذا لم يحصلوا على تعويض سياسي مناسب عن عقود الاضطهاد التي عانوا خلالها في ظل الحكم السابق". إن القوم لا يهمهم إلا الصالح الشخصي لهم فقط، فهم يعلونها صراحة بأنهم لم يعترضوا على الاحتلال إلا إذا لم يلبوا مطالبهم ويقوم بتعويضهم عما أسموه الاضطهاد السياسي، وأعتقد أنه سيفعل لأن العدو ماهر في شراء ذمم الخونة. وفي حين يطالب الشيعة بتعويض عن الاضطهاد السياسي في العقود الماضية كما زعموا (1) يقاوم أهل السنة الاحتلال الأمريكي البريطاني ويبذلون دمائهم في سبيل الله عز وجل. وفي تقرير إخباري لجريدة الأخبار بتاريخ 13/ 7/2003 نشرت صورة لجمع كبير من الناس في مسجد وهو يتبرعون بدمائهم للجرحى المقاومين وكان التعليق تحتها: "المسلمون السنة في العراق يتبرعون بدمائهم بعد صلاة الجمعة في جامع عبد القادر الجيلاني في بغداد – الصورة للأخبار من أ. ف. ب". وهكذا لو قلبت في وابل الأخبار والنشرات التي تصدر عن الأوضاع في العراق لما أعجزك أن تقف على خيانات الشيعة في العراق والتعامل مع كل الأعداء اليهود والصليبيين ظنًا منهم بأنهم هم الذين سيعيدون الحكم للحوزة الشيعية ويعاونوهم في تأسيس دولة شيعية. ولكن بإذن الله ستظل المقاومة – مقاومة أهل السنة – حتى يرحل الغزاة أو يهلكون ساعتها ستنكشف خيانات الخائنين أكثر وأكثر، طال الأمد في تحقيق هذا الهدف أو قصر، والرجاء في الله وحده فهو المستعان. المصدر: خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية لمحمود محمد عبد الرحمن - ص 167 - 182   (1) لم يكن هذا اضطهادًا، وإنما كان ردًا على خيانتهم وشغبهم الذي لا ينتهي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 349 المبحث العشرون: الشيعة يرون تحول السنيين إلى النصرانية أهون من بقائهم على السنة لقد بلغت الخيانة الشيعية ذروتها، وهي تسعى في مواجهة أهل السنة أن يفكر أحد الحكام الإيرانيين في استدعاء حملات تنصيرية وعقد اتفاق معها لتنصير المسلمين السنيين من الأكراد. قالت الدكتورة/ أمال السبكي في كتابها (تاريخ إيران السياسي): "من الأشياء المريبة حقًا في السياسة التبشيرية الأمريكية أن يتم عقد اتفاق مع حكومات كل من إيران والعراق وتركيا في أدنبرة 1910م ينص صراحة على حق الكنيسة الإنجيلية اللوثرية في القيام بالتبشير للديانة المسيحية بين شعب الأكراد المسلمين في الأقطار الإسلامية الثلاث .. وقد جددت الحكومية الإيرانية في عهد الشاه رضا بهلوي الاتفاق سنة 1928م، وكان قصد الشاه الإيراني تحقيق أهداف عدة منها: أولاً: التخلص من الكثافة السكانية الكردية التي تقطن بأذربيجان بإيران منذ مئات السنيين، والتي كثيرًا ما عاونت تركيا السنية ضد إيران للتخلص من الظلم الواقع عليهم. ثانيًا: كسر شوكتهم بتحويل الكثير منهم إلى المسيحية بعد أن تغير موقف الحكومة التركية عن تأييدهم بعد ثورة كمال أتاتورك في الربع الأول من القرن العشرين. ثالثًا: تذويب الهوية الكردية (السنية) في القومية الإيرانية لإحكام السيطرة عليهم، والحيلولة دون التئام شمل القومية الكردية مع نظائرها في العراق وتركيا وسوريا" (1). عجبًا تفكير هؤلاء الخونة: أيرضى علي بن أبي طالب أو أحد من آل البيت بارتداد واحد عن الإسلام إلى النصرانية أو غيرها؟ ثم هم يرون الأكراد (وهم سنيون) أنهم لو تحولوا إلى النصرانية لخفت حدتهم، ولأمنوا شرهم. وهذا ليس مجرد سياسة بل عقيدة عند القوم، وأن الناصبي (السني) أشد كفرًا من النصراني واليهودي، ولذلك يرى أئمتهم جواز الصدقة على الذمي وعدم جوازها على السني. يقول آيتهم الخميني:"ويعتبر في المتصدق عليه في الصدقة المندوبة الفقر لا الإيمان والإسلام، فتجوز على الغني الذمي والمخالف إن كان أجنبيين نعم، ولا تجوز على الناصبي ولا على الحربي وإن كان قريبين" (2). وهذا يعني أن هذا الفعل وهو الاتفاق مع حملات التنصير بين الأكراد لم يكن نظرة خاصة بالشاة رضا بهلوي الذي ثار الخميني ضده، وإنما هي نظرة الخميني أيضًا وعموم الشيعة الرافضة الغالية المصدر: خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية لمحمود محمد عبد الرحمن - ص 185   (1) د/أمال السبكي: ((تاريخ إيران السياسي)) (ص115،116) سلسلة عالم المعرفة عدد رقم (250). (2) الخميني، ((تحرير الوسيلة)) (1/ 91). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 350 الفصل الرابع والعشرون: الحكم على الشيعة: يسأل كثير من الدارسين عن حكم الشيعة ... هل هم كفار خارجون عن الملة، أم هم في عداد الفرق الإسلامية؟ وبغض النظر عن اختلاف وجهات نظر العلماء في الحكم عليهم، وبغض النظر أيضاً عما يورده كل فريق من أدلة على ما يذهب إليه فإن الواقع يدل على أن الحكم على الشيعة أو غيرهم من الفرق بحكم واحد يحتاج إلى تفصيل فأما بالنسبة للشيعة بخصوصهم الذي اتضح لي: أن الشيعة ليسوا جميعاً على مبدأ واحد في غير دعوى التشيع، فمنهم الغلاة الخارجون عن الملة بدون شك، ومنهم من يصدق عليهم أنهم مبتدعون متفاوتون في ابتداعهم، فبعضهم أقرب من البعض الآخر. أن التثبت في تكفير المعين أمر لا بد منه، إذ ليس كل من انتسب إلى طائفة خارجة عن مذهب السلف في بعض القضايا يحق تكفيره. ليس معنى التثبت في تكفير المعين أننا لا نطلق على الطائفة الخارجة عن الحق ألفاظ التبديع والتضليل والخروج عن الجماعة، لأن ذلك الحكم خاص بتعيين الأفراد لا الجماعة عموماً، خصوصاً من وجدنا نصاً فيهم. وعلى هذا فالحكم العام على الشيعة أنهم ضلال فساق خارجون عن الحق، وهالكون مع الفرق التي أخبرت عنها الأحاديث – حكم لا غبار عليه. اتضح أن الشيعة عندهم مبادئ ثابتة في كتبهم المعتمدة، قررها رجالاتهم المعتبرون قدوة في مذاهبهم، من قال – ولو ببعض من تلك المبادئ - فلا شك في خروجه عن الملة الإسلامية، ومنها: أ- قولهم بتحريف القرآن وأنه وقع فيه الزيادة والنقص حين جمعه أفاضل الصحابة رضوان الله عليهم، كما صرح بذلك الطبرسي في كتاب (فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب)، وغيره من كتب الشيعة، وانتظارهم أيضاً مصحف فاطمة كما يزعمون. ب- غلوهم في أئمتهم وتفضيلهم على سائر الأنبياء كما ملئت بذلك كتبهم القديمة، والحديثة، (الكافي) وما كتبه الخميني في العصر الحديث. ج - غلوهم في بُغض الصحابة ممن شهد الله لهم بالفوز والنجاة، كأبي بكر وعمر وعثمان وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وحفصة وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، وردهم شهادة أم المؤمنين رضي الله عنها، وبقاؤهم على عداوتها وإفكهم عليها، واعتبارها عدوة وليست بأم، وهذا حق، فإنها ليست لمثل هؤلاء بأم، فهي أم المؤمنين فقط. د- قولهم بالبداء على الله تعالى، وقد تنزه الله عن ذلك. ومواقف أخرى يصل خلافهم فيها إلى سلب العقيدة الإسلامية من جذورها في كل قلب تشبع بها. وأما من لم يقل بتلك المبادئ، وكان له اعتقادات أخرى لا تخرجه عن الدين، فإنه تقام عليه الحجة ثم يحكم عليه بعد ذلك حسب قبوله الحق أو ردّه له. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 462 حكم علماء الإسلام وفتاواهم في الشيعة الإمامية الاثنا عشرية: إن الشيعة الإمامية الاثنا عشرية من فرق الضلال التي جمعت في عقيدتها، كل شرٍ وانحراف موجود في باقي الفرق والنحل، ولهذا حكم جمهور العلماء بكفرهم وزندقتهم، وفي مقدمتهم سيد الأولين والآخرين، وإمام العلماء والمتقين، وخاتم النبيين والمرسلين: محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم: حيث حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بشرك الشيعة الإمامية، بل أمر صلى الله عليه وسلم، بقتلهم وأوصى بذلك أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده علي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا علي سيكون في أمتي قوم ينتحلون حبنا أهلَ البيت، لهم نبز يسمون الرافضة فاقتلوهم فإنهم مشركون) رواه الإمام الطبراني في (المعجم الكبير) (12/ 242)، حديث (12998) وإسناده حسن. قول: علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 351 قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (سيكون بعدنا قوم ينتحلون مودتنا، يكذبون علينا، مارقة، آية ذلك، أنهم يسبون أبا بكر وعمر). قول: عمار بن ياسر رضي الله عنه: عن عمرو بن غالب: أن رجلاً نال من عائشة رضي الله عنها عند عمار رضي الله عنه فقال: (اغرب مقبوحاً، أتؤذي حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، رواه الترمذي بإسناد حسن، وأقول كل الشيعة يطعنون في عائشة رضي الله عنها. قول: عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنه: فعن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: (قلت لأبي: ما تقول في رجل سب أبا بكر؟. قال: يُقتل. قلت: ما تقول في رجل سب عمر؟ قال: يُقتل) والشيعة الإمامية يلعنون أبا بكر وعمر كما ذكرنا ذلك آنفا. قول: جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: فعن سالم بن أبي حفصة (وهو شيعي) قال: سألت أبا جعفر وابنه جعفراً عن أبي بكر وعمر؟ فقال: (يا سالم تولهما، وابرأ من عدوهما، فإنهما كانا إمامي هدى. ثم قال جعفر: يا سالم أيسُبُ الرجل جده؟ أبوبكر جدي، لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، إن لم أكن أتولاهما، وأبرأ من عدوهما). وقال أيضاً رضي الله عنه: (برئ الله ممن تبرأ من أبي بكر وعمر). قول: عبد الله بن المبارك: قال رحمه الله تعالى: (الدين لأهل الحديث، والكلام والحيل لأهل الرأى، والكذب للرافضة). قول: سفيان الثوري (أمير المؤمنين في الحديث): عن إبراهيم بن المغيرة قال: (سألت الثوري: يُصلى خلف من يسب أبا بكر وعمر؟ قال: لا). قول: الزهري: قال الإمام الزهري: (ما رأيت قوماً أشبه بالنصارى من السبئية. قال أحمد بن يونس: هم الرافضة). قول: سفيان بن عيينة: قال رحمه الله تعالى: (لا تصلوا خلف الرافضي يعني الشيعي ولا خلف الجهمي ولا خلف القدري ولا خلف المرجئي). قول: علقمة بن قيس النخعي: قال رحمه الله تعالى: (لقد غلت هذه الشيعة في علي رضي الله عنه كما غلت النصارى في عيسى بن مريم). قول: أبو يوسف القاضي: قال رحمه الله تعالى: (لا أصلي خلف الجهمي أو رافضي يعني الشيعي ولا قدري). قول: يزيد بن هارون الواسطي: قال مؤمل بن إهاب: سمعت يزيد بن هارون يقول: (يُكتب عن كل مبتدع-إذا لم يكن داعية- إلا الرافضة فإنهم يكذبون). قول: أبو عبيد القاسم بن سلاّم: قال الإمام القاسم بن سلام: (لا حظ للرافضي يعني الشيعي في الفيء والغنيمة). وقال كذلك رحمه الله: (عاشرت الناس وكلمت أهل الكلام وكذا، فما رأيت أوسخ وسخاً، ولا أقذر قذراً، ولا أضعف حجة، ولا أحمق من الرافضة). قول: الأعمش: قال معاوية بن خازن: سمعت الأعمش يقول: (أدركت الناس وما يسمونهم إلا بكذابين، يعني الرافضة). قول: مالك بن أنس: قال الإمام مالك: (الذي يشتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ليس لهم اسم أو قال نصيب في الإسلام). كما سُئل الإمام مالك عن الرافضة الشيعة فقال: (لا تكلمهم ولا ترد عنهم فإنهم يكذبون). قول: الشافعي: قال حرملة: سمعت الشافعي يقول: (لم أر أحداً أشهد بالزور من الرافضة). قول: أحمد بن حنبل: روى الخلال عن أبي بكر المروذي قال: (سألت أبا عبد الله، يعني أحمد بن حنبل، عمن يشتم أبا بكر وعمر وعائشة؟. قال: ما أراه على الإسلام). وقال الخلال: أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد قال: سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل قال: (من شتم يعني أصحاب رسول الله أخاف عليه الكفر مثل الروافض، ثم قال: (من شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نأمن أن يكون قد مرق من الدين) أي خرج من الدين. وقال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت أبي عن رجل شتم رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما أراه على الإسلام). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 352 وجاء عن الإمام أحمد بن حنبل قوله عن الرافضة الشيعة ما نصه: (هم الذين يتبرؤون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ويسبونهم، وينتقصونهم، ويكفرون الأئمة إلا أربعة، علي، وعمار، والمقداد، وسلمان، وليست الرافضة من الإسلام في شيء). وقال ابن عبد القوي: (كان الإمام أحمد يكفر من تبرأ منهم (أي الصحابة) ومن سب عائشة أم المؤمنين مما برأها الله منه وكان يقرأ (يعظكم الله أن تعودوا لمثلهِ أبداً إن كنتم مؤمنين). وسُئل رحمه الله تعالى عن الذي يشتم معاوية أيصلى خلفه؟ (قال: لا يصلى خلفه ولا كرامة). قول: البخاري: قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: (ما أبالي صليت خلف الجهمي والرافضي، أم صليت خلف اليهود والنصارى، ولا يسلم عليهم ولا يعادون أي لا يزارون في مرضهم ولا يناكحون ولا يُشهدون، أي لا تُشهد جنائزهم لأنهم ماتوا على غير ملة الإسلام، ولا تؤكل ذبائحهم). قول: طلحة بن مصرِّف: قال الإمام طلحة بن مصرّف رحمه الله: (الرافضة لا تنكح نساؤهم، ولا تؤكل ذبائحهم، لأنهم أهل ردة). قول: الفريابي: روى الخلال قال: أخبرني حرب بن إسماعيل الكرماني، قال: حدثنا موسى بن هارون بن زياد قال: (سمعت الفريابي ورجل يسأله عمن شتم أبا بكر؟ قال: كافر. قال: فيصلى عليه؟ قال: لا. وسألته كيف يُصنع به وهو يقول لا إله إلا الله. قال: لا تمسوه بأيديكم ارفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته). وقال أيضاً رحمه الله: (ما أرى الرافضة والجهمية إلا زنادقة). قول: محمد بن الحسين الآجري: قال الإمام الآجري (وهو إمام من أئمة الحديث) رحمه الله تعالى: (وقد تقدم ذكرنا لمذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذريتُه الطيبة ينكرون على الرافضة، سوء مذاهبهم، ويتبرؤون منهم، وقد أجلَّ الله الكريم، أهلَ بيتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن مذاهبهم القذرة التي لا تشبه المسلمين). وقال رحمه الله تعالى: (أن الرافضة أسوأ الناس حالة، وأنهم كذبة فجرة، وأن علياً رضي الله عنه، وذريتُه الطيبة أبرياء مما تنحله الرافضة إليهم، وقد برأ الله الكريم علياً رضي الله عنه، وذريتَه الطيبة من مذاهب الرافضة الأنجاس الأرجاس). قول: أحمد بن يونس: قال الإمام أحمد بن يونس: (لو أن يهودياً ذبح شاة، وذبح رافضي لأكلت ذبيحة اليهودي، ولم آكل ذبيحة الرافضي، لأنه مرتد عن الإسلام). قول: أبو زرعة الرازي: قال: (إذا رأيت الرجل، ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعلم أنه زنديق، لأن مؤدى قوله إلى إبطال القرآن والسنة). قول: البربهاري: قال الإمام البربهاري رحمه الله تعالى: (واعلم أن الأهواء كلها ردية، تدعوا إلى السيف، وأردؤها وأكفرها الرافضة، والمعتزلة، والجهمية، فإنهم يريدون الناس على التعطيل والزندقة). قول: الإمام ابن الجوزي: قال رحمه الله تعالى: (وغُلُوُّ الرافضة في حُبِّ علي رضي الله عنه، حملهم على أن وضعوا أحاديث كثيرة في فضائله، أكثرها تُشينه وتؤذيه، ثم لهم خرافات لا يُسندونها إلى مستَنَد، ولهم مذاهب في الفقه ابتدعوها، وخرافات تخالف الإجماع، ومسائلَ كثيرة يطول ذكرها، خرقوا فيها الإجماع، وسوَّل لهم إبليس وضعها). قول: عبد القاهر البغدادي: قال: (وأما أهل الإهواء من الجارودية والهاشمية والجهمية، والإمامية يعني الشيعة الذين أكفروا خيار الصحابة، فإنا نكفرهم، ولا تجوز الصلاة عليهم عندنا، ولا الصلاة خلفهم). وقال أيضاً: (وما رأينا ولا سمعنا، بنوع من الكفر، إلا وجدنا شعبة منه، في مذهب الروافض). قول: ابن حزم الظاهري: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 353 قال ابن حزم: (وأما قولهم- يعني النصارى- في دعوى الروافض تبديلَ القرآن، فإن الروافض ليسوا من المسلمين، إنما هي فرقة حدث أولها، بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، وهي طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى في الكذب والكفر). قول: القاضي عياض: قال رحمه الله تعالى: (نقطع بتكفير غلاة الروافض، في قولهم إن الأئمة أفضل من الأنبياء). قول: السمعاني: قال الإمام السمعاني رحمه الله تعالى: (واجتمعت الأمة، على تكفير الإمامية، لأنهم يعتقدون تضليل الصحابة، وينكرون إجماعهم وينسبونهم إلى ما يليق بهم). قول: شيخ الإسلام ابن تيمية: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (من زعم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت، أو زعم أن له تأويلات باطنة تُسقط الأعمال المشروعة، فلا خلاف في كفرهم، ومن زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر نفساً، أو أنهم فسقوا عامتَهم، فهذا لا ريب أيضاً في كفره، بل من يشكُ في كفر مثلُ هذا، فإن كفره متعين). بل يرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، بوجوب قتال الشيعة، وأن قتالهم أولى وأحق، من قتال الخوارج وأن أئمتهم من الزنادقة، حيث قال: (إنهم شرٌ من عامة أهل الأهواء، وأحق بالقتال من الخوارج، وأيضاً فغالبُ أئمتِهم زنادقة، إنما يظهرون الرفض، لأنه طريق إلى هدم الإسلام، كما فعلته أئمة الملاحدة). وقال أيضاً: (وفي الجملة: فمن جرّب الرافضة، في كتابهم وخطابهم، علم أنهم من أكذب خلق الله). وقال أيضاً في (مجموع الفتاوى): (فإن الذي ابتدع الرفض، كان يهودياً أظهر الإسلام نفاقاً، ودس إلى الجهال دسائس، يقدح بها في أصل الدين، ولهذا كان الرفض، أعظم أبوابِ النفاق والزندقة، ولهذا انضمت إلى الرافضة أئمة الزنادقة من الإسماعيلية والنُصيرية، وأنواعِهم من القرامطة والباطنية، والدرزية، وأمثالهم من طوائف الزندقة والنفاق). وقال أيضاً رحمه الله تعالى في منهاج السنة النبوية ما نصه: (فلينظر كل عاقل، فيما يحدث في زمانه، وما يقرب من زمانه، من الفتن والشرور، والفساد في الإسلام، فإنه يجد معظم ذلك من قِبَل الرافضة، وتجدهَم من أعظم الناس فتناً وشراً). قول: ابن القيم: قال الإمام ابن القيم رحمه الله في (مفتاح دار السعادة) ما نصه: (واقرأ نسخة الخنازير من صور أشباههم ولا سيما أعداء خيار خلق الله بعد الرسل وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذه النسخة ظاهرة في وجوه الرافضة، يقرأها كل مؤمن كاتب وغير كاتب وهي تظهر وتخفى بحسب خنزيرية القلب وخبثه فإن الخنزير أخبث الحيوانات وأردؤها طباعاً ومن خاصيته أنه يدع الطيبات فلا يأكلها ويقوم الإنسان عن رجيعه فيبادر إليه). وقال أيضاً: (وأخرج الروافض الإلحاد والكفر، والقدح في سادات الصحابة، وحزب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأوليائه وأنصاره، في قالب محبة أهل البيت والتعصب لهم وموالاتهم). قول: الذهبي: قال الإمام الذهبي في كتاب (الكبائر) ما نصه: (فمن طعن فيهم أو سبهم، يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد خرج من الدين ومرق من ملة المسلمين). قول: محمد المقدسي: قال الإمام المقدسي: (لا يخفى على كل ذي بصيرة وفهم من المسلمين أن أكثر ما قدمناه من الباب قبلَه من عقائد هذه الطائفة الرافضة، على اختلاف أصنافها كفر صريح، وعناد مع جهل قبيح لا يتوقف الواقف عليه من تكفيرهم، والحكم عليهم بالمروق من دين الإسلام). قول: علي بن سلطان القارئ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 354 قال رحمه الله تعالى: (وأما من سب أحداً من الصحابة، فهو فاسق ومبتدع بالإجماع، إلا إذا اعتقد أنه مباح، كما عليه بعض الشيعة وأصحابهم، أو يترتب عليه ثواب كما هو دأبُ كلامهم، أو اعتقد كفر الصحابة وأهل السنة، فإنه كافر بالإجماع). قول: محمد بن عبد الوهاب: وكذلك حكم الإمام المجدد شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى بكفر الشيعة الاثنا عشرية وذلك لسبهم الصحابة رضوان الله عليهم ولعنهم حيث قال: (فإذا عرفت أن آيات القرآن تكاثرت في فضلهم (يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) والأحاديث المتواترة بمجموعها ناصةٌ على كمالهم، فمن اعتقد فسقهم أو فسق مجموعهم، وارتدادهم وارتداد معظمهم عن الدين، فقد كفر بالله تعالى ورسوله). وقال أيضاً: (وبهذا وأمثاله تعرف أن الرافضة أكثر الناس تركاً لما أمر الله، وإتياناً لما حرمَه، وأن كثيراً منهم ناشىء عن نطفة خبيثة، موضوعة في رحمٍ حرام، ولذا لا ترى منهم إلا الخبيث اعتقاداً وعملاً، وقد قيل كل شيء يرجع إلى أصله). وقال رحمه الله أيضاً: (فهؤلاء الإمامية خارجون عن السنة، بل عن الملة واقعون في الزنا، وما أكثر ما فتحوا على أنفسهم أبواب الزنا، في القبل والدبر، فما أحقهم بأن يكونوا أولاد زنا). قول: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: قال رحمه الله تعالى: (وعندهم المشهد الحسيني وقد اتخذه الرافضة وثناً، بل رباً مدبراً، وخالقاً ميسراً، وأعادوا به المجوسية، وأحيوا به معاهد اللات والعزى، وما كان عليه أهل الجاهلية، وكذلك مشهد العباس ومشهد علي والرافضة يصلون لتلك المشاهد، ويركعون ويسجدون لمن في تلك المعاهد، وقد صرفوا من الأموال والنذور، لسكان تلك الأجداث والقبور، مالا يُصرفُ عُشرُ مِعْشارهِ للملك العلي الغفور وكذلك جميع قرى الشط والمجره على غاية من الجهل، والمعروف في القطيف والبحرين من البدع الرافضية، والأحداث المجوسية، والمقامات الوثنية، ما يضاد ويصادم أصول الملة الحنيفية) انتهى كلامه من كتاب (مجموعة الرسائل والمسائل النجدية). قول: محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ: قال رحمه الله: (وأما مجرد السلام على الرافضة، ومصاحبتِهم ومعاشرتِهم، مع اعتقاد كفرهم وضلالهم، فخطر عظيم، وذنب وخيم، يُخاف على مرتكبه، من موت قلبه وانتكاسه وزوال الإيمان، فلا يجادل في جوازه إلا مغرور بنفسه، مستعبد لفلسه، فمثل هذا يُقابل بالهجر، وعدم الخوض معه في هذه المباحث، التي لا يدريها إلا من تربى بين يدي أهل هذه الدعوة الإسلامية، والطريقة المحمدية). وقال أيضاً: (فهذا حكم الرافضة في الأصل وأما الآن، فحالهم أقبح وأشنع، لأنهم أضافوا إلى ذلك الغلو في الأولياء، والصالحين من أهل البيت فمن توقف في كفرهم والحالة هذه، وارتاب فيه، فهو جاهل بحقيقة ما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، فليراجع دينه قبل حلول رمسه) انتهى كلامه من كتاب (الدرر السنية في الأجوبة النجدية). قول: عبد الرحمن بن حسن: قال رحمه الله تعالى: (فأصل الرافضة، خرجوا في خلافة أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهم الذين أحدثوا الشرك، في صدر هذه الأمة، بنوا على القبور، وعمت بهم البلوى، ولهم عقائد سوء يطول ذكرها) من مجموعة الرسائل والمسائل النجدية. قول: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: قال رحمه الله تعالى: (فهذا حكم الرافضة في الأصل، فأما حكم متأخريِهم الآن، فجمعوا بين الرفض والشرك بالله العظيم، بالذي يفعلونه عند المشاهد، وهم الذين ما بلغهم شرك العرب، الذين بُعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية. قول: سليمان بن سحمان: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 355 قال الإمام رحمه الله تعالى: (وقد تقدم قريباً من كلام أهل السنة، في شأن هؤلاء الأرفاض، من مقالاتهم الشنيعة، وأوضاعهم الخاطئة الكاذبة الوضيعة، ما تمجُّه الطباع، وتستكُ عن سماعه الأسماع، فمن كان ما تقدم ذكره عنهم، هذه نحلته، وهذا دينه، فهم عند جماهير المسلمين ليسوا من أهل الإسلام). وقال أيضاً رحمه الله: (ولم يخالف فيما ذكرناه إلا هؤلاء الملاحدة كالرافضة، والإمامية، وعبّاد القبور والمشاهد، وهؤلاء لا عبرة بخلافهم فيما قالوا من المخرقة والخزعبلات التي لا تفيد، فلا يقول بها إلا كل كفَّار عنيد) انتهى كلامه من كتابه (الحجج الواضحة الإسلامية في رد شبهات الرافضة والإمامية). قول: شاه عبد العزيز الدهلوي: قال الإمام عبد العزيز الدهلوي وهو من محدثي القارة الهندية، بعد أن اطلع على كتب الشيعة الاثنا عشرية ما نصه: (ومن استكشف عقائِدَهم، وما انطووا عليه، علم أن ليس لهم في الإسلام نصيب، وتحقق كفرهم لديه) انتهى كلامه من كتاب (مختصر التحفة الاثنا عشرية). قول: الشوكاني: قال الإمام الشوكاني محدث اليمن: (وبهذا يتبين، أن كل رافضي خبيث، يصير كافراً بتكفيره لصحابي واحد، فكيف بمن كفر كل الصحابة، واستثنى أفراداً يسيرة، تَغطِيةً لما هو فيه، من الضلال) انتهى كلامه من كتاب (نثر الجوهر على حديث أبي ذر). وقال أيضاً: (لا أمانة لرافضي قط، على من يخالفه في مذهبه، ويدين بغير الرفض، بل يستحل ماله ودمه، عند أدنى فرصة تلوح له، لأنه عنده مباح الدم والمال، وكل ما يُظهره من المودة فهو تُقية، يذهب أثره بمجرد إمكان الفرصة) انتهى كلامه من كتابه (طلب العلم). قول: محمد صديق حسن خان القنوجي: قال رحمه الله تعالى: (وأقول ما أصدق هذا الكلام فإنه دل دلالةٌ واضحة صريحة، لا سُترة عليها، على أن الرافضة كفار كفراً بواحاً فينبغي أن يجري حكمُ الكفار عليهم، في جميع المسائل والأحكام، من ترِك المناكحةِ بهم، والجهادِ معهم، والرد على مذهبهم، والإنكار على صنيعهم، والاعتقاد بعدم إسلامهم، وبكونهم أخبث الطوائف في الدنيا) انتهى كلامه من كتابه (الدين الخالص). قول: محمود شكري الألوسي: قال العلامة محمود شكري الألوسي رحمه الله تعالى: (وقد زعم الروافض أن جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، إلا من استثني قد ظلموا ولَعَمْرِي أن كفرهم أشهر من كفر إبليس) انتهى كلامه من كتابه (صب العذاب على من سب الأصحاب). قول: علماء ما وراء النهر: قال الإمام الألوسي صاحب (التفسير) مانصه: (وكالاثنا عشرية، فقد كفرهم معظم علماء ما وراء النهر، وحكموا بإباحة دمائهم، وأموالهم وفروج نسائهم، حيث أنهم يسبون الصحابة رضي الله تعالى عنهم، لاسيما الشيخين رضي الله تعالى عنهما، وهما السمع والبصر منه عليه الصلاة والسلام) من كتاب (صب العذاب على من سب الأصحاب). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 356 قول: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ مفتي الديار السعودية: قال الإمام العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله: (وهؤلاء الروافض قد ارتكبوا بهذا الصنيع عدة جرائم شنيعة، منها الاستهزاء بأفاضل الصحابة رضوان الله عليهم، وسبهم ولعنهم وهذا يدل على خبثهم، وشدة عداوتهم للإسلام والمسلمين، فيجب على المسلمين، أن يغاروا لأفاضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يقوموا على هؤلاء الروافض، قيامَ صدقٍ لله تعالى، ويحاكموهم محاكمة قوية دقيقة، ويوقعوا عليهم الجزاء الصارم البليغ، سواء كان القتل أو غيره) (1).كما أفتى سماحته رحمه الله تعالى بقتل أحد الدعاة من الرافضة الذي قام بتأليف كتاباً ينشر فيه معتقده الخبيث حيث قال رحمه الله: (والذي أراه أنه يسوغ قتل هذا الخبيث تعزيراً، لأن ما أبداه رأس فتنة إن قُطع خمَدت وإن تسوهل في شأنه، عادت بأفظع من هذا الكتاب وقتل مثل هذا تعزيراً، إذا رآه الإمام ردع للمفسدين وحسم لمادة البدعة، وسد لهذا الباب) (2). وقال أيضاً رحمه الله: (فالرافضة أحبت أهل البيت ولكنها غلت حتى صار الروافض هم أئمة كل شرك وخرافة، فهم أول من بنى المساجد على القبور) انتهى كلامه من كتاب (فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية). قول: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، في المملكة العربية السعودية: وهم كل من العلامة عبد العزيز بن باز، والعلامة عبد الرزاق عفيفي، والعلامة عبد الله بن غديان، والعلامة عبد الله بن قعود حيث وُجه إلى اللجنة الدائمة سؤال عن حكم أكل ذبائح جماعة من الجعفرية الإمامية الاثنا عشرية، فأجابت اللجنة بقولها: (إذا كان الأمر كما ذكر السائل، من أن الجماعة الذين لديه من الجعفرية، يدعون علياً والحسن والحسين وسادتِهم، فهم مشركون مرتدون عن الإسلام والعياذ بالله، لا يحل الأكل من ذبائحهم، لأنها ميتة ولو ذكروا عليها اسم الله). وقالت اللجنة في جوابٍ آخر ما نصه: (إذا كان الواقع كما ذكرت، من دعائهم علياً والحسن والحسين ونحوهم، فهم مشركون شركاً أكبر يُخرج من ملة الإسلام، فلا يحل أن نزوجهم المسلمات، ولا يحل لنا أن نتزوج من نسائهم، ولا يحل لنا أن نأكل من ذبائحهم). كما أجابت اللجنة الدائمة في جوابٍ آخر عن حكم من يعتقد أن القرآن قد وقع فيه التحريف كما تعتقده الشيعة الإمامية بقولها ما نصه: (ومن قال إنه غيرُ محفوظ، أو دخله شيء من التحريف، أو النقص فهو ضال مضل، يستتاب فإن تاب، وإلا وجب على ولي الأمرِ قتلُه مرتداً ولهذا أنكر علماء الإسلام على الشيعة الباطنية زعمهم أن القرآن الذي بين أيدي المسلمين ناقص، وأن الذي عندهم هو الكامل، وهذا من أبطل الباطل) انتهى كلامهم من (فتاوى اللجنة الدائمة). قول: مؤتمر رابطة العالم الإسلامي الثالث: حيث جاء في بيانه الصادر في ربيع الأول لعام 1408هـ‍ مانصه: (لقد تبين للمشاركين في المؤتمر، أن الخميني داعيةَ ضلال، جر على المسلمين من المصائب والفتن، ما مزق الشمل، وأن منهجه خارجٌ على الإسلام وتعالِيمه، ويشكل خطورة على أمة الإسلام، لذا فإنهم يطلبون الحكام والمنظمات، والشعوب الإسلامية، بمقاطعته على مختلف المستويات، والتصدي لتحركاته على الساحة الإسلامية). قول: عبد العزيز بن عبد الله بن باز:   (1) ((فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم)) (1/ 249 - 250). (2) ((فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم)) (1/ 251). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 357 قال العلامة الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى في الشيعة الاثنا عشرية ما نصه: (وأفيدكم بأن الشيعة فرقٌ كثيرة، وكل فرقة لديها أنواع من البدع، وأخطرُها فرقة الرافضة الخمينية الاثنا عشرية، لكثرة الدُعاة إليها، ولما فيها من الشرك الأكبر، كالاستغاثة بأهل البيت، واعتقاد أنهم يعلمون الغيب، ولا سيما الأئمة الاثنا عشر حسبَ زعمهم، ولكونهم يكفرون ويسبون غالب الصحابة، كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما نسأل السلامة مما هم عليه من الباطل) (مجموع فتاوى ومقالات عبد العزيز بن باز) 4/ 439. قول: محمد ناصر الدين الألباني: قال العلامة المحدث الألباني، مجيباً لسؤالٍ وُجه إليه، عن حُكمه في المدعو الخميني ما نصه: (فقد وقفت على الأقوال الخمسة التي نقلتموها عن كتب المسمى ب‍ـ (روح الله الخميني) راغبين مني بيانَ حكمي فيها، وفي قائلها، فأقول وبالله تعالى وحده أستعين: إن كل قول من تلك الأقوال الخمسة كفر بواح، وشرك صراح، لمخالفته للقرآن الكريم، والسنة المطهرة، وإجماع الأمة، وما هو معلوم من الدين بالضرورة. ولذلك فكل من قال بها، معتقداً، ولو ببعض ما فيها، فهو مشرك كافر، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) انتهى كلامه من كتاب (الشيعة الإمامية الاثنا عشرية في ميزان الإسلام) لربيع السعودي. قول: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين: قال الشيخ عبد الله الجبرين: (فالرافضة بلا شك كفار ومن شك في ذلك فليقرأ كُتبَ الرد عليهم، ككتاب القفاري في تفنيد مذهبهم، وكتاب (الخطوط العريضة)، وكتاب إحسان إلهي ظهير وغيرها) انتهى كلامه من كتاب (اللؤلؤ المكنون). المصدر: موسوعة فرق الشيعة لممدوح الحربي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 358 مراجع للتوسع: من مراجع فرقة الشيعة كتاب (الكافي): للكليني. ((فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب)): للطبرسي. (تحرير الوسيلة): للخميني. كتاب (الغيبة): للطوسي. ولاية (الفقيه): للخميني. (الشعائر الحسينية): للشيرازي. (فرق الشيعة): للنوبختي. (مختصر التحفة الاثني عشرية) ... للآلوسي. (الفقه الجعفري وأصوله): للسالوس. (الرد على الرافضة): للمقدسي. (المراجعات): للعاملي مع الرد عليها للزعبي. (وجاء دور المجوس): للغريب. (أمل والمخيمات الفلسطينية): للغريب. (الخميني بين التطرف والاعتدال): للغريب. (أبرهة الجديد): لقنديل. (سراب في إيران): للأفغاني. (الثورة البائسة): للموسوي. (الشيعة في الميزان): للنجرامي. (الشيعة وتحريف القرآن): لمحمد مال الله. (الشيعة والتصحيح): للموسوي. (عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام): لسليمان حمد العودة. (عبد الله بن سبأ حقيقة لا خيال): لسعدي الهاشمي. (السبئيون منهجاً وغاية): د. حمدي عبد العال. إحسان إلهي ظهير في كتبه: (الشيعة والسنة). (الشيعة وأهل البيت). (الشيعة والقرآن). (الشيعة والتشيع). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 359 المبحث الأول: نشأة حزب الله في لبنان تأسَّس حزب الله الشيعي في لبنان عام 1982م، ولكنه دخل معترك السياسة عام 1985م. وقد ولد هذا الحزب من رحم حركة أمل الشيعية اللبنانية المدعومة من إيران. وقد تسمى بدايةً باسم (حركة أمل الشيعية) ثم تسمّى بـ (أمل الإسلامية) رغبةً في توسيع نطاقه ليشمل الأمّة الإسلامية، لأن دور حركة أمل اقتصر على النطاق الشيعي السياسي اللبناني، وتكون (أمل الإسلامية) هي من يتولّى نشر التشيّع في لبنان والعالم الإسلامي، وأخذ صورة المناضل المقاوم الذي يحمل همّ الدفاع عن الأمّة وحماية مقدّساتها. ونظراً لما اقترنت به (حركة أمل الشيعية) من أعمال وحشية وجرائم بشعة لا تخوّل وليدها (أمل الإسلامية) من استلام مهام الدفاع عن الأمة، وخشيةً من هذا فقد كُوّن حزبٌ جديد، وهو ما يُعرف اليوم بـ (حزب الله) (1). وبعد تغيير الاسم؛ تُلمَّع الشخصيات ويَصنع الإعلام أبطالاً وهميين لقتلة الأمس، وسفّاحي صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة، فهؤلاء هم المجاهدون الفاتحون اليوم!! إنّها عملية يُراد ترويجها على الأمة وعلى البسطاء، الذين لا يفقهون الدين، ولا يعلمون العقيدة الصحيحة، ولا يقرؤون التاريخ، بل يَحكمون على الناس من خلال وسائل الإعلام المضلّلة التي لا تبني الأمجاد على أسس علمية صحيحة ولا على حوادث وحقائق واقعية. من هنا جاء الحزب ليلعب دوراً خطيراً في الأمة الإسلامية أعمّ وأشمل من دور أٍُمِّهِ (أمل الشيعية)، التي اتخذت مسار الاهتمام بالطائفة الشيعية من ناحية سياسية بلباسٍ علماني (2). المصدر: ماذا تعرف عن حزب الله لعلي الصادق – ص 9   (1) انظر كتاب: ((أمل والمخيمات الفلسطينية)) (ص: 181). (2) هذا في الظاهر وذلك لأن الأحداث الأخيرة أثبتت مدى التلبّس بالطائفية الحاقدة والعصبية القذرة بما يُظهر أنّ حركة أمل وحزب الله وجهان لعملة واحدة، ألا وهي الحقد الرافضي الدفين على أهل السنة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 360 المبحث الثاني: مؤسس حركة أمل مؤسس حركة أمل هو: موسى الصدر، إيراني الجنسية، من مواليد عام 1928م، تخرَّج من جامعة طهران، ووصل إلى لبنان عام 1958م، وقد حصل على الجنسية اللبنانية بعد أن منحه إياها فؤاد شهاب بموجب مرسوم جمهوري مع أنه إيراني ابن إيراني (1)!! وهو تلميذ الخميني وتربطه أقوى الصلات به، فابن الخميني أحمد متزوج من بنت أخت موسى الصدر، وابن أخت الصدر مرتضى الطبطبائي متزوج من حفيدة الخميني. لقد قام موسى الصدر بتأسيس منظمة (أمل) المسلحة في الجنوب وبيروت والبقاع، وكانت هذه المنظمة متعاونة مع القوات الوطنية ... المصدر: ماذا تعرف عن حزب الله لعلي الصادق – ص 11   (1) ((أمل والمخيمات الفلسطينية)) (ص: 31). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 361 المطلب الأول: الرؤساء المرشحون سعت إيران إلى تأسيس حركة جديدة تسمى (حزب الله) على يد محمد حسين فضل الله والملقب بـ (خميني لبنان)، وصبحي الطفيلي، وحسن نصر الله وإبراهيم الأمين وعباس موسوي ونعيم قاسم وزهير كنج ومحمد يزبك وراغب حرب (1). وسرعان ما تفجر الوضع بين هؤلاء بسبب محاولة كل طرف بسط نفوذه على مناطق الشيعة في لبنان؛ فاقتتل الطرفان - حركة (أمل) و (حزب الله) - قتالاً شرساً، حتى تمكَّن (حزب الله) من بسط نفوذه على أغلب مناطق الجنوب، وازدادت شعبيته بين أبناء الشيعة بسبب ما يقدمه من خدمات اجتماعية كبيرة لأبناء الشيعة في المنطقة بمساعدات سخية من الدولة الإيرانية. وهذا الحزب (حزب الله) يُعدُّ في زمننا الحاضر من أشد الفتن على أبناء السُّنة والجماعة في العالم، فظاهره جهاد أعداء الله من اليهود والنصارى، وحقيقته الدعوة إلى التشيع وتصدير الثورة الخمينية الإيرانية للعالم الإسلامي. المصدر: ماذا تعرف عن حزب الله لعلي الصادق – ص21   (1) انظر كتاب: ((حزب الله من الحلم الأيديولوجي إلى الواقعية السياسية)) لغسان العزي (ص: 32)، و ((أمل والمخيمات الفلسطينية)) (ص: 179). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 362 المطلب الثاني: مرجعية الحزب لا نغالي إذا قلنا إن حزب الله هو حزب إيراني في لبنان، ففي البيان التأسيسي (1) للحزب، الذي جاء بعنوان (من نحن وما هي هويتنا؟) عرّف الحزب عن نفسه فقال: " ... إننا أبناء أمّة حزب الله التي نصر الله طليعتها في إيران، وأسست من جديد نواة دولة الإسلام المركزيّة في العالم ... نلتزم بأوامر قيادة واحدة حكيمة عادلة تتمثّل بالولي الفقيه الجامع للشرائط، وتتجسد حاضراً بالإمام المسدّد آية الله العظمى روح الله الموسوي الخميني دام ظلّه مفجّر ثورة المسلمين وباعث نهضتهم المجيدة .. "، وقد عبّر إبراهيم الأمين (قيادي في الحزب) عن هذا التوجّه عام 1987 فقال: "نحن لا نقول إننا جزء من إيران؛ نحن إيران في لبنان، ولبنان في إيران" (2). المصدر: ماذا تعرف عن حزب الله لعلي الصادق – ص 22 فقد قيل لـ حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله: إن دور حزبه لن ينتهي؛ لأنه حزب مستورد من الخارج، (سوريا أو إيران) فقال: لنكن واضحين ونحكي الحقائق: الفكر الذي ينتمي إليه "حزب الله" هو الفكر الإسلامي، وهذا الفكر لم يأت من "موسكو" أيام الاشتراكية ولا من "لندن وباريس" ولا حتى من "واشنطن" في زمن الليبرالية، هو فكر الأمة التي ينتمي إليها لبنان، إذاً نحن لم نستورد فكراً، وإذا كان من يقول: إن الفكر إيراني. أقول له: إن هذه مغالطة؛ لأن الفكر في إيران هو الفكر الإسلامي الذي أخذه المسلمون إلى إيران، وحتى هذا الفكر خاص بعلماء جبل عامل. اللبنانيون هم الذين كان لهم التأثير الكبير في إيران على المستوى الحضاري والديني في القرون السابقة؛ أين هو الاستيراد؟ هذا الحزب كوادره وقياداته وشهداؤه لبنانيون. وفي إحدى الاحتفالات التأبينية التي تقام في لبنان قال إمام جمعية مسجد الإمام المهدي الشيخ حسن طراد: "إن إيران ولبنان شعب واحد وبلد واحد"، وكما قال أحد العلماء الأعلام: "إننا سندعم لبنان كما ندعم مقاطعاتنا الإيرانية سياسياً وعسكرياً". وفي مناسبة تأبينية أخرى قال الناطق باسم حزب الله ـ ذاك الوقت ـ إبراهيم الأمين: "نحن لا نقول: إننا جزء من إيران؛ نحن إيران في لبنان ولبنان في إيران". ويقول محمد حسين فضل الله المرشد الروحي لحزب الله: "إن علاقة قديمة مع قادة إيران الإسلامية بدأت قبل قيام الجمهورية الإسلامية، إنها علاقة صداقة وثقة متبادلة، ورأيي ينسجم مع الفكر الإيراني ويسير في نفس سياسته". ويقول حسن نصر الله: "إننا نرى في إيران الدولة التي تحكم بالإسلام والدولة التي تناصر المسلمين والعرب. وعلاقتنا بالنظام علاقة تعاون، ولنا صداقات مع أركانه ونتواصل معه، كما إن المرجعية الدينية هناك تشكل الغطاء الديني والشرعي لكفاحنا ونضالنا". ويُؤَمِّن على كلام أمين الحزب مساعد وزير الخارجية الإيرانية للشؤون العربية والإفريقية، د. محمد صدر فيقول: "إن السيد حسن نصر الله يتمتع بشعبية واسعة في إيران كما تربطنا به علاقات ممتازة". وقد حذر علي خامنئي مرشد الثورة من إضعاف المقاومة الإسلامية وقال: "إنه يجب التيقظ ومنع الأعداء من ذلك، إن شعلة المقاومة يجب أن لا تنطفئ؛ لأن أولئك الأبطال واجب على إيران مساعدتهم". فهكذا يتبين الترابط المتكامل بين إيران الثورة وحزب الله وشيعة لبنان، فقد أصبحت إيران الأم الرؤوم والمحضن الدافئ والمرعى الخصيب والنموذج الذي يتطلع إليه عموم الشيعة؛ فهي القبلة الدينية والسياسية لهم. المصدر: حزب الله رؤية مغايرة لعبد المنعم شفيق   (1) انظر ميثاق الحزب في كتاب: ((حزب الله رؤية مغايرة)) (ص: 226 وما بعدها). (2) جريدة ((النهار)) 5/ 3/1987. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 363 المطلب الثالث: حسن نصر الله رئيساً للحزب حسن عبد الكريم نصر الله من مواليد 21 أغسطس 1960م،، سافر إلى النجف في العراق عام 1976م لتحصيل العلم الديني الإمامي، عيِّن مسؤولاً عن حركة (أمل) في بلدة البازورية في قضاء صور، وعيِّن مسؤولاً سياسياً في حركة (أمل) عن إقليم البقاع وعضواً في المكتب السياسي عام 1982م، ثم ما لبث أن انفصل عن الحركة وانضم إلى حزب الله، وعيِّن مسؤولاً عن بيروت عام 1985م (1)، ثم عضواً في القيادة المركزية وفي الهيئة التنفيذية للحزب عام 1987م، واختير أميناً عاماً على إثر اغتيال الأمين العام السابق عباس الموسوي عام 1992م مكملاً ولاية سلفه، ثم أعيد انتخابه مرتين عام 1993 - 1995م (2). وأما صلة نصر الله بمنظمة (أمل) فهي على النحو التالي: منظمة (أمل) - كما سبق - أنشأها موسى الصدر وله من الصلة الوثيقة بالخميني ما له. في 8/ 10/1983م، أعلن المفتي الجعفري عبد الأمير قبلان باسم المجلس الشيعي الأعلى ما يلي: "إن حركة (أمل) هي العمود الفقري للطائفة الشيعية، وإن ما تعلنه (أمل) نتمسك به كمجلس شيعي أعلى، ومن ثم فإن ما يعلنه المجلس الشيعي تتمسك به الحركة" (3).وقد بايعت (حركة أمل) الزعيم الشيعي (الخميني) وأعلنته إماماً لها وللمسلمين في كل مكان (4)! جاء هذا التأييد للحركة بعد الانشقاق الذي خرجت به (أمل الإسلامية) (حزب الله فيما بعد) وبعد الحضور الفعلي لـ (حزب الله) على أرض الصراع. وكان حسين الموسوي وهو نائب رئيس حركة (أمل) قد أعلن عن انشقاقه عن منظمة أمل وأعلن (أمل الإسلامية) التي تحولت فيما بعد إلى (حزب الله) (5). وبهذا يتضح أنه لم يكن هناك إبعاد كبير لـ (حركة أمل) بقدر ما هو زحزحة من الصورة العسكرية والمواجهة إلى الساحة السياسية واستبقاؤها لأدوار أخرى تتوافق والمتغيرات السياسية لإيران وملفاتها في لبنان .. إن قضية حسن نصر الله لا تحتاج إلى كثير بحث .. فهو شيعي جعفري ينتهج من شتم الصحابة ولعنهم ديناً وقربة إلى الله .. وقد صرّح الشيخُ يوسف القرضاوي في لقاءٍ معه أن (حسن نصر الله) شيعي متشدّد (6). وبعد هذه الأعمال والمخازي من حركة (أمل) الشيعية، والتي لا يمكن للناس أن يثقوا بها أو يقبلوا شيئاً منها؛ نتج منها هذا الحزب (حزب الله)، فكيف يمكن للمسلمين الصادقين أن يثقوا به؟! وإن حصل بينهم قتال شرس وطاحن قبل سنوات، فهذا هو حال أهل الباطل وديدنهم منذ قديم الزمان، فقد قال الله تعالى عن أمثالهم - وهم اليهود -: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ [الحشر: 14]، وقال أيضاً: وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [المائدة: 64]، وقال عن أمثالهم من النصارى: فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [المائدة: 14]. المصدر: ماذا تعرف عن حزب الله لعلي الصادق – ص 23   (1) أين حسن نصر الله من تلك المذابح التي ارتكبتها (حركة أمل) في المخيّمات الفلسطينية، وأين حسن نصر الله من مذبحة صبرا وشاتيلا، وهو الذي ينادي في خطاباته الإعلامية بنُصرة الفلسطينيين ضد اليهود المعتدين!! (2) وردت هذه الترجمة لنصر الله في مقدمة حواره مع مجلة ((الشاهد السياسي)) (العدد 147 3/ 1/1999 م). (3) مجلة ((المستقبل)) (عدد 346، تاريخ 8/ 10/1983)، نقلاً عن: ((أمل والمخيمات الفلسطينية)) (ص: 184). (4) مجلة ((الأيكونوميست)) (4/ 5/1982 م). (5) انظر عن الانشقاق وأسبابه بين أمل وحزب الله في كتاب ((حزب الله رؤية مغايرة)) (ص: 117 – 122)، وكذلك كتاب ((حزب الله من الحلم الإيديولوجي إلى الواقعية السياسية)) (ص 23، 53 – 56). (6) جريدة ((الوطن)) (عدد 2165، 3/ 9/2006 م)، وتحدّث الشيخ يوسف القرضاوي في نفس اللقاء عن خطورة التمدد الشيعي في المنطقة وبالذات مصر، وحمّل المراجع الشيعية مسؤولية حمّام الدم والتطهير الطائفي والعرقي في العراق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 364 المبحث الرابع: أهداف حزب الله الأهداف المعلنة للحزب: أنه حركة مقاومة إسلامية ضد الاحتلال الإسرائيلي للبنان ورفع شعار تحرير المقدسات الإسلامية في فلسطين للتغرير بالمسلمين وصرف أنظارهم عن مخططات الحزب الخفية، ولاستمالة قلوبهم وتعاطفهم، وقد زادت شعبية هذا الحزب بين الناس بسبب ما قدَّمه من خدمات اجتماعية وإنسانية بدعم من حكومة إيران. أما الأهداف غير المعلنة فهي: نشر التشيع في لبنان، والحفاظ على الوجود الشيعي الدائم في هذا البلد، والسيطرة على منافذ القوة فيه، وتهيئة موطئ قدم لإيران للتدخل في المنطقة متى تشاء لتحقيق مصالحها وأهدافها القومية والدينية. وكذلك ضرب البنية التحتية للبنان، وجرّه إلى حرب ليتسنّى لهذا الحزب السيطرة على لبنان وهذا جزء من تصدير الثورة الإيرانية إلى العالم الإسلامي، ومن أجل إقامة دول الهلال الشيعي حسب ما يخططون ويسعون له. المصدر: ماذا تعرف عن حزب الله لعلي الصادق – ص 71 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 365 المبحث الخامس: حزب الله وإسرائيل .. شقاق أم وفاق • المطلب الأول: الانسحاب الإسرائيلي وقواعد اللعبة . • المطلب الثاني: حزب الله .. هل يسعى لتحرير فلسطين؟. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 366 المطلب الأول: الانسحاب الإسرائيلي وقواعد اللعبة أما الاتفاق الأخطر، والذي يكشف حقيقة حرب حزب الله، فهو الاتفاق الذي سبق الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في عام 2000، وهو الاتفاق الذي أشار إليه حسن نصر الله في خطاباته بقواعد اللعبة، وأبرز بنود هذا الاتفاق تتمثل في النقاط التالية: المرحلة الثانية بند (أ) يقوم الجيش الإسرائيلي بسحب قواته كافة من كامل الأراضي اللبنانية والحزام الأمني إلى الحدود الدولية في مدة لا تتعدى ثلاثة أشهر تحت إشراف ممثل الأمين العام للأمم المتحدة وفقا للقرارات الدولية المتعلقة بجنوب لبنان وإنهاء حالة الحرب هناك، كما يقوم جيش الدفاع الإسرائيلي بحل وتفكيك مليشيات جيش لبنان الجنوبي، ولا يشمل الانسحاب مزارع شبعا على أساس أنها أرض سورية، مرتبطة أمنيا بهضبة الجولان، وأمن دولة إسرائيل. فقرة (ب) تقوم ميليشيات حزب الله بتسلم المواقع العسكرية والأمنية من جيش الدفاع الإسرائيلي، وجيش لبنان الجنوبي فورا بعد إخلائها؛ للحيلولة دون وقوعها بأيدي منظمات فلسطينية أو إرهابية معادية لإسرائيل. فقرة (ج) يتعهد الجيش الإسرائيلي بعدم استهداف أعضاء أو مؤسسات تابعة لهذا الحزب، وأن يسمح للحزب بتحريك أسلحته الثقيلة في المنطقة الحمراء للحفاظ على الأمن والهدوء. فقرة (د) أن تعمل ميليشيا حزب الله على الانتشار في المنطقة الحمراء كلها "الحزام الأمني" حتى الشريط الحدودي بين لبنان ودولة إسرائيل وإحلالها مكان ميليشيا جيش لبنان الجنوبي بعد حل الأخرى. فقرة (و) أن يعمل الحزب على ضمان الأمن في هذه المناطق التي ستصبح تحت سيطرته، وذلك "بمنع المنظمات الإرهابية من إطلاق الصواريخ على شمالي إسرائيل"، ووقف التسلل، واعتقال العناصر التي تهدد أمن حدود إسرائيل الشمالية، وتسليمهم إلى السلطات اللبنانية لمحاكمتهم، كما يتعهد الحزب بمنع الأنشطة العسكرية وغير العسكرية لمنظمات إرهابية فلسطينية أو لبنانية معادية لإسرائيل في المنطقة الحمراء. فقرة (هـ) تنسق الحكومة اللبنانية والسورية مع حزب الله على تنفيذ الاتفاق كما تتعهد إيران بكونها المرجع والمؤثر القوي لحزب الله بضمان الاتفاق والمساهمة الفعالة في تثبيت الأمن في هذه المنطقة. وتتعهد الحكومة اللبنانية والسورية بعدم ملاحقة، أو محاكمة أعضاء جيش لبنان الجنوبي وأن تقدما المساعدة على دمجهم بالمجتمع وتوفير المساعدة والحماية اللازمة لمن يرغب منهم العودة إلى بيته، وبناء عليه ستقوم كل من إيران وأمريكا بالسعي لحل مشكلة الأموال الإيرانية المجمدة في الولايات المتحدة التي تطالب بها إيران اهـ. نقلا عن مقال: "حزب الله على أي أساس يقاتل" للأستاذ عبد المنعم شفيق في مجلة ((البيان)) (عدد رمضان 1427). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 367 المطلب الثاني: حزب الله .. هل يسعى لتحرير فلسطين؟ مع أنه أتى في ميثاق حزب الله أنه "يجب إزالة إسرائيل من الوجود" ويدعو لتوحد العرب والمسلمين – كما يقولون – لتحرير فلسطين كلها "من النهر إلى البحر" إلا أن ما سبق وعرضناه من تفاهمات واتفاقيات بين حزب الله وإسرائيل، تؤكد أن فلسطين ليست على خريطة حزب الله، وهو ما أكده نصر الله في الخطاب الذي ألقاه في بنت جبيل عقب الانسحاب الإسرائيلي، حيث أشار نصر الله إلى أن حزب الله لن يشارك في أي عمل عسكري ضد إسرائيل لهدف تحرير فلسطين (1). وقد تكرس التزام حزب الله بضوابط الصراع مع إسرائيل حتى أثنت عليه إسرائيل في ذلك الشأن، حيث كانت صحيفة ((هارتز)) (بتاريخ 6/ 7/2006) قد امتدحت الأمين العام لحزب الله بسبب عقلانيته وتحمله للمسؤولية وأنه حافظ على الهدوء في الجليل الأعلى بشكل أفضل من جيش لبنان الجنوبي. وبينما اشتكى الأمين السابق لحزب الله "صبحي الطفيلي" من إعاقة حزب الله لعمليات المقاومة ضد إسرائيل عقب الانسحاب الإسرائيلي، واصفاً حزب الله بأنه خفر حدود لصالح إسرائيل. فإننا نجد الموارنة النصارى في لبنان يمدحون هذا السلوك من حزب الله، حيث يقول ميشال سماحة وزير الإعلام اللبناني: "إن حزب الله قد جعل الحياة مستقرة في جنوب لبنان بسيطرته على الأنشطة العنيفة لمئات الآلاف من الفلسطينيين الذين يعيشون في مخيمات اللاجئين القذرة المتناثرة في أنحاء المنطقة ورصدها أحياناً". وأضاف سماحة: "إن أمريكا وقعت في خطأ بعدم سعيها إلى التفاهم مع حزب الله"، وأشار سماحة إلى أن الجماعة ملتزمة بإصرار سوريا على منعها منفذي العمليات الانتحارية الفلسطينيين المحتملين عبور الحدود إلى إسرائيل. ولنا أن نتساءل إذا كان حزب الله يسعى لتحرير فلسطين فلماذا دوماً لا تنطلق عملياته العسكرية إلا على فترات وفي ظروف يكون مؤسسيه سواء إيران أو سوريا في حاجة لورقة خارجية تخفف الضغط عنهما. وإذا كان حزب الله يسعى لتحرير فلسطين فكيف يعد إسرائيل بعدم القيام بأية حرب أخرى كما صرح بذلك في لقائه مع فضائية “ New TV” عقب انتهاء الحرب الأخيرة. كما أن من عجيب أمر حزب الله أنه ما فتئ أيام الحرب من التهديد بضرب حيفا وما بعد حيفا، غير أننا فوجئنا بعدم إقدامه على ضرب حيفا إلا بعد قيام إسرائيل بنقل مصفاة حيفا الكيمياوية، فمصفاة حيفا وتل أبيب اللتان تقعان ضمن مدى صواريخ الحزب قد "حيّدتا" "اللفظ لحسن نصر الله" ولم تقصفا طوال الحرب. وقد كانت وزيرة الخارجية الأمريكية كونادليزا رايس قد طلبت من إيران الضغط على حزب الله بعدم قصف الهدفين، وهو الحلقة الأهم في هذا الصراع. حاجة إسرائيل إلى حزب الله:   (1) جريدة ((الأنباء)) (العدد: 8630، 27/ 5/2000م). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 368 على الرغم من نزوات حزب الله الهجومية ضد إسرائيل، إلا أن حزب الله يبقى هو الأفضل لبقاء إسرائيل، أخذاً في الاعتبار ما قاله الطفيلي وأكدته صحيفة ((هآرتز))، مضافاً إليه الضعف الأمني للدولة اللبنانية، فإن الاستئصال الأمني الكامل لحزب الله لن يصب في المصلحة الأمنية لإسرائيل، فزوال الحزام الأمني العازل الذي يشكله الحزب بين إسرائيل وباقي لبنان، الذي حفظ السلام في الجليل الأعلى، يعني عودة التماس الجغرافي مع قطاعات الشعب اللبناني والفلسطينيين، التي تختلف مع مدرسة الحزب السياسية والمذهبية، ومع رؤيته إلى طبيعة الصراع مع إسرائيل، وهو الأمر الذي احتلت من أجله إسرائيل جنوب لبنان في عام 1982، وأوجدت جيش لبنان الجنوبي، ذو الأغلبية الشيعية، الذي لم يثبت فاعلية في حماية مناطقها الشمالية من عمليات المقاومة الوطنية اللبنانية والفلسطينية التي كانت تنشط قبل وصول حزب الله وتوقفت تماماً بمجيئه. فعلى المدى البعيد نسبياً: فإن زوال حزب الله بالكامل يعني من المنظور الإسرائيلي تحول لبنان إلى منطقة أمنية رخوة، وقبلة لفصائل المقاومة الإسلامية التي تجوب العالم بحثاً عن نقطة تماس مباشرة مع ما تعتبره العدو الحقيقي، وما تعده أيضاً تجسيداً لخطابها السياسي، الذي ينتقده خصومه على أنه ينشط بعيداً عن جغرافية المواجهة الحقيقية، وهو ما فعلته بعد سقوط العراق، وتواجه دوراً من قبل المليشيات الشيعية المحلية والوافدة شبيه بدور حزب الله؛ بعبارة أخرى، ستبقى حاجة إسرائيل قائمة إلى حزام أمني طائفي يعزلها عن محيط الأغلبية ذات المنطلقات والرؤى المختلفة. ولابد أن نشير هنا إلى أن المقاومة الحقيقية في جنوب لبنان والعمليات النوعية التي شهدها الجنوب اللبناني لم يقم بها حزب الله، وذلك باعتراف صبحي الطفيلي أمين حزب الله في تلك الفترة، حيث نفى مسئولية الحزب عنها كما في مقابلته مع "الجزيرة الفضائية" في 23/ 7/2004. ويقول الكاتب اليهودي "آريه ناؤور" (معاريف: 26/ 5/2000): "عندما بدأت حرب لبنان – أي سنة 1982 – سميت "حملة سلامة الجليل" وكان يفترض بالحملة أن تستغرق 48 ساعة، على عمق 40 كيلو متراً، وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيجن لمجموعة من كبار الضباط على مشارف بيروت: "أنتم تعرفون جيداً أنني ما كنت سأصادق على حملة تنطوي على عدد كبير من الإصابات تزيد على بضع عشرات من جانبنا، وبعد وقت قصير من ذلك ارتفع عدد ضحايانا إلى 500"، فأغلق بيجن على نفسه في بيته ولم يجد ما يواسيه، ولم يتهم أحداً، وفي آخر مرة يظهر فيها أمام مركز الليكود قال: "إنه يجري في لبنان مأساة، ومنذئذٍ ارتفع عدد ضحايانا ضعفين وأكثر ... ". وهنا يثور سؤال: من الذي أوقع هذا العدد الكبير من قتلى اليهود الذين بلغوا "500"، كما يقول الكاتب اليهودي "آريه ناؤور"؟!.أما حزب الله فلم يكن قد ظهر إلى الوجود عام 1982، وأما حركة أمل فقد كانت تقف في الطرف المعادي للذين أحسنوا إليها – منظمة التحرير -، فلم يبق إلا أهل السنة من الفلسطينيين واللبنانيين، وما كانت القوات النصيرية بقادرة على منعهم لأنها قابعة على الحدود السورية اللبنانية، بل "إن معظم العمليات النوعية قبل انسحاب الكيان اليهودي من جنوب لبنان، قام بها شباب فلسطينيون من تنظيم الجبهة الشعبية - القيادة العامة - بزعامة أحمد جبريل، حيث قدم هذا التنظيم 750 قتيلا نحسبهم عند الله شهداء من مجموع 1500 قتيل أعلن عنهم الحزب، دون أن يذكر دور هؤلاء المقاتلين الفلسطينيين ولو بالإشارة في يوم من الأيام، فالحزب قد استغل تعطش هؤلاء الشباب لقتال عدوهم – والمغلقة في وجوههم الحدود الغربية – حتى يبني أمجاداً على جماجمهم ... " (1). وبعد الانسحاب الصهيوني من لبنان، عمل حزب الله على تأكيد وفائه بالتزاماته مع إسرائيل، وأحبط العديد من العمليات الفدائية ضد إسرائيل، حتى اشتكى سلطان أبو العينين أمين حركة فتح في لبنان من ذلك، وقال: "لقد أحبط حزب الله أربع عمليات للفلسطينيين خلال أسبوع، وقدمهم للمحاكمة". ويقول أيضا: "نعيش جحيما منذ ثلاث سنوات، ومللنا الشعارات والجعجعة"، وذلك بعد ثلاث سنوات فقط من الانسحاب الصهيوني من جنوب لبنان، والذي اعتبروه نصراً مؤزراً ومجداً تاريخياً. المصدر: حرب لبنان الوعد الصادق أم الوهم الكاذب لوليد نور - ص 71   (1) من مقال "ماذا يجري في لبنان؟ "، للأستاذ محمد أسعد بيوض التميمي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 369 المبحث السادس: هل هناك اتفاقيات سرية بين حزب الله وإسرائيل؟ يقول ضابط إسرائيلي من المخابرات: "إن العلاقة بين إسرائيل والسكان اللبنانيين الشيعة غير مشروطة بوجود المنطقة الأمنية، ولذلك قامت إسرائيل برعاية العناصر الشيعية وخلقت معهم نوعاً من التفاهم للقضاء على التواجد الفلسطيني والذي هو امتداد للدعم الداخلي لحركتي حماس والجهاد" (1).واعترف الأمين العام السابق لحزب الله صبحي الطفيلي (2) فقال: "إن حزب الله هو حرس حدود لإسرائيل" (3). وقال أيضاً صبحي الطفيلي: "مع بداية التسعينات بدأت ملامح التغيير في السياسة الإيرانية .. بتفاهم تموز 1993م، ثم بتفاهم نيسان 1996م، والذي تم الاعتراف فيه وبحضور وزير خارجية إيران آنذاك، بأمن العدو اليهودي في فلسطين .. ومن ذلك الحين بدأ العدو الصهيوني يسعى إلى الانسحاب من لبنان على ضوء هذا التفاهم، لأن التفاهم يفرض على المقاومة أن تقف .. تصل إلى الحدود وتقف".ثم قال: "أريد أن أقول: إن النتيجة لتفاهم نيسان هو أن المقاومة تحولت من: مقاومة - هذه حقيقة (4) - إلى حرس حدود" (5). ولذلك فإسرائيل تحرص على النفوذ الشيعي في جنوب لبنان ليكون حامياً لها ممن يريد الهجوم على إسرائيل من الحدود الشمالية لها. وقد جاء في صحيفة ((الجروزاليم بوست)) في عددها الصادر بتاريخ (23/ 5/1985م): "إنه لا ينبغي تجاهل تلاقي مصالح إسرائيل التي تقوم على أساس الرغبة المشتركة في الحفاظ على منطقة جنوب لبنان، وجعلها منطقة خالية من أي هجمات ضدّ إسرائيل .. إن الوقت حان لأن تعهد إسرائيل إلى (أمل) بهذه المهمّة" (6).ويؤكّد هذا الأمر توفيق المديني فيقول: "حركة (أمل) التزمت من جانبها بمنع رجال المنظمات الفلسطينية من التسلل إلى مناطق الجنوب للقيام بعمليات مسلحة ضد الجيش الإسرائيلي وضد مستوطنات الجليل في شمال فلسطين المحتلّة" (7).وقد أكّد هذا الأمر الأمين العام السابق لحزب الله: صبحي الطفيلي، حيث يقول: "من أراد أن يتثبّت - يعني من كون حزب الله أصبح حامياً لحدود إسرائيل كما سبق -، فباستطاعته أن يأخذ سلاحاً ويتوجّه إلى الحدود، ويحاول أن يقوم بعملية ضدّ العدو الصهيوني، لنرى كيف يتصرّف الرجال المسلحون هناك! لأن كثيرين ذهبوا إلى هناك، والآن هم موجودون في السجون!، اعتقلوا على يد هؤلاء المسلحين" (8). "فإسرائيل لم تكن تسعى إلى القضاء على حزب الله وتدميره، ليس لقدراته وقوته، ولكن لأنه حزبٌ منضبط، على الرغم من الانزعاج الذي يسبّبه في بعض الأحيان، إلا أن زوال حزب الله من جنوب إسرائيل كفيلٌ بصعود مقاومة سنّية بديلة، وهو أمرٌ لا تقبله إسرائيل. ومن أجمل ما قيل: أن من مصلحة إسرائيل بقاء حزب الله، ومن مصلحة حزب الله بقاء إسرائيل. فالمشروع الشيعي - وإن كان مزعجاً للمشروع الصهيوني الأمريكي - إلا أنّه يبقى مشروعاً منضبطاً لا يرفض التعاون والتفاوض، بل قد يبادر إلى التعاون، مثلما حدث من إيران في أفغانستان والعراق، ومثلما حدث من حزب الله قديماً عندما عمل على إحباط هجمات المقاومة من جنوب لبنان. أما المشروع السنيَّ للمقاومة، فهو مشروع مزعجٌ ولا يقبل التفاوض أو المساومة، والوقائع على ذلك كثيرة، بدءً من طالبان في أفغانستان وانتهاءً بالمقاومة الفلسطينية، ومروراً بالمقاومة العراقية" (9). المصدر: ماذا تعرف عن حزب الله لعلي الصادق – ص 101   (1) صحيفة ((معاريف)) اليهودية (8/ 9/1997م). (2) صبحي الطفيلي كان الأمين العام السابق لحزب الله، وانفصل عنهم بعدما رأى أن الحزب انصرف من أهدافه المعلنة في المقاومة إلى خدمة المصالح السورية والإيرانية، بل وأصبح حامياً وحارساً لحدود إسرائيل الشمالية، ويمنع أي مجاهد أو فدائي يريد الذهاب لإسرائيل عبر تلك الحدود. (3) انظر: صحيفة ((الشرق الأوسط)) في تاريخ 29 رجب 1424 هـ، الموافق: 25/ 9/2003 م العدد (9067)، وكذلك لقاءه التلفزيوني في قناة new tv ضمن برنامج (بلا رقيب) أواخر عام 2003. (4) الكلام لا زال لصبحي الطفيلي. (5) لقاؤه التلفزيوني في قناة new tv ضمن برنامج (بلا رقيب) - أواخر عام 2003 م. (6) نقلاً عن كتاب ((أمل والمخيّمات الفلسطينية)) (ص: 162). (7) كتاب ((أمل وحزب الله في حلبة المجابهات)) (ص: 83). (8) لقاء تلفزيوني مع صبحي الطفيلي في قناة new tv ضمن برنامج (بلا رقيب) أواخر عام 2003. (9) من مقال لوليد نور في موقع ((مفكرة الإسلام))، بعنوان: "الوعد الصادق ينتهي بوهمٍ كاذب"، بتاريخ: 17/ 8/2006م، وانظر أيضاً: مقال ربيع الحافظ في ((مفكرة الإسلام))، بعنوان: "حزب الله والمساحات الخالية" 26/ 8/2006 م. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 370 المبحث السابع: علاقة حزب الله بإيران بالرغم مما يؤكده قادة الحزب بأنه لبناني ونشأ لبنانياً وجاء الدور السوري والإيراني لاحقاً، إلا أن المعطيات تؤكد أن إيران لعبت دوراً أساسياً في ولادته ونشأته ونموه، وتصريحات قادة الحزب وميثاق الحزب تؤكد دوماً التبعية للثورة الإيرانية ومرشدها، وصور قادة إيران وعلمها تسيطر على مرافق وفعاليات الحزب. وتتميز العلاقة بين حزب الله وإيران بتداخل البعدين السياسي والديني فيها، فاللبنانيون الشيعة الذين يمثلون كوادر حزب الله تربطهم بالمرجعيات الدينية الإيرانية روابط روحية عميقة، ويعتبر مرشد الثورة الإيرانية آية الله علي خامئني أكبر مرجعية دينية بالنسبة لهم، ويسمى أمين عام حزب الله حسن نصر الله الوكيل الشرعي لآية الله خامئني. يقول حسن نصر الله:"إننا نرى في إيران الدولة التي تحكم بالإسلام، والدولة التي تناصر المسلمين والعرب وعلاقتنا بالنظام علاقة تعاون، ولنا صداقات مع أركانه ونتواصل معه، كما أن المرجعية الدينية هناك تشكل الغطاء الديني والشرعي لكفاحنا ونضالنا" (1). ويقول إبراهيم الأمين الناطق باسم حزب الله:"نحن لا نقول: إننا جزء من إيران؛ نحن إيران في لبنان ولبنان في إيران" (2). ويقول حسن سرور أحد قادة الحزب "نعلن للعالم أجمع أن إيران هي أُمُّنا وديننا وكعبتنا وشراييننا"، ويزيد عباس موسوي: "كلنا أخوة ونقاتل من أجل القضية نفسها، وكل من يحاول التفرقة بينا وبين إخوتنا الإيرانيين أو بين المسلمين عموماً فإنه يرتكب جريمة".وفي ذكرى أسبوع أحد موظفي السفارة الإيرانية ببيروت "مصطفى توراني" قال الشيخ حسن طراد إمام جمعية مسجد الإمام المهدي بالغبيري: إن إيران ولبنان شعب واحد وبلد واحد وكما قال أحد العلماء الأعلام إننا سندعم لبنان كما ندعم مقاطعتنا الإيرانية سياسياً وعسكرياً (3). وقد جاء في بيان صادر عن الحزب في 16 فبراير 1985 أن الحزب "ملتزم بأوامر قيادة حكيمة وعادلة تتجسد في ولاية الفقيه، وتتجسد في روح الله آية الله الموسوي الخميني مفجر ثورة المسلمين وباعث نهضتهم المجيدة".ويقول هاشمي رفسنجاني الرئيس الإيراني السابق ورئيس مجمع تشخيص النظام والرجل القوي في إيران: تعتقد إيران أن مساعدتها لحزب الله في لبنان "واجب مذهبي وثوري" وأنها سوف تستمر في دعمه طالما ظلت أراضيه محتلة أو "مهددة" وأنها مع تقديرها للمواقف الشجاعة لشعب لبنان وحكومته في دعم جبهة المقاومة أمام محاولات التوسع للنظام الصهيوني تؤكد استمرار دعم إيران للمقاومة الشعبية في لبنان (4). الدعم المادي والعسكري والسياسي والإعلامي الإيراني لحزب الله واضح لا لبس فيه، وإن كان يصعب تحديد حجمه، وهناك جهات إيرانية عديدة تعمل في حزب الله: حراس الثورة، وزارة الخارجية، مؤسسة الشهيد، وزارة الإرشاد الإسلامي، وزارة الداخلية، الأجهزة الأمنية الاستخباراتية.   (1) ((مجلة المقاومة)) العدد 27 (ص: 15، 16). (2) ((صحيفة النهار)) 5/ 3/1987. (3) ((جريدة النهار)) 11/ 12/1986م (ص: 5). (4) ((مختارات إيرانية))، العدد 73 (ص: 37). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 371 وبشكل عام نستطيع أن نلخص الدلائل على الدور الإيراني في نشأة حزب الله فيما يلي:1 - نشأ حزب الله في إيران بتأثير ولاية الخميني على الشيعة كافة، يقول نائب الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم: "كان هناك مجموعة من المؤمنين ... تفتحت أذهانهم على قاعدة عملية تركز على مسألة الولي الفقيه والانقياد له كقائد للأمة الإسلامية جمعاء، لا يفصل بين مجموعاتها وبلدانها أي فاصل، ... وذهبت هذه المجموعة المؤلفة من تسعة أشخاص إلى إيران ولقاء الإمام الخميني "قدس" وعرضت عليه وجهة نظرها في تأسيس وتكوين الحزب اللبناني، فأيد هذا الأمر وبارك هذه الخطوات" (1). 2 - ذكرت مجلة الشراع بتاريخ 14/ 8/1995 نقلاً عن ((حزب الله)) د. غسان عزي (ص: 34) " وجود عضوين إيرانيين في قيادة حزب الله!. 3 - حسن نصر الله يشغل منصب الوكيل الشرعي لمرشد إيران الأعلى علي خامنئي، وقد نشرت له عدة صور يقبل فيها يد خامنئي، وقد تساءل البعض ماذا لو تنازعت لبنان مع إيران فلمن سيكون ولاء نصر الله ومن ورائه الحزب والطائفة؟.4 - لقد سبق في تاريخ أمل وحزب الله التحاكم إلى القيادة الإيرانية عند الاختلاف فيما بينهم (2).5 - أعلنت حركة أمل في المؤتمر الرابع في آذار 1982 أنها جزء لا يتجزأ من الثورة الإسلامية في إيران (3). 6 - بسبب تبعية حزب الله لولاية الفقيه، يقرر الباحث الإيراني د. مسعود أسد الله في كتابه ((الإسلامييون في مجتمع تعددي)) (ص:321) ما يلي: "بما أن حاكمية الخميني كولي فقيه لا تنحصر بأرض أو حدود معينة فإن أي حدود مصطنعة وغير طبيعية تمنع عمل هذه الولاية، تعد غير شرعية، لذا فإن حزب الله في لبنان يعمل كفرع من فروع حزب الله الواسعة الانتشار ... الآراء المذكورة آنفاً توضح أن حزب الله كان مستعداً لإنجاز أي مهمة يأمر بها الولي الفقيه". لقد كلف حزب الله إيران الكثير من الجهد والمال، غير أن إيران استفادت منه الكثير، فهي من جهة تمكنت إيران عبر حزب الله من تحسين شعبيتها أمام المجتمع السني خاصة بعد أن ساءت صورتها كثيراً خلال حربها الطويلة مع العراق، كما ساءت صورة الشيعة بشكل عام بعدما اتضح للجميع الجرائم التي يقترفها الشيعة ضد أهل السنة في العراق، لذلك فكان حزب الله هو المنقذ الذي عمل على إظهار إيران بمظهر البلد الذي يواجه إسرائيل والولايات المتحدة. - ومن جهة ثانية؛ يخدم الدعم الإيراني لحزب الله المشروع الشيعي في الأساس والذي يحلم باستعادة إمبراطورية فارس. وهو أمر يقر به أحد قادة حزب الله في لبنان وهو إبراهيم الأمين حيث يقول: "إن تصدير الثورة لا يعني تسلط النظام الإيراني على شعوب منطقة الشرق الأوسط، وإنما المفروض أن تعيش هذه المنطقة الإسلام من جديد – والإسلام الذي يقصده هو الإسلام الشيعي – فيكون المتسلط على هذه الشعوب الإسلام وليس الإنسان، على هذا الأساس نحن نعمل في لبنان من خلال المسؤولية الشرعية ومن خلال القناعة السياسية أيضاً، حتى يصبح لبنان جزءاً من مشروع الأمة – الأمة الشيعية بالطبع – في منطقة الشرق الأوسط، ولا نعتقد أنه من الطبيعي أن يكون لبنان دولة إسلامية خارج مشروع الأمة. - ومن جهة ثالثة؛ يمثل حزب الله ورقة رابحة بيد إيران يستطيع أن يستخدمها وقتما شاء في الضغط على أمريكا وإسرائيل لتحقيق مآربها. المصدر: حرب لبنان الوعد الصادق أم الوهم الكاذب لوليد نور - ص 51   (1) ((المقاومة اللبنانية))، أمين مصطفى، دار الهادي (ص:425). (2) ((دولة حزب الله))، وضاح شرارة، (ص: 119). (3) ((دولة حزب الله))، وضاح شرارة، (ص: 119). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 372 المبحث الثامن: انخداع كثير من أهل السُّنة بحزب الله إن انخداع أهل السُّنة بحزب الله يعود إلى أمور كثيرة من أبرزها:1 - جهل كثير من أهل السُّنة بعقيدة الرافضة التي تغلو في الأئمة، وتقول بتحريف القرآن، وتكفّر كبار الصحابة وأمهات المؤمنين وتكفِّر جميع الطوائف الإسلامية إلا الشيعة الإمامية الاثنى عشرية وهي الطائفة الناجية وما سواها في النار (1). 2 - التقية؛ فحزب الله يجيد التقية والعمل بها بصورة ممتازة، وتعريف التقية عند الرافضة كما عرَّفها شيخهم المفيد بقوله: "كتمان الحق وستر الاعتقاد فيه، ومكاتمة المخالفين، وترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراً في الدين والدنيا".وقال محمد العاملي المعروف عند الرافضة بالشهيد الأول في تعريف التقية: "التقية مجاملة الناس بما يعرفون، وترك ما ينكرون حذراً من غوائلهم" (2). إنّ التقية من أهم العوامل التي جعلت كثيراً من أهل السُّنة يصدِّق تلك العبارات التي يطلقها حسن نصر الله في خطاباته المُتٍَلفزة في أنه سيحرر الأقصى، ولا يأتي خطاب إلا ويذكر فلسطين واليهود مما جعل أولئك يصدقون ما يقول!! 3 - الإعلام، فإن له دوراً كبيراً في نقل الأحداث وتصوير الحزب بالصورة الرائعة؛ كيف لا! وهم يمتلكون قناة "المنار" الفضائية التي تلمّع في الحزب ورئيسه ليلاً ونهاراً، حتى صار حزب الله عند عوام الناس هو الحزب المجاهد في سبيل الله الذي جاء فقط من أجل طرد المحتل وتحرير بلاد المسلمين من اليهود، وصوَّر نفسه بصورة غير صورته الحقيقية التي هي تصدير الثورة الإيرانية الخمينية إلى لبنان والعالم الإسلامي. المصدر: ماذا تعرف عن حزب الله لعلي الصادق – ص 121   (1) للمزيد راجع كتاب ((حتى لا ننخدع)) لعبد الله الموصلي أثابه الله، ففيه الكفاية بإذن الله تعالى. (2) انظر كتاب ((التقية منهج إسلامي واع)) (ص: 16) لمهدي العطار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 373 المبحث التاسع: حزب الله والغزو الصليبي للعراق يقول دانييل سوبلمان: "لم يُخْفِ قادة حزب الله معارضتهم للحملة الأمريكية ولنظام صدام حسين، ولكنهم حافظوا على صمتهم بشكل شبه كامل .. ولم يعلُ صوتهم إلا عندما أعلنوا بأنهم لم يرسلوا أية مساعدات إلى العراق لطرد الغازين، وعندما ذكر من بغداد أن ستة مجاهدين من حزب الله تم اعتقالهم على الحدود السورية - العراقية سارع التنظيم للإعلان عن رفض رسمي" (1).كما أعلنت المراجع الشيعية في اجتماعٍ عقدوه بمنزل آية الله العظمى علي السيستاني في النجف معارضتهم القتال ضد الوجود الأمريكي في العراق (2).بل ذكرت صحيفة الوطن الكويتية أن حزب الله اللبناني أقام قواعد له في العراق، وأرسل لها 90 مقاتلاً تسلّلوا للعراق عن طريق الأراضي السورية (3)، وذلك بهدف إيجاد الدعم اللوجستي ونقل الخبرات للمليشيات الشيعية من أمثال فيلق بدر، وجيش المهدي في كيفية توطين النفوذ الشيعي والسيطرة على مختلف المناطق وسحق الوجود السني وتصفيته (4).وفي شهر أكتوبر من عام 2006م، تم إرسال 35 قيادياً في جيش المهدي الشيعي العراقي، إلى حزب الله في لبنان بناءً على دعوة رسمية منه، وذلك بهدف التعاون العسكري وتطوير التدريب العسكري لهؤلاء وإعطائهم صورة كاملة لكيفية مقاتلة الجماعات السنية التي يرون أنها تُعيق إقامة الهلال الشيعي (5)! المصدر: ماذا تعرف عن حزب الله لعلي الصادق – ص 139   (1) كتاب ((قواعد جديدة للعبة: إسرائيل وحزب الله بعد الانسحاب من لبنان)) في الصفحة الأخيرة من الكتاب. (2) ((صحيفة الوطن)) الكويتية في تاريخ 29/ 8/2004 م. (3) ((جريدة الوطن)) الكويتية 29/ 11/2003 م نقلاً عن ((صحيفة ستاندرت)). (4) نسمع ونشاهد شيعة لبنان يسبّون ويلعنون أمريكا وإسرائيل، بينما نشاهد العلاقات الوطيدة والمتينة بين القوات الصليبية الأمريكية المحتلّة للعراق وعلماء الشيعة!، وكيف أصبح عوام شيعة العراق خدم وجنود للقوات المحتلّة. (5) موقع ((مفكرة الإسلام)) الإخباري، الأربعاء 3 شوال 1427 هـ - 25 أكتوبر 2006 م. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 374 المبحث العاشر: نتائج خطف الجنديين الإسرائيليين أولاً: تم تخفيف الضغط على إيران بخصوص برنامجها النووي فقد التفت العالم بأسره يتابع ما يحصل للبنان ولشعب لبنان. ثانياً: استفراد جيش المهدي ومنظمة بدر الرافضيتين بقتل أهل السُّنة في العراق بأبشع أنواع القتل، وتهجيرهم، واستباحة دمائهم وأموالهم، ومصادرة مساجدهم، وكل ذلك بتغطية أمريكية وتأييد من مرجعهم الإيراني (علي السيستاني). ثالثاً: محاولة إيصال رسالة إلى أمريكا بشأن الموضوع النووي، بأننا - أي إيران - نستطيع نقل الحرب من منطقة إيران والخليج، إلى منطقة إسرائيل ولبنان. رابعاً: بعد خروج سوريا من لبنان، وانحسار نفوذها، وتنامي الوعي الوحدوي الوطني في لبنان، أرادت سوريا ومن ورائها إيران إيجاد طريقة لاسترجاع السيادة والتحكّم في مصالح لبنان، فقاموا باللعب بالورقة المزيّفة - سلاح مقاومة حزب الله - لخلط الأوراق لصالح النفوذ الإيراني والسوري، خصوصاً بعد مطالبة العالَم والحكومة اللبنانية لحزب الله بنزع سلاحه والدخول ضمن الجيش اللبناني العام، وهذا يسبّب حرجاً للمصلحة الإيرانية، فقاموا بهذه العملية لإيجاد مبرّر لإبقاء السلاح في يد حزب الله بذريعة المقاومة! خامساً: خطف الأضواء عن المقاومة الفلسطينية؛ فبعد أن تورّط الشيعة باتّهامات التعاون والاتفاقية مع إسرائيل في شراء الأسلحة - فيما يُعرف بفضيحة: إيران جيت - وتورّطهم بالتعاون مع الشيطان الأكبر! في إسقاط حكومة طالبان، والتعاون مع المحتلّ الأمريكي في اعتلاء الشيعة الصفويين الطائفيين العنصريين للحكومة العراقية ودعمها المباشر للمليشيات الشيعية في تصفيتها للوجود السني والتطهير العرقي والتهجير الظالم؛ قامت بإشعال هذه الحرب حتى تكسب ورقة المقاومة ضدّ إسرائيل، وتستفيد لاحقاً في كسب الجماهير المسلمة السنّية في صراعات لاحقة لبسط النفوذ الصفوي الشيعي. يقول الكاتب الفلسطيني غازي التوبة: "المقصود من قتال (حزب الله) للعدو الصهيوني في لبنان هو: الدعاية والترويج لإيران والطائفة الشيعية على مستوى لبنان والعالم العربي والإسلامي من جهة، ومن أجل التغطية على جرائم إيران في العراق من جهة ثانية" (1). المصدر: ماذا تعرف عن حزب الله لعلي الصادق – ص 141   (1) من مقال لغازي التوبة في ((جريدة الحياة)) - عدد 15848 - تاريخ 25/ 8/2006 – (ص: 19). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 375 المبحث الحادي عشر: خطابات نصر الله لمن تصقل سيفك يا نصر الله؟ في مهرجان عقده حزب الله بمناسبة أكد الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله أن المقاومة تملك أكثر من عشرين ألف صاروخ وأن حزبه أقوى حاليا منه في السابق مشددا على أن لبنان صار عبر جمهور المقاومة "قوة عظمى في الشرق الأوسط". وقال خلال الاحتفال بمناسبة "النصر الإلهي" في ضاحية بيروت الجنوبية إن المقاومة "وهي خارجة من حرب ضروس استعادت كامل قوتها وراكمت عزماً جديداً"، مشددا على أنها "أقوى مما كانت عليه عشية 12 يوليو وأنها قدمت نموذجاً للتحرير والصمود الأسطوري". تعليق: مرة أخرى يأبى "حسن نصر الله" إلا أن يدفعنا للحديث عنه. مرة أخرى يطل علينا "حسن نصر الله" ليستعيد عقوداً من الخطب الرنانة والتصريحات الطنانة التي ما فتئت الأمة المسلمة ليلاً ونهاراً، غير أنه إذا ما تلفتت لم تر طحيناً. مرة أخرى يراهن "حسن نصر الله" على ذاكرة الشعوب الضعيفة، وعلى عواطف المسلمين المستعرة ليمحوا اعترافاته التي لم يمر عليها شهر. "نصر الله": أول ما يطالعنا في مهرجان "نصر الله" حديثه عن "النصر الإلهي" الذي تحقق في حربه الأخيرة مع "إسرائيل" ويبدو أن "نصر الله" لم يكفيه الحديث نيابة عن أهل الأرض، فأراد أن يتحدث نيابة عن "أهل السماء"، ترى هل رأى "نصر الله" الملائكة وهي تقاتل بجانبه عندما كان مختبئاً في قصر "إميل لحود" كما قال البعض أو في السفارة الإيرانية كما قال آخرون. "الصمود الأسطوري": بعد أن تحدث "نصر الله" نيابة عن "أهل السماء"، عاد وارتدى زي زعماء ما فتئوا يحدثون الأمة عن انتصاراتهم الأسطورية وبطولاتهم الخارقة، والتي ما أن تمر الأيام حتى ينقشع الغبار وترى أن مطية الأمة لم تكن سوى حمار هزيل جبان. عاد "نصر الله" ليتحدث عن "نموذج التحرير"، ولكن أي تحرير يا نصر الله؟، هل حررت الجنوب اللبناني من الوجود "الإسرائيلي"، أم أنك حررت الجنوب اللبناني بوجود أجنبي جديد؟. أي تحرير ذلك يا نصر الله ودبابات فرنسا وألمانيا واليونفيل تخطو على أرض لبنان، ولا تكلف نفسك سوى أن تطالبها بعدم التدخل في الشأن اللبناني، أي شأن لبناني لا تتدخل فيه، وقد أدخلتها وأقامتها في لبنان؟. أي تحرير ذلك يا نصر الله، وقد تحدثت التقارير عن نقلك لمقار قيادة حزب الله من الجنوب اللبناني إلى منطقة البقاع، فأي تحرير ذلك يا نصر الله. لقد سئمنا يا نصر الله تلك البطولات الأسطورية، وهي أسطورية بحق فلا يقبلها عقل، لا يقبل عقل أن يمر "البطل" بين أشلاء شعبه وبقايا وطنه ويصر مع ذلك على رفع علامة النصر. لمن تصقل سيفك يا نصر الله: يجد "حسن نصر الله" الفرصة سانحة للحديث مجدداً عن سلاح حزبه، ذلك السلاح الذي ما عاد يستخدم في ميدان المعارك، ولكن يستخدم في ميدان الخطب فقط. لقد قال نصر الله إن حزبه يملك عشرين ألف صاروخ، ولنا أن نعيد السؤال الذي سألناه من قبل لماذا لم يستخدم حزب الله هذه الصواريخ؟، وأي نصر حققه حزب الله إذا كان عاجزاً عن استخدام أسلحته وصواريخه؟. لنا أن نتساءل لمن هذه الصواريخ يا نصر الله وقد قلت في خطابك الماضي أنك لن تخوض حرباً أخرى مع "إسرائيل"، معتبراً أن من يفكر في ذلك فهو يخدم "إسرائيل". لمن هذه الصواريخ يا نصر الله؟. "لمن تصقل سيفك يا عباس؟ لوقت الشدة إذا، اصقل سيفك يا عباس". إن حديث "نصر الله" عن صواريخ حزبه، يعيد لنا التذكير مرة أخرى بالفارق بين مقاومة السنة ومقاومة الشيعة، فالمقاومة الفلسطينية على ضعفها لم تتوان عن ضرب "إسرائيل" بالصواريخ ليل نهار رغم ما عرض عليها لإيقاف هذه الصواريخ، والمقاومة الشيعية في لبنان لم تتوان عن تكويم تلك الصواريخ ولم تستخدمها إلا في ميدان السياسة، فشتان بين من يقاتل من أجل التحرير وبين من يقاتل من أجل صفقات السياسة وألاعيبها. الحرب الأهلية: وقال نصر الله في خطابه إن حرباً أهلية جديدة لن تشهدها لبنان، وقد صدق نصر الله وذلك لأن الحروب الأهلية لا تندلع إلا بين جهتين متساويتين في القوة ومختلفتين في المصلحة، وقد اجتمع المشروعان الشيعي والأمريكي على إجهاض القوى السنية في لبنان حتى صار سنة لبنان ما بين قوى مهيضة الجناح، وما بين قوى مرتبطة بمشروع أمريكي، وصفا الجو أمام الشيعة ليجعلوا من لبنان "قوة عظمى في الشرق الأوسط"، ولكن لصالح المشروع الإيراني. خلا لك الجو فبيضي واصفري ... ونقري ما شئت أن تنقري المصدر: حرب لبنان الوعد الصادق أم الوهم الكاذب لوليد نور - ص 129 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 376 المبحث الثاني عشر: فلسطين بين "نصر الله" و"صلاح الدين" • المطلب الأول: موقف الشيعة من صلاح الدين قديماً وحديثاً:. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 377 المطلب الأول: موقف الشيعة من صلاح الدين قديماً وحديثاً: ظهر "صلاح الدين الأيوبي" في عهد كثرت فيه دول الشيعة واستعلنت بقوتها، ومن أبرز تلك الدول الشيعية والتي احتك به "صلاح الدين الأيوبي" الدولة الفاطمية العبيدية في مصر، ولما ضعفت دولتهم في أيام آخر خلفائهم العاضد وصارت الأمور إلى الوزراء، وتنافس شاور وضرغام، فكر شاور في أن يثبت ملكه ويقوي نفوذه، فاستعان بنور الدين محمود؛ فأعانه ولما خلا له الجو لم يف له بما عد، بل أرسل على أمنلريك ملك الفرنجة في بيت المقدس يستمده، ويخوفه من نور الدين محمود إن ملك الديار المصرية، فسارع إلى إجابة طلبه، وأرسل له حملة أرغمت نور الدين على العودة بجيشه إلى الشام، ولكن سرعان ما عاد نور الدين المحاولة في عام 562هـ، فاستنجد شاور بالفرنجة مرة ثانية وكاتبهم، وجاءت جيوشهم خشية أن يستولي نور الدين على مصر ويضمها إلى بلاد الشام فيهدد مركزهم في بيت المقدس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 378 ولما وصلت عساكر الفرنجة إلى مصر انضمت جيوش شاور والمصريين إليها والتقت بجيوش نور الدين بمكان يعرف بالبابني "قرب المنيا" فكان النصر حليف عسكر نور الدين محمود، ثم سار بعدها إلى الإسكندرية، وكانت الجيوش الصليبية تحاصرها من البحر وجيوش شاور وفرنجة بيت المقدس من البر، ولم يك لدى صلاح الدين - القائد من قبل نور الدين - من الجند ما يمكنه من رفع الحصار عنها، فاستنجد بأسد الدين شيركوه فسارع إلى نجدته، ولم يلبث الفرنجة وشيعة شاور إلى أن طلبوا الصلح من صلاح الدين فأجابهم إليه شريطة ألا يقيم الفرنجة في البلاد المصرية، غير أن الفرنجة لم تغادر مصر عملاً بهذا الصلح بل عقدت مع شاور معاهدة كان من أهم شروطها وجود حامية صليبية بالقاهرة، وتكون أبوابها بيد فرسانهم، وما أن ذهب الفرنجة في هذا العام حتى عادوا مرة أخرى عام 564هـ، حتى دخل صلاح الدين الأيوبي مصر ونجح بعد سنوات من إنهاء الدولة الفاطمية الشيعية، غير أن هذا الأمر لم يرض فلول النظام الشيعي في مصر الذين حاولوا اغتيال "صلاح الدين" أكثر من مرة ولم يجدوا حرجاً في الاستعانة بالصليبيين للقضاء على "صلاح الدين"، ونذكر هنا بعضاً من تلك المحاولات.- كانت أولى هذه المؤامرات في عام 564هـ عندما شغل "صلاح الدين" منصب الوزارة للخليفة الفاطمي العاضد، وكان يقود هذه المؤامرة مؤتمن الخليفة العاضد "المسؤول الأول في القصر" واعتمدت الخطة على قدوم الصليبين لغزو دمياط وإذا ما خرج "صلاح الدين" لمقاتلتهم انقلب عليه مؤتمن الخليفة ومن معه من بقايا الشيعة، غير أن الله سلم وانكشفت هذه المؤامرة (1).- ثانية هذه المحاولات كانت في عام 569هـ بعد وفاة العاضد حيث تجمعت مجموعة من بقايا الشيعة ووضعوا خطة مماثلة للخطة الأولى عبر الاستعانة بالصليبيين، غير أن هذه الخطة فشلت كسابقتها، يقول المقريزي: "وفيها اجتمع طائفة من أهل القاهرة على إقامة رجل من أولاد العاضد، وأن يفتكوا بصلاح الدين، وكاتبوا الفرنج، منهم القاضي المفضل ضياء الدين نصر الله بن عبد الله بن كامل القاضي، والشريف الجليس، ونجاح الحمامي، والفقيه عمارة بن علي اليماني، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي الأعز سلامة العوريس متولي ديوان النظر ثم القضاء، وداعي الدعاة عبد الجبار بن إسماعيل بن عبد القوي والواعظ زين الدين بن نجا، فوشى ابن نجا بخبرهم إلى السلطان .. فأحيط بهم وشنقوا في يوم السبت ثاني شهر رمضان بين القصرين" (2).- وشهد عام 570هـ المحاولة الثالثة والتي قادها أحد قادة الشيعة من أجل القضاء على صلاح الدين وإزالة الحكم السني، يقول المقريزي: "وفيها جمع كنز الدولة والي أسوان العرب والسودان وقصد القاهرة يريد إعادة الدولة الفاطمية، وأنفق في جموعه أموالاً جزيلة، وانضم إليه جماعة ممن يهوى هواهم، فقتل عدة من أمراء صلاح الدين، وخرج في قرية طود رجل يعرف بعباس بن شادي، وأخذ بلاد قوص، وانتهب أموالها؛ فجهز السلطان صلاح الدين أخاه الملك العادل في جيش كثيف ومعه الخطير مهذب بن مماتي فسار وأوقع بشادي وبدد جموعه وقتله؛ ثم سار فلقيه كنز الدولة بناحية طود، وكانت بينهما حروب فر منها كنز الدولة بعدما قتل أكثر عسكره، ثم قتل كنز الدولة في سابع صفر، وقدم العادل إلى القاهرة" (3).   (1) راجع في تفاصيل هذه المحاولة ((الكامل)) (9/ 103)، و ((البداية والنهاية)) (12/ 257). (2) ((السلوك لمعرفة دول الملوك)) (1/ 50 - 51)، وراجع ((الكامل)) (9/ 123). (3) ((السلوك لمعرفة دول الملوك)) (1/ 57، 58). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 379 - وفي سنة 571هـ، كانت محاولة أخرى لاغتيال صلاح الدين الأيوبي أثناء حصاره لحصن عزاز، يقول المقريزي: "وفي سنة 571هـ في رابع عشر ذي الحجة، وثب عدة من الإسماعيلية على السلطان صلاح الدين فظفر بهم بعدما جرحوا عدة أمراء والخواص ... " (1).- وقد تكررت هذه المحاولة مرة أخرى أثناء حصار السلطان صلاح الدين الأيوبي لحلب (2).- وفي سنة 584هـ بعد تحرير المسجد الأقصى من أيدي الصليبيين "ثار اثنا عشر رجلاً من الشيعة في الليل ينادون: يال علي! يال علي! وسلكوا الدروب وهم ينادون كذلك ظناً منهم أن رعية البلد يلبون دعوتهم، ويقومون في إعادة الدولة الفاطمية فيخرجون من في الحبوس ويملكون البلد فلما لم يجيبهم أحد تفرقوا" (3). هذه بعض المحاولات التي قام بها الشيعة في القديم للقضاء على صلاح الدين الأيوبي، أما شيعة اليوم فإنهم وإن فشلوا في اغتيال "صلاح الدين" جسدياً، فإنهم يسعون إلى تشويه تاريخه واغتياله معنوياً، فما من نقيصة إلا وألحقوها بصلاح الدين، وأوضح مثال على ذلك كتاب ((صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين)) لحسن الأمين أحد مؤرخي الشيعة ومنظري حزب الله في لبنان. والقارئ لهذا الكتاب المذكور يخرج منه بالنتائج التالية عن "صلاح الدين الأيوبي": - جميع من ترجم لصلاح الدين وأشاد بأعماله وأخلاقه إنما خدرتهم انتصاراته. - صلاح الدين الأيوبي طالب للسلطة والملك، وقد حازهما بكل خسة ونذالة، وطامح لمجد شخصي ناله بالغدر والخيانة. - صلاح الدين الأيوبي خائن ومستسلم. - صلاح الدين الأيوبي متعطش للدماء ونهاب الأموال. - صلاح الدين الأيوبي رجل سكير ومدمن للخمر. - والأخطر أن صلاح الدين الأيوبي كان ميالاً للنصرانية واليهودية. إلى غير ذلك من الدعاوى الباطلة التي اعتمد المؤلف في ذكرها على مصادر غربية أو يهودية أو شيعية أو روايات مرسلة لا سند لها، فضلاً عن منهجه في ليّ الحقائق وطمس الواضحات وتضخيم الصغائر ولا أدل على منهجه الفاسد من أن نعلم أن هذا المؤلف ذاته ذهب في كتابه ((موسوعة المعارف الإسلامية الشيعية)) إلى إنكار وجود أخريات لرسول الله صلى الله عليه وسلم سوى فاطمة رضي الله عنها وما ذلك إلا لدعم فكرة الإمامة لدى الشيعة الاثنى عشرية. ويدافع المرجع الشيعي العراقي "ناصر الأسدي" عن كتاب "حسن الأمين" زاعماً أنه لم يأت بشيء من عنده إنما هي المصادر والوقائع التاريخية، الأمر الذي يؤكد أن هذا الموقف من صلاح الدين الأيوبي ليس موقفاً منفرداً، بل هو موقف جماعي لدى الشيعة. ونرى كاتباً آخر من كتّاب الشيعة، وهو الشيعي المصري "صالح الورداني" يعتبر صلاح الدين الأيوبي" هو واحد من أولئك الذين غطت السيوف على انحرافاتهم وحجبت عن أعيننا مساوئهم وغمرت بالدماء التي أسالتها جسد الحقيقة" (4)، ثم يفيض في السب والهجاء لصلاح الدين الأيوبي حتى يصوره لنا مجرماً سفاكاً لدماء المسلمين متساهلاً مع اليهود والنصارى، محارباً للعلم والعلماء. وهكذا نرى أن الشيعة المعاصرين لم يبقوا شيئاً لصلاح الدين الأيوبي حتى أنهم شككوا في إسلامه وألمحوا إلى ردته، وليس ذلك بمستغرب على من تطاول على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أمهات المؤمنين. ماذا قدم الشيعة لفلسطين؟   (1) ((السلوك لمعرفة دول الملوك)) (6/ 61). (2) راجع في تفاصيل محاولتي اغتيال صلاح الدين على أيدي الحشاشين في حلب وعزاز الروضتين في ((أخبار الدولتين)) الجزء الأول، القسم الثاني (ص: 659 - 661). (3) ((السلوك لمعرفة دول الملوك)) (1/ 101). (4) ((الشيعة في مصر)) (ص: 53). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 380 ما قدمه "صلاح الدين الأيوبي" لفلسطين أمر لا ينكره إلا جاهل أو مكابر، وما كنا نتصور أن يأتي يوم ندافع فيه عن "صلاح الدين" ذلك البطل الذي صار رمز الأمة غير أن سعي الشيعة الدؤوب لهدم رموز الأمة لم يترك لأحد مقالاً، غير أنه بدلاً من الدفاع عن "صلاح الدين" نتساءل ما قدمه الشيعة لفلسطين، لقد سقطت فلسطين إبان وجود الدولة الفاطمية في مصر وكانت أقوى دولة موجودة في ذلك الوقت على الساحة العربية، فماذا فعلت لفلسطين. ذكر ابن الأثير في كتابه ((الكامل)) في حوادث عام 491هـ أنه لما بدأ الصليبيون في التوجه نحو بيت المقدس، ولما رأى "أصحاب مصر من العلويين قوة الدولة السلجوقية، وتمكنها واستيلاءها على بلاد الشام إلى غزة، ولم يبق بينهم وبين مصر ولاية أخرى تمنعهم، خافوا، وأرسلوا إلى الفرنج يدعونهم إلى الخروج إلى الشام ليملكوه، ويكونوا بينهم وبين المسلمين" (1).هكذا كان موقف الفاطميين الاتفاق على تسليم بلاد المسلمين للصليبين، غير أنه لما سقط بيت المقدس في أيدي الصليبين وما تبع ذلك من دوي هائل في الشعوب المسلمة، كان لابد من الدولة الفاطمية من عمل تحفظ به ماء وجهها، وقد كان، حيث يذكر ابن الأثير في حوادث عام 492هـ "في هذه السنة، في رمضان، كانت وقعة بين العساكر المصرية والفرنج، وسببها أن المصريين لما بلغهم ما تم على أهل القدس، جمع الأفضل أمير الجيوش العساكر، وحشد، وسار إلى عسقلان، وأرسل إلى الفرنج ينكر عليهم ما فعلوا، ويتهددهم - شجب واستنكار ولا مزيد - فأعادوا الرسول بالجواب ورحلوا على أثره، وطلعوا على المصريين، عقيب وصول الرسول، ولم يكن عند المصريين خبر من وصولهم، ولا من حركتهم، ولم يكونوا على أهبة القتال، فنادوا إلى ركوب خيالهم، ولبسوا أسلحتهم، وأعجلهم الفرنج، فهزموهم، وقتلوا منهم من قتل ... " (2)، وهكذا نرى أن ما فعله الفاطميون لا يعدو الاستعراض الإعلامي لذلك لم يعدوا للأمر عدته ولم يستعدوا لهذه الحرب استعداد من يرغب في التحرير والنصر، لذلك لم يكن غريباً أن تتسع الإمارات الصليبية في بلاد الشام على الرغم من قرب الدولة الفاطمية وقوتها في ذلك الوقت؛ يقول ابن كثير في البداية والنهاية: "وقد كان الفاطميون أغنى الخلفاء وأكثرهم مالا، وكانوا من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم وأنجس الملوك سيرة، وأخبثهم سريرة، ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات، وكثر أهل الفساد، وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد، وكثر بأرض الشام النصيرية والدرزية والحشيشية، وتغلب الفرنج على سواحل الشام بأكمله، حتى أخذوا القدس ونابلس، وعجلون والغور وبلاد غزة وعسقلان وكرك الشوبك وطبرية وبانياس وصور وعكا وصيدا وبيروت وصفد وطرابلس وأنطاكية، وجميع ما والي ذلك إلى بلاد إياس وسيس واستحوذوا على بلاد آمد والرها ورأس العين ... وبلاد شتى، وقتلوا من المسلمين خلقاً وأمما لا يحصيهم إلا الله، وسبوا ذراري المسلمين من النساء والولدان مما لا يحد ولا يوصف وكل هذه البلاد كانت الصحابة قد فتحوها، وصارت دار إسلام، وأخذوا من أموال المسلمين ما لا يحد ولا يوصف ... وحين زالت أيامهم - يعني الفاطميين - وانتقض إبرامهم أعاد الله عز وجل هذه البلاد كلها إلى المسلمين بحوله وقوته وجوده ورحمته" (3). وقد أشرنا في المحور الأول إلى محاولات الفاطميين الاستعانة بالصليبين للقضاء على صلاح الدين الأيوبي والذي كان يعمل في ذلك الوقت على توحيد الجبهة المسلمة من أجل تحرير فلسطين.   (1) ((الكامل في التاريخ)) (8/ 186). (2) ((الكامل)) (8/ 191). (3) ((البداية والنهاية)) (12/ 267). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 381 أما في العصر الحديث فإن ما قدمه الشيعة لفلسطين فلا يزيد عن تلك الخطب الرنانة والتصريحات سواء من طهران أو جبل عامل أما على أرض الواقع فالحقائق تنطق بغير ذلك، ودلائل ذلك كثيرة نحصرها فيما يلي: - في عام 1982 ومع الاجتياح الإسرائيلي للبنان يعلم الجميع أن حركة أمل الشيعية تعاونت مع اليهود في القضاء على منظمة فتح الفلسطينية، وعن ذلك قالت صحيفة ((الجراوزاليم بوست)) في عددها بتاريخ 23/ 5/1985: "إنه لا ينبغي تجاهل تلاقي مصالح أمل وإسرائيل، التي تقوم على أساس الرغبة المشتركة في الحفاظ على منطقة جنوب لبنان وجعلها منطقة آمنة خالية من أي هجمات ضد إسرائيل ... ". - وفي مذكراته اعترف "أرييل شارون" قائلاً: "ومن دون الدخول في أي تفاصيل، لم أر يوماً في الشيعة أعداء إسرائيل على المدى البعيد". ((مذكرات أرييل شارون)) (ص: 583، 584). - وبعد عام 1982 ونشوء "حزب الله" لم نسمع عن عملية عسكرية واحدة نفذتها تلك الحركة في فلسطين بل كانت جل عملياتها تدور على أرض لبنان. - وبعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في عام 2000 عمل "حزب الله" كما شهد بذلك أمينه الأول "صبحي الطفيلي" حارس حدود لحماية إسرائيل من أية هجمات تأتي من جهات غير منضبطة، ولا تتحرك وفقاً لقواعد اللعبة بين الطرفين، يقول الطفيلي في حواره مع الشرق الأوسط: "إن العمليات الفلوكلورية التي تحصل بين حين وآخر لا جدوى منها لأن الإسرائيلي مرتاح، وهل هناك فرق بين الإسرائيلي في مزارع شبعا والإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة؟، هذا اعتراف بالاحتلال .. وما يؤلمني أن المقاومة التي عاهدنا شبابها على الموت في سبيل تحرير الأراضي العربية المحتلة، تقف الآن حارس حدود للمستوطنات الإسرائيلية، ومن يحاول القيام بأي عمل ضد الإسرائيليين يلقون القبض عليه ويسام أنواع التعذيب في السجون". - ويقول سلطان أبو العينين وهو أمين سر حركة فتح في لبنان: "لقد أحبط حزب الله أربع عمليات للفلسطينيين خلال أسبوع، وقدمهم للمحاكمة، إننا نعيش جحيم منذ ثلاث سنوات ومللنا الشعارات والجعجعة". وقبل الوعد الصادق بأيام، اعتبرت (هأرتز) الإسرائيلية حزب الله حزباً منضبطاً لا يتحرك إلى وفق قواعد اللعبة، وهو يبدو ما لم يتغير حتى بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان. - وحتى عملية "الوعد الصادق" التي اندلعت بسببها حرب لبنان فقد اتضح أنها لم تكن لفلسطين بل كانت من أجل قواعد جديدة للعبة بين حزب الله وإسرائيل، بل إن هذه العملية وما أعقبها من أحداث عتمت تماماً على ما يجرى في فلسطين، حتى اشتكت حماس من ذلك وطالبت بالتوازن الإعلامي بين ما يجري في فلسطين ولبنان. - وإذا كان هناك من يرى في "نصر الله" صلاح الدين الجديد، فلنا أن نتساءل ما الذي ينتظره "نصر الله" حتى يضرب "تل أبيب" وقد استباحت إسرائيل لبنان كلها من شمالها إلى جنوبها، وهل ما يتردد عن امتناع حزب الله عن ضرب تل أبيب وضرب الكيمياويات في حيفا إنما هو خضوعاً لأوامر إيرانية بعدم تخطي هذا الحاجز، وإلا فما الذي ينتظره حزب الله، ونكاد نجزم أن إسرائيل لم تقدم على مذبحة قانا الثانية هي وتعلم أنها في أمان من صواريخ حزب الله. هذا ما قدمه الشيعة لفلسطين، وهذا موقف الشيعة من صلاح الدين، فكيف يوصف "نصر الله" بهذا البطل المجاهد "صلاح الدين الأيوبي" رحمه الله، بل إننا نؤكد أنه لن يحرر فلسطين من يطعن في صلاح الدين ويسب عمر أمير المؤمنين. المصدر: حرب لبنان الوعد الصادق أم الوهم الكاذب لوليد نور - ص 135 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 382 المبحث الثالث عشر: فلسطين فتحها عمر ولن يحررها من يتخذ من لعن عمر عقيدة تعيش الأمة المسلمة اليوم حروباً ثائرة وشروراً متطايرة، تشتت نظامها، وتشعب التئامها، حروب قذرة، يقودها قوم كفرة فجرة، لا يرقبون في مؤمن إلاَّ ولا ذمة. فالأرض المباركة فلسطين الجريحة، تصبح وتمسي تحت مرارة الفادحة وصور المأساة، ومشاهد المعاناة، وصرخات الصغار، وصيحات التعذيب والحصار، ولوعات الثكالى، وآهات اليتامى. تصبح وتمسي على صفوف الأكفان المتتالية، والجنائز المحملة، والبيوتات المهدمة، والحرمات المنتهكة .. أحداث جسام، تدمي القلوب وتفطر الأكباد، ويقشعر لهولها الفؤاد. وأرض دجلة والفرات، تشكو إلى الله حالها، فهي بين قطبي الرحي؛ ما بين صليبيين محتلين، ورافضة حاقدين، قد دنست ديارها وهدمت مساجدها وانتهكت حرماتها، واستبيح حماها، ورفعت في رباها رايات الصليب. أحداث تنادي المسلمين وتستنفرهم، تستصرخهم وتستنصرهم. فهل من مجيب لهذا النداء؟! وهل من مغيث لتلك الدماء والأشلاء؟! أحل الكفر بالإسلام ضيماً ... يطول به على الدين النحيب فحق ضائع وحمى مباح ... وسيف قاطع ودم صبيب وكم من مسلم أمسى سليباً ... ومسلمة لها حرم سليب وكم من مسجد جعلوه ديراً ... على محرابه نصب الصليب أمور لو تأملهن طفل ... لثار في مفارقه المشيب أتسبى المسلمات بكل ثغر ... وعيش المسلمين إذا يطيب أما لله والإسلام حق ... يدافع عنه شبان وشيب؟ فقل لذوي البصائر حيث كانوا ... أجيبوا الله ويحكمو أجيبوا في خضم هذه الأحداث الدامية والمآسي المتتالية والفواجع النازلة يتطلع المسلمون لمخرج من هذا الواقع الأليم، ولمنقذ ينتشل الأمة مما هي فيه من ذلة وهوان، ولقائد يقف في وجه الطغيان، ويوقف زحف الأعداء ونزيف الدماء. وفي مثل هذه الظروف حين يدلهم الخطب وتتوالى المحن، يشتبه الأمر على كثيرين فلا يميزون بين صديق وعدو، فيعظمون من حقه الإذلال ويخفضون من حقه الرفع، وحين ينبلج الصبح وتتضح الأمور يعضون أصابع الندم ولات ساعة مندم. ولا ننسى قصيدة أحمد شوقي في تبجيل مصطفى كمال أتاتورك التي سماها تكليل أنقرة وعزل الآستانة أي تكليل الكمالية وعزل السلطان والخلافة، عندما ادَّعى أتاتورك الانتصار على اليونان في حربه التمثيلية ضدهم وأطلق أحمد شوقي أبياته المشهورة: الله أكبر كم في الفتح من عجب ... يا خالد الترك جدد خالد العرب يوم كبدر فخيل الحق راقصة ... على الصعيد وخيل الله في السحب ولكن أحمد شوقي أسقط في يده بعد ذلك عندما فوجئ بأن خالد الترك بدلاً من أن يجدد خالد العرب، بدد مجد الترك ومجد العرب. ومما يزيد الطين بلة أنه في مثل هذه الظروف يصغي الناس لكل ناعق ويتكلم في قضايا الأمة الكبار من ليس أهلاً لذلك فيضلون ويضلون، بل ويسخر الناس من دعاة الحق المستترين بهدي الكتاب والسنة. ومهما ادلهمت الفتن واختلطت الأمور ونشط دعاة الضلال فإن أهل الحق يجب عليهم أن يصدعوا بالحق وأن يقولوا ما يمليه عليهم دينهم مهما كان اغترار الناس بالباطل ودعاته ومؤيديه. وقال تعالى: وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام: 55]. أي: نخبرك بمعالم التوحيد، ومعالم الرسالة، وأسس العقيدة، ليتبين لك الحق من الباطل والهدى من الضلال. فلزاماً على كل داعية، وكل عالم وطالب علم أن يوضح للناس المشارب والمذاهب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 383 ولا شك أن ما يجري على أرض فلسطين ولبنان من اعتداء سافر من اليهود، لا يقره شرع ولا عقل، ولا يرضى به ذو ضمير حي، ولكن مع ذلك لابد أن تقال كلمة الحق ويحذر من دعاة الضلال، وممن يرفعون الشعارات البراقة التي يخفون وراءها الحقد الدفين والكفر البواح، مستغلين غياب أهل الحق عن القيام بما يجب عليهم. ومن الخطأ في الفهم أن يظن ظان أن الإنسان حين يحذر من الرافضة وخطرهم أنه يؤيد اليهود أو يقف في صفهم، أو يرضى بما يحدث على أيديهم من سفك للدماء وأنهم لا يفرقون في حربهم بين طفل وشيخ وامرأة. وأنه لا يكترث برؤية الشيوخ والنساء والأطفال تتطاير أشلاؤهم وتنتثر دماؤهم. فهذا فهم خاطئ، لأن الإسلام دين الرحمة وقد حرم على أتباعه حين يخوضون حرباً مع أي عدو لهم أن يقتلوا أو يعتدوا على غير المحاربين. روى أبو داود عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلا ولا صغيراً ولا امرأة ولا تغلوا وضموا غنائمكم وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين)) (1).وروى أبو داود عن رباح بن ربيع قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فرأى الناس مجتمعين على شيء فبعث رجلاً فقال: ((انظر علام اجتمع هؤلاء)) فجاء فقال: على امرأة قتيل فقال: ((ما كانت هذه لتقاتل)) قال: وعلى المقدمة خالد بن الوليد، فبعث رجلاً فقال: ((قل لخالد لا يقتلن امرأة ولا عسيفاً)) (2). هذه هي تعاليم الإسلام السمحة التي تبين أنه دين الرحمة حتى مع الأعداء. فكفرهم بالله تعالى لا يحل لنا أن نسفك دماءهم أو نظلمهم أو نعتدي عليهم بأي لون من ألوان الاعتداء، فلا يجوز قتل غير المحاربين المحادين لله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذين يصدون عن سبيله ويؤذون أهل دينه. والتحذير من حزب الله ومن الشيعة عموماً واجب على كل من عرف عقيدة التوحيد، وخصوصاً حين يغتر بهم كثير من المسلمين ممن لا يعرفون عقائدهم، وحين يدعون أنهم حماة الإسلام والمدافعون عنه وأنهم يحاربون من أجل عقيدة التوحيد ونصرة الدين، فيلتبس الحق بالباطل، ويغتر بشعاراتهم كثير من الدهماء، وربما أدى الأمر ببعض الجهال إلى تصحيح عقائدهم والثناء عليهم. وحريٌّ بنا ونحن نعيش في هذا الوضع أن نتذكر أحد علماء الإسلام ممن كان له موقف مشهود مع أحد سلف الرافضة وهو الحاكم العبيدي "المعز" وكيف أن هذا العالم لم يغتر بالشعارات والخطب الرنانة والبطولات المزعومة فقال كلمة الحق ولم يداهن ولو كلفه ذلك حياته. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في ترجمة الحاكم العبيدي المعز، المدعي أنه فاطمي: وحين نزل الإسكندرية تلقاه وجوه الناس، فخطبهم بها خطبة بليغة ادعى فيها: أنه ينصف المظلوم من الظالم، وافتخر فيه بنسبه، وأن الله قد رحم الأمة بهم، وهو مع ذلك متلبس بالرفض ظاهراً وباطناً. كما قاله القاضي الباقلاني: إن مذهبهم الكفر المحض، واعتقادهم الرفض، وكذلك أهل دولته ومن أطاعه ونصره ووالاه، قبحهم الله وإياه. وقد أحضر إلى بين يديه الزاهد العابد الورع الناسك التقي أبو بكر النابلسي فقال له المعز: بلغني عنك أنك قلت: لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة: ورميت المصريين "أي العبيديين" بسهم. فقال: ما قلت هذا، فظن أنه رجع عن قوله. فقال: كيف قلت؟   (1) رواه أبو داود (2614)، وقال ابن حزم في ((المحلى)) (7/ 297): " لا يصح"، وقال الألباني في ((ضعيف أبي داود)) (: "ضعيف". لكن لبعضه شاهد من حديث بريدة رضي الله عنه رواه الطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (3/ 224) وقال: "صحيح". (2) رواه أبو داود (2669)، وقال الألباني في ((الصحيحة)) (701): "إسناده صحيح". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 384 قال: قلت: ينبغي أن نرميكم بتسعة ثم نرميهم بالعاشر. وقال: ولم؟ قال: لأنكم غيرتم دين الأمة، وقتلتم الصالحين، وأطفأتم نور الإلهية، وادعيتم ما ليس لكم، فأمر بإشهاره في أول يوم، ثم ضرب في اليوم الثاني بالسياط ضرباً شديداً مبرحاً، ثم أمر بسلخه في اليوم الثالث، فجيء بيهودي فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن، قال اليهودي: فأخذتني رقة عليه، فلما بلغت تلقاء قلبه طعنته بالسكين فمات رحمه الله. فكان يقال له: الشهيد، وإليه ينسب بنو الشهيد من أهل نابلس إلى اليوم، ولم تزل فيهم بقايا خير (1). إن فلسطين قد فتحها عمر رضي الله عنه فهل يمكن أن تفتح ثانية على يد من يتخذ من لعن عمر رضي الله عنه عقيدة وديناً؟ أقول: كلا والله. إن أرض فلسطين وغيرها لن يعيدها إلى حوزة الإسلام إلا أتباع عمر الذين يترضون عنه ويتلمسون هديه ويقتدون به. أما أعداء الصحابة ومن يلعنون عمر فوالله الذي لا إله غيره لن يزيدوا الأمة إلا خبالاً ولن تجني منهم غير الحسرة والندامة، وسيكشرون عن أنيابهم حين يستتب لهم الأمر، وسيظهرون حقدهم ويصبون جام غضبهم على أهل السنة، فيستبيحون أرضهم وينتهكون عرضهم ويخرجونهم من ديارهم، كما يحدث الآن في العراق وإيران. عندها يفيق النائمون ويندم المفرطون ولكن بعد فوات الأوان. ولذلك ينبغي لكل من عرف عقيدة التوحيد وآمن بما جاء في كتاب الله تعالى من الأمر بموالاة المؤمنين ومحادة الكافرين، أن يتبرأ من حزب الله وألا يغتر به وبقيادته، مهما طبل له المطبلون، وأن يقول كما قال العالم أبو بكر النابلسي للمعز العبيدي: ينبغي أن نرمي حزب اللات بتسعة ثم نرمي اليهود بالعاشر. د. محمد البراك المصدر: ماذا تعرف عن حزب الله لعلي الصادق - ص 177   (1) ((البداية والنهاية)) (11/ 322). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 385 الفصل السادس والعشرون: جماعة الحوثي (تنظيم الشباب المؤمن) • المبحث الأول: التعريف بجماعة الحوثي ونشأتهم . • المبحث الثاني: أبرز الشخصيات. • المبحث الثالث: حسين الحوثي والتمرد الأول. • المبحث الرابع: شعاراتهم ضد أمريكا وموقف الأمريكان منهم. • المبحث الخامس: الولاية عند حسين الحوثي. • المبحث السادس: حسين الحوثي وموقفه من الصحابة. • المبحث السابع: حسين الحوثي والزيدية. • المبحث الثامن: حسين الحوثي والثورة الإيرانية ورموز التشيع. • المبحث التاسع: إيران والتغلغل الرافضي في اليمن. • المبحث العاشر: الشيعة في صعدة. • المبحث الحادي عشر: أبرز تكتلات الشيعة الحزبية والسياسية في اليمن. • المبحث الثاني عشر: المدارس الشيعية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 386 المبحث الأول: التعريف بجماعة الحوثي ونشأتهم • المطلب الأول: التعريف . • المطلب الثاني: نشأة تنظيم الشباب المؤمن (جماعة الحوثي). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 387 المطلب الأول: التعريف جماعة الحوثي: حركة شيعية في اليمن منشقة عن المذهب الزيدي, تسير على نمط (حزب الله) في لبنان دينيا وسياسياً, ويعتنقون أفكار الشيعة الرافضة, والحوثية نسبة إلى زعيم التمرد الأول حسين بدر الدين الحوثي , الذي أشعل فتيل الصراع بين أنصاره والحكومة اليمنية، وقد أسموا أنفسهم تنظيم "الشباب المؤمن" الجزء: 6 ¦ الصفحة: 388 المطلب الثاني: نشأة تنظيم الشباب المؤمن (جماعة الحوثي) يعود إنشاء تنظيم "الشباب المؤمن" إلى عام 1991م، بإيعاز من بدر الدين الحوثي بهدف جمع علماء المذهب الزيدي في صعدة وغيرها من مناطق اليمن تحت لوائه! وبالتالي دعم حزب "الحق" باعتباره يمثل المذهب الزيدي! و"بدر الدين بن أمير الدين الحوثي، من كبار علماء الشيعة، جارودي المذهب، يرفض الترضية على الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وكذلك لا يترضى على أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنها. هاجم الصحيحين والسنن في كثير من مؤلفاته، واتهم الإمام البخاري ومسلماً بالتقول والكذب على رسول الله إرضاءً للسلاطين؛ ومنه ورث ابنه حسين هذا المذهب، وسار عليه أنصارهم وأتباعهم"! وتشير المعلومات إلى أن بدر الدين الحوثي تقدم في عام 1996م باستقالة جماعية مع أبنائه، معلناً انتهاء أي علاقة له بحزب الحق، على خلفية خلاف بينه وبين المرجع المذهبي مجد الدين المؤيدي ..... ويبدو أن الخلاف استند إلى بعدين: الأول: منهجي، يتمثل في القضايا الفكرية والمذهبية، التي عبرت عنها دروس ومحاضرات حسين الحوثي المكتوبة والمتداولة، والتي يعترض فيها على المذهب الزيدي وعلمائه المعاصرين، معلناً عن ميوله لأقوال الشيعة الرافضة من سب الصحابة وعلى رأسهم أبو بكر وعمر وأمهات المؤمنين – رضي الله عن الجميع، والقول بعصمة الأئمة وعودة المهدي! والضحك من كتب السنة ورجالها وعلماء الحديث! الثاني: تنظيمي، يتمثل في سيطرة قيادة حزب "الحق" على الأنشطة والأعمال بصورة تقليدية كما يراها حسين بدر الدين الحوثي و"الشباب المؤمن". وتفرغ بدر الدين الحوثي وأبناؤه للقيام على تنظيم "الشباب المؤمن"، الذي استمر في ممارسة نشاطه وتمكن من استقطاب الشباب "وغالبيتهم ينتمون للأسر الهاشمية وللمذهب الزيدي"، والقبائل والوجاهات الاجتماعية في صعدة. وقد تلقى حسين بدر الدين الحوثي مخصصات مالية شهرية حكومية بعد استقالته بالتنظيم استقلالاً كاملاً عام 2000م هدفاً ومنهجاً وفكراً. وبدأ حسين الحوثي بتوسيع نشاطه خارج منطقة صعدة، ليؤسس مراكز مماثلة لمركزه في عدة محافظات، وأرسل إليها بعض طلبته المقربين مع مجموعة من الأساتذة العراقيين الذي توافدوا على اليمن بعد حرب الخليج الثانية والحصار الجائر الذي فرضته الأمم المتحدة على العراق. وقد شملت أنشطة "الشباب المؤمن" التنظيمية عدداً من المحافظات منها صنعاء وصعدة وعمران وحجة وذمار والمحويت، وتمت عبر المساجد والمراكز الخاصة التي أنشئت لتدريس المذهب الزيدي وفق رؤية الحوثي! وعمل تنظيم "الشباب المؤمن" على إحياء مناسبة "يوم الغدير" في محافظة صعدة، بمظاهر تحولت إلى تجمع القبائل الموالية للحوثي، واستعراض للقوة وعرض لأنواع وفيرة من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة وإطلاق النار بكثافة في نبرة تحد واضحة، كما أن إحياء المناسبة في محافظات أخرى لم يكن بمعزل عن الحوثي وفكره ودعوته. كما عمل تنظيم "الشباب المؤمن" على إقامة المنتديات الصيفية في أكثر من منطقة، وكان بدر الدين يضفي عليها الشرعية المذهبية، ويبارك جهودها، ويحث القبائل على تسجيل أبنائهم فيها. وكان الشباب وأغلبهم من صغار السن يشاهدون في هذه المنتديات أفلام الفيديو التي تحكي كيف تم سقوط نظام الشاه في إيران، وكيف قامت ثورة الخميني، وتظهر صور الممثلين وهم يواجهون زحف الدبابات، ولا ينحنون برؤوسهم أمام كثافة النيران، وتصيب أحدهم الرصاصة فينزف دماً وهو يهتف: "الله أكبر، الموت لأمريكا"، وتظهر بعض الصور وشباب الثورة قد ربطوا أرجلهم لكي لا يفروا أمام زحف جيوش الشاة! وكان عبد الكريم جدبان - أو غيره – يقوم بالتعليق أحيانا على هذه الأشرطة، ويحث الشباب في المنتديات على التشبه بإخوانهم شباب الثورة الخمينية، والوقوف في وجوه الطغاة! ويدندن أتباع "الشباب المؤمن" عموما حول: - الشعارات المعادية – بزعمهم – لأمريكا وإسرائيل! وذلك عقب صلوات الجمعة، بما في ذلك ترديد الشعار في الجامع الكبير بصنعاء. - الحديث حول فلسطين وجرائم اليهود! - إثارة ما يؤلب الناس على الدولة بالحديث عن الأسعار والغلاء المعيشي والفساد المالي وفساد بعض المسئولين وأكل حقوق الضعفاء والمساكين! - إحياء الأوجاع التي وقعت في التاريخ الإسلامي وطوتها الأيام؛ لإثارة النعرات الطائفية تحت شعار "آل البيت" ونصرتهم! - إبراز مظاهر القوة والتحدي في مناسباتهم واحتفالاتهم المذهبية، كعيد الغدير ويوم عاشوراء! - إثارة المخاوف الطائفية ممن يصفونهم بـ "الوهابية" و"السلفية" ... ! المصدر: العالم الإسلامي تحديات الواقع واستراتيجيات المستقبل (تقرير عن مجلة البيان) ثمار التغلغل الرافضي المرة- أنور قاسم - ص: 398 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 389 - بدر الدين الحوثي هو بدر الدين بن أمير الدين بن الحسين بن محمد الحوثي ولد في 17 جمادى الأولى سنة 1345هـ بمدينة ضحيان، ونشأ في صعدة. ويعتبر الأب الروحي للجماعة. - بدر الدين الحوثي رافضي بالمعنى الأعم جارودي بالمعنى الأخص وتجلى ذلك من خلال طعنه في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم والتقارب الكبير بين أقواله وأقوال أئمة الرافضة كما بيناه سلفاً. - بحكم مدرسته العلمية التي نشأ فيها وهي مدرسة الجارودية المتواجدة في اليمن من فرق الزيدية يمكننا أن نصنفه ضمن هذه المدرسة "الجارودية" والتي لا تختلف كثيراً عن الرافضة وهذا ما أصل له بدر الدين الحوثي في كتيبه الزيدية في اليمن والذي كتبه في وقت مبكر. - استطاع الرافضة أن يؤثروا على بدر الدين الحوثي من جوانب عدة لعل أبرزها تلميذه الرافضي الاثنى عشري حسن الصفار زعيم الروافض في المملكة العربية السعودية. والجانب الآخر هو احتضان إيران لبدر الدين الحوثي إثر موقفه المؤيد للانفصال في حرب صيف 1994م والتي فر بدر الدين الحوثي على إثرها إلى إيران، فوجد ملاذاً أمناً ودولة تستقبله وتفتح له صدرها عارضة عليه كل ما تقدر عليه في سبيل نصرته وتبنيه، فلم يجد بدر الدين ضيراً من أن يرتمي بأحضان الروافض لاسيما وقد صنف هذا الكتيب الذي يتحدث عن التقارب بين الزيدية "الجارودية" ولم ير الحوثي كبير فرق لاسيما وأن الطرفين يتفقان في أبرز العقائد التي تجعلهم في مفترق طريق مع خصومهم من أهل السنة، كسب صحابة النبي صلى الله عليه وسلم والنيل من رواة الحديث إضافة إلى ما أثبته الحوثي من تقارب في غيرها من العقائد كإنكار رؤية الله عز وجل وغيرها، ولم يكتف الحوثي بهذا التأصيل للتقارب والتطابق بين الفكرين والمعتقدين، فضرب بأقوال الهادي وعبد الله بن حمزة والسيد حميدان، بل والإمام زيد بن علي نفسه في الروافض التي تثبت بأن ثمة فروقاً جوهرية بين الفرقتين ليثبت عكس ما أثبت أئمته وشيوخه إن كان زيدياً أصيلاً، لكن كما أشرت سابقاً بأن بدر الدين الحوثي كان جارودياً بعد أن نحمل كلامه على أحسن ما يحتمله وهو لا يحتمل أكثر من هذا، والله بعباده خبير بصير. المصدر: التشيع في صعدة لعبد الرحمن المجاهد 2/ 72 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 390 - حسين بدر الدين الحوثي حسين الحوثي ينتمي إلى أسرة هاشمية يرجع نسبها إلى الحسن بن علي بن أبي طالب؛ أما والده فهو العلامة بدر الدين الحوثي أبرز علماء ومرجعيات المذهب الزيدي في اليمن. تلقى تعليمه في المعاهد العلمية من الابتدائية وحتى الثانوية، كما تلقى المذهب الزيدي على يد والده وعلماء المذهب في صعدة، وتفيد بعض المصادر بأنه أتم تعلميه الجامعي وحصل على الماجستير والدكتوراه خارج اليمن! كان عضواً في مجلس النواب عن دائرة مران بصعدة من العام 1993م - 1997م، وتفرغ عقب خروجه من مجلس النواب لنشر أفكاره ومعتقداته من خلال الدروس والمحاضرات والخروج الدعوي إلى المناطق، وقيادة تنظيم "الشباب المؤمن" وتشكيل فروع له، وإنشاء حوزات ومساجد تابعة له. المصدر: العالم الإسلامي تحديات الواقع واستراتيجيات المستقبل (تقرير عن مجلة البيان) ثمار التغلغل الرافضي المرة- أنور قاسم - ص 400 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 391 - عبد الكريم جدبان عبد الكريم جدبان شخصية شيعية شبابية كثيراً ما دار حولها الجدل في صحة ارتباطها بتنظيم الشباب المؤمن من عدمه، لاسيما بعد الحرب البسوس التي دارت في صعدة. هو عبد الكريم أحمد جدبان، من مواليد النظير رازح صعدة عام: 1965م. وهو عضو مجلس النواب عن الدائرة 267 رازح بصعدة، اعتقله الأمن السياسي عام 1988م على خلفية مشاركته في أحد المؤتمرات بإيران، وعضو لجنة تأليف مناهج التربية والتعليم. يعتبر جدبان من شباب حزب الحق ذو التوجه الشيعي الواضح؛ الذين انتموا إليه في وقت مبكر وعملوا من خلاله إلى أن تم خروجهم عنه وتشكيلهم لتنظيم الشباب المؤمن ذو التوجه الرافضي الجلي. المصدر: التشيع في صعدة لعبد الرحمن المجاهد 2/ 136 خلاف جدبان مع زعماء حزب الحق: كان جدبان يرى مع زملائه من ذوي الطاقات المتوقدة والطموحات الكبيرة بأن حزب الحق يسيطر عليه قيادات معتقة ذات نمط تقليدي قديم، وأنه لابد من إصلاح مسار حزب الحق من الداخل والتخلص من هذه القيادات، وكان من ضمن وسائله في ذلك حضوره لبعض المؤتمرات في إيران، وشعور الإيرانيين بأن هؤلاء الشباب هم خير من يحقق لهم الأهداف الإيرانية في اليمن. وبالفعل بدأ هؤلاء يخرجون من كهف التقية من خلال النشرات والدوريات والأنشطة المختلفة التي بدؤوا يظهرون فيها عقائدهم الاثنى عشرية، ويثنون على إيران وحزب الله، ويزعمون أنه لا خلاص للأمة إلا من خلال نهج ما نهجوه في سبيل التغيير نحو الأفضل. المصدر: التشيع في صعدة لعبد الرحمن المجاهد 2/ 142 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 392 المبحث الثالث: حسين الحوثي والتمرد الأول بدأت تتجلى ظاهرة حسين الحوثي فيما يطرحه من المسائل والآراء، فظهر تطاوله وتهجمه على علماء الزيدية، وآراء المذهب وكتبه! معتبراً نفسه مصلحاً ومجدداً لعلوم المذهب وتعاليمه! وتجاوز الأمر إلى حد السخرية من كتب الحديث والأصول وإظهار شتم الصحابة وأمهات المؤمنين "رضي الله عن الجميع"، وهو ما دفع علماء "الزيدية" لإصدار بيان نشرته صحيفة "الأمة" الناطقة باسم حزب "الحق"! وهو متأثر بعقائد الرافضة وميال إلى مذهبهم الاثنى عشري، ويثني كثيراً في محاضراته – التي أصبحت تباع كملازم – على الثورة الإيرانية والإمام الخميني والمرجعيات الشيعية في النجف وقم! .... كما أظهر حسين الحوثي تأييده وتأثره بـ "حزب الله" الشيعي اللبناني، وربما رفع أعلامه في بعض المراكز، كما عمد إلى رفع شعار: "الله أكبر ... الموت لإسرائيل، الموت لأمريكا، النصر للإسلام" دافعاً بشباب التنظيم وأتباعه لترديده عقب صلاة الجمعة في العديد من المناطق، بما في ذلك جوامع صنعاء والجامع الكبير بها. وقد استطاع من خلال دعم الدولة وأتباع المذهب ودعم جهات خارجية من ضمنها إيران وشخصيات ومؤسسات شيعية في المنطقة من إقامة عشرات المراكز العلمية "المسماة بالحوزات" في صعدة وعمران ومأرب والجوف وحجة وذمار .. وصنعاء. وكان لهذه المراكز نشاط ملموس في إقامة المخيمات الصيفية والندوات والمحاضرات والدروس؛ ونشر العديد من "الملازم" والكتب التي تروج لفكره وتحرض أتباع المذهب الزيدي على اقتناء الأسلحة والذخيرة تحسباً لمواجهة الأعداء من الأمريكيين واليهود، واقتطاع نسبة من الزكاة لصالح المدافعين عن شرف الإسلام والمذهب!! وبرغم ضيق الحكومة من تصرفاته إلا أنها لم توقف دعمها المالي عنه، وحاولت في مقابل ذلك إقناعه بالعدول عن توجهاته وأفكاره كونها تثير الفتنة المذهبية والطائفية والسلالية وتعد خروجاً على الدستور والقانون؛ وأوفدت عدة وسطاء من علماء المذهب الزيدي وبعض الشخصيات الهاشمية وعلماء دين ومشايخ قبائل لإقناعه بالعدول عما هو عليه؛ لكنه لم يأبه بالأمر واستمر في الدفع بشبابه "الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 - 25 عاماً" لإظهار ثقله الديني والسياسي بالتظاهر في معظم المساجد وعقب صلوات الجمعة وترديد شعاراتهم ضد إسرائيل وأمريكا، وقد بلغ الأمر في إحدى المظاهرات بسقوط قتلى أثناء مسيرة نظمها التنظيم باتجاه السفارة الأمريكية إبان حرب العراق، في 2003م. وبدأ الصدام بين الدولة وأتباع الحوثي يأخذ طابع الاعتقال، وإغلاق المحلات من مكتبات وتسجيلات شيعية، في حين بدأ حسين الحوثي في التحصن في جبال مران حيث مسقط رأسه ومعقد الولاء المذهبي له، فأقام تحصينات إنشائية وزود أتباعه بالسلاح والذخيرة، وبدأ بالتعبئة ضد أي عدوان أمريكي أو إسرائيلي! وأحاط نفسه بإجراءات أمنية صارمة؛ وبدا الأمر وكأنه استعداد لخوض مواجهة عسكرية مؤكدة وليست محتملة! كانت ملاحظات الدولة تجاه الحوثي تتمثل في: قيام ميليشيات، وتحصينات دفاعية، واقتناء أسلحة، وتوزيع أموال! ونتيجة لعدم تجاوبه، اتخذ القرار بفرض حصار عليه وتطويقه لكي يسلم نفسه! وعندما بدأ التطويق قام بالعدوان المسلح على الجيش والأمن! وبالتالي فرض عليهم القتال بالرغم من أنه لم يكن هناك قرار بالقتال! ... في هذه الأثناء كانت الوساطات مستمرة لكنها فشلت في إقناعه بتسليم نفسه! وعندها – فيما يبدو – شعرت الدولة بخروج الأمر عن السيطرة، وبوجود مؤامرة مدبرة من حليف الأمس! ففرضت قوات الأمن والجيش طوقاً على المنطقة وحاصرتها، وبدأت في المواجهة مع أتباع الحوثي المتحصنين في 18 يونيو! بعد أن تعرضت لاعتداءات متكررة! وبدأ الحديث إعلامياً من ادعاء الحوثي "الإمامة"، وقيل "المهدية"، وقيل "النبوة"، من قبل صحف المؤتمر ووسائل الإعلام الرسمية التي كالت عليه أوصاف التمرد والخروج على الشرعية! المصدر: العالم الإسلامي تحديات الواقع واستراتيجيات المستقبل (تقرير عن مجلة البيان) ثمار التغلغل الرافضي المرة- أنور قاسم – ص: 400 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 393 المبحث الرابع: شعاراتهم ضد أمريكا وموقف الأمريكان منهم "الموت لإسرائيل .. الموت لأمريكا"، بهذا الشعار البراق انطلقت حركة الحوثي في تشكيل تنظيم "الشباب المؤمن" الذي وجه أسلحته إلى قوات الجيش والأمن اليمني رافضاً نزع سلاحه الذي سيواجه به أمريكا! إذاً أمريكا ليست بعيدة عن الحدث، وكان من المفترض أن تقف وراء الحكومة اليمنية في حربها ضد الحوثي، هذا إذا كانت صادقة في حربها ضد الإرهاب أياً كان دينه ومذهبه وشكله! خاصة وأنها مستهدفة بشعار تنظيم "الشباب المؤمن"! إلا أن نائب السفير الأمريكي بصنعاء نبيل الخوري قال في تصريح لصحيفة "الأيام 4450": "من المؤسف أن تضطر الدولة اليمنية إلى مواجهة تمرد جديد في منطقة صعدة في ظروف هي بأمس الحاجة فيه للتركيز على الإصلاح الاقتصادي والحوار الوطني، والبدء بالإعداد لانتخابات عام 2006م". وفي حين "ندد! " بالتمرد دعا "إلى الهدوء والحوار والابتعاد عن التحديات واللجوء إلى العنف". وهذه التصريحات تأتي على غير المعتاد من اللهجة الأمريكية في تأكيد الشراكة الأمريكية اليمنية في مكافحة الإرهاب! ومن الغريب جداً أن الولايات المتحدة الأمريكية ومن خلال سفارتها في اليمن عملت على شراء الأسلحة من القبائل وأسواق السلاح المنتشرة "وفي صعدة بالذات" تحت ذريعة إنهاء معالم التسلح في البلاد، دون أن توضح مصير تلك الأسلحة، والتي يذهب البعض إلى أنها قدمت عبر وسطاء للحوثي وأتباعه، بدليل وجود أسلحة متطورة وكميات من الذخيرة بل اكتشاف مخازن لها في صعدة حيث ينتشر أتباع الحوثي! وهو ما نفته سفارة الولايات المتحدة الأمريكية بصنعاء في يونيو 2004م، عقب الأنباء التي تناقلتها بعض وسائل الإعلام المحلية! عن كون زيارة السفير الأمريكي إلى محافظة الجوف كانت بغرض شراء الأسلحة أو كونها ذات علاقة بالحملة العسكرية ضد تمرد حسين الحوثي. إن أمريكا لم تكن في يوم من الأيام عدواً للحوثي، كما لم يكن الحوثي وأتباعه أعداء لها، وهذا ما أكده يحيى بدر الدين الحوثي – وهو نائب في البرلمان اليمني – في حوار مع قناة العربية، من محل إقامته بالسويد، في 26/ 4/2005م، حيث قال: إن مأزق السلطة اليمنية المتمثل بضرورة تسليم إرهابيين يمنيين إلى الولايات المتحدة دفعها إلى اختلاق عدو وهمي لأمريكا لذر الرماد في العيون. وبخصوص الأحداث التي شهدتها مناطق جبال مران وهمدان وصعدة منذ يونيو 2004م, قال يحيى الحوثي إن الحكومة اليمنية شجعت بادئ الأمر شقيقه حسيناً على توجيه انتقادات ضد واشنطن، وعملت على إيجاد مناخ محرض في هذا الاتجاه، للفت نظر الولايات المتحدة إلى "عدو مفترض" في اليمن. وشدد على أن الزيديين في اليمن "لا يعادون أحداً" وأنهم "عاشوا طوال تاريخهم في اليمن وبين ظهرانيهم مسيحيون ويهود من دون أن يلحقوا أذى بهم". المصدر: العالم الإسلامي تحديات الواقع واستراتيجيات المستقبل (تقرير عن مجلة البيان) ثمار التغلغل الرافضي المرة- أنور قاسم – ص: 410 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 394 المبحث الخامس: الولاية عند حسين الحوثي يعتقد حسين بدر الدين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أعلن أن خليفته علي بن أبي طالب. يقول: "نجتمع في هذا اليوم بمناسبة إحياء ذكرى إعلان ولايته على الأمة كلها، الإمام أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، وسلم على أهل بيت رسول الله الذين نهجوا وساروا بسيرته، فأصبحوا هداة للأمة ورضي الله عن شيعتهم الأخيار .......... , يستخلص من كلامه بعض آرائه) منها:) أولاً: اعتقاد حسين بدر الدين بأن ولاية على ثابتة بالنص الجلي الواضح والصريح من الله عز وجل إلى رسوله ومنه إلى الأمة يوم غدير خم، وهذه بعينها عقيدة الشيعة الاثنى عشرية من الرافضة. ثانياً: اعتقاده ضلال الأمة وعصيانها لرسولها يوم غدير خم، وتنكرها لأمر نبيها بعد أن قال: بأن عشرات الآلاف من المسلمين تجمعوا في الغدير لسماع أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم باستخلاف علي من بعده، وبأنه وحي بحسب ما استند عليه من آية البلاغ. وهذا الاعتقاد الغالي الذي يجعل الأمة ضالة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والأمة بمجموعها معصومة لا تجتمع على ضلالة. ثالثاً: تشبيه مجتمع الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار ممن اختار أبا بكر وعمر وعثمان بعد النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم، بأمريكا وإسرائيل وبأن الأمة فرضت هؤلاء كما فرضت هاتان الدولتان الكافرتان الأنظمة العميلة اليوم. وهذا تشبيه فيه تكفير للأمة بمجموعها، ونزع صفة الخيرية منها التي أثبتها الله لها في قوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران: 110]. ورابعاً: تصريحه بكفر من رفض إمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم. المصدر: التشيع في صعدة لعبد الرحمن المجاهد 2/ 78 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 395 المبحث السادس: حسين الحوثي وموقفه من الصحابة يرى حسين الحوثي بأن الخلفاء الراشدين يعتبرون سيئات من سيئات عمر، وأن الأمة تعاني من مخالفتهم لله ولرسوله، رضي الله عن الجميع، وبرأهم مما قال الحوثي. يقول حسين الحوثي: "حقيقة مهمة: قضية أبي بكر وعمرو إذا كان هناك أي أحد يريد أن يسأل ويستفسر بكامل حريته، نتحدث حول الموضوع، إذا كان لدى أي أحد إشكال في القضية، أو في نفسه ميل قليل إلى أبي بكر وعمر وعثمان يستفسر، القضية لا بد أن يصل الناس فيها إلى موقف. معاوية سيئة من سيئات عمر – في اعتقادي – ليس معاوية بكله إلا سيئة من سيئات عمر بن الخطاب، وأبو بكر هو واحدة من سيئاته، عثمان واحدة من سيئاته، كل سيئة في هذه الأمة كل ظلم وقع للأمة وكل معاناة وقعت الأمة فيها المسئول عنها أبو بكر وعمر وعثمان، عمر بالذات لأنه هو المهندس للعملية كلها، هو المرتب للعملية كلها فيما يتعلق بأبي بكر" (1).ويقول معلقاً على إمامة أبي بكر: "ما زال شرها إلى الآن "يعني بيعة أبي بكر"، وما زلنا نحن المسلمين نعاني من آثارها إلى الآن، هي كانت طامة بشكل عجيب، ... ، والأمة كل سنة تهبط نحو الأسفل جيلاً بعد جيل إلى أن وصلت تحت أقدام اليهود، من عهد أبي بكر إلى الآن" (2).إن هذا الحقد الفارسي الذي يصب على الفاروق عمر ليس لشيء في الحقيقة، وليس لأنه أول من أعان على بيعة أبي بكر وليس لأنه جعل الأمر بعده في أهل الشورى رضي الله عن الجميع بقدر ما هو حقد على أن أطفأ نار المجوس وكسر شوكة الفرس، وهو الفكر والمعتقد الذي يتبناه رافضة فارس وهو بعينه ما حكاه الشيعي عبد الله شبر في كتابه (حق اليقين) فقد أفرد فصلاً كاملاً بعنوان: "الفصل الرابع: المطاعن التي ذكرها العامة في الخلفاء الثلاثة" في عشرين صفحة فليرجع إليه، وخلاصته هي نفس ما يعتقده حسين الحوثي والشباب المؤمن في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم مما ذكرناه وسنذكره" (3).وهو النفس الملحوظ في كتابات الشيعة المعاصرين، ومن هؤلاء التيجاني فقد جاء بكلام في عمر هو نفس ما أورده حسين الحوثي، يقول التيجاني: "ولكن المتتبع للتاريخ يعرف أن عمر بن الخطاب كان هو الحاكم الفعلي حتى في خلافة أبي بكر ولذلك نرى أبا بكر يستأذن من أسامة بن زيد أن يترك له عمر بن الخطاب ليستعين به على أمر الخلافة" (4). ويرى حسين الحوثي أن تولي أبا بكر وعمر مانع من موانع الهداية.   (1) ((سورة المائدة الدرس الأول التولي لليهود وخطورته)) (ص: 2)، و ((سورة المائدة الدرس الثاني)) لحسين الحوثي (ص: 32، 28). (2) ((سورة المائدة الدرس الأول التولي لليهود وخطورته)) لحسين حوثي (ص: 3). (3) انظر ((حق اليقين)) لعبد الله شبر، (ص: 231)، وما بعدها. (4) ((مع الصادقين)) لمحمد التيجاني السماوي، مؤسسة الفجر – لندن – الطبعة الثانية – 1411هـ، (ص: 9). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 396 يقول معلقاً على تفسير قوله تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة: 55]: هكذا يدفع أولئك الذين يحاولون بأي وسيلة أن يدفعوا الآية عن أن تكون نزلت في الإمام علي عليه السلام، يدفعهم إلى أن يجعلوا كتاب الله الذي أحكمت آياته ولا ككلام الناس العاديين، دع عنك البلغاء والعقلاء من الناس، هذا كله من أجل من؟ من أجل عمر؛ لأنه إذا كانت الآية في هذا المقام المهم هي تتحدث عن نوعية عالية جداً من المؤمنين وتكون في علي بن أبي طالب يعني علي بن أبي طالب أفضل من أبي بكر، إذا كان علي بن أبي طالب أفضل من أبي بكر وعمر فهذه هي الطامة على تسعين في المائة من الأمة، يعتبرونها كارثة عليهم، أن يكون علي بن أبي طالب أفضل من أبي بكر وعمر، فلهذا قلنا: من في قلبه ذرة من الولاية لأبي بكر وعمر لا يمكن أن يهتدي إلى الطريق التي تجعله فيها من أولئك الذين وصفهم الله بقوله: فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: 54]. فيا لفظاعة ما يعتقده حسين الحوثي! أي رجل هذا وأي عدو للدين من يجعل الحوثي مجرد ذرة من ولاء أو حب أو عاطفة له مانعاً للهداية وطريقاً للغواية وسبباً للضلال! إنهما الصديق والفاروق صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم – يا ترى – بهذه النفسية تجاه أبي بكر وعمر وهما صاحباه هل كان لا يحمل لهم حتى مثقال ذرة من ولاء!!. أم أن الحقد الرافضي على الصحابة هو الذي حمل الحوثي على أن يعبئ أتباعه بهذه التعبئة، فبربك أي جيل ينشئه هذا الرافضي وأي شباب نأمله من وراء هذه التربية المنحرفة والفكر الشاذ والمنطق العقيم والنظر الرمد، والبصيرة العمياء التي يربي عليها الحوثي أنصاره وشبابه بأن من كان سبباً في قمع الكفر والزيغ إن واليته ولو بمثقال ذرة من الولاء القلبي فإنك تحرم من الهداية!.ويقول متهكماً: لأنهم "يعني أهل السنة" عندما صرفا هذه الآية عن الإمام علي عليه السلام ليلبسوها أبا بكر، وأبو بكر لا تتلبس عليه، كبيرة عليه، وسيعة عليه، أكمامها طويلة عليه، تغطيه حتى لا ترى أبا بكر بكله داخلها، عندما صرفوها إلى ذلك عموا عن الحل، أليست طامة؟ هذه طامة" (1).ويصف من يواليهم بمخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويصف من يواليهم بالخبث، فيقول: "إذا لم تدعه هو "يعني الرسول صلى الله عليه وسلم" فستصبح تلقائياً في جانب الشر وفي جانب الخبث، فتصبح خبيثاً، إذاً فلتأت إلى الآخرين "أبي بكر وعمر"، بل الكل من الصحابة أنفسهم ليس لأحد هذا المقام "يعني مقام الولاء لهم" (2).   (1) ((سورة المائدة الدرس الأولى التولي لليهود وخطره)) لحسين الحوثي، (ص: 25). (2) ((سورة المائدة الدرس الثالث)) لحسين الحوثي (ص: 18). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 397 فمتى كان ولاء من رضي الله عنهم ورضوا عنه خبثاً وشراً! ويقول في عمر رضي الله عنه: "له أهداف أخرى آمال أخرى، هو لا يهمه أمر الأمة تضل أو لا تضل فيحول بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين كتابة هذا الكتاب، ... ، ألم يكشف لنا هنا نفسية عمر أنه إنسان لا يهمه أمر الأمة، أنه إنسان لا يتألم فيما إذا ضلت الأمة، إنه إنسان يحول دون كتابة كلام يحول دون ضلال الأمة، هل هذا إنسان يهمه في أعماق نفسه أمر الأمة وأمر الدين؟ لا. إذاً فهذه النوعية هي التي لا تصلح إطلاقاً أن تحمل لها ذرة ولاء، ... ، فعمر وكل من في فلكه ليسوا أمناء على الأمة، ولا يمكن أن يكونوا هم الأعلام الذين تقتدي بهم الأمة، ولا يمكن أن يؤيد الإسلام ولا كتابه ولا رسوله أن تلتف الأمة حول عمر ويكون علماً كما يصنع الآخرون" (1). ويرى حسين بدر الدين أن مجتمع الصحابة كانت له عثرات كبيرة طفحت بالتبرير لها كتب المفسرين كانت آثارها باقية إلى اليوم. يقول: "المفسرون السابقون وقضية إسرائيل وقضية ما وصلت إليه الأمة ليست نتاج هذا العصر فقط، الزلات وأخطأ قديمة جدا جداً جاءت من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدايتها من يوم السقيفة، لم يثقوا بالله لم يثقوا برسوله لم يعرفوا كتاب الله المعرفة المطلوبة" (2). وكأنه يرى أن خطيئة الأمة وخطيئة الصحابة وجريمتهم عياذاً بالله من ذلك وهي اختيارهم لأبي بكر خليفة للمسلمين، وهذه هي عقيدة الرافضة وعقيدة الإيرانيين الذين يمجدهم حسين الحوثي. ونلاحظ أن عقيدة حسين الحوثي في الخلفاء الراشدين نابعة عن عقائد الرافضة، ولم تكن فلتة لسان أو زلة قلم، وقد رأينا كثيراً من ذلك في ملازمه ومحاضراته. ومن ذلك ما يعتقده في أبي بكر وعمر، يقول حسين الحوثي: "هناك – يعني في خيبر – أعطى الرسول صلى الله عليه وآله الراية أبا بكر ثم قال: يمضي، ذهب أبو بكر بالجيش فهزمه اليهود فعاد، ثم أعطى الراية في اليوم الثاني عمر فاتجه إلى اليهود فهزموه فعاد، ولأن نفسه كبيرة رجع يجبن أصحابه ويجبنونه. الرسول صلى الله عليه وآله لديه فرسان أقوياء وقادة آخرين غير أبي بكر وعمر، فهم لم يكونوا معروفين بالفروسية، لم يكونوا معروفين بالقوة في ميدان القتال" (3).ويقول عن عمر رضي الله عنه: "وكان عمر معروفاً بغلظته، وكانت الدرة لا تكاد تفارق يده، غلظة وقسوة، والدرة يضرب بها هذا وهذا، ولكنه كان في ميدان الجهاد إذا ما برز إلى الفرسان قال: "حيذي حياذة" (4). ولا يخفى على من له أدنى نظر واطلاع في التاريخ الإسلامي ما لأبي بكر وعمر من القوة والشجاعة والفروسية والعطاء في خدمة هذا الدين والدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم. وما أصدق قول الشاعر: قد ينكر الفم طعم الماء من سقم ... وتنكر العين ضوء الشمس من رمد   (1) ((سورة المائدة الدرس الثاني))، لحسين الحوثي، (ص: 33). (2) ((يوم القدس العالمي1))، لحسين بدر الدين، (ص: 16). (3) ((يوم القدس العالمي1))، لحسين بدر الدين، (ص: 19). (4) ((يوم القدس العالمي1))، لحسين بدر الدين، (ص: 23). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 398 وعثمان بن عفان كان لحسين الحوثي وقفة معه، يشكك في مصداقية عطاء عثمان وعلى فرض صحته فإنه يهون منه في الوقت الذي يجعل فيه إحياء آخر جمعة من رمضان والتي سماها إمامه الخميني بيوم القدس العالمي يجعل منها عبادة وجهاداً، أما تجهيز جيش العسرة، وشراء بئر رومة، ففيه نظر، ويجعل من إطلاق العيارات النارية في الهواء في عيد الغدير سبباً لحصول الأجر العظيم، ولا يحصل على الأجر من جهز جيشاً بكامله لنصرة الدين ونشر العقيدة. يقول حسين الحوثي: "لكنهم – يعني أهل السنة – متى ما تحدثوا عن غزوة تبوك تراهم منشغلين بأن عثمان أعطى مبلغاً كبيراً لتمويل هذه الغزوة، هذا هو المهم عندما يعرضوه في المناهج الدراسية، وعندما يتحدث أحد من الكتاب في السيرة أهم شيء أن يتحدث عما أعطاه عثمان من تمويل لهذه الغزوة الذي هو معرض للشك وانعدام الواقعية في أنه أعطى فعلاً" (1). ولم يأت الحوثي بجديد في هذا الباب فقد اغترف غرفة من معين الرفض، ومستنقع الإثنى عشرية، وله في أسلافه الحاقدين على الدين أسوة، وهذا الحقد الفارسي الأسود على عثمان ليس بجديد بل قد سطره أئمة الرافضة في بطون كتبهم، ونافحوا عنه من نصحهم وفند أباطيلهم، وباشروه واقعاً عملياً بأن قتلوه رضي الله عنه وهو يقرأ القرآن وقال ابن الحمق بعد أن طعنه تسع طعنات: أما ثلاثة فلله خالصة وأما ست فلشيء كان في نفسي على عثمان. ولو صدق لقال بأنها كلها لشيء كان في نفسهم على عثمان وعلى دين عثمان وعلى خلافة عثمان. المصدر: التشيع في صعدة لعبد الرحمن المجاهد 2/ 84 - موقفه من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ومن أعظم المنكرات التي يقوم بها حسين بدر الدين الحوثي ما يقوم به من بدعة منكرة وكبيرة عظيمة في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فيقوم بأخذ كلبة سوداء – أكرمكم الله – ويدفنها إلى منتصفها، ثم يقول لأتباعه: "ارموا عائشة التي لم يقم عليها الحد". المصدر: التشيع في صعدة لعبد الرحمن المجاهد 2/ 128   (1) ((يوم القدس العالمي1)) لحسين بدر الدين، (ص: 17). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 399 المبحث السابع: حسين الحوثي والزيدية وفي أكثر من موقف يشنع حسين بدر الدين على الزيدية وكأنه يشير إلى انحرافهم أو الطعن الخفي واللمز فيهم تحت دعوى حرقة المحب الناصح؛ ليجد المسوغ الذي جعله يرتمي في أحضان الرفض رافضاً للزيدية الحقة وراء ظهره. يقول حسين الحوثي: "الكثير الذين لا يعرفون وضعيتنا هذه، ولا يعرفون أين موقعنا أمام الله سبحانه وتعالى، إنه موقع تحت موقع اليهود والنصارى إن كنتم تفهموا هذه، تحت اليهود والنصارى؛ لأننا أضعنا، والزيدية بالذات تقع المسئولية عليهم أكثر من غيرهم، هؤلاء الذين تتحدث معهم ثم يستغربوا كل ما نقول، الذين نتحدث معهم ثم يروننا نتحدث عن شيء لا أساس له، لأننا أصبحنا الآن نعيش في حالة التيه كما عاش بنو إسرائيل" (1).ويقول عن الزيدية أيضاً: "إن الزيدية تعيش حالة من الذلة أسوأ من التي ضربت على بني إسرائيل علماؤنا وطلابنا، علمنا ومجتمعنا كله نعيش في حالة من المسكنة والذلة أشد مما ضربها الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل لأننا أضعنا المسؤولية" (2).ويقول عن الزيدية أيضاً: "بصراحة أقول هذه: إن الزيدية لا يتوقع أن تنهض إلا إذا نظرنا نظرة موضوعية لنصحح ثقافتنا، فما كان قد وصل إلينا عن طريق السنية، وما كان في الواقع هو من تراث السنية "أصول الفقه" هو سني ليس صحيحاً أنه من علم أهل البيت، دخل إلى أهل البيت ودخل إلى الزيدية وتلقفوه، علم الكلام جاء من عند المعتزلة والمعتزلة سنية "كتب الترغيب والترهيب" كثير منها ومنطق الترغيب والترهيب كثير منه من عند السنية، هذه علوم جاءتنا من عند فئة ضالة فأضلتنا فعلاً، ونحن نشهد على أنفسنا بالضلال" (3). فإذا كان الحوثي يرفض علم أصول الفقه بحجة أنه جاء من المعتزلة فعلام قبلت عقائدهم الفاسدة في الله عز وجل ولم ترفضها. ويقول في عدم جدارة بعض أئمة الزيدية وعدم كفاءتهم في منصب الإمامة: "فظهر لنا أئمة حتى داخل الزيدية ليسوا جديرين بأن يحكموا الأمة، وصدروا في تاريخنا كأئمة من أهل البيت وليسوا كاملين ولا مؤهلين فعلاً" (4). وإذا كانت مشكلة المشاكل هي الإمامة والحوثي غير مقتنع بأئمة الزيدية ولا بأئمة قريش ولا بزعماء اليوم فأين نلتمس الإمامة الشرعية هل فيه أم في الخميني؟! خلاف بين علماء الزيدية وحسين الحوثي: تباينت مواقف العلماء الذين ينتسبون إلى المذهب الزيدي حول تنظيم الشباب المؤمن بين التأييد تارة والإنكار أخرى بحسب مقتضى الحال ودواعي الضرورة، فتارة نراهم يستنكرون الحوثي، وأخرى نراهم فيها يستنكرون الحرب عليه ويصفونه بالعلامة (5)، وتارة ينعتونه بالخارج وتارة ينعتونه بالمجتهد والمجدد. ونتيجة للمواقف الصريحة التي يقفها حسين الحوثي من الزيدية ولدت ردة فعل عند العلماء المحسوبين على الزيدية، فأصدروا بياناً للبراءة منه جاء في نهايته: "فبناء على ما تقدم رأى علماء الزيدية التالية أسماؤهم التحذير من ضلالات المذكور وأتباعه، وعدم الاغترار بأقواله وأفعاله التي لا تمت إلى أهل البيت وإلى المذهب الزيدي بصلة، وأنه لا يجوز الإصغاء إلى تلك البدع والضلالات ولا التأييد لها، ولا الرضا بها: وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: 51].، وتحته توقيعات علماء الزيدية. كما يلاحظ أن هذا البيان ليس له تاريخ، والذي يبدو أنهم كتبوه بعد الأحداث، واندلاع الحرب حماية لأنفسهم، وإلا فلو كتب قبل الحرب لصرف الكثير من أتباعه عنه، وهو احتمال وارد لا نجزم به ولا نستبعده. والله أعلم. والذي نلحظه من عبارات حسين الحوثي أنه كان يعتمد على الأسلوب النقدي للآخرين، ويحاول إقناع الناس بما وصلوا إليه من الضعف بما يستثير كوامن النفس النزاعة إلى العنف لاسيما في مجتمع قبلي مثل صعدة، ثم نلاحظ النظرة القاتمة عن هذه الأمة المسلمة لدرجة أنه أوصلها إلى الحطيط في مرتبة أدنى عند الله من اليهود والنصارى. كما توحي النصوص بتسريبه لبعض الخلاف بينه وبين الزيدية وانتقادهم بشكل لطيف يوصل للسامع أن الزيدية قد تدجنوا وخنعوا، وركنوا إلى الدنيا، وتخلوا عن عقائدهم ومواقفهم تجاه الحاكم الظالم والمتجبر. المصدر: التشيع في صعدة لعبد الرحمن المجاهد 2/ 97   (1) ((لا عذر للجميع أمام الله)، لحسين الحوثي (ص: 5). (2) ((مسؤولية طلاب العلوم الدينية)) لحسين الحوثي، (ص: 16). (3) ((مسؤولية طلاب العلوم الدينية)) لحسين الحوثي، (ص: 18). (4) ((سورة المائدة الدرس الثاني))، (ص: 25). (5) انظر رسائلهم في ذلك في ((ملحق الزهر والحجر)) للأحمدي، (ص: 360، 377). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 400 المبحث الثامن: حسين الحوثي والثورة الإيرانية ورموز التشيع كثيراً ما كان يمجد حسين الحوثي الثورة الإيرانية وبأنها سبيل الخلاص للشعوب الإسلامية اليوم وبأنها النموذج الذي يجب أن يحتذى، إلى غير ذلك مما نراه من تمجيد لقيادات الثورة الإيرانية، ومدح لمناهجها وقادتها مما يوجد تشابهاً بالغاً، ومحاكاة كبيرة بين الحركة الحوثية والثورة الخمينية في إيران من جوانب كثيرة أهمها: [ارتكاز كل منهما على الفكر الجعفري الاثنى عشري.] [ومنها: الهالة التي يلقيها حسين الحوثي على رموز الفكر الاثنى عشري كالخميني وحسن نصر الله وغيرهما.] [ومنها: ما يمارسه عملياً من تقليد لما بدأت به الثورة الإيرانية التي بدأت بعبارات الموت لمن يعارضها.] [إضافة إلى وسائل التعبئة الإعلامية التي حوت عرض أفلام الفيديو لأتباعه عن الحرب العراقية الإيرانية وكيف كان الإيرانيون يتسابقون إلى الجنان أمام مجنزرات الجيش العراقي.] [ومن جوانب المحاكاة والتأثر وجود المدربين العراقيين وبعض عناصر الحرس الثوري في صفوف حسين الحوثي والذين كان لهم دور بارز في تأهيل مقاتلي الحوثي وتدريبهم وإعدادهم عسكرياً فيما يعدهم حسين الحوثي فكرياً.] يقول حسين الحوثي: "الإمام الخميني الذي عرف الحج بمعناه القرآني، هو من عرف كيف يتعامل مع الحج، فوجه الإيرانيين إلى أن يرفعوا شعار البراءة من أمريكا، البراءة من المشركين، البراءة من إسرائيل، ونحن هنا كنا نقول: لماذا يعمل هؤلاء؟، ... ، ونحن كنا نقول هنا ونحن شيعة الإمام علي عليه السلام: ما بال هؤلاء يرفعون "الموت لأمريكا/ الموت لإسرائيل" البراءة من المشركين هذا حج؟ " حج يا حاج" وحجنا نحن اليمنيين نردد: "حج يا حاج" عجالين ونحن نطوف ونسعى ونرمي الجمار نردد: "حج يا حاج" على عجلة. فالإمام الخميني عندما أمرهم أن يرفعوا البراءة من المشركين في الحج أنه هكذا بداية تحويل الحج أن يصبغ بالصبغة الإسلامية تصدر بإعلان البراءة قرأها الإمام علي عليه السلام وهي براءة من الله ورسوله، هذا هو الحج" (1).   (1) ((لا عذر للجميع أمام الله))، (ص: 14). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 401 ودائماً ما يصف حسين الحوثي الخميني بأنه الإمام وبأنه صاحب الأفكار المنقذة، وأن الله عاقب كل من وقف ضد إيران. يقول حسين الحوثي: "إن كل من وقفوا ضد الثورة الإسلامية في إيران في أيام الإمام الخميني رأيناهم دولة بعد دولة يذوقون وبال ما عملوا، من وقفوا مع العراق ضد الجمهورية الإسلامية، والتي كانت ولا تزال من أشد الأعداء للأمريكيين والإسرائيليين حيث كان الإمام الخميني رحمة الله عليه يحرص جداً على أن يحرر العرب ويحرر المسلمين من هيمنة أمريكا ودول الغرب ويتجه للقضاء على إسرائيل، لكن الجميع وقفوا في وجهه، ورأينا كل من قفوا في وجهه كيف أنهم ضربوا من قبل من أعانوهم، ومن كانت أعمالهم في صالحهم، الكويت ضرب والعراق ضرب، أليس كذلك؟ والسعودية أيضاً ضربت من قبل العراق، وضربت أيضاً اقتصادياً، أثقل كاهلها من قبل الأمريكيون، اليمن نفسه شارك بأعداد كبيرة من الجيش ذهبوا ليحاربوا الإيرانيين، ليحاربوا الثورة الإسلامية في إيران، الإمام الخميني كان إماماً عادلاً كان إماماً تقياً، والإمام العادل لا ترد دعوته كما ورد في الحديث، ومن المتوقع أن الرئيس اليمني وأن الجيش اليمني لا بد أن يناله عقوبة ما عمل" (1).ويرى الحوثي أن الخميني رحمة من الله على الأمة العربية، ونعمة لم يستفد منها العرب، ولم يراع العرب هذه النعمة بل وقفوا ضده وحموا أمريكا وإسرائيل منه (2).ويقول في الخميني: "الإمام الخميني الرجل القوي في خطته القيادية، في حركته السياسية، في ثقته القوية بالله سبحانه وتعالى، وماذا صنع العرب؟ وقفوا ضده. ألم يقف اليمن نفسه ضد إيران؟ ألم يرسل كتيبة من الجيش لتحارب الثورة الإسلامية في عصر الإمام الخميني؟ ألم يحارب العرب كلهم ذلك الرجل الذي كان أشد شخص على إسرائيل؟ لأن العرب لا يحملون قضية، ... ، من يتتبع أقوال الإمام الخميني من قبل انتصار الثورة الإسلامية بكثير كان دائماً يتكلم عن إسرائيل، ودائماً يحذر من إسرائيل، ودائماً ينبه على الطريقة الصحيحة للتخلص من إسرائيل وفي سبيل مواجهتها، لكن العرب بدلاً من أن يقفوا موقفه، وأن يقفوا تحت لوائه وقفوا ضده بينما اليهود هناك يبحثون عن أشد شخصية ليقفوا وراءها. يأتي في هذا الزمن مثلاً كالسيد حسن نصر الله كحزب الله، ونصر الله باعتباره شخصاً مهماً، ورجلاً قوياً، ولديه حنكة قيادية عالية، هل تسمع وسائل الإعلام العربي تتحدث عن حزب الله؟ أو تسمع وسائل الإعلام العربي تتحدث أو تعرض كلام نصر الله؟ " (3).   (1) ((خطر دخول أمريكا اليمن)) "ضمن سلسلة محاضرات من هدى القرآن الكريم" لحسين بدر الدين الحوثي، (ص: 3)، منقولة من أشرطة كاسيت، إعداد: ضيف الله صالح أبو غيدنة. (2) انظر: ((يوم القدس العالمي1))، لحسين الحوثي، (ص: 29). (3) ((مسؤولية طلاب العلوم الدينية)) "ضمن سلسلة دروس من هدي القرآن" لحسين بدر الدين الحوثي، (ص: 14)، ألقاها بتاريخ: 9/ 3/2002م، إعداد: ضيف الله صالح أبو غيدنة، تم الصف والإخراج بمكتبة الوحدة – صعدة، و ((يوم القدس العالمي1))، لحسين بدر الدين، (ص: 26). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 402 ويقول أيضاً: "في هذا الشهر الكريم – يعني رمضان – اقترح الإمام الخميني رحمة الله عليه – ذلك الرجل العظيم من سلالة بيت النبوة ومعدن الرسالة أن تكون آخر جمعة من شهر رمضان هي يوم يسمى "يوم القدس العالمي"، دعا الإمام الخميني كل المسلمين في مختلف أقطار الدنيا إلى إحياء هذا اليوم وتخصيصه لخلق الوعي في صفوفهم وتهيئة أنفسهم؛ ليكونوا بمستوى المواجهة لأعداء الإسلام، ففي عشرين من شهر رمضان عام 1399هـ الموافق الخامس عشر من شهر ثمانية 1979م أعلن الإمام الخميني هذا المقترح في دعوة وفي بيان عام وجهه للمسلمين جميعاً" (1). كما يرى حسين الحوثي أن إحياء هذا اليوم عبادة يؤجر عليها فاعلها. يقول: "إن إحياء هذا اليوم يعتبر فعلاً عبادة، وإن إحياؤه يعتبر أيضاً ممارسة جهادية في سبيل الله" (2). ونسي الحوثي بأن الأصل في العبادات التوقف وبما شرعه المعبود جل شأنه. ويتجلى من النصوص السابقة بوضوح تشبع حسين الحوثي بأفكار الثورة الإيرانية وتباكيه على الهزائم التي واجهتها سياسياً وعسكرياً، وقد صب جم غضبه على العرب عموماً وعلى اليمنيين خصوصاً بسبب مواقفهم في الحرب العراقية الإيرانية. كما يلاحظ تأثره إلى حد كبير بشخصية الخميني تأثراً تبعياً لا عاطفياً آنياً، ويبرز ذلك بوضوح في محاضرته التي تحمل عنوان: (يوم القدس العالمي1).ويقول عن الخميني أيضاً: "كان الإمام الخميني رحمة الله عليه يحذر الشيعة من هذا النوع من الخداع – يعني الخداع الأمريكي – قال – يعني الخميني -: يكفي الشيعة ما حدث في صفين أن ينشق آلاف من جيش الإمام على الذين أصبح بعضهم فيما بعد يسمون بالخوارج، خدعوا عندما رفع معاوية وعمرو بن العاص المصاحف وقالوا: بيننا وبينكم كتاب الله، عندما أحسوا بالهزيمة، وكان الإمام الخميني يحذر من الشيعة دائماً من الخدعة ألا ينخدعوا مرة ثانية" (3).ويقول ناقلاً عن إمامه الخميني: " كان يقول الإمام الخميني رحمة الله عليه: نفخر أن يكون أعداؤنا كأمريكا، وهذا مما يزيدنا بصيرة، وكان يقول بمعنى عبارته: لو أنني رأيت أمريكا تنظر إلي كصديق لشككت في نفسي" (4). فما بال حسين الحوثي اليوم يشكك في صدق أعداء أمريكا؟!   (1) ((يوم القدس العالمي1))، لحسين بدر الدين الحوثي، (ص: 2، 6). (2) ((يوم القدس العالمي1))، لحسين بدر الدين، (ص: 7). (3) ((خطر دخول أمريكا اليمن))، لحسين الحوثي، (ص: 4). (4) ((خطر دخول أمريكا اليمن))، لحسين بدر الدين، (ص: 11). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 403 كما يرى حسين الحوثي أن الثورة الإيرانية تراجعت عن بعض مسارات التغيير التي رسمها الخميني، ويرى ذلك نقصاً لا ينبغي أن يكون. يقول حسين الحوثي: "وإذاعة طهران قد خففت من منطقها كثيراً عن أسلوب ومنطق الإمام الخميني رحمة الله عليه" (1).ووصل الحال به بأن يرى أن الخميني قد وصل إلى مرتبة الكمال، فيقول عنه: "الإمام الخميني عندما جاء وهو رجل من هذا النوع "يقيم الصلاة"، رجل كماله كمالاً دينياً، كمالاً على وفق هدى الله سبحانه وتعالى، ما الذي حصل في إيران؟، ... ، وتحت قيادة هذا الرجل الديني الذي يفهم الدين أيضاً وليس رجل دين ممن يفهم الدين فهماً قاصراً بعيداً عن الحياة ما الذي عمله خلال سنوات محدودة؟ أربعين ألف كيلو متر من الخطوط في فترة قصيرة مقابل أربعة عشر ألف كيلو في زمن الشاه، وهكذا في بقية الشئون يبني مستشفيات يبني جسوراً يبني المدارس، المزارع، الكهرباء، التلفون، "ثم يواصل فيقول": ونحن نزور في إيران متجهين إلى منطقة في شمال إيران اسمها: "آمل"، ومعنا أشخاص إيرانيين ونحن نرى الكهرباء وكل الخدمات للقرى ألسنا هنا نطالب لمنطقة بأكملها ويعطونا مشروعاً واحداً فقط بعد ست سنين أو سبع سنين من المتابعة؟ " (2). ومن النص الأخير نلحظ ما يأتي: أولاً: شدة التأثر بالخميني، وقد لاحظت في جميع ملازم حسين الحوثي التي في يدي لا تخلو ملزمة من ذكر للخميني وتمجيده. ثانياً: الزيارة لإيران، وطبيعة الزيارة لآمل؛ لأنه ذكرها بلفظ: "نزور"، فلا ندري ما هو المقصود بالزيارة، والذي يغلب على الظن أنها زيارة لأضرحة وممارسة لطقوس دينية رافضية. ثالثاً: يحاول الحوثي أن يدغدغ مشاعر سامعيه بالحديث على المشاريع، ويدق – كما يقولون – على الوتر الحساس، الذي طالما أرقهم جميعاً، فيتكلم عن الخدمات في إيران والكهرباء والماء والهواتف، حتى يجعل السامع يتمنى أن يكون تحت حكومة إيران، ومن رعاياها. وقد ذكر أنه أيام الشاه كانت هناك أحياء في قلب طهران ليس فيها أي شيء من الخدمات. قلت: قد أخبرني من زار إيران بعد الثورة الإسلامية المزعومة، وقال لي: توجد أحياء سنية في طهران على هذه الصفة من عدم توفر أبسط الخدمات، والحقوق التي ينبغي أن يحصل عليها أي مواطن في الدولة المسلمة وإن كان يهودياً أو نصرانياً فضلاً عن أن يكون سنياً!!.أما حسن نصر الله فيرى أنه من هز أمريكا وإسرائيل، فيقول: "هل أحد منكم شاهد السيد حسن نصر الله في التلفزيون وهو يتكلم بملء فيه، وبكل قوة وبعبارات تهز إسرائيل، وليست عبارات واهية كما يتكلم زعماء العرب الآخرين يتكلم كلمتين أو ثلاث وسموه فارس العرب" (3). المصدر: التشيع في صعدة لعبد الرحمن المجاهد 2/ 115   (1) ((يوم القدس العالمي1)) لحسين الحوثي (ص: 11). (2) ((سورة المائدة الدرس الثاني))، لحسين بدر الدين، (ص: 16). (3) ((سورة المائدة الدرس الأول))، "التولي لليهود وخطورته" ضمن سلسلة دروس من هدي القرآن، لحسين الحوثي، (ص: 12)، إعداد: ضيف الله صالح أبو غيدنة، ألقيت بتاريخ: 13/ 1/2002م. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 404 المبحث التاسع: إيران والتغلغل الرافضي في اليمن لقد تبنت إيران – ومنذ قيام ما عرف بـ "الثورة الإسلامية" – مبدأ تصدير الثورة الشيعية إلى الوطن العربي والعالم الإسلامي، وإذا كان العراق مثل سداً منيعاً ضد التوسع الشيعي في منطقة الخليج .. فإن نظام إيران لم يتخل عن تواصله بالأقليات الشيعية في الخليج والجزيرة عموماً، بل سعى جاهداً إلى تصدير الفكر الشيعي إلى دول أخرى. وقد شكلت الأرضية المذهبية "الهادوية" في اليمن محضناً خصباً لهذا التغلغل الشيعي خاصة بعد حرب الخليج الثانية وتدمير العراق، وبذلت الدبلوماسية والسفارة الإيرانية في صنعاء جهداً مكثفاً لاستقطاب أتباع المذهب الزيدي منذ عام 1990م، حيث توجهت الأنظار إلى اليمن كلاعب إقليمي ناشئ ومؤثر. وهذا ما كان يحذر منه علامة اليمن ومحدثها الشيخ مقبل بن هادي الوادعي، فقد كان يردد – رحمه الله – المقولة المشهورة: "ائتني بزيدي صغير أخرج له منه رافضياً كبيراً"! إن الإعلان عن "حزب الله" في عام 1990م، وتشكيل تنظيم "الشباب المؤمن" ورفع شعارات الثورة الإيرانية و"حزب الله" في لبنان .. بل رفع علميهما، والتوجه إلى نقد المذهب الزيدي وتمرير عقائد الرافضة كسب الصحابة، وإقامة الحسينيات، والاحتفال بيوم غدير "خم"، وافتتاح العديد من المحلات التجارية والمكتبات والتسجيلات ذات المسميات الشيعية: الغدير، خم، كربلاء، الحسين، النجف وغيرها! وتعليق لافتات قماشية سوداء كتبت عليها عبارات وهتافات جعفرية مثل "يا حسيناه، يا علياه، من كنت مولاه فعلي مولاه، لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق" ... الخ، وتوزيع وبيع أشرطة وكتب وكتيبات ذات مضامين شيعية اثنا عشرية، ونشرات بمسميات "العترة" و"آل البيت" و"الحسين" و"المهدي" .. وغيرها، ونشر صور رموز شيعية كالخميني والصدر والسيستاني ورفسنجاني وحسن نصر الله ومقتدى الصدر وغيرهم ... جميعها مؤشرات على توجيه أياد خارجية ووجود صلات عقائدية وفكرية ودعم غير طبيعي لتنظيم "الشباب المؤمن" وحركة التمرد التي قادها الحوثي "الابن" ويقودها حالياً الحوثي" الأب"! لقد تردد في أوساط أتباع حسين الحوثي المقولة بأنه هو اليماني الذي رمزت إليه الآثار التي تضمنها كتاب المرجع والباحث الشيعي على الكوراني – من لبنان – "عصر الظهور"، وهو ما أعطى حركة حسين الحوثي بعداً شيعياً اثنا عشرياً! لقد أكد طارق الشامي – الناطق الرسمي في المؤتمر الشعبي الحاكم – في اتصال مع قناة "الجزيرة" أن التمرد جاء في "إطار مخطط كان معداً له أولاً من حيث إدخال مذهب جديد هو الاثنا عشرية والترويج له داخل المجتمع اليمني، وثانياً ما تم الاعتراف به على لسان الحوثي بوجود علاقة مع بعض المنظمات والحوزات الشيعية وزيارته لبعض الدولة العربية وإيران". إضافة إلى ذلك فإن لجوء العديد من شيعة العراق إلى اليمن تحت غطاء التدريس سهل من تغذية الروابط – كما يبدو بين التيارين – وقد أشارت صحيفة "أخبار اليوم" وصحيفة "الأيام" المستقلة، بحسب مصادر أمنية، إلى وجود مقاتلين عراقيين في صفوف أتباع الحوثي، واكتشاف جثث لهم، واعتقال بعضهم! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 405 وبحسب مصادر – نقلت عنها صحيفة "أخبار اليوم" في عددها "413" – فإن للسفير العراقي وعناصر أخرى استقدمها معه دوراً مباشراً في إعادة بناء التنظيمات الموالية لإيران في اليمن، في مقدمتها "الشباب المؤمن"، وأشارت المصادر للصحيفة بأن السفير استقبل خلال الفترة الماضية عناصر متورطة في تمرد الحوثي، بما فيها قيادات ناشطة ضمن مليشيات تنظيمه المسلح. بل ذكرت صحيفة "أخبار اليوم" في أحد أعدادها أن عدداً من أتباع بدر الدين الحوثي الذين استسلموا أثناء المواجهات الأخيرة أكدوا قيامهم بالتدرب في معسكرات تابعة للحرس الثوري الإيراني مع عناصر فيلق بدر التابع للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية بالعراق بعد سقوط بغداد، وكذلك في معسكرات يتخذها الفيلق في العراق منذ منتصف العام 2003م. وتهدف إيران من ذلك إلى عدة مسائل: منها استغلال جو التصالح والتقارب الشيعي الأمريكي في المنطقة عقب أحداث 11 سبتمبر، ومنها زيادة النفوذ الشيعي في دول الجزيرة والخليج بما يخدم البعد الاستراتيجي لإيران في المنطقة، ومنها تشتيت الذهن والجهد السني على امتداد الرقعة الجغرافية، كلبنان وسوريا والسودان واليمن ... إلى آخر ما هنالك من القائمة! بحيث تنصرف هذه الجهود عن العراق وخدمة التيار السني المقاوم فيه! إيران بدورها نفت الأنباء التي تحدثت عن مساندتها للمرجع الشيعي بدر الدين الحوثي، وذلك على لسان المتحدث باسم الخارجية الإيرانية حميد رضا آصفي، وذلك بعد سلسلة من الانتقادات التي حملتها الصحافة الإيرانية وبعض الرموز الدينية على السلطات لعدم إصدار أي رد فعل على الأحداث الجارية في اليمن مع أنصار الحوثي!! غير أن البيان الذي صدر عن "الحوزة العلمية في النجف"، بتاريخ 16/ 4/2005م، أظهر مدى التعاطف الذي يبديه الشيعة الاثنا عشرية لقضية تمرد حسين الحوثي على الدولة، ومحاولة تصوير الحدث على أنه "حملة مسعورة من الاعتقالات والقتل المنظم" ضد "الشيعة في اليمن سواء الزيدية منهم أو الإمامية الاثنا عشرية"، وعلى أنه "تصفية للشيعة بشكل جماعي لا سبق له في تاريخ اليمن إلا ما حصل بعد انقلاب السلال على حكم لإمامة"! وأهاب البيان "بكافة المحافل الدولية ومؤسسات حقوق الإنسان ومنظمة الأمم المتحدة ومنظمة العالم الإسلامي والجامعة العربية التدخل لدى الحكومة اليمنية لوقف هذا الاضطهاد الديني والقتل الجماعي الذي يمارس بحجة إخماد التمرد"، والذي "يعد اعتداء سافراً وتعدياً خطيراً على حقوق الإنسان في حرية الدين والمذهب والفكر". وفي عددها 282 الصادر في 29 أبريل 2004م أكدت مصادر مطلعة لصحيفة "الشموع" أن إيران – وضمن دعمها المادي والمعنوي لتمرد الحوثي – دعت الجمهورية العربية السورية إلى الوساطة والتدخل لدى النظام لإنقاذ ما تبقى من عناصر اثنا عشرية بإجراء تسوية سياسية مع هذه القوى، وذلك بالإفراج عن المعتقلين أولاً وفتح حوزة علمية في صعدة تكون لها ارتباطاتها مع المرجعية في "قم" بإيران والنجف "بالعراق"، مقابل تخلي هذه القوى عن حمل السلاح. المصدر: العالم الإسلامي تحديات الواقع واستراتيجيات المستقبل (تقرير عن مجلة البيان) ثمار التغلغل الرافضي المرة- أنور قاسم – ص: 405 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 406 المطلب الأول: المناسبات الدينية للشيعة في صعدة وكما هي عادة الشيعة في إحياء بعض المناسبات الدينية الخاصة بهم، فإن أهم المناسبات التي يحيونها هي: 1 - عيد الغدير وتكاد تكون هذه المناسبة هي أشهر المناسبات التي يحييها الروافض في "صعدة" ويحشدون لها الجماهير، كما أنها أشهر من حيث انتشارها في مناطق الشيعة التي أجريت عليها الدراسة، فهم يحيون هذه المناسبة في كل من: "صعدة" القديمة و "صعدة" المدينة في "قحزة" حيث يقومون بعرض أشرطة الفيديو في المنازل، وفي مديرية "سحار" في كل من: "الطلح" و "رحبان"، و "بني معاذ"، و "الأبقور"، و "ولد مسعو"، وفي مديرية "مجز" يحيون الغدير في عزلة "مجز" ويشارك فيها بعض سادتهم ومجموعة من طلابهم، وكانوا يمارسون القنص "الرماية" يوم هذا العيد، وإحياؤهم لها بشكل بسيط، وكذلك في "ضحيان" وهم في "ضحيان" من أكثر الشيعة حماساً لإحياء المناسبات الدينية؛ لتوفر الإمكانيات المادية والموارد البشرية التي تسهل لهم عملية الإعداد فالأماكن متوفرة، والمادة موجودة، والقائمون على الأنشطة والمعدون للبرامج متواجدون، إضافة إلى المشايخ والمرجعيات التي تزخر بها "ضحيان". ويلاحظ أن التأثر بالمد الشيعي الإيراني قد بلغ الذروة في "ضحيان" ولمسنا ذلك من خلال أمور منها: أ- الأشرطة الشيعية الإيرانية والعراقية التي تباع أو توزع أحياناً، لدرجة أنه إذا فازت إيران في كرة القدم أو حققت أي نصر سياسي فإنهم يبتهجون بذلك ويطلقون العيارات النارية، تعبيراً عن فرحتهم بذلك، وكذلك المساهمة الفاعلة في الحرب بما يوحي بانتقال الثقافة القتالية الإيرانية المصحوبة بشعارات صكوك الغفران، والسباق نحو الجنة. ب- الشعارات الشيعية الدخيلة على المجتمع اليمني، وقد رأيت شعارات كثيرة موجودة على الجدران وفي الطرقات، وبعضها أخبرني بها أهل "ضحيان" ومنها: [علي حبة جنة قسيم النار والجنة.] [لا يدخل الجنة إلا من له جواز من علي.] [على خير البشر فمن أبى فقد كفر.] [عيد الغدير أفضل أعياد أمتي.] [أصدق تعابير الولاء عيد الغدير.] [هل حزنت لما أحزن الرسول ... بنو أمية قتلوا سبط الرسول.] [كل ثائر حسين، وكل طاغية يزيد.] وغيرها من الشعارات ذات النبرة الرافضية الإيرانية. كما وجدت كثيراً من أشرطة رموز الرفض في العالم تباع وتوزع هناك، ومنها: أشرطة حسن نصر الله، وحسن الصفار، ومحمد حسين فضل الله، وغيرهم من رموز التشيع. 2 - يوم عاشوراء "مقتل الحسين". 3 - مقتل علي بن أبي طالب. 4 - رأس السنة الهجرة. 5 - مقتل الإمام علي. 6 - الإسراء والمعراج. 7 - الشعبانية "ليلة النصف من شعبان". وفي "الطلح" يحيون هذه المناسبات بالاحتفالات الممزوجة بالزوامل الشعبية، وإطلاق العيارات النارية، وقد بدأت تظهر بوادر الغلو الرافضي في هذه الاحتفالات وذلك من خلال النياحة، وما زالت هذه الظاهرة في بدايتها، ولعل سبب ظهورها هو قوة تنظيم الشباب المؤمن الذي بدأ ينقل التجربة الإيرانية إلى رافضة اليمن. وفي عزلة "ولد مسعود" تتضح مراسيم الشيعية الرافضة لإحياء هذه المناسبات من خلال: توزيع الذخيرة، ونصب النصع "الهدف" للقنص، والتباهي بذلك وسب الصحابة علناً. وفي عزلة "مجز" تختلف مراسيم الإحياء قليلاً من خلال تميزهم بالرحلات والحفلات الداخلية، والأشرطة الإيرانية التي تتكلم عن البعث والنشور بشكل مخيف يجعل الشباب بعد سماعها يذعنون لما يلقى عليهم أو يطلب منهم. أما في "النظير" من مديرية "رازخ" فإنهم يخرجون بأسلحتهم وزينتهم للقيام بطقوس الاحتفالات بشكل جماعي، ويطلقون النيران التي قد تعود على رؤوس الحاضرين. وفي "مران" حرص حسين بدر الدين على أن يجعل من "مران" مركزاً شيعياً كأنه يعيش في إيران أو في النجف، فكانت المناسبات الشيعية تقام على قدم وساق، وقد كانت المراسيم تقام في "مران" بدافع ديني تغذيه فتاوى حسين الحوثي حيث كانوا يقيمون الاحتفالات ويطلقون العيارات النارية، والتي كان الدافع في إطلاقها دينياً صرفاً بأحاديث كان يرويها لهم حسين الحوثي، بأنه من أطلق عياراً فله عشر حسنات، ومن أطلق عشرة عيارات كان له من الأجر كذا، وهكذا فكلما زادت العيارات النارية زاد الأجر. كما تميزت "مران" بإحياء مناسبة اثنى عشرية صرفة مثل: دعاء كميل، وهذا يقال كل ليلة خميس. وهناك بعض المديريات لا توجد فيها مراسيم إحياء المناسبات الدينية للشيعة مثل مديرية "غمر" التي انحصر نشاطهم في هذه المناسبات على المشاركة في "ضحيان" وغيرها من المناطق وبشكل بسيط، أما مديرية شدا فإنه تكاد تنعدم فيها مثل هذه المناسبات وكذلك مديرية "الظاهر" إلا المناطق المجاورة لـ "مران" منها فإنهم يشاركون بالحضور في "مران"، والقليل منهم يشارك شيعة "رازح" بالحضور بحكم الجوار. كما يقدسون قبر الإمام الهادي ويتمسحون به، وذلك عند زيارتهم له يوم الجمعة. المصدر: التشيع في صعدة لعبد الرحمن المجاهد - 1/ 37 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 407 المطلب الثاني: النشاط السياسي والإعلامي للشيعة في صعدة يعمل الشيعة سياسياً من خلال عدة أجندة يحققون من خلالها مكاسب ليست بالسهلة؛ بسبب وجودهم في أكثر من منبر سياسي؛ مما يجعل إمكانية نجاح المخططات المرسومة عالية؛ ذلك أن المخطط المرسوم إذا فشل في جانب تمكن من النجاح في جانب آخر؛ ولذلك فالشيعة يتواجدون في عمق السلطة، كما يتواجدون في أوساط المعارضة. ولذا فإن الشيعة استطاعوا أن ينتشروا في الميدان تحت أكثر من مسمى، فتجد منهم القيادي المؤتمري، وتجد منهم الاشتراكي النشط لاسيما في منطقة قحزة "من مدينة صعدة"، وفي مديرية "رازح"، ومديرية "ساقين". كما يعمل أغلب الشيعة الواضحين تحت مظلة حزبي الحق، واتحاد القوى الشعبية، وتنظيم الشباب المؤمن المنشق من حزب الحق. يتظاهر الشيعة بالانتماء إلى الحزب الحاكم، ومن خلاله يعملون لصالح تنظيم الشباب المؤمن، وهذا من شأنه يحقق للشيعة مكاسب مادية وسياسية تمكنهم من العمل تحت مظلة الدولة والحزب الحاكم مع بعد نظرهم إلى هدف أعظم من قضية موالاة السلطة أو الانتماء للحزب الحاكم. أما في جانب الإعلام فلهم صحف منتشرة على مستوى الجمهورية كصحف: الأمة والبلاغ والشورى، وهذه صحف لها انتشارها في الشارع اليمني عموماً، ولها القبول الأكبر في مناطق التشيع في اليمن، وفي "صعدة" منها على وجه الخصوص. كما أن لهم في مدينة "صعدة" نشرة بعنوان: خطر الوهابية والمطرفية، ونشرات أخرى تصدر عن المنتديات. المصدر: التشيع في صعدة لعبد الرحمن المجاهد - 1/ 58 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 408 المطلب الثالث: موارد الدعم المادي للشيعة في صعدة وفي "صعدة" يعتمد الشيعة على أكثر من مورد في سبيل نشر عقائدهم وأفكارهم، ومن أهم هذه الموارد ما يلي: 1 - الدعم الرسمي: استطاع الشيعة أن يحصلوا على دعم رسمي من الدولة، كتيار ديني يحقق مصالح معينة؛ من خلال إحداث توازن في الأوساط الدينية التي تعتمد عليها التيارات الأخرى وتعتبر الدين مرتكزاً لها في عملها السياسي، وتحت شعار محاربة الحزبيين الذين يعتبرونهم خصماً سياسياً، وقد صرح مسئولون كبار في الدولة بأن الشباب المؤمن كانوا يتلقون دعماً شهرياً. ويعتبر الشباب المؤمن دعم الدولة أحد مصادر الدعم وليس المصدر الوحيد؛ ذلك لأن لديهم جهات أخرى يتلقون منها الدعم والمساندة. 2 - الدعم الإيراني: السفارة الإيرانية تعد الأب المعطاء والأم الحانية التي لم تأل جهداً في دعم الشيعة في "صعدة"، فكانت تسلم أرباح المستشفى الإيراني في صنعاء مباشرة إلى حسين بدر الدين، إضافة إلى عائدات التفاح الإيراني، فضلاً عن الدعم المباشر الذي كان يصل إليهم بطرق خفية وغاية في السرية. كما يتلقون من إيران دعماً معنوياً وأدبياً، وقد سافر إلى إيران عدد لا بأس به منهم، وعلى رأسهم بدر الدين الحوثي، وكان سفره مبكراً في الثمانينات تقريباً، ثم أيام حرب الانفصال التي كانت في صيف 1994م، وكانت مواقفه مع الانفصال ففر إلى إيران، وكذلك سافر إلى إيران حسين بدر الدين وغيره من قيادات تنظيم الشباب المؤمن، وهذا هيأ أجواء من العلاقات بينهم وبين السفارة الإيرانية، والتي من خلالها وعبرها تمت الزيارات الميدانية إلى مناطق متفرقة من "صعدة". 3 - دعم شيعة الخليج: كما أن الشباب المؤمن يعتمدون على شيعة الخليج عموماً وشيعة "السعودية" على وجه الخصوص، لاسيما وأنهم مجاورون للسعودية، والدعم الشيعي الذي يأتيهم من شيعة "السعودية" تحت مسمى محاربة الوهابية في "صعدة"، والتي يعتقدون أنها تشكل خطراً على مذهب آل البيت على حد زعمهم. 4 - تجار السلاح والعملة: ومن مصادر الدعم المادي تجار السلاح والعملة في "صعدة"، حيث استطاع الشيعة السيطرة على الكثير من التجار الذين يتفاوت ولاؤهم وقناعتهم في دعم الشباب المؤمن، ولعل من أقوى موارد الدعم ما يحصلون عليه من التجار في "صعدة" وغيرها. 5 - الاستثمارات الصغيرة: وتعتبر الاستثمارات الصغيرة مورداً من موارد الدعم المادي لهم كالوكالات التجارية للمواد الغذائية، والمدارس الأهلية، والمكتبات، والتسجيلات، وعائدات الأندية، بالإضافة إلى الاعتماد على بعض الاستثمارات الصغيرة في الطلح؛ حيث توجد لهم مكتبتان، ولا زالت تفتح أبوابها إلى الآن، والثانية أغلقت بعد الحرب الأولى. ومن الاستثمارات التي تدعمهم: ثلاجات تبريد الفواكه في مديرية "مجز". 6 - زكاة الأنفس والأموال والزروع والثمار: إضافة إلى المزارعين والمواطنين عن طريق زكاة الأموال والأنفس، وزكاة الزروع والثمار؛ فـ "صعدة" مدينة زراعية فيها أصناف مختلفة من الفواكه والمحاصيل الزراعية، فكان أنصارهم من المزارعين والفلاحين يسلمون الزكاة لهم، وكانت الأموال تجمع إلى شخص بعينه، ثم توزع بحسب ما يتفقون عليه. 7 - كما يمتلكون عدداً لا بأس به من الشركات الاستثمارية أبرزها: [شركة غدرة للصرافة، في الشارع العام في "صعدة"، ولها فرع في صنعاء، وشركة أبو مسكة وغيرهما.] كما يعتمدون على تجار "سحار"، ولهم شركات وأعمال تجارية تعود عليهم بالمال اللازم منها: [محلات قطع غير السيارات، في "صعدة" المدينة.] [شركة الضو للأقمشة، ومقرها في "صعدة".] [جمعية الإمام زيد، ومقرها في جامع الهادي بـ "صعدة".] التجار والشباب المؤمن: وممن يدعمهم كثير من تجار السلاح والقات في "سحار" أيضاً، إضافة إلى بعض السماسرة بينهم وبين السفارة الإيرانية، إضافة إلى بعض الصيارفة والمزارعين. وفي "رازح" يعتمدون على تجار القات الذين يهربونه إلى "السعودية" ويعود عليهم بمبالغ طائلة، وتجار الذهب والأقمشة. ومن الداعمين لهم في "رازح": تجار "بركان"، وبعض تجار قطع الغيار في مركز شعارة، وبعض تجار القات. إضافة إلى ما يفرضونه من خمس على التجار المنتمين إليهم، وزكاة الناس حيث يفتونهم بعدم جواز دفع الزكاة إلى الدولة، ووجوب دفعها إلى المنتديات. ومن الداعمين لهم في "رازح": تجار ومهربي القات. 8 - وفي "ساقين" يظهر لنا مورد جديد لم يذكر من قبل من مواردهم المالية؛ ذلك أن الشيعة في "ساقين" يستغلون أموال الأوقاف والواجبات الزكوية التابعة للدولة لدعم مراكزهم وأنشطتهم، مع العلم أننا قد ذكرنا فيما سبق أنهم يفتون الناس بعدم جواز تسليم الزكاة للدولة، والملاحظ أن هذه الفتوى عندما يكون القائم على الواجبات أو الأوقاف ليس على شاكلتهم؛ أما عندما يكون منهم فإنهم يغضون الطرف عن دفعها إليه المصدر: التشيع في صعدة لعبد الرحمن المجاهد - 1/ 60 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 409 المطلب الرابع: الشبه التي يثيرها الشيعة في صعدة وتعتبر الشبهات من أهم وسائل الشيعة في إقناع الناس وجذبهم إليهم، وتشويه صورة أهل السنة أمام العوام، لاسيما وأن المجتمع في "صعدة" مجتمع بسيط وبدائي وفطري، فيقوم هؤلاء ببث هذه الشبهات لصرف الناس عن الحق وحتى تكون هذه الشبهات عائقاً أمام من يفكر بما عند الآخر من الحق والصواب، أو يقتنع بمذهب أهل السنة، كما يقومون ببث هذه الشبه لتشكيك أهل السنة بما هم عليه من الحق والهدى، وصدق الله عز وجل إذ يقول: فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [آل عمران: 7] وأبرز هذه الشبهات ما يأتي: [استحالة رؤية الله في الدنيا وفي الآخرة. ويعتقدون كفر من يقول بأنه سيرى الله، ولا يجيزون الصلاة خلفه.] [إنكار الشفاعة لأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والقول بتخليدهم في النار.] [الضم والتأمين، وعقد الولاء والبراء عليه.] [إنكار المعراج إلى سدرة المنتهى.] [دعوى ظلم آل البيت وأحقيتهم بالخلافة، واتهام أهل السنة باغتصاب الحكم على آل البيت، وأنهم ظلموا أهل البيت قديماً وحديثاً "قديماً من قبل العباسيين والأمويين، وحديثاً من قبل الأنظمة الحاكمة".] [الوهابية، والتحذير من قراءة كتبهم، أو الجلوس معهم، وخطر الوهابية على آل البيت، وأنهم جاؤوا بدين جديد يكفرون فيه الآباء والأجداد.] [إثارة الشبهات حول عمالة الدعاة والصالحين.] [إنكار بعض الصفات الإلهية بحجة نفي التشبيه والتجسيم، كما يقولون بأن الصفة عين الموصوف، وأن علم الله هو ذاته.] [في باب القدر يثبتون للعبد مشيئة خارجة عن مشيئة الله، ويزعمون أن العبد يخلق أفعال نفسه، وأن الله لا يخلق الشر.] [إنكار علو الله على خلقه.] [حديث الولاية وغدير خم.] [التشكيك في عدالة الصحابة وسبهم.] [نشر حديث الإفك في أم المؤمنين عائشة. حيث يشيعون أن عائشة – رضي الله عنها وبرأها الله مما يقولون – ارتكبت جريمة الزنا، وأنها ليست من أمهات المؤمنين.] [ظلم الصحابة لفاطمة وحرمانها من ميراثها.] [إمامة الصلاة لا تصلح إلا بإمام من آل البيت، وقد وجدت مسجداً في "ولد نوار" "آل فرحة" في "جمعة بن فاضل" التابعة لمديرية "حيدان" وقد أغلق، وفيه مركز للشباب المؤمن فسألت: لماذا أغلق المسجد؟ فقال لي المجيب: يقولون بأنه بعد السيد "يعني بعد موت السيد حسين وتشريد السيد بدر الدين" لا توجد صلاة، وقد بلغني بأنهم تركوا الجمعة لهذا السبب.] [ينكرون بعض المسائل الغيبية كالصراط والميزان، وعذاب القبر.] [يقدمون العقل على النقل كما هو الحال عند المعتزلة.] [شتم أبي هريرة وعمرو بن العاص وغيرهما من فضلاء الصحابة، وسبهم لاسيما في مناسبات عاشوراء وذكرى الغدير.] [نشر بعض الكتب المشبوهة ككتب جرجي زيدان التي تتحدث عن الفتن التي دارت بين الصحابة، خاصة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه.] [يحاولون إقناع المجتمع بأن لهم الخمس في كل شيء، وكذلك خمس ما عند الدولة، وبهذا أجازوا لأنفسهم نهب المال العام، وأوجبوا على التجار والمزارعين والأغنياء منحهم هذا الخمس المزعوم.] [منع القبائل "غير الهاشميين" من الزواج بالهاشميات بحجة أن القبائل ليسوا أكفاء، وأن في زواجهم بالهاشميات إهانة لبني هاشم، ولا يفعلون ذلك إلا إذا وجدت مصلحة سياسية أو مادية من زواج القبيلي بهاشمية.] [الاستهزاء بحديث نزول الله إلى السماء الدنيا، فيسخرون منه ويشيعون بين العوام بأن أهل السنة يقولون: إن الله ينزل على حمار أعرج، والعياذ بالله.] [كما انتشرت فيهم مقولة: إذا احتل النصارى بلاد الحضر "يعنون فلسطين"، وخرجت اليهود من هجر فانتظروا الحسين المنتظر "يعنون به: حسين بدر الدين".] [التمثيليات: حيث يصورون فيها أبا هريرة بأنه رجل مداهن للسلطة، ويتهمونه بوضع الأحاديث للتقرب لبني أمية، وأن أحاديثه غير صحيحة، وهذه بدأت بالبروز بشكل واضح في مديرية "حيدان".] [يقولون إن خالد بن الوليد لم يسلم، وقد سمع ذلك في محاضرة لعبد الكريم جدبان.] [يقولون بأن موسى عندما لطم ملك الموت إنما لطم جبريل.] [يزعمون أن السنة هم الذين قتلوا الحسين.] [يزعمون أن السنة يتعاملون مع اليهود والنصارى ضدهم.] هذه أبرز الشبه التي يثيرها الشيعة في صعدة المصدر: التشيع في صعدة لعبد الرحمن المجاهد - 1/ 66 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 410 المطلب الخامس: الأنشطة الاجتماعية للشيعة في صعدة وقد ركز الشيعة على تكريس أنشطتهم الاجتماعية لما لها من أثر في جذب الجماهير والتأثير على الناس بمختلف شرائحهم، فاحتكوا بالمجتمع وانساحوا فيه؛ بغية في التأثير عليه، والقرب منه؛ لمعرفة مداخل كل شريحة بما يتناسب معها، ولذا فإن الشيعة يعتمدون في "صعدة" المدينة على حزمة من الأنشطة الاجتماعية المتنوعة التي تمكنهم من التواصل مع العوام وإقناعهم، أو إقناع أبنائهم. ومن الأنشطة الاجتماعية التي ركز عليها الشيعة ما يلي: [اللقاءات الخاصة والموسعة، والدروس.] [المقايل، واللقاءات العامة.] [الزيارات الفردية.] [إرسال الشباب كخلاصة لهذه الأنشطة إلى المراكز الصيفية بـ "ضحيان" و"خولان" و "رازح".] [ابتعاث بعض الشباب إلى إيران والعراق.] [فتح المكتبات العامة.] [الاستفادة من وجودهم في الجامعات عبر الدكاترة الشيعيين العراقيين، واستغلال ذلك في التأثير على طلبة الجامعات.] [الرحلات القصيرة والطويلة.] [الدورات التدريبية كدورات الكمبيوتر.] [تقديم الخدمات للناس من أجل التأثير عليهم، وحل المشاكل القبلية، والعمل التجاري كوسيلة من وسائل الضغط على المستهدفين.] [تغسيل وتكفين الموتى، والمشاركة في مجالس العزاء.] [المشاركة في الأفراح والمآتم والأعياد.] [زيارة بعض علمائهم ودعاتهم ومفكريهم.] [الأندية الرياضية، والاحتفالات الرسمية، والدورات التي تقيمها الجهات الرسمية كمكتب الشباب والرياضة، أو المركز التعليمي وغيرهما، وحملات التنسيب الحزبية.] [ولائم العائدين من الحج.] [استغلال النساء من خلال التدريس ونشر الفكر الشيعي.] [زيارة بعض المراكز والمنتديات الأخرى لتحفيز الطلاب.] [يعملون كل خميس حفلاً ليلياً.] [دعاء كميل يقرؤونه كل خميس.] المصدر: التشيع في صعدة لعبد الرحمن المجاهد - 1/ 71 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 411 المبحث الحادي عشر: أبرز تكتلات الشيعة الحزبية والسياسية في اليمن • - حزب الحق: . • - اتحاد القوى الشعبية:. • - الشباب المؤمن (جماعة الحوثي):. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 412 - حزب الحق: وهو حزب ثوري مذهبي "يعد حسين بدر الدين الحوثي أبرز مؤسسيه" قبل أن يتخلى عنه، وتصدر عنه صحيفة "الأمة" الأسبوعية، ويرأس تحريرها عبد الله الدهمشي، والأمين العام للحزب هو أحمد محمد الشامي الذي تقلد حقيبة وزارة العدل سابقاً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 413 - اتحاد القوى الشعبية: وهو حزب شيعي سياسي يرأسه إبراهيم بن علي الوزير المقيم في واشنطن منذ ثورة سبتمبر 1962م، ويديره من الداخل الأمين العام الدكتور محمد الرباعي، وتصدر عنه صحيفة "الشوري" الأسبوعية. المصدر: العالم الإسلامي تحديات الواقع واستراتيجيات المستقبل (تقرير عن مجلة البيان) ثمار التغلغل الرافضي المرة- أنور قاسم – ص: 417 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 414 - الشباب المؤمن (جماعة الحوثي): الجزء: 6 ¦ الصفحة: 415 المبحث الثاني عشر: المدارس الشيعية مدرسة الهادي: وتعد المركز الرئيس لانطلاق الدعوة الحوثية، وتقع في قمة جبل مران محافظة صعدة. مركز ضحيان: من أعمال محافظة صعدة أيضاً، ويروي أهالي المنطقة أن هذا المركز افتتحه السفير الإيراني بصنعاء. مدرسة في حرف سفيان: وقد أحرقتها القوات اليمنية في بداية المعارك، بما فيها الكتب والمناهج التي كانت تدرس فيها. مركز بدر العلمي: ويوجد في العاصمة صنعاء ويديره الدكتور الجامعي مرتضى زيد المحطوري، ويقوم المركز بتدريس علوم المذهب الزيدي، ويضم مكتبة عامة. مركز الدراسات الإسلامية: ومقره العاصمة صنعاء، ويرأسه إبراهيم بن محمد الوزير، وتصدر عنه جريدة "البلاغ" الأسبوعية التي يرأس تحريرها عبد الله بن إبراهيم الوزير نجل رئيس المركز. مدارس الشيعة الاثنى عشرية: المدرسة الجعفرية: تعتبر المدرسة الجعفرية ومقرها عدن "363كم جنوب العاصمة صنعاء". هي اللجنة التبليغية لجمعية الشيعة الاثنى عشرية، ويديرها عبد الكريم علي عبد الكريم، وهي تنضوي تحت كيان مؤسسي يعتبر الأقدم على الإطلاق في اليمن. دار أحباب أهل البيت: وهي مركز ثقافي في محافظة تعز "256 كم جنوب العاصمة صنعاء"، وتعد دار أحباب أهل البيت الذي يديره أبو حسين علي الشامي هي أول دار في هذه المحافظة. مؤسسة دار الزهراء للإعلام الثقافي: مؤسسة شيعية في صنعاء، ويديرها محمد الحاتمي المصدر: العالم الإسلامي تحديات الواقع واستراتيجيات المستقبل (تقرير عن مجلة البيان) ثمار التغلغل الرافضي المرة- أنور قاسم – ص: 417 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 416 الفصل الأول: التعريف بالجهمية الجهمية إحدى الفرق الكلامية التي تنتسب إلى الإسلام، وهي ذات مفاهيم وآراء عقدية خاطئة في مفهوم الإيمان وفي صفات الله تعالى وأسمائه، وترجع في نسبتها إلى مؤسسها الجهم بن صفوان الترمذي، الذي كان له ولأتباعه في فترة من الفترات شأن وقوة في الدولة الإسلامية حيناً من الدهر، وقد عتوا واستكبروا واضطهدوا المخالفين لهم حينما تمكنوا منهم، ثم أدال الله عليهم فلقوا نفس المصير الذي حل بغيرهم على أيديهم. سنة الله في خلقه ولن تجد لسنته تبديلاً. ولقد كان هؤلاء الجهمية العقبة الكؤود في طريق العقيدة السلفية النقية وانتشارها؛ حيث صرفوا علماء السلف عن نشرها بما وضعوا أمامهم من عراقيل شغلتهم وأخذت الحيز الأكبر من أوقاتهم في رد شبهات الجهمية ومجادلاتهم لهم وخصامهم معهم، وكانت العاقبة الحسنة – ولا تزال – لأهل السنة والجماعة ولله الحمد. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 1131 والجهمية ينسبون إلى جهم بن صفوان الترمذي وكان عالما فقيها، ينسب إلى الحنفية في الفقه، ولكنه لشدة اعتنائه بالرأي كان يناظر ويكثر من المناظرة حتى ناظر طائفة من دهرية الهند، الدهرية بضم الدال ينسبون إلى القول بالدهر وما يهلكنا إلا الدهر [الجاثية:28]، ينسب إلى الدهر، دهري بضم الدال على غير اعتياد كما قاله المرتضى في كتاب (تاج العروس) وقاله غيره. المقصود ناظره قوم من الدهرية يقال لهم السمنية في الصفات لأنهم لا يؤمنون بوجود الله أصلا ويريد أن يقنعهم بوجود الله، فجرى منه معهم مناظرة ذكرتها لكم في مكان آخر، فآل به الأمر، نتيجة المناظرة وتوابعها وما حصل -وقد ذكر أصل القصة البخاري في خلق أفعال العباد-، نتج عن ذلك أنه نفى الصفات وعطل الرب - عز وجل - من صفاته وآمن بالوجود المطلق. فالجهمية في مسائل العقيدة يذهبون في الصفات إلى النفي، فينفون عن الله - عز وجل - كل الصفات، ويجعلون الصفة الواحدة الموجودة هي صفة الوجود المطلق، ويقولون بشرط الإطلاق. وفي الأسماء يثبتون الأسماء كدلالات على الذات -أسماء أعلام- ويفسرونها بمخلوقات منفصلة، فيجعلون الكريم هو الذات التي حصل عنها إكرام فلان -يعني يفسرونها بالكرم الذي خلقه الله-، القوي بالقوة التي خلقها الله، العزيز بالعزة التي خلقها الله يعني في الإنسان، في المخلوق يعني من حيث هو، ويجعلون تفسير الأسماء في القرآن وفي السنة يفسرونها بمخلوقات منفصلة؛ لأنه لا دلالة للأسماء على الصفة، لأنهم ينفون الصفات، وإنما يجعلونها دالة على علم لا تفسير لها من حيث العلمية لكن تفسيرها من حيث الصفة بأنها مخلوقات منفصلة. لهذا قال بعض أهل العلم ينفون الأسماء والصفات، الجهمية ينفون الأسماء والصفات، وهذا صحيح باعتبار الحقيقة. وطائفة يقولون لا، لا ينكرون الأسماء باعتبار أنهم يثبتون شيئا من الأسماء على طريقتهم لأن عندهم الأسماء دلالات على ذات بدون صفة في الاسم، وإنما هو مثل ما تقول مثلا (ماء سلسبيل) أو تقول في السيف حسام ومهند وسيف إلخ للدلالة على شيء واحد بدون صفة، أما صفة أنه يحكم فلا، أما صفة أنه صنع في الهند فلا، أما صفة أنه كذا فلا. فهم يجعلونها من جهة الدلالة على الذات واحدة ومن جهة الدلالة على الصفات أنها لا تدل على صفة. ولهذا في الآيات يفسرون الأسماء في الآيات بالمخلوقات المنفصلة، يعني أثر الصفة في المخلوق ويجعلونه مخلوقا. أما في الإيمان فالجهمية مرجئة، وهم أشد فرق الإرجاء لأنهم قالوا يكفي في الإيمان المعرفة فقط. ففرعون عندهم مؤمن وإبليس عندهم مؤمن. ولم يكفر فرعون عندهم بعدم الإيمان وإنما بمخالفة الأمر، وإبليس لم يكفر بعدم الإيمان؛ بل بمخالفة الأمر، وهكذا، وهذا القول مشهور عنهم في أنه يثبت الإيمان بالمعرفة. وفي القدر هم جبرية يرون أن الإنسان في أفعاله هو كالريشة في مهب الريح لا اختيار له البتة، هو مجبر على كل شيء، وأنه يفعل به ولا يفعل شيئا. وفي الغيبيات ينكرون كل ما لا يوافق العقل من أمور الغيب. وفي الآخرة ينكرون دوام الجنة والنار. يقولون الجنة لا تدوم والنار لا تدوم لأن دوام الجنة والنار ظلم، فتفنى الجنة وتفنى النار معا. بخلاف المعتزلة فإنهم يقولون بفناء النار والجنة كدار نعيم وعذاب، لكن التلذذ والألم يبقى، فيستمر التلذذ ويستمر الألم ولا تستمر الدار. فهي أقوال مختلفة نسأل الله - عز وجل - السلامة منها ومما جر إليها. المصدر: شرح العقيدة الطحاوية لصالح آل الشيخ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 417 الفصل الثاني: التعريف بالجهم بن صفوان هو حامل لواء الجهمية، وهو من أهل خراسان، ظهر في المائة الثانية من الهجرة، ويكنى بأبي محرز، وهو من الجبرية الخالصة، وأول من ابتدع القول بخلق القرآن وتعطيل الله عن صفاته. وكان مولى لبني راسب إحدى قبائل الأزد، وكان من أخلص أصدقاء الحارث بن سريج إلى أن قتل سنة 128 هـ، وقيل: إن الجهم قتل سنة 130هـ، وقيل سنة 132هـ. وتاريخه طويل، وكتبت فيه مؤلفات عديدة ورسائل جامعية. كان الجهم كثير الجدال والخصومات والمناظرات، إلا أنه لم يكن له بصر بعلم الحديث ولم يكن من المهتمين به، إذ شغله علم الكلام عن ذلك، وقد نبذ علماء السلف أفكار جهم وشنعوا عليه ومقتوه أشد المقت مع ما كان يتظاهر به من إقامة الحق، قال عنه الأشعري بعد أن ذكر جملة من آرائه الاعتقادية التي تفرد بها، قال: "وكان جهم ينتحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (1).والشيخ جمال الدين القاسمي ذهب إلى أن جهماً كان من أحرص الناس على إقامة كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن قتله إنما كان لأمر سياسي، وذلك لخروجه في وجه بني أمية، ولم يكن قتله لأمر ديني يوجب ذلك فيما يرى القاسمي" (2) وهو بهذا قد خالف ما ذكره جمهور العلماء من أن قتله إنما كان لأمر ديني، وقد أقر الناس قتله في وقته لضلاله. وأما الإمام أحمد بن حنبل فقد قال عنه: "وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث فضلوا وأضلوا بكلامهم بشراً كثيراً، فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان من أهل ترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام" (3). المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 1131 جهم بن صفوان، رأس الجهمية الذي ينسبون إليه من المجبّرة، ظهرت بدعته بترمذ وقتله سالم بن أحوز المازني، في آخر ملك بني أمية ذهب إلى أن الإنسان لا يوصف بالاستطاعة على الفعل بل هو مجبور بما يخلقه الله تعالى من الأفعال على حسب ما يخلقه في سائر الجمادات وأن نسبة الفعل إليه إنما هو بطريق المجاز كما يقال جرى الماء وطلعت الشمس وتغيَّمت السماء إلى غير ذلك. ووافق المعتزلة في نفي صفات الله الأزليّة وزاد عليهم بأشياء منها: أنه نفى كونه حيّاً عالماً وأثبت كونه عالماً قادراً. ومنها أنه أثبت للباري تعالى علوماً حادثة لا في محلّ. ومنها أنه قال: لا يجوز أن يعلم الله تعالى الشيء قبل خلقه، قال: لأنه لو علم به قبل خلقه لم يخل إمّا أن يكون علمه بأنه سيوجده يبقى بعد أن يوجده أم لا ولا جائز أن يبقى لأنه بعد أن أوجده لا يبقى العلم بأنه سيوجده لأنّ العلم بأنّه أوجده غير العلم بأنه سيوجده ضرورة وإلاّ لانقلب العلم جهلاً وهو على الله سبحانه محال وإن لم يبق علمه بأنه سيوجده بعد أن أوجده فقد تغير والتغيّر على الله محال، وإذا ثبت هذا تعيّن أن يكون علمه حادثاً بحدوث الإيجاد لأن ذلك يؤدي إلى أنّ ذاته محل للحوادث وهو محال، وإمّا أن يحدث في محل وهو أيضاً محال لأنه يؤدي إلى أن يكون المحل موصوفاً بعلم الباري تعالى وهو محال، فتعيّن أن يكون علمه حادثاً لا في محل. ومنها أنه قال: الثواب والعقاب والتكليف جبرٌ كما أن أفعال العباد جبرٌ. ومنها أنه قال: إن حركات أهل الجنة والنار تنقطع. ومنه أخذ أبو الهذيل وأتباعه من المعتزلة. ومنها أن النار والجنّة يفنيان بعد دخول أهلهما إليهما قال: لأنه لا يتصور حركات لا تتناهى أولاً فكذلك لا يتصوَّر حركاتٌ لا تتناهى آخراً، وحمل قوله تعالى خالدين فيها أبداً على المبالغة واستدلّ على الانقطاع بقوله تعالى إلا ما شاء ربك، ولو كان مؤبداً بلا انقطاع لما استثنى. ووافق المعتزلة في نفي الرؤية وإثبات خلق الكلام وإيجاب المعارف بالعقل. وكان السلف الصالح رضي الله عنهم من أشد الناس ردّاً على جهم لبدعه القبيحة وكانت قتلته في حدود الثلاثين والمئة. وكان ذا أدب ونظر وذكاءٍ وفكر وجدال ومراء، وكان كاتب الأمير الحارث بن شريح التميمي الذي وثب على نصر بن سيّار. وكان جهم هو ومقابل بن سليمان بخراسان طرفي نقيض، هذا يبالغ في النفي والتعطيل وهذا يسرف في الإثبات والتجسيم فيقول: إن الله جسم ولحم ودم على صورة الإنسان، تعالى الله عن ذلك. ترك الصلاة أربعين يوماً فأنكر عليه الوالي فقال: إذا ثبت عندي من أعبده صليت له فضرب عنقه. المصدر: الوافي بالوفيات 4/ 57 وقد قتله سلم بن أحوز في مرو عام 128هـ. المصدر: الموسوعة الميسرة   (1) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 238) (2) اقرأ كتابه: ((تاريخ الجهمية والمعتزلة)) (ص14 - 18) (3) ((الرد على الزنادقة والجهمية)) (ص 23) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 418 الفصل الثالث: نشأة الجهمية قامت أفكار الجهم بن صفوان على البدع الكلامية والآراء المخالفة لحقيقة العقيدة السلفية متأثراً بشتى الاتجاهات الفكرية الباطلة. وكانت نقطة الانتشار لهذه الطائفة بلدة ترمذ التي ينتسب إليها الجهم، ومنها انتشرت في بقية خراسان، ثم تطورت فيما بعد وانتشرت بين العامة والخاصة، ووجد لها رجال يدافعون عنها، وظهرت لها مؤلفات وتغلغلت إلى عقول كثير من الناس على مختلف الطبقات. وقد ذكر شيخ الإسلام درجات الجهمية ومدى تأثر الناس بهم، وقسمهم إلى ثلاث درجات: الدرجة الأولى: وهم الجهمية الغالية النافون لأسماء الله وصفاته، وإن سموه بشيء من الأسماء الحسنى قالوا: هو مجاز. الدرجة الثانية من الجهمية: وهم المعتزلة ونحوهم، الذين يقرون بأسماء الله الحسنى في الجملة لكن ينفون صفاته. الدرجة الثالثة: وهم قسم من الصفاتية المثبتون المخالفون للجهمية، ولكن فيهم نوع من التجهم، وهم الذين يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة ولكنهم يريدون طائفة من الأسماء، والصفات الخبرية وغير الخبرية ويؤولونها. ومنهم من يقر بصفاته الخبرية الواردة في القرآن دون الحديث كما عليه كثير من أهل الكلام والفقه، وطائفة من أهل الحديث. ومنهم من يقر بالصفات الواردة في الأخبار أيضاً في الجملة، لكن مع نفي وتعطيل لبعض ما ثبت بالنصوص وبالمعقول، وذلك كأبي محمد بن كلاب ومن اتبعه. وفي هذا القسم يدخل أبو الحسن الأشعري وطوائف من أهل الفقه والكلام والحديث والتصوف، وهؤلاء إلى السنة المحضة أقرب منهم إلى الجهمية والرافضة والخوارج والقدرية، لكن انتسب إليهم طوائف هم إلى الجهمية أقرب منهم إلى أهل السنة المحضة" (1) المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 1134، 1135   (1) انظر: ((التسعينية)) لشيخ الإسلام ابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 419 الفصل الرابع: بيان مصدر مقالة الجهمية يذكر شيخ الإسلام أصل مقالة التعطيل وأنها ترجع في نهايتها إلى اليهود والصابئين والمشركين والفلاسفة الضالين، يذكر ذلك في قوله: "ثم أصل هذه المقالة – التعطيل للصفات – وإنما هو مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام – أعني أن الله سبحانه وتعالى ليس على العرش حقيقة وإنما استوى بمعنى استولى ونحو ذلك ... أول ما ظهرت هذه المقالة من جعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه، وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان وأخذها أبان من طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم " (1). ولهذا كان التجسيم والتشبيه هو أظهر سمات الديانة اليهودية المحرفة التي ملئت بها التوراة من وصف الله تعالى بصفات البشر من الندم والحزن وعدم العلم بالمغيبات، وغير ذلك من المعتقدات الباطلة. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 1136 أصل الجهل والضلال والزندقة والنفاق والإلحاد والكفر والتعطيل في هذا الباب هو ما اشتركت فيه الدهرية والجهمية من التكذيب والنفي والجحود لصفات الله تعالى بلا برهان أصلا بل البراهين إذا أعطوها حقها أوجبت ثبوت الصفات وهم مع اشتراكهم في هذا الأصل الفاسد افترقوا حينئذ في المناظرة والمخاصمة كل قوم معهم من الباطل نصيب وذلك أن مبدأ حدوث هذا في الإسلام هو مناظرة الجهمية للدهرية كما ذكر الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مناظرة جهم للسمنية وهم من الدهرية حيث أنكروا الصانع وإن كان غيرهم من فلاسفة الهند كالبراهمة لا ينكره بل يقول العالم محدث فعله فاعل مختار كما يحكي عنهم المتكلمون وكذلك مناظرة المعتزلة وغيرهم لغير هؤلاء من فلاسفة الروم والفرس وغيرهم من أنواع الدهرية وكذلك مناظرة بعضهم بعضا في تقرير الإسلام عليهم وإحداثهم في الحجج التي سموها أصول الدين ما ظنوا أن دين الإسلام ينبني عليها وذلك هو أصل علم الكلام الذي اتفق السلف والأئمة على ذمه وذم أصحابه وتجهيلهم فإن كلام السلف والأئمة في ذم الجهمية والمتكلمين لا يحصيه إلا الله تعالى وأصل ذلك أنهم طلبوا أن يقرروا ما لا ريب فيه عند المسلمين من أن الله تعالى خلق السموات والأرض وأن العالم له صانع خالق خلقه ويردوا على من يزعم أن ذلك قديم إما واجب بنفسه وإما معلول علة واجبة بنفسها فإن الدهرية لهم قولان في ذلك ولعل أكثر المتكلمين إذا ذكروا قول الدهرية لا يذكرون أن الدهرية إلا من ينكر الصانع فيقولون الدهرية وهم الذين يقولون بقدم العالم وإنكار الصانع وعندهم كل من آمن بالصانع فإنه يقول بحدوث العالم وهذا كما قاله طوائف من المتكلمين كالقاضي أبي بكر ابن الباقلاني قال في مسائل التكفير المصدر: بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية - 1/ 128   (1) ((الفتوى الحموية الكبرى)) (ص24) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 420 الفصل الخامس: ذكر أهم عقائد الجهمية للجهمية آراء وعقائد كثيرة، ومن أهم تلك الآراء للجهم ما يلي: 1 - مذهبهم في التوحيد: هو إنكار جميع الأسماء والصفات لله عز وجل ويجعلون أسماء الله من باب المجاز. تنكر الجهمية جميع الأسماء التي سمى الله بها نفسه وجميع الصفات التي وصف بها نفسه بحجج واهية وتأويلات باطلة، وقد عرفنا فيما سبق مصدر هذه الأفكار التي يعتنقها الجهمية القدماء والجدد. وهذه المسألة كتب عنها العلماء كتابات مستفيضة ومؤلفات عديدة، دحضوا فيها كل ما يتعلق به الجهمية في نفي الأسماء والصفات، وقلما يخلو كتاب من كتب شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وسائر علماء الفرق من رد وخصام وجدال مع هؤلاء. شبهات الجهمية في نفي الصفات: لقد أقدم الجهمية على نفي الأسماء والصفات بمزاعم من أهمها: 1 - أن إثبات الصفات يقتضي أن يكون الله جسماً؛ لأن الصفات لا تقوم إلا بالأجسام، لأنها أعراض والأعراض لا تقوم بنفسها. 2 - إرادة تنزيه الله تعالى. 3 - أن وصف الله تعالى بتلك الصفات التي ذكرت في كتابه الكريم أو في سنة نبيه العظيم يقتضي مشابهة الله بخلقه، فينبغي نفي كل صفة نسبت إلى الله تعالى وتوجد كذلك في المخلوقات لئلا يؤدي إلى تشبيه الله – بزعمهم – بمخلوقاته التي تحمل اسم تلك الصفات. الرد عليهم: مما يدركه طلاب العلم أن الله عز وجل وصف نفسه في كتابه الكريم ووصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم بصفات تعرف معانيها ولا تدرك كيفياتها، وهي معروفة في القرآن والحديث. وقد وقف السلف من الصحابة الكرام إلى وقتنا الحاضر إزاء هذه الصفات موقفاً واضحاً جلياً لا لبس فيه، يتلخص في كلمات يسيرة ومعان واضحة، ألا وهو الإيمان التام بكل ما وصف الله به نفسه ووصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم، كما جاءت به النصوص من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تكييف. يقولون عن كل صفة: الصفة معلومة والكيف مجهول والسؤال عنها بدعه، ولم يتنطعوا تنطع المشبهة ولم يسلكوا مسالك المعطلة؛ لأنهم على معرفة تامة أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فلا يصفون ذاتاً غير مدركة الماهية بصفات تكيفها؛ لأن هذا هو القول على الله بغير علم. إذ كيف تكيف ذاتاً لم تدركها ولم توصف لك أكثر من صفات مجملة قابلة للاشتراك في الأسماء متباينة الحقائق، ومن هنا نجد أنه لم يعرف عن أي شخص من الصحابة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية أي صفة من الصفات التي أخبر الله بها في القرآن الكريم أو أخبرهم بها نبيهم صلى الله عليه وسلم. وهذه دلالة على قوة ذكائهم وصفاء عقولهم لأنهم يعرفون بداهة أن الاشتراك في التسمية لا يوجب الاشتراك والمماثلة في الذات، إذ يقال: رأس الرجل ورأس الجمل ورأس الذرة ورأس الجبل، وبين ذوات هذه الأشياء من الفروق ما لا يخفى على عاقل. وكذلك بقية الصفات، ولهذا فإن عقلاء الناس حينما آمنوا بصفات الله عز وجل لم يتصورا فيها أي تشبيه، بل كانوا يعتبرون مجرد التفكير في المشابهة من وسواس الشيطان فيذكرون الله تعالي. كما أن إيمانهم بالصفات كان يجري كله على هذا المفهوم، فما كانوا يفرقون بين أن تكون الصفة ذاتية أو فعلية، ولم يحصل بينهم أي نزاع أو جدال في مسائل الأسماء والصفات، كما حصل عند من اتبع هواه ممن عطل أولاً ثم شبه ثانياً ثم زعم أنه ينزه الله تعالي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 421 ومن العجائب أن يثبت الله لنفسه الصفة وهم ينفونها عنه، ومثلهم في هذا كمثل شخص سأل آخر عن اسمه وهو لا يعرفه فأخبره فقال له: لا، إن اسمك ليس هذا، ذلك أن الله تعالى قال: الرحمن على العرش استوى [طه:5]، وهم يقولون: لا يجوز إثبات هذه الصفة بل يجب نفيها مطلقاً، أو تأويلها بمعني استولى أو قصد، أو غير ذلك من تأويلاتهم الباطلة. وحينما قال تعالى عن نفسه: وهو السميع البصير [الشورى:11]، قالوا: يجب نفي مدلول هذا نفياً تاماً أو تأويله؛ إما أن يكون بمعنى سميع بلا سمع بصير بلا بصر، أو أنه سميع بذاته بصير بذاته، إلى آخر مواقفهم الخاطئة تجاه كل الصفات والأسماء. لقد عارض الجهمية ومن سار على طريقتهم كتاب الله وسنة نبيه، وقدموا آراءهم وما تراه عقولهم على نصوص الكتاب والسنة فلم يقفوا عند حدود فهم العقل ومدى قدرته، بل تجاوزوا ذلك وظنوا أنهم علي شيء، وزخرفوا القول في ذلك، وتحذلقوا وتنطعوا فخرجوا من نور العلم إلى ظلمات الجهل، ومن اليقين إلى الشكوك عقاباً من الله لهم لعدم تلقي النصوص ومدلولاتها بالطمأنينة والتسليم، وترك التكلف في البحث عن أمور هي من المغيبات ولم يخبرنا الله بتفاصيلها ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فقد أراد الله أن تكون كيفياتها سراً مكتوماً عن العباد وهم يريدون الاطلاع عليها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. إن تنزيه الله عز وجل لا يمكن أن يكون بسلب صفاته وما تدل عليه من العظمة والكمال، إنه من الإجرام أن ينزه الله عن ما تمدح به: قل أأنتم أعلم أم الله [البقرة:140]. إن التنزيه الصحيح إنما يكون في إثبات الصفة في أعلى كمالها؛ لأن الكمال المطلق لا يوصف به أحد غير الله تعالي. وأي تنزيه في أن تقول: إن الله ليس فوق ولا تحت ولا عن يمين ولا عن يسار ولا يحس ولا يشم ولا يري أبداً ولا يكلم أحداً، وإنه في كل مكان بذاته، وإنه لا سمع ولا بصر له، ولا يوصف بالرحمة ولا بالغضب ولا بالمجيء، إلى آخر تلك الأوصاف التي لا تقال إلا للمعدوم. إنها صفات سلبية نتيجتها أن لا معبود إلا العدم، فليس هناك رب بائن من خلقه مستو على عرشه له كل صفات الكمال والجلال. ومن هنا وجد الملاحدة ضالتهم المنشودة في تقوية إلحادهم واحتجاجهم على ذلك بما زعموا أنه من كلام المسلمين السابق، وهم يعلمون تمام العلم أن كلام الجهمية السابق ليس له بالإسلام أية صلة، وأنه ليس من كلام المسلمين، وإنما هو من أفكار ملاحدة الفلاسفة. إن الجسمية التي يزعمونها حينما يثبتون الصفات لله تعالى، إنما هو من باب تغطية إلحادهم ومروقهم عن الدين، وهم أقل وأذل من أن يجدوا كلاماً ما، لعلماء المسلمين فضلاً عن الصحابة فضلاً عن الكتاب والسنة، يشير إلى هذا المفهوم الذي تنبهوا له بزعمهم ونفوا بموجبه صفات الله وأسمائه. إن كلمة الجسمية لله تعالى نفياً أو إثباتاً هي من الألفاظ المخترعة التي لم ترد في الشرع لا في الكتاب ولا في السنة، وهي تخفي وراءها هدفا ما، ولو وقف هؤلاء الذين يطلقون على الله إلا ما ثبت له من الأسماء والصفات، وترك ذلك التنطع المذموم؛ لأن لفظ الجسم لفظ عام يحتاج إلى بيان وتوضيح ممن يقول به؛ لأنه لم يرد في الشرع لا بالنفي ولا بالإثبات، ولهذا كان في إطلاقه حق وباطل ويجب على القائل به تفصيل ما يريد. فهناك من ينفي لفظ الجسم من الجهمية والمعتزلة ليخفي ما يهدف إليه من نفي ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، وهناك من يثبت الجسم من المشبهة ليخفي ما يهدف إليه من إثبات ما نفاه الله عن نفسه؛ وقد أجاب العلامة ابن القيم رحمه الله عن هذه المسألة وفصلها تفصيلاً شافياً كافياً فقال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 422 "واعلم أن لفظ الجسم لم ينطق به الوحي إثباتاً فيكون له الإثبات، ولا نفياً فيكون له النفي. فمن أطلقه نفياً أو إثباتاً سئل عما أراد به، فإن قال: أردت بالجسم معناه في لغة العرب وهو البدن الكثيف الذي لا يسمى في اللغة جسم سواه، فلا يقال للهوى: جسم لغة، ولا للنار ولا للماء. فهذه اللغة وكتبها بين أظهرنا، فهذا المعنى منفي عن الله عقلاً وسمعاً، وإن أردتم به المركب من المادة والصورة والمركب من الجواهر الفردة فهذا منفي عن الله قطعاً. والصواب نفيه عن الممكنات أيضاً، فليس الجسم المخلوق مركباً من هذا ولا من هذا، وإن أردتم بالجسم ما يوصف بالصفات ويرى بالأبصار ويتكلم ويكلم ويسمع ويبصر ويرضى ويغضب، فهذه المعاني ثابتة لله تعالى وهو موصوف بها فلا ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسماً، كما أنا لا نسب الصحابة لأجل تسمية الروافض لمن يحبهم ويواليهم نواصباً، ولا ننفي قدر الرب ونكذب به لأجل تسمية القدرية لمن أثبته جبرياً، ولا نرد ما أخبر به الصادق عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله لتسمية أعداء الحديث لنا حشوية، ولا نجحد صفات خالقنا وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه لتسمية الفرعونية المعطلة لمن أثبت ذلك مجسماً مشبهاً". إلي أن قال: "وإن أردتم بالجسم ما يشار إليه إشارة حسية فقد أشار أعرف الخلق به بإصبعه رافعاً بها إلى السماء بمشهد الجمع الأعظم مشهداً له لا للقبلة، وإن أردتم بالجسم ما يقال أين هو؟ فقد سأل أعلم الخلق به بأين، منبهاً على علوه على عرشه وسمع السؤال بأين وأجاب عنه، ولم يقل: هذا السؤال إنما يكون عن الجسم. وإن أردتم بالجسم ما يلحقه (من وإلى) (1). فقد نزل جبريل من عنده وعرج برسوله إليه، وإليه يصعد الكلم الطيب، وعبده المسيح رفع إليه، وإن أردتم بالجسم ما يتميز منه أمر غير أمر فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال جميعها من السمع والبصر والعلم والقدرة والحياة، وهذه صفات متميزة متغايرة " إلى أن قال:"وإن أردتم بالجسم ما له وجه ويدان وسمع وبصر فنحن نؤمن بوجه ربنا الأعلى وبيديه وبسمعه وبصره وغير ذلك من صفاته التي أطلقها على نفسه. وإن أردتم بالجسم ما يكون فوق غيره ومستوياً على غيره فهو سبحانه فوق عباده مستو على عرشه" (2). فينبغي للعاقل أن يتفطن لكلام أهل الزيغ ونبزهم لعلماء السنة تنفيراً للعامة عنهم، كما أنه يجب على المؤمن ألا ينساق وراء مغالطات أصحاب البدع، فهم من دأبهم قلب الحقائق والتلبيس على الناس لتقوية ما اقتنعوا به من أفكار الملاحدة وفلاسفة اليونان. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 1137 - 1145 بتصرف   (1) هكذا النص في الأصل، وهي عبارة غامضة، ولعل المراد بها ما يمكن أن يقال: (منه وإليه) أي من عنده وإليه، كما يفيده الكلام الذي جاء بعده. والله أعلم. (2) انظر: ((مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة)) (ص175 - 177) اختصار الموصلي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 423 التعبير عن التوحيد يكون بالكلام والله يعبر عن التوحيد بكلام الله فكلام الله وعلمه وقدرته وغير ذلك من صفاته لا يطلق عليه عند السلف والأئمة القول بأنه الله ولا يطلق عليه بأنه غير الله لأن لفظ الغير قد يراد به ما يباين غيره وصفة الله لا تباينه، ويراد به ما لم يكن إياه، وصفة الله ليست إياه ففي أحد الاصطلاحين يقال إنه غير وفي الاصطلاح الآخر لا يقال إنه غير فلهذا لا يطلق أحدهما إلا مقروناً ببيان المراد لئلا يقول المبتدع إذا كانت صفة الله غيره فكل ما كان غير الله فهو مخلوق فيتوسل بذلك إلى أن يجعل علم الله وقدرته وكلامه ليس هو صفة قائمة به بل مخلوقة في غيره فإن هذا فيه من تعطيل صفات الخالق وجحد كماله ما هو من أعظم الإلحاد وهو قول الجهمية الذي كفرهم السلف والأئمة تكفيراً مطلقاً، وإن كان الواحد المعين لا يكفر إلا بعد قيام الحجة التي يكفر تاركها. المصدر: جامع الرسائل لابن تيمية – 1/ 56 تفسير التوحيد بما يستلزم نفي الصفات أو نفي علوه على العرش بل بما يستلزم نفي ما هو أعم من ذلك فهو شيء ابتدعته الجهمية لم ينطق به كتاب ولا سنة ولا إمام المصدر: بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية لابن تيمية – 1/ 123 2 - القول بالجبر لقد كان الجهم بن صفوان مؤسساً حقيقياً لكثير من الشبهات في الدين، ومؤججاً لكثير من الفتن بين المسلمين بفعل من جاء بعده ممن راقت في نظره آراء جهم، ويظهر الإرجاء عند الجهمية في تلك الآراء التي نادى بها الجهم، ومن أهمها عدم اعتبار العلم من الإيمان، فإن الإيمان وحقيقته في نظرهم إنما هو مجرد الإقرار بالقلب ولا قيمة للعمل في الإيمان؛ ولهذا سارع أصحاب الفسق والاستهتار بالقيم إلى التمسك بهذا المذهب؛ لأنه يساير رغباتهم ويثبت لهم الإيمان بغض النظر عن جميع المعاصي التي يرتكبونها، فهم مؤمنون كاملو الإيمان بالمفهوم الجبري والإرجائي، فهم لا يمكن أن يطلقوا الكفر على أحد بسبب ترك الأعمال التي أمر الله بها، بل لا يتجاسرون على إطلاق الكفر إلا إذا لم يقر بقلبه حسب زعمهم. قال ابن أبي العز رحمه الله:"والجبرية أصل قولهم من جهم بن صفوان كما تقدم، وأن فعل العبد بمنزلة طوله ولونه، وهم عكس القدرية نفاة القدر فإن القدرية إنما نسبوا إلى القدر لنفيهم إياه، كما سميت المرجئة لنفيهم الإرجاء، وأنه لا أحد مرجأ لأمر الله، إما يعذبهم وإما يتوب عليهم، وقد تسمى الجبرية قدرية؛ لأنهم غلوا في إثبات القدر وكما يسمى الذين لا يجزمون بشيء من الوعد والوعيد، بل يغلون في إرجاء كل أمر حتى الأنواع، فلا يجزمون بثواب من تاب كما لا يجزمون بعقوبة من لم يتب وكما لا يجزم لمعين" (1). وقد قام أساس إرجاء الجهمية على موقفهم من حقيقة الإيمان وفي مبحث المرجئة دراسة حول المرجئة وموقفهم من الإيمان، وأنه المعرفة فقط وأنه كذلك لا يزيد ولا ينقص، ومن العمل وأنه لا صله له بالإيمان، ومن مرتكب الكبيرة،، وأن الذنوب لا تعلق لها بالاعتقاد وإنما هي تابعة للأعمال، وبالتالي فلا أثر لها على الإيمان الذي في القلب فهونوا المعاصي وشجعوا على الركون إلى الكسل والخمول في العبادات. ومع ذلك فهم يزعمون أن إيمان أي واحد منهم هو مثل إيمان جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام، لاتفاقهم في المعرفة بالله التي بنى الجهميون عقيدتهم في الإيمان عليها، وهم أجهل الناس بمعرفته عز وجل إذ نفوا أسماءه الحسنى وصفاته العلا، إضافة إلى ما أحدثوه من الآراء والبدع الفاسدة.   (1) ((شرح الطحاوية)) (ص592) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 424 وأما الجبر- بفتح الجيم وسكون الباء- فمعناه إسناد ما يفعله الشخص من أعمال إلى الله عز وجل، وأن العبد لا قدرة له البتة على الفعل، وإنما هو مجبور على فعله، وحركته في الفعل بمثابة حركة النباتات والجمادات، ومن هنا فإنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة؛ لأن العبد مجبور على فعله لا حول له ولا قوة. قال الإمام ابن القيم عنهم: والعبد عندهم فليس بفاعل ... بل فعله كتحرك الرجفان وهبوب ريح أو تحرك نائم ... وتحرك الأشجار للميلان والله يصليه على ما لم ليس من ... أفعاله حر الحميم الآن لكن يعاقبه على أفعاله ... فيه تعالى الله ذو الإحسان والظلم عندهم المحال لذاته ... أنى ينزه عنه ذو السلطان ويكون مدحاً ذلك التنزيه ما ... هذا بمقبول لدى الأذهان والمقصود بهذا بيان مذهب الجهم الذي قرر فيه أن العبد مسلوب الإرادة والاختيار لأفعاله، مثله مثل حركة المرتعد وهبوب الرياح وحركة النائم وحركة الأشجار وتمايلها بفعل الرياح، ثم زعموا ما لا يعقله أحد إلا هم ومن قال بقولهم؛ وهو أن الله عز وجل مع أنه هو الذي جبر الإنسان على فعله ورغماً عنه، ومع ذلك فإن الله يعذبه بنار جهنم مع أن الفعل هو نفسه فعل الله فيه. وقالوا: إن هذا ليس بظلم، لأن الإنسان ملك الله؛ لأن الظلم في مفهومهم هو المحال لذاته غير المتصور وقوعه (1)، وهذا تكذيب لقول الله: ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [البقرة:281]، وقوله تعالى: ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون [الأنعام:160]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا المعنى الذي يفيد أن الله تعالى حرم الظلم على نفسه، وقد مدح بذلك لبيان كمال عدله، فأين هذا المفهوم من مفهوم الجهمية حينما يقررون أن الإنسان مجبور على فعله، لا لوم عليه فيما يأتيه من الأفعال القبيحة والمنكرات؛ لأن موجدها إنما الله تعالى، ثم كلفه بامتثال أمره ونهيه فكيف يتصور هذا؟ يكلفه الله بالامتثال ثم يوجد فيه قوة العصيان، هذا تناقض وتكليف بما لا يطاق. وقد أخبر الله تعالى بأن الحق هو عكس هذا المفهوم، فقال عز وجل: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها [البقرة:286]، وجبر العبد على فعله لا يتفق مع مضمون هذه الآية وغيرها من الآيات والأحاديث، ويصح على مفهوم هؤلاء الجهمية ألا يقال للزاني: إنه زان، ولا للسارق: إنه سارق، ولا للمصلي: إنه مصل الخ؛ لأن هذه الأفعال هي أفعال الله فيهم، وإنما هم منفذون لها. لقد أعظموا على الله الفرية وقفوا ما ليس لهم بحق!! المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 1145 - 1148 الجهمية الذين يقولون: الله - عز وجل - يجبر العبد على كل شيء، على الخير وعلى الشر، وإنما هو كالريشة في مهب الريح إلى آخره. ويستدلون على ذلك بقوله - عز وجل - وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى [الأنفال:17]، يقولون إن الذي رمى في الحقيقة هو الله - عز وجل - ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ما رمى. وهذا قول الغلاة منهم -غلاة الجبرية-، ويرد عليهم في هذا الاستدلال على وجه الاختصار بجوابين:   (1) لأن الظلم عندهم عبارة عن الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، والظلم كذلك لا يكون إلا من مأمور من غيره منهي وإلا ليس كذلك" - ((شرح الطحاوية)) (ص449) أي أن الظلم عندهم هو نفي الله ما لا يقدر عليه ولا يمكن منه، أما ما كان تحت قدرة الله تعالى فليس بظلم وأفعال ناتجة عن جبر الله تعالى لهم، وهذا الاعتقاد باطل وليس هو المراد من نفي الظلم عن الله تعالى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 425 الجواب الأول: أن الله - عز وجل - قال وما رميت إذ رميت [الأنفال:17] , يعني حين رميت فإن الله - عز وجل - هو الذي رمى، وظاهر الآية كما هو واضح أنه أثبت للنبي صلى الله عليه وسلم رميا فقال إذ رميت، ونفى عنه رميا بقوله وما رميت، والنظر الصحيح يدل على أنه لا بد من الجمع ما بين الرمي المنفي والرمي المثبت، وهذا يتضح بأن العبد إذا فعل الفعل فإن الفعل الذي يفعله سبب في حدوث المسبب، ولا يحصل المسبب ولا تحصل النتيجة بفعل العبد وحده في أكثر أو في جل المسائل؛ بل لابد من إعانة من الله - عز وجل -. وهذا ظاهر في الرمي بخصوصه؛ لأن الرمي عن بعد له ابتداء وله انتهاء، فابتداء الرمي من النبي صلى الله عليه وسلم لكن الانتهاء بأن يصيب رمي النبل أو رمي الحصاة أن يصيب فلانا المشرك ويموت منه هذا من الله - عز وجل -؛ لأن العبد ما يملك أن تكون رميته ماضية فتصيب. ولهذا فيكون العبد هنا متخلصا من رؤيته لنفسه ومن حوله وقوته مع فعله، فأراد - عز وجل - أن يعلم نبيه والمؤمنين أن يتخلصوا من إعجابهم ورؤيتهم لأفعالهم وأنفسهم، فقال: افعلوا ولكن الذي يمن عليكم ويسدد رميكم هو الله - جل جلاله -. فيكون إذا معنى الله رمى أصاب بما أعان على التسديد. الجواب الثاني: أنه لو قيل على قول الجبرية: إن الله هو الذي يفعل الأشياء لكان تقدير الآية كما قاله جماعة أن يقال في كل فعل فعله العبد (ما فعله ولكن الله فعله) كأن تقول: ما صليت إذ صليت ولكن الله صلى، وما زكيت إذ زكيت ولكن الله زكى، وما مشيت إذ مشيت ولكن الله مشى وهكذا في الأعمال القبيحة المشينة التي ينزه الله - عز وجل - عنها بالإجماع كقول القائل -أعوذ بالله - وما سرقت إذ سرقت ولكن الله سرق، وما زنيت إذ زنيت ولكن الله إلى آخره، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. والقول إذا كان يلزم منه اللازم الباطل يدل على فساده وعدم اعتباره؛ لأن القول الحقيق والقول الصحيح والقول الحق لا يلزم منه لوازم باطلة. والقول الباطل هو الذي ينشأ عنه لوازم باطلة، ما الفرق بين هذه وهذه؟ المصدر: شرح العقيدة الطحاوية - صالح آل الشيخ 3 - إنكار كثير من أمور اليوم الآخر مثل: الصراط، الميزان، رؤية الله تعالى، عذاب القبر، القول بفناء الجنة والنار. قول نفاة الجهمية أنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة. المصدر: جامع الرسائل لابن تيمية – 1/ 50 إنكار الجهمية الصراط الصراط من الأمور الغيبية التي أعدها الله في يوم القيامة، وقد ثبت في الشرع بأحاديث صحيحة إضافة إلى قول الله عز وجل: وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما ًمقضياً [مريم:71] وفي الصراط تفاصيل طويلة وأخبار كثيرة، وقد حاولت حصر أكثر ما تيسر من أخباره في (الحياة الآخرة ما بين البعث إلى دخول الجنة أو النار) (1). ونكتفي بإيجاز ما يهمنا ذكره هنا من أخبار هذا الأمر. الصراط المراد به: ما ثبت في السنة النبوية أنه جسر ممدود على متن جهنم أدق من الشعرة وأحد من السيف، يعبره الخلائق بقدر أعمالهم إلى الجنة فمنهم من يجتازه ومنهم من يقع فيه. وقد ورد في القرآن الكريم لفظة الصراط في تسعة وأربعين موضعاً-على معان مختلفة لكنها متقاربة في المعنى- مراداً بها الطريق أو طريق الهداية والرشاد. هذا في اللغة، ولكن السلف ما كانوا يغفلون حقيقته الشرعية من أنه جسر ممدود على متن جهنم، ولم يأت التصريح بذكره في القرآن الكريم. غير أن هناك آيات بعض العلماء جعلها في ذكر الصراط وبعضهم يجعلها إشارة إليه، ومن ذلك:   (1) قدمتها لمرحلة الدكتوراه. انظر الباب العاشر منها من (ص1211 إلى ص 1317)، ط 1، 1417هـ – 1997م. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 426 قول الله تعالى: فاهدوهم إلى صراط الجحيم [الصافات:23]، وهذه الآية ليس فيها التصريح التام بذكر الصراط في اصطلاح الشرع، إلا أن يقال: إن طريق الجحيم هو أخذهم إلى الصراط ومنه إلى النار. ومنه قوله تعالى: & Iuml; فلا اقتحم العقبة [البلد:11]، ورد في تفسير العقبة أقوال كثيرة منها أن العقبة هنا هي الصراط. وكذا قوله تعالى: وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ... [مريم:71]؛ أي بالمرور على الصراط. أما في السنة النبوية فقد ورد ذكره ووصفه وكيفية المرور عليه في عدة أحاديث في الصحاح والسنن والمسانيد، منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((ويضرب جسر جهنم)). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فأكون أول من يجيز، ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم، وبه كلابيب مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله فتخطف الناس بأعمالهم منهم الموبق ومنهم المخردل ثم ينجو)) (1) إلى آخر الحديث. وللصراط أوصاف كثيرة؛ فهو أحد من السيف وأدق من الشعرة، عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم ولا ينجو عليه إلا من كتبت له السعادة، ولا صحة لأقوال المتأولين له فإنها في مقابلة النصوص، وفي مرورهم عليه يعطون أنواراً كل شخص نوره على قدر عمله. ثم يقال لهم: امضوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكواكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كشد الرجل يرمل رملاً. وقد نصبه الله لحكمة فلو شاء لاجتاز الخلق بغير نصبه، وقد تلمس بعض العلماء حكماً كثيرة لذلك إلا أنه ينبغي الإيمان التام بأن لله حكمة قد تظهر وقد لا تظهر حقيقتها لأحد، ولسنا مكلفين باستخراج الحكمة وقد كلفنا بالإيمان بكل ما صح ثبوته. كما أنه ورد في تحديد مسافة الصراط أقوال كثيرة تفتقر إلى دليل من الشرع، فهي من اجتهادات العلماء واستنباطاتهم، وينبغي معرفة أن المسافة وطولها أو قصرها تعود إلى العمل، فالاجتياز عليه إنما هو بقدر العمل كما ثبت ذلك في عدة نصوص. وإنكار الجهمية وغيرهم للصراط ليس لهم ما يتمسكون به إلا شبهات باطلة واستبعاد له، ظانين أن استبعاده في عقولهم يصح أن يكون دليلاً على إنكاره، وبغض النظر عن سرد تلك الشبهات فإن النتيجة واحدة وهي إنكار الصراط، ويكفي في الرد عليهم أن يقال لهم: إنكم تردون أقوال نبيكم صلى الله عليه وسلم بمحض الهوى والشبهات، وليس لكم أي دليل، ومن رد أقوال النبي صلى الله عليه وسلم بعد صحة ثبوتها، فلا ريب في خسرانه ومفارقته طريق المؤمنين. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 1148 - 1151 إنكار الجهميه للميزان الميزان من أمور الآخرة الغيبية التي يجب الإيمان بها وقد أنكرته الجهمية، والمراد به في الاصطلاح الشرعي: الميزان الذي أخبر الله تعالى عنه في الأحاديث الشريفة في أكثر من مناسبة تنويهاً بعظم شأنه وخطورة أمره. وهو ميزان حقيقي له لسان وكفتان توزن به أعمال العباد خيرها وشرها، وقد أخبر الله عنه في القرآن الكريم إخباراً مجملاً من غير تفصيل لحقيقته، وجاءت السنة النبوية فبينته. يظهره الله في يوم القيامة لإظهار مقادير أعمال الخلق، وقد أجمع المسلمون على القول به واعتقاده. وجاء ذكره في القرآن الكريم في أكثر من آية تنويهاً بعظمه وأهميته، قال تعالى: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبةٍ من خردلٍ أتينا بها وكفى بنا حاسبين [الأنبياء:47] وآيات أخرى كثيرة لا تخفى على طلاب العلم، ودلالتها على إثبات الميزان أمر ظاهر، وقد وصف الله فيها الموازين عدل وأن من ثقل ميزانه، فقد أفلح وعاش عيشة راضية، ومن خف ميزانه فقد خسر وهوى إلى جهنم.   (1) رواه البخاري (6573) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 427 كما وردت في السنة النبوية أحاديث كثيرة فيها بيان ثبوت الميزان وصفاته وما الذي يوزن فيه، هل هو العامل فقط أو العمل فقط أو العامل والعمل، أو صحف الأعمال، وما الذي يثقله وما الذي يخففه ومن تلك الأحاديث وهي كثيرة: قوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)) (1).وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا: فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا [الكهف:105])) (2). وثبت أن العمل يوزن ويوزن أيضاً العامل، وتوزن صحائف الأعمال، وروي أن أشد ما يكون الناس خوفاً في يوم القيامة عندما يأتي دور الوزن. وقد تلقى المسلمون أخباره بالقبول والتصديق لثبوته بالكتاب والسنة والإجماع (3)، ولم يخالف في ثبوته أي شخص من السلف. وقد ذهبت الجهمية وغيرهم من أهل البدع إلى إنكاره بلا دليل، لأنه في زعمهم – يستحيل وزن الأعراض، كما أنكروا أن يكون هناك ميزان حقيقي له كفتان ولسان، معرضين عن النصوص الثابتة بذلك كما قدمنا بعضها. وإذا أراد القارئ المزيد من أخبار الميزان والاطلاع على المناقشات الموسعة فيه فليقرأ – إن أحب – "الحياة الآخرة ما بين البعث إلى دخول الجنة أو النار ". فسوف يجد فيه إن شاء الله كل ما يطلبه من تفصيل لأخبار الميزان ومواقف علماء السنة وعلماء البدع منه، وما الذي يوزن؟ وهل توزن أعمال الجن؟ وهل هو ميزان واحد أو موازين متعددة؟ إلى غير ذلك من الأمور التي تتعلق بهذا الأمر. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 1151 - 1153 قول الجهمية بفناء الجنة والنار اقتضت حكمة الله تعالى أن يوجد الجنة وأن تكون دار أوليائه إلى الأبد، وأن يوجد النار وتكون دار أعدائه إلى الأبد، خلقهما الله وكتب لهما البقاء الأبدي بإبقاء الله تعالى لهما وهذا هو الثابت في الشريعة الإسلامية. وخالفت الجهمية وجاءوا بأفكار ومعتقدات ما أنزل الله بها من سلطان، قال شمس الدين ابن القيم: "والجهم أفناها وأفنى أهلها تبا لذاك الجاهل الفتان " (4) ولم يكن لهم ما يستدلون به على إنكارهم ذلك إلا مجرد الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا، وصاروا يشنعون على السلف أهل الحق ما يعتقدونه في وجود الجنة والنار الآن ودوامهما في المستقبل. قال ابن أبي العز رحمه الله: " وقال بفناء الجنة والنار الجهم بن صفوان إمام المعطلة، وليس له سلف قط لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين ولا من أهل السنة، وأنكره عليه عامة أهل السنة وكفروه به وصاحوا به وبأتباعه من أقطار الأرض، وهذا قاله لأصله الفاسد الذي اعتقده وهو امتناع وجود مالا يتناهى من الحوادث، وهو عمدة أهل الكلام المذموم التي استدلوا بها على حدوث الأجسام وحدوث ما لم يخل من الحوادث، وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم، فرأى جهم أن ما يمنع من حوادث لا أول لها في الماضي يمنعه في المستقبل، فدوام الفعل عنده على الرب في المستقبل ممتنع كما هو ممتنع عنده عليه في الماضي " (5). لقد زعم الجهم وأتباعه أن الجنة والنار ستفنى بحجة أن ما لا نهاية له من الأمور الحادثة المتجددة بعد أن لم تكن يستحيل – حسب زعمه – أنها تبقى إلى ما لا نهاية، ولم يتصور أن بعض الأشياء التي شاء الله البقاء أنه يمتنع فناؤها.   (1) رواه البخاري (6406) ومسلم (2694) (2) رواه البخاري (4729) ومسلم (2785) (3) انظر: ((لوامع الأنوار)) (2/ 184) (4) ((النونية)) (2/ 393) (5) ((شرح الطحاوية)) (ص 420) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 428 ولا يوجد له من الأدلة إلا ما قاله أهل الكلام حينما أرادوا الاستدلال حسب عقولهم على حدوث الأجسام حين قالوا: كل جسم حادث لا بقاء له، فالأجسام حادثة وكل ما قبل الحدوث فهو حادث، والعالم قبل الحدوث فهو حادث. ثم زعم جهم أن الرب يمتنع عليه إيجاد حوادث لا أول لها، مخافة تعدد الآلهة إذا قلنا بوجودها، ثم قاس هذا على نهاية الحوادث، فكما أنه يستحيل عنده وجود حوادث لا أول لها، فكذلك يمتنع القول بوجود حوادث لا آخر لها لأن الله وحده هو الأول والآخر. وقد ظن أن هذا من تنزيه الله تعالى، وهو في الواقع إساءة ظن بقدرة الله تعالى، ولم يعلم أن ما أراد الله البقاء فإنه يمتنع عليه الانتهاء، فإن الجنة أراد الله لها البقاء والنار كذلك فيستحيل أن تفنيا، وإلا كان فناؤهما تكذيبا لكتاب الله وسنة نبيه، فإن القرآن الكريم مملوء بالأخبار عن بقائهما إلى الأبد. قال تعالى: وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ [هود:108] أي غير منقطع إلا إذا شاء الله أن يقطعه، فقوته فوق ذلك، ولكن أخبر عز وجل أنه لم يشأ أن ينقطع أبدا فيجب تصديق ذلك: ومن أصدق من الله قيلا [النساء:122]. وقال تعالى: وما هم منها بمخرجين [الحجر:48]، لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى [الدخان:56]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في إثبات هذا المفهوم. وقد جاءت السنة بتأكيد ثبوت وجود الجنة والنار الآن ودوامهما في المستقبل في أحاديث كثيرة كقوله صلى الله عليه وسلم: ((من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس)) (1)، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ينادي مناد يا أهل الجنة! إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وأن تشبوا فلا تهرموا أبدا وأن تحيوا فلا تموتوا أبدا)) (2).وورد عن ذبح الموت بين الجنة والنار ثم يقال: ((يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت)) (3)، والمذبوح هنا ليس هو ملك الموت كما يظن البعض حاشاه من ذلك، وإنما المذبوح هو الموت نفسه على صورة كبش أملح، لأن الموت مخلوق والحياة مخلوقة كما أخبر الله تعالى. وعن دوام النار يقول الله تعالى: فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [البقرة:81]، وقال تعالى: خالدين فيها أبدا [النساء:169]، وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها [فاطر:36] فهذه النصوص تثبت بجلاء دوام الجنة والنار، وأن المنكرين ذلك ليس لهم أي دليل إلا مجرد الاستبعاد وهو ليس بدليل، وإلا ما قاسوه بأخيلتهم الضعيفة، ولئن نازع هؤلاء في دوامهما فقد نازعوا في وجودهما الآن، حيث نفوا ذلك وأصروا على عدم وجودهما الآن بدليل أن الجنة لو كانت موجودة الآن لما ذكر في الأحاديث أن الأعمال الصالحة يغرس لصاحبها شجر في الجنة، ونسوا أن البيت الجميل المتكامل البناء والحسن، لا يمنع أن يزداد فيه من أنواع التحسينات والنقوش والزخرفة ما يزيده جمالا وحسنا. وقد ذكر الله عز وجل في القرآن الكريم أدلة على وجودهما الآن بما لا يخفى إلا على أهل البدع، فقد قال تعالى عن الجنة: أعدت للمتقين [آل عمران:133] وقال عن النار كذلك: أعدت للكافرين [البقرة:24]، لقد أعدهما الله تعالى قبل نزول أهلهما فيهما.   (1) رواه مسلم (2836) (2) رواه مسلم (2837) (3) رواه البخاري (4730) ومسلم (2849) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 429 وقد جاء في السنة النبوية ما يؤكد وجودهما الآن كما جاء ما يؤكد بقاءهما أبدا – كما تقدم. ومن الأحاديث التي تؤكد وجودهما الآن ما جاء في حديث الإسراء والمعراج قوله صلى الله عليه وسلم: ((ثم انطلق بي جبريل حتى أتى سدرة المنتهى. فغشيها ألوان لا أدري ما هي قال: ثم دخلت الجنة فإذا هي جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك)) (1).وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة)) (2).وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأنه: رأى الجنة وتناول منها عنقودا، وقال لهم ((ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا)) (3). إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة التي تؤكد وجودهما الآن، إضافة إلى ما جاء في القرآن الكريم، ولكن أهل البدع لا ينظرون إلى الحق إلا من زاوية هواهم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 1153 - 1157 4 - ومنها نفي أن يكون الله متكلماً بكلام يليق بجلاله قال الأشعري: وزعمت الجهمية - كما زعمت النصارى - أن كلمة الله تعالى حواها بطن مريم رضي الله عنها وزادت الجهمية عليهم فزعمت أن كلام الله مخلوق حل في شجرة وكانت الشجرة حاوية له فلزمهم أن تكون الشجرة بذلك الكلام متكلمة ووجب عليهم أن مخلوقا من المخلوقين كلم موسى صلى الله عليه وسلم وأن الشجرة قالت: يا موسى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني فلو كان كلام الله مخلوقا في شجرة لكان المخلوق قال: يا موسى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وقد قال تعالى: ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [السجدة:13] وكلام الله من الله تعالى فلا يجوز أن يكون كلامه الذي هو منه مخلوقا في شجرة مخلوقة كما لا يجوز أن يكون علمه الذي هو منه مخلوقا في غيره تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. (4) وقال أيضا: واعلموا - رحمكم الله - أن قول الجهمية: " إن كلام الله مخلوق " يلزمهم به أن يكون الله تعالى لم يزل كالأصنام التي لا تنطق ولا تتكلم لو كان لم يزل غير متكلم لأن الله تعالى يخبر عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه لما قالوا له: أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون [الأنبياء:62 - 63] فاحتج عليهم بأن الأصنام إذا لم تكن ناطقة متكلمة لم تكن آلهة وأن الإله لا يكون غير ناطق ولا متكلم فلما كانت الأصنام التي لا يستحيل أن يحييها الله وينطقها لا تكون آلهة فكيف يجوز أن يكون من يستحيل عليه الكلام في قدمه إلها؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. (5) وإذا لم يجز أن يكون الله سبحانه وتعالى في قدمه بمرتبة دون مرتبة الأصنام التي لا تنطق فقد وجب أن يكون الله لم يزل متكلما دليل آخر: وقد قال الله تعالى مخبرا عن نفسه أنه يقول: لمن الملك اليوم [غافر:16] وجاءت الرواية أنه يقول هذا القول ولا يرد عليه أحد شيئا فيقول: لله الواحد القهار [غافر:16] فإذا كان الله قائلا مع فناء الأشياء إذ لا إنسان ولا ملك ولا حي ولا جان ولا شجر ولا مدر فقد صح أن كلام الله خارج عن الخلق لأنه يوجد ولا شيء من المخلوقات موجود دليل آخر: وقد قال الله تعالى: وكلم الله موسى تكليما [النساء:164] والتكليم هو المشافهة بالكلام ولا يجوز أن يكون كلام المتكلم حالا في غيره مخلوقا في شيء سواه كما لا يجوز ذلك في العلم. دليل آخر:   (1) رواه البخاري (349) ومسلم (163) (2) رواه البخاري (1379) ومسلم (2866) (3) رواه البخاري (748) ومسلم (907) (4) ((الإبانة)) (1/ 68) (5) ((الإبانة)) (1/ 72) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 430 وقال الله تعالى: قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد [الإخلاص:1 - 4] فكيف يكون القرآن مخلوقا وأسماء الله في القرآن؟ هذا يوجب أن تكون أسماء الله مخلوقة ولو كانت أسماؤه مخلوقة لكانت وحدانيته مخلوقة وكذلك علمه وقدرته. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا دليل آخر: وقد قال الله تعالى: تبارك اسم ربك [الرحمن:78] ولا يقال لمخلوق " تبارك " فدل هذا على أن أسماء الله غير مخلوقة وقال: ويبقى وجه ربك [الرحمن:27] فكما لا يجوز أن يكون وجه ربنا مخلوقا فكذلك لا يجوز أن تكون أسماؤه مخلوقة دليل آخر: وقد قال الله تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط [آل عمران:18] ولا بد أن يكون شهد بهذه الشهادة وسمعها من نفسه لأنه إن كان سمعها من مخلوق فليست شهادة له وإذا كانت شهادة له وقد شهد بها فلا يخلو أن يكون شهد بها قبل كون المخلوقات أو بعد كون المخلوقات فإن كان شهد بها بعد كون المخلوقات فلم يسبق شهادته لنفسه بألوهية الخلق وكيف يكون ذلك كذلك؟ وهذا يوجب أن التوحيد لم يكن يشهد به شاهد قبل الخلق ولو استحالت الشهادة بالوحدانية قبل كون الخلق لاستحال إثبات التوحيد ووجوده وأن يكون واحدا قبل الخلق لأن ما يستحيل الشهادة عليه فمستحيل وإن كانت شهادته لنفسه قبل الخلق بالتوحيد فقد بطل أن يكون كلام الله تعالى مخلوقا لأن كلام الله شهادته. دليل آخر: ومما يدل عليه بطلان قول الجهمية وأن القرآن كلام الله غير مخلوق: أن أسماء الله من القرآن وقد قال الله سبحانه: سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى [الأعلى:1 - 2] ولا يجوز أن يكون اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى مخلوقا كما لا يجوز أن يكون جد ربنا [الجن:3] مخلوقا قال الله تعالى في سورة الجن: وأنه تعالى جد ربنا [الجن:3] وكما لا يجوز أن تكون عظمته مخلوقة كذلك لا يجوز أن يكون كلامه مخلوقا دليل آخر: وقد قال الله تعالى: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء [الشورى:51] فلو كان كلام الله لا يوجد إلا مخلوقا في شيء مخلوق لم يكن لاشتراط هذه الوجوه معنى لأن الكلام قد سمعه جميع الخلق ووجدوه - بزعم الجهمية - مخلوقا في غير الله تعالى وهذا يوجب إسقاط مرتبة النبيين صلوات الله عليهم أجمعين ويجب عليهم إذا زعموا أن كلام الله لموسى خلقه في شجرة أن يكون من سمع كلام الله عز وجل من ملك أو من نبي أتى به من عند الله أفضل مرتبة من سماع الكلام من موسى لأنهم سمعوه من نبي ولم يسمعه موسى من الله عز وجل وإنما سمعه من شجرة وأن يزعموا أن اليهودي إذا سمع كلام الله من النبي عليه الصلاة والسلام أفضل مرتبة في هذا المعنى من موسى صلى الله عليه وسلم لأن اليهودي سمعه من نبي من أنبياء الله وموسى سمعه مخلوقا في شجرة ولو كان مخلوقا في شجرة لم يكن مكلما لموسى من وراء حجاب لأن من حضر الشجرة من الجن والإنس قد سمعوا الكلام من ذلك المكان وكان سبيل موسى وغيره في ذلك سواء في أنه ليس كلام الله له من وراء حجاب المصدر: الإبانة للأشعري - 1/ 70 وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رجل قال: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، وإنما خلق الكلام والصوت في الشجرة وموسى عليه السلام سمع من الشجرة لا من الله، وأن الله عز وجل لم يكلم جبريل بالقرآن وإنما أخذه من اللوح المحفوظ، فهل هو على الصواب أم لا؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 431 فأجاب: الحمد الله، ليس هذا على الصواب، بل هذا ضال مفتر كاذب باتفاق سلف الأمة وأئمتها، بل هو كافر يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وإذا قال لا أكذب بلفظ القرآن وهو قوله " وكلم الله موسى تكليماً " بل أقر بأن هذا اللفظ حق لكن فإن هؤلاء هم الجهمية الذين اتفق السلف والأئمة على أنهم من شر أهل الأهواء والبدع حتى أخرجهم كثير من الأئمة عن الثنتين والسبعين فرقة. وأول من قال هذه المقالة في الإسلام كان يقال له الجعد بن درهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري يوم أضحى، فإنه خطب الناس فقال في خطبته: ضحوا أيها الناس، تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً. ثم نزل فذبحه. وكان ذلك في زمن التابعين فشكروا ذلك، وأخذ هذه المقالة عنه جهم بن صفوان وقتله بخراسان سلمة بن أحور، وإليه نسبت هذه المقالة التي تسمى مقالة الجهمية، وهي نفي صفات الله تعالى، فإنهم يقولون: إن الله لا يرى في الآخرة ولا يكلم عباده، وأنه ليس له علم ولا حياة ولا قدرة ونحو ذلك من الصفات، ويقولون القرآن مخلوق. ووافق الجهم على ذلك المعتزلة أصحاب عمرو بن عبيد وضموا إليها بدعاً أخرى في القدر وغيره، لكن المعتزلة يقولون أن الله كلم موسى حقيقة وتكلم حقيقة، لكن حقيقة ذلك عندهم أنه خلق كلاماً في غيره إما في شجرة وإما في هواء وإما في غير ذلك من غير أن يقوم بذات الله عندهم كلام ولا علم ولا قدرة ولا رحمة ولا مشيئة ولا حياة ولا شيء من الصفات. والجهمية تارة يبوحون بحقيقة القول، فيقولون: أن الله لم يكلم موسى تكليماً ولا يتكلم، وتارة لا يظهرون هذا اللفظ لما فيه من الشناعة المخالفة لدين الإسلام واليهود والنصارى، فيقرون باللفظ ولكن يقرنونه بأنه خلق في غيره كلاماً. وأئمة الدين كلهم متفقون على ما جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة من أن الله كلم موسى تكليماً وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة كما تواترت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأن لله علماً وقدرة ونحو ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 432 ونصوص الأئمة في ذلك مشهورة متواترة حتى أن أبا القاسم الطبري الحافظ لما ذكر في كتابه في (شرح أصول السنة) مقالات السلف والأئمة في الأصول ذكر من قال القرآن كلام الله غير مخلوق، وقال: (فهؤلاء خمسمائة وخمسون نفساً أو أكثر من التابعين والأئمة المرضيين سوى الصحابة، على اختلاف الأعصار ومضي السنين والأعوام، وفيهم نحو من مائة إمام ممن أخذ الناس بقولهم وتدينوا بمذاهبهم، ولو اشتغلت بنقل قول أهل الحديث لبلغت أسماؤهم ألوفا، لكني اختصرت فنقلت عن هؤلاء عصراً بعد عصر لا ينكر عليهم منكر، ومن أنكر قولهم استتابوه أو أمروا بقتله أو نفيه أو صلبه)، قال: (ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال القرآن مخلوق جعد بن درهم في سنة نيف وعشرين ومائة، ثم جهم بن صفوان، فأما جعد فقتله خالد بن عبد الله القسري، وأما جهم فقتل بمرو في خلافه هشام بن عبد الملك.) وروى بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من وجهين أنهم قالوا له يوم صفين: حكّمت رجلين؟ فقال: (ما حكمت مخلوقاً ما حكّمت إلا القرآن) (1)،وعن عكرمة قال: (كان ابن عباس في جنازة فلما وضع الميت في لحده قام رجل وقال: اللهم رب القرآن اغفر له، فوثب إليه ابن عباس فقال: مه، القرآن منه.) (2) وعن عبد الله بن مسعود قال: (من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين) (3). وهذا ثابت عن ابن مسعود. وعن سفيان بن عيينة قال: سمعت عمرو بن دينار يقول: (أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون: القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود). وفي لفظ (يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق.) وقال حرب الكرماني ثنا إسحاق بن إبراهيم يعني ابن راهويه عن سفيان بن عيينة عن عمرو ابن دينار قال: (أدركت الناس منذ سبعين سنة أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمن دونهم يقولون: الله الخالق وما سواه مخلوق إلا القرآن فإنه كلام الله منه خرج وإليه يعود.) وهذا قد رواه عن ابن عيينة إسحاق، وإسحاق إما أن يكون سمعه منه أو من بعض أصحابه عنه. وعن جعفر الصادق بن محمد - وهو مشهور عنه - أنهم سألوه عن القرآن أخالق هو أم مخلوق؟ فقال: (ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله.) وهكذا روى عن الحسن البصري وأيوب السختياني وسليمان التيمي وخلق من التابعين. وعن مالك بن أنس والليث بن سعد وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وأمثال هؤلاء من الأئمة وكلام هؤلاء الأئمة وأتباعهم في ذلك كثير مشهور بل اشتهر عن أئمة السلف تكفير من قال القرآن مخلوق وأنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، كما ذكروا ذلك عن مالك بن أنس وغيره، ولذلك قال الشافعي لحفص الفرد وكان من أصحاب ضرار بن عمرو ممن يقول القرآن مخلوق، فلما ناظر الشافعي وقال له القرآن مخلوق، قال له الشافعي: (كفرت بالله العظيم.) ذكره ابن أبي حاتم في الرد على الجهمية، قال كان في كتابي عن الربيع بن سليمان قال: حضرت الشافعي أو حدثني أبو شعيب ألا أني أعلم حضر عبد الله بن عبد الحكم ويوسف بن عمرو بن يزيد فسأل حفص عبد الله قال: ما تقول في القرآن؟ فأبى أن يجيبه، فسأل يوسف بن عمرو فلم يجبه، وكلاهما أشار إلى الشافعي، فسأل الشافعي فاحتج عليه وطالت فيه المناظرة، فقال الشافعي بالحجة بأن القرآن كلام الله غير مخلوق وكفر حفصاً الفرد، قال الربيع فلقيت حفصاً في المسجد بعد هذا فقال: أراد الشافعي قتلي.   (1) رواه البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص525) وابن أبي حاتم في ((التفسير)) واللالكائي (2/ 227) (2) رواه البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص519) واللالكائي (2/ 230) (3) رواه عبدالرزاق (12232) والبيهقي (10/ 43) واللالكائي (2/ 232) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 433 وأما مالك بن أنس فنقل عنه من غير وجه الرد على من يقول القرآن مخلوق واستتابته، وهذا المشهور عنه متفق عليه بين أصحابه، وأما أبو حنيفة وأصحابه فقد ذكر أبو جعفر الطحاوي في الاعتقاد الذي قال في أوله: ذكر بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة، أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني قال فيه: وإن القرآن كلام الله، منه بدأ بلا كيفية قولاً، وأنزله على نبيه وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأثبتوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده عذابه وتوعده حيث قال: سأصليه سقر [المدثر:26] فلما أوعد الله سقر لمن قال: إن هذا إلا قول البشر [المدثر:25] علمنا أنه قول خالق البشر ولا يشبه قول البشر. وأما أحمد بن حنبل فكلامه في مثل هذا مشهور متواتر، وهو الذي اشتهر بمحنة هؤلاء الجهمية، فإنهم أظهروا القول بإنكار صفات الله تعالى وحقائق أسمائه وأن القرآن مخلوق، حتى صار حقيقة قولهم تعطيل الخالق سبحانه وتعالى، ودعوا الناس إلى ذلك، وعاقبوا من لم يجبهم إما بالقتل وإما بقطع الرزق وإما بالعزل عن الولاية وإما بالحبس أو بالضرب وكفروا من خالفهم، فثبت الله تعالى الإمام أحمد حتى أظهر الله به باطلهم، ونصر أهل الإيمان والسنة عليهم، وأذلهم بعد العز وأخملهم بعد الشهرة، واشتهر عند خواص الأمة وعوامها أن القرآن كلام الله غير مخلوق وإطلاق القول أن من قال أنه مخلوق فقد كفر. وأما إطلاق القول بأن الله لم يكلم موسى فهذه مناقضة لنص القرآن فهو أعظم من القول بأن القرآن مخلوق، وهذا بلا ريب يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فإنه أنكر نص القرآن، وبذلك أفتى الأئمة والسلف في مثله، والذي يقول القرآن مخلوق فهو في المعنى موافق له فلذلك كفره السلف. قال البخاري في كتاب (خلق الأفعال) قال سفيان الثوري: (من قال القرآن مخلوق فهو كافر)، قال: وقال عبد الله بن المبارك: من قال: إنني أنا الله لا إله إلا أنا [طه:14] مخلوق فهو كافر ولا ينبغي لمخلوق أن يقول ذلك)، قال: وقال ابن المبارك: (لا نقول كما قالت الجهمية أنه في الأرض ههنا، بل على العرش استوى)، وقيل له كيف نعرف ربنا؟ قال: (فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه). وقال: (من قال " لا إله إلا الله " مخلوق فهو كافر، وإنا نحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية). قال: وقال علي بن عاصم: (ما الذين قالوا أن لله ولداً أكفر من الذين قالوا إن الله لا يتكلم). قال البخاري وكان إسماعيل بن أبي إدريس يسميهم زنادقة العراق، وقيل له: سمعت أحداً يقول القرآن مخلوق؟ فقال: هؤلاء الزنادقة. قال: وقال أبو الوليد سمعت يحيى بن سعيد - وذكر له أن قوماً يقولون القرآن مخلوق - فقال: (كيف يصنعون بـ قل هو الله أحد [الإخلاص:1] كيف يصنعون بقوله: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا [طه: 14]؟) قال: وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: (نظرت في كلام اليهود والمجوس فما رأيت قوماً أضل في كفرهم منهم، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم) قال: وقال سليمان بن داود الهاشمي: (من قال القرآن مخلوق فهو كافر، وإن كان القرآن مخلوقاً كما زعموا فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار إذ قال أنا ربكم الأعلى [النازعات:24]؟ وزعموا أن هذا مخلوق والذي قال إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني [طه:14] هذا أيضاً قد ادعى ما ادعى فرعون، فلم صار فرعون أولى أن يخلد في النار من هذا؟ وكلاهما عنده مخلوق.) فأخبر بذلك أبو عبيد فاستحسنه وأعجبه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 434 ومعنى كلام هؤلاء السلف رضي الله عنهم: إن من قال أن كلام الله مخلوق خلقه في الشجرة أو غيرها كما قال هذا الجهمي المعتزلي المسؤول عنه، كان حقيقة قوله أن الشجرة هي التي قالت لموسى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه: 14] ومن قال هذا مخلوق قال ذلك، فهذا المخلوق عنده كفرعون الذي قال: أنا ربكم الأعلى، كلاهما مخلوق، وكلاهما قال ذلك، فإن كان قول فرعون كفراً فقول هؤلاء أيضاً كفر. ولا ريب أن قول هؤلاء يؤول إلى قول فرعون وإن كانوا لا يفهمون ذلك، فإن فرعون كذب موسى فيما أخبر به: من أن ربه هو الأعلى، وأنه كلمه كما قال تعالى وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب، أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً [غافر:36 - 37] وهو قد كذب موسى في أن الله كلمه، ولكن هؤلاء يقولون إذا خلق كلاماً في غيره صار هو المتكلم به وذلك باطل وضلال من وجوه كثيرة: أحدها أن الله سبحانه أنطق الأشياء كلها نطقاً معتاداً ونطقاً خارجاً عن المعتاد، قال تعالى اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [يس:65] وقال تعالى: حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون، وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء [فصلت:20 - 21]. وقال تعالى: يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون [النور:24]. وقد قال تعالى: إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق [ص:18] وقد ثبت أن الحصى كان يسبح في يد النبي صلى الله عليه وسلم وأن الحجر كان يسلم عليه، وأمثال ذلك من إنطاق الجمادات، فلو كان إذا خلق كلاماً في غيره كان هو المتكلم به كان هذا كله كلام الله تعالى، ويكون قد كلم من سمع هذا الكلام كما كلم موسى بن عمران، بل قد ثبت أن الله خالق أفعال العباد، فكل ناطق فالله خالق نطقه وكلامه فلو كان متكلماً بما خلقه من الكلام لكان كل كلام في الوجود كلامه حتى كلام إبليس والكفار وغيرهم، وهذا تقوله غلاة الجهمية كابن عربي وأمثاله يقولون: وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه وهكذا أشباه هؤلاء من غلاة المشبهة الذين يقولون: إن كلام الآدميين غير مخلوق، فإن كل واحد من الطائفتين يجعلون كلام المخلوق بمنزلة كلام الخالق فأولئك يجعلون الجميع مخلوقاً وأن الجميع كلام الله، وهؤلاء يجعلون الجميع كلام الله وهو غير مخلوق، ولهذا كان قد حصل اتصال بين شيخ الجهمية الحلولية وشيخ المشبهة الحلولية بسبب هذه البدع وأمثالها من المنكرات المخالفة لدين الإسلام سلط الله أعداء الدين فإن الله يقول: ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [الحج:40 - 41] وأي معروف أعظم من الإيمان بالله وأسمائه وآياته؟ وأي منكر أعظم من الإلحاد في أسماء الله وآياته؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 435 الوجه الثاني أن يقال لهؤلاء الضالين: ما خلقه الله في غيره من الكلام وسائر الصفات فإنما يعود حكمه على ذلك المحل لا على غيره، فإذا خلق الله في بعض الأجسام حركة أو طعماً أو لوناً أو ريحاً كان ذلك الجسم هو المتحرك المتلون المطعوم، وإذا خلق بمحل حياة أو علماً أو قدرة أو إرادة أو كلاماً كان ذلك المحل هو الحي العالم القادر المريد المتكلم، فإذا خلق كلاماً في الشجرة أو في غيرها من الأجسام كان ذلك الجسم هو المتكلم بذلك الكلام، كما لو خلق فيه إرادة أو حياةً أو علماً، ولا يكون الله هو المتكلم به، كما إذا خلق فيه حياة أو قدرة أو سمعاً أو بصراً كان ذلك المحل هو الحي به والقادر به والسميع به والبصير به، فكما أنه سبحانه لا يجوز أن يكون متصفاً بما خلقه من الصفات المشروطة بالحياة وغير المشروطة بالحياة، فلا يكون هو المتحرك بما خلقه في غيره من الحركات، ولا المصوت بما خلقه في غيره من الأصوات ولا سمعه ولا بصره وقدرته ما خلقه في غيره من السمع والبصر والقدرة فكذلك لا يكون كلامه ما خلقه في غيره من الكلام ولا يكون متكلماً بذلك الكلام. الوجه الثالث: أن الاسم المشتق من معنى لا يتحقق بدون ذلك المعنى، فاسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة وأفعال التفضيل يمتنع ثبوت معناها دون معنى المصدر التي هي مشتقة منه، والناس متفقون على أنه لا يكون متحرك ولا متكلم إلا بحركة وكلام، فلا يكون مريد إلا بإرادة، وكذلك لا يكون عالم إلا بعلم ولا قادر إلا بقدرة ونحو ذلك. ثم هذه الأسماء المشتقة من المصدر إنما يسمى بها من قام به مسمى المصدر، فإنما يسمى بالحي من قامت به الحياة، وبالمتحرك من قامت به الحركة، وبالعالم من قام به العلم، وبالقادر من قامت به القدرة، فأما من لم يقم به مسمى المصدر فيمتنع أن يسمى باسم الفاعل ونحوه من الصفات، وهذا معلوم بالاعتبار في جميع النظائر، وذلك لأن اسم الفاعل ونحوه من المشتقات هو مركب يدل على الذات وعلى الصفة والمركب يمتنع تحققه بدون تحقق مفرداته، وهذا كما أنه ثابت في الأسماء المشتقة فكذلك في الأفعال مثل تكلم وكلم ويتكلم وعلم ويعلم وسمع ويسمع ورأى ويرى ونحو ذلك سواء، قيل أن الفعل مشتق من المصدر أو المصدر مشتق من الفعل، لا نزاع بين الناس أن فاعل الفعل هو فاعل المصدر، فإذا قيل كلم أو علم أو تكلم أو تعلم ففاعل التكليم والتعليم هو المكلم والمعلم، وكذلك التعلم والتكلم، والفاعل هو الذي قام به المصدر الذي هو التكليم والتعليم والتكلم والتعلم، فإذا قيل: تكلم فلان أو كلم فلان فلاناً ففلان هو المتكلم والمكلم، فقوله تعالى: وكلم الله موسى تكليماً [النساء:164] وقوله: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله، ورفع بعضهم درجات [البقرة:253] وقوله: ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه [الأعراف:143] يقتضي أن الله هو المكلم، فكما يمتنع أن يقال: هو المتكلم بكلام قائم بغيره يمتنع أن يقال كلم بكلام قائم بغيره فهذه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يلزم الجهمية على قولهم أن يكون كل كلام خلقه الله كلاماً له إذ لا معنى لكون القرآن كلام الله إلا كونه خلقه، وكل من فعل كلاماً ولو في غيره كان متكلماً به عندهم، وليس للكلام عندهم مدلول يقوم بذات الرب تعالى لو كان مدلولا قائماً يدل لكونه خلق صوتاً في محل والدليل يجب طرده فيجب أن يكون كل صوت يخلقه له كذلك وهم يجوزون أن يكون الصوت المخلوق على جميع الصفات، فلا يبقى فرق بين الصوت الذي هو كلام الله تعالى على قولهم والصوت الذي هو ليس بكلام. الثاني: أن الصفة إذا قامت بمحل كالعلم والقدرة والكلام والحركة عاد حكمه إلى ذلك المحل ولا يعود حكمه إلى غيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 436 الثالث: أنه مشتق المصدر منه اسم الفاعل والصفة المشبهة به ونحو ذلك ولا يشتق ذلك لغيره وهذا كله بين ظاهر وهو ما يبين قول السلف والأئمة أن من قال أن الله خلق كلاماً في غيره لزمه أن يكون حكم التكلم عائداً إلى ذلك المحل لا إلى الله. الرابع: أن الله أكد تكليم موسى بالمصدر فقال تكليماً، قال غير واحد من العلماء: التوكيد بالمصدر ينفي المجاز، لئلا يظن أنه أرسل إليه رسولاً أو كتب إليه كتاباً بل كلمه منه إليه. والخامس: أن الله فضل موسى بتكليمه إياه على غيره ممن لم يكلمه وقال وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً [الشورى:51] الآية، فكان تكليم موسى من وراء الحجاب، وقال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي [الأعراف:144] وقال إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:163 - 164] , والوحي هو ما نزله الله على قلوب الأنبياء بلا واسطة فلو كان تكليمه لموسى إنما هو صوت خلقه في الهواء لكان وحي الأنبياء أفضل منه، لأن أولئك عرفوا المعنى المقصود بلا واسطة، وموسى إنما عرفه بواسطة، ولهذا كان غلاة الجهمية من الاتحادية ونحوهم يدعون أن ما يحصل لهم من الإلهام أفضل مما حصل لموسى بن عمران وهذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين. ولما فهم السلف حقيقة مذهب هؤلاء وأنه يقتضي تعطيل الرسالة فإن الرسل إنما بعثوا ليبلغوا كلام الله، بل يقتضي تعطيل التوحيد، فإن من لا يتكلم ولا يقوم به علم ولا حياة هو كالموات، بل من لا تقوم به الصفات فهو عدم محض إذ ذات لا صفة لها إنما يمكن تقديرها في الذهن لا في الخارج كتقدير وجود مطلق لا يتعين ولا يتخصص. فكان قول هؤلاء مضاهياً لقول المتفلسفة الدهرية الذين يجعلون وجود الرب وجوداً مطلقاً بشرط الإطلاق لا صفة له، وقد علم أن المطلق بشرط الإطلاق لا يوجد إلا في الذهن، وهؤلاء الدهرية ينكرون أيضاً حقيقة تكليمه لموسى ويقولون إنما هو فيض فاض عليه من العقل الفعال، وهكذا يقولون في الوحي إلى جميع الأنبياء وحقيقة قولهم أن القرآن قول البشر لكنه صدر عن نفس صافية شريفة، وإذا كانت المعتزلة خيراً من هؤلاء وقد كفر السلف من يقول بقولهم فكيف هؤلاء؟ وكلام السلف والأئمة في مثل هؤلاء لا يحصى قال حرب بن إسماعيل الكرماني: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: بين أهل العلم اختلاف أن القرآن كلام الله وليس بمخلوق، وكيف يكون شيء من الرب عز ذكره مخلوقاً؟ ولو كان كما قالوا لزمهم أن يقولوا علم الله وقدرته ومشيئته مخلوقة، فإن قالوا ذلك لزمهم أن يقولوا كان الله تبارك اسمه ولا علم ولا قدرة ولا مشيئة، وهو الكفر المحض الواضح لم يزل الله عالماً متكلماً له المشيئة في خلقه، والقرآن كلام الله وليس بمخلوق فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 437 وقال وكيع بن الجراح: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن شيئاً من الله مخلوق، فقيل له: من أين قلت هذا؟ قال: لأن الله يقول ولكن حق القول مني [السجدة:13] ولا يكون من الله شيء مخلوق، وهذا القول قاله غير واحد من السلف. وقال أحمد بن حنبل: كلام الله من الله ليس ببائن منه، وهذا معنى قول السلف القرآن كلام الله منه بدأ ومنه خرج وإليه يعود كما في الحديث الذي رواه أحمد وغيره عن جبير بن نفير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه)) (1) يعني القرآن. وقد روي عن أبي أمامة مرفوعاً. وقال أبو بكر الصديق لأصحاب مسيلمة الكذاب، لما سمع قرآن مسيلمة: (ويحكم أين يذهب بعقولكم؟ إن هذا كلاماً لم يخرج من إلٍ) (2) أي من رب. وليس معنى قول السلف والأئمة: أنه منه خرج ومنه بدأ، أنه فارق ذاته وحل بغيره فإن كلام المخلوق إذا تكلم به لا يفارق ذاته ويحل بغيره، فكيف يكون كلام الله؟ قال تعالى: كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً [الكهف:5] فقد أخبر أن الكلمة تخرج من أفواههم ومع هذا فلم تفارق ذاتهم. وأيضاً فالصفة لا تفارق الموصوف وتحل بغيره، لا صفة الخالق ولا صفة المخلوق، والناس إذا سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم ثم بلغوه عنه كان الكلام الذي بلغوه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغوه بحركاتهم وأصواتهم فالقرآن أولى بذلك، فالكلام كلام البارئ والصوت صوت القارئ قال تعالى: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله [التوبة:6]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((زينوا القرآن بأصواتكم)) (3). ولكن مقصود السلف الرد على هؤلاء الجهمية فإنهم زعموا أن القرآن خلقه الله في غيره فيكون قد ابتدأ وخرج من ذلك المحل الذي خلق فيه لا من الله، كما يقولون كلامه لموسى خرج من الشجرة، فبين السلف والأئمة أن القرآن من الله بدأ وخرج وذكروا قوله وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [السجدة:13] فأخبر أن القول منه لا من غيره من المخلوقات.   (1) رواه الترمذي (2912) والحاكم (2/ 479) (3651) وأحمد في ((الزهد)) (35) وقال الترمذي مرسل، وضعفه الألباني. (2) أورده ابن جرير الطبري في تفسيره بدون إسناد (2/ 391) (3) رواه البخاري في صحيحه تعليقا، ورواه في ((خلق أفعال العباد)) (ص177) ورواه أبو داود (1468) والنسائي (1015) وابن ماجه (1342) وأحمد (4/ 283) (18517) وابن خزيمة (1551) وابن حبان (749) والحاكم (1/ 761) (2098) والحديث سكت عنه أبو داود وصححه الألباني. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 438 ومن هي لابتداء الغاية، فإن كان المجرور بها عيناً يقوم بنفسه لم يكن صفة لله كقوله وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه [الجاثية:13] وقوله في المسيح وروح منه [النساء:171] وكذلك ما يقوم بالأعيان كقوله وما بكم من نعمة فمن الله [النحل:53] وأما إذا كان المجرور بها صفة ولم يذكر لها محل كان صفة لله كقوله ولكن حق القول مني [السجدة:13] وكذلك قد أخبر في غير موضع من القرآن أن القرآن نزل منه وأنه نزل به جبريل منه رداً على هذا المبتدع المفتري وأمثاله ممن يقول أنه لم ينزل منه قال تعالى: قل أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق [الأنعام:114] وقال تعالى قل نزله روح القدس من ربك بالحق [النحل:102] وروح القدس هو جبريل، كم قال في الآية الأخرى نزل به الروح الأمين على قلبك [الشعراء:193] وقال: من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله [البقرة:97] وقال هنا نزله روح القدس من ربك [النحل:102] فبين أن جبريل نزله من الله لا من هواء ولا من لوح ولا غير ذلك، وكذلك سائر آيات القرآن كقوله تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم [الزمر:1] وقوله حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم [غافر:1 - 2] وقوله حم، تنزيل من الرحمن الرحيم [فصلت:1 - 2] وقوله الم، تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين [البقرة:1 - 2] وقوله يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك [المائدة:67] فقد بين في غير موضع أنه منزل من الله، فمن قال أنه منزل من بعض المخلوقات كاللوح والهواء فهو مفتر على الله مكذب لكتاب الله متبع لغير سبيل المؤمنين، ألا ترى أن الله فرق بين ما نزل وما نزله من بعض المخلوقات كالمطر بأن قال وأنزل من السماء ماء [البقرة:22] فذكر المطر في غير وأخبر أنه نزله من السماء، والقرآن أخبر أنه منزل منه، وأخبر بتنزيل مطلق في مثل قوله: وأنزلنا الحديد [الحديد:25] لأن الحديد ينزل من رؤوس الجبال لا ينزل من السماء، وكذلك الحيوان فإن الذكر ينزل الماء في الإناث، فلم يقل فيه من السماء، ولو كان جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ لكان اليهود أكرم على الله من أمة محمد، لأنه قد ثبت بالنقل الصحيح أن الله كتب لموسى التوراة وأنزلها مكتوبة فيكون بنو إسرائيل قد أقروا الألواح التي كتبها الله، وأما المسلمون فأخذوه عن محمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد أخذه عن جبريل وجبريل عن اللوح، فيكون بنو إسرائيل بمنزلة جبريل، وتكون منزلة بني إسرائيل أرفع من منزلة محمد صلى الله عليه وسلم على قول هؤلاء الجهمية، والله سبحانه جعل من فضائل أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه أنزل عليهم كتاباً لا يغسله الماء وإنه أنزله عليهم تلاوة لا كتابة، وفرقه عليهم لأجل ذلك، فقال: وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً [الإسراء:106] وقال تعالى: وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً [الفرقان:32]. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 439 ثم إن كان جبريل لم يسمعه من الله وإنما وجده مكتوباً كانت العبارة عبارة جبريل وكان القرآن كلام جبريل ترجم به عن الله كما يترجم عن الأخرس الذي كتب كلاماً ولم يقدر أن يتكلم به وهذا خلاف دين المسلمين. وإن احتج محتج بقوله إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند العرش مكين [التكوير:19 - 20] قيل له فقد قال في الآية الأخرى إنه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون [الحاقة:40 - 42] فالرسول في هذه الآية محمد صلى الله عليه وسلم والرسول في الأخرى جبريل، فلو أريد به أن الرسول أحدث عبارته لتناقض الخبران، فعلم أنه أضافه إليه إضافة تبليغ لا إضافة إحداث ولهذا قال لقول رسول ولم يقل ملك ولا نبي، ولا ريب أن الرسول بلغه كما قال يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك [المائدة:67] فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض على الناس في الموسم ويقول: ((ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي)) (1) ولما أنزل الله الم غلبت الروم [الروم:1] خرج أبو بكر الصديق فقرأها على الناس فقالوا: هذا كلامك أم كلام صاحبك؟ فقال: (ليس بكلامي ولا كلام صاحبي ولكنه كلام الله.) (2) وإن احتج بقوله ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث [الأنبياء:2] قيل له هذه الآية حجة عليك، فإنه لما قال مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ [الأنبياء:2] علم أن الذكر منه محدث ومنه ما ليس بمحدث، لأن النكرة إذا وصفت ميز بها بين الموصوف وغيره، كما لو قال ما يأتيني من رجل مسلم إلا أكرمته، وما آكل إلا طعاماً حلالاً ونحو ذلك، ويعلم أن المحدث في الآية ليس هو المخلوق الذي يقوله الجهمي ولكنه الذي أنزل جديداً، فإن الله كان ينزل القرآن شيئاً بعد شيء، فالمنزل أولاً هو قديم بالنسبة إلى المنزل آخراً، وكل ما تقدم على غيره فهو قديم في لغة العرب، كما قال كالعرجون القديم [يس:39] وقال تالله إنك لفي ضلالك القديم [يوسف:95] وقال وإذا لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم [الأحقاف:11] وقال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون [الشعراء:76] وكذلك قوله جعلناه قرآناً عربياً [الزخرف:3] لم يقل جعلناه فقط حتى يظن أنه بمعنى خلقناه ولكن قال جعلناه قرآناً عربياً أي صيرناه عربياً لأنه قد كان قادراً على أن ينزله عجمياً، فلما أنزله عربياً كان قد جعله عربياً دون عجمي. وهذه المسألة في أصول أهل الإيمان والسنة التي فارقوا بها الجهمية من المعتزلة والفلاسفة ونحوهم، والكلام عليها مبسوط في غير هذا الموضع والله أعلم. المصدر: جامع الرسائل لابن تيمية – 1/ 217 5 - وأن الإيمان هو المعرفة بالله.   (1) رواه أبو داود (4734) والترمذي (2925) وابن ماجه (201) وأحمد (3/ 390) (15229) والحاكم (2/ 669) (4220) والدارمي (3354) كلهم بدون قوله (لأبلغ كلام ربي) والحديث سكت عنه أبو داود وقال الترمذي غريب صحيح، وقال الحاكم على شرط الشيخين، وقال الهيثمي في ((المجمع)) (6/ 35) رواه أحمد ورجاله ثقات، وصححه الألباني ((الصحيحة)) (1947) (2) رواه عبدالله بن أحمد في ((السنة)) (116) والبيهقي في ((الشعب)) (166) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 440 فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن الإيمان بالله هو المعرفة بالله وبرسله وبجميع ما جاء من عند الله فقط وأن ما سوى المعرفة من الإقرار باللسان والخضوع بالقلب والمحبة لله ولرسوله والتعظيم لهما والخوف منهما والعمل بالجوارح فليس بإيمان وزعموا أن الكفر بالله هو الجهل به وهذا قول يحكى عن جهم بن صفوان وزعمت الجهمية أن الإنسان إذا أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه أنه لا يكفر بجحده وأن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل أهله فيه وأن الإيمان والكفر لا يكونان إلا في القلب دون غيره من الجوارح المصدر: مقالات الإسلاميين للأشعري - 1/ 132 فقالت الجهمية الإيمان معرفة الله بالقلب، وإن لم يكن معها شهادة لسان، ولا إقرار بنبوة، ولا شيء من أداء الفرائض. هذا مذهب الجهمية إذن ما هو مذهب الجهمية في الإيمان؟ معرفة الله بالقلب، قالوا: من عرف ربه بقلبه، فهو مؤمن، ولو لم ينطق بلسانه، ولم يقل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، ولو لم يعمل شيئا، لا صلاة، ولا زكاة، ولا صوم، ولا حج، يكفي المعرفة، ولو لم يقر بنبوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولو لم يفعل شيئا من الفرائض، لا صلاة ولا زكاة، هذا أخبث المذاهب، وأفسد مذهب قيل في تعريف الإيمان: مذهب الجهمية وسبق أن المؤلف -رحمه الله- ألزم الجهمية بأن إبليس يكون مؤمنا على هذا، إبليس يعرف ربه بقلبه أو ما يعرف؟ يعرف، أيش الدليل أنه أخبر هو قَالَ رَبِّ يعني: عرف ربه قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر:36] إذن إبليس يكون مؤمنا على مذهب الجهم أو غير مؤمن؟ مؤمن وفرعون يعرف ربه -الذي قال أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] يعرف ربه بقلبه ولّا ما يعرف؟ يعرف، قال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14] يكون مؤمنا على مذهب الجهم أو كافر؟ مؤمن. واليهود مؤمنون على مذهب الجهم ولّا كفار؟ مؤمنون، الدليل؟ قال الله تعالى الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] يعرفون وجود من؟ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146] أبو طالب ثبت في صحيح البخاري أنه مات على الشرك، يكون مؤمنا على مذهب الجهم أو غير مؤمن؟ مؤمن، الدليل؟ قول أبي طالب في قصيدته: العلم أين يكون؟ بالقلب. ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار سُبَّة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا فتبين بهذا أن مذهب الجهم في الإيمان أفسد مذهب، وأخبث مذهب، وأن رءوس الكفر يدخلون في الإيمان على مذهبهم -نعوذ بالله-، يدخلون في الإيمان إبليس وفرعون واليهود والوثنينون وأبو طالب كلهم يدخلون في الإيمان على مذهب الجهم -نعوذ بالله-. نعم. المصدر: الموقع الرسمي للشيخ عبدالعزيز الراجحي 6 - نفي أن يكون الله تعالى في جهة العلو. قال شيخ الإسلام: قول معطلة الجهمية ونفاتهم وهم الذين يقولون لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له ولا محايث له، فينفون الوصفين المتقابلين اللذين لا يخلو موجود عن أحدهما كما يقول ذلك أكثر المعتزلة ومن وافقهم من غيرهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 441 والقول الثالث: قول حلولية الجهمية الذين يقولون أنه بذاته في كل مكان كما تقول ذلك النجارية أتباع حسين النجار وغيرهم من الجهمية وهؤلاء القائلون بالحلول والاتحاد من جنس هؤلاء فإن الحلول أغلب على عباد الجهمية وصوفيتهم وعامتهم، والنفي والتعطيل أغلب على نظارهم ومتكلميهم كما قيل: متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئاً، ومتصوفة الجهمية يعبدون كل شيء، وذلك لأن العبادة تتضمن القصد والطلب والإرادة والمحبة وهذا لا يتعلق بمعدوم، فإن القلب يتطلب موجوداً فإذا لم يطلب ما فوق العالم طلب ما هو فيه. المصدر: جامع الرسائل لابن تيمية – 1/ 35 وقال أيضا: الحلول المطلق: وهو أن الله تعالى بذاته حال في كل شيء فهذا تحكيه أهل السنة والسلف عن قدماء الجهمية وكانوا يكفرون بذلك. المصدر: جامع الرسائل لابن تيمية – 1/ 83 وقال أيضا: وقال رجل لعبد الله بن المبارك: يا أبا عبد الرحمن قد خفت الله من كثرة ما أدعو على الجهمية، قال: لا تخف فإنهم يزعمون أن إلهك الذي في السماء ليس بشيء. وقال جرير بن عبد الحميد: كلام الجهمية أوله شهد وآخره سم، وإنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء إله. رواه ابن أبي حاتم ورواه هو وغيره بأسانيد ثابتة عن عبد الرحمن بن مهدي قال: إن الجهمية أرادوا أن ينفوا أن يكون الله كلم موسى بن عمران، وأن يكون على العرش، أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم. وقال يزيد بن هارون: من زعم أن الله على العرش استوى بخلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي. وقال سعيد بن عامر الضبعي - وذكر عنده الجهمية فقال - هم شر قول من اليهود والنصارى، قد أجمع أهل الأديان مع المسلمين أن الله على العرش وقالوا هم: ليس عليه شيء. وقال يحيى بن عثمان في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 442 الفصل السادس: الحكم على الجهمية يتورع السلف كثيرا عن إكفار أي جماعة أو شخص، ويرهبون إطلاق التكفير، فلا يتسرعوا فيه كما تفعل الفرق المبطلة في تكفير الناس أو في تكفير بعضهم بعضا أيضا، إلا أن السلف لا يتورعون عن إطلاق كلمة الكفر على من جاءت النصوص بتكفيرهم أو بتسميتهم كفارا، عملا بالنصوص ووقوفا عند مفهومها الصحيح. ومن هنا تجد أن السلف حينما يطلقون الكفر على فرد أو جماعة لهم ضوابط قوية ودرجات في التكفير، من لا يفطن لها وقع – ولابد – في الخطأ سواء أكان خطأ شرعيا أم خطأ في مفهومه للتكفير عند السلف. ولهذا نجد أن كثير من العلماء يقعون في الخطأ حينما يحكون مذاهب السلف وهم على غير دراية كافية بمفاهيمهم ومصطلحاتهم. أما بالنسبة لتكفير الجهمية بخصوصهم، فإنك ستجد أيها القارئ الكريم أن كلام الناس مختلف في إطلاق الكفر على الجهمية، فهناك من يهاجمهم ويحكم بكفرهم ويسوق المبررات لذلك، وهناك من يدافع عنهم ويأتي أيضا بمبررات. ولقد ذهب كثير من علماء السلف إلى تكفير الجهمية وإخراجهم من أهل القبلة، ومن هؤلاء الإمام الدارمي أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي، فقد جعل في كتابه – (كتاب الرد على الجهمية) (1) – بابا سماه باب الاحتجاج في إكفار الجهمية "، وبابا آخر سماه " باب قتل الزنادقة والجهمية واستتابتهم من كفرهم ". وأورد تحت هذين البابين أدلة كثيرة من الكتاب الكريم ومن السنة النبوية، ومن الآثار وأقوال العلماء ما يطول ذكره، وحاصلة أن الجهمية كفار للأمور الآتية: بدلالة القرآن الكريم، حيث أخبر عن قريش قالوا عن القرآن: إن هذا إلا قول البشر [المدثر:25] أي مخلوق، وهو نفسه قول الجهم بخلقه، ثم أورد كثيرا من الآيات في هذا. ومن الأثر ما ورد عن علي وابن عباس في قتلهم الزنادقة، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من بدل دينه فاقتلوه)) (2)، والجهمية أفحش زندقة وأظهر كفرا منهم. قال الدارمي: " ونكفرهم أيضا بكفر مشهور "، ثم ذكر من ذلك قولهم بخلق القرآن، وتكذيبهم لما أخبر الله تعالى أنه يتكلم متى شاء وكلم موسى تكليما، وهؤلاء ينفون عنه صفة الكلام فيجعلونه بمنزله الأصنام التي لا تتكلم، ثم بكفرهم في عدم إثباتهم لله تعالى ما أثبته لنفسه من الصفات: كالوجه والسمع والبصر والعلم والكلام. وبكفرهم في أنهم لا يدرون أين الله تعالى ولا يصفونه بأين ولا يثبتون له مطلق الفوقية الثابتة بالنصوص الصريحة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ". كما أورد الدارمي جملة من أسماء الذين حكموا بكفر الجهمية صراحة، ومنهم: سلام بن أبي مطيع، وحماد بن زيد، ويزيد بن هارون، وابن المبارك، ووكيع، وحماد بن أبي سليمان، ويحيى بن يحيى، وأبو توبة الربيع ابن نافع، ومالك بن أنس. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 1158 وقد كان سلف الأمة وسادات الأئمة يرون كفر الجهمية أعظم من كفر اليهود كما قال عبد الله ابن المبارك والبخاري وغيرهما وإنما كانوا يلوحون تلويحاً وقل إن كانوا يصرحون بأن ذاته في مكان. وهذا كما قال بعض الناس: متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئاً ومتعبدة الجهمية يعبدون كل شيء، وذلك لأن متكلمهم ليس في قلبه تأله ولا تعبد فهو يصف ربه بصفات العدم والموات. المصدر: جامع الرسائل لابن تيمية - 1/ 86 أما الجهمية فأهل السنة جميعا على أنهم ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة، ليسوا من فرق الأمة. المصدر: شرح العقيدة الطحاوية لصالح آل الشيخ -   (1) انظر كتاب ((الرد على الجهمية)) (ص 106/ 117) (2) رواه البخاري (3017) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 443 الفصل السابع: هل توجد آراء الجهمية في وقتنا الحاضر؟ لقد كان لهذه الطائفة التي قامت على مبدأ التعطيل والجبر صولة وجولة في تاريخ الأمة الإسلامية، ولقد تمكنوا وعلا شأنهم وقتاً من الزمن، واهتم علماء الفرق وأصحاب التاريخ والعقائد بأخبارهم وبيان عقائدهم وذكر أشهر رجالاتهم. وآراء هذه الطائفة لا تزال في بعض المجتمعات، ولا يزال الخصام بينهم وبين أهل الحق قائماً على أشده، كما كان سابقاً في الزمن القديم حتى وإن اختلفت المسميات في بعض الأحيان، خصوصاً بعد ظهور العصريين الجدد بمفاهيمهم الباطلة، الذين لم يقفوا عند حد في إثارة كل ما يمت إلى هواهم ولو بأدنى صلة، فهم جادون في إحياء تلك المفاهيم الجهمية الباطلة باسم التجديد حيناً والتطور أحياناً أخرى. فمثلاً الاكتفاء بمعرفة وجود الله عن العمل، أو الاعتقاد بعدم وجود الجنة الآن، وكذا النار، أو قولهم أو زعم أن الله لا يوصف بوصف، أو ليس في جهة. وغير ذلك من الآراء التي يعتقدها بعض الناس اليوم هي نفسها آراء الجهمية قديماً. وإذا كان المثال للانفلات من الالتزام بالعقيدة الصحيحة والسير لهدمها تحت شعارات براقة في دعوى التجديد والتطوير، وأحياناً في صورة تمجيد للعقل والعلم أو التراث مما اهتم به كثير من الكتاب والكاتبات قديماً وحديثاً؛ فإنه يتوجب على كل طالب علم أن يحذر هؤلاء ويحذر منهم، وألا يركن إلى كتاباتهم، بل ولا ينبغي الاهتمام بقراءة كتبهم قبل أن يطلع على ما عندهم من الباطل؛ فإن تلك الكتب مملوءة بالدس والانحراف تحت زخرف من القول. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 1129 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 444 الفصل الأول: التمهيد الصوفية التي نبحثها هنا هي الصوفية التي خرجت عن الحق إلى الغلو متأثرة بشتى الأفكار المنحرفة التي هي في الواقع أفكار بدعية طرأت على المسلمين في غياب الوعي الإسلامي, وبروز الجهل, وعلماء السوء المغرمين بالخرافات وحب الزعامة, وهي ذات مفاهيم خاطئة مضطربة تأثرت بمسالك منحرفة, وبالغت فيها إلى حد الهوس والاضطراب الفكري الشنيع ......... ولقد جرأ أصحاب هذه الطريقة الصوفية على القول على الله بغير علم, كما كذبوا وأكثروا على رسوله صلى الله عليه وسلم لتقوية مبادئهم الكثيرة وتأييدها, وبالغوا في الكذب وزخرف القول, وتفننوا في الطرق والآراء حتى ليخيل للشخص أنهم على شيء وهم في فراغ وجهل شديد. وطرقوا مسائل ليست من الإسلام في شيء, ولم يقل بها أحد من المسلمين, وأظهروا بزخرفهم أنها من الإسلام بما قدموه من تقليب الأدلة, وإثارة الشبهة, والتفنن في الاستدلال والجواب، وقالوا بوحدة الوجود, والحلول والاتحاد, ووحدة الشهود، والكشف, والقطب, والغوث، وغير ذلك من الأمور التي طرقها كبار دعاتهم، مثل: الحلاج, وابن عربي, وابن الفارض والبسطامي, والجيلي، وغيرهم ممن لبس عليهم إبليس فقالوا بوجود الله تعالى في كل شيء، حتى صار في عرف غلاتهم أن من لا يعتقد اتصاف الخلق بأوصاف الخالق، لا يمكن أن يعد صوفياً وولياً من أولياء الله، كما ذكر الأستاذ إحسان إلهي ذلك عنهم. وهكذا أصبح المذهب الصوفي بعد أن لبس إبليس على أتباعه خليطاً من شتى الأفكار والآراء المنحرفة، حيث يظهر فيه جلياً غلو الشيعة, ومبادئ الباطنية, وآراء المسيحية والهندوكية والبوذية، وغير ذلك من الديانات والفلسفيات القديمة, كالأفلاطونية, والأفلوطينية, وسائر ما قال به علماء اليونان. وقد قامت الدعوة للصوفية وإظهار شأنها من جديد في هذا العصر على نطاق واسع بسبب عوامل عدة: منها: جهل كثير من المسلمين بحقيقة دينهم ثم الجهل بحقيقة الصوفية كذلك. ومنها: مساعدة أعداء الإسلام على نشر الصوفية، لأنهم يعرفون المكاسب التي سيجنون ثمارها إذا علا سلطان الصوفية, وفشا الجهل, وانتشرت الخرافات الصوفية وخزعبلاتها, وتأثروا بآرائها السلبية في مفهوم الجهاد في سبيل الله, وفي مفهوم وحدة الأديان التابعة لمفهوم وحدة الوجود. وأعداء الإسلام هنا فريقان: فريق عداوته ظاهرة: وهم المستعمرون ومن يبيتون النية لهدم الإسلام وتشتيت كلمة المسلمين، وقد استفاد هؤلاء من أفكار الصوفية كثيراً حين نام المسلمون على دعوى الزهد والإقبال على الآخرة بغير بينة، والتمسح بصور الأولياء, وطلب البركة والنصر منهم في حياتهم وبعد موتهم أيضاً، والعكوف على قبورهم. وفريق آخر متلبسون باسم الدين, ويحكمون كثيراً من ديار المسلمين؛ وهؤلاء يساعدون الصوفية خوفاً من عودة الوعي الإسلامي السلفي الذي يصطدم مع ميول ورغبات هؤلاء وشهواتهم. لأجل هذا ولغيره كان التنبيه .... إلى خطر هذا المذهب الرديء واجباً يحتمه النصح لكل مسلم يحب حماية نفسه ودينه من الانزلاق في خضم الأفكار المبثوثة بين صفوف المسلمين، والتي كان من نتيجتها زيادة الكوارث والخبال الذي حل بديار المسلمين حين ابتعدوا عن المنهج الحق الذي شرعه الله لعباده. ولقد فرح أعداء الإسلام بانتشار الصوفية التي مهدت لهم السبيل بدعوى الزهد والتقشف, والابتعاد عن المظاهر, وعن منازعة الحكام, والرضا بأفعالهم؛ فعاش المسلمون على هامش الحياة بعد أن خدرت الصوفية أعصابهم بترهاتها وخزعبلاتها التي تنافي العقل السليم والدين الإسلامي الحنيف في كثير من مبادئها وطقوسها المختلفة ونظرتها إلي الحياة. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي – بتصرف – 3/ 861 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 445 المبحث الأول: الصوفية والتصوف لغة ً 1 - تعريف الصوفية والتصوف في اللغة: - ورد في الصحاح أن الصوف للشاة، ويقال كبش صاف أي كثير الصوف. - وصاف السهم عن الهدف مال وعدل، والمضارع منه يصوف ويصيف. - ويرى صاحب (المصباح المنير) أن كلمة صوفية كلمة مولدة لا يشهد لها قياس ولا اشتقاق في اللغة العربية. وعلى هذا تكون كلمة تصوف مبتدعة محدثة وغير معروفة عند العرب الأوائل ولا في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين. 2 - أصل كلمة صوفية واشتقاقها: إن الذين تحدثوا عن التصوف والصوفية اختلفوا في أصل الكلمة واشتقاقها وكذلك اختلفوا في نسبة الصوفية اختلافاً كبيراً، وإن المؤيدين والمعارضين للتصوف لم يتفقوا على نسبة للتصوف، كما أن الصوفيين أنفسهم لم يتفقوا على شيءٍ من ذلك، وأحاول جاهداً ذكر أقوالهم في ذلك وأدلتهم والاعتراضات على ذلك. 1 - ذهب الكلاباذي إلى أن أصل الصوفية ينتسبون إلى الصفاء وأنهم سموا صوفية لصفاء أسرارهم وشرح صدورهم وضياء قلوبهم. والذي ذهب إلى ذلك نظر إلى حال الصوفية الأوائل ولم ينظر إلى الاشتقاق اللغوي لذلك يرى القشيري أن هذه النسبة غير صحيحة لغة لأننا لو نسبنا أحداً إلى الصفاء لقلنا صفائي. كما أن صفاء القلوب ونقائها ومعرفة الباطن لا يعلمه إلا الله عز وجل، وادعاء الصوفية ذلك تزكية لأنفسهم والله عز وجل يقول فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32] وخيار الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم لم يكن أحدهم ليزكي نفسه بل كان يعمل العمل ويسأل الله القبول ويخشى عدم القبول. وقد قال زكي مبارك إن نسبة التصوف إلى الصفاء ليس إلا حذلقة من بعض الصوفية. 2 - وقال آخرون إن الصوفية نسبة إلى أهل الصفة وهم جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ينزلون في مكان خلف الحجرات في المسجد النبوي وعرف المكان باسمهم وكانوا متفرغين للعبادة وللمجاورة وهم فقراء المهاجرين الذين ليس لهم مأوى. وهذا الكلام لا يستقيم بالنظر إلى الاشتقاق اللغوي لأن النسبة إلى أهل الصُفَّة صُفي وليس صوفي. ثم إن مكان أهل الصفة لم يكن مخصصاً للعبادة بل كانوا يذهبون للعبادة والصلاة في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النزلاء ينزلون فيه حيث لا مأوى لهم ولا عمل يرتزقون منه فكان أحدهم إذا وجد عملاً وبيتاً وزوجةً ترك مكان الصفة وذهب إلى عمله وهو ليس خاصاً بأحد بل هو مكان لعامة المسلمين وآحادهم. ولم يكن انتسابهم إليه شرفاً لذلك كانوا يزيدون وينقصون وكان بعضهم لا يطول مقامه فيه بل بحسب ما يتيسر له العمل والبيت. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل إليهم بما يكون عنده من طعام. وادعاء بعض المتصوفة أن اشتقاق التسمية من صُفَّة المسجد إنما يهدف إلى ربط نشأة التصوف بعهد النبي صلى الله عليه وسلم وكأن النبي قد أقرهم على منهجهم في الاعتزال والتجرد والتواكل وهذا مخالف لسنته صلى الله عليه وسلم في التوكل والجد والاجتهاد وطلب الرزق، وسنته وتعاليمه خير شاهد على ذلك. 3 - وقيل إن التصوف نسبة إلى الاتصاف بالصفات الحميدة وترك الصفات الذميمة ويرى عبد الله الأمين أن هذه النسبة لم تلق من الاستحسان، فضلاً عن عدم الاستقامة العلمية ما حصرها في نطاق الرأي الضعيف الذي لم ينظر إليه تاريخياً. والنسبة إلى الصفات ليس صوفي بل صفاتي، والصفاتية المراد بها مثبتةُ الصفات فالبعض يطلقها على المشبهة ويطلقها المؤولة والنفاة على كل من أثبت الصفات بما فيهم السلف الصالح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 446 4 - نسبة الصوفية إلى " سوفيا " اليونانية ومعناها الحكمة، والقائلين بذلك حجتهم أن القوم كانوا طالبين للحكمة حريصين عليها فأطلقت عليهم الكلمة وعربت أو حرفت فأصبحت صوفية وصوفي. وأكد البيروني هذه النسبة لأن فكرة القول بالوحدة ظهرت فيهم وردَّ هذا القول زكي مبارك في كتابه (التصوف الإسلامي).وأكد محمود عبد الرؤوف القاسم على هذه النسبة بالنظر إلى المعتقدات الفلسفية التي يعتقدها الصوفية. ومن حيث ظهورها في زمن الترجمة في نهاية القرن الثاني والقرن الثالث الهجريين. وإنها نشأت في العراق بلد الترجمة وفي زمنها وهو الزمن الذي تفشت فيه الكلمات اليونانية واستعملت في مختلف الفنون. ولكن الصوفية أنفسهم لا يقبلون أن ينسبوا إلى اليونان لما يجعل للخصوم عليهم سبيلاً حيث ينسبونهم إلى الفكر اليوناني القديم بما فيه من ضلالات وانحرافات. ولأن الكلمة اليونانية " سوفيا " قصد بها فلاسفة اليونان المنهج الذي قوامه البحث النظري المجرد في الوجود للوقوف على حقائقه ومهيته مما لا يتصل بالسلوك العملي إلا قليل، أما التصوف الإسلامي فإنه ذو طابع عملي. 5 - وقيل نسبة إلى الصوفانة وهي نبات أي بقلة زغباء قصيرة صحراوية وذلك لاكتفائهم بالقليل من الطعام ولو من نبات الصحراء وهذا غير سليم بمقتضى اللغة لأنه لو نسب إليها لقيل صوفاني وليس صوفي. ولو سألت الصوفية عن هذه النسبة فلن يقر بها أحد، هذا إذا علم معنى الصوفانة فإن عامتهم يجهلونها. 6 - وقيل أنهم ينتسبون إلى الصفوة باعتبارهم صفوة الله من خلقه وأنهم النخبة المصطفاة من الأمة. وهذا القول مردود لأنهم لو نسبوا إلى الصفوة لقيل في اشتقاق اللغة صفوي. 7 - قيل أيضاً أنهم منسوبون إلى الصف الأول المقدم في الصلاة والمقدم بين يدي الله عز وجل وهذا غير مستقيم لغة، فلو نسبوا إلى الصف لقيل صَفِّي. 8 - وقيل إنه نسبة إلى رجل جاهلي يقال له صوفة ـ وهو الغوث بن مر بن آد بن طنجة بن إلياس بن مضر، وذلك أن أم الغوث نذرت لئن عاش لتعلقن برأسه صوفة وتجعلنه ربيط الكعبة فكان أول من انفرد لخدمة الكعبة وتبعه أناس في الجاهلية فمن تشبه به فهم الصوفية. - وهذه النسبة مستبعدة لأن الصوفية لا يقبلون أن ينتسبوا إلى رجل جاهلي أو قبيلة جاهلية. - ولو صحت هذه النسبة لكان الانتساب إلى الإسلام أولى من الانتساب إلى الجاهلية والشرك. - ولو صحت هذه النسبة لكانت معروفة في عهد الصحابة والتابعين رضي الله عنهم. - كما أن هذه القبيلة وهؤلاء القوم غير مشهورين ولا معروفين لا عند المسلمين ولا عند متصوفيهم وإن كان ابن الجوزي رحمه الله يميل إلى صحة ذلك إلا أن ابن تيمية رحمه الله ضعف هذه النسبة. 9 - وذهب قوم إلى أن الصوفية نسبة إلى الصوف وذلك لأن النسبة إلى الصوف صوفي وممن رجح هذا القول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في الفتاوى والسهروردي وابن خلدون وحجتهم على صحة هذه النسبة: - إن الصوف لباس الأنبياء وخاصة سيدنا محمد وعيسى عليهما السلام وهو لباس الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والصوفية المتقدمين رحمهم الله تعالى. - وإن لبس الصوف هو أقرب إلى التواضع والخمول والذل يقول ابو فراس الحمداني مخاطباً سيف الدولة. يا واسع الدار كيف توسعها ... ونحن في صخرة نزلزلها يا ناعم الثوب كيف تبدله ... ثيابنا الصوف ما نبدلها - وإن الصوفية كانوا يعرفون هذه النسبة فقد دخل أبو محمد بن أخي معروف الكرخي على أبي الحسن بن بشار وعليه جبة صوف فقال له أبو الحسن: يا أبا محمد صوف قلبك أو جسمك وقال النضر بن شميل لبعض الصوفية تبيع جبتك الصوف؟ فقال إذا باع الصياد شبكته فبأي شيء يصطاد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 447 - " وإن نسبتهم إلى لبس الصوف تنبئ عن تقللهم من الدنيا وزهدهم فيما تدعو إليه النفس بالهوى من الملبوس الناعم، ويكون اللابس خشناً مثل الملبوس في خشونته. - وإن لبس الصوف أمر ظاهر والحكم بالظاهر أسلم وأولى في نسبتهم إلى حال أو مقام لأنه أمر باطن، وأيضاً لأن القول بأنهم صوفية للبسهم الصوف أبعد عن الرياء وأقرب للتواضع. - وإن هذا الرأي قد سلم مما توجه إلى غيره من الآراء فإنه يوافق قواعد اللغة من حيث النسبة والاشتقاق لأنه يقال تقمص لمن لبس القميص وتصوف إذا لبس الصوف. ويرد عليهم بعدة أمور: - " بأن لبس الصوف ليس فيه فضيلة وليس في الانتساب إليه شرف وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يلبس الصوف والقطن والكتان وقد جاء في البخاري عن أنس ((كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلبس الحبرة)) (1) وجاء في شرحها لابن حجر في فتح الباري قال ابن بطال: إن الحبرة بردة من برود اليمن تصنع من قطن، وتكون مزينة، من التحبير وهو التزيين.- بل قد أورد ابن القيم رحمه الله في كتابه (زاد المعاد) عن عائشة رضي الله عنها ((أنها جعلت للنبي صلى الله عليه وسلم بردة سوداء فلبسها فلما عرق ووجد ريح الصوف قذفها، قال وكان يعجبه الريح الطيبة)) (2) وهذه الأحاديث يقلب للصوف ظهر المجن. - وأما قولهم بأن عيسى عليه السلام كان لا يلبس إلا الصوف فهو قول مأخوذ من مصادر غير صحيحة ومن كتب أهل الكتاب المحرفة. - إن لبس الصوف هو لبس الرهبان وأهل الصوامع، ولا رهبانية في الإسلام وكثير من الزهاد الأوائل كان يذم لبس الصوف لذلك. ومن ذلك ما ورد في (تلبيس إبليس) " بأن حماد بن أبي سليمان رأى رجلاً عليه ثوب صوف فقال له " ضع عنك نصرانيتك هذه ". وقال أبو العالية لرجل آخر لبس الصوف " إنما هذه ثياب الرهبان ". ورأى سفيان الثوري رجلاً لبس الصوف فقال " لباسك هذا بدعة ". وينكر ابن الجوزي أن يكون للمرقعة الصوفية أصل في السنة وهي التي يزعمون أن النبي عليه السلام ألبسها لعلي رضي الله عنه. - ولم يرد أن أبا بكر وعمر والصحابة رضي الله عنهم كانوا مختصين بلبس الصوف دون غيره من الثياب. - إن لبس الصوف مدعاة إلى التظاهر بالتنسك والتقشف والزهد وهذا من الرياء فقد قال محمد بن محمد الكتاني لأصحاب المرقعات " إخواني إن كان لباسكم موافقاً لسرائركم فقد أحببتم أن يطلع الناس عليها وإن كانت مخالفة لسرائركم فقد هلكتم ورب الكعبة. - وقال الجنيد إذا رأيت الصوفي يعنى بظاهره فاعلم أن باطنه خراب. - ورحم الله ابن الجوزي الذي عاب على الذين خربوا بواطنهم وتظاهروا بالزهد والتقشف فقال " كان الزهد في بواطن القلوب فصار في ظواهر الثياب "، وكان الزهد حرقة فصار اليوم خرقة، " ويحك صوف قلبك لا جسمك وأصلح نيتك لا مرقعتك ". - ويرى الإمام القشيري في الرسالة القشيرية أن التصوف اسم عَلَم على طائفة الصوفية بغض النظر عن اشتقاق الكلمة والأصل الذي أخذت عنه. والذي أراه أن التصوف نشأ نشأةً إسلامية مستقاة من النصوص الشرعية في الزهد وترك الدنيا وملذاتها، ثم مع مر الأيام تأثر بعض الصوفية وأصحاب الطرق بالفكر الغريب المستقى من الفلسفة اليونانية والأديان القديمة وذاك ما سنبينه عند الحديث عن نشأة التصوف وتأثره بالفكر الغريب. والراجح في هذه الأقوال هو نسبتهم إلى الصوف لأنه حكم بالظاهر وتصح لغة، أو قول الإمام القشيري وهو من أوائل الصوفية فهو أعلم بشؤونهم. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي محمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص6 - 13   (1) رواه البخاري (5813) ومسلم (2079) (2) رواه أحمد (6/ 132) (25047) والنسائي في الكبرى (5/ 480) ورواه أبو داود (4074) لكن آخره بصيغة (وأحسبه قال وكان تعجبه ... ) والحديث صححه الألباني الجزء: 6 ¦ الصفحة: 448 المبحث الثاني: معنى الصوفية والتصوف اصطلاحا ً إذا أردنا أن نعرف التصوف في الاصطلاح فلا بد من الرجوع إلى أقوال الصوفية في ماهية التصوف وكذلك أقوال أصحاب الطرق. ومنذ نشأة الصوفية إلى يومنا هذا حدث في التصوف تشعبات كثيرة وانحرافات عن منهج الأوائل وكثرت أقوالهم في حقيقة التصوف إلى ما يزيد على ألف قول، وكل قول من هذه الأقوال يشير إلى أهم جانب في التصوف عند قائله سواءً بالنظر إلى الطريقة أو الخلق أو الغاية، أو بالنظر إلى حاجة الصوفي أو من حوله وبالنظر إلى حاله والخطأ الذي يريد أن يقومه ولا تخلو أقوالهم من جانب في الجوانب التالية: 1 - التصوف بمعنى الزهد: - قال سمنون: التصوف أن لا تملك شيئا ولا يملكك شيء. - وقال معروض الكرخي: التصوف الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق - وقال النوري: التصوف من لا يتعلق بشيءٍ ولا يتعلق به شيء. - وقال ذو النون المصري: الصوفي من لا يتعبه طلب ولا يزعجه سلب. 2 - التصوف بمعنى الأخلاق: - قال أبو محمد الجريري: التصوف الدخول في كل خلق سني والخروج من كل خلق دنى. - وقال الكتاني: التصوف خُلق فمن زاد عليك في الخُلق زاد عليك في الصفاء. 3 - التصوف بمعنى الصفاء: - قال سهل بن عبد الله: الصوفي من صفا من الكدر، وامتلأ من الفكر، وانقطع إلى الله عن البشر واستوى عنده الذهب والمدر. - وقال بشر الحافي: الصوفي من صفا لله قلبه. - وقال الشبلي: التصوف الجلوس مع الله بلا هم. 4 - التصوف بمعنى المجاهدة: - قال الجنيد: التصوف عنوة لا صلح فيها. والمراد بالعنوة الجد والتعب والمراغمة. - وقال عمرو بن عثمان المكي: التصوف أن يكون العبد في كل وقت بما هو أولى به في الوقت. 5 - التصوف التزام بالشريعة: - قال أبو حفص: حسن آداب الظاهر عنوان حسن آداب الباطن لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((لو خشع قلبه لخشعت جوارحه)) (1). - وقال الجنيد: التصوف بيت والشريعة بابه. - وقال محمد بن أحمد المقرئ: التصوف استقامة الأحوال مع الله. - وقال أبو عمر بن الجنيد: التصوف الصبر تحت الأمر والنهي. 6 - التصوف بمعنى التسليم الكامل لله: - قال الأستاذ أبو سهل الصعلوكي: التصوف الإعراض عن الاعتراض. - وقال رويم: التصوف استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريده. - وقال أبو يعقوب المزايلي عن التصوف: حال تضمحل فيه معالم الإنسانية. 7 - التصوف بمعنى الإخلاص " الغاية وجه الله ": - قال الجنيد: التصوف أن تكون مع الله تعالى بلا علاقة. - وقال ذو النون المصري: أهل التصوف هم قوم آثروا الله عز وجل على كل شيء، فآثرهم الله على كل شيء. - وقال أبو الحسين النوري: التصوف ترك نصيب النفس جملة ليكون الحق نصيبها. 8 - التصوف بمعنى الارتباط الروحي بالله: - قال أبو نصر الحصري: الصوفي الذي لا تقله أرض ولا تظله سماء. - وقال أبو الحسن الخرقاني: ليس الصوفي بمرقعته وسجادته، ولا برسومه وعاداته بل الصوفي من لا وجود له. - ونُسب إلى الجنيد قوله: التصوف هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به. 9 - التصوف ترك التكلف والشكليات: - قال الجنيد: إذا رأيت الصوفي يعنى بظاهره فاعلم أن باطنه خراب. وقال حماد الدينوري: التصوف أن تظهر الغنى وأن تؤثر أن تكون مجهولاً حتى لا يعرفك الخلق وأن تكف عن كل ما لا خير فيه. 10 - التصوف بمعنى الطريق المخصوص للسالكين: - قال الجنيد: الصوفية هم أهل بيت واحد، لا يدخل فيهم غيرهم. - وقال أبو سليمان الداراني: التصوف أن تجري على الصوفي أعمال لا يعلمها إلا الحق وأن يكون دائماً مع الحق على حال لا يعلمها إلا هو. وبالنظر في الأقوال المتقدمة نجد أن كل تعريف من تعريفات أئمة التصوف والمنتسبين إليه يشير إلى جانب من الجوانب، وهذه الجوانب مجتمعة تشير إلى جوانب عظيمة من جوانب هذا الدين فالتصوف السني ينبغي أن يتوفر فيه جميع ما ذكر من زهد وإخلاص ومجاهدة وخلق كريم وتسليم لرب العالمين والتزام بشرعه وترك للتكلف، وأن يلتزم المنتسب إلى الله تعالى بالعبادة الدائمة لله عز وجل كما أمر، والبعد عن كل ما نهي الشارع عنه، وعن البدع المضلة وعن الفكر الغريب والفلسفات الباطلة. ويترجح لدينا بعد عرض تلك التعريفات تعريف ابن خلدون للتصوف لأنه يدل دلالة واضحة على معاني التصوف المتعددة وعلى أحوال الصوفية واهتماماتهم وهو " العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة ". المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي محمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص 13 - 16   (1) قال العراقي في تخريج أحاديث)) الإحياء (((401) أخرجه الترمذي الحكيم في النوادر من حديث أبي هريرة بإسناده ضعيف والمعروف أنه من قول سعيد، وقال المناوي في)) الفتح السماوي (((2/ 854): إسناده ضعيف، وقال الألباني في)) الإرواء (2/ 92) موضوع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 449 المبحث الثالث: مصطلح التصوف بين القبول والرفض ذهب صاحب كتاب (أبو حامد الغزالي والتصوف) إلى وجوب إلغاء كلمة التصوف وذلك لأنها محدثة ولم تكن معروفة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولأن الإمام ابن تيمية رحمه الله حين قيل له إن ابن سينا من فلاسفة الإسلام فقال " ليس للإسلام فلاسفة ". وذكر مآخذ كثيرة وانحرافات وقع فيها الصوفية وقال إن في إلغاء الكلمة سلامة للدين وحفظاً للناس من خطرها. وقال إذا قبلنا التسمية فتحنا باباً للشر بأن يقال معتزلة الإسلام وشيوعية الإسلام ... الخ. وأقول بأن كلمة التصوف وهي كلمة معروفة منذ أواخر القرن الثاني وشاعت في القرن الثالث للهجرة إلى يومنا هذا وقد ملئت بها الكتب والمكتبات ولا يملك أحد إلغاءها ولا يستطيع ذلك إن أراده. وقد استعمل كلمة التصوف شيخ الإسلام ابن تيمية وامتدح بعضاً من أئمة التصوف، وتكلم في ألفاظهم المستعملة، ورد على المنحرفين منهم، وقال نقبل ما عندهم من حق ونحثهم عليه ونرد باطلهم ونزجرهم عنه. وكل اسم تسمى به جماعة ما لم يكن يدل على الباطل ومرتبط به منذ نشأته، وما لم يكن مرتبطاً بفكر غريب فلا عبرة بالاسم ويهمني المسمى فإذا كان المسمى برمته باطلاً وجب نبذه وإلا نقبل الاسم ونقوِّم المسمى فليس التصوف كله باطلاً. فإن كنت لا أشجع على التصوف ولا أحث عليه ولا أقبل الانتساب إليه وأدين الله بعقيدة السلف الصالحين فإني أعمل بقوله تعالى: ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125]، وقوله: وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159]. وقال تعالى: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة: 8]. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي محمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص16، 17 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 450 الفصل الثالث: هل توجد علاقة بين المتصوفة وأهل الصفة والواقع أن هذه القضية تعتبر من القضايا الساخنة خاض غمارها المتصوفة من جانب، وغير المتصوفة من الجانب الآخر حول الصلة بين الفريقين: الصوفية، وأهل الصفة. فهل توجد فعلاً علاقة بين الصوفية وأهل الصفة؟ الجواب: إنه بالرغم مما بذله المتصوفة من جدل وبحوث لتقريب التصوف إلى أهل الصفة فإن ذلك لم يجدهم شيءاً. فهناك من المتصوفة كالمنوفي، والسهروردي، وغيرهما من كبار الصوفية من يزعم وجود تلك الصلة بين الفريقين، وأن أهل الصُفة هم سلف أهل التصوف، فالسهروردي يرى أن العلاقة بين المتصوفة وأهل الصفة تتمثل في حب الانفراد والعزلة عن الناس والشوق إلى الله تعالى، وأن هذه الفكرة هي الجامع بين الصوفية وأهل الصفة فيما يرى، وقد قال في إثبات ذلك:"الصوفية يشاكل حالهم حال أولئك (1)، لكونهم مجتمعين متآلفين متصاحبين لله وفي الله كأصحاب الصفة، وكانوا نحواً من أربعمائة رجل لم تكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر، جمعوا أنفسهم في المسجد كاجتماع الصوفية قديماً وحديثاً في الزوايا والربط .. " (2) إلى آخر كلامه. وأما المنوفي فقد قال عنهم: "هم قوم أخلاهم الحق من الركون إلى شيء من العروض الفانية وشغل أفئدتهم بالحياة الباقية .. " إلى أن يقول: "استوطنوا الصفة فصفوا أنفسهم من الأكدار ونقوها من الأغيار، واعتصموا من حظوظ النفوس بالإيثار".إلى أن قال: "وكان الظاهر من أحوالهم والمشهود من أخبارهم غلبة الفقر عليهم وإيثارهم القلة واختيارهم لها، فلم يجتمع لهم نوعان، ولا حضر لهم من الأطعمة لونان" (3). والحقيقة أن السهروردي وغيره من المتصوفة لم يستطيعوا أن يأتوا برباط واحد، أو بوجه شبه يعتبر قاسماً مشتركاً صحيحاً مقبولاً بين حال أهل الصفة رضوان الله عليهم وبين المتصوفة، مع كثرة ما حاول هو وغيره وبشتى الأساليب أن يوجدوا تلك الصلة المزعومة، وأن يكون أولئك الصحابة الأفاضل هم الأساس لأقطاب التصوف والمثل الأول لهم. مع محاولة بعضهم كذلك ربط حركة التصوف وما تحمل من حب العزلة والانفراد والخلوة بما وقع للرسول صلى الله عليه وسلم، من تحبيب الخلوة إليه في غار حراء يتعبد فيه الليالى ذوات العدد. وقد فاتهم أن هذا لا يصلح أن يكون دليلاً لهم على ذلك؛ فإن أقل ما ينقصه هو أن تلك الخلوة إنما كانت بعناية من الله له؛ ليستعد لحمل أعباء الرسالة فيما بعد، وقبل أن يكلف أيضاً بدعوة الناس وإقامة شعائر الدين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بمجرد أن اختاره الله لتبليغ الدعوة كان محط أنظار الناس في كل لحظة من لحظات عمره المبارك، وإلا فكيف انتشر الإسلام بعد ذلك ودخل الناس في دين الله أفواجاً لو بقى على تلك الخلوة وبمفهوم الصوفية أيضاً؟!.   (1) أي أهل الصفة. (2) ((عوارف المعارض)) (ص47). (3) ((جمهرة الأولياء)) (1/ 131). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 451 والحق أن المتصوفة ليس لهم مستند في تعلقهم بأساس تصوفهم سواء كان ذلك التعلق بالصحابة من أهل الصفة، أو بالرسول صلى الله عليه وسلم في خلوته في غار حراء، ومن زعم أن بدايات التصوف كان الرسول صلى الله عليه وسلم أو أهل الصفة فلا شك في خطئه. وإذا كان المتصوفة فيما يدعون يحبون الفقر والخرقة (1)، والانزواء في الزوايا والأربطة، فإن الثابت المتواتر أن أهل الصفة في مجملهم كانوا كثيراً ما يشكون حالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمل أن يساعدهم على حياة طيبة في الدنيا تكون عوناً لهم إلى الآخرة، وقد أخبر الله عنهم أنهم يتولون وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون. وقد تحقق لمعظمهم بعد ذلك مال وافر، عملاً منهم بقول الله تعالى وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77]، واجتمعت لبعضهم ألوان الأطعمة المباحة ولم يزهدوا عن الدنيا نهائياً، لأنهم يعلمون أن ذلك لا ينافي الزهد، بينما معظم المتصوفة إنما يريد بإظهار ذلك الزهد وتلك الرهبانية الوصول إلى ما في أيدي الناس واستعباد أذهانهم وأفكارهم، لا زهداً حقيقياً عن الدنيا في أكثر أحوالهم؛ حيث وجد لبعضهم بعد موتهم مدخرات كثيرة مما يتنافى ودعوى الزهد؛ لأن الزهد الحقيقي هو ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، فلا رهبانية ولا تواكل ولا تحريم لما أحله الله من الطيبات، ولا استحلال ما لم يرد به الشرع، وهذا هو الزهد لا إظهار الفقر والعوز كما يراه غلاة المتصوفة. إن تلك الصلة بين الصوفية وأهل الصفة التي يزعمها السهروردي والمنوفي محض خيال؛ ذلك أن أهل الصفة ما كانوا يحبون الفقر ولا يحبون الانفراد والعزلة عن الناس، وكيف يحبون العزلة والانفراد وهم في أكثر أماكن تجمع الناس؟! وأيضاً أكان مكثهم في الصفة بمحض رغبتهم أم كانت حالة طارئة أملتها عليهم الظروف المعيشية؟.ذلك أنه لا يخفى على طلاب العلم – أن أهل الصفة كانوا من الفقراء الذين لا يجدون مأوى غير المسجد، في الوقت الذي كانوا يبحثون فيه بكل جد من أجل الوصول إلى حال اليسار والغنى، خصوصاً وهم يتلون قول الله تعالى وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77]، كما يسمعون قول المصطفى صلى الله عليه وسلم ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفى كل خير)) (2) وقوله أيضاً: ((اليد العليا خير من اليد السفلى)) (3) ". فما كان أحدهم يحمل الزنبيل على ظهره ويطوف بالبيوت في طلب رزقه متكاسلاً عن العمل، متكلاً على ما في أيدي الناس أعطوه أم منعوه، كما هي حال كثير من المتصوفة بعد أن فسدت فطرهم واختلت مفاهيمهم. حين صاروا كما مدحهم السهروردي بقوله:"واتخذوا لنفوسهم زوايا يجتمعون فيها تارة وينفردون أخرى، أسوة بأهل الصفة، تاركين للأسباب متبتلين إلى رب الأرباب" (4). وأما زعم المنوفي أن الله اختار أهل الصفة ليكونوا كذلك وهم أيضاً قد اختاروا الفقر والمسكنة – فهو زعم باطل يكذبه الله في القرآن الكريم وتكذبه السنة النبوية والتاريخ. لقد كان من أهل الصفة أميراً ومن أصبح غنياً ذا ثراء كبير وفير، ومن أصبح قائد جيوش جرارة، وهم مع ذلك في قمة الزهد والخشوع لربهم. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 869 - 873   (1) ذكر السهروردي للبس الخرقة حقوقاً لا يحتملها إلا من كان موفقاً غاية التوفيق، فيما يريد أن يوحى به السهروردي في ((عوارف المعارف)) (ص52). (2) رواه مسلم (2664). (3) رواه البخاري (1427) ومسلم (1033). (4) ((عوارف المعارف)) (ص49). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 452 المبحث الأول: نشأة التصوف لم يكن التصوف معروفاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ولا في عصر التابعين رحمهم الله، وإن كانت حقيقته معروفة، لأن جل ما يصبوا إليه المرء هو الانتساب إلى الصحابة رضي الله عنهم ثم إلى التابعين رحمهم الله وكفى بالمرءِ شرفاً أن ينتسب إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه رضي الله عنهم بالاتباع. وفي القرن الأول لم يكن يعرف اسم التصوف، بل كان أهله يعرفون باسم الزهاد والنساك والبكائين وليس باسم الصوفية، وكان اعتقادهم صافياً وإيمانهم نقياً خالصاً وما كان ابتعادهم عن الدنيا إلا لارتياعهم من عذاب الآخرة، وهرعوا إلى الكهوف والمغاور ورؤوس الجبال حيث الوحدة الصافية والانعزال عن صخب الحياة المادية. ثم بعد مضي عصر الصحابة والتابعين وفي أواخر القرن الثاني الهجري بدأ لفظ الصوفية يظهر، وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ كالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (164ـ241هـ) وأبو سليمان الداراني المتوفى سنة 215هـ وقيل إن أول من بنى دويرة للصوفية هو بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد المتوفى بعد الخمسين ومائة للهجرة. وهو من أصحاب الحسن البصري وكان ذلك في البصرة (وإن أول من عرف باسم صوفي في المجتمع الإسلامي هو أبو هاشم الصوفي المتوفى قبل منتصف القرن الثاني الهجري) (ويقول عمر رضا كحالة ورد لفظ (الصوفي) لقباً مفرداً في النصف الثاني للهجرة إذ نعت به جابر بن حيان الكوفي وأما صيغة الجمع (الصوفية) فإنها ظهرت فيما انتهي إليه عمر رضا كحالة عام 199هـ). المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص 18 يرى المؤرّخ والرّياضي والفيلسوف محمد بن أحمد البيروني (د/440) أنّ مَرَدَّ التَصّوف في بلاد المسلمين إلى تصّوف الهندوس في الهند، وقد نشأت وثنيّتهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بألفي سنة وأخذها منهم البوذيّون منذ انفصالهم عنهم بعد ألف سنة من نشأة الهندوسيّة، وأنّ كلمة المتّصّوف جاءت من كلمة فيلسوف أي: محبّ الحكمة. والبيروني حري بأن يَشْهد بما عَلِم؛ لطول مُكثِه في الهند يَدْرسُ أحوال أهلها عدد سنين، ولِذِهْنِه الرّياضي ودقّته في البحث ثم في تسجيل نتائج بحثه، ولسعة اطلاعه وطول باعه في المعرفة، يدلّ على ذلك ما ذكره ياقوت عنه (من أن سجلّ مؤلّفاته بلغ ستّين ورقة) وكثرة نقله عنه (أعلام الزّركلي) ويدلّ على صحّة استنتاجه أن الله ذكر في كتابه الكريم أنّ النّصارى (قبل المسلمين) نَزَعُوا إلى شيء من المنهج التصّوفي وأنّه مما ابتدعه البشر وليس مما شرعه الله فقال تعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا [الحديد: 27]، وقال النَبيّ صلى الله عليه وسلم: ((لتتّبعنّ سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع)) (1) متفق عليه. ويدل على صحّة استنتاجه أنّ كثيراً من معتقدات متصّوفة الهند وأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم موجودة في متصوفة المسلمين منذ انتهت القرون المفضلة حتى هذا العصر، وأكبرها: تعظيم المزارات والمقامات، ووحدة الوجود والفناء في ذات الإله، وأهونها: المِسْبَحَة والرّهبَنَة وضرب الشين والرقص والطبل. 2) وظن بعض العلماء أنّ منشأ التّصّوف من لبْس الصّوف والله لم يشرعه قُرْبَة إليه، ورسوله صلى الله عليه وسلم كان يلبس الكتّان وغيره وهو الذي جعله الله أسوةً حسنةً: لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب: 21]، ولكن لُبْس الصُّوف والتّقشف بما يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر شكليٌّ تركه متصّوفة العصر وأقبلوا على شهوات البطن والفرج حتى قال بعض منتقديهم: أقال الله حيث عشقتموه كُلُوا أَكْل البهائم وارقصوا لي ولكن أسوأ ما اتصف به المتصّوفة تعلّقهم بالشبهات حتى اليوم كما بتبيّن بالرجوع إلى شيء من كتبهم مقالاتهم قريبًا إن شاء الله. 3) وظنّ بعض المتصّوفة أن كلمة الصّوفي جاءت من كلمة الصّفّة التي كان يأوي إليها بعض فقراء المسلمين في المدينة النبويّة، وهذا لا يصحّ لُغَة لأن النّسبة إلى الصّفة: (صُفِيَّ)، ولا يصحّ شرعاً لأنّ الصّفة (ومن سَكَنَها) لم تُميَّز بفضل المكان فالمسجد أفضل منها ولم يُمَيزْ أهلها بالفضل على غيرهم من الصّحابة فلاشك أن الخلفاء الراشدين وكبار فقهاء المهاجرين تقرّباً إلى الله بسكناها خاصّة، بل لأنّهم لا يجدون غيرها. المصدر: مقال التّصوُّف في ميزان الوحي والفقه لسعد بن عبد الرحمن الحصين   (1) رواه البخاري (3456) ومسلم (2669) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 453 المبحث الثاني: الأطوار التي مر بها التصوف • الطور الأول: طور التسامي عن الحياة المادية: . • الطور الثاني: طور التشبه بالسابقين:. • الطور الثالث: طور دخول الألفاظ الموهمة:. • الطور الرابع: طور التحرر من التكاليف الشرعية:. • الطور الخامس: تبلور الطرق الصوفية:. • الطور السادس: طور ظهور المجذوبين:. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 454 الطور الأول: طور التسامي عن الحياة المادية: ويكون هذا الطور هو عصر الصحابة وهو يتناول القرن الأول الهجري وأوائل القرن الثاني عصر كبار التابعين، وهذا العصر مليء بأخبار زهد الصحابة رضي الله عنهم، وأبرز رجال هذا الطور الخلفاء الراشدون، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وكذلك عبد الله بن عباس، وأبو عبيدة رضي الله عنهم وغيرهم كثير فهم الذين كان يتنزل القرآن بين ظهرانيهم ويتلوه عليهم سيد البشر عليه الصلاة والسلام قال تعالى وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185] ويبين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ويأمرهم قائلا ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) (1). وإذا رجعنا إلى كتاب (حياة الصحابة) للكندهلوي ونظرنا في زهد الرسول صلى الله عليه وسلم وزهدأصحابه رضي الله عنهم لوجدنا ترفعهم عن الدنيا وتزودهم فيها للآخرة ما يفوق الوصف. والملاحظ أن عصر الصحابة رضي الله عنهم كان عصر التوازن بين متطلبات الروح ومتطلبات الجسد، وبين الدنيا والآخرة، وبين الخلوة والمخالطة، فهم مع ترفعهم عن الانخراط والانغماس في متاع الدنيا إلاّ أنهم لم يعزفوا عن الدنيا بالكلية لأن الإسلام يدعو إلى التوازن والتوسط في الأمور جميعها بلا إفراط ولا تفريط. ولم يدع الإسلام إلى الغلو والتنطع ولا إلى التفرغ الكامل للزهد والاعتكاف عن الجهاد بل هناك نصوص كثيرة تخالف هذا الاتجاه منها: قال تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77] قال صلى الله عليه وسلم: ((صم وأفطر وقم ونم فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً)) (2).وحين ((دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد، فإذا حبل ممدود بين ساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا لزينب، إذا فترت أمسكت به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا حلوه ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد)) (3). المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص19، 20   (1) رواه البخاري (6416) (2) رواه البخاري (1975) (3) رواه البخاري (1150) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 455 الطور الثاني: طور التشبه بالسابقين: وهذا الطور يبدأ في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري والقرن الثالث. وامتاز هذا الطور بالحرص على الاتباع دون الابتداع وعلى رأس هذا الطور ظهر إبراهيم بن أدهم ت 161 هـ وهو يغزو في بلاد الروم. - وأبو سليمان داوود بن نصر الطائي ت 165هـ وقد انشغل بالعلم والفقه واشتهر بالخلوة والعبادة. - ومن أعظم الذين ظهروا في هذا العصر رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية أم الخير المشهورة بالزهد والصلاح الداعية إلى حب الله لذاته وقد توفيت عام 185هـ. - ومن أهم أشعارها في حب الله: إني جعلتك في الفؤاد محدثي وأبحت جسمي من أراد جلوس فالجسم مني للجليس مؤانس وحبيب قلبي في الفؤاد أنيس ومن أقوالها المشهورة ما عبدته خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته فأكون كالأجير السوء عبدته حباً له وشوقاً إليه. وقالت أيضاً: أحبك حبين حب الهوى وحباً لأنك أهل لذاك فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمن سواك وأما الذي أنت أهل له فكشفك للحجب حتى أراك فما الحمد في ذا وفي ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاك - والفضيل بن عياض توفي في مكة 187هـ، وشقيق البلخي توفي 194هـ. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص20، 21 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 456 الطور الثالث: طور دخول الألفاظ الموهمة: وقد امتد من القرن الثالث إلى أواسط القرن الرابع حيث ظهر في هذا الطور أبو يزيد البسطامي ت 261هـ وهو أول من تكلم في الفناء وقد قال: " لا حال للعارف فقد محيت رسومه وفنيت هويته لهوية غيره " وقد تكلم بالمكاشفة وأنكر الناس عليه ألفاظ. ومن رجال هذا الطور أبو محمد سهل التستري ت 283هـ وكان زاهداً معروفاً وكان يذكر الله بقلبه أحياناً دون نطق وكان على عقيدة الإمام أبي الحسن الأشعري لذا فقد نحى بالزهد منحى كلامياً. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص21 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 457 الطور الرابع: طور التحرر من التكاليف الشرعية: وهذا الطور بدأ في القرن الرابع الهجري وعلى رأسه الحسين بن منصور الحلاج ت 309 هـ. - وكان الحلاج رجلاً محتالاً مشعوذاً وكان يعرف علم الكيمياء وخواص المواد وكان من خداعه أنه يدفن في الطرقات أواني فيها ماء وأخرى فيها طعام فإذا طلب أحد أتباعه ماءً قال له احفر هاهنا وإذا طلب طعاماً قال احفر هاهنا وكان قد سجن في بغداد ثم أخرج من السجن وقتل بعد مناظرة العلماء له. - ومن رجال هذا الطور أبو بكر محمد بن موسى الواسطي ت 331 هـ وكان يدعو إلى التأمل في الله وعدم ذكره باللسان، ويعتبر ذكر اللسان غفلة أكثر من غفلة اللاهين ويعتبر هذا الطور من أخطر الأطوار التي مر بها التصوف لأنه أدى إلى ظهور فكرة التخلي عن العبادات الظاهرة وإلى التحلل من التكاليف والأوامر والنواهي، وبسببه ظهرت الإباحية التي أثرت فيما بعد في كثير من الطرق الصوفية، حتى أصبحت في عصرنا هذا بعض الصوفية يجتمعون في حلقات للذكر بألفاظ موهمة وبحركات تؤدي إلى فقد الوعي واختلاط الرجال بالنساء أثناء الذكر أعاذنا الله وإياكم من الوقوع فيما نهانا الله تعالى عنه. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص22 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 458 الطور الخامس: تبلور الطرق الصوفية: وكان ذلك في القرن الخامس الهجري وما بعده ومن أبرز أعلام هذه الحقبة محيي الدين عبد القادر الجيلاني "الجيلي" ويرفع الشعراني نسبه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولد الجيلاني سنة 471هـ (-وقيل غير ذلك -) في جيلان وقدم بغداد وهي دار التصوف سنة 488هـ وتوفي سنة 561هـ وإليه تنسب الطريقة القادرية، ونسب إليه أتباعه كثير من الكرامات، فقالوا كان يسير في الهواء وعلى رؤوس الناس، وكان يخاطب الجن ويهديهم. ومن مشاهير هذا الطور أيضاً أحمد بن أبي الحسين الرفاعي من بني رفاعة وإليه تنسب الطائفة الرفاعية البطائحية نسبة إلى مولد أحمد الرفاعي بالبطائح. وظهرت بعد ذلك الشاذلية ومؤسسها هو أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الجبار الشاذلي نسبة إلى شاذلة في تونس توفي سنة 656. وتنسب إليه الطريقة الشاذلية، وانتشرت طريقته في مصر واليمن ومراكش وغرب الجزائر. وكذلك ظهر في هذا الطور أحمد البدوي، ولد بفارس سنة 596هـ، ورحل إلى العراق واستقر بمصر بطنطا حتى وفاته سنة 634هـ وهو من أكبر أولياء مصر عند الصوفية، امتاز بالفروسية وانقطع عن العباد وامتنع عن الزواج، وإليه تنسب الطريقة الأحمدية حيث انتشرت طريقته في جميع أرجاء مصر ولها فروع متعددة يمتازون بشاراتهم وهي العمامة الحمراء. وظهر في هذه الحقبة إبراهيم الدسوقي (623 - 667) هـ وإليه تنسب الطريقة الدسوقية التي تقوم على الخروج عن حظوظ النفس والهوى، والدعاء إلى المحبة بين الناس والتسليم المطلق من المريد للشيخ وعدم استحباب الخلوة إلاّ في حضرة الشيخ. وقد صحب ظهور الطرق الصوفية القول بالكرامات، كما ظهرت وفشت البدع كبدع الأذكار والقبوريين. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص 22، 23 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 459 الطور السادس: طور ظهور المجذوبين: وقد ظهر هؤلاء المجاذيب في القرنين التاسع والعاشر الهجريين وهم أقسام: 1 - منهم المتظاهرون بذلك الذين يخفون أهدافاً دينية أو سياسية لينجوا من قبضة السلاطين والشرطة والقضاة وأكثر هؤلاء ظهوراً كان بمصر. 2 - تطور بعض هؤلاء إلى حالات مرضية نفسية وعصبية دائمة أدت بهم إلى اكتئاب دائم وكانوا يؤذون الناس. 3 - وأناس حصلت لهم أزمات نفسية مؤقتة، وحين تحصل لهم هذه الحالات كانوا يقومون بأعمال جنونية لفقدهم الإرادة. وأمثال هؤلاء في التاريخ الإسلامي كثير، منهم أبو الخير الكليباني توفي سنة 910هـ وسمي بذلك لأنه كان يأمر الناس بشراء اللحم وإطعامه للكلاب وكان يفعل ذلك. وأحمد المجذوب توفي بعد سنة 920هـ وكان يقيم عند الباعة ويصرخ قائلاً يا ما لى ومال السلطان ولا يتركهم حتى يعطونه من المال والطعام. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص 23، 24 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 460 المبحث الثالث: تأثر الصوفية بالفكر الغريب • المطلب الأول: تأثر التصوف باليهودية . • المطلب الثاني: تأثر التصوف بالنصرانية. • المطلب الثالث: التأثر بالديانات الهندية. • المطلب الرابع: التأثر بالفلسفة الصينية. • المطلب الخامس: التأثر بالفلسفة اليونانية. • المطلب السادس: التأثر بعقائد الفرس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 461 المطلب الأول: تأثر التصوف باليهودية كان ما يعرف بالتنبؤ مشهوراً بين اليهود وكان لمتصوفة اليهود مراكز تسمى المسفايات وكانت مراكزهم هذه منتشرة في كل البلاد التي تواجد فيها اليهود وفتحها الإسلام، وحارب الإسلام الكهانة فكانت تمارس الكهانة اليهودية في الغرف المظلمة وحاول هؤلاء الكهنة واستطاعوا تعليم الكهانة والتصوف إلى بعض المسلمين الذين نشروا هذه الأفكار بدورهم. وقد ظهر أحد الكهان وهوالحارث الدمشقي الذي سمى نفسه نبياً في زمن عبد الملك ابن مروان. كما يوجد هناك تشابه بين ذكر الصوفية البدعي وما دعا إليه العهد القديم حيث جاء فيه " ليبتهج بنو صهيون بملكهم ليسبحوا اسمه برقص بدف وعود ليرنموا هللو يا، سبحوا الله في قدسه، سبحوه برباب وعود، سبحوه بدف ورقص، سبحوه بأوتار ومزمار، سبحوه بسنوج الهتاف ". وكان التنبؤ ظاهرة معروفة لدى اليهود، وكذلك الكهانة والتنجيم، وقد ظهر ذلك في الصوفية وإن كان بأسماء أخرى مثل المعرفة الصوفية وطرقها التي هي ادعاء علم الغيب عن طريق الكشف وغيره. ولا يخفى على أحد تأثر الشيعة من الفكر اليهودي في مسألة تقديس الأئمة وتناسخ الجزء الإلهي في بعض البشر وقال بعض فرق الشيعة في علي رضي الله عنه بذلك التناسخ، ومن ثم انتقل ذلك من هؤلاء أو أولئك إلى التصوف فظهر فيهم الغلو في المشايخ وأصحاب الطرق والأولياء. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص25، 26 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 462 المطلب الثاني: تأثر التصوف بالنصرانية دخل الإسلام البلدان وخاصة الشام، وكان الرهبان منتشرين في الصحاري والجبال حيث يقيمون صوامعهم فتأثر أتقياء الأمة وزهادها بهم، وكان في أول الأمر التأثر باللباس، وكثرة العبادات من الذكر والصلوات والصيام. فتأثرت الصوفية بذلك وانتقلت الرهبنة النصرانية مثل العزوف عن ملذات الحياة الدنيا وعن الزواج، ولبس الثياب البالية والمرقعة إليهم. حتى تسمى بعض أتقياء الأمة بالرهبان أمثال الصحابي الجليل أويس القرني رضي الله عنه الذي لقب براهب الأمة، والمردار أحد شيوخ المعتزلة سمي براهب المعتزلة، وأبو بكر المخزومي - ت94هـ - راهب قريش، والدارمي - ت 243هـ - راهب الكوفة. ولقد تمسك كثير من الصوفية بقصص الزهد التي تنسب إلى المسيح عيسى عليه السلام والحواريين والاستشهاد بأعمال الرهبان ورجال الدين النصارى، والصوامع والخلوة. وكذلك تأثروا بالدعوة إلى التسامح والحب الإلهي والمحاسبة الشديدة للنفس وتعذيبها والاعتراف للشيخ ورجل الدين بالذنب وطلب العفو والغفران منه. وتأثر التصوف من النصرانية بفكرة المعرفة والشهود والتأمل والفناء، ومن ذلك ما ذهب إليه القديس (برنار) حيث يرى أن الحياة المسيحية الصوفية تنحصر في اتباع طريق النجاة، وطريق النجاة في نظره بأن يقوم العابد الزاهد بالبحث والتأمل في نفسه ثم في العالم ثم في الإله، ينتهي أولاً إلى الشهود والذي هو الإدراك اليقيني البعيد عن أي ريب في الحقيقة، وأخيراً ينتهي إلى الغيبوبة التي تكون الروح فيها شاغرة بنفسها فتسمو إلى مرتبة الاستمتاع بالصلة الإلهية، ولعل ذلك الإحساس أصل فكرة الفناء. ويرى المتأله (أميرسون) أن المعرفة تكون بواسطة الزهادة أكثر منها بواسطة البحث الإنساني، وهي مناهج التأمل المرتبط بالتقدم الروحي ثم تنتهي إلى الاتصال بالله. ويبين الدكتور/ حسن عاصي أن التشابه بين النصرانية والصوفية في ثلاثة مفاهيم وهي: أ) الفقر: وقد ورد ذكره في انجيل لوقا " طوبى لكم أيها المساكين فإن لكم ملكوت الله، طوبى لكم أيها الجياع الآن فإنكم ستشبعون " 1/ 106. ب) التوكل: وهو من مقامات الصوفية وجاء في إنجيل متى " لا تهتموا لأنفسكم بما تأكلون ولا لأجسادكم بما تلبسون. انظروا إلى طير السماء فإنها لا تزرع ولا تحصد ولا تحزن وأبوكم السماوي يقوتها، أفلستم أنتم أفضل منها " 6/ 25 - 26. ج) الحب الإلهي: واستدل على ذلك بقوله " العابد يقف أمام معبوده، يخاطبه مخاطبة العاشق معشوقه والحبيب محبوبه ". المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص26، 27 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 463 المطلب الثالث: التأثر بالديانات الهندية لقد عرفت الهند الكهانة قبل المسيحية بثمانية قرون، وعرف المسلمون الهند في مطلع القرن الثاني الهجري عن طريق التجارة، وعن طريق السياحة الهندية التي كانت مشتهرة عند الهنود الذين تركوا الدنيا والملذات حيث ساحوا في العراق وغيرها من بلاد الإسلام ". والمطلع على أديان الهند يجد كثيراً من الفكر الشبيه بالفكر الصوفي وهذا بعضاً من ذلك: أ) التأمل والحلول: يوجد تشابه كبير بين معتقدات البراهمة وهم حكماء الهنود والصوفية، فإن الكهنة الهنود عن طريق التأمل يصبون إلى الوصول إلى الكمال الروحي الذي يؤدي في النهاية إلى الحلول في الله تعالى بزعمهم. ب) التناسخ والفناء: وإن كانت البوذية تأثرت بالبراهمة في فكرة الفناء غير أن النرفانا الكبرى هي من الفكر البوذي حيث يرى البراهمة أن الروح تخرج إلى جسد آخر، ولكن النرفانا الكبرى تعني الفناء المطلق وهو عودة الروح إلى منشئها لتحل في الله تعالى بزعمهم. ج) اليوغا (تعذيب الجسد): واليوغا الهندية هي عبارة عن رياضات شاقة فيها تعذيب للجسد للوصول إلى قتل الشهوة، وتحرير النفس من رغباتها وتعويد الجسد على الهدوء، وأحياناً يكررون بعض الألفاظ (الذكر عندهم). د) وحدة الوجود: ويعتقدون كما تشير كتبهم القديمة أن جميع أشكال الحياة من الحياة الإلهية إلى حياة أصغر الخلائق هي ذات واحدة وهي ماثلة في كل مخلوق وهي فكرة (وحدة الوجود). هـ) المظهر العام: إن الذي يذهب إلى الهند يجد عندهم لباس الخرقة والمرقعات، واستعمال السبح ذات الأعداد الكبيرة من الأمور المشتهرة بينهم. و) القدرات والمعجزات: يزعم صاحب كتاب (بيتنجل) في سياق حديثه عن التدين الهندي، أن الرجل إذا اشتغل بالرياضات وتهذيب النفس يمنح القدرة على ثمانية أشياء وهي: 1 - التمكن من تلطيف البدن حتى يخفى عن الأعين، وقال بهذا كثير من الصوفية حيث زعموا أن الولي عندهم يشاهد في أدنى الأرض، وبعد قليل في أقصاها وقد يشاهد في مكانين معاً. 2 - التمكن من تخفيف البدن حتى يستوي عنده وطء السوائل والوحل والتراب. 3 - التمكن من تعظيمه حتى يُرى في صورة هائلة عجيبة، وهذا ما تزعمه الصوفية من أن أحدهم يكبر حتى يملأ الغرفة. 4 - انطواء المسافات بينه وبين المقاصد الشاسعة، وهذا ما يزعمه بعض الصوفية من أن أحدهم يصلي الصبح في المدينة والظهر في مكة والعصر في بيت المقدس، أو أنه يتحرك في لحظات من نجد إلى عرفة ويرجع وينقل لهم أخبار الحجيج. 5 - التمكن من الإرادات، أي فعل ما يريد. 6 - التمكن من علم مايروم (يريد)، أي يحصّل العلم الذي يريده. 7 - التمكن من الترأس على أي طائفة، أي إذا أراد أن يكون رئساً على طائفة ما فيستطيع تحقيق ذلك. 8 - خضوع المرؤوسين وطاعتهم وهذا واضح عند الصوفية فيستطيع الشيخ جعل المريد يطيعه طاعة مطلقة حتى وإن كانت في معصية الله ". مثال للتصوف الهندي: من أمثلة التصوف الهندي (راما كريشنا) وهو رجل هندوسي كغيره من جحافل الوثنيين الذين يقدسون الماء والتراب والحيوان، ويعد من أعظم نساك الهند حيث كان لحياته أثر كبير في تغلغل السمو الروحي أعماق القلوب. ويقول عنه الأديب الفرنسي الكبير (روما رولان): إن راما كريشنا تتويج لجهود آلاف السنين في سبيل ترقية الحياة الباطنية لمئات الملايين من الهنود، إذ كان هذا الرجل المنعش الوحيد للهند الحديثة. ومما تقدم نتبين تأثر الصوفية بكثير من المعان الموجودة في الفلسفة الهندية ولا نستطيع أن ننكر اتصال المسلمين بالهند منذ عصر الإسلام الأول كما تقدم. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص27، 30 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 464 المطلب الرابع: التأثر بالفلسفة الصينية ظهرت الحكمة الصينية قديماً في القرن السابع قبل الميلاد حيث عاش المفكر لأوتسة في ذلك القرن وهو زاهد متقشف يرفض المتع البشرية ويريد الإصلاح لقومه، ويدعو إلى ترك العمل والتخلي عن الشهوات وحاجات الجسد المادية، وقد عاصر أيضاً حكيم الصين الأكبر (كونفوشيوس)، وقد كان مفكراً عمليا ومصلحاً إجتماعياً. وحين عجز لاؤتسه (لي آره) عن إصلاح قومه ويئس من ذلك نزع إلى العزلة والهجرة، وحين طلب منه رجل أن يترك له كتاباً ترك له كتاب (تأوته) وهذا الإسم يتكون من مقطعين: (تآو) ومعناها الطريق الروحي (ته) النعمة أو اللطف الإلهي. وهذه الكلمة تآو ذات دلالة صوفية وهي كلمة قديمة تشتمل على الأخلاق، وفلسفة الحياة، وعلة الوجود، ونظام الطبيعة الخالد (بزعمهم)، وهي عندهم علة العلل المتجلية في الخالق والمرئية في العالم. وقد أكسب لاؤتسه هذه الكلمة معاني جديدة حين زعم أن الإنسان يستطيع الاتصال بالتأو عن طريق التجرد من الشهوات وعن طريق الرياضة الصوفية وترك الزهو وهجر الشعور الذاتي، فبذلك ينجو من شرك المادة (الجسد) ويترفع عن حواجز المكان والزمان ويكون بلوغ التآو في مراحل ثلاث: - أ – تزكية النفس وتطهيرها. ب- الإشراق ج- الاتصال والاتحاد. ونلاحظ أن هذه الأفكار والمعاني وجدت في التصوف سواءً بسواء فالعزلة وتعذيب الجسد وفكرة اللطف واعتزال الشهوات والطهارة والتزكية والاتحاد، فقد مُلئت كتب التصوف بها. كما نلاحظ أن الإشراق الصيني هو فكرة شبيهة بالكشف عند الصوفية، كما أن الاتصال والاتحاد شبيه بالفناء عند الصوفية. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي - ص30، 31 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 465 المطلب الخامس: التأثر بالفلسفة اليونانية لقد كان للفلسفة اليونانية تأثير واضح في التصوف وخاصة أن الإفلاطونية الحديثة كان لها شيوع واضح ما بين النهرين وفي حران. وكذلك انتشرت في بلاد الشام ومصر والعراق وفارس وبعض الهند حين سيطر اليونان بقيادة الاسكندر بن فليب المكدوني على تلك البلاد وامتزجت ثقافتهم بتلك الثقافات منذ القرن الثالث قبل الميلاد. وإن بعض المؤرخين والمتخصصين يرجع الصوفية إلى أصل يوناني باعتبارها مأخوذة من كلمة سوفيا وهي بمعنى الحكمة باليونانية وهذا ما يعترض عليه الصوفيون. ومن أبرز عناصر الفكر اليوناني الغنوصية، والإشراقية وقد أثر ذلك في التصوف فقد دعا إلى التقشف ودعا إلى اتصال النفس بالملأ الأعلى، إذ يعتقد بوجود عالم روحاني نوراني فوق عالم الطبيعة لا يدرك العقل حسنه وبهاؤه، ويبلغ الإنسان ذلك العالم إذا تطهرت نفسه من علائق هذا العالم المادي، فتغدو زكية إذا تبرأت من العجب والتكبر والرياء والحسد. والأفلاطونية الحديثة تحتوي على كثير من الفكر الصوفي إن صح التعبير – حيث يعتقدون بنظرية الفيض الإلهي وكذلك يقولون بالعقل الأول والنفس الكلية والهيولي والنفوس الجزئية وهي من مراتب الوجود عندهم وهذا ما يقول به بعض الصوفية كما عند ابن عربي، وكذلك نظرية الكشف والشهود والمعرفة. ومن الأفكار التي أثرت في التصوف أفكار (ديونيسوس) ومن أبرز آرائه ما يسمى (التأله) وهو أن المعرفة الحقيقية تحصل بعد تطهير القلب من رجاساته، والتحرر من عبودية الجسد ونبذ الدنيا ولذائذها، والخشوع والصمت والتأمل وعند ذلك فقط يصل الإنسان إلى مشاهدة الله والاتصال به. وكذلك تأثر التصوف بالغنوصية وهي كلمة يونانية بمعنى المعرفة وتطورت الكلمة حتى أخذت معنى اصطلاحياً وهو التوصل عن طريق الكشف والذوق إلى المعارف العليا دون الإستناد إلى البراهين العقلية. كما نقلت وترجمت إلى العربية كثير من الكتابات اليونانية ومنها كتب (إسطفانوس برصديلي) وهو راهب غنوصي سرياني عاش بين القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد وقد انتشرت ترجمات كتبه انتشاراً واسعاً عند ظهور التصوف الإسلامي. وهذا يدل دلالة واضحة على تأثر التصوف بالفلسفات اليونانية ومن الكلمات والمعاني الكثيرة التي كانت سائدة في الفكر اليوناني، واستعملت استعمالاً كثيراً في الفكر الصوفي المعرفة، والذوق، والكشف، الأزلية، والحقيقة، وحقيقة الحقائق، والكلمة، والعلة والمعلول، ووحدة الوجود. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص 31، 32 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 466 المطلب السادس: التأثر بعقائد الفرس لقد ظهر في بلاد فارس الفكر الصوفي منذ زمن بعيد حيث سادت عندهم فكرة صدور كل شيء عن الله ورجوعه إليه وأن الموجود بحق هو الله. وظهر الزهد والرهبنة في الديانة المانوية، والنهي عن ذبح الحيوان في الديانة المزدكية وكذلك ساعد دخول عدد كبير من الفرس في الدين الإسلامي على نقل تلك الأفكار بقصد حسن أو شيء وإن كثيراً من مشاهير الصوفية كانوا من أصول فارسية أمثال إبراهيم ابن أدهم ومعروف الكرخي، وشقيق البلخي، وحاتم الأصم، وسهل التستري، وأبو يزيد البسطامي والحلاج والسهروردي. ولقد كان الفرس قبل الإسلام يدينون بالزرادشتية (الماجوسية) المبنية على وحدة الوجود، منحدرة من اتحاد أو حلول بين انبثاقات صادرة عن الهين اثنين (النور والظلمة) وكان مذهب الأكثرية المجوسية يرجع المبدأين (النور والظلمة) إلى كائن أعلى واحد منه انبثق الوجود، ثم جاءت المانوية متفقة مع الزردشتية في أصل العقيدة. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص32، 33 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 467 المبحث الرابع: موقف الناس من التصوف أ - طائفة من الناس نظرت إلى مساوئ القوم وأغمضت العيون عن محاسنها فقالوا بضلال الصوفية وردوا كلامهم سواءً ما وافق الكتاب والسنة أو خالفهما وهذه الطائفة كما يقول ابن القيم (حجبت عن محاسن هذه الطائفة ولطف نفوسهم وصدق معاملتهم فأهدروها لأجل هذه الشطحات وأنكروها غاية الإنكار وأساءوا الظن بهم). ب - وطائفة أخرى نظرت إلى محاسن القوم وصدق معاملتهم وشفافية نفوسهم وحسن عبادتهم فأقبلت على علوم الصوفية وكتبهم وقصائدهم وقصصهم دون تمحيص مغمضة العيون عن عيوب القوم ومساوئهم، وهؤلاء كما يقول ابن القيم (حجبوا بما رأوه من محاسن القوم وصفاء قلوبهم وصحة عزائمهم وحسن معاملتهم عن رؤية شطحاتهم). ج - وطائفة ثالثة وهم كما يسميهم ابن القيم أهل العدل والإنصاف الذين يقبلون من القوم ما يجدونه حسناً موافقاً للكتاب والسنة ويردون ما خالف الكتاب والسنة ويردون على شطحات القوم، وهذا الموقف هو الذي يجب أن يقفه كل مسلم فلا تحملنا حسنات القوم على قبول خطئهم وتحسينه. كما يجب أن لا تحملنا سيئات القوم على رد حق ذهبوا إليه أو قالوا به، بل الحكم العدل الذي بيننا هو الكتاب والسنة فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]. فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل العدل والإنصاف المتمسكين بكتاب ربهم وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص33، 34 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 468 الفصل الخامس: أسماء الصوفية وسبب تسميتهم بها من أشهر الأسماء لهذه الطائفة اسم "الصوفية"، ولهم أسماء أخرى غير مشهورة علي ألسنة الناس، ومن تلك الأسماء التي أطلقت عليهم أو أطلقوها هم علي أنفسهم: 1 - الصوفية: وهو الاسم المشهور الذي يشمل كل فرقهم، وهم يرضون به ويتمدحون بالانتساب إليه، وقد سبق تعليل هذه التسمية.2 - أرباب الحقائق: لزعمهم أنهم وصلوا إلى حقائق الأمور وخفاياها بخلاف غيرهم من الناس الذين أطلقوا عليهم اسم "أهل الظاهر"و"أهل الرسوم" (1).3 - الفقراء: وهو اسم زعم السهروردي أن الله هو الذي سماهم به حيث قال: "وأهل الشام لا يفرقون بين التصوف والفقر يقولون: قال الله تعالى لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ [البقرة:273]، هذا وصف الصوفية، والله تعالى سماهم فقراء" (2).4 - ويسمون شكفتية في خرسان نسبة إلى الغار، قال السهروردي عن الصوفية في خرسان: "كان منهم طائفة بخرسان يأوون إلى الكهوف والمغارات، ولا يسكنون القرى والمدن يسمونهم في خرسان شكفتية؛ لأن شكفت اسم الغار؛ ينسبونهم إلى المأوى والمستقر" (3).5 - جوعية: قال السهروردي: "وأهل الشام يسمونهم جوعية" (4).6 - الملامية أو الملامتية: وقد عنون المنوفي لها بقوله: "أهل الملامة والملامتية" (5).والملامتية هي إحدي تطور المذهب الصوفي ووساوسه المتشعبة وأمانيه البراقة، وهذه الملامة التي يعتنقها بعض الصوفية ويتظاهر بها هي في أحد مفاهيمها بعينه، يدخل فيه الشخص من حيث يشعر أو لا يشعر، بل وسموه النفاق المحمود (6)، حين يأتى الصوفي بما يلام عليه لأجل أغراض سامية فيما يزعمون، ولكن متى كان النفاق محموداً؟! والملامتي حسب المفهوم الصوفي عرفه السهروردي بقوله عن بعضهم: "الملامتي هو الذي لا يظهر خيراً ولا يضمر شراً"، ثم قال: "وشرح هذا هو: أن الملامتي تشربت عروقه طعم الإخلاص وحقق بالصدق، فلا يحب أن يطلع أحد على حاله وأعماله ولا يتم هذا الإخلاص إلا إذا أصبح يستوي عنده المدح والذم له من الناس، وألا يفكر في اقتضاء ثواب العمل في الآخرة" (7). ويعللون لهذا بأنه مع الناس في الظاهر، وهو مع الله في الباطن مهما كانت أفعاله في الظاهر. ومن هنا أبو سعيد الخراز: "رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين "ومن شرح السهروردي هذا الكلام بقوله:"ومعنى قوله: إن إخلاص المريدين معلول برؤية الإخلاص والعارف منزه عن الرياء الذي يبطل العمل، ولكن لعله يظهر شيئا من حاله وعمله بعلم كامل عنده فيه؛ لجذب مريد أو معاناة خلق من أخلاق النفس في إظهاره الحال والعمل، وللعارفين في ذلك علم دقيق لا يعرفه غيرهم، فيرى ذلك ناقص العلم صورة رياء، وليس برياء إنما هو صريح العلم لله وبالله من غير حضور نفس ووجود آفة فيه (8). والصحيح أنه التلاعب بعقول الناس والترويج للباطل بأبطل منه وقلب للحقائق، إذ كان الأولى أن يغلظ ذنب العارف لا أن يكون الرياء منه أفضل من غيره، ومتى كانت دعوة المصلحين تقوم علي أساس مداهنة الناس ومراءاتهم؟ ‍! وأيضاً كيف صح له أن يصف محض الرياء بأنه ليس رياء وإنما هو صريح العلم لله وبالله من غير حضور نفس؟!   (1) انظر ((الصوفية معتقداً ومسلكاً)) (ص 31). (2) انظر: ((عوارف المعارف)) (ص 42). (3) ((عوارف المعارف)) (ص48). (4) ((عوارف المعارف)) (ص48). (5) ((جمهرة الأولياء)) (1/ 122). (6) انظر: ((الصوفية معتقداً ومسلكاً)) (ص 334). (7) انظر: ((عوارف المعارف)) (ص54). (8) ((عوارف المعارف)) (ص54). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 469 فمن يقبل هذا الخداع ويتهم نظره وعقله، ويصدق بأن تلك الحال التي اعترت الصوفي إنما هي من أجل أن يجذب المريد أو يرد أن يذل نفسه، فمن أين يعلم الناس ذلك حتى يمكنهم أن يسموا الرياء عبادة لله؟؛ ولهذا فإن من الثابت عندهم أن كل ما يصدر عن الصوفي ينبغي أن يفسر بخير حتى وإن كان فعل الفواحش، فيجب الاعتقاد علي أنه لم يفعل ذلك إلا لحكمة جليلة، كما بين ذلك الشعراني في طبقاته وغيره من كبار الصوفية، في تراجمهم لسادتهم عتاة الصوفية. وفي هذا يقول الدباغ:"إن غير الولي إذا انكشفت عورته نفرت منه الملائكة الكرام- والمراد بالعورة العورة الحسية، والعورة المعنوية التي تكون بذكر المجون وألفاظ السفه- وأما الولي فإنها لا تنفر منه إذا وقع له ذلك؛ لأنه إنما يفعله لغرض صحيح فيترك ستر عورته لما هو أولي منه" (1). ويؤكد الفوتي ظان الواجب في حق المشايخ والأولياء- وهو كثير جداً- منه: 1 - عدم الاعتراض علي الشيخ في أي شيء يفعله ولو كان ظاهره حرام.2 - أن يكون المريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل (2). وشروط أخرى يندى لها الجبين ويموت القلب حسرة لأولئك الذين أذلتهم الصوفية وملكت عليهم كل عرق ينبض بالحياء والحياة، وذكر علماء التصوف أمثلةً وأخباراً كثيرة في وجوب التسليم والرضاء لكل ما يفعله الولي الصوفي مهما كان ذلك العمل، وهو ما قرره الفوتي وعلي حرازم والشعراني والمنوفي وأبو يزيد البسطامي والسهروردي وغيرهم من كبار الصوفية المجرمين في حق البشرية. ومهما كان، فإن الملامتية في حقيقتها إنما هي إحدى مصايد الصوفية مهما زخرفوا القول فيها. وقال ابن عربي عن هؤلاء الملامتية:"أنهم رجال قطعهم الله إليه وصانهم صيانة الغيرة عليهم؛ لئلا تمتد إليهم عين فتشغلهم عن الله. لقد انفردوا مع الله راسخين لا يتزلزلون عن عبوديتهم مع الله طرفة عين (3).ويرى ابن عربي في فتوحاته المكية أن هذا الاسم أطلق عليهم؛ لأنهم أخفوا مكانتهم الشريفة في العامة، فكأن المكانة تلومهم حيث لم يظهروا عزتها وسلطانها (4).وقد شبههم المنوفي في كتابه (جمهرة الأولياء) بأهل الكهف في فتوتهم وحالهم، حين قال في التعريف بهم: "الملامة نعت لإبدال أهل الفتوة، واسم الملامية أو الملامتية أطلق علي قوم يلومون أنفسهم مع حسن أحوالهم ونموها"، وقد استفاض المنوفي في الأمثلة للملامتية وحشر كثيراً من الناس أمثلة للفتوة (5). وقد قسم شيخ الإسلام الملامية إلى قسمين: ملامية يفعلون ما يحبه الله ورسوله ولا يخافون لومة لائم في ذلك، وهؤلاء هم أهل الملام المحمود. وملامية يفعلون ما يبغضه الله ورسوله ويصرون على الملام في ذلك والصبر عليه، وهؤلاء هم أهل الملام المذموم. قال: "وبهذا يحصل الفرق بين الملامية الذين يفعلون ما يحبه الله ورسوله ولا يخافون لومة لائم في ذلك، وبين الملامية الذين يفعلون ما يبغضه الله ورسوله ويصبرون على الملام في ذلك" (6).وأشار العلامة ابن الجوزي – رحمه الله – إلى مسلك من مسالك هؤلاء الملامية، وهو: ارتكاب المعاصى بحجة عدم لفت الأنظار إلى صلاحهم – كما يتصورون – فقال وفي الصوفية قوم يسمون الملامتية اقتحموا الذنوب وقالوا: مقصودنا أن نسقط عن أعين الناس فنسلم من الجاه، ثم قال معلقاً على هذا الزعم الباطل: وهؤلاء قد أسقطوا جاههم عند الله لمخالفة الشرع" (7). المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 874   (1) ((الإبريز)) (2/ 43). (2) انظر: ((رماح حزب الرحيم)) (1/ 132). (3) هذا النص عن ((مقدمة رسالة الملامتية)) تحقيق د. أبو العلا العفيفي (ص20)،وأما في ((الفتوحات المكية)) فإن النص يبدأ من قوله:"لقد انفردوا مع الله .. " الخ (3/ 39). (4) ((الفتوحات المكية)) (3/ 40). (5) ((جمهرة الأولياء)) (1/ 122 – 130). (6) ((مجموعة فتاوى شيخ الإسلام)) (1/ 16). (7) ((تلبيس إبليس)) (ص363). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 470 الفصل السادس: المراتب والمصطلحات • المطلب الأول: الغوث . • المطلب الثاني: الأوتاد. • المطلب الثالث: القطب. • المطلب الرابع: الأبدال " البدلاء ". • المطلب الخامس: النجباء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 471 المطلب الأول: الغوث ولا يكون إلا غوث واحد وهو في مكة المكرمة. وهو الذي يغيث الله به أهل الأرض في رزقهم ونصرهم، ويطلق عليه البعض القطب الغوث. ويرى آخرون أن الغوث يطلق على القطب حينما يلتجئ إليه الناس والبعض يطلق عليه قطب الأقطاب. والاعتقاد بالغوث الغائب الحاضر من الشرك، فإن الله هو المغيث وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه. ويقول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله إن لفظ الغوث والغياث لا يستحقه إلاّ الله تعالى فهو غيّاث المستغيثين وعليه فلا يجوز لأحد الاستغاثة بغيره، لا بملك مقرب ولا نبي مرسل، ومن زعم أن أهل الأرض يرفعون حوائجهم - التي يطلبون بها كشف الضر عنهم - إليهم ونزول الرحمة بهم فهو كاذب ضال مشرك. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص34 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 472 المطلب الثاني: الأوتاد وعددهم أربعة أوتاد، وهم الذين يثبت الله بهم الإيمان في قلوب الناس كما تثبت الجبال الأرض. وسموا أوتاداً تشبيهاً لهم بالجبال التي يثبت الله بها الأرض قال تعالى وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا [النبأ:7]. ويكون كل واحد منهم في جانب من جوانب الأرض الأربعة أي أنهم في المشرق والمغرب والشمال والجنوب. وقال أحد المهاويس: إن مصر يحرسها أربعة ولولاهم لأصبحت في خبر كان قلت له (والكلام للكاتب)، احك لي. قال: الدسوقي والبدوي يحرسان الوجه البحري والأسيوطي والقناوي يحرسان الوجه القبلي. قلت له: إن الوجه القبلي أكبر من الوجه البحري ونحن في حاجة إلى عدد أكبر من ذلك فقال لي: على كل حال يوم الخميس حيث تعقد كل يوم خميس رئاسة رئيسة الديوان السيدة زينب، سوف أعرض عليها طلبكم وسوف ألح على المجلس أن يلبي طلبكم يا صعايدة. إنه كلام يدل على السذاجة وعدم العلم بل الجهل بالخالق وبربوبيته على خلقه. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص 34، 35 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 473 المطلب الثالث: القطب والأقطاب عددهم سبعة أقطاب: الواحد قطب وسمي بذلك لأنه يكون قطب في القطر الموجود فيه كقطب الرحى، وبوجوده تحفظ البلاد، والمراد بالقطب هو الذي يحفظ الله به الشيء كقطب الدين وقطب القرية، وكل من دار عليه أمر من أمور الدنيا أو الدين فهو قطب. ويعتبر الجرجانى القطب أعلى منزلة عند الصوفية لأنه يعتبر الغوث قطباً والقطب هو موضع نظر الله في كل زمان وهو يسري في الكون وأعيانه الظاهرة والباطنة سريان الروح في الجسد. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص35 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 474 المطلب الرابع: الأبدال " البدلاء " وعددهم أربعون بدلاْ، وسموا بالأبدال لأنهم ثابتون من حيث العدد كلما توفي أحدهم يسر الله تعالى واحداً غيره، وقيل: هم الذين أبدلوا السيئات من أخلاقهم وأعمالهم وعقائدهم بالحسنات، وهم بالشام، واستدلوا على ذلك بحديث منقطع الإسناد- كما يذكر ذلك ابن تيميه وهو عن علي رضي الله عنه مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الأبدال يكونون بالشام وهم أربعون رجلاً كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً، يسقى بهم الغيث، وينتصر بهم على الأعداء ويصرف عن أهل الشام بهم العذاب)) (1). ويرى الجرجانى إن البدلاء سبعة رجال، من سافر منهم يترك جسداً على صورته حياً بحياته، ظاهراً بأعمال أصله بحيث لا يعرف أحد أنه فقد وذلك هو البدل لا غير، ويقول إن الأربعين الموجودين في الشام هم النجباء وليس الأبدال. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص36   (1) رواه أحمد 1/ 112 (896) قال ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (1/ 289) منقطع. وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (6/ 227) فيه انقطاع. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (2/ 171): ضعيف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 475 المطلب الخامس: النجباء وعددهم ثلاثمائة، وهم في الشام، وتزعم الصوفية أن الأعمال وسؤال الحاجات ترفع إلى الأبدال ثم إلى الأقطاب ثم إلى الأوتاد ثم إلى الغوث الذي يقوم بقضاء الحاجات. والنجباء مشغولون بحمل أثقال الخلق وخاصة التي لا تفي القوة البشرية بحملها (1). ويزعم أصحاب هذه المعتقدات أن أصحاب هذه الألقاب هم من الأولياء الذين لا تخلو منهم الأرض فهم موجودون في كل زمان وفى كل مكان. ويعتقد هذه المعتقدات كثير عن أصحاب الطرق الصوفية. فإذا كان الأمر كذلك فمن حد لهؤلاء الأولياء حداً، والولاية ثابتة بالكتاب والسنة، فكيف حصرها الصوفية في هذه الأعداد والتحديد يحتاج لدليل شرعي. ثم إن هذه الألفاظ والمسميات لم ترد على ألسنة السلف الصالح، والذين ذكروهم من الأوائل كابن تيمية رحمه الله إنما ذكرهم على سبيل الذم والنقد. وإن زعم زاعم أن الأرض لا تخلو من هؤلاء فلم لم يحدثنا عنهم الرسول محمد صلى الله علية وسلم، وهو الذي لم يترك خيراً إلا دلنا عليه ولا شراً إلا حذرنا منه. وهل وجودهم مقتصر على أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ فان كان مقتصراً عليها فكيف يزعمون أن الأرض لا تخلو منهم؟ وان كانوا فيمن قبله فأين هم في قوم نوح وإبراهيم وموسى وعيسي عليهم وعلي نبينا أفضل الصلاة والسلام؟ ولمَ لمْ يحدثنا محمد صلى الله عليه وسلم عنهم؟. وكيف هم في الشام وفتحها جاء متأخراً عن عهد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم؟ وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل الشام وفضل اليمن وغيرها من البقاع ولم يذكر في فضل الشام وجود هؤلاء الأولياء المزعومين. وكيف ترفع حوائج الناس عن طريق هؤلاء؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول ((يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا بصيرا. إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)) (2). ويقول تعالي: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]. ثم إن هذه الأسماء على هذا العدد والترتيب والطبقات ليست حقاً في كل زمان، بل يجب القطع بأن هذا على عمومه باطل. فإن المؤمنين يكثرون تارة ويقلون أخرى، ويقل فيه السابقون المقربون تارة ويكثرون أخرى، وينتقلون في الأمكنة ليس من شرط أولياء الله أهل الإيمان والتقوى، ومن يدخل منهم في السابقين المقربين لزوم مكان واحد في جميع الأزمنة. وقد بعث الله رسوله بالحق وآمن معه بمكة نفر قليل كانوا أقل من سبعة ثم أقل من أربعين ثم أقل من سبعين ثم أقل من ثلاثمائة، فيعلم أنه لم يكن فيهم هذه الأعداد ومن الممتنع أن يكون منهم الكفار، ثم إن الإسلام انتشر في مشارق الأرض ومغاربها وكان في المؤمنين في كل وقت من أولياء الله المتقين بل من الصديقين السابقين المقربين من لا يحصى عدده إلاّ رب العالمين، لا يحصون ثلاثمائة ولا بثلاثة آلاف، ولما انقرضت القرون الثلاثة الفاضلة كان أيضاً في القرون الخالية من أولياء الله المتقين بل من السابقين ومن جعل لهم عدداً محصوراً لازماً فهو من الظالمين عمداً أو خطأً ". المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص36 - 38   (1) التعريفات للجرجاني ص23، 239. (2) رواه البخاري (2992). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 476 المبحث الثاني: مصطلحات الصوفية الكشف وهو الاطلاع على ما وراء الحجب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجوداً أو شهوداً أو هو اطلاع أحد المتحابين المتصافين صاحبه على باطن أمره وسره. أو هو ما يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالقلوب على المطلوب. ويعني هذا أن الكشف هو العلم اليقيني الذي ينكشف فيه للصوفي العلوم والمعارف انكشافاً تاماً لا يبقى معه ريب ولا شك، لذلك نجد أن بعض الصوفية جاءوا بمعان جديدة للقرآن والسنة والآثار وزعموا أنهم يأخذون ذلك عن الله مباشرة وليس عن الموتى بزعمهم، وقالوا إن علماء الشرائع يأخذون ميتاً عن ميت وهم يأخذون عن الحي الذي لا يموت. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص38 الفيض الإلهي وينقسم إلى قسمين: أحدهما: الفيض الأقدس: وهو تجلي الواحد أو التجلي الذاتي الموجب لوجود الأشياء واستعداداتها في الحضرة العلمية " في العالم المعقول ". ثانيهما: الفيض المقدس: وهو تجلي الواحد أو التجلي الموجب لظهور الأعيان في الخارج. فالأول: وجودها في العلم والعقل. والثاني: وجودها في الخارج مع لوازمها وتوابعها. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص38 وحدة الوجود تنسب نظرية وحدة الوجود إلى ابن عربي الذي جعل الله والخلق شيئا واحداً وجعل الإنسان والإله في مرتبة واحدة. حيث تقوم هذه النظرية في مدلولها البسيط على أن كل الموجودات التي في الكون رغم كثرتها وتعددها شيءٌ واحد وهذا الشيء هو الله سبحانه فالله يظهر ويتجلى في صور متعددة بزعمهم. والمراد بها أيضاً أن الله هو الحق، وليس هناك إلا موجود واحد هو الموجود المطلق وهو الله فليس غيره في الكون، وأما العالم فهو مظهر من مظاهر الذات الإلهية، والعالم ليس له وجود في ذاته لأنه صادر عن الله بالتجلي. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص39 الاتحاد يعني أن الإنسان يتحد بالله، وفي حالة الاتحاد قد يفقد الشيء ذاتيته أو بعض أوصافها أو خصائصها وفيه تكون الذاتان أكثر تداخلاً وأكثر قرباً. وتنسب هذه النظرية للبسطامي. وهو شهود الوجود الواحد المطلق، فالكل يتحد بالحق من حيث كون كل شيء موجوداً به، معدوماً بنفسه، لا من حيث أن له وجوداً خاصاً انحل به فإنه محال. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص39 الحلول الحلول يعني أن الله تعالى حل في جميع أجزاء الكون في البحار والجبال والصخور والأشجار والإنسان والحيوان. مع بقاء عنصر كل من الطرفين – اللذين حل أحدهما في الآخر – على حالته الأولى فمن زعم أن الإله حل في البقرة فإن البقرة ما زالت هي هي تحلب وتؤدي وظائفها كما هي. الفرق بين الحلول والاتحاد ووحدة الوجود: الحلول يعني وجود شيء داخل شيء آخر دون أن يفقد أحدهما طبيعته أو هويته أو ذاتيته أو ماهيته فتحل الذات الإلهية في الذات الإنسانية فيحل على حد تعبيرهم اللاهوت في الناسوت. أما الاتحاد فيكون أكثر قرباً وامتزاجاً وتداخلاً، وقد يفقد الشيء الممتزج ذاته أو بعض صفاته وخصائصه. أما وحدة الوجود فتعني أن الله هو الموجود وما سواه فناء وأن الأشياء في الأصل كلها شيء واحد ولكنه قد يظهر بمظاهر متعددة فيظهر الله تعالى في صور الكائنات المتعددة. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص 39، 40 الوقت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 477 يقول أبو علي الدقاق: " الوقت ما أنت فيه " فإن كنت في سرور فوقتك السرور، وكذلك الحزن، ويعنى هذا أن الوقت هو الحاضر، وكما يقال الوقت بين زمانين أي الماضي والمستقبل. لذا يرون التفكير في الوقت الماضي هو ضياع وقت حاضر، والانشغال بالمستقبل " الغيب " كذلك. ويرون الموت هو ضياع الوقت، لأن العمر وقت وقيل في هذا المعنى: ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء وقال الجرجانى: الوقت عبارة عن حالك، وهو ما يقتضيه استعدادك وهذا بنفس المعنى الذي ذهب إليه الدقاق. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص40 المقام والمراد بالمقام المنزلة التي يقيم عليها المتأدب، وهو ما يشتغل به العبد من الآداب والمعاملات والمجاهدات في ظاهره وباطنه وشرطه ألا يرتقي إلى مقام آخر حتى يستوفى ما هو فيه، فإنه من لا قناعة له لا يصح له التوكل، ومن لا توكل له لا يصح له التسليم، ومن لا توبة له لا تصح له الإنابة، ومن لا ورع له لا يصح له الزهد. ومن أمثلة المقام التوبة والصبر والشكر والزهد والخوف والرجاء والتوكل والرضا، فقد كان مقام آدم عليه السلام التوبة، ومقام نوح عليه السلام الزهد، ومقام إبراهيم عليه السلام التسليم، ومقام موسى عليه السلام الإنابة، ومقام داوود عليه السلام الحزن، ومقام عيسى عليه السلام الرجاء، ومقام يحيى عليه السلام الخوف، ومقام محمد صلى الله عليه وسلم الذكر. ونحن لا نقرهم على هذا فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا يقيمون على جميع الأحوال سالفة الذكر. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص40، 41 الحال والحال معنى يرد على القلب من غير تصنع ولا اجتلاب ولا اكتساب، مثل طرب أو حزن أو بسط أو قبض، أو شوق أو انزعاج أو هيبة. وقيل إن الحال تدوم، وقيل إنها عرضة للزوال، والصواب أن الحال قابلة للزوال، قبل زوالها تسمى حالاً، وعندما تزول تسمى وارداً، والوارد هو كل ما يرد على القلب من المعاني الغيبية، من غير تعمد. فالأحوال مواهب، والمقامات مكاسب، والأحوال تأتي من الجود، والمقامات تحصل ببذل المجهود. وعلى ذلك فالمقام ثابت ومستقر بخلاف الحال فإنه متغير ومتحول وزائل وقد يتصف المريد به في وقت دون آخر فإذا تكرر حدوثه للمريد فقد يستقر ويصبح مقاماً. ومن أمثلة الحال: المحبة والشوق والأنس والقبض والبسط والبقاء والفناء والمكاشفة والمشاهدة والغيبة والحضور. ملاحظة: نلاحظ أن الهجويري ذكر الخوف والحزن في المقامات وهي في الحقيقة أحوال لأنها غير متكلفة. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص41، 42 القبض والبسط وهما حالتان تردان على العبد، تقربان من الخوف والرجاء، أو يسببهما الخوف والرجاء، بمعنى أن العبد يرتقي من حال الخوف والرجاء إلى حال القبض والبسط. يقول الجنيد: الخوف من الله يقبضني، والرجاء منه يبسطني. والخوف والرجاء يتعلقان بأمر مستقبل مكروه أو محبوب، والقبض والبسط يتعلقان بأمر حاضر في الوقت ويغلب علي قلب العارف من وارد غيبي. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص42 التواجد والوجد والوجود التواجد استدعاء الوجد بنوع من الاختيار، وليس لصاحبه كمال الوجد لأنه غير متكلف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 478 والمواجيد جمع وجد، والوجد ما يصادف القلب، ويرد عليه بلا تكلف ولا تصنع، وقيل هي بروق تلمع ثم تخمد سريعاً والوجود فقدان العبد بمحاق (بزوال) أوصاف البشرية ووجود الحق لأنه لا بقاء للبشرية عند ظهور سلطان الحقيقة، فالتواجد بداية، الوجود نهاية، والوجد واسطة بين البداية والنهاية. يقول الحسين النورى: أنا منذ عشرين سنة بين الوجد والفقد، إذا وجدت ربي فقدت قلبي، وإذا وجدت قلبي فقدت ربى. وفى هذا المعنى يقول الشاعر: وجودي أن أغيب عن الوجود بما يبدو عليَّ من الشهود والوجد والتواجد هو نتيجة سماع شيء مثير للوجدان كالقرآن والمدائح والغناء، فعند السماع يحصل لهم هيجان وثوران، وتمايل ورقص وحركات بهلوانية حتى يفعل الواحد منهم أفعالاً لا يستطيعها في غير هيجانه (حضوره). يقال إن جهماً الدقي في حال هيجانه أخذ شجرة فاقتلعها من جذورها. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص42 الفناء والبقاء والفناء هو سقوط الصفات الذميمة، والبقاء بروز الأوصاف المحمودة، والفناء والبقاء متلازمان، فمن فني عن شهوته بقى بإخلاصه وعبوديته، ومن فني عن الدنيا بزهده فيها بقى بصدق إنابته. وفناء الجهل ببقاء العلم، وفناء المعصية ببقاء الطاعة وفناء الغفلة ببقاء الذكر. والفناء مقرون بالبقاء، وهو أن تثبت إلهية الحق تعالى في قلبك، وتنفي إلهية ما سواه وبمحبته عن محبة ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه فالنفي هو الفناء والإثبات هو البقاء ومن بقي بطاعته عن طاعة ما سواه هو البقاء وحقيقته أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص43 الغَيبة والحضور والغيبة هي غيبة القلب عن علم ما يجرى من أحوال الخلق لانشغال الحس بما ورد عليه من تذكر ثواب أو عقاب روي أن الربيع بن خثيم كان يذهب إلى ابن مسعود رضي الله عنه فرأى الحديدة المحماة في كير أحد الحدادين فغشي عليه، فلما أفاق من غيبته " حضر " سئل عن ذلك فقال: تذكرت كون أهل النار في النار. وسبب ترك أبي حفص النيسابورى الحداد حرفته أنه سمع آية من القرآن، فورد على قلبه وارد غفل فيه عن إحساسه فأدخل يده في النار وأخرج الحديدة المحماة دون أن يتألم، فلما رأى ما ظهر علية ترك حرفته. فالغيبة تكون عن الخلق والحضور بالحق، لتغلب ذكر الله على قلبه والسكر هو الإحساس بالانبساط حال غيبته وإن كان سكره مستوفيا لم يشعر بشيء حال سكره، والصحو هو الإفاقة من السكر الذي كان فيه. والسكر لا يكون إلا لأصحاب المواجيد. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص 43 المحاضرة والمكاشفة والمشاهدة المحاضرة حضور القلب عن دوام الفكر وتواتر البرهان واستيلاء سلطان الذكر، والمكاشفة حضوره بنعت البيان بغير افتقار إلى التأمل ودوام الفكر والمشاهدة حضور الحق من غير بقاء تهمة " شك " والمعنى أن تتوالى أنوار التجلي على قلبه من غير أن يتخللها ستر وانقطاع كما لو قدر تتابع البرق واتصاله في الليلة الظلماء فتصبح كضوء النهار فكذلك القلب إذا دام به التجلي فإنه يرى الحق من غير شك. لذا قال النوري: لا يصح للعبد المشاهدة ما دام حياً. وقال الجنيد صاحب المحاضرة مربوط بآياته، وصاحب المكاشفة مبسوط بصفاته، وصاحب المشاهدة ملقى بذاته، صاحب المحاضرة يهديه عقله، وصاحب المكاشفة يدنيه علمه وصاحب المشاهدة تمحوه معرفته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 479 وسئل الشبلى عن المشاهدة فقال: من أين لنا مشاهدة الحق وإن الحق لنا شاهد وقال الجرجانى: المحاضرة حضور القلب مع الحق في الاستفاضة من أسمائه تعالى. ونستطيع أن نجمل ذلك فنقول المحاضرة حضور القلب نتيجة الفكر والتأمل، والمكاشفة أن تنكشف له الغيوب فتحصل له المعرفة والمعلومات دون تفكر ولا تأمل، المشاهدة أن يشاهد العبد الغيوب عياناً. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص44 الشريعة والحقيقة الشريعة أمر بالتزام العبودية، والحقيقة مشاهدة الربوبية فكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير مقبولة وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصولة، فالشريعة جاءت بتكليف الخلق، والحقيقة إنباء عن تعريف الحق، فالشريعة أن تعبده والحقيقة أن تشهده، فالشريعة القيام بما أمر، والحقيقة شهود لما قضى وقدر، وأخفى وأظهر. ويقول الهجويري: الشريعة بدون حقيقة رياء، والحقيقة بدون شريعة نفاق والشريعة مكاسب والحقيقة مواهب. يقول أبو علي الدقاق: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] حفظ للشريعة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] إقرار بالحقيقة ويذهب البعض إلى أن الشريعة علوم الظاهر المستمدة من الكتاب والسنة وعلم الحقيقة هو علم الباطن وهو العلم اللدني المستمد من الله تعالى كعلم الخضر عليه السلام إذ قال تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا [الكهف:65]. لذا نجد الصوفية عن طريق علم الحقيقة نسخوا الشريعة بغير حق. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص44، 45 الحقيقة المحمدية تعني أن النور المحمدي أشرق قبل أن يكون الخلق، ومنه خلق الكون وما حوى، فهو أول شيء فاض عن الله سبحانه وتعالى، ثم ما زال يظهر ويتسلسل هذا النور في الأنبياء إلى أن وصل إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فكان محمد خاتم الأنبياء بهذا المعنى ولذا بُدئ به الأمر وختم، وكان محمد صلى الله عليه وسلم أكمل تجلي خلقي ظهر فيه الحق فهو الإنسان الكامل الذي حاز خلاصة الكون كله وأصبح مقابلاً للذات الإلهية. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص45 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 480 المبحث الثالث: علوم الصوفية بين الهبة والاكتساب المراد بالعلوم الوهبية هي العلوم التي يحصلها الإنسان بلا جهد وذلك بتحصيلها من الله تعالى مباشرة، وبعضهم يسميها العلوم اللدنية مستدلين بقوله تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا [الكهف:65]. والمراد بالعلوم الكسبية هي التي يحصلها الإنسان عن طريق التعلم والقراءة والكتابة وعن طريق التلقي من المشايخ والعلماء. والناظر في كتب الصوفية الأوائل والكتب التي تتحدث عنهم يجد كثيراً من الأقوال المنسوبة لشيوخهم تبين أن علومهم من قبيل الكسبية المستمدة من الكتاب والسنة فمن أقوال شيوخهم: قول القشيري: " اعلموا أن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد، وصانوا بها عقائدهم من البدع ودانوا بما وجدوا عليه السلف وأهل السنة " وقال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: " كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل ". وقال الجنيد بن محمد: " من لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الشأن لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة". وقال: " الطرق كلها مسدودة عن الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم ". وقال أبو حمزة البغدادي: " لا دليل على الطريق إلى الله إلا بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أحواله وأقواله وأفعاله ". هذه الأقوال تدل على ما كان عليه أولئك الشيوخ ومتقدموا الصوفية ولكن الذين جاءوا بعدهم ومتأخروهم أدخلوا أموراً على التصوف تخالف ما كان عليه أوائلهم. وحقيقة " التصوف إيمان ثم علم ثم عمل، وذلك يكون متقدم على علوم الصوفية بالضرورة فأما العلم السابق عن العمل فكسبي يأتي من جانب الإنسان وما يبذله في تحصيله من جهد ويقوم على الدليل والبرهان. أما العلم الحاصل بعده – فهو العلم الوهبي – وهو ما يطلق عليه الصوفية اسم (المعرفة) أو العرفان. الذي تحصل فيه المشاهدة والعيان فيتميز أنه وهبي من لدن الله تعالى ". وإلى هذه يشير الإمام أبو حامد الغزالي إلى العلم الكسبي والوهبي فيقول: " أما العلم فهو العلم بالأمور الدنيوية والآخروية والحقائق العقلية وهي تتحصل له - أي العلوم الكسبية – بالتجارب والفكر، والناس في هذا مراتب لا تحصى يتفاوت الخلق فيها بكثرة المعلومات وقلتها وبشرف المعلومات وخستها وبطريق تحصيلها. ثم يتحدث بعد ذلك عن العلوم الوهبية وهي التي " تحصل لبعض القلوب بإلهام إلهي على سبيل المبادأة والمكاشفة وهي درجات وأقصى الرتب رتبة النبي صلى الله عليه وسلم الذي تنكشف له كل الحقائق أو أكثرها من غير اكتساب وتكلف، بكشف إلهي في أسرع وقت. ويقول عبد الحليم محمود: إن المشاهدة الصوفية ليست ثقافة كسبية ولا يتأتى التحدث عن مصادرها الخارجية أياً كانت هذه المصادر لأن المعرفة الصوفية استمداد من مصدر النور والهداية. من أقوال الصوفية في العلم الوهبي واعتراضهم على العلوم الكسبية قول أبي يزيد البسطامي لعلماء عصره: أخذتم علمكم من علماء الرسوم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. وقد أرسل ابن عربي رسالة إلى الفخر الرازي صاحب (التفسير) يقول فيها: اعلم يا أخي وفقنا الله وإياك أن الرجل لا يكتمل عندنا في مقام العلم حتى يكون علمه عن الله عز وجل بلا واسطة من نقل أو شيخ. وإذا كان طريق تحصيل العلوم الشرعية المكتسبة هي الكتاب والسنة وتلقي العلوم المتعلقة بهما من العلماء كالتفسير وشروح كتب السنن، فإن طريق تحصيل العلوم الوهبية تكون عن طريق: - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 481 1 - الكشف: ويقول عنه الغزالي: هو العلم اليقيني الذي تنكشف فيه العلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم ولا يتسع القلب لتقدير ذلك وهو كما سبق تعريفه الاطلاع على ما وراء الحجب من المعاني الغيبية. 2 - الذوق: وهو نور عرفاني يقذفه الحق بتجليه في قلوب أوليائه ويفرقون به بين الحق والباطل من غير أن ينقلوا ذلك من كتاب أو غيره. 3 - الوجد: وهو ما يصادف القلب دون تكلف. 4 - الإلهام: وهو ما يلقى في الروع بطريق الفيض أو هو ما وقع في القلب من علم. أو هو الاطلاع على أسرار الغيب بعين البصيرة في عالم المثال بلا شك ولا شبهة اطلاعاً غيبياً.5 - الفراسة: وهي معرفة حال الإنسان عن طريق النظر إليه وذلك بقياس حاله على أمثاله من خلال التجربة أو من خلال ما يراه الناظر، أو من خلال ما يجده في نفسه، أو هي قدرة المؤمن التقي على توسم الخير أو الشر بمن حوله من الأشخاص والكائنات. ويستدلون على ذلك بالحديث ((اتق فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله)) (1) 6 - الرؤى المنامية: واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم ((رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)) (2) وفي رواية الرؤيا الصالحة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم، أو تُرى له)) (3) وهذه الأمور جميعها عرضة للوقوع في الخطأ لذا يجب أن يكون الفاصل في ذلك هو الكتاب والسنة، لأن كل علم يحصل للإنسان من غير طريقهما قد يكون من قبيل الضلال والباطل والأحوال الشيطانية والأوهام والتخيلات. ولقد دخل للتصوف كثير من البدع والضلالات بسبب الكشف والرؤية والإلهام المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص45 - 49   (1) رواه الترمذي (3127) والطبراني (7513) وقال الترمذي غريب إنما نعرفه من هذا الوجه، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 268) إسناده حسن، وقال الألباني ضعيف (2) رواه البخاري (6987) ومسلم (2263) (3) رواه مسلم (479) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 482 الفصل السابع: أقسام التصوف • المطلب الأول: بالنظر إلى جهة العمل . • المطلب الثاني: بالنظر إلى جهة الاعتقاد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 483 المطلب الأول: بالنظر إلى جهة العمل 1 - صوفية الحقائق: والتصوف عندهم عبارة عن حقائق وأحوال وحدود وسيرة، ومن لوازم التصوف عندهم صفاء الباطن والظاهر، وصفاء الباطن بالبعد عن الأمراض القلبية، كالبغض والحقد والحسد وصفاء الظاهر بكثرة العبادات والنوافل والبعد عن الملذات والشهوات. وهم أفضل الناس بعد الأنبياء، وذلك لحرصهم على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم درجات ومقامات بحسب عبادتهم والتزامهم. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص 49 2 - صوفية الأرزاق: وهم الذين تركوا السعي على الرزق وكسب المعاش واكتفوا بما يجود به الناس عليهم من الصدقات، وعليهم توقف الأوقاف الخيرية، وتبنى لهم التكايا، وبعضهم يعزف عن الزواج، وهم حريصون على الزهد والعبادة وتظهر عليهم الذلة والمسكنة بخلاف أرباب صوفية الحقائق الذين يكسبون أرزاقهم بالعمل والسعي وراء الرزق. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص49 3 - صوفية الرسم: وهم قوم اقتصروا على الانتساب إلى الصوفية، وتزيوا بزي الصوفية، وحرصوا على لبس المرقعات، وهم لا يلتزمون بطريقة صوفية ولا يتابعون شيوخهم، ولا يحرصون على العبادات ولا يزهدون في الدنيا كسابقيهم. والناظر إليهم يظنهم زهاداً، ومن تعامل معهم ونظر إلى أعمالهم، وجدهم ليسوا من التصوف في شيء. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص49 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 484 المطلب الثاني: بالنظر إلى جهة الاعتقاد 1 - السلفية: وهم الزهاد الذين آمنوا بما آمن به السلف وساروا على نهجهم. حيث قال عنهم ابن تيمية رحمه الله: والثابت الصحيح عن أكابر المشايخ يوافق ما كان عليه السلف وقد نقل عن كثير منهم بالأسانيد المتصلة ما يدل على تمسكهم بالكتاب والسنة وعقيدة السلف وهم أمثال الجنيد بن محمد والفضيل بن عياض وسهل بن عبد الله التستري وأبو سليمان الداراني وغيرهم كثير. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص 50 2 - الأشعرية: ويقصد بهم الذين سلكوا طريق أبي الحسن الأشعري من مشايخ الصوفية القائلين بأن الله يتكلم بلا حرف ولا صوت والذين يؤولون الصفات الخبرية، مع أن بعضاً من مشايخ الصوفية كانوا ينكرون على من اتبع طريقة الكلاّبية والأشاعرة، حيث نقل عن القشيري قوله: فإن هؤلاء المشايخ مثل أبي العباس القصاب له من التصانيف المشهورة في السنة ومخالفة طريقة الكلابية والأشعرية ما ليس هذا موضعه، وكذلك سائر شيوخ المسلمين من المتقدمين والمتأخرين، الذين لهم لسان صدق في الأمة. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص 50 3 - الحلولية والاتحادية: وهم الذين يقولون بالحلول والاتحاد بحيث تكون أحد الذاتين وعاءً للأخرى، وحقيقة مذهبهم أن وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى، وليس وجودها غيره، ولا شيء سواه، ويقصدون أن الأول هو وجود الحق " الحال " والثاني وجود المخلوق " المحل ". وأمثال هؤلاء محيي الدين بن عربي، والحلاَّج، وابن سبعين. وهؤلاء القوم يقرب قولهم من قول الجهمية الذين يقولون إن الله في كل مكان. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص 50 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 485 المبحث الثاني: تقسيم الشوبكي للتصوف • المطلب الأول: التصوف السني . • المطلب الثاني: التصوف البدعى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 486 المطلب الأول: التصوف السني والمراد بهذا النوع من التصوف هو ما كان قرين الزهد والتقلل من متاع الدنيا وملذاتها وهو امتداد لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وإن كان هذا الزهد لم يعرف باسم التصوف إلا في أواخر القرن الثاني الهجري فإن أصله ومعناه وحقيقته كان معروفاً في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حث على ذلك القرآن الكريم في كثير من آي الكتاب الحكيم قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر:5]. وقال تعالى: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:65].وكذلك كثر ذكر الزهد في كتب الحديث والسنن وكثرت أبوابه، والناظر فيها يجدها قد اشتملت على أبواب كثيرة مثل باب الزهد في الدنيا، باب فضل الجوع، باب القناعة والعفاف، باب فضل البكاء من خشية الله والناظر في هذه الكتب يجد كثيراً من الأحاديث والآثار الواردة في الزهد ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ((ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بما يرجع)) (1) وقوله صلى الله عليه وسلم ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: ((إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك)) (2). لذا لم يكن مستغرباً أن يزهد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم في دنياهم، ولا تابعوهم والسلف الصالحين. ولم يكن الزهد عن قلة المال وإنما الزاهد هو من جاءه المال فزهد فيه وأنفقه ولم يجعله كل همه. مصادر التصوف السني: 1 - القرآن الكريم: والقرآن الكريم هو الأساس الذي يستمد منه كل علم شرعي شرعيته، وعليه يعتمد أهل الحق في التمسك بحقهم. كما أن القرآن الكريم هو الكتاب الخاتم وهو الكامل الشامل كما قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ٌ [المائدة:3]. لذلك لم يهمل القرآن الدعوة إلى الزهد والتقلل من متاع الحياة الدنيا التي يضرب لها مثلاً بقوله: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس: 24]. وقال أيضاً: وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف:45 - 46]. 2 - السنة النبوية:   (1) رواه مسلم (2858). (2) رواه البخاري (6416). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 487 والمصدر الثاني من مصادر هذا الدين هو السنة النبوية، لذا فإن الناظر في كتب السنن وفى شمائل النبي صلى الله عليه وسلم يجدها مليئة بالدعوة إلى الزهد وإليك بعض المختارات من بستان النبوة الذي يعج ويحفل بوصف الدنيا ودنوها لطالبيها وأنها مزرعة الآخرة ولا تغنى عن الآخرة شيءاً. قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الدنيا حلوة خضرة، وان الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون؟ فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) (1).وقال: ((فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)) (2).وقال مبيناً تعاسة من تمسك بها وشغل نفسه بها: ((تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وان لم يعط لم يرض)) (3). وقال: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)) (4).وكان يقول: ((ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله تعالى وما والاه وعالم ومتعلم)) (5) ولقد كان محمد صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا، كيف لا وقد كانت تأتيه مرغمة فيردها إلى من هو دونه وينفقها، وقد قال: ((لو كان لي مثل أحد ذهباً لسرني أن لا تمر على ثلاث ليال وعندي منه شيء أرصده لدين)) (6).ويقول النعمان بن بشير رضي الله عنه يصف حال النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك عنه قال: ((لقد رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم، وما يجد من الدقل (رديء التمر) ما يملأ به بطنه)) (7).وفى حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام على حصير فأثرّ في جنبه فقال له أصحابه رضى الله عنهم: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاءً. فقال: " ما لى وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلاّ كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها)) (8) وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليالٍ حتى قبض)) (9). وفي رواية أخرى ((ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض)) (10).و ((ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته ديناراً ولا درهماً، ولا عبداً ولا أمةً ولا شيئا إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه، وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقة)) (11). هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا أن نتأسى به ونقتفي أثره لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [الممتحنة:6]. 3 - آثار الصحابة والتابعين:   (1) رواه مسلم (2742) (2) رواه البخاري (3158) ومسلم (2961) (3) رواه البخاري (2886) (4) رواه الترمذي (2320) والحاكم (4/ 341) (7847) والطبراني (5850) قال الترمذي ((صحيح غريب)) من هذا الوجه، وقال الحاكم صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي يقوله زكريا بن منظور ضعفوه، وصححه الألباني بمجموع طرقه كما في ((الصحيحة)) (686) (5) رواه الترمذي (2322) وابن ماجه (4112) من حديث أبي هريرة وقال الترمذي حسن غريب، وحسنه ابن القيم في ((عدة الصابرين)) (1/ 260) والألباني في ((الصحيحة)) (2797) (6) رواه البخاري (2389) (7) رواه مسلم (2977) (8) رواه الترمذي (2377) وابن ماجه (4109) وأحمد (1/ 301) (2744) وابن حبان (6352) والحاكم (4/ 344) (7858) قال الترمذي حسن صحيح وقال الحاكم صحيح على شرط البخاري، وقال الهيثمي في ((المجمع)) (10/ 326) رجال أحمد رجال الصحيح غير هلال بن خباب وهو ثقة، وصححه الألباني (9) رواه البخاري (5416) ومسلم (2970) (10) رواه مسلم (2970) (11) رواه البخاري (2739) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 488 عند الرجوع إلى أحوال الصحابة رضي الله عنهم والتابعين نرى فيهم التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم بترك متاع الدنيا وزخرفها. فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين وليَّ الخلافة دفع كل ما له في بيت مال المسلمين، فلما سئل عن ذلك قال: كنت أتجر فيه فلما وليتموني شغلتوني عن التجارة وحين وليَّ الخلافة خرج إلى السوق ليعمل فقال له الصحابة رضي الله عنهم: نفرض لك ففرضوا له قوت رجل من المهاجرين ليس بأفضلهم ولا بأوكسهم، فكان له برداه للصيف والشتاء إن أخلقهما " أي قَدِمَا " وضعهما وأخذ مثلهما وظهره إذا سافر، ونفقته على أهله كما كان ينفق عليهما قبل أن يُستخلف، فقال أبو بكر رضي الله عنه قد رضيت. وكان عمر رضي الله عنه على درب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه فحين فتحت عليه الدنيا كلمتاه عائشة وحفصة رضي الله عنهما في تغيير جبته التي كانت فيها اثنتا عشرة رقعة ويقدم له طعام يأكل منه وأضيافة، فأبا وقال إن له أسوة بصاحبيه فلا يجمع بين أُدمين إلا الملح والزيت، ولا أكل لحماً إلا في كل شهر ينقضي ما انقضى من القوم ولما قدم له ماء قد شيب بعسل فقال: إنه لطيِّب وقال: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا [الأحقاف:20]. فأخاف أن تكون حسناتنا عجلت لنا فلم يشربه ". وفي البداية والنهاية لابن كثير أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج بسيفه إلى السوق وقال: من يشتري مني سيفي هذا فلو كان عندي أربعة دراهم أشتري بها إزاراً ما بعته. ورضي الله عن أبي الدرداء إذ يقول: والذي نفس أبي الدرداء بيده ما أحب أن لي اليوم حانوتاً على باب المسجد، لا يخطئني فيه صلاة، أربح فيه كل يوم أربعين ديناراً وأتصدق بها كلها في سبيل الله. قيل له: يا أبا الدرداء وما تكره في ذلك؟ قال: شدة الحساب. والمتبع لقصص الصحابة في (الحلية)، و (كنز العمال)، و (البداية والنهاية)، وكتب السنن يجد الشيء الكثير من ذلك وكذلك قصص التابعين. من أعلام التصوف السني: 1 - إبراهيم بن أدهم (199) بن منصور البلخي التميمي كنيته أبو اسحق، كان أبوه من ملوك خراسان وكان موسراً، وعاش مترفاً منعماً، وقد خرج إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه للصيد فسمع صوتاً يناديه فالتفت إليه فلم ير شيئا وتكرر ذلك معه، ثم قال له المنادى: ما لهذا خلقت ولا بذا أمرت فعزم أن لا يعصي الله تعالى بعد ذلك ورجع إلى بيته فترك فرسه وعمد إلى أحد رعاة أبيه فأخذ منه جبةً وكساءً وتخل عن ثيابه وترك المتع. خرج إلى العراق وإلى الشام طلباً للعمل وللرزق الحلال وتجول فيها وكان يأكل من عمل يده، كان يعمل بالحصاد وجني الثمار وحفظ البساتين والحمل والطحن، وكان إذا أنهي عمله قبل أن ينام ينادي في الناس من يريد أن يطحن؟ فيأتيه الناس فيطحن لهم بلا كراء. أخذ عن كثير من علماء العراق والحجاز، وكان قد تفقه، وكان يشترك مع الغزاة في قتال الروم. وكان يتكلم الفصحة ولا يلحن في العربية، وكان إذا وقف سفيان الثوري في مجلسه يعظ أوجز مخافة الزلل. كان يلبس في الشتاء فرواً لا قميص تحته، وفى الصيف لا يتعمم ولا يحتذي، وكان يصوم في السفر والإقامة. ولما سئل كم لك في الشام؟ قال: أربعة وعشرون عاماً، ولما سئل ما جاء بك إليها قال: لأشبع من خبز الحلال. عمل في أحد البساتين سنين، فجاءه صاحب البستان وطلب منه رماناً حلواً فجاءه به فوجده حامضاً فقال له: تأكل فاكهتنا سنين ولا تميز الحلو من الحامض. فأقسم أنه ما أكل فاكهتهم ولا يميز الحلو من الحامض. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 489 وجاءه عبد لأبيه يحمل له عشرة آلاف درهم، ويخبره أن أباه قد مات في بلخ وخلف له مالاً كثيراً، فأعتق العبد ووهبه الدراهم ولم يعبأ بمال أبيه. هذا هو إبراهيم بن أدهم الذي ترك الدنيا ومتاعها طلباً لبحبوحة الجنة وقد توفي رحمه اللهسنة 161هـ -778م. وأخباره كثيرة وفيها اختلاف في مسكنه ونسبته ووفاته. 2 - عبد الله بن المبارك (200): هو عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي بالولاء التميمي المروزي، يكنى بأبي عبد الرحمن وهو شيخ الإسلام، كان من الربانيين في العلم الموصوفين بالحفظ المذكورين بالزهد وقد جمع الحديث والفقه والعربية، وأيام الناس والشجاعة والتجارة، والمحبة عند الفرق، كان من سكان خراسان ولد سنة 118 هـ، سمع سفيان الثوري وشعبه والأوزاعي والليث بن سعد، أفنى عمره في الأسفار حاجاً وتاجراً ومجاهداً، كان سخياً، وكان يقضي الدين عن المدينين، ويسعى في فك المحبوس، له كتاب في الجهاد وهو أول من صنف فيه. مات بهيت على الفرات منصرفاً من غزو الروم سنة 181هـ. قال الأوزاعى: لو رأيت ابن المبارك لقرت عينك. وقال سفيان الثوري: لو جهدت جهدي أن أكون في السنة ثلاثة أيام على ما عليه ابن المبارك لم أقدر. قال ابن المبارك: زيادة دنياكم بنقصان آخرتكم، وزيادة آخرتكم بنقصان دنياكم. وكان يقول: أحب الصالحين ولست منهم، وأبغض الطالحين وأنا شرٌ منهم. وقال: الصمت أزين للفتى من منطق في غير حينه، والصدق أجمل بالفتى في القول عندي من يمينه. وسئل ابن المبارك مَنْ الناس؟ قال العلماء: فمن الملوك؟ قال: الزهاد. فمن سفلة الناس؟ قال: الذين يعيشون بدينهم. 3 - الفضيل بن عياض (201): الفضيل بن عياض التميمي من بني يربوع ولد بخراسان، قدم الكوفة وهو كبير كان ثقة ثبتاً فاضلاً عابداً ورعاً، وكان من شدة الخوف نحيفاً. كان كثير الحديث وسمع الحديث من منصور بن المعتمر وغيره، وروى عنه ابن المبارك والشافعي وبشر الحافي وغيرهم. ثم تعبد وانتقل إلى مكة وكان لا يقبل هدايا الدولة. وتوفى بمكة المكرمة سنة 187هـ في خلافة هارون الرشيد وكان ذلك يوم عاشوراء، وقد نيف على الثمانين عاماً. قال هارون الرشيد: ما رأيت في العلماء أهيب من مالك ولا أورع من الفضيل. وقال إبراهيم بن الأشعت: كان الفضيل إذا ذكر الله، أو ذُكر عنده، أو سمع القرآن ظهر به من الخوف والحزن وفاضت عيناه وبكي حتى يرحمه من بحضرته. وقال: كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة يعظ ويذكر ويبكي كأنه يودع أصحابه ذاهب إلى الآخرة فإذا وصلنا المقبرة جلس كأنه بين الموتى. قال عبد الله بن المبارك: إذا مات الفضيل ارتفع الحزن. وللفضيل أقوال كثيرة في كتب التراجم منها: " من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة " " ليس من عبد أُعطي شيئا من الدنيا إلا كان نقصاناً له من الدرجات في الجنة " " ليست الدار دار إقامة وإنما أُهبط آدم إليها عقوبة " " لو خيرت لاخترت أن أعيش كلباً وأموت كلباً ولا أرى يوم القيامة " وكان رحمه الله يكثر من صلاة الليل فيلقى إليه حصير فإذا غلبته عيناه استلقى عليه ثم يفيق يصلي 4 - معروف الكرخي (202): هو معروف بن فيروز " الفيرزان " الكرخى أبو محفوظ ولد في كرخ بغداد ونشأ فيها، كان أبواه نصرانيين فأسلماه إلى مؤدبهم فكان يقول له: قل ثالث ثلاثة فيقول: بل هو الواحد فيضربه معلمه ضرباً مبرحاً فهرب وأسلم على يد على بن موسى الكاظم. وكان أبواه يقولان ليته يرجع على أي دين فنتبعه فرجع إليهما مسلماً فأسلما. وكان مولى من موالي علي بن موسى الكاظم وكان يحجبه فكثر الزحام فضغطه الناس فتكسرت أضلاعه فمات ببغداد سنة 200هـ. لما حضرته الوفاة قيل له: أوصى. فقال: أوصى بقميصي إذا مت فتصدقوا به أريد أن أخرج منها عرياناً كما دخلتها. وقبره ببغداد مشهور ويزار ويستشفع به ويتبرك به ويستسقى به " وهذا لا يصح " وكان رحمه الله مشهوراً بالصلاح مستجاب الدعوة حريصاً على الحق، ذات يوم مر بسقاء يقول رحم الله من يشرب وكان صائماً فشرب طمعاً ببركة دعائه. قال رجل لمعروف الكرخى: ما شكرت معروفي. فقال: وقع معروفك من غير محتسب عند غير شاكر. وقال معروف الكرخى: " طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور وارتجاء رحمة من لا يطاع جهل وحمق ". المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص 50 - 59 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 490 المطلب الثاني: التصوف البدعى وهذا التصوف خليط من التصوف الإسلامي والتصوف الجاهلي، وقد يكون رجاله أهل علم وأصحاب نوايا حسنة، وأثرت فيهم العادات السائدة في عصرهم وخاصة ما فيها من بدع. بعضهم حاول إصلاح الطرق فلم يستطع فاضطروا إلى تأويل أعمالهم التي هي في الظاهر مخالفة لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليوهموا الناس بأنها لا تعارض النصوص الشرعية وليسلموا من الطعون والانتقادات الموجهة إليهم. وهؤلاء القوم ليس لهم تطلع لإقامة دين الله تعالى في الأرض بل هم يشغلون أنفسهم بأمور أهمها: 1 - الاشتغال بالأذكار والأوراد وغالباً ما تكون طريقتهم في الذكر غير مطابقة للسنة بل تشتمل على بعض البدع، كأن يكون الذكر بصورة جماعية، ويسبق بعضهم بعضاً مما يجعل المسبوق يترك بعض الكلمات التي تخل بالمعنى، إضافة إلى الحركات المصطنعة التي يحدثونها أثناء الذكر من التمايل والقفز والتراقص. كما أن أورادهم غالباً ما تشتمل على الاستشفاع والتوسل بالأولياء والصالحين والاستعانة بالمقبورين، والاستغاثة بهم والتوجه إليهم بالدعاء. 2 - التربية والتزكية عن طريق النوافل، فهم غالباً يحرصون على الإكثار من صيام التطوع فبعضهم يتحرى صيام المندوبات والبعض يصوم زيادة على ذلك. وكذلك الصلوات فهم يكثرون من صلاة النافلة وقيام الليل بل يجعلوا لكل ليلة قيامًا مخصوصاً وتلاوة مخصوصة، ولا يجوز تخصيص يوم أو ليلة بعبادة مخصوصة إلا بدليل. 3 - البيعة يهتم كثير من أصحاب الطرق الصوفية البدعية بأخذ البيعة من المريد وتكون البيعة على الطاعة المطلقة لشيخه، دون الاعتراض عليه. والطاعة المطلقة لا تصح إلا للمعصوم عليه السلام وكل بيعة لغيره يجب أن تكون مقيدة في حدود عدم المعصية لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فإنه ((لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف)) (1). أبرز ما يميز هذا النوع من التصوف هو الوقوع في البدع. أقسام البدعة: البدعة تنقسم إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة: 1 - البدعة الحسنة أو السنة الحسنة وهي تكون في الجوانب الحياتية والتقدم العلمي التجريبي وفى الأمور التي تخضع للمصالح المرسلة "المصالح العامة التي لا نص فيها " كعمل صندوق للصدقات وبناء المستشفيات والمدارس التعليمية وما شابه ذلك. 2 - البدعة السيئة وهي كل محدثة في دين الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة)) (2). وقد وقع الصوفية في كثير من البدع والشركيات منها. ما يكون من غلاة عباد القبور الذين يزعمون أن أرواح الأولياء تتصرف بعد الموت فيقضون الحاجات ويفرجون الكربات وينصرون من دعاهم ويحفظون من التجأ إليهم ولاذ بحماهم، فإن هذه من خصائص الربوبية   (1) رواه البخاري (7257) ومسلم (1840) (2) رواه الترمذي (2676) والطبراني (15328) قال الترمذي حسن صحيح، وصححه العراقي في ((الباعث على الخلاص)) (1) والألباني في ((صحيح الترمذي)) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 491 والذين يجعلون مع الله نداً يدعونه كما يدعو الله تعالى ويسألونه الشفاعة كما يسألون الله تعالى، ويحبونه كما يحبون الله تعالى. وقد حذر صلى الله عليه وسلم مما هو أدنى من ذلك فحين قيل له عليه السلام " ما شاء الله وشئت ". قال: ((أجعلتنى لله عدلاً (نداً) بل ما شاء الله وحده)) (1).ومن ذلك أيضاً التبرك بالأماكن والأشخاص والأشجار وغير ذلك، وقد طلب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم شيئا من ذلك وهم حديثوا عهد بكفر وذلك حين خرجوا لغزوة حنين فمروا " بشجرة " بسدرة للمشركين يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط قالوا: اجعل لنا شجرة كذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الله أكبر إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138] إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم)) (2). ومن ذلك الذبح للأولياء والصالحين، وتقديم القرابين لهم، والذبح عند قبورهم. وقد نهي الله تعالى عن ذلك وحذر من الوقوع في ذلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162 - 163] وقال تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2] وقال صلى الله عليه وسلم ((لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من غير منار الأرض)) (3).وقد نهي صلى الله عليه وسلم عن الذبح عند الأوثان أو في أماكن يقام فيها عيد جاهلي وذلك حين سُئل عن رجل نذر أن يذبح إبلاً بأحد الأماكن فقال صلى الله عليه وسلم: ((هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية يعبد)) فقالوا: لا، قال: ((فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟)) قالوا: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم)) (4). ومنها الاستعاذة بالمقبورين والصالحين من الأولياء الذين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً. والاستعاذة معناها الالتجاء والاعتصام والتحرز والهرب من شيءٍ تخافه إلى من يعصمك منه. وقد أمرنا المولى عز وجل أن نستعيذ به قال تعالى: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36] وقال أيضاً: وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ [المؤمنون:97 - 98] وقال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]. ومنها الاستغاثة بغير الله تعالى والاستغاثة طلب الغوث لإزالة الشدة كالاستنصار طلب النصرة، والاستغاثة تمتاز عن الدعاء بأنها لا تكون إلا من المكروب قال تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال:9]   (1) رواه أحمد (1/ 283) (2561) والنسائي في ((الكبرى)) (6/ 245) قال العراقي في تخريج ((الإحياء)) (3048) إسناده حسن وقال أحمد شاكر في تحقيق الطبري (1/ 369) إسناده صحيح (2) رواه بهذا اللفظ الطبراني (3292) ورواه الترمذي (2180) وأحمد (5/ 218) (21947) وقال الترمذي حسن صحيح وكذلك صححه الألباني (3) رواه مسلم (1978) (4) رواه أبو داود (3313) والطبراني (1342) والبيهقي في الكبرى (10/ 83) وصححه الألباني الجزء: 6 ¦ الصفحة: 492 فقد وقع كثيرٌ من الصوفية والعوام في ذلك فمنهم من يدعو شيخه عند اشتداد الكروب فيقول: يا علي، ويا عبد القادر، ويا بدوي وأدى الغلو إلى أكثر من ذلك منهم من يسألهم الجنة وغفران الزلات حتى زعم أحدهم أن شيخة يجلس عند النار فلا يدع أحداً استغاثه يدخلها ونسجوا كثيراً من القصص المكذوبة فزعموا أن فلاناً استغاث شيخه فأغاثه، أو دعا الولي الفلاني فأجابه أو فرج كربته وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَومِ الْقِيَامَةِ [الأحقاف:5]. وممن وقع في ذلك البوصيري حيث قال: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم ولا يضيق رسول الله جاهك بي ... إذ الكريم تحلى باسم منتقم فإن لي ذمة منه بتسميتي ... محمداً وهو أوفى الخلق بالذمم إن لم يكن في معادي آخذاً بيدي ... فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم فقد وقع البوصيري بأخطاء كثيرة في أشعاره هذه منها: - 1 - إنه نفى أن يكون له ملاذ إذا حلت به الخطوب إلا الرسول عليه السلام وليس ذلك إلا لله. 2 - تضرع للرسول عليه السلام وناداه ودعاه وطلب منه أموراً لا تطلب إلا من الله عز وجل. 3 - طلب منه الشفاعة عندما يريد الله تعالى الانتقام ولا يمنع ذلك أحد. قال تعالى لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ [الزمر:19]. 4 - ادعى أن له ذمة لأن اسمه محمد وهذا غير صحيح لأنه ليس بين الرسول عليه السلام ومن اسمه محمد ذمة إلا بالطاعة، وكم من الطغاة من سماه أهله بمحمد. 5 - زعم أنه لا خلاص له إلاّ إذا تفضل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذ بيده يوم القيامة، والخلاص والنجاة يوم القيامة تكون بفضل الله عليه. وكذلك البرعي وقع في شيء من ذلك في قوله: أرجوك في سكرات الموت أن تشهدني ... كيما يهون إذ الأنفاس في صعد وإن نزلتُ ضريحاً لا أنيس به ... فكن أنيس وحيد فيه منفرد وقال أيضاً: يا سيدي يا رسول الله يا أملي ... يا موئلي يا ملاذي يوم يلقاني هبني بجاهك ما قدمت من زلل ... جوداً ورجح بفضل منك ميزاني واسمع دعائي واكشف ما يساورني ... من الخطوب ونفّس كل أحزاني فأنت أقرب من ترجى عواطفه ... عندي وإن بعدت داري وأوطاني فقد وقع البرعي بأبياته هذه في أخطاء عدة منها: - 1 - أنه يستغيث بالرسول عليه السلام ويطلب حضوره عند موته ليهون عليه سكرات الموت وهذا ليس إلا لله عز وجل. 2 - وطلب من الرسول عليه السلام أن يؤنس وحشته في قبره وليس للعبد أنيس إلا العمل الصالح. 3 - وطلب منه أن يرجح ميزانه يوم القيامة ولا يرجح الميزان إلا الإخلاص والعمل الصالح 4 - وطلب منه عليه السلام أن يكشف عنه الضر والكربات ويهون عليه الحزن والخطوب. 5 - وهو الذي يرجو عاطفة الرسول صلى الله عليه وسلم مهما بعدت الدار والرسول صلى الله عليه وسلم لا يرجى بعد موته. 6 - زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أقرب من يرجى، والله تعالى هو القريب المجيب وليس الحبيب محمد عليه السلام بعد وفاته. ومن الأخطاء التي وقع فيها القوم التوسل. والتوسل هو اتخاذ الوسيلة وهي الطريقة التي توصل إلى المطلوب " المرغوب". الوسائل نوعان كونية وشرعية: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 493 1 - الوسيلة الكونية: وهي كل سبب طبيعي يوصل إلى المقصود بخلقته التي خلقه الله بها ويؤدي إلى المطلوب بما أودعه الله فيه من سنن كالماء فهو الوسيلة إلى ري الظمآن والطعام هو الوسيلة لحصول الشبع للجائع، والملابس تحفظ الإنسان من حرارة الشمس وبرد الشتاء، واستعمال الزراعة والري للحصول على الغذاء والزواج وسيلة لحصول الذرية وهي مشتركة بين المؤمن والكافر من غير تفريق ويشترط لاستعمالها شرطان أن تكون مباحةً شرعاً، وثبت بالتجربة وغالب الظن تحقق المطلوب بها. 2 - والوسيلة الشرعية: وهي كل سبب يوصل إلى المقصود عن طريق ما شرعه الله تعالى وبينه في كتابه وسنة نبيه وهي خاصة بالمؤمن المتبع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. - فالوضوء والغسل والتيمم وسيلة لحصول الطهارة، والامتناع عن الطعام وسيلة لحصول الصيام والنطق بالشهادتين والعمل بمضمونها وسيلة لحصول مرضاة الله تعالى والفوز برحمته ودخول الجنة، وإتباع السيئة الحسنة وسيلة إلى محو السيئة، وقول الدعاء المأثور بعد الأذان وسيلة إلى نيل الشفاعة، وصلة الرحم وسيلة لطول العمر وسعة الرزق. ويشترط فيها ثبوتها بالشرع الحنيف. فهذه القضايا السابقة تحقق تلك الغايات والمقاصد عن طريق الشرع وحده، لا عن طريق العلم والتجربة أو الحواس، فنحن لم نعلم أن صلة الرحم تطيل العمر وتوسع الرزق إلا من قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه)) (1). التوسل المشروع لا يتم إلا بأحد أنواع ثلاثة: - 1 - التوسل باسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته. 2 - التوسل بعمل صالح قام به الداعي. 3 - التوسل بدعاء رجل صالح. النوع الأول: التوسل باسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته: قال الله تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] ومنه ما ورد في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أحد أدعيته ((اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)) (2).وفي الحديث من كثر همه فليقل ((اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك ماض فيَّ حكمك عدل فيَّ قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي " إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجاً)) (3) وفي الحديث، ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني)) (4). النوع الثاني: التوسل إلى الله بصالح الأعمال: وهو أن يتوسل الإنسان بصالح أعماله إلى الله عز وجل لأن هناك مناسبة بين توسل الإنسان إلى الله وبين عمله الصالح الذي أخلص به لوجه الله تعالى والدليل على صحة ذلك ما ورد في القرآن الكريم قال تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16] وقال تعالى: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:53].   (1) رواه البخاري (5986) ومسلم (2557) (2) رواه النسائي (1305) وأحمد (4/ 264) (18351) وابن حبان (1971) وصححه الألباني (3) رواه أحمد (1/ 391) (3712) وابن حبان (972) والحاكم (1877) قال الهيثمي في ((المجمع)) (10/ 136) رجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهنى وقد وثقه ابن حبانوصححه الألباني في ((الصحيحة)) (199) (4) انظر صحيح مسلم (2717) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 494 وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((انطلق ثلاثة رجال ممن كان قبلكم، فآواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار. فقالوا: والله لا ينجينا من هذه الصخرة إلا أن ندعوا الله بصالح أعمالنا. فقال أحدهم: كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فعاقني طلبُ يوماً، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما، فجئتهما به فوجدتهما نائمين، فتحرجت أن أوقظهما، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فقمت والقدح بيدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما .. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فأفرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة انفراجاً لا يستطيعون الخروج منه. وقال الثاني: " اللهم لقد كانت لي ابنة عم، كانت أحب الناس إلى، فراودتها عن نفسها فامتنعت، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها مائة وعشرين ديناراً على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها، قالت: لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجتُ من الوقوع عليها وانصرفت عنها وهي أحب الناس إلى، وتركت المال الذي أعطيتها إياه. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج. ثم قال الثالث: " اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجورهم، غير رجل واحد منهم، ترك أجره وذهب، فثمرت أجره، فجاءني بعد حين، فقال يا عبد الله أدِّ إلى أجرتي، فقلت له: إن أجرتك هي كل ما ترى من الإبل والغنم والبقر والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئُ بك، ورويت له القصة، فأخذ ذلك كله فاستاقه، ولم يترك منه شيءاً. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا من الغار يمشون)) (1) وهذا حديث صحيح. وهذا الحديث يدل على صحة أعمالهم فيها وإن الله قبلها وقبل دعاءهم وتوسلهم بصالح أعمالهم. النوع الثالث: التوسل بدعاء الصالحين: وهو كأن يقع المسلم في ضيق شديد أو تحل به مصيبة كبيرة ويعلم من نفسه التفريط في جنب الله تعالى فيحب أن يتقرب إلى الله بسبب قوي، فيذهب إلى رجل حيث يعتقد فيه الصلاح والتقوى والعلم والفضل فيطلب منه أن يدعو له ربه أن يكشف عنه الضر ويفرج كربه. ومن ذلك توسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بدعاء العباس رضي الله عنه والاستسقاء به حيث قال: (اللهم إنّا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنّا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون) (2). والمراد أن عمر رضي الله عنه كان يقول للعباس رضي الله عنه قم فاستسق لنا ربك فيدعو لهم فيسقيهم الله تعالى. ومن ذلك أن معاوية رضي الله عنه دعا يزيد بن الأسود يستسقي لهم فدعا لهم ودعا الناس فسقاهم الله. وأما الشفاعة فهي شبيهة بالتوسل وليس لأحد أن يشفع عند الله تعالى إلا بإذنه لقوله تعالى: مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن شفاعته بأن الله عز وجل يحد له حداً ويقول له اشفع في هؤلاء فيشفع (3) وأما الشفاعة في الدنيا فيجوز للإنسان أن يشفع شفاعة حسنة. ولا تصح الشفاعة في ظلم ولا في حد من حدود الله لقوله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد مستنكراً ((أتشفع في حد من حدود الله، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها)) (4).   (1) انظر ((صحيح البخاري)) (2272) (2) رواه البخاري (1010) (3) رواه البخاري (4476) (4) رواه البخاري (3475) ومسلم (1688) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 495 والشفاعة في الآخرة لا تطلب إلا من الله تعالى فليس لأحدنا أن يطالب أو يرجو الشفاعة من أحد حتى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يطلب ذلك من الله تعالى فيقول اللهم ارزقنا شفاعته. وأما ما ورد في حديث الضرير حين توضأ وصلى ركعتين، وكان من دعائه بعدهما عن محمد صلى الله عليه وسلم اللهم شفع فيَّ محمداً وشفعني فيه، فالمراد من قوله اللهم تقبل دعاءه لي ودعائي له، فيكون المراد أيضاً طلب استجابة دعاء كلٍ منهما من الله عز وجل. وأما الأحاديث الأخرى الواردة وتشمل على السؤال بحق النبي، أو بجاه النبي أو بحق السائلين فلا يقوى منها حديث لدرجة الصحة، فكلها بين الضعيف والموضوع. من أبرز رجال التصوف البدعي: البوصيري: هو محمد بن سعيد بن حماد بن عبد الله الصنهاجي البوصيري المصري كنيته أبو عبد الله ولقبه شرف الدين، وهو شاعر مليح المعاني حسن الديباجة. والبوصيري نسبة إلى " أبو صير " من أعمال بني سويف بمصر، وأمه منها، وأصله من المغرب، وتوفى بالإسكندرية. عاش بين عامي 608– 696هـ، 1212– 1296م. له ديوان شعر وأشهر أشعاره البردة. وسميت البردة بهذا الاسم – كما زعموا - لأن البوصيري أصيب بشلل نصفي، فأنشدها فرأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام فألقى عليه بردته فبرئ، وكان بعض الفقراء إذا مرض قرأ البردة فبرئ والله أعلم. وهذا لا يصح شرعاً لاشتمال البردة على مغالطات شرعية وعقدية ولا يصح عقلاً. البرعي: وهو عبد الرحيم بن أحمد بن علي البرعي اليماني، وهو شاعر متصوف من سكان اليمن، درس العلم وأفتى ودَرَّسَ، له ديوان شعر مطبوع أكثره في المدائح النبوية، ينسب إلى برع بتهامة، توفيَّ سنة 803هـ – 1400م. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص59 - 70 المطلب الثالث: التصوف الفلسفي (الباطل) وهو التصوف الذي اختلط بالفلسفات القديمة حتى غلبت عليه أفكار الفلاسفة كالفلسفة الإشراقية والزرادشتية وهو أيضاً يشتمل على رهبانية النصاري، ودردشة الهنادكة، ودخل إليه الشرك أيضاً عن طريق تأثره بالفلسفة اليونانية والرومانية والفارسية. وأصحاب هذا النوع من التصوف تحللوا من شريعة الإسلام ومبادئه ووقعوا في جاهلية عمياء حيث وقعوا في الخرافات والأكاذيب وابتعدوا عن الدعوة إلى الله والوعظ والإرشاد وانقطعوا لاستقبال الهبات والنذور من جهلة القوم. وأبرز الأفكار التي ظهرت عند هؤلاء القوم هي وحدة الوجود والحلول والاتحاد والاعتماد على العلوم الكشفية. والملاحظ أن هذا النوع من التصوف لا يستمد أصوله وأفكاره من مصادر إسلامية لذلك قوبل بمعارضة شديدة من العلماء والأئمة كالغزالي في كتابه (المنقذ من الضلال)، ابن تيمية في (فتاويه)، ابن القيم في (مدارج السالكين)، وابن الجوزي في (تلبيس إبليس). من أبرز رجال التصوف الفلسفي: 1 - الحلاّج (240): هو الحسين بن منصور الحلاج الفارسي ولد بفارس سنة 244هـ البيضاوي البغدادي، جدهُ زاردشتي، صوفي متكلم وله اتصال بالقرامطة له شطحات كثيرة، وأقوال سقيمة منها قوله " ما في الجبة إلا الله " " وأنا الحق " ولا يؤمن بفريضة الحج يقول أبو بكر بن الصولي عنه رأيت الحلاج وخاطبته فرأيت جاهلاً يتعاقل وغبياً يتبالغ وفاجراً يتزاهد وكان مع جهله خبيثاً، وكان متشدداً وعنيداً ومغالياً ويكتنفه كثير من الغموض وقد قتل مصلوباً بفتوى من علماء عصره سنة 309هـ. 2 - ابن الفارض (241): الجزء: 6 ¦ الصفحة: 496 هو عمر بن علي بن المرشد بن علي الحموي الأصل المصري ولد سنة 576هـ، شاعر صوفي لقب بسلطان العاشقين اشتغل بفقه الشافعية أخذ الحديث عن ابن عساكر، وأخذ عنه الحافظ المنذري، حبب إليه سلوك طريق الصوفية كان يعتزل الناس ويأوى إلى المساجد المهجورة والأماكن الخربة. توفى بالقاهرة سنة 632هـ، وله ديوان شعر وشعره ينعق بالاتحاد الصريح. 3 - ابن عربي (242): هو محيي الدين بن محمد بن على بن محمد بن أحمد بن عبد الله الطائي، الحاتمي، صوفي ومتكلم وفقيه وأديب ومفسر، ولد بالأندلس سنة 560هـ كان يلقب بالشيخ الأكبر والكبريت الأحمر، له أراء سقيمة أنكرها عليه كثيرٌ من أهل عصره واتهموه بالزندقة وعمل بعضهم على قتله خاصة في مصر، وحرم الشيخ جلال الدين السيوطي النظر في كتبه، له مؤلفات كثيرة منها الفتوحات المكية، وفصوص الحِكَم، من أقواله: الوجود كله واحد، وجود المخلوقات عين وجود الخالق، وجود الله هو الوجود الحقيقي، وجود العالم هو الوجود الوهمي، ويبني ابن عربي على وحدة الوجود وحدة الأديان وغير فكرة التوحيد بقوله ليس في الوجود على الحقيقة إلا الله ولا معبود في الواقع إلا الله وقد قال عن نفسه كيف يحبس من حل منه اللاهوت في الناسوت. وكانت وفاته عام 638هـ بدمشق ودفن فيها وله قبر يزار في أيامنا هذه. 4 - ابن سبعين (243): هو عبد الحق بن محمد بن نصر الاشبيلي المرسى القرمطي، ولد سنة 614 وتوفى سنة 669 هجرياً، وتوفى منتحراً، قيل أنه فصد الدم من يديه وتركه ينزف حتى تصفى فمات. وهو صوفي وحكيم درس العربية وآدابها بالأندلس. من أقواله السقيمة " لقد كذب ابن أبي كبشة حين قال لا نبي بعدي. ومن مؤلفاته أسرار الحكمة – الحروف الوضعية في الصور الفلكية – جواهر السر المنير. ولا تخلو مؤلفاته من الأقوال الباطلة كان يكثر من القول بوحدة الوجود في مؤلفاته ومواعظه. 5 - شهاب الدين السهروردي (244): هو أبو الفتوح شهاب الدين يحيى بن حبش بن أميرك السهروردي، الملقب بالشيخ المقتول، ولد عام 549هـ في مدينة ميديا المعروفة باسم سهرورد من أعمال زنجان من فارس (العراق العجمي)، تنقل في البلدان، تتلمذ على يد عبد الكريم الجيلي " الجيلاني " شيخ فخر الدين الرازي، طالع كتب ابن سينا وتصوف وتقرب من الملك الظاهر بن السلطان صلاح الدين الأيوبي وحضر مجالسه. اختلف الفقهاء مع السهروردي لقوله (إن الله قادر على أن يخلق نبياً بعد محمد صلى الله عليه وسلم وأمر صلاح الدين ابنه الملك الظاهر بقتله لانحلال عقيدته، وكان ذلك عام 587هـ، كان مستوى القامة يميل إلى سماع الموسيقى، يحتقر من يتقرب إلى السلطان والأبهة الدنيوية، سليط اللسان، لا يحترم الفقهاء والشيوخ، وكان أحياناً يرتدي الخرقة الصوفية والثياب المهلهلة؛ وكان رديء الهيئة ذريء الخلقة لا يغسل له ثوباً ولا يقص ظفراً ولا شعراً. وكان أوحد زمانه في العلوم الحكمية، جامعاً للفنون الفلسفية بارعاً في الأصول الفقهية، مفرط الذكاء، فصيح العبارة، علمه أكبر من عقله، من أقواله حرام على الأجساد المظلمة أن تلج ملكوت السموات .. اللهم خلص لطيفي من هذا العالم الكثيف. وله كثير من المؤلفات بعضها مطبوع مثل: هياكل النور، رسالة في اعتقاد الحكماء، حكمة الإشراق وبعضها مخطوط مثل: المشارع والمطارحات، التلويحات، مقامات الصوفية. وذكر ابن خلدون الاختلاف في اسمه هل هو يحيى أم أحمد أم عمر والمترجم عنده أنه يحيى وذلك لأن جماعة من أهل الفن كتبوه بهذا الاسم. المصدر: مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص70 - 73 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 497 الفصل الثامن: حقيقة التصوف لقد مضى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يعرف عنهم أي سلوك يتميزون به غير اتباع الكتاب والسنة والتشرف بنسبتهم إلى ذلك، غير ملتفتين إلى التنطع في سلوكهم أو مخترعين طرائق ورهبانية مبتدعة. إلى أن أحدث أناس في الدين بدعة التصوف منحرفين عن المنهج السليم، وراحوا يتخبطون في دوائر وهمية وفرق عديدة وأحزاب متناحرة كل حزب بما لديهم فرحون. وقد أخذ كل فريق من هؤلاء يعبر عن التصوف حسب ما يراه، ويطول سرد تلك المفاهيم والتعبيرات والأقوال التي صدرت عن أقطاب هؤلاء؛ كالجريري، والجنيد، وعمرو بن عثمان المكي، ومحمد بن علي القصاب، ومعروف الكرخي، والسهروردي، والشبلي، والشاذلي، والتجاني، والبسطامي، وابن عربي، وابن الفارض وغيرهم. ولهذا فإن العلماء لم يتفقوا علي بيان محدد لمفهوم التصوف عند الصوفيين؛ ذلك لإطلاق هؤلاء الصوفية عبارات شتى حسب ذوق كل فريق، وتخيلاته لمفهوم التصوف، إلا أن الحصيلة العامة لأقوالهم تلتقي حول أن التصوف هو: القرب من الله، وترك الاكتساب، والتمسك بالخلق الرفيع، والجود، ورفع التكاليف عن بعض فضلائهم حين يتصلون بالله عز وجل علي حد زعمهم، ويصلون إلى درجة اليقين وظهور المكاشفات، ثم هم بعد ذلك درجات في تطبيق هذا المفهوم. ولقد ذكر القشيري في "رسالته" عدداً من الآراء الصوفية في مفهوم التصوف والصوفي، حيث قال: "وتكلم الناس في التصوف ما معناه، وفي الصوفي من هو؟ فكل عبر بما وقع له، واستقصاء جميعه يخرجنا عن المقصود من الإيجاز، وسنذكر هنا بعض مقالاتهم فيه علي حد التلويح". وإذا كان القشيري قد اعتذر عن إيراد كل ذلك لكثرته مكتفياً بذكر بعض مقالاتهم، فإنني أنا كذلك أعتذر عن إيراد كل ما ذكره القشيري لكثرته أيضاً، وأذكر من ذلك ما نقله عن الجنيد أنه قال: "إذا رأيت الصوفي يعني لظاهره فاعلم أن باطنه خراب". وقال القشيري: "سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سئل ابن الجلاء: مامعنى قولهم صوفي؟ فقال: ليس نعرفه في شرط العلم، ولكن نعرف أن من كان فقيراً مجرداً من الأسباب وكان مع الله تعالى بلا مكان، ولا يمنعه الحق سبحانه عن علم كل مكان، يسمى صوفياً". ونقل عن أبي يعقوب المزابلي أنه قال: "التصوف حال تضمحل فيها معالم الإنسانية".وقال القشيري أيضاً: "سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق رحمه الله يقول: أحسن ما قيل في هذا الباب قول من قال: هذا طريق لا يصلح إلا لأقوام قد كنس الله بأرواحهم المزابل (1)؛ ولهذا قال رحمة الله يوماً: "لو لم يكن للفقير إلا روح فعرضها علي كلاب هذا الباب لم ينظر كلب إليها". وعن الأستاذ أبي سهل الصعلوكي أنه قال: " التصوف الإعراض عن الاعتراض". قال القشيري:"ويقال: الصوفي المصطلم عنه (2)، بما لاح له من الحق" (3). وهناك أقوال أخرى ذكرها القشيري كلها تدور حول مدح التصوف وبيان تعلقات الصوفية ومفاهيمهم حول المولي جل وعلا، وحول هذا الكون وواجبات الصوفي واهتماماته الدنيوية والأخروية، صيغت بزخرف من القول وإيغال في الخيال في بعضها، وحكم جيدة في البعض الآخر. وأما السهروردي فقد أورد باباً خاصاً في كتابه (عوارف المعارف) قال فيه: "الباب الخامس في ماهية التصوف"،   (1) هكذا العبارة: أي لا قيمة لهم في نظر الناس. (2) أي المستغرق عن نفسه. (3) ((الرسالة القشيرية)) (2/ 55 - 57). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 498 وقد أكد في هذا الباب علي أن أساس التصوف هو الفقر، حيث قال: "فالفقر كائن في ماهية التصوف وهو أساسه وبه قوامه"، ونقل أقوالاً كثيرة عن صفة هذا الفقر الصوفي، منها: ما قاله الشبلي حين سئل عن حقيقة الفقر فقال: "ألا يستغني بشيء دون الحق".ونقل عن مظفر القرميسني أنه قال: "الفقير الذي لا يكون له إلى الله حاجة" (1) وقال السهروردي: "وقيل: التصوف ذكر مع اجتماع ووجد مع استماع، وعمل مع اتباع"إلى آخر ما ذكر مما قدمناه ذكره عن القشيري، وقد أضاف أوصافاً أخرى لا ضرورة لذكرها (2). وأما حقيقة التصوف وأصله عند غير الصوفية فقد اختلفت وجهة نظر العلماء في الحكم عليه. وأهم ما قيل في ذلك: أن التصوف علي الإطلاق أساسه الإسلام وأن أصوله العقدية وسلوكهم فيه مستمدة من نصوص الكتاب والسنة، وما أدي إليه الاجتهاد في فهمها. وهذا القول قريب من وجهة نظر الصوفية ومفهومهم فيه رغم اعتراف بعضهم بتأثر التصوف ببعض التيارات الفكرية الخارجية عن الإسلام. أن التصوف علي الاطلاق ليس إسلامي النشأة، وإنما وفد علي البيئة الإسلامية مع ما وفد من عادات وتقاليد الأجناس الأخرى بعدما امتزجت واختلطت عقب الفتح الإسلامي (3). وعلى هذا الرأي بعض الملاحظات، فقد ينطبق هذا الرأي علي ذلك النوع من التصوف، الذي قام على أساس من الغلو والانحراف الذي جاء به أصحاب وحدة الوجود والحلول والاتحاد، مع تظاهرهم بالانتساب إلى الإسلام وتقديسهم لنبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، ولعل سبب هذا القول إنما يعود إلى الواقع الذي اشتمل عليه مفهوم التصوف. وقد يبدوا للناظر أنه يوجد لكل من القولين السابقين ما يبررهما في العقائد الصوفية، وأهل هذا القول يرجعون نشأة التصوف إلى أنه فارسي أو هندي أو يوناني أو مسيحي أو أنه مزيج من هذا كله، وعلي رأس هذا الفريق كثير من المستشرقين ومن غيرهم أيضاً. ومما نكتفي بالإشارة إليه هنا بغض النظر عن ترجيح نشأة التصوف وحقيقته أن الطريقة الصوفية قد تأثرت كثيراً بالآراء والأفكار المخالفة للإسلام، حيث تظهر فيها تلك الأفكار واضحة جلية في جوانب كثيرة في الاعتقاد والسلوك، خصوصاً الأفكار الهندية والفارسية واليونانية والمسيحية، كما سيتضح ذلك من دراستنا لهذه الطائفة، بعد أن كان التصوف في بدء أمره عند بعض المسلمين عبارة عن الزهد عن الدنيا والرغبة في الآخرة، وقتل هوى النفس والاتجاه إلى الله، ولبس الصوف لتعويد النفس علي التحمل والمكابدة، إلى أن أخذ يتطور في الانحدار والبعد عن حقيقة الإسلام في كثير من الأمور التي طرقها التصوف؛ فأصبح مذموماً نفر عنه أهل الحق لخلط المتصوفة بين الزهد والتصوف المغالي. إذ الزهد المشروع لم يذمه أحد، وتوجه الذم إلى التصوف رغم تظاهر المتصوفة بالزهد، حتى صار أطيب الطعام عندهم ما كان عن ذل السؤال وحمل الزنبيل والتسول والانزواء في أماكن عبادتهم، وانتظار ما يجود به الناس عليهم، ويظنون أنهم يحققون بذلك التوكل الذي يريده الله، وهم في الحقيقة إنما يحققون التواكل والكسل البغيض عن طلب الرزق وإعزاز النفس، إضافة إلى الابتعاد عن تعاليم الدين الإسلامي الحنيف وما يهدف إليه، من إيجاد اليقين بعزة النفس وكرماتها في الدنيا والآخرة. ومهما قيل عن حقيقة التصوف فإننا سندرس أهم الآراء الصوفية بتفصيل يتضح به الحكم على الصوفية بصورة جلية من واقع كلامهم وسلوكهم إن شاء الله تعالى. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 885   (1) أي لانشغاله بطاعة الله عن طلبه له حسب التفسير الصوفي. (2) انظر: ((عوارف المعارف)) (ص 40 - 44). (3) انظر لمزيد التفصيل: ((الصوفية معتقداً ومسلكاً)) (ص 47 – 48). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 499 الفصل التاسع: مصادر التصوف ومآخذه • المبحث الأول: الزواج . • المبحث الثاني: المسيحية وترك الدنيا:. • المبحث الثالث: الزّاويَةُ وَالملْبَسُ:. • المبحث الرابع: المذاهبُ الهنْديّة وَالفَارسيَّة:. • المبحث الخامس: الأفلاَطونيّة الحَدِيثَة:. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 500 المبحث الأول: الزواج فنبدأ أولا بإبراهيم بن أدهم، وهو من الطبقة الأولى وأئمة التصوف الأوائل، وكثيراً ما تبدأ كتب طبقات الصوفية بذكره واسمه، ولا يخلو كتاب من كتب التصوف وسيرته. ومما يذكر بيانا لشأنه الرفيع ومكانته السامية أنه كان من أبناء الملوك وملكا لبلخ، وتزوج من امرأة جميلة، وله ولد، ولكنه ترك الملك والزوجة والأولاد، وكل من كان يملكه، للنداء الغيبي، أو للقاء الخضر الذي لقنه ذلك، مثل ما ترك بوذا ملكه وزوجته، وابنه وملاذ الدنيا وزخارفها طبقا بطبق، وحذو القذة بالقذة، خلافا لتعاليم الإسلام وأسوة الرسول وسيرة الصحابة، ولا يوجد له أي مثال في الكتاب ولا في السنة، ولا من السلف الصالح ومع ذلك يبجّل الصوفية ذكره، ولذلك يجعلونه قدوة يقتدى، ومثالا يحتذى، ويفتخرون بذكره وأحواله، مع أن أحواله تلك ليست إلا ناطقة بالبوذية المنسوخة الممسوخة التي لم ينزل الله بها من سلطان. فنود أن نورد تلك الحكاية الصوفية الباطلة، من التصوف القديم الأصيل، ومن الصوفي الذي يعدّ من الأعلام والأقطاب مقارنة بقصة بوذا، المنقولة من الكتب البوذية، ولبيان أنها تشتمل على ترهات وأكاذيب فاحشة مكشوفة تنطق بكونها مختلقة موضوعة مكذوبة، وننقل هذه القصة من تذكرة صوفية قديمة (تذكرة الأولياء) لفريد اليدن العطار، مقتبسين ترجمتها العربية من صادق نشأت: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 1 (إن إبراهيم بن أدهم كان ملكا لبلخ، وتحت إمرته عالم، وكانوا يحملون أربعين سيفا من الذهب وأربعين عمودا من الذهب من أمامه ومن خلفه، وكان نائما ذات ليلة على السرير، فتحرك سقف البيت ليلا، كأنما يمشي أحد على السطح، فنادى: من هذا .. ؟ فقال: صديق فقدت بعيرا أبحث عنه على هذا السقف، فقال: أيها الجأهل، أتبحث عن البعير فوق السطح ... ؟ فقال له: وأنت أيها الغافل تطلب الوصول إلى الله في ثياب حريرية وأنت نائم على سرير من ذهب ... ؟ فوقعت الهيبة في نفسه من هذا الكلام، واندلعت في قلبه نار، فلم يستطع النوم حتى الصباح، وعندما أشرق الصبح ذهب إلى الإيوان وجلس على السرير متحيرا مفكرا حزينا، ووقف أركان الدولة كل في مكانه واصطف الغلمان وأذنوا إذنا عاما، فدخل رجل مهيب من الباب بحيث لم يكن لأي أحد من الخدم أو الحشم الجرأة على أن يقول له من أنت، ولم ينبسوا ببنت شفه، وتقدم الرجل حتى واجه سرير إبراهيم، فقال له: ماذا تريد .. ؟ قال: أنزل في هذا الرباط، قال: ليس هذا برباط، إنما هو قصري، وإنك لمجنون، فقال: لمن كان هذا القصر قبل هذا؟ قال: كان لأبي، قال وقبل ذلك، قال: كان ملكا لجدي ... وقبل ذلك؟ قال: ملكا لفلان، قال: أو ليس الرباط هو ما يحل به أحد ويغادره الآخر .. ؟ قال هذا واختفى، وكان هو الخضر عليه السلام، فازدادت حرقة روح إبراهيم ولوعته، وازداد ألمه حدة نتيجة لهذه الحال، وازدادت هذه الحال من واحد إلى مائة ضعف، إذ أنه رأى أنه قد اجتمع ما شاهده نهارا مع ما وقع ليلا ولم يعرف مما سمع، ولم يعلم ماذا رأى اليوم، فقال: أسرجوا الجواد لأني أريد الذهاب للصيد، فقد حدث لي اليوم شيء لست أدري ما هو، فيا إلهي إلى أين تنتهي هذه الحال ... ؟ فأسرجوا له جوادا، وتوجه للصيد، فكان يتجول في البرية دهشا بحيث لم يعرف ماذا يفعل، فأنفصل عن جيشه وهو في تلك الحال من الدهش، فسمع صوتا في الطريق يقول له: انتبه، فانتبه، ولم يصغ إليه، وذهب وجاءه هذا النداء للمرة الثانية، فلم يعره سمعا للمرة الثالثة نفس ذلك النداء، فأبعد نفسه عنه، وسمع للمرة الرابعة من يقول: (انتبه قبل أن تنبه) ففقد صوابه تماما وفجأة ظهرت غزالة فشغل نفسه بها، فأخذت الغزالة تخاطبه قائلة: إنهم بعثوني لصيدك، وإنك لن تستطيع صيدي، ألهذا خلقت؟ أو بهذا أمرت؟ إنك خلقت للذي للذي تعمله وليس لك عمل آخر، فقال إبراهيم: ترى ما هذه الحال .... ؟ وأشاح بوجهه عن الغزالة، فأرتفع نفس ذلك الصوت الذي قد سمعه من الغزالة من قربوس السرج، فوقر في نفسه الخوف والفزع وأزداد كشفا، وحيث أن الحق تعالى أراد أن يتم الأمر ارتفع ذلك الصوت ثلاث مرات أخر من حلقة جيبه، وبلغ ذلك الكشف هنا حد الكمال، وانفتح عليه الملكوت ونزل، وحصل له اليقين، فابتلت الملابس والجواد من ماء عينيه، وتاب توبة نصوحا، وانتحى ناحية من الطريق، فرأى راعيا يرتدي لبادا، وقد وضع قلنسوة من اللباد على رأسه، وأمامه الأغنام وأخذ منه اللباد ولبسه ووضع قلنسوة اللباد على رأسه وطفق يسير راجلا في الجبال والبراري هائما على وجهه ينوح من ذنوبه، ثم غادر المكان إلى أن بلغ نيسابور، فأخذ يبحث عن زاوية خالية يتعبد فيها حتى وصل إلى ذلك الغار المعروف واعتكف فيه تسعة أعوام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 2 ومن ذا الذي يعلم ما كان يفعله هناك في الليل والنهار، إنه ينبغي أن يكون رجلا عظيما ذا مادة واسعة حتى يستطيع الإقامة في مثل ذلك المكان، وصعد إبراهيم يوم خميس إلى ظاهر الغار وجمع حزمة حطب واتجه في الصباح إلى نيسابور حيث باعها، وصلى الجمعة واشترى بثمن الحطب خبزا، وأعطى نصفه لفقير وتناول النصف الآخر، وأتخذ منه إفطاره وداوم صيامه حتى الأسبوع التالي، وبعد أن وقف الناس على شأنه هرب من الغار وتوجه إلى مكة، وقيل أنه بقي أربعة عشر عاما يطوي البادية حيث كان يصلي ويتضرع طوال الطريق حتى أشرف على مكة، وروي أنه كان له طفل رضيع عند مغادرته بلخ، ولما أيفع طلب من أمه أباه، فقصت له الأم الحال قائلة: إن أباك قد تاه، ونقل عنه أنه قال: عندما كنت أسير في البادية متوكلا، ولم أتناول شيئا مدة ثلاثة أيام جاءني إبليس وقال: أنت ملك، وتركت هذه النعمة لتذهب جائعا إلى الحج ... ؟ لقد كان بمقدورك الحج بعز وجلال حتى لا يصيبك كل هذا الأذى، قال: عندما سمعت هذا الكلام منه رفعت صوتي وقلت: إلهي ‍‍!! سلطت العدو على الصديق حتى يحرقني فأغثني حتى أستطيع قطع هذه البادية بعونك، فسمعت صوتا يقول: يا إبراهيم ‍! ألق ما في جيبك حتى تكشف ما هو في الغيب فمددت يدي إلى جيبي فوجدت أربعة دوانيق فضية كانت قد بقيت منسية، ولما رميتها جفل إبليس مني وظهرت قوة من الغيب) (1) وورد ذكره وحكايته أيضا في (طبقات الصوفية) للسلمي (2).وفي (حلية الأولياء) للأصبهاني ((3).وفي (الرسالة) للقشيري (4).وفي (جمهرة الأولياء) للمنوفي الحسيني (5).وفي (نفحات الأنس) للجامي (6).وفي (طبقات الأولياء) لابن الملقن المتوفى 804 هـ (7).وفي (الطبقات الكبرى) للشعراني (8). فهذه هي قصة إبراهيم بن أدهم، وفيها ما فيها من ترك الأهل والزوج والولد بدون جريمة ارتكبوها، وإثم اقترفوه، خلافا لأوامر القرآن وإرشادات الرسول صلى الله عليه وسلم، المشهورة المعروفة شبها ببوذا، وهاهي خلاصة قصته:   (1) [11519] انظر ((تذكرة الأولياء)) لفريد الدين العطار (ص 53) وما بعد ط باكستان. (2) [11520] ((طبقات السلمي)) (ص 12) مطابع الشعب القاهرة 1380هـ. (3) [11521] ((حلية الأولياء)) للأصبهاني (ج7 ص 367) وما بعد ط دار الكتاب العربي لبنان. (4) [11522] ((الرسالة القشيرية)) (1/ 54) وما بعد ط دار الكتب الحديثة - القاهرة بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود. (5) [11523] ((جمهرة الأولياء)) (2/ 125) ط مؤسسة الحلبي - القاهرة 1967م. (6) [11524] ((نفحات الأنس)) للجامي (ص41) الطبعة الفارسية إيران. (7) [11525] ((طبقات الأولياء)) لابن ملقن (ص 5) نشر مكتبة الخانجي - القاهرة الطبعة الأولى 1393 هـ. (8) [11526] ((الطبقات الكبرى)) للشعراني (1/ 69). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 (وكانت قبيلة ساكياس تقطن في شمال بنارس، وهي التي ولد فيها أواسط القرن السادس قبل الميلاد، وقد مات في سنة 478 قبل الميلاد بعد أن عمر ثمانين عاما. وتزوج بوذا في سن التاسعة عشرة ابنة عمه، وكان في رغد وسعادة. وبينما كان يسير يوما إلى الصيد وهو في التاسعة والعشرين شاهد رجلا قد بلغ من كبر سنه منتهي الضعف والعجز، ورأى في وقت آخر شخصا مبتلى بمرض استعصى علاجه ويحتمل الآلام وبعد مدة أخرى تأثر واشمأز لرؤية منظرا كريها لجثة في حالة من الفساد، وكان خادمه وصاحبه الوفي المسمى (جانا) يذكره وينبهه في كل هذه الحالات ويقول له: (هذا هو مصير حياة البشر) وشاهد بوذا أحد النساك يمر عليه وهو في منتهي الراحة والأبهة والكرامة فسأل جانا ما حال هذا الرجل .. ؟ فحكى له جانا تفصيلا عن أخلاق الزهاد الذين أعرضوا عن كل شيء وعن أحوالهم، وقال له: إن هؤلاء الجماعة في سير وأرتحال دائم وهم يعلمون الناس أثناء سياحتهم ورحلاتهم تعاليم هامة بالقول والعمل. والخلاصة أنه برغم إختلاف الروايات لا شك في أن ذهن هذا الأمير الشاب قد أخذ يضطرب تدريجيا وينفر من الحياة وضوضائها. ووفد عليه رسول يوما في أثناء أزماعه العودة من النزهة وبشره بميلاد ولد هو أول مولود له، فقال بوذا لنفسه في تلك الحالة النفسية المضطربة دون أن يشعر: (ما هي ذي رابطة جديدة تربطني بالدنيا). والخلاصة أنه عاد إلى المدينة بينما كان المطربون يلتفون حوله. فطرب ورقص في تلك الليلة أقاربه وذوو رحمه فرحا بالمولود الجديد. لكن بوذا كان من الامتعاض والاضطراب بحيث لم يكترث بتلك الأوضاع أبدا. وأخيرا نهض من فراشه في آخر الليل كمن التهمت النار داره وأوعز إلى جانا أن يحضر له الفرس ومد رأسه في هذه الأثناء إلى غرفة زوجته وولده الوحيد من غير أن يوقظهما وعلى العتبة أخذ على نفسه عهدا ألا يعود إلى داره ما لم يصبح (بوذا) أي (حكيما مستنيرا) وقال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 (أذهب لأعود إليكم معلما وهاديا لا زوجا ووالدا) والخلاصة أنه خرج مع جانا وهام في البراري، وفي هذه اللحظة ظهر في السماء (مارا) أي الوسواس الكبير (إبليس أو النفس الأمارة) ووعده بالملك والعز في الدنيا بأسرها لكي يرجع عن عزمه لكنه لم يقع في شرك الوسوسة. فسار بوذا قليلا في تلك الليلة على شاطئ النهر ثم وهب لجانا جوهرة وملابسه الفاخرة وأعاده ومكث سبعة أيام بلياليها في غابة ثم التحق إلتحق بخدمة برهمي يدعى (الارا) كان في تلك البقعة واختار بعد ذلك صحبة برهمي آخر يسمى (أودراكا) وتعلم من هذين الرجلين حكمة وعلوم الهند كلها، ولكن قلبه لم يستقر بعد فذهب إلى غابة كانت في أحد الجبال، وهناك صحب خمسة من التلاميذ الذين كانوا يحيطون به ومارس التوبة والرياضات الشاقة ست سنين حتى اشتهر في تلك الناحية، فاعتزم لهذا أن يهجر ذلك المكان ولما قام ليذهب سقط على الأرض لشدة ضعفه وعجزه، وغاب عن وعيه بحيث ظن تلاميذه أنه فارق الحياة، ولكنه عاد إلى رشده فترك الرياضات الشاقة منذ ذلك الحين وأخذ يأكل طعامه بانتظام، ولما رأى التلاميذ الخمسة الذين كانوا في صحبته أنه مل من الرياضة نفضوا أيديهم من احترامه وتركوه وذهبوا بنارس. أما بوذا فإنه ترك ملذات الدنيا وثروتها والمقام فيها حتى ينال الضمير والطمأنينة عن طريق التعلم والفلسفة وحكمة الآخرين فلم يستطع أن ينال بتلك الرياضة والتوبة طمأنينة القلب التي كان يصبوا إليها والحاصل أنه بقي حيران في أمره ذاهلا وفي نفس ذلك اليوم الذي تفرق فيه عن تلامذته مكث بوذا تحت شجرة يتأمل ويفكر في نفسه، ماذا يعمل ... ؟ وأي طريق يتبع .. ؟ وهاجمته وساوس كثيرة وتاقت نفسه إلى الزوجة والولد والجاه والثروة والترف والنعيم، واستمر هذا الكفاح والجهاد مع النفس حتى غروب الشمس. ونتيجة لهذا الكفاح اتصل (بنير فانا) وتأكد لديه أنه أصبح (بوذا) أي أنه نال الإشراق واستنار، وحينئذ نال بوذا ما كان يصبو إليه من الراحة والطمأنينة. لذلك عزم أن يمارس الإرشاد. وأن يعرض رغبته على الآخرين، وكان بوذا وقتئذ في الخامسة والثلاثين من عمره فقصد في بادئ الأمر أستاذيه (الارا) و (أودراكا) ولكنه علم بعد، بأنهما قد توفيا، فذهب إلى تلامذته الخمسة من بنارس وأرشدهم وجعلهم من أتباعه، وآمن به أبوه وأمه وزوجته كذلك، ثم أمر زمرة من خواص مريديه أن يقوموا بإرشاد الناس) (1).فهذه هي خلاصة قصة بوذا، وهي عين ما ذكره الصوفية عن إبراهيم بن أدهم ابن الأمير البلخي الذي طلق الدنيا وتزيّا بزيّ الدراويش، وبلغ درجة أكابر الصوفية برياضته الطويلة، وتلك صورة طبق الأصل لما كانوا قد سمعوه عن حياة بوذا (2).   (1) انظر للت دستر الباب الحادي والعشرون فقرات (125، 126، 127، 131)، أيضا ((دائرة المعارف البريطانية)) نقلا عن ((تاريخ التصوف في الإسلام)) للدكتور قاسم غني ترجمة عربية (ص 223) وما بعد، أيضا جستجودر تصوف إيران (فارسي) للدكتور عبد الحسين زرين كوب (ص 6، 7) ط مؤسسة انتشادات امير كبير طهران 1363 هجري قمري. (2) ([11528]) انظر للت دستر الباب الحادي والعشرون فقرات (125، 126، 127، 131)، أيضا دائرة المعارف البريطانية نقلا عن ((تاريخ التصوف في الإسلام)) للدكتور قاسم غني ترجمة عربية (ص 223) وما بعد، أيضا جستجودر تصوف إيران (فارسي) للدكتور عبد الحسين زرين كوب (ص 6، 7) ط مؤسسة انتشادات امير كبير طهران 1363 هجري قمري. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 ثم علّق عليه الدكتور قاسم غني الباحث الإيراني بقوله: (وحدس (جولدزيهر) يمكن أن يكون صحيحا وهو من الاحتمالات القريبة من الواقع، وقد شوهدت لها نظائر كثيرة - إلى أن قال -: وإذا ما قارن أحد بين قصة بوذا كما وردت في مدونات البوذيين بقصة إبراهيم بن أدهم ذات الطابع الأسطوري، الواردة في كتب تراجم العارفين مثل (حلية الأولياء) للأصفهاني، و (تذكرة الأولياء) للشيخ العطار وجد شبها عجيبا بين تلك القصتين يستلف نظرة) (1). هذا وهناك أقوال لإبراهيم بن أدهم وغيره من كبار الصوفية وأقطابهم في الزواج والأولاد تخبر بجلاء عن مواردها ومنابعها، فها هي تلك الأقوال من أهم كتب الصوفية: ينقل الطوسي والعطار عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: (إذا تزوج الفقير فمثله مثل رجل قد ركب السفينة، فإذا ولد له ولد قد غرق) (2).ونقل السهروردي عنه أنه قال: (من تعود أفخاذ النساء لا يفلح) (3). ونقل أبو طالب المكي - وهو من أعلام الصوفية البارزين وأئمتهم المتوفى سنة 386 هـ - عن قطب من أقطاب الصوفية الأوائل عن أبي سليمان الداراني المتوفى سنة 215 هـ: (من تزوج فقد ركن إلى الدنيا) (4).ونقل السهروردي في (عوارفه) الذي هو أشهر كتاب في التصوف عن أبي سليمان الداراني أيضا أنه قال: (ما رأيت أحدا من أصحابنا تزوج فثبت على مرتبته) (5).ونقل المكي عن سيد الطائفة الجنيد البغدادي أنه قال: (أحب للمريد المبتدي أن لا يشغل قلبه بالتزوج) (6). كما نقل عن بشر بن الحارث أنه قيل له: (إن الناس يتكلمون فيك، فقال: وما عسى يقولون؟ قيل: يقولون: إنك تارك السنة يعنون النكاح. فقال: قل لهم: إني مشغول بالفرض عن السنة، وقال مرة: ما يمنعني من ذلك إلا آية في كتاب الله تعالى قوله: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، ولعسى أن لا أقوم بذلك، وكان يقول: لو كنت أعول دجاجة لخفت أن أكون جلاداً على الجسر هذا. يقوله في سنة عشرين ومائتين والحلال والنساء أحمد عاقبة، فكيف بوقتنا هذا؟ فالأفضل للمريد في مثل زماننا هذا ترك التزويج) (7). ويقول السهروردي: (التزوج انحطاط من العزيمة إلى الرخص، وجوع من الترمح إلى النقص، وتقيدا بالأولاد والأزواج، ودوران حول مظان الاعوجاج، والتفاف إلى الدينا بعد الزهادة، وانعطاف على الهوى بمقتضى الطبيعة والعادة) (8).   (1) انظر ((تاريخ التصوف في الإسلام)) للدكتور قاسم غني عربية (ص 223). (2) ((كتاب اللمع)) للطوسي (ص 265) باب آداب المتأهلين ومن ولد بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور، و ((تذكرة الأولياء)) للعطار (ص 57) ط باكستان. (3) ((عوارف المعارف)) للسهروردي (ص 166)، أيضا غيث المواهب العلمية للنفزي الرندي (1/ 208). (4) ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي (1/ 252) ط دار صادر بيروت، غيث المواهب العلية (1/ 208). (5) ((عوارف المعارف)) للسهروردي الباب الحادي والعشرون (ص 165) ط دار الكتاب العربي بيروت 1983 م. (6) ([11534]) انظر ((قوت القلوب)) في ((معاملة المحبوب)) لأبي طالب المكي (1/ 267). (7) ([11535]) ((قوت القلوب)) (2/ 238)، أيضا ((عوارف المعارف)) (ص 165)، أيضا الطبقات الكبرى للشعراني (1/ 73) ط دار العلم للجميع - القاهرة 1954 م. (8) ([11536]) انظر ((عوارف المعارف) (ص 164، 165). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 ثم نقل حديثا مكذوبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((خيركم بعد المائتين رجل خفيف الحاذ، قيل: يا رسول الله وما خفيف الحاذ؟. قال: الذي لا أهل له ولا ولد)) (1). وقال بعض الفقراء - لما قيل له: تزوج -: أنا إلى أن أطلق نفسي أحوج مني إلى التزوج) (2). وصوفي آخر محمد بن إبراهيم النفزي الرندي المتوفى سنة 792 هـ ينقل عن صوفي قديم آخر، وهو سهل بن عبد الله التستري أنه قال: (إياكم والاستمتاع بالنساء، والميل إليهن، فإن النساء مبعّدات من الحكمة، قريبات من الشيطان، وهي مصايده وحظه من بني آدم، فمن عطف إليهن بكليته فقد عطف على حظ الشيطان، ومن حاد عنهن يئس منه، وما مال الشيطان إلى أحد كميله إلى من استرق بالنساء، وإن الشر معهن حيث كنّ، فإذا رأيتم في وقتكم من قدركن إليهن فايأسوا منه. قيل له: فحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((حبب إلي من دنياكم ثلاث، فذكر النساء)) (3)؟.فقال: النبي صلى الله عليه وسلم معصوم، وقد بلّغكم ما كان فيه معهن، هي عدوّة الرجل ظاهرا وباطنا، إن ظهرت له لمحبة أهلكته، وإن أضمر تهاله، وإن الله عز وجل جعلهن فتنة، فنعوذ بالله من فتنتهن) (4). ونقل عن صوفي آخر حذيفة المرعشي المتوفى 207 هـ أنه قال: (كان ينبغي للرجل لو خيّر بين أن يضرب عنقه، وبين أن يتزوج امرأة في الفتنة لاختار ضرب العنق على تزويج امرأة في الفتنة) (5). ونقل ابن الملقن سراج الدين أبو حفص عمر علي المصري المتوفى 804 هـ في كتابه عن أحد كبار الصوفية: (ما تزوج أحد من أصحابنا إلا تغير) (6).ونقل الشعراني عن رباح بن عمرو القيسي - من الصوفية الأوائل - أنه قال: لا يبلغ الرجل إلى منازل الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة، وأولاده كأنهم أيتام، ويأوي إلى منازل الكلاب (7).   (1) رواه البيهقي في الشعب (12/ 550) وقال تفرد به رواد بن الجراح العسقلاني، عن سفيان الثوري، ورواه أبو يعلى وقال البوصيري في إتحاف الخيرة (4/ 3) إسناده في مقال وقال أبو حاتم باطل كما في العلل لابنه (1890) ومثله قال الألباني في الضعيفة (3580) (2) ([11538]) ((عوارف المعارف)) (ص 165). (3) رواه النسائي (3939) وأحمد (3/ 128) (12315) والحاكم (2676) والبيهقي في الكبرى (7/ 78) واللفظ له، قال الحاكم صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5435) (4) ((غيث المواهب العلية في شرح حكم العطائية)) لأبي عبد الله محمد بن إبراهيم النفزي (1/ 209) بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود والدكتور محمود الشريف ط مطبعة السعادة القاهرة. (5) ([11541]) ((غيث المواهب العلية في شرح حكم العطائية)) لأبي عبد الله محمد بن إبراهيم النفزي (1/ 209) بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود والدكتور محمود الشريف ط مطبعة السعادة القاهرة .. (6) ([11542]) ((طبقات الأولياء)) لابن الملقن ص 36 نشر مكتبة الخانجي القاهرة الطبعة الأولى 1393 هـ. (7) ([11543]) ((طبقات الشعراني)) (1/ 46). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 وكتب صوفي قديم آخر، وهو أبو الحسن علي الهجويري المتوفى قريبا سنة 465 هـ قصة غريبة في العزلة والتجرد نقلا عن إبراهيم الخواص أنه قال: (وصلت إلى قرية بقصد زيارة عظيم كان هنالك، ولما ذهبت إلى داره رأيت بيتا نظيفا مثل معبد الأولياء، وقد جعل في زاويتين من البيت محرابين، وجلس في أحدهما شيخ، وفي الآخر عجوز نظيفة وضيئة، وقد ضعف كلاهما من كثرة العبادة، فأظهر السرور بقدومي، وبقيت هنالك ثلاثة أيام، ولما أردت العودة سألت الشيخ: من تكون لك تلك العفيفة؟ قال: هي من ناحية ابنه عمي، ومن ناحية أخرى زوجي، فقلت: رأيتكما خلال هذه الأيام الثلاثة كالغربيين تماما في الصحبة، قال: نعم، منذ خمسة وستين عاما ونحن كذلك فسألته عن سبب ذلك، فقال: إعلم إننا كنا عاشقين لأحدنا الآخر في الصغر، ولم يكن أبوها يعطيها لي لأن محبتنا صارت معروفة، فتحملت ذلك حتى توفي أبوها، وكان والدي عمها، فزوجها لي، فلما كانت الليلة الأولى من تلاقينا قالت لي: أنت تعلم آية نعمة أنعمها الله علينا إذ أوصل كلامنا إلى الآخر، وأفرغ قلبينا من القيود والآفات السيئة، فقلت: نعم، قالت: فلنمنع أنفسنا الليلة عن هوى النفس، وندس على مرادنا، ونعبد الله شكراً على هذه النعمة، فقلت: هذا صواب، وقالت هذا نفسه في الليلة التالية. وقلت أنا في الليلة الثالثة: لقد أدينا الشكر ليلتين من أجلك، فلنقض ليلتين أيضا في العبادة من أجلي. وقد تمت الآن خمسة وستون عاما لم يمس أحدنا الآخر، ونحن نقضي كل العمر في شكر النعمة) (1). وقال بعد نقلها ونقل أشياء أخرى: (وفي الجملة: إن أول فتنة قدرت على آدم في الجنة كان أصلها امرأة. وأول فتنة ظهرت في الدنيا - أي فتنة هابيل وقابيل - كانت أيضا بسبب امرأة. وحين أراد الله تبارك وتعالى أن يعذب إثنين من الملائكة جعل سبب ذلك امرأة. وهن جميعا إلى يومنا هذا سبب جميع الفتن الدينية والدنيوية، لقوله عليه السلام: ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) (2)، فإذا كانت فتنتهن بهذا القدر في الظاهر، فكيف تكون في الباطن؟ وأنا علي بن عثمان الجلابي، من بعد أن حفظني الحق تعالى من آفة الزواج أحد عشر عاما، قدر أن وقعت في الفتنة، وصار ظاهري وباطني أسير الصفة التي كانوا عليها معي، دون أن تكون هنالك رؤية، وقد استغرقت في ذلك عاما، بحيث كان يفسد على ديني، إلى أن بعث الحق تعالى بكمال فضله وتمام لطفه عصمته لاستقبال قلبي المسكين، ومنَّ عليّ بالخلاص برحمته، والحمد لله على جزيل نعمائه. وفي الجملة فإن قاعدة هذا الطريق وضعت على التجريد، وعندما جاء التزويج اختلف أمرهم، ولا يوجد أي عساكر الشهوة إلا ويمكن إخماد ناره بالاجتهاد، لأن الآفة التي تنشأ منك تكون آلة دفعها معك أيضا، ولا يلزم الغير حتى تزول عنك تلك الصفة.   (1) ([11544]) ((كشف المحجوب)) للهجويري (ص 610، 611). (2) رواه البخاري (5096) ومسلم (2740) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 وزوال الشهوة يكون بشيئين: واحد يدخل تحت دائرة التكلف، وواحد يخرج عن دائرة الكسب والمجاهدة، فما يدخل في تكلف الآدمي ومقدوره هو الجوع، وأما ما يخرج من التكلف الهمم، وتنشر المحبة سلطانها في أجزاء الجسد، وتعزل كل الحواس عن أوصافهم، وتجذب كل العبد، وتغني عنه الهزل. وإن الحمد بن حماد السرخسي، الذي كان رفيقي في ما وراء النهر، رجلا محتشما، قيل له: أبك حاجة إلى التزويج، قال: لا، قالوا: لم؟ قال: إنني في حالي إما أن أكون غائبا عن نفسي، وإما أن أكون حاضرا بنفسي. وحين أكون غائبا لا أفكر في الكونين، وحين أكون حاضرا فإنني أجعل نفسي بحيث إذا وجدت رغيفا تعتبر أنها وجدت ألفا من الحور. فانشغال القلب بكل ما تريده يكون عظيما، فتنبه) (1).وذكر السراج الطوسي أيضا قصة صوفي تزوج من امرأة فبقيت عنده ثلاثين سنة وهي بكر (2).وذكر العطار عن عبد الله بن خفيف الصوفي المشهور أنه تزوج أربعمائة امرأة ولكنه لم يجامع واحدة منهن (3). وهل لسائل أن يسأل: ما الغرض الذي كان من نكاحه إياهن؟.وذكر الشعراني أيضا عن صوفي آخر ياقوت العرشي أنه تزوج ابنة شيخه أبي العباس المرسي فمكثت عنده ثماني عشرة سنة لا يقربها حياء من والدها ومنها، وفارقها بالموت وهي بكر (4). ونقل عن الشعراني أيضا عن أحد المتقدمين من الصوفية مطرف بن عبد الله الشغير المتوفى سنة 207 هـ أنه قال: (من ترك النساء والطعام فلابد له من ظهور كرامة) (5). ونقل أيضا في كتابه (تنبيه المغتربين) من أحد الصوفية أنه قال: من تزوج فقد أدخل الدنيا بيته ... فاحذروا من التزويج (6). وينقل ابن الجوزي عن أبي حامد الغزالي أنه قال: (ينبغي أن لا يشغل المريد نفسه بالتزويج، فإنه يشغله عن السلوك ويأنس بالزوجة، ومن أنس بغير الله شغل عن الله تعالى) (7). هذا ومثل هذا كثير. ولقد بوب الصوفية في كتبهم أبوابا مستقلة في مدح العزوبة وذم التزويج، وهذا الأمر لا يحتاج إلى بيان أنه لم يأخذه المتصوفة إلا من رهبان النصارى ونساك المسيحية الذين ألزموا أنفسهم التبتل، خلافا لفطرة الله التي فطر الناس عليها. تقليدا لهم واتباعا لسنتهم، واقتداء لمسالكهم ومشاربهم، مخالفين أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم الناسخ لجميع الشرائع والأديان، المبعوث بمكارم الأخلاق وفضائل العادات، فالله يأمر المؤمنين في محكم كتابه بنكاح النساء مثنى وثلاث ورباع وعند الخوف من عدم العدل بواحدة، فيقول جل من قائل: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ [النساء:3]. وقال وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]. وجعل الزواج سببا لحصول السكون والطمأنينة حيث قال عز وجل:   (1) ([11546]) ((كشف المحجوب)) الطبعة العربية (610، 611). (2) ([11547]) ((اللمع للسراج)) الطوسي (ص 264). (3) ([11548]) انظر ((تذكرة الأولياء)) لفريد الدين العطار (ص 241) ط باكستان. (4) ([11549]) ((الأخلاق المتبولية)) لعبد الوهاب الشعراني (ج3 ص 179) بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود ط مطبعة دار التراث العربي - القاهرة 1974 م. (5) ([11550]) ((طبقات الشعراني)) (ص 34). (6) ([11551]) ((تنبيه المغتربين)) للشعراني (ص 29). (7) ([11552]) انظر ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص 286). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21] ورسوله صلوات الله وسلامه عليه يحذر المعرضين عنه في حديث طويل أورده البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال: ((إن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي عليه السلام عن عمله في السر فأخبرهم فقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، وقال بعضهم: أصوم ولا أفطر، فحمد الله النبي عليه الصلاة والسلام وأثنى عليه، ثم قال: ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني)) (1) وقال: ((تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)) (2).وقال عليه الصلاة والسلام: ((حبب إلي من الدنيا الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة)) (3). وعن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يأتي أحدنا شهوته ويكون فيها له أجر؟. قال: أفرأيتم لو وضعه في حرام، هل عليه وزر؟ قالوا: نعم. قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)) (4). وما أحسن ما قال إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رحمة الله عليه: (ليس العزوبة من أمر الإسلام في شيء، النبي عليه الصلاة والسلام تزوج أربع عشرة امرأة ومات عن تسع، ثم قال: لو كان بشر بن الحارث تزوج قد تم أمره كله، لو ترك الناس النكاح لم يغزوا ولم يحجوا ولم يكن كذا، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يصبح وما عنده شيء، وكان يختار النكاح ويحث عليه، وينهي عن التبتل، فمن رغب عن عمل النبي عليه الصلاة والسلام فهو على غير الحق. ويعقوب عليه السلام في حزنه قد تزوج وولد له. والنبي عليه الصلاة والسلام قال: ((حبب إلي النساء)) (5). فهذه هي تعاليم شريعة الإسلام المستقاة من أصلين أساسيين لشرع الله الكتاب والسنة. وتلك هي أقوال الصوفية، التي لم يأخذوها من هذا المورد العذب، والمنهل الصافي، بل أخذوها من الكهنة والبوذية كما مر ذلك، ونساك الجينية، ورهبان المسيحية. وأمر أولئك في هذا الباب مشهور ومعروف لا يحتاج إلى كثير من البيان، ولكن لإقامة البرهان ننقل بعض آيات من الإنجيل، فقال المسيح: (ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات، من استطاع أن يقبل فليقبل) (6). ويقول رسول المسيحيين في رسالته إلى أهل كورنتوس: (وأما من جهة الأمور التي كتبتم عنها فحسن للرجل أن لا يمس امرأة) (7). وكذلك يقول: (أقول لغير المتزوجين والأرامل: إنه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا (8).   (1) رواه البخاري (5063) ومسلم (1401) (2) رواه أبو داود (2050) والحاكم (2685) والبيهقي (7/ 81) دون قوله يوم القيامة، ورواه أحمد (3/ 158) (12634) وابن حبان (4028) بلفظ الأنبياء بدل الأمم، وأما بهذا اللفظ فأخرجه الخطيب (12/ 377) قال الهيثمي في المجمع (4/ 258) إسناده حسن، وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) (3) رواه النسائي (3939) وأحمد (3/ 128) (12315) والحاكم (2676) والبيهقي في الكبرى (7/ 78) قال الحاكم صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5435) (4) رواه مسلم (1006) (5) ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص 285، 286). (6) ([11558]) الآية 12 من ((إنجيل متى من العهد الجديد)). (7) ([11559]) رسالة بولس في رسالته إلى أهل كورنتوس من ((العهد الجديد الإصحاح السابع)) الآية 1. (8) ([11560]) أيضا الآية 8. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 ويقول: (فأريد أن تكونوا بلا هم. يهتم في ما للرب كيف يرضى الرب. وأما المتزوج فيهتم في ما للعالم كيف يرضى امرأته. إن بين الزوجة والعذراء فرقا. غير المتزوجة تهتم في ما للرب لتكون مقدمة جدا وروحا. وأما المتزوجة فتهتم في ما للعالم كيف ترضى رجلها. هذا أقوله لخيركم ليس لكي ألقى عليكم وهقا، بل لأجل اللياقة والمثابرة للرب من دون ارتباك. ولكن إن كان يظن أنه يعمل بدون لياقه نحو عذرائه إذا تجاوزت الوقت، وهكذا لزم أن يصبر فليفعل ما يريد. إنه لا يخطئ فيتزوجا. وأما من أقام راسخا في قلبه وليس له سلطان على إرادته، وقد عزم على هذا في قلبه أن يحفظ عذراء فحسنا يفعل. إذن من زوج فحسنا يفعل. ومن لا يزوج يفعل أحسن (1). هذا ومثل هذا كثير. هذه هي تعاليم المسيحية، المنقولة منهم تجاه الزواج، ومن هذه التعاليم تأثر وليّ من أولياء المسيحية اوريغن ( O IGEN) الذي يعدونه أحد القديسين، العائش ما بين 185 و 254، وجبَّ ذكره (2). والجدير بالذكر أن أحد المتصوفة أتى بمثل هذا العمل، وفعل فعلته فيه كما ذكر الشعراني أن عبد الرحمن المجذوب: (كان رضي الله عنه من الأولياء الأكابر، وكان سيدي على الخواص رضي الله عنه يقول: ما رأيت قط أحدا من أرباب الأحوال دخل مصر إلا ونقص حاله إلا الشيخ عبد الرحمن المجذوب، وكان مقطوع الذكر قطعه بنفسه أوائل جذبه (3). وصوفي هندي آخر أيضا فعل ذلك (4).وكتب هينس ( HANS) ( أن المسيحيين القدامى كانوا يعدون ترك الزواج من الأمور الواجبة والمحببة إلى الله، والمقربة إلى ملكوته (5).   (1) ((الإصحاح السابع)) الآية 31 إلى 39. (2) ([11562]) Oxford History Christian Church P 992 London ، 1958. (3) ([11563]) (( انظر طبقات الشعراني)) (2/ 142). (4) ([11564]) انظر ((تذكرة أولياء)) بر صغير لميرزه محمد اختر الدهلوي (3/ 33). (5) ([11565]) Bookings of the Christian Churchs P. 135 London. 1955. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 المبحث الثاني: المسيحية وترك الدنيا: ومن خصائص المسيحية وتعاليمها ترك الدنيا، والتجرد عن المال، والتجوع، وتعري الأجساد والأعراض عن زينة الحياة، المباحة، وتحريم الطيبات باسم الانقطاع إلى الآخرة، ورهبانية ابتدعوها، وتعذيب النفس. فلقد ورد في الأناجيل عن المسيح أنه قال: (لا تكنزوا كنوزا على الأرض، حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون. بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون. لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضا (1). ونقل عنه أيضا أنه قال: (لا يقدر أحد أن يخدم سيدين. لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال. لذلك أقول لكم: لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون. ولا لأجسامكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس. أنظروا إلى طيور السماء أنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها. ألستم أنتم بالحري أفضل منها ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعا واحدة، ولماذا تهتمون باللباس، تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو لا تتعب ولا تغزل، ولكن أقول لكم: إنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها، فإن كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويطرح غدا في التنور يلبسه الله هكذا، أفليس بالحري جدا يلبسكم أنتم قليلي الإيمان، فلا تهتموا قائلين: ماذا نأكل، أو ماذا نلبس، فإن هذه كلها تطلبها الأمم. لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها، لكن اطلبوا أولا ملكوت الله وبره، وهذه كلها تزداد لكم. فلا تهتموا للغد، لأن الغد يهتم بما لنفسه. يكفي اليوم شره (2). وورد في هذا الإنجيل أيضا (أن شابا تقدم إلى المسيح وقال له: أيها المعلم الصالح أي صلاح أعمل به لتكون لي الحياة الأبدية؟. فأجابه المسيح ببعض الأجوبة ثم قال له: إن أردت أن تكون كاملا فاذهب وبع أملاكك، وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني. فلما سمع الشاب الكلمة مضى حزينا، لأنه كان ذا أموال كثيرة. فقال يسوع لتلاميذه: الحق أقول لكم، إنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات، وأقول لكم أيضا: إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله (3). وقال أيضا: (وكل من ترك بيوتا أو إخوة أو أخوات أو أبا أو أما أو امرأة أو أولاداً أو حقولا من أجل اسمي يأخذ مائة ضعف، ويرث الحياة الأبدية (4). ونقل عنه أيضا أنه قال: (لا تكنزوا ذهبا ولا فضة ولا نحاسا في مناطقكم، ولا مزودا للطريق، ولا ثوبين، ولا أحذية، ولا عصا) (5). وليس هذا فحسب، بل نقل عنه لوقا في إنجيله أنه جاءه جموع كثيرة سائرين معه، فالتفت إليهم وقال: (إن كان أحد يأتي إلى ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده واخوته وإخوانه حتى نفسه أيضا فلا يقدر أن يكون لي تلميذا) (6). وقال أيضا: (فكذلك كل واحد منكم لا يترك جميع أمواله لا يقدر أن يكون لي تلميذا) (7).   (1) ([11566]) ((إنجيل متى الإصحاح السادس)) (19، 20، 21). (2) ([11567]) ((إنجيل متى الإصحاح السادس)) الآية 24 إلى آخر الإصحاح. (3) ([11568]) ((الإصحاح التاسع)) عشر الآية 16 إلى 24. (4) أيضا الآية 29. (5) ((الإصحاح العاشر)) الآية 9، 10. (6) ((إنجيل لوقا)) الإصحاح الرابع عشر الآية 26. (7) أيضا الآية 33. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 وبمثل ذلك نقل متى في إنجيله: (لما رأى يسوع جموعا كثيرة حوله أمر بالذهاب إلى العبر، فتقدم كاتب وقال له: يا معلم، أتبعك أينما تمضي. فقال له يسوع: للثعالب أوجرة، ولطيور السماء أوكار. وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه. وقال له آخر من تلاميذه: يا سيد، ائذن لي أمضي أولا وأدفن أبي. فقال له يسوع: اتبعني، ودع الموتى يدفنون موتاهم) (1). هذا ومثل هذا كثير في الأناجيل وأعمال الرسل وغيرها من الكتب المسيحية، وعلى هذه التعاليم أسسوا نظام الرهبنة، أي التجرد عن علائق الدنيا ومتطلباتها وحاجاتها. وزادوا عليها تعذيب النفس، وتحمل المشاق والآلام، تعمقا في التجرد، ومغالاة في تجنب الدنيا، واحتقارا لزخارفها، كما أن هنالك أسبابا أخرى لاختيار الرهبنة، فقد ذكر علماء المسيحية الكثيرون وكتابها وباحثوها. وجمع هذه الأقاويل والمقولات ول ديورانت في موسوعته الكبرى (قصة الحضارة)، فيقول: (لما أن أصبحت الكنيسة منظمة تحكم الملايين من بني الإنسان، ولم تعد كما كانت جماعة من المتعبدين الخاشعين، أخذت تنظر إلى الإنسان وما فيه من ضعف نظرة أكثر عطفا من نظرتها السابقة، ولا ترى ضيراً من أن يستمتع الناس بملاذ الحياة الدنيا، وأن تشاركهم أحيانا في هذا الاستمتاع، غير أن أقلية من المسيحيين كانت ترى في النزول إلى هذا الدرك خيانة للمسيح، واعتزمت أن تجد مكانها في السماء عن طرق الفقر، والعفة، والصلاة، فاعتزلت العالم اعتزالا تاماً. ولربما كان مبشرو أشوكا Ashoka ( حوالي 250 ق م) قد جاءوا إليه بنظرية البوذية وقوانينها الأخلاقية، ولربما كان النساك الذين وجدوا في العالم قبل المسيحية أمثال سرابيس Se apis في مصر أو جماعات الإسنيين في بلاد اليهود قد نقلوا إلى أنطونيوس وباخوم المثل العليا للحياة الدينية الصارمة وأساليب هذه الحياة. وكان الكثيرون من الناس يرون في الرهبنة ملاذاً من الفوضى والحرب اللذين أعقبا غارات المتبربرين، فلم يكن في الدير ولا في الصومعة الصحراوية ضرائب، أو خدمة عسكرية، أو منازعات حربية، أو كدح ممل. ولم يكن يطلب إلى الراهب ما يطلب إلى القسيس من مراسم قبل رسامته، وكان يوقن أنه سوف يحظى بالسعادة الأبدية بعد سنين قليلة من حياة السلام. ويكاد مناخ مصر أن يغري الناس بحياة الأديرة، ولهذا غصت بالبرهان النساك الفرادى والمتجمعين في الأديرة يعيشون في عزلة كما كان يعيش أنطونيوس، أو جماعات كما كان يعيش باخوم في تابن Tabenne وأنشئت الأديرة للرجال والنساء على طول ضفتي النيل، وكان بعضها يحتوي نحو ثلاثمئة من الرهبان والراهبات. وكان أنطونيوس (251 – 356) أشهر النساك الفرادى، وقد أخذ ينتقل من عزلته حتى استقر به المقام على جبل القلزم القريب من شاطئ البحر الأحمر. وعرف مكانه المعجبون به فحذوا حذوه في تعبده ونسكه، وبنوا صوامعهم في أقرب مكان منه سمح لهم به، حتى امتلأت الصحراء قبل موته بأبنائه الروحيين. وقلما كان يغتسل، وطالت حياته حتى بلغ مائة وخمساً من السنين، ورفض دعوة وجهها إليه قسطنطين ولكنه سافر إلى الإسكندرية في سن التسعين ليؤيد أثناسيوس ضد أتباع أريوس، وكان يليه في شهرته باخوم الذي أنشأ في عام 325 تسعة أديرة للرجال وديراً واحداً للنساء. وكان سبعة آلاف من أتباعه الرهبان يجتمعون أحيانا ليحتفلوا بيوم من الأيام المقدسة، وكان أولئك الرهبان المجتمعون يعملون ويصلون، ويركبون القوارب في النيل من حين إلى حين ليذهبوا إلى الإسكندرية حيث يبيعون ما لديهم من البضائع ويشترون حاجياتهم ويشتركون في المعارك الكنسية – السياسية.   (1) ((إنجيل متّى)) الإصحاح الثامن الآية 18 إلى 23. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 ونشأت بين النساك الفرادى منافسة قوية في بطولة النسك يتحدث عنها دوشين Abbe Duchesne بقوله إن مكاريوس الإسكندري (لم يكن يسمع بعمل من أعمال الزهد إلا حاول أن يأتي بأعظم منه)، فإذا امتنع غيره من الرهبان عن أكل الطعام المطبوخ في الصوم الكبير امتنع هو عن أكله سبع سنين، وإذا عاقب بعضهم أنفسهم بالامتناع عن النوم شوهد مكاريوس وهو (يبذل جهد المستميت لكي يظل مستيقظاً عشرين ليلة متتابعة) وحدث مرة في صوم كبير أن ظل واقفا طوال هذا الصوم ليلا ونهارا لا يذوق الطعام إلا مرة واحدة في الأسبوع، ولم يكن طعامه هذا أكثر من بعض أوراق الكرنب، ولم ينقطع خلال هذه المدة عن ممارسة صناعته التي اختص بها وهي صناعة السلال. ولبث ستة أشهر ينام في مستنقع، ويعرض جسمه العريان للذباب السام. ومن الرهبان من أوفوا على الغاية في أعمال العزلة، من ذلك سرابيون Se apion الذي كان يعيش في كهف في قاع هاوية لم يجرؤ على النزول إليها إلا عدد قليل من الحجاج. ولما وصل جيروم وبولا إلى صومعته هذه وجدوا فيها رجلا لا يكاد يزيد جسمه على بضعة عظام وليس عليه إلا خرقة تستر حقويه، ويغطي الشعر وجهه وكتفيه، ولا تكاد صومعته تتسع لفراشه المكون من لوح من الخشب وبعض أوراق الشجر. ومع هذا فإن هذا الرجل قد عاش من قبل بين أشراف رومة، ومن النساك من كانوا لا يرقدون قط أثناء نومهم ومنهم من كان يداوم على ذلك أربعين عاما مثل بساريون Bessa ion أو خمسين عاما مثل باخوم. ومنهم من تخصصوا في الصمت وظلوا عددا كبيرا من السنين لا تنفرج شفاههم عن كلمة واحدة. ومنهم من كانوا يحملون معهم أوزانا ثقالا أينما ذهبوا. ومنهم من كانوا يشدون أعضاءهم بأطواق أو قيود أو سلاسل، ومنهم من كانوا يفخرون بعدد السنين التي لم ينظروا فيها إلى وجه امرأة. وكان النساك المنفردون جميعهم تقريبا يعيشون على قدر قليل من الطعام. ومنهم من عمروا طويلا. ويحدثنا جيروم عن رهبان لم يطعموا شيئا غير التين وخبز الشعير، ولما مرض مكاريوس جاءه بعضهم بعنب فلم تطاوعه نفسه على التمتع بهذا الترف، وبعث به إلى ناسك آخر، وأرسله هذا إلى ثالث حتى طاف العنب جميع الصحراء (كما يؤكد لنا روفينس)، وعاد مرة أخرى كاملا إلى مكاريوس. وكان الحجاج، الذين جاءوا من جميع أنحاء العالم المسيحي لشاهدوا رهبان الشرق، يعزون إلى أولئك الرهبان معجزات لا تقل في غرابتها عن معجزات المسيح، فكانوا – كما يقولون - يشفون الأمراض ويطردون الشياطين باللمس أو بالنطق بكلمة، وكانوا يروضون الأفاعي أو الآساد بنظرة أو دعوة، ويعبرون النيل على ظهور التماسيح، وقد أصبحت مخلفات النساك أثمن ما تملكه الكنائس المسيحية، ولا تزال مدخرة فيها حتى اليوم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 وكان رئيس الدير يطلب إلى الرهبان أن يطيعوه طاعة عمياء، ويمتحن الرهبان الجدد بأوامر مستحيلة التنفيذ يلقيها عليهم، وتقول إحدى القصص إن واحداً من أولئك الرؤساء أمر راهباً جديداً أن يقفز في نار مضطرمة فصدع الراهب الجديد بالأمر، فانشقت النار حتى خرج منها بسلام. وأمر راهب جديد آخر أن يغرس عصا رئيسه في الأرض ويسقيها حتى تخرج أزهراً، فلبث الراهب عدة سنين يذهب إلى نهر النيل على بعد ميلين من الدير يحمل منه الماء ليصبه على العصا، حتى رحمه الله في السنة الثالثة فأزهرت. ويقول جيروم إن الرهبان كانوا يأمرون بالعمل (لئلا تضلهم الأوهام الخطرة). فمنهم من كان يحرث الأرض، ومنهم من كان يعني بالحدائق أو ينسج الحصر أو السلاسل، أو يصنع أحذية من الخشب، أو ينسخ المخطوطات. وقد حفظت لنا أقلامهم كثيرا من الكتب القديمة. على أن كثيرين من الرهبان المصريين كانوا أميين يحتقرون العلوم الدنيوية ويرون أنها غرور وباطل. ومنهم من كان يرى أن النظافة لا تتفق مع الإيمان، وقد أبت العذراء سلفيا أن تغسل أي جزء من جسدها عدا أصابعها، وكان في أحد الأديرة النسائية 130 راهبة لم تستحم واحدة منهن قط أو تغسل قدميها، ولكن الرهبان أنسوا إلى الماء حوالي آخر القرن الرابع، وسخر الأب إسكندر من هذا الانحطاط فأخذ يحن إلى تلك الأيام التي لم يكن فيها الرهبان (يغسلون وجوههم قط). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 وكان الشرق الأدنى ينافس مصر في عدد رهبانها وراهباتها وعجائب فعالهم. فكانت أنطاكية وبيت المقدس خليتين مليئتين بالصوامع والرهبان والراهبات، وكانت صحراء سوريا غاصة بالنساك، منهم من كان يشد نفسه بالسلاسل إلى صخرة ثابتة لا تتحرك كما يفعل فقراء الهنود، ومنهم من كان يحتقر هذا النوع المستقر من المساكن، فيقضي حياته في الطواف فوق الجبال يطعم العشب البري. ويروي لنا المؤرخون أن سمعان العمودي Simeon Stylites (390؟ - 459) كان لا يذوق الطعام طوال الصوم الكبير الذي يدوم أربعين يوماً. وقد أصر في عام من الأعوام أثناء هذا الصوم كله على أن يوضع في حظيرة وليس معه إلا القليل من الخبز والماء. وأخرج من بين الجدران في يوم عيد الفصح فوجد أنه لم يمس الخبز أو الماء. وبني سمعان لنفسه في عام 422 عموداً عند قلعة سمعان في شمالي سوريا وعاش فوقه. ثم رأى أن هذا اعتدال في الحياة يجلله العار فأخذ يزيد من ارتفاع العمد التي يعيش فوقها حتى جعل مسكنه الدائم فوق عمود يبلغ ارتفاعه ستين قدماً ولم يكن محيطه في أعلاه يزيد على ثلاثة أقدام، وكان حول قمته سور يمنع القديس من السقوط على الأرض حين ينام. وعاش سمعان على هذه البقعة الصغيرة ثلاثين عاماً متوالية معرضاً للمطر والشمس والبرد. وكان أتباعه يصعدون إليه بالطعام وينقلون فضلاته على سلم يصل إلى أعلى العمود، وقد شد نفسه على هذا العمود بحبل حز في جسمه، فتعفن حوله، ونتن وكثرت فيه الديدان، فكان يلتقط الدود الذي يتساقط من جروحه ويعيده إليها ويقول: (كلي مما أعطاك الله!). وكان يلقى من منبره العالي مواعظ على الجماهير التي تحضر لمشاهدته، وكثيراً ما هدى المتبربرين، وعالج المرضى، واشترك في السياسة الكنسية، وجعل المرابين يستحون فينقصون فوائد ما يقرضون من المال إلى ستة في المائة بدل اثني عشر. وكانت تقواه سبباً في إيجاد طريقة النسك فوق الأعمدة، وهي الطريقة التي دامت اثني عشر قرناً، ولا تزال باقية حتى اليوم بصورة دنيوية خالصة) (1).ومثل ذلك ذكر هرلبت في كتابه (2). ودي سي سيندرول (3). وستر زي غواسكي (4). وبروكوبيوس (5). وونكل مين (6). فجاء الإسلام فهذب هذه التعاليم ونقحها، وحذف منها الغلو والتطرف، ومنع الناس عن التشدد في الدين، وتعذيب النفس، وعرفهم الحنيفية السمحة البيضاء، النزيهة عن الانغماس في الدنيا والجري وراء ملذاتها وشهواتها، كما راعى جانب الطبيعة والفطرة، وأباح الطيبات من الرزق والحلال من المال، والتمتع بالجائز من الدنيا، فوضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، وأمرهم بالقصد والاعتدال بين التجرد المحض والتزهد الصرف، وبين الإسراف المطلق والتقتير الفاحش، فقال جل وعلا في كتابه الذي أنزله على سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه:   (1) قصة الحضارة لول ديورانت ترجمة عربية لمحمد بدران ج12 ص 119 إلى 123 ط الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية القاهرة 1964 هـ. (2) The Story Of The Christian Church P8 89 ، 1933. (3) A Short History Of Our Religion London ، 1922. (4) Origin Christian Church Art ، 4-6 Oxford ، 1933. (5) Buildings ، Loeb. Lib I ، 10. (6) History Of Ancient Art ، I ، 350-1، Finlay ، 195. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 16 يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف:31 - 32] وقال: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إليك وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77] وقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ٌ [البقرة:29] وقال: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:14] وقال: وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إلى حِينٍ وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل:80 - 81] وقال: وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [النحل:5 - 7] وقال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10]. وجعل المال قواماً للإنسان حيث قال: وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً [النساء:5]. وقال: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]. ووَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ [البقرة:212]. وأمر المؤمنين أن يتوجهوا إليه بطلب الدنيا وحسناتها مع الآخرة وحسناتها قائلين: وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]. كما أمر من اجتمع عنده مال الدنيا ورزقها أن يخرج منها حقا للسائل والمحروم وزكاة وصدقة، وأن يعمروا مساجد الله، وينفقوا على ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فقال تعالى: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19] وقال: كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]. وقال: فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ [الروم:38]. وقال مع ذلك: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء:27]. كما قال: وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 17 فهذا ما قد ورد في كتاب الله، وما أكثره في هذا المعنى. وأما سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الأصل الثاني للشريعة الإسلامية فلم يرد فيها أن صاحبها صلى الله عليه وسلم قال لمن أراده أن يتبعه: بع واتبعني، بل قال لمن كان يريد أن يتصدق بأكثر ماله – وهو سعد بن أبي وقاص – وكان مريضا في حجة الوداع فعاوده الرسول صلى الله عليه وسلم وكان عازما على الصدقة بثلثي ماله، وفي رواية أخرى: بماله كله، فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم عما ترك لولده – وفي رواية أنه لم يكن له إلا بنت -، فقال: ((الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس)) (1). وكذلك نهي كعب بن مالك عن التصدق بجميع ماله كما ورد في الصحيحين أن عبيد الله بن كعب بن مالك قال: سمعت كعب بن مالك يحدث بحديث توبته، قال فقلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أمسك بعض مالك فهو خير لك)) (2).وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: ((نعم المال الصالح للرجل الصالح) (3). وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)) (4).وفي الصحيحين أيضا عن أم سليم أنها قالت: يا رسول الله، خادمك أنس ادع له – فدعا له رسول الله عليه الصلاة والسلام – وفيما دعا له أن يكثر ماله: ((اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيهما)) (5).وكان صلى الله عليه وسلم يردد كثيرا: ((ما نفعني مال كمال أبي بكر)) (6).و ((إن من أمنَّ الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر)) (7).كما أمر أم هانئ باتخاذ الغنم حيث قال: ((اتخذي غنما، فإن فيها بركة)) (8). وادخر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهله قوت سنة كما ورد في الصحاح، واللفظ لمسلم عن عمر أنه قال: (كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله)) – وفي رواية – ((كان يحبس منه قوت أهله لسنة)) (9). وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أحكام الزكاة والصدقات والإنفاق في سبيل الله، ولم تكن هذه الأحكام إلا لمن يملكه، ولو لم يكن ما كان لبيانها غرض ولا فائدة. فهذه هي تعاليم الكتاب والسنة، وفي ضوء هذه نرى الصوفية والمتقدمين منهم بالأخص والمتأخرين أيضا بأيتهما يتمسكون؟ لكي يتضح الأمر عن مرجع تصوفهم ومعول أمرهم.   (1) رواه البخاري (3936) ومسلم (1628) (2) رواه البخاري (4676) ومسلم (2769) (3) الحديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم رواه أحمد (4/ 197) (17798) وابن حبان (3210) والبيهقي في الشعب (2/ 446) واللفظ له، وصححه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (140) (4) رواه البخاري (73) واللفظ له، ومسلم (816) (5) رواه البخاري (6334) ومسلم (2480) بلفظ فيما أعطيته بدل فيهما، ولمسلم (660) بلفظ بارك له فيه. (6) الحديث رواه بلفظ مقارب الترمذي (3661) وابن ماجه (94) وأحمد (2/ 253) (7439) وابن حبان (6858) قال الترمذي حسن غريب من هذا الوجه، وصححه الألباني (7) رواه البخاري (3654) ومسلم (2382) (8) رواه ابن ماجه (2304) واللفظ له والطبراني (21061) وصححه الألباني (9) رواه البخاري (2904) ومسلم (1757) واللفظ له وارواية الثانية رواها أبو داود (2965) والنسائي (4140) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 18 فذكر المحاسبي المتوفى 243هـ عن صوفي قديم آخر إبراهيم بن أدهم أنه قال: إن كنت تحب أن تكون لله وليا، وهو لك محبا فدع الدنيا والآخرة، ولا ترغبن فيهما (1). ونقل السهر وردي والسراج الطوسي والقشيري عن السري السقطي المتوفى سنة 251 هـ أنه قال: (لا يكن معك شيء تعطي منه أحد) (2).وذكر القشيري عن واحد آخر من الصوفية الأوائل داود الطائي المتوفى 165 هـ أنه قال: (صم عن الدنيا، واجعل فطرك الموت، وفر من الناس كفرارك من السبع) (3). وسيد الطائفة الجنيد البغدادي يقول: (أحب للمريد المبتدئ أن لا يشغل قلبه بالتكسب، وإلا تغير حاله (4). ويقول أيضا: (ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات (5). ويبين ابن عجيبة الحسني حالة أهل التصوف في كتابه (إيقاظ الهمم): (وكان بعضهم إذا أصبح عنده شيء أصبح حزينا، وإذا لم يصبح عنده شيء أصبح فرحا مسرورا (6). وقال أيضا: (الفقر أساس التصوف، وبه قوامه (7). وروى مثل ذلك عن أبي محمد رويم المتوفى 303 هـ أنه قال: (مبنى التصوف على الفقر) (8).نعم، الفقر الذي تعوذ منه سيد الخلائق المدعم بالوحي، والمعصوم بعصمة الله وقال: ((اللهم إني أعوذ بك من الفقر)) (9). فجعلوا ذلك الفقر أساس التصوف وقوامه، وأقاموا بناءه عليه. ونقل الطوسي عن الجنيد أنه سئل عن الزهد فقال: (الزهد هو تخلي الأيدي من الأملاك) (10).وبمثل ذلك قال رويم بن أحمد الصوفي المتوفى 303 هـ حينما سئل عن الزهد ما هو؟. فقال: (هو ترك حظوظ النفس من جميع ما في الدنيا) (11). وذكر الشعراني عن ابن عربي أنه قال: (من أراد فهم المعاني الغامضة من كلام الله عز وجل وكلام رسوله وأوليائه فليزهد في الدنيا حتى يصير ينقبض خاطره من دخولها، ويفرح لزوالها) (12). وينقل أيضا عن إبراهيم المتبولي أنه قال: (كل فقير لا يحصل له جوع ولا عري فهو من أبناء الدنيا) (13). وذكر الصوفي عماد الدين الأموي في كتابه (حياة القلوب) أن رجلا دخل على بعض الصوفية يتكلم في الزهد وعنده قميص معلق وعليه آخر، فقال: يا شيخ، أما تستحي أن تتكلم في الزهد ولك قميصان (14). وزجر السري السقطي رجلا كان يملك عشرة دراهم وقال:   (1) المحبة للمحاسبي نقلا عن ملحق تاريخي في آخر كتاب ((ختم الأولياء)) بتحقيق عثمان إسماعيل ط بيروت. (2) ((عوارف المعارف)) للسهروردي (ص 92)، ((اللمع)) للطوسي (ص 262)، ((الرسالة القشيرية)) (1/ 71). (3) ((الرسالة القشيرية)) لأبي القاسم القشيري (1/ 84). (4) ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي (1/ 267)، أيضا ((غيث المواهب العلية)) للنفزي الرندي (ص 208). (5) ((الرسالة القشيرية)) (1/ 117). (6) ((إيقاظ الهمم)) لابن عجيبة الحسني (ص 213) الطبعة الثالثة مصطفى البابي الحلبي 1402 هـ. (7) أيضا. (8) ((اصطلاحات الصوفية)) لكمال الدين عبد الرزاق القاشاني من صوفية القرن الثامن الهجري (ص 76) ط الهيئة المصرية العامة للكتاب مصر. (9) رواه أبو داود (1544) والنسائي (5460) وأحمد (2/ 305) (8039) وابن حبان (1030) والحاكم (1983) وقال صحيح الإسناد على شرط مسلم، وصححه الألباني (10) ((اللمع)) للطوسي (ص 72)، أيضا ((مناقب الصوفية)) لقطب الدين المروزي (ص 55) ط طهران 1362 هجري قمري. (11) ((اللمع)) للطوسي (ص 72). (12) ((اليواقيت والجواهر)) للشعراني (1/ 26) مصطفى البابي 1378 هـ. (13) ((الأخلاق المتبولية)) للشعراني (2/ 94) تحقيق عبد الحليم محمود ط مطبعة حسان – القاهرة. (14) ((حياة القلوب في كيفية الوصول على إلى المحبوب)) لعماد الدين الأموي (2/ 122) على هامش ((قوت القلوب)). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 19 أنت تقعد مع الفقراء ومعك عشرة دراهم (1). وذكر الكلاباذي عن أحمد بن السمين أنه قال: كنت أمشي في طريق مكة، فإذا أنا برجل يصيح: أغثني يا رجل، الله، الله. قلت مالك، مالك؟ خذ مني هذه الدراهم، فإني ما أقدر أن أذكر الله وهي معي، فأخذتها منه فصاح: لبيك اللهم لبيك، وكانت أربعة عشر درهما (2). وقال سهل بن عبد الله التستري: اجتمع الخير كله في هذه الأربع خصال، وبها صار الأبدال أبدالا: أخماص البطون، والصمت والخلوة، والسهر (3). وينقل الهجويري عن أبي بكر الشبلي أن واحدا من علماء الظاهر سأله على سبيل التجربة عن الزكاة قائلا: (ما الذي يجب أن يعطى من الزكاة؟. قال: حين يكون البخل موجودا ويحصل المال فيجب أن يعطى خمسة دراهم عن كل مائتي درهم، ونصف دينار عن كل عشرين دينارا، هذا في مذهبك. أما في مذهبي فيجب أن لا تملك شيئا حتى تتخلص من مشغلة الزكاة (4). وقال الهجويري: (السكون إلى مألوفات الطبع يقطع صاحبها عن بلوغ درجات الحقائق (5). وينقلون عن الرفاعي أحمد بن أحمد بن أبي الحسين صاحب الطريقة الرفاعية أنه كان يقول: (أكره للفقراء دخول الحمام، وأحب لجميع أصحابي الجوع والعري والفقر والذل والمسكنة، وأفرح لهم إذا نزل بهم ذلك) (6). ونقل أبو المظفر أن أبا بكر الوراق قال: (الزهد مركب من الحروف الثلاثة: الزاء، والهاء، والدال، فالزاي ترك الزينة، والهاء ترك الهوى، والدال ترك الدنيا) (7).ونقل أبو طالب المكي عن سفيان أنه قال: (الصائم إذا اهتم في أول النهار بعشائه كتب عليه خطيئة، وكان سهل (التستري) يقول: إن ذلك ينقص من صومه) (8). ونقل عن حذيفة المرعشي أنه قال: (منذ أربعين سنة لم أملك إلا قميصا واحدا) (9).وذكر الكلاباذي في تعرفة عن أبي الحسن محمد بن أحمد الفارسي أنه قال: (من أركان التصوف ترك الاكتساب وتحريم الادخار) (10).ونقل نجم الدين الكبري المتوفى 618 هـ: التصوف هو نبذ الدنيا كلها (11). ويقول الهروي عبد الله الأنصاري المتوفى 481 هـ: (الزهد أصله تعذيب الظاهر بترك الدنيا) (12).   (1) ((طبقات الأولياء)) لابن الملقن المتوفى 804 هـ نشر مكتبة الخانجي القاهرة 1393 هـ. (2) ((التعرف لمذهب أهل التصوف)) للكلاباذي (ص 185) ط القاهرة 1400 هـ. (3) ((غيث المواهب العلية)) للنفزي الرندي المتوفى 792 هـ (ص92، 93) ط القاهرة. (4) ((كشف المحجوب)) للهجويري (ص 558). (5) ((كشف المحجوب)) للهجويري (ص 558) 361. (6) ((النفحة العلية في أوراد الشاذلية)) لعبد القادر زكي (ص 263) ط مكتبة المثنى القاهرة، أيضا ((الأنوار القدسية)) للشعراني (1/ 132) ط دار إحياء التراث العربي بغداد 1984 م. (7) انظر ((مناقب الصوفية)) (فارسي) لأبي المظفر المروزي (ص 55) باهتمام محمد تقي وايرج افشار ط إيران. (8) ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي (2/ 9). (9) أيضا (ص 21). (10) ((التعرف لمذهب أهل التصوف)) (ص 108) ط مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة. (11) ((فواتح الجمال وفواتح الجلال)) لنجم الدين الكبري (ص 59). (12) ((منازل السائرين مع العلل والمقامات)) (ص 296) ط إيران 1361 هجري قمري. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 20 وينقل ابن الملقن عن أستاذ الجنيد أنه قال: (علامة الفقير الصادق أن يفتقر بعد الغنى، وينحط بعد الشهرة) (1).وينقل السلمي عن سمنون المحب – وهو من أصحاب السري السقطي – أنه سئل عن الفقير الصادق فقال: (الذي يأنس بالعدم كما يأنس الجأهل بالغنى، ويستوحش من الغنى كما يستوحش الجأهل من الفقر) (2).وذكروا عن أبي يزيد البسطامي أنه سئل: بأي شيء نلت هذه المعرفة؟ فقال: (ببطن جائع وبدن عار) (3). وأخيرا ذكر الكلاباذي عن الصوفية فقال: (أنهم قوم تركوا الدنيا فخرجوا عن الأوطان، وهجروا الأخدان، وساحوا في البلاد، وأجاعوا الأكباد، وأعروا الأجساد) (4). مع اعترافهم بأن هذه هي المسيحية كما نص على ذلك أبو طالب المكي حيث قال: (روينا عن عيسى عليه السلام أنه قال: (أجيعوا أكبادكم، وأعروا أجسادكم لعل قلوبكم ترى الله عز وجل (5). فالنصوص في هذا المعنى أكثر من أن تعد وتحصى، وأن يسعها كتاب فهيهات هيهات أن يسعها باب أو جزء من الباب، وكل هذه النصوص تنطق صراحة عن مصدرها الأصلي ومرجعها الحقيقي، ولا علاقة لها بتعاليم الإسلام وإرشاداته، بل أنها مخالفة تماما لتلك، ولكي يسهل على القراء والباحثين المقارنة ذكرنا ما ورد في القرآن والسنة في هذا الخصوص، كما أوردنا قبل ذلك توجيهات مسيحية وتعاليم رهبانية وعلى ذلك قال C.H. BECKE وآسين بلاثيوس، ونيكلسون بأن ترك الدنيا، ومعنى التوكل جاء في التصوف من المسيحية. ونص فون كريمر على أن الزهد الصوفي نشأ بتأثير من الزهد المسيحي (6). وقال جولد زيهر: (إن مدح الفقر وإيثاره على الغنى كان من العناصر النصرانية (7). وأقر بذلك الكاتب الإيراني الكبير الدكتور قاسم غني في كتابه (تاريخ التصوف في الإسلام) (8). المصدر: التصوف المنشأ والمصادر لإحسان إلهي ظهير   (1) ((طبقات الأولياء)) لابن الملقن المتوفى 804 هـ ص 152 ط مكتبة الخانجي القاهرة 1973 م. (2) ((طبقات السلمي)) (ص 47). (3) ((قوت القلوب)) (ص 168)، أيضا ((الرسالة للقشيري)) (ص 88). (4) ((التعرف)) للكلاباذي (ص 29). (5) انظر ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي (2/ 167). (6) انظر لذلك كتاب فون كريمر تاريخ الأفكار الواردة في الاسم نقلا عن مقدمة الكتاب في التصوف الإسلامي وتاريخه للدكتور أبي العلاء العفيفي صهـ، و. وأيضا ((الفكر العربي ومكانته في التاريخ)) للمستشرق أوليري ترجمة تمام حسان (ص 194، 195) ط القاهرة. (7) انظر كتاب ((التصوف الإسلامي منهجا وسلوكا)) للدكتور عبد الرحمن عميره ص 33 ط مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة، وكتاب ((مدخل إلى التصوف الإسلامي)) للدكتور التفتازاني (ص 28). (8) انظر (ص 100) ترجمة عربية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 21 المبحث الثالث: الزّاويَةُ وَالملْبَسُ: وأما التزام الصوفية لبس الصوف لكونه شعارا وعلامة لهم فأيضا مأخوذ من رهبنة المسيحية لأنه كان زيهم الخاص بهم كما أقر بذلك الصوفي المشهور في طبقاته عن أبي العالية أنه كان (يكره للرجل زي الرهبان من الصوف، ويقول: زينة المسلمين التجمل بلباسهم (1) ومثل ذلك نقل ابن عبد ربه في (العقد الفريد) عن حماد بن سلمة أنه قال لفرقد السنجي حينما رآه لابسا الصوف: (دع عنك هذه النصرانية (2). وأورد ابن الجوزي مثل هذه الرواية بسنده حيث قال: (أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد، حدثنا حمد بن أحمد الحداد، حدثنا أبو نعيم الحافظ، حدثنا أبو حامد بن جبلة، حدثنا حمد بن إسحاق، حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث، حدثنا هارون بن معروف، عن ضمرة، قال: سمعت رجلا يقول: قدم حماد بن سلمة البصرة، فجاءه فرقد السنجي وعليه ثوب صوف، فقال له حماد: ضع عنك نصرانيتك هذه، فلقد رأيتنا ننتظر إبراهيم – يعني النخعي – فيخرج علينا وعليه معصفرة (3). وأورد أيضا رواية أخرى مسندة بطريق البخاري رحمة الله عليه قال: أخبرنا محمد بن ناصر وعمر بن ظفر، قالا: حدثنا محمد بن الحسن الباقلاوي، حدثنا القاضي أبو العلاء الواسطي، حدثنا أبو نصر أحمد بن محمد السازكي، حدثنا أبو الخير أحمد بن حمد البزار، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا علي بن حجر، حدثنا صالح بن عمر الواسطي عن أبي خالد، قال: جاء عبد الكريم أبو أمية إلى أبي العالية وعليه ثياب صوف، فقال له أبو العالية: (إنما هذه ثياب الرهبان، إن المسلمين إذا تزوروا تجملوا (4). ونقل الشعراني عن سهل التستري حكاية باطلة غريبة تدل على أن الصوف كان لباس أصحاب المسيح، وهذا هو نصها: أن سهل بن عبد الله التستري كان يقول: (اجتمعت بشخص من أصحاب المسيح عليه السلام في ديار قوم عاد فسلمت عليه، فرد علي السلام، فرأيت عليه جبة من صوف فيها طراوة، فقال لي: إن لها علي من أيام المسيح، فتعجبت من ذلك. فقال: يا سهل إن الأبدان لا تخلق الثياب، إنما يخلقها رائحة الذنوب، ومطاعم السحت، فقلت له: فكم لهذه الجبة عليك؟ فقال: لها سبعمائة سنة (5). وذكر السهر وردي أيضا أنه كان الصوف لباس عيسى عليه السلام فقال: (كان عيسى عليه السلام يلبس الصوف، ويأكل من الشجرة، ويبيت حيث أمسى (6). ومثل ذلك ذكر الكلاباذي (7). (وعلى ذلك قال نولدكة ونيكلسون وماسينيون إن التصوف الإسلامي أخذ لبسة الصوف من الرهبان النصارى).   (1) ((طبقات الشعراني)) (1/ 35). (2) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (3/ 378) ط القاهرة 1293 هـ. (3) ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي المتوفى 596 هـ ص 219 ط دار الوعي المربى بيروت. (4) ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص 219، 220). (5) ((الطبقات الكبرى)) للشعراني (1/ 78). (6) ((عوارف المعارف)) للسهر وردي (ص 59) باب في ذكر تسميتهم بهذا الاسم ط دار الكتاب العربي. (7) ((التعرف لمذهب أهل التصوف)) لأبي بكر محمد الكلاباذي (ص 31). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 22 وزاد نيكلسون أشياء في مقالاته العديدة التي نشرت في دوائر المعارف، وجمعت بعضها باسم (الدراسات في التصوف الإسلامي وتاريخه) منها ما قاله تحت عنوان: الزهد في الإسلام: (كان عرب الجاهلية على حظ قليل من التفكير الديني، وكان تفكيرهم في هذه الناحية مضطرباً وغامضاً. وقد شغلهم انهماكهم في متع الحياة ومتاعبها عن التفكير في حياة أخروية، ولم يخطر ببالهم أن يعدوا أنفسهم لحياة روحية وراء حدود القبر. وقد غرست المسيحية – لا الكنيسة المسيحية، بل المسيحية غير التقليدية وغير المنظمة – بذور الزهد في بلاد العرب قبل البعثة المحمدية، وظل أثرها يعمل عمله في تطور الزهد في الإمبراطورية الإسلامية في عصورها الأولى. ونحن نعلم أن المسيحية كانت منتشرة قبل الإسلام بين قبائل شمالي الجزيرة العربية، وأن كثيراً من العرب كانوا على شيء من العلم – مهما كان قليلا وسطحيا – بعقائد الديانة المسيحية وطقوسها. بل إن الإشارات التي وردت في الشعر الجاهلي عن رهبان المسيحيين لتدل على أن عرب البادية كانوا يجلون هؤلاء الرهبان ويعظمونهم، وكانوا يهتدون بأنوارهم المنبعثة من صوامعهم في ظلام الليل وهم يسيرون في الصحراء فضرب هؤلاء الرهبان وغيرهم من الزهاد الهائمين على وجوههم، مثلا للعرب الوثنيين في الزهد، وحركوا في نفوس بعضهم، وهم المعروفون بالحنفاء، ميلاً إلى النفور من الأوثان ورفض عبادتها. فدان هؤلاء بعقيدة التوحيد، واصطنع بعضهم الزهد ومجاهدة النفس، ولبسوا الصوف وحرموا على أنفسهم بعض أنواع الطعام (1). وقال أيضا: (كانت الثياب المصنوعة من خشن الصوف علامة على الزهد قبل الإسلام، وفي هذا حاكى العرب رهبان المسيحيين. وقد شاع استعمال هذا النوع من الثياب بين زهاد المسلمين الأوائل، ومنه اشتق اسم الصوفية الذي استعمل قبل نهاية القرن الثاني الهجري. على أن اسما آخر أطلق على هؤلاء الزهاد وإن كان أقل شيوعا من اسم الصوفي وهو (مسوحي) نسبة إلى مسوح جمع مسح وهو اللباس من الشعر. وقد جرت العادة بأن يلبس الزهاد، رجالا كانوا أو نساء، جبة مدرعة من الصوف وأن تلبس المرأة أحيانا غطاء على الرأس من القماش نفسه، وهذا الغطاء هو المعروف بالخمار. وقد استنكر سفيان الثوري المتوفى سنة 161 هـ لبس الصوف، وعده بدعة، واستنكر كذلك غيره من المسلمين لأنهم اعتبروه رمزا للمسيحية وعلامة على الرياء (2). وقال أيضا تحت عنوان التصوف باحثا عن كلمة الصوفي نقلا عن نولدكه: (إن المسلمين في القرنين الأولين للإسلام كانوا يلبسون الصوف، وبخاصة من سلك منهم طريق الزهد، وأنهم كانوا يقولون: لبس فلان الصوف: بمعنى تزهد ورغب عن الدنيا. فلما انتقل الزهد إلى التصوف قالوا: لبس فلان الصوف بمعنى: أصبح صوفيا. وكذلك الحال في اللغة الفارسية: فإن قولهم (بشمينا بوش) معناه: يلبس لباس الصوف. وقد أخذ زهاد المسلمين الأوائل عادة لبس الصوف عن رهبان المسيحيين ونساكهم، يدل على ذلك أن حماد بن أبي سليمان قدم البصرة، فجاءه فرقد السنجي وعليه ثياب صوف فقال له حماد ضع عنك نصرانيتك هذه. وقد أطلقوا على هذه الثياب (زي الرهبان)، واستشهدوا بحديث معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن عيسى كان يلبس ثياب الصوف (3).   (1) ((دراسات في التصوف الإسلامي وتاريخه)) لنيكلسون ترجمة أبي العلاء العفيفي (ص 42، 43). (2) ((دراسات في التصوف الإسلامي وتاريخه)) لنيكلسون ترجمة أبي العلاء العفيفي (ص 48). (3) ((دراسات في التصوف الإسلامي وتاريخه)) لنيكلسون ترجمة أبي العلاء العفيفي (ص 67، 68). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 23 وقال جولدزيهر: (وقد حاكى هؤلاء الزهاد المسلمون وعبادهم نساك النصارى ورهبانهم، فارتدوا الصوف الخشن (1). هذا وبمثل هذا قال الدكتور قاسم غني: (إن ارتداء الملابس الصوفية أو التصوف الذي نشأ عنه كلمة الصوفية كما تقدم كان من عادات الرهبان المسيحيين، ثم صار فيما بعد شعارا للزهد عند الصوفية. والدلق الذي ورد ذكره في أشعار الصوفية وكتبهم استعمل في معنى لباس الصوفية في كل مكان. أي الخرقة التي كانوا يرتدونها فوق جميع الملابس والظاهر أنها كانت من صوف. والدلق إما أن يكون من قطعة واحدة أو مرقعا، ويسمى بالدلق المرقع في هذه الحال، وإذا كان من ألوان مختلفة يسمى حينئذ (الدلق الملمع) والدلق عند صوفية الإسلام سواء كان لونه أزرق أو كان أسود يسمى دائما: (بالدلق الأزرق) وخرقة الرهبان التي كانت على ما يظهر بيضاء في بادئ الأمر صارت بعد ذلك سوداء وزمرة (السوكواران) أي المفجوعون، الذين يتكلم عنهم الفردوسي في الشاهنامة ليسوا إلا أساقفة المناظرة المسيحيين ممن لجأوا إلى إيران في القرن الثالث الميلادي وهم الذين كانوا يلبسون ملابس الصوف الخشنة على أجسامهم كي يكون ذلك نوعا من التقشف والأخششان، فكان إصطلاح (صوفي) و (صوفية) الذي هو بالفارسية (بشمينه بوش) أي لابس الصوف وكان يطلق على رجال المسيحيين ونسائهم (2). ولا بأس من إيراد تعليقة ذكرت تحت هذه العبارة: (ويقول ياقوت في كتاب (معجم البلدان) في حواشي (دير العذارى): وقال أبو الفرج: ودير العذارى بسر من رأى إلى الآن موجود يسكنه الرواهب. وحدث الجاحظ في كتاب (المعلمين) قال: حدثني ابن الفرج الثعلبي: أن فتيانا من بني ملاص من ثعلبة أرادوا القطع على مال يمر بهم قرب دير العذارى فجاءهم من أخبرهم أن السلطان قد علم بهم وأن الخيل قد أقبلت تريدهم، فاستخفوا في دير العذارى، فلما صاروا فيه سمعوا وقع حوافر الخيل التي تطلبهم راجعة، فأمنوا ثم قال بعضهم لبعض: ما الذي يمنعكم أن تأخذوا بالقس فتشدوا وثاقه ثم يخلو كل واحد منكم بهذه الأبكار، فإذا طلع الفجر تفرقنا في البلاد، وكنا جماعة بعدد الأبكار اللواتي كن أبكارا في حسابنا. ففعلنا ما اجتمعنا عليه، فوجدناهن جميعا ثيبات قد فرغ منهن القس قبلنا .. فقال بعضنا: ودير العذارى فضوح لهن ... وعند القسوس حديث عجيب خلونا بعشرين صوفية ... نيك الرواهب أمر غريب إذا هن يرهزن رهز الظراف ... وباب المدينة فج رحيب ويبدو من تعبير (الصوفية) في هذا الشعر أن المقصود منه الراهبات المسيحيات (3). ولذلك خالف علماء الأمة وفقهاؤها لبسه. فلقد نقل الإمام ابن تيمية عن أبي الشيخ الأصبهاني عن إسناده أن ابن سيرين بلغه أن قوما يفضلون لباس الصوف فقال: (إن قوما يتخيرون الصوف يقولون إنهم متشبهون بعيسى ابن مريم، وهدي نبينا أحب إلينا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس القطن وغيره (4). كما نقل ابن الجوزي عن أحمد بن أبي الجواري أنه قال: قال لي سليمان بن أبي سليمان: (أي شيء أرادوا بلباس الصوف؟ قلت: التواضع. قال: ما يتكبر أحد إلا إذا لبس الصوف. ونقل عن سفيان الثوري أنه قال لرجل عليه صوف: لباسك هذا بدعة. كما روى عن الحسن بن الربيع أنه قال:   (1) ((المجلة الآسيوية الملكية)) 1891 (ص 153) نقلا عن ((نشأة الفلسفة الصوفية)) للدكتور عرفان عبد الحميد (ص 111) ط المكتب الإسلامي بيروت 1974 م. (2) ((تاريخ التصوف في الإسلام)) لقاسم غني ترجمة عربية لصادق نشأت (ص10110، 10201) ط مكتبة النهضة القاهرة 1970 م. (3) أيضا تعليقه رقم 2 ص 102. (4) ((الصوفية والفقراء)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 7) ط دار الفتح القاهرة 1984 م. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 24 سمعت عبد الله بن المبارك يقول لرجل رأى عليه صوفا مشهورا: أكره هذا، أكره هذا. وروي عن بشر بن الحارث أنه سئل عن لبس الصوف. فشق عليه، وتبين الكراهة في وجهه، ثم قال: لبس الخز والمعصفر أحب إلى من لبس الصوف في الأمصار. وروي عن أبي سليمان الداراني أنه قال لرجل لبس الصوف: إنك قد أظهرت آلة الزاهدين، فماذا أورثك هذا الصوف. كما روي عن النضر بن شميل أنه قال لبعض الصوفية: تبيع جبتك الصوف؟ فقال: إذا باع الصياد شبكته بأي شيء يصطاد (1). هذا ونقل عن غيره مثل هذا. هذا من ناحية الملابس. وأما اتخاذهم الخانقاوات والتكايا والزوايا، وانعزالهم عن الدنيا فلم تكن إلا مأخوذة من الرهبنة المسيحية أيضا كما ذكرنا فيما مر نقلا عن الجامي في نفحاته أن أول خانقاه بنيت هي التي بناها أمير مسيحي من الرملة في الشام (2). وهي تشبه تماما أديرة الرهبان النصارى ذات الأسوار العالية البعيدة عن عالم الناس والعمران، نتيجة للهروب من عالم الترف المادي إلى عالم الترف الروحي، ومن هذه الأديرة تطورت كثير من الأفكار الإيجابية، خرج بها رهبان لفتح حقول جديدة على مبادئ من الطهارة والفقر والخضوع. (أما الطهارة فكان معناها ليس تطهير الجسد بالصوم، بل كانت تعني فوق ذلك قطع علاقات محبة الأب أو الأم أو الابن أو الأخت حتى يكون الراهب أقدر على خدمة البشر، وتصبح المحبة هنا ديانة إنسانية شاملة زأما الفقر فكان يعني التحرر المطلق من قيود الأشياء، ورفض المصالح المادية من أجل خدمة الإنسان، وكان الخضوع يعني الاستسلام الكامل لإرادة الله للقيام بالواجبات (3). ولقد صرح الدكتور قاسم غني أن المسيحية: (استطاعت أن تعلم صوفية المسلمين آدابا وعادات كثيرة عن طريق زمرة المتقشفين وفرق الرهبان المتجولين، ولا سيما الجماعات السورية المتجولة في كل مكان ممن كانوا على الأغلب من فرق النصارى النسطوريين، في حين أن تأثير كنائس المسيحية في المسلمين كان في نطاق محدود جدا. وأن الحياة في الصوامع والخانقاوات كانت أيضا مقتبسة من المسيحية إلى حد كبير (4).   (1) انظر ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص 221، 222). (2) انظر ((نفحات الأنس)) للجامي (فارسي). (3) ((الفلسفة الصوفية في الإسلام)) للدكتور عبد القادر محمود (ص39) ط دار الفكر العربي القاهرة. (4) ((تاريخ التصوف في الإسلام)) للدكتور قاسم غني ترجمة عربية (ص 103). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 25 وبمثل ذلك قال نيلكسون، المستشرق الإنجليزي الكبير الذي عرف باختصاصه في الدراسات عن التصوف، حيث يذكر تحت تطور الزهد في العصور الوسطى: (لم يخرج الصوفية كثيرا على الحديث القائل: لا رهبانية في الإسلام إلا بعد مضي عدة قرون – إلى أن يقول -: وإننا لا نعلم إلا القليل عن نظام الزهد الرهباني ونشأته في العصور الإسلامية الأولى، ويقال: أن أول خانقاه أسست لمتصوفة المسلمين كانت برملة في فلسطين قبل نهاية المائة الثامنة الميلادية على ما يظهر، وأن مؤسسها كان راهبا مسيحيا ... وقد أخذ الصوفية بعض الأحاديث المدخولة على النبي، التي تشير لإباحة العزوبة لجميع المسلمين بعد المائتين من الهجرة فقد ظهر نظام الرهبنة في الإسلام حوالي هذا التاريخ تقريبا. نعم لم يعم الزهد في العالم الإسلامي، ولم تظهر فيه الربط والزوايا المنظمة إلا في عصر متأخر، لأن القارئ للكتب التي ألفت في التصوف حتى منتصف القرن الخامس الهجري، مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي، وحلية الأولياء لأبي نعيم، والرسالة للقشيري، قلما يجد فيها إشارة إلى هذا الربط والزوايا، ومع ذلك نجد أن كبار الصوفية من رجال القرنين الثالث والرابع قد اجتمع حولهم المريدون ليأخذوا عنهم الطريق ويتأدبوا بآدابه. ومن الطبيعي أن هؤلاء المريدين أقاموا في بيوت دينية من نوع ما، كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا. ويذكر المقريزي أن الخانقاوات وجدت في الإسلام في القرن الخامس الهجري المقابل للقرن الحادي عشر الميلادي. وإذا سلمنا بقول المقريزي فعلى معنى أن خانقاوات الصوفية التي كان يجتمع فيها المريدون تحت إشراف مشايخهم، لم تكثر وتنتشر في بلاد المملكة الإسلامية إلا في هذا التاريخ، وهذا يتفق مع ما ورد في كتاب (آثار البلاد) للقزويني حيث يقول إن أبا سعيد بن أبي الخير (المتوفى 1049 م لا حوالى 815 كما يقول دي ساسي خطأ – ولا كما يقول دوزي وفون كريمر نقلا عن دي ساسي) يذكر عنه أنه مؤسس نظام الرهبنة في التصوف الإسلامي وأول واضع لقواعده وقوانينه. وبعد ذلك بمائتي سنة – أي بين 450، 650 – زيد في نظام الرهبنة وانتشر هذا النظام على أيدي رجال الطرق، كالعدوية والقادرية والرفاعية وغير ذلك من الطرق التي توالى ظهورها سريعا (1). هذا بالنظر إلى أنه لا يوجد في تعاليم القرآن والسنة رسم ولا أثر لهذه التكايا والزوايا والخانقاوات والربط، بل أمر المسلمين ببناء المسجد للعبادة كما أمروا بتعمير بيوتهم بقراءة القرآن فيها والعبادة. وأما بناء الأمكنة الخاصة للتعبد والذكر والأوراد فليس إلا تقليلا لشأن المساجد، وصرف الناس عنها، وإعطاء التكايا والزوايا والربط مكانتها وشأنها، وفي هذا مخالفة لأوامر الله وتعاليم رسوله صلوات الله وسلامه عليه. وعلى ذلك قال ابن الجوزي: (أما بناء الأربطة فإن قوما من المتعبدين الماضين اتخذوها للانفراد بالتعبد، وهؤلاء إذا صح قصدهم فهم على الخطأ من ستة أوجه: أحدها: أنهم ابتدعوا هذا البناء وإنما بنيان أهل الإسلام المساجد. والثاني: أنهم جعلوا للمساجد نظيرا يقلل جمعها. والثالث: أنهم أفاتوا أنفسهم نقل الخطى إلى المساجد. والرابع: أنهم تشبهوا بالنصارى بانفرادهم في الأديرة. والخامس: أنهم تعزبوا وهم شباب وأكثرهم محتاج إلى النكاح.   (1) في ((التصوف الإسلامي وتاريخه)) لنييكلسون ترجمة عربية للدكتور أبي العلاء العفيفي (ص 56، 57)، 58). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 26 والسادس: أنهم جعلوا لأنفسهم علما ينطق بأنهم زهاد فيوجب ذلك زيارتهم والتبرك بهم. وإن كان قصدهم غير صحيح فإنهم قد بنوا دكاكين للكوبة ومناخا للبطالة وأعلاما لإظهار الزهد. وقد رأينا جمهور المتأخرين منهم مستريحين في الأربطة من كد المعاش متشاغلين بالأكل والشرب والغناء والرقص يطلبون الدنيا من كل ظالم ولا يتورعون من عطاء ماكس. وأكثر أربطتهم قد بناها الظلمة، ووقفوا عليها الأموال الخبيثة. وقد لبس عليهم إبليس أن ما يصل إليكم رزقكم فاسقطوا عن أنفسكم كلفة الورع. فهمتهم دوران المطبخ والطعام والماء البارد. فأين جوع بشر، وأين ورع سري، وأين جد الجنيد. وهؤلاء أكثر زمانهم ينقضي في التفكه بالحديث أو زيارة أبناء الدنيا، فإذا أفلح أحدهم أدخل رأسه في زرمانقته فغلبت عليه السوداء، فيقول: حدثنا قلبي عن ربي. ولقد بلغني أن رجلا قرأ القرآن في رباط فمنعوه، وأن قوما قرأوا الحديث في رباط، فقالوا لهم: ليس هذا موضعه (1). هذا وقد أورد ابن الجوزي حديثا بسنده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عن أبي أمامة أنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه، قال: فمر رجل بغار فيه شيء من ماء، قال: فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه، وفيه شيء من ماء، ويصيب ما حوله من البقل، ويتخلى عن الدنيا. ثم قال: لو أني أتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فإن أذن لي فعلت، وإلا لم أفعل، فأتاه فقال: يا نبي الله، إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى من الدنيا. قال: فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكنني بعثت بالحنيفية السمحة، والذي نفس محمد بيده، لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها)) (2). وأما استماعهم إلى نصائح الرهبان ودروسهم ومواعظهم، وإنصاتهم لهم وتلمذهم عليهم، وتمجيدهم إياهم، والثناء عليهم فمنقول عنهم بكثرة، فإن إبراهيم بن أدهم – وهو من أوائل الصوفية – صرح بذلك حيث قال: (تعلمت المعرفة من راهب يقال له: سمعان، دخلت عليه في صومعته فقلت له: يا سمعان، منذ كم وأنت في صومعتك هذه؟. قال: منذ سبعين سنة. قلت: ما طعامك؟ قال: يا حنيفي وما دعاك إلى هذا؟ قلت: أحببت أن أعلم. قال: في ليلة حمصة. قلت: فمن الذي يهيج من قلبك حتى تكفيك هذه الحمصة؟ قال: ترى الذين بحذائك؟ قلت: نعم، قال إنهم يأتونني في كل سنة يوما واحدا فيزنون صومعتي، ويطوفون حولها، يعظمونني بذلك، وكلما تثاقلت نفسي عن العبادة ذكرتها تلك الساعة، فأنا أحتمل جهد سنة لعزّ ساعة، فاحتمل يا حنيفي جهد ساعة لعزّ الأبد، فوقر في قلبي المعرفة، فقال: أزيدك؟ قلت: نعم، قال: أنزل عن الصومعة، فنزلت فأدلى إلى ركوة فيها عشرون حمصة. فقال لي: أدخل الدير فقد رأوا ما أدليت إليك، فلما دخلت الدير اجتمعت النصارى، فقالوا: يا حنيفي، ما الذي أدلى إليك الشيخ؟ قلت: من قوته، قالوا: وما تصنع به؟ نحن أحق به. ساوم، قلت: عشرين دينارا، فأعطوني عشرين دينارا، فرجعت إلى الشيخ، فقال: أخطأت لو ساومتهم عشرين ألفا لأعطوك، هذا عز من لايعبده، فانظر كيف تكون بعز من تعبده يا حنيفي، أقبل على ربك (3).   (1) ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي الباب العاشر (ص 195، 196). (2) رواه أحمد (5/ 266) (22345) والطبراني (7868) قال الهيثمي في ((المجمع)) (5/ 279) فيه علي بن يزيد وهو ضعيف وصححه الألباني كما في الصحيحة (2924) (3) ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي الباب العاشر (ص 170، 171). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 27 ونقل الهجويري عن صوفي قديم آخر، وهو: إبراهيم الخواص أنه قال: (سمعت ذات مرة أن ببلاد الروم راهبا مقيما بالدير منذ سبعين سنة بحكم الرهبانية، فقلت: واعجبا ‍! شرط الرهبانية أربعون سنة. بأي شرف أخلد هذا الرجل إلى الدير سبعين سنة؟ وقصدته، فلما اقتربت من ديره فتح كوة وقال لي: يا إبراهيم! عرفت لأي أمر جئت. أنا لم أقم هنا رهبانية في هذه السبعين عاما، بل لأن لي كلبا هائجا، فأقمت هنا أحرسه وأكفي الخلق شره، وإلا فلست أنا هذا (الذي تظن). فلما سمعت منه هذا الكلام قلت: يا إلهي تعاليت! أنت قادر على أن تهدي العبد طريق الصواب في عين الضلالة، وتكرمه بالصراط المستقيم. فقال لي: يا إبراهيم! إلام تطلب الناس؟ إمض واطلب نفسك، وإذا وجدتها فاحرسها، لأن الهوى يرتدي ثوب الإلهية كل يوم على ثلثمائة وستين لونا، ويدعو العبد إلى الضلالة (1). وذكر الشعراني أن بعض أسلاف الصوفية حاولوا تقرير مذهب رهبان النصارى، وكونهم على الحق والصواب، ومن قبل رسول الله الناطق بالوحي صلوات الله وسلامه عليه – كذبا وزورا -: (أن قوله صلى الله عليه وسلم: ((دعوا الرهبان وما انقطعوا إليه))، تقرير لهم على ما هم عليه من حيث عموم رسالته صلى الله عليه وسلم كما قرر أهل الكتاب على سكنى دار الإسلام بالجزية. قالوا: وهي مسألة خفية جليلة في عموم رسالته صلى الله عليه وسلم. لا ينتبه لها إلا الغواصون على الدقائق (2). هذا ولقد ذكر في طبقاته عن صوفي آخر – وهو إبراهيم بن عصفير – الذي يقول عنه: (كان كثير الكشف، وله وقائع مشهورة، وظهرت له الكرامات وهو صغير، وكان يأتي البلد وهو راكب الذئب أو الضبع، وكان يمشي على الماء لا يحتاج إلى مركب، وكان بوله كاللبن الحليب أبيض، ... وما ضبطت عليه كشفا أخرم فيه. يكتب عن هذا الصوفي الذي بلغ أقصى درجات الولاية: (كان أكثر نومه في الكنيسة، ويقول: النصارى لا يسرقون النعال في الكنيسة بخلاف المسلمين، وكان رضي الله عنه يقول: أنا ما عندي من صوم حقيقة إلا من لا يأكل لحم الضأن أيام الصوم كالنصارى، وأما المسلمون الذين يأكلون لحم الضأن والدجاج أيام الصوم فصومهم عندي باطل (3). وكذلك وجد مدح الرهبان النصارى في كتب صوفية كثيرة مثل ما ذكر الأصبهاني في حليته عن عبد الله بن الفرج أنه قال له رجل: (يا أبا محمد، هؤلاء الرهبان يتكلمون بالحكمة وهم أهل كفر وضلالة، فمم ذلك؟ قال: ميراث الجوع، متعت بك (4). وأيضا ذكر عن إبراهيم بن الجنيد أنه قال: وجدت هذه الأبيات على ظهر كتاب لمحمد بن الحسين البرجلاني: (مواعظ رهبان وذكر فعالهم ... وأخبار صدق عن نفوس كوافر مواعظ تشفينا فنحن نحوزها ... وإن كانت الأنباء عن كل كافر مواعظ بر تورث النفس عبرة ... وتتركها ولهاء حول المقابر مواعظ أنَّى تسأم النفس ذكرها ... تهيج أحزانا من القلب ثائر) ومثل ذلك ما نقله أبو طالب المكي عن عيسى عليه السلام أنه قال: (المحب لله يحب النصب. وروى عنه أنه مر على طائفة من العباد قد احترقوا من العبادة كأنهم الشنان البالية، فقال: ما أنتم؟ فقالوا: نحن عباد. قال: لأي شيء تعبدتم؟ قالوا: خوفنا الله من النار فخفنا منها، فقال: حق على الله أن يؤمنكم ما خفتم. ثم جاوزهم فمر بآخرين أشد عبادة منهم، فقال: لأي شيء تعبدتم؟   (1) ((كشف المحجوب)) للهجويري ترجمة عربية (ص439) ط دار النهضة العربية بيروت. (2) ((الجواهر والدرر)) للشعراني (ص237) بهامش الابريز للدباغ ط مصر. (3) ((الطبقات الكبرى)) للشعراني (2/ 140). (4) ((حلية الأولياء)) للأصبهاني (10/ 151) الطبعة الثالثة دار الكتاب العربي بيروت لبنان 1980 م. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 28 قالوا: شوقنا الله إلى الجنان وما أعد فيها لأوليائه، فنحن نرجو ذلك، فقال: حق على الله أن يعطيكم ما رجوتم. ثم جاوزهم، فمر بآخرين يتعبدون، فقال: ما أنتم؟ قالوا: نحن المحبون لله لم نعبده خوفا من نار، ولا شوقا إلى جنة ولكن حبا له وتعظيما لجلاله، فقال: أنتم أولياء الله حقا، معكم أمرت أن أقيم، فأقام بين أظهرهم وفي لفظ آخر قال للأولين: مخلوقا خفتم، ومخلوقا أحببتم. وقال لهؤلاء: أنتم المقربون (1). (ويستخلص من هذا أن الصوفية المسلمين لم يجدوا حرجا في الاستماع إلى مواعظ الرهبان وأخبار رياضاتهم الروحية والإستفادة منها، رغم أنها صادرة عن نصارى، ونحن نجد فعلا كثيرا من أخبار رياضات الرهبان وأقوالهم في ثنايا كتب الصوفية وطبقات الصوفية (2). وقبل هذا كتب الدكتور البدوي في هذا الكتاب الذي اقتبسنا منه الأسطر الأخيرة، والذي دافع فيه عن التصوف دفاعا شديدا، وحاول فيه محاولة فاشلة لإثبات أصول التصوف ومصادره في الإسلام، ومن تعاليمه، كتب فيه: (الاختلاط بين المسلمين والنصارى العرب في الحيرة والكوفة ودمشق ونجران وخصوصا في مضارب القبائل العربية التي انتشرت فيها المسيحية قبل الإسلام وبعده: بنو تغلب، قضاعة، تنوخ، وتتحدث بعض الأحبار عن أن بعض الصوفية المسلمين الأوائل كانوا يستشيرون بعض الرهبان النصارى في أمور الدين: كما يروي عبد الواحد بن زيد، والعتابي، وأبي سليمان الداراني (3). وهذه هي الأشياء التي جعلت نيلكسون الإنجليزي، وفون كريمر الألماني، وجولد زيهر النمساوي يضطرون إلى أن يقولوا، واللفظ للأول: (ويجب ألا ننسى في هذا المقام أثر المسيحية في الزهد الإسلامي في العصر المبكر فإن الأمر لم يقتصر على اللباس وعهود الصمت وكثير من آداب طريق الزهد التي يمكن ردها إلى أصل مسيحي، بل إننا نجد في أقدم كتب تراجم الصوفية – إلى جانبي الحكايات العديدة التي تمثل الراهب المسيحي يلقي المواعظ في صومعته أو عموده على زهاد المسلمين السائحين في الصحراء – أدلة قاطعة على أن مذاهب هؤلاء الزهاد كانت إلى حد كبير مستندة إلى تعاليم وتقاليد يهودية ومسيحية. ومن ذلك آيات كثيرة من التوراة والإنجيل مذكورة بين الأقوال المنسوبة إلى أولياء المسلمين، وأن القصص الإنجيلية التي كان يقصها رهبان المسيحيين على طريقتهم الخاصة كان يتلهف على قراءتها المسلمون: مثال ذلك المجموعة المعروفة باسم الإسرائيليات التي يقال إن وهب بن منبه (المتوفى سنة 628 م) قد جمعها، وكتاب (قصص الأنبياء) الذي كتبه الثعالبي (المتوفى سنة 1036 م)، وهذا الأخير لا يزال موجوداً (4).وأما قضية المصطلحات التي روجوها بين الناس، واستعملوها فيما بينهم فلا يشك أحد في كونها أجنبية في الإسلام ولغة الإسلام العربية، ومقتبسة مأخوذة من المسيحية بحروفها وألفاظها، معانيها ومدلولاتها مثل: (ناموس، رحموت، رهبوت، لا هوت، جبروت، رباني، روحاني، نفساني، جثماني، شعشعاني، وجدانية، فردانية، رهبانية، عبودية، ربوبية،، ألوهية، كيفوية (5).   (1) ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي (2/ 56). (2) ((تاريخ التصوف الإسلامي)) للدكتور عبد الرحمن بدوي (ص35) ط وكالة المطبوعات بالكويت 1978 م. (3) أيضا (ص33، 34). (4) في ((التصوف الإسلامي وتاريخه)) (ص47)، أيضا ((تاريخ الأفكار الواردة في الإسلام)) لفون كريمر (ص52)، أيضا ((المجلة الملكية الآسيوية)) مقال جولد زيهر. (5) ((تاريخ التصوف الإسلامي)) للبدوي (ص333). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 والجدير بالذكر، ومن الأشياء اللافتة للأنظار أن كل من حاول تبرئة التصوف عن كونه مأخوذا ومقتبسا من الرهبنة المسيحية لم يسعه الإنكار عن كون المسيحية إحدى مصادر التصوف، وأنه استفاد منها، ولو أنهم أصروا مع ذلك كونه إسلاميا بحتا، معارضين مع ما قالوه، ومناقضين مع ما أثبتوه، مقرين عليهم بالتعارض الفكري، والتضارب القولي، وإنكار ما هو ثابت لا يمكن رده ولا إنكاره، فيقول واحد من هؤلاء – ولا حظ الزحزحة الفكرية، والتناقض الشديد، والتعارض الغريب، والعجز الظاهر عن الدفاع، وضعف القوة وقلة الحيلة، مع الإنكار والإقرار في وقت واحد، لاحظ واقرأ واستمع – فيقول أحد الكتاب - وهو دكتور في العلوم – ردا على من يجعل النصرانية إحدى مصادر التصوف: (لم يقتصر الكلام في المصادر الصوفية على المصدر الفارسي أو الهندي بل ذهب فريق آخر من الباحثين إلى أن ثمة عناصر أخرى روحية يمكن أن ترد أصولها إلى أصول نصرانية. ويؤيد هذا الفريق مذهبه بما كان يوجد من صلات بين العرب والنصارى سواء في الجاهلية أو في الإسلام، وبما يلاحظ من أوجه الشبه الكثيرة بين حياة الزهاد والصوفية وتعاليمهم وفنونهم في الرياضة والخلوة والتعبد. وبين ما يقابل هذا كله في حياة المسيح وأقواله وأحوال الرهبان والقسيسين وطرقهم في العبادة واللباس. ومن الباحثين والمؤيدين: لهذا الاتجاه (فون كريمر، وجولدزيهر، ونيكولسون وفلسنك وآسين وبلاسيوس، وأندريه وأوليري. ويرى: (فون كريمر): أن التصوف الإسلامي والأقوال المأثورة عن الصوفية على أنهما ثمرات نمت وترعرعت ونضجت في بلاد العرب تحت تأثير جاهلي، حيث كان كثير من العرب الجاهلين نصارى، وكان كثير من هؤلاء النصارى قسيسين ورهباناً. وجولد زيهر: يستند إلى ما تقرره النصرانية من إيثار الفقر والفقراء على الغنى والأغنياء، فيزعم أن ما ورد في الحديث النبوي من هذا المعنى مستمد من النصرانية، ويعني هذا أن يترتب عليه أن الفقر والتخشن في الحياة إنما يرجع إلى أصل نصراني، ويضيف عليه نيكولسون أيضاً. ما يصطنعه الصوفية من صمت وذكر فيزعم أنه مأخوذ من النصرانية. هذا من حيث: أن التصوف زهد وطريقة في العبادة والرياضة واللباس. أما فيما يتعلق بها من حيث هي مذاهب تصور منازع أصحابها الفلسفية واتجاهاتهم الروحية والفلسفية معاً: فإن هناك طائفة من القصص والأقوال التي تروي عن المسيح مما ورد في كتب الصوفية أنفسهم، ويمكن أن يؤخذ على أنه مصدر لبعض المذاهب الصوفية الإسلامية .... على أننا لا ننكر ولا أحد يستطيع أن ينكر ما يوجد من أوجه الشبه بين حياة الزهاد ولباسهم وبعض تعاليم الصوفية وطرقهم في العبادة ومذاهبهم في الحب الإلهي، وبين حياة الرهبان ولباسهم، وبعض ما اثر عن المسيح وحوارييه من أقوال في المحبة وغيرها من شيءون الحياة الروحية. فإننا لا نستطيع مع ذلك أن نجزم بأن مصدر التصوف والحياة الروحية في الإسلام إنما هو نصراني صرف. فصحيح أيضا أنه كان ممن مال إلى الرهبنة من العرب من يبني الأديرة – فقد روى عن حنظلة الطائي أنه فارق قومه وتنسك، وبنى ديراً بالقرب من شاطئ الفرات حيث ترهب فيه حتى مات، وكذلك قيل عن قس بن ساعدة كان يتقفر القفار، ولا تكنه دار، يتحسس بعض الطعام، ويأنس بالوحوش والهوام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 30 وصحيح أنه يروي عن أمية بن أبي الصلت أنه ليس بالمنسوخ تعبداً وأن لكل من قس وأمية نثرا وشعراً وطبعاً بطابع ديني، وأصطبغا بصبغة الزهد في الدنيا والنظر في الكون، وصحيح بعد هذا كله، وفوق هذا كله، أن القسس والرهبان كانوا ينبثون منا وهناك في أسواق العرب ويبشرون ويتحدثون عن العبث والحساب والجنة والنار كما يدل على ذلك كثير من آيات القرآن الكريم التي تتحدث عنهم وتحكي أقوالهم وتفند مذاهبهم. وتصور إلى أي حد كانت تعاليمهم بين العرب، فهذا كله صحيح لا شبهة فيه ولا غبار عليه ولكن الذي ليس بصحيح هو أن نجعل منه أساساً يبني عليه القول بأن وحدة مصدر التصوف الإسلامي. ولكن هناك تساءلاً وهو لماذا يقصر الباحثون أنظارهم على حياة المسيح وأقواله والرهبان وأحوالهم حين يحاولون ربط الصوفية بالمصادر النصرانية ولم لا يجوز أن يكون هذا التصوف أيضاً كان مسايرة لطبيعة الحياة العربية الجاهلية. وقد كانت وقتئذ حياة خشنة لا حظ لها من ترف، ولا أثر فيها لنعومة بحيث يمكن أن يقال: إن حياة الزهاد والصوفية في الإسلام إنما هي استمرار لهذه الحياة الخشنة البعيدة عن الزخرف والنعيم، والتي كان يحياها العرب الجاهليون بصفة عامة، والتي تصطبغ عند بعضهم بصبغة الخلوة والانقطاع عن الناس، إلى التفكر والتقرب من الآلهة يلتمسون عندهم الخير والحكمة؟ بل وما الذي يمنع أيضاً من أن يكون مرجع الحياة الروحية الإسلامية هو مذهب الحياة التي كان يحياها قوم في الجاهلية يعرفون ببني صوفة، الذين انفردوا لخدمة الله عند بيته الحرام؟ ومع هذا لا أحد ينكر ما للمسيحية والرهبان من تأثير بالغ في الحياة الجاهلية السابقة. وبالإضافة إلى ما نلتقي به في ثنايا بعض النظريات الصوفية في الحب الإلهي ببعض الألفاظ والعبارات والعقائد التي هي من أصل نصراني مثل القول: (باللاهوت والناسوت) أو (حلول اللاهوت في الناسوت) أي حلول الإله (اللاهوت) في المسيح الإنسان (الناسوت) أو حلول الأول في الثاني إذا بلغ هذا درجة معينة من الصفاء الروحي. ومثل القول (بالكلمة) التي هي في النصرانية واسطة بين الله والخلق، والتي اصطنعها بعض الصوفية في التعبير عن نظرياتهم في الحقيقة المحمدية، باعتبارها أول مخلوق خلقه الله، أو: أول تعين للذات الإلهية فاضت منه بقية التعيينات الأخرى من روحية ومادية، ولم تظهر هذه العناصر النصرانية وأشباهها إلا بعد أن كان المسلمون قد اختلطوا بالنصارى وأخذوا يحاورونهم ويجادلونهم في العقائد، فكان طبيعيا أن ينتشر بعض هذه العقائد النصرانية، وأن يعمل عمله في البيئة الإسلامية، ويتردد صداه في أقاويل الصوفية ومذاهبهم في الحب الإلهي وفيما يتصل به، من اتحاد بين الرب والعبد، ومن حلول الرب في العبد. وهذا أمر طبعي ملازم لسنة الحياة وتطورها: إذ لا يمكن وقد تطور التصوف وقد استحال إلى علم له مناهجه ومذاهبه ومنازعه الروحية المصطبغة بصبغة فلسفية، أن يظل الصوفية بمعزل عن هذا الجو الذي امتلأ بالأفكار والعقائد النصرانية وما يدور حولها وجدل بين المسلمين والنصارى دون أن يكون له أثر فيما صدر عنهم من أقوال، وما ذهبوا إليه من مذاهب، لا سيما إذا كانت هذه الأقوال والمذاهب تدور حول مسائل تتصل من قريب أو بعيد بالعقائد (1). ويقول الدكتور التفتازاني بعد الرد على المستشرقين القائلين بأن كثيرا من أمور التصوف مأخوذة من النصرانية، يقول بعد الرد عليهم: (ومع هذا لا ننكر تأثر بعض الصوفية المتفلسفين بالمسيحية، على نحو ما نجد عند الحلاج الذي استخدم في تصوفه اصطلاحات مسيحية كالكلمة واللاهوت والناسوت وما إليها، ولكن هذا لم يظهر إلا في وقت متأخر (أواخر القرن الثالث الهجري) بعد أن كان زهد الزهاد قد استقر في القرنين: الأول والثاني الهجريين، واصبح دعامة لكل تصوف لاحق. ولذلك فإن من الإنصاف العلمي القول بأن مذاهب الصوفية في العلم، ورياضاتهم العلمية، ترد إلى مصدر إسلامي، إلا أنه بمرور الوقت وبحكم التقاء الأمم واحتكاك الحضارات، تسرب إليها شيء من المؤثرات المسيحية أو غير المسيحية، فظن بعض المستشرقين خطأ أن الصوفية أخذوا أول ما أخذوا عن المسيحية (2). فهذه هي خلاصة الكلام في ذلك، نكتفي بها ظانين بأنها كافية لجلاء الموضوع، وتنوير الطريق لمن أراد أن يتقدم إليه ويسلك فيه. المصدر: التصوف المنشأ والمصادر لإحسان إلهي ظهير   (1) ((أضواء على التصوف)) للدكتور طلعت غنام (ص84 إلى 88) ط عالم الكتب القاهرة. (2) ((مدخل إلى التصوف الإسلامي)) للدكتور أبي الوفاء الغنيمي التفتازاني (ص29، 30) ط دار الثقافة للنشر والتوزيع القاهرة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 31 المبحث الرابع: المذاهبُ الهنْديّة وَالفَارسيَّة: وأما كون التصوف وتعاليمه وفلسفته، أوراده وأذكاره، وطرق الوصول إلى المعرفة، والمؤدية إلى الفناء، مأخوذة مستقاة من المذاهب الهندية والمانوية، والزرادشتية أيضا فلا ينكرها منكر، ولا يردها أحد، ولا يشك فيها شاك، بل إن كبار الكتاب عن التصوف والباحثين فيه من المستشرقين والمسلمين، وحتى الصوفية أقروا بذلك حيث لم يسعهم إلا الاعتراف بهذه الحقيقة الظاهرة الجلية التي لا يمكن تجاهلها ولا إغفالها البتة. فإن الأستاذ أبا العلاء العفيفي كتب في ثنايا بحثه عن المشتغلين من المستشرقين في الدراسة عن التصوف: (وأما ريتشورد هارتمان، وماركس هورتين فنزعتهما واحدة: وهي أن التصوف يستمد أصوله من الفكر الهندي، وإن كان هورتين قد بذل من المجهود في إثبات هذه النظرية ما لم يبذله أي كاتب آخر. فقد كتب في سنتي 1927، 1928 مقالتين حاول أن يثبت في إحداهما، بعد تحليل تصوف الحلاج والبسطامي والجنيد، أن التصوف الإسلامي في القرن الثالث الهجري كان مشبعا بالأفكار الهندية، وأن الأثر الهندي أظهر ما يكون في حالة الحلاج. وفي المقالة الثانية يؤيد النظرية نفسها عن طريق بحث المصطلحات الصوفية الفارسية بحثا فيلولوجيا، وينتهي إلى أن التصوف الإسلامي هو بعينه مذهب الفيدانتا الهندية. ويستند هارتمان في إثبات نفس الدعوى إلى النظر في الصوفية أنفسهم وفي مراكز الثقافة القديمة التي كانت منتشرة في بلادهم، لا إلى المصطلحات الصوفية كما فعل هورتن. وقد نشر في مسألة أصل التصوف مقالا هاماً سنة 1916 في مجلة De Islam وخلاصة بحثه أن التصوف الإسلامي مدين للفلسفة الهندية التي وصلت إليه عن طريق مترا وماني من جهة، وللقبّالة اليهودية والرهبنة المسيحية والغنوصية والأفلاطونية الحديثة من جهة أخرى. وهو يرى أن الذي جمع هذه العناصر كلها ومزجها مزجا تاما في التصوف هو أبو القاسم الجنيد البغدادي (المتوفى سنة 297 هـ)، فإليه يجب أن تتجه عناية الباحثين. أما حججه في تأييد الأصل الهندي فهي: أولا: أن معظم أوائل الصوفية من أصل غير عربي كإبراهيم بن أدهم وشقيق البلخي وأبي يزيد البسطامي ويحيى بن معاذ الرازي. ثانيا: أن التصوف ظهر أولا وأنتشر في خراسان. ثالثا: أن تركستان كانت قبل الإسلام مركز تلاقي الديانات والثقافات الشرقية والغربية، فلما دخل أهلها في الإسلام صبغوه بصبغتهم الصوفية القديمة. وهذا كلام أشبه ما يكون بماذكره كل من ثولك وفون كريمر في هذا الموضوع. رابعا: أن المسلمين أنفسهم يعترفون بوجود الأثر الهندي. خامسا: أن الزهد الإسلامي الأول هندي في نزعته وأساليبه. فالرضا فكرة هندية الأصل، واستعمال الزهاد للمخلاة في سياحتهم، واستعمالهم للسبح، عادتان هنديتان (1). ثم علق الأستاذ عفيفي على كلام هورتمان بقوله: (ولكن المسألة أعقد من ذلك بكثير، فقد تبين لي من البحث في تصوف مشايخ خراسان وتصوف مدرسة نيسابور خاصة، أنه وإن كانت له صبغة محلية إلى حد ما، متأثر بتيارات غير محلية وصلت إليه من مراكز التصوف الأخرى في العراق والشام، وأنه كانت لبعض الحركات غير الدينية – كحركة الفتوة التي كانت في بدء أمرها اجتماعية بحتة – شأن كبير في تشكيل بعض تعاليم هؤلاء الصوفية). ثم إن الأستاذ عفيفي في مقاله هذا لم يذكر واحدا من المستشرقين الذين كتبوا عن التصوف إلا وقد ذكروا رأيا يشبه رأي هاتمان، وهورتن.   (1) مقدمة كتاب في ((التصوف الإسلامي وتاريخه)) (صح، ط الجزء: 7 ¦ الصفحة: 32 وقد سبق هؤلاء المستشرقين والقائلين بهذا الرأي من الباحثين، سبقهم جميعا البيروني، حيث قارن بين العقائد الهندية والعقائد الصوفية في كتابه المشهور (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة). وأوجه الشبه التي ذكرها البيروني بين العقائد الهندية والعقائد الصوفية هي تتلخص في أمور ثلاثة: أولا: الأرواح. ثانيا: في طريق الخلاص. ثالثا: الغاء التمايز ومحو الأشارة (1). هذا والقارئ لأقوال الصوفية، والعارف بأحوالهم ورياضاتهم ومجاهداتهم يلاحظ بنفسه تشابها كبيرا بين هؤلاء وأولئك، وخاصة في تعذيب النفس، وتحمل المشاق، والتجوع، وحبس النفس، وإماتة الشهوات، والهروب من الأهل والأولاد، والجلوس في الخلوات، مراقبة صورة الشيخ، طرق الذكر، وكثير من العادات والتقاليد والرسوم، حيث لا يرى فيها إلا مشابهة تامة بتلك المذاهب وأصحابها، كمالا يرى فيها أي أثر للإسلام وتعاليمه، ولا ثبوت من حاملي رايته، ومتمسكي سبيله، متبعي طريقه. ولوضع النقاط على الحروف لا نرضى مقولات الناس، بل نورد شهادات داخلية، واعترافات ذاتية، وعبارات ناطقة عن منابعها ومصادرها. فنبدأ بسيد الطائفة الذي قال فيه أبو العباس عطاء: (إمامنا في هذا العلم ومرجعنا المقتدى به (2). والذي قيل فيه: (إن الرجال من هذه الطائفة ثلاثة لا رابع لهم: الجنيد ببغداد. وأبو عبد الله بالشام، وأبو عثمان بنيسابور). ونقل نيكلسون عن الجامي أنه قال: (أن الجنيد أول من صاغ المعاني الصوفية، وشرحها كتابة، وأنه كان يعلّم التصوف في بيوت خاصة وفي السراديب (3). ويكفي لبيان مقامه ومكانته عند القوم تلقيبهم إياه بسيد الطائفة، فنبدأ به فيقول: (ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع، وترك الدنيا، وقطع المألوفات والمستحسنات (4). وسئل أبو يزيد البسطامي: (بأي شيء وجدت هذه المعرفة؟ فقال: ببطن جائع وبدن عار (5). ونقل الطوسي عن يحيى بن معاذ أنه قال: (لو علمت أن الجوع يباع في السوق ما كان ينبغي لطلاب الآخرة إذا دخلوا السوق أن يشتروا غيره (6). ونقل النفزي الرندي المتوفى 792 هـ عن حاتم الأصم أنه قال: (من دخل في مذهبنا هذا فليجعل في نفسه أربع خصال من الموت: موت أحمر، وموت أسود، وموت أبيض، وموت أخضر. فالموت الأبيض الجوع، والموت الأسود احتمال أذى الناس،، والموت الأحمر مخالفة النفس، والموت الأخضر طرح الرقاع بعضها على بعض (7). والسلمي أيضا نقل عنه أنه قال: (ما من صباح إلا والشيطان يقول لي: ما تأكل؟ وما تلبس؟ وأين تسكن؟.فأقول: آكل الموت، وألبس الكفن، وأسكن القبر (8).والشعراني نقل في طبقاته عن أبي محمد عبد الله الخراز أنه قال: (الجوع طعام الزاهدين (9). ونقل الغزالي عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال: (ما صار الإبدال إلا بإخماص البطون، والسهر، والصمت، والخلوة (10).   (1) انظر لذلك كتاب ((تاريخ التصوف الإسلامي)) للدكتور قاسم غني ترجمة عربية لصادق نشأت، وكتاب مدخل إلى ((التصوف الإسلامي)) للدكتور التفتازاني. (2) ((نفحات الأنس)) للجامي الطبعة الفارسية (ص80). (3) في ((التصوف الإسلامي وتاريخه)) (ص20). (4) ((الرسالة القشيرية)) (1/ 117) بتحقيق عبد الحليم محمود. (5) أيضا (ص88)، ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي (2/ 168). (6) كتاب ((اللمع)) للطوسي (ص269). (7) ((غيث المواهب العلية)) للنفزي الرندي (2/ 166) بتحقيق عبد الحليم محمود. (8) ((طبقات السلمي)) (ص23) ط مطابع الشعب 1380 هـ. (9) ((طبقات الشعراني)) (1/ 7). (10) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 79) ط دار القلم بيروت الطبعة الأولى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 33 ثم، وروى الغزالي في إحيائه روايات كثيرة مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الجوع (1). ومما يجدر ذكره أن المحقق كتب في تعليقاته عن جميع تلك الروايات في فضل الجوع أنه لم يجد لها أصلا. هذا، ونقل عماد الدين الأموي عن عيسى عليه السلام أنه قال: (طوبى للجياع العطاش فإنهم هم الذين يرون الله (2). وقال السهر وردي: (قد اتفق المشايخ على أن بناء أمرهم على أربعة أشياء: قلة الطعام، وقلة المنام، وقلة الكلام، والاعتزال على الناس (3). ثم بيّن طريق التدرّب على الجوع، وهي تشبه تماما طريقة يوجا الهندية حذو القذة بالقذة، وطبق النعل، فيقول: (وقد اتفق مشايخ الصوفية على أن بناء أمرهم على أربعة أشياء: قلة الطعام وقلة المنام وقلة الكلام والاعتزال عن الناس، وقد جعل للجوع وقتان، أحدهما: آخر الأربع والعشرين ساعة فيكون من الرطل لكل ساعتين أوقية بأكلة واحدة يجعلها بعد العشاء الآخرة أو يقسمها أكلتين، كما ذكرنا، والوقت الآخر: على رأس اثنتين وسبعين ساعة، فيكون الطي ليلتين والإفطار في الليلة الثالثة، ويكون لكل يوم ثلث رطل، وبين هذين الوقتين وقت وهو أن يفطر من كل ليلتين ليلة، ويكون لكل يوم وليلة نصف رطل، وهذا ينبغي أن يفعله إذا لم ينتج عليه سآمة وضجراً وقلة انشراح في الذكر والمعاملة، فإذا وجد شيئا من ذلك فليفطر كل ليلة ويأكل الرطل في الوقتين أو في الوقت الواحد، فالنفس إذا أخذت بالإفطار من كل ليلتين ليلة، ثم ردت إلى الإفطار كل ليلة تقنع، وإن سومحت بالإفطار كل ليلة لا تقنع بالرطل وتطلب الإدام والشهوات، وقس على هذا، فهي إن أطمعت طمعت، وإن أقنعت قنعت، وقد كان بعضهم ينقص كل ليلة بقدر نشاف العود، ومنهم من كان ينقص كل ليلة ربع سبع الرغيف حتى يفنى الرغيف في شهر، ومنهم من كان يؤخر الأكل ولا يعمل في تقليل القوت ولكن يعمل في تأخيره بالتدريج حتى تندرج ليلة في ليلة، وقد فعل ذلك طائفة حتى انتهي طيّهم إلى سبعة أيام وعشرة أيام وخمسة عشر يوما إلى الأربعين. وقد قيل لسهل بن عبد الله: هذا الذي يأكل في كل أربعين وأكثر أكله أين يذهب لهب الجوع عنه؟.قال: يطفئه النور (4). وكذلك التعري لم يأخذه الصوفية إلا من البوذية والجينية. وجلّ تماثيل البوذا وصور رجال الديانات الهندوكية كلها ناطقة منبئة عمن أخذها القوم هذه القباحة والوقاحة. حتى إن طائفة من طوائف الجينية تسمى ويجامبرة أي أصحاب الزي السماوي، الذين لم يتخذوا كساء لهم غير السماء، وهم الذين يقولون: (إن العرفاء الكاملين لا يقتاتون بشيء، وإن من يملك شيئا من متع الدنيا ولو كان ثوبا واحدا يستر به عورته لا ينجو (5). وإننا لنجد كثيراً من الصوفية، ويسمون المجاذيب، يتجردون عن الثياب البتة، ويمشون في الأسواق، ويجلسون في الخانقاوات كما خلقهم الله. ولقد ذكر أصحاب الطبقات الصوفية، الكثيرين من هؤلاء. ونورد ههنا واحدا ممن ذكرهم الشعراني (قطب زمانه وإمام عصره) في طبقاته، فيقول: (الشيخ إبراهيم العريان: كان رضي الله عنه إذا دخل بلدا سلّم على أهلها كبارا وصغارا بأسمائهم، حتى كأنه تربى بينهم (يعني كان يعلم الغيب)، وكان رضي الله عنه يطلع المنبر ويخطب عريانا (6).   (1) انظر (ص77) وما بعد. (2) ((حياة القلوب)) لعماد الدين الأموي بهامش ((قوت القلوب)) (2/ 9). (3) ((عوارف المعارف)) للسهروردي (ص223) ط دار الكتاب العربي الطبعة الثانية 1983 م. (4) ((عوارف المعارف)) للسهر وردي (ص223، 224). (5) انظر ((فلسفة الهند القديمة)) لمحمد عبد السلام الامبوري (ص64)، كذلك ((أديان الهند الكبرى)) للشلبي (ص126) ط القاهرة 1964 م. (6) انظر ((طبقات الشعراني)) (2/ 143). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 34 وأما هجر الأهل والأولاد، والخروج إلى الغارات والجبال، والجلوس في البراري والحفرات والسراديب، والمكوث مع الحيات والثعابين فليست منقولة إلا من الديانات الهندية التي عرفت واشتهرت بمثل هذه الأمور. فلقد أوردنا في أول المقال قصة إبراهيم بن أدهم الصوفي القديم، وتركه للأهل والأولاد، مقارنة بقصة بوذا وحياته، وأنها مطابقة تماما لها. وهناك أقوال ونصوص كثيرة في هذا المعنى، ذكرنا بعضا منها فيما مرّ، وسنذكر البعض الآخر إن شاء الله في الجزء الثاني من هذا الكتاب. وإننا ننقل ههنا بعض الآراء والوقائع التي لها علاقة مباشرة ووطيدة بالمذاهب والفلسفات الهندية. فمنها ترك المال والخروج منه، وحتى القوت الذي يحتاج إليه لإبقاء الحياة، ثم التسول أمام الناس، والاستجداء منهم. كما ذكر أبو طالب المكي عن أحد الصوفية أنه دفع إليه كيس فيه مئون دراهم في أول النهار ففرقه كله، ثم سأل قوتا في يده بعد عشاء الآخرة (1). وأورد الطوسي مثله عن أبي حفص الحداد أنه كان أكثر من عشرين سنة يعمل كل يوم بدينار وينفقه على الصوفية، ثم يخرج بين العشائين فيتصدق من الأبواب (2). والمعروف أن التسول والاستجداء والوقوف على أبواب الناس، وحمل المخلاة والكشكول من لوازم الديانة البوذية، ومن نصائح بوذا الثمانية المشهورة التي نصح بها دراويشه ورهبانه، كما أنه ألزمهم سير البراري، وقطع الصحاري، أو المكوث في الخانقاوات، والانشغال فيها بالذكر. ولقد أخذت الصوفية هذا النظام بكامله من البوذية، وألزموا أنفسهم به، كأنهم هم الذين نصحهم بوذا بذلك فيقول الطوسي: (الأكل بالسؤال أجمل من الأكل بالتقوى (3).وقال: (كان بعض الصوفية ببغداد لا يكاد يأكل شيئا إلا بِذُلّ السؤال (4). ويروي الهجويري عن ذي النون المصري أنه قال: (كان لي رفيق موافق دعاه عز وجل إليه، وأنتقل من محنة الدنيا إلى نعمة العقبى، ورأيته في النوم فقلت له: ما فعل الله بك؟. قال: غفر لي. قلت: بأي خصلة؟.قال: أوقفني وقال: يا عبدي، لقد تحملت كثيرا من الذّل والمشقة من السفلة والبخلاء ومددت إليهم يدك، وصبرت في ذلك، وقد غفرت لك بذلك (5). ونقل السهروردي عن إبراهيم بن أدهم أنه كان معتكفا بجامع البصرة مدة، وكان يفطر في كل ثلاث ليال ليلا، وليلة إفطاره يطلب من الأبواب (6). كما نقل عن أبي جعفر الحداد وكان أستاذ الجنيد أنه كان يخرج بين العشائين، ويسال من باب أو بابين (7). وذكر عن النوري أنه كان يمدّ يده ويسأل الناس (8).وذكر النفزي الرندي عن أبي سعيد الخراز أنه كان يمدّ يده ويقول: (ثمّ شيء لله (9). وذكر الشعراني أشياء طريفة عن فقراء الزاوية التي بناها يوسف العجمي، الذي قال عنه: هو أول من أحيا طريقة الشيخ الجنيد بمصر بعد إندراسها، يقول الشعراني عن هذا الصوفي وتلاميذه: (كانت طريقة التجريد، وأن يخرج كل يوم من الزاوية فقيرا يسأل الناس إلى آخر النهار فمهما أتى به يكون قوت الفقراء ذلك النهار كائنا من كان.   (1) ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي الفصل الحادي والأربعون في فضل الفقر والفقراء (2/ 206). (2) ((اللمع)) للطوسي (3) ((اللمع)) للطوسي (ص255). (4) أيضا (ص253). (5) كشف المحجوب للهجويري (ص605). (6) انظر ((عوارف المعارف)) للسهروردي (ص150)، أيضا ((غيث المواهب العلية)) للنفزي الرندي (2/ 66)، أيضا ((إيثاظ الهمم)) لابن عجيبة (ص333). (7) انظر ((عوارف المعارف)) (ص150)، أيضا ((غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية)) (2/ 65). (8) ((عوارف المعارف)) (ص157). (9) ((غيث المواهب العلية)) للنفزي الرندي (2/ 65). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 35 وكان الفقراء يأتي أحدهم بالحمار محملا خبزا وبصلا وخيارا وفجلا ولحما، ويوم سيدي يوسف يأتي ببعض كسيرات يابسة يأكلها فقير واحد، فسألوه عن ذلك، فقال: أنتم بشريتكم باقية، وبينكم وبين الناس ارتباط فيعطونكم، وأنا بشريتي فنيت حتى لا تكاد ترى فليس بيني وبين التجّار والسوقة وأبناء الدنيا كبير مجانسة. وكان صورة سؤاله أن يقف على الحانوت أو الباب ويقول: الله، ويمدّها حتى يغيب، ويكاد يسقط على الأرض، فيقول من لا يعرفه: هذا العجمي راح في الزقزية. وكان رضي الله عنه يغلق باب الزاوية طول النهار لأحد إلا للصلاة. وكان إذا دقّ داق الباب يقول للنقيب: اذهب فانظر من شقوق الباب، فإن كان معه شيء من الفتوح للفقراء فافتح له، وإلا فهي زيارات فشارات (1). فلاحظ ما فيه من الطرائف والأضحوكات. وابن عجيبة الحسني ذكر عن التجيبي ابن ليون أنه بين أصل السؤال ومسألة الزنبيل، فيقول: (كيفيته: أن يتوضأ الرجل ويصلي ركعتين، ويأخذ الزنبيل (يعني وعاء) بيده اليمنى، ويخرج إلى السوق ومعه رجل آخر يذكر الله ويذكر الناس، والناس يعطونه في ذلك الزنبيل حتى يجمع ما تيسر من الطعام، ويعبّه بين الفقراء فيأكلون طعاما حلالا بلا تكلف ولا كلفة، هذا ما تيسر لنا في حكم السؤال (2). وأما من عاش في الصحاري، وتجوّل في البراري فكثيرون جداً، وقد نقل السهروردي عن بشر بن الحارث أنه قال: (يا معشر القراء، سيحوا تطيبوا (3). وقال: أو من جملة المقاصد في السفر: رؤية الآثار والعبر، وتسريح النظر في مسارح الفكر، ومطالعة أجزاء الأرض والجبال ومواطئ أقدام الرجال، واستماع التسبيح من ذوات الجمادات، والفهم من لسان حال القطع المتجاورات، فقد تتجدد اليقظة بتجدد ومستودع العبر والآيات، وتتوفر بمطالعة المشاهد والمواقف الشواهد والدلالات. قال الله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ٌ [فصلت:53]. وقد كان السري يقول للصوفية: إذا خرج الشتاء ودخل آذار وأورقت الأشجار طاب الانتشار. ومن جملة المقاصد للسفر: إيثار الخمول وإطراح حظ القبول (4). وكان قسم منهم يسافر دوما، ولذلك سمو بالسياحيين كما قال الكلاباذي: (ولكثرة أسفارهم سمّوا: سياحين، ومن سياحتهم في البراري وإيوائهم إلى الكهوف عند الضرورات سماهم بعض أهل الديار شكفتية. والشكفت بلغتهم الغار والكهف (5). وقد ذكر أصحاب الطبقات وكتب الصوفية أحوال الكثيرين منهم. فيذكر أحد الصوفية القدامى الهجويري عن أبي عثمان المغربي: (أنه في بداية حالة أعتزل عشرين سنة في البوادي بحيث لم يكن يسمع آدميا، حتى ذابت بنيته من المشقة، وصارت عيناه كسّم الخياط، وتحول عن صورة الآدميين، وجاءه الأمر بالصحب بعد عشرين عاما، وقيل له: أصحب الخلق. فقال لنفسه: فلأبدأ بصحبة أهل الله ومجاوري بيته، ليكون ذلك أكثر بركة، فقصد مكة، وأطلع المشايخ على مجيئة بقلوبهم، خرجوا لاستقباله، فوجدوه وقد تبدلت صورته، وفي حال لم يكن قد بقي عليه فيها شيء سوى رق الخلقة (6). وقال أبو طالب المكي:   (1) ((طبقات الشعراني)) (2/ 66، 67). (2) ((ايقاظ الهمم لابن عجيبة)) الحسني (ص333) ط مصطفى البابي الحلبي مصر الطبعة الثالثة 1402هـ. (3) ((عوارف المعارف)) للسهروردي (ص125). (4) ((عوارف المعارف)) للسهروردي (ص122). (5) ((التعرف لمذهب أهل التصوف)) للكلاباذي (ص29) الطبعة الثانية مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة 1400 هـ. (6) ((كشف المحجوب)) للهجويري (ص416)، أيضا ((تذكرة الأولياء)) لفريد الدين العطار (ص347) ط باكستان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 36 قد كان الخواص لا يقيم في بلد أكثر من أربعين يوما، ويرى أن ذلك علّة في توكله، فيعمل في إختبار نفسه وكشف حاله. وحدثنا عن بعض الشيوخ قال: (لبثت في البرية أحد عشر يوما لم أطعم شيئا (1).كما يقول: (خرجت طائفة الأبدال إلى الكهوف تخلّيا من أبناء الدنيا (2). ونقل السهروردي عن إبراهيم الخواص أنه ما كان يقيم في بلد أكثر من أربعين يوما، وكان يرى: إن أقام أكثر من أربعين يوما يفسد عليه توكله، فكان علم الناس ومعرفتهم إياه سببا ومعلوما. وحكى عنه أنه قال: مكثت في البادية أحد عشر يوما لم آكل، وتطلعت نفسي أن آكل من حشيش البر، فرأيت الخضر مقبلا نحوي فهربت منه، ثم التفت فإذا هو رجع عني، فقيل: لم هربت منه؟.قال: تشوفت نفسي أن يغيثني، فهؤلاء الفرارون بدينهم (3). ونقل الشعراني عن عدي بن مسافر الأموي الذي قال فيه: هو أحد أركان الطريقة وأعلى العلماء بها، والذي نقل فيه عن الشيخ عبد القادر أنه قال: لو كانت النبوة تنال بالمجاهدة لنالها عدي بن مسافر، يقول عنه الشعراني: أنه أقام أول أمره زمانا في المغارات والجبال والصحاري مجردا سائحا يأخذ نفسه بأنواع المجاهدات، وكانت الحيات والهوام والسباع تألفه فيها (4). وكذلك ينقل الشعراني عن شيخه أمين الدين أنه قال: (كان شخص من أرباب الأحوال بناحية شان شلمون بالشرقية جالسا في البرية، وقد حلّق على نفسه بزرب شوك، وعنده داخل هذه الحلقة الحيات والثعالب والثعابين والقطط والذئاب والخرفان والأوز والدجاج). هذا ومثل هذا كثير في كتب الطبقات العربية والفارسية والأردية، وكتب اللغات الأخرى التي ألفت تراجم الصوفية. وأما الجلوس في الخانقاوات، وملازمة الربط والتكايا والزوايا فهو من لوازم التصوف، فإن الصوفية خصصوا أبوابا مستقلة في كتبهم لبيان فضائل ملازمتها، والمكوث فيها، كما أنهم بيّنوا فيها آداب الخلوة والدخول إليها والمكوث فيها. كما قال السهروردي: (إعلم أن تأسيس هذه الربط من زينة هذه الملة الهادية المهدية، ولسكان الربط أحوال تميزوا بها عن غيرهم من الطوائف، وهم على هدى من ربهم (5). وذكر الصوفي المشهور الكمشخانوي في كتابه (جامع الأصول في الأولياء) آداب الخلوة، فيقول: (للدخول في الخلوة آداب وشروط، منها: أن يستأذن الشيخ في دخول الخلوة. أن يدخل الشيخ الخلوة ويصلي فيها ركعتين قبل دخول المريد. أن يدخلها كما يدخل المسجد مقدّما رجله اليمنى، مبسملا متعوذا. أن تكون الخلوة مظلمة لا يدخلها شعاع الشمس ولا ضوء النهار. أن لا يستند إلى جدار الخلوة. الصوم. أن يعتقد في نفسه أنه إنما يدخل الخلوة لكي يستريح الناس من شره. أن لا يتكلم مع أحد في الخلوة أو خارجها إلا مع شيخه. إذا خرج إلى الصلاة أو الوضوء فليغطِّ رأسه ورقبته بشيء مطرقا إلى الأرض غير ناظر إلى أحد. دوام تخيل صورة شيخه، وهو الرابطة بينه وبين خالقه ... فإنه إذا همّ بمعصية يتمثل له الشيخ فينزجر عن فعلها - إلى آخر الكلام (6). وأما التشابه بين الذكر الصوفي وذكر الطوائف الهندية فهو كما ذكر القشيري:   (1) ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي (2/ 207). (2) أيضا (2/ 152). (3) ((عوارف المعارف)) للسهروردي (ص126)، أيضا ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي (2/ 207) ط دار صادر بيروت. (4) ((الطبقات الكبرى)) للشعراني (1/ 136، 137). (5) ((عوراف المعارف)) للسهروردي (ص111). (6) انظر ((جامع الأصول في الأولياء)) لأحمد الكمشخانوي النقشبندي ط المطبعة الوهبية الشام 1298 هـ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 37 (المبتدئ في الأحوال يجب أن يسكن حواسه ولا يحرك أنفاسه ولا يحرك بدنه، ولا يحرك جزء منه ولا يردد طرفه ولا شيئا، ويكون مراعيا لهمته، ولا يحرك البتة جزء من نفسه ولا من بدنه ولا من باطنه حتى تبدو الأحوال له بعد طول المراعاة. ثم يجب ألا ينظر إليها ولا إلى ما يبدو له البتة لئلا يحجب عنها، فلا يزال في المزيد منها إن شاء الله تعالى. قال: وهذا الطريق الذي هو طريق الله تعالى لا بدّ فيه من طول المجاهدة ومقاساة ما يحتمله الأسماع والقلوب من الشدائد لو حلّت بها ... وكنت أحيانا في بدو المجاهدة وأحوال الذكر لو استتر مني في السماء لكان الستر علي أهون من أن أقوم للأكل، وأتحرك للوضوء والفرض لأنه كان يعيب عني الذكر (1). وذكر الشعراني عن سيده البدوي أنه لازم الصمت، وما كان يكلم الناس إلا بالإشارة (2). وملازمة الصمت من العادات البوذية كما يظهر من تماثيل بوذا. وكذلك ذكر الشعراني أيضا عن سيده عبد الرحمن المجذوب أنه كان ثلاثة أشهر يتكلم، ثلاثة أشهر يسكت (3). وهناك عقيدة بوذية تسمى سمادهي ( SAMADHI) وهذه آخر درجات الذاكر يفنى فيها ذاته في الذات الإلهي (4). يذكر نفس هذا الشيء صوفي مشهور بحرق الحضرمي في رسالته (ترتيب السلوك)، فيقول: من لم يتيسر له شيخ، وأراد دخول الخلوة فليقدم الاغتسال، وغسل ثيابه ومصلاه، ويهيئ أسبابه بحيث لا يحتاج إلى الخروج، ويرتب لحوائجه من قوت وغيره ... ثم ليلازم الجوع فيكون صائما مقتصرا على قدر معلوم من الطعام والماء مقتصدا لا يزيد عليه أبدا، وليلازم السهر فلا ينام إلا في وقت معلوم، وليلازم الذكر فيقتصر على ملازمة ذكر واحد. ينطق بذلك الذكر بعينه بحيث يظن من يسمعه أن معه في خلوته ألف ذاكر لله، ثم يغلب عليه حال الذكر فلا ينظر في الوجود شيئا يقع عليه نظره إلا معلنا بذلك الذكر بعينه بحيث لو كان عنده ألف شخص، كل منهم يذكر بذكر مخالف للآخر لم يسمعهم ينتطقون إلا بذكره الذي غلب عليه، وحينئذ يبقى منتظرا لما يفتح الله به على قلبه من رحمته وعلم غيبه، وأول ما يظهر غالبا أنوار إلهية كأنها البرق الخاطف تلمع بسرعة، ويختفي وهي لذيذة جدا يحصل بوجودها الوجد، وباختفائها الحنين إليها، وبما غشيته أنوارها. ثم يصير قلبه كالمرآة المجلوة فيكون مقابلا للجناب القدس، فيصير كل شيء كأنه مشاهد للحق سبحانه علما وحالا فانيا عن نفسه، فضلا عن خيرها، فحينئذ يعبد الله كأنه يراه ويشهده (5). وأما الفناء في الشيخ فيذكر الشعراني في كتابه (الأنوار القدسية): (اعمل أيها المريد على أن تتحد بشيخك، فيكون ما عنده من المعارف عندك على حدّ سواء ويكون تميزه عليك إنما هو بالإضافة لا غير، قال: وقد قال لي الشيخ أبو الحسن الشاذلي يوما: يا أبا العباس، ما صحبتك إلا لتكون أنت أنا وأنا أنت (6). وأما تعذيب النفس، وحبس الدم، والرياضات الشاقة فمنها ما ذكرناها أثناء الوقائع التي سردناها آنفا.   (1) ((رسالة ترتيب السلوك من الرسائل القشيرية)) (ص76، 77) ط المعهد المركزي للأبحاث الإسلامية إسلام آباد باكستان. (2) ((طبقات الشعراني)) (ص182). (3) ((طبقات الشعراني)) (2/ 141). (4) The Buddha And The Criste P. 84 By B.H Streeter London 1932. (5) (( ترتيب السلوك إلى ملك الملوك)) لجمال الدين محمد بن عمر بحرق الحضرمي (ص248، 249) ط جامعة بنجاب لاهور باكستان. (6) ((الأنوار القدسية)) لعبد الوهاب الشعراني (2/ 21) ط إحياء التراث العربي بغداد العراق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 38 ومن ذلك ما ذكره الشعراني في طبقاته عن البدوي انه: (كان طول نهاره وليله قائما شاخصا ببصره إلى السماء وقد انقلب سواد عينيه بجمرة تتوقد كالجمر. وكان يمكث الأربعين يوما وأكثر لا يأكل ولا يشرب ولا ينام (1).ويقول المنوفي، وأبو الهدى الرفاعي أن مكوثه هذا امتدّ إلى اثنتي عشرة سنة حيث يقولان: (ومكث على السطوح حوالي اثنتي عشرة سنة (2). ويذكر الطوسي والقشيري والعطار والهجويري والغزالي والشعراني وغيرهم (أن الشبلي كان يكتحل بالملح ليعتاد السهر ولا يأخذه النوم، وأحيانا كان يحمي الميل فيكتحل به (3). وينقل القشيري في رسالته (ترتيب السلوك): (كنت أريد أن لا أنام لئلا أغيب عن الذكر لحظة، فكنت أقعد على حجر ناتئ من جدران بيتنا من الحجر قدر ما أضع عليه قدمي، وتحتي واد، وفوقي شاهق حتى لا يأخذني النوم (4).وكتب الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر سابقا، وصوفي مشهور، عن أحمد الدردير أنه ردد الذكر ستة أشهر حتى أحرق الذكر جسمه، وأذهب لحمه ودمه حتى صار مجرد الجلد على العظم (5). وذكر الدريني عبد العزيز الصوفي المتوفى 697هـ عن داود بن أبي هند أنه (صام أربعين سنة لم يعد الناس عنه ولا أهل بيته، وكان يؤتى بالإناء ناقصاً فيتمه بالدموع (6). ويذكر الطوسي عن أبي عبد الله الصبيحي أنه: (لم يخرج ثلاثين سنة من بيت من تحت الأرض (7).   (1) ((الطبقات الكبرى)) للشعراني (1/ 183)، ((النفحة العلية في أوراد الشاذلية)) لعبد القادر زكي (ص253) ط القاهرة. (2) ((جمهرة الأولياء)) للمنوفي الحسيني (2/ 237)، أيضا ((قلادة الجواهر في ذكر الرفاعي وأتباعه الأكابر)) لمحمد أبي الهدى الرفاعي (ص399) الطبعة الأولى 1400 هـ بيروت لبنان. (3) انظر ((اللمع)) للطوسي (ص275)، ((الرسالة القشيرية)) (ص160)، ((تذكرة الأولياء)) للعطار (ص305)، مكاشفة القلوب للغزالي (ص30)، ((الأنوار القسية)) للشعراني (ص54)، ((الطبقات الكبرى)) للشعراني (1/ 103). (4) ((رسالة ترتيب السلوك من الرسائل القشيرية)) لعبد الكريم القشيرية المتوفى 465 هـ (ص78) ط باكستان. (5) ((سيدي أحمد الدردير)) للدكتور عبد الحليم محمود (ص76) ط القاهرة 1974 م. (6) ((طهارة القلوب)) لعبد العزيز الدريني (ص209) وما بعد ط مصطفى البابي الحلبي 1971 م. (7) ((اللمع)) للطوسي (ص500). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 39 ويذكر فريد الدين العطار عن الصوفي المشهور أبي بكر الشبلي أنه (كانت في يده قضيب يضرب به فخذه وساقه حتى تبدد لحمه (1) وتناثر) (2).وحكى عبد العزيز الدباغ عن صوفي أنه (رمى بنفسه في بداية مجاهدته من حلقة داره إلى أسفل تسعين مرة (3).   (1) كل ما ذكرناه حتى الآن وأوردناها من عبارات وشواهد وشهادات، لم نذكرها ولم نوردها إلا عن التصوف المعتدل، والصوفية المعتدلين، أو المتصوفة الذين اتفق على كونهم من هذه الطائفة قاصدين متعمدين، وإلا مانقل عن المتطرفين الغلاة أو الذين اختلف في أمرهم فكثير مثل ما ذكر الغزالي عن الحلاج أنه قيّد نفسه من كعبه إلى ركبته بثلاثة عشر قيدا، وكان يصلي مع ذلك كل يوم وليلة ألف ركعة انظر ((مكاشفة القلوب)) للغزالي (ص30) تحقيق عبد الله أحمد أبو زينه ط القاهرة. وحكي عن الترمذي الملقب بالحكيم أنه قال: ألهمت منع الشهوات ... حتى ربما أمنع نفسي الماء البارد، وأتورع عن شرب ماء الأنهار ... ووقع علىّ حب الخلوة في المنزل والخروج إلى الصحراء، فكنت أطوف في الخربات والنواويس، واعتصمت بها انظر رسالة بدوّ شأن أبي عبد الله للحكيم الترمذي من مجموعة ((ختم الأولياء)) تحقيق عثمان إسماعيل يحيى (ص15) ط المطبعة الكاثوليكية بيروت. وذكر الشعراني عن ابن عربي: أنه كان رضي الله عنه أولا من الموقعين عند بعض ملوك المغرب، ثم إنه طرقه طارق من الله عز وجل، فخرج في البراري على وجهه إلى أن نزل في قبر. فمكث فيه مدة. ثم خرج من القبر يتكلّم بهذه العلوم التي نقلت عنه، ولم يزل سائحا في الأرض يقيم في كل بلد بحسب الإذن، ثم يرحل منها انظر ((اليواقيت والجواهر)) للشعراني (1/ 6، 7) ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة. وأما ابن الفارض فيقول عنه ابنه: سمعت والدي ابن الفارض: كنت في أول تجريدي أستأذن أبي وأطلع إلى وادي المستضعفين بالجبل الثاني من المقطم وآوي فيه، وأقيم في هذه السياحة ليلا ونهارا انظر ((جمهرة الأولياء)) لمحمود أبي الفيض المنوفي الحسيني (2/ 246) ط القاهرة 1387 هـ). وعلى ذلك قال ابن عربي: إن التصوف طريق الشدة، ليس للرخاء فيه مدخل (الأمر المحكم المربوط لابن عربي الملحق بذخائر اعلاق له أيضا (ص268) بتحقيق محمد عبد الرحمن الكروي ط القاهرة). (2) ((تذكرة الأولياء)) لفريد الدين العطار (ص305) ط باكستان، أيضا ((طبقات الشعراني)) (1/ 88). (3) انظر ((الإبريز)) للدباغ (ص105). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 40 ويحكي عماد الدين الأموي قصة صوفي هندي دمعت إحدى عينيه ولم تبك الأخرى، فقال لعينه التي لم تدمع: (لأحرمنك النظر إلى الدنيا، وغمض عينه، فلم يفتح عينه أكثر من ستين سنة (1).وذكر عن صوفي هندي خضر سيوستاني القادري أنه (كان يسكن في المقابر، ولا يلبس إلا رداء واحدا، وكان يأكل العشب وأوراق الأشجار، كان له تنور يحميه ويتعبد فيه، وكانت حيوانات البادية تجالسه وتأوي إليه، وكان يتعبد في فصل الصيف على حجر حارّ خصّه لنفسه (2).ويذكر الميرزه محمد أختر الدهلوي عن الصوفي فخر الدين الرازي أنه (كان يسكن ليل نهار في الغابات (3).وحكى عن صوفي هندي مشهور ميان أمير أنه (كان يسكن الجبال بعيدا عن الناس (4).وهناك صوفي مشهور فريد الدين الملقب بكنج شكر فيحكي عنه أنه (علّق نفسه معكوسة في بئر، ولم يزل على هذه الحال أربعين سنة لم يأكل ولم يشرب شيئا (5).وصوفي هندي آخر أحمد عبد الحق (حفر لنفسه قبرا، واشتغل فيه بالعبادة ستة أشهر (6). وأما حبس الدم فيذكر القشيري: (المبتدئ في الأحوال يجب أن يسكن حواسه، ولا يتحرك أنفاسه (7).ويذكر الصوفي الهندي الدكتور ظهور حسن شارب أن الصوفي الهندي المشهور ميان مير (كان يقضي الليل كله في نفس واحدة (8).ويذكر عن صوفي آخر ملا شاه أنه كان (يقضي الليل كله في نفسين فقط (9). وهذا كله عملا بقول الصوفية: (مقام المريد المجاهدات والمكابدات، وتحمل المشاق، وتجرع المرارات (10).وأيضا بقولهم: (إن الصوفية يلزمون أنفسهم بالأغلظ والأشق من أقوال العلماء (11). هذا ومثل هذه الأمور كثيرة جدا، التي لم تؤخذ ولم تقتبس إلا من الديانات الهندية ولا وجود لها في تعاليم الإسلام، ولم تنقل إلى الصوفية إلا منها وقبل أن ننتقل إلى فكرة أخرى نريد أن نبين أمرا آخر، وهو أن الصوفية بمختلف مشاربهم وطرقهم يتباهون بحبهم للجميع، وعدم الاعتراض على مذهب دون مذهب ومسلك دون مسلك. وإنهم لا يفرّقون بين ديانة وديانة، ولا يميّزون بين طائفة وطائفة وجماعة وجماعة، بل يحترمون جميع الآراء والمعتقدات وأصحابها، وقد نقلوا فيها أقوالا عديدة. مع أنها لا أساس لها في شريعة الإسلام وتعاليمها، حيث أن هذا الأمر أصل من أصول فلسفة اليوجا التي ترى في كل الديانات وفي كل الفلسفات حقا، ولا يعترض على دين وفلسفة مهما اختلفوا وتباعدوا في المشرب والمسلك، ويسع مذهبه لمعتقدات الجميع، ويأبى أن يتقيد بقيود أيّ منها (12)   (1) ((حياة القلوب)) للأموي (ص219) بهامش ((قوت القلوب)). (2) انظر ((تذكرة أولياء بر صغير)) لميرزه محمد أختر الدهلوي (3/ 31) ط باكستان. (3) ((تذكرة أولياء بر صغير)) لميرزه محمد أختر الدهلوي (1/ 157). (4) ((تذكرة أولياء باك وهند)) للدكتور ظهور الحسن شارب (ص282) ط باكستان. (5) ((تذكرة أولياء بر صغير)) لميرزه الدهلوي (1/ 96) ط باكستان. (6) انظر ((تذكرة أولياء باك وهند)) للدكتور ظهور الحسن شارب (ص179) ط باكستان. (7) انظر رسالة ((ترتيب السلوك من الرسائل القشيرية)) (ص6)، ط باكستان. (8) ((تذكرة أولياء باك وهند)) (ص286). (9) ((تذكرة أولياء باك وهند)) (ص307). (10) ((حياة القلوب)) لعماد الدين الأموي (ص268) بهامش ((قوت القلوب)) للمكي. (11) ((حياة القلوب)) (ص266). (12) انظر ((فلسفة اليوجا)) تأليف يوجي راما شاركه (ص198) نقلا عن ((أديان الهند الكبرى)) للدكتور أحمد الشلبي (ص171) ط 1964 م. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 41 والجدير بالذكر أن هناك كتابا ترجم إلى اللغة العربية باسم (فلسفة راجايوجا) بطبع عبد الغني أحمد، وترجمة حسن حسين، فيه فصل خاص لمقارنة هذه الفلسفة الهندية بالفلسفة الصوفية وكما أن الكتاب كله يشتمل على الرياضات والمجاهدات وطرق الأوراد والذكر، التي نقلناها آنفا من المتصوفة الكبار وأقطاب هذه الطائفة وأعلامها. وأما قضية وحدة الوجود والحلول والاتحاد، المقائد التي نادى بها الحلاج وابن عربي وجلال الدين الرومي وغيرهم ممن سلك مسلكهم، ونهج منهجهم. فلم يشك أحد في كونها مأخوذة مقتبسة بتمامها من (فيدانتا) الهندية. ومن قرأ آراء شري شنكر أجاريا في فلسفة (فدانتا) عرف جيدا أنها عين ما قاله الحلوليون والاتحاديون وأصحاب وحدة الوجود، وأن ما بيّنه شنكر، وفصّل القول فيه في شرح فلسفة وحدة الوجود أو فيدنتا هي التي توجد في كتب الوجوديون بكلياتها وجزئياتها. وأكثر من ذلك تعرض تعاليم شنكر أجاريا وتقرأ مكتوباته على من قرأ كتب ابن عربي، وشارحه ابن الفارض، ومفسره في المعجم جلال الدين الرومي، لم يستطع التفريق في مقولاتهم ومكتوباتهم، وحتى الأسلوب والمنهج والتعبير وبيان الطرق الموصلة إلى حصول المعرفة والإدراك. وبذلك اعترف صوفي كبير من شبه القارة الهندية الباكستانية، وكاتب شهير في تعاليم التصوف وتاريخه أن مسلك وحدة الوجود بمعنى أنه لا موجود في الحقيقة إلا الله، وأن وجود الممكنات وهميّ مثل الشعلة التي تظهر بتحريكها سريعة دائرة وهمية، يظنها الناظر دائرة حيث لا يكون لها وجود حقيقة، بل حركة الشعلة بسرعة هي التي أوهمت الناظر بوجودها، فكذلك الكون والممكنات. فهذا مسلك شري شنكر أجاريا، الذي أسسه وأوضحه في شروحه لأوينشد، وأخذ منه هذه الفلسفة من المسلمين (حضرة الأقداس إمام العرفاء محيي الدين ابن عربي، والمعروف بالشيخ الأكبر). كما أنه تأثر بفلسفة حكماء المغرب مثل اسنبوزا، لائبنز، فخته، هيجل، شوين هاور، باذنكويت، وبردليه، كما أن الشهوديين من المسلمين أخذوا فلسفة وحدة الشهود أيضا من العرفاء الهندوكيين. وهذا المسلك مأخوذ من رام نوج أجاريا أحد شراح اوبنشاد الأربعة المعروفين (1). فالديانات الهندية هي المصدر الآخر للتصوف الذي راح بين المسلمين، وأختاره طائفة من الناس الذين أرادوا أن يكونوا عرفاء من بين المسلمين، واختاروا نفس المناهج التي وضعها أصحاب الديانات الهندية لحصول (نروان) أي المعرفة، وجعلوا غورديسيا (أي تعذيب النفس) وجب وكيان دهيان (أي الصمت والتفكير والذكر) وسيلة للوصول إليها، وكان هذا ظاهرا جليا واضحا إلى حدّ اضطر المراعون للتصوف، والمداهنون للصوفية، والمدافعون عنهم أن يقرّوا به على ملأ من الناس:   (1) انظر ((تاريخ تصوف)) ليوسف سليم جشتي (ص30) وما بعد ط مجمع العلماء أوقاف لاهور 1976 م. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 42 (فالتصوف الإسلامي الحقيقي مبناه على الكتاب والسنة وعلى أحوال الرسول النبي العربي صلى الله عليه وسلم وإن تعرجت مؤخرا تعاليم التصوف وتلونت بعض فروعه ألوانا عدة واتجهت تلك الفروع اتجاهات مختلفة بسبب المذاهب الموروثة للداخلين المحدثين في الإسلام من هنود وفرس وإسرائليين ومسحيين ولا سيما في عصر الترجمة الذي شجع عليه المأمون ومن بعده من الخلفاء العباسيين فترجم المسلمون كتباً كثيرة من التصوف الهندي واليوناني والفارسي وطمعت بعض فروع التصوف الإسلامي الخالص بما دخل عليها من النزعات الأفلاطونية الحديثة أو القديمة وبعض المذاهب الهندية والفارسية في التصوف كنظرية الحلول والاتحاد والتقمص والتناسخ وما إلى ذلك (ولكل دين تصوفه وطبعا).ومع ذلك ظل التصوف الإسلامي الصميم والذي مصدره الكتاب والسنة قائما على حاله في صدور رجاله وفي الكتب الإسلامية كتواليف الحسن البصري والقشيري وأبي طالب المكي والسراج والغزالي (1). (وشذ عن ذلك أمثال الحلاج الذي قال بالحلول والقائل (أنا الحق وما في الجبة سوى الله) ومحيي الدين القائل (خضنا بحراً وقف الأنبياء بسالحله) وبرأه من فكره الحلول قوله بالسكر وغلبة الحال. وأكثر الصوفية الأعاجم خلطوا بين الفلسفة الفارسية القديمة أو الهندية وما قبسوه عن اليونانية والأفلاطونية الحديثة وبين تصوفهم الخاص).وقد تأثر أمثال ببراهمة الهند والغرس في أزيائهم وطقوسهم، واعتنقوا من أفكارهم (2). ويقول صوفي متقدم لسان الدين بن الخطيب: (ومن الهنود الذي وضع لهم الحكمة المصلحية، الشلم، والمهندم، والبرهمان، والصولية، والبردة، والزهاد، والعباد، ورجال الرماد، وأصحاب الفطرة، وهم يهجرون اللذات الطبيعية جملة، ويكثرون الجوع والرياضة، عشاق فيما ولّوا وجوههم شطره (3). وقال الآخر ما خلاصته: (وشك أن ابن عربي في مدرسة وحدة الوجود وسوابق بذورها في مدرسة الحلاج ولواحقها حتى عبد الكريم الجيلي وما بعده قد تأثر بالمصدر الهندي الذي أنطق مذهب الانبثاق الرواقي والفيوضات والصدور عند الأفلاطونية (4). وقال ماسينيون: (ونجد من ناحية أخرى أن بحث المراحل التي أدّت إلى إدخال الذكر في طرق الصوفية المحدثين تدلنا على تسرب بعض طرائف الهنود إلى التصوف الإسلامي (5). وبمثل ذلك قال أوليري المستشرق الآخر: (وثمة شبيه هندي للفناء، ولكن ليس في البوذية، وإنما فيما تقول به الفيدانتا من وحدة الوجود (6). ونيلكسون كذلك، فيقول في إحدى مقالاته وهو يتكلم في الفناء الصوفي: (أما في شرق فارس حيث ظهرت فكرة الفناء لأول مرة ظهورا واضحا، فلا بدّ أنها كانت متأثرة إلى حد كبير بأفكار هندية وفارسية.   (1) والباحث والقارئ يلاحظ هذه المعالجة كثيرا ما تمسك بها الصوفية ومن دافع عنهم، ولأجل ذلك لم نورد النصوص والعبارات في هذا المبحث كله، ولم نبن الحكم على ما كتبه هؤلاء ومن تبعهم في موقفهم ومسلكهم ومشربهم، ولم نتعرض إلى أقوال الوجوديين والحلوليين والاتحاديين مع تمسك القوم بكتبهم ومقولاتهم والمباهاة بعرفانهم وكرامتهم والمبالغة في تمجيدهم والثناء عليهم. (2) ((جمهرة الأولياء)) لمحمود أبي الفيض المنوفي الحسيني (1/ 266، 267). (3) روضة التعرف بالحب الشريف للسان الدين بن الخطيب (ص543) بتحقيق عبد القادر أحمد عطا ط دار الفكر العربي. (4) ((أضواء على التصوف)) للدكتور طلعت غنام (ص113). (5) مقال ماسينيون عن التصوف (ص49) ط دار الكتاب اللبناني بيروت. (6) ((الفكر العربي ومكانته في طريق ترجمة عربية)) (ص200) ط 1961 م. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 43 ويدل تعريف الصوفية للفناء من الناحية الخلقية بأنه محو الصفات الذميمة، والتخلق بكل خلق حميد، ووصفهم لوسائل قمع الهوى والشهوات، على وجود أثر للفلسفة البوذية فيهم مما لا يدع مجالا للشك، لأن تعريفهم هذا تمام الاتفاق مع تعريف النرفانا. أما الفناء في عرف أصحاب وحدة الوجود فربما كان أشد اتصالا بفكرة الفيدانتا وما يماثلها من الأفكار الهندية ... مثال ذلك أن أبا يزيد البسطامي كان من أهل خراسان، وكان جده زرادشتيا وشيخه في التصوف كرديا. ويقال: أنه أخذ عقيدة الفناء الصوفي عن أبي علي السندي الذي علّمه الطريقة الهندية التي يسمونها مراقبة الأنفاس، والتي وصفها هو بأنها عبادة العارف بالله. وإنك لتلمح نزعة أبي يزيد إلى وحدة الوجود مائلة في الأقوال المعزوة إليه. مثال ذلك كخرجت من الحق إلى الحق حتى صاحوا مني فيّ (يا من أنا أنت). إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني: سبحاني ما أعظم شأني. للخلق أحوال، ولا حال للعارف، لأنه محيت رسومه، وفنيت هويته بهوية غيره، وغيبت آثاره بآثار غيره (1). وقد كرر هذا القول في مواضع كثيرة مختلفة في مقالاته من التصوف والصوفية. وكتب الدكتور أبو العلاء عفيفي البحاثة المصري الكبير معلقا على إحدى عباراته، ومصدقا كلامه، ما نصه: (لا شك أن التصوف الإسلامي في ناحيته العلمية كان إلى حد ما على التصوف البوذي. يدل على ذلك ما ذكر الجاحظ في كتاب (الحيوان) عن رهبان الزنادقة الذين كانوا يخرجون للسياحة أزواجا، ولا يقيمون في مكان واحد أكثر من ليلتين. وكانوا يأخذون أنفسهم بتطهير القلب والعفة والصدق والفقر. ويذكر الجاحظ قصة رجلين منهم دخلا مدينة الأهواز (2). ويقول جولد زيهر: (إن نظرية الصوفيين في فناء الشخصية هي التي تقرب وحدها من فكرة الجوهر الذاتي (اتمان)، إذا لم تكن تتفق معها تماما، ويطلق الصوفيين على هذه الحالة لفظ الفناء أو المحور والاستهلاك (3). وقال أحد الكتّاب: (أما زيهر فقد ذهب إلى أن الربط بين الفناء والنرفانا دعوى لا تحتاج إلى برهان، معتمدا في ذلك على قول لأبي يزيد جاء فيه: صحبت أبا علي السندي فكنت ألقّنه ما يقيم به فرضا، وكان يعلمني التوحيد والحقائق صرفا. فالنص – في نظره – لا يفهم منه سوى أن أبا يزيد كان يعلّم السندي الفروض الدينية، باعتباره حديث عهد بالإسلام، مقابل تلقيه عنه علم الحقيقة والفناء، الذي لم يكن على علم به (4). ونريد أن نثبت ههنا أيضا نص ما ذكره الباحث الإيراني المشهور الدكتور قاسم غني، فيقول: (إذا كان رأي أولئك الذين يعتقدون أن التصوف وليد المعتقدات البوذية والهندية مبالغا فيه، فينبغي أن يقال في الأقل أن من جملة ما كان له تأثير في التصوف الإسلامي أفكار البوذية والهندية ونزعاتهما وعاداتهما. والإسلام الذي خرج من حدود الجزيرة العربية بسرعة البرق بعد ظهوره بفترة قصيرة سرعان ما أخذ يتقدم في كل ناحية، ولم تطل المدة حتى بلغ تخوم الصين وفتحت بلاد السند في عهد بني أمية، وتوثقت علاقات تجارية واقتصادية بين المسلمين والشعوب والقبائل التي كانت تختلف من ناحية الفكر والحضارة والأخلاق عن أقوام البلاد الأخرى.   (1) في ((التصوف الإسلامي وتاريخه)) ترجمة الدكتور أبي العلاء عفيفي (ص75). (2) أيضا تعليقه رقم 2 (ص24). (3) العقيدة والشريعة في الإسلام لجولدزيهر ترجمة عربية (ص162). (4) المعراج في الكتابات الصوفية للدكتور قاسم السامرائي (ص216). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 44 ومنذ القرن الثاني وما بعده وحين بدأ المسلمون بنقل كتب الشعوب الأخرى واتسعت دائرة العلوم، ترجم مقدار من آثار البوذية والهندية مما يدخل في باب التصوف العملي أي الزهد وترك الدنيا ووصف العبادات والتقاليد الهندية والبوذية في هذا الباب، ناهيك بنقل كتب هندية وبوذية في القرن الثاني للهجرة والصلات التجارية والاقتصادية القائمة بين المسلمين والهنود في أوائل الخلافة العباسية وقد انتشرت طائفة من تاركي الدنيا والسائحين من الهنود والمانويين في العراق وسائر البلاد الإسلامية الأخرى وكما كانوا يتحدثون في القرن الأول عن الرهبان والسائحين مع المسيحيين كذلك أخذوا يتحدثون في القرن الثاني عن رهبان وسياح ممن لم يكونوا مسلمين ولا نصارى وهم الذين سماهم الجاحظ (رهبان الزنادقة) واعتبرهم من زهاد المانوية. قال الجاحظ: (إن هؤلاء سياح والسياحة بالنسبة لهم في حكم التوقف واعتزال الساطرة في الصوامع والأديرة، وتلك الجماعة يسافرون دائما اثنين اثنين ويسيحون بحيث إذا رأى الإنسان واحدا منهم يتيقن أن الثاني ليس ببعيد عنه إلى حد ما، وسيظهر قريبا. ومن عاداتهم أنهم لا ينامون ليلتين في مكان واحد، ولهؤلاء السياح خصال أربع: القدس والطهر والصدق والمسكنة).وهؤلاء السياح تركوا بدورهم أثرا في صوفية المسلمين كما أثر فيهم أيضا السياح والمتجولون والمرتاضون من البوذيين الذين أذاعوا قصة بوذا وقدموه مثالا للزهد والإعراض عن الدنيا، بحيث أن المرتاضين كانوا يعرفونه في كتاباتهم بالمثال الكامل للزهد. وهو الأمير القوي الشكيمة الذي رمى الدنيا ظهريا وحرر نفسه. أو يقولون أنه أسير جدير بالثناء خليق بالاحترام متزييا بزي الفقراء. وهذا الموضوع أوجد قصصا ذات صور مختلفة والنقطة الهامة التي يجب ألا تنسى هي أن الديانة البوذية كانت قد انتشرت في شرق إيران أي بلخ وبخارى وفي ما وراء النهر كذلك قبل الإسلام بأكثر من ألف سنة، وكانت لها صوامع ومعابد مشهورة وكانت معابد بلخ البوذية أكثر شهرة بنوع خاص، وصارت بلخ ونواحيها من أهم المراكز الصوفية في القرون الإسلامية الأولى، وكان صوفيو خراسان يعدون في الرعيل الأول من الصوفية في الشجاعة الفكرية والحرية الشخصية، والعقيدة المعروفة (بالفناء في الله) المقتبسة من الأفكار الهندية إلى حد ما والتي انتشرت على الأكثر بواسطة صوفية خراسان. مثل أبي يزيد البسطامي وأبي سعيد الخير (1). وقبل أن ننتقل إلى فكرة أخرى نريد أن نلفت الأنظار إلى أن معتنقي البوذية والجينية والديانات الهندية الأخرى كان لهم أن يترهبوا، ويتجردوا عن الدنيا وما فيها، ويختاروا العزلة والخلوة، ويتيهوا في المفاوز والخلوات، ويعيشوا في المغارات والخانقاوات، ويعذبوا أنفسهم، ويأتوا بالمجاهدات والرياضات، ويتحملوا المشاق، ويتعمقوا في المراقبات والمكاشفات وغير ذلك من الأمور، لأن قادتهم وزعماءهم، هداتهم ومرشديهم فعلوا مثل ذلك لحصول المعرفة، واكتشاف الحق، والوصول إلى طمأنينة الروح والقلب، والاتصال بالخالق والاتحاد به – حسب زعمهم – تشبها لهم واقتداء بهم، وتمسكا بأسوتهم، واقتفاء آثارهم ومناهجهم. فعلى المتبعين أن يسلكوا جميع تلك المراحل التي سلكها سادتهم وكبراؤهم، وأن يكابدوا في هذا السبيل تلك الآلام التي تكبدها أولئك. وكذلك النصارى. أولا: لأنه نقل عن مسيحهم ما يشجعهم على التبتل والعزلة.   (1) ((تاريخ التصوف في الإسلام)) ترجمة عربية لصادق نشأت (ص 221 – 222). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 45 ثانيا: أن حواريي المسيح، وقدّيسي المسيحية الأوائل تحملوا أنواعا من العذاب في سبيل التمسك بمذهبهم، فأوذوا وأجبروا على ترك المساكن والمواطن وعاشوا في الصحاري والمغارات فرارا بدينهم، وحفاظا على إيمانهم، فحبس منهم وقتّل منهم كثيرون، وعذّب الآخرون. فتأسيا بهم وتقديرا لهم حرموا أنفسهم من ملذات الدنيا ونعيمها، وألزموا عليهم العزبة والجوع والمشاق، وهجروا العيش بين الأهل والأولاد. وأما المسلمون فلا نبيّهم أمرهم بذلك، ولا أصحابه ورفاقه الأبرار خيرة خلق الله، وأبرار هذه الأمة عملوا به، ودينهم دين الاعتدال والدين الوسط، الناسخ لجميع الشرائع السماوية منها والأرضية، الإلهامية وغير الإلهامية. وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]. والذي كمل قبل انتقال محمد صلى الله عليه وسلم إلى الملأ الأعلى. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3] وما لم يكن فيهما فهو ابتداع وإحداث فيه، وليس منه، ولا له علاقة به. ولا ندري ممن أخذ متصوفة المسلمين ونساكهم من المسلمين هذا المنهج والمسلك الذي بنوا عليه تصوفهم وزهدهم. اللهم إلا ممن ذكرناهم من المسيحية، وأصحاب الديانات الهندية، وهذه أحوال معتدلي الصوفية ومتقدميهم. وأما المتطرفون والمتأخرون فقد زادوا على هذين المصدرين مصدرا آخر استقوا منه فلسفتهم ومشربهم، وتشبثوا بآرائه ومقولاته. وهو الأفلاطونية الحديثة. المصدر: التصوف المنشأ والمصادر لإحسان إلهي ظهير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 46 المبحث الخامس: الأفلاَطونيّة الحَدِيثَة: ولقد ذكر جمع من الكتّاب والباحثين في التصوف ممن اشتغلوا بالتصوف من المسلمين وغير المسلمين. وقل من شذ عنهم أن الأفلاطونية الحديثة هي أحد المصادر الأساسية للتصوف، بل إنها هي المصدر الأول بالنسبة للقائلين بوحدة الوجود والحلول بدءاً من أبي اليزيد البسطامي، وسهل التستري، والترمذي الملقب بالحكيم، ابن عطاء الله الأسكندري، وابن سبعين، وابن الفارض، والحلاج، ولسان الدين بن الخطيب، وابن عربي، والرومي، والجيلي، والعراقي، والجامي، والسهروردي المقتول، وبايزيد الأنصاري وغيرهم. وأن هؤلاء أخذوا نظرية الفيض والمحبة والمعرفة والإشراق مع الآراء الأخرى التي تمسكوا بها عن الأفلاطونية المحدثة. وعبارات الصوفية أنفسهم ناطقة بها وشاهدة عليها ولو أنهم اختلطت عليهم آراء الأفلاطونية الحديثة وآراء أفلاطون وأرسطو وغيرهم من حكماء اليونان الآخرين، حيث نسبوا ذلك إلى هذا، وهذا إلى تلك. فيقول صوفي معاصر: وأما وحدة الوجود الحلولية التي تجعل من الله كائنا يحل في مخلوقاته أو الاتحادية بالمعنى المفهوم خطا تلك التي تجعل من الكائن الفاني شخصية تتحد بالموجود الدائم الباقي المنزه عن سائر النسب والإضافات والأحياز الزمانية والمكانية المحدثة أو يتحد به شيء منها فإنها مذهب هندي أو مسيحي وليس بإسلامي ولا يعرفه الإسلام، استمده أهل الشذوذ في التصوف الإسلامي من الفلسفة البائدة، وغذوا به مذهبهم الشاذ بفكر أفلاطونية وآراء بوذية وفارسية عن طريق الفارابي وابن سينا، حاله أن المتتبع لحياة الحلاج ومؤلفات السهروردي وابن عربي يرى أنهم تأثروا بالمتفلسفة المسلمين الذين أخذوا عن الفلسفة الأفلاطونية الحديثة والأرسطو طاليسية (1). وكتب قبله بقليل: (فكان يعلن بعضهم أنه اطلع على الغيب وأن في مقدوره الإتيان بخوارق العادات ثم يذهب إلى ما هو أبعد من هذا مثل قولة الحلاج المشهورة: ما في الجبة غير الله - وغيره: أنا الحق وبمثل هذا وذاك ثار على الحلاج معاصروه ورموه بالسحر تارة والجنون أخرى وعذب عذابا أليما إلى أن مات في أوائل القرن الرابع، والله أعلم بحاله وكان من أمثال الحلاج من بالغوا مبالغة قلت أم كثرت كشهاب الدين عمر السهروردي المقتول رئيس جماعة الإشراقيين ومحيي الدين بن عربي الأندلسي. وابن سبعين الصقلي، وهم من رجال القرنين السادس والسابع وتابعهم جماعة من شعراء الفرس أمثال جلال الدين الرومي وفريد الدين العطار وكلهم يرمي إلى أن يقيم التصوف الإسلامي على دعائم فلسفية أو فارسية وهندية أو يونانية (2). ويقول الدكتور عبد القادر محمود: (فإذا عدنا إلى تاريخ الاتصالات الأولى نجد أن الثقافة اليونانية كانت هي الثقافة المسيطرة على العقول في الشرق منذ عهد الإسكندر بالإضافة إلى ثقافات الشرق نفسه، حتى إذا أقبل المسلمون على حضارات غيرهم من الأمم القديمة كان إقبالهم على الثقافة الهللينية بمعونة نساطرة الحيرة وبمعاقبة غسّان، والسريان في الشام وغيرها، والصابئة من أتباع زرادشت، واليهود والنصارى. لكن الذي نؤكده أن باب الاتصال المباشر كان الأفلوطينية المحدثة ولو أن المسلمين حسبوها لأرسطو حين اعتقدوا خطأ أن كتاب (الربوبية) له، وهو في الواقع لأفلوطين الذي عرفوا من ورائه أفلاطون والثقافة اليونانية القديمة.   (1) جمهرة الأولياء وأعلام أهل التصوف للمنوفي الحسيني (1/ 292) ط القاهرة. (2) أيضا (ص276). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 47 إننا نلاحظ أن الأستاذ نسلكسون يرى أن الأثر كان في القرن السادس الهجري، ويختلف معه ماسينيون، فيرى على وجه أصح أنه كان في القرن الرابع، والواقع أنه في القرن الثالث، بدليل أن الربوبية ظهرت عربية في الوسط الإسلامي في القرن الثالث الهجري وكان لها أثرها المباشر في نظريات الاتصال الفارابية، ونظريات البسطامي والحلاج. فإذا اعتمدنا على جهد اصطفان بن صُدَّيللي الغنوصي السرياني الذي كان أستاذاً في مجمع (أريو باجوس) الذي تخرج منه ديونيسيوس Dionysius الأريوباجي، والذي كان معاصرا ليعقوب السروجي الأديب السرياني المشهور (ت 521 م) أقول - إذا عدنا إلى اصطفان بن صُدَّيللي، وجهوده في النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي وفي (الرُّها) بالذات فإننا نجد من جهوده الخطيرة أنه نقل بعد رحلاته في مصر وغيرها مذاهب وحدة الوجود وعاد ونشرها في (الرُّها) وكما اشتغل بشرح الإنجيل، وأنكر أبدية عذاب جهنم، وأكد أن المذنبين سيعودون إلى الجنة بعد تطهير. وكان لهذا أثره في سخط أهل الرّها فطردوه ورموه بالإلحاد، فرحل إلى دير في بيت المقدس، ووجد لآرائه هناك أرضا خصبة، وجمع آراءه، ونسبها إلى ديونيسيوس لشهرته. من هنا لا نجد غرابة مطلقاً في الدوائر الصوفية في الإسلام انتشار مثل هذه الأقوال التي شاعت مع جهم بن صفوان، ثم اندفعت في أفق الفكر الإسلامي، حيث شكلت مذاهب الفيض والإشراق والمعرفة والجذب والحلول والاتحاد ووحدة الشهود ووحدة الوجود، وكل مركبات (الثيوصوفية) بتأثير الأمشاج المختلطة مع الغنوص الشرقي القديم. فإذا نظرنا في مذاهب الفيض الأفلوطيني - نجد أن الله والعقل الأول والنفس الكلية والمادة غير المصورة والنفوس الجزئية - كل أولئك عبارة عن مراتب الوجود الأفلوطينية، وهذا ما نجده في مدرسة ابن عربي في الحقيقة المحمدية أول فيض من الذات الإلهية، ثم بقية الفيوضات في جميع الموجودات، وعند ابن الفارض في وحدة الشهودية وفي مذهبه القطبية والحقيقة المحمدية، وعند الإشراقية السهروردية والشيرازية التي تجعل الله نور الأنوار فياضاً بالأنوار القاهرة وهي النفوس والعقول، وبالجواهر الغاسقة الناشئة عن الأنوار، وهي الأجسام، حتى المصطلحات في المثل أو المعاني الأزلية، والحقيقة، وحقيقة الحقائق، والعلة والمعلول، والوحدة والكثرة، وتحقق الذات في الموضوع وشيوع الموضوع في الذات. كل هذا يعود إلى أصوله الأفلوطينية التي تعود هي الأخرى إلى الغنوص الشرقي والغربي المؤول في الفلسفات اليهودية والمسيحية اللاهوتية. لقد أخذت النظريات الصوفية لدى الصوفية الفلاسفة أو الفلاسفة الخلص لدى المشائية الإسلامية وجوهرها من الأفلوطينية، وخاصة في المعرفة الإشراقية، التي تُلقى إلقاء في النفس عند تَطَهُّرها وتحررها، ويكفينا دليلا التاسوع الخامس لأفلوطين الذي يقول: (النفس التي لا تضاء بضوئه تظل بغير رؤية)، فإذا أضيئت فإنها تحتوي على كل ما تنشده فترى الأسمى بالأسمى - ترى الأسمى الذي هو في الوقت نفسه وسيلة الرؤية لأن ما يضيء النفس هو نفسه الذي تريد رؤيته، كما أننا نرى الشمس بضوء الشمس. لقد مارس أفلوطين (ت 205 م) هذه التجربة، وأعطى الاتجاه للفارابي وابن سينا، والحلاج والسهروردي، وابن عربي وابن الفارض، وابن سبعين وبقية الركب المشائي أو الصوفي. يقول أفلوطين (وقد حدث مرات عدة أن ارتفعت خارج جسدي بحيث دخلتُ في نفسي، كنت حينئذ أحيا، وأظفر باتحاد مع الإلهي). (يجب على أن أدخل في نفسي، ومن هنا أستيقظ. وبهذه اليقظة أتحد بالله). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 48 (يجب عليَّ أن أحجب عن نفسي النور الخارجي لكي أحيا وحدي في النور الباطن) (1). ويقر هذا الأمر الدكتور عبد الرحمن بدوي - ولو أنه يختلف مع الدكتور عبد القادر في طرق وصولها إلى الصوفية - حيث أنه يقول تحت عنوان التأثير اليوناني في التصوف: (وأهم نص في هذا الباب هو كتاب (أثولوجيا أرسطو طاليس) وهو كما نعلم فصول ومقتطفات، منتزعة من التاسوعات الأفلاطونية، وفيه نظريات الفيض والواحد التي ستلعب دورا خطيرا في التصوف الإسلامي، خصوصا عند السهروردي المقتول وابن عربي، وفيه نظرية (الكلمة) أو اللوغوس. ولا شك في تأثر الصوفية المسلمين ابتداء من القرن الخامس الهجري بما في (أثولوجيا) من آراء. وإنما الخلاف هنا هو في هل وصل تأثيره إلى التصوف الإسلامي مباشرة، أو عن طريق كتب الإسماعيلية، وكلها حافلة بالتأثر به. ويتلوه في الأهمية الكتب المنسوبة إلى هرمس .. وشخصية بارزة التأثير عند السهروردي المقتول، وابن عربي. الأول خصوصا في فكرة الطباع التام، التي تأثر بها كل الإشراقيين بعد السهروردي، والطباع التام هو (النوس). ويسمى أيضا الروجانية والطبيعة الكريمة. ويتصل به ما يرد من علم الصنعة سواء عند الصنوعيين (الكيماويين) وعند الصوفية المسلمين. ومن النصوص المهمة المنسوبة إلى هرمس: رسالة هرمس في معاذلة النفس، التي نشرناها في كتابنا: الأفلاطونية المحدثة عند العرب، فهي مناجيات للنفس وتحليل لها، وتأنيب للنفس الأمارة، ودعوة للنفس من أجل التطهر والتقديس. ومن السهل أن نجد أصداء لها ومشابه في مناجيات الصوفية المسلمين. ثم إن هناك فصولا منحولة لأفلاطون وسقراط وغيرهما من الفلاسفة اليونانيين معظمها آداب وأقوال .... وكلها تتشابه في بعض آرائها مع الأقوال المنسوبة إلى كبار الصوفية المسلمين في كتب طبقات الصوفية المختلفة (القشيري، السلمي، الشعراني، الهروي، العطار، الجامي الخ الخ (2). ولقد أقر الدكتور أبو العلاء العفيفي أيضا بتأثر ابن عربي ومن نهج منهجه في الأمور الكثيرة وفي نظرية الفيض بأفلاطونية المحدثة (3). وكتب الدكتور التفتازاني كلاما يشبه هؤلاء حيث قال: (ونحن لا ننكر الأثر اليوناني على التصوف الإسلامي، فقد وصلت الفلسفة اليونانية عامة، والأفلاطونية المحدثة خاصة، إلى صوفية الإسلام عن طريق الترجمة والنقل، أو الاختلاط مع رهبان النصارى في الرها وحران. وقد خضع المسلمون لسلطان أرسطو، وإن كانوا قد عرفوا فلسفة أرسطو على أنها فلسفة إشراقية، لأن عبد المسيح بن ناعمة الحمصي حينما ترجم الكتاب المعروف بـ (أثولوجيا أرسطو طاليس) قدمه إلى المسلمين على أن لأرسطو على حين أنه مقتطفات من تاسوعات أفلوطين.   (1) الفلسفة الصوفية في الإسلام للدكتور عبد القادر محمود (ص31، 32، 33) ط دار الفكر العربي. (2) انظر ((تاريخ التصوف الإسلامي)) للدكتور عبد الرحمن بدوي (ص41، 42). (3) انظر ((تعليقات أبي العلاء العفيفي من فصوص الحكم لابن عربي)) الجزء الثاني (ص9) ط دار الكتاب العربي بيروت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 49 وليس من شك في أن فلسفة أفلوطين السكندري التي تعتبر أن المعرفة مدركة بالمشاهدة في حال الغيبة عن النفس وعن العالم المحسوس، كان لها أثرها في التصوف الإسلامي فيما نجده من كلام متفلسفي الصوفية عن المعرفة. وكذلك، كان لنظرية أفلوطين السكندري في الفيض وترتيب الموجودات عن الواحد أو الأول. أثرها على الصوفية المتفلسفين من أصحاب الوحدة كالسهروردي المقتول، ومحيي الدين بن عربي، وابن الفارض، وعبد الخالق بن سبعين، وعبد الكريم الجيلي، ومن نحا نحوهم. ونلاحظ بعد ذلك أن أولئك المتفلسفة من الصوفية نتيجة اطلاعهم على الفلسفة اليونانية قد اصطنعوا كثيرا من مصطلحات هذه الفلسفة مثل: الكلمة - العقل الأول - العقل الكلي - العلة والمعلول ز الكلي .... إلخ (1). وبمثل ذلك قال الدكتور محمد كمال جعفر (2). والدكتور مصطفى حلمي (3). والدكتور زكي مبارك (4). والدكتور محمد جلال شرف (5). والدكتور هلال إبراهيم هلال (6). وأما الدكتور قاسم غني الفارسي فكتب: (وأن طريق الوصول إلى المبدأ والحصول على التمتع الأبدي هو تطهير النفس السفلية عن طريق التجرد من الشهوات الجسمانية والميول الحسية وممارسة الفضائل الأربع، وهي: العفة، والعدل، والشجاعة، والحكمة. هذه نماذج من آراء الفلسفة الأفلاطونية الحديثة التي وفق المسلمون بينها وبين الشرع الإسلامي. ولهذا الغرض حذفوا منها أشياء وزادوا عليها أشياء وسموها (حكمة الإشراق). وقد أثر في التصوف والعرفان ذيوع آراء أفلاطون وظهور الفلسفة الأفلاطونية الحديثة بين المسلمين أكثر من أي شيء. وبعبارة أخرى، أحرز التصوف الذي كان إلى ذلك الحين زهدا عمليا أساسا نظريا وعمليا. وإذا دققنا في آراء الأفلاطونية الحديثة وجدنا أن الصوفي الزاهد الذي غض الطرف عن الدنيا وما فيها بحكم أنها فانية، وتعلق خاطره بما هو خالد. يشعر بلذة الرضا في فلسفة أفلوطين. بل يحصل على منتهي غايته في تلك الآراء، وموضوع وحدة الوجود في الفلسفة الأفلاطونية الحديثة جذب أنظار الصوفية أكثر من أي شيء آخر لأن الذين يؤمنون بهذه العقيدة يرون أن العالم كله مرآة لقدرة الحق تعالى وكل موجود بمثابة مرآة تتجلى ذات الله فيها إلا أن المرايا كلها ظاهرة، والوجود المطلق والموجود الحقيقي هو الله. ينبغي على الإنسان أن يسعى حتى يمزق الحجب ويجعل نفسه محلا لتجلي جمال الحق الكامل ويبلغ السعادة الأبدية. على السالك أن يطير بجناح العشق نحو الله تعالى ويحرر نفسه من قيد وجوده الذي ليس إلا مظهرا فحسب. وينمحي ويفنى في ذات الله أي الموجود الحقيقي (7). هذا وبمثل ذلك قال الآخرون من الفرس الذين اشتهروا باشتغالهم في التصوف، مثل الدكتور عبد الحسين زرين كوب (8). والأستاذ مهدي توحيدي بور (9). وقبلهم الأردبيلي أحمد بن محمد (10). وغيرهم الكثيرون الكثيرون.   (1) انظر ((مدخل إلى التصوف الإسلامي)) للدكتور أبي الوفا الغنيمي التفتازاني (ص33، 34). (2) انظر ((مقدمة كتاب المعارضة والرد)) لسهل بن عبد الله التستري ط دار الإنسان القاهرة. (3) انظر ((القيم الروحية)) (ص58) وما بعد. (4) انظر ((التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق)) (1/ 249). (5) انظر ((دراسات في التصوف الإسلامي)) (ص346). (6) انظر ((ولاية الله والطريق إليها))، مقدمة. (7) انظر ((التصوف الإسلامي)) للدكتور قاسم غني ترجمة صادق نشأت (ص142، 143). (8) انظر ((كتابه دنباله جستجودر تصوف إيران)) (ص267) وما بعد ط طهران 1362 هجري شمسي. (9) انظر ((مقدمة نفحات الأنس)) للجامي الطبعة الفارسية (ص83) وما بعد ط إيران 1337. (10) انظر ((حديقة الشيعة)) (ص266) ط طهران. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 50 وأما صوفية الهند وكتاب شبه القارة عن التصوف فأيضا أقروا بتلك الحقيقة الناصعة التي لا يمكن التهرب والأعراض عنها. فلقد قال البروفيسور يوسف سليم جشتي في كتابه الكبير عن التصوف، بعد ما استعرض آراء الأفلاطونية الحديثة ونظريتها مفصلة، قال: (إن التصوف لم يقتبس، ولم يؤخذ إلا من المنابع الصافية والمصادر الطاهرة، وعلى رأسها الأفلاطونية المحدثة، وتبني الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي نفس الأفكار التي نشرها أفلوطين الأسكندري، المبنية على الفكر الفلسفي والمشاهدة الذاتية، والذي بين أن تزكيه النفس لا يمكن إلا بالتبتل عن العلائق الدنيوية والعالم المادي، ولها مراتب ثلاث: تصفية النفس، وتجلية النفس، وتحلية النفس. ولا يمكن الوصول إليها إلا بالمراحل الثلاث: أولا: بالفن والآداب، والمراد منها طلب الحقيقة وجمالها. وأن هذين الشيئين أي ( T uth and Beauty) اسمان لشيء واحد في الحقيقة. ثانيا: بالعشق. ثالثا: بالحكمة. وأهم الأشياء في فلسفة أن طريق تهذيب النفس وتكميل الروح ليس ببرهاني ولا عقلي، بل هو وجداني وكشفي، كما أن فلسفته في الإلهيات تدور على وحدة الوجود، وهذا عين ما كان يؤمن به الشيخ الأكبر ابن عربي وغيره، كما أؤمن به أنا أيضا (1). وبمثل ذلك قال الآخر: ولا يبعد أن التصوف الإسلامي قد تأثر إلى حد كبير بالفلسفة اليونانية والتصوف الهندي والأديان الأخرى المجاورة للعرب كالمسيحية في الشام واليهودية في اليمن والزرادشتية في العراق وبلاد الفرس وغيرها إذ تم الاختلاط بين العرب وبين معتنقي هذه الديانات في القرن الثاني والثالث الهجري، وترجمت الفلسفة اليونانية كما ترجمت الثقافات الأخرى التي كانت موجودة عند أهل هذه البلاد المفتوحة قبل دخولهم في الدين الإسلامي. لذلك رأى بعض العلماء أن التصوف الإسلامي هو إيجاد الفلسفة اليونانية. بينما قال البعض الآخر: أنه نواة الدين المسيحي، في حين أن فريقا من المحققين يميلون إلى التصوف الإسلامي قد أخذته العرب من الهنود كما أخذت العرب الفلسفة من اليونان إذ كان التصوف شائعا رائجا بين الهنود قبل الإسلام بقرون، ولم يظهر عند العرب في صورة مذهب مستقل إلا بعد فتح البلاد الهندية واختلاطهم بأهل تلك البلاد) (2). فهذه هي عبارات ونصوص الباحثين من المسلمين الذين عرفوا بالبحث والكتابة عن التصوف والصوفية، والأكثر منهم عرفوا بالولاء للصوفية والدفاع عنهم وعن معتقداتهم، والبعض منهم يُعَدّ من الصوفية ويحسب على التصوف. هذا ولأجل ذلك ذهب معظم المستشرقين إلى أن الأفلاطونية الحديثة من أهم مصادر التصوف، وخاصة للتصوف المتأخر من القرون الأولى، ولقد بحث المستشرق الأنجليزي نيكلسون هذا الأمر في مقالاته عن التصوف بمواضع عديدة، فأرجع نشأته إلى عوامل خارجة عن الإسلام عملت عملها ابتداء من القرن الثالث الهجري. وأهم هذه العوامل وأبرزها في نظره هو الأفلاطونية الحديثة المتأخرة التي كانت شائعة في مصر والشام إلى عهد ذي النون المصري ومعروف الكرخي، ولهذا يتخذ من ذي النون المصري محورا لبحثه في هذه المقالة، فيأتي بكثير من الأسانيد التاريخية عن حياة ذي النون ونشأته، ويستدل بها على أن ذا النون كان على علم بالحكمة اليونانية الشائعة في عصره. ويتتبع حركة الثقافة اليونانية المتأخرة وطرق وصولها إلى المسلمين.   (1) انظر ((تاريخ التصوف باللغة الأردية)) ليوسف سليم جشتي (ص63 وما بعد ط علماء اكيدمي وزارة الأوقاف باكستان 1976 م. (2) مقدمة كتاب بايزيد الأنصاري للدكتور مير ولي خان الطبعة العربية (ص99) ط مجمع البحوث الإسلامية باكستان 1396 هـ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 51 وينتهي إلى أن التصوف في ناحيته النظرية مأخوذة من الأفلاطونية الحديثة موافقا في ذلك رأي ميركس الذي شرح هذه النظرية في كتابه (التاريخ العام للتصوف ومعالمه) هيد لبرج سنة 1893 م (1). ويقول نيكلسون: (ولا حاجة بنا إلى الإطناب في الكلام عن انتشار الثقافة الهلينية بين المسلمين في ذلك العصر، فإن كل من له إلمام بتاريخ العرب الأدبي يعلم كيف طغت موجة العلوم اليونانية - وقد بلغت ذروتها آنئذ - على العراق من مراكز ثلاثة: من الأديرة المسيحية في الشام، ومن مدرسة جنديسابور الفارسية في خوزستان، ومن وثني حران أو الصابئة في الجزيرة. وقد نقل إلى العرب كتب لا حصر لعددها في الفلسفة والطب وسائر العلوم اليونانية الأخرى، وعكف على دراستها المسلمون وأتخذوها أساسا قامت عليه اتجاهاتهم الجديدة في البحث، حتى لتكاد العلوم والفلسفة الإسلامية تكون مؤسسة على حكمة اليونان وحدها. وأبرز شخصية يونانية في الفلسفة الإسلامية هي أرسطو طاليس لا أفلاطون، ولكن العرب استمدوا أول علمهم بفلسفة أرسطو طاليس من شراح الأفلاطونية الحديثة، وكان المذهب الذي غلب عليهم هو مذهب أفلوطين وفور فوريوس وأبرقلس. وليس كتاب (أثولوجيا أرسطو طاليس) الذي نقل إلى العربية حوالي 840 م حسب تقدير دتريصي إلا ملخصاً لمذهب الأفلاطونية الحديثة. ومعنى هذا أن الأفكار الأفلاطونية الحديثة قد انتشرت بين المسلمين انتشارا واسعاً ... ولا داعي الآن إلى الاسترسال في هذا الموضوع بأكثر من هذا القدر، ويكفي القول بأن المسلمين قد وجدوا المذهب الأفلاطوني الحديث أينما حلوا وفي أي مكان اتصلوا فيه بالحضارة اليونانية. وقد كان لمصر والشام دائما الصدارة بين الأمم التي انتشرت فيها الحضارة اليونانية، وهما البلدان اللذان ظهر التصوف فيهما لأول مرة بمعناه الدقيق وتطور كما أسلفنا. والرجل الذي اضطلع بأكبر قسط في تطور هذا النوع من التصوف، هو ذو النون المصري الذي وصف بأنه حكيم كيميائي، أو بأنه - بعبارة أخرى - أحد أولئك الذين نهلوا من منهل الثقافة اليونانية. فإذا أضفنا إلى هذا أن المعاني التي تكلم فيها ذو النون هي - في جوهرها - المعاني التي نجدها في كتابات يونانية مثل كتابات ديونيسيون ........ وليس عندي من شك في أن المذهب الغنوصي بعد ما أصابه من التغيير والتحوير على أيدي مفكري المسيحية واليهودية، وبعد امتزاجه بالنظريات اليونانية كان من المصادر الهامة التي أخذ عنها رجال التصوف الإسلامي، وأن بين التصوف والغنوصية مواضع اتفاق كثيرة هامة. ولا شك عندي أيضاً في أن دراسة هذه المسألة دراسة دقيقة وافية لما يأتي بأطيب الثمرات، ولكنني على يقين من أننا إذا نظرنا إلى الظروف التاريخية التي أحاطت بنشأة التصوف بمعناه الدقيق، استحال علينا أن نرد أصله إلى عامل هندي أو فارسي، ولزم أن نعتبره وليداً لاتحاد الفكر اليوناني والديانات الشرقية: أو بمعنى أدق وليد اتحاد الفلسفة الأفلاطونية الحديثة والديانة المسيحية والمذهب الغنوصي (2) ويقول في مقال آخر: (ومما يحملنا على الجزم بوجود أثر للفلسفة اليونانية في التصوف الإسلامي أن نظرية المعرفة فيه ظهرت في غربي آسيا ومصر في بلاد تأصلت فيها الثقافة اليونانية أحقابا طويلة، وكان بعض المبرزين في الكلام فيها من أصل غير عربي (3).   (1) انظر مقدمة الكتور أبي العلاء العفيفي لطائفة من الدراسات المجموعة باسم في ((التصوف الإسلامي وتاريخه)) ص (س). (2) انظر في ((التصوف الإسلامي وتاريخه)) لنكلسون ترجمة عربية (ص14) وما بعد. (3) أيضا (ص73، 74). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 52 وفي مقال آخر صرح بأن التصوف الفلسفي الإلهي هو أثر من آثار النظر اليوناني، ولا يمكن الإنكار من امتزاج الفكر اليوناني والدين الإسلامي في التصوف وخاصة الأفلاطونية المحدثة (1). وبمثل ذلك قال براون في كتابه (تاريخ فارس الأدبي)، والمستشرق الأوليري في كتابه (الفكر العربي ومكانته في التاريخ (2). ومير كس في كتابه (3). ويقول ماسينيون المستشرق الفرنساوي: (وتسربت الفلسفة اليونانية إلى العالم الإسلامي، وأخذ يزداد باطراد منذ أيام الأذرية القرامطة القدامى، والرازي الطبيب إلى عهد ابن سينا، وكان من نتيجة ذلك أن استحدثت في القرن الرابع الهجري مصطلحات ميتافيزيقة أدق من سابقتها يفهم منها أن الروح والنفوس جواهر غير مادية، وأن ثمة معاني عامة وسلسلة من العلل الثانية وغير ذلك، وأن هذه المصطلحات اختلطت بالإلهيات المنحولة لأرسطو، وبمثل أفلاطون، وفيوضات أفلوطين، وقد كان لهذا كله أثر بالغ في تطور التصوف (4). فهذه هي آراء المستشرقين، تشبه تماما آراء من ذكرناهم قبل ذلك من المسلمين. وهناك في كتب بعض الصوفية المتقدمين ما يدل على ارتباطهم بالفلسفة اليونانية وأخذهم عنها، وتأثرهم بها، حيث مجدوها وبالغوا في الثناء عليها، وعلى من أوجدها وطرحها ونشرها بين الناس، ولو حصل الخطأ في نسبة بعض الآراء والأفكار إلى البعض دون البعض، وإلى الواحد دون الآخر كما مرت الإشارات إلى ذلك أثناء نقل العبارات السابقة عنهم. فيقول الجيلي في كتابه (الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل) في الجزء الثاني منه ما يدل على حبه العميق لموجدي الفلسفة اليونانية والربط الشديد لموجديها، فيقول: (ولقد اجتمعت بأفلاطون الذي يعدونه أهل الظاهر كافرا، فرأيته وقد ملأ العالم الغيبي نورا وبهجة، ورأيت له مكانة لم أرها إلا لآحاد من الأولياء، فقلت له: من أنت؟ قال: قطب الزمان وواحد الأوان، ولكم رأينا من عجائب وغرائب مثل هذا ليس من شرطها أن تفشي، وقد رمزنا لك في هذا الباب أسراراً كثيرة ما كان يسعنا أن نتكلم فيها بغير هذا اللسان، فألق القشر من الخطاب وخذ اللب إن كنت من أولي الألباب (5). وفي مقام آخر من كتابه كتب أن أرسطو تلميذ أفلاطون لزم خدمة الخضر واستفاد منه علوما جمة، وكان من تلامذته (6). وهذا غير ما ذكر من آرائه وآراء أفلاطون وفلسفتهما، والتعلق والتمسك بها ومصطلحاتها التي استعملها واعتنقها وآمن بها. وبمثل ذلك كتب لسان الدين بن الخطيب في كتابه الصوفي الكبير (روضة التعريف بالحب الشريف) حيث يلقب أفلاطون كلما يذكره بمعلم الخير، وأرسطو بحكيم متأله، وسقراط وهرمس وغيرهم من أهل الأنوار. وحكى عن أرسطو (خطأ) أنه حصل له الاتحاد بالذات الإلهية. فيقول نقلا عن أرسطو أنه قال:   (1) صوفية الإسلام (ص15). (2) انظر (ص196)، أيضا ((مدخل إلى التصوف)) للتفتازاني (ص32، 33). (3) انظر ((كتابه التاريخ العام للتصوف ومعالمه)). (4) ((التصوف) لماسينيون (ص38، 39). (5) ((الإنسان الكامل)) لعبد الكريم الجيلي (2/ 52، 53) الطبعة الرابعة 1981 م. (6) أيضا (2/ 117). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 53 (إني ربما خلوت بنفسي كثيراً، وجعلت بدني جانبا، وصرت كأني مجردا بلا بدن، عري من الملابس الطبيعية، فأكون داخلا في ذاتي، خارجا من سائر الأشياء. فأرى في ذاتي من الحسن والسناء، والبهاء والضياء والمحاسن العجيبة، والمناظر الأنيقة، ما أبقى له متعجبا متحيراً باهتاً، فأعلم أني جزء من أجزاء العالم الأعلى الشريف. فلما أيقنت بذلك، رقيت بذهني إلى العلة الإلهية المحيطة بالكل، فصرت كأني موضوع متعلق بها. فأكون فوق العالم كله، فأراني كأني واقف في ذلك الموقف الشريف المقدس الإلهي فأرى هنالك من النور والبهاء، والبهجة والسناء، وما لا تقدر الألسن على صفته، ولا الأسماع على نعته، ولا الأوهام أن تحيط به، فإذا استغرقني ذلك النور والبهاء، لم أطق على احتماله، ولا الصبر عليه فارتددت عاجزاً عن النظر إليه، وهبطت من العقل إلى الفكر والروية، فإذا صرت في عالم الفكر والروية، حجبت الفكرة عني ذلك النور والبهاء، وحالت بيني وبينه الأوهام، فأبقى متعجباً كيف انحدرت من ذلك الموضع الشاهق العالي الإلهي، وصرت سفلا في موضع الفكر والضيقة، بعد أن قويت نفسي على التخلف عن بدنها، والرجوع إلى ذاتها، والترقي إلى العالم العقلي، ثم العالم الإلهي، مع العقول فوق العوالم كلها، حتى صارت في موضع البهاء والنور والسناء مجتلية الذي هو علة كل نور وبهاء، وسبب كل دواء وبقاء. ومن العجب. أني كنت رأيت نفسي ممتلئة نوراً، وهي في البدن كهيئتها، والبدن معها، وهي خارجة عنه، على أني لما أطلت الفكرة، ومحضت الروية، وأجلت الرأي، وصرت كالمتحير المبهوت، تذكرت الفلنطوس، فإنه أمر بالطلب والبحث عن جوهر النفس الشريفة، والحرص على الصعود إلى ذلك العالم الشريف الأعلى. وقال: إنه من حرص على ذلك، وارتقى إلى العالم الأعلى، ولحق بالجواهر الإلهية، والأسباب الكلية، يجزي أحسن الجزاء اضطرارا. فلا ينبغي لأحد أن يفتر عن الطلب والحرص، والجد في الارتقاء إلى ذلك العالم، وإن تعب وكد ونصب، فإن أمامه الراحة التي لا تعب بعدها، في حياة دائمة، وعيشة راضية، ولذات باقية لا يتناهي أمدها، ولا يقطع مددها، مخلوقة للإنسان كلها، والإنسان مخلوق لها، أليس عجزا أن تمر ساعة من عمره في غير ما خلق له من ذلك؟ أليس من فرط في السعي لذلك ظالما لنفسه، ومهلكا ذاته، وفاعلا بجوهرته النفيسة ما لم يفعل به أعدى عدو له، فيندم حين لا ينفعه الندم (1). ثم علق عليه بقوله: (وبيان هذه السعادة: من تعرض له، فقد تعاطى ما لا يستقل به نفس، ولا تطمع فيه قوة ... وسبيل السعادة عندهم الرياضة، وعلاج الأخلاق، حتى يصير شيبها بالخير المحض وهو المبدأ، وتلطيف السر، وأن يصرف عن النفس شواغل الجسم، ويترقى في معارج المحبة والشوق إلى ذلك الكمال بالفكرة، حتى تحس النفس بانجذابها إلى عالمها، وتفيض عليها عجائبه. وقد أخبر هؤلاء الإلهيون عن أنفسهم عن أنفسهم بما ذكرناه آنفا، من أنهم نزعوا جلابيب الجسمانية في هذا العالم، وترقوا إلى العالم العلوي، فأبصروا من نوره ولذاته أموراً مذهلة، ثم عادوا إلى عالم الحس، ورمزوا ذلك في كتبهم، حسبما نقل سقراط الدنان، ومعلم الخير أفلاطون وإمام المشائين أرسطو (2). وهذه العبارات منثورة مبعثرة في كتب القوم كثيرا، ناطقة عن كنههم وحقيقة مشربهم الذي اختاروه منهجا ومسلكا من التصوف والصوفية كشهادات داخلية واعترافات ذاتية.   (1) ((روضة التعريف)) للسان الدين بن الخطيب (ص559، 560، 561). (2) ((روضة التعريف)) (ص560). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 54 وعلى ذلك قال الصوفي المشهور عبد الوهاب الشعراني عن شيخه: (وكان سيدي أفضل الدين رحمه الله يقول: كثير من كلام الصوفية لا يتمشى ظاهره إلا على قواعد المعتزلة والفلاسفة فالعاقل لا يبادر إلى الإنكار بمجرد عزو الكلام إليهم، بل ينظر ويتأمل في أدلتهم التي استندوا إليها، فما كل ما قاله الفلاسفة والمعتزلة في كتبهم يكون باطلا (1). وبعد هذه الشهادات والاعترافات لا نرى الاحتياج إلى ذكر عبارات الصوفية، ومقارنتها بآراء الفلاسفة والأفلاطونية المحدثة كي لا يطول بنا الحديث ولو أننا سوف نتكلم في هذا الخصوص ونضطر إلى سرد تلك النصوص في محل آخر من الكتاب عند الاحتياج والضرورة. فهذه هي مصادر التصوف، التي استقى منها شجرته حتى نمت وازدهرت، فأينعت وأثمرت، ولا يمكن رده إلى مصدر واحد (فإن أثر المسيحية والأفلاطونية الحديثة والفلسفة البوذية عامل لا سبيل لنا إلى إنكاره في التصوف الإسلامي. وقد كانت هذه المذاهب والفلسفات متغلغلة في الأوساط التي عاش فيها الصوفية، فلم يكن بدّ من أن تترك طابعها في مذاهبهم، ولدينا أدلة كافية توضح أثرها في التصوف ومكانتها منه، ولو أن المادة التي بين أيدينا لا تمكننا من تتبع أثرها بالتفصيل. وبالجملة يمكن القول بأن التصوف في القرن الثالث - شأنه في ذلك شأن التصوف في عصر من عصوره - ظهر نتيجة لعوامل مختلفة أحدثت أثرها في مجتمعه. أعني بهذه العوامل البحوث النظرية في معنى التوحيد الإسلامي، والزهد والتصوف المسيحيين، ومذهب الغنوصية، والفلسفة اليونانية والهندية (2). وكان هناك مصدر هام له تأثير قوي في تكوين التصوف وتشكيله، وتحوير منهجه وتطويره، وترويج الأفكار الأجنبية البعيدة عن الإسلام وتعاليمه فيه، غير هذه المصادر التي ذكرناها، وهو: التشيع الذي وضع نواته اليهود، وساهمت في تنشئته وتنميته الديانات الفارسية. ولكن لما لهذا المصدر من أهمية كبيرة وتأثير كبير لتغيير وجهة التصوف ومجراه، وتخليق أفكار غريبة فوق الغرابة التي وجدت فيه من المصادر الأخرى ربما تصطدم بنصوص صريحة للقرآن والسنة لا تحمل التأويل وتقضي على تعاليمها. ولفارق آخر وهو أن مصادر التصوف الأخرى أخذ منها التصوف أفكارها، واقتبس منها آراءها دون أن يكون لتلك المصادر قصد ورغبة، وهدف وغرض، ولتلقين المتصوفة تعاليمها وفلسفاتها، ونشرها بينهم، غير أن التشيع بثّ أفكاره ودسّ معتقداته، وروجّ نظرياته بين الصوفية عن قصد وعمد لتشويش المسلمين في عقائدهم ومعتقداتهم وتبكيت أهل السنة عن الاعتراض على التشيع وزيغه وضلاله، وإلزامهم السكوت بإبراز طائفة تنتمي إليهم، وتحسب عليهم، وتحمل نفس المعتقدات التي تشتمل عليها هي، وهذا أمر خطير في تاريخ الطوائف والفرق، والملل والنحل. ولذلك نخصص لبيانه بابا مستقلا ليكون الباحث والقارئ على إطلاع كامل على ما يحتاجه هذا البحث، وتتطلبه هذه القضية. المصدر: التصوف المنشأ والمصادر لإحسان إلهي ظهير   (1) ((الطبقات الكبرى)) للشعراني (1/ 11). (2) نيكلسون: التصوف: دائرة معارف الدين والأخلاق ج12 ص 10 وما بعد 1934 م، أيضا ((في التصوف الإسلامي وتاريخه)) (ص72). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 55 الفصل العاشر: التصوف عند الوثنيين وأهل الكتاب • المبحث الأول: الصوفية عند الوثنيين . • المبحث الثاني: الصوفية عند أهل الكتاب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 56 المبحث الأول: الصوفية عند الوثنيين • المطلب الأول: الطاوية (منتشرة في الصين) . • المطلب الثاني: الجينينة (نسبة إلى جينا، أي: القاهر والمتغلب). • المطلب الثالث: الهندوسية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 57 المطلب الأول: الطاوية (منتشرة في الصين) نسبة إلى (طاو)، وقبل عصر كونفوشيوس (حوالي القرن الرابع قبل الميلاد)، كانت هذه الكلمة تعني (الطريق وأسلوب العمل) (1)، واستعملها كونفوشيوس بمعنى (الطريق الصحيح للعمل). أما الطاويون فقد صارت عندهم ذات مفهوم واحد؛ يعني: الأشياء في مجموعها، أو ما يطلق عليه وحدويو الغرب اسم المطلق، وهو ما يطلق عليه متصوفة المسلمين اسم الوجود. والنصوص المنقولة هنا تُعزى لشخص مقدس معاصر لكونفوشيوس، اسمه (لاو تزو)، أي: الأستاذ لاو، يقال: إنه مؤسس الطاوية، وهذه النصوص من كتابهم المقدس كتاب (لاو تزو)، يقول: الطاو مَثَلُها كوعاء، رغم أنه فارغ، يمكن أن يُسْحب منه بلا نهاية، وليس في حاجة قط لأن يُملأ، وهي عظيمة جداً، وبالغة العمق، حتى ليبدو أنها أقدم من كافة الأشياء، إذا ما انغمس فيها أحد طرف صار ناعماً، وأصعب مشكلة تحل، وأقوى ضوء ساطع ينتشر، وأشد المشكلات تعقيداً تستحيل إلى أمور بسيطة، إنها في سكونها كالخلود نفسه، إنني لا أعرف وليدة من هي. اهـ. - في هذا النص، يُعرِّفنا الأستاذ لاو ما هي الطاو، ويُلاحظ أن وصفها يشبه أن يكون وصفاً لله تعالى، لكنه وصف فيه شذوذ وتجرؤ وتشبيه، وهذا نابع من ثقافتهم وتصوراتهم. ويقول: يأتي إلى الوجود عشرة آلاف شيء، وقد شهدتها تعود، لا يهم كيف تنتعش انتعاشاً بالغاً، كل شيء يجب أن يعود إلى أصله الذي صدر عنه، هذه العودة إلى الأصل تسمى الهدوء، هي تحقيق لمصير فرد، وأن يُحقق كل شخص مصيره لهو النمط الأبدي، وإذا عرفت النمط الأبدي فهو محصَّن من كل ناحية، والمحصَّن من كل ناحية هو عادل تماماً، وإذا كان عادلاً، فهو مَلِكٌ، ومن كان مَلِكاً فهو كالسماء، وإذا كان كالسماء فهو متمشٍّ مع الطاو، وإذا كان متمشياً مع الطاو فهو مثلها لا يفنى، وبرغم أن جسده قد يختفي في خضم محيط الوجود، فهو بعيد عن كل أذى ... اهـ. - يشرح (لاو تزو) في هذا النص وحدة الوجود، وكيف أن الأشياء تصدر عن ذات الطاو ثم تعود إليه، ويلاحظ أنه يستعمل كلمة (الهدوء) والتي يقابلها عند متصوفة المسلمين كلمة (الفناء). ولنلاحظ عبارة: (وقد شهدتها تعود)، والتي لا تعني إلا أنه شهدها بالكشف. ويقول: الكلمات الصادقة لا تكون منمقة، والكلمات المنمقة لا تكون صادقة، والرجل الصالح لا يجادل، وأولئك الذين يجادلون ليسوا بصالحين، والحكماء ليسوا بعلماء، والعلماء ليسوا بحكماء، إذا ما توقفنا عن العلم لا يواجهنا المزيد من المشاكل ... تخلوا عن الحكمة وتخلصوا من الفطنة، وسيصبح الناس أحسن حالاً مائة مرة. اهـ. - بين (لاو تزو) هنا أن حقيقتهم لا يمكن أن يُبَرْهن عليها بالأساليب الجدلية، والكلمات المنمقة، وأنها تشرح بالكلمات الصادقة البسيطة، والملحوظةالهامة هنا هي الأمر بالجهل! لأن الجهل جزء أساسي من رسالة الإشراق في كل زمان ومكان. ويقول: هو لا يغادر داره قط، ومع ذلك فهو عالم بالعالَم بأسره، ولا يُطلُّ من نافذته، ومع ذلك يسبر غور طريق السماء، وفي الحقيقة كلما سافر الإنسان إلى مكان أبعد، كان أقل إدراكاً، وهكذا يعرف الحكيم دون أن يتحرى، ولا يفعل شيئا ومع ذلك ينجز كل شيء. ... لهذا السبب يرتدي الحكيم رداءً من قماش خشن يُخفي ما هو أثمن من أنفس درة داخل فؤاده ... هذا ما يسمى الاستغراق الخفي، مَن خَبِرَهُ لا يمكن أن يعامل على أنه مُقَرَّب أو مزجور، لا يمكن أن يعان أو يضار، لا يمكن أن يمجد أو يحط من قدره، ولهذا يحتل المكان الأول بين كافة الكائنات البشرية في العالم. اهـ. في هذا النص يقدم (لاو تزو) صورة خاطفة للجذبة التي يسميها الاستغراق الخفي ولكشفها الذي يجعل الحكيم عالماً وهو لم يغادر داره، بل ولا غرفته، بل ولم يطل من نافذته .. والتماثل الكامل بين الطاوية والصوفية واضح، حتى لقد دفع هذا الوضوح أحد الباحثين لأن يقرر أن التصوف عند المسلمين هو امتداد للطاوية، وطبعاً؛ لا بد من وجود فروق يقتضيها اختلاف الظروف. المصدر: الكشف عن حقيقة الصوفية لمحمود عبد الرؤوف القاسم - ص757 - 759   (1) يلاحظ أن كلمة (الطريقة) تحمل نفس معنى كلمة (طاو)، مع التنبيه إلى أن كلمة (طاو) هي كلمة صينية وليست عربية، وأن الكلام هنا عن أمر حدث في الصين، مع ملحوظة أخرى قد يكون لها أهمية، وهي أن المصريين القدماء كانوا يطلقون على مصر اسم (طاو)، فهل هناك علاقة بين (طاو) التي هي مصر وبين الطاولة، كما أن هناك الوادي المقدس (طوى)؟ فهل من علاقة تاريخية وجغرافية نُسيت؟. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 58 المطلب الثاني: الجينينة (نسبة إلى جينا، أي: القاهر والمتغلب) أسسها مهاويرا الملقب بـ (جينا الرابع والعشرين)، وكان مولده سنة 599 قبل الميلاد. صام مهاويرا يومين ونصف يوم، ونتف شعر جسمه، وبدأ يجوب البلاد حافياً .. ولجأ إلى الزهد والجوع والتقشف، وغرق في التفكير، واهتم بالرياضة الصعبة القاسية والتأملات النفسية العميقة، وبعد ثلاثة عشر شهراً من ترهُّبه خلع ملابسه دون حياء، إذ كان قد قتل في نفسه عواطف الجوع والإحساس والحياء، وكان أحياناً يعتكف في المقابر ... وكان يغرق في المراقبة إلى حد لا يشعر فيه بالحزن أو السرور، ولا بالألم أو الراحة ... ووصل مهاويرا إلى حالة الذهول وعدم الإحساس بما حوله (أي: الجذبة)، وأفنى كل اتجاه مادي، فحصل من درجات العلم على الدرجة الخامسة (أعلى الدرجات)، وهي درجة العلم المطلق، ونيل البصيرة أو النجاة، وبعد سنة أخرى من الصراع والتأملات فاز بدرجة (المرشد) ... وبهذا بدأ مهاويرا مرحلة جديدة هي الدعوة لعقيدته ... ويقول الجينيون: إن جينا الثالث والعشرين، واسمه: (بارسوانات)، أسس نظاماً رهبانياً شدَّد فيه بضرورة الرياضات الشاقة المتعبة (1) ... - نرى في هذا النص أن الجينية تقوم على الرياضة الإشراقية، وعلى رأسها الجوع، وهذه الرياضة تقود إلى الجذبة التي يسمونها (حالة الذهول وعدم الإحساس بما حوله وفناء كل اتجاه مادي)، وفي الجذبة يحصل على الدرجات العليا من العلم (العلم المطلق)، وبالمثابرة على الرياضة وصل إلى درجة (المرشد)، كما نلاحظ أن هذا هو (النجاة) عندهم. ولننتبه إلى العري أيضاً. ولعل من المفيد ذكر المنجيات عند الجينيين (وهناك ما يشبهها في الهندوسية والبوذية والطاوية، بل وكل الوثنيات)، وهي: الاعتقاد الصحيح، العلم الصحيح، الخلق الصحيح الذي له أصول سبعة هي: التمسك بالخلق الحميد، والإقلاع عن الخلق السيئ، الورع، التقليل من الحركات البدنية ومن الكلام، التحلي بعشر خصال هي العفو، والصدق، والاستقامة، والتواضع، والنظافة، وضبط النفس، التقشف الظاهري والباطني، والزهد، واعتزال النساء، والإيثار، ثم التفكير في الحقائق الأساسية، والسيطرة على متاعب الحياة وهمومها والقناعة الكاملة (2). اهـ. هذه هي المنجيات في الجينية، وفي كل الوثنيات ما يماثلها في المكان والمقام، وهي تذكرنا بمنجيات الغزالي ومقامات الصوفية، كما يذكرنا العري في الجينية بمثيله عند الصوفية. المصدر: الكشف عن حقيقة الصوفية لمحمود عبد الرؤوف القاسم - ص 760، 761   (1) ((أديان الهند الكبرى)) (سلسلة مقارنة الأديان)، (ص:111، 112، 113). (2) ((أديان الهند الكبرى)) (ص:127، 128، 129). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 59 المطلب الثالث: الهندوسية نظرة سريعة: لا يمكن العثور على تعريف جامع للهندوسية؛ لأن فيها مئات كثيرة من المذاهب المتباينة، لكن عندهم عقيدة رئيسية (يؤمن) بها أكثرهم، إن لم يكن كلهم. - فكلهم يؤمنون بالفيدا، كتابهم المقدس، لكن يوجد غيره مئات الكتب المقدسة. - وكلهم يؤمنون بالروح الأزلي (آتمان)، وقد يطلقون عليه أسماء أخرى، والإله عندهم ذو ثلاثة أقانيم (حسب الوظيفة التي يقوم بها). أ- براهمان (الخالق). ب- فيشنو (الحافظ). ج- سيفا (المهلك). وقد تختلف المذاهب عن بعضها في تقسيم الأعمال بين الأقانيم الثلاثة، كما قد يختلف عدد الأقانيم. - إلى جانب هذا الثالوث، يوجد عشرات الألوف من الآلهة! والنص المقدس التالي من (الفيدا)، هو حوار بين فِشْنو الذي تجسد بصورة إنسان اسمه (كْرِشْنا)، وبين ملك مقدس اسمه (أرجونا) (صار إلهاً فيما بعد)، والحوار يجري في مستهل معركة حربية بين أفراد عائلة صاروا كلهم آلهة. يروي هذا الحوار شخص اسمه (سامياجا)، كان حاضراً معهما، يرويه لملك آخر اسمه (هاري)، وطبعاً، كل هؤلاء الأشخاص صاروا آلهة يعبدون. يقول النص: قال أرجونا: اللغز السامي، الحديثُ المتعلق بالروح التي وهبتَي إياها بالنعمة، بهذه النعمة انتهي ضياعي، وكما أعلنَتْ عن نفسها، هكذا أنت تكون، أيها الرب السامي، لكنني أرغب أن أرى شكلك المقدس، أيها الشخص السامي، وإذا كنت تعتقد أنني أستطيع أن أراك، فأظْهِرْ لي روحك اللافانية، يا رب اليوجا، يا كرشنا. قال الرب المبارك: شاهِدْ أشكالي يا أرجونا، هي بالمئات وبالآلاف، متنوعة في شكلها ومقدسة، ولها ألوان وهيئات مختلفة ... اليوم، شاهِدْ الكون المتحرك والساكن، وكل ما تريد أن تراه، كله متَّحِدٌ في جسدي يا أرجونا، لكنك لا تستطيع أن ترى بعينيك الإنسانيتين، وسأمنحك أعيناً تفوق الطبيعة، شاهد قدرتي المقدسة. قال سامياجا: بعد أن تكلم رب اليوجا، أيها الملك هاري، أظهر شكله المقدس السامي إلى أرجونا. لهذا الشكل أفواه وعيون كثيرة، ورؤى عديدة تدهش، وزينات مقدسة، وأسلحة مرفوعة مقدسة، ويلبس الثياب المقدسة، ويتحلى بالعطور والدهون المقدسة، ويتألف من كل الأعاجيب، ويتألق، وغير محدود، ووجهه يلتفت إلى كل اتجاه، ولو شعت ألف شمس في الفضاء، كان من الممكن أن تشبه عظمة الكائن المعظم. هناك شاهد أرجونا الوجود بكامله، بأجزائه العديدة المتجمعة في واحد، في جسد إله الآلهة (1). - وفي مكان آخر (والمتكلم الآن هو كْرِشْنا): من لا يتعلق فهمه بأي مكان، من يُخضع ذاتَه ومن يطرد رغبته، يأتي عن طريق الرفض إلى الحالة السامية التي تُصعِّد كل عمل. اسمع إلى ما أوجزه لك يا أرجونا: كيف يصل الإنسان عندما يحقق الكمال إلى براهمان؟ من يكون موهوباً بفهم نقي، ويضبط نفسه، ولا يلتفت إلى مواضيع الحس، ويلقي بالجاذبية والاشمئزاز بعيداً، ويسكن في عزلة، ويأكل القليل، ويضبط كلامه وجسده وعقله، ويعتنق التأمل والتركيز، ويلقي الإحساس بالذات والقوة والتنافر والرغبة والبغضاء، أو الملكية بعيداً، أولا يكون أنانياً، بل هادئاً في عقله، يستحق أن يصبح براهمان.   (1) ((الفكر الفلسفي الهندي)) (ص:204). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 60 عندما يصبح الإنسان واحداً مع براهمان، ويكون هادئاً في روحه، فلا يحزن، ولا يرغب، وعندما يعتبر كل الكائنات على السواء، ويصل إلى التعبد السامي، إليَّ. بالتعبد يعرفني، ويعرف من أنا، وما هو مقامي، وعندما يعرف من أنا يدخل فيَّ. الرب يسكن قلوب الكائنات، ويجعلها أن تدور بقدرته كأنها على آلة. الْتَجِئ إلى بكل قدرتك يا أرجونا، وبنعمتي تحصل على السلام السامي والمسكن الأبدي. الحكمة أكثر سرية من كل الأسرار التي أعلنتها لك، فكر فيها تماماً، واعمل ما تشاء (1). - النصان واضحان كل الوضوح، ومع ذلك لا بأس من لفت نظر القارئ إلى بعض النقاط فيهما: أ- وحدة الوجود في النصين: (شاهد أرجونا الوجود بكامله)، (يصبح الإنسان واحداً مع براهمان). ب- الرياضة، في النص الثاني: (العزلة والأكل القليل وضبط الكلام والجسد والعقل والتأمل والتركيز). ج- (إفراغ النفس من كل رغباتها على الإطلاق)، التي تقابل قول المتصوفة: (اخلع نعليك) ... وماشابهها. د- هذه الأمور هي نفس ما نراه ونسمعه ونقرؤه من أقوال متصوفة المسلمين وفي كتبهم. هـ- كما يجب ألا ننسى الشبه التام بين قول الهنادكة: (إن البراهمة خلقوا من وجه الإله الأعظم)، وقول المتصوفة المسلمين: (إن محمداً خلق من وجه الله). كما نلاحظ التوافق بين الكشف (عندما شاهد الرب) والعقائد المسبقة. ومن يتتبع أقوال المتصوفة ونصوص الفيدا يقف أحياناً على تشابه حتى في المفردات. - ونص آخر من نصوصهم الكثيرة من (أوبانيشاد شاندوجيا): 1 - حقاً إن هذا العالم كله براهمان. وبهدوء، يعبده الإنسان، لأنه قد أتى منه، وسينحل فيه، ولأنه يتنفس بواسطته.2 - هو الذي يتضمن العقل، وجسدُه هو الحياة، وشكله هو النور، وفكره الحقيقة، وذاته هي الفراغ، إنه يتضمن كل الأعمال والرغبات والأوامر والأذواق، ويشمل العالم كله، هو الذي لا يتكلم- روحي هذه ضمن قلبي، هي أصغر من حبة أرز، ذاتي هذه هي أعظم من الأرض ومن الفضاء والجو ومن هذه العوالم (2). (انتهي). ونص آخر (أوبانيشاد ائتاريا) .... هو براهمان، هو أندرا، هو براجاتي، هو كل هذه الآلهة، هو هذه العناصر، الأرض والريح والفضاء والماء والنور، هذه الأشياء، وتلك التي تمتزج بالنار كما كانت (3) ... - أرجو من القارئ الكريم أن يعود إلى أقوال المتصوفة، وخاصة عينية الجيلي ليرى التشابه. وهذه صور من ضرب الشيش عند الهندوس، أو عند فرقة من فرقهم التي تعد بعشرات الألوف، وهذه الفرقة موجودة في ماليزيا، ويجعلون رأس الآلهة هو سيفاناتراجا، بدلاً من براهمان. ولهم عيد سنوي يحتفلون به هو عيد (تابوزام)، حيث يكون الاجتماع العام على مقربة من أحد مداخل العاصمة (كوالالامبور).هذا العيد المجيد يحتفل به هنود ماليزيا سنوياً في شهر (الكوكب)، حيث يتوسط البدر كبد السماء، ... وذلك تمجيداً لذكرى الإله (سيفاناتراجا) رب آلهة الهندوس (4) (بالنسة لهذه الفرقة) .. ويبدأ التمجيد أيضاً للإله (مورغان)، وهو حفيد (سيفاناتراجا) (5) ... إن الصلاة الهندوسية تقام قبل الاحتفال بالعيد المجيد ... يمتنعون عن ممارسة الحب، ويكتفون بوجبة طعام واحدة نباتية في اليوم ... ثم يدخلون في الصلاة والتأمل والعزلة ... التي تتحول تدريجياً إلى غيبوبة عن هذا العالم (أي: الجذبة).   (1) ((الفكر الفلسفي الهندي)) (ص:234، 235). (2) ((الفكر الفلسفي الهندي)) (ص:112). (3) ((الفكر الفلسفي الهندي)) (ص:109). (4) ((أغرب القبائل والشعوب بالقرن العشرين)) (1/ 16). (5) ((أغرب القبائل والشعوب بالقرن العشرين)) (1/ 17). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 61 وبفضل تلك الصلاة والعزلة والتأمل التي تفصلهم عن الواقع لتدخلهم في عالم الخيال والغيبوبة الطويلة المقترنة بالتوحيد للذات الإلهية ... عندها تمتلكهم نشوة غريبة جداً تدعى (نشوة الرعدة الإنشائية)، فتراهم حالمين بأبعاد لا حدود لها ... وبواسطتها يتاح لهم دون استثناء اجتياز المسافات الطويلة (الصاعدة في الجبل الشاهق)، ضمن الدروب الوعرة، والتي تتطلب جهداً ومهارة فائقة، فيصلون بالنهاية إلى المعبد التابوزامي ... وهم في تلك الحالة يبدون في إحساس غامر بالورع والتقى ... بينما الرماح الحادة تترنح على وجناتهم ... والأسهم الفضية مغروزة في ألسنتهم ... والكلاليب التي تنتزع قطعاً من أجسادهم .. والسلال التي تثقل كاهلهم (قد يبلغ وزن بعضها 60 كغ) .. وهم لا يأبهون لكافة الآلام والإصابات، بل إنهم من خلالها يستسلمون لنشوة غريبة وعجيبة ... والأغرب من كل هذا هو أن تلك الجروح العميقة لا يسيل منها الدم إلا من بضع قطرات تعد على أصابع اليد الواحدة ... فسرعان ما تلتئم ... فلا يبقى منها سوى آثار ندوب سوداء ... وهم فريسة لذلك الشعور الغريب الذي يعبر لهم عن إمكانية الوصول بتلك المآثر والبطولات من خلالها الاتصال بالإله الأكبر سيفاناتراجا ... ... فيتجمع أولئك المؤمنون حول زعيمهم الديني (غورو)، وهم يتغنون بنشيد (الفل - فل)، بمعنى (الرمح - رمح) ... بينما يقف (غورو) أمام أحد المؤمنين ليثقب وجنة المؤمن بالمغرز بعد أن باركه بدعواته ... ولكن عندما يشق السهم الحاد والمسنون لحم وجنة المؤمن اللدنة ... يبدأ المؤمن بالارتعاد بشدة كمن أصابه مس أو جنون، فيقفز بالهواء ليدق الأرض بقدميه دقاً رتيباً وشديداً، ومن ثم يتمايل على وقع النشيد الحماسي، بينما يكون قد برز من وجنتيه الغائرتين ذلك السهم الفضي، فلا يسيل من وجنتيه من أثر الجرح إلا قليل من قطرات الدم لا تذكر ... وتشق ألسنتهم بأسياخ فضية يتراوح طولهم ما بين (12 - 18 سم) ... والرماح الطويلة التي تخترق الوجنة ويبلغ طولها عادة أربعة أمتار، وعلى طرفي الرمح تعلق السلال المملوءة حليباً وعسلاً، وأما البرتقال فإنه يثبت على الخصر بواسطة سنارات فضية تغرز في الجسد ... فيتقدم أحدهم ليجلس على كرسي بلا ظهر، عندها يباشر الزعيم الديني (غورو) في غرز الكلاليب الفضية الحارة في جسده، ويبلغ عدد الكلاليب في بعض الأحيان زهاء ستين كلاباً، والمؤمن لا يزال تحت سيطرة الرعدة الانتشائية الغريبة إلى أن يحني رأسه ليذهب في غيبوبة بلا حدود أو نهاية (1) .... إلخ. اهـ. - لا أظنني بحاجة إلى تعليق، فالأمر واضح؛ لكن الملحوظةأن متصوفة المسلمين لم يبلغوا شأو هؤلاء القوم! والسؤال: هل هؤلاء القوم تسري فيهم كرامة أحمد الرفاعي؟ أم ماذا؟ وهذه نصوص بوذية متفرقة من كتاب (فايسيسكا سوترا): الكتاب الأول- الفصل الثاني:17 - الوجود واحد بسبب وحدة العلامة (2) ... الكتاب الثاني- الفصل الأول:28 - تتوضح وحدة الأثير بوضوح وحدة الوجود (3). الكتاب الثاني- الفصل الثاني: 7 - جوهرية وأبدية الزمان تتوضحان بتوضيح جوهرية وأبدية الهواء. 8 - وحدة الزمن تتوضح بتوضيح وحدة الوجود.   (1) ((أغرب القبائل والشعوب بالقرن العشرين)) (1/ 19، وما بعدها). (2) ((الفكر الفلسفي الهندي)) (ص:484). (3) ((الفكر الفلسفي الهندي)) (ص:486). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 62 11 - جوهرية وأبدية الفراغ تتوضحان بوضوح جوهرية وأبدية الهواء.12 - وحدة الفضاء (أي: الفراغ) تتوضح بتوضيح وحدة الوجود (1). اهـ. ولا حاجة للتنبيه إلى وحدة الوجود الواضحة في هذه النصوص وضوحاً كاملاً، وكذلك الطريقة التي توصل إليها، وللزيادة في الوضوح نورد وصفاً يذكره (آسين بلاثيوس) (2) عن كيفية وصول الهندوسي أو البوذي إلى الجذبة، يقول: ... ومذهب الفيدا الوارد في الأوبانيشاد يجعل غاية الكمال والسعادة في حشد الروح باستبعاد كل خاطر غير فكرة الموجود المطلق، وأصحاب نظام اليوجا (3) كانوا يستخدمون من أجل الوصول إلى هذه الغاية طريقة في الإيحاء الذاتي التنويمي شبيهة جداً بما قرره ابن عربي، فكان اليوجي يجلس القرفصاء ساكناً بلا حراك، ونظره مثبت، وانتباهه مستغرق في الحرفين (أم)، وهو اسم من أسماء براهما المستسرة، ثم يقع في جذبة (4) تفقده الشعور. وتمرين النَّفَس، وهو رياضة إيقاعية للشهيق والزفير، كان يمارسه (تنجل) للوصول إلى نفس الغاية (5) (أي: الجذبة). اهـ. - أي: إن الرياضة الإشراقية هي الطريق للوصول إلى المعرفة عندهم وعند غيرهم طبعاً، والفرق هو في تفسير هذه الظاهرة، وفي وسائل تزيينها للمريدين. وفي الرياضة الإيقاعية للشهيق والزفير يمكن أن نلاحظ دور الأكسجين مضافاً إلى دور الإيقاع الرتيب. المصدر: الكشف عن حقيقة الصوفية لمحمود عبد الرؤوف القاسم 761 - 768   (1) ((الفكر الفلسفي الهندي)) (ص:486). (2) مستشرق إسباني مات سنة (1944م). (3) اليوجا رياضة تعبدية إشراقية يمارسها الهندوس والبوذيون والجينيون للوصول إلى الجذبة. (4) كلمة (جذبة) هي مصطلح يستعمله متصوفة المسلمين فقط ويستعمله آسين بلاثيوس هنا بالاستعارة. (5) النص من كتاب (ابن عربي) لآسين بلاثيوس، (ص:187). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 63 المطلب الأول: عند اليهود مر في فصل سابق وصف الأستاذ عبد الأحد داوُد للتصوف اليهودي الذي كانوا يسمونه (التنبؤ)، وأنهم كانوا يسمون الواصل إلى الجذبة وأحلامها (نبي)، ويسمون الشيخ المسلك (صوفي)، أي المراقب أو المرشد. وكانت عندهم- على قلتهم- عدة طرق، منها (الإلكسائية) و (الأبيونية). وبعد ظهور الإسلام بقرون، ولعله في حوالي القرن الخامس الهجري، صار التصوف اليهودي معروفاً باسم (الكبالة Gabbalah)، أي المأثور، مع الاحتفاظ بالاسم القديم (التنبؤ). وهناك أشياء مثيرة للانتباه؟ ففي التنبؤ اليهودي (أو الكبالة) يصنفون الواصلين إلى الجذبة على ثلاث مراتب: نبي (ومعناها الناطق)، أو نبي سفاتايم (أي: ناطق الشفتين)، ثم رائي، ثم بصير- وهو أعلاها- والبصير عندما يتصدى لتسليك المريدين يسمى (صوفي)، أي: المرشد. ورأينا في فصول سابقة أن متصوفة المسلمين يقسمون المكاشفين كذلك إلى نفس المراتب الثلاث: المحاضر (من المحاضرة)، ثم المكاشف (من المكاشفة)، ثم المشاهد (من المشاهدة)، وهو أعلاها، وعندما يتصدى من وصل إلى مقام المشاهدة إلى تسليك المريدين يسمونه (المرشد). وواضح أن هذه المصطلحات، التصوفية هي مرادفات للمصطلحات الكبالية. وشيء آخر، نقرأ في المعجم الفرنسي ( La ousse) وصفاً للكبالة ترجمته كما يلي: (تفسير يهودي باطني ورمزي لنص الكتاب المقدس)، كتابه التقليدي (الكلاسيكي) هو (الزوهار) أو كتاب (الإشراق). وأنصار العلوم الخفائية (الباطنية) يستعملون رموز الكبالة في اتجاه سحري. اهـ. نلاحظ أن أسلوب الكبالة في تفسير الكتاب المقدس هو باطني ورمزي، مثل تفسير متصوفة المسلمين للقرآن الكريم تماماً. وكذلك استعمال الرموز الكبالية في السحر هو مثل استعمال الرموز الصوفية في السحر. أما كتاب الإشراق (الزوهار)، فقد ظهر في أوائل القرن السادس الهجري لمؤلف يهودي من مدينة ليون في إسبانيا، كما يظن، ويمكن أن يكون أقدم من ذلك بقليل أو كثير. ولننتبه إلى أن واقع تصنيف أحلام الجذبة (محاضرة ثم مكاشفة ثم مشاهدة) تابع لتوجيهات الشيخ المسلك، ولتوجيهاته فقط، وأن خوارق شتى تحدث على أيدي الكباليين. المصدر: الكشف عن حقيقة الصوفية لمحمود عبد الرؤوف القاسم - ص768، 769 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 64 المطلب الثاني: عند النصارى أعلنت الصوفية عن نفسها عند المسيحيين في القرن الثاني الميلادي باسم الغنوصية، أي: المعرفة، ومنها الغنوصي أي: العارف، وسماه العرب منهم الكاهن، وقد رفضتها الكنيسة أولاً، ومع الزمن قبلتها وتبنتها. وهذا نص لصوفي مسيحي يصف كيفية وصوله إلى الجذبة. يقول (نيمو) (1) خادم أم الإله، متلقي اعترافات القديسة تيريزا (2)، في كتابه (الأسفار): ... وجدت فائدة كبيرة في الدعوات الصوتية التي تسمى بالأذكار، خصوصاً في الكلمات (أبانا الذي ... ) مما يكرره الفم ساعات طويلة، و (ليتقدس اسمك)، و (وفي القلب رغبة في أن ينحصر هناك) .... كنت أجد في هذه الكلمة وحدها (الله) رضاً بالغاً لنفسي، بحيث لم أشأ ولم أستطع أن أنتقل عنها إلى أفكار أخرى، وكنت أقتصر على ذلك حتى أصل إلى البركة (3) ... رجل دين إسباني من أهل النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي. ويعرف القارئ أن البركة تعني الجذبة، كما يظهر في هذا النص تأثر متصوفة المسيحيين بأسلوب الذكر الإرهاقي الذي استعمله متصوفة المسلمين قبل نيمو بحوالي ستة قرون. وبسبب عوامل ما، تشعبت الصوفية عند المسيحيين إلى أكثر من مذهب، فالقديسة تيريزا الأفيلية، مثلاً، تؤمن أن الخالق غير المخلوق، وتصف وصولها أو (فتوحها) بأنه اتحاد بينها وبين الله (تعالى الله)، فتقول من قصيدة: ... واتحاد النفس بالله في القران الروحي شبيه بشمعتين تذوبان معاً حتى يصبح نوراهما نوراً واحداً (4) ... ومن قصيدة أخرى: ... هاأنذا يا عريسي الأكبر، دعني أقترب منك ... وليدخل هذا الجدول الصغير في خضمك، أغثني يا أعذب حليل ... ولتسترح نفسي بين ذراعي عريسها (5) ... حيث يظهر من أقوال القديسة هذه أن تجلياتها كانت جمالية لا جلالية، واتحادية لا وحدوية. بينما نرى القديس خوان دي لا كروث (6) يؤمن بوحدة الوجود، فمن أقواله: ... حبيبي هو الجبال، والوديان المنعزلة المليئة بالأشجار، والجزر الغريبة، والأنهار الرنانة، وصفير الرياح الحبيبة، والليل الساكن (7) ... من النصوص المارة آنفاً، وكذلك من الفصول السابقة، ومن أية دراسة واعية لأية وثنية في التاريخ، يظهر واضحاً دور الإشراق فيها، بل إن الكاهن في كل الوثنيات لا يسمى كاهناً حتى يصل إلى الجذبة عن طريق الرياضة الصوفية، ويحصل على يده بعض الخوارق، وقد يكتفون بالمهلسات، أو يستعملونها كعامل مساعد، مع العلم أن بعض الوثنيات، كديانة الإينكا مثلاً، كانت كما يظهر تكتفي بالمهلسات، وبعضها كالديانة الهندوسية، كانت وما زالت تستعمل الطريقتين، المهلسات والرياضة الصوفية، وبعضها كان ولما يزل يكتفي بالرياضة الصوفية. للتسلية: يقول د. سيد حسين نصر: ... بل إن مقام (الخدمة) نفسه الذي يأتي متأخراً بعد مقام البقاء، لا يجوز أن يحمل على معنى العمل أو الفرض الديني بالمعنى المألوف؟ بل بمثابة خدمة أداها كائن تذوق (الوصال)، وهي في منزلتها تقابل العهد الذي قطعه أفالوكتسفارا على نفسه في الدين البوذي، بإنقاذ الخلائق، بعد أن تم له أن يخطو خطوة واحدة في (النيرفانا) (8). اهـ.- النيرفانا هي المصطلح البوذي الذي يقابل مصطلح (الفناء في الله)، وقد عربها بعض المتصوفة في إيران أو (أسلمها)، فصارت (نيروان) (9)، واستعملوها بنفس المعنى. وبقراءة النصوص المترجمة إلى العربية، نجد أن كلمة (النيرفانا) ترد أحياناً بمعنى (المطلق)، وأحياناً بمعنى: (الفناء في المطلق)، وهو الأكثر تواتراً. - ويجب ألا ننسى ملحوظة هامة، وهي أن الحقيقة الصوفية، (أي: الجذبة ورؤاها)، والطريق إليها (أي: الرياضة الصوفية)، هي واحدة في كل زمان ومكان، ويكون الاختلاف في أشكال الهالات التي تحاط بها، والتفاسير التي تشرح بها رؤاها وأساليب الدعاية التي يقدمونها لها، كما أن للخلفية الاجتماعية المحيطة بالواصل دور شامل في الأطروحات التي تقدمها كشوفه. المصدر: الكشف عن حقيقة الصوفية لمحمود عبد الرؤوف القاسم - ص 769 - 771   (1) رجل دين إسباني من أهل النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي. (2) تيريزا الأفيلية من قرية آفيلا الإسبانية، ماتت سنة (1582م). (3) ابن عربي، لآسين بلاثيوس، (ص:186) في الحاشية. (4) ((يسوع المسيح شخصيته وتعاليمه)) (ص:212). (5) ((عمر بن الفارض من خلال شعره)) (ص:77). (6) إسباني متصوف من أهل القرن السادس عشر الميلادي. (7) ((مجلة العربي))، (عدد: 305)، (ص:40). (8) ((الصوفية بين الأمس واليوم))، (ص:67). (9) من ((الفكر الصوفي الإيراني المعاصر))، الفصل الأخير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 65 الفصل الحادي عشر: الخلوات الصوفية ومنها الخلوات التجانية • المبحث الأول: الدليل على الخلوات الصوفية حسب زعمهم . • المبحث الثاني: مدة الخلوة وشروطها. • المبحث الثالث: أقسام الخلوات الصوفية. • المبحث الرابع: تثبيط الصوفية أتباعهم عن الجهاد في سبيل الله وقتال الكفار وتسميتهم للجهاد بالجهاد الأصغر وتسميتهم لما يسمونه جهاد النفس بالجهاد الأكبر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 66 المبحث الأول: الدليل على الخلوات الصوفية حسب زعمهم يستدلون بما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أول ما بدئ برسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد الليالي ذوات العدد -)) (1) إلخ الحديث. يقول الفوتي:"فهذا الحديث المنبئ عن بدء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأصل في إثبات المشايخ للخلوة لمريد من الطالبين" (2). والجواب: 1 - أن هذا الحديث بينه وبين الخلوة الصوفية فراق لا لقاء معه، فإن خلوة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كانت لتحبيب الله عز وجل له ليهيئه لحمل الأمانة العظمى. 2 - كانت قبل أن يؤمر بتبليغ الناس الدين الإسلامي، 3 - لم يأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أشار إليها ولا استحسنها لأمته على الطريقة الصوفية. 4 - لم يفعلها أحد من الصحابة ولا من بعدهم من التابعين لهم بإحسان. 5 - أنها تنافي ما هو ظاهر من الشريعة الإسلامية، بالاكتساب وبدعوة الناس ومخالطتهم، إلى غير ذلك من الأجوبة التي يدركها طلاب العلم. والخلوة الصوفية بدعة مستحدثة، وليس فيها أي نفع لا للشخص ولا للمجتمع، يخرج منها مظلم الفكر محلاً للوساوس نافراً عن الناس. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 948   (1) رواه البخاري (3) (2) انظر: ما كتبه الفوتي) ص161 - 168 (، وقد ذكرت ذلك هنا بتصرف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 67 المطلب الأول: مدة الخلوة يقول الفوتي: "وأكثرها عند القوم لا حد له، لكن السنة تشير للأربعين بمواعدة موسى صلى الله عليه وسلم، والقصد في الحقيقة الثلاثون؛ إذ هي أصل المواعدة وجاور صلى الله عليه وسلم بحراء شهراً". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 68 المطلب الثاني: شروط الخلوة الصوفية ذكر الفوتي ستة وعشرين شرطاً لصحتها نذكرها باختصار، وللقارئ أن يلاحظ أثناء عرضها مدى تغلغل الأفكار المخالفة للإسلام فيها، من بوذية وهندوسية ونصرانية وغير ذلك: 1 - أن يعود نفسه قبل دخولها إذا أراد الشروع، السهر والذكر وخفة الأكل والعزلة. 2 - أن يكون دخول الخلوة بحضور الشيخ ومباركته له وللمكان أيضاً. 3 - أن يعتقد في نفسه أن دخوله الخلوة إنما هو بقصد أن يستريح الناس من شره. 4 - أن يدخلها كما يدخل المسجد مبسملاً متعوذاً بالله تعالى من شر نفسه، مستعيناً مستمداً من أرواح مشايخه بواسطة شيخه المباشر. 5 - أن يدخل الشيخ الخلوة ويركع فيها ركعتين قبل دخول المريد ويتوجه إلى الله تعالى في توفيق المريد. 6 - أن يعتقد عند دخوله الخلوة أن الله تعالى ليس كمثله شيء، فكل ما يتجلى له في خلوته من الصور، ويقول له: أنا الله، فيقل: سبحان الله! آمنت بالله. 7 - ألا يتلهف كثيراً على كثرة ظهور الكرامات.8 - أن يكون غير مستند إلى جدار الخلوة ولا متكئاً على شيء، مطرقاً رأسه تعظيما لله تعالى، مغمضاً عينيه، ملاحظاً قوله تعالى: ((أنا جليس من ذكرني)) (1)، ثم يجعل خيال شيخه بين عينيه، فإنه معه وإن لم يره المريد. 9 - أن يشغل قلبه بمعنى الذكر على قدر مقامه، مراعياً معنى الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه. 10 - أن يداوم الصوم؛ لأنه يؤثر في تقليل الأجزاء الترابية والمائية فيصفو القلب. 11 - أن تكون الخلوة مظلمة لا يدخل فيها شعاع الشمس وضوء النهار، فيسد على نفسه طرق الحواس الظاهرة، وسد طرق الحواس الظاهرة شرط لفتح حواس القلب. 12 - دوام الضوء لتلألأ الأنوار فيها بعد ذلك. 13 - دوام السكوت إلا عن ذكر الله تعالى إلا عند الضرورة القصوى فيتكلم بحذر شديد أن يزيد. 14 - أن تكون الخلوة بعيدة عن حس الكلام وتشويش الناس عليه. 15 - كونه إذا خرج للوضوء والصلاة يخرج مطرقاً رأسه إلى الأرض غير ناظر إلى أحد، ويحذر كل الحذر نظر الناس إليه، مغطياً رأسه ورقبته بشيء؛ لأنه ربما يحصل له عرق الذكر فيلحقه الهواء فيضره. 16 - أن يحافظ على صلاة الجمعة والجماعة – وإن وجد نفقة فليتخذ له شخصاً يصلى معه في خلوته؛ أي بالإيجار. وإذا خرج لصلاة الجماعة فليتأخر حتى يكبر الإمام تكبيرة الإحرام فإذا انتهي من الصلاة رجع فوراً إلى خلوته، قال السهروري:"وقد رأينا من يتشوش عقله في خلوته ولعل ذلك لشؤم إصراره على ترك صلاة الجماعة. 17 - المحافظة على الأمر الوسط في الطعام لا فوق الشبع ولا الجوع المفرط. 18 - ألا ينام إلا إذا غلبه النوم بأن تشوش عليه الذكر. 19 - نفي الخواطر عن نفسه خيره كانت أم شريرة. 20 - دوام ربط القلب بالشيخ بالاعتقاد والاستمداد على وصف التسليم والمحبة، والاعتقاد التام بأنه لا يصل إليه أي خير إلا من قبل شيخه المباشر، ومتى غاب فكره عن الشيخ فقد خسر الصفقة. 21 - ترك الاعتراض عن الشيخ؛ لأنه أعلم بمصالحه وأكبر عقلاً وأعظم؛ لأنه بالغ مبلغ الرجال بخلاف المريد. 22 - أنهم في أثناء خلوتهم لا يفتحون أبواب خلوتهم لمجيء الناس وزيارتهم والتبرك بهم، وإياك وتلبيسات النفوس وخداع الشيطان بالإلقاء فيك أن هذا الشخص يهتدي بك وبكلامك وينتفع بملاقاتك في الدين، فإنها من شبكات مكر اللعين. 23 - أنه إذا شاهدوا أشياء تقع لهم في اليقظة أو بين النوم واليقظة فلا يستقبحون ذلك ولا يستحسنونه، بل يعرضون ذلك على الشيخ وهو يتصرف بعد ذلك. 24 - دوام الذكر والأذكار حسب ترتيب الشيخ لها.   (1) أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 108) من قول كعب الأحبار. قال السمهودي في ((الغماز على اللماز)) (42): طرقه ضعيفة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 69 25 - الإخلاص وحسم مادة الرياء وطلب السمعة بالكلية. 26 - ألا يعين مدة يخرج بعد كمالها، فإن النفس يصير لها بذلك تطلع إلى انقضاء المدة، بل يدخلها وهو يحدث نفسه بأنه قد انتهي من الحياة ودخل القبر. هذه أهم الشروط التي لفقها علماء التصوف مثل حرازم الفوتي والسهروردي والشيخ نجم الدين البكري وغيرهم من عتاة التصوف. ولا شك أن القارئ يدرك تأثير هؤلاء الصوفية بالمبادئ الخارجة عن الإسلام، وكيف حاولوا أن يظهروها ويغطوها بغطاء إسلامي، وإلا فأين مستندهم من القرآن والسنة النبوية على تلك الرهبانية وتلك الخلوة، في ذلك الحفش المظلم، الذي يسد فيه أي شعاع للنور، ويجلس غير مستند على شيء؟ ‍!، هل هو من الإسلام؟ ‍!، وتلك الطاعة العمياء التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي لا ينبغي أن تكون إلا لله ولرسوله فقط، هل هي من الإسلام؟. إن كل ذلك جناية، على العقل أيما جناية وإذلال للمؤمن أيما إذلال، وإساءة لتعاليم الإسلام الحنيف وتشويه لصورته المشرقة عند من لا يعرفه. وزوجة الشيخ المطلقة لا يحق للمريد أن يتزوجها لقول الله في حق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ [الأحزاب:53]، يقول الفوتي في بيانه لأقسام الناس بالنسبة لطاعة شيوخهم: "ومنهم من يتزوج مطلقة شيخه لولا قول الله تعالى: وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ َبَدًا [الأحزاب:53]. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 949 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 70 المبحث الثالث: أقسام الخلوات الصوفية 1 - خلوة الأربعين يوماً التي تقدم ذكرها وشروطها. 2 - خلوة فاتحة الكتاب، وكيفيتها أن تصوم أربعين يوماً وتحترز فيها من أكل الحيوان وما يخرج منه، وتقرأ هذا الدعاء .. إلى آخر ما يذكر، وهنا لا أظن أن الأمر يحتاج إلى اجتهاد في استكشاف نزعة التصوف الوثنية. 3 - خلوة البسملة ومدتها تسعة عشر يوماً، ومن فاته سر بسم الله الرحمن الرحيم فلا يطمع أن يفتح عليه بشيء. 4 - خلوة الفاتحة أيضاً وهي أن يلازم بقراءتها بالخلوة أربعين يوماً. 5 - خلوة الياقوتة الفريدة، وخلوتها عشرون يوماً، تتلى كل يوم في الخلوة ألفي مرة. وقال الفوتي بعد ذكر تلك الخلوات الخرافية:"انتهي ما أردنا ذكره منها، ولكل واحد منها ثمرات لا يمكن حصرها، منعني من ذكر بعضها الخوف من شياطين الطلبة" (1). ولعله يدرك أن هؤلاء الطلبة ربما لا يزال فيهم وميض من العقل والمعرفة، فأخر الأخبار بكل التفاصيل إلى وقتها. ولعل الذي شجع الصوفية على هذا الخبط والاضطراب، ما هو مقرر عندهم في القاعدة الآتية: "أصحاب الفتح الأكبر لا يتقيدون بمذهب من مذاهب المجتهدين، بل يدورون مع الحق عند الله تعالى أينما دار" (2)، ولهذا فكل عمل يعملونه يعتبر من باب التشريع للأمة.   (1) (ص170). (2) (ص171). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 71 المبحث الرابع: تثبيط الصوفية أتباعهم عن الجهاد في سبيل الله وقتال الكفار وتسميتهم للجهاد بالجهاد الأصغر وتسميتهم لما يسمونه جهاد النفس بالجهاد الأكبر قال الفوتي: "انعقد إجماع الأمة على وجوب جهاد النفس، والهجرة عن مألوفاتها وردها إلى الله تعالى، أكبر من جهاد الكفار بلا ريب، لوجوه (1): 1 - أحدها: أن جهاد النفس والهجرة عن مألوفاتها السيئة فرض عين وجهاد الكفار فرض كفاية. 2 - أن النفس أعدى من كل عدو لصاحبها؛ لأن المجاهد جهاد الكفار إن قتل الكافر دخل الجنة، وإن قتله الكافر كان شهيداً، بخلاف النفس فإن غلبها صاحبها استولى عليها، وكان الحكم للروح وسعد وسعدت سعادة الأبد، ومن غلبت وتسلطت على الروح تسلط عليه الكفر والمعاصي فيهلك. 3 - إن ضرر الكفار مقصور في الدنيا وهي فانية ولذلك كان جهادهم أصغر وفي عرائس البيان عند قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123] النفوس التي هي تجمع الهوى والبلاء والحجاب، من عرفها قاتلها وأمتها؛ يعنون الرياضات. 4 - أن جهاد الكفار قد لا يكون فرضاً في بعض السنين، وجهاد النفس وردها عن مقتضى هواها والهجرة عن مألوفاتها الباطلة واجب عين على كل مسلم ومسلمة في كل لحظة. 5 - أن بعض فروض الكفاية أفضل من جهاد الكفار. 6 - أن فرض جهاد الكفار يسقط بمنع الأمر والنهي من الوالدين، لوجوب طاعتهما، ويحرم طاعتهما في مجاهدة نفسه. 7 - أن جهاد الكفار يقدر عليه كل أحد وجهاد النفس والهجرة عن مألوفاتها لا يقدر عليه إلا الموفقين. 8 - أن شهيد جهاد النفس والهجرة عن مألوفاتها المخزية شهيد قطعاً في الآخرة، وأكثر شهداء الكفار شهداء الدنيا فقط دون الآخرة. 9 - أن القائم بجهاد نفسه والهجرة عن مألوفاتها المضلة، قائم لإصلاح نفسه وساع في تخليصها من الدنيا وعذاب الآخرة، والقائم بجهاد الكفار قائم لإصلاح غيره 10 - أن شهيد جهاد النفس والهجرة عن مألوفاتها المبعدة عن الله تعالى أفضل من شهيد جهاد الكفار بدرجات. وهناك أقوال أخرى كثيرة لأقطاب التصوف في تثبيط المسلمين عن جهاد الكفار، وتركهم، والانزواء في الزوايا والأربطة ومجاهدة النفس وإصلاحها دون إصلاح الآخرين. ومن الواضح أن تلك التعليلات التي ذكرها الفوتي ويذكرها غيره من أقطاب الصوفية تعليلات واهية، تردها النصوص الكثيرة من كتاب الله تعالى وسنة نبيه، كما في سورة براءة وكما في أحاديث فضل الجهاد والقتل في سبيل الله، وتمني الشهيد الرجوع إلى الدنيا مرة أخرى ليقتل في سبيل الله، ولما يرى من إنعام الله ورضاه عنه. وزعم الصوفية أن جهاد النفس أولى مغالطة؛ فإن جهاد الكفار هو أعلى جهاد للنفس، وفضله أعلى وأشرف، ولو أن المسلمين أطاعوا الصوفية، وقبعوا في الزوايا المظلمة، وتركوا قتال الكفار، واهتموا بجهاد أنفسهم على طريقة الصوفية لجاء الكفار، ولكان أول ما يبدءون به هو إخراج هؤلاء الدواجن من زواياهم، ثم هتك أعراض المسلمين وأخذ بلدانهم وأموالهم وإذلالهم وإهانتهم. إن ما يذهب إليه هؤلاء الصوفية هو تخدير وتنويم للمسلمين. يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك بالعبادة تلعب من كان يخضب خدّه بدموعه ... فنحورنا يوم الكتيبة تخضب ومن الواضح أن أعداء الإسلام حينما ينظرون إلى الصوفية بعين الرضا والارتياح، فإنما ذلك لأجل هذه المواقف المتخاذلة التي وقفها أقطاب التصوف منهم، ولقد اتفقت دعوة الصوفية إلى ترك الجهاد مع كل الأفكار الخارجة عن منهج الله عز وجل؛ إذ ما من طائفة من تلك الطوائف إلا وكانت الدعوة إلى ترك الجهاد من أولويات اهتماماتهم. وأرجو من الله عز وجل أن يهيئ لدراسة الأفكار الصوفية المتقدمة دراسة وافية، ورد كل مزاعمهم التي فرقوا بها دينهم وأمتهم إلى وقتنا الحاضر. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 954   (1) نذكرها بتصرف انظر: (ص217) إلى آخر الفصل الذي أورده وهو الحادي والخمسين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 72 الفصل الثاني عشر: كيفية الدخول في المذهب الصوفي للصوفية طرق عديدة ومسالك مظلمة وقواعد خاصة للتربية حسب منهجهم، وكيفية ذلك عندهم نوجز الكلام عنه فيما يلي: 1 - أول ما يجب على الداخل هو أن يختار الفرد أو الجماعة من المريدين شيخاً لهم يسلك بهم رياضة خاصة بهم على دعوى وزعم تصفية القلب للوصول بالمريد إلى معرفة الله، هكذا يزعمون وهو في الحقيقة يصل إلى متاهات وضلال بعيد، ولا يتم السير في الطريق الصوفي إلا إذا عطل المريد عقله وفكره. 2 - أن يتبع المريد شيخه أتباعاً مطلقاً حتى وإن كان في تحريم الحلال وإحلال الحرام. 3 - عليه أن يردد ما يردده الشيخ من أذكار. 4 - ثم يكون وجوباً عليه أن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء، فإن الاعتراض وإبداء الرأي من أكبر الأخطار على المريد وطرده عن رحمة الله. 5 - وعليه كذلك أن يعتقد أن جميع ما يفعله الشيخ هو الحق والصواب حتى وإن رآه يشرب الخمر ويزني؛ لأن الشيخ لا يفعل الفواحش بروحة وإنما بصورته البشرية لتربية المريدين، وهذا مخرج للصوفي إذا فعل فاحشة، وما أكثر ما يفعلونها تحت هذا الستار، وعلى التلميذ أن لا يفكر في أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ لأنه يتعارض تماماً مع ما يراه زعماء الصوفية من وجوب التسليم للشيخ في كل ما يأتي ويذر. 6 - كما أنه يجب عليه أن يجتاز تلك الخلوة المفروضة. 7 - وأن يتصور صورة الشيخ ماثلة أمامه في كل حال، وأن يعتقد أن الشيخ يعلم بكل شيء عنه وهو في داخل خلوته، ويعرف كل شؤونه ما دق منها وما جل. 8 - وأن لا يغير شيخه بآخر. 9 - ولا يزور أحد المشايخ والأولياء ما دام في أول أمره. 10 - وأن يمشي في الطريقة منزلة منزلة حتى يصل إلى القطبانية. 11 - وألا يخالط المقصرين والبطالين من أهل قيل وقال. 12 - وألا يضن بماله ولو طلبه الشيخ كله. 13 - وأن يرضى بالذل الدائم وحرمان النصيب، والجوع الدائم والخمول وذم الناس له، وتقديم أضرابه وأشكاله وأقرانه عليه في الإكرام والعطاء والتقريب عند الشيوخ ومجالس العلماء، فيجوع هو والجماعة يشبعون والكل أعزاء ونصيبه الذل، ويعز الجماعة ويستجيز الذل ويجعله نصيبه. قال الجيلاني بعد أن ذكر ما سبق:"فمن لم يرض بهذا ويوطن نفسه عليه فلا يكاد أن يفتح عليه ويجيء منه شيء" (1)، إلى آخر ما ذكر الجيلاني مما يطول نقله.   (1) (2/ 613) باب فيما يجب على المبتدئ في هذه الطريقة أولاً إلى آخر (ص 169)؛ حيث ذكر الآداب التي تجب على المريد والآداب التي تجب على الشيخ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 73 وأول المنازل في الطرق الصوفية يسمى فيها الداخل مريداً، أي يريد السير في الطريقة، وتسمى منزلة الإرادة يقبلة الشيخ ويأخذ عليه العهود بالتوبة من الذنوب وصدق النية وترداد الأوراد المقررة عليه من الشيخ، وألا يعتقد أي معتقد لم يقره الشيخ، ولا يحق له الاعتراض على الشيخ حتى إن رآه مخطئاً. ويسمى بعد توجهه وإرادته المذهب الصوفي سالكاً، وبعد استمراره وسلوكه ومواظبته على الأوراد التي يلقنه الشيخ، فإذا أتقنها انتقل إلى مرتبة أخرى تسمى مرتبة العبودية (1)، وعليه أن يكثر من الضراعة والإلحاح إلى الله بترداد ما يمليه عليه المشايخ من أذكار وأوراد. ثم ينتقل المريد إلى مقام آخر حيث تقبل عليه العناية الإلهية وينتقل قلبه إلى مقام العشق لله، وعلى المريد هنا أن يكثر من الرياضة التي توصله إلى ربه فيما يزعمون، فيكثر من الأوراد والعزلة بنفسه والندم الشديد حتى تتملكه – بزعمهم – حال علوية شريفة ينتقل بها إلى مقام يسمى (الوجد (2) والهيام) وهو أسمى من مقام العشق، وعند هذا المقام المزعوم تتوارد على قلب السالك النفحات الربانية، ويعتقدون أنه في هذه الحال تزداد معرفة السالك الباطنة الصفات الذات العلية. وهنا يصل السالك فيما يزعمون إلى الحقيقة وتسمى هذه المرحلة - مقام الحقيقة – التي يعرفها المنوفي بأنها "مشاهدة الربوبية" (3)، وهي في الحقيقة الوصول إلى أعماق الوثنية والحلول، فإذا وصل بزعمهم إلى مقام الحقيقة يمكنه أن يظل يرتقي إلى أن يحقق منازل ثلاثاً هي: "الفناء"، و "اللقاء"، و "البقاء"، والفناء يقصدون به أن يفنى العبد عن كل شيء في الله تعالى، ويصير كما قال الحلاج: ما في الجبة إلا الله. فالوجود عنده كله يمثل الله – تعالى عن قولهم، وخصوصاً النساء فإنه يتمثل فيهم بصورة أكمل، ومن هنا بدى على أدبهم العشق والغرام والهياج الجنسي إلا أنهم زعموا أن هذا الغزل وهذا الهياج الملتهب إنما هو في الله، وسموه الحب الإلهي يجتمع الرجال والنساء ويرددون إما أبياتاً شعرية أو غيرها في رقص وتمايل، كما يحصل في الرقصات والسهرات مما يتنافى مع أبسط المثل الإسلامية والخشوع المطلوب في العبادات. وأما اللقاء والبقاء (4) فإن الصوفية يقصدون بذلك أن العبد من خلال تلك المنازل تتجلى عظمة الخالق سبحانه على قلب السالك فلا يرى أمامه إلا الله، ولا يجد في الوجود جميعاً إلا واجب الوجود سبحانه، وتمحى أثار الموجودات من أمام عينيه إلا وجود الله سبحانه وتعالى، قال المنوفي:"سئل أبو يعقوب النهرجوري عن صحة الفناء والبقاء فقال: الفناء هو رؤية قيام العبد بالله عز وجل، والبقاء رؤية قيام الله تعالى منفرداً بذاته" (5). وهذه الدرجات هي ما عبر عنه الحلاج بقوله: "ما في الجبة إلا الله".وللسهرودي والمنوفي تفاصيل كثيرة حول المقامات ومراتبها العديدة في كتاب السهرودي (عوارف المعارف) وكتاب المنوفي (جمهرة الأولياء) (6)، والواقع أن غلاتهم وقعوا في هوس وتخبط، وتلاعب الشيطان بهم لبعدهم عن منهج الله وشرعه، فجاءوا بأفكار وأقوال وحكم تنضح وثنية وجهلاً وأشعار غزلية، وقد قال الشافعي: "ما تصوف رجل في أول النهار وأتى عليه الضحى إلا وهو أحمق".   (1) عرفها المنوفي بقوله: "العبادة غاية التذلل للعامة، والعبودية صدق القصد للخاصة" ((جمهرة الأولياء)) (1/ 306). (2) يقول النوفي: "الوجود: وجدان الحق بذاته ولهذا تسمى حضرة الجمع حضرة الوجود" ((جمهرة الأولياء)) (1/ 312). (3) ((جمهرة الأولياء)) (1/ 302). (4) عرفه المنوفي بأنه "قيام الأوصاف المحمودة بالله" ((جمهرة الأولياء)) (1/ 301). (5) ((جمهرة الأولياء)) (ص264). (6) انظر: ((جمهرة الأولياء)) (1/ 190) في عنوان "المقامات والأحوال". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 74 والحاصل أن تلك هي الطرق لدخول المذهب كما أتضح مما سبق، ونجمل أهمها فيما يلي: 1 - أن يلتزم الشخص أمام شيخه بالمحافظة على الطريقة التي يحددها له الشيخ. 2 - أن يكون المريد – أي الدال في المذهب – على صلة بشيخه المأذون له هو أو من ينيبه الشيخ عنه ليتولى تعليم المريد. 3 - أن يجتاز المريد عهداً يعاهد الشيخ ويده في يده مغمضاً عينيه على الالتزام والوفاء الدائم لشيخه ولطريقته لا يحيد عنها أبدا. 4 - أن يكون المريد دائم الاشتغال بالأوراد والأدعية التي يقررها عليه الشيخ سواء عرف معانيها أم لا. 5 - أن يكمل مدة الخلوة التي يقررها الشيخ على المريد في سرداب أو دهليز أو زاوية مدة لا تزيد عن أربعين ليلة ولا تقل عن أربعين ليلة ولا تقل عن عشر ليال، ولهم شروط كثيرة لصحة هذه الخلوة قاسية جداً يخرج الشخص منها وهو في منتهي الحمق والبلادة والغفلة عن كل شيء إلا عن شيخه وأذكاره، وهو الهدف الحقيقي من تلك الفكرة. ومن الشروط التي يقطعونها للمريد على أنفسهم – حسب زعمهم – أن يصبح من أهل الكشف، وأن يترقى في ذلك إلى أن يتعلم ما وراء العقل ويصبح من أهل التجلي، بحيث تدرك ذات المريد ذات الله في كل وقت. أن يفنى المريد عن كل شيء غير الله تعالى، فلا يحس بأي وجود غير وجود ربه وشيخه، وبذا يصبح الشخص من أهل الحلول والاتحاد ووحدة الوجود؛ لأن الله قد ظهر في كل شيء حسب تعاليمهم بعد فناء المريد عن كل شيء وتصوره أن الله أمامه في كل مكان. أن يطلب المريد علم الباطن الذي هو بمنزلة اللب، وأن يتعمق في العلم الباطني حسب ما يمليه عليه الشيخ، وإذا تطور في ذلك فإنه يصل إلى حد اليقين فتسقط عنه التكاليف كما يفترون ويصبح ولياً من الأولياء. وهذه القواعد والشروط الصوفية يتمرن عليها الشخص أو الأشخاص الذين يريدون الداخل في متاهات الصوفية، حتى يتقبلها الدخول بقبول حسن، فيموت فكره وذوقه ويصبح في الحقيقة عبداً ذليلاً لمشائخ الصوفية، فيسلكون به طرقاً ملتوية وتعاليم معقدة حتى تثبت في ذهن الداخل أمور عظام أقلها أن لا حلال ولا حرام، ولا علم ولا عمل إلا ما جاء عن شيخ طريقته وإذنه به، وما يتلقاه عن قلبه عن ربه وما يمليه عليه ذوقه أيضاً. وإذا أراد القارئ التوسع في هذا ومعرفة كيفية الدخول في الطريق الصوفي فعليه بالرجوع إلى عوارف المعارف للسهروردي وإلى ما كتبه الجيلاني في كتابه (الغنية) (1).قال المنوفي في بيان بعض المسالك الصوفية ومنزلة الشيخ فيها: "وإذن فهناك طريق الله، وسالك يسلك ذلك الطريق، ومرشد يدل على مفاوز الطريق وذلك الطريق الذي كان أول مرشد له الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن تحلى بدقائق الإيمان وبعبارة أخرى هو طريق التصوف الذي كان أول خطوة فيه أن بايع الرسول صلى الله عليه وسلم العشرة أهل بيعة الرضوان فمن بدأ السير فيه فهو مريد التصوف، ومن توسط فهو سالك متعرف، ومن انتهي إلى مقام التحقيق فهو المرشد المحقق (2).وقد أوصل المنوفي الدرجات إلى سبعين درجة (3)، يكاشف العبد في آخرها إذا ترقى فيها مقاماً مقاماً، ولا طائل من وراء سرد كل ما قرره أقطاب التصوف كالسهروردي والمنوفي والغزالي والقشيري. فإنه يكفي أن يقال في الجواب عنها: أنها بناء في الهواء وأفكار لم يرشد إليها كتاب ولا سنة ولا أقوال علماء الأمة الإسلامية أصحاب العقول النيرة الذين أعرضوا عن تكليف ما ليس لهم به علم من الأمور الغيبية التي لا يصح فيها الحكم إلا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.   (1) ((الغنية)) (2/ 163 – 169). (2) ((جمهرة الأولياء)) (1/ 144). (3) ((جمهرة الأولياء)) (ص 147). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 75 الفصل الثالث عشر: أصول الصوفية يزعم المتصوفة: كما هو شأن كل الطوائف المفارقة للمنهج الرباني أنهم على حق وأن ما يدينون به من أفكار وخرافات إنما هي نابعة من تمسكهم بالكتاب والسنة وفهم حقائق الإسلام، وهذه الدعوى ينتحلها زعماء الطوائف بغرض ترويج مبادئهم وإظهارها بمظهر الحق مهما كانت بعيدة عنه. وذلك أن دعوى التمسك بالكتاب والسنة سهلة على اللسان ولكن التطبيق هو الذي يصدق ذلك أو يكذبه. وقد ذكر أحد أعلامهم وهو السيد محمود أبو الفيض المنوفي بعض مستنداتهم فقال: "والتصوف الإسلامي نبعه القرآن أولاً وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ثانياً والفقه في الدين فروعاً وأصولاً ثالثاً ولهم – أي المتصوفة – فوق ذلك قواعد وقوانين صوفية استمدوها من حقائق اليقين وخفي معاني القرآن، ومن دقائق السنة عملية معملية، ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، وهذا في الواقع مستمد علم التصوف الإسلامي (1). أي أنهم يرجعون في جملة مستنداتهم إلى تلك الدعوى العريضة وهي أخذهم الأحكام من حقائق اليقين وخفي معاني القرآن، وفي الحقيقة إنما يرجعون إلى الهوى، وإلى تفسير القرآن باطنياً غير مستندين إلى المعاني التي ذكرها العلماء من أهل الحق لمعاني تلك النصوص. ثم يذكر المنوفي مستنداً آخر لهم بقوله:"ومستمد الصوفية هم أهل الصفة، وإن كان تعريف الاسم يناسب لبس الصوف من حيث الاشتقاق. وهذا صحيح؛ لأن أهل الصفة وغيرهم من الروحيين في الإسلام وقبل الإسلام، ومن قديم الزمان كانوا يلبسون الصوف لخشونة فيه وهم متخوشنون، أو قل لسبب لونه الأبيض الذي يرمز إلى الطهارة والصفاء، وكان أيضاً لباس الحواريين" (2). ويذكر الغزالي أن مستندات الصوفية وأصولهم مشاهدة الملائكة وأرواح الأنبياء، والخضر بخصوصه ومخاطبتهم فهو يقول: ومن أول الطريقة تبتدئ المكاشفات والمشاهدات حتى أنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد، ثم تترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها النطاق، ولا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظة خطأ صريح لا يمكن الاحتراز عنه إلا لمن رسخ فيه ونهل منه منهله" (3).   (1) انظر كتاب ((جمهرة الأولياء)) و ((أعلام أهل التصوف)) (1/ 154). (2) انظر: ((جمهرة الأولياء)) (1/ 154). (3) ((جمهرة الأولياء)) (1/ 155). نقلاً عن الغزالي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 76 وبطلان هذا الكلام واضح، وربما أن الذين يشاهدونهم بزعم أنهم الملائكة أو أرواح الأنبياء وسماع الأصوات إنما هي شياطينهم تتلاعب بهم وتتراءى لهم ليضلونهم، وما أكثر خدع الشياطين لإغواء الناس. وكذلك من مزاعمهم وأصولهم في مستندهم إلى الطريق إلى الله علم الباطن الذي أفضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي رضي الله عنه، وعلي أفضى به إلى الأئمة المذكورين في كتبهم، وذلك فيما يزعمون أن جبريل عليه السلام نزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا بالشريعة فلما تقررت الشريعة واستقرت نزل إليه بالحقيقة (1) المقصودة والحكمة المرجوة من أعمال الشريعة وهي الأيمان والإحسان، ثم خص الرسول صلى الله عليه وسلم بتعليم باطن الشريعة بعض أصحابه كعلي ثم الحسن دون بعض. وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كذب هؤلاء، وقد سرد المنوفي أسماء السلسلة التي تداولتها الصوفية ابتداءً بالإمام علي إلى أحمد بن عطا الله السكندري (2)، صاحب (لطائف المنن)، أورد بعض النصوص المرفوعة كذباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فيها أن كل آية لها ظاهر وباطن وظاهر الآية ما ظهر من معانيها، وباطنها ما تضمنته من أسرار إلهية لا يطلع عليها إلا أهل المعرفة بالله ممن سرد أسماءهم من أوليائه الذين يعلمون علم الباطن في زعمه. ولقد نفى عليّ رضي الله عنه أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خصهم بعلم دون سائر البشر، وقد سبق إبطال الباطنية في دعواهم أن النصوص لها ظاهر وباطن. ويقول المنوفي أيضاً في دعواهم الالتصاق بأهل الصفة:"وكان عظماء أهل الصفة بل جلهم من أوائل الصوفية وأهل طريق الله، وحسبنا في ذلك أن نزل فيهم قرآن عند قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ [الكهف:28] " (3). ويقول الشعراني في مستند القوم:"مقدمة في بيان أن طريق القوم مشيدة بالكتاب والسنة، وأنها مبنية على سلوك أخلاق الأنبياء والأصفياء، وبيان أنها تكون مذمومة إلا إن خالفت صريح القرآن أو السنة أو الإجماع لا غير" (4). لكنه أضاف بعدما تقدم قوله عن مستند جديد:"ثم اعلم يا أخي رحمك الله أن علم التصوف عبارة عن علم انقدح في قلوب الأولياء"، إلى أن قال: " فمن جعل علم التصوف علماً مستقلاً صدق ومن جعله من عين أحكام الشريعة صدق" (5) ومستند آخر أيضاً يذكره بقوله:"ثم إن العبد إذا دخل طريق القوم وتبحر فيها أعطاه الله هناك قوة الاستنباط نظير الأحكام الظاهرة على حد سواء، فيستنبط في الطريق واجبات ومندوبات، وآداباً ومحرمات، ومكروهات وخلاف الأولى، نظير ما فعله المجتهدون" (6).   (1) يزعم الصوفية أن الشريعة هي ما أوحاه الله إلى رسوله، وأما الحقيقة فهي عندهم المعرفة العقلية التي وصلوا إليها بذوقهم وصارت من الدين بغض النظر عن موافقتها للشريعة أو مخالفتها، ويجب التنبيه إلى أن وسيلة المعرفة عند الصوفية هي الذوق؛ ولهذا اختلفت أفكارهم لاختلاف أذواقهم. (2) انظر: ((جمهرة الأولياء)) (1/ 159 – 160). (3) ((جمهرة الأولياء)) (1/ 162). (4) ((طبقات الشعراني)) المسمى ((الطبقات الكبرى المسماة بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار)) (1/ 4). (5) ((طبقات الشعراني)) المسمى ((الطبقات الكبرى المسماة بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار)) (1/ 4). (6) ((طبقات الشعراني)) المسمى ((الطبقات الكبرى المسماة بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار)) (1/ 4). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 77 ومن هنا نجد أن الصوفية ينفرون أشد النفور من العلم عن طريق التعلم، ويفضلون ما يسمونه علم الكشف بلا واسطة وهو ما عبر عنه محيي الدين بن العربي حينما كتب إلى الرازي كتاباً جاء فيه:" إن الرجل لا يكمل عندنا في مقام العلم حتى يكون علمه عن الله عز وجل بلا واسطة من نقل أو شيخ، فإن كان علمه مستفاداً من نقل أو شيخ فما برح عن الأخذ عن المحدثات، وذلك معلوم عند أهل الله عز وجل"، إلى أن يقول: "فلا علم إلا ما كان عن كشف وشهود لا عن نظر وفكر وظن وتخمين" (1).ويقول الشعراني في هذا المعنى ناقلاً عن شيخه البسطامي، موضحاً مصادر التشريع في ذوقهم: "وكان الشيخ كامل أبو اليزيد البسطامي رضي الله عنه يقول لعلماء عصره: أخذتم علمكم من علماء الرسوم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا من الحي الذي لا يموت" (2). وبعد هذا الكلام لا يلام من احتار في أمر الصوفية ومصادرهم، فبينما هم يحضون على التمسك بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وعدم الخروج عنهما إذا بهم يفصحون بالحقيقة في النهاية وهي أن مصادرهم في التشريع إنما هو الكشف والإلهام وهو فعلاً ما سلكوه في كل سلوكهم وتشريعاتهم. وعلى نفس المعنى السابق يقول الفوتي: "إن الولي المفتوح عليه لا يتقيد بمذهب معين من مذاهب المجتهدين بل يدور مع الحق عند الله تعالى أينما درا" (3)، أي حسب تجدد الكشف له والإلهام الرباني المتكرر عليه، وهو كذلك يشير إلى قول أحمد بن المبارك في الإبريز حيث قال:"إن الولي المفتوح عليه يعرف الحق والصواب ولا يتقيد بمذهب من المذاهب، ولو تعطلت المذاهب بأسرها لقدر على إحياء الشريعة، وكيف لا وهو الذي لا يغيب عنه النبي صلى الله عليه وسلم طرفة عين ولا يخرج عن مشاهدة الحق جل جلالة لحظة" (4). والواقع أن كل منصف له أدنى إلمام بالشريعة الإسلامية لو حكم في دعاوى الصوفية وفي زعمهم شرعيه شطحاتهم، ومستنداتهم في ذلك كله لا تضح له بما لا خفاء به أن المتصوفة قد جانبوا الصواب في كثير من أمور الدين، وأنه لا مستند لهم إلا هواهم الذي يسمونه الكشف والإلهام الصريح، دلك أن قولهم: أن التصوف نبعه القرآن والسنة والفقه في الدين، وفوق ذلك أن له قواعد وقوانين استمدوها من حقائق اليقين دعاوى غير ثابتة. فليس في القرآن آية واحدة في شريعة غلو التصوف، وليس في السنة النبوية عبارة واحدة جاءت دليلاً يسند شطحات الصوفية وأورادهم وترنيماتهم وحلقات رقصهم، وليس في علوم الفقه الإسلامي وأصوله شيء من هذا القبيل، ثم هم لا يذكروا أيضاً أدلة من القرآن تدل فعلاً على ما يذهبون إليه. وقد تلمسوا بعض الأدلة من السنة أساءوا الفهم فيها؛ ولهذا جعلوا القواعد والقوانين الصوفية فوق المصادر الثلاثة: القرآن، والسنة، والفقه الإسلامي، كما قال المنوفي: "ولهم فوق ذلك قواعد وقوانين صوفية استمدوها من حقائق اليقين"؛ ولهذا تجد السلسلة عندهم حدثني قلبي عن ربي: "وهذه الحقائق اليقينية التي ذكرها المنوفي في الحقيقة من جنس الهوى والاضطراب الفكري، ثم حرفوا معاني القرآن إلى ما يوافق أهوائهم كما فعلت الباطنية تماماً.   (1) ((الطبقات الكبرى)) (1/ 5). (2) ((الطبقات الكبرى)) (1/ 5). (3) ((رماح حزب الرحيم)) (1/ 96). (4) ((رماح حزب الرحيم)) (ص 96) نقلاً عن الإبريز. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 78 إن ما زعمه القطب الصوفي صاحب كتاب (جمهرة الأولياء) من أن مستمد الصوفية هم أهل الصفة إنما هو دليل على خواء علمي بالكتاب والسنة وسيرة الصحابة الكرام، فهل كان لأهل الصفة تشريع خاص بهم، وهل كان لهم شرف يحبون الحفاظ عليه والانتساب إليه غير شرف الانتساب إلى الإسلام وطاعة الله وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم. وأهل الصفة الذين ذكرهم المنوفي هم خيار الصحابة كأبي هريرة وخباب بن الأرت وبلال وسلمان الفارسي وأبي سعيد الخدري وأبى برزة الأسلمي وصهيب بن سنان وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص وعقبة بن عامر وأبو فكيهة ووابصة بن معبد الجهني وأنس بن مالك" (1). فهل هؤلاء الأعلام الأبرار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل الصوفية وهل كان هؤلاء على الزعم الصوفي هم سلف الحلاج وابن عربي وابن الفارض وابن سبعين، وغيرهم من عتاة الصوفية الذين يأخذ أحدهم السكر بالله كما يزعمون إلى حد أن يقول لا إله إلا أنا – أو ما في الجبة إلا الله – أو قولهم – العبد رب والرب عبد، يا ليت شعري من المكلف هل يمكن أن يكون أساس هؤلاء هم أولئك الأخيار. بل إن المنوفي زعم أن الله عز وجل أمر نبيه أن يكون صوفياً فقال: "وأيضاً قد أمر الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بعد أن رباه وكمل خلقه وأتم عليه نعمته بأن يتصوف ويندمج في الصوفية بقوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28]. ومع بعد هذا الاستدلال عن ما يهدف إليه المنوفي فإنه يواصل ما يعتبره أدلة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول من مشى على الطريق الصوفي فقال: "وأن الله عز وجل قبل أن يرسل محمداً برسالته الكبرى، والملة العظمى أمره بدخول الخلوة (غار حراء) " إلى أن يقول: "فلما دخل الرسول الخلوة وتعبد وتحنث في غار حراء، وفيه قد أكثر من الذكر والاستغفار والاعتكاف وما نعتبر هذا النمط من العبادة الخاصة إلا أن نعده تصوفاً إسلامياً رفيعاً. وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بدأ متدرجاً في الكمال كمريد ثم تهيأ لحمل الرسالة؛ ولذا وصفه الله في كتابه بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وحتى بعد أن حمل الرسالة وأصبح سيد المرسلين أمره الله بأن يصاحب أهل الصفة، وذلك واضح في قوله وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28] أي يا محمد" (2). لقد قالب المنوفي الأمور وحاول جاهداً أن يقيم الأدلة على أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم كان صوفياً قولاً وفعلاً قبل إن تأتيه الرسالة وبعد ما جاءته أيضاً، وأنه ابتدأ كأي صوفي "مريداً" ثم تدرج في الكمال.   (1) ((جمهرة الأولياء)) (1/ 134 - 135). (2) ((جمهرة الأولياء)) (1/ 267 - 268). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 79 وإذا أمعنا النظر في هذا التصوف الذي سار عليه الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة حسب رأي المنوفي فلا نجد للمنوفي مستنداً إلا إلى منشأ التصوف الذي كان قبل الإسلام متمثلاً في شتى الديانات المنحرفة على حد قوله الآتي: " وإن تعرجت تعاليم التصوف وتلونت بعض فروعه ألواناً عدة، واتجهت تلك الفروع اتجاهات مختلفة بسبب المذاهب الموروثة للداخلين المحدثين في الإسلام من هنود وفرس وإسرائيليين ومسيحيين، الذي شجع عليه المأمون ومن بعده من الخلفاء العباسيين. فترجم المسلون كتباً كثيرة من التصوف الهندي واليوناني والفارسي، وطمعت بعض فروع التصوف الإسلامي الخالص بما دخل عليها من النزعات الأفلاطونية الحديثة أو القديمة، وبعض المذاهب الهندية والفارسية في التصوف كنظرية الحلول والاتحاد والتقمص والتناسخ وما إلى ذلك" (1). وبلا ريب فإن هذه الشهادة منه على ما في التصوف من خلط واضطراب وتعاليم خارجة عن الإسلام لا تحتاج إلى تعليق أحد عليها فكيف تتفق بعد هذا مفاهيم التصوف مع المفاهيم الإسلامية المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم، ويبقى أن ما قرره المنوفي من أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول من سن قواعد التصوف حينما كان يخلو بنفسه ويتعبد في غار حراء وهو منتهي الجهل وأشنع القياس. ولاحظ تناقض المنوفي في كتابه (جمهرة الأولياء) حينما لم يستطيع أن يخفي حقيقة التصوف حيث باح بأن الصوفية قد تأثرت إلى حد كبير بعقائد الداخلين في الإسلام من هنود وفرس وإسرائيليين ومسيحيين، ولا سيما في عصر الترجمة لفلسفة هؤلاء؛ حيث أخذ التصوف منها جوانب لم ينكرها المنوفي وهو في كل كتاباته عنهم يكيل المدح للصوفية، وأن أول متصوف في الإسلام هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الله أمره بذلك ليسنّ الطرق الصوفية ابتداء بالخلوة في غار حراء ثم الزهد. وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول المتصوفة فكان ينبغي عليهم أن يقدروا هذا الموقف فيقبلون سنته لا أن يردوها ويعيبون أهل الظاهر كما يسمونهم ممن يخالفهم من أهل الحق حين يقولون لهم: أنتم تأخذون الحديث بسند ميت عن ميت، حدثني فلان وقد مات عن فلان وقد مات، على نحو ما قاله البسطامي ناعياً على علماء الشريعة ومفاخراً لهم حين قال لهم: "أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت؛ ويقول أمثالنا: حدثني قلبي عن ربي، وأنتم تقولون: حدثني فلان وأين هو؟ قولوا: مات، عن فلان وأين هو؟ قالوا: مات". وهذا القول إنما يدل على جهل وبغض للسنة النبوية ولأهلها وللطريقة التي يتداولها أهل الحق في تلقي دينهم من مصدره الفياض. كما أنه من غير الإنصاف أن يقصروا ذلك المسلك عليهم فقط؛ لأنه في استطاعة كل شخص من الناس أن يقول حدثني قلبي عن ربي، وأن يدعي من الزهد والقرب من الله مثل ما يدعون، ثم أنه يلزم على قولهم الأسانيد الثابتة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن أصحابها قد ماتوا فيقال لهم: والنبي صلى الله عليه وسلم نفسه قد مات أيضاً. وينبغي على قولهم هذا أن نأخذ بالأحاديث التي يرونها عن قلوبهم عن ربهم مباشرةً، وهذا القول منهم وإن كان يبدوا ساذجاً تافهاً إلا أنه يحمل في طياته أخطاراً جسيمة بالنسبة للإسلام وللمسلمين لو تحقق لهم ما يهدفون إليه من التفاف الناس حولهم، والأخذ بمبادئهم وتشريعاتهم وإلهائهم بها عن كتاب الله عز وجل وعن سنة نبيه العظيم صلى الله عليه وسلم. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 975   (1) ((جمهرة الأولياء)) (1/ 266). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 80 المبحث الأول: عقيدة المتصوفة في الإله عز وجل الله عز وجل هو الواحد الأحد الفرد الصمد، خلق المخلوقات وأوجدها، وأمر الثقلين والجن والإنس بأوامر، ونهاهم عن نواه، من قام بامتثال أمره فيها دخل في طاعته، ومن أبى صار من أعدائه، وهو غني عن الخلق وعبادتهم، وجعل لكلا الفريقين جزاء عادلاً إما الثواب وإما العقاب. وقد وصف الله نفسه في كتابه الكريم ووصفه نبيه بالصفات الثابتة له عز وجل فهو رب كل شيء ومالكه، إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:93 - 95] ولقد استقر في أذهان العقلاء مباينة الله لخلقه وقربه منهم بعلمه وإحاطته وأنه متفرد بالأسماء الحسنى والصفات العليا ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأمرنا عز وجل أن نصفه بما وصف به نفسه في كتابه الكريم وبما وصفه به نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم غير معطلين ولا محرفين ولا مكيفين، ذاته لا تشبه ذوات خلقه، وصفاته لا تشبه صفات خلقه حتى وإن اتفقت التسمية فإنها لا تتفق في الحقيقة وتبقى المباينة بين الحقائق مما لا يخفى إلا على من لم يفهم الحق. هذا هو الاعتقاد الذي أمر الله العباد به فما هو موقف الصوفية منه. إن المتتبع لعقائد زعماء الصوفية يجد أنهم يعتقدون بوجود معبود لا حقيقة له قائمة بذاته، معبود لهم يذكر في الشريعة الإسلامية ولم تدل عليه العقول ولا الفطر السليمة إنه معبود غير رب العالمين تعالى وتقدس. يظهر في صورة الصوفي العابد الذي وصل إلى مرتبة النيابة عن الله في تصريف أمور هذا الكون والتحكم فيه بحكم نيابته عن الله وعلمه بكل المغيبات ورؤيته لله في كل وقت لارتفاع الإنية بينه وبين الله عز وجل الذي يظهر أحياناً في صورة شاب وأحياناً في صورة الآكل والشارب، وأحياناً في صورة شخص كأنه محجور عليه تعالى بعد أن فوض الكون وما فيه إلى أقطاب الصوفية يتصرفون فيه بما يشاءون، كما تفيد أقوالهم وتبجحهم بذلك. الحلول: لقد أصبح الحلول من لوازم الصوفية الغلاة ومن المبادئ الأساسية عندهم، وكتبهم مملوءة بذلك نثراً ونظماً، وقد اختلف العلماء في تعريف الحلول: فمنهم من قال: هو اتحاد جسمين بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر كحلول ماء الورد في الورد. ومنهم من قال: هو اختصاص شيء بشيء، بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما عين الإشارة إلى الآخر. واستعمل بعض المتصوفة لفظ الحلول ليشيروا به إلى صلة الرب والعبد واللاهوت والناسوت، بمعنى أن الله تعالى يحل في بعض الأجساد الخاصة، وهو مبدأ نصراني وأول من أعلنه من الصوفية الحسين بن منصور الحلاج، حين عبر عن ذلك في أبياته الشعرية التي يقرر فيها أن الله تعالى حل في كل شيء، وأنه لا فارق بين الخالق والمخلوق. أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتني (1) والقائلون بالحلول منهم من قصر الحلول وخصه ببعض الناس، كقول النصارى بالحلول في عيسى عليه السلام، وكقول بعض غلاة الشيعة كالخطابية الذين اعتقدوا أن الله حل في جعفر الصادق، والسبئية الذين قالوا بحلول الله في عليّ، ومثله قول النصيرية فيه، وقول الدروز بحلوله عز وجل في شخص الحاكم. وفريق آخر قال بالحلول العام، وأن الله حال في كل شيء، وأنه في كل مكان، وهؤلاء تأثروا بالفلسفة الطبيعية عند اليونان – وهم الجهمية ومن قال بقولهم.   (1) ((عوارف المعارف)) (ص 353) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 81 ويمثل الحلول العام البسطامي في قوله: "رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال لي: يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك، فقلت: زينني بوحدانيتك وألبسني أنانيتك وارفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا رأيناك، فتكون أنت ذلك ولا أكون أنا هناك". مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا [الكهف:5]. وهذا الطلب الغريب العجيب يريد به أبو يزيد البسطامي كما تقدم أن يحتال على الله عز وجل ليصبغ عليه الوحدانية ويرفع ما بينه وبين البسطامي من الإنية بحيث إذا قال الله عز وجل "أنا" وقال البسطامي "أنا" انعدم الفرق بينهما، وحينئذ يمثل البسطامي الله عز وجل تمام المماثلة، فإذا شوهد البسطامي شوهد عند ذلك الخلاق العظيم – سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وليس هذا فقط، بل أحياناً يختلط الحابل بالنابل فيحصل بين الرب والعبد مدّ وجزر حسب ما يتصوره ابن عربي في قوله: ففي حال أقربه ... وفي الأحيان أجحده فيعرفني وأنكره ... وأعرفه فأشهده فإني بالغني وأنا ... أساعده وأسعده فيحمدني وأحمده ... ويعبدني وأعبده (1) ولعله بعد هذه المراوغة استقر الأمر على أن الله هو نفسه كل موجود على ظهر الأرض؛ فهو العاشق والمعشوق، والرجل والمرأة، فالأجسام صور عنه، وذلك في قوله: فمن ليلى ومن لبنى ... ومن هند ومن بثينه ومن قيس ومن بشر ... أليسوا كلهم عينه (2) وفي قوله أيضاً: فعين الخلق عين الحق فيه ... فلا تنكر فإن الكون عينه فإن فرقت فالعرفان باد ... وإن لم فاعتبر فالبين بينه (3) وقد ملأ كتابه الذي سماه بـ (الفتوحات المكية) أشعاراً وشروحاً لها حول هذا الاتحاد والحلول. ويقول ابن الفارض عن الذات الإلهية كما يتصور: ففي النشأة الأولي تراءت لآدم ... بمظهر حوا قبل حكم النبوة وتظهر للعشاق في كل مظهر ... من اللبس في أشكال حسن بديعة ففي مرة لبنى وأخرى بثينة ... وآونة تدعى بعزة عزت (4) ومن هنا نشأ عند ابن الفارض الفوضى الفكرية في تداخل جميع الأديان الحق منها والباطل، حتى صارت بجميع أشكالها شكلاً واحداً، فكأنه أراد أن يجمع بين الليل والنهار، والحار والبارد، والحق والباطل، فتصور أن الملل كلها سواء كانت شركية وثنية أو مجوسية أو نصرانية أو يهودية، الكل عنده يرجع إلى مصدر واحد وحقيقة واحدة هي الله. وتائيته المشهورة مليئة بتأكيد هذا الخلط والاضطراب، فهو بعد أن قرر أن جميع العبادات وجميع الأفعال التي تصدر عن الناس هي نفسها أفعال الله قال عن المجوس: وإن عبد النار المجوس وما انطفت ... كما جاء في الأخبار في ألف حجة فما عبدوا غيري وإن كان قصدهم ... سواي وإن لم يعقدوا عقد نيتي رأوا ضوء ناري مرة فتوهموه ... ناراً فضلوا في الهدى بالأشعة (5) وكثير من مثل هذا الهذيان في أشعارهم هو وسائر غلاة الصوفية ممكن هم على شاكلته أنهم يتصورون معبودهم يتجلى في صورة امرأة؛ ولهذا نجد أن الصوفية يلهجون بذكر النساء، ويرونهم أكمل وأتم وأجمل لتعينات الذات الإلهية التي يعتقدونها فيهن، وهذا واضح جداً في تلك العناية التي لقيتها المرأة في الأدب الصوفي من التذلل لها والتشبث بها والتفتن في وصفها.   (1) ((الفتوحات المكية)) (3/ 498). (2) ((الفتوحات المكية)) (ص521). (3) ((الفتوحات المكية)). (4) ((تائية ابن الفارض)). (5) ((تائية ابن الفارض)). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 82 ومما قاله ابن عربي في تقريره حول الله تعالى عن كلامه في المرأة أن الأمر بالغسل؛ لأن الحق غيور على عبده أن يعتقد أن يلتذ بغيره، فلهذا أحب النبي صلى الله عليه وسلم النساء لكمال شهود الحق فيهن، إذ لا نشاهد الحق مجرداً عن المراد، فشهود الحق في النساء أعظم شهود وأكمله، وأعظم الوصلة والنكاح قال: فمن جاء لامرأته أو لأنثى بمجرد الالتذاذ ولكن لا يدري بمن كما قال: صح عند الناس أني عاشق ... غير أنهم لا يعرفوا عشقي لمن كذلك هذا أحب الالتذاذ فأحب المحل الذي يكون فيه، - هو المرأة -، ولكن غاب عنه روح المسألة فلو علمها لعلم بمن التذ؟ ومن التذ؟ وكان كاملاً قال من شاهد الحق في المرأة كان شهوده في منفعل وهو أعظم الشهود ويكون حباً إلهياً" (1). ومن هذا المفهوم الباطل تجرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأساء الأدب في حقه وافترى عليه بما لا يقدم عليه مسلم يعرف ولو شيئا يسيراً عن الإسلام وعن نبيه العظيم الذي اعترف له كل من عرفه أو سمع عنه بأنه خير منقذ للبشرية، عابداً لربه حق عبادته، متواضعاً، بالمؤمنين رءوف رحيم، لكن ابن عربي يقرر حسب مذهبه الرديء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يحب النساء لكمال شهود الحق فيهن، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا البهتان. بل قرر زعماء الإباحية والزنادقة العتاة ابن عربي وابن الفارض وغيرهما أن الله تعالى يتجلى في كل صورة حسنة في صورة الرجل أو المرأة فيكون فاعلاً ومفتعلاً – تعلى الله عن كفرهم وإلحادهم علواً كبيراً، وأن الله تجلى في صور العاشقات والمعشوقات (2)، ويطول النقل عنهم ولو أردنا ذلك مما يأباه الدين وتشمئز منه النفوس وتمجه الفطر السليمة ويأباه الذوق."وفي تفسير الحديث: ((فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به)) (3) "يذكر السهروردي أن المحب يعود بفوائد اكتساب الصفات من المحبوب، أي بحيث تشترك الصفات بين المحب والمحبوب فلا يحصل بينهما أي فارق، ثم استشهد على هذا في الاتحاد والحلول بمبدأ الحلاج: أنا من أهوى ومن أهوى أنا الخ. ويقول ابن عطا السكندري في بيان حقيقة الولي:"ولقد سمعت شيخنا أبا العباس رضي الله عنه يقول: لو كشف عن حقيقة الولي لعُبِد؛ لأن أوصافه من أوصافه ونعوته من نعوته" (4) وقال أيضاً في وجود الله تعالى أنه لا خفاء به ولا حجاب عليه:"كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر بكل شيء" (5). وفي الشطحات الصوفية وجرأتهم على قول كل ما يريدون ما لا يخفى على طلاب العلم. ومما يذكر في سيرة ابن عربي أنه شغف حين كان بمكة بحب امرأة هي ابنة رجل يسمى الشيخ مكين الدين أبي شجاع زاهر بن رستم بن أبي الرجاء الأصفهاني، ووصفها بأوصاف من الغزل بجمالها ما لا يحتمل المقام ذكره هنا ضمنه كتابه (ترجمان الأشواق)، ثم شرحه بطلب من رجلين من خاصته فشرحهُ في كتاب سماه (ذخائر الأعلاق).   (1) كتاب ابن عربي الصوفي (ص 270) نقلا عن العلم الشامخ (ص 550). (2) ((ترجمان الأشواق)) لابن عربي، و ((فصوص الحكم)) له، وانظر ما ينقله عنهم د. صابر طعيمة في الصفحات من (165 – 183). (3) رواه البخاري (6502) (4) ((لطائف المنن)) (ص 95). (5) ((لطائف المنن)) (ص 103) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 83 حاول جاهداً أن يغطي ما قاله في تلك المرأة من العشق والغرام ليحوله علي أنه قاله في الحب الإلهي، ولكن لم يتم ذلك؛ حيث غلب الطبع على التطبع، وليست هذه معشوقته الوحيدة، بل هناك أخرى عشقها وهو يطوف حول البيت، وقال فيها أشعاراً غزلية ماجنةً، ولم يستشعر مقدار جرمه في الحرم الذي يعاقب الله فيه على مجرد النية، ثم وصف تلك الأشعار بعد ذلك بالحب الإلهي تمويهاً وتغطية لمجون هذا الشيخ الصوفي الكبير، فأين الحب الإلهي في مثل قوله: ليت شعري هل دروا ... أي قلب ملكوا وفؤادي لو درى ... أي شعب سلكوا أتراهم سلموا ... أم تراهم هلكوا حار أرباب الهوى ... في الهوى وارتبكوا (1) وحدة الوجود: وحدة الوجود عقيدة إلحادية تأتي بعد التشبع بفكرة الحلول في بعض الموجودات، ومفادها لا شيء إلا الله وكل ما في الوجود يمثل الله عز وجل لا انفصال بين الخالق والمخلوق، وأن وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى ليس وجودها غيره ولا شيء سواه البتة، وهي فكرة هندية بوذية مجوسية. وهذا هو المبدأ الذي قام عليه مذهب ابن عربي الذي قال: سبحان من خلق الأشياء وهو عينها، وتجرأ على تفسير كتاب الله بغير علم فاستدل بآيات من القرآن الكريم زعماً أن الله أطلق اسم الوجود على نفسه كما في قوله تعالى: وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ [النور:39]، لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا [النساء:64]، يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَّحِيمًا [النساء:110]، واستدل بأحاديث موضوعة مثل حديث: ((من عرف نفسه فقد عرف ربه)) (2). وهذا الاستدلال من أغرب وأنكر ما تلفظ به قائل. إذ كيف يتأتى لهم القول أن القرآن والسنة يدعون إلى الإلحاد والكفر بالله؟ ولا شك أن هذه العقائد الإلحادية قديمة جداً في العبادات الهندية والديانات البوذية. وقد انقسم أصحاب هذه المبادئ الإلحادية إلى فريقين: 1 - الفريق الأول: يرى الله سبحانه وتعالى روحاً وأن العالم جسماً لذلك الروح، فإذا سما الإنسان وتطهر التصق بالروح أي الله.2 - الفريق الثاني: هؤلاء يزعمون أن جميع الموجودات لا حقيقة لوجودها غير وجود الله، فكل شيء في زعمهم هو الله تجلى فيه (3). والإسلام بريء من هذه الأفكار المنحرفة الخرافية كلها هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 3]، وهؤلاء يقولون أن الله ما دام هو أصل وجود هذه الممكنات المشاهدة فكأن الموجودات في حكم العدل، والوجود الحقيقي هو الله الذي تجلى في أفعاله ومخلوقاته، وبالتالي فإن العقائد كلها حقائق والناس لا خلاف بينهم حقيقة، والديانات كلها ترجع إلى حقيقة واحدة، هذا ولا شك أنه خلط وانحراف شنيع أدى بمن أعتنقه إلى خذلان المسلمين وترك أمر الجهاد. ولهذا نجد أن المستشرقين اهتموا كثيراً بدراسة ظاهرة التصوف؛ لأنها تحقق أهدافهم في إلهاء المسلمين وتفرق كلمتهم، وبالتالي فإنهم وجدوا فيها معيناً لهم على نشر الإلحاد وإنكار النبوات ونبذ التكاليف الشرعية والدعوة إلى القول بوحدة الأديان وتصويبها جميعاً مهما كانت، حتى وإن كانت عبادة الحجر والشجر.   (1) انظر ((التصوف المنشأ والمصادر)) (ص 269 – 271). (2) قال السخاوي في المقاصد (1/ 657) قال أبو المظفر بن السمعاني في الكلام على التحسين والتقبيح العقلي من القواطع إنه لا يعرف مرفوعا وإنما يحكى عن يحيى بن معاذ الرازي يعني من قوله وكذا قال النووي إنه ليس بثابت، وقال القاري في المصنوع (1/ 189) قال ابن تيمية موضوع وهو كما قال، وقال الألباني في الضعيفة (66) لا أصل له. (3) ((الصوفية معتقداً ومسلكاً)) (ص 206 – 207)، نقلاً من ((التصوف الإسلامي والإمام الشعراني)) للأستاذ طه عبد الباقي سرور: (1/ 89). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 84 والواقع أنه ما من مسلم يشك في كفر أو ارتداد من قال بوحدة الوجود، وعلماء الإسلام حين حكموا بكفر غلاة المتصوفة من القائلين بوحدة الوجود والحلول والاتحاد حكموا أيضاً بكفر من لم ير تكفيرهم. ولقد قال شيخ الإسلام عن هؤلاء: "إن كفر هؤلاء أعظم من كفر اليهود والنصارى ومشركي العرب". ولقد وصل الهوس والجنون بابن الفارض – بناء على عقيدته أن الله هو عين كل شيء – وصل به الحال إلى أن يعتقد أنه هو الله حقيقة؛ لأن الله حسب خرافاته هو عين كل شيء فهو على هذا يمثل الله – تعالى عن قولهم. وابن عربي من أساطين القائلين بوحدة الوجود والحلول والاتحاد وصحة الأديان كلها، مهما كانت في الكفر إذ المرجع والمآل واحد، ومن هنا فهو يقول: عقد الخلائق في الإله عقائداً ... وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه ويقول: العبد رب والرب عبد ... يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك رب ... أو قلت رب فأنى يكلف ولابن عربي في كتابه (فصوص الحكم)، وكتابه الآخر (الفتوحات المكية) من الأقوال في وحدة الوجود ونفي الفرق بين الخالق والمخلوق وثبوت اتحادهما تماماً أقوال لا تكاد تحصر نثراً ونظماً. وأما ابن الفارض فإذا أراد الشخص أن يعرف عقيدته تمام المعرفة فليقرأ تائيته التي باح فيها بكل صراحة وتحد أن الله متحد بكل موجود، وأن ابن الفارض نفسه هو المثل الكبير لله تعالى في صفاته وأفعاله؛ ولهذا فهو يفسر كل ما في الوجود بأنه يصح أن يقال فيه: إن الله أوجده أو كل موجود هو أيضاً ذلك الموجد. وأن كل عبادة تقام فإنها توجه له أو لله لا فارق بينهما إلا في ذكر الاثنينية التي هي أيضاً لا وجود لها عند استجلاء الحقيقة حيث تتلاشى الاثنينية ويصبح الوجود واحداً ممثلاً في كل شيء. وإذا أردت تفصيل كل تلك الحقائق عنه فاقرأ تائيته أو الأبيات الآتية، وانظر شرحها عند الشيخ عبد الرحمن الوكيل (1). ويقول ابن الفارض عن الذات الإلهية وتجليها له: جلت في تجليها الوجود لناظري ... ففي كل مرئى أراها برؤية ففي الصحو بعد المحو لم أك غيرها ... وذاتي بذاتي إذا تحلت تجلت فوصفي إذا لم تدع باثنين وصفها ... وهيئتها إذ واحد نحن هيئتي فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ... منادى أجابت من دعاني ولبت فقد رفعت تاء المخاطب بيننا ... وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي وكل الجهات الست نحوي توجهت ... بما تم من نسك وحج وعمرة لها صلواتي في المقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لها صلت كلانا مصل واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة وما كان لي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أداء كل سجدة (2) ويقول عن معنى سجود الملائكة لآدم، وأن الملائكة إنما هم صفة من صفاته لا خلق مستقل: وفيَّ شهدت الساجدين لمظهري ... فحققت أني كنت آدم سجدتي شرحه الصوفي القاشاني بقوله:"أي عاينت في نفسي الملائكة الساجدين لمظهري فعلمت حقيقة أني كنت في سجدتي آدم تلك السجدة وأن الملائكة يسجدون لي والملائكة صفة من صفاتي، فللساجد صفى مني تسجد لذاتي" (3).   (1) ((هذه هي الصوفية)) (248). (2) ((تائية ابن الفارض)). (3) ((كشف الوجوه الغر على هامش شرح الديوان)) (2/ 89) نقلاً عن ((هذه هي الصوفية)) (ص33). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 85 ومن عتاة دعاة وحدة الوجود الجيلي صاحب كتاب (الإنسان الكامل) وقد ترجم له الشعراني وأطال في ترجمته، ابتدأها بقوله:"ومنهم أبو صالح سيدي عبد القادر الجيلي رضي الله عنه" (1). ثم جاء في أخباره بما لا يصدقه عاقل. ومما يدل على تعمق الجليلي في القول بوحدة الوجود وأنه لم يعد بينه وبين الله أي فارق، ولا بينه وبين كل المخلوقات في هذا الكون أي فارق أيضاً ما أورده في كتابه (الإنسان الكامل) (2): لي الملك في الدارين لم أر فيهما ... سواي فأرجو فضله أو فأخشاه وقد حزت أنواع الكمال ... جمال جلال الكل ما أنا إلا هو لي الملك والملكوت نسجي وصنعي ... لي الغيب والجبروت مني منشاه فمهما ترى من معدن ونباته ... حيوانه مع أنسه وسجاياه ومهما ترى من أبحر وقفاره ... ومن شجر أو شاهق طال أعلاه ومهما ترى من صور معنوية ... من مشهد للعين طاب محياه ومهما ترى من هيئة ملكية ... ومن منظر إبليس قد كان معناه ومهما ترى من شهوة بشرية ... طبع وإيثار لحق تعاطاه ومهما ترى من عرشه ومحيطه ... كرسيه أو رفرف عز مجلاه فإني ذاك الكل والكل مشهدي ... أنا المتجلي في حقيقته لا هو وإني رب للأنام وسيد ... جميع الورى اسم وذاتي مسماه (3) فالجيلي هو كل شيء والله هو أيضاً كل شيء، من خير أو شر، من فسق أو فجور، الكل هو الله على حسب هذه العقيدة المجوسية. ومن القائلين بوحدة الوجود ووحدة الشهود هو أبو حامد الغزالي، ولقد تأثر الناس به كثيراً؛ لأنه كان في وقته يداري كل طائفة ويتودد إليها بالموافقة، وخفي أمره على كثير من الناس فلم يفطنوا إلى تعلقه بوحدة الوجود، وإن كان قد صرح بها كثيراً في كتبه، وخصوصاً إحياء علوم الدين، وفي هذا يقول عنه عبد الرحمن الوكيل: "لا تعجب حين ترى الغزالي يجنح في دهاء إلى السلفية في بعض ما كتب فللغزالي وجوه عدة كان يرائي بها صنوف الناس في عصره، فهو أشعري؛ لأن نظام الملك صاحب المدرسة النظامية أراده على ذلك، وهو عدو للفلسفة؛ لأن الجماهير على تلك العداوة، وهو متكلم ولكنه يتراءى بعداوته للكلاميين اتقاء غضب الحنابلة. وأما بالنسبة لرجوعه عن غلوه في التصوف، وأو عدم رجوعه فقد قرر بعض العلماء أن الغزالي رجع عن تلك الاقوال الصوفية، إلا أن بعضهم شكك في رجوعه وتوبته، ومن هنا يقول عبد الرحمن الوكيل:"يحاول السبكي في كتابه (طبقات الشفاعية) تبرئة ساحة الغزالي بزعمه أنه اشتغل في أخريات أيامه بالكتاب والسنة ونحن نسأل الله أن يكون ذلك حقاً، ولكن لا بد من تحذير المسلمين جميعاً من تراث الغزالي، فكل ما له من كتب في أيديهم تراث صوفي ولم يترك لنا في أخريات أيامه كتاباً يدل على أنه اشتغل بالكتاب وبالسنة" (4). ومن أقوال الغزالي في وحدة الوجود كما جاءت في كتابه (إحياء علوم الدين) قوله في ثنايا بيانه لما سماه مراتب التوحيد "والثانية: أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه كما صدق عموم المسلمين، وهو اعتقاد العوام.   (1) انظر ((طبقات الشعراني)) من (ص 126 – 132). (2) يقول الكشخانلي في ((شرح وحقيقة الإنسان الكامل)): " ((الإنسان الكامل)) المتحقق بحقيقة البرزخية الكبرى عين الله وعين العالم" ((جامع الأصول في الأولياء)) (ص 111) نقلاً عن هذه (هي الصوفية) (ص 44). (3) هذه ((هي الصوفية)) (ص 56 - 57). (4) هذه ((هي الصوفية)) (ص 52). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 86 والثالثة: أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق، وهو مقام المقربين، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار. والرابعة: ألا يرى في الوجود إلا واحداً، وهي مشاهدة الصديقين وتسمية الصوفية الفناء في التوحيد؛ لأنه من حيث لا يرى إلا وحداً فلا يرى نفسه أيضاً، وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقاً بالتوحيد كان فانياً عن نفسه في توحيده بمعنى أنه فنى عن رؤية نفسه والحق" (1). وفي هذا التعبير أمور تدل على وحدة الوجود، وذلك فيما يلي: وصفه لعموم المسلمين بأنهم عوام في الاعتقاد، ويقصد به العقيدة السهلة الواضحة التي جاء بها الإسلام. في تقريره أن الذي يشاهد تلك الأمور عن طريق الكشف يراها كلها صادرة عن فاعل واحد هو الله تعالى، وأنها عبارة عنه على ما فيها من خير وشر. قوله: لا يرى في الوجود إلا واحداً، هذا هو عين القول بوحدة الوجود. وعندما أورد استشكالاً قد يرد في الذهن، وهو قوله: "فإن قلت كيف يتصور ألا يشاهد إلا واحداً، وهو يشاهد السماء والأرض وسائر الأجسام المحسوسة وهي كثيرة فكيف يكون الكثير واحداً؟ ولا شك أن هذا الاستشكال وارد، وهو استشكال قوي جداً ويحتاج إلى جواب شاف، فبماذا أجاب الغزالي عن هذا؟ أجاب عن إيراد هذا السؤال بقوله: "فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات وأسرار هذا العلم، لا يجوز أن تسطر في كتاب، فقد قال العارفون: إفشاء الربوبية كفر". وهذا الجواب فيه اتهام لله بالتقصير في بيان أمر التوحيد؛ حيث لم يبينه الله تمام البيان، ولا بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعرفه أحد إلا أرباب الكشف الصوفي الذين يعرفون كل تفاصيل التوحيد إلا أنهم لا يحبون إفشاء سر الربوبية؛ لأنه يؤدي إلى الكفر حسب هذا الزعم، والواقع أنه قد صدق، فإن هذا التوحيد الذي لا يعرفه إلا أصحاب الكشف هو نفسه التوحيد الذي لا يفرق بين الخالق والمخلوق وهو أمر لا يقر به أحد من المسلمين. أما الجواب الثاني فهو مثل ضربه يفيد أنه قد يحصل تعدد أشياء في شيء واحد دون فارق بينهما؛ وذلك كالإنسان وأعضائه فهو إنسان واحد ولكن له أعضاء كثيرة؛ روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشاؤه، وهو باعتبار آخر ومشاهدة أخرى واحد أي إنسان. وهذا الجواب أردأ من الذي قبله، يريد أن يثبت لنا القول بوحدة الوجود قياساً على الوحدة المتكاملة بين الإنسان وأعضائه، وأراد من هذا أيضاً جعله هذه الأوصاف هي نفسها الفناء في التوحيد حسب ما أورده عن موقف جرى بين الحلاج والخواص. حيث رأى الخواص يدور في الأسفار فقال: في ماذا أنت؟ فقال: أدور في الأسفار لأصحح حالتي في التوكل، فقال الحسين – الحلاج-: قد أفنيت عمرك في عمران باطنك فأين الفناء في التوحيد؟ فكأن الخواص كان في تصحيح المقام الثالث فطالبه بالمقام الرابع. أي أن الحلاج كان في المقام الثالث أو الرتبة الثالثة في التوحيد، وهي أنه يرى الأشياء هي نفسها "الله"، ولكن بطريق الواسطة والكشف فطالبه الخواص – والغزالي لإقراره كلام الخواص – بأن يرتقي إلى الدرجة الرابعة (2) في تحقيق التوحيد، وهي أن لا يرى في الوجود إلا واحداً وهي (الفناء في التوحيد) بدون واسطة ولا كشف وبها يتحقق التوحيد. وفي كتابة (مشكاة الأنوار) للغزالي تصريح بوحدة الوجود في أكثر من موضع (3) وقد فندها الشيخ عبد الرحمن الوكيل وأظهر عوارها (4).   (1) ((إحياء علوم الدين)) (ص 4/ 245 – 246). (2) انظر: ((إحياء علوم الدين)) (4/ 212)، وانظر تعليقات الشيخ عبد الرحمن الوكيل في كتابه ((هذه هي الصوفية)) من (ص 47 - 56). (3) انظر: (ص122 - 125). (4) انظر: (ص54 - 56). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 87 ومن كبار القائلين بوحدة الوجود عامر بن عامر أبو الفضل عز الدين حيث قال محاكياً الفارض في تائيته وفي معتقده أيضاً: تجلى لي المحبوب من كل وجهة ... فشاهدته في كل معنى وصورة وخاطبني مني بكشف سرائر ... تعالت عن الأغيار لطفاً وجلت (1) فقال أتدري من أنا قلت أنت أنا ... منادى أنا إذ كنت أنت حقيقتي نظرت فلم أبصر محض وحدة ... بغير شريك قد تغطت بكثرة تكثرت الأشياء والكل واحد ... صفات وذات ضمناً في هوية فأنت أنا لا بل أنا أنت وحدة ... منزهة عن كل غير وشركة (2) وقد اختار نقل هذه الأبيات من تائية ابن عامر الشيخ عبد الرحمن الوكيل وهي صريحة لا لبس فيها على ما يذهب إليه أهل وحدة الوجود الذين يرون أنه لا يكتمل إيمان العبد ولا يصل إلى الله إلا إذا تلاشت "أنا" من نفسه فأصبح في لجة جمع الجمع ورفع الاثنينية. وقد سلك هذا المسلك في الاعتقاد بوحدة الوجود جماعة أخرى من الصوفية يمكن إحالة القارئ للاطلاع على كلامهم إلى كتاب الشيخ عبد الرحمن الوكيل، حيث ذكر نصوصاً كثيرة عنهم نثراً ونظماً، ومن أولئك محمد بن إسحاق المشهور بالقونوى (3)، وعبد الغني بن إسماعيل المشهور بالنابلسي (4)، وعبد السلام بن بشيش أو مشيش وهو من كبار شيوخ الشاذلية، ومحمد الدمرداش المحمدي (5)، وأحمد بن عجيبة الإدريسي (6)، وحسن رضوان (7). وكل واحد من هؤلاء قد أدلى بدلوه وخاض فيما ليس له بحق وحاول تثبيت عقيدة وحدة الوجود بكل ما أمكنه من الكلام نثراً ونظماً مما قد يطول نقله وتثقل قراءته، إذ إنهم لا يختلفون إلا في الألفاظ فقط والمورد واحد. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 986   (1) أي تعالى الله عن أن يكون له غير إذ هو عين كل شيء، والمسلم يقول: تعالى الله عن الشريك والمثيل؛ لأنه العظيم. انظر: هذه ((هي الصوفية)) (ص 57). (2) تائية ابن عامر. (3) له كتاب ((مراتب الوجود)) مخطوط بالظاهرية بدمشق (رقم 5895). (4) رسالة اسمها ((حكم شطح الولي)) مخطوط بالظاهرية بدمشق (رقم 4008). (5) له كتاب ((القول الفريد)). (6) له كتاب ((إيقاظ الهمم في شرح الحكم)). (7) له كتاب ((روض القلوب المستطاب)). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 88 المبحث الثاني: وحدة الشهود أو الفناء وبيان العلاقة بين وحدة الشهود ووحدة الوجود وحدة الشهود هو ما يسمونه في بدء أمره مطالعة الحقائق من وراء ستر رقيق، أي لا يصل إلى درجة الحلول ولاتحاد في أول الأمر إلا بعد أن يترقى درجات ثم يصبح كما يقول على حرازم ناقلاً جواب شيخه التجاني: "اعلم أن سيدنا رضي الله عنه سئل عن حقيقة الشيخ الواصل ما هو؟ فأجاب رضي الله عنه بقوله: أما حقيقة الشيخ الواصل فهو الذي رفعت له جميع الحجب عن كمال النظر إلى الحضرة الإلهية نظراً عينياً وتحقيقاً يقينياً" (1). وهذه نهاية الفناء في الله ووحدة الشهود فيه. وأما العلاقة بين وحدة الوجود ووحدة الشهود: فإنه يرى بعض العلماء أن بين وحدة الوجود ووحدة الشهود فارقاً بعيداً، وذلك أن وحدة الوجود هي الحلول والاتحاد وعدم التفرقة بين الله وبين غيره من الموجودات، بينما وحدة الشهود عند بعضهم هي بمعنى شدة مراقبة الله تعالى بحيث يعبده كأنه يراه. ومن هنا ظن هذا البعض أن وحدة الشهود لا غبار على من يقول بها، ومنهم من يؤكد على أن وحدة الشهود هي الدرجة الأولى إلى وحدة الوجود، والواقع أن التفريق بين وحدة الشهود ووحدة الوجود ليس له أساس ثابت بل هو قائم على غير دليل إلا دليلاً واحداً هو الذوق الصوفي، وذلك أن خير البشر لم يستعمل هذه الحالة ولا نطق باسمها في عبادته لربه، ولا كان أصحابه أيضاً يقولون بها. فكان شأنهم أنهم يعبدون الله وهم على أشد ما يكونون من الوجل والخوف أن ترد عليهم أعمالهم مع وجود أشد الطمع في نفوسهم لعفو ربهم وتجاوزه عنهم يعبدونه بالخوف والرجاء، ووحدة الشهود ووحدة الوجود لم تعرف إلا بين الفئات الذين امتلأت نفوسهم إعجاباً وتيهاً بأعمالهم وقلت هيبة الله تعالى في نفوسهم. يقول الشيخ عبد الرحمن الوكيل في أثناء رده على الغزالي وبيان خطر أفكاره على الإسلام والمسلمين، ومدى تعلق الغزالي بوحدة الوجود أو الشهود:"أرأيت إلى من صنمَّته (2) الصوفية باللقب الفخم (3) لتفتن به المسلمين عن هدى الله تعالى؟ أرأيت إلى الغزالي يدين بوحدة الوجود أو الشهود – سمها بما شئت، فعند الكفر تلتقي الأسطورتان لا تقل إن وحدة الوجود أنشودة من البداية ووحدة الشهود أغرودة عند النهاية فكلتاهما بدعة صوفية، بيد أنها غايرت الاسمين وخالفت بين اللونين ولكن البصر البصير لا يخدعه اسم الشهد سمي به السم الناقع كلتاهما زعاف الرقطاء، غير أن واحدة منهما في كأس من زجاج والأخرى في كأس من ذهب" (4). فينبغي أن نبتعد عن هذه الكلمة – وحدة – أشد البعد فإن الله تعالى هو الواحد القهار لم يشرك أحد في خلقه لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:3 - 4]، ولنا في العبارات الطيبة التي تربطنا بربنا مجال واسع كالإسلام والإيمان والإحسان كما جاء في حديث جبريل؛ حيث سأله عن تلك الأمور ولم يسأله عن وحدة الوجود أو وحدة الشهود ولا وحدة الوجود ولا الحلول ولا الكشف، ولا غير هذا مما هو اختراع الصوفية تبعاً لأفكار ضالة ليس بينها وبين الإسلام أي صلة أو تقارب. إن وحدة الشهود تؤدي في النهاية إلى القول بالحلول رغم ما زخرفوه من الكلام والتدليس.   (1) ((جواهر المعاني)) (1/ 135). (2) أي جعلته صنماَ. (3) أي لقبه حجة الإسلام. (4) هذه ((هي الصوفية)) (ص 50). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 89 وقد وضح علي حرازم الأمر وجلاه في بيانه لأقسام مراتب المحبة التي هي محبة الإيمان، ومحبة الآلاء والنعماء، ومحبة الصفات، ومحبة الذات، ثم بين هذه المراتب إلى أن قال عن القسم الرابع من المحبة: "ومتى وصل إلى محبة الذات أعني أنه يشم رائحة منها فقط انتقل إلى الفناء مرتبة بعد مرتبة، فيكون أمره أولاً ذهولاً عن الأكوان ثم سكراً ثم عينية وفناءً مع شعوره بالفناء، ثم إلى فناء الفناء وهو لم يحس بشيء شعوراً وتهمماً وحساً واعتباراً، وغاب عقله ووهمه وانسحق عدده وكمه فلم يبق إلا الحق بالحق للحق في الحق، وهو مقام الفتح والبداية يعني بداية المعرفة، وصاحبه إذا أفاق من سكرته يأخذ في الترقي والصعود في المقامات إلى أبد الأبد بلا نهاية" (1). وقوله: إنه لا نهاية لترقية لا يتفق مع ما قدمه مما يدل على نهاية الترقي، وهو الوصول إلى وحدة الوجود كما في قوله:"إلى أن ينتقل إلى المشاهدة وهي الاستهلاك في التوحيد وغاية المشاهدة ينمحق الغير والغيرية، فليس إلا الحق بالحق للحق عن الحق فلا علم ولا رسم ولا عقل ولا وهم ولا خيال ولا كيفية ولا كمية ولا نسبه انتفت الغيرية كلها" (2). إلى أن قال عن دخول الحضرة الإلهية: "فإن من دخلها غاب عن الوجود كله فلم يبقى إلا الألوهية المحضة حتى نفسه تغيب عنه، ففي هذه الحال لا نطق للعبد ولا عقل ولا هم ولا حركة ولا سكون ولا رسم ولا كيف ولا أين ولا محدود ولا علم، فلو نطق العبد في هذا الحال لقال: لا إله إلا أنا سبحاني ما أعظم شأني؛ لأنه مترجم عن الله عز وجل" (3).   (1) ((جواهر المعاني)) (1/ 165). (2) ((جواهر المعاني)) (ص 13). (3) ((جواهر المعاني)) (ص 17). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 90 وهذا هو الحلول والاتحاد، مع هذا سماه علي حرازم"غاية الصفاء" ونسي أو تناسى أو جهل – وهو الصحيح – أن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أحد من صحابته قد قال: سبحاني ما أعظم شأني أو قال: لا إله إلا أنا؛ لأن قائل هذه الألفاظ لا دين له إلا دين المجوسية، ومن هنا استشهد علي حرازم بعد الكلام السابق على صحة هذا الصحو في الله بقول الحلاج: سبحاني ما أعظم شأني. ومن حسن الحظ لم يستدل بقول أحد من المسلمين. وتتضح صورة القول بوحدة الوجود عند التجانية كما هي عند سائر أقطاب الغلاة في قول علي حرازم في صراحة تامة زفي مواضع كثيرة في كتابه (جواهر المعاني) نأخذ منها قوله في أثناء بيانه لمنزلة الخلق من الحق تبارك وتعالى وأنهم صور تنبئ عن الله تماماً فقال في ذلك: "ولا يكون هذا إلا لمن عرف وحدة الوجود فيشاهد فيها الوصل والفصل فإن الوجود عين واحدة ولا تجرؤ فيها على كثرة أجناسها وأنواعها، ووحدتها لا تخرجها عن افتراق أشخاصها بأحكام الخواص وهي المعبر عنها عند العارفين أن كثرة عين الوحدة والوحدة عين الكثرة" (1).ومن العجيب أنهم يستدلون على هذا المسلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)) إلى أخر الحديث (2)، والحديث حسب مفهومهم معناه أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى يصفى من الكدورات، أنه يصير في معنى الحق – تعالى الله عن ذلك – وأنه يفنى عن نفسه جمله حتى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه الموحد لنفسه المحب لنفسه، وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدما صرفاً في شهوده وإن لم تعدم في الخارج (3)، وينسى العبد نفسه في الله وأن الله يحل بجوارحهم، فهو في سمعهم وأبصارهم وأيديهم وأرجلهم قد اتحدت ذاته بذواتهم. فهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد ما ذهب إليه زعماء الصوفية؟ والجواب سيكون بالنفي قطعاً. وقد أجاب العلماء عن معنى هذا الحديث بعدة أجوبة ذكرها كلها ابن حجر رحمه الله، ومنها أن معناه أن العبد يحب طاعة الله ويؤثر خدمته ومحبته، وأنه لا يستعمل هذه الجوارح إلا وفق ما شرعه الله له فلا يستعملها إلا في ما أحبه الله ويبعدها عن كل ما يغضب الله تعالى (4)، لا أن الله يحل في تلك الجوارح، والرسول صلى الله عليه وسلم لأعظم وأجل من أن يتصور ربه على هذه الصفات. وتلك المعاني الباطلة لمعنى الحديث موضحة في جمهرة الأولياء للمنوفي فيه مقال تحت عنوان "دور الكمال" ذكر فيه أن الصوفية قد تطورت فشاركت في أبحاث كثيرة فقهية وفلسفية إلى أن قال: "وقد خطى الجنيد في هذا السبيل الخطوات الأولى الفاصلة فانتقل من حال الفناء التي قال بها البسطامي إلى فكرة الاتحاد، وذهب إلى أن المتصوف قد يصل إلى درجة يتحد فيها الروح اتحاداً تاماً بخالقها عن طريق الشهود" (5).   (1) ((جواهر المعاني)) (2/ 73). (2) ((صحيح البخاري)) بشرحه ((فتح الباري)) (11/ 341). (3) ((فتح الباري)) (11/ 344). (4) ((فتح الباري)) (11/ 344). (5) انظر: (1/ 275). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 91 ثم ذكر بعد ذلك أنه ليس المراد من هذا الاتحاد ما هو معروف في البوذية والمسيحية، وإنما هو بمعنى أنه مجرد ملاحظة روحية، ولكن يبقى عليه أن الملاحظة الروحية لا يقال فيها بالاتحاد، وإنما هي زيادة تعلق القلب بخالقها فقط، ومن قال إن ملاحظاته جعلته متحداً مع الله فلا شك في خروجه عن الحق مهما حاول بعد ذلك تغطية معتقده بزخرف القول. لقد أصبحت وحدة الشهود عند المتصوفة هي أخص مظهر من مظاهر الحياة الصوفية وهي الحال التي يسمونها بالفناء وعين التوحيد وحال الجمع، وهي الاتصال بين العبد وبين ربه عن طريق الشهود الصريح فيما يزعمون. ويصل الإنسان إليها – بزعمهم – بكثرة الذكر حتى يقع الشهود القلبي ثم يستغني عن الذكر بمشاهدة المذكور – حسب تخيلاتهم السقيمة الإلحادية – فاتضح مما سبق أن الفوارق لا تكاد تعرف بين تلك التسميات، فهي داخلة في النهاية كلها في دائرة واحدة هي القول بالحلول مهما تعددت صوره (1). وأما اعتقادهم في الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو ضرب من الخيال والإلحاد، فهم يزعمون: 1 - أن الله كان في عماء دون تعيين فأراد أن يتعين في صورة فتعين في صورة محمد صلى الله عليه وسلم، أي أنهم يعتقدون أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الله سبحانه وتعالى ذاتاً وصفةً حيث تعينت فيه الذات الإلهية في صورة مادة كما قرر الكشخانلي ومحمد الدمرداش – والجيلي والبيطار والقاشاني والفوتي وعلي حرازم والشعراني (2).2 - وأن الذي هاجر من مكة إلى المدينة هو الذات الإلهية متجلية في صورة هو محمد صلى الله عليه وسلم كما قرر ابن عربي ذلك في قوله: "اللهم أفض صلة صلواتك وسلامة تسليماتك على أول التعيينات المفاضة من العماء الرباني وأخر التنزلات المضافة إلى النوع الإنساني المهاجر من مكة كان الله ولم يكن معه شيء ثان إلى المدينة الجمع بين العبودية والربوبية الشامل للإمكانية والوجودية" (3). 3 - أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يحضر كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه، وأنه يتصرف ويسير حيث يشاء في أقطار الأرض إلى اليوم لم يتبدل بعد وفاته.4 - كل هذه الموجودات إنما وجدت من نور محمد صلى الله عليه وسلم ثم تفرقت في الكون (4)، وهكذا فقد أصبح من الأمور المسلمة عند الصوفية أن هذا الكون وكل ما يحصل فيه من خير وفيض، إنما يتم عن طريق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وفيما قدمنا من النقل عن جواهر المعاني ورماح الفوتي ما يغني عن إعادته هنا، وهذا المعتقد مقرر في كتب الصوفية كلهم من التجانية أو من غيرهم؛ ولهذا يقول المنوفي في بيان تلك القضية: لله در القائل: من رحمة تصعد أو تنزل ... ما أرسل الرحمن أو يرسل من كل ما يختص أو يشمل ... في ملكوت الله وملكه نبيه المختار المرسل ... إلا وطه المصطفى عبده بعلم هذا كل من يعقل (5) ... واسطة فيها واصل لها أي أن كل من يعقل ـ ولو قال كل من يجهل لكان أصوب- يعرف تمام المعرفة أن هذا الكون وما فيه إنما هو مستمد لبقائه ووجوده من محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو الرب تعالى في تعيينه الثاني. ويقرر ابن عطاء الله السكندري ذلك بقوله:"جميع الأنبياء خلقوا من الرحمة ونبينا صلى الله عليه وسلم عين الرحمة" (6) ومما لا يجهله أي مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم عبد بشر مثل سائر البشر كرمه الله تفضلاً ومنة بالرسالة مثل سائر الأنبياء والرسل. وهو عليه الصلاة والسلام غني عن مبالغات الصوفية وأكاذيبهم الحمقاء، فكل ما قرره أقطاب الصوفية من أولهم إلى آخرهم حول الحقيقة المحمدية ونشوء الخلق عنها فإنه كلام خارج عن عقيدة المسلمين من دان فلا حظ له في الإسلام بل هو مجوسي وثني. يعتقدون كما قرره ابن عربي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف القرآن قبل نزوله بل إنه على حسب زعمهم هو الذي يعلم جبريل الذي بدوره يوحيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم ثانية (7).ومن الصوفية مثل أبي يزيد البسطامي من يزعم أن الرسل كانوا أقل من مرتبتهم حيث قال:"خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله" (8) وهذه الافتراءات كلها إلحاد وزندقة وشبهات مظلمة وإبطالها مما لا يشق على مسلم عرف شيئا عن تعاليم الإسلام، فإن القرآن منزل من عند الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام وهذه هي عقيدة كل مسلم، من لم يؤمن بها أو شك فيها فلا حظ له من الإسلام ولا صلة بينه وبين المسلمين. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 1005   (1) انظر: ما كتبه د. صابر طعيمة في كتابه ((الصوفية معتقداً ومسلكاً)) (ص 257). (2) انظر: النصوص عن هؤلاء في كتاب ((هذه هي الصوفية)) من (ص 73 – 92). (3) ((فتح الباري)) (11/ 344). (4) هنا مربط الفرس في العقيدة الصوفية فقلما يخلو كتاب من كتبهم عن تقرير هذه العقيدة. (5) ((جمهرة الأولياء)) (2/ 10). (6) ((لطائف المنن)) (ص 55) (7) ((هذه هي الصوفية)) (ص 89)، ينقله عن كتاب ((الكبريت الأحمر)) للشعراني (ص 6). (8) انظر: ((شطحات الصوفية)) (ص31). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 92 المبحث الثالث: الولاية وبيان بعض المصطلحات الصوفية تطلق كلمة ولاية في اللغة العربية (1)، على عدة معان منها التابع، المحب والصديق والناصر. أما معناها في مفهوم الصوفية فهي تنتهي أخيراً في مصب وحدة الوجود، فقد عرفها المنوفي (2) تحت عنوان "أولياء الله"بقوله: "اعلم أن الولاية عبارة عن تولي الحق سبحانه وتعالى عبده بظهور أسمائه وصفاته عليه علماً وعيناً وحالاً وأثر لذة وتصرفاً"، ثم زاد الأمر وضوحاً حينما بين التجليات الإلهية والفيوضات التي تقع على السالك وأفعاله وأفعال كل المخلوقات ثم "لا يرى في نظره غير فعل الفاعل الحقيقي وهو الله". وعرفها الجرجاني بقوله: الولي: هو العارف بالله وصفاته بحسب ما يمكن، المواظب على الطاعات المجتنب عن المعاصي المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات. وقال أيضاً: الولاية: هي قيام العبد بالحق عند الفناء عن نفسه (3).وقد ذكر السهروردي الولاية وقسمها إلى أقسام باعتبارات مختلفة ثم ذكر بعض الكرامات للأولياء التي لا يخلو من ذكرها كتاب صوفي، وأكثر تلك الكرامات التي يروونها محض خرافات وقصص باطلة. ثم خلص السهروردي إلى أن الصالحين الذين يتولاهم الله ويتولونه ليس المراد بهم: "الذي يقصده أهل الطريق عند تفصيل المراتب ويقولون: فلان صالح وشهيد وولي، بل الصلاح هنا المراد به: الذين صلحوا لحضرته بتحقيق الفناء عن خليقته" (4).وأما القطب الكبير عند الصوفية وهو القشيري فقد ذكر تعريفات كثيرة للولاية، ونقل عن أكابر مشائخهم آراءهم في الولاية وأهميتها وعلاماتها وكيفية الحصول عليها ومسائل أخرى (5)، وهكذا فإن نظرة الصوفية إلى الولي والولاية ليست هي تلك المنزلة الطيبة في مفهوم الإسلام، لأن الولي الصوفي لا حد لصلاحياته في هذا الكون. وقد جاءت الولاية في القرآن الكريم مراداً بها المدح، وأحياناً مراداً بها الذم، فهي تستعمل في الخير وفي الشر حسب إطلاقها، لأن صاحبها إما أن يكون ولياً لله تعالى أو ولياً للشيطان، وبين الولايتين من البعد والانفصال ما يعرفه كل مسلم سليم الفطرة صافي العقيدة. وجاءت في السنة النبوية مراداً بها وصف من ساروا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتزموا طريق الخير ونصروا الدين ووالوه. ثم توسع الصوفية والشيعة في إطلاقها وخرجوا بها عن حقيقتها ومدلولها الصحيح، فأطلقت على الرجل المتصوف أو من ينتسب إلى آل البيت، ثم أسبغوا على أئمتهم وكبار دعاتهم هذه الكلمة وأنواعاً أخرى من التهويلات لمطامع اجتماعية وسياسية. ثم أخذها الصوفيين بعد ذلك وأخرجوها في مذاهب الحلول والاتحاد وحدة الوجود، وهناك صفة ثانية أضيفت إلى مفهوم الولاية عند الشيعة والصوفي، وهي صفة العلم اللدني الذي أخذه علي بن أبي طالب عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما زعموا، ثم ورثة إياهم ببركة تلك الولاية، وبلغ الغلو بالصوفية في أوليائهم إلى أن اتخذوهم بين الله وبين خلقه وسطاء على طريقة النصارى واليهود والمشركين تماماً.   (1) انظر: مادة ولي تهذيب اللغة الأزهري (15/ 447) و ((نزهة الأعين النواظر)) (ص 614) و ((المختار من الصحاح)) (ص583) وغير ذلك من كتب اللغة. (2) ((جمهرة الأولياء)) (1/ 98 - 99). (3) ((كتاب التعريفات)) (ص 254). (4) ((عوارف المعارف)) (ص84). (5) ((الرسالة القشيرية)) (2/ 520). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 93 فكما اتخذ هؤلاء المسيح وعزيراً والملائكة أرباباً لهم من دون الله، اتخذ الصوفية وسطاء إلى الله عز وجل أسموهم القطب والغوث والولي ونسبوا إليهم النفع والضر، لأن الله بزعمهم جذبهم إليه واختصهم ثم ساووهم مع الله تعالى في كل صفاته، بل أصبح من شرط الولي أن يكون متصفاً بصفات الله-كما يزعمون- ومن هنا نشأ تنطعهم وتنقصهم للأنبياء على حد ما ورد عن أبي يزيد البسطامي في قوله: "خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله". ثم اخترعوا مفهوماً كاذباً للولاية، فهي عندهم مجرد هبة من الله عز وجل لبعض خلقه دون أن يكون لها سبب، بل وبغض النظر عن صلاح الشخص أو فجوره، واستدلوا بقول الله عز وجل: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء [البقرة:105]، أي دون سبب حسب مفهومهم. ومعنى هذا أنهم يجعلون مفهوم للولاية كمفهوم النبوة، الكل بلا سبب ظاهر، وهذا خلاف ما قرره الإسلام بالنسبة لولاية التي تنتج عن طاعة الله تعالى والمتابعة لنبيه صلى الله عليه وسلم. وقد قسموا الولاية والأولياء إلى أقسام يطول شرحها بدون فائدة فيها (1). إلا ما نستثنيه مما ذكره المنوفي حين قسمهم إلى: 1 - الملامتية: وهم الذين لا يظهرون للخلق أعمالاً وأسراراً، بل يخفون أسرارهم لكمال ذوقهم وقوة شهودهم لربهم. 2 - الغوث الأكبر: وهو أكبر الأولياء والأقطاب، وهو ذات الحق باعتبار تجريدها من الاسم والصفة". 3 - الأوتاد الأربعة: وهم حفظة العالم كل واحد منهم في ركن من أركان العالم، وهم على قدم بدل من الأبدال، أي أقل رتبة من الأبدال، لأن الأبدال يكونون على قدم قطب من الأقطاب. 4 - الأقطاب السبعة: لحفظ القارات السبع، والقطب هو الواحد الذي هو موضع نظر الله من العالم في كل زمان. والقطبانية الكبرى هي مرتبة قطب الأقطاب، وهو باطن النبوة للرسول صلى الله عليه وسلم، والأبدال زعموا أنهم أربعون وهم مكلفون بحفظ العالم والكون، وقد عّرفهم المنوفي بأنهم: "أبدال الأقطاب من الأولياء، فإن مات قطب أحل الله محله بدلاً منه، ومنهم الخلفاء الأربعة". 5 - النجباء: وهم الأربعون القائمون بإصلاح شيءون السالكين. 6 - الأفراد: وهم المفردون والغرباء لتفردهم عن الخلق بشهود الحق، وغربتهم في أهل زمانهم، وهم غير منحصرين في رتبة أو منزلة، ولهم كشف خاص وعلوم إلهية غريبة على الناس .. وهم على قدم النبي صلى الله عليه وسلم (2). وأخيراً وصلوا بالولاية إلى أنها مثل النبوة تماماً فلها ختم كما للنبوة ختم، فختم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم وخاتم الأولياء عند الصوفية مجموعة من الكذابين مختلفون فيما بينهم على ادعائها. وأول من ادعى ختم الولاية به هو محمد بن علي بن الحسين، ويسمونه "الحكيم الترمذي"، وقد ظهر في القرن الثالث الهجري- في آخره- وهو غير الترمذي صاحب (السنن). وحين صنف الحكيم الترمذي كتابه (ختم الولاية) مضاهياً بذلك القول بختم النبوة شهدوا عليه الكفر ثم نفي من ترمذ. ثم جاء ابن عربي المتوفى سنة 638 هـ فادعى أنه خاتم الأولياء، ثم جاء محمد بن عثمان الميرغني السوداني المتوفى سنة 1268 هـ فادعى أنه هو خاتم الأولياء، ثم جاء أحمد التيجاني من فاس بالمغرب المتوفى سنة 1230 هـ فادعى أنه هو خاتم الأولياء، وأن من سبقه أو يلحقه ممن يدعي ختم الولاية فإنه كاذب مفتر. وكل واحد ممن يدعيها له مزاعم وادعاءات وكرامات ومزايا لا يصدقها شخص له أدنى معرفة بالدين الإسلامي. وكلما جاء رجل منهم ادعى أنه هو خاتم الأولياء وأن غيره كاذب والكل-والله يشهد- كاذبون، ثم بلغ بهم الغلو أن فضلوا خاتم الأولياء المزعوم على خاتم النبيين لأمور لا فائدة من التطويل بذكرها، فإنهم مهما تفننوا في الاستدلال على ذلك ومهما زخرفوا القول فيه فهو مردود جملةً وتفصيلاً. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 1013   (1) انظر: ما كتبه الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في كتاب ((الفكر الصوفي)) (ص219)، وانظر: ((الصوفية معتقداً ومسلكاً)). (2) انظر: ((جمهرة الأولياء1)) (/121،306، 311). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 94 المبحث الأول: معنى التزكية وأهميتها التزكية هي الأصل الثالث من الأصول العلمية للدعوة السلفية، ويقصد بها تنمية القلوب وإصلاحها وتطهيرها، يقولون زكاة الزرع إذا نما وصلح وبلغ كماله، وسميت صدقة المال الواجبة زكاة لأن المال يطهر بها وينمو، فهي طهارة للمال، وطهارة للمزكي، وطهارة للمجتمع، وعكس التزكية التدسية: وهي التصغير والتحقير حتى تصير النفس حقيرة دنيئة لا تكاد ترى من حقارتها ودناءتها، ومنه قوله عز وجل: أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [النحل: 59] أي يخفيه في التراب، وقد أقسم الله عز وجل في كتابه أحد عشر قسما متواليا على أن صلاح العبد منوط بتزكية نفسه، وخيبته منوطة بتدسية نفسه قال تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس: 1 - 10] قال الشيخ عطية سالم في تتمة (الأضواء): واختلف في موضع الضمير في (زَكَّاهَا دَسَّاهَا) وهو يرجع إلى اختلافهم في فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:8] فهل يعود على الله تعالى كما في وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس:7]، أم يعود على العبد، ويمكن أن يستدل لكل قوم ببعض النصوص، فمما يستدل به للقول الأول قوله تعالى: بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً [النساء:49]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور: 21]، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول عند هذه الآية: ((اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها، أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها)) (1) ومما استدل به للقول الثاني: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى: 14 - 15]، وقوله: وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإلى اللَّهِ الْمَصِيرُ [فاطر:18]. والذي يظهر والله أعلم، أن ما يتزكى به العبد، وعمل في طاعة وترك معصية فإنه بفضل من الله. كما تفضل عليه بالهدى والتوفيق للإيمان، فهو الذي يتفضل عليه بالتوفيق إلى العمل الصالح وترك المعاصي، في قولك (لا حول ولا قوة إلا بالله) بل إن في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً [النساء: 49]، الجمع بين الأمرين القدري والشرعي، بل الله يزكي من يشاء بفضله، ولا تظلمون فتيلا بعدله، والله تعالى أعلم (2). فصلاح العباد وفلاحهم وفوزهم ونجاتهم في تعهد أنفسهم بالإصلاح، وتطهير بواطنهم وظواهرهم من الشرك بالله عز وجل ومن سائر الصفات المذمومة، وتحليتها بالتوحيد واستسلامها للشرع المجيد. وقد أجمع علماء القلوب على أن القلوب لا تصل إلى مناها حتى تصل إلى مولاها، ولا تصل إلى مولاها حتى تكون صحيحة سليمة زكية، والله عز وجل طيب لا يقبل إلا طيبا، فكل ما طابت النفس وزكت قربها الله عز وجل، فتسعد بالله عز وجل، وتأنس بالله عز وجل، وتستغني بالله عز وجل.   (1) رواه مسلم (2722) (2) باختصار من ((أضواء البيان)) (9/ 247 –249). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 95 وكلما عصى العبد ربه وصغر نفسه وحقرها بمعصية الله طرده الله عز وجل عن حضرته، وأبعده بقدر جنايته، فتحدث الوحشة بينه وبين ربه عز وجل، وبينه وبين عباد الله المؤمنين، فلو حصلت له الدنيا بحذافيرها لم تعوضه هذه الوحشة. فالواجب على كل مسلم حتى تزكو نفسه أن يستسلم لشرع الله عز رجل، بعد أن يتحقق قلبه بالتوحيد، وأن يكون بين يدي الشارع كالميت بين يدي الغاسل، ألا ترى أن الميت لا تكون له إرادة ولا هوى تخالف إرادة مغسله، بل يقلبه المغسل كيف يشاء، ويقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء، وليس له إلا التسليم، وهذا معنى الإسلام وهو الاستسلام لشرع الله عز وجل. قال الزهري: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. والشرع كله تزكية لنفوس العباد حتى يصلحوا لمجاورة الله في الجنة، فالتوحيد تزكية: قال الله تعالى: وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [فصلت: 6 - 7]، قال ابن كثير رحمه الله: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله وكذا قال عكرمة. (1) والصلاة تزكية: قال الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهي عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [العنكبوت: 45].وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات ما تقولون ذلك يبقى من درنه؟ قالوا لا يبقى من درنه شيئا. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بها الخطايا)) (2) والصدقة تزكية: قال الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا [التوبة: 103]، والحج تزكية: قال الله تعالى: فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197] فالله عز وجل شرع لنا الشرائع من أجل أن تزكو نفوسنا، وأن تصلح دنيانا وآخرتنا، والله عز وجل أغنى وأعز من أن ينتفع بطاعات العباد، أو أن يتضرر بمعاصيهم كما في الحديث القدسي ((يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)) (3). بل العباد أنفسهم يتضررون بمعاصيهم، وهم أنفسهم ينتفعون بطاعاتهم، والله تعالى غني عنهم وعن طاعاتهم قال تعالى: لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا [الحج:37]، ألا ترى أن العباد يذبحون الهدايا والأضاحي ويأكلون لحومها، وهم مع ذلك يتقربون بها إلى الله عز وجل، لأنهم يستجيبون لأمر الله، ويستسلمون لشرعه، فالإيمان والعمل الصالح سبب سعادة الدنيا، أنه سبب سعادة الآخرة قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل: 97] والسعادة سعادة القلوب، والشقاء شقاء القلوب، والقلوب لا تسعد إلا بالله، ولا تطمئن إلا بذكره وطاعته قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] فلا تسعد بالمال، ولا تسعد بالجاه، ولا تسعد بالشهرة، والتعاسة والشقاء تلاحقان العبد إذا تعلق القلب بغير الله حبا ورجاء وخوفا وتوكلا، قال النبي صلى الله عليه وسلم ((تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطى رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)) (4).   (1) ((تفسير القرآن العظيم)) (4/ 92) دار المعرفة. (2) رواه البخاري (528) ومسلم (667) والدرن: الوسخ. (3) رواه مسلم (2577) (4) رواه البخاري (2886) تعس: دعاء عليه بالهلاك، القطيفة كساء له خمل والخميصة: ثياب خز (حرير) أو صوف معلمة، شيك: شاكته شوكه: انتقش: خرجت من جسمه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 96 وصفوة القول أن يقال كلما زكى العبد نفسه بالتوحيد وطاعة العزيز الحميد كلما سعد، والعكس بالعكس، قال تعالى: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَي وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه: 123 - 126]. قال ابن القيم رحمه الله: وسمعت شيخ الإسلام قدس الله روحه يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة. وقال مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة. وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت لهم ملء هذه القلعة ذهبا، ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير، ونحو هذا. وكان يقول في سجوده وهو محبوس: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ما شاء الله. وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه. ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد: 13] وعلم الله ما رأيت أحدا أطيب عيشا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا، وأشرحهم صدرا وأقواهم قلبا، وأسرهم، تلوح نضرة النعيم على وجهه. وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض، أتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه فيذهب ذلك. كله عنا، وينقلب انشراحا وقوة ويقينا وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابا في دار العمل، فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما أستفرغ قواهم طلبا والمسابقة إليها. وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف. وقال آخر: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها؟ قيل: وما أطيب ما فيها قال: محبة الله تعالى ومعرفته وذكره، أو نحو هذا. وقال آخر: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربا. وقال آخر: إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش طيب. فمحبة الله تعالى ومعرفته ودوام ذكره والسكون إليه، والطمأنينة إليه، وإفراده بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة، بحيث يكون هو وحدة المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته، هو جنة الدنيا، والنعيم الذي لا يشبه نعيم، وهو قرة عين المحبين وحياة العارفين. وإنما تقر أعين الناس بهم على حب قرة أعينهم بالله عز وجل، فمن قرت عينه بالله، قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات (1) اهـ. قال ابن القيم في (طريق الهجرتين):فوا أسفاه وواحسرتاه، كيف ينقضي الزمان وينفد العمر والقلب محجوب ما شم لهذا رائحة، وخرج من الدنيا كما دخل إليها، وما ذاق أطيب ما فيها، بل عاش فيها عيش البهائم وانتقل انتقال المفاليس، فكانت حياته عجزا وموته كمدا، ومعادة حسرة وأسفا، اللهم فلك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك (2).   (1) ((الوابل الصيب)) بتحقيق بشير محمد عيون (96 - 98) دار البيان. (2) ((طريق الهجرتين)) (211) السلفية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 97 والحاصل أن العبد يجهل مواقع السعادة، والنفس الجاهلة تتكاسل عن الطاعات لجهلها بأن سعادة الدارين وطاعة الله والاستسلام لأمره ونهيه، قال ابر المبارك رحمه الله إن الصالحين فيما مضى كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفوا، وان أنفسنا لا تكاد تواتينا فينبغي علينا أن نكرهها. فلطاعة الله عز وجل. حلاوة تتذوقها القلوب إذا باشرتها، وهذه الحلاوة تقصر دونها العبارة، ولا تحيط بها الإشارة قال بعضهم: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا. وقال غيره: ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، وصلاة الجماعة. فتثقل هذه العبادات والتكاليف الشرعية على الذين لم ينالوا من العلم إلا زبد الأفكار وزبالة الأذهان، وتخف على أهل الطاعات الذين زكت نفوسهم، وطهرت جوارحهم، ولقد كان الواحد منهم يثقل عليه خروجه من الصلاة، قال بعضهم: أنا منذ أربعين سنة ما أزعجني إلا طلوع الفجر. وبكى أحد الصحابة عند موته فسأل عما يبكيه فقال: والله لا أبكي على دنياكم ولا أبكي على فراقكم، ولكن أبكي على طول ظمأ الهواجر، وقيام ليالي الشتاء الطويلة. ويكفيك أيها القارئ الكريم أن تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي حتى تشقق قدماه، وترم ساقاه، فيقال له أتفعل ذلك وفد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول صلى الله عليه وسلم ((أفلا أكون عبدا شكورا)) (1) وكان يواصل صلى الله عليه وسلم وينهي عن الوصال ويقول ((إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني)) (2) فكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس حالا وأسعدهم بربه وكان يقول: ((حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة)) (3) فتدبر مرة ثانية قول الله عز وجل: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس:9 - 10] واعلم أن هذا الفلاح لأهل الزكاة في الدنيا والآخرة، والخيبة لأهل التدسية في الدنيا والآخرة.   (1) رواه البخاري (1130) ومسلم (2819). (2) لم يرد بهذا اللفظ (أبيت) وورد بلفظ (أظل) رواه أحمد (2/ 235) (7431) وابن خزيمة (2072) وقال الألباني صحيح على شرط البخاري، ورواه البخاري (1965) ومسلم (1103) بلفظ (إنى أبيت يطعمني ربى ويسقيني) (3) رواه النسائي (3939) وأحمد (3/ 128) (12315) والحاكم (2676) والبيهقي في الكبرى (7/ 78)، قال الحاكم صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5435) قال السندي في حاشيته على ((سنن النسائي)): قيل إنما حبب إليه النساء عما كلف به من أداء الرسالة فيكون ذلك أكثر لمشاقة وأعظم لأجره، وقيل غير ذلك. وأما الطيب فكأنه يحبه لكونه يناجي الملائكة وهم يحبون الطيب، وأيضا هذه المحبة تنشأ من اعتدال المزاج وكمال الخلقة، وهو صلى الله عليه وسلم أشد اعتدالا من حيث المزاج وأكمل خلقه. وقوله (قرة عيني في الصلاة) إشارة إلى أن تلك المحبة غير ما نعقله عن كمال المناجاة مع الرب تبارك وتعالى، بل هو مع تلك المحبة منقطع عليه تعالى، وفيه إشارة إلى أن محبة النساء والطيب إذا لم يكن مخلا لأداء حقوق العبودية. بل للانقطاع إليه تعالى يكون من الكمال وإلا يكون من النقصان فليتأمل (7/ 61 - 62). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 98 كما أن قول الله عز وجل: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13 - 14] لا يعني نعيم الآخرة للأبرار وجحيم الآخرة للفجار، بل الأبرار في نعيم الدنيا، وفي دار البرزخ، وفي الآخرة، وإن كان نعيم الدنيا دون نعيم الآخرة، كما أن العذاب في الدنيا دون عذاب الآخر ة كما قال الله تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة:21] والعذاب الأدنى في الآية يقصد به عذاب الدنيا لقوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ولا يكون ذلك إلا في الدنيا، واستدل بها ابن عباس على عذاب القبر قوله تعالى مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى ولم يقل (العذاب الأدنى) فدل على أنهم بقيت لهم من العذاب الأدنى بقية، يعذبون بها في القبور. وظهر الفلاح والنجاح كذلك في هؤلاء الصحابة الكرام، فعزوا في الدنيا وسادوا لأنهم استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح، هذا مع ما ينتظرهم في الآخرة من موعود الله عز وجل لهم بالجنة كما قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100] فمن أراد سعادة الدارين فعليه أن يتعهد نفسه بالإصلاح والتزكية؛ فكما أن السموات والأرض لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فكذلك قلوب العباد، لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدت بذلك فسادا لا يرجى له صلاح، حتى تعرف ربها عز وجل وتعبده بأمره ونهيه، والنفوس الجاهلية حتى تترقى في محبة الله عز وجل وولايته تحتاج إلى رفق ومداراة حتى تصير سعادتها في الطاعات والعبادات قال بعض السلف: عالجت قيام الليل سنة وتمتعت به عشرين سنة. فالعاقل هو الذي يعالج نفسه ويجبرها على ما فيه سعادتها، وهذه المعالجة لن تطول بإذن الله، فلا تلبث نفس العبد أن تتعلم وتذوق حلاوة الطاعات وترك المعاصي، نصحت إحدى الصالحات من السلف بنيها فقالت لهم: (تعودوا حث الله وطاعته، فإن المتقين ألفت جوارحهم الطاعة فاستوحشت من غيرها، فإذا أمرهم الملعون بمعصية مرت المعصية بهم محتشمة فهم لها منكرون).وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حلاوة الإيمان، وبين أن الذي يذوق هذه الحلاوة من أخلص حبه لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولعباده المؤمنين فقال صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه الله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)) (1) قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: إنما عبر بالحلاوة لأنه شبه الإيمان بالشجرة في قوله كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ [إبراهيم:24]، فالكلمة هي كلمة الإخلاص، والشجرة أصل الإيمان، وأغصانها أتباع الأمر واجتناب النهي وورقها ما يهتم به المؤمن من الخير وثمرها عمل الطاعات، وحلاوة الثمر جنى الشجرة وغاية كماله تناهي نضج الثمرة وبه ظهر حلاوتها) (2). المصدر: التزكية بين أهل السنة والصوفية لأحمد فريد - ص 7 - 16   (1) رواه البخاري (6941) ومسلم (43) (2) ((فتح الباري)) (1/ 60) السلفية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 99 المبحث الثاني: مقارنة بين أهل السنة والصوفية في مناهج التزكية وإنما قصدنا الصوفية من بين فرق الضلالة؛ لأنهم يزعمون أنهم أصحاب الأحوال والمقامات والنفوس الزاكيات، وأنهم أصحاب مناهج في تصفية النفوس وتنقيتها، وهذه المقارنة يظهر فيها بجلاء نقاء المنهج السلفي، وكيف أنه ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم وما خالفه إنما هو ابتداع وبعد عن الكتاب والسنة. ا- منهج التزكية عند أهل السنة والجماعة أهل السنة والجماعة هم أهل الأثر وأهل الحديث، وهم كذلك أهل الإتباع، فهم يزكون أنفسهم مما زكى به النبي صلى الله عليه وسلم نفوس الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فلا يبتدعون طرقا للتزكية، ولا ينتهجون من المناهج ما يخالف نهج النبوة، وهم يضبطون بالعلم اعتقاداتهم وأقوالهم وأعمالهم، ونلخص مناهج التزكية عند السلفيين في ثلاثة أمور: - التزكية بالعقيدة الصحيحة عقيدة التوحيد، ولا يكفيهم ذلك حتى تتعبد قلوبهم لله عز وجل، وتمتلئ بأنوار أسمائه وصفاته وربوبيته وإلهيته. - التزكية بأداء الواجبات وترك المحرمات. - التزكية بالنوافل. أ- التزكية بالتوحيد لاشك أن أوجب أنواع التزكية، التزكية بالتوحيد قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: 28] وهذه النجاسة ليست نجاسة عينية بحيث أن المسلم إذا مس كافرا يغسل يده، فقد أبيح للمسلم أن يتزوج بالكتابية ولا يسلم من عرقها، والواجب عليه من الطهارة كما هو الواجب على من تزوج بالمسلمة، فهذه نجاسة معنوية، قلوبهم نجسة لأنها لا تعرف الله عز وجل معرفة صحيحة، ولا تعبده وحده لا شريك له عبادة صحيحة. ونجاسة الشرك ملازمة لا تطهرها المصائب المكفرة ولا الحسنات الماحية، بعكس تدنس المسلم بشيء من نجاسات المعاصي التي هي دون الشرك، فإنما تطهرها المصائب المكفرة والحسنات الماحية، ودعاء المؤمنين، واستغفار الملائكة، وغير ذلك من مكفرات الذنوب والخطايا، لذا كان أول الواجبات أن يطهر العبد نفسه من أنجاس الشرك، ويزكيها بالتوحيد، كما قال ابن عباس في قوله تعالى: وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [فصلت: 6 - 7] قال: الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله، وكذلك قول موسى عليه السلام لفرعون فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تَزَكَّى [النازعات: 18] أي تتطهر من هذا الشرك بالتوحيد، فأصل التزكية، التزكية بالتوحيد، بل لا تزكو النفس بسائر أنواع العبادات حتى تزكو بالتوحيد أولا، ومن اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأصل لما أرسل معاذا إلى اليمن قال: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة)) (1) الحديث وأيضا فإن الزكاة هي التطهير، وهل هناك نجاسة أشد من الشرك قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48]   (1) انظر ((صحيح البخاري)) (1458) ومسلم (19) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 100 وقال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13].وقال: وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا [النساء: 116] وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاما يدعو إلى التوحيد وكان القرآن المكي دعوة للتوحيد، وبان ما أعده الله عز وجل لأهل التوحيد، وكذلك ما أعده للمعرضين عن توحيده، وكيف نصر الله عز رجل أولياءه الموحدين، وأهلك الكافرين والمعاندين، حتى استنارت قلوب الصحابة بأنوار التوحيد، وظهر هذا النور على جوارحهم فأثمر فعل الطاعات وترك المعاصي، كما قيل في قول الله عز وجل ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [إبراهيم: 24 - 25] فالكلمة الطيبة هي كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) أصلها ثابت في قلب المؤمن، وفرعها من الأعمال الصالحة في السماء صاعد إلى الله عز وجل، ونقصد بالتوحيد الذي تزكو به النفوس التوحيد الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره)) (1) والإيمان بالله هو ركن التوحيد الأعظم ويشمل الإيمان بربو بيته وأسمائه وصفاته وإفراده عز وجل بجميع ألوان العبادة تصديقا لقولنا (لا إله إلا الله). ولا يكفي في توحيد الأسماء والصفات. وتوحيد الربوبية أن نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتا بلا تشبيه وتنزيها بلا تعطيل، بل ينبغي أن تتعبد قلوبنا لله عز وجل بصفات الربوبية، وأسمائه وصفاته، والتحقق بتوحيد المعرفة هو السبيل كذلك لتمام العبودية وكمالها لله عز وجل. قال ابن القيم رحمه الله في وصف السابقين بالخيرات: وجملة الأمر أنهم قوم قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وغمرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته، فسرت المحبة في أجزائهم، فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب، قد أنساهم حب ذكره غيره، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه، قد فنوا بحبه عن حب من سواه، وبذكره عن ذكر من سواه، وبخوفه ورجائه والرغبة إليه والرهبة منه والتوكل عليه والإنابة إليه والسكون إليه والتذلل والانكسار بين يديه، عن تعلق ذلك منهم بغيره، فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه واجتمع همه عليه، متذكرا صفاته العلى وأسماءه الحسنى، مشاهدا له في أسمائه وصفاته، قد تجلت على قلبه أنوارها فانصبغ قلبه بمعرفته ومحبته، فبات جسمه على فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبه قد آوى إلى مولاه وحبيبه فآواه إليه، وأسجده بين يديه خاضعا خاشعا ذليلا منكسرا من كل جهة من جهاته، فيالها من سجدة ما أشرفها. من سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء.   (1) رواه مسلم (8). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 101 وقيل لبعض العارفين: أيسجد القلب بين يدي ربه، قال: إي والله بسجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم القيامة. فشتان بين قلب يبيت عند ربه، قد قطع في سفره إليه بيداء الأكوان وخرق حجب الطبيعة، ولم يقف عند رسم، ولا سكن إلى علم حتى دخل على ربه في داره فشاهد عز سلطانه وعظمة جلاله، وعلو شأنه وبهاء كماله، وهو مستو على عرشه يدبر أمر عباده، ويصعد إليه شيءون العباد، تعرض عليه حوائجهم وأعمالهم فيأمر فيها بما يشاء، فينزل الأمر من عنده نافذا كما أمر، فيشاهد الملك الحق قيوما بنفسه مقيما لكل ما سواه، غنيا عن كل من سواه فقيرا إليه (كل من عداه) (1) يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29] يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويفك عانيا وينصر ضعيفا، ويجبر كسيرا، ويغنى فقيرا، ويميت ويحي، ويسعد ويشقى، ويضل ويهدى، وينعم على قوم ويسلب نعمته عن آخرين، ويعز أقواما ويذل آخرين، ويرفع أقواما ويضع آخرين (2). إلى أن قال رحمه الله: وجماع الأمر في ذلك إنما هو تكميل عبودية الله في الظاهر والباطن، فتكون حركات نفسه وجسمه كلها في محبوبات الله، وكمال عبودية العبد موافقته لربه في محبته ما أحبه، وبذل الجهد في فعله، وموافقته في كراهة ما كرهه، وبذل الجهد في تركه، وهذا إنما يكون للنفس المطمئنة لا للأمارة ولا للوامة فهذا كمال من جهة الإرادة والعمل. وأما من جهة العلم والمعرفة فأن تكون بصيرته منفتحة في معرفة الأسماء والصفات والأفعال. له شهود خاص فيها، مطابق لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لا مخالف له، فإن بحسب مخالفته له في ذلك يقع لانحراف، ويكون ذلك قائما بأحكام العبودية الخاصة التي تقتضيها كل صفة بخصوصها، وهذا سلوك الأكياس الذين هم خلاصة العالم، والسالكون كل هذا الدرب أفراد من العالم، طريق سهل قريب موصل طريق آمن، اكثر السالكين في غفلة عنه، ولكن يستدعى رسوخا في العلم ومعرفة تامة به، وإقداما على رد الباطل المخالف له ولو قاله من قاله (3).كذلك كانت تزكية النبي صلى الله عليه وسلم لنفوس أصحابه من شرك الألوهية كلما سنحت فرصة. قال للصحابة يوما على إثر سماء من الليل، ((أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر: فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)) (4) وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان)) (5). وكذلك قصة ذات الأنواط وغير ذلك مما كان يزكي به النبي صلى الله عليه وسلم قلوب أصحابه حتى صاروا أبر الأمة قلوبا وأعمقها علما. 2 - التزكية بفعل الواجبات وترك المحرمات: وهذه تزكية واجبة بعد التزكية بالتوحيد، وأولى ما يتقرب به العبد إلى ربه بعد توحيد الله عز وجل أداء الفرائض واجتناب المحرمات، والعمدة في ذلك حديث الولي في صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: ((وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه)) (6).   (1) زيادة لا يستقيم المعنى إلا بها. (2) ((طريق الهجرتين)) (287). (3) ((طريق الهجرتين)) (299، 300). (4) رواه البخاري (4147) ومسلم (71). (5) رواه أبو داود (4980) وأحمد (5/ 384) (23313) والبيهقي (3/ 216) وصححه الألباني في ((الصحيحة)) رقم (137). (6) رواه البخاري (6502). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 102 قال ابن حجر رحمه الله: ويستفاد منه أن أداء الفرائض أحب الأعمال إلى الله)) قال الشوكاني: وجه ذلك أن النكرة وقعت في سياق النفي فتعم كل ما يصدق عليه معنى الشيء، فلا يبقى شيء من القرب إلا وهو داخل في هذا العموم، لأن كل قربه كائنه ما كانت يقال لها شيء، سواء كانت من الأفعال أو الأقوال، أو مضمرات القلوب أو الخواطر الواردة على العبد أو التروك للمعاصي التي هي ضد فعلها. قال الطوفي: الأمر بالفرائض جازم ويقع بتركها المعاقبة بخلاف النفل في الأمرين، وإن اشتركت مع الفرائض في تحصيل الثواب، فكانت الفرائض أكمل، فلذا كانت أحب إلى الله، وأشد تقربا، فالفرض كالأس، والنفل كالفرع والبناء، وفي الإتيان بالفرائض على وجه المأمور به امتثال الأمر واحترمه وتعظيمه بالانقياد إليه وإظهار عظمة الربوبية وذل العبودية، فكان التقرب بذلك أعظم العمل. قال الشوكاني رحمه الله: واعلم أم من أعظم فرائض الله سبحانه ترك معاصيه التي هي حدوده، التي من تعداها كان عليه من العقوبة ما ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، ولا خلاف أن الله افترض على العباد ترك كل معصية كائنة ما كانت، فكان ترك المعاصي من هذه الحثيثة داخلا تحت عموم قوله: ((وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى من مما افترضت عليه)) بل دخول فرائض الترك للمعاصي أولى من دخول فرائض الطاعات كما يدل عليه حديث ((إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فلا تقربوه)) (1) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والورع عما حرم الله، وحسن النية فيما عند الله عز وجل (2)،والمقصود أن أهل السنة، يزكون أنفسهم بعد التوحيد بتكميل الفرائض من فعل الواجبات وترك المحرمات، فلا يفتحون على أنفسهم أبواب النوافل، وهم بعد مقصورون في أداء الفرائض، كما يذهب كثير من الناس إلى الحج والعمرة كل عام ولا يؤدون زكاة أموالهم، أو يهتمون ببناء المساجد وينفقون في أبواب البر لا بنية الزكاة الواجبة في المصارف الثمانية التي حددها الله عز وجل ويصح هنا قول القائل: من شغله الفرض عن النفل فهو معذور ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور. والله عز وجل لا يقبل النفل حتى تؤدي الفريضة، فأهل السنة يزكون أنفسهم بالمشروع، ومع ذلك يقدمون في العمل ما قدمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ((نبدأ بما بدأ الله به ثم تلا إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ [البقرة: 158])) (3) ومن تلبيس الشيطان على العبد أن يشغله بالعمل المفضول عن الفاضل، وقد ظهر أن الفرائض أفضل وأنفع للعبد من النوافل، فينبغي أن يكمل العبد فرائضه أولا، ثم يزداد تقربا وتحببا إلى الله عز وجل بالنوافل. 3 - التزكية بالنوافل النوافل هي ما عدا الفرائض من جميع أجناس الطاعات، وكل ما ندب الله سبحانه إليه ورغب فيه من غير حتم وافتراض، وتختلف النوافل باختلاف ثوابها، فما كان ثوابه أكثر كان فعله أفضل، وتختلف كذلك باختلاف ما ورد في الترغيب فيها، فبعضها قد يقع الترغيب فيه ترغيبا مؤكدا، وقد يلازمه النبي صلى الله عليه وسلم مع الترغيب للناس في فعله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه)).   (1) رواه مسلم (1337) بلفظ (فدعوه) بدل (فلا تقربوه) فإننا لم نجدها. (2) ولاية الله والطريق إليها (369) بتصرف واختصار. (3) رواه الترمذي (2967) واللفظ له، ورواه أبو داود (1905) والنسائي (2961) وابن ماجه (3074) وابن حبان (3943) قال الترمذي حسن صحيح، وصححه الألباني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 103 قال الحافظ رحمه الله: وقد استشكل بما تقدم أولا أن الفرائض أحب العبادات المتقرب بها إلى الله فكيف لا تنتج المحبة؟ والجواب أن ما كانت حاوية للفرائض مشتملة عليها ومكملة لها، ويؤيده أن رواية أبي أمامة: ((ابن آدم إنك لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضت عليك)) (1). قال الفاكهاني: معنى الحديث أنه إذا أدى الفرائض ودام على إتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرهما أفضى به ذلك إلى محبة الله. قلت: ويفهم منه أن العبد إذا قصر في الفرائض وأكثر من النوافل لا تكون هذه الطريق موصلة له إلى محبة الله عز وجل: فلا يتم التقرب بالنوافل حتى يتقرب أولا بالفرائض، فهذه سبيل التزكية عند أهل السنة. وقال ابن هبيرة: ويؤخذ من قوله: ((ما تقرب ... إلخ)) أن النافلة لا تقدم على الفريضة، لأن النافلة إنما سميت نافلة لأنها تأتي زائدة على الفريضة فما لم تؤد الفريضة لا تحصل النافلة، ومن أدى الفرائض ثم زاد عليه النفل وأدام ذلك تحققت منه إرادة التقرب انتهي وأيضا فقد جرت العادة أن التقرب يكون غالبا بغير ما وجب على المتقرب كالهدية والتحفة خلاف من يؤدي ما عليه من خراج أو يقضي ما عليه من دين، وأيضا فإن من جملة ما شرعت له النوافل جبر الفرائض، كما صح في الحديث ((انظروا هل لعبدي من تطوع فتكمل به فريضته)) (2) الحديث بمعناه. فتبين أن المراد من التقرب بالنوافل أن تقع ممن أدى الفرائض لا من أخل بها. وقال الشوكاني رحمه الله: إن العبد لما كان معتقدا لوجوب الفرائض عليه، وأنه أمر حتم يعاقب على تركها، كان ذلك بمجرده حاملا له على المحافظة عليها والقيام بها، فهو يأتي بها بالإيجاب الشرعي والعزيمة الدينية، أما النوافل فهو يعلم أنه لا عقاب في تركها فإذا فعلها كان ذلك لمجرد التقرب إلى أرب خاليا، عن حتم عاطلا عن حزم، فجوزي على ذلك بمحبة الله له، وإن كان أجر الفرض أكثر، فلا ينافي أن تكون المجازاة بما كان الحامل عليه هو محبة التقرب إلى الله أن يحب الله فاعله لأنه فعل ما لم يوجبه الله عليه، ولا عزم عليه بأن يفعله. ومثال هذا في الأفعال المشاهدة في ابن آدم أن السيد إذا أمر عبده بأن يقضي له في كل يوم حاجة أو حوائج، وكذلك أمر من له من الممالك بمثل ذلك، فكان أحدهم يقضي له تلك الحوائج ثم يقضى له حوائج أخرى يعلم أن سيده يحب قضاءها وتحسن لديه، والآخرون لا يقضون له إلا تلك الحوائج التي أمرهم السيد بها، فمعلوم أن ذلك العبد الذي صار يأتي له كل يوم بما أمره به وبغيره مما يحبه، يستحق المحبة من السيد محبة زائدة على محبته لكل واحد منهم، فالمراد من الحديث هذه المحبة الزائدة الحاصلة من فعله لما يحبه سيده من غير أمر منه، مع قيامه بما قام به غيره من امتثال أمر السيد والتبرع بالزيادة التي لم يأمره بها (3). وهذه مجموعة من نوافل الطاعات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أذكر بها من كمل فرائضه وأحب أن يزداد زكاة ومحبة لله عز وجل.   (1) رواه الطبراني (7896) قال الهيثمي في ((المجمع)) (2/ 248) فيه علي بن يزيد ضعيف، وقال أبو حاتم منكر كما في علل ابنه (1872) (2) رواه أبو داود (864) والترمذي (413) والنسائي (465) وابن ماجه (1426) والحاكم (965) قال الترمذي حسن غريب من هذا الوجه وقال الحاكم صحيح الإسناد، وصححه الألباني. (3) ولاية الله والطريق إليها (419) (بتصرف). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 104 ا- نوافل الصلاة: من نوافل الصلاة المرغوب فيها المؤكد في استحبابها رواتب الفرائض وهي في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر قال: ((حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الغداة)) (1). وأخرجه مسلم بمعناه لكن زاد: ((قبل الظهر أربعا)) (2) وفضل هذه النوافل ما رواه مسلم وأهل السنن من حديث أم حبيبة بنت أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة سجدة سوى المكتوبة، بنى له بيت في الجنة)) (3). ومن نوافل الصلاة المؤكدة قيام الليل: روى مسلم عنه صلى الله عليه وسلم قال: ((أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل)) (4). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى ما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة)) (5). ومن النوافل صلاة الضحىوالأحاديث في مشروعيتها متواترة منها ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: ((صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام)) (6). ومن نوافل الصلاة المؤكدة صلاة تحية المسجد: عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل أحد المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)) (7) ومن النوافل: الصلاة عقب الوضوء. والصلاة بين الأذان والإقامة. ومطلق التنفل إلا في أوقات الكراهة. 2 - نوافل الصيام: صوم شهر المحرم روى مسلم وأهل السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الصيام بعد شهر رمضان أفضل؟ فقال: ((شهر الله المحرم)) (8) ومنه صيام يوم عرفة ويوم عاشوراءعن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبله، وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة ماضية)) (9). ومنه صيام ست من شوالعن أبي أيوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال فذلك صيام الدهر)) (10). ومنه صوم شعبانأخرج أحمد وأهل السنن من حديث أم سلمة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم من السنة شهرا تاما إلا شعبان يصل به رمضان)) (11). وحسنه الترمذي والمعنى يكثر من صيام شعبان لأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صام شهرا كاملا إلا رمضان. ومنه مطلق التنفل ويكفى في مطلق التنفل بالصيام قوله صلى الله عليه وسلم: ((من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا)) (12)   (1) رواه البخاري (1180). (2) رواية مسلم (730) من حديث عائشة رضي الله عنها. (3) رواه مسلم (728) دون قوله (سوى المكتوبة) وبهذا اللفظ رواه النسائي (1806) وأحمد (6/ 326) (26812) والطبراني (19389) وصححه الألباني. (4) رواه مسلم (1163). (5) رواه مسلم (736). (6) رواه البخاري (1981) ومسلم (721) (7) رواه البخاري (1163) ومسلم (714). (8) رواه مسلم (1163) دون قصة السؤال وكذلك أصحاب السنن. (9) رواه أحمد (5/ 296) (22588) والنسائي في الكبرى (2/ 150) (2796) وأصله عند مسلم (1162). (10) رواه مسلم (1164). (11) رواه أبو داود (2336) والنسائي (2353) أحمد (6/ 84) (24586) وصححه الألباني والحديث أصله عند البخاري (1970) (12) رواه البخاري (2840) ومسلم (1153). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 105 3 - نوافل الحج والعمرة: في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) (1) وقال صلى الله عليه وسلم: ((من حج فلم - يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) (2). 4 - نوافل الصدقة: قال الله عز وجل: وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ: 39]. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان من السماء فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا)) (3) وفي صحيح مسلم من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى)) (4). وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ((لا توكي فيوكي الله عليك)) (5) أي لا تبخلي. 5 - نوافل الأذكار: قال الله تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت: 45] أي أكبر مما سواه من الأعمال الصالحة. وقال تعالى: وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ [الجمعة: 10].وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى: ((الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت)) (6). التقرب والتزكية بالدعاء: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة) ثم تلا هذه الآية وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60]. وقال عز وجل: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل: 62]. وقال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 86]. وعن أنس مرفوعا ((لا تعجزوا في الدعاء فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد)) (7).وعن أبي سعيد عنه صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها)) (8).وعن سلمان عنه صلى الله عليه وسلم قال ((إن ربكم حي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين)) (9). 7 - التزكية والقرب بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم   (1) رواه البخاري (1773) ومسلم (1349) (2) رواه البخاري (1521) ومسلم (1350). (3) رواه البخاري (1442) ومسلم (1010). (4) رواه مسلم (1036). (5) رواه البخاري (1433). (6) رواه البخاري (6407) واللفظ له ومسلم (779) بلفظ (مثل البيت الذي لا يذكر الله فيه والبيت الذي يذكر الله فيه مثل الحي والميت). (7) رواه ابن حبان (871) والحاكم (1818) وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الذهبي لا أعرف عمر تعبت عليه، وقال الألباني في ((الضعيفة)) (843) ضعيف جدا (8) رواه أحمد (3/ 18) (11149) والحاكم (1816) وقال صحيح الإسناد والبيهقي في ((الشعب)) (1090) قال الهيثمي في ((المجمع)) (10/ 149) رجاله رجال الصحيح وقال البوصيري في ((الإتحاف)) (6/ 147) إسناده جيد وقال الألباني حسن صحيح كما في ((صحيح الترغيب)) (1633) (9) رواه أبو داود (1488) والترمذي (3556) وابن ماجه (3865) وابن حبان (876) والحاكم (1831). قال الترمذي حسن غريب وروى بعضهم ولم يرفعه، وصححه الألباني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 106 ومما تزكو النفس بملازمته والاستكثار منه الصلاة والسلام على رسول اللهصلى الله عليه وسلم فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا)) (1). فانظر إلى هذا الأمر العظيم والجزاء الكريم، يصلي العبد على الرسول صلى الله عليه وسلم واحدة، فيصلي عليه خالق العالم ورب الكل عز وجل عشر مرات؛ فهذا ثواب لا يعادله ثواب وجزاء لا يساويه جزاء وأجر لا يماثله أجر. وبعد أن ذكرنا هذه المجموعة الطيبة من النوافل على سبيل التذكير لمن أراد أن يزكى نفسه بالنوافل بعد الفرائض، يظهر جليا كيف أغنانا الله بالوسائل المشروعة لتزكية النفوس، ونوع الأعمال الصالحة التي يدخل العبد بها على الله عز وجل. قال ابن القيم رحمه الله: من الناس من يكون سيد عمله الذكر وقد جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله، فمتى فتر عنه أو قصر رأى أنه قد غبن وخسر، ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة فمتى قصر في ورده منها، أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعد لها، أظلم عليه وقته، وضاق صدره، ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي، كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وأنواع الصدقات، قد فتح له في هذا وسلك منه طريقا إلى ربه، ومن الناس من يكون طريقه الصوم، فهو متى أفطر تغير عليه قلبه وساءت حاله، ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن، وهي الغالب على أوقاته، وهي أعظم أوراده، ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد فتح الله له فيه ونفذ منه إلى ربه، ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحج والاعتمار، ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق، وتجريد الهمة، ودوام المراقبة، ومراعاة الخواصر، وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة، ومنهم جامع المنفذ السالك إلى الله في كل واد، الواصل إليه من كل طريق، فهو جعل وظائف عبوديته قبلة قلبه ونصب عينه يؤمها أين كانت ويسير معها حيث سارت، قد ضرب مع كل فريق بسهم، فأين كانت العبودية وجدته هناك إن كان علم وجدته مع أهله، أو جهاد وجدته في صف المجاهدين، أو صلاة وجدته في القانتين، أو ذكر وجدته في الذاكرين، أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين، أو محبة ومراقبة وإنابة إلى الله وجدته في زمرة المحبين المنيبين، يدين بدين العبودية التي استقلت ركابها، ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربها، لو قيل له: ما تريد من الأعمال؟ لقال: أريد أن أنفذ أوامر ربي حيث كانت وأين كانت، جالبة ما جلبت، مقتضية ما اقتضت، جمعتني أو فرقتني، ليس في مرادي إلا تنفيذها والقيام بأدائها، مراقبا له فيها، عاكفا عليه بالروح والقلب والبدن والسر، قد سلمت له المبيع منتظرا منه تسليم الثمن: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ [التوبة: 111].فهذا هو العبد السالك إلى ربه النافذ إليه حقيقة (2). فهذه طريقة ومناهج التزكية عند السلفيين أهل السنة والجماعة، جعلها الله عز وجل كثيرة متنوعة جدا؛ لاختلاف استعدادات العباد وقوابلهم، ولو جعلها نوعا واحدا مع اختلاف الأذهان والعقول وقوة الاستعدادات وضعفها لم يسلكها إلا واحد بعد واحد، مع أن كل هذه طريق واحد، وهو صراط الله المستقيم كما قال تعالى وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام: 153]. المصدر: التزكية بين أهل السنة والصوفية لأحمد فريد - ص17 - 31   (1) رواه مسلم (408) (2) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (179). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 107 المبحث الثالث: منهج التزكية عند الصوفية لاشك أن الصوفية من أجهل الفرق الإسلامية بآثار النبوة، وأكثرها ترويجا للأحاديث الضعيفة والموضوعة، وذلك واضح جلى في مصنفاتهم فإنها مليئة بالأخبار الموضوعة ومالا أصل له، أضف إلى ذلك كثرة الحكايات والمنامات والخرافات يعوضون بها فقرهم بالآثار النبوية والسنن المصطفوية، ويظهر ذلك كذلك في مناهج التزكية عندهم، حيث يطلبون زكاة نفوسهم بالإنشاد والمكاء والتصدية وتكلف ما لم يشرعه الله عز وجل ولا رسوله صلى الله عليه وسلم من العبادات، وهذه بعض وسائلهم في التزكية. الصوفية يزكون أنفسهم- زعموا- بالمكاء والتصدية والغناء والتصفيق ويتواجدون عند ذلك حتى روى بعضهم كذبا أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشده أعرابي شعرا فقال: قد لسعت حية الهوى كبدي ... فلا طبيب لها ولا راقي سوى الحبيب الذي شغفت به ... فمنه دائي ومنه ترياقي وأن النبي صلى الله عليه وسلم تواجد حتى سقطت البردة عن منكبيه وقال: ((ليس بكريم من لم يتواجد عند ذكر المحبوب)) (1).قال شيخ الإسلام: وهذا حديث كذب بإجماع العارفين بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وأحواله. (2). وقال كذلك: وبالجملة فقد عرف بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع، لصالحي أمته وعبادهم وزهادهم أن يجتمعوا على استماع الأبيات الملحنة مع الضرب بالكف أو ضرب بالقضيب أو الدف، كما لم يبح لأحد أن يخرج عن متابعته واتباع ما جاء به من الكتاب والحكمة لا في باطن الأمر ولا في ظاهره، ولا لعامي ولا لخاصي، ولكن رخص النبي صلى الله عليه وسلم في أنواع من اللهو في العرس ونحوه؛ رخص للنساء أن يضربن بالدف في الأعراس والأفراح، وأما الرجال على عهده فلم يكن أحد منهم يضرب بالدف ولا يصفق بكف، بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: التصفيق للنساء والتسبيح للرجال، ولعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء. ولما كان الغناء والضرب بالدف والكف من عمل النساء كان السلف يسمون من يفعل ذلك من الرجال مخنثا، ويسمون الرجال المغنيين مخانيثا وهذا مشهور من كلامهم. (3). إلى أن قال رحمه الله:   (1) قال ابن عراق في ((تنزيه الشريعة)) (2/ 233) أورده الحافظ ابن طاهر وهو باطل وقال الحافظ أبو موسى المديني قد عاب غير واحد من أهل العلم ابن طاهر بإيراد هذا الحديث في كتابه وكتب شيخ الإسلام أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر المقدسي وقد سئل عن هذا الحديث ما ملخصه إن الواقف عليه يظهر له أنه موضوع، وكتب شيخ الإسلام النووي وقد سئل عنه باطل لا تحل روايته ولا نسبته إلى النبي ويعزر من رواه عالما تعزيرا بليغا ولا يغتر بكونه في ((عوارف المعارف)) وغيره مع أن صاحب العوارف قال يتخالج سري أنه غير صحيح ويأبى القلب قبوله (قلت) وقال الحافظ الذهبي رواته ثقات غير عمار بن إسحاق فكأنه واضعه، وقال الفتني في تذكرته (1/ 197) قال ابن تيميةكذب باتفاق أهل العلم بالحديث وما روي فيه موضوع، وقال الألباني موضوع كما في الضعيفة (558) (2) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 598). (3) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 567، 568). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 108 وبالجملة فهذه (مسألة السماع) تكلم كثير من المتأخرين في السماع هل هو محظور أو مكروه أو مباح، وليس المقصود بذلك مجرد رفع الحرج بل مقصودهم بذلك أن يتخذ طريقا إلى الله يجتمع عليه أهل الديانات لصلاح القلوب والتشويق إلى المحبوب والتخويف من المرهوب والتحزن على فوات المطلوب، فتستنزل به الرحمة وتستجلب به النعمة وتحرك به مواجيد أهل الإيمان وتستجلي به مشاهد أهل العرفان حتى يقول بعضهم، إنه أفضل لبعض الناس أو للخاصة من سماع القرآن من عدة وجوه، حتى يجعلونه قويا للقلوب، وغذاء للأرواح، وحاديا للنفوس، يحدوها إلى السير إلى الله ويحثها على الإقبال عليه. ولهذا يوجد من اعتاده واغتذى به لا يحن إلى القرآن، ولا يفرح به، ولا يجد في سماع الآيات كما يجد في سماع الأبيات، بل إذا سمعوا القرآن سمعوه بقلوب لاهية وألسن لاغية، وإذ سمعوا سماء المكاء والتصدية خضعت الأصوات، وسكنت الحركات وأصغت القلوب وتعاطت المطلوب. وقال رحمه الله: ومن كانت له خبرة بحقائق الدين وأحوال القلوب ومعارفها وأذواقها ومواجيدها عرف أن سماع، المكاء والتصدية لا يجلب للقلوب منفعة ولا مصلحة إلا وفي ضمن ذلك من الضرر والمفسدة ما هو أعظم منه، فهو للروح كالخمر للجسد، يفعل في النفوس فعل حميا الكؤوس، ولهذا يورث أصحابه سكرا أعظم من سكر الخمر فيجدون فيه لذة بلا تمييز، كما يجد الشارب بل يحصل لهم أكثر وأكبر مما يحصل لشارب الخمر، يصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة أعظم مما يصدهم الخمر، ويوقع بينهم العداوة والبغضاء أعظم من الخمر، حتى يقتل بعضهم بعضا من غير مس يد بل بما يقترن بهم من الشياطين، فإنهم يحصل لهم أحوال شيطانية بحيث تتنزل عليهم الشياطين في تلك الحال (1). وقال ابن الجوزي ما ملخصه:- هذه الطائفة إذا سمعت الغناء تواجدت وصفقت وصاحت ومزقت الثياب، وقد لبس عليهم إبليس في ذلك وبالغ واحتجوا بما روي عن سلمان: لما نزلت وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:43] صاح سلمان الفارسي صيحة ووقع على رأسه ثم خرج هاربا ثلاثة أيام. والجواب أن ما ذكروه عن سلمان فمحال وكذب، ثم ليس له إسناد والآية نزلت بمكة وسلمان إنما أسلم بالمدينة، ولم ينقل عن أحد من الصحابة مثل هذا أصلا. قال واعلم وفقك الله أن قلوب الصحابة كانت أصغى القلوب، وما كانوا يزيدون عند الوجد على البكاء والخشوع، قال: وهذا حديث العرباض بن سارية ((وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منا القلوب)) (2) قال أبو بكر الآجرى: ولم يقل صرخنا ولا ضربنا صدورنا كما يفعل كثير من الجهال الذين يتلاعب بهم الشيطان. قال: والتصفيق منكر يطرب ويخرج عن حد الاعتدال ويتنزه عن مثله العقلاء ويتشبه فاعله بالمشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت من التصدية، وهي التي ذمهم الله عز وجل بها فقال وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً [الأنفال: 35] فالمكاء الصفير والتصدية التصفيق. قال: فإذا قوى طربهم رقصوا، وقد احتج بعضهم بقوله تعالى لأيوب ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص: 42] قال: وهذا الاحتجاج بارد لأنه لو كان أمر بضرب الرجل فرحا كان لهم فيه شبهة، وإنما أمر بضرب الرجل لينبع الماء. فال ابن عقيل: أين الدلالة في مبتلى أمر عند كشف البلاء بأن يضرب برجله الأرض لينبع الماء إعجازا من الرقص.   (1) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 573/ 574). (2) رواه أبو داود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجه (43) قال الترمذي صحيح وكذلك صححه الألباني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 109 قال أبو الوفاء بن عقيل: وقد نص القرآن على النهي عن الرقص فقال عز وجل وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا [الإسراء: 37] وذم المختال فقال وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان: 18]. قال ابن الجوزي: فإذا تمكن الطرب من الصوفية في حال رقصهم جذب أحدهم بعض الجلوس ليقوم معه، ولا يجوز على مذهبهم للمجذوب أن يقعد، فإذا قام قام الباقون تبعا له، فإذا كشف أحدهم رأسه كشف الباقون رؤوسهم موافقة له، ولا يخفي على عاقل أن كشف الرأس مستقبح، وفيه إسقاط مروءة وترك أدب، وإنما يقع في المناسك تعبدا لله وذلا له. 2 - الصوفية يدعون تزكية أنفسهم بالاسم المفرد مظهرا أو مضمرا قال شيخ الإسلام:- الشرع لا يستحب من الذكر إلا ما كان كلاما تاما مفيدا مثل (لا اله إلا الله)، ومثل (الله أكبر)، ومثل (سبحان الله)، ومثل (لا حول ولا قوة إلا بالله). فأما الاسم المفرد مظهرا مثل (الله) (الله) أو مضمرا مثل (هو) (هو) فهذا ليس بمشروع في كتاب ولا سنة، ولا هو مأثور أيضا عن أحد من سلف الأمة، ولا عن أعيان الأمة المقتدى بهم، وإنما لهج به قوم من ضلال المتأخرين. وربما غلا بعضهم حتى يجعلوا الاسم المفرد للخاصة، وذكر الكلمة التامة للعامة، وربما قال بعضهم (لا إله إلا الله للمؤمنين) و (الله) للعارفين وهو للمحققين وربما اقتصر أحدهم في خلوته أو في جماعته على (الله الله الله)، على (هو) أو (يا هو) أو (لا هو إلا هو) وربما ذكر بعض المصفين في الطريق تعظيم ذلك. وأما مايتوهمه طائفة من غالطي المتعبدين في قوله تعالى: قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ [الأنعام:91] ويتوهمون أن المراد قول هذا الاسم فخطأ واضح، ولو تدبروا ما قبل هذا تبين مراد الآية فإنه سبحانه قال: وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام:91] أي قل الله أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، فهذا كلام تام وجملة أسمية مركبة من مبتدأ وخبر. إلى أن قال: وكذلك بالأدلة العقلية الذوقية، فإن الاسم وحده لا يعطى إيمانا ولا كفرا ولا هدى ولا ضلالة ولا علما ولا جهلا، ولو كرر الإنسان اسم الله ألف مرة لم يصر بذلك مؤمنا ولم يستحق ثواب الله ولا جنته، فإن الكفار من جميع الأمم يذكرون الاسم المفرد سواء أقروا به وبوحدانيته أم لا. فإن قيل فالذاكر والسامع للاسم المجرد قد يحصل له وجد محبة وتعظيم لله ونحو ذلك. قلت: نعم ويثاب على ذلك الوجد المشروع والحال الإيماني، لا لأن الاسم مستحب، وإذا سمع ذلك حرك ساكن القلب، وقد يتحرك الساكن بسماع ذكر محرم أو مكروه، حتى قد يسمع المسلم من يشرك بالله أو يسبه فيثور في قلبه حال وجد ومحبة لله بقوة نفرته وبغضه لما سمعه. والعبد أيضا قد يدعوه داع إلى الكفر أو المعصية فيستعصم ويمتنع ويورثه ذلك إيمانا وتقوى، وليس السبب مأمورا به، وقد قال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: 173] ففرق بين أن يكون نفس السبب موجبا للخير ومقتضيا، وبين أن لا يكون، وإنما نشأ الخير من المحل. فثبت بما ذكرناه أن ذكر الاسم المجرد ليس مستحبا، فضلا عن أن يكون هو ذكر الخاصة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 110 وأبعد من ذلك ذكر (الاسم المضمر) وهو (هو) فإن هذا بنفسه لا يدل على معين، وإنما هو بحسب ما يفسره من مذكور أو معلوم، فيبقى معناه بحسب قصد المتكلم ونيته، ولهذا قد يذكر به من يعتقد أن الحق الوجود المطلق، وقد يقول: لا هو إلا هو، ويسري قلبه في وحدة الوجود، ومذهب فرعون والإسماعيلية وزنادقة هؤلاء المتصوفة المتأخرين، بحيث يكون قوله (هو) كقوله (وجوده) وقد يعني بقوله (لا هو إلا هو) أي أنه هو الوجود وأنه ما ثم خلق أصلا، وأن الرب والعبد والحق والخلق شيء واحد كما بينته من مذهب الاتحادية، ومن أسباب هذه الاعتقادات والأحوال الفاسدة الخروج عن الشريعة والمنهاج الذي بعث به الرسول إلينا صلى الله عليه وسلم، فإن البدع هي مبادئ الكفر ومظان الكفر، كما أن السنن المشروعة هي مظاهر الإيمان ومقوية للإيمان، فإنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. 3 - الصوفية يدعون تزكية أنفسهم- بتحريم ما أحل الله من المطاعم والمشارب ولبس الصوف وتكلف ما لم يشرعه الله عز وجل من العبادات: قال ابن الجوزي رحمه الله:.- وقد بالغ إبليس في تلبيسه على قدماء الصوفية فأمرهم بتقليل المطعم وخشونته، ومنعهم شرب الماء البارد، وكان في القوم من يبقى الأيام لا يأكل إلا أن تضعف قوته، ومنهم من في بتناول كل يوم الشيء اليسير الذي لا يقيم البدن، وقد كان منهم قوم لا يأكلون اللحم حتى قال بعضهم: أكل درهم من اللحم يقسي القلب أربعين صباحا. إلى أن قال رحمه الله: وقد صنف لهم أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي كتابا سماه (رياضة النفوس) قال فيه: فينبغي للمبتدي في هذا الأمر أن يصوم شهرين متتابعين توبة من الله، ثم يفطر فيطعم اليسير، ويأكل كسرة كسرة، ويقطع الإدام والفواكه واللدة ومجالسة الإخوان، والنظر في الكتب، وهذه كلها أفراح للنفس؛ فيمنع النفس لدتها حتى تمتلئ عما. إلى أن قال: وهذا الذي نبهنا عنه من التقلل الزائد الحد قد انعكس في صوفية زماننا فصارت همتهم في المآكل، كما كانت همة متقدميهم في الجوع (1). أما لبس الصوف فقد كانوا يلبسون الصوف يتقربون بذلك إلى الله عز وجل، ويحتجون بأن النبي صلى الله عليه وسلم لبس الصوف، وأما لبسه إياه فقد لبس النبي صلى الله عليه وسلم كذلك القطن والكتان، وما روى في فضل لبس الصوف فمن الموضوعات التي لا تثبت، بل تعمد لبس الصوف والدون من الملابس فمن البدع التي تخالف ما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم. قال ابن الجوزي: وقد كان السلف يلبسون الثياب المنوسطة لا المرتفعة ولا الدون ويتخيرون أجودها للجمعة والعيدين ولقاء الإخوان ولم يكن غير الأجود عندهم قبيحا. (2) وقال: واعلم أن اللباس الذي يزري بصاحبه يتضمن إظهار الزهد، وإظهار الفقر، وكأنه لسان شكوى من الله عز وجل، ويوجب احتقار اللابس، وكل ذلك مكروه ومنهي عنه. وقال: وقد كان من الصوفية من إذا لبس ثوبا خرق بعضه وربما أفسد الثوب الرفيع القدر. (3)   (1) ((تلبيس إبليس)) (206 - 221) باختصار. (2) ((تلبيس إبليس)) (198). (3) ((تلبيس إبليس)) (200). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 111 4 - الصوفية يدعون تزكية أنفسهم بالرهبانية وترك النكاح قال ابن الجوزي رحمه الله: النكاح مع خوف العنت واجب، ومن غير خوف العنت سنة مؤكدة عند جمهور الفقهاء، ومذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل أفضل من جميع النوافل، لأنه سبب في وجود الولد قال صلى الله عليه وسلم: ((تناكحوا تناسلوا)) (1). وقال صلى الله عليه وسلم ((النكاح من سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني)) (2). قال: وقد لبس إبليس على كثير من الصوفية فمنعهم من النكاح فقدماؤهم تركوا ذلك تشاغلا بالتعبد ورأوا النكاح شاغلا عن طاعة الله عز وجل، وهؤلاء وإن كانت بهم حاجة إلى النكاح أوبهم نوع شوق إليه فقد خاطروا بأبدانهم وأديانهم، وإن لم يكن بهم حاجة إليه فاتتهم الفضيلة، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((وفي بضع أحدكم صدقة قالوا: يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيا أجر قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم قال: كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)) (3). ومنهم من قال: النكاح يوجب الميل إلى الدنيا فعن أبي سليمان الدراني أنه قال: إذا طلب الرجل الحديث، أو سافر في طلب المعاش، أو تزوج فقد ركن إلى الدنيا. قال: فأما جماعة من متأخري الصوفية فإنهم تركوا النكاح ليقال زاهد، والعوام تعظم الصوفي إذا لم تكن له زوجة، فيقولون ما عرف امرأة قط. قال أبو حامد: ينبغي أن لا يشغل المريد نفسه بالتزويج، فإنه يشغله عن السلوك، ويأنس بالزوجة، ومن أنس بغير الله شغل عن الله. قال ابن الجوزي:- وإني لأعجب من كلامه أتراه ما علم أن من قصد عفاف نفسه ووجود ولد أو عفاف زوجته فإنه لم يخرج عن جادة السلوك، أو يرى الأنس الطبيعي بالزوجة ينافي أنس القلوب بطاعة الله تعالى، والله تعالى من على الخلق بقوله خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم: 21] وفى الحديث الصحيح عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ((هلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك)) (4) وما كان بالذي يدله على ما يقطع أنسه بالله تعالى، أترى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان ينبسط إلى نسائه ويسابق عائشة رضي الله عنها أكان خارجا عن الأنس بالله، هذه كلها جهالات بالعلم. إلى أن قال:- وقد حمل الجهل أقواما فجبوا أنفسهم، وزعموا أنهم فعلوا ذلك حياء من الله تعالى، وهذه غاية الحماقة؛ لأن الله تعالى شرف الذكر على الأنثى بهذه الآلة، وخلقها لتكون سببا للتناسل، والذي يحب نفسه يقول بلسان الحال الصواب ضد هذا. (5) وقد أخذ الصوفية هذه الرهبانية من النصارى وصرحوا في كتبهم بإعجابهم برهبانية النصارى. يقول الأستاذ دمشقية ما ملخصه: وهذا الاعتزال الصوفي ليس مصدره إسلاميا وإنما مصدره رهبان النصارى ورياضاتهم عليه حول الصوفية وآثار هذا الإعجاب تبدو ظاهرة جلية في كتاب (الإحياء). فالغزالي يذكر في الإحياء قصة بقلم إبراهيم بن أدم المعرفة والحكمة من راهب نصراني يقول: قال إبراهيم بن أدهم: تعلمت المعرفة من راهب يقال له سمعان.   (1) بهذا اللفظ لم يرد، وورد بلفظ (تناكحوا تكثروا) رواه عبدالرزاق في المصنف مرسلا وقال الألباني في ((ضعيف الجامع)) (6233) ضعيف. (2) رواه ابن ماجه (1846) قال ابن حجر في التلخيص (3/ 253) في إسناده عيسى بن ميمون وهو ضعيف وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه إسناده ضعيف لاتفاقهم على ضعف عيسى بن ميمون المديني لكن له شاهد صحيح وقال الألباني حسن. (3) انظر صحيح مسلم (1006). (4) رواه البخاري (2967) واللفظ له ومسلم (715). (5) باختصار من ((تلبيس إبليس)) (292،296). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 112 وروى عنه الغزالي أيضا قوله: سألت بعض الرهبان: من أين تأكل؟ فقال: ليس هذا العلم عندي ولكن سل ربي من أين يطعمني. ويقول مثنيا على اعتزال رهبان النصارى وسلوكهم في التعبد (اعلم أنه لا وصول إلى الله سبحانه وتعالى إلا بالتنزه عن الشهوات والكف عن اللذات، والاقتصار على الضرورات فيها، والتجرد لله سبحانه في جميع الحركات والسكنات ولأجل هذا انفرد الرهبانيون في الملل السالفة عن الخلق، وانحازوا إلى قلل الجبال، وآثروا التوحش عن الخلق لطلب الأنس بالله عز وجل) (1). فانظر رحمك الله كيف آثر الرهبانية التي ابتدعها اليهود والنصارى على الرهبانية التي شرعها الله عز وجل لهذه الأمة على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فعن أبي سعيد الخدري أن رجلا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أوصني فقال ((أوصيك بتقوى الله فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن، فإن روحك في السماء وذكرك في الأرض)) (2). فانظر يرحمك الله كيف تلاعب بهم الشيطان فأبعدهم عن طريق الرحمن فآثروا ما ذم الله عليه الرهبان وقدموه على ما جاء به سيد ولد عدنان عليه من الله أفضل صلاة وأزكى سلام. المصدر: التزكية بين أهل السنة والصوفية لأحمد فريد - ص 32 - 41   (1) باختصار من ((أبو حامد الغزالي والتصوف)) (397،398). (2) رواه أحمد (3/ 82) (11791) قال الهيثمي في ((المجمع)) رجال أحمد ثقات، وصححه الألباني في الصحيحة (555). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 113 المبحث الرابع: مقارنة بين أهل السنة والصوفية في غاية التزكية فكما تتباين وسائل التزكية وطرقها بين أهل السنة والصوفية، فإن غاية التزكية تختلف كذلك اختلافا كليا بينهما كما يقال: سارت مشرقة وسرت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب وسوف نبين ذلك بشيء من التفصيل إن شاء الله تعالى. غاية التزكية عند أهل السنة غاية التزكية عند أهل السنة تحقيق كمال العبودية لله عز وجل، واستكمال مراتب الحب والذل لله عز وجل، واستسلام ظاهر العبد وباطنه لله عز وجل، واستكمال مراتب الحب والذل لله عز وجل وأن يلقى العبد ربه بقلب سليم فيسعد بمجاورة الله عز وجل في الفردوس الذي سقفه عرش الرحمن. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وإنما دين الحق هو تحقيق العبودية لله بكل الأوجه، وهو تحقيق محبة الله بكل درجة، وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه، وتكمل محبة الرب لعبده، وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا، وكلما كان في القلب حب لغير الله كانت فيه عبودية لغير الله بحسب ذلك، أو كلما كان فيه عبودية لغير الله كان فيه حب لغير الله بحسب ذلك، وكل محبة لا تكون لله فهي باطلة، وكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل. إلى أن قال: فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه من عبوديته لغيره، ومن حلاوة محبته لله ما يمنعه من محبة غيره، إذ ليس عند القلب لا أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا ألين ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله ومحبته له، وإخلاصه الدين له، وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله فيصير القلب منيبا إلى الله خائفا منه راغبا راهبا كما قال تعالى: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ [ق:33]، إذ المحب أن يخاف من زوال مطلوبه وحصول مرغوبه، فلا يكون عبد الله ومحبة إلا بين خوف ورجاء قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57]. وإذا كان العبد مخلصا له اجتباه ربه فيحيى قلبه، واجتذبه إليه فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء، ويخاف من حصول ضد ذلك بخلاف القلب الذي لم يخلص لله. ومما يدل على أن العبودية هي غاية التزكية أن الله عز وجل وصف صفوة الخلق من الملائكة والرسل بالعبودية، ومدحهم بذلك، وذم وتوعد من يستكبر عن عبوديته عز وجل. قال تعالى في وصف الملائكة وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ [الأنبياء: 19] وقال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء: 26 - 27] وقال عن المسيح عليه السلام: إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ [الزخرف: 59] وقال عز وجل:) لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا [النساء: 172] ونعت نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم بالعبودية في أكمل أحواله فقال في الإسراء سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً [الإسراء: 1] وقال في الإيحاء: فَأَوْحَى إلى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم: 10] وقال في الدعوة: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن: 19] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 114 وقال في التحدي: وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ [البقرة: 23] فإذا كانت الرسل والملائكة الذين هم أشرف الخلق أكمل الناس عبودية، فإن العبد بتزكية نفسه غايته بذلك أن يحقق كمال العبودية ويستكمل مستلزماتها. والعبادة هي كمال الحب مع تمام الذل فكل ما زكت نفس العبد ازداد حبا وذلا لله عز وجل وإذا كان الله عز وجل خلق الخلق من أجل أن يعبدوه عز وجل كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] فلا شك أن العبد كلما أدى هذه الوظيفة التي خلق من أجلها كان أزكى نفسا، وأسلم قلبا، وبهذا وغيره يتضح أن غاية التزكية عند أهل السنة تحقيق العبودية التي يستغني العبد بالله عز وجل ويسعد به ويصل إلى محبة الله عز وجل ورضاه. قال ابن القيم رحمه الله: ومنى النفوذ إليه أن يتصل به قلبه، ويعلق به تعلق المحب التام المحبة بمحبوبه، فيسلو به عن جميع المطالب سواه، فلا يبقى في قلبه إلا محبة الله وأمره والتقرب إليه، فإذا سلك العبد على هذا الطريق عطف عليه ربه فقربه إليه واصطفاه، وأخذ بقلبه إليه وتولاه في جميع أموره، في معاشه ودينه، وتولى تربيته أحسن وأبلغ مما يتولى الوالد الشفيق ولده، فإنه سبحانه القيوم المقيم لكل شيء من المخلوقات طائعها وعاصيها، فكيف تكون قيوميته بمن أحبه وتولاه وآثره على ما سواه، ورضي به من دون الناس حبيبا وربا ووكيلا وناصرا ومعينا وهاديا، فلو كشف الغطاء عن ألطافه وصنعه به من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم لذاب قلبه محبة له وشوقا إليه ويقع شكرا له. إلى أن قال رحمه الله: وإن الله سبحانه إذا أقبل على عبد استنارت جهاته، وأشرقت ساحاته، وتنورت ظلماته، وظهرت عليه آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال، وتوجه إليه أهل الملأ الأعلى بالمحبة وبالموالاة؛ لأنهم تبع لمولاهم، فإذا أحب عبدا أحبوه، وإذا والى واليا والوه، إذا أحب الله العبد نادى: يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه، فينادى جبريل في السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يحبه أهل الأرض فيوضع له القبول بينهم، ويجعل إليه قلوب أوليائه تفد إليه بالرد والمحبة والرحمة، وناهيك بمن يتوجه إليه مالك الملك ذو الجلال والإكرام بمحبته، ويقبل عليه بأنواع كرامته، ويلحظه الملأ الأعلى وأهل الأرض بالتبجيل والتكريم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 115 غاية التزكية عند الصوفيةفبينما يزداد أهل السنة بالتزكية عبودية وذلا وتواضعا وحبا لله عز وجل وافتقارا إلى الكتاب والسنة لضبط أقوالهم وأفعالهم إرضاء لربهم عز وجل، فإن الصوفية يزدادون بدعوى التزكية عندهم إلى إدعاء المكاشفة وحصول العلم اللدني الذي يستغنون به عن الكتاب والسنة والفناء في ذات الله عز وجل وتحقيق ما يسمونه بالعبد الرباني كما في الحديث الموضوع ((عبدي أطعني أجعلك عبدا ربانيا تقول للشيء كن فيكون)) (1) وهم مع ذلك يفضلون الأولياء على الرسل والأنبياء كما قال قائلهم: مقام الأنبياء في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي ويقول بعضهم: خضنا بحرا وقف الأنبياء بساحله. وينتهي الأمر عند غلاتهم بالقول بالفناء في ذات الله، واعتقاد الحلول والاتحاد. المكاشفة: قال الغزالي: عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة، وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة، حتى تحصل المعرفة الحقيقية بذات الله سبحانه وبصفاته الباقيات التامات، وبأفعاله، وبحكمته في خلق الدنيا والآخرة، والمعرفة بمعنى النبوة والنبي، ومعنى الوحي وكيفية ظهور الملك للأنبياء، وبكيفية وصول الوحي إليهم، والمعرفة بملكوت السماوات والأرض (2). ثم قال: ونعني بعلم المكاشفة أن يرتفع الغطاء، حتى يتضح له جبلية الحق في هذه الأمور، اتضاحا يجري مجرى العيان الذي لا يشك فيه. وأضاف: وهذا ممكن في جوهر الإنسان، لولا أن مرآة القلب قد تراكم صدؤها وخبثها بقاذورات الدنيا، الحق يتلألأ فيه حقائقه. يقول الأستاذ دمشقية:-فإذا أزيلت هذه القاذورات وتطهر القلب من تراكم هذا الصدأ فأنه يصير ممكنا عند الغزالي الاطلاع على اللوح المحفوظ، ومعرفة مقادير الخلائق حسبما هو مدون فيه، ومعرفة ما سيكون في المستقبل، وكشف ما في ضمائر الناس واعتقاداتهم وما تخفيه صدورهم. (3) 2 - العلم اللدني: لا تلبث هذه العلوم الكشفية عند الصوفية أن تتحول إلى علم خاص لدني مستقل عن العلوم الشرعية. يقول الغزالي: وإذا غلب نور العقل على أوصاف الحس يستغني الطالب بقليل التفكير عن كثرة التعليم؛ فأن نفس القابل تجد من الفوائد بتفكر ساعة مالا تجد نفس الجامد بتعلم سنة. ويقول: العلم الحاصل عن الوحي يسمى علما نبويا، والذي يحصل عن الإلهام يسمى علما لدنيا، والعلم اللدني الذي لا واسطة في حصوله بين النفس وبين الباري. (4)   (1) جاء في ((فتاوى اللجنة الدائمة)) (4/ 473) فتوى رقم (2808): س: سمعت من بعض الناس يقول حديثا قدسيا عبارته: "عبدي أطعني تكن عبدا ربانيا يقول للشيء: كن، فيكون"، هل هذا حديث قدسي صحيح، أم غير صحيح؟ ج: هذا الحديث لم نعثر عليه في شيء من كتب السنة، ومعناه يدل على أنه موضوع، إذ أنه ينزل العبد المخلوق الضعيف منزلة الخالق القوي سبحانه، أو يجعله شريكا له، تعالى الله عن أن يكون له شريك في ملكه، واعتقاده شرك وكفر؛ لأن الله سبحانه هو الذي يقول للشيء: كن، فيكون، كما في قوله عز وجل: *يس: 82*إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (2) ((طريق الهجرتين)) (179، 180) (3) ((الرسالة اللدنية)) (112 - 113) نقلا عن ((أبي حامد الغزالي والتصوف)). (4) ((الرسالة اللدنية)) (116). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 116 ولا شك أن الصوفية يستغنون بهذه العلوم اللدنية عن العلوم الشرعية المنزلة على خير البرية وبذلك يصير تحصيل العلوم الشرعية عيبا مذموما عند الصوفية. روى ابن الجوزي عن أحدهم حيث قال: قال أبو سعيد الكندي: كنت أنزل رباط الصوفية وأطلب الحديث في خفية بحيث لا يعلمون، فسقطت الدواة يوما من كمى، فقال لي بعض الصوفية: استر عورتك (1).روى ابن الجوزي قول البسطامي: مساكين أخذوا علمهم ميتا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت (2). 3 - إسقاط التكليف: قال الأستاذ دمشقية: على أن هناك مظهرا آخر من مظاهر الشطح الصوفي أنكره كثيرون من المتصوفة وتبناه بعض الغلاة منهم، وهو القول بإسقاط التكليف، وذلك أن الواحد منهم يسرحه فيه رب العزة من قيود الشرائع، ويخرجه من حدودها، هذا ما يزعمونه، وهو أكبر الزندقة بل هو ردة عن الإسلام لا ريب (3). وقال شيخ الإسلام رحمه الله:-ولكن كثير منهم لا يطلقون السلب العام ويخرجون عن ربقة العبودية مطلقا، بل يزعمون سقوط بعض الواجبات عنهم، أوحل بعض المحرمات لهم، منهم من يزعم أنه سقطت عنه الصلوات الخمس لوصوله إلى المقصود، وربما قد يزعم سقوطها عنه إذا كان في حال مشاهدة وحضور، وقد يزعمون سقوط الجماعات عنهم استغناء عنها بما هو فيه من التوجه والحضور، ومنهم من يزعم سقوط الحج عنه مع قدرته عليه لأن الكعبة تطوف به، أو لغير هذا من الحالات الشيطانية، ومنهم من يستحل الخمر في رمضان لغير عذر شرعي زعما منه استغناؤه عن الصيام، ومنهم من يستحل الخمر زعما منه أنها تحرم على العامة الذين إذا شربوا تخاصموا وتضاربوا دون الخاصة العقلاء، ويزعمون أنها تحرم على العامة الذين ليس لهم أعمال صالحة، فأما أهل النفوس الزكية والأعمال الصالحة فتباح لهم دون العامة (4). 4 - الفناء ووحدة الوجود: قال ابن القيم رحمه الله: زعم أهل الاتحاد القائلون بوحدة الوجود أن الفناء هو غاية الفناء عن وجود السوي، فلا يثبت للسوي وجود ألبته لا في الشهود ولا في العيان، بل يتحقق بشهوده وحدة الوجود فيعلم حينئذ أن وجود جميع المخلوقات هو عين وجود الحق، فما ثم وجودان بل الموجود واحد. وحقيقة الفناء عندهم أن يفني عما لا حقيقة له، بل هو وهم وخيال، فيفني عما هو فان في نفسه لاوجود له، فيشهد فناء وجود كل ما سواه في وجوده، وهذا تعبير محض، وإلا ففي الحقيقة ليس عند القوم (سوى) ولا (غير) وإنما السوي والغير في الوهم والخيال. وأما أهل الاستقامة فيشيرون بالفناء إلى أمرين: أحدهما أرفع من الآخر. الأمر الأول: الفناء في شهود الربوبية والقيومية فيشهد تفرد الرب تعالى بالقيومية والتدبير. والخلق والرزق والعطاء والمنع والضرر والنفع، وأن جميع الموجودات منفعلة لا فاعلة. الأمر الثاني: الفناء في مشهد الألوهية وحقيقة الفناء عن إرادة ما سوي الله ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه وخوفه ورجاؤه، فيفني بحبه عن حب ما سواه، وبخوفه ورجائه عن خوف ما سواه ورجائه، وحقيقة هذا الفناء إفراد الرب سبحانه بالمحبة والخوف والرجاء والتعظيم والإجلال اهـ (5). قلت: وهذا الكلام في شرح الفناء عند أهل الاستقامة صحيح طيب إلا أن هذا المصطلح لم يثبت بالكتاب والسنة ولا استعمله سلف الأمة وإحداث مثل هذه المصطلحات مما يخالف أصول أهل السنة والجماعة. المعاصي بريد الكفر   (1) ((تلبيس إبليس)) (328 - 329). (2) ((تلبيس إبليس)) (320). (3) ((أبو حامد الغزالي والتصوف)) (196). (4) ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (11/ 403). (5) ((مدارج السالكين)) (3/ 378). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 117 قديما قال علماؤنا: المعاصي بريد الكفر أي رسوله؛ وذلك أن العبد إذا أكثر من معصية الله عز وجل فإنه يدخل بذلك في عبادة الشيطان، فيعده ويمنيه ويضله ويغويه ولا يرضي منه دون الكفر ما استطاع إلى ذلك سبيلا كما قال تعالى إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا لَّعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لاتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا [النساء: 117 - 120] فهذا المنهج المبتدع عند الصوفية في التزكية الذي خالفوا به أهل السنة والجماعة آل بغلاتهم إلى الوقوع في الكفر الذي هو أكبر من كفر اليهود والنصارى، وهذا ما وقع فيه ابن عربي وابن الفارض وابن سبعين والعفيف التلمساني. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وجماع أمر صاحب الفصوص (1) وذويه هدم أصول الإيمان الثلاثة. فإن أصول الإيمان: الإيمان بالله، والإيمان برسله والإيمان باليوم الآخر. فأما الإيمان بالله: فزعموا أن وجوده وجود العالم، ليس للعالم صانع غير العالم. وأما الرسول فزعموا أنهم أعلم بالله منه ومن جميع الرسل، ومنهم من يأخذ العلم بالله- الذي هو التعطيل ووحدة الوجود- من مشكاته وأنهم يساوونه في أحد العلم بالشريعة عن الله، وأما الإيمان باليوم الآخر فقد قال: فلم يبق إلا صادق الوعد وحده ... وبالوعيد الحق عين تعاين وإن دخلوا دار الشقاء فإنها ... على لذة فيها نعيم يباين وهذا يذكر عن بعض أهل الضلال قبله أنه قال: إن النار تصير لأهلها طبيعة نارية يتمتعون بها، وحينئذ فلا خوف ولا محذور ولا عذاب لأنه أمر مستعذب، ثم إن في الأمر والنهي عنده الآمر والناهي والمأمور والمنهي واحد، ولهذا كان أول ما قاله في الفتوحات المكية التي هي أكبر كتبه: الرب حق والعبد حق ... يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك رب ... أو قلت رب أنى يكلف وهذا مبني على أصله، فإن عنده ما ثم عبد ولا وجود إلا وجود الرب فمن المكلف؟ وعلى أصله هو المكلف والمكلف كما يقولون أرسل من نفسه إلى نفسه رسولا. وكما قال ابن الفارض في قصيدته التي نظمها على مذهبهم وسماها نظم السلوك: إلى رسولا كنت مني مرسلا ... وذاتي بآياتي على استدلت ومضمونها هو القول بوحدة الوجود وهو مذهب ابن عربي وابن سبعين وأمثالهم كما قال: لها صلاتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت كلانا مصل عابد ساجد إلى ... حقيقة الجمع في كل سجدة وما كان لي صلى سواي فلم تكن ... صلاتي لغيري في أدا كل ركعة إلى قوله: وما زلت إياها وإياي لم نزل ... ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت ومثل هذا كثير والله أعلم. (2) إلى أن قال شيخ الإسلام رحمه الله: وحدثني الشيخ العارف كمال الدين المراغي شيخ زمانه أنه لما قدم وبلغه كلام هؤلاء في التوحيد قال: قرأت على العفيف التلمساني من كلامهم شيئا فرأيته مخالفا للكتاب والسنة، فلما ذكرت ذلك له قال: القرآن ليس فيه توحيد بل القرآن كله شرك، ومن اتبع القرآن لم يصل إلى التوحيد. قال: فقلت له: ما الفرق عندكم بين الزوجة والأجنبية والأخت الكل واحد؟ قال: لا فرق بين ذلك عندنا، وإنما هؤلاء المحجوبون اعتقدوه حراما، فقلنا: هو حرام عليهم عندهم، وأما عندنا فما ثم حرام (3). المصدر: التزكية بين أهل السنة والصوفية لأحمد فريد - ص41 - 51   (1) المراد ابن عربي النكرة خلافا لابن العربي شارح الترمذي ((عارضة الأحوذي)) وهو من علماء السنة. (2) ((مجموع الفتاوى)) (2/ 241). (3) ((مجموع الفتاوى)) (2/ 244، 245). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 118 تمهيد وقع المتصوفة في بدع علمية وعملية ونعني بالعلمية الأمور النظرية التي اعتنقوها وابتدعوا فيها في العقيدة الإسلامية وأما الأمور العملية فهي الشعائر التي يمارسونها عملياً والتي ابتعدوا فيها أيضاً عن المنهج الإسلامي الصحيح. وبما أن العمل تابع للعلم فقد قدمنا الكلام عن البدع العلمية، فمن انحرف وابتدع في العلم فسوف ينحرف في العمل، وكل هذا بسبب الابتعاد عن منهج أهل السنة والجماعة في الاستدلال والنظر. وتسمية هذا الانحراف بدعة لا يخفف من خطره، فقد تكون البدعة صغيرة وقد تكون كبيرة تصل إلى حد الكفر، فمن يعتقد بوحدة الأديان وأن القطب الغوث يتصرف في الكون فقد كفر وأشرك. وأصل البلاء كله هو عدم متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم والقرون المفضلة ومحاولة الزيادة على ذلك عن سوء نية أو عن حسن نية. ولا يسلم لهم قولهم بالبدعة الحسنة لأن البدعة لا تكون إلا سيئة كما جاءت منكرة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ((وكل بدعة ضلالة)) (1) وهي بهذا الوصف تحتاج إلى تعريف محدد واضح ونختار هنا التعريف الذي جاء في كتاب (الاعتصام) قال: " طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه " (2). فهي طريقة في دين وليس في الدنيا فلو قال المبتدع لماذا لا تقولون أن استعمال الآلات الحديثة بدعة لقلنا: هذه طريقة في الدنيا، وهي طريقة مخترعة يعهد مثلها من قبل وليس لها أصل أما العلوم المخترعة كعلم النحو وأصول الفقه فهذه لها أصل من حفظ الدين وتدخل في باب المصالح المرسلة، الحقيقة كذلك ولم يكن هناك تشابه لما أتى بها المبتدع لأن الضرر المحض تنفر النفوس منه، ولكن شبهة التشابه هي التي أوقعته في مأزق الابتداع. والحقيقة أن البدعة تكاد أن تكون علماً على الصوفية لما اشتهرت به من البدع العملية ومع أن كل الفرق قد ابتدعت في الدين ما لم يأذن به الله. المصدر: الصوفية نشأتها وتطورها لمحمد العبدة، وطارق عبد الحليم   (1) رواه مسلم (867) (2) الشاطبي: ((الاعتصام)) (1/ 27). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 119 المبحث الأول: الشرعيَّة والحقيقة مصطلح يردده المتصوفة كثيراً، ويقرنون بينه وبين مصطلح آخر لهم هو الظاهر والباطن، وسنحاول من خلال هذا المبحث التعرف على معاني هذه المصطلحات وعلاقتها بعضها ببعض. فالشريعة – كما يرونها – هي مجموعة الأحكام العملية التكليفية أي ما يسمى (بالفقه الإسلامي)، والحقيقة هي ما وراء هذه الأحكام من إشارات وأسرار، فالفقهاء يعلمّون الناس أركان الصلاة وسننها والصوفية يهتمون بأعمال القلوب من المحبة والخشية .. هذا رأي المعتدلين منهم أما غلاتهم فقالوا: إن هذه الأحكام لعوام المسلمين نظراً لضيق عقولهم وقلوبهم عن استيعاب المعاني العلوية دون الالتزام برسوم وأشكال معينة فالصلاة خمس مرات بشكل وترتيب معين ... هو أشبه ما يكون بالمعلم الذي يلزم الطالب بواجبات مدرسية لما يعلم عنه من عدم الاستفادة من العلم إن لم يعمل بتلك الواجبات، والمقصود هو العلم فإن كان من الخواص الذين يدركون المقصود الأساسي من الشرائع – وهو ما أطلقوا عليه الحقيقة – فقد حصل المقصود وإن لم يلتزم بها، فالصلاة هي دوام الصلة مع الله فإن استدامت فالحاجة للصلاة تصبح مجرد الوقوف مع الأوامر الشرعية احتراماً لها وإن كانت غير ذي فائدة، بل إنها انحرفت بعد ذلك عند البعض إلى القول بإسقاط التكاليف لمن أدرك الحقيقة. إن بداية الانحراف كانت في هذا الفصل بين الشريعة والحقيقة، وعند أهل السنة الشريعة هي الحقيقة فالصلاة حركات معينة ولكنها تستلزم الخشية والإنابة، وهكذا كل الأحكام الشرعية القيام بها يعني الإتيان بها على تمامها كما أرادها الله سبحانه وتعالى. وقد جرهم ذلك إلى مصطلح آخر وهو الظاهر والباطن. فقد ادعى الصوفية أن للقرآن ظاهراً وباطناً، فالظاهر هو ما يؤخذ من ألفاظه حسب الفهم العربي أو السياق أو غير ذلك من الأصول المرعية في التفسير وهو ما يهتم به علماء الظاهر أو ما يطلقونه عليهم (علماء الرسوم) زراية بهم، أما الباطن فهو العلم الخفي وراء تلك الألفاظ وهو المراد الحقيقي بها وهذا لا يطلع عليه الخواص من أصحاب المقامات السامية ويطلقون عليه (الإشارات)، وهم يغمزون أهل الفقه بأنهم لا يهتمون بأعمال القلوب. ... ويسأل أحدهم عن قيمة الزكاة فيجيب: أما على العوام فربع العشر وأما نحن فيجب علينا بذل الجميع؟!! " وإذا وقع خلاف في مسألة بين علماء الشرع وبقيت غامضة، فالقول فيها ما يقوله علماء الباطن أهل التصوف " (1). وفي تفسير قوله تعالى: وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]. قال الغزالي: " وهذا الفن مما يتفاوت أرباب الظواهر وأرباب البصائر في عمله " (2). والحقيقة أن هذه التفرقة غير صحيحة بل هي باطلة وقبيحة، وأي تجزئة للإسلام فهي من قبيل اتخاذ القرآن عضين، والإسلام كل متكامل كالجسم الواحد، فليس هناك ظاهر وباطن ولكن هناك فهم صحيح كما عقله الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نعم هناك أعمال للجوارح وأعمال للقلوب والإيمان يزيد حتى يصبح كالجبال وينقص حتى يكون كالنبتة الصغيرة الضعيفة، ولكن كل هذا اسمه شريعة أو إسلام أو دين وكل تقسيم يشعر بأن هناك تضاداً أو تغايراً كمن يفرق بين العقل والنقل وكأن النقل مضاد للعقل، أو بين العلم والدين وكأن العلم يخالف الدين، كل هذا لا يكون إلا من ضعف وانحسار أمام أعداء هذا الدين، هذا إن أحسناً الظن بهم.   (1) شكيب أرسلان: ((حاضر العالم الإسلامي)) (2/ 160) والكلام لأحمد الشريف السنوسي. (2) زكي مبارك: ((التصوف)) (2/ 25) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 120 انتقد ابن الجوزي هذا التقسيم فقال: " هذا قبيح لأن الشريعة ما وضعه الحق لصالح الخلق، فما الحقيقة بعدها سوى ما وقع في النفوس من إلقاء الشياطين، وبغضهم الفقهاء أكبر الزندقة " (1). كما أن هذه التفرقة بين الظاهر والباطن أدت بهم في موضع التفسير إلى تأويل الآيات وتحريفها تخريفاً شنيعاً، وهذا التأويل المذموم حاولت كل الفرق الضالة الباطنية أن تجد له نصيراً من كتاب الله يتناسب وأهواءها. ولذلك ضبط علم التفسير عند أهل السنة بـ (أصول التفسير) حتى لا يتحول الأمر إلى فوضى لا نهاية لها، ففي تفسير آية " فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي " قال صاحب (منازل السائرين): " رأى هذه حالة العطش كأن إبراهيم عليه السلام لشدة عطشه إلى لقاء محبوبه لما رأى الكواكب قال: هذا ربي، فإن العطشان إذا رأى السراب ذكر به الماء". ويعقب ابن القيم: " هذا ليس معنى الآية مطلقاً وإنما القوم مولعون بالإشارات " (2)، وآية " فاخلع نعليك " فسرها الشيخ عبد المغني النابلسي - وهو من المتأخرين - " أي صورتك الظاهرة والباطنة يعني جسمك وروحك فلا تنظر إليها لأنها نعلاك " (3)، وفسر بعضهم هذه الآية: يعني اخلع دنياك وآخرتك إلى آخر هذا الهراء ويبدو أن البعض منهم كان يشعر بخطأ هذه التفرقة، فيحذر وينصح، قال سهل ابن عبدالله: " احفظوا السواد على البياض (يعني العلم) فما أحد ترك الظاهر إلا تزندق " (4). ولكن القوم استمروا في إشاراتهم البعيدة عن العلم فقالوا عن آية " وإن يأتوكم أسارى " أي غرقى في الذنوب، " والجار ذي القربى " أي القلب " والجار الجنب " أي النفس حتى أنه يروى عن سهل بن عبد الله نفسه أنه فسر " ولا تقربا هذه الشجرة " بقوله: (لم يرد معنى الأكل في الحقيقة وإنما أراد أن لا تهتم بشيء غيري) قال الشاطبي: وهذا الذي ادعاه في الآية خلاف ما ذكره الناس (5). وقد جمع لهم أبو عبد الرحمن السلمي تفسيراً للقرآن الكريم من كلامهم الذي أكثره هذيان نحو مجلدين، وليته لم يصنفه فإنه تحريف (6) وشيخهم السراج يهاجم الفقهاء لأن علمهم أقرب إلى حظوظ النفس، وأن علومهم قد يحتاج إليها في العمر مرة وعلوم الصوفية يحتاج إليها دائماً (7) بينما نجد أن الصحابة لم يتعمقوا في كلامهم ولم يخوضوا في الأمور المتكلفة ولا بد في فهم الشريعة من إتباع مفهوم العرب الذي نزل القرآن بلسانهم، وتفسير القرآن بالمعاني التي تخطر على قلوب المتصوفة غير صحيح ومثل هذا التفسير لم ينقل عن السلف بل هو أشبه بمذهب الباطنية، وبسبب طموح النفوس إلى التكلف والأشياء المستغربة نشأ التفرق والفرق (8). ولقد صدق الشاعر محمد إقبال حين صوّر الشيخ الصوفي بهذه الأبيات: " متاع الشيخ ليس إلا أساطير قديمة كلامه كله ظن وتخمين حتى الآن إسلامه زناري وحين صار الحرم ديراً أصبح هو من براهمته " (9) المصدر: الصوفية نشأتها وتطورها لمحمد العبدة، وطارق عبد الحليم   (1) ((تلبيس إبليس)) (337). (2) ((مدارج السالكين)) (3/ 61). (3) بدوي: ((شطحات الصوفية)) (195). (4) ((تلبيس إبليس)) (325). (5) القاسمي: ((محاسن التأويل)) (1/ 73). (6) محمد حسين الذهبي: ((التفسير والمفسرون)) (2/ 386) نقلاً عن الإمام الذهبي. (7) ((اللمع)) (ص36). (8) انظر تعليق الشيخ الخضر حسين على كتاب ((الموافقات)) للشاطبي (2/ 52) (9) ((ديوان أرمغان حجاز)) (ص 130) تحقيق د. سمير عبد الحميد. ويعني (إسلام زناري) تأثرهم بالنصارى الرهبان الذين يلبسون الزنار على وسطهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 121 المبحث الثاني: الحقيقة المحمَدية شعبة من شعب الغلو الذي وقعت فيه الصوفية بل من شعب الكفر، وهو مزيج من الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم والتأثر بالفلسفة اليونانية في تقريرها لأول مخلوق، والتأثر بالنصرانية التي أضفت صفات الربوبية على المسيح عليه السلام. والمشكلة أن هذه التي يسمونها (الحقيقة المحمدية) هي غموض كامل وعماء في عماء، ولأنها نشأت في الأصل من خيال مريض وأوهام ليس لها أي رصيد في الواقع، ولذلك نلاحظ أن أقوالهم في تعريفها أو الكلام عنها غامضة أيضاً، فالرسول صلى الله عليه وسلم أول موجود وأول مخلوق وهو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره (1)، وهو الذي منه انشقت الأسرار ولا شيء إلا وهو به منوط (2)، وهو عين الإيمان والسبب في وجود كل إنسان (3). وكأن الصوفية لم يستسيغوا أن يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو كما وصفه القرآن الكريم بشراً رسولاً وقد جعلوا أقطابهم تتصف بما وصف الله سبحانه وتعالى نفسه، فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدعوا ما أسموه (الحقيقة المحمدية) وعلى أساس هذه النظرية ندرك مغزى ما يقول البوصيري: وكل آي أتى الرسل الكرامُ بها فإنما اتصلت من نوره بهم وقوله: وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من لولاه لم تخرج الدنيا من العدم وقول ابن نباته المصري: لولاه ما كان أرض ولا أفق ولا زمان ولا خلق ولا جبل وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخشى على أمته من الغلو فقال صلى الله عليه وسلم محذراً: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله)) (4). ولكن الذي فعله هؤلاء هو أكبر من الغلو، إنه الشرك والضلال، وإلا كيف تفسر قول الشيخ الدباغ " إن مجمع نوره لو وضع على العرش لذاب " (5) وقول أبي العباس المرسي: " جميع الأنبياء خلقوا من الرحمة ونبينا هو عين الرحمة " قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] (6). فانظر إلى هذا الاستنتاج العجيب. إنها المضاهات بعينها، فإذا كان المسيح ابن الله عند النصارى فلماذا لا يخترع الصوفية (الحقيقة المحمدية)، وهذا ناتج نظريتهم في وحدة الوجود (7). ومن المؤسف أن المستشرق (نيكلسون) يتكلم في كتابه كلاماً صحيحاً عن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بينما غلاة الصوفية تاهوا في معمياتهم وسراديبهم، يقول: " إذا بحثنا في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم في ضوء ما ورد في القرآن، وجدنا الفرق شاسعاً بينهما وبين الصورة التي صور بها الصوفية أوليائهم، ذلك أن الولي الصوفي أو الإمام المعصوم عند الشيعة، قد وُصفا بجميع الصفات الإلهية، بينما وصف الرسول في القرآن الكريم بأنه بشر (8) ". المصدر: الصوفية نشأتها وتطورها لمحمد العبدة، وطارق عبد الحليم   (1) ((ظهر الإسلام)) (4/ 220) ومعنى القطب الذي تدور عليه الأفلاك أنه المتحكم في حركتها وسكناتها، وهو الذي يدير مادق وجل من أمورها وهذه هي حقيقة الألوهية وهي عن نظرية العقل الفعال المستمدة من الفلسفة اليونانية. (2) ((هذه هي الصوفية)) (ص 87) والكلام لابن مشيش. (3) زكي مبارك: ((التصوف)) (1/ 233). (4) رواه البخاري (3445) وأحمد (1/ 23) (154) واللفظ له (5) ((هذه هي الصوفية)) (ص 87). (6) ((لطائف المنن)) (ص12). (7) انظر: ((التصوف)) لزكي مبارك. (8) ((هذه هي الصوفية)) (85) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 122 المبحث الثالث: وحدة الأديان خرافة كبيرة من خرافات الصوفية، وشطحة من شطحاتهم الكثيرة، وهي لا تخرج إلا من خيال مريض يظن أنه يتسامح إنسانياً، ولكنها في نفس الوقت فكرة خطيرة لأنها تصادم سنن الله في الكون والحياة ومنها سنة الصراع بين الحق والباطل، بين الخير والشر، والجمع بين الكل على قد المساواة هو خبث مركز لهدم الإسلام أو هذيان مقلد لا يدري ما يقول، وإلا فكيف نسوي بين من يعبد الله سبحانه وتعالى وحده وبين من يعبد البقر، أو حرف كتب الله وعبد أنبيائه، كيف نجمع بين الإيمان والكفر هذا لا يكون إلا ممن يؤمن بوحدة الوجود كابن عربي وتلامذته الذين يعتقدون أن كل موجود على الأرض صحيح ولا داعي للتفرقة، والله أوسع من أن يحصره عقيدة معينة فالكل مصيب " وأما عذاب أهل النار فهو مشتق من العذوبة " (1)؟!!. ويترجم ابن عربي هذه العقيدة شعراً فيقول: لقد صار قلبي قابلاً كل صورة ... فمرعى لغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعبة طائف ... وألواح توراة ومصحف قرآن أدين بدين الحب أنّى توجهت ... ركائبه فالحب ديني وإيماني وينسج على منواله صديقة ابن الفارض فيقول: وما عقد الزنار حكماً سوى يدي ... وإن حل بالإقرار فهي حلت وإن خرّ للأحجار في البد عاكف ... فلا وجه للإنكار بالعصبية وإذا كان بعض المعتدلين يحذرون من كتب ابن عربي، مع أنهم لا يعتقدون بكفره ويبررون أقواله ويأولونها فإننا لم نسمع منهم أحداً يحذر من شعر جلال الدين الرومي مع أن المعجبين به كثر وخاصة بين مسلمي الهند وتركيا، وهذه إحدى قصائده يتشبه فيها بأستاذه ابن عربي: انظر إلى العمامة أحكمها فوق رأسي ... بل انظر إلى زنار زاردشت حول خصري ... فلا تنأ عني لا تنأ عني ... مسلم أنا ولكني نصراني وبرهمي وزرادشتي ... توكلت عليك أيها الحق الأعلى ... ليس لي سوى معبد واحد ... مسجداً أو كنيسة أو بيت أصنام ... ووجهك الكريم فيه غاية نعمني ... فلا تنأ عني، لا تنأ عني (2). فصلوات اليهود، وعقد زنار النصارى، وبد الوثنية في الهند ومساجد الله كلها عند هؤلاء ساح فساح يعبد فيها الله (3). ونحن وإن كنا لا نتهم كل الصوفية بهذه البدعة لأن القول بها ضلال وكفر وانحراف ولا يقول به إلا غلاتهم، إلا أن أجواء الصوفية ربما تساعد على نشوء مثل هذه الأفكار أو قريباً منها، فالاستغراق في توحيد الربوبية وأن الله رب كل شيء ومليكه، وفي القضاء والقدر الكوني الذي يسري على المؤمن والكافر، دون الإلتفات إلى جانب الأمر والنهي الشرعيين والمخاطب بهما المؤمنين والذي هو جانب توحيد الألوهية، والاستغراق في كلمات ذوقية مثل الحب الإلهي والعشق الإلهي، كل هذا أدى إلى قول أبي يزيد البسطامي عندما اجتاز بمقبرة اليهود: " معذورون" ومر بمقبرة المسلمين فقال " مغرورون " ثم يخاطب الله سبحانه وتعالى: " ما هؤلاء حتى تعذبهم حطام جرت عليهم القضايا، اعف عنهم " (4) وكأنه يريد أن يثبت رحمته للجنس البشري كله، وكأنه أرحم من الله سبحانه بعباده، ومن هذا القبيل ما روى الأمير شكيب أرسلان عن أحمد الشريف السنوسي (5) أن عمه الأستاذ المهدي كان يقول له: " لا تحتقرن أحداًً لا مسلماً ولا نصرانياً ولا يهودياً ولا كافراً لعله يكون في نفسه عند الله أفضل منك إذ أنت لا تدري تكون خاتمتك " (6). وهذا الكلام غير صحيح من الشيخ السنوسي لأننا عندما نحتقر الكافر نحتقره لكفره وعندما يسلم نحترمه لإسلامه ونحن لنا الظاهر، ولكن أثر التصوف واضح فيه وإن كنت لا أعتقد أنه ممن يقول بوحدة الأديان. إن هذه العقيدة شبيهة بأفكار الماسونية التي تدعو إلى وحدة الإنسانية وترك الاختلاف بسبب الأديان فليترك كل واحد دينه وعقيدته وإنما تجمعنا الإنسانية، دعوة خبيثة ملمسها ناعم ولكنها تحمل السم الزعاف في أحشائها. المصدر: الصوفية نشأتها وتطورها لمحمد العبدة، وطارق عبد الحليم   (1) ((هذه هي الصوفية)) (95). (2) ((مجلة العروة الوثقى)) عدد 61 لعام 1403 هـ برئاسة تحرير عبد الحكيم الطيبي. (3) ((هذه هي الصوفية)). (4) يدوي: ((تاريخ التصوف)) (28). (5) من زعماء الحركة السنوسية التي ظهرت في ليبيا في العصر الحاضر ولهم مواقف ضد الإستعار الإيطالي. (6) ((حاضر العالم الإسلامي)) (2/ 164). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 123 المبحث الرابع: الأولياء والكرامات من أكثر الأشياء التي يدندن حولها الصوفية قديماً وحديثاً موضوع الأولياء والكرامات التي تحصل لهم، وقبل إن نتكلم عن مدى مطابقة ما يذهبون إليه للكتاب والسنة، قبل هذا لا بد تعريف الولي وكيف تطورت هذه اللفظة لتصبح مصطلحاً خاصاً علماً على فئة معينة ثم نتكلم عن الكرامات وما هو مقبول منها وما هو مردود. جاء في كتاب (قَطْر الولي على حديث الولي (1): الولي في اللغة: القريب والولاية ضد العداوة، وأصل الولاية المحبة والتقريب، والمراد بأولياء الله خلص المؤمنين، وقد فسر سبحانه هؤلاء الأولياء قوله: الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس:63] أي يؤمنون بما يجب الإيمان به ويتقون ما يجب عليهم اتقاؤه من المعاصي، قال ابن تيمية: الولي سمي ولياً من موالاته للطاعات أي متابعته لها، وهذا المعنى الذي يدور بين الحب والقرب والنصرة هو الذي أراده القرآن الكريم من كلمة ولي مشتقاتها في كل موضع أتى بها فيه، سواء في جانب أولياء الله أو في جانب أعداء الله. ومن ثم فليس لنا أن نخرج هذا المصطلح عن المعنى الذي حدده القرآن بلسان عربي مبين. يقول ابن حجر العسقلاني: " المراد بولي الله: العالم بالله تعالى، المواظب على طاعته. "، هكذا كان استعمالها وظلت النظرة إليها بهذا المعنى إلى أن دخلت أوساط الشيعة ثم في دائرة الصوفية فأطلقوها على أئمتهم ومشايخهم مراعين فيه اعتبارات أخرى، غير هذه الاعتبارات الإسلامية فأصبحت محصورة في طائفة خاصة بعد أن كانت صفة محتملة لي إنسان يقوم بنصرة دين الله من عباده المسلمين، وأول من صرف هذا المعنى إلى معنى خاص هم الشيعة فأطلقوها على أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه على اعتبار أنه هو وذريته (بشراً نورانين من طينة مكنونة تحت العرش) ثم أضاف لها الشيعة والصوفية (العلم اللدني لأن الشيعة يعتقدون أن علي ابن أبي طالب أخذ علماً خاصاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم. والقشيري من الصوفية يرى: " بأن من أجل الكرامات التي تكون للأولياء العصمة من المعاصي والمخالفات " وهذه قلدوا فيها الشيعة الذين يعتقدون العصمة لأئمتهم، وربما تلطف الصوفية فسموها (الحفظ) كما يقول الكلاباذي " ولطائف الله في عصمة أنبيائه وحفظ أوليائه .... " وأكبر مقامات الولي عند الصوفية هو (الفناء) وهو باب الولاية ومقامها أما عند ابن عربي فهي مراتب ومنها مرتبة الولاية الخاصة وهو الورثة لأنهم أخذوا علمهم عن الله مباشرة!!؟، وهم عن ابن عربي أفضل من الأنبياء نظراً لما هم عليه من ذوق أدركوا به علم الوجود ووقفوا على سر القدر.   (1) هذا الجزء من المبحث عن الولي مختصر من هذا الكتاب للإمام الشوكاني مع مقدمة وتحقيق الدكتور إبراهيم هلال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 124 هذا هو التحديد التعسفي لمفهوم الولاية عند الصوفية، أما شخصية الولي في القرآن الكريم فهي شخصية إيجابية يترسم خطى الدين في كل ما أمر أو نهي، والصحابة ومن تبع أثرهم من العلماء العاملين هم أولى الناس بهذا اللفظ ويصدق عليهم حديث: " من عادى لي ولياً .... " وطريق الوصول إلى الولاية عند الصوفية طريق معكوس لأن الغاية من مجاهداتهم هي معرفة أو الفناء ووالمفروض أن معرفة الله سبحانه هي خطوة أولى للإيمان وهذه المعرفة فطرية كما يحدثنا القرآن، والعمل الصالح هو الذي يوصل إلى أن يحب الله عبدَه، وأما فناؤهم فهو يوصلهم إلى كفر الاتحاد والحلول فطريق الولاية عند أهل السنة سهل ميسر ومن أول هذا الطريق تبدأ المحبة بين الله سبحانه وعبده بينما طريق الصوفية طريق شكلي إلى، لا بد أن يمر المريد بكذا وكذا ثم يصل إلى شطحات يظن فيها أنه شاهد الحق. وأفضل الأولياء عند أهل السنة الأنبياء والرسل بينما عند الصوفية النبي يقصر عن الفلاسفة المتألهين في البحث والحكمة كما يقول السهروردي المقتول على يد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، فالولي عند أهل السنة هو ذاك المسلم الإيجابي الذي يقوم بالطاعات، والولي عند الصوفية هو المستغرق في الفناء (1). بعد هذا البيان والإيضاح لكلمة الولي وكيف تطورت، والمعنى السني لها، لا بد من توضيح المقصود بـ (الكرامات) وما هو رأي أهل السنة فيها وهل التزم الصوفي بهذا الرأي؟ وهل هناك ارتباط بين الولاية والكرامة فنقول: خلق الله سبحانه وتعالى هذا الكون وسيره على سنن محكمة مطردة لا تتعارض ولا تتخلف، وربط المسببات بأسبابها والنتائج بمقدماتها وأودع في الأشياء خواصها، فالنار للإحراق، والماء للإرواء والطعام للجائع، ثم هذا النظام الكوني البديع المتناسق الشمس والقمر والنجوم، وتعاقب الليل والنهار .. كل بنظام محكم، فإذا لم ترتبط الأسباب بنتائجها وخرقت هذه العادة المألوفة بإذن الله لمصلحة دينية أو دعاء رجل صالح، فهذا الخرق إذا كان لنبي فهو معجزة، وإذا كان لأناس صالحين فهو كرامة وهذه الكرامة إن حصلت لولي حقاً فهي الحقيقة تدخل في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وتحصل ببركة إتباعه. وهذه الخوارق إما أن تكون من جهة العلم بأن يسمع النبي ما لا يسمع غيره أو يرى ما لا يراه غيره يقظة ومناماً أو يعلم مالا يعلم غيره حياً وإلهاماً أو فراسة صادقة لعبد صالح، وإما أن تكون من باب القدرة والتأثير مثل دعوة مستجابة أو تكثير الطعام وعدم إحراق النار، وقد حصل للصحابة رضوان الله عليهم كرامات من هذا النوع وكانت إما لحاجة أو حجة في الدين، كما أكرم الله سبحانه أم أيمن عندما هاجرت وليس معها زاد ولا ماء فكادت تموت من العطش وكانت صائمة، فلما كان وقت الفطر سمعت حساً على رأسها فإذا دلو معلق فشربت منه، وكان البراء بن مالك إذا أقسم على الله أبّر قسمه، وكان سعد بن أبي وقاص مستجاب الدعوة، مشى أمير الجيوش الإسلامية في البحرين العلاء بن الحضرمي وجنوده فوق الماء لما أعترضهم البحر ولم يكن معهم سفن تحملهم وأُلقي أبو مسلم الخولاني في النار فلم تحرقه (2).   (1) انتهى ما نقلناه مختصراً وبتصرف عن كتاب (قطر الولي). (2) ابن تيمية: ((الفتاوى)) (11/ 279) وفي هذا الجزء بحث قيم حول المعجزات والكرامات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 125 هذه حوادث صحيحة وقعت للصحابة رضوان الله عليهم، وأكثر منها وقع في عصر ما بعد التابعين. فأهل السنة لا ينكرون الكرامات كما ينكرها المبتدعة، وهم يعلمون أن الله الذي وضع الأسباب ومسبباتها قادر على خرق هذه السنن لعبد من عباده، ولكن الصوفية جعلوا مجرد وقوعها دليلاً على فضل صاحبها حتى ولو وقعت من فاجر قالوا هذه كرامة لشيخ الطريقة ولذلك لا بد من ملاحظات وتحفظات حول هذا الموضوع. أولاً: هذه الخوارق كانت تقع للصحابة دون تكلف منهم أو تطلب لها أو رياضات روحية يستجلبون بها هذه الخوارق، بل تقع إكراماً من الله لهم أو دعاء يرون فيه مصلحة دينية إما لحجة أو لحاجة للمسلمين كما كانت معجزات نبيهم صلى الله عليه وسلم، أما المتأخرون فيطلبونها ويتكلفون لها الرياضات الروحية وربما أفسد جسمه ونفسيته بسبب هذا مع أن " طلب الكرامات ليس عليه دليل، بل الدليل خلاف ذلك فإنما غيب عن الإنسان ولا هو من التكاليف لا يطالب به " (1) وهذا من التأثير بالفلاسفة حيث يقررون رياضات معينة للوصول إلى هذه الخوارق. ثانياً: إن كرامات أولياء الله لا بد أن يكون سببها الإيمان والتقوى والولي لله هو المحافظ على الفرائض والسنن والنوافل، عالماً بأمر الله عاملاً بما يعلم فمن صفت عقيدته وصح عمله كان ولياً لله يستحق إكرام الله له إن شاء، فهذا إذا خرقت له العادة لا تضر ولا يغتر بذلك ولا تصيبه رعونه، وقد لا تحصل لمن هو أفضل منه فليست هي بحد ذاتها دليلاً على الأفضلية، فالصديق رضي الله عنه لم يحتج إليها، وحصلت لغيره من الصحابة، كما أنه ليس كل من خرقت له العادة يكون ولياً لله كما أنه ليس كل من حصل له نِعَمٌ دنيوية تعد كرامة له، بل قد تخرق العادة لمن يكون تاركاً للفرائض مباشراً للفواحش فهذه لا تعدوا أن تكون إما مساعدة من شياطين الجن ليضلوا الناس عن سبيل الله، أو استدراج من الله ومكر به أو رياضة مثل الرياضات التي يمارسها الهنود والبوذيون الكفرة ثم يضربون أنفسهم بآلات حادة ولا تؤثر فيهم أو يتركون الطعام أياماً عديدة إلى غير ذلك ويظن الفسقة أن هذه كرامة لهم. ثالثاً: هناك سؤال مهم في هذا الصدد وهو لماذا كانت هذه الحوادث من خرق العادات قليلة في زمن الصحابة والتابعين ثم كثرت بعدئذ؟ يجيب ابن تيمية: " أنها بحسب حاجة الرجل فإذا احتاج إليها ضعيف الإيمان أو المحتاج أتاه فيها ما يقوي إيمانه ويكون من هو أكمل ولاية منه مستغنياً عن ذلك لعلو درجته (2)، كما أن عدم وجودها لا يضر المسلم ولا ينقص ذلك في مرتبته والصحابة مع علو مرتبتهم جاءتهم هذه الخوارق إكراماً لهم أو لحاجة في الدين، وكثرتها في المتأخرين دليل على ما قاله ابن تيمية أو لتطلبهم إياها بالرياضة الروحية (3).   (1) الشاطبي: ((الموافقات)) (2/ 283). (2) هذا فيما ثبت صحة نقله من الكرامات إلا أننا لا نغفل أنه بعد هذا العصر بدأ أهل الأهواء والبدع في نشر مذاهبهم ولا نرى مانعاً من أن يكون هؤلاء قد استظهروا على صحة مذاهبهم باختلاف كرامات لا أساس لها من الصحة تناقلتها الألسن فكثرت فيها الكرامات فيما تلى ذلك من العصور. (3) ((الفتاوى)): (11/ 323). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 126 رابعاً: إن معجزة هذا الدين الكبرى هو القرآن الكريم الذي أنزله الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وعندما طلب منه صلى الله عليه وسلم معجزات مادية رفض ذلك لأن هذا ليس هو منهج هذا الدين وقد ذكر القرآن الكريم هذا الطلب، قال تعالى: " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً، أو تكون لك جنة من نخيل فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً، أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً [الإسراء:93]. كما أمر صلى الله عليه وسلم أن يبرأ من دعوى الغنى والقدرة وعلم الغيب إلا ما علمه الله سبحانه وتعالى: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ [الأنعام:50]، ولذلك كانت حياته وسيرته تجري كبقية عادات البشر ومألوفاتهم مع ما أعطي من شرف المنزلة (1)، وعندما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لم يطر في الهواء ولم تطو له الأرض وإنما سار كما يسير أي راكب ويقطع المسافة في تسعة أيام، لماذا؟ لأن هذا هو الأصل، الأصل أن يسير الناس على السنن الكونية التي أودعها الله في الخلق، ولكن كثرة الناس يؤذيها أن يكون الكون سائراً على قانون محكم ويسعدها أن يكون هذا القانون بيد المجاذيب والدراويش يتصرفون به (2). وتبقى الحقيقة أن الاستقامة على طريق الهدى، طريق السنة والإتباع، طريق الصحابة ومن تبعهم بإحسان، هذه الاستقامة هي عين الكرامة، فإن حصل بعدئذ خرق العادة إكراماً من الله سبحانه وتعالى لمؤمن صادق فهذه يجب أن يخفيها ولا يذيعها ويشكر الله سبحانه على ما منّ به عليه. المصدر: الصوفية نشأتها وتطورها لمحمد العبدة، وطارق عبد الحليم   (1) الشاطبي: ((الموافقات)) (2/ 248). (2) انظر: زكي نجيب محمود في كتابه: ((ثقافتنا)) (72). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 127 المبحث الخامس: الأقطاب والأوتاد بعد أن حرف كلمة ولي عن معناها الذي أراده القرآن الكريم اخترعوا ما يسمونه بالأقطاب والأوتاد والأبدال. تسميات ما أنزل الله بها من سلطان، يرتبون بها أوليائهم ترتيباً فيه مضاهاة للنصارى الذين يرتبون رجال الدين عندهم بدأ بالشماس وانتهاء بالبابا كما أنه فيه تشبه بالشيعة في ترتيب الأئمة وكذلك ترتيب النصيرية والإسماعيلية في أئمتهم كالسابق والتالي والناطق والأساس (1)، وقد رتبوا أوليائهم حسب أهميتهم على الشكل التالي: القطب. الأوتاد الأربعة. الأبدال وعددهم أربعون وهم بالشام ... ؟! النجباء وهم الذين يحملون عن الخلق أثقالهم. النقباء. وما هي حقيقة القطب عندهم؟ يجيب مؤسس الطريقة التجانية: " إن حقيقة القطبانية هي الخلافة عن الحق مطلقاً، فلا يصل إلى الخلق شيء من الحق (الله) إلا بحكم القطب " (2)، ثم قسموا القطب إلى نوعين: نوع هو من البشر مخلوق موجود على هذه الأرض، يتخلف بدلاً عنه حال موته أقرب الأبدال له (التشبه بالنصارى) وقطب لا يقوم مقامه أحد وهو الروح المصطفوي وهو يسري في الكون سريان الروح في الجسد (3). أما الرفاعي فقد تعدى هذه الأطوار فيقول أحد تلامذته: " نزه شيخك عن القطبية " (4) وعند أبي العباس المرسى مقام القطبية فوقه مقام الصديقية (5) وعند الشاذلي " يكشف له عن حقيقة الذات " (6). وأما الأوتاد فهم أربع رجال منازلهم على منازل الأركان الأربعة من العالم شرق وغرب وشمال وجنوب (7). والأبدال سبعة رجال من سافر من موضع ترك جسداً على صورته حياً بحياته (8). إن المسلم ليمتلكه العجب عندما يقرا أو يسمع ما يقوله هؤلاء من أمثال الجرجاني وغيره الذين يدعون العلم والمعرفة، إن هذه أمور خطيرة تمس جوهر العقيدة الإسلامية، إن الاعتقاد بأن أحداً غير الله سبحانه يتصرف في هذا الكون هو شرك أكبر مع أن الله سبحانه وصف أكابر أوليائه بالصديقين كأبي بكر وسيدة مريم والدة المسيح عليه السلام فيأتي هؤلاء ليحادوا الله ورسوله ويقولوا: القطبية هي مرتبه فوق الصديقية وأما مصادمة كلامهم للعقل من البديهيات الأولية ولأن الخرافة لا يمكن أن يصدق بها عقل. أوتاد وأقطاب يتحكمون في العالم وهؤلاء سبعة وأولئك أربعة من أين جاءوا بهذا التحديد وهذا العدد؟ ومن أين جاءوا بهذا القطب الذي جعلوه نائباً لله؟ كأن الله سبحانه ملك من الملوك يحتاج إلى نواب سبحانك هذا بهتان عظيم وإفك مبين (9)، وهذا الكلام وكلامهم عن الحقيقة المحمدية ووحدة الأديان لا نستطيع أن نصنفه بأنه هلوسة وتخبطات مصروع لا غير، لأننا نكون عندئذ غافلين عن حقيقة هذه المذاهب، وإنما هي غنوصية (10) لهدم الإسلام. المصدر: الصوفية نشأتها وتطورها لمحمد العبدة، وطارق عبد الحليم   (1) انظر ((الفتاوى)) لابن تيمية (11/ 439). (2) ((هذه هي الصوفية)) (125). (3) ((هذه هي الصوفية)) (125) وانظر هامش كتاب ((تنبيه الغبي)) (32). (4) ((طبقات الشعراني)) (1/ 144). (5) ((لطائف المنن)) (109). (6) ((لطائف المنن)) (12). (7) ((التعريفات)) الجرحاني: (39). (8) ((التعريفات)) الجرحاني (23). (9) جاء في ((الفتاوى البزازية)):" من قال أن أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر " انظر كتاب ((غاية الأماني)) لشكري الآلوسي (3/ 66) وما نقله عن الشيخ صنع الله الحنفي في موضوع الأولياء والأقطاب والأوتاد (2/ 66) من نفس الكتاب أيضاً. (10) الغنوصية: فرقة دينية فلسفية متعددة الصور مبدؤها أن المعرفة الحقة هو الكشف عن طريق الحدس الحاصل عن اتحاد العارف بالمعروف وليس عن طريق العلم والإستدلال، فهي نوع من التصوف يزعم أنه المثل الأعلى للمعرفة، ويعتقد أنه ليس هناك حواجز أو فروق بين الأديان، ومن هنا كان خطرها، وهي مأخوذة من اللفظ اليوناني (غنوسيس) يعني (معرفة) وقد نشأت في القرن الأول الميلادي بتأثير اختلاط الثقافة اليوناينة بثقافة الشرق ومن زعمائها (أفلوطين) فيلسوف القرن الثالث الميلادي، انظر إبراهيم هلال في مقدمة ((الولاية والطريق إليها)) (77). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 128 المبحث السادس: الشطح واللامعقول يروى عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: " لو أن رجلاً تصوف أول النهار لا يأتي الظهر حتى يصير أحمق " (1)، وسواء صحت هذه الرواية عن الشافعي أم لم تصح فإن الاتجاه العام لدى الصوفية هو الابتعاد عن العقل والعقلانية، وذلك لأنهم يرون أنه لا يمكن الوصول إلى الأحوال والمقامات العالية إلا بإلغاء العقل، ولذلك يذكرون حوادث لمشايخهم ويقررون أموراً يأباها العقل بل يكذبها، ومع أن العقل شرط في معرفة العلوم وهو بمنزلة البصر في العين فإذا اتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين إذا اتصل بنور الشمس وإن إبعاد العقل وعزله تماماً هو رجوع إلى الأحوال الحيوانية (2) ومن العلوم أن مناط التكليف في الإسلام هو العقل ولكن الصوفية كل شيء عندهم ممكن، وكل شيء يصدق مهما كانت غرابته، لأنه لا شيء يؤود على مشايخهم، وإذا رددت فأنت محجوب لا تفهم في مثل هذه الأمور، ولذلك أصبحت قصصهم أضحوكة لأهل الأديان المنسوخة كما يقول الآلوسي (3). ولأن الناس عجزوا بعد سقوط بغداد عن ربط الأسباب بالمسببات فربما كان التصوف هو الوحيد الذي نجا من تلك الكارثة فهرع الناس إلى المتصوفة يمنحونهم البركة فامتلأت البلاد بأرباب الطرق (4). وحتى لا يظن أننا نظلم ونتهم فهذه صور من اللا معقول عند الصوفية منتزعة من كتاب (الطبقات الكبرى) للشعراني. هو يترجم لهؤلاء ولا يعلق بشيء لاعتقاده بصحتها، بل ينقل قصص المجاذيب ويترضى عنهم، وقد يقال بأنها مكذوبة عليهم ولكن الشعراني نقلها ولم ينكرها والذين يقرأون للشعراني من عصره وحتى هذا الوقت لا يقولون: نحن ننكر مثل هذه الأمور ويجب أن تحذف من كتبنا، فالمشكلة في هؤلاء الذين يبررونها ويصدقونها فعلاً وهذه النماذج مأخوذة من عصور مختلفة إلى عصر المؤلف في القرن العاشر الهجري. ذكر في ترجمة الشيخ أحمد الرفاعي أنه: " إذا تجلى الحق تعالى عليه بالتعظيم يذوب حتى يكون بقعة ماء، ثم يتداركه اللطف فيصير يجمد شيئا فشيئاً حتى يعود إلى جسمه المعتاد ويقول: لولا لطف الله ربي ما رجعت إليكم " (5). الشيخ أبو عمرو بن مرزوق القرشي: " كان الرجل العربي إذا اشتهي أن يتكلم بالأعجمية أو العجمي يريد أن يتكلم العربية يتفل الشيخ في فمه فيصير يعرف تلك اللغة كأنها لغته الأصلية " (6). مساكين الطلبة الذين يدرسون اللغات الأجنبية في هذا العصر فلو أن الشيخ يعيش معهم لاستراحوا وأراحوا ... قال تقي الدين السبكي: " حضرت سماعاً فيه الشيخ رسلان فكان يثب في الهواء ويدور دورات ثم ينزل إلى الأرض يسيراً يسيراً، فلما استقر سند ظهره إلى شجرة تين قد يبست فأورقت واخضرت وأينعت وحملت التين في تلك السنة " (7) والعجب هنا ليس من الشيخ رسلان ولكن من عالم مثل السبكي كيف يقبل بأن يذكر الله بالرقص في الهواء وكيف يقبل مثل هذا الهراء، هذا إذا صحت رواية الشعراني عن السبكي. أبو العباس أحمد الملثم: يقول الشعراني عنه: " وكان الناس مختلفين في عمره، فمنهم من يقول: هذا من قوم يونس، ومنهم من يقول: إنه رأى الإمام الشافعي، فسئل عن ذلك، فقال عمري الآن نحو أربعمائة سنة وكان أهل مصر لا يمنعون حريمهم منه في الرؤية والخلوة (8).   (1) ((تلبيس إبليس)) (370) (2) انظر ما كتبه ابن تيمية في ((الفتاوى)) (3/ 338) كما أنه كتب عشر مجلدات في بيان أنه لا تعارض بين الشريعة المنقولة والحقيقة المعقولة. (3) ((محاكمة الأحمدين)) (490). (4) انظر أحمد أمين: ((ظهر الإسلام) 4/ 219). (5) ((الطبقات)) (1/ 143). (6) ((الطبقات)) (1/ 154). (7) ((الطبقات)) (1/ 152). (8) ((الطبقات)) (1/ 157). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 129 الشيخ إبراهيم الجعبري: كان له مريدة تسمع وعظه وهو بمصر وهي بأرض السودان من أقصى الصعيد (1). حسين أبو علي: " من كمّل العارفين، كان كثير التطورات، تدخل عليه فتجده جندياً، ثم تدخل عليه فتجده سبعاً، ثم تدخل فتجده فيلاً (يا ألطاف الله) " (2). تخيل هذا الذي من كمّل العارفين يتحول إلى سبع وإلى فيل .... ؟! إبراهيم بن عصيفير: " كان يغلب عليه الحال وكان يمشي أمام الجنازة ويقول زلابيه وهريسة وأحواله غريبة، وكان يحبني وأنا في بركته وتحت نظره " (3). قد يكون هذا مجنون لا تكليف عليه، أما أن يقول الشعراني: سيدي إبراهيم، وكنت في بركته وتحت نظره، فهذا مما لا ينقضي من العجب، وما رأي صوفية اليوم هل ينكرون على الشعراني هذا الكلام؟ لا أعتقد، بل يبدوا أن هؤلاء وأمثالهم هم أقرب إلى الظن بأن الحقيقة إنما ينطق بها البلهاء قبل أن ينطق بها العلماء. ومن أثر الصوفية وكتب الشعراني وغيره أن أساتذة في جامعات مصر، أساتذة في الطب والفيزياء والكيمياء وتكون عقولهم سليمة عند البحث العلمي وتمسخ عند الحديث عن الولي الفلاني كيف طار في الهواء أو غاص في الماء (4)، لا شك أنها ازدواجية تحتاج إلى تحليل نفسي لمعرفة أسبابها ودوافعها، وقد رأينا طلاب جامعات في بلاد الشام كيف يتبعون دجالاً مخرفاً، ظاهر الكذب والاحتيال، إن هؤلاء المشايخ يقومون بعملية غسل دماغ للمريد بطريقة شيطانية خبيثة تجعل طلاب الجامعات بل وأساتذتهم يسيرون وراء الشيخ كالقطيع، وتبقى أجواء الصوفية غير العقلانية هي العامل الأهم. إن قمة إلغاء العقل عند الصوفية هو ما يسمونه (بالشطح) وهي أن يتكلم أحد مشاهيرهم بكلمات غير معقولة أو تتضمن كفراً وزندقة في الظاهر ويقولون: إنه قالها في حالة جذب وسكر أما في حالة الصحو فيتراجع عنها وقيل في تعريف (الشطح):" كلمة عليها رائحة الرعونة والدعوى تصدر عن أهل المعرفة باضطرار وإضراب " (5). وهذه نماذج من شطحاتهم: قال أبو يزيد البسطامي " إن جهنم إذا رأتني تخمد فأكون رحمة للخلق، وما النار والله لئن رأيتها لأطفأنها بطرف مرقعتي " (6). والدسوقي يعلن أن أبواب الجنة بيديه ومن زاره أسكنه جنة الفردوس (7) وأبو الحسن الشاذلي يعوم في عشرة أبحر: خمسة من الآدميين: محمد وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وخمسة من الروحانيين: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل والروح (8) وأحمد بن سليمان الزاهد شفعه الله في جميع أهل عصره (9). شطحاتهم لا تنتهي ونكتفي بما أوردنا كنموذج للرعونة والدعوى وأقوالهم هذه مرفوضة جملة وتفصيلاً ولا تستحق بذل الجهد لتبريرها فقاعدة الإسلام الركينة أننا نحكم بالظاهر كما دلت جملة الأحكام الشرعية، فلا مجال لمدع أن يقول بأن باطن أقوالهم مخالف لظاهرها، ويجب أن يصان الإسلام عن مثل هذا الشطح واللامعقول، بل الشرك لأن ممن يتصرف في الجنة والنار فقد اتخذ نفسه نداً لله وشركاً وقال ابن عقيل "ومن قال هذا كائناً من كان فهو زنديق يجب قتله " (10). وإذا كانت الجنة بيد الدسوقي فلينم البطالون وليستريحوا من عناء الجهد والتعب والأمر لا يحتاج إلى علم أو عبادة أو جهاد بل مجرد زيارة الشيخ تفتح له أبواب الجنة أليست هذه نسخة أخرى عن صكوك الغفران، وأما نحن فنستغفر الله حتى من إيراد أقوالهم. المصدر: الصوفية نشأتها وتطورها لمحمد العبدة، وطارق عبد الحليم   (1) ((الطبقات)) (1/ 203). (2) ((الطبقات)) (2/ 87). (3) ((الطبقات)) (2/ 140). (4) لاحظ هذا الانفصام الدكتور زكي نجيب محمود وطبعاً الدكتور هنا لا يدافع عن الإسلام الحقيقي وإنما يدافع عن العقل وتأثره بالمذهب الوضعي المنطقي العلماني الاتجاه. (5) بدوي: ((شطحات الصوفية)) (1/ 22). (6) انظر: ((تاريخ التصوف)) لعبد الرحمن بدوي. (7) ((هذه هي الصوفية)) (121). (8) ((لطائف المنن)) (57). (9) ((طبقات الشعراني)) (2/ 82). (10) ((تلبيس إبليس)) (343). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 130 المبحث الأول: تربية ذليلة أنت أسير في قيد الملا والصوفي، أنت لا تأخذ الحياة عن حكمة القرآن، ليس لك بآيات القرآن شأن، إلا أن تموت بسهولة بسورة يس " إقبال وضع الصوفية قواعد عامة لتربية مريديهم وكلها تحوم حول الخضوع التام من المريد للشيخ، بحيث يتحول التلميذ المسكين إلى آلة جوفاء تردد ما يقال لها بلا تفكير ولا شخصية مستقلة، بل انقياد أعمى، وحتى تتم هذه التربية الذليلة ألزموهم بلبس معين ومشية معينة وشيخ معين وطريقة معينة. ومن هذه القواعد المتعارفة بينهم: كن بين يدي الشيخ كالميت بين يدي المغسل. لا تعترض فتنطرد. من قال لشيخه لِمَ؟ لا يفلح. من لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان. ومشت الجماهير المغفلة وراء الشيوخ يقبلون الأيدي وينحنون لهم بالتعظيم كلما رأوهم، لا يتكلمون إلا إذا تكلم الشيخ، يصدقون بكل ما يقول، ويحملون له حذاءه وسجادته. وقد فلسفوا كل هذا في كتبهم تحت عنوان (آداب المريد) فقالوا: " ومن الأدب تعظيمه ظاهراً وباطناً، ولا تصاحب له عدواً ولا تعادي له صديقاً، ولا تكتم عنه شيئا مما خطر ببالك (مثل اعترافات النصارى)، ولا تسافر ولا تتزوج إلا بإذنه، وأعظم من هذا قالوا: وحرم على المريدين السؤال لأن الشيخ قد يكون جاهلاً فينفضح (1). وهذا الأسلوب في تربية الأتباع ليس مستحدثاً بل تكلم عنه القشيري في (رسالته) فقال: " من صحب شيخاً من الشيوخ ثم اعترض عليه بقلبه فقد نقض عهد الصحبة ووجبت عليه التوبة، ثم إن الشيوخ قالوا: حقوق الأستاذين لا توبة منها " (2). وقد أدى هذا الأسلوب إلى الغلو في المشايخ، الغلو في الصالحين فالغزالي هو صاحب الصديقية العظمى برأي أبي العباس المرسي (3)، والشيخ نجم الدين يستحي أن يصلي باتجاه القبلة وخلف الشيخ أبو العباس المرسي (القطب) فأدار وجهه باتجاه القطب!! ولكن أبا العباس كان متواضعاً فقال له: أنا لا أرضي خلاف السنة (4) فقط خلاف السنة ترك القبلة؟! وقد كان أحمد الشريف السنوسي – من المعاصرين – شديد الاعتقاد بعمه محمد المهدي الذي لا يرى فوق طبقته أحداً إلا سيد الكائنات محمد صلى الله عليه وسلم " (5). وانتقلت عدوى هذه الطريقة في التربية إلى الآباء فربوا أبناءهم على الطاعة العمياء وأجبروهم على عادات معينة فيخرج الطفل شخصية ضعيفة. ولنا على هذه التربية الملاحظات التالية: هذه الأساليب في تربية المريدين هي أساليب ماكرة إما لتغطية ما على الشيخ من جهل بالدين وقلة بضاعة في العلم، أو لممارسة أشد أنواع السيطرة على عقول وقلوب الناس وباسم احترام الشيخ. وقولهم (العلم في الصدور لا في السطور) إنما هو صرف للتلاميذ عن كتب الفقه والحديث لأنه إذا قرأ فربما يتفتح عقله – فينتبه لما عند الشيخ من دجل وخرافات.   (1) إن ما أورده أهل السنة من آداب المتعلم بين يدي العالم، واحترام العلماء وتوقيرهم، يختلف عن ذلة الخضوع النفسي عند مريدي الصوفية. (2) ((هذه هي الصوفية)) (101). (3) ((لطائف المنن)) (77). (4) ((لطائف المنن)) (74). (5) شكيب أرسلان: ((حاضر العالم الإسلامي)) (2/ 160). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 131 لم يترب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه التربية الخانعة ولكنهم تربوا تربية القيادة والرجولة، فكان أحدهم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوَحيٌ هذا أم هو الرأي والمشورة؟ فإن كان الرأي والمشورة أدلى برأيه كما فعل سعد بن معاذ في غزوة الخندق عندما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مصالحة قبائل غطفان، وكان صلى الله عليه وسلم بقيادته الحكيمة يستمع لهم ويناقشهم وجوه الرأي ولا يقول لهم: كيف تعترضون علي وأنا سيد الخلق ورسول من رب العالمين؟ ومع حبهم الشديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا لا يقومون له ولا يقبلون يديه كلما دخل وذلك لمعرفتهم أنه يكره المبالغة في تعظيم البشر، وعقل الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه التربية فكان أول ما تكلم به أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما تولى الخلافة " وإن أسأت فقوموني " ويقول: " أي سماء تظلني وأي ارض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي " والصوفية يقولون: الشيخ يسلم إليه طريقته، وأي طريقة مع الشرع؟ ويكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقادة الجيوش وأمراء الأقاليم: " لا تضربوا أبشار الناس فتذلوهم " ذلك لأن الشعب الذليل لا خير فيه، كما ذكر القرآن الكريم قصة بني إسرائيل عندما كانوا أذلاء تحت حكم فرعون، فلما أراد موسى إخراجهم إلى العزة والكرامة قالوا له: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]. وعقل التابعون هذه التربية فكانوا يكرهون " أن توطأ أعقابهم " (1) وهو أن يمشي التلاميذ وراء الشيخ، ويقولون: " إنها فتنة للتابع والمتبوع " (2)، ولم يعتد الصحابة تقبيل يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا وقع فيكون نادراً، وذهب بعض العلماء إلى كراهية تقبيل اليد مطلقاً كالإمام مالك، قال سليمان بن حرب: هي السجدة الصغرى (3). وعن أنس بن مالك قال: ((قلنا يا رسول الله أينحني بعضنا لبعض؟ قال: لا)) (4). أما لماذا تسير هذه الألوف من البلهاء وراء شيوخ الصوفية ربما يكون هروباً من الواقع، ولعلها تصادف متنفساً غير حقيقي لمشاكلهم وأرجح أنه ابتعاد عن التكليف الذي يفرضه الإسلام وخاصة في أوقات الشدة والعسرة، وبعض الناس يصدقون أغرب القصص لمجرد رغبتهم في أن تكون هذه القصص صحيحة والواقع أنها غير صحيحة (5). المصدر: الصوفية نشأتها وتطورها لمحمد العبدة، وطارق عبد الحليم   (1) زهير بن حرب: ((كتاب العلم)) (146) المنشور مع ثلاث رسائل بعنوان الإيمان – تحقيق الألباني. (2) زهير بن حرب: ((كتاب العلم)) (ص 138). (3) ((المسائل السجدية)) (2/ 123) ط. 1344هـ. (4) رواه ابن ماجة (3702) وأحمد (1/ 366) (1217) وبنحوه رواه الترمذي (2728) وحسنه الألباني. (5) انظر كتاب: ((كيف تفكر))، تعريب منير البعلبكي – ط. دار العلم للملايين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 132 المبحث الثاني: المتصَوفة وعلم الحَديث من أصعب الأمور على المتصوفة وخاصة المتأخرين منهم الاهتمام بالعلوم الشرعية وخاصة الحديث والفقه، لأن هذه العلوم تكشف ما هم عليه من جهل وإذا دخلت في قلوب وعقول التلاميذ فلا يبقى حولهم أحد، أما المتقدمون فكان لهم عناية بالعلوم الشرعية ولكن إما أن يكون أحدهم مفصوم الشخصية فتجده عالماً في الفقه وأصوله ولكن عندما يتكلم في التصوف ينقلب إلى شخصية أخرى كأبي حامد الغزالي، وإما أن يترك العلم بعد أن يكون قد أخذ بقسط وافر منه، باعتبار أن العلم وسيلة للعمل فإذا وصل إلى العمل فلا داعي للعلم، وهذه مغالطة لأن المسلم يحتاج للعلم حتى آخر لحظة من حياته، وقد رمى أحمد بن أبي الحواري كتبه في البحر وقال: نِعمَ الدليل كنتِ. وأبو حامد الغزالي يبرر هذا البعد عن علوم الشريعة وهذا الميل من المتصوفة إلى علم الكشف فيقول: " اعلم أن ميل أهل التصوف إلى الإلهية دون التعليمية، ولذلك لم يتعلموا ولم يحرصوا على دراسة العلم بل قالوا الطريق تقديم المجاهدات والإقبال على الله ويقطع الإنسان همه من المال والولد والعلم ويقتصر على الفرائض والرواتب ولا يقرن همه بقراءة القرآن ولا يكتب الحديث ". يقول ابن الجوزي معلقاً على كلام الغزالي: " عزيز علي أن يصدر هذا الكلام من فقيه فإنه لا يخفي قبحه، فإنه في الحقيقة طي لبساط الشريعة " (1). ومن الأوهام التي وقعوا فيها قولهم: نحن نأخذ علمنا عن الحي الذي لا يموت وأهل الحديث يأخذون علمهم ميتاً عن ميت وأنشد أحد شيوخه: (2) إذا طالبوني بعلم الورق برزت عليهم بعلم الخرق وبسبب إعراضهم عن الحديث جمعوا الغث والسمين والموضوع والضعيف في كتبهم مثل (الإحياء) و (الرسالة) و (حقائق التفسير) وهذه بعض الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة الباطلة وكيف استندوا إليها وقرروا بها مذهبهم: قال بعض العارفين: أول المعرفة حيرة وآخرها حيرة وذكروا حديثاً باطلاً: ((زدني فيك تحيراً)) (3) قال ابن تيمية: هذا حديث كذب والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114] (4).   (1) ((تلبيس إبليس)) (ص 323). (2) هو أبو بكر الشبلي قال عنه الذهبي: كان يحصل له جفاف دماغ فيقول أشياء يعتذر عنه فيها وله مجاهدات عجيبة انحرف فيها مزاجه، انظر ((سير أعلام النبلاء)) (15/ 368). (3) قال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (2/ 202) لم يروا هذا الحديث أحد من أهل العلم بالحديث ولا هوفي شيء من كتب الحديث ولافي شيء من كتب من يعلم الحديث بل ولا من يعرف الله ورسوله (4) ((الفتاوى)) (11/ 384). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 133 ذكر محمد بن طاهر المقدسي في مسألة (السماع) حديث الأعرابي الذي أنشد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأبيات: قد لسعت حية الهوى كبدي فلا طبيب لها ولا راقي إلا الحبيب الذي شغفت به فعنده رقيتي وترياقي وأنه صلى الله عليه وسلم توجد عندما سمع ذلك حتى سقطت البردة عن منكبيه (1)، قال ابن تيمية: " هذا حديث مكذوب موضوع " (2) ولا ندري كيف يروون هذا وأين عقولهم؟ ولعلّ الحيات لسعت عقولهم وليس قلوبهم. رووا حديثاً ((لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه)) (3) وهو من كلام أهل الشرك والبهتان وقد سمعنا بعض مشايخ الصوفية في هذا العصر يحدث به ويعتقده." ألبسوا الصوف، وشمروا، وكلوا في أنصاف البطون تدخلوا ملكوت السماء " ذكرها أبو طالب المكي في (قوت القلوب (4)، وهل يتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الكلام، وهل هذا إلا اختراع لتأييد مذهب التصوف بلبس الصوف. هذه نماذج قليلة وغيض من فيض مما امتلأت به كتبهم كالرسالة للقشيري حيث ذكر فيها الصحيح والضعيف والموضوع وحيث يروي عن الفضل بن عيس الرقاشي وهي من أوهي الأحاديث وأسقطها، (5) وارجع إلى (الإحياء) لترى العجب العجاب، مما يدلنا على عدم احتفائهم بعلم الحديث أو الفقه، بل ضربهم بالعلم كافة عرض الحائط. المصدر: الصوفية نشأتها وتطورها لمحمد العبدة، وطارق عبد الحليم   (1) قال ابن عراق في ((تنزيه الشريعة)) (2/ 233) أورده الحافظ ابن طاهر وهو باطل وقال الحافظ أبو موسى المديني قد عاب غير واحد من أهل العلم ابن طاهر بإيراد هذا الحديث في كتابه وكتب شيخ الإسلام أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر المقدسي وقد سئل عن هذا الحديث ما ملخصه إن الواقف عليه يظهر له أنه موضوع، وكتب شيخ الإسلام النووي وقد سئل عنه باطل لا تحل روايته ولا نسبته إلى النبي ويعزر من رواه عالما تعزيرا بليغا ولا يغتر بكونه في ((عوارف المعارف)) وغيره مع أن صاحب العوارف قال يتخالج سري أنه غير صحيح ويأبى القلب قبوله (قلت) وقال الحافظ الذهبي رواته ثقات غير عمار بن إسحاق فكأنه واضعه، وقال الفتني في تذكرته (1/ 197) قال ابن تيميةكذب باتفاق أهل العلم بالحديث وما روي فيه موضوع، وقال الألباني موضوع كما في ((الضعيفة)) (558) (2) ((الفتاوى)) (11/ 563). (3) قال ابن تيمية في ((الفتاوى)) (3/ 36) هو من كلام أهل الشرك والبهتان وقال ابن القيم في ((المنار المنيف)) (139) من وضع المشركين عباد الأوثان، وقال السخاوي في ((المقاصد)) (1/ 542) قال ابن تيمية إنه كذب ونحوه قول شيخنا إنه لا أصل. (4) زكي مبارك: ((التصوف)) (1/ 44). (5) ((الفتاوى)) لأبن تيمية: (10/ 680). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 134 المبحث الثالث: البطالة والانحِلاَل كان أوائل الصوفية أصحاب مجاهدات وعبادات، صادقين مع أنفسهم وإن كانت بعض أعمالهم فيها تعمق وتشدد ومخالفة للسنة ما سبق أن قررنا، ثم ظهر بعد ذلك أجيال بنوا التكايا والزوايا وهي دكاكين للبطالة والطبل، مستريحين من كدّ المعاش، متشاغلين بالأكل والشرب والغناء والرقص، يطلبون الدنيا من كل ظالم، وأين جوع (بشر) وورع (السري) وأين جد (الجنيد (1)، مع أن بناء الربطة والتكايا ولو لتعبد والإنفراد هو بدعة في حد ذاته لأن بناء أهل الإسلام المساجد، وبناء التكايا فيه تشبه بالنصارى لإنفراده بالأديرة. وقد قيل لبعض الصوفية أتبيع جبتك؟ قال: إذا باع الصياد شبكته فبأي شيء يصطاد وقد استغرب الإمام محمد بن الحسن الشيباني من أكلهم الطعام عند الناس لا يسألون عن حلال أو حرام (2). ونسو أو تناسوا أن الإسلام يأبى الركون إلى الكسل والبطالة، وأن الزهد هو ترك ما في أيدي الناس والاستغناء عنه تنزهاً، وليس الحصول على ما في أيدي الناس تنطعاً، وقد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السؤال وأمر بالاكتساب والعمل فقال: ((لأن يحتزم أحدكم حزمة من حطب على ظهره فيبيعها خير من أن يسأل رجلاً فيعطيه؟ أو يمنعه) (3)، وقال صلى الله عليه وسلم ((اليد العليا خير من اليد السفلى)) (4). وكان سعيد بن المسيب يتجر بالزيت وكان أبو حنيفة يتجر بالقماش ... هكذا كان كبار العلماء والزهاد يعملون بأيديهم ويتحرون الكسب الحلال. وكان الأوائل يمتنعون عن الزواج تشدداً وتعمقاً ثم تطور الأمر بالمتأخرين من الصوفية إلى مؤاخاة النساء وإعطاء الطريقة للمريد، وحفلات الذكر المختلطة، مما يشعر بدنوهم من مذهب الإباحية عند الباطنية لأن نظرية وحدة الوجود – التي استفحلت عند متأخري الصوفية – تشجع على الإباحية " لأن الثواب والعقاب يصبح من المشكلات فمن الذي يثيبنا حين نحسن؟ ومن الذي يعاقبنا حين نسيء؟ إذا كان الإنسان جزأ من الله، إنها خطر على عالم الأخلاق، بل تأتي على قواعده من الأساس، ولذلك عاش بعض الصوفية عيشة التفكك والانحلال (5)، وقد كان لابن الفارض وهو من شيوخ وحدة الوجود، كان له مغنيات بالقرب من قرية (البهنسا) يذهب إليهن فيغنين له بالدف والشابة وهو يرقص ويتواجد (6). لم يرض عن هذا التطور بعض الصوفية المعتدلون كالشيخ أبي سعيد الأعرابي الذي يقول في كتابه (طبقات النساك): " إن آخر من تكلم في هذا العلم الجنيد وأنه ما بقي بعد إلا من يستحي من ذكره " (7)، كما حكى عن سهل التستري قوله: " بعد سنة ثلاثمائة لا يحل أن يتكلم بعلمنا هذا لأنه يحدث قوم يتصنعون للخلق (8) ولكن الصوفية استمرت في تدهورها وأصبحت اكتساباً وتملقاً، ولبسوا جلود الضأن وحملوا قلوب الذئاب. المصدر: الصوفية نشأتها وتطورها لمحمد العبدة، وطارق عبد الحليم   (1) انظر ما كتبه ابن الجوزي وأطال في بطلات الصوفية في كتابه: ((تلبيس إبليس)). (2) ((الكسب)) (44). (3) رواه مسلم (1042). (4) رواه البخاري (1427) واللفظ له ومسلم (1042). (5) زكي مبارك: ((التصوف)) (1/ 155) وانظر ابن حزم: ((الملل والنحل)) (4/ 226). (6) الآلوسي: ((جلاء العينين)) (75). (7) آدم متز: ((الحضارة الإسلامية)) (2/ 39). (8) آدم متز: ((الحضارة الإسلامية)) (2/ 39). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 135 المبحث الرابع: السَّمَاع وَالذِكر في البداية، وعند أوائل الصوفية كانوا يحضرون مجلس (السماع) وهو الاجتماع في مكان معين لسماع منشد صاحب صوت حسن مع استعمال الإيقاع الموسيقي، ينشد قصائد الزهد وترقيق القلوب، ثم تطوروا إلى إنشاد قصائد الغزل وذكر (ليلى) و (سعدى) ويقولون نحن نقصد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه القصائد التي تهيج الحب المطلق، الحب غير المعين، فكلٌ يأخذه حسب هواه وما يعتلج في قلبه من حب الأوطان أو حب النساء ... وقد أباح لهم هذا السماع أبو حامد الغزالي وأبو عبد الرحمن السلمي وغيرهم، واحتجوا بأشياء واهية ضعيفة، وليس هذا موضوع مناقشة حكم الإسلام في الغناء، فقد رد عليهم العلماء مثل ابن الجوزي وأجاد ابن القيم في مناقضة هذا الموضوع في كتابه (إغاثة اللهفان)، وتبقى الحقيقة أن الأمة المسلمة أمة جادة ولا يحلل هذا الغناء إلا من لا يفقه الإسلام حق الفقه. ولم يقتصر الأمر على هذه القصائد بل تطور إلى ذكر الله بالرقص والدف والغناء، وعندما تقام الحضرة (1) تبدأ التراتيل بذكر اسم الله المفرد (الله) بصوت واحد، ولكن عندما يشتد الرقص ويلعب الشيطان برؤوسهم يرفعون عقيرتهم أكثر ويتحول اسم الله إلى (هو) ثم لا تسمع بعدها إلا همهمة، وقد يجتمع مع هذا الصراخ والقفز في الهواء أخلاط الناس من النساء والأولاد لرؤية هذا (التراث الشعبي)، حقاً إنها مهزلة اتبعوا فيها سنن الذين من قبلنا فقد جاء في مزأمير العهد القديم عن اليهود " ليبتهج بنو صهيون بملكهم، ليسبحوا اسمه برقص، بدف وعود، سبحوه برباب، سبحوه بصنوج الهتاف " (2). جاء في (ترتيب المدارك) للقاضي عياض: " قال التنيسي: كنا عند مالك بن أنس وأصحابه حوله فقال رجل من أهل نصيبين: عندنا قوم يقال لهم الصوفية يأكلون كثيراً ثم يأخذون في القصائد، ثم يقومون فيرقصون. فقال مالك: أصبيان هم؟ فقال: لا. قال: أمجانين هم؟ قال: لا هم مشايخ وعقلاء. قال: ما سمعت أن أحداً من أهل الإسلام يفعل هذا " (3). وقد يكون من أسباب فعلتهم هذه هو أن النفس ترى أن تغطي شهواتها باسم الدين والذكر والحضرة. ولو كشفت بصراحة عن نوازعها لكان الخطب أهون، لأنها عندئذ تبقى في دائرة المعصية وهي أقل خطراً من البدعة. والله سبحانه وتعالى وصف الذاكرين له باطمئنان قلوبهم وخشوعهم وإخباتهم، وقد كان السلف إذا سمعوا القرآن خافوا وبكوا واقشعرت جلودهم، وهذا عكس الرقص والطرب، ولم يأمر الله سبحانه حين أمر الناس بالعبادة – أن يأكلوا أكل البهائم ثم يقوموا للرقص، بل هذا الرقص الذي يسمونه (ذكراً) وما يرافقه من منكرات مستقبح ديناً وعقلاً وهو وصمة عار أن يكون في المسلمين من يفعل هذا، وصدق قول الشاعر فيهم: ألا قل قول عبد نصوح ... وحق النصيحة أن تستمع متى علم الناس في ديننا ... بأن الغنا سنة تتبع وأن يأكل المرء أكل الحمار ... ويرقص في الجمع حتى يقع وقالوا: سكرنا بحب الإله ... وما أسكر القوم إلا القصع ويسكره الناي ثم الغنا ... و (يسن) لو تليت ما انصدع (4) المصدر: الصوفية نشأتها وتطورها لمحمد العبدة، وطارق عبد الحليم   (1) مصطلح عند الصوفية يعني الاجتماع على ذكر الله بالرقص على شكل حلقة يكون الشيخ في وسطها وكأنه قائد أوركسترا. (2) ((هذه هي الصوفية)) (143). (3) ((ترتيب المدارك)) (4/ 5) ط. المغرب وقد حاو ل صاحب الكتاب ((حقائق عن التصوف)) محاولة سمجة للاستشهاد بالإمام مالك والإمام الشافعي على أنهما يمدحان الصوفية وهؤلاء الأئمة أعقل وأكبر من هذا. (4) ابن القيم: ((إغاثة اللهفان)) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 136 المبحَث الخامِس المتصَوفة والجهَاد تربى المسلمون الأوائل تربية جهادية، فهم مستعدون دائماً لمصاولة الباطل والدفاع عن الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ينفذون في ذلك سنن الله سبحانه وتعالى، فالشر لا بد من دفعه بالخير وإلا فسدت الأرض، وكان علماء السلف يرابطون في الثغور للحصول على فضيلة الجهاد، مثل الإمام أحمد بن حنبل والإمام عبد الله بن المبارك، وقصة ما كتبه ابن المبارك للفضيل بن عياض يعاتبه فيها على تفرغه للعبادة في مكة وعدم مشاركته في حماية الحدود الإسلامية هي قصة مشهورة، فما هو موقف الصوفية من هذا الموضوع المهم؟ حتى يتبين لنا هذا لا بد من الوقوف على بعض أقوالهم وأفعالهم: ألف أبو حامد الغزالي كتابه (إحياء علوم الدين) في فترة تغلب الصليبين على بلاد الشام، وتذكر المؤلف كل شيء من أعمال القلوب ولم يتذكر أن يكتب فصلاً عن الجهاد. يستشهدون دائماً بحديث ليس له أصل ويظنون أنه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على عادتهم في ذكر الأحاديث الضعيفة وهو: ((رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)) (1) ويعنون بالجهاد الأصغر القتال في سبيل الله والجهاد الأكبر هو جهاد النفس، وهذا الكلام ليس من هدي النبوة ولم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من هذا، كما أن فيه مغالطة واضحة وأي جهاد أعظم من تقديم المسلم نفسه في سبيل الله، وقولهم هذا ما هو إلا محاولة للهروب من تبعية القتال في سبيل الله، بل هو صرف المسلمين عن هذا العمل العظيم. استرسل كثير منهم مع القدر الكوني وفهموا هذه المسألة فهماً خاطئاً فظنوا أن الاستسلام لما يقدره الله من عدو أو مرض أو فقر هو من باب الرضى بالقضاء، ولذلك استكانوا للحكام الظلمة وقالوا: هذه إرادة الله وكيف نخالف هذه الإرادة، فهم دائماً مع الحاكم سواء كان مؤمناً أم كافراً، صديقاً أم زنديقاً (2) ولم يعلموا أن قدر الله الكوني يدفع بالقدر الشرعي، فالمرض يدفع بالدواء، والعدو يدفع بالجهاد ... وفي العصر الحديث وعندما اقتسمت بريطانيا وفرنسا أكثر بلاد المسلمين كانت بعض فرق الصوفية غارقة في أذكارها وكأن شيئا لم يكن، بل يقام للمعتمد البريطاني لدى سورية الجنرال (سبيرس) حفلة (ذكر) على طريقة المولوية يدعوه إليها الشيخ هاشم العيطة شيخ الطريقتين السعيدية والبدرية حيث أنشدت الأناشيد وفتلت المولوية، ثم خطب صاحب الدار باسمه واسم إخوانه مثنياً على رئيس الجمهورية والملك جورج السادس والمستر تشرشل والجنرال سبيرس، فأجاب الجنرال شاكراً (3).   (1) رواه البيهقى في ((الزهد)) (2/ 165) (373) وقال: فيه ضعف، وقال العراقي في تخريج ((الإحياء)) (2/ 6) في إسناده ضعف، وقال ابن حجر في تخريج ((الكشاف)) (4/ 114) فيه ثلاثة من الضعفاء، قال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (11/ 197): لا أصل له، وقال الألباني في ((الضعيفة)) (2460) منكر (2) ((الفتاوى)): (2/ 101). (3) خليل مردم بك: ((يوميات الخليل)) (62). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 137 وفي الجزائر كانت فرنسا تشجع الطرق الصوفية وتسمح لهم بإقامة أذكارهم والخروج في أعيادهم بالطبول والرايات ولذلك: " تساند الطرقيين والمستعمرين على المصلحين " (1) " وكانوا يحضرون اجتماعات جمعية العلماء لا خدمة لغايتها ولكن عيوناً لفرنسا والإدارة المحلية ولكن الجمعية أخرجتهم منها " (2)، ولذلك كان أول عمل قام به باعث النهضة الإسلامية في الجزائر في هذا العصر الشيخ عبد الحميد بن باديس هو محاربة الطرق الصوفية وذلك أثناء تفسيره للقرآن الكريم في الجامع الكبير في مدينة قسنطية. وإذا كان الأمير عبد القادر الجزائري قد حارب فرنسا فإنه وبتأثير تربيته الصوفية لم يكمل هذا القتال، فقد عارض في استمرار الثورة ضد المحتل الفرنسي على يد ولده لأن الشيخ عاهد فرنسا ألا يرفع في وجهها سيفاً مادام حياً (3). وعندما نفي الأمير إلى دمشق واستقر بها كان على رأس العاملين على إعادة نشر تراث ابن عربي المملوء بفكرة (وحدة الوجود) الخبيثة الفاجرة. وفي الهند وبعد ثورة 1857م المشهورة التي قام بها المسلمون ضد الإنجليز، بعد هذه الثورة قتل من علماء المسلمين العدد الكثير ومنهم المحدث حسن الدهلوي. في هذه الفترة كتب أحمد رضا مؤسس الطريقة الصوفية (البريلوية) رسالة مستقلة باسم (إعلام الأعلام بأن هندوستان دار الإسلام) ووصفه لبلاد الهند بأنها دار الإسلام هو خدمة لبريطانيا حتى لا يقام فيها الجهاد ضد الكفرة ثم قال بصراحة: " إنه لا جهاد علينا مسلمي الهند بنصوص القرآن العظيم، ومن يقول بوجوبه فهو مخالف للمسلمين ويريد إضرارهم " (4). ولذلك يقول ابن تيمية عنهم: " وأما الجهاد فالغالب عليهم أنهم أبعد من غيرهم، حتى نجد في عوام المؤمنين من الحب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحب والتعظيم لأمر الله والغضب والغيرة لمحارم الله ما لا يوجد فيهم. حتى أن كثيراً منهم يعدون ذلك (أي الجهاد) نقصاً في طريق الله وعيباً " (5) وربما يظنون أن الذكر والتفكر والفناء والبقاء هو الأصل والأهم. بعد هذا الإستعراض لبعض أقوالهم وأفعالهم نستطيع أن نقرر أن التربية الصوفية بطبيعتها بعيدة عن فكرة الجهاد والقتال لأنها تعتبر الرياضات الروحية هي الأصل والأساس، وهذه الرياضات لا تنتهي إلا إذا وصل أحدهم لمرحلة الفناء، وإذا فني فكيف يجاهد؟!! ونحن نتكلم عن الصفة الغالبة عليهم، وإلا فقد يوجد منهم من له مشاركة في دفع الظالمين، ولكن الأكثرية هم مع المطاع المتغلب ولهذا قيل: " إن كل شعر التصوف ظهر في زمان ضعف المسلمين السياسي " (6). المصدر: الصوفية نشأتها وتطورها لمحمد العبدة، وطارق عبد الحليم   (1) مبارك الميلي: رسالة ((الشرك ومظاهره))، انظر المقالة التي كتبها محمد الميلي في مجلة (الوطن العربي) بتاريخ 9/ 11/1984 عن العيون الأجنبية وحركة الإصلاح الجزائرية. (2) مبارك الميلي: رسالة ((الشرك ومظاهره))، انظر المقالة التي كتبها محمد الميلي في مجلة ((الوطن العربي)) بتاريخ 9/ 11/1984 عن العيون الأجنبية وحركة الإصلاح الجزائرية. (3) شكيب أرسلان: ((حاضر العالم الإسلامي)) (2/ 172). (4) إحسان إلهي ظهير: (البريلوية) (43). (5) ابن تيمية: ((الاستقامة)) (1/ 268). (6) إقبال: ((الأسرار والرموز)) (12 9) ترجمة عبد الوهاب عزام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 138 تمهيد من أصول الدين الإسلامي وقواعد الإيمان في الشريعة الإسلامية أن الله تعالى وحده هو علام الغيوب، وأن الخلق مهما كانت منزلة أحدهم لا يصل إلى معرفة الغيب، إلا من شاء الله أن يطلعه على ما أراد من ذلك، سواء كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً. ولقد تعدى المتصوفة على هذه الصفة لله عز وجل فأقاموا أمراً سموه "الكشف الصوفي"، ويعنى عندهم رفع الحجب من أمام قلب الصوفي وبصره ليعلم بعد ذلك كل ما يجرى في هذا الكون. وبالغوا في هذا الإدعاء بما لا يجرؤ على القول به إلا عتاة الزنادقة، كما هو مسطر في كتبهم بأقلامهم، وكما تبين ذلك من خلال ما قدمنا من الإشارات الكثيرة إلى حقيقة الكشف من خلال نظرتهم إلى أقطابهم في حالة رفع الحجب عنهم واتحادهم بالله ورفع الأنية بينهم وبين الله، ويبدوا أنهم ترقوا في هذه الدعوى على النحو التالى: 1 - ادعوا أن الصوفي يكشف له عن معان جديدة في القرآن والسنة والآثار والرسوم لا يعلمها علماء الشريعة، الذين سموهم علماء الظاهر والقراطيس؛ لأنهم أي علماء الشريعة إنما يعتمدون في نقل تلك المعاني من القرآن والسنة على موتى، وأما هم فإنهم يأخذونها عن الله تعالى مباشرة. ومن هنا تجد أقطاب التصوف حين يشرحون بعض الآيات والأحاديث يأتون فيها بمعان من نسج أخيلتهم ويزعمون فيها مزاعم هي عين الأكاذيب التي لا يسندها أي دليل لا من الشرع، بل ولا من العقل في أكثر ما جاءوا به في شروحاتهم. 2 - ثم ترقوا فقالوا: إن لهم علوماً لا توجد في الكتاب ولا في السنة يأخذونها جديدة عن الخضر الذي هو على شريعة الباطن حسب زعمهم. وهذه الفرية هي التي استباحوا بموجبها كثيراً من الفواحش والمحرمات إذ أن النصوص التي يفيد ظاهرها التحريم قد يفيد باطنها الإباحة، والخضر يؤكد لهم ذلك، فإذا بتلك النصوص ظاهرها في واد وباطنها في واد آخر لا صلة بينها إلا تلك الروايات التي صدرت عن الخضر، أو بعض المنامات التي حدثت لأقطابهم الكبار الذين استباحوا كل محرم من الفواحش. 3 - وهناك فرية أيضاً اقترفوها، وهي قولهم: أنهم يتلقون علومهم عن ملك الإلهام كما تلقى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم علومه من ملك الوحي مباشرة. 4 - وآخرون منهم يزعمون أنهم يتلقون علومهم عن الله رأساً وبلا واسطة؛ حيث تنطبع هذه العلوم في نفوسهم، وبموجبها يأتون ما يأتون من أمور. 5 - وآخرون منهم يدَّعون أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يخبرهم بأذكارهم وعبادتهم يقظة لا مناماً. 6 - ثم زعموا أنهم يعلمون أسرار الحروف المقطعة من القرآن وقصص الأنبياء على حقيقتها، وأنهم يجتمعون بالأنبياء ويسألونهم عن تفاصيل قصصهم، وخرافات كثيرة ذكرها الجيلي في كتابه (الإنسان الكامل) يمجها السمع وينفر عنها الذوق. وكذا الغزالي حين دخل التصوف ولم يستطع الخروج منه رغم أنه كان من علماء الشريعة، فقد ذكر أشياء كثيرة عن الكشف الصوفي وخرافاتهم فيه مؤيداً له. وعتاة هذه الدعوى ابن عربي وعبد العزيز الدباغ والبسطامي والتيجاني والمرسي وغيرهم (1)، لقد كانت دعوى الكشف هي المقدمة الأولى في نظري إلى الادعاء بوحدة الوجود والحلول، فإن دعوى الكشف مبالغة فاحشة، ولكنها تعتبر من باب التمهيد لما هو أفحش منها، وهو ادعاء الاتصاف بالله والأخذ عنه مباشرة. ولذلك ترى كثيراً من المؤلفين من علماء التصوف زعموا أنهم لم يأتوا بما ذكروه في كتبهم إلا عن طريق الكشف الصريح يتلقونه عن الله مباشرة، رغم ما يحمل من كفر وفجور وزندقة وإباحية. كما زعم ابن عربي في فصوصه، والجيلي في كتابه (الإنسان الكامل) الذي يقصد به الرسول صلى الله عليه وسلم الذي اتصف حسب تقرير الجيلي بصفات الله تعالى، وبصفات أقطاب التصوف أحياناً؛ حيث يظهر في صورة أي شيخ منهم كالشبلي والجبرتي وغيرهما في زمنهم وفي غير زمنهم. وكتاب الجيلي (الإنسان الكامل) مملوء بالعبارات التي تؤدي إلى إحياء الخرافات والزندقة، فقراءة عابرة له تجعلك لا تتوقف في هذا الحكم عليه ولا فيما كتبه عتاة التصوف كالدباغ وتلميذه أحمد بن مبارك والشعراني وعلي حرازم، وغيرهم ممن لا يلتزم بالعقيدة الإسلامية الصحيحة. ثم دخلوا على عوام المسلمين عن طريق الكشف الإلهي والوصول إلى الحقيقة وصفاء القلب والولاية، وغير ذلك من أنواع الشبكات الصوفية التي يصطادون بها الناس عن طريق دعوى الكشف والتظاهر بالزهد، وإكرام الله لهم بمعرفة ما لم يعرفه غيرهم، وفى كل ذلك تساعدهم الشياطين، وأكثر هؤلاء الذين يخبرون بالمغيبات عن طريق الكشف إنما يستعينون بالسحر والطلاسم. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 1019   (1) انظر: ((الفكر الصوفي)) (ص 143) الفصل التاسع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 139 المبحث الأول: الإيمان بالغيب في الكتاب والسنة من أصول الدين وقواعد الإيمان أن تعتقد أن الغيب علمه لله تعالى وحده سبحانه وتعالى وأنه يطلع وسبحانه تعالى على ما شاء من الغيب من شاء من أنبيائه ورسله فقط وأن الأنبياء لا يعلمون من الغيب إلا ما أعلمهم الله إياه كما قال سبحانه وتعالى لرسوله: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188]. وقال جل وعلا: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن:26 - 28]. وأمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس أنه ليس ملكاً ولا يملك خزائن الله ولا يعلم الغيب قال تعالى: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إلى قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ [الأنعام:50] وهذا الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم هو ما قاله نوح قبل ذلك. قال تعالى على لسان نوح: وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ [هود:31].وفي (صحيح البخاري) عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مفاتيح الغيب خمسة لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله)) (1). وهذا الحديث يقرر قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34].وفي (صحيح البخاري) أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب وهو يقول: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب وهو يقول قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ [النمل:65])) (2).   (1) رواه البخاري (4697) (2) رواه البخاري (4855) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 140 فهذه الآيات والأحاديث ومثلها كثير جداً قاطع بأنه لا يعلم أحد في السماوات والأرض الغيب إلا الله لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وأنه لا يعلم أحد من هؤلاء الغيب إلا ما أطلعه الله سبحانه عليه، فهاهم الملائكة يخلق الله آدم ولا يعلمون الحكمة من خلقه، ويعرض الله عليهم مسميات معينة ويقول لهم أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، فيقولون سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، ويعلم الله آدم النبي الأسماء فيعلمها لهم، وآدم نبي مكلم كما جاء في الحديث الشريف، وهؤلاء الأنبياء لا يعلمون الغيب بنص القرآن وبمئات بل بآلاف الوقائع، فنوح لم يعلم أن ابنه ليس من أهله وأن زوجته على غير دينه، وإبراهيم لم يعلم بأنه يولد له ولد من زوجته سارة إلا بعد أن جاءته الملائكة ولقد جاءته الملائكة في صورة بشر فذبح لهم عجلاً وقربه إليهم وهو لا يعلم حقيقتهم حتى أعلموه، ولم يكن يعرف مقصدهم حتى أعلموه أنهم ذاهبون لتدمير قرى لوط، وأما لوط فإنه ساءته رؤية الملائكة علماً أنهم قد أتوا لإنجائه وإنجاء أهله، ولم يعلم حقيقة أمرهم إلا بعد أن علموه ولم يكن له كشف خاص، ولا علم خاص يستطيع أن يعرف من القوم، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فقد حدث له مئات بل آلاف الوقائع التي تدل يقيناً أنه لم يكن يعلم في الغيب إلا ما أعلمه الله إياه .. فقد ظن أن جبريل الذي أتاه في الغار شيطان وقال لخديجة لقد خفت على نفسي، ولم يعرف أنه الملك حتى أتى ورقة بن نوفل فأخبره أن الكلام الذي جاء به يشبه الكلام الذي نزل على الأنبياء من قبله .. ولم يدر بخلد النبي أنه سيؤذى ويخرج من مكة أبداً علماً بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد مكث يتعبد في غار حراء سنوات طويلة، وعند الصوفية أن من لف رأسه بخرقة وجلس في مكان مظلم رأى الله، وعرف كل شيء وشاهد الكون أعلاه وأسفله .. بل النبي محمد صلى الله عليه وسلم مكث ثلاث عشرة سنة في مكة لا يعلم أين سيهاجر بعد ذلك، وبعد الهجرة خرج إلى أبي سفيان ففاته واصطدم بجيش المشركين وجاءه المشركون في المدينة المرة تلو المرة يزعمون أنهم قد آمنوا ويطلبون منه أن يرسل لهم من يعلمهم القرآن فكان يرسل معهم خيرة القراء، فيغدرون بهم في الطريق .. فغدر المشركون بأربعين رجلاً من المسلمين مرة واحدة، وسبعة مرة، ولو علم رسول الله ما يكون من أمر الله بل لو علم أن هؤلاء الكفرة الأعراب يكذبون عليه لما أسلم لهم أصحابه وحبس المشركون يوماً وليلة في مكان ليس فيه ماء لأن السيدة عائشة رضي الله عنها قد فقدت عقداً لها ولو كان هناك كشف صوفي على ما يصوره الصوفية ويزعمونه لعلموا أين عقد السيدة عائشة الذي كان تحت بعيرها ولم يفطن إليه أحد من المسلمين من أصحاب النبي .. ورمى المنافقون السيدة عائشة بالزنا -شرفها الله وحماها وبرأها ولعن الله من سبها- .. ومكث رسول الله شهراً كاملاً لا يدري ما يقول، وكان يستفتي أصحابه ويسأل علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد، وبريرة خادمته ومولاته هل رأوا على عائشة شيءاً .. ولم يستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلم حقيقة الأمر حتى أنزل الله براءتها من السماء .. هذا إلى العشرات والمئات من الوقائع التي تبين أن رسول الله وأكرم خلق الله من البشر على الله لم يكن يطلع على شيء من الغيب إلا ما أطلعه الله بحكم النبوة .. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 143 - 145 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 141 المبحث الثاني: الغيب في المعتقد الصوفي ولكن الصوفية منذ القدم .. منذ نشأتهم في الإسلام وإلى يومنا هذا عمدوا إلى هذا الأصل الأصيل من أصول الدين فهدموا بل اقتلعوا جذوره من قلوب من يسير في طريقهم وينتهج منهجهم هذا الأصل فهدموه جعله الله أول صفة في كتابه للمتقين حيث يقول تبارك وتعالى في سورة البقرة الثانية في القرآن بعد الفاتحة: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:1 - 3] الآية. جعل الله صفة الإيمان بالغيب أول صفة للمتقين المهتدين بالقرآن والسنة وذلك حتى يوحد المؤمنون طريق التلقي فلا يتلقون غيباً إلا من الله ومن أقامه للأخبار بالغيب عنه وهم رسله، وأنبياؤه فقط، جاء المتصوفة فكان أول هدم لهم في الإسلام أن يهدموا هذا الأصل فأقاموا شيئا سموه (الكشف الصوفي) وهو يعني عندهم رفع الحجب أمام قلب الصوفي وبصره ليعلم ما في السماوات جميعاً، وما في الأرض جميعاً، فلا تسقط ورقة إلا بنظره ولا تقع قطرة ماء من السماء إلا بعلمه ولا يولد مولود، أو يعقد معقود، أو يتحرك ساكن أو يسكن متحرك إلا بعلم الصوفي .. هكذا والله؛ وسيرى القارئ في هذا الفصل النقول من كتب القوم كلها تنص على أن الصوفي لا يقف أمامه حجاب، ولا يوصد أمامه باب، ولا يعجزه علم شيء في الأرض ولا في السماء. فهو يعلم ما يكتب في اللوح المحفوظ ساعة بساعة، بل هو يعلم بأي لغة وأي قلم كتب اللوح المحفوظ، وماذا في أم الكتاب، وماذا كان منذ الأزل وماذا سيكون إلى الأبد، لا أقول قد ساوى الصوفية أنفسهم بالأنبياء بالغيب أو ساووا أنفسهم بالخضر الذي يزعمون النقل عنه لا والله بل جعلوا كل زنديق منهم ممن لا وزن له في خلق ولا علم جعلوا هؤلاء هم الله علماً بكل شيء، وإحاطة بما في السماوات والأرض .. وسيرى القارئ أن أي زندقة وأي كفر في الأرض لم يجرؤ كاتبوه ومؤيدوه أن يكتبوا مثل هذا ولكن الصوفية سبقوا كل الكفار في كل الملل والنحل والأقوام وكتبوا بأقلامهم ما لم يجرؤ أحد بتاتاً أن يكتبه أو يسطره فيما علمناه من الكفرة والزنادقة والملاحدة .. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 142 لقد ترقى المتصوفة في قضية الكشف عندهم فزعموا أولاً أن الصوفي يكشف له معان في القرآن والحديث لا يعلمها علماء الشريعة الذين سموهم بعلماء الظاهر والقراطيس والآثار التي ينقلونها عن الموتى .. ، وأما هم فيلتقون بالرسول صلى الله عليه وسلم يقظة أحياناً، ومناماً أحياناً ويسألونه ويستفيدون منه هذه العلوم ثم ترقوا فقالوا إن لنا علوماً ليست في الكتاب والسنة نأخذها عن الخضر الذي هو على شريعة الباطن وهو الذي يمد الأولياء بهذه الشريعة، فموسى ومحمد والأنبياء على شريعة ظاهرة، وأما الخضر فهو على شريعة باطنة يجوز فيها ما لا يجوز في الظاهر، فقد قتل الغلام بغير ذنب، وكسر السفينة لمن حملهم بغير نوال، وبنى الجدار إحساناً منه لمن أساء إليهم .. ومثل هذا ينكره أهل الظاهر كما أنكره موسى، ونحن في الباطن على شريعة الخضر وهو يلتقي بنا ونتعلم منه علوماً خاصة ينكرها أهل الظاهر لجهلهم .. والعجيب أنه كان من هذا الدين الباطن الذي زعموا أخذه عن الخضر إتيان (الحمارة) والزنا، وشرب الخمر واللواط، والتعري، والصراخ في الطرقات، وسب المؤذنين للصلاة، وسب الأنبياء والإدعاء بأن كل مخلوق هو الله وإلقاء السلام على الكلاب والخنازير، والترحم على إبليس ومحاولة الوصول إلى مقامه، وجعل فرعون أعلم من موسى بالله وتبرئة قوم نوح من الشرك، وجعل الرسول محمد هو الله المستوي على العرش .. هذه الأشياء قليلة جداً من هذا الدين الباطني الذي زعم المتصوفة أنهم نالوه عن طريق الكشف الصوفي، وهو رفع الحجب عن القلوب والأبصار لرؤية الحق على ما هو عليه، وأن الخضر عليه السلام هو مبلغ كل هذا لهم، وتارة يترقون في هذا الكذب أو بالأحرى يهوون إلى أسفل سافلين في دعاوي الكذب هذه فيزعمون أنهم تلقوا هذه العلوم من ملك الإلهام كما تلقى محمد صلى الله عليه وسلم علومه من ملك الوحي، وأخرى يزعمون أنهم تلقوا علومهم هذه التي أشرنا إلى بعضها آنفاً من الله رأساً وبلا وساطة وأنها انطبعت في نفوسهم من الله رأساً وأنهم مطالعون الأمر في الأزل بأرواحهم، والأمر في الأبد يرونه كما يكون عليه الحال يرونه كذلك بأرواحهم بغير وساطة وأن همتهم تصل السماوات وما فوقها والأرض وما تحتها .. ولقد وسع المتصوفة دائرة كشفهم هذه فزعموا أنهم يعلمون أسرار الحروف المقطعة من القرآن بطريق الكشف، وقصص الأنبياء يروونها على حقيقتها ويجتمعون بالأنبياء ويسألونهم عن تفاصيل قصصهم وما كان منهم .. فيفيدون فوائد كثيرة دونها كثيراً ما هو موجود فعلاً في القرآن، وأما الجنة والنار، فهم وإياها دائماً رأي العين، بل هي ساقطة أصلاً من عيونهم لأن النار وما النار، لو بصق أحدهم عليها لأطفأها كما قال أبو يزيد وغيره منهم .. وأما الجنة فالنظر إليها شرك وكفر لأنهم ينظرون إلى الله فقط .. ولذلك قال قائلهم معيباً على الصحابة عندما قرأ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152] قال .. أف .. أليس منكم أحد يريد الله .. وقال آخر عن قوله تعالى: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ [يس:55] قال .. ألهاهم عنه .. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 143 باختصار لقد اكتشف المتصوفة بزعمهم للقرآن معاني غير التي يعرفها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعلماء الأمة على مر العصور. لقد اكتشفوا هم عن طريق كشفهم الشيطاني أن للقرآن معاني أخرى وأن فيه علوماً كثيرة جداً لا يعلمها غيرهم .. وما هذه العلوم .. إنها كل الفلسفات القديمة، والخزعبلات والخرافات التي عند فلاسفة الإغريق، وكهنة الهنادك والهندوس، وشياطين المجوس وإباحية المانوية والمزدكية، وخرافات القصاص من كل لون وجنس كل هذا وهذا جعله المتصوفة كشفاً وحقيقة صوفية ومعاني للقرآن الكريم ولحديث النبي الشريف .. ومن أراد منهم أن لا ينسب هذه الخرافات والخزعبلات إلى القرآن والحديث، ورأى أنه تحقق بعلوم أكثر بكثير مما فيهما قال: خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله .. فجعل نفسه أعظم معرفة وتحقيقاً مما لدى الأنبياء .. وذلك لما رأى أنه قد جمع من الخرافات والخزعبلات والأساطير شيئا نهي الرسل الصادقون عن افترائه وتناقله وتداوله .. هذه هي حقيقة الكشف الصوفي الذي زعم أصحابه أنه ثمرة العبادة والتقوى والاتصال بالله والملائكة والأنبياء والخضر، وأنه نتيجة حتمية لسباحة أرواحهم في الأزل والأبد، والسماوات السبع وما فوقها والأراضين السبع وما تحتها .. لقد أتونا بعد هذه السياحة الشيطانية بعشرات المجلدات والخرافات والخزعبلات بعد أن لبسوها وخلطوها ببعض العلم الذي جاء به الرسل فخلطوا الأمر على عامة المسلمين، وأضلوا من لا علم لهم بالكتاب والسنة، وظنوا فعلاً أن هؤلاء الناس صالحون وأن علومهم هذه قد أتوا بها فعلاً من الغيب، وخاصة أنهم رأوهم أحياناً تجري على أيديهم بعض الحيل الشيطانية، وبعض الكرامات الإبليسية من خرق العادات أو الإخبار ببعض المغيبات ما هو عند الهندوس والمجوس والدجال وابن صياد أمثاله وأكثر منه مئات المرات، لقد أوهم العامة ما جرى على يد هؤلاء من هذه الكرامات الإبليسية التي هي حقاً أمثال شيطانية من ما يجري للكفار والمنافقين والدجالين، فظنوا أن هؤلاء من أهل الله حقاً، وأن الحجب ترتفع عنهم صدقاً وأن علومهم هذه آتية من الغيب يقيناً وبذلك راجت يوماً بضاعة هؤلاء الزنادقة وصرفوا المسلمين عن دينهم الحق وعقيدتهم المستقيمة. وها نحن نورد بعد هذه المقدمة التي لا بد منها طائفة من النقول من كتب القوم المعتمدة التي تبين هذا الباطل الذي يدعونه ويسمونه كشفاً، وحقيقة، وعلماً لدنياً، وتحققاً واطلاعاً ليكون القارئ المسلم على بينه مما عليه هؤلاء الزنادقة. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص145 - 149 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 144 المبحث الثالث: عبدالكريم الجيلي وكتابه (الإنسان الكامل) هذا عبدالكريم الجيلي يكتب كتابه (الإنسان الكامل) زاعماً أيضاً أنه من الله أخذه، وأن الله أمره بإخراج هذا الكتاب للناس وأنه ليس فيه شيء إلا وهو مؤيد بالكتاب والسنة يقول: " .. ثم التمس من الناظر في هذا الكتاب بعد أن أعلمه أني ما وضعت شيئا في هذا الكتاب إلا وهو مؤيد بكتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه إذا لاح له شيء في كلامي بخلاف الكتاب والسنة فليعلم أن ذلك من حيث مفهومه لا من حيث مرادي الذي وضعت الكلام لأجله فليتوقف عن العمل به مع التسليم إلى أن يفتح الله تعالى عليه بمعرفته، ويحصل له شاهد ذلك من كتاب الله تعالى أو سنة نبيه. وفائدة التسليم هنا وترك الإنكار أن لا يحرم الوصول إلى معرفة ذلك، فإن من أنكر شيئا من علمنا هذا حرم الوصول إليه ما دام منكراً، ولا سبيل إلى غير ذلك، بل ويخشى عليه حرمان الوصول إلى ذلك مطلقاً بالإنكار أول وهلة، ولا طريق له إلا الإيمان والتسليم. واعلم أن كل علم لا يؤيده الكتاب والسنة فهو ضلالة، لا لأجل ما لا تجد أنت له ما يؤيده، فقد يكون العلم في نفسه مؤيداً بالكتاب والسنة، ولكن قلة استعدادك منعتك من فهمه فلن تستطيع أن تتناوله له بهمتك من محله فتظن أنه غير مؤيد بالكتاب والسنة، فالطريق في هذا التسليم وعدم العمل به من غير إنكار إلى أن يأخذ الله بيدك إليه" (الإنسان الكامل ص8). علماً بأنه لم يضع فيه شيئا مطلقاً وافق الكتاب والسنة، بل جمع فيه من الكفر والزندقة أعظم من كل كفر الأولين والآخرين كيف لا وقد جعل كل من عبد شيئا في الأرض فما عبد إلا الله. بل زعم أنه ليس في الوجود إلا الله، الذي خلق الوجود من نفسه لنفسه فليس هناك إلا هو فهو الرب والعبد، والشيطان والراهب، والسماء والأرض، والظلمات والنور، والحمل الوديع والذئب الكاسر .. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وأستغفر الله من تسطير ذلك وكتابته .. اللهم رحماك رحماك .. لقد قلت في كتابك عن الذين ادعوا الألوهية في عيسى وهو نبي كريم ونفس طيبة مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا [الكهف:5] وقلت أيضاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:90 - 93] .. وهذا الزنديق يا ربي وأمثاله جعلوا كل كلب وخنزير في الأرض، وكل شيطان وإبليس وكل كافر وفاجر جزءاً منك، ومظهراً لك (ومجلى) -حسب عبارتهم- من مجإليك وتجلياتك ثم أنت ترزقهم وتعافيهم وتحلم عليهم سبحانك ما أحلمك وأجلك وأعظمك. لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. نعود إلى الجيلي وكتابه الذي يقول فيه بالنص: "وكنت قد أسميت الكتاب على الكشف الصريح وأيدت مسائله بالخبر الصحيح ( .. انظر) وسميته بالإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل" ثم يقول: "فأمرني الحق الآن بإبرازه بين تصريحه وإلغازه، ووعدني بعموم الانتفاع فقلت طوعاً للأمر المطاع، وابتدأت في تأليفه متكلاً على الحق في تعريفه، فها أنا ذا أكرع من دنه (الدن: هو وعاء الخمر الذي يخمر فيه) القديم، بكأس الاسم العليم، في قوابل أهل الإيمان والتسليم خمرة مرضعة من الحي الكريم، مسكرة الموجود بالقديم) أ. هـ (ص6). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 145 ما الذي يتكلم عليه الجيلي في هذا الكتاب: إن كتابه من أوله وآخره يدور حول معنى واحد وهو وصف الله بصفات مخلوقاته، وبيان أن المخلوق هو عين الخالق .. هذا كل ما يريد الجيلي أن يصل إليه وهذا هو ما شرحه شرحاً كاملاً في كتابه، وأضاف أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الإنسان الكامل والإله الكامل الذي اتصف بكل صفات الله بعلوها وسفلها، بحلوها ومرها؛ فقل هو الله أحد معناها كما يفسرها الجيلي: قل يا محمد الإنسان هو الله أحد. فهاء الإشارة في (هو) راجع إلى فاعل قل وهو أنت .. فيكون المعني يا محمد هو أي أنت الله أحد .. هذا هو الكشف الذي كشفه لنا الجيلي من الغيب وهذا هو الكتاب الذي ليس فيه شيء يخالف الكتاب والسنة. وهذا نص عبارة الجيلي في ذلك: .. "الحرف الخامس من هذا الاسم: هو الهاء، فهو إشارة إلى هوية الحق الذي هو عين الإنسان قال الله تعالى (قل) يا محمد (هو) أي الإنسان (الله أحد) فهاء الإشارة في هو راجع إلى فاعل قل وهو أنت، وإلا فلا يجوز إعادة الضمير إلى غير مذكور أقيم المخاطب هنا مقام الغائب التفاتاً بيانياً إشارة إلى أن المخاطب بهذا ليس نفس الحاضر وحده، بل الغائب والحاضر في هذا على السواء. قال الله تعالى (ولو ترى إذ وقفوا) ليس المراد به محمداً وحده بل كل راء، فاستدارة رأس الهاء إشارة إلى دوران رحى الوجود الحقي والخلقي على الإنسان، فهو في عالم المثال كالدائرة التي أشارت الهاء إليها، فقل ما شئت إن شئت قلت الدائرة حق وجوفها خلق، وإن شئت قلت الدائرة خلق وجوفها حق فهو حق وهو خلق، وإن شئت قلب الأمر فيه بالإلهام، فالأمر في الإنسان دوري بين أنه مخلوق له ذل العبودية والعجز وبين أنه على صورة الرحمن، فله الكمال والعز. قال الله تعالى (والله هو الولي) يعني الإنسان الكامل الذي قال فيه (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) لأنه يستحيل الخوف والحزن وأمثال ذلك على الله لأن الله هو الولي الحميد وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الشورى:9] أي الولي، فهو حق منصور في صورة خلقية، أو خلق متحقق بمعاني الإلهية، فعلى كل حال وتقدير وفي كل مقال وتقرير هو الجامع لوصفي النقص والكمال، والساطع في أرض كونه بنور شمس المتعال، فهو السماء والأرض، وهو الطول والعرض، وفي هذا المعنى قلت: لي الملك في الدارين لم أرى فيهما ... سواي فأرجو فضله أو فأخشاه ولا قبل من قبلي فالحق شأنه ... ولا بعد من بعدي فأسبق معناه وقد حزت أنواع الكمال وإنني ... جمال جلال الكل ما أنا إلا هو فمهما ترى من معدن ونباته ... وحيوانه مع أنه وسجاياه ومهما ترى من عنصر وطبيعة ... ومن هباء الأصل طيب هيولاه ومهما ترى من أبحر وقفاره ... ومن شجر أو شاهق طال أعلاه ومهما ترى من صورة معنوية ... ومن شهد للعين طال محياه إلى أن يقول: فإني ذلك الكل والكل مشهدي ... أنا المتجلي في حقيقته لا هو" (ص31) ويشرح الجيلي هذا المعنى المجمل تفصيلياً في الباب الستين من كتابه فيقول بالنص: الباب الملفى ستين: في الإنسان الكامل وأنه محمد صلى الله عليه وسلم وأنه مقابل للحق والخلق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 146 "اعلم حفظك الله أن الإنسان الكامل هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره، وهو واحد منذ كان الوجود إلى أبد الآبدين، ثم له تنوع في ملابس ويظهر في كنائس (الكنيسة مكان العبادة عند النصارى. والمعنى المشار إليه هنا أنه يوصف بالشيء ونقيضه كما قال فريد الدين العطار: وما الكلب والخنزير إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسة) فيسمى به باعتبار لباس، ولا يسمى به باعتبار لباس آخر، فاسمه الأصلي الذي هو له محمد، وكنيته أبو القاسم، ووصفه عبدالله، ولقبه شمس الدين، ثم له باعتبار ملابس أخرى أسام، وله في كل زمان اسم ما يليق بلباسه في ذلك الزمان، فقد اجتمعت به صلى الله عليه وسلم وهو في صورة شيخي الشيخ شرف الدين اسماعيل الجبرتي، ولست أعلم أنه النبي صلى الله عليه وسلم وكنت أعلم أنه الشيخ، وهذا من جملة مشاهد شاهدته فيها بزبيد سنة ست وتسعين وسبعمائة وسر هذا الأمر تمكنه صلى الله عليه وسلم من التصور بكل صورة، فالأديب إذا رآه في الصورة المحمدية التي كان عليها في حياته فإنه يسميه باسمه، وإذا رآه في صورة ما من الصور وعلم أنه محمد فلا يسميه إلا باسم تلك الصورة، ثم لا يوقع ذلك الاسم الأعلى الحقيقة المحمدية. ألا تراه صلى الله عليه وسلم لما ظهر في صورة الشبلي رضي الله عنه قال الشبلي لتلميذه أشهد أني رسول الله وكان التلميذ صاحب كشف فعرفه، فقال: أشهد أنك رسول الله، وهذا أمر غير منكور وهو كما يرى النائم فلان في صورة فلان. وأقل مراتب الكشف أن يسوغ به في اليقظة ما يسوغ به اليقظة ما يسوغ به في النوم، ولكن بين النوم والكشف فرقاً وهو أن الصورة التي يرى فيها محمد صلى الله عليه وسلم في النوم لا يوقع اسمها في اليقظة على الحقيقة المحمدية، لأن عالم المثال يقع التعبير فيه فيعبر عن الحقيقة المحمدية إلى حقيقة تلك الصورة في اليقظة، بخلاف الكشف فإنه إذا كشف لك عن الحقيقة المحمدية أنها متجلية في صورة من صور الآدميين، فيلزمك إيقاع اسم تلك الصورة على الحقيقة المحمدية، ويجب عليك أن تتأدب مع صاحب تلك الصورة تأدبك مع محمد صلى الله عليه وسلم. لما أعطاك الكشف أن محمداً صلى الله عليه وسلم متصور بتلك الصورة، فلا يجوز لك بعد شهود محمد صلى الله عليه وسلم فيها أن تعاملها بما كنت تعاملها به من قبل، ثم إياك أن تتوهم شيئا في قولي من مذهب التناسخ، حاشا لله وحاشا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك مرادي، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم له من التمكين في التصور بكل صورة حتى يتجلى في هذه الصورة، وقد جرت سنته صلى الله عليه وسلم أنه لا يزال يتصور في كل زمان بصورة أكملها ليعلي شأنهم ويقيم ميلانهم، فهم خلفاؤه في الظاهر وهو في الباطن حقيقتهم" أ. هـ. ثم يستطرد الجيلي حسب اعتقاده مبيناً كيف يكون محمد صلى الله عليه وسلم إنساناً كاملاً، وإلهاً تحققت فيه كل مظاهر الربوبية والألوهية وتجلت فيه كل أسماء الله وصفاته .. ولما كان الله عند الجيلي ومن على طريقته من هؤلاء الزنادقة الملحدين هو هذه المخلوقات لا غير .. استطرد الجيلي مبيناً أن الكون الوجود في كل شيء منه مقابل للذات المحمدية. ففي ذات الرسول شبيه العرش والكرسي، والسماوات والأرض والملائكة والحيوان والنبات والجماد .. وسائر الموجودات التي هي في حقيقتها عند الجيلي هي الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً .. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 147 يقول الجيلي شارحاً ذلك: "واعلم أن الإنسان الكامل مقابل لجميع الحقائق الوجودية بنفسه. فيقابل الحقائق العلوية بلطافته، ويقابل الحقائق السفلية بكثافته، فأول ما يبدو في مقابلته للحقائق الخلقية يقابل العرش بقلبه، قال صلى الله عليه وسلم () قلب المؤمن من عرش الرحمن () (1)، ويقابل الكرسي بآنيته، ويقابل سدرة المنتهي بمقامه، ويقابل القلم الأعلى بعقله، ويقابل اللوح المحفوظ بنفسه، ويقابل العناصر بطبعه، ويقابل الهيولي بقابليته، ويقابل الهباء بحيز هيكله، ويقابل الفلك الأطلس برأيه، ويقابل الفلك المكوكب بمدركته، ويقابل السماء الخامسة بهمته، ويقابل السماء الرابعة بفهمه، ويقابل السماء الثالثة بخياله، ويقابل السماء الثانية بفكره، ويقابل السماء الأولى بحافظته، ثم يقابل زحل بالقوى اللامسة، ويقابل المشتري بالقوى الدافعة، ويقابل المريخ بالقوى المحركة، ويقابل الشمس بالقوى الناظرة، ويقابل الزهرة بالقوى المتلذذة، ويقابل عطارد بالقوى الشامة، ويقابل القمر بالقوى السامعة، ثم يقابل فلك النار بحرارته، ويقابل فلك الماء ببرودته، ويقابل فلك الهواء برطوبته، ويقابل فلك التراب بيبوسته، ثم يقابل الملائكة بخواطره، ويقابل الجن والشياطين بوسواسه، ويقابل البهائم بحيوانيته، ويقابل الأسد بالقوى الباطشة، ويقابل الثعلب بالقوى الماكرة، ويقابل الذئب بالقوى الخادعة، ويقابل القرد بالقوى الحاسدة، ويقابل الفأر بالقوى الحريصة، وقس على ذلك باقي قواه، ثم إنه يقابل النار بالمادة الصفراوية، ويقابل الماء بالمادة البلغمية، ويقابل الريح بالمادة الدموية، ويقابل التراب بالمادة السوداوية، ثم يقابل السبعة أبحر بريقه ومخاطه وعرقه ونقاء أذنه ودمعه وبوله والسامع المحيط، وهو المادة الجارية بين الدم والعرق والجلد، منها تتفرع تلك الستة، ولكل واحد طعم، فحلو وحامض، ومر وممزوج، ومالح ونتن وطيب، ثم يقابل الجوهر بهويته وهي ذاته، ويقابل العرض بوصفه، ثم يقابل الجمادات بأنيابه، فإن الناب إذا بلغ وأخذ حده في البلوغ بقي شبه الجمادات لا يزيد ولا ينقص وإذا كسرته لا يلتحم بشيء، ثم يقابل النبات بشعره وظفره، ويقابل الحيوان بشهوانيته، ويقابل مثله من الآدميين ببشريته وصورته، ثم يقابل أجناس الناس، فيقابل الملك بروحه، ويقابل الوزير بنظره الفكري، ويقابل القاضي بعلمه المسموع، ورأيه المطبوع، ويقابل الشرطي بظنه، ويقابل الأعوان بعروقه وقواه جميعها، ويقابل المؤمنين بيقينه، ويقابل المشركين بشكه وريبه، فلا يزال يقابل كل حقيقة من حقائق الوجود برقيقة من رقائقه، فقد بينا فيما مضى من الأبواب خلق كل ملك مقرب من كل قوى من الإنسان الكامل، وبقي أن نتكلم عن مقابلة الأسماء والصفات. اعلم أن نسخة الحق تعالى كما أخبر صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((خلق الله آدم على صورة الرحمن)) (2) وفي حديث آخر ((خلق الله آدم على صورته)) (3) وذلك أن الله تعالى حي عليم قادر مريد سميع بصير متكلم، وكذلك الإنسان حي عليم .. الخ. ثم يقابل الهوية بالهوية، والإنية بالإنية، والذات بالذات، والكل بالكل، والشمول بالشمول، والخصوص بالخصوص، وله مقابلة أخرى يقابل الحق بحقائقه الذاتية، وقد نبهنا عليها في هذا الكتاب في غير ما موضع، وأما هنا فلا يجوز لنا أن نترجم عنها، فيكفي هذا القدر من التنبيه عليها. ثم اعلم أن الإنسان الكامل هو الذي يستحق الأسماء الذاتية، والصفات الإلهية استحقاق الأصالة والملك بحكم المقتضي الذاتي، فإنه المعبر عن حقيقته بتلك العبارات والمشار إلى لطيفته بتلك الإشارات ليس لها مستند في الوجود إلا الإنسان الكامل، فمثاله للحق مثال المرآة التي لا يرى الشخص صورته إلا فيها، وإلا فلا يمكنه أن يرى صورة نفسه لا بمرآة الاسم الله فهو مرآته، والإنسان الكامل أيضاً مرآة الحق، فإن الحق تعالى أوجب على نفسه أن لا ترى أسماؤه ولا صفاته إلا في الإنسان الكامل، وهذا معنى قوله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا [الأحزاب:72] يعني قد ظلم نفسه بأن أنزلها عن تلك الدرجة، جهولاً بمقداره لأنه محل الأمانة الإلهية وهو لا يدري" أ. هـ (المصدر السابق (ص76،77). المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص149 - 156   (1) قال الصغاني في ((موضوعات الصغاني)) (50): موضوع. (2) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 268) والطبراني (13614) وابن خزيمة في ((التوحيد)) (27) والدارقطني في ((الصفات)) (64/ 48) والبيهقي في ((الأسماء)) (2/ 64) قال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 106) رجاله رجال الصحيح غير اسحق بن اسماعيل الطالقاني وهو ثقة وفيه ضعف، وقال الألباني ضعيف كما في ((الضعيفة)) (1176) (3) رواه البخاري (6227) ومسلم (2612) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 148 المبحث الرابع: ادعاء رؤية العوالم العلوية والسفلية ولا يتوقف هذا الهذيان الذي يطالعنا به الجيلي في كتابه لحظة واحدة فهو يزعم أنه قد كشفت له الحجب فرأى العالم عاليه وسافله وشاهد الملائكة جميعاً وخاطبهم والرسل والأنبياء؛ فها هو يقول ويدعي: "وفي هذا المشهد (يعني بالمشهد اتصال الصوفي بأرواح المخلوقات التي وجدت في الحياة والتي لم توجد أيضاً لأن الأرواح في زعمه مخلوقة أبداً لا تفنى)، اجتماع الأنبياء والأولياء بعضهم ببعض أقمت فيه بزبيد (زبيد: مدينة من مدن اليمن المشهورة) بشهر ربيع الأول في سنة ثمانمائة من الهجرة النبوية فرأيت جميع الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين والأولياء والملائكة العالين، والمقربين، وملائكة التسخير، ورأيت روحانية الموجودات جميعها، وكشفت عن حقائق الأمور على ما هي عليه من الأزل إلى الأبد" (انظر) ويستطرد قائلاً "وتحققت بعلوم إلهية لا يسع الكون أن نذكرها فيه" (ص97 ج2). ويستطرد الجيلي في هذيانه وكفرياته قائلاً عن مشاهداته المزعومة في خلق السماء الثانية: "رأيت نوحاً عليه السلام في هذه السماء جالساً على سرير خلق من نور الكبرياء بين أهل المجد والثناء فسلمت عليه وتمثلت بين يديه فرد علي السلام ورحب بي وقام". إلى أن يقول: "وروحانية الملك الحاكم على جميع ملائكة هذه السماء عجائب من آيات الرحمن وغرائب من أسرار الأكوان لا يسعنا إذاعتها في أهل هذا الزمان" (ص100) أ. هـ. ويستطرد الجيلي مبيناً مشاهداته المزعومة في السماء الثالثة وأنه رأى يوسف عليه السلام وأنه دار بينهما هذا الحديث الذي يزعم الجيلي في آخره أنه كان يعلم هذه العلوم التي أخبره يوسف بها قبل أن يتفوه بها يوسف. وما هذه العلوم .. إنها هذه الكفريات والهذيانات نفسها وهذا نص عبارته في ذلك: "اجتمعت في هذه السماء مع يوسف عليه السلام، فرأيته على سرير من الأسرار كاشفاً عن رمز الأنوار عالماً بحقيقة ما انعقدت عليه أكلة الأحبار متحققاً بأمر المعاني، مجاوزاً عن قيد الماء والأواني فسلمت إلى تحية وافد إليه فأجاب وحياً ثم رحب بي وبيا، فقلت له: سيدي أسألك عن قولك رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ [يوسف:101] أي المملكتين تعني وعن تأويل أي الأحاديث تكنى فقال: أردت المملكة الرحمانية المودعة في النكتة الإنسانية (يعني أن يوسف عليه السلام أجابه بأن الله أطلعه عل وجود الرحمن في كيان الإنسان) وتأويل الأحاديث: الأمانات الدائرة في الألسنة الحيوانية، فقلت له يا سيدي أليس هذا المودع في التلويح حللاً من البيان والتصريح. فقال: اعلم أن للحق تعالى أمانة في العباد يوصلها المتكلمون بها إلى أهل الرشاد، قلت: كيف يكون للحق أمانة وهو أصل الوجود في الظهور والإبانة، فقال: ذلك وصفه وهذا شأنه وذاك حكمه وهذه عبارته، والأمانة يجعلها الجأهل في اللسان ويحملها العالم في السر والجنان، والكل في حيرة عنه، ولم يفز غير العارف بشيء منه، فقلت: وكيف ذلك. فقال: اعلم أيدك الله وحماك أن الحق تعالى جعل أسراره كدرر إشارات مودعة في أسرار عبارات (يعني أن سر الخلق قد صحبه الله في أسرار العبارات التي يوحيها إلي)، فهي ملقاة في الطريق دائرة على ألسن الفريق، يجهل العام إشارتها، ويعرف الخاص ما سكن عبارتها، فيؤولها على حسب المقتضى ويؤول بها إلى حيث المرتضى، وهل تأويل الأحلام إلا رشحة من هذا البحر أو حصاة من جنادل هذا القفر فعلمت ما أشار إليه الصديق ولم أكن قبله جاهلاً بهذا التحقيق، ثم تركته وانصرفت في الرفيق الأعلى ونعم الرفيق" أ. هـ (ص101). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 149 ثم يزعم الجيلي أن السماء الرابعة هي قلب الشمس وأن فيها إدريس وأن أكثر الأنبياء في دائرة هذا الفلك المكين مثل عيسى وسليمان وداود وإدريس وجرجيس .. وغيرهم .. الخ. أسمعتم يا مسلمون نبياً من أنبياء الله يسمى جرجيس، .. ها هو الجيلي اطلع عليه في السماء وجاءكم باسمه كما جاءكم باسم ملك يسمى توحائيل .. أنظرتم كيف يكون الكشف وعلم الغيب. هذه هي نماذجه. وأما السماء الخامسة عند الجيلي فهي سماء الكوكب المسمى بهرام .. وحاكم هذه السماء عزرائيل وهو روحانية المريخ صاحب الانتقام والتوبيخ .. (هكذا والله .. ) ويستطرد الجيلي فيصف السماء السادسة فهي عنده كوكب المشتري .. ويقول "رأيت فيها موسى عليه السلام متمكناً في هذا المقام واضعاً قدمه على هذه السماء قابضاً بيمينه (يلاحظ في هذا التخليط والتقول على الله أن هؤلاء الكاذبين يعمدون إلى الوحي القرآني والحديثي فيأخذون منه ما يشاءون ويخلطونه بهذه الأكاذيب ويزعمون أن ذلك هو الكشف الذي كشف لهم فذكر منصبة موسى على ساق سدرة المنتهي مأخوذ من قول الرسول صلى الله عليه وسلم أكون أول من يفيق فأجد موسى باطشاً بساق العرش) ساق سدرة المنتهي سكران من خمر تجلي الربوبية .. " أي موسى انطبعت في مرآة علمه أشكال الأكوان وتجلت فيه ربوبية الملك الديان .. وأنه دار بينه وبين الجيلي هذا الحوار .. يقول الجيلي بالنص: "فوقفت متأدباً بين يديه، وسلمت بتحقيق مرتبته عليه، فرفع رأسه من سكرة الأزل ورحب بي ثم أهل، فقلت له: يا سيدي قد أخبر الناطق بالجواب الصادق في الخطاب، أنه قد برزت لك خلعة لن تراني من ذلك الجناب، وحالتك هذه غير حالة أهل الحجاب، فأخبرني بحقيقة هذا الأمر العجاب، فقال: اعلم أنني لما خرجت من مصر أرضي إلى حقيقة فرضي، ونوديت من طور قلبي بلسان ربي من جانب شجرة الأحدية في الوادي المقدس بأنوار الأزلية إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه:14] فلما عبدته كما أمر في الأشياء، وأثنيت عليه بما يستحقه من الصفات والأسماء تجلت أنوار الربوبية لي فأخذني عني، فطلبت البقاء في مقام اللقاء، ومحال أن يثبت المحدث لظهور القديم، فنادى لسان سري مترجماً عن ذلك الأمر العظيم، فقلت: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143] فأدخل بانيتي في حضرة القدس عليك فسمعت الجواب من ذلك الجناب لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إلى الْجَبَلِ [الأعراف:143] وهي ذاتك المخلوقة من نوري في الأزل، فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ بعد أن أظهر القديم سلطانه فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ [الأعراف:143] وجذبتني حقيقة الأزل وظهر القديم على المحدث جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا ً [الأعراف:143] فلم يبق في القديم إلا القديم، ولم يتجل بالعظمة إلا العظيم، هذا على أن استيفاؤه غير ممكن وحصره غير جائز، فلا تدرك ماهيته ولا ترى ولا يعلم كنهه ولا يدري، فلما اطلع ترجمان الأزل على هذا الخطاب أخبركم به من أم الكتاب (أي أن الجيلي اطلع على هذه المكاشفة من أم الكتاب) فترجم بالحق والصواب، ثم تركته وانصرفت وقد اغترفت من بحره ما اغترفت (ص104) أ. هـ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 150 ويستطرد الجيلي مبيناً مشاهداته في هذه السماء فيقول: "ثم إني رأيت ملائكة هذه السماء مخلوقة على سائر أنواع الحيوانات فمنهم من خلقه الله تعالى على هيئة الطائر وله أجنحة لا تنحصر للحاصر، وعبادة هذا النوع خدمة الأسرار ورفعها من حضيض الظلمة إلى عالم الأنوار، ومنهم من خلقه الله تعالى على هيئة الخيول المسومة، وعبادة هذه الطائفة المكرمة رفع القلوب من سجن الشهادة إلى فضاء الغيوب، ومنهم من خلقه الله تعالى على هيئة النجائب وفي صورة الركائب، وعبادة هذا النوع رفع النفوس إلى عالم المعاني من عالم المحسوس، ومنه من خلقه الله تعالى على هيئة البغال والحمير!! وعبادة هذا النوع رفع الحقير وجبر الكسير والعبور من القليل إلى الكثير ومنهم من خلقه الله تعالى على صرة الإنسان وعبادة هؤلاء حفظ قواعد الأديان، ومنهم من خلق على صفة بسائط الجواهر والأعراض وعبادة هؤلاء إيصال الصحة إلى الأجسام المراض، ومنهم من خلق على أنواع الحبوب والمياه وسائر المأكولات والمشروبات، وعبادة هؤلاء إيصال الأرزاق إلى مرزوقها من سائر المخلوقات، ثم إني رأيت في هذه السماء ملائكة مخلوقة بحكم الاختلاط مزجاً، فالنصف من نار والنصف من ماء عقد ثلجاً، فلا الماء يفعل في إطفاء النار ولا النار تغير الماء عن ذلك القرار" (ص105). وأما السماء السابعة التي شاهدها الجيلي وجاء يقص علينا مشاهداته فهي السماء السابعة، وهي عنده زحل، ويحكى أنه شاهد فيها إبراهيم عليه السلام قائماً في هذه السماء وله منصة يجلس عليها على يمين العرش من فوق الكرسي وهو يتلو آية الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء [إبراهيم:39]. ويستطرد الجيلي بعد ذلك تبجحاً أنه صعد إلى سدرة المنتهي وأنه رأى هناك الملائكة وأنها على هيئات مختلفة وأمامهم سبعة، ثم ثلاثة ثم ملك مقدم يسمى عبدالله .. وأنهم أخبروه أنهم لم يسجدوا لآدم -هكذا .. علماً بأن الله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الحجر:30 - 31]. فأكد الله سبحانه سجود الملائكة بكل وجميع ولكن جاءنا الجيلي ليخبرنا بأن الملائكة هؤلاء الذين شاهدهم في السماء لم يؤمروا بالسجود لآدم فاكتشف ما لم يعلمه الله ورسوله. وهذا نص عبارته في ذلك: "ثم رأيت سبعة جملة هذه المائة متقدمة عليهم يسمون قائمة الكروبيين، ورأيت ثلاثة مقدمين على هذه السبعة يسمون بأهل المراتب والتمكين، ورأيت واحداً مقدماً على جميعهم يسمى عبدالله، وكل هؤلاء عالون ممن لم يؤمروا بالسجود لآدم، ومن فوقهم كالملك المسمى بالنون والملك المسمى بالقلم وأمثالهم أيضاً عالون، وبقية ملائكة القرب دونهم، وتحتهم مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل (ليس في ملائكة الله عز وجل ملك يسمى عزرائيل ولم يثبت ذلك في حديث صحيح أو ضعيف ولكنه اسم يجري على ألسنة العامة، ولكن هؤلاء الجهلة يلتقطون مثل هذه الأسماء ويجعلونها كشفاً وعلماً لدنياً وروحياً وإلهاماً لهم فانظر وتعجب .. ) وأمثالهم. ورأيت في هذا الفلك من العجائب والغرائب ما لا يسعنا شرحه" (ص107). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 151 ولا يكتفي الجيلي ببيان كفرياته وهذيانه في السماء فينتقل إلى الأرض وهي عنده ليست أرضاً واحدة بل هو يزعم أنه شاهد سبعة أرضين وسبعة بحار ومحيطات وهاك بعضاً من هذا الهذيان الذي يزعم فيه الجيلي أنه رأى فيه الخضر وموسى، وأفلاطون وأرسطو والاسكندر، إلى هذيان وكفر لا يسع المؤمن عند سماعه وقراءته إلا أن يقول (يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك) وأن يقول أيضاً (الحمد لله الذي عافانا وما علينا ووقانا) وهاك أخي القارئ شيئا من هذا الهذيان: "إن الله تعالى لما بسط الأرض جعلها على قرني ثور يسمى البرهوت وجعل الثور على ظهر الحوت في هذا البحر يسمى البهموت، وهو الذي أشار إليه الحق تعالى بقوله وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى [طه:6] ومجمع البحرين هذا هو الذي اجتمع فيه موسى عليه السلام بالخضر على شطه، لأن الله تعالى كان قد وعده بأن يجتمع بعبد من عباده على مجمع البحرين، فلما ذهب موسى وفتاه حاملاً لغذائه ووصلا إلى مجمع البحرين لم يعرفه موسى عليه السلام إلا بالحوت الذي نسيه الفتى على الصخرة وكان البحر مداً، فلما جزر بلغ الماء إلى الصخرة فصارت حقيقة الحياة في الحوت، فاتخذ سبيله في البحر سرباً، فعجب موسى من حياة حوت ميت قد طبخ على النار، وهذا الفتى اسمه يوشع بن نون، وهو أكبر من موسى عليه السلام في السن سنة شمسية وقصتهما مشهورة، وقد فصلنا ذلك في رسالتنا الموسومة (بمسامرة الخليل ومسايرة الصحيب) فليتأمل فيه. سافر الإسكندرية ليشرب من هذا الماء اعتماداً على كل كلام أفلاطون أن من شرب من ماء الحياة فإنه لا يموت، لأن أفلاطون كان قد بلغ هذا المحل وشرب من هذا البحر فهو باق إلى يومنا هذا في جبل يسمى دواوند، وكان أرسطو تلميذ أفلاطون وهو أستاذ الاسكندر صحب الاسكندر في مسيره إلى مجمع البحرين، فلما وصل إلى أرض الظلمات ساروا وتبعهم نفر من العسكر وأقام الباقون في مدينة تسمى ثُبُتْ برفع الثاء المثلثة والباء الموحدة وإسكان التاء المثناة من فوق وهو حد ما تطلع الشمس عليه، وكان في جملة من صحب الاسكندر من عسكر الخضر عليه السلام، فساروا مدة لا يعلمون عددها ولا يدركون أمدها وهم على ساحل البحر، وكلما نزلوا منزلاً شربوا من الماء، فلما ملوا من طول السفر أخذوا في الرجوع إلى حيث أقام العسكر، وقد كانوا مروا بمجمع البحرين على طريقهم من غير أن يشعروا به، فما أقاموا عنده ولا نزلوا به لعدم العلامة، وكان الخضر عليه السلام قد ألهم بأن أخذ طيراً فذبحه وربطه على ساقه، فكان يمشي ورجله في الماء، فلما بلغ هذا المحل انتعش الطير واضطرب عليه، فأقام عنده وشرب من ذلك الماء واغتسل منه وسبح فيه، فكتمه عن الاسكندر وكتم أمره إلى أن خرج، فلما نظر أرسطو إلى الخضر عليه السلام علم أنه قد فاز من دونهم بذلك، فلزم خدمته إلى أن مات واستفاد من الخضر هو والاسكندر علوماً جمة" (ص117). ويستطرد الجيلي شارحاً له عن طريق كشوفاته وهذيانه فيقول: " .. واعلم أن الخضر عليه السلام قد مضى ذكره فيما تقدم، خلقه الله تعالى من حقيقته وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي [الحجر:29] فهو روح الله، فلهذا عاش إلى يوم القيامة، اجتمعت به وسألته، ومنه أروي جميع ما في هذا البحر المحيط (جميع الصوفية يزعمون أن كل ما ينقلونه من علومهم يسمعونه من الخضر، وقد زاد الجيلي أن الخضر مخلوق من روح الله .. ولا يعلم هذا الجأهل أن آدم هو الذي أمر الله جبريل أن ينفخ فيه وجبريل هو روح الله وليس الخضر خلقاً خاصاً). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 152 واعلم أن هذا البحر المحيط المذكور، وما كان منه منفصلاً عن جبل (ق) مما يلي الدنيا فهو مالح وهو البحر المذكور، وما كان منه متصلاً بالجبل فهو وراء المالح، فإنه البحر الأحمر الطيب الرائحة وما كان من وراء جبل (ق) متصلاً بالجبل الأسود فإنه البحر الأخضر، وهو من الطعم كالسم القاتل، ومن شرب منه قطرة هلك، وفني لوقته، وما كان منه وراء الجبل يحكم الانفصال والحيطة والشمول بجميع الموجودات فهو البحر الأسود الذي لا يعلم له طعم ولا ريح ولا يبلغه أحد، بل وقع به الأخبار، فعلم وانقطع عن الآثار فكتم. وأما البحر الأحمر الذي نشره كالمسك الأذفر فإنه يعرف بالبحر الأسمى ذي الموج الأنمى، رأيت على ساحل هذا البحر رجالاً مؤمنين، ليس لهم عبادة إلا تقريب الخلق إلى الحق، قد جبلوا على ذلك، فمن عاشرهم أو صاحبهم عرف الله بقدر معاشرتهم، وتقرب إلى الله بقدر مسايرتهم، وجوههم كالشمس الطالع والبرق اللامع، يستضيء بهم الحائر في تيهات القفار، ويهتدي بهم التائه في غيابات البحار، إذا أرادوا السفر في هذا البحر نصبوا شركاً لحيتانه، فإذا اصطادوا ركبوا عليها لأن مراكب هذا البحر حيتانه، ومكتسبه لؤلؤه ومرجانه، ولكنهم عند أن يستووا على ظهر هذا الحوت ينتعشون بطيب رائحة البحر فيغمى عليهم، فلا يفيقون إلى أنفسهم، ولا يرجعون إلى محسوسهم ما داموا راكبين في هذا البحر، فتسير بهم الحيتان إلى أن يأخذوا حدها من الساحل، فتقذف بهم في منزل من تلك المنازل، فإذا وصلوا إلى البر وخرجوا من ذلك البحر، رجعت إليهم عقولهم، وبان لهم محصولهم فيظفرون بعجائب وغرائب لا تحصر، أقل ما يعبر عنها، بأنها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" (ص118). وفي ختام هذا الهذيان يقول الجيلي: "وأما البحر السابع فهو الأسود القاطع، لا يعرف سكانه، ولا يعلم حيتانه، فهو مستحيل الوصول غير ممكن الحصول، لأنه وراء الأطوار وآخر الأكوار والأدوار، لا نهاية لعجائبه، ولا آخر لغرائبه، قصر عنه المدى فطال، وزاد على العجائب حتى كأنه المحال، فهو بحر الذات الذي حارت دونه الصفات، وهو المعدوم الموجود والموسوم والمفقود والمعلوم والمجهول والمنقول والمحتوم والمعقول، وجوده فقدانه، أوله محيط بآخره وباطنه مستو على ظاهره، لا يدرك ما فيه، ولا يعلمه أحد فيستوفيه، فلنقبض العنان عن الخوض فيه والبيان وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب:4] وعليه التكلان" (ص118) أ. هـ. وهكذا يكون الهذيان مختوماً بقوله تعالى وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب:4] .. أعرفتم الحق الذي يدعونا إليه الجيلي ومن على شاكلته من هؤلاء الملاحدة والزنادقة؟ إنه هذا الهذيان الذي لا أول له ولا آخر. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص156 - 164 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 153 المبحث الخامس: ما الذي يريده هؤلاء الملاحدة؟! وقد يسأل سائل: وما الذي يريده هؤلاء من تأليف هذه الكتب، ونشر هذا الجنون والهذيان؟! ولست أنا الذي سأجيب عن هذا السؤال، وإنما سأثبت الجواب من كلام الجيلي نفسه. إنه يقول بالنص:"اعلم أن الله تعالى إنما خلق جميع الموجودات لعبادته، فهم مجبولون على ذلك مفطورون عليه من حيث الأصالة، فما في الوجود شيء إلا هو يعبد الله بحاله ومقاله وفعاله، بل بذاته وصفاته، فكل شيء في الوجود مطيع لله تعالى، لقوله تعالى للسماوات والأرض اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11] وليس المراد بالسماوات إلا أهلها، ولا بالأرض إلا سكانه. وقال تعالى وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] ثم شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يعبدونه بقوله ((كل ميسر لما خلق له)) (1) لأن الجن والإنس مخلوقون لعبادته وهم ميسرون لما خلقوا له، فهم عباد الله بالضرورة، ولكن تختلف العبادات لاختلاف مقتضيات الأسماء والصفات، لأن الله تعالى متجل باسمه المضل، كما هو متجل باسمه الهادي، فكما يجب ظهور أثر اسمه المنعم، كذلك يجب ظهور أثر اسمه المنتقم. واختلاف الناس في أحوالهم لاختلاف أرباب الأسماء والصفات، قال تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213] يعني عباد الله مجبولون على طاعته من حيث الفطرة الأصلية، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ليعبده من اتبع الرسل من حيث اسمه المضل، فاختلف الناس وافترقت الملل وظهرت النحل، وذهبت كل طائفة إلى ما علمته أنه صواب. ولو كان ذلك العلم عند غيرها خطأ ولكن حسنه الله عندها ليعبدوه من الجهة التي تقتضيها تلك الصفة المؤثرة في ذلك الأمر، وهذا معنى قوله مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا [هود:56] فهو الفاعل بهم على حسب ما يريد مريده، وهو عين ما اقتضته صفاته، فهو سبحانه وتعالى يجزيهم على حسب مقتضى أسمائه وصفاته، فلا ينفعه إقرار أحد بربوبيته ولا يضره جحود أحد بذلك، بل هو سبحانه وتعالى يتصرف فيهم على ما هو مستحق لذلك من تنوع عباداته التي تنبغي لكماله، فكل من في الوجود عابد لله تعالى، مطيع لقوله تعالى تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:44] لأن من تسبيحهم ما يسمى مخالفة ومعصية وجحوداً وغير ذلك، فلا يفقهه كل أحد، ثم إن النفي إنما وقع على الجملة، فصح أن يفقهه البعض؛ فقوله وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ يعني من حيث الجملة، فيجوز أن يفقهه بعضهم" (ص120). وبعد أن يذكر الجيلي طوائف الناس ومللهم يقول: "فكل هذه الطوائف عابدون لله تعالى كما ينبغي أن يعبد لأنه خلقهم لنفسه لا لهم فهم له كما يستحق ثم إنه سبحانه وتعالى أظهر في هذه الملل حقائق أسمائه وصفاته فتجلى في جميعها بذاته فعبدته جميع الطوائف" (ص122). ويشرح هذا المعنى تفصيلياً فيقول:   (1) رواه البخاري (7551) ومسلم (2649) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 154 "فأما الكفار فإنهم عبدوه بالذات، لأنه لما كان الحق سبحانه وتعالى حقيقة الوجود بأسره والكفار من جملة الوجود وهو حقيقتهم فكفروا أن يكون لهم رب لأنه تعالى حقيقتهم ولا رب له بل هو الرب المطلق، فعبدوه من حيث ما تقتضيه ذواتهم التي هو عينها (وما دام أنهم في زعمه وكفره هم عين الله فهم ينفذون لثبته وأمره بل هم الله فلا حاجة بهم إلى أن يعلموا ذلك أو لا يعلموه. وبالتالي فكفرهم بإله غيرهم وخارج عن طبيعتهم هو عين الإيمان وعين الحق في نظر الجيلي الزنديق ومن على شاكلته من هؤلاء الملاحدة الذين لم تعرف الأرض أفجر ولا أكفر منهم). ثم من عبد منهم الوثن فلسر وجوده سبحانه بكماله بلا حلول ولا مزج في كل فرد من أفراد ذوات الوجود، فكان تعالى حقيقة تلك الأوثان التي يعبدونها فما عبدوا إلا الله" (ص122). وأظن أنه ليس هناك عبارة أصرح وأوضح من هذه العبارات تبين المقصود والمآل الذي يرمي المتصوفة والوصول إليه. ويستطرد الجيلي مبيناً عقائد الناس وأنهم جميعاً على حق. فيقول عن اليهود: "وأما اليهود فإنهم يتعبدون بتوحيد الله تعالى ثم بالصلاة في كل يوم مرتين .. ويتعبدون بالاعتكاف يوم السبت، وشرط الاعتكاف عندهم أن لا يدخل في بيته شيئا مما يتمول به، ولا مما يؤكل، ولا يخرج منه شيءاً، ولا يحدث فيه نكاحاً ولا بيعاً ولا عقداً، وأن يتفرغ لعبادة الله تعالى لقوله تعالى في التوراة: (أنت وعبدك وأمتك لله تعالى في يوم السبت)، فلأجل هذا حرم عليهم أن يحدثوا في يوم السبت شيئا مما يتعلق بأمر دنياهم، ويكون مأكوله مما جمعه يوم الجمعة، وأول عندهم إذا غربت الشمس من يوم الجمعة، وآخره الاصفرار من يوم السبت. وهذه حكمة جليلة؛ فإن الحق تعالى خلق السماوات والأرضين في ستة أيام، وابتدأها في يوم الأحد ثم استوى على العرش في اليوم السابع وهو يوم السبت، فهو يوم الفراغ، فلأجل هذا عبد الله اليهود بهذه العبادة في هذا اليوم إشارة إلى الاستواء الرحماني وحصوله في هذا اليوم فافهم" (ص127). ثم يقول مادحاً النصارى كذلك فيقول: "وأما النصارى فإنهم أقرب من جميع الأمم الماضية إلى الحق تعالى، فهم دون المحمديين، سببه أنهم طلبوا الله تعالى فعبدوه في عيسى ومريم وروح القدس، ثم قالوا بعدم التجزئة، ثم قالوا بمقدمه على وجوده في محدث عيسى وكل هذا تنزيه في تشبيه لائق بالجناب الإلهي". أي أن فعل النصارى هذا من تشبيه الله بخلقه ومن عبادة الثلاث ومن اتخاذ أرباب مع الله كل ذلك لائق في عقيدة عبدالكريم الجيلي ولكنه يراهم أيضاً مقصرون لأنهم حصروا الله في ثلاث نقط، والله عنده لا ينحصر في ثلاثة لأن كل موجود هو الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 155 هذه هي الغاية التي يسعى هؤلاء الزنادقة سعياً حثيثاً إليها. إنها التسوية بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والكفر والإيمان، وإبليس وجبريل، ومحمد صلى الله عليه وسلم وأبو جهل، والخمر والماء، والأخت والأجنبية، والزواج والزنا واللواط، والقتل ظلماً والرحمة، والتوحيد والشرك، فلا ضلال في الأرض إلا في نظر القاصرين فقط، وأما العارفون فكل هذه الموجودات شيء واحد بل ذات واحدة تعددت وجوداتها، وتعددت أشكالها وألوانها وهي حقيقة واحدة -وبهذا الدين الذي لم تعرف البشرية أظلم ولا أفجر ولا أكفر منه- اعتقد هؤلاء الزنادقة وألبسوا هذا الدين الفاجر آيات القرآن وأحاديث النبي الكريم، ووصفوا أنفسهم بأنهم خير الناس وأعلمهم وأتقاهم، وهذه هي حالهم في الظلم والكفر والفجور، وهدم دين الإسلام وإحلال شرائع الشيطان مكان شريعة الرحمن، وطمس صفات الله ونوره سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وأستغفر الله من نقل هذا الكفر وتسطيره. فإنه كفر لم تقله اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا الصابئة .. ورحم الله الإمام عبدالله بن المبارك الذي كان يقول: إنا لنحكي كفر اليهود والنصارى ونستعظم أن نحكي كفر الجهمية .. فكيف لو رأى كفر هؤلاء الصوفية الملاحدة ماذا كان يقول في ذلك؟! حقاً إن هذا لشيء عظيم ولكننا مضطرون أن نذكر كفرهم لندحضه ولنبينه للناس ليحذروا بعد أن عم شرهم البلاد والعباد، وبعد أن اغتر بهم جمع غفير من المسلمين، فظنوا أن الحق مع هؤلاء فاتبعوهم حتى صرفوهم عن دين الرسول صلى الله عليه وسلم وأوصلوهم إلى هذه النهاية المزرية التي يستحيل على الإنسان إذا وصلها أن يميز بين خير وشر، وهدى وضلالة، لأن كل هذه الأضداد ستكون عنده شيئا واحداً. ومع ذلك فإن الجيلي يستطرد في هذا الباب شارحاً مراده تماماً فيقول: "ولم يفتقر في ذلك إلى علمهم، ولا يحتاج إلى نياتهم، لأن الحقائق ولو طال إخفاؤها لا أن تظهر" أ. هـ. يعني أن الله لا يحتاج أن يعلم الكافر به ما دام أن وجود هذا الكافر هو وجود الله، وأن هذه الحقيقة لا بد وأن تظهر للعيان يوماً ما .. ويمضي الجيلي شارحاً معتقده فيقول .. "وأما الطباعية فإنهم عبدوه من حيث صفاته الأربع .. ، لأن أربعة الأوصاف الإلهية .. التي هي الحياة والعلم والقدرة والإرادة أصل بناء الوجود فالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة مظاهرها في عالم الأكوان، فالرطوبة مظهر الحياة، والبرودة مظهر العلم، والحرارة مظهر الإرادة، واليبوسة مظهر القدرة. وحقيقة هذه المظاهر ذات الموصوف بها سبحانه وتعالى .. فعبدت هذه الطبائع لهذا السر فمنهم من علم ومنهم من جهل العالم سابق، والجأهل لاحق فهم عابدون للحق من حيث الصفات، ويؤول أمرهم إلى السعادة كما آل أمر من قبلهم إليها بظهور الحقائق التي بني أمرهم عليها" (ص123 - 124). وهكذا يقرر الجيلي أن الفلاسفة الطبائعيين الذين قالوا برجوع الطبيعة إلى العناصر الأربعة هم عابدون لله شاؤوا أم أبوا، علموا أم جهلوا، وأن أمرهم إلى السعادة الأبدية. ويستدل لهذا الكفر الشنيع أيضاً بالقرآن فيقول: "والدليل من القرآن أن الله قال في الأحزاب المختلفين كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون:53] فيقول: "إن فرحهم هذا في الدنيا والآخرة، فكل حزب يفرح بما عنده في الدنيا، ويفرح به أيضاً في الآخرة عندما يطلع الجميع أنه لا ثمة إلا الله وأنهم جميعاً مظاهر للذات الإلهية، وليسوا شيئا خارجاً عنها". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 156 وهكذا يستخدم القرآن أيضاً في هذا الكفر والباطل الذي لم تعرف البشرية له مثيلاً في كل تاريخها فقد ارتكز في الفطرة أن هناك حقاً وباطلاً، هدى وضلالاً، نوراً وظلاماً، كذباً وصدقاً، وإيماناً .. ، ولكن عند هؤلاء الصوفية كل هذا شيء واحد وحق واحد اختلفت مظاهره ولم تختلف حقيقته فالجنة والنار كلاهما نعيم، وإبليس وجبريل كلاهما عابد، بل معبود، بل شيء تعددت صفاته بتعدد موجوداته .. ويستطرد الجيلي في شرح كفره وفجوره فيقول: "وأما الثنوية فإنهم عبدوه من حيث نفسه تعالى، لأنه تعالى جمع الأضداد بنفسه، فشمل المراتب الحقية والمراتب الخلقية، وظهر في الوصفين بالحكمين، وظهر في الدارين بالنعتين، فما كان منسوباً إلى الحقيقة الحقية فهو الظاهر في الأنوار وما كان منسوباً إلى الحقيقة الخلقية فهو عبارة عن الظلمة، فعبدوا النور والظلمة لهذا السر الإلهي الجامع للوصفين والضدين والاعتبارين والحكمين كيف شئت من أي حكم شئت، فإنه سبحانه يجمعه وضده بنفسه. فالثنوية عبدوه من حيث هذه اللطيفة الإلهية مما يقتضيه في نفسه سبحانه وتعالى، فهو المسمى بالحق، وهو المسمى بالخلق، فهو النور والظلمة" (ص125) أ. هـ. بهذا الوضوح شرح الجيلي مذهب الفلاسفة الصوفية الزنادقة الملاحدة، وبهذا التفصيل والبيان يستطرد أيضاً قائلاً: "وأما المجوس فإنهم عبدوه من حيث الأحدية، فكما أن الأحدية مفنية لجميع المراتب والأسماء والأوصاف، كذلك النار فإنها أقوى الاستقصاءات وأرفعها، فإنها مفنية لجميع الطبائع بمحاذاتها، لا تقاربها طبيعة إلا تستحيل إلى النارية لغلبة قوتها، فكذلك الأحدية لا يقابلها اسم ولا وصف إلا يندرج فيها ويضمحل، فلهذه اللطيفة عبدوا النار وحقيقتها ذاتها وتعالى ". فيجعل المجوس قسماً غير الثنوية والمعلوم أنهم قسم واحد فالثنوية القائلون بالنور والظلمة وإله للخير وإله للشر هم أيضاً المجوس عبدة النار التي يجعلونها ستاراً وعلامة لإلهم إله الخير في زعمهم ولكن الجيلي الملحد يجعل هؤلاء أيضاً عبدة النيران من أهل الحق والتوحيد وأن عبادتهم للنار حق أقوى العناصر وأرفعها ويقول والنار حقيقتها ذات الله تعالى. فأي كفر يا قوم في الأرض أعظم من هذا وأكبر .. ويمدح الجيلي المجوس فيقول: "فلما انتشقت مشام أرواح المجوس لعطر هذا المسك زكمت عن شمه سواه فعبدوا النار وما عبدوا إلا الواحد القهار" أ. هـ (ص126). فأي تصريح عن عقائد القوم أبلغ من هذا .. ثم يقول: "وأما الدهرية (أي الاسم) فإنهم عبدوه من حيث الهوية (الدهرية: هم القائلون بأنه لا إله والحياة مادة فما هي أرحام تدفع وأرض يبلع واسمهم هذا مأخوذ من قوله تعالى وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية:24] فقال عليه السلام: ((لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر)) (1) ". قلت: هذا إبليس والزنادقة لم يصل إلى هذا الحد في الكفر فالمقصود بقول رسول الله إن الله هو الدهر هو أنه سبحانه وتعالى مقدر المقادير؛ فسب الأيام سب لله لأنه هو مقدر المقادير سبحانه وتعالى والزمان لا دخل له في ذلك. فنهانا الرسول صلى الله عليه وسلم عن سب الزمان لأن هذا من ثم يتوجه إلى الله سبحانه وتعالى. وليس مقصود الرسول حتماً أن الله هو الزمان لأن الله جل وعلا هو خالق الزمان والمكان والخالق غير المخلوق. وأما الدهرية فإنهم لا يؤمنون بإله أصلاً والجيلي يجعل هؤلاء الملاحدة عباداً لله .. انظر .. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص164 - 171   (1) رواه مسلم (2246) ورواه البخاري (6182) بلفظ (لا تقولوا خيبة الدهر فإن الله هو الدهر) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 157 المبحث السادس: الغزالي وطريق الكشف لعل من العجائب والغرائب أن يسقط رجل في طريق التصوف كالغزالي رحمه الله وعفا عنه. وعلى ما كان منه فقد كان من علماء الشريعة. ولكن لقصر باعه -رحمه الله- في علم السنة ومعرفة صحيح الحديث من ضعيفه فقد اغتر بما عليه الصوفية من ظاهرهم، وما يبدونه ويعلقونه من الورع والتقوى، ولما كان عنده من الفلسفة الأولى التي دخل في بطنها ولم يستطع الخروج منها على حد قول تلميذه الإمام ابن عربي المالكي رحمه الله فإنه قد دون للمتصوفة ما دون في كتابه (إحياء علوم الدين). ومن ذلك ما نقله عنهم في زعمهم بالكشف حيث يقول: "فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر، وفاض على صدورهم النور، لا بالتعليم والدراسة والكتابة للكتب، بل بالزهد في الدنيا والتبري من علائقها، وتفريغ القلب من شواغلها والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى. فمن كان لله، كان الله له - وزعموا أن الطريق في ذلك، أولاً بانقطاع علائق الدنيا بالكلية، وتفريغ القلب منها، وبقطع الهمة عن الأهل والمال والولد والوطن، وعن العالم والولاية والجاه، بل يصير قلبه إلى حالة يستوي فيها وجود الشيء وعدمه. ثم يخلوا بنفسه في زاوية مع الاقتصار على الفرائض والرواتب، ويجلس فارغ القلب، ولا يفرق فكره بقراءة قرآن، ولا بالتأمل في تفسيره، ولا يكتب حديثاً ولا غيره. بل يجتهد أن لا يخطر بباله شيء سوى الله تعالى. فلا يزال، بعد جلوسه في الخلوة، قائلاً بلسانه: الله .. الله .. على الدوام، مع حضور القلب، حتى ينتهي إلى حالة يترك تحريك اللسان ويرى كأن الكلمة جارية على لسانه. ثم يصير عليه إلى أن يمحي عن القلب صورة اللفظ وحروفه وهيئة الكلمة، ويبقي معنى الكلمة مجرداً في قلبه حاضراً فيه، كأنه لازم له، لا يفارقه، وله اختيار إلى أن ينتهي إلى هذا الحد، واختيار في استدامة هذه الحالة بدفع الوسواس. وليس له اختيار في استجلاب رحمة الله تعالى. بل هو بما فعله صار متعرضاً لنفحات رحمة الله، فلا يبقى إلا الانتظار لما يفتح الله من الرحمة، كما فتحها على الأنبياء والأولياء بهذه الطريق. وعند ذلك إذا صدقت إرادته، وصفت همته، وحسنت مواظبته، فلم تجاذبه شهواته، ولم يشغله حديث النفس بعلائق الدنيا - تلمع لوامع الحق في قلبه، ويكون في ابتدائه كالبرق الخاطف ثم يلبث ثم يعود وقد يتأخر. وإن عاد فقد يثبت، وقد يكون مختطفاً. وإن ثبت قد يطول ثباته وقد لا يطول، وقد يتظاهر أمثاله على التلاحق وقد يقتصر على فن واحد. ومنازل أولياء الله تعالى فيه لا تحصر، كما لا يحصى تفاوت خلقهم وأخلاقهم - وقد رجع هذا الطريق إلى تطهير محض من جانبك، وتصفية وتجليات، ثم استعداد وانتظار فقط" أ. هـ فانظر قول الغزالي عن الصوفي الذي يريد الوصول إلى الكشف (ويجلس فارغ القلب، مجموع الهم، ولا يفرق فكره بقراءة القرآن ولا بالتأمل في تفسير ولا يكتب حديثاً ولا غيره .. بل يقول .. الله الله على الدوام .. ) فهل وجد مثل هذا الأمر في كتاب أو سنة أو أنه عمل مبتدع يريد به صاحبه غاية لا تحصل له، وهي رؤية الله أو أنوار الله، أو الملائكة أو رسول الله؟! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 158 وهل يرى الصوفي من وراء هذا الذكر المبتدع غير طوالع نار الشياطين، وبوارق كيدهم، ولوائح طلوعهم على من جعل له غاية غير غايات الدين وطريقاً غير طريق المؤمنين الذي سنة لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسن لنا الرسول أن يجلس أحدنا في زاوية مظلمة ولا يجعل على خاطره شيئا غير الله وينتظر أن ينزل عليه الوحي والكشف .. وبالطبع من جعل له غاية غير غايات الكتاب والسنة تلاعبت به الشياطين وظن أن ما تنزل عليه إنما هو من الله وما هو من الله .. والغزالي الذي قرر هذا الكلام للصوفية وساعد في نشر زندقتهم وكفرهم لم يتقدم فيما أعلمه خطوة أخرى وجعل من تنزل الملائكة على الصوفية وذلك فيما أظن وأعلم أن الرجل يعلم أن من قال بنزول الوحي عليه بعد النبي فقد كفر ولذلك أنكر الغزالي أن تكون الملائكة تنزل على الأولياء والصوفية كما تنزل على الأنبياء، واكتفى بما ذكرناه عنه آنفاً أن الأولياء والصوفية تشرق على قلوبهم هذه العلوم التي يقولونها إشراقاً من الغيب فضلاً من الله لهم ورحمة –في زعمه- بهم. لقد اكتفى الغزالي في تقريره الكشف الصوفي بإشراق العلوم في القلب وسماع الصوت أيضاً كما قال: "الخلوة لا تكون إلا في بيت مظلم فإن لم يكن له مكان مظلم فليلق رأسه بجيبه، أو يتدثر بكساء أو إبراز ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق ويشاهد جلال - الحضرة البوبية) (إحياء علوم الدين ج2 ص66). وعلى الرغم من أن الغزالي جارى الصوفية في مزاعمهم هذه، وقرر ما ابتدعوه من الخلوة والظلام ولف الرأس وانتظار العلوم إلا أن إنكاره نزول الملك على الصوفي لم يعجب كبار الصوفية، وأهل الحقيقة منهم، ولذلك عنفوه وجهلوه وجعلوا هذا منه لقلة الذوق وعدم التحقق بنفسه وعدم مقابلته لمن هو أعلى منه مقاماً، وأحسن منه حالاً، وأنه لو التقى بمن هو أعظم منه وأكبر منه في هذا الطريق لعلم أن الملائكة ينزلون على أولياء الصوفية تماماً كما ينزلون على الأنبياء وأنه لا فرق إلا في نوع العلوم فقط لا في كيفية النزول ولذلك كتب عبدالوهاب الشعراني في كتابه (اليواقيت والجواهر) اعتراض الغزالي وإنكاره لنزول الملك على الصوفي وأتى بالجواب من ابن عربي الذي خطأ الغزالي ورد عليه في عدم جواز نزول الملك على الصوفي فقال: " (فإن قلت) قد ذكر الغزالي في بعض كتبه أن من الفرق بين تنزل الوحي على قلب الأنبياء وتنزله على قلوب الأولياء نزول الملك فإن الولي يلهم ولا ينزل عليه قط، والنبي لا بد له من الوحي من نزول الملك به فهل ذلك صحيح؟ (فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الرابع والستين وثلاثمائة أن ذلك غلط والحق أن الكلام في الفرق بينهما إنما هو في كيفية ما ينزل به الملك لا في نزول الملك إذ الذي ينزل به الملك على الرسول أو النبي خلاف ما ينزل به الملك على الولي التابع فإن الملك لا ينزل على الولي التابع إلا بالاتباع لنبيه وبإفهام ما جاء به بما لم يتحقق له علمه كحديث قال العلماء بضعفه مثلاً فيخبره ملك الإلهام بأنه صحيح فللولي العمل به في حق نفسه بشروط يعرفها أهل الله عز وجل لا مطلقاً. وقد ينزل الملك على الولي ببشرى من الله بأنه من أهل السعادة كما قال تعالى في الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا؛ وهذا وإن كان إنما يقع عند الموت فقد يعجل الله تعالى به لمن يشاء من عباده قال الشيخ: وسبب غلط الغزالي وغيره في منع تنزل الملك على الولي عدم الذوق وظنوا بأنهم قد علموا بسلوكهم جميع المقامات فلما ظنوا ذلك بأنفسهم ولم يروا ملك الإلهام نزل عليهم أنكروه وقالوا ذلك خاص بالأنبياء فذوقهم صحيح وحكمهم باطل مع أن هؤلاء الذين منعوا قائلون بأن زيادة الثقة مقبولة وأهل الله كلهم ثقات. قال ولو أن أبا حامد وغيره اجتمعوا في زمانهم بكامل من أهل الله وأخبرهم بتنزل الملك على الولي لقبلوا ذلك ولم ينكروه. قال وقد نزل علينا ملك الإلهام بما لا يحصى من العلوم وأخبرنا بذلك جماعات كثيرة ممن كان لا يقول بقولنا فرجعوا إلينا فيه ولله الحمد". وهكذا يقرر ابن عربي، الفيلسوف الصوفي والذي يسمونه الشيخ الأكبر، جواز، بل وقوع نزول الملائكة على شيوخ الصوفية وأن هذا قد وقع له ومد لمشايخ كثيرين ممن هم على شاكلته من أهل الكذب والزيغ. وإليك في الفصل الآتي طائفة من كلام ابن عربي في هذا الصدد. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص171 - 175 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 159 المبحث السابع: ابن عربي والكشف الصوفي لم أطلع فيما اطلعت على كاتب صوفي أكثر تبجحاً فيما زعمه من العلم الباطني أكثر من ابن عربي الأندلسي الأصل، المغربي، ثم الشامي، سكناً ووفاة. لقد ملأ هذا الكاتب كتبه مدحاً لنفسه، وأنه لا يستطيع أحد مجاراته قط. فقد زعم لنفسه الاطلاع على كل ما سطره الفلاسفة قديماً وما كتبه اليهود والنصارى .. والمطالع لكتبه يجد هذا واضحاً جداً في مؤلفاته فقد ادعى لنفسه ختم الولاية الكبرى الخاصة وأنه خاتم الأولياء كما كان محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وكان في هذا الكذب متبعاً لمن سبقه ممن ادعى ختم الولاية كالترمذي الذي يسمونه الحكيم وهو محمد بن علي الترمذي .. وادعى لنفسه العلم الكامل المحيط بالقرآن والسنة، وأن تآليفه كلها معصومة من الخطأ، وأنه لا يكتب شيئا إلا عن وحي يوحى، بل زعم أن أبواب كتابه (الفتوحات) المكية توقيفي يتبع فيه ما يوحى إليه وليس له يد في ترتيب فصوله وأبوابه .. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 160 وأنه أحياناً يتكلم بشيء بعد شيء لا رابط بينهما كما نزل في القرآن حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] بعد آيات الطلاق ولا رابط بينهما .. وأن علومه كلها محفوظة من الخطأ. وإليك نصوص عباراته في ذلك كما جمعها الصوفي الكبير عبدالوهاب الشعراني من ثنايا كتاب (الفتوحات المكية) وضمنها عبدالوهاب في كتاب أسماه اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الكبائر: "قال في الباب السادس والستين وثلاثمائة من الفتوحات المكية جميع ما أتكلم به في مجالسي وتآليفي إنما هو من حضرة القرآن العظيم فإني أعطيت مفاتيح العلم فلا أستمد قط في علم من العلوم إلا منه كل ذلك حتى لا أخرج من مجالسة الحق تعالى في مناجاته بكلامه أو بما تضمنه كلامه وقال في الكلام على الآذان من الفتوحات: اعلم أني لم أقرر بحمد الله تعالى في كتابي هذا ولا غيره قط أمراً غير مشروع، وما خرجت عن الكتاب والسنة في شيء من تصانيفي. وقال في الباب السادس والستين وثلاثمائة: جميع ما أكتبه في تصانيفي ليس هو عن فكر ولا روية وإنما هو عن نفث في روعي من ملك الإلهام وقال في الباب السابع والستين وثلاثمائة ليس عندي بحمد الله تقليد لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلومنا كلها محفوظة من الخطأ وقال في الباب العاشر من الفتوحات: نحن بحمد الله لا نعتمد في جميع ما نقوله إلا على ما يلقيه الله تعالى في قلوبنا لا على ما تحتمله الألفاظ وقال في الباب الثالث والسبعين وثلاثمائة: جميع ما كتبته وأكتبه إنما هو عن إملاء إلهي وإلقاء رباني أو نفث روحاني في روع كياني كل ذلك لي بحكم الإرث لا بحكم الاستقلال فإن النفث في الروع منحط عن رتبة وحي الكلام ووحي الإشارة والعبارة ففرق يا أخي بين وحي الكلام ووحي الإلهام تكن من العلماء الأعلام وقال في الباب السابع والأربعين من الفتوحات: اعلم أن علومنا وعلوم أصحابنا ليست من طريق الفكر وإنما هي من الفيض الإلهي وقال في الباب السادس والأربعين ومائتين: منها جميع علومنا من علوم الذوق لا من علم بلا ذوق فإن علوم الذوق لا تكون إلا عن تجل إلهي والعلم قد يحصل لنا بنقل المخبر الصادق وبالنظر الصحيح وقال في الباب التاسع والثمانين منها والباب الثامن والأربعين وثلاثمائة: اعلم أن ترتيب أبواب الفتوحات لم يكن عن اختيار مني ولا عن نظر فكري وإنما الحق تعالى يملي لنا على لسان ملك الإلهام جميع ما نسطره وقد نذكر كلاماً بين كلامين لا تعلق له بما قبله ولا بعده كما في قوله تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى بين آيات طلاق ونكاح وعدة ووفاة تتقدمها وتتأخر عنها انتهي وأطال في ذلك وقال في الباب الثامن من الفتوحات: اعلم أن العارفين رضي الله تعالى عنهم لا يتقيدون في تصانيفهم بالكلام فيما بوبوا عليه فقط وذلك لأن قلوبهم عاكفة على باب الحضرة الإلهية مراقبة لما يبرز لهم منها فمهما برز لهم كلام بادروا إلى إلقائه على حسب ما حد لهم فقد يلقون الشيء إلى ما ليس في جنسه امتثالاً لأمر ربهم وهو تعالى يعلم حكمة ذلك. انتهي. فهذه النقول تدل على أن كلام الكمل لا يقبل الخطأ من حيث هو والله أعلم" (اليواقيت والجواهر ص24،25 ج2). وفي نص آخر، يقرر الشعراني ما زعمه شيخه ابن عربي في أنه لا فرق بين وحي الأولياء وحي الأنبياء إلا أن وحي الأنبياء تشريع جديد، وأما الأولياء فإن وجهتهم كشف وعلم واتباع لمشرع الأنبياء .. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 161 "وقال في الباب الثالث والخمسين وثلاثمائة: اعلم أنه لم يجيء لنا خبر إلهي أن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي تشريع أبداً إنما لنا وحي الإلهام. قال تعالى ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك ولم يذكر أن بعده وحياً أبداً. وقد جاء الخبر الصحيح في عيسى عليه السلام وكان ممن أوحي إليه قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا نزل آخر الزمان لا يؤمنا إلا بنا أي بشريعتنا وسنتنا مع أن له الكشف التام إذا نزل زيادة على الإلهام الذي يكون له كما الخواص من هذه الأمة. (فإن قلت) فإذن الإلهام خبر إلهي (فالجواب) نعم وهو كذلك إذ هو إخبار من الله تعالى للعبد على يد ملك مغيب عن الملهم. (فإن قلت) فهل يكون إلهام بلا وساطة أحد (فالجواب) نعم قد يلهم العبد من الوجه الخاص الذي بين كل إنسان وربه عز وجل فلا يعلم به ملك الإلهام لكن علم هذا الوجه يتسارع إلى إنكاره ومنه إنكار موسى على الخضر عليهما الصلاة والسلام وعذر موسى في إنكاره أن الأنبياء ما تعودوا أخذ أحكام شرعهم إلا على يد ملك لا يعرف شرعاً من غير هذا الطريق فعلم أن الرسول والنبي يشهدان الملك ويريانه رؤية بصر عندما يوحي إليهما وغير الرسول يحس بأثره ولا يراه فيلهمه الله تعالى بوساطته ما شاء أن يلهمه أو يعطيه من الوجه الخاص بارتفاع الوسائط وهو أجل الإلقاء، وأشرفه إذا حصل الحفظ لصاحبه ويجتمع في هذا الرسول والولي أيضاً" أ. هـ (اليواقيت والجواهر ص84 ج2). وقول ابن عربي هنا "أو يلهمه أو يعطيه من الوجه الخاص بارتفاع الوسائط (أي بين الولي والله) وهو أي هذا الإلقاء بهذه الطريقة أجل الإلقاء وأشرفه –إذا حصل الحفظ لصاحبه- ويجتمع في هذا الرسول والولي أيضاً .. " أ. هـ .. فانظر كيف جعل الولي كالنبي في تلقي الإلقاء الخاص من الله بلا وساطة ولم يكتف ابن عربي بتقرير هذا أيضاً بل راح يزعم أن هناك صورة أخرى للوحي للأولياء وهي انطباع صورة ما يريده الله في ذهن الولي قال الشعراني: (فإن قلت) فما حقيقة الوحي (فالجواب) كما قال الشيخ في الباب الثالث والسبعين من الفتوحات أن حقيقته هو ما تقع به الإشارة القائمة مقام العبارة في غير عبارة إذ العبارة يتوصل منها إلى المعنى المقصود منها ولهذا سميت عبارة بخلاف الإشارة التي هي الوحي فإنها ذات المشار إليه والوحي هو المفهوم الأول والإفهام الأول ولا عجب من أن يكون عين الفهم عين الإفهام عين المفهوم منه فإن لم يحصل لك يا أخي معرفة هذه النكتة فليس لك نصيب من معرفة علم الإلهام الذي يكون للأولياء. ألا ترى أن الوحي هو السرعة ولا أسرع مما ذكرناه انتهي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 162 (فإن قلت) فما صورة تنزل وحي الإلهام على قلوب الأولياء (فالجواب) صورته أن الحق تعالى إذا أراد أن يوحي إلى ولي من أوليائه بأمر ما تجلى إلى قلب ذلك الولي في صورة ذلك الأمر فيفهم من ذلك الولي التجلي بمجرد مشاهدته ما يريد الحق تعالى أن يعلم ذلك الولي به من تفهيم معاني كلامه أو كلام نبيه صلى الله عليه وسلم علم في الضر به باليد الإلهية، كما يليق بجلاله تعالى وكما وجد العلم في شربة اللبن ليلة الإسراء. ثم إن من الأولياء من يشعر بذلك ومنهم من لا يشعر بل يقول وجدت كذا وكذا في خاطري ولا يعلم من أتاه به ولكن من عرفه فهو أتم لحفظه حينئذ من الشيطان وأطال في ذلك في الباب الثاني عشر وثلاثمائة (اليواقيت والجواهر ص84 ج2).ويعني بالقربة الإلهية حديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في مسند أحمد: ((رأيت ربي الليلة في أحسن صورة فقال لي يا محمد: فيم يختصم الملأ الأعلى فقلت: الله أعلم فوضع رب العزة يده على ظهري حتى وجدت بردها في صدري فرأيت السماوات فقلت: يا ربي في الكفارات والدرجات .. )) (1) الحديث. ويعني ابن عربي بذلك أنه كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم ارتفع عنه الحجاب عندما وضع يده سبحانه على الكيفية التي شاءها سبحانه -على ظهر النبي فرأى النبي لذلك الملأ الأعلى وهم الملائكة- يختصمون أي يتناقشون في الكفارات والدرجات أي ما يكفر الذنوب لبني آدم، وما يعلي درجاتهم فقال الله سبحانه وتعالى مجيباً بعد رؤيته للملائكة وسماعه لحديثهم أما الكفارات فهي إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة .. وأما الدرجات فهي إطعام الطعام وإلانة في الكلام والصلاة بالليل والناس نيام .. أقول أراد ابن عربي أن يجعل للصوفية ما خص الله به الأنبياء من الرؤيا الصادقة في النوم والاطلاع على ما في السماوات من الملأ الأعلى والملائكة فزعم أنه يكون للولي الصوفي كذلك ما كان للنبي من كشف قناع قلبه ورؤيته للملأ الأعلى. ولم يكتف ابن عربي بهذا أيضاً بل زعم لنفسه وجماعته الصوفية ما لم يعلمه رسل الله أنفسهم وعلى رأسهم سيدهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم فقد زعم أن الصوفية أحياناً ينزل عليهم الوحي مكتوباً من السماء. وأنه أعني ابن عربي يعلم الفرق بين ما في اللوح المحفوظ من كتابه وما يكتبه المخلوقون وبذلك يستطيع أن يفرق بين المكتوب النازل من السماء والمكتوب في الأرض .. قلت لم يقل نبي قط ولا أخبرنا الله سبحانه وتعالى أن هناك بشراً اطلع على ما في اللوح المحفوظ ولكن العجيب أن هؤلاء يزعمون العلم والإحاطة به. بل نقل الشعراني في كتابه (الطبقات الكبرى) عن شيخه الخواص أنه كان يعلم ما يكتب في اللوح المحفوظ ساعة بساعة .. وزعم أحمد بن المبارك أن شيخه الأمي عبد العزيز الدباغ يعلم اللوح المحفوظ ويعلم كتابته وأنه بالسريانية! والمهم هنا أن ابن عربي يقرر في فتوحاته أن وحي الأولياء كثيراً ما ينزل مكتوباً كما نزلت التوراة مكتوبة ..   (1) رواه الترمذي (3235) والدارمي (2149) والطبراني (942) وقال الترمذي حسن صحيح سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال هذا حديث حسن صحيح الجزء: 7 ¦ الصفحة: 163 يقول الشعراني عن شيخه: "وقد يكون ذلك كتابة ويقع هذا كثيراً للأولياء وبه كان يوحى لأبي عبدالله قضيب البان، وغيره، كبقي بن مخلد تلميذ الإمام أحمد رضي الله عنه لكنه أضعف الجماعة في ذلك فكان لا يجده إلا بعد القيام من النوم مكتوباً في ورقة انتهي (فإن قلت) فما علامة كون تلك الكتابة التي في الورقة من عند الله عز وجل حتى يجوز للولي العمل بها (فالجواب) أن علامتها كما قال الشيخ في الباب الخامس عشر وثلاثمائة أن تلك الكتابة تقرأ من كل ناحية على السواء لا تتغير كلما قلبت الورقة انقلبت الكتابة لانقلابها. قال الشيخ: وقد رأيت ورقة نزلت على فقير في المطاف بعتقه من النار على هذه الصفة فلما رآها الناس علموا أنها ليست من كتابة المخلوقين فإن وجدت تلك العلامة فتلك الورقة من الله عز وجل لكن لا يعمل بها إلا إن وافقت الشريعة التي بين أظهرنا. قال: وكذلك وقع لفقيرة من تلامذتنا أنها رأت في المنام أن الحق تعالى أعطاها ورقة فانطبقت كفها حين استيقظت فلم يقدر أحد على فتحها فألهمني الله تعالى أني قلت لها إنوِ بقلبك أنه إذا فتح الله كفك أن تبتلعيها فنوت وقربت يدها إلى فمها فدخلت الورقة في فيها قهراً عليها فقال الولي بم عرفت ذلك فقلت ألهمت أن الله تعالى لم يرد منها أن يطلع أحد عليها وقد أطلعني الله تعالى على الفرق بين كتابة الله تعالى في اللوح المحفوظ وغيره وبين كتابة المخلوقين وهو علم عجيب رأيناه وشاهدناه انتهي (اليواقيت والجواهر ص83،84 ج2) .. فانظر هذا الوحي الإلهي لهذه المريدة العزيزة الذي نزل في يدها وانطبقت عليه ثم ابتلعته .. وإن العالم النحرير والشيخ الكبير عرف بالكشف مراد الله فقال ابتلعيها .. الخ .. سبحانك يا رب لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك .. ولم يكتف ابن عربي بكل ما قرره في هذا الكشف الشيطاني للصوفية من أنه تنزل عليهم الملائكة، ويشاهدون الله ويسمعون الصوت ويأتيهم الوحي مكتوباً بل قرر أيضاً أن قلوب الأولياء تنكشف عنها الحجب فيشاهدون الجنة وما فيها، والنار وما فيها تماماً كما حدث للرسول صلى الله عليه وسلم. قال الشعراني: (فإن قلت) فما صورة وصول الأولياء إلى العلم بأحوال السماوات (فالجواب) يصل الأولياء إلى ذلك بانجلاء مرآة قلوبهم كما يكشفون عن أحوال أهل الجنة وأهل النار بحكم الإرث لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى الجنة والنار في صلاة الكسوف ورأى في النار عمرو بن لحي الذي سيب السوائب وصاحب المحجن، وصاحبة الهرة التي حبستها حتى ماتت. وفي بعض طرق الحديث رأيت الجنة والنار في عرض هذا الحائط انتهي والله أعلم .. " أ. هـ (اليواقيت والجواهر ص88). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 164 باختصار لم يترك ابن عربي صورة من صور الوحي الإلهي الذي يوحي به للرسل إلا أثبت مثيله ونظيره بل وأكمل منه للصوفية، وبالطبع كان لا بد للمتصوفة من أن يجيبوا عن تكفير علماء الأمة لهم ونسبتهم إلى الزندقة والمروق من الدين وذلك لادعائهم ما هو من خصوصيات الرسل رضوان الله عليهم، إذ لا فرق بين الرسول وغيره إلا الوحي، ولو كان واحد من الأمة يوحى إليه ويطلع على الغيب، ويكون وارثاً للرسول في هذا الاطلاع والتحقق لما كان للرسالة معنى، ولا للنبوة منزلة وفائدة، ما دام كل إنسان يستطيع بنفسه أن يصل إلى الله ويطلع على الغيب، وأن يعلم مراد الله على الحقيقة. ما مزية الرسول هنا وما منزلته، ما دام كل أحد إذا فعل بعض المجاهدات يكون مثله وينزل عليه الوحي ويرى الملائكة ويطلع على الملأ الأعلى، ويشاهد الله ويجلس في حضرته ويطبع الله مراده في ذهنه، ويكتب له ما شاء من الرسائل كما ادعى الحلاج أنه نزلت عليه رسائل كثيرة بخط الله، وادعى هذا ابن عربي كما مر سابقاً، لماذا يكون مسيلمة إذاً كذاباً والقرآن الذي افتراه أحسن حالاً في جوانب كثيرة من حكايات كثيرة من الصوفية التي زعموا أنهم تلقوها من الله وملائكته .. لقد كان مسيلمة أقوى حجة وأكثر تابعاً، وأعز جيشاً من كل مشايخ التصوف الكاذبين .. وإذا قال هؤلاء بأننا علمنا أن مسيلمة كاذب بتكذيب النبي له قلنا لهم وكذلك يجب أن تحكموا على كل مشايخ التصوف الذين يزعمون نزول الوحي عليهم بتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً لهم. إنه صلى الله عليه وسلم هو القائل ((لا تقوم الساعة حتى يقوم كذابون كثيرون يزعم كل منهم أنه نبي وإنه لا نبي بعدي)) (1) وأليس كل من زعم أنه يوحى إليه قد ادعى النبوة فكيف إذا زعم أيضاً أنه يرى الله؟ ويلتقي بالملائكة ويسمع أصواتهم، ويلتقي بالخضر، وينزل عليه الكتب مكتوبة من السماء، ويطلع بقلبه على الملأ الأعلى والملأ الأسفل، أليس مسيلمة كان أقل كذباً من هؤلاء بل وأحكم منطقاً وأعظم عقلاً؟ أقول لما علم ابن عربي ومن على شاكلته أن دعاواهم هذه لن تنطلي إلا على جأهل من أهل القبلة، وأن علماء المسلمين لا بد أن يكفروهم ويزندقوهم فإنه احتاط لذلك وأجاب عما رماه به علماء الأمة الصالحون، ورموا به أيضاً من هم على شاكلته في ادعاء العلم الغيبي والكشف الصوفي. أجاب على ذلك بأنهم على شريعة خاصة، وأن علماء الشريعة يمكن أن يحملوا كلام الصوفية على خلاف في الرأي كما هو حادث بين الشافعي والحنفي أو ينزلوا كلام المتصوفة كأنه كلام أهل الكتاب فلا يصدقونهم ولا يكذبونهم ..   (1) رواه أبو داود (4252) والترمذي (2219) سكت عنه أبو داود [وقد قال في رسالته لأهل مكة كل ما سكت عنه فهو صالح] وقال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 165 قال الشعراني: (فإن قلت) قد رأينا في كلام بعضهم تكفير الأولياء المحدّثين بفتح الدال المهملة لكونهم يصححون الأحاديث التي قال الحفاظ بضعفها. (فالجواب) تكفير الناس للمحدثين المذكورين عدم إنصاف منهم لأن حكم المحدثين حكم المجتهدين فكما يحرم على كل واحد من المجتهدين أن يخالف ما ثبت عنده فكذلك المحدثون بفتح الدال وكلاهما أشرع بتقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ محيي الدين في الباب الثالث والسبعين من الجواب السابع والخمسين: وقد وقع لنا التكفير مع علماء عصرنا لما صححنا بعض أحاديث قالوا بضعفها قال ونحن نعذرهم في ذلك لأنه ما قام عندهم على صدق كل واحد من هذه الطائفة وهم مخاطبون بغلبة الظن ولو أنهم وفوا النظر معهم حقه لسلموا لهم حالهم كما يسلم الشافعي للحنفي حكمه ولا ينقض حكم من حكم به من الحكام. ومما اعتذروا به قولهم لو صدقت القوم في كل ما يدعونه من نحو ذلل لدخل الخلل في الشريعة لعدم العصمة فيهم فلذلك سددنا الباب وقلنا: إن الصادق من هؤلاء لا يضره سدنا هذا الباب، قال الشيخ محيي الدين ونعم ما فعلوه ونحن نسلم لهم ذلك ونصوبهم فيه ونحكم لهم بالأجر التام على ذلك ولكن إذا لم يقطعوا بأن ذلك الولي مخطئ في مخالفتهم فإن قطعوا بخطئه فلا عذر لهم فإن أقل الأحوال أن ينزلوا الأولياء المذكورين منزلة أهل الكتاب لا يصدقونهم ولا يكذبونهم انتهي (اليواقيت والجواهر ص90 ج2) .. وهذا الاعتذار والجواب عن تكفير أهل السنة لهؤلاء في غاية الجهالة أيضاً لأن ما أتى به المتصوفة مما يسمونه كشفاً ليس من الخلاف في الرأي، ولا الخلاف الفرعي، بل هو مصادم لأحكام الإسلام ومبادئ الإيمان. فالتصديق أصلاً بأنهم يعلمون من طريق الوحي كفر لأنه يناقض ما جاء به القرآن والحديث، من أن الوحي قاصر على الأنبياء فقط وأن لا نبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه من النبوة الرؤيا الصادقة فقط .. وأما سماع صوت الملك وانقشاع حجاب القلب ونزول الأوراق المكتوبة من السماء كل هذا من خصائص النبوة التي انتهت بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم .. ثم ما جاء به الصوفية مما جعلوه ونسبوه إلى الكشف هو في عامته وحي إبليسي شيطاني لم يترك كفراً في الأرض إلا نسبه إلى الدين كتبرئة إبليس من الكفر والقول بنجاة فرعون ودخوله الجنة وأن فلاناً من أهل الجنة ومن الصديقين والحال أنّ شارب الخمر زنديق، وأن فلاناً يطلع على اللوح المحفوظ، وأن فلاناً الذي يأتي (الحمارة) في الشارع ولي لله تعالى، وفلاناً القذر الذي لا يمس الماء ولا يتطهر من حدث أو جنابة ولي صالح، وفلان الذي يقول أنا الله وما في الجبة إلا الله وسبحانه ولي صالح .. الخ. هذا الكفر كيف يكون هذا من جنس الخلاف بين الشافعي والحنفي في قراءة الفاتحة وراء الإمام وفي نقض الوضوء من مس المرأة .. ومثل هذه الفرعيات التي كان فيها خلاف حول فهم النصوص القرآنية الحديثية .. وأما قياس ابن عربي ما جاء به المتصوفة أيضاً على كلام أهل الكتاب الذين قال الرسول فيهم لا تصدقوهم ولا تكذبوهم .. فإنه قياس بعيد أيضاً لأن هذا فيما قاله أهل الكتاب مما لا يناقض عقيدة الإسلام. وإلا كيف لا نكذب أهل الكتاب في قولهم إن الله استراح في اليوم السابع وإنه تصارع مع يعقوب (إسرائيل) وصرعه إسرائيل وإن لوطاً زنى بابنتيه وإبراهيم قدم زوجته لحاكم مصر ليحصل على إبل وغنم، وإن المسيح ابن الله وغير ذلك من الخرافات والخزعبلات وصنوف الكذب على الله والأنبياء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 166 لا شك أن المسلم يكذب اليهود في كل ما زعموه مما هو مناقض لعقيدة الإسلام وما قرر الله سبحانه وتعالى غيره تماماً وضده في القرآن، كيف نؤمن بكلام الصوفية وكشوفاتها وهو لا يقل في عمومه خبثاً ونجاسة عما افتراه اليهود والنصارى على الله .. كيف نصدق الصوفية في كشفهم أن الخنزير والكلب هو الله، وأن المخلوق والخالق شيء واحد، وأن القائلين بخالق فوق العرش مباين للعالم جاهلون بعقيدة التوحيد .. كيف يكون الكشف الصوفي هذا الذي يزعم أصحابه أنهم أخذوه عن الله ونقلوه بحرفيته هو الحق وأنه يجب على علماء الشريعة والإسلام أن يعاملوا الصوفية كما يعاملون اليهود والنصارى في أن لا يصدقوهم ولا يكذبوهم .. أقول بل يجب تكذيبهم في كل ما افتروه على الله وعلى رسوله مما يخالف كلام الله وكلام رسوله. ومما هو كفر صراح بواح لا يشك ولا يماري فيه من له أدنى علم بالكتاب والسنة عنده بصر وبصيرة يستطيع أن يميز فيه بين كلام الله وكلام الشياطين وبين وحي الله سبحانه الذي ينزل به جبريل الأمين محفوظاً أن يناله الشياطين أو أن يدخلوا معه ما ليس منه وبين وحي إبليس اللعين الذي يلقبه هو وأولاده وأفراخه على أوليائه من هؤلاء الكذابين والأفاكين .. فيدعون لأنفسهم ما ادعوه من كل كذب وزور وفجور .. والعجيب أيضاً أن ابن عربي الذي نحن بصدد بيان افتراءاته في الكشوف والعلوم التي له كان يعلم أن هناك وحياً شيطانياً يتنزل على بعض الصوفية، وأن هناك من يحفظ منهم من تلبيس الشيطان ومنهم من لا يحفظ. يقول عبدالوهاب الشعراني أيضاً في كتابه (اليواقيت) فيما ينقله عن ابن عربي: " (فإن قلت) فمتى يحفظ الولي من التلبيس عليه فيما يأتيه من وحي الإلهام (فالجواب) يعرف ذلك بالعلامات؛ فمن كان له في ذلك علامة بينه وبين الله عرف الوحي الحق الإلهامي الملكي من الوحي الباطل الشيطاني حفظ من التلبيس ولكن أهل هذا المقام قليل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 167 قال الشيخ في الباب الثالث والثمانين ومائتين: مما غلط فيه جماعة من أهل الله عز وجل كأبي حامد الغزالي وابن سيد لون (رجل بوادي اشت) قولهم إذا ارتقى الولي عن عالم العناصر وفتح لقلبه أبواب السماء حفظ من التلبيس قالوا وذلك لأنه حينئذ في عالم الحفظ من المردة والشياطين فكل ما يراه هناك حق. قال الشيخ محيي الدين وهذا الذي قالوه ليس بصحيح وإنما يصح ذلك أن لو كان المعراج بأجسامهم مع أرواحهم إن صح أن أحداً يرث رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المعراج وأما من عرج به بخاطريته وروحانيته بغير انفصال موت وجسده في بيته مثلاً فقد لا يحفظ من التلبيس إلا أن يكون له علامة في ذلك كما مر وأطال في ذلك ثم قال واعلم أن الشيطان لا يزال مراقباً لقلوب أهل الكشف سواء كان أحدهم من أهل العلامات أو لم يكن لأن له حرصاً على الإغواء والتلبيس لعلمه بأن الله تعالى قد يخذل عبده فلا يحفظه فيعيش إبليس بالترجي ويقول لعل وعسى فإن رأى إبليس باطن العبد محفوظاً وأنوار الملائكة قد حفت به انتقل إلى جسد ذلك العبد فيظهر له في صورة الحس أموراً عسى أن يأخذ بها فإذا حفظ الله تعالى قلب ذلك العبد ولم ير له على باطنه سبيلاً جلس تجاه قلبه فينتظر غفلة تطرأ عليه فإذا عجز أن يوقعه في شيء يقبله منه بلا وساطة نظر في حال ذلك الولي فإن رأى أن من عادته الأخذ للمعارف من الأرض أقام له أرضاً متخيلة ليأخذ منها فإن أيد الله تعالى ذلك العبد رده خاسئاً لاطلاعه حينئذ على الفرق بين الأرضين المتخيلة والمحسوسة وقد يأخذ الكامل من إبليس ما ألقاه إليه من الله لا من إبليس فيرده أيضاً خاسئاً وكذلك إن رأى إبليس أن حال ذلك الولي الأخذ من السماء أقام له سماء متخيلة مثل السماء التي يأخذ منها ويدرج له فيها من السموم القاتلة ما يقدر عليه فيعامله العارف بما قلناه في شأن الأرض المتخيلة والأصلية وإن رأى أن حال ذلك الولي الأخذ من سدرة المنتهي أو من ملك من الملائكة خيل له سدرة مثلها أو صورة ملك مثل ذلك الملك وتسمى له باسمه وألقى إليه ما عرف أن ذلك الملك يلقيه إليه من ذلك المقام فإن كان ذلك الشخص من أهل التلبيس فقد ظفر به عدوه وإن كان محفوظاً حفظ منه فيطرد عنه إبليس ويرمي ما جاء به أو يأخذ ذلك عن الله تعالى لا عن إبليس كما مر ويشكر الله تعالى على ذلك وإن رأى الشيطان أن حال ذلك الولي الأخذ من العرش أو من العماء أو الأسماء الإلهية ألقى إليه الشيطان بحسب حاله ميزاناً بميزان وأطال الشيخ في ذلك في الباب الثالث والثمانين ومائتين" أ. هـ (اليواقيت والجواهر ص87 ج2). والعجيب من الغزالي أيضاً كيف ظن أن ما يزعم الصوفي نقله من السماوات لا يكون فيه شيء شيطاني لأن الله حفظ السماء من الشياطين، وكأنه قد غاب عنه أن الصوفي الذي يزعم الوصول إلى السماوات هو جالس هنا في الأرض تستهويه الشياطين وتحف به من كل جانب. ولم أر ابن عربي صدق في هذا الصدد إلا فيما نقلناه عنه آنفاً من بيان تلبيس الشياطين على الصوفية في تصويره لهم سماء متخيلة، أو سدرة المنتهي أو الملائكة .. الخ. حتى يظن الصوفي أنه قد رأى ذلك فعلاً وأنه ينقل علمه من هناك والحال أنه ينقل عن الشياطين الذين يزخرفون له ذلك ويحيلون له ما يشاهده مما ليس هنالك هو تماماً ما وقع لهؤلاء الصوفية ومنهم بل أولهم في ذلك هو ابن عربي هذا الذي لم يترك كفراً في الأرض إلا سطره في كتبه وبخاصة كتابه الفصوص (فصوص الحكم) وكتابه (الفتوحات المكية). لقد عرف ابن عربي حقاً الطريق الذي استقى منه هو والصوفية وأنهم الشياطين الذي يخيلون لهم هذه الخيالات ويوحون إليهم بهذه الكلمات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 168 وسيجد القارئ في ثنايا هذا الكتاب نقولاً مستفيضة عن ابن عربي تبين ما هي حقيقة كشوفاته ووحيه الذي أوحي به إليه ولكني أحب أن أختم هذا الفصل في بيان موقف ابن عربي من الكشف بحقيقة موقفه من إبليس لنبين للقارئ بما لا يدع مجالاً للشك أي دين يدين به هؤلاء وأي علم يزعمون الوصول إليه وأي كشف اكتشفوه .. فمن المعلوم يقيناً عند كل مسلم أن إبليس هو رأس الشر والبلاء وأنه عدو لآدم وذريته منذ امتنع عن السجود لآدم وطرده الله بسبب ذلك من رحمته وجعل الله عليه اللعنة إلى يوم يبعثون وأنه يكون في الآخرة في جهنم كما قال تعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم:22]. والشيطان في هذه الآية هو إبليس بإجماع المفسرين وكذلك قوله تعالى: فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء:94 - 101]. ولا شك أن جنود إبليس يستحيل أن يدخلوا النار ولا يدخل هو معهم إذ كيف يدخل الجنود ويبقى رأس الجند من الناجين. ولعل قائلاً يقول ولماذا هذا التطويل في بيان أن إبليس من أهل الجحيم. إن هذا أمر بديهي معلوم عند جميع أبناء الإسلام وأقول: إن هذا الأمر البديهي المعلوم من الدين بالضرورة التي يعتبر جاحداً وناكراً وكافراً مرتداً من نفاه هو ما أثبت ابن عربي تبعاً في زعمه لسهل بن عبدالله التستري ضده، وهو أن إبليس من الناجين وأنه لن يدخل النار أبداً وأنه أعني إبليس التقى في زعم ابن عربي بسهل بن عبدالله التستري الصوفي كان من كبار مشايخهم في القرن الثالث فناقشه في هذه المسألة وبين له أنه من الناجين، وأنه لن يدخل النار وأن الله سبحانه وتعالى سيغير ما أثبته في القرآن لأن الله لا يجب عليه شيء وما دام أنه لا يجب عليه شيء ولا يقيده قيد، فإنه قد قضى بنجاة إبليس يوم القيامة، وتبرئته من جميع التهم المنسوبة إليه والعفو التام عنه .... انظروا يا مسلمين هذا الكشف الصوفي ما أعظمه وأطرفه بل ما أفجره وأكفره .. إن ما أتعب النبي محمداً صلى الله عليه وسلم فيه نفسه طيلة ثلاثة وعشرين عاماً من بيان قصة إبليس وآدم، ومن لعن إبليس دائماً، واستفتاح صلاته بالاستعاذة منه، وقوله صلى الله عليه وسلم له عندما خنقه ((ألعنك بلعنة الله .. ألعنك بلعنة الله .. ألعنك بلعنة الله .. )) (1) وذلك عندما جاء إبليس اللعين هذا بشهاب من نار ووضعه في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي .. هذا الذي أتعب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه ومن بعده سائر الصحابة والمسلمين؛ .. جاء ابن عربي اليوم ليبين لنا عن شيخه المزعوم التستري أنه كان خطأً في خطأ، وأنه يوم القيامة يكون في الجنة مع من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً .. وأن هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة .. ويعني ابن عربي بذلك الأشاعرة لأنهم يقولون (لا يجب على الله شيء) وما دام لا يجب عليه شيء فيجوز أن يدخل إبليس الجنة ..   (1) رواه مسلم (542) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 169 وهذا الجائز العقلي عن الأشاعرة جعله ابن عربي ممكناً وواقعاً لأن شيخه القشيري التقى بإبليس وناقشه في هذه المسألة وتحقق منه أنه سيكون يوم القيامة من الفائزين الفالحين .. وهذا نص الحكاية المزعومة وتعقيب ابن عربي عليها بنصها من كتاب (اليواقيت والجواهر) .. "وذكر الشيخ محيي الدين في الباب الثالث والتسعين ومائتين أيضاً ما يؤيد اعتقاد أهل السنة والجماعة من أن الحق تعالى لا يجب عليه شيء وهو أن سهل بن عبدالله التستري رضي الله عنه قال لقيت إبليس مرة فعرفته وعرف مني أنني عرفته فوقع بيني وبينه مناظرة فقال لي وقلت له وعلا بيننا الكلام وطال النزاع بحيث إنه وقف ووقفت حائراً وحرت فكان آخر ما قال لي يا سهل إن الله تعالى قال ورحمتي وسعت كل شيء نعم ولا يخفى عليك أنني شيء ولفظة كل تقتضي الإحاطة والعموم إلا ما خص وشيء أنكر النكرات فقد وسعتني رحمته أنا وجميع العصاة فبأي دليل تقولون إن رحمة الله لا تنالنا. قال سهل فوالله لقد أخرسني وحيرني بلطافة سياقه وظفره بمثل هذه الآية وفهمه منها ما لم أكن أفهمه وعلمه من دلالتها ما لم أكن أعلمه فبقيت حائراً متفكراً وأخذت أردد الآية في نفسي فلما جئت إلى قوله تعالى فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ .... [الأعراف: 156] إلى آخر النسق فسررت بها وظننت أني قد ظفرت بحجة وظهرت عليه بما يقصم ظهره فقلت له: تعال يا ملعون، إن الله تعالى قد قيدها بنعوت مخصوصة تخرجك عن ذلك العموم فقال سأكتبها للذين يتقون إلى آخر النسق. فتبسم إبليس وقال: يا سهل، التقييد صفتك لا صفته تعالى. ثم قال: يا سهل ما كنت أظن أن يبلغ بك الجهل بالله ما رأيت وما ظننت أنك ههنا ليتك سكت، قال سهل فرجعت إلى نفسي وغصصت بريقي وأقام الماء في حلقي وما وجدت له جواباً ولا سددت وجهه باباً وعلمت أنه طمع في مطمع وانصرف وانصرفت ووالله ما أدري بعد هذا ما يكون فإن الله تعالى ما نص بما يرفع هذا الإشكال فبقي الأمر عندي على المشيئة منه في خلقه لا أحكم عليه بذلك إلا بما حكم به على نفسه من حيث وجود الإيمان به. انتهي كلام سهل. قال الشيخ محيي الدين: وكنت قديماً أقول ما رأيت أقصر حجة من إبليس ولا أجهل منه فلما وقفت له على هذه المسألة التي حكاها عنه سهل رضي الله عنه تعجبت وعلمت أن إبليس قد علم علماً لا جهل فيه فله رتبة الإفادة لسهل في هذه المسألة. انتهي فقد بان لك أن الله تعالى خلق العالم كله من غير حاجة إليه لا موجب أوجب ذلك عليه" أ. هـ (اليواقيت والجواهر ص60 ج1). المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 175 - 189 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 170 المبحث الثامن: نماذج من الكشف الصوفي وأظن الآن أنه قد وضح للقارئ تماماً ما هو الكشف الصوفي، وأنه عملية هدم منتظمة للدين الحنيف الذي جاء به سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، فما دام إبليس من الناجين فليس هناك شيء ثابت في هذا الدين. ولا عجب فيما رووا عن إبليس، فإن أستاذهم الحلاج وأحد كبرائهم قال في إبليس ما لم يقله أحد منهم في جبريل؛ إذ جعله سيد الملائكة أجمعين ذلك لأنه أبى أن يسجد إلا لله .. لأن عبادته لله خاصة فقط وذلك كان أعظم الموحدين. وإليك هذه النماذج من الكشف الصوفي اللعين. المصدر: الفكر الصوفي لعبدالرحمن عبدالخالق - ص190 ملك ينزل إلى الأرض على شكل خواجةكتب أحمد بن مبارك السلجماسي المغربي كتاباً سماه (الإبريز) زعم أنه ينقل ما فيه عن شيخه عبدالعزيز الدباغ المغربي أيضاً، وهذا الشيخ أمي جأهل لم يكن يحفظ حزباً واحداً من القرآن بشهادة تلميذه أحمد بن مبارك، ولكنه مع ذلك كان يستطيع التفريق بين القرآن والحديث بمجرد السماع، بل كان يستطيع أيضاً أن يفرق بين القرآن والحديث النبوي والحديث القدسي وكل ذلك بالكشف من غير علم ولا تعليم، وليس كذلك فقط بل كان يستطيع أيضاً أن يفرق ويعلم صحيح الحديث من موضوعه وضعيفه فإذا ألقي إليه الحديث علم هل قاله الرسول أو لا ويقول أحمد بن مبارك اختبرته في ذلك فكنت ألقي عليه الحديث من الجامع الصغير للسيوطي فما قال فيه السيوطي صحيح كان يقول الشيخ عنه صحيح وما قال فيه موضوع يقول موضوع (1) دون أن يتلقى هذا بالعلم وإنما بالكشف فقط بل كان يعرف إن كان الحديث في البخاري أو مسلم أو فيهما أو انفرد فيه أحدهما .. الخ .. ولم يكن هذا هو كل علم عبدالعزيز الدباغ بل كان يعرف معاني القرآن كلها وتفسيره الباطني وعلم الحروف المقطعة في القرآن. بل وكان يعلم جميع الكتب المنزلة على جميع الأنبياء ويعلم تفاسيرها ومعانيها. ولم يكن هذا فقط هو علم الدباغ أستاذ أحمد بن مبارك المزعوم بل كان يعلم ما في اللوح المحفوظ كله من المقادير. بل كان كل هذا الذي لا يحفظ حزباً من القرآن بشهادة تلميذه لا تغيب عنه ذرة في الأرض ولا في السماء، وأنه هو الغوث الأكبر المتحكم في العالم العلوي والسفلي والوارث للحقيقة المحمدية. والحقيقة المحمدية في الفكر الصوفي هو الله المستوي على العرش كما قال ابن عربي: "الحقيقة المحمدية هي الموصوفة بالاستواء على العرش" (أهل التصرف في الفكر الصوفي هم أهل الديوان الذين يتحكمون في المقادير وهو الغوث والأقطاب الأربعة)، المهم أن أحمد بن مبارك يزعم فيما يزعم أن شيخه الأكبر وهو رئيس الديوان الصوفي وأنه استفاد منه علوماً جمة من بعضها كتابه (الإبريز). وسيجد القارئ جانباً كبيراً من هذه العلوم في الفصل الخاص بالديوان الصوفي لأن الدباغ هذا وصف ما سماه بالديوان الصوفي وصفاً عجيباً .. والمهم هنا أن ننقل بعض كشوفات الدباغ .. قال أحمد بن مبارك: "وسمعته رضي الله عنه يقول: إن في كل مدينة من المدن عدداً كبيراً من الملائكة مثل السبعين ملكاً أو أقل أو أكثر يكونون عوناً لأهل التصوف من الأولياء فيما لا تطيقه ذات الولي؛ قال رضي الله عنه وهؤلاء الملائكة الذين يكونون موجودين في المدن يكونون على هيئة بني آدم فمنهم من يلقاك في صورة خواجة، ومنهم من يلقاك في صورة فقير (أي صوفي أو شحاذ)، ومنهم من يلقاك في صورة طفل صغير وهم منغمسون في الناس ولكنهم لا يشعرون" أ. هـ (الإبريز ص164،165).   (1) ليست عادة السيوطي أصلا في كتابه هذا الحكم على الأحاديث بل إنه يورد الحديث ثم يرمز لمن خرجه وحسب، ونادرا جدا ما يتكلم عن حكم الحديث، بل قال في مقدمة الكتاب (وصنته عما تفرد به وضاع أو كذاب) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 171 فانظر هذا الكشف العجيب؛ الملائكة تنزل إلى الأرض تأتمر بأمر الصوفية وهو على أشكال الخواجات والشحاذين والأطفال .. فإذا رأيت خواجة فلا تزعجه في الطريق ولا تنظر إليه شذراً فربما كان ملكاً من ملائكة الله نزل لتنفيذ أوامر مشايخ الصوفية .. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص190،191 تاريخ بناء الأهرام عن طريق الكشف الكشف الصوفي لم يترك شيئا إلا حاول الدخول فيه وإليه؛ من ذلك تاريخ بناء الأهرام التي بناها خوفو الفرعون قبل ميلاد المسيح عليه السلام بنحو أربعة آلاف سنة ولكن بالكشف الصوفي يقول ابن عربي: "بلغنا أنه وجد مكتوباً بالقلم الأول على الأهرام أنها بنيت والنسر الطائر في الأسد، وهو الآن في الجدي" .. قال عبدالوهاب الشعراني تعليقاً على كلام ابن عربي "ومعلوم أن النسر الطائر لا ينتقل من برج إلى غيره إلا بعد مضي ثلاثين ألف سنة قال الشيخ عبدالكريم الجيلي، وهو اليوم في الدلو فقد قطع نحو عشرة أبراج ولا يتأتى ذلك إلا بعد ثلاثمائة ألف سنة" أ. هـ (الكبريت الأحمر على هامش اليواقيت والجواهر ص9). وعلى الكشف الصوفي هذا يصبح عمر الأهرام حسب تخريفاتهم أكثر من 295 ألف سنة فقط من عمرها الحقيقي. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 192 الدباغ يكتشف نبياً جديداً اسمه هويد قال أحمد بن مبارك في كتابه (الإبريز): "ومما قاله رضي الله عنه في نسب هود محصلة كشف وعيان فإنه أمي لا يعرف تاريخاً، ولا غيره فلا ينبغي لأحد أن يعارضه بما قال أهل التاريخ في نسب هود لأنه مبني على خبر الواحد، ومع ذلك فقد اضطرب في خبر الواحد في نسب هو فقيل نسبه هود بن عبدالله بن رباح بن الجارود بن عماد بن عوض بن آدم بن سام بن نوح، وقيل هو هود بن شارخ بدار فخشذ بن سام بن نوح عليه السلام فهو على هذا ابن عم أبي عماد دائماً جعل من عاد وإن لم يكن منهم لأنهم أفهم لقوله وأعرف لحاله وأرغب في اقتفائه .. قال رضي الله عنه: وأما عاداً الأولى فكانوا قبل نوح عليه السلام وأرسل الله لهم نبياً يسمى (هويد) وهو رسول مستقل بشرعه بخلاف هود الذي أرسل إلى عاد الثانية فإنه مجدد لشرع من قبله من المرسلين. قال: وكل رسول مستقل فلا بد أن يكون له كتاب. قال: ولسيدنا (هويد) المذكور كتاب وأنا أحفظه كما أحفظ جميع كتب المرسلين. فقلت له وتعدها. قال أحفظها ولا أعدها اسمعوا مني. ثم جعل يعدها كتاباً كتاباً، قال: (أي الدباغ) ولا يكون الولي ولياً حتى يؤمن بجميع هذه الكتب تفصيلاً ولا يكفيه الإجمال فقلت هذا لسائر الأولياء المفتوح عليهم فقال: بل لواحد فقط وهو الغوث فاستفدت منه في ذلك الوقت أنه رضي الله عنه هو الغوث وعلومه دالة على ذلك فإني لو قيدت جميع ما سمعت منه لملأت أسفاراً، وكم من مرة يقول جميع كلامي معكم على قدر ما تطيقه العقول" أ. هـ (الإبريز ص103 - 104). وليس هناك من تعليق على مثل هذا الهراء إلا أن يقول المسلم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك .. وانظر بعد ذلك تتمة هذه الفتوح الدباغية كيف أنه اكتشف أيضاً بطريقة الكشف أن بين نوح وآدم سبعين رسولاً لم يقص الله تعالى في القرآن شيئا من قصصهم ولكن عبدالعزيز الدباغ عرفهم بطريق الكشف .. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 172 قال أحمد بن مبارك تلميذ الدباغ: (وسمعته) رضي الله عنه يقول كان قبل نوح سبعمائة رسول من الأنبياء وفي قصصهم من العجائب الكثيرة وإنما لم يقصص علينا في كتابه العزيز منها شيئا لعدم اشتهار أهلها في أزمنة الوحي فقلت فما معنى قوله في حديث الشفاعة في صفة نوح وأنه أول الرسل فقال رضي الله عنه المراد أنه أول الرسل إلى قوم كافرين ومن قبله من المرسلين أرسلوا إلى قوم عقيدتهم صحيحة فقلت فلم عوقب قوم هويد بالحجارة والنار إذا كانوا مؤمنين فقال رضي الله عنه كانت عادته تعالى مع القوم الذين قبل نوح أن يهلكهم على ترك أكثر القواعد وإن كانوا على العقائد" أ. هـ (الإبريز ص104). فانظر كيف اكتشف الدباغ سبعين رسولاً قبل نوح وكيف أن الله أهلكهم ليس على الشرك والكفر ومعاندة الرسل بل على المعاصي فقط .. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص192، 194 الأولياء أكثرهم أميون الدباغ يفضل نفسه على إبراهيم الدسوقي: ولا عجب بعد ذلك إذا علمنا أن أهل هذه الكشوف المزعومة في غالبهم أميون كعبدالعزيز الدباغ الذي روى عنه أو افترى عليه أحمد بن مبارك كان رجلاً أمياً، وشيخ عبدالوهاب الشعراني وهو الخواص كان أمياً كذلك واسمع ما يقول أحمد بن مبارك عن شيخه الأمي الدباغ. "وسمعته رضي الله عنه يقول مرة أخرى السماوات والأرضون بالنسبة إلى كالموزونة (الموزونة: عملة مغربية) في فلاة من الأرض يصدر هذا الكلام منه رضي الله عنه وما أشبهه إذا شهدنا منه زيادة بل هو في زيادةٍ دائماً رضي الله عنه وقد كنت معه ذات يوم خارج باب الفتوح فجعل يذكر لي أكابر الصالحين مع كونه أمياً فقلت فمن أين تعرفهم فقال رضي الله عنه أهل الفتح الكبير مسكن أرواحهم قبة البرزخ فمن رأيناه فيها علمنا أنه من الأكابر ثم جرى بيننا ذكر الشيخ سيدي إبراهيم الدسوقي فقلت هو من الأكابر فجعلت أذكر مناقبه والغرائب التي نقلت من كراماته فقال رضي الله عنه لو عاش سيدي إبراهيم الدسوقي من زمنه إلى زماننا ما أدرك من المقامات ولا ترقى مثل ما ترقى أخوك عبدالعزيز يعني نفسه من أمس إلى اليوم والله ما قاله أخوك افتخاراً وإنما قاله تعريفاً وتحدثاً معكم بالنعمة" أ. هـ (الإبريز ص168) .. ونسأل ما فيه البرزخ هذه التي تجتمع فيها أرواح الصوفية .. ولماذا لا يختار الله لولايته -في زعمهم- إلا أميين علماً بأنه سبحانه وتعالى فضل أهل العلم والعلماء وما كان اختياره للرسول محمد صلى الله عليه وسلم أمياً إلا ليقيم به الحجة على عباده وحتى لا يتهم بأنه أتى بالقرآن من عند نفسه كما قال تعالى: وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48]. وأما بعد النبي صلى الله عليه وسلم فقد فضل الله علماء هذه الأمة على أهل الجهالة منها، وجعل تعلم العلم بالكتابة والقراءة والسماع والأسباب الأخرى البشرية المؤدية لذلك .. وليس بطريقة الغيب لأن هذا الطريق خاص بالأنبياء رضوان الله عليهم وما سوى النبي الصادق فمتنبئ كاذب وهذا هو حال هؤلاء المساكين الذين استحوذ عليهم الشيطان فراحوا يهيمون في أودية الضلال على هذا النحو المهين. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 194، 195 الدباغ يكتشف سر ليلة القدر ولم يكتف الدباغ بكشوفاته في الأرض فراح يكتشف السماء أيضاً وأتى لنا بهذه الحكاية العجيبة عن سرّ ليلة القدر. قال تلميذه أحمد بن مبارك .. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 173 "ثم ذكر لنا رضي الله عنه سبب ليلة القدر فقال إن العالم قبل خلق النور في حرم الشمس كان مظلماً والملائكة عامرون له أرضاً وسماء وفي الكهوف والسهول والجبال والأودية فلما خلق الله تعالى النور في الشمس وأضاء العالم بها أصبحت ملائكة السماء وملائكة الأرض وخافوا من خراب العالم ومن أمر عظيم ينزل بهم فنزل ملائكة السماء إلى الأرض وجعل ملائكة الأرض يفرون من الضوء إلى الظل أي من ضوء النهار إلى ظل الليل فراراً من الضوء الذي لم يعرفوه إلى الظل الذي يعرفونه خائفين متضرعين مجتمعين على الابتهال إلى الله تعالى والتضرع له والخوف منه يطلبون منه الرضا ويلجأون إليه في أن لا يسخط عليهم ولم يكن في ظنهم إ لا أنه تعالى أراد أن يطوي هذا العالم فاجتمعوا على التضرع والابتهال على الصفة السابقة مقدرين في كل لحظة وقوع ما خافوه. فإذا زاد إليهم الضوء فروا عنه إلى الظل ولم يزالوا على تلك الحالة والضوء ينسخ الظل وهم يفرون إلى أن طافوا الأرض كلها ورجعوا إلى الموضع الذي بدأوا منه فلما لم يروا شيئا وقع حصل لهم الأمن ورجعوا إلى مراكزهم يجتمعون من كل عام فهذا هو سبب ليلة القدر" أ. هـ (الإبريز ص165). فهل علمتم ما سر ليلة القدر يا مسلمون .. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص195، 196 طبال ومغفل من أهل الكشف وبعض الناس قد يظنون أن هذا الكشف لا يأتي إلا لأناس عقلاء من أهل التقوى والاتزان ولكن الصوفية يقررون غير ذلك فهذا أحمد بن مبارك يحكي عن شيخه الدباغ بأن الفتح جاء إلى رجل وهو طبال، يقول: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 174 "وأعرف رجلاً بالرملة من أرض الشام فتح الله عليه وهو بحالة يتضاحك الناس عليه، كحالة الرجل المشهور بمدينة فاس (بمعيزو) (مدينة في المغرب)، فبقي على حاله بعد الفتح ولم ينتقل عنها. قلت: وكانت حالة المتقدم أن الصبيان وغيرهم من ضعفة العقول يتبعونه طول النهار يضحكون عليه، وقال (رضي الله عنه) وأعرف رجلاً آخر فتح الله عليه وكان قبل ذلك طبالاً فبقي على حالته قبل الفتح ولم ينتقل عنها" أ. هـ (الإبريز ص198). أي ظل طبالاً كما هو وظل الفتح الصوفي ينزل عليه ولا عجب عند الصوفية في ذلك فالولاية عندهم ليست مسألة كسبية ينالها المسلم بتقوى الله ومخافته ومحبته والسعي إلى مرضاته. بل هي مسألة يقولون –وهبية- تنال الشخص هبة له من الله وإن لم يكن هناك من الأسباب والدواعي ما يستند عليها ففضل الله عندهم وحسب زعمهم لا حرج عليه فقد يصيب الطبالين أو الزمارين، وقد يكون الولي سكيراً أو زنديقاً، أو طفلاً صغيراً، أو مجذوباً شاهد الأنوار العلوية فضاع عقله أو متخلفاً عقلياً يتضاحك الصبيان منه ولكنه يكون ولياً ربانياً ويحدث الناس بأمور الغيب، ويشاهد ويطالع الحضرة الإلهية والرسولية، والخضرية (نسبة إلى الخضر) وهكذا قلبوا كل موازين العلم، وكل قوانين الشريعة، فالولاية لا شك أنها منحة إلهية وتفضيل وفضل رباني ولكنها لا تنال إلا محلها ممن كان عنده الاستعداد لذلك ومن سعى لنيل درجات القرب من الله سبحانه وتعالى كما جاء في حديث البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بشيء إلى أحب مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه)) (1)، فجعل الله للولاية طريقاً وهو أداء الفرائض أولاً ثم الإكثار من النوافل حتى يصل المسلم إلى مرحلة القرب من الله سبحانه وتعالى، فيحمي الله سمعه وبصره ويده ورجله، ويجعل ذلك كله في طاعته ومحبته ومرضاته. ولكن الولاية والفتح والكشف الصوفي بغير ذلك ينال كل هؤلاء .. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 196، 197 الوحي الصوفي لا ينزل إذا كان أحد المنكرين حاضراً ومما يدلك يقيناً على أن هذا الكشف الصوفي ما هو إلا إلقاء شيطاني هذه الحكاية التي يرويها أحمد بن مبارك أيضاً عن شيخه الدباغ وأنه كان إذا حضر رجل من أهل التوحيد والإيمان الصحيح ممن لا يؤمن بهذه الخرافات كان وحي الشيخ ينقطع ويعود جاهلاً كما كان لا يتكلم الكلمة.   (1) رواه البخاري (6502) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 175 " (قال رضي الله عنه) وما مثلت الولي مع القاصدين إلا كحجر بني إسرائيل. فإذا كان بين يدي أولياء الله تعالى انفجرت منه اثنتا عشر عيناً وإذا كان بين أعدائه تعالى لا تخرج منه ولا قطرة واحدة (قلت) وقد شاهدت هذا المعنى في الشيخ رضي الله عنه مراراً فإذا حضر بين يديه بعض من لا يعتقده لا تخرج منه ولا فائدة واحدة ولا يقدر على التكلم بشيء من العلوم اللدنية والمعارف الربانية حتى يقوم ذلك الشخص ويوصينا ويقول إذا حضر مثل هذا الرجل فلا تسألوني عن شيء حتى يقوم وكنا قبل الوصية جاهلين بهذا الأمر فنسأل الشيخ ونريد أن نستخرج منه النفائس والأسرار الربانية كي يسمعها الرجل الحاضر فيتوب فإذا سألناه رضي الله عنه حينئذ وجدناه كأنه رجل آخر لا نعرفه ولا يعرفنا فكأن العلوم التي تبدو منه لم تكن له على بال أبداً حتى ذكرنا له السبب ففهمنا السر والحمد لله رب العالمين" أ. هـ (الإبريز ص169).وليس ذلك بالطبع إلا لأن الشيطان يهرب إذا رأى من يؤمن بالله حقاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: ((والله ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك)) (1). وهؤلاء الصوفية لا يأتيهم في مكانهم موحد إلا انتهت أحوالهم واضمحلت أنوارهم المزعومة وانفض سامرهم الشيطاني. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 197 تقديم مذهب أبي حنيفة على سائر مذاهب الفقهاء بطريق الكشف ولعل من أطرف ما تدخل فيه الكشف الصوفي أيضاً تفضيل مذهب فقهي على مذهب آخر كما فعل أحمد الفاروقي السرهندي النقشبندي الحنفي، كما في النص الآتي الذي يفسر فيه أيضاً قول محمد بارسا أن المسيح عليه السلام إذا نزل يحكم بالمذهب الحنفي يقول: "ومثل أرواح الله (يعني المسيح عليه السلام) مثل الإمام الأعظم الكوفي (أبو حنيفة رحمه الله) فإنه ببركة الورع والتقوى وبدولة متابعة السنة نال في الاجتهاد والاستنباط درجة عليا بحيث يعجز الآخرون عن فهمه ويزعمون مجتهداته بوساطة دقة المعاني مخالفة للكتاب والسنة ويسمون أصحابه أصحاب الرأي كل ذلك لعدم الوصول إلى حقيقة علمه ودرايته وعدم الاطلاع على فهمه وفراسته إلا أن الإمام الشافعي وجد نبذة من دقة فقاهته عليهما الرضوان حيث قال الناس كلهم عيال في الفقه لأبي حنيفة فويل لقاصري النظر على جراءتهم حيث ينسبون قصورهم إلى الغير (المنتخبات من المكتوبات لأحمد الفاروقي طبع استانبول ص149،150): لو عابهم قاصر طعناً بهم صفها ... برأت ساحتهم عن أفحش الكلم هل يقطع الثعلب المحتال سلسلة ... قيدت بها أسد الدنيا بأسرها ويمكن أن يكون ما قاله الخواجة محمد بارسا قدس عمره في الفصول الستة من أن عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام يعمل بعد النزول بمذهب الإمام أبي حنيفة بوساطة هذه المناسبة التي له رضي الله عنه بحضرة روح الله عليه السلام يعني أن اجتهاد روح الله يكون موافقاً لاجتهاد الإمام الأعظم لا أنه يقلد مذهبه فإن شأنه عليه السلام أعلى وأجل من أن يقلد علماء الأمة. ونقول من غير شائبة تكلف وتعصب: إن نورانية المذهب الحنفي ترى وتظهر في النظر الكشفي كالبحر العظيم وسائر المذاهب تظهر مثل الحياض والجداول" أ. هـ منه بلفظه (الإبريز ص150). المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص198، 199   (1) رواه البخاري (3294) ومسلم (2396) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 176 الفصل التاسع عشر: الشطحات الصوفية فسر أبو نصر السراج الطوسي الشطح الصوفي بأنه (عبارة مستغرقة في وصف وجد فاض بقوته، وهاج بشدة غليانه وغلبته) (اللمع ص453)، وقد لجأ المتصوفة إلى هذا التعريف لتبرير الكفر والزندقة الذي فاضت به كتب القوم وتواتر عنهم معتذرين أن ما قالوه قد قالوه في حالة سكر بما تجلى لهم من حقائق وبما عاينوا من علوم وزعموا أنها أسكرتهم وأطارت صوابهم، وجعلتهم يتكلمون بمثل هذه العبارات وهذا التبرير السمج الذي لجأ إليه الصوفية لا يغير من الحقائق شيئا وهو أن ما قالوه كفر واضح ظاهر وافتراء على الشريعة. وقبل أن نبدأ في تفنيد مزاعمهم نستعرض طائفة يسيرة من عباراتهم التي اعتذروا عنها بأنها من الشطح وأن قائليها معذورون فيما قالوه لأنهم بزعمهم كانوا سكارى غائبين عن وعيهم عند ذكرهم لهذه العبارات. فقد تواتر ونقل الناس عن أبي يزيد البسطامي أنه قال "رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال لي يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك!! فقلت: زيني بوحدانيتك وألبسني أنانيتك وارفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك، فتكون أنت ذاك، ولا أكون أنا هنا" (اللمع ص461) أ. هـ. وذكر عنه كذلك أنه قال "أول ما صرت إلى وحدانيته فصرت طيراً جسمه من الأحدية، وجناحاه من الديمومة فلم أزل أطير إلى أن صرت في ميدان الأزلية، فرأيت فيها شجرة الأحدية" (اللمع الطوسي ص461)، ونقل عنه أيضاً أنه قال: "سبحاني سبحاني" وقال أيضاً "ضربت خيمتي بإزاء العرش" (اللمع ص464)، ومر يوماً بمقبرة للمسلمين فقال "مغرورون" و .. لليهود فقال "معذورون"!! (اللمع ص463). وأما الشبلي فهو أحد مقدميهم وقادتهم واسمه دلف بن جحدر فقد قيل له يوماً: يا أبا بكر أخبرنا عن التوحيد فقال: للسائل: "ويحك! من أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو ملحد، ومن أشار إليه فهو ثنوي، ومن سكت عنه فهو جاهل، ومن هم أنه واصل فليس له حاصل، ومن أومأ إليه فهو عابد وثن، ومن نطق فيه فهو غافل ومن ظن أنه قريب فهو بعيد ومن تواجد فهو فاقد، وكلما ميزتموه بأوهامكم وأدركتموه بعقولكم في أتم معانيكم فهو مصروف مردود إليكم محدث مصنوع مثلكم" أ. هـ. وعندما سئل الشبلي عن أبي يزيد البسطامي وعرض عليه بعض ما قاله البسطامي مما نقلناه آنفاً قال الشبلي: "لو كان أبو يزيد ها هنا لأسلم على يد بعض صبياننا وقال: لو أن أحداً يفهم ما أقول لشددت الزنانير" (اللمع ص50). وكان هذا الشبلي أيضاً يقول: "لو خطر ببالي أن الجحيم نيرانها وسعيرها تحرق مني شعرة كنت مشركاً" (اللمع ص479 ومعنى شددت الزنانير جمع زنار وهو ما كان يضعه أهل الذمة على وسطهم تميزاً لهم عن المسلمين). وذكر عنه أيضاً أنه سمع قارئاً يقرأ هذه الآية اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] فقال الشبلي ليتني كنت واحداً منهم (اللمع) (ص490). وذكر عنه كذلك أنه قال: "إن لله عباداً لو بزقوا على جهنم لأطفأوها" (اللمع) (ص490) وثبت عن أبي الحسين النوري أنه قال (أنا أعشق الله وهو يعشقني"!! (اللمع) (ص491). وشهدوا عليه أيضاً أنه سمع المؤذن فقال: طعنه وشم الموت!! وسمع نباح كلب فقال: "لبيك وسعديك"!! (اللمع ص492)، وكذلك كان أبو حمزة الصوفي إذا سمع صوت هبوب الريح وخرير الماء، وصياح الطيور يصيح ويقول: لبيك!!. ودخل دار الحارث المحاسبي فسمع شاه مرغياً: فقال: "لبيك يا سيدي"!!. هذه عبارات قليلة جداً مما نقل عن هؤلاء وتواتر عنهم، ومهما حاول المرء أن يعتذر عن أصحابها بأي وجه من الوجوه فإنه لا يجد مفراً من الحكم بكفر معتقديها وقائليها .. فأما قولهم إن هذا شطح، وغلبة حال وغلبة سكر، ونحو هذا من الأقوال فالرد عليها ما يأتي: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 177 1 - لا نسلم أن قائلي هذه العبارات قد قالوها كما زعموا وهم في حالة هذيان وغيبة عقل، وذلك أن هذه العبارات لها لمعان محدودة، وهي نسيج مؤلف مركب قصد بها صاحبها أن يدل على عقيدة عنده، ولم يقلها كلاماً غير منضبط ككلام السكران والغائب عن الوعي. 2 - إن هذه العبارات قد تلقاها تلاميذ التصوف بالقبول واعتقدوا ما فيها بل وشرحوا العقيدة التي تشير هذه العبارات إليها في كتب كاملة .. والعقيدة هذه هي أن الأديان جميعاً دين واحد، وأن الخلق جميعاً هم عين الخالق وأنه لا موجود إلا الله!! وأن هذا الخنزير الذي كان يمر به أحدهم فيقول له عم صباحاً!! هم مظهر من مظاهر الخالق -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- ونستغفر الله من كتابة أقوالهم وإعادتها وكذلك هذه الشاة التي ترغي فيقول لها أحدهم لبيك يا سيدي، ما قال ذلك في غلبة السكر، وفي رؤيته للنار أو النعيم، ولا لتذكره لآية من كتاب الله وإنما قال ذلك لأنه سمع ثغاء شاة، أو نباح كلب، ومثل هذه الأصوات لا تخلق في المسلم (حالة) ولا تجعل عنده وجداً يحمله على الغياب عن الوعي حتى يقول مجيباً له "لبيك يا سيدي"!! وكذلك نقول أيضاً ما الذي يبعثه نداء المؤذن في قلب الصوفي حتى يرد عليه قائلاً .. ضربه وشم الموت!!، هل سماع المؤذن يؤدي إلى حالة وجد وغياب عن الوعي حتى يقول سامع المؤذن: ضربك أيها المؤذن وشم الموت!! وأنا أقول نعم هي حالة حقيقية للزنديق عند سماع المؤذن لأنه لا يريد لصوت الداعي إلى الله أن يعلو .. لأنه يكفر بالإسلام والصلاة ويريد لأصوات الكلاب والخنازير أن يقبلها المسلم بقولهم (لبيك يا سيدي"!! .. إقرأ في كتاب (اللمع) للطوسي قوله "وأخذوا عليه (يعني أبا الحسن النووي) أنه سمع أذان المؤذن فقال: طعنه وشم الموت، وسمع نباح الكلب فقال: لبيك وسعديك". ومثله تماماً ما نقلناه آنفاً عن أبي يزيد أنه اجتاز بمقبرة لليهود: فقال: معذورون. وبمقبرة للمسلمين فقال: مغرورون!! فأي غلبة حال وسكر، وهذيان غلبت على هؤلاء حتى قالوا ما قالوا .. وأليست هذه عقيدة زنديقية واحدة .. ثم ما هذا (المربي) -زعموا- الذي رأى مريده يقتل قملة فقال له: قاتلك الله شفيت غيظك بقتل قملة!! وهذا الشيخ نفسه يمر على الخنزير فيقول له: عم صباحاً!! وكان يبدأ الكلاب والخنازير بالسلام .. المهم أن هذه العبارات التي يسمونها شطحاً لم تكن شطحاً كما زعموا وقد قالها قائلوها في حالة صحو وليس في حالة سكر، وإنها تنبئ عن عقيدة وليست كلاماً فارغاً من المعنى وهذياناً كما زعموا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 178 3 - ثم إننا نسأل إذا كان مثل هذه العبارات يسميها الصوفية شطحاً وهذياناً، فلماذا يعمدون إلى تأويلها وتفسيرها، وإخراج درر معانيها، بل وجعلها من مناقب قائليها ووصولهم إلى الحقيقة؟! فقد فسروا كلام من أجاب الشاة بقوله: لبيك يا سيدي بأنه علم أن كل شيء يسبح بحمد الله، وأن ثغاء الشاة تسبيح ولذلك أجابها .. فإذا كان كلامهم هذا شطحاً فلماذا فسروه وأخرجوا معانيه الغالية!! ودرره الثمينة .. وتقول لهم جعل الشاة في موضوع السيادة ليس تعظيماً للخالق!! والسلام ليس موضوعاً ليلقي على الخنازير والكلاب بل ولا على غير المسلم أيضاً لأن السلام تحية خاصة بالمسلمين فقط فإلقاؤها على الكلاب والخنازير مروق من الدين، وخروج عن حقيقة الشريعة المطهرة وظاهرها. وأما تفسيرهم لقول النوري الذي دعا على المؤذن بالموت عندما سمع نداءه، بأنه خشي أن يكون هذا المؤذن مرائياً أو يأخذ أجراً على أذانه كما زعموا فليس هذا طريق الإنكار على المؤذن وإنما النوري أنكر على الأذان وليس على المؤذن. وكان يجب لو كان يؤمن بالإسلام حقاً، وبالأذان صدقاً أن يقول كما يقول وأن يصلي بعد ذلك على الرسول ويطلب له الوسيلة والفضيلة ثم يسارع إلى المسجد ويشهد الصلاة مع المسلمين ثم ينكر على المؤذن أخذه للأجرة لو شاء .. ولكن هؤلاء كما أسلفنا ينشرون عقيدة معلومة لديهم تلقوها عن الزنادقة والملاحدة، وهذا الذي يسمونه شطحاً ما هو إلا تأسيس لهذه العقيدة. 4 - والأمر الرابع نسألهم: هذا السكران بحب الله كما زعمتم .. وبرؤية الجلال الإلهي أو الجمال -كما تزعمون- هل يجلس ليؤلف كتباً كاملة في هذا الهذيان والسكر وغلبة الحال كما تقولون .. أو يكفيه عبارة أو عبارتان، جملة أو جملتان .. أعني لو كانوا صادقين أن هذا الكلام الخارج عن موازين الشريعة هذيان وشطح حقاً لكان شيئا قليلاً ولكن الحاصل والموجود أن هناك عشرات بل مئات بل آلاف الكتب قد شحنت بهذا الكفر والزندقة فكتاب يزعم صاحبه أنه تلقاه من الغيب بالوحي الإلهي ولا يترك كفراً إلا ويضعه فيه كالحكم ببراءة قوم نوح من الشرك، وجهل نوح لأنه دعاهم إلى التوحيد، والحكم بإيمان فرعون، وجهل هارون لأنه نهي قومه عن عبادة العجل، والعجل هذا في زعم مؤلف كتاب (الفصوص) هو مظهر من مظاهر الله تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وكذلك تبرئة إبليس والحكم بنجاته، بل والحكم بأن أهل النار منعمون فهم في عذوبة لا عذاب وأنه وأنه .. بعضهم يسمي كل هذا شطحاً. وآخر وهو عبدالكريم الجيلي يكتب كتاباً يقع في أكثر من مائتي صفحة من القطع المتوسط يسميه (الإنسان الكامل) لا يترك كفراً في الأرض إلا ويجعله فيه؛ من ذلك أنه يصف رحلة مزعومة له من الأرض إلى السماء الدنيا، حيث يصف ما فيها وأنه قابل فيها فلاناً وفلاناً من الأنبياء وناقشهم واستفاد منهم، ثم السماء الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة والسادسة والسابعة وإلى الكرسي والعرش والحجب السبعين!! ويصف ما رآه هناك ثم يعود ليهبط إلى الأرض الأولى فالثانية فالثالثة، فالرابعة وحتى السابعة ويقابل فيها أولياء وروحانيين وفلاسفة وحكماء و .. ويدعي أن من لم يصدق هذا فهو كافر!! ويأتي كاتب صوفي آخر ينسج على منوال هؤلاء فيكتب كتاباً يسميه (مشارق شموس الأنوار ومقارب حسها في معنى عيون العلوم والأسرار) والكاتب هذا هو إسماعيل بن عبدالله السوداني ألف كتابه سنة 1262هـ فيصف كذلك مشاهداته الحسية -في زعمه- للسماوات السبع العلى، وللأرضين السبع ويجد القارئ فصولاً من هذيانه وتخليطه في باب (المعراج الصوفي) من هذا الكتاب .. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 179 وغير هذا .. وهذا شيء يصعب إحصاؤه واستقصاؤه وإن جئت تناقش بعض المدافعين عن هذا الهذيان يقولون لك تارة هذا شطح، وتارة هذه كرامة، وتارة هذا فتح، وهذا تناقض منهم وسنناقش دعوى الفتح والكرامة في موطن آخر من الكتاب والمهم هنا أن نرد على دعواهم أن مثل هذا من الشطح، فيقول كيف يكتب كاتب كتاباً يقسم أبوابه ويضع فصوله ويقول للناس هذا من عند الله وتدعون أنتم أنه شطح وهذيان وأن قائله معذور لأنه قاله في غلبة حال وضياع عقل!! أليس قولكم هذا تلبيساً على الناس، واستهزاء بعقولهم!! الشطح لا يكون كتباً كاملة مؤلفة منسقة منفصلة!! وإنما هذه عقيدة ودين باطني يريد أربابه به صرف المسلمين عن عقيدة الكتاب والسنة إلى الكفر والإلحاد والزندقة. 5 - ثم نقول لهؤلاء إثباتكم أن الصوفية يشطحون ويقولون ما لا يريدونه ولا يقصدونه في أقل أحواله إثبات لأحوال غريبة وبدعة منكرة ما كان عليها أحد من سلف الأمة الصادقين كالصحابة والأئمة فهل سمعتم أن أبا بكر وعمر والخلفاء والصحابة شطحوا!! وهل وجد في التابعين لهم بإحسان من عرف عنه شيء من ذلك، وهل كان الأئمة الأربعة من أهل الشطح أليس الشطح الصوفي دليلاً على الابتداع والخروج عن الدين القويم .. ؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 180 أليس الإمام الشافعي قد قال وقد صدق والله فيما قال: "لا أرى شخصاً يتصوف في أول النهار، إلا وأصبح أحمق في آخره!! " أليست هذه كلمات من نور الإمام الشافعي الذي رأى بعينه بدايات التصوف وأخبر أن يوماً واحداً في التصوف يكفي لجعل الشخص أحمق. فأنتم باعترافكم أن هذا شطح إنما تسجلون على أنفسكم الحماقة والبدعة والخروج عن نهج السلف الصالح رضوان الله عليهم ورضي الله عن الشافعي الذي يقول أيضاً "ما لزم أحد الصوفية أربعين يوماً فعاد عقله إليه أبداً" (تلبيس إبليس).6 - ولكن بعض الصوفية وقد أحرجوا في حكاية الشطح هذه أرادوا أن يستخرجوا دليلاً من الكتاب والسنة على شطحهم وأن أحوالهم هذه وهذيانهم مؤيد أيضاً بالكتاب والسنة فقال: لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)) (1) فدل هذا على جواز الشطح وأن الرسول فعله أو مثله .. ونحن نقول: نسبة النبي إلى الشطح كفر وزندقة .. فالنبي صلى الله عليه وسلم عاين ما عاين من أمر الله وكان في كل ذلك هو الإنسان الكامل والرسول الصادق والعبد الكامل صلى الله عليه وسلم ولم يكن له حال أو مقال يخالف عقيدته التي نشرها وبينها والتي جاء بها كتاب الله وسنة رسوله. ومن قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خالف بعض كلامه بعضاً لحال أو مشاهدة فقد كفر وافترى وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما استدلالكم بالحديث على أن من رأى ما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقول: من هذا الذي رأى ما رآه الرسول في الغيب: الحلاج والبسطامي، والشبلي، والنوري وأشكالهم سبحان الله أجاء هؤلاء ليطلعوا على ما لم يطلع عليه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والمبشرون بالجنة. أكان الحلاج يزعق بالشوارع، والشبلي يصرخ بالمجالس لأن الله أطلعه على الجنة والنار!! ألا تستحون من إيراد مثل هذه السخافات!! .. ونتنزل معكم درجة: هبو صدقناكم أن هؤلاء اطلعوا على الجنة والنار وشاهدوها رأي العين ألم يكن الواجب أن يحصل فيهم ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فيبكون كثيراً ويضحكون قليلاً وهذا ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم. ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)) (2). ما قال لشطحتم ونصحتم وافتريتم وكذبتم وقلتم "سبحاني" وما في الجبة إلا الله، ويا خنزير عم صباحاً، ويا كلب عم مساءً. وفي ختام هذا الفصل نقول من سمع آيات الله وكان من أهل الإيمان والتقوى خشع قلبه وقد تدمع عينه، ويقشعر جلده، ثم يلين لذكر الله كما قاله سبحانه وتعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23]. وقال أيضاً سبحانه وتعالى في وصف حال الأنبياء والرسل والمؤمنين عند سماع آيات الله بعد أن قص في سورة مريم أخبار طائفة من رسله وأنبيائه وأوليائه وهم زكريا ويحيى وعيسى ومريم وإبراهيم وموسى وهارون، وإسحاق ويعقوب، وإسماعيل وإدريس .. : أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم:58]   (1) رواه البخاري (1044) ومسلم (2359) (2) رواه البخاري (4621) من حديث أنس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 181 فليس عندهم عند سماع الآيات إلا السجود والبكي، وليس الشطح فهل هؤلاء الصوفية حقاً متأسون بالأنبياء والأولياء الصالحين أو أنهم صارخون مستصرخون من وخز الشياطين ولترويج عقائد الملحدين؟! 7 - لقد شاهدت بنفسي كيف يصرع هؤلاء عند الذي يسمونه حالاً، والله لا أشك لحظة واحدة أنه وخز شيطان أو تصنع منافق خبيث، فقد كان أحدهم يقوم ويقعد ويصرخ ويزبد ويأخذ (بطاقيته) وقلنسوته وغترته أو عمامته فيلقيها على الأرض ويسارقنا النظر ونحن ننظر إليه راثين لأحوال هؤلاء الحمقى الذين يستفزهم الشيطان ويحركهم ويتلاعب بهم، وقد كان هؤلاء المطيرون الضاحكون يفعلون ذلك عندما كان يقال كلام كله كفر وشرك وغلو في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم يسمونه مدحاً وهو في الحقيقة ذم للرسول، وسب له. فاعلم أخي المسلم أن هذا الشطح الذي يأتي مما يسمونه بالحال ما هو إلا وخز شيطاني وتحريك إبليسي، هذا عند الصادقين منهم، وأما الكاذبون فإنهم يفتعلون ما يفعلون لإيهام العامة والسذج بأنهم من أهل الأحوال ومن المشاهدين لما يسمونه بحضرة الجلال أو الجمال!! وذلك كله من الرياء والنفاق وسوء الأخلاق. ومخالفته هدي سلفنا الصالح والخروج على مناهج الأنبياء. فنسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين السلامة والعافية مما ابتلي به هؤلاء. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص305 - 312 لقد وصل الصوفية في شطحاتهم إلى حد لا يقدم عليه إلا من تزندق وألحد وخرج عن الدين، ولقد فاضت كتبهم بذلك وتواتر النقل عنهم، وهو أمر لا يدع مجالاً للشك في إلحاد من يعمل ذلك منهم، وفي إعراضه عن الخلق الفاضل والعقل السليم، فضلاً عن الدين. ومما يلحظه القارئ أنهم بعد أن أوردوا أنفسهم تلك الموارد الوخيمة أرادوا أن يجدوا مخرجاً منها، فلم يجدوا لهم مخرجاً فادعوا أنهم إنما قالوا تلك الكلمات الكفرية في حال سكرهم بالله تعالى وغيبوبة عقولهم عن الإحساس بأى شيء غير الله، وما أقبح هذا العذر وأسمجه فهل هم أحب لله من الأنبياء ومن كثير من أتباعهم الذين لا يقاس بهم غيرهم، ولم يعثر عن أحد منهم أن تلفظ بما تلفظ به هؤلاء الذين امتلأت نفوسهم زندقة وحقداً على الإسلام والمسلمين. ومما يدركه طالب العلم أن الشطحات الصوفية كثيرة جداً، لا يمكن حصرها إلا بدراسة وافية (1)، غير أننا سنعرض هنا بعض الامثلة لتكون نموذجاً لبقية شطحهم وغلوهم ومقدار جرأتهم على اقتحام الأمور العظيمة في الإلحاد. ونبدأ ببعض ما ذكر عن أبي يزيد البسطامي: طيفور بن عيسى. 1 - قال أبو يزيد عن الله تعالى: "رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال لي: يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك فقلت: زيني بوحدانيتك وألبسني أنانيتك وارفعنى إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك، فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هنا". ومعناه أنه يطلب أن يصوره الله على صورته عز وجل تماماً، فإذا شاهده الناس قالوا: شاهدنا الله. والرواية عنه هي كما تقدم إلا أني أرى أن هذه العبارة: "إن خلقي يحبون أن يروك" ليست هكذا – ولم أر أحد بين هذا – ولكن لعل الصواب فيها "إن خلقي يحبون أن يروني"، ولهذا بين أبو يزيد كيفية الطريقة التي يمكن أن يرى الخلق فيها ربهم، وذلك بأن يرقى البسطامي إلى حد النيابة التامة عن الله تعالى صفة وشكلاً – تعالى الله. 2 - وقال مرة: "سبحاني سبحاني". وقال: ضربت خيمتي بإزاء العرش أو عند العرش. 3 - واجتاز بمقبرة لليهود فقال:"معذورون" ومر بمقبرة للمسلمين فقال: "مغرورون".   (1) انظر: ما كتبه الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه ((شطحات الصوفية)) الجزء الأول "أبو يزيد البسطامي"؛ حيث نقل أقوالاً كثيرة في ((شطحات الصوفية)). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 182 4 - وقال: يخاطب الله: كنت لي مرآة فصرت أنا المرآة. 5 - وقال: لأن تراني مرة خير لك من أن ترى ربك ألف مرة. 6 - وقال: إلهي أن كان في سابق علمك أنك تعذب أحداً من خلقك بالنار فعظم خلقي فيه – أي النار – حتى لا يسع معي غيري. 7 - وقال: ما النار؟ لاستندن إليها غداً وأقول: اجعلنى لأهلها فداء أو لأبلعنها. ما الجنة؟ لعبة صبيان.8 - تلك بعض شطحات البسطامي، وهناك الكثير يوردها علماء الصوفية عنه بين مستحسن لها وبين مراوغ في معانيها (1). أما الشبلي فهو الأخر له من الشطحات ما نذكر بعضه فيما يلي: 1 - أخذ من يد إنسان كسرة خبز فأكلها فقال: "إن نفسي هذه تطلب مني كسرة خبز، ولو التفت سري إلى العرش والكرسي لاحترق". 2 - وقال لو خطر ببالي أن الجحيم نيرانها وسعيرها تحرق مني شعرة لكنت مشتركاً. 3 - وقال: أيش أعمل بلظى وسقر؟ عندي أن لظى وسقر فيها تسكن يعني في القطيعة والإعراض – لأنه من عذبه الله بالقطيعة فهو أشد عذاباً ممن عذبه بلظى وسقر. 4 - وسمع قارئاً يقرأ هذه الآية: قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، فقال الشبلي: ليتني كنت واحداً منهم. 5 - وقال: إن لله عباداً لو بزقوا على جهنم لأطفؤها فصعب ذلك على جماعة ممن كان يسمع ذلك.6 - وقيل له: لم تقول: "الله"، ولا تقول "لا إله إلا الله"؟ فقال: أستحى أن أواجه إثباتاً بعد نفي .. أخشى أن أؤخذ في كلمة الجحود ولا أصل إلى كلمة الإقرار (2). وقال أبو الحسن النوري وقد سمع المؤذن طعنه وشم الموت وسمع نباح كلب فقال: لبيك وسعديك. وسمع أبو حمزة الصوفي شاة مرغياً فقال:"لبيك يا سيدي".وقيل للتلمسانى وقد أشاروا له إلى كلب أجرب ميت: هو ذات الله أيضاً؟ فقال: "وهل ثم شيء خارج عنها" (3). وهذه العبارات إنما هي أمثلة قليلة وهناك آلاف الشطحات في حال سكرهم بالله كما يزعمون، والحقيقة أنها صادرة عن أناس يدعون الحلول والاتحاد وهم في كامل وعيهم وشيطنتهم، وعندهم تمام الجرأة على الكذب على الله لجهلهم به عز وجل وهوانهم عليه. وإذا رجع القارئ إلى كتاب (الطبقات الكبرى) للشعراني فسيرى العجائب والغرائب مما ينقله الشعراني عن أسياده الذين ترجم لهم مبتدئاً بقوله:"فقال سيدى .. رضي الله عنه – ثم ملأ كتابه بأخبار هؤلاء في شطحاتهم وفي تصرفاتهم بما يستحي الإنسان أن يقرأه أو ينظر فيه، شطحات تصل إلى عمق الكفر، وتصرفات من أولئك الأقطاب تصرخ بالعار والفجور، وقد ترجم لعدد كثير، فارجع إليه إن أحببت أن ترى مهازل الصوفية وسقطاتهم التي لا تقال". وقد ترجم الشعراني لعدد كثير منهم، وزعم أنهم كلهم أقطاب التصوف، ولكن ينبغي الانتباه إلى أنه حشر خيرة الصحابة رضوان الله عليهم بل جعل الخليفة الأول للمسلمين أبا بكر رضي الله عنه هو أول هؤلاء الأقطاب ثم عمر، إلى أن ذكر أيضاً كثيراً من خيار التابعين وعلماء الأمة الذين لا صلة لهم بخرافات الصوفية وخزعبلاتها، بل إن حشره لهؤلاء مع الحلاج والبسطامي والشاذلي والمرسي وغيرهم من عتاة التصوف يعتبر إهانة لهم. وقد سار على نفس المنهج كثير من مؤلفي الصوفية، كما فعل نفس المسلك الذي سلكه الشعراني، المنوفي في جمهرة الأولياء، وقبلهم القشيري، وكل من جاء بعد هؤلاء سلك نفس ذلك المسلك الخاطئ. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 1023   (1) انظر: لتلك الشطحات وغيرها كتاب: ((شطحات الصوفية)) (ص 28 – 32) نقلاً عن ((اللمع السرَاج)) (ص 380 – 394)، وعن ماسنيون في مجموعة نصوص ابتداء من (ص 27)، و ((حلية الأولياء)) (1/ 41). (2) انظر: لتلك الشطحات وغيرها كتاب: ((شطحات الصوفية)) (ص 28 – 32) نقلاً عن ((اللمع السرَاج)) (ص 380 – 394)، وعن ماسنيون في مجموعة نصوص ابتداء من (ص 27)، و ((حلية الأولياء)) (1/ 41). (3) ((إلى التصوف يا عباد الله)) (ص 35). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 183 الفصل العشرون: التكاليف في نظر الصوفية يعتقد غلاة الصوفية أن الصلاة والصوم والحج والزكاة هي عبادات العوام، وأما هم فيسمون أنفسهم الخاصة أو خاصة الخاصة، ولذلك فإن لهم عبادات خاصة، ومناهج وطرق خاصة، ومفاهيم تختلف تماماً عن مفاهيم العامة، خصوصاً بعد وصول أحدهم درجة اليقين – كما يزعمون – وقد شرع كل قوم منهم شرائع خاصة بهم، في الذكر والخلوة والملابس المخصوصة والحلقات الخاصة. وقد يتفقون في بعضها وقد يختلفون، إلا أن كل صاحب طريقة يجعل على أتباعه أغلالاً وحواجز شديدة، بحيث لا يستطيع أحدهم أن يغير طريقته بطريقة أخرى، وحتى مجرد الذكر إلا بإذن الشيخ وكل ذلك إنما يفعلونه كما يزعمون من أجل ربط القلب بالله للتلقي عنه مباشرة، ولاستمداد العلوم والمعارف عن الله رأساً على يد شيخ خوله الله ومنحه القدرة على ذلك. وأما بالنسبة للتحريم والتحليل فأهل وحده الوجود منهم لا شيء يحرم عندهم؛ لأن الكل عين واحدة وفعل الخير وفعل الشر والقبيح والحسن إنما هي أفعال لا فروق بينها لاحتواء الذات لها كلها، ولذلك فقد حصل من بعض كبارهم وأئمتهم ما يستقبح الشخص مجرد ذكره؛ إذ كان منهم الزناة واللوطية والملاحدة، ثم لا يحق لأي شخص أن يعترض؛ لأن الشيخ لا يفعل شيئا إلا لحكمة. وأيضاً لا يفعل هذه الأمور التي يعتبرها الناس فواحش بجسمه وروحه بل بجسمه فقط، وأما روحه فهي أجل من أن تتدنى إلى فعل هذه الأمور الجسيمة، وقد وجدوا من الناس الذين هم أضل من البهائم من يصدقهم في كل ما يصدر عنهم، فصدقوهم في التفرقة بين ما يفعلونه بأجسامهم لحكمة وبين ما في أرواحهم من السمو والتعالى عن ما يفعله سائر الناس، والعقل من أجل نعم الله على الإنسان. ثم اخترعوا مفهوماً ضالاً وهو أنه قد يصل الأمر أحياناً إلى حد أن للولي شريعته الخاصة، وللنبي محمد صلى الله عليه وسلم تلقي شريعته الخاصة فلا يمنع أن يحصل الخلاف بينهما ويكون الجميع على الصواب، فالولي يتلقى شريعته عن الله مباشرة وهي شريعة للخاصة، ومحمد صلى الله عليه وسلم تلقى شريعته عن الله مباشرة وهي شريعة للعوام. ولذلك تجد في حلقات هؤلاء الصوفية الغلاة من الفواحش والخروج عن تعاليم الإسلام ما لا يمت إلى الإسلام بصلة؛ لأن هذه الأفعال من الاختلاط والحشيش وأنواع الفساد قد تكون مباحة في شريعة الولي مع حرمتها في شريعة النبي، ولكل شريعته. وما دام الشيخ الصوفي قد وصل إلى حد التلقي عن الله مباشرة واطلعه على كثير من أسرار هذا الكون وعرف الكثير من المغيبات فإنه والحال هذه ليس عنده طمع في جنة ولا خوف من النار، ومن هنا تنشأ الاستهانة التامة بجميع التكاليف الشرعية. وقد تبجح الكثير منهم بأنه لا يعبد الله طمعاً في الجنة ولا خوفاً من النار؛ لأن هذه العبادة معاوضة والصوفي قد اتحد بالله وفني فيه لأجله لا لغرض آخر، والخوف من النار أيضاً طبع العبيد لا طبع الأحرار كما تبجح البسطامي بقوله السابق:"ما النار؟ لاستندن إليها غداً وأقول اجعلني لأهلها فداء أو لأبلعنها، ما الجنة؟ لعبة صبيان"، وقول الشبلي: "إن لله عباداً لو بزقوا على جهنم لأطفئوها". فهم يزعمون أنهم يعبدون الله حباً في الله لا كما يعبده الخائفون من النار الطامعون في الجنة فإن عبادتهم إنما هي على سبيل العوض لا حباً في الله – وعلى هذا فإن من سبقهم من صالحي المؤمنين والأولياء من الصحابة وغيرهم بل والأنبياء كانت همتهم قاصرة عن إدراك هذا المعنى الذي اهتدى إليه هؤلاء!! ومما يدل على تقدم ما نذكره فيما يلي من كلام الصوفية، حيث قسم المنوفي الناس بالنسبة لمراتبهم وقربهم وبعدهم عن الله تعالى ثلاثة أقسام تحت عنوان "حقيقة الطريق" فقال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 184 "إن هذا الطريق وهو السيرة المختصة بالسالكين إلى الله تعالى عند قطع المنازل والترقي في المقامات ينقسم بحسب اختلاف أحوالهم إلى ثلاثة أقسام لكل قسم منها طريقة: فالقسم الأول ذوو الامزجة الكثيفة والأفهام الضعيفة الذين يعسر عليهم محاولة التعلم من طريق التعليم، فطريقهم يستقيم بالعبادة والتنسك والزهادة والصلاة والصوم وتلاوة القرآن والحج والجهاد وغيرها من الأعمال الظاهرة، لأن هذه الطائفة لصلابة أبدانها وقوة أركانها تتحمل مشاق العبادة والسالكون بهذا الطريق لا يزالون على هذه المناهج حتى يرقوا لأرفع المعارج ويقربون من مواطن تنزلات المعارف – وإذا وصلوا إلى هذا الحد –"، فحينئذ يكشف لهم عن سبحات المحبوب ويرون عجائب الغيوب ويتلقون عرائس الأسرار، وهذه الطرق صعبة جداً والواصل بها على خطر عظيم. أما الثانية وهي طريقة أهل الخصوص وهم من ذوى الأفهام اللوذعية والأخلاق الرحبة والهياكل النورانية والنفوس الأبي، أولئك الذين قد لا يملكون نفوسهم في حال النزوات فطريقهم المجاهدات .. والسالكون بها لا يزالون يرتاضون في قلع ما انطبع في نفوسهم من الأخلاق الذميمة إلى أن تذهب تلك الطباع المكتسبة وترجع إلى فطرتها السليمة. والقسم الثالث هم ذوو النفوس الرضية والعقول الزكية والفطرة الصديقية التي أبدان أصحابها في نهاية الاعتدال واللطافة، وطريقهم طريق المطلوبين إلى الله والطائرين إليه، وهي طريق المحبوبين المخطوبين من رب العالمين، وملاك السير بها صفاء القلب، وصدق الحب، والتحقق ظاهراً وباطناً جهراً وسراً بشعائر التصديق، فيخرج عن حوله وقوته وعقله وفطنته إلى حول الله وقوته" (1).وقال أيضاً:"وبما أن التصوف هو زبدة الديانات ولبها وليس مجرد تقاليد وطقوس وقواعد ظاهرية كان لكل ديانة تصوفها" (2). وهذا الكلام فيه التصريح بأن التصوف لم يكن نبعه الإسلام فقط، وإنما هو زبدة الديانات أي أنه ملفق من ديانات شتى، وفيه أيضاً التصريح بأنه ليس مجرد تقاليد وطقوس وقواعد ظاهرية. والإسلام كما هو معلوم فيه بيان شامل لكل ما يحتاجه المسلم وهو نظام كامل، ولا يجوز تسميته مجرد تقاليد وطقوس، على أن القواعد الظاهرية نسبة إلى الظاهر يقصد بها قواعد الشريعة الذين يسميهم الصوفيون أهل الظاهر. وقد فرق أيضاً بين الزاهد والصوفي: بأن الزاهد هو الذي ينصرف عن الملاذ الدنيوية وينكر على نفسه جميع شهواته وإن أحلها الشرع، ويتحمل مرارة الجوع والعطش بصفة مستمرة وصوم دائم .. لا يفعل كل ذلك إلا طمعاً في ربح الآخرة والمكافأة بجنات النعيم. وأما الصوفي فلا يرجو من ذلك شيئا وإنما همة الوقت الحاضر وهدفه أن زهد وأن عبد معرفة الله والاتصال برضوانه" (3). ومعنى هذا أن الجنة والنار لا قيمة لها في نظر الصوفي:"لم يبلغ الأبدال ما بلغوا بصوم ولا صلاة، ولكن بالسخاء والشجاعة وذمهم أنفسهم عند أنفسهم" (4)، وهذا الكلام فيه الاستهانة بشرائع الإسلام حيث فضل السخاء والشجاعة وذم النفس على الصوم والصلاة. وقال أيضاً: "إن الله يفتح للعارف وهو على فراشه ما لا يفتح لغيره وهو قائم يصلي" (5)، وهذه دعوى صريحة إلى التكاسل في الطاعات وتعريض بقلة فضل الصلاة. وتتضح منزلة التكاليف عند بعض أولياء الصوفية عند الشعراني في تراجمه لكثير من أعلامهم بما لا يدع مجالاً للشك في إلحاد وزندقة هؤلاء الذين يسميهم أولياء ويترضى عنهم أيضاً.   (1) انظر: ((جمهرة الأولياء)) (1/ 157 - 158). (2) ((جمهرة الأولياء)) (ص 155). (3) ((جمهرة الأولياء)) (ص 156). (4) ((جمهرة الأولياء)) (2/ 175). (5) ((الرسالة القشيرية)) (2/ 606). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 185 وكمثال على ذلك ما أورده في ترجمته للشريف المجذوب حيث قال:"وكان أصله جمالاً عند بعض الأمراء ثم حصل له الجذب وكان له كشف ومثاقلات للناس الذين ينكرون عليه، وكان رضي الله عنه يأكل في نهار رمضان ويقول: أنا معتوق أعتقنى ربي، وكان كل من أنكر عليه يعطبه في الحال، وكان رضي الله عنه يتظاهر ببلع الحشيش فوجدوها حلاوة، وكان قد أعطاه الله تعالى التمييز بين الأشقياء والسعداء في هذه الدار" (1). ومن أولئك الأولياء أيضاً بركات الخياط رضى الله عنه، كان رضي الله عنه من الملامتية وأخبرني الشيخ عبد الواحد رضي الله عنه أحد جماعة سيدي أبي السعود الجارحي رضي الله عنه، قال: مدحته للشيخ جمال الدين الصائغ مفتى الجامع الأزهر وجماعة فقالوا: امضو بنا نزوره وكان يوم جمعة فسلم المؤذن على المنارة، فقالوا له: نصلي الجمعة فقال: مالي عادة بذلك. فأنكروا عليه فقال: نصلى اليوم لأجلكم، فخرج إلى جامع المارداني فوجد في الطريق مسقاة كلاب فتطهر منها، ثم وقع في مشخة حمير ففارقوه وصاروا يوبخون الشيخ الذي جاء بهم إلى هذا الرجل، وصار الشيخ بركات يوبخ عبد الواحد ويقول أيش هؤلاء الحجارة الذين أتيت بهم لا يعود لك بالعادة أبداً وله وقائع مشهورة رضي الله عنه" (2).وأمثلة أخرى كثيرة يوردها الشعراني تدل على مدى استهتار هؤلاء الأولياء – حسب زعمه – بالأخلاق والدين والتكاليف، فقد ذكر عن علي وحيش ما يخجل القلم من كتابته ويتلعثم اللسان من النطق به (3)؛ من الأعمال الفاحشة والزنا وفعله بالبهائم وصاحبها قائم أمامه، وإن لم يرض تسمر في مكانه كما يذكر الشعراني. ويبدو أن للكشف الصوفي علاقة قوية بترك التكاليف على حد ما أورده عنهم الشيخ سعيد حوى في قوله: "يربط بعض الصوفية بين الكشف وترك التكاليف، فيرون أن الإنسان متى كشف له شيء من أمر الغيب – وما أكثر ما يتوهون في هذا الشأن – سقط عنه التكليف، فلا صلاة ولا صيام ولا غير ذلك، ويستشهدون على ذلك بقوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 1028   (1) ((الطبقات الكبرى)) بتقديم بعض العبارات – انظر (2/ 150). (2) ((الطبقات الكبرى)) (2/ 144). (3) ((الطبقات الكبرى)) (2/ 149). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 186 المبحث الأول: تعريف الذكر الجماعي الذكر الجماعي يتركب من كلمتين، وإليك بيان معنى كل منهما: أولاً: (الذِّكر): بالكسر: الشيء الذي يجري على اللسان، وتارة يقصد به الحفظ للشيء. قال الراغب في المفردات: الذكر: تارة يقال ويراد به: هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة، وهو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتباراً باحترازه، والذكر يقال اعتباراً باستحضاره. وتارة يقال لحضور الشيء القلب أو القول. ولذلك قيل منهما ضربان: ذكر عن نسيان. وذكر لا عن نسيان، بل عن إدامة الحفظ (1).وأما معنى الذكر في الشرع فهو كل قول سيق للثناء والدعاء. أي ما تعبدنا الشارع بلفظ منا يتعلق بتعظيم الله والثناء عليه، بأسمائه وصفاته، وتمجيده وتوحيده، وشكره وتعظيمه، أو بتلاوة كتابه، أو بمسألته ودعائه (2).ثانياً: معنى (الجماعي): هو ما ينطق به المجتمعون للذكر بصوت واحد، يوافق فيه بعضهم بعضاً (3). والمقصود بكلامنا وقولنا: الذكر الجماعي هو ما يفعله بعض الناس من الاجتماع أدبار الصلوات المكتوبة، أو في غيرها من الأوقات والأحوال ليرددوا بصوت جماعي أذكاراً وأدعية وأوراداً وراء شخص معين، أو دون قائد، لكنهم يأتون بهذه الأذكار في صيغة جماعية وبصوت واحد، فهذا هو المقصود من وراء هذا البحث. المصدر: الذكر الجماعي بين الاتباع والابتداع لمحمد بن عبد الرحمن الخميس - ص 10، 11   (1) ((مفردات الراغب)) (328). (2) انظر: ((الموسوعة الفقهية)) (21/ 220)، و ((الفتوحات الربانية)) (1/ 18). (3) ((الموسوعة الفقهية)) (21/ 252). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 187 المبحث الثاني: نشأة الذكر الجماعي كان مبتدأ نشأة الذكر الجماعي وظهوره في زمن الصحابة رضي الله عنهم كما سيأتي ذلك مفصلاً في المبحث الرابع إن شاء الله وقد أنكر الصحابة هذه البدعة لما ظهرت وقد قل انتشار هذه الظاهرة، وخبت بسبب إنكار السلف لها. ثم لما كان زمن المأمون، أمر بنشر تلك الظاهرة. فقد كتب إلى إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد يأمره أن يأمر الناس بالتكبير بعد الصلوات الخمس. فقد ذكر الطبري في تاريخه في أحداث عام 216 هـ ما نصه: وفيها كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم يأمره بأخذ الجند بالتكبير إذا صلوا، فبدؤوا بذلك في مسجد المدينة والرصافة، يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان، من هذه السنة (1) وجاء في تاريخ ابن كثير: وفيها كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد، يأمره أن يأمر الناس بالتكبير عقب الصلوات الخمس (2). فكان هذا مبتدأ عودة ظاهرة الذكر الجماعي إلى الظهور وبقوة، بسبب مناصرة السلطان لها. ومن المعلوم أن السلطان إذا ناصر أمراً، أو قولاً ما، ونشره بالقوة بين الناس، فلابد أن ينتشر ويذيع، إذ إن الناس على دين ملوكهم. واستمرت هذه الظاهرة منتشرةً بين الرافضة والصوفية ومن تأثر بهم (3). هذا وقد جمعوا بين أمرين، هما: الذكر الجماعي، والذكر بالاسم المفرد. وقد اختلف في جواز الذكر بالاسم المفرد، فذهب جمهور أهل العلم إلى أنه لابد من الذكر في جملة لأنها هي المفيدة ولا يصح الاسم المفرد، مظهراً أو مضمراً، لأنه ليس بكلام تام ولا جملة مفيدة. ولم ينقل ذلك عن أحد من السلف. ومن صور هذا الذكر كذلك أن يزيدوا ياءً في (لا إله إلا الله) بعد همزة لا إله. ويزيدون ألفاً بعد الهاء في كلمة (إله) فتصبح (لا إيلاها). ويزيدون ياءً بعد همزة إلا وبعد (إلا) يزيدون ألفاً فتصبح (إيلا الله) وكل ذلك حرام بالإجماع في جميع الأوقات (12) (4).وكذلك يلحن بعضهم في (لا إله إلا الله). فيمد الألف زيادة على قدر الحاجة، ويختلس كسرة الهمزة المقصورة بعدها ولا يحققها أصلاً، ويفتح هاء إله فتحة خفيفة كالاختلاس، ولا يفصل بين الهاء وبين إلا الله (13) (5).وكذلك من صوره أنهم يذكرون بالحَلْقِ، أي يحاولون إخراج الحروف من الحلق، وهذا يلزمهم بفتح أشداقهم، والتقعر في الكلام، والتكلف في النطق، ومعلوم أن مورد الذكر اللسان والحلق والشفتان لأنها هي التي تجمع مخارج الحروف (6).وقد تعددت صور ذلك. فمنهم من يجتمعون في بيت من البيوت، أو مسجد من المساجد فيذكرون الله بذكر معين وبصوت واحد: كأن يقولوا: لا إله إلا الله. مائة مرة. (7) قال الشقيري: والاستغفار جماعة على صوت واحد بعد التسليم من الصلاة بدعة. والسنة استغفار كل واحد في نفسه ثلاثاً، وقولهم بعد الاستغفار: يا أرحم الراحمين - جماعةً - بدعة، وليس هذا محل هذا الذكر. (8)   (1) ((تاريخ الأمم والملوك)) (10/ 281). (2) ((البداية والنهاية)) (10/ 282). (3) ((دراسات في الأهواء)) (ص 282). (4) انظر: ((الإبداع في مضار الابتداع)) (317). (5) ((الإبداع في مضار الابتداع)) (316). (6) ((الإبداع في مضار الابتداع)) (317). (7) ((السنن والمبتدعات)) (60)، و ((علم أصول البدع)) (151). (8) ((السنن والمبتدعات)) (60). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 188 ومن صور الذكر الجماعي مما هو موجود عند جماعات من الناس:1 - الاستغفار عقب الصلاة، والاتيان بالأوراد الواردة أو غيرها بصوت واحد مرتفع (1). قال الأذرعي: حمل الشافعي رضي الله عنه أحاديث الجهر على من يريد التعليم (2).2 - أو أن يدعو الإمام دبر الصلاة جهراً رافعاً يديه، ويؤمن المأمومون على دعائه وبصوت واحد (3).3 - ومنه أن يجتمع الناس في مكان - مسجد أو غيره - ويدعون الله، وبصوت واحد إلى غروب الشمس ويجعلون الاجتماع لهذا الذكر شرطاً للطريقة (4).وقد قال التجاني: من الأوراد اللازمة للطريقة ذكر الهيللة بعد صلاة العصر يوم الجمعة مع الجماعة، وإن كان له إخوان في البلد فلابد من جمعهم وذكرهم جماعة. وهذا شرط في الطريقة (5). وقال الرباطي: وترك الاجتماع من غير عذر شرعي يعرض في الوقت ممنوع عندنا في الطريقة، ويعد تهاوناً، ولا يخفى وخامة مرتع التهاون (6). وقد أفتى العلماء ببطلان الذكر الجماعي، فقد جاء في بعض الأسئلة الواردة إلى هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ما نصه: قال السائل: لنا جماعة هم أصحاب الطريقة التجانية يجتمعون كل يوم جمعة ويوم الاثنين ويذكرون الله بهذا الذكر (لا إله إلا الله)، ويقولون في النهاية (الله الله ... ) بصوت عال. فما حكم فعلهم هذا؟ الجواب: (بعد بيان ضلال هذه الطريقة). والاجتماع على الذكر بصوت جماعي لا أصل له في الشرع، وهكذا الاجتماع بقول: (الله الله ... ) أو: (هو هو ... ) والاجتماع بصوت واحد هذا لا أصل له، بل هو من البدع المحدثة (7). 4 - ومن صور الذكر الجماعي الموجودة أن يجتمع الناس في مسجد وقد وقع البلاء في بلد فيدعون الله بصوت واحد لرفعه. 5 - ومن هذه الصور كذلك ما يحصل عند بعض الناس في أعمال الحج من الطواف والسعي وغيرها، حيث إن بعضهم يؤجرون من يدعو لهم، ويرددون وراءه أدعية معينة لكل شوط، بدون أن يكون لكل أحد الفرصة للدعاء فيما يتعلق بحاجته الخاصة التي يريدها. وقد يكون بعض هؤلاء المرددين لصوت الداعي لا يعرفون معنى ما يدعو به الداعي: إما لكونهم لا يعرفون اللغة العربية. أو للأخطاء التي تحصل من الداعي، وتحريفه للكلام. ومع هذا يحاكونه في دعائه، وهذه الأدعية إنما صارت بدعة من وجهين: الأول: تخصيص كل شوط بدعاء خاص، مع عدم ورود ذلك. قال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: وأما ما أحدثه بعض الناس: من تخصيص كل شوط من الطواف أو السعي بأذكار مخصوصة، أو أدعية مخصوصة فلا أصله له، بل مما تيسر من الذكر والدعاء كافي (8). الثاني: الهيئة الجماعية، مع رفع الصوت، وحكاية ألفاظ بدون تدبر واستحضار معنى.6 - ومن صور الذكر الجماعي كذلك ما يقع عند الزيارة للقبر النبوي، أو قبور الشهداء، أو البقيع، أو غير ذلك من ترديد الزائرين صوت المزورين، قال الشيخ الألباني - رحمه الله - عند تعداده لبدع الزيارة في المدينة المنورة: تلقين من يعرفون بالمزورين جماعات الحجاج بعض الأذكار والأوراد عند الحجرة، أو بعيداً عنها بالأصوات المرتفعة، وإعادة هؤلاء ما لقنوا بأصوات أشد منها (9). 7 - ومن هذه الصور كذلك اجتماع الناس في المساجد وأماكن الصلوات - ولاسيما في العيدين - ليرددوا التكبير جماعة خلف من يتولى التكبير في مكبر الصوت، ويرددون وراءه جماعة بصوت واحدٍ، فهذا كذلك من البدع. المصدر: الذكر الجماعي بين الاتباع والابتداع لمحمد بن عبد الرحمن الخميس - ص 12 - 17   (1) انظر: ((علم أصول البدع)) (151). (2) ((إصلاح المساجد)) (ص 111). (3) ((مسك الختام في الذكر والدعاء بعد السلام)) (123). (4) ((الحوادث والبدع)) (126). (5) ((تقديس الأشخاص)) (3361). (6) ((تقديس الأشخاص)) (1/ 336) (7) ((البدع وما لا أصل له)) (ص 425). (8) ((التحقيق والإيضاح لكثير من مناسك الحج والعمرة)) (35). (9) ((مناسك الحج والعمرة في الكتاب والسنة وآثار السلف)) للألباني (63) رقم (166). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 189 المبحث الثالث: حجج المجوّزين للذكر الجماعي وأدلتهم احتج المجيزون للذكر الجماعي بحجج (1)، نوجزها فيما يلي: أولاً: النصوص الشرعية الواردة في الثناء على أهل الذكر بصيغة الجمع بما يدل على استحباب الاجتماع على ذكر الله منها ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن لله تعالى ملائكة سيارة، فضلاً يتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر، قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضاً بأجنحتهم، حتى يملؤوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا، وصعدوا إلى السماء. قال: فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم بهم: من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عبادك في الأرض، يسبحونك، ويكبرونك، ويهللونك، ويحمدونك، ويسألونك ... )) وفي نهاية الحديث يقول الله: (( ... قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا ... )) (2). فيرى المجيزون للذكر الجماعي أن هذا الحديث يدل على فضل الاجتماع للذكر، والجهر به من أهل الذكر جميعاً، لأنه قال: ((يذكرونك، يسبحونك، ويكبرونك، ويمجدونك)) بصيغة الجمع، ثم استدلوا بقول الحافظ ابن حجر في شرحه على صحيح البخاري حيث قال: المراد بمجالس الذكر هي المجالس التي تشتمل على ذكر الله بأنواع الذكر الواردة من تسبيح وتكبير وغيرها، وعلى تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى، وعلى الدعاء بخيري الدنيا والآخرة، وفي دخول الحديث النبوي ومدارسة العلم الشرعي ومذاكرته والاجتماع على صلاة النافلة في هذه المجالس نظر ... والأشبه اختصاص ذلك بمجالس التسبيح والتكبير ونحوها والتلاوة فحسب، وإن كانت قراءة الحديث ومدارسته، والمناظرة فيه، من جملة ما يدخل تحت مسمى ذكر الله تعالى. ومن هذه الأحاديث كذلك ما أخرجه أحمد من طريق: إسماعيل بن عياش، عن راشد بن داود عن يعلى بن شداد، قال: حدثني أبي شداد بن أوس، وعبادة بن الصامت حاضر يصدِّقه، قال: كنا عند النبي فقال: ((هل فيكم غريب؟)) يعني أهل الكتاب، فقلنا: لا يا رسول الله، فأمر بغلق الباب، وقال: ((ارفعوا أيديكم وقولوا لا إله إلا الله)) فرفعنا أيدينا ساعة، ثم وضع رسول الله يده، ثم قال: ((الحمد لله، بعثتني بهذه الكلمة، وأمرتني بها، ووعدتني عليها الجنة، وإنك لا تخلف الميعاد، ثم قال: أبشروا فإن الله عز وجل قد غفر لكم)) (3) قلت: الحديث ضعيف. فيه إسماعيل بن عياش. وهو مدلس. ولم يصرح بالسماع، ومدار هذا الحديث على راشد بن داود، قال ابن معين: ليس به بأس، ثقة، وقال دحيم: هو ثقة عندي، بينما ضعَّفه الإمام البخاري - رحمه الله - فقال: فيه نظر وهذا جرح شديد عنده، بمعنى أنه متهم أو غير ثقة. كما أشار إلى ذلك الحافظ الذهبي (4)، وقال الدارقطني: ضعيف لا يعتبر به، فاتفق مع البخاري في تضعيفه، وهو الظاهر من حاله، فإن في الحكم بالجرح زيادة علم عن الحكم بالتعديل، فإذا صدر من إمام عالم متمكن غير متشدد كان مقبولاً من غير شك، هذا من جهة.   (1) انظر: حجج من أجاز الذكر الجماعي في كتاب ((نتيجة الفكر في الجهر بالذكر)) للسيوطي (2/ 23 - 29) مطبوع ضمن ((الحاوي للفتاوي)) وكتاب ((صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم)) لحسين السقاف (ص 244 - 257). (2) رواه مسلم (2689) (3) رواه أحمد (4/ 124) (17162) والحاكم (1844) قال الهيثمي في ((المجمع)) (10/ 81) فيه راشد بن داود وقد وثقه غير واحد وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات، وضعفه الألباني في ((ضعيف الترغيب)) (924) (4) انظر ((الموقظة للذهبي)) (ص 83). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 190 ومن ناحية أخرى، فلو فرضنا جدلاً صحة هذا الحديث فليس فيه دلالة على جواز الذكر الجماعي، فهو صريح الدلالة على أن ذلك كان للبيعة - أو لتجديد البيعة - وليس لمجرد الذكر، لاسيما وقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم برفع الأيدي، فهذا للمبايعة، ولا يشترط - بل ولا يستحب - في الذكر. ثانياً: الأحاديث الكثيرة الواردة في فضل مجالس الذكر، والتي منها:1 - ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول تعالى: أنا عند ظن عبدي بي. وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ... )) (1) الحديث. والشاهد في قوله: ((وإن ذكرني في ملأ)) فدل على جواز الذكر الجماعي (2).2 - ما جاء في صحيح مسلم عن معاوية أن رسول الله خرج على حلقة من أصحابه فقال: ((ما أجلسكم)) قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومنَّ به علينا. فقال: ((آلله ما أجلسكم إلا هذا)) قالوا: الله ما أجلسنا إلا ذلك. فقال: ((أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة)) (3).3 - ما رواه أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلى من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلى من أن أعتق أربعة)) (4) وغير ذلك من الأحاديث التي ورد فيها فضل مجالس الذكر وفضل الاجتماع عليه واستدلوا كذلك ببعض الأحاديث التي ورد فيها ذكر الدعاء الجماعي، وهي أقرب ما يمكن أن يُستدل به في هذا الموضوع؛ لو سلمت من الطعن، وها هي بين يديك، مع ما قاله الأئمة المعتمدون في علم الجرح والتعديل في رواتها وأسانيدها. الحديث الأول: عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه بعدما سلم وهو مستقبل القبلة، فقال: ((اللهم خلِّص الوليد بن الوليد، وعياش بن أبي ربيعة، وسلمة بن هشام، وضعفة المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، من أيدي الكفار)) (5). أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (6)، وابن جرير في تفسيره (7). وفي سنده علي بن زيد بن جدعان، قال ابن حجر في (التقريب): ضعيف (8)، ونقل الذهبي في السير (9) تضعيفه عن أحمد بن حنبل والبخاري والفلاس والعجلي، وغيرهم انتهي. ومع الضعف الذي في علي بن زيد، فليس فيه دليل على الدعاء الجماعي، وهذه الرواية مخالفة لما جاء في الصحيحين، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة يقول: ((اللهم أنج عياش ... )) (10) الحديث. أي يقول هذا الدعاء في قنوت الفجر، قبل الخروج من الصلاة.   (1) رواه البخاري (7405) ومسلم (2675) (2) ((ما جاء في البدع)) (ص 48 رقم 25). (3) رواه مسلم (2701) (4) رواه أبو داود (3667) وأحمد (5/ 255) (22248) والطبراني في ((الأوسط)) (6/ 137) قال الهيثمي في ((المجمع)) (10/ 104) أسانيده حسنة وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/ 32) إسناده حسن، وأورده الألباني في ((الصحيحة)) (2916) (5) تكلم عليه الألباني في ((الضعيفة)) تحت الحديث رقم (2544) (6) ((تفسير ابن أبي حاتم)) (3/ 1048). (7) ((تفسير ابن جرير)) (4/ 438 ح 12081). (8) ((تقريب التهذيب)) (401). (9) ((سير أعلام النبلاء)) (5/ 206). (10) رواه البخاري (1006) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 191 الحديث الثاني: عن محمد بن أبي يحيى الأسلمي قال: رأيت عبد الله بن الزبير ورأى رجلاً رافعاً يديه بدعوات قبل أن يفرغ من صلاته، فلما فرغ منها قال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يرفع يديه حتى يفرغ من صلاته)) (1). رواه الطبراني في الكبير وسنده ضعيف لضعف فضيل بن سليمان. فقد قال عنه ابن معين: ليس بثقة. وفي رواية: ليس هو بشيء ولا يكتب حديثه. وقال صالح جزرة: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، ليس بالقوي. وقال النسائي: ليس بالقوي. وذكر أبو داود أنه استعار كتاباً من موسى بن عقبة فلم يرده. وكان عبد الصمد بن مهدي لا يحدث عنه. وقال أبو زرعة: لين الحديث، روى عنه علي بن المديني وكان من المتشددين ومع ضعف فضيل، ففي القلب شيء من رواية محمد بن أبي يحيى عن ابن الزبير، فلا أظنه أدركه، لأن وفاة ابن الزبير كانت سنة (73 هـ) ووفاة محمد كانت سنة (144 هـ). ومعنى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يرفع يديه حتى يفرغ من الصلاة وهو غير رافع يديه للدعاء، أو أنه كان يرفع بعد الفراغ من الصلاة للدعاء؛ ولكن ليس فيه أنه كان يجهر بالدعاء ويجهر الماموم بالتأمين. وعليه، فليس فيه دليل للدعاء الجماعي، وإنما هو دليل للدعاء منفرداً. الحديث الثالث: عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من عبد يبسط كفّيه في دبر كل صلاة ثم يقول: اللهم إلهي وإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وإله جبريل وميكائيل وإسرافيل، أسألك أن تستجيب دعوتي فإني مضطر وتعصمني في ديني فإني مبتلى، وتنالني برحمتك فإني مذنب، وتنفي عني الفقر فإني متمسكن. إلا كان حقاً على الله عز وجل ألا يرد يديه خائبتين)) (2). رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة (3)؛ والحديث فيه عبد العزيز بن عبد الرحمن وخصيف. أما عبد العزيز فقد ضعفه جمع من الأئمة، وأما خصيف فقد قال الحافظ ابن حجر فيه: صدوق سيء الحفظ خلط بأخرة، ورُمِي بالإرجاء. انتهي (4). وإضافة إلى هذا الضعف الذي في هذا الحديث، فليس فيه دلالة على المطلوب، بل هو كالحديثين السابقين.   (1) قال الهيثمي في المجمع (10/ 169) رجاله ثقات وقال الألباني ضعيف كما في ((الضعيفة)) (2544) (2) رواه ابن السني في ((عمل اليوم والليلة)) (135) والديلمى (1/ 481) (1970) وابن عساكر (16/ 383) قال ابن عراق في ((تنزيه الشريعة)) (2/ 334) فيه عبد العزبز ابن عبد الرحمن البالسي، وقال الفتني في تذكرته (58) فيه متهم وقال الألباني في الضعيفة (5701): ضعيف جدا. (3) ((عمل اليوم والليلة)) لابن السني (ص 53). (4) ((تقريب التهذيب)) (193). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 192 الحديث الرابع: عن الأسود العامري، عن أبيه قال: (صلَّيت مع رسول الله الفجر، فلما سلم، انحرف ورفع يديه ودعا) (1) قال العلامة المباركفوري (2): الحديث رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، كذا ذكر بعض الأعلام هذا الحديث بغير سند، وعزاه إلى المصنف. ولم أقف على سنده. فالله تعالى أعلم. أهو صحيح أو ضعيف؟. انتهي من التحفة. والحديث أخرجه ابن أبي شيبة (3)، وابن حزم في المحلى. وليس فيه: ((ورفع يديه ودعا))، وإنما هو هكذا: حدثنا هُشيم قال: نا يعلى بن عطاء، عن جابر بن يزيد الأسود العامري، عن أبيه قال: صليت مع رسول الله الفجر، فلما سلم انحرف. ولفظ ابن حزم: فلما صلى انحرف. فإذن ليس في الحديث: رفع يديه ودعا. ولو سلمنا بثبوت هذه الجملة فإنها لا تكفي للوفاء بالاستدلال المقصود؛ لأنها ليس فيها الجهر بالدعاء من الإمام، ولا تأمين المأمومين جهراً. الحديث الخامس: عن الفضل بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلاة مثنى مثنى، تشهد في كل ركعتين وتخشع وتضرع وتمسكن، ثم تنقع يديك - يقول: ترفعهما إلى ربك مستقبلاً ببطونهما وجهك، وتقول: يا رب يا رب - ومن لم يفعل ذلك فهو كذا وكذا)) (4). رواه أحمد والترمذي. وفي رواية للترمذي: فهو خداج. قال الترمذي (5): سمعت محمد بن إسماعيل - يعني البخاري - يقول: روى شعبة هذا الحديث عن عبد ربه بن سعيد، فأخطأ في مواضع. انتهي. والحديث ضعيف. فيه عبد الله بن نافع بن العمياء، وقال الحافظ في تقريب التهذيب: مجهول (6). وحتى ولو فرضنا صحة الحديث، فليس فيه دليل للدعاء الجماعي، وإنما هو دليل للدعاء منفرداً كما هو واضح في سياقه وألفاظه. ثالثاً: ومن أدلتهم أيضاً بعض الآثار التي جاءت عن بعض السلف، فمنها:1 - ما جاء عن عمر رضي الله عنه من أنه كان يكبر في قبته بمنى، فيسمعه أهل المسجد، فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق، حتى ترتج منى تكبيراً (7). 2 - أن ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنها - كانت تكبر يوم النحر، وكن النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد. رابعاً: ومن أدلتهم أيضاً المصالح المترتبة على الذكر الجماعي لأن فيه - كما يرون - مصالح كثيرة، منها: 1 - أن فيه تعاوناً على البر والتقوى، وقد أمر الله بذلك في قوله: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:] 2 - أن الاجتماع للذكر والدعاء أقرب إلى الإجابة.3 - أن عامة الناس لا علم لهم باللسان العربي، وربما لحنوا في دعائهم، واللحن سبب لعدم الإجابة، والاجتماع على الذكر والدعاء بصوت واحد يجنبهم ذلك (8).خامساً: ومما يستدلون به أن هذا العمل عليه أكثر الناس، والغالبية هي الجماعة والنبي صلى الله عليه وسلم أوصى بلزوم الجماعة في غير ما حديث (9).سادساً: أن الذكر على هذه الهيئة وسيلة، والغاية منها عبادة الله، والقاعدة تقول: أن الوسائل لها حكم الغايات والمقاصد (10)، وعبادة الله أمر مطلوب، وعليه فيكون الذكر الجماعي أمراً مطلوباً (11).وأما جوابهم على أدلة المانعين من الذكر الجماعي، فإنهم يرون أن الآثار الواردة عن الصحابة في المنع من الذكر الجماعي، والإنكار على فاعليه، يرون أنها آثار معارضة بالأحاديث الكثيرة الثابتة المتقدمة، وهذه الأحاديث مقدمة على تلك الآثار عند التعارض. قال السيوطي: هذا الأثر عن ابن مسعود (12) يحتاج إلى بيان سنده. ومن أخرجه من الأئمة الحفاظ في كتبهم؟ وعلى تقدير ثبوته فهو معارض بالأحاديث الكثيرة الثابتة المتقدمة وهي مقدمة عليه عند التعارض (13). المصدر: الذكر الجماعي بين الاتباع والابتداع لمحمد بن عبد الرحمن الخميس - ص 18 - 27   (1) قال الألباني في ((الضعيفة)) تحت حديث رقم (5701) فيه كذب وخطأ، وبين الكذب في المتن والخطأ الذي في الإسناد. (2) ((تحفة الأحوذي شرح الجامع للترمذي)) (1/ 246). (3) ((المصنف)) (1/ 302) (4) رواه أبو داود (1296) والترمذي (385) واللفظ له وأحمد (1/ 211) (1799) وضعفه النووي في ((خلاصة الأحكام)) (1/ 477) وقال المزي في ((التهذيب)) (6/ 154) في إسناده اختلاف، ومثله قال ابن رجب في ((الفتح)) (4/ 341) وقال الألباني في ((الضعيفة)) (6546) منكر (5) ((جامع الترمذي بشرح تحفة الأحوذي)) (1/ 299). (6) ((تقريب التهذيب)) (1/ 317 / 3757). (7) علقه البخاري في "صحيحه" ووصله البيهقي في "سننه" (3/ 312) (8) وهذه المصالح التي زعموها ذكرها الشاطبي في ((الاعتصام)) (1/ 461) وما بعدها. (9) الشاطبي في ((الاعتصام)) (1/ 460). (10) ((القواعد والأصول الجامعة)) (ص 25). (11) هذه من الحجج التي احتج بها بعض الناس في إثبات كثير من المحدثات. انظر: ((علم أصول البدع)) (ص 246). (12) يعني الأثر الذي رواه الدارمي، والذي فيه إنكاره الذكر الجماعي. وكذلك وردت آثار أخرى عنه ذكر فيها إنكاره الذكر الجماعي كما في ((البدع)) لابن وضاح (13) ((الحاوي للفتاوي)) (2/ 132). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 193 المبحث الرابع: حجج المانعين من الذكر الجماعي وأدلتهم استدل المانعون من الذكر الجماعي بأدلة. منها: أولاً: أن الذكر الجماعي لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حث الناس عليه، ولو أمر به أو حث عليه لنُقل ذلك عنه عليه الصلاة والسلام. وكذلك لم يُنقل عنه الاجتماع للدعاء بعد الصلاة مع أصحابه. قال الشاطبي: الدعاء بهيئة الاجتماع دائماً لم يكن من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: لم ينقل أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يدعو بعد الخروج من الصلاة هو والمأمومون جميعاً، لا في الفجر، ولا في العصر، ولا في غيرهما من الصلوات، بل قد ثبت عنه أنه كان يستقبل أصحابه ويذكر الله ويعلمهم ذكر الله عقيب الخروج من الصلاة. ثانياً: فعل السلف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، فإنهم قد أنكروا على من فعل هذه البدعة، كما سيأتي ذلك في النصوص الآتية عن عمر وابن مسعود وخباب رضي الله عنهم، ولو لم يكونوا يعدون هذا العمل شيئا مخالفاً للسنة ما أنكروا على فاعله، ولا اشتدوا في الإنكار عليه، فممَّن أنكر من الصحابة هذا العمل: 1 - عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقد روى ابن وضاح بسنده إلى أبي عثمان النهدي قال: كتب عامل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إليه: أن ها هنا قوماً يجتمعون، فيدعون للمسلمين وللأمير. فكتب إليه عمر: أقبل وأقبل بهم معك فأقبل. فقال عمر، للبواب: أعِدَّ سوطاً، فلما دخلوا على عمر، أقبل على أميرهم ضرباً بالسوط. فقلت: يا أمير المؤمنين إننا لسنا أولئك الذي يعني، أولئك قوم يأتون من قبل المشرق 2 - وممن أنكر من الصحابة كذلك الاجتماع للذكر: عبد اله بن مسعود رضي الله عنه وذلك في الكوفة. فعن أبي البختري قال: أخبر رجل ابن مسعود رضي الله عنه أن قوماً يجلسون في المسجد بعد المغرب، فيهم رجل يقول: كبروا الله كذا، وسبحوا الله كذا وكذا، واحمدوه كذا وكذا، واحمدوه كذا وكذا. قال عبد الله: فإذا رأيتهم فعلوا ذلك فأتني، فأخبرني بمجلسهم. فلما جلسوا، أتاه الرجل، فأخبره. فجاء عبد الله بن مسعود، فقال: والذي لا إله إلا غيره، لقد جئتم ببدعة ظلماً، أو قد فضلتم أصحاب محمد علماً. فقال عمرو بن عتبة: نستغفر الله. فقال: عليكم الطريق فالزموه، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لتضلن ضلالاً بعيداً.3 - وممن أنكر عليهم من الصحابة: خباب بن الأرت، فقد روى ابن وضاح بسند صحيح عن عبد الله بن أبي هذيل العنزي عن عبد الله بن الخباب قال: بينما نحن في المسجد، ونحن جلوس مع قوم نقرأ السجدة ونبكي. فأرسل إلى أبي. فوجدته قد احتجز معه هراوة له. فأقبل عليَّ. فقلت: يا أبت! مالي مالي؟! قال: ألم أرك جالساً مع العمالقة (1)؟ ثم قال: هذا قرن خارجٌ الآنكما أنكر عامة التابعين رحمهم الله تعالى كذلك هذه البدع ومن جملة ذلك: كراهية الإمام مالك الاجتماع لختم القرآن في ليلة من ليالي رمضان. وكراهيته الدعاء عقب الفراغ من قراءة القرآن بصورة جماعية (2) وقد نقل الشاطبي في فتاواه كراهية مالك الاجتماع لقراءة الحزب، وقوله: إنه شيء أُحدث، وإن السلف كانوا أرغب للخير، فلو كان خيراً لسبقونا إليه (3).   (1) العمالقة: الجبابرة الذين كانوا بالشام من بقية قوم عاد. ويقال لمن خدع الناس ويخلبهم: عملاق، والعملقة: التعمق في الكلام. فشبَّه القصاص بهم لما في بعضهم من الكبر والاستطالة على الناس. أو بالذين يخدعونهم بكلامهم. وهو أشبه. قاله ابن الأثير في ((النهاية)) (3/ 301). (2) كتاب ((الحوادث والبدع)) للطرطوشي (ص 62 - 63 - 68). (3) ((فتاوى الشاطبي)) (ص206 - 208). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 194 فهذه النقول، التي أوردناها في هذا الباب، كلها توضح أن السلف - رضي الله عنهم - كانوا لا يرون مشروعية الاجتماع للذكر بالصورة التي أحدثها الخلف. ولله در السلف! ما كان خير إلا سبقوا إليه، ولا كانت بدعة منكرة إلا كانوا أبعد الناس عنها، محذرين منها. فما من إنسان يخالف هديهم إلا كان تاركاً لسبل الخير، معرضاً عنها، مقتحماً أبواب الضلال. فلو كان الذكر الجماعي مشروعاً أو مستحباً لفعله السلف، ولو فعلوه لنُقل عنهم، ولَوَرَدَ إلينا. فلما لم يُنقل ذلك عنهم، بل نُقل عنهم ما يخالف من الإنكار على فاعله، كما حدث من ابن عمر، وابن مسعود، وغيرهما. دل ذلك على أن هذا العمل غير مشروع أصلاً. ثالثاً: النصوص العامة التي فيها المنع من الابتداع في الدين، كحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (1). ومعلوم أن الذكر الجماعي لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدل عليه، فلو شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمر به وحث الناس عليه، ولشاع ذلك عنه صلى الله عليه وسلم بينهم مع قيام المقتضى. رابعاً: أن في القول باستحباب الذكر الجماعي استدراكاً على شريعة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث إن المبتدعين له شرعوا أحكاماً لم يشرعها النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21]. فلما لم يشرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته هذا العمل، دل ذلك على بدعيته. خامساً: ومن أدلة المانعين من الذكر الجماعي: أن في هذا الذكر بصوت واحد تشبهاً بالنصارى الذين يجتمعون في كنائسهم لأداء التراتيل والأناشيد الدينية بصوت واحد. هذا مع كثرة النصوص الشرعية التي وردت في النهي عن التشبه بأهل الكتاب، والأمر بمخالفتهم. سادساً: ومن أدلة المانعين من الذكر الجماعي: أن فيه مفاسد عديدة تقطع بعدم جوازه، لاسيما وأنها تربو على ما له من منافع زعمها المجيزون له، فمن هذه المفاسد:1 - التشويش على المصلين والتالين للقرآن مع ورود النهي عن هذا التشويش، ومنها على سبيل المثال قوله صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن كلكم مناج ربه. فلا يؤذين بعضكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة)) (2). 2 - الخروج عن السمت والوقار الذين يجب على المسلم المحافظة عليهما. 3 - أن اعتياد الذكر الجماعي قد يدفع بعض الجهال والعامة إلى الانقطاع عن ذكر الله إذا لم يجدوا من يجتمع معهم لترديد الذكر جماعة كما اعتادوا. 4 - أنه قد يحصل من بعض الذاكرين أحياناً تقطيع الآيات حتى يتمكن قصار النَفَس من الترديد مع طوال النَفَس. فهذه أظهر أدلة المانعين من الذكر الجماعي. وقد سقتها - على وجه التفصيل - في حدود ما وقفت عليه، مع تحري الأمانة فيما نقلت. وأما أدلة المجيزين للذكر الجماعي فقد أجاب المانعون عنها بما يلي: أولاً: الجواب على الدليل الأول: وهو احتجاجهم بالنصوص الواردة في مدح الذاكرين بصيغة الجمع، وادعاؤهم أن هذا يقتضي اجتماعهم على الذكر بشكل جماعي، وللجواب على هؤلاء يقال: إن الحث على الذكر بصيغة الجمع ومدح الذاكرين بصيغة الجمع لا يقتضي الدلالة على استحباب أو جواز الذكر الجماعي ولا يلزم منه ذلك. بل غاية ما في هذه النصوص الدلالة على استحباب الذكر لجميع المسلمين، والحث عليه، وسواء كان ذلك على وجه الانفراد، أو الاجتماع، ظاهراً، أو خفياً.   (1) رواه البخاري (2697) ومسلم (1718) واللفظ له (2) رواه أبو داود (1332) وأحمد (3/ 94) (11915) وابن خزيمة (1162) قال النووي في ((الخلاصة)) (1/ 393) إسناد أبي داود صحيح، وصححه الألباني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 195 ثانياً: الجواب على الدليل الثاني: وهو استدلالهم بعموم الأحاديث الدالة على فضل الاجتماع على ذكر الله ومجالس الذكر. فالجواب على هذا الدليل من وجهين: الوجه الأول: أن ذكر الله ليس مقصوراً على التسبيحات والدعوات، وما يقال باللسان، بل إن ذكر الله سبحانه وتعالى يشمل كل قول وفعل يرضي الله تعالى ومنه مجالس العلم والفقه، والقرآن، ولذلك فإن ما ورد في فضل مجالس الذكر ليس المقصود منها فقط ما ذكروه، بل وغير ذلك. ويدل على ذلك ما ورد في كتاب (الحلية) لأبي نعيم الأصبهاني، بسنده إلى أبي هزان قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول: من جلس مجلس ذكر كفر الله عنه بذلك المجلس عشرة مجالس من مجالس الباطل. قال أبو هزان: قلت لعطاء: ما مجلس الذكر؟ قال: مجلس الحلال والحرام، وكيف تصلي، وكيف تصوم، وكيف تنكح، وكيف تطلق وتبيع وتشتري (1) وقال الحافظ ابن حجر: والمراد بالذكر: الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها والإكثار منها، مثل: الباقيات الصالحات وهي: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ونحو ذلك. والدعاء بخيري الدنيا والآخرة. ويطلق ذكر الله أيضاً، ويراد به: المواظبة على العمل بما أوجبه، أو ندب إليه: كتلاوة القرآن، وقراءة الحديث، ومدارسة العلم والتنفل بالصلاة (2).قال العلامة المباركفوري (3): المراد بالذكر - هنا -: الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها، والإكثار منها مثل الباقيات الصالحات، وهي: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وما يلتحق بها من الحوقلة، والبسملة، والحسبلة، والاستغفار، ونحو ذلك، والدعاء بخيري الدنيا والآخرة. ويُطلق ذكر الله أيضاً ويُراد به المواظبة على العمل بما أوجبه، أو ندب إليه، كتلاوة القرآن، وقراءة الحديث، ومدارسة العلم، والتنفل بالصلاة. فإن قال قائل من هؤلاء: إن الذكر بالألفاظ الواردة نوع من أنواع الذكر اللساني يشمله أحاديث فضل مجالس الذكر فدل ذلك على استحباب الاجتماع لأجل هذا الذكر اللساني. فالرد عليه بالوجه الثاني: أن هذه الأحاديث لم تدل على الذكر الجماعي واستحبابه، وإنما هي دالة على استحباب الاجتماع على ذكر الله. وهناك فرق كبير بين هذا وذاك. فالاجتماع على ذكر الله مستحب مندوب إليه بمقتضى الأحاديث الواردة في فضله، ولكن على الوجه المشروع الذي فهمه الصحابة وعملوا به، فقد كانوا يجتمعون للذكر كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم يقرأ، والناس يستمعون. وكان عمر يقول لأبي موسى: ذكرنا ربنا. فيقرأ وهم يستمعون لقراءته. وقال الطرطوشي: هذه الآثار (4) تقتضي جواز الاجتماع لقراءة القرآن الكريم على معنى الدرس له والتعلم والمذاكرة وذلك يكون بأن يقرأ المتعلم على المعلم، أو يقرأ المعلم على المتعلم، أو يتساويا في العلم، فيقرأ أحدهما على الآخر على وجه المذاكرة والمدارسة هكذا يكون التعليم والتعلم، دون القراءة معاً. وجملة الأمر أن هذه الآثار عامة في قراءة الجماعة معاً على مذهب الإدارة، وفي قراءة الجماعة على المقرئ ... ومعلوم من لسان العرب أنهم لو رأوا جماعة قد اجتمعوا لقراءة القرآن على أستاذهم. ورجل واحد يقرأ القرآن، لجاز أن يقولوا: هؤلاء جماعة يدرسون العلم، ويقرؤون العلم والحديث. وإن كان القارئ واحد (5). ثالثاً: وأما الآثار التي استدلوا بها عن عمر رضي الله عنه، وميمونة رضي الله عنها. فيجاب عنها من ثلاثة وجوه:   (1) ((الحلية)) (3/ 313). (2) ((فتح الباري)) (11/ 250). (3) ((تحفة الأحوذي)) (9/ 314). (4) أي التي تدل على فضل مجالس الذكر والاجتماع عليه (5) ((الحوادث والبدع)) (ص 166). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 196 الأول: أنها غير صريحة في التكبير الجماعي بالشكل الذي يدعو إليه من يقولون بمشروعية الذكر الجماعي، بل غاية ما فيها أن الناس تأسَّوا بعمر رضي الله عنه فكبروا مثله وبأصوات مرتفعة، وبسبب تداخل واختلاط الأصوات مع كثرة الحجيج فقد ارتجت منى بالتكبير. ولا يفهم منه أن عمر رضي الله عنه كان يكبر ثم يسكت حتى يرددوا خلفه بصوت رجل واحد. وإلا فإن أئمة المذاهب المتبوعة لم ينقل عنهم الإقرار للذكر والتسبيح والتكبير بصوت واحد فلو فهموا منه ما فهمه دعاة الذكر الجماعي لقالوا به. ولكنهم فهموا هذه الآثار - والله أعلم - على ما سبق ذكره في أول هذا الوجه. وأما أثر ميمونة فيقال فيه ما قيل في أثر عمر. وليس فيه إلا تكبير النسوة مع الرجال في المسجد. الثاني: أن عمر رضي الله عنه قد ثبت عنه أنه عاقب من اجتمعوا للدعاء والذكر وغيره كما في الأثر الذي رواه ابن وضاح. وقد سبق إيراده في بيان حجج المانعين من الذكر الجماعي وأدلتهم. الثالث: أن مثل هذا التكبير من عمر والترديد من الناس لم ينقل في غير أيام منى، ووقت الحج. ولو جاز تعميم الحكم، والقول بجواز الذكر الجماعي في المساجد والبيوت، وبعد الصلوات وفي الأوقات المختلفة، لكان في هذا مخالفة واضحة للآثار السابقة عن عمر، وابن مسعود، وخباب، وغيرهم رضي الله عنهم جميعاً. رابعاً: وأما الأمر الرابع الذي استدلوا به: وهو دعواهم أن للذكر الجماعي مصالح عديدة، فيجاب عنه بما يأتي (1): 1 - قولهم إن فيه تعاوناً على البر والتقوى باطل، يرده فعل النبي صلى الله عليه وسلم. فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أنزل عليه وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2] وكذلك فعله عليه السلام، ولو كان الاجتماع للدعاء والذكر بعد الصلاة جهراً لمن شهد الصلاة، وفي غير ذلك من الأوقات. لو كان هذا كله من باب التعاون على البر والتقوى لكان أول سابق إليه هو النبي عليه السلام ولفاز بالسبق إليه أصحابه رضوان الله عليهم، ومن المعلوم أنهم لم ينقل عنهم ذلك قطعاً. وكذب من ادعى عليهم شيئا من ذلك. 2 - وأما قولهم إن الذكر الجماعي أقرب للإجابة. فيجاب عليهم بأن هذه العلة كانت موجودة في زمانه عليه السلام بل هو صلى الله عليه وسلم أعظم من تجاب دعوته ولا شك في ذلك، فهو عليه السلام كان أحق بأن يفعل ذلك ويدعو مع أصحابه - جماعة - خمس مرات في اليوم والليلة. ولكن رغم ذلك لم ينقل عنه أنه فعل ذلك. وبالتالي يصبح من الواجب الحكم على هذا الفعل بأنه بدعة بناء على ما ثبت من فعله عليه الصلاة والسلام، وبناء على الأدلة الكثيرة في بيان وجوب طاعته والاهتداء بهديه، والاقتداء بسنته. 3 - وأما قولهم إن الذكر الجماعي أبعد عن اللحن في الدعاء والذكر ولاسيما للعوام، فيجاب عليهم بما يلي: أ - أنه ليس من شروط صحة الدعاء عدم اللحن فيه، بل يشترط الإخلاص وصدق التوجه ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. وقد كان الصحابة متوافرين بعد انتشار الفتوحات، وظهور العجمة في الألسنة بعد أن كثر العجم الداخلون في الإسلام وشاع بين الناس اللحن في الكلام، ومع ذلك لم ينقل عن الصحابة شيء من هذا الذكر الجماعي. ب - أن هذا اللحن الذي زعموه، والموجود في الدعاء، يوجد أيضاً من هؤلاء العوام في قراءة القرآن، وفي الصلاة وفي غيرها من شعائر الدين، وكان الجدير بهؤلاء أن يعلموهم بعد الصلوات تلك الأحكام، لأنها أمور واجب تعلمها على المسلم، أما الدعاء فهو أمر مستحب. خامساً: قولهم: إن هذا عمل الناس، وعليه الجماعة، وقد اجتمع عليه أكثر الناس.   (1) انظر: ((الاعتصام)) للشاطبي (1/ 461) بتصرف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 197 فيجاب عليهم بأن هذا احتجاج بالناس على الشرع، وهذا باطل. بل يحتج بالشرع وبالدليل على الناس، وعلى الرجال، وأما اتباع عامة الناس وأغلبهم في أمور الدين فهذا باب ضلال، وقد ذمه الله عز وجل في كتابه فقال: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ [الأنعام: 116]. ولسنا متعبَّدين بطاعة الناس واتباعهم، بل بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه. وقد جاء عن أبي علي بن شاذان بسند يرفعه إلى أبي عبد الله بن إسحاق الجعفري قال: كان عبد الله بن الحسن - يعني ابن الحسن بن علي بن أبي طالب يكثر الجلوس إلى ربيعة فتذاكروا يوماً. فقال رجل كان في المجلس: ليس العمل على هذا (أي أن عمل العوام يخالف ذلك). فقال عبد الله: أرأيت إن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام، أفهم الحجة على السنة؟ فقال ربيعة: أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء فبيَّن عبد الله ابن الحسن أن كثرة الجهال والمبتدعين، وتسلطهم على الناس، ونشرهم لبدعتهم، ليس حجة على السنة وعلى الشرع، ولا ينبغي ولا يجوز أن يعارض شرع الله، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم بفعل أحد من الناس، كائناً من كان. سادساً: دعواهم أن الذكر الجماعي وسيلة لها حكم غايتها، وغاية الذكر الجماعي عبادة الله. فيجاب عليهم بما يلي: 1 - أن هذه القاعدة ليست قاعدة مطردة على الدوام، بل إن لها موارد مقصورة عليها، فهذه القاعدة مقصورة على ما ورد في الشرع سواء كان وسيلة أم غاية. ومما يدل على ذلك أن الشيء قد يكون مباحاً، بل واجباً، ومع ذلك تكون وسيلته مكروهة أو محرمة. كمن يتوصل إلى تحصيل ماء الوضوء عن طريق الغصب أو السرقة. 2 - يدلك على هذا كذلك فعل السلف الصالح، فإنهم - رضي الله عنهم - كانوا يتحرون في أمور العبادات كلها تحرياً شديداً من غير التفات إلى الفرق بين ما يسمى وسائل وغايات. سابعاً: وأما قولهم: إن الآثار المانعة للذكر الجماعي تعارض الأحاديث الكثيرة التي تثبت مشروعية الذكر الجماعي (كذا زعموا)، فتُقدَّم الأحاديث عليها. فيجاب عليهم بأنه لا تعارض بين هذه الآثار وتلك الأحاديث كما سبق، بل إن تلك الأحاديث ينبغي أن تفهم وتفسر في ضوء فهم السلف الصالح لها، وهذه الآثار الواردة عن السلف تفسر جانباً من هذه الأحاديث، كما سبق وأن ذكرناه. وأما ما رد به السيوطي أثر ابن مسعود بأنه لا يعرف له سند، فمردود بأنه أثر صحيح بمجموع طرقه رواه الدارمي في سننه، وابن وضاح في البدع (1) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ [الأنعام:116]. والعجب أن الإمام السيوطي - رحمه الله - ذكر هذا في كتابه (الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع).وأما قول الدكتور الزحيلي (2) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ [الأنعام:116]: فلا يصح القول بتبديع الدعاء الجماعي بعد الصلاة ... إلخ. فيقال: قوله: (لا يصح). هذه كلمة شرعية، وإطلاق لحكم شرعي، وهذا يقتضي عدم الجواز. فمن أين أتى بهذا الحكم؟ ومَنْ سبقه بهذا من أهل العلم المعتبرين؟ ولا دليل عليه لا من كتاب ولا من سنة. ثم قوله: وجرى العمل بين المتأخرين بالاجتماع على الدعاء أهـ. فيقال له: ومتى كان اجتماع الناس على عملٍ ما قاضياً على شرع الله عز وجل؟ فالحجة إنما هي في النصوص وفي عمل الرسول صلى الله عليه وسلم، والصحابة الكرام، لا في عمل المتأخرين. ثم قوله في إنكار ابن مسعود على المجتمعين على الذكر: والواقع أن هذا الإنكار ليس بسبب اجتماعهم على الذكر. وإنما لشذوذهم وادعائهم أنهم أشد اجتهاداً في الدين من غيرهم أهـ. فيقال له: ما دليلك على هذا الكلام؟! وكل من روى هذه الواقعة فهم منها إنكار ابن مسعود للذكر الجماعي، ومثله إنكار خباب بن الأرت على ولده، وهل كان هناك شذوذ عند هؤلاء المذكورين غير اجتماعهم على الذكر الجماعي؟ إذ لا يمكن أن يقال إن شذوذهم كان بسبب أنهم يذكرون الله كثيراً. ومن هنا يتبين لك ضعف استدلال المجيزين للذكر الجماعي بالأدلة التي استدلوا بها، وأنها لا تنهض لهم بما أرادوا، وأن الحجة قائمة عليهم بحمد الله تعالى. وكذلك يتبين لك قوة أدلة المانعين من الذكر الجماعي. المصدر: الذكر الجماعي بين الاتباع والابتداع لمحمد بن عبد الرحمن الخميس - ص 28 - 42   (1) ((ما جاء في البدع)) (ص 400 وما بعدها) رقم (9،17،18،19،20،23) (2) ((البدع المنكرة)) (ص 47). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 198 المبحث الخامس: صفة الذكر أما الأذكار الصوفية فحدث ولا حرج عن خرافتهم فيها، وقد قدمنا من الأمثلة ما يوضح حال هؤلاء ومدى ما وصلوا إليه من الجهل بربهم والبعد عن هدى خير الأنام، هذا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. لقد اخترعوا أذكاراً وشرعوا أوراداً ما أنزل الله بها من سلطان، بل اشتملت على الكفر والزندقة في كثير منها والكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، كما اشتملت على كلمات سريانية غير معروفة المعنى وعلى رموز وحروف مقطعة لا يعرف المراد منها. وكل صاحب طريقة له أذكار هي أفضل من كل ذكر، وأجرها أعظم من كل أجر، وما عداه باطل حسب تخرصاتهم في كل ذلك، ينطبق عليهم قول الله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113]، فهم متفرقون قد لا يجمعهم إلا الاتفاق على الرقص وادعاء الوصول إلى الله ومكالمته ورفع الغير والغيرية بينه وبينهم. مع أن كل صاحب طريقة يدعى أنه يأخذ تلك الأذكار مباشرة عن الله عز وجل أو عن نبيه صلى الله عليه وسلم، وأحياناً يقظة لا مناماً كما يزعمون، وفضلوها تفضيلاً عالياً ليرفعوا شأنها في نفوس أتباعهم ومريديهم على القرآن والسنة والأدعية المأثورة، ويطول البحث لو أردنا ذكر نماذج من تلك الطرق المختلفة والأذكار المتباينة فيما بينها. فمنها الأذكار التجانية التي سبق ذكرها، ومنها أذكار البسطامي والرفاعي والجيلاني والشبلي وأبو العباس المرسي وآخرين كثيرين، ومنها أذكار الطريقة الشاذلية التي زعم أصحابها أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والخضر هما اللذان علما الشيخ أحمد الإدريسي، حيث ذكر تلميذه صالح محمد الجعفري ذلك في كتابه (مفاتيح كنوز السموات والأرض المخزونة التي أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم لشيخ الطريقة الإدريسية المصونة) (1). وهي أذكار في غاية الركاكة والكذب على الله وعلى الرسول والاعتداء في الدعاء على حق الله ورسوله، ولم يكتف هؤلاء بادعائهم أنهم يأخذون أذكارهم عن الله ورسوله فقط، بل هناك كما يذكرون بعض الأولياء الذين قد ماتوا هم أيضاً يلتقون ببعض المشايخ الأحياء ويعلمونهم أدعية وأوراداً لا حد لأجر من يقولها. ولو كان الذكر كلاماً لا معنى له في أي لغة من اللغات المعروفة من مثال ما ذكروه عن الدسوقي أنه علمهم هذا الدعاء: "بسم الله الخالق يلجمه بلجام قدرته أحمى حميثاً أطمي طميثاً وكان الله قوياً عزيزاً حم عسق حمايتنا كهيعص كفايتنا ... " (2) إلى آخر الذكر الذي يدل على مدى ضحالة معرفتهم بالله ورسوله وعدم التفاهم إلى ما شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من الدعاء الواضح المثمر في قلب العبد إذا دعا ربه بإخلاص وتوجه. وقد ذكروا من الأجر لقائل أذكارهم الجوفاء ما لا يحد ولا يعد ولا يتصور في الذهن، وقد يبدو على تلك الأدعية حرارة الإيمان وصدق الالتجاء إلى الله تعالى، ولكنه في الحقيقة ليس موجهاً إلى الله فقط بل إلى أوليائهم الأحياء أو الأموات أيضاً. ومدار أذكارهم على الإثبات كما يزعمون، فهم يقتصرون على لفظة "الله" بدلا عن لا إله إلا الله يعللون لهذا المسلك بما لا مقنع فيه حتى للجهال العامة فضلاً عن أهل العلم، حيث يقولون: إن اقتصارهم على لفظة "الله" وتكرارها خوفاً أن يموت الشخص عند ذلك النفي في قول "لا إله".   (1) انظر: ((الفكر الصوفي)) (ص284). (2) انظر: ((الفكر الصوفي)) ((ص290)). نقلاً عن ((الإبريز)) للدباغ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 199 ولا ندري كيف يقرءونها في القرآن فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ [محمد:19]، وماذا يفعل المؤذن، وماذا يفعل الداخل في الإسلام عندما ينطق الشهادتين، وأمور أخرى لا يستطيع العقل أن يتصور مدى التخبط الذي حل بهؤلاء. ومن غريب أمر الصوفية في أذكارهم أنهم رتبوها على طريقة شيطانية من وحي شياطينهم، حيث جعلوا لكل اسم من أسماء الله تعالى ذكراً خاصاً به، ولطبقة خاصة به، فمن ذلك زعمهم أن اسم الله العفو يليق بأذكار العوام، لأنه يصلحهم وليس من شأن السالكين إلى الله ذكره. أما اسمه تعالى الباعث فإنه يذكره أهل الغفلة ولا يذكره أهل طلب الفناء، وأما اسمه الغافر فيلقن لعوام التلاميذ وهم الخائفون من عقوبة الذنب، وأما من يصلح للحضرة الإلهية فذكره مغفرة الذنب عندهم يورث الوحشة، وأما اسمه تعالى المتين فإن ذكره يضر أرباب الخلوة وينفع أهل الاستهزاء بالدين. وهكذا استمر السكندري في وصف أسماء الله وخواصها، وكأنما هو طبيب يصف العلاج ومنافعه، وقد تقدم ذكر الطريقة التجانية، ونضيف هنا ما استخلصه الشيخ عبد الرحمن الوكيل في بيانه لكيفيات الذكر الصوفي ومراحله، فنوجز ذلك فيما يلي (بتصرف): إذا جاء وقت المولد - الأعياد الوثنية - يجتمع الرجال والنساء أو الدراويش والدرويشات كما يحبون تسميتهم بذلك. بعد أن يتخموا بطونهم بأنواع المأكولات التي تقدم في هذه المناسبة يقوم الشيخ الكبير ويصفق بيديه اللامعتين من "دسم الحرام" إيذاناً ببدأ الذكر. يخرج من شفتيه ومنخريه اسم الله ملحداً في حروفه وفي النطق به. يقوم المتغزلون بإنشاد قصائد غزلية تلهب المشاعر، ويصاحبهم المطبلون وأصحاب الآلات المطربة. ثم يهب الشيخ ويهب معه المريدون يتمايلون يمنة ويسرة في حركات مثيرة صاخبة كل ينوح على ليلاه - والآهات والزفرات والقبل، كما رأيتهم بعيني (1) - هي الشعار العام لهم، وكل واحد من الحاضرين يبذل أقصى جهده في إظهار أقوى الحركات والحماس ليلفت الأنظار إليه. على الحاضرين أن يستحضر كل واحد منهم صورة شيخه أمامه إن لم يكن موجوداً، أو يستمد منه العون في بدء قيامه بهذا الذكر قائلاً: مددك يا أستاذي، ثم يستأذن أصحاب الطريق والقدم فيقول: دستور يا أصحاب الطريق والقدم. ينبغي على كل واحد أن يلتزم بطريقة الذكر، وهي كما يلي: أن يهتز من فوق رأسه إلى أصل قدميه. أن يبدأ بـ (لا) يميناً ويرجع بـ (إله) فيتوسط، ثم يختم (إلا الله) يساراً قبلة القلب. إذا ذكر اسماً مفرداً مثل الله، أو هو، أو حيّ لابد أن يضرب بذقنه على صدره. في كل ذلك يجب أن ينتع الكلمة من سرته إلى قلبه ثم يستمر هكذا في هذه الصور البهلوانية التي هي أقرب إلى الجنون والعربدة منها إلى أقل التفات إلى الله تعالى أو ثوابه وعقابه. يجب ملاحظة أن المريد لا يدعو بأي اسم لله إذا سمح له به الشيخ وإلا حصل عليه ضرر شديد. ثبت أن تلك الطريقة الصوفية في الدعاء أخذت بتمامها عن اليهود، حيث جاء ذلك في المزمور التاسع والأربعين بعد المائة في العهد القديم وهو:"ليبتهج بنو صهيون بملكهم ليسبحوا اسمه برقص، بدف وعود ليرنموا، هللوا يا، سبحوا الله في قدسه، سبحوه برباب وعود، سبحوه بدف ورقص، سبحوه بأوتار ومزمار، سبحوه بصنوع الهتاف" (2)   (1) حينما ذهبت في رحلة علمية إلى دولة عربية سنة 1397هـ. (2) انظر: ما كتبه الشيخ عبد الرحمن الوكيل عفا الله عنه (ص141 - 145). وانظر ((العهد القديم المزامير)) (ص641). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 200 ولقد ذكر ابن عطاء الله السكندري أدعية عن مشائخه وأسياده في الطريقة طويلة مملة ممجوجة، مملوءة بالتنطع والتعدي في الدعاء والإشعار بكبريائهم وعتوهم وطلبهم الحلول والاتحاد به، منه دعاء الشيخ أبو الحسن الشاذلي، وفيه:"يا عزيز يا رحيم ... وأسقط البين بيني وبينك حتى لا يكون شيء أقرب إلى منك ... اللهم هب لي النور الذي أرى به رسولك صلى الله عليه وسلم ما كان ويكون، اللهم ارزقني من كنز لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة، واضربني بها ضرباً تمحق بها من قلبي كل قوة. باسم المهيمن العزيز القادر أجل كل شيء وهو ناصري ق. ج ن ص انصرني" (1). ونفس الدعاء السابق أيضاً كان يدعو به القطب الكبير أبو العباس أحمد المرسي، بل وزاد عليه أشياء أخرى ومنه: "اللهم اهدني لنورك ... وهب لي علماً يوافق علمك ... وارفع الحجاب فيما بيني وبينك، وأسقط البين عني حتى لا يكون شيء بيني وبينك، واكشف لي عن الحقيقة الأمر .. "، إلى أن قال: "كيف يكون ذنبي عظيماً مع عظمتك أم كيف تجيب من لم يسألك وتترك من سألك؟ إلهي جذبك لي أطمعني فيك ... قاف جيم سران مع سرك هب لي من نورك ما أتحقق به حقائق ذاتك" (2) الخ. ثم أورد السكندري دعاء حزب شيخه الشاذلي، وفيه: "لا إله إلا الله نور عرش الله، لا إله إلا الله نور لوح الله، لا إله إلا الله نور قلم الله، لا إله إلا الله نور رسول الله"، ثم كرر الدعاء على الصفة إلى أن قال:"وتالله لئن لم ترعني بعينيك وتحفظني بقدرتك لأهلكن نفسي ولأهلكن أمة من خلقك .. يا من به ومنه وإليه يعود كل شيء أسألك بحرمة الأستاذ، بل بحرمة النبي الهادي، بل بحرمة السبعين والثمانية .. اللهم صلني باسمك العظيم الذي لا يضر معه شيء في الأرض ولا في السماء، وهب لي من سراً لا تضر منه الذنوب شيءاً .. واجعلني خزانة الأربعين" (3). إلى آخر ما ورد من أذكار لا تسمن ولا تغني من جوع، بل هي سراب يحسبه الظمآن ماءً. ومنهم من يدعو بهذا الدعاء بدلاً عن سبحان الله وبحمده، لا إله إلا الله، بدلاً عن ذلك يدعو بهذا الذي تقشعر منه الجلود وتشمئز منه النفوس وهو من أدعية الطريقة الشاذلية."سقفاطيس، سقاطيم آمون قاف آدم حم هأ آمين كد كد كردد ده بها بهيا بهيا بهيهات لمقفنجل يا أرض خذيهم" (4)، نعم يا أرض خذيهم إنها مأساة حقيقية حين توجد تلك الأذكار الجوفاء ثم يتبعها الوجد والرقص والطبول والزغاريد كما نبينه (في الفصل التالي). المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 1035   (1) ((لطائف المنن)) (ص342). (2) ((لطائف المنن)) (ص 343 - 354). (3) ((لطائف المنن)) (ص355 - 365). (4) انظر: ((الفكر الصوفي)) (ص292)، نقلاً عن أبي الحسن الشاذلي لعبد الحليم محمود (ص210). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 201 المبحث السادس: حكم الذكر الجماعي سبق ذكر موقف السلف من الذكر الجماعي، وأنهم يعدونه محدثاً في الدين لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة رضي الله عنهم، ولا من بعدهم. وكذلك الدعاء جماعة، سواء بعد الفريضة أو غيرها فهم يعدونه بدعة، إلا ما ورد به الدليل، وقد تعددت النقول عنهم في ذلك، وقد تقدم ذكر بعضها، ودرج على منوالهم فقهاء الإسلام على اختلاف مذاهبهم، فمن ذلك:1 - ذكر الإمام علاء الدين الكاساني الحنفي في كتابه (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع) (1)، عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى: أن رفع الصوت بالتكبير بدعة في الأصل، لأنه ذكر. والسنة في الأذكار المخافتة؛ لقوله تعالى: ادعوا ربكم تضرعاً وخفية [الأعراف: 55]. ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((خير الدعاء الخفي)) (2). ولذا فإنه أقرب إلى التضرع والأدب، وابعد عن الرياء فلا يترك هذا الأصل إلا عند قيام الدليل المخصص. انتهي. وقال العلامة المباركفوري في (تحفة الأحوذي) (3): اعلم أن الحنفية في هذا الزمان، يواظبون على رفع الأيدي في الدعاء بعد كل مكتوبة مواظبة الواجب، فكأنهم يرونه واجباً، ولذلك ينكرون على من سلم من الصلاة المكتوبة وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام. ثم قام ولم يدع ولم يرفع يديه. وصنيعهم هذا مخالف لقول إمامهم الإمام أبي حنيفة، وأيضاً مخالف لما في كتبهم المعتمدة. انتهي.2 - ومما يتعلق بمذهب مالك رحمه الله في الذكر الجماعي ما جاء في كتاب (الدر الثمين) للشيخ محمد بن أحمد ميارة المالكي (4): كره مالك وجماعة من العلماء لأئمة المساجد والجماعات الدعاء عقيب الصلوات المكتوبة جهراً للحاضرين. ونقل الإمام الشاطبي في كتابه العظيم (الاعتصام) (5) قصة رجل من عظماء الدولة ذوي الوجاهة فيها موصوف بالشدة والقوة، وقد نزل إلى جوار ابن مجاهد. وكان ابن مجاهد لا يدعو في أخريات الصلوات، تصميماً في ذلك على المذهب - مذهب مالك - لأن ذلك مكروه فيه. فكأن ذلك الرجل كره من ابن مجاهد ترك الدعاء، وأمره أن يدعو فأبى فلما كان في بعض الليالي قال ذلك الرجل: فإذا كان غدوة غد أضرب عنقه بهذا السيف. فخاف الناس على ابن مجاهد فقال لهم وهو يبتسم: لا تخافوا، هو الذي تُضرب عنقه في غدوة غد بحول الله. فلما كان مع الصبح وصل إلى دار الرجل جماعة من أهل المسجد فضربوا عنقه. انتهي.3 - وأما مذهب الشافعي رحمه الله، فقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في (الأم) (6): واختار للإمام والمأموم أن يذكرا الله بعد الانصراف من الصلاة، ويخفيان الذكر إلا أن يكون إماماً يجب أن يُتعلم منه فيجهر حتى يرى أنه قد تُعُلِّم منه ثم يُسِرُّ، فإن الله عز وجل يقول: وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا [الإسراء: 110] يعني - والله تعالى أعلم - الدعاء، ولا تجهر: ترفع. ولا تخافت: حتى لا تسمع نفسك. انتهي.   (1) ((بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع)) (1/ 196). (2) لم نجده بهذا اللفظ، وورد بلفظ (خير الذكر الخفي) رواه أحمد (1/ 172) (1477) وابن حبان (809) قال الهيثمي في ((المجمع)) (10/ 81) رواه أحمد وأبو يعلى وفيه محمد بن عبدالرحمن بن لبينة وقد وثقه ابن حبان وقال روى عن سعد بن أبي وقاص، قلت وضعفه ابن معين، وبقية رجالهما رجال الصحيح، قال النووي في ((المنثورات)) (295) ليس بثابت وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند إسناده ضعيف، وضعفه الألباني (3) ((تحفة الأحوذي شرح الجامع للترمذي)) (1/ 246). (4) ((الدر الثمين والمورد المعين))، للشيخ محمد بن أحمد ميارة المالكي (ص 173، 212). (5) ((الاعتصام))، للشاطبي (2/ 275)، بتصرف. (6) ((الأم))، للشافعي (1/ 111). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 202 وقال الإمام النووي في المجموع (1): اتفق الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى على أنه يُستحب ذكر الله تعالى بعد السلام، ويُستحب ذلك للإمام والمأموم والمنفرد والرجل والمرأة والمسافر وغيره ... وأما ما اعتاده الناس أو كثير منهم من تخصيص دعاء الإمام بصلاتي الصبح والعصر، فلا أصل له. انتهي. قلت: ولقائل أن يقول: نفيه للتخصيص في هذين الوقتين يدل على جواز الدعاء في جميع الصلوات، ويبطل هذا الزعم قول النووي نفسه في (التحقيق) (2): يندب الذكر والدعاء عقيب كل صلاة ويسر به، فإذا كان إماماً يريد أن يعلمهم جهر، فإذا تعلموا أسر. انتهي.4 - وأما ما يتعلق بمذهب الحنابلة، فقد قال ابن قدامة في (المغني) (3): ويُستحب ذكر الله تعالى والدعاء عقيب صلاته، ويُستحب من ذلك ما ورد به الأثر، وذكر جملة من الأحاديث، فيها شيء من الأذكار التي كان صلى الله عليه وسلم يقولها في دبر كل صلاة مكتوبة. وقد سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (4) عن الدعاء بعد الصلاة، فذكر بعض ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم من الأذكار بعد المكتوبة، ثم قال: وأما دعاء الإمام والمأمومين جميعاً عقيب الصلاة فلم ينقل هذا أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم. انتهي. قلت: وفيما يختص بدعاء الإنسان منفرداً من غير جماعة فإنه إذا كان إماماً أو مأموماً أو منفرداً فليس ثم مانع يمنعه من الدعاء إذا بدأ بالأذكار المسنونة والتسابيح المشروعة في أعقاب الصلوات، وقد دل على ذلك كتاب الله تعالى وسنَّة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح رضي الله عنهم. أما الدليل من الكتاب العزيز، فقول الله تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإلى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح: 7 - 8].وقد ورد في الكلام على هاتين الآيتين، في إحدى الروايتين: فإذا فرغت من صلاتك، فانصب إلى ربك في الدعاء وسله حاجتك. نقل هذا ابن جرير الطبري (5) في تفسيره وابن أبي حاتم (6)، والسمعاني (7)، والقرطبي (8)، وابن الجوزي (9)، وابن كثير (10)، والشوكاني (11)، والسعدي، وغيرهم من المفسرين. قال السعدي رحمه الله في تفسير هاتين الآيتين: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ أي إذا تفرغت من أشغالك، ولم يبق في قلبك ما يعوقه فاجتهد في العبادة والدعاء. وَإلى رَبِّكَ وحده فَارْغَبْ أي أعظم الرغبة في إجابة دعائك، وقبول دعواتك ولا تكن ممن إذا فرغوا لعبوا وأعرضوا عن ربهم وعن ذكره، فتكون من الخاسرين. وقد قيل: إن معنى هذا: فإذا فرغت من الصلاة، وأكملتها فانصب في الدعاء. وَإلى رَبِّكَ فَارْغَبْ في سؤال مطالبك. واستدل من قال هذا القول على مشروعية الدعاء والذكر عقب الصلوات المكتوبات. والله أعلم (12). انتهي. وأما من السنة، فعن أبي أمامة قال: قيل يا رسول الله أي الدعاء أسمع؟ قال ((جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات)) (13).   (1) ((المجموع)) للنووي (3/ 465 - 469). (2) كتاب ((التحقيق)) للنووي (219). ((كمال في كتاب مسك الختام)) (137 - 141). (3) ((المغني)) لابن قدامة (2/ 251). (4) ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية)) (22/ 515). (5) ((تفسير الطبري)) (12/ 628 - 629). (6) ((تفسير ابن أبي حاتم)) (10/ 3446). (7) ((تفسير السمعاني)) (6/ 252)، ط دار الوطن. (8) ((تفسير القرطبي)) (20/ 74)، ط دار الكتب العلمية. (9) ((تفسير ابن الجوزي)) (9/ 166)، ط المكتب الإسلامي. (10) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 497)، ط دار الكتب العلمية. (11) ((تفسير الشوكاني)) (5/ 462)، ط دار الوفاء. (12) ((تيسير الكريم الرحمن)) (859)، ط مؤسسة الرسالة. (13) رواه الترمذي (3499) والنسائي في ((الكبرى)) (6/ 32) قال الترمذي حسن، وكذلك حسنه الألباني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 203 وقد جاءت بذلك فتاوى العلماء قديماً وحديثاً: فمن القديم ما ذكره ابن مفلح قال: قال مهنا: سألت أبا عبد الله عن الرجل يجلس إلى القوم، فيدعو هذا، ويدعو هذا ويقولون له: ادع أنت. فقال: لا أدري ما هذا؟! أي: أنه استنكره. وقال الفضل بن مهران: سألت يحيى بن معين وأحمد بن حنبل قلت: إن عندنا قوماً يجتمعون، فيدعون، ويقرأون القرآن، ويذكرون الله تعالى، فما ترى فيهم؟ قال: فأما يحيى بن معين فقال: يقرأ في مصحف، ويدعو بعد الصلاة، ويذكر الله في نفسه، قلت: فأخ لي يفعل ذلك. قال: أنهه، قلت: لا يقبل، قال: عظه. قلت: لا يقبل. أهجره؟ قال: نعم. ثم أتيت أحمد فحكيت له نحو هذا الكلام فقال لي أحمد أيضاً: يقرأ في المصحف ويذكر الله في نفسه ويطلب حديث رسول الله. قلت: فأنهاه؟ قال: نعم. قلت: فإن لم يقبل؟ قال: بلى إن شاء الله، فإن هذا محدث، الاجتماع والذي تصف (1). وقال الإمام الشاطبي في بيان البدع الإضافية ما نصه: كالجهر والاجتماع في الذكر المشهور بين متصوفة الزمان. فإن بينه وبين الذكر المشروع بوناً بعيداً إذ هما كالمتضادين عادة. وقال ابن الحاج: ينبغي أن ينهي الذاكرون جماعة في المسجد قبل الصلاة، أو بعدها، أو في غيرهما من الأوقات. لأنه مما يشوش بها. وقال الزركشي: السنة في سائر الأذكار الإسرار. إلا التلبية جاء في (الدرر السنية): فأما دعاء الإمام والمأمومين، ورفع أيديهم جميعاً بعد الصلاة، فلم نر للفقهاء فيه كلاماً موثوقاً به. قال الشيخ تقي الدين: ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم كان هو والمأمومون يدعون بعد السلام. بل يذكرون الله كما جاء في الأحاديث. وجاء في فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا ما يلي: ختام الصلاة جهاراً في المساجد بالاجتماع، ورفع الصوت، من البدع التي أحدثها الناس، فإذا التزموا فيها من الأذكار ما ورد في السنة، كانت من البدع الإضافية وقال في موضع آخر: إنه ليس من السنة أن يجلس الناس بعد الصلاة بقراءة شيء من الأذكار، والأدعية المأثورة، ولا غير المأثورة برفع الصوت وهيئة الاجتماع .. وأن الاجتماع في ذلك والاشتراك فيه ورفع الصوت بدعة. وجاء في الفتاوى الإسلامية للشيخ ابن عثيمين: الدعاء الجماعي بعد سلام الإمام بصوت واحد لا نعلم له أصلاً على مشروعيته. وقال الشيخ صالح الفوزان: البدع التي أحدثت في مجال العبادات في هذا الزمان كثيرة، لأن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع شيء منها إلا بدليل. وما لم يدل عليه دليل فهو بدعة ... ثم ذكر بعض البدع. وقال: ومنها الذكر الجماعي بعد الصلاة لأن المشروع أن كل شخص يقول الذكر الوارد منفرداً. فأصل الدعاء عقب الصلوات بهيئة الاجتماع بدعة، وإنما يباح منه ما كان لعارض، قال الإمام الشاطبي - رحمه الله -: لو فرضنا أن الدعاء بهيئة الاجتماع وقع من أئمة المساجد في بعض الأوقات: للأمر يحدث عن قحط أو خوف من ملم لكان جائزاً .. وإذا لم يقع ذلك على وجه يخاف منه مشروعية الانضمام، ولا كونه سنة تقام في الجماعات، ويعلن به في المساجد كما دعا رسول الله دعاء الاستسقاء بهيئة الاجتماع وهو يخطب. وإنما كان هذا الدعاء بعد الصلوات بهيئة الاجتماع بدعة، مع ثبوت مشروعية الدعاء مطلقاً، وورود بعض الأحاديث بمشروعية الدعاء بعد الصلوات خاصة، وذلك لما قارنه من هذه الهيئة الجماعية، ثم الالتزام بها في كل الصلوات حتى تصير شعيرة من شعائر الصلاة. فإن وقع أحياناً فيجوز إذا كان من غير تعمد مسبق، فقد روي عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنه أجاز الدعاء للإخوان إذا اجتمعوا بدون تعمد مسبق، وبدون الإكثار من ذلك حتى لا يصير عادة تتكرر (2)، وقال شيخ الإسلام: الاجتماع على القراءة والذكر والدعاء حسن مستحب إذا لم يتخذ ذلك عادة راتبة كالاجتماعات المشروعة ولا اقترن به بدعة منكرة وقال: أما إذا كان دائماً بعد كل صلاة فهو بدعة، لأنه لم ينقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والسلف الصالح. المصدر: الذكر الجماعي بين الاتباع والابتداع لمحمد بن عبد الرحمن الخميس - ص 43 - 51   (1) ((الآداب الشرعية)) (2/ 75). (2) ((الاقتضاء)) (304). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 204 المبحث السابع: مفاسد الذكر الجماعي إن من مفاسد الذكر الجماعي: الأولى: مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فإنهم لم ينقل عنهم شيء من ذلك. ولا شك أن ما خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه الكرام رضي الله عنهم، فهو بدعة ضلالة. ولو كان خيراً لفعله صلى الله عليه وسلم، ولتبعه في ذلك الصحابة الكرام، ولنقل ذلك عنهم ولا شك. فلما لم ينقل ذلك عنهم دل على أنهم لم يفعلوه. وما لم يكن ديناً في زمانهم فليس بدين اليوم. الثانية: الخروج عن السمت والوقار، فإن الذكر الجماعي قد يتسبب في التمايل، ثم الرقص، ونحو ذلك، وهذا لا يجوز بحال، بل هو منافٍ للوقار الواجب عند ذكر الله تعالى، وحال أهل الطرق الصوفية معروف في هذا الباب. الثالثة: التشويش على المصلين، والتالين للقرآن، وذلك إذا كان الذكر الجماعي في المساجد. ولاشك أن المجيزين له يعدون المساجد أعظم الأماكن التي يتم الالتقاء فيها للذكر الجماعي. الرابعة: أنه قد يحصل من الذاكرين تقطيع في الآيات، أو إخلال بها وبأحكام تلاوتها، أو بأذكار مما يجتمع عليها، كما لو أن أحدهم قد انقطع نَفَسُه ثم أراد إكمال الآية فوجد الجماعة قد سبقوه، فيضطر لترك ما فاته واللحاق بالجماعة فيما يقرأون. أو أن يكون بعض القارئين مخلاً بالأحكام فيضطر المجيد للأحكام إلى مجاراتهم حتى لا يحصل نشاز وتعارض، ونحو ذلك. الخامسة: أن في الذكر الجماعي تشبهاً بالنصارى الذين يجتمعون في كنائسهم لأداء التراتيل والأناشيد الدينية جماعة وبصوت واحد. وهذا التشبه بأهل الكتاب مع ورود النهي الشديد عن موافقتهم في دينهم دليل واضح على عدم جواز الذكر الجماعي. السادسة: أن فتح باب الذكر الجماعي قد يؤدي إلى أن تتبع كل طائفة شيخاً معيناً يجارونه فيما يذكر، وفيما يقول، ولو أدى ذلك إلى ظهور أذكار مبتدعة، ويزداد التباعد بين أرباب هذه الطرق يوماً بعد يوم؛ لأن السنة تجمع، والبدعة تفرق السابعة: أن اعتياد الذكر الجماعي قد يؤدي ببعض الجهال والعامة إلى الانقطاع عن ذكر الله إذا لم يجد من يشاركه، وذلك لاعتياده الذكر الجماعي دون غيره. ولاشك أن للذكر الجماعي مفاسد أخرى، وفيما ذكرت كفاية،،،، ولله الحمد. المصدر: الذكر الجماعي بين الاتباع والابتداع لمحمد بن عبد الرحمن الخميس - ص 52، 53 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 205 المبحث الثامن: فضائل مكذوبة للأذكار الصوفية لو كان هؤلاء الصوفية عندما يؤلفون أذكارهم الركيكة التي شاهدنا نماذج منها آنفاً لا يتقولون بذلك على الله وعلى رسوله، ولا يزعمون أنهم كتبوها من الرسول حرفاً حرفاً وكلمة كلمة لهان الخطب وقلنا إن الأمر لا يتعدى البدعة فقد اخترعوا من عند أنفسهم أدعية وأذكاراً يتعبدون الله بها وتركوا ما هو أفضل من ذلك مما علمناه إياه رسول الله وثبت عنه بنقل الصحابة الصادقين والتابعين لهم بإحسان وما دونه أئمة الهدى من المسلمين في كتبهم كالبخاري ومسلم وأصحاب السنن والمسانيد. ولكن هؤلاء المتصوفة المتقولين على الله لم ينسبوا هذه الأذكار والأدعية إلى أنفسهم وإنما نسبوها إلى الله وإلى الرسول وزعموا أنه جاء بها إليهم الوحي والإلهام أو أملاها الرسول عليهم حال يقظتهم لا حال نومهم. وليتهم إذا فعلوا ذلك أيضاً جعلوا لأذكارهم هذه من الفضل ما كان يذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته للأذكار من الفضل فقالوا مثلاً من قال هذا الذكر كان كمن أعتق عشرة رقاب أو كان كمن أهدى بدنه أو لم يأت يوم القيامة رجل بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل مثله أو زاد، أو بنى الله له بيتاً في الجنة على نحو ما كان يتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم مبيناً فضائل الأذكار التي يعلمها لأصحابه، ولكن هؤلاء جعلوا لأذكارهم المفتراة المكذوبة من الفضل والأجر شيئا لا يبلغه الحد والوصف، وبالغ كل منهم في بيان فضل الذكر الذي يزعم أن رسول الله اختصه وجماعته به مبالغة عظيمة فهذا مثلاً أحمد التيجاني رأس الطريقة التجانية يزعم أن (ذكره) الذي يسميه صلاة الفاتح: القراءة الواحدة له تعدل قراءة القرآن ستة آلاف مرة!! قال مؤلف جواهر المعاني على حرازم في الجزء الأول صفحة (94) "وأما فضل صلاة الفاتح لما أغلق الخ، فقد سمعت شيخنا يقول: كنت مشتغلاً بذكر صلاة الفاتح لما أغلق حين رجعت من الحج إلى تلمسان لما رأيت من فضلها وهو أن المرة الواحدة بستمائة ألف صلاة كما هو في وردة الجيوب وقد ذكر صاحب الوردة أن صاحبها سيدي محمد البكري الصديقي نزيل مصر وكان قطباً، قال إن من ذكرها ولم يدخل الجنة فليقبض صاحبها عند الله، وبقيت أذكرها إلى أن رحلت من تلمسان إلى أبي سمعون فلما رأيت الصلاة التي فيها المرة بسبعين ألف ختمة من دلائل الخيرات تركت الفاتح لما أغلق واشتغلت بها وهي (اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله صلاة تعدل جميع صلوات أهل محبتك وسلم على سيدنا محمد وعلى آله سلاماً يعدل سلامهم) لما رأيت فيها من كثر الفضل ثم أمرني بالرجوع صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الفاتح لما أغلق فلما أمرني بالرجوع إليها سألته صلى الله عليه وسلم عن فضلها فأخبرني أولاً بأن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ست مرات، ثم أخبرني ثانياً أن المرة الواحدة منها تعدل من كل تسبيحة وقع في الكون ومن كل ذكر ومن كل دعاء كبير أو صغير ومن القرآن ستة آلاف مرة لأنه من الأذكار" انتهي بلفظه (جواهر المعاني ص94) .. فانظر إلى هؤلاء الكاذبين كيف يدعي أحدهم أن كلاماً ركيكاً كصلاة الفاتح التي هي مجرد سطر ونصف سطر أو نحو خمس عشرة كلمة فقط يعدل أجر قراءتها أجر قراءة القرآن ستة آلاف مرة!! وهذا كذب سخيف لا يحتاج إلى تعليق وبيان وهذه الصلاة ذات الفضل المزعوم هي: "اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق والخاتم لم سبق ناصر الحق بالحق والداعي إلى صراطك المستقيم"!! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 206 والعجيب أن هذا الكلام الركيك كله جهالة، فما هو الذي أغلق وفتحه الرسول شيء غير مذكور في هذا الذكر، وما الحق الذي نصره الرسول وبأي حق نصره أيضاً مجهول وما هو الذي سبق وختمه النبي .. فهو كلام ليس فيه لذاته معنى مفيد، وإنما قد يفسر بنحو صحيح بكلام آخر، وقد يفسر أيضاً على نحو فاسد كما يفسره التجانيون أنفسهم بمعان فاسدة فمثلاً قد يقول قائل إن معنى قولهم (الخاتم لما سبق) أي خاتم النبوة وهذا معنى صحيح وهو غير موجود في هذه الصلاة التي يسمونها صلاة الفاتح. لكن التجانيين أنفسهم يخالفون ذلك ويرون أن النبوة لم تنته بدليل قولهم إن صلاة الفاتح هذه نزلت عليهم من السماء في ورقة مكتوبة بقلم القدرة!! ولذلك قالوا هي من كلام الله تعالى وليست من تأليف مخلوق (انظر الهدية العادية إلى الطريقة التجانية ص105)!! فمعنى هذا أن قولهم (والخاتم لما سبق) ليس مقصوداً به النبوة والوحي لأن صلاة الفاتح المزعومة نفسها وحي أكمل القرآن بل على قولهم هذا أكمل نزولاً من القرآن لأنها نزلت مكتوبة من السماء والقرآن نزل مشافهة وسماعاً، ومعلوم أن المكتوب أعظم من المسموع في الإثبات بدليل امتنان الله على موسى بإنزال التوراة مكتوبة كما قال تعالى وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ [الأعراف:145]. وهم يزعمون هنا أن صلاة الفاتح نزلت من السماء مكتوبة ولذا جاز عندهم تفضيل قراءتها على القرآن وإن أجر قراءة القرآن كله ستة آلاف مرة فأي كذب على الله أكبر من هذا. ونحن نقول لهؤلاء الكاذبين أكان يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يزعمون أنه هو الذي خص أحمد التيجاني وجماعته بهذه الفضيلة وقال له (خبأتها لك يا أحمد)!! أكان يجوز له أن يخفي شيئا مثل هذا عن الصحابة رضوان الله عليهم وهم أصحابه القائمون بأمره الحارسون لدينه الباذلون أنفسهم وأموالهم في سبيل نصرته .. ليعطي مثل هذه الفضيلة إلى أحمد التيجاني وأعوانه الذين كانوا وما زالوا أعظم أعوان الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا بل في كل القارة الأفريقية وهم الذين مهدوا السبيل أمام الجيوش الفرنسية في معظم أنحاء القارة. أكان يجوز للرسول إخفاء صلاة الفاتح التي يزعمون أنها أعظم من القرآن بستة آلاف مرة لإعطائها مجموعة من خدم الاستعمار والكفار!! والحال أن الله قد قال لرسوله يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إليك مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [المائدة:67]. أم أنكم كذبتم على الله ورسوله وجاريتم في كذبكم هذا من قال إن قراءة دلائل الخيرات أفضل من قراءة القرآن سبعة آلاف مرة!! فانظر المجاراة والتنافس في الكذب على الله ورسوله. ولم يكتف صاحب الفاتح بذكر ما ذكره من الفضل لصلاته المزعومة بل انظروا ما يقوله أيضاً في فضله: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 207 قال صاحب (الجواهر) في صفحة 96 من الجزء الأول في سياق فضل صلاة الفاتح "إنها لم تكن من تأليف البكري ولكنه توجه إلى الله مدة طويلة أن يمنحه صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيها ثواب جميع الصلوات وسر جميع الصلوات وطال طلبه مدة ثم أجاب الله دعوته فأتاه الملك بهذه الصلاة مكتوبة في صحيفة من النور ثم قال الشيخ: فلما تأملت هذه الصلاة وجدتها لا تزنها عبادة جميع الجن والإنس والملائكة. قال الشيخ وقد أخبرني صلى الله عليه وسلم عن ثواب الاسم الأعظم فقلت: إنها أكثر منه فقال صلى الله عليه وسلم بل هو أعظم منها ولا تقوم له عبادة" أ. هـ. فانظر كيف جعل هذه الصلاة المزعومة أفضل من عبادة جميع الإنس والجن والملائكة!! وليست هذه الفرية هي وحدها ما عند أصحاب الطريقة التجانية بل عندهم من الدواهي والأكاذيب ما يندى له الجبين فعندهم صلاة أخرى يسمونها جوهرة الكمال ونصها: "اللهم صل وسلم على عين الرحمة الرانية والياقوتية المتحققة الحائطة بمركز الفهوم والمعاني ونور الأكوان المتكونة الآدمي صاحب الحق الرباني البرق الأسطع بمزون الأرياح المالئة لكل متعرض من البحور والأواني ونورك اللامع الذي ملأت به كونك الحائط بأمكنة المكاني اللهم صل وسلم على عين الحق التي تتجلى منها عروش الحقائق عين المعارف الأقوم صراطك التام الأسقم اللهم صل وسلم على طلعة الحق بالحق الكنز الأعظم إفاضتك منه إليك إحاطة النور المطلسم صلى الله عليه وسلم وعلى آله صلاة تعرفنا بها إياه" (الرماح ص224 ج1). وقد قال الدكتور الشيخ تقي الدين الهلال حفظه الله تعقيباً على هذه الصلاة: "إن هذه الصلاة التي زعم التجانيون أن شيخهم أخذها عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكروا لها ما تقدم من الفضل يستحيل أن تكون من كلام العرب الفصحاء وهي بعيدة منه بعد السماء من الأرض، وكل من يعرف لسان العرب معرفة حقيقية لا يكاد يصدق أن ذلك الكلام الركيك يقوله أحد من العرب وفيهما كلمتان إحداهما سب لا يجوز أن يطلق على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يتناسب مع ما قبله وهي كلمة (الأسقم) فإن الصراط لا يوصف بالسقم إذ لا يقال صراط مريض وهذا الصراط أمرض من ذلك وإنما يقال صراطك المستقيم أو قويم وهذا الصراط أقوم من ذلك". وقد رد العلماء على التجانيين وعابوا عليهم هذه الكلمة القبيحة فقال الشيخ الكميل الشنقيطي في أرجوزته التي انتقد بها الطريقة التجانية: ولم يجز إطلاق لفظ موهم ... نقصاً على النبي مثل الأسقم كذا مطلسم وما يدريكا ... لعله كفر عني الشريكا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 208 ولم يتفطن أولئك العلماء إلى سبب هذا الخطأ ولو تفطنوا له لانحل الإشكال كله فسببه أن مؤلف هذه الصلاة مغربي وأهل المغرب في لغتهم العامية يقولون (سر مسقم) يريدون امش مستقيماً ويقولون كذلك (سر اسقم) بعضه ينطق به قافا وبعضهم ينطق به كافا، ولما كان منشئ هذه الصلاة غير عالم بالعربية وقد ذكر الأقوم من قبله في قوله عين المعارف الأقوم وقال بعدها صراط التام، أراد أن يصف الصراط بالاستقامة مع المحافظة على السجع لمقابلة الأقوم واستثقل أن يكرر الأقوم عبر بالأسقم ظناً منه أنهما في المعنى سواء كما يفهمه عامة المغاربة، وقد علمت من مصاحبتي للشيخ أحمد سكيرج وهو من كبار المقدمين في الطريقة التجانية وكنت في ذلك الوقت تجانياً لا يخفى عني سراً، أن هذه الصلاة وجدت في أول أمرها عند شخص يسمى محمد بن العربي النازي ويسميه التجانيون الواسطة المعظم لأنه بزعمهم وساطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الشيخ أحمد التيجاني يحمل الرسائل من الشيخ إلى النبي ومن النبي إلى الشيخ وفي ذلك الوقت أي في وقت الوساطة لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يظهر للشيخ التيجاني وإنما كان يظهر لمحمد بن العربي وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للواسطة محمد بن العربي لولا محبتك لحبيبي التيجاني ما رأيتني وكان الواسطة يخبر الشيخ التيجاني بأنه إذا جاء الوقت الموعود يظهر النبي صلى الله عليه وسلم له بلا واسطة يحدثه ويكلمه وسنذكر شيئا من الرسائل التي أملاها النبي صلى الله عليه وسلم على محمد بن العربي وأمره بكتابتها ليحملها إلى الشيخ التيجاني يقرأها عليه وحينئذ لا يبقى عندك شك في جهل هذا الرجل بالعربية وأنه سبب ركاكة هذه الصلاة التي هي من إنشائه" أ. هـ (الهدية الهادية إلى الطريقة التجانية ص110،111). والعجيب أنه من ركاكة هذا الدعاء وهذه الصلاة المزعومة ونسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فإنهم زعموا لها أيضاً من الفضل ما فاق الكذب إلى الوقاحة فقد زعموا كما جاء في كتاب (الرماح) ص89 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لأحمد التيجاني أن قراءة المرة الواحدة من (جوهرة الكمال) تعدل تسبيح العالم ثلاث مرات ومن قرأها سبع مرات فأكثر بحضرة رسول الله والخلفاء الأربعة ما دام يذكرها، ومن لازمها أكثر من سبع مرات كل يوم أحبه النبي محبة خاصة ولا يموت حتى يكون ولياً!! فانظر أي تقول على الله هذا. بل قال التيجاني أيضاً: "أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة تسمى جوهرة الكمال كل من ذكرها اثنتي عشرة مرة فكأنما زاره في قبره يعني في روضته الشريفة!! وكأنما زار أولياء الله الصالحين من أول الوجود إلى وقته ذلك. وقال لي رسول الله هذه هدية مني إليك"!!! أ. هـ (الهدية الهادية إلى الطريقة التجانية ص110). المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 295 - 301 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 209 الفصل الثاني والعشرون: الوجد والرقص عند الصوفية لقد كان للغرام العارم والرقص والتمايل عند الصوفية مكانه ثابتة بل هذا النوع صار من أقوى الشبكات التي يصطادون بها من قلت معرفتهم بالدين الإسلامي الحنيف، وحقاً إنه نوع من الخلل في السلوك والاضطراب الذهني حين يعبدون الله بالرقص والحركات التي لا تمت إلى عبادة الله بأية صلة إلا كما تمت إليها عبادة اليهود من قبل حين حثتهم التوراة - المحرفة - العهد القديم - المزأمير على وجوب التسبيح لله بالدف والمزمار والعود والربابة. وعند الصوفية في أوقاتهم الخاصة مجالس يجتمعون فيها على الرقص والغناء والتصفيق والصياح بأصوات منكرة يمزقون فيها ثيابهم ويتمايلون حين يأخذ منهم الطرب مأخذه في حركات بهلوانية لا يفهم منها أي إشارة إلى الخوف من النار أو الرغبة في الجنة. وقد أصبح الرقص الصوفي الحديث عند معظم الطرق الصوفية في مناسبات الاحتفال بمولد بعض كبارهم أو في أية مناسبة من مناسباتهم الكثيرة، يحضر عازفون وموسيقيون ويختلط بعضهم ببعض رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً، ويجلس في هذه المناسبة كبار الأتباع يتناولون ألواناً من شرب الدخان، وكبار أئمتهم يقرءون عليهم بعض الخرافات المنسوبة لمقبوريهم (1). والغناء الذي يترنمون به يشتعل حباً وعشقاً وغراماً وقصائد وجد وحزن، فإذا سئلوا عن ذلك زعموا أنها من الطرق التي توصلهم إلى ربهم، أو هو الحب الإلهي كما يسمونه لترغيب الناس فيه. وهذه الصور البهلوانية الرعناء هي صورة الذكر. فهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحد من الصحابة يفعلون مثل هذا التنطع المذموم، وهل مثل تلك الحركات تشير إلى الخشوع لله تعالى والسكينة في العبادة من قريب أو من بعيد، وهل ذلك الاختلاط والتمايل يمكن أن يكون بعيداً عن الشيطان. إنها مهازل وسخرية بدينهم ومع ذلك فهم يتلمسون لهم الأدلة التي يجادلون بها مهما كان سقوطها. أدلتهم على جواز ذلك والرد عليها: وهكذا لم يكتف هؤلاء بتلك المسالك التي غلوا فيها إلى أن أخرجوا بعض عباداتهم في صور غنائية ورقص، بل حاولوا كذلك أن يجدوا لتلك الأفعال أدلة لمشروعيتها، ومن ذلك: زعمهم أن سلمان رضي الله عنه حين نزل قوله تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:43] صاح سلمان الفارسي صيحة ووقع على رأسه ثم خرج هارباً ثلاثة أيام. ومن ذلك أيضاً احتجاجهم بقول الله تعالى لأيوب عليه السلام: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص:42] . ومنها قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي: ((أنت مني وأنا منك)) فحجل، وقال لجعفر: ((أشبهت خلقي وخلقي)) فحجل، وقال لزيد: ((أنت أخونا ومولانا)) فحجل. (2) ومنها احتجاجهم لسماع الرسول صلى الله عليه وسلم جاريتين تغنيان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجى بثوبه، فجاء أبو بكر فانتهرهم، فنهاه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: ((دعهما فإنها أيام عيد)) (3). ومنها أن الحبشة زفنت والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليهم. واحتج أبو عبد الرحمن السلمي على جواز الرقص بما روي عن الشافعي أن سعيد بن المسيب مر في بعض أزقة مكة فسمع الأخضر الحداء يتغنى في دار العاص بن وائل بهذين البيتين: تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة عطرات فلما رأت ركب النميري أعرضت ... وهن من أن يلقينه حذرات   (1) انظر: ((الصوفية معتقداً ومسلكاً)) (ص230) (2) رواه أحمد (1/ 108) (857) والبيهقي (10/ 226) قال البيهقي هانئ بن هانئ ليس بالمعروف جدا، قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/ 374) إسناده حسن، وقال الأرناؤوط في ((تحقيق المسند)) إسناده ضعيف ولفظ الحجل في الحديث منكر غريب (3) رواه البخاري (987) ومسلم (892) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 210 قال فضرب برجله الأرض زماناً وقال: هذا مما يلذ سماعه. ومنها أن عمر رضي الله عنه كان ربما مر بآية في وردة فتخنقه العبرة ويسقط ويلزم البيت اليوم واليومين حتى يعاد ويحسب مريضاً. ومنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في حق أبى موسى: ((لقد أوتي مزماراً من مزأمير آل داود)) (1) ومنها استحسان الرسول شعر النابغة حتى قال له: ((لا يفضض الله فاك)) (2)، ووضعه أيضاً المنبر لحسان يقول عليه الشعر في هجاء المخالفين للرسول صلى الله عليه وسلم. ومنها أن بعض الصالحين رأى الخضر وسأله عن السماع الصوفي فقال له: ذلك هو الصفاء الزلال. ورأى أحدهم الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام فسأله عن سماع الصوفية فقال له الرسول: ما أنكره، ولكن قل لهم يفتتحون قبله بقراءة القرآن ويختتمون بعده بالقرآن .. ومنها أن الخضر تواجد حتى سقط على جبهته وصار الدم يقطر منها ولا يقع على الأرض، حين سمع أبياتاً من الشعر قالها شخص بحضرته، ذكرها السهروردي. ومن أدلتهم أن بعض الصالحين رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وهو يقول له كلاماً والنبي صلى الله عليه وسلم قد وضع يده على صدره كالمتواجد بذلك. ثم أورد السهروردي أدلة كثيرة عن بعض الصوفيين في حال تواجدهم؛ بعضهم مشى على الماء، وبعضهم لم يحترق بالنار، وبعضهم يرتفع أذرعاً عن الأرض، إلى أن، ختم السهروردي أدلته – وهي كثيرة بزعمه – بهذه القصة، وهي أن أعرابياً أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد لسعت حية الهوى كبدى فلا طبيب لها ولا راقي إلا الحبيب الذي شغفت به فعنده رقيتي وترياقيفتواجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواجد الأصحاب معه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، ثم قسم رداءه بينهم، حيث مزقه إلى أربعمائة قطعة (3). تلك أهم الحجج التي يتمسك بها الصوفيون في مشروعية لهوهم وتواجدهم، فما مدى صحة استدلالهم، وهل ما ذكروه من تلك الروايات كلها صحيحة، أو هل كان فهمهم لها فهماً صحيحاً؟ والجواب عن هذه الاحتجاجات يحتاج إلى دراسة ووقت، ولكن أكتفى هنا بإيجاز الرد عليهم في دفع حججهم وأدلتهم بأنها احتجاجات واهية وتلفيق غير مقبول ومزاعم لا صحة لها:   (1) رواه البخاري (5048) ومسلم (793) (2) قال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 126) رواه البزار وفيه يعلي بن الاشدق وهو ضعيف، وقال البوصيري في الإتحاف (6/ 47) إسناده ضعيف (3) الحديث قال ابن عراق في ((تنزيه الشريعة)) (2/ 233) أورده الحافظ ابن طاهر وهو باطل وقال الحافظ أبو موسى المديني قد عاب غير واحد من أهل العلم ابن طاهر بإيراد هذا الحديث في كتابه وكتب شيخ الإسلام أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر المقدسي وقد سئل عن هذا الحديث ما ملخصه إن الواقف عليه يظهر له أنه موضوع، وكتب شيخ الإسلام النووي وقد سئل عنه باطل لا تحل روايته ولا نسبته إلى النبي ويعزر من رواه عالما تعزيرا بليغا ولا يغتر بكونه في ((عوارف المعارف)) وغيره مع أن صاحب العوارف قال يتخالج سري أنه غير صحيح ويأبى القلب قبوله (قلت) وقال الحافظ الذهبي رواته ثقات غير عمار بن إسحاق فكأنه واضعه، وقال الفتني في "تذكرته" (1/ 197) قال ابن تيميةكذب باتفاق أهل العلم بالحديث وما روي فيه موضوع، وقال الألباني موضوع كما في ((الضعيفة)) (558) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 211 فأما ما رووه عن سلمان فإنه كذب، ومحال كذلك، فقد رويت هذه القصة بلا سند. ثم إن الآية نزلت بمكة بالاتفاق كما قال القرطبي، وسلمان إنما أسلم بالمدينة كما هو معلوم. ثم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينهي أشد النهي عن مثل هذه الأمور المنافية للوقار والخشوع، فإنه كان صلى الله عليه وسلم يبغض الصياح أو إظهار التخشع عند سماع القرآن أو المواعظ إلا في الحدود المشروعة، ومن ذلك ما رواه أنس قال: وعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فإذا برجل قد صعق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من ذا الملبس علينا ديننا إن كان صادقاً فقد شهر نفسه وإن كان كاذباً فمحقه الله)) (1). وقد عرف عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يخشعون تمام الخشوع، فتذرف عيونهم وتخاف قلوبهم، ولم يصعق أحد منهم وهم أعرف بالله من غيرهم وأتقى له وأكثر انقياداً وقبولاً للحق تمسكاً به، ولو كان ذلك الوجد والهيام والصعق خير لما سبقهم أحد إليه. واما احتجاجهم بقول الله تعالى لأيوب: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص:42] فهذا احتجاج يدل على جهل صاحبه بحقيقة حال أيوب المبتلى بما لا يصبر عليه أحد إلا من أعانه الله وقوى يقينه، فإنه يقال لهذا المحتج: إن الله لم يأمر أيوباً بضرب رجله فرحاً وطرباً. وإنما أمر بضرب رجله من باب فعل الأسباب إكراماً من الله تعالى له، ثم إنه لم يركض برجله ابتداء وإنما تنفيذاً للأمر، وكذلك لإشعاره بتغير الحال، ولحكم أخرى لا يعلمها إلا الله تعالى ليس منها جواز الرقص، ولم يك حاله يستدعي أن يضرب برجله الأرض تواجداً وطرباً إلا عند الجفاة. وأما احتجاجهم بحجل على وجعفر وزيد، فإن الحجل هو نوع من المشي يفعل عند الفرح وارتياح النفس أحياناً ليعبر الشخص به عن فرحه دون قصد الرقص والتمايل، والصحابة هؤلاء لم يكن منهم رقص ولا تمايل ولا إنشاد قصائد الغزل المهيجة، فليس فيه دلالة على ما يريد المتصوفة، وما فعله هؤلاء الصحابة إنما كانت حالة عارضة لا قصد لهم فيها لإظهار الطرب والتواجد. وأما احتجاجهم بزفن الحبشة فإن الزفن أيضاً نوع من المشي مع الرقص ويشير كذلك إلى الاعتداد بالنفس، وأكثر ما يفعل عند اللقاء في الحرب إظهاراً للشجاعة وعدم المبالاة بالعدو، وليس المقصود منه الرقص والطرب كما يرى الصوفية. وأما ما ذكروه عن سعيد بن المسيب – رحمه الله – فإنه مكذوب عليه، وليس هذا شعره، وهو أوقر من أن يصل إلى هذا الحد. وهذه الأبيات فيما يذكره الأدباء قالها محمد بن عبد الله بن نمير الشاعر الثقفي، يتغزل فيها بزينب بنت يوسف الثقفي أخت الحجاج. وقد هرب بعد ذلك إلى عبد الملك خوفاً من الحجاج، فسأله عبد الملك بن مروان عن الركب ماذا كان؟ فقال له: كانت أحمرة عجافاً حملت عليها قطراناً من الطائف، فضحك عبد الملك وأمر الحجاج أن لا يؤذيه. ثم لو قدرنا أن ابن المسيب ضرب برجله الأرض فليس في ذلك حجة على جواز الرقص، ولا أنه ضرب بها وهو يريد الرقص، فإن الإنسان قد يضرب برجله الأرض أو يدقها لشيء يسمعه ولا يسمى ذلك رقصاً منه، بل إن الإنسان قد يضرب برجله الأرض إما فرحاً وإما غضباً وإما غيظاً (2).   (1) قال ابن عراق في ((تنزيه الشريعة)) (2/ 343) (ابن لال) وفيه أحمد بن محمد الجعفي قال الذهبي في ((الميزان)) هذا حديث باطل، وقال الفتني في "تذكرته" (85) هذا باطل (2) انظر: ((الصوفية معتقداً ومسلكاً)) (ص231). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 212 وأما احتجاجهم بسماع الرسول للجاريتين فهو استدلال غريب منهم على جواز الرقص والتمايل والتواجد؛ ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مسجي بثوبه، وهم حينما يتواجدون لا يتدثرون بثيابهم، بل تعلو همتهم ويشتد عراكهم ويمزقون ثيابهم، فأين فعلهم من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟. كذلك فإن الجاريتين كانتا تنشدان كلاماً ليس فيه غزل أو تشبيب أو خروج عن حد الوقار والأدب، وكان الحال يستدعي الترويح عن النفس، خصوصاً وأنه يوم عيد وعائشة رضي الله عنها كانت جارية شابة. وأما استدلالهم بما ينسبونه إلى عمر رضي الله عنه من أنه كان يلزم البيت اليوم واليومين حينما يسمع بعض الآيات في ورده؛ فإنه لم يعرف أن الصحابة كانت لهم أوراد يرددونها على طريقة الصوفية، بل ولم يعرف عنه أنه يمرض اليوم واليومين بسبب ما يسمعه من بعض الآيات، لا هو ولا غيره من الصحابة. وأما استدلالهم بحسن صوت أبي موسى فليس فيه دليل على الوجد الصوفي، وإنما هو إخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم بتلك النعمة التي أعطيها أبو موسى، فهل كان الصحابة يرقصون على سماع قراءته أو يصعقون أو يمزقون ثيابهم؟ كلا. وكذلك استحسان الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض الكلام أو الشعر ليس فيه دلالة للصوفية، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستحسن أشياء ويستقبح أشياء، وهذا أمر طبيعي في النفوس. وأما ما يحشده أقطاب التصوف من الأدلة بالرؤى المنامية أو بمقابلتهم للخضر، فإنها أدلة باطلة، حتى ولو كان الرائي ثقة، فإنه لا يتعبد برؤياه فما بالك وتلك الرؤى الصوفية عن مجهولين، إضافة إلى التكليف الظاهر في رواياتهم. وزعمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يطرب ويتواجد ويضرب بيده على صدره ويمزق ثيابه ويعطيها لأصحابه كلهم كلام يدل على عدم احترامهم للرسول صلى الله عليه وسلم وعدم معرفة قدرة العظيم. فهل كان يصل به التواجد إلى حد أن يسقط رداءه عن منكبيه من سماع تلك الأبيات الفارغة: قد لسعت حية الهوى كبدي؟ وما ذكره السهروردي من أن بعض أقطاب التصوف يكاد أن يطير أو يرتفع من الأرض أذرعاً أو يدخل الشمعة في عينه أو يطأ النار ولا يحس بها أو يمشي على الماء أو غير ذلك من الحركات البهلوانية العشوائية التي يفعلها هؤلاء، فلا ريب أنها من أقوى الدلائل على تلاعب الشياطين بهم وإخراجهم عن حد الاعتدال الذي أقل ما يوصف به أنه ينافي الخوف من الله تعالى والرغبة في المغفرة. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 1042 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 213 الفصل الثالث والعشرون: الكرامات وخوارق العادات عند الصوفية للأولياء الحقيقيين كرامات لا تنكر، وقد كان للصحابة رضي الله عنهم من الكرامات ما هو جدير بهم، وكان لغيرهم من الأولياء والعلماء كرامات كثيرة، وهدفنا هنا من ذكر الكرامات وخوارق العادات هو بيان تلك الكرامات والخوارق التي تتم على أيدي أناس ليسوا من أولياء الله، وليس لهم صلاح يؤهلهم لذلك. وبيان أن ذلك من مكائد الشيطان وتلبيسه على الناس بأن يظهر لبعضهم أموراً غيبية تبدو كأنها كرامات من الله للشخص فيتخيل أنه بلغ منزلة عالية فاق فيها غيره من الناس، وأنه أصبح يماثل الأنبياء في كراماتهم وقربه من الله. وهذه الحال كثيرة الوقوع لمن يدعون أنهم أولياء لله، وأكثرهم في الحقيقة أعداء له وموالين لشياطينهم. ومن تلاعب الشياطين بهؤلاء: أن يسمع أحدهم صوتاً من حجر أو شجر أو صنم يأمره وينهاه بأمور في بعضها الشرك بالله فيظن المغرور أن الله خاطبه أو، الملائكة على سبيل الكرامة، ومعلوم أن الله لا يأمر بالفحشاء، والملائكة لا تأمر بالشرك بالله وإنما أولئك هم الشياطين يلبسون عليهم أمورهم كما كانوا يفعلون ذلك قبل الإسلام أيضاً. وقد يظن هؤلاء أن ذلك وحى من الله عليهم كما حصل لكثير من الذين قلت معرفتهم بالله كالمختار بن أبي عبيد الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كذاب ثقيف وغيره ممن استهوتهم الشياطين. ومنها: أن الشياطين قد تتمثل بصورة المستغاث به من الناس فيظن المشرك بالله أن هذه الصورة هي الشيخ الفلاني أو الولي الفلاني، أو أن ملكاً جاء على صورته، وإنما هو في الحقيقة شيطان تمثل له ليضله. ومنها: أن تخاطب الشياطين بعض العبَّاد الجهال، ويوهمونه أنه المهدي المنتظر وصاحب الزمان الذي بشر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويغرونه بزخرف القول وشتى الوساوس حتى يصدق نفسه فيدعي المهدية وغير ذلك. بل يبلغ الحال ببعضهم أن يرى الكعبة تطوف به، ويرى عرشاً عظيماً وعليه صورة عظيمة وأنواراً وأشخاصاً تصعد وتنزل فيظنها الملائكة بين يدي الله تعالى وأن الله كشف له النظر إليه. وهذا يتطلب من المؤمن العاقل التنبه لمثل المكائد الشيطانية بلجوئه إلى الله والاهتداء بهدية، وسوء الظن بنفسه الأمارة بالسوء، وأن ينظر إلى نفسه من باب الذل والاحتقار والحاجة إلى ربه، ويزن أعماله بامتثاله أوامر الله واجتنابه نواهيه، فيحكم على نفسه عند ذلك بالتقصير أو القرب من الله تعالى. ويكبح جماح نفسه الأمارة بالسوء، وأن لا يصدق ما يتراءى له من كرامات تنافي الإسلام، مثل أنواع الكرامات التي تبجح بها بعض غلاة الصوفية لأنفسهم كما ذكرها المناوي، وهي: إحياء الموتى. وقد مثل بأبي عبيد اليسري الذي أحيا دابته بعد ما ماتت، ومفرج الدماميني الذي أحيا الفراخ المشوية، والكيلانى وأبو يوسف الدهمانى الذي أحيا لتلميذه ولده بعد ما مات. ومن الكرامات التي يزعمونها أن الأولياء من الصوفية لهم القدرة على المشي على الماء وكلام البهائم وطي الأرض وظهور الشيء في غير موضعه والمشي على السحاب وتحويل التراب إلى خبز وإبراء الأكمه والأبرص. ويذكر علي حرازم منهم أن الولي يملك كلمة التكوين فإذا أراد شيئا فإنه يقول له كن فيكون. وقد ذكر أمثلة كثيرة في كتابه (جواهر المعاني) لمثل هذا الخلط والكذب على الله وعلى الناس. ومن المعجزات والكرامات التي يملكها الأولياء من الصوفية - حسب زعمهم - سماع نطق الجمادات، كما يزعم ابن عربي الذي ملأ كتبه بأنواع الأكاذيب حول تلك المعجزات والكرامات الصوفية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 214 ضمانة الجنة لمن أطعم صوفياً أو قضى له حاجة؛ كما ضمن ذلك التيجاني لكل من أحبه أو أطعمه أو أحسن إليه بأي شيء كما يذكر التجانيون في كتبهم افتخاراً بكرامات سيدهم التي منها هذه الكرامة التي أكدها علي حرازم والفوتي نقلاً عن التجاني. وكل تلك الكرامات أشبه ما تكون بأحلام الصبيان أو صراعات المجانين، وتكذيبها والسخرية بها لا تحتاج إلى ضياع الوقت في الاشتغال بالردود عليها وبيان سخافتها ودجل من يدعيها ممن جرؤ على الكذب على الله وعلى الناس وضللوا أتباعهم وأخرجوهم عن الإسلام من حيث لا يشعر أولئك الأتباع، لأنهم أصبحوا كما قال الله تعالى: أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]. وفيما يلي نذكر بعض الأمثلة من كلام أقطاب التصوف في الكرامات التي يزعمونها لأنفسهم أو لأوليائهم لترى مدى بعد تلك العقول عن الحق والأفكار الرديئة التي انطوت عليها الزعامات الصوفية. يقول عبد الكريم القشيري عن كرامات أبي الحسين النوري أنه قال: "كان في نفسي شيء من هذه الكرامات، فأخذت قصبة من الصبيان وقمت بين زورقين ثم قلت: وعزتك إن لم تخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال لأغرقن نفسي، قال فخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال" (1). فهذا جأهل بحق ربه وأراد أن يقتل نفسه: وقد صادف ما قدره الله له - أو كان بفعل الشيطان ليغويه - أن خرجت له تلك السمكة، ومهما كان فإن هذا المسلك لم يكن من مسلك الأولياء على هذا النحو، وقال عنه: "وحكي عن النوري أنه خرج ليلة إلى شط دجلة فوجدها وقد التزق الشطان فانصرف وقال: وعزتك لا أجوزها إلا في زورق".وقد فسر ذلك العروسي فقال: "أي التقى له الشطان بحيث لو مد رجله كان على الشط الآخر، فانصرف وقال تأدباً واعترافاً بتوالي نعم الله عليه في كل خارق: وعزتك لا أجوزها إلا في زورق كسائر الناس" (2).فكيف يكون الأدب مع الله أن ترد مكرمته إلا عند القشيري والنوري، وقال أبو الحارث الأولاشي: "مكثت ثلاثين سنة ما يسمع - أي ينطق - لساني إلا من سري ثم تغيرت الحال فمكثت ثلاثين سنة لا يسمع سري إلا من ربي". (3) "وكان يحيى بن سعيد يتعبد في غرفة ليس إليها سلم ولا درج، فكان إذا أراد أن يتطهر يجيء إلى باب الغرفة ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله ويمر في الهواء كأنه طير ثم يتطهر فإذا فرغ يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله ويعود إلى غرفته" (4).وقال أبو يعقوب السوسي: "جاءني مريد بمكة فقال: يا أستاذ أنا غداً أموت وقت الظهر فخذ هذا الدينار فاحفر لي بنصفه وكفِّنِّي بنصفه الآخر، ثم لما كان الغد وطاف بالبيت ثم تباعد ومات، فغسلته وكفنته ووضعته في اللحد، ففتح عينيه فقلت أحياة بعد موت؟ فقال أنا حي وكل محب لله حي" (5). وأما بالنسبة للخضر فحدث ولا حرج لقد ملأ الصوفيون كتبهم بحكايات عن الخضر لا حد لها ولا حصر إذ لا يخلو كتاب من كتبهم من نسج القصص والأساطير عليه، ومفادها أن الخضر يجيب كل من يستغيث به في أي بلد كان. ويذكر القشيري أنه حدث ابن أبي عبيد اليسري عن أبيه أنه غزا سنة من السنين فخرج في السرية فمات المهر الذي كان تحته وهو في السرية فقال: يا رب أعرناه حتى نرجع إلى بسرى يعنى قريته فإذا المهر قائم & hellip; إلى آخر القصة. ومثل هذه القصة قصة أخرى وقعت لأحد الأولياء ذكرها أبو سبرة النخعي (6)،   (1) ((الرسالة القشيرية)) (2/ 676). (2) (ص678). (3) (ص682). (4) (ص685). (5) (ص700). (6) انظر: ((الرسالة القشيرية)) (ص712) .. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 215 وذكر السكندري أنواعاً من الكرامات التي تحصل للولي فقال:"ثم إن هذه الكرامات قد تكون طياً للأرض ومشياً على الماء وطيراناً في الهواء واطلاعاً على كوائن كانت وكوائن بعد لم تكن من غير طريق العادة وتكثير الطعام أو الشراب أو إتياناً بثمرة في غير إبانها، وإنباعاً ماء من غير حفر أو تسخير حيوانات عادية، أو إجابة دعوة بإتيان مطر في غير وقته، أو صبر عن الغذاء مدة تخرج عن طور العادة، أو إثمار لشجرة يابسة ما ليس عادتها أن تكون مثمرة له" (1).ونقل عن المرسي قوله: "وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه: جلت في ملكوت الله فرأيت أبا مدين متعلقاً بساق العرش وهو رجل أشقر أزرق العينين .. الخ" (2).وذكر السكندري عن الصوفي القرشي أنه جاءه الخضر بزيتونه من نجد وكان به مرض الجذام فقال له: كل هذه الزيتونة ففيها شفاؤك، فقال له: اذهب أنت وزيتونتك لا حاجة لي بها (3). ثم شرع السكندري كغيره من علماء الصوفية في ذكر فضائل الخضر وأفعاله مع الأولياء الصوفية وأورد قصصاً في ذلك كثيرة ورد على الذين ينكرون وجوده بدليل أن إبليس موجود الآن فلا ينبغي جحد وجود الخضر وهذا الدليل من أبعد ما يكون عن الصواب، لأن وجود إبليس بنص القرآن والسنة، وجود الخضر إلى الآن لا دليل عليه لا عقلاً ولا نقلاً. وكرامات كثيرة يذكرها السكندري لمشائخه لا يصدقها عاقل نترك ذكرها هنا، ومن أراد الاطلاع عليها فليرجع إلى كتاب السكندري (لطائف المنن)؛ حيث ملأه بكرامات وبشطحات أولئك المشايخ بما لا يجرؤ أي مسلم يخاف الله أن يتطاول على الله وعلى رسله ولو بأقل من تلك الشطحات الخرقاء من دعوى علم الغيب بكل شيء في هذا الكون مهما كان حقيراً في ليل أو نهار، ومن دعوى الاتحاد بالله ومجالسته، ومن دعوى مصاحبة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في كل وقت، ومن دعوى مشاهدة الجنة دائماً، وأشياء أخرى حين يقرأها المسلم يقول: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا. ومثل ما خاض فيه السكندري خاض فيه أيضاً الشعراني، ولا أرى أن المقام يسمح بذكر نماذج من تلك الكرامات الخيالية التي زعمها الشعراني لأقطاب التصوف الذين ترجم لكل واحد منهم وجاء في تراجمهم بما لا يقوله إنسان سليم الفترة سليم العقل عنده أدنى معرفة بالدين الإسلامي. إنها جرائم حشدها الشعراني في طبقاته على أنها كرامات لأولئك الذين زعم كذباً أنهم أولياء أقل ما فيها الاستهانة بجرائم اللواط والزنا والشذوذ الجنسي - كما يسمى في عصرنا - ومن غريب أمره أنه يذكر الشخص منهم ثم يأتي في ترجمته وكراماته بما ينكس الرأس حياء ثم يختمها بقوله عنه - رضي الله عنه -.ولو أن هؤلاء الصوفية من أمثال ابن عربي والمنوفي والسهروردي والشعراني والسكندري وعلي حرازم والفوتي ذكروا كرامات قليلة وفيها نوع من التعقل لكنت نقلتها هنا ولكن لا حيلة في ذلك وكتبهم كلها مملوءة بكرامات كل واحدة تلعن أختها (4)، ومن هنا أعرضت عن ذكر ذلك وكنت مثل خراش الذي قال فيه الشاعر: تكاثرت الضباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد على أن بعض تلك الكرامات لا تستحق أن تذكر لأحد؛ إذ فيها الاستهانة بالأخلاق والآداب العامة، وفيها التشجيع على اللهو والفسق. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 1015   (1) ((لطائف المنن)) (ص123). (2) (ص146). (3) (ص153). (4) انظر: ((الفتوحات المكية)) أربع أجزاء، ((جمهرة الأولياء)) جزئين، ((عوارف المعارف)) مجلد، ((طبقات الشعراني)) جزئين، ((لطائف المنن)) مجلد، ((جواهر المعاني)) جزئين، ((رماح حزب الرحيم)) جزئين، ((هامش جواهر المعاني))، وغيرها من كتب الصوفية الذين غلوا في دينهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 216 المبحث الأول: أبو يزيد البسطامي ومعراجه كثيرون من رجال التصوف ادعوا أنهم قد عرج بهم إلى السماوات العلى. فمنهم عبدالكريم الجيلي وقد ذكرنا بعضاً مما زعم مشاهدته في السماوات وذلك في الكشف الصوفي وقد سبق الجيلي من زعم مثل هذا، ويبدو أن أول من افترى ذلك هو أبو يزيد البسطامي الذي جعل لنفسه معراجاً كمعراج الرسول صلى الله عليه وسلم وراح يحدثنا كيف أنه عرج بروحه إلى السماوات سماءً سماءً وأن بغيته كانت في الفناء في الله، أو على حد قوله البقاء مع الله إلى الأبد. وهذه هي الفكرة البرهمية الوثنية نفسها في الفناء في الذات الإلهية حسب زعمهم. ولكن البسطامي أول من افتري له أو عليه ذلك. يدعي أنه عرج به إلى السماء السابعة فالكرسي، فالعرش، وأن الله قال له: إلى إلي، وأجلسه على بساط قدسه وقال له: (يا صفي ادن مني وأشرف على مشارف بهائي، وميادين ضيائي واجلس على بساط قدسي .. الخ)، وهذا هو نص المعراج الكاذب المنسوب إلى أبي يزيد البسطامي. "في رؤيا أبي يزيد: في القصد إلى الله تعالى وبيان قصته: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 217 قال أبو القاسم العارف، رضي الله عنه: اعلموا معاشر القاصدين إلى الله سبحانه وتعالى أن لأبي يزيد حالات ومقامات لا تحتملها قلوب أهل الغفلة وعامة الناس، وله مع الله أسرار لو اطلع عليها أهل الغرة لبهتوا فيها، وإني نظرت في كتاب فيه مناقب أبي يزيد، فإذا فيه أشياء من حالاته وأوقاته وكلامه، ما كلت الألسن عن نعته وصفته، فكل من أراد أن يعرف كماله ومنزلته فلينظر إلى نومه ورؤياه التي هي أصح في المعنى، وأقرب في التحقيق من يقظة غيره، فهذا ما حكى أن خادم أبي يزيد رضي الله عنه قال: سمعت أبا يزيد البسطامي رضي الله عنه يقول: إني رأيت في المنام كأني عرجت إلى السماوات قاصداً إلى الله، طالباً مواصلة الله سبحانه وتعالى، على أن أقيم معه إلى الأبد، فامتحنت بامتحان لا تقوم له السماوات والأرض ومن فيهما، لأنه بسط لي بساط العطايا نوعاً بعد نوع، وعرض علي ملك كل سماء، ففي ذلك كنت أغض بصري عنها، لما علمت أنه بها يجربني، فكنت لا ألتفت إليها إجلالاً لحرمة ربي، وكنت أقول في ذلك: يا عزيزي مرادي غير ما تعرض علي، قال فقلت له: رحمك الله صف لي مما عرض عليك من ملك كل سماء قال: رأيت في المنام كأني عرجت إلى السماوات، فلما أتيت إلى السماء الدنيا فإذا أنا بطير أخضر، فنشر جناحاً من أجنحته، فحملني عليه وطار بي حتى انتهي بي انتهائي إلى صفوف الملائكة، وهم قيام متحرقة أقدامهم في النجوم يسبحون الله بكرة وعشياً، فسلمت عليهم، فردوا علي السلام، فوضعني الطير بينهم ثم مضى فلم أزل أسبح الله تعالى بينهم، وأحمد الله تعالى بلسانهم وهم يقولون: هذا آدمي لا نوري إذ لجأ إلينا وتكلم معنا، قال: فألهمت كلمات، وقلت: باسم القادر على أن يغنيني عنكم، ثم لم يزل يعرض علي من الملك ما كلت الألسن من نعته وصفته، فعلمت أن ربها يجربني، ففي ذلك كنت أقول: مرادي غير ما تعرض علي، فلم ألتفت إليها إجلالاً لحرمته، ثم رأيت كأني عرجت إلى السماء الثانية فإذا جاءني فوج فوج من الملائكة ينظرون إلى كما ينظر أهل المدينة إلى أمير يدخلها، ثم جاءني رأس الملائكة اسمه لاويد (اسم فارسي جعله اسماً من أسماء الملائكة)، وقال: يا أبا يزيد، إن ربك يقرئك السلام، ويقول: أحببتني فأحببتك. فانتهي بي إلى روضة خضرة فيها نهر، يجري حولها ملائكة طيارة، يطيرون كل يوم إلى الأرض مائة ألف مرة، ينظرون إلى أولياء الله، وجوههم كضياء الشمس، وقد عرفوني معرفة الأرض، أي في الأرض، فجاؤوني وحيوني، وأنزلوني على شط ذلك النهر، وإذا على حافيته أشجار من نور، ولها أغصان كثيرة متدلية في الهواء، وإذا على كل غصن منها وكر طير، أي من الملائكة، وإذا في كل وكر ملك ساجد، ففي كل ذلك أقول: يا عزيزي مرادي غير ما تعرض علي، كن لي يا عزيزي جاراً من جميع المستجيرين وجليساً من المجالسين، ثم هاج من سري شيء من عطش نارياق، حتى إن الملائكة مع هذه الأشجار، صارت كالبعوضة في جنب همتي، وكلهم ينظرون إلى متعجبين مدهوشين من عظم ما يرون مني. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 218 ثم لم يزل يعرض علي من الملك ما كلت الألسن عن نعته، ففي كل ذلك علمت أنه بها يجربني، فلم ألتفت إليه إجلالاً لحرمة ربي، وكنت أقول: يا عزيزي مرادي غير ما تعرض علي، فلما علم الله تعالى من صدق الإرادة في القصد إليه، وتجردي عما سواه، فإذا أنا بملك قد مد يده فجذبني، ثم رأيت كأني عرجت إلى السماء الثالثة، فإذا جميع ملائكة الله تعالى بصفاتهم ونعوتهم قد جاؤوني يسلمون علي، فإذا ملك منهم له أربعة أوجه: وجه يلي السماء، وهو يبكي لا تسكن دموعه أصلاً، ووجه يلي الأرض ينادي: يا عباد الله اعلموا يوم الفراغ (لعلها الفزع)، يوم الأخذ والحساب، ووجه يلي يمينه إلى الملائكة يسبح بلسانه، ووجه يلي يساره يبعث جنوده في أقطار السماوات يسبحون الله تعالى فيها، فسلمت عليه، فرد علي السلام، ثم قال: من أنت؟ إذ فضلت علينا، فقلت: عبد قد منّ الله تعالى عليه من فضله، قال: تريد أن تنظر إلى عجائب الله؟ قلت: بلى، فنشر جناحاً من أجنحته، فإذا على كل ريشة من ريشه قنديل أظلم ضياء الشمس من ضيئها، ثم قال: تعال يا أبا يزيد، واستظل في جناحي، حتى نسبح الله تعالى ونهلله إلى الموت، فقلت له: الله قادر على أن يغنيني عنك، ثم هاج من سري نور من ضياء معرفتي أظلم ضوءها: أي ضوء القناديل من ضوئي، فصار الملك كالبعوضة في جنب كمالي، ثم لم يزل يعرض علي من الملك ما كلت الألسن عن نعته، ففي ذلك علمت أنه بها يجربني، فلم ألتفت إلى ذلك إجلالاً لحرمته، وكنت أقول في ذلك: يا عزيزي مرادي غير ما تعرض علي، فلما علم الله تعالى مني صدق الإرادة في القصد إليه، فإذا أنا بملك مد يده فرفعني ثم رأيت: كأني عرجت إلى السماء الرابعة، فإذا جميع الملائكة بصفاتهم وهيئاتهم ونعوتهم قد جاؤوني يسلمون علي، وينظرون إلى كما ينظر أهل البلد إلى أمير لهم في وقت الدخول، يرفعون أصواتهم بالتسبيح والتهليل من عظم ما يرون من انقطاعي إليه، وقلة التفاتي إليهم، ثم استقبلني ملك يقال له: نيائيل، فمد يده وأقعدني على كرسي له موضوع على شاطئ بحر عجاج، لا ترى أوائله ولا أواخره، فألهمت تسبيحه وانطلقت بلسانه، ولم ألتفت إليه، ثم لم يزل يعرض علي من الملك ما كلت الألسن عن نعته، ففي كل ذلك علمت أنه بها يجربني، فلم ألتفت إليه إجلالاً لحرمته، وكنت أقول يا عزيزي، مرادي غير ما تعرض علي: فلما علم الله تعالى مني صدق الانفراد به في القصد إليه، فإذا أنا بملك مد يده فرفعني إليه ثم رأيت كأني عرجت إلى السماء الخامسة، فإذا أنا بملائكة قيام في السماء رؤوسهم في عنان السماء السادسة يقطر منهم نور تبرق منه السماوات، فسلموا كلهم علي بأنواع اللغات، فرددت عليهم السلام بكل لغة سلموا علي، فتعجبوا من ذلك، ثم قالوا: يا أبا يزيد: تعال حتى تسبح الله تعالى وتهلله ونعينك على ما تريد، فلم ألتفت إليهم من إجلال ربي، فعند ذلك هاج من سري عيون من الشوق، فصار نور الملائكة فيما التمع مني كسراج يوضع في الشمس، ثم لم يزل يعرض علي من الملك ما كلت الألسن عن نعته، ففي كل ذلك علمت أنه بها يجربني، وكنت أقول يا عزيزي، مرادي غير ما تعرض علي، فلما علم الله تعالى مني صدق الإرادة في القصد إليه فإذا أنا بملك مد يده فرفعني إليه، ثم رأيت كأني عرجت إلى السماء السادسة، فإذا أنا بالملائكة المشتاقين جاؤوني يسلمون علي ويتفخرون بشوقهم إلي، فافتخرت عليهم بشيء من طيران سري، ثم لم يزل يعرض علي من الملك ما كلت الألسن عن نعته، ففي كل ذلك علمت أنه بها يجربني، فلم ألتفت إليه، وكنت أقول: يا عزيزي مرادي غير ما تعرض علي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 219 فلما علم الله تعالى مني صدق الإرادة في القصد إليه، فإذا أنا بملك مد يده فرفعني، ثم رأيت كأني عرجت إلى السماء السابعة، فإذا بمائة ألف صف من الملائكة استقبلني. كل صف مثل الثقلين ألف ألف مرة، مع كل ملك لواء من نور، تحت كل لواء ألف ألف ملك، طول كل ملك مسيرة خمسمائة عام، وكل على مقدمتهم ملك اسمه بريائيل، فسلموا علي بلسانهم ولغتهم، فرددت عليهم السلام بلسانهم فتعجبوا من ذلك، فإذا مناد ينادي: يا أبا يزيد: قف قف؛ فإنك قد وصلت إلى المنتهي، فلم ألتفت إلى قوله ثم لم يزل يعرض علي من الملك ما كلت الألسن عن نعته، ففي كل ذلك علمت أنه بها يجربني، وكنت أقول: يا عزيزي مرادي غير ما تعرض علي، فلما علم الله تعالى مني صدق الإرادة في مقصدي إليه صيرني طيراً، كأن كل ريشة من جناحي أبعد من الشرق إلى الغرب ألف ألف مرة، فلم أزل أطير في الملكوت، وأجول في الجبروت، وأقطع مملكة بعد مملكة، وحجباً بعد حجب، وميداناً بعد ميدان، وبحاراً بعد بحار، وأستاراً بعد أستار، حتى إذا أنا بملك المرسى استقبلني، ومعه عمود من نور، فسلم علي ثم قال: خذ هذا العمود، فأخذته فإذا السماوات بكل ما فيها قد استظل بظل معرفتي، واستضاء بضياء شوقي، والملائكة كلهم صارت كالبعوضة عند كمال همتي في القصد إليه، ففي كل ذلك علمت أنه بها يجربني، فلم ألتفت إليها إجلالاً لحرمة ربي الله تعالى. ثم لم أزل أطير وأجول مملكة بعد مملكة، وحجباً بعد حجب، وميداناً بعد ميدان، وبحاراً بعد بحار، وأستاراً بعد أستار، حتى انتهيت إلى الكرسي، فإذا قد استقبلني ملائكة لهم عيون بعدد نجوم السماوات، يبرق من كل عين نور تلمع منه، فتصير تلك الأنوار قناديل، أسمع من جوف كل قنديل تسبيحاً وتهليلاً، ثم لم أزل أطير كذلك حتى انتهيت إلى بحر من نور تلاطم أمواجه يظلم في جنبه ضياء الشمس، فإذا على البحر سفن من نور، يظلم في جنب نورها أنوار تلك الأبحر، فلم أزل أعبر بحاراً بعد بحار حتى انتهيت إلى البحر الأعظم الذي عليه عرش الرحمن، فلم أزل أسبح فيه حتى رأيت ما من العرش إلا الثرى من الملائكة الكروبيين وحملة العرش، وغيرهم ممن خلق الله سبحانه وتعالى في السماوات والأرض، أصغر من حيث طيران سري في القصد إليه، من خردلة بين السماء والأرض، ثم لم يزل يعرض علي من لطائف بره وكمال قدرته وعظم مملكته ما كلت الألسن عن نعته وصفته، ففي كل ذلك كنت أقول: يا عزيزي مرادي في غير ما تعرض لي، فلم ألتفت إليه إجلالاً لحرمته فلما علم الله سبحانه وتعالى من صدق الإرادة في القصد إليه فنادى: إلى إلي، وقال: يا صفي ادن مني، وأشرف على مشرفات بهائي، وميادين ضيائي، واجلس على بساط قدسي حتى ترى لطائف صنعي في آنائي، أنت صفيي وحبيبي، وخيرتي من خلقي، فكنت أذوب عند ذلك كما يذوب الرصاص، ثم سقاني شربة من عين اللطف بكأس الأنس، ثم صيرني إلى حال لم أقدر على وصفه، ثم قربني منه، وقربني حتى صرت أقرب منه من الروح إلى الجسد، ثم استقبلني روح كل نبي يسلمون علي ويعظمون أمري ويكلمونني وأكلمهم، ثم استقبلني روح محمد صلى الله عليه وسلم، ثم سلم علي، فقال: يا أبا يزيد: مرحباً وأهلاً وسهلاً، فقد فضلك الله على كثير من خلقه تفضيلاً، إذا رجعت إلى الأرض اقرأ لأمتي مني السلام، وانصحهم ما استطعت، وادعهم إلى الله عز وجل، ثم لم أزل مثل ذلك حتى صرت كما كان من حيث لم يكن التكوين، وبقي الحق بلا كون ولا بين ولا أين ولا حيث ولا كيف، جل جلاله وتقدست أسماؤه. قال أبو القاسم العارف رضي الله عنه: معاشر إخواني عرضت هذه الرؤيا على أجلاء أهل المعرفة فكلهم يصدقونها ولا ينكرونها، بل يستقبلونها عند مراتب أهل الانفراد في القصد إليه، ثم يحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن العبد لا يزال من الله والله منه ما لم يجزع فإذا جزع وجب عليه العتاب والحساب)) وروي أيضاً عنه صلى الله عليه وسلم ((أن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا أهل العلم بالله ولا ينكره إلا أهل الغرة بالله)) (1) أ. هـ منه بلفظه (ملحق رقم (2) لكتاب (المعراج) منقول من مخطوطة حيدر آباد بعنوان القصد إلى الله). المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 201 - 206   (1) رواه الديلمي في ((المسند)) والسلمي في ((الأربعين)) كما في ((الترغيب والترهيب)) قال المنذري: [لا يتطرق إليه احتمال التحسين] وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوي)) (13/ 259): ليس إسناده ثابتا باتفاق أهل المعرفة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 220 المبحث الثاني: معراج إسماعيل بن عبدالله السوداني ذكرنا في باب الكشف الصوفي ما افتراه عبدالكريم الجيلي في كتابه (الإنسان الكامل) فيما زعمه أنه عرج به إلى السماوات ورأى هنالك الملائكة والأنبياء وكلمهم واستفاد منهم فوائد، وأفادهم كذلك فوائد فيما زعمه، وقد نقلنا في ذلك الباب نقولاً مستفيضة مما كذبه، وقد جاء من نسج على منوال الجيلي تماماً وكتب كتاباً يكاد يكون نسخة منه وهو إسماعيل بن عبدالله السوداني والذي ألفه سنة 1261هـ أي منذ مائة وسبع وثلاثين سنة تقريباً وسماه (مشارق شمس الأنوار ومقارب حسها في معنى العلوم والأسرار). وقد سلك إسماعيل بن عبدالله السوداني هذا مسلك الجيلي نفسه حيث زعم أنه عرج به إلى السماء سماء سماء. والعجيب أنه جعل هذه السماوات هي الكواكب السبعة التي كانت معروفة في ذلك الوقت (القمر، والزهرة، والمشتري، والمريخ، وعطارد، وزحل). والتي كان يظن قديماً أنها هي السماوات السبع فجعل لكل سماء من هذه (روحانية) كما يعتقده الصابئة عبدة النجوم، وشوه معراج الرسول صلى الله عليه وسلم فنقل منه أسماء الأنبياء والرسل الذين التقى بهم الرسول في معراجه، فزعم إسماعيل هذا أنه التقى بهم أيضاً وأفادوه وباركوه واحتفلوا بمجيئه إليهم، وأنه شاهد بعد ذلك العرش والكرسي وسدرة المنتهي، والملائكة الذين لم يسجدوا لآدم تماماً كما زعم الجيلي من قبله مكذباً بذلك القرآن حيث يقول سبحانه وتعالى: ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ [الأعراف:11] ويبدو أنه لم يقرأ هذه الآية قط واكتفى بقراءة كتاب الجيلي ونقل عنه مشاهداته وزعمها لنفسه وجعلها كشفاً خاصاً به هو .. وهذا هو شأن مشايخ التصوف ينقل بعضهم عن بعض نفس الدعاوي التي يدعيها من قبله فإذا قال أحدهم أنا خاتم الأولياء قال من بعده بل أنا خاتم الأولياء، وإذا قال أحدهم رفعني الله وأجلسني عنده وأعطاني وقربني جاء من يدعي هذه الدعاوي ويزيد على ذلك وهكذا. وهأنذا أنقل فقرات من هذه الأكاذيب المفتراة التي افتراها إسماعيل بن عبدالله السوداني: قال: المغرب السابع: في عين العروج إلى السماء السادسة اعلم أيها الابن البار المبرور والمهدي إلى طريق الملك الغفور أن العبد إذا طرح جميع الأكوان العارضة له في السماء الخامسة في حالة عروجه إلى حضرة الرحمن فإن الرب الكريم يصلح له السريرة ويحد له عين البصيرة فيعرج منها إلى السماء السادسة فيجد البواب فيسلم عليه فيرد عليه السلام ويرحب به، ويفتح له الباب. فافهم يا بني فإنه يدخل فينظر ما فيها من الغرائب ويتعجب من تلك العجائب فإن هذه السماء فيها من الكواكب المشتري ولونها في غاية السواد قد يرى وهو جوهر شفاف من بديع الصنائع على الاستواء من غير اختلاف ودورها أوسع يزيد على دور سماء المريخ بألفين عام ومائتين سنة وثلاثة وثلاثين سنين (كذا والصواب: بألفي عام، ومئتي سنة وثلاث سنين!) وأربعة أشهر، وفيها نبي الله موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام (هكذا). نفائس حقية من علوم ذوقية: فنقول بحسب كشفنا، فإن العبد الراقي إلى تلك المراقي إذا وصل إلى هذه السماء يرى نفسه مغيباً في أنوار القدس موشحة بأنوار الهيبة والأنس حوله جملاً من ملائكة الرحمن ناطقاً بغميض الأسرار والعلوم معهم في حالة عروجه إلى حضرة الملك الديان. فيرى ملائكة هذه السماء متنوعة من عدة أصناف، فيهم ملائكة الرحمة الألطاف، يدرون ملائكة هذه السماء في هذه الأرض لرفع الوضيع وزيادة الرفيع، منهم من وكله الله تعالى بإيصال الرزق إلى المرزوق، ووكل غيرهم بما اقتضته الحكمة بين الخالق والمخلوق .. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 221 وقد اجتمعت بالملك الحاكم عليهم وهو روحانية المشتري (كوكب معروف)، رأيته جالساً على منبر من نور الحكمة ملتحفاً بثوب أصفر من أنوار الهمة، وهم مطيعون له في سره وجهره وممثلون له في جميع نهيه وأمره لا يفعل منهم أحد شيئا إلا بإذنه ولا يتقدم إلا بأمره لتنفيذ ما وكل به من شأنه، فسألته عن عدة علوم فأجابني برمز مكتوم ففهمته منه بوساطة مظهر اسم الله القيوم، بفهم لا من حيث مطلق المفهوم فوثبت قائماً وسرت منه بفضل الله تعالى عالماً، فاجتمعت من بعده بنبي الله موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام فوجدته فانياً في الشهود والمكالمات غالباً في أنوار المشاهدات جالساً على كرسي من أنوار الوقار ولونه أصفر مخلوط عليه خطوط مرموزة جامعة لما حواه من الفخار من حضرة الأسرار متأدباً مع استهلاكه مع شهود مولاه، مناجياً له ومستغرقاً في فناه، تجلي الأنية فيحضره إظهار مظاهر الحق في حقيقة سره، إنني أنا الله، فقد عرفته بعدما عرفني فسلمت عليه ورد علي السلام وقربني وانتصب لي قائماً وأهل بي حيث جئته حافظاً ملازمة أدبي، فسألته سؤال من دخل حضرة الأدب وعرف سر البسط والغضب. فقلت له: يا سيدي بحق من نبأك وزكاك وأورثك هذا المقام وتولاك بأن تجود علي بإجابة مقالي وإفادتي في سؤالي، فإن رسولنا الصادق الكريم بلغنا ما قصه له ربه في الكتاب الحكيم بأنك طلبت رؤية مولاك حيث قلت له: أرني أنظر إليك. فأتاك منه الخطاب حيث قال: لن تراني، فما معنى طلبك له ومجيء هذا الخطاب إليك فاستفدنا عدم حصول الرؤية لك في حالة مجيء الخطاب فشتان ما بين حالتك هذه وحالة أهل الحجاب، فكيف هذا السر، وباطن هذا الأمر؟ فقال لي: يا عبدالله إن السر غريب والأمر عجيب، فافهم أرشدك مولاك وأورثك أسرار علومه وتولاك، فإن ربي حين أمرني بعبادته بمطلق العبودية وعرفني سر ظهور أسراره مظاهره في عموم الآنية حين أبصرت نار سر دلالتي ورجوت إتياني لأهلي بشعلة منا كي يصدقوني بها في مقالتي أو أجد عليها هدى من ضلالتي، فنوديت بعد إتياني بها من جانب طور قلبي بما اقتضت الحكمة من ربي، يا موسى إني أنا ربك الصادر أمري لك، فاخلع نعليك الكائنتين في عضويك بأن لا تشرك بعبادتي أحداً ولا يدخلك ريب فيما آمرك به أبداً إنك بالواد الذي هو فضاء سر الظهور الظاهر من ربك إلى قلبك من جانب الطور المقدس عن حلول الأغيار فيه، المطهر لك حيث اقتضت الحكمة بأنك في هذا الوادي المسمى بطوى توافيه، وأنا اخترتك حيث أمرتك فاستمع لما يوحى من الإيحاء، فلما حققت هذا المقال من حضرة القرب على لسان الحال استعددت إلى تنزله في داخل قلبي وفنيت نفسي في الاستماع لما يوحى إلى من حضرة ربي، جاءني منه الأمر بالاستفراغ لعبادته حيث قال لي: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه:14]. فقبلت ذلك وعبدته كما أمرني، فلما صدق الإخلاص مني وحسن في الله ظني أردت بقاء نفسي في مقام لقاه وأيقنت بأن لا إله معبود بحق سواه. فقلت: ربي أرني أنظر إليك. فما طلبت سوى تجلي الذات للذات. وذلك من أسرار الكبريائية من التجليات، فلما علم الله استحالة بقاء القديم في الحادث وما ثم غيري في هذا المقام محادث. قال لي: لن تراني في الحال بحيث أبقى فيك، لأني قديم وأنت حادث ولكن انظر إلى الجبل المستقر حولك إذ تنكشف لك حقيقة ذلك، فإن استقر مكانه بعد ظهور سلطاني له فسوف تراني، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقا، أي فلما ظهر سلطان القديم للجبل ساخ في الأرض حيث نزل وقد حصل لموسى ما حصل من الصعق والوجل. وفي هذا المقام سر لطيف وتعلمت من موسى عليه السلام مائة ألف علم من العلوم التي تجول في الأفكار تعذر النطق بها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 222 ثم تعلمت منه في هذا المشهد علوماً لم يسعني الوقت أن أفشيها فيه، وما أظن أحداً من الأولياء المتقدمين تكلم على حقيقة هذا المشهد على ما هو عليه أبداً إلى وقتنا هذا، وإن تكلم البعض عليه فذلك في شيء منه فلا يستطيع أحد منهم أن يستوفيه لشدة ما رأيته من عظمة حقيقته ورقة دقيقته، وقد اجتمعت برجال من الأولياء الأكابر حين تقييدي لهذا المحل فوجدته له معرفة تامة في بعض المظاهر من هذا المشهد وقدمه موسوي متحقق بإحدى وخمسين اسماً من أسماء الله الحسنى له تعبير لطيف وبحث ظريف فسألته عن مقامه والذي حازه من علوم هذا المقام، فأخبرني بدقائق من علومه فحققت أن له حظاً وافراً وأخبرني أن لما وصل من هذا المقام إلى هذا المحل وجدنا سيدنا موسى عليه السلام. وسأله فبحث فيه فاستفاد بوساطته خمسة آلاف علماً وفي كل علم أسرار لا تحصى فلما سألني عن علومي في هذا المشهد وبحثت له في ذروته من دقائق العلوم والأسرار والمظاهر والأنوار غاب عن نفسه غيبة عظيمة حتى خفت عليه من أن يذوب، فلما صحا تعجبت من ثباتي مع شدة التمكين فحمدت على ذلك الملك المعين، فلما حققت زيادتي عليه وتمكني في المشاهد بالذي ظهر مني إليه طلبني اسماً من المخفيات لأجل التبرك فأعطيته ذلك الاسم بأنواره وعلوم حضراته وأسراره فانتفع به" (كتاب مشارق شموس الأنوار ص128 - 131) انتهي منه بلفظه. ويستطرد إسماعيل بن عبدالله السوداني مبيناً مشاهداته المزعومة في السماء السابعة فيقول: "فنقول بحسب كشفنا، قد اجتمعت فيها (أي في السماء السابعة) بجملة من الملائكة فعرفتهم وعرفوني وسألتهم عن علوم لا تحصى، ورأيت فيها كوكباً له توقد من شدة عظمته ولكنه خفي عن أعين الناظرين، لأن معرفته لم تحصل لأحد سوى الكاملين من العارفين أهل الفتح ولم يظفر به إلا أرباب المعارف الراقين ذروة السطح ومن ثم فعلت كيفية حلول زحل في فلكه، وعلم كيفية سيره فيه، وعلم السر الذي وضعه الله فيه وغير ذلك. واجتمعت في هذه السماء بنبي الله سيدنا إبراهيم الخليل على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام فوجدته جالساً على منبر من نور أحمر متكئ على نمارق من نور أخضر لائحة على وجهه أنوار المعارف والكمال متوجهاً بتاج أسرار النبوة والإجلال بيده قضيب من سر علوم الكنوز معتقلاً سيف فتق طلاسم الرموز مسنداً ظهره إلى البيت المعمور مشاهداً ما هو له من حضرة الغفور، فلما وصلت إليه وسلمت عليه، رد علي السلام وأكرمني بالقيام إكراماً لنبينا أشرف الأنام فعرفني ورحب بي وبشرني ببلوغ مطلبي .. " انتهي منه بلفظه (كتاب مشارق شموس الأنوار ص135). ويستطرد إسماعيل هذا في بيان مشاهداته في السماء السابعة والدعوة إلى طريقته الخاصة قائلاً: "وفي باطن هذا سر لا أطيق ذكره في هذا الكتاب وفي هذا المشهد سر لطيف ومقام طريف ما تكلم عليه أحد الأولياء المتقدمين إلى وقتنا هذا، وإن أردت التكلم على بعض منه في حين تقييدي لهذا المحل اجتمعت بسيدنا إبراهيم عليه السلام فأشار إلى بتركه وبشرني بمقام كبير أبلغه وأنال به في الآخرة مما لا يعطي لغير المقربين من الكاملين المحبوبين فأنعم به أنا ومن معي من أولادي وإخواني وأصحابي المجدين في طريقتي" أ. هـ (كتاب مشارق شموس الأنوار ص135). ويستطرد إسماعيل هذا في بيان مشاهداته المزعومة فيزعم رؤية سدرة المنتهي والعرش والكرسي فيقول: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 223 "فنقول بحسب كشفنا إن العبد الراقي إلى مقام هذه السدرة يراها عظيمة جداً وبها (نويراً خارقاً) ممتداً فيعلم السر الذي وضعه الله سبحانه وتعالى فيها وعلم السبب الذي ينتهي إليها الصاعد والهابط. ويعلم مقام الملائكة الكروبيين منها ومنازلهم وكيفية حالتهم، فهم على أنواع مضعفة، وحالات مختلفة، فمنهم مدهوش في هويته، ومنهم مستغرق في آنيته، ومنهم واقع على جنبه، ومنهم واقع على وجهه، ومنهم حاث على ركبتيه قد غمروا في أنوار المشاهدات وانفنوا في انطباق تكرر التجليات فلا يستطيع أحد منهم حركة لعدم شعورهم وشدة استغراقهم فيما هم فيه، فهم عالون في الملائكة فما أمروا بالسجود لآدم عليه السلام ولا سجدوا له قط، وقد اجتمعت بالملك الحاكم عليهم وهو مقدمهمالذي يأتي منه الأمر، والنهي إليهم وينظره من المتقدمين على غيرهم أعمدة النور لأجل تأديب الدون منهم وغيرهم من الآدميين، فسألته عن السر الذي سرى في ذوات هؤلاء الملائكة حتى لازمتهم تلك الحالة، فأفادني بأحسن مقال، ثم سألته عن دقائق العلوم ومن خفي السر المكتوم فأفادني بحول الله وقوته فيها وفي بعض أمور مما هي من المستور، وقد حزت في هذا المشهد علوماً لم أطق إبداءها ولم أستطع إفشاءها. ثم نرجع إلى ما كنا في سبيله فنقول: إن من هنا يرقى العبد إلى فلك الكرسي إلى كرسي جبريل عليه السلام، فمن ذلك يعلم حقيقة كل ستر كان وموجبه وسر حقيقته، فيرى عن ذلك أنهاراً جارية فيغترف من أكبرها وينال الشرب من أشهرها، فيحصل له بذلك التحقق بما يحويه من الأسرار التي لا تحصي والعلوم التي لا تستقصي ثم يرقى إلى الفلك المحيط الذي هو العرش. وهو أول الأفلاك وأعظم السماك، فمن ثم يتضح له مظهر الاسم الرحمن، فهنالك يعلم ما شاء الله تعالى من مناسبة مصاحبة بعض الملائكة والأنبياء صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهم، فحينئذ ينظر حملة العرش، ويتعلم من علم السر الذي يحملونه به وكيفية صورهم الباقين بها، وقبل هذا يعرف مظاهر كثيرة، منها ما يتعلق بالأجسام المتغذية، ومنها ما يتعلق بالأرواح، وفي هذا المقام أشياء لا يصح إبداؤها ولا سبيل للتكلم إلى مجاوزة ما فوق ذلك مخافة أن يدعيها أهل الدعاوي المحجوبون الذين لم يصلوا إليها، فالسكوت عنها أولى والتلذذ بمطالعة مشاهدة تجليات صانعها أحلى، والله على ما نقول وكيل وهو يهدي السبيل" انتهي منه بلفظه (كتاب مشارق شموس الأنوار ص140 - 141). وبعد كل هذه السخافات والخرافات التي يسرقها إسماعيل بن عبدالله السوداني من عبدالكريم الجيلي وينقلها أحياناً بالنص ولا سيما في ألوان كل سماء، وأن كلا منها كوكب من الكواكب المشهورة يعود فيذكر مشاهداته المزعومة أيضاً في الأرضين السبع .. إلى أسفل سافلين تماماً كما فعل عبدالكريم الجيلي، فيزعم إسماعيل هذا أيضاً أنه طاف بالطبقة الأولى من الأرض وهي أرض في زعمه ناصعة البياض لم يعص فيها الله قط، وأن الفجر يطلع بعد الغروب بمقدار يسير جداً وذلك على حد زعمه في زمن الشتاء. قلت من يعلم جغرافية الأرض يعلم أن هذا وصف للقطب الشمالي وبياض الأرض هو الثلج الذي يغطيها، وكون الليل يكون نحو ساعة واحدة نعم ولكن هذا لا يحصل في الشتاء كما زعم إسماعيل هذا ولكنه يحدث في الصيف حيث يصبح الليل ساعة والعكس تماماً في الصيف حتى لا يكون بقاء الشمس إلا نحو ساعة أو أقل أحياناً في بعض مناطق القطب .. ، ولكن هذه المعارف الجغرافية العادية التقطها هؤلاء الشيوخ وجعلوها كشفاً صوفياً لا يتأتى إلا بالمجاهدة المزعومة وبانكشاف حجب القلب، وليتهم إذ نقلوها أيضاً نقلوها صحيحة بل لم يستطيعوا أن يميزوا بين ما عليه هذه المناطق في الصيف والشتاء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 224 ثم يذكر إسماعيل هذا أن الأرض الثانية مسكونة بالجن وأن ليلهم نهارنا ونهارنا ليل عندهم. وهذا خلط بين معارف الجغرافية وبين أغاليط الصوفية. وأما الطبقة الثالثة من الأرض فيزعم أنها مسكونة بالجن كذلك (كتاب مشارق شموس الأنوار ص143)، وينتقل هذا الشيخ الصوفي هكذا بين الأرضين المزعومة أرضاً أرضاً يطلعنا على مشاهدته وتخريفاته فيقول مثلاً ففي الأرض السادسة: "فنقول بحسب كشفنا: إن هذه الطبقة مسكونة بالمردة من الشياطين وهم أقوى حالاً من العفاريت وكل منهم مسلط على إنسان للعداوة السابقة، فكثير يدخلون في حوزهم فلا ترى منهم متحركاً ولا ساكناً إلا قد قيده حكمهم بما اقتضته الحكمة الإلهية بمثابة تقلباتهم ودخولهم على الخلق بالأنواع المختلفة بحسب أجناسهم، فمنهم من يظهر للآدميين في الخواطر، ومنهم من يظهر لهم في عالم المثال لسوقهم إلى غاية الخذلان والضلال إلى غير ذلك مما لا يدركه على الحقيقة إلا الأولياء أهل الكمال وقد يتكلمون بحسب ما يؤذن لهم فيه من هذه الأبواب والمقامات من العوالم العلويات والسفليات والله على ما نقول وكيل وهو يهدي السبيل" انتهي (كتاب مشارق شموس الأنوار ص148). ويستطرد أيضاً فيذكر مشاهداته في الأرض السابعة فيقول: "نقول بحسب كشفنا: إن هذه الطبقة مسكونة بالحيات والعقارب وهي التي وردت بها الأخبار من أنها كأمثال الجبال وأعناق البخت وغير ذلك، فإن العبد العارف حين يدخل هذه الطبقة يدخله هم شديد مخافة أن يرى مقاماً في النار لبعض أصحابه ومريديه، فحينئذ يتطلع على جميع المقامات فإذا وجد مقاماً في النار لبعض مريديه أو بعض أصحابه سعى في هتكه بالتضرع إلى الله تعالى إلى أن يبدله الله سبحانه وتعالى (له) مقاماً في الجنة. كما أنه إذا وقف على الفلك الكوكب المسكون بطائفة من الذين هم معدودون في نعم الجنة يتطلع على مقامات الجنات، فإذا رأى مقاماً من مقامات بعض أصحابه سعى في رفعته وزيادته، وهذا كله يكون كرامة في الحق الولي العارف وشرفاً للوساطة الكبرى والوصلة الفخري عين حقائق السعود وجنة نعيم التجليات والشهود سيدنا ومولانا محمد الأسعد عليه أفضل الصلاة والسلام من البر الأوحد لأن بشرفه على أمثاله شرف أمته على سائر الأمم فإن الولي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يطوف على جميع العوالم العلويات والسفليات ويطلع على مكنون غيب السبع السماوات والسبع طبقات (هكذا والصواب: سبع السماوات، وسبع الطبقات)، ويعلم منازل أهل الجنة ومنازل أهل النار، وعلم ما كان وما يكون وما هو كائن وغير ذلك ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، فإنه يعلمهم قدر ما تقتضيه حكمته وتعمهم به رحمته بالوهب والتفضيل، والله على ما نقول وكيل وهو يهدي السبيل" انتهي منه بلفظه (كتاب مشارق شموس الأنوار ص153). ولا يكتفي أيضاً بكل هذا الإفك والتخريف بل يذهب ليطلعنا أيضاً على كشفه المزعوم في بحار العلوم، فيقول: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 225 "وقد اجتمعت مرة في بقعة من ساحل البحر المحيط الذي هو من وراء جبل قاف برجل من النقباء أصفر اللون مربوع القامة كثيف اللحية صبيح الوجه، فوجدته فانياً في التجليات، غائباً في أنوار المشاهدات وقدمه على قدم سيدنا يعقوب عليه السلام، وورده القائم به آخر سورة الحشر، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [الحشر:22] .. الخ السورة. وهو مسقي بثلاثة عشر اسماً من أسماء الله تعالى الحسنى، ولكنه متحير في مقامه، ويطلب التخلص منه فما وجد له سبيلاً، فسلمت عليه، فإذا هو في غاية الاستغراق شاخصاً ببصره إلى الطباق، فإنه يشير إلى البحر الذي هو بساحله ففهمت منه أنه يشتكي إلى بصعوبة تخليصه من هذا المقام، كأنه يقول إن خلاصه منه أصعب حالاً من شراب ماء هذا البحر، لأنه هو البحر الأخضر، ماؤه مر لا يستطيع أحد الشراب منه، لأن الذي يشرب منه يهلك حالاً من شدة مرارته، فوجدت بيد الرجل رمانة مغلوقة وأكلت معه منها، فلما عرفته بوسمه وخاطبته باسمه قلت له ما المقصود؟ قال: مشاهدة الملك المعبود. فلما عرفني فهمت لغزه وأدركت رمزه، وتحقق أنني مفيده فيما يريده أخذ يطلبني من غير انفكاك عني وصحبني إلى محل بعيد، فأخذت له في المقال وأطلقت له لسان الحال إلى أن شاهدنا الكنوز المستورة تحت قباب الرموز من البحر الأسود الذي انتهي إليه المورد، فإن هذا البحر رسمه معدوم وظاهره مكتوم فلا أستطيع فيه التعبير ولم أتعرض إلى البيان فيه والتفسير فمن ثم أخذ مني بعض أذكار مصاحبة أنواره وانصرف بسبيله إلى مشاهدة دليله، وفي حين تقييدي لهذا المحل اجتمعت معه فوجدته في حال عظيم ومقام فخيم فأخبرني أنه حصلت له مني مفاتحات عظيمة وإمدادات كريمة حين أكلت معه في تلك الرمانة، فحكى لي شيئا من حاله، ووجدته سقى بخمسة وثلاثين اسماً من أسمائه تعالى، وصار في زيادة بابتهاج طريقه الأعلى. وقد اجتمعت في ساحل البحر الأحمر برجال من أرباب الأحوال لم يزالوا في دلالة المخلوقين إلى طريق معرفة رب العالمين فإذا أمعن ناظرهم فكرة يحقق أنهم ليس لهم اشتغال أبداً بغير هذا، ثم أمور لا سبيل إلى ذكرها بقصور الوقت وضيقه عنها، فانتهج أيها العاقل وكابد في خوض المقامات والمنازل فإن الله تعالى حكيم كريم يورثك من علم سره العظيم أنه واهب جليل والله على ما نقول وكيل وهو يهدي السبيل" انتهي (كتاب مشارق شموس الأنوار ص159،160). وقد يسأل السائل ما الداعي لكل هذا الكذب والانحراف، وما الذي يدفع هؤلاء إلى كل هذا التخريف والتكلف، هل هم عقلاء أو مجانين وإن كانوا عقلاء فماذا يريدون. وقطعاً لهذه التساؤلات يجيب المؤلف نفسه عن مراده وذلك في آخر كتابه فيقول: المغرب التاسع: في عين خاتمة الكتاب: كيفية صفة الخلوة للمؤلف وغير ذلك من الأدعية المرجية اعلم أيها الابن المجتهد والمحتسب المقتصد، أن كل خير لا ترقى ذروته إلا بجهد النفس وأتعابها فيه، وقد تكلمنا لك فيما تقدم من المجاهدات والمكابدات، وأن الطرق الموصلة إلى الله تعالى لا تحصى، وكل صاحب طريقة أدرى بما فيه الصلاح لمن يسلكها، ولما أنعم الله علي بنيل هذا المقام وجعلني من خواصه الكرام أذن لي في التكلم والظهور وإبداء طريقة أستقبل بها وأسلك بها المريدين لأجل أن يصلوا بها، إلى حضرة الغفور، فحصل الأمر كما أمر واشتهر ذلك واستمر، فلما أذنت من الحضرتين بإظهار كل ما نراه يصلح لأهل طريقتي بلامين وأفاض علي الوهاب بوارد تأليف هذا الكتاب أردت أن أختمه بصفة خلوتي التي تصلح لأهل طريقتي كما فعل قبلي أهل الطرق بنظرهم الذي يصلح لأهل طرائقهم، وجعلت كيفية هذه الخلوة رسالة مستقرة وأفردتها في هذا المغرب لأجل أن يسهل نقلها ونظرها لمن له رغبة فيها، فمن أراد نقل جميع الكتاب فهي من جملته، ومن أراد الاستقلال بها فليفردها منه من أول البسملة إلى حد الخاتمة الآتية، وهي هذه" انتهي منه بلفظه (كتاب مشارق شموس الأنوار ص161). الخلاصة أن الرجل يريد أن يبني له طريقة خاصة لتسليك المريدين، وجمع الأغبياء والمغفلين ومن ثم جمع النذور والقرابين، وبالتالي جعل نفسه في مكان الملوك والسلاطين!!! هذه هي النهاية التي يسعى إليها ملوك التصوف، وأئمة الضلالة ومن أجل هذا كذبوا على الله هذا الكذب المبين ولا يسع المسلم إلا أن يحمد الله على العافية مما ابتلي به هؤلاء المارقون الكاذبون والحمد لله رب العالمين. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق- ص207 - 218 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 226 المبحث الأول: الولاية الرحمانية أعلن القرآن أن كل مؤمن صادق في الإيمان ولي لله سبحانه وتعالى. قال تعالى: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إلى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:257]. نصت الآية هنا على أن الله ولي كل مؤمن، وأنه بفضل هذه الولاية يخرج الله المؤمنين من الظلمات إلى النور، وقال تعالى أيضاً: إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف:196] وقال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية:18 - 19]. يخبر سبحانه وتعالى أنه ولي لكل من اتقاه وخافه .. وجاء في دعاء موسى عليه السلام لربه أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ [الأعراف:155]. وقال تعالى أيضاً: وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام:126 - 127]. وقال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الذين آمنوا وكانوا يتقون [يونس:62 - 63]. والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً التي تبين ولايته سبحانه وتعالى لكل مؤمن صالح متق لله سبحانه وتعالى .. والولاية هي المحبة والنصرة .. فالله سبحانه وتعالى إذا والى عبداً فإنه يحبه وينصره ويعزه ويكرمه كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54] وكذلك العبد إذا قيل إنه يوالي الله فمعنى ذلك أنه يحب الله وينصره كما قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ [البقرة:165] وقال تعالى: إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] فولي الله من ينصره ويحبه، ومن يحب الله ينصره .. ، فكل من أحب الله ونصره، وسار في مرضاته، وحفظ حدوده، وأقام شريعته ودينه، فهو ولي الله سبحانه وتعالى. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم طريق الولاية فقال صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى من عادى لي ولياً فقد آذنته بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه)) (1) هنا بين الرسول فيما يرويه عن ربه سبحانه وتعالى أن طريق الولاية للعبد هو أن يقوم بأداء الفرائض أولاً التي هي أحب الطاعات إليه سبحانه وتعالى، ثم يتدرج في أداء النوافل حتى يحبه الله، فإذا أحبه الله سبحانه وتعالى كان ولياً حقاً له جل وعلا، وقد جاء في الحديث الصحيح: ((إن الله إذا أحب عبداً قال يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء فيقول إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض)) (2) ولا شك أن ولاية الله سبحانه وتعالى هذه مبذولة لكل من سعى إليها وسار في طريقها ووفقه الله سبحانه وتعالى إلى بلوغها كما قال جل وعلا: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5 - 10]. وقال أيضاً جل وعلا: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]. ولا شك أنه على الرغم من أن كل مؤمن هو ولي الله جل وعلا فإن ولاية الله للعبد ومحبته له تتفاوت بحسب الإيمان والتقوى والعمل الصالح فكل ما ازداد إيمان العبد وترقى في درجات الكمال والصلاح وتحلى بالتقوى كان أعظم ولاية، وأقرب من ربه سبحانه وتعالى، هذا مفهوم الولاية في الإسلام على وجه الإجمال. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 219 - 221   (1) رواه البخاري (6502) (2) رواه البخاري (7485) ومسلم (2637) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 227 المبحث الثاني: الولاية الصوفية الشيطانية ولكن في التصوف الشيطاني فإن الولاية لها معنى آخر تماماً في الشكل المضمون والموضوع، فولي الله عند الصوفية الزنادقة من اختاره الله وجذبه إليه، وليس من شرط ذلك أن يكون عند هذا المختار والمجذوب أية مواصفات للصلاح والتقوى إذ الولاية عندهم نوع من الوهب الإلهي دون سبب، وبغير حكمة، ويجعلون الولاية الكسبية هي ولاية العوام والمتنسكين والولاية الحقيقية عندهم هي الولاية الوهبية، يستدلون لذلك بمثل قوله تعالى: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء [البقرة:105] فيقولون: الولاية اختصاص وهذا تلبيس منهم لأن اختصاص الله من يشاء برحمته لا يكون إلا لحكمة وأسباب اقتضت ذلك كما قال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:35] فجعل سبحانه وتعالى تقواه واتخاذ الوسيلة منه هي الطريق الموصل لرحمته فيستحيل أن تكون رحمة الله التي يختص بها من يشاء كائنة دون حكمة لأن الله سبحانه وتعالى يعلم أين يجعل رسالته وأين يضع هدايته كما قال تعالى: اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124] وقال تعالى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:53].فأخبر سبحانه رداً على الكفار الذين احتقروا المؤمنين لفقرهم وقالوا: كيف يرزقهم الله التقوى ونحن أكرم على الله منهم لأنه رزقنا الأموال والأولاد. قال تعالى: أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:53] سبحانه وتعالى إنه أعلم من يوفق لهدايته وهم الذين يحكمون بواجب شكره سبحانه وتعالى ولذلك عبد الرسول ربه حتى أتاه اليقين وهو الموت، وقام من الليل حتى تفطرت قدماه وقيل له: يا رسول الله تفعل هذا وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)) (1) (متفق عليه) .. فالعباد الذين يعلم الله منهم الطاعة والإخلاص والقيام بشكر نعمته هم الذين يوفقهم الله لطاعته ومحبته وولايته.   (1) رواه البخاري (1130) ومسلم (2819) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 228 ولما اعتقد الصوفية الزنادقة أن الولاية قضية وهبية بلا حكمة ولا معقولية جعلوا المجاذيب والمجانين والفسقة والظلمة والملاحدة المشركين من أهل وحدة الوجود، أولياء لله بمجرد أن ظهر على أيديهم بعض خوارق العادات التي ظهر مثلها على الدجال وابن صياد، وأصناف من المشركين وأهل الإلحاد .. فجعلوا الكرامة الشيطانية الإبليسية كالإخبار ببعض المغيبات واحتراف بعض الحيل والشعوذات وإتقانها كزعم الدخول في النيران وضرب الجسم بالسكاكين والسهام واللعب بالعقارب والحيات، وأمثال ذلك من المخاريق والترهات جعلوا أولياء الله هم هؤلاء الذين يدجلون على الناس بمثل هذه الخرافات مع ما هم عليه من مخالفة الإسلام، في الظاهر والباطن فظاهرهم مخالف للشريعة حيث عبدوا الله بالبدع والمظاهر الكاذبة والرياء والسمعة كملبس الخرق الملونة والمرقعات وإظهار الفقر والزهد، وذكر الله بالصياح والهوس والجنون وإقامة مشاعر الشرك عند القبور والمزارات والاستعانة بالأموات، وعبادة المشايخ والذوات، جعلوا من هذه أحوالهم في ظاهرهم أولياء لله، ومن أحوالهم في بواطنهم أشر من ذلك وأمر. فهم من أهل وحدة الوجود الكافرين والزنادقة الملحدين الذين لا يفرقون بين خالق ومخلوق، ورب وعبد، ومن يجعلون النبي محمداً صلى الله عليه وسلم هو علة الأكوان، والمستوي على عرش الرحمن، ومبدع الأرض والسماوات إلى آخر هذا الكفر والهذيان مما يأباه من عنده أدنى إسلام وإيمان ... هذه هي الولاية الصوفية في زعمهم جعلوها لهؤلاء كما جعلوها أيضاً للمجانين والصبيان ولأهل التخاريف والهذيان حتى عدوا في أوليائهم من يأتي الحمارة في وضح النهار، وأمام الأسماع والأبصار وسلكوا في سلك الولاية الشيطانية هذه من يشرب الخمر جهاراً نهاراً، ويزني ويلوط عياناً بياناً، ويزعمون في كل ذلك أن هذا مظاهر غير مراد، وأنه نوع من التخييل للعباد، وأن الولي الصادق لا تضره معصية أبداً، أو أن الأعيان ينقلب له فالخمر التي يشاهدها الناس خمراً ينقلب في بطن الولي لبناً خالصاً، والزانية الفاجرة التي يرى الناس الولي بصحبتها تكون زوجته، ولم يكتفوا بهذا أيضاً في تعريف الولاية عندهم بل قالوا في الفكر الصوفي إن الولي يتصرف في الأكوان ويقول للشيء كن فيكون، وكل ولي عندهم قد وكله الله بتصريف جانب من جوانب الخلق فأربعة أولياء يمسكون العالم من جوانبه الأربعة، ويسمون الأقطاب، وسبعة أولياء آخرون كل منهم في قارة من قارات الأرض السبع ويسمون البدلاء. وعدد آخر من الأولياء في كل إقليم في مصر ثلاثون أو أربعون وفي الشام كذلك، والعراق وهكذا، وكل واحد من هؤلاء قد أوكل إليه التصريف في شيء ما، حتى عدو منهم من صرفه الله في رعاية الكلاب، ومنهم من له التصريف في رعاية الحيات، وفوق هؤلاء الأولياء جميعاً ولي واحد مراد يسمى القطب الأكبر أو الغوث وهو الذي يدبر شأن الملك كله سمواته وأرضه والأولياء جميعاً في بقاع الأرض تحت أمره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 229 فالأرض والسماوات تدار حسب الولاية الصوفية وأما الملائكة جميعاً فإنهم في خدمة هؤلاء الأولياء ينفذون أوامرهم ويخضعون لمشيئتهم .. هذه هي الولاية الصوفية وهي لا تمت من قريب أو بعيد للولاية الإسلامية القرآنية قط .. فالولي في الإسلام عبد هداه الله ووفقه وسار في مرضاة ربه حسب شريعته، وهو يخشى على نفسه دائماً من الكفر والنفاق وسوء العاقبة ولا يعلم هل يقبل الله عمله أو لا .. وأما الولي الصوفي فهو رب كبير أو صغير يتصرف في جانب من جوانب الكون ولا يلتزم بشريعة لأن له شريعته المستقلة، والملائكة تحت مشيئته والسماوات والأرض كالخلخال برجله!! ولا يغرب عنه شيء في السماوات ولا في الأرض، ولا خوف عليه مطلقاً لأنه قد جاءه الأمان، ولا يحزن لشيء مطلقاً لأن بيده التصريف .. هذه هي الولاية الصوفية. والحق أن الذي قرأ شيئا من الفلسفة الإغريقية القديمة يعلم يقيناً أن فكرة الولاية الصوفية هذه منقولة عن هذه الفلسفة فآلهة الإغريق قديماً -كما صورتها الإلياذة والأوديسيا- يتصرفون في الكون ولكل منهم جانب خاص من جوانب العالم، (فمارس) هو إله الحرب، (وكيوبيد) هو إله الحب و (افروديت) هي إلهة الجمال، و (أبوللو) هو رب الأرباب وهكذا .. إن فكرة تعدد الآلهة عند الإغريق وتصرفهم في الكون هي فكرة الولاية الصوفية تماماً حيث يعبث هؤلاء الولاية الصوفيون بمصائر البشر، ويتحكمون في أرزاقهم وأعمالهم، ويتصارعون أيضاً ويتنافسون كما يصنع آلهة الإغريق تماماً .. والآن اصحبني أيها القارئ لأريك نصوص المتصوفة وعباراتهم، وخيالاتهم في وصف ولايتهم الصوفية: أول من ألف كتاباً مستقلاً في الولاية الصوفية هو محمد بن علي بن الحسن الترمذي، الذي يسمونه الحكيم، وهو غير الترمذي صاحب (السنن) المشهورة بسنن الترمذي، وقد نشأ (الحكيم) هذا في أواخر القرن الثالث الهجري، وهو مجهول سنة الولادة والوفاة. وكتابه الذي أشرنا إليه يسمى (خاتم الأولياء) (راجع الفصل بختم الولاية الصوفية) .. والمهم هنا أن الترمذي هذا رسم الملامح الخيالية الزندقية للولاية الصوفية ومن أجل هذا الكتاب شهد علماء زمانه بالزندقة والكفر ونفوه من بلده (ترمذ) كما أخبر بذلك صاحب (الطبقات الصوفية) أبو عبدالرحمن السلمي، وادعى الترمذي هذا في الولاية ما تابعه بعد ذلك عامة الصوفية عليه من أن الولاية وهب ومنحة إلهية لا كسب وموجدات، وأن الولي يعلم علم البدء وعلم المقادير وعلم الحروف (ختم الولاية ص362). ووضع الترمذي هذا مراتب للولاية، فجعل منهم المجاذيب وأهل العته والجنون لأن الله جذبهم إليه وأسقط عنهم التكاليف، وأن هناك أربعين من أوليائهم الذين يتصرفون في شيءون العالم، وأن هناك القطب الأكبر والخاتم للولاية وأن الأولياء هؤلاء محروسون عند الله فلا يلقى في صدورهم إلا الوحي الرحماني الملائكي فقط!! وجعل هؤلاء الأولياء منهم من بلغ ثلث النبوة، ومنهم من بلغ نصفها ومنهم من زاد على ذلك وهو ختم الأولياء (ختم الولاية ص347). ومن هؤلاء الأولياء تظهر لهم الآيات مثل طي الأرض، والمشي على الماء ومحادثة الخضر (ص361). وزعم كذلك أن قلوب هؤلاء الأولياء هي كتاب الله يطبع فيه ما يشاء!! وأنهم كالأنبياء لهم من الله عقد الولاية ولذلك كشف عن قلوبهم الغطاء فيرون ملك الله في كل أجزائه في العالم العلوي والسفلي، وزعم أن هؤلاء الأولياء يعرفون منازلهم من الجنة، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ويقطعون بذلك وأن الكرامات التي تظهر على أيديهم دليل على صدقهم وإيمانهم .. ، يقول الترمذي: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 230 "ما قولك في مُحَدِّث، بشر بالفوز والنجاة فقال: رب اجعل لي آية تحقق لي ذلك الخبر الذي جاءني لينقطع الشك والاعتراض. فقال (أي الله): آتيك أن أطوي لك الأرض حتى تبلغ بيتي الحرام في ثلاث خطوات، وأجعل لك البحر كالأرض تمشي عليه كيف شئت وأجعل لك التراب والجو في يديك ذهباً، ففعل هذا هل ينبغي له أن يطمئن إلى هذه البشرى بعد ظهور هذه الآية أولاً" أ. هـ منه بلفظه (ختم الولاية ص401). وهذا الكلام من الحكيم الترمذي تلبيس وتدليس كله .. من هذا الذي يخاطبه الله بكلمة بعد محمد صلى الله عليه وسلم؟! ولا نبي بعد رسول الله، ومن هذا الذي يعطيه من هذه الكرامات المزعومة ما لم يعط رسله وأنبياءه .. فإن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ما سار على الماء، ولا طار في الهواء، ولا جعلت له الجبال ذهباً. بل جاع هو وأصحابه وربط الحجر على بطنه أياماً وسار على قدميه في جيوشه حتى تقطعت أقدامهم وما كان لهم إلا الخرق يلفونها به حتى لقد سمو غزوة من غزواتهم بغزوة ذات الرقاع لأنهم مزقوا فيها بعض ملابسهم ليلفوا أرجلهم ولقد كانوا أفضل الناس وأفضل الأمة، أيأتي بعد ذلك هؤلاء البطالون المتأكلون الآكلون أموال الناس بالباطل المعتقدون عقائد الوثنية والشرك ليعطيهم الله الولاية العظمى يمكنهم من الطيران في الهواء، والسير على الماء، وقلب الأحجار فضة وذهباً لا شك أن الذي يزعم شيئا من ذلك قد لبس عليه الشيطان وأدى له بعض الخدمات كأن نقله مرة من مكان إلى مكان بسرعة الشيطان، وسرق له بعض الذهب من مكان وتسمى هذه الأمثلة كرامة رحمانية وما هي إلا حيل شيطانية يلبس بها الشيطان على أوليائه. ولا غرو أن يدعي الترمذي هذا ما يدعي فأنه قد ذكر على نفسه فيما سماه (بدو شأن الترمذي) أن زوجته قد تنبأت له، وزعمت له أنها رأت في شأنه عشرات من الرؤى منها أنها رأت أن سطح بيتها وكانت نائمة عليه قد هبط إلى الأرض وأنها وجدت داخل بيتها رجلين قاعدين في هيبة وأنهما قالا لها: قولي لزوجك: أنت وتد من أوتاد الأرض تمسك طائفة من الناس!! (بدو شأن الترمذي مطبوع مع ختم الولاية ص25) وأن هذين الرجلين الذين بشراها هما محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وزوجته هذه أيضاً تنبأت له بأنها كانت نائمة مع زوجها في فراش واحد وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فدخل فراشهما معهما!! (بدو شأن الترمذي مطبوع مع ختم الولاية ص38). ولا يخفى أن أمثال هذه الرؤيا والتنبؤات رؤى شيطانية حتماً فليس هناك شيء يسمى أوتاداً تمسك الأرض لأن الله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولا [فاطر:41].وإذا كان الله هو الذي يمسك السماوات والأرض فمعنى ذلك أنه ليس في حاجة إلى الترمذي وغيره ليكون وتداً يمسك جانباً من الأرض!! نعم جعل الله الجبال أوتاداً للأرض ولم يجعل الترمذي الذي ينام ليله شاخراً وتداً من أوتاد الأرض وأما الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول ((من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي)) (1) يستحيل أن يأتي ليدخل في فراش رجل مع زوجته ولم يدخل مع زوجة الترمذي في فراشها وهي مع زوجها إلا الشيطان حتماً الذي يعلم من هم أولياؤه. واسمع إلى الترمذي يحكي عن خرافات زوجته فيقول: "ثم رأت رؤيا أخرى وهي بالفارسية وفي آخرها قالت: فانتبهت فوقع عليها حرص الاستماع إلى الموعظة وطلب الحقوق من نفسها. فأول ما ابتدى لها من تحقيق رؤياها أنها كانت في البستان قاعدة وذلك لثلاث بقين من ذي القعدة، بعد أن رأت هذه الرؤيا، بنحو من خمسة أيام (ستة) إذ وقع على قلبها: يا نور كل شيء وهداه أنت الذي فلق الظلمات نوره.   (1) رواه البخاري (6994) ومسلم (2266) واللفظ له الجزء: 7 ¦ الصفحة: 231 قالت فوجدت كأن شيئا دخل صدري فدار حول قلبي فأحاط به وامتلأ الصدر إلى الحلق، حتى صرت شبه المخنوق من امتلائه، وله حرارة وحرقات على القلب فتزينت الأشياء كلها لي. فما وقع بصري على أرض ولا سماء وخلق من الخلق إلا رأيته بخلاف ما كنت أراه من الزينة والبهجة والحلاوة. ثم وقع على قلبي كلمة بالفارسية: (نكيني من ترا داذم)، فامتلأت فرحاً وطيب نفس ونشاطاً فأخبرتني بذلك فلما كان اليوم الثاني قالت: وقع على قلبي أنا أعطيناك ثلاثة أشياء، ووقع الكلام بالفارسية: (سه جيزترا داذم جلال من (و) عظمة من وبهاء من (ومعنى هذه الكلمات بالعربية: أي أعطيناك ثلاثة أشياء هي جلالي وعظمتي وقدرتي!!) وأضاء لي من فوقي فدام هكذا فوق رأسي في الهواء كما كنت رأيته في المنام فترى في ذلك الضوء علم الجلال وعلم العظمة وعلم البهاء .. فأما الجلال فإني رأيت كأن البيت يتحرك (ايذون جيزي همي بيود، وجمش خلق همه ازوي، وعظمة بري (و) همه جيزها ازوي، وبها (و) سرا (ي) همه جيزها همه جيزها (ازوي نخست فر (أي أعطيناك علم الأولين) سمانها وبذم او كنده .. تفروذ). ثم وقع على قلبها، اليوم الثالث (تراداذم علم اولين وآخرين) فدام بها هذا حتى نطقت بعلم أسماء الله فكان يفتح لها في كل يوم اسم الأصل: ويبدو، ذلك الضوء على قلبها وينكشف لها باطن ذلك. حتى كان يوم الجمعة، في أيام العشرة، حضرت المجلس، فذكرت أنه وقع عليها اسم (اللطيف) ". فانظر كيف تنبأت زوجة الترمذي الفارسية وكانت الرؤى تنزل عليها بالفارسية أيضاً وأنها أخبرت أنها أخذت من الله الجلال والعظمة والقدر!! وأنها كذلك نالت علم الأولين والآخرين، وهكذا لم يكتف الترمذي بأن يكون هو الوتد بل رأس الأوتاد الذين زعم أنهم أربعون بل زعم أخيراً أنهم خاتم الأولياء جميعاً كما كان محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء ولم يكتف بكل ذلك إلا أن جعل زوجته متنبئة كذلك وأنها حصلت على علم الأولين والآخرين وأخذت ثلاث صفات من صفات الله تعالى وهي الجلالة والعظمة والقدر!؟ هذا هو الزعيم الأول والرائد الأول لفكرة الولاية الصوفية، وفكرة ختم الولاية. والعجيب أنه كتب كتابه هذا نحو سنة 269هـ حيث ذكر أن زوجته رأت بعض هذه الرؤى يوم السبت 20 من ذي القعدة سنة 269هـ .. وبذلك يكون الترمذي أول من وضع لبنات الفكر الصوفي في قضية الولاية المزعومة .. ومن أجل هذا الكتاب رماه علماء بلده بالكفر والزندقة واستطاعوا طرده من ترمذ ولكنه عاد إليها بعد ذلك تحت جناح بعض الظالمين .. وقد أفضنا في بيان هذه القضية من كتاب الترمذي لأنه أول من سن هذا الشر المستطير الذي جاء بعده، وكتابه هو أول كتاب فيما أظن قد وضع الأسس الخبيثة هذه لفكرة الولاية الصوفية. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 221 - 228 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 232 المبحث الثالث: مراتب الولاية عند الصوفية وقد ذهب المتصوفة إلى تقسيم مراتب الولاية عندهم فمنهم من قالوا إنهم يتقسمون إلى الغوث وهو أكبر الأولياء جميعاً وهو واحد في كل زمان وتحته الأوتاد الأربعة وكل واحد منهم في ركن من أركان العالم يقوم به ويحفظه والأقطاب السبعة وكل منهم في إقليم من أقاليم الأرض السبعة أي في قارة من القارات السبع، (والأبدال) وزعموا أنهم أربعون وهم يعيشون في العالم، وكلما هلك واحد منهم أبدله الله بغيره لحفظ الكون!! (والنجباء) وهم ثلاثمائة كل منهم يتولى شأناً من شيءون الخلق .. ولا يشك مسلم يعلم شيئا من الكتاب والسنة ولا عالم قد اطلع على علوم الكتاب والسنة أن ما قاله الصوفية في هذا الصدد هراء وكذب لا أساس له من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولكن الصوفية أرادوا أن يؤسسوا لهم دولة في الباطن تحكم وتنفذ وتتحكم في شيءون الناس فبنوا هذه الدولة العجيبة الباطنية التي يتحكم فيها هؤلاء الذين سموهم بالغوث والأقطاب والأبدال والنجباء والأوتاد .. ويتعجب الإنسان وهو يطالع الفكر الصوفي في هذا الصدد كيف أن المتصوفة أحكموا خطتهم للسيطرة على عقول الناس، ولإدخالهم إلى دينهم العجب العجيب حيث أوهموهم أن التصريف في الأرض والسماء والخلق أجمعين إنما هو لدولتهم الخفية التي يتحكم فيها أولياء الصوفية .. هؤلاء الأولياء الذين قد يكونون أحياناً أميين لا يعرفون قراءة ولا كتابة وأحياناً مجاذيب يصرخون ويبولون في الطرقات وأحياناً زناة وشاربي خمور قد رفعت عنهم التكاليف الظاهرة وأن منهم من يعيش طيلة عمره قذراً وسخاً لا يتطهر بماء قط أو صابون ليوفر الماء (انظر) للفقراء!! ومع ذلك فهؤلاء الأولياء يعلمون الغيب كله ولا يخفى عليهم شيء في الأرض ولا في السماء ولا يعجزهم شيء ولا يقف أمام إرادتهم أحد أبداً .. وتعال معي في جولة مع خرافات القوم وترهاتهم لتعلم أي عالم يعيش فيه رجال التصوف. وقد كفانا عبد الوهاب الشعراني مئونة تجميع أقوالهم في مراتب الولاية حيث جمع أقوال ابن عربي في الفتوحات ولنبدأ أولاً بمفهوم القطب الغوث أو القطب الأكبر عند الصوفية: يقول الشعراني: "وأما القطب فقد ذكر الشيخ في الباب الخامس وخمسين ومائتين أنه لا يتمكن القطب من أن يقوم في القطابة إلا بعد أن يحصل معاني الحروف التي في أوائل السور المقطعة مثل ألم، والمص، ونحوهما فإذا أوقفه الله تعالى على حقائقها ومعانيها تعينت له الخلافة وكان أهلاً لها. (فإن قلت) فما علامة القطب فإن جماعة في عصرنا ادعوا القطبية وليس معنا علم برد دعواهم. (فالجواب) قد ذكر الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه أن للقطب خمس عشرة علامة: أن يمد بمدد العصمة والرحمة والخلافة والنيابة ومدد حملة العرش العظيم ويكشف له عن حقيقة الذات وإحاطة الصفات ويكرم بكرامة الحلم والفضل بين الموجودين وانفصال الأول عن الأول وما انفصل عنه إلى منتهاه وما ثبت فيه حكم ما قبل وما بعد وحكم من لا قبل له ولا بعد، وعلم الإحاطة بكل علم ومعلوم ما بدا من السر الأول إلى منتهاه ثم يعود إليه .. " انتهي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 233 وقال في الفتوحات في الباب السبعين ومائتين: "إن اسم القطب في كل زمان عبد الله وعبد الجامع المنعوت بالتخلق والتحقق بمعاني جميع الأسماء الإلهية (أي أن يتصف بما يتصف به الله من السمع والبصر والقدرة .. الخ)، بحكم الخلافة وهو مرآة الحق تعالى ومجلى النعوت المقدسة ومحل المظاهر الإلهية (يعني ظهور صفات الله فيه)، وصاحب الوقت (أي المتصرف في الخلق)، وعين الزمان وصاحب علم سر القدر وله علم دهر الدهور (فهو يعلم ما مضى وما يأتي)، ومن شأنه أن يكون الغالب عليه الخفاء لأنه محفوظ في خزائن الغيرة ملتحف بأردية الصون لا يعتريه شبهة في دينه قط ولا يخطر له خاطر يناقض مقامه، كثير النكاح وراغب فيه، محب للنساء، يوفي الطبيعة حقها على الحد المشروع له، ويوفي الروحانية حقها على الحد الإلهي، يضع الموازين ويتصرف على المقدار المعين الموقت له لا يحكم عليه وقت إنما هو لله وحده حاله دائماً العبودية والافتقار، يقبح القبيح ويحسن الحسن، يحب الجمال المقيد في الزينة والأشخاص، تأتيه الأرواح في أحسن الصور يذوب عشقاً يغار لله عز وجل، ويغضب له تعالى، له الإطلاق في المظاهر من غير تقييد، لا تظهر روحانيته إلا من خاف حجاب الشهادة والغيب، لا يرى من الأشياء إلا محل نظر الحق فيها، يضع الأسباب ويقيمها، ويدل عليها، ويجري بحكمها، ينزل إليها حتى يحكم عليه، ويؤثر فيه رياسة على أحد من الخلق بوجه من الوجوه مصاحب لهذا الحال دائماً إن كان صاحب دنيا وثروة تصرف فيها تصرف عبد في مال سيد كريم وإن لم يكن بيده دنيا وكان على ما يفتح الله تعالى له به لم تستشرف له نفس بل يقصد بنفسه عند الحاجة بيت صديق ممن يعرفه يعرض عليه ما تحتاج إليه طبيعته كالشافع لها عنده فيتناول لها منه قدر ما تحتاج إليه ثم ينصرف لا يجلس عن حاجته إلا لضرورة فإن لم يجد حاجته لجأ إلى الله تعالى في حاجة طبيعة لأنه مسؤول عنها ومتول عليها ثم ينتظر الإجابة من الله فيما سأل فإن شاء الله تعالى أعطاه ما سأل عاجلاً أو آجلاً فمرتبته الإلحاح في الدعاء والشفاعة في حق طبيعته بخلاف أصحاب الأحوال فإن الأشياء كلها تتكون عن هممهم لأن الله تعالى عجل لهم نصيباً من أحوالهم في الجنة فهم ربانيون والقطب منزه عن الحال ثابت في العلم فإن أطلعه الله على ما يكون أخبر بذلك على وجه الافتقار لله لا على وجه الافتخار لا تطوى له أرض ولا يمشي في هواء ولا على ماء ولا يأكل من غير سبب ولا يطرأ عليه شيء من خرق العوائد إلا في النادر لا ما يراه الحق تعالى فيفعله بإذن الله من غير أن يكون ذلك مطلوباً له وكذلك من شأنه أن يجوع اضطراراً لا اختياراً ويصبر على النكاح كذلك لعدم الطول يعلم من تجلي النكاح ما يحرضه على طلبه والتعشق به لا يتحقق قط بالعبودية في شيء أكثر مما يتحقق به في النكاح لا يرغب في النكاح للنسل وإنما يرغب ففيه لمجرد الشهوة وإحضار التناسل في نفسه لأمر مشروع فنكاحه لمجرد اللذة كنكاح أهل الجنة. وقد غاب عن هذه الحقيقة أكثر العارفين لما فيه من شهود الضعف وقهر اللذة المغيبة له عن إحساسه فهو قهر لذيذ وذلك من خصائص الأنبياء ولعلو مراقي هذا المقام جهله أكثر الأولياء وجعلوا النكاح شهوة حيوانية ونزهوا أنفسهم عن الإكثار منها" (اليواقيت والجواهر ج2 ص79) أ. هـ. فانظر كيف لبس على الناس ووصف الولي المزعوم بصفات الربوبية الكاملة ثم راح يصفه بصفات العبودية أيضاً تلبيساً على الناس. ويستطرد الشعراني ناقلاً عن ابن عربي وصفه للغوث فيقول: "واعلم أن من مقام القطب أن يتلقى أنفاسه إذا دخلت وإذا خرجت بأحسن الأدب لأنها رسل الله إليه فترجع منه إلى ربها شاكرة له لا يتكلف لذلك (وهذا كذب محض فالتنفس عملية لا إرادية شأنها واحد في كل إنسان وليس هناك نفس مسبح ونفس غير مسبح إلا أنه يعتقد المؤمن أن حياته لا تقوم إلا بالله فيؤجر على ذلك ويكون عائداً لله من هذا الوجه). وأطال الشيخ في ذلك ثم قال فإذن القطب هو الرجل الكامل الذي حصل أربعة الدنانير منها خمسة وعشرون قيراطاً وبها توزن الرجال والأربعة هم الرسل والأنبياء والأولياء والمؤمنون فهو وارثهم كلهم رضي الله عنه. وقال الشيخ في الباب الحادي والخمسين وثلاثمائة: من شأن القطب الوقوف دائماً خلف الحجاب الذي بينه وبين الحق جل وعلا فلا يرتفع حجابه حتى يموت فإن مات لقي الله عز وجل فهو كالحجاب الذي ينفذ أوامر الملك وليس له من الله تعالى إلا صفة الخطاب لا الشهود" (عاد إلى التلبيس مرة ثانية فزعم أن الولي يتصرف في الخلق بأمر الله). المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 229 - 232 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 234 المبحث الرابع: القطب الغوث واحد في الزمان فقط ويستطرد أيضاً مبيناً أن القطب الأكبر أو ما يسمونه بالغوث واحد في كل زمان. فيقول: "قال الشيخ في الباب الخامس والخمسين ومائتين: ومن خصائص القطب أن يختلي بالله تعالى وحده ولا تكون هذه المرتبة لغيره من الأولياء أبداً ثم إذا مات القطب الغوث انفرد تعالى بتلك الخلوة لقطب آخر لا ينفرد قط بالخلوة لشخصين في زمان واحد أبداً. وهذه الخلوة من علوم الأسرار. وأما ما ورد في الآخرة من أن الحق تعالى يخلو بعبده ويعاتبه فذلك من باب انفراد العبد بالحق تعالى لا من باب انفراد الحق بالعبد فافهم واكتم". انتهي (اليواقيت والجواهر). وحتى لا يقع المتصوفة في الأشكال المعروفة وهو أن كان أقطاب التصوف في عهد الخلافة الراشدة لذلك بادر ابن عربي للقول أن أبا بكر وعمر كانوا أقطاباً بالمعنى الصوفي .. ونقول حاشا الصحابة أن يدخلوا في هذا الزور والبهتان. يقول ابن عربي: "ثم اعلم أنه لما كان نصب الإمام واجباً لإقامة الدين وجب أن يكون واحداً لئلا يقع التنازع والتضاد والفساد فحكم هذا الإمام في الوجود حكم القطب. قال: وقد يكون من ظهر الأئمة بالسيف أيضاً قطب الوقت كأبي بكر وعمر في وقته، وقد لا يكون قطب الوقت فتكون الخلافة لقطب الوقت الذي لا يكون إلا بصفة العدل، ويكون هذا الخليفة الظاهر من جملة نواب القطب في الباطن من حيث لا يشعر فإن الجور والعدل يقع من أئمة الظاهر ولا يكون القطب إلا عادلاً. واعلم أن القطبية كما أنها قد تكون لولاة الأمور كذلك قد تكون في الأئمة المجتهدين من الأربعة وغيرهم بل هي فيهم أظهر ويكون تظاهرهم بالاشتغال بالعلم الكسبي حجاباً عليهم لكون القطب من شأنه الخفاء رضي الله عنهم أجمعين" (اليواقيت والجواهر ج2 ص80). وهكذا يجعل ابن عربي بعض الخلفاء أقطاباً وبعض الفقهاء كذلك. ولقد من ابن عربي على الإمام الشافعي فأعطاه رتبة (الوتد) في مملكته الصوفية، أي أنه كان يسيطر على ربع العالم. وأما الإمام أحمد فأن ابن عربي لم يمن عليه بشيء من هذه الرتب الصوفية واكتفى بأن جعله مجرد (صديق)!! وهي منزلة العامة عندهم ممن يؤمن بالخرافات الصوفية. يقول الشعراني: "قال الشيخ محيي الدين: وقد اجتمعت بالخضر عليه السلام وسألته عن مقام الإمام الشافعي فقال: كان من الأوتاد الأربعة فسألته عن مقام الإمام أحمد فقال: هو صديق وأطال في ذلك ثم قال في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [النساء:59] المراد بأولي الأمر الأقطاب والخلفاء والولاة ولكن فيما لا يخالف شرعاً مأموراً به وذلك هو المباح الذي لا أجر فيه ولا وزر فإن الواجب والمندوب والحرام والمكروه من طاعة الله ورسوله فما بقي لأولي الأمر إلا المباح فإذا أمرك الإمام الذي بايعته على السمع والطاعة بمباح من المباحات وجب عليك طاعته في ذلك وحرمت عليك مخالفته وصار حكم الإباحة منه بأمر هذا الإمام الذي بايعته" أ. هـ. ولا شك أن الإمام أحمد لم يكن ممن يؤمن بهذه الخرافات بل قال لمن سأله عن كتب الحارث المحاسبي هذه كتب بدع وضلالات ولكن الصوفية لا يستطيعون أن يسبوا أحد الأئمة الأربعة المتبعين وذلك لمنزلة هؤلاء الأئمة من قلوب الناس. والمهم أن الصوفية قد بنوا لهم دولة في الباطن على هذا النحو الذي أسلفناه .. أيضاً لأجل التلبيس على الناس وتمريغ عقولهم في الأوحال والإلقاء بهم بعيداً في مهاوي الضلال زعم ابن عربي أيضاً أن الأوتاد الأربعة يكونون على قلوب الرسل الذين زعم أنهم ما زالوا أحياء، وهم: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 235 إدريس، وإلياس، وعيسى، والخضر، وأن هؤلاء جميعاً يرجعون في الأخذ من القطب الأكبر (الغوث) الذي هو واحد في الأرض فقط وأنه إذا مات أقام الله غيره. فهؤلاء الأولياء الأربعة (الأوتاد) الذين طبعوا على قلوب الأنبياء الأربعة الأحياء يرجعون في أحكامهم للقطب الغوث .. وكل هذه الخرافات والخزعبلات قد عرفها ابن عربي عن طريق الكشف الخاص له والعلم اللدني ولذلك سماه المتصوفة بالشيخ الأكبر والكبريت الأحمر!!. يقول الشعراني عن شيخه ابن عربي في بيان هذه الخرافات: " (فإن قلت) فالمراد بقولهم القطب لا يموت: (فالجواب) كما قال الشيخ في الباب الثالث والسبعين من الفتوحات: أن المراد به من أن العالم لا يخلو زماناً واحداً من قطب يكون فيه كما هو في الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولذلك أبقى الله تعالى من الرسل الأحياء بأجسادهم في الدنيا أربعة: ثلاثة مشرعون، وهم إدريس وإلياس وعيسى، وواحد حامل العلم اللدني هو الخضر عليه السلام. وإيضاح ذلك أن الدين الحنيف له أربعة أركان كأركان البيت وهم الرسل والأنبياء والأولياء والمؤمنون، والرسالة هي الركن الجامع للبيت وأركانه، فلا يخلوا زمان من رسول يكون فيه، وذلك هو القطب الذي هو محل النظر الحق سبحانه وتعالى من العالم كما يليق بجلاله. ومن هذا القطب يتفرع جميع الأمداد الإلهية على جميع العالم العلوي والسفلي. قال الشيخ محيي الدين: ومن شرطه أن يكون ذا جسم طبيعي وروح ويكون موجوداً في هذه الدار الدنيا بجسده وحقيقته فلا بد أن يكون موجوداً في هذه الدار بجسده وروحه من عهد آدم إلى يوم القيامة ولما كان الأمر على ما ذكرناه ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما قرر الدين الذي لا ينسخ والشرع الذي لا يتبدل دخلت الرسل كلها في شريعته ليقوموا بها فلا تخلو الأرض من رسول حي جسمه إذ هو قطب العالم الإنساني ولو كانوا في العدد ألف رسول فإن المقصود من هؤلاء هو الواحد؛ فإدريس في السماء الرابعة، وعيسى في السماء الثانية، وإلياس والخضر في الأرض. ومعلوم أن السماوات السبع من عالم الدنيا لكونها تبقى بقاء الدنيا بفنائها فهي جزء من دار الدنيا بخلاف الفلك الأطلس فإنه معدود من الآخرة في يوم القيامة تبدل الأرض غير الأرض والسماوات يعني يبدلهم بغيرهن، كما تبدل هذه النشأة الترابية منا أيها السعداء بنشأة أخرى أرقى وأصفى وألطف فهي نشأة طبيعية جسمية لا يبول أهلها ولا يتغوطون كما وردت بذلك الأخبار. وقد أبقى الله في الأرض إلياس والخضر وكذلك عيسى إذا نزل وهم من المرسلين؛ فهم القائمون في الأرض بالدين الحنيف فما زال المرسلون لا يزولون في هذه الدار لكن من باطنية شرع محمد صلى الله عليه وسلم ولكن أكثر الناس لا يعلمون. فالقطب هو الواحد من عيسى وإدريس وإلياس والخضر وهو أحد أركان بيت الدين وهو كركن الحجر الأسود واثنان منهم هما الإمامان وأربعتهم هم الأوتاد فبالواحد يحفظ الله الإيمان وبالثاني يحفظ الله الولاية وبالثالث يحفظ الله النبوة وبالرابع يحفظ الله الرسالة وبالمجموع يحفظ الله الدين الحنيف فالقطب من هؤلاء لا بعينه. قال الشيخ: ولكل واحد من هؤلاء الأربعة من هذه الأمة من كل زمان شخص على قلبه نائباً عنه مع وجودهم وأكثر الأولياء لا يعرفون القطب والإمامين والأوتاد ولا النواب ولا هؤلاء المرسلين الذين ذكرناهم، ولها يتطاول كل أحد لنيل هذه المقامات ثم إذا خصوا بها عرفوا عند ذلك أنهم نواب لذلك القطب فاعرف هذه النكتة فإنك لا تراها في كلام أحد غيرنا ولولا ما ألقي في سري من إظهارها ما أظهرتها" (اليواقيت والجواهر ج2 ص81) انتهي منه بلفظه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 236 ولعلك أيها القارئ بعد هذه الجولة الخرافية الصوفية تريد أن تعرف أين يسكن القطب ويجيبك ابن عربي قائلاً: "فإن قيل هل يكون محل إقامة القطب بمكة دائماً كما هو مشهور. (فالجواب) هو بجسمه حيث شاء الله لا يتقيد بالمكث في مكان بخصوصه ومن شأنه الخفاء فتارة يكون حداداً وتارة تاجراً وتارة يبيع الفول، ونحو ذلك والله أعلم" (اليواقيت والجواهر ج2 ص81) أ. هـ. ولعلك الآن أيها القارئ تريد أن تعرف كيفية تولي القطب منصبه الباطني هذا وهل تكون له مبايعة كما يبايع الأمراء والخلفاء .. وقد تفضل ابن عربي أيضاً فأجاب عن هذا التساؤل بقوله: "فإن قلت: فهل يحتاج القطب في توليته إلى مبايعة في دولة الباطن كما هي الخلافة في الظاهر؟ (فالجواب) نعم كما قاله الشيخ في الباب السادس والثلاثين وثلاثمائة وعبارته: (اعلم أن الحق تعالى لا يولي قط عبداً مرتبة القطابة إلا وينصب له سرير في حضرة المثال يقعده عليه ينبي صورة ذلك المكان عن صورة المكانة كما ينبي صورة الاستواء على العرش عن صورة إحاطته تعالى علماً بكل شيء ولله المثل الأعلى فإذا نصب له ذلك السرير فلا بد أن يخلع عليه جميع الأسماء التي يطلبها العالم وتطلبه فيظهر بها حللاً وزينة متوجاً مسوراً من ملجا لتعمه الزينة علواً وسفلاً ووسطاً وظاهراً وباطناً فإذا قعد عليه وقعد بصورة الخلافة وأمر الله العالم ببيعته على السمع والطاعة في المنشط والمكره دخل في تلك البيعة كل مأمور من أدنى وأعلى إلا العالون المهيمنون في جلال الله عز وجل العابدون لله تعالى بالذات لا بأمر إلهي ظاهر على لسان رسول. واعلم أن أول من يدخل عليه الملأ الأعلى على مراتبهم الأول فيأخذون يده على السمع والطاعة ولا يتقيدون بمنشط ولا مكره لأنهم لا يعرفون هاتين الصفتين فيهم إذ لا يعرف شيء إلا بضده فهم في منشط لا يعرفون لها طعماً لعدم ذوقهم للمكره وما منهم روح يدخل عليه للمبايعة إلا يسأله عن مسألة من العلم الإلهي فيقول له يا هذا أنت القائل كذا وكذا فيقول له نعم فيقول له في هذه المسألة وجهان يتعلقان بالعلم بالله تعالى أحدهما أعلى من الذي كان عند ذلك الشخص فيستفيد منه كل من بايعه علماً ليس عنده ثم يخرج. قال الشيخ: وقد ذكرنا جميع سؤالات القطابة في جزء مستقل ما سبقنا أحد إليه وليست هذه المسائل معينة يتحرر السؤال بها لكل قطب وإنما يخطر الله تعالى ذلك لمن يسأل القطب حال السؤال بعد أن جرى ذلك على خاطره فيما مضى من الزمان. قال الشيخ وأول من يبايعه العقل الأول ثم النفس ثم المقدمون من عمار السماوات والأرض من الملائكة المسخرة ثم الأرواح المدبرة للهياكل التي فارقت أجسامها بالموت ثم الجن ثم المولدات ثم سائر ما سبح الله تعالى من مكان ومتمكن ومحل حال فيه إلا العالون من الملائكة كما مر، وكذلك الأفراد من البشر لا يدخلون تحت دائرة القطب وماله فيهم تصرف إذ هم كمل مثله مؤهلون لما ناله هذا الشخص من القطبية لكن لما كان الأمر يقتضي أن لا يكون في الزمان إلا واحد تقوم بهذا الأمر تعين ذلك الواحد لكن لا بأولية وإنما هو يسبق العلم فيه بأن يكون هو الوالى وفي الأفراد من يكون أكبر منه في العلم بالله تعالى وحده" انتهي بلفظه (اليواقيت والجواهر ج2 ص79،80). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 237 فانظر أيها المسلم هذا التهريج والتخريف والخبط الذي يريد هؤلاء الأفاكون جذب الناس إليه وإيقاع الناس فيه، وأحمد الله على نعمة العقل التي أعطاك إياها ونعمة الإيمان والإسلام إن كنت من أهله، وانظر كيف يتلاعب الشيطان بهؤلاء المتهوكين الفارغين إلا من الخرافات والخزعبلات والزندقة والكفر الذي ليس له مثل في الأرض. والعجيب أن ابن عربي لا يقف خياله الزندقي عند حد مطلقاً فقد ذهب ليزعم أيضاً أنه عرف أسماء الأقطاب منذ آدم وحتى بعثة رسولنا صلى الله عليه وسلم حيث ينقل عنه الشعراني أنه قال في الفتوحات ما نصه: "فإن قلت فهل كان قبل محمد صلى الله عليه وسلم أقطاب وكم عددهم (فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الرابع عشر من الفتوحات: (إن الأقطاب لا يخلو عصر منهم قال وجملة الأقطاب المكملين من الأمم السالفة من عهد آدم إلى محمد عليهما الصلاة والسلام خمسة وعشرون قطباً أشهدنيهم الحق تعالى في مشهد قدس في حضرة برزخية وأنا بمدينة قرطبة وهم: الفرق ومداوي الكلوم والبكاء والمرتفع والشفار والماضي والماحق والعاقب والمنحور وسجر الماء وعنصر الحياة والشريد والصائغ والمراجع والطيار والسالم والخليفة والمقسوم والحي والراقي والواسع والبحر والمنصف والهادي الأصلح والباقي فهؤلاء هم الأقطاب الذين سموا لنا من آدم إلى محمد عليهما الصلاة والسلام وأما القطب الواحد الممد لجميع الأنبياء والرسل من حيث النشء الإنساني إلى يوم القيامة فهو روح محمد صلى الله عليه وسلم (اليواقيت والجواهر ج2 ص82) أ. هـ. فانظر كيف اكتشف ابن عربي أسماء الأقطاب المزعومين منذ آدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكيف راح يزعم أن هؤلاء جميعاً الذين افترى أسماءهم يستمدون علومهم من روح الرسول التي زعم أنها هي المستوي على العرش الرحماني كما مر تفصيل ذلك في الحقيقة المحمدية. وذلك أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو أول موجود في زعمهم وهو الحق الذي خلق العرش من نوره والكرسي والسماوات والأرض والجن صلى الله عليه وسلم هو المستوي على عرش الرحمن تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً .. وهكذا نجد الصوفية قلبوا كل موازين الشريعة وغيروا جميع عقائد الدين وابتدعوا ديناً جديداً بعيداً عن الإسلام الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بعد المشرق عن المغرب. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 233 - 239 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 238 المبحث الخامس: قطب سنة 593هـ من مدينة فاس بالمغرب ويستطرد ابن عربي في تخريفاته وكذبه فيزعم أن لكل إقليم بلدة وقرية قطباً صغيراً آخر يحفظ هذه المدينة!! وأنه التقى بالقطب الأكبر في المغرب في مدينة فاس وأنه كان مشلول اليد: يقول الشعراني: "قال الشيخ محيي الدين في الباب الثاني والستين وأربعمائة: واعلم أن لكل بلد أو قرية أو إقليم قطباً غير الغوث يحفظ الله تعالى تلك الجهة سواء أكان أهلها مؤمنين أو كفاراً وكذلك القول في الزهاد والعباد والمتوكلين وغيرهم لا بد لكل صنف منهم من قطب يكون مدارهم عليه. قال الشيخ: قد اجتمعت بقطب المتوكلين فرأيت مقام المتوكل يدور عليه دوران الرحى حين تدور على قطبها وهو عبدالله بن الأستاذ ببلاد الأندلس صحبته زماناً طويلاً وكذلك اجتمعت بقطب الزمان سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة بمدينة فاس وكان أشل اليد فتكلمت على مقام القطبية في مجلس كان فيه فأشار علي أن أستره عن الحاضرين ففعلت" (اليواقيت والجواهر ج2 ص83) أ. هـ. وهكذا تتم السيطرة الباطنية المزعومة من هؤلاء الأولياء على كل مدينة وقرية من قرى العالم، وهكذا يحكم الصوفية شباكهم ويصطادون العقول المريضة والضعيفة والتي سيقتلها الخوف عندما تعلم أن الدولة الباطنية قد أحكمت سيطرتها على العالم وأنه ليس هناك من قرية ولا مدينة إلا فيها حاكم باطني يحكم أو قالوا يحفظ هذه المدينة والقرية، وقد أعطاه الله في زعمهم التصريف في شيءون عبادها .. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 239، 240 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 239 المبحث السادس: وظيفة القطب ولعلك تريد أن تعرف الوظيفة المناطة بكل هؤلاء الذين توزعوا في الأرض وتصرفوا في حياة الخلائق وحفظ الله بهم -في زعم الصوفية- الوجود وكيف تورث هذه الولاية: يقول الشعراني عن شيخه ابن عربي: "وقال في الباب الثالث والثمانين وثلاثمائة: اعلم أن بالقطب تحفظ دائرة الوجود كله من عالم السكون والفساد وبالإمامين يحفظ الله تعالى عالم الغيب والشهادة وهو ما أدركه الحس، وبالأوتاد يحفظ الله تعالى الجنوب والشمال والمشرق والمغرب، وبالأبدال يحفظ الله الأقاليم السبعة، وبالقطب يحفظ الله تعالى جميع هؤلاء لأنه هو الذي يدور عليه أمر عالم الكون كله فمن علم هذا الأمر علم كيف يحفظ الله الوجود على عالم الدنيا ونظيره من الطب علم تقويم الصحة (فإن قلت) فهل للقطب تصريف في أن يعطي القطبية لمن شاء من أصحابه وأولاده. (فالجواب) ليس له تصريف في ذلك وقد بلغنا أن بعض الأقطاب سأل الله أن تكون القطبية من بعده لولده فإذا بالهاتف يقول له: ذلك لا يكون إلا في الإرث الظاهر وأما الإرث الباطن فذلك إلى الله وحده الله أعلم حيث يجعل رسالته. انتهي. فعلم أنه ما حفظ من حفظ من الأولياء وغيرهم من جهاته الأربعة إلا بالأوتاد الذين كان منهم الإمام الشافعي رضي الله عنه وما حفظ من حفظ في صفاته السبع إلا بالأبدال السبعة فكل صفة لها بدل يحفظها على صاحبها من حياة وعلم وقدرة وإرادة وسمع وبصر وكلام. انتهي (اليواقيت والجواهر). وهكذا يريد المتصوف إيهامك أن ما حفظ من سمعك وبصرك وقدرتك وعلمك، وحياتك وإرادتك إنما مرجعه إلى بدل من الأبدال السبعة الذين كان منهم الشافعي في زمانه .. الشافعي هذا رضي الله عنه الذين يكذبون عليه والذي قال عن الصوفية بعد أن ارتحل عن العراق إلى مصر قال: "تركت بغداد وقد أحدث الزنادقة فيها شيئا يسمونه السماع" أ. هـ. وقال أيضاً رضي الله عنه: "لا أرى إنساناً يتصوف أول النهار إلا يكون أحمق في آخره"!!!! .. والصحيح أن الحمق يصيب الأتباع والدهماء الذين يصدقون مثل هذه الخرافات ولكن الذين افتروا ذلك ودونوه لا شك أنهم دهاة عرفوا كيف يصرفون الناس عن عقيدة الإسلام إلى عقائد الكفر والوثنية .. فهؤلاء لم يتركوا ديناً أو فلسفة كافرة ولا زندقة إلا أضافوها إلى عقيدتهم وخرافاتهم وانظر إلى كيفية عمل الأبدال عندهم. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 240 - 242 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 240 المبحث السابع: الأبدال السبعة ووظائفهم قال الشعراني: وقال الشيخ أيضاً في الباب الخامس عشر: "اعلم أن لكل بدل من الأبدال السبعة قدراً، يمده من روحانية الأنبياء الكائنين في السماوات فينزل مدد كل بدل من حقيقة صاحبه الذي في السماء. قال: وكذلك أمداد الأيام السبعة فتنزل من هؤلاء الأبدال لكل يوم مدد يختص به من ذلك البدل. (فإن قلت) وهل يزيد الأبدال وينقصون بحسب الشئون التي يبدلها الحق تعالى أو هم على عدد واحد لا يزيدون ولا ينقصون؟؟ (فالجواب) هم سبعة لا يزيدون ولا ينقصون وبهم يحفظ الله الأقاليم السبعة ومن شأنهم العلم بما أودع الله تعالى في الكواكب السيارة من الأمور والأسرار في حركاتها ونزوله في المنازل المقدرة. (فإن قلت) فلم سموا أبدالاً؟ (فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الثالث والسبعين: أنهم سموا أبدالاً لأن كل واحد منهم إذا فارق مكانه خلفه فيه شخص على صورته لا يشك الرائي أن ذلك البدل. (فإن قلت) فهل ترتيب الأقاليم السبعة على صورة ترتيب السماوات بحيث يكون ارتباط الإقليم الأول بالسماء السابعة والثاني بالسماء السادسة وهكذا .. (فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الثمن والتسعين ومائة: نعم يكون روحانية كل إقليم مرتبطة بالسماء المشاكلة له فالإقليم الأول للسماء السابعة وهكذا .. (وإيضاح ذلك) أن تعلم يا أخي أن الله تعالى جعل هذه الأرض التي تجن عليها سبعة أقاليم (أي سبع قارات هي قارات العالم المعروفة)، واصطفى من عباده المؤمنين سبعة سماهم الأبدال وجعل لكل بدل إقليماً يمسك الله وجود ذلك الإقليم به فالإقليم الأول ينزل الأمر إليه من السماء الأولى التي هي السابعة وينظر إليه روحانية كوكبها والبدل الذي يحفظه هو على قلب الخليل إبراهيم عليه السلام والإقليم الثاني ينزل الأمر إليه من السماء الثانية وينزل إليه الروحانية كوكبها الأعظم والبدل الذي يحفظه على قلب موسى عليه السلام والإقليم الثالث ينزل إليه الأمر الإلهي من السماء الثالثة وينظر إليه روحانية كوكبها البدل الذي يحفظه على قلب هارون ويحيى بتأييد الرابعة قلب الأفلاك كلها وينظر إليه روحانية كوكبها الأعظم والبدل الذي يحفظه على قلب إدريس عليه السلام وهو القطب الذي لم يمت إلى الآن والأقطاب فينا نوابه كما مر والإقليم الخامس ينزل إليه الأمر من السماء الخامسة وينظر إليه روحانية كوكبها والبدل الذي يحفظ الله به هذه الأقاليم على قلب يوسف عليه السلام بتأييد محمد صلى الله عليه وسلم والإقليم السادس ينزل الأمر عليه من السماء السادسة وينظر إليه روحانية كوكبها والبدل الذي يحفظه على قلب عيسى روح الله ويحيى عليهما السلام والإقليم السابع ينزل الأمر إليه من السماء الدنيا وينظر إليه روحانية كوكبها والبدل الذي يحفظه على قلب آدم عليه السلام. قال الشيخ: وقد اجتمعت بهؤلاء الأبدال السبعة بمكة خلف حطيم الحنابلة حيث وجدتهم يركعون هناك فسلمت عليهم وسلموا علي وتحدثت معهم فما رأيت أحسن منهم سمتاً ولا أكثر شغلاً منهم بالله عز وجل، وما رأيت مثلهم إلا سقيط الرفرف بن ساقط العرش بقونية وكان فارسياً رضي الله عنه وقد أطال الشيخ الكلام على أصحاب الدوائر من الأولياء في الثالث والسبعين من الفتوحات فراجعه والله أعلم" انتهي منه بلفظه (اليواقيت والجواهر ج2 ص83). وهكذا استطاع المتصوفة نقل عقائد الصابئة الذي كانوا في عهد إبراهيم عليه السلام وهم عبدة النجوم والكواكب الذين يؤمنون بأن لكل كوكب روحاً يتصرف في الخلق، وصوروا تماثيل لروحانية القمر والشمس والمشتري والزهرة .. الخ .. وعبدوها .. نقل الصوفية هذه العقائد الوثنية الجاهلية إلى الفكر الإسلامي وجعلوها عقيدة من عقائد المتصوفة ومن أجل ذلك قال ابن عربي: عقد البرية في الإله عقائدا ... وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه وما ذلك إلا لأنه يؤمن أنه ليس إلا الله في الكون!!!! المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 242 - 244 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 241 المبحث الثامن: مدة حكم القطب ووظيفته ويستمر ابن عربي في تخريفاته فيذكر لنا مدة حكم القطب والأعمال المنوطة به فيقول كما نقل الشعراني: " (فإن قلت) فهل مدة معينة للقطبية إذا وليها صاحبها لا يعزل منها حتى تنقضي؟ (فالجواب) ليس للقطبية مدة معينة فقد يمكث القطب في قطبيته سنة أو أكثر أو أقل إلى يوم إلى ساعة فإنها مقام ثقيل لتحمل صاحبها أعباء الممالك الأرضية كلها ملوكها ورعاياها. وذكر الشيخ في الباب الثالث والستين وأربعمائة أن كل قطب يمكث في العالم الذي هو فيه على حسب ما قدر الله عز وجل، ثم تنسخ دعوته بدعوة أخرى كما تنسخ الشرائع بالشرائع وأعني بالدعوة ما لذلك القطب من الحكم والتأثير في العالم فمن الأقطاب من يمكث في قطبيته الثلاث والثلاثين سنة وأربعة أشهر ومنهم من يمكث فيها ثلاث سنين ومنهم كما يؤيد ذلك مدة خلافة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فإنهم كانوا أقطاباً بلا شك" انتهي (اليواقيت والجواهرج2 ص83). المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 244 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 242 المبحث التاسع: ابن عربي القطب الأعظم وبالطبع بعد أن يصف ابن عربي كل هذا الوصف الخرافي للأقطاب والأبدال والأوتاد فلا بد أن يخص نفسه بلقب من هذه الألقاب. وتأبى كرامة ابن عربي طبعاً أن يختار لقباً دوناً، أو مرتبة صغيرة فيعلن عن نفسه أنه القطب الأعظم الذي لا أعظم منه أبداً يقول بالنص: "لا أعرف في عصري هذا أحداً تحقق بمقام العبودية مثلي وذلك لأنني بلغت في مقام العبودية الغاية بحكم الإرث لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا العبد المحض الخالص الذي لا يعرف للربوبية على أحد من العالم طمعاً، وقد منحني الله تعالى هذا المقام هبة منه، ولم أنله بعمل وإنما هو اختصاص إلهي" (اليواقيت والجواهر ص65،66) .. فانظروا أين يضع ابن عربي نفسه، إنه يضعها في القمة العليا التي لا تدانيها قمة، ويدعي كذباً مع ذلك أنه نال ذلك باختصاص إلهي حتى لا يطالبه أحد بمسوغات هذا الاختيار ومؤهلاته. وهكذا يعلن ابن عربي نفسه ملكاً متوجاً على مملكة الباطن التي صورها الخيال الشيطاني المريض لهذه العقلية الصوفية، ويجعل من نفسه قطب الأقطاب ووارث الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلم الأعلام، ويتبعه على هذا كل شيوخ التصوف الذين جاؤوا بعده فيجعلون منه الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر .. وهكذا استطاع هذا الزنديق دارس الفلسفة والديانات القديمة، وتخريفات الجاهلية في كل العصور أن يجمع كل ما درسه وينسج منه عقيدة وثنية جاهلية حمقاء ويلبسها بإتقان وثعلبية نادرة الآيات والأحاديث القرآنية فتروج بذلك بين أيدي جهلة المسلمين، ويتاجر بها مجموعة الشياطين الذين قادوا هذا الفكر الصوفي المنحرف عبر القرون، والذين برروا له كل هذا الكفر والانحراف. وهكذا أخي المسلم تدرك الفارق بين الولاية الإسلامية القرآنية، وبين ولاية هؤلاء الشياطين فأولياء الرحمن وصفهم الله تعالى في كتابه فقال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:63 - 66]. فانظر كيف يمضون ليلهم كلهم في الصلاة ويستغفرون الله بعد ذلك ويخافون من عذاب النار مع ذلك، واسمع قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57 - 61]. فهؤلاء هم أولياء الله حقاً خائفون من ربهم مشفقون من عذابه، مؤمنون بربهم الواحد سبحانه وتعالى الذي ليس له ند ولا شريك ولا ظهير ولا معين، ومع كل ذلك يصلون ويصومون ويخافون أن لا يتقبل الله أعمالهم .. أين هؤلاء الأولياء الصادقون من أولياء الشيطان الذين يزعمون أن الله ملكهم الدنيا والآخرة، وأن الله أمنهم من كل خوف، وأنه صرفهم في العالم العلوي والسفلي وأن الله عقد لهم ألوية المجد والعز وجعلهم جلساءه وخاصته، وعقد لهم الولاية في السماء وبايعتهم الملائكة هناك .. الخ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 243 أين الولاية الإسلامية من ولاية الشياطين المتقولين على الله، الذين لم يتركوا صفة واحدة لله إلا نسبوها إلى أنفسهم، الذين لم يجعلوا لله تصريفاً إلا بهم، ولا رحمة إلا منهم، ولا إحساناً إلا من عندهم، ولا قدر ة إلا بوساطتهم، ومهما أفاض الإنسان في وصف وقاحة هؤلاء الشياطين فلن يبلغ عشر معشار ما يستحقون ولن يكتب أيضاً شيئا قريباً مما سودته أيديهم في الافتراء على الله والكذب على رسله الكرام .. هؤلاء الرسل الذين قال الله لأشرفهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188].والذي كان يقول هو صلى الله عليه وسلم ((والله إني لرسول الله لا أدري ما يفعل بي غداً)) (1).وكان يقول أيضاً ((واعلموا أنه لا يدخل أحدكم الجنة بعمله))، قالوا ولا أنت يا رسول الله، قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته منه وفضل)) (2) (متفق عليه). فأين هذا مما يفترون ويقولون (لو بصقت على النار لأطفأتها)!!! ومن يقول (أعطاني الله التصريف في الخلق)!! ومن يقول (سبحاني ما أعظم شأني)!!! ومن ومن؟ .. أين أولياء الرحمن من أولياء الشيطان .. شتان .. شتان .. !!! المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 245 - 247   (1) رواه البخاري (1243) (2) رواه البخاري (6467) ومسلم (2816) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 244 المبحث الأول: الحكيم الترمذي وكتابه (ختم الأولياء) نشأ في الفكر الصوفي منذ القرن الثالث الهجري دعوى كاذبة وهي أن الأولياء يختمون كما أن الأنبياء لهم نبي خاتم. وأول من أظهر هذه الفكرة ودعا رجل يسمى محمد بن علي بن الحسن الترمذي -ويسمونه الحكيم- وجد في أواخر القرن الثالث الهجري وهو مجهول سنة الولادة والوفاة. ولقد ألف كتاباً في هذا أسماه (ختم الأولياء) يقول في هذا الكتاب المذكور؛ "وما صفة ذلك الولي، الذي له إمامة الولاية ورياستها وختم الولاية؟ قال: ذلك من الأنبياء قريب، يكاد يلحقهم. قال: فأين مقامه؟ قال: في أعلى منازل الأولياء، في ملك الفردانية، وقد انفرد في وحدانيته، ومناجاته كفاحاً في مجالس الملك، وهداياه من خزائن السعي. قال: وما خزائن السعي؟ قال: إنما هي خزائن ثلاث: خزائن المنن للأولياء، وخزائن السعي لهذا الإمام القائد، وخزائن القرب للأنبياء عليهم السلام، فهذا خاتم الأولياء مقامه من خزائن المنن، ومتناوله من خزائن القرب: فهو في السعي أبداً فمرتبته ههنا، ومتناوله من خزائن الأنبياء عليهم السلام، قد انكشف له الغطاء عن مقام الأولياء ومراتبهم وعطاياهم وتحفهم" (ختم الولاية). وقد تدرج الترمذي هذا في دعواه تلك تدرجاً إبليسياً خبيثاً حيث هو يجابه العالم الإسلامي بمثل هذه العقيدة الفاسدة، فيتذرع لنشر عقيدته الباطلة بتحريف النصوص القرآنية والحديثية فيزعم أن للأولياء البشرى في الحياة الدنيا مستدلاً بقوله تعالى: َلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس:62 - 64]. وأن الرسول بشر بعض أصحابه بالجنة، وأنه صلى الله عليه وسلم قد أخبر البشرى باقية في الرؤيا، أقول .. يتذرع الترمذي بهذه النصوص من القرآن والسنة الصحيحة ليبث في عقائد المسلمين أن الولاية لا تنقطع وأن فضل الله على هذه الأمة لا يتوقف، وأن البشرى باقية بعد الرسالة، وأن الأولياء يصلون إلى معرفة الحق لأن الله في زعمه كشف عنهم الحجب كلها ويقول في هذا الشأن بالنص: "فهذه الطبقة التي يكبر في صدورهم (يعني علماء السنة الذين ينكرون هذه الترهات والأكاذيب) بلوغ الأولياء هذا المحل من ربهم فيدفعون هذا لجهلهم، لا يعلمون أن لله عباداً أغرقوا في بحر جوده، فجاد عليهم، بكشف الغطاء عن قلوبهم، عن عجائب، وأطلعهم من ملكه ما نسوا في جنبه كل مذكور، حتى تنعموا به في حجبه الربانية" (ختم الأولياء ص386). ثم يستطرد الترمذي أيضاً عائباً على من يعيب على المتصوفة هذه الدعاوي الباطلة فيسميهم علماء حطامين أي أهل دنيا، وتارة بلعامين -نسبة إلى بلعام بن باعوراء- اليهودي الذي يذكر المفسرون أن الله أنزل في شأنه وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175]. ثم يدعي الترمذي بعد ذلك للأولياء أنهم يخبرون ويغترفون مما يغترف منه الأنبياء. وأن الأولياء يبشرون (بالبناء للمجهول) كما يبشر الأنبياء ويرد على من يحتج عليهم أيضاً بقوله تعالى فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99] انظر إليه يقول: "فإذا ذكر شأن الأولياء قدروا أحوالهم على ما يرون من أمور نفوسهم فكذبوا نعم الله تعالى، ودفعوا منه وجهلوا أمره. فهذا من أعظم الفرية على الله تعالى .. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 245 قال له قائل: فإن بعضهم احتج بقوله (تعالى): فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99] وقال: إن الأمن من مكر الله أو ضلال هذه الطبقة، وهذا يؤدي إلى الزندقة). - وقال تعالى قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65] .. والمحبة والسعادة والشقاوة غيب عند الله تعالى، لا يعلم إلا هو، .. وزعم أنك ناظرت يحيى بن معاذ في ذلك حتى بقي متحيراً .. وأن هذه الطبقة تقدم نفسها على الأنبياء .. قال له: أما قوله تعالى: فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99] فهذا قوله تعالى، لا ريب فيه ولا في قبوله. وهو أنه لا يعلم ما حاله عند الله تعالى فإن أمن فهو خاسر جاهل. كأنه حكم على الله من غير أن يحكمه. فأما من بشره الله فرد بشراه فقد اجترم، كما اجترم ذلك الآخر، فهذا من ذلك الوجه، فحق على من لا يعلم، أن لا يأمن، وحق على من أمن أن يأمن، فليس الأنبياء عليهم السلام كانوا يؤمنون (من أنفسهم) ولكن لما أُمِّنوا أَمِنُوا والأنبياء لهم عقدة النبوة والأولياء لهم عقدة الولاية .. " أ. هـ (ختم الأولياء ص387 - 388). ويستطرد الترمذي مجيباً في زعمه على من يقول للمتصوفة في دعاواهم هذه أن هذا ادعاء لعلم الغيب ولا يعلم الغيب إلا الله، فيجيب الترمذي على ذلك بجواب عجيب حيث يقول: "وأما قوله قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ [النمل:65] فعلم الغيب عند الله، وكم من غيب أطلع الله عليه رسوله فأية حجة في هذا؟ وإنما يريد أن يروج بمثل هذا الأغبياء. وكم من غيب أطلع الله عليه أهل الإلهام حتى نطقوا به وأهل الفراسة .. ". وبالطبع يمهد الترمذي لهذا كله الذي يهدم به الدين من أساسه بأن الله في زعمه قد أعطاه الدليل على أن هذا الوحي المزعوم صدق، فيقول رداً على من ينكر ذلك عليهم: "ويقال (له أيضاً): ما قولك في محدِّث، بشر بالفوز والنجاة فقال: رب اجعل لي آية تحقق لي ذلك الخبر الذي جاءني، لينقطع (الشك والاعتراض) فقال: آتيك أن أطوي لك الأرض حتى تبلغ بيتي الحرام في ثلاث خطوات، وأجعل لك البحر كالأرض تمشي عليه كيف شئت، وأجعل لك التراب والجو في يديك ذهباً .. ففعل هذا فهل ينبغي له أن يطمئن إلى هذه البشرى، بعد ظهور هذه الآية أم لا؟ فإن قال: لا، فقد عاند واجترأ على الله وحلت به دائرة السوء. وإن قال: نعم. فقد ذهب قوله واحتجاجه الظلماني" (ختم الأولياء ص401). ثم يبالغ الترمذي بعد ذلك في وصف هذا الولي المزعوم الذي يدعي أنه خاتم الأولياء فيقول في ص406 من المصدر المذكور (ختم الأولياء): "فهذا سيد الأولياء وأمان أهل الأرض ومنظر أهل السماء، وخالصة الله وموضع نظره وسوطه في خلقه" أ. هـ وأن هذا الذي حصل عليه ذلك الولي إنما كان باجتباء من الله ومنة منه فهو الذي جذبه إليه، وأراد به ذلك .. ثم يسأل الترمذي سؤالاً يجيب عنه وهو كيف تقدم الختم هذا الأولياء فيقول (ختم الأولياء ص421): "قال: فيم تقدم الأولياء واحتاجوا إليه؟ قال: بأن أعطي ختم الأولياء. فبالختم تقدمهم، فصار حجة الله على أوليائه، وقد ذكرت في أول الكتاب سبب الختم .. (وهو) أن النبوة أعطيت الأنبياء عليهم السلام، ولم يعطوا الختم فلم تخل تلك الحظوظ من هنات النفس ومشاركتها، وأعطي نبينا وختمت له نبوته. كالعهد الذي يكتب ثم يختم، فلا يصل أحد إلى أن يزيد فيه ولا أن ينقص منه، وقد وصفت شأنه فيما تقدم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 246 وكذلك هذا الولي سير به (الله تعالى) على طريق محمد صلى الله عليه وسلم، بنبوته، مختوماً بختم الله، فكما كان محمد صلى الله عليه وسلم حجة على الأنبياء فكذلك يصير هذا الولي حجة على الأولياء، أعطيتكم ولايتي فلم تصونوها من مشاركة النفس. وهذا أضعفكم وأقلكم عمراً قد أتى بجميع الولاية صدقاً، فلم يجعل للنفس فيها نصيباً ولا تلبيساً. وكان ذلك في الغيب من منة الله تعالى على هذا العبد، حيث أعطاه الختم لتقر به عين محمد صلى الله عليه وسلم، في الموقف حتى قعد الشيطان في معزل، وليست النفس فبقيت محجوبة، فيقر له الأولياء يومئذ بالفضل عليهم. فإذا جاءت تلك الأهوال لم يك مقصراً. وجاء محمد صلى الله عليه وسلم بالختم فيكون أماناً لهم من ذلك الهول. وجاء هذا الولي بختمه فيكون أماناً لهم بصدق الولاية، فاحتاج إليه الأولياء .. " أ. هـ وهكذا يجعل الترمذي لهذا الولي المزعوم ما جعله الله لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم .. وصدق الله سبحانه وتعالى في شأن المشركين بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً [المدثر:52]. وهؤلاء الزنادقة يريد كل منهم أن يوحى إليه كما يوحى إلى الرسول، بل لم يتركوا فضلاً مما فضل الله به عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم إلا انتحلوه لأنفسهم بل زادوا عليه، واحتقروا منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المنازل التي يزعمون أن الله قد بلغهم إياها. لقد وضع الترمذي المسمى بالحكيم في الكتاب (ختم الولاية) بذور الشر الكبرى في الفكر الصوفي، وكل الذين جاؤوا بعده إنما هم عيال عليه وتبع له في كل هذا الباطل الذي بثه في كتابه، وخاصة في مسألة ختم الولاية فلم يأت متصوف بعد الترمذي هذا من مشهوري المتصوفة إلا وادعى ختم الولاية لنفسه. وها أنذا أسوق بعضاً من ذلك. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص249 - 253 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 247 المبحث الثاني: ابن عربي وختم الولاية يقول ابن عربي المتوفى سنة 638هـ مدعياً لنفسه ختم الولاية: "وأما ختم الولاية المحمدية فهي لرجل من العرب. من أكرمها أصلاً ويداً. وهو في زماننا اليوم موجود. عرفت به سنة خمس وتسعين وخمسمائة ورأيت العلامة التي له قد أخفاها الحق فيه من عباده، وكشفها لي بمدينة فاس، حتى رأيت خاتم الولاية منه –وهو خاتم النبوة المطلقة- لا يعلمها كثير من الناس وقد ابتلاه الله بأهل الإنكار عليه فيما يتحقق به من الحق في سره من العلم به. وكما أن الله ختم بمحمد صلى الله عليه وسلم نبوة الشرائع كذلك ختم الله بالختم المحمدي الولاية التي تحصل من الورث المحمدي لا التي تحصل من سائر الأنبياء فإن من الأولياء من إبراهيم وموسى وعيسى، فهؤلاء يوحدون بعد الختم المحمدي، وبعده فلا يوجد ولي على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، هذا معنى خاتم الولاية المحمدية" (الفتوحات ج2 ص49). ويقول في موضع آخر من فتوحاته الضالة: "ومنهم (يعني الأولياء) الختم، وهو واحد لا في كل زمان، بل واحد في العالم يختم الله به الولاية المحمدية فلا يكون في الأولياء المحمدية أكبر منه" (الفتوحات ج2 ص9). وهذه العقيدة المفتراة التي لم يأت بها كتاب ولا سنة، وإنما افتراها الترمذي وجاء هؤلاء الملاحدة لينسجوا على منواله، وكل منهم يريد فيها شيءاً، فبالرغم من أن الترمذي لم يفضل خاتم الأولياء المزعوم هذا على خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم فإن ابن عربي جاء من بعده ليزعم أن خاتم الأولياء -يعني نفسه- أفضل من خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم وذلك بناء على تفضيله الولي على النبي كما قال في شعره: مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي ويأتي إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله، ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين)) (1). فيزعم أن اللبنة التي رآها الرسول هي لبنة فضة، وأما خاتم الأولياء فإنه يرى أن الجدار قد نقص لبنتين لبنة فضة ولبنة ذهب، وأنه يرى نفسه قد انطبع موضع هاتين اللبنتين. يقول ابن عربي: "ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن، وقد كمل سوى موضع لبنة، فمكان الرسول صلى الله عليه وسلم تلك اللبنة، غير أنه صلى الله عليه وسلم لا يراها إلا كما قال: لبنة واحدة. وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤيا، فيرى ما مثله به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرى في الحائط موضع اللبنتين واللبن، من ذهب وفضة. فلا بد أن يرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين، فيكون خاتم الأولياء تينك اللبنتين، فيكمل الحائط". والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين، أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر، وهو موضع اللبنة الفضية، وهو ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام. كما هو آخذ عن الله، في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه من الأحكام، كما هو آخذ عن الله، لأنه يرى الأمر على ما هو عليه - فلا بد أن يراه هكذا، وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن، فإنه آخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك، الذي يوحى به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. فصوص الحكم أ. هـ الفص الشيسي.   (1) رواه البخاري (3534) ومسلم (2286) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 248 والذين جاؤوا بعد ابن عربي من المتصوفة السائرين في هذا الدرب المظلم رددوا هذه العقيدة في كتبهم وزاد كثير من مشايخهم فزعم لنفسه هذه الولاية الكبرى التي يتم بها -في زعمهم- الولاية، وقد تصدى الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى ورضي الله عنه لهذه المزاعم في أماكن كثيرة من كتبه ومن ذلك قوله: "وكذا خاتم الأولياء لفظ باطل لا أصل له. وأول من ذكره محمد بن علي الحكيم الترمذي. وقد انتحله طائفة كل منهم يدعي أنه خاتم الأولياء: كابن حموي، وابن عربي، وبعض الشيوخ الضالين بدمشق وغيرها، وكل منهم يدعي أنه أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الوجوه، إلى غير ذلك من الكفر والبهتان، وكل ذلك طمعاً في رياسة خاتم الأولياء لما فاتتهم رياسة خاتم الأنبياء، وقد غلطوا، فإن خاتم الأنبياء إنما كان أفضلهم للأدلة الدالة على ذلك، وليس كذلك خاتم الأولياء، فإن أفضل أولياء هذه الأمة السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر رضي الله عنه، ثم عمر رضي الله عنه، ثم عثمان رضي الله عنه، ثم علي رضي الله عنه، وخير قرونها القرن الذي بعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وخاتم الأولياء في الحقيقة آخر مؤمن نقي يكون في الناس، وليس ذلك بخير الأولياء، ولا أفضلهم، بل خيرهم وأفضلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ثم عمر اللذان ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل منهما" (الفتاوي: ج11 ص444). وقال رحمه الله أيضاً: " .. إن دعوى المدعي وجود خاتم الأولياء، على ما ادعوه، باطل لا أصل له، ولم يذكر هذا أحد من المعروفين قبل هؤلاء إلا أبو عبدالله محمد بن علي الترمذي الحكيم في كتاب (ختم الولاية) وقد ذكر في هذا الكتاب وهو خطأ وغلط مخالف للكتاب والسنة والإجماع. وهو رحمه الله تعالى وإن كان فيه فضل ومعرفة، ومن الكلام الحسن المقبول والحقائق النافعة أشياء محمودة (قلت: رحم الله ابن تيمية: أي شيء محمود في كتابه وقد بناه من أوله لآخره على أن الأولياء معصومون، وأن الله هو يختصهم ويختارهم، وأن التكليف ليس شرطاً في ولايتهم، وأنهم يعلمون الغيب كله .. بل أسس في كتابه (ختم الولاية) كل أصول الشر لمن جاء بعده)، ففي كلامه من الخطأ ما يجب رده. ومن أشنعها ما ذكره في ختم الولاية: مثل دعواه فيه أنه يكون في المتأخرين من درجته عند الله أعظم من درجة أبو بكر وعمر وغيرهما: ثم إنه تناقض في موضع آخر، لما حكى عن بعض الناس، أن الولي يكون منفرداً عن الناس، فأبطل ذلك واحتج بأبي بكر وعمر وقال: يلزم هذا أن يكون أفضل من أبي بكر وعمر" (وأبطل ذلك). ومنها أنه ذكر في كتابه ما يشعر أن ترك الأعمال الظاهرة، ولو أنها التطوعات المشروعة، أفضل في حق الكامل ذي الأعمال القلبية، وهذا أيضاً خطأ عند أئمة الطريق. فإن أكمل الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وما زال محافظاً على ما يمكنه من الأوراد والتطوعات البدنية إلى مماته .. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 249 وقال أيضاً:"ومنها ما ادعاه من خاتم الأولياء، الذي يكون في آخر الزمان وتفضيله وتقديمه على من تقدم من الأولياء، الذي يكون في آخر الزمان وتفضيله وتقديمه على من تقدم من الأولياء، وأنه يكون معهم خاتم الأنبياء مع الأنبياء، وهذا ضلال واضح، فإن أفضل أولياء الله من هذه الأمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأمثالهم، من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، كما ثبت ذلك بالنصوص المشهورة، وخير القرون قرن صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح: ((خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) (1) ولفظ خاتم الأولياء لا يوجد في كلام أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، ولا له ذكر في كتاب الله ولا سنة رسوله، وموجب هذا اللفظ أنه آخر مؤمن تقي، (ومهما يكن الأمر) فإن الله يقول: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] الآية.، فكل من كان مؤمناً تقياً كان لله ولياً. وهم على درجتين: السابقون المقربون وأصحاب اليمين المقتصدون، كما قسمهم الله تعالى في سورة فاطر وسورة الواقعة والإنسان والمطففين .. وإذا كان خاتم الأولياء آخر مؤمن تقي في الدنيا، فليس ذلك الرجل أفضل الأولياء ولا أكملهم، بل أفضلهم وأكملهم سابقوهم، الذين هم أخص بأفضل الرسل من غيرهم .. ". وقد رد الإمام ابن تيمية رحمه الله أيضاً على ما ادعاه الترمذي (الحكيم) في ثبوت العصمة للأولياء بقوله: " .. وإن طائفة تدعي على أن الولي محفوظ وهو نظير ما يثبت للأنبياء من العصمة -والحكيم الترمذي قد أشار إلى هذا- فهذا باطل مخالف للسنة والإجماع، ولهذا اتفق المسلمون على أن من الناس من يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلم .. وبهذا صار جميع الأولياء مفتقرين إلى الكتاب والسنة، لا بد لهم أن يزنوا جميع أمورهم بآثار الرسول فما وافق آثار الرسول فهو الحق وما خالف ذلك فهو باطل .. ".وقال أيضاً: "ثم إن صاحب (الفصوص) يعني ابن عربي وأمثاله بنوا الأمر على أن الولي يأخذ عن الله بلا وساطة والنبي يأخذ بوساطة الملك. ولهذا صار خاتم الأولياء أفضل عندهم من هذه الجهة، وهذا باطل وكذب فإن الولي لا يأخذ عن الله إلا بوساطة الرسول وإن كان محدثاً (يشير الإمام ابن تيمية بقوله (محدثاً) إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقول ((قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم واحد، فإن عمر بن الخطاب منهم)) (2) قال ابن وهب: تفسير محدثون أي ملهمون (متفق عليه)، فقد ألقي إليه بشيء وجب عليه أن يزنه بما جاء الرسول من الكتاب والسنة" أ. هـ ولا يظنن ظان أن قول الإمام ابن تيمية أن الولي يكون (محدثاً) أن الله يكلمه، وإنما ذلك مجرد الإلهام الذي لا يستطيع الولي بأن يجزم بأنه من الله أو من الشيطان إلا بعرضه على ميزان الكتاب والسنة. وباطمئنان قلب المؤمن المتبع لشرع الله إلى مثل هذا الإلهام، وأما هذه المخاريق والخزعبلات والكفر والزندقة التي جاء بها المتصوفة فليست إلا وساوس شياطين إذ كيف يكون إلهاماً من الله وهو يدعي أنه خاتم الأولياء وأنه أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم وأنه يعلم الغيب كله وأنه يتصرف في الأكوان .. الخ هذه الكفريات. ولذلك قال الإمام ابن تيمية في هذا الصدد:   (1) لم نجده بهذا اللفظ، ورواه البخاري (2652) ومسلم (2533) بلفظ (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم) ورواه البخاري (3650) بلفظ (خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم) ورواه مسلم (2533) بلفظ (خير أمتي القرن الذين يلوني ثم .. ) (2) رواه البخاري (3469) ومسلم (2398) واللفظ له الجزء: 7 ¦ الصفحة: 250 "والأولياء وإن كان فيهم محدث، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((إنه كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم فعمر)) فهذا الحديث يدل على أن أول المحدثين من هذه الأمة عمر، وأبو بكر أفضل منه إذ هو صديق، والمحدث وإن كان يلهم ويحدث من جهة الله تعالى فعليه أن يعرض ذلك على الكتاب والسنة فإنه ليس بمعصوم .. " أ. هـ ولا شك بعد هذا أن دعوى ختم الولاية هي من الكفر الصريح الذي لا يجوز أن يماري فيها مؤمن يعي عن الله وعن الرسول صلى الله عليه وسلم لا سيما إذا انضاف إلى ذلك الزعم بتفضيل خاتم الأولياء هذا على خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم. وقد نص ابن تيمية رحمه الله في مواطن كثيرة على كفر من زعم ذلك كقوله: "ومن الأنواع التي في دعواهم، أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من بعض الوجوه، فإن هذا لم يقله أبو عبدالله الحكيم الترمذي (قلت: حقاً لم يقل هذا نصاً ولكن ما وصف به خاتم الأولياء المزعوم يجعله في منزلة فوق النبي نفسه) ولا غيره من المشايخ المعروفين. بل الرجل أجل قدراً وأعظم إيماناً من أن يفتري هذا الكفر الصريح ولكن أخطأ شبراً ففرعوا على خطئه ما صار كفراً. وأعظم من ذلك زعم (ابن عربي) أن الأولياء والرسل، من حيث ولايتهم، تابعون لخاتم الأولياء وأخذوا من مشكاته. فهذا باطل بالعقل والدين فإن المتقدم لا يؤخذ من المتأخر، والرسل لا يأخذون من غيرهم، وأعظم من ذلك أنه جعلهم تابعين له في العلم بالله، الذي هو أشرف علومهم، وأظهر من ذلك أنه جعل العلم بالله هو مذهب أهل وحدة الوجود، القائلين بأن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق! فليتدبر المؤمن هذا الكفر القبيح درجة بعد درجة (!! .. ). فقد زعم أنه أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن تقدمه عليه بالعلم بالله، وتقدم خاتم الأنبياء بالتشريع فقط. وهذا من أعظم الكفر الذي يقع فيه غالية المتفلسفة، وغالية المتصوفة، وغالية المتكلمة، الذين يزعمون أنهم في الأمور العلمية أكمل من الرسل .. وأن الرسل إنما تقدموا عليهم بالتشريع العام الذي جعل لصلاح الناس في دنياهم. وقد يقولون إن الشرائع قوانين عدلية، وضعت لمصلحة الدنيا، فأما المعارف والحقائق والدرجات العليا في الدنيا والآخرة فيفضلون فيها أنفسهم وطرقهم على الأنبياء وطرق الأنبياء" (حيق مذهب الاتحاديين لابن تيمية ص115 - 123). وأظن بعد هذا الكلام الصريح الواضح والدليل الناصع لا يرتاب مسلم مؤمن بالله في كفر هذه الطائفة المارقة التي فتحت الباب لكل زندقة وكفر ليدخل دين الإسلام، وللأسف إن ذلك كله يحدث باسم التقوى والصلاح والزهد والتصوف والتعبد وإصلاح القلوب، والوصول إلى غاية الدين. وهؤلاء المتصوفة في حقيقة أمرهم متبعون في دينهم للملاحدة الذين أرادوا هدم الدين .. واقرأ ما يقوله ابن تيمية أيضاً في ذلك:"ولهذا كان الملاحدة من المتصوفة على طريقهم، كابن عربي وابن سبعين وغيرهما، قد سلكوا مسلك ملاحدة الشيعة، كأصحاب رسائل إخوان الصفا واتبعوا ما وجدوه من كلام صاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها وغير ذلك مما يناسب ذلك، فصار بعضهم يرى أن باب النبوة مفتوح لا يمكن إغلاقه. فيقول كما كان ابن سبعين يقول: "لقد زَرَّبَ ابن آمنة (ضيق على الناس ويعني بابن آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، حيث قال ((لا نبوة بعدي)) (1)! أو يرى، لكونه أشد تعظيماً للشريعة، أن باب النبوة قد أغلق؛ فيدعي أن الولاية أعظم من النبوة وأن خاتم الأولياء أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن خاتم الأنبياء بل وجميع الأنبياء إنما يستفيدون معرفة الله من مشكاة خاتم الأولياء. ويقول إنه يوافق النبي في معرفة الشريعة العملية لأنه يرى الأمر على ما هو عليه، فلا بد أن يراه هكذا، وأنه أعلم من النبي بالحقائق العلمية لأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك، الذي يوحى به إلى الرسول .. فمحمد عندهم يأخذ من الملك الذي هو عندهم خيال في نفسه، وذلك الخيال يؤخذ عن العقل. فمحمد عندهم يأخذ عن جبريل وجبريل يأخذ عن ما علمه من النفس الفلكية، فزعم ابن عربي أنه يأخذ من العقل، وهو المعدن الذي يأخذ منه جبريل فإن ابن عربي وهؤلاء يعظمون طريق الكشف والمشاهدة والرياضة والعبادة، ويذمون طرق النظر والقياس وما يدعونه من الكشف والمشاهدة، عامته خيالات أنفسهم، ويسمونه حقيقة .. " (الرد على المنطقيين، لابن تيمية ص486 - 489). المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص253 - 260   (1) رواه مسلم (2404) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 251 المبحث الثالث: محمد عثمان الميرغني وختم الولاية وممن ادعى ختم الولاية لنفسه محمد عثمان الميرغني السوداني المتوفى سنة 1268هـ. والذي كان يقول عن نفسه "من رآني ومن رأى من رآني إلى خمسة لم تمسه النار! ولا حرج على ذلك فإن الله يختص برحمته من يشاء" (انظر تاج التفاسير لمحمد عثمان الميرغني ص4). وسمى نفسه الختم، أو خاتم الأولياء، وجعل هذا الاسم أيضاً علماً على طريقته الصوفية حيث سماها (الختمية) أي خاتمة الطرق جميعاً!! ومما يدعيه في تفضيل نفسه على سائر الأمة جميعاً بمن فيهم أبو بكر عمر ما يقوله في كتابه الذي سماه (تاج التفاسير) ص137 عند قوله تعالى: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الأنعام:122] يقول: "ولما وصلت في التفسير إلى هذا الموضع رأيت في تلك الليلة المصطفى صلى الله عليه وسلم في محفل من الرسل الكرام ويقول لي الأنبياء من نوري، وطارت نقطة نور منه فتخلق منها صورة سيدنا إسماعيل الذبيح فقال لي هكذا خلقوا من نوري والأولياء من نور الختم ثم رأيته تلك الليلة عن يمينه جبريل وعن يده اليسرى ميكائيل وأمامه الصديق وخلفه الإمام علي، فقال لي صلى الله عليه وسلم بعد أن دنوت منه وقبلت جبهته الكريمة: ما قام بأمر الله والمؤمنين أحد بعدي مثلك شكر الله سعيك فقلت له يا رسول الله، فقال تعبت في المؤمنين ونصحتهم ما تعب فيهم أحد بعدي مثلك فقلت له أأرضاك ذلك؟ قال أرضاني وأرضى الله من فوق سبع سماواته وعرشه وحجبه. ثم نادى رضوان فقال يا رضوان: عمر جناناً ومساكن لابني محمد عثمان وأبنائه وصحبه وأتباعه، وأتباع أتباعه إلى يوم القيامة: ثم قال يا مالك فحضر فقال عمر: في النار مواضع لأعداء محمد عثمان إلى يوم القيامة. وأطال الكلام في الواقعة ونسأل الله التوفيق لشكر النعم بحق المصطفى صاحب الأسرار الجامعة" أ. هـ منه بلفظه .. وفي هذه الرؤيا المزعومة كل الكفر والشرك. فالأنبياء لم يخلقوا من نور الرسول كما زعم في رؤياه بل النبي صلى الله عليه وسلم بشر كسائر الناس في البشرية لقوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلى أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 252 فليس مخلوقاً من نور كما زعموا بل من يقول هذا يجعل الرسول جزءاً من الله وهذا كفر كما قال الله للمشركين: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ [الزخرف:15].فمن قال إن الرسول خلق من نور الله فهو كافر، ومن قال أيضاً خلق من نور عرش الله فهو كافر متقول على الله ما لم يقل، متقول على رسول الله ما لم يقله. وأما الحديث الموضوع المكذوب على رسول الله والذي فيه أن جابراً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أول خلق الله؟ فقال: نور نبيك يا جابر (1)، فهو حديث موضوع باتفاق أئمة الحديث جميعاً على وضعه وأنه كذب محض مخالف لما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر أن ((أول شيء خلقه الله سبحانه وتعالى هو القلم فقال له اكتب. قال وما أكتب؟ قال اكتب ما كان وما يكون إلى يوم القيامة)) (2). (متفق عليه)، وأما قوله الأولياء قد خلقوا من نور الختم!! يعني محمد عثمان الميرغني فهذا ليس كذباً فقط ولكنه كذب وصفاقة وسخافة تضحك العقلاء، فما النور الذي كان مع محمد عثمان حتى يخلق الله منه جميع الأولياء!! ومتى كان الأولياء قد خلقوا من نور، والملائكة هم الذين خلقهم الله من النور!! وأما الأولياء والأنبياء فبشر كالبشر فضلهم الله بعبادته وطاعته والإيمان به. وأما الإدعاء بأن الرسول قد أمر رضوان أن يبني لمحمد عثمان وأتباعه وذريته وأهل بيته .. الخ، هذه السخافات فشيء لم يدعيه الرسول لنفسه فضلاً عن أن يجعلها لرجل كان أهم ما امتاز به هو أن مهد الطريق للاستعمار الإنجليزي في السودان، واستطاع أن يأكل أموال الناس بالباطل بما لا مثيل له فقد استحوذ على أموال البسطاء والمساكين والفقراء .. وأن يتزوج مئات النساء وينجب عشرات الأطفال!! وأما أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر مالكاً خازن النار أن يعمر مساكن لأعداء محمد عثمان إلى يوم القيامة .. هكذا .. فالنبي لا يأمر ملائكة الله من عند نفسه بل قال له سبحانه: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]!! فلا يتصرف في الكون كما يزعمون، بل الرسول عبد كامل العبودية لربه سبحانه وتعالى يتصرف بأمر مولاه وهو أجل وأعظم صلى الله عليه وسلم أن يأتي لرجل في المنام ويعطيه الجنة كما يشاء له ولذريته وأتباعه، ويعطي النار لأعدائه .. هكذا .. وأين الله سبحانه وتعالى أن يتصرف مخلوق في ملكه كما يشاء المخلوق .. ودون الرجوع إلى الخالق سبحانه وتعالى. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وحاشا الرسول صلى الله عليه وسلم ما يفتريه عليه المفترون .. وهؤلاء يصدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم ((من أرى عينيه ما لم تراءيا أمر يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بفاعل)) (3). أي أن من قال: رأيت في النوم كذا وكذا وليس بذلك فهذا قد رأى في عينه ما لم ترءيا، وإن كان رأى حقاً فإنما ذلك من الشيطان حتماً لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأت بعد مماته بما يخلف شريعته في حياته صلى الله عليه وسلم. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص260 - 263   (1) أورده العجلوني في ((كشف الخفاء)) (827) وعزاه إلى مصنف عبد الرزاق وليس الحديث في المصنف وزعم بعضهم أنه في القطعة المفقودة من المصنف وأنه وجدها وتبين كذبه وافتراؤه بما ليس هنا موضع بيانه، وعزاه أيضا اللكنوي في كتابه ((الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة)) (1/ 42) للمصنف أيضا وذكر أيضا أن الحديث ذكره القسطلاني في ((المواهب اللدنية))، وقال السيوطي في ((الحاوي في الفتاوى)) (1 - 479) " ليس له إسناد يعتمد عليه" (2) لم نجده بهذا اللفظ، والحديث بلفظ مقارب رواه أبو داود (4700) والترمذي (3319) وأحمد (5/ 317) (22757) والحاكم (2/ 540) (3840) قال الترمذي حسن غريب، وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين وقال الهيثمي في ((المجمع)) (6/ 190) رجاله ثقات وصححه الألباني (3) لم نجده بهذا اللفظ، ورواه البخاري (7042) بلفظ (من تحلم بحلم لم يره، كلف أن يعقد بين شعيرتين) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 253 المبحث الرابع: أحمد التيجاني وختم الولاية وممن ادعى لنفسه ختم الولاية أيضاً بصفاقة ليس بعدها صفاقة أحمد التيجاني الفاسي المتوفى سنة 1230هـ وهذا التيجاني جاء ليكذب جميع الذين ادعوا الختمية قبله على ألف سنة تقريباً. فإذا كان أول من ادعاها هو محمد بن علي بن الحسن الترمذي المسمى بالحكيم وكان ذلك في أواخر القرن الثالث الهجري فقد جاء التيجاني في القرن الثالث عشر ليكذب جميع الذين ادعوا الختمية قبله وليزعم لنفسه أن الله قد ختم الأولياء به حقاً وصدقاً، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بشره بذلك. قال صاحب كتاب (رماح حزب الرحيم على نحور حزب الشيطان الرجيم): "قال صاحب (الرماح) ما نصه: وشيخنا التيجاني ولد عام خمسين ومائة وألف ووقع له الإذن من النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً بتربية الخلق على العموم والإطلاق سنة ألف ومائة وست وتسعين، قال أخبرني سيدي محمد الغالي أن الشيخ عاش وهو في مرتبة الختمية ثلاثين سنة وإذا تأملت هذا علمت أن الختمية لم تثبت لأحد قبل شيخنا وأن أحداً ما ادعاها وثبت على ادعائها لنفسه وأما شيخنا وسيدنا ووسيلتنا إلى ربنا سيد أحمد بن محمد الشريف الحسني التيجاني قال: أخبرني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بأني أنا القطب المكتوم منه إلى مشافهة يقظة لا مناماً فقيل له ما معنى المكتوم؟ فقال هو الذي كتمه الله تعالى عن جميع خلقه حتى الملائكة والنبيين إلا سيد الوجود صلى الله عليه وسلم فإنه علم به وبحاله وهو الذي حاز كل ما عند الأولياء من الكمالات الإلهية واحتوى على جميعها وأكبر من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن لله ثلاثمائة خلق من تخلق بواحد منها أدخله الله الجنة وما اجتمعت في نبي ولا ولي إلا في سيد الوجود صلى الله عليه وسلم وأما الأقطاب الذين بعده حتى الحجة العظمى ابن عربي الحاتمي فإنما يعلمون ظواهرها فقط ويسمون المحمديين وبه ختم الله الأقطاب المجتمعة فيهم الأخلاق والإلهية وهذه الأخلاق لا يعرفها إلا من ذاقها ولا تدرك بالوصف ولا يعرف ما فيها إلا بالذوق وقال إن الفيوض التي تفيض من ذات سيد الوجود صلى الله عليه وسلم تتلقاها ذات الأنبياء وكل ما فاض وبرز من ذات الأنبياء تتلقاه ذاتي ومني يتفرق على جميع الخلائق من نشأة العالم إلى النفخ في الصور، وخصصت بعلوم بيني وبينه منه إلى مشافهة لا يعلمها إلا الله عز وجل بلا واسطة قال أنا سيد الأولياء كما كان صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياء" أ. هـ منه. وهكذا تعلم أخي المسلم ما يتمتع به هؤلاء القوم من صفاقة وكذب سبقوا به الأولين والآخرين فهؤلاء هم يكذب بعضهم بعضاً، ويدعي كل منهم لنفسه ختم الولاية وهو شيء لم يأت في كتاب ولا سنة وإنما افتراه لهم مفتر فتتابعوا وراءه على مدى ألف ومائة سنة إلى اليوم لم أقرأ عن شيخ صوفي مشهور إلا ادعى هذا لنفسه ولكنني لم أجد أكثر كذباً وصفاقة من هذا أحمد التيجاني الذي ادعى أنه قد تحقق بكل الأخلاق الإلهية وعددها ثلاثمائة خلق ولما يتحقق بها إلا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كذا، وجميع الأولياء عرفوا ظاهرها فقط وأما أحمد التيجاني (الكذاب) فقد تحقق بها تماماً، ثم تسأل أخي المسلم ما هي هذه الأخلاق فيقال لك إنها أخلاق ذوقية لا يعرفها إلا من ذاقها فقط كيف تكون الأخلاق أذواقاً يا قوم، وكيف تكون هذه هي أخلاق الله التي تخلق بها أحمد التيجاني حقاً وصدقاً!! .. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 254 إن هذا المفتري لم يترك فرية من الفرى والأكاذيب التي افتراها من قبله على هذا الطريق الهالك طريق التصوف إلا افتراها هو لنفسه فقد زعم هنا أيضاً أن الله ينزل الفيوض (العلوم الغيبية) على الرسول محمد وأن الرسول محمد هو الذي يفاض منه على سائر الأنبياء، ثم يفاض من الأنبياء جميعاً على شخص أحمد التيجاني فقط الذي يقوم بإمداد جميع الأولياء. بعد ذلك بهذه العلوم منذ خلق آدم وحتى النفخ في الصور!! انظر إلى هذا الكذب الملفق ما أعظمه وأشنعه. لقد افترى الفرية رجال قبله فلم يهدأ له بال حتى نسب ذلك إلى نفسه. انظر هنا إلى النص الآتي كيف يناقش من يذكر أمامه فضيلة من الفضائل المزعومة أيضاً لشيخ من شيوخ التصوف. قال صاحب (الرماح) أيضاً ما نصه: "ومدده الخاص به (يعني الشيخ التجاني) إنما يتلقاه منه صلى الله عليه وسلم ولا اطلاع لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على فيضه الخاص به لأن له مشرباً معهم منه صلى الله عليه وسلم قال رضي الله عنه وأرضاه وعنا به مشيراً بإصبعه السبابة والوسطى روحي وروحه صلى الله عليه وسلم هكذا، روحه صلى الله عليه وسلم تمد الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام وروحي تمد الأقطاب والعارفين والأولياء من الأزل إلى الأبد وسبب ذلك أن بعض أصحابه تحاور مع بعض الناس في قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به كل شيوخ أخذوا عني في الغيب فحكي له ذلك فأجاب رضي الله عنه وأرضاه وعنا به ما ذكر. وقال: نسبة الأقطاب معي كنسبة العامة مع الأقطاب وقال الشيخ عبدالقادر الجيلاني قال قدمي هذا (كذا) على رقبة كل ولي لله تعالى يعني أهل عصره وأما أنا فقدماي هاتان جميعها (وكان متكئاً فجلس وقال) على رقبة كل ولي لله تعالى من لدن آدم إلى النفخ في الصور" أ. هـ .. فانظر هذا الكذب والإفتراء. فإذا كان الجيلاني قد نسب إليه قوله مفصلاً لنفسه: قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله تعالى!! فإن التيجاني لم يهدأ باله حتى فسر كلام الجيلاني بأن هذا في وقته فقط وأما هو فقدماه على رقبة كل ولي لله تعالى من خلق آدم إلى النفخ في الصور!! فانظر إلى هؤلاء الذين يدوسون بأقدامهم على أولياء الله تعالى ويفضلون أنفسهم على هذا النحو. وهذه الكلمات منهم إن دلت على شيء فإنما تدل على مقدار الوقاحة والكذب الذي تحلى به هؤلاء، وعلى مقدار الجهل والفساد والتردي الذي وصلت إليه الأمة بأن تجعل أمثال هؤلاء المفترين الوقحين هم سادتها وقادتها ووسيلتها إلى الله وأن تملك رقابها وأموالها وعقولها لأمثال هؤلاء حيث يقودونهم إلى درب الغواية والضلال. وقد قسم الجيلاني هذا مراتب الأولياء والأنبياء إلى سبع مراتب سماها حضرات قال فيها: الحضرة الأولى: الحقيقة المحمدية. قال: وهذه الحضرة غيب من غيوب الله تعالى لم يطلع عليها أحد ولا عرف شيئا من علومها وأسرارها وتجلياتها وأخلاقها ولو كان من الرسل والأنبياء لأنها خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 255 والثانية الحضرة المحمدية وتمثلها الدائرة الثانية ومن هذه الحقيقة المحمدية مدارك النبيين والمرسلين وجميع الملائكة والمقربين وجميع الأقطاب والصديقين وجميع الأولياء والعارفين. والثالثة حضرة الأنبياء وتمثلها الدائرة الثالثة وأهل هذه الحضرة يتلقون علومهم وأحوالهم وتجلياتهم من هذه الحقيقة المحمدية وخاتم الأولياء أعني الشيخ التيجاني له مشرب من هذه الحضرة مع الأنبياء فهو يتلقى المدد رأساً من النبي صلى الله عليه وسلم من حقيقته المحمدية بلا وساطة. الرابعة حضرة خاتم الأولياء وتمثلها الدائرة الرابعة وصاحب هذه الحضرة هو الشيخ أحمد التيجاني فهو يتلقى كل ما فاض من ذوات الأنبياء زيادة على ما يتلقاه بلا وساطة من الحقيقة المحمدية ولذلك سمى نفسه (برزخ البرازخ). وقال الشيخ التجاني: وخصصت بعلوم بيني وبينه منه إلى مشافهة لا يعلمها إلا الله عز وجل بلا وساطة وقال: أنا سيد الأولياء كما كان النبي صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياء. ثم قال صاحب (الرماح) "ولا اطلاع لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على فيضه الخاص لأن له مشرباً معهم منه صلى الله عليه وسلم"!!. الحضرة الخامسة حضرة المتبعين للطريقة التجانية المتمسكين بها. قال الشيخ التيجاني في حق أهل هذه الحضرة ما نصه "لو اطلع أكابر الأقطاب على ما أعد الله لأهل هذه الطريقة لبكوا وقالوا يا ربنا ما أعطيتنا شيءاً". وقال الشيخ التيجاني لا مطمع لأحد من الأولياء في مراتب أصحابنا حتى الأقطاب الكبار ما عدا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الشيخ التجاني: كل الطرائق تدخل عليه (كذا) طريقتنا فتبطلها وطابعنا يركب على كل طابع ولا يحمل طابعنا غيره وقال من ترك ورداً من أوراد المشايخ لأجل الدخول في طريقتنا هذه المحمدية التي شرفها الله تعالى على جميع الطرق أمنه الله في الدنيا والآخرة فلا يخاف من شيء يصيبه لا من الله ولا من رسوله ولا من شيخه أيا كان من الأحياء أو من الأموات. وأما من دخل زمرتنا وتأخر عنها ودخل غيرها تحل به مصائب الدنيا وأخرى ولا يفلح أبداً (هامش: قلت فانظر كيف يهدم كل صاحب طريق صوفي طريق غيره من الكاذبين الضالين من أمثاله. واعتبر!!). ثم قال ناقلاً عن شيخه التيجاني كما هو في جواهر المعاني: وليس لأحد من الرجال أن يدخل كافة أصحابه الجنة بلا حساب ولا عقاب ولو عملوا من الذنوب ما عملوا وبلغوا إلا أنا وحدي. ووراء ذلك مما ذكر لي فيهم وضمنه أمر لا يحل لي ذكره ولا يرى ولا يعرف إلا في الدار الآخرة بشرى للمعتقد علي رغم أنف المنتقد. ثم استطرد صاحب (الرماح) ومن هنا صار جميع أهل طريقته أعلى مرتبة عند الله تعالى في الآخرة من أكابر الأقطاب وإن كان بعضهم في الظاهر من جملة العوام المحجوبين. الحضرة السادسة حضرة الأولياء وتمثلها الدائرة السادسة وهي مستمدة من حضرة خاتمهم الأكبر جميع ما نالوا (الهدية الهادية ص36). انظر ماذا في هذه النصوص من الكفر الصريح والمخالفة الواضحة لما هو معلوم من الدين بالضرورة، فمعلوم من الدين ضرورة أن من قال أنا في الجنة فهو في النار كما ثبت بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن هذا غيب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء لم يدعو الجنة لأنفسهم فقط بل ادعوها لكل من صدق أكاذيبهم ولو كان فاجراً عاصياً لله زيادة على الكفر بتصديقهم كأن يكون تارك الصلاة زانياً .. وجعل التجانية هذا، أعني إدخاله العصاة إلى الجنة، فضلاً أعطاه الله إياه وبلغه الرسول بذلك. فانظر .. أقول: العجيب بعد كل هذا الكفر البواح المخرج من ملة الإسلام أن يدعي المدعي أن طريقته هذه مبنية على الكتاب والسنة وأنه لم يأت قط بما يخالفها فانظر هذا التلبيس على الناس، وانظر أي فتنة فتن بها المسلمون بهذا الطريق الصوفي!؟ المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 263 - 267 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 256 المطلب الأول: الإسلام لم يأت بتقديس القبور والأضرحة إن تقديس القبور والأضرحة مفهوم لم يعرفه الإسلام ولو في إشارة يسيرة، بل جاءت نصوص الكتاب والسنة الثابتة بالنهي الصريح عن كل ذريعة تفضي إلى ذلك المفهوم الذي يمثل خطوة أولى على طريق الانحراف نحو الشرك؛ فمن الأقوال القاطعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يدع مجالاً لتوهم نسخ أو تخصيص أو تقييد ما جاء عنه: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلّوا عليّ؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) (1). وعنه صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (2) هذا في قبره الشريف وفي كل قبر. وعن علي رضي الله عنه أنه قال لأبي الهياج: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته)) (3). ((ونهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه)) (4). وفي زيادة صحيحة لأبي داود: ((أو أن يكتب عليه)) (5) ((ولعن المتخذين عليها (أي القبور) المساجد والسُرج)) (6) وعلى ذلك سار سلفنا الصالح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم من ذلك شيء في بلاد الإسلام، لا في الحجاز، ولا اليمن، ولا الشام، ولا العراق، ولا مصر، ولا خراسان، ولا المغرب، ولم يكن قد أحدث مشهد، لا على قبر نبي، ولا صاحب، ولا أحد من أهل البيت، ولا صالح أصلاً، بل عامة هذه المشاهد محدَثة بعد ذلك، وكان ظهورها وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس، وتفرقت الأمة، وكثر فيهم الزنادقة الملبّسون على المسلمين، وفشت فيهم كلمة أهل البدع، وذلك من دولة المقتدر في أواخر المائة الثالثة؛ فإنه إذ ذاك ظهرت القرامطة العبيدية القدّاحية في أرض المغرب، ثم جاؤوا بعد ذلك إلى أرض مصر (7). المصدر: دمعة على التوحيد تهذيب عبد الباسط بن يوسف   (1) أبوداود (2042) وأحمد (2/ 367) (8790) والطبراني في ((الأوسط)) (8030) والبيهقي في ((الشعب)) (3865) قال النووي في ((خلاصة الأحكام)) (1/ 440) إسناد أبي داود صحيح، وصححه الألباني. (2) رواه أحمد في "مسنده" (2|246) (7352) دون قوله (يعبد) وروى الشطر الأول منه أيضا مالك في موطئه (1/ 172) والحديث صححه الألباني في أحكام الجنائز (3) رواه مسلم (969) (4) رواه مسلم (970) (5) رواه أبو داود (3226) والترمذي (3226) والنسائي (2027) وابن ماجه (1563) قال الترمذي حسن صحيح وصححه الألباني (6) رواه الحاكم (1/ 530) (1384) وقال الألباني في ((الضعيفة)) (225) ضعيف بهذا السياق، وبين ضعف زيادة السرج. (7) ((مجموع الفتاوى)) (27|466). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 257 المطلب الثاني: تعامل الصحابة مع ما عرف من قبور الأنبياء أولاً: تعاملهم مع قبر النبي صلى الله عليه وسلم: لقد صرحت عائشة رضي الله عنها بأن الصحابة لم يبرزوا قبر النبي صلى الله عليه وسلم خوفاً من أن يتخذ مسجداً لما تقرر عندهم أن ذلك منهي عنه، مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، موافق لسنة اليهود والنصارى، ففي البخاري ومسلم من حديثهما رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) قالت: فلولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً " (1) وقال النووي في شرح هذا الحديث: " قال العلماء إنما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً، خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية، ولما احتاجت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كثر المسلمون، وامتدت الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن أدخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه ومنها حجرة عائشة رضي الله عنها مدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، بنوا على القبر حيطاناً مرتفعة مستديرة حوله لئلا يظهر فيصلي إليه العوام، ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر، ولهذا قال في الحديث: " ولولا ذلك لأبرز قبره "، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً، والله أعلم بالصواب ". (2) قلت: هذا الكلام من الإمام النووي رحمه الله، فيه رد على الذين يحتجون بكون قبر النبي في مسجده. وقد أورد السمهودي في (وفاء الوفاء) معارضة عروة بن الزبير وإنكاره لذلك فذكر عن عروة أنه قال: " نازلت عمر بن عبد العزيز في قبر النبي صلى الله عليه وسلم ألا يجعل في المسجد أشد المنازلة فأبى، وقال: كتاب أمير المؤمنين لا بد من إنفاذه، قال قلت: فإن كان ولا بد فاجعلوا له حوجواً – قال السمهودي: أي وهو الموضع المزور خلف الحجرة ". (3) وقال في نفس الصفحة: " ثم بنى عمر بن عبد العزيز على ذلك البيت هذا البناء الظاهر، وعمر بن عبد العزيز زواه لئلا يتخذه الناس قبلة تخص فيه الصلاة من بين مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (4)، وقال: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)) (5) الحديث، قالوا والبناء الذي حول البيت، بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين البناء الظاهر اليوم مما يلي المشرق ذراعان، ومما يلي المغرب ذراع، ومما يلي القبلة شبر، ومما يلي فضاء الشام فضاء كله، وفي الفضاء الذي يلي الشام مركن مكسور ومكيل خشب، قال عبد العزيز بن محمد يقال أن البنائين نسوه. (6)   (1) رواه البخاري (1390) ومسلم (529) (2) (5/ 13 - 24) (3) (3/ 548) (4) رواه البخاري (437) ومسلم (530) (5) رواه أحمد في "مسنده" (2|246) (7352) دون قوله (يعبد) وروى الشطر الأول منه أيضا مالك في "موطئه" (1/ 172) والحديث صححه الألباني في ((أحكام الجنائز)) (6) (ص548 – 549)، وقال ابن كثير (9/ 75): ويحكى أن سعيد بن المسيب أنكر إدخال حجرة عائشة في المسجد كأنه خشي أن يتخذ القبر مسجداً والله أعلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 258 ثانياً: تعاملهم مع قبر النبي دانيال عليه السلام حين عثروا عليه: قال الإمام ابن كثير في تاريخه (1): " وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن أبي خلد بن دينار حدثنا أبو العالية قال: لما افتتحنا تستر وجدنا في بيت الهرمزان سريراً عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر بن الخطاب، فدعا له كعباً فنسخه بالعربية، وقال: فأنا أول رجل من العرب قرأه، قرأته مثل ما أقرأ القرآن هذا، فقلت لأبي العالية ما كان فيه؟ قال: سيركم وأمركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد، قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة، فلما كان الليل دفناه وسوينا القبور كلها، لتعميته على الناس، فلا ينبشونه، قلت: فما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون، قلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له دانيال، قلت: منذ كم وجدتموه قد مات؟ قال منذ ثلاثمائة سنة، قلت: ما تغير منه شيء؟ قال: لا، إلا شعرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السباع، وهذا إسناد صحيح إلى أبي العالية" ا. هـ. المراد من البداية والنهاية. قلت: فانظر إلى هدي الصحابة الذين يصدرون عن أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم وسنته، وهو القائل ((إن شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد)) (2) وكيف وجدوا ذلك النبي فلم يتخذوه مزاراً، ولم يبنوا عليه مشهداً، ولم يقروا الفرس الذين كانوا يستسقون به، وإنما حسموا الأمر وغيبوا القبر وقطعوا عروق الفتنة به، ولو كانوا ممن قدوتهم اليهود لعظموا مكانه واتخذوا عليه مسجداً ومشهداً وجعلوا له زيارة سنوية كما هو الحال عند أصحابنا، ومما يزيد الأمر تأكيداً أن هدي الصحابة هو قطع التعلق بآثار الأنبياء والصالحين، قصة عمر رضي الله عنه حينما رأى الناس ينتابون موضعاً للصلاة في طريق مكة فزجرهم عن ذلك. فعن المعرور بن سويد رحمه الله قال: (خرجنا مع عمر بن الخطاب فعرض في بعض الطريق مسجد فابتدره الناس يصلون فيه، فقال عمر ما شأنهم؟ فقالوا هذا مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: أيها الناس إنما هلك من قبلكم باتباعهم مثل هذا حتى أحدثوها بيعاً، فمن عرضت له صلاة فليمض) (3) رواه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وابن وضاح في كتابه (البدع والنهي عنها)، وقال شيخنا الألباني بإسناد صحيح على شرط الشيخين. (4)   (1) (2/ 40) (2) رواه أحمد (1/ 405) (3844) والطبراني في ((الكبير)) (10/ 188) (10413) قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 186): إسناده جيد وقال الذهبي في ((السير)) (9/ 401): حسن قوي الإسناد. (3) رواه ابن وضاح (99) وعبدالرزاق في ((المصنف)) (2/ 118) (2734) وصححه الألباني في ((فضائل الشام)) (18) (4) عن ((التبرك)) (ص345) الجديع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 259 فانظر إلى هذا وقارن بما تراه في زيارة هود أو غيرها كلما قيل عن مكان أن صالحاً صلى فيه أو جلس أو تعبد اتخذوا عليه مصلى مثلما اتخذها اليهود، (حتى أحدثوها بيعاً).ويؤكد ما أقوله كذلك قطع عمر للشجرة التي بايع تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، قال الحافظ بن حجر في الفتح (ج7 ص 448): " ثم وجدت عند ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع أن عمر بلغه أن قوماً يأتون الشجرة فيصلون عندها، فتوعدهم ثم أمر بقطعها فقطعت "، وقد وردت آثار رواها البخاري عن المسيب بن حزن أن الشجرة عميت على الصحابة فيحتمل أنها عميت على بعضهم وبقيت معروفة للبعض، كما ثبت عن جابر أنه قال: لو كنت أبصر لأريتكم مكانها، ويحتمل أن الناس اتخذوا شجرة أي شجرة، وجعلوا يصلون عندها ويتبركون بها، ويؤيد هذا ما ثبت في البخاري عن طارق بن عبد الرحمن قال: " انطلقت حاجاً فمررت بقوم يصلون، قلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: حيث بايع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، فأتيت سعيد بن المسيب وأخبرته، فقال: حدثني أبي وكان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، فقال: فلما خرجنا العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها، قال سعيد: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم!! فأنتم أعلم " (1) وإذا كان عمر قد قطع الشجرة فإن الناس بقوا يصلون في موضعها والله أعلم. وعلى كل حال فالشجرة قد اختفت إما بقدرة الله تعالى – وكانت رحمة من الله – كما قال ابن عمر فيما رواه البخاري (2)، أو كانت على يد عمر بن الخطاب، وهذا يدل على أنه ليس من الإسلام في شيء البحث عن آثار الأنبياء والصالحين، وتعظيم الأماكن التي وقعت فيها الأحداث العظيمة وقد بين الحافظ الحكمة من خفاء تلك الشجرة بما يدل أنه رحمة من الله ينكر ما يفعله الجهال والمجهِّلون مما هو حاصل الآن وقبل الآن حول مآثر الصالحين، قال رحمه الله: " وبيان الحكمة في ذلك وهو ألا يحصل بها افتتان لما وقع تحتها من الخير، فلو بقيت لما أمن من تعظيم بعض الجهال لها حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها نفعاً أو ضراً كما نراه اليوم مشاهداً فيما هو دونها، وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله: " كانت رحمة " أي كان خفاؤها عليهم رحمة من الله تعالى. (3)   (1) رواه البخاري (4163) (2) (6/ 117) (3) (6/ 118) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 260 المطلب الثالث استمرار ما درج عليه الصحابة من الهدي في تسوية القبور والنهي عن تعظيمها إلى نهاية القرون المفضلة قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ولم يكن في العصور المفضلة " مشاهد " على القبور، وإنما كثر بعد ذلك في دولة بني بويه لما ظهرت القرامطة بأرض المشرق والمغرب، وكان بها زنادقة كفار مقصودهم تبديل دين الإسلام، وكان في بني بويه من الموافقة لهم على بعض ذلك، ومن بدع الجهمية والمعتزلة والرافضة ما هو معروف لأهل العلم، فبنوا المشاهد المكذوبة، كمشهد علي رضي الله عنه وأمثاله. (1) ويؤيد ما ذكره شيخ الإسلام ما جاء في الأم (2) وهو قول الشافعي رحمه الله: " ولم أرَ قبور المهاجرين والأنصار مجصصة، قال الروي عن طاووس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي أن تبنى القبور أو تجصص (قال الشافعي) وقد رأيت من الولاة من يهدم بمكة ما يبنى فيها، فلم أرى الفقهاء يعيبون ذلك " ثم قال (3): " وأكره أن يبنى على القبر مسجد وأن يسوى أو يصلى عليه وهو غير مسوى، أو يصلى إليه، قال وإن صلى إليه أجزأه وقد أساء، أخبرنا مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ولا يبقى دينان بأرض العرب)) (4)، (قال) وأكره هذا للسنة والآثار، وأنه كره – والله أعلم – أن يعظم أحد من المسلمين يعني يتخذ قبره مسجداً، ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على من يأتي بعد " انتهي محل الغرض منه، فهذا هو الحال في القرون المفضلة، وقد بقي كذلك عند العلماء والفقهاء، فلا تجد كتاب فقه صغيراً أو كبيراً إلا وينص على النهي عن اتخاذ القبور مساجد، وعن تجصيصها والبناء عليها والكتابة عليها، وهذا هو الذي عليه التعويل، فكتب الفقه والحديث والتفسير والعقيدة هي كتب الهداية، وهي عمدة الناس، أما كتب التصوف، وكتب المناقب الكاذبة وكتب المؤصلين للخرافة فلا عبرة بها، وإن من حفظ الله لهذا الدين أنك تجد كتب الهداية المذكورة في الغالب خالية من البدع الشركية والكفرية، وكثير من البدع العملية، وإن كانت تمارس في الواقع لتبقى الحجة قائمة ... والله الموفق.   (1) من ((مجموع الفتاوى)) (27/ 167) (2) (1/ 277) (3) (1/ 278) (4) رواه مالك 2/ 892 وعبد الرزاق (10/ 360) (19368) مرسلا وينظر االتلخيص الحبير (4/ 124). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 261 المطلب الأول هدي اليهود والنصارى في اتخاذ القبور مساجد واستحقاقهم اللعن على ذلك وتحذير النبي صلى الله عليه وسلم من فعلهم لا لبس ولا إشكال في أن اتخاذ القبور مساجد من هدي اليهود والنصارى، وبذلك صرح النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان وغيرهما: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) قالت: " فلولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً " (1) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (2) وعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة جعل يلقي على وجهه طرف خميصة له، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه وهو يقول: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "، تقول عائشة رضي الله عنها: " يحذر ما صنعوا)) (3) وعنها رضي الله عنها أيضاً قالت: لما كان مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، تذاكر بعض نسائه كنيسة بأرض الحبشة يقال لها مارية، وقد كانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها وتصاويرها، قالت: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه: فقال: ((أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)). (4) هذه أربعة أحاديث مخرجة في البخاري ومسلم تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم يلعن اليهود والنصارى بسبب أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، فهي تدل لما ترجمنا له من اتخاذ القبور مساجد والبناء عليها وتعظيمها من هدي اليهود والنصارى، وأنهم استحقوا على فعلهم ذلك اللعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال الإمام الليث بن سعد رحمه الله كما في مختصر اختلاف الفقهاء للجصاص (1/ 407): " بنيان القبور ليس من حال المسلمين، وإنما هو من حال النصارى " بواسطة التعليق على كتاب البناء على القبور للمعلمي. (5)   (1) رواه البخاري (1390) ومسلم (529) (2) رواه البخاري (437) ومسلم (530) (3) رواه البخاري (435) (4) رواه البخاري (427) ومسلم (528) (5) (ص57 – 58) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 262 المطلب الثاني: النهي عن التشبه باليهود والنصارى إذا ثبت عندنا أن البناء على القبور واتخاذها مساجد أنه من هدي اليهود والنصارى، فاعلم أننا منهيون عن مشابهتهم نهياً مؤكداً يلحق المتشبه بهم بأولئك الكافرين الملعونين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة: 120]، وقد دلت السنة كذلك على تحريم التشبه باليهود والنصارى. ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم)) (1) وفي سنن أبي داوود والحاكم من حديث شداد ابن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خالفوا اليهود والنصارى فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم)). (2) ولكن برغم هذا التحذير من مشابهة أهل الكتاب إلا أن السنة الكونية قاضية بوقوع ذلك من هذه الأمة كما يتبين من هذا الحديث الذي أخرجه الترمذي رحمه الله وأحمد من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الله أكبر! إنها السنن! قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138] لتركبن سنن من كان قبلكم)). (3) وهذا هو الذي حصل ولا حول ولا قوة إلا بالله، تشبه القوم باليهود والنصارى وتركوا سنة نبيهم، ثم ذهبوا ينصبون الشبهات لتبرير فعلهم، نسأل الله أن يهدينا وإياهم، وأما أهل العلم فقد فهموا تلك الأحاديث على ما يليق بعلمهم وفضلهم، وبينوها للناس كما أوجب الله عليهم، وحذروا مما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن رجب في كتابه (فتح الباري) شرح صحيح البخاري: " هذا الحديث يدل على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين وتصوير صورهم كما يفعله النصارى، ولا ريب أن كل واحد منهما محرم على انفراده، فتصوير صور الآدميين يحرم وبناء المساجد على القبور بانفراده يحرم، كما دلت نصوص أخرى يأتي ذكر بعضها، قال: والتصاوير التي في الكنيسة التي ذكرت أم حبيبة وأم سلمة، كانت على الحيطان ونحوها ولم يكن لها ظل، فتصوير الصور على مثال صور الأنبياء والصالحين للتبرك بها والاستشفاع بها يحرم في دين الإسلام، وهو من جنس عبادة الأوثان، وهو الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أهله شرار الخلق عند الله يوم القيامة، وتصوير الصور للتأسي برؤيتها أو للتنزه بذلك والتلهي محرم وهو من الكبائر، وفاعله من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، فإنه ظالم ممثل بأفعال الله التي لا يقدر على فعلها غيره، وأنه تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله سبحانه وتعالى ".   (1) رواه البخاري (3462) ومسلم (2103) (2) رواه أبو داود (652) والحاكم (1/ 260) وقال الحاكم إسناده صحيح، وقال العراقي إسناده حسن، وصححه الألباني (3) رواه الترمذي (2180) وأحمد (5/ 218) (21947) والطبراني (3292) وقال الترمذي حسن صحيح وكذلك صححه الألباني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 263 (1) وقال الحافظ ابن حجر: " وكأنه علم أنه مرتحل من ذلك المرض، فخاف أن يعظم قبره، كما فعل من مضى فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذم من فعل فعلهم ".   (1) بواسطة ((تحذير الساجد)) (ص17): (وقد ظهر عندنا رجل يدعي العلم والولاية والدعوة إلى الله يغلو فيه أصحابه غلواً مفرطاً وهو مقر لهم على ذلك، وتحكى عنه إشاعات كثيرة، تدل على دجل وتخريف كبيرين، ومن ذلك أن من نام وصورته تحت رأسه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولست أجزم بذلك، ولكن الذي أجزم به أن صور الرجل تباع في المكتبات بأحجام مختلفة، وبأوضاع مختلفة كذلك، وهي تعلق في المجالس والدكاكين وغيرها، ولا شك أنه سوف يبررها بما يعقل أو بما لا يعقل، فهذه عادتهم، وقد نقل صاحب تذكير الناس (ص 154): " عن أحمد بن حسن العطاس عن الحبيب عبد الله بن عمر بن يحيى أنه لما وصل إلى – مليبار – دخل على الحبيب علوي بن سهل فرأى في بيته تصاوير طيور وديكة وغيرها فقال: يا مولانا إن جدكم صلى الله عليه وسلم يقول: يكلف صاحب التصاوير يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، فقال له الحبيب علوي: عاد شيء غير هذا؟ فقال: لا، فنفخ الحبيب علوي على تلك التصاوير فإذا الديكة تصرخ والطيور تغرد، فسلم الحبيب عبد الله بن عمر له حاله " فانظر إلى هذا الهراء بل الجرأة على الله والتحدي للرسول حيث يقول عليه الصلاة والسلام: " وليس بنافخ " بينما يثبت هذا المدعي القدرة عليه وصاحبنا سوف يظهر بمثل ذلك أو أشد منه، وإذا لم تستح فاصنع ما شيءت). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 264 المطلب الثالث: الرافضة هم أول من أحدث المشاهد المعظمة في الملة الإسلامية وغلوا في أصحابها حتى عبدت من دون الله تعالى مر بنا هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه والسلف الصالح في القرون المشهود لها بالخير، كيف كانت قبورهم وكيف كان هديهم في وضع المقابر، وكيف كانوا يبادرون إلى إنكار كل محدث ولو كان صغيراً، مما يؤدي إلى الانحراف عن ذلك المنهج، فكانوا يطمسون ما ارتفع من القبور، وينكرون على من خالف في ذلك، ويهدمون ما بني في المقابر من أبنية، واستمر ذلك الوضع إلى أواخر القرن الثالث، حيث ضعفت سلطة الخلفاء العباسيين وقوي النفوذ الرافضي والباطني، وعند ذلك أحدثت المشاهد على القبور، وانفتح هذا الباب الكبير من الشر على أمة الإسلام. وقد شرح شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك فقال: " ولم يكن في العصور المفضلة " مشاهد " على القبور، وإنما كثر بعد ذلك في دولة بني بُوَيْه لما ظهرت القرامطة بأرض المشرق والمغرب، وكان بها زنادقة كفار مقصودهم تبديل دين الإسلام، وكان في بني بُوَيْه من الموافقة لهم على بعض ذلك، ومن بدع الجهمية والمعتزلة والرافضة ما هو معروف لأهل العلم، فبنوا المشاهد المكذوبة كمشهد علي رضي الله عنه وأمثاله " وقال في موضع آخر: " وظهرت بدعة التشيع التي هي مفتاح باب الشرك، ثم لما تمكنت الزنادقة أمروا ببناء المشاهد، وتعطيل المساجد ..... ورووا في إنارة المشاهد وتعظيمها والدعاء عندها من الأكاذيب ما لم أجد مثله فيما وقفت عليه من أكاذيب أهل الكتاب، حتى صنف كبيرهم (ابن النعمان) كتاباً في (مناسك المشاهد) وكذبوا فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته أكاذيب بدلوا بها دينه، وغيروا ملته، وابتدعوا الشرك المنافي للتوحيد، فصاروا جامعين الشرك والكذب ". (1) صدق شيخ الإسلام رحمه الله وأهل التاريخ والآثار قد أقاموا البراهين على صدق ما يقول، فهذه الدكتورة المصرية سعاد ماهر – أستاذة العمارة الإسلامية بجامعة القاهرة – في موسوعتها الضخمة (مساجد مصر وأوليائها الصالحون) تثبت أن أوائل الأضرحة التي شيدت عليها المشاهد هي أضرحة الشيعة الرافضة، فيعد أن أثبتت أن أول ضريح في الإسلام أقيمت عليه قبة عرفت بقبة الصليبية، وأنها بنيت عام 284 هـ على قبر الخليفة المنتصر العباسي، ونقلت عن الطبري أن أم الخليفة العباسي المنتصر استأذنت في بناء ضريح منفصل لولدها فأذن لها (إذ كانت العادة قبل ذلك أن يدفن الخليفة في قصره) وتلك الأم هي أم ولد نصرانية رومية، فهي بحكم عقيدتها وما تربت عليه من تعظيم القبور طلبت ذلك، وأجيبت إليه عندما تمكن نساء القصر من تسيير الحياة، وغلبن على الخلفاء في حال ضعفهم وانصرافهم إلى شهواتهم وملذاتهم، إذن فالتأثير النصراني ظاهر في إنشاء هذا المشهد. قالت: " ويليها من حيث التاريخ ضريح إسماعيل الساماني المبني سنة 296هـ في مدينة بخارى، ثم ضريح الإمام علي في النجف الذي بناه الحمدانيون سنة 317 هـ ثم ضريح محمد بن موسى في مدينة قم بإيران سنة 366هـ، ثم ضريح السبع بنات في الفسطاط سنة 400هـ (ج1 ص 46) وهذا الترتيب قد ذكره غير واحد من المستشرقين والباحثين في الآثار والعمارة الإسلامية.   (1) من ((دمعة على التوحيد)) (ص 13 – 17) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 265 وكل الذين ذكَرَتْهم إما متأثرون بالرافضة كالخليفة العباسي المنتصر مع تأثير أمه النصرانية في ذلك، أو هم في دولة شيعية، وإن قيل إن إسماعيل المذكور رجع إلى السنة، فالعبرة بالجو العام وليس بالفرد المتوفى الذي لم يعط له اختيار بحكم البيئة، وهكذا الدولة الحمدانية دولة رافضية معروفة وأهل قم معروفون بالرفض ومدينتهم من المدن المقدسة عند الرافضة، وضريح السبع بنات في عصر الدولة الفاطمية الباطنية، فثبت بهذا ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله من أن الشيعة هم الذين جلبوا القبورية إلى أمة الإسلام، وفتحوا باب الشرك والوثنية فيها، وعندنا في اليمن ابتدأت المشاهد المعظمة ودفن الأموات في المساجد في عهد الدولة الصليحية الإسماعيلية الباطنية، التي هي امتداد لدولة الفاطميين في مصر، فمن أوائل المشاهد هنا مشهد الرأسين في زبيد، ومشهد الصليحي علي بن محمد في صنعاء، ومشهد الملكة السيدة بنت أحمد في جبلة. فهذه قصة انتشار المشاهد في اليمن وبداية القبورية الوثنية كانت على أيدي أحفاد عبد الله بن سبأ اليهودي، الذي أنشأ أول فرقة شيعية غالية في الإسلام تؤله البشر، وأحفاد ميمون القداح اليهودي كذلك الذي أنشأ الدولة الإسماعيلية الباطنية ذات الأصول اليهودية والتي عرفت باسم الدولة الفاطمية، فمن يا ترى ينبغي له أن يكون قدوتنا في ذلك محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه من أصحابه، والذين اتبعوهم بإحسان من أئمة الدين وعلماء الملة أم اليهود الظاهرون واليهود المستترون كابن سبأ وميمون القداح ومن سلك سبيلهم الغالي؟!! بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50]. المصدر: زيارة هود عليه السلام وما فيها من ضلالات ومنكرات لأحمد بن حسن المعلم - ص 45 - 61 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 266 المبحث الثالث: واقع القبورية في العالم الإسلامي في غفلة الأمة عن حقيقة دينها نبتت شبكة واسعة من القبور والأضرحة المقدسة! عمت معظم أنحاء العالم الإسلامي، بل إن بعض الباحثين يقدر عدد الأضرحة في القطر الذي يعيش فيه بما لا يقل عن عدد المدن والقرى في هذا القطر، حيث يقول: وأضرحة الأولياء التي تنتشر في مدن مصر ونحو ستة آلاف قرية؛ هي مراكز لإقامة الموالد للمريدين والمحبين، ويمكننا القول: إنه من الصعب أن نجد يوماً على مدار السنة ليس فيه احتفال بمولد ولي في مكان ما بمصر (1)، بل أصبحت القرى التي تخلو من الأضرحة مثار تندر وتهكم سدنة الأضرحة، فقد ذكر الدكتور زكريا سليمان بيومي أن القرى التي تخلو من أضرحة الأولياء أطلق المشايخ أمثلة شعبية على بخل هذه القرى وخلوها من البركة ما زالت سارية بين الناس حتى الآن! (2). ولكي ندرك حجم المأساة أكثر سنورد بعض ما تيسر من نماذج توضح حجم انتشار هذه الأضرحة في بعض بقاع العالم الإسلامي، وبالطبع، فليس من بلد به ضريح إلا وله مريدون ممن يعتقدون فيه. فمن بين ألوف الأضرحة المنسوبة إلى الأنبياء والصحابة والأولياء في العالم الإسلامي يشتهر في مصر من بين أكثر من ستة آلاف ضريح - على تقدير ما سبق - أكثر من ألف ضريح. ويذكر صاحب (الخطط التوفيقية) علي باشا مبارك: أن الموجود في زمنه في القاهرة وحدها مئتان وأربعة وتسعون ضريحاً، أما خارج القاهرة فيوجد على سبيل المثال في مركز فوّة 81 ضريحاً، وفي مركز طلخا 54، وفي مركز دسوق 84، وفي مركز تلا 133، وهي الأضرحة التابعة للمجلس الصوفي الأعلى، بخلاف الأضرحة التابعة للأوقاف أو غير المقيدة بالمجلس الصوفي، كما يوجد في أسوان أحد المشاهد يسمى مشهد "السبعة وسبعين ولياً". وتنقسم الأضرحة إلى كبرى وصغرى، وكلما فخم البناء واتسع وذاع صيت صاحبه زاد اعتباره وكثر زواره. فمن الأضرحة الكبرى في القاهرة: ضريح الحسين، وضريح السيدة زينب، وضريح السيدة عائشة، وضريح السيدة سكينة، وضريح السيدة نفيسة، وضريح الإمام الشافعي، وضريح الليث بن سعد وخارج القاهرة تشتهر أضرحة: البدوي بطنطا، وإبراهيم الدسوقي بدسوق، وأبي العباس المرسي بالإسكندرية، وأبي الدرداء بها أيضاً، وأبي الحسن الشاذلي بقرية حميثرة بمحافظة البحر الأحمر، وأحمد رضوان بقرية البغدادي بالقرب من الأقصر، وأبي الحجاج الأقصري بالأقصر أيضاً، وعبد الرحيم القنائي بقنا ... . السودان: وهكذا الحال في السودان، فالقباب والأضرحة في السودان على قسمين: قباب تبنى في مقابر المسلمين العامة، حيث تبدو القبة شاهقة وسط القبور. قباب تبنى في المساجد، أو تبنى عليها المساجد، وقد تكون في قبلة المسجد، أو في الخلف، أو في أحد جوانبه. ومن أشهر القباب والأضرحة في السودان: قبة الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني "شيخ الطريقة البرهانية" بالخرطوم السوق الشعبي. قبة الشيخ قريب الله، بأم درمان، ودنوباوي. قبة الشيخ دفع الله الصائم ديمة، بأم درمان أميدة. قبة الشيخ حسن ود حسّونة، بالخرطوم بحري. قبة الشيخ دفع الله الفرقان، بأم درمان، جنوب السوق. قبة الشيخ أبو زيد، بأم درمان، سوق ليبيا. قبة الشيخ حمد النيل، بأم درمان. قبة الشيخ محمد بن عبد الله كريم الدين (شيخ الطريقة المحمدية الأحمدية الإدريسية). قبة الشيخ إبراهيم ود بَلاّل، بالقطينة. قبة الشيخ الطيب ود السايح، بأبي شنيب، قرب الحداحيد. قبة الشيخ حمد ود أم مريوم، بالخرطوم بحري، حي حِلّة حمد. قبة الشيخ خوجلي أبو الجاز، بالخرطوم بحري، حلة خوجلي. قبة الشيخ صديق ود بُساطي، غرب النيل الأبيض.   (1) ((موالد مصر)) (ص7). (2) ((الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة)) (ص126). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 267 قبة الشيخ طه الأبيض البطحاني، بشمال الجزيرة. قبة الشيخ الطريفي ود الشيخ يوسف، بأبي حراز. قبة الشيخ عبد الرحيم ود الشيخ محمد يونس، بأبي حراز. وجدير بالذكر أن منطقة أبي حراز بها ما يقارب 36 قبة، من أشهرها إضافة إلى ما سبق: قبة الشيخ أحمد الريح، وقبة الشيخ دفع الله المصوبن (أبو النعلين). وقد لوحظ على بعض القباب أنها حظيت برعاية بعض القادة السياسيين، مثل قبة الشيخ يوسف أبو سترة، التي شيدت برعاية الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري، وكذلك قبة الشيخ مدني السني، بمدينة ود مدني. كما لوحظ أيضاً عدم اقتصار اتخاذ القباب على قبور المعظمين في المسلمين، بل من شدة الجهل والغفلة اتخذت قبة على مقبرة (الرفيق) الصيني الشيوعي يانغ تشي تشنغ، في ود مدني. ولوحظ كذلك أن بعض هذه القباب يتوسط المساكن. أما في إريتريا: فمن أشهر الأضرحة التي يرتادها الناس: ضريح الشيخ بن علي بقرية (أم بيرم) القريبة من مدينة مصوع الميناء الرئيس لإريتريا. ضريح سيدي هاشم الميرغني وبنته الست علوية بمدينة مصوع، وعلى كل من هذين القبرين مبنى مستقل على شكل مكعب ومغطى بالقماش مثل الكعبة، وفي كل زاوية منه خشبة مستديرة الشكل يتبرك بها بعد الانتهاء من الطواف بالقبر! ضريح الشيخ جمال الأنصاري، وله وقت مخصص لزيارته، وإن كانت أهميته لدى الناس أقل من سابقيه. ضريح جعفر، وقد بني عليه مسجد، ويقوم المصلون في المسجد بزيارته بعد كل صلاة مفروضة. ضريح الشيخ عبد القادر الجيلاني، وهو ضريح وهمي في قرية (حوطيت) بالقرب من مدينة جندع على ساحل البحر الأحمر. ضريح الشيخ الأمين المقام في أحد مساجد مدينة (أسمرا) العاصمة. ضريح سيدي هاشم في مدينة (كرن) التي تقع على الساحل الجنوبي من إريتريا، وهو يعتبر من أكبر المشاهد التي يقصدها الناس من أنحاء عديدة في البلاد، بل ومن الدول المجاورة كالسودان. ضريح أحمد النجاشي في (عدي قرات) التي تقع على الحدود الإريترية الإثيوبية، وله يوم محدد (مولد) يقصده الناس فيه من أنحاء إريتريا وإثيوبيا. أما في الشام: فقد أحصى عبد الرحمن بك سامي سنة (1890م) في دمشق وحدها 194 ضريحاً ومزاراً، بينما عد نعمان قسطالي المشهور منها 44 ضريحاً، وذكر أنه منسوب للصحابة أكثر من سبعة وعشرين قبراً، لكل واحد منها قبة ويزار ويتبرك به. وفي الآستانة عاصمة السلطنة العثمانية كان يوجد 481 جامعاً يكاد لا يخلو جامع فيها من ضريح، أشهرها الجامع الذي بني على القبر المنسوب إلى أبي أيوب الأنصاري في الآستانة (القسطنطينية). وفي الهند يوجد أكثر من مئة وخمسين ضريحاً مشهوراً يؤمها الآلاف من الناس. وفي بغداد كان يوجد أكثر من مئة وخمسين جامعاً في أوائل القرن الرابع عشر الهجري، وقلّ أن يخلو جامع منها من ضريح. وفي الموصل يوجد أكثر من ستة وسبعين ضريحاً مشهوراً كلها داخل جوامع، وهذا كله بخلاف الأضرحة الموجودة في المساجد والأضرحة المفردة. وهكذا كان الأمر في جزيرة العرب قبل دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله. وفي معظم مناطق أوزبكستان كثير من الأضرحة المنسوبة إلى الصحابة والمشايخ ورجال العلم والأولياء، وأصبحت هذه القبور مزارات يفد إليها مريدوها جماعات وأفراداً، يدعون ويبكون، ومن أهم تلك المزارات: ضريح قثم بن العباس ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم في سمرقند، وضريح الإمام البخاري في قرية خرتنك. ولا تختلف الصورة كثيراً في شرق العالم الإسلامي حيث تنتشر الأضرحة و (المزارات)؛ ففي بنغلاديش، خاصة في المدن دكا "العاصمة" وشيتاغونج وسلهت وخولنا، ولكن من الغريب ارتياد الناس لمزارات يوجد بها سلاحف وتماسيح يعتقد فيها بعض الجهلاء النفع والضر، فيقدمون الأكل لها أملاً في الحصول على وظيفة أو لتفريج كربة، وتحرص بعض النساء على مس هذه الحيوانات أملاً في حدوث الحمل والرزق بالذرية، وقد نتجت هذه الاعتقادات والممارسات عن الزعم بأن هذه الحيوانات تحولت إلى هذه الصورة بعد أن كانت من الأولياء الصالحين! وهناك أيضاً مزارات تحتوي على أشجار يعتقد فيها وتعلق على أغصانها الخيوط والخرق. المصدر: دمعة على التوحيد تهذيب عبد الباسط بن يوسف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 268 المبحث الرابع: أشهر هذه القبور في العالم الإسلامي قبر الحسين: الذي يحج له الناس ويتقربون إليه بالنذر والقربات، وتجاوز ذلك إلى الطواف به والاستشفاء، وطلب قضاء الحاجات عند الملمات. السيد البدوي: له مواسم في السنة أشبه بالحج الأكبر، يقصده الناس من خارج البلاد وداخلها، سُنة وشيعة، وهذان نموذجان في دولة واحدة من أقدم الدول العربية والإسلامية في التعليم النظامي، وفيها أكبر مؤسسة تعليمية نظامية منذ القرن الثالث الهجري، والتي كان لدعاتها وعلمائها الأثر الطيب في نشر الإسلام والدعوة إليه، ولكن كما قيل: كالعيس في البيداء يقتلها الظما ... والماء فوق ظهورها محمول جلال الدين الرومي الذي كتب على قبره ومزاره: صالح للأديان الثلاثة، المسلمين واليهود والنصارى، ويدعى هذا الوثن بالقطب الأعظم، وفعلاً كان قطباً تدور عليه أفلاك أرباب المصالح الدنيوية طلاب الشرف باسم الدين المزور، وقد لقي كل تشجيع وتقديس من الأيدي الخفية لإبقاء شعلة الوثنية وقَّادة في العالم الإسلامي. محيي الدين بن عربي صاحب (فصوص الحكم)، والمعتقد بوحدة الوجود والحلول والاتحاد، وزعيم الفلاسفة القائلين بهذه البدعة المكفرة. أقول: إن مزاره وثن يعبد ويقدس في عاصمة دولة كانت عاصمة الخلافة الأموية، ولا يزال في أهلها الخير - إن شاء الله -، غير أن الفتنة بهذا الوثن تزداد يوماً بعد يوم. قال بعض الباحثين: وقفت على باب القبة لأرى وأعتبر، وكنت أحمل حذاءً في يدي؛ فأنكروا عليَّ بالإجماع: كيف تقرب من المقام وفي يدك حذاؤك، احتراماً وتقديساً للولي؟! إنها لعبرة وعظة لأهل التوحيد والإيمان، وإنا لله وإنا إليه راجعون. "داتا" صاحب مقبرة علي هجويري في المشرق الإسلامي، ينتابها الزوار في كل صباح ومساء. يحدث أحد الكتاب فيقول: ومن عجيب ما شاهدتُه أن له يوماً في العام تراق عليه الألبان حتى لا نجد في الأسواق لبناً يباع ويُشترى، وله يوم في العام يغسل بماء الورد والطيب أسوة بالكعبة المشرفة، يتشرف بتغسيله الساسة والقادة في البلاد، وليتك ترى ما يصنع حول هذه المقبرة من منكرات أخلاقية، فضلاً عن العقدية، وحولها الرقص والدف والاختلاط والتبرك بسدنة هذه المقبرة، يُفعل ما لا يجوز ذكره، وفي هذه الدولة حزب سياسي يزعم أنه إسلامي قد فتح باب الخرافة والبدع على مصراعيه. ويحكى أن وزير أوقاف هذه الدولة شكى لرئيس الدولة عجز الميزانية في وزارته؛ فاتفق الرأي على إيجاد باب الجنة يتفتح دخوله الأعيان والرؤساء، ثم تباع التذاكر للسواد الأعظم من جهلة المسلمين على أن من دخل هذا الباب فقد دخل الجنة، وبهذا زال العجز المالي بفضل هذه التذاكر وصكوك الغفران. مقبرة أحمد التجاني، زعيم طائفته، ورائد التضليل، الذي شرع للناس بمشورة الفرنسيين الطريقة المنسوبة إليه، والقائل: إن جوهرة الكمال أفضل من القرآن الكريم سبعمائة مرة، وكذا صلاة الفاتح، وهما وردان ترددهما الطائفة التجانية صباحاً مساءً، ويكتفون بقرائتهما وتلاوتهما عن القرآن الكريم. مقبرة عثمان فيدو، الذي صمم على قبره بناية أشبه بالكعبة وكسيت بالحرير الأسود، وحينما سئل أحد أحفاد هذا المصلح؛ قال: وضعت هذا أسوة بقبر أحمد التجاني، ومع أن الإمام عثمان فيدو كان ممن أقام به الله الدين، وتبنى دعوة الإصلاح أشبه بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إلا أن طريقته قادرية، ثم تحول أتباعه إلى الطريقة التجانية. المصدر: دمعة على التوحيد تهذيب عبد الباسط بن يوسف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 269 تمهيد موضع القبر: قال الحامد " وكان موضع القبر متوعراً غير ممهد، وفي القرن التاسع الهجري قام الشيخ الفقيه حكم بن عبد الله باقشير المتوفى سنة 879هـ بعمارة المشهد المذكور عمارة تامة، وبناه بالحجر والنورة، وجعل عليه قبة، ومهد ما حواليه غربيه وذلك ليقابل الزائرون وجهه، ويجلسوا مستقرين، هكذا قال صاحب السعادة والخير، ثم زيدت العمارة بعد ذلك. قال السيد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن العيدروس صاحب (الدشتة) في رسالته (بذل المجهود): " وقد بنى السيد الشريف الفاضل أبو بكر بن محمد بلفقيه – كان الله عز وجل له ونفع به – قبة عظيمة على جانب الصخرة المتصدعة السابق ذكرها، في نحو نصف القبر عام 1079هـ سبع وتسعين بتقديم السين في الأول وتأخيرها في الثاني وألف، بضبط تاريخها بحساب الجمل أي كسكر " اهـ، وقد تعددت بعد ذلك العمارة أيضاً إلى عصرنا، وفيه انتدب لعمارة الموضع وتهيئته تهيئة زائدة على ما تقدم السيد المرحوم علوي بن عبد الله الكاف فمهد الدرج المعروف اليوم، وبنى حول القبر موضعاً واسعاً، وبنى حول الصخرة المسماة " الناقة " بناءً من الحجر وردمه وسواه، فتهيأ هناك موضع واسع يتسع لجموع الزوار وطلي ذلك كله بالنورة، أصلح ذلك كله بكل إحكام، وصرف على ذلك مالاً لا يستهان به، يقدر بنحو خمسة آلاف من الريالات. المصدر: زيارة هود عليه السلام وما فيها من ضلالات ومنكرات لأحمد بن حسن المعلم - ص 94، 95 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 270 المطلب الأول: الفضائل المفتراة التي يروجون بها لزيارة هود عليه السلام من أقبح الأعمال وأعظمها الكذب الذي يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وأعظم من ذلك أن يكون الكذب على الله ورسوله لإضلال الناس. يقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ [النحل: 116]، وقال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام 144]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) (1) (حديث متواتر)، ولا شك أن الوعد بمغفرة الذنوب أو بالبشارة بالجنة أو بتحمل ذنوب الناس إنما يُعلم بالوحي، فمن صرّح بشيء من ذلك أو وعد به أحداً من الناس بغير وحي، وبغير أذن من الله فقد افترى على الله الكذب، وقد قال الله تعالى عن اليهود: أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا [النساء:49 - 50]، فجعل تزكيتهم لأنفسهم إثماً مبيناً لأن حقيقة النفس وما فيها من خير وما يختم لها به لا يعلمه إلا الله، فلما تجرءوا وزكوا أنفسهم جعل الله ذلك من الكذب عليه سبحانه، وهكذا هنا الذي يدعي بأن العمل الفلاني جزاءه الجنة أو مغفرة الذنوب، أو أن العمل الفلاني فيه كذا أو كذا من الأجر من دون علم به عن طريق الوحي، فهو من المفترين على الله الكذب وكفى به إثماً مبيناً! ونحن عندما نعتبر ما نمثل به كذباً لا يعني أننا نتهم فلاناً أو فلاناً بأنه هو الذي افتراه، ولا نصف من نسب إليه ذلك الكذب ونقطع بأنه هو الكاذب، فربما نسب كلام إلى شخص لم يقله، لكننا نقطع أن الكلام المعني كذب، ونجزم أن من يروج ذلك الكلام مشارك في الكذب، وعليه نصيب من وزره، قال صلى الله عليه وسلم: ((من حدث عني بحديث يُرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين)) (2). وقال صلى الله عليه وسلم: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)) (3). إذا علمت هذا فاعلم أن القوم يستحلون الكذب أو يستخفون به في سبيل الوصول إلى أهدافهم على قاعدة (الغاية تبرر الوسيلة) بل أنهم يدافعون عن الكذب ويحاولون بكل ما أوتوا من قوة أن يصوروه للناس بصورة الصدق والحق الذي لا مرية فيه، وستمر بك أمثلة من ذلك، وترى كيف يؤولونها بتأويلات الباطنية ليثبتوا للناس أن سلفهم كانوا على حق، وأن ما اقترفوه من الكذب هو عين الصدق، ومحض الصواب. وإليك جملة من تلك الفضائل المزعومة التي افتروها ليضلوا الناس بغير علم: منها أنه يتحمل ذنوب زواره، وأن من زار قبر هود ولو للفضول غفرت ذنوبه!! قال صاحب بذل المجهود: (وكان سيدنا الشيخ عبد الرحمن السقاف رضي الله عنه يقول: إن النبي هود عليه الصلاة والسلام يتحمل ذنوب زواره حتى يرفعها الله تعالى)   (1) رواه البخاري (1291) ومسلم (3) (2) رواه مسلم في "مقدمته"، ورواه الترمذي (2662) وابن ماجه (38) وأحمد (1/ 112) (903) وابن حبان (1/ 212) (29) قال الترمذي حسن صحيح، وصححه ابن الجوزي وابن حزم وابن تيمية والمعلمي والألباني وغيرهم (3) رواه مسم (5) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 271 وقال أيضاً: (وقال سيدي الشيخ عبد الرحمن السقاف، وسيدي الشيخ فضل بن عبد الله رضي الله عنهما: التقى اثنان من الصالحين في الطريق أحدهما صادر من زيارة قبر سيدنا هود – على نبينا وعليه أفضل الصلاة والتسليم – والآخر وارد إليها، فقال الوارد للصادر ما وجدت النبي هود! قال الصادر وجدته!، قال: تان، فقلت: يا نبي الله فما تان؟ فقال: من ذنوب الزوار أتحملها عنهم حتى يرفعها الله تعالى عني وعنهم)، ويقولون كما في رسالة الشاطري: من زار هوداً ولو للفضول غفرت ذنوبه! وهذا لا يخفى أنه كذب على الله وعلى رسوله هود، وإضلال للناس وتغرير بهم، وتعليق لقلوبهم على هذا الكذب الذي ما أنزل الله به من سلطان، وقد حاول الشاطري أن يبرر ذلك، ولكن على طريقته الباطنية. ومنها بشارة من بشر بعودة الزوار بالجنة: قال الحبيب أحمد بن حسن العطاس كما في تذكير الناس: (وكان سيدنا شهاب الدين يجلس عند أراكة بالقرب من بيته، بقرية اللسك أيام الزيارة، ويقول من بشرني أن ولد سالم بن عبد الله زار بالناس وهم سالمون ضمنت له الجنة، فكان الناس يستبقون على التبشير، ولما أسن وثقل كان يجلس بالمجف في تريم لاستقبال أخبار الزيارة، ويقول هذا القول الذي تقدم). وهذا كالذي قبله من الافتراء على الله لإضلال الناس بغير علم، وليس كما قال الشاطري في جوابه على السؤال الثاني عشر أن معنى " ضمنت له الجنة " أي دعوت الله له بالجنة وذلك جائز للمجاز اللغوي. فمن يعقل معنى " ضمنت له على الله الجنة " بهذا الوضوح والتصريح أن ذلك من المجاز اللغوي أي دعوت الله له، فما وجه العلاقة بين ضمنت التي تعني الالتزام الجازم بإعطاء الجنة وبين دعوت التي توجه إلى الله إن شاء قبل، وإن شاء رد، ولو فرضنا على سبيل التنزل أن المتكلم يقصد ذلك فما أدرى العوام بذلك؟ أليس فيه تغرير بهم؟ الجواب: بلى! ولذلك يتسابقون معتقدين صدق تلك الضمانة، لا سيما وقد وصف المذكور بأنه (له اطلاع على أهل القبور، وماهم عليه من عذاب وسرور، وله في ذلك حكايات وخوارق للعادات، منها أنه قيل له: إن بعضهم يقول في قبر الإمام أحمد بن عيسى: أنه ليس بقبره حقيقة، فزاره في بعض زياراته وهو متوجه لقضاء حاجاته، فحصل له عند القبر غيبة وذهول ثم أفاق وهو يقول: اجتمعت بروحانية الإمام أحمد بن عيسى وسألته عن قبره هل هو هذا حقيقة؟ فقال: نعم، فقلت: إني أريد كذا، فقال: تقضى من غير كلفة، ثم ذهب إلى قرية بور، وقصد جامعها، قضيت حاجته في جلسته تلك، وحكي أنه اجتمع بالإمام حجة الإسلام في داره بتريم، وأنه طلب منه الإجازة في جميع كتبه فأجازه)، وهذا الرجل توفي في سنة 946هـ بينما الغزالي حجة الإسلام توفي سنة 505 هـ. فلماذا يحاول الشاطري صرف هذا الكلام عن معناه، وتحريفه عن مواضعه وتفسيره بخلاف مراد قائله وناقله ومروجه بين الناس، وبخلاف ما يفهمه من يحسن الظن بأهل الله؟! إن هذا تجنٍّ على كلام الناس، ولا أدري أيفسر الشاطري تلك البشارة بهذا التفسير عند كل من يحدثه بها، أم أنه يفسرها تفسيرين: تفسير للتصدير، وتفسير للاستهلاك؟!، وأما قوله: " وحولها يبلبل المبلبلون، ولنار الفتنة والفرقة بين المسلمين يشعلون "، فأقول: إن الذي يبلبل ويثير الفتنة والفرقة بين المسلمين هو الذي ينشر هذه الأقوال المضللة والأعمال المبتدعة، والعقائد المنحرفة، وليس الذي يعمل على تصحيح عقائدهم وتقويم سلوكهم وتنبيه عقولهم إلى ما يراد بهذا الإضلال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 272 ومنها أن الضحكة في زيارة هود بتسبيحة: قلت: ولتصديق هذا الوعد من قبل العوام، تراهم يكثرون الضحك واللهو واستخدام المعازف كما سيأتي لأن كل ذلك يحسب لهم تسبيحاً وحسنات، ولهم عادة أنهم كلما مروا بقرية في طريقهم نبزوا أهلها بلقبهم الذي يغضبون منه، وبذلك يكثر الضحك، وانظر الصبان وكرامة سليمان. والعجيب أن الشاطري مع أنه لا شك خبر الحياة واطلع من خلال رحلاته وقراءاته على كثير من أحوال الناس، وأن مثل هذه الدعايات أصبحت ممجوجة عند الناس، إلا أنه – مع ذلك – يصر على تبريرها فيقول في جواب السؤال السابع: (ومعناه أن الكلمة الطيبة والابتسامة والضحكة عند لقاء الإخوان – وذلك لكثرته بينهم في الزيارة – من المعروف والصدقة التي يثاب عليها فاعلها، ودليله ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الكلمة الطيبة صدقة)) (1) (متفق عليه)، وعن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق)) (2) ومعنى طليق: متهلل بالفرح والبشر والابتسام. وأقول: إن هذه الأمة لم تبل بشيء كابتلائها بمزيني الباطل، ومروجي البدعة والمدلسين على عقول عوام المسلمين، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما أخشى على أمتي الأئمة المضلين)) (3). وهذا – والحمد لله – صان الله منه علماء أهل السنة وجعله شعاراَ لأهل البدعة وخصوصاً الباطنية، الذين اشتهروا بالتأويل الفاسد وليِّ أعناق الكلام لموافقة مبادئهم الخبيثة، ولا يفهم أحدٌ من كلامي أنني أرمي الشاطري بالباطنية، فأنا أبرأ إلى الله أن أقول ما ليس لي به علم!. وإنما أعني أن الرجل سلك سلوكهم واتبع سبلهم في التأويل، فالضحك مذموم وليس بممدوح! قال صلى الله عليه وسلم: ((وإياك وكثرة الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب))، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر الابتسام ولكنه لم ير مستجمعاً ضاحكاً حتى تبدو لهواته إلا في مواطن معدودة جمعها بعضهم في رسالة خاصة، فكيف تكون الضحكة بتسبيحة؟ ثم كيف تفسر الضحكة بابتسامة، وقد فرق العلماء بين الضحك والابتسام؟ ولو فرضنا أن ذلك سواء ومعنى الضحكة أي الابتسامة، فلماذا لا تكون الضحكة في السوق بتسبيحة مع كثرة لقاء الناس في السوق وكثرة حاجتهم لملاطفة إخوانهم هناك؟ لماذا لا تكون الضحكة بتسبيحة في المسجد أو في أي مكان آخر؟ ألا أن تلك العبارة مقصودة لذاتها، وهي تهدف كما يهدف غيرها من البشارات والدعايات إلى تجميع الناس لتلك الزيارة ولو بالكذب على الله ورسوله والاستخفاف بعقول الناس!!! وكذلك عمر بن حفيظ فيما نقله عن عبيدون تحت عنوان: " الضحكة في هود بتسبيحة " قال: " ورد حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه السيوطي في الجامع الصغير يقول فيه: ((مزاح المؤمن في السفر عبادة)) (4) هذا معنى ضحكة تسبيحة، مزاح المؤمن في السفر عبادة لأنه ينشط ويخفف أعباء السفر وثقله، وليس هذا أن تضحك بالحرام .. إلى آخر كلامه الذي راح يتحدث فيه عن آداب المزاح. وأقول: أولاً الحديث ليس في الجامع الصغير كما زعم، ولو صح أنه في الجامع الصغير فلا يلزم أنه صحيح كذلك، لأن الجامع الصغير فيه الصحيح والحسن والضعيف والموضوع، والعرب تقول: - ثبِّت العرش ثم انقش - فصحح الحديث ثم احتج به.   (1) رواه البخاري (2989) ومسلم (1009) (2) رواه مسلم (2626) (3) رواه أبو داود (4252) والترمذي (2229) وأحمد (5/ 278) (22447) وابن حبان (16/ 220) (7238) قال الترمذي حسن صحيح وصححه الألباني (4) لم نجده الجزء: 7 ¦ الصفحة: 273 ولو ثبت هذا الحديث لما كان فيه حجة، لأن القوم قد خصصوا ذلك الضحك بأنه الضحك الذي في زيارة هود فقط! ولم يجعلوا كما سبق الضحك في أي موضع آخر تسبيحاً!. إذن هذا القول إنما هو من جملة الأقوال التي يراد بها الدفع بالناس إلى تلك الزيارة بغض النظر عما يترتب عليها. ومنها: لا تعقد ولاية لولي في حضرموت إلا عند قبر هود!! يقول الصبان: " ويقولون أنه لا تعقد ولاية لولي بحضرموت إلا بجوار وفي حضرة نبي الله هود " ويقول العيدروس: " والخلوة عند قبر هود عليه السلام عند مشايخ حضرموت ربحها مضاعف، بل قد فتح عنده على خلق كثير وجمع غفير من أرباب المجاهدات وأرباب الرياضيات بجزيل الفتح وسني المنوحات. 5 - ومنها: حضور الملائكة والصالحين من الأحياء والأموات لتلك الزيارة! في بذل المجهود: " وقال سيدنا أبي بكر ابن الشيخ عبد الرحمن السقاف رضي الله تعالى عنهما لزوجته بنت أبي رشد رضي الله عنهما بعد زيارة عظيمة: أما رأيتني أتطاول عند القبر وأرفع رأسي حين أدعو انظر من يأتي من الصالحين؟ ثم قال: لم يبق في ذلك المكان – يعني حول القبر الشريف - - لا شجر ولا حجر ولا جبل ولا أرض إلا امتلأ من الملائكة والصالحين في تلك الساعة. 6 - ومنها أن هوداً عليه السلام يوزع الجوائز على الزائرين: قال في تذكير الناس: (قال سيدي: ورأيت نبي الله هوداً عليه السلام قائماً عند الشق المعروف، الذي يسلمون عنده ورأيته يجيز الزائرين بشيء كالشبوط التي يعتادها أهل الجهة من الطيب، وصافحته في تلك البقعة). هذه ستة نماذج من الفضائل التي تذكر لزيارة نبي الله هود عليه السلام، وعلامات الكذب واضحة عليها، والافتراء ظاهر لا يحتاج إلى استدلال، وهذه هي بضاعة القوم التي يروجون بها ما يريدون، ويغسلون بها عقول الجهال كفى الله شرهم وكشف عوارهم، إنه على ذلك قدير!! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 274 المطلب الثاني: نماذج من أشعار القوم في الترويج لها ولم يكتفوا بما يشيعونه نثراً بل جندوا الشعر أيضاً لنفس الغرض، واستغلوا خاصية الشعر وخصوصاً أنه يلقى ملحناً، وعلى إيقاع الطبول والشبابات في كثير من الأحيان، فيعمل عمله في الناس، ويهزهم هزاً ويحركهم إلى لزيارة بقوة. فمما ينشدون من القصائد: ياذا البريق الشرقي ... اللي تنمنم من قدا قبر هود نبي رب الخلق ... صلى الله عليه نعم الودود وأشتب جمر العشق ... من ضوء نوره في سحاب النجود وأنهل مزن الودق ... وعم نفعه في جميع الوجود نوره بدأ للزوار مثل القمر في الأغدار يا بخت من هو قد زار يعطيه خير الرزق والأنس والأنوار وسط اللحود باللطف ثم الرفق بصحبة من رب كريم يجود هود نبي مرسل بوادي الأحقاف قبره صحيح سر زره واحذر تكسل واطلب مرادك منه حول الضريح تعطى وتحظى فأسأل بقلب منكسر فقير طريح وإن لاح ضوء البرق فاشرب صفا حالى هنيء الورود ومنها: قد زاره ذو القرنين ... مذكور في تاريخ تيجانهم وزاره كم من زين ... محمد بن علي وعلويهم وابنه نور الدين ... وابنه محمد وابنه غوثهم والبحر زاره وعمر ... والعيدروس الأشهر وضوء النور والشيخ قد أسقى ... عند النبي هود وسمي العمود وأحمد أبي الجعد أرقى ... إلى المعالي وارتقى في السعود وزاره با عباد ... وبنى هناك مسجد وسبع المكان ومنها: قبره محقق يا صاح ... بالموضع المعروف في حضرموت في الشعب نوره يلتاح ... زاروه الأقطاب الكبار الرتوت باشباحهم والأرواح ... ساروا جميعاً للحسين النعوت أو قصيدة عبد الله بن علوي الحداد: (1) يا وجيه إنها هبت رياح السعود ... وأومض البرق في الداجي من أقصى النجود ذكرتني ليالى قد خلت حول هود ... شعب ثبر المرسل وفي العهود ياليالى الرضا عودي ليخضر عودي ... باللقا والتداني بعد طول الصدود التهويدة: ومن النماذج الطريفة لاستخدام الشعر وتجنيده في الحث على هذه الزيارة، ما يسمى بـ " التهويدة " وهي: " إعلان وإعلام مسبق، وتذكير للناس بقرب موعد زيارة قبر النبي هود عليه السلام "، تتم التهويدة في ساحات المساجد بعد خروج المصلين من صلاة العشاء في ليلة 27 رجب، حيث تتم قراءة قصة الإسراء والمعراج في المسجد، كما تتم التهويدة أيضاً في آخر يوم أربعاء من شهر رجب بعد خروج الناس أيضاً من المساجد، وبعد قراءة المولد وصلاة العشاء. والتهويدة هي رفع الصوت بشكل جماعي عند المناداة بعبارات من مثل: هود يا هود النبي. يا نبي الله هوديا مولى النهر – يقصد النبي هود. (2) ويفصل أكثر الصبان حيث يقول تحت عنوان " التهويدة ": " في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب، تقرأ في المساجد والجوامع قصة الإسراء والمعراج، وعند الانتهاء تكون التهويدة، وفي آخر يوم أربعاء من شهر رجب، تقرأ قصة المولد بتريم، وعند الانتهاء تكون التهويدة، وهي تسجيعات تحث على زيارة قبر هود، وعند كل آخر تسجيعة تغنى لفظ الجلالة ثم يقول الجميع بأصوات مرتفعة (هود يا هود). يا غافل اذكر الله .. وقل لا إله إلا الله موجود في كل مكان .. الله الله الله يا هود يا نبي الله يا اللي كلمه الغزال وحنت عليه الجمال رسول الله مولى بلال شفيع الخلق عند الله يا هود يا هود يا نبي الله وبعد الانتهاء من التهويدة يصطف الناس صفوفاً، وتبدأ الأراجيز في مجاميع، كل مجموعة تتكون غالباً من عشرين إلى خمسين شخصاً، ويتوسطهم شلال " حادي " يتغنى بالقصائد، والمجموعة تردد الترجيع الذي لقنهم إياه من أراجيز الإعلام، يا زائرين النبي " يا نبي الله، جئنا إليك " ويستمر الحادي يتلو أهازيجه والجميع يرددون بعد كل بيت " يا نبي الله، جئنا إليك ". ثم هناك أراجيز أخرى: توسلات وتمجيد للمناصب والمشايخ " يا شيخنا يا سقاف " " يا شيخنا يا محضار "، ومن الأراجيز ما هو تمجيد لله كقوله " سبحان من لا يفنى ولا يزول ملكه ". وتعتبر هذه الليلة الشهار (إي الدعوة إلى الزيارة)، ويعتبرها الحاضرون والمرتجزون ليلة سعد فيرددون " يا ليلة السعد عودي " ويتلو الحادي القصائد على هذه النغمة، والغالب أن طبقة العمال والحرف هم الذين يقومون بهذه الأراجيز، ويشاركهم غيرهم من الطبقات الأخرى بقلة" (3)   (1) ((الصبان)) (ص30)، وانظر ((الدر المنضود)) (ص48) (2) ((كرامة سليمان)) (ص292) (3) ((الصبان)) (ص31 – 32)، وذكر عبيدون التهويدة بإيجاز (ص65) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 275 المطلب الثالث: وسائل جذب الزوار لهذه الزيارة سبق أن أثبتنا أن للعاملين على إحياء وإقامة هذه الزيارة أهدافاً كبيرة وبالتالي يعملون بكل ممكن على تحقيقها، ومن المعلوم أن بعض الناس لا يتورع عن استخدام الوسائل غير الشرعية لتحقيق أهدافه، فالغاية عندهم تبرر الوسيلة، وهذا ما يحصل هنا، يقول الصبان: (والزيارة وإن تحدت المفهوم الشرعي أو القيد الشرعي، فإن الدوافع لحضورها تختلف اختلافاً جذرياً، فمن الزوار من يرحل للبيع والشراء، ويدفعه السوق التجاري إلى ذلك، ومنهم من يرحل للنزهة، ويرى فيها متنفساً من متاعب العام، ومنهم من يرحل للتبرك وطلب المدد من المزار له، ولكل امرئ ما نوى). وفقهاء الشافعية يصرحون بما لا يدع مجالاً للشك بتحريم المعازف وآلات اللهو، ومنها الطبول والشبابات كما ذكر ذلك بتوسع العلامة ابن حجر الهيتمي في كتابه (الزواجر عن اقتراف الكبائر ج2 ص 202 – 211) وفي كتابه الخاص بذلك (كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع)، ومع ذلك فاللهو المصحوب بالطبول والشبابات هو السمة الغالبة على هذه الزيارة، يقول الصبان: (منذ أن يتحرك الركب فهو يعيش عوائد وتقاليد وأغاني وأناشيد منها ما هو مستحسن، ومنها ما هو غير مستحسن)، ويقول: (عند الصباح الباكر يتوافد الجميع إلى الساحة الكبيرة، ويمشي الجميع أولاً لزيارة الأضرحة الموجودة في كل بلد كجزء من الزيارة، وتخرج العدة والخابة – أي الألعاب الشعبية – على اختلاف أنواعها يقوم بها أهل الحرف والعمال ويمشي المناصب والسادات والمشايخ قبل أهل العدة والخابة وتزغرد النساء). ويقول: ويبيت الركب في فغمة أو يبحر وهي على أميال من شعب هود، وتكون هذه آخر مرحلة إلى الشعب وتكون فيها السمرات بالمغاني والأهازيج، وفي الصباح يرحل القوم، وعند دخولهم للجبل تكون الدخلات بالزوامل والخابات)، ويقول: (أما المناصبة فإنهم يعودون إلى الخدور في ظل خابات العمال والذين يترنمون بالأهازيج المناسبة)، ويقول: (تقام في ليالي الزيارة ألعاب شعبية، ورقصات الشبواني والخابة، فكل بلد تقوم بألعابها، وأمام بيت منصبها وحتى الليل)، وحتى الزيارة الأساسية التي تعتبر الركن الأعظم من أركان زيارة هود هي الأخرى تتميز عن غيرها بكثرة اللهو واللعب، ومظاهر الفخر والعظمة، ويقول الصبان: (تكون الوقفة يوم الحادي عشر بزيارة آل الشيخ أبو بكر بن سالم، وزيارة آل شهاب الدين ففي اليوم الحادي عشر تكتمل وفود الزائرين، ومن أدرك الوقفة فقد أدرك الزيارة، والوقفة يوم الحادي عشر من شعبان صباحاً، وشبهت وسميت بالوقوف كالوقوف بعرفات، فمن أدرك الوقوف بعرفات أدرك الحج ومن فاته الوقوف بعرفات فاته الحج وهكذا الزيارة. ويدخل آل الشيخ أبو بكر بن سالم بالطيالة والأهازيج والطبول، ويجتمع الناس من كل الزوار، ويكون لزيارتهم ودخلتهم زجل عظيم، وتعتبر دخلتهم الدخلة العظمى وهي في مراسيمها لا تختلف عن الأطر المقيد بها نظام الزيارة كما ذكرنا، إنما بالطيالة والطبول والبيارق وكثرة الناس). وهكذا منذ الانطلاق من البلدان المختلفة، والقوم في لهو ولعب، وحتى العودة إلى ديارهم، وبذلك تختم كما فتحت به، يقول الصبان: (وفي عصر يوم الثالث عشر تبدأ الدخلات بالألعاب الشعبية والخابة بأنواعها، وتردد " زرنا وقد رجعنا عسى القبول "، ويردد الجميع هذا الترجيع ويتقدم المناصب والحبائب والمشايخ، وتدق الطبول وتقام الرقصات الشرعية ويزغرد النساء، ويقام في تريم سباق أخير للإبل عند مدخل تريم، وعند علب المجف بتريم ينتهي التجمع الجماعي ويبتدئ إيصال المناصب إلى بيوتهم، كل منصب توصله خابّة حافته إلى بيته، والجميع إلى بيوتهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 276 وفي سيئون ينتهي التجمع في ساحة طه حيث يرتب المنصب الذي زار الفاتحة تحت قرع الطبول الشعبية، ثم يبتدئ أهل الحافة بإيصال المناصب إلى بيوتهم بالعدة والألعاب والخابة وزغردة النساء). فهذه هي الوسيلة الأولى لجذب الشباب المائل إلى اللهو واللعب لتلك الزيارة، فهو يعيش ألعاباً ورقصات شعبية وفنوناً مختلفة من اللهو منذ أن ينطلق من بيته حتى يعود إليه!!. أما الوسيلة الثانية من وسائل الجذب فهي وسيلة قبيحة محرمة ولكنها محببة للعوام، لما فيها من الشد والجذب ومضايقة بعض الناس وإثارة غضبهم، وهي وسيلة التنابز بالألقاب، فالزوار كلما مروا بقرية نبزوا أهلها بلقبهم الذي يغضبون لذكره، وتحصل هناك مناوشات تضفي جواً مرحاً يحرص البطالون عليه ويتلذذون به، يقول الصبان وهو يتحدث عن عوائد المسير إلى الزيارة: (لكل بلد أو قرية من قرى حضرموت غالبا لقب تلقب به على غير رضى به، وعندما يمر أي ركب يردد بصوته بترديد جماعي لقب تلك البلدة أو القرية ليثير حفيظتها، ومن الناس من يتندر عندما يسمع لقب بلدته، ومنهم من يغضب ويقوم للمضاربة)، وهذا الأمر مستفيض عند من يعرف عادات تلك الزيارة مع النهي القرآني الواضح في قول الله تعالى: وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ [الحجرات:11]، وقريب من ذلك عادة أخرى هي عادة الوعيلة والعبيب. يقول الصبان: (الوعيلة هو الذي لم يقم بزيارة هود قبل هذه الزيارة، وهذا يلقى من الجمهور شماتة – ويعبعبون عليه – والعبعبة كهدير الجمل على الناقة، وتخرج بعض الشفاه لعاب وتفل يؤذي الإنسان، ويكاد يبكي ويتضارب معهم، فتراهم يلفون حوله بأصوات مزعجة، لكن المناصب يقولون: الضحكة في هود كالتسبيحة في غيرها، وهؤلاء السذج يريدون أن يضحكوا الناس على العويلة!!، وعلى العويلة عندما يصل قبر هود وتشاهد عيناه القبر رأس غنم كفدية تعطى للخبرة هدية منه وإلا فالويل له إن حرم الخبرة حقها). (1) والوسيلة الثالثة: سباق الإبل، فالرياضة من أهم ما يشد أنظار الجماهير، وكما هو واضح اليوم ما للرياضة من تأثير كبير في حياة الناس، كذلك الحال في من قديم، فلم يغفل المنظمون هود هذه الوسيلة، بل استفادوا منها لجذب مجاميع من الناس لهم الهواية والولع بهذا الضرب من الرياضة، يقول الصبان: (يقام السباق بين الجمال قبل الدخول إلى الشعب، ولأهل تريم في هذا السباق القدح المعلى، فإنهم يقومون بالسباق، ويتكرر السباق مرات قبل الوصول إلى الشعب، وعند الوصول وعند الرجوع من الزيارة). الوسيلة الرابعة: إعطاء العمال عطلة رسمية من العمل حتى يتمكنوا من الزيارة، يقول الصبان (تعتبر أيام الزيارة ثمانية أيام، وهي أيام استراحة لهم، وهم يعدون أنفسهم بالتمتع بهذه الأيام، يقول شاعرهم: يا فرحة القلب لا قالوا دخل شهر هود ثمانية أيام باتسلى صباح المقود ثمانية أيام في راحة ونحنا قعود الوسيلة الخامسة: وسيلة التجارة والبيع والشراء، فكثير من الناس يأتون إلى ذلك المكان بقصد الربح والبيع والشراء، وهم بذلك يكثرون سواد القوم، ويتأثرون بهم، ويأخذون بعض ما عندهم، وهكذا كانت أسواق الجاهلية، كانت تقوم على أساس عقدي ثم يضاف إليها ما يحمل الناس على حضورها كالتفاخر والمسابقات الشعرية التي يتوج فيها الفائز شاعراً للعرب والتجارة ونحو ذلك، ولا شك أن الكم الهائل من الناس الذين يفدون إلى ذلك الشعب بحاجة إلى من يحضر متطلباتهم من الغذاء والشراب وغير ذلك، فمن هنا يأتي التجار وطلاب المكاسب وإن لم يكن لهم قصد في الزيارة نفسها، فتشملهم البركة وتعمهم المغفرة، لأنهم يقولون لهم: (من زار هود ولو للفضول غفرت ذنوبه)، هذا إلى جانب الفضائل التي سبق الكلام عنها.   (1) وهذا شبيه بما يعتقده العوام من أن كل حاج يحج لأول مرة عليه هدي أو فدية تذبح في مكة وتعطى للرفقة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 277 المطلب الرابع: مظاهر وثنية في هذه الزيارة النص على وجود الشعور الوثني والمظاهر الوثنية في زيارة هود عليه السلام: لقد صرّح بعض المؤرخين والباحثين الذين زاروا وشاركوا القوم فيما هم فيه، واطلعوا على ما يمارسون من شعائر، وما يكمن وراء تلك الشعائر من عقائد، لقد نصوا على وجود الوثنية في هذه الزيارة. فمن ذلك ما قاله الأستاذ صلاح البكري في كتابه (تاريخ حضرموت السياسي): " وقد بولغ في تقديس هذا الضريح، فتراهم يشدون الرحال لزيارته، وعندهم شيء من بقايا الشعور الوثني الذي كان يشعر به العرب للات والعزى يستعينون به ويتجهون إليه ويولون وجوههم شطره لقضاء الحاجات واستنزال البركات ودفع الكربات". ومن ذلك ما قاله الأستاذ محمد عبد القادر بامطرف في ملاحظاته على الهمداني: " ويحتمل أن يكون هذا المكان سوقاً من الأسواق اليمنية الموسمية القديمة، وقد أقيم هذا القبر ليعطيها طابعاً وثنياً جذاباً "، ومن ذلك ما قاله الأستاذ كرامة سليمان في كتابه (الفكر والمجتمع في حضرموت) وهو يتحدث عما يفعله العوام عند ذلك القبر المزعوم: " وتخفي هذه العادة المستحكمة اعتقاداً بقدسية هذه الشقوق التي أحدثها انفلاق الحجر، لولوج النبي هود واختفائه داخلها، إن هذه العادة تجسد الوثنية بعينها ". وحتى المستشرقون يشمتون بنا ويصفون بعضاً منا بأنهم وثنيون، لما يبدونه من تقديس لهذا المكان، قال المستشرقان (دانيال فان در ميولين، والدكتور فون فستمان) في كتابهما (حضرموت إزاحة النقاب عن بعض غموضها): (وفهمنا الآن البدوي الذي يسمي نفسه مسلماً، ولكنه ما زال وثنياً حيث يقترب من هذه البقعة برهبة مقدسة). هؤلاء بعض الباحثين والمؤرخين الذين رأوا تلك البقعة وما فيها من قدسية وشعور نحو صخورها وبناياتها، لا يترددون في إطلاق الوثنية عليها، فكيف لو رأى ذلك علماء التوحيد وحماة العقيدة والغيورون على صحة المنهج؟ فماذا تراهم يقولون؟. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 278 المطلب الخامس: الطقوس الوثنية فيها إن الوثنية في العالم بدأت بتقديس الصالحين والغلو فيهم وتعظيم مواطن عباداتهم ومجالسهم، أو تعظيم قبورهم ومشاهدهم، كما حصل ذلك في قوم نوح عليه السلام، وكذلك بدأت الوثنية في العرب بتعظيم أحجار الحرم، حيث كان العربي ينقل معه إلى باديته حجراً من أحجار الحرم ليتبرك به ويطوف حوله كونه من بيت الله الحرام، ثم تطور الحال فصارت تلك الأحجار أصناماً تعبد من دون الله تعالى، ولهذا نهي العلماء عن تقبيل القبور والتمسح بها والتبرك بها، وحتى مروجوا زيارة هود قد نصوا على ذلك، كما في " بذل المجهود " و " وسيلة الصب الودود " ومقدمتها لحسنين محمد مخلوف، وغير ذلك من كتبهم، ولكن النظرية شيء والتطبيق شيء آخر، ولذلك ظهرت بعض الطقوس الوثنية في هذه الزيارة. منها دعاء نبي الله هود من دون الله، ودعاء غيره أيضاً، ومنظموا هذه الزيارة يشجعون على ذلك، ففي فترة التحريض على الزيارة، كثيراً ما يرددون هذين البيتين: هود النبي المرسل ... في واد الأحقاف قبر صحيح سر وزره واحذر تكسل ... واطلب مرادك منه حول الضريح إذ يحثون الناس على طلب مرادهم من هود عند ضريحه!!. كما أن هناك دعاء لكبار أوليائهم، وذلك منظم ومرتب ترتيباً خاصاً، في زيارة كل واحد من أولئك الأولياء (أي حينما يزور أحفاده القبر) يدعو الأتباع لذلك الولي يقول الصبان وهو يصف الزيارة ومراسمها: (ثم يأتي دور – يا شيخنا يا بن سالم – و – يا شيخنا يا سقاف – توسلات ونداءات). (1) قلت: وكذلك يقولون كما حكى لي الثقات ممن كانوا يحضرون هذه الزيارة. (يا نبي الله جئنا إليك .... والمنشر علينا والمرجع عليك). وحيناً (يا عيدروس ... يا عيدروس المسمى ... يا عيدروس). وحيناً (أبو بكر بن سالم ... خاطرك اليوم معنا). وحيناً (شيخنا يا حداد ... ساعة من العفا). وحيناً (شي لله يا عمر) يقصدون عمر المحضار، وتارة (يا شهاب الدين يا أحمد). كل هذه الدعوات لغير الله تعالى، على مسمع ومرأى من علماء القوم ووعاظهم ومناصبهم وحبايبهم دون أي إنكار، وهم قادرون على ذلك لو أرادوا، بل قد فعلوا حينما دعت حاجتهم لذلك، قال في تذكير الناس: (ومن عادة أهل تريم أنهم يتوسلون بالسلف في مرازحهم، فوقعت مرزحة في طريقهم لزيارة نبي الله هود ومعهم (غرامة) (2) وليست له عقيدة صالحة في أحد، فلم يدروا ما يقولون، فقال لهم الحبيب عبد الله بن حسين بلفقيه قولوا: (سبحان من لا يفنى ولا يزول ملكه)، فالكل متفقون على ذلك إذن. ومنها التمسح بما يزعم أنه القبر وما حوله: يقول الأستاذ صلاح البكري: (وفي وسط القبة يقوم بناء مستدير كقاعدة سميكة فوق صخرة ويظن أن المكان هو الذي انشقت فيه الصخرة، وقد صقلت هذه الصخرة آلاف الأيدي التي مرت عليها، وآلاف الشفاه التي قبلتها).   (1) انظر ((كرامة سليمان)) (ص294) (2) وهو أحد حكام تريم ممن تأثروا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 279 ويقول الأستاذ كرامة سليمان: (وفي القبة تناولت كتيباً عن آداب الزيارة، ومما في هذا الكتيب توصية بعدم تقبيل القبر لأنه مخل بالعقيدة الإسلامية، ولكن العادة المترسخة لدى السذج والعوام لم تنصت لهذه النصيحة، وأقبل هؤلاء على الصخور والأحجار التي يعتقدون أنها مُقَدِمَة رأس القبر، يدخلون رؤوسهم وصدورهم في شقوق هذه الصخور ويتمسحون بها، وكثير من هؤلاء الزوار السذج من يغمس إصبعه في زيت مدهنة موضوعة بالقرب من فوهة القبر المزعوم ويمسح بالزيت على سطوح الصخر، ثم يتمسح بهذه السطوح تبركاً، وقد أصبحت السطوح ملساء سوداء من كثرة التمسح بها، وتخفي هذه العادة المستحكمة اعتقاداً بقدسية هذه الشقوق التي أحدثها انفلاق الحجر لولوج النبي هود واختفائه داخلها، إن هذه العادة تجسد الوثنية بعينها. لِمَ لا تبعد هذه المدهنة؟ ولماذا لا تزال هذه الصخور المشققة الخرافية؟ ولماذا لا يحذر الوعاظ والمرشدون من مغبة هذا السلوك الوثني؟ وإذا كان السكوت على هذه الأعمال المخلة رضا فهاهنا يكمن الخطر). قلت: لا شك أنه الرضا، وأما ما في الكتب فهو عذر يُقدم لمن انتقد، فيقال هذه الكتب تحذر من ذلك، لكن معظم من يحضرون للزيارة عوام لا يقرءون، ومن يقرأ فليس لديه الوقت للاطلاع على هذا التحذير، ولو قرأ لغلبه ما يرى الناس عليه، بل أن هناك دعوة صريحة إلى ذلك، هي الحقيقة المعبرة عن النفوس، وقد نقل صاحب (بذل المجهود) قصيدة في آداب الزيارة تحتوي على مراعاة ما ذكره الفقهاء، ثم التأكيد على ما في النفوس الذي هو المطلوب بالفعل: وسلم إذا ما زرته متأدباً ... على الأنبياء أهل العُلا والتفضل واقصد غدير الماء ثم اغتسل ... وسبح وحمد ثم كبر وهلل إلى البئر تلك الحد سلم بها وعج ... إلى ذلك القبر المنيف المحلل ورد السلام أعني الذي قد ذكرته ... لدى البئر عند القبر مع سورة تلي وقف حوله مستقبل القبر وانتزح ... قليلاً مع التأديب إذا ذاك وأسأل ونيل المنى حقق بربع به الورى ... تغاث وللوارد أعظم منهل والثم ثرى تلك البقاع ممرغاً ... بخديك تعظيماً وللترب قبل ولا تسمع للواشي إذا ما نهاك قل ... خلعت عذاري في هواهم وحول وأزكى صلاة الله ثم سلامه على ... المصطفى المختار مع ذا النبي العلي (1) ومن مظاهر الوثنية التي تبدو ويلاحظها كل من زار ذلك المكان ويستنكرها، مظهر يدل على اعتقاد خاطئ لدى الكثير من الزوار، مع السكوت عليه وإقراره من القائمين على تلك الزيارة إن لم يكونوا هم يعتقدون ذلك الاعتقاد. يقول الأستاذ صلاح البكري: (يأتي الشخص من العوام القبر ومعه قطعة من الخشب بها خيط ملون من الصوف في نهايته قطعة صغيرة من الحجر، أما القطعة الخشبية فتوضع في الحائط الخارجي للقبة، ولا يُسمح بقذف الخشب في داخل القبة، أما الخيط الصوفي فيجمع ويرطب باللعاب ويقذف في الحائط أو السقف، ولهذا تظهر الحيطان والسقف كأنها مغطاة بطبقة من الورق المزخرف أو زينت بنقوش مختلفة الألوان) (2) ويقول المستشرقان في كتابهما: وهما يتكلمان عن ذلك البدوي الذي ما زال وثنياً حسب تعبيرهما يقولان: (وهو أو في الغالب هي يحمل في يده وتداً خشبياً، وخيطاً ملوناً من الصوف، مربوطاً في نهايته حجر صغير، ويدفع الوتد داخل الحائط الخارجي للقبة أو داخل حدود الصخرة المستديرة المطلية بالأبيض التي تحدد المكان الذي يرقد فيه الجسد، ويبدو أنه غير مسموح بدفع الأوتاد داخل قمة القبة، أما خيوط الصوف فتمضغ في شكل كتل وتخلط باللعاب وتغرز في الجدران والسقف فتصبح الجدران مزينة بشكل مسرف، حتى لتبدو أنها مغطاة بورق حائط ملون أو أثْرَتها رسومات بألوان زاهية). (3) قلت: وقد رأيت ذلك بنفسي عند زيارتي للموقع في قبة القبر، وفي القبة التي عند قبر التسلوم، وأخبرني الأخوة المرافقون أن الذين يصنعون ذلك يعتقدون أن من ثبت ما يرمي به حصل على لباس جديد. ومن مظاهر الوثنية هناك: الحجر الرمادي اللون الصغير الحجم الذي فيه حفرة طبيعية غير عميقة، والذي قد نصب بإحكام في الدرج الواصل بين صخرة الناقة وبين القبر، والذي يزعمون أنه موطئ قدم هود عليه السلام، حيث يمر به الزوار ويمسحونه بأرجلهم تبركاً به، وآثار ذلك واضحة على الحجر. المصدر: زيارة هود عليه السلام وما فيها من ضلالات ومنكرات لأحمد بن حسن المعلم - ص 112 - 146   (1) ((بذل المجهود)) (ص10) (2) (ص65) (3) (ص184) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 280 أولا: المناسك الزمانية اتفق كل من كتب عن زيارة هود مما اطلعنا على كتابته، أن هذه الزيارة ليست مجرد زيارة قبور يسلم فيها الزائر على أهل القبور ثم يدعو لهم وينصرف عنهم، وإنما لهذه الزيارة مناسك مرتبة لا يجوز تقديم شيء منها عن موضعه أو تأخيره عنه، وهذه المناسك مناسك زمانية ومناسك مكانية، وهذا تشريع ما لم يأذن به الله، وتشبيه لهذا القبر ببيت الله الذي جعله منسكاً ليذكر اسم الله عنده. لقد رُتِّب كل شيء واتُخذ سنة تجب المحافظة عليها، ولا يجوز الإخلال بها، وذلك على النحو التالي: يعتبر شهر جمادى الثانية وشهر رجب هما شهرا التحريض على الزيارة. (1) ليلة السابع والعشرين من رجب - وبعد قراءة الإسراء والمعراج في الجوامع – تكون التهويدة وهي أول طقس خاص من طقوس الزيارة. (2) ليلة آخر ربوع من رجب هي ليلة الإشهار الرسمي للزيارة، وهي ليلة سعد لديهم. (3) يبتدئ رحيل أهل سيئون وما كان غربيها يوم الرابع أو الخامس من شعبان، كما يبتدئ رحيل شرقي سيئون يوم السابع أو التاسع (4)، وهذا قبل توفر السيارات. الأيام المحددة للزيارة هي ثلاثة أيام: الثامن والتاسع والعاشر. ترتيب أيام الزيارة على النحو التالي: (في اليوم الثامن من شهر شعبان تقام زيارتان: الأولى منهما وقت الضحى، وهي لآل الحبيب الحبشي بالحوطة، نسبة للحبيب أحمد بن زين الحبشي، والثانية: عصر هذا اليوم لآل الحبيب الحبشي بسيئون نسبة للحبيب علي بن محمد الحبشي رضي الله عنه. أما أهل تريم فإن زيارتهم تبدأ في اليوم التاسع ولهم فيه زيارتان نهاراً، الأولى: لآل بلفقيه، نسبة للحبيب عبد الرحمن بن عبد الله بلفقيه، المشهور بعلامة الدنيا (!!)، والثانية: لآل الحداد نسبة للإمام الحبيب بعد الله بن علوي الحداد، وعصر ذلك اليوم زيارة الحبيب حامد بن عمر حامد باعلوي، وفي اليوم العاشر تقام زيارتان، الأولى لآل بن شهاب نسبة للحبيب شهاب الدين، والثانية: هي أكبر زيارة وهي زيارة آل الشيخ أبي بكر، نسبة لسيدنا الشيخ أبي بكر بن سالم باعلوي، من عبيدون بالحرف. (5) يوم العيد (يعتبر يوم العاشر يوم عيد الزوار بالشعب، فينحرون الأغنام ويأكلون ألذ المأكولات، ويتفننون في الطهي، وفي أجناس الطعام من الهريسة وغيرها) (6) الوقفة: (تكون الوقفة يوم الحادي عشر بزيارة آل الشيخ أبو بكر بن سالم، وزيارة آل شهاب، ففي اليوم الحادي عشر تكتمل وفود الزائرين، ومن أدرك الوقفة فقد أدرك الزيارة، والوقفة يوم الحادي عشر من شعبان صباحاً، وشبهت وسميت بالوقفة كالوقوف بعرفات، ومن أدرك الوقوف بعرفات أدرك الحج ومن فاته الوقوف بعرفات فاته الحج، وهكذا الزيارة. (7) وقد خالف الصبان في الترتيب حيث جعل الوقفة يوم الحادي عشر، بينما اتفق الآخرون على أنها يوم العاشر وكما سبق ذلك في النقل عن عبيدون. وللقبائل دخلة أيضاً، ولكنها تختلف عن دخلات السادة من حيث أنها تكون في الوقت الذي قد انصرف فيه كثيرون من الزوار، وأن القبائل لا يستقلون بأنفسهم بل لابد الزيارة بهم أحد السادة آل حامد، يقول الصبان: (وفي عصر الحادي عشر من شعبان تكون دخلة القبائل المناهيل، يتقدمهم ويزور بهم منصب آل حامد، وتكون الزيارة بالمراسيم المحددة، من الغسل في النهر والتسليم، والزيارة أمام القبر، والمولد عند الناقة، وتمتاز بإطلاق العيارات النارية من البنادق، وإقامة النصع وإطلاق العيارات حتى يصاب النصع). (8) النفرة الأولى: (تبتدئ النفرة الأولى عصر يوم الحادي عشر، فينفر ويرحل آل علوي، وآل سيئون ومن كان غربي سيئون). (9) النفرة الأخيرة: (أما موكب أهل تريم فيبتدئ يوم الثاني عشر من شعبان). (10) يوم الحلق والتطيب: (يجتمع الزوار يوم الثالث عشر من شعبان كلٌ أمام مدينته أو قريته، ويعتبر ذلك اليوم يوم التطيب، فيذبحون وينحرون الأغنام ويحلقون رؤوسهم). (11) الدخلات: (في عصر يوم الثالث عشر تبدأ الدخلات بالألعاب الشعبية والخابة بأنواعها، وتردد: زرنا وقد رجعنا عسى القبول). (12) الخاتمة بالشعبانية: (عصر يوم الرابع عشر ليلة الخامس عشر، يقرأ دعاء شعبان المشهور، وتزار المشاهد والأضرحة ثم تقام الألعاب الشعبية بين الحويف والخابة، ويجتمعون جميعاً في مكان معين، وقد يحصل احتكاك بين الحويف المتنازعة. وبالشعبانية تنتهي عوائد ومراسيم الزيارة). (13) هذه هي المناسك الزمانية، وهذا ترتيبها من كتب القوم أنفسهم، وهي تدل على أن الأمر ليس زيارة قبر، ولكنه مناسك متكاملة ومرتبة، كما جعل الله ذلك لبيته الحرام (!!!).   (1) ((الصبان)) (ص29) (2) ((الصبان)) (ص31) (3) ((الصبان)) (33) (4) عبيدون 67 (5) (ص67 – 68) (6) ((الصبان)) (ص43) (7) ((الصبان)) (ص41) (8) ((الصبان)) (ص42) (9) ((الصبان)) (ص43) (10) ((الصبان)) (ص43) (11) ((الصبان)) (ص 43) (12) ((الصبان)) (ص44) (13) ((الصبان)) (ص45) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 281 ثانياً: المناسك المكانية هناك أماكن لابد لزائر هود أن يمر بها، وأن يفعل عندها الطقوس التي شرعها لهم منظموا الزيارة، غير أن هذه الأماكن تختلف، فمنها ما هو كالركن الذي لا يسقط بحال، ومنها ما هو كالواجب الذي يسقط بالعذر، ومنها ما هو مستحب لا حرج في تركه!!. أول مناسك هذه الزيارة: زيارة أضرحة ومشاهد القرى، فكل أهل قرية يبدءون بزيارة مشاهد وأضرحة قريتهم. زيارة مشاهد الشيخ فخر الوجود: أبي بكر بن سالم وأبنائه بمدينة عينات، وهذا المنسك عام لكل الزوار الذين يمرون من تلك الطريق. 3 - المحذفة: وهي عبارة عن صخرة كبيرة منحدرة من الجبل، ومستقرة على جانب الوادي تمر بها طريق الزوار، فإذا حاذوها كرروا هذه العبارة على طريقة الرجز (وصلنا المحذفة يا عويلة حذفوها)، فالحذف هو الرمي أو الرجم، والمحذفة تأنيث المحذف أي المرجم، فيقفون عندها، ويرجمونها بالحجارة التي تشبه بيض الدجاج أو أكبر قليلاً، وقد شاهدت الصخرة وعلى ظهرها وفي جوانبها أكوام الحجارة التي رجمت بها، وهذا تشبيه بجمار منى التي يرميها الحجاج!!. قبر الكافرة: ولئن كان العرب قبل الإسلام يرجمون قبر أبي رغال الذي دل أبرهة وجيشه على طريق مكة، وربما تقربوا إلى الله برجم قبره واعتبروه من مناسكهم، كذلك زوار هود لديهم – كما يزعمون – قبر يرجمونه ويسمونه قبر الكافرة، وتقول الخرافة التي لا يتعرض عليها علماء القوم لنقدها وإبطالها: إن هذا القبر اعترض سبيل الزوار ليوهمهم ويضللهم عن قبر نبي الله هود، وهو لامرأة كافرة فاستحق المقت والغضب، وصار الزوار على تعاقب الأزمان يقفون عنده ويشتمونه ويتفلون عليه، وربما رجموه، وقد وقفت عليه عند زيارتي لشعب هود، فرأيت حبالاً طويلة من الحجارة معترضة في جانب الوادي، ربما كانت حاجزاً مائياً قديماً أو حدود مزرعة مندثرة، المهم أن الخرافة نسجت حبالها حوله وأدرج في مناسك زيارة هود عليه السلام!! وذلك تشبه بأهل الجاهلية النهر المقدس: وهذا نهر ممتد على مساحة طويلة يمر بأودية وأرض زراعية فسيحة وتحفه النخيل والأشجار من جانبيه، يأتي قبل موضع القبر بعد أميال ويتجاوزه كذلك بعدة أميال، غير أنه لا يقدس منه إلا الجزء الذي بحذاء القبر المزعوم! أما ما قبل ذلك الموضع وما بعده فلا قدسية له، وقد سبق أن نقلنا زعمهم أنه من أنهار الجنة! والطقوس التي تؤدى في هذا النهر هي الاغتسال والشرب ولكن بطريقة خاصة! يقول الصبان تحت عنوان " الغسل في النهر ": (تتوافد كل مجموعة زوار من بلد إلى النهر، وإلى الناحية التي يقف فيها المنصب، وكل بلد يتقدم زوارها منصب وحبيب أو شيخ ويبدءون في نزع ثيابهم للغسل إلا ما يستر العورة، ويغتسلون في النهر وهو يرمز إلى تطهيرهم من الخطايا والدنس)، ثم يقول تحت عنوان " السقيا ": (تتزاحم الزوار على المنصب أو الحبيب أو الشيخ وهو يسقيهم بيده من النهر تبركاً به، وهو يرمز إلى الشرب من الكوثر يوم القيامة). (1) حصاة عمر: هذه الحصاة من المناسك المتفق عليها، وقد جعل حولها مصلى بني وسوي بالأسمنت المسلح، وذلك تأسياً وتبركاً بمن كان يتعبد عند هذه الحصاة (عمر المحضار)، (عندما ينتهي الغسل والسقي يتأهب الجميع لأداء مراسيم الزيارة، وقبل أن التحرك يركع كل زائر ركعتين أمام حصاة تعرف بحصاة عمر – أي عمر المحضار- نقيب العلويين المتوفى سنة 893 هـ (1487م)، ويركع الجميع ركعتي سنة الوضوء ويتوجهون إلى بئر التسلوم). (2)   (1) ((الصبان)) (ص38) (2) ((الصبان)) (ص38) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 282 بئر التسلوم: أو البئر المعطلة عن النزح (انظر وسيلة الصب الودود ص 18)، وللقوم في هذه البئر ثلاث خرافات، الأولى: أنها البئر المعطلة المذكورة في القرآن، كما سماها صاحب وسيلة الصب الودود، وليس هناك أي دليل على هذا الزعم (انظر الحامد ص 76 – 77)، والخرافة الثانية: أنها ملتقى أرواح الأنبياء والرسل والأولياء والصالحين، وهذا ما ذكره الصبان ويؤيده لفظ السلام عند هذه البئر، والذي يشمل الأنبياء والرسل والملائكة والصالحين، وهذه كذبة كبيرة وخرافة عظيمة لا أصل لها. الخرافة الثالثة: وهي التي لم أرَ أحداً ذكرها من المؤلفين إلا أنها شائعة عند بعض العوام، وهي أنها متى ملئت بالتراب قامت القيامة!! يقول الصبان: (يقف الجميع أمام بئر التسليمة والمعروفة الآن والتي يقال عنها أنها ملتقى أرواح الأنبياء والرسل والأولياء والصالحين، كما أن برهوت ملتقى أرواح الكفار، كأن الأخيار والأشرار كلهم بحضرموت!، يقف الجميع ويتقدم الحبيب أو المنصب أو الشيخ، ولا يقوم بالتسليم في الغالب إلا من ينتمي إلى العلويين فيبتدئ بالسلام على الرسل والأنبياء مبتدئاً بمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: السلام على جبريل وعلى آدم إلى آخر السلام على الأنبياء والمرسلين والملائكة، ثم يتوجه الجميع لزيارة القبر. (1) القبر المزعوم: وقد كان التسلوم (كما يقولون) مقصوراً على البئر فقط، وذلك قبل أن يكتشف القبر، فلما اكتشف القبر كرروا التسليم عنده. (2) (بعد التسليمة عند بئر التسلوم يتوجه الجميع في زجل دعائي إلى القبر، ويقفون تجاهه، ويسلمون مثل التسليمة الأولى وهم قيام، ثم بعد انتهاء التسليم يجلسون ويقرءون سورة هود ثم ترتيب الفاتحة، يرتبها الحبيب المنصب، ويستمد ويسأل ويتوسل، ويطالب بتحقيق المطالب، ثم يخرجون ويرددون: إن قيل زرتم بما رجعتم ... يا سيد الرسل ما نقول؟ قولوا رجعنا بكل خير ... واجتمع الفرع والأصول (3) المنسك التاسع: من مناسك الزيارة الوقوف أمام الصخرة التي أسفل القبر المزعوم، والتي يزعمون أنها ناقة هود المتحجرة، وقد حظيت هذه الناقة بعناية كبيرة جداً، فهناك أمامها ساحة واسعة جداً، مبنية بالحجر، ومطلية بالنورة، وحول الصخرة رواق مسقوف على أعمدة كثيرة من الحجارة المتوجه بأقواس وعكوف متينة. ولا تزال التوسعة مستمرة إلى هذه الساعة، ليجتمع عندها أكبر عدد ممكن من الزوار، وعندها تقام الموالد والمواعظ والسماع الصوفي (بعد الانتهاء من الزيارة الأولى عند الضريح، يخرج الجميع عند الصخرة الناقة المتحجرة - أي التي صارت حجراً - وتقرأ قصة المولد النبوي في هذا المحل، ثم يقف المذكر ليذكر، وتنشد القصائد الوعظية، وترتب الفاتحة، ومحل الناقة وأمام الضريح من الأماكن والمحلات المقدَّسة والتي تطلب فيها الحاجات واستنزال البركات ودفع الكربات). (4) وقد اطلعت على شريط فيديو لزيارة آل الشيخ أبي بكر بن سالم لعام 1419 هـ ورأيتهم وهم حول الناقة مجتمعون، يقرءون ويعظون ويذكرون وينشدون السماع الصوفي، ولفت نظري أنهم من بين القصائد التي ينشدونها ويرددونها مع الدفوف والأصوات الجماعية وبحضور معظم علمائهم، ومن بينهم: عمر بن حفيظ وأخوه مشهور – من بين تلك القصائد، القصيدة المنسوبة للشيخ أبي بكر بن سالم والتي يصرح فيها بالكفر الصراح ووحدة الوجود، التي لا مناص من إثباتها عليه وهذا نصها: صفت لي حميا خلي ... وأسقيت من صافيها وأقبل وثني يملي ... على الذي يعليها ومن ذا شربها مثلي ... أنا قبل لا يصفيها   (1) (ص39)، وانظر صيغة هذا السلام في ((وسيلة الصب الودود)) (ص18، 19 و 20) (2) انظر ((كرامة سليمان)) (ص287) (3) ((الصبان)) (ص39)، وعبيدون (ص69) (4) ((الصبان)) (ص40) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 283 أنا قبل قبل القبل ... وبديت على هاليها أنا أعطيت كل الفضل ... تكرم علي باريها أنا المجتبى بين أهلي ... وشفعت في عاصيها أنا شيخ أهل الوصل ... تكرم عليّ واليها أنا أعزل أنا للي ولي ... وأنا شيخها وقاضيها أنا حتف لأهل العذل ... ونار الجحيم أطفيها وسيفي ودرعي مجلي ... وأعقب على تاليها ومن كان ينكر فعلي ... يجرب وأنا حاميها أنا بازها والشهب ... وأنا للمثاني أقريها وعين الحقيقة عيني ... وأشرب من ساقيها وفخر الوجود فخري ... أبي بكر لي يحميها لقد طاب فيها أصلي ... أنا للفروع أغذيها وراقت حميا قربي ... وإني لها ساقيها وإذا أفلت شموس الكل ... أنا شمسها ضاحيها أنا عرشها والكرسي ... وأنا للسما بانيها شف أهل الكسا بالفضل ... وجبريل لي راويها فهذه رسالة تبني ... بنص القرآن أتليها وأشكر لنعمة ربي ... ولكن لا أحصيها وأبديت فيها وهبي ... على من تبعني فيها واختم بخير الرسل ... نبي الهدى هاديها (1) والحقيقة أنك عندما تراهم يتزاحمون حول تلك الصخرة ويتعبدون بالرقص والسماع، لتذكر قول الله سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً [الأنفال:35]، وتجزم أن هذا من ذاك!! المنسك العاشر: مقابر تريم الثلاثة (زنبل - الفريط - أكدر) والتي يجمعها اسم (بشار)، حيث يبدأ موعد هذا المنسك بالطواف حول مقبرة الفريط بتريم، عصر اليوم الرابع عشر من شعبان، حيث يأتي العمال والفلاحون فيجتمعون هناك، ثم يطوفون بالمقبرة سبع مرات، ولا بأس من إيراد صورة هذا المنسك مما كتبه الأستاذ كرامة سليمان في كتاب (الفكر والمجتمع في حضرموت) حيث قال (2): " وبعد عصر يوم 14 شعبان يتوزع أهل تريم إلى مجموعتين: أ- مجموعة العمال والفلاحين: وهم من حي الخليف وعيديد، ويتحركون بموكبهم (الخابة) من مركز الحي المسمى المسمر أو بالقرب منه، ويطوفون سبع مرات حول مقبرة الفريط، وهي أقدم مقبرة في تريم، وفيها مقابر علماء وفقهاء تريم الأوائل، ويظللها جبل الفريط المبارك، والذي ينمو كما يعتقدون في الموقع الذي تؤخذ منه أحجار لصنع شواهد قبور الموتى!! وفي نهاية الطواف الذي ينتهي من حيث يبدأ، يقومون بلعبة الرزيح، وهي القيام بحركات وخطوات بالرجلين بصورة إيقاعية إلى الأمام والخلف، أو بالقفز الجماعي في مواقعهم، ويردد المشتركون في الرزيح أثناء حركاتهم العبارات المناسبة للزيارة " وبهذا تنتهي الزيارة. المصدر: زيارة هود عليه السلام وما فيها من ضلالات ومنكرات لأحمد بن حسن المعلم - ص 147 - 163   (1) [12286] انظر ((مولد الديبع)) (ص3، 4، 95) طبع سنة 1327 هـ (2) [12287] (ص295) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 284 تمهيد إكمالاً لإحكام السيطرة الخرافية على العالم، اخترع رجال التصوف بخيالاتهم الشيطانية المريضة .. اخترعوا ديواناً للأقطاب والأوتاد وسائر صنوف الأولياء عندهم ينعقد في غار حراء، وفي أماكن أخرى أحياناً ليدير هذا الديوان العالم من خلال قراراته .. وقد كفانا أحمد بن مبارك السلجماسي المغربي في كتابه (الإبريز) المؤنة وقد بسط وشرح بخيال لا يجارى، وبعقلية عندها قدرة عجيبة على الكذب والبهتان، هذا الديوان العجيب على الرغم من أنه غاية في الكفر والزندقة ولا يخلو من طرافة الخرافة. وسأحاول أن تكون تعليقاتي وشرحي لبعض ما جاء في هذا الديوان قليلة وذلك أنني أتصور وأعتقد أيضاً أن الفكرة السيئة يكفي لدحضها وبيان تفاهتها أن يعرفها الناس فلو أن الناس عرفوا الأفكار الصوفية على حقيقتها لما راج التصوف وقامت سوقه ولكن لأنه دائماً كان يغلف الخرافة والكفر والشرك بالرموز والأسرار، واللف والدوران مع ما يعلنه من التمسك بالكتاب والسنة جعل الناس يتهافتون على ما عندهم ظناً أن عندهم فعلاً علوماً جديدة وفوائد عظيمة ولكن لو أن الناس فهموا ما عند المتصوفة على حقيقته لتغير الحال. وهذا نمط من الأسرار الصوفية التي يدعي المتصوفة أنهم وصلوا إليها. يقول السلجماسي في وصف الديوان الباطني الصوفي ما يلي: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 285 المبحث الأول: هيئة الديوان "في ذكر ديوان الصالحين رضي الله عنهم أجمعين. سمعت الشيخ (يعني بالشيخ عبدالعزيز الدباغ الأمي الجأهل الذي يدعي أنه قد علِم علمَ الأولين والآخرين جميعاً)، رضي الله عنه يقول الديوان يكون بغار حراء الذي كان يتحنف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة قال رضي الله عنه فيجلس الغوث خارج الغار ومكة خلف كتفه الأيمن والمدينة أمام ركبته اليسرى وأربعة أقطاب عن يمينه وهم مالكية على مذهب مالك بن أنس رضي الله عنه وثلاثة أقطاب عن يساره واحد من كل مذهب ومن المذاهب الأخرى والوكيل أمامه ويسمى قاضي الديوان وهو في هذا الوقت مالكي أيضاً من بني خالد القاطنين بناحية البصرى واسمه سيدي محمد بن عبد الكريم البصراوي ومع الوكيل يتكلم الغوث ولذلك يسمى وكيلاً لأنه ينوب في الكلام عن جميع من في الديوان. قال والتصرف للأقطاب السبعة على أمر الغوث وكل واحد من الأقطاب السبعة تحته عدد مخصوص يتصرفون تحته والصفوف الستة من وراء الوكيل وتكون دائرتها من القطب الرابع الذي على اليسار من الأقطاب الثلاثة فالأقطاب السبعة هم أطراف الدائرة وهذا هو الصف الأول وخالطه الثاني على صفته وعلى دائرته وهكذا الثالث إلى أن يكون السادس آخرها. قال ويحضره النساء وعددهن قليل وصفوفهن ثلاثة وذلك في جهة الأقطاب الثلاثة التي على اليسار فوق دائرة الصف الأول فسحة هناك بين الغوث والأقطاب الثلاثة قال رضي الله عنه ويحضره بعض الكمل من الأموات ويكونون في الصفوف مع الأحياء ويتميزون بثلاثة أمور أحدها أن زيهم لا يتبدل بخلاف زي الحي وهيئته فمرة يحلق شعره ومرة يحدد ثوبه وهكذا. وأما الموتى فلا تتبدل حالتهم فإذا رأيت في الديوان رجلاً على زي لا يتبدل فاعلم أنه من الموتى كأن تراه محلوق الشعر ولا ينبت له شعر فاعلم أنه على تلك الحالة مات، وإن رأيت الشعر على رأسه على حاله لا يزيد ولا ينقص ولا يحلق فاعلم أنه ميت وأنه مات على تلك الحالة، ثانيها أنه لا تقع معهم المشاورة في أمور عالم الأموات قال رضي الله عنه ومن آداب زائر القبور إذا أراد أن يدعو لصاحب القبر ويتوسل إلى الله تعالى بولي من أوليائه في إجابة دعوته أن يتوسل إليه تعالى بولي ميت فإنه أنجع للمقصود وأقرب لإجابة دعوته. ثالثها أن ذات الميت لا ظل لها فإذا وقف الميت بينك وبين الشمس فإنك لا ترى له ظلاً وسره أنه يحضر بذات روحه لا بذاته الفانية الترابية وذات الروح خفيفة لا ثقيلة وشفافة لا كثيفة قال لي رضي الله عنه وكم مرة أذهب إلى الديوان أو إلى مجمع من ملجأ الأولياء وقد طلعت الشمس فإذا رأوني من بعيد استقبلوني فأراهم بعين رأسي متميزين هذا بظله وهذا لا ظل له. قال رضي الله عنه والأموات الحاضرون في الديوان ينزلون إليه من البرزخ يطيرون طيراً بطيران الروح فإذا قربوا من موضع الديوان بنحو مسافة نزلوا إلى الأرض ومشوا على أرجلهم إلى أن يصلوا إلى الديوان تأدباً مع الأحياء وخوفاً منهم. قال وكذا رجال الغيب إذا زار بعضهم بعضاً فإنه يجيء بسير روحه فإذا قرب من موضعه تأدب ومشى مشي ذاته الثقيلة تأدباً وخوفاً. قال وتحضره الملائكة وهم من وراء الصفوف ويحضر أيضاً الجن الكمل وهم الروحانيون وهم من وراء الجميع وهم لا يبلغون صفاً كاملاً قال رضي الله عنه وفائدة حضور الملائكة والجن أن الأولياء يتصرفون في أمور تطيق ذواتهم الوصول إليها وفي أمور أخرى لا تطيق ذواتهم الوصول إليها فيستعينون بالملائكة وبالجن في الأمور التي لا تطيق ذواتهم الوصول إليها" أ. هـ منه بلفظه (الإبريز ص163،164). الغوث الصوفي هو بمنزلة رب الأرباب عندهم أو كبير المتصوفين في هذا العالم، وهناك عدد كبير جداً من المتصوفة زعم أنه وصل إلى هذه المرحلة (الغوثية أو القطبية والقطبانية الكبرى) منهم الدباغ هذا وكان أمياً جاهلاً لا يحفظ حزباً من القرآن الكريم (وانظر معنى الغوث في فصل الولاية الصوفية) وجعلوا هذا الغوث الذي يدبر العالم من غار حراء جعلوا في خدمته الأقطاب والأوتاد والنجباء وسائر الأولياء بل والملائكة والجن أيضاً .. ولم يقصروا الحضور على الأحياء فقط بل جعلوا الحضور للأموات أيضاً .. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص269 - 271 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 286 المبحث الثاني: زعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر الديوان ولم يكتف هؤلاء الشياطين بأنفسهم لحضور هذه الخيالات حتى زعموا أيضاً أن الرسول يحضر معهم: قال (أي الدباغ): "وفي بعض الأحيان يحضره النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أحضر عليه السلام جلس في موضع الغوث وجلس الغوث في موضع الوكيل للصف، وإذا جاء النبي صلى الله عليه وسلم جاءت معه الأنوار التي لا تطاق دائماً وهي أنوار محرقة مفزعة قاتله لحينها، وهي أنوار المهابة والجلالة والعظمة حتى إننا لو فرضنا أربعين رجلاً بلغوا في الشجاعة مبلغاً لا مزيد عليه ثم فجؤوا بهذه الأنوار فإنهم يصعقون لحينهم إلا أن الله تعالى يرزق أولياءه القوة على تلقيها ومع ذلك فإنه قليل منهم هو الذي يضبط الأمور والتي صدرت في ساعة حضوره صلى الله عليه وسلم. قال وكلامه صلى الله عليه وسلم مع الغوث قال وكذلك الغوث إذا غاب صلى الله عليه وسلم تكون له أنوار خارقة حتى لا يستطيع أهل الديوان أن يقربوا منه بل يجلسون منه على بعد فالأمر الذي ينزل من عند الله تعالى لا تطيقه ذات إلا ذات النبي صلى الله عليه وسلم وإذا خرج من عنده صلى الله عليه وسلم فلا تطيقه ذات إلا ذات الغوث ومن ذات الغوث يتفرق على الأقطاب السبعة ومن الأقطاب السبعة تفرق على أهل الديوان" أ. هـ منه بلفظه (الإبريز ص164). المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 272 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 287 المبحث الثالث: ساعة انعقاد الديوان ويستطرد السلجماسي قائلاً: "وأما ساعة الديوان سبق الكلام عليها وإنها هي الساعة التي ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم وإنها هي ساعة الاستجابة من ثلث الليل الأخير التي وردت بها الأحاديث كحديث: ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حيث يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له ... الحديث. قلت ومن أراد أن يظفر بهذه الساعة فليقرأ عند إرادة النوم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف: 107] إلى آخر السورة ويطلب من الله تعالى أن يوقظه في الساعة المذكورة فإنه يفيق فيها ذكره الشيخ عبدالرحمن الثعالبي رضي الله عنه وقد جربناه ما لا يحصى وجربه غيرنا حتى إنه وقع لجماعة غير مأمورة أن يقرأوا الآية المذكورة ويطلبوا من الله تعالى الإفاقة في الساعة المذكورة كل منهم يفعل ذلك في خاصة نفسه من غير أن يعلم به صاحبه وإذا أفاقوا أفاقوا جميعاً في وقت واحد" انتهي منه بلفظه (الإبريز ص164). المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 272 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 288 المبحث الرابع: زوجات النبي صلى الله عليه وسلم والديوان ويستمر السلجماسي في خيالاته الشيطانية فيقول: "وسألته رضي الله عنه هل يحضر الديوان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثل سيدنا إبراهيم وسيدنا موسى وغيرهما من الرسل على نبينا وعليهم أفضل الصلاة والسلام فقال رضي الله عنه يحضرونه في ليلة واحدة في العام قلت فما هي قال في ليلة القدر فيحضره في تلك الليلة الأنبياء والمرسلون ويحضره الملأ الأعلى من الملائكة المقربين وغيرهم ويحضره سيد الوجود صلى الله عليه وسلم ويحضر معه أزواجه الطاهرات وأكابر صحابته الأكرمين رضي الله عنهم أجمعين" انتهي بلفظه (الإبريز). قلت يتعجب المسلم كيف تأتي لهؤلاء هذه القدرة على الكذب والبهتان، وكيف قادتهم الشياطين لمثل هذه الافتراءات التي يتضاحك منها الصبيان فضلاً عن العقلاء. فالحمد لله الذي نجانا وهدانا وأخرجنا برحمته من ظلمات هذه الوثنية إلى نور الإسلام والاستظلال بظلال القرآن الحكيم والسنة النبوية المطهرة وأبعدها عن تخريفات أهل البهتان. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 373 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 289 المبحث الخامس: زعمهم حضور الملائكة للديوان ثم يقول السلجماسي "وسمعته رضي الله عنه يقول إن الديوان أولاً كان معموراً بالملائكة ولما بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم جعل الديوان يعمر بأولياء هذه الأمة فظهر أن أولئك الملائكة كانوا نائبين عن أولياء هذه الأمة المشرفة حيث رأينا الولي إذا خرج إلى الدنيا وفتح الله عليه وصار من أهل الديوان فإنه يجيء إلى موضع مخصوص في الصف الأول أو غيره فيجلس فيه ويصعد الملك الذي في ذلك الوضع وهكذا كانت بداية عمارة الديوان حتى كمل ولله الحمد كلما ظهر ولي صعد ملك وأما الملائكة الذين هم باقون فيه يكونون في الصفوف الستة كما سبق فهم ملائكة ذات النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا حفاظاً لها في الدنيا ولما كان نور ذاته صلى الله عليه وسلم مفرقاً في أهل الديوان بقيت ملائكة الذات الشريفة مع ذلك النور الشريف. قال رضي الله عنه وإذا حضر النبي صلى الله عليه وسلم في الديوان وجاءت معه الأنوار التي لا تطاق بادرت الملائكة الذين مع أهل الديوان ودخلوا في نوره صلى الله عليه وسلم فما دام النبي صلى الله عليه وسلم في الديوان لا يظهر منهم ملك فإذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم رجع الملائكة إلى مراكزهم والله أعلم" (الإبريز ص174). ولست أدري لماذا يقول هؤلاء الكذابون بعد كل هذا الدجل والكذب (والله أعلم) ماذا تفيدهم هذه الكلمة العظيمة في هذا الموضع الذي يكذبون فيه على الله. إنهم بزعمهم يتكلمون على حقائق وعلوم وأسرار غيبية زعموا أنهم رأوها وشاهدوها وليست عندهم مجرد ظن أو اجتهاد فلماذا يقولون بعد ذلك والله أعلم وهم يعلمون يقيناً أنهم يكذبون ويفترون، ويضحكون على عقول الدهماء والتي تسير وراءهم وتصدقهم. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 274 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 290 المبحث السادس: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وفاطمة والحسن والحسين أعضاء في الديوان ويستمر السلجماسي في خيالاته الفاجرة فيقول: "قال رضي الله عنه وإذا حضر سيد الوجود صلى الله عليه وسلم مع غيبة الغوث فإنه يحضر معه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن والحسين وأمهما فاطمة الزهراء تارة كلهم وتارة بعضهم رضي الله عنهم أجمعين، قال وتجلس مولاتنا فاطمة مع جماعة النسوة اللاتي يحضرن الديوان في جهة اليسار كما سبق وتكون مولاتنا فاطمة أمامهن رضي الله عنها وعنهن قال رضي الله عنه وسمعتها رضي الله عنها تصلي على أبيها صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي وهي تقول اللهم صل على من روحه محراب الأرواح والملائكة والكون اللهم صل على من هو إمام الأنبياء والمرسلين اللهم صل على من هو إمام أهل الجنة عباد الله المؤمنين وكانت تصلي عليه صلى الله عليه وسلم لكن لا بهذا اللفظ وإنما أنا استخرجت معناه. والله أعلم" انتهي (الإبريز ص168). المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 275 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 291 المبحث السابع: لغة أهل الديوان ويقول أحمد بن مبارك: "سمعته رضي الله عنه يقول إن لغة أهل الديوان رضي الله عنهم هي السريانية لاختصارها وجمعها المعاني الكثيرة ولأن الديوان يحضر الأرواح والملائكة والسريانية هي لغتهم ولا يتكلمون العربية إلا إذا حضر النبي صلى الله عليه وسلم أدباً معه" أ. هـ (الإبريز ص168). ولست أدري لماذا يجمع المتصوفة تقريباً على اختيار اللغة السريانية لغة للديوان، ولمعاني الحروف، وللأذكار فإما للتلبيس على الناس لأنها لغة منقرضة لا توجد إلا في قرية واحدة الآن من قرى سوريا ولا يتكلمها إلا نحو خمسمائة شخص فقط، أو لأن هذه اللغة كانت لغة أقوام اشتهروا بعبادة الجن والأوثان وهذا الذي يبدو فإن هذه اللغة كانت لأقوام وثنيين من عبدة الجن والكواكب وما يزال كثير من هذه القرية التي يتكلم أصحابها بهذه اللغة مهجوراً مسكوناً بالجن. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 275 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 292 المبحث الثامن: أولياء يحضرون الديوان بأرواحهم فقط ثم يقول السلجماسي: "وسمعته رضي الله عنه يقول إن الصغير من الأولياء يحضر بذاته وأما الكبير فلا تحجير عليه يشير رضي الله عنه إلى أن الصغير إذا حضر غاب عن محله وداره فلا يوجد في بلدته أصلاً لأنه يذهب إليه بذاته. وأما الكبير فإنه يدبر وعلى رأسه فيحضر ولا يغيب عن داره لأن الكبير يقدر على التطور على ما شاء من الصور لكمال روحه تدبر له إن شاء ثلاثمائة وست وستون ذاتاً بل سمعت الشيخ رضي الله عنه مرة وأنا معه خارج باب الحبشة أحد أبواب فاس حرسها الله يقول: ايش هو: الديوان والأولياء الذين يقيمونه كلهم في صدري وسمعته مرة يقول إنما يقام الديوان في صدري" (الإبريز ص167). ولعل الكلمة الأخيرة التي قالها الدباغ هي أصدق ما قال أعني أن الديوان يقام فقط في قلبه المريض وفي عقله المجنون وأما ذكره من غار حراء والأولياء والأنبياء والرسل وسائر هذه التخريفات فلا صحة لها. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 276 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 293 المبحث التاسع: الديوان يعقد في صحراء السودان أحيانا ً الصحراء السودانية مكان آخر لانعقاد الديوان يقول السلجماسي: " (وسألته) رضي الله عنه هل يكون الديوان في موضع آخر غير غار حراء فقال رضي الله عنه نعم يكون في موضع آخر مرة في العام لا غير وهذا الموضع يقال له زاوية أَسَا بفتح الهمزة والسين بعدها ألف خارج أرض سوس بينها وبين أرض غرب السودان فيحضر أولياء السودان ومنهم من لا يحضر الديوان إلا في تلك الليلة ويأذن الله تعالى ويسوق أهل آفاق تلك الأراضي ويجتمعون بالوضع المذكور قبل تلك الليلة بيوم أو يومين وبعدها كذلك يجتمع في ذلك السوق من التبر ما لا يحصى فقلت وهل ثم مع آخر في غير هذين الموضعين فقال نعم يجتمعون ولكن لا يجتمع نحو العشرة منهم في موضع قط إلا في الموضعين السابقين لأن الأرض لا تطيقهم لأنه تعالى أراد تفرقهم في الأرض وفي الخلق والله تعالى أعلم" أ. هـ منه بلفظه (الإبريز ص73). المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 276 - 277 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 294 المبحث العاشر: ماذا لو غاب الغوث؟ ويقول السلجماسي أيضاً: وسمعته رضي الله عنه يقول: قد يغيب الغوث عن الديوان فلا يحضر فيحصل بين أولياء الله تعالى من أهل الديوان ما يوجب اختلافهم فيقع منهم التصرف الموجب لأن يقتل بعضهم بعضاً فإن غالبهم اختار أمراً وخالف الأقل في ذلك فإن الأقل يحصل فيهم التصرف السابق فيموتون جميعاً وقد اختلفوا ذات يوم في أمر فقال طائفة منهم قليلة إن يكن لكم ذلك الأمر فلتمت فقالت الطائفة الكثيرة فموتوا إن شئتم فماتت الطائفة القليلة قال رضي الله عنه فإن تكافأ الفريقان إن حصل التصرف فيهم معاً فقلت فإنهم أهل بصيرة وكشف فلم يحصل بينهم النزاع وهم يشاهدون مراد الله تعالى ببصيرتهم فقال رضي الله عنه إذا كان الأقل هو المخالف فإن الله يحجبهم عن المراد حتى ينفذ ما فيهم وإذا تكافأ الفريقان فإن مراد الحق سبحانه يخفى على الجميع لأن قلوب الأولياء الأوفياء مظاهر الأقدار وقد اختلفت وتكافأت فقلت فما سبب غيبة الغوث رضي الله عنه عن الديوان فقال رضي الله عنه سببه أحد أمرين إما غيبته في مشاهدة الحق سبحانه فلهذا لا يحضر في الديوان وإما كونه في بداية توليته كما إذا كان بقرب موت الغوث الذي قبله فإنه قد لا يحضر في بداية الأمر حتى تتأنس ذاته شيئا فشيئاً قال رضي الله عنه وقد يحضر سيد الوجود صلى الله عليه وسلم في غيبة الغوث فيحصل لأهل الديوان من الخوف والجزع من حيث إنهم يجهلون العاقبة في حضوره صلى الله عليه وسلم ما يخرجهم عن جناسهم حتى إنه لو طال ذلك أياماً لانهدم العوالم" (الإبريز ص168). المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 277، 278 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 295 المبحث الحادي عشر: الغوث الصوفي دكتاتور كبير وأما الغوث هذا فهو أخطر دكتاتور فإن أي أحد لا يستطيع أن يفتح فمه عنده يقول السلجماسي: "وسألته مرة فقلت: إذا حضر الغوث فهل يقدر أحد على مخالفته فقال رضي الله عنه لا يقدر أن يحرك شفته السفلى بالمخالفة فضلاً عن النطق بها فإنه لو فعل ذلك لخاف على نفسه من سلب الإيمان فضلاً عن شيء آخر والله أعلم" (الإبريز ص169). ولست أدري ما دام هذا هو حال غوثهم مع سائر أوليائهم المزعومين فلماذا الحضور إذن في هذا الديوان هل هو لمجرد تلقي الأوامر فقط .. ؟! المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 278 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 296 المبحث الثاني عشر: أولياء ينظرون في اللوح المحفوظ ويستطرد السلجماسي مبيناً مراتب الأولياء الذين يحضرون ديوانهم المكذوب فيقول: "وسمعته رضي الله عنه يقول ليس كل من يحضر الديوان من الأولياء يقدر على النظر في اللوح المحفوظ بل منهم من يقدر على النظر فيه ومنهم من يتوجه إليه ببصيرته ويعرف ما فيه ومنهم من لا يتوجه إليه لعلمه بأنه ليس من أهل النظر إليه قال رضي الله عنه كالهلال فإن رؤية الناس إليه مخالفة" أ. هـ. وأقول ألا لعنة الله على من كذب مثل هذا الكذب الذي لم تعرف البشرية له مثيلاً من قبل قط .. ولكن العجيب أن ينشر مثل هذا الفكر المجنون عند أناس يقرأون كتاب الله الذي يقول قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65]. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 278، 279 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 297 المبحث الثالث عشر: لماذا يجتمع أهل الديوان؟ والآن نأتي إلى بيت القصيد كما يقولون فلماذا يجتمع أهل الديوان؟ يقول السلجماسي: "وسمعته رضي الله عنه يقول أن أهل الديوان إذا اجتمعوا فيه اتفقوا على ما يكون من ذلك الوقت إلى مثله من الغد فهم رضي الله عنهم يتكلمون في قضاء الله عز وجل في اليوم المستقبل والليلة التي تليه قال رضي الله عنه ولهم التصرف في العوالم كلها السفلية والعلوية وحتى في الحجب السبعين وحتى في عالم الرقا (بالراء وتشديد القاف) وهو ما فوق الحجب السبعين فهم الذين يتصرفون فيه وفي أهله وفي خواطرهم وما تهمس به ضمائرهم فلا يهمس في خاطر واحد منهم شيء إلا بإذن أهل التصرف رضي الله عنهم أجمعين وإذا كان هذا في عالم الرقا الذي هو فوق الحجب السبعين التي هي فوق العرش فما ظنك بغيره من العوالم" (الإبريز ص169) .. فانظر كيف يتحكم هؤلاء بخيالاتهم وكذبهم ليس في الأرض فقط بل في الأرض والسماء وما فوق السماء من الحجب والعرش، فماذا أبقى هؤلاء الكاذبون المارقون لله سبحانه وتعالى ليتصرف فيه .. تَبَّتْ عقول استساغت مثل هذا الكذب واعتقدت مثل هذا الهراء!! المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 279 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 298 تمهيد وضع المتصوفة لهم قواعد خاصة للتربية حسب منهجهم الصوفي فحددوا أهدافاً خاصة للتربية ووضعوا شروطاً في المريد (وهو اسم أطلقوه على الطالب أو المبتدئ) وشروطاً خاصة بشيخ الطريق، ومنازل يسير فيها السالك في دربهم. وقد بدأ وضع ملامح هذا المنهج منذ بدأ الفكر الصوفي في الظهور في أواخر القرن الثاني الهجري، وبلغ هذا المنهج الغاية تقريباً مع نهاية القرن الرابع الهجري حيث أسست الخانات والأماكن الخاصة التي يتجمع فيها الصوفية وكانوا يسمون بالفقراء أولاً. وكانت لهم في هذا الوقت مشاعر خاصة، كالسماع والذكر الخاص، ورسوم وإشارات وملابس خاصة، ولم يكن لهؤلاء الفقراء أو المتصوفة في القرن الثالث وأوائل القرن الرابع شيخ خاص بكل فريق وإنما كانوا يتربون على ما يسمعونه ويتناقلونه من كلام مشايخهم بوجه عام. ولكن منذ أواسط القرن الرابع بدأ التربي على الشيخ الخاص وأن يكون لكل جماعة شيخ معلوم لا يتجاوزونه إلى غيره ثم يرثه بعد ذلك شيخ على منهجه وطريقته. وهكذا ومنذ ذلك الوقت عرف ما يسمى بالطريقة الخاصة. ثم تدرج الأمر وتحولت وراثة الطريق إلى وراثة النسب فكان الأبناء يرثون آباءهم في الطريق وأحياناً ما كانت الزوجات هن اللائي يرثن الأزواج وهن اللائي يسلكن المريدين ويعطين العهود .. باختصار تحولت الطريقة الصوفية في أواخر عهودها وخاصة بعد القرن العاشر الهجري إلى طرق وراثية، وإمارات خاصة وإقطاعيات دينية يرث فيها الأبناء جمهور الطريق والرعية التي كانت لآبائهم من قبل. وعلى مر هذه العصور وضع المتصوفة لهم آداباً خاصة في التربية وشروطاً خاصة في المريد وها نحن نذكر لك بالتفصيل هذه الآداب والقواعد التي دونها علماء التصوف في كتبهم لينشأ لهم في النهاية الجيل الصوفي الذي يريدون. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 313، 314 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 299 المبحث الأول: اتخاذ الشيخ أول ما يجب على مريد الطريق الصوفي أن يتخذ شيخاً له ليدله على الطريق. يقول عبدالكريم القشيري "ثم يجب على المريد أن يتأدب بشيخ فإن لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان" (القشيرية ص181)، وهذا النص قد كتبه سنة 387هـ وهو يدلك على أن قضية وجوب اتخاذ الشيخ قضية قديمة، واتخاذ الشيخ قد تفسر بأن لها سنداً من الكتاب والسنة في أن الرسول علم أصحابه والأصحاب علموا التابعين وهكذا، ولكن هذا استدلال من لا يعلم ماذا يعني الشيخ في الطريق الصوفي! إن الشيخ يعني شيئا آخر تماماً كما ستأتي مواصفات الشيخ والشروط والآداب التي يجب مراعاتها معه. والمهم هنا أن نعلم أن كون من لم يتخذ شيخاً لا يفلح أبداً ليس بصحيح فمن الممكن أن يهتدي المسلم بسماعه للقرآن وقراءته للحديث من شيخ أو طالب علم، أو كتاب ولا يشترط في الهداية الالتزام بشيخ معين بل لو سمع المسلم من عشرات الشيوخ لكان هذا أحكم له وأعلم وهكذا كان سلفنا الصالح يسمعون الحديث النبوي من أهله، والفقه من أهله، والقواعد العربية من أهلها، والتفسير من أهله وهكذا .. وأما في الطريق الصوفي فيجب عليك أن تتخذ شيخاً واحداً لا تحيد عنه ولا تلتفت إلى غيره بل لا يجوز أيضاً طلب العلم من غير أهل التصوف مطلقاً. يقول القشيري بعد أن قرر في زعمه أن طائفة التصوف هم أهل الحق وأن علومهم أشرف العلوم: " .. فإذا كان أصول هذه الطائفة أصح الأصول ومشايخهم أكبر الناس وعلماؤهم أعلم الناس فالمريد الذي له إيمان بهم إن كان من أهل السلوك والتدرج إلى مقصدهم فهو يساهمهم فيما خصوا به من مكاشفات الغيب فلا يحتاج إلى التطفل على من هو خارج عن هذه الطائفة". وقد قرر شيوخ التصوف من أهل الطرق الحديثة أن من ترك طريقتهم إلى طريقة غيرهم ابتلي بسوء الخاتمة. وهكذا فقد كان رجال التصوف قديماً يأمرون فقط بمجرد الانتساب والسلوك في الطريق الصوفي أياً كان الشيخ أو الطريقة، المهم أن يكون السالك (الموفق) حسب زعمهم سائراً في هذا الطريق غير ملتفت إلى غيره من مذاهب العلماء والفقهاء الذين يصفهم المتصوفة دائماً بأنهم علماء رسوم وطلاب دنيا، وتجار .. الخ الأوصاف التي يطلقونها على علماء الشريعة لتنفير الناس منهم. وانظر مثلاً إلى ما يقول القشيري في التنفير من سماع المريد إلى كلام غير كلام المتصوفة: "ويقبح بالمريد أن ينتسب إلى مذهب من مذاهب من ليس من هذه الطريقة وليس انتساب الصوفي إلى مذهب من مذاهب المختلفين سوى طريقة الصوفية إلا نتيجة جهلهم بمذاهب أهل هذه الطريقة فإن هؤلاء حججهم في مسائلهم أظهر من حجج كل أحد وقواعد مذاهبهم أقوى من قواعد كل مذهب والناس إما أصحاب النقل والأثر وإما أرباب العقل والفكر وشيوخ هذه الطائفة ارتقوا عن هذه الجملة فالذي للناس غيب فهو لهم ظهور، والذي للخلق من المعارف ومقصود فلهم من الحق سبحانه موجود فهم من أهل الوصال (أي مع الله في زعمه) والناس أهل الاستدلال وهم كما قال القائل: ليلي بوجهك مشرق ... وظلامه في الناس ساري فالناس في صدف الظلام ... ونحن في ضوء النهار" (القشيرية ص180). وها أنت ترى هنا أنه يقسم علماء الإسلام إلى ثلاثة أقسام: علماء النقل والأثر، وهم حملة القرآن والحديث والسير وعمل الصحابة والقسم الثاني من سماهم بأرباب العقل والفكر ويعني بهم الفلاسفة والمتكلمين كالمعتزلة والأشاعرة ونحوهم والفريق الثالث المتصوفة ومدح هؤلاء ويقول إن حججهم أظهر وقواعدهم أقوى وأن ما هو غيب عند الآخرين هو شهادة عند المتصوفة يعني أن المتصوفة يشاهدون الله والجنة والنار عياناً ولا يحتاجون إلى الاستدلال بالقرآن والسنة كما هو شأن علماء الأثر، ولا بالأدلة العقلية كما هو حال علماء الكلام والمنطق والجدل. أقول: كان الشأن في أول التصوف هو إلحاق المريد بركب المتصوفة أياً كانوا وكيفما كانوا، ولكن في العصور الحديثة أصبح التصوف دولاً، وإمارات خاصة، وإقطاعات دينية مستقلة، فالطريقة تدر على أصحابها وأربابها أرباحاً وفيرة ولذلك فلا بد من الاستحواذ على المريدين، وإدخالهم في سلك الطريقة الخاصة وعدم السماح لواحد منهم بتاتاً أن ينفلت من القيد الذي يوضع في رجليه والمقود الذي يوضع في رأسه وإلا ارتد عن دينه وعوقب بسوء الخاتمة. فالشيخ في الطريقة الصوفية ليس هو بتاتاً ما يعنيه الكتاب والسنة من اتخاذ المرشد والهادي والداعي إلى الله، وإنما هو التزام أبدي بطريقة خاصة ورجل خاص يقدسه حياً وميتاً. فشتان بين اتخاذ شيخ وإمام في دين الإسلام الصحيح واتخاذ شيخ صوفي ليكون رائداً للطريقة. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 314 - 316 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 300 المبحث الثاني: مواصفات الشيخ وليس كل شيخ يصلح أن يكون شيخاً في الطريق الصوفي بل لا بد أن يمر بمراحل الطريق من أولها إلى نهايتها، أو على الأقل أن يكون قد أخذ العهد من شيخ سابق أو والد له وقد أذن له الشيخ أو الأب بتسليك المريدين، وإدخالهم في الطريق وتلقينهم الأذكار الخاصة .. ، الخ. وحتى تكون المشيخة الصوفية مشيخة معتبرة فقد اخترع المتصوفة قديماً شيئا سموه السلسلة الصوفية وهذه السلسلة المزعومة هي عبارة عن سند مزعوم يتناقله الخلف عن أسلافهم زاعمين أن هذه السلسلة تنتهي (بالجنيد) الذي يسمونه سيد الطائفة وأن هذا الجنيد قد أخذها عن سري السقطي، والسقطي عن معروف، ومعروف عن داود الطائي، وداود الطائي عن حبيب العجمي، والعجمي هذا عن الحسن البصري، والحسن البصري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه .. يقول ابن عربي في فتوحاته: "اعلم أنه قد صح وثبت بحكم النقل عند المشايخ (هذه الطريقة المتصوفة في الإسناد فلا ذكر لشيوخ النقل ولا كيف نقلوا)، أن علياً أمير المؤمنين دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، دلني على أقرب الطرق وأفضلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليك يا علي، بما نلت ببركة النبوة. فقال علي: ما هذا يا رسول الله: قال عليه السلام: ذكر الله تعالى .. قال علي: يا رسول الله، هكذا فضيلة الذكر وكل الناس ذاكرون. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه يا علي، لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول: الله. الله، ثم قال: أحصيت، يا علي، حتى أنا أقوله ثلاث مرات وأنت تسمع مني فإذا أمسكت فقل أنت حتى أنا أسمع منك. هكذا لقن رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، ثم لقن علي عليه السلام الحسن البصري، ثم لقن الحسن حبيباً العجمي، ثم لقن داود معروفاً الكرخي، ولقن معروف سري السقطي، وهو لقن أبا القاسم: الجنيد محمد بن البغدادي وعلى هذه السلسلة باقي المشايخ رحمهم الله" أ. هـ (الفتوحات المكية). ولا شك أن هذا يدل بغير بيان على ما فيه من الباطل وأنه كذب من أوله إلى آخره فبين ابن عربي الذي افترى هذا الكلام والجنيد أكثر من ثلاثمائة سنة، وهو يقول هنا: اعلم أنه ثبت وصح بحكم النقل عند المشايخ؛ ما هذا (حكم النقل عن المشايخ)!! وهذه السلسلة إلى الحسن البصري سلسلة مظلمة والجنيد قد اتهم من علماء زمانه بالزندقة والكفر وهو صاحب الحلاج الذي أجمع المسلمون في عصره على كفره وزندقته وهذا الحديث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لا أصل له فيما أعلم في كتاب صحيح من كتب السنة، وهو يخالف ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه يخص أهل البيت لا علياً ولا غيره بذكر خاص أو بعلم خاص امتثالاً لقوله تعالى يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إليك مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67] والجواب عن هذه الشبهة في مكان آخر من هذا الكتاب، أعني شبهة أن الرسول قد كتم علماً وخص أناساً بعلم من علوم الشريعة أو بذكر خاص أو طريقة خاصة والشاهد هنا أن هذه الطريقة المزعومة كذب وافتراء على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى علي بن أبي طالب والحسن البصري رضي الله عنهم، وقد وضع ذلك المتصوفة ليوهموا الناس أن وحيهم الشيطاني الذي يدعونه، ومشاهداتهم الإبليسية التي يشاهدونها وعلومهم الخرافية التي يتناقلونها لها أصل من الإسناد، وهي متلقاة عن الرسول. فعجباً لمن يحاربون الإسناد والحديث والنقل ثم يدعونه هنا لأنفسهم وهذا من تخبطهم وضلالهم فالإسناد لأهل الحديث كلام ميت عن ميت هذا زعمهم والإسناد لأهل التصوف شرف واتصال وعلم واتصال بالرسول فانظر وتعجب!! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 301 والمهم أن الشيخ في الطريق الصوفي يزعم أن له إسناداً متصلاً، وأنه قد أخذ عهداً عن شيوخ سابقين وأن شيوخه عن شيوخ وهكذا إلى الجنيد إلى الرسول .. ومن هؤلاء الشيوخ أهل التسليك من يقنع بأن يكون مجرد شيخ في الطريقة، ومنهم من ينفصل عن طريقته السابقة ويؤسس له طريقة خاصة باسمه ويؤلف ويبتدع لها من ثم أذكاراً خاصة ومشاعر خاصة .. ولكنه لا يقر طبعاً بالتأليف، والابتداع وإنما يزعم لأتباعه ومريديه أنه قد أخذ هذه الأذكار من الحضرة الإلهية هكذا أو من حضرة الرسول، أو من الخضر .. المهم أنه لا بد أن يكون للذكر الخاص صلة بالوحي الخاص، والإلهام .. وأن يكون للذكر الخاص هذا فضل عظيم لم ينله الأولون ويستحيل أن يناله الآخرون (واقرأ تفاصيل ذلك في الباب الخاص بالذكر الصوفي). وبالطبع فإن هذا الشيخ الذي ينفرد بطريقة خاصة لا بد أن يجعل لنفسه من الشرف والمنزلة ما يؤهله لأن يتبعه الناس ويأخذوا عنه فيروي لنفسه من الكرامات والفضل والعلوم والكشف ما يتضاءل أمامه كل منازل الأنبياء والمرسلين (اقرأ الفصل الخاص بالولاية الصوفية). وهكذا تعلم أن اتخاذ الشيخ في الطريق الصوفي ليس هو مجرد اتخاذ معلم قد اشتهر بالعلم والعمل والصلاح بل هو اتخاذ شيخ خاص له كرامات وكذلك له منهج خاص بتسليك المريدين .. وله كذلك حقوق خاصة. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص316 - 319 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 302 المبحث الثالث: آداب المريد وقد وضع المتصوفة آداباً أوجبوها على المريد والسالك في الطريق الصوفي وهذه أهم هذه الآداب نقول تجاوزاً آداب وإنما هي في الحقيقة جهل وانحلال وعبودية وإذلال: 1 - لا تخالف الشيخ مطلقاً فيما يأمرك به هذا هو المبدأ الأول والشرط الأول والأدب الأول للمريد، وأن تكون موافقة الشيخ بالقلب والجوارح فلا إنكار ولا مخالفة لشيء مما يقوله مطلقاً ولا اعتراض عليه بلسان أو بقلب وشعارهم دائماً: "كن بين يدي شيخك كالميت بين يدي الغاسل"!! يقول القشيري في بيان ما يجب على المريد: "وأن لا يخالف شيخه في كل ما يشير عليه لأن الخلاف للمريد في ابتداء حاله دليل على جميع عمره" (القشيرية ص182) ويقول أيضاً: "ومن شروطه أن لا يكون بقلبه اعتراض على شيخه" (القشيرية ص182). ومن الأقوال يقصد بها بالطبع إماتة القلب واستسلامه للدواهي والمصائب التي سيتلقاها المريد في طريقه الصوفي. وإليك طائفة من الأقوال والحكايات الصوفية التي يراد من ورائها في النهاية استسلام المريد لشيخه ليعبث بعقله وقلبه كيف شاء. 2. لا يجوز الإنكار على شيوخ التصوف أبداً ولو مع المنكر دليل. يقول أحمد بن مبارك السلجماسي فيما يرويه عن شيخه الجأهل الأمي عبدالعزيز الدباغ: " واعلم وفقك الله أن الولي المفتوح عليه يعرف الحق والصواب ولا يتقيد بمذهب من المذاهب. ولو تعطلت المذاهب بأسرها لقدر على إحياء الشريعة وكيف لا وهو الذي لا يغيب عنه النبي صلى الله عليه وسلم طرفة عين!! ولا يخرج عن مشاهدة الحق جل جلاله في أحكامه التكليفية وغيرها وإذا كان كذلك فهو حجة على غيره وليس غيره حجة عليه لأنه أقرب إلى الحق من غير المفتوح عليه وحينئذ فكيف يسوغ الإنكار على من هذه صفته ويقال إنه خالف مذهب فلان في كذا، إذا سمعت هذا فمن أراد أن ينكر على الولي المفتوح عليه لا يخلو إما أن يكون جاهلاً بالشريعة كما هو الواقع غالباً من أهل الإنكار وهذا لا يليق به الإنكار والأعمى لا ينكر على البصير أبداً" (الإبريز ص192). وهذا داهية الدواهي لأنه زعم أن الشيخ له مذهبه الخاص الذي يتلقاه من النبي رأساً ولا حاجة عنده إلى التلقي من أي مذهب فقهي لأي إمام مجتهد فلا تعترض أيها المريد على شيخك لأنه يتلقى الوحي غضاً طرياً، وهؤلاء العلماء عميان وهو مبصر!! ويقول أيضاً شارحاً القصيدة الرائية في آداب المريد: "فذو العقل لا يرضى سواه وإن نأى عن الحق نأي الليل عن واضح الفجر المعنى أن من له عقل سليم وطبع مستقيم لا يرضي سوى شيخه ويدور معه حيثما دار وإن بعد الشيخ في ظاهر الأمر عن الحق بعداً بيناً كبعد الليل من الفجر ويقول إن للشيخ في ذلك وجهاً مستقيماً عسى أن يطلعني عليه" أ. هـ (الإبريز ص203). وهذا ظاهر في أنه لا يجوز الإنكار على الشيخ والخروج عنه، ولو خرج الشيخ عن الحق وظهر ذلك للمريد ظهور الفجر من الليل. وليس هذا فقط هو المدى الشيء الذي يريد المتصوفة جر المريد إليه بل هناك ما هو أشد من ذلك وأضل وهو ما يأتي في الفقرة الآتية: 3 - يقول أحمد بن المبارك: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 303 " (ومنها) أني سمعت الشيخ رضي الله عنه يقول جاء بعض المريدين لشيخ عارف فقال له يا سيدي القبول لله عز وجل. نعم، ثم أمره بالمقام عنده والعكوف على خدمته وأعطاه مسّاحة في رأسها كورة حديد زائدة لا نفع فيها إلا تثقيل المساحة وكان المريد هو وارث الشيخ بشرط أن لا ينتبه لكورة الحديد المذكورة فإن انتبه وقال ما فائدتها، ولأي شيء تصلح، ولا معنى لها إلا التثقيل فإنه لا يرث شيءاً. قال رضي الله عنه فبقي في خدمته سبع سنين وهو يخدم بالفأس ولا يتحرك له عرق وسواس ولا هزته عواصف رياح الشيطان وصارت الكورة المذكورة بمنزلة العدم الذي لا يرى ولا يسمع فهذه مسألة الصادقين الموفقين رضي الله عنهم والله تعالى الموفق" (الإبريز ص178). فانظر كيف يكون المريد (الصادق) في زعمهم مع شيخه. إنه الذي ينفذ ما يأمره به الشيخ ولا يسأله عنه بتاتاً ولو كان شيئا غير معقول المعنى ولا فائدة أصلاً منه. ككرة الحديد هذه التي كانت في رأسها المساحة (الفأس). وقد جعلوا صدق المريد عدم سؤال شيخه عن هذه (الكورة) التي لا تقع منها. وليت الأمر وقف عند هذا الحد ولكن ... 4 - لم يقتصر الأمر على طاعة الشيخ فيما لا فائدة منه ولا معقولية له بل تعدى الأمر ذلك إلى الاعتقاد أن للشيخ شريعته الخاصة، ودينه المستقل فله أن يشرب الخمر، أو يزني وليس لمريده أن يسأل عن شيء من ذلك. يقول السلجماسي أيضاً: "قال محيي الدين العربي (رضي الله عنه) ومن شروط المريد أن يعتقد في شيخه أنه على شريعة من ربه ونبيه منه ولا يزن أحواله بمسيرته أنه فقد تصدر من الشيخ صورة مذمومة في الظاهر وهي محمودة في الباطن والحقيقة يجب التسليم وكم من رجل كأس خمر بيده ورفعه إلى فيه وقلبه الله في فيه عسلاً والناظر يراه شرب خمراً وهو ما شرب إلا عسلاً ومثل هذا كثير وقد رأينا من يجسد روحانيته على صورة ويقيمها في فعل من الأفعال ويراها الحاضرون على ذلك الفعل فيه ولو رأيناه فلا يفعل كذا وهو عن ذلك الفعل بمعزل وهذه كانت أحوال أبي عبدالله المصلي المعروف بقضيب البان وقد رأينا هذا مراراً في أشخاص" أ. هـ (الإبريز ص202). وهذا الذي نقله أحمد بن مبارك السلجماسي عن ابن عربي مقرراً ومتبعاً له هو ما عليه عامة الصوفية بعد ابن عربي الذين يعتقدون أن للشيخ الصوفي (الكامل) أن يفعل ما يشاء من المعاصي ولا حرج عليه ولا يجوز أن يظن المريد خلاف الخير لأن الخمر التي يراها المريد خمراً تنقلب عينها في الشيخ فتكون له لبناً أو عسلاً. أو أن الشيخ يشكل نفسه على النحو الذي يظهر منه الفسق والخروج على الشريعة ليؤدب المريدين ويعلمهم أن يثقوا بشيخهم ولو رأوه يفعل منكراً. أقول: وقد حدثني أستاذي وشيخي الشيخ محمد عبدالوهاب البنا حفظه الله أنه شاهد أباه وكان من هيئة كبار العلماء في الأزهر يشتري قارورة الخمر بنفسه ويعطيها لشيخ له في الطريق، ولما كلمه الشيخ محمد عبدالوهاب البنا في ذلك. قال له: يا بني إنها تنقلب في بطن الشيخ فتكون لبناً!! .. فانظر كيف يفعل مثل هذا الكلام في المريدين فيجعلهم يعتقدون في شيوخهم العصمة حتى لو رأوهم على المعصية جهاراً نهاراً، وهذا غاية في إلغاء العقول والأفهام وذلك حتى تتلقى هذه العقول ما هو شر من ذلك وأقبح من الكلام في العقائد وأصول الدين كلاماً وكفراً وزندقة لم يقلها اليهود ولا النصارى ولا المجوس. ولم يكتف دهاقنة الفكر الصوفي بمثل هذا بل وضعوا آلاف الحكايات والروايات ليحملوا المريدين حملاً على الاستسلام لشيوخهم مهما فعلوا أمامهم وأن يطيعوهم مهما أمروهم. يقول أحمد بن مبارك أيضاً: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 304 " (رأيت) في كتاب محيي الدين تلميذ تاج الدين الذاكر المصري رحمهما الله تعالى أن رجلاً جاء إلى بعض الأكابر فقال له يا سيدي أريد منكم أن تعطوني السر الذي خصكم الله به فقال الشيخ إنك لا تطيق ذلك. فقال المريد: أطيقه وأقدر عليه فامتحنه الشيخ بأمر سقط منه على أم رأسه وذلك أنه كان عند الشيخ مريد شاب حَدَث أبوه من الأكابر فلما قال ذلك المريد أنا أطيق السر. قال له الشيخ: إني سأعطيك إن شاء الله السر فأمره بالمقام عنده، ثم إن الشيخ أمر الشاب الحدث بالاختفاء في مكان بحيث لا يظهر لأحد، وأدخل الشيخ خلوته كبشاً فذبحه وجعل على ثيابه شيئا من الدم فخرج على المريد السابق والسكين في يده والدم يسيل على يده وهو في صورة الغضبان فقال المريد ما عندكم يا سيدي؟ فقال: إن الشاب الفلاني أغضبني فما ملكت نفسي أن ذبحته فها هو في ذلك المكان مذبوح يشير إلى الخلوة التي ذبح فيها الكبش فإن أردت السر يا ولدي فاكتم هذا الأمر ولا تذكره لأحد وإن سألني عنه أبوه فإني أقول له مرض ولدك ومات فإنه يصدقني ويحصل على المسألة لطف فعساك يا ولدي تساعدني على هذا الأمر وتسترني فيه فإن فعلت فأنا أعطيك السر إن شاء الله تعالى فقال له المريد وقد تمعر وجهه وظهر غيظه حيث ظن أن الشيخ في قبضته سأفعل بكلام يظهر فيه الكذب ففارق الشيخ وذهب سريعاً إلى والد الشاب وأعلمه بالقصة وقال له إن الشيخ الكذاب الذي كنتم تعتقدون فيه الخير قتل ولدكم في هذه الساعة وجعل يرغبني أن أستر ويطلب مني أن أكتمه عنكم وإن شككتم في الأمر فاذهبوا معي الساعة فإنكم تجدون ولدكم يتشحط في دمه فقال له الناس: ويحك فإن سيدي فلاناً لا يفعل هذا ولعل الأمر شبه عليك. فقال لهم: اذهبوا معي حتى يظهر صدقي أو كذبي ففشا قوله في الناس وسمع به أرباب الدولة فأقبلوا إلى الشيخ سراعاً والمريد أمامهم حتى وقفوا على خلوة الشيخ فقرعوا الباب فخرج الشيخ وقال لهم: ما لكم وأي شيء أقدمكم، فقالوا له: ألا تسمع ما يقول هذا (يشيرون إلى المريد). فقال له الشيخ: وأي شيء كان. فقال له المريد: الذي كنت ترغبني فيه وتطلب مني كتمانه هو الذي كان. فقال الشيخ: ما وقع بيني وبينك شيء وما كلمتك قط (انظر إلى هذا الكذب المبين) فقال المريد: الكذب لا ينجيك قد قتلت ولد الناس. فترامى الناس على الشيخ من كل ناحية .. قتلت ولد الناس فالآن نقتلك عدو الله .. تغش الناس في عبادتك وتخدعهم بخلوتك. فقال الشيخ: سلوه من أين علم بأني قتلته. فقال المريد: ألم تخرج علي وأثر الدم على يديك وثوبك. فقال الشيخ: نعم وقد ذبحت شاة. فقال المريد: فلندخل إلى الخلوة إن كنت صادقاً. فدخلوا فوجدوا شاة مذبوحة. فقال المريد: إنما أخفيت القتيل وأظهرت هذه الشاة في موضعه لئلا تقتل به. فقال الشيخ: أرأيت إن خرج الشاب ولا بأس عليه أتعلم الناس من الكاذبين الذين لا يفلحون. فقال المريد: فأخرجه إن كنت صادقاً. فأرسل الشيخ إلى الفتى فخرج ولا علم عنده بما وقع فلما رآه الناس تضرعوا إلى الشيخ وجعلوا يسبون المريد الكاذب وعند ذلك قال له الشيخ: ألست تزعم يا كذاب (بل الشيخ هذا هو الكذاب اللعين الذي يريد إلغاء عقل تلميذه قبل أن يطلعه على الأسرار المزعومة) أنك تطيق السر وتقدر عليه فما بالك لم تقدر على كتم هذا الأمر الذي لم يكن منه شيء، وإنما صنعنا معك هذا لدعواك أنك تطيق السر، فاذهب فقد أعطيناك السر الذي يليق بأمثالك، فكان ذلك المريد من يومه موعظة للمعتبرين نكالاً للمدعين الكاذبين. نسأل الله بمنه التوفيق" (الإبريز ص188). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 305 فانظر في هذه الحكاية؛ كيف يعلم المريد على طاعة أمر الشيخ بمثل هذا الفعل الشيطاني، حتى لا يكون بعد ذلك فكاك عن القيد الذي يقيده به شيخه، بل يروي أحمد بن المبارك عن شيخه كذلك عشرات بل مئات الحكايات التي تصب كلها في هذا النص وانظر هذه الحكاية: "سمعت من الشيخ يعني (عبدالعزيز الدباغ) رضي الله عنه يقول كان بعض من أراد الله رحمته في الماضين يحب الصالحين فألقى الله في قلبه أن خرج من ماله فباعه وجمع ثمنه فذهب به لبعض من شهر عنه الصلاح وكانت تقصده الوفود من النواحي فذهب إليه هذا المرحوم بجملة ماله حتى بلغ بلده فسأل عن داره فدل عليها فدق الباب ففتح الخادم فقال: ما اسمك فقال: عبدالعلي. وكان الشيخ المشهور بالولاية من العصاة المسرفين على نفوسهم (انظر كيف كان الشيخ الولي عاصياً مسرفاً على نفسه ومع ذلك فهو عند المتصوفة ولي عنده أسرار!!) وكان له نديم يتعاطى معه الشراب وغيره اسمه عبدالعلي فوافق اسمه اسم هذا المرحوم، فذهبت الجارية فقالت للشيخ، اسم هذا الذي دق الباب عبدالعلي. فقال وظن أنه نديمه: ائذني له. فدخل على الشيخ فوجد الشراب بين يديه وامرأة فاجرة معه ورزقه الله تعالى الغفلة عن ذلك كله (انظر إلى الكذب الواضح) فتقدم إليه فقال: يا سيدي سمعت بك من بلادي وجئتك قاصداً لتدلني على الله عز وجل وهذا مالي أتيتك به. فقال الشيخ (يتقبل الله منك) ثم أمر الجارية أن تدفع له رغيفاً فأخذه وأعطاه الفأس وأمره بالخدمة في بستان للشيخ عينه له. فذهب المرحوم من ساعته ونفسه مطمئنة وقلبه مسرور بقبول الشيخ له فذهب فرحاً للخدمة وقد لقي نصباً من سفره للشيخ وما استراح حتى بلغ البستان وجعل يخدم بفرح وسرور ونشاط نفسي فكان من قدر الله عز وجل وحسن جميله بذلك المرحوم أن صادف مجيئه للشيخ الكاذب المسرف وفاة رجل من أكابر العارفين وكان من أهل الديوان فحضر وفاته الغوث والأقطاب السبعة فقالوا له يا سيدي فلان: كم مرة ونحن نقول لك اهبط إلى المدينة من مدن الإسلام فعسى أن تلقى من يرثك في سرك ولم تساعد فالآن حانت وفاتك فيضيع سرك وتبقى بلا وارث فقال لهم يا سادتي قد ساق الله إلي من يرثني وأنا في موضعي فقالوا له ومن هو؟ فقال: عبدالعلي الذي وفد على فلان المبطل فانظروا إلى حسن سريرته مع الله عز وجل وإلى تمام صدقه ورسوخ خاطره ونفوذ عزمه وصلابة جزمه فإنه رأى ما رأى ولم يتزلزل له خاطر ولا تحرك له وسواس؛ فهل سمعتم بمثل هذا الصفاء الذي في ذاته أتوافقون على إرثه؟. فقالوا: نعم. فخرجت روح الولي واتصل سيدي عبدالعلي بالسر وأثابه الله عز وجل على حسن نيته فوقع له الفتح وعلم من أين جاءته الرحمة وأن الشيخ الذي وفد عليه مسرف كذاب وأن الله تعالى رحمه بسبب نيته لا غير والله الموفق" (الإبريز ص186) أ. هـ. فانظر كيف أن المريد (الصادق) أعطى ماله كله لشيخ يقيم على الزنا والخمر (وهو في غفلة من ذلك .. عجباً) .. وكيف يقوم المريد الصادق بخدمة هذا الشيخ الزنديق الفاسق وأصبح مجرد فلاح أو مزارع في بستانه يخدم الفاجرات ويقدم الخمور، ويهيئ المزرعة للشيخ الأستاذ .. وكانت المكافأة أن مات شيخ آخر معه السر فاختار ذلك المريد البعيد واتصل بروحه وأعطاه السر .. ويستطرد أحمد بن مبارك هذا أيضاً فيقول: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 306 "وسمعت من غير الشيخ رضي الله عنه أن بعض الأكابر كان له عدة أصحاب وكان لا يتخيل النجابة إلا من واحد منهم فأراد أن يختبرهم ففروا بجملتهم سوى ذلك الواحد وذلك أنه تركهم على باب خلوته فأظهر لهم صورة امرأة فدخلت الخلوة فقام الشيخ فدخل معها فأيقنوا أن الشيخ اشتغل معها بالفاحشة فتفرقوا كلهم وخسرت نيتهم إلا ذلك الواحد فإنه ذهب وأتى بالماء وجعل يسخنه يقصد أن يغتسل به الشيخ فخرج عليه الشيخ فقال: ما الذي تفعل؟ فقال: رأيت المرأة دخلت فقلت لعلك بحاجة إلى غسل فسخنت لك الماء. فقال له الشيخ: وتتبعني بعد أن رأيتني على المعصية. فقال: ولم لا أتبعك والمعصية لا تستحيل عليك، وإنما تستحيل في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولم أخالطك على أنك نبي لا تعصي وإنما خالطتك على أنك بشر وأنك أعرف مني بالطريق ومعرفتك بالطريق باقية فيك والوصف الذي عرفتك عليه لم يزل فلم تتبدل لي نية ولا يتحرك لي خاطر. فقال له الشيخ: يا ولدي تلك الدنيا تصورت بصورة امرأة وأنا فعلت ذلك عمداً لينقطع عني أولئك القوم. فادخل يا ولدي وفقك الله معي إلى الخلوة فهل ترى امرأة فيها فدخل فلم يجد امرأة فازداد محبة على محبته والله الموفق" (الإبريز ص188) أ. هـ. وهذه الحكاية تزيد على أن المريد الذي رأى شيخه يخرج من خلوة مع زانية معلومة مشهورة قام فسخن له الماء .. أليس هذا إلغاء تاماً للعقول، وغسلاً للأمخاخ من أي فكر أو حمية أو غيرة دينية أو عاطفية صادقة. واقرأ أيضاً هذه الحكاية لترى العجب العجاب .. كان المريد يرى شيخه على الزنا، ويصلي وهو جنب من زنا والماء بجواره، ثم يشرب الخمر وكل هذا لم يحرك شيئا في المريد الصادق .. قال صاحب (الإبريز): "وسمعته (رضي الله عنه) يقول: كان لبعض العارفين بالله عز وجل مريد صادق وكان هو وارث سره فأشهده الله تعالى من شيخه أموراً كثيرة منكرة ومع ذلك لم يتحرك له وساوس فلما مات شيخه وفتح الله عليه شاهد تلك الأمور وعلم أن الصواب مع الشيخ فيها، وليس فيها ما ينكره شرعاً إلا أنها اشتبهت عليه، في ذلك أن امرأة كانت من جيران الشيخ وكانت تذكر بالسوء اشتبهت بين باب الدار وبين البيوت وكان المريد لا يبلغ إليه وإنما يقف بالباب فاتفق أن دخلت المرأة المشهورة بالسوء على المريد وهو بالباب فجازت للدار واتفق أن خرجت امرأة الشيخ الشبيهة بها فدخلت على الشيخ الخلوة وكان الشيخ أرسل إليها ليقضي حاجته منها فدخلت وقام إليها الشيخ ومرت الشبيهة بها نحو البيوت فرمى المريد ببصره إلى الخلوة فرأى المرأة مع الشيخ وهو يقضي حاجته منها فما شك أنها المشهورة بالسوء، وربط الله على قلبه فلم يستفزه الشيطان ثم خرجت المرأة وحانت الصلاة فخرج الشيخ للصلاة وتيمم وكان به مرض منعه من الاغتسال فما شك المريد أن الشيخ قد تيمم من غير ضرورة وربط الله على قلب المريد وكان بالشيخ مرض منعه من هضم الطعام فصنعوا له ماء الفلنيص عصروه وأتوا له بمائه ليشربه فدخل المريد فوجده يشربه فما شك أنه ماء خمر وربط الله على قلبه فلم يتحرك عليه وسواس فلما فتح الله عليه علم أن المرأة التي وطئها الشيخ امرأته لا المرأة المشهورة بالسوء وعلم أن التيمم الذي فعله الشيخ لضرر كان بجسده وعلم أن الماء الذي شربه الشيخ ماء فلنيص لا ماء خمر والله الموفق" (الإبريز ص178) أ. هـ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 307 ولست أدري كيف يتأتى هذا التخليط: شيخ مريض عاجز عن الوضوء ولكنه قادر على الزنا وشرب الخمر .. وما معنى قول الكاتب في هذه القصة وربط الله على قلبه .. والحق أن يقال وطمس الله أبصارهم وبصائرهم. والعجب أنهم لم يكتفوا بطمس أبصار المريدين وبصيرتهم حتى لا يروا ما عليه شيوخهم من الفسق والفجور بل جعلوا رؤية ما عليه هؤلاء الشيوخ دليلاً على شقاوة المريدين، والمشاهدين. يقول صاحب (الإبريز) أيضاً: " (وسمعته رضي الله عنه) يقول: إن الولي الكبير فيما يظهر للناس يعصي وهو ليس بعاص وإنما روحه حجبت ذاته فظهرت في صورتها فإذا أخذت في المعصية فليست بمعصية لأنها إذا أكلت حراماً مثلاً فإنها بمجرد جعلها في فيها فإنها ترميه إلى حيث شاءت وسبب هذه المعصية الظاهرية شقاوة الحاضرين والعياذ بالله تعالى فإذا رأيت الولي الكبير ظهرت عليه كرامة فاشهد للحاضرين بأن الله تعالى أراد بهم الخير أو معصية فاشهد بشقاوتهم وكما أن أرواحهم هي التي تتولى كراماتهم كذلك هي التي تتولى معاصيهم الظاهرة والله أعلم" (الإبريز ص196). أليس من العجيب أن يكون مثل هذا الفكر منسوباً إلى المسلمين وجزءاً من تراثهم الذي يتوارثونه ويحسبه من يحسبه منهم كتباً للهداية والدلالة على الله. ولم يكتف أرباب الفكر الصوفي بجعل معاصي الشيوخ من شؤم من يشاهدونها من الناظرين بل جعلوا الشيخ ربما تعمد المعصية خشية على ذاته الترابية أن تتحول من شدة التجلي إلى ذات نورانية فتتلاشى!! .. يقول السلجماسي أيضاً: "وسمعته (رضي الله عنه) يقول: إن الولي قد يغلب عليه الشهود فيخاف على ذاته الترابية من التلاشي فيستعمل أموراً ترده إلى حسه وإن كان فيها ما يعاب عليه من باب إذا التقى ضرران ارتكب أخفهما فإذا رآه شخص ارتكب ذلك الأمر ولا يعلم الوجه الذي ارتكبه لأجله ربما بادر إلى الإنكار عليه فيحرم بركته وقد تقرر في الشرع أي في الشريعة المطهرة أن العضو إذا أصابته الأكلة وخيف على الذات منها فإنه يباح قطعه لتسلم الذات مع أن العضو معصوم ولكنه من باب إذا التقى ضرران ارتكب أخفهما وكذلك الشخص إذا خاف على نفسه من الهلاك من شدة الجوع فإنه يباح له أكل الميتة حتى يشبع ويتزود منها" .. وهذا اعتذار في غاية القبح وكذب في غاية الوضوح لأن الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم كان الوحي يتنزل عليهم والملائكة تكلمهم وما كانوا يخشون على ذاتهم الترابية .. وأنا أعلم أن مثل هذه الحجج لا تناقش لأنها لا تنطلي إلا على سذج وأغبياء أو أناس فقدوا عقولهم وصوابهم ولكن ماذا نعمل إذا كان العالم الإسلامي قد ابتلي بهؤلاء وأفسدوا أجيالاً كثيرة من أبناء المسلمين وانظروا إلى الحكاية الآتية: يقول أحمد بن مبارك: "قال (رضي الله عنه) وإذا أراد الله شقاوة قوم وعدم انتفاعهم بالولي سخرهم الحق فيما هم فيه من قبح ومخالفة فيظنون أنه على شاكلتهم وليس كذلك حتى إنه يتصور في طور ولاية أن يقعد الولي مع قوم يشربون الخمر وهو يشرب معهم فيظنونه شارب خمر وإنما تصورت روحه في صورة من الصور وأظهرت ما أظهرت وفي الحقيقة لا شيء وإنما هو ظل ذاته تحرك فيما تحركوا فيه مثل الصورة التي تظهر في المرآة إنك إذا أخذت بالكلام تكلمت وإذا أخذت في الأكل أكلت وإذا أخذت في الشرب شربت وإذا أخذت في الضحك ضحكت وإذا أخذت في الحركة تحركت وتحاكيك في كل ما يصدر منك وفي الحقيقة لم يصدر منها أكل ولا غيره لأنها ظل ذاتك وليست بذاته الحقيقية فإذا أراد الله شقاوة قوم ظهر الولي معهم بظل ذاته وجعل يرتكب ما يرتكبون والله الموفق" (الإبريز ص195). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 308 والعجب أن هؤلاء الذين هذا هو مستواهم في التقوى والعلم والصلاح وهذه هي أخلاقهم وأعمالهم استطاعوا أيضاً الاستحواذ على أموال الناس. وهذا باب واسع جداً سنبسطه في غير هذا الموضع إن شاء الله تعالى ولكننا نذكر هنا هذه الحكاية من حكاياتهم لنبين كيف يربي المريد أيضاً على سلب ماله وإعطائه لشيخه بل سلب عقله وشرفه .. قال ابن مبارك أيضاً: "سمعته (رضي الله عنه) يقول كان لبعض المريدين أخ في الله عز وجل فمات ذلك الأخ وبقي المريد فجعل إذا فتح الله عليه بشيء يقسمه بين أولاده وبين أولاد الأخ في الله وكان لهذا المريد أرض مع إخوته فبعث عليهم من جانب المخزن ظلماً فلما أخذوا ثمنها كان نصيب المريد منها أربعين مثقالاً (سكة زماننا) فقال له إخوته ما تفعل بدراهمك فقال أقسمها بيني وبين أولاد أخي في الله؛ فاستحمقوه وقالوا ما رأينا مثلك في نقصان العقل تسبب (أي تاجر بها وأبذل سبباً لنمائها) بدراهمك واشتر بها كذا واصنع بها كذا واترك عنك هذه الحماقة التي أنت مشتغل بها فأرادت نفسه أن تميل إلى قولهم فقال لها يا نفسي ما تقولي لله عز وجل إذا وقفت بين يديه غداً حيث يقول لي رزقتك أربعين مثقالاً فاستأثرت بها وضيعت حق الأخوة فاليوم أضيعك كما ضيعتها فوفقه الله فقسم الدراهم بينه وبين أولاد أخيه في الله فلما خرج من عندهم فتح الله عليه وأعطاه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وجعله من العارفين لصدق نيته ولصداقة عزمه ونفوذ جزمه والله الموفق" (الإبريز ص178). 5 - وحتى يتم تذليل المريد تذليلاً كاملاً ويلغي عقله إلغاءً تاماً فإن شيخه يأمره بأوامر في غاية الغرابة بل فيها المعصية الواضحة والكفر الصريح امتحاناً لطاعته، ومعرفة من الشيخ هل بقي من المريد مسكة عقل، أو أثارة علم، أو بقية غيرة أو دين غير الدين الصوفي الباطني فبعضهم يأمرون مريدهم بإحضار زوجاتهم لشيوخهم ليختلي بهن فإن تلكأ أو شك في عفة الشيخ علم أنه غير صادق وشيخ آخر يأمر تلاميذه ومريديه بما هو أقبح من ذلك وهذه بعض حكاياتهم في هذا الصدد. يقول أحمد بن مبارك مبيناً كيف يكون المريد صادقاً مع شيخه مطيعاً له ولو أمره بقتل والديه يقول: "سمعت من الشيخ رضي الله عنه قال كان لبعض المشايخ مريد صادق فأراد أن يمتحن صدقه يوماً فقال له يا فلان أتحبني قال نعم يا سيدي فقال أرأيت إن أمرتك أن تأتيني برأس أبيك أتطيعني فقال يا سيدي فكيف لا أطيعك ولكن الساعة ترى فذهب من حينه وكان ذلك بعد أن رقد الناس فتسور جدار دارهم وعلا فوق السطح ثم دخل على أبيه وأمه في منزلهما فوجد أباه يقضي حاجته من أمه فلم يمهله حتى يفرغ من حاجته ولكن برك عليه وهو فوق أمه فقطع رأسه وأتى به للشيخ وطرحه بين يديه فقال له ويحك أتيتني برأس أبيك فقال يا سيدي نعم أما هو هذا فقال ويحك إنما كنت مازحاً فقال له المريد أما أنا فكل كلامك عندي لا هزل فيه فقال له الشيخ رضي الله عنه انظر هل هو رأس أبيك فنظر المريد فإذا هو ليس برأس أبيه فقال له الشيخ رأس من هو فقال له رأس فلان العلج قال وكان أهل مدينتهم يتخذون العلوج كثيراً بمنزلة العبيد السودانيين قال وكان أبوه غاب تلك الليلة فخانته زوجته في الفراش وواعدت عليه كافراً ومكنته من نفسها وكوشف الشيخ (رضي الله عنه) بذلك فأرسل المريد ليقتله على الصفة السابقة ليمتحن صدقه فعلم أنه جبل من الجبال فكان وارث سره والمستولي بعده على فتحه والله الموفق" (الإبريز ص186). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 309 وهذه الحكاية الملفقة المكذوبة ما أريد بها إلا تعليم السالك في طريق التصوف أن يطيع أمر الشيخ مهما كان ولو أمره بقتل والديه وأن تنفيذه لأمر الشيخ خير له بكل حال .. فأين هذا من قول الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الممتحنة:12]. فانظر إلى قوله تعالى وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فاشترط سبحانه طاعة النبي في المعروف علماً أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بالمعروف ولكن هذا ليتعلم غير النبي أنه ليس له أن يأمر إلا بمعروف وليس لأحد أن يطيعه إلا في معروف .. ولذلك لما أمر رسول الله أميراً على عدد من المسلمين في سرية ما قال هذا الأمير لأصحابه ألست أميركم قالوا بلى، قال ألم يأمركم الرسول بطاعتي قالوا بلى، قال: فإني آمركم أن تدخلوا هذه النار، وكان قد جمع حطباً وأشعله، فقالوا: والله ما آمنا إلا فراراً من نار الآخرة فكيف ندخل النار الآن .. ولما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الواقعة قال صلى الله عليه وسلم والله ((لو دخلوها ما خرجوا منها)) (1). ولكن الأمر يختلف تماماً عند مشايخ التصوف إذ العلوم والأسرار التي يجب على المريد أن يتلقاها من شيخه بالغة مبلغها في القبح والنكارة وما لم يكن المريد متهيئاً لقبول هذه الدواهي فإنه حتماً سينفر ويخرج من الطريق ولذلك فلا بد من تهيئته تهيئة كاملة. وتوطئته لتحمل العقيدة الصوفية .. إذ كيف سيفاجئ الشيخ مريده عندما يطلب منه المريد السر الصوفي كيف سيقول له يا بني اعلم أنه ليس هناك إله غيري وغيرك فما هذا العالم الذي نعيش فيه إلا الله بكل مظاهره ومصنوعاته فهو عالم قد خلق نفسه بنفسه لنفسه فليس ثم غير .. كيف سيستطيع المريد تقبل ذلك كله إلا أن يكون الشيخ الصوفي قد تمكن من عقل مريده عن آخره من دينه إلى نهايته ومن أخلاقه وشرفه حتى لا يبقى من ذلك شيئا إلا عبادة شيخه والتصديق أنه وساطته إلى الله وأنه لا نجاة له ولا فلاح له، إلا أن يكون هذا الشيخ هو كل شيء في حياته .. هذه هي الغاية التي يسعى إليها الفكر الصوفي من التربية وهي نقل هذه الأفكار الفلسفية الخبيثة إلى أذهان أبناء الإسلام ولذلك فلا بد من سلخهم أولاً من الدين حتى يكونوا بعد ذلك مطية سهلة لهؤلاء الشيوخ يغرسون في أذهانهم ما شاءوا من الخرافات والخزعبلات والهذيان الذي لم تعرف البشرية في كل عصورها مثالاً له .. 6 - لا حركة ولا سكون للمريد إلا بإذن الشيخ: الأدب السادس من آداب المريد الصوفي مع شيخه أنه لا يجوز له أن يتحرك أو يسكن، أو يتصرف في نفسه أو ماله أو زوجته، أو سفره أو إقامته إلا بإذن شيخه، وأنه لا يجوز أن يجلس في مجلسه إلا بإذنه وأن يظهر قدمه أمام شيخه، أو يرفع صوته، أو يسأله من عند نفسه لأن الشيخ أعلم بما في نفس مريده فلا يجوز أن يبدأ بالسؤال، أو يستفسر عن إشكال وإنما ينتظر في كل ذلك ما يجود به شيخه .. لأنه في زعمهم هو أعلم بحاله .. وليس وراء ذلك عبودية في الأرض .. والعجيب أن المتصوفة قد أخذوا كل الحقوق والخصوصيات التي جعلها الله لرسوله فجعلوها حقاً أيضاً للشيوخ فانظر مثلاً ما يقوله صاحب (الرائية) وما يشرح به أحمد بن مبارك: "قال:   (1) رواه البخاري (4340) ومسلم (1840) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 310 ولا ترفعوا أصواتكم فوق صوته ولا تجهروا كجهر الذي هو في قفر يقول السلجماسي: والله أعلم لا ترفعوا أيها المريدون أصواتكم فوق صوت الشيخ فإن ذلك يخل بالأدب ولا تجهروا له بالقول كجهر سكان القفار والبوادي الذين معهم جفاء وجلافة ولكن عظموه وفخموه وقولوه يا سيدي ويا أستاذي ويا ولي الله ونحو ذلك وأصل هذا الكلام الآية الشريفة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2] قال السهروردي في العوارف (رضي الله عنه) ومن تأديب الله تعالى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات:2] كان ثابت بن قيس بن شماس في أذنه وقر وكان جهوري الصوت وكان إذا تكلم جهر بصوته وربما كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيتأذى بصوته فأنزل الله الآية تأديباً له ولغيره ثم قال بعد أن ذكروا آية في سبب نزولها وأنها نزلت في منازعة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بحضرته قال فكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمع كلامه حتى يستفهم وقيل لما نزلت الآية إلى أبو بكر أن لا يتكلم عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا كأخفى السر فهكذا ينبغي أن يكون المريد مع شيخه فلا ينبسط برفع الصوت وكثرة الضحك والكلام إلا إذا باسطه الشيخ" انتهي (الإبريز ص256). وقد غاب عن هؤلاء الذين قرروا لشيوخهم ما أمر الله به نحو رسوله لمنزلته الخاصة غاب عنهم أن الله سبحانه وتعالى قال كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ فالمسلمون من شأنهم أن يجهر بعضهم في الكلام لبعض وأما مع النبي صلى الله عليه وسلم فيجب أن يكون للمسلمين معه أدب خاص في معاملتهم له صلى الله عليه وسلم .. وليت أنهم أعطوا الشيخ من الحقوق ما يجب على المسلم نحو الرسول واكتفوا بذلك بل جعلوا لشيوخهم من الحقوق على مريديهم ما لم يجعله الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم فقد جعلوا من حق الشيخ أن لا تنطق عنده إلا بإذنه وأن تطيل إذا أحب منك الإطالة وتختصر إذا أراد الاختصار. قال صاحب (الرائية): "ولا تنطقن يوماً لديه فإن دعا إليه فلا تعدل إلى الكلم النزر وقال الشارح يقول والله أعلم لا تنطق في وقت من الأوقات عند شيخك فإن سألك عن شيء فلا تعدل عن الجواب الذي تدعو إليه الحاجة إلى الإكثار والتطويل فإن ذلك يزيل هيبة الشيخ وهذا والله أعلم ما لم يطلب منه الشيخ الإكثار من الكلام فإن طلب منه ذلك وكان للشيخ فيه غرض فإنه ينبغي له حينئذ الإسهاب والتطويل مراعياً خاطر الشيخ فإذا رآه شبع من الكلام فإنه يجب عليه الرجوع إلى أدبه وقد سبق ما كان يقوله لنا الشيخ رضي الله عنه حين يغيب في المشاهدة أهدروا علي كثيراً فإن الله يأجركم على ذلك يعني لأنه يرجع بذلك إلى حسه. أصل هذا الكلام الذي في البيت لصاحب (العوارف) قال فيها بعد أن ذكر تأويلات في قوله تعالى لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1] وقيل نزلت في أقوام كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء خاضوا فيه وتقدموا بالقول والفتوى فنهو عن ذلك وهكذا دأب المريد في مجلس الشيخ ينبغي أن يلزم السكون ولا يقول شيئا بحضرته من كلام حسن إلا إذا استأمر الشيخ في ذلك ووجد من الشيخ فسحة" أ. هـ (الإبريز ص205). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 311 وقد جاوزوا هنا ما أمر الله به المسلمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1] معناها أي لا تفتوا قبل أن يفتي ولا تحكموا في شيء حتى يأتيكم حكمه من الله ورسوله. وليس معناه لا تبدأوا في أي كلام وإلا فالصحابة كثيراً ما كانوا يبدأون ويعيدون في شيءون كثيرة والنبي جالس يستمع وربما تبسم صلى الله عليه وسلم عندما يتكلمون أحياناً في شيءون الجاهلية. كما ثبت في صحيح مسلم وغيره أن الصحابة كانوا يجلسون مع النبي بعد صلاة الصبح يستمع لهم وربما تبسم صلى الله عليه وسلم .. وأما هؤلاء الصوفية فإنهم جعلوا على المريد حجراً أن لا يتكلم بحضرة شيخه إلا أذن له .. وأن يختصر حيث أراد الشيخ أن يطيل إذا أمره الشيخ بذلك فجعلوه آلة ميتة يتحرك بحركة الشيخ ولماذا نذهب بعيداً وقد أجملوا هذه الآداب مع شيخهم بقولهم: "كن بين يدي شيخك كالميت بين يدي المغسل" .. والعجيب أنهم لم يكتفوا بهذا أيضاً بل جعلوا من جملة الآداب في خطاب الشيخ أن يسأل الله التوفيق قبل أن يبدأ أمام الشيخ بالكلام .. انظر ما يقولون: "وقال أيضاً من الأدب مع الشيخ أن المريد إذا كان له كلام مع الشيخ في شيء من أمر دينه أو دنياه لا يعجل بالإقدام على مكالمة الشيخ بالهجوم عليه حتى يتبين له من حال الشيخ أنه مستعد له ولسماع كلامه فكما أن للدعاء أوقاتاً وآداباً وشروطاً لأنه مخاطبة لله تعالى فللقول مع الشيخ أيضاً آداب وشروط لأنه من معاملة الله تعالى (!!) ويسأل الله قبل الكلام مع الشيخ التوفيق لما يجب من الآداب" أ. هـ (الإبريز ص213). فجعلوا الشيخ هنا بمنزلة الله سبحانه وتعالى فكما أن لدعاء الله شروطاً وآداباً وأوقاتاً .. فكذلك يجب أن يكون الكلام مع الشيخ .. وانظر قوله (لأنه .. أي لأن معاملة الشيخ من معاملة الله تعالى .. ) فأي عبودية في الأرض أعظم من هذه؟ ... وحتى يتلبس الأمر على المريدين التباساً كاملاً ولا يستطيع المريد أن يفرق بين الشيخ والله فإن المتصوفة زعموا أن الشيخ عندما يتكلم بكلامه في الدرس لا يكون متكلماً من عند نفسه وإنما هو مستمع كذلك لما يلقى عليه من الله، وما يجري على لسانه رغماً عنه فالشيخ غير مسئول عن كلامه، لأن كلامه في الدرس وحي من الله وإلهام إليه لا حيلة له فيه. قال السلجماسي: "قال ويكون الشيخ فيما يجريه الحق سبحانه وتعالى على لسانه مستمعاً كأحدكم فأشكل ذلك على بعض الحاضرين وقال إذا كان القائل يعلم ما يقول فكيف يكون مستمعاً (فرجع إلى منزله فرأى في ليلته في المقام كأن قائلاً يقول له: أليس الغواص يغوص في البحر لطلب الدر ويرجع بالصدف) ويرجع بالصدف في مخلاته والدر وقد حصل معه ولكن لا يراه إلا إذا خرج من البحر ويشاركه في رؤية الدر من هو على الساحل ففهم في المنام إشارة الشيخ في ذلك فأحسن آداب المريد مع الشيخ السكون والخمود والجمود حتى يبادئه الشيخ بما له فيه المصلحة قولاً وفعلاً" (الإبريز ص105). وهذا المثال الذي ضربوه لا ينطبق على هذا الأمر لا شكلاً ولا موضوعاً .. فالقضية الأساسية وهي أن الشيخ يلقي عليه الكلام عن الغيب رأساً في الدرس ولا حيلة له فيه هذا كفر وزندقة لأنه لا وحي بعد محمد صلى الله عليه وسلم .. ومن زعم أنه ينزل عليه وحي أو يكاشفه ملك، أو يطلع على غيب بعد رسول الله فهو كافر مرتد حلال الدم بإجماع الأمة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 312 وأما أن الغواص يغوص فيأتي بالمحار من البحر ولا يعرف إن كان فيها لؤلؤ أم لا ثم يفتحها على الشاطئ ويطالع مع الموجودين هناك .. إن أرادوا أن الشيخ يغوص في الغيب ويأتي بالمحار ولا يعرف هل أتى بلؤلؤ أم لا إن زعموا أن كلام الله الذي يأتي به الشيخ لا يعرف إن كان فيها لباب أم لا فهذا كفر صريح لأنه تشبيه للوحي الإلهي بأن منه ما يجوز أن يلقى مرة ثانية إلى البحر كما يرمي الغواص بقشور المحار التالفة التي لا نفع منها وقد نجد جوهرة وقد لا نجد .. وهذا المثال الذي ضربوه لما يجري على ألسنة شيوخهم ينطبق فقط على الإلقاء الشيطاني فالشياطين تلقي على أسماع أوليائها من الإنس الأمر مما يسمعونه من السماء يكون فيه شيء واحد صادق وتسعة وتسعون كذباً وهذا هو بالفعل حال شيوخ التصوف المتصلين بالجن والشياطين؛ قد يطلعهم الجن على شيء واحد صادق ولكن الجن يكذبون مع كل خبر صادق مئة كذبة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في تفسير قوله تعالى وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا [الجن:9] وفي قوله تعالى لا يَسَّمَّعُونَ إلى الْمَلإٍ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات: 8 - 9]. فشيوخ التصوف يحدثون بأحاديث الجن والشياطين فيكذبون مئة كذبة ويفترون آلاف الافتراءات على الله ورسالته، وقد يصدقون مرة واحدة. والمهم في هذا الصدد أن هؤلاء المشايخ بمثل هذا الأمر جعلوا المريد صنماً مع شيخه لا يستطيع أن يقاطعه أو أن يعترض عليه لأن الشيخ أصلاً مستمع لما يوحى إليه وليس مؤلفاً ولا ناقلاً كلام نفسه. وجعلوا من واجب المريد أيضاً أن لا يسافر سفراً إلا بإذن الشيخ. قال عبدالكريم القشيري: "ومن أحكام المريد إذا لم يجد من يتأدب به في موضعه أن يهاجر إلى من هو منصوب في وقته لإرشاد المريدين ثم يقيه إليه ولا يبرح عن سدته إلى وقت الإذن" (القشيرية ص184). وبالطبع الإذن الذي يجب على المريد أن ينتظره ليس هو إذن الشيخ في زعمهم وإنما هو الإذن الإلهي فالشيخ يأمر المريد أن يبقى في مكانه ولا يتحول عنه إلا إذا جاءه الأمر الإلهي بأن يسافر من عند شيخه. وبالطبع ليس هذا أمراً إلهياً وإنما هو أوامر شيطانية يلتزم بها هؤلاء وهؤلاء .. ويفلسف القشيري هذا الأدب الصوفي، أعني عدم جواز سفر المريد وإلا بإذن شيخه، فيقول: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 313 "ومن آداب المريد بل فرائض حاله أن يلازم موضع إرادته وأن لا يسافر قبل أن يقبله الطريق وقبل وصول القلب إلى الرب فإن السفر للمريد في غير وقته سم قاتل ولا يصل أحد منهم إلى ما كان يرجى له إذا سافر في غير وقته وإذا أراد الله بمريد خيراً أثبته في أول إرادته وإذا أراد الله بمريد محنة شرده في مطارح غربته هذا إذا كان المريد يصلح للوصول فأما إذا كان شاباً طريقته للخدمة في الظاهر بالنفس للفقراء وهو دونهم في هذه الطريقة رتبة فهو وأمثاله يكتفون بالترسم في الظاهر فينقطعون في الأسفار وغاية نصيبهم من هذه الطريقة حجات يحصلونها وزيارات لمواضع يرتحل إليها لبقاء شيوخ بظاهر سلام فيشاهدون الظواهر ويكتفون بما في هذا الباب من السير فهؤلاء الواجب لهم دوام السفر حتى لا تؤديهم الدعة إلى ارتكاب محظور فإن الشاب إذا وجد الراحة والدعة كان في معرض الفتنة إذا توسط المريد جميع الفقراء والأصحاب في بدايته فهو مضر له جداً وإن امتحن واحد بذلك فليكن سبيله احترام الشيخ والخدمة للأصحاب وترك الخلاف عليهم والقيام بما فيه راحة فقيره والجهد أن لا يستوحش منه قلب الشيخ ويجب أن يكون في صحبته مع الفقراء أبداً خصمهم على نفسه ولا يكون خصم نفسه عليهم ويرى لكل واحد منهم عليه حقاً واجباً ولا يرى لنفسه واجباً على أحد" أ. هـ (القشيرية ص183). وهكذا يجب أن يكون المريد أداة طيعة في يد شيخه يختار له من المراتب والمسالك ما يريد. بل يجب عليه أيضاً أن ينخلع عن حرفته وصنعته وأن ينقطع كل علائقه بالدنيا، وينقطع انقطاعاً كاملاً لشيخه .. والحق أن قضية الانقطاع الكامل عن الدنيا والإقبال التام على التصوف وملازمة الشيوخ كان هو الأمر في القرن الرابع وما بعده، وما زال هذا موجوداً في الإقطاعيات الصوفية الكثيرة التي تأتيها دخول دائمة وأوقاف دائمة للمريدين الذين يجب أن يسير فيه. ويقول القشيري أيضاً: "وكل مريد بقي في قلبه شيء من عروض الدنيا مقدار وخطر فاسم الإرادة له مجاز وإذا بقي في قلبه اختيار فيما يخرج عنه من معلومه فيريد أن يخص به نوعاً من أنواع البر أو شخصاً دون شخص فهو متكلف في حاله وبالخطر أن يعود سريعاً إلى الدنيا لأن قصد المريد في حذف العلائق الخروج منها لا السعي في أعمال البر وقبيح بالمريد أن يخرج من معلومه من رأس ماله وقنيته ثم يكون أسير حرفة وينبغي أن يستوي عنده وجود ذلك وعدمه حتى لا ينافر لأجله فقيراً ولا يضايق به أحداً ولو مجوسياً" انتهي (القشيرية ص184). ومعنى هذا أنه يجب على المريد الخروج من الحرف الدنيوية نهائياً بزعم أنه يضايق أهل الحرف والصناعات ويزاحمهم وهذا يضاد التصوف حتى ولو كان من يزاحمهم مجوسياً .. كما أنه يجب على المريد أن لا يفعل معروفاً مع شخص إلا بأمر شيخه. وقال أيضاً "ومن شأن المريد قصر الأمل فإن الفقير ابن وقته فإذا كان له تدبير في المستقبل وتطلع لغير ما هو فيه من الوقت وأمل فيها يستأنفه لا يجيء منه شيء .. ومن شأن المريد أن لا يكون له معلوم وإن قل لا سيما بين الفقراء فإن ظلمة المعلوم تطفئ نور الوقت" (الإبريز ص208). يعني أن المريد يجب عليه أن لا يكون له تدبير مالي، للمستقبل أبداً ولا راتب شهري معلوم يرجع إليه لأن هذا يطفئ نوره ويؤجل مكاشفاته .. وجعلوا كذلك من آداب المريد في مجلس الشيخ ما يأتي: "من آداب المريد مع شيخه أن لا يجلس بحضرته متربعاً، ولا مظهراً رجلاً له. قال صاحب (الرائية): ولا يقعدن قدامه متربعاً ... ولا بادياً رجلاً فبادر إلى الستر ولا يجوز له كذلك أن يلبس لباس الشيوخ إلا إذا انتهي من مقام التربية" أ. هـ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 314 وهذه حقوق أعطيت للشيخ لم يجعلها الله لرسوله فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الصحابة أن لا يلبسوا لباسه .. أو يتشبهوا به في عمامته أو قلنسوته أو يجلسوا متربعين في حضرته صلى الله عليه وسلم .. بل كانوا يجلسون بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم متربعين ومضطجعين وكان أحياناً يضجع معهم ولم يكن له صلى الله عليه وسلم زي خاص ولا مجلس خاص، وهذا يدلك على ابتداع المتصوفة وبعدهم عن الدين. وجعلوا من آدابهم أيضاً ما قاله القشيري: "ومن شروط المريد إذا زار شيخاً أن يدخل عليه بالحرمة وينظر إليه بالحشمة فإن أهل الشيخ لشيء من الخدمة عَدَّ ذلك من جزيل النعمة. (القشيرية ص184). فجعلوا خدمة شيوخهم من جزيل النعمة ومن تفضل الشيخ على المريد والأمر على العكس لأن من يخدم غيره دون أجر هو المتفضل لقوله صلى الله عليه وسلم للذين خدموا إخوانهم في السفر ذهب المفطرون بالأجر كله: "وقبول قلوب المشايخ للمريد أصدق شاهد لسعادته ومن رده قلب شيخ من الشيوخ فلا محالة يرى غِبَّ ذلك ولو بعد حين ومن خذل بترك حرمة الشيوخ فقد أظهر رقم شقاوته وذلك لا يخطئ" .. أ. هـ وهذا يعني أن غضب الشيخ الصوفي على المريد هو غضب الله. فليس له قبول أبداً .. وهذا من أعجب العجب .. 7 - كتمان لشيء من الأسرار عن الشيخ: وحتى يتم أخذ المريد من نفسه والسيطرة الكاملة على كل قلبه وإحساسه وهواجسه فإن شيوخ التصوف قد فرضوا على المريد أن لا يحجب شيئا من أسراره عن شيخه سواء كانت هذه الأسرار معاصي ارتكبها فإن الشيخ يتحملها عنه إذا أفضى بها إليه، وهذا نظير صكوك الغفران عند النصارى أو كانت في زعمهم مكاشفات وأنواراً وعلوماً إلهية (لدنية) فإن شيخه سيفرح بذلك ويطلب له المزيد. يقول القشيري: "وإذا التزم المريد استدامة الذكر وآثر الخلوة فإن وجد في خلوته ما لا يجده قلبه إما في النوم وإما في اليقظة أو بين اليقظة والنوم من خطاب يسمع أو معنى يشاهده مما يكون نقصاً للعادة فينبغي أن لا يشتغل بذلك البتة ولا يسكن إليه ولا ينبغي أن ينتظر حصول أمثال ذلك فإن ذلك كله شواغل عن الحق سبحانه ولا بد له في هذه الأحوال في وصف ذلك لشيخه حتى يصير قلبه فارغاً عن ذلك ويجب على شيخه أن يحفظ عليه سره فيكتم عن غيره أمره ويصغر ذلك في عينه فإن ذلك كله اختبارات والمساكنة إليها مكر فليحذر المريد عن ذلك وعن ملاحظاتها وليجعل همته فوق ذلك واعلم أن أضر الأشياء بالمريد استئناسه بما يلقى إليه في سره من تقريبات الحق سبحانه له ومنه بأني خصصتك بهذا وأفردتك عن أشكالك فإنه لو قال يترك هذا فمن قريب سيختطف عن ذلك بما يبدو له من مكاشفات الحقيقة وشرح هذه الجملة بإثباته في الكتب متعزز .. " أ. هـ (القشيرية ص183،184) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 315 وهذا الذي يقرره القشيري هنا فيه كثير من التلبيس الذي لا بد من بيانه فالشاهد فيه أولاً هو أن المريد لا يجوز له كتمان ما يطالعه مما يسمونه بالأنوار أو المكاشفات أو السماع من الملك أو مما نقض للعادة ويمثلون لذلك بسطوح الأنوار في الغرفة المظلمة مثلاً أو رفع سقفها أو رؤيته لشيخه أمامه أو حضور الرسول عنده ونحو هذا مما يدعونه من الخرافات والتهيؤات الشيطانية وذلك أن الأذكار التي تعطي للمريد بأعدادها الرهيبة وطرق أدائها كأن يكون الإنسان جاثياً على ركبتيه مغمضاً إحدى عينيه أو متجهاً ببصره شمالاً أو يميناً، وكذلك الجو المحيط بذلك من إظلام الغرفة، والمكث ساعات طوال على ذلك مع أعداد تربو أحياناً على عشرات بل مئات الآلاف من المرات .. كل ذلك مع انتظار حدوث أمر غريب يجعل المريد يفقد السيطرة على نفسه وأعصابه فتتهيأ له أمور كثيرة أو يتسلط الشيطان عليه لما هو فيه من البدعة والبعد عن هدي النبوة المستنير فيتلاعب به الشيطان فيتهيأ له أحياناً بصورة شخصية أو بصورة مكذوبة غير صورة الرسول ويلقي في روعه أنه رسول الله، وأنه يأمره بكذا وكذا .. وأحياناً ما يتهيأ له أن السقف انشق وأن الظلام الدامس قد تحول إلى نور ساطع، وأن الملائكة قد هبطت عليه، وهو في هذه الحالة الشيطانية من قراءة الأذكار المبتدعة التي تشتمل غالباً على أسماء الشياطين وتخليط بضع آيات من القرآن، مقطعة عن مواضعها موضوعة في غير أماكنها فتنزل عليهم الشياطين لذلك وتعبث بعقولهم وأفئدتهم وهذا ما عناه القشيري من أن المريد إذا شرع في الذكر فلا بد أن يرى شيئا من ذلك فعليه كما زعم أن لا ينظر إلى شيء من ذلك البتة لأن كما قال شواغل الحق وهو يريد أن يرى الله وأن يصلي إلى الله نفسه لا إلى هذه الأمور العارضة .. وعليه بعد رؤيته لهذه الأمور أن يحكيها لشيخه ولا يخفيها عنه .. فهذا أحمد بن المبارك يصف حال المريد مع شيخه وينقل كلام شيخه عبدالعزيز الدباغ لهم فيقول: "وكان (رضي الله عنه) يقول: لا تكتموا عني شيئا من الأمور التي تنزل بكم في الدين والدنيا وأخبرونا حتى بالمعاصي التي تقع لكم وإن لن تخبروني أخبركم فإنه لا خير في صحبة يستر معها شيء من أحوال المتصاحبين وكان رضي الله عنه يقول أما أنا فلا أكتم عنكم شيئا من أموري ثم يشرح لنا رضي الله عنه حاله حتى بلغ ذلك ويذكر لنا جميع ما وقع له من العاديات وغيرها، ويقول لنا (رضي الله عنه) إن لم أخبركم ولم أطلعكم على أحوالي فإن الله يعاقبني ويحاسبني لأنكم تظنون بي الخير فاصبروا حتى أذكر لكم الأمور الباطنية التي لم تطلعوا عليها فمن شاء منكم بعد ذلك أن يبقى معي فليبق وحينئذ يحل لي أكل طعامه وقبول هديته ومن شاء أن يذهب فليذهب فإن سكوتي عن ذكر تلك الأمور غش لكم وما كان رضي الله عنه لأصحابه إلا رحمة محضة يشفع لهم في زلاتهم ويتكفل لهم بنوائبهم ويتحلل لهم ما يخشون عاقبته ويهتم لأمرهم أكثر مما يهتم لأموره. وقال لي رضي الله عنه ذات يوم الرجل الذي لا يشاطر صاحبه في سيئاته ما هو بصاحب له وقال إن لم تكن الصحبة إلا على الحسنات فما هي بصحبة. وبالجملة فما كان رضي الله عنه لأصحابه إلا رحمة مرسلة من الله عز وجل فعلى مثله يبكي الباكون ولو رمنا تفصيل أعيان الجزئيات الواقعة لنا معه ولغيرنا في هذا الباب لطال الكلام" أ. هـ (الإبريز ص212). قلت وهذا الكلام معناه في النهاية إيقاف المريد عارياً أمام شيخه وأستاذه وإيهامه بأنه إن لم يعترف بما عنده من الأسرار فإن الشيخ بنفسه يطلع على ذلك ونقل في هذا بيت صاحب (الرائية): سوى الشيخ لا تكتمه سراً فإنه بساحة كشف السر يجري على بحر ويقول القشيري أيضاً: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 316 "يجب عليه حفظ سره حتى عن زره إلا عن شيخه ولو كتم نفساً من أنفاسه عن شيخ فقد خانه في حق صحبته ولو وقع له مخالفة فيما أشار عليه شيخه فيجب أن يقر بذلك بين يديه في الوقت ثم يستسلم لما يحكم عليه به شيخه عقوبة له على جنايته ومخالفته إما بسفر يكلفه أو أمر ما يراه". أي وعليه أن يستسلم إذا خالف هذا الأدب فكتم شيئا عن الشيخ أن يستسلم لحكم الشيخ فيما يحكم عليه به، ويكون راضياً بذلك. وإذا كان القشيري قد قال مثل هذا الكلام منذ القرن الخامس الهجري فإن الصوفية قد نسجوا على منواله وساروا على أقدامه .. وجاء من زاد في هذه الأمور ووسع فيها أكثر من ذلك تحمل الشيخ للحمالات والذنوب ولعل كل ما مضى يهون إلا أن يجعل الصوفية الشيخ في مرتبة لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإيمان المريد متعلق بشيخه بل جميع أموره الدنيوية والأخروية لا نجاح ولا فلاح له فيها إلا إذا آمن بشيخه وجعله كل شيء في حياته. وفي ذلك يقول صاحب كتاب (الإبريز): "وقد سمعت الشيخ (رضي الله عنه) يقول: الشيخ للمريد في درجة لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإيمانه متعلق به، وسائر أموره الدنيوية والدينية وأرباب البصائر يشاهدون ذلك عياناً وكنت أخرج معه كثيراً رضي الله عنه وأنا لا أعرف درجته فكان يقول لي: مثلك مثل من يظل يمشي على عالي أسوار المدينة وشرفاتها مع ضيق المحل الذي تجعل فيه رجلك وبعد محل السقوط فلم أفهم معنى هذا الكلام إلا بعد حين فكان بعد ذلك إذا جرى هذا الكلام على خاطري يحصل لي منه روع عظيم وخوف شديد وقلت له ذات يوم: إني أخاف من الله تعالى من أمور فعلتها فقال لي: ما هي؟ فذكرت له ما حصل. فقال لي (رضي الله عنه): لا تخف من هذه الأشياء ولكن أكبر الكبائر في حقك أن تمر عليك ساعة ولا أكون في خاطرك فهذه هي المعصية التي تضرك في دينك ودنياك!! وقلت له ذات مرة: يا سيدي إني بعيد من الخير. فقال رضي الله عنه: اطرح عنك هذا وانظر إلى منزلتك عندي فعليها تحمل وكنا معه رضي الله عنه على حالة قل أن يسمع بمثلها لا ينزل أمر مهم أو غير مهم إلا ذكرناه له فيتحمله عنا عياناً ويريح خاطرنا منه بمجرد ذكره" أ. هـ. وقد بلغ هذا النص الغاية في القباحة والبعد عن الدين لأن الشيخ هنا يجعل نفسه مكان الله سبحانه وتعالى حيث يذكر لمريده أنه إذا مرت ساعة ولا يكون الشيخ في خاطر مريده كانت هذه معصية ضارة عليه في دينه ودنياه .. وهذا حق ما أوجبه الله تعالى لنفسه على عبيده بمثل هذا النحو بل رضي الله سبحانه من العباد أن يذكروه في أوقات مخصوصة وجوباً كالصلاة وعند أعمال محدودة كالطعام والشراب ونحو ذلك. أما أن تمضي ساعة ولا يذكر المرء فيها ربه ويكون لاهياً في عمل مباح غير مضيع لواجب فإن هذا لا ضرر فيه على دين المرء أو دنياه، ولكن هؤلاء المشايخ أنزلوا أنفسهم من مريديهم -أو من عبادهم- هؤلاء المساكين! الذين يضلونهم، منزلة الله، بل جعلوا حقوقهم على مريديهم أعظم من حقوق الله سبحانه وتعالى. 8 - ترك العهد الصوفي كفر وردة: وبعد فقد يظن أن المريد الذي يلقى مثل هذه الأهوال في طريق التصوف يمكنه أن ينفلت في النهاية فيما لو استيقظ فكره، أو صحا ضميره وهذا ظن بعيد ولكن من أجل هذه اليقظة المحتملة أيضاً قفل مشايخ التصوف الطريق نهائياً أمام المريد حتى لا يحاول النكال من ربقته؛ فقد جعلوا الخروج من عهد الشيخ خروجاً من الإسلام. والعهد الصوفي يؤخذ على المبتدئ والمريد في أول الطريق بأن يلتزم بالدين ويتوب مما كان عليه ويقول: تبت إلى الله على يد الشيخ فلان، وعاهدت الله أن ألتزم طريقته وأن لا أبوح بسره إلا بإذن من الشيخ وأن .. وأن .. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 317 وفي هذا الأمر يقل عبدالكريم القشيري مبيناً الوقت الذي يعطي في المريد العهد، وأنه يجب عليه التزام الطريق مهما حدث له من المشقات، يقول: "وما لم يتجرد المريد عن كل علاقة لا يجوز لشيخه أن يلقنه شيئا من الأذكار بل يجب أن يقدم التجربة له فإذا شهد قلبه للمريد بصحة العزم فحينئذ يشترط عليه أن يرضى بما يستقبله في هذه الطريقة من فنون تصاريف القضاء فيأخذ عليه العهد بأن لا ينصرف عن هذه الطريقة بما يستقبله من الضر والذل والفقر والأسقام والآلام وأن لا يجنح بقلبه إلى السهولة ويترخص عن هجوم الفاقات وحصول الضرورات ولا يؤثر الدعة ولا يستشعر الكسل فإن وقفة المريد شرّ من فترته والفرق بين الفترة والوقفة أن الفترة رجوع عن الإرادة وخروج منها والوقفة سكون عن السير باستحلاء حالات الكسل وكل مريد وقف في ابتداء إرادته لا يجيء منه شيء فإذا جربه شيخه فيأمر أن يذكر ذلك الاسم بلسانه ثم يأمره أن يسوي بقلبه مع لسانه ثم يقول له: اثبت على استدامة هذا الذكر كأنك مع ربك أبداً بقلبك ولا يجري على لسانك غير هذا الاسم ما أمكنك" أ. هـ (الرسالة القشيرية ص182). وهكذا يكون العهد بعد التأكد من المريد تماماً، ويكون التزام المريد بالذكر المخصوص الذي يلقيه إليه الشيخ. ولا يجوز له أن يذكر باسم آخر إلا بإذن الشيخ له. ومعلوم ما في هذه الأمور من المخالفات الشرعية فالعهد لا يجوز إلا على الإسلام وعلى بيعة الإمام أو على فعل أمر من أمور الإسلام لا يحل به المسلم حراماً ولا يحرم حلالاً وطاعة الإمام تجب في المعروف فقط. أما في أن يخترع الشيخ للمريد أذكاراً خاصة ويعاهده على عدد لا مخصوص وأعمال مخصوصة فهذا لم يأت به الشرع الحكيم وإنما هذا من بدع الصوفية. ولا سيما أنهم يأمرونهم بأن يذكروا الله باسم واحد من أسمائه أو بمجرد ضمير كهو هو وهذه كلها من البدع التي لم يأمر بها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم. ثم يقول القشيري أيضاً: "ومن شأن المريد حفظ حدوده مع الله تعالى فإن نقض العهد في طريق الإشادة كالردة عن الدين لأهل الظاهر" أ. هـ (القشيرية ص186). وبهذا يغلق الطريق نهائياً أمام المريد الذي قد يريد فكاكاً مما دخل فيه إذا اطلع على تهاويل التصوف وترهاته. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 319 - 347 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 318 الفصل الثلاثون: تراجم زعماء الصوفية للصوفية زعماء كثيرون ليس من السهل حصرهم وذكر تراجمهم غير أننا نحيل من أراد التوسع في تراجمهم إلى كتب الصوفية أنفسهم. وقبل إيراد بعض تلك الكتب أحب التنبيه إلى أن بعض علماء الصوفية حينما كتبوا تراجم لمشاهيرهم وأسلافهم ارتكبوا جرماً في حق الصحابة رضوان الله عليهم وفي حق غيرهم من خيار المسلمين وعلمائهم، حيث حشروهم في سلسلة واحدة مع كبار غلاة وفساق الصوفية الذين وصل بهم الاستهتار بأخلاق وبأمور الدين الشرعية وبالآداب الإسلامية، بل والعرفية إلى حد يستحي الإنسان من ذكرها، وأعمال لا يتصور وقوعها من جهال المسلمين، فما الظن بطلاب العلم، بل وما الظن بأولياء الله؟ وكنت قد جمعت عدة أوراق في تراجم أقطاب التصوف، ولكني رأيتها أليق بكتب التاريخ وتطول بها هذه الدراسة فاكتفيت بذكر بعض المراجع التي اهتمت بدراسة شخصيات علماء التصوف ونقل أخبارهم وشطحاتهم وكشوفاتهم ومنزلتهم عند الله وعند الناس، وما آل إليه أمر كل واحد منهم، ومن أهم تلك الكتب: الرسالة القشيرية: لأبي القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيري النيسابوري الشافعي 471 - 465هـ، وهي مجلدان، خصص المجلد الأول من ص61 إلى آخره لتراجم مشائخ التصوف، ابتدأه بهذا العنوان: "فصل في ذكر مشائخ هذه الطريقة وما يدل من سيرهم وأقوالهم على تعظيم الشريعة" (1)، ثم ذكر تراجم لثلاثة وثمانين شخصاً من كبار زعماء التصوف. الطبقات الكبرى المسماة بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار تأليف عبد الوهاب ابن أحمد بن علي الأنصاري الشافعي المصري المعروف بالشعراني. ظهر في القرن العاشر الهجري. والطبقات مجلدان خصصهما لتراجم كبار علماء الصوفية من رجال ونساء، وقد ترجم لأربعمائة وأربعة وعشرين شخصاً، بإضافة مشائخه وعددهم 87 شخصاً، وقد بدأ تراجم هؤلاء بأبي بكر الصديق رضي الله عنه وختمهم بعلي بن شهاب جده الأدنى، ثم ابتدأ بمحمد المغربي الشاذلي وختمهم بالشيخ علي العياشي. جمهرة الأولياء أعلام أهل التصوف، تأليف محمود أبو الفيض المنوفي الحسيني. مجلدين، خصص الجزء الثاني لترجمة كثير من الأعلام، أعلام الصحابة وأهل الصفة، ثم ترجم لعدد من أعلام التصوف تحت عنوان: "طبقة التابعين وتابعيهم ذكر التابعين من الأولياء" (2). ثم ترجم لسبعة وثمانين شخصاً، حشر بعض الفضلاء من أعلام الإسلام مع كبار الغلاة من الصوفية دون تمييز. كتاب (عوارف المعارف) لأبي حفص عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد عموية الصديقي القرشي التميمي اليكري الشافعي الملقب بشهاب الدين السهروردي 539 - 632هـ، ولم يبرز التراجم لرجال الصوفية في هذا الكتاب إلا أنه ذكر كثير من أعلام التصوف في ثنايا أبواب الكتاب. لطائف المنن لابن عطاء الله السكندري، وطريقته مثل طريقة السهروردي. جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس التجاني- تأليف/علي حرزام ابن عربي برادة المغربي. كتاب (رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم) -تأليف/عمر بن سعيد الفوتي الطوري الكدوي. و"جواهر المعاني" مجلدان، وكذا"الرماح" مجلدان بهامش كتاب (جواهر المعاني)، اهتم المؤلفان ببيان الطريقة التجانية، وذكر التيجاني وكبار أتباعه بتوسع تام. وقد ألف بعض العلماء مؤلفات خاصة عن شخصيات الصوفية مثل ابن عربي والبسطامي والتيجاني والنقشبندي وابن سبعين والغزالي وابن الفارض والحلاج والجيلاني. بعض المراجع عن الصوفية كتب الصوفية 1 - الرسالة القشيرية-للقشيري. 2 - عوارف المعارف. للسهروردي. 3 - لطائف المنن. للسكندري. 4 - جمهرة الأولياء. للمنوفي. 5 - جواهر المعاني. علي حرازم.   (1) ((الرسالة القشيرية)) (1/ 61). (2) (1/ 80). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 319 6 - رماح حزب الرحيم. الفوتي. 7 - الطبقات الكبرى. الشعراني. 8 - الفتوحات الربانية. ابن عربي. 9 - فصوص الحكم. ابن عربي. 10 - تائية ابن الفارض. ابن الفارض. 11 - تخريج الأربعين السلمية في التصوف. للسخاوي، تحقيق علي حسن. 12 - الهداية الربانية في فقه الطريقة التجانية. محمد السيد التجاني. 13 - الغنية لطالبي طريق الحق. عبد القادر الجيلاني. 14 - رفع الشبهات عما في القادرية والتجانية من الشطحات. لجنة جماعة الصوفية في ألورن. ومن الكتب التي ألفها علماء الإسلام من غير الصوفيين 1 - الصوفية والفقراء. شيخ الإسلام ابن تيمية. 2 - الجزء11 من مجموع فتاوى شيخ الإسلام. 3 - هذه هي الصوفية. عبد الرحمن الوكيل. 4 - الفكر الصوفي. عبد الرحمن عبد الخالق. 5 - التصوف معتقداً ومسلكاً. صابر طعيمة. 6 - التصوف المنشأ والمصدر. إحسان إلهي ظهير. 7 - التصوف والاتجاه السلفي في العصر الحديث. مصطفى حلمي. 8 - إلى التصوف يا عباد الله. الجزائري. 9 - التجانية. علي بن محمد الدخيل الله. 10 - رسائل وفتاوى في ذم ابن عربي الصوفي. جمع وتحقيق موسى الدويش. 11 - النقشبندية عرض وتحليل. عبد الرحمن دمشقية. 12 - كتاب ابن عربي الصوفي في ميزان البحث والتحقيق. عبد القادر حبيب الله السندي. 13 - الهداية الهادية إلى الطائفة التجانية. محمد تقي الدين الهلالي. 14 - الصوفية نشأتها وتطورها. محمد العبدة، طارق عبد الحليم. 15 - نظرات في معتقد ابن عربي. كمال محمد عيسى. 16 - الرفاعية. عبد الرحمن دمشقية. 17 - نظرية الاتصال عند الصوفية في ضوء الإسلام. سارة عبد المحسن السعود. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 1059 - 1065 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 320 الفصل الحادي والثلاثون: موقف بعض العلماء من التصوف • المبحث الأول: موقف الإمام الشافعي . • المبحث الثاني: موقف الإمام أحمد بن حنبل. • المبحث الثالث: موقف الإمام أبو زرعة الدمشقي. • المبحث الرابع: موقف الإمام أبو اليسر محمد بن محمد بن عبدالكريم البزودي المتوفى سنة 478هـ ببخارى. • المبحث الخامس: موقف الإمام ابن الجوزي. • المبحث السادس: موقف الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية. • المبحث السابع: موقف الإمام برهان الدين البقاعي المتوفى سنة 885هـ. • المبحث الثامن: شهادة الدكتور الشيخ تقي الدين الهلالي. • المبحث التاسع: مع الشيخ الفاطمي الشرادي. • المبحث العاشر: مع الشيخ عبدالعزيز بن إدريس. • المبحث الحادي عشر: شهادة الشيخ عبدالرحمن الوكيل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 321 المبحث الأول: موقف الإمام الشافعي وأما الإمام الشافعي فقد أدرك بدايات التصوف وكان من أكثر العلماء والأئمة إنكاراً عليهم. وقد كان مما قاله في هذا الصدد: "لو أن رجلاً تصوف أول النهار لا يأتي الظهر حتى يصير أحمق". وقال أيضاً: "ما لزم أحد الصوفيين أربعين يوماً فعاد عقله أبداً، وأنشد: ودعوا الذين إذا أتوك تنسكوا وإذا خلوا كانوا ذئاب خفاف (تلبيس إبليس ص371) وقال أيضاً عندما سافر إلى مصر: "تركت ببغداد وقد أحدث الزنادقة شيئا يسمونه السماع" (يعني الغناء والرقص الذي ابتدعه الصوفية في القرن الثاني وما زال مسلكهم إلى اليوم). المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 425 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 322 المبحث الثاني: موقف الإمام أحمد بن حنبل وأما الإمام أحمد بن حنبل فقد كان لهم بالمرصاد فقد قال فيما بدأ الحارث المحاسبي يتكلم فيه وهو الوساوس والخطرات. قال أحمد: "ما تكلم فيها الصحابة ولا التابعون". وحذر من مجالسة الحارث المحاسبي وقال لصاحب له: "لا أرى لك أن تجالسهم". وذكر أبو بكر الخلال في كتاب (السنة) عن أحمد بن حنبل أنه قال: "حذروا من الحارث أشد التحذير!! الحارث أصل البلبلة -يعني في حوادث كلام جهم- ذاك جالسه فلان وفلان وأخرجهم إلى رأي جهم ما زال مأوى أصحاب الكلام. حارث بمنزلة الأسد المرابط انظر أي يوم يثب على الناس!! " (تلبيس إبليس 166 - 167). وهذا الكلام من الإمام أحمد يكشف فيه القناع أيضاً عن أن الحارث المحاسبي الذي تسربل ظاهراً بالزهد والورع والكلام في محاسبة النفس على الخطرات والوساوس كان هو المأوى والملاذ لأتباع جهم بن صفوان المنحرفين في مسائل الأسماء والصفات والنافين لها، وهكذا كان التصوف دائماً هو الظاهر الخادع للحركات والأفكار الباطنية. ولذلك وقف الإمام أحمد لهؤلاء الأشرار الظاهرين منهم والمتخفين بالزهد والورع وأمر بهجر الحارث المحاسبي وشدد النكير عليه فاختفى الحارث إلى أن مات. (تلبيس إبليس 167). المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 425، 426 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 323 المبحث الثالث: موقف الإمام أبو زرعة الدمشقي وجاء بعد الإمام أحمد بن حنبل الإمام أبو زرعة رحمه الله فقال أيضاً عن كتب الحارث المحاسبي وقد سأله سائل عنها: "إياك وهذه الكتب هذه كتب بدع وضلالات. عليك بالأثر فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب. قيل له: في هذه الكتب عبرة. بلغكم أن مالك بن أنس وسفيان الثوري والأوزاعي والأئمة المتقدمين صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء هؤلاء (يعني الصوفية) قوم خالفوا أهل العلم يأتوننا مرة بالحارث المحاسبي، ومرة بعبدالرحيم الدبيلي ومرة بحاتم الأصم ومرة بشقيق البلخي ثم قال: ما أسرع الناس إلى البدع" أ. هـ (تلبيس إبليس ص166 - 167). المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 426 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 324 المبحث الرابع: موقف الإمام أبو اليسر محمد بن محمد بن عبدالكريم البزودي المتوفى سنة 478هـ ببخارى قال في كتابه (أصول الدين) عند التعريف بالتصوف: "وأما (الصوفية) فأكثرهم من (أهل السنة والجماعة). وفيهم من يكون صاحب الكرامة، إلا أنه قد ظهر فيهم مذاهب ردية أكثرها ضلال وبدعة. منهم (الحبية) يقولون: إن الله تعالى إذا أحب عبداً رفع عنه الخطاب فيحل له كل النعم ويسقط عنه العبادات ولا يبقى في حقه حظر فلا يصلون ولا يصومون ولا يسترون العورة، ولا يمنعون عن الزنا وشرب الخمر، ولا عن اللواطة ولا عن محظور ما. ومنهم (الأوليائية) يقولون: إن الولي أفضل من النبي والرسول من الآدميين والملائكة جميعاً. ويقولون: إن الرسول دون المرسل إليه ودون المرسل، على هذا رأينا عادات الأكابر. وهؤلاء يقولون أيضاً: إذا بلغ الإنسان في العبادة الدرجة القصوى وفي الولاية الرتبة العليا لا يبقى في حقه خطاب الإيجاب ولا خطاب الحظر ويحل له كل شيء. ومنهم (الإباحتية) يقولون: الأموال كلها على الإباحة، وكذا الفروج وليس للملاك إلا مجرد الاكتساب، ويستبيحون أموال الناس وفروج نسائهم. ومنهم (الحلولية) وهم قوم يستبيحون الرقص والغناء والنظر إلى الشاب الأمرد المليح الصبيح، ويقولون قد حلت بهذا الأمرد الصبيح صفة من صفات البارئ، فنحن نحبه ونعانقه لأجل تلك الصفة. ومنهم (الحورية) يقولون باستباحة الرقص والغناء والمبالغة في الرقص حتى يسقطون على الأرض من كثرة الإتعاب في الرقص، ثم يقومون ويغتسلون ويقولون إن الحور العين يحضرن (الحق أنهم كانوا ينسبون في هذا الوقت إلى أهل السنة والجماعة وكان هذا ظاهرهم ولكنهم في الحقيقة كانوا زنادقة في الباطن يضمرون عقائد الباطنية كما شرح البزدوي نفسه أحوالهم)، ونجامعهن وكأن إبليس جامعهم لشر صنيعتهم. ومنهم (الواقفية) يقولون: إنه لا يمكن معرفة الله تعالى، وتوقفوا في معرفة الله تعالى، وقالوا أبياتاً في الفارسية والعربية فيها: تراكه داندكي تراتو داني تو ترانداند كس تراتو داني بس وقال آخر: تاتوتوي زعلت خالي ني يا باعلل ومحك ويرا مجوي وقال آخر: جه خبر فهم وه، را ازتو بحقيقت تراتو داني تو روح وقلب وخردبتوا محدث محدثات تراجه علم ازتو وللآخر بالعربية: لا يعرف الحق إلا من يعرفه لا يعرف القديم المحدث الفاني (الشطر الثاني من البيت جاء مكسور الوزن) وقالوا: إن العجز عن المعرفة هو المعرفة. ومنهم (المتجاهلة) وهم قوم يضربون المزأمير ويشربون الخمر ويأتون ببعض الفواحش ويلبسون ثياب الفسقة ويقولون: ترك الإرادة واجب فبمثل هذا تترك الإرادة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 325 ومنهم (المتكاسلة) رضوا بملء البطن من الطعام حراماً كان أو حلالاً يأكلون ما يجدون حراماً أو حلالاً، ويسكنون في الحانات لا يكسبون بل ينامون في غالب الأزمان ويصلون قليلاً قليلاً، ويأكلون كثيراً إن وجدوه ويرقصون إن وجدوا قارياً (أي مضيفاً من القرى بمعنى الضيافة)، واختاروا الكسل ولا يتعلمون شيئا ولا يتزوجون إلا أنهم لا يعتقدون مذهباً ردياً ولا ينازعون مع أحد فهؤلاء لا بأس بهم. ومنهم العامة الأتقياء البررة، وأصحاب الكرامات يكونون أبداً على الطهارة ويتبعون سنن النبي صلى الله عليه وسلم في المشرب والمأكل واللباس والكلام والنيام والعبادة إلا أنهم تركوا سنته في تبليغ الوحي، وفوضوا ذلك إلى العلماء. وينبغي أن يترك الإنسان الطعن في الصوفية ويقطع لسانه عنهم (قلت كيف يجب ذلك وهذه هي أحوالهم بل يجب الإنكار عليهم)، فإن فيهم خيار الأمة، وإنما ذكرت هؤلاء لأنه ظهر في بلادنا بعض هؤلاء خصوصاً بديار فرغانة قد يحضرون بخاراً أحياناً ثم يخرجون إذا علمناهم فهؤلاء (الأوليائية) و (الحبية) شر عباد الله مال مذهبهم إلى الزندقة. وفي (الصوفية) قوم يدعون الإلهام يقولون: حدثني قلبي عن ربي، ثم يذكرون بعض ما وضعه (القرامطة) من الإشارات الفاسدة بالألفاظ الهائلة يغرون بهم العامة، وجعلوا ذلك مكسبة لأنفسهم وأنكروا الشرائع أجمع، شر خليقة الله تعالى، وواحد من هؤلاء الصوفية حضر بلدة بخارى سنة ثمان وسبعين وأربع مائة، وجمع (الصوفية) وبعض (أصحاب الشافعي) على نفسه، وكنت خرجت من بلدة بخارى إلى بعض قراها فلما حضرت أخبروني بحضوره، وكان قبل ذلك يعتقد مذهب (أبي حنيفة) ويميل إلى الاعتزال، فبعثت إليه اثنين من أصحابي قلت لهما: قولا له لم تركت مذهب (أبي حنيفة) وأخرجت هذه البدع. فقال: ما تركته؛ فقلت لهما: قولا له لماذا ترفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع فاضطر إلى كشف سريرته الخبيثة فقال: ظهر لي ما لو ظهر لكم ترفعون أيديكم فقلت لهما: قولا له ماذا ظهر لك هل تقدر على إظهاره أو لا تقدر فإن كنت تقدر على إظهاره فأظهر وإن كنت لا تقدر على إظهاره فذلك بدعة عجزت عن إظهارها، ثم قلت لهما: قولا له إنا على الطريقة التي كان عليها الرسل والأنبياء والصالحون من الفقهاء من جميع الأعصار وأتقياؤهم وأولياؤهم وقراؤهم وأنت أيها التلبيس (هكذا بالأصل) الضال الغاوي المغوي أعرضت عن طريقة هؤلاء وسلكت طريقة إبليس وهو طريقة (الروافض) و (القرامطة) فعند ذلك فر من بلدة بخارى ونواحيها فرار القرود من الأسود والهنود والقيود. وقد أخبرني واحد من فقهائنا أنه سأل هذا المبتدع لم تركت مذهب (أبي حنيفة) وترفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع، فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه صلى الله عليه وسلم وغيرهم ويرفعون أيديهم عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع (بالرغم من أن السنة هي رفع اليدين عند الركوع والرفع منه إلا أن احتجاج الصوفي بأنه يرى الرسول يفعل ذلك يقظة تلبيس وزندقة وكذب على الرسول وقد زعموا أيضاً أنه أعني الرسول يحضر مجالس سماعهم وموالدهم، بل وديوانهم في حراء الذين يزعمون أنه تقدر فيه المقادير) فقال: قلت له رأيت في المنام قال: بل في اليقظة" انتهي بلفظه. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 426 - 429 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 326 المبحث الخامس: موقف الإمام ابن الجوزي وأما الإمام أبو الفرج عبدالرحمن بن الجوزي البغدادي المتوفى سنة 597هـ فقد كتب كتاباً فريداً سماه (تلبيس إبليس) خص الصوفية بمعظم فصوله وبين تلبيس الشيطان عليه وكان مما ذكره هذه الصفحات: "وكان أصل تلبيسه عليهم أنه صدهم عن العلم وأراهم أن المقصود العمل فلما أطفأ مصباح العلم عندهم تخبطوا في الظلمات. فمنهم من أراه أن المقصود من ذلك ترك الدنيا في الجملة فرفضوا ما يصلح أبدانهم. وشبهوا المال بالعقارب، ونسوا أنه خلق للمصالح وبالغوا في الحمل على النفوس حتى إنه كان فيهم من لا يضطجع. وهؤلاء كانت مقاصدهم حسنة غير أنهم على غير الجادة. وفيهم من كان لقلة علمه يعمل بما يقع إليه من الأحاديث الموضوعة وهو لا يدري. ثم جاء أقوام يتكلمون لهم في الجوع والفقر الوساوس والحظوات وصنفوا في ذلك مثل الحارث المحاسبي. وجاء آخرون فهذبوا مذهب التصوف وأفردوه بصفات ميزوه بها من الاختصاص بالمرقعة والسماع والوجد والرقص والتصفيف وتميزوا بزيادة النظافة والطهارة. ثم مازال الأمر ينمى والأشياخ يضعون لهم أوضاعاً ويتكلمون بواقعاتهم. ويتفق بعدهم عن العلماء لا بل رؤيتهم ما هم فيه أو في العلوم حتى سموه العلم الباطن وجعلوا علم الشريعة العلم الظاهر. ومنهم من خرج به الجوع إلى الخيالات الفاسدة فادعى عشق الحق والهيمان فيه كأنهم تخيلوا شخصاً مستحسن الصورة فهاموا به، وهؤلاء بين الكفر والبدعة، ثم تشعبت بأقوام منهم الطرق، ففسدت عقائدهم، فمن هؤلاء من قال بالحلول ومنهم من قال بالاتحاد. وما زال إبليس يخبطهم بفنون البدع حتى جعلوا لأنفسهم سنناً، وجاء أبو عبدالرحمن السلمي فصنف لهم كتاب السنن، وجمع لهم حقائق التفسير، فذكر عنهم فيه العجب في تفسيرهم القرآن بما يقع لهم من غير إسناد ذلك إلى أصل من أصول العلم. وإنما حملوه على مذاهبهم. والعجب من ورعهم في الطعام وانبساطهم في القرآن. وقد أخبرنا أبو منصور عبدالرحمن القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب قال: قال لي محمد بن يوسف القطان النيسابوري، قال: كان أبو عبدالرحمن السلمي غير ثقة، ولم يكن سمع من الأصم إلا شيئا يسيراً فلما مات الحاكم أبو عبدالله بن البيع حدث عن الأصم بتاريخ يحيى بن معين وبأشياء كثيرة سواه. وكان يضع للصوفية الأحاديث. قال المصنف: وصنف لهم أبو نصر السراج كتاباً سماه (لمع الصوفية) ذكر فيه من الاعتقاد القبيح والكلام المرذول ما سنذكر منه جملة إن شاء الله تعالى. وصنف لهم أبو طالب المكي قوت القلوب فذكر فيه الأحاديث الباطلة ومالا يستند فيه إلى أصل من صلوات الأيام والليالي وغير ذلك من الموضوع وذكر فيه الاعتقاد الفاسد. وردد فيه قول - قال بعض المكاشفين- وهذا كلام فارغ وذكر فيه عن بعض الصوفية أن الله عز وجل يتجلى في الدنيا لأوليائه. أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا أبو بكر الخطيب قال: قال أبو طاهر محمد بن العلاف. قال: دخل أبو طالب المكي إلى البصرة بعد وفاة أبي الحسين بن سالم فانتمى إلى مقالته وقدم بغداد فاجتمع الناس عليه في مجلس الوعاظ فخلط كلامه فحفظ عنه أنه قال: ليس على المخلوق أضر من الخالق. فبدعة الناس وهجروه فامتنع من الكلام على الناس بعد ذلك، قال الخطيب: وصنف أبو طالب المكي كتاباً سماه (قوت القلوب) على لسان الصوفية وذكر فيه أشياء منكرة مستشبعة في الصفات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 327 قال المصنف: وجاء أبو نعيم الأصبهاني فصنف لهم كتاب (الحلية). وذكر في حدود التصوف أشياء منكرة قبيحة ولم يستح أن يذكر في الصوفية أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وسادات الصحابة رضي الله عنهم. فذكر عنهم فيه العجب وذكر منهم شريحاً القاضي والحسن البصري وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وكذلك ذكر السلمي في طبقات الصوفية وإبراهيم بن أدهم ومعروفاً الكرخي وجعلهم من الصوفية بأن أشار إلى أنهم من الزهاد. فالتصوف مذهب معروف يزيد على الزهد ويدل على الفرق بينهما أن الزهد لم يذمه أحد وقد ذموا التصوف على ما سيأتي ذكره وصنف لهم عبدالكريم بن هوازن القشيري كتاب (الرسالة) فذكر فيها العجائب من الكلام في الفناء والبقاء، والقبض، والبسط، والوقت، والحال والوجد والوجود، والجمع، والتفرقة، والصحو، والسكر، والذوق، والشرب، والمحو، والإثبات، والتجلي، والمحاضرة، والمكاشفة، واللوائح، والطوالع، واللوامع، والتكوين، والتمكين والشريعة، والحقيقة، إلى غير ذلك من التخليط الذي ليس بشيء وتفسيره أعجب منه، وجاء محمد بن طاهر المقدسي فصنف لهم صفة التصوف فذكر فيه أشياء يستحي العاقل من ذكرها سنذكر منها ما يصلح ذكره في مواضعه إن شاء الله تعالى. وكان شيخنا أبو الفضل بن ناصر الحافظ يقول: كان ابن طاهر يذهب مذهب الإباحة، قال: وصنف كتاباً في جواز النظر إلى المراد أورد فيه حكاية عن يحيى بن معين، قال: رأيت جارية بمصر مليحة صلى الله عليها. فقيل له تصلي عليها، فقال صلى الله عليها وعلى كل مليح، قال شيخنا ابن ناصر: وليس ابن طاهر بمن يحتج به، وجاء أبو حامد الغزالي فصنف لهم كتاب (الإحياء) على طريقة القوم وملأه بالأحاديث الباطلة وهو لا يعلم بطلانها، وتكلم في علم المكاشفة وخرج عن قانون الفقه. وقال: إن المراد بالكوكب والشمس والقمر اللواتي رآهن إبراهيم صلوات الله عليه أنوار هي حجب الله عز وجل ولم يرد هذه المعروفات. وهذا من جنس كلام الباطنية. وقال في كتابه (المفصح بالأحوال): إن الصوفية في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصورة إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق. قال المصنف: وكان السبب في تصنيف هؤلاء مثل هذه الأشياء قلة علمهم بالسنن والإسلام والآثار وإقبالهم على ما استحسنوه من طريقة القوم. وإنما استحسنوها لأنه قد ثبت في النفوس مدح الزهد وما رأوا حالة أحسن من حالة هؤلاء القوم في الصورة ولا كلاما أرق من كلامهم. وفي سير السلف نوع خشونة، ثم إن ميل الناس إلى هؤلاء القوم شديد لما ذكرنا من أنها طريقة ظاهرها النظافة والتعبد وفي ضمنها الراحة والسماع والطباع تميل إليها. وقد كان أوائل الصوفية ينفرون من السلاطين والأمراء فصاروا أصدقاء (أي بعد أن صار التصوف حرفة وتكسباً صاحبوا الأمراء والسلاطين). وجمهور هذه التصانيف التي صنفت لهم لا تستند إلى أصل وإنما هي واقعات تلقفها بعضهم عن بعض ودونوها وقد سموها بالعلم الباطن. والحديث بإسناد إلى أبي يعقوب إسحق بن حية قال سمعت أحمد بن حنبل وقد سئل عن الوساوس والخطرات. فقال: ما تكلم فيها الصحابة ولا التابعون. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 328 قال المصنف: وقد روينا في أول كتابنا هذا عن ذي النون نحو هذا، وروينا عن أحمد بن حنبل أن سمع كلام الحارث المحاسبي. فقال لصاحب له. لا أرى لك أن تجالسهم. وعن سعيد بن عمرو البردعي، قال شهدت أبا زرعة، وسئل عن الحارث المحاسبي وكتبه، فقال للسائل: إياك وهذه الكتب. هذه الكتب كتب بدع وضلالات، عليك بالأثر فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب. وقيل له. في هذه الكتب عبرة. قال: من لم يكن له في كتاب الله عز وجل عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة. بلغكم أن مالك بن أنس، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والأئمة المتقدمة، صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء هؤلاء قوم خالفوا أهل العلم يأتوننا مرة بالحارث المحاسبي ومرة بعبدالرحيم الدبيلي ومرة بحاتم الأصم ومرة بشقيق، ثم قال: ما أسرع الناس إلى البدع. أخبرنا محمد بن عبد الباقي ثنا أبو محمد رزق الله بن عبدالوهاب التميمي عن أبي عبدالرحمن السلمي قال: أول من تكلم في بلدته في ترتيب الأحوال ومقامات أهل الولاية ذو النون المصري فأنكر عليه ذلك عبدالله بن عبدالحكم وكان رئيس مصر وكان يذهب مذهب مالك وهجره لذلك علماء مصر لما شاع خبره أنه أحدث علماً لم يتكلم فيه السلف حتى رموه بالزندقة. قال السلمي: وأخرج أبو سليمان الداراني من دمشق. وقالوا إنه يزعم أنه يرى الملائكة وأنهم يكلمونه، وشهد قوم على أحمد بن أبي الحواري: إنه يفضل الأولياء على الأنبياء فهرب من دمشق إلى مكة، وأنكر أهل بسطام على أبي يزيد البسطامي ما كان يقول حتى إنه ذكر للحسين بن عيسى أنه يقول: لي معراج كما كان للنبي صلى الله عليه وسلم معراج فأخرجوه من بسطام، وأقام بمكة سنتين ثم رجع إلى جرجان فأقام بها إلى أن مات الحسين بن عيسى ثم رجع إلى بسطام، قال السلمي: وحكى رجل عن سهلي بن عبدالله التستري أنه يقول: إن الملائكة والجن والشياطين يحضرونه وإنه يتكلم عليهم فأنكر ذلك عليه العوام حتى نسبوه إلى القبائح فخرج إلى البصرة فمات بها، قال السلمي: وتكلم الحارث المحاسبي في شيء من الكلام والصفات فهجره أحمد بن حنبل فاختفى إلى أن مات. قال المصنف: وقد ذكر أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن أحمد بن حنبل أنه قال: حذروا من الحارث أشد التحذير، الحارث أصل البلية يعني في حوادث كلام جهم ذاك جالسه فلان وفلان وأخرجهم إلى رأي جهم ما زال مأوى أصحاب الكلام، حارث بمنزلة الأسد المرابط انظر أي يوم يثب على الناس" (تلبيس إبليس 167/ 163). انتهي منه بلفظه. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 429 - 434 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 329 المبحث السادس: موقف الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية وأما الإمام ابن تيمية رحمه الله فقد كان من أعظم الناس بياناً لحقيقة التصوف، وتتبعاً لأقوال الزنادقة والملحدين منهم وخاصة ابن عربي، والتلمساني، وابن سبعين. فتعقب أقوالهم وفضح باطنهم وحذر الأمة من شرورهم وذلك في كتبه ومؤلفاته الكثيرة وفي فتاويه، وكذلك تتبع أقوال المخلطين منهم الذين خلطوا بين القول الطيب والقول الخبيث كالترمذي صاحب كتاب (ختم الولاية) والغزالي صاحب (إحياء علوم الدين). ولا شك أن من أعظم ما ألف الإمام ابن تيمية في هذا الصدد هو كتابة (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) فقد فصل فيه القول في الولاية الرحمانية وبيان صفاتها من الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح، وفرق بين ذلك والولاية الشيطانية الصوفية التي تعتمد على الشعبذات والدجل، والكذب، وأكل أموال الناس بالباطل، والسماع والغناء والرقص والبدع المنكرة في الدين، والتظاهر بالصلاح والتقوى، ولقد أجاد الإمام ابن تيمية رحمه الله أيما إجادة في بيان الكرامة الرحمانية التي هي حق لولي الله، والكرامة الشيطانية التي تجري أحياناً على أيدي هؤلاء كتظاهرهم بالدخول في النيران وزعمهم أنها لا تضرهم، وحملهم الحيات والثعابين، وضربهم أنفسهم بالسيوف والسهام وغير ذلك من أنواع المخاريق التي يزعمون أنها من كراماتهم، وقد قام الإمام ابن تيمية نفسه بتحدي هؤلاء الصوفية الذين يزعمون هذه الكرامات وأنه يدخل معهم النار التي يزعمون دخولها وأنها تحرقهم إن شاء الله ولا تحرقه، شريطة أن يغسلوا أنفسهم أولاً بالخل لإزالة دهن الضفادع الذي يدهنون به أنفسهم حتى لا تؤثر فيهم النار. فلما كشف حيلهم وتحداهم وكان ذلك بمحضر السلطان تراجعوا عن ذلك وظهر كذبهم ومخاريقهم، وكان هؤلاء الصوفية من أتباع الرفاعي البطائحي (انظر مناظرة ابن تيمية لدجاجلة البطائحية الفتاوى الكبرى من ص445 - 476). والمهم أن الإمام ابن تيمية كان من أعظم الرجال الذي كشفوا عوار التصوف وتتبعوا ترهاته، وما كتبه ودونه وقام به في هذا الصدد شيء يطول وصفه جداً. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 434، 435 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 330 المبحث السابع: موقف الإمام برهان الدين البقاعي المتوفى سنة 885هـ ألف هذا الإمام الجليل كتاباً فذاً فريداً سماه (تنبيه الغبي بتكفير عمر بن الفارض وابن عربي) قال في خطبة هذا الكتاب:"وبعد: فإني لما رأيت الناس مضطربين في ابن عربي المنسوب إلى التصوف، الموسوم عند أهل الحق بالوحدة، ولم أر من شفى القلب في ترجمته وكان كفره في كتابه (الفصوص) أظهر منه في غيره، أحببت أن أذكر منه ما كان ظاهراً، حتى يعلم حاله، فيهجر مقاله، ويعتقد انحلاله، وكفره وضلاله، وأنه إلى الهاوية مآله ومآبه، امتثالاً لما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (1) وفي رواية عن عبدالله بن مسعود: ((وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة من خردل)) (2)، وما أحضر من النسخة التي نقلت ما تراه منها إلا شخص من كبار معتقديه، وأتباعه ومحبيه. عقيدة ابن عربي وكيده للإسلام: وينبغي أن يعلم أولاً أن كلامه دائر على الوحدة المطلقة، وهي: أنه لا شيء سوى هذا العالم، وأن الإله أمر كلي لا وجود له إلا في ضمن جزئياته. ثم إنه يسعى في إبطال الدين من أصله، بما يحل به عقائد أهله، بأن كل أحد على صراط مستقيم، وأن الوعيد لا يقع منه شيء، وعلى تقدير وقوعه، فالعذاب المتوعد به إنما هو نعيم وعذوبة، ونحو ذلك!!. وإن حصل لأهله ألم، فهو لا ينافي السعادة والرضى، كما لم ينافها ما يحصل من الآلام في الدنيا، وهذا يحط عند من له وعلى اعتقاد: أنه لا إله أصلاً، وأنه ما ثم إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما وراء ذلك شيء. منهاج الصوفية في الكيد بدعوتهم: وكل ما في كلامه من غير هذا المهيع فهو تستر وتلبيس على من ينتقد عليه، ولا يلقي زمام انقياده إليه، فإنه علم أنه إن صرح بالتعطيل ابتداء بعد كل من قبوله فأظهر لأهل الدين أنه منهم، وقف لهم في أودية اعتقادهم، ثم استدرجهم عند المضائق، واستغواهم في أماكن الاشتباه، وهو أصنع الناس في التلبيس، فإنه يذكر أحاديث صحاحاً، ويحرفها على أوجه غريبة، ومناح عجيبة، فإذا تدرج معه من أراد الله - والعياذ بالله- ضلاله، وصل -ولا بد- إلى مراده من الانحلال من كل شرعة، والمباعدة لكل ملة. وخواص أهل هذه النحلة يتسترون بإظهار شعائر الإسلام، وإقامة الصلاة والصيام، وتمويه الإلحاد بزي التنسك والتقشف، وتزويق الزندقة بتسميتها: بعلم التصوف، فهو ممن أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((يحقر أحدكم صلاته مع صلاته، وصيامه مع صيامه، يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)) (3). وقد أصل لهم غويهم هذا كما صرح به في الفص النوحي: أن الدعوة إلى الله مكر!! ونسب ذلك إلى الأنبياء عليهم السلام، فقال: أدعو إلى الله. فهذا عين المنكر .. إلى آخر كلامه. وهذا هو السر في تنسكهم. على أنهم قد استغنوا في هذا الزمان عن التنسك، لانقياد أهله بغير ذلك، وقد يستدرجهم الله وأمثالهم -ممن يريد ضلاله- بإظهار شيء من الخوارق على أيديهم، كما يظهره الله على يد الدجال، وأيدي بعض الرهبان، ليتبين الموقن من المرتاب. مثالهم في الزندقة: وقد ضربوا -لتصحيح زندقتهم- مثالاً مكروا فيه بمن لم ترسخ قدمه في الإسلام، ولا خالط أنفاس النبوة، حتى صار يدفع الشبه.   (1) رواه مسلم (49). (2) رواه مسلم (50). (3) رواه البخاري (5058) ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 331 حاصل ذلك المثال: أنهم يصلون إلى الله بغير وساطة المبعوث بالشرع، فتم لهم المكر، وتبعهم في ذلك أكثر الرعاع، ولم يبالوا بخرق الإجماع، وذلك المثال: أن ملكاً أقام على بابه سيفاً، وقال له: من دخل بغير إذنك فاقتله، وقال لغيره: أذنت لك في الدخول متى شئت، فإذا دخل الغير، فقد أصاب، وعنوا بالسياف الشارع. فما أفادهم مثالهم مع زندقتهم به شيءاً، فإنهم اعترفوا فيه بإباحة دمائهم، وهو قصد أهل الشريعة، ومن يعتقد أن لأحد من الخلق طريقاً إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو كافر من أولياء الشيطان بالإجماع، فإن رسالته صلى الله عليه وسلم عامة ودعوته شاملة" (تنبيه الغبي إلى كفر الفارض وابن عربي لبرهان الدين البقاعي ص18 - 21). انتهي منه بلفظه. ثم شرع المؤلف رحمه الله بعد ذلك يورد كلام أئمة الدين والعلم في بيان كفر هؤلاء وزندقتهم، وشرح ما جاء في الفصوص لابن عربي وبين كفره وزندقته وكذبه على الله ورسوله واستهزاءه بالأنبياء والمرسلين وادعاءه أن كل موجود هو الله. وكذلك استعرض قصيدة ابن الفارض المشهورة التائية وبين ما فيها من كفر وزندقة وأنها والفصوص وجهان لعملة واحدة وصورتان لكتاب واحد وهي وحدة الوجود التي ينادي بها هؤلاء الزنادقة. وعلى كل حال لو تتبعنا كلام علماء المسلمين قديماً في شأن التحذير من التصوف فإنه أمر يطول شرحه. وأما في العصر الحديث فإن التصوف على الرغم من انتشاره في غفلة من المسلمين عن علوم الكتاب والسنة، فإن الله سبحانه وتعالى قيض للمسلمين في العصر الحديث الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب الذي كان لدعوته المباركة في الجزيرة العربية الفضل في إيقاظ الأمة من سباتها العميق، واطلاعها على حقيقة التصوف الضال فانتشرت دعوة التوحيد شرقاً وغرباً، وقام الرجال المخلصون بملاحقة فلول التصوف في كل صقع من أصقاع الأرض حتى انزاحت الغمة أو كادت بفضل الله ورحمته بعد أن كان الظلام والشر قد عم الأرض كلها إلا القليل القليل من أهل الدين الحق والتوحيد. وأحب في هذا الباب من هذا الكتاب المبارك إن شاء الله تعالى أن أسوق شهادتين لرجلين مشهورين من رجال العصر الحاضر ممن أكرمهم الله بالنجاة من التصوف الخاسر إلى رحاب التوحيد والإيمان وهما الدكتور تقي الدين الهلالي شيخ التوحيد والسنة في بلاد المغرب، بل في العالم الإسلامي كله، والذي كان صوفياً (تجانياً) فأكرمه الله بدعوة التوحيد فلما رأى النور والخير كتب كتابه (الهدية الهادية إلى الطريقة التجانية). وأما الرجل الآخر الذي ننقل شهادته فهو الشيخ عبدالرحمن الوكيل رحمه الله، وكيل جماعة أنصار السنة بمصر، والذي جرّد قلمه السيال لبيان فرية التصوف الكبرى فكتب كتابه المشهور (هذه هي الصوفية). المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 435 - 438 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 332 المبحث الثامن: شهادة الدكتور الشيخ تقي الدين الهلالي "الحمد لله الذي أرسل خاتم النبيين وإمام المرسلين، محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين بشيراً لمن آمن به، واهتدى بهديه، بالفوز المبين ونذيراً لمن كفر به وخالف سنته بالعذاب المهين، وصل اللهم على محمد وأزواجه وذرياته كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذرياته كما باركت على إبراهيم، صلاة تشمل آله ومن تمسك بسنته إلى يوم الدين. فيقول أفقر العباد إلى الغني الكبير المتعال، محمد تقي الدين بن عبدالقادر الحسيني الهلالي غفر الله ذنبه وستر عيبه: نشأت في بلاد سجلمانة، وحفظت القرآن وأنا ابن اثنتي عشرة سنة، ورأيت أهل بلادنا مولعين بطرائق المتصوفة لا تكاد تجد واحداً منهم لا عالماً ولا جاهلاً إلا وقد انخرط في سلك إحدى الطرق، وتعلق بشيخها تعلق الهائم الوامق، يستغيث به في الشدائد ويستنجد به في المصائب، ويلهج دائماً بشكره والثناء عليه فإن وجد نعمة شكره عليها، وإن أصابته مصيبة اتهم نفسه بالتقصير في محبة شيخه والتمسك بطريقته، ولا يخطر بباله أن شيخه يعجز عن شيء في السماوات ولا في الأرض فهو على كل شيء قدير، وسمعت الناس يقولون: من لم يكن له شيخ فالشيطان شيخه. وينشدون قول ابن عاشور في أرجوزته التي نظمها في عقيدة الأشعرية، وفي فروع المالكية، وفي مبادئ التصوف: يصحب شيخاً عارف المسالك ... يقيه في طريقه المهالك يذكره الله إذا رآه ... ويوصل العبد إلى مولاه ورأيت الطرق المنتشرة في بلادنا قسمين: 1 - قسم ينتمي إليه العلماء وعلية القوم. 2 - وقسم ينتمي إليه السوقة وعامة الناس. فمالت نفسي إلى القسم الأول، وسمعت أبي وهو من علماء بلدنا مراراً يقول: لولا أن الطريقة التجانية تمنع صاحبها من زيارة قبور الأولياء والاستمداد منهم وطلب الحاجات إلا قبر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، وإلا قبر الشيخ التجاني، وقبور من ينتمي إلى طريقته من الأولياء، قال أبي: لولا ذلك لأخذت ورد الطريقة التجانية، لأني لا أستطيع أن أترك زيارة جدنا عبدالقادر بن هلال، وجدنا كان مشهوراً بالصلاح وله قبر يزار وهو معدود من جملة الأولياء في ناحية الغرفة من القسم الشرقي الجنوبي في بلاد المغرب. والطريقة التجانية، والدرقاوية، والكتانية، وإن كان أهلها في بلادنا قليلاً، تؤلف القسم الأول، فاشتاقت نفسي إلى أخذ ورد الطريقة التجانية وأنا قد ناهزت البلوغ فذهبت إلى المقدم وقلت له: يا سيدي أريد منك أن تعطيني ورد الطريقة التجانية، ففرح كثيراً، وقال لي: تأخذ الورد على صغر سنك؟ قلت: نعم، فقال: بخ بخ أفلحت ونجحت، فأعطاني الورد وهو: ذكر لا إله إلا الله مائة مرة، والاستغفار مائة مرة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي صيغة مائة مرة، لكن صيغة الفاتح لما أغلق هي أفضل الصيغ، وسيأتي إن شاء الله ذكر فضلها (الفضل المزعوم عندهم) في هذا الكتاب بعون الله وتوفيقه، وأعطاني كذلك الوظيفة وهي أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ثلاثين مرة، وصلاة الفاتح لما أغلق خمسين مرة، ولا إله إلا الله مائة مرة، وجوهرة الكمال وهي: اللهم صل وسلم على عين الرحمة الربانية .. الخ، وسيأتي ذكر ألفاظها اثنتي عشر مرة، وهذه الصلاة لا تذكر إلا بطهارة مائية، فمن كان فرضه التيمم فعليه أن يذكر بدلها صلاة الفاتح عشرين مرة، قال: وإنما اشترطت الطهارة المائية على ذاكرها لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين يحضرون مجلس كل من يذكرها ولا يزالون معه ما دام يذكرها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 333 ويجب ذكر الورد مرة في الصباح ومرة في المساء بطهارة تامة كما يشترط في الصلاة، ويكون الذاكر جالساً كجلسة التشهد على الأفضل مغمضاً عينيه مستحضراً صورة الشيخ أحمد التيجاني وهو رجل أبيض مشرب بحمرة ذو لحية بيضاء، ويتصور في قلبه أن عموداً من النور يخرج من قلب الشيخ ويدخل في قلب المريد. أما الوظيفة فيجب أن تذكر جماعة بصوت واحد، إن كان للمريد إخوان في بلده، فإن لم يكن له إخوان تجانيون في بلاده جاز له أن يذكرها وحده مرة في كل يوم. وأخبرني المقدم الشيخ عبدالكريم المنصوري ببعض فضائل هذا الورد وسأذكرها فيما بعد إن شاء الله واستمررت على ذكر الورد والوظيفة بإخلاص ملتزماً الشروط مدة تسع سنين، وهناك ذكر آخر يكون يوم الجمعة متصلاً بغروب الشمس وهو: لا إله إلا الله ألف مرة، والأفضل أن يكون معه سماع قبله أو بعده، وهو إنشاد شيء من الشعر بالغناء والترنم جماعة ثم يقولون جميعاً: الله حي، والمنشد ينشدهم وهم قيام حتى يخلص عند تواجدهم إلى لفظ آه، آه، آه، ويسمون هذه الحالة العمارة، وقد تركوها منذ زمان طويل لأن أبناء الشيخ التيجاني لا يستعملون هذه العمارة، وهم يأتون من الجزائر إلى المغرب وقد أشاروا على المغاربة أن يتركوا العمارة لأنهم لا يستحسنونها، ولكن في كتب الطريقة أنها فعلت أمام الشيخ أحمد التيجاني وبرضاه وإقراره. وكنت كلما أصابتني مصيبة أستغيث بالشيخ فلا يغيثني، فمن ذلك أني كنت في الجزائر مسافراً من ناحية (بركنت) بقرب حدود المغرب إلى (المشرية)، وكان لي رفيق له جمل فعلقه وأوصاني بحراسته وتركني في خيمة وقلنا فيها من خيام أهل البادية، فانحل عقال الجمل وانطلق في البرية فتبعته فأخذ يستهزئ بي، وذلك أنه يبقى وقفاً إلى أن أكاد أضع يدي على عنقه ثم يجفل مرج واحدة ويجري مسافة طويلة ثم يقف ينتظرني إلى أن أكاد أقبضه ثم يهرب مرة أخرى وذلك في نحر الظهيرة وشدة الحر، فقلت في نفسي: هذا وقت الاستغاثة بالشيخ فتضرعت إليه وبالغت في الاستغاثة أن يمكنني في قبض الجمل وإناخته فلم يستجب، فعدت على نفسي باللوم واتهمتها بعدم الإخلاص والتقصير في خدمة الطريقة ولم أتهم الشيخ البتة بعجز عن قضاء حاجتي، ومع أن شيوخ الطريقة يوصون المريد أن لا يطالع شيئا من كتب التصوف إلا كتب الطريقة التجانية وقع في يدي مجلد من كتاب (الإحياء) للغزالي فطالعته فأثر في نفسي واجتهدت في العبادة والتزمت قيام الليل في شدة البرد، فبينما أن ذات ليلة أصلي قيام الليل أمام خيمتي الصغيرة التي كنت جالساً فيها يكاد رأسي يمس سقفها إذ رأيت غماماً أبيض سد الأفق كالجبل المرتفع من الأرض إلى السماء وأخذ ذلك الغمام يدنو مني آتياً من جهة الشرق -وهي قبلة المصلي في المغرب والجزائر- حتى وقف بعيداً مني وخرج منه شخص وتقدم حتى قرب مني ثم شرع يصلي بصلاتي مؤتماً بي، وثيابه تشبه ثياب جارية بنت خمس عشرة سنة، ولم أستطع أن أميز وجهه بسبب الظلام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 334 ولما شرع يصلي معي كنت أقرأ في سورة الم السجدة ففزعت وخفت خوفاً شديداً، فخرجت منها إلى سورة أخرى أظنها سورة سبأ، ولم أستطع قراءة القرآن مع شدة حفظي له بسبب الرعب الذي أصابني، فتركت السور الطوال وأخذت أقرأ بالسور القصار التي لا تحتاج قراءاتها إلى رباطة جأش واستحضار فكر. فصلى معي ست ركعات، ولم أرد أن أكلمه، لأن كتب الطريقة توصي المريد أن لا يشتغل بشيء مما يعرض له في سلوكه حتى يصل إلى الله، وتنكشف له الحجب فيشاهد العرش والفرش، ولا يبقى شيء من المغيبات خافياً عليه، ولما طال علي زمان الاضطراب دعوت الله في سجود الركعة السادسة فقلت: يا رب إن كان في كلام هذا الشخص خير فاجعله هو يكلمني، وإن لم يكن في كلامه خير فاصرفه عني، فلما سلمت من التشهد بعد الركعة السادسة سلم هو أيضاً، ولم أسمع له صوتاً ولكني رأيته التفت عند السلام إلى جهة اليمين كما يفعل المصلي المنفرد على مذهب المالكية، فإنه يسلم مرة واحدة عن يمينه، السلام عليكم دون أن يضيف إليها رحمة الله وبركاته، وإن كان مؤتماً بإمام يسلم ثلاث تسليمات إن كان بيساره مصل تسليمة عن يمينه وهي تسليمة التحليل وتسليمة أمامه للإمام، وتسليمة ثالثة عن شماله للمصلي الذي يجلس عن شماله وقد ثبت في الحديث الذي رواه أبو داود وصححه الحافظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وهذا هو الذي ينبغي لكل مصل أن يعتمد عليه سواء أكان إماماً أو مأموماً أو منفرداً. وبعد السلام انصرف ومشى على مهل حتى دخل في الغمام الأبيض الذي كان قائماً في مكانه الذي كان ينتظره، وبعد دخوله في الغمام فوراً أخذ الغمام يتقهقر إلى جهة الشرق حتى اختفى عن بصري وكان في قبيلة (حميان) شيخ شنقيطي صالح ما رأيت مثله في الزهد والورع ومكارم الأخلاق وسأذكره فيما بعد، فسافرت إليه وحكيت له تلك الحادثة فقال لي: يمكن أن يكون ذلك شيطاناً لو كان ملكاً ما أصابك فزع ولا رعب، فظهر لي أن رأيه صواب. وبعد ذلك بزمن طويل أخذت أدرس علم الحديث، فرأيت كتاب (صحيح البخاري) ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه جبريل وهو في غار حراء، فظهر لي أن رأي ذلك الشيخ رحمه الله غير صحيح وبقيت المشكلة بلا حل إلى الآن وكنت حينئذ مشركاً أستغيث بغير الله وأخاف غير الله. ومن هذا تعلم أن ظهور الخوارق وما في عالم الغيب ليس دليلاً على صلاح ما ظهرت له تلك الخوارق ولا على ولايته لله البتة فإن كل مرتاض رياضة روحية تظهر له الخوارق على أي دين كان وقد سمعنا وقرأنا أن العباد الوثنيين من أهل الهند تقع لهم خوارق عظام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 335 وبعد ذلك بأيام رأيت في المنام رجلاً نبهني وأشار إلى الأفق فقال لي: انظر فرأيت ثلاثة رجال فقال لي إن الأوسط منهم هو النبي صلى الله عليه وسلم فذهبت إليه فلما وصلت إليه انصرف الرجلان اللذان كانا معه فأخذت يده وقلت يا رسول الله خذ بيدي إلى الله فقال لي اقرأ العلم ففكرت وعلمت أني في بلاد الجزائر وكان الفرنسيون مسؤولين عليها وكان فقهاء بلدنا يكفرون كل من سافر إلى الجزائر وإذا رجع من سفره يأمرونه بالاغتسال والدخول في الإسلام من جديد ويعقدون له عقداً جديداً على زوجته فقلت في نفسي هذا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني بطلب العلم، وأنا في بلاد يحكمها النصارى، فإما أن أكون عاصياً أو كافراً فكيف يجوز لي أن أطلب فيها العلم. هذا كله وقع في لحظة وأنا لا أزال واقفاً أمام النبي صلى الله عليه وسلم فقلت في بلاد المسلمين أم في بلاد النصارى، فقال لي البلاد كلها لله، فقلت يا رسول الله ادع الله أن يختم لي بالإيمان فرفع إصبعه السبابة إلى السماء وقال لي عند الله. وبعدما خرجت من الطريقة التجانية على أثر المناظرة التي سأذكرها فيما بعد إن شاء الله بزمان رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى في المنام على صورة تخالف الصورة التي رأيته عليها في المرة المذكورة، ففي الأولى كان طويلاً أبيض نحيفاً مشرباً بحمرة، لحيته بيضاء، أما في هذه المرة فكان ربعة من الرجال إلى الطول أقرب ولم يكن نحيفاً، ولحيته سوداء، وبياض وجهه وحمرته أقرب إلى ألوان العرب من المرة الأولى، وكانت رؤيتي له في فلاة من الأرض وكنت بعدما خرجت من الطريقة التجانية توسوس نفسي أحياناً بما في كتاب (جواهر المعاني) مما ينسب إلى الشيخ التيجاني أنه قال: (من ترك ورده وأخذ وردنا وتمسك بطريقتنا هذه الأحمدية المحمدية الإبراهيمية الحنفية التجانية فلا خوف عليه من الله ولا من رسوله ولا من شيخه أياً كان من الأحياء أو من الأموات أما من أخذ وردنا وتركه فإنه يحل به البلاء وأخرى ولا يموت إلا كافراً قطعاً وبذلك أخبرني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم يقظة ومناماً) وقال لي سيد الوجود صلى الله عليه وسلم فقراؤك فقرائي وتلاميذك تلاميذي وأنا مربيهم. وسيأتي من هذه الأخبار وأمثالها إن شاء الله كثير في ذكر فضائل الأوراد والأصحاب فكنت أدفع هذا الوسواس بأدلة الكتاب والسنة، وأرجم شيطانه بأحجارها فيخنس ثم يخسأ ويدبر فأراً منهزماً فلما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المرة خطر ببالي ذلك فعزمت على أن أبدأ الكلام مع النبي صلى الله عليه وسلم بأن أسأله أن يدعو الله لي أن يختم لي بالإيمان، وأظن القارئ لم ينس أني سألته في المرة الأولى فلم يدع لي ولكنه رفع إصبعه السبابة إلى السماء وقال عند الله، فقلت يا رسول الله، ادع الله أن يختم لي بالإيمان، فقال لي ادع أنت وأنا أؤمن على دعائك، فرفعت يدي وقلت اللهم اختم لي بالإيمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم آمين وكان رافعاً يديه فزال عني ذلك الوسواس ولكني لم آمن مكر الله تعالى فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، والرؤيا تبشر ولا تغر، وبين هذه الرؤيا التي دعا لي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختم الله لي بالإيمان بتأمينه على دعائي والرؤيا التي قدمت ذكرها ولم يدع لي فيها، عشرون سنة، وتأولت اختلاف الصورة وعدم الدعاء في الرؤيا الأولى والدعاء في الرؤيا الثانية بما كنت عليه من الشرك في العبادة وبما صرت إليه من توحيد الله تعالى واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم. سبب خروجي من الطريقة التجانية: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 336 لقد كنت في غمرة عظيمة، وضلال مبين، وكنت أرى خروجي من الطريقة التجانية كالخروج من الإسلام. ولم يكن يخطر لي ببال أن أتزحزح عنها قيد شعرة، وكان الشيخ عبدالحي الكتاني عدواً للطريقة التجانية لأنه كان شيخاً رسمياً للطريقة الكتانية، وإنما قلت رسمياً لأن أهل (سلا) أعني الكتانيين أنصار الشيخ محمد بن عبدالكبير الكتاني، مؤسس الطريقة الكتانية، لا يعترفون به أي بالشيخ عبد الحي ويقولون إن الاستعمار الفرنسي هو الذي فرضه على الكتانيين فرضاً، والذي حدثني بذلك هو العالم الأديب النبيل الشيخ عبدالله بن سعيد السلوي فإنه كان حامل لواء نصرة الشيخ محمد بن عبدالكبير الكتاني، وكان يعادي أخاه عبدالحي عداوة شديدة ويرميه بالعظائم والكبائر التي لا يسوغ ذكرها هنا والاستطراد بذكر أسباب العداوة بين الشيخين الكتانيين الأخوين يخرج بنا عن الموضوع، أقول مر بنا الشيخ عبد الحي في (وجدة) وأنا عند العالم الأديب الشاعر المتفنن في علوم كثيرة الشيخ أحمد سكيرج، قاضي القضاة بناحية (وجدة)، معلماً لولده الأديب السيد عبدالكريم وابن أخيه السيد عبدالسلام، كنت أعلمهما الأدب العربي بدعوة من الشيخ أحمد سكيرج، فمدحت عبدالحي بقصيدة ضاعت مني ولا أذكر شيئا منها، ولكنه أعجب بها أيما إعجاب، حتى قال لي عاهدني أنك إذا قدمت (فاساً) تنزل عندي ضيفاً فعاهدته على ذلك. ففي ربيع الأول من سنة أربعين من هذا القرن الهجري سافرت إلى فاس ونزلت عنده. وولد له في تلك الأيام سماه عبدالأحد فالتمس مني نظم أبيات في التهنئة وتاريخ مولده فنظمتها ولا أذكر منها شيءاً، وفي اليوم السابع من مولده عمل مأدبة عظيمة دعا لها خلقاً كثيراً وبعد ما أكلوا وشربوا قاموا (للعمارة) (ذكر بالرقص والتمايل) التي تقدم ذكرها ودعوني أشاركهم في باطلهم فامتنعت لأن من شروط التيجاني المخلص أن لا يذكر مع طريقة أخرى ذكرهم وأن لا يرقص معهم. وفي كتاب (البغية) للشيخ العربي ابن السايح وهو شرح المنية للتجاني ابن بابا الشنقيطي حكاية في وعيد شديد لمن يشارك أصحاب الطرائق الأخرى في أورادهم وأذكارهم وحاصلها أن شخصاً تجانياً ذهب إلى زاوية طريقة أخرى لغرض دنيوي فاستحى أن يبقى منفرداً عنه وهم يذكرون وظيفتهم فشاركهم في الذكر فلما فتح فاه ليذكر معهم أصابه الشلل في فكيه فبقي فاه مفغوراً ولم يستطع سده حتى مات. ولكن الجماعة ألحوا علي وجروني جراً حتى أوقفوني في حلقتهم فرأيت أفواهاً مفغورة من وجوه بعضها فيه لحية سوداء، وبعضها فيه لحيةخطها الشيب، وبعضها أمرد ليس له لحية من الغلمان الذين لم يلتحوا بعد، أما حلق اللحى فلم يكن موجوداً في ذلك الزمن إلا عند الفرنسيين المستعمرين وقليل جداً من حواشيهم وسمعت أصواتاً تنبعث من تلك الأفواه ليس لها معنى في أي لغة بعضها آآآ وبعضها آه آه آه، وبعضها أحن أح أح فاستنكرت تلك الهيئة وقلت في نفسي إن الله لا يرضى بهذه الحالة أن تكون عبادة له لبشاعتها ثم ندمت على ذلك ندامة الكسعي أو الفرزدق حين طلق نوار فقال: ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت مني مطلقة نوار وكانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار الجزء: 7 ¦ الصفحة: 337 وقلت في نفسي كيف يسوغ لي أن أنكر شيئا حضر مثله خاتم الأولياء القطب سيدي أحمد التيجاني فتبت من ذلك الخاطر ولكن جاءني امتحان آخر وذلك أن الشيخ عبد الحي الكتاني قال لي منتقداً: إن الطريقة التجانية مبنية على شفا جرف، وأنه لا ينبغي لعاقل أن يتمسك بها فقلت له: (والطريقة الكتانية التي أنت شيخها)؟ فقال لي كل الطرائق باطلة، وإنما هي صناعة للاحتيال على أكل أموال الناس بالباطل وتسخيرهم واستعبادهم، فقلت إذن أنت تستحل أموال الناس بالباطل وتسخرهم وتستعبدهم، قال: أنا لم أؤسس الطريقة وإنما أسسها غيري، وهذه الأموال التي آخذها منهم أنفقتها في مصالح لا ينفقونها هم فيها. ثم قلت له: ومن الذي حملك على الطعن في الطرائق وما دليلك على بطلانها؟ قال لي: ادعاء كل من الشيخين أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر بذاته وظيفة أصحابه حين يذكرونها وهذه قلة حياء منهما، وعدم تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم كيف تكلفونه أن يخرج من قبره ويقطع هذه المسافات من البر والبحر ليجلس أمامكم فأنتم تبسطون له ثوباً أبيض ليجلس عليه وأصحابنا يقومون ويذهبون إلى الباب ليتلقوه، فقلت: إذاً أنت لا تعتقد صحة طريقتك؟ فقال: لا أعتقدها أبداً وقد أخبرتك أنها صناعة لأكل أموال الناس بالباطل. وأزيدك على ذلك اعتماد طريقتكم على كتاب (جواهر المعاني) الذي تزعمون أن شيخكم أحمد التيجاني أملاه على علي حرازم نصفه مسروق، فأحد المجلدين وهو الأول مسروق بالحرف وهو تأليف لمحمد عبدالله المدفون بكذا وكذا بفاس، وسمى ناحية نسيتها الآن، قال وأنا قابلت الكتابين من أولهما إلى آخرهما فوجدت المجلد الأول من (جواهر المعاني) مسروقاً كله من كلام الشيخ المذكور ففارقته. وبعد أيام كنت جالساً عند الشيخ عمر بن الخياط بائع الكتب بقرب القرويين فقال لي: هل اجتمعت بالأستاذ الشيخ محمد بن العربي العلوي، فقلت: لا، فقال لي: هذا الرجل من أفضل علماء فاس وعنده خزانة كتب لا يوجد مثلها في فاس وأثنى عليه بالعلم والأدب فقلت له أنا لا أجالس هذا الرجل ولا أجتمع به لأنه يبغض الشيخ أحمد التيجاني ويطعن في طريقته فقال لي: إن طالب العلم يجب أن يتسع فكره وخلقه لمجالسة جميع الناس وبذلك يتسع علمه وأدبه ولا يجب عليه أن يقلدهم في كل ما يدعون، يأخذ ما صفا ويدع ما كدر، وإن لم تجتمع بهذا الرجل يفوتك علم وأدب كثير فذهبت إليه لأجتمع به، وكان قاضياً في محكمة فاس الجديدة فنظمت أربعة أبيات لا أحفظ منها إلا شطر البيت الرابع وهو (وهذا مدى قصدي وما أنا مستجد) .. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 338 أعني أن غرضي بالاجتماع بك المذاكرة العلمية فهي غاية قصدي وإن اعتبرنا ما موصولة يكون المعنى والذي أستجديه أي أطلبه وإن اعتبرناها نافية تميمية يكون المعنى ولست مستجدياً أي طالباً مالاً، فلما خرج من المحكمة وأراد أن يركب بغلته التي كانت على باب المحكمة ولجامها بيد خادمه تقدمت إليه وأعطيته الصحيفة التي فيها الأبيات فلما قرأها رحب بي، وقال لطالب كان يرافقني وهو الحاج محمد بن الشيخ الأراري: أنت تعرف بيتنا، فقال: نعم، قال: فأتى به على الساعة التاسعة صباحاً، فخرجت مع الرفيق المذكور من مدرسة الشراطين، وكان يسكن فيها على الساعة الثامنة والنصف، لنصل إلى الشيخ على الساعة التاسعة، وكان ذلك اليوم الثاني عشر من ربيع الأول، وهو عيد عند المغاربة وكثير من البلدان الإسلامية وفي المغرب طائفة يسمون (العيساويين) أتباع الشيخ بن عيسى المكناسي، وهؤلاء لهم موسم في كل سنة يجتمعون فيه في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول ويأتون من جميع أنحاء المغرب، فيضربون طبولهم ومزاميرهم، ويترنمون بأناشيدهم إلى أن يظهر للناس أنهم أصيبوا بالجنون وحينئذ يفترسون الغنم والدجاج بدون زكاة بل يقطعونه بأظافرهم ويأكلون لحمه نيئاً والدم يسيل منه وقد ملأوا أزقة فاس وهي ضيقة في ذلك الزمن، وحتى في هذا الزمن، فلم نستطع أن نصل إلى بيت الشيخ إلا بعد مضي ساعتين ونصف من شدة الزحام فلما وصلنا وأخبرنا بوابه ذهب ثم رجع إلينا وقال: إنكما لم تجيئا في الموعد المضروب والشيخ مشغول عنده حكام فرنسيون فارجعا إليه بعد صلاة العصر فرجعنا وقلت لصاحبي: لا نرجع إليه فقد كفانا الله شر لقائه لأنه مبغض لشيخنا وطريقته فالخير في ما اختاره الله تعالى. فقال لي ليس الشيخ بملوم وقد اعتذر بعذر قائم والصواب أن نرجع إليه، فرجعنا إليه بعد العصر، ووجدت عنده من الترحيب والبشاشة والإكرام والتواضع ما لم أجده عند الشيخ الكتاني ولا عند أحد من علماء فاس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 339 وأخذنا في أحاديث أدبية وكان يقوم ويأتي بالكتب ويضعها أمامي. ووجدته كما قال السيد عمر بن الخياط. ولما كادت الشمس تغرب استأذنته في الانصراف فقال لي: أين تذهب، أنت غريب في هذا البلد وهذا المكان معد للضيوف لا نحتاج إليه فامكث، وبت هنا؛ وقبلت دعوته، وبعد أن صلينا المغرب جاء أصحابه، أذكر منهم الشيخ عبدالسلام الصرغيني، والشيخ المهدي العلوي، وهو لا يزال في قيد الحياة؛ أما الأول فقد مات فأخذ بعضهم يلعب الشطرنج وهو يراهم ولا ينكر عليهم فقلت في نفسي هذا دليل على أنه من العلماء الذين لا يعملون بعلمهم فهو جدير أن ينكر على أولياء الله ما خصهم الله به من كرامة. ثم تركوا الشطرنج وأخذوا ينتقدون الطريق الكتانية ويستهزئون بها ويسخرون من أهلها وكل منهم يحكي حكاية. فقال الشيخ عندي حكاية هي أعجب وأغرب مما عندكم؛ جاءني شاب كان متمسكاً بالطريقة الكتانية تمسكاً عظيماً فقال لي: أريد أن أتوب على يدك من الطرائق كلها وتعلمني التمسك بالكتاب والسنة، فقلت له: وما الذي دعاك إلى الخروج من طريقتك التي كنت مغتبطاً بها. فقال لي: إنه أمس شرب الخمر وزنا وترك صلاة العصر والمغرب والعشاء فمر بالزاوية الكتانية وسمع المريدين يرقصون ويصيحون بأصوات عالية والمنشد ينشدهم، وكانت بقية سكر لا تزال مسيطرة عليه، فهم أن يدخل الزاوية، ويرقص معهم، ولكنه أحجم عن ذلك لأنه جنب ولم يصل شيئا من الصلوات في ذلك النهار، إلا أن سكره غلب على عقله فدخل الزاوية ووجد الشيخ محمد بن عبدالكبير في صدر الحلقة، والمريدون يرقصون فاشتغل معهم في الرقص، وكان أنشطهم فلما فرغوا من رقصهم دعاه الشيخ وقبله في فمه وقال (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قبلك فاقتديت به)! قال ولما دعاني خفت خوفاً شديداً وظننت أنه انكشف له حالى وهو يريد أن يوبخني على ذنوبي فلما قال لي أيقنت أنه كاذب في كل ما يدعيه ويدعو إليه وإلا كيف يرضى عني النبي صلى الله عليه وسلم ويقبلني في فمي مع تلك الكبائر التي ارتكبتها في ذلك اليوم. قال: فهذا سبب مجيئي إليك لأتوب إلى الله من الطرائق كلها وأتبع طريقة الكتاب والسنة. ولما رأيتهم أنا يعيبون الطريقة الكتانية ويستهزئون بها أصابني خوف شديد وندمت على زيارتي للشيخ فقلت لنفسي هذا الذي كنت أخافه وقد وقعت فيه فكيف الخلاص؟ وذكرت قول التيجاني ابن بابا في منيته: ومن يجالس مبغض الشيخ هلك ... وضل في مهامة وفي حلك وشدد النهي لنا الرسول ... في ذاك فلتعمل بما أقول والشيخ قال هو سم يسري ... يحل من فعله في خسر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 340 ومعنى ذلك أن الشيخ أحمد التيجاني قال قال لي سيد الوجود صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً قل لأصحابك لا يجالسوا المبغضين لك فإن ذلك يؤذيني فصممت على أن أخرج من ذلك المجلس. فقمت فقال لي الشيخ إلى أين؟ فقلت: إلى بيت الخلاء، كذبت عليه، فلما وصلت إلى الباب منعني البواب من الخروج، وقال لي: وهل أذن لك الشيخ في الخروج، فقلت: نعم، فقال لي: هذا محال لأنك غريب والقانون الفرنسي يقضي بأن التجول بعد الساعة العاشرة ليلاً فيه خطر، فإنك لا تمشي خطوات حتى يقبضوا عليك وتؤخذ إلى السجن، وتبقى فيه إلى ضحى الغد وحينئذ ينظر في إطلاق سراحك. وقال لي: أنا لا أفتح لك الباب إلا إذا سمعت الإذن من الشيخ، فقلت له: إذا أرجع. ورجعت وجلست في مكاني، ولم تخفى حالي عن الشيخ فقال لي أراك منقبضاً؛ فما سبب انقباضك؟ فقلت سببه أنكم انتقلتم الطعن في الطريقة الكتانية إلى الطريقة التجانية، وأنا تجاني لا يجوز لي أن أجلس في مجلس أسمع فيه طعن في شيخي وطريقته. فقال لي: لا بأس عليك، أنا أيضاً كنت تجانياً وخرجت من الطريقة التجانية لما ظهر لي بطلانها، فإن كنت تريد أن تتمسك بهذه الطريقة على جهل وتقليد فلك علي ألا تسمع بعد الآن في مجلس انتقاداً لها أو طعناً فيها. وإن كنت تريد أن تسلك مسلك أهل العلم فهلم إلى المناظرة، فإن ظهرت علي رجعت إلى الطريقة، وإن ظهرت عليك خرجت منها كما فعلت أنا. فأخذتني النخوة ولم أرض أن أعترف أني أتمسك بها على جهل فقلت قبلت المناظرة. مناظرة حول ادعاء الشيخ التيجاني في أنه رأى النبي في اليقظة: قال الشيخ أريد أن أناظرك في مسألة واحدة إن ثبتت ثبتت الطريقة كلها، وإن بطلت بطلت الطريقة كلها، قلت ما هي؟ قال: ادعاء التيجاني أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً، وأعطاه هذه الطريقة بما فيها من الفضائل فإن ثبتت رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم يقظة وأخذه منه الطريقة فأنت على حق وأنا على باطل والرجوع إلى الحق، وإن بطل ادعاؤه فأنا على حق وأنت على باطل فيجب عليك أن تترك وتتمسك بالحق. ثم قال: تبدأ أنت أو أبدأ أنا؟ فقلت: ابدأ أنت، فقال: عندي أدلة كل واحد منها كاف في إبطال دعوى التجاني. قلت: هات ما عندك وعلي الجواب، فقال: الأول: إن أول خلاف وقع بين الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان بسبب الخلافة؛ قالت الأنصار للمهاجرين منا أمير ومنكم أمير، وقال المهاجرون: إن العرب لا تذعن إلا لهذا الحي من قريش. ووقع نزاع شديد بين الفريقين حتى شغلهم عن دفن النبي صلى الله عليه وسلم فبقي ثلاثة أيام بلا دفن صلاة الله وسلامه عليه فكيف لم يظهر لأصحابه ويفصل النزاع بينهم ويقول الخليفة فلان فينهي النزاع؟ كيف يترك هذا الأمر العظيم لو كان يكلم أحداً يقظة بعد موته لكلم أصحابه وأصبح بينهم، وذلك أهم من ظهوره للشيخ التيجاني ألف ومائتي سنة، ولماذا ظهر؟ ليقول له أنت من الآمنين، ومن أحبك من الآمنين، ومن أخذ وردك يدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب هو ووالده وأزواجه لا الحفدة، فكيف يترك النبي صلى الله عليه وسلم الظهور يقظة والكلام لأفضل الناس بعده في أهم الأمور ويظهر لرجل لا يساويهم في الفضل ولا يقاربهم لأمر غير مهم فقلت له: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 341 إن الشيخ رضي الله عنه قد أجاب عن هذا الاعتراض في حياته فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقى الخاص للخاص والعام للعام في حياته، أما بعد وفاته فقد انقطع إلقاء العام للعام وبقي إلقاء الخاص للخاص لم ينقطع بوفاته وهذا الذي ألقاه إلى شيخنا من إعطاء الورد والفضائل هو من الخاص للخاص. فقال أنا لا أسلم في أن الشريعة خاصاً وعاماً لأن أحكام الشرع خمسة وهذا الورد وفضائله إن كان من الدين فلا بد أن يدخل في الأحكام الخمسة لأنه عمل أعد الله لعامله ثواباً؛ فهو إما واجب أو مستحب ولم ينتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى حتى بين لأمته جميع الواجبات والمستحبات. وفي صحيح البخاري عن علي بن أبي طالب أنه قيل له هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم معشر أهل البيت بشيء فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء إلا فهماً يعطاه الرجل في كتاب الله، وإلا ما في هذه الصحيفة ففتحوها فإذا فيها العقل وفكاك الأسير وألا يقتل مسلم بكافر فكيف لا يخص النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته وخلفاءه بشيء ثم يخص رجلاً في آخر الزمان بما يتنافى مع أحكام الكتاب والسنة. فقلت: إن الشيخ عالم بالكتاب والسنة وفي جوابه مقنع لمن أراد أن يقنع. قال احفظ هذا. الثاني: اختلاف أبي بكر مع فاطمة الزهراء رضي الله عنهما على الميراث فلا يخفى أن فاطمة طلبت من أبي بكر الصديق رضي الله عنه حقها من ميراث أبيها واحتجت عليه بأن إذا مات هو يرثه أبناؤه، فلماذا يمنعها من ميراث أبيها، فأجابها أبو بكر الصديق بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة)) (1). وقد حضر ذلك جماعة من الصحابة فبقيت فاطمة الزهراء مغاضبة لأبي بكر حتى ماتت بعد ستة أشهر بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم. فهذا حبيبان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قال: ((فاطمة بضعة مني يسؤني ما ساءها)) (2)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام وصرح بأن أبا بكر الصديق أحب الناس إليه، ((وقال ما أحد أمنّ علي في نفس ولا مال من أبي بكر الصديق)) (3) رواه البخاري. وهذه المغاضبة التي وقعت بين أبي بكر وفاطمة، تسوء النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان يظهر لأحد بعد وفاته لغرض من الأغراض لظهر لأبي بكر الصديق وقال له: إني رجعت عما قلته في حياتي فأعطها حقها من الميراث، أو لظهر لفاطمة وقال لها يا ابنتي لا تغضبي على أبي بكر فإنه لم يفعل إلا ما أمرته به فقلت له ليس عندي من الجواب إلا ما سمعت قال احفظ هذا. الثالث: الذي وقع بين طلحة والزبير وعائشة من جهة، وعلي بين أبي طالب من جهة أخرى واشتد النزاع بينهما حتى وقعت حرب الجمل، في البصرة فقتل فيها خلق كثير من الصحابة والتابعين وعقر جمل عائشة فكيف يهون على النبي صلى الله عليه وسلم سفك هذه الدماء ووقوع هذا الشر بين المسلمين بل بين أخص الناس به، وهو يستطيع أن يحقن هذه الدماء بكلمة واحدة، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى في آخر سورة التوبة برأفته ورحمته بالمؤمنين وأنه يشق عليه كل ما يصيبهم من العنت، وذلك في قوله تعالى: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128] فقلت له ليس عندي من الجواب إلا ما سمعت وظهوره وكلامه للشيخ التيجاني فضل من الله، والله يؤتي فضله من يشاء. قال احفظ هذا وفكر فيه.   (1) رواه البخاري (3711) ومسلم (1759). (2) رواه البخاري (3714) بمعناه. (3) رواه البخاري (467) من حديث ابن عباس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 342 الرابع: خلاف علي مع الخوارج وقد سفكت فيه دماء كثيرة، ولو ظهر النبي صلى الله عليه وسلم لرئيس الخوارج وأمره بطاعة إمامه لحقنت تلك الدماء، فقلت الجواب هو ما سمعت، فقال لي: احفظ هذا وفكر فيه، فإني أرجو أنك بعد التفكير ترجع إلى الحق. الخامس: النزاع الذي وقع بين معاوية وعلي، وقد قتل في الحرب التي وقعت بينهما خلق كثير، منهم عمار بن ياسر، فكيف يترك النبي صلى الله عليه وسلم الظهور لأفضل الناس بعده وفي ظهوره هذه المصالح المهمة من جمع كلمة المسلمين وإصلاح ذات بينهم وحقن دمائهم، وهو خير المصلحين بقوله تعالى: وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ [الأنفال:1] وقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10] ثم يظهر للشيخ التيجاني في آخر الزمان لغرض غير مهم وهو في نفسه غير معقول لأنه مضاد لنصوص الكتاب والسنة. فلم يجد عندي جواباً غير ما تقدم ولكني لم أسلم له فقال فكر في هذه الأدلة وسنتباحث في المجلس الآخر، فعقدنا بعد هذا المجلس سبعة مجالس كل منها كان يستمر من بعد صلاة المغرب إلى ما بعد العشاء بكثير. وحينئذ أيقنت أنني كنت ضلال، ولكن أردت أن ازداد يقيناً فقلت له (من معك من العلماء هنا في المغرب على هذه العقيدة وهي أن مسألة في العقائد أو في الفروع يجب أن نعرضها مع قصر باعنا وقلة اطلاعنا على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ظهر لنا أنه موافق لهما قبلناه وما ظهر لنا أنه مخالف رددناه) فقال لي يوافقني على هذا أكبر مقدم للطريقة التجانية في المغرب كله وهو الشيخ الفاطمي الشرادي، فكدت أكذبه لأن المشهور في جميع أنحاء المغرب أن هذا الرجل من كبار العلماء، وهو أكبر مقدم للطريقة التجانية، ولم أقل أكبر شيخ لأن الشيخ التيجاني لا يبيح أن يكون شيخاً للطريقة سواه، لأن تلقيبه بالشيخ قد يفهم منه أنه يجوز لغيره أن يتصرف في أوراد الطريقة وفضائلها وعقائدها وذلك ممنوع لأن الذي أعطى هذه الطريقة هو النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً كما تقدم والمتلقي الأول لها هو الشيخ أحمد التيجاني والنبي صلى الله عليه وسلم سماه شيخاً لهذه الطريقة، وكل ناشر للطريقة وملقن لأورادها يسمى مقدماً فقط فالطريقة لها مصدر واحد وشيخ واحد ولا يجوز تعدد المصدر ولا تعدد الشيخ حسبما في كتب الطريقة. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 438 - 454 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 343 المبحث التاسع: مع الشيخ الفاطمي الشرادي فتوجهت إلى الشيخ الفاطمي رحمه الله وكان الوقت ضحى وقد أوصاني شيخنا محمد بن العربي ألا أسأله إلا في خلوة فوجدت عنده جماعة فانصرف بعضهم وجاء آخرون وبقيت عنده أنتظر أن أخلو به حتى صلينا الظهر وجاء الغداء فلم أستطع أن أخلو به وكان ثلاثة ممن كانوا في مجلسه حاضرين فقلت له إن الشيخ محمد بن العربي العلوي يقول يجب علينا أن نعرض جميع المسائل أصولاً وفروعاً على كتاب الله وسنة رسوله فما وافق في نظرنا القاصر قبلناه وما خالف رددنا ولو قال به الإمام مالك أو الشيخ أحمد التجاني، فأشار إلى بيده يستمهلني، وكان جلوسي عنده قد طال فانصرفت إلى مدرسة الشراطين حيث كنت نازلاً قبل لقائي بالشيخ العلوي، وفي ذلك اليوم بعد صلاة العشاء جاءني بواب المدرسة وقال لي إن الشيخ الفاطمي الشرادي أرسل إليك عبده وبغلته يطلب أن تزوره فتعجبت كثيراً لأمرين، أحدهما أن الوقت ليس وقت زيارة، وثانيهما أنه لم تجر العادة أن كبار العلماء الطاعنين في السن، يبعثون الدابة للركوب إلا لمن هو مثلهم في السن والعلم وأنا شاب فركبت البغلة وسار العبد أمامي حتى وصلت إليه وسلمت عليه فرد أحسن رد ورحب بي وقال لي يا ولدي أنا رجل كبير طاعن في السن ليس لي قدرة على القتال، أما سيدي محمد بن العربي العلوي فهو شاب مستعد للقتال وأنت سألتني أمام الناس عن مسألة مهمة لا يسعني أن أكتم جوابها، ولا أستطيع أن أصرح به أمام الناس، فأعلم أن ما قال لك سيدي محمد بن العربي العلوي هو الحق الذي لا شك فيه، وقد أخذت الطريقة القادرية وبقيت فيها زماناً، ثم أخذت الطريقة الوزانية وبقيت فيها زماناً، ثم أخذت الطريقة التجانية والتزمتها حتى صرت مقدماً فيها فلم أجد في هذه الطرائق فائدة، وتركتها كلها ولم يبق عندي من التصوف إلا طلب الشيخ المربي على الكتاب والسنة علماً وعملاً، ولو وجدته لصاحبته وصرت تلميذاً له، وأنت تريد أن تسافر إلى الشرق فإن ظفرت بشيخ مرب متخلق بأخلاق الكتاب والسنة علماً وعملاً فاكتب إلى وأخبرني به حتى أشد الرحال إليه فازددت يقيناً بالنتيجة التي وصلت إليها في مناظرتي مع الشيخ العلوي. ولو كان عندي من العلم مثل ما عندي الآن لقلت له إن ضالتك المنشودة هي أقرب إليك من كل قريب فإن هذا الشيخ الذي تطلبه وتريد أن تشد الرحال إليه ولو بعدت الدار وشط المزار هو أنت نفسك. بشرط أن يكون عندك العزم التام على العمل بالكتاب والسنة وطرح التقليد جانباً كيفما كان الأمر فجزاهم الله خيراً وتغمدهما برحمته. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 454، 455 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 344 المبحث العاشر: مع الشيخ عبدالعزيز بن إدريس وبعد ذلك بعشرين سنة اجتمعت مع الشيخ عبدالعزيز بن إدريس من علماء تطوان وهو أحد تلامذة الشيخ الفاطمي فذكرت له الحكاية السالفة فقال لي وأنا أيضاً وقع لي ما يشبه هذا فإني بعد إتمام دراستي في جامع القرويين ذهبت إليه وهو أفضل شيوخي فقلت له أيها الشيخ أريد أن أرجع إلى وطني تطوان فأريد أن تزودني بدعائك الصالح وأن تلقنني ورد الطريقة التجانية، فقال لي يا أسفي عليك، أنت تحفظ كتاب الله وقد درست العلوم الإلهية التي تمكنك من فهم كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يكفك ذلك كله حتى تطلب الهدى في غيره، والطريقة لا شيء فعليك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فكشف الله عني بفضله ظلام الشرك والبدعة، وفتح لي باب التوحيد والاتباع فله الحمد والمنة نسأله أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة إنه الهادي إلى الصراط المستقيم (الهدية الهادية من ص7 - 21) انتهي منه بلفظه. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 455 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 345 المبحث الحادي عشر: شهادة الشيخ عبدالرحمن الوكيل الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، والصلاة والسلام على عبدالله ورسوله محمد خاتم النبيين وسيد ولد آدم أجمعين، وبعد: فإنه كانت لي بالتصوف صلة هي صلة العبر بالمأساة، فهنالك -حيث يدرج بي الصبا في مدارجه السحرية، وتستقبل النفس كل صروف الأقدار بالفرحة الطرب، وتستثني الروح ربا الجمال والحب من كل معاني الحياة- هنالك تحت شفوف الأسحار الوردية من ليالي القرية الوادعة الحالمة، وفي هيكل عبق بغيوم البخار، جثم على صدره صنم صغير يعبده كثير من شيوخ القرية، هنالك في مطاف هذه الذكريات الولهي: كان يجلس الصبي بين شيوخ تغضضت منهم الجباه، وتهدلت الجفون، ومشى الهرم في أيديهم خفقات حزينة راعشة، وفي أجسادهم الهضمية تحولاً ذابلاً، يتراءون تحت وصوصة السراج الخافت أوهام ضيعته الخيبة، وبقايا آمال عصف بها اليأس. وتتهدج ترانيم الشيوخ تحت السحر - نواحاً بينها صوت الصبي- بالتراتيل الوثنية، وما زال الصبي يذكر أن صلوات ابن بشيش، ومنظومة الدردير كانتا أحب التراتيل إلى أولئك الشيوخ، وما زال يذكر أن أصوات الشيوخ كانت تشرق بالدموع، وتئن فيها الآهات حين كانوا ينطقون من الأولى: "اللهم انشلني من أوحال التوحيد!! " ومن الثانية "وجدلي بجمع الجمع منك تفضلاً" يا للصبي الغرير التعس المسكين!! فما كان يدري أنه بهذه الصلوات المجوسية يطلب أن يكون هو الله هوية وماهية وذاتاً وصفة!! ما كان يدري ما التوحيد الذي يضرع إلى الله أن ينشله من أوحاله!! ولا ما جمع الجمع الذي يبتهل إلى الله أن يمن به عليه. ويشب الصبي، فيذهب إلى طنطا ليتعلم، وليتفقه في الدين. وثمة يسمع الكبار من شيوخه يقسمون له، ولأصحابه: أن "البدوي" قطب الأقطاب، يصرف من شيءون الكون، ويدبر من أقداره وغيوبه الخفية!! ويجرؤ الشاب مرة فيسأل خائفاً مرتعداً: وماذا يفعل الله؟! ويهدر الشيخ غضباً، ويزمجر حنقاً، فيلوذ الشاب بالرعب الصامت، وقد استشعر من سؤاله، وغضب الشيخ، أنه لطخ لسانه بجريمة لم تكتب لها مغفرة!! ولم لا؟ والشيخ هذا كبير جليل الشأن والخطر، وما كان يستطيع الشاب أبداً أن يفهم أن مثل هذا الخبر الأشيب –الذي يسائل عنه الموت- يرضى بالكفر، أو يتهوك مع الضلال والكذب. فصدق الشاب شيخه وكذب ما كان يتلو قبل من آيات الله (10:3) (ثم استوى على العرش، يدبر الأمر، ما من شفيع إلا من بعد إذنه)! ثم يقرأ الشاب في الكتب التي يدرسها: أن الصوفي فلاناً غسلته الملائكة، وأن فلاناً كان يصلي كل أوقاته في الكعبة، في حين كان يسكن جبل قاف، أو جزائر واق الواق!! وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مد يده من القبر وسلم على الرفاعي!! وأن فلاناً عذبته الملائكة، لأنه حفظ القرآن والسنة وعمل بما فيهما، ولكنه لم يحفظ كتاب (الجوهرة في التوحيد)!!! وأن مذهبنا في الفقه هو الحق وحده، لأنه أحاديث حذفت أسانيدها!! ويصدق الشاب بكل هذا، ويؤمن، وما كان يمكن إلا أن يفعل هذا. إذ قال في نفسه: لو لم تكن هذه الكتب حقاً، ما درست في الأزهر، ولا درسها هؤلاء الهرمون من الأحبار ولا أخرجتها المطبعة!! وهل كان يمكن أن يسأل نفسه مثلاً مثل هذا السؤال: أين من الحق البين من كتاب الله، هذا الباطل العربيد في هذه الكتب؟! لا، فلقد جيء به إلى طنطا ليتفقه في الدين على هؤلاء الشيوخ، وهاهو فقه الدين يسمعه من الشيوخ، ويقرؤه في الكتب، وحسبه هذا!! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 346 وتموج طنطا بالوفود، وتعج بالآمين بين الطاغوت الأكبر من كل حدب، ويجلس الشاب في حلقة يذكر فيها الصوفية اسم الله بخنات الأنوف، ورجات الأرداف ووثنية الدفوف، وثمة يسمع منشد القوم يصيح راقصاً: "ولي صنم في الدير أعبد ذاته" فتتعالى أصوات الدراويش طروبة الصيحات: "إيوه كده اكفر، اكفر يا مربي" ويرى الشاب على وجوه القوم فرحاً وثنياً راقص الإثم بما سمعوا من المنشد الكافر، فيسأل شيخنا ممن وفدوا من أهل قريته: يا سيدي الشيخ، ما ذلك الصنم المعبود؟! فيزم الشيخ شفتيه، ثم يجود على الشاب الواله الحيرة بقوله: "انته لسه صغير"!! ويسكت الشاب قليلاً، ولكن الكفر يضج في النعيق، فيسمع المنشد يقيء "سلكت طريق الدير في الأبدية" "وما الكلب والخنزير إلا إلهنا" ويطوي الشاب نفسه على فزع وعجب يسائل الذهول: ما الكلب؟ ما الخنزير؟ ما الدير وأنى للذهول بأن يجيب؟! ولقد خشي أن يسأل أحد الشيوخ ما دام قد قيل له: "انته لسه صغير" ثم إنه رأى بعض شيوخه الكبار يطوفون بهذه الحمآت، يشربون "القرفة" ويهنئون الأبدال والأنجاب والأوتاد بمولد القطب الغوث سيدهم السيد البدوي!!! وتكفن دورات الفلك من عمر الشاب سنوات، فيصبح طالباً في كلية أصول الدين فيدرس أوسع كتب التوحيد -هكذا تسمى- فيعي منها كل شيء إلا حقيقة التوحيد، بل ما زادته دراستها إلا قلقاً حزيناً، وحيرة مسكينة. ويجلس الشاب ذات يوم هو وصديق من أصدقائه مع شيخ صوفي أمي. فيسأله عن معاني بعض تهاويل ابن عطاء السكندري "إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية، وإرادتك الأسباب، مع إقامة الله إياك في التجريد، انحطاط على الهمة العلية". ويحار الطالبان، ولا يدريان بم يجيبان هذا الأمي عن هذه الحكم المزعومة -وقد عرفا بعد أنها تهدف إلى تقرير أسطورة رفع التكليف- فتمتلئ نفساهما بالغم المهموم، إذ رسبا في امتحان عقده لهما أمي صوفي؟! ويدور الزمن فيصبح الشاب طالباً في شعبة التوحيد والفلسفة، ويدرس فيها التصوف، ويقرأ في كتاب صنفه أستاذ من أساتذته، رأي ابن تيمية في ابن عربي. فتسكن نفس الشاب قليلاً إلى ابن تيمية، وكان قبل يراه ضالاً مضلاً. فهذا البهتان الأثيم نعته الدردير!! وكانت عنده لابن تيمية كتب، بيد أنه كان يرهب مطالعتها، خشية أن يرتاب في الأولياء، كما قال له بعض شيوخه من قبل!! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 347 وخشية أن يضل ضلال ابن تيمية .. ويقرأ الشاب، ويستغرق في القراءة، ثم ينعم القدر على الشاب يصبح مشرق يهتك عنه حجب هذا الليل، فيقر به سراه المضني عند جماعة أنصار السنة المحمدية، فكأنما لقي بها الواحدة الندية السلسبيل بعد دوي ملتهب الهجير. لقد دعته الجماعة على لسان منشئها فضيلة والدنا الروحي الشيخ محمد حامد الفقي إلى تدبر الحق والهدى من الكتاب والسنة، فيقرأ الشباب ويتدبر ما يقرأ وثمة رويداً رويداً ترتفع الغشاوة عن عينيه، فيبهره النور السماوي، وعلى أشعته الهادية يرى الحقائق، ويبصر القيم. يرى النور نوراً والإيمان إيماناً، والحق حقاً، والضلال ضلالاً، وكان قبل -بسحر التصوف- يرى في الشيء عين نقيضه، فيؤمن بالشرك توحيداً، وبالكفر إيماناً، وبالمادية الصماء من الوثنية: روحانية عليا، ويدرك الشاب -وهو لا يكاد يصدق- أن التصوف دين الوثنية والمجوسية، دين ينسب الربوبية والإلهية إلى كل زنديق، وكل مجرم، وكل جريمة!! دين يرى في إبليس، وفرعون، وعجل السامري، وأوثان الجاهلي، يرى في كل هؤلاء الذين لعنتهم كتب الله، بل لعنتهم حتى العقول، يرى فيهم أرباباً وآلهة تهيمن على القدر في أزله وأبده، دين يرى في كل شيء إلهاً يجب أن يعبد. ورباً يخلق ما يشاء ويختار، دين يقرر أن حقيقة التوحيد الأسمى: هي الإيمان بأن الله -سبحانه- عين كل شيء. دين لا تجد فيه فيصلاً بين القيم، ولا بين حقائق الأشياء، ولا بين الضد وضده، ولا بين النقيض ونقيضه. دين يقول عن الجيف - يتأذى منها النتن، وعن الميكروبات تفتك سمومها بالبشرية - إنها هي الإ لها، وسبحان ربنا!! دين يقول عن القاتل، عن السارق، عن الباغي، عن كل وغد تسفل في دناءته، عن كل طاغية بغى في تجبره. يقول عن كل هؤلاء: إنهم عينات الذات الإلهية!! فأي إله هذا الذي يقتل، ويبغي، ويفسد في الأرض؟ أي إله هذا الذي يدب تحت جنح الليل تتلظى في عينيه، وعلى يديه الإثم والجريمة الضارية؟ أي إله هذا الذي يلعق دم الضحايا يبرد به غلته، ويخضب بدماء الأعراض التي سفحها يديه الظالمتين؟ أي إله هذا الذي مشى في أيام التاريخ ولياليه بطشاً وظلماً وجبروتاً يدمر، ويخرب، ويصنع القصة الأولى لكل جريمة خاتلة؟! ومن يكون إلا إله الصوفية الذي ابتدع أسطورته سلف ابن عربي، وابن الفارض وغيرهما!!؟. أيتها البشرية التي تهاب القانون، أو ترهب السماء!! ها هو دين التصوف يناديك ملحاً ملهوف النداء: أن تنحدري معه إلى حيث تترعين من كل خمرة مخمورة، وتتلطخين بكل فسق، وتتمرغين في أوحال الإثم!! وأنتم أيها العاكفون في المساجد؛ لا حاجة بكم إلى الصلاة والصوم والحج والزكاة، بل لا حاجة بكم إلى رب تحبونه وتخافونه، وترجونه، ولا إله تعبدونه. لم هذا الكدح والجهاد والنصب والعبودية؟ لم هذا وكل فرد منكم في حقيقته هو الرب، وهو الإله كما يزعم الصوفية!!؟ ألا فأطلقوا غرائزكم الحبيسة، ودعوها تعش في الغاب والدخل وحوشاً ضارية، وأفاعي فتاكة! وأنتم يا بني الشرق! دعوا المستعمر الغاصب يسومكم الخسف والهوان، ويلطخ شرفكم بالضعة، وعزتكم بالذل الهين، ويهيمن على مصائركم بما يهوى بطشه الباغي، وبغية الظلوم. دعوه يهتك ما تحمون من أعراض، ويدمر ما تشيدون من معال، وينسف كل ما أسستم من أمجاد، ثم الثموا ضارعين خناجره وهي تمزق منكم الحشاشات، واهتفوا لسياطه، وهي تشوي منكم -أذلاء- الجلود. فما ذلك المستعمر عند الصوفية سوى ربهم، تعين في صورة مستعمر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 348 دعوا المواخير مفتحة الأبواب، ممهدة الفجاج. ومباءات البغاء تفتح ذراعيها الملهوفتين لكل شريد من ذئاب البشر، وحانات الخمور تطغى على قدسية المساجد، وأقيموا ذهبي الهياكل للأصنام، وارفعوا فوق الذرى منتن الجيف، ثم خروا ساجدين لها، مسبحين باسم ابن عربي وأسلافه وأخلاقه فقد أباح لكم أين تعبد الجيفة، وأن تتوسلوا إلى عبادتها بالجريمة!! ذلكم هو دين التصوف في وسائله وغاياته وتلك هي روحانيته العليا!!. ألا فاسمعوها غير هيابة ولا وجلة، واصغوا إلى هتاف الحق يهدر بالحق من أعماق الروح: إن التصوف أدنأ وألأم كيد ابتدعه الشيطان ليسخر معه عباد الله في حربه لله، ولرسله، إنه قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع كل عدو صوفي، العداوة للدين الحق، فتش فيه تجد برهمية، وبوذية، وزرادشتية، ومانوية وديصانية، تجد أفلوطينية، وغنوصية، تجد يهودية ونصرانية، ووثنية جاهلية، تجد فيه كل ما ابتدعه الشيطان من كفر، منذ وقف في جرأة الصوفية يتحدى الله، ويقسم بعزته أنه الذي سيضل غير المخلصين من عباده. تجد فيه كل هذا الكفر الشيطاني، وقد جعل منه الشيطان كفراً جديداً مكحول الإثم متبرج الغواية، متقتل الفتون، ثم سماه للمسلمين: (تصوفاً) وزعم لهم -وأيده في زعمه القدامية والمحدثون من الأحبار والرهبان- أنه يمثل أقدس المظاهر الروحية العليا في الإسلام!! أقولها عن بينة من كتاب الله، وسنة خير المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وبعون من الله، سأظل أقولها، لعلي أعين الفريسة التعسة على أن تنجو من أنياب هذا الوحش الملثم بوشاح الدعة الحانية العطوف. ولكن الصوفية سوداً وبيضاً، خضراً وحمراً، سلوهم: ما ردكم على هذا الصوت الهادر من أعماق البحر؟ سيقولون ما قالت وثنية عاد (إن نراك إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) وآلهتهم هي قباب أضرحة الموتى وأعتابها!! دمغناهم بالحق، فراحوا يعوون عواء اللص الحذر، وقع فجأة في قبضة الحارس، وجأروا بالشكوى الذليلة إلى النيابة، فلم تر النيابة فيمن يمسك بالبريء إلا مجرماً، وشكوا إلى رئيس حكومة سابق، وختموا الشكاة بهذه الضراعة الذليلة: "والله نسأل لمقامكم الرفيع الخير والسؤدد في ظل حامي الدين حضرة صاحب الجلالة المعظم صان عرشه، وأيد حكومته الرشيدة وألهمها التوفيق" (قدموا هذه الشكوى بتاريخ 4 أغسطس سنة 1951م)، فلم يرى الرئيس السابق فيمن يثرم أنياب الرقطاء مجرماً. وطاح الحق ببغي إلههم وملاذهم حامي دينهم، كما كانوا يلقبونه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 349 وما زلنا -بعون من الله-نستلهمه- بكتاب الله نتحداهم، وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نحاججهم، والله على كل شيء شهيد، وهو حسبنا ونعم الوكيل. سيقول الناعمون -من ذوي الألسنة التي استمرأت كلمات الذل والعبودية، وليونة النفاق، وممن يتملقون الجماهير على حساب الحق، ويزعمون أنهم لا يحبون إثارة شقاق، أو جدال، ولا الطعن على أحد -سيقول هؤلاء: ما هكذا يكون النقد، ولا هكذا يكون البحث العلمي!! لا. أيها المدللون الخانعون للأساطير، فإنا لسنا أمام جماعة مسلمة، فنخشى إثارة الشقاق بينهم، ولو خشي الرسول مثل هذا لمالأ قريشاً على حساب الحق، ولكنه صلى الله عليه وسلم أطاع أمر ربه فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر:94]، ووعى قلبه - المشرق المؤمن الطهور التقي- موعظة ربه فيما قاله له العلي الكبير وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9] وفيما قال له وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إليك لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً [الإسراء:73]،، وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذاً لاذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا [الإسراء:74 - 75]، فكان سيد ما يستغفر به الرسول الكريم الأمين ربه: ((اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت)) (1) فكيف بنا نحن اليوم الذين أمرنا أن جعل الرسول وحده لنا الأسوة؟! ولسنا كذلك أمام فئة تحترم العقل، بل تزدريه وتحقره، ثم تهب في قحة طاغية الجراءة لتشتم الله، وتذود عن إبليس وفرعون وعباد العجل والوثن، داعية المسلمين إلى اتخاذ هؤلاء أرباباً وآلهة، وسيرد على القارئ عشرات النصوص من نصوص ابن عربي وتائية ابن الفارض شهيدة عليهم بما ذكرت، وابن عربي وابن الفارض قطبا التصوف، وإماما الصوفية المعاصرة. فكيف يعاب علينا أننا ندافع عن دين الله، وأنا نقول للشيطان: إنك أنت الشيطان؟ ما نقول عن رجل –وهو ابن عربي- يفتري أدنأ البهتان على الله، فيصوره في صورة رجل وامرأة يقترفان الإثم، مؤكداً لأتباعه أن الجسدين الآثمين هما في الحقيقة ذات الله، سبحانه؟! وسبحان رب العزة عما يصف الإثم. فلا نلام إذا هتكنا القناع عن وجه هذا الرجل، ليبصره المخدوعون به، ليبصره مسخاً ثانياً للشيطان؟ إننا في ميدان مستعر الأتون، يقاتلنا فيه عدو دنيء يتراءى أنه الأخ الشقيق الحنو، الندي الرحمة، فلا أقل من أن نحاربه بما يدفع ضره وشره، ويحول بينه وبين القضاء على الرمق الذابل من عقائد المسلمين، وبين تشتيت الحشاشة الباقية من الجماعة الإسلامية. (مقدمة كتاب (تنبيه الغبي إلى كفر ابن عربي) من ص3 - 10، بقلم عبدالرحمن الوكيل). المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 456 - 463   (1) رواه البخاري (6306) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 350 المبحث الأول: أوائل المتصوفة وعلاقتهم بالتشيع إن التشيع أوجده اليهود، وأسسوا أسسه، وأصلوا أصوله، وأرسو قواعده، ووضعوا عقائده ومعتقداته، بواسطة إبنهم البار عبد الله بن سبأ، المتزيّ بزيّ الإسلام، واللابس ثوبه ولباسه، تقية وخداعا، الذي أرسل إلى عاصمة الخلافة الإسلامية أيام الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه من قبل يهود صنعاء اليمن لتقويض دعائم الإسلام، وفناء دولته، ومسخ شريعته السماوية البيضاء، وهدم قوائمها وأركانها، وترويج عقائد اليهودية بين المسلمين، وإيجاد الفرقة والاختلاف بينهم، وإسعار نار الحقد والبغضاء، وفتح باب المطاعن والتلاعن، والسباب والشتائم، بدل الأخوة الصادقة والتوادّ والتعاطف والتراحم: (إن عبد الله بن سبأ كان يهوديا فأسلم، ووالى عليا عليه السلام، وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون وصيّ موسى بالغلو، فقال في إسلامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله في عليّ مثل ذلك، وكان أول من أشهر القول بفرض إمامة علىّ، وأظهر البراءة من أعدائه، وكاشف مخالفيه، وكفرهم. ومن هنا قال من خالف الشيعة: إن التشيع والرفض مأخوذ من اليهودية (1). فاجتمع حوله وتحت لواء التشيع كثر من أبناء اليهودية البغيضة، والفرس المهزومين، والبابليين المكسورين، والموالى المقهورين، والكارهين للعرب حكامهم، والفاتحين بلادهم، والآخذين زمام أمورهم، بعد فشلهم في محاربة الإسلام وجيوشه المظفرة المنصورة وجها لوجه، واندحار قوتهم، وانكسار شوكتهم، فغيّروا أسلوبهم في مزاحمة الإسلام جهرا، فتستّروا بستار الإسلام، ودخلوا في صفوفه، واندمجوا في بيئته، وروّجوا بين المسلمين أفكارا يهودية ومجوسية ونصرانية، وعقائد مدخولة مدسوسة، نقمة على الإسلام والمسلمين، من حلول الإله أو الجزء الإلهي في الخلق، وإجراء النبوة بعد خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه، ونزول الوحي وإتيان الملائكة، وحصول العصمة، ووجود شخص في كل عصر وزمان به قيام الأرض وثباتها، وعقيدة الوصاية والولاية، والإخفاء والكتمان، والتأويل، وانقسام العلم إلى الظاهر والباطن، وتقسيم الناس إلى العامة والخاصة، وتعطيل الشريعة ومسخها، ومسخ تعاليمها، ورفع التكليف وغير ذلك من الخرافات والترهات مما لا علاقة لها بالإسلام، قريبة ولا بعيدة، ولم يقصد من بثّها ودسها إلا ضرب الإسلام ومحوه من الوجود وتفريق كلمته، وتشتيت قوته، ودرء هيمنته، وخرق هيبته.   (1) رجال الكشي (ص101) ط مؤسسة الأعلمي بكربلاء - العراق. أيضا تنقيح المقال للمامقاني (2/ 184 ط طهران، أيضا ((فرق الشيعة)) للنوبختي (ص43، 44) ط المطبعة الحيدرية بالنجف العراق 1379 هـ، كتاب ((المقالات والفرق)) لسعد بن عبد الله القمي (ص21) ط طهران 1962م، رجال الطوسي (ص51) ط نجف، ((تحفة الأحباب)) (ص184)، ((ناسخ التواريخ)) (3/ 393) ط إيران، ((كتاب الرجال)) للحلي (ص469) ط طهران 1383 هـ، ((منهج المقال)) للأسترابادي (ص303)، ((شرح ابن أبي الحديد)) (2/ 309) وغير ذلك من الكتب الشيعية الكثيرة، ومثله في كتب السنة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 351 فكان هذا هو المقصود من تكوين التشيع وإنشائه، فأدى التشيع في سبيل ذلك خدمات جليلة، وكان أول ضحيته سيدنا الإمام المظلوم عثمان بن عفان الخليفة الراشد الثالث وصهر رسول الله، كما كان أول ثمرته التفرق والتمزق، والتشتت والتحزب في الأمة الإسلامية الواحدة، المتفقة العقائد، المتحدة الآراء والأفكار، فولدت الفرق، ونشأت الطوائف العديدة وبرزت الآراء الجديدة، وراجت بين المسلمين مذاهب لم تكن موجودة ولا معروفة من قبل، وكثير من المذاهب المنحرفة والعقائد الزائفة غذّيت من قبل التشيع، ونمّيت وربّيت، وأمدّت ودعّمت، ولو أنه بعد حين صار هذا الزيغ والضلال من لوازم تلك النحلة، وعلائم تلك الطائفة، حيث أنسى تقادم العهد المصدر الأصلي، والمنبع الحقيقي، والموجد الأول، والمنشئ الأصلي، وكان الهدف من هذا أن تعمّ الفتنة، وتكثير البلوى، وتبعد أمة محمد صلى الله عليه وسلم من محمد عليه الصلاة والسلام وإرشاداته وتوجيهاته، وعن الكتاب الذي أنزل على قلبه الطاهر، وعن أحكامه وضوابطه، وأن تضعف كذلك، ويضعف سلطانها، وينكمش حكمها، سلطتها واختيارها. فكان إحدى هذه الفرق والنحل والمشارب والمذاهب، الصوفية والتصوف، كما يظهر لمن درس كتب التاريخ والعقائد والمسالك، وتعمق في منشأ ومولد الطوائف والنحل أن كل فتنة ظهرت في تاريخ الإسلام، وكل ديانة طلعت من العدم إلى الوجود كان رأسها ومديرها، أو منشئها ومدبرها واحد من الشيعة. وكذلك كان أمر الصوفية. فإن الثلاثة الذين اشتهروا في التاريخ الإسلامي باسم الصوفي ولقبه بادئ ذي بدء كان اثنان منهم من الشيعة أو متهمين بالتشيع، كما أن هؤلاء الثلاثة كلهم كانوا من موطن الشيعة آنذاك، وهو الكوفة. فأبو هاشم الكوفي ... لم يرم بالتشيع ولكنه كان من الكوفة الشيعية، ومتهما بالزندقة والدهرية (1). أما جابر بن حيان فيذكره ماسينيون بقوله: (وورد لفظ الصوفي لقبا مفردا لأول مرة في التاريخ في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي إذ نعت به جابر بن حيان وهو صاحب كيمياء شيعي من أهل الكوفة، له في الزهد مذهب خاص (2). وذكره نيكلسون بقوله: (جابر بن حيان الكيميائي المعروف كان يدعى جابر الصوفي، وأنه تقلد كما تقلد ذو النون المصري علم الباطن الذي يطلق عليه القفطي مذهب المتصوفين من أهل الإسلام (3).ويذكر المستشرق التشيكوسلاوي بي كراؤس P. KAUS وم بلسنر M. PLESSNE أن (جابر بن حيان كان من الشيعة الغلاة، ولعله كان من القرامطة أو الإسماعيلية، وكان يرجح مثل النصيرية سلمان على محمد، كما كان يعتقد مثل الغلاة والنصيرية عقيدة تناسخ الأرواح (4). وهذان المستشرقان ينقلان عن جابر بن حيان نفسه أنه يقول: (إنه أخذ جميع علومه عن جعفر الصادق معدن الحكمة، وأنه ليس إلا الناقل المحض والمرتب (5). وبمثل ذلك قال هولميارد الإنجليزي الذي نشر عديدا من كتب جابر بن حيان (6). وأما الشيعة فيعدونه من أعيانهم.   (1) انظر ((طرائق الحقائق)) للحاج معصوم علي (1/ 101). (2) انظر ((دائرة المعارف الإسلامية اردو)) (6/ 419) ط جامعة بنجاب باكستان الطبعة الأولى 1962م، كذلك ((التصوف لماسينيون ترجمة عربية)) (ص26) ط دار الكتاب اللبناني 1984م. (3) انظر كتاب في ((التصوف الإسلامي وتاريخه)) ترجمة الدكتور أبي العلاء العفيفي (ص11). (4) انظر ((دائرة المعارف الإسلامية اردو)) (7/ 6) مقال (بي كراؤس) و (م بلنسر). (5) ((دائرة المعارف الإسلامية اردو)) (7/ 6). (6) انظر مقدمة كتاب ((الرحمة المنشور)) هولميارد، وكتاب ((البيان)) وغيرهما. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 352 فلقد كتب السيد محسن الأمين الشيعي المشهور في ترجمته أكثر من ثلاثين صفحة في كتابه (أعيان الشيعة) فيقول: (أبو عبد الله، ويقال: أبو موسى جابر بن حيان بن عبد الله الطرطوسي الكوفي المعروف بالصوفي .... كان حكيما رياضيا فيلسوفا عالما بالنجوم طبيبا منطقيا رصديا مؤلفا مكثرا في جميع هذه العلوم وغيرها: كالزهد والمواعظ، من أصحاب الإمام جعفر الصادق عليه السلام، وأحد أبوابه، ومن كبار الشيعة، ومايأتي عند تعداد مؤلفاته يدل على أنه كان من عجائب الدنيا ونوادر الدهر، وأن عالما يؤلف ما يزيد على 3900 كتاب في علوم جلها عقلية وفلسفية لهو حقا من عجائب الكون، فبينا هو فيلسوف حكيم ومؤلف مكثر في الحيل والنرنجيات والعزائم ومؤلف في الصنائع وآلات الحرب، إذا هو زاهد واعظ مؤلف كتبا في الزهد والمواعظ (1). ثم نقل عن عديد من الشيعة أنهم ذكروا في كتبهم الرجالية، وعدّوه من تلامذة جعفر بن الباقر، ثم قال: (يستفاد مما سلف أمور، وهي: تشيعه، وعلمه بصناعة الكيمياء، وتصوفه، وفلسفته، وتلمذته على الصادق عليه السلام، واشتهاره عند أكابر العلماء، واشتهار كتبه بينهم اشتهارا لا مزيد عليه (2). ثم كتب تحت عنوان (أما تشيعه): (فيدل عليه عدّ ابن طاوس له في منجمي الشيعة، ورواية ابني بسطام عنه عن الصادق عليه السلام، وروايته خمسمائة رسالة للصادق عليه السلام كما ذكره اليافعي، ونقل ابن النديم عن الشيعة أنه من كبارهم وأحد الأبواب، وأنه إنما كان يعني بسيده جعفر هو الصادق، لا جعفر البرمكي، ولا ينافيه زعم الفلاسفة أنه منهم، فإنه لا تنافي بين كونه فيلسوفا وشيعيا، إذ المراد الفلسفة الإسلامية، لا فلسفة الحكماء القدماء التي قد تنافي الشريعة، وقول ابن النديم: أن له كتبا في مذاهب الشيعة كما تقدم ذلك كله (3). ونقل أيضا عن الدكتور أحمد فؤاد الأهواني أن (والد جابر بن حيان قتل في خراسان لاتهامه بالتشيع (4).ونضيف إلى ذلك أن الرجالي الشيعي المشهور الطهراني أيضا عده من رجال الشيعة حيث ذكر في موسوعته كتابين له: (كتاب (الرحمة الصغير)، وكتاب (الرحمة الكبير) لجابر بن حيان الصوفي الطوسي الكوفي المتوفى سنة مائتين من الهجرة (5). وأما من متقدمي الشيعة فيذكره ابن النديم بقوله: (وهو أبو عبد الله جابر بن حيان بن عبد الله الكوفي المعروف بالصوفي، واختلف الناس في أمره. فقالت الشيعة: أنه كان من كبارهم وأحد الأبواب، وزعموا أنه كان صاحب جعفر الصادق رضي الله عنه، وكان من أهل الكوفة. وزعم قوم من الفلاسفة أنه كان منهم، وله في المنطق والفلسفة مصنفات. وزعم أهل صناعة الذهب والفضة أن الرياسة انتهت إليه في عصره، وأن أمره كان مكتوم. وزعموا أنه كان يتنقل في البلدان لا يستقر به بلد خوفا من السلطان على نفسه. وقيل: إنه كان في جملة البرامكة ومنقطعا إليها، ومتحققا بجعفر بن يحيى. فمن زعم هذا قال: أنه عنى بسيده جعفر هو البرمكي. وقالت الشيعة: إنما عنى جعفر الصادق (6). ثم أصدر رأيه في معتقداته بقوله: (ولهذا الرجل كتب في مذاهب الشيعة (7).ونقل عنه أنه (كان تلميذا لجعفر بن محمد الباقر، أو عبده (8).   (1) ((أعيان الشيعة)) لمحسن الأمين الشيعي (15/ 87، 88) ط دار التعارف للمطبوعات بيروت. (2) أيضا (ص102). (3) أيضا (ص105). (4) ((أعيان الشيعة)) (15/ 87). (5) انظر ((الذريعة إلى تصانيف الشيعة)) (10/ 171). (6) الفهرست لابن النديم (ص498، 499) ط دار المعرفة لبنان. (7) الفهرست لابن النديم (ص498، 499). (8) خلاصة الأثر للمحبي (1/ 213) نقلا عن الشيبي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 353 ومما يدل على تشيعه وكونه من الحلوليين والمغالين في التشيع ما نقله في رسائله التي تنسب إليه أنه قال: (بعد ما سمعت كلام الصادق في الكيمياء والطلسم فخررت ساجدا، فقال (أي جعفر): لو كان سجودك لي وحدك لكنت من الفائزين، قد سجد لي آبائك الأولون، وسجودك لي سجودك لنفسك (1). وأما كونه تلميذا لجعفر فيقره الحاج خليفة في (كشف الظنون)، وابن خلكان في وفياته (2). وغيرهما. ولقد فات الدكتور الشبيبي عندما أنكر على جابر بن حيان التصوف حيث قال: (أن صلة جابر بالتصوف اسمية لأنه لم يكن صاحب مجاهدة أو خوف، أو نطاقا بأقوال زهدية، وإنما نقل عنه اشتغاله بالكيمياء (3). قد فاته ما ذكره ابن النديم في فهرسته نقلا عن جابر بن حيان نفسه أنه قال: (ألفت كتبا في الزهد والمواعظ (4).وكذلك ما نقله هو نفسه عن (أخبار الحكماء) أن (جابر بن حيان كان مشرفا على كثير من علوم الفلسفة ومتقلدا للعلم المعروف بعلم الباطن، وهو مذهب المتصوفين من أهل الإسلام، كالحارث المحاسبي، وسهل بن عبد الله التستري ونظرائهم (5). وكذلك ما نقله فيليب حتى حيث قال: (أنه ادعى مذهبا خاصا في الزهد (6). فهذا هو أول الثلاثة الذين لقبوا بالصوفية، والذي توفي بين 160 إلى 200 هجرية على اختلاف في الأقوال. المصدر: التصوف المنشأ والمصادر لإحسان إلهي ظهير   (1) ((مختار رسائل جابر بن حيان)) (ص78). (2) انظر ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان تحت ترجمة جعفر بن الباقر. (3) انظر ((الصلة بين التصوف والتشيع)) (1/ 289) ط دار الأندلس بيروت الطبعة الثالثة 1982 م. (4) ((الفهرست)) لابن النديم (ص503). (5) ((أخبار الحكماء)) للقفطي (ص111). (6) ((تاريخ العرب)) للهتي (2/ 22). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 354 المبحث الثاني: دلالة اسم عبدك وأما الثاني فهو عبد الله الصوفي فأيضا ذكره كل من المستشرق ماسينيون والباحث الإيراني الشيعي الدكتور قاسم غني، والشيعي العراقي دكتور مصطفى الشبيبي وغيرهم، شاهدين بأنه كان شيعيا مغاليا. فيقول ما سينيون: (أما صيغة الجمع (الصوفية) التي ظهرت عام 199هـ (814 م) في خبر فتنة قامت بالإسكندرية فكانت تدل – قرابة ذلك العهد فيما يراه المحاسبي والجاحظ – على مذهب من مذاهب التصوف الإسلامي يكون شيعيا نشأ في الكوفة، وكان عبدك الصوفي آخر أئمته، وهو من القائلين بأن الإمامة بالتعيين، وكان لا يأكل اللحم، وتوفي ببغداد حوالي عام 210هـ (825 م).وإذن فكلمة (صوفي) كانت أول أمرها مقصورة على الكوفة (1). وكتب الدكتور (قاسم غني) عنه: (كان رجلا معتزلا الناس، زاهدا، وكان أول من لقب بلقب الصوفي – وأضاف الدكتور قاسم غني: وهذا اللفظ كان يطلق في تلك الأيام على بعض زهاد الشعية من الكوفيين، وقد أطلقت هذه الكلمة أيضا في سنة 199هـ على بعض الناس مثل ثوار الإسكندرية، ولأن عبدك كان لا يأكل اللحم، عده بعض المعاصرين من الزنادقة. وكذلك يقول ماسينيون: لم يكن السالكون في القرون الأولى يعرفون باسم الصوفية، وقد عرف الصوفي في القرن الثالث، وأول من اشتهر في بغداد بهذا الاسم هو عبدك الصوفي الذي كان من كبار شيوخهم وأقطابهم، وهو سابق على بشر بن الحارث الحافي المتوفى سنة مائتين وسبع وعشرين، وأيضا قبل السري السقطي المتوفى في سنة مائتين وخمس وعشرين. وبناء على ذلك نالت كلمة الصوفي شهرة في بادئ الأمر في الكوفة، ثم أصبحت أهميتها كبيرة بعد نصف قرن في بغداد، وصار المقصود من كلمة الصوفية جماعة عرفاء العراق بازاء جماعة الملامتية الذين كانوا من عرفاء خراسان، وتجاوز الإطلاق حده منذ القرن الرابع وما بعده. وأصبح المقصود من إطلاق كلمة الصوفية، جميع عرفاء المسلمين. وارتداء الصوف أي الجبة البيضاء الصوفية الذي كان حوالي أواخر القرن الأول من عادة الخوارج والمسيحيين (2). هذا ونقل الشبيبي عن السمعاني أنه قال: (إن اسم عبدك هو عبد الكريم، وأن حفيده محمد بن علي بن عبدك الشيعي كان مقدم الشيعة (3). ثم قال: (وهكذا يبدو عبدك جامعا لاتجاهات عديدة مختلفة نابعة من التشيع، الممتزجة بالزهد المتأثر بظروف الكوفة التي انتقل منها كثير من سكانها إلى بغداد، بعد أن صارت عاصمة للدولة الجديدة، والمهم في شأن عبدك أنه أول كوفي يطلق عليه اسم صوفي بعد انتقاله إلى بغداد ... وقد رأينا أن لبس الصوف قد نبع من بيئة الكوفة التي عرفت بتمسكها بالتشيع ومعارضتها وحربها بالسيف أو بالقول أو بالقلب لمن نكل بالأئمة العلويين، وذلك – إذا صح – يقطع بأن التصوف في أصوله الأولى كان متصلا بالتشيع (4). هذا ولقد ذكره أيضا من المتقدمين الملطي بقوله: (إن عبدك كان رأس فرقة من الزنادقة الذين زعموا أن الدنيا كلها حرام محرم لا يحل الأخذ منها إلا القوت من حيث ذهب أئمة العدل، ولا تحل الدنيا إلا بإمام عادل وإلا فهي حرام، ومعاملة أهلها حرام، فحل لك أن تأخذ القوت من الحرام من حيث كان (5) فهذا هو الرجل الثاني الذي لقب بلقب الصوفي بداية الأمر.   (1) ((دائرة المعارف الإسلامية اردو)) (6/ 419)، أيضا ((التصوف)) لماسينيون ترجمة عربية (ص27). (2) ((تاريخ التصوف في الإسلام)) للدكتور قاسم غني ترجمة عربية (ص64، 65). (3) ((الأنساب)) للسمعاني نقلا عن ((الصلة بين التصوف والتشيع)) (ص293). (4) ((الصلة بين التصوف والتشيع)) (1/ 293). (5) ((التنبيه والردّ)) للملطي تحقيق محمد زاهد الكوثري (ص1)، ط مصر 1360 هـ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 355 وأما الثالث فلقد ذكرناه فيما مر، وهو كوفي أيضا، ولكنه من العجائب فهو وإن لم يكن متهما بالتشيع متهم بالزندقة والدهرية كما ذكر الحاج معصوم علي: كان يلبس لباسا طويلا من الصوف كفعل الرهبان، ويرى أنه كان يقول بالحلول والاتحاد مثل النصارى، غير أن النصارى أضافوا الحلول والاتحاد إلى عيسى عليه السلام وأضافهما هو إلى نفسه، وكان مترددا بين هاتين الدعوتين، ولم يعلم على أيهما استقر في النهاية – ونقل عن كتاب (أصول الديانات) أنه -: كان أمويا وجبريا في الظاهر وباطنيا ودهريا في الباطن، وكان مراده من وضع هذا المذهب أن يثير الاضطراب في الإسلام (1).ومن الغرائب أن شخصا آخر وهو ذو النون المصري الذي يقال عنه: (أنه أول من عرف التوحيد بالمعنى الصوفي (2).وهو: (رأس هذه الطائفة، فالكل قد أخذ عنه وأنتسب إليه، وقد كان المشايخ قبله ولكنه أول من فسر الإرشادات الصوفية وتكلم في هذا الطريق (3).وأنه: (هو أول من تكلم في بلده في ترتيب الأحوال ومقامات أهل الولاية (4).كما أثر عنه بأنه (أول من وضع تعريفات للوجد والسماع (5). وعلى ذلك قال بحق، الكاتب الإنجليزي المشهور عن الصوفية: (هو أحق رجال الصوفية على الإطلاق بأن يطلق عليه اسم واضع التصوف، وقد اعترف له بالفضل في هذا الميدان كتّاب التراجم المؤرخون من المسلمين (6). فهذا هو الشخص الآخر من واضعي التصوف، وكان أيضا متهما بالزندقة والاشتغال بالسحر والطلسمات كما نقل الإمام الذهبي عن يوسف بن أحمد البغدادي أنه قال: (كان أهل ناحيته يسمونه بالزنديق (7). ونقل أيضا عن السلمي أنه قال: (ذو النون أول من تكلم ببلدته في ترتيب الأحوال، ومقامات الأولياء، فأنكر عليه عبد الله بن عبد الحكم، وهجره علماء مصر. وشاع أنه أحدث علما لم يتكلم فيه السلف، وهجروه حتى رموه بالزندقة. فقال أخوه: أنهم يقولون: إنك زنديق. فقال: ومالي سوى الإطراق والصمت حيلة ووضعي كفى تحت خدي وتذكاري (8). وقال الإمام الذهبي: (وقل ما روى الحديث ولا كان يتقنه، وقال الدارقطني: روى عن مالك أحاديث فيها نظر (9).والصوفي المشهور فريد الدين العطار يكتب في ترجمته أنه (كان من الملامتية لأنه أخفى تقواه بظهوره في الناس بالاستخفاف بأمور الشرع، ولذلك عده المصريون زنديقا، ولو أنهم اعترفوا له بالولاية بعد موته (10). وقد ذكره ابن النديم من الملمين بعلم الكيمياء، والعارفين به والكاتبين فيه (11).   (1) ((طرائق الحقائق)) للحاج معصوم على (1/ 101). (2) انظر ((الرسالة القشيرية)) لأبي القاسم عبد الكريم القشيري بتحقيق عبد الحليم محمود ط دار الكتب الحديثة – القاهرة. (3) ((نفحات الأنس)) للجامي (ص33) الطبعة الفارسية إيران. (4) ((النجوم الزاهرة)) للتغري البردي الأتابكي (2/ 320) ط وزارة الثقافة مصر. (5) ((الرسالة القشيرية)) تحقيق عبد الحليم محمود ط القاهرة. (6) في ((التصوف الإسلامي وتاريخه)) لينكسون ترجمة أبي العلاء العفيفي (ص7) ط القاهرة. (7) انظر ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (11/ 533). (8) ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (ص534). (9) ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (ص533). (10) ((تذكرة الأولياء)) لفريد الدين العطار (ص69) ط باكستان، أيضا في ((التصوف الإسلامي وتاريخه)) لنيكلسون (ص9). (11) انظر ((ابن النديم)) (ص503، 504). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 356 ويذكره القفطي بقوله: (ذو النون بن إبراهيم الإخميمي المصري، من طبقة جابر بن حيان في انتحال صناعة الكيمياء، وتقلد علم الباطن والإشراف على كثير من علوم الفلسفة. وكان كثير الملازمة لبربا بلدة إخميم، فإنها بيت من بيوت الحكمة القديمة، وفيها التصاوير العجيبة والمثالات الغريبة التي تزيد المؤمن إيمانا، والكافر طغيانا. ويقال: أنه فتح عليه علم ما فيها بطريق الولاية. وكانت له كرامات (1).وكذلك المسعودي يذكر أنه (جمع معلوماته عن ذي النون من أهل إخميم عندما زار هذا البلد. وهو يروي عنهم أن أبا الفيض ذا النون المصري الإخميمي الزاهد كان حكيما سلك طريقا خاصا، وأتخذ في الدين سيرة خاصة، وكان من المعنيين بحل رموز البرابي في إخميم، كثير التطواف بها. وأنه وفق إلى حل كثير من الصور والنقوش المرسومة عليها، ثم يذكر المسعودي ترجمة لطائفة من هذه النقوش التي ادعى ذو النون أنه قرأها وحلها (2).ثم وبعد ذكر هذه العبارات كتب نيكلسون ما خلاصته: (أن ذا النون كان كثير العكوف على دراسة النقوش البصرية المكتوبة على المعابد وحل رموزها، كما كانت مصر القديمة في نظر المسلمين مهد علوم الكيمياء والسحر وعلوم الأسرار، وكان هو من أصحاب الكيمياء والسحر مع أن الإسلام حرم السحر، ولذلك ستره بلباس الكرامات، ومن هنا بدا تأثير السحر في التصوف، ويؤيد ذلك استخدام ذي النون الأدعية السحرية واستعماله البخور لذلك كما ذكره القشيري في رسالته (3). فهذا هو الرجل الآخر من الثلاثة الأول الذين يقال عنهم بأنهم أول من لقبوا بهذا اللقب، ووصفوا بهذا الوصف، وعرفوا بهذا الرسم أو عرّفوا هذا الطريق إلى الناس بادئ ذي بدء. المصدر: التصوف المنشأ والمصادر لإحسان إلهي ظهير   (1) ((إخبار العلماء بأخبار الحكماء)) (ص185) المنقول من كتاب في ((التصوف الإسلامي وتاريخه)) لنيلكسون (ص9). (2) انظر في ((التصوف الإسلامي وتاريخه)) نقلا عن مروج الذهب. (3) انظر في ((التصوف الإسلامي وتاريخه)) نقلا عن مروج الذهب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 357 المبحث الثالث: سلاسل التصوف ومن شواهد تأثر التصوف بالتشيع وعلمائها أن سلاسل التصوف كلها ما عدا النادر القليل منها تنتهي إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه دون سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي طرق إسنادها إلى علي أسماء أئمة الشيعة المعصومين حسب زعمهم من أولاد علي رضي الله عنه دون غيرهم، وأن رؤساء هذه العصابة يذكر لهم اتصال وثيق، وصلات وطيدة مع أئمة القوم كما يذكر في تراجمهم وسيرهم وأحوالهم، إضافة إلى ذلك أن الخرقة الصوفية لا يبدأ ذكرها أيضا إلا من علي رضي الله عنه أيضا. فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع كونه من سادة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشرافهم، ومن العشرة المبشرين بالجنة، ورابع الأربعة من الخلفاء الراشدين الذين خلفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لقيادة هذه الأمة وتسيير أمورها ولكنه لم يكن أزهد من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولا من عمر الفاروق رضي الله عنه (أبي بكر الصديق السابق بالتصديق الملقب بالعتيق، المؤيد من الله بالتوفيق، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر والأسفار، ورفيقه الشفيق في جميع الأطوار، وضجيعه بعد الموت في الروضة المحفوفة بالأنوار، المخصوص في الذكر الحكيم بمفخر فاق به كافة الأخيار، وعامة الأبرار، وبقي له شرفه على كرور الأعصار، ولم يسم إلى ذروته همم أولي الأيدي والأبصار، حيث يقول علم الأسرار: ثاني اثنين إذ هما في الغار، إلى غير ذلك من الآيات والآثار، ومشهور النصوص الواردة فيه والأخبار، التي غدت كالشمس في الانتشار، وفضل كل من فاضل، وفاق كل من جادل وناضل، ونزل فيه: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، توحد الصديق، في الأحوال بالتحقيق، واختار الاختيار من الله دعاه إلى الطريق، فتجرد من الأموال، والأغراض، وانتصب في قيام التوحيد للتهدف والأغراض، صار للمحن هدفا، وللبلاء غرضا، وزهد فيما عزله جوهرا كان أو عرضا (1). (ومات ولم يترك دينارا ولا درهما (2). (وكفن في ثوبين مستعملين قديمين (3). وقال في آخر لحظاته من الحياة موصيا أهله وورثته:   (1) ((حلية الأولياء وطبقات الأصفياء)) للأصفهاني (ص28، 29) ط دار الكتاب العربي بيروت. (2) ((طبقات بن سعد)) (3/ 195). (3) ((طبقات بن سعد)) (3/ 195). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 358 (أما إنّا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارا ولا درهما ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضح، وجرد هذه القطيفة، فإذا مت فابعثي بهن إلى عمر وأبرئي منهن. ففعلت. فلما جاء الرسول بكى عمر حتى جعلت دموعه تسيل في الأرض ويقول: رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده (1).وعمر الفاروق رضي الله عنه (ذو المقام الثابت المأنوق، أعلن الله تعالى به دعوة الصادق المصدوق، وفرق به بين الفصل والهزل، وأيد بما قواه به من لوامع الطول، ومهد له من منائح الفضل شواهد التوحيد، وبدد به مواد التنديد، فظهرت الدعوة، ورسخت الكلمة، فجمع الله تعالى بما منحه من الصولة، ما نشأت لهم من الدولة، فعلت بالتوحيد أصواتهم بعد تخافت، وتثبتوا في أحوالهم بعد تهافت، غلب كيد المشركين بما ألزم قلبه من حق اليقين، لا يلتفت إلى كثرتهم وتواطيهم، ولا يكترث لممانعتهم وتعاطيهم، إتكالا، اتكالا على من هو منشئهم وكافيهم، واستنصارا بمن هو قاصمهم وشافيهم، محتملا لما احتمل الرسول، ومصطبرا على المكاره لما يؤمل من الوصول، ومفارقا لمن اختار التنعم والترفيه، ومعانقا لما كلف من التشمر والتوجيه، المخصوص من بين الصحابة بالمعارضة للمبطلين، والموافقة في الأحكام لرب العالمين، السكينة تنطق على لسانه، والحق يجري الحكمة عن بيانه، كان للحق مائلا، وبالحق صائلا، وللأثقال حاملا، ولم يخف دون الله طائلا (2). و (كان بين كتفيه أربع رقاع، وإزاره مرقوع بأدم، وخطب على المنبر وعليه إزار فيه اثني عشر رقعة، وأنفق في حجته ستة عشر دينارا، وقال لابنه: قد أسرفنا. وكان لا يستظل بشيء غير أنه كان يلقى كساءه على الشجر ويستظل تحته، وليس له خيمة ولا فسطاط (3). وقال في وصيته التي وصى بها ابنه في آخر لحظة من عمره، وقد استسلف مالا من بيت مال المسلمين: (بع فيها أموال عمر، فإن وفت وإلا فسل بني عدي، وإن وفت وإلا فسل قريشا ولا تعدهم (4). وإلى ذلك أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاجه ردّا على الشيعة الذين قالوا: إن عليا كان أزهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أزهد الناس بعد رسول الله الزهد الشرعي أبو بكر وعمر، وذلك أن أبا بكر كان له مال يكسبه فأنفقه ماله في سبيل الله ... ولقد تلا أبا بكر عمر في هذا الزهد، وكان فوق علي في ذلك يعني في إعراضه عن المال واللذات. وأما علي رضي الله عنه فتوسع في هذا المال من حله، ومات عن أربع زوجات وتسعة عشر أم ولداً سوى الخدم، وتوفي عن أربعة وعشرين ولدا من ذكر وأنثى، وترك لهم من العقار والضياع ما كانوا به أغنياء قومهم ومياسيرهم، هذا أمر مشهور لا يقدر على إنكاره من له أقل علم بالأخبار ... فصح بالبرهان الضروري أن أبا بكر رضي الله عنه أزهد من جميع الصحابة رضي الله عنهم، ثم عمر (5).   (1) ((طبقات بن سعد)) (ص196). (2) ((حلية الأولياء)) للأصفهاني (1/ 38). (3) ((البداية والنهاية)) لابن كثير (7/ 134، 135). (4) ((طبقات ابن سعد)) (3/ 358). (5) ((منهاج السنة النبوية)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 129). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 359 هذا وكان في أصحاب رسول الله زهاد آخرون ولكن المتصوفة لم ينهوا سلسلة سندهم إلا إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثل الشيعة الذين يجعلونه أول إمام لهم. كما نقل الهجويري عن الجنيد أنه قال: (شيخنا في الأصول والبلاء علي المرتضى، أي أن علي بن أبي طالب هو إمام هذه الطريقة في العلم والمعاملة، فأهل الطريقة يطلقون على علم الطريقة اسم الأصول، ويسمون تحمل البلاء فيها بالمعاملات (1). وهو الذي نقل عنه العطار أنه قال: (ولقد وهبه الله تعالى من العلم والحكمة والكرامة، وماذا كنا نصنع لو لم ينطق المرتضى بهذا القول على سبيل الكرامة (2). ويقول الطوسي أبو نصر السراج: (ولأمير المؤمنين علي رضي الله عنه خصوصية من بين جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعاني جليلة، وإشارات لطيفة، وألفاظ مفردة، وعبارة وبيان للتوحيد والمعرفة والإيمان والعلم، وغير ذلك، وخصال شريفة تعلق وتخلق به أهل الحقائق من الصوفية (3). (وأما علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فذاك مدينة العلم، وأول آخذ لبيعة الطريق – طريق الأولياء – وأول ملقن بالذكر والسر من الرسول صلى الله عليه وسلم (4). لأن جبريل عليه السلام نزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أولا بالشريعة، فلما تقررت ظواهر الشريعة واستقرت نزل إليه بالحقيقة المقصودة والحكمة المرجوه من أعمال الشريعة وهي الإيمان والإحسان فخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بباطن الشريعة بعض أصحابه دون البعض. وكان أول من أظهر علم القوم وتكلم فيه سيدنا على كرم الله وجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (5).فإن عليا رضي الله عنه حسب كلام المتصوفة: (من أصحاب العلم وممن يعلمون من الله ما لم يعلمه غيره (6). ولا جبرائيل وميكائيل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم (لما لقن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وخلع عليه ذلك صار يقول: عندي من العلم الذي أسرّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عند جبريل ولا ميكائيل (7). وعلى ذلك نقل الطوسي عن الوجيهي أنه قال: سمعت أبا علي الروذباري يقول: سمعت جنيدا رحمه الله يقول: (رضوان الله على أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه، لولا أنه اشتغل بالحروب لأفادنا من علمنا هذا معاني كثيرة، ذاك امرؤ أعطي العلم اللّدني، والعلم اللّدني هو العلم الذي خصّ به الخضر عليه السلام، قال تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا [الكهف:65] (8).ورسول الله صلى الله عليه وسلم جعله بمنزله هارون من موسى مع الفضل العظيم لأبي بكر (ولم يشرك الحبيب الرسول المقرب الخليل في مقام الخلّة كما صلح أن يشرك معه في مقام الأخوة عليا كرم الله وجهه فقال: علي مني بمنزلة هارون من موسى (9). وكان له مقام ومنزلة عند الصوفية إلى أن نقل الشعراني عن أحد المتصوفين أنه قال:   (1) ((كشف المحجوب)) للهجويري ترجمة عربية للدكتورة اسعاد عبد الهادي (ص274) ط بيروت 1980. (2) انظر ((تذكرة الأولياء)) لفريد الدين العطار (ص185) ط باكستان. (3) انظر كتاب ((اللمع)) للطوسي (ص179). (4) ((جمهرة الأولياء وأعلام أهل التصوف)) للمنوفي الحسيني (1/ 122). (5) أيضا (ص159). (6) ((الفتوحات المكية)) لابن عربي (1/ 260). (7) ((درر الغواص)) للشعراني (ص73) بهامش الإبريز للدباغ ط مصر. (8) كتاب ((اللمع)) للطوسي (ص179). (9) ((الفتوحات المكية)) لابن عربي (3/ 315). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 360 (إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه رفع كما رفع عيسى عليه السلام، وسينزل كما ينزل عيسى عليه السلام – ثم يقول الشعراني: قلت: وبذلك قال سيدي علي الخواص رضي الله عنه فسمعته يقول: إن نوحا عليه السلام أبقى من السفينة لوحا على اسم علي بن أبي طالب رضي الله عنه يرفع عليه إلى السماء فلم يزل محفوظا في صيانة القدرة حتى رفع علي بن أبي طالب رضي الله عنه (1). فهذا هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومكانته، ومنزلته، وشأنه، وقد نقل باحث شيعي عن جلال الدين الرومي الصوفي الفارسي المشهور أنه قال في أبياته ما تدلّ على رؤيتهم إلى علي وعقيدتهم فيه، فيقول: (منذ كانت صورة تركيب العالم كان عليّ منذ نقشت الأرض وكان الزمان كان عليّ ذلك الفاتح الذي انتزع باب خيبر بحملة واحدة كان عليّ كلما تأملت في الآفاق ونظرت أيقنت بأنه في الموجودات كان عليّ إن من كان هو الوجود، ولولاه لسرى العدم في العالم الموجود (إياه) كان عليّ إن سر العالمين الظاهر والباطن الذي بدا في شمس تبريز كان عليّ (2). وهذا الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما يقارن بالغلو الشيعي فيه، ليس بأقلّ منه في صورة من الصور. وإليه تنتسب سلاسل التصوف كلها كما قال محمد معصوم شيرازي الملقب بمعصوم علي شاه: (ولابد لكل سلسلة من سلاسل التصوف من الأزل إلى الأبد، ومن آدم إلى انقراض الدنيا أن تكون متصلة بسيد العالمين وأمير المؤمنين (3).لأنه (أزهد الصحابة عند المتصوفة (4).كما هو (رأس الفتوة وقطبها (5). فأول وليّ عند المتصوفة هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومنه انتقلت الولاية إلى غيره من الأولياء كما أنه أول إمام عند الشيعة، وتسلسلت منه فورثها غيره، وكذلك الفتوة والقطبية، وهو الذي ألبس خرقته الحسن البصري، وهذه الخرقة التي يلبسها المتصوفة خلفاءهم وورثتهم (6).   (1) ((طبقات الشعراني)) (2/ 44). (2) غزليات شمس تبريزي ط طهران المنقول من كتاب ((الصلة بين التصوف والتشيع)) (ص84، 85). (3) انظر ((طرائق الحقائق)) لمعصوم علي شاه (1/ 251). (4) انظر ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي (1/ 267). (5) آئين جوانمردي مقدمة هنري كاربين (ص8)، أيضا فتوت نامه لعبد الرزاق كاشاني (ص29) ط طهران 1363 شمسي ترجمة فارسية إحسان نراقي، أيضا ((طبقات الشعراني)) (2/ 92)، أيضا ((جامع الأصول في الأولياء)) للكمشخانوي (ص7). (6) انظر ((عوارف المعارف)) للسهروردي (ص98)، أيضا الرسالة القشيرية (2/ 747)، أيضا ((فوائح الجمال)) لنجم الدين الكبرى (ص282)، أيضا ((الأنوار القدسية)) للشعراني (ص49). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 361 وينصّ على تشيع هذا ابن خلدون في مقدمته حيث يقول عند ذكر الصوفية: (إنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف ليجعلوه أصلا لطريقتهم وتخيّلهم رفعوه إلى عليّ رضي الله عنه وهو من هذا المعنى أيضا، وإلا فعليّ رضي الله عنه لم يختصّ من بين الصحابة بتخليه ولا طريقة في اللباس ولا الحال، بل كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم عبادة، ولم يختصّ أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه في الخصوص، بل كان الصحابة كلهم أسوة في الدين والزهد والمجاهدة، يشهد لذلك من كلام هؤلاء المتصوفة في أمر الفاطمي وما شحنوا كتبهم في ذلك مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفي أو إثبات، وإنما هو مأخوذ من كلام الشيعة والرافضة ومذاهبهم في كتبهم والله يهدي إلى الحق (1).وهذا إضافة إلى أن هذه الخرقة ونسبتها إلى عليّ، ورواية لبس الحسن البصري كلها باطل، لا أصل له، لأنه (لم يثبت لقاء الحسن مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه على القول الصحيح، لأن عليا رضي الله عنه انتقل من المدينة إلى الكوفة والحسن صغيرا (2). وعلى كل فإن الصوفية ينهون سند لبس الخرقة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما ينهون إليه سلاسلهم. ولا يقتصرون على عليّ بن أبي طالب وحده، بل يقولون مثل ما يقوله الشيعة تماما: (وثامن الفتيان بعد النبوة والرسالة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حيث أسلم صبيا، وجاهد في سبيل الله مراهقا، وبوأه الله قطبانية الأولياء رجلا وكهلا. وعنه أخذ الفتوة ابناه الحسن والحسين وهي أعلى مقامات الولاية عد القطبانية التي هي منها والصديقة التي هي كمالها. ومن دلائل فتوة الحسن رضي الله عنه أن آثر الخلافة الباطنة على الخلافة الظاهرة، وتنازل عن الظاهرة حقنا لدماء المسلمين. ومن دلائل فتوة الحسين أن الشهيد الأعظم في سبيل الله وفي سبيل الأمانة. ومن الخصائص التي خصّ الله تعالى بها عليا كرم الله وجهه أنه إذا كان الرسول مدينة العلم فعليّ بابها، وإن كان للفروسية أو الولاية فتيان فهو فتاهما الأول. فعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه أول فتيان هذه الأمة وفتى أوليائها، وحسبه في ذلك أن أراد إفتداء الرسول بنفسه (3). ويقول أيضا: (إن علي بن أبي طالب أخذ البيعة الخاصة بطريق الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقن بها ابنه الحسن، ثم الحسين (4). وكان الصوفي المشهور أبو العباس المرسي تلميذ الشاذلي يقول: (طريقتنا هذه لا تنسب للمشارقة ولا للمغاربة، بل واحد عن واحد إلى الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو أول الأقطاب (5). وقالوا: (وكان من أوائل أهل طريق الله بعد الصحابة علي بن الحسين زين العابدين، وابنه محمد بن علي الباقر، وابنه جعفر بن محمد الصادق، وذلك بعد علي والحسن والحسين رضي الله عنهم جميعا (6). ويقول الكلاباذي في الباب الثاني من تعرفة: (ممن نطق بعلومهم، وعبر عن مواجيدهم، ونشر مقاماتهم، ووصف أحوالهم قولا وفعلا بعد الصحابة رضوان الله عليهم: علي بن الحسين زين العابدين. وابنه محمد الباقر. وابنه جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهم (7).   (1) ((مقدمة ابن خلدون)) (ص473). (2) انظر ((تهذيب التهذيب)) لابن حجر، و00 التذكرة)) للذهبي، ((الرسائل والمسائل)) لابن تيمية، كذلك ((التصوف)) لماسينيون. (3) ((جمهرة الأولياء)) لأبي الفيض المنوفي (1/ 89). (4) أيضا (ص89، 122). (5) ((طبقات الشعراني)) (2/ 14). (6) ((جمهرة الأولياء)) (1/ 163). (7) ((التعرف لمذهب أهل التصوف)) للكلاباذي (ص36). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 362 فانظر الترتيب، وهذا نفس ترتيب الشيعة لأئمتهم، حيث يعدّون الإمام الأول والثاني والثالث عليه وابنه الحسن والحسين، والرابع والخامس والسادس: زين العابدين، ومحمد الباقر، وجعفر بن محمد الباقر. ثم الإمام السابع والثامن عندهم: موسى بن جعفر الملقب بالكاظم، وعلي بن موسى الكاظم الملقب بالرضا، من الأئمة الاثني عشر. وهاهو الشعراني أيضا يعدهم أئمة، واثني عشر أيضا، عندما يذكر من بين الصوفية وأولياء الله موسى بن جعفر، فيقول: (ومنهم موسى الكاظم رضي الله عنه أحد الأئمة الاثني عشر، وهو موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ... وكان يكنّى بالعبد الصالح لكثرة عبادته واجتهاده وقيامه بالليل، وكان إذا بلغه عن أحد يؤذيه يبعث إليه بالمال (1).وأما علي بن موسى الرضا فيقولون عنه: (أن شيخ مشائخ الصوفية معروف الكرخي أسلم على يديه (2).ويكتب القشيري عنه: (أبو محفوظ معروف بن فيروز الكرخي كان من المشايخ الكبار، مجاب الدعوة، يستشفى بقبره، يقول البغداديون: قبر معروف ترياق مجرب، وهو من موالي علي بن موسى الرضا رضي الله عنه (3). وزاد السلمي في طبقاته، والجامي في نفحاته أنه كان من حجبه، فيقول: (معروف بن فيروز، ويقال: معروف بن علي، ويلقب بالزاهد، وهو من أجلة المشايخ وقدمائهم، والمعروفين بالورع والفتوة. كان أستاذ سري السقطي، وصحب داؤد الطائي. وكان معروف أسلم على يد علي بن موسى الرضا، وكان بعد إسلامه يحجبه، فازدحم الشيعة يوما على باب علي بن موسى، فكسروا أضلع معروف، فمات، ودفن ببغداد، وقبره ظاهر، ويتبرك الناس بزيارته (4).والجدير بالذكر أن معروف الكرخي أستاذ السري السقطي، وخال وأستاذ لسيد الطائفة جنيد البغدادي، ولذلك (يروي الجنيد عن السري السقطي، وهو عن معروف الكرخي، وهو عن علي بن موسى الرضا، عن أبيه موسى الكاظم، عن أبيه محمد الباقر، عن أبيه زين العابدين، عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب، عن علي بن أبي طالب (5). وكتب عنه شيخ الأزهر السابق والصوفي المعاصر الدكتور عبد الحليم محمود عن الرضا:   (1) ((طبقات الشعراني)) (1/ 37). (2) ((تذكرة العطار)) (ص150) ط باكستان. (3) ((الرسالة القشيرية)) (1/ 65) بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود ومحمود بن الشريف ط القاهرة، أيضا ((طبقات الشعراني)) (1/ 71). (4) طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي ترتيب أحمد الشرباصي ط مطابع الشعب، أيضا ((نفحات الأنس)) للجامي (ص39) الطبعة الفارسية. (5) ((طبقات الأولياء)) لابن الملقن المتوفى 804 هـ (ص493) ط مكتبة الخانجي القاهرة الطبعة الأولى 1393 هـ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 363 (له كرامات كثيرة: منها أنه قال لرجل صحيح سليم: استعد لما لا بدّ منه، فمات بعد ثلاثة أيام، وروى الحاكم أن أبا حبيب قال: رأيت المصطفى عليه الصلاة والسلام في النوم، في المنزل الذي ينزله الحاج ببلدنا، فوجدت عنده طبقا من خوص فيه تمر، فناولني ثماني عشرة تمرة، وبعد عشرين يوما قدم علي الرضا من المدينة ونزل ذلك المنزل، وفزع الناس للسلام عليه، ومضيت نحوه فإذا هو جالس بالموضع الذي رأيت المصطفى جالسا فيه، وبين يديه طبق فيه تمر صيحاني، فناولني قبضة فإذا عدتها بعدد ما ناولني المصطفى، فقلت: زدني. فقال: لو زادك رسول الله لزدناك (1).ومن الطرائف أن ذكر الثمانية هؤلاء من أئمة الشيعة الاثني عشر بالتسلسل الشيعي في كتب المتصوفة الكثيرين مثل ما يذكرون عن الرفاعي أحمد الكبير أنه (أخذ العهد والطريق من يد خاله شيخ الشيوخ صاحب الفتح الصمداني سيدنا منصور البطائحي الرباني وهو لبسها من خاله سيدنا الشيخ أبي المنصور الطيب وهو لبسها من ابن عمه الشيخ أبي سعيد يحيى البخاري الأنصاري وهو لبسها من الشيخ أبي الترمذي وهو لبسها من الشيخ أبي القاسم السندوسي الكبير وهو لبسها من الشيخ أبي محمد دويم البغدادي وهو لبسها من خاله الشيخ سري السقطي وهو لبسها من الشيخ معروف الكرخي وهو لبسها من إمام الزمان وحجة أهل العرفان الإمام ابن الإمام علي الرضي وهو لبسها من أبيه نور حدقة العناية والإمامة ونور حديقة الولاية والكرامة ملجأ الأولياء الأعاظم أبي الحسن موسى الكاظم وهو لبسها من أبيه صاحب القدم السابق الإمام جعفر الصادق وهو لبسها من أبيه صاحب السر الطاهر الإمام محمد الباقر وهو لبسها من أبيه كهف المحتاجين وإمام الأفراد أبي محمد الإمام زين العابدين علي السجاد وهو لبسها من أبيه أحد سبطي رسول الله شهيد كربلاء الإمام الحسين أبي عبد الله وهو لبسها من أبيه إمام الأئمة ومجن هذه الأمة صاحب القدر العظيم والشرف الجلي أمير المؤمنين الإمام أبي الحسن علي رضي الله عنه وعنهم أجمعين (2). وذكر الرفاعي نفسه بصورة أخرى، ويقول: (أكمل التوبة الفورية في مقام البضعية، من حيث التحلي بحلوة الطينة الذاتيةالأحمدية، إنما هي توبة السيدة البتول العذراء، سيدتنا وقرة أعيننا فاطمة أم السبطين الزهراء سلام الله ورضوانه عليها، وقام عنها بنوبة الجزء الأزهري بعلها المأمون المنوه على جلالة قدره وعظيم مكانته بطالعه (علي مني بمنزلة هارون من موسى) الحديث. فأدرع بدرع الخلافة البضعية متحكما في مشهد الخلافة الأمرية، إصالة في مشهد الخلافة البضعية وكالة حتى لقي الله، فأدرع بمطرها النوراني السبطان السعيدان الشهيدان الحسن والحسين سلام الله وتحياته عليهما، ودارت هذه التوبة الجامعة المحمدية في الأسباط الطاهرين سبطاً بعد سبط إلى أن صينت في مقام الكنزية المضمرة إلى ولي الله المهدي الخلق الصالح سلام الله عليه، فتلقاها عنه من مقام الألباس النواب الجامعون المحمدون، فهم إلى عهدنا هذا من بني الإمام الحسين السبط شهيد كربلاء عليه وعليهم نوافح السلام والرضوان (3). ولذلك كتب محمد معصوم شيرازي: أن علي بن أبي طالب خاتم الولاية المحمدية، فكميل بن زياد النخعي، والحسن البصري، وأويس القرني أخذوا عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام.   (1) انظر ((الرسالة القشيرية)) لعبد الكريم القشيري تعليق رقم 3 ص 65 لعبد الحليم محمود ومحمود بن الشريف. (2) ((قلادة الجواهر في ذكر الرفاعي وأتباعه الأكابر)) لمحمد أبي الهدى الرفاعي (ص375)، أيضا ((المنهج الموصل إلى الطريق الأنهج)) لمصطفى الصاد في مخطوط ورقة (32). (3) ((المجالس الرفاعية)) لأحمد الرفاعي (ص108) ط مطبعة الإرشاد بغداد 1971 م. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 364 والشقيق البلخي أخذ عن الكاظم عليه السلام. والشيخ أبو زيد أخذ عن جعفر الصادق. والشيخ معروف أخذ عن الرضا، والشيخ سري أخذ عنه، والشيخ جنيد أخذ عن السري، وهو ومن الغرائب أن المتصوفة يعتقدون للحسن العسكري ابنا، كالشيعة الإثني عشرية، مع إتفاق أهل السنة والمؤرخين، وشهادة الشيعة ونقيب الأشراف وأخوه العسكري وأمه بأنه لم يولد له ولد، وأثبت رواية فيه وأقوم حجة ما رواه الكليني بنفسه، والآخرين من مؤرخي الشيعة وأعلامهم أن الحسن العسكري لما دفن (أخذ السلطان والناس في طلب ولده، وكثر التفتيش في المنازل والدور، وتوقفوا عن قسمة ميراثه، ولم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية التي توهم عليها الحمل ملازمين حتى تبيّن بطلان الحمل، فلما بطل الحمل قسم ميراثه بين أمه وأخيه جعفر، وادعت أمه وصيته وثبت ذلك عند القاضي (1). وذكر هذا الخبر جميع مؤرخي الشيعة ومؤلفيهم ومحدثيهم من المفيد في الإرشاد (2). والطبرسي في إعلام الورى (3). والأربلي في كشف الغمة (4). والملا باقر المجلسي في جلاء العيون (5). وصاحب الفصول في الفصول المهمة. والعباس القمي في منتهي الآمال. وقال النوبختي الشيعي المشهور في فرقه: (إن الحسن توفي ولم يوله أثر، ولم يعرف له ولد ظاهر، فاقتسم ميراثه أخوه جعفر وأمه (6). لكن المتصوفة يقولون أنه ولد للحسن العسكري ولد، وهو الذي سيخرج مهديا، كعقيدة الشيعة تماما بدون أدنى تغيير، فاسمع ماذا يقولون: (فهناك بترقب خروج المهدي عليه السلام، وهو من أولاد حسن العسكري، ومولده عليه السلام ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين وهو باق إلى أن يجتمع بعيسى ابن مريم عليه السلام، فيكون عمره إلى وقتنا هذا، وهو سنة ثمان وخمسين وتسعمائه سبعمائة سنة وست سنين. هكذا أخبرني الشيخ حسن العراقي المدفون فوق كوم الرئيس المطل على بركة الرطل بمصر المحروسة على الإمام المهدي حين اجتمع به. ووافقه على ذلك شيخنا سيدي علي الخواص رحمهما الله تعالى. وعبارة الشيخ محيي الدين في الباب السادس والستين وثلاثمائة من الفتوحات كوأعلموا أنه لابد من خروج المهدي عليه السلام لكن لا يخرج حتى تمتلئ الأرض جورا وظلما فيملؤها قسطا وعدلا ولو لم يكن من الدنيا إلا يوم واحد طوّل الله تعالى ذلك اليوم حتى يلي ذلك الخليفة وهو من عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولد فاطمة رضي الله عنها جده الحسين بن علي بن أبي طالب، ووالده حسن العسكري بن الإمام النقي بالنون ابن محمد التقي بالتاء ابن الإمام على الرضا ابن الإمام موسى الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام زين العابدين علي بن الإمام الحسين ابن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه (7). وكذلك الرفاعيون، حيث يعدّون الرفاعي الإمام الثالث عشر بعد الثاني عشر الموهوم الذي لم يولد (8). فهذه هي عقائد المتصوفة في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأئمة الشيعة من أولاده، فإليهم ينتسبون، وبمسلكهم يسلكون، وبخرافاتهم يتمسكون. وهذا وحده كاف لبيان تأثر التشيع في التصوف. ونختم كلامنا في هذا على مقولة صوفي كبير وهو أبو الظفر ظهير الدين القادري حيث يقول: القطبية كانت للأئمة الاثني عشر بطريق الاستقلال، ولمن بعدهم بطريق النيابة (9). المصدر: التصوف المنشأ والمصادر لإحسان إلهي ظهير   (1) كتاب ((الحجة الكافي)) (ص505) ط طهران. (2) انظر (ص339). (3) انظر (ص377، 378). (4) (3/ 198، 199). (5) تحت ذكر المهدي. (6) ((فرق الشيعة)) للنوبختي (ص118، 119) ط كربلاء العراق. (7) انظر ((اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر)) (2/ 143). (8) انظر ((المجالس الرفاعية المقدمة)) للسيد خاشع الراوي الرفاعي (ص 6). (9) ((الفتح المبين)) لظهير الدين القادري (ص18). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 365 المبحث الرابع: نزول الوحي وإتيان الملائكة وبعد هذا نرجع إلى أفكار الصوفية الأخرى ومعتقداتهم الخاصة بهم، لنرى التشيع المتستر الظاهر فيها، وتأثيره خفيا جليا ليرى الباحث والقارئ منهل التصوف ومنبعه، مصدره ومأخذه. فإن الشيعة يرون بأن النبوة لم تختم على محمد صلوات الله وسلامه عليه، حيث لم يكن وحده في زمانه الذي كان ينزل عليه الوحي، ويأتي إليه الملك، ويكلمه الله من وراء حجاب، بل كان هناك شخص آخر في زمانه وبعده، كان له تلك الأوصاف كلها، بل وأكثر منها. حيث أن رسول الله محمد صلوات الله وسلامه عليه لم يكن يكلمه الله إلا وحيا، أو من وراء حجاب، أو بإرسال رسول، فيوحي بإذنه ما يشاء. وأما الإمام فكان ينزل عليه الوحي، ويرسل إليه رسول، ويكلمه الله ويناجيه بلا حجاب، وقد أعطى خصالا لم يسبقه إليها أحد، ثم توارث هذه الأوصاف من خلفه بعده إلى خاتم الأئمة. ولقد ورد في كتب الشيعة الإثني عشرية – لا في كتب الإسماعيلية (1) والغلاة (2) - وفي أصحها عندهم ما ينصّ على ذلك مثل ما ذكر الكليني – وهو كالبخاري عند أهل السنة – في كافيّه (3) عن جعفر الصادق – الإمام المعصوم السادس لدى القوم – أنه قال: (ما جاء به عليُّ عليه السلام آخذ به وما نهي عنه انتهي عنه، جرى له من الفضل مثل ما جرى لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم الفضل على جميع من خلق الله عز وجل، المتعقّب عليه في شيء من أحكامه كالمتعقب على الله وعلى رسوله والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حدّ الشرك بالله، كان أمير المؤمنين عليه السلام باب الله الذي لا يؤتى إلا منه، وسبيله الذي من سلك بغيره هلك، وكذلك يجري لأئمة الهدى واحداً بعد واحد، جعلهم الله أركان الأرض أن تميد بأهلها وحجته البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثرى، وكان أمير المؤمنين صلوات الله عليه كثيراً ما يقول: أنا قسيم الله بين الجنة والنار وأنا الفاروق الأكبر وأنا صاحب العصا والميسم ولقد أقرّت لي جميع الملائكة والروح والرسل بمثل ما أقرّوا به لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ولقد حملت على مثل حمولته وهي حمولة الربّ وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعى فيكسى، وادعى فأكسى ويستنطق واستنطق فأنطق على حد منطقه، ولقد أعطيت خصالا ما سبقني إليها أحد قبلي علمت المنايا والبلايا، والأنساب وفصل الخطاب، فلم يفتني ما سبقني، ولم يعزب ما غاب عني (4). ونقل محمد بن حسن الصفار شيخ الكليني وأستاذه، الذي يعدّونه من أصحاب إمامهم الحادي عشر – حسب زعمهم – روايات كثيرة في صحيحه لإثبات نزول الوحي على أئمتهم، ونزول الملائكة عليهم تحت عناوين كثيرة في أبواب شتى، منها ما رواها عن حمران بن أعين أنه قال: (قلت لأبي عبد الله (جعفر) عليه السلام: جعلت فداك، بلغني أن الله تعالى قد ناجى عليا عليه السلام؟ قال: أجل، قد كان بينهما مناجاة بالطائف نزل بينهما جبريل (5).   (1) حيث إن الإسماعيلية يرون النبوة مقتسمة بين محمد صلى الله عليه وسلم، وعلي رضي الله عنه، فكان رسول الله محمد ناطقا بينما كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه صامتا، وهو الأساس والأصل. فانظر لتفصيل ذلك كتابنا ((الإسماعيلية تاريخ وعقائد)). (2) لأنهم يعتقدون أن جبريل اشتبه عليه فنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بدل أن ينزل على عليّ رضي الله عنه، وطائفة منهم ترى الألوهية المتجسدة في عليّ رضي الله عنه، لا النبوة فحسب. (3) وهو أحد الأصول الأربعة الشيعية، وصحاحهم. (4) ((الأصول من الكافي)) (1/ 196، 197) ط إيران. (5) ((بصائر الدرجات للصفار)) الباب السادس عشر (ص430) ط إيران. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 366 لما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله عليا يوم خيبر، فتفل في عينيه وقال له: إذا أنت فتحتها فقف بين الناس، فإن الله أمرني بذلك، قال أبو رافع: فمضى عليّ عليه السلام وأنا معه، فلما أصبح افتتح خيبر ووقف بين الناس وأطال الوقوف، فقال الناس: إن عليا عليه السلام يناجي ربه، فلما مكث ساعة أمر بانتهاب المدينة التي فتحها، قال أبو رافع: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله، فقلت: إن عليا عليه السلام وقف بين الناس كما أمرته، قال قوم منهم: (إن الله ناجاه، فقال: نعم يا رافع، إن الله ناجاه يوم الطائف ويوم عقبة ويوم حنين، ويوم غسل رسول الله (1). ومثل هذه الروايات كثيرة لا تعدّ ولا تحصى (2). هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يرى الشيعة أن أئمتهم أولئك أفضل من الأنبياء كما صرح بذلك الكليني أن الإمامة فوق النبوة والرسالة والخلة حيث نقل رواية عن جعفر بن محمد الباقر أنه قال: (إن الله اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا، وإن الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا، وإن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا، وإن الله اتخذه خليلا قبل أن يتخذه إماما (3). وروى أيضا عن يوسف التمار أنه سمع جعفر بن الباقر أنه قال: (ورب الكعبة، ورب البنية –ثلاث مرات – لو كنت بين موسى والخضر عليهما السلام لأخبرتهما أني أعلم منهما، ولأنبئتهما بما ليس في أيديهما لأن موسى والخضر عليهما السلام أعطيا علم ما كان، ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتى تقوم الساعة (4). وعنه أنه قال: (إني لأعلم ما في السموات وما في الأرض، وأعلم ما في الجنة وما في النار، وأعلم ما كان وما يكون (5). وقد بوب الحر العاملي صاحب موسوعة حديثية شيعية كبيرة بابا مستقلا بعنوان (الأئمة الاثني عشر أفضل من سائر المخلوقات من الأنبياء والأوصياء السابقين والملائكة وغيرهم، وأن الأنبياء أفضل من الملائكة). ثم أورد تحته روايات عديدة، منها ما رواها عن جعفر أنه قال: (إن الله خلق أولي العزم من الرسل، وفضلهم بالعلم، وأورثنا علمهم، وفضلنا عليهم في علمهم، وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يعلمهم، وعلمنا علم الرسول وعلمهم (6). وعلى ذلك قال الخميني زعيم شيعة إيران اليوم في كتابه (ولاية الفقيه) ما نصّه: (إن من ضروريات مذهبنا أنه لا ينال أحد المقامات المعنوية الروحية للأئمة حتى ملك مقرب ولا نبي مرسل، كما روي عندنا بأن الأئمة كانوا أنوارا تحت ظل العرش قبل تكوين هذا العالم .... وأنهم قالوا: إن لنا مع الله أحوالا لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهذه المعتقدات من الأسس والأصول التي قام عليها مذهبنا (7).   (1) أيضا (ص431). (2) وقد أشبعنا الكلام في هذا الخصوص في كتابنا ((الشيعة والسنة)) وقد صدرت له حتى اليوم أكثر من ثلاثين طبعة و ((الشيعة وأهل البيت)) و ((الشيعة والتشيع فرق وتاريخ)) وكذلك كتابنا الجديد ((بين الشيعة وأهل السنة))، ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى تلك. (3) كتاب ((الحجة من أصول الكافي)) (1/ 175) ط إيران، ومثله نقل عن أبيه أيضا. (4) ((الكافي في الأصول)) (1/ 261) ط إيران. (5) أيضا باب أن الأئمة يعلمون علم ما كان، وأنه لا يخفى عليهم الشيء (1/ 261) ط إيران. (6) ((الفصول المهمة في أصول الأئمة)) للحر العاملي (ص152) ط إيران. (7) ((ولايت فقيه در خصوص حكومت إسلامي)) لنائب الإمام الخميني تحت باب ولايت تكويني من الأصل الفارسي (ص58) ط طهران. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 367 فهذه هي عقائد الشيعة الإثني عشرية في أئمتهم بأنه يأتي إليهم جبريل، وينزل عليهم الوحي، ويكلمهم الله من وراء حجاب، ويناجيهم من دون حجاب، وأن النبوة لم تنقطع ولم تختم بمحمد صلوات الله وسلامه عليه، وأن الولاية أعظم وأفضل من النبوة والرسالة، وعلمهم بدون واسطة فصاروا يعلمون علم ما كان وما يكون، وفضلهم على الخلائق من الأنبياء والرسل. والنصوص والروايات في هذا الخصوص جاوزت المئات، وعليها أسست وبنيت الديانة الشيعية نتيجة مؤامرة يهودية للقضاء على الإسلام ودعوة خاتم النبيين الناطق بالوحي صلى الله عليه وسلم. هذا، وبعد هذا عندما نرجع إلى آراء الصوفية، وأفكارهم، عقائدهم ومعتقداتهم، كتبهم ورسائلهم، رواياتهم ومقولاتهم، تصريحاتهم وعباراتهم، نجد معظم هذه الأفكار وطابعها واضحا جليا، بل إنها عين هذه الترهات والخزعبلات، مبثوثة منشورة في كتب الأولين منهم والآخرين. وهاهي النصوص: فيقول الصوفي الكبير عبد القادر الحلبي المعروف بابن قضيب البان: (كل ما خصّت به الأنبياء، خصّت به الأولياء (1). وما هي اختصاصات الأنبياء غير الوحي، ونزول الملائكة، وكلام الربّ معهم، وإخبارهم عن الغيب، وكونهم معصومين عن الخطأ والزلل في تبليغ رسالات الله (2)، التي يريد ابن البان إشراك غيرهم معهم من الصوفية؟ وهل لسائل أن يسأل: أو بعد مشاركة الغير يبقى الاختصاص اختصاصا؟ وقبل أن نتعمق في هذا نريد أن نضع النقاط على الحروف، كي لا يتوهم المتوهم أننا نلزم القوم على ما لا يتقولونه ويعتقدونه. فنثبت من كتبهم أنفسهم، وبعباراتهم هم ما يبرهن قولنا، فيقول الشيخ الأكبر للصوفية رادّا على الغزالي: إن الغزالي غلط في التفريق بين نزول الملك على النبي والوليّ، مع أن النبي والوليّ كلاهما ينزل عليه الملك (3). وقد ذكر الشعراني أيضا بقوله: (فإن قلت: قد ذكر الغزالي في بعض كتبه: إن الفرق بين تنزّل الوحي على قلب الأنبياء وتنزله على قلوب الأولياء نزول الملك، فإن الوليّ يلهم ولا ينزل عليه ملك قط، والنبي لا بد له في الوحي من نزول الملك به، فهل هذا صحيح؟ فالجواب كما قاله الشيخ في الباب الرابع والستين وثلاثمائة: أن ذلك غلط ... قال الشيخ: وسبب غلط الغزالي وغيره في منع تنزل الملك على الوليّ عدم الذوق، وظنهم أنهم قد علموا بسلوكهم جميع المقامات ولما ظنوا ذلك بأنفسهم ولم يروا ملك الإلهام نزل عليهم أنكروه، وقالوا: ذلك خاص بالأنبياء، فذوقهم صحيح وحكمهم باطل، مع أن هؤلاء الذين منعوا قائلون بأن زيادة الثقة مقبولة، وأهل الله كلهم ثقات. قال: ولو أن أبا حامد وغيره اجتمعوا في زمانهم بكامل من أهل الله وأخبرهم بتنزل الملك على الوليّ لقبلوا ذلك ولم ينكروه. قال: وقد نزل علينا ملك فلله الحمد (4). ولا ندري كيف يرد على الغزالي وهو القائل:   (1) ((المواقف الإلهية)) لابن قضيب البان المتوفى 1040هـ (ص160) ملحق بكتاب ((الإنسان الكامل)) لعبد الرحمن البدوي ط وكالة المطبوعات الكويت 1976م. (2) وسوف نفرد للعصمة كلاما في محله إن شاء الله. (3) ((الإبريز)) لعبد العزيز الدباغ (ص151) ط مصر. (4) ((اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر)) للشعراني (2/ 85) ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 368 (ومن أول الطريق تبتدئ المكاشفات والمشاهدات، حتى أنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة، وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتا، ويقتبسون منهم فوائد. ثم يرتقي الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق (1). هذا ويقول ابن عربي في كتابه (الجواب المستقيم عما سأل عنه الترمذي الحكيم) زيادة على نزول الملك على الولي ّ: (وليس الأمر كذلك، فقد رآه الأولياء في حال حديثه لهم، فكل قال ما شاهد ... ومشهده صحيح، وهذا كله إذا كان الحديث من الملك والروح (2). يعني أن الوليّ ينزل عليه الملك ويحدثه ويشاهده الوليّ ويراه وقت نزوله عليه، وكلامه به. وبمثل ذلك يقول صوفي قديم آخر نجم الدين الكبري المتوفى 618 هـ أن الملائكة تنزل على الصوفية (3). وبمثل ذلك قال الدباغ، وبعبارة أكثر وضوحا من هذه العبارات: (وأما ما ذكروه في الفرق بين النبي والوليّ من نزول الملك وعدمه فليس بصحيح، لأن المفتوح عليه سواء كان وليا أو نبيا لا بد له أن يشاهد الملائكة بذواتهم على ما هم عليه، ويخاطبهم ويخاطبونه، وكل من قال: إن الوليّ لا يشاهد الملك ولا يكلمه فذاك دليل على أنه غير مفتوح عليه (4). ونقل النفزي الرندي عن بعض المشايخ أنه قال: (إن الملائكة تزورني فآنس بها، وتسلم عليّ فأسمع تسليمها (5). وليس عامة الملائكة فحسب، بل جبريل أيضا كما ينص على ذلك الشعراني ناقلا عن الشيخ عبد الغفار القوصي أنه قال في كتابه المسمّى بـ (الوحيد): (أنّ الشيخ تاج الدين بن شعبان كان إذا سأله إنسان في حاجة يقول له: اصبر حتى يجيء جبريل (6). وبذلك يقول ابن عربي أن القطب ينزل على قلبه الروح الأمين حيث يذكر في كتابه (مواقع النجوم): (وهذا المقام (أي مقام القطب) وهذه أسراره رفع الحجاب وأشرقت أنواره وبدا هلال التمّ يسطع نوره للناظرين وزال عنه أسرارهوتنزل الروح الأمين لقلبه يوم العروبة وأنقضت أوطاره (7).   (1) ((المنقذ من الضلال)) للغزالي (ص127) المنشور في مجموعة مؤلفات الدكتور عبد الحليم محمود ط دار الكتاب اللبناني بيروت الطبعة الأولى 1979 م. أيضا ((المنقذ من الضلال)) (ص50) بنجاب الباكستان. (2) ((الجواب المستقيم)) لابن عربي مخطوط ورقة ب 246 المندرج في كتاب ((ختم الأولياء)) للحكيم الترمذي (ص221) ط المطبعة الكاثوليكية بيروت بتحقيق عثمان إسماعيل يحيى. (3) انظر ((فوائح الجمال وفواتح الجلال)) لنجم الدين الكبري (ص10). (4) ((الإبريز)) للدباغ (ص151). (5) ((غيث المواهب العلية)) للنفزي الرندي (1/ 262). (6) ((الأخلاق المتبولية)) للشعراني بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود (1/ 454) ط مطبعة حسان القاهرة. (7) ((مواقع النجوم)) لابن عربي (ص102) الطبعة الأولى 1325 هـ مطبعة السعادة مصر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 369 وينزل عليه بالأمر والنهي كما نص على ذلك الدباغ بقوله: (ينزل الملك على الوليّ بالأمر والنهي (1). (وتصير قلوبهم مهبطا للوحي (2).ويسمعون كلام الله (فإذا تحقق الصوفي بهذا الوصف صار وقته سرمدا، وشهوده مؤبدا، وسماعه متواليا متجددا يسمع كلام الله تعالى (3).و (يتلقاهم ملائكة الله مشرقين، يحيونهم بتحايا الملكوت، ويصبون عليهم ماء النبع من ينبوع البهاء ... ويقومون في هياكل القربات، يناجون مع أصحاب حجرات العزة ويسمعون صوتا كصوت رعد أو دويّ في الدماغ (4).ويقول السهروردي المقتول سنة 587 هـ هذا أيضا أن الأولياء، ويسميهم إخوان التجريد (يتعلمون العلم من روح القدس بلا تعلم بشرى، وتطيعهم مادة العالم العنصري، وينذرون الكون ويخبرونه بالجزئيات الواقعة في الماضي والمستقبل (5). ويكتب الحكيم الترمذي في قضية مكالمة الله مع الوليّ: (الولاية لمن ولى الله حديثه على طريق أخرى فأوصله إليه، فله الحديث، وينفصل ذلك الحديث ذلك الحديث من الله عز وجل على لسان الحق معه السكينة تتلقاه السكينة التي في قلب المحدّث، فيقبله ويسكن إليه (6). ونختم هذا على ما قاله ابن عربي في هذا الخصوص: (اعلم يا بنيّ أن العبد المحقق الصوفي إذا صفا وتحقق صار كعبة لجميع الأسرار الإلهية من كل حضرة وموقف، ويرد عليه في كل يوم جمعة ما دام في ذلك المقام ستمائة ألف سرّ ملكوتي، واحد منها إلهي، وخمسة أسرار ربانية، ليس لها في حضرة الكون مدخل (7). وليس هذا فحسب، بل يقولون بعروج المتصوفة إلى السماء، ووقوفهم بين يدي الربّ، ومناجاتهم به، وتكليمه إياهم، فيحكي ابن البان عن نفسه: (أوقفني الحق على بساط الأسرار ... وارتقيت إلى السماء الأولى .. . ثم ارتقينا إلى السماء الثانية ... ثم انتهينا إلى السماء السابعة ... وفيها ملك على كرسي من نور ... وفي هذه السماء رضوان خازن الجنان، وأجمل الملائكة من جنده، وفيها إسرافيل رئيس عالم الجبروت، وهو الذي بشرني بالقرب والمنزلة الكريمة عند ربي، وبالسعادة في الآخرة والشفاعة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي هذه السماء رأينا إبراهيم الخليل مسندا إلى البيت المعمور ... ثم انتهينا إلى سبعين حجابا آخر ... حتى انتهيت إلى آخر حجاب هناك، وإذا بكرسي من اللؤلؤ منصبة قوائمه من الجوهر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، فأخذ آخذ بيدي وأجلسني عليه، ثم نزّل علىّ شيء ودخل جوفي من حيث لا أعلم، فقال لي شيئا في قلبي. ها قد أكرمك مولاك بالسكينة الربانية. فلما أحسّ باطني بها سكن كل جارحة فيّ. فكأني لم أر أشياء ولم يهلني شيء.   (1) ((الإبريز)) للدباغ (151). (2) إبراهيم المتبولي: ((الأخلاق المتبولية)) للشعراني (ص100). (3) ((عوارف المعارف)) للسهروردي (ص27). (4) ((حكمة الإشراق)) لشهاب الدين السهروردي (ص242 – 244) نقلا عن ((ختم الأولياء)) للترمذي (ص466) وما بعد. (5) ((اللمحات الإشراق)) لشهاب الدين السهروردي المورد السادس (ص172، 173) المندرج في كتاب يشتمل على رسائله الثلاثة باسم سه رسالة از شيخ إشراق ط مركز تحقيقات فارسي إيران وباكستان 1984 م. (6) ((ختم الأولياء)) للحكيم الترمذي (ص346) ط المطبعة الكاثوليكية بيروت. (7) ((مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار)) لابن عربي (ص171) ط مطبعة السعادة مصر 1325هـ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 370 ثم نوديت من مكان قريب. وذلك من جهاتي الستّ: يا حبيبي ومطلوبي، السلام عليك، فغمضت عينيّ، وكنت أسمع بقلبي ذلك الصوت حتى أظنه من جوارحي لقربه مني، ثم نوديت: انظر عليّ، ففتحت عينيّ فصرت كلي أعينا، وكأن في باطني ما أراه في ظاهري، وصرت كأني برزخ بين كونين وقاب، كما يرى الرائي عند النظر في المرآة ما بخارجها. ثم سمعت بقارئ يقرأ قوله: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. وإذا بذلك الحجاب قد رفع وأذن لي بالدخول. ولما دخلته رأيت الأنبياء صفوفا صفوفا ودونهم الملائكة، ورأيت أقربهم للحق أربعة أنبياء، ورأيت أولياء أمة محمد أقرب الناس إلى محمد وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى وأقرب إليه أربعة أولياء، فعرفت منهم السيد محيى الدين عبد القادر، وهو الذي تلقاني إلى باب الحجاب، وأخذ بعضدي حتى دنوت من سيدنا محمد صلى الله عليه وآله، فناولني يمينه فأخذته بكلتا يديّ، فلا زال يجذبني ويدنيني حتى ما بقي بيني وبين ربي أحد، فلما حققت النظر في ربي ورأيته على صورة النبي، إلا أنه كالثلج أشبه شيء أعرفه في الوجود من غير رداء ولا ثياب. ولما وضعت شفتي على محل منه لأقبله أحسست ببرد الثلج سبحانه وتعالى، فأردت أخر صعقا، فمسكني سيدنا محمد صلى الله عليه وآله (1) وأما ابن عربي فيجعل لعروجه محاكيا المعراج النبوي الشريف ويقول: (بينما أنا نائم وسر وجودي متهجد قائم جاءني رسول التوفيق، ليهديني سواء الطريق، ومعه براق الإخلاص، عليه لبد الفوز ولجام الإخلاص، فكشف عن سقف محلىّ، وأخذ في نقضى وحلىّ، وشق صدري بسكين السكينة، وقيل لي: تأهب لارتقاء الرتبة المكينة، وأخرج قلبي في منديل، لآمن من التبديل، وألقى في طست الرضا، بموارد القضا، ورمى منه حظ الشيطان، وغسل بماء: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ... ثم أتيت بالخمر واللبن، فشربت ميراث تمام اللبن، وتركت الخمر حذرا أن أكشف السر بالسكر ... استفتح لي سماء الأجسام فرأيت سر روحانية آدم عليه السلام ... فاستفتح الرسول الوضاح، سماء الأرواح ... قال لي: مرحبا وأهلا – إلى آخر الخرافات والمختلقات (2). ويقول أحد من المتقدمين من الصوفية نجم الدين كبري المقتول 618 هـ: (أنه أيضا ممن عرج به إلى السماء (3). كما نقل عن أبي الحسن الخرقاني أنه قال: (صعدت ظهيرة إلى العرش لأطوف به فطفت عليه ألف طوفة أو كما قال، ورأيت حواليه قوما ساكنين مطمئنين فتعجبوا من سرعة طوافي وما أعجبني طوافهم، فقلت: من أنتم، وما هذه البرودة في الطواف؟ فقالوا: نحن ملائكة، ونحن أنوار، وهذا طبعنا لا نقدر أن نجاوزه، فقالوا: ومن أنت وما هذه السرعة في الطواف؟ فقلت: بل أنا آدميّ، وفيّ نور، ونار هذه السرعة من نتائج نار الشوق) (4). والجيلي كذلك ذكر عروجه ومعراجه، ورؤيته لسدرة المنتهي وتجليات الربّ تبارك وتعالى (5). وكذلك يذكر النفزي الرندي المتوفى 792 هـ في تفسير قوله تعالى: وملكا كبيرا: (أنه يرسل الله تعالى الملك إلى وليه، ويقول له:   (1) ((المواقف الإلهية)) لابن البان (ص164 - 169). (2) انظر كتاب ((الإسراء)) لابن عربي (ص18) من ((رسائل ابن عربي)) الطبعة الأولى ص حيدر أباد دكن الهند 1367 هـ. (3) انظر ((فوائح الجمال وفواتح الجلال)) لنجم الدين الكبري بتصحيح دكتور فريتزمائر أستاذ بجامعة بازيل بسويسرا مطبعة فرانتزشتاينز ويسبادن ألمانيا 1957م. (4) انظر ((فوائح الجمال وفواتح الجلال)) لنجم الدين الكبري (ص13). (5) انظر ((الإنسان الكامل)) للجيلي الباب التاسع والأربعون في سدرة المنتهى (2/ 12 - ‍‍‍13). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 371 استأذن على عبدي، فإن أذن لك فادخل، وإلا فارجع، فيستأذن عليه من سبعين حجابا، ثم يدخل عليه ومعه كتاب من الله عز وجل عنوانه: من الحيّ الذي لا يموت إلى الحيّ الذي لا يموت، فإذا فتح الكتاب وجد مكتوبا فيه عبدي، اشتقت إليك فزرني، فيقول: هل جئت بالبراق؟ فيقول: نعم، فيركب البراق، فيغلب الشوق على قلبه، فيحمله شوقه، ويبقى البراق إلى أن يصل إلى بساط اللقاء (1). وهناك آخرون كثيرون ادعوا عروجهم إلى السماء، ومعراجهم أو مكالمتهم الرب، ومخاطبتهم إياه، ومنهم صالح بن بان النقا السوداني (2). ودفع الله بن محمد الكاهلي الهذلي السوداني (3). وفتح الله بوراس القيرواني (4). ومحمد بن قائد اللواني العراقي (5). وأبو العباس المرسي (6). ومثل هؤلاء كثيرون لا يعدون ولا يحصون. ويذكر الصوفي القديم المشهور عزيز الدين النسفي عن عروج المتصوفة إلى السماء: (إن بعض الصوفية يعرجون إلى السماء الأولى ويطوفون حولها، وبعضهم يتجاوزون من السماء الأولى ... وبعضهم يصلون إلى العرش إذا أمكن لهم (7). هذا بالنسبة للعروج، وأما من ناحية مكالمة الربّ لهؤلاء المتصوفة فللأهمية ننقل عبارة الجيلي كاملة، فيقول تحت عنوان (تجليّ الصفات): (ومن المكلمين من يذهب به الحق من عالم الأجسام إلى عالم الأرواح وهؤلاء أعلى مراتب. فمنهم من يخاطب في قلبه، ومنهم من يصعد بروحه إلى سماء الدنيا، ومنهم إلى الثانية والثالثة كل على حسب ما قسم له، ومنهم من يصعد به إلى سدرة المنتهي فيكلمه الله هناك، وكل من المكلمين على قدر دخوله في الحقائق تكون مخاطبات الحق له لأنه سبحانه وتعالى لا يضع الأشياء إلا في مواضعها. ومنهم من يضرب له عند عند تكليمه إياه نور له سرادق من الأنوار. ومنهم من ينصب له منبرا من نور. ومنهم من يرى نورا في باطنه فيسمع الخطاب من تلك الجهة النورية، وقد يرى النور كثيرا وأكثر مستديرا ومتطاولا. ومنهم من يرى صورة روحانية تناجيه، كلّ ذلك لا يسمى خطابا، إلا إنْ أعلمه الله أنه هو المتكلم، وهذا لا يحتاج فيه إلى دليل، بل هو على سبيل الوهلة فإن خاصية كلام الله لا تخفى، وأن يعلم أن كل ما سمعه كلام الله فلا يحتاج هناك إلى دليل ولا بيان، بل بمجرد سماع الخطيب يعلم العبد أنه كلام الله، وممن صعد به إلى سدرة المنتهي من قيل له حبيبي إنيتك هي هويتي وأنت عين هو وما هو إلا أنا، حبيبي بساطتك تركيبي وكثرتك واحديتي، بل تركيبك بساطتي وجهلك درايتي، أنا المراد بك أنا لك لا لي، أنت المراد بي أنت لي لا لك، حبيبي أنت نقطة عليها دائرة الوجود فكنت أنت العابد فيها والمعبود، أنت النور أنت الظهور أنت الحسن والزين كالعين للإنسان والإنسان للعين: أيا روح روح الروح والآية الكبرى ... ويا سلوة الأحزان للكبد الحرّى ويا منتهي الآمال يا غاية المنى ... حديثك ما أحلاه عندي وما أمرا ويا كعبة التحقيق يا قبلة الصفا ... ويا عرفان الغيب يا طلعة الغرا أتيناك أخلفناك في ملك ذاتنا ... تصرف لك الدنيا جميعا مع الأخرى   (1) ((الإنسان الكامل)) للجيلي الباب التاسع والأربعون في سدرة المنتهى (ص65 - 66). (2) انظر كتاب ((الطبقات)) لمحمد ضيف الله الجعلي الفضلي (ص 105) ط لبنان. (3) ((الطبقات)) لمحمد ضيف الله الجعلي الفضلي (ص89). (4) انظر ((الوصية الكبرى)) لعبد السلام الفيتوري (ص74) ط طرابلس ليبيا 1976 م. (5) ((الجواب المستقيم)) لابن عربي ورقة أ، ب المنقول من كتاب ((ختم الأولياء)) للترمذي (ص224). (6) انظر ((النفحة العلية في أوراد الشاذلية)) (ص 230). (7) انظر ((زبدة الحقائق)) لعزيز الدين نسفي (ص 58) تصحيح وتقديم حق وردي ناصري ط كتابخانة طهوري طهران. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 372 فلولاك ما كنا ولولاي لم تكن ... فكنت وكنا والحقيقة لا تدرى فإياك نعني بالمعزة والغنى ... وإياك نعني بالفقير ولا فقرا (1) ... ... فلينظر الباحث، وليتعمق وهل بقي هناك شيء خفي بعد هذا كله؟ ولكننا لتوثيق ما هو موثق نورد نصوصا أخرى من أكابر القوم الآخرين، وأعاظمهم. منها ما نقل المتصوفة عن أبي يزيد البسطامي أنه كثيرا ما كان يقول للفقهاء: (أخذتم علمكم ميتا عن ميت، ونحن أخذنا علمنا عن الحيّ الذي لا يموت (2). وهو الذي يذكرون عنه أنه ذكر معراجه ومكالمته الرب – تعالى الله عما يقولون به علوا كبيرا – فيقول: (أدخلني في الفلك الأسفل، فدوّرني في الملكوت السفلي، فأراني الأرضين وما تحتها إلى الثرى، ثم أدخلني في الفلك العلوي فطوّف بي في السموات وأراني ما فيها من الجنان إلى العرش. ثم أوقفني بين يديه فقال لي: سلني أيّ رأيت حتى أهبه لك، فقلت: يا سيدي ما رأيت شيئا استحسنته فأسألك إياه، فقال: أنت عبدي حقا تعبدني لأجلي صدقا لأفعلن بك (3). ونقل الآخرون الكثيرون عنه أيضا أنه قال: (رفعني مرة فأقامني بين يديه، وقال لي: يا أبا يزيد، إن خلقي يحبون أن يروك. فقلت: زيّني بوحدانيتك، وألبسني أنانيتك، وارفعني إلى أحديتك، حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك، فتكون أنت ذاك، ولا أكون أنا هنا (4). ونقلوا مثل ذلك عن السري السقطي رواية عن الجنيد أنه قال: بتّ عند سري ليلة، فقال لي: أنائم أنت؟ فقلت: لا. فقال: أوقفني الحق بين يديه، فقال: أتدري لم خلقت الخلق؟ قلت: لا. قال: خلقتهم فادّعوا محبتي، فخلقت الدنيا، فاشتغل بها من عشرة آلاف تسعة آلاف، وبقي ألف، فخلقت الجنة فاشتغل بها تسعمائة، وبقي مائة، فسلطت عليهم شيئا من بلائي، فاشتغل تسعون، وبقي عشرة، فقلت لهم: لا الدنيا أردتم، ولا في الجنة رغبتم، ولا من البلاء هربتم، فماذا تريدون؟ قالوا: إنك تعلم ما نريد. فقال: سأنزل عليكم من البلاء ما لا تطيقه الجبال، أفتثبتون؟ قالوا: ألست أنت الفاعل؟ قد رضينا بذلك. نحمد ذلك بك وفيك ولك. فقال: أنتم عبادي حقا (5). ورووا عن الجنيد أنه قال: (لي ثلاثون سنة أتكلم مع الله تعالى (6). وعن صوفي قديم آخر سهل بن عبد الله التستري أنه قال: (أنا منذ ثلاثين سنة أكلم الله والناس يتوهمون أني أكلمهم (7). والشعراني نقل عن علي الخواص أنه قال: (قد سمعت سيدي إبراهيم المتبولي يقول كثيرا: لي ثلاثون سنة وأنا مقيم في حضرة الله لم أخرج، وجميع ما أتكلم به إنما أكلم به الحق سبحانه وتعالى (8). والرفاعية أيضا لا يريدون أن يقل شأن مرشدهم وهاديهم، وتنحط مكانته في أعين مريديه ومقلديه، فنقلوا عنه أنه كان كثيرا بينه وبين الربّ مناجاة ومخاطبات فنقلوا عن ابن جلال في جلاء الصد وا نصه:   (1) ((الإنسان الكامل)) لعبد الكريم الجيلي (ص 65 - 66) الطبعة الرابعة مصطفى البابي الحلبي 1402 هـ. (2) ((الجواهر والدرر)) للشعراني بهامش ((الإبريز)) (ص 268)، أيضا ((ذخائر الأعلاق)) لابن عربي (ص 153). (3) ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي (2/ 70)، كذلك ((محاسن المجالس)) لابن العريف ((ص 77))، أيضا ((غيث المواهب العلية)) للنفزي الرندي (ص 305). (4) انظر كتاب ((اللمع)) للطوسي (ص 461). (5) ((روضة التعريف)) للسان الدين بن الخطيب (ص 537 - 538) ط دار الفكر العربي القاهرة. (6) ((طبقات الشعراني)) (ص 200). (7) ((التعرف لمذهب أهل التصوف)) بتحقيق محمود أمين النواوي (ص 172) ط القاهرة الطبعة الثانية 1980م. (8) انظر ((الأخلاق المتبولية)) للشعراني (1/ 482). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 373 (نقل عن السيد إبراهيم الأعزب أنه قال: كنت جالسا في الغرفة مع السيد أحمد الرفاعي رضي الله تعالى عنهما، ورأسه على ركبتيه، فرفع رأسه وضحك بأعلى صوته فضحكت أنا أيضا ثم ألححت عليه ليخبرني عن سبب ضحكه، فقال: أي إبراهيم، ناداني العزيز سبحانه: أني أريد أن أخسف الأرض، وأرمي السماء على الأرض. فلما سمعت هذا النداء تعجبت، وقلت: إلهي، من ذا الذي يعارضك في ملكك وإرادتك؟ قال سيدي إبراهيم: فأخذته الرعدة ووقع على الأرض وبقي في ذلك الحال زمانا طويلا (1). وحينما رأى الشاذلية هذه المكانة العالية، والمنزلة الرفيعة لمرشد الرفاعية، الرفاعي، لم يرضوا أن يتخلفوا عنهم، فقالوا: إن ما لشاذلينا لم تكن مخاطبات فحسب، بل إن الله جل مجده هو الذي سماه بهذا الاسم، فيذكر الإمام الأكبر السابق للأزهر، الدكتور عبد الحليم محمود نقلا عن أبي الحسن الشاذلي كيفية نزوله من جبل زغوان، ومغادرته خلوته، فيقول: (قيل لي: يا علي: اهبط إلى الناس ينتفعوا بك. فقلت: يا ربّ أقلني من الناس فلا طاقة لي بمخالطتهم. فقيل لي: انزل فقد أصحبناك السلامة، ودفعنا عنك الملامة. فقلت: تكلني إلى الناس آكل من دريهماتهم. فقيل لي: أنفق يا علي، وأنا الملي، إن شئت من الجيب، وإن شئت من الغيب. ونزل الشاذلي رضي الله عنه من على الجبل ليغادر شاذلة، ويستقبل مرحلة جديدة، فقد انتهت المرحلة الأولى التي رسمها له شيخه. وقبل أن نغادر معه شاذلة إلى رحلته الجديدة نذكر ما حكاه رضي الله عنه فيما يتعلق بنسبته إلى شاذلة، قال: قلت: يا ربّ لم سميتني بالشاذلي؟ ولست بشاذلي؟ فقيل لي: يا علي، ما سميتك بالشاذلي وإنما أنت الشّاذّ لي. بتشديد الذال المعجمة يعني: المنفرد لخدمتي ومحبتي (2). هذا ولقد نقلوا مثل هذه المكالمات والمناجاة بين ذي النون المصري والربّ تبارك وتعالى أيضا (3). وقلما يوجد صوفي أو متصوف إلا وقد ادّعى مثل هذه الدعوى، وكتب التراجم وطبقات الصوفية مليئة بمثل هذه الأكاذيب والشناعات، والجرأة على الله، والإنتقاص من شأن نبينا صلوات الله وسلامه عليه خاتم النبيين وسيد المرسلين، حيث ينسبون إلى أنفسهم، أو إلى مرشديهم ومتصوفيهم ما لم يكن لبشر أن يحصل عليه، حتى سيد الخلائق وأفضل النبيين والمرسلين مثل ما أوردنا عنهم، ومثل مارووا عن فتح الله بوراس القيرواني أنه كان يقول: (أشهدني الله تعالى ما في السموات السبع وما في الكرسي وما في اللوح المحفوظ وجميع ما في الحجب، وفككت طلاسم السماوات السبع والفلك الثامن الذي فيه جميع الكواكب وجميع الفلك الثامن، وهم بنات نعش والجدي والقطب، ووصلت إلى الفلك التاسع الذي يسمونه الأطلس، ورصدت جداوله وأنا عند ذلك طفل صغير لم أبلغ الحلم (4). وكان يقول: (وفي السماء السابعة شاهدت ربي وكلّمته وفوق العرش والكرسي قد ناداني وخاطبته وما في اللوح المحفوظ من الآي والأمر والنهي قد حفظته وبيدي باب الجنان قد فتحته ودخلته وما فيه من الحور العين قد رأيته وحصيته ومن رآني ورأي من رآني وحضر مجلسي في جنة عدن وبستانها قد أسكنته).   (1) انظر ((قلادة الجواهر في ذكر الرفاعي وأتباعه الأكابر)) للسيد محمد أبي الهدى الرفاعي (ص 180). (2) انظر كتاب الدكتور عبد الحليم محمود ((المدرسة الحديثة الشاذلية وإمامها أبو الحسن الشاذلي)) (ص 34)، 35 ط دار الكتب الحديثة القاهرة. (3) انظر ((تذكرة الأولياء)) للعطار (ص 74) ط باكستان. (4) ((الوصية الكبرى)) لشيخ العروسية عبد السلام الفيتوري (ص 75) ط مكتبة النجاح طرابلس ليبيا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 374 ومثل ذلك ذكر الشعراني عن الدسوقي المتوفى 776هـ حيث قال: (أنا كل وليّ في الأرض خلعته بيدي. ألبس منهم من شئت، أنا في السماء شاهدت ربي، وعلى الكرسي خاطبته، أنا بيدي أبواب النار أغلقتها، وبيدي جنة الفردوس فتحتها. من زارني أسكنته جنة الفردوس (1). نعوذ بالله من مثل هذه الخرافات، ولا يؤاخذنا الله على نقل ما اقترفته الأيدي الأثيمة والألسن الخبيثة، ربنا لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا إنْ هي إلا فتنتك تضلّ بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين. ثم إن الصوفية أصّلوا قاعدة وحكما عاما، وقالوا: (ما كان وليّ متصل بالله تعالى إلا وهو يناجي ربه كما كان موسى عليه السلام يناجي ربه (2). (وإذا صفا قلب الفقير صار مهبط الوحي (3).والدباغ يقول: (وكلام الحق سبحانه يسمعه المفتوح عليه إذا رحمه الله عز وجل سماعا خارقا للعادة فيسمعه من غير حرفه ولا صوت ولا إدراك لكيفية، ولا يختص بجهة دون جهة، بل يسمعه من سائر الجهات، بل ومن سائر جواهر ذاته، وكما لا يخص السماع له جهة دون أخرى، كذلك لا يخص جارحة دون أخرى يعني أنه يسمعه بجميع جواهره وسائر أجزاء ذاته فلا جزء ولا جوهر ولا سنّ ولا ضرس ولا شعرة منه إلا وهو يسمع به، حتى تكون ذاته بأسرها كأذن سامعة،، ثم ذكر اختلاف أهل الفتح في قدر السماع وبيّنه بما لا يذكر (4). (وأن معراج الصوفية، وخرقهم السماوات، ومكالمتهم الربّ، ومخاطبته إياهم جائز شرعا ونقلا، وهو المنقول عن الشاذلي، وابن عطاء الله في (لطائف المنن)، ومحمد السنوسي في كبراه، والشيخ عبد الباقي وغيرهم (5). وقد نقل الشعراني عن الشاذلي قوله: (لا إنكار على من قال: كلّمني الله كما كلّم موسى (6).وأما ابن عربي القائل دوما: (حدثني قلبي عن ربي، في كتبه ورسائله، و: ما صنفت كتابا عن تدبير واختيار إلا بأمر من الله وإرشاده (7). يقول في سماع الصوفي كلام الربّ عندما يبلغ الدرجة العليا، ويتحقق في مقامه، يقول: (إنما يسمع الصوفي في هذا المقام ويمتثل ما يسمع – كما أنا ما زلت أسمع متحققا في مقامي من الحق (8). وأما إطلاعهم على الغيب، وإحاطتهم بعلم ما كان وما يكون، وإخبارهم بكل ما ظهر وما بطن فكتب القوم مليئة بهذه المختلقات، بل يمكن لقارئ كتب الصوفية والباحث في تراجمهم وطبقاتهم أن يقول: إن شخصا ما ينسب إلى هؤلاء الناس ويعدّ منهم إلا أن يكون حاملا لذلك العلم الذي هو من خاصة رب السماوات والأرض، حيث أخبر عن ذاته سبحانه تبارك وتعالى: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [الأنعام:59]. وقال: وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود:123]. وقال: إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [فاطر:38].   (1) انظر ((الطبقات الكبرى)) للشعراني (1/ 180). (2) ((الطبقات الكبرى)) للشعراني (1/ 180). (3) ((الأخلاق المتبولية)) للشعراني (1/ 100) المنقول عن إبراهيم المتبولي. (4) ((الإبريز)) للدباغ (ص 156). (5) ((كتاب الطبقات)) للجعلي الفضلي (ص 107). (6) ((مقولة الشاذلي المنقولة في طبقات الشعراني)) (2/ 69). (7) انظر ((تنبيه المغترين)) للشعراني (ص 136). (8) انظر ((مواقع النجوم)) لابن عربي (ص 164) وما بعد الطبعة الأولى 1325 هـ مطبعة السعادة مصر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 375 وأخبر عن نفسه بنفسه: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد:9] و: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [التغابن:18]. والآية التي هي نصّ في المسألة حيث أمر نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يقول: قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ [النمل:65]. كما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينفي عن نفسه الغيب: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الأنعام:50]. ونقل عن مصطفاه عليه الصلاة والسلام أنه قال: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير [الأعراف:188]. وقال نبيه مخاطبا إياه: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [المائدة:116]. والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا، والأحاديث النبوية كذلك. ولكن القوم يقولون عكس ذلك متأثرين بالتشيع، وآخذين أفكارهم ومعتقداتهم، فيقول القشيري في بيان درجات السلوك: ثم في خلال هذه الأحوال قبل وصوله إلى هذا المقام الذي هو نهاية كان يرى جملة الكون يضيء بنور كان له حتى لم يخف من الكون عليه شيء وكان يرى جميع الكون من السماء والأرض رؤية عيان ولكن بقلبه، وكان لا يرى في هذا الوقت بعين لأنه شيء ولكن لم يكن هذه رؤية علم، بل لو تحرك في الكون ذرة أو نملة) (1). ونقل الكلاباذي عن أبي عبد الله الأنطاكي أنه قال: (إذا جالستم أهل الصدق فجالسوهم بالصدق، فإنهم جواسيس القلوب، يدخلون في أسراركم، ويخرجون من هممكم (2). ويقول ابن عجيبة الحسني: (إن الحق سبحانه قسّم الخلق قسمين وفرقهم فرقتين: قسم اختصهم بمحبته، وجعلهم من أهل ولايته، ففتح لهم الباب، وكشف لهم الحجاب، فأشهدهم أسرار ذاته، ولم يحجبهم عنه بآثار قدرته (3).فإذا كشف الحجاب، وفتح لهم الباب (علم العوالم بأجمعها على ما هي عليه من تفاريعها من المبدأ إلى المعاد وعلم كل شيء، كيف كان؟ وكيف هو كائن؟ وكيف يكون؟ وعلم ما لم يكن، ولم لا يكون ما لم يكن؟ ولو كان ما لم يكن كيف كان يكون؟ كل ذلك علماً أصليا حكيما كشفيا ذوقيا من ذاته لسريانه في المعلومات علما إجماليا تفصيلاً كليا جزئيا مفصلا في إجماله ... ومنهم من تجلى الله عليه بصفة السمع فيسمع نطق الجمادات والنباتات والحيوانات، وكلام الملائكة واختلاف اللغات، وكان البعيد عنه كالقريب (4). وقال عماد الدين الأموي: (إذا انكشفت الحجب عن القلب تجلى فيه شيء مما هو مستور في اللوح المحفوظ، ولمع في القلب من وراء ستر الغيب شيء من غرائب العلم (5).وأيضا: (يشرف على الملكوت الأعظم، ويرى عجائبه، ويشاهد غرائبه، مثل اللوح، والقلم، واليمين الكاتبة، وملائكة الله تعالى يطوفون، حول العرش يسبحون بحمد ربهم، وبالبيت المعمور، ويسبحونه ويقدسونه، ويفهم كلام المخلوقين من الحيوانات والجمادات، ثم يتخطى منها إلى معرفة الخالق للكل والمالك للكل فتغشاهم الأنوار، وتتجلى لقلوبهم الحقائق (6).   (1) ((رسالة ترتيب السلوك)) للقشيري من ((مجموعة الرسائل القشيرية)) لعبد الكريم القشيري المتوفى 465 ط المعهد المركزي للأبحاث الإسلامية باكستان 1384 هـ. (2) ((التعرف)) للكلاباذي (ص 33). (3) ((إيقاظ الهمم)) لابن عجيبة الحسني (ص 77). (4) ((الإنسان الكامل)) للجيلي (1/ 63 - 64). (5) ((حياة القلوب في كيفية الوصول إلى الجنوب)) لعماد الدين الأموي (ص 261) بهامش ((قوت القلوب)) لأبي طالب. (6) ((حياة القلوب)) (ص 275 - 276) بهامش ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 376 ويقول الدباغ وهو يذكر بعض ما يشاهده المفتوح عليه وهو الولي عنده، فيقول: (أما في المقام الأول فإنه يكاشف فيه بأمور، منها: أفعال العباد في خلواتهم. ومنها: مشاهدة الأرضين السبع والسماوات السبع، ومنها مشاهدة النار التي في الأرض الخامسة، وغير ذلك مما في الأرض والسماء ... ومن الأشياء التي يشاهدونها: اشتباك الأرضين بعضها ببعض، وكيف تخرج من أرض إلى أرض أخرى، وما تمتاز به أرض عن أرض أخرى، والمخلوقات التي في كل أرض. ومنها: مشاهدة اشتباك الأفلاك بعضها ببعض، ما نسبتها من السماوات وكيف وضع النجوم التي فيها. ومنها: مشاهدة الشياطين وكيف توالدها. ومنها: مشاهدة الجن وأين يسكنون؟ ومنها: مشاهدة سير الشمس والقمر والنجوم ... وأما ما يشاهده في المقام الثاني فإنه يكاشف بالأنوار الباقية كما كوشف في المقام الأول بالأمور الظلمانية الفانية، فيشاهد في المقام الملائكة والحفظة والديوان والأولياء الذين يعمرونه ... وأما المقام الثالث فإنه يشاهد فيه أسرار القدر في تلك الأنوار المتقدمة. وأما المقام الرابع فإنه يشاهد فيه النور الذي ينبسط عليه الفعل، وينحل فيه كانحلال السمّ في الماء، فالفعل كالسم والنور كالماء ... وفي المقام الخامس يشاهد انعزال الفعل عن ذلك النور، فيرى النور نورا، والفعل فعلا ... والمفتوح عليه لا يغيب عليه ما في أرحام الأنثى فضلا عن غيره (1). وكان الدباغ هذا يرى أيضا أن المتصوفة لا يعرفون الغيب فحسب، بل يعرفون الغيوب الخمسة التي ذكرها الله تعالى في محكم كتابه أنه لا يعلمها أحد غيره بقوله: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34] ولكنه ابن المبارك ينقل عنه قائلا: (قلت للشيخ: (أي عبد العزيز الدباغ) رضي الله عنه: إن علماء الظاهر من المحدثين وغيرهم اختلفوا في النبي صلى الله عليه وسلم، هل كان يعلم الخمس المذكورات في قوله: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34]، فقال رضي الله عنه وعن سادتنا العلماء: كيف يخفى أمر الخمس عليه والواحد من أهل التصوف من أمته الشريفة لا يمكنه التصرف إلا بمعرفة هذه الخمس (2). والجدير بالذكر أن هذا هو القائل: (ما السماوات والأرضون السبع في نظر العبد المؤمن إلا كحلقة ملقاة في فلاة (3).وأيضا: (إن الجنين إذا سقط من بطن أمه يراه العارف في تلك الحالة إلى آخر عمره (4). أما الرفاعي أحمد فنقلوا عنه أنه قال: (إن العبد ما يزال يرتقي من سماء إلى سماء حتى يصل إلى محل الغوث، ثم ترتفع صفته إلى أن تصير صفة من صفات الحق، فيطلعه على غيبه حتى لا تنبت شجرة، ولا تحضر ورقة إلا بنظره، ويتكلم هناك عن الله بكلام لا تسعه عقول الخلائق ... وكان يقول: إن القلب إذا انجلى من حبّ الدنيا وشهوتها صار كالبلّور، وأخبر صاحبه بما مضى وبما هو آت من أحوال الناس (5). ونقل ذلك الشعراني أيضا منه في طبقاته (6).   (1) ((الإبريز)) للدباغ (ص 151) وما بعد. (2) ((الإبريز)) (ص 167). (3) ((الإبريز)) (ص 242). (4) ((الإبريز)) (ص 274). (5) ((قلادة الجواهر في ذكر الرفاعي وأتباعه الأكابر)) (ص 148). (6) انظر ((الطبقات الكبرى)) للشعراني (1/ 142). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 377 ونقلوا عن الشبلي أنه قال: (لو دبت نملة سوداء على صخرة صماء في ليلة ظلماء ولم أشعر بها أو لم أعلم بها لقلت أنه ممكور بي (1). وهذا قول الله الجليّ الصريح الواضح البيّن: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [الأنعام:59] ومع أمر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [الأحقاف:9] وقول الله عز وجل: تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إليك مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49] ولكن القوم عكس ذلك يقولون ما ألقى الشيطان إليهم من عقائد شيعية، ومعتقدات يهودية، وكان السحرة والكهان. ولقد أدّب الله تبارك وتعالى نبيه ونجيه وصفيه سيد البشر قائد النبيين والمرسلين صلى الله عليه وسلم على جوابه لمن سأله عن أصحاب الكهف وعددهم، رجاء بأن ينزل عليه الوحي، ويخبر الله عز وجل عنهم، والوحي كان ينزل، وجبريل كان يأتي، واتصاله كان قائما بالسماء فقال مرسله ومنزل الوحي عليه: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا [الكهف:23 - 24]. وقبله أقرت الملائكة بقصور علمهم، واعترافهم بعدم إحاطتهم بملكوت السماء يوم قالوا: قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:32] فأقرهم الله عز وجل على القصور وعدم المعرفة بالغيب بقوله: قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:33] هذا وأما المنوفي الحسيني فينقل عن إبراهيم الدسوقي أنه كان يقول: (إن للأولياء الاطلاع على ما هو مكتوب على أوراق الشجر والماء والهواء وما في البر والبحر وما هو مكتوب على صفحة قبة خيمة السماء، وما في جباه الإنس والجان مما يقع لهم في الدنيا والآخرة (2). وأما الشاذلي فنقلوا عنه: (من عبد الله باسمه الحيّ المحيي وأكثر منه، ولا حد لأكثره، شاهد حياة كل شيء ومحييه. ومن ذكر بهم جميعا صعدت روحه إلى الملأ الأعلى، وصعدت روحه إلى العرش، ليكتب عند الله من الكاملين الصديقين (3). وقال أفضل الدين: (لا يعطى أحد القطبية حتى يعرف جميع عوالم هذه العروش والكراسي والسموات والأرضين بأسمائهم وأنسابهم وأعمارهم وأعمالهم (4). ونقل الشعراني عن إبراهيم المتبولي أنه قال: (يرتسم الوجود كله في قلب الفقير (أي الصوفي) فيراه من قلبه. وإيضاح ذلك أن القلب إذا انجلى صار كالمرآة الكبيرة، فإذا قابلها بالعالم العلوي والسفلي ارتسم كله فيها (5).   (1) مجموع مخطوط بالفاتكان عربي (رقم 1242) ورقة (51 ب - 52)، أيضا ((الإنسان الكامل)) للجيلي (1/ 122). (2) ((جمهرة الأولياء)) للمنوفي الحسيني (ص 242). (3) ((أبو الحسن الشاذلي)) للدكتور عبد الحليم محمود (ص 614). (4) ((الأخلاق المتبولية)) للشعراني (1/ 99). (5) ((الأخلاق المتبولية)) للشعراني (3/ 145). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 378 وروى أيضا عن علي الخواص أنه قال: (لا يكمل إيمان عبد حتى يصير الغيب عنده كالشهادة في عدم الريب (1). ويقول محمد ضيف الله الجعلي السوداني: (كشف الأولياء على قسمين: منهم من ينظر في اللوح فإنه لا يتغير ولا يتبدّل كسيدي علي الخواص. ومنهم من ينظر في ألواح المحور والإثبات، وعدتها ثلاثمائة وستون لوحا فإنها تتغير وتتبدّل، فإذا أخبر الوليّ بكلام ولم يقع فلا ينكر عليه بأن يقال: كذب، بل يحمل على أنه نظر في ألواح المحور والإثبات (2). فانظر هذه الخرافة المختلقة ما أشنعها وأقبح بها. وأما ابن عربي ومدرسته فقد تكلموا في مثل هذا كثيرا، ولا يخلو كتاب من كتبهم عن مثل هذه الخرافات والموبقات، فيقول ابن عربي: (فأما العلم اللدني، فمتعلقه الإلهيات وما يؤدي إلى تحصيلها من الرحمة الخاصة. وأما علم النور فظهر سلطانه في الملأ الأعلى قبل وجود آدم بآلاف السنين من أيام الرب. وأما علم الجمع والتفرقة فهو البحر المحيط، الذي اللوح المحفوظ جزء منه، ومنه يستفيد العقل الأول، وجميع الملأ الأعلى منه يستمدون. وما ناله أحد من الأمم سوى أولياء هذه الأمة. وتتنوع تجلياته في صدورهم على ستة آلاف ومائتين. فمن الأولياء من حصّل جميع هذه الأنواع، كأبي يزيد البسطامي، وسهل بن عبد الله، ومنهم من حصّل بعضها (3). ويقول في إحدى رسائله: (للأرواح الإنسانية إذا صفت وزكت معارج في العالم العلوي المفارق وغير المفارق فينظر مناظر الروحانيات المفارقة، فترى مواقع نظرهم في أرواح الأفلاك ودورانها بها، فينزل مع حكم الأدوار وترسل طرفها في رقائق التنزيلات حتى ترى مساقط نجومها في قلوب العباد، فتعرف ما تحويه صدورهم وما تنطوي عليه ضمائرهم، وما تدل عليه حركاتهم ... وإذا توجهت الأسرار نحو قارئها بفناء وبقاء، وجمع وفرق سقطت عليها أنوار الحضرة الإلهية من حيثها، لا من حيث الذات، فأشرقت أرض النفوس بين يديه فالتفت فعلم ما أدركه بصره وأخبر بالغيب وبالسرائر وبما تكنه الضمائر وما يجري في الليل والنهار (4).ويقول: (من يكن الحق سمعه وبصره فكيف يخفى عليه شيء (5).وقال: (يرتقي الوليّ إلى عالم الغيب فيشاهد اليمين ماسكة قلمها وهي تخطط في اللوح (6).و: (من الصوفية من لا يزال عاكفا على اللوح، ومنهم من يشهده تارة تارة (7). ونقل ابن عربي في كتابه عن الجنيد أنه قال: (العارف هو الذي ينطق عن سرّك وأنت ساكت (8). ولقد بيّن في إحدى كتبه طريق إطلاع الصوفية على الغيب فقال: (الكشف والاطلاع على الغيب يكون بطريق التجلي، إما بالتنزل أو بالعروج (9). ويقول أيضا: (تتجلى صورة العقل في ذات الخليقة، فتلوح له أسرار والعلم المنقوشة فيه (10).   (1) ((طبقات الشعراني)) (1/ 156). (2) كتاب ((الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان)) لمحمد ضيف الله الجعلي الفضلي المتوفى سنة 1224 هـ المكتبة الثقافية بيروت لبنان. (3) ((شرح المسائل الروحانية)) لابن عربي المنشور في كتاب ((ختم الولاية)) للترمذي الملقب بالحكيم (ص 142)، 143 ط المطبعة الكاثوليكية بيروت. (4) كتاب ((التجليات)) لابن عربي (ص 22) من مجموعة رسائله ط حيدر أباد دكن الهند 1367 هـ. (5) ((التدبيرات الإلهية)) لابن عربي (ص 118) ط ليدن 1336 هـ. (6) ((مواقع النجوم)) لابن عربي (ص 82). (7) ((مواقع النجوم)) لابن عربي (148). (8) ((مواقع النجوم)) لابن عربي (149). (9) ((إنشاء الدوائر)) لابن عربي (ص 35) ط مطبعة بريل ليدن 1336 هـ. (10) ((التدبيرات الإلهية)) لابن عربي (ص 159)، ومثله في (ص 171). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 379 فهذه هي آراء ابن عربي وأقواله، صريحة في معناها، جلية في مغزاها، واضحة في مرادها، لا غموض فيها ولا تعقيد، ولا تحتاج إلى التبيين والتوضيح. وأما تلميذه محمد بن إسحاق القونوي المتوفى 673 هـ فيقول: (إن الكمل ومن شاء الله من الأفراد أهل الاطلاع على اللوح المحفوظ، بل وعلى المقام القلمي، بل وعلى حضرة العلم الإلهي، فيشعرون بالمقدر كونه لشبق العلم بوقوعه (1). ويقول شهاب الدين السهروردي المقتول: (الأنبياء والفضلاء المتألهون يتيسر لهم الاطلاع على المغيبات، لأن نفوسهم إما قوية بالفطرة أو تتقوى بطرائقهم وعلومهم، فينتقشون بالمغيبات، لأن نفوسهم كالمرايا المصقولة تتجلى فيها نقوش من الملكوت. فقد يسري شبح إلى الحس المشترك، يخاطبهم ألدّ مخاطبة وهو في أشرف صورة، وربما يرون الغيب بالحس المشترك مشاهدة، وربما يسمعون صوت هاتف، أو يقرؤن من مسطور (2).وقال لسان الدين بن الخطيب في روضته: (النفوس عند صفائها تتشبه بالملأ الأعلى، وتنتقش فيها أمثلة الكائنات المتعشقة فيه بنوع ما، وتشاهد المحجوبات، وتؤثر في العوالم السفلية (3).وبمثل ذلك يقول داود بن محمود القيصري: (إذا خلص الرجل، وصفا وقته، وطاب عيشه بالإلتذاذ بما يجده في طريق المحبوب، بصر باطنه، فيظهر له لوامع أنوار الغيب، وينفتح له باب الملكوت، ويلوح منه لوايح (4).والترمذي الملقب بالحكيم يقول: (إن الأولياء لهم علامات وعلوم، وأما ما يعرفونه من العلوم فهي (علم البدء، وعلم الميثاق، وعلم المقادير، وعلم الحروف، فهذه أصول الحكمة، وهي الحكمة العلمية، وإنما يظهر هذا العلم عن كبراء الأولياء ويقبله من له حظ في الولاية (5). ويقول الجيلي عبد الكريم: (كل واحد من الأفراد والأقطاب له التصرف في جميع المملكة الوجودية، ويعلم كل واحد منهم ما اختلج في الليل والنهار فضلا عن لغات الطيور. وقد قال الشبلي رحمه الله تعالى: لو دبّت نملة سوداء على صخرة صماء في ليلة ظلماء ولم أسمعها لقلت: أني مخدوع أو ممكور بي. وقال غيره: لا أقول: ولم أشعر بها لأنه لا يتهيأ لها أن تدبّ إلا بقوتي وأنا محركها (6). هذا ومثل هذا أكثر من أن يسعه كتاب، أو تشمله رسالة، ولقد تأتي حكايات المتصوفة المتضمنة إخبارهم بالغيب، وإحاطتهم بجميع علوم الكون وأحواله، وإطلاعهم على ما كان وما يكون في محله وفي باب مستقل إن شاء الله. المصدر: التصوف المنشأ والمصادر لإحسان إلهي ظهير   (1) ((رسالة النصوص)) لمحمد بن إسحاق القونوي (ص 40 - 41) ط مشهد إيران. (2) ((الألواح العمادية)) للسهروردي (ص 64) المطبوع ضمن رسائله الثلاثة باسم سه رسالة شيء إشراق بتحقيق نجف قلي الإيراني ط مركز تحقيقات فارسية إيران باكستان. (3) ((روضة التعريف)) للسان اليدن ابن الخطيب (ص 463) بتحقيق عبد القادر أحمد عطاط دار الفكر العربي. (4) ((شرح مقدمة التائية الكبرى)) لداود القيصري مخطوط (ص 104) نقلا عن كتاب ((ختم الأولياء)) (ص 496). (5) ((ختم الولاية)) للحكيم الترمذي (ص 362). (6) ((الإنسان الكامل)) للجيلي (ص122). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 380 المبحث الخامس: المساواة بين النبي والولي وأما تسوية الصوفية بين الولاية والنبوة، بل وتفضيلهم الولاية على النبوة والرسالة، والأولياء على أنبياء الله ورسله، مثل الشيعة، فتدل عليه عبارات القوم وتصريحاتهم، فيقول لسان الدين ابن الخطيب: (الولاية: أن يتولى الله الواصل على حضر قدسه، بكثير مما تولى به النبي، من حفظ وتوفيق، وتمكين واستخلاف وتصريف. فالولي يساوي النبي في أمور، منها: العلم من غير طريق العلم الكسبي، والفعل بمجرد الهمة، فيما لم تجر به العادة أن يفعل إلا بالجوارح والجسوم، مما لا قدرة عليه لعالم الجسوم. كان الفضيل بن عياض، على جبل من جبال منى، فقال: لو أن وليا من أولياء الله أمر هذا الجبل أن يميد لماد، فتحرك الجبل، فقال: اسكن. لم أردك بهذا، فسكن الجبل. ويفعل بالهمة في عالم الخيال وفي الحس، فإنه يسمع ويرى، ما لا يرى ولا يسمع وهو بين الناس. ويفارق الولي النبي في المخاطبة الإلهية، والمعارج، فإنهما يجتمعان في الأصول وهي المقامات، إلا أن النبي يعرج بالنور الأصلي، والولي يعرج بما يفيض من ذلك النور الأصلي، وإن جمعهما مقام اختلفا بالوحدة في كل مقام، من فناء وبقاء، وجمع وفرق. والولي يأخذ المواهب بواسطة روحانية نبيه، ومن مقامه يشهد، إلا ما كان من الأولياء المحمديين، فإنه لما كان نبيهم صلوات الله وسلامه عليه جامعا لمقامات الأنبياء (أورثهم الله مقامات الأنبياء) وأوصل إليهم أنوارهم، من نور نبيهم الوارث، وبوساطته، فإنه هو الذي أعطى جميع الأنبياء والرسل مقاماتهم في عالم الأرواح. ثم شاركت الأولياء الأنبياء في الأخذ عنه، وإليه الإشارة بقوله (أولياء أمتي أنبياء من دونهم) فقد يرث ولي من الأولياء آدم، أو إدريس، أو إسحاق، أو إسماعيل، أو يوسف، أو موسى، أو عيسى، لكن لا يتوصل إلى نوره ولا حاله إلا من محمد صلوات الله وعليهم وسلامه، إلا القطب وحده، فإنه على قلب محمد صلى الله عليه وسلم (ولمثل هذا المقام الكريم فليعمل العاملون (1) و (أن الأولياء لهم أربعة مقامات: الأول مقام خلافة النبوة، والثاني مقام خلافة الرسالة، والثالث مقام خلافة أولي العزم، والرابع خلافة مقام أولي الاصطفاء. فمقام خلافة النبوة للعلماء. ومقام خلافة الرسالة للأبدال. ومقام خلافة أولي العزم للأوتاد. ومقام خلافة الاصطفاء للأقطاب. فمن الأولياء من يقوم في عالم مقام الأنبياء، ومنهم من يقوم في عالم مقام الرسل، ومنهم من يقوم في عالم مقام أولي العزم، ومنهم من يقوم في عالم مقام أولي الاصطفاء (2). وعلى ذلك قالوا: (الولاية ظل النبوة، والنبوة ظل الإلهية .... فالأنبياء عليهم السلام مصادر الحق، والأولياء مظاهر الصدق ... والأولياء خصوا بإشارات نبوية، وإطلاعات حقيقة، وأرواح نورية، وأسرار قدسية، وأنفاس روحانية، ومشاهدات أزلية (3).وبمثل هذا قال الكمشخانوي في كتابه (جامع أصول الأولياء (4). وآخر قال بوضوح أكثر: (ما قيل في النبي يقال في الوليّ (5). وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حكى عن الله عز وجل أنه قال: (أولئك كلامهم كلام الأنبياء (6). المصدر: التصوف المنشأ والمصادر لإحسان إلهي ظهير   (1) ((روضة التعريف)) للسان الدين بن الخطيب (ص 519 - 520). (2) ((جامع الأصول في الأولياء)) للكمشخاوي (ص 5) ط المطبعة الوهيبية طرابلس 1398 هـ. (3) ((الفتح المبين فيما يتعلق بترياق المحبين)) لأبي الظفر ظهير الدين القادري (ص 52) ط المطبعة الخيرية مصر الطبعة الأولى 1306 هـ. (4) انظر (ص 70) ط المطبعة الوهيبية طرابلس الشام 1398 هـ. (5) ((الفتوحات الإلهية)) لابن عجيبة الحسني (ص 264) ط عالم الفكر القاهرة 1983 م. (6) ((الفتوحات الإلهية)) لابن عجيبة الحسني (ص 116). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 381 المبحث السادس: تفضيل الولي على النبي ولم يقتصر القوم على مثل هذه السخافات والأباطيل، بل زادوا في غلوهم حيث فضلوا الولاية على النبوة والرسالة، والأولياء على الأنبياء والمرسلين، فقالوا: (خضنا بحورا وقفت الأنبياء بسواحلها (1).و (معاشر الأنبياء، أو تيتم اللقب، وأوتينا ما لم تؤتوه (2). ونقلوا عن البسطامي أنه قال: (تالله أن لوائي أعظم من لواء محمد صلى الله عليه وسلم، لوائي من نور تحته الجان والجن والإنس، كلهم من النبيين (3). وهذا ما صرّح به بعضهم: (مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الوليّ (4). لأن (الولاية: هي الفلك الأقصى، من سبح فيه اطلع، ومن اطلع علم، ومن علم تحول في صورة ما علم. فذلك الوليّ المجهول الذي لا يعرف، والنكرة التي لا تتعرّف، لا يتقيد بصورة، ولا تعرف له سريرة، يلبس لكل حالة لبوسها، أما نعيمها وإمّا بؤسها. يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لاقيت معديا فعدنان إمعة، لما في فلكه من السعة (5).   (1) ((الإبريز)) للدباغ (ص 276) نقلا عن أبي يزيد البسطامي، أيضا ((جمهرة الأولياء)) للمنوفي (1/ 266)، ((طبقات الشعراني)) (2/ 16)، ((الفتوحات الإلهية)) لابن عجيبة (ص 261)، كذلك ((الإنسان الكامل)) للجيلي نقلا عن أبي الغيث (1/ 124). (2) ((الإنسان الكامل)) للجيلي (1/ 124)، كذلك ((الجواهر والدرر)) (ص 286) بهامش الإبريز، ((الجواب المستقيم)) لابن عربي (ص 247) نقلا عن الجيلي. (3) ((لطائف المنن)) والأخلاق للشعراني (1/ 125)، أيضا شرح شطحيات (فارسي) روزبهان بقلي شيراري (ص 132) بتصحيح هنري كربين ط طهران 1981 م. (4) انظر ((طبقات الشعراني)) (1/ 68) ط دار العلم للجميع. (5) كتاب ((التجليات)) (ص 20) من رسائل ابن عربي ط الهند. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 382 و (إن الولاية هي المحيطة العامة، وهي الدائرة الكبرى، فمن حكمها أن يتولى الله من شاء من عباده بنبوة وهي من أحكام الولاية، وقد يتولاه بالرسالة وهي من أحكام الولاية أيضا. فكل رسول لابد أن يكون نبيا، وكل نبيّ لابد أن يكون وليا، فكل رسول لابد أن يكون وليا. فالرسالة بخصوص مقام في الولاية، والرسالة في الملائكة دنيا وآخرة، لأنهم سفراء الحق لبعضهم ... والرسالة في البشر لا تكون إلا في الدنيا، وينقطع حكمها في الآخرة، وكذلك تنقطع في الآخرة بعد دخول الجنة والنار نبوة التشريع، لا نبوة العامة. وأصل الرسالة في الأسماء الإلهية. وحقيقة الرسالة إبلاغ كلام من متكلم إلى سامع. فهي حال لا مقام، ولا بقاء لها بعد انقضاء التبليغ، وهي تتجدد (1).بخلاف الولاية فإنها لا تنقطع أبدا، ولا تحدّ، لا بالزمان ولا بالمكان، ولها الإنباء العام (والله لم يتسمّ بنبي ولا برسول، وتسمّى بالوليّ، واتصف بهذا الاسم، فقال: الله ولي الذين آمنوا، وقال: هو الوليّ الحميد، وهذا الاسم باق جار على عباد الله دنيا وآخرة (2).وأن الولي يعلم علمين: علم الشريعة، وعلم الحقيقة، أي الظاهر والباطن، والتنزيل والتأويل، حيث أن الرسول من حيث هو رسول ليس له علم إلا بالظاهر والتنزيل والشريعة (فإذا رأيت النبي يتكلم بكلام خارج عن التشريع فمن حيث هو وليّ عارف، ولهذا مقامه من حيث هو عارف أتمّ وأكمل من حيث هو رسول أو ذو تشريع وشرع (3).وأن النبي والرسول يستمدّ بالعلم والمعرفة من الملك الذي يبلغه الوحي الإلهي بواسطته، ولا يمكنه الأخذ من الله مباشرة، والوليّ يستمد المعرفة من حيث يأخذها الملك الذي يؤدي بدوره إلى الأنبياء والرسل (فمرجع الرسول والنبي المشرع إلى الولاية والعلم (4).   (1) ((الفتوحات المكية)) لابن عربي (2/ 256 - 257). (2) ((فصوص الحكم)) لابن عربي بتعليقات الدكتور أبي العلاء العفيفي (1/ 135) ط دار الكتاب العربي بيروت. (3) أيضا ((فصّ حكمة قدرية في كلمة عزيرية)) (ص 135). (4) أيضا ((الفصّ العزيري)). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 383 فلذلك قال ابن عربي بصراحة لا تحتمل التأويل: (وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الوليّ الخاتم، حتى أن الرسل لا يرونه – متى رأوه – إلا من مشكاة خاتم الأولياء: فإن الرسالة والنبوة – أعني نبوة التشريع ورسالته – تنقطعان، والولاية لا تنقطع أبداً. فالمرسلون، من كونهم أولياء، لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف من دونهم من الأولياء؟ وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع، فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجه يكون أنزل كما أنه من وجه يكون أعلى ... لما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبّن وقد كَمُلَ سوى موضع لبِنَة، فكان صلى الله عليه وسلم تلك اللبنة. غير أنه صلى الله عليه وسلم لا يراها كما قال لبِنَة واحدة. وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤيا، فيرى ما مثله به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرى في الحائط موضع لبِنَتين، واللبن من ذهب وفضة. فيرى اللبنتين اللتين تنقص الحائط عنهما وتكمل بهما، لبنة ذهب ولبنة فضة، فلا بد أن يرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين، فيكون خاتم الأولياء تينك اللبنتين. فيكمل الحائط. والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر وهو موضع اللبنة الفضة، وهو ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام، كما هو آخذ عن الله في السر ما هو موضع اللبنة الذهبية في الباطن، فإنه أخذ من المعدن الذي يأخذ من الملك الذي يوحى به إلى الرسول .. فإن فهمت ما أشرت به فقد حصل لك العلم النافع بكل شيء. فكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين، وإن تأخر وجود طينته، فإنه بحقيقته موجود، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((كنت نبياً وآدم بين الماء والطين)) (1). وغيره من الأنبياء ما كان نبيا إلا حين بُعثَ، وكذلك خاتم الأولياء كان وليا وآدم بين الماء والطين، وغيره من الأولياء ما كان ولياً إلا بعد تحصيله شرائط الولاية من الأخلاق الإلهية في الاتصاف بها من كون الله تعالى تسمى (بالولي الحميد). خاتم الرسل من حيث ولايته، نسبته مع الخاتم للولاية نسبة الأنبياء والرسل معه، فإنه الولي الرسول النبي. وخاتم الأولياء الولي الوارث الآخذ عن الأصل المشاهد للمراتب (2). ولا أدري كيف يدافع من يدافع عن ابن عربي بأنه لا يفضل الولي على النبي، وبعد هذه التصريحات كلها؟ حيث يجعل خاتم الأولياء منبع العلوم، ومصدر الفيض لجميع الأنبياء والرسل، وأنهم لا يستمدون إلا منه، ولا يستقون إلا من ذلك المنهل والمورد، ولا يستضيئون إلا من مشكاته، وهذا الفيض الشيثي والعزيري نص في القضية. ولذلك ردّ شيخ الإسلام ابن تيمية في رسائله بشدّة عليه، وعلى من نهج منهجه وسلك مسلكه، في رسائله وكتبه، ونسب كلامه إلى الكفر الذي تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا (3).   (1) قال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (18/ 125): كذب باطل. (2) ((فصوص الحكم)) لابن عربي فصّ حكمة نفثية في كلمة شيشية (ص 62، 63، 64). (3) انظر ((مجموعة الرسائل والمسائل)) لابن تيمية (4/ 57) ط دار الكتب العلمية بيروت لبنان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 384 وقال شيخ الإسلام في فتاواه: (وكذا لفظ (خاتم الأولياء) لفظ باطل لا أصل له، وأول من ذكره محمد بن علي الحكيم الترمذي، وقد انتحله طائفة كل منهم يدعي أنه خاتم الأولياء: كابن حمويه وابن عربي وبعض الشيوخ الضالين بدمشق وغيرها، وكل منهم يدعي أنه أفضل من النبي عليه السلام من بعض الوجوه، إلى غير ذلك من الكفر والبهتان، وكل ذلك طمعاً في رياسة خاتم الأولياء لما فاتتهم رياسة خاتم الأنبياء، وقد غلطوا، فإن خاتم الأنبياء إنما كان أفضلهم للأدلة الدالة على ذلك، وليس كذلك خاتم الأولياء. فإن أفضل أولياء هذه الأمة السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر رضي الله عنه، ثم عمر رضي الله عنه وثم عثمان رضي الله عنه، ثم علي رضي الله عنه، وخير قرونها القرن الذي بعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وخاتم الأولياء في الحقيقة آخر مؤمن تقي يكون في الناس، وليس ذلك بخير الأولياء، ولا أفضلهم بل خيرهم وأفضلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه تعالى عنه، ثم عمر: اللذان ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل منهما (1). وقبل أن نورد نصوصا أخرى من القوم ممن خلف ابن عربي في مثل هذه المقولات وسبقوه نودّ أن نلفت أنظار القراء والباحثين إلى أن خاتم الأولياء الذي صعد وارتقى تلك المنزلة الكبرى، وحاز ذلك المنصب العظيم حتى ازداد على أنبياء الله ورسله، لم يكن عند ابن عربي إلا هو نفسه كما يقول في (فتوحاته): (أنا ختم الولاية دون شك لورثي الهاشمي مع المسيح كما أني أبو بكر عتيق أجاهد كلّ ذي جسم وروح بأرواح مثقفة طوال وترجمة بقرآن فصيح أشدّ على كتيبة كل عقل تنازعني على الوحي الصريح لي الورع الذي يسمو اعتلاء على الأحوال بالنبأ الصحيح وساعدني عليه رجال صدق من الورعين من أهل الفتوح يوالون الوجوب وكلّ ندبويستثنون سلطنة المبيح (2). وهناك تصريحات أخرى منه ومن أتباعه، نذكرها في ترجمته في باب مستقل في الجزء الثاني من هذا الكتاب، تحت تراجم كبراء المتصوفين – إن شاء الرحمن -. وأما الحكيم الترمذي الذي منه أخذ ابن عربي تلك الفكرة في أخذ النبي العلم والمعرفة من الملك، وأخذ الوليّ بدون واسطة، فيقول في جواب سؤال: ما الفرق بين النبوة والولاية؟: (الفرق بين النبوة والولاية أن النبوة كلام ينفصل من الله وحيا، ومعه روح من الله فيقضي الوحي ويختم بالروح ... والولاية لمن ولى الله حديثه على طريق أخرى، فأوصله إليه فله الحديث، وينفصل ذلك الحديث من الله عز وجل، على لسان الحق معه السكينة، تتلقاه السكينة في قلب المحدّث، فيقبله ويسكن إليه (3). ثم يذكر خاتم الأولياء فيقول: (لما قبض الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم صيّر في أمته أربعين صديقا بهم تقوم الأرض، وهم آل بيته، فكل ما مات واحد منهم خلفه من يقوم مقامه، حتى إذا انقرض عددهم وأتى وقت زوال الدنيا إبتعث الله وليا اصطفاه واجتباه، وقرّبه وأدناه، وأعطاه ما أعطى الأولياء، وخصّه بخاتم الولاية، فيكون حجة الله يوم القيامة على سائر الأولياء فيوجد عنده بذلك الختم صدق الولاية على سبيل ما وجد عند محمد صلى الله عليه وسلم من صدق النبوة فلم ينله العدو، ولا وجدت النفس إليه سبيلا إلى الأخذ بحظها من الولاية.   (1) ((فتاوى شيخ الإسلام)) (11/ 444) جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم وابنه. (2) ((الفتوحات المكية)) لابن عربي (ج4 الباب الثالث والأربعون) (ص 71) بتحقيق عثمان إبراهيم يحيى مدكور ط الهيئة المصرية العامة للكتاب 1975 م. (3) كتاب ((ختم الولاية)) الفصل العاشر علامات الأولياء (ص 346 - 347). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 385 فإذا برز الأولياء يوم القيامة واقتضوا صدق الولاية والعبودية وجد الوفاء عند هذا الذي ختم الولاية تماما، فكان حجة الله عليهم وعلى سائر الموحدين من بعدهم، وكان شفيعهم يوم القيامة، فهو سيدهم، ساد الأولياء، كما ساد الأنبياء، فينصب له مقام الشفاعة، ويثني على الله تعالى ثناء ويحمده بمحامد يقرّ الأولياء بفضله عليهم في العلم بالله تعالى. فلم يزل هذا الولي مذكورا في البدء، أولا في الذكر، وأولا في العلم، ثم هو الأول في المشيئة، ثم هو الأول في اللوح المحفوظ، ثم الأول في الميثاق، ثم الأول في المحشر، ثم الأول في الجوار، ثم الأول في الخطاب، ثم الأول في الوفادة، ثم الأول في الشفاعة، ثم الأول في دخول الدار، ثم الأول في الزيارة، فهو في كل مكان أول الأولياء (1). وقد سئل: أين مقامه؟ فقال: (في أعلى منازل الأولياء، في ملك الفردانية، وقد انفرد في وحدانيته، ومناجاته كفاحا في مجالس الملك، وهداياه من خزائن السعي. قال: وما خزائن السعي؟ قال: إنما هي ثلاث خزائن: المنن للأولياء، وخزائن السعي لهذا الإمام القائد، وخزائن القرب للأنبياء عليهم السلام، فهذا (خاتم الأولياء) مقامه من خزائن المنن، ومتناوله من خزائن القرب، فهو في السعي أبدا، فمرتبته هنا، ومتناوله من خزائن الأنبياء عليهم السلام، قد انكشفت له الغطاء عن مقام الأنبياء ومراتبهم وتحفهم (2). ويقول أيضا: (وقد يكون في الأولياء من هو أرفع درجة، وذاك عبد قد ولى الله استعماله، فهو في قبضته يتقلب، به ينطق، وبه يسمع، وبه يبصر، وبه يبطش، وبه يعقل، شهره في أرضه، وجعله إمام خلقه ووصاحب لواء الأولياء، وأمان أهل الأرض، ومنظر أهل السماء، وريحانة الجنان، وخاصة الله، وموضع نظره، ومعدن سره، وسوطه في أرضه، يؤدب به خلقه، ويحيي القلوب الميتة برؤيته، ويرد الخلق إلى طريقه، وينعش به حقوقه، مفتاح الهدى، وسراج الأرض، وأمين صحيفة الأولياء، وقائدهم، والقائم بالثناء على ربه، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم! يباهي به الرسول في ذلك الموقف، وينوه الله باسمه في ذلك المقام، ويقر عين رسول الله صلى الله عليه وسلم!، قد أخذ الله بقلبه أيام الدنيا، ونحله حكمته العليا، وأهدى إليه توحيده، ونزه طريقه عن رؤية النفس، وظل الهوى، وأئتمنه على صحيفة الأولياء، وعرّفه مقاماتهم، وأطلعه على منازلهم. فهو سيد النجباء، وصالح الحكماء، وشفاء الأدواء، وإمام الأطباء. كلامه قيد القلوب، ورؤيته شفاء النفوس، وإقباله قهر الأهواء، وقربه طهر الأدناس، فهو ربيع يزهر نوره أبداً، وخريف يجنى ثماره دأبا، وكهف يلجأ إليه، ومعدن يؤمل ما لديه، وفصل بين الحق والباطل. وهو الصديق والفاروق والولي والعارف والمحدّث. هو واحد الله في أرضه (3). وأما ما قاله المتأخرون فهو أظهر وأصرح، فيقول داود القيصري: (فالنبوة دائرة تامة مشتملة على دوائر متباينة متفاوتة في الحيطة، وقد علمت أن الظاهر لا يأخذ التأييد والقوة والتصرف والعلوم، وجميع ما يفيض من الحق تعالى عليه إلا بالباطن: وهو مقام الولاية، المأخوذ من الولي، وهو القرب، والوليّ بمعنى الحبيب أيضا منه. فرباط النبوة الولاية، وهي تنقسم بالعامة والخاصة. فالأولى تشتمل على كل من آمن بالله وعمل صالحا، على حسب مراتبهم كما قال الله تعالى: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ [البقرة:257].   (1) ((ختم الولاية)) للترمذي الحكيم الفصل التاسع (ص 344 - 345). (2) أيضا (ص 367). (3) ((نوادر الأصول)) للترمذي (ص 157، 158) ط الآستانا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 386 والثانية تشتمل على الواصلين من السالكين فقط، عند فنائهم فيه وبقائهم به في الولاية الخاصة، عبارة عن فناء العبد في الحق. فالوليّ هو الفاني فيه الباقي به ..... وهذا الفناء موجب لأن يتعين العبد بتعيّنات حقانية وصفات ربانية مرة أخرى، وهو البقاء بالحق، فلا يرتفع التعين منه مطلقا، وهذا المقام دايرة أتمّ وأكبر من دايرة النبوة، لذلك انختمت النبوة، والولاية دائمة، وجعل الوليّ، اسما من أسماء الله تعالى دون النبي، ولما كانت الولاية أكبر حيطة من النبوة وباطنا لها، شملت الأنبياء والأولياء. فالأنبياء هم أولياء فانون بالحق، باقون به، منبئون عن الغيب وأسراره .... ولا نهاية لكمال الولاية، فمراتب الأولياء غير متناهية (1). هذا ومثل هذا كثير عنده. وهناك تلميذ آخر لابن عربي شيعي، فقال مثل ما قاله القيصري: (وفي الحقيقة: الولاية هي باطن النبوة، والفرق بين النبي والرسول والوليّ أن النبي والرسول لهما التصرف في الخلق بحسب الظاهر والشريعة، والولي له التصرف فيهم بحسب الباطن والحقيقة ومن هذا قالوا: النبوة تنقطع، والولاية لا تنقطع أبدا (2). وقال النسفي عزيز الدين بن محمد المتوفى 671 هـ في كتابه (زبدة الحقائق): (إن طائفة من الصوفية ذهبت إلى تفضيل الولاية على النبوة، وقالوا: أن النبوة باطنها الولاية، وأما الولاية فباطنها عالم الإله (3).هذا ما ذكره في كتابه (زبدة الحقائق)، وبمثل ذلك ذكر في كتابه (الإنسان الكامل (4). وأما ما قاله في كتابه (كشف الحقائق) فهو: (أيها العارف، إن العارفين عند أهل الوحدة ثلاثة طوائف: حكماء وأنبياء وأولياء، فالحكيم من يكون عارفا بطبائع الأشياء، والنبي من يكون عارفا بطبائع الأشياء وخواصّها، والولي من يكون عارفا بطبائع الأشياء وخواصّها وحقائقها، فظهر أنه لا يوجد في العالم أحد يضاهي الوليّ في العلم والقدرة، لأن الله له تجليّان: تجلي عام، تجلي خاص. فالتجلي العام عبارة عن أفراد الموجودات، والتجلي الخاص عبارة عن الوليّ، وهذا هو معنى قول الله عز وجل: فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الشورى:9] وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12] (5). ويقول في موضع آخر من كتابه: (المعرفة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول معرفة طبيعة كل شيء، وهذه رتبة الحكماء، والثاني معرفة خاصية كل شيء، وهذه رتبة الأنبياء، والثالث معرفة حقيقة كل شيء، وهذه رتبة الأولياء، وأعلم أن أهل الوحدة فضّلوا النبي على الحكيم، والوليّ على النبيّ، فإن كل نبي حكيم، وكل وليّ نبيّ، وليس كل نبي وليّ) (6). وأما الصوفي الآخر سعد الدين حمويه فيقول في مثنويّه: (واو الولاية أقرب إلى الحضرة الإلهية من نون النبوة، فلأجل هذا التقرب تعتبر الولاية أفضل من النبوة، ثم يبيّن ذلك في أبياته قائلا: الحرف الأول من كلمة الولاية هو الواو والواو في وسطها ألف أيها المريد والحرف الأول من كلمة النبوة هو النون والنون في وسطها حرف الواو فإذن الوليّ قلب النبي وروحهوروح الوليّ هو ذات الله ونفسه (7). فهذه هي عقيدة المتصوفة في الأولياء، والولاية، عين تلك العقيدة الشيعية الشنيعة التي ذكرناها من قبل، وهي تتضمن تفضيل الأولياء على أنبياء الله ورسله، والبعض الآخر كتموها عملا بالتقية التي لم يأخذوها أيضا إلا من الشيعة كما سنذكرها. فإن الوليّ عندهم فوق الرسول والنبي، ودون الله قليلا، وأحيانا يحذفون هذا الفرق البسيط أيضا بينه وبين الله، ويجعلونه ذات الله وعينه، سواء اتحد به، أو ذلك اتحد به، وعلى ذلك قالوا: (لو كشف عن حقيقة الوليّ لعبد (8). المصدر: التصوف المنشأ والمصادر لإحسان إلهي ظهير   (1) ((مقدمة شرح الفصوص)) للقيصري مخطوط (ص 86) وما بعد المنقول من كتاب ((ختم الأولياء)) (ص 491). (2) كتاب ((نص النصوص)) لحيدر الآملي مخطوط (ص 91) وما بعد. (3) ((زبدة الحقائق)) للنسفي طبعة فارسية (ص 59) بتصحيح تعليق حق وردي ناصري ط إيران 1405هـ قمري. (4) انظر (ص 110). (5) ((كشف الحقائق)) لعزيز الدين النسفي بتصحيح وتعليق دكتور أحمد مهدوي طبعة فارسية (ص 59) ط طهران 1359 هجري قمري. (6) ((كشف الحقائق)) للنسفي طبعة فارسية (ص 102). (7) انظر ((جهل مجلس)) لعلاء الدين سمناني بتصحيح عبد الرفيع حقيقت (ص 45، 46). (8) ((غيث المواهب العلية)) للنفزي الرندي (1/ 235) بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 387 المبحث السابع: إجؤاء النبوة وبهذه المناسبة نريد أن نذكر ههنا عقيدة صوفية خبيثة أخرى، أخذوها من بعض فرق الشيعة، من الخطابية، والخرمية، والمنصورية وغيرها بأن رسالة الله لا تنقطع أبدا، وأن النبوة جارية، ويأتي نبيّ حينا بعد حين (1).وهم بدورهم أخذوها من اليهودية مثل العقائد الأخرى كما ذكره ولهوزن: (أن النبي الصادق واحد يعود أبدا (2). ومعلوم أن هذه العقيدة لم تعتنقها فرق الشيعة إلا للقضاء على الإسلام وهدم كيانه، وفتح الأبواب على الدجالين والكذابين لترويج نبواتهم الباطلة ودعاويهم الكاذبة، وإخراج المسلمين عن حظيرة الإسلام، وإدخالهم في بؤرة الكفر والإرتداد، وإبعادهم عن محمد الصادق المصدوق الأمين عليه الصلاة والسلام وعن شريعته السماوية السمحاء، ونشر الفتن والقلاقل بينهم، وفكّ جمعيتهم، وتشتيت شملهم، وتفريق كلمتهم، وتمزيق جماعتهم، والقضاء على شأنهم وشوكتهم، وسدّ سيل النور كي لا يعمّ المعمورة، ويشمل الكون، ووضع العراقيل في طريقه، مخالفين النصوص الصريحة المعارضة في كلام الله المحكم، وحديث رسول الله الثابت عنه عليه الصلاة والسلام مثل قوله جل وعلا: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]. وقوله تبارك وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3]. وقوله جلّ من قائل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سبأ:28]. وقوله: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا خاتم النبيين لا نبيّ بعدي ((3).وقوله عليه الصلاة والسلام: ((إني آخر الأنبياء ومسجدي آخر المساجد) (4).وقوله صلى الله عليه وسلم: ((مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بنيانه، ترك منه موضع لبنة، فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنيانه إلا موضع تلك اللبنة، فكنت أنا سددت موضع اللبنة، ختم بي البنيان، ختم بي الرسل) (5).   (1) انظر لذلك ((فرق الشيعة)) للنوبختي (ص 70) وما بعد، كذلك كتاب ((المقالات والفرق)) للأشعري القمي الشيعي (ص 46، 54، 64)، وانظر كذلك كتب السنة من ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري، و ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي و ((الملل والنحل)) للشهرستاني وغيرها. (2) انظر ((الأحزاب المعارضة الدينية والسياسية في صدر الإسلام)) لولهوزن (ص 249) ترجمة عربية للبدوي. (3) رواه أبو داود (4252) والترمذي (2219) وأحمد (5/ 278) (22448) وابن حبان (15/ 109) (6714) والحاكم (4/ 496) (8390) قال الترمذي حسن صحيح، وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين، وصححه الألباني (4) رواه مسلم (1394) (5) رواه ابن حبان (14/ 316) (6406) وأصل الحديث متفق عليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 388 وغيرها من الأحاديث الكثيرة الكثيرة في هذا المعنى ولكن القوم يقولون عكس ذلك، معرضين عن كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، متبعين غير سبيل المؤمنين، فيقول شيخهم الأكبر متفوها الكفر الصريح: (ويجمع النبوة كلها أم الكتاب، ومفتاحها: بسم الله الرحمن الرحيم. فالنبوة سارية إلى يوم القيامة في الخلق. وإن كان التشريع قد انقطع، فالتشريع جزء من أجزاء النبوة، فإنه يستحيل أن ينقطع خبر الله وأخباره من العالم، إذ لو انقطع لم يبق للعالم غذاء يتغذى به في بقاء وجوده: قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا،: ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله، وقد أخبر الله أنه ما من شيء يريد إيجاده إلا يقول له: كن، فهذه كلمات الله لا تنقطع، وهي النداء العام لجميع الموجودات. فهذا جزء واحد من أجزاء النبوة لا ينفد، فأين أنت من باقي الأجزاء التي لها (1). فهذه هي عقيدة القوم بلسان قدّيسهم، وفي فتوحاته التي يقولون فيها، وفيه: فتوحات شيخي غادة مدنية ... كستها نفيسات العلوم ملابسا فلا عجب لو تشتهيها نفوسنا ... وأبحاثها أبدت إلينا نفائسا فلله دّر الشيخ أكبر عصره ... بأنفاسه لا زال يحيى المجالسا وهذه العقيدة هي التي شجعت الكثيرين من المتنبئين والكذابين على الله أن يدّعو النبوة بعد محمد صلوات الله وسلامه عليه، مثل الغلام القادياني الذي استشهد على تنبئه بكلام ابن عربي هذا (2)، وغيره من الدجاجلة الآخرين، مع تصريح رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالون، كلهم يزعم أنه رسول الله، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي)) (3). ولكن ابن عربي يقول معاكسا لذلك في فتوحاته: (ويتضمن هذا الباب المسائل التي لا يعلمها إلا الأكابر من عباد الله، الذين هم في زمانهم بمنزلة الأنبياء في زمان النبوة، وهي النبوة العامة. فإن النبوة التي انقطعت بوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي نبوة التشريع لا مقامها فلا شرع يكون ناسخا لشرعه صلى الله عليه وسلم، ولا يزيد في حكمه شرعا آخر، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرسالة والنبوة انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبي)) (4)، أي لا نبيّ بعدي يكون على شرع يكون مخالفا لشرعي، بل إذا كان، يكون تحت حكم شريعتي ... فهذا هو الذي انقطع وسدّ بابه، لا مقام النبوة (5). فهل يقول المتنبئون الدجالون الكذابون غير هذا؟ فإنهم لا يلتقطون إلا من موائد الصوفية وخوانها، ولا يستوحون إلا من أمثال شيخهم الأكبر. ويقول ابن عربي كذلك مجيبا على سؤال الترمذي الملقب بالحكيم: أين مقام الأنبياء من مقام الأولياء؟ يجيب على هذا ويقول:   (1) ((الفتوحات المكية)) لابن عربي (2/ 90). (2) انظر ((جريدة الحكم القاديانية)) الصادرة (10 ابريل 1930م) المنقول من كتابنا ((القاديانية دراسات وتحليل)) (ص 286) الطبعة العشرون ط إدارة ترجمان السنة باكستان. (3) رواه أبو داود (4333) بدون الشطر الأخير، ورواه ابن حبان (16/ 220) (7238) والحاكم (4/ 496) (8390) وقال صحيح على شرط الشيخين (4) رواه الترمذي (2272) وقال: حسن غريب من هذا الوجه. وقال الألباني في ((صحيح الترمذي)): إسناده صحيح. (5) ((الفتوحات المكية)) لابن عربي (2/ 3). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 389 (وإن كان سؤاله عن مقام الأنبياء من الأولياء، أي أنبياء الأولياء – وهي النبوة التي قلنا أنها لم تنقطع، فإنها ليست نبوة الشرائع – وكذلك في السؤال عن مقام الرسل، الذين هم أنبياء فلنقل في جوابه: أن أنبياء الأولياء، مقامهم من الحضرات الإلهية الفردانية، والاسم الإلهي الذي تعبدهم (هو) الفرد، وهم المسمون الأفراد. فهذا هو مقام نبوة الولاية، لا نبوة الشرائع. وأما مقام الرسل، الذين هم أنبياء فهم الذين لهم خصائص على ما تعبدوا به أتباعهم. كمحمد صلى الله عليه وسلم، فيما قيل له: (خالصة لك من دون المؤمنين) في النكاح بدون الهبة. فمن الرسل من لهم خصائص على أمتهم ومنهم من لا يختصه الله بشيء دون أمته. وكذلك الأولياء: فيهم أنبياء، أي خصوا بعلم لا يحصل إلا لنبي، من العلم الإلهي. ويكون حكمهم من الله، فيما أخبرهم به، حكم الملائكة. ولهذا قال (تعالى) في نبي الشرائع: (ما لم تحط به خبرا)، أي ما هو ذوقك، يا موسى! مع كونه كليم الله. فخرق (الخضر) السفينة، وقتل الغلام حكماً، وأقام الجدار - مكارم خلق – عن حكم الأمر الإلهي، (هذا كله) كخسف البلاد على يدي جبريل ومن كان من الملائكة. ولهذا كان الأفراد من البشر بمنزلة المهيمن من الملائكة، وأنبياؤهم منهم بمنزلة الرسل من الأنبياء (1). هذا ويقول الآخرون مثل ما قاله ابن عربي، فيقول الفرغاني: (أما الولاية فهي التصرف في الخلق بالحق، وليست في الحقيقة إلا باطن النبوة، لأن النبوة ظاهرة الأنباء، وباطنها التصرف في النفوس بإجراء الأحكام عليها. والنبوة مختومة من حيث الأنباء، إذ لا نبيّ بعد محمد صلى الله عليه وسلم، دائمة من حيث الولاية والتصرف (2). وأما السهروردي المقتول فيقول: (إن اتفق في الوقت متوغل في التأله والبحث فله الرياسة، وإن لم يتفق فالمتوغل في التأله المتوسط في البحث. وإن لم يتفق فالحكيم المتوغل في التأله عديم البحث، وهو خليفة الله. ولا تخلو الأرض من متوغل في التأله أبدا (3). فهذه هي عقيدة أخرى منافية للإسلام ومخالفة له، ومعارضة لأسسه وقواعده، مناقضة لشرعته وتعاليمه، متبطنة الكفر أشد الكفر، ومتضمنة الارتداد كل الارتداد، مأخوذة من الشيعة واليهودية. ومعروف أنهم لم يخترعوا هذه العقيدة ولم يختلقوها ليوصلوا المتصوفة إلى مقام النبوة ومكانتها كما وصّل الشيعة إليها أئمتهم، فوصفوهم بجميع أوصاف النبوة، واختصاصاتها، ومن أهمها العصمة. المصدر: التصوف المنشأ والمصادر لإحسان إلهي ظهير   (1) ((الجواب المستقيم عما سأل عنه الترمذي الحكيم)) سؤال (رقم 0 18) (ص 167، 168) من كتاب ((ختم الأولياء)). (2) ((المقدّمات)) للفرغاني مخطوط آيا صوفيا (رقم 1898) نقلا عن ((ختم الأولياء)) للترمذي (ص 487) ط بيروت. (3) ((مجموعة في الحكمة المشرقية)) للسهر وردي (ص 23 - 24). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 390 المبحث الثامن: العصمة فالعصمة في تبليغ رسالات الله ضرورية للأنبياء والرسل كي لا يقع الخطأ والغلط في أداء أوامر الله ونواهيه، وأحكام الله وإرشاداته، فيدعمون ويسددون بالوحي ونزول الملائكة عليهم، فما ينطقون عن الهوى، ويجب اتباعهم في كل ما يقولونه ويأمرون به، لسلامتهم من الخطأ، والزلل بخلاف غيرهم، فإنه يمكن عليهم الخطأ والنسيان، والزلل والغلط، فلا يؤمن جانبهم من هذه الأمور كلها. ولكن الشيعة الذين جعلوا أئمتهم كالأنبياء أو المشاركين في النبوة والمضاهين لها، اختلقوا لهم هذه المكانة، وادعوا لهم هذه المنزلة، فقالوا: (إن الإمام يجب أن يكون معصوما (1). وقال ابن بابويه القمي الملقب بالصدوق عند الشيعة: (اعتقادنا في الأنبياء والرسل والأئمة والملائكة عليهم السلام أنهم معصومون مطهرون من كل دنس، وأنهم لا يذنبون ذنبا صغيرا ولا كبيرا، ولا يعصون ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، ومن نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهلهم، ومن جهلهم فهو كافر. واعتقادنا فيهم أنهم معصومون موصوفون بالكمال والتمام والعلم من أوائل أمورهم وأواخرها، لا يوصفون في شيء من أحوالهم بنقص ولا عصيان ولا جهل (2). وقال خاتمة محدثي الشيعة ملاّ باقر المجلسي: (الشرط الثاني في الإمام أن يكون معصوما، وإجماع الإمامية منعقد على أن الإمام مثل النبيّ صلى الله عليه وآله معصوم من أول عمره إلى آخر عمره من جميع الذنوب الصغائر والكبائر والأحاديث المتواترة على هذا المضمون واردة (3). ورووا في هذا الخصوص روايات مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى عليّ رضي الله عنه وأولاده. منها ما رواها ابن بابويه القمي (4) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ((أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهرون معصومون)) ((5). وروى المفيد في أماليه عن جعفر بن محمد أنه قال: (إن الله فرض ولايتنا وأوجب مودتنا، والله، ما نقول بأهوائنا، ولا نعمل بآرائنا، ولا نقول إلا ما قال ربنا عز وجل (6).وقال ابن بابويه القمي في كتاب (الخصال) مفسرا قول الله عز وجل: لا ينال عهدي الظالمين، يقول في تفسير: (فإذن لا يكون الإمام إلا معصوما، ولا تعلم عصمته إلا بنصّ الله عز وجل عليه (7).   (1) ((منهاج الكرامة)) للحلي (ص 71) المنشور مع ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية ط باكستان أيضا تلخيص الشافي للطوسي (1/ 181) قم إيران، كمال الدين القمي (1/ 10). (2) ((اعتقادات الصدوق)) (ص 108). (3) ((حق اليقين)) للمجلسي (ص 39). (4) ((عيون أخبار الرضا)) لابن بابويه القمي (1/ 64) ط طهران. (5) لم نجده في كتب الحديث المعتمدة لا الضعيفة ولا الصحيحة، وهو في الكتاب المذكور وحسب والله أعلم. (6) ((الأمالي)) للمفيد (ص 59، 60) ط قم إيران 1403 هـ. (7) كتاب ((الخصال)) لابن بابويه القمي باب الخمسة (1/ 310) ط كتاب ((الخصال)) لابن بابويه القمي باب الخمسة (1/ 310) ط إيران. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 391 وبمثل ذلك قال المتصوفة في كبرائهم وأوليائهم. وقبل أن نذكر النصوص في هذا الخصوص نورد ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الباب عن الشيعة ومن تبعهم في ذلك من المتصوفين: (وكذلك الرافضة موصوفون بالغلو عند الأمة فإن فيهم من ادّعى الإلهية في علي وهؤلاء شر من النصارى وفيهم من ادعى النبوة فيه ومن أثبت نبيا بعد محمد فهو شبيه بأتباع مسيلمة الكذاب وأمثاله من المتنبئين إلا أن عليا رضي الله عنه بريء من هذه الدعوة بخلاف من ادعى النبوة لنفسه كمسيلمة وأمثاله وهؤلاء الإمامية يدعون ثبوت إمامته بالنص وأنه كان معصوما هو وكثير من ذريته وأن القوم ظلموه وغصبوه ودعوى العصمة تضاهي المشاركة في النبوة فإن المعصوم يجب إتباعه في كل ما يقول لا يجوز أن يخالف في شيء وهذه خاصة الأنبياء ولهذا أمرنا أن نؤمن بما أنزل إليهم فقال تعالى قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136] فأمرنا أن نقول آمنا بما أوتى النبيون وقال تعالى آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإليك الْمَصِيرُ [البقرة:285] وقال تعالى وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177] فالإيمان بما جاء به النبيون مما أمرنا أن نقوله ونؤمن به وهذا مما اتفق عليه المسلمون أنه يجب الإيمان بكل نبي ومن كفر بنبي واحد فهو كافر ومن سبه وجب قتله باتفاق العلماء وليس كذلك من سوى الأنبياء سواء سموا أولياء أو أئمة أو حكماء أو علماء أو غير ذلك فمن جعل بعد الرسول معصوما يجب الإيمان بكل ما يقول فقد أعطاه معنى النبوة وإن لم يعطه لفظها ويقال لهذا ما الفرق بين هذا وبين أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا مأمورين باتباع شريعة التوراة وكثير من الغلاة في المشايخ يعتقد أحدهم في شيخه نحو ذلك ويقولون الشيخ محفوظ ويأمرون باتباع الشيخ في كل ما يفعل لا يخالف في شيء أصلا وهذا من جنس غلو الرافضة والنصارى والإسماعيلية تدعي في أئمتها أنهم كانوا معصومين وأصحاب ابن تومرت الذي ادعى أنه المهدي يقولون أنه معصوم ويقولون في خطبة الجمعة الإمام المعصوم والمهدي المعلوم ويقال أنهم قتلوا بعض من أنكر أن يكون معصوماً ومعلوم أن كل هذه الأقوال مخالفة لدين الإسلام للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها فإن الله تعالى يقول يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59] الآية فلم يأمرنا بالرد عند التنازع إلا إلى الله والرسول فمن أثبت شخصا معصوما غير الرسول أوجب رد ما تنازعوا فيه إليه لأنه لا يقول عنده إلا الحق كالرسول وهذا خلاف القرآن وأيضا فإن المعصوم تجب طاعته مطلقا بلا قيد ومخالفه يستحق الوعيد والقرآن إنما أثبت هذا في حق الرسول خاصة قال تعالى وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 392 وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69] وقال وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الجن:23]. فدل القرآن في غير موضع على أن من أطاع الرسول كان من أهل السعادة ولم يشترط في ذلك طاعة معصوم آخر ومن عصى الرسول كان من أهل الوعيد وإن قدر أنه أطاع من ظن أنه معصوم فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي فرق الله به بين أهل الجنة وأهل النار وبين الأبرار والفجار وبين الحق والباطل وبين الغي والرشاد والهدى والضلال وجعله القسيم الذي قسم به عباده إلى شقي وسعيد فمن اتبعه فهو السعيد ومن خالفه فهو الشقي وليست هذه المرتبة لغيره ولهذا اتفق أهل العلم أهل الكتاب والسنة على أن كل شخص سوى الرسول فإنه يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يجب تصديقه في كل ما أخبر وطاعته في كل ما أمر فإنه المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى (1). وهو كما قال شيخ الإسلام أن الصوفية يعتقدون في أوليائهم ما يعتقد الشيعة في أئمتهم من تأليههم، وجعلهم أنبياء أو كالأنبياء، معصومين، ولو أنهم كثيرا ما يتجنبون عن استعمال هذه اللفظة، ويستبدلونها بالحفظ، ولا يقصدون من ورائها إلا العصمة التي يستعملها الشيعة توقيا وتحفظا من طعن الطاعنين واعتراض المعترضين، وستر لتلك الصلة الوثيقة التي تربطهم مع الشيعة، لو أن بعض المتهورين منهم لم يراعوا هذا الكتمان والإخفاء، وباحوا بهذا السر جهرا وعلنا، عارفين بأن تقيتهم هذه لا تسمن ولا تغني من جوع، لأن المراد من كلتا اللفظتين واحد، لا اختلاف بينهما من حيث المدلول، فقال قائلهم: (وأما صور تلقيات الموحدين الخطابية فهو أن تنبعث اللطفية الإنسانية مجردة عن الفكر طالبة ما لا تعلم منه إلا نسبة الوجود إليه بتقييدها به فإذا نزل هذا العقل بحضرة من الحضرات نزل إليه بحكم التدلي أو برز له أو ظهر له اسم من الأسماء الحسنى بما فيه من الأسرار فيهبه بحسب تجريده وصحة قصده وعصمته في طريقه فيرجع إلى عالم كونه عالما بما ألقي إليه من علم ربه بربه أو من علم ربه بضرب من كونه ثم ينزل نزولا آخر هكذا أبدا الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ [الأحقاف:9] وهو خير البشر وأكثرهم عقلا وأصحهم فكرة وروية فأين الفكر هنا هيهات تلف أصحاب الأفكار والقائلون باكتساب النبوة والولاية كيف لهم ذلك والنبوة والولاية مقامان وراء طور العقل ليس للعقل فيهما كسب بل هما اختصاصان من الله تعالى لمن شاء (2). فاستعمل الشيخ الأكبر للصوفية العصمة للأنبياء والأولياء، وسوّى بينهما، ولم ير الفرق في كونهما مصطفين مختارين من قبل الله عز وجل، ومنزلتهما ومكانتهما لا تدركان بالعقل، ومنصبهما لا يكتسب. وقال في مقام آخر: (إن من شرط الإمام الباطن (يعني الولي) أن يكون معصوما، وليس الظاهر إن كان غيره مقام العصمة (3). وبمثل ذلك قال أبو الحسن الشاذلي: (إن من خواص القطب إمداد الله له بالرحمة والعصمة والخلافة والنيابة (4).   (1) ((منهاج السنة النبوية)) لشيخ الإسلام (ص 174، 175). (2) كتاب ((التراجم)) لابن عربي من "مجموعة رسائله" (ص 4). (3) ((الفتوحات المكية)) لابن عربي (3/ 183). (4) كتاب ((القصد)) للشاذلي المنقول من كتاب ((الصلة بين التصوف والتشيع)) (1/ 417). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 393 وروى صوفي قديم أبو عبد الرحمن السلمي في (طبقات الصوفية) عن أبي بكر محمد الدينوري أنه سئل عن علامة الصوفي ما هي؟ فقال: (أن يكون مشغولا بكل ما هو أولى به من غيره، ويكون معصوما عن المذمومات (1). ونقل الدكتور عبد الحليم محمود عن صوفي متقدم أبي بكر الواسطي المتوفى 320هـ أنه قسّم المتصوفة على ثلاثة أقسام، فقال: (الناس على ثلاث طبقات، الطبقة الأولى: منّ الله عليهم بأنوار الهداية، فهم معصومون من الكفر والشرك والنفاق. والطبقة الثانية: منّ الله عليهم بأنوار العناية فهم معصومون من الصغائر والكبائر. والطبقة الثالثة: منّ الله عليهم بالكفاية فهم معصومون عن الخواطر الفاسدة وحركات أهل الفضيلة (2). ويزيل السهروردي عبد القاهر في عوارفه بعض الحجاب عن ذلك السرّ الذي طالما أخفاه على تشيّعهم، ومصدر تصوفهم، ومنبع أفكارهم، فيقول: (الشيخ للمريدين أمين الإلهام، كما أن جبريل أمين الوحي، فكما لا يخون جبريل في الوحي، لا يخون الشيخ في الإلهام، وكما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى فالشيخ مقتد برسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا، لا يتكلم بهوى النفس (3).لأن الشيخ (والعرف معدن علم الله، مرضع أرواح الطالبين بنفسه، صحف أسرار ربّ العالمين بروحه، العارف وأن كان بدويا وحشيا فهو معدن العقل والعلم (4).وهم معصومون (لأنهم أطفال في حجر الحق (5). (كالأب الشفيق (6).أو (كولد اللبوة في حجرها (7).و (أنهم قائمون بالله، قد تولى الله أمرهم، فإذا ظهرت منهم طاعة، لم يرجوا عليها ثوابا، لأنهم لم يروا أنفسهم محلا لها، وإن ظهرت منهم زلّة فالدية على العاقلة، لم يشاهدوا غيره في الشدة والرخاء، قيامهم بالله، ونظرهم إليه، وخوفهم هيبته، ورجاؤهم الأنس به (8).و (أنهم لا يعرفون إبليس والشيطان (9). (وأما خلق الله أهون عليهم من إبليس، ولولا أن الله أمرهم أن يتعوذوا منه ما تعوذوا منه (10).   (1) ((طبقات الصوفية)) للسلمي (ص 109) ط مطابع الشعب القاهرة 1380 هـ. (2) انظر ((غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية)) للنفزي الرندي (1/ 160) حاشية (رقم 2) لعبد الحليم محمود الطبعة الأولى القاهرة 1970. (3) ((عوارف المعارف)) للسهروردي (ص 404) ط دار الكتاب العربي بيروت 1983 م. (4) ((مناقب العارفين)) للأفلاكي (1/ 286) ملحوظة: أن الدكتور الشيبي أخطأ في فهم عبارة الأفلاكي نقلا عن جلال الدين الرومي في منقبة الحلاج حيث ظنّ مقولة رسول الله المتمثل المتجسد أمام الحلاج – حسب زعم القوم – مقولة الحلاج، متضمنة معنى العصمة لذاته انظر كتاب ((الصلة بين التصوف والتشيع)) (1/ 419)، وليس الأمر كذلك كما قلنا. (5) ((التعرف)) للكلاباذي (ص 110). (6) ((الأخلاق المتبولية)) للشعراني (3/ 261). (7) ((طبقات الشعراني)) (2/ 12). (8) ((روضة التعريف)) للسان الدين بن الخطيب (ص 423). (9) ((غيث المواهب العلية)) للنفزي الرندي (2/ 153)، أيضا ((جمهرة الأولياء)) للمنوفي الحسيني (2/ 241). (10) ((غيث المواهب العلية)) (2/ 153) نقلا عن أبي سليمان الداراني. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 394 ولربما استعملوا الحفظ على أوليائهم ومتصوفيهم، بدل العصمة الشيعية لأئمتهم، لكن في نفس المعنى والمقصود، فقالوا: (ومن شرط الوليّ أن يكون محفوظا، كما أن من شرط النبي أن يكون معصوما (1).لأن الحق يتولى تصريفه (فيصرّفه في وظائفه وموافقاته، فيكون محفوظا فيما لله عليه، مأخوذا عما له وعن جميع المخالفات، فلا يكون له إليها سبيل وهو العصمة (2).و (أن تصير الأشياء كلها له واحدة، فتكون كل حركاته في موافقات الحق دون مخالفاته (3).و (لطائف الله في عصمة أنبيائه وحفظ أوليائه أكثر من أن تقع تحت الإحصاء والعدّ (4). وبمثل ذلك قال القشيري: (الوليّ له معنيان: أحدهما: فعيل بمعنى مفعول، وهو من يتولى الله سبحانه وتعالى أمره، قال تعالى وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف:196]، فلا يكله إلى نفسه لحظة، بل يتولى الحق سبحانه رعايته. والثاني: فعيل مبالغة من الفاعل، وهو الذي يتولى عبادة الله وطاعته، فعبادته تجري على التوالي، من غير أن يتخللها عصيان. وكلا الوصفين واجب حتى يكون الوليّ وليا: يجب قيامه بحقوق الله تعالى على الاستقصاء والاستيفاء، ودوام حفظ الله تعالى إياه في السراء والضراء (5). وقال أيضا: (فإن قيل: ما معنى الوليّ؟ قيل: يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون فعيلا مبالغة من الفاعل، كالعليم والقدير وغيره فيكون معناه: من توالت طاعاته من غير تخلل معصية. ويجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول، كقتيل بمعنى مقتول، وجريح بمعنى مجروح، وهو الذي يتولى الحق سبحانه، حفظه وحراسته على الادامة والتوالي، فلا يخلق له الخذلان الذي هو قدرة العصيان، وإنما يديم توفيقه الذي هو قدرة الطاعة، قال الله تعالى: وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف:196] (6). وبمثل ذلك قال الحكيم الترمذي تحت عنوان (وليّ حق الله ووليّ الله): (فهؤلاء كلهم أولياء حقوق الله، وهم أولياء الله يصيرون إلى الله تعالى في مراتبهم، فيحلون بها ويتنسمون روح القرب، ويعيشون في فسحة التوحيد والخروج عن رقّ النفس، قد لزموا المراتب، فلا يشتغلون بشيء إلا بما أذن لهم فيه من الأعمال. فإذا صرفهم الله من المرتبة إلى عمل أبدانهم حرسهم، فيمضون مع الحرس في تلك الأعمال، ثم ينقلبون إلى مراتبهم، هذا دأبهم (7). وعلق ابن عجيبة على قول الشبلي: (الصوفية أطفال في حجر الحق تعالى)، علق عليه بقوله: (يعني أنه يتولى حفظهم وتدبيرهم على ما فيه صلاحهم ولا يكلهم إلى أنفسهم (8).   (1) ((الرسالة القشيرية)) (2/ 521)، و ((روضة التعريف)) (ص 521)، ((مواقع النجوم)) لابن عربي (ص 80)، ((غيث المواهب)) للنفزي (ص 131)، ((جمهرة الأولياء)) (1/ 97)، ((مشارق أنوار القلوب)) للدباغ (ص 103)، ((فوائح الجمال)) لنجم الدين الكبري (ص 82) وغيرها من الكتب الكثيرة. (2) ((التعرف)) للكلاباذي (ص 147). (3) أيضا ص 48. (4) أيضا ص 155. (5) الرسالة القشيرية (2/ 520. (6) أيضا (2/ 664، 665). (7) كتاب ((ختم الأولياء)) للترمذي (ص 139). (8) ((إيقاظ الهمم)) في شرح الحكم لابن عجيبة الحسني ص 168 الطبعة الثالثة 1982 القاهرة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 395 وظاهر أن من يكون هذا شأنه لا يكون إلا معصوما محضا، لذلك أن الصوفية حينما يستعملون الحفظ، لا يريدون من وراء ذلك إلا العصمة، ولذلك ذكر الهجويري كلتا اللفظتين في معنى واحد، بصورة الألفاظ المترادفة حيث حكى عن الجنيد أنه قال: (تمنيت وقتا ما أن أرى إبليس - عليه اللعنة – وذات يوم كنت واقفا بباب المسجد، فإذا بشيخ يقبل من بعيد متجها إلي، فلما رأيته أحسست وحشة في قلبي، فلما اقترب مني قلت: من أنت أيها الشيخ، إذ لا طاقة لعيني برؤية وجهك من الوحشة، لا طاقة لقلبي بالتفكير فيك من الهيبة؟ قال: أنا الذي تتمنى مشاهدتي. قلت: يا ملعون! ما منعك أن تسجد لآدم؟ قال: يا جنيد كيف تتصور أني أسجد لغيره؟ قال الجنيد: فتحيرت في كلامه، فنوديت في سري أن: (قل له: كذبت، لو كنت خرجت عن أمره ونهيه. فسمع النداء من قلبي، فصاح وقال: أحرقتني بالله! وغاب (1). ثمّ علق عليها بقوله: (وفي هذه الحكاية دليل على حفظه وعصمته، لأن الله سبحانه وتعالى يحفظ أولياءه في كل الأحوال من كيد الشيطان (2). وتؤيد وتدعم أنهم يدّعون أولياءهم ومتصوفيهم معصومين، مقولاتهم في كتبهم أنه لا يجوز الاعتراض على وليّ من أوليائهم أو على أحد من متصوفيهم، لو كان عمله يعارض الشرع، أو يظهر بصورة منكرة، فيقول الشعراني: (من دخل في صحبة شيخ، ثم اعترض عليه بعد ذلك فقد نقض عهد الصحبة (3). ثم نقل حكايتان خبيثتين تدلان على عقيدة القوم في مشائخهم وكونهم معصومين، فيقول: (كان أبو سهل الصعلوكي رحمه الله يقول: كان لبعض الأشياخ مجلس يفسر فيه القرآن العظيم فأبدله بمجلس قوال، فقال مريد بقلبه: كيف يبدل مجلس القرآن بمجلس قوال؟ فناداه الشيخ: يا فلان، من قال لشيخه: لم، لم يفلح. فقال المريد: التوبة ... وزار أبو تراب النخشبي وشقيق البلخي أبا يزيد البسطامي، فلما قدّم خادمه السفرة قلا له: كل معنا يا فتى، فقال: لا، إني صائم. فقال له أبو تراب: كل، ولك أجر صوم شهر. فقال: لا، فقال له شقيق: كل، ولك أجر صوم سنة، فقال: لا، فقال أبو يزيد: دعوا من سقط من عين رعاية الله عز وجل، فسرق ذلك الشاب بعد سنة، فقطعت يده عقوبة له على سوء أدبه مع الأشياخ، ثم نقل عن الشيخ برهان الدين أنه قال: من لم ير خطأ الشيخ أحسن من صوابه لم ينتفع به (4). وبمثل ذلك قال شيخ الأزهر السابق نقلا عن سيده أحمد الدردير أنه قال: (فالآداب التي تطلب من المريد في حق شيخه أوجبها تعظيمه وتوقيره ظاهرا وباطنا، وعدم الاعتراض عليه في أيّ شيء فعله، ولو كان ظاهره أنه الحرام، ويؤول ما أبهم عليه، وتقديمه على غيره، وعدم الالتجاء لغيره من الصالحين، فلا يزور وليا من أهل العصر، ولا صالحا إلا بإذنه، ولا يحضر مجلس غيره إلا بإذنه، ولا يسمع من سواه حتى يتمّ سقيه من ماء سرّ شيخه (5). فهل هناك ضلال بعد هذا الضلال، وتسفيه للعقول بعد هذا كله؟ ومن رجل جعل شيخا لأكبر جامعة إسلامية وأقدمها في العالم؟   (1) ((كشف المحجوب)) للهجويري (ص 342) ترجمة عربية للدكتورة إسعاد عبد الهادي قنديل ط دار النهضة بيروت 1980 م. (2) ((كشف المحجوب)) (ص 342). (3) انظر ((الأنوار القدسية في معرفة القواعد الصوفية)) للشعراني (1/ 174). (4) ((الأنوار القدسية)) للشعراني (1/ 175، 176). (5) انظر كتاب ((سيدي أحمد الدردير)) للدكتور عبد الحليم محمود ص 119 ط دار الكتب الحديثة القاهرة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 396 رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8].ولطرافة كلام الشيخ ننقل ههنا ما كتبه في آداب المريد، فيقول: (ومن آداب المريد للشيخ: أن لا يكثر الكلام بحضرته ولو باسطه، ولا يجلس على سجادته، ولا يسبح بسبحته، ولا يجلس في المكان المعدّ له، ولا يلح عليه في أمر، ولا يسافر، ولا يتزوج، ولا يفعل فعلا من الأمور المهمة إلا بإذنه، ولا يمسك يده للسلام مثلا ويده مشغولة بشيء كقلم أو أكل أو شرب، بل يسلم بلسانه، وينتظر بعد ذلك ما يأمر به، وأن لا يمشي أمامه ولا يساويه في مشي إلا بليل مظلم ليكون مشيه أمامه صونا له من مصادفة ضرر ... وأن يرى كل بركة حصلت له من بركات الدنيا والآخرة فببركته ... وأن يصبر على جفوته وإعراضه عنه، ولا يقول: لم فعل بفلان كذا ولم يفعل بي كذا، وإلا لم يكن مسلما له قيادة: إذ من أعظم الشروط تسليم القيادة له ظاهرا وباطنا ... وأن يجعل كلامه على ظاهره فيمتثله إلا لقرينة صارفة عن إرادة الظاهر، فإذا قال له: اقرأ كذا، أو صلّ كذا، أو صم كذا وجب عليه المبادرة، وكذا إذا قال له وهو صائم: أفطر وجب عليه الفطر، أو قال: لا تصلّ كذا إلى غير ذلك ... وأن لا يدخل عليه في خلوة إلا بإذنه، وأن لا يرفع الستارة التي فيها الشيخ إلا بإذنه وإلا هلك كما وقع لكثير (1). فلنرجع إلى موضوعنا ونقول: إن القوم يجعلون متصوفيهم معصومين حيث لا يجيزون الاعتراض عليهم، ويقولون: (من قال لأستاذه: لِمَ لا يفلح (2).لأن (الشيخ في أهله كالنبي في أمته (3). وعلى ذلك قال القشيري: (من شرط المريد أن لا يكون بقلبه اعتراض على شيخه (4). وهناك حكايات ومقولات كثيرة في هذا المعنى تنبئ وتدلّ صراحة على أن عصمة المتصوفة وأوليائهم، مثل عصمة الأنبياء، وبتعبير صحيح كعصمة أئمة الشيعة، مثل الحكاية التي رواها ابن عجيبة في فتوحاته، عن بعض مشائخه قال: (رأيت يوما شخصا استحسنته فإذا لطمه وقعت على عيني، فسالت على خدي، فقلت: آه فقيل لي: لحظة بلطمة، لو زدت لزدناك (5). فمن كان هذا القائل يا ترى؟ فانظر كيف يدّعون العصمة حتى من النظر إلى أحد بتلذذ؟ وكذلك نقل أحد الرفاعيين عن الرفاعي أنه قال: (قال لي الشيخ يعقوب: رأيت الشيطان واقفا على باب داري فهممت بضربه، فقال: أي يعقوب، أنتم أهل الإنصاف، إن في بيتكم الأحمر والأصفر (أي الذهب والفضة أو الدنانير والدراهم)، وهما لي كيف لم أجيء إلى بيتكم؟ (6). صوفيّ رأى الشيطان وهمّ بضربه، فالمعنى أن الصوفي لا يمكن أن يغويّه الشيطان، فإذن هو معصوم عن الوقوع في المعاصي والخطايا، والزلات والسيئات. هذا ومثل هذا كثير. فهذه هي العقيدة الأخرى التي أخذها الصوفية من الشيعة، إن دلت على شيء دلت على روابط عتيقة بين التصوف والتشيع، وكون الأول مأخوذا عن الثاني. المصدر: التصوف المنشأ والمصادر لإحسان إلهي ظهير   (1) كتاب ((سيدي أحمد الدردير)) للدكتور عبد الحليم محمود (ص 119. 120، 121). (2) انظر ((غيث المواهب العلية)) للنفزي الرندي (1/ 197). (3) انظر ((كشف المحجوب)) للهجويري (ص 252)، ((غيث المواهب)) (1/ 197، ((صوم القلب)) لعمار البدليسي مخطوط ورقة رقم 19 المنقول من ملحق كتاب ((فوائح الجمال)) لنجم الدين الكبري تعليقة رقم 22 ط ألمانيا 1957 م، أيضا كتاب العروة للسمناني مخطوط المنقول من ((ختم الأولياء)) ص 489، كذلك ((الفتوحات الإلهية)) لابن عجيبة الحسني (ص 173). (4) ((الرسالة القشيرية)) (2/ 736، أيضا ((التدبيرات الإلهية)) لابن عربي ص 226، ((جامع الأصول)) للكمشخانوي ص 2. (5) ((الفتوحات الإلهية)) ص 163. (6) انظر ((قلادة الجواهر)) لمحمد أبي الهدى الرفاعي ص 135 ط دار الكتب العلمية. بيروت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 397 المبحث التاسع: عدم خلو الأرض من حجة من العقائد الشيعية المعروفة، الخاصة بهم أن الأرض لا تخلو من الحجة، وهو الإمام عندهم فلقد بوب محدثوهم وفقهاؤهم ومتكلموهم أبوابا مستقلة لبيان هذه العقيدة المختلقة المصطنعة، وأوردوا فيها روايات مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى عليّ رضي الله عنه وأولاده، أئمة القوم حسب زعمهم، وآراء كبرائهم، وعبارات قادتهم. فلقد أورد محدثهم الكبير الكليني - وهو بمنزلة البخاري عند المسلمين السنة – في كافيه الذي هو أحد الصحاح الأربعة الشيعية، وبمنزلة صحيح البخاري عند أهل السنة روايات عديدة تحت عنوان: لو لم يبق في الأرض إلا رجلان لكان أحدهما الحجة: ومنها ما رواها عن جعفر بن محمد الباقر أنه قال: (لو لم يكن في الأرض إلا اثنان لكان الإمام أحدهما (1). كما أورد روايات كثيرة في باب: (أن الأرض لا تخلو من حجة): منها ما رواها أيضا عن جعفر أنه سئل: (أتخلو الأرض بغير إمام؟ قال: لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت بأهلها (2). وبمثل ذلك روى ابن بابويه القمي المتوفى 381هـ أحد رجال الصحاح الأربعة الشيعية، في عيونه عن علي بن موسى الرضا – الإمام الثامن المعصوم لدى القوم – أنه سئل: (أتخلو الأرض من حجة؟ فقال: لو خلت الأرض طرفة عين من حجة لساخت بأهلها (3). وكذلك بوّب القمي بابا مستقلا في كتابه (كمال الدين وتمام النعمة) العلة التي من أجلها يحتاج إلى إمام: وأورد فيه أكثر من عشرين رواية: منها ما رواها عن الباقر بن علي زين العابدين: (لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله (4). وأورد الملا باقر المجلسي في بحاره أكثر من مائة حديث عن أئمته في هذا المعنى، منها ما رواها عن علي بن الحسين أنه قال: (ولم تخل الأرض منذ خلق الله آدم عليه السلام من حجة فيها، ظاهر مشهور أو غائب مستور، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة لله فيها، ولولا ذلك لم يعبد الله (5). وكتب القوم مليئة من مثل هذه الروايات والأحاديث، نكتفي على هذا القدر من البيان. وإن الصوفية لأخذوها منهم بكاملها بدون أيّ تغيير وتبديل، غير أنهم جعلوا الحجة وليّا من أوليائهم، أو صوفيا من جماعتهم بدل الإمام لدى الشيعة، فيقول أبو طالب المكي في قوته، مستعملا حتى الألفاظ الشيعية ومصطلحاتهم نقلا عن علي رضي الله عنه أنه قال: (لا تخلو الأرض من قائم لله تعالى بحجة، إمّا ظاهر مكشوف، وإمّا خائف مقهور لئلا تبطل حجج الله تعالى وبيّناته (6). ومثل ذلك أورد الطوسي السراج أبو نصر عنه: (لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة لئلا تبطل آياته، وتدحض حججه (7). وبمثل ذلك قال الحكيم الترمذي، وأحمد بن زرّوق: (لا تخلو الدنيا في هذه الأمة من قائم بالحجة (8).   (1) ((الأصول من الكافي)) للكليني المتوفى 329 هـ (1/ 180) ط دار الكتب الإسلامية طهران الطبعة الثالثة 1388 هـ. (2) أيضا كتاب ((الحجة)) (1/ 179). (3) ((عيون أخبار الرضا)) لابن بابوية القمي (1/ 272 ط انتشارات جهان إيران. (4) ((كمال الدين وتمام النعمة)) لابن بابويه القمي الباب الحادي والعشرون (1/ 202) ط دار الكتب الإسلامية طهران الطبعة الثانية 1395 هجري قمري. (5) ((بحار الأنوار)) للمجلسي (ج23 في مواضع شتى. (6) ((قوت القلوب)) في معاملة المحبوب لأبي طالب المكي (1/ 134). (7) كتاب ((اللمع)) للطوسي أبي نصر السراج بتحقيق عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور ص 458 ط دار الكتب الحديثة مصر 1960م، أيضا ((جمهرة الأولياء)) للمنوفي الحسيني (2/ 32). (8) كتاب ((ختم الأولياء)) للترمذي الحكيم (ص 360)، ((قواعد التصوف)) لابن زروق ص 48 ط القاهرة 1676 م. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 398 وقال السلمي في مقدمة طبقاته: (واتبع (الله) الأنبياء عليهم السلام بالأولياء، يخلفونهم في سننهم، ويحملون أمتهم على طريقتهم وسمتهم، فلم يخل وقتا من الأوقات من داع إليه بحق أو دال عليه ببيان وبرهان. وجعلهم طبقات في كل زمان، فالوليّ يخلف الوليّ ... فعلم صلى الله عليه وسلم أن آخر أمته لا يخلو من أولياء وبدلاء، يبيّنون لأمته ظواهر شرائعه وبواطن حقائقه (1). وقال ابن عربي: (لا يخلو زمان عن كامل (2). وقال أحد أتباعه البارين علاء الدولة السمناني: (ولا بدّ في كل حين من مرشد يرشد الخلق إلى الحق، خلافة عن النبي المحق، ولابدّ للمرشد من التأييد الإلهي، ليمكن له تسخير المسترشدين، وإفادة المستفيدين، وتعليم المتعلمين ... وهو العالم، الوليّ، الشيخ. وإلى هذا أشار النبي عليه السلام حيث قال: الشيخ في قومه كالنبي في أمته ... ولا يكون قطب الإرشاد في كل زمان من الأزمان إلا واحد يكون قلبه على قلب المصطفى صاحب الوراثة الكاملة (3). وقال صاحب (الجمهرة): (قد صحت الروايات والنصوص المؤكدة الثابتة بالكتاب والسنة على أن الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة، ومن عارف بالحقيقة الكامنة خلف الظواهر، ومن مميّز بين اللباب والقشور، وعابد لله على الوجه الصحيح، وسائر إلى الله على بصيرة صريحة، وعقيدة وضاءة إلى أن تقوم الساعة (4). ونقل عن قطب الدين القسطلاني في كتاب له في التصوف: (أن الله بحكمته ونعمته أقام في كل عصر من جعل له لسانا معبرا عن عوارف المعارف الإلهية، مخبرا عن لطائف العواطف الربانية، يصل الله به ما أنقطع من علوم الأنبياء ومعارف الأولياء (5). وقال لسان الدين بن الخطيب: (ولا بدّ عندهم أن يكون في العالم شخص واصل إليه في كل زمان، وهو الخليفة المتلقي عن الله أسرار الموجودات، أما ظاهرا فنبيّ ورسول أو باطنا فقطب (6). وقال الشعراني نقلا عن عليّ الخواص أنه قال: (من نعم الله تعالى على عباده كونه تعالى لا يخلي الأرض من قائم له بحجة في دينه، رضية لولايته، واختاره لمعاملته، يبين به دلالاته، يوضح به طرقاته، فطوبى لمن كان كذلك في هذا الزمان (7). وهذا ما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاواه بعد ذكر كلام الصوفية في هذا الخصوص: (وهذا من جنس دعوى الرافضة أنه لابدّ في كل زمان من إمام معصوم يكون حجة الله على المكلفين، لا يتم الإيمان إلا به (8). المصدر: التصوف المنشأ والمصادر لإحسان إلهي ظهير   (1) كتاب ((طبقات الصوفية))، المقدمة للسلمي (ص 7). (2) ((عقلة المستوفز)) لابن عربي ص 97 ط ليدن. (3) كتاب ((العروة)) للسمناني مخطوط ورقة رقم 88 ب المنقول من كتاب ((ختم الأولياء)) ص 489 ط بيروت. (4) ((جمهرة الأولياء)) (1/ 7). (5) أيضا (1/ 94). (6) ((روضة التعريف)) للسان الدين بن الخطيب (ص 580). (7) ((الأخلاق المتبولية)) للشعراني (2/ 116، 117). (8) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (11/ 439) ط 1398 هـ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 399 المبحث العاشر: وجوب معرفة الإمام نورد ههنا معتقدا شيعيا آخر مرتبطا بالعقيدة السالف ذكرها، وهو أنه يجب على الناس معرفة ذلك الإمام الذي لا تخلو الأرض منه، ومن مات ولم يعرف الإمام فقد مات ميتة جاهلية، أو ميتة كفر وضلال كما قال الشريف المرتضى الشيعي الملقب بعلم الهدى عند القوم: (إن المعرفة بهم (يعني بالأئمة) كالمعرفة به تعالى، فإنها إيمان وإسلام، وأن الجهل والشك فيهم كالجهل والشك فيه فإنه كفر، وخروج من الإيمان، وهذه المنزلة ليست لأحد من البشر إلا لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من بعده، علي وأولاده الطاهرين ... والذي يدل على أن معرفة إمامة من ذكرناه من الأئمة عليهم السلام من جملة الإيمان، وأن الإخلال بها كفر ورجوع عن الإيمان بإجماع الإمامية (1). وقال الطوسي الملقب بشيخ الطائفة: (دفع الإمامة كفر، كما أن دفع النبوة كفر، لأن الجهل بهما على حدّ واحد، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من مات وهو لا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، وميتة الجاهلية لا تكون إلا على كفر (2). ولقد أورد محدثو الشيعة روايات كثيرة في هذا المعنى في أبواب مستقلة بوبوها في مصنفاتهم، مثل الكليني في كافيّه، وابن بابويه القمي في كتبه، والطوسي في شافيه، والبرقي في محاسنه، والنعماني في غيبته، والحر العاملي في فصوله، والمجلسي في بحاره، والبحراني في برهانه، وغيرهم في غيره، حتى قال محدثهم العاملي: (الآيات والروايات من طريق العامة والخاصة، والأدلة في ذلك أكثر من أن تحصى (3). فهذا المعتقد من المبادئ الشيعية الأساسية التي بُنى عليها مذهب القوم. والمقصود منه أنه يجب على كل شخص أن يعتقد بعدم خلو الأرض من إمام، ثم يوجب على نفسه أن يعرفه، ويجعله قدوة له، وهاديا ومرشدا ومطاعا، فيأخذ منه معالم الدين، ويهتدي بهديه، ويسلك مسلكه، وينهج بمنهجه، وبدونه وبدون إرشاده وتوجيهه يضلّ الطريق، ويهوي في المزالق والمهالك، مزالق الكفر ومهالك الجاهلية. هذا ما يعتقده الشيعة، ولم يكن غريبا أن يؤمن بهذا المبدأ، ويعتقد بهذا المعتقد مشائخ الصوفية، وكبراء التصوف، لأنهم وراءهم حذو القذة بالقذة، فقالوا: من لم يكن له شيخ فإمامه الشيطان كما ذكر ذلك المتصوفة عن أبي يزيد أنه قال: (من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان (4). ويقول لسان الدين بن الخطيب: (يكون المرتاض يعتمد على شيخ ويلقي أزمته بيده، ليهديه قبل أن تسبقه إليها يد الشيطان. كن المعزي لا المعزى به ... إن كان لا بدّ من الواحد ومما ينقل: من لم يكن له شيخ كان الشيطان شيخه (5).   (1) ((الرسالة الباهرة في العترة الطاهرة)) – نقلا عن مقدمة البرهان (ص 20). (2) ((تلخيص الشافي)) للطوسي (4/ 131، 132). (3) انظر ((الفصول المهمة في معرفة الأئمة)) للحر العاملي المتوفى 1104، وباب وجوب معرفة الإمام ص 141 ط مكتبة بصيرتي قم إيران. (4) انظر ((الرسالة القشيرية)) (2/ 735)، ((عوارف المعارف)) للسهروردي (ص 96)، وكذلك ((جامع الأصول في الأولياء)) للكمشخانوي ص 120، ((الفتوحات الإلهية)) لابن عجيبة ص 88، أيضا كتاب ((قلادة الجواهر)) لمحمد الرفاعي ص 143. (5) ((روضة التعريف)) للسان الدين بن الخطيب ص 469 ط دار الفكر العربي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 400 وبمثل ذلك قال ابن عربي: (اعلم أن مقام الدعوة إلى الله، وهو مقام النبوة والوراثة الكاملة، والحاصل فيه يقال له النبي في زمان النبوة، ويقال له الشيخ الوارث والأستاذ في حق العلماء بالله من غير أن يكونوا أنبياء وهو الذي قالت فيه السادة من أهل طريق الله، من لم يكن له أستاذ فإن الشيطان أستاذه (1). وقال الشعراني: (اعلم يا أخي أن أحدا من السالكين لم يصل إلى حالة شريفة في الطريق أبدا إلا بملاقاة الأشياخ ومعانقة الأدب معهم، والإكثار من خدمتهم، ومن ادعى الطريق بلا شيخ كان شيخه إبليس ... وقد كان الإمام أبو القاسم الجنيد رحمه الله يقول: من سلك بغير شيخ ضلّ وأضلّ (2). وكتب في كتابه (الأخلاق المتبولية) نقلا عن علي المرصفي أنه قال: (لو أن مريدا عبد الله تعالى كما بين السماء والأرض بغير شيخه فعبادته كالهباء المنثور ... وسمعت سيدي علي الخواص رحمه الله يقول: (لو أن العبد قرأ ألف كتاب في العلم ولا شيخ له فهو كمن حفظ كتب الطبّ مع جهله بالداء والدواء ... وأن كل من لم يسلك الطريق على يد شيخ حكمه حكم من يعبد الله على حرف (3). وهذا مثل ما قاله الشيعة نقلا عن أبي جعفر محمد الباقر أنه قال: (إنما يعرف الله عز وجل ويعبده من عرف الله وعرف إمامه منّا أهل البيت، ومن لا يعرف الله عز وجل ولا يعرف الإمام منّا أهل البيت فإنما يعرف ويعبد غير الله هكذا والله ضلالا (4). وعنه أنه قال: (كل من دان الله عز وجل بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول) وعلى ذلك يقول نيكلسون بعد نقل كلام أبي يزيد البسطامي: (من لم يكن له شيخ كان الشيطان شيخه، يقول بعده: (هي فكرة يظهر أن لها صلة بالنظرية الشيعية، التي كان عبد الله بن سبأ أول من قال بها (5). المصدر: التصوف المنشأ والمصادر لإحسان إلهي ظهير   (1) الأمر المحكم المربوط فيما يلزم أهل طريق الله من الشروط لابن عربي (ص 265، 266) المنشور مع ذخائر الأعلاق له أيضا بتحقيق محمد عبد الرحمن الكروي ط القاهرة. (2) ((الأنوار القدسية)) للشعراني (ص 173، 174) ط دار إحياء التراث العربي بغداد العراق. (3) ((الأخلاق المتبولية)) للشعراني (1/ 129، 130). (4) ((الكافي)) للكليني (1/ 181). (5) ((في التصوف الإسلامي وتاريخه)) لنيكلسون ترجمة عربية لأبي العلاء العفيفي (ص 19). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 401 المبحث الحادي عشر: الولاية والوصاية وتشابه آخر بين الصوفية والشيعة هو أن الصوفية أضفوا على أوليائهم عين تلك الأوصاف والاختيارات التي أضفى الشيعة على أئمتهم وأوصيائهم، فإن الشيعة يقولون: (أن الأئمة ولاة أمر الله، وخزنة علم الله، وعيبة وحي الله (1). ويروي أبو جعفر محمد بن الحسن الصفار المتوفى 290هـ شيخ الكليني، في بصائره، عن محمد الباقر بن علي زين العابدين أنه يقول: (نحن جنب الله ونحن صفوته ونحن خيرته ونحن مستودع مواريث الأنبياء ونحن أمناء الله ونحن حجّة الله، ونحن أركان الإيمان، ونحن دعائم الإسلام، ونحن من رحمة الله على خلقه، ونحن الذين بنا يفتح الله وبنا يختم، ونحن أئمة الهدى، ونحن مصابيح الدجى، ونحن منار الهدى، ونحن السابقون، ونحن الآخرون، ونحن العلم المرفوع للخلق، من تمسك بنا لحق، ومن تخلف عنا غرق، ونحن قادة الغر المحجلين، ونحن خيرة الله، ونحن الطريق، وصراط الله المستقيم إلى الله، ونحن من نعمة الله على خلقه، ونحن المنهاج ونحن معدن النبوة، ونحن موضع الرسالة، ونحن الذين إلينا مختلف الملائكة، ونحن السراج لمن استضاء بنا، ونحن السبيل لمن اقتدى بنا، ونحن الهداة إلى الجنة، ونحن عز الإسلام، ونحن السنام الأعظم، ونحن الذين بنا تنزل الرحمة وبنا تسقون الغيث، ونحن الذين بنا يصرف عنكم العذاب، فمن عرفنا ونصرنا وعرف حقنا وأخذ بأمرنا فهو منا وإلينا (2). وروى الكليني عنه أيضا أنه قال: (نحن خزان علم الله، ونحن تراجمة وحي الله، ونحن الحجة البالغة على من دون السماء ومن فوق الأرض (3). ورووا عنه أيضا أنه قال: (نحن المثاني التي أعطاها الله النبي صلى الله عليه وآله، ونحن وجه الله نتقلب في الأرض بين أظهركم، عرفنا من عرفنا، وجهلنا من جهلنا، من عرفنا فإمامه اليقين، ومن جهلنا فإمامه السعير (4). والروايات في هذا المعنى كثيرة جدا، ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتبنا الأربعة في هذا الموضوع، أو كتب الشيعة كبصائر الدرجات للصفار، والكافي للكليني، وبحار الأنوار للمجلسي، والفصول المهمة للعاملي، والبرهان للبحراني وغيرها من الكتب الشيعية الكثيرة. مع العلم بأن كتاب الله القرآن الكريم، وكتب السنة النبوية المطهرة، وتراجم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خالية عن مثل هذه الخرافات والهفوات، والشركيات واليهوديات.   (1) ((الأصول من الكافي)) للكليني (1/ 193). (2) ((بصائر الدرجات الكبرى)) للصفار الجزء الثاني ص 83 ط منشورات الأعلمي طهران 1404 هجري قمري. (3) ((الكافي)) للكليني كتاب الحجة (1/ 192). (4) ((بحار الأنوار)) للمجلسي (2/ 114). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 402 ولكن الصوفية استقوا مبادئهم وأفكارهم ومعتقداتهم من التشيع والشيعة، بدل الكتاب والسنة، فقالوا في أوليائهم ومتصوفيهم نفس ما قاله الشيعة في أئمتهم وأوصيائهم، فانظر ما كتبه أعظم مؤرخ صوفي في التاريخ القديم والحديث أبو نصر السراج الطوسي – حسب ما قاله طه عبد الباقي، والدكتور عبد الحليم محمود – ولاحظ التوافق الكامل والتشابه التام بين ألفاظه وعبارته وبين عبارة الشيعة وألفاظهم فهو ينبئ عن المصدر الأصلي، والمأخذ الحقيقي، والمنبع الأصيل، فيكتب: أن هذه العصابة أعني الصوفية هم أمناء الله عز وجل في أرضه، وخزنة أسراره وعلمه وصفوته من خلقه، فهم عباده المخلصون، وأولياءه المتقون، وأحباءه الصادقون الصالحون، منهم الأخيار والسابقون، والأبرار والمقربون، والبدلاء والصديقون، هم الذين أحيا الله بمعرفته قلوبهم، وزيّن بمعرفته جوارحهم، وألهج بذكره ألسنتهم، وطهر بمراقبته أسرارهم، سبق لهم منه الحسنى بحسن الرعاية ودوام العناية، فتوجهم بتاج الولاية، وألبسهم حلل الهداية، وأقبل بقلوبهم عليه تعطفاً، وجمعهم بين يديه تلطفاً، فاستغنوا به عما سواه،، وآثروا على ما دونه، وانقطعوا إليه، وتوكلوا عليه، وعكفوا ببابه، ورضوا بقضائه، وصبروا على بلائه، وفارقوا فيه الأوطان، وهجروا له الإخوان، وتركوا من أجله الأنساب، وقطعوا فيه العلائق، وهربوا من الخلائق، مستأنسين به مستوحشين مما سواه: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21] الآية: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ [فاطر:32] الآية: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل:59] (1). ونقلوا عن ذي النون المصري أنه قال: (هم حجج الله تعالى على خلقه، ألبسهم النور الساطع عن محبّته، ورفع لهم أعلام الهداية إلى مواصلته، وأقامهم مقام الأبطال لإرادته، وأفرغ عليهم الصبر عن مخالفته، وطهر أبدانهم بمراقبته، وطيبهم بطيب أهل مجاملته، وكساهم حالا من نسج مودّته، ووضع على رؤوسهم تيجان مسرته، ثم أودع القلوب من ذخائر الغيوب، فهي معلقة بمواصلته، فهمومهم إليه ثائرة، وأعينهم إليه بالغيب ناظرة، قد أقامهم على باب النظر من قربه، وأجلسهم على كرسي أطباء أهل معرفته (2).وأيضا: (هم خرس فصحاء، وعمي بصراء، عنهم تقصر الصفات، وبهم تدفع النقمات، وعليهم تنزل البركات، فهم أحلى الناس منقطعا ومذاقا، وأوفى الناس عهدا وميثاقا، سراج العباد، ومنار البلاد، ومصابيح الدجى، معادن الرحمة، ومنابع الحكمة (3). وقال ابن عجيبة: (هم باب الله الأعظم، ويد الله الآخذة بالداخلين إلى حضرة الله، فمن مدحهم فقد مدح الله، ومن ذمّهم فقد ذمّ الله (4).   (1) كتاب ((اللمع)) للطوسي مقدمة ص 19). (2) ((جمهرة الأولياء)) للمنوفي الحسيني (1/ 102). (3) ((جمهرة الأولياء)) (ص 103). (4) ((إيقاظ الهمم)) لابن عجيبة (ص 272). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 403 وقال ابن قضيب البان: (القطب فاروق الوقت، وقاسم الفيض، وإليه مفوّض أزمّة الأمور، وقلب قطب خزانة أرواح الأنبياء، وله بكل وجه وجه، وأرواح الأنبياء خزائن أسرار الحق .... الكون كله صورة القطب ... وهو الباب الذي لا دخول ولا خروج إلا منه ... وفؤاد القطب شمعة نصبت لفراش أرواح العالم، ونطقه شهد حقائق المعارف، الذي فيه شفاء أسرار المقربين، وصلاح مشاهد العارفين، وغذاء أفئدة الواصلين ... نفس القطب صور برزخ الشئون الصفاتية، وعقله اسرافيله، ومن نفسه قيام عمود السماوات الروحية والأرضين الجسمية، وإرادته المأثرة فيهما، ومن إختياره همم أهل زمانه ... القطب الفرد الواحد في كل زمان الحقيقة المحمدية، ولكل زمان قطب منها، وهو خطيب سر الولاء بكلمة: بلى (1). هذا وأن ابن عربي قال بصراحة ووضوح بدون إبهام ولا إيهام: (أنا القرآن والسبع المثاني ... وروح الروح لا روح الأواني فؤادي عند معلومي مقيم ... يشاهده وعندكم لساني) (2) ويعتقد الشيعة أن أئمتهم يعرفون جميع الألسن واللغات، وحتى لغات الطيور والوحوش. فيذكر الصفار في بصائره العناوين الأربعة لبيان علوم أئمته: (باب في الأئمة عليهم السلام أنهم يعرفون الألسن كلها). (باب في الأئمة أنهم يتكلمون الألسن كلها). (باب في الأئمة أنهم يعرفون منطق الطير). (باب في الأئمة عليهم السلام أنهم يعرفون منطق البهائم، ويعرفونهم، ويجيبونهم إذا دعوهم (3). ثم يورد تحتها روايات كثيرة تنبئ وتدل على كل ما ذكره في العناوين. فمثلا يروي عن جعفر بن الباقر أنه قال: (قال الحسن بن علي عليه السلام: إن لله مدينتين، إحداهما بالمشرق، والأخرى بالمغرب، عليهما سوران من حديد، وعلى كل مدينة ألف ألف مصراع من ذهب، وفيها سبعون ألف ألف لغة يتكلم كل لغة بخلاف لغة صاحبه، وأنا أعرف جميع اللغات وما فيهما وما بينهما وما عليهما حجة غيري والحسين أخي (4). ويروي عن محمد الباقر أنه قال: (علمنا منطق الطير، وأوتينا من كل شيء (5). وغير ذلك من الروايات الكثيرة، وأورد مثلها كل من الكليني في كافيّه، والحرّ العاملي في الفصول المهمة. ومثل ذلك ذكر المتصوفة في كتبهم عن أوليائهم ومشائخهم، فيقول الشعراني في طبقاته عن إبراهيم الدسوقي: (وكان رضي الله عنه يتكلم بالعجمي والسرياني والعبراني والزنجي، وسائر لغات الطيور والوحوش (6).وقال عماد الدين الأموي: (العارفون يفهمون كلام المخلوقين من الحيوانات والجمادات (7). وكتب الشعراني في كتابه (الأنوار المقدسية): (الولي يعطيه الله تعالى معرفة سائر الألسن الخاصة بالإنس والجن، فلا يخفى عليه فهم كلام أحد منهم (8). وذكر القوم حكايات كثيرة عن متصوفيهم تشتمل على تكلمهم مع السباع والطيور وغيرها، سنذكرها في الجزء الثاني من هذا الكتاب في باب مستقل إن شاء الله. ولكن للطرافة نذكر حكاية واحدة ذكرها الشعراني في طبقاته الكبرى، فيقول: (أقام الشيخ أبو يعزي في بدايته خمس عشرة سنة في البر، لا يأكل إلا من حبّ الشجر في البادية، وكانت الأسود تأوي إليه والطير يعكف عليه. وكان إذا قال للأسد: لا تسكني هنا، تأخذ أشبالها وتخرج بأجمعها. قال الشيخ أبو مدين رضي الله عنه: زرته مرة في الصحراء وحوله الأسد والوحوش والطير، تشاوره على أحوالها، وكان الوقت وقت غداء، فكان يقول لذلك الوحش: اذهب إلى مكان كذا وكذا، فهناك قوتك، ويقول للطير مثل ذلك فتنقاد لأمره. ثم قال: يا شعيب، إن هذه الوحوش والطيور أحبت جواري فتحملت ألام الجوع لأجلي، رضي الله عنه (9). فهذا هو التطابق الكلي بين الشيعة والصوفية في هذه القضية. المصدر: التصوف المنشأ والمصادر لإحسان إلهي ظهير   (1) ((المواقف الإلهية)) لابن قضيب البان (190). (2) ((الفتوحات المكية)) لابن عربي (1/ 70) بتحقيق وتقديم دكتور عثمان يحيى ط الهيئة المصرية العامة للكتاب 1985 م. (3) انظر ((بصائر الدرجات الكبرى)) للصفار (9/ 357) وما بعد، ومثل ذلك في ((الفصول المهمة في أصول الأئمة)) للحر العاملي ص 155، كذلك في ((الأصول من الكافي)) (1/ 227). (4) انظر ((بصائر الدرجات)) الجزء السابع (ص 359). (5) ((بصائر الدرجات)) ص 362. (6) ((طبقات الشعراني)) (1/ 166). (7) انظر ((حياة القلوب)) لعماد الدين الأموي بهامش ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي (2/ 275). (8) ((الأنوار المقدسية في معرفة القواعد الصوفية)) للشعراني (2/ 115 ط دار إحياء التراث العربي بغداد – العراق. (9) ((طبقات الشعراني)) (1/ 136). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 404 المبحث الثاني عشر: الحلول والتناسخ وإن فرقا من الشيعة يعتقدون في أئمتهم بأنهم هم الذين ظهروا في مختلف الصور في الأزمنة المتعددة، والأمكنة المختلفة، وهم الذين ظهروا في أيام آدم بصورة آدم، وفي دور نوح بنوح، وكذلك شيث وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم في زمانهم، وأن أئمتهم هم الذين نجّوا نوحا، وأغرقوا الخلق في عهد نوح، وخرقوا السفينة، وقتلوا الغلام وغير ذلك. فهاهم يكذبون على علي رضي الله عنه أنه قال: (أنا ومحمد نور واحد من نور الله ... أنا صاحب الرجفة، صاحب الآيات ... أنا أهلكت القرون الأولى، وأنا النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون ... أنا الكتاب ... أنا اللوح المحفوظ ... أنا القرآن الحكيم ... أنا محمد ومحمد أنا ... إن ميتنا لم يمت، وقتيلنا لم يقتل، ولا نلد ولا نولد ... وأنا الذي نجّيت نوحا ... ونطقت على لسان عيسى ابن مريم في المهد، فآدم وشيث ونوح وسام وإبراهيم وإسماعيل وموسى ويوشع وعيسى وشمعون ومحمد وأنا كلنا واحد ... أنا أحيي وأميت ... وكذلك الأئمة المحقون من ولدي، لأنا كلنا شيء واحد يظهر في كل زمان (1).ورروا عنه أيضا أنه قال لسلمان: (أنا أحيي الموتى، وأعلم ما في السماوات والأرض، وأنا الكتاب المبين، يا سلمان، محمد مقيم الحجة، وأنا حجة الحق على الخلق، وبذلك الروح عرج به إلى السماء، أنا حملت نوحا في السفينة، أنا صاحب يونس في بطن الحوت، وأنا الذي حاورت موسى في البحر، وأهلكت القرون الأولى، أعطيت علم الأنبياء والأوصياء، وفصل الخطاب، وبي تمت نبوة محمد، أنا أجريت الأنهار والبحار، وفجرت الأرض عيونا، أنا كاب الدنيا لوجهها، أنا عذاب يوم الظلمة، أنا الخضر معلم موسى، أنا معلم داود وسليمان، أنا ذو القرنين، أنا الذي دفعت سمكها بإذن الله عز وجل، أنا دحوت أرضها، أنا عذاب يوم الظلمة، أنا النادي من مكان بعيد، أنا دابة الأرض، أنا كما يقول لي رسول الله (ص): أنت يا علي ذو قرنيها، وكلا طرفيها، ولك الآخرة والأولى، يا سلمان إن ميتنا إذا مات لم يمت، ومقتولنا لم يقتل، وغائبنا لم يغب، ولا نلد ولا نولد في البطون، ولا يقاس بنا أحد من الناس، أنا تكلمت على لسان عيسى في المهد، أنا نوح، أنا إبراهيم، أنا صاحب الناقة، أنا صاحب الرجفة، أنا صاحب الزلزلة، أنا اللوح المحفوظ، إلى إنتهي علم ما فيه، أنا أنقلب في الصور كيف شاء الله، من رآهم فقد رآني، ومن رآني فقد رآهم، ونحن في الحقيقة نور الله الذي لا يزول ولا يتغيّر (2). ورووا عن جعفر بن الباقر أنه قال: (أنا من نور الله، نطقت على لسان عيسى ابن مريم في المهد، فآدم وشيث ونوح وسام وإبراهيم وإسماعيل وموسى ويوشع وعيسى وشمعون ومحمد كلنا واحد، من رآنا فقد رآهم ... أنا أحيي وأميت وأخلق وأرزق، وأبرئ الأكمه والأبرص، وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم بإذن ربي، وكذلك الأئمة المحقون من ولدي لأنا كلنا شيء واحد (3).   (1) انظر ((زهر المعاني)) لإدريس عماد الدين الباب السابع عشر ص 74 وما بعد من (المنتخب من بعض الكتب الإسماعيلية) لايوانوف ط أجمل بريس بومبي. (2) ((مشارق أنوار اليقين)) للحافظ رجب البرسي (ص 161) ط دار الأندلس بيروت، أيضا طرائق الحقائق للحاج معصوم شيرازي (1/ 77، 78) ط طهران 1339 هجري شمسي. (3) كتاب ((بيت الدعوة الإسلامية)) نسخة خطية ص 10 نقلا عن تاريخ الدعوة الإسماعيلية لمصطفى غالب الإسماعيلي (ص 81، 82). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 405 وذكروا عن راشد الدين بن سنان السوري الداعي الإسماعيلي أنه قال: (ظهرت بدرو نوح فغرقت الخلائق ... وظهرت في دور إبراهيم على ثلاث مقالات ... خرقت السفينة، وقتلت الغلام، وأقمت الجدار، .. ثم ظهرت بالسيد المسيح، فمسحت بيدي الكريمة عن أولادي الذنوب، وكنت بالظاهر شمعون – إلى آخر الهفوات والخرافات (1). فهذه الروايات تدل صراحة على إعتقاد القوم بالحلول والتناسخ، وأن أئمتهم خلقوا من نور الله الذي لم يتغير ولم يتبدل، ولكن هذا النور كان يحل في أجسام مختلفة في أزمنة مختلفة، وكان يلبس ألبسة متنوعة متفرقة، فبذلك الجسد واللباس كان يسمّى بتلك الأسماء، فتارة بآدم، وتارة بنوح، وتارة بإبراهيم، وتارة بموسى، وتارة بعيسى، وتارة بمحمد، مع أن هذا النور كان بجوهرة واحدا.   (1) أجزاء عن العقائد الإسماعيلية، كتاب الداعي إبراهيم تقديم المستشرق الفرنساوي كويارد ط أمبيرين نيشنل بريس 1784 م. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 406 فهذا عين ما قالته الصوفية حيث سمّوا ذلك النور الأزلي، والجوهر الأصلي الحقيقة المحمدية والصورة المحمدية، فهذه الحقيقة هي التي كانت تتجلى في أجسام مختلفة، وتنادي بذلك الاسم، فاختلف أسماؤها حسب الزمان والأجساد، مع أنها كانت واحدة، كما يقول الجيلي: (أعلم حفظك الله أن الإنسان الكامل هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره، وهو واحد منذ كان الوجود إلى أبد الآبدين، ثم له تنوع في ملابس ويظهر في كنائس، فيسمى به باعتبار لباس، ولا يسمى به باعتبار لباس آخر، فاسمه الأصلي الذي هو له محمد، وكنيته أبو القاسم، ووصفه عبد الله، ولقبه شمس الدين، ثم له باعتبار ملابس أخرى أسام، وله في كل زمان اسم ما يليق بلباسه في ذلك الزمان، فقد اجتمعت به صلى الله عليه وسلم وهو في صورة شيخي الشيخ شرف الدين إسماعيل الجبرتي، ولست أعلم أنه النبي صلى الله عليه وسلم، وكنت أعلم أنه الشيخ، وهذا من جملة مشاهد شاهدته فيها بزبيد سنة ست وتسعين وسبعمائة، وسر هذا الأمر تمكنه صلى الله عليه وسلم من التصور بكل صورة، فالأديب إذا رآه في الصور المحمدية التي كان عليها في حياته فإنه يسميه باسمه، وإذا رآه في صورة ما من الصور وعلم أنه محمد، فلا يسميه إلا باسم تلك الصورة، ثم لا يوقع ذلك الاسم إلا على الحقيقة المحمدية، ألا تراه صلى الله عليه وسلم لما ظهر في صورة الشبلي رضي الله عنه قال الشبلي لتلميذه: أشهد أني رسول الله، وكان التلميذ صاحب كشف فعرفه، فقال: أشهد أنك رسول الله، وهذا أمر غير منكور، وهو كما يرى النائم فلانا في صورة فلان. وأقل مراتب الكشف أن يسوغ به في اليقظة ما يسوغ به في النوم، لكن بين النوم والكشف فرق، وهو أن الصورة التي يرى فيها محمد صلى الله عليه وسلم في النوم ولا يوقع اسمها في اليقظة على الحقيقة المحمدية إلى حقيقة تلك الصورة في اليقظة، بخلاف الكشف فإنه إذا كشف لك عن الحقيقة أنها متجلية في صورة من صور الآدميين، فيلزمك إيقاع اسم تلك الصورة على الحقيقة المحمدية ويجب عليك أن تتأدب مع صاحب تلك الصورة تأدبك مع محمد صلى الله عليه وسلم، لما أعطاك الكشف أن محمدا صلى الله عليه وسلم متصور بتلك الصورة، فلا يجوز ذلك بعد شهود محمد صلى الله عليه وسلم فيها أن تعاملها بما كنت تعاملها به من قبل، ثم إياك أن تتوهم شيئا في قولي من مذهب التناسخ، حاشا لله وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك مرادي، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم له من التمكين في التصور بكل صورة يتجلى في هذه الصورة، وقد جرت سنته صلى الله عليه وسلم أنه لا يزال يتصور في كل زمان بصورة أكملهم ليعلي شأنهم ويقيم ميلانهم، فهم خلفاؤه في الظاهر وهو في الباطن حقيقتهم (1).   (1) ((الإنسان الكامل)) للجيلي عبد الكريم (2/ 74، 75). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 407 وهذا ما قاله الدكتور أبو العلاء العفيفي معلقا على الفصّ السابع والعشرين (فصّ حكمة فردية في كلمة محمدية) من فصوص ابن عربي، فقال: (شاع من أوائل عهد الإسلام القول بأزلية محمد عليه السلام، أو بعبارة أدق بأزلية (النور المحمدي). وهو قول ظهر بين الشيعة أولاً ولم يلبث أهل السنة أن أخذوا به، واستند الكل في دعواهم إلى أحاديث يظهر أن أكثرها موضوع. من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا أول الناس في الخلق)) (1) ومنها: ((أول ما خلق الله نوري)) (2)، ومنها: ((كنت نبيا وآدم بين الماء والطين)) (3) وغير ذلك من الأحاديث التي استنتجوا منها أنه كان لمحمد عليه السلام وجود قبل وجود الخلق، وقبل وجوده الزماني في صورة النبي المرسل، وأن هذا الوجود قديم غير حادث، وعبروا عنه بالنور المحمدي. وقد أفاضت الشيعة في وصف هذا النور المحمدي، فقالوا أنه ينتقل في الزمان من جيل إلى جيل، وأنه هو الذي ظهر بصورة آدم ونوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من الأنبياء، ثم ظهر أخيرا بصورة خاتم النبيين محمد عليه السلام. وبهذا ارجعوا جميع الأنبياء من آدم إلى محمد، وكذلك ورثة محمد إلى أصل واحد. وهو قول نجد له صدى في الغنوصية المسيحية. يقول الأب كليمنت الإسكندري: (ليس في الوجود إلا نبي واحد وهو الإنسان الذي خلقه الله على صورته، والذي يحل فيه روح القدس، والذي يظهر منذ الأزل في كل مكان وزمان بصورة جديدة). نجد لكل هذا الكلام نظيرا في كتب ابن عربي فيما يسميه الكلمة المحمدية أو الحقيقة المحمدية أو النور المحمدي. فهو لا يقصد بالكلمة المحمدية في هذا الفص محمداً الرسول، وإنما يقصد الحقيقة المحمدية التي يعتبرها أكمل مجلى خلقي ظهر فيه الحق، بل يعتبره الإنسان الكامل والخليفة الكامل بأخص معانيه. وإذا كان كل واحد من الموجودات مجلى خاص لبعض الأسماء الإلهية التي هي أرباب له، فإن محمدا قد انفرد بانه مجلى للاسم الجامع لجميع تلك الأسماء، وهو الاسم الأعظم الذي هو (الله). ولهذا كانت له مرتبة الجمعية المطلقة، ومرتبة التعين الأول والذي تعينت به الذات الأحدية، إذ ليس فوقه إلا هذه الذات المنزهة في نفسها عن كل تعين وكل صفة واسم ورسم. ولهذه الحقيقة المحمدية التي هي أول التعينات – وإن شئت فقل أول المخلوقات – وظائف أخرى ينسبها إليها ابن عربي. فهي من ناحية صلتها بالعالم مبدأ خلق العالم، إذ هي النور الذي خلقه الله قبل كل شيء وخلق منه كل شيء. أو هي العقل الإلهي الذي تجلى الحق فيه لنفسه في حالة الأحدية المطلقة، فكان هذا التجلي بمثابة أول مرحلة من مراحل التنزل الإلهي في صور الوجود. فلما انكشف له حقيقة ذاته وكمالاتها، وما فيها من أعيان الممكنات التي لا تحصى، أحب إظهار كمالاته في صور تكون له بمثابة المرايا التي يرى فيها نفسه، فكانت أعيان الممكنات الخارجية تلك المرايا.   (1) أخرجه ابن سعد (1/ 149) عن قتادة مرسلا بلفظ (كنت أول الناس في الخلق وآخرهم في البعث) (2) أورده العجلوني في ((كشف الخفاء)) (827) وعزاه إلى ((مصنف عبد الرزاق)) وليس الحديث في ((المصنف)) وزعم بعضهم أنه في القطعة المفقودة من المصنف وأنه وجدها وتبين كذبه وافتراؤه بما ليس هنا موضع بيانه، وعزاه أيضا اللكنوي في كتابه ((الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة)) (1/ 42) للمصنف أيضا وذكر أيضا أن الحديث ذكره القسطلاني في ((المواهب اللدنية))، وقال السيوطي في ((الحاوي في الفتاوى)) (1 - 479) " ليس له إسناد يعتمد عليه (3) قال السخاوي في ((المقاصد)) (1/ 521) لم نقف عليه بهذا اللفظ، وقال ابن تيمية كذب باطل كما في أحاديث القصاص (87) وقال الألباني في ((الضعيفة)) (302) موضوع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 408 ومن ناحية صلة الحقيقة المحمدية بالإنسان، يعتبرها ابن عربي صورة كاملة للإنسان الكامل الذي يجمع في نفسه جميع حقائق الوجود، ولذلك يسميها آدم الحقيقي، والحقيقة الإنسانية. ويعدها من الناحية الصوفية مصدر العلم الباطن، ومنبعه، وقطب الأقطاب. في هذا الوصف الإجمالي لما يسميه ابن عربي (الكلمة المحمدية)، أو الحقيقة المحمدية، عناصر مختلفة مستمدة من الفلسفة الأفلاطونية الحديثة، والفلسفة المسيحية واليهودية، مضافاً إلى ذلك بعض أفكار من مذهب الإسماعيلية الباطنية والقرامطة. مزج جميع تلك العناصر على طريقته الخاصة، فضيع بذلك معالم الأصول التي أخذ عنها، وخرج على العالم بنظرية في طبيعة الحقيقة المحمدية، لا تقل في خطرها وأهميتها في تاريخ الأديان عن النظريات التي وضعها المسيحيون في طبيعة المسيح، أو النظريات اليهودية أو الرواقية، أو اليونانية التي تأثرت بها في النظرية المسيحية (1). وبمثل ذلك قال الفرغاني: (وكل نبي من آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم مظهر من مظاهر نبوة الروح الأعظم. فنبوته ذاتية دائمة، ونبوة المظاهر عرضية منصرمة، إلا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنها دائمة غير منصرمة، إذ حقيقته حقيقة الروح الأعظم، وصورته صورة الحقيقة التي ظهر فيها بجميع أسمائها وصفاتها. وسائر الأنبياء مظاهرها ببعض الأسماء والصفات. تجلت في المظهر المحمدي بذاتها وجميع صفاتها، وختم به النبوة، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم سابقا على جميع الأنبياء من حيث الحقيقة، متأخرا عنهم من حيث الصورة، كما قال: نحن الآخرون السابقون، وقال: كنت نبيا وآدم بين الماء والطين: وفي رواية أخرى: بين الروح والجسد: أي لا روحا ولا جسدا (2). ويدل أيضا على إعتقاد الصوفية بالتناسخ ما ذكره الدباغ في الإبريز بأن روح الولي تقدر على أن تخرج من ذات الولي وتتصور بصورة غير صورته (3).وأيضا ما ذكره الشعراني عن صوفي أنه (ظهر لأعدائه في هيئة أسد عظيم (4).وكذلك ذكر المنوفي في جمهرته صوفيا (كان يظهر في مظهر السباع والفيلة (5). فالحاصل أن الصوفية اقتبسوا من الشيعة هذه الأفكار، وأخذوا منهم هذه العقائد الزائفة الزائغة الباطلة، وقالوا عن أوليائهم مثل ذلك، بل زادوا عليهم في غلوهم وغيّهم وضلالهم، حيث قالوا نقلا عن إبراهيم الدسوقي أنه قال عن نفسه في أبياته: (أنا ذلك القطب المبارك أمره ... فإن مدار الكل من حول ذروتي أنا شمس إشراق العقول ولم أفل ... ولا غبت إلا عن قلوب عمية يروني في المرآة وهي صدية ... وليس يروني بالمرآة الصقيلة وبي قامت الأنباء في كل أمة ... بمختلف الآراء والكل أمتي ولا جامع إلا ولي فيه منبر ... وفي حضرة المختار فزت ببغيتي بذاتي تقوم الذات في كل ذروة ... أجدد فيها حلة بعد حلة فليلى وهند والرباب وزينب ... وعلوى وسلمى بعدها وبثينة عبارات أسماء بغير حقيقة ... وما لوحوا بالقصد إلا لصورتي نعم نشأتي في الحب من قبل آدم ... وسرى في الأكوان من قبل نشأتي أنا كنت في العلياء مع نور أحمد ... على الدرة البيضاء في خلويتي أنا كنت في رؤيا الذبيح فداءه ... بلطف عنايات وعين حقيقة أنا كنت مع إدريس لما أتى العلا ... وأسكن الفردوس أنعم بقعة أنا كنت مع عيسى على المهد ناطقا ... وأعطيت داودا حلاوة نغمة   (1) ((فصوص الحكم)) لابن عربي – قسم التعليقات الثاني (ص 319، 320، 321). (2) ((المقدمات)) للفرغاني مخطوط ورقة 11 إلى 14 نقلا عن كتاب ((ختم الأولياء)) (ص 486) ط بيروت. (3) انظر ((الإبريز)) للدباغ (ص 204). (4) انظر ((طبقات الشعراني)) (2/ 3). (5) انظر ((جمهرة الأولياء)) للمنوفي الحسيني (2/ 264). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 409 أنا كنت مع نوح بما شهد الورى ... بحارا وطوفانا على كف قدرة أنا القطب شيخ الوقت في كل حالة ... أنا العبد إبراهيم شيخ الطريقة (1) ورووا عن أحد المتصوفة البارزين أنه كان يقول: (أنا موسى الكليم في مناجاته، أنا عليّ في حملاته، أنا كل وليّ في الأرض خلقته بيدي، ألبس منهم من شئت، أنا في السماء شاهدت ربي، وعلى الكرسي خاطبته، أنا بيدي أبواب النار إن أغلقتها أغلقها بيدي، وبيدي جنة الفردوس إن فتحتها أفتحها، ومن زارني أدخلته جنة الفردوس (2). وقال فتح الله بوراس: (أنا كل ولي في الأرض قد أوليته ... أنا كل حكيم من أهل السماء قد علمته وأيوب من جميع الأمراض قد أشفيته ... وبصر يعقوب أنا الذي قد رددته وابنه يوسف من الجبّ الغريق قد أظهرته ... ويونس من بطن الحوت بالعراء قد نبذته ونوح من بحر الطوفان أنا الذي أنجيته ... وفي السماء السابعة شاهدت ربيّ وكلّمته وبيدي باب الجنان قد فتحته ودخلته ... وما فيه من الحور العين قد رأيته وحصيته ومن رآني ورأى من رآني وحضر مجلسي ... في جنة عدن وبستانها قد أسكنته (3) وذكر فريد الدين العطار عن أبي يزيد البسطامي أنه سئل عن العرش والكرسي فقال: (أنا العرش والكرسي، وقال: أنا إبراهيم، وأنا موسى، وأنا محمد (4). وهذا عين مارواه الشيعة أنفسهم عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: (أنا اللوح، وأنا القلم، وأنا العرش، وأنا الكرسي، وأنا السماوات السبع، وأنا الأسماء الحسنى، والكلمات العليا (5). والجدير بالذكر أن الصوفية ينقلون لبيان معتقداتهم نفس الروايات الموضوعة المكذوبة التي يرويها الشيعة عن عليّ رضي الله عنه وأولاده. فمثلا يروي الشعراني ومحمد الرفاعي وغيرهما عنه رضي الله عنه أنه كان يقول في خطبته على رؤوس الأشهاد: (أنا نقطة بسم الله، أنا جنب الله، الذي فرطتم فيه، أنا القلم وأنا اللوح المحفوظ، وأنا العرش وأنا الكرسي، وأنا السماوات السبع والأرضون (6). المصدر: التصوف المنشأ والمصادر لإحسان إلهي ظهير   (1) ((طبقات الشعراني)) (1/ 180، 181). (2) ((طبقات الشعراني)) (1/ 180)، أيضا ((النفحة العلية في أوراد الشاذلية)) جمع عبد القادر زكي (ص 256) ط مكتبة المتنبي القاهرة. (3) ((الوصية الكبرى)) لعبد السلام الفيتوري (ص 74، 75) ط طرابلس ليبيا 1396هـ. (4) انظر ((تذكرة الأولياء)) لفريد الدين العطار (ص 99) ط باكستان. (5) ((مشارق أنوار اليقين)) لحافظ رجب البرسي (ص 159) ط دار الأندلس بيروت الطبعة الحادية عشر. (6) ((الجواهر والدرر)) للشعراني (2/ 311) بهامش ((الإبريز)) للدباغ ط مصر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 410 المبحث الثالث عشر: مراتب الصوفية وأما مراتب الصوفية، التي وضعوها لبيان طبقات المتصوفة ومكانتهم، وقدرتهم واختيارهم على الخلق، وأعدادهم، وهم حسب كلام لسان الدين بن الخطيب: (خواصّ الله في أرضه، ورحمة الله في بلاده على عباده: الأبدال، والأقطاب، والأوتاد، والعرفاء، والنجباء، والنقباء، وسيدهم الغوث (1). ولدى الهجويري هم: (أهل الحل والعقد، وقادة حضرة الحق جل جلاله، فثلاثمائة يدعون الأخيار، وأربعون آخرون يسمون الأبدال، وسبعة آخرون يقال لهم: الأبرار، وأربعة يسمون الأوتاد، وثلاثة آخرون يقال لهم: النقباء، وواحد يسمى القطب والغوث. وهؤلاء جميعا يعرفون أحدهم الآخر، ويحتاجون في الأمور لإذن بعضهم البعض (2). ومثل ذلك ذكرهم الجرجاني في تعريفاته: (القطب، وهو الغوث: عبارة عن الواحد الذي هو موضع نظر الله من العالم في كل زمان ومكان، وهو على قلب إسرائيل عليه السلام. الإمامان: هما شخصان، أحدهما عن يمين الغوث ونظره في الملكوت، والآخر عن يساره، ونظره في الملك، وهو أعلى من صاحبه، وهو الذي يخلف الغوث. الأوتاد: عبارة عن أربعة رجال منازلهم على منازل أربعة أركان من العالم: شرق وغرب وشمال وجنوب، مع كل واحد منهم مقام تلك الجهة. البدلاء: هم سبعة، ومن سافر من القوم من موضعه وترك جسدا على صورته حتى لا يعرف أحد أنه فقد، فذلك هو البدل لا غير، وهم على قلب إبراهيم عليه السلام. النجباء: أربعون، وهم المشغولون بحمل أثقال الخلق فلا يترفون إلا في حق الغير. النقباء: هم الذين استخرجوا خبايا النفوس، وهم ثلاثمائة (3). وهذا الترتيب مأخوذ عن ابن عربي في فتوحاته كما قال: (والمجمع عليه من أهل الطريق أنهم على ست طبقات أمهات: أقطاب، وأئمة، وأوتاد، وأبدال، ونقباء، ونجباء (4). ومثل ذلك ورد في (الوصية الكبرى) لشيخ العروسية عبد السلام الفيتوري (5). وفي (جامع الأصول في الأولياء) للكمشخانوي (6). وفي (طبقات السلمي) للسلمي (7). ولا بأس في إيراد عبارة داود بن محمود القيصري ههنا، لما فيها من زيادة توضيح لها الأمر، فيقول: (ولهم مراتب. الأولى مرتبة القطبية، ولا يكون فيها أبداً إلا واحد بعد واحد، ويسمى غوثا، لكونه مغيثاً للخلق في أحوالهم. ثم مرتبة الإمامين، وهما كالوزيرين للسلطان. أحدهما صاحب اليمين، وهو المتصرف بإذن القطب في عالم الملكوت والغيب، وثانيهما صاحب اليسار، وهو المتصرف في عالم الملك والشهادة. وعند إرتحال القطب إلى الآخرة، لا يقوم مقامه، منهما وإلا صاحب اليسار، لكونه أكمل في السير من صاحب اليمين: لأنه، بَعْدُ، ما نزل في السير من عالم الملكوت إلى عالم الملك، وصاحب اليسار نزل إليه، وكملت دايرته في السير والوجود. ثم مرتبة الأربعة، كالأربعة من الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين! ثم مرتبة البدلاء السبعة، الحافظين للأقاليم السبعة. وكل منهم قطب للإقليم الخاص به. ثم مراتب الأولياء العشرة، كالعشرة المبشرة. ثم مراتب الاثني عشر، الحاكمين على البروج الاثني عشر، وما يتعلق بها ويلزمها من حوادث الأكوان. ثم العشرين والأربعين والتسعة والتسعين، مظاهر الأسماء الحسنى، إلى الثلاثمائة والستين.   (1) انظر ((روضة التعريف)) (ص 432). (2) ((كشف المحجوب)) للهجويري ترجمة عربية (ص 447، 448). (3) ((التعريفات)) للجرجاني ص 154). (4) ((الفتوحات المكية)) لابن عربي (2/ 40). (5) انظر (ص48). (6) انظر (ص 107). (7) انظر (ص 57). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 411 وهؤلاء قائمون في العالم على سبيل البدل، في كل زمان، ولا يزيد عددهم ولا ينقص إلى يوم القيامة. وغيرهم من الأولياء يزيدون وينقصون، بحسب ظهور التجلي الإلهي وخفائه. وبعدهم: مرتبة الزهاد والعبّاد والعلماء من المؤمنين، الكائنين في كل زمان إلى يوم الدين. وجميع هؤلاء المذكورين، داخلون في حكم القطب. والأفراد الكمّل، الذين تعادل مرتبتهم مرتبة القطب إلا في الخلافة، هم الخارجون من حكمه. فإنهم يأخذون من الله، سبحانه، ما يأخذون من المعاني والأسرار الإلهية بخلاف الداخلون في حكمه، فإنهم لا يأخذون شيئا إلا منه (1). وقد ذكرهم المستشرق الفرنساوي ماسينيون بقوله: (ويزعم الصوفية أن العالم يدوم بقاؤه بفضل تدخل طبقة من الأولياء المستورين عددهم محدود، وكلما قبض منهم واحد خلفه غيره، ورجال الغيب هم: ثلاثمائة من النقباء، وأربعون من الأبدال، وسبعة أمناء، وأربعة عمد، ثم القطب، وهو الغوث (2). فهذه المراتب والترتيب والأعداد لم يأخذها المتصوفة إلا من الشيعة أيضا، وخاصة من الشيعة الإسماعيلية والنصيرية كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في رسائله وفتاواه: (وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذي يكون بمكة، والأوتاد الأربعة، والأقطاب السبعة، والأبدال الأربعين، والنجباء الثلاثمائة، فهذه الأسماء ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي أيضا مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل، إلا لفظ الأبدال فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن فيهم – يعني أهل الشام – الأبدال أربعين رجلا، كلما مات رجل أبدله الله مكانه رجلا) (3): ولا توجد هذه الأسماء في كلام السلف كما هي على هذه الترتيب .... وهذا من جنس دعوى الرافضة أنه لا بد في كل زمان من إمام معصوم يكون حجة الله على المكلفين لا يتم الإيمان إلا به، ثم مع هذا يقولون: أنه كان صبيا دخل السرداب من أكثر من أربعمائة وأربعين سنة، ولا يعرف له عين ولا أثر، ولا يدرك له حس ولا خبر. وهؤلاء الذين يدعون هذه المراتب فيهم معناها للرافضة من بعض الوجود، بل هذا الترتيب والاعتداد يشبه من بعض الوجوه ترتيب الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم في السابق والتالي والناطق والأساس والحدّ وغير ذلك من الترتيب الذي ما أنزل الله به من سلطان (4).   (1) ((شرح مقدمة التائية الكبرى)) للقيصري مخطوط (ص 104) نقلا عن كتاب ((ختم الأولياء)) للترمذي الحكيم (ص 495) ط بيروت. (2) ((التصوف)) لماسينيون ترجمة عربية (ص 45، 46). (3) رواه أحمد 1/ 112 (896) قال ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (1/ 289) منقطع. وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (6/ 227) فيه انقطاع. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (2/ 171): ضعيف. (4) انظر ((مجموعة الرسائل والمسائل)) للإمام ابن تيمية (1/ 57 - 60) ط بيروت 1983 م، كذلك ((مجموعة فتاوى ابن تيمية)) (11/ 433، 434، 439). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 412 وبذلك قال ابن خلدون في هذا الخصوص، والمسائل الأخرى التي ذكرناها بأن المتصوفة أخذوها من التشيع، فيقول: (إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة كما أشرنا إليه وملأوا الصحف من مثل الهروي في كتاب (المقامات) له وغيره وتبعهم ابن عربي وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول وإلهية الأئمة مذهباً لم يعرف لأولهم فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم وظهر في كلام المتصوفة القول في القطب ومعناه رأس العارفين يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله ثم يورث مقامه لآخر من أهل العرفان وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب (الإشارات) في فضول التصوف منها فقال جل جناب الحق أن يكون شرعه لكل وارد أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد وهذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي وإنما هو من أنواع الخطابة وهو بعينه ما تقوله الرافضة ودانوا به ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء (1).هذا وقد اقر بذلك أحمد أمين المصري، فكتب: (أن الصوفية اتصلت بالتشيع اتصالاً وثيقاً، وأخذت فيما أخذت عنه فكرة المهدي، وصاغتها صياغة جديدة وسمته (قطبا)، وكونت مملكة من الأرواح على نمط مملكة الأشباح، وعلى رأس هذه المملكة الروحية القطب، وهو نظير الإمام أو المهدي في التشيع، والقطب هو الذي (يدبر الأمر في كل عصر، وهو عماد السماء، ولولاه لوقعت على الأرض)، ويلي القطب النجباء، قال ابن عربي في الفتوحات المكية: (وهم اثنا عشر نقيباً في كل زمان، لا يزيدون ولا ينقصون، على عدد بروج الفلك الاثني عشر، كل نقيب عالم بخاصية كل برج وبما أودع الله تعالى في مقامه من الأسرار والتأثيرات ... وأعلم أن الله تعالى قد جعل بأيدي هؤلاء النقباء علوم الشرائع المنزلة، ولهم استخراج خبايا النفوس وغوائلها، ومعرفة مكرها وخداعها، وإبليس مكشوف عندهم، يعرفون منه ما لا يعرفه من نفسه، وهم من العلم بحيث إذا رأى أحدهم وطأة شخص في الأرض علم أنها وطأة سعيد أو شقيّ مثل العلماء بالآثار والقيافة (2). وأما من أراد مقارنة هذه المراتب بالمراتب الإسماعيلية فليرجع إلى كتابنا (الإسماعيلية القدامى تاريخ وعقائد) الباب السابع منه (ماهية الدعوة الإسماعيلية ونظامها). ولا بأس من إيراد عبارة عن القاضي الإسماعيلي النعمان بن محمد المغربي، ذكر فيها أصحاب المراتب العليا، فيقول: (والحدود السفلية هم: الأسس، الأئمة، والحجج، والنقباء، والأجنحة (3).ومثل ذلك ذكر الداعي الإسماعيلي حميد الدين الكرماني في كتابه (راحة العقل (4). وإبراهيم بن الحسين الحامدي (5). فهذه هي العقيدة الشيعية الأخرى التي تسربت إلى التصوف، وتحكمت فيهم، وسنوضح معاني هذه المصطلحات مع القضايا الأخرى في جزء مستقل من هذا الكتاب إن شاء الله. المصدر: التصوف المنشأ والمصادر لإحسان إلهي ظهير   (1) انظر ((مقدمة ابن خلدون)) الفصل الحادي عشر في علم التصوف (ص 473) ط القاهرة. (2) ((ضحى الإسلام)) لأحمد أمين (ص 245) ط القاهرة 1952 م. (3) انظر ((أساس التأويل)) للنعمان القاضي المغربي (ص 70، 71) ط دار الثقافة بيروت. (4) انظر (ص 252) وما بعد. (5) انظر ((تحفة القلوب)) ورقة 144 نسخة خطية في مكتبتي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 413 المبحث الرابع عشر: التقية من أهم المبادئ الشيعية وأسسهم ومعتقداتهم الإخفاء والكتمان، وإظهار ما لا يعتقدونه في السر، وإعلان ما يبطنون خلافه، وهذا من أخطر ما يؤمن به الشيعة، ويميزهم من الطوائف المسلمة الأخرى، ويحول بينهم وبين الالتقاء بهم، لأنه لا يعلم ظاهرهم من باطنهم، وكذبهم من صدقهم، كما قال السيد محب الدين الخطيب: (وأول موانع التجاوب الصادق بالإخلاص بيننا وبينهم ما يسمونه التقية، فإنها عقيدة دينية تبيح لهم التظاهر لنا بغير ما يبطنون، فينخدع سليم القلب منا بما يتظاهرون له به من رغبتهم في التفاهم والتقارب، وهم لا يريدون ذلك ولا يرضون به ولا يعملون له (1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (النفاق والزندقة في الرافضة أكثر منه في سائر الطوائف، بل لا بد لكل منهم من شعبة نفاق، فإن أساس النفاق الذي بني عليه الكذب، وأن يقول الرجل بلسانه ما ليس في قلبه كما أخبر الله تعالى عن المنافقين: أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. والرافضة تجعل هذا من أصول دينها وتسميه التقية، وتحكي هذا عن أئمة أهل البيت الذين برأهم الله عن ذلك حتى يحكوا ذلك عن جعفر الصادق أنه قال: التقية ديني ودين آبائي، وقد نزّه الله المؤمنين من أهل البيت وغيرهم عن ذلك، بل كانوا من أعظم الناس صدقا وتحقيقا للإيمان، وكان دينهم التقوى، لا التقية (2). فهناك روايات كثيرة فوق الحصر، التي أوردها الشيعة في كتبهم لاعتناق هذه العقيدة من أئمتهم المعصومين، ونحن أوردنا العديد منها في كتابنا (الشيعة والسنة)، وخصصنا بابا مستقلا لبيان هذا المبدأ وأهميته عند القوم، كما عقدنا فصلا مستقلا في كتابنا الجديد (بين الشيعة وأهل السنة) لهذا الموضوع، فمن أراد التعمق والتفصيل فليرجع إليهما، ولكن نذكر هنا روايتين عن القوم: روى الكشي عن حسين بن معاذ بن مسلم النحوي: (عن أبي عبد الله قال: (قال لي (أبو عبد الله): بلغني أنك تقعد في الجامع، فتفتي الناس؟ قال: قلت: نعم، وقد أردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج أني أقعد في الجامع، فيجيء الرجل، فيسألني عن الشيء فإذا عرفته بالخلاف أخبرته بما يقولون ... قال (أي معاذ بن مسلم) فقال لي (أبو عبد الله): اصنع كذا، فإني اصنع كذا (3) ز ورواية أخرى رواها الكليني عن جعفر أنه قال لأصحابه معلى بن خنيس: (يا معلى، أكتم لأمرنا ولا تذعه، فإنه من كتم أمرنا ولم يذعه أعزه الله به في الدنيا، وجعله نورا بين عينيه في الآخرة، يقوده في الجنة. يا معلىّ، من أذاع أمرنا ولم يكتمه أذله الله به في الدنيا، ونزع النور من بين عينيه في الآخرة، وجعله ظلمة تقوده إلى النار. يا معلى، إن التقية من ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له (4). وعلى ذلك قال صدوقهم ابن بابويه القمي: (اعتقادنا في التقية أنها واجبة، لا يجوز رفعها إلى أن يقوم القائم، ومن تركها قبل خروجه فقد خرج عن دين الإمامية، وخالف الله ورسوله والأئمة (5). وقال مفيدهم: (التقية كتمان الحق وستر الاعتقاد فيه، ومكاتمة المخالفين، وترك مظاهرتهم بما يعقب ضررا في الدين أو الدنيا، وفرض ذلك إذن علم بالضرورة أو قوي في الظن (6). فهذا هو معتقد الشيعة ومبدؤهم الذي اشتهروا به، وعيّروا عليه، وطعنوا فيه.   (1) ((الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها مذهب الشيعة الإثني عشرية)) (ص 8) الطبعة السادسة. (2) ((منهاج السنة النبوية)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 159) ط باكستان. (3) ((رجال الكشي)) (ص 218) تحت ترجمة معاذ بن مسلم ط مؤسسة الأعلمي كربلاء العراق. (4) ((الأصول من الكافي)) للكليني (2/ 223، 224) ط إيران. (5) ((الاعتقادات)) لابن بابويه القمي (ص 44). (6) ((شرح اعتقادات الصدوق)) فضل التقية (ص 241). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 414 ولكن المتصوفة أخذوه بكامله عنهم، وزادوا عليهم حيث اتهموا رسول الله بتهمة برّأ الله ساحته عنها بقوله: وما هو على الغيب بضنين (1).واستندوا بحديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمهم بأنه هو القائل: ((من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) (2). فقالوا: (أمر الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بكتم أشياء مما لا يسعه غيره للحديث المروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أوتيت ليلة أسري بي ثلاثة علوم، فعلم أخذ عليّ في كتمه، وعلم خيّرت في تبليغه، وعلم أمرت بتبليغه)) (3) الذي أمر بتبليغه هو علم الشرائع، والعلم الذي خيّر في تبليغه هو علم الحقائق، والعلم الذي أخذ عليه في كتمه هو الأسرار الإلهية ولقد أودع الله جميع ذلك في القرآن. فالذي أمر بتبليغه ظاهر. والذي خيّر في تبليغه باطن لقوله سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: 53] وقوله وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ [الحجر: 85] وقوله (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه) وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ [الجاثية: 13] وقوله وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي [الحجر: 29] فإن جميع ذلك له وجه يدلّ على الحقائق ووجه يتعلق بالشرائع، فهو كالتخير، فمن كان فهمه إلهيا فقد بلغ ذلك، ومن لم يكن فهمه ذلك الفهم وكان مما لو فوجئ بالحقائق أنكرها، فإنه ما بلغ إليه ذلك لئلا يؤدي ذلك إلى ضلالته وشقاوته. والعلم الذي أخذ عليه في كتمه فإنه مودع في القرآن بطريق التأويل لغموض الكتم، فلا يعلم ذلك إلا من أشرف على نفس العلم أولا، وبطريق الكشف الإلهي، ثم سمع القرآن بعد ذلك، فإنه يعلم المحلّ الذي أودع الله فيه شيئا من العلم المأخوذ على النبي صلى الله عليه وسلم في كتمه وإليه الإشارة بقوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ [آل عمران: 7] على قراءة من وقف هنا، فالذي يطلع تأويله في نفسه هو المسمى بالله فافهم (4). ويقول أبو نصر السراج الطوسي: (إن حقائق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وما خصّه الله تعالى به من العلم، لو وضعت على الجبال لذابت إلا أنه كان يظهرها لهم على مقاديرهم (5). أي لم يظهر النبي صلى الله عليه وسلم جميع العلوم التي كان قد خصه الله بها – حسب زعمهم – وذلك لأجل أن الناس لم يكونوا يقدرون على حملها ومعرفتها. وبمثل ذلك نقل الشعراني عن سيده محمد الحنفي أنه قال: (وههنا كلام لو أبديناه لكم لخرجتم مجانين لكن نطويه عمن ليس من أهله (6). وهذا عين ما ذكره الشيعة عن جعفر بن الباقر أنه قال: (إن عندنا والله سرا من سرّ الله، وعلما من علم الله، أمرنا الله بتبليغه، فبلّغنا من الله عز وجل ما أمرنا بتبليغه، فلم نجد له موضعا ولا أهلا ولا حمالة يحتملونه (7). ونسبوا إلى علي رضي الله عنه أنه قال: (إن أمرنا صعب مستصعب لا يحمله إلا عبد امتحن الله قلبه للإيمان، ولا يعي حديثنا إلا صدور أمينة، وأحلام رزينة (8).أيضا (لا يحتمله ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان (9).   (1) التكوير الآية 24. (2) رواه البخاري (1291) ومسلم (3) (3) لم نجده بهذا اللفظ (4) ((الإنسان الكامل)) لعبد الكريم الجيلي (1/ 117) الطبعة الرابعة 1402 هـ مصر. (5) كتاب ((اللمع)) للطوسي (ص 159). (6) ((طبقات الشعراني)) (2/ 98). (7) ((الأصول من الكافي)) (1/ 402)، أيضا ((بصائر الدرجات الكبرى)) للصفار (ص 40). (8) انظر ((نهج البلاغة)). (9) ((الأصول من الكافي)) (1/ 402). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 415 هذا وأن الصوفية اتهموا أبا هريرة رضي الله عنه أنه قال: (حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابين من العلم: أما أحدهما فبثثته في الناس، وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم (1). كما كذبوا على عليّ بن الحسين زين العابدين أنه قال: (يا ربّ جوهر علم لو أبوح به ... لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا ولاستحل رجال مسلمون دمي ... يرون أقبح ما يأتونه حسنا إني لأكتم من علمي جواهره ... كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتننا) وقال النفزي الرندي: (في قلوب الأحرار قبور الأسرار، والسر أمانة الله تعالى عند العبد، فافشى بالتعبير عنه خيانة، والله تعالى لا يحب الخائنين، وأيضا فإن الأمور المشهودة لا يستعمل فيها إلا الإشارة والإيماء، واستعمال العبارات فيها إفصاح بها وإشهار لها، وفي ذلك ابتذالها وإذاعتها، ثم إن العبارة عنها لا تزيدها إلا غموضا وانغلاقا، لأن الأمور الذوقية يستحيل إدراك حقائقها بالعبارات النطقية، فيؤدي ذلك إلى الإنكار والقدح في علوم السادة الأخيار. قال أبو علي الروذباري رضي الله تعالى عنه: علمنا هذا إشارة، فإذا صار عبارة خفي (2). وأما لسان الدين بن الخطيب فقال: (حملة علم النبوة هم الذين عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) (3)، قالوا: وهذا العلم هو الذي لا يجوز كشفه، ولا إذاعته ولا ادعاؤه، ومن كشفه وأذاعه وجب قتله واستحل دمه وينسبون في ذلك إلى خواص النبوة وخلفائها كثيرا كقوله: يا ربّ جوهر علم لو أبوح به لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا (4) وكان كبار المتصوفة يعملون بهذا المبدأ، ولم يكونوا يظهرون للناس علومهم وأفكارهم كما روى الكلاباذي عن الجنيد أنه قال للشبلي: (نحن حبّرنا هذا العلم تحبيرا، ثم خبأناه في السراديب، فجئت أنت، فأظهرته على رؤوس الملأ. فقال: أنا أقول وأنا أسمع، فهل في الجارين غيري (5).ونقل الشعراني كذلك عن الجنيد أنه (كان يستر كلام أهل الطريق عمن ليس منهم، وكان يستتر بالفقه والإفتاء على مذهب أبي ثور، وكان إذا تكلم في علوم القوم أغلق باب داره، وجعل مفتاحه تحت وركه (6). وأيضا روى عن الشاذلي أنه كان يقول: (امتنعت عني الرؤيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رأيته، فقلت: يا رسول الله، ماذنبي؟ فقال: إنك لست بأهل لرؤيتنا لأنك تطلع الناس على أسرارنا (7). والصوفية يكتمون آراءهم ومعتقداتهم عن غيرهم، ويوصون مريديهم في كتبهم ومؤلفاتهم التي كتبت للخاصة وخاصة الخاصة، فالصوفي الشهير عبد السلام الفيتوري يكتب في كتابه (الوصية الكبرى): (إخواني، وسنذكر لكم كلاما في المغيبات لكن يجب الإمساك عنها إلا لأهله الذين يكتمونه، ولا ينبغي إظهاره للسفهاء الذين يلحقون به إلى الأمراء والجبابرة وأهل الدنيا (8). وهناك نص مهم جدا ذكره الشعراني يقطع في هذا الموضوع فيقول: وكان بعض العارفين يقول   (1) ((إيقاظ الهمم)) لابن عجيبة الحسني (ص 145) ط مصر. (2) ((غيث المواهب العلية)) للنفزي الرندي (1/ 214). (3) قال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (2/ 37): لم أجد له أصلا ولا يصح. وقال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (466): لا أصل له. (4) ((روضة التعريف بالحب الشريف)) (ص 432). (5) ((التعرف لمذهب أهل التصوف)) للكلاباذي (ص 172) ط القاهرة. (6) ((اليواقيت والجواهر99 للشعراني (2/ 93) ط مصطفى البابي الحلبي مصر 1378 هـ. (7) انظر ((الطبقات)) للشعراني (2/ 75). (8) ((الوصية الكبرى)) لعبد السلام الأسمر الفيتوري (ص 105) " مكتبة النجاح طرابلس ليبيا الطبعة الأولى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 416 (نحن قوم يحرم النظر في كتبنا على من لم يكن من أهل طريقتنا، وكذلك لا يجوز لأحد أن ينقل كلامنا إلا لمن يؤمن به، فمن نقله إلى من لا يؤمن به دخل هو والمنقول إليه جهنم الإنكار، وقد صرح بذلك أهل الله تعالى على رؤوس الأشهاد وقالوا: من باح بالسرّ استحق القتل (1). وقد ذكر الدباغ حكايات كثيرة عن الذين لم يكتموا السرّ فابتلاهم الله ببلايا عديدة، من القتل والصلب والحرق والعمى وغير ذلك (2). وكان منهم الحلاج، لأنه لم يقتل إلا لإفشاء سرّه (3). وكما يروون أن الخضر عبر على الحلاج وهو مصلوب، فقال له الحلاج: (هذا جزاء أولياء الله؟ فقال له الخضر: نحن كتمنا فسلمنا، وأنت بحت فمتّ (4). وكما رووا عن أبي بكر الشبلي أنه قال: (كنت أنا والحسين بن منصور شيئا واحدا إلا أنه أظهر وكتمت (5). وننقل أخيرا أن أحمد بن زروق، وابن عجيبة ذكرا عن الجنيد أنه كان يجيب عن المسألة الواحدة بجوابين مختلفين، فكان يجيب هذا بخلاف ما يجيب ذاك (6). هذا عين ما رواه الشيعة على محمد الباقر كما ذكر الكليني عن زرارة بن أعين أنه قال: (سألت أبا جعفر عن مسألة فأجابني، ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني. ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلما خرج الرجلان قلت: يا ابن رسول الله، رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه؟ فقال: يا زرارة، إن هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم، ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدّقكم الناس علينا، ولكان أقل لبقائنا وبقائكم. قال: ثم قلت لأبي عبد الله عليه السلام: شيعتكم لو حملتموهم على الأسنة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين، قال: فأجابني بمثل جواب أبيه (7). فهذا هو المبدأ الخطير الآخر الذي أخذه المتصوفة من الشيعة ليكونوا حزبا سرّيا يعمل في الخفاء لهدم مبادئ الإسلام وتعاليمه، ولتأسيس ديانة جديدة تعمل لتوهين القوى الإسلامية ونشاط المسلمين لنشر الكتاب والسنة، والتقاعد عن الجهاد والغزوات، وبناء المجتمع الإسلامي على أسس كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد وضعناه أمام الباحثين والقراء مع المقارنة بين أفكار الآخذين والذين أخذ عنهم، معتمدين على أوثق الكتب وأثبتها وأهمها لدى الطرفين. المصدر: التصوف المنشأ والمصادر لإحسان إلهي ظهير   (1) ((اليواقيت والجواهر)) للشعراني (ص17) ط مصطفى البابي الحلبي مصر. (2) انظر ((الإبريز)) للدباغ (ص 12). (3) انظر ((تذكرة الأولياء)) لفريد الدين العطار (ص 252) ط باكستان. (4) ((شرح حال الأولياء)) لعز الدين المقدسي مخطوط ورقة (251). (5) ((أربعة نصوص)) (ص 19) بتحقيق ماسينيون ط باريس. (6) انظر ((قواعد التصوف)) لابن زروق (ص 11). ط القاهرة، أيضا ((إيقاظ الهمم)) لابن عجيبة (ص 144). (7) ((الأصول من الكافي)) كتاب فضل العلم باب اختلاف الحديث (1/ 65). ط طهران. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 417 المبحث الخامس عشر: الظاهر والباطن وأما الفكرة الأخرى التي تسربت إلى التصوف من التشيع، واعتنقها الصوفية بتمامها هي فكرة تقسيم الشريعة إلى الظاهر والباطن، والعام والخاص. ومنها تدرّجت وتطرقت إلى التأويل الباطني والتفسير المعنوي، وتفريق المسلمين بين العامة والخاصة، فإن الشيعة بجميع فرقها، وخاصة الإسماعيلية منهم يعتقدون أن لكل ظاهر باطنا، وقد اختص بمعرفة الباطن عليّ رضي الله عنه، وأولاده أي أئمتهم المعصومون حسب زعمهم، فسمّوا الموالين لهم بالخاصة، وغير المؤمنين بهذه الفكرة بالعامة. فلقد قالوا: (لا بدّ لكل محسوس من ظاهر وباطن، فظاهره ما تقع الحواسّ عليه، وباطنه يحويه ويحيط العلم به بأنه فيه، وظاهره مشتمل عليه (1). وكذبوا (2) على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما نزلت عليّ آية إلا ولها ظهر وبطن، ولكل حرف حدّ، ولكل حدّ مطلع)) ((3). ثم قسموا الظاهر والباطن بين النبي والوصيّ حيث قالوا: (كانت الدعوة الظاهرة قسط الرسول صلوات الله وسلامه عليه، والدعوة الباطنة قسط وصيّه الذي فاض منه جزيل الإنعام (4). ثم قالوا: (إن الظاهر هو الشريعة، والباطن هو الحقيقة، وصاحب الشريعة هو الرسول محمد صلوات الله عليه، وصاحب الحقيقة هو الوصيّ عليّ بن أبي طالب (5). هذا ولقد فصلنا القول في ذلك في كتابنا (الإسماعيلية القدامى تاريخ وعقائد) حيث بوبنا بابا مستقلا لبيان هذه العقيدة الخطرة للتلاعب بنصوص القرآن والسنة فمن أراد الاستزادة فليرجع إليه. وأن الشيعة الآخرين كالشيعة الإثني عشرية يقولون بهذا القول كما روى كلينيهم في كافيّه عن موسى الكاظم – الإمام السابع عندهم – أنه قال: (إن القرآن له ظهر وبطن (6). وأيضا ما رواه ابن بابويه القمي (7) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حديث طويل أنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله علمني ألف باب من العلم يفتح كل باب ألف باب، ولم يعلم ذلك أحد غيري) (8). ويقولون: أن هذه العلوم توارثها أئمتهم بعده، فعلى ذلك يقول الكليني محدّث الشيعة في خطبه كتابه:   (1) كتاب ((أساس التأويل)) للنعمان القاضي (ص 28). ط دار الثقافة بيروت. (2) ((أعلام النبوة)) لأبي حاتم الرازي تحقيق صلاح الصادي. ط انجمن فلسفة إيران 1397 هـ. (3) رواه أبو عبيد في الفضائل وابن المبارك في ((الزهد)) (1/ 23) (93) عن الحسن البصري مرسلا، ورواه الطحاوي في ((المشكل)) (2629) وأبو يعلى (10/ 410) (5024) وابن حبان بالشطر الأول (1/ 147) (75) والبغوي في ((شرح السنة)) (1/ 114) عن ابن مسعود مرفوعا، قال ابن عبدالبر في ((التمهيد)) (8/ 282) صحيح، وضعفه الألباني في ((الضعيفة)) (2989) (4) كتب ((الذخيرة في الحقيقة)) للداعي الإسماعيلي علي بن الوليد المتوفى سنة 612 هـ ص 113. ط دار الثقافة بيروت. (5) انظر ((الإفتخار)) للداعي أبي يعقوب السجستاني (ص 71). ط لبنان. (6) انظر ((كتاب الحجة من أصول الكافي)) للكليني (1/ 374). ط طهران. (7) كتاب ((الخصال)) لابن بابويه القمي أبواب السبعين وما فوقه (ص 572). ط مكتبة الصدوق 1389 هجري قمري. (8) قال ابن حبان في المجروحين (1/ 507) فيه ابن لهيعة وقال ابن عدي في ((الكامل)) (3/ 389) منكر ومثله قال ابن القيسراني في الذخيرة (2/ 773) وقال الذهبي في ((السير)) (8/ 24) منكر وكأنه موضوع، وقال ابن حجر في ((الفتح)) (5/ 427) عن الحديث من رواية زيد بن علي، من أكاذيب الرافضة أو معضل، وقال الألباني في ((الضعيفة)) (6627) موضوع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 418 (فأوضح الله بأئمة الهدى من أهل بيت نبينا صلى الله عليه وآله عن دينه، وأبلج بهم عن سبيل مناهجه، وفتح بهم عن باطن ينابيع علمه، وجعلهم مسالك لمعرفته، ومعالم لدينه، وحجّابا بينه وبين خلقه، والباب المؤدي إلى معرفة حقه، وأطلعهم على المكنون من غيب سره. كلّما مضى منهم إمام نصب لخلقه من عقبه إماما بيّنا، وهاديا نيّرا، وإماما قيّما، يهدون بالحق وبه يعدلون (1).والجدير بالذكر أن التفريق بين الشريعة والحقيقة، وبين الظاهر والباطن من خواص التشيع إلا أنه لا توجد طائفة شيعية إلا وتؤمن بذلك، وكتب الفرق والكلام شاهدة على هذا، بل أنهم لم يختلفوا فيما بينهم في تعيين الإمام إلا بناء على هذا المبدأ، حيث أنهم اختلفوا: (إلى من أفضى الإمام الراحل أسرار العلوم واطلاعه على مناهج تطبيق الآفاق على الأنفس، وتقدير التنزيل على التأويل، وتصوير الظاهر على الباطن، لأنهم كلهم مؤمنون بأن لكل ظاهر باطنا، ولكل شخص روحا، ولكل تنزيل تأويلا، ولكل مثال حقيقة في هذا العالم (2). فحاصل ما قلناه أن تقسيم الشريعة والعلوم إلى الظاهر والباطن من أهم الميزات التي تتميّز بها الشيعة بفرقها عن الآخرين من المسلمين، وهم الذين تقوّلوا بها متأثرين باليهودية التي استقوا منها أفكارهم، بوساطة عبد الله بن سبأ اليهودي، المؤسس الحقيقي الأول لديانتهم ومذهبهم. ثم أخذ المتصوفة بدورهم أفكار الشيعة ومعتقداتهم، فآمنوا بها واعتقدوها، وجعلوها من الأصول والقواعد لعصابتهم، فقالوا مثل ما قاله الشيعة والفرق الباطنية: (العلوم ثلاثة: ظاهر، وباطن، وباطن الباطن، كما أن الإنسان له ظاهر، وباطن، وباطن الباطن. فعلم الشريعة ظاهر، وعلم الطريقة باطن، وعلم الحقيقة باطن الباطن (3). وقال الطوسي أبو نصر السراج: (إن العلم ظاهر وباطن ... ولا يستغني الظاهر عن الباطن، ولا الباطن عن الظاهر، وقد قال الله عز وجل: ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم: فالمستنبط هو العلم الباطن، وهو علم أهل التصوف، لأن لهم مستنبطات من القرآن والحديث وغير ذلك ... فالعلم ظاهر وباطن، والقرآن ظاهر وباطن، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر وباطن، والإسلام ظاهر وباطن (4). وذكر المتصوفة نفس تلك الرواية التي نقلها الشيعة والإسماعيلية، وهي: (لكل آية ظاهر وباطن، وحدّ ومطلع (5). ولم يكن التشابه والتوافق مع الشيعة، والاستفادة والاقتباس منهم منحصرا في هذا فحسب، بل كان هناك تجانس وتداخل في أكثر من هذا، حيث قالوا باختصاص علي رضي الله عنه دون الآخرين بعلم الباطن، فقال قائلهم:   (1) ((الأصول من الكافي)) خطبة الكتاب (1/ 4). (2) انظر ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 201) بهامش ((الفصل)) لابن حزم. (3) انظر ((الفتوحات الإلهية)) لابن عجيبة (ص 333). (4) كتاب ((اللمع)) للطوسي (ص 43، 44). (5) ((لطائف المنن)) لابن عطاء الله الإسكندري (ص 248) بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود. ط مطبعة حسان القاهرة 1974 م، أيضا ((عوارف المعارف)) للسهروردي (ص 25)، أيضا ((روضة التعريف)) للسان الدين بن الخطيب (ص 431)، أيضا ((إيقاظ الهمم)) لابن عجيبة (ص 461)، ومثله في ((جمهرة الأولياء)) للمنوفي (1/ 160)، ((تفسير ابن عربي)) (1/ 2). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 419 (إن جبريل عليه السلام نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا بالشريعة، فلما تقررت ظواهر الشريعة واستقرت نزل إليه بالحقيقة المقصودة، والحكمة المرجوة من أعمال الشريعة، هي: الإيمان والإحسان، فخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بباطن الشريعة بعض أصحابه دون البعض. وكان أول من أظهر علم القوم وتكلم فيه سيدنا علي كرم الله وجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ثم انتشر هذا الطريق انتشارا لا ينقطع حتى ينقطع عمر الدنيا (1). وأوردوا في كتبهم تلك الرواية الشيعية بعينها، التي نحن ذكرناها منهم عن علي رضي الله عنه أنه قال: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين بابا من العلم لم يعلم ذلك أحد غيري (2). وهناك روايات شيعية أخرى كثيرة أوردها المتصوفة في كتبهم ومؤلفاتهم (3)، مؤيدين لها، مؤمنين بها، مستدلين منها، مثل هذا الحديث الموضوع: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)) ((4). ومنها ما رووه (5) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه كذبا عليه أنه قال: ((كنا نمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم فانقطع نعله، فتناولها علي يصلحها، ثم مشى، فقال: يا أيها الناس، إن منكم من يقاتله علي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله)) ((6).ومثل ذلك ذكر عبد الرحمن الصفوري في كتابه (نزهة المجالس ومنتخب النفائس (7). وقال ابن الفارض في تئيته: (وأوضح بالتأويل ما كان مشكلا عليّ بعلم ما ناله بالوصية (8). وهذا تشيع محض بدون شك ولا شبهة.   (1) ((جمهرة الأولياء)) لأبي الفيض المنوفي الحسيني (1/ 159). (2) انظر ((درر الغواص على فتاوى سيدي علي الخواص)) (ص 73) بهامش ((الإبريز)) للدباغ. ط مصر. (3) انظر ((مطالع المسرات)) لمحمد المهدي بن أحمد. ط مصطفى البابي الحلبي 1970م. (4) رواه الحاكم (4637) والطبراني (11083) والعقيقلي في ((الضعفاء)) (5/ 457) قال الهيثمي في ((المجمع)) (9/ 114) فيه عبد السلام بن صالح الهروي وهو ضعيف، وقال الحاكم إسناده صحيح، وقال الذهبي بل موضوع، وقال العقيلي لا يصح في هذا المتن حديث، وقال القرطبي في التفسير (9/ 336) باطل، وقال الدارقطني في ((العلل)) مضطرب غير ثابت، وقال الترمذي: منكر، وكذا البخاري، وقال: إنه ليس له وجه صحيح، وقال ابن معين فيما حكاه الخطيب في ((تاريخ بغداد)) إنه كذب لا أصل له، وأورده ابن الجوزي في ((الموضوعات)) وأشار إلى هذا ابن دقيق العيد، بقوله: هذا الحديث لم يثبتوه، وقيل: إنه باطل، وكذلك أورده ضمن الموضوعات كل من الشوكاني وابن عراق والألباني. قال يحيى بن معين في ((سؤالات ابن جنيد)) ص (185): كذب ليس له أصل. وقال الإمام أحمد في ((تاريخ بغداد)) (11/ 49): (فيه) فيه أبو الصلت روى أحاديث مناكير. وقال ابن حبان في (المجروحين) (2/ 136): لا أصل له. وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (18/ 377): ضعيف بل موضوع. (5) ((جمهرة الأولياء)) لأبن الفيض المنوفي الحسيني (2/ 28). (6) الحديث رواه أحمد (3/ 33) (11307) والنسائي في ((الكبرى)) (5/ 154) وابن حبان (15/ 385) (6937) والحاكم (3/ 132) (4621) وأبو يعلى (2/ 341) (1086) قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ومثله الذهبي وقال الهيثمي في ((المجمع)) (5/ 186) رجال أبي يعلى رجال الصحيح، وصححه الألباني في ((الصحيحة)) (2487) (7) انظر (ص 209). ط دار الكتب العلمية بيروت لبنان. (8) ((ديوان ابن الفارض)) (ص 81). ط مكتبة القاهرة 1399 هـ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 420 وكذلك ما قاله ابن عربي في تفسيره مفسرا قول الله عز وجل: عَمَّ يَتَسَاءلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النبأ:1 - 2]. (إنه القيامة الكبرى، ولهذا قيل: إن أمير المؤمنين علي هو النبأ العظيم، وهو فلك نوح أي الجمع والتفصيل – باعتبار الحقيقة والشريعة – لكونه جامعا لهما (1). وعلى ذلك قال الهجويري: (علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو ابن عم المصطفى، وغريق بحر البلاء، وحريق نار الولاء، وقدرة الأولياء والأصفياء أبو الحسن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وله في هذه الطريقة شأن عظيم، ودرجة رفيعة. وكان له حظ تام في دقة التعبير عن أصول الحقائق إلى حدّ أن قال الجنيد رحمه الله: شيخنا في الأصول والبلاء علي المرتضى رضي الله عنه. أي أن عليا رضي الله عنه هو إمام هذه الطريقة في العلم والمعاملة، فأهل الطريقة يطلقون على علم الطريقة اسم الأصول، ويسمون تحمل البلاء فيها بالمعاملات (2). والطوسي قال نقلا عن أبي عليّ الروذباري أنه قال: (سمعت جنيدا رحمه الله يقول: رضوان الله على أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه، لولا أنه اشتغل بالحروب لأفادنا من علمنا هذا معاني كثيرة، ذاك امرؤ أعطى علم اللدنّي، والعلم اللدنّي هو العلم الذي خص به الخضر عليه السلام، قال الله تعالى: وعلمناه من لدنّا علما (3). ثم نقل عن علي رضي الله عنه أشياء وقال بعده: (ولعلي رضي الله عنه أشباه في ذلك كثير من الأحوال والأخلاق والأفعال التي يتعلق بها أرباب القلوب وأهل الإشارات وأهل المواجيد من الصوفية (4). فهذه العبارات كلها لم تكن مقتبسة منقولة من التشيع وبل إنها شيعية وصرفة. وبعد هذا كله نريد أن نبيّن توغل الصوفية في علم الباطن وعلاقتهم به، وسبب التجائهم إليه، فنقول: (إن الصوفية يقولون: إن علم الباطن المسمى بعلم القلب وبعلم التصوف، علم جليل شريف نفيس، وهو أجلّ العلوم وأشرفها، وهو الزبدة الممخوضة من الشريعة التي لم تبعث الأنبياء عليهم السلام إلا لأجلها ... وهو علم طريق الآخرة، وهو العلم الذي درج عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهو العلم الذي لم يبعث الله الأنبياء إلا لأجله. وقد سماه الله تعالى في كتابه فقها وعلما وضياء ونورا وهدى ورشدا، وهو مستخرج من القرآن والسنة، ومدلول عليه منهما نصّا وتصريحا وتلويحا وكتابة وإشارة وغير ذلك من أصناف الدلالة. قال الغزالي: علم الباطن هو علم يقين المقربين، وثمرته الفوز برضا الله تعالى، ونيل سعادة الأبد، وبه تزكية النفس وتطهيرها، وتنوير القلب وصفاؤه بحيث ينكشف بذلك النور أمور جليلة، ويشهد أحوالا عجيبة، ويعاين ما نمت عنه بصيرة (5). وقالوا: (هل ظاهر الشرع وعلم الباطن إلا كجسم فيه روح ساكن والعلم الظاهر هو علم العبودية والعلم الباطن هو علم الربوبية) (6). وقالوا: (لا تجعلوا أحدا من أهل الظاهر حجة على أهل الباطن (7). وخلاصة هذا أن علم الباطن هو التصوف بعينه، وهو ما أشار الكلاباذي نقلا عن عبد الواحد بن زيد أنه قال:   (1) ((تفسير ابن عربي)) (2/ 184). (2) ((كشف المحجوب)) للهجويري ترجمة عربية (ص 273، 274). (3) كتاب ((اللمع)) للطوسي (ص 179). ط دار الكتب الحديثة مصر. (4) أيضا (ص 182). (5) ((حياة القلوب في كيفية الوصول إلى المحبب)) لعماد الدين الأموي (1/ 259، 261) بهامش ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي. ط دار صادر بيروت. (6) ((الفتوحات الإلهية)) لابن عجيبة (ص 333). (7) ((قواعد التصوف). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 421 (سألت الحسن عن علم الباطن فقال: سألت حذيفة بن اليمان عن علم الباطن فقال: سألت رسول الله عن علم الباطن فقال: سألت جبريل عن علم الباطن فقال: سألت الله عز وجل عن علم الباطن فقال هو سرّ من سرّي، أجعله في قلب عبدي، لا يقف عليه أحد من خلقي. قال أبو الحسن بن أبي ذر قي كتابه (منهاج الدين) أنشدونا للشلبي: علم التصوف لا نفاذ له علم سنيّ سماويّ ربوبيّفيه الفوائد للأرباب يعرفها أهل الجزالة والصنع الخصوصي (1). وبالغوا في مدحه حتى قالوا: (سئل بعض العلماء عن علم الباطن: أي شيء هو؟ فقال: سرّ من سرّ الله تعالى يقذفه في قلوب عباده لم يطلع عليه ملكا ولا بشرا (2).و (علم الباطن سر من أسرار الله (3). وكذب الآخر (4) على رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث نسب هذا الكلام إليه صلوات الله وسلامه عليه فقال: ((علم الباطن سر من أسرار الله تعالى وحكمة من حكمته يقذفه في قلوب من يشاء من عباده)) ((5). ولقد بين داود القيصري من هم أصحاب العلم الباطن، وما هي قيمتهم ومنزلتهم مقابل أصحاب الظاهر، شارحا مبيّنا الحديث الموضوع الذي ذكرنا فيما سبق، فيقول: (ولما كان للكتاب ظهر وبطن وحد ومطلع، كما قال عليه السلام: ((إن للقرآن ظهراً وبطناً وحداً ومطلعاً)) (6)، وقال عليه السلام: ((إن للقرآن بطناً ولبطنه بطناًً، إلى سبعة أبطن)) وفي رواية ((إلى سبعين بطناً)) (7)، وظهره: ما يفهم من ألفاظه ويسبق الذهن إليه. وبطنه: المفهومات اللازمة للنظر الأول. وحدّه: ما إليه ينتهي غاية إدراك الفهوم والعقول، ومطلعه: ما يدرك منه على سبيل الكشف والشهود، من الأسرار الإلهية والإشارات الربانية. والمفهوم الأول، الذي هو الظهر، للعوام والخواص. والمفهومات اللازمة له (هي) للخواص ولا مدخل فيها للعوام. والحدّ للكاملين. والمطلع لخلاصة أخص الخواص كأكابر الأولياء. وكذلك التقسيم في الأحاديث القدسية والكلمات النبوية: فإن لكل من العوام والخواص وأخص الخواص فيها إنباءات رحمانية وإشارات إلهية – من أجل هذا كله – كان للشريعة ظاهر وباطن. (ومراتب العلماء أيضا فيهما متكثرة. ففيهم فاضل ومفضول، وعالم وأعلم، والذي نسبته إلى نبيه أتم وقربه من روحه أقوى، كان علمه بظاهر شريعته وباطنها أكمل. والعالم بالظاهر والباطن منه أحق أن يتبع، لغاية قربه من نبيه، وقوة علمه بربه، وأحكامه، وكشفه حقائق الأشياء، وشهوده إياها. ثم من هو دونه في المرتبة إلى أن ينزل إلى مرتبة علماء الظاهر فقط (8).   (1) ((التعرف لمذهب أهل التصوف)) للكلاباذي (ص 105، 106). (2) ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي (1/ 120). (3) ((جامع الأصول في الأولياء)) للكمشخانوي (ص 258). (4) ((جمهرة الأولياء)) للمنوفي الحسيني (1/ 88). (5) أخرجه ابن الجوزي في ((الواهيات)) (1/ 83) (90) وقال لا يصح وعامة رواته لا يعرفون، وقال الذهبي في تلخيصه باطل، وقال الألباني موضوع كما في ((السلسلة الضعيفة)) (1227) (6) رواه أبو عبيد في ((الفضائل)) وابن المبارك في ((الزهد)) (1/ 23) (93) عن الحسن البصري مرسلا، ورواه الطحاوي في ((المشكل)) (2629) وأبو يعلى (10/ 410) (5024) وابن حبان بالشطر الأول (1/ 147) (75) والبغوي في ((شرح السنة)) (1/ 114) عن ابن مسعود مرفوعا، قال ابن عبدالبر في ((التمهيد)) (8/ 282) صحيح، وضعفه الألباني في ((الضعيفة)) (2989) (7) قال ابن تيمية في ((الفتاوى)) (3/ 179) من الأحاديث المختلقة التي لم يروها أحد من أهل العلم، ولا يوجد في شىء من كتب الحديث (8) ((مقدمة التائية الكبرى)) للقيصري مخطوط (ص 207، 208) المنقول من ملحقات كتاب ((ختم الأولياء)) (ص 493). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 422 و (هو العلم المخزون والعلم اللدني الذي اختزنه عنده، فلم يؤته إلا للمخصوصين من الأولياء كما قال الله تعالى في شأن الخضر عليه السلام: وعلّمناه من لدنا علما ... وقال بعضهم: هي أسرار الله تعالى يبديها الله إلى أنبيائه وأوليائه وسادات النبلاء من غير سماع ولا دراسة، وهي من الأسرار التي لم يطلع عليها أحد إلا الخواص. وقال أبو بكر الواسطي رضي الله عنه في قوله تعالى: والراسخون في العلم: وهو الذين رسخوا بأرواحهم في غيب الغيب، وفي سر السر، فعرفهم ما عرفهم، وخاضوا في بحر العلم بالفهم لطلب الزيادة، فانكشف لهم من مذخور الخزائن والمخزون تحت كل حرف وآية من الفهم وعجائب النظر بحارا، فاستخرجوا الدرر والجوهر، ونطقوا بالحكمة (1). وقالوا: (أهل الظاهر هم: أهل الخبر واللسان، وعلماء الباطن هم: أرباب القلوب والعيان ... وعلم الظاهر حكم، وعلم الباطن حاكم، والحكم موقوف حتى يأتي الحاكم بحكم فيه (2).و (أهل الظاهر هم أهل الشريعة، وأهل الباطن هم أهل الحقيقة (3). وأما سبب التجاء المتصوفة إلى علم الباطن، ومنه إلى التأويل هو أن الصوفية لم يجدوا في القرآن والسنة ما يمكن أن يكون سندا لهم على منهجهم ومسلكهم، ودليلا على طرقهم التي اختاروها، والمناهج التي اخترعوها للوصول إلى الله، والحصول على معرفته ورضائه، فالتجأوا إلى علم الباطن والتأويل الباطني كما قال نيكلسون: (لا يمكن أن يكون القرآن أساسا لأي مذهب صوفي، ومع ذلك استطاع الصوفية متبعين في ذلك الشيعة أن يبرهنوا بطريقة التأويل نصوص الكتاب والسنة معنى باطنا لا يكشفه الله إلا للخاصة من عباده الذين تشرق هذه المعاني في قلوبهم في أوقات جدهم. ومن هنا نستطيع أن نتصور كيف سهل على الصوفية بعد سلموا بهذا المبدأ أن يجدوا دليلا من القرآن لكل قول من أقوالهم ونظرية من نظرياتهم أيا كانت، وأن يقولوا إن التصوف ليس في الحقيقة إلا العلم الباطن الذي ورثه علي بن أبي طالب عن النبي. ويلزم من هذا المبدأ أيضا (مبدأ التأويل) أن تأويل الصوفية لتعاليم الإسلام قد يأتي على أنحاء وأشكال لا حصر لعددها، وربما أدى إلى تناقض في العبادات والمسائل العلمية. وكل ذلك مفروض صدقه في النوع لا في الدرجة، لأن معاني القرآن لا حصر لها، وهي تنكشف لكل صوفي بحسب ما منحه الله من الإستعداد الروحي. ولهذا لم تتألف من الصوفية فرقة خاصة، ولا كان لهم مذهب محدود يصح أن نسميه مذهب التصوف. بل إن التعريفات العديدة التي وضعت للفظ التصوف نفسه لتدل على تعدد وجوه النظر في فهم معناه.   (1) ((غيث المواهب العلية)) للنفزي الرندي (2/ 238، 239). (2) ((قوت القلوب)) لأبي طالب طالب المكي (1/ 158). (3) انظر ((جامع الأصول في الأولياء)) للكمشخانوي (ص 258). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 423 كذلك الحال في موقف الصوفية من الشريعة، فإن هذا الموقف يختلف بحسب حال كل صوفي. ولذلك تجد بعضهم قد قام بشعائر الدين بكل دقة بالرغم من أنهم كانوا يعتبرون أن صور العبادات ليس لها من القيمة ما لأعمال القلوب، أو أنها لا قيمة لها البتة إلا من حيث دلالتها على الحقائق الروحية. فالحج مثلا رمز للبعد عن المعاصي، والإحرام خلع الشهوات والملذات مع خلع الثياب. وهذا الأسلوب من البحث أسلوب معروف عند الإسماعيلية الباطنية، والظاهر أن الصوفية أخذوه عنهم. وآخرون منهم قالوا برفع التكاليف الدينية سواء أكانوا من الصوفية الذين تحرروا من القيود الشرعية في تفكيرهم وأعمالهم، أم من الصوفية الصادقين في تصوفهم كالملامتية الذين دفعهم الخوف من مدح الناس إلى الظهور فيهم بما يستجلب الملامة والذم، أم من (العارفين) الذين لم يأبهوا بمظاهر الشرع ورسومه ولا بأخلاق هذا العالم الزائل .... وقد سبق أن ذكرنا أن الصوفية اعتبروا أنفسهم خاصة أهل الله الذين منحهم الله أسرار العلم الباطن المودع في القرآن والحديث، وأنهم استعملوا في التعبير عن هذا العلم لغة الرمز والإشارات التي لا يقوى على فهمها غيرهم من المسلمين (1). وسبب آخر أنهم تقوّلوا بكلمات كلها كفر وإلحاد، ونقل عن الباطنية والتشيع والفرق الباطلة الأخرى، فلما سمع العلماء هذه المقولات كفروهم بها، ورموهم بالإلحاد والزندقة فلم يسعهم آنذاك إلا القول بالظاهر والباطن، والهروب إلى التأويل، وفي كتب التصوف أمثلة كثيرة مبعثرة في ذلك. فمثلا الطوسي يذكر متصوفة كثيرين رموا بالزندقة والإلحاد، ولكنه يبرّء ساحتهم من هذه التهم بهذه المقولة، فمثلا يقول عن عبد الله الحسين بن مكي الصبيحي أنه (تكلم بشيء من علم الأسماء والصفات وعلم الحروف فكفره أبو عبد الله الزبيري، وهيّج عليه العامة، فقال: إن سهل بن عبد الله قال له: نحن فتحنا للناس جراب الهلتيت فلم يصبروا علينا، فلم كلمتهم أنت بما لا يعرفون، فكان ذلك سبب خروجه من البصرة، ثم قال: وكان إذا تكلم بعلوم المعارف يدهش العالم (2). ومثل ذلك ذكر أبا سعيد أحمد بن عيسى الخراز فقال: (أنكر عليه جماعة من العلماء، ونسبوه إلى الكفر بألفاظ وجدوها في كتاب صنّفه وهو: كتاب (السرّ)، فلم يفهموا معناه، وهو قوله: عبد رجع إلى الله، وتعلق بالذكر، وذكر في قرب الله وطالع ما أذن له من التعظيم لله، ونسي نفسه وما سوى الله، فلو قلت له: من أين أنت وأين تريد؟ لم يكن جواب غير قول (الله (3). هذا، وذكر الآخرين كذلك، وقبل ذلك عللّ سبب تكفير العلماء إياهم بقوله: (فمنهم قوم لم يفهموا معاني ما أشاروا إليه في كلامهم من غامض العلم وجليل الخطب، ولم يكن لهم زاجر من العقل ولا واعظ من الدين أن يستبحثوا عن المعاني التي أشكلت عليهم ويسألوا ذلك عن أهلها، وقاسوا من ذلك بما علموا من العلوم المبثوثة بين عوام الناس حتى هلكوا (4). والأمثلة في هذا الباب كثيرة لا تعدّ ولا تحصى. وأخيرا يحسن بنا أن نورد بعض الأمثلة للتأويلات الصوفية في القرآن والحديث النبوي الشريف لتمام الفائدة وإكمال البحث.   (1) في ((التصوف الإسلامي وتاريخه)) لنيكلسون ترجمة عربية لأبي العلاء العفيفي (ص 76، 77). (2) انظر كتاب ((اللمع)) للطوسي (ص 500). (3) انظر كتاب ((اللمع)) للطوسي (ص 499). (4) انظر كتاب ((اللمع)) للطوسي (ص 497). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 424 فيذكر ابن عطاء الله الإسكندري في لطائفه نقلا عن بعض مشائخه أنه فسّر الآية يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا [الشورى:49] الحسنات وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ [الشورى:49] العلوم، وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا [الشورى:49] لا علم ولا حسنة، كما مضى أيضا من قول الله عز وجل: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً [البقرة:67].فقال الشيخ: بقرة كل إنسان نفسه، والله يأمرك بذبحها، وكما سيأتي إن شاء الله في تفسير الأحاديث، فذلك ليس إحالة للظاهر عن ظاهره، ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جلبت له الآية، ودلت عليه في عرف اللسان، وثمّ أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث، لمن فتح الله على قلبه (1). وقال الجيلي مفسرا قول الله عز وجل: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا [الإنسان:1] يقول في تفسيره: (اتفقت العلماء على أن (هل) في هذا الموضوع بمعنى قد: يعني قد أتى الإنسان حين من الدهر، والهر هو الله، والحين تجل من تجلياته (لم يكن شيئا) يعني أن الإنسان لم يكن شيئا (مذكورا)، ولا وجود له في ذلك التجلي، لا من حيث الوجود العيني ولا من حيث العملي، لأنه لم يكن شيئا مذكورا، فلم يكن معلوما، وهذا التجلي هو أزل الحق الذي لنفسه (2). ثم يؤوّل الجيلي الصوم والصلاة والزكاة والحج تأويلا باطنيا محضا، كالإسماعيلية تماما، فيقول: (وأما الصلاة فإنها عبارة عن واحدية الحق تعالى، وإقامتها إشارة إلى إقامة ناموس الواحدية بالاتصاف بسائر الأسماء والصفات، فالطهر عبارة عن الطهارة من النقائص الكونية ... وقراءة الفاتحة إشارة إلى وجود كماله في الإنسان لأن الإنسان هو فاتحة الوجود .... وأما الزكاة فعبارة عن التزكي بإيثار الحق على الخلق ... وأما كونه واحدا في كل أربعين في العين فلأن الوجود له أربعون مرتبة، والمطلوب المرتبة الإلهية، فهي المرتبة العليا، وهي واحدة من أربعين ... وأما الصوم فإشارة إلى الامتناع عن استعمال المقتضيات البشرية ليتصف بصفات الصمدية، فعلى قدر ما يمتنع: أي يصوم عن مقتضيات البشرية تظهر آثار الحق فيه ... وأما الحج فإشارة إلى استمرار القصد في طلب الله تعالى، والإحرام إشارة إلى ترك شهود المخلوقات ... ثم ترك حلق الرأس إشارة إلى ترك الرياسة البشرية ... ثم مكة عبارة عن المرتبة الإلهية، ثم الكعبة عبارة عن الذات، ثم الحجر الأسود عبارة عن اللطيفة الإنسانية .... (3) وبمثل ذلك ذكر الكلاباذي عن بعض مشائخه أنه قال: (معنى الصلاة: التجريد عن العلائق، والتفريد بالحقائق، والعلائق ما سوى الله، والحقائق ما لله ومن الله. وقال آخر: الصلاة وصل. قال: سمعت فارسا يقول: معنى الصوم: الغيبة عن رؤية الخلق برؤية الحق عز وجل (4).   (1) ((لطائف المنن)) لابن عطاء الإسكندري (ص 248) بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر السابق. (2) ((الإنسان الكامل)) للجيلي (ص 101، 102). (3) ((الإنسان الكامل)) للجيلي (2/ 134) وما بعد ملخصا. (4) ((التعرف لمذهب أهل التصوف)) للكلاباذي (ص 120). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 425 والسهروردي المقتول يفسر قول الله عز وجل: يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النور:35]: أي ليست عقلية محضة، ولا غربية: أي ليست هيولانية محضة، وهي بعينها شجرة موسى التي سمع منها النداء، في البقعة المباركة من الشجرة، وقوله: ولو لم تمسسه نار: هذه النار هو الأب المقدس – روح القدس – وهو النار التي جاءت في قوله: أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ [النمل:8] أي المتصلين بها (1). وقال أيضا: (ألم تر أن موسى لما طلب الرؤية، قيل له: وَلَكِنِ انظُرْ إلى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143]: لأن هذا الجبل حائل دائم التحرك، شاغل للنفس. فلما تعدى السانح القدسيّ إلى معدن التخيل، قهره. كما قال الله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا [الأعراف:143]: انقطع سلطان البشرية بظهور نور الحقيقة، فاصطلمت النفس، وفنيت عن مشاهدة الكثرة بنور القيومية (2). وأما ابن عربي الذي قال فيه الدكتور أبو العلاء العفيفي محللاً أسلوبه التأويلي والتفسيري: (إنه يحول القرآن بمنهجه الخطير في التأويل إلى قرآن جديد (3).وينقل الشيخ رشيد رضا المصري، عن شيخه محمد عبده رأيه في تفسيره بقوله: (وفيه من النزعات ما يتبرء منه دين الله وكتابه العزيز (4). يقول ابن عربي هذا في تفسير قول الله عز وجل: الم: أشار بهذه الحروف إلى كل الوجود حيث هو كل، لأن (أ) إشارة إلى ذات الله الذي هو أول الوجود ... و (ل) إلى العقل الفعال المسمى جبريل، وهو أوسط الوجود الذي يستفيض من المبدأ، ويفيض إلى المنتهي. و (م) إلى محمد الذي هو آخر الوجود تتمّ به دائرته، وتتصل بأولها، ولهذا ختم (5). ويقول السلمي الذي قال فيه الذهبي: (أتى السلمي في حقائقه بمصائب وتأويلات باطنية نسأل الله العافية (6). يقول في تفسير آلم: (الألف ألف الوحدانية، واللام لام اللطف، والميم ميم الملك، معناه من وجدنا على الحقيقة بإسقاط العلائق والأغراض تلطف له في معناه فأخرجته من رقّ العبودية إلى الملك الأعلى (7). وأما القشيري ففسر آلم: (فالألف من اسم (الله)، واللام يدل على (اللطيف)، والميم يدل على اسمه (المجيد) و (الملك). وقيل أقسم الله بهذه الحروف لشرفها لأنها بسائط أسمائه وخطابه. وقيل إنها أسماء السور. وقيل الألف تدل على اسم (الله) واللام تدل على اسم (جبريل) والميم تدل على اسم (محمد) صلى الله عليه وسلم، فهذا الكتاب نزل من الله على لسان جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم. والألف من بين سائر الحروف انفردت عن أشكالها بأنها لا تتصل بحرف في الخط وسائر الحروف يتصل بها إلا حروف يسيرة، فيتنبه العبد عند تأمل هذه الصفة إلى احتياج الخلق بجملتهم إليه، واستغنائه عن الجميع. ويقال يتذكر العبد المخلص من حال’ الألف تقدس الحق سبحانه وتعالى عن التخصص بالمكان، فإن سائر الحروف لها محل من الحلق أو الشفة أو اللسان إلى غيره من المدارج غير الألف فإنها هويته، لا تضاف إلى محل. ويقال الإشارة منها إلى انفراد العبد لله سبحانه وتعالى فيكون كالألف لا يتصل بحرف، ولا يزول عن حالة الاستقامة والانتصاب بين يديه.   (1) ((الألواح العمادية)) لشهاب الدين السهروردي المقتول (ص 72) من مجموعة الرسائل الثلاثة له. ط مركز تحقيقات فارسي إيران وباكستان. (2) أيضا (ص 74). (3) ((ابن عربي في دراساتي)) للدكتور أبي العلاء العفيفي الكتاب التذكاري (ص 13). (4) انظر ((تفسير الظلال)) (1/ 18). (5) تفسير ((ابن عربي)) (1/ 5). (6) ((تذكرة الحفاظ)) للذهبي (3/ 249). ط القاهرة. (7) ((تفسير السلمس)) (ص 17). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 426 ويقال بطالب العبد في سره عند مخاطبته بالألف بانفراد القلب إلى الله تعالى، وعند مخاطبته باللام بلين جانبه في (مراعاة) حقه، وعند سماع الميم بموافقة أمره فيما يكلفه. ويقال اختص كل حرف بصيغة مخصوصة وانفردت الألف باستواء القامة، والتميز عن الاتصال بشيء من أضرابها من الحروف، فجعل لها صدر الكتاب إشارة إلى أن من تجرد عن الاتصال بالأمثال والأشغال حظي بالرتبة العليا، وفاز بالدرجة القصوى، وصلح للتخاطب بالحروف المنفردة التي هي غير مركبة، على سنة الأحباب في ستر الحال، وإخفاء الأمر الأجنبي من القصة – قال شاعرهم: قلت لها قفي لنا قالت قاف لا تحسبي أنا نسينا لا يخافولم يقل وقفت ستراً على الرقيب ولم يقل لا أقف مراعاة لقلب الحبيب بل (قالت قاف (1). ويكتب الجيلي تحت قول الله عز وجل: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:1 - 3]: (أشار بذلك إلى حقيقة ألف لام ميم، وذلك من طريق الإجمال إشارة إلى الذات والأسماء والصفات ذَلِكَ الْكِتَابُ والكتاب الإنسان الكامل (فألف لام ميم بما أشار إليه هو حقيقة الإنسان لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الذين هم وقاية عن الحق، والحق وقاية عنهم، فإن دعوت الحق فقد كنيت به عنهم، وإن دعوتهم فقد كنيت بهم عنه الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3] الغيب هو الله لأنه غيبهم آمنوا به أنه هويتهم وأنهم عينه وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ [البقرة:3] يعني يقيمون بناموس المرتبة الإلهية في وجودهم بالاتصاف بحقيقة الأسماء والصفات وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ يعني يتصرفون في الوجود من ثمرة ما أنتجته هذه الأحدية الإلهية في ذواتهم (2). ونقل عبد الحليم محمود عن أبي الحسن الشاذلي تفسير قول الله عز وجل على لسان موسى عليه السلام: (هي عصاي) معرفتي بك، أعتمد عليها. (أهش بها على غنمي) أولادي في التربية. (ولي فيها مآرب أخرى) من باب لي وقت مع ربّي لا تسعني فيه أرض ولا سماء (3). وفسر ابن عجيبة الآية القرآنية: ((رب أدخلني) في الأشياء حقوقا كانت أو حظوظا (مدخل صدق) أي إدخال صدق، بأن يكون ذلك الإدخال بك، معتمدا فيه على حولك وقوتك، متبرئا من حولي وقوتي ومن شهود نفسي. (وأخرجني) منها (مخرج صدق) أي إخراج صدق، بأن أكون مأذونا فيه بإذن خاص، مصحوبا بالخشية وسر الإخلاص، وهذا معنى قوله (ليكون نظري إلى حولك وقوتك إذا أدخلتني) في الأشياء (وإنقيادي إليك إذا أخرجتني) منها.   (1) ((لطائف الإشارات)) للقشيري (1/ 53، 54) بتحقيق دكتور إبراهيم بسيوني الطبعة الثانية الهيئة المصرية العامة للكتاب 1981. (2) ((الإنسان الكامل)) للجيلي عبد الكريم (2/ 138، 139). (3) ((المدرسة الشاذلية الحديثة وإمامها أبو الحسن الشاذلي)) لعبد الحليم محمود (ص 403). ط القاهرة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 427 (وأجعل لي من لدنك) أي من مستبطن أمورك بلا واسطة ولا سبب (سلطانا) أي برهانا قويا، وليس ذلك إلا وارد قويّ من حضرة قهار لا يصادمه شيء ألا دمغه، فيحق الحق ويزهق الباطل، ويكون ذلك السلطان ينصرني ولا ينصر عليّ، أي ينصرني على الغيبة عن الحس وعن شهود السوى حتى نبعد عنهما برؤية مولاهما ولا ينصر على الوهم والحس وشهود الغيرية. ثم بين ذلك فقال: (ينصرني على شهود نفسي) أي يقويني على الغيبة عنها فإذا انتصرت على شهودها انهزم عني وذهب شهودها وبقي شهود ربها، فالنصرة على الشيء هو غلبته حتى يضمحل وينقطع وكأن شهود النفس عدو يحاربك ويقطعك عن شهود ربك، فإذا نصرك الله عليه ودفعته عنك، فتتصل حينئذ بشهود محبوبك، وإذا فني شهود النفس فني حينئذ وجود الحس، وهو معنى قوله (ويفنيني عن دائرة حسي) فإذا فنيت دائرة الحس بقي متسع المعاني وقضاء الشهود، وهذه هي الولادة الثانية، فإن الإنسان بعد أن خرج من بطن أمه وهي الولادة الأولى بقي مسجونا بمحيطاته، محصورا في هيكل ذاته، قد التقمه الهوى، وصار في بطن الحس والوهم. وسجن الأكوان المحيطة بجسمانيته، فإذا فنيت دائرة حسه وخرج من بطن عوائده وشهوات نفسه، نقبت روحه الكون بأسره، وخرجت إلى شهود مكونها فقد ولد مرة ثانية، وهذه الولادة لا يعقبها فناء ولا موت (1). وقال الشعراني ناقلا عن سيده علي الخواص في تفسيره قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ [فصلت:30] كمّل الأنبياء ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] محمد صلى الله عليه وسلم تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30] عامة النبيين أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصلت:30] كمّل العارفين وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30] جميع المؤمنين فقد بيّنت هذه الآية مراتب الكمّل، كما بيّنت التي تليها صفاتهم وأحوالهم. وهذه الآية من الجوامع. قال: ولولا خوف الهتك لأستار الكمّل لأظهرنا لك من هذه الآية عجبا (2). والتأويلات كهذه لا عدّ لها ولا حصر، والقوم أشبعوا الكلام في علم الباطن والتأويل الباطني، وملؤا كتبهم به، وهذه الفكرة لم تتدرج إليهم إلا من التشيع والشيعة، كالأفكار الأخرى. والشيعة بدورهم أخذوها من اليهودية. وهكذا أدخل الصوفية أنفسهم في الفرق الباطنية لأن الإسماعيلية والنصيرية والدروز وغيرها من الفرق الباطنية لم يسمّوا بالباطنية إلا لقولهم: إن لكل ظاهر باطنا، حسب اعتراف الشعراني نفسه، حيث يقول: (الإسماعيلية: وهم قوم يسمون بالباطنية لكونهم يقولون: لكل ظاهر باطن (3).وأما تسمية المتصوفة العلماء والفقهاء والمسلمين الآخرين الذين لا يؤمنون بباطنيتهم، بأهل الظاهر،، والعامة،، وأهل الرسوم، والنكير عليهم فمنتشر في كتبهم، كما يقول ابن عربي: (ما خلق الله أشق ولا أشد من علماء الرسوم على أهل الله المختصين بخدمته، العارفين به من طريق الوهب الإلهي، الذين منحهم أسراره في خلقه، وفهم معاني كتابه وإشارات خطابه، فهم لهذه الطائفة مثل الفراعنة للرسل عليهم السلام (4). وقال لسان الدين بن الخطيب: (إن كل الخلق قعدوا على الرسوم، وقعدت الصوفية على الحقائق (5). أي أن الصوفية هم أهل الحقائق، وسائر الناس أهل الرسوم. ويقول الكمشخانوي: (الذين اقتصروا على الشريعة فهم العامة (6). والترمذي الملقب بالحكيم يقول في كتابه (ختم الأولياء): (أكثر الشريعة جاءت على فهم العامة (7). المصدر: التصوف المنشأ والمصادر لإحسان إلهي ظهير   (1) ((إيقاظ الهمم)) لابن عجيبة (ص 451، 452). ط القاهرة. (2) ((درر الغواص للشعراني)) (ص 50) بهامش ((الإبريز)) للدباغ. ط مصر. (3) انظر ((اليواقيت والجواهر)) للشعراني (2/ 128). (4) ((الفتوحات المكية)) لابن عربي الباب الرابع والخمسون. (5) ((روضة التعريف)) (ص 370). (6) انظر ((جامع الأصول في الأولياء)) للكمشخانوي (ص 89). (7) ((ختم الأولياء)) للترمذي (ص 237). ط المطبعة الكاثوليكية. بيروت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 428 المبحث السادس عشر: نسخ الشريعة ووضع التكاليف ومن العقائد الشيعية الباطنية المعروفة: نسخ الشريعة، ورفع التكاليف. أما نسخ شريعة محمد صلوات الله وسلامه عليه فيؤمن به جميع فرق الباطنية ولو أنهم يتظاهرون بإنكاره كما ذكر الغزالي (1). وكما ورد في أدعية الأيام السبعة للإمام الإسماعيلي المعز لدين الله (2). وكما قال أبو يعقوب السجستاني: (أما القائم عليه السلام فإنه يرفع الشرائع (3). وأيضا في الكتب النصيرية والدرزية وغيرها من الفرق الباطنية الأخرى. وأما رفع التكاليف فيقول الداعي الإسماعيلي طاهر بن إبراهيم الحارثي اليماني: (حجج الليل هم أهل الباطن المحض، المرفوع عنهم في أدوار الستر التكاليف الظاهرة لعلو درجاتهم (4). وبمثل ذلك نقلوا عن جعفر بن محمد الباقر أنه قال: (من عرف الباطن فقد سقط عنه عمل الظاهر .... ورفعت عنه الأغلال والأصفاد وإقامة الظاهر (5). ويشاركهم في ذلك فرق الشيعة الأخرى، مثل المعمرية من الخطابية والجناحية والمنصورية وغيرها من الفرق الشيعية الأخرى (6). مؤولين قول الله عز وجل: يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ [النساء:28]، وقوله جل وعلا: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:93]. سالكين في ذلك منهج التأويل الباطني الخبيث، فتركوا الواجبات، وأباحوا المحرمات، وأتوا المنكرات. والشيعة الأثنا عشرية أيضا، كاذبين على أئمتهم، ومتهمين إياهم بمقولات هم منها براء. كما روى الكليني في كافيّه عن جعفر بن محمد الباقر أنه قال لشيعته: (إن الرجل منكم لتملأ صحيفته من غير عمل (7).بل (كان مع النبيين في درجتهم يوم القيامة (8). وذكر ابن بابويه القمي أن علي بن موسى الرضا – الإمام الثامن المعصوم عند الشيعة – قال: (رفع القلم عن شيعتنا، فقلت: يا سيدي، كيف ذاك؟ قال: لأنهم أخذ عليهم العهد بالتقية في دولة الباطل، يأمن الناس ويخوّفون، ويكفرون فينا ولا نكفر فيهم، ويقتلون بنا ولا نقتل بهم، ما من أحد من شيعتنا ارتكب ذنبا أو خطأ إلا ناله في ذلك غمّ يمحص عنه ذنوبه، ولو أتى بذنوب عدد القطر والمطر، وبعدد الحصى والرمل، وبعدد الشوك والشجر (9).   (1) انظر ((فضائح الباطنية)) (ص 46). ط مؤسسة دار الكتب الثقافية الكويت. (2) انظر لذلك كتابنا ((الإسماعيلية القدامى تاريخ وعقائد)) الباب الخامس منه، أيضا كتاب زهر المعاني للداعي الإسماعيلي إدريس من مجموعة المنتخب لإيوانوف. ط بومبي، أيضا ((الأنوار اللطيفة)) للحارث اليماني الباب الثاني من السرادق الثالث من الفصل الخامس ((ص 130). (3) كتاب ((النصرة)) للسجستاني عن كتاب الرياض للكرماني (ص 201). ط دار الثقافة بيروت. (4) ((الأنوار اللطيفة)) الباب الثاني السرادق الثاني (ص 102). (5) كتاب ((الهفت الشريف)) للمفضل الجعفي (ص 42) تحقيق مصطفى غالب الإسماعيلي. ط دار الأندلس بيروت. (6) انظر لذلك ((فرق الشيعة)) للنوبختي، وكتاب ((المقالات والفرق)) لسعد بن عبد الله القمي الشيعي، وكتب السنة أيضا من ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري، و ((التبصير في الدين)) للأسفرائيني ووالاعتقادات للرازي وغيرها. (7) انظر كتاب ((الروضة من الكافي)) للكليني (1/ 78). ط طهران. (8) ((مقدمة البرهان في تفسير القرآن)) لمفسر شيعي هاشم البحراني (ص 21). ط طهران. (9) ((عيون أخبار الرضا)) لابن بابويه القمي (2/ 236). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 429 ويذكر مفسر شيعي آخر وهو علي بن إبراهيم القمي، عن جعفر أنه قال: (إذا كان يوم القيامة يدعى بعليّ أمير المؤمنين عليه السلام ... ثم يدعى بالأئمة ... ثم يدعى بالشيعة، فيقومون أمامهم، ثم يدعى بفاطمة ونسائها من ذريتها وشيعتها، فيدخلون الجنة بغير حساب (1). ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتابنا (الشيعة وأهل البيت (2). وكذلك الشيعة والسنة (3). وأما المتصوفة فيقولون بكل هذا، سالكين مسلك هؤلاء الضالة المنحرفين: (وفي النساك قوم يزعمون أن العبادة تبلغ بهم إلى درجة تزول فيها عنهم العبادات، وتكون الأشياء المحظورات على غيرهم من الزنا وغيره مباحات لهم (4). وقالوا: إذا وصلت إلى مقام اليقين سقطت عنك العبادة، مؤولين قول الله عز وجل: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] (5). ولقد أقر صوفي قديم بوجود هؤلاء المتصوفة ومن هم على منوالهم – وما أكثرهم – فقال: (وأرتحل عن القلوب حرمة الشريعة، فعدّوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام، ودانوا بترك الاحترام، وطرح الاحتشام، واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة، وركضوا في ميدان الغفلات، وركنوا إلى إتباع الشهوات، وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات، والإرتفاق بما يأخذونه من السوقة والنسوان وأصحاب السلطان. ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوء هذه الأفعال، حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال، وادعوا أنهم تحرروا من رقّ الأغلال، وتحققوا بحقائق الوصال، وانهم تجري عليهم أحكامه وهم محو، وليس لله عليهم فيما يؤثرونه أو يذرونه عتب ولا لوم، وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية، واختطفوا عنهم بالكلية، وزالت عنهم أحكام البشرية، وبقوا بعد فنائهم عنهم بأنوار الصمدية، والقائل عنهم غيرهم إذا نطقوا، والنائب عنهم سواهم فيما تصرفوا، بل صرفوا. ولما طال الابتلاء فيما نحن فيه من الزمان بما لوّحت ببعضه من هذه القصة، وكنت لا أبسط إلى هذه الغاية لسان الإنكار، غيرة على هذه الطريقة أن يذكر أهلها بسوء أو يجد مخالف لثلبهم مساغا، إذ البلوى في هذه الديار بالمخالفين لهذه الطريقة والمنكرين عليها شديدة (6). كما أقرّ بإباحتهم للمحظورات، الطوسي في كتابه: (زعمت الفرقة الضالة، في الحظر والإباحة، أن الأشياء في الأصل مباحة، وإنما وقع الحظر للتعدي، فإذا لم يقع التعدّي تكون الأشياء على أصلها من الإباحة، وتأولوا قول الله عز وجل: فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ [عبس:27 - 32].   (1) ((تفسير القمي)) (1/ 128). (2) انظر (ص 230) وما بعد الطبعة الثامنة. ط إدارة ترجمان السنة باكستان. (3) انظر (ص 51، 52) الطبعة الجديدة، الثلاثون. ط إدارة ترجمان السنة لاهور باكستان. (4) ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (ص 289). ط هلموت ريتز الطبعة الثالثة فرانزستايز 1980 م. (5) ((اتحاف السادة)) للزبيدي (8/ 278) المنقول من كتاب ((نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها)) للدكتور عرفان عبد الحميد (ص 74). ط المكتب الإسلامي بيروت 1974 م. (6) ((الرسالة القشيرية)) (1/ 22، 23، 24)، بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 430 فقالوا: هذا على الجملة غير مفصل، فأدّاهم ذلك بجهلهم، إلى أن طمعت نفوسهم بأن المحظور الممنوع منه المسلمون: مباح لهم، إذا لم يتعدّوا في تناوله. وإنما غلطوا في ذلك بدقيقة خفيت عليهم، من جهلهم بالأصول، وقلة حظهم من علم الشريعة، ومتابعتهم شهوات النفس في ذلك ... فظنت هذه الطائفة الضالة بالإباحة، لأن ذلك كان منهم على حال، جاز لهم ترك الحدود، أو أن يجاوزوا حد متابعة الأمر والنهي، فوقعوا من جهلهم في التيه، وتاهوا، وطلبوا ما مالت إليه نفوسهم: من اتباع الشهوات، وتناول المحظورات، تأويلا، وحيلا، وكذبا، وتمويها (1). وذكرهم السهروردي بقوله: (فقوم من المفتونين سمّوا أنفسهم ملامتية، ولبسوا لبسة الصوفية، لينتسبوا بها إلى الصوفية، وما هم من الصوفية بشيء، بل هم في غرور وغلط، يتسترون بلبسة الصوفية توقيتا تارة، ودعوى أخرى، وينتهجون مناهج أهل الإباحة، ويزعمون أن ضمائرهم خلصت إلى الله تعالى، ويقولون: هذا هو الظفر بالمراد، والإرتسام بمراسم الشريعة رتبة العوام، والقاصرين الأفهام المنحصرين في مضيق الاقتداء تقليدا، وهذا هو عين الإلحاد والزندقة والإبعاد، فكل حقيقة ردّتها الشريعة فهي زندقة، وجهل هؤلاء المغرورون أن الشريعة حق العبودية، والحقيقة هي حقيقة العبودية، ومن صار من أهل الحقيقة تقيد بحقوق العبودية وصار مطالبا بأمور وزيادات لا يطالب بها من لم يصل إلى ذلك، لا أنه يخلع عن عنقه ربقة التكليف، ويخامر باطنه الزيغ والتحريف .... ومن جملة أولئك قوم يقولون بالحلول ويزعمون أن الله تعالى يحل فيهم ويحل في أجسام يصطفيها، ويسبق لأفهامهم معنى من قول النصارى في اللاهوت والناسوت. ومنهم من يستبيح النظر إلى المستحسنات إشارة إلى هذا الوهم (2). وهؤلاء الذين ذكرهم ابن الجوزي بقوله: (أعلم أن أكثر الصوفية المتصوفة قد سدوا على أنفسهم باب النظر إلى النساء الأجانب لبعدهم عن مصاحبتهن وامتناعهم عن مخالطتهن، واشتغلوا بالتعبد عن النكاح، واتفقت صحبة الأحداث لهم على وجه الإرادة وقصد الزهادة، فأمالهم إبليس إليهم، واعلم أن المتصوفة في صحبة الأحداث على سبعة أقسام: القسم الأول: أخبث القوم وهم أناس تشبهوا بالصوفية ويقولون بالحلول. أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد بن سليمان، نا أبو علي الحسين بن محمد بن الفضل الكرماني، نا سهل بن علي الخشاب، نا أبو نصر عبد الله بن السراج، قال: بلغني أن جماعة من الحلولية زعموا أن الحق تعالى اصطفى أجساما حل فيها بمعاني الربوبية. ومنهم من قال: هو حال في المستحسنات. وذكر أبو عبد الله بن حامد من أصحابنا أن طائفة من الصوفية قالوا: أنهم يرون الله عز وجل في الدنيا، وأجازوا أن يكون في صفة الآدمي ولم يأبوا كونه حالا في الصورة الحسنة حتى استشهدوه في رؤيتهم الغلام الأسود. القسم الثاني: قوم يتشبهون بالصوفية في ملبسهم ويقصدون الفسق. القسم الثالث: قوم يستبيحون النظر إلى المستحسن. وقد صنف أبو عبد الرحمن السلمي كتابا سماه (سنن الصوفية) فقال في أواخر الكتاب: باب في جوامع رخصهم، فذكر فيه الرقص والغناء والنظر إلى الوجه الحسن. وذكر فيه ما روى عن النبي عليه السلام أنه قال: أطلبوا الخير عند حسان الوجوه. وأنه قال: ثلاثة تجلو البصر: النظر إلى خضرة، والنظر إلى ماء، والنظر إلى الوجه الحسن (3). ثم حكى حكايات كثيرة عن هؤلاء المتصوفة، تدل على فسقهم وفجورهم.   (1) كتاب ((اللمع)) للطوسي (ص 538، 539). (2) ((عوارف المعارف)) للسهروردي (ص 78، 79). (3) ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص 295، 296). ط دار الوعي العربي بيروت لبنان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 431 ومما ذكرها أن صبيا أمرد حكى له، قال: قال لي الصوفي وهو يجيبني: يا بنيّ، لله فيك إقبال وإلتفات، حيث جعل حاجتي إليك. وحكى أن جماعة من الصوفية دخلوا على أحمد الغزالي وعنده أمرد، وهو خال به وبينهما ورد، وهو ينظر إلى الورد تارة، وإلى الأمرد تارة، فلما جلسوا قال بعضهم: لعلنا كدرنا، فقال: أي والله، فتصايح الجماعة على سبيل التواجد. وحكى أبو الحسين بن يوسف أنه كتب إليه في رقعة: أنك تحب غلامك التركي، فقرأ الرقعة ثم استدعى الغلام فصعد إليه النظر فقبله بين عينية، وقال: هذا جواب الرقعة. قال المصنف رحمه الله: قلت: إني لأعجب من فعل هذا الرجل وإلقائه جلباب الحياء عن وجهه، وإنما أعجب من البهائم الحاضرين كيف سكتوا عن الإنكار عليه، ولكن الشريعة بردت في قلوب كثير من الناس (1). ومن الأبيات التي يستمع إليها الصوفية، ويرقصون عليها، يغنّون بها أبيات ذكر طرفا منها في كتابه: (أتذكر وقتنا وقد اجتمعنا ... على طيب السماع إلى الصباح ودارت بيننا كأس الأغاني ... فأسكرت النفوس بغير راح فلم تر فيهم إلا نشاوى ... سرور والسرور هناك صاح إذا لبّى أخو اللذات فيه ... منادي اللهو حيّ على الفلاح ولم نملك سوى المهجات شيئا ... أرقنا لألحاظ ملاح (2) وأيضا قال يوسف بن الحسين: (كل ما رأيتموني أفعله فافعلوه إلا صحبة الأحداث فإنها أفتن الفتن، ولقد عاهدت ربّي أكثر من مائة مرة أن لا أصحب حدثا، ففسخها على حسن الخدود، وقوام القدود، وغنج العيون، وما سألني الله معهم عن مصيبة، وأنشد صريح الغواني في معنى ذلك شعرا: إن ورد الخدود والحدق النجل ... وما فى الثغور من أقحوان واعوجاج الأصداغ في ظاهر الخد ... وما في الصدور من رمان تركتني بين الغواني صريعا ... فلهذا أدعى صريع الغواني (3) فعن هؤلاء قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فكل الرسل دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى طاعتهم والإيمان بالرسل هو الأصل الثاني من أصلي الإسلام، فمن لم يؤمن بأن هذا رسول الله إلى جميع العالمين وأنه يجب على جميع الخلق متابعته، وأن الحلال ما أحله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه فهو كافر مثل هؤلاء المنافقين، ونحوهم من يجوز الخروج عن دينه وشريعته وطاعته، إما عموما أو خصوصا ... ويعتقدون مع هذا أنهم من أولياء الله، وأن الخروج عن الشريعة المحمدية سائغ لهم، وكل هذا ضلال وباطل، وإن كان لأصحابه زهد وعبادة (4). وقال الحافظ ابن حزم الظاهري: (ادّعت طائفة من الصوفية أن في أولياء الله تعالى من هو أفضل من جميع الأنبياء والرسل، وقالوا: من بلغ الغاية القصوى من الولاية سقطت عنه الشرائع كلها من الصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك، وحلت له المحرمات كلها من الزنا والخمر وغير ذلك، واستباحوا بهذا نساء غيرهم، وقالوا بأننا نرى الله ونكلمه، وكلما قذف في نفوسنا فهو حق. ورأيت لرجل منهم يعرف بان شمعون كلاما نصه أن لله تعالى مائة اسم، وأن الموفي مائة هو ستة وثلاثون حرفا ليس منها في حروف الهجاء شيء إلا واحد فقط، وبذلك الواحد يصل أهل المقامات إلى الحق. وقال أيضا: أخبرني بعض من رسم لمجالسة الحق أنه مدّ رجله يوما فنودي: ما هكذا مجالس الملوك، فلم يمدّ رجله بعدها. يعني أنه كان مديما لمجالسة الله تعالى (5).   (1) انظر (ص 298) من ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي. (2) أيضا (ص 299). (3) أيضا (ص 305). (4) ((مجموعة الرسائل والمسائل)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 44، 45). (5) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) للحافظ ابن حزم (4/ 226). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 432 ولذلك قال ابوعلي وفا: (وبعد الفنا بالله كن كيف ما تشا فعلمك لا جهل وفعلك لا وزر (1). ونقل الدكتور عبد الحليم محمود قاعدة عامة للصوفية بقوله: (اعرف الله وكن كيف شئت (2). هذا ولقد ورد في كتب الصوفية حكايات كثيرة لا تعدّ ولا تحصى، تدل على إتيان المتصوفة المنكر، وإباحتهم المحظورات، وتركهم الواجبات، ومع ذلك عدّوهم من أو لياء الله وكبار المستجابين عند الرب تبارك وتعالى عما يقوله الأفاكون علوا كبيرا، عن أن يختار الفسقة الفجرة أولياءه وأصفياءه. منهم من ذكره (القطب الرباني والهيكل الصمداني العارف بالله عبد الوهاب الشعراني) في طبقاته ذكر أن سيده علي وحيش (كان رضي الله عنه من أعيان المجاذيب أرباب الأحوال، وكان يأتي مصر والمحلة وغيرهما من البلاد، وله كرامات وخوارق، وأجتمعت به يوما في خط ما بين القصرين، فقال لي: ودّيني للزلباني فودّيته له، فدعا لي وقال: الله يصبرك على ما بين يديك من البلوى. وأخبرني الشيخ محمد الطنيخي رحمه الله تعالى قال: كان الشيخ وحيش رضي الله عنه يقيم عندنا في المحلة في خان بنات الخطا، وكان كل من خرج يقول له: قف حتى أشفع فيك عند الله قبل أن تخرج، فيشفع فيه، وكان يحبس بعضهم اليوم واليومين ولا يمكنه أن يخرج حتى يجاب في شفاعته، وقال يوما لبنات الخطا: أخرجوا فإن الخن رائح يطبق عليكم فما سمع منهن إلا واحدة، فخرجت، ووقع على الباقي فمتن كلهن. وكان إذا رأى شيخ بلد وغيره ينزله من على الحمارة ويقول له: أمسك رأسها لي حتى أفعل فيها، فإن أبى شيخ البلد تسمّر في الأرض لا يستطيع أن يمشي خطوة، وإن سمع حصل له خجل عظيم والناس يمرون عليه، وكان له أحوال غريبة (3). وماذا نستطيع أن نقول بعد سرد هذه الرواية عن الشعراني، ثم مدحه لمثل هذا الفاجر الخبيث، وجعله من أعيان المجاذيب، وأرباب الأحوال، وصاحب الكرامات والخوارق، ومستجاب الدعوات، مأذونا بالشفاعة عند الله، وليس مأذونا فحسب بل شفيعا مقبولا، مبشرا بقبول شفاعته فيمن أراد أن يشفع فيهم، وهل هناك استهزاء بالشريعة، وتعطيل لحدود الله، وتلاعب بأوامر الله ونواهيه، زندقة وإلحاد، وفسق وفجور أكبر من هذا؟ هذا ما لا يوجد له نظير حتى لدى الشيعة، منبع كل فساد، ومصدر كل رذيلة. ولكن التلميذ قد فاق أستاذه، والمريد مرشده، والمتعلم معلمه. وهناك آخر من كبار مشائخ القوم، يسمونه قطب الواصلين عبد العزيز الدباغ، يقول: (إن بعض المريدين قال لشيخه: يا سيدي دلّني على شيء يريحني مع الله عز وجل. فقال: له الشيخ: إن أردت ذلك فكن شبيها له في شيء من أوصافه عز وجل، فإنك إن اتصفت بشيء منها فإنه يسكنك يوم القيامة مع أوليائه في دار نعيمه ولا يسكنك مع أعدائه في دار جحيمه. فقال المريد: وكيف لي بذلك يا سيدي وأوصافه تعالى لا تنحصر. فقال الشيخ: كن شبيهه في بعضها، فقال: وما هو يا سيدي؟ فقال: كن من الذين يقولون الحق، فإن من أوصافه تعالى قول الحق، فإن كنت من الذين يقولون الحق فإن الله سيرحمك، فعاهد الشيخ على أن يقول الحق، وافترقا. وكان بجوار المريد بنت فدخل الشيطان بينهما حتى فجر بها وافتضها، فلم تقدر البنت على الصبر مع أنها هي التي طلبت منه الفعل، لأنها تعلم أن الافتضاض لا يخفى بعد ذلك، فأعلمت أباها فرفعه إلى الحاكم، وقال: إن هذا فعل ببنتي كذا وكذا.   (1) ((كتاب سيدي أحمد الدردير)) للدكتور عبد الحليم محمود (ص 95). ط دار الكتب الحديثة القاهرة. (2) ((المدرسة الشاذلية الحديثة وإمامها أبو الحسن الشاذلي)) (ص 53). ط القاهرة. (3) ((طبقات الشعراني)) (2/ 150، 151). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 433 فقال الحاكم للمريد: أتسمع ما يقول؟ فقال: صدق، قد فعلت ذلك، كان مستحضرا للعهد الذي فارق الشيخ عليه، فلم يقدر على الجحود والنكران، فلما سمع منه الحاكم ما سمع، قال: هذا أحمق، اذهبوا به إلى المارستان، فإن العاقل لا يقرّ على نفسه بما يعود عليه بالضرر، فدخل المارستان، ثم جاء من رغب الحاكم، وشفع فيه فسرّحوه (1). وأحد كبار القوم و (شهيد التصوف الإمام الأجل نجم الملة والدين قطب الإسلام والمسلمين، برهان السنة، محيي الحق نجم الدين الكبري) يخبر عن فسقه وفجوره بأسلوب صوفي: فيقول: (عشقت واحدا ببلاد المغرب فسلطت عليه الهمة فأخذته وربطته ومنعته عن سواي، إلا أنه كان عليه رقباء، فسكت عن صريح المقال، وجعل يكلمني بلسان الحال، فأهمه وأكلمه كذلك فيفهمه، وانتهي الأمر إلى أن صرت أنا هو، وهو أنا، ووقع العشق إلى محض صفاء الروح، فجاءتني روحه سحرا تمرّغ وجهها في التراب وتقول: أيها الشيخ الأمان، الأمان، قتلتني أدركني، فقلت: ماذا تريد؟ قالت: أريد أن تدعني حتى أقبل قدمك، فأذنت لها، ففعلت ورفعت وجهها، فقبلتها حتى استراحت واطمأنت إلى صدري (2). وما دمنا تطرقنا إلى هذا الموضوع فإننا نقول: إن جماعة من الصوفية ولو أنهم تظاهروا بالصلاح والتقوى لم يستطيعوا أن يخفوا ويكتموا عشقهم وفسقهم، وشهدوا عليهم بعدم مبالاة الشرع وأحكامه، والتطرق إلى المنكرات والمحظورات. فهذا هو الشيخ الأكبر للصوفية محيي الدين بن عربي يرفع الستار عن شخصه وكنهه، مثلما شهد تلميذه نجم الدين الكبري على نفسه، فيقول شارحا لديوانه (ترجمان الأشواق) الذي فضحه هو وعشقه ببنت أحد مشائخ مكة، وتشبيبه وغزله فيها، وقد كثر الكلام والغمز واللمز فيه (وأحدث هذا الشعر دويا وأقاويل حوله مما جعل بدل الحبشي وإسماعيل بن سودقين يطلبان إليه شرح هذا الديوان (3). فأراد أن يغطي ما قاله فيها من الغزل الركيك المتندح عشقا وحبا وجذبا وشوقا إلى تلك الحسناء المكية بغطاء صوفي بدهاء ومكر، فما استطاع إلا إظهار ما كان خافيا من قبل أكثر بكثير.   (1) ((الإبريز)) للدباغ (ص 43). ط مصر. (2) ((فوائح الجمال وفواتح الجلال)) لنجم الدين الكبري (ص 64، 65). ط ألمانيا. (3) ((مقدمة ذخائر الأعلاق)) لمحمد عبد الرحمن الكروي ص (و) ط مطبعة السعادة مصر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 434 فانظره ماذا يقول في مقدمة ذخائره، والعبارة ناطقة بصوت رفيع لا بصوت خافت، بما هو مكنون بين جنباتها وتراكيبها: (فإني لما نزلت مكة سنة خمسمائة وثمان وتسعين ألفيت بها جماعة من الفضلاء، وعصابة من الأكابر والأدباء والصلحاء بين رجال ونساء، ولم أر فيهم مع فضلهم مشغولا بنفسه، مشغوفا فيما بين يومه وأمسه، مثل الشيخ العالم الإمام، بمقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، نزيل مكة البلد الأمين مكين الدين أبي شجاع زاهر بن رستم بن أبي الرجاء الأصفهاني رحمه الله ... وكان لهذا الشيخ رضي الله عنه بنت عذراء، طفيلة هيفاء، تقيد النظر، وتزين المحاضر، وتحير المناظر، تسمى بالنظام، تلقب بعين الشمس وإليها من العابدات العالمات السابحات الزاهدات شيخة الحرمين، وتربية البلد الأمين الأعظم بلامين، ساحرة الطرف، عراقية الظرف، إن أسهبت أثعبت، وإن أوجزت أعجزت، وإن أفصحت أوضحت إن نطقت خرس قس بن ساعدة، وإن كرمت خنس معن بن زائدة، وإن وفت قصر السموأل خطاه، وأغرى ورأى بظهر الغرر وامتطاه، ولولا النفوس الضعيفة السريعة الأمراض، السيئة الأغراض، لأخذت في شرح ما أودع الله تعالى في خلقها من الحسن، وفي خلقها الذي هو روضة المزن، شمس بين العلماء، بستان بين الأدباء، حقه مختومة، واسطة عقد منظومة، يتيمة دهرها، كريمة عصرها، سابغة الكرم، عالية الهمم، سيدة والديها، شريفة ناديها، مسكها جياد وبيتها من العين السواد ومن الصدر الفؤاد أشرقت بها تهامة، وفتح الروض لمجاورتها أكمامه، فنعمت أعراف المعارف، بما تحمله من الرقائق واللطائف، علمها عملها، عليها مسحة ملك وهمة ملك، فراعينا في صحبتها كريم ذاتها مع ما انضاف إلى ذلك من صحبة العمة والوالد، فقلدناها من نظمنا فيها بعض خاطر الاشتياق، من تلك الذخائر والأعلاق، فأعربت عن نفس تواقة، ونبهت على ما عندنا من العلاقة، اهتماما بالأمر القديم، وإيثارا لمجلسها الكريم، فكل اسم أذكره في هذا الجزء فمنها أكني، وكل دار أندبها فدارها أعني (1). ولم تكن واحدة هذه التي علق بها قلب الشيخ، وهام وراءها، بل كانت هناك أخرى أيضا، وفي بيت الله الحرام وجنب الكعبة، انظر ماذا يقول: (كنت أطوف ذات ليلة بالبيت فطاب وقتي، وهزّني حال كنت أعرفه، فخرجت من البلاط من أجل الناس وطفت على الرمل، فحضرتني أبيات فأنشدتها أسمع بها نفسي ومن يليني – لو كان هناك أحد – وهي قوله: ليت شعري هل دروا أيّ قلب ملكوا وفؤادي لو درى أيّ شعب سلكوا أتراهم سلموا أم تراهم هلكوا حار أرباب الهوى في الهوى وأرتكبوا فلم أشعر إلا بضربة بين كتفي بكف ألين من الخزّ، فالتفت فإذا بجارية من بنات الروم لم أر أحسن وجهاً، ولا أعذب منطقاً، ولا أرق حاشية، ولا ألطف معنى، ولا أدق إشارة، ولا أظرف محاورة منها، قد فاقت أهل زمانها ظرفاً وأدباً وجمالا ومعرفة، فقالت: ياسيدي كيف قلت؟ فقلت: ليت شعري هل دروا أيّ قلب ملكوا فقالت: عجباً منك وأنت عارف زمانك تقول مثل هذا! أليس كل مملوك معروف؟ وهل يصح الملك إلا بعد المعرفة وتمني الشعور يؤذن بعدمها والطريق لسان صدق فكيف يجوز لمثلك أن يقول مثل هذا؟ قل ياسيدي: ماذا قلت بعده؟ فقلت: وفؤادي لو درى أيّ شعب سلكوا فقالت: ياسيدي الشعب الذي بين الشغاف والفؤاد هو المانع له من المعرفة، فكيف يتمنى مثلك ما لا يمكن الوصول إليه إلا بعد المعرفة، والطريق لسان صدق فكيف يجوز لمثلك أن يقول مثل هذا ياسيدي!؟ فماذا قلت بعده؟ فقلت: أتراهم سلموا أم تراهم هلكوا فقالت: أما هم فسلموا، ولكن أسأل عنك فينبغي أن تسأل نفسك: هل سلمت أم هلكت ياسيدي؟ فما قلت بعده؟ فقلت:   (1) ((ذخائر الأعلاق)) لابن عربي (ص1 - 4). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 435 حار أرباب الهوى في الهوى وأرتكبوافصاحت وقالت: ياعجباً كيف يبقى للمشغوف فضلة يحاربها، والهوى شأنه التعميم. يخدر الحواس ويذهب العقول ويدهش الخواطر ويذهب بصاحبه في الذاهبين فأين الحيرة وما هنا باق فيحار والطريق لسان صدق والتجوز من مثلك غير لائق. فقلت: يابنت الخالة ما أسمك؟ قالت: قرة العين. فقلت: لي. ثم سلمت وانصرفت. ثم إني عرفتها بعد ذلك وعاشرتها فرأيت عندها من لطائف المعارف الأربع ما لا يصفه واصف (1). ولا أدري كيف يستسيغ المدافعون عن ابن عربي أن يبرئوه من هذه الشهادة التي شهد بها على نفسه، وأن يخلصوه من ذلك المأزق الذي أوقع نفسه بنفسه فيه، وهل يبيح أحد هؤلاء المدافعين عنه أن يذكره أحد – لا سمح الله – هكذا بإسمه، ثم يذكر كريمته ويتسبب فيها ويتغزل كما تغزل وتشبب شيخهم الأكبر في كريمة ذلك الشيخ المكي، فكيف يرضون لغيرهم ما لا يرضون لأنفسهم؟ وما دمنا بدأنا بذكر الإعترافات نورد ههنا اعترافا آخر من أحد مشائخ القوم يدل على سيرتهم وعلى سريرتهم أيضا، وهو أن أحمد بن المبارك راوية عبد العزيز الدباغ يذكر أن كاتبه عبد الله بن علي وأخاه عبد الرحمن صعدا يوما على سطح مدرسة العطارين، ثم ماذا حدث؟ إسمع عنهما، ما يقولان: (فرأينا على سطوح الدور نسوة مجتمعات ومتفرقات، فجعلنا ننظر إليهن ونتذاكر أمرهن فيما بيننا، نضحك أحيانا، ثم وثب أحدنا مرة إلى الهواء من قوة ما غلب علينا من المزاح. فلما قدمنا دار الشيخ رضي الله عنه وجلسنا في الصقلابية المعروفة جعل رضي الله عنه يضحك ضحكا كثيرا. ويقول: ما أملح الشيخ الذي لا يكاشف، ثم قال: أين كنتما؟ أصدقاني، ولا تكذبا عليّ. فذكرنا له الأمر الذي كان. فجعل رضي الله عنه يذكر لنا أمر النسوة ومكانتهن في السطوح كأنه حاضر معنا، وذكر لنا أيضا الوثبة المتقدمة من غير أن نذكرها له، فذكر لنا رضي الله عنه أنه كان حينئذ جالسا مع بعض من قصده للزيارة فلم يشعروا به حتى تفرقع بالضحك، وذلك حين شاهد تلك الوثبة فظن من حضر أنه كان يضحك عليه (2). هذا وإن هناك صوفيا كبيرا من شبه القارة الهندية الباكستانية لا زال مشهده قائما يزار ويقام عليه العرس سنويا، ولعله من أكبر الأعراس في باكستان، وهو مشهد الصوفي المشهور بمادهو لعل حسين. وأن أصحاب السير والطبقات ذكروا في ترجمته أنه كان من أولياء الله ومستجاب الدعوات، وما كان يطلب شيئا من الربّ إلا لبى طلبه، فكان حافظا للقرآن وعالما فقيها، ويوما من الأيام كان يدرس عند شيخه سعد الله تفسير مدارك التنزيل، فلما بلغ إلى قوله عز وجل: إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [محمد:36] طرأ عليه الوجد، وبدأ يرقص ويقول: ما دام أن الحياة لهو ولعب فلماذا لا نلهو ونلعب؟ فأخذ كتبه ورماها في البئر، وحلق لحيته وشواربه، وأخذ كأس الخمر، وبدأ يرقص في الشوارع والأسواق، كما بدا يرتاد بيوت المومسات، ويقضي أوقاته فيها، إلى أن وقع نظره على أمرد هندوكي جميل، فوله به وكلف، وعشقه، وما زال يطوف حول بيته ست عشرة سنة حتى أوقعه في حباله وفخه، وجعل إسمه جزء من اسمه، فصار مادهو لعل الحسين، بعد أن كان حسينا فقط، وبعد وفاته صار مزاره مهبط الأنوار، ومحط البركات، مثل ما كان هو في حياته (3).   (1) ((ذخائر الأعلاق)) لابن عربي (ص 7، 8). (2) ((الإبريز)) لعبد العزيز الدباغ (ص 27). (3) انظر ((تذكرة أولياء الباكستان والهند)) للدكتور ظهور الحسن شارب (2/ 259) وما بعد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 436 هذا من جانب، ومن جانب آخر يذكر الشعراني صوفيا آخر صاحب كشف، فيقول: (سيدي شريف رضي الله عنه ورحمه كان يأكل في نهار رمضان، ويقول أنا معتوق، أعتقني ربي (1).ومثل هذا يذكرون عن أبي يزيد البسطامي أنه (أخرج من كمّه رغيفا، وأخذ في أكله في المدينة، وكان هذا في شهر رمضان (2). وينقلون عن الشبلي أنه كان يقول: (يا ويلاه، إن صليت جحدت، وإن لم أصلّ كفرت (3). والقصص والحكايات مثل هذه كثيرة جدا لا تعدّ ولا تحصى، تدل على رفع التكاليف وإسقاط الشريعة، وقد نورد بعضا منها في محله في الجزء الثاني من هذا الكتاب إن شاء الله. وهناك عقائد وآراء وأفكار أخرى عديدة، فيها تشابه كامل وتوافق تام مع الشيعة، تدل على أنها مأخوذة مقتبسة منهم، ولكننا نكتفي بهذا القدر منها، لجلاء الموضوع ووضوح المبحث، بعد ما أثبتناها من كتب الفريقين، المعتمدة الموثوقة، وبسرد ألفاظهم وعباراتهم، ومع تأييد الشيعة، وتوثيق السنة، وشهادة الآخرين من اليهود والنصارى من المستشرقين. فإن الشيعي الإيراني المعاصر قد صرّح في كتابه: (تذهب جماعة إلى أن التصوف ليس إلا رد فعل أوجده الفتح العربي الإسلامي في نفوس العنصر الآري الإيراني، وخلاصة قولهم أن الإيرانيين بعدما غلبوا على أمرهم بسيوف العرب في مواقع القادسية وجلولاء وحلوان ونهاوند، أدركوا أنهم فقدوا إستقلالهم وأضاعوامجدهم، ثم إنهم اعتنقوا الديانة الإسلامية، ولكن العرب الذين كان الإيرانيون ينظرون إليهم منذ القدم بنظرة غير راضية لم يستطيعوا أن يغيروا رغم إنتصاراتهم مجرى التفكير الإيراني، وأن يجعلوهم مشاركين لهم في أسلوب تفكيرهم وإتجاهاتهم وميولهم وسليقتهم ومنطقهم وكذلك في آمالهم وأمانيهم وغاياتهم الروحية المثالية لأن التباين الشكلي والمعنوي أي الفروق العنصرية والإختلاف في أسلوب المعيشة والأوضاع الإجتماعية بين هاتين الأمتين كان شديدا للغاية. وبناء على ذلك بعدما إنتهت المعارك الحربية باندحار الإيرانيين بأسلوب المساجلات الفكرية التي كان لها أثر بالغ في التاريخ الأدبي والمذهبي والإجتماعي والسياسي للعرب والإسلام. ومن أهم تلك الإنعكاسات التي ترتبت على تلك الإنفعالات الفكرية التشيع أولا والتصوف ثانيا. وينبغي أن نضيف إلى هذه الملاحظة أن الغرض من ذ كر الإنفعالات في هذا الباب ليس القول بأن الإيرانيين أقدموا على هذا العمل اختاروا أو تعمدوا وقد تأتت في أكثر الظروف بحكم الإنفعالات النفسية وبتأثير العواطف والأحاسيس الخفية بصورة ثابتة كما يرى علماء النفس، أي من غير أن يعرف الناس أنفسهم غالبا السبب الحقيقي أو يستطيعوا تحليل أفكارهم وأحاسيسهم إنساقت أفكارهم إلى أمثال هذه الإنفعالات العكسية (4). وأما الشيعي العراقي فقد كتب كتابا مستقلا لإثبات تأثر التصوف بالتشيع، واستفادة الصوفية من الشيعة، وأخذهم عنهم، فيقول: (وينبغي أن نذكر الدور الذي قام به الفرس من إخالهم مثلهم الدينية في التشيع الغالي الأول حين نصروا المختار، وعاضدوا حركة الغلو العجلية، وانضموا إلى حركة أبي هاشم، وانضافوا إلى الحركة السرية العباسية التي ورثت حركة أبي هاشم، حتى أدى بهم الأمر إلى تأليه أبي مسلم الخراساني، كما فعلوا مع أئمة الشيعة من العلويين. يضاف إلى ذلك أنهم نصروا حركة عبد الله بن معاوية في فارس أيضا، وأسبغوا عليه النور الإلهي الذي سنجده في التصوف واضحا جليا. وهذا كله يعني أن الفرس قد بدأوا إضافة القداسة إلى البيت النبوي بإعتبارها أساسا موازيا لأسسهم السياسية والدينية السابقة من تأليههم الملوك، وقولهم بالنور الذي ينتقل من ملك إلى آخر، فثبتت الولاية لعليّ بن أبي طالب على نحو مبالغ فيه، وأنتقلت هذه الولاية المقدسة مع زيادات وإضافات وحواش إلى الأئمة من بعده حتى بلغ الأمر حدّ التأليه (5). وأما السنة فلقد نقلنا فيما سبق رأي شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن خلدون وغيرهما في ذلك الخصوص، كما ذكرنا أيضا رأي المستشرق الإنجليزي المشهور المتعاطف مع التصوف والصوفية – وهو نيكلسون – وبمثل ما قاله قال جولد زيهر (6). وأخيرا نختم كلامنا في هذا الخصوص على مقولة المستشرق براون ( B OWN) المشهورة: (إن التشيع والتصوف كانا من الأسلحة التي حارب بها الفرس العرب (7). المصدر: التصوف المنشأ والمصادر لإحسان إلهي ظهير   (1) ((طبقات الشعراني)) (2/ 151). (2) ((كشف المحجوب)) للهجويري ترجمة عربية (ص 262). (3) ((التعرف)) للكلاباذي (ص 163). (4) ((تاريخ التصوف في الإسلام)) للدكتور قاسم غني الإيراني ترجمة عربية لصادق نشأت (ص 14). ط مكتبة النهضة المصرية 1970 م. (5) ((الصلة بين التصوف والتشيع)) للدكتور كامل مصطفى الشيبي (1/ 372). ط دار الأندلس بيروت. (6) انظر ((العقيدة والشريعة في الإسلام)) لجولد زيهر (ص 139) وما بعد. (7) Brown: A Literary History Of Persia Vol. 1 P 410. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 437 المبحث السابع عشر: تقديس القبور وزيارة المشاهد تقديس القبور وزيارة المشاهد تقديس شيعي في نشأته، فالشيعة هم أول من بنى المشاهد على القبور والمساجد عليها في الإسلام بعد أن جاء النبي صلى الله عليه وسلم بهدم ذلك حتى لا تكون ذريعة إلى الشرك كما قال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد)) (1) (متفق عليه).وفي صحيح مسلم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أرسل أبا الهياج الأسدي إلى اليمن وقال له: ألا أبعثك على ما بعثني به رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن لا تدع قبراً مشرفاً (أي ظاهراً بارزاً عالياً عن الأرض) إلا سويته ولا تمثالاً إلا طمسته)) (2). ولكن الشيعة تتبعوا قبور من مات قديماً ممن يعظمونهم من آل البيت كعلي بن أبي طالب والحسين ومن سموهم بالأئمة من أهل البيت وراحوا يبنون على قبورهم .. ويجعلونها مشاهد ومزارات، وجعلوا ذلك أيضاً وسيلة للتكسب والعيش .. كما جاء في رسائل إخوان الصفا أن من الشيعة من جعل التشيع مكسباً، مثل الفاتحة والقصاص، وجعلوا شعارهم لزوم المشاهد وزيارة القبور (رسائل إخوان الصفا ج4 ص199). وكان هذا البناء وإظهار هذه الشعائر منذ بداية القرن الثالث الهجري، ولكن بعض خلفاء بني العباس شرعوا يهدمون ما افتروه وبنوه من هذه القبور. كما ذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية أن الخليفة العباسي المتوكل أمر في سنة 236هـ بهدم القبر المنسوب إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما وما حوله من المنازل والدور ونودي في الناس أن من وجد هنا بعد ثلاثة أيام ذهب به إلى المطبق، فلم يبق هناك بشر، واتخذ ذلك الموضع مزرعة تحرث وتستغل (البداية والنهاية ص315 ج1) .. وكان هذا القبر مزاراً لفرقة الإسماعيلية من الشيعة الذين كانوا يزورون هذا القبر ثم يذهبون إلى (سلمية) (قرية من قرى سوريا كانت وما زالت مأوى للفرق الباطنية. وهي قاعدة الإسماعيلية في هذا الوقت)، لزيارة أئمتهم هناك (العبر ج3 ص361). وجاء الصوفية فنسجوا على هذا المنوال فجعلوا أهم مشاعرهم زيارة القبور وبناء الأضرحة، والطواف بها والتبرك بأحجارها، والاستغاثة بالأموات، فقد جعلوا قبر معروف الكرخي، وهو رائد من رواد التصوف، مكاناً لزيارتهم وقالوا: قبر معروف ترياق مجرب (طبقات الصوفية للسلمي ص85). بل جعل المتصوفة جل همهم بناء هذه القبور وتعظيمها ودعوة الناس إليها، وجعلوا أعظم مشاعرهم الطواف بها، والتبرك بها ودعاءها من دون الله عز وجل .. بل لا يوجد شيخ متبع إلا وبنى لنفسه قبة كبيرة ومقاماً .. وهكذا أعادوا من جديد شرك الجاهلية الأولى. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 403   (1) رواه البخاري (1330) ومسلم (529) كلاهما بدون قوله (وصالحيهم) (2) رواه مسلم (969) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 438 المطلب الأول: الحلاج والتشيع قال الدكتور كامل الشبيبي: لم يكن أمر الصلة بين الحلاج والتشيع مقصوراً على التداخل بين كلامه وكلام الأئمة، وإنما كان مطلقاً على مذاهب التشيع كلها، وقد استخدمها كلها في بناء مذهبه الحلولي الجديد الذي يشير إلى ظهور حركة غلو جديدة في مطلع القرن الرابع الهجري. والحلاج هو القائل: "ما تمذهبت بمذهب أحد من الأئمة جملة وإنما أخذت من كل مذهب إصبعه وأشده وأنا الآن على ذلك" وستجد .. أن الحلاج كان صورة من أبي الخطاب الزعيم الغالي الذي قتل في الكوفة سنة 138هـ، وأما علاقته بالاثني عشرية فتنعكس مما رواه الطوسي من أن الحلاج صار إلى قم البلد الشيعي القديم، وكانت قرابة أبو الحسن النوبختي الشيعي تستدعيه ويستدعي أبو الحسن أيضاً ويقول: "أنا رسول الإمام ووكيله" أ. هـ (الصلة بين التصوف والتشيع ص368). وقال أيضاً: "وكانت إحدى التهم التي قتل الحلاج من أجلها تتضمن إنكار الحلاج للحج إلى مكة بالذات، ودعوته إلى الحج القائم على النية الخالصة والتوجه القلبي. وكان من أهم ما أخذ على الحلاج أنه يقول ببديل للحج يمكن إتمامه في بيت المسلم دون حاجة إلى تجشم مصاعب السفر والطواف حول الكعبة. وقد تطرق القاضي التنوخي إلى ذلك فذكر أن (هذا شيء معروف عند الحلاجية وقد اعترف لي (به) رجل منهم يقال: إنه عالم لهم) (الصلة بين التصوف والتشيع ص369) وقد برر هذا (العالم) ذلك بأن (هذا رواه الحلاج عن أهل البيت صلوات الله عليهم) (الصلة بين التصوف والتشيع ص396) (وصلوات الله عليهم) هذه من لوازم الإسماعيلية بالذات إلى ما عرف عنهم من أخذ بالتأويل على أوسع الحدود، وذلك يبين حداً آخر لاتصال الحلاج بالإسماعيلية. وقد كان مصداق هذا الاتصال منبعثاً من أنه (أغار القرامطة على مكة ونهبوها بعد موت الحلاج بتسع سنوات واختطفوا الحجر الأسود منها)، وحققوا مذهب الحلاج، ولعله كان مذهباً من مذاهبهم أسرع هو بالتعبير عنه من عند نفسه. أ. هـ. وقد ذكر القاضي التنوخي أن الحلاج أرسل إلى بعض دعاته يقول: "وقد آن الآن أذانك للدول الغراء الفاطمية الزهراء المحفوفة بأهل الأرض والسماء وأذن للفئة الظاهرة وقوة ضعفها في الخروج إلى خراسان ليكشف الحق قناعه ويبسط العدل باعه" (نشوار المحاضرة ص86). المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 404 - 406 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 439 المطلب الثاني: الحلاج داعية الإسماعيلية في المشرق قال الدكتور الشبيبي أيضاً: "ويذكر الخطيب البغدادي وابن كثير أن أهل فارس كانوا يكاتبون الحلاج بأبي عبدالله الزاهد .. هذه الكتبة أطلعت على الداعية الإسماعيلي المشهور أبي عبدالله الشيعي الذي ساعد على قيام دولة العبيديين قبل تحولها إلى مصر. فكأن الإسماعيليين كانوا يعتمدون على داعيتين يحملان كنية واحدة أحدهما بالمشرق وهو الحلاج، والآخر بالمغرب وهو أبو عبدالله الشيعي الذي يروي الإسماعيلية أنفسهم سبق صوفيته على إسماعيليته) (ص73). المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص406 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 440 المطلب الثالث: شهادة العمار الحنبلي أن الحلاج قرمطي ذكر العمار الحنبلي أن الحلاج رحل إلى بغداد سنة 301هـ "مشهوراً على جمل وعلق مصلوباً ونودي عليه: هذا أحد القرامطة فاعرفوه". وعلى الرغم من أن الحلاج قد قتل سنة 309هـ فإن الدعوة الفاطمية التي حمل لواءها قد استفحل خطرها وشرها؛ فقد استطاع أبو طاهر الجنابي القرمطي الإسماعيلي حليف الدولة الفاطمية والداعي إليها أن يدخل البصرة سنة 311هـ، والكوفة بعد ذلك بعامين. وكذلك استطاع القرامطة دخول مكة بعد مقتل الحلاج بتسع سنوات فقط، وقتل المسلمين حول الكعبة، وانتزاع الحجر الأسود، وكانوا بقيادة أبو سعيد القرمطي، وكان أبو سعيد هذا زميلاً للحلاج الحسين بن منصور (تذكرة الأولياء ج2 ص109). ولذلك قال ابن النديم إن الحلاج كان يظهر مذاهب الشيعة للملوك، ومذاهب الصوفية للعامة، ويدعي أن الألوهية قد حلت فيه (الفهرست لابن النديم ص269). ومع ذلك رأينا من يقول من شيوخ التصوف، وهو محمد بن حفيف المتوفى سنة 371هـ: "الحسين بن منصور عالم رباني"!!. ووجدنا كذلك من يجعل العبارات الباطنية التي أطلقها الحلاج على أنها نهاية علوم التصوف كقوله: "في القرآن علم كل شيء، وعلم القرآن في الأحرف التي في أوائل السور وعلم الأحرف في لام ألف". المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص406 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 441 المطلب الرابع: الحلول عند الحلاج الصوفي وعند أبي الخطاب الشيعي وقضية الحلول تكاد تكون متطابقة عند الحلاج الصوفي وغلاة الشيعة، فقد كان الحلاج يقول في دعائه: "يا إله الآلهة ويا رب الأرباب، ويا من لا تأخذه سنة ولا نوم رد إلى نفسي لئلا يفتن بي عبادك، يا من هوأنا، وأنا هو لا فرق بين إنيتي وهويتك، إلا الحدث والقدم" (طبقات الصوفية). والحلاج هو الذي وجد عنده ورقة مكتوب فيها "من الرحمن الرحيم إلى فلان ابن فلان" .. إذا قارنا ذلك بمذهب أبي الخطاب الرافضي الذي زعم أن الله خلق روح علي وأولاده وتوجه إليهم أمر العالم فخلقوا هم السماوات والأرض. ومن هنا قلنا في الركوع سبحان ربي العظيم، وفي السجود: سبحان ربي الأعلى لأنه لا إله إلا علي وأولاده، وأما الإله الأعظم فهو الذي فوض إليهم العالم (اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص57). لا شك أن مثل هذا الكلام وكلام الحلاج ينبعثان من مصدر واحد ويصدران عن عقيدة واحدة، ويهدفان بالتالي إلى هدف واحد هو تحويل المسلمين عن عقيدتهم الحقة وتضليل سعيهم، وإذهاب دولتهم، وتمزيق وحدتهم وجماعتهم. ومما مضى يتبين لنا أن منهج الصوفية وغلاة الشيعة في القرن الثالث كان منهجاً واحداً وعقيدة واحدة، فالحلاج كان زميلاً وصاحباً لكبار رجال التصوف المشهورين في القرن الثالث كالجنيد البغدادي والشبلي. فالجنيد نفسه قد أرسل إليه عندما حكم عليه بالقتل والصلب يقول: "أنك أفشيت أسرار الربوبية فأذاقك طعم الحديد"! وأما الشبلي فيقول: "كنت أنا والحسن بن منصور (الحلاج) شيئا واحداً غير أنه تكلم وسكت أنا" فالصوفية كانوا مع غلاة الشيعة شيئا واحداً عقيدة وهدفاً .. عقيدة في الحلول، وإنما اختلفوا فيمن حلت فيه روح لله، وهدفاً واحداً في العمل على إسقاط دولة الإسلام، وتمزيق وحدة المسلمين، وتشتيت الأمة، عقائد ومللاً وغلاة. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص407 - 408 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 442 المبحث التاسع عشر: الطرق الصوفية والتشيع • المطلب الأول: الطريقة البكتاشية . • المطلب الثاني: الطريقة البكتاشية تنتشر في مصر. • المطلب الثالث: أصول الطريقة البكتاشية. • المطلب الرابع: مراتب الطريقة البكتاشية. • المطلب الخامس: التكية البكتاشية. • المطلب السادس: العهد ودخول الطريقة. • المطلب السابع: آداب الطريقة البكتاشية. • المطلب الثامن: الأوراد البكتاشية. • المطلب التاسع: دور الفرس في التشيع والتصوف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 443 المطلب الأول: الطريقة البكتاشية الطريقة البكتاشية طريقة صوفية شيعية الحقيقة والمنشأ، ولكنها مع ذلك تربت وترعرعت في بلاد أهل السنة في تركية ومصر. تنسب هذه الطريقة إلى خنكار الحاج محمد بكتاش الخراساني النيسابوري -المولود في نيسابور سنة 646هـ - 1248م وينسب خنكار هذا نفسه إلى أنه من أولاد إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ويقال إنه تلقى العلم عن الشيخ لقمان الخراساني ولا يعرف من لقمان هذا، .. ولكن يقال إنه هو الذي أمره أن يسافر إلى تركية لنشر طريقته الصوفية، فسافر أولاً إلى النجف في العراق، ثم حج البيت وزار وسافر بعد ذلك إلى تركية، وكان هذا في زمان السلطان أورخان العثماني المتوفى سنة 761هـ. ويذكر أحمد سري البكتاش (دده بابا) شيخ مشايخ الطريقة البكتاشية في مصر الحالي .. في كتابه (الرسالة الأحمدية في تاريخ الطريقة البكتاشية) أن خنكار هذا نزل في قرية (صوليجية فترة أويوك) والتي قسمت بعد ذلك بناحية الحاج بكتاش وما زالت تحمل هذا الاسم إلى اليوم. وأنه استضاف هناك رجل يسمى الشيخ إدريس وزوجته (فاطمة قوتلو ملك) وأنهما أنفقا أموالهما في سبيل نشر دعوة الشيخ خنكار الخراساني ولكن جاء وفد من خراسان لزيارة الشيخ خنكار فلم تجد المرأة ما تضيفهم به إلا أن باعت ثيابها .. واشترت طعاماً لضيوف الشيخ خنكار الخراسانيين. ولما كان من عادة المرأة فاطمة هذه أن ترحب بضيوف الشيخ فإنها لم تخرج إليهم لأنها لا تملك ثياباً .. فعلم الشيخ خنكار بهذا من الغيب فمد يده فأخرج صرة ملابس لها، ثم مد يده أيضاً تحت البساط الذي يجلس عليه فأخرج كيسين من الذهب وأعطاهما للمرأة التي جاءت وقبلت يدي الشيخ ورحبت بضيوفه، وآمنت بكراماته (الرسالة الأحمدية ص11 ولا يخفى ما في هذه القصة من الخدعة فخنكار هذا لم يخلق ثياباً. وإنما جاء بذلك الوفد الخراساني الذي تجرد بعد ذلك للدعوة الصوفية في تركية، وصنع الشيخ هذا على أنها كرامة ليسهل ذلك له طريق دعوته في أوساط العامة). وكانت هذه القصة هي البداية لنشر الطريقة البكتاشية وكذلك مجيء هذا الوفد الخراساني الذي راح يروج للشيخ خنكار الذي كان قد مهد الطريق للدعوة الصوفية ولهذه الطريقة الشيعية الباطنية. ثم انتحل الشيخ خنكار كرامة أخرى فادعى (أن فاطمة قوتلو) هذه زوجة الشيخ إدريس قد حملت عندما شربت قطرات من دم الشيخ .. وذلك أن فاطمة هذه لم تحمل من زوجها إدريس التركي مدة عشرين عاماً فلما جاء خنكار الخراساني وكانت تصب الماء له ليتوضأ فوقعت قطرات من دمه في الطشت فشربتها المرأة فحملت وتكرر حملها فولدت حبيباً، ومحموداً، وخضراً. وهؤلاء الأولاد أصروا على أن أباهم هو الشيخ خنكار .. فيما يذكر أحمد سري شيخ مشايخ الطريقة البكتاشية في مصر أن الشيخ خنكار هو أبوهم الروحي فقط وأن أمهم حملت من شربها دم الشيخ وأن الشيخ خنكار لم يتزوج قط طيلة حياته. أسس الشيخ خنكار أول (تكية) صوفية للطريقة وابتدأ الأتباع والرواد يكثرون، ويسكنون في هذه القرية التي لم تكن إلا سبعة بيوت فقط ثم اكتشفوا جبلاً من جبال الملح. سموه جبل ملح الحاج بكتاش، واشتهر هذا الملح حتى كان يمون ويزود مطابخ السلطان العثماني الذي كان يحصل منه على مليونين (أقة) (الأقة وزن يكبر من الكيلو بقليل) كل عام .. ولما ذاع صيت الشيخ خنكار بكتاش ووصل الأمر إلى السلطان أورخان العثماني المتوفى سنة 761هـ عمد هذا السلطان إلى الشيخ خنكار ليعلم أولاد الأسرى من أهل الذمة، وممن لا أب لهم .. ينشئهم على طريقة الدارسين البكتاشية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 444 وكانت هذه الفرصة الذهبية لانتشار الطريقة وذلك أن هذا الجيش الذي عرف بعد ذلك بالجيش الإنكشاري -أي الجيش الجديد- وهو الذي كان عماد الحروب التركية بعد ذلك، ثم كان هو الجيش المتسلط على مرافق الحياة كافة في تركية .. وهكذا استطاعت الطريقة البكتاشية أن تنتشر وأقيمت المقامات على قبور من مات من مشايخها، وبعض هذه القبور غطيت بالذهب الخالص. تنافس السلاطين العثمانيون في بناء التكايا والزوايا والقبور البكتاشية. مر على الطريقة البكتاشية أيام مد وجزر في تركية فبينما ناصرها بعض السلاطين، عارضها آخرون مفضلين طريقة أخرى غيرها فقد أمر السلطان محمود الثاني بإلغاء الإنكشارية بعد أن عاثت في الأرض فساداً، وأغلق كذلك الزوايا البكتاشية ولكن السلطان عبد المجيد المتوفى سنة 1255هـ عاد وأمر بفتح الزوايا البكتاشية مرة أخرى. [وفي سنة 1925م صدر مرسوم الحكومة التركية بإلغاء جميع الطرق الصوفية ومن ضمنها الطريقة البكتاشية، وكان آخر مشايخها هو صالح نيازي الذي سافر إلى ألبانية وانتخبه الدراويش البكتاشيون ليكون (رده بابا) وهي أعلى منزلة في الطريقة أي شيخ مشايخ الطريقة. وبعد اغتيال صالح نيازي هذا سنة 1942م تولى بعده ابنه عباس دده بابا الذي قتل نفسه سنة 1949م بعد دخول البلاشفة إلى ألبانية. ومنذ ذلك الوقت انتقل المركز الرئيسي للطريقة ليتحول إلى مصر وتكون القاهرة هي المقر الحالي والأخير لهذه الطريقة .. فكيف دخلت هذه الطريقة إلى مصر وكيف استقرت فيها ثم أصبحت هي مكانها الرئيسي بعد تركيا وألبانيا؟.] المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 409 - 412 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 445 المطلب الثاني: الطريقة البكتاشية تنتشر في مصر استطاع مؤسس الطريقة البكتاشية وهو خنكار محمد بكتاش أن يربي مجموعة من المريدين وكان منهم (أبدال موسى سلطان) الذي كان خليفة بعده، وربى أبدال هذا رجلاً يسمى (قبوغوسز) وهذا القبوغوسز لا يعرف من أبوه ولا أمه، وإنما تسمى بغيبي (الرسالة الأحمدية ص34)، واستطاع هذا الرجل أن يرتحل مع مجموعة من الدراويش من تركية إلى مصر واختار لمن يصحبه في هذه الرحلة دراويش من النوع الذين يطيعون في كل صغيرة وكبيرة حتى إنه كان يقول لهم عن الشجرة الباسقة الطويلة .. هذه شجرة قثاء فيقولون نعم هي قثاء (الرسالة الأحمدية ص38). ولما دخل بهم مصر. أمرهم أن يضع كل منهم على عينه قطعة قطن؛ فلما سألهم الشرط والجنود عن ذلك قالوا: إننا نغمض عين الظاهر، وننظر بعين الباطن .. والناس على دين ملوكهم .. وكان قد علم قبوغوسز أن الأمير يشتكي من وجع عينه!! وأراد الملك أن يختبرهم فعمل لهم وليمة كبرى ووضع لهم ملاعق طويلة جداً وأحضر وجهاء الناس ليأكلوا، وأمرهم ألا يأكلوا إلا بهذه الملاعق، فعجز الجميع عن الأكل إلا قبوغوسز ودراويشه فإنهم تناولوا الملاعق الطويلة، وكان كل منهم يطعم من أمامه وهكذا. وسر بهم الأمير الذي أعطاهم مكاناً يبنون فيه (تكية) أي زاوية ورباطاً لهم. ومنذ ذلك الوقت وهو سنة 800هـ بدأ انتشار الطريقة البكتاشية في مصر في بداية القرن التاسع الهجري وسمى قبوغوسز نفسه عبدالله المغاوري، وسموا أول تكية لهم تكية القصر العيني .. وظل هذا الحال قائماً في مصر إلى سنة 1242هـ - 1826م حتى جاء السلطان محمود الثاني العثماني فأمر بإلغاء الإنكشارية والطريقة البكتاشية، وأعطيت أملاكهم للطريقة القادرية .. ولكن في عهد السلطان عبد المجيد عادت الطريقة البكتاشية مرة ثانية إلى مصر بعد أن سمح لهم هذا السلطان بالعمل والنشاط وذلك منذ عام 1525م حيث حصل الشيخ علي الساعاتي على لقب (دده بابا) أي شيخ المشايخ، فجمع الدراويش حوله مرة ثانية وبنى تكية جديدة في باب اللوق، وأخذ يعطي العهود ويقيم حلقات الذكر. وفي سنة 1276هـ – 1859م صدرت أوامر الحكومة المصرية بتخصيص المغاره التي دفن فيها عبدالله المغاوري (قبوغوسز) للطريقة البكتاشية، فبنوا تكية عظيمة هناك بعد أن طردوا الرعاة والبدو الذين يلجأون إليها بأغنامهم وإبلهم وبنوا قبة عظيمة لمؤسس طريقتهم في مصر. وأصبحت هذه التكية فيما بعد قبلة الشعب المصري حيث يؤمونها لزيارة (ولي الله المغاوري)!! الذي تخصص (بتحبيل النسوان) وشفاء الأمراض وتلبية الحاجات فكانت تقصده كل امرأة لا تلد، وكانت المرأة تدخل في المغارة ضمن كهوف مظلمة طويلة .. وبقيت تكية المغاوري هذه تابعة للمركز الرئيسي للطريقة في تركية، ثم أصبحت تابعة للمركز الرئيسي في ألبانية، ثم بعد أن قتل صالح نيازي بابا نفسه سنة 1949، اجتمع أتباع الطريقة واختاروا أحمد سري شيخ تكية قبوغوسز (عبدالله المغاوري) شيخاً لمشايخ علوم الطريقة وكان ذلك في 30 يناير سنة 1949م (الرسالة الأحمدية ص31) ومنذ ذلك الوقت أصبحت مصر هي المقر الرئيسي لهذه الطريقة، وأصبح أحمد سري (دده بابا) هو شيخ مشايخها. وفي يناير سنة 1957م أمرت الحكومة المصرية بإخلاء تكية المقطم لوقوعها ضمن المناطق العسكرية، وأعطت الحكومة أرباب الطريقة مكاناً آخر في ضاحية المعادي. حيث أسس المقر الجديد على غرار التكايا البكتاشية ثم نشط البكتاشيون، وجددوا التكايا القديمة التي لهم. هذه لمحة سريعة عن تاريخ هذه الطريقة التي نشأت وترعرعت في أوساط أهل السنة في تركية ومصر، وسيعجب القارئ أشد العجب عندما يعلم أن هذه الطريقة شيعية خالصة في المعتقد والأذكار والمشاعر، وأنها لا تمت إلى أهل السنة بصلة مطلقاً .. سيعجب كيف خفي مثل ذلك على علماء الإسلام ورجال السنة في تركية ومصر، ولكن يزول العجب عندما نعلم أن الظاهر الصوفي كان دائماً خداعاً يخفي تحته ما يخفي من العقائد الباطنية. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص412 - 414 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 446 المطلب الثالث: أصول الطريقة البكتاشية الطريقة البكتاشية مزيج كامل من عقيدة وحدة الوجود، وعبادة المشايخ وتأليههم، وعقيدة الشيعة في الأئمة. يقول أحمد سري (دده بابا) شيخ مشايخ الطريقة: "الطريقة العلية البكتاشية هي طريقة أهل البيت الطاهر رضوان الله عليهم أجمعين" (الرسالة الأحمدية ص67) ويقول أيضاً: "وجميع الصوفية على اختلاف طرقهم يقدسون النبي وأهل بيته ويغالون في هذه المحبة لدرجة اتهامهم بالباطنية والاثني عشرية" (الرسالة الأحمدية ص68). ويقول أيضاً: "والطريقة العلية البكتاشية قد انحدرت أصولها من سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعن أولاده وأحفاده إلى أن وصلت إلى مشايخنا الكرام يداً بيد، وكابر عن كابر، وعنهم أخذنا مبادئ هذه الطريقة الجليلة" (الرسالة الأحمدية ص69). المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص414 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 447 المطلب الرابع: مراتب الطريقة البكتاشية وقد قسم أرباب هذه الطريقة المنتسبين إلى طريقهم على النحو التالي حسب درجاتهم: 1 - العاشق: وهو الذي يحب الطريق ويعتنق مبادئها وتسيطر عليه الروح البكتاشية، وله رغبة في الانضمام إلى الطريقة، ويكثر من الحضور إلى التكية ويسمع ما يدور بها. ويرشحه الشيخ ليكون في المنزلة التالية وهي درجة الطالب. 2 - الطالب: وهو الذي يعلن رغبته في الانضمام ويرشحه الشيخ لذلك ليتقبل الإقرار، ويعطي العهد. وتقام له حفلة بذلك. 3 - المحب: وهو الطالب الذي انتسب إلى هذه الطريقة بعد حفلة الإقرار والبيعة. 4 - الدرويش: الذي يتبحر في آداب الطريقة وعلومها ويلم بأركانها ومبادئها. ويهب نفسه للخدمة العامة فيها. 5 - البابا: وهي درجة المشيخة ولا يصل إليها الدرويش إلا بعد مدة طويلة حيث يكون قد عرف الرموز الصوفية وأحاط بها .. 6 - الددة: وهو الخليفة، ولا يمنح هذه المنزلة إلا شيخ المشايخ ويكون هذا رئيساً لفرع من فروع الطريقة في مصر. 7 - الددة بابا: شيخ المشايخ وينتخب من بين الخلفاء وهو المدير العام لشئون الطريقة في العالم وهو الذي يعين البابوات وله حق عزل المشايخ .. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص415 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 448 المطلب الخامس: التكية البكتاشية التكية البكتاشية في الغالب عبارة عن ضيعة كبيرة بها قصر فخم وقبور مزخرفة مبنية، ويقيم بها الدراويش أبداً منقطعين للخدمة، وقد تضم التكية آلاف المواشي والأنعام من البقر والغنم، وتأتيها الإتاوات والأرزاق من منتسبي التكية في القطر. إذ لا يجوز للزائر الدخول إليها إلا وهو يحمل شيئا ما يقدمه قرباناً .. ونستطيع أن نقول إنها مملكة أو إمارة خاصة .. ولذلك فالمنتسب إلى هذه الطريقة لا بد أن يكون خادماً في هذه المملكة الخاصة لأسياده المشايخ الذين يتربعون على عرش الولاية البكتاشية. يقول أحد سري (دد بابا): "والمنتسب إلى الطريقة العلية تنتظره واجبات كثيرة يؤديها في منزله وفي التكية عند زيارته لها. فالواجبات المنزلية هي إقامة الصلوات في أوقاتها وتلاوة الأوراد والأذكار المأذون بتلاوتها وحفظ الأدعية المأثورة، وفي التكية يكلف بالخدمة مع الدراويش ثم يخصص للخدمة مثل سقاية القهوة أو خدمة الضيوف أو إعداد الطعام وتجهيز المائدة وغسل الأواني أو خدمة الحديقة، فإذا حذق التعاليم كلفه الشيخ بخدمة أرقى فيعين نقيباً أو دليلاً أو ميدانجياً. وهكذا .. " أ. هـ (الرسالة الأحمدية ص72). المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 415، 416 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 449 المطلب السادس: العهد ودخول الطريقة لتعميد المريد أو الطالب نظام خاص في الطريق البكتاشي فعند دخوله إلى ميدان التكية يقرأ الدليل أبياتاً معينة من الشعر ثم يقول: اللهم صل على جمال محمد، وكمال علي والحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ثم يقول: جئت بباب الحق بالشوق سائلاً مقراً به محمداً وحيدراً (حيدر هو علي بن أبي طالب) وطالب بالسر والفيض منهما ومن الزهراء وشبير (وشبير المقصود علي بن أبي طالب أيضاً ويعنون بهذا القصير) شبراً ثم يقرأ الشيخ على الطالب آية البيعة: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً (الفتح:10). ثم يقول الطالب أبياتاً من الشعر يعلن بها دخول الطريق ومن هذه الأبيات: وبالحب أسلمت الحشا خادماً لآل العبا (آل العبا يعنون بهم أهل الكساء وهم علي وفاطمة والحسن والحسين والعباس، وبعد دخول الطالب وإقامة الحفل على هذا النحو يسلم الطالب خدمة ما في التكية كأن يكون ساقياً للقهوة أو فلاحاً، أو خادماً للضيوف أو طباخاً .. الخ) وملاذي هو الحاج بكتاش قطب الأوليا!! المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص416، 417 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 450 المطلب السابع: آداب الطريقة البكتاشية 1 - آداب زيارة التكية: فرض أرباب الطريقة على المريد أن يغتسل قبل زيارة التكية وأن يأخذ معه هدية ولا بد ولو كان ملحاً. فإذا وصل الباب سمى ولا يجوز له أن يطأ العتبة برجله لأنها مقدسة ثم يلتحق بالخدمة التي تطلب منه، وفي وقت المجلس يجلس حسب مرتبته، ولكل شخص مرتبة خاصة، والمراتب بالأقدمية. ثم يذهب المريد بعد دخول التكية والاستراحة فيها إلى القبر الموجود في التكية، ولزيارة القبرة آداب خاصة منها السلام المخصوص، ثم العودة بظهره إلى خارج الضريح. والشيخ في العادة لا يجلس مع المريدين، ولا يزار إلا إذا صدر الإذن بذلك من الشيخ، ولا يزوره المريد إلا بصحبة الدرويش المختص، وعلى المريد أن يخلع حذاءه ويدخل مطأطئ الرأس ويقف على بعد خطوات من الشيخ ويقرأ: وجهك مشكاة وللهدى منارة وجهك لصورة الحق إشارة!! وجهك الحج والعمرة والزيارة وجهك للطائعين قبلة الإمارة وجهك القرآن الموجز العبارة (الرسالة الأحمدية ص74)!! ولا يخفى أن هذا هو عين الفكر الباطني في جعل الدين هو طاعة رجل كما تقول الإسماعيلية "الدين طاعة رجل"، وهذه العبودية الكاملة هي عين ما تهدف إليه هذه الطريقة حيث تجعل معاني الحج والعمرة والزيارة والقرآن بل والله سبحانه وتعالى هو هذا الشيخ الصوفي الباطني. وبعد ذلك يتقدم المريد فيقبل يد الشيخ ثم يعود بظهره بضع خطوات ولا يجلس حتى يأذن له الشيخ بالجلوس وعند الوقوف أمام الشيخ لا بد من مراعاة ما يلي: 1 - أن يضع إبهام القدم اليمنى فوق اليسرى. 2 - وضع اليدين على الصدر فوق السرة!!. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 417، 418 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 451 المطلب الثامن: الأوراد البكتاشية والناظر في الأوراد البكتاشية يرى كيف أسست هذه الأوراد على عقيدة الشيعة الإمامية االثاني عشرية، فالورد البكتاشي يبدأ بذكر لله ثم للرسول ثم لعلي ثم لفاطمة ثم للحسن ثم للحسين ثم لعلي زين العابدين ثم الباقر، وهكذا إلى الإمام الثاني عشر عند الشيعة ثم الإعلان أن الذاكر بهذا الذكر متول للشيعة، بريء من جميع أهل السنة، ثم بعد ذلك ورد خاص في لعن الصديق أبي بكر رضي الله عنه، وكل من رضي وتابع له، ثم في النهاية إشهاد الله أن الخلفاء بعد الرسول هم الأئمة الأثنا عشر دون غيرهم. وإليك بعض نصوص هذه الأوراد البكتاشية. 1 - اللهم صل وسلم وزد وبارك على السيد المطهر، والإمام المظفر والشجاع الغضنفر إلى شبير وشبر -قاسم طوبى وسقر- (شبير: هو لقب يطلقونه على علي لأنه كان قصيراً دون الربعة. ومعنى أنه قاسم طوبي وسقر أن له الجنة والنار وهو يدخل من يشاء كيف يشاء فالقسمة إليه). 2 - اللهم صل وسلم وزد وبارك على السيدة الجليلة الجميلة الكريمة النبيلة المكروبة العليلة ذات الأحزان الطويلة!! في المدة القليلة المعصومة المظلومة، الرضية الحليمة، العفيفة السليمة، المدفونة سراً، والمغصوبة جهراً، المجهولة قدراً، والمخفية قبراً، سيدة النساء الأنسية، الحوراء البتول العذراء، أم الأئمة النقباء النجباء فاطمة التقية الزهراء عليها السلام. ولا يخفى ما في هذا الكلام من الدس والطعن واتهام الصحابة رضوان الله عليهم بظلم فاطمة رضي الله عنها وغصبها، وادعاء العصمة المطلقة لها. 3 - اللهم صل وسلم وزد وبارك على السيد المجتبى والإمام المرتجى سبط المصطفى وابن المرتضى علم الهدى .. الشفيع ابن الشفيع المقتول بالسم النقيع - المدفون بأرض البقيع .. الإمام المؤتمن .. والمسموم الممتحن .. الإمام بالحق أبي محمد الحسن .. (الرسالة الأحمدية ص83). ولا يخفى ما في هذا أيضاً من الدس وأن الحسن بن علي رضي الله عنه مات مسموماً. 4 - وأما في الصلاة على الحسين فيقول الورد البكتاشي: اللهم صل وسلم وزد وبارك على السيد الزاهد والإمام العابد الراكع الساجد .. قتيل الكافر الجاحد .. الإمام بالحق عبدالله الحسين .. 5 - وهكذا تستمر هذه الأوراد على هذا النحو ذاكرة إماماً من أئمة الشيعة الاثني عشرية إلى أن يأتي الورد الخاص بمهدي الشيعة المنتظر الذي يسمونه محمد بن الحسن العسكري فيقول الورد بالنص: اللهم صل وزد وبارك على صاحب الدعوة النبوية، والصولة الحيدرية، والعصمة الفاطمية، والحلم الحسينية والشجاعة الحسينية، والعبادة السجادية، والمآثر الباقرية، والآثار الجعفرية، والعلوم الكاظمية، والحجج الرضوية، والجود التقوية والنقاوة والنقوبة والهيبة العسكرية، والغيبة الإلهية، القائم بالحق والداعي إلى الصدق المطلق، كلمة الله، وأمان الله، وحجة الله، القائم لأمر الله، المقسط لدين الله، الذابّ عن حرم الله، إمام السر والعلن، دافع الكرب والمحن، صاحب الجود والمنن، الإمام بالحق أبي القاسم محمد بن الحسن، صاحب العصر والزمان، وخليفة الرحمن، ومظهر الإيمان وقاطع البرهان وسيد الإنس والجان، المولى الولي، وسمي النبي والوصي، والصراط السوي، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، الصلاة والسلام عليك يا وصي الحسن، والخلف الصالح، يا إمام زماننا، أيها القائم المنتظر المهدي، يا ابن رسول الله، يا ابن أمير المؤمنين، يا إمام المسلمين، يا حجة الله على خلقه، يا سيدنا ومولانا إنا توجهنا واستشفعنا وتوسلنا بك إلى الله، وقدمناك بين يدي حاجتنا في الدنيا والآخرة يا وجيهاً عند الله اشفع لنا عند الله بحقك وبحق جدك وبحق آبائك الطاهرين (الرسالة الأحمدية ص88،89). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 452 6 - وأما في ورد التولي والتبري فإنهم يقولون: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وما توفيقي واعتصامي إلا بالله. إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً. والصلاة والسلام على رسولنا محمد الذي أرسله بالهدى. قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى. وعلى آله وأصحابه وأزواجه الهدى. يا سادتي ويا موالي إني توجهت بكم أنتم أئمتي وعدتي ليوم فقري وفاقتي وحاجتي إلى الله. وتوسلت بكم إلى الله واستشفعت بكم إلى الله. وبحبكم وبقربكم أرجو النجاة من الله. تكونوا عند الله. رجائي يا سادتي يا أولياء الله. صلى الله عليكم أجمعين. اللهم إن هؤلاء أئمتنا وساداتنا وقاداتنا وكبراؤنا وشفعاؤنا بهم نتولى ومن أعدائهم نتبرأ في الدنيا والآخرة. والعن من ظلمهم. وانصر شيعتهم واغضب على من جحدهم. وعجل فرجهم. وأهلك عدوهم من الجن والإنس أجمعين من الأولين والآخرين إلى يوم الدين. اللهم ارزقنا في الدنيا زيارتهم وفي الآخرة شفاعتهم. وزدنا محبتهم. واحشرنا معهم. وفي زمرتهم. وتحت لوائهم. بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين .. ويا أرحم الراحمين. والحمد لله رب العالمين. اللهم صل على محمد وآل محمد. ولا يخفى أيضاً ما في هذا الورد من التبري من أهل السنة جميعاً بادعاء أنهم ظلموا أهل البيت وجحدوهم حقهم. وفي الورد الذي يلي هذا القول: "اللهم العن أول ظالم ظلم حق محمد وآل محمد وآخر تابع له على ذلك" (الأحمدية ص90)، ولا يخفى أنهم يعنون بذلك الصديق أبا بكر رضي الله عنه وكل مسلم رضي بولايته إلى يوم القيامة!! وفي ختام الأوراد على المريد البكتاشي والسالك أن يشهد هذه الشهادة ويقول: "وأشهد أن الأئمة الأبرار. والخلفاء الأخيار. بعد الرسول المختار: على قامع الكفار. ومن بعده سيد أولاده الحسن بن علي. ثم أخوه السبط التابع لمرضات الله الحسين. ثم العابد علي ثم الباقر محمد. ثم الصادق جعفر. ثم الكاظم موسى. ثم الرضا علي ثم التقي محمد. ثم النقي علي. ثم الذكي العسكري الحسن. ثم الحجة الخلف الصالح القائم، المنتظر المهدي المرجى، الذي ببقائه بقيت الدنيا، وبيمنه رزق الورى، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء، به يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، بعدما ملئت ظلماً وجوراً، وأشهد أن أقوالهم حجة وامتثالهم فريضة، وطاعتهم مفروضة، ومودتهم لازمة مقضية، والاقتداء بهم منجية، ومخالفتهم مردية، وهم سادات أهل الجنة أجمعين، وشفاء يوم الدين، وأئمة أهل الأرض على اليقين وأفضل الأوصياء المرضيين" (الرسالة الأحمدية ص92). ولا شك بعد ذلك أن هذه عقيدة شيعية كاملة حملتها هذه الأوراد، والعجيب حقاً أن هذه العقيدة الشيعية قد انتشرت في تركية الدولة السنية، وفي مصر كذلك، واستمرت هذه العقيدة الباطنية تنتشر وتنمو طيلة هذه القرون الطويلة من أواسط القرن الثامن تقريباً إلى يومنا هذا في القرن الخامس عشر الهجري وكل ذلك تحت جناح التصوف .. فأي تلازم أبلغ بعد ذلك وأي تطابق بين التصوف والتشيع .. وهل كان التصوف إلا المعبرة التي عبر عن طريقها الفكر الشيعي الباطني إلى ديار الإسلام .. بل هل كان التصوف إلا المعبرة التي عبرت بها كل الفلسفات وكل أشكال الإلحاد والزندقة والتخريف إلى العالم الإسلامي؟!!. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص 418 - 422 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 453 المطلب التاسع: دور الفرس في التشيع والتصوف لقد كان للفرس والجنس الإيراني الدور المميز الخاص في التصوف والتشيع. فأئمة التصوف ورواده الأول بلا استثناء قد كانوا من الفرس والموالي ولم يكن منهم عربي قط. وقد ارتبط التشيع أيضاً قديماً باسم الفرس حتى إنه لا يكاد يذكر التشيع إلا ويقترن ذكره بذكر الفرس .. وقد كان لذلك أسبابه الخفية بلا شك. وقد كتب الدكتور كامل الشبيبي في كتابه (الصلة بين التصوف والتشيع) فصلاً خاصاً بذلك حيث يقول: أثر الشعب الإيراني في التشيع والتصوف: "ويهمنا في هذا المجال أن نورد رأياً لبراون رواه الباحث الإيراني المعاصر الدكتور قاسم غني -ومر بنا أصله- مؤداه أن (الإيرانيين -بعد رضوخهم لسيف العرب إثر حروب القادسية وجلولاء وحلوان ونهاوند- بذلوا استقلالهم وشوكتهم عن يد وهم صاغرون، وسواء أشاءوا أم أبوا دخلوا الإسلام بحكم غريزة المحافظة، غير أن العرب -الذين نظر إليهم الإيرانيون بعين الاحتقار من قديم- لم يستطيعوا مع غلبتهم أن يحملوا الإيرانيين على مشاركتهم طراز التفكير والعقيدة والسلفية والمنطق والآمال والمطالب الروحية، لأن التباين -شكلاً ومعنى- كان عظيماً في العنصر وطريقة المعيشة والأوضاع الاجتماعية. وعلى ذلك فإن انتهاء الصراع بهزيمة إيران أوجد انفعالات روحية وتأثرات معنوية في الإيرانيين على شكل صراع فكري ظهر في التاريخ الأدبي والمذهبي والاجتماعي والسياسي، وأثر العرب في الإسلام، وكان التشيع وكذلك التصوف من أهم ردود الفعل التي أورثها هذا الصراع الفكري) (تاريخ تصوف در إسلام 3 - ترجمة-). وقد أوضح الدكتور قاسم غني هذه الفكرة وبين جوهرها بقوله: (ويجب أن نبين هنا أن رد الفعل هذا لم يأت عن عمد واختيار وإرادة على خطة مرسومة يراد بها الانتقام بل كان أكثره متأنياً بحكم الانفعال النفسي وتحت تأثير العواطف والأحاسيس الخفية التي يعرفها علم النفس، أي أن ذلك قد حدث غالباً دون أن يجد له الناس علة واقعية ودون أن يحللوه، ولكن ذهنهم كان مسوقاً إلى هذا العمل بهذه الطريقة) (تاريخ تصوف در إسلام 3 - ترجمة) ولقد نطق إيراني معاصر -في صراحة وجلاء- بهذه الحقيقة واعترف بأن التصوف قد ظهر في إيران (في عصر تسلط على وطننا فيه عدو قوي، فلما لم يجد الإيرانيون قدرة على المخالفة والمبارزة سلكوا سبيل الهزيمة واتخذوا القوى الغيبية معتقداً لهم وألقوا سلاحهم في ميدان تنازع البقاء ... وعلى هذا فقد كان التصوف حينئذ ضرورة من الضرورات وليس اليوم كالأمس، ويجب ألا نحمل الأفكار الصوفية محمل الجد) (تصوف للبرفسور عباس مهرين: المقدمة -ترجمة- الواقع أن هذه المعاني متضمنة في صورة واضحة في عبارة ابن حزم الواردة في كتابه (لفصل) طبع مصر 1321م 2/ 115. وقد عبر عنها براون وغيره بألفاظهم). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 454 على أن هذا كله لا يقدح في أن التصوف قد ظهر في سائر الأقطار الإسلامية حينئذ، ولكن الواضح أيضاً أن التطور لم يخالط الزهد إلا في خراسان وعلى يد الفرس في البصرة والكوفة بل حتى في الشام حين دخلها إبراهيم بن أدهم وصحبه. وينبغي أن نذكر الدور الذي قام به الفرس من إدخالهم مثلهم الدينية في التشيع الغالي الأول حين نصروا المختار، وعاضدوا حركة الغلو العجلية، وانضموا إلى حركة أبي هاشم حتى أدى بهم الأمر إلى تأليه أبي مسلم الخراساني، كما فعلوا مع أئمة الشيعة من العلويين. يضاف إلى ذلك أنهم نصروا حركة عبدالله بن معاوية في فارس أيضاً وأسبغوا عليه النور الإلهي الذي سنجده في التصوف واضحاً جلياً. وهذا كله يعني أن الفرس قد بدؤوا إضافة القداسة إلى البيت النبوي باعتبارها أساساً موازياً لأسسهم السياسية والدينية السابقة من تأليههم الملوك، وقولهم بالنور الذي ينتقل من ملك إلى آخر، فثبتت الولاية لعلي بن أبي طالب على نحو مبالغ فيه، وانتقلت هذه الولاية المقدسة مع زيادات وإضافات وحواش إلى الأئمة من بعده حتى بلغ الأمر حد التأله" (الصلة بين التصوف والتشيع ص341 - 343). وهذه الشهادات تعني في الجملة أن التصوف والتشيع عند الإيرانيين كان دائماً وسيلة إلى غاية ولم يكن عقيدة وانتحالاً خالصاً، وهذا يصل إليه الدكتور كامل الشبيبي في خلاصة بحثه حيث يقول: "وقد استعان المختار بالوالي لأول مرة في تاريخ التشيع وكان ذلك من أسباب فشل حركته، وانفضاض العرب عنه، ويجب أن نلاحظ هنا أن دور الفرس في التشيع المبكر كان مؤقتاً فقد انصرفوا من بعد المختار إلى موالاة العباسيين وعادوا إلى التشيع من جديد بعد أن نزلت بهم ضربة السفاح أولاً. ثم المنصور ثم الرشيد. بل لقد وجدناهم يمنعون العلويين الخلافة حين تسلم البويهيون أزمة الحكم من العباسيين. وبهذا يتبين لنا أن دور الفرس في التشيع بل في الإسلام كان مجرد وسيلة لاستعادة المجد القديم، وإلغاء التسلط العربي عن كواهلهم" (الصلة بين التصوف، لكامل الشبيبي ص101). المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص422 - 424 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 455 المبحث الأول: طلب الهداية في غير الكتاب والسنة من يقرأ في كتب المتصوفة يلاحظ بأن القوم لا يهتمون بعلم الكتاب والسنة اللذين لا يمكن الحصول على الهداية إلا عن طريقهما وذلك لأن القوم يزعمون بأن لهم علوما خاصة يتلقونها عن الله سبحانه وتعالى مباشرة عن طريق الكشوفات المزعومة وبالإضافة إلا ذلك يزعمون بأنهم يلتقون بالأنبياء بعد موتهم ويتعلمون منهم علوما وبالأولياء أيضا وعلى رأس الأولياء يزعمون بأنهم يلتقون بالخضر ويتعلمون منه العلوم اللدنية ولم يكتف المتصوفة بهذا الإدعاء بل صرحوا بأن علومهم التي يتلقونها عن الله بلا واسطة كما يزعمون أفضل من العلوم التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذا نفر المتصوفة الناس عن تعلم العلوم الشرعية وهذا مكر ومكيدة ودهاء وخبث منهم لأنهم يعلمون بأن علومهم الوهمية الخيالية التي يزعمون بأنهم يتلقونها عن طريق المنامات والأحلام والرؤى والهتافات والكشوفات لا يمكن أن يقبلها منهم الناس إذا تعلموا الكتاب والسنة إلا إذا نفروا الناس عن العلوم الصحيحة التي مصدرها الكتاب والسنة حتى لا تتبدد أباطيلهم فتصبح هباء منثورا لأنها ما هي إلا كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماءا حتى إذا لم يجده شيءا. ولم يكتف المتصوفة بالتنفير عن طلب العلم الشرعي بل استهزؤا بعلماء الأمة الإسلامية ووصفوهم بأنهم علماء الرسوم الذين لا يفهمون شيئا عن الحقائق ووصفوا أنفسهم بأنهم علماء الحقيقة ومن أجل هذا طلب المتصوفة الهداية خارج الكتاب والسنة عن طريق الهواتف والمجاهدات والكشوفات المزعومة فضلوا عن الصواب وأضلوا كثيرا من شعوب العالم الإسلامي وهكذا مصير كل من بحث عن الهداية والوصول إلى رضوان الله سبحانه وتعالى خارج الكتاب والسنة فإن مصيره الضلال والتيه والضياع. ولقد ادعى كثير من المتصوفة بأن الهداية تأتي إليهم عن طريق الهواتف وإليك الدليل على ما أقول: فقد ذكر إبراهيم بن أدهم بأن أباه كان من ملوك خراسان وأنه خرج يوما للصيد وأثار ثعلبا أو أرنبا ثم يقول إنه هتف به هاتف وسمع صوته ولم يره وقال له " يا إبراهيم ألهذا خلقت أم بهذا أمرت" ثم يذكر بأن الهتاف عاوده فقال: " ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت" ثم قال إنه أخذ جبة راعي أبيه وانطلق هائما في الصحاري والغابات والأودية والجبال طلبا للهداية والتقى بسليمان عليه السلام وعلمه اسم الله الأعظم ثم جاءه الخضر وقال له: " إن الذي علمك اسم الله الأعظم هو أخي داود" ثم قال إبراهيم بن أدهم إنه التقى بأسلم بن يزيد بالأسكندرية: "فقال لي: من أنت يا غلام؟ قلت شاب من أهل خراسان ـ قال: وما حملك على الخروج من الدنيا؟ قلت زهدا فيها ورجاء الثواب من الله تعالى. فقال: إن العبد لا يتم رجاؤه لثواب الله تعالى حتى يحمل نفسه على الصبر فقال رجل ممن كان معه وأي شيء الصبر فقال إن أدنى منازل الصبر أن يروض العبد نفسه على احتمال مكاره الأنفس قال قلت ثم مه قال إن كان محتملا للمكاره أورث الله قلبه نورا قلت وما ذاك النور قال سراج يكون في قلبه يفرق به بين الحق والباطل والناسخ والمتشابه ... "ثم قال إبراهيم بن أدهم قال له رجل من أصحاب أسلم بن يزيد أضربه فأوجعه فإنا نراه غلاما قد وفق لولاية الله تعالى. (1). وبتحليلنا لهذه القصة نستنتج الأمور التالية:   (1) ((طبقات الصوفية)) للسلمي تحقيق نور الدين شريبة (ص27ـ 30) .. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 456 الأمر الأول: أن الهداية قد جاءت لإبراهيم بن أدهم من هاتف هتف به ولا أريد مناقشة هذه الدعوى لإثبات صحتها أو بطلانها لأن الذي أوردها صوفي له مكانته العالية في الأوساط الصوفية ولكن الذي أريده هو أنني أقول إن هذا الطريق الذي سلكه إبراهيم بن أدهم طالبا للهادية يختلف تماما عن الطريق الذي رسمه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطلب الهداية. فالهداية دائما إنما تطلب بالعودة إلى تلاوة كتاب الله وفهم معانيه والاهتمام بدراسة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن تكون الهواتف عندنا طريقا للهداية لأن الهواتف أنواع شتى فقد يكون الهاتف شيطانا ويأمره بشيء فيضل الطريق ولذا فالأحلام والرؤى والمنامات والهتافات أو الهواتف لا وزن لها في الشريعة الإسلامية فضلا عن أن تكون أسبابا للهداية. الأمر الثاني: أقول إن خروج إبراهيم عن وطنه وتركه لماله وأهله وخلق ثيابه وبعده عن الدنيا كلها ليس من الإسلام في شيء لأن الإسلام لا يأمر المسلم أن يهاجر عن وطنه إلا إذا اضطهد فيه وأصبح لا يتمكن من أداء الشعائر الإسلامية فحينئذ تجب الهجرة وخراسان بلد إبراهيم لم تكن كذلك. الأمر الثالث: ثم إن ادعاء بن أدهم بأنه لقي داود عليه السلام وعلمه اسم الله الأعظم. أولا وقبل كل شيء ما الذي دعا دواد عليه السلام للعودة إلى الدنيا مرة أخرى ليعلم فردا من أفراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم اسم الله الأعظم مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لعمر: ((والله لو كان موسى حيا لما وسعه إلا أن يتبعني)) (1).فكذلك داود لو عاد حيا لم يسعه إلا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يجوز له أن يقوم بتعليم الناس شيئا يعلمه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علت حد زعم المتصوفة وإلا فاسم الله الأعظم ليس مجهولا حتى يأتي داود ويخرج من قبره ليعلمنا إياه بل هو معروف من ملة محمد صلى الله عليه وسلم فقد ورد في الحديث الصحيح: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يدعو قائلا: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحدا. فقال صلى الله عليه وسلم: قد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب)) (2).   (1) رواه أحمد (3/ 387) (15195) وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (26421) والبيهقي في ((الشعب)) (1/ 347) (175) قال ابن كثير في ((البداية والنهارية)) (2/ 122) إسناده على شرط مسلم، قال ابن حجر في ((الفتح)) (13/ 345) رجاله موثقون إلا أن مجالدا فيه ضعف، وحسنه الألباني في ((الإرواء)) (1589) (2) رواه أبو داود (1493) والترمذي (3475) وابن ماجه (3857) وابن حبان (3/ 173) (891) والحاكم (1/ 683) (1858) قال الترمذي حسن غريب، وقال الحاكم صحيح على شرطهما، وصححه الألباني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 457 الأمر الرابع: نستنتج من قصة إبراهيم بن أدهم بأنه بالمجاهدة والصبر يحصل النور الذي يعرف به الحق والباطل والناسخ والمتشابه. وأنا أقول إن مجرد المجاهدة والصبر مهما كانت لا يمكن أن تعلم الإنسان لابد من التعلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما العلم التعلم)) (1). نعم الاجتهاد في طلب علمي الكتاب والسنة والصبر فيهما يجعل قلب الإنسان منورا لأن العلم ور والجهل ظلام فالاجتهاد في العلم الذي جاء به رسول الله من عند الله وهو علم الكتاب والسنة الذي من تعلمه عرف الحق من الباطل والله عز وجل يقول فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ [محمد: 19] فالله عز وجل أمر بالعلم قبل العمل بخلاف المتصوفة فإنهم يأمرون بالعمل على الجهل من أجل الحصول على العلم الذي يزعمون بأنه يقذف في قلوبهم بسبب المجاهدة. الأمر الخامس: نأخذ من قول أسلم بن يزيد لإبراهيم بن أدهم: " يا غلام إنا قد أفدناك ومهدناك وعلمناك علما" بأن للمتصوفة طريقا آخر يتلقون منه العلوم غير العلوم التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه حسب زعمهم وقد صرح المتصوفة بأن هناك علما آخر غير العلم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله ومما يدل على هذا قول الغزالي فقد قسم العلوم إلى أقسام وذكر من جملة الأقسام علم يسمى "علم المكاشفة" فقال: "القسم الأول: علم المكاشفة: هو علم الباطن وذلك غاية العلوم فقد قال بعض العارفين من لم يكن له نصيب من هذا العلم أخاف عليه سوء الخاتمة وأدنى نصيب منه التصديق به وتسليمه لأهله .. وهو علم الصديقين والمقربين أعني علم المكاشفة فهو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة .. " ثم قال: " فنعني بالعلم المكاشفة أن يرتفع الغطاء حتى تتضح له جلية الحق في هذه الأمور اتضاحا يجرى مجري العيان الذي لا يشك فيه وهذا ممكن في جوهر الإنسان لولا أن مرآة القلب قد تراكم صدؤها وخبثها بقاذورات الدنيا وإنما نعني بعلم طريق الآخرة العلم بكيفية تصقيل هذه المرأة عن الخبائث التي هي الحجاب عن الله سبحانه وهذه العلوم التي لا تسطر في الكتب ولا يتحدث بها من أنعم الله عليه بشيء منها إلا مع أهله وهو المشارك فيه سبيل المذاكرة وبطريق الإسرار وهذا هو العلم الخفي الذي يوصف بالعلم المكنون فقد قيل في وصفه أن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله فإذا نطقوا به لم يجهله إلا أهل الاغترار بالله تعالى. (2).   (1) أخرجه الخطيب البغدادي في ((تاريخه)) (9/ 127) والطبراني في ((الأوسط)) (3/ 118) (2663) قال الهيثمي في ((المجمع)) (1/ 128) فيه محمد بن الحسن بن ابي يزيد وهو كذاب وقال البوصيري في ((الإتحاف)) (1/ 46) في إسناده روا لم يسم، وذكره الألباني في ((السلسلة الأحاديث الصحيحة)) (342). (2) ((الإحياء)) (1/ 31ـ 32). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 458 ومن أقوال الغزالي السابقة يتضح لنا بأن القوم يدعون بأن لهم علوما خاصة وأن هذه العلوم يحصلون عليها من قبل الله عز وجل عن طريق قذفها في قلوبهم وعلى هذا فالقوم لهم علوم أخرى يطلبون الهداية إلى الحق والصواب عن طريقها وليس لهم أي حاجة لإتعاب أنفسهم في الدراسة ما داموا يتلقون العلوم الربانية بطريقة سريعة وهي القذف في القلوب ولكن من المؤكد أن قول المتصوفة هذا إنما هو مجرد ادعاء فقط وإلا فليس لهم علوم يحصلون عليها عن طريق القذف في القلوب كما يدعون وبالتالي تهديهم إلى الحق والصواب والصراط المستقيم وإنما من الممكن أن يكونوا يتلقون علوما من قبل الشياطين لأن الشياطين أيضا لهم وحي شيطاني كما قال الله عز وجل وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام: 121] وإلا فليس لدينا في الإسلام وحي غير الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله وقد ختمت النبوة فكل من يدعي أنه يحصل على علم غير العلم الذي جاء به رسول الله فقد كذب وافترى على الله فرية عظيمة ولو نظرنا وفكرنا جيدا فسنجد بأن المتصوفة ادعوا هذا الادعاء من أجل التعمية على العوام من الناس حيث إن المتصوفة يفسرون الكتاب بأهوائهم تفسيرا يختلف تماما مع التفسير الذي فسره العلماء للقرآن الكريم وإذا سئلوا قالوا: إن هذا علم الباطن الذي لا يعلمه إلا الخاصة من أوليائه وبهذا القاعدة هدموا كثيرا من أمور الشريعة وسنتناول هذه الفرية ألا وهي ادعاء الصوفية بأن للقرآن ظاهرا وباطنا في موضعها وسنوضح بأنها محض افتراء لا أساس لها من الصحة حينما نتعرف للعامل الثاني من العوامل التي أدت إلى انحراف المتصوفة إن شاء الله الطريق الثاني الذي يطلب المتصوفة الهداية عن طريقه هي الكشوفات التي يزعمونها: يعتقد كثير من المتصوفة بأن كل من انتسب إلى أي طريقة من الطرق الصوفية تحصل له المكاشفات والمشاهدات وتنزل عليه علوما من الله سبحانه وتعالى وذلك بشرط أن يجهد نفسه بقطع الرياضيات الشاقة التي ابتدعها المتصوفة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 459 قال الغزالي "اعلم أن ميل أهل التصوف إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية فلذلك لم يحرصوا على دراسة العلم وتحصيل ما صنفه المصنفون والبحث عن الأقاويل بل قالوا: الطريق تقديم المجاهدة ومحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى ومهما حصل ذلك كان الله هو المتولي لقلب عبده والمتكفل له بتنويره بأنوار العلم وإذا تولى الله أمر القلب فاضت عليه الرحمة وأشرق النور في القلب وانشرح الصدر وانكشف له سر الملكوت وانقشع عن وجه القلب حجاب العزة بلطف الرحمة وتلألأت فيه حقائق الأمور الإلهية فليس على العبد إلا الاستعداد بالتصفية المجردة وإحضار الهمة الأمور مع الإرادة الصادقة والتعطش التام والترصد بدوام الانتظار لما يفتحه الله تعالى من الرحمة. فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر وفاض على صدورهم النور لا بالتعلم والدراسة والكتابة للكتب بل بالزهد في الدنيا والتبري من علائقها وتفزيغ القلب من شواغلها والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى والاختلاء في زاوية مع الاقتصار على الفرائض والرواتب ويجلس فارغ القلب مجموع الهم ولا يفرق فكره بقراءة القرآن ولا بالتأمل في تفسير ولا بكتب حديث ولا غيره بل يجتهد في الصبر أن لا يخطر بباله شيء سوى الله تعالى فلا يزال العبد بعد جلوسه في الخلوة قائلا بلسانه الله الله على الدوام مع حضور القلب حتى ينتهي إلى حالة يترك تحريك اللسان ويرى كأن الكلمة جارية على لسانه ثم يصبر عليه إلى أن ينمحي أثره عن اللسان وهكذا يصبح متعرضا لنفحات رحمة ربه فر يبقى إلا الانتظار لما يفتح الله من الرحمة كما فتحها على الأنبياء والأولياء بهذا الطريق وعند ذلك إذا صدقت إرادته وصفت همته وحسنت مواظبته فلم تجاذبه شهواته ولم يشغله حديث النفس بعلائق الدنيا تلمع لوامع الحق في قلبه ويكون في ابتدائه كالبرق الخاطف لا يثبت" (1). وهكذا الغزالي قد تأثر بأفكار المتصوفة إلى حد بعيد حتى أصبح من أبرز علمائهم حيث ذكر في كتابه (الإحياء) كلاما عن الصوفية لا يمكن أن يقبله مسلم له علم بالكتاب والسنة. والشاهد من كلام الغزالي السابق إثبات بأن القوم يدعون بأنهم يتلقون علوما أخرى غير العلوم التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هنا نعلم بأن القوم يبحثون عن الهداية خارج الكتاب والسنة وهذا هو الأمر الذي ضل القوم بسببه حيث أن كل من يطلب الهداية عن غير الطريق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فمصيره التيه والضلال المبين. ويقول عبد الكريم الجيلي واصفا كتابه (الإنسان الكامل): " وكنت قد أسست الكتاب على الكشف الصريح وأيدت مسائله بالخبر الصحيح وسميته بالإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل " ثم يقول: " فأمرني الحق الآن بإبرازه بين تصريحه وألغازه ووعدني بعموم الانتفاع فقلت طوعا للأمر المطاع" (2). وكلام عبد الكريم الجيلي السابق مضمونه هو أنه يقول إنه تلقى المعلومات التي ضمنها كتابه عن طريق الكشف من الغيب وأن الله أمره بإظهار هذا الكتاب بما فيه من ألفاظ صريحة وألغاز معقدة وأن الله وعده بعموم الانتفاع به وأنه أجاب لهذا الأمر فأظهره. وما كتاب الجيلي حتى يأمره الله بإظهاره فهو كتاب من أوله إلى آخره لا يحتوي إلا على الكفر والزندقة وسأورد منه نصوصا حينما أتعرض لعقيدة المتصوفة تجاه من يزعمونهم أولياء في الباب الرابع إن شاء الله تعالى.   (1) ((الإحياء)) (3/ 21). (2) ((الإنسان الكامل)) لبعد الكريم الجيلي (ص: 6). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 460 ويقول ابن عربي" نحن بحمد الله لا نعتمد في جميع ما نقوله إلا على ما يلقيه الله تعالى في قلوبنا لا على ما تحمله الألفاظ"وقال أيضا: " اعلم أن العارفين رضي الله عنهم لا يتقيدون في تصانيفهم بالكلام فيما بوبوا عليه فقط وذلك لأن قلوبهم عاكفة على باب الحضرة الإلهية مراقبة لما يبرز لهم منها فمهما برز لهم كلام بادروا لإلقائه على حسب ما حد لهم فقد يلقون الشيء إلى ما ليس في جنسه امتثالا لأمر ربهم وهو تعالى يعلم حكمه ذلك" (1). فإذا نظرنا إلى هذه النصوص فسنجد أن النص الأول صرح فيه ابن عربي بأنه هو وأتباعه من المتصوفة الكبار يلقي الله عز وجل علوما في قلوبهم وأنهم لا يتقيدون بما تدل عليه الألفاظ فقط لأن الوقوف على المعاني التي تدل عليها الألفاظ ظاهرا إنما هو من اختصاص علماء الظاهر أو علماء الرسوم كما يسمونهم. وأما النص الثاني فقد صرح فيه ابن عربي بأن علوم المتصوفة لا يحصلون عليها عن طريق الفكر وإنما تلقى عليهم من الله إلقاءا مباشرة فهي هبة من الله تعالى. وأما النص الثالث فقد صرح فيه ابن عربي بأن قلوب المتصوفة عاكفة على باب الحضرة الإلهية وإنها تراقب هذه الحضرة حتى تأخذ عنها أي شيء يظهر منها ولذا فإنهم يبادرون بإلقاء أي كلام يلقى عليهم من قبل الحضرة الإلهية وأنهم لا يضعون هذا الكلام إلا على حسب ما حدد الله لهم ولذلك فقد يضع مشايخ المتصوفة الكلام في غير جنسه امتثالا لأمر الله تعالى كما يزعمون. ووصف الرندي علم المتصوفة الذي يحصلون عليه عن طريق كشوفاتهم المزعومة فقال (2):"والعلم المخزون هو العلم اللدني الذي اختزنه الله عنده فلم يؤته إلا للمخصوصين من الأولياء" ثم أورد حديثا مكذوبا على الرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن الرسول قال: ((إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله تعالى فإذا نطقوا به لا ينكرونه إلا أهل الغرة بالله)) (3).وقد شرح أحد المتصوفة هذا النص فقال: " هي أسرار الله تعالى يبديها الله إلى أنبيائه وسادات النبلاء من غير سماع ولا دراسة وهي من الأسرار التي لم يطلع عليها أحد إلا الخواص" (4).وقال الرندي أيضا: " وربما أطلعك على غيب ملكوته وحجب عنك الاستشراف على أسرار العباد" (5). والنتيجة التي توصلنا إليها من خلال إيرادنا لهذه النصوص هي إثبات بأن المتصوفة يدعون التلقي عن الله مباشرة علوما خاصة بهم مخزونة عند الله وأن هذه العلوم لا يكشفها الله إلا لهم لأنهم خصوا أنفسهم بالأولياء وهم لا يطلقون هذا اللفظ إلا لمن انخرط تحت لواء إحدى الطرق الصوفية وأن هناك علما مكنونا وهو لا يعلمه إلا العلماء بالله يعنون بهذا أنفسهم وأن هذه العلوم هي عبارة عن أسرار الله وأنه سبحانه لا يظهرها إلا للأنبياء والأولياء وأن الحصول على هذه العلوم لا يحتاج إلى دراسة ولا سماع بل تلقى في القلب القاءا وهي علوم خاصة بالخواص من البشر وهم زعماء الطرق الصوفية كما يزعمون.   (1) ((اليواقيت والجواهر في عقيدة الأكابر)) للشعراني (2/ 24 ـ 25). (2) ((غيث المواهب العلية)) للرندي (2/ 238). (3) قال ابن تيمية في ((درء التعارض)) (5/ 85) ليس له إسناد صحيح، وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/ 39) إسناده ضعيف، وقال الألباني في ((الضعيفة)) (870) ضعيف جدا (4) ((غيث المواهب العلية)) للرندي (2/ 238). (5) ((غيث المواهب العلية)) للرندي (2/ 7). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 461 ولذا طلب المتصوفة الهداية إلى الحق والتقرب إلى الله عن طريق هذه العلوم التي ادعوا بأنهم يتلقونها عن الله فلم يصلوا إلى الهدى بل ضلوا الطريق لأنهم بحثوا عن الهداية في غير مكانها وسلكوا لها غير طريقها فإن كل من يطلب الهداية في غير الكتاب والسنة فإن مصيره الضلال المبين والانحراف الخطير كما حصل لهؤلاء المتصوفة الذين بحثوا عن الهداية عن طريق الكشوفات المزعومة فانحرفوا في عقائدهم وسلوكهم ومعاملاتهم. الطريق الثالث الذي يبحث المتصوفة فيه عن الهداية " الذوق": قال أبو حامد الغزالي في معرض حديثه عن المتصوفة: " ابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل " قوت القلوب" لأبي طالب المكي الحارث المحاسبي .. حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلية وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعلم والسماع فظهر لي أن أخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات".ثم قال أيضا: " فعلمت يقينا بأنهم أرباب الأحوال لا أصحاب الأقوال وأن ما يمكن تحصيله بطرق العلم فقد حصلته ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعلم بل بالذوق والسلوك" (1). وقال ابن عربي: "جميع علومنا من علوم الذوق لا من علم بلا ذوق فإن علوم الذوق لا تكون إلا عن تجلي إلهي والعلم قد يحصل لنا بنقل المخبر الصادق وبالنظر الصحيح " (2). ومن هنا نعلم بأن الذوق من أهم الطرق التي يبحث المتصوفة فيه عن الهداية وهو معرفة الله سبحانه وأن هذا العلم الذي يسميه المتصوفة علم الذوق لا يحصل عليه الإنسان إلا عن طريق الكشف بتجلي الله له كما قال ابن عربي في النص السابق. ويقول عبدالرحمن الوكيل في نقده لاعتماد الصوفية على الذوق في تلقي العلوم: " ويدين الصوفية ببهتان آخر يدمغها بالمروق عن الإسلام ذلك هو اعتقادها أن الذوق الفردي لا الشرع ولا العقل هو وحده وسيلة المعرفة ومصدرها معرفة الله وصفاته وما يجب له فهو ـ أي الذوق- الذي يقوم حقائق الأشياء ويحكم عليها بالخيرية أو الشرية بالحسن أو القبح بأنها حق أو باطل فلا جرم أن تدين الصوفية بعدد عديد من أرباب وآلهة ولا عجب أن ترى النحلة منها تعبد وثنا بغير ما تعبده أخرى أو تخضع لصنم يكفر به سواها من النحل الصوفية لا عجب من ذلك كله ما دامت تجعل الذوق الفردي حاكما وقيما على المسميات وأسمائها فيضع للشيء معناه مرة ثم ينسخه بنقيضه مرة أخرى هذه الحدة في توتر التناقض صبغت الصوفية دائما في منطقها المخبول ولقد ضربت الصوفيين أهواء أحبارهم بالحيرةوالفرقة فحالوا طرائق قددا تؤله كل طريقة منها ما ارتضاه كاهنها صنما له وتعبده بما يفتريه هواه من خرافات" (3). تنفير الصوفية الناس عن العلم الشرعي: لقد نفر الصوفية الناس عن العلم الشرعي بوصفهم له بأوصاف منفرة حيث وصفه بعضهم بأنه آفة المريد ووصفه البعض منهم بأنه يفرق الاهتمامات ووصف طلب العلم بأنه ركون إلى الدنيا وانحطاط من الحقيقة إلى العلم ووصفه بعضهم بأنه موحش ووصفه بعضهم بأنه حجاب. وإليك النصوص الدالة على ذلك من بطون كتبهم: فقد وصف أبو بكر الوراق كتابة الحديث والاهتمام به بأنه من الآفات التي يجب أن يبتعد عنها المريد فقال: "آفة المريد ثلاث: التزويج وكتابة (الحديث والأسفار) " (4). ويقول الجنيد: "إذا لقيت الفير – أي الصوفي – فالقه بالرفق ولا تلقه بالعلم فإن الرفق يؤنسه والعلم يوحشه" (5).   (1) ((المنقذ من الضلال)) للغزالي (ص: 61). (2) ((اليواقيت والجواهر في عقيدة الأكابر)) للشعراني (2/ 84). (3) ((هذه الصوفية)) لعبد الرحمن الوكيل (ص: 20). (4) ((الرسالة القشيرية)) (2/ 436). (5) ((الرسالة القشيرية)) (2/ 545). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 462 واعتبر بعض المتصوفة طلب الحديث النبوي بأنه ركون إلى الدنيا حيث قال: " إذا طلب الرجل الحديث أو سافر في طلب المعاش أو تزوج فقد ركن إلى الدنيا" (1). ووصف بعض المتصوفة العلم بأنه حجاب عن الله حيث قال أبو يزيد البسطامي: " أشد المحجوبين عن الله ثلاثة: الزاهد بزهده والعابد بعبادته والعالم بعلمه" (2). ولقد صرح أحد كبار المتصوفة بأن المتصوفة لم يتعلموا العلم ولم يحرصوا على دراسته فقال: "اعلم أن ميل أهل التصوف إلى الإلهية دون التعليمية ولذلك لم يتعلموا ولم يحرصوا على دراسة العلم وتحصيل ما صنفه المصنفون بل قالوا الطريق تقديم المجاهدات بمحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها والإقبال على الله تعالى بكنه الهمة وذلك بأن يقطع الإنسان همه عن الأهل والمال والولد والعلم ويخلو نفسه في زاوية ويقتصر على الفرائض والرواتب ولا يقرن همه بقراءة القرآن ولا بالتأمل في نفسه ولا يكتب حديثا ولا غيره ولا يزال يقول " الله الله الله" إلى أن ينتهي إلى حال يترك ترحيك اللسان ثم يمحو عن القلب صورة اللفظ" (3). فالنصوص المتقدمة كلها توضح لنا موقف المتصوفة من العلم وتثبت لنا بأن المتصوفة من ألد الأعداء لعلمي الكتاب والسنة حيث أن النصوص المتقدمة صرحوا فيها بعدائهم للقرآن والسنة بنهيهم وتحذيرهم عن طلب الحديث النبوي وتلاوة كتاب الله عز وجل فهل هناك جريمة أكبر من الذي يحذر عن تلاوة القرآن وكتابة الحديث النبوي وطلبه بل وطلب العلم عموما. ولم يقدم زعماء الصوفية على هذا عن جهل منهم بل أقدموا عليه عن تخطيط وتدبير ومكر ومكيدة لأنهم يعلمون جيدا بأن أباطيلهم لا يمكن أن يقبلها الناس إلا إذا كانوا جهالا لا يعلمون شيئا عن الكتاب والسنة فعلم الكتاب والسنة نور يكشف عورات هذه الظلمات التي يدعو لها أرباب التصوف عوام الناس لأنه بالعلم ينكشف للناس حقائق طرقهم وزيف أقوالهم وبالعلم يتبين المنكر وبالعمل به يتم الإنكار وقد علم الصوفية بأن الإنكار أصبح حجر عثرة أمامهم وأعاق طريقهم والمنكر لا يمكن أن يعرف إلا عن طريق العلم ولذا نفروا الناس عنه ودعوهم إلى الابتعاد عنه وشغلوهم بحلقات الرقص ونوادي الوجد والسماع ولبس الخرقة والتزام الخلوات المظلمة وغير ذلك من بدعهم المنكرة كما سيتضح لنا ذلك خلال بحثنا الطويل معهم في هذه الرسالة إن شاء الله تعالى. حث الإسلام على العلم والإعلاء من شأنه: لقد حث الإسلام على العلم وأعلى من شأنه ومما يدل على ذلك الأدلة الآتية من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأول سورة نزلت من القرآن جاء الأمر فيها بالقراءة وهي سورة العلق حيث قال تعالى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1 - 5] وقد أمر الله سبحانه بالعلم قبل العمل فقال: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ [محمد: 19]. وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى بأن أولى الناس بخشية الله سبحانه وتعالى هم العلماء فقال: كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر: 28]   (1) ((تراجم الصوفية)) للمناوي (2/ 215). (2) ((تراجم الصوفية)) للمناوي (2/ 247). (3) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 21). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 463 وقد أنكر الله سبحانه وتعالى أن يستوي العالمون والجاهلون فقال تعالى أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الألْبَابِ [الزمر: 9] وأما الأدلة من السنة في الحث على طالب العلم وفضله فكثيرة جدا وإليك نبذة منها: الحديث الأول: حديث معاوية رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من يرد الله به خيرا يفقه في الدين وإنما أنا قاسم والله يعطي ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله)) (1).الحديث الثاني: الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة)) (2). وقال الترمذي عنه: حديث حسن. الحديث الثالث: الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع)) (3).الحديث الرابع: الحديث الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((اللهم علمه الكتاب)) (4). فالآيات والأحاديث السابقة التي أوردتها هنا كلها تفيد بأن الإسلام دعا إلى العلم ورفع من شأن العلم وشأن أهله ووعد على طلبه الأجر العظيم والثواب الجزيل وأن كل دعوة إلى الابتعاد عن العلم والتنفير منه ما هي إلا محادة لله ولرسوله وتدمير وقتل لمواهب الأمة الإسلامية لأنه ما من أمة ابتعدت عن العلم إلا وانتشر فيها الجهل وأي أمة انتشر فيها الجهل فإنها تدمر وتصبح لقمة سائغة لأعدائها. ولم يدع الصوفية إلى الابتعاد عن العلم الصحيح إلا ليصبح الناس جهلة حتى تسهل قيادتهم إلى حيث يشاءون وينشرون فيهم أفكارهم الخرافية الوهمية التي لا تستطيع أن تثبت أمام الحقائق العلمية ولذا نرى دائما زعماء الطرق الصوفية يحاربون علم الكتاب والسنة لأنهم يعلمون يقينا بأنهم لا وجود لهم ولا لأفكارهم الضالة إذا فهم الناس دينهم كما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله عز وجل لأن أفكار الصوفية لا يمكن أن تعيش إلا في الظلام الحالك كالسباع التي لا تخرج إلا ليلا لتبحث عن فريستها فكذلك الصوفية يريدون أن يبقى الناس جهالا حتى يسهل إخضاعهم لهذه الأفكار المنحرفة. استهزاء الصوفية بعلماء الأمة الإسلامية. لقد استهزأ الصوفية بعلماء الأمة الإسلامية ووصفوهم بأوصاف تحط من قدرهم وذلك حتى ينفروا الناس عنهم ويسقطوهم من عيونهم وإليك الأدلة على ما أقول: فقد وصف أحد الصوفية الكبار الطريقة التي نقلت بها السنة النبوية بأنها طريقة لا يسلكها إلا المساكين وصرح بأن الصوفية يأخذون علمهم عن الله مباشرة وإليك نص كلام هذا الصوفي: فقد قال إبراهيم بن سبتيه: (حضرت مجلس أبي يزيد والناس يقولون فلانا لقي فلانا وأخذ من علمه وكتب منه الكثير وفلانا لقي فلانا فقال أبو يزيد: "مساكين أخذوا علمهم ميتا عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت" (5).   (1) رواه البخاري (71) واللفظ له ومسلم (1037) (2) رواه مسلم (2699) (3) رواه الترمذي (2647) وقال حسن غريب ورواه بعضهم فلم يرفعه، والطبراني في ((الصغير)) (1/ 234) (380) وقال تفرد به أبو جعفر الرازي وخالد بن يزيد، وضعفه الألباني (4) رواه البخاري (75) (5) ((الكواكب الدرية)) للمناوي (1/ 346). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 464 وكلام أبي يزيد هذا يرمي إلى أمور خطيرة جدا من هذه الأمور أن أبا يزيد بكلامه هذا قلل من شأن الإسناد الذي يعتبر مفخرة عظيمة للأمة الإسلامية دون غيرها بجانب أنه قلل من شأن علماء السنة المشرفة والذين نقلوا إلينا السنة كما قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستهزاء والاستهتار بعلماء الأمة الإسلامية لا يحصل إلا من إنسان في قلبه مرض وكراهية للإسلام والمسلمين ثم إن وصف أبي يزيد للعلوم الإسلامية وعلى رأسها السنة النبوية بأنها نقلت ميتا عن ميت فيه استهزاء بمن شهد لهم القرآن بالجن وأخبرنا الله بأنه رضي عنهم وهم الصحابة الكرام وهذا يعتبر أكبر جريمة. ثم إن ادعاء أبي يزيد بأنه أخذ علمه هو وجماعته الصوفية الكذابون عن الله ما هو محض افتراء على الله عز وجل فنحن المسلمون نعتقد بأنه لا نبي ولا رسول بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأن الله عز وجل يقول مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب: 40] وبما أن الله عز وجل أخبرنا بأنه لا يكلم البشر إلا بالوحي أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء وأبو يزيد البسطامي وأمثاله من المتصوفة الذين يدعون بأنهم يتلقون علومهم من الله ليسوا بأنبياء ولا رسل فدعواهم التلقي المباشر عن الله تصبح دعوى لا أساس لها من الصحة بل هي كذب وافتراء على الله عز وجل ومع ذلك فنحن لا ننكر بأن القوم ربما يوحى إليهم من قبل الشياطين لأن الله عز وجل قد أثبت في كتابه الكريم بأن الشياطين يوحون إلى أوليائهم حيث قال تعالى وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام: 121] وقوله تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام: 112] وعلى هذا فنحن لا نصدق المتصوفة بأنهم يتلقون علوما عن الله مباشرة وذلك لأن النبوة قد ختمت ولكن نقول لهم إنه من الممكن أن ينزل إليكم الوحي من قبل الشياطين وإلا فليس عندنا في الإسلام دينان دين يتلقاه أبو يزيد وأمثاله من دجاجلة الصوفية عن الله ودين أتى به الرسول الله صلى الله عليه وسلم لا غير. وممن حمل على أئمة الإسلام وعلمائهم ابن عربي حيث شبههم بأوصاف قبيحة للتقليل من شأنهم فمرة شبههم بفراعنة الرسل ومرة وصفهم بأنهم فاقدو الإدراك ومرة وصفهم بعدم الإنصاف وإليك نصوصا من كتبه: فقد قال: " وما خلق الله أشق ولا أشد من علماء الرسوم على هل الله المختصين بخدمته العارفين به من طريق الوهب الإلهي الذي منحهم أسراره في خلقه وفهمهم معاني كتابه وإشارات خطابه فهم لهذه الطائفة مثل الفراعنة للرسل" (1).   (1) ((الفتوحات المكية)) لابن عربي (2/ 175). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 465 وقال أيضا: " ولو كان علماء الرسوم ينصفون لاعتبروا بما في نفوسهم إذا نظروا في الآية بالعين الظاهرة التي يسلمون بها فيما بينهم فيرون أنهم يتفاضلون في ذلك ويعلو بعضهم في كلام على معنى تلك الآية ويقر القاصر بفضل غير القاصر وكلهم في مجرى واحد. ومع هذا الفضل المشهود لهم فيما بينهم في ذلك ينكرون على أهل الله إذا جاءوا بشيء مما يغمض عن إدراكه وذلك لأنهم يعتقدون فيهم أنهم ليسوا بعلماء وأن العلم لا يحصل إلا بالتعلم المعتاد في العرف وصدقوا فإن أصحابنا ما حصل لهم العلم إلا بالتعلم وهو الإعلام الرحماني الرباني" (1).وقال أيضا: " فلما رأى أهل الله أن الله قد جعل الدولة في الحياة الدنيا لأهل الظاهر من علماء الرسوم وأعطاهم التحكم في الخلق بما يفتون به وألحقهم بالذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون وهم في أفكارهم عن أهل الله يحسبون أنهم يحسنون صنعا. سلم أهل الله لهم أحوالهم لأنهم علموا من أين تكلموا وصانوا عنهم أنفسهم لتسميتهم الحقائق إشارات فإن علماء الرسوم لا ينكرون الإشارات" (2). وهكذا زعماء التصوف الدجاجلة استهزءوا بعلماء الإسلام ووصفوهم بأوصاف لا تليق أن يوصف بها إنسان جأهل بل إنسان كافر فضلا عن العلماء الربانيين فماذا ترك ابن عربي من التشويه بعد ما تقدم لعلماء الأمة الإسلامية الذين تفتخر بهم الأمة الإسلامية وإذا بحثنا عن السبب الذي دفع زعماء التصوف للقيام بهذه الحملة ضد علماء الأمة الإسلامية فإننا سنجد بأن الدافع الأساسي لهم على هذا هو تنفير الناس العوام من هؤلاء العلماء حتى لا يأتوا إليهم ويتعلموا منهم ويعرفوا الحق من الباطل فتتعطل مصالح المتصوفة الاقتصادية التي يحصلون عليها من قبل جهلاء الأمة الإسلامية وبالإضافة إلى ذلك فإن زعماء المتصوفة يستخدمون الجهلة من المسلمين الذين انخرطوا في إحدى هذه الطرق الصوفية كالعبيد في مصالحهم الشخصية. وفي ختام هذا المبحث أقول إن زعم المتصوفة بأن هم يتلقون علوما خاصة بهم من الله مباشرة كذب محض لا أساس له من الصحة لأن الله عز وجل يقول: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِ لا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى: 51]. وبما أن زعماء الطرق الصوفية ليسوا بأنبياء ولا رسل تصبح دعوى تلقيهم العلم عن الله عارية عن الصحة إذا نقول لا كشف لهم ولا إلهام لهم من الله يأتون عن طريقه بعلوم تخالف العلوم التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله قد ختم النبوة به كما قال سبحانه مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب: 40] ولذا نقول فكل من يدعي تلقي العلم عن الله تعالى إنما هو محادد لله ولرسوله لأن الله أخبر في كتابه بأن النبوة قد ختمت وكذلك أخبر الرسول في سنته بأنه آخر النبيين فدعوى الصوفية بأنهم يتلقون العلم عن الله دعوى فارغة عارية عن الصحة وإنما هي محض دل وافتراء فقط لإيهام العوام والتلبيس عليهم.   (1) ((الفتوحات المكية)) لابن عربي (2/ 176). (2) ((الفتوحات المكية)) لابن عربي (2/ 279). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 466 وبما أن الدين قد كمل وتم فلا يحتاج إلى ترقيع عن طريق الكشوفات المزعومة كما قال الله سبحانه في كتابه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3]. وهذه من أكبر النعم على هذه الأمة حيث أكمل لها دينها فلا تحتاج إلى دين غيره فلا حلال إلا ما أحله الله ولا حرام إلا ما حرمه الله ولا دين إلا ما شرعه الله وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لقوله تعالى مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3 - 4].وقد أخرج الطبري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أَكْمَلْتُ لَكُمْ وهو الإسلام قال: أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا وقد أتمه الله عز ذكره فلا ينقصه أبدا وقد رضيه الله فلا يسخطه أبدا) (1). ويقول سيد قطب رحمه الله في تفسير هذه الآية: " أعلن لهم إكمال العقيدة وإكمال الشريعة معا فهذا هو الدين ولم يعد للمؤمن أن يتصور أن بهذا الدين نقصا يستدعي الإكمال ولا قصورا يستدعي الإضافة ولا محلية أو زمانية تستدعي التطور أو التحوير" (2). وبما أن الدين قد كمل والحمد لله فالعلوم التي يزعم المتصوفة بأنهم يتلقونها عن الله لا قيمة لها في ميزان الشرع لأنها أوهام وخيالات وكذب ودجل فقط. وإليك قول المعلمي فإنه مفيد في هذا المجال قال رحمه الله: "والشرع يقضي بأن الكشف ليس مما يصلح الاستناد إليه في الدين ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة)) (3). ثم قال المعلمي: " وفيه حجة على أنه لم يبق مما يناسب الوحي إلا الرؤيا اللهم إلا أن يكون بقي ما هو دون الرؤيا فلم يعتد به فدل ذلك أن التحديث والإلهام والفراسة والكهانة والكشف كلها دون الرؤيا ... " ثم قال المعلمي: "إن التحديث والإلهام من إلقاء الملك في الخاطر والكهانة من إلقاء الشياطين والكشف قوة طبيعية كما يسمى في هذا العصر قراءة الأفكار .. " ثم قال: " وقد اتفق أهل العلم على أن الرؤيا لا تصلح للحجة إنما هي تبشير وتنبيه وتصلح للاستئناس بها إذا وافقت حجة شرعية صحيحة كما ثبت عن ابن عباس". ثم قال: " هذه حال الرؤيا فقس عليه حال الكشف إن كان في معناها فأما إن كان دونها فالأمر أوضح وتجد في كلام المتصوفة أن الكشف قد يكون حقا يكون من الشيطان وقد يكون تخير موافقا لحديث النفس ... " ثم يقول المعلمي: "فالكشف إذا تبع الهوى فغلايته أن يؤدي الهوى ويرسخه في النفوس ويحول بين صاحبه وبين الاعتبار والاستبصار فكأن الساعي في أن يحصل له الكشف إنما يسعى في أن يضله الله عز وجل ولا ريب أن من التمس الهدى من غير الصراط المستقيم مستحق أن يضله الله عز وجل وما يزعمه بعض غلاتهم من أن لهم علامات يميزون بها بين ما هو حق من الكشف وما هو باطل دعوى فارغة. فأما ما عرف عن المتصوفة من تحريف النصوص ربما أشنع وأفظع من تحريف الباطنية فهذا لا يشهد لكشفهم بل يشهد عليه أوضح شهادة بأنه من أبطل الباطل وذلك لأمور: الأول: لأن النصوص بدلالتها المعروفة حجة فإذا شهدت ببطلان قولهم علم أنه باطل. ثانيا: لأنهم يعترفون أن الكشف محتاج إلى شهادة الشرع فإن قبلوا من الكشف تأويل الشرع فالكشف شهد لنفسه فمن يشهد له على تأويله. وأما التحديث والإلهام ففي صحيح البخاري وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال ((لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإن يكن في أمتي فإنه عمر)) (4). وجاء في عدة روايات تفسير التحديث بالإلهام. وهذه سيرة عمر بين أيدينا لم يعرف عنه ولا عن أحد من أئمة الصحابة وعلمائهم أنهم استدلوا بالتحديث والإلهام في القضايا الدينية بل كان يخفى عليهم الحكم فيسألون عنه فيخبرهم إنسان بخبر عن النبي فيصيرون إليه" (5). المصدر: مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية لإدريس محمود إدريس – 1/ 83   (1) ((تفسير ابن جرير الطبري)) (9/ 518). (2) ((في ظلال القرآن)) لسيد قطب (2/ 843). (3) رواه البخاري (6990) (4) رواه البخاري (3689) ومسلم (2398) (5) ((القائد إلى تصحيح العقائد)) للمعلمي (ص69). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 467 المبحث الثاني اعتقادهم بأن هناك حقيقة تخالف الشريعة إن من أهم العوامل التي أدت إلى انحراف المتصوفة هو تفريقهم بين الحقيقة والشريعة وادعاؤهم بأن الحقيقة غير الشريعة. ومصطلح الشريعة والحقيقة مصطلح خاص بهم وكل من قرأ في كتب المتصوفة يجد بأن المتصوفة يكررون هذا المصطلح بكثرة وهو في الحقيقة لا يبعد كثيرا عن مصطلح الظاهر والباطن الذي وضعه الباطنية كمصطلح خاص بهم إلا أن الصوفية قد شاركوا الباطنية في مصطلح الظاهر والباطن أيضا وكلا المصطلحين وضعهما الصوفية والباطينة ليهدموا بهما الشريعة الإسلامية ويقضوا عليها. ويعني المتصوفة بهذين المصطلحين بأن هناك في الإسلام علمين علم يخص أهل الظاهر وهي الشرعية الإسلامية التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم بكل ما فيها من عقائد وعبادات وآداب وأخلاق وسلوك وهذا علم يرتفع عنه المتصوفة ويرون الوقوف عند هذا العلم انحطاطا وأن الإنسان الذي تعلم العلم الشرعي " الكتاب والسنة " يعتبر المنافقين نظر المتصوفة في درجة العوام الذين لا يعتد بفتواهم والعلم الثاني العلم الذي يطلق عليه المتصوفة علم الحقيقة وهو الذي يعبرون عنه بالعلم اللدني ويعتقد المتصوفة بأن هذا هو العلم النافع وهو الذي من عرفه يستحق أن يسمى عالما في زعمهم وأما الكيفية التي ينال بها هذا العلم اللدني حسب زعم المتصوفة فهي المجاهدة التي إذا استمر عليها الإنسان ينزل عليه علم الحقيقة من الله والذي يقولون عنه أنه سر من أسرار الله لا ينزله إلا على قلوب الخاصة ويعنون بهذا أنفسهم لأنهم يقولون لا ينزل هذا العلم إلا على أولياء الله وقد حصروا الولاية في أنفسهم. ومن هنا بعد القوم عن الشريعة الإسلامية الغراء التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله وفيها هدى ونور أصبحوا يبحثون عن الهداية والوصول إلى مرضاة الله عن طريق علمهم المزعوم والذي وصفوه بأنه بحتا بعيدا كل البعد عن المعاني التي تدل عليها النصوص القرآنية والحديثية على حسب الأساليب المعروفة في اللغة العربية وكل من اعترض على تفسيرهم الباطل سدوا عليه الباب بأن هذا علم الحقيقة أو علم الباطن وأن هذا العلم لا يدركه إلا أهل الحقيقة ويعنون أنفسهم ولذا لا ينبغي لأهل الرسوم أن يعترضوا عليهم لأنهم يجهلون هذا العلم ولقد صرح المتصوفة بأن هناك علما يسمى علم الحقيقة يختلف تماما عن علم الشريعة الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإليك النصوص من كتبهم أنفسهم. قال المنوفي في كتابه (جمهرة الأولياء): الجزء: 7 ¦ الصفحة: 468 " إن القوم يرجعون بسند طريقهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث أن جبريل عليه السلام نزل بالشريعة أولا فلما تقررت ظواهر الشريعة واستقرت نزل إليه بالحقيقة المقصودة والحكمة المرجوة ... من أعمال الشريعة فخص الرسول صلى الله عليه وسلم بباطن الشريعة بعض أصحابه دون البعض" ثم قال في نفس الصفحة: " وأول من أظهر علم القوم وتكلم فيه سيدنا علي وذكر السلسلة الصوفية في تلقي العلوم اللدنية إلى أن وصل إلى الجنيد الذي قال عنه أنه صحب الشافعي في علوم الظاهر ثم صحب وأخذ عن خاله السريسقطي علوم الباطن وعن الجنيد أخذ المحاسبي ثم انتشر هذا الطريق انتشارا لا ينقطع حتى ينقطع عمر الدنيا" (1).وقد ذكر ابن عجيبة في " الفتوحات الإلهية شرح المباحث الأصلية" شرح الحديث المكذوب على الرسول صلى الله عليه وسلم والذي هو: ((إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله فإذا نطقوا به لا ينكره إلا أهل الغرة بالله)) (2) ثم ذكر في نفس الكتاب شرح هذا الحديث المكذوب فقال:"قال بعضهم في شرح هذا الحديث هي أسرار الله يبديها الله إلى أمناء أوليائه وسادات النبلاء من غير سماع ولا دراسة وهي من الأسرار التي لم يطلع عليها إلا الخواص فإذا سمعها العوام أنكروها ومن جهل شيئا عاداه" (3). وينبغي أن نتذكر جيدا بأن المتصوفة يقصدون بكلمة العوام علماء الأمة الإسلامية من محدثين ومفسرين وفقهاء. فمن النصوص المتقدمة نخرج بالنتائج الآتية: أولا: أثبتنا بأن المتصوفة يقولون بأن هناك حقيقة تختلف عن الشريعة ومع هذا فإننا نلاحظ أيضا بأن البعض منهم قالوا إنها نزلت على الرسول بعد استكمال الشرعية. والبعض الآخر قال: إنها أسرار الله يبديها الله لأوليائه. وكلا القولين تترتب عليهما أمورا خطيرة. فالقول بأن الرسول خص بعلم الحقيقة جزءا أو بعضا من أصحابه دون البعض فيه اتهام للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه كتم العلم وهذا يعتبر جناية كبرى وكفرا بواحا فإن من العقيدة التي يجب أن يعتقدها المسلم تجاه الأنبياء التبليغ الكامل بكل الأشياء التي أمرهم الله بتبليغها وقد أمر الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يبلغ كل ما أنزل الله إليه وبالفعل قام الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ الأمانة كاملة فلم يكتم منها شيئا بل بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فكون المنوفي يقول بأن الرسول خص بعض أصحابه ببعض العلوم كذب صراح ودعوى عارية عن الدليل لأنه لا يستطيع أن يأتي بدليل واحد من كتاب الله أو سنة رسول الله يؤيد قوله إذا الرجل ارتكب جرائم عديدة بإيراده هذا الكلام. فأولا: الرجل وقع في جريمة الكذب وهي تعتبر من الجرائم الكبيرة عند عوام المسلمين فكيف بمن نصب نفسه للتأليف.   (1) ((جمهرة الأوليا)) للمنوي (1/ 159). (2) قال ابن تيمية في ((درء التعارض)) (5/ 85) ليس له إسناد صحيح، وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/ 39) إسناده ضعيف، وقال الألباني في ((الضعيفة)) (870) ضعيف جدا (3) ((الفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية)) لابن عجيبة على هامش ((إيقاظ الهمم في شرح الحكم)) لابن عجيبة على هامش (1/ 29). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 469 ثانيا: يعتبر تصريح المنوفي بأن الرسول خص بعض أصحابه بعلم دون البعض اتهام للرسول بكتمان ما أنزل الله مع أن الله أمره بتبليغ ما أنزل إليه ونحن نعتقد اعتقادا جازما بأن الرسول بلغ ما أنزل إليه من ربه ومن هنا نستطيع أن نقول بأن دعاء المنوفي بأن جبريل نزل بالشريعة أولا ثم بالحقيقة وأن الرسول خص بها بعض اصحابه دعوى كاذبة خالية عن الدليل والبرهان. بل إن عليا رضي الله عنه قد نفى تخصيص الرسول لهم بعلم خاص فقد روى الإمام البخاري في صحيحه أن أبا جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ فقال: لا إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مؤمن بكافر (1). ففي هذا الأثر ينفي علي رضي الله عنه أن يكون خص رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بيته بشيء وكتمه عن غيرهم وأنه ليس عندهم علم مكتوب أو غير مكتوب إلا كتاب الله أو فهم أي علم وهو أثر الفهم والاجتهاد وفي الصحيفة فليس عندهم إلا ما عند الناس والله سبحانه يختص بقوة الفهم من يشاء وهذا الأثر يعتبر أقوى دليلا على بطلان مزاعم الصوفية الذين ادعوا بأن الرسول خص عليا وأهل بيته وبعضا من الصحابة بعمل خاص لأن عليا رضي الله عنه قد نفى هذا الزعم الصوفي والحمد لله فالقوم ليس لهم أي دليل يستندون عليه لإثبات هذه الدعوى وما دام ليس لهم أي مستند فدعواهم بأن هناك حقيقة تختلف عن الشريعة دعوى باطلة لأنه لا يمكن الإنسان أن يدعي دعوة لا أساس لها فيحاول فرضها على الناس عن طريق الكذب والدجل. أما الحديث الذي أورده المتصوفة لإثبات بأن هناك علوما مخزونة عند الله وأن هذه العلوم هي عبارة عن أسرار الله لا يبديها الله إلا لأوليائه. أولا: الحديث مكذوب على الرسول صلى الله عليه وسلم اخترعه المتصوفة لإثبات دعواهم بأن الأولياء تنزل عليهم علوم من الله غير العلوم التي نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن نقول للمتصوفة إن الدعاوى لا يمكن أن تثبت عن طريق الكذب وإنما تثبت الدعاوى عن طريق الأدلة القوية الصحيحة أما اختراع الأحاديث ونسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا غير جائز شرعا كيف وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)) (2). وادعاء تلقي العلوم عن الله سبحانه وتعالى يلزم منه بأن النبوة لم تختم لأن التلقي للعلوم عن الله لا يكون إلا عن طريق الوحي ويلزم منه أيضا القول بأن هناك طريقا آخر غير الطريق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يغني عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا فيه مخالفة صريحة للنصوص فقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه بأن النبوة قد ختمت فقال تعالى مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب: 40].وفي الحديث فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا نبي بعدي)) (3). وعلى هذا فالنبوة قد ختمت وبختم النبوة الوحي قد انقطع فدعوى الصوفية بأن هناك علما يلقيه الله على قلوبهم ويطلبون الهداية عن طريقه وأنه من الممكن أن يستغنوا به عن علم الشريعة فيه خطورة عظيمة عليهم فليرجعوا عنه وإلا يعتبرون منكرين شيئا معلوما من الدين بالضرورة فكل المسلمين مجمعون بأن النبوة قد ختمت وأن الوحي قد انقطع وأنه لا توجد علوما يمكن أن تزكي النفس وتطهرها إلا علم الكتاب والسنة اللذين جاء بهما الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله.   (1) رواه البخاري (111). (2) رواه البخاري (1291) ومسلم (3). (3) رواه البخاري (3455) ومسلم (1842). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 470 وحتى يتضح لنا مقصود الصوفية بمصطلح الحقيقة والشريعة إليك بعض النصوص من بطون كتبهم. فقد قال القشيري في معرض حديثه لإيضاح معنى الحقيقة والشريعة في " الفكر الصوفي": "الشريعة أمر بالتزام العبودية والحقيقة مشاهدة الربوبية"ثم قال: "فالشريعة أن تعبده والحقيقة أن تشهده والشرعية قيام بما أمر والحقيقة شهود لما قضى وقدر وأخفى وأظهر" (1). فكلام القشيري السابق واضح جدا بأن الصوفية يعنون بالحقيقة خلاف الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم وأنهم يعنون بالحقيقة رؤية الله عز وجل والاطلاع على قضاء الله وقدره وما أخفاه الله وأظهره. ونحن نقول رؤية الله عز وجل في الدنيا لا يمكن أن تحصل لأحد كائنا من كان لأنها لم تحصل للرسل وهم أفضل الناس فكيف تحصل لمن دونهم؟! وحينما طلب موسى بن عمران رؤية الله سبحانه وتعالى قال له: وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إليك قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إلى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إليك وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 143] ثم إن ادعاء القشيري بأن الحقيقة مشاهدة ما قضاه الله وقدره وأخفاه وأظهره فيه جرأة كبيرة على الله عز وجل لأن هذا يعتبر ادعاء علم الغيب مع أن الله سبحانه وتعالى قد أخبر بأن الغيب لا يطلع عليه أحد إلا من ارتضى من رسله حيث قال سبحانه وتعالى في كتابه عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن:26 - 27] والرسل أيضا لا يعلمون من الغيب إلا ما أعلمهم الله به عن طريق الوحي فالرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن الأحداث التي حصلت للأمم الماضية مع أممهم وأقوامهم وذلك لأن الله أعلمه بذلك عن طريق الوحي. وقد أمر الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن ينفي عن نفسه علم الغيب فقال له قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إلى قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ [الأنعام: 50]. إذا فدعوى القشيري بأن الحقيقة هي الاطلاع على قضاء الله وقدره أمر لا يمكن أن يكون لأحد مهما كان فعلم الغيب خاص بالله سبحانه وتعالى. وقد جر مصطلح الحقيقة والشريعة المتصوفة إلى القول بأن العلم علمان ظاهر وباطن وأن العلم الظاهر هو علم الشريعة والعلم الباطن هو علم الحقائق. فقد روى المتصوفة حديثا (2) ونسبوه إلى الرسول كذبا وزورا حيث قالوا إن أحد الصحابة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن علم الباطن فقال: ((سألت جبريل عن علم الباطن فقال: سألت الله عز وجل ثناؤه عن علم الباطن فقال: هو سر من سري أجعله في قلب عبدي لا يقف عليه أحد من خلقي)) (3).   (1) ((الرسالة القشيرية)) لأبي القاسم القشيري (1/ 61). (2) كتاب ((السيف الحداد في أعناق أهل الزندقة والإلحاد)) لمصطفى كمال الدين البكري (ص: 16). (3) أخرجه ابن الجوزي في ((الواهيات)) (1/ 83) (90) وقال لا يصح وعامة رواته لا يعرفون، وقال الذهبي في تلخيصه باطل، وقال الألباني موضوع كما في ((السلسلة الضعيفة)) (1227) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 471 فمن هذا الحديث المكذوب نخرج بنتيجة وهي أن المتصوفة يعنون بعلم الباطن غير علمي الكتاب والسنة وأن هذا العلم لا يعلمه أحد حتى الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو علم يقذف في قلوب المتصوفة حسب زعمهم ولا يخفى ما في هذا الكلام من تفضيل أنفسهم على الرسول صلى الله عليه وسلم لأن هذا الرجل الصوفي زعم بأن الرسول سئل عن هذا العلم فقال الله له هو سر من سري ولم يعلمه إياه وعلى هذا فالصوفية يزعمون بأن هم يعلمون علوما لم يعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يعتبر منهم انحرافا خطيرا واستهتارا بالرسول صلى الله عليه وسلم وتقليلا من شأنه بالإضافة إلى أنهم كذبوا عليه وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم ((من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)).وقال في نفس الصفحة: " وعلوم المشاهدات والمكاشفات هي التي تختص بعلم الإشارة وهو العلم الذي تفردت به الصوفية بعد جمعها سائر العلوم وإنما قيل علم الإشارة لأن مشاهدات القلوب ومكاشفات الأسرار لا يمكن العبارة عنها على التحقيق بل تعلم بالمنازلات والمواجيد ولا يعرفها إلا من نازل تلك الأحوال وتلك المقامات" (1). ونقل أيضا عن غانم المقدسي ما يلي: " اعلم أن العلم علمان علم الظاهر للشريعة وعلم الباطن للحقيقة"وكذب على الرسول فقال: "العلم علمان علم باللسان وعلم بالقلب فأما علم اللسان فهو حجة الله على عبادة وأما علم القلب فهو العلم الأعلى الذي لا يخشى الله العباد إلا به" (2).ثم قال: " فعل القلب هو العلم اللدني لم يسطر في السطور وإنما هو تلقين من الله سبحانه وتعالى بغير واسطة ملك ولا سفارة" (3). فالنصوص المتقدمة كلها تثبت بأن المتصوفة يؤمنون بأن هناك علمين ظاهر وباطن وأن العلم الظاهر هو العلم الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله وأنه مجرد حجة فقط وأن العلم الذي يورث خشية الله سبحانه وتعالى هو علمهم المزعوم الذي سموه بعلم الحقيقة وزعموا أنهم يتلقونه عن الله سبحانه وتعالى وهذا الاعتقاد يعتبر كفرا فلا يمكن لإنسان يؤمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا أن يفضل أي علم عن علمي الكتاب والسنة ولا يمكن أن يقول بأنه يتلقى علما عن الله سبحانه وتعالى يغنيه عن العلم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما يقدم على مثل هذه الأقوال من فرغ قلبه عن الإيمان بالله وبرسوله وبكتابه وإلا فكيف يدعي الإنسان تلقي العلم عن الله مع بقاء الإيمان عنده. وقال ابن عجيبة الحسني " فالعلم الظاهر هو علم الشريعة والعلم الباطن هو علم الطريقة والحقيقة فإذا لم يحصل شيئا من هذين العلمين ثم ادعى مرتبة الشيخوخة فأخرجه من سفينة دائرة وألقه في بحر لجج النفاق" (4).ونقل عن أحد المتصوفة بأنه لا يعتبر أحد من الرجال الذين يقتدى بهم إلا أن يكون جامعا لعلمي الظاهر والباطن حيث نقل عنه بأنه قال: "لا يقتدى في طريقتنا هذه بظاهر ولا بباطن وإنما يقتدى بمن جمع بينهما" (5). ثم قال ابن عجيبة: "واعلم أن ما شرطه هذا العارف في شيخ التربية من العلم الظاهر والباطن صحيح" (6).   (1) كتاب ((السيف الحداد في أعناق أهل الزندقة والإلحاد)) لمصطفى كمال الدين البكري (ص: 16). (2) كتاب ((السيف الحداد في أعناق أهل الزندقة والإلحاد)) لمصطفى كمال الدين البكري (ص: 107). (3) ((السيف الحداد)) لمصطفى كمال الدين البكري (ص: 108). (4) ((إيقاظ الهمم في شرح الحكم)) لابن عجيبة (1/ 195). (5) ((إيقاظ الهمم في شرح الحكم)) لابن عجيبة (1/ 159). (6) ((إيقاظ الهمم في شرح الحكم)) لابن عجيبة (1/ 159). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 472 وقال ابن عجيبة في وصف الحقيقة: "الحقيقة شهود الحق .. ولا تطاق إلا بعد موت النفوس وحط الرؤوس وتصفية البواطن من الأغيار وتحليتها بالأنوار فمن اطلع عليها قبل ذلك خيف عليه التزندق لأن الحقيقة لا تدرك بالعلم وإنما هي أذواق ووجدان .. " ثم قال: " اطلاع المريد على الحقيقة قبل كمال الطريقة توجب له التقصير في الأعمال والتفتر في الخدمة فإن الحقيقة حلوة قد يشتغل بها ويهمل الشريعة ولذا قيل من تصوف ولم يتشرع فقد تزندق لتعريته الحقيقة عن الشريعة" (1). ففي هذا النص صرح ابن عجيبة بأن الحقيقة عارية عن الشريعة. وقال ابن عربي في " الفتوحات المكية" في معرض حديثه بأن المتصوفة تفيض عليهم العلوم فيضانا من الله: " ولما رأت عقول أهل الإيمان بالله تعالى أن الله قد طلب منها أن تعرفه بعد أن عرفته بأدلتها النظرية علمت أن ثم علما آخر بالله تعالى لا تصل إليه من طريق الفكر فاستعملت الرياضات والخلوات والمجاهدات ... والانفراد والجلوس مع الله بتفريغ المحل وتقديس القلب عن شوائب الأفكار".ثم اقل: " فتوجه العقل إليه بالكلية والانقطاع من كل ما يأخذه عنه من هذه القوى فعند هذا التوجه أفاض الله عليه من نوره علما إلهيا عرفه بأن الله تعالى من طريق المشاهدة والتجلي لا يقبله كون ولا يرده كون" (2). وقال أبو حامد الغزالي في معرض حديثه عن أنواع العلوم التي يحصل عليها الإنسان. " اعلم أن العلوم التي ليست ضرورية إنما تحصل في القلب في بعض الأحوال تختلف الحال فتارة تهجم على القلب كأنه ألقى فيه من حيث لا يدري وتارة تكتسب بطريق الاستدلال والتعلم فالذي يحصل بالاستدلال يسمى اعتبارا واستبصارا ثم الواقع في القلب بغير حيلة وتعلم واجتهاد من العبد ينقسم إلى ما لا يدري العبد استفاد من ذلك العلم وهو مشاهدة الملك الملقى في القلب والأول: يسمى إلهاما ونفثا في الروع والثاني: يسمى وحيا وتختص به الأنبياء والأول يختص به الأولياء والأصفياء والذي قبله وهو المكتسب بطريق الاستدلال يختص به العلماء. وحقيقة القول فيه أن القلب مستعد لأن تنجلي فيه حقيقة الحق في الأشياء كلها وإنما حيل بينه وبينها للحجاب المسدل الحائل بين مرآة القلب وبين اللوح المحفوظ العلوم من مرآة القلب وبين اللوح المحفوظ الذي هو منقوش بجميع ما قضى الله به إلى يوم القيامة وتجلي حقائق العلوم من مرآة اللوح المحفوظ في مرآة القلب يضاهي انطباع صورة من مرآة في مرآة تقابلها والحجاب بين المرآتين تارة يزال باليد وأخرى يزول بهبوب الرياح تحركه وكذلك قد تهب رياح الألطاف وتنكشف الحجب عن أعين القلب فينجلي فيها بعض ما هو مسطور في اللوح المحفوظ ويكون ذلك تارة عند المنام فيعلم به ما يكون في المستقبل وتمام ارتفاع الحجاب بالموت فيه ينكشف الغطاء وينكشف أيضا في اليقظة حتى يرتفع الحجاب بلطف خفي من الله تعالى فيلمع في القلوب من وراء ستر الغيب شيء من غرائب العلم تارة كالبرق الخاطف وأخرى على التوالي إلى حد ما دوامه في غاية الندور" (3).وقد قسم ابن عربي العلم إلى قسمين: فطري ووهيب حيث قال:   (1) ((إيقاظ الهمم في شرح الحكم)) لابن عجيبة (2/ 133). (2) ((الفتوحات المكية)) لابن عربي (4/ 121). (3) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 20). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 473 "الحكيم عبارة عمن جمع العلم الإلهي والطبعي والرياضي والمنطقي وما ثم إلا هذه الأربع مراتب من العلوم".ثم قال: " العلم النظري والعلم الوهبي وتختلف الطريق في تحصيلها تحصيل العلوم بين الفكر والوهب وهو الفيض الإلهي وعليه طريقة أصحابنا ليس لهم في الفكر دخول لما يتطرق إليه من الفساد والصحة فيه مظنونة فلا يوثق بما يعطيه وأعني بأصحابنا أصحاب القلوب والمشاهدات والمكاشفات لا العباد والزهاد ولا مطلق المتصوفة إلا أهل الحقائق والتحقيق منهم ولهذا يقال في علوم النبوة والولاية إنها وراء طور العقل وليس للعقل فيها دخول بفكر لكن له القبول خاصة عند سليم العقل الذي لم تغلب عليه شبهة خيالية فكرية يكون من ذلك فساد نظره وعلوم الأسرار كثيرة" (1). فالنصوص المتقدمة التي نقلناها من كتب أئمة التصوف تثبت لنا بأن القوم يعنون بكلمة علم الباطن والظاهر أو الحقيقة والشريعة بأن هناك علما آخر غير العلم الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم يتلقون هذا العلم عن الله بواسطة الملك أو مباشرة عن الله بدون واسطة أو عن طريق الاطلاع على اللوح المحفوظ والاطلاع على ما قدره الله وقضاه منذ الأزل. والاعتقاد بأن هناك طريقا آخر غير الطريق الذي رسمه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر من ربه يغني عن الوحي الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يكون في منزلة الوحي الذي أوحاه الله إلى رسوله أو هو أفضل منه يعتبر كفرا بواحا لأن الله عز وجل قال وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر: 7] وقال تعالى وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور: 54] وقد جعل الله علامة محبته اتباع رسوله فقال تعالى قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ [آل عمران: 31] وباختصار أقوال: فإن الدين كمل وإن النبوة قد ختمت فكل من يدعي تلقي العلوم عن الله بواسطة أو بغير واسطة فهو كاذب مفتر وادعاؤه تلي العلوم عن الله يغنيه عن علمي الكتاب والسنة أو تكون في مستويهما أو أحسن منهما يعتبر انحرافا عقديا يجب أن يتوب منه لأن ادعاء تلقي العلوم عن الله معناه أن النبوة لم تختم بعد وهذا يعتبر مخالفة صريحة للنصوص القرآنية والحديثية التي صرحت بختم النبوة وكمال الدين يقول تعالى مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب: 40] ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا نبي بعدي)) (2). فدعوى المتصوفة بأنهم يتلقون العلوم عن الله وينظرون إلى اللوح المحفوظ دعوى كاذبة عارية عن الصحة تماما وإنما هي دجل وافتراء من أجل التعمية على والقضاء على الإسلام والمسلمين لأن المتصوفة رأوا أن علومهم تختلف تمام الاختلاف مع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسسوا قاعدة العلم الظاهر والعلم الباطن وأن العلم الباطن لمجموعة خاصة ليس لأحد غيرهم المقدرة على معرفته بل هو علم خاص بهم كما يدعون ولذا لا ينبغي لغيرهم أن يعترض عليهم لأنه محجوب عن علم الحقيقة وعلى حسب هذه القاعدة وهي القول بأن هناك علمين ظاهر وباطن فقد قسم المتصوفة العلوم إلى عدة أقسام واختلفوا في تقسيمها مع أنهم كلهم متفقون بأن هناك علما آخر يسمى علم الباطن يتلقونه عن الله سبحانه وتعالى. فقد ذكر الهجويري عن محمد بن الفضل البلخي أنه قال في تقسيم العلوم:   (1) ((الفتوحات المكية)) لابن عربي (3/ 20). (2) رواه البخاري (3455) ومسلم (1842). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 474 "العلوم ثلاثة علم من الله وعلم مع الله وعلم بالله". ثم قال "فالعلم بالله هو علم المعرفة الذي عرفة جميع أوليائه ولو لم يكن تعريفه وتعرفه لما عرفوه. وأما العلم من الله فهو علم الشريعة وهو أمر وتكليف منه لنا وأما العلم مع الله فهو علم مقامات الطريق الحق وبيان درجات الأولياء" (1). وقد ذكر الهجويري بأن لكل من علمي الحقيقة والشريعة أركانا خاصة به وهذا مما يدل على أن المتصوفة يعنون بالحقيقة والشريعة أركانا خاصة به وهذا مما يدل على أن المتصوفة يعنون بالحقيقة غير الشريعة فقال: "ولعلم الحقيقة أركان ثلاثة: الأول: العلم بذات الله. الثاني: العلم بصفات الله وأحكامها. الثالث: العلم بأفعال الله. ولعلم الشريعة أركان ثلاثة: الأول: الكتاب. الثاني: السنة. الثالث: الإجماع. (2). وقد سبب ادعاء المتصوفة بأن هناك علما يسمى علم الحقيقة يختلف تماما مع علم الشريعة الاستهتار بعلم الشريعة وأهلها وأنها ما جاءت إلا للعوام وطبعا هم يقصدون بكلمة العوام كل من لم يندرج تحت لوائهم ولو كان بحرا في علوم الشريعة. فقد نقل أبو طالب المكي عن أحد المتصوفة أنه قال: " إن الله سبحانه وتعالى اطلع على قلوب طائفة من عباده فلم يرها تصلح لمعرفته ولا موضعا لمشاهدته فرحمها فوهب له العبادات والأعمال الصالحة" (3). فنفهم من هذا النص أن المتصوفة يعتبرون العبادات والأعمال الصالحة إنما أنزلها الله سبحانه وتعالى لأناس لا تصلح قلوبهم لمعرفة الله ولذا شرع لهم الأعمال الصالحة والعبادات بكل أنواعها وبما أن المتصوفة يعتبرون أنفسهم أنهم العارفون بالله حقيقة فلا تجب عليهم العبادات والأعمال الصالحة يعتبرون قد انسلخوا تماما من الأوامر والنواهي التي أنزلها الله في كتابه وفي سنة رسوله لأنه ليس هناك إسلام مجرد عن العبادات والأعمال الصالحة إلا إذا قال المتصوفة بأن علمهم الذي سموه علم الحقيقة ينص على هذا وهذا ليس ببعيد لأن علمهم المزعوم ما هو إلا من إلقاء الشيطان ووساوسه فمن الممكن جدا أن يوحي إليهم الشيطان بأن هذه التكاليف ما أنزلها الله إلا للعوام أما الزاعمون بأنهم عرفوا الله فليسوا مكلفين بها. وقد صرح المتصوفة بأنهم صعب عليهم التوفيق بين علم الشريعة وعلم الحقيقة المزعومة ومما يدل على هذا قول أبي يزيد البسطامي: "عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئا أشد علي من العلم ومتابعته" (4). وقد تولى المنوفي الصوفي المعاصر المعروف بأن مقصود أبي يزيد بهذا هو صعب عليه تطبيق الباطن على الظاهر والحقيقة على نهج الشريعة. ومن هذا النص نستخلص بأن الحقيقة عند المتصوفة تناقض تماما علم الشريعة الغراء التي جاء بها محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام وما دام اعترف المتصوفة أنفسهم بهذا فنحن نقول إن من أهم العوامل التي أدت إلى انحراف المتصوفة هو قولهم أو زعمهم بأن علم الحقيقة يختلف عن علم الشريعة ومن يعتقد مثل هذا الاعتقاد لا شك أن مصيره هو الضلال كما حصل للمتصوفة لأنه ليس هناك علم ينجي صاحبه من النار يوم القيامة إلا علم الكتاب والسنة.   (1) ((كشف المحجوب)) للهجويري (1/ 210). (2) ((كشف المحجوب)) للهجويري (1/ 207). (3) ((قوت القلوب)) في معاملة المحبوب)) لأبي طالب المكي (2/ 61). (4) ((التمكين)) للهروي (ص 196). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 475 وقد بالغ المتصوفة في رفع شأن علمهم المزعوم وأوجبوا على كل إنسان أن يذهب إلى زعماء الطرق الصوفية من أجل أن يحصل على علم الحقيقة من الله مباشرة. وفي هذا يقول المنوفي: "اعلموا رحمكم الله أن علم التصوف يقال له علم الباطن" ثم قال: " لا ينبغي للعالم ولو تبحر في العلوم حتى صار وحيد أهل زمانه أن يقنع بما علمه وإنما الواجب عليه الاجتماع بأهل الطريق المستقيم حتى يكون ممن يحدثهم الحق تعالى في سرائرهم من شدة صفاء باطنهم ويصير أهلا لفيضان العلوم اللدنية على قلبه ولا يتيسر ذلك عادة إلا بسلوك الطريق على يد شيخ كامل عالم بعلاج النفوس وتطهيرها من الخبائث" (1).وقد صرح المتصوفة بأن علماء الظاهر – ويعنون بهم علماء الشريعة الإسلامية – ليسوا بحجة على علماء الباطن وهم علماء الحقيقة وذلك لأن علماء الحقيقة يعلمون علما لدنيا خاصا بهم يتلقونه عن الله مباشرة حسب زعمهم بينما علماء الظاهر لا يعلمون إلا الكتاب والسنة وهذه في نظر المتصوفة لا قيمة لها وفي هذا نقل ابن عجيبة عن أحد المتصوفة أنه قال: " لا تجعلوا أهل الظاهر حجة على أهل الباطن" ثم قال ابن عجيبة: " أي لأن أهل الباطن نظرهم دقيق وغزلهم رقيق لا يفهم إشاراتهم غيرهم" (2). وقد صرح المتصوفة بأنه ليس بينهم وبين علماء الشريعة أي محبة ولا مودة وإنما هو عداء وصراع مستمر وصدقوا في هذا لأن علماء الشريعة يقفون أمامهم حجر عثر ويبددون أفكارهم الواهية التي يزعمون بأنها حقائق ولكنها في الحقيقة ما هي إلا علوم شيطانية. وفي هذا يقول الشعراني نقلا عن شيخه إبراهيم المتبولي ويغره قال إنه سمعهم يقولون: " ما بيننا وبين هؤلاء المنكرين الذين ينكرون علينا مودة ولا محبة لأنه ليس معهم شيء لنستفيده ولا يقبلون منا ما هو معنا من المعارف والأسرار" (3). وفي هذا النص لقد صرح المتصوفة بأن علوم الظاهر لا تفيدهم شيئا لأنهم ليسوا في حاجة إليها وماذا يعملون بها بعد أن ادعوا الأخذ عن الله مباشرة حسب زعمهم. وقد قال الشعراني: "إن أقل درجات الأدب مع القوم أن يجعلهم المنكر كأهل الكتاب لا يصدقهم ولا يكذبهم" (4). وهنا جنى الشعراني على نفسه وعلى أصحابه المتصوفة حيث صرح أنه ينبغي للمسلم أن يقف من المتصوفة وعلومهم كموقفه من أهل الكتاب وإنما قال الشعراني هذا الكلام لأنه رأى تناقضا واضحا بين الشريعة وعلمهم المزعوم وأنه لا يمكن التوفيق بينهما ولم ير مخرجا يخرجه من هذا المأزق إلا أن يصرح بأنهم كالكتابيين ونحن نقول لا نقف منهم موقف أهل الكتاب لأن أهل الكتاب نزلت عليهم الكتب ثم حرفت ولذا نقف مما يقولونه موقف المحايد فلا نصدقهم ولا نكذبهم إلا ما صدقه شرعنا أو كذبه بخلاف المتصوفة فإننا لا نعترف لهم بأنهم تنزل عليهم علوم خاصة من الله تختلف مع علم الشريعة الإسلامية ولذا يجب علينا إذا صدر من المتصوفة أو من غيرهم أي فعل يخالف الشريعة أن ننكر عليهم لأن من أوصاف هذه الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال تعالى في كتابه العزيز: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران: 110]. وقد نقل الشعراني عن سيده علي الوفا أنه كان يقول: "التسليم للقوم أسلم والاعتقاد فيهم أغنم والإنكار عليهم سم ساعة في إذهاب الدين وربما تنصر بعض المنكرين ومات على ذلك"   (1) ((بداية الطريق)) المنوفي (ص: 66). (2) ((إيقاظ الهمم في شرح الحكم)) لابن عجيبة (1/ 63). (3) ((لطائف المنن)) للشعراني (1/ 145). (4) ((لطائف المنن)) للشعراني (1/ 125). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 476 ثم قال الشعراني: "فإن أردت يا أخي عدم الإنكار فأجل مرآة قلبك فإنك تشهد المتصوفة من خيار الناس ويقل إنكارك وإلا فمن لازمك كثرة الإنكار لأنك لا تنظر في مرآتك إلا صورة نفسك" (1). وقد وصف المتصوفة المنكر عليهم بأوصاف قبيحة. يقول ابن عجيبة في معرض حديثه عن علوم المتصوفة التي تلقى عليهم من قبل الله عز وجل وهي من الأسرار التي لم يطلع عليها إلا الخواص فإذا سمعها العوام أنكروها ثم قال: " ومن جهل شيئا عاداه" وضرب المثل العربي المعروف والذي هو: " ومن يكن ذا فم مر مرير يجد مرا به الماء الزلالا" واستشهد بقول البوصيري: قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم ثم قال: "وقال مشايخ الطريقة: المنكر علينا كالعنين ينكر شهوة الجماع والمزكوم ينكر رائحة المسك الأذخر والمحموم ينكر حلاوة السكر وفي مثلهم قال الشاعر: وكم عائب ليلى ولم ير وجهها فقال له الحرمان حسبك ما كان (2). ومن هذه النصوص يتضح لنا بأن المتصوفة يعتبرون غيرهم كالمرضى لأنهم لا يعلمون شيئا عن علومهم المزعومة التي هي تختلف تماما مع العلوم التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك يعتبرون كل من ينكر عليهم كالمريض الذي يقول للحلو مر لعلة فيه مع سلامة الشيء وبقائه على حلاوته ولذا شبه المتصوفة المنكرين كالمرضى وهذه استهانة بعلماء المسلمين وبالشريعة الإسلامية في آن واحد فالعلماء لا ينكرون على المتصوفة إلا إذا وقعت منهم مخالفة صريحة لنصوص الشريعة الإسلامية لأن المنكر ما أنكرته الشريعة والمعروف ما قالت عنه الشريعة أنه معروف. والحقيقة أن المتصوفة يضربون هذه الأمثلة للتشنيع بالشريعة والعلماء في آن واحد لأنهم يعلمون بأن علومهم في نظر الشريعة الإسلامية وعلمائها ما هي إلا أضغاث أحلام ولذا يضربون هذه الأمثال لتنفير الناس عن علماء الأمة الإسلامية. ونحن نقول إن أي إنسان يرتكب أمرا مخالفا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن ينكر عليه كائنا من كان ولا عبرة بمن يقول إنه يفعل هذا الفعل لأنه أوحي إليه من الله وأمره بفعله فإن هذا كذب وبهتان وافتراء على الله فلا نبوة بعد نبوة سيدنا محمد بن عبدالله ولا شريعة بعد شريعته فالنبوة قد ختمت والشريعة قد كملت فكل من يريد أن يأتي إلينا بتشريعات جديدة يجب أن يرد بحزم ويؤمر بتوبة فإن تاب وإلا فيجب أن يقطع عنقه حتى لا ينشر فساده لأن ادعاء تلقي علما آخر يحل ما حرمته الشريعة أو يرحم ما أحلته الشريعة ليس بأمر سهل بل أمر خطير جدا يؤدي بصاحبه إلى الهلاك الدنيوي والأخروي ويفتح الباب على مصراعيه لكل دجال أفاك كذاب يكيد للإسلام والمسلمين. موقف المتصوفة من القرآن الكريم: أما موقف المتصوفة من القرآن الكريم فقد فسروا القرآن الكريم تفسيرا باطنيا يختلف تماما مع التفسير الذي فسره به السلف وعلماء الأمة الإسلامية عبر التاريخ وبعيدا كل البعد عن المعاني التي تدل عليها الألفاظ عند العرب وذلك من أجل إخضاع الآيات القرآنية لعقائدهم الفاسدة وإليك نماذج من تفسيرهم الباطني حتى تعرف بأن المتصوفة من ألد الأعداء لكتاب الله عز وجل. يقول محيي الدين بن عربي في تفسير قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [البقرة: 6] قال: " إيجاز البيان فيه: يا محمد إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أي ستروا محبتهم في عنهم فسواء عليهم أأنذرتهم بوعيدك الذي أرسلتك به   (1) ((لطائف المنن)) للشعراني (ص: 125). (2) ((الفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية)) على هامش ((إيقاظ الهمم في شرح الحكم)) (1/ 29). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 477 أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بكلامك فإنهم لا يعقلون غيري وأنت تنذرهم بخلقي وهم ما عقلوه ولا شاهدوه" ثم قال: "وكيف يؤمنون بك يا محمد وقد ختمت على قلوبهم فلم أجعل فيها متسعا لغيري وَعَلَى سَمْعِهِمْ فلا يسمعون كلاما في العالم إلا مني وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ من بهائي عند مشاهدتي فلا يبصرون سواي" (1) ثم قال مرة أخرى في تفسير نفس الآيات حيث أراد أن يوضح تفسيره جيدا فقال: "انظر كيف أخفى سبحانه أولياءه في صفة أعدائه وذلك أنه لما ابتدع الأمناء من اسمه اللطيف وتجلى لهم من اسمه الجميل فأحبوه تعالى والغيرة من صفات المحبة في المحبوب والمحب بوجهين مختلفين فستروا محبته تعالى غيرة منهم عليه كالشبلي وأمثاله وسترهم الحق بهذه الغيرة عن أن يعرفوا فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أي ستروا ما بدا له في مشاهدتهم من أسرار الوصلة فقال: لا بد من أن أحجبكم عن ذاتي بصفاتي فهو كذلك .. خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ من سناه إذ هو النور وبهائه إذ له الجلال والهيبة فأبقاهم الحق غرقى في بحور اللذات بمشاهدة الذات فقال لهم: لا بد لكم من عَذَابٌ عظِيمٌ. فما فهموا ما العذاب لاتحاد الصفة عندهم فأوجد لهم الحق علم الكون والفساد وعلمهم جميع الأسماء وأنزلهم على العرش الرحماني وفق عذابهم وقد كانوا مخبوئين عنده في خزائن غيوبه فلما أبصرتهم الملائكة خرت سجودا لهم فعلموهم الأسماء فأما أبو يزيد فلم يستطع الاستواء ولا أطاق العذاب فصعق من حينه فقال تعالى: "ردوا عليّ حبيبي فإنه لا صبر له عني".فحجب بالشوق والمخاطبة وبقي للكفار فنزلوا من العرش إلى الكرسي فنبتت لهم المقدمان فنزلوا عليهما من الثلث الباقي من ليلة هذه النشأة الجسمية إلى السماء الدنيا " النفس" فخاطبوا أهل الثقل الذين لا يقدرون على الوجد هل من داع فيستجاب له هل من تائب فيتاب عليه هل من مستغفر فيغفر له" (2). ويقول في تفسير قوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور: 35].قال: " فشبه نوره بالمصباح فلم يكن أقرب إليه تعالى قبولا في ذلك الهباء إلا حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم المسماة بالعقل فكان سيد العالم بأسره وأول ظاهر في الوجود فكان وجوده من ذلك النور الإلهي ومن الهباء ومن الحقيقة الكلية وفي الهباء وجد عينه وعين العالم من تجليه وأقرب الناس إليه علي بن أبي طالب وأسرار الأنبياء" (3). ونكتفي بهذه النماذج لإثبات أن المتصوفة فسروا القرآن الكريم بأهوائهم من أجل أن يوافق معتقدهم الفاسد وهذا يتضح لنا من خلال تفسيرات ابن عربي التي أوردناها كنماذج فقط فابن عربي في تفسره للآية الأولى حاول أن يثبت وحدة الأديان وأنه ليس هناك مؤمن ولا كافر بل الكل رب لأن هذا العالم كله مظاهره ومجال لله سبحانه وتعالى حسب زعمه. وأما الآية الثانية وهي قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ [النور: 35] فقد فسرها كما رأينا تفسيرا باطنيا باطلا بعيدا كل البعد عن المعنى الذي تدل عليه الآية. وهو لجأ إلى هذا التفسير كما هو واضح من أجل أن يثبت عقيدته التي يعبر عنها بالحقيقة المحمدية رغم أن الآية بعيدة كل البعد عن التفسير الذي فسرها به ابن عربي فالرسول بشر ولد من أب وأم معروفين وليس هو مخلوق من نور كما يزعم المتصوفة الأفاكين ومناقشة عقيدة المتصوفة تجاه الرسول لها باب خاص في البحث فلا داعي لمناقشتها هنا.   (1) ((الفتوحات المكية)) (2/ 206). (2) ((الفتوحات المكية)) (2/ 208). (3) ((الفتوحات المكية)) (2/ 227). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 478 ومن هنا يتضح لنا بأن المتصوفة حاولوا أن يخضعوا معاني القرآن لتوافق معتقدهم الفاسد وذلك عن طريق التأويلات الباطلة. أما السنة فإنهم بعيدون عنها كل البعد فهم دائما تراهم يحبون البدع وينشئونها ويشجعون عليها ويروون لتأييدها أحاديث وينسبونها إلى الرسول كذبا وزورا فهم قوم هلكى غرقى في البدع والخرافات بل هم وكر البدع والخرافات وناشروها في الأمة الإسلامية. موقف العلماء من تقسيم المتصوفة الدين إلى شريعة وحقيقة. قد رفض علماء الأمة الإسلامية تقسيم الدين إلى شريعة وحقيقة واستنكروها وإليك نماذج من أقوالهم حتى تعلم بأن المتصوفة ما أتوا بهذا التقسيم إلا لتأييد مذهبهم الباطل حتى لا يحتج عليهم الناس بالنصوص فيبطلون ما هم عليه من الأعمال المخالفة للنهج الإسلامي. فقد قال الإمام ابن القيم مستنكرا قول المتصوفة بأن هناك علما باطنا وظاهرا: "ومن كيد الشيطان ما ألقاه إلى جهال المتصوفة من الشطح والطامات وأبرز لهم في قالب الكشف من الخيالات فأوقعهم في أواع الأباطيل والترهات وفتح لهم أبواب الدعاوى الهائلات وأوحى إليهم أن وراء العلم طريقا إن سلكوه أفضى بهم إلى الكشف العياني وأغناهم عن التقيد بالسنة والقرآن فحسن لهم رياضة النفوس وتهذيبها وتصفية الأخلاق والتجافي عما عليه أهل الدنيا وأهل الرئاسة والفقهاء وأرباب العلوم والعمل على تفريغ القلب وخلوه من كل شيء حتى ينقش فيه الحق بلا واسطة تعلم فلما خلا من صورة العلم الذي جاء به الرسول نش فيه الشيطان بحسب ما هو مستعد له من أنواع الأباطيل وخيله للنفس حتى جعله كالمشاهد كشفا وعيانا فإذا أنكره عليهم ورثة الرسل قالوا لكم العلم الظاهر ولنا الكشف الباطن ولكم ظاهر الشريعة وعندنا باطن الحقيقة ولكم القشور ولنا اللباب فلما تمكن هذا من قلوبهم سلخها من الكتاب والسنة والآثار كما ينسلخ الليل من النهار ثم أحالهم في سلوكهم على تلك الخيالات وأوهمهم أنها من الآيات البينات وأنها من قبل الله الهامات فلا تعرض على السنة والقرآن ولا تعامل إلا بالقبول والإذعان وكلما ازدادوا بعدا وإعراضا عن القرآن وما جاء به الرسول كان هذا الفتح على قلوبهم أعظم" (1). وقال ابن إسماعيل في معرض نقده للمتصوفة والتحذير منهم: "فالله الله في الإصغاء إلى هؤلاء الفرغ الخالين من الإثبات وإنما هم زنادقة جمعوا بين مديح العمال مرقعات وصوف وبين أعمال الخلعاء الملحدة أكل وشرب ورقص وسماع وإهمال لأحكام الشرع ولم تتجاسر الزنادقة أن ترفض الشريعة حتى جاءت المتصوفة فجاءوا بوضع أهل الخلاعة. فأول ما وضعوا أسماء وقالوا حقيقة وشريعة وهذا قبيح لأن الشريعة ما وضعه الحق لمصالح الخلق فما الحقيقة بعدها سوى ما وقع في النفوس من إلقاء الشياطين وكل من رام الحقيقة في غير الشريعة فمغرور مخدوع" (2). وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله. "وقد فرق كثير من الصوفية بين الشريعة والحقيقة وهذا من قائله لأن الشريعة كلها حقائق".ثم قال: "وقد أنكر جماعة من قدمائهم في إعراضهم عن ظواهر الشرع" (3). ومن هذه النصوص التي أوردتها عن الأئمة الكبار من علماء الأمة الإسلامية يتضح لنا بأن ادعاء الصوفية تقسيم العلم إلى حقيقة وشريعة فقط فهي الحقيقة عندنا ولكن في الإسلام عندنا أعمال القلوب وأعمال الجوارح وهذه كلها موجودة في الشريعة الإسلامية ولذا نقول للمتصوفة لا يمكن أن تصلوا إلى الحقيقة خارج الشريعة فإن كنتم تبحثون عن الحقيقة بالفعل فارجعوا إلى الشريعة التي جاء بها محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم فهي الحقيقة لا غير. الانحرافات التي وقع فيها الصوفية بسبب هذه القاعدة: إن المتصوفة قد وقعوا في انحرافات عديدة بسبب هذه القاعدة التي وضعوها وهي القول بأن الحقيقة تختلف عن الشريعة ومن هذه الانحرافات التي وقعوا فيها ما يلي: 1ـ اتهام الرسول بأنه خص أناسا بعلم خاص وهذا يترتب عليه اتهامه بكتمان ما أنزل إليه والواجب تجاه الرسل الاعتقاد بأنهم قد بلغوا ما أمرهم الله به. 2ـ تعطيل وظيفة الأمر والنهي عن المنكر بحجة أنه نزل عليهم علوم تختلف عن علم الشريعة ولذا لا ينبغي أن ينكر عليهم. 3ـ ادعاء التلقي عن الله مباشرة وهذا يؤدي إلى القول بعدم ختم النبوة وهو انحراف عقدي خطير. 4ـ الاستهزاء بعلماء الأمة الإسلامية والتقليل من شأنهم ووصفهم بأنهم عوام وبأنهم محجوبون بظواهر الشريعة عن علوم الحقيقة. 5ـ تفسير القرآن الكريم بأهوائهم وتأويله بحيث يؤيد معتقدهم إلى جانب تحريفهم لمعاني السنة النبوية وتصحيح الأحاديث كثيرة كذبا وزورا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لتأييد معتقدهم الفاسد كما مر بنا بعضها في موضوع تفريق الصوفية بين الحقيقة والشريعة. المصدر: مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية لإدريس محمود إدريس – 1/ 109   (1) ((إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان)) لابن القيم (1/ 119). (2) ((تلبي إبليس)) لابن الجوزي (374). (3) ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (324). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 479 المبحث الثالث: الغلو الزائد في الرسول صلى الله عليه وسلم والأولياء • المطلب الأول: غلوهم في الرسول محمد صلى الله عليه وسلم . • المطلب الثاني غلوهم في الأولياء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 480 المطلب الأول: غلوهم في الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لقد غلا المتصوفة غلوا مفرطا في الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حتى رفعوه فوق منزلته التي أنزله الله فيها واعتقدوا فيه عقائد فاسدة باطلة لا أساس لها من الصحة ونحن هنا لا نريد أن نناقش كل معتقدات الصوفية المنحرفة تجاه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وإنما سنضرب نماذج فقط نثبت بها بأن من أهم العوامل التي أدت إلى انحراف المتصوفة عن الخط المستقيم هو غلوهم الزائد تجاه الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك لأن انحرافات المتصوفة تجاه الرسول صلى الله عليه وسلم قد عقدنا لها فصلا خاصا في الباب الثالث من هذه الرسالة وسنناقش كل انحرافاتهم تجاهه هناك مناقشة تفصيلية حتى نثبت بأن المتصوفة أتوا بهذه العقائد من عند أنفسهم مع براءة الإسلام منها كلية. ومن الانحرافات التي وقع فيها المتصوفة بسبب غلوهم في الرسول صلى الله عليه وسلم ما يلي: 1ـ الانحراف الأول: اعتقادهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم خلق من نور وأنه أول مخلوق على الإطلاق وأن الله خلق من نور محمد جميع ما في هذا الكون من أرض وسماء وما فيهما بينهما: وإليك النصوص من بطون كتب القوم. قال أحمد بن المبارك راويا عن شيخه عبدالعزيز الدباغ: (وسمعته رضي الله عنه يقول في قوله: "وانفلقت الأنوار" أن أول ما خلق الله تعالى نور سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ثم خلق منه القلم والحجب السبعين وملائكتها ثم خلق اللوح ثم قبل كماله وانعقاده خلق العرش والأرواح والجنة والبرزخ .. " ثم قال مفصلا ما مضى: "ثم إن الله تعالى خلق ملائكة الأرضين من نوره صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يعبدوه عليها وأما الأرواح والجنة إلا مواضع منها فإنها أيضا خلقت من نور وخلق ذلك النور من نوره صلى الله عليه وسلم وأما البرزخ فنصفه الأعلى من نوره صلى الله عليه وسلم فخرج من هذا أن القلم واللوح ونص البرزخ والحجب السبعين جميع ملائكتها وجميع ملائكة السموات والأرضين كلها خلقت من نوره صلى الله عليه وسلم بلا وأن العرش والماء والجنة والأرواح خلقت من نور خلق من نوره صلى الله عليه وسلم" (1). هذا هو النموذج الأول مما تعتقده الصوفية تجاه الرسول صلى الله عليه وسلم حيث ادعوا في هذا النص بأن أول ما خلق الله نور الرسول صلى الله عليه وسلم وأن جميع ما في هذا الكون خلق من نوره صلى الله عليه وسلم.   (1) ((الإبريز)) لعبد العزيز الدباغ (ص: 252). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 481 ولنعرض هذا المعتقد الصوفي على الكتاب والسنة لنرى هل أتوا بهذا المعتقد من عند أنفسهم أم أخذوه من الكتاب والسنة. فنقول أولا: إن ادعاء المتصوفة بأن أول ما خلق الله نور الرسول صلى الله عليه وسلم غير صحيح بل هو ادعاء باطل وكذب محض وليس لهم أي دليل يستندون عليه لإثبات دعواهم هذه سوى الحديث الموضوع والذي نصه ((أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر)) (1). والحديث الموضوع لا يصلح أن يكون دليلا لإثبات قضية عادية فضلا عن أن يكون دليلا لإثبات قضية عقدية ولهذا نقول إن المتصوفة أتوا بهذا المعتقد من عند أنفسهم ليضللوا به العوام عن المعتقد الصحيح الموجود في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليس مخلوقا من نور كما يزعمون بل خلق مما يخلق منه البشر ولكن الله فضله بالرسالة وجعله خاتم رسله وجعله أفضل مخلوقاته. وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى بأن أول مخلوق بشري هو أبونا آدم عليه السلام وبين لنا من أي شيء خلقه وذكر لنا المراحل التي مر بها أثناء إنشائه فقال تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:12 - 13] والشاهد في الآية هو قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ [المؤمنون: 12] والمقصود بها أصل الإنسان وهو أبونا آدم عليه السلام حيث خلقه الله من طين. ومما يدل على أن أصل الإنسان من طين قوله تعالى إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ص:71 - 72] فهذه الآيات التي أوردتها وغيرها كثير كلها أثبتت لنا بأن أصل الإنسان من طين وأن أول مخلوق بشري هو أبونا آدم عليه السلام وبما أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أحد أفراد ذرية آدم عليه السلام فأصله من تراب. ولهذا نقول ونحن موقنون ومتأكدون مما نقوله بأنه حق وما عداه باطل بأن الرسول ليس أول مخلوق ولا هو مخلوق من نور كما تدعي الصوفية بل الرسول ولد من أب وأم قرشيين معروفين وهذا معلوم لدى الجميع إلا من أصيب بالمكابرة ومكانته العالية وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قد فضله بالرسالة الخاتمة وجعله خير الخليقة على الإطلاق ولكن مع ذلك كله فهو عبدالله وقد وصفه الله بالعبودية له في آيات عديدة من كتابه سبحانه وتعالى منها: قوله تعالى وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن: 19] ومنها قوله سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الإسراء: 1].   (1) أورده العجلوني في ((كشف الخفاء)) (827) وعزاه إلى ((مصنف عبد الرزاق)) وليس الحديث في ((المصنف)) وزعم بعضهم أنه في القطعة المفقودة من المصنف وأنه وجدها وتبين كذبه وافتراؤه بما ليس هنا موضع بيانه، وعزاه أيضا اللكنوي في كتابه ((الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة)) (1/ 42) للمصنف أيضا وذكر أيضا أن الحديث ذكره القسطلاني في ((المواهب اللدنية))، وقال السيوطي في ((الحاوي في الفتاوى)) (1 - 479) " ليس له إسناد يعتمد عليه" الجزء: 7 ¦ الصفحة: 482 وقال تعالى وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: 23] وقد أمره الله سبحانه وتعالى أن يقول أنه بشر مثلنا فقال تعالى قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلى أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110]. وبعد أن سقنا هذه الأدلة وأبطلنا حجج المتصوفة بها نقول: أن الاعتقاد الواجب تجاه الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث خلقه هو أنه خلق كما يخلق البشر غيره من أب وأم ثم أكرمه الله سبحانه وتعالى وشرفه بالرسالة الخاتمة وجعله أفضل جميع الخلق على الإطلاق وما يعتقده المتصوفة من أنه خلق من نور فغير صحيح بل هو اعتقاد باطل وكذب محض أتوبه من عند أنفسهم لإفساد عقيدة المسلمين حتى ردوهم إلى أمة وثنية تعبد الأشخاص والأحجار والأشجار. وبما أننا أبطلنا دعوى الصوفية بأن الرسول خلق من نور فلا حاجة لمناقشة الصوفية في ادعائهم الآخر وهو قولهم إن الكون خلق من نور محمد صلى الله عليه وسلم لأن الأساس الذي أقاموا عليه دعوتهم قد قدمناه وبينا بأنه كذب محض وأثبتنا بأن الرسول بشر خلق كغيره من أب وأم وولد كما يولد البشر فالادعاء الثاني وهو زعم المتصوفة بأن الكون خلق من نوره باطل أيضا لأنها ليس لها أي أساس تعتمد عليه وليس لهم برهان من الله ولا من رسوله على صحة دعواهم هذه. والخلاصة أن الرسول ليس مخلوقا من نور وليس الكون مخلوقا من نوره كما تدعي المتصوفة بل هو بشر قد ولد من أب وأم قرشيين معروفين فضله الله بالرسالة الخاتمة وجعله أفضل الخليقة وادعاء الصوفية بأنه خلق من نور كذب محض ومصادمة صريحة مع نصوص الكتاب والسنة فيجب أن ترد عليهم ويضرب بها على وجوههم. 2ـ الانحراف الثاني الذي وقع فيه المتصوفة هو قولهم بأن جميع الأنبياء فاضت عليهم العلوم من الرسول صلى الله عليه وسلم. لقد بالغ المتصوفة في الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم حتى وصل بهم الأمر إلى ادعاء أن جميع الأنبياء فاضت عليهم العلوم من الرسول صلى الله عليه وسلم وإليك النصوص الدالة على هذا: فقد قال أحمد مبارك ناقلا عن شيخه الدباغ: (وسمعته رضي الله عنه يقول مرة أخرى أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإن سقوا من نوره لم يشربوه بتمامه بل كل واحد يشرب منه ما يناسبه وكتب له فإن النور المكرم ذو ألوان كثيرة وأحوال عديدة وأقسام كثيرة فكل واحد شرب لونا خاصا ونوعا خاصا" قال رضي الله عنه: " فسيدنا عيسى صلى الله عليه وسلم شرب من النور المكرم فحصل له مقام الغربة وهو مقام يحمل صاحبه على السياحة وعدم القرار في موضوع واحد وسيدنا إبراهيم شرب من النور المكرم فحصل له مقام الرحمة والتواضع مع المشاهدة الكاملة فتراه إذا تكلم مع أحد يخاطبه بلين ويكلمه بتواضع عظيم فيظن المتكلم أنه يتواضع له وهو إنما يتواضع لله عز وجل لقوة مشاهدته وسيدنا موسى صلى الله عليه وسلم شرب من النور المكرم فحصل له مقام مشاهدة الحق سبحانه في نعمه وخيراته وعطاياه التي لا يقدر قدرها وهكذا سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والملائكة الكرام والله أعلم) (1). وقال البوصيري: وإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم وكل آي أتى الرسل الكرام بها ... فإنما اتصلت من نوره بهم (2)   (1) ((الإبريز)) لعبد العزيز الدباغ (ص: 254). (2) ((بردة المديح)) للبوصيري (ص: 14 - 15). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 483 فالنصوص المتقدمة تدل دلالة واضحة بأن الصوفية يعتقدون بأن جميع الرسل شربوا من نور الرسول صلى الله عليه وسلم كل واحد منهم حسب ما يناسبه وأن جميع الرسل فاضت عليهم العلوم من نور الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن الصوفية ليس لهم دليل يستندون عليه لإثبات هذا المعتقد الباطل لا من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هي دعوى مبنية على الهراء البحت فقط. والرسل عليهم الصلاة والسلام لم تفض عليهم العلوم من الرسول كما يزعمون بل نزلت عليهم من الله عز وجل وحيا كما نزلت على الرسل محمد صلى الله عليه وسلم ومما يدل على هذا قول الله عز وجل إِنَّا أَوْحَيْنَا إليك كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ [النساء: 163] فهذه الآية نص قاطع في أن جميع الرسل نزل عليهم الوحي من الله ولم تفض عليهم العلوم من نور الرسول كما يزعم الصوفية الكذبة. وقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه بأن رسولنا محمدا صلى الله عليه وسلم ما كان يعرف الكتاب ولا الإيمان قبل أن يوحي الله إليه فكيف أخذ الرسل منه العلوم التي أوحيت إليهم وفي هذا يقول الله عز وجل وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إليك رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْايمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] ومن هنا نقول ما دام الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يدري الكتاب ولا الإيمان قبل أن يوحي إليه الله عز وجل فمن باب أولى أن الرسل لم يأخذوا العلوم التي أوحيت إليهم منه بالإضافة إلى أن الرسل أوحي إليهم قبل أن يخلق الرسول صلى الله عليه وسلم ويظهر في الوجود ومن أجل هذا نقول إن دعوى الصوفية بأن الرسل أخذوا العلوم من نوره صلى الله عليه وسلم دعوى باطلة تماما وليس لها أي أساس تعتمد عليه. 3ـ الانحراف الثالث الذي وقع فيه المتصوفة هو اعتقادهم بأن الرسول ينفع ويضر من دون الله والتوجه إليه بالدعاء والاستغاثة به: لقد غلا المتصوفة غلوا مفرطا في الرسول صلى الله عليه وسلم حتى رفعوه من مقام العبودية إلى مقام الألوهية فقد توجهوا إليه بأنواع من العبادات التي لا ينبغي صرفها لغير الله عز وجل رغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم حذر من الغلو والإطراء فيه في أحاديث كثيرة وقد نهي الله عز وجل عن الغلو فقال تعالى قُلْ يَا أهل الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ [المائدة: 77] وإليك نماذج من كلام المتصوفة الذي يظهر فيه الغلو واضحا جليا وتشم منه رائحة الشرك العفنة المنتنة التي نهي عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته ونهي الله عنه في كتابه والذي يعتبر أكبر جريمة عصي بها الله عز وجل في هذا الكون على الإطلاق. فقد قال محمد الفقي في كتابه (التوسل والزيارة) في إحدى قصائده والتي زعم أنها إحدى القصائد التي نظمها في مدح النبي صلى الله عليه وسلم متوسلا به مستغيثا به وزعم أن الرسول تحدث معه بشأنها ونحن لا نريد إيراد القصيدة كلها هنا وإنما نريد أن نأخذ منها مقتطفات فقط لتكون لنا شواهد على ما نقول: يقول في تلك القصيدة: إلى مصدر الأنوار والأنس نهرعُ ... وفي الساحة العليا نحط ونفزعُ حماك ملاذ اللاجئين وقصدهم ... يطوف به وفد وآخر يضرعُ ألا يا رسول الله ما لي ملجأ ... سواك أناجيه وجاهك واسعُ أناجيك في سري وأدعوك جهرة ... يهيجني وجد وشوق ومطمعُ وليس بخاف أنني كنت دائما ... أروح بحبي في رضاك وأرجعُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 484 وما ذاك إلا أنك الفضل كله ... وأنك غوث للأنام ومفزعُ وأنك يوم العرض حصن وموئل ... رؤوف رحيم شافع ومشفعُ فيا من عهدناه الوسيلة للورى ... يلبي دعاء المستجير ويسمع ويا من عهدناه الشفيع إذا دعا إلى ... الموقف الداعي وعم التطلع سألتك فضلا يسعف القلب والنهي ... يقوم به مثلي ويحيا ويخشع فجد لي به واعطف فعطفك نعمة ... وكل الورى يصبو إليه ويطمع ألست لنا بعد المهيمن رحمة ... وبابا لعفو الله والكل يقرع فيا سيدي إني على الباب قائم ... أموت وأحيا هواك وأولع (1). فهذه الأبيات إذا نظرنا إليها نظرة فاحصة سنجد فيها أن الرجل وقع في شرك صريح بالله عز وجل حيث صرف للرسول صلى الله عليه وسلم عبادات لا ينبغي صرفها لغير الله عز وجل لأن المعبود هو الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له أما غيره فكلهم عبيد له سبحانه يتصرف فيهم كما يشاء ففي البيت الأول الرجل صرح بأنه إذا أصيب بأي مصيبة يسرع إلى الرسول ويفزع إليه حتى ينقذه مما أصيب به حسب زعمه وكذلك في البيت الثاني وصف الرسول بأن كل من يطلب شيئا يتوجه إلى الرسول وأن هناك وفود تطوف بالرسول وطبعا يقصد قبره ووفود أخرى تتضرع إلى الرسول وفي البيت الثالث صرح الرجل بأنه يناجي الرسول في سره ويدعوه علنا طالبا منه ما يريده، وفي البيت الرابع وصف الرسول بأنه يعلم الغيب ويعلم ما فيه من حالة وأنه بذل جهده لإرضاء الرسول صلى الله عليه وسلم وفي البيت الخامس كما هو واضح وصف الرسول بأنه كل الفضل وأنه مغيث لجميع من في الكون ومفزعهم عند الشدائد وفي البيت السادس وصف الرسول بأنه حصن لجميع المخلوقات وموئلهم يوم القيامة وفي البيت السابع وصف الرسول بأنه وسيلة جميع الورى وأنه يستجيب دعاء من يدعوه ويسمعهم وفي البيت العاشر والحادي عشر صرح الرجل بأن الفضل بيد الرسول وطلب منه أن يجود له به ثم صرح بأن جميع من في هذا الكون يتوجهون إليه ويطمعون في فضله وفي البيت الأخير صرح الرجل بأنه قائم على باب الرسول ويعني به طبعا باب قبره طلبا للمغفرة والرحمة وقضاء جميع ما يحتاجه. وهكذا غلا المتصوفة في الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أعطوه أمورا لا يملكها إلا الله عز وجل حيث تجاوزوا به حدود البشرية وأوصلوه إلى حدود الألوهية والربوبية فتوجهوا إليه بأنواع العبادات رغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهي عن الغلو وحذر منه تحذيرا شديدا منها حديث ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)) (2).   (1) ((التوسل والزيارة)) لمحمد الفقي (ص: 134). (2) رواه البخاري (3445) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 485 ومع ذلك فقد بالغ المتصوفة في تعظيمه صلى الله عليه وسلم حتى رأوا أن الطواف بقبره والتمسح بترابه والسجود له من القربات التي يتقرب بها إلى الله عز وجل واعتقدوا أنه ينفع ويضر ويعطي ويمنع وأنه يفرج الكربات وأنه يشفع فيمن يشاء ويدخل من يشاء وهذا غلو منهم ومبالغة ممقوتة تؤدي بصاحبها إلى الشرك والانسلاخ الكامل من الدين إن لم يتب منها. وقد صرح الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لا يملك نفعا ولا ضرا كما أمره الله عز وجل في كتابه فقال: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188] ففي هذه الآية نفى الله عن رسوله ملك النفع والضر وأنه لو كان يملك ذلك لما أصابه السوء بل لدفعه عنه ومعروف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أصيب في حروبه مع المشركين إصابات كما في غزوة أحد (1). فلو كان يملك تفريج الكربات لفرج عن نفسه ولكنه لا يملك شيئا من ذلك بل الرسول يدعو الله عز وجل والله يفرج عنه فهو عبد من عباد الله فضله الله بالرسالة وجعله خير ما خلقه الله على الإطلاق ولكن مع ذلك لم يخرج عن كونه عبدا لله. والرسول صلى الله عليه وسلم لم يرسله الله إلا للنهي عن الشرك بالله والدعوة إلى توحيده فكل من يدعو غير الله يعتبر محادا لله ولرسوله لأنه يريد أن يعيد الشرك الذي وصفه الله بأنه أعظم ظلم وحاربه رسوله صلى الله عليه وسلم. فالمخلوق لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا كان نبيا أو ملكا أو وليا فالكل عبيد الله فالتوجه إليهم بالدعاء بأنه مثل الذي يريد إيصال الماء إلى فيه مع بسط كفيه وهذا تشبيه دقيق ومقنع فكما أن الذي يريد أن يوصل الماء إلى فيه مع بسط كفيه لا يمكن أن يصل إلى فيه ويشرب منه فكذلك الذي يتوجه بالدعاء إلى غير الله لا يمكن أن يحصل على مطلوبه لأن الذي يتوجه إليه بهذا الدعاء لا يملك ما يطلبه منه وفاقد الشيء لا يعطيه وإليك الآية قال تعالى لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ [الرعد: 14]. وقد أخبر الله سبحانه وتعالى بأن المدعوين من دونه لا يمكلون كشف الضر ولا تحويله عمن يدعوهم فقال تعالى قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً [الإسراء: 56] وقد أخبر الله عز وجل بأن المشركين دعوا شركاءهم فلم يستجيبوا لهم حيث قال تعالى وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ [القصص: 64] وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى بأن المدعوين من دونه لا يملكون شيئا ولو كان شيئا بسيطا جدا كالقطمير فقال تعالى إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 14].   (1) انظر ((الروض الأنف)) للسهيلي (5/ 441) و ((السيرة النبوية)) لابن حبان (ص: 223) وفي ((نور اليقين في سيرة سيد المرسلين)) (ص: 138). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 486 وبعد أن أوردنا هذه الآيات نقول إن كل من يتوجه إلى غير الله بالدعاء والاستغاثة وطلب قضاء الحوائج سواء كان المدعو ميتا أو حيا ولكنه غائب وسواء كان المدعو نبيا أو ملكا أو وليا يعتبر قد وقع في الشرك الأكبر الذي بعث الله الرسل لمحاربته. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الرسالة السنية) (فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى الإسلام ممن مرق منه مع عبادته العظيمة فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان أيضا قد يمرق وذلك بأسباب: منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال قُلْ يَا أهل الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمِْ [المائدة: 77] وكذلك الغلو في بعض المشايخ بل الغلو في علي بن أبي طالب بل الغلو في المسيح عليه السلام فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني أو أغنني أو ارزقني فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل فإن الله إنما أرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده ولا يدعى معه إله آخر والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو يعبدون صورهم يقولون أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إلى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] ويقولون وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ [يونس: 18] فبعث الله رسله تنهي أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة. ولهذا نقول أن ما يعتقده المتصوفة تجاه الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه ينفع ويضر من دون الله وتوجههم إليه من العبادات التي لا ينبغي صرفها لغير الله عز وجل يعتبر شركا أكبر بالله عز وجل وقد اتضح لنا جيدا من خلال النصوص التي سقناها عن المتصوفة أنفسهم أنهم يتوجهون بطلب أو جلب منفعة من المنافع مع أن هذه الأشياء لا يقدر عليها إلا الله عز وجل في حياته فكيف بعد مماته والرسول صلى الله عليه وسلم قد نفى عن نفسه هذه المهام التي يزعم المتصوفة أنه بإمكانه أن يحققها كما في قوله تعالى قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188] وقال قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلى أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] فالآيات المتقدمة تكفي للرد على المتصوفة بأن ما يعتقدونه تجاه الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه ينفع ويضر ويعطي ويمنع ويفرج كرب المكروبين وهم المهمومين ويستجيب لمن دعاه باطل واعتقاد فاسد مخالف تمام المخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو شرك محض لا علاقة له بالإسلام دين التوحيد لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد صرح بأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا وقد أخبر بأنه بشر وأن ميزته الوحيدة هي أنه يوحى إليه وأنه أفضل جميع الخليقة ولكن كونه أفضل جميع الخليقة لا يدعونا ذلك إلى أن ندعوه من دون الله ونرفعه إلى درجة الربوبية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 487 وقد نهي الله عز وجل عن أن يتجه الإنسان بالدعاء إلى غيره فقال تعالى وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ [يونس:106 - 107] إذا فدعاء غير الله يعتبر شركا بالله وأن المدعو من دون الله ليس بمقدوره النفع والضر وأنه لا يستطيع أن يرفع البلاء ولا أن يرد الخير وقد أخبر الله عز وجل بأن كل من يدعو من دون الله أحدا من خلقه يعتبر كافرا بالله فقال تعالى وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون: 117] وهذه الآية نص صريح في أن دعاء غير الله والاستغاثة به شرك أكبر ولهذا قال تعالى وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ [يونس:106 - 107] لأنه المتفرد بالملك والقهر والعطاء والمنع ولازم ذلك إفراده بتوحيد الألوهية لأنهما متلازمان وإفراده بسؤال كشف الضر وجلب الخير لا يكشف الضر إلا هو ولا يجلب الخير إلا هو قال تعالى مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [فاطر: 2] فتعين أن لا يدعى لذلك إلا هو وبطل دعاء من سواه ممن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فضلا عن غيره وكما قالوا: فاقد الشيء لا يعطيه. المصدر: مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية لإدريس محمود إدريس - ص 137 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 488 المطلب الثاني غلوهم في الأولياء لقد غلا المتصوفة في الأولياء كما غلوا في الرسول صلى الله عليه وسلم غلوا شديدا حتى رفعوهم إلى منزلة الأنبياء ولم يقفوا عند هذا بل تجاوزوا بهم منزلة الأنبياء حتى أوصلوهم إلى منزلة الألوهية والربوبية فقعوا بذلك في عقائد باطلة تصطدم تماما مع العقيدة التي جاء بها محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم ونحن هنا لا نريد أن نتتبع الانحرافات التي وقع فيها الصوفية تجاه الأولياء فإن هذا له باب خاص في البحث سيأتي وإنما غرضنا هنا هو الإتيان ببعض النماذج لكي نثبت بأن من أهم العوامل التي أدت إلى انحراف المتصوفة هو غلوهم في الأولياء وإليك البرهان على ما نقول: 1ـ الانحراف الأول: رفع مشايخهم إلى منزلة الألوهية والربوبية: أولاً: النصوص عنهم من كتبهم: قال ابن عربي في منزلة القطب: (القطب هو مركز الدائرة ومحيطها ومرآة الحق عليه مدار العالم له رقائق ممتدة إلى جميع قلوب الخلائق ومنزلة حضرة الإيجاد والصرف فهو الخليفة ومقامه تنفيذ الأمر وتصريف الحكم وحاله الحالة العامية لا يتقيد بحال تخصيص فإنه الستر العام في الوجود وبيده خزائن الوجود والحق له متجل على الدوام وله من البلاد مكة ولو سكن حيث ما سكن بجسمه فإن محله مكة ليس إلا) (1). وقال الدسوقي: ومكنني في سائر الأرض كلها ... وفي الجن والأشباح والمردية وفي أرض صين الصين والشرق كلها ... لأقصى بلاد الله تحت ولايتي ففي هذا النص يتضح لنا جيدا بأن المتصوفة يعتقدون في مشايخهم ما لا يجوز اعتقاده إلا في الله عز وجل حيث اعتقدوا فيه بأنه منفذ للأمور ومصرف للحكم وأن خزائن الوجود كلها بيده. ولو عرضنا هذه المعتقدات على الكتاب والسنة سنجد بأنها عقائد مخالفة تماما لما فيهما. فالله سبحانه وتعالى قد أخبرنا في كتابه بأن كل الأمور بيده وأن جميع ما في الكون له سبحانه وتعالى لا يشركه فيه أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي من أولياء الله عز وجل. قال تعال قُل لِّمَنِ الأرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [المؤمنون:84 - 85] وقال تعالى قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون: 88 - 89] وقال تعالى أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54] فهذه الآيات كلها تفيد بأن كل ما في السماوات وما في الأرض لله سبحانه وتعالى لأنه المتصرف فيه وحده لا شريك له لأنه هو الذي خلقه وبالتالي فهو الذي يسيره لا يشركه في ذلك أي أحد من مخلوقاته مهما كانت منزلته ولذا نقول: إن زعم الصوفية بأن مشايخهم لهم التصرف في هذا الكون كذب محض لا يعتمد على أي دليل لا عقلي ولا نقلي بل هو زعم يؤدي بصاحبه إلى الشرك في توحيد الربوبية إن لم يتب منه لأن من الواجب لله سبحانه وتعالى إفراده في توحيد ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته والقول بأن للمشايخ تصرفا في هذا الكون يعتبر شركا في توحيد الربوبية يجب أن يتوبوا منه ويرجعوا إلى الله فيوحدوه حق توحيده.   (1) كتاب ((الإنسان الكامل)) و ((القطب الغوث الفرد من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي)) لمحمود العزب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 489 ولم يكتف الصوفية بهذا بل ادعوا بأن مشايخهم لهم القدرة الكاملة على إجابة كل من استغاث بهم وأنهم يستطيعون تفريج كرب من دعاهم بل بالغوا فيهم حتى زعموا بأنهم باستطاعتهم أن يتحدوا الله في قضائه وقدره وإليك الدليل على ما أقول: فقد ذكر صاحب كتاب (مناقب الشيخ عبد القادر الجيلاني) راويا عن الرفاعي (توفي أحد خدام الغوث الأعظم وجاءت زوجته إلى الغوث فتضرعت والتجأت إليه وطلبت حياة زوجها فتوجه الغوث المراقبة فرأى في عالم الباطن أن ملك الموت عليه السلام يصعد إلى السماء ومعه الأرواح المقبوضة في ذلك اليوم فقال: يا ملك الموت قف وأعطني روح خادمي فلان وسماه باسمه فقال ملك الموت: إني أقبض الأرواح بأمر إلهي وأأديها إلى باب عظمته كيف يمكنني أن أعطيك روح الذي قبضته بأمر ربي؟؟ فكرر الغوث عليه إعطاءه روح خادمه إليه فامتنع من إعطائه وفي يده ظرف معنوي كهيئة الزنبيل فيه الأرواح المقبوضة في ذلك اليوم فبقوة المحبوبية جر الزنبيل وأخذه من يده فتفرقت الأرواح ورجعت إلى أبدانها فناجى ملك الموت عليه السلام ربه وقال يا ربي أنت أعلم بما جرى بيني وبين محبوبك ووليك عبد القادر فبقوة السلطنة والصولة أخذ مني ما قبضته من الأرواح في هذا اليوم فخاطبه الحق الله عز وجل جلاله: يا ملك الموت إن الغوث الأعظم محبوبي ومطلوبي لم لا أعطيته روح خادمه وقد راحت الأرواح الكثيرة من قبضتك بسبب روح واحد فتندم هذا الوقت) (1). وذكر أحد الصوفية بأن الشيخ محمد صديق وقع في البحر ولم يكن يعرف السباحة فكاد أن يغرق فناداه – أي عبد القادر – مستغيثا به فحضر وأخذ بيده وأنقذه من الغرق. وحكى في نفس الصفحة أنه كان جالسا يوما مع أصحابه في رباطه إذ ابتلت يده الشريفة وكمه إلى إبطه فعجبوا من ذلك وسألوه عنه فقال رضي الله عنه: استغاث بي رجل من المريدين تاجرا كان راكبا في السفينة وقد كادت أن تغرق فخلصتها من الغرق فابتل لذلك كمي ويد فوصل هذا التاجر بعد مدة وحدث بهذا الأمر كما أخبر الشيخ رضي الله عنه) (2). فلو نظرنا في النصوص المتقدمة نلاحظ بأن الصوفية يجيزون الالتجاء إلى المخلوق والاستغاثة به ويقولون بأن بإمكان الولي أن يعلم بكل ما في هذا الكون وهو جالس في مكانه وأن باستطاعته تغيير القدر الذي قدره الله في الأزل وأنه يسمع كل من ناداه واستغاث به ويفرج عنه كربه ولو عرضنا هذه الاعتقادات كلها على الكتاب والسنة سنجدها تصطدم تماما مع ما فيهما من الاعتقادات التي أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نعتقدها. ولنبدأ أولا بمناقشة موضوع الاستغاثة بغير الله والالتجاء إلى غيره بإيجاز شديد جدا.   (1) كتاب ((تفريج الخاطر في مناقب تاج الأولياء وبرهان الأصفياء الشيخ عبد القادر الجيلاني)) (ص: 17). (2) ((المواهب السرمدية في مناقب النقشبندية)) لمحمد أمين الكردي (ص: 210). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 490 فالصوفية كما اتضح لنا في النصوص السابقة التي نقلناها عنهم يجوزن الاستغاثة بغير الله والالتجاء إلى غيره عند الشدائد والملمات مع أن الاستغاثة تعتبر عبادة لأن الاستغاثة هي طلب الغوث وهي بمعنى الدعاء وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز الاستغاثة بغير الله لأنها عبادة لا يجوز صرفها لغير الله سبحانه وتعالى بل يجب أن يعبد الله وحده ولا يشرك معه أحد غيره في عبادته سبحانه وتعالى وبما أن المخلوق ليس لديه القدرة على إغاثة من استغاث به فلا يجوز التوجه إليه بالدعاء وطلب الإغاثة إذا كان غائبا أو ميتا أما إذا كان حاضرا فيجوز طلب الإغاثة منه فيما يقدر عليه فقط وادعاء الصوفية بأن مشايخهم بإمكانهم إغاثة من استغاث بهم بعد مماتهم أو في حياتهم حال غيابهم يعتبر كذبا محضا وافتراء على الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب مبين لأن المغيث هو الله وحده لا شريك له أما من عداه فلا يستطيع أن يغيث أحدا وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى على أن أي مدعو من دونه لا يملك كشف ضر عن أحد أو تحويله عنه فقال تعالى قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً [56: الإسراء] وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى بأن المشركين دعوا شركاءهم فلم يستجيبوا لهم فقال تعالى وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ [القصص: 64] وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى بأن أي مدعو من دونه لا يملك شيئا ولو كان صغير الحجم قليل القيمة أو فاقد فقال تعالى وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 13 - 14] فهذه النصوص القرآنية التي أوردتها تفيد بأن المدعو من دون الله سبحانه وتعالى لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا عن غيره فلذا لا يجوز دعاء غير الله عز وجل وكل من خالف هذه النصوص ودعا غير الله عز وجل يعتبر وقع في الشرك الأكبر والذي يعتبر أكبر ظلم عصي به الله عز وجل على الإطلاق وقد نهي الله عز وجل في كتابه عن دعاء غيره فقال تعالى: وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ [يونس: 106] وقال تعالى وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 88] وقال تعالى وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18] والله عز وجل لم ينهنا عن دعاء غيره ويتركنا هكذا حيارى بل أمرنا أن ندعوه وحده ولا نشرك معه أحدا غيره لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا ولا وليا فقال تعالى وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186] وقال تعالى وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60] إلى غير ذلك من الآيات التي تحثنا كلها على دعاء الله سبحانه وتعالى والالتجاء إليه والاستغاثة به عند الشدائد. وفي الحديث: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا حيث يبقى ثلث الليل الآخر ثم يقول: من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له)) (1).   (1) رواه البخاري (1145) ومسلم (758) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 491 وفي حديث آخر: قال الرسول صلى الله عليه وسلم ((الدعاء هو العبادة)) (1).وفي حديث آخر: قال الرسول صلى الله عليه وسلم ((الدعاء مخ العبادة)) (2). وأما ادعاء الصوفية بأن أحد مشايخهم نظر إلى ملك الموت وهو يصعد بالأرواح في زنبيل ثم أخذها منه ورجعت الأرواح إلى أصحابها وأن أحد مشايخهم أنقذ سفينة من الغرق وهو جالس في مكانه بالإضافة إلى إنقاذ إنسان آخر استغاث به فهذه كلها ادعاءات كاذبة مبنية على الكذب المحض لا أساس لها من الصحة ولا يمكن أن يقبلها إنسان به أقل شيء من العقل السليم من التأثر بالخرافات الصوفية وأوهامهم الفاسدة ولذا لا نريد أن نطول في الرد عليها بل نقول بإيجاز شديد إن علم الغيب مختص بالله سبحانه وتعالى ولا يمكن لأحد أن يعلم الغيب كائنا من كان. كما قال تعالى عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن: 26 - 27] ومشايخ الصوفية ليسوا أنبياء ولا رسلا حتى يدعي أتباعهم بأنهم يوحى إليهم عن الله ولذا نقول بأن ادعاء الصوفية بأن مشايخهم يشاهدون ما في هذا الكون وهم جالسون في مكانهم لا أساس له من الصحة بل محض دجل وافتراء متعمد لتضليل العوام بتهويل قدر مشايخ الصوفية في أعينهم حتى يصرفوهم عن عبادة الله الواحد القهار إلى عبادة القبور والأحجار. وأما زعم هذا الصوفي بأن أحد مشايخ الصوفية أخذ الأرواح من ملك الموت وردها إلى أصحابها فهذا يجر الصوفية إلى الاعتقاد بأن أحدا ما من المخلوقات باستطاعته منازعة الله في قضائه وقدره وذلك لأن من المعلوم والواجب اعتقاده بأن كل شيء يقع في هذا الكون بقضاء الله وقدره وأن الله سبحانه وتعالى قد حدد الآجال والأرزاق فكل ميت لا يمكن أن يموت قبل اليوم الذي قدره الله له ولا يمكن أن يحيا كذلك بعدها ولو لحظة ومن الأدلة في هذا المجال الآيات التالية: قوله تعالى إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49] وقوله تعالى وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2] مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد: 22]. إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [نوح: 4] وقوله تعالى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [النحل: 61] ولهذا نقول إن زعم هذا الصوفي بأن شيخه أخذ الأرواح وردها إلى أصحابها ليس بصحيح وإنما هو كذب وافتراء على الله ويلزم أصحاب هذا القول الاعتقاد بأن المخلوق يستطيع أن يغالب الله في قضائه وقدره وهذا يعتبر شركا في توحيد الربوبية وذلك لأن من أقسام التوحيد هو إفراد الله في ربوبيته والله سبحانه وتعالى قد قدر كل الأشياء قبل أن يظهرها لنا ومما يدل على ذلك قوله تعالى مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد: 22].   (1) رواه أبو داود (1479) والترمذي (2969) وابن ماجه (3828) وابن حبان (3/ 172) (890) والحاكم (1/ 667) (1802) وقال صحيح الإسناد وقال الترمذي حسن صحيح، وصححه الألباني (2) رواه الترمذي (3371) والطبراني في الأوسط (3/ 293) (3196) قال الترمذي غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة، وقال الطبراني لم يرو هذا الحديث عن أبان إلا عبيد الله تفرد به بن لهيعة، وضعفه الألباني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 492 ومنها قوله تعالى وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر: 12] والمعنى: أي على أمر قد علم في سابق علم الله سبحانه وتحتم وقوعه فوقع كما قدره الله سبحانه وتعالى. ومنها قوله تعالى فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ [النمل: 57] ومنها قوله تعالى: مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا [الأحزاب: 38] ولهذا نقول إن الإيمان بقضاء الله وقدره أمر واجب على كل مسلم ومعنى الإيمان بقضاء الله وقدره هو أن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى قد قدر كل ما يقع في هذا الكون وقضاه وكل شيء قدره الله لا بد وأن يقع ولا يمكن لأحد كائن من كان أن يغير شيئا مما قدره الله سبحانه وعلى هذا تصبح دعوى الصوفية بأن الشيخ نزع الأرواح من ملك الموت ورجعت إلى أصحابها كذب وافتراء بحت وذلك لأن الله سبحانه قد قدر بأن هذه الأرواح ستموت في هذا اليوم وما دام قدر الله أن تموت في هذا الوقت فلا يمكن أن تعود هذه الأرواح إلى أصحابها إلا إذا قال الصوفية بأنهم يؤمنون بأن مشايخهم باستطاعتهم أن ينازعوا الله في قضائه وقدره والتصرف في هذا الكون وإذا قالوا بهذا فإنهم قد وقعوا في الشرك بالله في توحيد ربوبيته لأن من الأمور الواجب اعتقادها تجاه الله سبحانه وتعالى هو الإيمان بأن كل ما في هذا الكون تحت تصرفه سبحانه وتعالى لا يشركه فيه أحد ولا يستطيع أحد أن ينازعه مهما كانت مكانته لا نبيا مرسلا ولا ملكا مقربا ولا وليا لأن الكل عبيد الله سبحانه وتعالى يتصرف فيهم كما يشاء. 2ـ الانحراف الثاني الذي وقع فيه الصوفية بسبب غلوهم في مشايخهم هو الادعاء بأن لهم علوما خاصة يتلقونها عن الله وعن رسوله مباشرة: لقد وصل الغلو بالصوفية إلى أن ادعوا بأن لمشايخهم علوما خاصة يتلقونها عن الله مباشرة تختلف تماما مع العلوم التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه وادعوا أيضا بأنهم يتلقون علوما خاصة بهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يسمون هذه العلوم علوم الخاصة أي علوما يختصون بها هم دون سائر الأمة الإسلامية وإليك الأدلة من بطون كتبهم: قال صاحب (الرماح) الذي بهامش (جواهر المعاني) في الفصل الثاني والعشرين: (إنهم لا ينطقون إلا بما يشاهدون ويأخذون عن الله ورسوله الأحكام الخاصة للخاصة لا مدخل فيها للعامة لأنه صلى الله عليه وسلم كان يلقي إلى أمته الأمر الخاص .. ) ثم قال: (إن الكامل منهم ينزل عليه الملك بالأمر والنهي) (1). ونقل الشعراني عن ابن عربي أنه قال: (حدثني قلبي عن ربي أو حدثني ربي عن قلبي أو حدثني ربي عن نفسه بارتفاع الوسائط) (2).   (1) ((الرماح بهامش جواهر المعاني)) (1/ 156). (2) ((لطائف المنن)) للشعراني (1/ 145). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 493 فالنصان السابقان يدلان دلالة واضحة على أن الصوفية يؤمنون بأن مشايخهم يتلقون علوما خاصة بهم عن الله مباشرة. والرد عليهم بإيجاز: إن ادعاءهم هذا يؤدي بهم إلى القول بعدم ختم النبوة وبقاء بابها مفتوحا لكل من يدعي التلقي عن الله وهذا يعتبر انحرافا عقديا خطيرا وذلك لأن عقيدة ختم النبوة تعتبر من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة يعرفها العامي فضلا عن العالم وقد وردت نصوص قرآنية وأحاديث نبوية تدل دلالة قاطعة على ختم النبوة فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب: 40] ومن الأحاديث الدالة على أن النبوة قد ختمت قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا نبي بعدي)) (1). فالآية والحديث السابقان يدلان دلالة واضحة على أن النبوة قد ختمت بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قد أخبرنا بأن محمدا بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والسلام خاتم النبيين ونفى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون نبي بعده. فكل من يدعي بأنه تنزل عليه علوم من الله سبحانه وتعالى بعد هذا الدليل القاطع يعتبر دجالا مفتريا على الله يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا فيجب أن تقطع عنقه حتى لا يفتن المسلمين في دينهم وذلك لأن ادعاء التلقي عن الله يؤدي إلى الإتيان بأحكام وعقائد جديدة تختلف مع العقيدة والشريعة التي أتى بها محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام من ربه وإذا اعترض عليه أي معترض يستطيع أن يقول بكل سهولة أنه تلقاه عن الله تعالى كما يزعم الصوفية ذلك وهذا يعتبر هدما وتقويضا للعقيدة والشريعة الإسلامية والقضاء عليها نهائيا. 3ـ الانحراف الثالث الذي وقع فيه الصوفية بسبب غلوهم في المشايخ: هو الادعاء بأن لهم الاطلاع على الغيب: لقد وصل غلو الصوفية في مشايخهم إلى أن زعموا بأنهم يعلمون الغيب حيث ادعوا بأن الأولياء يعلمون الأشياء المكتوبة على أوراق الشجر والماء والهواء وكل ما في البر والبحر ما في السماء وكل ما يقع للإنس والجن في حياتهم وبعد مماتهم وأنهم يسمعون كل من ناداهم من قريب أو بعيد فيقضون له طلبه وإليك الأدلة على هذا من بطون كتبهم: فقد قال إبراهيم الدسوقي في معرض حديثه عن خصائص العارف بالله عندهم: (وكذلك لهم الاطلاع على ما هو مكتوب على أوراق الشجر والماء والهواء وما في البر والبحر وما هو مكتوب على صفحة قبة خيمة السماء وما في حياة الإنس والجان مما يقع لهم في الدنيا والآخرة ولا يحجب من حكيم يتلقى علما من حكيم عليم) (2).وحكى أحد الصوفية عن أحد الصوفية أنه وقع في البحر ولم يكن يعرف السباحة فكاد أن يغرق فناداه مستغيثا به فحضر وأخذ بيده من الغرق) (3). فالنصان السابقان يدلان بأن الصوفية يعتقدون بأن مشايخهم يعلمون الغيب ويفرجون كرب كل من استغاث بهم ودعاهم. والذي نريد أن نناقشه هنا هو مسألة علم الغيب وهل يمكن للمخلوق أن يعلمه أم أن علم الغيب مختص بالله سبحانه وتعالى. فلو نظرنا في كتاب الله عز وجل سنجد فيه آيات كثيرة وكلها تتحدث في اختصاص الله تعالى بعلم الغيب وليس بإمكاننا الآن أن نذكر كل الآيات التي تتحدث في هذا المجال وإنما نريد أن نذكر آية واحدة مع إيراد بعض أقوال المفسرين فيها وهي بالفعل كافية ومقنعة في هذا المجال لمن يبحث عن الحق ويريد الوصول إليه أما المعاند المكابر فلا يمكن أن يقتنع مهما أتينا بالآيات.   (1) رواه البخاري (3455) ومسلم (1842) (2) ((جمهرة الأولياء)) للمنوفي (2/ 242). (3) ((المواهب السرمدية)) لمحمد أمين الكردي (ص: 210). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 494 والآية التي نريد أن نستدل بها على أن علم الغيب خاص بالله تعالى وأنه لا يمكن لأحد أن يطلع على الغيب إطلاقا باستثناء الرسل عليهم الصلاة والسلام فإن الله سبحانه وتعالى يطلعهم على بعض غيبه تأييدا لهم حتى يكون ذلك مساعدا لهم لإقناع أقوامهم بما يدعونهم إليه هي قوله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن:26 - 28] وإليك أقوال بعض المفسرين الأعلام في هذه الأمة حتى نستطيع التوصل إلى الحكم الصحيح في كل من يدعي علم الغيب. فقد قال القرطبي: (والغيب ما غاب عن العباد فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه لأن الرسل مؤيدون بالمعجزات ومنها الإخبار عن بعض الغائبات ... ) ثم قال: (والأولى أن يكون المعنى: أي لا يظهر على غيبه إلا من ارتضى أي اصطفى للنبوة فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه ليكون ذلك دالا على نبوته) (1). ثم قال القرطبي: (قال العلماء رحمة الله عليهم: لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ثم استثنى من ارتضاه من الرسل فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى وينظر في الكتب ويزاجر الطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه) (2). وقال ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية في المجلد الثاني عشر: (يعني بالعالم الغيب عالم ما غاب عن أبصار خلقه فلم يروه فلا يظهر على غيبه أحدا فيعلمه أو يريه إياه أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فإنه يظهره على ما يشاء من ذلك). ونقل عن ابن عباس أنه قال في تفسيرها: (أعلم الله سبحانه الرسل من الغيب الوحي وأظهرهم عليه بما أوحى إليهم من غيبه وما يحكم الله فإنه لا يعلم ذلك غيره). ونقل عن قتادة أنه قال في تفسير هذه الآية: (فإنه يصطفيهم على ما يشاء من الغيب).ونقل عن ابن جرير أنه قال تفسيرها: (ينزل من غيبه من ما يشاء على الأنبياء أنزل على رسول الله الغيب القرآن قال: (وحدثنا فيه بالغيب بما يكون يوم القيامة) (3).وقال عبدالرحمن بن ناصر السعدي في كتابه (تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن): (فلا يظهر على غيبه أحدا من الخلق بل انفرد بعلم الضمائر والأسرار والغيوب إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ أي فإنه يخبره بما اقتضت حكمته أن يخبره به وذلك لأن الرسل ليسوا كغيرهم فإن الله أيدهم بتأييد ما أيده أحدا من الخلق وحفظ ما أوحاه إليهم حتى يبلغوه على حقيقته من غير أن تقربه الشياطين فيزيدوا فيه أو ينقصوا منه) (4). فالأقوال التي أوردتها عن هؤلاء العلماء الأجلاء الذين سبق ذكرهم كلها اتفقت على نفي علم الغيب على جميع ما في هذا الكون ومن هنا نقول إن باب علم الغيب مسدود نهائيا وكل من يحاول أن يعلم الغيب إنما يسعى لكي يضله الله عز وجل وإلا فما الداعي لإنسان يؤمن بأن القرآن كلام الله أن يسعى للاطلاع على علم الغيب بعد أن أخبر الله عز وجل في كتابه بأن الغيب خاص به سبحانه وأنه لا يطلع عليه أحدا إلا رسله فإنه يطلعهم على جزء من غيبه حتى يكون لهم معجزة فيساعدهم في إيمان أقوامهم أو إقناعهم وحتى الوحي الذي يوحيه إليهم يعتبر غيبا وقد قال بعض المفسرين بهذا كما سبق. والخلاصة أن غلو المتصوفة في مشايخهم واعتقادهم بأنهم يعلمون الغيب يعتبر اعتقادا فاسدا وأن الواجب عليهم التراجع عن هذا الغلو الذي صار سببا في ضلالهم كما ضل بسببه كثير ممن كان قبلهم من الأمم الماضية ومعروف أن أول شرك حصل في الأرض كان سببه الغلو في رجال صالحين. المصدر: مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية لإدريس محمود إدريس – 1/ 137   (1) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (19/ 27). (2) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (19/ 28). (3) ((تفسير ابن جرير الطبري)) (29/ 76). (4) ((تفسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن)) (8/ 182). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 495 المبحث الرابع: تأثرهم بالفكر اليوناني الوثني إن من أهم العوامل التي أدت إلى انحراف الصوفية هو تأثرهم بالفكر اليوناني الوثني. ومما يدل على تأثر المتصوفة بأفكار الفلاسفة اليونانيين كأفلاطون وأرسطو طاليس ثناء كبار المتصوفة على هؤلاء الفلاسفة وتمجيدهم ووصفهم بالطهر والثناء على طريقتهم بوصفهم لها بأنها من أحسن الطرق التي ينبغي اتباعها لتطهير النفوس وصفائها. وإلى جانب ذلك فقد أثبت المفكرون الإسلاميون الذين كتبوا عن التصوف تأثر المتصوفة بالفكر اليوناني في قضايا اعتقادية وسلوكية كثيرة وبما أنه يصعب حصر هذه الأشياء التي أخذها المتصوفة عن اليونانيين سأكتفي بذكر نماذج فقط لأن المقصود هو الإثبات بأن من أهم العوامل التي أدت إلى انحراف المتصوفة هو تأثرهم بالفكر اليوناني وليس المقصود حصر الأمور التي يلتقي فيها المتصوفة مع فلاسفة اليونان فإن هذا يحتاج إلى رسالة مستقلة وإليك بيان هذا فيما يلي: أولا: أقوال كبار أئمة التصوف التي تدل على تأثرهم بفلاسفة اليونان وإعجابهم بهم: فمن المتصوفة الذين ذكروا إعجابهم بفلاسفة اليونان عبد الكريم الجيلي فقد قال في كتابه (الإنسان الكامل في معرفة الأوائل والأواخر) في الجزء الثاني منه كلاما يدل دلالة صريحة وواضحة على حبه العميق لموجدي الفلسفة اليونانية وإعجابه بهم وإلك نص كلامه الذي يدل على ما قلناه: فقد قال: (ولقد اجتمعت بأفلاطون الذي يعدونه أهل الظاهر كافرا فرأيته وقد ملأ العالم الغيبي نورا وبهجة ورأيت له مكانة لم أرها إلا لآحاد من الأولياء فقلت له: من أنت؟ قال قطب الزمان وواحد الأوان ولكم رأينا من عجائب وغرائب مثل هذا ليس من شرطها أن تغشى وقد رمزنا لك في هذا الباب أسرارا كثيرة ما كان يسعنا أن نتكلم فيها بغير هذا اللسان فالق القشرة من الخطاب وخذ اللب إن كنت من أولي الألباب) (1).وقد ذكر في مكان آخر من كتابه بأن أرسطو تلميذ أفلاطون لزم خدمة الخضر واستفاد منه علوما جمة وكان من تلامذته (2). قلت: ادعاء عبد الكريم الجيلي بأن أفلاطون ألتقى بالحضر كذب محض وليس بصحيح لأن أفلاطون رجل وثني كافر والخضر نبي من أنبياء الله على القول الراجح ولأن الخضر قد مات أيضا على القول الراجح كما سنبينه في الباب الثالث من هذه الرسالة. وهل عبد الكريم الجيلي يدعي مثل هذا الادعاء لكي يبرر الأخذ من الوثنيين اليونانيين وينشر عقائدهم في أوساط المسلمين لو لم يكن معجبا بهم، ومن المتصوفة الذين مدحوا الفلاسفة اليونانيين لسان الدين الخطيب فقد نقل عن أرسطو أنه قال:   (1) ((الإنسان الكامل)) لعبد الكريم الجيلي (2/ 52ـ 53). (2) ((الإنسان الكامل)) لعبد الكريم الجيلي (2/ 117). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 496 (إني ربما خلوت بنفسي كثيرا وجعلت بدني جانبا وصرت كأني مجرد بلا بدن عري من الملابس الطبيعية فأكون داخلا في ذاتي خارجا من سائر الأشياء فأرى في ذاتي من الحسن السناء والبهاء والضياء والمحاسن العجيبة والمناظر الأنيقة ما أبقى له متعجبا متحيرا باهتا فاعلم أني جزء من أجزاء العالم الأعلى الشريف فلما أيقنت بذلك رقيت بذهني إلى العلة الإلهية المحيطة بالكل فصرت كأني موضوع متعلق بها فأكون فوق العالم كله رآني كأني واقف في ذلك الموقف الشريف المقدس الإلهي فأرى هنالك من النور والبهاء والبهجة والسناء ما لا تقدر الألسن على صفته والأسماع على نعته ولا الأوهام أن تحيط به فإذا استغرقني ذلك النور والبهاء لم أطق على احتماله ولا الصبر عليه فارتددت عاجزا عن النظر إليه وهبطت من العقل إلى الفكر والروية فإذا صرت في عالم الفكر والروية حجبت الفكرة عن ذلك النور والبهاء وحالت بيني وبينه الأوهام فأبقى متعجبا كيف انحدرت من ذلك الموضوع الشاهق العالي الإلهي وصرت سفلا في موضع الفكر والضيقة بعد أن قويت نفسي على التخلف عن بدنها والرجوع إلى ذاتها والترقي إلى العالم العقلي ثم العالم الإلهي مع العقول فوق العوالم كلها حتى صرت في موضع البهاء والنور والسناء متجلية الذي هو علة كل نور وبهاء وسبب كل دوام وبقاء ومن العجيب أني كنت قد رأيت نفسي ممتلئة نورا وهي في البدن كهيأتها والبدن ومعها وهي خارجة عنه على أني لما أطلت الفكر ومحضت الروية وأجلت الرأي وصرت كالمتحير المبهوت تذكرت الفلطنوس فإنه أمر بالطب والبحث عن جوهر النفس الشريفة والحرص على الصعود إلى ذلك العالم الأعلى ولحق بالجواهر الإلهية والأسباب الكلية يجزي أحسن الجزاء اضطرارا فلا ينبغي لأحد أن يفتر عن الطلب والحرص والجد في الاتقاء إلى ذلك العالم وإن تعب وكد ونصب فإن أمامه الراحة التي لا تعب بعدها في مخلوقة للإنسان كلها والإنسان مخلوق لها أليس عزا أن تمر ساعة من عمره في غير ما خلق من ذلك أليس من فرط في السعي لذلك ظالم لنفسه ومهلكا ذاته وفاعلا بجوهرته النفسية ما لم يفعل به أعدى عدو له فيندم حين لا ينفعه الندم) ثم علق لسان الدين الخطيب على كلام أرسطو هذا بما يلي: فقال: (وبيان هذه السعادة من تعرض له فقد تعاطى ما لا تستقل به نفس ولا تطمع فيه قوة إنسانية .. وسبيل السعادة عندهم الرياضة وعلاج الأخلاق حتى يصير شبيها بالخير المحض وهو المبدأ تلطيف السر وأن يصرف عن النفس شواغل الجسم ويترقى في معارج المحبة والشوق إلى ذلك الكمال بالفكرة حتى تحس النفس بانجذابها إلى عالمها وتفيض عليها عجائبه وقد أخبر هؤلاء الإلهيون عن أنفسهم بما ذكرنا آنفا من أنهم نزعوا ولذاته أمورا مذهلة ثم عادوا إلى عالم الحس ورمزوا ذلك في كتبهم حسبما نقل سقراط الدنان ومعلم الخير أفلاطون وإمام المشائين أرسطو) (1). إذا نظرنا في كلام لسان الدين الخطيب نرى أنه قد صرح بإعجابه بهذه الطريقة التي يسلكها فلاسفة اليونان لتربية النفس ومما يدل على هذا وصفه للفيلسوف اليونان لتربية النفس ومما يدل على هذا وصفه للفيلسوف اليوناني الوثني أفلاطون بأنه معلم الخير ووصفه لأرسطو بالإمام ومن هنا نفعهم بأن أقطاب التصوف كانوا معجبين بآراء فلاسفة اليونان وقد تأثروا بالفعل تأثرا كبيرا. ومن المتصوفة الذين أكدوا تأثر بعض الصوفية بالأفكار اليونانية المنوفي الصوفي المعاصر المصري فقد قال:   (1) ((روضة التعريف بالحب الشريف)) للسان الدين الخطيب (559ـ 560). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 497 (وأما وحدة الوجود الحلولية التي تجعل من الله شيئا كائنا يحل في مخلقواته أو الاتحادية بالمعنى المفهوم خطأ. تلك تجعل من الكائن الفاني شخصية تتحد بالوجود الدائم الباقي المنزه عن سائر النسب والإضافات والأحياز الزمانية والمكانية المحدثة أو يتحد به شيء منها فإنها مذهب هندي أو مسيحي وليس بإسلامي ولا يعرفه الإسلام استمده أهل الشذوذ في التصوف الإسلامي من الفلسفة البائدة وغذوا به ذهنهم الشاذ بفكر أفلاطوينة وأراء بوذية وفارسية عن طريق الفارابي وابن سينا وأن المتتبع لحياة الحلاج ومؤلفات السهروردي وابن عربي يرى أنهم تأثروا بالمتفلسفة المسلمين الذين أخذوا عن الفلسفة الأفلاطونية القديمة والأفلاطونية الحديثة والأرسطوطالسية) (1). إذا نظرنا في كلام المنوفي نرى أنه صرح بأن المتصوفة تأثروا فعلا بفلاسفة اليونان وأنهم أتوا بتلك العقائد الإلحادية التي توجد في التصوف من أولئك الفلاسفة اليونانيين ومع المنوفي صوفي إلا أنه لم يستطع أن ينكر تأثر المتصوفة بفلاسفة اليونان وهذا في الحقيقة دليل قاطع ومخرس لكل من ينكر تأثر المتصوفة بأفكار فلاسفة اليونان الوثنيين. وقال المنوفي في مكان آخر في معرض حديثه عن تأثر غلاة المتصوفة بفلاسفة اليونان: (فكان بعضهم بعلن أنه اطلع على الغيب وأن في مقدوره الإتيان بخوارق العادات ثم يذهب إلى ما هو أبعد من هذا مثل قولة الحلاج المشهورة (ما في الجبة غير الله) وغيره (أنا الحق).وبمثل هذا وذاك ثار على الحلاج معاصروه ورموه بالسحر والجنون أخرى وعذب عذابا أليما إلى أن مات في أوائل القرن الرابع والله أعلم بحاله وكان من أمثال الحلاج من بالغوا مبالغة قلت أم كثرت كشهاب الدين عمر السهروردي المقتول ورئيس جماعة الإشراقيين ومحيي الدين بن عربي الأندلسي وابن سبعين السقلي وهم من رجال القرنين السادس والسابع وتابعهم جماعة من شعراء الفرس وأمثال جلال الدين الرومي وفريد الدين العطار وكلهم يرمي إلى أن يقيم التصوف الإسلامي على دعائم فلسفية أو فارسية وهندية أو يونانية) (2). ثانيا: الكتّاب الذين كتبوا عن التصوف وأثبتوا تأثرهم بالفكر اليوناني الوثني: لقد أثبت كثير من الكتاب الذين كتبوا في الفكر الصوفي تأثر المتصوفة إلى حد بعيد بفلاسفة الفكر اليوناني الوثني ومن هؤلاء الكتاب كتبوا عن تاريخ التصوف الدكتور عبدالرحمن بدوي حيث قال في معرض حديثه عن الأثر اليوناني في التصوف تحت عنوان (أرثولوجية أرسطو طاليس) وهو كما تعلم فصول ومقتطفات منتزعة من التاسوعات الأفلاطونية وفيه نظرية الفيض والواحد التي ستلعب دورا خطيرا في التصوف الإسلامي خصوصا عند السهروردي المقتول وابن عربي وفيه أيضا نظرية الكلمة.   (1) ((جمهرة الأولياء)) المنوفي (1/ 292). (2) ((جمهرة الأولياء)) للمنوفي (1/ 276). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 498 ثم قال عبدالرحمن بدوي: (ولا شك في تأثر الصوفية المسلمين ابتداء من القرن الخامس الهجري بما في (أرثولوجية) من آراء وإنما الخلاف هنا هو في هل وصل تأثيره إلى التصوف الإسلامي مباشرة أو عن طريق كتب الإسماعيلية وكلها حافلة بالتأثر به ويتلوه في الأهمية الكتب المنسوبة إلى هرمس وشخصيته بارزة التأثير عند السهروردي المقتول وابن عربي والأول خصوصا في فكرة الطباع التام الذي تأثر بها كل الإشراقيين بعد الهروردي والطباع التام هو (النور) ويسمى أيضا الروحانية والطبيعة الكريمة .. ومن النصوص المهمة المنسوبة إلى هرمس رسالة في معاذلة النفس التي نشرناها في كتابنا الأفلاطونية المحدثة عند العرب فهي مناجيات للنفس وتحليل لها وتأنيب للنفس الأمارة ودعوة للنفس من أجل التطهر والتقدس ومن السهل أن نجد أصداءا لها ومشابه في مناجيات الصوفية المسلمين ثم إن هناك فصولا منحولة لأفلاطون وسقراط وغيرهما من الفلاسفة اليونانيين معظمها آداب وأقوال وكلها تتشابه في بعض أرائها مع الأقوال المنسوبة إلى كبار الصوفية المسلمين في كتب طبقات الصوفية المختلفة كالقشيري والسلمي والشعراني والهروي والعطار والجامي وغيرهم. ومن الكتاب الذين كتبوا عن التصوف وأقروا تأثره بالفكر اليوناني الوثني الدكتور أبو الوفاء الغنيمي التفتازاني فقد قال متحدثا عن تأثر المتصوفة بالأفكار اليونانية: (ونحن لا ننكر اليوناني على التصوف الإسلامي فقد وصلت الفلسفة اليونانية عامة والأفلاطونية المحدثة خاصة إلى صوفية الإسلام عن طريق الترجمة والنقل أو الاختلاط مع رهبان النصارى في الرها وحران وقد خضع المسلمون لسلطان أرسطو وإن كانوا قد عرفوا فلسفة أرسطو على أنها فلسفة إشراقية لأن عبد المسيح بن ناعمة الحمصي حينما ترجم الكتاب المعروف بـ (أرثولوجية أرسطوطاليس) قدمه إلى المسلمين على أنه لأرسطو على حيث أنه مقتطفات من تاسوعات أفلاطون وليس من شك في أن فلسفة أفلوطين السكندري التي تعتبر أن المعرفة مدركة بالمشاهدة في حال الغيبة عن النفس وعن العالم المحسوس كان لها أثرها في التصوف الإسلامي فيما نجده من كلام متفلسفي الصوفية عن المعرفة وكذلك كان لنظرية أفلوطين السكندري في الفيض وترتيب الموجودات عن الواحد والأول أثرها على الصوفية المتفلسفين من أصحاب الوحدة كالسهروردي المقتول ومحيي الدين بن عربي وابن الفارض وعبد الحق بن سبعين وعبد الكريم الجيلي ومن نحا نحوهم ونلاحظ بعد ذلك أن أولئك المتفلسفة من الصوفية نتيجة اطلاعهم على الفلسفة اليونانية قد اصطنعوا كثيرا من مصطلحات هذه الفلسفة مثل (الكلمة) (العقل الأول) (العقل الكلي) (العلة والمعلول) وغير ذلك من المصطلحات الفلسفية اليونانية) (1).   (1) ((مدخل إلى التصوف)) أبو الوفا الغنيمي (33ـ 34). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 499 ومن العلماء الكبار الذين أثبتوا المتصوفة بالفلاسفة في عقائدهم الضالة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فقد تلك عن سبب وقوع المتصوفة في القول بوحدة الوجود وأثبت أن سبب ذلك هو سلوكهم مسلك الفلاسفة وبعدهم عن الكتاب والسنة فقال: (ولهذا لما سلك ابن عربي وابن سبعين وغيرهما هذه الطرق الفاسدة أورثهم ذلك الفناء المذموم عن الوجود السوي فجعلوا الموجود واحدا ووجود كل مخلوق هو عين وجود الحق وحقيقة الفناء عندهم أن لا يرى إلا الحق وهو الرائي والمرئي والعابد والمعبود والذاكر والمذكور والآمر خالقه والآمر المخلوق وهو المتصف بكل ما يوصف به الوجود من مدح وذم وعباد الأصنام ما عبدوا غيره وما ثم موجود مغاير له ألبته عندهم وهذا منتهي سلوك هؤلاء الملحدين فحقيقة قولهم قول فرعون لأن فرعون كان في الباطن عالما بأن ما يقوله باطل وكان جاحدا مريدا للعدو والفساد ولهذا جحد وجود الصانع بالكلية وأما هؤلاء فجهال ضلال يحسبون أن ما يقولونه هو حقيقة إثبات هذا العالم ولا ينكر أن الموجودات تشترك في مسمى الوجود وإنما ينكر أن لهذا الوجود خالقا مباينا له ولهذا أمر ببناء الصرح ليكذب موسى بزعمه أن للعالم إلها فوقه كما حكى الله لنا في كتابه فقال وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ [غافر:36 - 37] وأكثر هؤلاء الملاحدة القائلين بوحدة الوجود يقولون إن فرعون أكمل من موسى ... ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهؤلاء ليسوا مسلمين ولا يهودا ولا نصارى بل كثير من المشركين أحسن حالا منهم وهؤلاء أئمة نظار المتفلسفة وصوفيتهم وشيعتهم كان من أسباب تسلطهم وظهورهم هو بدع أهل البدع من الجهمية المعتزلة والرافضة ومن نحا نحوهم في بعض الأصول الفاسدة فإن هؤلاء اشتركوا هم وأولئك الملاحدة في أصول فاسدة يجعلونها قضايا عقلية صادقة وهي باطلة كاذبة مخالفة للشرع والعقل. (1). ومن الكتاب الذين كتبوا عن التصوف وأكدوا تأثر المتصوفة بالفكر اليوناني الوثني كون قاسم غني الفارسي فقد قال: (وقد أثر في التصوف والعرفان ذيوع آراء أفلاطون وظهور الفلسفة الأفلاطونية الحديثة بين المسلمين أكثر من أي شيء وبعبارة أخرى أحرز التصوف الذي كان إلى ذلك الحين زهدا عمليا أساسا نظريا وعلميا وإذا دققنا في آراء الأفلاطونية الحديثة وجدنا أن الصوفي الزاهد الذي غض الطرف عن الدنيا وما فيها بحكم أنها فانية وتعلق خاطره بما هو خالد يشعر بلذة الرضى في فلسفة أفلوطين بل يحصل على منتهي غايته في تلك الآراء وموضوع وحدة الوجود في الفلسفة الأفلاطونية الحديثة جذب أنظار الصوفية أكثر من أي شيء آخر لأن الذين يؤمنون بهذه العقيدة يرون أن العالم كله مرآة لقدرة الحق تعالى وكل موجود بمثابة مرآة تتجلى ذات الله فيها إلا أن المرايا كلها ظاهرة والوجود المطلق والوجود الحقيقي هو الله وينبغي على الإنسان أن يسعى حتى يمزق الحدب ويجعل نفسه محلا لتجلي جمال الحق الكامل ويبلغ السعادة الأبدية على السالك أن يطير بجناح العشق نحو الله تعالى ويحرر نفسه من قيد ودود الذي لي إلا مظهر فحسب وينمحي ويفنى في ذات الله أي الموجود الحقيقي) (2).   (1) ((الرد على المنطقيين)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (521ـ 522 ـ 523). (2) ((التصوف الإسلامي)) قاسم غني، ترجمة عربية صادق نشأت (142ـ 143). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 500 فهذه آراء بعض الكتاب الباحثين الذين كتبوا عن التصوف وكما هو واضح أمامنا فقد أثبتوا تأثر المتصوفة بالفكر اليوناني الوثني ومما ينبغي أن يعلم أن هؤلاء الكتاب الذين نقلت عنهم هذه الأقوال إما متصوفة بحت وإما من الموالين لهم والمدافعين عنهم إلا شيخ الإسلام ابن تيمية. وقد صرح كثير من الكتاب بتأثر المتصوفة بالفكر اليوناني الوثني ومنهم المستشرق نيكلسون فقد قال مقررا تأثر المتصوفة بالفكر اليوناني: (وقد كان لمصر والشام دائما الصدارة بين الأمم التي انتشرت فيها الحضارة اليونانية وهما البلدان ظهر فيهما التصوف لأول مرة بمعناه الدقيق ... والرجل الذي اضطلع بأكبر قسط في تطور هذا النوع من التصوف هو ذو النون المصري الذي وصف بأنه حيك كيمائي أو بأنه بعبارة أخرى أحد أولئك الذين نهلوا من منهل الثقافة اليونانية فإذا أضفنا إلى هذا أن المعاني التي تكلم فيها ذو النون هي في جوهرها المعاني التي نجدها في كتابات يونانية مثل كتابات (ديونيسيون) وليس عندي من شك في أن المذهب الغنوصي بعدما أصابه من التغيير والتحوير على أيدي مفكري المسيحية واليهودية وبعد امتزاجه بالنظريات اليونانية كان من المصادر الهامة التي أخذ عنها رجال الصوفية والغنوصية مواضع اتفاق كثيرة هامة ولا شك عندي أيضا في أن دراسة هذه المسألة دراسة دقيقة وافية لما يأتي بأطيب الثمرات ولكني على يقين من أننا إذا نظرنا إلى الظروف التاريخية أحاطت بنشأة التصوف استحال علينا أن نرد أصله إلى عامل هندي أو فارسي ولزم أن نعتبره وليدا لاتحاد الفكر اليوناني والديانات الشرقية أو بمعنى أدق وليد اتحاد الفلسفة الأفلاطونية الحديثة والديانة المسيحية والمذهب الغنوصي (1). والخلاصة بعد أن أوردنا نصوصا عديدة عن الصوفية أنفسهم التي مدحوا فيها فلاسفة اليونان وأوردنا أقوال بعض الباحثين الذين كتبوا عن التصوف قديما وحديثا والذين أثبتوا كلهم تأثر الصوفية بالفكر الفلسفي اليوناني نقول إن تأثر الصوفية بالفكر اليوناني الوثني كان من أهم العوامل التي أدت إلى انحراف الصوفية عن الطريق القويم في العقيدة والعبادة والسلوك وذلك لأنهم ابتغوا الهدى في غر الكتاب والسنة فوقعوا في متاهات وضلالات وخرافات وبدع عقدية وسلوكية وتعبدية المصدر: مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية لإدريس محمود إدريس – 1/ 173   (1) ((في التصوف الإسلامي وتاريخه)) لنيكلسون (73 ـ 74). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 1 المبحث الأول: التفسير الإشاري عرف التفسير الصوفي بالتفسير الإشاري، ويتمثل على زعمهم في أن يرى المفسر معنى آخر غير المعنى الظاهر، ربما تحتمله الآية الكريمة ولكنه لا يظهر للعامة من الناس، وإنما يظهر لخاصتهم ومن فتح الله قلبه وأنار بصيرته وسلكه ضمن عباده الصالحين، الذين منحهم الله الفهم والإدراك، وهذا النوع من العلم ليس من العلم الكسبى الذي ينال بالبحث والمذاكرة وإنما هو من العلم الوهبى الذي هو أثر التقى والاستقامة والصلاح، كما قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:282]. والتفسير الصوفي يعتمد أساسا على أن للقرآن ظاهرا وباطنا، ويقصد بالظاهر الشريعة وبالباطن الحقيقة، وعلم الشريعة علم المجاهدة، وعلم الحقيقة علم الهداية، وعلم الشريعة علم الآداب وعلم الحقيقة علم الأحوال، وعلم الشريعة يعلمه علماء الشريعة وعلم الحقيقة يعلمه العلماء بالله، يقول السلمى في مقدمة تفسيره عن الباعث لإقدامه على كتابة تفسير القرآن: (لما رأيت المتوسمين بعلوم الظاهر قد سبقوا في أنواع فرائد القرآن، من قراءات وتفاسير ومشكلات وأحكام وإعراب ولغة ومجمل ومفصل وناسخ ومنسوخ، ولم يشتغل أحد منهم بفهم الخطاب على لسان أهل الحقيقة إلا آيات متفرقة، أحببت أن أجمع حروفا أستحسنها من ذلك وأضم أقوال مشايخ أهل الحقيقة إلى ذلك وأرتبه على السور حسب وسعى وطاقتى) (1) ويقول سهل بن عبد الله التسترى في تفسيره، وهو أول ما ظهر للصوفية من تفسير للقرآن: (ما من آية في القرآن إلا ولها أربعة معان، ظاهر وباطن وحد ومطلع، فالظاهر التلاوة، والباطن الفهم والحد حلالها وحرامها والمطلع إشراف القلب على المراد بها فقها من الله عز وجل، فالعلم الظاهر علم عام، والفهم لباطنه والمراد به خاص) (2). وقد ظهر أيضا تفسير ثالث لعبد الكريم القشيرى سلك فيه مسلك الصوفية في إدراك الإشارات التي يراها الصوفي خلف آيات القرآن، وسماه لطائف الإشارات، قال عن الباعث لتأليفه: (وكتابنا هذا يأتى على طرف من إشارات القرآن على لسان أهل المعرفة إما من معاني قولهم أو قضايا أصولهم، سلكنا فيه طريق الإقلال خشية الملال مستمدين من الله تعالى عوائد المنة، متبرئين من الحول والمنة مستعصمين من الخطأ والخلل، مستوثقين لأصوب القول والعمل) (3). ولم يظهر في تاريخ التفسير الإشاري حتى القرن الخامس، أهم من حقائق التفسير للسلمى، ولطائف الإشارات للقشيري وإن كان القشيري قد استفاد من السلمى فائدة كبرى واقتبس منه كثيرا من آرائه (4).   (1) تفسير القرآن الكريم على الطريقة الصوفية، دراسة وتحقيق حقائق التفسير لأبي عبد الرحمن محمد بن الحسين الأزدى السلمى رسالة ماجستير، إعداد سلمان نصيف جاسم التكريتى، مكتبة كلية دار العلوم، جامعة القاهرة سنة 1975م ص22 (2) ((تفسير القرآن العظيم)) لسهل بن عبد الله، مطبعة السعادة، سنة 1908م ص61 (3) ((لطائف الإشارات))، للقشيرى، تحقيق الدكتور إبراهيم بسيونى، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثالثة، القاهرة، سنة 1981م، (1/ 41). (4) ((تاريخ أدبيات در إيران)) للدكتور ذبيح الله صفا الطبعة الثالثة سنة1339هت2/ 257 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 2 وقد ظهر تفسير القرآن المنسوب لابن عربي، ولكنه في الحقيقة للكاشاني السمرقندي، ويعد هذا التفسير أهم تفسير إشارى بعد اللطائف، قال مؤلفه في مقدمته: (ما نزل من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن، ولكل حرف حد ومطلع، فالظهر هو التفسير، والبطن هو التأويل، والحد هو ما تتناهي إليه الفهوم من معنى الكلام، والمطلع ما يصعد إليه منه فيطلع على شهود الملك العلام) (1). ويمكن القول باستقراء التفسيرات الصوفية السابقة أن السمة الغالبة في التفسير الإشاري لدى الصوفية تتمثل فيما يلى: (1 - أن للقرآن ظاهرا وباطنا، وأن الظاهر للعوام والباطن لا يدركه إلا الخواص وإدراك الخواص مستمد من فيض إلهي ينير بصائرهم، ويكشف لهم على زعمهم عن معارف لدنية مباشرة. (2 - أن العلم بالقرآن على هذا النحو يفترق عن العلوم القرآنية الأخرى في بدايته وفى طرائقه وفي غاياته، فضلا عن أنه يفترق عن سائر العلوم بضرورة العمل، فالعالم لابد أن يكون عاملا وعمله هو جهاده ورياضاته التي تؤدى إلى صقل إرادته وشحذ همته وتنقية مرآته الباطنية من كل شائبة، فالتفسير عموما ليس تفسيرا مباشرا، بل يسلك تزكية النفوس وتطهير القلوب والحث على التحلى بالأخلاق الفاضلة. (3 - أن التفسير الإشاري وإن كان يعتمد على ما وراء العبارة الظاهرية إلا أنه لم تخل من بعض ما نقل من الآثار على النحو المذكور في التفسير بالمأثور أو التفسير بالرأي بالطريقة الاستنباطية، أو تفسيرات تعتمد على معاني الألفاظ والتفسيرات البلاغية. (4 - تتعرض هذه التفسيرات لكثير من المعاني والمصطلحات الصوفية التي تكشف عن طريقتهم وتجربتهم، لا سيما أنهم يوجهون الآيات كشواهد لهذه الرموز والمصطلحات. (5 - ومع ما فيها من معاني تقبل بصعوبة، أو يلتمس لها وجها تحمل عليه بمشقة، إلا أن هناك معان مشكلة تصل في بعض الأحيان إلى الكفر والزندقة. (6 - لم تسلم هذه التفسيرات من الإسرائيليات، والاستشهاد بغير القرآن والسنة، ولم تتبع الدقة في تحري ثبوت الحديث، أو مراعاة التعليق على الأسانيد، وكذلك لم تخل من فكر باطني (2) المصدر: المعجم الصوفي لمحمود عبد الرازق 1/ 116 - 119   (1) ((تفسير ابن عربى)) (1/ 4) وانظر تحقيق نسبته في ((تفسير المنار)) (1/ 18)، ومحى الدين بن عربى مفسرا، إعداد حامد محمود الزفرى، رسالة دكتوراه، بمكتبة كلية أصول الدين جامعة الأزهر القاهرة سنة 1972م (ص174) (2) انظر ((الموافقات)) للشاطبى (3/ 403) وما بعدها، وانظر أيضا في ((التفسير الصوفي للقرآن)) إعداد حسن عبد التواب رسالة دكتوراه بمكتبة كلية أصول الدين جامعة الأزهر الشريف القاهرة، سنة 1972م (ص144) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3 المبحث الثاني: أدلة المجيزين للتفسير الإشاري استدل الصوفية بكثير من الآيات القرآنية العامة، التي تدعو إلى التدبر وفهم كتاب الله بالتأمل وحسن الاستماع، كقوله تعالى: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:1 - 3] وكقوله: فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء:78]، والمعنى لا يفهمون عن الله مراده من الخطاب، ولم يرد أنهم لا يفهمون نفس الكلام وكقوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا محمد:24 [حيث دل على أن ظاهر المعنى شيء وهم عارفون به لأنهم عرب، والمراد هو شيء آخر وهو الذي لا شك فيه أنه من عند الله، والتدبر إنما يكون لمن التفت إلى المقاصد، وذلك ظاهر في أنهم أعرضوا عن مقاصد القرآن، فلم يحصل منهم تدبر، وكقوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] ق:37 [، وقال أبو سعيد الخراز: (أول الفهم لكتاب الله عز وجل العمل به، لأن فيه العلم والفهم والاستنباط، وأول الفهم إلقاء السمع والمشاهدة لقوله عز وجل: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] ق:37 [(1).] ويواصل السراج الطوسي استدلاله على التفسير الإشاري فيقول: وقال تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر:18] فالقرآن كله حسن ومعنى اتباع الأحسن، ما يكشف للقلوب من العجائب عند الاستماع وإلقاء السمع من طريق الفهم والاستنباط) (2). ومن السنة يستدلون بقوله: " لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد ومطلع" (3)، فلفظ الظاهر والباطن على زعمهم قرآنيان، ولا يمكن الاعتراض على الفكرة القائلة بأن في القرآن ناحية واضحة تدرك في ضوء الاشتقاق، وأن به ناحية أخرى ربما كانت أخفق وأعمق بالنسبة للأولى، لأن هذه الفكرة يمكن أن تطبق في الواقع على أي نص فكل نص له ناحية قريبة مباشرة تدرك بلا عناء، وناحية أخرى تحتاج إلى عمل وجهد في استيعابها وفهمها، كما لا يمكننا أن ننكر أن الحقيقة الإنسانية الثابتة تشير إلى عدم تساوي الناس في الفهم والإدراك، وقد ظهرت تلك الحقيقة في حياة الرسول وصحابته رضي الله عنهم الذين تفاوتت أقدارهم في سرعة ومدى فهمهم للقرآن، وهذا يفسر ما أثر عنهم من تفسيرات مختلفة (4).   (1) ((اللمع في التصوف)) للسراج الطوسي (ص 113) (2) ((اللمع في التصوف)) للسراج الطوسي (ص 113) (3) لا أصل له، ولم أجده في كتب السنة مرفوعا إلى النبى ولكنه أثر موقوف على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ولفظه قال: " إن القرآن ليس منه حرف إلا له حد ولكل حد مطلع " انظر ((معجم الطبرانى الكبير)) رقم (8667) (9/ 136) (4) انظر ((التصوف طريقا وتجربة ومذهبا)) للدكتور محمد كمال جعفر (ص157) بتصرف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4 وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فقال بعضهم: لم تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: إنه ممن قد علمتم قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم، قال: وما أريته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني، فقال: ما تقولون في: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [النصر:2 - 1] حتى ختم السورة؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري أو لم يقل بعضهم شيئا، فقال لي: يا ابن عباس أكذاك تقول؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله أعلمه الله له: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] فتح مكة، فذاك علامة أجلك فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:4 - 3] قال عمر رضي الله عنه: ما أعلم منها إلا ما تعلم " (1). والشاهد هنا أن ابن عباس رضي الله عنه فهم من خطاب الله معنى خفيا وراء ظاهر الألفاظ لم يدركه عامة الصحابة في مجلسهم، وهذا يشبه عمل الصوفية في التفسير الإشاري. ومثله أيضا ما روى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله جلس على المنبر فقال: " إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده، فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول فديناك بآبائنا وأمهاتنا فكان رسول الله هو المخير، وكان أبو بكر هو أعلمنا به. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر إلا خلة الإسلام، لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر) (2). فأبو بكر الصديق فهم بطريق الإشارة ما لم يفهمه عامة الصحابة وأسعد بذلك رسول الله وكان الأمر كما قال. وعن عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَرِهَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ نَسْخَ الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُعْزَلُ عَنْ نَسْخِ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ وَيَتوَلاهَا رَجُلٌ وَاللَّهِ لَقَدْ أَسْلَمْتُ وَإِنَّهُ لَفِي صُلْبِ رَجُلٍ كَافِرٍ، يُرِيدُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: يَا أهل الْعِرَاقِ اكْتُمُوا الْمَصَاحِفَ الَّتِي عِنْدَكُمْ وَغُلُّوهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161] فَالْقُوا اللهَ بِالْمَصَاحِفِ (3). فالغلول، وهو إخفاء الغنائم طمعا قبل تقسيمها فعل المجرمين، وظاهر الآية ورد في عقابهم وفضحهم يوم القيامة، وقد استخدمها ابن مسعود رضي الله عنه بطريق الإشارة فيمن غل القرآن وأخفاه، ويرد عليهم بأن الصحابة انكروا عليه ذلك فقَالَ الزُّهْرِيُّ: (فَبَلَغَنِي أَنَّ ذَلِكَ كَرِهَهُ مِنْ مَقالَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رِجَالٌ مِنْ أَفَاضِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ) المصدر: المعجم الصوفي لمحمود عبد الرازق 1/ 120 - 123   (1) رواه البخاري (4294) (2) رواه البخاري (3904) ومسلم (2382) (3) انظر للمقارنة والتوسع في هذه النقطة، ((الفكر السياسي عند الباطنية)) وموقف الغزالي منه، إعداد أحمد عرفات أبو الحسن القاضي رسالة ماجستير بكلية دار العلوم جامعة القاهرة 1988م، الفصل الخاص بحيل الباطنية وأصناف المتبعين لهم (ص 19/ 217). و ((مذهب التأويل عند الشيعة الباطنية))، دراسة تحليلية نقدية، إعداد محمد محمود عبد الحميد رسالة ماجستير بالموضع السابق سنة1983، وانظر أيضا ((الشيعة الإمامية الاثنا عشرية ومنهجهم في التفسير)) إعداد محمد محمد إبراهيم العسال، رسالة دكتوراه بمكتبة كلية أصول الدين، جامعة الأزهر الشريف بالقاهرة سنة1981م الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 المبحث الثالث: آراء العلماء في التفسير الإشاري اختلف العلماء في التفسير الإشاري، وتباينت فيه أراؤهم فمنهم من أجازه ومنهم من منعه، ومنهم من عده من كمال الإيمان ومحض العرفان، ومنهم من اعتبره زيغا وضلالا وانحرافا عن دين الله تبارك وتعالى. والواقع أن الموضوع دقيق يحتاج إلى بصيرة وروية ونظرة إلى أعماق الحقيقة ليظهر ما إذا كان الغرض من هذا النوع من التفسير هو اتباع الهوى والتلاعب في آيات الله كما فعل الباطنية والشيعة، فيكون ذلك من قبيل الزندقة والإلحاد، أو الغرض منه الإشارة إلى أن كلام الله تعالى يعز أن يحيط به بشر إحاطة تامة، وأن كلامه تعالى وضعت فيه مفاهيم وأسرار ودقائق وعجائب لا تنقضى على مدار الأزمان، ويتوالى إعجازه مرة بعد أخرى، فيكون ذلك من محض العرفان وكمال الإيمان، كما نسب السيوطي إلى ابن عباس رضى الله عنهما: " إن القرآن ذو شجون وفنون وظهور وبطون، لا تنقضى عجائبه ولا تبلغ غايته، فمن أوغل فيه برفق نجا ومن أوغل فيه بعنف هوى، أخبار وأمثال وحلال وحرام، وناسخ ومنسوخ، ومحكم ومتشابه، وظهر وبطن، فظهره التلاوة، وبطنه التأويل، فجالسوا به العلماء وجانبوا به السفهاء " (1). ويمكن أن نعرض أهم آراء العلماء التي نسترشد بها في تحديد شروط قبول التفسير الإشاري فمن ذلك: (1 - رأى ابن الصلاح: ينقل ابن الصلاح عن الإمام أبي الحسن الواحدى المفسر أنه قال: (صنف أبو عبد الرحمن السلمى حقائق التفسير، فإن كان قد اعتقد أن هذا تفسير فقد كفر) ثم يعقب على ذلك بقوله: (وأنا أقول: الظن بمن يوثق به منهم أنه إذا قال شيء من أمثال ذلك أنه لم يذكره تفسيرا ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة من القرآن العظيم، فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية، وإنما ذلك ذكر منهم لنظير ما ورد به القرآن فإن النظير يذكر بالنظير ومن ذلك، قتال النفس في الآية المذكورة في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123] فكأنه قال: أمرنا بقتال النفس ومن يلينا من الكفار ومع ذلك فياليتهم لم يتساهلوا في مثل ذلك لما فيه من الإلهام والإلباس). (2 - رأى الشاطبى: يقسم الشاطبى الاعتبارات القرآنية الواردة على القلوب الطاهرة وأصحاب البصائر إذا صحت على كمال شروطها على ضربين: 1 - ما يكون أصل انفجاره من القرآن ويتبعه سائر الموجودات، فإن الاعتبار الصحيح في الجملة هو الذي يخرق من البصيرة في حجب الأكوان من غير توقف، فإن توقف فهو غير صحيح حسبما بينه أهل التحقيق بالسلوك.   (1) ((الإتقان في علوم القرآن)) (2/ 185). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 2 - ما يكون انفجاره من الموجودات كليا أو جزئيا ويتبعه الاعتبار في القرآن. فإن كان الأول فهذا الاعتبار صحيح وهو معتمد على فهم باطن القرآن من غير إشكال، وإن كان الثاني فالتوقف على اعتباره في فهم باطن القرآن لازم وأخذه على إطلاقه ممتنع لأنه بخلاف الأول (1). (3 - رأى تاج الدين بن عطاء الله: ويعتبر ابن عطاء الله تفسير الصوفية لكلام الله ورسوله بالمعاني الغريبة، ليس إحالة للظاهر عن ظاهره، ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جلبت الآية له ودلت عليه في عرف اللسان، وثمة أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث لمن فتح الله قلبه، وقد جاء في الحديث لكل آية ظهر وبطن، فلا يصدنك عن تلقى هذه المعاني منهم أن يقول لك ذو جدل ومعارضة هذا إحالة لكلام الله ورسوله، فليس ذلك بإحالة وإنما يكون إحالة لو قالوا: لا معنى للآية إلا هذا وهم لم يقولوا ذلك بل يقرون بالظواهر على ظواهرها مرادا بها موضوعاتها ويفهمون عن الله ما أفهمهم (2). (4 - رأى حاجى خليفة: يرى حاجى خليفة أن التصوف علم كيفية رقي أهل الكمال من النوع الانساني في مدارج سعادتهم، والأمور العارضة لهم في درجاتهم، بقدر الطاقة البشرية، وأما التعبير عن هذه الدرجات والمقامات كما هو حقه، فغير ممكن لأن العبارات إنما وضعت للمعاني التي وصل إليها فهم أهل اللغات، وأما المعاني التي لا يصل إليها إلا غائب عن ذاته فضلا عن قوى بدنه، فليس يمكن أن يوضع لها ألفاظ، فضلا عن أن يعبر عنه بألفاظ، فكما أن المعقولات لا تدرك بالأوهام والموهومات، لا تدرك بالخياليات، والتخيلات لا تدرك بالحواس، كذلك ما من شأنه أن يعاين بعين اليقين لا يمكن أن يدرك بعلم اليقين، فالواجب على من يرد ذلك أن يجتهد في الوصول إليه، بالعين دون أن يطلبه بالبيان ؤ العقل (3). (5 - رأى سعد الدين التفتازانى: في شرحه للعقائد النسفية وتحت قول النسفى: (النصوص على ظاهرها والعدول عنها إلى معان يدعها أهل الباطن إلحاد) علق سعد الدين التفتازانى بقوله: (سميت الملاحدة باطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظاهرها، بل لها معان باطنة لا يعرفها إلا المعلم وقصدهم في ذلك نفى الشريعة بالكلية، وأما ما يذهب إليه بعض المحققين بأن النصوص على ظاهرها، ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى دقائق تكشف عن أرباب السلوك، يمكن التوفيق بينها وبين الظواهر المرادة، فهي من كمال الإيمان ومحض العرفان) (4).   (1) ((الموافقات في أصول الشريعة)) للإمام الشاطبي، المطبعة التجارية بمصر، (3/ 272). (2) ((الموافقات في أصول الشريعة)) للإمام الشاطبي، المطبعة التجارية بمصر، (3/ 272). (3) ((كشف الظنون عن أسامى الكتب والفنون))، تأليف مصطفى بن عبد الله المشهور بحاجي خليفة، نشرة المستشرق جوستاف فلويجل، طبعة مكتبة المثنى، بغداد، بدون تاريخ (1/ 413)، وكلام حاجى خليفة يفتح بابا لا يغلق لتلبيس للباطنية وتراهات الصوفية، وكل من اكتسى بزيهم. (4) ((العقائد النسفية وشرحها)) لسعد الدين التفتازانى (ص143) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 (6 - رأى محى الدين ابن عربي: يقول: (وكما كان أصل تنزيل الكتاب من الله على أنبيائه، كان تنزيلا للفهم على قلوب بعض المؤمنين، والأنبياء ما قالت على الله مالم يقل لها، ولا أخرجت ذلك من نفوسها ولا أفكارها، ولا تعملت فيها، بل جاءت من عند الله، قال تعالى: تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42] وقال فيه: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42]، وإذا كان الأصل المتكلم فيه من عند الله لا من فكر الإنسان ورؤيته، وعلماء الرسوم يعلمون ذلك، فينبغى أن يكون أهل الله العاملون به أحق بشرحه، وبيان ما أنزل الله فيه من علماء الرسوم فيكون شرحه أيضا تنزيلا من عند الله على قلوب أهل العلم كما كان الأصل) (1). (7 - رأي أبي حامد الغزالي: يقول الغزالي: (لا تظنن في ضرب الأمثال، فرصة منى في رفع الظواهر واعتقادا في إبطالها حتى أقول مثلا لم يكن مع موسى نعلان ولم يسمع الخطاب بقوله: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه:12] حاشا لله فإن إبطال الظواهر رأي الباطنية الذين نظروا بعين عوراء إلى أحد العالمين، وجهلوا جهلا بالموازنة بينهما، فلم يفقهوا وجهه، كما أن إبطال الأسرار مذهب الحشوية، فالذى يجرد الظاهر حشوى، والذى يجرد الباطن باطنى، والذى يجمع بينهما كامل، بل أقول: موسى فهم من خلع النعلين اطرح الكونين، فامتثل الأمر ظاهرا بخلع النعلين وباطنا بخلع الكونين) (2). (8 - رأي الأستاذ محمد عبد العظيم الرزقانى: يرى الزرقانى أن بعض الناس قد فتنوا بالإقبال على دراسة تلك الإشارات والخواطر، فدخل في روعهم أن الكتاب والسنة بل والإسلام كله ما هو إلا سوانح وواردات على هذا النحو من التأويلات والتوجيهات، وزعموا أن الأمر ما هو إلا تخييلات، وأن المطلوب منهم هو الشطح مع الخيال أينما شطح فلم يتقيدوا بتكاليف الشريعة، ولم يحترموا قوانين اللغة العربية في فهم أبلغ النصوص العربية، كتاب الله وسنة رسوله والأدهي من ذلك أنهم يتخيلون ويخيلون للناس أنهم هم أهل الحقيقة، الذين أدركوا الغاية واتصلوا بالله اتصالا أسقط عنهم التكليف، وسما بهم عن حضيض الأخذ بالأسباب ما دموا في زعمهم مع رب الأرباب، وهذا لعمر الله هو المصاب العظيم الذي عمل له الباطنية، كيما يهدموا التشريع من أصوله ويأتوا بنيانه من قواعده، فواجب النصح لإخواننا المسلمين يقتضينا أن نحذرهم الوقوع في هذه الشباك، ونشير عليهم أن ينفضوا من أمثال تلك التفاسير الإشارية الملتوية، لإنها كلها أذواق ومواجيد خارجة عن حدود الضبط والتقييد، وكثيرا ما يختلط فيها الخيال بالحقيقة والحق بالباطل فالأحرى بالفطن العاقل أن ينأى بنفسه عن هذه المزالق وأن يفر بدينه من هذه الشبهات، وأمامه في الكتاب والسنة وشروحهما على قوانين الشريعة واللغة رياض وجنات) (3).   (1) ((الفتوحات المكية)) (1/ 280) وينبغى التنبيه على أن ابن عربى يقول هذا الكلام كخطاب لأهل الظاهر، أما حقيقة مذهبة، فكلام الصوفية وغيرهم في القرآن وغيره هو كلام الله على اعتبار أنه تجلى في هذه التعينات فتنبه، انظر المزيد عن رأى ابن عربى في التفسير الإشارى للقرآن، محى الدين بن عربى مفسرا، إعداد حامد محمود الزفرى، رسالة دكتوراه، بمكتبة كلية أصول الدين، جامعة الأزهر، القاهرة سنة 1972م. (2) ((مشكاة الأنوار))، لأبي حامد الغزالي، تحقيق الدكتور أبي العلا عفيفى، الدار القومية القاهرة 1964م، (ص33)، و ((تفسير الغزالي لخلع النعلين باطنا بخلع الكونين))، تعسف كبير، فليس في دلالة اللغة ولا قرينة الخطاب اطلاق الكونين وإرادة النعلين. (3) ((منأهل العرفان في علوم القرآن)) للزرقانى، طبعة عيسى البأبي 1953م، (1/ 558). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 (9 - رأي الأستاذ محمد حسين الذهبي: يقرر الذهبي أن الأدلة مجتمعة تعطينا أن القرآن الكريم له ظهر وبطن، ظهر يفهمه كل من يعرف اللسان العربي، وبطن يفهمه أصحاب الموهبة وأرباب البصائر، غير أن المعاني الباطنية للقرآن، لا تقف عند الحد الذي تصل إليه مداركنا القاصرة بل هي أمر فوق ما نظن وأعظم مما نتصور (1). يقول: (أما المعنى الباطن فلا يقف على جريانه على اللسان وحده بل لا بد فيه مع ذلك إلى نور يقذفه الله تعالى في قلب الإنسان، يصير به نافذ البصيرة سليم التفكير، ومعنى هذا أن التفسير الباطن ليس أمرا خارجا عن مدلول اللفظ القرآنى) (2) ويقول أيضا: (أما الصوفية أهل الحقيقة وأصحاب الإشارة فقد اعترفوا بظاهر القرآن ولم يجحدوه كما اعترفوا بباطنه ولكنهم حين فسروا المعاني الباطنية خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، فبينما تجد لهم أفهاما مقبولة تجد لهم بجوارها أفهاما لا يمكن أن يقبلها العقل أو يرضى بها الشرع) (3). والخلاصة في رأي الذهبي أن مثل هذه التفاسير الغريبة للقرآن مزلة قدم لمن يعرف مقاصد القوم، وليتهم احتفظوا بها عند أنفسهم ولم يذيعوها على الناس فيوقعهم في حيرة واختلاف، منهم من يأخذها على ظاهرها ويعتقد أن ذلك هو مراد الله من كلامه، وإذا عارضه ما ينقل في كتب التفسير على خلافها ربما كذب بها أو أشكل عليه ومنهم من يكذبها على الإطلاق ويرى أنها تقول على الله وبهتان، إذن ليتهم ما فعلوا ذلك، إذن لأراحونا من هذه الحيرة وأراحوا أنفسهم من كلام الناس فيهم وقذف البعض لهم بالكفر والإلحاد في آيات الله (4). (10 - رأي الدكتور محمد كمال جعفر: ويرى الدكتور جعفر أنه يجب أن لا يغيب عن أذهاننا أنه من الطبيعي أن لا يقف الصوفي عند المعاني التقليدية في أي من القرآن أو السنة قولا وعملا، لأنه ليس كالفقيه أو العالم الذي يعتمد على النظر العقلى فحسب، لأن ذلك لا يشبع رغبته ولا يمد روحه بالزاد الضرورى، بل إنه يتعمق إلى معان وراء المعنى الظاهر المباشر، وإن لم يكن من الضرورى أن تكون هذه المعاني العميقة متناقضة مع تلك المعاني الظاهرية، ويشير الدكتور جعفر إلى نقطة هامة، وهي أن القرآن بالنسبة للصوفى يحمل حقيقتين متساويتين في الأهمية، فهو من جهة وحى تاريخى اتخذ وضعه في الزمان والمكان المحددين، وهو من جهة أخرى النبع الفياض الذي لا تنفد حقائقه الإلهية الصادرة عن الله جل جلاله، وهو لا متناه لأنه كلام الموجود الذي لا يتناهي، والمعاني الباطنية لكلماته غير متناهية كذلك أيضا (5). كما أن الصوفي المتأمل قد يصل إلى مرحلة يدرك فيها أعمق المعاني الروحية في القرآن، وهذه الفكرة في حد ذاتها بصرف النظر عن الاعتبارات الأخرى قد تثير صعوبات، بحيث أنها تؤدى إلى أن يكون تفسير القرآن مختلفا باختلاف الذوات المشتركة فيها أي أن يكون الموقف موقفا ذاتيا مما ينتج بدوره تفسيرات متعارضة ويؤدى إلى اضطرار كبير، ولكن الحقيقة أن الصوفية فعلا يرون أن تعدد التفسيرات أمر حتمى، لأن معاني القرآن لا نهائية وتتكشف لكل صوفى حسب طاقته الروحية وحسب فضل الله يؤتيه من يشاء، وليس في ذلك أي ضير ما دام هذا متصلا بالمعاني الكمالية التي لا تتجاوز حدود المعاني المباشرة المتفق عليها (6). المصدر: المعجم الصوفي لمحمود عبد الرازق 1/ 124 - 132   (1) ((التفسير والمفسرون)) للدكتور محمد حسين الذهبى، دار الكتب الحديثة (3/ 22). (2) ((التفسير والمفسرون)) للدكتور محمد حسين الذهبى، دار الكتب الحديثة (3/ 22). (3) ((التفسير والمفسرون)) للدكتور محمد حسين الذهبى، دار الكتب الحديثة (3/ 22). (4) ((التفسير والمفسرون)) للدكتور محمد حسين الذهبى، دار الكتب الحديثة (3/ 42). (5) ((التصوف طريقا وتجربة ومذهبا)) (1970م ص157). (6) ((من التراث الصوفي)) لسهل بن عبد الله التسترى، (ص 109). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 المبحث الرابع: آراء المستشرقين في التفسير الصوفي وقبل النظر والتعقيب على الآراء السابقة في التفسير الإشار لنستخلص منها ما يمكن أن نصل إليه في تقرير شروط التفسير الإشاري، تجدر الإشارة إلى رأي بعض المستشرقين الغربيين من قبيل المقارنة المؤثرة في توجيه الآراء إلى الأفضل. فنرى المستشرق نكلسون أستاذ مدرسة كمبردج الاستشراقية يصرح بأن التفسير الصوفي يشابه التفسير الشيعي وكلاهما عنده من التأويلات المغرضة التي تتلاعب بالنصوص، فيقول: (استطاع الصوفية متبعين في ذلك الشيعة، أن يبرهنوا بطريقة تأويل نصوص الكتاب والسنة تأويلا يلائم أغراضهم على أن كل آية بل كل كلمة من القرآن تخفى وراءها معنى باطنيا لا يكشفه الله إلا لخاصة العباد، الذين تشرق هذه المعاني في قلوبهم وفى أوقات وجدهم، واعتبروا أنفسهم خاصة أهل الله الذين منحهم الله أسرار علم الباطن المودعة في القرآن والحديث، وأنهم استعملوا في التعبير عن هذا العلم لغة الرمز والإشارة، التي لا يقوى على فهمها غيرهم من المسلمين) (1)، وربما كان هذا الموقف للمستشرق نيكلسون بسبب ما أشارت إليه الباحثة صلى الله عليه وسلم أن المستشرقين في القرن التاسع عشر قد عرفوا المصادر الصوفية المتأخرة والتي لا تصور التصوف في مراحله الأولى. فحكم نيكلسون على جميع الصوفية في تفسيرهم للقرآن بما رآه من الغلو في التفسير الإشاري عند المتأخرين، ولذا أدرك نيكلسون بعد ذلك استحالة وضع حكم منصف للتصوف قبل أن تعد مصادره الأولى إعدادا علميا دقيقا، وقد تولى هو زمام المبادرة في نشر المخطوطات وتحقيقها والتعليق عليها وترجمتها وتحليل مادتها (2). ويرى المستشرق جولد تسهير أن العمل بما روى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من أراد علم الأولين والآخرين فليتثور القرآن) لا يحصل بمجرد تفسيره الظاهر، فالأمور كلها داخلة في أفعال الله عز وجل وصفاته، وهذه العلوم لا نهاية لها، وفى القرآن إشارة إلى مجامعها، وفيه رموز ودلالات لكل ما أشكل من ذلك على النظار، ومهمة التفسير هي استخراج كل ذلك العلم من الكتاب والتعمق في تفصيله، ووراء هذه المعاني الظاهرة يحتجب المعنى الباطن وتسكن أسرار القرآن التي ينبغى البحث عنها بتغلغل ونفاذ أعمق من ذلك، ولن يترتب على ذلك القضاء على ظاهر التفسير بل هو استكمال له ووصول إلى لبابه، وإذا كان التفسير الصوفي فيه تجاوز للتفسير المنقول المحدود في حرية لا توقفها قيود، ومع استخدام أمثلة بعيدة المدرك والمورد في الغالب في الكشف عن أفكار الورى إلا أن أثرت في التغلغل إلى ما وراء المسموع والمنقول من المعاني المقصودة في كلام الله والمكنونة في حجبها والتي لا يعقلها إلا العالمون (3). ويرى المستشرق هنرى كوربان أن المستمع للكلام الإلهي يحق له أن يفهم منه كل شيء، وفى أي حقل من المعرفة وفى أي درجة من العمق والخفاء شرط ألا يتجاوز فهم السامع، ولا يتعدى التفسير من محتوى الكلام ودلالاته الوصفية حقيقة ومجازا وكناية حيث أن علم الله عين ذاته ولا حد له وسع كل شيء علما (4). المصدر: المعجم الصوفي لمحمود عبد الرازق 1/ 133 - 135   (1) في ((التصوف الإسلامي وتاريخه)) لرينولد نكلسون، ترجمة الدكتور أبي العلا عفيفى طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر بمصر (ص76). (2) انظر ((الاتجاهات الحديثة في دراسة التصوف الإسلامي))، للدكتور محمد عبد الله الشرقاوى (ص19) وما بعدها. (3) ((مذاهب التفسير الإسلامي)) للمستشرق إجناز جولد تسهير ترجمة محمد يوسف موسى وآخرين، طبعة دار الكتاب العربى سنة 1959م (ص207). (4) ((تاريخ الفلسفة الإسلامية))، القسم الأول، تأليف المستشرق هنرى كوربان، ترجمة حسن قبيسى وزميله، الطبعة الأولى 1966 م بيروت (ص10). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 المبحث الخامس: شروط قبول التفسير الصوفي يرى الدكتور محمد كمال جعفر أنه لا بد قبل تقرير شروط قبول التفسير الصوفي التنبه إلى أن التفسير الصوفي يرتبط بنوعية اعتقاد المفسر، ويمكن إجمال تفسيراتهم في نوعين: (1 - التفسير النظرى: وهو التفسير المبنى على نزعة فلسفية حيث تتوجه الآيات القرانية لديهم وفق نظرياتهم وتتفق مع تعاليمهم. (2 - التفسير الإشاري: هو تأويل آيات القرآن الكريم على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات خفية تظهر لأرباب السلوك ولا يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة. والفرق بين التفسير النظرى والتفسير الإشاري في أثرهما على تفسير القرآن أن التفسير النظرى يبنى على مقدمة علمية تنقدح في ذهن الصوفي أولا ثم ينزل القرآن عليها بعد ذلك، أما التفسير الإشاري فلا يرتكز على مقدمات علمية بل يرتكز على مجاهدات رياضية، يأخذ الصوفي نفسه بها حتى يصل إلى درجة إيمانية تنكشف له فيها من سبل العبارات هذه الإشارات، وتتوالى على قلبه تحليل الآيات من المعاني الربانية. كما أن التفسير الصوفي النظرى يرى صاحبه أنه كل ما تحتمله الآية من معاني وليس وراءه معنى آخر يمكن أن تحمل عليه إلا هذا، على حسب طاقته أما التفسير الإشاري فلا يرى الصوفي أن كل ما يراد من الآية بل يرى أن هناك معنى آخر تحتمله الآية ويراد منها أولا وقبل كل شيء ذلك المعنى الظاهر الذي ينساق إليه الذهن قبل غيره. ويرى الدكتور جعفر في شرطه لقبول التفسير الصوفي أن تأويل الصوفية للقرآن أو الفهم الخاص له إذا خلا من أي هدف سياسي أو اجتماعى، سواء كان لرد اعتبار أو كوثيقة أمن أو بسط سلطان أو كسب ثروة أو احتفاظ بمراكز نفوذ تتعلق بأشخاص أو بجماعات، إذا لم يكن له مثل هذا الهدف وإذا كان لا يعارض نصا قرآنيا آخر، ولا يعارض الاستعمال العربي، ولا يؤدى إلى تحريف أو انحراف، وإذا كان وجوده يضيف ثروة روحية أو عقلية، وإذا كان لا يدعى من السلطة ما يجعله أمرا ملزما، بفرض واحديته في الأحقية، إذ كان كذلك فهو تأويل مقبول، ليست له غاية إلا تعميق الفهم عن الله الذي ما زال كتابه منبعا لا يغيض ومعينا لا ينضب للحقائق والأسرار (1). ومن ثم وبناء على ما سبق من الآراء يمكن تقرير الشروط التي يقبل بها التفسير الصوفي في العناصر الآتية: 1 - ألا يكون التفسير الصوفي منافيا للظاهر من النظم القرآنى الكريم. 2 - أن يكون له شاهد شرعي يؤيده. 3 - ألا يكون له معارض شرعي أو عقلى. 4 - ألا يدعى أن التفسير الصوفي هو المراد وحده من الظاهر. 5 - ألا يكون التأويل بعيدا لا يحتمله اللفظ فيه تلبيس على أفهام الناس. فإذا توفرت هذه الشروط، وليس للتفسير ما ينافيه أو يعارضه من الأدلة الشرعية، جاز الأخذ به أو تركه، لأنه من قبيل الوجدانيات، والوجدانيات لا تقوم على دليل نظرى، وإنما هو أمر يبعث على تنمية المشاعر وتحصيل مكارم الأخلاق، فيجده الصوفي من نفسه ويسره بينه وبين ربه، فله أن يأخذ به أو يعمل بمقتضاه دون أن يلزم به أحدا من الناس، والأحرى ألا يسمى هذا اللون من الفهم تفسيرا وإنما يسمى ذكر النظير بالنظير الذي يعتبر صحيحا (2). المصدر: المعجم الصوفي لمحمود عبد الرازق1/ 136 - 138   (1) ((التصوف)) للدكتور محمد كمال جعفر (ص26) (2) ((التصوف)) للدكتور محمد كمال جعفر (ص160) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 المبحث السادس: أمثلة على التفسير الإشاري يترك تقديرها للقارئ ما ذكره سهل بن عبد الله التسترى في قوله تعالى: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) سورة الشعراء وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [الشعراء80 - 81] قال: (يعنى إذ تحركت بغيره لغيره عصمنى، وإذا ملت إلى شهوة من الدنيا منعها عنى، وقوله والذى يميتنى ثم يحين أي الذي يميتنى بالغفلة ثم يحينى بالذكر) وفي قوله: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [النمل:52] قال: (الإشارة في البيوت إلى القلب فمنها ما هو عامر بالذكر، ومنها ما هو خرب بالغفلة ومن ألهمه الله عز وجل بالذكر فقد خلصه من الظلم) (1). وقال في قوله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9] .. ظاهرهما ما عليه من أهل التفسير، وباطنها هو الروح والعقل والقلب والطبع والهوى والشهوة، فإن بغى الطبع والهوى والشهوة على القلب والعقل والروح، فليتقاتل العبد بسيوف المراقبة وسهام المطالعة وأنوار الموافقة ليكون الروح والعقل غالبا والهوى والشهوة مغلوبا (2). وأورد أبو نصر السراج الطوسي بعض الأمثلة التي ذكرها الصوفية من طريق الإشارة والاستنباط والفهم الصحيح، وبين أنهم لم يقدموا فيها ما أخر الله تعالى ولا أخروا ما قدم الله، ولا نازعوا الربوبية ولا خرجوا عن العبودية ولا يكون فيه تحريف الكلم، منها قوله تعالى: يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88 - 89] سئل عنه أبو بكر الكتانى فقال: القلب السليم على ثلاثة أوجه من طريق الفهم: أحدها: هو الذي يلقى الله تعالى عز وجل وليس في قلبه مع الله شريك. والثاني: هو الذي يلقى الله تعالى وليس في قلبه شغل مع الله عز وجل ولا يريد غير الله تعالى. والثالث: الذي يلقى الله عز وجل ولا يقوم به غير الله عز وجل، فنى عن الأشياء بالله، ثم فنى عن الله بالله (3). ويعقب السراج الطوسي بقوله: (معنى قوله: فنى عن الله بالله، يعنى يذهب عن رؤية طاعة الله عز وجل ورؤية ذكر الله ورؤية محبة الله، بذكر الله له ومحبته قبل الخلق، لأن الخلق بذكره لهم ذكروه، وبمحبته لهم احبوه، وبقديم عنايته بهم أطاعوه (4). ومثل ما أشار الجنيد بن محمد سيد الصوفية في عصره بقوله تعالى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النملك88]، إلى سكونه وقلة اضطراب جوارحه عند السماع، وكذلك ما كان يشير به أبو علي الروذبارى إذا رأي أصحابه مجتمعين فيقرأ: وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ [الشورى:29] (5). وقال أبو القاسم القشيرى في قول الله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا [الإسراء:33]، لا يجوز قتل نفس الغير بغير الحق، ولا للمرء أن يقتل نفسه أيضا بغير الحق، وكما أن قتل النفس بالحديد وما يقوم مقامه من الآلات محرم، فكذلك القصد إلى هلاك المرأ محرم، ومن انهمك في مخالفة ربه فقد سعى في هلاك نفسه، وقوله: وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [الإسراء:33] أى تسلطا على القاتل في الاقتصاص منه، وعلى معنى الإشارة إن النصرة من قبل الله ومنصور الحق لا تنكسر سنانه ولا تطيش سهامه (6). المصدر: المعجم الصوفي لمحمود عبد الرازق1/ 138 - 140   (1) ((تفسير القرآن العظيم))، لسهل بن عبد الله التسترى (ص 70)، طبعة دار الكتب العربية الكبرى القاهرة سنة 1329هـ (2) ((تفسير القرآن العظيم))، لسهل بن عبد الله التسترى (ص 91)، طبعة دار الكتب العربية الكبرى القاهرة سنة 1329هـ (3) ((تفسير القرآن العظيم))، لسهل بن عبد الله التسترى (ص 91)، طبعة دار الكتب العربية الكبرى القاهرة سنة 1329هـ (4) ((اللمع في التصوف)) (ص126). (5) ((اللمع في التصوف)) (ص126). (6) ((لطائف الإشارات)) (2/ 346). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 الفصل الخامس والثلاثون: علاقة التصوف بالثورات السياسية على الحكام وبالتكفير والانقلابات لقد استقر في صفحات التاريخ مفاسد الإنحراف عن جادة السنة وفهم الأئمة الاعلام في منازعة حكام المسلمين في سلطانهم، وزعزعة الأمن في بلدانهم وأوطانهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ولعله لا يكاد يُعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته " (1). وقد ظلت الصوفية تُبدي من نفسها السلام، متظاهرة بالخنوع والخضوع والاستسلام، حتى إذا حانت الفرصة، أرسلت سهامها من طرف خفي، فجاءت هذه المقالة لتوضح وبشكل مبسط ما هو خاف على كثير من العقلاء، أخذت عامة مادتها من كتاب: (الوجه الآخر للصوفية)،وسميتها باسم أصلها، ومع أن هذا الملخص لا يغني عن مصادره، لكن فيه مهم الإفادة، وهذا أوان الشروع في المقصود: المجال الموضوع والتحليل الوقائع والنقول (1) سياسي عقدي (م):تعريض الصوفية بحكام المسلمين، والإدعاء بأن نصرة الإسلام في يد السادة العلويين. قال المشهورالعدني: "ولأن مركز القرار في الإسلام لا يمتلكه سلطان مسلم ... والمخرج السليم من هذه الفتنة وحرجها هو موقف آل البيت النبوي إذا عرفوا موقعهم الطبيعي من الدعوة الإسلامية " (2). (2) سياسي عقدي (م): تشكيك الصوفية في شرعية حكام المسلمين، وادعاء بعضهم بأنهم الملوك على الحقيقة، وغيرهم ليس لهم من الملك إلا رسمه وعقابه. (تحليل): وهذا مبني على اعتقادهم في الأقطاب والأولياء المتصرفين في الكون، وأنه لا يكون شيء إلا بأمرهم، من هنا يعلم أن غلوهم في المقبورين له أهدافه السياسية الخطرة. كثيرا ما يتمثل الصوفية بقول قائلهم: ملوك على التحقيق ليس لغيرهم من الملك إلا رسمه وعقابه (3). قال الدباغ عن قدرة الأقطاب (علية الأولياء): " فهم الذين يتصرفون فيه وفي أهله، وفي خواطرهم وما تهمس به ضمائرهم، فلا يهمس في خاطر واحد منهم بشيء إلا بإذن أهل التصرف " (4). فإذا كان الولي يقول للشيء كن فيكون، ويخلق الطفل في بطن أمه من غير أب (كما سمعناه جميعا بصوت علي الجفري)، فلا شك أن الصوفي يقدم طاعة الشيخ على ولاة الأمر عند التعارض (5). (3) سياسي عقدي (م): تحول الصوفية عند القدرة من الانقياد الطوعي إلى الانقلاب العسكري. (تحليل): ولهذا السلوك اتصال مباشر بخلق التقية وبدعة علم الباطن الصوفية كما يأتي، ولذا قال أبو قلابة: "ما ابتدع قوم بدعة إلا استحلوا السيف". ومن الأدلة الواقعية ما يلي: محاولة محمد بن عقيل بن يحيى العلوي للترشح لإمارة حضرموت ومحاولة طاهر بن حسين بن طاهر العلوي (الملقب بناصر الدين) بعد مبايعة العلويين له في اقتحام تريم وجعلها عاصمة الدولة الهاشمية عام 1220هـ، وإقامة دولة ابن مقيص في بيت جبير عام 1243هـ، وترشيح أحمد بن علي الجنيد إماما لحضرموت عام 1837م، ومحاولات أخرى خارجية كجزر القمر. (4) سياسي عقدي (م) الصوفية تنقض مبايعة الحكام بمبايعة مشائخ الطرق الصوفية، وتعتبرها أعظم من مبايعة الحاكم وألزم؛ لأنها كمبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم.   (1) ((منهاج السنة)) (3/ 391). (2) التنصيص لمثبوت (34). (3) انظر ((نسيم حاجر)) لابن عبيد الله السقاف (8 - 10)،ونفس الرحمن لأحباب الله من علو الشأن (62)،قدم له كل من الخزرجي والهاشمي (4) انظر الأبريز (163 - 169). (5) استمع للحوار الهاديء مع الجفري، وانظر ((هذه هي الصوفية)) للوكيل (117). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 قال الشيخ الفوتي الصوفي: "الفصل الثامن عشر في إعلامهم أن الشيخ –وهو الولي الكامل- في قومه كالنبي في أمته، وأن مبايعته كمبايعة النبي –صلى الله عليه وسلم-" (1). (5) سياسي عقدي (م) عامة الصوفية لا ترى لحكام المسلمين بيعة شرعية ملزمة، وإنما هي للخليفة الواحد، فلا يجوز عندهم أن تكون الإمامة في أكثر من شخص في الدنيا، وحكوا عليه الإجماع ولم يشذ منهم إلا النفر القليل، ونقض هذا الإجماع ابن تيمية رحمه الله. قال ابن حزم: " اتفق من ذكرنا ممن يرى فرض الإمامة على أنه لا يجوز كون إمامين في وقت واحد في العالم ولا يجوز إلا إمام واحد " (2)، وفي المقابل يقول ابن تيمية: "وأما أئمة الفقهاء فمذهبهم أن كلا منهما ينفذ حكمه في أهل ولايته كما ينفذ حكم الإمام الواحد، وأما جواز العقد لهما ابتداءً فهذا لا يفعل مع اتفاق الأمة، وأما مع تفرقتها فلم يعقد كل من الطائفتين لإمامين" (3). (6) سياسي عقدي (م):أطماع الصوفية في إقامة الدولة العلوية الهاشمية. (تحليل): وذلك على مرحلتين: المرحلة الأولى: الانقلاب والسيطرة الفكرية، والمرحلة الثانية: الانقلاب والمقاومة المسلحة. كما حصل من جد سادة حضرموت أحمد بن عيسى المهاجر (وكان شيعيا إماميا)، عندما قدم من العراق وتحولت مواجهاته الكلامية إلى مواجهات دموية (4)، قال كرامة مبارك بامؤمن: " وتبنى حركات المهاجر (أحمد بن عيسى جد الجفري والشاطري وابن حفيظ ونحوهم من صوفية حضرموت) في عدة مناطق من حضرموت ... إنها لم تكن عشوائية أو سياحية، بل هي مدروسة وهادفة لغاية في نفسه، اعتقد إنها لتلمس الطريق نحو إمامة علوية حضرمية " (5). (7) سياسي عقدي (م): الأصول العقدية عند الصوفية تدعم التطرف والتكفير. (تحليل): يدين عامة متصوفة هذا العصر بالأشعرية، وليس هو الأمر عند الأوائل، بل كثير من الأشعرية الأوائل يذمون المتصوفة كالشاطبي وأبو شامة وغيرهما (6)، وللأشعرية أصول كثيرة تنعش وتقيض لظى التكفير (فمنها وجوب النظر، وأول واجب، وعدم تجزء الإيمان ... ) وغيرها، ومن تخبطات الأشاعرة قول الأستاذ أبو إسحاق (وهومن أئمة الأشاعرة): " أكفر من يكفرني وكل مخالف يكفرنا فنحن نكفره وإلا فلا "،قال ابن تيمية: والذي نختاره أن لا نكفر أحدا من أهل القبلة (7)، وقال: "ثم مع هذا الاضطراب الغالب عليهم يكفر بعضهم بعضا كما هو أصول الخوارج والروافض والمعتزلة وكثير من الأشعرية " (8).   (1) الرماح (1/ 117)،وانظر تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي (1/ 354). (2) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل))، وانظر ((شرح مسلم للنووي)) (12/ 232). (3) ((مراتب الإجماع)) (124). (4) انظر 00 تاريخ حضرموت)) لصالح الحامد (1/ 246)، ((جواهر تاريخ الأحقاف)) لمحمد باحنان (73). (5) ((الفكر والمجتمع في حضرموت 99 (184). (6) ((منهج أهل السنة ومنهج الأشاعرة)) د. خالد عبداللطيف (1/ 170). (7) انظر ((درء التعارض)) (1/ 95). (8) ((الاستقامة)) (1/ 50). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 قال العلامة المقبلي: " ومن مفاسد الخلاف استحلال الأعراض وهو واضح فانظر ما في هذه المصنفات من العياط والهتور والتكفير بلا دليل حتى أن الأشاعرة أصلوا أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة وإنما الكفر البواح ولا كفر بالتأويل ثم تجد في تضاعيف كتبهم المناقضة، وكذلك الماتريدية في كلام إمامهم الأعظم أن لا يكفر أحد من أهل القبلة ولم أر التكفير أسهل على أحد ولا أكثر منه في متأخري الحنفية كأنهم يكفرون بكل إلزام ولو في غاية الغموض " (1)، والأشاعرة مرجئة في باب الإيمان، وقد قال عنهم الصابوني نقلا عن عبدالله بن طاهر:"إنهم لا يرون للسلطان طاعة" (2)، وقال سفيان الثوري:" كيف أكون مرجئا فأنا لا أرى السيف" (3)، وبناء على ذلك كله اشتطوا في تعصبهم فذكروا أن من استثنى في إيمانه فقد كفر وفرعوا عليه أنه لا يجوز للحنفي أن يتزوج بالمرأة الشافعية وتسامح بعضهم فأجاز ذلك دون العكس وعلل ذلك بقوله: تنزيلا لها منزلة أهل الكتاب وأعرف شخصا من شيوخ الحنفية خطب ابنته رجل من شيوخ الشافعية فأبى قائلا:. . . لولا أنك شافعي (4). (8) سياسي (م):التصفية الجسدية في الخط الصوفي. (تحليل): بل ولهم أمور كثيرة يخالفون فيها الشرع والعقل بدعوى العلم اللدني. حاول الصوفية اغتيال كل من الشيخ أحمد بن محمد السوركتي، بدس السم في طعامه (5)، والعلامة السيد أبي بكر بن عبدالله الهنداوي (6)، وغيرهما كثير. (9) سياسي (م) الصوفية تثير الخلافات بين قبائل المنطقة للحصول على مآربها السياسية. كتحريشهم بين آل كثير ويافع وغيرهما، معتقدين أن دولتهم لا تقوم إلا بسقوط الطائفتين أو إحداهما (7). (10) سياسي عقدي (م):الدعوة لاعتماد العمل بالمذهب الزيدي، وأنه لم ينفرد أحدٌ من علمائهم بشيء يخالف الإجماع. (تحليل):وما تقدم من المقاصد السياسية توضح هذه الدعوة، فالزيدية مذهب مبني على الخروج على الحكام، بل يشترط في الإمام عندهم الخروج على ولاة الجور، وفي هذه الدعوة إحياء لمذهب الخوارج ليس إلا، والعجب ممن قدم لكتاب غاية التبجيل لمؤلفه ممدوح سعيد وهم من سادة الصوفية: (علي عبدالرحمن الهاشمي، والمشهور العدني، وعمر بن حفيظ، وسالم الشاطري)، وقد طبع بمكتبة الفقيه الإماراتية لصاحب الإشراف فيها الحبيب علي الجفري، والغريب تزامن ظهور هذا الكتاب مع فتنة الحوثي، بل وقد ذكرت وسائل الإعلام أنهم وجدوا مذكرات لعلي الجفري عند الحوثي وقت قتله؟؟!! والعجب موصول في كون هؤلاء القوم من مقربي الأمراء، لكن كما قال ابن المقفع: أكثر الناس جرأة على الأسد أكثرهم رؤية له.   (1) ((العلم الشامخ)) للمقبلي 0 (ص221). (2) ((عقيدة أصحاب الحديث)) للصابوني الأثر رقم (109). (3) ((الكتاب اللطيف)) لابن شاهين الأثر رقم (15). (4) ((شرح الطحاوية)) للعلامة الألباني (62). (5) ((تاريخ الإرشاد في إندونيسا)) لصلاح البكري (135) (6) ((القبورية في اليمن)) لأحمد المعلم (546)،واستمع لـ" توبة صوفي " تنبيه: هنالك عدة ملاحظات على المقدم، فلا يأخذ منه إلا الوقائع. (7) ((تاريخ حضرموت السياسي)) (1/ 141/142). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 قال عبدالرحمن بن عبيد الله السقاف قوله:" وكل ما تجده في كتب الشافعية ولا سيما من منع تقليد السادة الزيدية مبني على عدم العلم بتدوين مذهبهم، وهوباطل والمبني عليه باطل، إذن الزيدية كغيره من المذاهب المدونة في جواز التقليد، فلا بعد في القبول بجواز تقليده حينئذ .. وما أذكر أن أحدا من مجتهديهم انفرد بقول خالف الإجماع " (1)، [ويوضح التحليل: ما قاله أبو الحسن الأشعري: " والزيدية بأجمعها ترى السيف والعرض على أئمة الجور، إزالة الظلم، وإقامة الحق، وهي بأجمعها لا ترى الصلاة خلف الفاجر، ولا تراها إلا خلف من ليس بفاسق " ((2)، وقال زيد بن علي: " من شهر سيفه، ودعا إلى كتاب ربه، وسنة نبيه، وجرى على أحكامه، وعُرف بذلك، فذلك الغمام الذي لا يسعنا وإياكم جهالته، فأما عبدٌ جالس في بيته، مُرخٍ عليه ستره، مغلق عليه بابه، يجري عليه أحكام الظالمين، لا يأمر بمعروف، ولا ينهي عن منكر فأنى يكون ذلك إماماً مفروضة طاعته" (3). بل أيد العدني محاولات الزيدية في الخروج ووسمها بأنها ضبط مسيرة العالم:" فقال: "لقد بذل العديد من آل البيت النبوي جهودهم عبر مسيرة التاريخ؛ لضبط مسيرة العالم تحت الراية الواحدة " (4). (11) سياسي عقدي (م):علاقة الإخوان المسلمون بالصوفية علاقة منشأ وفكر ومصدر. (تحليل):تأثر حسن البنا في تكوينه لحركة الإخوان المسلمين بالفكر الصوفي، فقد أنشأ البنا التنظيم المسلح الخاص الذي خرج عن السيطرة واغتاله وسبب الفتن والقلاقل بمصر والدول العربية، كما يلاحظ أن عامة قادة الإخوان المسلمين صوفية كسعيد حوى، وأبو غدة وغيرهما، ولذا ليس للصوفية ردود أو انتقادات معلنة على الإخوان البتة. قال البنا: "نظام الدعوة في مرحلة التكوين صوفي بحت من الناحية الروحية، وعسكري بحت من الناحية العلمية، وشعار هاتين الناحيتين دائما (أمر، وطاعة) (5) من غير تردد، ولا شك، ولا حرج "، ويقول د. زكريا سليمان بيومي: " ولقد تأثر البنا في ذلك بما قرأه من كتب الطريقة الحصافية التي تنتقل في مراتبها من تابع إلى مبايع ... " (6)،وهذا يصرح به صوفية حضرموت كغيرهم، وها هو علي الجفري يصرح في قناة الجزيرة أن حركة الإخوان المسلمين التي أنشأها حسن البنا صوفية (7). (12) سياسي عقدي (م):التقية عند الصوفية ملاذ آمن للتستر في مرحلة الضعف. (تحليل): وهذا يفسر من وجه الاختلاف الراجع في نسبة الصوفية فقيل إلى: الصُفة، وقيل: الصفاء، وقيل الصوف، وقيل غير ذلك، والسؤال هنا لما هذا الاختلاف الكثير في مرجع اسم هذه الطائفة؟ في حين لا تجد هذا في غيرها من الطوائف؟! والجواب: أن أولئك لهم مذاهب صريحة ومناهج واضحة المعالم، وأما الصوفية فقد آثروا الهروب والتخفي وجعل أمورهم جلها باطنة مستترة (8)، وهذا كذلك يوضح لك سبب التخبط الشديد والشطحات الكبيرة لزعماء التصوف.   (1) ((غاية التبجيل)) (الحاشية 125). (2) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 150). (3) ((شرح رسالة الحور العين)) (188). (4) ((المناصرة والمؤازرة لكافة منسوبي آل البيت في المرحلة المعاصرة)) (15) وللاستزادة راجع كتاب ((الوجه الآخر للصوفية)) لمؤلفه سيد المنياوي. (5) انظر ((نفس الرحمن فيما لأحباب الله من علو الشأن))،للغرباني (64)، قدم له كل من الهاشمي، والخزرجي، وسليمان فرج. (6) ((الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية)) (75). (7) بتاريخ 15/ 1/2006م، برنامج: ((الشريعة والحياة)) بتصرف. (8) ((تقديس الأشخاص)) د أحمد لوح ص39، أحمد بهجت، بحار الحب عند الصوفية (ص 23). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 16 قال ممدوح سعيد (في تفضيل علي على الشيخين رضي الله عنهم أجمعين):" وهذا شأن كثيرين من أهل السنة (يعني الأشاعرة) لا سيما من سلك طريق التصوف عملا أو محبة، فجمع عظيم من هؤلاء يميلون بقلوبهم ومهجهم لأهل الكساء، وقد أخبرني جمع من أهل العلم بالحجاز، واليمن، والشام، ومصر، والمغرب، والعراق، والهند الكبير أن هذا مذهبهم ولكنهم يسكتون" (1)، ومما يوضح أن مذهب أهل التصوف قائم على التخفي والسرية، تقسيمهم للناس إلى عامة، وخاصة، وخاصة خاصة، ولكل منهم أحكامه زعموا، وكذا أن العلم علمان ظاهر ولدني باطن. (خاتمة): وهنا يأتي الفرق بين التكفيريين وجماعة الإخوان المسلمين الصوفية، فالأول يلتزم في العلن بأصوله والصوفية تحيد عنه بالتقية. (13) سياسي منهجي (م) الصوفية تتجسس لصالح المستعمر. (تحليل):ولذا لا يُستغرب ترحيب الغرب بالتصوف وتمكينه من المؤسسات الدينية، ويَستغل الصوفية هذا في اختراق الأنظمة الحكومية، وتشكيل التكتلات الموالية. "وتتألف هذه الفئة من بعض الشباب الذين تثقفوا في المدارس الفرنسية، وقضى الاستعمار على كل صلة لهم بالعروبة، يضاف إليهم بعض أصحاب الطرق الصوفية الذين أشاعوا الخرافات، والبدع، وبثوا روح الانهزامية، والسلبية في النضال، فاستعملهم الاستعمار كجواسيس، ثم فئة من الموظفين، والنواب، والعسكريين الذين شاركوا الإدارة الفرنسية في أعمالها" (2). (14) سياسي منهجي (م) الصوفية تُبله الناس، وتستغل غفلتهم، وذلك بجعل العلم علمان: علم (ظاهر) وآخر (باطن)، وهو علم الحقيقة الذي لا يعلمه إلا أولياء الصوفية (تحليل): عندما يخالف الصوفي شيء من الشرع أو العقل أو كلامه نفسه عارضه بأنه يعمل بالعلم اللدني الباطني، ومن ههنا لا طاعة للوحي فضلا عن الحاكم في معصية الأولياء، وكيف يُعصى الولي وقد قال أبو العباس المرسي: " لو كُشف عن حقيقة الولي لعُبد " (3)، ولذا تربي جماعة الإخوان منسوبيها على التصوف، وعليه يقول علي الجفري: لا يسأل العالم عن الدليل (4)؟! قال البسطامي وغيره: "خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله "، وقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي في تفسير القرآن من كلامهم الذي أكثره هذيان نحو مجلدين سماها حقائق التفسير. والذوق هو أهم مصدر عند الصوفية، لذا قالوا إخضاعا وإذلال لأتباعهم: " من اعترض، انطرد "!؟ (5)، وقد سئل الجنيد: أيزني العارف؟ فقال: نعم وكان أمر الله قدرا مقدورا! حق لونه بباطل. قال العلامة مبارك الميلي المالكي: " بثهم الجمود في الناس وتلقيح غفلتهم، ثم حثهم على زيارتهم والرحلة إليهم لاستدرار أموالهم ولاستغلال جمودهم وغفلتهم، فمن أقوالهم الجارية: سلم تسلم، سلم للرجال في كل حال، اعتقد ولا تنتقد!! " (6) وهذا محل إجماع الصوفية (7) (15) عقدي منهجي (م): صوفية حضرموت تكفر مخالفيها. (تحليل): وهذا لاضطراب الصوفية في باب التكفير كما هو معلوم فإنهم يكفرون من كفرهم وهذا مخالف للنصوص، وزاد الجفري وأمثاله أنهم يكفرون مطلق مخالفيهم ولولا ضيق المقام لأتيت بالعجاب.   (1) ((غاية التبجيل)) (196). (2) انظر كتاب (تاريخ العرب الحديث والمعاصر) (ص 373) (3) ((طبقات الشعراني)) (2/ 12). (4) مقابلة قناة أبوظبي برنامج "وذكر " 20/ 1/2006م. (5) ((هذه هي الصوفية)) للوكيل (108). (6) ((الشرك ومظاهره)) (443). (7) انظر ((تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي)) (1/ 360)، وعزاه إلى كتاب ((الرماح)) (1/ 122). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 17 فعلي الجفري يطعن في مخالفيه من المسلمين ويدعي عليهم زورا وبهتانا أنهم يبغضون النبي صلى لله عليه وسلم، وأنهم دسائس على الإسلام، وهذا زرع لبذرة الفتنة والتكفير في صفوف المسلمين (1)، وفي المقابل يَدْعون أنهم يحاربون الإرهاب، وأما أهل السنة فيقول تلميذ ابن تيمية مرعي الكرمي: " ومذهب أهل السنة والجماعة لا يجوز تكفير أحدمن أهل القبلة أعم من أن يكون سنيا أومعتزليا أو شيعيا .. " (2). (16) أخلاقي عقدي (م): الشذوذ الجنسي كرامة عند الصوفية. (تحليل): وهذا من العلم اللدني الذي لا يفقهه إلا الصوفية. قال الشعراني في (أبي خودة):"وكان رضي الله عنه إذا رأى امرأة، أو أمرد (صبيا) راوده عن نفسه، وحسس على مقعدته سواء كان أمير أو ابن وزير ولو كان بحضرة والده أو غيره، ولا يلتفت إلى الناس" (3). (17) أخلاقي (م): من كرامات الصوفية نشل أموال الناس. قال أبو الدباغ الصوفي: " إن الولي صاحب التصوف، يمد يده إلى جيب من شاء، فيأخذ منه ما شاء من الدراهم، وذو الجيب لا يشعر " (18) أخلاقي (م): من كرامات الصوفية تجردهم عن اللباس. قال الشعراني: "ومنهم الشيخ إبراهيم العريان، كان يطلع المنبر، ويخطبهم عريانا " (4). (19) منهجي (م): استغلال التصوف في تخدير الشعوب واستعمار بلاد المسلمين ودعم الغرب لمشايخهم. كما حصل من التجانية بالجزائر إبان الاستعمار الفرنسي (5)،وكما يقول الجفري: لا يسأل العالم عن الدليل (6). (20) سلوكي (م): استعمال السحر عند صوفية حضرموت. (التحليل): ويرمون باستخدامهم للسحر والحروف والطلاسم احتواء الناس وضمهم إلى صفوفهم، والتأثير على الحكام وأبنائهم، وقهر أعدائهم وإذلالهم (حسبوا) (7)! كما هو حاصل عند صوفية اليمن، ومقرر في كتبهم (8). فمن كتبهم التي يدرسونها شمس المعارف وغيرها، كما صرح به عبدالله بن محمد باكثير، وسالم بن شيخان، والعيدروس وغيرهم (9). ويزعمون عندما تظهرعلى أيديهم شيء من الخوارق أنها كرامات تدل على صحة مذاهبهم، فأين هذه الكرامات في دفع المستعمر؟! ] وهذه النقول غيض من فيض، وفيه لباغي الهداية كفاية، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين. المصدر: مقال بعنوان علاقة التصوف بالثورات السياسية على الحكام وبالتكفير والانقلابات لأبي عبدالرحمن التميمي   (1) استمع إلى ذلك في ((حوار هاديء مع الجفري)). (2) ((الشهادة الزكية)) (1/ 83). (3) ((طبقات الصوفية)) للشعراني (2/ 122،132) (4) ((الطبقات)) للشعراني (2/ 129). (5) انظر ((دراسات في التصوف)) لإحسان ظهير (274)،و ((الجواهر في تفسير القرآن الكريم)) (9/ 137)،و ((التصوف في الإسلام)) (109). (6) ((مقابلة قناة أبوظبي برنامج "وذكر")) (20/ 1/2006م). (7) استمع إلى برنامج ((الجانب المظلم على قناة المجد الفضائية)) (بتاريخ 5 - 20/ 3/2006م)، حيث أظهر الساحر التائب مدى اشتراك السحرة والصوفية، وتعلق الطرفين بالقبور كقبر ابن علوان وغيره. (8) انظر ((القبورية في اليمن)) لأحمد المعلم (433). (9) انظر ((شرح العينية)) (195)، و ((المشرع)) (2/ 254). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 18 الفصل السادس والثلاثون: الصوفية والسحر الصوفية هي السحر، والفرق بينهما هو في الادعاء وفي الغاية، فالساحر صادق يعترف أنه ساحر، ويقف عند خرق العادة، والصوفي مخدوع يظن خرق العادة الذي يحدث أمامه من الكرامات، كما أنه يتجاوزه، ويبقى مثابراً على الرياضة حتى يصل إلى الجذبة، ثم يبقى مثابراً حتى يشهد وحدة الوجود، وهذه أقوال من أئمتهم تثبت أن الصوفية هي السحر. يقول الغزالي (حجة الإسلام): أما السحر فهو عمل وكلام قد تداولوه بينهم في أوقات معلومة وطوالع معروفة وطلسمات مضروبة، فإذا أردت أن تولد طلسما يصلح لما تريد، فخذ من كل ثلاثة أحرف حرفاً، فإذا اجتمعت لك في التأليف ثلاثة أحرف من تسعة فهو طلسم يصلح لما تريد، فانظر في الإسطرلاب عند ساعة التأليف، فهو يصلح لما دلت عليه الدقيقة من الساعة، ومثال: أب ت ث فتأخذ الجيم، والثاء أليق عوضاً عن الجيم، ج ح خ خذ الصاد، ص ط ظ خذ العين، فيصير عقرباً (1)، لتدوير الحروف، فضع صورتها على خاتم والقمر في العقرب تكف خاصيتها عنك أذى النساء، ترمي الخاتم في الماء فينفع سقياه الملسوع. وتلقي به سوءاً بين من أردت، وترش من مائه على سطح المبغض أو طريقه أو داره فإنه يستضر من سنة ... (ذكر كلمات تفرق بها بين جماعة فاسدة تخافهم) تأخذ أفراداً من شعير حزام، وتقول عليه أربع مرات: (هاطاش ماطاش هطاشنة، وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة)، وترميه من حيث لا يشعرون، وتنظر ما يصنع الله ... وكثير مثل هذا، وقد حصرناها وشرحناها في كتاب (عين الحياة)، وهو صغير الحجم كثير الفوائد (2) ... ومما يقول: واعلم أن هذه الصناعة (صناعة الإكسير) هي صناعة ربانية لا يقدر عليها إلا الأبدال والرجال والأبطال الذين كشف الله الرين عن عيون قلوبهم، وهذه لا تصح إلا للطائع ... ونحن نذكر خواصاً دالة مظهرة لبدائعها وصناعتها مذكورة في كتاب (عين الحياة) (3) ... ومما يقول: من أراد أن لا تبصره ولا تراه العيون، فليزرع الخروع عند بدو زراعة القطن في رأس سنور أسود، فإذا طلع يخيط عليه كيساً، ويربيه حتى يجني القطن، ثم يقطف العنقود كما هو بكيسه، ويشقه حجرة، ويأخذ مرآة بيده، ثم يقطف منه حبة حبة ويضعها في فمه وينظر صورته في المرآة، فأي حبة لم يشاهد فيها نفسه عند نظر المرآة فليمسك عليها. ولهم الأبهر الضم، وهو نبت في الأرض على صورة ابن آدم، فهذا يصلح لمن علقه على نفسه، لو مر بحجر لتبعه الحجر. ولهم حشيشة تسمى بحشيشة الراسن، تبخر من أوراقها على اسم من تريد، فيأتيك وإن لم يرد، ولكن بشرط أن تقول هذه الكلمات على البخور، تقول: يا جامع يا جن اجمعوا وقدموا لاق لاق عاجلاً عاجلاً أشروثا أشروثا كبيبا الصبي، ائتنا كرهاً أو طوعاً، قالتا أتينا طائعين، وليكن في يوم الأحد أو الأربعاء (4) ... ومما يقول:   (1) جصع أو ثصع لها شكل العقرب إذا قلبت إلى الأعلى. (2) ((سر العالمين)): (2/ 65، 66). (3) ((سر العالمين)): (2/ 68). (4) ((سر العالمين)): (2/ 71). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 19 المقالة الثامنة عشرة في عزائم التسخير: تقف أول ساعة من يوم السبت مستقبل الغرب بثياب سوداء وزرق بأبخرة مذكورة مثل اللبان والحرمل وقشور الرمان والخردل البري، ثم تقول في وقت سعيد من تثليث أو تسديس مناطٍ إلى شرف، فتقول: أيها السلطان الأعظم، والملك العرمرم، مالك الفلك التابعة له النجوم، الخاسف المزلزل، زحل أنت أشرف الكواكب وسيدها وقائدها ومؤيدها، أسألك أن تعطيني وأن تمنحني ما يصلح منك لي (1) ...... فالذي يطلب من زحل، وهو كيوان، مثل المنافع الأرضية، وإظهار الكنوز وشق الأنهار والأشجار، وأما ما يخص الشمس فمثل الملك والملكة، والقمر لائق بالوزارات، والمريخ بالحروب والبأس، وعطارد للكتابة والنقش والحساب والهندسة والعلوم الدقائق والعزائم ومخاطبات الجن، كما سبق ذكره، وأما المشتري فهو للزهد والديانة وحل الطلسمات السماوية، ثم الجمعة للزهرة، قالوا: إنما أمر باجتماع الخلق عند نصف النهار في هيكل العبادات، لاجتماع خواص الأنفاس ليؤثر ذلك في حصول المطالب، لشرف نفسه الفياض منه على تابعيه من قولهم في لحظة واحدة (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد) (2). ويقول محيي الدين بن عربي (الشيخ الأكبر): ... وإن سألك عن الحرز، فاكتب له هذه الأسماء: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. ( ... مجموعة –طلاسم- مخطوطة باليد ... ) ويضاف إليها آيات، أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم، ... ويضيف: وخوفي أخوف من خوف مساء أو صباح أصباؤت آل شداي على الأعلى عظيم الأمور إن الله هو التواب الرحيم لسالمين الصالحين اركض برجلك ... ( ... مجموعة –طلاسم- مخطوطة باليد ... ) ... وإن سألك عن زيادة البخور فاكتب له هذه الأسماء في قرطاس ... ثم تبخره ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث ترمي المجمرة وما فيها من الفحم وغيره في مفرق طريق له أربع طرائق، أو تكتب له ذلك أربعة أيام وترمي المجمرة كل يوم في مفرق آخر (3) ... ويقول في نفس الكتاب: ... وإن سألك عن العزيمة فقل له: يحتاج إلى بيضة دجاجة حمراء، ويكتب عليها هذه العزيمة: (يا سما سلمعونة يا القب المدين مدين الاسمين، يا مالك الجن والشياطين يا حي يا قيوم احبس السارق ... أهيا شراهيا أدوناي أصباؤت آل شداي الساتر) ثم تدفنها في المطبخ (4) ...... وإن سألك عن العزيمة. فاكتب له هذه العزيمة والأسماء في قرطاس، وعلقها في مهب الريح، فإنه يرجع ما سرقه بإذن الله تعالى، وهذا كتابه: (هطوس هطوس واله قادس ماس ريحان الأطبال آل شداي اسلام أم موسى أهيكلات داود وحرز عظيم فلعلعح العميلع سيرهوه عبوس عبوس كمال الما أجيبوا الله) (5) ... الملحوظة: من اطلع على كتب السحر يعرف أن هذا هو السحر نفسه. وهذه رشفة أخرى من كتابات قطب آخر هو أحمد بن علي البوني، ولكن قبل إيراد بعض أقواله، قد يكون من المفيد أن نعرف مكانته عند القوم ودرجته في التصوف. يقول يوسف النبهاني، في ترجمته للمذكور: (أبو العباس أحمد بن علي البوني) من كبار المشايخ ذوي الأنوار والأسرار، وممن أخذ عنه المرسي، فمن كراماته أنه كان مجاب الدعوة ... توفي سنة (622هـ)، قاله المناوي (6). أظن أن القارئ عرف أن المرسي هو أبو العباس المرسي، قطب الغوث، تلميذ أبي الحسن الشاذلي، وهذه شذرة من كتاب البوني المشهور (شمس المعارف الكبرى):   (1) ((سر العالمين)): (2/ 73). (2) ((سر العالمين)): (2/ 75). (3) ((مجموعة ساعة الخبر)) (ص:6). (4) ((مجموعة ساعة الخبر))، (ص:6). (5) ((مجموعة ساعة الخبر))، (ص:7). (6) ((جامع النبهاني)): (1/ 508). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 20 باب رياضة (قل أوحي) المشهورة: اعلم أيها الأخ إذا أردت ذلك، صم ثلاثة أيام أولها الثلاثاء ثم الأربعاء والخميس، وهو صيامك عن غير ذي روح، وأنت تبخر بحصا لبان وجاوي ليلاً ونهاراً، وأنت تقرأ السورة الشريفة في مدة ثلاثة أيام ألف مرة في تلك المدة المذكورة ... واجتهد أن يكون ختمك من قراءتها ليلة الجمعة الثلث الأوسط من الليل، فإنه يحضر لك خادمها، وهو رجل قصير طويل اليدين، فيجلس قدامك، ويقول لك: السلام عليك، فثبت جنانك، فإن عليه هيبة عظيمة ... والعزيمة والدعوة هي السورة الشريفة بتمامها وكذا البخور. واعلم أيها الواصل أنها من الأسرار المختصة وأنها من كتب الأنبياء والأولياء وأسرارهم، وهي هذه، تقول: بسم الله الرحمن الرحيم قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ [الجن:1]، اللهم إني أسألك يا منزل الوحي من فوق سماوات إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ [الجن:27] وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن:28]، اللهم إني أسألك بحق المساجد لله وبحق عبادك الصالحين ... يا خدام هذه الدعوة الروحانيين ... أقسمت عليكم بهذه الدعوة والأسماء والسورة بحق أرقوش، كلهوش، بططهوش، كمطهلوش، بهوش، قانوش، أقسمت عليك يا روقيائيل الملك الموكل بفلك الشمس (1) ... ونص آخر: (فصل): تكتب هذه الأسماء في وسادة للمتباغضين من الزوجين، وهي أسماء أم موسى، يوم الجمعة عند جلوس الإمام على المنبر، أو شرع في الأذان الأول، بالزعفران وماء الورد والطيب والقرنفل مفروكاً في ماء ورد، ثم اطو الكتاب وتصمغه بالغالية، وتجعل الكتابة في جوف الوسادة التي ينامان عليها، فإنهما يتحابان، وهذا ما تكتب: (طسوم، عيسوم، علوم، كلوم، حيوم، قيوم، ديوم، .. ) (2). - أقول: إن هذا هو السحر نفسه، والذي لا يصدق يستطيع أن يلقي نظرة على كتب السحر. - وهذه أسانيد علوم البوني، يقول: ... (وأيضاً سندي بعلم الحروف) إلى الشيخ الإمام أبي الحسن البصري، وهو أخذ عن (3) حبيب العجمي وهو أخذ عن الشيخ داوُد الجيلي وهو أخذ عن الشيخ معروف الكرخي، عن الشيخ سري الدين السقطي، عن شيخ الوقت والطريقة معدن السلوك والحقيقة الشيخ الجنيد البغدادي، عن الشيخ حماد الدينوري، عن الشيخ أحمد الأسود، عن الشيخ محمد الغزالي، عن الشيخ أبي النجيب السهروردي وهو لقن الشيخ العارف الفاضل أصيل الدين الشيرازي، وهو لقن الشيخ عبد الله الباياني، وهو لقن الشيخ قاسم السرجاني، وهو لقن الشيخ السيرجاني، وهو لقن الشيخ الإمام العارف الصمداني والهمام النوراني جلال الدين عبد الله البسطامي، وهو لقن شمس وصلتي وبدر قلبي طود الحقائق الشامخ وجبل المعارف الراسخ شمس العارفين وسر الله في الأرضين أبا عبد الله شمس الدين الأصفهاني. (وأيضاً سندي بعلم الأوفاق) ... وأخذ منه أيضاً عن الشيخ الإمام العلامة سراج الدين الحنفي، وهو أخذ عن الشيخ شهاب الدين القدسي، وهو أخذ عن الشيخ شمس الدين الفارسي، وهو أخذ عن الشيخ شهاب الدين الهمداني، وهو أخذ عن الشيخ قطب الدين الضيائي، وهو أخذ عن الشيخ محيي الدين بن عربي، وهو أخذ عن الشيخ أبي العباس أحمد بن التوريزي، وهو أخذ عن الشيخ أبي عبد الله القرشي، وهو أخذ عن الشيخ أبي مدين الأندلسي. (وأيضاً) أخذت هذه الرواية عن الشيخ محمد عز الدين بن جماعة الشافعي، وهو أخذ عن الشيخ محمد بن سيرير، وهو أخذ عن الشيخ شهاب الدين الهمداني، وهو أخذ عن قطب الدين أيضاً، وهو أخذ عن الشيخ محيي الدين بن عربي.   (1) ((شمس المعارف))، (ص:122، 123، 124). (2) ((شمس المعارف الكبرى))، (ص:213). (3) يجب أن تكون: هو أخذ عنه حبيب العجمي، وهو أخذ عنه الشيخ داوُد ... وهكذا حتى: عنه الشيخ أبي النجيب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 21 (وأيضاً) سندي بعلم الحروف والوفق إلى الشيخ الإمام العالم العلامة الفقيه الثقة مساعد بن سادي بن مسعود بن عبد الله بن رحمة الهواري الحميري القرشي، وهو أخذ عن الشيخ شهاب الدين أحمد الشاذلي، وهو أخذ عن الشيخ تاج الدين عطاء المالكي الشاذلي، وهو أخذ عن الشيخ أبي العباس أحمد بن عمر الأنصاري المرسي. و (أيضاً) سندي بعلم الحروف والوفق إلى الشيخ الإمام العلامة أبي العباس أحمد بن ميمون القسطلاني، وهو أخذ عن الشيخ أبي عبد الله محمد بن أحمد القرشي، عن الشيخ الإمام العلامة أستاذ العصر وأوحد الدهر أبي مدين شعيب بن حسن الأنصاري الأندلسي رأس السبعة الأبدال وواحد الأربعة الأوتاد (1) ... إلخ. الملحوظة: لو رجع القارئ الكريم إلى كتب السحر لوجد أن علم الحروف وعلم الأوفاق (أو الوفق) هما بابان من أبواب السحر. ولنلاحظ أن رجال الأسانيد من أقطاب الصوفية. ومن أقوال ابن سبعين في الرسالة النورية: ... ومن فضيلته (أي: الذكر) أنه ينفع في سبع خواص من السيمياء .. ومن أراد استعمال قوى الكواكب بحسب صناعة أهل العلم الرياضي لا بد له من الذكر، وذلك بعد الدستورية، أعني أن يكون الكوكب في بيته أو شرفه في الوتد وينظر الكوكب إليه من بيته أو شرفه من الوتد، كالزهرة في الميزان في الطالع، وزحل في الجدي أو في الميزان، والمريخ في الجدي، واعلم أن الكوكب إذا كان في الحيز أو البرج أو الدستورية كان أظهر فعلاً وأقوى تأثيراً، ثم يعمد إلى اتخاذ الصورة والاسم والبخور والأفعال، مثال ذلك برج الثور: تستعمل صورة إذا كان في الوجه الثاني ويريد الحكيم أن يخدم أمره، يتخذ صورة ثور مضروب الوسط ويناديه: (لهرلرل)، وينجر بذنب الفأرة، ويفعل الأمور المهلكة بإذن الله، ويقول في جميع خدمته: يا حمرلايل يا ديرلايل يا جبرلايل، ومفهوم ذلك: يا ملك القوى السارية في الأجسام الفلكية والطبيعية والذرات العارفة لك والتي فوقها يا نور النور (2) .. ويقول في فصل آخر: ... وهذه السيمياء تنقسم إلى خمسة أقسام: الكاذبة منها الذي يذكرها مسلمة المجريطي صاحب (رسائل إخوان الصفا) (3)، والمشكوك منها الذي يزعم ابن مسرة أنه وصله، والصحيح منها الذي إذا وصف للفقيه سماه كرامة، وإذا ذكر للحكيم سماه تصريفاً، وإذا ذكر للمقرب المحقق سماه فتنة (4) ... - أظن أن القارئ الكريم يعرف أن السيمياء هي السحر. ويقول عبد الوهاب الشعراني مدافعاً عن الصوفية: ... فإن قيل: إن هذه الكرامات تشبه السحر، فإن سماع الإنسان الهواتف في الهواء، وسماع النداء في بطنه، وطي الأرض له، وقلب الأعيان، ونحو ذلك غير معهود في الحس أنه صحيح، إنما يظهر ذلك من أهل السيمياء والنارنجات؟ فالجواب ما أجاب به المشايخ العارفون والعلماء المحققون في الفرق بين الكرامة والسحر، أن السحر يظهر على أيدي الفساق والزنادقة والكفار الذين هم على غير شريعة، وأما الأولياء رضي الله عنهم فإنهم وصلوا إلى ذلك بكثرة اجتهادهم واتباعهم للسنة (5) ... الملحوظة: إنه يجعل الصوفية متبعين للسنة بكثرة اجتهادهم، وهذا غير صحيح، إذ أنهم يصلون إلى خرق العادة بالرياضة الصوفية التي لا تمت إلى السنة ولا إلى الإسلام بأية صلة. كما أن الساحر أيضاً يصل إلى خرق العادة بنفس الأسلوب تماماً. والشيخ هنا يعترف أن خوارق المتصوفة وخوارق السحرة هي شيء واحد.   (1) شمس المعارف الكبرى، (ص:530)، وما بعدها. (2) رسائل ابن سبعين، (ص:160، 161). (3) المشهور أن رسائل ((إخوان الصفا)) من تأليف جماعة من البصرة، وقول ابن سبعين هذا يحتاج إلى تحقيق. (4) ((رسائل ابن سبعين)) (ص:253، 254). (5) ((طبقات الشعراني)): (1/ 14). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 22 ويقول أحمد بن محمد المالكي الصاوي في حاشيته على (شرح الخريدة البهية): ... سيدي محمد الخلوتي ... أخذ عن الشيخ دمرداش فأحبه وقربه وشغله بالطريق وأخلاه (أي: أدخله الخلوة) مراراً، وظهرت نجابته وجد واجتهد واشتهر وتلقى عنه علم الأوفاق والحرف والزايرجا والرمل، فأتقن ذلك (1) ... - أظن أن القارئ الكريم يعرف أن الأوفاق والحرف والزايرجا والرمل هي من أبواب السحر، ولعله يعرف أيضاً أن أحمد الصاوي كان شيخ الطريقة الخلوتية. ومن كتاب (النفحة العلية في أوراد الشاذلية): (فصل) في ذكر الدائرة والخاتم والحرز والسيف، وكلها أسماء بمسمى واحد، وفي كيفية وضعها وما فيها من الخواص قراءةً وحملاً، وضبط أسمائها المعجمة وغير ذلك. اعلم أن الرواية في هذه الدائرة من طريقين، أحدهما: عن سيدي الإمام أحمد أبي العباس المرسي، والثانية: عن سيدي الإمام شهاب الدين ولد الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنهم. أما خواصها؛ فمنها ما رواه سيدي الإمام شهاب الدين عن والده قال: هذه الدائرة ورثتها عن آبائي وأجدادي الكرام، ويريد آباءه في الطريق، قال: وكان الشيخ يكتب هذه الدائرة بالسند، وقال: من كانت هذه الدائرة على رأسه لا يموت (أي: ما دامت على رأسه) (2) .. وهذه هي الدائرة: طهورٌ، بَدْعقٌ (وفي رواية بالمثناة)، مَحْبَبَهٌ، صورهٌ (وفي رواية بالسين) سقغاطيس (وفي رواية: سبقاطيس)، سقاطيم (وفي رواية: سفاطيم)، أحونٌ، قافٌ، أَدُمَّ، حَمَّ، هاءٌ، أمينٌ أو (آمين) .... اعلم أن هذه الأسماء هي من أسماء الله تعالى، ليست بلسان من ألسنة عالم الملك ولا عالم الملكوت، ولا بلغةٍ من لغات العالمين، وإنما هي أسماء جبروتية يذكر الله تعالى بها في روضة من رياض جبروته ... فاعلم أن الله قد جمع في هذه الأسماء علوم الأولين والآخرين (3) ... (ثم يرسم صورتها التي تكتب بها في الحرز، وهي مربع داخله ست دوائر مكتوب على دائرته الكبرى الطلسم نفسه، وعلى بقية الدوائر آيات قرآنية)، ثم يقول: هذه على وفق العبارة المتقدمة، ورأيتها بخط شيخنا حفظه الله تعالى، وقال في الحاشية من نسخته: وينبغي أن تكون الدائرة الكبرى ملاقيةً للخطوط الأربعة (أي: أضلاع المربع) لا خارجة عنها ولا داخلة. وقد وضع صورتها الشيخ اليافعي في كتاب (الدر النظيم في خواص القرآن العظيم) على كيفيتين رواهما من طريقتين، الأولى عن الشيخ أبي العباس المرسي .. والرواية الثانية عن سيدي الإمام تقي الدين عن أبيه سيدي الإمام شهاب الدين عن أبيه الشيخ أبي الحسن الشاذلي (4) ... (يرسم الصورتين وهما مختلفتان عن الصورة الأولى) ... إلى أن يقول: وذكر أنها أيضاً تكتب في حريرة بيضاء بمسك وزعفران وماء ورد في رابع عشر من رمضان، وتلف في رق غزال. وهو سيف الشاذلية وفيه اسم الله الأعظم وسره الأفخم. فتدبره فهو الكبريت الأحمر وبعضه من الدرياق الأكبر (5) ... - الدرياق معربة من كلمة (تارياك) التي تعني (الأفيون). وكل من اطلع على فنون السحر يعرف أن هذا الذي ذكروه (الدائرة والأسماء والحريرة ورق الغزال .. ) هو من أبواب السحر. ومما يورده أحمد أبو كف في (أعلام التصوف الإسلامي):يقول ابن عطاء الله السكندري عن علم أبي العباس (أي: المرسي): هو الجامع بين علم الأسماء والحروف والدوائر ... (6) اهـ. وطبعاً، علم الأسماء والحروف والدوائر هو من أبواب السحر.   (1) ((حاشية العلامة الصاوي على شرح الخريدة البهية))، (ص:149). (2) ((النفحة العلية))، (ص:191). (3) ((النفحة العلية))، (ص:203، 204). (4) ((النفحة العلية))، (ص:206، 207). (5) ((النفحة العلية))، (ص:208). (6) ((أعلام التصوف الإسلامي))، (ص:63). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 23 - نكتفي بهذه النصوص، وهي كافية للدلالة على أن الصوفية هي السحر. ولا بأس من توضيح الطريقة التي يتبعها المريد ليكون من السحرة، وقبل ذلك نقول للقارئ: اتق الله واعلم (أنها فتنة فلا تكفر) ولا تسر في هذا الطريق تحت أي عذر، كان ما كان هذا العذر؛ لأنها طريق إلى الهاوية. وهذه هي الطريقة: وصحبة شيخ وهي أصل طريقهم فما نبتت أرض بغير فلاحة فالشيخ الساحر الكامل ضروري، فهو الذي يوجه مريده حسب خبراته وتجاربه السابقة. والطريقة هي نفس الطريق الإشراقية، خلوة وجوع وسهر وصمت وجلسة من جلسات اليوغا وتركيز الذهن على الأمر المراد تحقيقه مع تركيز البصر على شيء يختاره الشيخ. يبقى المريد مثابراً على هذه الرياضة مدة قد تقصر وقد تطول، حسب مهارة الشيخ واستعداد المريد، حتى يتحقق الأمر المراد تحقيقه، فيستريح المريد مدة يقررها الشيخ، وهي لا تزيد على أيام على كل حال، ثم يعيد الكرة حتى يتحقق نفس الأمر ثانية، ثم يعيد ... وهكذا حتى يصل إلى أن يتحقق هذا الأمر له بسهولة كبيرة، وهذه الرياضة صالحة لبعض الخوارق، وخاصة منها ما يتصل بالتأثير على نفوس الآخرين، أو بالاتصال عن بعد (التلباثي). أما الطريقة الجامعة فهي الخلوة والجوع والسهر وترديد عبارة معينة خاصة بخرق معين يعرفها الشيخ ويلقنها لمريده، وقد يضاف إليها البخور لتسريع الوصول، وهذه الطريقة يستعملها السحرة المسلمون. يثابر المريد على هذه الرياضة التي قد تقصر وقد تطول، حتى يحصل خرق العادة المطلوب، فيستريح أياماً، حسب توجيه الشيخ، ثم يعاود الكرة حتى يحصل الخرق من جديد، ثم يعاود، وهكذا حتى يصبح الحال عنده مقاماً، حيث يحصل الخرق أمامه بترديد العبارة المعينة (الطلسم) مرات قليلة، وعندئذ يكون قد أتقن عملية سحرية واحدة. ثم يلقنه الشيخ طلسماً آخر خاصاً بخرق عادة آخر، فيعود إلى الرياضة من جديد بهذا الطلسم الجديد كما فعل في رياضة الخرق الأول، حتى يصبح الخرق الثاني له مقاماً، فيكون قد أتقن عمليتين سحريتين، وهكذا .. ويتفاضل السحرة بينهم بعدد العمليات السحرية التي يتقنها كل واحد منهم، ومن يريد الوصول إلى الجذبة منهم ثابر على طلسم واحد لا يغيره ولا يستريح حتى يصل إليها. وقد يمكن الاستغناء عن الشيخ لأفراد نادرين عندهم استعداد نفسي، أو فيزيولوجي أو تشريحي خاص، كما يمكن الاستغناء عن الخلوة والجوع والسهر لأفراد مماثلين. أي: إن السحر هو نفس الصوفية بطريقته ونتائجه، والفرق بينهما هو في الادعاء والتوجه. ثم يأتي بعد ذلك دور الطلاسم والأقسام التي يسميها المتصوفة (الأوراد والأذكار) وهي وإن اختلفت ألفاظها لكن النتيجة واحدة، وكذلك بقية الأبواب. المصدر: الكشف عن حقيقة الصوفية لمحمود عبد الرؤوف القاسم - ص 859 - 870 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 24 تمهيد لإبليس شركان يصيد بهما بني آدم، فيخرجهم من الهدى إلى الضلال، ومن استقامة الفطرة إلى الانحراف والانحلال، واتباع الأهواء. الشرك الأول: الجنس وملحقاته: بهذا الشرك يستطيع إبليس أن يبعد ابن آدم عن نداء الفطرة، وعن السلوك المستقيم الموجه بالغرائز السليمة (المتوازنة فيما بينها حسب الفطرة التي فطرها الله عليها)، فتنحرف فيه غرائز، وتتضخم أخرى على حساب بقية الغرائز التي تضمر بسبب هذا التضخم. وأرسل الله سبحانه الرسل بالتعاليم الاعتقادية والفكرية والعملية التي تحفظ على الإنسان سيره المستقيم، وتعيد الغرائز إلى توازنها الفطري، وتحقق عبادة الله في الأرض. والإسلام هو الرسالة التي جاء بها كل الرسل: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ [آل عمران:19]. الشرك الثاني: الإشراق: قد يتغلب نداء الفطرة في الإنسان على نداء الهوى، فيسير في الطريق المستقيم ملتزماً التعاليم الإلهية، متخذاً منها المنطلقات التي توجه كل تصرفاته. وهذا يعني أنه أفلت من الشرك الأول، وأنه سار على الصراط المستقيم. لكنه سيجد أيضاً إبليس أمامه، ينتظره على هذا الطريق: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف:16]، سيجده وقد نصب له الشرك الثاني (الإشراق). ويستغل إبليس الغرور والجهل في الإنسان ليوقعه في هذا الشرك باسم الإسلام وباسم الولاية وباسم مقام الإحسان، والقرب والمعرفة ... و ... إلخ. وللوصول إلى الإشراق يوجد طريقان: الطريق الأول: طريق شجرة الخلد وملك لا يبلى، وهي أنواع، فعند بعض الشعوب القديمة، وفي الهند خاصة، كانت شجرة الحشيش، وفي الشرق الأوسط، كانت شجرة الخشخاش (الأفيون)، وفي المكسيك كانت فطر المكسيك، وفي البيرو (أمريكا الجنوبية) كانت شجرة الكوكا، وفي ماليزيا كانت شجرة الكافا ... إلى غير ذلك مما لم أقف عليه. كانت شجرة الخلد هذه، وفي قمتها الحشيش والخشخاش، حكراً على الكهان، كما كانت تدخل قصور الملوك في أحيان كثيرة. وكانت سراً مقدساً يتعاطاها الكهان ضمن طقوس تعبدية سرية كي يقعوا في الجذبة، حيث تشرق عليهم الأنوار الهلوسية، ويتلقون العلوم اللدنية الهذيانية، وينطقون بما يتوهمون أنه الحكمة. وبهذه الإشراقات الباطلة، والحكمة المتوهمة، كانوا يخرجون من الإسلام، باباً بعد باب، وتدخل عليهم الوثنية من كل باب. والطريق الثاني: طريق الرياضة والمجاهدة الصوفية، فكثيراً ما كان يتعذر الحصول على المهلس الخارجى لسبب أو لآخر، حينئذ، كان إبليس يهيئ لأوليائه البديل الناجع، وباسم الإحسان، وباسم السير إلى الله والعروج إليه، وباسم المعرفة، كان يستجرهم إلى الرياضة الصوفية التي تهيئ لهم المهلس الداخلي (الإندورفين) ورفيقه الذي توقعهم دفقاته في الجذبة، حيث تشرق عليهم الأنوار الهلوسية، ويتلقون العلوم اللدنية الهذيانية، وينطقون بما يتوهمون أنه الحكمة. وطريق الرياضة هذه هي طريق خداعة، تخدع الإنسان أكثر من طريق شجر الهلوسة، لذلك كان اعتماد إبليس عليها أكثر من اعتماده على الشجر، وكان اسمها (الكهانة والمعرفة)، وعندما حاربها الإسلام، حولوا اسمها إلى (الصوفية)، وعندما كُفِّر من كهانها من كفر وقُتل من قتل، ظهرت الطريقة البرهانية الغزالية. والطريقة البرهانية الغزالية، والتي هي الإشراق الممزوج بالإسلام، هي أسلوب إبليسي استعمله إبليس، ويستعمله، للإبقاء على مسيرة الإشراق الذي فتن به بني آدم كما أخرج أبويهم من الجنة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 25 فأصل الأديان كلها الإسلام: وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24] وإِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ [آل عمران:19].، وعن طريق شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى [طه:120]، أو بديلها (الصوفية)، أخرج إبليس بني آدم من إسلامهم إلى مختلف الوثنيات التي عرفها التاريخ. لقد كان، وما زال، يوحي إلى أوليائه أن يتستروا بدين الله، ليهدمه بهم من الداخل، حيث يوهمهم أن هلوساتهم الجذبية هي إشراقات إلهية، وأنها نور اليقين وعين اليقين وحق اليقين، ثم يوحي إليهم أن يضيفوا علومهم اللدنية الهلوسية إلى الدين الحق، حيث تتراكم البدع شيئا فشيئاً، ومع الزمن يختفي الدين الحق، وتسود البدع ويعتقد الناس أنها هي هو. ومع الزمن، وبإيحاءات الأبالسة وأهواء الكهان وولائجهم، تتشعب البدع وتأخذ طرقاً مختلفة بعيدة كلها عن الدين الحق. وكثيراً ما يكون للفئات المسيطرة دور في تشجيع مذهب بتشجيع دعاته ودعمهم ومحاولة منع المذاهب المنافسة من التحرك المكشوف، أما التحرك المستور فلا سلطان لهم عليه. وهكذا ظهرت كل وثنيات التاريخ، وهكذا وجدت الهندوسية والبوذية والطاوية والجينية، أما اليهودية والنصرانية فقد تدخلت فيها عوامل أخرى. وطبعاً لم ينج المسلمون من هذا الشرك الروحاني، حيث ظهرت (وتظهر) آثاره المدمرة في أشكال متعددة، لعل أبرزها ثلاثة: 1 - الاستسلام العجيب للتتار. 2 - تمزيق الأمة الإسلامية إلى فرق مذهبية تحارب الإسلام باسم إسلام محرف ينتهجونه. 3 - إفساد عام في العقائد والعبادات والأخلاق والسلوك وأساليب التفكير. وفيما يلي بيان لهذه الأشكال التدميرية نذكرها بإيجاز شديد لأن تفصيلها يستوعب مجلدات، مع التذكير أن الكشوف والمشاهدات الجذبية هي دائماً موجهة بالقناعات الفكرية المسبقة، أي: بالأماني والطموحات والمعلومات المختزنة والعواطف المهيمنة. المصدر: الكشف عن حقيقة الصوفية لمحمود عبد الرؤوف القاسم - ص773 - 776 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 26 المبحث الأول: الاستسلام العجيب للتتر في العقود الأخيرة من القرن السادس الهجري وما يليها، كانت الصوفية واسعة الانتشار جداً، وقد مر معنا في الفصول السابقة أمثلة كثيرة عن الحالة التي وصلت إليها الأمة، والتي ظهرت نبتتها الأولى في أزمنة سابقة، حتى استوت على أيدي دعاة للصوفية (مشايخ) يقدسهم حتى غير الصوفيين، جهلاً بالصوفية، ومن هؤلاء الدعاة: الغزالي (حجة الإسلام)، والجيلاني، والرفاعي، وعدي بن مسافر، والشاذلي، والدسوقي، والبدوي ... وغيرهم. بالإضافة إلى ما مر من الأمثلة في الفصول السابقة، نورد مثالاً (على الماشي) فيه كفاية لأخذ فكرة عن الواقع. يورد ابن العماد الحنبلي في (الشذرات) في حوادث سنة 657 هـ: وفيها (أي: توفي في هذه السنة) الشيخ يوسف القميني الموله: قال الذهبي في (العبر): الذي تعتقده العامة أنه ولي الله، وحجتهم الكشف والكلام على الخواطر، وهذا شيء يقع من الكاهن والراهب والمجنون الذي له قرين من الجن، وقد كثر هذا في عصرنا والله المستعان، وكان يوسف يتنجس ببوله، ويمشي حافياً، ويأوي أقميم حمام نور الدين، ولا يصلي. وقال ابن شهبة في (تاريخ الإسلام): كان يأوي القمامين والمزابل، وغالب إقامته بإقميم حمام نور الدين بسوق القمح، وكان يلبس ثياباً طوالاً تكنس الأرض ولا يلتفت إلى أحد، والناس يعتقدون فيه الصلاح، ويحكى عنه عجائب وغرائب، ودفن بتربة المولهين بسفح قاسيون، ولم يتخلف عن جنازته إلا القليل. اهـ. - لا تعليق، لكن ملحوظة أنه لم يتخلف عن جنازته إلا القليل، وأن هذا حدث في دمشق، التي ما خلت منذ أسلمت من دعاة للإسلام الحق، لا يخافون في الله لومة لائم، فكيف تكون الحالة في غيرها. ثم ننتقل إلى القطاع الذي اجتاحه المغول: هذا القطاع هو العراق وفارس، وأبرز الطرق التي كانت منتشرة فيه أواخر القرن السادس الهجري هي: الجنبلانية، الملامتية، القشيرية، الصديقية، القادرية، الرفاعية، العدوية، الكبروية، وهناك غيرها طبعاً، مع العلم أن الرفاعية ثم القادرية كانت أبرزها على الإطلاق وأوسعها انتشاراً! وفي العقود الأولى من القرن السابع ظهرت: الجشتية، السهروردية، البابائية، البكطاشية، وبقيت الرفاعية ثم القادرية هما الأبرز والأوسع انتشاراً، وتليهما السهروردية والملامتية. من النتائج لهذا الانتشار الصوفي، النتيجة الظاهرة الصارخة، ألا وهي الاستسلام العجيب للغزو التتري الذي كان يبيد المدن والقرى ويقتل الملايين، بينما كان المسلمون يهرعون إلى المشايخ والقبور، ويلجئون إلى الأوراد والطلاسم لاستجلاب النصر، ويستسلمون للذبح استسلام النعاج!! لأخذ فكرة عن هذا الاستسلام العجيب نورد نبذاً من (الكامل في التاريخ) لابن الأثير، منها: ذكر خروج التتر إلى بلاد الإسلام: لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلاً وأؤخر أخرى، فمن ذا الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً ... هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها ... ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا (1) ...   (1) ((الكامل في التاريخ)) (9/ 324). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 27 - أقول: رحم الله ابن الأثير، فلقد رأى الخلق قبل أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا أبشع من تلك الحادثة بكثير بكثير بكثير؟ فالماركسية حتى الآن، وفي أقل من سبعين سنة، قتلت من المسلمين ما يزيد عن 100 مليون نسمة، واحتلت من أراضيهم ما يزيد عن 23 مليون كيلومتر مربع (أرقام فلكية)، وهي تزحف وتزحف، وتقتل من المسلمين في أفغانستان والحبشة وغيرها ما يزيد معدله عن 1200 قتيل يومياً عدا عن أضعافهم من المشردين وعدا عن المجازر الاستثنائية التي جرت وتجري في بلاد العرب وغيرها والتي يذهب ضحيتها عشرات الألوف ومئاتهم في أيام أو أسابيع. والفرق بين حالة المسلمين في ذلك الوقت وبين حالتهم الآن، أنهم في ذلك الوقت كانوا يعرفون أن الذين يقتلونهم هم التتر، أما الآن؟ فيرون ويسمعون ويلمسون ولا يحسون ولا يعرفون؟! وإلى الله المشتكى. ومنها: ذكر مسير التتر إلى أذربيجان وملكهم أردبيل وغيرها: .. ثم إنهم ملكوا البلد عنوة في شهر رمضان سنة ثمان عشرة (بعد الستمائة)، ووضعوا السيف فلم يبقوا على صغير ولا كبير ولا امرأة حتى إنهم يشقون بطون الحبالى، ويقتلون الأجنة، وكانوا يفجرون بالمرأة ثم يقتلونها، وكان الإنسان منهم يدخل الدرب فيه الجماعة فيقتلهم واحداً بعد واحد، حتى يفرغ من الجميع، لا يمد أحد منهم إليه يداً (1) ... ومنها: ذكر ملك التتر مراغة: ... وبلغني أن امرأة من التتر دخلت داراً وقتلت جماعة من أهلها، وهم يظنونها رجلاً، فوضعت السلاح، وإذا هي امرأة، فقتلها رجل أخذته أسيراً. وسمعت من بعض أهلها أن رجلاً من التتر دخل درباً فيه مائة رجل، فما زال يقتلهم واحداً واحداً، حتى أفناهم، ولم يمد أحد يده إليه بسوء، ووضعت الذلة على الناس، فلا يدفعون عن نفوسهم قليلاً ولا كثيراً (2) ... ومنها: ذكر دخول التتر ديار بكر والجزيرة وما فعلوه في البلاد من الفساد: ... إن الرجل الواحد منهم كان يدخل القرية أو الدرب، وبه جمع كثير من الناس، فلا يزال يقتلهم واحداً بعد واحد، لا يتجاسر أحد يمد يده إلى ذلك الفارس، ولقد بلغني أن إنساناً منهم أخذ رجلاً، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه، ومضى التتري أحضر سيفاً فقتله به. وحكى لي رجل قال: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلاً في طريق، فجاءنا فارس من التتر، وقال لنا حتى يكتف بعضنا بعضاً، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلت لهم: هذا واحد، فلم لا نقتله ونهرب؟ فقالوا: نخاف! فقلت: هذا يريد قتلكم الساعة، فنحن نقتله، فلعل الله يخلصنا، فوالله ما جسر أحد أن يفعل ذلك! فأخذت سكيناً وقتلته وهربنا فنجونا، وأمثال ذلك كثير (3) ... - أقول: ما دام القتل مؤكداً، وما دام في الدفاع عن النفس إمكانية للنجاة، إذن، فلم يكن ذلك الاستسلام بسبب الخوف فقط، ولو كان الخوف وحده هو السبب لهربوا على الأقل، إن لم يدافعوا! ولو محصنا الأمور لرأينا أن السبب الأساسي هو (مقام التوكل، أو التسليم، أو عدم الاعتراض)، الذي جرتهم إليه الصوفية، وعلى رأسها الرفاعية التي كانت واسعة الانتشار، بسبب ضرب الشيش، والهجوم على النار، وأكل الحيات ... ثم القادرية ثم بقية الطرق. ومنها: ذكر وصول طائفة من التتر إلى أربل ودقوقا: ... (يذكر حوادث مذهلة) إلى أن يقول: وعادوا (أي: التتر) سالمين، لم يذعرهم أحد، ولا وقف في وجههم فارس! وهذه مصائب وحوادث لم ير الناس من قديم الزمان وحديثه ما يقاربها! فالله سبحانه يلطف بالمسلمين ويرحمهم ويرد هذا العدو عنهم (4) ... اهـ.   (1) ((الكامل في التاريخ)) (9/ 339). (2) ((الكامل في التاريخ)) (9/ 385). (3) ((الكامل في التاريخ)) (9/ 337). (4) ((الكامل في التاريخ)) (9/ 386). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 28 - هنا أذكر تقريراً لصاحب كتاب (الفكر الشيعي والنزعات الصوفية)، يقول: ... وجلا ابن تيمية حقيقة أخرى، حين قرر أن ظهور الأحمدية (الرفاعية)، وإضعافهم الوازع الديني المتصل بالفقه الإسلامي مباشرة، وتخديرهم الناس، وحملهم على الخمول والكسل والتسليم، كان أكبر أسباب ظهور التتار (1). اهـ. - أقول: إن دور العقيدة التي غرستها الصوفية أقوى من دور الخمول والكسل، ولنسمع شاعرهم يقول: يا خائفين من التتر عوذوا بقبر أبي عمرينجيكمو من الضرر (2) وهذا تقرير آخر، لأبي الحسن الندوي، يقول: كانت العقائد والتقاليد المشركة نالت رواجاً بين عامة المسلمين باختلاطهم مع غير المسلمين ... وانتشار تعليمات الجهلة والضالة من الصوفية وأعمالهم، فقد وجد عدد وجيه من المسلمين في ذلك الحين يعتقدون في أئمة دينهم ومشايخهم والأولياء والصالحين منهم الاعتقادات الفاسدة ... وكل ما كان يدور حول قبور الأولياء والمشايخ كان تقليداً ناجحاً للأعمال والتقاليد التي كانت تنجز في معابد غير المسلمين وقبور المقدسين عندهم، فالاستغاثة منهم والاستعانة بهم، ومد يد الطلب والضراعة إليهم، كل ذلك كان عاماً شائعاً بينهم، كما عمت عادة بناء المساجد الفخمة على قبورهم وجعلها مسجداً، وعقد المهرجانات عليها عاماً فعاماً، وقطع المسافات الطويلة للوصول إليها، وقد تفاقمت هذه العقائد السيئة وانتشرت هذه البدع والمنكرات في أواخر القرن السابع بشكل فظيع (3) ... إلخ. - أقول: كل ما كان يدور حول قبور الأولياء والمشايخ، لم يكن تقليداً ناجحاً للأعمال والتقاليد التي كانت تنجز في معابد غير المسلمين كما قال أبو الحسن! وإنما هو نتيجة طبيعية للصوفية أينما وجدت، يؤمن به كل الصوفية، لكنهم يظهرونه عندما يأخذون قسطاً كافياً من الحرية، ويكتمونه تقيَّةً عندما تتفتح عليهم أعين المسلمين اعتقاداً منهم أن هذا هو رسالة الإسلام، وقد رأينا من أقوالهم مئات النصوص التي تشير إلى هذا. وترد هنا ملحوظة هامة، هي أن التتر عرفوا للصوفية فضلها في انتصاراتهم التدميرية وقدروها كثيراً، وأعطوها مركزاً مرموقاً، جعلها تهيمن على كل البلاد التي اجتاحها التتر، وقد جلى هذه الحقيقة أحد مشايخ الرفاعية، هو صالح بن عبد الله البطائحي، عندما قال في صراحة تامة لابن تيمية في مناظرته له في مصر سنة 705هـ / 1305م: نحن ما ينفق حالنا إلا عند التتر، وأما عند الشرع فلا. وكان هذا التقدير الكبير للصوفية من قِبَل التتر الذين دمروا البلاد وأهلكوا العباد سبباً آخر لإقبال الناس، من أهل البلاد التي اجتاحها التتر، ومن التتر أيضاً، إقبالاً كاملاً على الصوفية وتقديس مشايخها إلى درجة التأليه، حتى عم البلاء إلا من رحم ربك. النتيجة: الصوفية كانت العامل الأساسي الوحيد وراء الاستسلام العجيب لتلك المجازر التي ما عرف التاريخ مثل هولها حتى ظهور الماركسية سنة 1917م في روسيا، ثم امتدادها بعد ذلك، حيث قتلت من المسلمين وحدهم في مدة (68 عاماً) يزيد عن (100 مليون نسمة)، واحتلت من أراضيهم ما يزيد عن (23 مليون كيلو متر) مربع، وهي تزحف بإصرار وبأساليب مبنية على القوانين العلمية للقضاء على العالم الإسلامي عامة، والعربي خاصة، والمسلمون هم الذين يمهدون لها الطريق، ويزيلون من أمامها العقبات، ويعدون مقاتلة أعداء الماركسية جهاداً في سبيل الله، ولعلهم لم يشعروا بعد أن الماركسية هي اليهودية، وأنها التطبيق العملي لأسطورة الشعب المختار، وأنها تجند البشر لخدمة اليهود، ولعلهم لم يشعروا بعد أنهم مجروفون فيها بشكل أو بآخر، دون أن يشعروا كما وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ((غثاء كغثاء السيل)). ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون. ولعلهم لم يشعروا بعد أن الماركسية هي فتنة الدجال، وستبلغ قمتها بظهور المسيح الدجال، ملك اليهود، مع العلم أن أحوال الماركسية وأساليبها وغاياتها (التي لم يشعر بها المسلمون بعد) تطابق أوصاف الرسول لفتنة الدجال مطابقة تامة، وأنها لا تجري بقوى سحرية، وإنما بالدعاية الرمادية الغزيرة منذ عقودها الأولى، حيث اقتنع المسلمون بأوهام لا واقع لها، وصارت عندهم هذه الأوهام حقائق بدهية من طول ما سمعوه من دعاية موجهة وكثرتها، وأصبح المسلمون لا يرون كافراً ولا عدواً للإسلام إلا مَنْ يحارب الماركسية. المصدر: الكشف عن حقيقة الصوفية لمحمود عبد الرؤوف القاسم - ص 776 - 782   (1) ((الفكر الشيعي))، (ص:88). (2) ((رجال الفكر والدعوة في الإسلام)): (2/ 176). (3) ((رجال الفكر والدعوة في الإسلام)): (2/ 171، 172). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 29 المبحث الثاني: تمزيق الأمة الإسلامية إلى فرق مذهبية تحارب الإسلام باسم إسلام محرف ينتهجونه يمكن أن نميز في الفرق المذهبية عند المسلمين عدة حالات: أ- فرق ذاتُ منشأ غير صوفي، نشأت فيها طرق صوفية، فشحنتها بالأعداد الكثيرة التي أعطتها الدفع اللازم للاستمرار. ب- فرق صوفية المنشأ والمسير، يعتبرون أنفسهم صوفية حتى الآن، بينما هم غدوا فرقاً متميزة. ج- فرق صوفية المنشأ، تطورت حتى نسي أهلها منشأهم الصوفي، وصاروا على دين جديد. د- فرق لم تنشأ فيها طرق صوفية، فاضمحلت وذابت في إحدى الفرق السابقة أو رجعت إلى الإسلام. هـ- فرق لم يكن للصوفية فيها دور ملحوظ، ورغم ذلك استمرت مسيرتها، لكنها الآن قليلة الأتباع نسبياً، ولعله لا يوجد منها غير فرقتين: الزيدية بفروعها (السليمانية، والصالحية، والجارودية .. )، والإباضية، مع ملحوظة هامة هي: لو اعتبرت الزيدية الصالحية والسليمانية (فقط) مذهباً خامساً، والإباضية مذهباً سادساً، لما كان هذا الاعتبار بعيداً عن الواقع، مع اعتراض على الإباضية، لقولهم بتكفير علي بن أبي طالب. وفيما يلي، نستعرض بإيجاز أبرز الفرق في عصرنا الحاضر، التي لعبت الصوفية دورها في وجودها أو في استمراريتها: الإسماعيلية: يحتاج التوضيح الموجز إلى دور الصوفية فيها إلى صفحات كثيرة، لذلك نكتفي بإيراد بعض أقوال لبعض الباحثين: يقول عارف تامر، وهو إسماعيلي من السلمية، في تقديمه لقصيدة عامر بن عامر: ... مما لا ريب فيه أن في القصيدة آراء إسماعيلية ظاهرة، وتعابير إسماعيلية باطنية لا تخفى على المطلعين، ولعل هذا يثبت نظريتنا القائلة بأن المدرستين، الإسماعيلية والصوفية، كانتا متلازمتين تتأثران ببعضهما البعض بالنسبة لوقائع الأزمنة والأحوال (1) ... ويقول الدكتور سيد حسين نصر: فقد كانت هناك بعض الصلات بين التصوف والتشيع- وعلى الأخص بطابعه الإسماعيلي- كما يبدو مما ذكره إخوان الصفا عن التصوف في رسائلهم، وهم إن لم يكونوا حتماً من أصل إسماعيلي، فهم بلا ريب قد نشئوا في وسط شيعي، واقترن ذكرهم فيما بعد بالحركة الإسماعيلية (2) ... اهـ. - وأضيف: إن العقائد والشطحات عند الإسماعيلية بشكل عام، وعند الحسن بن الصباح منذ استيلائه على قلعة (آلَهْ مُوت) في نواحي قزوين سنة 483 هـ، وعند خلفائه، بشكل خاص، سواء في الأقوال أو الأفعال، وكذلك عند سنان راشد الدين الذي استولى على عدة قلاع في الشمال الغربي من الشام، في النصف الثاني من القرن السادس الهجري، وما يذكر عنه من خوارق تدل على قيامه بالرياضة الإشراقية، وتقديسهم لابن عربي وأفعاله، وتبنيهم تفاسيره الإشارية، كل هذا دليل على دور الصوفية في الإسماعيلية. وهذه كلمة لعالم من علمائهم شهاب الدين بن نصر ذي الجوشن الديلمي المينفي (نسبة إلى المينفة في شمال غربي سورية)، تظهر فيها وحدة الوجود إلى جانب العقيدة الرئيسية عندهم، يقول: اعلم أيها الأخ البار الرحيم الرشيد، بأن التوحيد هو صفة الموحَّد المجيد، وهو درجة العقل الفعال، وأحد الحقيقة، والمبدَع الأول، وينبوع الوجود، ومصدر العدد، فمنه إشراق أنوار الكلمة العلية، ومبتدأ الوجود، وابتداع المنزه المعبود، والواحد الفرد الصمد، الذي من جوهرة وجدت الموجودات، فلزمتها صفة الأعداد والأزواج والأفراد، وإليه عودتها حين المعاد (3) ... اهـ.   (1) ((أربع رسائل إسماعيلية))، في آخر مقدمته على قصيدة عامر بن عامر. (2) ((الصوفية بين الأمس واليوم))، (ص:134). (3) ((أربع رسائل إسماعيلية))، ((رسالة مطالع الشموس في معرفة النفوس))، ((مطلع المرتبة الثانية في التوحيد والتنزيه والتجريد)). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 30 تبدو العقيدة الإسماعيلية في هذا النص في (العقل الفعال) وأوصافه، وتبدو وحدة الوجود في قوله: (الذي من جوهرة وجدت الموجودات ... وإليه عودتها حين المعاد. وشطحاتهم في الأقوال والأفعال، التي هي، بطبيعة الحال، تشبه أحوال متعاطي الحشيش، دعت أعداءهم إلى تسميتهم بـ (الحشاشين)، وانتشر الاسم. والإسماعيلية تنقسم إلى فرقتين رئيسيتين: النزارية أو (الآغاخانية)، والمستعلية أو (البوهرة)، وكانت الشعائر الإسلامية قد ألغيت عند النزارية منذ العقود الأخيرة في الموت، قبل أن يهدمها التتر؛ لكنهم الآن عادوا إلى تطبيقها على المذهب الشافعي، وعسى أن يرتق الله سبحانه بهم بعض الفتق. [النصيرية:-] مؤسسها أبو شعيب محمد بن نصير النميري (بالولاء)، مات حوالي سنة (270هـ)، وخلفه تلميذه محمد بن جندب، وكانت مدته قصيرة، وكانت الطائفة في زمنهما قليلة، تتألف من بعض الشيعة الذين قبلوا أقوال ابن نصير. وبعد موت محمد بن جندب بعد عام (270هـ) بقليل، خلفه أبو محمد عبد الله بن محمد الجنان الجنبلاني (مات سنة 287هـ)، وكان يقيم في فارس في بلدة (جنبلا)، ولذلك اشتهر أيضاً بـ (الفارسي)، وقد أحدث طريقة صوفية عرفت بـ (الجنبلانية)، وكانت مثل غيرها من الطرق، تجتذب المريدين المخدوعين من سنة وشيعة، وأكثرهم من السنة؛ لأن أهل السنة كانوا يشكلون الأكثرية الساحقة، وكان كل من دخل الطريقة يتحول مباشرة إلى النصيرية اتباعاً لشيخه، وبذلك ازداد أتباع المذهب النصيري ازدياداً كبيراً. سافر الجنبلاني إلى مصر، حيث انتسب إلى طريقته الحسين بن حمدان الخصيبي الذي صحب الجنبلاني في عودته إلى فارس، ثم خلفه في مشيخة الطريقة وفي الرئاسة الدينية للطائفة، وقد انتقل إلى حلب، وجعلها موطناً له، وانتشرت الطريقة في عهده بسرعة، وخاصة في سنجار، وانتشارها يعني انتشار المذهب النصيري، وقد ساعد على انتشار الطريقة والمذهب طول عمر الخصيبي، الذي عاش حتى سنة (358هـ). ونورد قولاً في هذا الموضوع لمؤرخ نصيري هو محمد أمين غالب الطويل (1)، يقول: كان السيد أبو سعيد سرور (مات سنة 426 هـ)، أكبر مؤلف بين العلويين، وهو آخر شيخ منفرد بالطريقة الجنبلانية التي استحالت بعد ذلك، وتشكل منها شعب العلويين (2) ... (العلويون) اسمٌ ثانٍ للنصيرية استحدث زمن الاستعمار الفرنسي، ويسمون أيضاً (العلي إلهيون). اليزيدية (عبدة الشيطان):- وهي في الأصل طريقة صوفية هي الطريقة العدوية، مؤسسها عدي بن مسافر الأموي، من نسل مروان بن الحكم، وقد تتلمذ على عبد القادر الجيلاني.   (1) من أحياء العقد الثالث من القرن العشرين الميلادي، لم أقف على تاريخ وفاته. (2) ((تاريخ العلويين))، (ص:264). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 31 كانت بلاد سنجار بجبالها ووديانها شبه منعزلة عن العالم، فترعرعت فيها النصيرية الجنبلانية بحرية، حتى استوت، وعندما هاجر منها النصيريون إلى المناطق الشمالية الغربية من سورية عام (620هـ)، خلفهم فيها أتباع الطريقة العدوية، إذ كان مقر عدي بن مسافر هناك، وترعرعت هذه الطريقة بعيداً بعض الشيء عن أعين المسلمين وعلماء الإسلام، وأخذت حريتها الكاملة، ومن الطبيعي أن تظهر بين مشايخها الأمويين وأتباعهم ردود فعل تتناسب شدتها مع شدة غلو النصيرية في شتمهم للأمويين، وخاصة يزيد بن معاوية، وردود الفعل هذه، مضاف إليها طبيعة الصوفية الخاضعة دوماً للكشف وتوجهاته، والذي هو خاضع بدوره لأهواء الشيخ الكامنة في نفسه من جهة، ووسوسات شياطين الجن والإنس من جهة ثانية، ومضاف إليها الجهل الذي تفرضه الصوفية على أتباعها، كل هذا جعل الانحراف المقابل للتشيع يسير بسرعة حتى استوى في مدة وجيزة وظهر الزيغ والضلال في زمن شيخها حسن بن عدي بن صخر بن أبي البركات بن صخر بن مسافر، وصخر بن مسافر هذا هو أخو عدي بن مسافر الذي عمر حتى تجاوز التسعين من عمره. مات حسن بن عدي سنة (644هـ) مقتولاً على الزندقة، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، ولا بد من أن يكون بعض التطور قد حدث بعده في الطريقة. ولعل النصيرية هم الذي أطلقوا عليهم اسم (اليزيدية) للتشنيع، بينما قبلوه هم لأنهم كانوا يرون فيه شرفاً لا تشنيعاً بسبب أموية شيوخهم، وهذا يعني أن هذا الاسم يجب أن يكون قد انتشر قبل هجرة النصيرية (وهو كذلك). ولعل مقام الورع الذي تحقق به مشايخهم، وكانوا يحثونهم عليه، هو الذي أوصلهم إلى عبادة الشيطان! فقد كانوا لشدة تحققهم بهذا المقام، يتورعون عن السب واللعن، حتى عن لعن الشيطان (بدلاً من سب الشيطان قل: لا إله إلا الله)، ثم مع مثابرتهم على التمسك بهذا المقام- ولعل عوامل أخرى تدخلت في الموضوع- صاروا يعنفون من يسب الشيطان، ومع الزمن، وزيادة الورع، تحول هذا إلى تقديس الشيطان ثم إلى عبادة له. الدرزية:- تؤمن الدرزية أن الزمن يقسم إلى أكوار، وكل كور إلى أدوار، وأن الله سبحانه يتأنس (يظهر بصورة إنسان) في أول كل دور، وأنه (سبحانه وتعالى) في الدور الأخير من الكور الحالي تأنس بصورة الخليفة الفاطمي (الحاكم). مؤسس الدرزية هو الحمزة بن علي الزوزني (اختفى سنة 411 هـ بعد اختفاء الحاكم)، ومما ينعت به: علة العلل، العقل الأول، النور الكلي، الجوهر الأزلي، فيه بدأت الأنوار، ومنه برزت الجواهر، وعنه ظهرت العناصر، ومنه تفرعت الأصول، وبه تنوعت الأجناس، أصل الوجود، قائم الزمان، هادي المستجيبين ... ذو معة. وكانت دعوته بدعم مباشر من الحاكم. ويأتي بعده في المرتبة الدينية إسماعيل بن محمد التميمي (النفس الكلية، المشيئة ... ذو مصَّة)، ثم محمد بن وهب القرشي (الكلمة ... )، ثم سلامة بن عبد الوهاب السامري (السابق، الجناح الأيمن .. )، ثم علي بن أحمد السموقي الطائي (التالي، الجناح الأيسر .. )، المعروف بلقب بهاء الدين الضيف (اختفى سنة 434هـ/ 1042م)، ومدته في الدعوة أطول من مدة الأربعة مجتمعين. وهؤلاء يدعون (الحدود الخمسة). تظهر وحدة الوجود واضحة في أوصاف الحمزة بن علي: فيه بدأت الأنوار، ومنه برزت الجواهر، عنه ظهرت العناصر ... إلخ، كما تشم منها زاخمة رائحة الكشف والرؤى الكشفية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 32 وتصف الدكتورة نجلاء عز الدين مؤلفة كتاب: (الدروز في التاريخ) الحاكم بقولها: ... فالحاكم كغيره من الصوفية، خبر المعراج الروحي فغاب بشهوده عن وجوده ... يتكلم وكأن الله هو المتكلم، فيقول: وكما سما أناس بحبنا إلى الفناء في ذاتنا، فلولا المحبة لما فنوا ولما وصلوا إلى طريق الارتقاء إلى العالم الأقدس (1) لو رجعنا إلى فصل لا طريقة بدون شيخ، لرأينا التشابه التام بين هذا القول وأقوال مشايخ الصوفية).وجاء في الرسالة الثالثة عشر من رسائل الحكمة (كتاب الدروز): إن المولى سبحانه لا يدخل تحت الأسماء والصفات واللغات ... هو الموجود في الحقيقة ولا غيره موجود (2). (هذا نفس قول الصوفية).وتقول المؤلفة أيضاً (وهي درزية): إن مذهب الدروز مسلك صوفي عرفاني ... فالسالك بعد أن يكون قد ارتاض بالعمل بموجب ظاهر الشريعة وباطنها يصل إلى مرحلة يصبح عندها مهيأً لتقبل الحقيقة دون حاجة إلى شعائر ووسائط ... إن ما هو أهم من ظاهر العبادات معناها الحقيقي، وهو الرياضة الروحية ... فتصبح النفس مهيأة للمثول أمام خالقها، فتبلغ بنعمة المولى ولطفه مرتبة المشاهدة (3) ... وفي ترجمتها للأمير السيد جمال الدين عبد الله التنوخي، وهو يلي الحدود الخمسة في المقام (ت:884 هـ/ 1479 م)، تقول: ... فهو (أي: عبد الله التنوخي) ينبوع الخيرات ومعدن البركات ... العارف بالله الرباني ... سرعان ما انتشرت شهرته كولي من أولياء الله الصالحين (4) ... وتقول: إن كتابات السيد مفعمة بروح صوفية، فقد اتبع خطا الصوفية في الوصول إلى معرفة الله (5) ... ومما تورده من أقواله: ... فمتى قهرت النفس الشهوات أصبحت خاضعة لله، مراقبة لباريها، سائرة إلى معرفته، فيمن عليها الصفاء والإشراق (6) ... وفي كتاب إلى عبد القادر ريان، أحد المريدين، يقول السيد: وقاعدة السعادة في الدين والدنيا أن يستشعر العبد حضور خالقه في سره وطويته وظاهره وباطنه ... وتأتي المشاهدة بعد الانصراف عن كل ما هو سوى الله (7) .. اهـ. النتيجة: الصوفية وراء الدرزية، وفي الحقيقة، الدرزية الآن هي الإشراق ذاته غير ممزوج بشيء (الخلوة والرياضة حتى الوصول إلى الإشراق)، والنصوص القليلة السابقة واضحة في هذا المدلول، وهم يسمون أنفسهم (الموحدين)، ويسمون مذهبهم (مسلك التوحيد)، ويعنون بذلك نفس المعنى الصوفي، أي: وحدة الوجود. والواصلون منهم يسمون (أعرافاً)، مفردها (عَرْف)، وهو اشتقاق من (العارف)، مع العلم أن هذا (أعراف)، قلما يستعملونه الآن، ويستعملون بدله كلمة (أجاويد)، مفردها (جويِّد). وهناك دلائل تشير إلى أن الدروز كانوا يقيمون الشعائر الإسلامية حتى زمان متأخر. البكطاشية:- طريقة صوفية في الأصل، وحتى الآن يعتبرها أتباعها طريقة صوفية، رغم أنها صارت مذهباً -بل ديناً- شاذاً عن الإسلام، وقد لا يمضي وقت طويل حتى ينسى أتباعها أنهم أتباع طريقة صوفية، ويرون أنفسهم أهل مذهب خاص. وهذه بعض معالمها كما يذكرها أحمد حامد الصراف (بغدادي) في كتابه (الشبك). 1 - البكطاشية طريقة صوفية لا يتيسر الانخراط في سلكها إلا بعد مضي مدة التجربة، وهي ألف يوم ويوم. 2 - البكطاشية تتهاون بأداء الفرائض كالصوم والصلاة والحج والزكاة والجهاد. 3 - البكطاشي لا يتحرج في شرب الخمرة، فالخمرة شربها مباح.   (1) ((الدروز في التاريخ)) (ص:129). (2) ((الدروز في التاريخ)) (ص:140). (3) ((الدروز في التاريخ)) (ص:148و 149). (4) ((الدروز في التاريخ)) (ص:229). (5) ((الدروز في التاريخ)) (ص:236). (6) ((الدروز في التاريخ)) (ص:236). (7) ((الدروز في التاريخ)) (ص:237). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 33 4 - البكطاشي يعترف عند الباب أو البير بما ارتكبه من آثام ويتلقى منه المغفرة.5 - البكطاشي يغالي في الإمام علي، ويرفعه إلى مقام الألوهية (1). اهـ. والبكطاشية منتشرة في تركيا وشرق أوروبا، ويقال: إن عدد أتباعها في تركيا وحدها يزيد على ثلاثة عشر مليوناً، وكذلك انتشارها في مصر في تزايد مستمر، والبكطاشي شيعي اثناعشري يسمي نفسه سنياً. ويوم 16 آب هو عيدهم، حيث يجتمع الآلاف منهم بالألبسة الزاهية، يطوفون حول القبر المقدس في نوشهر في تركيا، ويقيمون الرقصات والأذكار الخاصة، وعلى رءوسهم قلنسوات أسطوانية ذات 12 طية، إشارة إلى الأئمة الاثني عشر، أئمة الشيعة، وحركاتهم في الرقص (الحضرة) عنيفة، ويبقى العيد ثلاثة أيام. المتاولة: شيعة الهند وإيران والعراق الجنوبي وجبل عامل (الشرخ الأكبر في جسم الأمة الإسلامية):- ما كان التتار في غزواتهم حملة عقيدة يسعون إلى نشرها، وما كان غزوهم إلا من أجل العلو أو الانتقام أو النهب) ولمجرد الغزو والفتح، وكانت عقائدهم التي يدينون بها متشعبة وثنية ساذجة تنفر منها الفطرة السليمة. عندما تصطدم أمة، هذه حالها، بعقيدة واضحة، متلائمة مع الفطرة، مستقيمة مع المنطق، صادقة المنهج، فسرعان ما تستسلم هذه الأمة لهذه العقيدة. وهذا ما حدث للتتار، فبعد جيل (في مكان)، أو جيلين (في مكان آخر)، أو أكثر بقليل (في مكان ثالث)، أخذ التتار يدخلون في الإسلام زرافات ووحداناً. وبما أن الصوفية كانت واسعة الانتشار جداً، لذلك كان دعاة الإسلام بين التتار خليطاً من مسلمين صحيحي العقيدة ومن متصوفة، مما جعل دخول قسم لا بأس به من التتار إلى الإسلام على أيدي متصوفة، وخاصة من مشايخ الطريقة الرفاعية الذين كانوا يذهلونهم بالخوارق التي يجرونها أمامهم. وهنا يجب ألا ننسى أن المتصوفة يظهرون الشريعة ويبطنون الحقيقة (حقيقتهم)، فهم عندما كانوا بخوارقهم يجتذبون التتار إلى الإسلام، كانوا يجتذبونهم إلى الشريعة الإسلامية حسب الظاهر، ثم بعد ذلك يجرونهم وراءهم في طريق التصوف. كما يجب ألا ننسى أبداً أن إبليس ماهر في الحساب، يتقن الجمع والطرح، ويعرف أن العشرة أكثر من الواحد. ويجب كذلك ألا ننسى أبداً أن إبليس كان يعرف أن التتار ليسوا حملة عقيدة، وأنهم باختلاطهم مع المسلمين سوف يسلمون، إن لم يكن في هذا الجيل، ففي الذي بعده. وبذلك كان يعرف أن إدخال أعداد من التتار في الإسلام بواسطة المتصوفة لإضلال أضعاف أضعاف أضعافهم، هو عملية مربحة جداً له. ولذلك كان وجنده يقدمون خدماتهم للمتصوفة بإجراء تلك الخوارق، وبكل تأكيد، كانوا يقدمونها بحماس، مما سبب دخول أعداد من التتار في الإسلام. زاد بذلك افتتان الناس بالصوفية، وغدا الشيخ الصوفي إلهاً يعبد ويسجد له، وصارت تقدم له الأدعية والنذور والقرابين، ويتبرك حتى ببوله وخرئه، وصارت الطلاسم والأوراد والأحزاب والقبور هي هم المسلم، وكان الجهل هو المساعد الأكبر. في ذلك الوقت، أي: في النصف الثاني من القرن السابع (بعد الغزو التتاري)، وما بعده، كان للتشيع فرق كثيرة (قليلة الأتباع)، يمكن توزيعها على ثلاث مجموعات هي: أ- الغلاة: وأبرزهم النصيرية، وكانوا منتشرين في شمالي سورية وفي جيوب صغيرة في العراق وفارس، وكانوا يسمون أيضاً (العلي إلهيون). ب- الأقل غلواً: وأبرزهم الإسماعيلية والزيدية الجارودية، وكانوا منتشرين في البحرين واليمن والشام وفي جيوب في فارس، وكانت الزيدية في فارس أكثر من الإسماعيلية، ولا يعرف لها وجود متميز في الشام.   (1) ((الشبك))، (ص:47). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 34 ج- المعتدلة: وأبرزهم الزيدية الصالحية والسليمانية في فارس والعراق واليمن، وكذلك شيعة جبل عامل في جنوب لبنان، والحلة وما حولها في العراق، وفي جيوب صغيرة في فارس والشام. والشيعة المعتدلة هؤلاء كانوا يحترمون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم، لكنهم يفضلون علي بن أبي طالب، ويرونه أحق بالخلافة من أبي بكر وعمر وعثمان، ويشتمون الأمويين، وخاصة يزيد بن معاوية، ويرون أن الخلافة يجب أن تكون في العلويين، وأن العباسيين مغتصبون لها، وكانوا يتبعون المذاهب السنية في الفقه. جاء القرن الثامن والتاسع، والمسلمون (ويهمنا هنا البلاد التي اجتاحها المغول) على هذه الحال، ومن البدهي أن يظهر في الشيعة متصوفة، حيث عمل مثقفوهم على الجمع بين التصوف والتشيع، ساعدتهم طبيعة الصوفية بما فيها من باطنية وادعاء النسب لآل البيت، وزعم التسلسل الذي يوصلونه إلى علي بن أبي طالب عن طريق الأئمة الاثني عشر، لكنهم كانوا يبثون عقائدهم هذه بصورة محدودة بين خواصهم وبعض غيرهم، كما ألف بعضهم كتباً في هذا الشأن، أي أنهم لم يؤسسوا طرقاً صوفية ويحاولوا تشييعها، بل اكتفوا بما كانوا يلقونه من دروس ومواعظ ومناقشات، أو بما كانوا يؤلفون من الكتب، منهم: آل طاوُس: الذين بقيت نقابة الأشراف فيهم عشرات السنين، وكانوا يعدون أولياء ذوي كرامات أحياءً وأمواتاً، حتى لقد صار قبر السيد أحمد بن طاوُس مزاراً مشهوراً، وحتى تحرج العامة والخاصة عن الحلف به كذباً خوفاً (1). وأهمهم. - نقيب الأشراف رضي الدين علي بن طاوُس، توفي سنة (644هـ)، قبل دخول التتار إلى بغداد. - وبعده نقيب الأشراف جمال الدين محمد بن طاوُس، توفي بعد سنة (672هـ) بقليل. - وبعده غياث الدين عبد الكريم بن أحمد بن طاوُس، توفي سنة (693هـ). ومن غير آل طاوس: - كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني مات سنة (679هـ).- عز الدين، أبو الفضل عامر بن عامر البصري، من أحياء العقود الأولى من القرن الثامن، نظم قصيدة سماها (ذات الأنوار)، عدد أبياتها (507) بيت، وعدد فصولها (12) فصلاً، نظمها سنة (705هـ)، (لنلاحظ أن 5+7=12 وهو عدد الأئمة الإثني عشرية) (2)، وقصيدته هذه التي مطلعها: تجلى لي المحبوب في كل وجهة ... فشاهدته في كل معنى وصورة هي التي يعزو عبد الوهاب الشعراني في طبقاته أبياتها الأوائل إلى إبراهيم الدسوقي، وتوحي هذه القصيدة بأن عامر بن عامر إسماعيلي، تصوف في الطريقة البكطاشية، فصار اثني عشرياً إسماعيلياً. - الحسن بن يوسف بن مطهر الحلي، تلميذ نصير الدين الطوسي، صاحب كتاب (منهاج الكرامة)، الذي نقضه ابن تيمية في كتابه (منهاج السنة)، مات ابن المطهر سنة (727هـ)، وقد تشيع به جماعات كثيرة. وهناك غيرهم أعداد. هؤلاء أوجدوا هنا وهناك بؤراً شيعية جديدة أضيفت إلى القديمة، وفي هذه البؤر وجد مشايخ الطرق المتشيعون الذين جاءوا فيما بعد دعاة، كانوا عوامل، إلى جانب الشيخ، في إقناع الأتباع بالتشيع. ثم جاءت الطرق لتكون العامل الحاسم في تشييع فارس وبعض العراق، وقبل إلقاء نظرة سريعة على أبرزها، نعود لإلقاء نظرة ثانية، وسريعة أيضاً، على مدى سيطرة الصوفية على المجتمعات في ذلك الوقت: مما يقرره أبو الحسن الندوي ناقلاً، يقول: وآخرون قد جعلوا الميت بمنزلة الإله والشيخ الحي المتعلق به كالنبي، فمن الميت يطلب قضاء الحاجات وكشف الكربات، وأما الحي فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه ...   (1) ((الفكر الشيعي والنزعات الصوفية))، (ص:113). (2) أشار إلى هذه الملاحظه مؤلف ((الفكر الشيعي والنزعات الصوفية)). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 35 فطائفة من هؤلاء يصلون إلى الميت، ويدعو أحدهم الميت، فيقول: اغفر لي وارحمني، ونحو ذلك، ويسجد لقبره، ومنهم من يستقبل القبر، ويصلي إليه مستدبراً الكعبة، ويقول: القبر قبلة الخاصة، والكعبة قبلة العامة، وهذا يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهداً ... وآخر من أعيان الشيوخ المتبوعين أصحاب الصدق والاجتهاد في العبادة والزهد، يأمر المريد أول ما يتوب أن يذهب إلى قبر الشيخ، فيعكف عليه عكوف أهل التماثيل، وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع والدعاء وحضور القلب ما لا يجد أحدهم في مساجد الله تعالى ... حتى إن طائفة من أصحاب الكبائر الذين لا يتحاشون فيما يفعلونه من القبائح، كان إذا رأى قبة الميت أو الهلال الذي على رأس القبة، خشي من فعل الفواحش، ويقول أحدهم لصاحبه. ويحك هذا هلال القبة، فيخشون المدفون تحت الهلال، ولا يخشون الذي خلق السماوات والأرض ... ويحلف أحدهم اليمين الغموس كاذباً، ولا يجترئ أن يحلف بشيخه اليمين الغموس كاذباً، ومنهم من يقول: كل رزق لا يرزقه إياه شيخه لا يريده ... وهؤلاء يجعلون الرسل والمشايخ يدبرون العالم بالخلق والرزق وقضاء الحاجات وكشف الكربات ... ومن هؤلاء من يظن أن القبر إذا كان في مدينة أو قرية فإنهم ببركته يرزقون وينصرون، وأنه يندفع عنهم الأعداء والبلاء بسببه (1) ... ثم يقول أبو الحسن الندوي معلقاً ومبيناً: وكانت النتيجة الحتمية لهذا الإجلال والتعظيم أن تتزايد أهمية المشاهد بإزاء المساجد ... فقد انتشرت هذه المشاهد والمزارات في كل ركن من أركان العالم الإسلامي، ووجدت آلاف مؤلفة من القبور المزورة، وتصدى الأمراء والسلاطين لوقف الممتلكات والأراضي الواسعة عليها، وأقيمت عمارات ضخمة وقباب فخمة في أمكنة هذه القبور ومشاهد المشايخ، كما وجدت أمة بأسرها من العاكفين والكناسين والخدم لهذه القبور، ونالت الرحلة إليها كل إعجاب، حتى بدأت تصل قوافل الحجاج إليها من مسافات بعيدة ... إلى أن يقول: وفي القرنين السابع والثامن، دخلت هذه المشاهد والضرائح في حياة المسلمين الدينية، ونالت عندهم من القبول والمركزية ما جعلها تنافس بيت الله وتتحداه (2) ... إلخ. وهذا تقرير آخر لابن بطوطة (الرحالة) عن تربة أبي إسحاق، إبراهيم بن شهريار الكازروني في كازرون (3)، يقول: ... ومن عادتهم أن يطعموا الوارد كائناً من كان، من الهريسة المصنوعة من اللحم والسمن، وتؤكل بالرقاق، ولا يتركوا الوارد عليهم للسفر حتى يقيم في الضيافة ثلاثة، ويعرض على الشيخ الذي بالزاوية حوائجه، ويذكرها الشيخ للفقراء والملازمين للزاوية وهم يزيدون على مائة ... وهذا الشيخ أبو إسحاق معظم عند أهل الهند، ومن في الصين، ومن عادة الركاب في بحر الصين أنهم إذا تغير عليهم الهواء وخافوا اللصوص نذروا لأبي إسحاق نذراً، أو كتب كل منهم على نفسه ما نذره ... وما من مركب يأتي من الصين أو الهند إلا وفيه آلاف من الدنانير، فيأتي الوكلاء من جهة خادم الزاوية فيقبضون ذلك ... اهـ. - أقول: في هذه النصوص كفاية وفوق الكفاية بكثير، لنعرف مدى سيطرة الصوفية، ومدى تأثير المشايخ على العقول، والكتاب كله براهين من أقوالهم على عقائدهم هذه التي يؤمنون بها كلهم ويكتمها الكمل منهم، ويظهرون الشريعة. وهذه ملحة إضافية من أناشيدهم على لسان شيوخهم: وأنا صرخت في العرش حتى ضج وأنا حملت على علي حتى هج   (1) ((رجال الفكر والدعوة في الإسلام)): (2/ 172، وما بعدها). (2) ((رجال الفكر والدعوة في الإسلام 9ؤ9: (2/ 176 - 187). (3) مدينة إيرانية داخلية تبعد عن أقرب مرفأ إليها على خليج البصرة حوالي مائة كم، وهو بندر ريك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 36 وأنا البحار السبعة من هيبتي ترتج في هذا المحيط، أخذت الطرق الصوفية تعمل عملها، والبارزة من هذه الطرق هي: الصفوية: التي لعبت في هذا المضمار دورين: دورا تأسيسياً في مراحلها الأولى، ثم الدور الحاسم في مراحلها الأخيرة. مؤسسها هو صفي الدين إسحاق بن أمين الدين جبرائيل الأردبيلي، والظاهر أنه تركي الأصل؛ لكنه مع ذلك من سلالة الحسن أو الحسين (الشك من ابنه)، ولد صفي الدين سنة (650هـ)، ومات سنة (735هـ) على الأرجح، أخذ الطريقة (لعلها القادرية) عن الشيخ إبراهيم الزاهد الكيلاني المتوفى سنة (700هـ) في كيلان، ثم أسس طريقته التي انتشرت في أردبيل وقزوين وما حولهما، وتسربت إلى غيرها من البلدان القريبة. كان أتباعها يتحولون إلى شيعة (معتدلة) بسبب تشيع شيوخهم ونسبهم العلوي (المدعى)، ودعوتهم إياهم إلى التشيع؛ لأن المريد يجب أن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي الغاسل، وكان أتباعه قبل الشروع بالحضرة يسجدون له، ثم يتابعون حضرتهم، وهي من الجالسة الصائتة، وقد أخذت الطريقة النعمتللاهية هذا التقليد عن الصفوية (1).السنية السعدية: مؤسسها سعد الدين محمد بن المؤيد ... بن حمويه، مات في خراسان سنة (650هـ-1252م)، لقبوه بـ (يسعى العجم)، شيعي من تلاميذ ابن عربي (الشيخ الأكبر)، أسس طريقته في دمشق، ثم انتقل إلى خراسان لينشرها هناك. و (يسعى العجم) هذا هو خاتم الأولياء، الذي هو معاد النبي، ومغرب جميع الأنوار المنتشرة في العلويات والسفليات ... وهو مظهر قيام الساعة، يعني: قيام نفس الولاية التي تعم الإلهية، وكان (يسعى العجم) هذا يمثل العلم الإلهي المتسلسل من آدم إلى محمد ومندمجاً على ثمرة (تعليم الأسماء وعلم البيان) (2) ... ويسعى العجم هذا نزلت عليه سكينة الله فصار بها حياً باقياً خالداً دائماً في هذه الدار، وأعطاه السلام مفاتيح الغيب ... وهكذا صار (يسعى العجم) إنساناً إلهياً لا يختلف عن الله حتى في الخلود (3) .. اهـ.- أقول: ما على القارئ إلا أن يتخيل رجلاً هذه صفاته التي يؤمن بها أتباعه وغيرهم، وهو شيعي يدعوهم إلى التشيع! فهل يمكن أن يوجد في هؤلاء الأتباع من لا يستجيب له؟ وهكذا انتشر التشيع في شرقي إيران، وإن كان انتشاراً محدوداً؛ لأن انتشار الطريقة السنية السعدية لم يكن واسعاً مثل الصفوية مثلاً، ويجب ألا ننسى أن شيخ يسعى العجم، الذي هو محيي الدين بن عربي، كان شيعياً أيضاً (4)، ويجعله الإسماعيلية من أئمتهم. الحروفية: مؤسسها فضل الله بن عبد الرحمن الحسيني الاستراباذي، شيعي كان يتنقل بين مدن فارس، قتله ميران شاه بن تيمورلنك سنة (804هـ)، له ثلاثة كتب مقدسة: الجاردان نامة، أي: كتاب الخلود، ومحبة نامة، وعرش نامة، والأخيران شعر. كان الجاردان نامة يدرس سراً، ولخليفته الثاني (علي الأعلى) شرح عليه. في سنة (786هـ-1384م)، أعلن فضل الله مهديته (مهدي السنة طبعاً) بين أخصائه، وتلقى البيعة سراً (5) ... وكانت دعوته مبنية على أنه خليفة الله كآدم وعيسى ومحمد، اجتمعت فيه مُثُل الصوفية والشيعة لإنقاذ العالم بالدم، فكان مهدياً وختماً للأولياء ونبياً وإلهاً في وقت واحد (6).   (1) ((الفكر الشيعي والنزعات الصوفية))، (ص:249). (2) ((الفكر الشيعي والنزعات الصوفية))، (ص:208). (3) ((الفكر الشيعي والنزعات الصوفية))، (ص:209). (4) ((ميزان الاعتدال)) للذهبي في ترجمة ابن عربي. (5) ((الفكر الشيعي والنزعات الصوفية))، (ص:181). (6) ((الفكر الشيعي والنزعات الصوفية))، (ص:182). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 37 وبدهي أن يتبع الأتباع شيخهم بالتشيع، لأن المريد يجب أن يكون بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل. وطبعاً، كان الجهل أكبر مساعد. ومما يجدر ذكره أن علم الحروف، رغم كونه من مستلزمات الكهانة أو (الصوفية؛ لا فرق) في جميع حالاتها، إلا أنه كان مقتصراً على الشيوخ والعارفين، حتى جاءت الحروفية فعممته، وصار علم الحروف (السحر) حرفة ووسيلة لتسخير الطبيعة، بقطع النظر عن كون المستخدم لها براً أو فاجراً، وانشغل الصوفية (وغيرهم) به لرسم الهياكل والطلاسم (1) ... والمحبة والقبول والشفاء من الأمراض وغيرها ... ورغم أن الطريقة الحروفية اندثرت باندماجها في البكطاشية فيما بعد؛ إلا أنها تركت أثرها الحروفي في كل الطرق، وبالتالي في الأمة جمعاء، إلا من رحم ربك، وهكذا صار علم الحروف (السحر) من المظاهر البارزة في ثقافة الأمة جمعاء، إلى جانب القبوريات وخوارق المشايخ وتغريبة بني هلال وقصة سيف بن ذي يزن، وكذلك ظهر أثرها بعد زمن في الشيخية، ثم في البابية والبهائية. الهمدانية: مؤسسها علي بن الشهاب الهمداني، شيعي فارسي تخرج بالكبروية، وكان أكثر مريديه من السنة الذين تشيعوا اتباعاً لشيخهم، وكان الجهل أكبر مساعد، مات علي الهمداني سنة (786هـ)، وسار خلفاؤه على نهجه بتشييع أتباعهم على النفس الطويل، وفي الهمدانية تخرج نور بخش. في هذه العقود -أي: النصف الثاني من القرن الثامن- ظهر أيضاً كتاب من الشيعة المتصوفة دعوا إلى الجمع بين التصوف والتشيع، لعل أشهرهم: بهاء الدين، حيدر بن علي العبيدي الآملي، مات بعد سنة (794هـ)، له كتاب كان مشهوراً، اسمه (جامع الأسرار ومنبع الأنوار في أن عقائد الصوفية موافقة لمذهب الإمامية الإثني عشرية)، وله كتاب في التصوف اسمه: (نص النصوص في شرح الفصوص)، أي: شرح (فصوص الحكم لابن عربي. وبهاء الدين هذا من أتباع الطريقة الأكبرية العربية الحاتمية (2).   (1) ((الفكر الشيعي والنزعات الصوفية))، (ص:197). (2) ((الصوفية بين الأمس واليوم))، (ص:135). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 38 - ومن الظواهر البارزة في هذه العقود، تيمورلنك والحركة التيمورلنكية، ننقل جملة موجزة عنه من (الفكر الشيعي والنزعات الصوفية): ... فقد بدأ تيمور علاقاته الشخصية بالصوفية ... اتصل في مطلع شبابه في (كش) بالشيخ شمس الدين الفاخوري، وفي خراسان بالشيخ أبي بكر الخوافي (ت: 838 هـ)، ولما ارتفع نجم تيمور غلب عليه السيد محمد بركة (ت: 804)، ولهذا روي عنه أنه كان يقول: جميع ما نلته بدعوة الشيخ شمس الدين الفاخوري، وهمة الشيخ زين الدين الخوافي والسيد محمد بركة. يضاف إلى هذا أن تيمور كان يزور الصوفية ويكرمهم أينما حل، ويزور قبور شيوخهم، حتى إنه لما فتح العراق، قصد إلى واسط، ليزور قبر السيد أحمد الرفاعي. وفي مقابل هذا كان الصوفية يدعون لتيمور ويؤيدونه، وبخاصة أنه لبس الخرقة منهم، فصار بذلك واحداً منهم، واعتبرت أعماله كرامات صوفية، وصار مظهر تجليات الحق الجمالية والجلالية، ووصفت أعماله كلها بصدورها عن الإلهام الإلهي والهاتف السماوي وأنباء الغيب (1) .... اهـ. كان تيمورلنك سني المذهب، نشأ في مجتمع سني على مذهب أبي حنيفة، وقد قاده تصوفه إلى التفاعل الكامل مع الطريقة الصفوية الشيعية، فعندما اتصل بشيخها صدر الدين موسى (ت: 794 هـ) ابن صفي الدين وخليفته، أقطعه مدينة أردبيل وما حولها، فصار صدر الدين الحاكم الفعلي لأردبيل، بالإضافة إلى سلطته الصوفية المؤلهة، كما وهب ابنه وخليفته (علاء الدين علي) الأسرى الذين وقعوا في قبضته في حروبه في بلاد الروم (2) سنة (804هـ-1401 - 1402م)، فسموا (الصوفية الرومللو). بينما نرى تيمورلنك هذا يجتهد في محاربة أهل السنة، وعندما ينتصر عليهم يعاملهم بقسوة بالغة، وخاصة دمشق التي أبادها إبادة كاملة، بحجة أن أهلها شاركوا في مقتل علي والحسين رضي الله عنهما، وأنهم من أتباع الأمويين. يقول كامل مصطفى الشبيبي: جمع تيمورلنك بين العاطفة الشيعية والفقه السني. ويقول: كان من الطبيعي أن تظهر في عهد تيمور حركات شيعية غالية، وذلك لغلبة التصوف وارتفاع شأن العلويين (3). ويحسن أن نذكر هنا أن (خدابندة) خليفة قازان، تشيع وأعلن التشيع في جميع مملكته، لكن ذلك لم يجد شيئا لندرة دعاة الشيعة في بلاده آنذاك؛ ولأن العقيدة لا يمكن أن تفرض بمرسوم يصدر عن الحاكم؛ ولأن هذا الإعلان دفع دعاة السنة إلى النشاط في الدفاع عن الإسلام، مات خدابندة (716هـ-1316م). وفي القرن التاسع الهجري ظهرت الطرق التي كان لها الدور الحاسم والنهائي في تحويل الفرس إلى شيعة، هذه الطرق هي: النوربخشية، المشعشعية، النعمتللاهية، ثم الصفوية في دورها الثاني.   (1) ((الفكر الشيعي والنزعات الصوفية))، (ص:168، 169). (2) كانوا يطلقون على تركيا اسم (بلاد الروم)، والأسرى المذكورون كلهم مسلمون سنيون أتراك. (3) ((الصوفية بين الأمس واليوم))، (ص:173). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 39 قبل إلقاء نظرة سريعة على هذه الطرق، لا بأس من قراءة تضاف إلى ما سبق لبعض ما يقوله الباحثون في وصف الظروف التي كانت تعيشها المجتمعات المسلمة في فارس وغيرها، يقول (الشبيبي): ... لقد كانت روح اليأس والشعور بالضعف تملأ المجتمع الإسلامي في هذه الفترة إلى حد أن السلاطين الذين كان بيدهم زمام الأمور، جعلوا وسيلتهم إلى تحقيق مطامعهم اللجوء إلى الطلاسم والأدعية على طريقة البوني (1). وكان من انتشار هذا الميل بين الناس أن انتصار (شاهرخ) على قرا يوسف في سنة (828هـ-1420م) نسب إلى تلاوة القراء لسورة الفتح اثني عشر ألف مرة، ومن هنا جعل المصنفون يتجهون إلى هذا النوع من المعرفة، ويسجلون ما مر بهم من حوادث مماثلة، ليجعلوا من هذا التصرف علماً قائماً بذاته، ومن أمثال ذلك ما فعله (الغياثي) المعاصر لابن فلاح من تعليل قتل (بير بودان) سنة (870هـ-1466م) بكونه من تأثير القران الثاني بالسرطان، وقتل (جهانشاه) هازم (بير بودان) سنة 872هـ تحقيقاً لنبوءة القرآن في قوله: غُلِبَتِ الرُّومُ [الروم:2]، باعتبار هذه السنة تقابل قيمة بِضْعِ سِنِينَ [الروم:4] (2) القرآنية الواردة في هذه السورة، وهزيمة جهانشاه على يد حسن بك بقول عبد الرحمن البسطامي (من الحروفيين): إذا زاد الجيم في الطغيان فمعه ميم ابن عثمان. وقد قرنت الأحداث التي تمت على يد المشعشعين بقرانات مثل هذه أيضاً ... ومن هنا كان في إمكان الإنسان أن يستكنه المستقبل عن طريق التعمق في دراسة أسرار القرآن والاجتهاد في تنمية قوة الكشف النفسية، مع معين من العلم بالأعداد والحروف وتجمعات النجوم ودلالاتها. وكان من الطبيعي في ظروف مثل هذه أن ترتفع مكانة الكرامات الصوفية التي تطورت إلى مسائل عملية تذهل الناس وتستأثر باهتمامهم، وبذلك سمت مكانة الصوفي الاجتماعية ... اهـ. - إذن، ففي مثل هذه الأرضية الاجتماعية، كان باستطاعة الشيخ الصوفي أن يحرك أتباعه كما يريد، وأن يجعلهم يعتقدون ما يريد، وأن يقدموا له أموالهم وأرواحهم وأبناءهم ونساءهم رخيصة لا يبتغون في ذلك شيئا إلا رضا الشيخ على أنه رضا الله. لكن، رغم كل هذه التطورات، بقيت نسبة السنة أكثر من نسبة الشيعة في فارس، حتى جاءت الطرق التي كانت الحاسمة في الموضوع. وهي:   (1) أحمد بن علي البوني في كتابه (شمس المعارف الكبرى). (2) كلمة (بضع) فقط هي التي تطابق (872) بحساب (الجمّل الكبير). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 40 النوربخشية: مؤسسها واهب الأنوار (نور بخش)، مات سنة (869هـ، شيعي كان يعلن أن همه هو الجمع بين التصوف والتشيع (1)، أخبره كشفه أنه المهدي المنتظر (لم تكن خرافة محمد بن الحسن العسكري قد انتشرت بعد) (2)، وساعده في ذلك اسمه (محمد بن عبد الله)، وسمى ابنه (القاسم)، فصار: (أبا القاسم محمد بن عبد الله)، كما عرف عن طريق الكشف أنه من سلالة فاطمة الزهراء، انتشرت طريقته انتشاراً واسعاً بسبب الخوارق التي كانت تجري على يديه، وبسبب مهديته وعلويته، وبسبب الظروف الاجتماعية المؤاتية، وكان أكثر أتباعه من السنة الذين تشيعوا انقياداً وراء شيخهم، إذ المريد يجب أن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي الغاسل، وكان الجهل أكبر مساعد، وقد انتشرت النوربخشية في أواسط إيران وجنوبها وبعض شمالها. ولقد حاول نور بخش الانقضاض على الملك، حيث بدأ حركته (826هـ-1423م) في كوه تيري من قلاع ختلان، وكان أنصاره يلقبونه ألقاباً كثيرة، منها: الإمام والخليفه على كافة المسلمين (3)، لكنه فشل، بسبب انشقاق قسم من أتباعه، وانضمامهم إلى الطريقة الهمدانية، وشيخها آنذاك (عبد الله المشهدي)، خصم نور بخش، وهنا يظهر دور الهمدانية بالتشييع على النفس الطويل. وبعد أن استولى الصفويون على ملك إيران بمدة، هرب شيخ النوربخشية آنذاك (طاهر بن رضا الإسماعيلي القزويني) ومعه جمع من أتباعه إلى الهند، حيث نشر هناك في ولاية (أحمد نكر) الطريقة والتشيع، وكذلك في كشمير، بجهود مير شمس العراقي، الذي يقال: إنه أدخل (34) ألفاً من الهنادكة في النوربخشية (الشيعية طبعاً) (4). المشعشعية: ظروفها تشبه ظروف النوربخشية، فقد كان مؤسسها محمد بن فلاح شيعياً، أخبره الكشف أنه من آل البيت، وأنه المهدي المنتظر (مهدي السنة طبعاً)، وكان معاصراً لنور بخش، كثر أتباعه بسبب مهديته ونسبه (المدَّعى)، وخوارقه (التشعشع)، وكان أكثر أتباعه في الأصل من السنة الذين تحولوا إلى شيعة اتباعاً لشيخهم، حتى استطاع أن يؤسس بهم دولة في خوزستان، عاصمتها (الحويزة)، عرفت بالدولة المشعشعية.   (1) ((الصوفية بين الأمس واليوم)) (ص:137). (2) المهدي عند الشيعة الآن هو محمد بن الحسن العسكري، مع العلم أن الحسن العسكري توفي دون أن ينجب، ومحمد المزعوم هذا غائب في مغارة سامراء منذ (ألف ومائة وخمسين سنة) وهم ينتظرون خروجه ليحكم بأحكام داوُد ولا يُسْأل عما يفعل، ويستوزر (سبعة وعشرين) من قوم موسى، ويحيي الله له الصحابة والخلفاء فيقتلهم وعلى رأسهم أبو بكر وعمر. (3) ((الفكر الشيعي والنزعات الصوفية))، (ص:335). (4) الإمام السرهندي حياته وأعماله، (ص:38). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 41 يقول المؤرخون لهذه الحركة:" ... يبدو أنهم (المشعشعين) كانوا في حروبهم واقعين تحت تأثير قوة شيخهم المغناطيسية، فلم يكونوا يشعرون بما حولهم، بل كانوا يقدمون على خوض المعارك في حال من الذهول والغيبة عن الحس (1).ويقولون: وينبغي أن نتذكر أن حركة المشعشعين قامت في بدئها على التصوف، حتى وصف محمد بن فلاح بأنه كان جامعاً بين المعقول والمنقول، وصوفياً صاحب رياضة ومكاشفة وتصوف، وأنه انتقل من التصوف إلى التشيع فشكله بأشكال شيعية (2).- أقول: لقد كان شيعياً قبل تصوفه، تشيع على يد أستاذه وأبي زوجته الشيخ أحمد بن فهد الحلي، وقد تخاصما فيما بعد، وذهب محمد بن فلاح إلى القبائل التي كانت تسكن قرب واسط، وأفتى ابن فهد بقتله، وأرسل رسولاً إلى أمير القبائل التي كان ابن فلاح بينها، يطلب إليه القبض عليه، فلم ينقذ ابن فلاح إلا قسمه بأنه سني صوفي، وبأن ابن فهد وأتباعه شيعة ومن أعدائه (3). إن هذه الحادثة تظهر أن التشيع في جنوب العراق والغرب الأوسط من إيران كان حتى ذلك الوقت مستهجناً، وكانت الأكثرية الساحقة من السنة. بعد هذه الحادثة انتقل ابن فلاح إلى خوزستان، وهناك أسس طريقته الصوفية وشيَّع أتباعه، ثم أعلن مهديته (840هـ)، وجمع أموالاً كثيرة من قطع الطرق على الحجاج وغيرهم، ثم أعلن نفسه ملكاً، وبقيت مملكته حتى اجتاحها الصفويون. النعمتللاهية: مؤسسها نعمة الله الولي، من إحدى قرى حلب، سني حنفي المذهب، تخرج بالطريقة الشاذلية، انتقل إلى فارس، وهناك أسس طريقته، حيث تأثر بجو التشيع الزاحف، فصار شيعياً، وهنا أعيد القول أيضاً، بأن هذا التشيع الزاحف كان من التشيع المعتدل، أي أنهم كانوا يرون أن الخلافة يجب أن تكون في البيت العلوي، وكانوا يشتمون الأمويين، وكانوا يحترمون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عدا معاوية، وينتهجون المذاهب السنية في الفقه، هكذا كان تشيع المتشيعين في إيران في ذلك الوقت، وتحول نعمة الله إلى التشيع يعني أنه صار يرى الخلافة محصورة في آل البيت العلوي، وصار يشتم الأمويين، وبقي يسمي نفسه سنياً، أي: إن الفرق بينه وبين المتشيعة في ذلك الوقت في إيران، كان هو الاسم فقط، أما المضمون فكان واحداً. ومثل غيره من الأولياء أخبره الكشف أنه من سلالة علي بن أبي طالب، وأن أئمة الشيعة هم أجداده، وأسس طريقته وهي (جالسة صائتة)، حيث كان المريدون قبل الشروع في الذكر يسجدون له، ثم يضعون اليد اليمنى على الركبة اليسرى، واليد اليسرى على الركبة اليمنى، ويرددون (لا إله إلا الله)، مائلين بأجسامهم من اليسار إلى اليمين مع الناي والدف. وهؤلاء المريدون الذين يسجدون لشيخهم (وكل الصوفية كذلك وإن أخفوها تقية)، تحولوا إلى عقيدة شيخهم، أي: صاروا شيعة يسمون أنفسهم سنة، وطبعاً أمر هذا الاسم هين في مثل تلك الظروف. وهكذا جاءت النعمتللاهية لتشيع من شرد على الطرق التي كانت تعلن التشيع، لقد شيعت أتباعها وشيعت عواطفهم وأبقت اسم السنة عليهم. - لم ينتصف القرن التاسع حتى كان الفرس قد دخلوا في التشيع عن طريق الصوفية، وإن كان بعضهم ما زال يسمي نفسه سنياً، وكانوا كلهم- إلا النادر- من الشيعة المعتدلة، الذين كانوا يحترمون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتبعون المذاهب السنية، حتى جاءت الصفوية في مرحلتها الثانية التي كانت حاسمة في هذا الموضوع.   (1) ((الفكر الشيعي والنزعات الصوفية))، (ص:318). (2) ((الفكر الشيعي والنزعات الصوفية))، (ص:327). (3) ((الفكر الشيعي والنزعات الصوفية))، (ص:304). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 42 الصفوية في مرحلتها الثانية: توسعت كثيراً، وزاد أتباعها بازدياد الإقبال عليها، ودعم موقف تيمورلنك وجماعته التقديسي لها ولشيوخها (ويجب أن ننتبه هنا إلى أن موقف تيمورلنك كان امتداداً للقناعات الفكرية المنتشرة في مجتمعه، وأنه، بصفته حاكماً، كان نتيجة، أو انبثاقاً لها)، وفي العقود الأخيرة من القرن التاسع، في زمن شيخها حيدر بن جنيد بن إبراهيم بن علي بن صدر الدين موسى بن صفي الدين (توفي سنة 893 هـ) بلغت قمة قوتها، حتى استطاع إسماعيل بن حيدر وهو في الرابعة عشرة من عمره أن يؤلف جيشاً من أتباع أبيه يسيطر به على إيران كلها، ثم أعلن نفسه ملكاً على إيران سنة (905هـ). ولنستمع في ذلك إلى محمد جواد مغنية، يقول: ... هو إسماعيل بن حيدر بن جنيد بن صفي الدين الذي ينتهي نسبه إلى الإمام موسى الكاظم عليه السلام، وهو أول ملوك الصفوية ومؤسس دولتهم، وكان آباؤه وأجداده من العرفاء وشيوخ الصوفية، فلقبوا بلقب (سلطان)، وما إن أتم إسماعيل العام الرابع عشر من عمره حتى ألف جيشاً من أتباع أبيه ومريديه، وقاده بنفسه للغزو والفتح، وكانت إيران يومذاك موزعة الأطراف بين العديد من الملوك والأمراء ورؤساء القبائل ... " (1). اهـ. ويقول كامل مصطفى الشبيبي: ... وسنرى أن فقهاء الشيعة في إيران كانوا من القلة بحيث اضطر الصفويون إلى استقدام فقهاء الشام ليساعدوا في نشر التشيع في بلادهم، وتنظيم الدولة على أساس منه ... (2). اهـ. - نقول: في الواقع كان التشيع قد عم كل إيران، ولكنه كان تشيعاً معتدلاً ينتهج المذاهب الفقهية السنية، فاستقدم الصفويون فقهاء الشيعة من الشام، وكانوا نصيريين، ولعل فيهم فقهاء من شيعة جبل عامل (المتاولة)، إذ الفقه الشيعي كان محصوراً بين هؤلاء وبين الإسماعيلية، على اختلاف بينهما في الأصول والفروع، ولعل متاولة جبل عامل كانوا قد دخلوا في الغلو قبل ذلك. جاء فقهاء الشيعة الشاميون إلى فارس، ليفقهوا الشيعة بفقه الشيعة، وطبعاً، في تلك الظروف، (بجميع جوانبها) يجب أن يحدث تفاعل وتداخل وتوازن بين الفقه النصيري وجوانب من فقه الإسماعيلية الذين كان لهم وجود، والفقه السني الذي تنتهجه غالبية الشيعة، وكان علماؤه قليلين، وعلمهم ضحلاً بسبب الصوفية. تعلم الشيعة في فارس والعراق فقه الشيعة، وصاروا كلهم من الغلاة، وإن استمروا على تسمية أنفسهم من (المعتدلين)، يقول آية الله المامقاني (3)، أكبر علمائهم في الجرح والتعديل: إن ما كان به الغلاة الأقدمون غلاة، أصبح الآن عند جميع الشيعة الإمامية من ضروريات المذهب (4).ويورد السيد عبد الله بن الحسين السويدي العباسي (5) نصاً عن سجل لنادر شاه (ملك إيران)، قرئ يوم الخميس (25 شوال 1156هـ)، يقول: ... ولم يكن في نواحي إيران ولا في أطرافها سب (أي: سب الشيخين والصحابة)، ولا شيء من هذه الأمور الفظيعة، وإنما حدثت أيام الخبيث الشاه إسماعيل الصفوي ... (6).   (1) الشيعة في الميزان،) (ص:175). (2) ((الفكر الشيعي والنزعات الصوفية))، (ص:338). (3) محمد حسن بن عبد الله المامقاني، توفي في النجف سنة (1323هـ-1905م). (4) الخطوط العريضة،) (ص:42). (5) عالم بغدادي متوفى سنة (1174هـ-1761م). (6) مؤتمر النجف، ملحق بكتاب ((الخطوط العريضة))، (ص:97). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 43 ومن الطبيعي أن يظهر في المذهب الجديد علماء، وككل عقيدة جديدة تظهر على مسرح الوجود، يكون أتباعها متحمسين لنشرها باندفاع بالغ، كذلك كان علماء المذهب الجديد ودعاته، انتشروا للدعوة لمذهبهم الجديد، وخاصة بين الشيعة الغلاة والمعتدلة، ومع الزمن والمثابرة على الدعوة تحول القرامطة الذين كانوا يسكنون الشواطئ العربية من خليج البصرة، وكذلك شيعة بلاد الشام، وكثير من الإسماعيلية والفرق الشيعية الأخرى (باستثناء الفرق في اليمن) إلى المذهب الجديد؛ مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية التي صارت من الغلاة، مع العلم أن أكثر متاولة الهند تحولوا من الهندوسية أو من السنة بعد ذلك. وكان اسم (المتاولة)، ولم يزل يطلق على شيعة جبل عامل في جنوب لبنان، بينما غالبية الشيعة في العراق وإيران والهند لا يسمون أنفسهم هذا الاسم، وإنما شيعة إمامية إثني عشرية، علماً بأن مذهب الجميع واحد بكل أصوله وفروعه ومراجعه. وهكذا أحدث التصوف فيما أحدثه من تدمير، أكبر شرخ في جسم الأمة الإسلامية كان من الأسباب الواضحة في ضعفها واندحارها. وقد احتاجت عملية التحويل هذه إلى قرنين ونصف من الزمن، كانت الصوفية خلالها تعمل بدأب واستمرار، والمسلمون وفقهاؤهم في غفلة مستسلمون بحجة حب آل البيت وإحسان الظن بالمسلمين، وكأن حب آل البيت وإحسان الظن بالمسلمين يمنع من وجوب معرفة الحق والأمر به، وتمييز الباطل والنهي عنه، على أن العامل المسبب لهذه الغفلة وهذا الاستسلام هو التصوف ذاته، وما بث من عقائد وفرض من جهل طيلة قرون. ومن آثار الفقه النصيري البارزة في المذهب الجديد، سب أبي بكر وعمر، وتكفير صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتأليه الأئمة الاثني عشر، والعصمة، والبداء، والتقية، والرجعة (أي: خرافة مهديهم محمد بن الحسن العسكري الغائب في مغارة سامراء، منذ حوالي اثني عشر قرناً، وهم ينتظرون خروجه)، وقد رأينا أسلافهم، نور بخش والمشعشع والآخرين، كيف كانوا يدعون المهدوية السنِّية؛ لأن محمد بن الحسن العسكري لم يكن معروفاً لا هو ولا رجعته إلا عند النصيرية وعند بعض من كان قد تأثر بهم قبل ذلك. وكان أول المتأثرين بالفقهاء النصيرية الوافدين هم أتباع الطريقة الصفوية المباشرون؛ لأنهم كانوا أول من يستقبل أولئك الفقهاء وأول من يأخذ عنهم، وكانوا يبقون فيهم أكثر من البقاء في غيرهم من الإيرانيين، لذلك انقلب أتباع الطريقة الصفوية إلى النصيرية بكل ما فيها من عجر وبجر. صار أتباع الطريقة الصفوية في عهد إسماعيل بن حيدر، وبناء على أوامره أو أوامر أبيه، يلبسون طرابيش حمراً، فأطلق عليهم اسم (قزلباش)، أي: الرءوس الحمر، وبانتهاجهم منهج النصيرية، شكلوا فرقة جديدة في الأمة الإسلامية، معروفة الآن باسم (القزلباشية) التي سنراها فيما يأتي. ولعل من المفيد أن نذكر أن نادر شاه (ت: 1160هـ/ 1747م) أراد أن يعيد الشيعة إلى التشيع المعتدل ثم إلى السنة بقوة الحكم، فأصدر مرسوماً يقول فيه من جملة ما يقول: ... فاعلموا أيها الإيرانيون أن فضلهم (أي: الخلفاء الراشدين) وخلافتهم على هذا الترتيب، فمن سبهم أو انتقصهم فماله وولده وعياله ودمه حلال للشاه، وعليه لعنة الله وملائكته والناس أجمعين، وكنت شرطت عليكم حين المبايعة في صحراء مغان عام 1148 رفع السب، فالآن رفعته، فمن سب قتلته وأسرت أولاده وعياله وأخذت أمواله ... (1). اهـ. ولكن كما قلنا، إن العقيدة لا يمكن أن تفرض من الحاكم، ولذلك لم تُجْدِ محاولة نادر شاه شيءاً، وبالعكس، فقد اغتاله قواده بعد حوالي أربع سنوات، وبقي الغلو.   (1) مؤتمر النجف، ملحق بكتاب ((الخطوط العريضة))، (ص:96). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 44 ولو استغل دعاة الإسلام وفقهاء السنة هذا الظرف، وانتشروا بين الشيعة يدعون إلى طريق الحق، لتركوا آثاراً ظاهرة قد تكون سبباً في تغيير تاريخ الأمة الإسلامية. وهكذا كانت الصوفية وراء أكبر شرخ في جسم الأمة، وكذلك كانت وراء الفرق الأخرى التي منها: القزلباشية:-يصفها أحمد حامد الصراف كما يلي: القزلباشية فرقة دينية منتشرة في بر الأناضول، وهي تعتبر شيعية المذهب في نظر المسلمين، وهي تقارب كل المقاربة نصيرية سورية، وهم يسمون أنفسهم (العلوية) ... وهم يخالفون المسلمين بأمور منها: أنهم لا يحلقون رءوسهم ... ولا يصلون الصلوات الخمس، ولا يتوضئون، ويكرعون الخمر، ولا يحافظون على صوم شهر رمضان، ويصومون اثني عشر يوماً من الأيام الأولى من المحرم، ويندبون الحسن والحسين ... وعندهم أن علياً تجسد فيه الإله (1) ... ويقول عنهم أيضاً: القزلباشية في بدء نشأتها كانت تسمى (الصفوية) نسبة إلى قطب الأقطاب صفي الدين إسحاق الأردبيلي ... وهو الجد السادس للشاه إسماعيل الصفوي (2) ... اهـ. وقد رأينا قبل قليل كيف تم التحول من الصفوية إلى القزلباشية، ولها وجود في أفغانستان أيضاً. الروشنائية:- نسبة إلى (بير روش)، أي: الشيخ المنوّر، بايزيد بن عبد الله، ولد عام (931هـ)، يقول المترجمون له: صحب اليوغيين، وبدأ يرى رؤى ويسمع أصواتاً تناديه من وراء الغيب، فاشتغل بالذكر الخفي، ثم استغرق في ورد الاسم الأعظم، فلما بلغ الحادية والأربعين من عمره هتف به هاتف من السماء، أنه لم يعد في حاجة إلى الطهارة الشرعية، وينبغي له أن يصلي صلاة الأنبياء بدل صلاة المسلمين ... وانصرف إلى الرياضة الأربعينية ... وتعاليمه التي وردت في كتابه (صراط التوحيد) يظهر عليها أثر التعاليم الصوفية الغالية. مات بير روش سنة (980هـ) بعد أن انتشرت طريقته أو (فرقته) انتشاراً واسعاً في الهند، ثم أخذت تتقلص بعده حتى انقرضت (3) لننتبه أن كلمة (روش) تحمل نفس معنى كلمة (بوذا) أي: المستنير. وكان وأتباعه يصرحون بوحدة الوجود (أي: من أهل الوحدة المطلقة). المهدوية:- مؤسسها محمد بن يوسف الجونبوري الذي نشأ في أواخر المائة التاسعة ببلدة جونبور في الهند، وادعى أنه المهدي، وكان أزهد الناس وأورعهم. من معتقدات المهدوية أن السيد محمد بن يوسف الجونبوري، مهدي موعود، وأنه أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، بل إنه أفضل من آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى على نبينا وعليهم السلام، وأنه مساوٍ لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في المنزلة، وإن كان تابعاً له في المذهب، وأنه ومحمد صلى الله عليه وسلم كلاهما مسلم كامل وسائر الأنبياء ناقصو الإسلام، وأنه شريك في بعض الصفات الإلهية، بعد فوزه بمنصب الرسالة والنبوة ... انتشر هذا المذهب في غجرات والدكن من بلاد الهند، ومما وصف به هذا المهدي: إنه كان صاحب المقامات العالية، ذا كشوف وكرامات. ومن أقوال المنتقدين له: إنه كان كذلك، ولكنه أخطأ في دعواه لوقوع الخطأ في الكشف. ومن أقوال أحد علمائهم وهو الشيخ غلاب بن عبد الله المهدوي: إن للمهدوية أصولاً وفروعاً، الأول منها التوبة ... والعمل الصالح و .. ودوام الذكر على طريقة حفظ الأنفاس ... (4) ... اهـ.   (1) ((الشبك))، (ص:243). (2) ((الشبك))، (ص:48). (3) ((الإمام السرهندي))، (ص:42)، وما بعدها. (4) ((الثقافة الإسلامية في الهند))، (ص:223، 224). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 45 وهكذا يتضح دور الصوفية، فقد كان محمد بن يوسف الجونبوري صاحب مقامات وكشوف، وشاهد بالكشف ما ألقاه إلى مريديه ... ومن أصولهم دوام الذكر على طريقة حفظ الأنفاس ... وللعلم: حفظ الأنفاس حسب إيقاع معين هو أحد أساليب الرياضة الإشراقية التي توصل إلى الجذبة. القاديانية:- مؤسسها الميرزا غلام أحمد القادياني (نسبة إلى بلدة قاديان)، مات سنة (1908م)، صوفي أخبره الكشف أنه مكلف من الله تعالى بإصلاح الخلق على نهج المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، وقد صرح أن له إلهام ومكاشفات. ومن مكاشفاته: - روح المسيح حلت فيه. - ما يلهمه هو كلام الله كالقرآن الكريم والتوراة والإنجيل. - المسيح (الذي هو هو) سينزل في قاديان. - قاديان هي البلدة المقدسة الثالثة المكنى عنها في القرآن بالمسجد الأقصى. - الحج إليها فريضة. - أوحي إليه بآيات تربو على عشرة آلاف آية. - من يكفر به فهو كافر. - القرآن ومحمد وسائر الأنبياء قبله قد شهدوا له بالنبوة وعينوا زمن بعثته ومكانها. اهـ. ومن أقواله التي تثبت صوفيته، وأن ما جاء به كان من الكشف، قوله: ... وإني ما قلت للناس سوى ما كتبت في كتبي، أي: إني محدث، وإن الله يكلمني كما يكلم المحدثين ... جاء جبريل واصطفاني وأدار إصبعه وأشار أن ربك سيعصمك من الأعداء (1) ... ومن أقواله: لقد حرم الذين سبقوني من الأولياء والأبدال والأقطاب من هذه الأمة المحمدية من النصيب الأكبر من هذه النعمة (المكالمة الإلهية)، ولذلك خصني الله باسم (النبي)، أما الآخرون فلا يستحقون هذا الاسم (2) ... اهـ. نرى الميرزا نفسه يعترف بأنه من الأقطاب، وأنه محدث، وأنه مكاشف، وأنه من بين الذين سبقوه من الأولياء والأبدال والأقطاب هو الوحيد الذي خصه الله بالنبوة. أي: إن الصوفية هي وراء القاديانية، وطبعاً هناك خلفيات ليس هنا مجال بحثها، لكن لا بأس من التذكر هنا أن الصوفية اليهودية هي التي تسمي الواصل فيها (نبياً). البريلوية: طريقة صوفية منتشرة في شبه الجزيرة الهندية، نشأت شديدة الانحراف عن الإسلام، ولعله لن يمضي وقت طويل حتى ينسى أتباعها أنهم أتباع طريقة صوفية، وتغدو ديانة جديدة مستقلة، والتشيع فيها واضح، وهم يكفرون بشكل خاص الجماعة الإسلامية في الهند، والديوبنديين، وجماعة الدعوة والتبليغ، وإذا شعروا أن أحداً من هذه الجماعات دخل مساجدهم، فالويل له والثبور. الشبكية: يدين بها أهل قرى في شرق الموصل، معروفون باسم (الشبك)، ولعله اسم للقبيلة، أو للشيخ الذي استقل بها، يقول عنها أحمد حامد الصراف: ... وأما مذهبهم فقد كانوا إلى ما قبل ثلاثين أو أربعين سنة (أي: قبل الحرب العالمية الأولى)، بكتاشية يراجعون فيه جلبي قونية ويتلقون منه الإشارة، وكان أحدهم إذا ذهب إلى زيارة كربلاء، يراجع وكيلاً لجلبي قونية هناك (3).ويقول في مكان آخر: الشبك؛ طريقة صوفية، وللانخراط في سلكها مراسيم خاصة، وبقية العقائد تشبه ما في البكطاشية (4). اهـ. أقول: لا يقول الشبك الآن عن أنفسهم إنهم أتباع طريقة صوفية، ولعل أكثرهم لا يعرفون ذلك؛ وإنما يعتقدون جميعهم أنهم على دين خاص سرّي لا يجوز البوح به. الكشفية أو الشيخية:   (1) ((القاديانية))، حسن عبد الظاهر، (ص:77). (2) ((القاديانية))، حسن عبد الظاهر، (ص:77). (3) ((الشبك))، (ص:8). (4) ((الشبك))، (ص:47). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 46 نسبة للكشف، تفرعت عن التشيع الإيراني، إذن فجذورها الأساسية هي الصوفية؛ لأن الصوفية هي التي حولت إيران إلى شيعة، ومع ذلك فقد تشكلت الكشفية أيضاً عن طريق الصوفية، بدلالة اسمها (الكشفية) من الكشف الذي كان مؤسسها يقول: إنه حصل له، (مع إنكاره على المتصوفة).أسسها الشيخ أحمد زين الدين الأحسائي (1166هـ/ 1753م- 1241هـ/1826م) (1)، ومن عقائدها: الحقيقة المحمدية تجلت في الأنبياء تجلياً ضعيفاً، ثم تجلت تجلياً أقوى في محمد والأئمة الاثني عشر، ثم اختفت زهاء ألف سنة، وتجلت في الشيخ أحمد الأحسائي، ثم في تلميذه كاظم الرشتي، ثم تجلت في كريم خان الكرماني وأولاده إلى أبي قاسم خان، وهذا التجلي هو أعظم التجليات لله. والأنبياء والأئمة والركن الرابع (الشيخ أحمد وخلفاؤه) هم شيء واحد يختلفون في الصورة، ويتحدون في الحقيقة التي هي (الله ظهر فيهم). والشيخ أحمد وخلفاؤه هم أفضل من جميع الأنبياء والمرسلين، وهم يعبدون علياً على أنه الله. ودور الصوفية واضح فيها من (الكشف، الحقيقة المحمدية، تجلي الحقيقة المحمدية، تجليات الله). وأما الاسم (الشيخية)، فهو نسبة إلى الشيخ أحمد الأحسائي، وهم يسيرون على نهج الطريقة الحروفية (2). البابية: مؤسسها: (الباب) علي محمد رضا الشيرازي، تسلك في الطريقة الشيخية على يد الشيخ عايد، أحد تلامذة كاظم الرشتي، واشتغل بعلم الحروف حسب الطريقة الحروفية، ثم انتقل إلى النجف وكربلاء، وتتلمذ على كاظم الرشتي نفسه، كما اتصل بالمتصوفة حيث انقطع نفر من أصحابه إلى الرياضة الصوفية أربعين يوماً (الأربعينية)، ثم خرج وهو يتكلم بالعلوم اللدنية، وبالكشف أوحي إليه كتاب البابية المقدس (البيان)، وهذه نبذ منه: (لا تتعلمن إلا بما نزل في البيان أو ما ينشأ فيه من علم الحروف وما يتفرع على البيان، قل يا عبادي تتأدبون ولا تخترعون. ثم تخضعون على أنفسكم ثم تنصتون. ثم الواحد من بعد العشر أن لا تتجاوزون عن حدود البيان فتحزنون). (إنا قد جعلناك جليلاً للجاللين. وإنا قد جعلناك عظيماناً عظيماً للعاظمين. وإنا قد جعلناك نوراً نوراناً نويراً للناورين. وإنا قد جعلناك رحماناً رحيماً للراحمين. وإنا قد جعلناك تماماً تميماً للتامين. قل إنا جعلناك كمالاً كميلاً للكاملين. قل إنا قد جعلناك كبراناً كبيراً للكابرين. قل إنا قد جعلناك حباناً حبيباً للحابين. قل إنا قد جعلناك شرفاناً شريفاً للشارفين. قل إنا قد جعلناك سلطاناً سليطاً للسالطين. قل إنا قد جعلناك ملكاناً مليكاً للمالكين. قل إنا قد جعلناك علياناً عليلاً للعالين. قل إنا قد جعلناك بشراناً بشيراً للباشرين ... ). (تبارك الله من شمخ مشمخ شميخ. تبارك الله من بذخ مبذخ بذيخ. تبارك الله من بدء مبتدئ بديء. تبارك الله من فخر مفتخر فخير. تبارك الله من ظهرمظهرظهير. وتبارك الله من قهر مقهر قهير. وتبارك الله من غلب مغتلب غليب ... ) إلخ. هذه نماذج من علوم الباب اللدنية الكشفية، والكتاب محشو بالعبارات الصوفية والمشيرة إلى وحدة الوجود. مع ملحوظة هامة، هي أن من أصحاب الباب السابقين يقرب من أربعمائة يهودي، اثنان منهما حاخامان. كان إعلان الباب عن دعوته سنة (1260هـ-1844م)، وهو ابن خمس وعشرين سنة، وقد أصدر العلماء فتوى بقتله على الردة، ونفذ فيه حكم الإعدام بأمر من الشاه ناصر الدين سنة (1265هـ-1849م) (3). والمهم أن نعرف أن الصوفية كانت وراء البابية مع عوامل أخرى طبعاً. البهائية:   (1) يوجد خلافات في تاريخ ولادته وموته، وقد اعتمدت هنا أعلام الزركلي. (2) ((حقيقة البابية والبهائية)) (ص:45، وما بعدها). (3) ((حقيقة البابية والبهائية)) (ص:57، وما بعدها). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 47 تفرعت مباشرة عن البابية، إذن فجذورها صوفية، بالإضافة إلى الدور الرئيسي الذي لعبته الصوفية في نشأتها. مؤسسها (بهاء الله) الميرزا حسين علي بن الميرزا عباس بزرك المازندراني النوري، ولد سنة (1233هـ)، وكان يعاشر الصوفية ويتعب نفسه في قراءة كتبهم، انضم إلى البابية مع أوائل من انضم إليها، تنقل ورجع إلى طهران، ثم نفي إلى بغداد، واشتد الخلاف بينه وبين البابية، فهرب خفية إلى غار قريب من قرية (سركلو) التابعة لناحية (سورداش) في لواء السليمانية شمالي العراق، وأظهر هناك النسك والتصوف، وكان يحضر مجالس الصوفية كثيراً. يقول صاحب كتاب (حقيقة البابية والبهائية): ... وهناك رافد آخر أثر في عقله وثقافته وأسلوبه، وهو المذاهب الصوفية، وبالأخص ما يتصل بوحدة الوجود والحلول والفناء، ولا غرابة في ذلك، فلقد خالط الصوفية منذ صغره، وتتلمذ على أيديهم ... وتأثير الكتابات الصوفية قد بلغ في أسلوب الميرزا حسين مبلغاً عظيماً، حتى إنك لا تكاد تقرأ صفحات من كتاباته إلا وتحسب نفسك أمام كتاب من كتب متطرفي الصوفية في معانيه ومبانيه ... اهـ. وله كتب مقدسة، منها: الإيقان، والأقدس، والإشراقات، وغيرها. وهذه نبذ من (إشراقات بهاء الله)، يقول مخاطباً البابيين: (يا ملأ البيان، ضعوا أوهامكم وظنونكم ثم انظروا بطرف الإنصاف إلى أفق الظهور، وما ظهر من عنده ونزل من لدنه، وما ورد عليه من أعدائه .. قد حبس مرة في الطاء، وأخرى في الميم، ثم الكاف مرة أخرى ... ). من قوله في إشراقاته مخاطباً المسلمين: (قل يا ملأ القرآن قد أتى الموعد الذي وعدتم به في الكتاب، اتقوا الله ولا تتبعوا كل مشرك أثيم، إنه ظهر عليَّ شأن لا ينكره إلا من غشته أصحاب الأوهام وكان من المدحضين ... ). ادعى الميرزا حسين أنه المسيح عيسى عليه السلام، ثم ادعى الربوبية، وقال: إن الله يتجلى عليه، فيفنى منه العرض، ولا يبقى إلا الجوهر الرباني الخالص، ومن هنا جاء لقبه: (بهاء الله)، ومن أقواله في ذلك: (يا حسين، اسمع النداء من شطر السجن، إنه لا إله إلا هو الفرد الخبير، إذا رأيت أنجم سماء بياني، وشربت رحيق العرفان من كأس عطائي، قل: إلهي إلهي! لك الحمد بما أيقظتني وذكرتني في سجنك، وأيدتني على الإقبال إليك، إذا أعرض عنك أكثر عبادك). وأساس عقيدة البهائية أن الله (جل وعلا) ليس له وجود الآن إلا بظهوره في مظهر البهاء، وكان يظهر قبلاً بمظاهر تافهة في الديانات السالفة؛ لكنه بظهوره في البهاء الأبهي، بلغ الكمال الأعلى ... ويصرح البهائيون في كتبهم بأن الميرزا حسين البهاء هو ربهم (1). المهم هو أن الصوفية وراء البهائية ومنشئتها. وفي الختام:- (كفرداعل) و (خان العسل) قريتان من قرى حلب، أهلها مسلمون حتى سبعينات القرن الرابع عشر الهجري، حيث وفد إليهما بعض النصيرية، وفيهم شيخان صوفيان: الشيخ حسين وأخوه الشيخ نصّوح، ولعلهما من الطريقة الجنبلانية، سلكا المريدين، وكانت تحدث على أيديهما بعض الخوارق، وفي سنين قد لا تتجاوز العشرين، كان أهل القريتين قد تحولوا إلى النصيرية مع مجموعات في القرى المجاورة. مات الشيخ حسني (لعله في العقد الأخير من القرن الرابع عشر الهجري)، وبنوا له مقاماً يناسب المقام، ولعل أخاه الشيخ نصّوح لا يزال حياً حتى كتابة هذه الكلمات.   (1) ((حقيقة البابية والبهائية)) (ص:147، وما بعدها). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 48 ومن قصصه التي يرويها شاهد عيان: ذهب الشيخ نصّوح إلى قرية (عَنَدان) القريبة من القريتين السابقتين لزيارة جماعة من مريديه الذين تحولوا إلى نصيرية على يده ويد أخيه، وبعد هدأة من الليل طلب من المجتمعين عنده الخروج معه إلى خارج القرية، وهناك أخبرهم أنهم سيقومون بغارة على إسرائيل؟ وأمرهم أن يفعلوا مثله. وعادة، في الحقول والبيادر المحيطة بالقرى، يعينون الحدود بين العقارات بسلاسل من الحجارة الصغيرة (الدبش) يبنونها عليها. أخذ الشيخ نصوح يتناول من هذه الحجارة الواحد بعد الآخر، ويقذفها باتجاه فلسطين مع ترديد صوت (رْرْرْرْرْرْرْرْرْ ... ) بصوت عال عندما ينطلق الحجر من يده، وصوت (بومْ مْ) عندما يسقط على الأرض. وأخذ مريدوه يفعلون نفس الشيء، يأخذون الحجارة من سلاسلها، ويقذفونها باتجاه فلسطين، وكانت أصوات (رْرْرْرْرْرْرْ ... بومْ مْ ... رْرْرْرْرْرْرْرْ ... بومْ مْ) تنطلق في الفضاء مختلطة ببعضها مغطية على أصوات وقع الحجارة أو ارتطامها ببعضها. بقي الفقراء هكذا طيلة ساعات، زالت بعدها معالم الحدود بين العقارات، وتوعرت أراضي سيئي الحظ الذين كان نصيبهم أن يحصل هذا الجهاد في أرضهم. بعد منتصف الليل، عاد المجاهدون إلى بيوتهم منهكين من التعب فرحين بما تيسر لهم من الجهاد في سبيل الله على يد شيخهم العظيم. في الصباح، ذهب أحد المجاهدين إلى دكان بقال صديق في حاجة له، وأثناء الحديث أخبره بغزوة الليل، فما كان من البقال إلا أن طلب من صديقه البقاء في الدكان ريثما يعود، وخرج مسرعاً إلى البيت الذي ينزل فيه الشيخ نصوح، حيث وجد القوم مجتمعين عنده، فسلم وجلس بخشوع ظاهر، وبعد أن استأذن من الشيخ بالكلام قال له: يا سيدي، رأيت هذه الليلة حلماً شغلني، أريد أن أعرضه عليك، رأيت أني في إسرائيل، ورأيتك هناك، ومعك جماعة لم أتبين وجوههم، في أيديكم القنابل تلقونها على اليهود، وكانت كل قنبلة تقتل عدداً منهم. انفلت الشيخ نصوح يصيح بصوت عال: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أنت ولي، أنت مكاشف، تبركوا به يا مؤمنون هذا ولي مكاشف ... إلى آخر ما قاله. وعاد البقال إلى دكانه وقد ربح زبائن جدداً لبقالته. ولعل قارئاً أو سامعاً يظن أن هذه حادثة شاذة، فنقول له: بل هي من صميم الصوفية، تورد كتبهم ما يشبهها عن أبي يعزى، وأبي مدين الغوث، وأبي الحسن الشاذلي، وأحمد البدوي، وأحمد الرفاعي، وعبد القادر الجيلاني، وغيرهم الكثير، ولعل كثيراً من القراء سمعوا الأنشودة الصوفية: (الله الله يا بدوي وجا باليُسَرى)، أي: جاء بالأسرى .. خلاصة ما سبق:- الصوفية سبب أساسي في تمزيق المسلمين، ووراء المذاهب المنتشرة التي جعلتهم فرقاً وأشياعاً. المصدر: الكشف عن حقيقة الصوفية لمحمود عبد الرؤوف القاسم - ص 783 - 817 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 49 المبحث الثالث: الإفساد العام في العقائد والعبادات والأخلاق والسلوك وأساليب التفكير • المطلب الأول: إفساد العقيدة . • المطلب الثاني: إفساد العبادات. • المطلب الثالث: إفساد الأخلاق والسلوك. • المطلب الرابع: إفساد الفكر. • المطلب الخامس: إفساد المنطلقات. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 50 المطلب الأول: إفساد العقيدة (أ) تؤمن العقيدة الإسلامية أن الله جلت قدرته خلق الكون من العدم لا من ذاته سبحانه، وأن المخلوقات غير الخالق، وذلك بنصوص من القرآن والسنة مر بعضها في فصول سابقة .. وجاءت الصوفية .. فحولت أتباعها عن هذه العقيدة الإسلامية إلى عقيدة وثنية هي وحدة الوجود، تؤمن أن الله هو الكون، وأن الكون والمخلوقات هي تعينات من ذاته سبحانه، تكثف كل منها حسب شكله المرئي، الذي يطلقون عليه فيما يطلقون اسم (الإناء)، ويسمون أيضاً هذه المخلوقات أو (الجزء المتعين من الذات الإلهية كما يفترون)، يسمونه (عالم الملكوت)، أما الجزء الباقي على حالته اللطيفة من الذات الإلهية (حسب افتراءاتهم)، فيسمونه: (عالم الجبروت) (سبحان الله العظيم، وتعالى علواً كبيراً، وما قدروا الله حق قدره). (ب) من الإيمان في الإسلام أن الله سبحانه فوق السماوات والعرش، وذلك بنصوص من القرآن والسنة مر بعضها. وجاءت الصوفية ... فحولت أتباعها إلى عقيدة وثنية تؤمن أن كل ما نراه وما نحسه هو الله، أو هو جزء منه سبحانه وتعالى عما يشركون. ومن تعابيرهم عن هذه العقيدة قولهم المنتشر على الألسنة: إن الله في كل مكان، قولهم بتكفير من يقول بالجهة، ويعنون بالجهة (العلو)، أي: إنهم يحكمون بكفر من يقول: إن الله سبحانه فوق السماوات، وبذلك يحكمون (شعروا أو لم يشعروا) بكفر القرآن والسنة، وبالتالي يحكمون أن محمداً وأصحابه كفرة، ولعلهم لم يشعروا بذلك، لأنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. وقد مر معنا قول قائلهم: إن ظاهر القرآن من أصول الكفر. (جـ) تؤمن العقيدة الإسلامية أن النبوة فضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده. وجاءت الصوفية ... فحولت أتباعها عن هذه العقيدة إلى عقيدة وثنية، تؤمن أن النبوة نتيجة لممارسة الرياضة الإشراقية، حتى قال قائلهم (ابن سبعين): لقد ضيق ابن آمنة واسعاً عندما قال: ((لا نبي بعدي)). (د) تؤمن العقيدة الإسلامية أن محمداً، ومثله جميع الأنبياء صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، هم بشر مثل بقية البشر في كل شيء، وإنما يمتازون عنهم بالوحي، وبالأخلاق العظيمة. وجاءت الصوفية .. فحولت أتباعها عن هذه العقيدة إلى عقيدة وثنية تجعل محمداً صلى الله عليه وسلم المجلي الأعظم للذات الإلهية، منه تنبثق المخلوقات وتعود إليه في حركة مستمرة (الحقيقة المحمدية)، وأطلقت عليه أسماء وصفات هي من أسماء الله سبحانه وصفاته، ويمكن الرجوع إلى كتاب (دلائل الخيرات) مثلاً، لرؤية هذا الشرك. (هـ) تؤمن العقيدة الإسلامية أن أول ما خلق الله القلم ... (الحديث). وجاءت الصوفية ... فجعلت أتباعها يؤمنون أن أول خلق الله هو محمد صلى الله عليه وسلم، وللتوفيق بين الحديث وبين ضلالهم، جعلوا (القلم) اسماً لمحمد صلى الله عليه وسلم، واخترعوا ما سموه (الحقيقة المحمدية)، وتجلياتها، ليجعلوا شيئا من التنسيق بين الإسلام وبين اليونانيات. ونحن نسمع المؤذنين يختمون الأذان بمثل: الصلاة والسلام عليك يا أول خلق الله ... ، ونسمع عبارة: (أسبقية النور المحمدي) على ألسنة الصوفية وأتباعهم يؤكدونها ويصرون عليهم. وبذلك يكذبون محمداً صلى الله عليه وسلم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. (و) من العقائد الإسلامية أن الوحي الذي أنزله الله على محمد وعلى سائر الرسل، إنما نزل به ملك مقرب: ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير:20]، هو جبريل عليه السلام، كان ينزل به ويعلمه محمداً والأنبياء قبله، ويذاكره به. وجاءت الصوفية ... فجعلت أتباعها يعتقدون أن الوحي هو هذيان مثل هذياناتهم، وكشوفاتهم الجذبية التي تقود إليها الطريقة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 51 (ز) للعقائد الإسلامية، في الإسلام، مصدران فقط، لا ثالث لهما، هما القرآن، وصحيح السنة. وجاءت الصوفية ... فجعلت للعقائد مصدراً ثالثاً، هو الكشف والكتب المنبثقة عنه، وجعلوه -عملياً- المصدر الأساسي للعقائد، وإن أنكروا ذلك نظرياً، أما القرآن والسنة، فما وافق الكشف قرروه، وما خالفه أولوه، ليتفق مع الكشف! وقد صرح بذلك حجتهم الغزالي في كتابهم المقدس (إحياء علوم الدين)، وكلهم بدون استثناء يقدسون الغزالي و (إحياءه)، وهذا يعني أنهم كلهم، يؤمنون بما في (الإحياء)، كما أنهم يرددون نفس الفكرة في كثير من كتبهم المتداولة. وكتاب (الإحياء)، ومعه بقية كتب الكهانة، كالرسالة القشيرية، والحكم العطائية، وقوت القلوب، واللمع، وبوارق الحقائق، والفتوحات المكية، والفيوضات الربانية، وفتوح الغيب ... وغيرها وغيرها، تدرس في مساجد المسلمين منذ قرون طويلة، وينشأ عليها شباب المسلمين، حتى صاروا يعتقدون أنها قمة الإسلام وقمة العلم وقمة التقوى وسبيل النجاة، بينما هي في الحقيقة الكهانة التي جاء الإسلام ليحاربها فيما يحارب. (ح) من العقائد الإسلامية أنه يمكن أن يتبين لنا من هم أصحاب الجحيم، أما أصحاب الجنة المزكَّون، وعباد الله المخلصون، فلا نستطيع معرفتهم، بل ولا الرسول نفسه يستطيع معرفتهم إلا بالوحي: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إلى وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ [الأحقاف:9]، وغيرها من الآيات والأحاديث التي مرت في فصل سابق، والتي لم تمر. وجاءت الصوفية ... فجعلت أتباعها، وغير أتباعها، يوزعون الولاية حسب ترتيبات شياطينهم من الإنس والجن، وحسب أوهامهم المنبعثة من هلوساتهم الكشفية وعلومهم اللدنية. بل وأكثر من ذلك بكثير، أكثر بنسب تفوق الأرقام الفلكية بكثير، فقد جعلتهم إيحاءات شياطينهم وهلوساتهم يتحققون بما يقفز فوق الخيال والأوهام ويتجاوز قيم الأبعاد الفلكية بأكثر بكثير من الأبعاد الفلكية، جعلتهم يتحققون بالألوهية، فالولي منهم يصل إلى الإحساس والتحقق والذوق والاستشعار أنه الله (سبحان الله) بجميع أسمائه وصفاته، أو ببعضها على الأقل، إن كان في أول الوصول، وأنه يتصرف في الكون، والمتواضع منهم يتصرف بأجزاء منه، قد تصغر وقد تكبر، حسب مقامه، وهذا هو الذي لم يصل بعد إلى (حيث لا إلى). وقد مضت على الأمة الإسلامية قرون طويلة، كانت هذه الخرافات الضلالية تشكل الجزء الرئيسي من ثقافتها وأحاديثها في أسمارها وفي وعظ وعاظها، حتى وصلت إلى ما هي عليه، بل هي الآن خير مما كانت عليه في تلك القرون. المصدر: الكشف عن حقيقة الصوفية لمحمود عبد الرؤوف القاسم - ص 818 - 821 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 52 المطلب الثاني: إفساد العبادات أقحمت الصوفية على الإسلام عبادات غريبة عنه، منها: (أ) مزجت الرياضة الإشراقية (الخلوة، والجوع، والسهر، والذكر الإرهاقي البدعي، والحضرة؛ (الراقصة والجالسة)، والرقص؛ (بنقص أو بدون نقص)، بالإسلام، وجعلتها طريق السير إلى الله (أي: إلى الألوهية). (ب) في الوثنيات طقوس جاء الإسلام ليحاربها فيما يحارب، كعبادة الشيوخ والأولياء الذين كانوا في الجاهلية يسمون (الكهان)، يعبدونهم عملياً وينكرون ذلك نظرياً)، والاستغاثة بالقبور والأموات، وتقديس الأضرحة والحجارة والقبب والأشجار ... وغيرها. وجاءت الصوفية ... فأقحمت هذه الطقوس على الإسلام، وجعلتها عبادات يتقربون بها إلى الله، إلى جانب العبادات الأصلية، وكثيراً ما كنا نرى أناساً أضاعوا الصلاة وارتكبوا المنكرات، دون أي شعور بحرج، ومع ذلك كانوا ملتزمين بهذه الطقوس. وجعلت الصوفية أتباعها يعتقدون أن الالتزام بهذه الطقوس هو من المنجيات، وأن إهمالها من المهلكات، بل وكثير من المتصوفة يعتقدون ويصرحون أنها كافية. (جـ) ابتدعوا أقوالاً وأعمالاً أقحموها على العبادات الإسلامية الأصيلة، في أوائلها وثناياها وأواخرها، حتى صار أكثر المسلمين يتمسكون بها على أنها جزء من العبادة، لا يجوز تركه، وقد يقيمون القيامة على من يتركه، مثل: التلفظ بالنية للدخول في العبادة (تكبيرة الإحرام هي المدخل للصلاة، فبطل ذلك، أو نسخ، أو عدل .. لا ندري؟ وصار المدخل هو قولهم: نويت أصلي ... إلخ)، وفي كثير من المساجد، شاهدناهم في رمضان بعد صلاة العشاء، وبإيعاز من الإمام أو الشيخ، يقولون جماعة بصوت عال: نويت صيام نهار غد من شهر رمضان وهكذا بقية العبادات، بل وأقحموا هذا التلفظ على العادات، على أنها بذلك ستصير عبادات. وأقحموا المصافحة عند انتهاء الصلاة، مع ترديد (تقبل الله) مع الجهر جماعة بالاستغفار وغيره، وأضافوا إلى الأذان في آخره ما لم يأذن به الله، وتكون هذه الإضافة في كثير من الأحيان أطول من الأذان، عدا عما فيها من كذب على الله ورسوله، كقولهم: إن محمداً أول خلق الله، كما أضافوا في أول الأذان ما يسمونه التذكير، وذلك في أوقات مخصوصة ما أنزل الله بها من سلطان، عدا ما يرددونه في هذا التذكير، من مثل قولهم: (نعم أنت مخلوق ولست بخالق، ولكن لك الرحمن قد وكل الأمرا)، وغيرها الكثير مما تصدى العلماء لنقضه في كتبهم ورسائلهم. وسموا ذلك: (بدعة حسنة) تبريراً لإحداثهم في دين الله. (د) أحدثوا طقوساً ابتدعوها، ما أنزل الله بها من سلطان، كمولد النبي، وموالد من يسمونهم (الأولياء)، ومجالس الصلاة على النبي بما فيها من مخالفة لأركان الذكر والدعاء في الإسلام، ومثل قراءة (صحيح البخاري) جماعة في المساجد إذا حزبهم أمر، وغير ذلك مما يعرفه المسلمون ومما لم يرد فيه أي نص عن الرسول صلى الله عليه وسلم، عدا عما فيها من شركيات ومخالفات وكبائر. وقد طغت هذه الطقوس، وتمسك بها الكثيرون على أنها من صميم الإسلام يتقربون بها إلى الله، حتى إن بعض من يسمَّون (علماء) يكفرون من ينتقد هذا أو يفسقونه. وللعلم: المعروف عن مولد الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يوم الإثنين، أما (12 ربيع أول)، فهو اختراع، والتلفيق واضح فيه، و (12 ربيع أول) من عام الفيل كان يوم خميس. (هـ) تهاونوا بالعبادات بحجة الوصول إلى مقام رفع عنهم فيه التكليف، أو بحجة أن الشيخ يدخلهم الجنة دون حساب، أو بحجة أن تارك العبادة منهم أفضل من العابد من غيرهم، أو بالحجة التي تقول: جذبة من جذبات الحق تساوي عمل الثقلين، أو بحجة أن قراءة الورد الفلاني أو الصلاة على النبي الفلانية أفضل من عبادة كذا وكذا، أو بحجة أن من زار قبر الشيخ فلان، أو رآه أو رأى من رآه أو مر بمدرسته أو اتبع طريقته يغفر له كل ذنوبه ما تقدم منها وما تأخر ... إلى آخر ما رأينا أمثلة منه في الفصول السابقة. وبذلك كانت الصوفية وراء ابتعاد الناس عن الإسلام وإهمالهم لتعاليمه. المصدر: الكشف عن حقيقة الصوفية لمحمود عبد الرؤوف القاسم - ص 821 - 823 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 53 المطلب الثالث: إفساد الأخلاق والسلوك النفاق:- يقول سبحانه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، ويقول جل وعلا: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:1 - 4]. هذا هو حكم النفاق في الإسلام. والنفاق هو إظهار الإسلام وإبطان الكفر. ولو غيرنا الاسم (النفاق)، وجعلناه (التقية)، لبقي حكمه نفس حكمه؛ لأن تغيير الاسم لا يغير الحكم، فعندما نسمي الخمر (فودكاً) تبقى خمراً وتبقى محرمة. ولو عبرنا عن النفاق بمثل قولهم: (اجعل الفرق في لسانك موجوداً، والجمع في جنانك مشهوداً)، فسيبقى حكمه نفس الحكم، وسيبقى نفاقاً، ولو وضعنا عبارة أخرى، مثل: (مع مشاهدة المشيئة العامة لا بد من مشاهدة الفرق بين ما يأمر الله به وما ينهي عنه)، أو مثل: (إياك أن تقول أناه، واحذر أن تكون سواه)، أو مثل: (يا رب جوهر علم لو أبوح به لقيل أنت ممن يعبد الوثنا)، أو مثل: (طريقتنا أن نحفظ الشرع ظاهراً، وهذا هو السر العميق المطلسم)، أو غيرها من مئات عباراتهم المدونة في كتبهم وفي معاجمهم ليستعملوها هم ومريدوهم والسالكون في طريقهم في التمويه على أهل الشريعة. لو عبرنا عن النقاق بأي عبارة كانت، فسيبقى نفاقاً، وسيبقى مصير أهله الدرك الأسفل من النار. لكن الصوفية جعلت النفاق شطراً من الولاية والصديقية، ومن أقوالهم في ذلك: (التقية حرم المؤمن ... )، وغيرها مما مر. ومعنى التقية في الإسلام هو إبطان الإيمان وإظهار ما يخالفه في حالة الاستكراه ولمدة محدودة عابرة، إلا في حالات استثنائية جداً، أما عندهم فهي على العكس تماماً، إبطان وحدة الوجود، وإظهار الإسلام. الكذب:- في الواقع النفاق هو الكذب، بل هو من شر أنواع الكذب، وهذا المرض (الكذب) المستشري في سلوكنا ومعاملاتنا إنما هو مظهر من مظاهر اجعل الفرق في لسانك موجوداً، والجمع في جنانك مشهوداً، أو انبثاق عنها تسرب من الشيوخ الذين كانوا على مدى قرون يعدون بعشرات الألوف، إلى مريديهم الذين كانوا يعتبرون نخبة المجتمع، ثم إلى الأتباع والمؤمنين، وبالتالي إلى الجميع. نسخ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:- اللذين تأتي فرضيتهما بعد الأركان مباشرة، وهما الركنان اللذان يقوم عليهما المجتمع الإسلامي واستمراريته، وتركهما، أو ترك أحدهما، يدخل في لعنة الله لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة:78] كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة:79]، ويجعل الفساد ينتشر في الأمة. جاءت الصوفية فألغت الأمر بالمعروف بحجة الخوف من الرياء، وحصرته فيما يكفي لاستمرار المسيرة الصوفية في المجتمع، وألغت النهي عن المنكر بنفس الحجة وبحجة الخوف من وقوع الناهي فيما نهي عنه، وحصرته في النهي عما يعرقل مسيرة التصوف في المجتمع. وقد مرت الأمثلة على ذلك في فصول سابقة. التزهيد بالعمل والدعوة إلى التواكل والكسل:- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 54 العمل من أجل العيش هو من تعاليم الإسلام، ونصوصه كثيرة ومعروفة، وجاءت الصوفية فزهدت المسلمين بالعمل بحجة الزهد والتوكل، بل قررت عدم جواز الصلاة وراء من يأمر بالعمل، وقد مر هذا في فصل سابق نقلاً عن (الإحياء)، وبذلك انتشرت التكايا في البلاد الإسلامية، وغصت بالتنابل، وامتلأت شوارع المدن والقرى وأزقتها بالمكدين (الشحاذين)، وتعطلت الأرض، وتوقفت الأعمال، وكانوا يعدون ذلك من الورع والزهد والتوكل، وأحياء هذه الأيام الذين عاشوا العقود الأولى من القرن العشرين الميلادي يعرفون هذا تمام المعرفة. نشر الذل والخنوع والخضوع:- إن انتشار الصوفية الواسع جعل سلوك المريدين تجاه الشيخ ينزلق إلى المجتمعات الإسلامية، فانتشر الخنوع والخضوع وتقبيل اليد والرجل والوقوف للاحترام، وهي أمور كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهها، وشيوخ المتصوفة ومريدوهم يدافعون عنها حتى الآن بأساليب كلها مغالطة والتواء. تقديس المجانين:- المجانين هم مرضى يستحقون العطف والعناية والدواء، لكن شيوخ الصوفية كانوا، وما يزالون يعدون المجانين أولياء أرادهم الله سبحانه لولايته، دون سعي منهم (المراد)، ويصفونهم أنهم سائحون في حب الله، ويتبركون بهم بل وببولهم وروثهم، وإذا ماتوا بنوا لهم المقامات والزيارات. ولسعة انتشار الصوفية طغت هذه النظرة على المجتمعات الإسلامية، وقد رأينا في فصول سابقة من أمثلة ذلك، وكبار السن الآن يعرفون هذه الأمور في صغرهم في مجتمعاتهم. وماذا يمكن أن يُنْتَظَرَ مِن مُجْتَمَعاتٍ تُقَدِّسُ مَجانينَها. التوكل والتسليم والزهد والورع والإخلاص:- رأينا ... كيف شوهوا معنى التوكل والتسليم والزهد والورع في نفوس المسلمين، وكيف كانت نتائج ذلك التشويه مما عانت منه الأمة وتعاني حتى الآن، وأذكر القارئ بوقائع التتر واستسلام المسلمين لهم استسلام النعاج. وحتى الآن، فقد سمعنا ونسمع وعاظاً وخطباء يطلبون من الناس أن يخرجوا من مسجد ليدخلوا في مسجد، وأن هذا كافٍ لدحر أعداء الإسلام، أي أنهم يقولون بلسان حالهم، بل ولسان مقالهم أيضاً: ربنا حارب، إنا ههنا في المساجد قاعدون. وسمعنا من يقول وهو يعظ ويحث المسلمين على الخير: الحمد لله الذي سخر لنا أمريكا وإنكلترا وفرنسا وروسيا يخترعون الاختراعات ويصنعون الصناعات ويقدمونها لنا، ونحن نتفرغ فقط لعبادة الله؟! إلى آخر قائمة طويلة من التشويه والتزوير لمعاني القيم الإسلامية والأخلاق التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. المصدر: الكشف عن حقيقة الصوفية لمحمود عبد الرؤوف القاسم - ص 824 - 826 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 55 المطلب الرابع: إفساد الفكر يقوم بناء الفكر الإنساني، كائناً ما كان، بمعطيات ثلاث: 1 - المنطلقات أو الأسس، التي يستند إليها ويأخذ منها عناصر بنائه. 2 - كيفية البناء. 3 - الغاية التي يرمي إليها. وفي الإسلام: - المنطلقات هي القرآن وصحيح السنة وواقع الحياة والوجود على حقيقته. - كيفية البناء موجهة بالفهم المبني على أسس علمية مدروسة للقرآن والسنة، وبفهم الصحابة رضي الله عنهم وتطبيقاتهم، كما هي موجهة، في الأمور الدنيوية، بمعرفة واقع الحياة والوجود معرفة علمية صحيحة. - الغاية التي يرمي إليها بناء الفكر الإسلامي ويسعى إليها المسلم هي الأجر والثواب من الله سبحانه كما وعد به عباده المؤمنين في القرآن والسنة، لا كما يتوهمه المتوهمون. وقد أفسدت الصوفية هذه العناصر إفساداً بالغاً، ففسد فكر المسلم، ووصل المسلمون إلى الحالة الراهنة التي لا يحسدون عليها، مع التذكير بأن حالتهم في القرون الأخيرة حتى النصف الأول من القرن الثاني عشر الهجري كانت الأنموذج الكامل لمجموع الإفسادات التي أنتجتها الصوفية، حتى هيأ الله سبحانه لدعوة الحق من أعاد لها جدتها، فأخذت الأمة تستيقظ شيئا فشيئاً من سبات كان عميقاً كالموت. المصدر: الكشف عن حقيقة الصوفية لمحمود عبد الرؤوف القاسم - ص 827 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 56 المطلب الخامس: إفساد المنطلقات القرآن:- لم يستطع المتصوفة تحريف القرآن؛ لأن الله، له الحمد، حفظه باعتناء المسلمين بحفظه ودرسه وتدريسه والتعبد بقراءته في الصلاة وفي التلاوة آناء الليل وأطراف النهار، فعمدوا إلى تحريف معانيه، وهذا مثل من تفسيرهم، منقول عن (تفسير القرآن الكريم للشيخ الأكبر العارف بالله العلامة محيي الدين بن عربي): الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:172]: يقول الشيخ الأكبر مفسراً هذه الآية: الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ [آل عمران:172]، بالفناء في الوحدة الذاتية. وَالرَّسُولِ [آل عمران:172]، بالمقام بحق الاستقامة. مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمران:172]، أي: كسر النفس. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ [آل عمران:172]، أي: ثبتوا في مقام المشاهدة. (وَاتَّقَوْا) [آل عمران:172]: بقاياهم. أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:172]، وراء الإيمان، هو روح المشاهدة (1). ومثل آخر: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ [التوبة:100]: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ [التوبة:100]، أي: الذين سبقوا إلى الوحدة من أهل الصف الأول. مِنَ الْمُهَاجِرِينَ [التوبة:100]، الذين هجروا مواطن النفس. وَالأَنصَارِ [التوبة:100]، الذين نصروا القلب بالعلوم الحقيقية على النفس، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ [التوبة:100]، في الاتصاف بصفات الحق. (بِإِحْسَانٍ) التوبة:100، أي: بمشاهدة من مشاهدات الجمال والجلال (2) ... وقد مر في الفصول السابقة أمثلة أخرى على تحريفهم لمعاني القرآن، وهي بعض من كل، ومن يريد الاستزادة يستطيع الرجوع إلى كتابهم المقدس (إحياء علوم الدين) ليرى من التزوير في التفسير ما تقشعر له أبدان الذين يؤمنون بالله ورسله وكتبه ويرجون اليوم الآخر، وكذلك بقية كتبهم على تفاوت بينهم في العبارة وفي عدد ما يفسرونه من آيات. وقد رأينا نثرات من تفاسيرهم للقرآن تفاسير سحرية، وكتبهم ملأى باستعمالات القرآن في اتجاهات سحرية. الإفساد في الحديث:- كان اعتناء المسلمين بالحديث الشريف، وما زال، أقل من اعتنائهم بالقرآن الكريم، لأسباب معروفة، مما ترك مجالاً للدس والتقول على الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخذ المتصوفة حريتهم بوضع ما يملي عليهم الكشف من أحاديث، وتضعيف ما يضعفه الكشف، وتصحيح ما يصححه، حتى كانوا هم وراء قسم كبير من ركام الأحاديث الموضوعة المعروفة، وتلك التي لم تزل مدرجة في قسم الأحاديث الضعيفة، والتي تشكل نسبة عالية فيها. وأوضح دليل على هذا هو كتاب (إحياء علوم الدين) لحجة الإسلام، الإمام، ففيه مئيات من الأحاديث الموضوعة التي يقول عنها الحافظ العراقي: لم أجده، أو لم أجد له أصلاً، وهذا يعني، بدهياً، أن الواضع لها هو الغزالي أو كشفه، ونقول للذين يقولون خلاف هذا: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، وأرونا المصدر الذي أخذ منه الغزالي هذه الأحاديث.   (1) ((تفسير ابن عربي)): (1/ 235). (2) ((تفسير ابن عربي)): (1/ 505). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 57 ومظاهر التقوى والورع التي يتحلى بها كثير من الصوفية جعلت، وتجعل، الناس يثقون بهم ويأخذون عنهم، مع العلم أن التقوى والورع والزهد ولواحقها لا تدل على صحة العقيدة! فكل المؤمنين المخلصين لدينهم، في كل الأديان، يكونون أتقياء ورعين زاهدين ... ونعرف أن متصوفة المسلمين يدينون بالطريقة البرهانية التي مزجت الإشراق بالإسلام، فهم يؤمنون بها، والمخلص منهم ينتهج الإسلام والإشراق معاً. ولا بأس هنا من عرضٍ يعرض على علماء الحديث، لا أظنهم ناجين من السؤال عنه أمام التاريخ على الأقل، بعد إذ تبين لهم الحق. هذا العرض هو مراجعة كتب الرجال، والبحث في الرواة عن الشيوخ الكمل الذين تمكنوا من مقام الفرق الثاني، فلم يظهر في سلوكهم وأقوالهم ما يدل على ما في قلوبهم، أي: وصلوا إلى تطبيق القاعدة: اجعل الفرق في لسانك موجوداً، والجمع في جنانك مشهوداً. والتي عبر عنها الجنيد بعبارة: مشاهدة الفرق بين ما يأمر الله به وما ينهي عنه تطبيقاً تاماً. وأعتقد أن بحثاً جاداً في هذا المجال، إن كان مخلصاً، لا يبتغي إلا رضا الله سبحانه، والوصول إلى الحق، سوف يخلص كتب الرجال من إشكالات واردة فيها، وهذه الإشكالات رغم قلتها، لكنها هامة، من ذلك مثلاً، نرى بعض الرجال موثقاً عند عالم ثقة، ومضعفاً عند مثله، وقد وضع علماء الحديث قواعد دقيقة لحل مثل هذه المشكلة، وهذه قاعدة تضاف إليها قد يكون لها القول الفصل في كثير من الأحيان أو في بعضها. ومن ذلك مثلاً أن قسماً من الأحاديث الضعيفة، يمكن أن يدرج بعد هذه الدراسة تحت عنوان (المكذوبات). ومن ذلك مثلاً ما يبدو بعض الأحيان من تناقض ظاهري بين حديثين صحيحين، وقد وضع علماء الحديث عشرات القواعد الدقيقة لحل مثل هذه المشكلة، وهذه قاعدة تضاف إليها، قد يكون لها القول الفصل في كثير من الأحيان أو في بعضها. ولست أدري، هل أكون مصيباً أو مخطئاً إذا قلت بوجوب إعادة النظر بمثل أبي نعيم الأصفهاني و (حليته)، وذلك بدراسة دقيقة من قبل أكثر من عالم حديث، شريطة أن يكونوا كلهم، على معرفة كاملة واضحة بالكشف والرؤى الكشفية، وكيف يمكن أن يذهب المكاشف إلى مسجد (مثلاً)، فيرى فيه شيخاً معيناً وتلاميذ يطلبون العلم عليه، فيجلس معهم، ويكتب ما يمليه الشيخ، ثم يعود إلى بيته، وفي كراسته علوم جديدة، بينما كان ذلك المسجد، في حقيقة الأمر، خالياً إلا من هذا المكاشف الذي رأي الشيخ وتلامذته بوهم كشفه، وسيقسم هذا المكاشف اليمين تلو اليمين أن ما كتبه كان سماعاً من الشيخ المعين بحضور تلاميذه أو بدون حضورهم (حسب الكشف). وذلك لأن المكاشف كثيراً ما يختلط عليه الأمر، فلا يفرق بين الرؤى الكشفية والواقعية، وقد رأينا في فصل سابق مئات الأمثلة على ذلك، إضافة إلى عشرات الأمثلة المتفرقة بين الفصول. ومن إفسادهم في الحديث تزوير معانيه بالتفسير الإشاري، وقد رأينا في ثنايا الكتاب أمثلة منها، ومن يريد الزيادة فأمامه كتبهم، وعلى رأسها (إحياء علوم الدين). واقع الحياة والوجود:- إن واقع الحياة والوجود قائم كما أراده الله، متحرك بسننه تعالى في خلقه التي لا تبديل لها ولا تحويل، والتي يسمونها في لغة العصر الحديث (القوانين الطبيعية)، فلا يستطيع مخلوق إفساد شيء منه إلا في إطار الحدود التي قدر الله سبحانه أن يكون هذا المخلوق القدرة على التصرف فيها، وهي لا تزيد عن عمليات نقل للأشياء أو لأجزاء منها من مكان ووضعها في مكان ملائم، أو غير ملائم، وكل ما صنعه الإنسان، وما يصنعه، لا يخرج عن هذا قيد شعرة، وكان إفساد الصوفية في هذا المجال بإفساد فهم الواقع وتفسيره، وبإفساد أساليب التعامل معه، وفي وضع الأمور في غير مكانها الصحيح. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 58 ففي مجال تفسير الواقع، زورت الصوفية الفكر لدى أتباعها الذين كان ينظر إليهم في أوقات كثيرة على أنهم نخبة المجتمع، زورت التفكير عندهم، حتى أصبحوا، هم والأمة من ورائهم، لا يرون الأمور إلا رؤىً ضبابيةً، ولا يفسرونها إلا تفاسير مبنية على الكرامات وتصرفات الجن وتهاويل الخوارق، ويرسمون للكون صوراً في أذهانهم مأخوذة من كشوف المكاشفين الهلوسية، ومن علومهم اللدنية، وتفصيل هذه وحدها يحتاج إلى كتاب مستقل؛ لأنها تشمل كل نواحي الحياة، وقد مر بعضها في فصول سابقة. وفي مجال التعامل مع الواقع، صارت الأوراد والأقسام والطلاسم والحجب هي الأساليب التي يتعامل بها الفرد والمجتمع مع واقع متوهم، وصار العلماء إلا من رحم الله، يمزجون فقههم بكتابة الحجب والأوفاق والدوائر لتسهيل الأمور في شتى نواحي الحياة، وأظن أن أكثر العلماء الآن (في السنين الأولى من القرن الخامس عشر الهجري)، إن لم يكونوا كلهم، قد عانوا من طلبات كثير من الناس، حتى من بعض المثقفين، أن يفكوا لهم سحراً، أو يخلصوهم من أمور لا تزيد عن كونها أوهاماً من أوهام الصوفية. ورقصات الزار في مصر والسودان والحبشة والحضرات الصوفية في كل البلاد الإسلامية، والسيارة والعدة لزيارة القبور جماعياً وضرب العدة حولها (وقد تقلص هذا كثيراً بسبب انتشار الثقافة، والزيارات الإفرادية التي تجر إلى الاستغاثة بالأموات، وطلب النصرة حسب الأوهام ... كل هذا من نتاج التصوف، وإن ظهر بعضه في جماعات تدعي أنها غير متصوفة؛ لأن القناعات الفكرية إذا عمت جرفت أمامها كل من لم يعصمه الله سبحانه. وكان من نتائج هذا الفهم السحري، المرتبط بالكرامات كلياً أو قريباً من الكلي، وهذا التعامل المبني على الفهم السحري، ما نراه من ضياع وتخبط ووضع للأمور في غير أماكنها الصحيحة، بل وعدم القدرة على ذلك فكرياً وعملياً. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، يحتاج تفصيلها إلى مئات الصفحات، ونورد منها أمثلة عابرة، جرت وتجري حالياً. حادثة:- كانت فئة من المجاهدين تعاني في قطاعها فقراً شديداً بالمال والسلاح والطعام، حتى عرف أفرادها الجوع، ورأى أحد الأثرياء المخلصين المتصلين بهذه الفئة في المنام من يقول له: إنه إذا وزع أربعين ألفاً على العميان والفقراء المجاورين عند المقام الفلاني فسينتصرون. ووزع المبلغ على العميان والفقراء المجاورين، وأخذ ينتظر النصر. ولم يطل الانتظار، فقد هوجمت هذه الفئة دون أن تستطيع مقاومةً ولا دفاعاً وسحقت؛ لأنها كانت مفتقرة إلى السلاح، وكان الجوع ينهكها. حادثة ثانية:- أربعة شباب باعوا أنفسهم لله، وانضموا إلى فئة من المجاهدين، لكنهم رأوا أفراد هذه الفئة يعكفون على قبر يطلبون عنده الثواب، ويستنزلون النصر! فنصحوهم وجاءوهم بالبينات من نصوص القرآن والسنة التي تثبت أن هذا العمل من الشرك العظيم. عقد أفراد الفئة المجاهدة مؤتمراً فيما بينهم وشكلوا محكمة برئاسة عالمهم، حاكمت الشبان الأربعة محاكمة (عادلة)! فقد استمعت إلى أقوالهم وأدلتهم من القرآن والسنة برحابة صدر، ثم أصدرت حكمها عليهم بالإعدام، ونفذ الإعدام. واعظ:- رجل يقول بلسان حاله: إنه عالم، يناقش حالة المسلمين، ويلقي مواعظه، ومن هذه المواعظ ما معناه: إن السبب في انهيار المسلمين هو عدم الإخلاص، فلو كنا مخلصين لكفانا أن نحمل البندقية، ونوجهها باتجاه العدو كيفما كان، وستخرج الرصاصة لتصيب منه مقتلاً ... وواعظ آخر:- يقول ما معناه: إن العلة في المسلمين هي عدم الخشوع في الصلاة، وعلينا أن ندعو للخشوع، ونحث عليه، وعندما يتحقق ذلك يتحقق النصر. وتعليقاً على هذه المواعظ نقول: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 59 الإخلاص مطلب أساسي، لكن نسأل: الإخلاص لماذا؟ هل نخلص لما نتوهمه أنه الحق؟ إن هذا النوع من الإخلاص ليس إسلامنا؛ لأن الإسلام يأمرنا أن نعرف الحق أولاً بالأسلوب العلمي الصحيح، ثم نخلص في أقوالنا وأعمالنا وكل سلوكنا لهذا الحق. والخشوع أيضاً مطلوب، لكن كيف يكون؟ وفيم؟ إن كانت العقيدة فاسدة فالخشوع ضغث على إبالة، وإن كانت العبادة غير صحيحة، فالخشوع فيها رزء فوق رزء، وإن كان العمل الدنيوي في اتجاه معكوس أو منحرف فالخشوع يزيد الطين بلة، إن الوثني التقي يخشع أمام وثنه وفي عبادته، فهل ينفعه خشوعه؟ والماركسية الزاحفة يعجبها كثيراً أن نعمل على إيقافها بالخشوع، وبقراءة البخاري جماعة في المساجد. وزيادة في التوكيد، نضيف كلمة أخرى لأبي الحسن الندوي عن حالة المسلمين التي كانوا عليها في القرون الأخيرة، يقول: ... لا بد أن نشير إلى أن ذلك الوسط والعهد (القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين) ... كان التصوف فيهما قد تغلغل في أحشاء المجتمع الإسلامي، وامتزج بلحمه ودمه، حتى أصبح التصوف له طبيعةً وذوقاً، وسمةً وشعاراً ... بل كانت العامة لا تعبأ بعالم أو مرب أو مصلح، ولا تقيم له وزناً، ولا تعتقد فيه الخير والصلاح، ولا تنتفع بمواعظه وكتاباته، ما لم يكن له إلمام بالتصوف والسلوك، ويكون قد صحب بعض المشايخ المعروفين، وانخرط في سلك بعض الطرق السائدة المقبولة في الناس (1). ويقرر في كتاب آخر ناقلاً: ... في القرن الثامن عشر (الميلادي)، كان العالم الإسلامي قد بلغ من التضعضع أعظم مبلغ، ومن التدني والانحطاط أعمق دركه، فارْبَدَّ جَوُّهُ، وطبقت الظلمة كل صقع من أصقاعه ورجاء من أرجائه، وانتشر فيه فساد الأخلاق والآداب وتلاشى ما كان باقياً من آثار التهذيب العربي. واستغرقت الأمم الإسلامية في اتباع الأهواء والشهوات، وماتت الفضيلة في الناس، وساد الجهل، وانطفأت قبسات العلم الضئيلة، وانقلبت الحكومات الإسلامية إلى مطايا استبداد وفوضى واغتيال ... وقام كثير من الولاة والأمراء يخرجون على الدولة التي هم في حكمها، وينشئون حكومات مستقلة، ولكن مستبدة كحكومة الدولة التي خرجوا عليها، فكان هؤلاء الخوارج لا يستطيعون إخضاع من في حكمهم من الزعماء هنا وهناك، فكثر السلب والنهب، وفقد الأمن، وصارت السماء تمطر ظلماً وجوراً، وجاء فوق جميع ذلك رجال الدين المستبدون يزيدون الرعايا إرهاقاً فوق إرهاق، فغلّت الأيدي، وقعد عن طلب الرزق، وكاد العزم يتلاشى في نفوس المسلمين، وبارت التجارة بواراً شديداً، وأهملت الزراعة أيما إهمال. وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء، فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة الناس سجفاً من الخرافات وقشور الصوفية، وخلت المساجد من أرباب الصلوات، وكثر عدد الأدعياء الجهلاء، وطوائف الفقراء والمساكين يخرجون من مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات ويوهمون الناس بالباطل والشبهات، ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء، ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور، وغابت عن الناس فضائل القرآن، فصار يشرب الخمر والأفيون (والحشيشة)، في كل مكان، وانتشرت الرذائل وهتكت ستر الحرمات من غير خشية ولا استحياء (2). اهـ. يقول أبو الحسن الندوي عند إيراده (مقرراً) هذا النص: إنه لا يتحمل مسؤولية صحته مائة في المائة. ونجيبه: تأكد يا أستاذنا أنه صحيح مائة في المائة، وأن الإسلام يعيش غربته منذ قرون طويلة. وثنية الأمير:-   (1) ((الإمام السرهندي حياته وأعماله))، (ص:124). (2) ا00 لإمام الدهلوي))، (ص:34). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 60 رأينا من أقوالهم في الفصول السابقة مدى تقديسهم للشيخ، وما يعتقدونه في الشيوخ من القدرة الإلهية والتصرف في الكون، بل وكل الصفات الحسنى. وعملياً، كان هذا التقديس وهذا الاعتقاد عندهم ركنين أساسيين من أركان الإسلام والإيمان، أو كانا الركنين اللذين يقوم عليهما ما يسمونه (الإحسان). وبما أن الصوفية كانت مسيطرة على المجتمعات الإسلامية، ومتغلغلة في نفوس كل المسلمين، إلا من رحم الله، لذلك كانت نظرة الجميع إلى الشيخ هي هذه النظرة التقديسية. وبطبيعة الحال، انزلق هذا التسليم للشيخ والاعتقاد بقدرته الإلهية، إلى التسليم لأي رئيس والاعتقاد بقدرته الإلهية، فصاروا ينتظرون من الأمير أن يصلح ما يفسدون وأن يقول للشيء: كن فيكون. وهذه العقيدة بالذات هي التي أضاعت بلاد المسلمين، فلقد كان الفساد الذي رأينا صوره، مستشرياً هناك بسبب الصوفية، وكان الدعاة والوعاظ كلهم، حتى من كان على نهج الإسلام الصحيح، ينتظرون الأمير الذي يغير ذلك الحال ويصلح الأحوال، ناسين قوله سبحانه: إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]. وطبعاً، لا يملك الأمير القدرة الإلهية، ولم تكن لديه تلك العصا السحرية التي يحركها فتغدو الخيانة أمانة والكذب صدقاً والقناعات الفكرية المزورة حقاً ووعياً. وبما أن القناعات المسيطرة على الناس والمتغلغلة في أعماق نفوسهم هي قدرة الأمير، لذلك كانوا يتهمونه بالجبن أو بالخيانة أو بالظلم أو ما شابهها. فيثور عليه ثائر يزيحه ويجلس مكانه، وهو يظن أنه شجاع وأمين، لكنه لا يستطيع أن يفعل شيءاً، فيتهمه الناس بدورهم بما اتهموا سلفه، فيضطر للبطش بهذا أو ذاك دفاعاً عن نفسه، ويستشري التناحر بين أنصاره وأعدائه، حتى يثور عليه ثائر آخر، فإما أن يزيحه أو ينفصل عنه ... وهكذا. وهكذا بقيت الأمة تعيش في فتن مستمرة، ونهاية الفتن معروفة، إنها دمار الأمة. وهكذا ذهبت بلاد المسلمين، كما أنها الآن في طريقها للضياع بلداً بعد آخر بيد الماركسية، على يد دعاة ينبثقون من روح وثنية الحاكم، مثيرين الفتن ضد أعداء الماركسية وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وهؤلاء، وإن كان بعضهم غير صوفي، لكن نظرتهم هذه انبثقت في أساسها من الصوفية التي حرثت، وجاء الخبثاء؟ فزرعوا وحصدوا. النظرة الطفولية للأمور:- إن تقديس الشيخ الذي انزلق إلى النظرة التأليهية للحاكم، ومرور قرون على المسلمين وهم يتحركون في هذا الإطار، جعل النظرة الطفولية للأمور من الخواص المسيطرة على التفكير والمسيرة له، إلا من رحم الله. فالطفل في أشهره الأولى لا يرى إلا البارز من الأشياء، فعندما يحمله أبوه، يمد يده إلى أنفه، أو إلى يده إن كانت قريبة منه، ولو وضعت أمامه على الأرض أشياء مختلفة الأحجام، فإنما يمد يده إلى البارز منها سواء لكبر حجمه أو لوجوده على مكان بارز. فهكذا المسلمون الآن لا يرون في المجتمعات إلا البارز، والحاكم أبرزهم، لذلك فهو المطالَب بإقامة حكم الله، وهو المطالب بالنصر، وعليه تبعة انهيار الأخلاق وتبعة الهزائم ... إلخ. والعجب العجاب المثير للارتياب أنهم لا يلقون هذه التبعات إلا على الذين يحاربون الماركسية. ومما نسمعه، مثلاً، من أدعية يدعو بها من يسمونهم (علماء): اللهم هيئ لهذه الأمة قائداً صالحاً يقيم فيها حكم الله ويقودها إلى النصر ... إلخ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 61 وكأن القائد معه عصاً سحرية، أو له قوة إلهية، وكأن الإسلام نزوة حاكم، وكأنهم نسوا قول الله سبحانه: إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]. ومن الأمثلة على النظرة الطفولية للأمور، سؤال كثيراً ما سمعناه، وهو: هل نحن الآن في عهد مكي، أو في عهد مدني؛ وكثيراً ما دارت النقاشات حول هذا التساؤل! وكأن التاريخ عبارة عن كليشة يكرر طبعها في كل مكان وزمان، وعلينا أن نعرف موضعنا من هذه الكليشة. ورغم أن هذا السؤال قد يصدر عن غير متصوفة، لكن ما كان يمكن قبوله لولا النظرة الطفولية التي انبثقت من التسليم للشيخ، وعدم القيام بأي عمل، بل وعدم التفكير بالقيام به أو التفكير بكيفية هذا القيام، وإنما يعرض الأمر على الشيخ، ويطبق ما يقوله حرفياً دون مناقشته أو حتى الاستفهام منه عن غريبه (من قال لشيخه: لِمَ؟ لا يفلح أبداً). وكان التقي الورع الذي يرجو الفلاح والذي كان يَنْظُر إليه على أنه نخبة الأمة، كان لا يفكر في أي أمر، وإنما يعرضه على الشيخ، ويطلب توجيهه المقدس، ويدعو الناس في وعظه وخطبه إلى مثل هذا. ومن أخطر مظاهر هذه النظرة الطفولية الواضحة، إن لم يكن أشدها خطراً، هو مناقشة الأمور دون إدراك للعلاقة بين الأسباب والنتائج. ومن المفاسد القاتلة التي انبثقت عن الصوفية قبول المتناقضات على أنها كلها صحيحة؛ لأن احترام الشيوخ وتقديسهم وتقديس أقوالهم كان طيلة قرون طويلة هو طريق النجاة والفلاح، وبطبيعة الحال، كانت أقوالهم متناقضة وساقطة بسبب جهلهم من جهة، ولأنهم كانوا يأخذون علومهم من الكشف والعلم اللدني من جهة ثانية، وبسبب الغرور الذي يسببه تقديس الناس لهم، والذي يجعلهم يعتقدون أن كل ما يجري على ألسنتهم من هذيانات هو من باب (حدثني قلبي عن ربي)؛ وكان الناس كلهم إلا من رحم الله، يعتقدون في الشيوخ هذا الاعتقاد ويطبقونه؟ لذلك كانوا يقبلون المتناقضات على أنها من عند الله، ولا تعترض فتنطرد، وكانت هذه الحالة من الأسباب الرئيسية في تشتت أفكار الأمة وتخبطها. ومن مظاهر الفساد المدمر التي انبثقت عن الصوفية (الطبطبة) على المفاسد ومحاولة تبريرها، بل والإصرار على عدم وجودها ومهاجمة من يحاربها بأساليب شتى. وطبعاً، انبثقت هذه الظاهرة من قاعدة: سلم تسلم، أو لا تعترض فتطرد. ومن الفساد الذي سيطر على الأمة قروناً طويلة الازدواجية في العقيدة وفي التفكير التي كان يعيشها وعاظ الأمة وموجهوها ودعاتها، إلا من رحم الله، حيث كانوا يبطنون خلاف ما يظهرون، يبطنون وحدة الوجود وما يتفرع عنها، ويظهرون الشريعة الإسلامية التي يحاولون توجيهها لتتفق مع ما يبطنون. وفي واقع الأمر كان هناك صراع خفي يتفاعل في ضمير كثير من العلماء الذين قبلوا الصوفية حيث كان يظهر هذا الصراع في كتابات بعضهم وفي أقوالهم وبعض أفعالهم، مثل ما نراه عند أحمد الفاروقي السرهندي وأمثاله الذين كانوا يتشددون في وجوب كتمان السر إلا عن مستحقيه، ويهاجمون من يصرح بالوحدة. هذا موجز لدور الصوفية في تمزيق الأمة الإسلامية. المصدر: الكشف عن حقيقة الصوفية لمحمود عبد الرؤوف القاسم - ص828 - 838 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 62 المبحث الرابع: عوامل أخرى أدت إلى تمزيق الأمة • المطلب الأول: الخلفيات الفكرية والعقائد والفلسفات . • المطلب الثاني: الموقف السلبي في مواجهة الصوفية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 63 المطلب الأول: الخلفيات الفكرية والعقائد والفلسفات التي كانت تشكل تيارات في المجتمعات الإسلامية تحيط بالشيخ وتوجه كشوفه وعلومه اللدنية؛ لأن الرؤى الكشفية هي انبثاقات للمعلومات والتوجهات والأماني والطموحات المختزنة في أعماق الشيخ، ومنها تلك الخلفيات الفكرية والعقائد، مع العلم أن بعضها وجد بسبب الصوفية أيضاً. فمحمد بن فلاح، مثلاً، تشيع بسبب المحيط الذي كان يعيش فيه، في الحلة التي كان التشيع غالباً في أهلها، ثم شيع أتباعه بمئات الألوف بواسطة الصوفية ... وهكذا. المصدر: الكشف عن حقيقة الصوفية لمحمود عبد الرؤوف القاسم - ص 838، 839 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 64 المطلب الثاني: الموقف السلبي في مواجهة الصوفية وذلك بحجج هي أقبح من الصوفية، وهي متعددة، لكن أبرزها وأبشعها حجتان: 1 - قول من يقول: لا تفرقوا صفوف المسلمين. يقولها لمن يشرح للناس خطر الصوفية ويبين زيفها وضلالها؟! والجواب على هذه الحجة الفاسدة هو قوله سبحانه: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103]، أي: إن جمع الصفوف يكون بالاعتصام بالقرآن والسنة اللذين هما حبل الله، وتفريق الصفوف يكون بالابتعاد عنهما. وهذا الذي يقول لدعاة الحق: لا تفرقوا صفوف المسلمين، إنما يقدم العون الأكبر لاستشراء الداء وتفريق المسلمين وتمزيقهم، كما هو حاصل؛ وهو داخل في زمرة الموصوفين بالآية الكريمة: كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة:79]. 2 - قول من يقول: لا تكفر مسلماً! كيف تكفر رجلاً يشهد أن لا إله الا الله؟ والجواب على هذه الحجة الفاسدة هو أولاً: أن المسألة ليست مسألة تكفير مسلم، وإنما هي مسألة بيان الحق من الباطل والهدى من الضلال، ثم إن كل البلاء الذي أصاب الأمة ودمرها، جاء في الأساس على يد أناس يشهدون أن لا إله إلا الله ويضمرون ما يضمرون، وأكثرهم- إن لم يكونوا كلهم- مخلصون فيما جاءوا به ويعتقدون أنه الحق. كما أن الواجب على المسلم أن يعرف الحق أولاً، كما يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (اعرفوا الحق تعرفوا أهله)، وطبعاً، إذا عرفنا الباطل نعرف أهله أيضاً، ويجب أن نعرفه لنعرفهم. قد كان من واجب علماء المسلمين أن يدرسوا الصوفية دراسة واعية ثم ينبهوا الأمة إلى خطرها؛ لكن الذي حصل أن فطاحل العلماء كانوا لا ينظرون إلا إلى ظاهرها وإلى عباراتها المتداولة دون محاولة لتفهم حقيقة معانيها ومراميها، فما كان واضح الدلالة على وحدة الوجود، أي ما كان من عبارات الوحدة المطلقة، حكموا عليه بالكفر، وما كان غامضاً أولوه التأويل الحسن بحجة عدم تكفير المسلم؛ ولأنهم لم يحاولوا دراسة الصوفية بعمق، ولم يتنبهوا إلى تواصيهم بالتقية وكتمان السر عن غير أهله، وأن هذا السر كفر وزندقة! وعدم دراستهم للصوفية جعلهم يرتكبون أخطاءً كان لها دور واضح في بقاء مسيرة التصوف لتفعل فعلتها التي فعلت، ومن هذه الأخطاء: قولهم: إن في المتصوفة من يؤمن بوحدة الوجود، ومنهم من يقول بالاتحاد أو بالحلول، وفيهم الأتقياء الذين يسيرون على منهج الصوفية الحقة التي لا تؤمن بهذه الأمور. وطبعاً؛ هذا كلام خطأ كله، فالصوفية مذهب واحد، وعقيدتها هي وحدة الوجود، ولا يوجد بين متصوفة المسلمين من يقول أو يعتقد بالاتحاد أو الحلول، (لا يوجد ولم يوجد)، كما أن الذين لا يعرفون وحدة الوجود بينهم هم السالكون الذين لم يبلغوا بعد محل ثقة الشيخ. ومن هذه الأخطاء قولهم: إن في المتصوفة من يقول بالحقيقة المحمدية، ومنهم من لا يقول بها! وهذا خطأ كله؛ فالمتصوفون كلهم، حتى السالكون المبتدئون، تشرح لهم الحقيقة المحمدية ويؤمنون بها، وقد يسمونها أسماء أخرى، مثل: (أسبقية النور المحمدي، أو أول خلق الله ... ). وقد استغل المتصوفة هذا الموقف، وصاروا كلهم يقولون عن أنفسهم وعن مشايخهم وأتباعهم وأمثالهم: إنهم على الصوفية الحقة، ثم ينهالون بالشتائم على الدخلاء على الصوفية وعلى المبتدعة الذين يقولون بالحلول والاتحاد، أو الذين يقولون بالوحدة المطلقة (أي: غير المقيدة بالرمز واللغز). وهكذا بقيت مسيرة التصوف، وأوصلت الأمة إلى ما نراه الآن، مع العلم أنها الآن أقل سيطرة بكثير مما كانت عليه في قرون سابقة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 65 لكن بشيء من التدقيق، يتضح أن هاتين الحجتين السلبيتين هما أيضاً من نتاج الصوفية، ومن أساليب المتصوفة في الدفاع عن أنفسهم ومعتقدهم، حتى فشتا بين الأمة. إن هذه الأمراض والمفاسد، ارتكزت في سريانها في الأمة على مرضين خبيثين بعثتهما الصوفية في الأمة، هما: الجهل والعقم الفكري. الجهل: لولاه لما استطاعت هذه المفاسد - وغيرها- أن تجد لها مكاناً في المجتمعات الإسلامية، وقد رأينا في الفصول السابقة النصوص الكثيرة لأقطابهم وعارفيهم، التي يأمرون بها بالجهل والابتعاد عن العلم، بل وينفرون بها من مجرد معرفة القراءة والكتابة، وهي غيض من فيض، ولولا أن تلاوة القرآن فرض على المسلمين، ومعرفة الحلال والحرام فرض على فئة منهم، لنسيت القراءة والكتابة جملةً وتفصيلاً، والله وحده يعلم إلى ماذا كانت ستؤول إليه أحوال الأمة. العقم الفكري: نرى في مجتمعاتنا الحالية، الأمثلة الكثيرة الكثيرة على فرض الصوفية على المريدين أن يكونوا بين يدي الشيخ كالأموات بين أيدي الغاسلين، ورأينا، ونرى، كيف أن الفرد من المريدين لا يفكر لنفسه ولا لغيره، وإنما يذهب إلى الشيخ ليفكر له، ولا يطلب معرفة، بل يذهب إلى الشيخ ليفيض عليه من معارفه اللدنية، ولا يقضي أمراً حتى يرى الشيخ فيه رأيه ... إلخ. كانت هذه حالة كل الأمة، إلا من رحم الله، بل إن هذا (الحال) صار (مقاماً) عالياً، حتى كانوا لا يحاولون، بل يتواصون بعدم محاولة فهم نصوص القرآن والسنة إلا من الشيخ، فإذا أخطأ الشيخ، فخطؤه خير من صوابك! وإذا كان جاهلاً، فجهله خير من علمك! وإذا ناقضت أقواله النصوص، فاتباع فهمه هو الإيمان، واتباع فهمك هو الضلال! وإذا تناقضت أقوال الشيوخ فيما بينهم، فكلهم من رسول الله مقتبس (بالكشف طبعاً) ... إلى آخر القائمة ... ومثل هذا موجود حتى الآن. وبذلك سيطر العقم الفكري، بل الشلل الفكري على الأمة، حتى وصلت إلى ما هي عليه. إن الله سبحانه وتعالى لم يظلم المسلمين عندما سلط عليهم الاستعمار. حاشاه سبحانه وتعالى من الظلم؛ وإذا كان الجزاء من جنس العمل، فقد كان الاستعمار هو الدواء النجس لتلك العلة الخبيثة. وقد يسأل سائل: ألا يوجد في الصوفية إيجابيات؟ والجواب: نعم، لها إيجابيتان: 1 - الأدب الرمزي، إذ أن متصوفة المسلمين هم الذين ابتكروه لستر حقيقتهم، ولم ينتشر في العالم إلا بعدهم بقرون طويلة، ويظهر أن مبتكريه كانوا سابقين للجنيد في الزمان، لكن الجنيد هو الذي بلوره ووضع له القواعد والمصطلحات وكثيراً من عباراته التي يستعملونها. 2 - بعض التفاصيل التاريخية، حيث تقدم كتب المتصوفة صوراً من حياة المجتمعات الإسلامية وعاداتها لا نراها في غيرها، كما نستطيع من خلالها تفسير بعض إشارات الاستفهام التاريخية عند المسلمين وعند غيرهم أيضاً. المصدر: الكشف عن حقيقة الصوفية لمحمود عبد الرؤوف القاسم - ص 839 - 842 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 66 تمهيد لقد تبين لنا من خلال الدراسة السابقة لمظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية بأن المتصوفة بالفعل وقعوا في عقائد فاسدة تختلف مع العقيدة الإسلامية اختلافا بينا واضحا في الإلهيات والنبوات وفي باب الولاية وفي أبواب الزهد والقضاء والتوكل والجهاد وفي الجنة والنار. وقد تبين لنا أيضا الآثار السيئة التي أصابت الأمة الإسلامية نتيجة الانحرافات العقدية التي جلبها المتصوفة من الوثنيات القديمة والنصرانية واليهودية المحرفة ومن القباب والمساجد المبنية على القبور والتوجه إلى أصحابها بالدعاء والاستغاثة وإدخال نظريات إلحادية كالقول بوحدة الوجود والحلول والاتحاد وكذلك نشر بدعة المولد في العالم الإسلامي وما يفعل فيها من المفاسد الخطيرة بأنواعها وأشكالها وكذلك تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والآن في هذا الفصل أريد أن أقترح بعض الأمور التي أراها تكون سببا في الحد من انتشار هذا الفكر الصوفي المنحرف وهذه الاقتراحات تتلخص في الأشياء التالية: 1ـ تثبيت العقيدة الصحيحة في قلوب المسلمين وإعداد رجال يقومون بتدريسها. 2ـ القضاء على المظاهر التي تكون سببا لانتشار دعاء غير الله. 3ـ منع كتب الصوفية لئلا تكون متداولة بين الناس وكذلك منع دعاة التصوف من ممارسة نشاطهم حتى لا ينشروا هذه العقائد الفاسدة في أوساط المسلمين وذلك لأن الوقاية خير من العلاج كما يقولون. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 67 المبحث الأول: نشر العقيدة الصحيحة المأخوذة من الكتاب والسنة إن نشر العقيدة الصحيحة المأخوذة من الكتاب والسنة في المجتمع المسلم يعتبر أمرا أساسيا لحماية المسلمين من هذه الأفكار والعقائد الهدامة التي نشرها المتصوفة في الأمة الإسلامية وذلك لأن القلب الذي غرست فيه العقيدة الإسلامية الصحيحة التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والسلف من هذه الأمة ومن سار على نهجهم إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها يكتسب مناعة ضد العقائد الفاسدة والأفكار الهدامة فلا يقبلها بل يرفضها وينبذها. ولولا خلاء كثير من أفراد الأمة الإسلامية من العقيدة الصحيحة لما انتشرت هذه العقائد الباطلة في الأمة الإسلامية بهذه الصورة الفظيعة بل لوجدت الطريق أمامها مسدودا ورجعت على عقبيها القهقرى ولكن مع الأسف الشديد وجدت العالم الإسلامي يعيش في جهل دامس مظلم فانتشرت فيه هذا الانتشار الذي نراه اليوم حيث أصبحت العقائد الفاسدة هي المعلومة والمألوفة لدى الناس والعقيدة الصحيحة التي جاءت في الكتاب والسنة أصبحت مجهولة حتى أصبح الناس يستغربون من العقيدة الصحيحة إذا ذكرت لهم بينما يتقبلون العقائد الفاسدة بكل راحة وانبساط وذلك لأنهم ألفوا هذه العقائد التي شاب عليها الكبير وكبر عليها الصغير فأصبحت شيئا معتادا طبيعيا عندهم وهكذا أصبح المعروف منكرا والمنكر معروفا. والذي أراه من أهم الأشياء الذي يمكن من القضاء على هذه العقائد الفاسدة هو نشر العقيدة الصحيحة حتى تتمكن هذه العقيدة من قلوب المسلمين وذلك لأنه لا يمكن أن تمسح هذه العقائد الفاسدة من القلوب إلا إذا كان البديل متوفرا والحمد لله البديل متوفر وهو العقيدة الصحيحة الصافية التي تتلاشى أمامها جميع العقائد الباطلة وتزول نهائيا كما زالت من قبل حيث بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه الأمة وهي تعيش في الشرك والوثنية ومع ذلك فقد استطاعت العقيدة الإسلامية القضاء على تلك العقائد الشركية التي كانت منتشرة آن ذاك في الجزيرة العربية وغيرها من البلاد التي انتشرت فيها الإسلام حيث حلت العقيدة الإسلامية الصحيحة مكان تلك العقائد الباطلة من شركية ووثنية وإلحادية وغيرها فكذلك الآن العلاج الوحيد للقضاء على هذه العقائد الشركية المنتشرة في العالم الإسلامي هو بنشر العقيدة الإسلامية الصحيحة الصافية ويتم هذا باتخاذ الخطوات التالية: 1ـ ببيان التوحيد بأنواعه الثلاثة الألوهية والربوبية والأسماء والصفات. ففي توحيد الألوهية ينبغي أن نوضح للناس بأن توحيد الألوهية معناه هو إفراد الله بالعبادة ولهذا لا يجوز صرف عبادة من العبادات لغير الله سبحانه وتعالى فلا يدعي غيره ولا يستغاث بغيره ولا يذبح لغيره ولا يتوكل على غيره وغير ذلك من العبادات التي يجب أن يفرد الله بها مع التأكيد على أن غير الله لا يستحق شيئا من العبادات مهما علت درجته لا نبي ولا ولي لا إنسي ولا جني ولا ملائكة لأن الكل عبيد لله سبحانه. وفي توحيد الربوبية التركيز على التوضيح بأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الرازق المحيي المميت النافع الضار ولذا لا يجوز طلب منفعة أو دفع مضرة من غير الله سبحانه وتعالى لأنه هو المغيث لمن يستغيث به سبحانه. وفي توحيد الأسماء والصفات يجب التوضيح بأن الله سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال والجلال وأنه يجب على كل مسلم أن يصف الله بالصفات الواردة في الكتاب والسنة من غير تأويل ولا تحريف ولا تعطيل ولا تبديل. 2ـ ببيان الأركان التي يقوم عليها الإيمان وهي الأركان الستة وتوضيح معانيها توضيحا صحيحا. 3ـ ببيان الأركان التي يقوم عليها الإسلام وهي الأركان الواردة في الحديث المعلومة. 4ـ ببيان المعتقد الصحيح الذي يجب أن يعتقده المؤمن نحو عقيدة القضاء والقدر لأن هذه العقيدة انحرفت فيها فرق كثيرة من المبتدعة. 5ـ بوضع منهج دراسي صحيح موافق للكتاب والسنة واختيار معلمين يمتازون بالعقيدة الصحيحة المأخوذة من الكتاب والسنة وإبعاد المدرسين المنحرفين عن المدارس والمعاهد والجامعات حتى لا ينشروا العقائد المنحرفة الفاسدة. 6ـ بتسخير أجهزة الإعلام من صحافة ومجلات وجرائد وإذاعة وتلفزيون لنشر مبادئ الإسلام وتوضيح العقيدة الصحيحة للناس حتى يصبح الناس على بينة من عقيدتهم. 7ـ ببيان المعتقد الصحيح الذي يجب أن يعتقده المؤمن نحو عقيدة التوكل على الله لأن هذه العقيدة انحرف فيها فرق المبتدعة. المصدر: مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية لإدريس محمود إدريس - 3/ 1191 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 68 المبحث الثاني: القضاء على المظاهر التي تكون سببا في انتشار الشرك كالقباب والمساجد المبنية على القبور والأشجار والأحجار التي تعبد من دون الله لقد بين لنا فيما سبق في الآثار السيئة التي نشرها المتصوفة في العالم الإسلامي بأن الغلو في الصالحين وبناء القباب والمساجد على قبورهم كان من أهم الأسباب التي ساعدت على انتشار دعاء غير الله عز وجل وما دام ألأمر كذلك فلا يمكن أن يقف هذا الزحف الصوفي إلا إذا أزيلت هذه القباب والمساجد المبنية على القبور والتي أصبح الناس يتوجهون إليها من دون الله سبحانه وتعالى. وليس هذا بشيء غريب فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر بهدم مسجد الضرار الذي بناه المنافقون من أجل التفريق بين المسلمين والإضرار بهم وكذلك كثير من الصحابة كانوا يحرصون على القضاء على كل شيء يخالفون منه الفتنة في الدين وكذلك كثير من العلماء الكبار أمر بهدم أشياء كانت سببا لفتنة الناس في عقائدهم بل منهم من هدمها بنفسه وهدم مسجد الضرار دليل قوي واضح على وجوب هدم ما هو أعظم منه فسادا مثل هذه المساجد المبنية على القبور والتي نراها منتشرة في عالمنا الإسلامي من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه ووسطه إلى ما شاء الله من البلاد التي أنعم الله عليها بدعوة التوحيد السلفية وذلك لأن حكم الإسلام في هذه المساجد والقباب المبنية على القبور هو أن تهدم كلها حتى تسوي بالأرض لأنها هي أولى بالهدم من مسجد الضرار الذي أمر الرسول بهدمه فهدم وكذلك القباب المبنية على القبور يجب هدمها لأنها أسست على معصية الله ورسوله وذلك كما علمنا سابقا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهي نهيا قاطعا عن البناء على القبور وأمر بتسوية ما بني منها عليه وذلك حتى يقضي على كل المظاهر التي تكون سببا في وقوع الأمة في الإشراك بالله تعالى. فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي رضي الله عنه قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ((ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته)) (1). فهذا الحديث دليل قاطع على وجوب إزالة كل الأشكال التي تكون سبب للوقوع في عبادة غير الله تعالى من التماثيل والمباني التي تشيد على القبور. وأخرج الإمام مسلم أيضا في صحيحه عن ثمامة بن شفي قال: ((كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم بروس فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوي ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها)) (2). وهذا الحديث دليل قاطع على وجوب تسوية القبور والتحذير من رفعها فما بالك بالبناء عليها المساجد والقباب طبعا هذا من باب أولى ممنوع شرعا وإذا كان كذلك فينبغي هدم ما بني عليه منها وذلك إزالة للفتنة. ومن الأدلة على وجوب هدم كل شيء يخشى منه الفتنة هدم الرسول صلى الله عليه وسلم لمسجد الضرار والذي قال الله في كتابه وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة: 107] قال الشيخ الجزائري:   (1) رواه مسلم (969) (2) رواه مسلم (968) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 69 (مسجد الضرار عبارة عن وكر مؤامرات أقيم لمناوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين في المدينة بناه اثنا عشر رجلا من كبار المنافقين ولما فرغوا منه أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز لغزوة تبوك وطلبوا منه أن يأتيهم ويصلي لهم فيه ليأخذ الصبغة الشرعية وإنهم لكاذبون إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتذر لهم بقوله (إني على جناح سفر وحال شغل) أو كما قال ووعدهم أن يصلي فيه بعد عودته. ولما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك وعاد ووصل إلى ذي أوزان أو نزل بها وهي على ساعة من المدينة أتاه خبر المسجد إذ نزل فيه قرآن: وهو قوله وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا [التوبة: 107] الآية فدعا صلى الله عليه وسلم اثنين من أصحابه وهما مالك بن الدخشم أخو بني سالم بن عوف ومعن بن عدي أخو بني العجلان فقال: ((انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه)) (1) وفعلا أتياه فهدماه وتفرق أهله وتركوه للنار تلتهمه (2). فما دام أمر الرسول بهدم هذا المسجد لأنه بناه أصحابه بقصد حبك المؤامرة فيه على المسلمين فكذلك يجب هدم القباب والمساجد المبنية على القبور التي تعبد من دون الله لأنها فتنت المسلمين وأوقعتهم في الشرك بالله. قال الإمام ابن القيم بعد أن ذكر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بهدم مسجد الضرار: (فهدم القباب والبناء والمساجد التي بنيت على القبور أولى وأحرى لأنه لعن متخذي المساجد عليها ونهي عن البناء عليها فيجب المبادرة والمسارعة إلى هدم ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله ونهي عنه والله عز وجل يقيم لدينه وسنة رسوله من ينصرهما ويذب عنهما فهو أشد غيرة وأسرع تغييرا وكذلك يجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر وطفيه فإن فاعل ذلك ملعون بلعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يصح هذا الوقف ولا يصح إثباته وتنفيذه) (3). ومما يدل على وجوب هدم المشاهد التي تكون سببا لوقوع الناس في الشرك بالله ما ذكره الإمام ابن القيم إن أهل الطائف بعد فتحها سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يهدم الطاغية ثلاث سنين فأبى عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر بهدمها فورا وهذا يدل على وجوب إزالة كل الأشياء التي تكون سببا لوقوع المسلمين في فتنة الشرك وأنه لا يجوز تركها مع القدرة عليها. وإليك نص كلام الإمام ابن القيم رحمه الله وهو يتحدث عن الفقه الذي يستفاد من تلك الغزوة: (ومنها أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما واحدا فإنها شعائر الكفر والشرك وهي أعظم المنكرات فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة ألبتة وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا وطواغيت تعبد من دون الله والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذر والتقبيل لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى أو أعظم شركا عندها وبها والله المستعان.   (1) رواه ابن جرير في تفسيره (14/ 468) (2) ((هذا الحبيب يا محب)) للشيخ الجزائري (ص: 435) انظر ((عيون الأثر)) (ص: 285) ((سيرة ابن هشام)) (4/ 1369) ((مختصر زاد المعاد)) لمحمد بن عبد الوهاب (ص: 282) ((الدرر)) لابن عبد البر (ص: 257) ((حياة الرسول المصطفى)) (2/ 536) ((خاتم النبيين)) لأبي زهرة (2/ 291). (3) ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/ 210). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 70 ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق وترزق وتميت وتحيي وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة وأخذوا مأخذهم شبرا بشبر وذراعا بذراع وغلب على الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم فصار المعروف منكرا والمنكر معروفا والسنة بدعة والبدعة سنة ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير وطمست الأعلام واشتد البأس وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين ولأهل الشرك والبدع مجاهدين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. ومنها جواز صرف الإمام الأموال التي تصير إلى هذه المشاهد والطواغيت في الجهاد ومصالح المسلمين فيجوز للإمام بل يجب عليه أن يأخذ أموال هذه الطواغيت التي تساق إليها كلها ويصرفها على الجند والمقاتلة ومصالح الإسلام كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أموال اللات وأعطاها لأبي سفيان يتألف بها وقضى منها دين عروة والأسود وكذلك يجب عليه أن يهدم هذه المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا وله أن يقطعها للمقاتلة أو يبعها ويستعين بأثمانها على مصالح المسلمين وكذلك الحكم في أوقافها فإن وقفها فالوقف عليها باطل. وهو مال ضائع فيصرف في مصالح المسلمين فإن الوقف لا يصح إلا في قربة وطاعة لله ورسوله فلا يصح الوقف على مشهد ولا قبر يسرج عليه ويعظم وينذر له ويحج إليه ويعبد من دون الله ويتخذ وثنا من دونه وهذا مما لا يخالف فيه أحد من أئمة الإسلام ومن اتبع سبيلهم) (1). وقال الإمام ابن القيم أيضا وهو يتحدث عن أهل الطائف بعد أن فتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وقد كانوا فيما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم الطاغية وهي اللات لا يهدمها ثلاث سنين فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فما برحوا يسألونه سنة ويأبى عليهم حتى سألوه شهرا واحدا بعد قدومهم فأبى عليهم أن يدعها شيئا مسمى فأرسل المغيرة بن شعبة معه أبو سفيان فهدماها) (2). وهذا يدل على أنه يجب هدم المشاهد التي تكون سببا لوقوع الناس في الشرك بالله عز وجل وأنه لا يجوز التباطؤ في هدمها مع القدرة لأنها من أخطر الأسباب التي توقع الأمم في الشرك والخرافة كما هو حاصل اليوم في عالمنا الإسلامي بسبب ما نشره المتصوفة من البناء على القبور المساجد والقباب ودعوة الناس للطواف حولها حيث إنك قل أن تجد مدينة أو قرية في العالم الإسلامي بأسره إلا ما شاء الله إلا وفيها قبر بني عليه القبة والمسجد ويتوجهون الناس إليه لقضاء حوائجهم وأنا أؤكد بأنه لا يمكن أن يقضى على الشرك إلا إذا أزيلت الأسباب التي وقع بسببها لأن العلاج الناجح لكل مرض لإزالته هو معرفة السبب والقضاء عليه وألا يكون العلاج سطحيا. ومما يدل على وجوب هدم كل شيء يؤدي إلى فتنة المسلمين في دينهم وإزالته قول الإمام أبي بكر الطرطوشي حيث قال رحمه الله. (انظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها ويرجون البرء والشفاء من قبلها ويضربون بها المسأمير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها) (3). وهذا الكلام الذي قاله الطرطوشي بفعله المتصوفة مع أوليائهم بل يفعلون أكثر منه بكثير ولذا يجب هدم تلك المشاهد التي شيدها المتصوفة على قبور من يسمونهم أولياء لأنها أصبحت أكبر فتنة للمسلمين حيث صرفتهم عن عبادة الله عبادة أصحاب تلك المشاهد المشيدة على القبور.   (1) ((زاد المعاد في هدي خير العباد)) (3/ 506). (2) ((زاد المعاد)) (3/ 499). (3) ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/ 211). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 71 وقد ذكر الحافظ أبو محمد عبدالرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتابه (الحوادث والبدع) ما صنعه بعض أهل العلم ببلاد أفريقيا: (أنه كان إلى جانبه التابعين تسمى التابعين العافية قد افتتنوا بها يأتونها من الآفاق فمن تعذر عليه نكاح أو ولد قال امضوا بي إلى العافية فيعرف فيها الفتنة فخرج في السَحَر فهدمها وأذن للصبح عليها ثم قال: اللهم إني هدمتها لك فلا ترفع لها رأسا قال: فما رفع لها رأس إلى الآن) (1). وقد قال الإمام ابن القيم: (وقد كان بدمشق كثير من هذه الأنصاب فيسر الله سبحانه كسرها على يد شيخ الإسلام وحزب الله الموحدين كالعمود المخلق والنصب الذي كان بمسجد التاريخ عند المصلى يعبده الجهال والنصب الذي كان تحت الطاحون الذي عند مقابر النصارى ينتابه الناس للتبرك به وكان صورة صنم في نهر القلوط ينذرون له ويتبركون به وقطع الله سبحانه النصب الذي كان عند الرحبة يسرج عنده ويتبرك به المشركون وكان عمودا طويلا على رأسه حجر كالكرة وعند مسجد درب الحجر نصب قد بني عليه مسجد صغير يعبده المشركون يسر الله كسره) (2). (ومما يدل على وجوب إزالة وهدم كل شيء يخشى من بقائه الفتنة ما روي عن المعرور بن سويد قال: صليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في طريق مكة صلاة الصبح فقرأ فيها أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل: 1] ولإِيلافِ قُرَيْشٍ [قريش: 1]. ثم رأى الناس يذهبون مذاهب فقال أين يذهب هؤلاء؟ فقيل: يا أمير المؤمنين مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم فهم يصلون فيه فقال: ((إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد فليصل ومن لا فليمض ولا يتعمدها)) (3).وأيضا لما بلغ عمر بن الخطاب أن الناس ينتابون الشجرة التي بايع تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابها أرسل فقطعها) (4).ومما يدل على إزالة كل شيء يخشى منه فتنة المسلمين في دينهم وانحرافهم عن عقيدتهم الإسلامية الصحيحة ما ذكره محمد بن إسحاق في مغازيه من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار قال حدثنا أبو العالية قال لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف له فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فدعا له كعبا فنسخه بالعربية فأنا أول رجل من العرب قرأه قرأته مثل ما أقرأ القرآن فقلت لأبي العالية ما كان فيه؟ قال سيرتكم وأحوالكم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد قلت فما صنعتم وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس حتى لا ينبشونه فقلت وما يرجون منه قال كانت السماء إذا حبست عنهم أبرزوا السرير فيمطرون فقلت من كنتم تظنون الرجل قال رجل يقال له دانيال فقلت مذ كم وجدتموه قال مذ ثلاثمائة سنة قلت ما كان تغير منه شيء قال لا إلا شعيرات من قفاه إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع) (5). والذي يهمنا من إيراد هذه القصة هو أن المهاجرين والأنصار حاولوا التبرك به ولو ظفر به المتصوفة عباد القبور لجالدوا عليه بالسيوف ليتخذوه معبودا من دون الله وكيف لا وقد اتخذوا من القبور أوثانا من لا يصل إلى مستوى هذا الرجل بل ولا يقاربه وأقاموا لها سدنة وجعلوها معابد مقدسة.   (1) ((الحوادث والبدع)) لأبي شامة (ص: 96). (2) ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/ 212). (3) رواه ابن وضاح (99) وعبد الرزاق في ((المصنف)) (2/ 118) (2734) وصححه الألباني في ((فضائل الشام)) (18) (4) ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/ 204). (5) ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/ 203) ((فتوح البلدان)) للبلاذري (2/ 466). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 72 ووجه الاستدلال بهذه القصة للمبحث: بما أن الصحابة الكرام أعموا قبر هذا الرجل خشية افتتان الناس به فكذلك يجب إزالة وهدم كل شيء يؤدي إلى فتنة الناس وانحرافهم عن عقيدة التوحيد الصحيحة. والخلاصة أن من أنجع العلاج للتخلص من هذا الشرك المنتشر في الأمة الإسلامية هو القضاء نهائيا على الأسباب التي أدت إلى انتشاره والتي تتمثل في بناء القباب والمساجد على القبور والتوجه إلى أصحابها بالدعاء والاستغاثة وتقديم النذور والقرابين لها والطواف حولها كالكعبة وبدون إزالة هذه القباب والمشاهد المبنية التي نشرها دعاة التصوف في العالم الإسلامي ولسنا نحن أول من قال بهذا بل لقد أمر الرسول الكريم بتسوية القبور وعدم رفعها وأمر ما رفع منها أن يسوى وأمر أن تطمس التماثيل والمشاهد التي كان يعبدها المشركون ولم يتركها ولو لحظة واحدة بل بادر إلى هدمها وإزالتها فور تمكنه من إزالتها وقال بهذا أكثر علماء الأمة الإسلامية ولو فعلوه بأنفسهم كما سبق لنا آنفا في هذا المبحث. ولنختم هذا المبحث بقولين لإمامين عظيمين من أئمة الإسلام فإنه مفيد في هذا المجال ألا وهو بيان أن الإسلام يحرم هذه المشاهد التي نشرها المتصوفة في العالم الإسلامي فوقع كثير من أفراد الأمة الإسلامية بسببها في الشرك بالله. قال الإمام ابن القيم بعد أن ذكر جملة من الأحاديث التي نهي فيها الرسول صلى الله عليه وسلم عن بناء المساجد على القبور: (والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور المتخذينها أعياداً الموقدين عليها السرج الذين يبنون المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم محادون لما جاء به وأعظم كاتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها وهو من الكبائر وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه إلى أن قال .. وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عباد الأصنام) (1). (ورفع القبور ووضع القباب والمساجد والمشاهد عليها قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله تارة وتارة قال: ((اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (2) وتارة نهي عن ذلك وتارة بعث من يهدمه وتارة جعله من فعل اليهود والنصارى وتارة قال: ((لا تتخذوا قبري وثنا)) (3) وتارة قال: ((لا تتخذوا قبري عيدا)) (4) أي موسما يجتمعون فيه كما صار يفعله كثير من عباد قبورهم ينسكون من الأموات أوقاتا معلومة يجتمعون فيها عند قبورهم ينسكون لها المناسك ويعكفون عليها كما يعرف ذلك كل أحد من الناس من أفعال هؤلاء المخذولين الذين تركوا عبادة الله الذي خلقهم ورزقهم ثم يميتهم ويحييهم وعبدوا عبدا من عباد الله صار تحت أطباق الثرى) (5). ومع أن الإسلام نهي عن بناء المساجد والقباب على القبور والتوجه إليها بالدعاء والاستغاثة والنذور والقرابين والطواف حولها أصر المتصوفة على الوقوع فيما حذر منه الإسلام فبنو االقباب والمساجد على القبور وأمروا الناس أن يتوجهوا إليها من دون الله فاستجاب لهم الكثير من هذه الأمة فوقعوا في شركيات خطيرة ولذا يجب إزالة هذه المساجد والقباب التي شيدت على القبور لأنها مخالفة للإسلام وليس هناك أي نزاع بين العلماء الذين يحكمون النصوص القرآنية والنبوية في الحلال والحرام في وجوب إزالة هذه المشاهد وإنما من الممكن أن يدافع عنها القبوريون لأنها آلهتهم التي يعبدونها من دون الله ولا عبرة لخلافهم وأقوالهم لأنها خالية من الأدلة التي تعتمد عليها وما هي إلا مجرد أقوال يقولونها متبعين أهوائهم محاولة منهم لتبرير الشرك. المصدر: مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية لإدريس محمود إدريس - 3/ 1196   (1) ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/ 196). (2) رواه عبد الرزاق (1/ 406) (1587) عن زيد بن اسلم مرسلا، ومالك (1/ 172) (414)، وابن سعد (2/ 240) عن عطاء بن يسار مرسلا، والحميدى (2/ 445) (1025)، والديلمى (1/ 493) (2010) عن أبي هريرة، قال ابن عبدالبر في ((التمهيد)) (5/ 41) مرسل غريب وهو صحيح، وصححه الألباني في ((المشكاة)) (715) (3) لم يرد بهذا اللفظ، وورد بلفظ (اللهم لا تجعل قبري وثنا ... ) رواه مالك (1/ 172) (414) وأحمد (2/ 246) (7352) وصححه الألباني في ((غاية المرام)) (126) (4) رواه أحمد (2/ 367) (8790) وأبو يعلى (1/ 361) (469) ورواه أبو داود (2042) بلفظ (تجعلوا) بدل (تتخذوا) والحديث صححه الألباني في ((أحكام الجنائز)) (5) انظر ((شرح الصدور بتحريم رفع القبور)) للشوكاني ضمن ((الجامع الفريد)) (ص: 256). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 73 المبحث الثالث: منع كتب الصوفية لئلا يتداولها الناس ومنع دعاة التصوف ودراسة كتبهم من قبل شخصيات لها حصانة عقدية لكشف زيفها لقد بينا في المبحث السابق بأن من أم العوامل التي تساعد على الحد من انتشار الزحف الصوفي في العالم الإسلامي هو القضاء على المظاهر التي تكون سببا لوقوع الأمة في الشرك بالله عز وجل والتي تتمثل في هذه المساجد والقباب المبنية على القبور المنتشرة في العالم الإسلام على اتساعه وبينا بأن موقف الإسلام من هذه المشاهد هو تحريم إقامتها مبدئيا والمبادرة بأسرع ما يمكن إلى هدم ما بني منها حتى لا يفتتن الناس في دينهم بسببها وقد أثبتنا ذلك بأدلة من السنة النبوية وأقوال الصحابة وأفعالهم وأقوال علماء الأمة الإسلامية وأفعالهم عبر التاريخ. وفي هذا المبحث نحب أن نذكر أسلوبا من أساليب مقاومة هذا الفكر الصوفي المنحرف وهذا الأسلوب هو منع كتب المتصوفة من دخول الأسواق وذلك حتى لا تقع في أيدي الناس فيقع كثير منهم في مفاهيم خاطئة وانحرافات عقدية خطيرة كما هو واقع اليوم في عالمنا الإسلامي حيث انتشرت هذه الكتب بين الأمة الإسلامية فوقع الكثير منهم في انحرافات عقدية خطيرة وخاصة في توحيد الألوهية حيث يتوجه عدد كبير من أفراد الأمة الإسلامية إلى القبور بشتى أنواع العبادات كالدعاء والاستغاثة والذبح والنذر والطواف معرضين عن الله سبحانه وتعالى وذلك بسبب الأباطيل والأكاذيب التي يحكيها مؤلفوا كتب المتصوفة من الأولياء يقدرون على قضاء مطالب من توجه إليهم من المريدين وهذا واقع مشاهد نعايشه ونراه بأم أعيننا ولا يستطيع أحد أن ينكر هذا إلا معاند مكابر منكر للحقيقة الظاهرة الواضحة كوضوح الشمس في رابعة النهار وبجانب منع كتب المتصوفة يجب أيضا منع الدعاة الذين يحملون الفكر الصوفي من مزاولة تدريس الناس عامة في المساجد والمدارس وحتى في بيوتهم الخاصة التي يتخذونها غالبا أوكارا لممارسة بدعهم ونشر سمومهم بين الناس وذلك حتى لا يلوثوا المجتمع بأفكارهم الضالة التي إذا انتشرت بين مجتمع ما تحوله إلى مجتمع مشرك خرافي لا قيمة له في الدنيا والآخرة ومجال التعليم الحقيقة يعتبر مجالا هاما جدا فينبغي الحرص عليه بحيث يوضع له المنهج الصحيح للتدريس وكذلك لا يوضع أو يعين في تدريس النشء وحتى إدارة المدارس والمعاهد ينبغي أن لا تستند إلا إلى رجال معروفين بالتوجه الصحيح الذين يتمتعون بصحة العقيدة وسلامة المنهج فإن فساد النشء يعني فساد الأمة بكاملها لأنهم رجال المستقبل وإلى جانب عزل الذين يحملون الفكر الصوفي نهائيا عن المجتمع ينبغي تحذير من عرف منهم بعينه من ممارسة نشاطه حتى لا يفسد الأمة بنشر عقائده الضالة التي حملها من الوثنيات القديمة كالبوذية والمسيحية واليونانية. وبجانب منع كتب التصوف ودعاة التصوف ينبغي دراسة كتب التصوف من قبل شخصيات لها كفاءة وحصانة عقدية لكشف زيفها وإثبات بأنها عقائد خرافية باطلة دخيلة على الإسلام وليست منه وذلك لأن الكثير من الأمة الإسلامية لا يعرفون عقائد الصوفية الباطلة التي تحتوي عليها كتبهم الضالة وإنما يظن كثير من أفراد الأمة الإسلامية العوام بل وحتى العلماء الذين لم يأخذوا القسط الكافي من علم الكتاب والسنة يظنون أن الطرق الصوفية ما هي إلا طرق تدعو الناس إلى الزهد في الدنيا والاهتمام بأمور الآخرة وتهتم بتربية الإنسان تربية إسلامية إلى أن يصبح من أولياء الله. وقد واجهت الكثير ممن يحسبون على العلم والعلماء يدافعون عن الصوفية ويدعون بأن الصوفية ليس فيها أي انحرافات عقدية نهائيا وقد جرى بيني وبين كثير منهم مناقشات حادة كان النصر فيا حليفا لي فيها لأنهم ليس لهم أي أدلة يثبتون بها حججهم وإنما كل مناقشاتهم تعتمد على الأهواء المجردة فقط بدون التقيد بالأدلة الشرعية والحقيقة كنت أقدم لهم أثناء المناقشة نصوصا من بطون كتب المتصوفة أنفسهم فكانوا يستغربون جدا وقد رجع أفراد منهم من المشي وراء الطرق الصوفية والحمد لله. والمقصود من هذا الكلام هو أن الكثيرين تخفى عليهم ما تحتويه كتب الصوفية من الأباطيل والعقائد الفاسدة المملوءة بها ولذا أحبذ أن يكتب المتخصصون في العقيدة في الفكر الصوفي فإنه بحاجة ماسة إلى مزيد من الكتابة من أكثر من شخص وفي الحقيقة أنا بنفسي ما كنت أعرف عن التصوف هذه الحقائق التي توصلت إليها بعد اطلاعي على كتبهم وقد ذهلت من تلك الأباطيل التي تحتوي عليها تلك الكتب. وفي النهاية أقول: إن دراسة كتب الصوفية والرد عليها أراه من أهم الأساليب الناجحة في فضح عوار الفكر الصوفي والوثني المنحرف الذي نشر الشرك والوثنية في العالم الإسلامي بأسره إلا ما شاء الله وقليل ما هم. المصدر: مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية لإدريس محمود إدريس - 3/ 1208 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 74 الفصل الأول: تاريخ نشأة الطرق الصوفية يبدو أن أول صوفي وضع نظام الطرق الصوفية هو الصوفي الإيراني محمد أحمد الميهمي المتوفى سنة 430هـ والمعروف باسم أبي سعيد، فقد أقام في بلدته نظاماً للدراويش، وبنى خاناً بجوار منزله للصوفية، وجعل نظام تسلسل الطريق عن طريق الوراثية، ويبدو كذلك أنه من أوائل من كتب في طريقة التربية الصوفية وهو سابق على عبدالكريم القشيري صاحب (الرسالة القشيرية) والتي كتب فيها صاحبها أيضاً طائفة كبيرة من طرق التربية الصوفية والقشيري توفي سنة 465هـ, وكان مولده سنة 376هـ, وأما مولد أبي سعيد فقد كان في سنة 357هـ, فهو أكبر من القشيري وأقدم. وقد قيل إنه اتصل بعبدالرحمن السلمي، صاحب كتاب (الطبقات)، وأخذ عنه الحرفة الأولى، واتصل كذلك بأبي العباس القصاب وأخذ عنه الحرفة الثانية. وقد انتشر بعد ذلك في القرنين الخامس والسادس الهجريين نظام الطرق الصوفية وانتقلت من إيران إلى المشرق العربي فظهرت الرفاعية والقادرية في العراق، والأحمدية والشاذلية في مصر، ثم ظهرت بعد ذلك الدسوقية في مصر أيضاً، ثم تتابع ظهور الطرق الجديدة وكذلك الطرق المتفرعة من طرق قديمة حتى أصبحت الطرق تعد بالآلاف. وغالباً ما تسمى الطريقة باسم مؤسسها، وأحياناً تسمى باسم خاص (كالختمية) مثلاً (والزوامة) نسبة إلى الزم لأن ذكرهم (بالزوم) (وهي كلمة عامة مصرية معناه إخراج صوت معروف يخرج من الأنف والفم مقفول بعد الميم). المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق – ص 349 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 75 الفصل الثاني: معنى الطريقة الصوفية الطريقة الصوفية تعني أولاً النسبة إلى شيخ يزعم لنفسه الترقي في ميادين التصوف والوصول إلى رتبة الشيخ المربي. ويدعي لنفسه بالطبع رتبة صوفية من مراتب الأولياء عند الصوفية كالقطب والغوث والوتد والبدل .. الخ. ولا بد أن يكون من أهل الكرامات والمكاشفات، ويكون له بالطبع ذكر خاص به، يزعم كل واحد منهم أنه تلقاه من الغيب إما من الله رأساً، أو نزل منه سبحانه مكتوباً، أو من الرسول صلى الله عليه وسلم في اليقظة أو في المنام، أو من الخضر عليه السلام .. المهم لا بد أن يكون له ذكر خاص ينفرد به عن سائر الطرق، ولا بد أن يكون لهذا الذكر الخاص ميزة خاصة وفضل خاص أكبر من الموجود في القرآن والسنة، وأفضل مما عند الطرق الأخرى وهذا بالطبع لجلب (الزبائن) لهذا الطريق الخاص. ثم لا بد أن يكون لكل طريق شعائر خاصة، فلون العَلم والخرقة لون مميز، وطريقة الذكر الصوفي مميزة، ونظام الخلوة مميز، وهكذا؛ والطرق الحديثة غالباً ما يتوارثها الأبناء عن الآباء وذلك أن الطريقة التي تستطيع جلب عدد كبير من المريدين والتابعين والأنصار تصبح بعد مدة يسيرة إقطاعية دينية عظيمة تفد الوفود إلى رئيسها (شيخها) من كل ناحية، وتأتيه الإتاوات والصدقات والهبات والبركات من كل حدب وصوب وحيثما حل الشيخ في مكان ذبحت الطيور والخرفان وأقيمت الموائد الحسان، ولذلك فإن أصحاب هذه الطرق يقاتلون اليوم عنها بالسيف والسنان. وعامة الذين يؤسسون الطرق بل جميعهم يصلون نسبهم بالرسول صلى الله عليه وسلم ويجعلون أنفسهم من آل بيته. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق – ص 350 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 76 المبحث الأول: التعريف التجانية: فرقة صوفية يؤمن أصحابها بجملة الأفكار والمعتقدات الصوفية ويزيدون عليها الاعتقاد بإمكانية مقابلة النبي صلى الله عليه وسلم، مقابلة مادية واللقاء به لقاءً حسيًّا في هذه الدنيا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد خصهم بصلاة (الفاتح لما أُغلق) التي تحتل لديهم مكانة عظيمة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 77 المبحث الثاني: التأسيس وأبرز الشخصيات - المؤسس هو: أبو العباس أحمد بن محمد بن المختار ابن أحمد بن محمد سالم التيجاني، وقد عاش مابين (1150 - 1230هـ) (1737 ـ 1815م) وكان مولده في قرية عين ماضي من قرى الصحراء بالجزائر حاليًّا. ـ حفظ القرآن الكريم ودرس شيئاً من الخليل. ـ درس العلوم الشرعية، وارتحل متنقلاً بين فاس وتلمسان وتونس والقاهرة ومكة والمدينة ووهران. ـ أنشأ طريقته عام (1196هـ) في قرية أبي سمغون وصارت فاس المركز الأول لهذه الطريقة، ومنها خرجت الدعوة لتنتشر في أفريقيا بعامة. ـ أبرز آثاره التي خلَّفها لمن بعده زاويته التيجانية في فاس، وكتابه (جواهر المعاني) وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس التيجاني الذي قام بجمعه تلميذه علي حرازم. المصدر: الموسوعة الميسرة ولم يترك التجاني بدعة قديمة للتصوف إلا ابتدعها ولا فضلاً مزعوماً ادعاه شيخ صوفي لنفسه إلا ادعاه هو لنفسه وزاد عليه، فقد ادعى أنه هو خاتم الأولياء جميعاً والغوث الأكبر في حياته وبعد مماته، وأن أرواح الأولياء منذ آدم إلى آخر ولي لا يأتيها الفتح والعلم الرباني إلا بواسطته هو، وأن قدمه على رقبة كل ولي لله تعالى من خلق آدم إلى النفخ في الصور، وأنه أول من يدخل الجنة هو وأصحابه وأتباعه، وأن الله شفعه في جميع الناس الذين يعيشون في قرنه الذي عاش فيه، وأن الرسول أعطاه ذكراً يسمى صلاة الفاتح يفضل أي ذكر قرئ في الأرض ستين ألف مرة بما في ذلك القرآن الكريم المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق – ص 351 من مشاهيرهم بعد المؤسس: ـ علي حرازم أبو الحسن بن العربي برادة المغربي الفاسي وقد توفي في المدينة النبوية. ـ محمد بن المشري الحسني السابحي السباعي (ت1224هـ) صاحب كتاب (الجامع لما افترق من العلوم) وكتاب (نصرة الشرفاء في الرد على أهل الجفاء). ـ أحمد سكيرج العياشي 1295 ـ 1363هـ ولد بفاس، ودرس في مسجد القرويين، وعين مدرسًا فيه، تولى القضاء، وزار عددا من مدن المغرب، وله كتاب (الكوكب الوهاج) وكتاب (كشف الحجاب عمن تلاقى مع سيدي أحمد التيجاني من الأصحاب). ـ عمر بن سعيد بن عثمان الفوتي السنغالي: ولد سنة 1797م في قرية الفار من بلاد ديمار بالسنغال حاليًّا، تلقى علومه في الأزهر بمصر، ولما رجع إلى بلاده أخذ ينشر علومه بين الوثنيين ، وكانت له جهود طيبة في مقاومة الفرنسيين. وقد كانت وفاته سنة 1283هـ، وخلفه من بعده اثنان من أتباعه، وأهم مؤلفاته (رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم) الذي كتبه سنة 1261هـ - 1845م. ـ محمد عبد الحافظ بن عبد اللطيف بن سالم الشريف الحسني التيجاني المصري 1315 ـ 1398هـ وهو رائد التيجانية في مصر، وقد خلف مكتبة موجودة الآن في الزاوية التيجانية بالقاهرة وله كتاب (الحق والخلق)، وله (الحد الأوسط بين من أفرط ومن فرط)، و (شروط الطريقة التيجانية) كما أسس مجلة (طريق الحق) سنة 1370 ـ 1950م. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 78 المبحث الثالث: مصادر التجانية يستقي التجانيون عقائدهم وسلوكهم من غير كتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فمصادر تلقيهم لدينهم عقيدة وفكرا من كتب الصوفية عموما وخاصة كتب ابن عربي والغزالي والحلاج ونحوهم غير أن مرجعهم الأول والأهم هو ما سطره علي حرازم تلميذ أحمد التجاني في كتاب سماه (جواهر المعاني وبلوغ المرامي) وهذا الكتاب أهم من كتاب (المقصد الأحمد) للكتاني, ومن كتاب (ميزان الرحمة الربانية في التربية بالطريقة التجانية) والذي يعتبر خلاصة كتاب (الفتوحات المكية) لابن عربي, ومن المصادر المهمة جداً عند القوم كتاب (رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم) لعمر الفوتي, وبعدها يأتي كتاب (الجامع لما افترق من العلوم الفائضة من القطب المكتوم) لمحمد بن المشري, وكتاب (السر الباهر فيما انفرد به الجامع عن الجواهر) لأحمد سكيرج, جمع فيه الأقوال من (جواهر المعاني) وزاد عليه زيادات أخرى, وكتاب (الإفادة الأحمدية) للحاج الطيب السفياني, جمع فيه المؤلف ما سمعه من أحمد التجاني مشافهة أو بلغة على لسان من سمع منه وقد رتبه على حروف المعجم, ثم اختصره في كتاب أسماه (كشف الحجاب) وجعل عليه شرحا أسماه (الإجادة على الإفادة) وكتاب (بغية المستفيد شرح منية المريد) لمحمد العربي السائح العمري التجاني, شرح فيه مؤلفه ما جاء في (منية المريد) من نظم لأحمد بن بابا الشنقيطي التجاني, وكتاب (ميزاب الرحمة الربانية في التربية بالطريقة التجانية) لعبيدة بن محمد التشيتي, وكتاب (الدرة الخريدة على الياقوتة الفريدة) لمحمد فتحا السوسي النظيفي, وهو عبارة عن شرح لمنظومة في الطريقة التجانية اسمها (الياقوتة الفريدة) وكتاب (الجيش الكفيل بأخذ الثار ممن سل على الشيخ التجاني سيف الإنكار) لمحمد بن محمد الصغير الشنقيطي, وهناك بعض الكتب منسوبة للتجانية إلا أن التجانيون تبرؤوا منها ((1). المصدر: مجلة الحكمة- عبد العزيز بن عمر الغامدي- ص260   (1) انظر: ((رماح حزب الرحيم)) (2/ 283) , ((جناية المنتسب العاني)) (2/ 72) , ((مختصر التجانية)) (19 - 21) للدكتور علي بن محمد آل دخيل الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 79 تمهيد: - مما لا شك فيه بأنه قد استمد معظم آرائه من الفكر الصوفي وزاد عليها شيئاً من أفكاره. - وقد نهل من كتب عبد القادر الجيلاني وابن عربي والحلاج وغيرهم من أعلام المتصوفة. - وخلال فترة تشكله قبل تأسيس الطريقة قابل عددًا من مشايخ الصوفية وأخذ إذناً وأورادًا عنهم وأبرز تلك الطرق القادرية والخلوتية. - واستفاد من كتاب (المقصد الأحمد في التعريف بسيدي أبي عبد الله أحمد) تأليف أبي محمد عبد السلام بن الطيب القادري الحسيني والمطبوع بفاس سنة 1351هـ. - وكان لانتشار الجهل أثر كبير في ذيوع طريقته بين الناس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 80 المطلب الأول: عقيدتهم في الله يوجد في كتب التجانية الكثير من النصوص التي تدل على إيمانهم بوحدة الوجود، ومنها ما ذكره صاحب (جواهر المعاني): " .... اعلم أن أذواق العارفين في ذوات الوجود أنهم يرون أعيان الموجودات كسراب بقيعة [النور: 39]، فما في ذوات الوجود كله إلا الله سبحانه وتعالى تجلى بصورها وأسمائها وما ثم إلا أسماؤه وصفاته ... " (الجواهر: 259). وقال في ميدان الفضل: " والقائلون بوحدة الوجود أولو الذوق الصحيح، والكشف الصريح وأهل هذا التصديق الجامع؛ فإنهم قائلون بأن الله تعالى هو الوجود المطلق بالإطلاق الحقيقي .. . " (ميدان الفضل والأفضال 66). إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة المبثوثة في كتبهم. ويجب أن نشير هنا إلى تناقض هذه العقيدة الفاسدة مع عقيدة أهل السنة الذين يعتقدون أن الله تعالى بائن من خلقه، لا يشبهه شيء من مخلوقاته، متصف بصفات الكمال، ونعوت الجلال، فله الأسماء الحسنى والصفات العلا لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11]. فمن اعتقد أن الله متحد بمخلوقاته، وأن الرب عين العبد، والعبد عين الرب فقد كفر بما أنزل على محمد. وقد حكى القاضي عياض الإجماع على كفر من ادعى مجالسة الله، والعروج إليه ومكالمته، أو حلوله في أحد من الأشخاص، كقول بعض المتصوفة والباطنية والنصارى والقرامطة. (انظر الشفا، 2: 245) المصدر: التجانية لعلي بن أحمد الدخيل الله - دعوة التجانية إلى الشرك الجلي: والطريقة التجانية كغيرها من الطرق رأس مالها وقطب رحاها في الدين أن تدعو الناس إلى الشرك بالله، فبدلاً من دعوة الناس إلى الصلاة الصحيحة، والصوم الصحيح المشروع والحج، والزكاة، والجهاد في سبيل الله قد استبدلوا كل ذلك بوسيلة واحدة وهي الاستغاثة بالمشايخ ودعوتهم من دون الله والالتجاء بهم إلى الله والاعتقاد أن الله لا يقبلهم إلا عن طريق هؤلاء الشيوخ الضالين بزعم أن هؤلاء المشايخ هم أبواب الله، ولا دخول على الله إلا من طريقهم، ولا قبول لتوبة تائب إلا برضاهم، وأي قربان أو زكاة لا تقبل إلا إذا كانت أيدي هؤلاء المشايخ أول من يلتقطها، وأول من يأكلها .. هذا هو دين الصوفية في نهايته إخراج الناس من عبادة الله عز وجل إلى عبادة هؤلاء المشايخ أحياءً وأمواتاً .. قال مؤلف (رماح حزب الرحيم): "وأما كيفية التوسل به رضي الله عنه وبجده صلى الله عليه وسلم فهي أنك مهما أردت حاجة من حوائج الدنيا والآخرة فصلِّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاة الفاتح لما أغلق مائة، واهد ثوابها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقضاء الحاجة التي تريدها ثم تقول: يا رب توسلت إليك بجاه القطب الكامل سيدنا أحمد بن محمد التجاني وجاهه عندك أن تعطيني كذا وكذا، وتسمي حاجتك بعينها عشراً" أ. هـ (الرماح ج1 ص165). وهكذا لا يوجهون الناس في الملمات والمهمات إلا إلى التوجه إلى الرسول والتجاني .. وعلى الرغم من أن التوسل إلى الله بالنبي بعد موته بدعة منكرة لم يفعلها أحد من سلف الأمة المشهود لهم بالخير، فإن اقتران اسم الرسول صلى الله عليه وسلم باسم هذا الداعي الكذاب من أكبر الإثم والزور والجرأة على الله .. والعجيب في أمر التجانية أيضاً أنهم جعلوا التوسل بالأموات عند أتباعهم خاصاً بالرسول والتجاني فقط، وأنه من توسل منهم بغير الرسول والتجاني فإنه يخرج من الطريقة خروجاً نهائياً وينسلخ منها انسلاخاً كاملاً لا رجعة فيه كما ينسلخ جلد الشاة عن الشاة والبيضة عن الدجاجة؛ ومعلوم أن جلد الشاة إذا سلخ منها يستحيل إعادته إليها وأن بيضة الدجاجة إذا انفصلت عنها يتعذر إعادتها إليها .. فانظر كيف حكموا بأكبر من الردة عن الدين لمجرد أن واحداً منهم توسل بشيخ غير شيخهم. قال مؤلف (الدرة الخريدة): "ومن زار من الإخوان الأحمديين شيخاً من المشايخ حياً كان أو ميتاً بقصد التوسل به والاستمداد غير شيخنا أبي الفيضل (شيخهم أبو الفاضل هو أحمد التجاني والفيض في زعمهم هو علم الغيب والخير الذي يفيضه على أتباعه) .. فقد خرج عن طريقة الأحمدية ولا إذن عنده فيها، بل انسلخ منها انسلاخ الجلد عن النعاج وانفصل عنها انفصال البيض عن الدجاج .. " أ. هـ (الدرة الخريدة). فانظر كيف يكون الاستعباد والاستبداد وضرب طوق جهنمي عمن وقع في شباكهم أن لا يتصل بشيخ آخر مطلقاً ولا يعلق قلبه به. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق – ص 361 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 81 المطلب الثاني: عقيدتهم في القرآن يعتقد كثير من التجانيين بأن " صلاة الفاتح لما أغلق" أفضل من القرآن الكريم، وقبل أن نذكر النصوص التي وردت في كتبهم في ذلك نذكر نص صلاة الفاتح لما أغلق التي يزعم التجانيون أنها أفضل من القرآن الكريم. صلاة الفاتح لما أغلق: " اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، الهادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم ". أما النصوص التي تبين ذلك فنحن نقتصر على بعض منها فيما يلي: 1 - قال مؤلف (جواهر المعاني): " ... ثم أمرني بالرجوع صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الفاتح لما أغلق، فلما أمرني بالرجوع إليها سألته صلى الله عليه وسلم عن فضلها، فأخبرني أولاً بأن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ست مرات، ثم أخبرني ثانياً: أن المرة الواحدة منها تعدل من كل تسبيح وقع في الكون، ومن كل ذكر، ومن كل دعاء كبير أو صغير، ومن القرآن ست آلاف مرة ". (1: 136) 2 - ثم هم أيضاً يعتقدون أنها من كلام الله، وفي ذلك يقول مؤلف الرماح أن من شروطها: " أن يعتقد أنها من كلام الله " (الرماح: 139). 3 - وقال مؤلف (بغية المستفيد): " ... مع اعتقاد المصلي بها أنها في صحيفة من نور أنزلت بأقلام قدرة إلهية وليست من تأليف زيد ولا عمرو بل هي من كلامه سبحانه، وأنها لم تكن من تأليف بشري، والفضل الذي فيها لا يحصل إلا بشرطين: الأول: الإذن، الثاني: أن يعتقد الذاكر أن هذه الصلاة من كلام الله تعالى كالأحاديث القدسية وليست من تأليف مؤلف " (الدرة الخريدة 4: 128، 129). وهكذا يفترون على الله الكذب، ويزعمون أن صلاتهم وحي من الله، والله تعالى يقول: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللهُ [الأنعام: 93]. وهم يفضلونها على القرآن، بينما يعتقد أهل السنة أن فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه. المصدر: التجانية لعلي بن أحمد الدخيل الله ولا يخفى على عالم بالعربية ركاكة لفظ هذه الصلاة وما فيها من المجاهيل فما هو الذي أغلق وفتحه الرسول .. وما هو الذي سبق؟! وكيف يكون هذان السطران أفضل من القرآن الكريم المعجز .. ؟ ولا عجب في هذا الكذب فقد زعموا أيضاً أنها نزلت من السماء. فقد قال الفوطي مؤلف كتاب (رماح حزب الرحيم): "ويجب أن يعتقد الذاكر أنها من كلام الله" (رماح حزب الرحيم) (2/ 139)، وقال مؤلف كتاب (الدرة الخريدة): "ويعتقد المصلي أنها في صحيفة من نور أنزلت بأقلام قدرة إلهية وليست من تأليف زيد ولا عمرو بل هي من كلامه سبحانه وتعالى" (الدرة الخريدة) (4/ 128)، وقال صاحب (الجواهر) أيضاً: " .. إنها لم تكن من تأليف البكري ولكنه توجه إلى الله مدة طويلة أن يمنحه صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيها ثواب جميع الصلوات وسر جميع الصلوات وطال طلبه مدة ثم أجاب الله دعوته فأتاه الملك بهذه الصلاة المكتوبة في صحيفة النور ثم قال الشيخ فلما تأملت هذه الصلاة وجدتها مكتوبة في صحيفة من النور ثم قال الشيخ فلما تأملت هذه الصلاة وجدتها لا تزنها عبادة جميع الجن والإنس والملائكة قال الشيخ وقد أخبرني صلى الله عليه وسلم عن ثواب الاسم الأعظم فقلت: إنها أكثر منه فقال صلى الله عليه وسلم بل هو أعظم منها ولا تقوم له عبادة" (الجواهر) (ص96) أ. هـ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 82 وقال في بيان فضلها: "وأما فضل صلاة الفاتح لما أغلق الخ .. فقد سمعت شيخنا يقول كنت مشتغلاً بذكر صلاة الفاتح لما أغلق حين رجعت من الحج إلى تلمسان لما رأيت من فضلها وهو أن المرة الواحدة بستمائة ألف صلاة كما هو في وردة الجيوب. وقد ذكر صاحب (الوردة) أن صاحبها سيدي محمد البكري الصديقي نزيل مصر وكان قطباً. قال إن من ذكرها ولم يدخل الجنة فليقبض صاحبها عند الله، وبقيت أذكرها إلى أن رحلت من تلمسان إلى أبي سمعون فلما رأيت الصلاة التي فيها المرة الواحدة بسبعين ألف ختمة من دلائل الخيرات تركت الفاتح لما أغلق واشتغلت بها وهي (اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله صلاة تعدل جميع صلوات أهل محبتك وسلم على سيدنا محمد وعلى آله سلاماً يعدل سلامهم) ولما رأيت فيها من كثرة الفضل ثم أمرني بالرجوع صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الفاتح لما أغلق فلما أمرني بالرجوع إليها سألته صلى الله عليه وسلم عن فضلها فأخبرني أولاً بأن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ست مرات، ثم أخبرني ثانياً أن المرة الواحدة منها تعدل من كل تسبيح وقع في الكون ومن كل ذكر ومن كل دعاء كبير أو صغير ومن القرآن ستة آلاف مرة لأنه من الأذكار .. " (جواهر المعاني) (1/ 94) أ. هـ. وقلت: ولا يخفى ما في هذا من الكذب والتلفيق، ولا يخفى أيضاً أن تصديق مثل هذه الترهات تكذيب لله ولرسوله فقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة: 67] وقال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ [المائدة: 3] ولا غرو فقد فضل التجاني هذا نفسه على جميع الصحابة والتابعين وجميع الأمة أجمعين وادعى الولاية العظمى والغوثية وختم الأولياء المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق – ص 353 قال علي حرازم: "ومما أملاه علينا رضي الله عنه قال: ولو اجتمع جميع ما تلته الأمة من القرآن من بعثته صلى الله عليه وسلم إلى النفخ في الصور لفظاً لفظاً فرداً فرداً في القرآن ما بلغ لفظة واحدة من الاسم الأعظم وهذا كله بالنسبة للاسم الأعظم كنقطة في البحر المحيط، وهذا مما لا علم لأحد به، واستأثر الله به عن خلقه، وكشفه لمن شاء من عباد، وقال رضي الله عنه: إن الاسم الأعظم هو الخاص بالذات لا غيره وهو اسم الإحاطة ولا يتحقق بجميع ما فيه إلا واحد في الدهر وهو الفرد الجامع، هذا هو الاسم الباطن، أما الاسم الأعظم الظاهر فهو اسم الرتبة الجامع لمرتبة الألوهية من أوصاف الإله ومألوهيته وتحته مرتبة أسماء التشتيت، ومن هذه الأسماء فيوض الأولياء فمن تحقق بوصف كان فيضه بحسب ذلك الاسم، ومن هذا كانت مقاماتهم مختلفة وأحوالهم كذلك وجميع فيوض المرتبة بعض من فيوض اسم الذات الأكبر، وقال رضي الله عنه: إذا ذكر الذاكر الاسم الكبير يخلق الله من ذكره ملائكة كثيرة لا يحصي عددهم إلا الله ولكل واحد من الألسنة بعدد جميع الملائكة المخلوقين من ذكر الاسم ويستغفرون في كل طرفة عين للذاكر أي كل واحد يستغفر في كل طرفة عين بعدد جميع ألسنته، وهكذا إلى يوم القيامة، ثم قال رضي الله عنه: سألت سيد الوجود صلى الله عليه وسلم عن فضل المسبعات العشر وإن من ذكرها مرة لم تكتب عليه ذنوب سنة، فقال لي صلى الله عليه وسلم: فضل جميع الأذكار وسر جميع الأذكار في الاسم الكبير، فقال الشيخ رضي الله عنه: علمت أنه أراد صلى الله عليه وسلم جميع خواص الأذكار وفضائلها منطوية في الاسم الكبير، ثم قال رضي الله عنه: يكتب لذاكر الاسم بكل ملك خلق الله في العالم فضل عشرين من ليلة القدر ويكتب له بكل دعاء كبير وصغير ستة وثلاثون ألف ألف مرة بكل مرة من ذكر هذا الاسم الشريف، وقال رضي الله عنه: فمن قدر أن ذاكراً ذكر جميع أسماء الله في جميع اللغات تساوي نصف مرة من ذكر الاسم من ذكر كل عارف" أ. هـ المصدر: الطريقة التجانية حقائق وأسرار - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 83 المطلب الثالث: عقيدتهم في الرسول صلى الله عليه وسلم تتلخص أهم الانحرافات العقدية عند التجانية في رسول الله صلى الله عليه وسلم في النقاط التالية: 1 - إيمانهم برؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة. ومن نصوصهم في ذلك - قال في (جواهر المعاني): " قال رضي الله عنه: أخبرني سيد الوجود يقظة لا مناماً، قال لي: أنت من الآمنين .... ) (1: 129). - قال في (الرماح): (ولا يكمل العبد في مقام العرفان حتى يصير يجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة ومشافهة .. " (رماح حزب الرحيم، 1: 199). - وقال في الدرة الخريدة: " وأما الذي هو أفضل وأعز من دخول الجنة فهو رؤية سيد الوجود صلى الله عليه وسلم في اليقظة، فيراه الولي اليوم كما يراه الصحابة رضي الله عنهم فهي أفضل من الجنة (1: 47) وبناءً على ذلك، فإنهم يزعمون أنهم يستفتونه ويتلقون منه الأوراد ويسألونه عن صحة الأحاديث. انظر (جواهر المعاني) (2: 228)، و (بغية المستفيد) (ص79). وهذا اعتقاد فاسد، فإن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة بعد موته مستحيلة شرعاً وعقلاً. كما أن الوحي قد انقطع بوفاته صلى الله عليه وسلم. راجع: (التجانية ص 127 وما بعدها) [الاستمداد من النبي صلى الله عليه وسلم ومن الشيخ التجاني: إن عقيدة الاستمداد من النبي صلى الله عليه وسلم والمشايخ موجودة لدى كثير من المبتدعة والصوفية. والتجانية من الذين يؤمنون بعقيدة الاستمداد من النبي صلى الله عليه وسلم ومن الشيخ التجاني، وأنه يعطي ويمنع، ويشفي ويمرض، ويجيب دعاء المضطر وغير ذلك، وفيما يلي بعض النصوص التي تبين ذلك:] - قال مؤلف (جواهر المعاني): " ... لا شك أنه صلى الله عليه وسلم في هذا الميدان تام في نفسه، لا يطرأ عليه النقص بوجه من الوجوه، كامل صلى الله عليه وسلم، يفيض الكمالات على جميع الوجود من العلوم والمعارف، والأسرار والأنوار، والأحوال والفيوضات، والتجليات والمواهب والمنح وجميع وجوه العطايا. فكل ما يفيضه الحق سبحانه وتعالى على الوجود مطلقاً ومقيداً أو كثيراً أو قليلاً مما اشتهر أو شذ إنما يفيضه بواسطة الرسول صلى الله عليه سلم. فمن ظن أن يصل شيء إلى الوجود بغير واسطة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد جهل أمر الله، وإن لم يتب خسر الدنيا والآخرة بهذا الاعتقاد .... ". - ونقل مؤلف كتاب (رماح حزب الرحيم) عن التجاني قوله: " إن روح النبي صلى الله عليه وسلم وروحي هكذا "وأشار بأصبعيه السبابة والتي تليها" فروحة تمد الأنبياء، وروحى تمد الأقطاب والعارفين والأولياء ". (الرماح) (2: 142). - وقال مؤلف (بغية المستفيد): " قال رضي لله عنه إن الفيوض التي تفيض من ذات سيد الوجود صلى الله عليه وسلم تتلقاها ذوات الأنبياء، وكل ما فاض وبرز من ذوات الأنبياء تتلقاه ذاتي، ومني يتفرق على جميع الخلائق من نشأة العالم إلى النفخ في الصور ..... وقال: لا يتلقى ولي فيضاً من الله تعالى إلا بواسطته رضي الله عنه من حيث لا يشعر به، ومدده الخاص به إنما يتلقاه من النبي صلى الله عليه وسلم " 0 (ص225). وهم يثبتون هذا المدد للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته. - قال مؤلف (الدرة الخريدة): " ... ومن توهم أنه صلى الله عليه وسلم انقطع جميع مدده على أمته بموته صلى الله عليه وسلم كسائر الأموات، فقد جهل رتبة النبي صلى الله عليه وسلم وأساء الأدب معه ويخشى عليه أن يموت كافراً، إن لم يتب من هذا الاعتقاد .. " (4: 203). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 84 وهذا أيضاً اعتقاد فاسد كالذي قبله، فإن الله وحده هو الذي يملك الضر والنفع، والهداية والضلال، وهو وحده الخالق الرازق، المحي المميت، لا يملك أحد من ذلك شيئاً، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما. وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. [الأعراف: 188]. ونستطيع القول: إن كل ما يوجد عند الصوفية من انحراف في عقيدتهم في النبي صلى الله عليه وسلم فإنه موجود عند التجانية. المصدر: التجانية لعلي بن أحمد الدخيل الله وذكر عمر بن سعيد الفوتي في كتاب (الرماح): (إن الأولياء يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة وإنه يحضر كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه وأنه يتصرف في أقطار الأرض في الملكوت وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته لم يتبدل عن شيء وأنه مغيب عن الأبصار كما غيبت الملائكة مع كونهم أحياء بأجسادهم فإذا أراد الله أن يراه عبد رفع عنه الحجاب فيراه على هيئته التي كان هو عليها)، ثم ذكر في هذا الفصل كثيراً من النقول عن جماعة من الصوفية فيها حكايات عن رؤية الأولياء لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة وذكر في هذا الفصل كثيراً من الغرائب والمنكرات حول مجالس الأنبياء والأقطاب في المسجد الحرام عند الكعبة بأجسادهم وتصرفهم بأنفسهم ووكلائهم في الخلق وذكر فيه أيضاً أن الأنبياء والأولياء لا يبقون في قبورهم بعد الوفاة إلا زماناً محدوداً يتفاوت حسب تفاوت درجاتهم ومراتبهم ثم ختم الفصل بقوله: "إذا نظرت وتحققت بجميع ما تقدم من أول الفصل إلى هنا ظهر لك ظهوراً لا غبار عليه أن اجتماع القطب المكتوم والبرزخ المختوم شيخنا أحمد بن محمد التجاني سقانا الله تعالى من بحره بأعظم الأواني، ورزقنا جواره في دار التهاني رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعنا به بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً وأخذه رضي الله عنه وأرضاه وعنا به عن سيدنا جده رسول الله صلى الله عليه وسلم مشافهة منه إليه رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعنا به وأعاد علينا من بركاته دنيا وبرزخا وأخرى وحضور النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم بأجسادهم وأرواحهم قراءة جوهر الكمال وعند أي مجلس خير أو أي مكان شاؤوا ولا ينكره إلا الطلبة الجهلة الأغبياء والحسدة المردة الأشقياء لا مهدي إلا من هداه الله تعالى". المصدر: الطريقة التجانية حقائق وأسرار - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ومن خرافات التجانية أيضاً وافتراءاتهم زعمهم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم دائماً، وحضوره وحاشاه صلى الله عليه وسلم مجالس ذكرهم المبتدعة وهذه أقوالهم في ذلك: 2 - قال في (جواهر المعاني): " .. سأل سيد الوجود، وعلم الشهود، صلى الله عليه وسلم في كل نفس مشهود، عن نسبه وهل هو من الأبناء والأولاد، أو من الآل والأحفاد، فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: "أنت ولدي حقاً" كررها ثلاثاً صلى الله عليه وسلم، وقال نسبك إلى الحسن بن علي صحيح. وهذا السؤال من سيدنا رضي الله عنه لسيد الوجود يقظة لا مناماً، وبشر صلى الله عليه وسلم بأمور عظام جسام صلى الله عليه وسلم وشرف وكرر ومجد وعظم" (جواهر المعاني) (2/ 228). 3 - وقال أيضاً عن الصلاة المسماة بياقوتة الحقائق: "هي من إملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من لفظه الشريف على شيخنا يقظة لا مناماً" (جواهر المعاني) (1/ 30،31). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 85 4 - وقال أيضاً فيما يرويه عن شيخه التجاني: "قال رأيته مرة صلى الله عليه وسلم، وسألته عن الحديث الوارد في سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام. قلت له: ورد عنك روايتان صحيحتان واحدة قلت فيها يمكث بعد نزوله أربعين، وقلت في الأخرى سبعاً .. ما الصحيحة منها؟ قال صلى الله عليه وسلم: رواية السبع" (جواهر المعاني) (1/ 50). وهذا الذي يزعم التجاني أنه استفاد من الرسول في اليقظة. بشأن ترجيح (رواية سبعة أيام على أربعين يوماً) قد سرقه التجاني من كتاب (الإبريز) للدباغ فهناك قد زعم الدباغ أيضاً أنه استفاد هذا من الرسول .. وقد كان هذا الشأن التجاني دائماً .. كلما سمع أن أحداً سبقه من رجال التصوف في قول أو نحوه قال نحوه وزاد؛ كما سمع أو قرأ أن عبدالقادر الجيلاني قال عن نفسه قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله .. فقال التجاني وأما أنا فأقول قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله من خلق آدم إلى النفخ في الصور .. وسمع أو قرأ أن ابن عربي قال إنه خاتم الأولياء فقال بل أنا خاتم الأولياء وهكذا فقد ردد معظم الكذب الذي سبقه به شياطين التصوف القدامى وزاد عليهم. ونعود فنقول إن التجانية لم يجعلوا رؤية الرسول في اليقظة خاصة بالتجاني بل جعلوها بكل من زعموا أنه بلغ درجة العرفان في زعمهم وهاك بعض نصوصهم في ذلك: 1 - قال في (رماح حزب الرحيم): "ولا يكمل العبد في مقام العرفان حتى يصير يجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة ومشافهة .. الخ" (الرماح) (1/ 199). 2 - وقال في (بغية المستفيد): " .. منهم من يرى روحه في اليقظة متشكلة بصورته الشريفة، ومنهم من يرى حقيقة ذاته الشريفة وكأنه معه في حياته صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم أهل المقام الأعلى في رؤيته صلى الله عليه وسلم" أ. هـ (بقية المستفيد) (ص79،80). إن المفترق الأول بين دين الإسلام ودين التصوف هو الافتراق في التلقي بينما يتلقى المسلمون دينهم بعد وفاة الرسول من الكتاب والسنة وإجماع الأمة فقط هذا هو المعصوم ثم من اجتهاد الأئمة المعرض للصواب والخطأ، أقول بينما يفعل المسلمون ذلك، فإن المتصوفة يجعلون تلقيهم للدين من كل من هب ودب ممن يزعم ملاقاة الرسول وهذا كذب بإجماع الأمة. أو ملاقاة الخضر وهذا كذب وافتراء بيّن فلم يتعبدنا الله بخضر أو بغيره أو ممن يزعم رؤية الملائكة وسماع دينهم أو ممن يزعم تلقي الدين من اللوح المحفوظ رأساً وممن يتجاوز كل ذلك فيقول حدثني قلبي عن ربي .. أو من يقول يأتيني كلام الله مكتوباً في ألواح من نور .. فكل مشايخ التصوف رسل وأنبياء ومشرعون ومتلقون للدين من طرق أخرى غير طريق المسلمين وبهذا تتأكد أن دين هؤلاء حتماً ليس بدين المسلمين .. وأنهم يفترقون عن المسلمين في الأصل الأصيل وهو مصدر الدين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 86 ولو فرضنا جدلاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم يمكن أن يعود بجسده الشريف أو روحه الطاهر صلى الله عليه وسلم ليلقى بعض المسلمين فإننا نجزم أن لقاءه هذا سيكون لتعزيز شريعته التي بثها في حياته لا لهدمها، فنتصور مثلاً في مثل التجاني أن يقول لا تكن أنت وأتباعك عبيداً للاستعمار الفرنسي ولا خدماً للكفار، وقوموا بنصرة الدين، وجاهدوا في سبيل الله وأما أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ليقول للتجاني أقطعتك الجنة وأتباعك ولو كانوا مجرمين فاسقين وكل من رآك دخل الجنة ولو كان كافراً، وأمُر أتباعك أن يدعوك من دون الله ويشركوا بالله في كل شيء. يأتي بآخر فيقطعه قطعة من الجنة ويؤمنه من العذاب ويقول لا حرج عليك وعلى أتباعك واعمل مولداً لنفسك ومولداً لي تستباح فيه الحرمات وتهتك فيه الأعراض ولا حرج عليك من ذلك لأن كل ذنوب أصحابك أنا أغفرها لكم .. هذه هي المهمة التي بقيت لرسول الله في الأرض .. يا سبحان الله كم يكذب هؤلاء على الله وعلى رسوله وهم لا يستحون. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق – ص 358 يقولون بأن لهم خصوصيات ترفعهم عن مقام الناس الآخرين يوم القيامة ومن ذلك: ـ أن تخفف عنهم سكرات الموت. ـ أن يظلهم الله في ظل عرشه. ـ أن لهم برزخا يستظلون به وحدهم. ـ أنهم يكونون مع الآمنين عند باب الجنة حتى يدخلوها في الزمرة الأولى مع المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه المقربين. - يقولون بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى أحمد التيجاني عن التوجه بالأسماء الحسنى، وأمره بالتوجه بصلاة الفاتح لما أغلق وهذا مخالف لصريح الآية الكريمة: وَلِلّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180]. ـ يقولون بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر أحمد التيجاني بالتوجه بصلاة الفاتح لما أغلق، وأنه لم يأمر بها أحدا قبله، وفي ذلك افتراء بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتم عن الأمة المسلمة شيئاً مما أوحي إليه من ربه، وقد ادخره حتى حان وقت إظهاره حيث باح به لشيخهم أحمد التيجاني. - هم كباقي الطرق الصوفية يجيزون التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم وعباد الله الصالحين، ويستمدون منه ومنهم ومن الشيخ عبد القادر الجيلاني ومن أحمد التيجاني ذاته، وهذا مما نهى عنه شرع الله الحكيم. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 87 المطلب الرابع: عقيدتهم في التجاني يعتقد التجانيون أن التجاني خاتم الأولياء، كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء فقد ذكر مؤلف (رماح حزب الرحيم) من أسباب تسميتهم الطريقة التجانية بالمحمدية: " ... أن الله تعالى لما ختم بمقامه مقامات الأولياء، ولم يجعل فوق مقامه إلا مقامات الأنبياء، وجعله القطب المكتوم، والبرزخ المختوم، والخاتم المحمدي المعلوم .... " (2: 145). - وقال مؤلف (بغية المستفيد): " فقد ثبت عنه من طريق الثقات الأثبات من ملازميه وخاصته، أنه أخبر تصريحاً على الوجه الذي لا يحتمل التأويل أن سيد الوجود أخبره يقظة بأنه هو الخاتم المحمدي المعروف عند جميع الأقطاب والصديقين، وبأن مقامه لا مقام فوقه في بساط المعرفة بالله. . " (ص: 193 - 194). ثم قال بعد ذلك: " .... وبالجملة فقد اجتمع على إثبات هذا المقام لشيخنا رضي الله عنه جميع من لازمه إلى وفاته رضي الله عنه، ولم يختلف منهم اثنان فيه، حتى استفاض ذلك على ألسنة الخاص والعام من الأصحاب والإخوان في سائر البلدان، فلا يلتفت لنفي من نفاه كائناً من كان " (ص 194). المصدر: التجانية لعلي بن أحمد الدخيل الله تفضيل التجاني نفسه على جميع الأولياء: كل شيخ صوفي صاحب طريق يؤثر عنه أنه يفضل نفسه على سائر الأولياء، وذلك حتى يستطيع جلب الناس لطريقته، ويتفانى فيه أتباعه من بعده تعصباً لشيخهم وترويجاً لطريقتهم، والتجاني لعله أكثرهم جرأة في هذا الصدد، فلم يترك فضلاً مزعوماً لأحد قبله إلا نسبه إلى نفسه، فقد ادعى أنه خاتم الأولياء تقليداً لمن سبقه من مشايخ التصوف وادعى لنفسه أنه هو الذي يمد جميع الأولياء بالعلوم والمعارف منذ خلق آدم أي قبل أن يخلقه الله وإلى النفخ في الصور .. فهو الذي تنبع منه المعارف والعلوم والأسرار الإلهية -حسب زعمه- إلى الأولياء السابقين قبل وجوده وإلى جميع الأولياء اللاحقين إلى نهاية العالم. 1 - وقال مؤلف (بغية المستفيد): "قال رضي الله عنه إن الفيوض التي تفيض من ذات سيد الوجود صلى الله عليه وسلم تتلقاها ذوات الأنبياء، وكل ما فاض وبرز من ذوات الأنبياء تتلقاه ذاتي، ومني يتفرق على جميع الخلائق من نشأة العالم إلى النفخ في الصور .. وقال: لا يتلقى ولي فيضاً من الله تعالى إلا بواسطته رضي الله عنه من حيث لا يشعر به، ومدده الخاص به وإنما يتلقاه من النبي صلى الله عليه وسلم" أ. هـ (بغية المستفيد) (ص225). 2 - وقال مؤلف (الدرة الخريدة): " .. فسيدي أبو الفيض أصل جميع الوسائل المتقدمة والمتأخرة، وشيخ المشايخ، وبرزخ البرازخ، والمنبع الذي تنفجر منه العلوم والفيوض والمعارف والأسرار لجميع الأولياء والأقطاب والعارفين والأحباب .. " أ. هـ (الدرة الخريدة) (1/ 26). وقال في منية المريد: لا شك أن شيخنا التجاني ... ممد كل عارف صمداني يعطي ويمنع ويسلب فمن ... كمثله من الورى في ذا الزمن (بغية المستفيد) (ص226). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 88 ولا يخفى أن هذا اعتقاد خرافي ثم هو شرك واضح لأنه رفع للمخلوق إلى مرتبة الخالق فالذي يهب المعارف والعلوم والفقه ويشرح القلوب هو الله سبحانه وتعالى فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء: 79] فهو الذي يفهم سبحانه وتعالى وقال أيضاً سبحانه: الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَان [الرحمن: 1 - 4] وقال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا [النساء: 105]. فالله هو الذي يري رسوله وكل ذلك بمدده هو سبحانه وتعالى وفضله فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ َ [الأنعام: 125] فشرح الصدر ونور الفؤاد منه سبحانه وتعالى وليس من التجاني ولا غيره ومن ظن هذا الظن في أنه لا يأتيه علم ولا مدد إلا عن طريق التجاني أو غيره من البشر فلا شك في كفره ومروقه من الدين. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق – ص 362 وقد غلا عمر بن سعيد الفوتي في تعظيم شيخه أحمد بن محمد التجاني فزعم أنه خاتم الأولياء وسيد العارفين وأنه لا يتلقن واحد من الأولياء فيضاً من نبي الله إلا عن طريقه من حيث لا يشعر به ذلك الولي قال: "الفصل السادس والثلاثون في ذكر فضل شيخنا رضي الله عنه وأرضاه وعنا به وبيان أنه هو خاتم الأولياء وسيد العارفين وإمام الصديقين وممد الأقطاب والأغواث وأنه هو القطب المكتوم والبرزخ المختوم الذي هو الواسطة بين الأنبياء والأولياء بحيث لا يتلقن واحد من الأولياء من كبر شأنه ومن صغر فيضاً من حضرة نبي إلا بواسطته رضي الله تعالى عنه من حيث لا يشعر به ذلك الولي". إن هذه الكلمات ناطقة بالشرك الصريح، والكذب المكشوف، والغلو الممقوت، فقد جعل شيخه أعلى مرتبة من الصحابة وسائر القرون الثلاثة من شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم خير القرون بل من سواهم من الصالحين ثم ذكر ما نصه: أن بعض من لم يكن له في العلم ولا في نفحات أهل الله من خلاق قد يورد علينا إيرادين: أولهما: أنه يقول: إن الشيخ رضي الله عنه وأرضاه مدح نفسه وزكاها وذلك مذموم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 89 ثانيهما: أنه يقول إن قول الشيخ رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: أن الفيوض التي تفيض من ذات سيد الوجود تتلقاها ذوات الأنبياء وكل ما فاض وبرز من ذوات الأنبياء تتلقاه ذاتي، ومني يتفرق على جميع الخلائق من نشأة العالم إلى النفخ في الصور ويدخل فيه جميع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم فيكون أفضل من جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وذلك باطل، وكذا قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: ولا يشرب ولي ولا يسقى إلا من بحرنا من نشأة العالم إلى النفخ في الصور، وكذلك قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: إذا جمع الله تعالى خلقه في الموقف ينادي منادٍ بأعلى صوته يسمعه كل من بالموقف: يا أهل المحشر، هذا إمامكم الذي كان ممدكم منه، وكذا قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: روحه صلى الله عليه وسلم وروحي هكذا مشيراً بإصبعيه السبابة والوسطى روحه صلى الله عليه وسلم تمد الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام وروحي تمد الأقطاب والعارفين والأولياء من الأزل إلى الأبد، وكذا قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله تعالى من لدن آدم إلى النفخ في الصور، وكذا قوله رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعنا به: إن مقامنا عند الله في الآخرة لا يصله أحد من الأولياء ولا يقاربه من كبر شأنه ولا من صغر، وإن جميع الأولياء من الصحابة إلى النفخ في الصور ليس فيهم من يصل مقامنا، وكذا قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: أعمار الناس كلها ذهبت مجاناً إلا أعمار أصحاب الفاتح لما أغلق فقد فازوا بالربح دنيا وأخرى ولا يشغل بها عمره إلا السعيد. المصدر: الطريقة التجانية حقائق وأسرار - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ذكر عمر بن سعيد الفوتي أن الشيخ أحمد التجاني قال ذات ليلة في مجلسه: أين السيد محمد الغالي؟ فجعل أصحابه ينادون أين السيد محمد الغالي؟ على عادة الناس مع الكبير إذا نادى أحداً، فلما حضر بين يدي الشيخ قال رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله تعالى، وقال سيدي محمد الغالي – وكان لا يخافه لأنه من أكابر أحبابه وأمرائهم – يا سيدي: أنت في الصحو والبقاء أو في السكر والفناء؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: أنا في الصحو والبقاء وكمال العقل ولله الحمد، وقال: قلت: ما تقول بقول سيدي عبد القادر رضي الله عنه: قدمي هذه على رقبة كل ولي لله تعالى؟ فقال: صدق رضي الله عنه، يعني: أهل عصره، وأما أنا فأقول: قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله تعالى من لدن آدم إلى النفخ في الصور، قال: فقلت له: يا سيدي، فكيف تقول إذا قال أحد بعدك مثل ما قلت؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: لا يقوله أحد بعدي، قال: فقلت: يا سيدي، قد حجرت على الله تعالى واسعاً ألم يكن الله تعالى قادراً على أن يفتح على ولي فيعطيه من الفيوضات والتجليات والمنح والمقامات والمعارف والعلوم والأسرار والترقيات والأحوال أكثر مما أعطاك! فقال رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: بلى قادر على ذلك وأكثر منه لكن لا يفعله؛ لأنه لم يرده، ألم يكن قادراً على أن ينبئ أحداً ويرسله إلى الخلق ويعطيه أكثر مما أعطى محمد صلى الله عليه وسلم، قال: قلت: بلى، ولكنه تعالى لا يفعله؛ لأنه ما أراده في الأزل، فقال رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: هذا مثل ذلك ما أراده في الأزل، ولم يسبق به علمه تعالى المصدر: الطريقة التجانية حقائق وأسرار - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء وادعى التجاني ما لم يعطه الله لرسوله من الشفاعة من أن من رآه دخل الجنة ولو كان كافراً، وأن جميع آبائه وأمهاته في الجنة، وجميع أتباعه. قال صاحب (الرماح): الجزء: 8 ¦ الصفحة: 90 " .. وليس لأحد من الرجال أن يدخل أصحابه كافة الجنة بغير حساب ولا عقاب ولو عملوا من الذنوب ما عملوا وبلغوا من المعاصي ما بلغوا إلا أنا وحدي، ووراء ذلك ما ذكر لي فيهم وضمنه لهم صلى الله عليه وسلم أمر لا يحل ذكره ولا يرى ولا يعرف إلا في الآخرة .. " (رماح حزب الرحيم) (2/ 143) أ. هـ. وقال مؤلف (الجواهر): "اطلعت على ما رسمه وخطه ونصه .. أسأل من فضل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضمن دخول الجنة بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى، أنا وكل أب وأم ولدوني من أبوي إلى أول أب وأم لي في الإسلام من جهة أبي ومن جهة أمي، من كل ما تناسل منهم من وقتهم إلى أن يموت سيدنا عيسى بن مريم من جميع الذكور والإناث. وكل من أحسن إلي بإحسان حسي أو معنوي من مثقال ذرة فأكثر .. فكل من لم يعاديني من جميع هؤلاء. أما من عاداني وأبغضني فلا، وكل من والاني واتخذني شيخاً أو أخذ عني ذكراً، وكل من خدمني أو قضى لي حاجة .. وآباؤهم وأمهاتهم وأولادهم وبناتهم وأزواجهم .. يضمن لي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولجميع هؤلاء أن يموت كل حي منهم على الإيمان والإسلام .. ثم قال كل ما في هذا الكتاب ضمنته لك ضمانة لا تتخلف عنك وعنهم أبداً، إلى أن تكون أنت وجميع من ذكرت في جواري في عليين. وضمنت لك جميع ما طلبته منا ضماناً لا يخلف عليك الوعد فيها والسلام .. ثم قال: وكل هذا واقع يقظة لا مناماً" (جواهر المعاني) (21/ 130،131).قلت: لم أجد في حياتي كذباً أسمج، ولا وقاحة، ولا تقولاً على الله ورسالاته أكبر من ذلك .. فماذا كان عند هذا الوقح من دين وإسلام حتى يضمن الرسول له ذلك، وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول: ((والله إني لرسول الله لا أدري ما يفعل بي غداً)) (1) والذي يقول الله تبارك وتعالى له: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الجن: 21 - 22]. فيأتي هذا الكذاب ليفتري على الله أمثال هذه الافتراءات ويأبى الله إلا أن يكذبه فيكون أتباعه وأولاده أفضل خدم للكفر والاستعمار .. وقال أيضاً مؤكداً هذه المزاعم: وسألته صلى الله عليه وسلم لكل من أخذ عني ورداً أن تغفر لهم جميع ذنوبهم ما تقدم منها وما تأخر، تؤدي عنهم تبعاتهم من خزائن فضل الله لا من حسناتهم، وأن يدفع الله عنهم محاسبته على كل، وأن يكونوا آمنين من عذاب الله من الموت إلى دخول الجنة بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى، وأن يكونوا معي في عليين في جوار النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ضمنت لك هذا ضماناً لا ينقطع حتى تجاورني أنت وهم في عليين" (الجيش الكفيل بأخذ الثأر ص214،215) أ. هـ. فانظر أي أخلاق يكون عليها الذين يدعون مجاورة النبي صلى الله عليه وسلم في عليين. ولم يكتف التجاني بهذا أيضاً فقد زعم كذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يفارقه يومي الاثنين والجمعة من كل أسبوع، وأن مع الرسول سبعة أملاك وكل من رأى التجاني في هذين اليومين، تكتب الملائكة اسمه في رقعة من الذهب ويكون ناجياً أبداً ومن أهل السعادة حتى ولو كان كافراً عند مشاهدته للتجاني فإنه لا بد أن يموت على الإسلام، وأن هذا كرامة من الله له.   (1) ([13084]) رواه البخاري (7018) من حديث أم العلاء رضي الله عنها بلفظ: ((والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم)) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 91 قال صاحب (بغية المستفيد شرح منية المريد) هو محمد العربي السائع العمري التجاني وكتابه (شرح لمنية المريد) وهو من تأليف أحمد التجاني بن بابا الشنقيطي العلوي (التجانية تأليف علي بن محمد بن الدخيل الله ص76): "وأما الكرامة الثالثة وهي دخول الجنة لمن رآه رضي الله عنه في اليومين الاثنين والجمعة، فهي من كراماته رضي الله عنه التي طارت بها الركبان وتواترت بها الأخبار في سائر الأقطار والبلدان، بإخبار من النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه الشريف فيما أخبر به سيدنا رضي الله عنه بعزة ربي، يوم الاثنين والجمعة لا أفارقك فيهما من الفجر إلى الغروب ومعي سبعة أملاك، وكل من يراك في اليومين يكتبون -يعني الأملاك السبعة- اسمه في رقعة من ذهب ويكتبونه من أهل الجنة وأنا شاهد على ذلك" (بغية المستفيد) (ص216). وقال أيضاً: "ورأيت في كلام بعض من كان مشاراً إليه بالفتح من الأصحاب ما يشير إلى أن المختص برئيه في اليومين هو السعادة التي لا شقاوة بعدها يعني أنه لا يراه في هذين اليومين إلا من سبق في علم الله تعالى أن يكون سعيداً، فيدخل الكفار في هذا الخطاب، وينسحب عليهم الحكم في هذا المقام بفضل الملك الوهاب فيقال لا يراه في هذين اليومين إلا من يسبق في علم الله تعالى أنه يختم له بالسعادة كائناً من كان، فإذا رآه الكافر في أحد هذين اليومين ختم له بالإيمان وعليه فتخصص الرؤية المطلقة في كل يوم بمن كان مسلماً سواء كان من الأصحاب أو لا حسبما هو مصرح به في الجواهر وهذه المقيدة باليومين بما يشمل كل من رآه ولو كان كافراً" (بغية المستفيد) (ص275) أ. هـ. وهذا الذي ادعاه التجاني لنفسه لم يحصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فمعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه آلاف الناس من الكفار في كل أيام الأسبوع ومع ذلك فقد ماتوا على الكفر والشرك بل كان هناك معه من الذين صحبوه، وجاهدوا وصلوا معه، منافقون مردوا على النفاق، بل كان منهم من قال الله له في شأنهم اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ [التوبة: 80].وكذلك كان من أصحابه أناس يعرفهم الرسول ويعرفونه ويوم القيامة يؤخذ بهم جهة النار ويطردون عن حوضه صلى الله عليه وسلم فيقول للملائكة أصحابي أصحابي فيقولون: ليسوا أصحابك إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك (1) فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هذا شأنه فيمن رآه، وهذا شأنه مع أصحابه فماذا يكون زعم التجاني إلا أنه كذب سمج وقح .. ووالله إني لا أرى الرد على أمثال هذه الترهات ولكننا مضطرون أحياناً أن نذكر بالآيات والأحاديث وموازين الدين وقواعد الشريعة لأن بعض الناس قد يسمعون بمثل هذه السخافات ولا يستطيعون التمييز بين النبي الصادق والدعي الكذاب وبين عقيدة الإسلام الطيبة وعقائد الزنادقة ولذلك فإننا نضطر أحياناً أن نقابل هذا الهراء الذي لا ينطلي حتى على الصبيان والمجانين بالآيات والأحاديث فاللهم معذرة أن نخاطب بكلامك الطيب وبكلام رسولك الصادق الأمين أمثال هؤلاء الكذابين الزنادقة المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق – ص 355   (1) الحديث بهذا اللفظ والخطاب مع الملائكة غير وارد، لكن الحديث بألفاظ مقاربة رواه البخاري (3349) ومسلم (2297) وغيرهما. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 92 المبحث الخامس: بدعهم في الأدعية والأذكار: للتجانيين مجموعة كبيرة من الأوراد والأذكار المبتدعة، منها ما هو لا زم لمن دخل الطريق، ومنها ماهو اختياري. ونحن نجملها فيما يلي: أولا: الأوراد الإجبارية أ- الورد: ويقرأ صباحاً ومساء وهو: 1 - أستغفر الله. (مائة مرة). 2 - الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي صيغة. (مائة مرة). 3 - الكلمة المشرفة لا إله إلا الله. (مائة مرة). ولا بد من الترتيب في الأوراد. (أحزاب وأوراد التجاني: 8). ب - الوظيفة: وتقرأ في اليوم مرة إما صباحاً وإما مساء، فإن قرئت في الوقتين كان أفضل، وهي: 1 - أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم. (ثلاثين مرة). 2 - ثم صلاة الفاتح لما أغلق. (خمسين مرة). 3 - ثم لا إله إلا الله. (ما ئة مرة). 4 - ثم جوهرة الكمال. (اثنتي عشرة مرة). ومن شروط قراءة جوهرة الكمال عندهم: 1 - أنها لا تقرأ إلا بالطهارة المائية دون الترابية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة - على زعمهم - يحضرون عند قراءة السابعة منها. وينوب عن جوهرة الكمال عشرون من صلاة الفاتح لما أغلق لغير المتوضيء. 2 - وجود الفراش الطاهر الذي يسع ستة أشخاص، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر والخلفاء الأربعة. (السابق: 10). ج- ذكر الجمعة: من الأوراد اللازمة في الطريقة ذكر " لا إله إلا الله " ساعة أو أكثر متصلة بغروب الشمس بعد صلاة العصر يوم الجمعة، ولا يشترط التقييد بعدد. فإن لم يتمكن من الذكر ساعة ذكرها من ألف إلى ألف وستمائة، ولا بد من اتصال الذكر بالغروب سواء بعدد أو بغير عدد، فقد ورد أن الصحف تعرض على الحق سبحانه في كل أسبوع فيكون آخر صحيفته لا إله إلا الله، وأولها لا إله إلا الله. (السابق: 10، 11). كما يشترط فيها أيضاً ما يشترط في جوهرة الكمال من أنها لا تصح إلا بالطهارة المائية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يحضرها في زعمهم. (الدرة الخريدة)، (3: 200). نموذج من هذه الأوراد: 1 - صلاة الفاتح لما أغلق. (وقد سبق الإشارة إليها). 2 - جوهرة الكمال، وهي: " اللهم صل وسلم على عين الرحمة الربانية، والياقوتة المتحققة الحائطة بمركز الفهوم والمعاني، ونور الأكوان المتكونة الآدمي، صاحب الحق الرباني البرق الأسطع بمزون الأرياح المائلة لكل متعرض من البحور والأواني ونورك اللامع الذي ملأت به كونك الحائط بأمكنة المكاني، اللهم صل وسلم على عين الحق التي تتجلى منها عروش الحقائق، عين المعارف الأقوم صراطك التام الأسقم، اللهم صل على طلعة الحق بالحق، الكنز الأعظم، إفاضتك منك إليك، إحاطة النور المطلسم صلى الله عليه وسلم، وعلى آله صلاة تعرفنا بها إياه " (أحزاب وأوراد التجاني، 13، 14). ثانياً: الأوراد الاختيارية: وهي كثيرة جداً نذكر منها: 1 - ياقوتة الحقائق. 2 - الصلاة الغيبية. 3 - الحزب السيفي. 4 - حزب البحر. 5 - الأسماء الإدريسية. 6 - استغفار الخضر. 7 - دعاء لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة بعد موته. 8 - صلاة رفع الأعمال. 9 - المسبعات العشر. 10 - دعاء في قوت القلوب. ويشترط فيها الإذن الخاص من الشيخ أو من يقوم مقامه. (السابق: 22) نماذج من هذه الأوراد: 1 - من أوراده استغفار الخضر وهو: " اللهم إني أستغفرك من كل ذنب تبت إليك منه ثم عدت فيه، وأستغفرك من كل ما وعدتك به نفسي ثم لم أوف لك به، وأستغفرك من كل عمل أردت به وجهك فخالطني فيه غيرك، وأستغفرك من كل نعمة أنعمت بها علي فاستعنت بها على معصيتك، وأستغفرك يا عالم الغيب والشهادة، ومن كل ذنب أذنبته في ضياء النهار أو سواد الليل في ملاء أو خلاء أو سر أو علانية يا حليم " (السابق: 104، 105). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 93 2 - دعاء يقرأ عدة مرات لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة بعد موته: " اللهم اجمع جميع أذكار الذاكرين وجميع صلوات المصلين، واجعل جميع الأذكار ذكري، وجميع الصلوات صلاتي في سيدنا محمد شفيع المذنبين، وعلى آله الأبحر الكاملين عدد ما في علمك يارب " (السابق: 106). 3 - ومن أوراده صلاة رفع الأعمال وهي: " اللهم صل على سيدنا محمد النبي عدد من صلى عليه من خلقك، وصل على سيدنا محمد النبي كما ينبغي لنا أن نصلي عليه، وصل على سيدنا محمد النبي كما أمرتنا أن نصلي عليه ". ب- الأصل في هذه الأوراد: قال مؤلف الدرة الخريدة: " ..... ثم إن العبد إذا دخل طريق القوم وتبحر فيه أعطاه الله عز وجل هناك قوة الاستنباط نظير الأحكام الإلهية الظاهرة على حد سواء، فيستنبط في الطريق واجبات ومندوبات وآداباً ومحرمات ومكروهات وخلاف الأولى نظر ما فعله المجتهدون .. ومن دقق النظر علم أنه لا يخرج شيء من علوم الله تعالى عن الشريعة .. إلخ " (3: 216). وبمثل هذه المبتدعات صرفوا الناس عن الصلوات والطيبات والزاكيات التي نطق بها فم الرسول الطاهر صلى الله عليه وسلم، وحرموا المسلمين الأجر الحقيقي، واتباع الرسول، إلى اتباع هؤلاء المبتدعين. المصدر: التجانية لعلي بن أحمد الدخيل الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 94 المبحث السادس: عمالة التجانية لأعداء الإسلام والمسلمين الذل واضح على أهل البدع عموما وعلى الرافضة والصوفية على وجه الخصوص, وللطرق الصوفية نصيب وافر في محاولة إذلال المسلمين وإذلال أنفسهم, ومن خلال هذه المذلة التي يتمتع بها أهل التصوف, تحولوا إلى عصا في يد المستعمر لا تعصاه, وأداة طيعة لا تقاومه, والكلام في أمر رجال الطرق الصوفية ومناصرتهم في كل زمن لأعداء الدين والمسلمين من المستعمرين في أقطار الأرض عامة, وشمال إفريقيا خاصة مما يحتاج إلى مؤلفات (1) , ونحن: ندرك خطر كثير من رجال الطرق الصوفية على البلاد, فإنهم لا يتقاعسون عن تعاونهم مع الاستعمار إذا ضمنت مصالحهم المادية الخاصة, وهم علاوة على فهمهم فإنهم مستسلمون دائما للعدو, فلا يحركون ساكنا ((2) , وموالاة الصوفية للكفار أكثر من أن تذكر, فهم أدلاء على عورات المسلمين لحساب الكافر المعتدي, وجواسيس لهم, ومودتهم للكافر وموالاتهم ومعونتهم ودعمهم الحسي والمعنوي له لا تخفى على ذي عينين, وقد تكاثر الصوفيون بين يدي المشركين التتار المحتلين لبلاد المسلمين وأعلنوا الارتداد من الإسلام, وقد عللوا فعلهم الخبيث هذا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أمرهم به لأن المسلمين قد عصوا الله تعالى فلا خير فيهم (((3) , وقد عملت التجانية في خدمة المستعمر الفرنسي, ففي خطاب تلي باسم شيخ الطريقة محمد الكبير في الجزائر سنة 1350هـ, سمى فيه أعداء فرنسا من المجاهدين السنة بالأراذل والأوباش الذين ينكرون الجميل, وقال عن فرنسا: إنها حملت عنا ما يثقل كواهلنا من أعباء الملك والسيادة, وحملت الأمن والثروة والرخاء والسعادة, ثم يفتخر بأن جده قد امتنع أن يقبل ألد أعداء فرنسا, ويعني به كبير المجاهدين في المغرب, ثم عدد أعمال أهل طريقته في سبيل خدمة فرنسا فقال: في سنة 1864م, أعنا فرنسا على احتلال مدينة بسكرة, وفي سنة 1870م, تزوج شيخ الطريقة بنصرانية كا ثوليكية هي مدام أورلي, وكان كما يقول أول مسلم جزائري يتزوج بأجنبية, وقد تزوجها على يد الكاردينال لا فيجري وعلى حسب الطقوس النصرانية, ثم خلفه أخوه عليها بعد وفاته, لهذا لقبت عند التجانيين بزوجة السيدين, وقد منحتها فرنسا وسام الشرف لأنها أدارت الطريقة التجانية كما تحب فرنسا وتهوى, وفي سنة 1894م, كتب شيخ الطريقة رسائل إلى أتباعه بالسمع والطاعة لفرنسا عند احتلال جيوشها لبلادهم, وفي سنة 1906 - 1907م, أقام جاسوس الحاكم الفرنسي للجزائر في زاوية الطريقة لأداء مهمة سياسية, وكتب له شيخ الطريقة رسائل توصية إلى أتباعه ((4) , وفي الحرب العالمية الثانية استنكر شيخ الطريقة التجانية في رسائل لأتباعه حرب الخلافة العثمانية للمستعمر الفرنسي, ودفاعهم عن بلاد المسلمين, وفي سنة 1913م, ساعد مقدم الطريقة في السنغال على احتلال فرنسا لواحة شنقيط بناء على طلب شيخه, وفي سنة 1916م, كتب شيخ الطريقة أكثر من مائة رسالة لأعيان مراكش لمعاونة فرنسا, وفي سنة 1925م, كتب شيخ الطريقة إلى المقاومين للاحتلال الفرنسي في المغرب إلى إلقاء السلاح والخضوع لفرنسا (5)   (1) انظر: ((السيد البدوي)) لمحمد أبو ريه (ص 19). (2) انظر: ((التصوف بين الحق والخلق)) لمحمد شقفة, (ص 215). (3) انظر: ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام (13/ 215 - 217). (4) انظر: ((الطرق الصوفية نشأتها وعقائدها وآثارها)) , عبد الله بن دجين السهلي (ص 168). (5) انظر: ((مشتهى الخارف الجاني في رد زلقات التجاني الجاني)) , محمد الخضر الشنقيطي (ص 616) .. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 95 , وقد كان الفرنسيون يشجعون هذه الطريقة وغيرها حتى أنهم أدخلوا معهم الطريقة التجانية إلى سوريا, غير أن مجاهدي المغرب كشفوا أوراق العملاء المتسترين باسم الدين من التجانيين الخونة لإخوانهم في سوريا, فهب الناس في دمشق وغيرها في مظاهرات صاخبة, ووزعوا المنشورات التي تفضح التجانيين وأنهم عملاء خونة مرتدون ومرتبطون بالمستعمر الفرنسي ((1) , بل إن المستعمر الغربي الصليبي قد قام بتنشيط الدعوة إلى الطرق الصوفية, حتى قال الرئيس الفرنسي موريس دولافوس: لقد اضطر حكامنا الإداريون وجنودنا في إفريقيا إلى تنشيط دعوة الطرق الدينية الإسلامية لأنها كانت أطوع للسلطة الفرنسية, وأكثر تفهما وانتظاما من الطرق الوثنية (((2) , ولم تقتصر مناصرة النصارى في المغرب على التجانية, بل كل الطرق الصوفية كانوا خدما وأحذية للمستعمر الأجنبي .... , وقد كان الكناني الكبير شيخ الطريقة الصوفية في مراكش المغرب أشد الموالين لفرنسا, وكان يعادي من يعاديها ويوالي من يواليها, وفي سنة 1952م, نشرت جريدة آخر لحظة صورة أوريول (مسؤول فرنسي) وهو يمنح وسام الجيوت دونور للعميل الكنانيّ في قصر الإليزيه, وكذلك الغماري كان يتعاون مع الفرنسيين, وكم عانى المجاهدون من الغماريين ورؤسائهم ((3) , والطريقة الختمية مرتبطة بالمستعمر البريطاني للسودان ((4) , وكانت بريطانيا تدفع لمحمد الختم الميرغني شيخ الطريقة الختمية مخصصات شهرية (((5) , وكان أصحاب الطرق الصوفية في سوريا لا يحركون ساكنا تجاه المستعمر الفرنسي للبلاد, بل كانوا يهرجون للفرنسيين بإقامة حفلات الرقص والدجل باسم الدين وكان الفرنسيون يشجعون هذه الطرق, ويشجعون الناس لينضموا إليها, حتى أنهم أدخلوا لسوريا الطريقة التجانية كما سبق ((6)، وقد أصبحت الصوفية دهليز الكفر والزندقة خاصة بعد افتضاح الروافض وعدم قبول الناس منهم أيَّ شيء, بينما يزعم الصوفيون أنهم أهل السنة والجماعة, وأنهم أهل الله وأحبابه, ... هذه هي التجانية وهذا دينها ومعتقدها الذي تدين به وتعتقده, وصدق الله إذ يقول: وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ [النور: 40] المصدر: مجلة الحكمة – عبد العزيز بن عمر الغامدي - 285   (1) ([13091]) انظر: ((التصوف بين الحق والخلق)) , لمحمد شقفة (ص 217). (2) ([13092]) انظر: ((التصوف بين الحق والخلق)) , لمحمد شقفة (ص 217). (3) ([13093]) انظر: ((السيد البدوي)) , لمحمود أبو رية (195 - 196). (4) ([13094]) انظر: ((الطرق الصوفية في مصر)) , زكريا بيومي (ص 54). (5) ([13095]) انظر: ((الطرق الصوفية في مصر)) , زكريا بيومي (ص 109). (6) ([13096]) انظر: ((التصوف بين الحق والخلق)) , لمحمد شقفة (ص 217). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 96 المبحث السابع: الانتشار ومواقع النفوذ - بدأت هذه الحركة من فاس وما زالت تنتشر حتى صار لها أتباع كثيرون في بلاد المغرب والسودان الغربي (السنغال) ونيجيريا وشمالي أفريقيا ومصر والسودان وغيرها من أفريقيا. - صاحب كتاب (التيجانية) علي بن محمد الدخيل الله يقدر في عام 1401هـ ـ 1981م عدد التيجانيين في نيجيريا وحدها بما يزيد على عشرة ملايين نسمة. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 97 المبحث الثامن: حكم الشريعة فيمن يعتقد هذه العقيدة إن ما تقدم من بدع التيجانية قليل من كثير مما ذكره علي حرازم في كتابه (جواهر المعاني) و (غاية الأماني) وما ذكره عمر بن سعيد الفوتي في كتابه (رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم) وهما من أوسع كتب التيجانية وأوثقها في نظر أهل هذه الطريقة. إن ما ذكر إنما هو نماذج لأنواع من بدع التيجانية تتجلى فيها عقائدهم وتكفي لمن عرضها على أصول الشريعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحكم على كل من يعتقد هذه العقائد المبتدعة المنكرة: ونلخص فيما يلي جملة من عقائدهم: 1 - غلو أحمد بن محمد التجاني مؤسس الطريقة وغلو أتباعه فيه غلواً جاوز الحد حتى أضفى على نفسه خصائص الرسالة بل صفات الربوبية والإلهية وتبعه في ذلك مريدوه. 2 - إيمانه بالفناء ووحدة الوجود وزعمه ذلك لنفسه بل زعم أنه في الذروة العليا من ذلك وصدقه فيه مريدوه فآمنوا به واعتقدوه. 3 - زعمه رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، وتلقين النبي صلى الله عليه وسلم إياه الطريقة التيجانية وتلقيه وردها والإذن له يقظة في تربية الخلق وتلقينهم هذا الورد واعتقاد مريديه وأتباعه ذلك. 4 - تصريحه بأن المدد يفيض من الله على النبي صلى الله عليه وسلم أولاً، ثم يفيض منه على الأنبياء، ثم يفيض من الأنبياء عليه، ثم منه يتفرق على جميع الخلق من آدم إلى النفخ في الصور، ويزعم أن يفيض أحياناً من النبي صلى الله عليه وسلم عليه مباشرة ثم يفيض منه على سائر الخليقة ويؤمن مريدون بذلك ويعتقدونه. 5 - تهجمه على الله وعلى كل ولي لله وسوء أدبه معهم إذ يقول: قدماي على رقبة كل ولي، فلما قيل له: إن عبد القادر الجيلاني: قال: فيما زعموا قدمي على رقبة كل ولي، قال: صدق ولكن في عصره أما أنا فقدماي على رقبة كل ولي من آدم إلى النفخ في الصور، فلما قيل له: أليس الله قادراً على أن يوجد بعدك ولياً فوق ذلك؟، قال: بلى، ولكن لا يفعل، كما أنه قادر على أن يوجد نبياً بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه لا يفعل، ومريدوه يؤمنون بذلك ويدافعون عنه. 6 - دعواه كذباً أنه يعلم الغيب وما تخفي الصدور وأنه يصرف القلوب وتصديق مريديه ذلك وعده من محامده وكراماته. 7 - إلحاده في آيات الله وتحريفها عن مواضعها بما يزعمه تفسيراً إشارياً كما سبق في الإعداد من تفسيره قوله تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ [الرحمن: 19 - 20] ويعتقد مريدوه أن ذلك من الفيض الإلهي. 8 - تفضيله الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على تلاوة القرآن بالنسبة لمن يزعم أنهم أهل المرتبة الرابعة وهي المرتبة الدنيا في نظره. 9 - زعمه هو وأتباعه أن منادياً ينادي يوم القيامة والناس في الموقف بأعلى صوته يا أهل الموقف هذا إمامكم الذي كان منه ممدكم في الدنيا .. الخ. - زعمه أن كل من كان تجانياً يدخل الجنة دون حساب ولا عذاب مهما فعل من الذنوب. 11 - زعمه أن من كان على طريقته وتركها إلى غيرها من الطرق الصوفية تسوء حاله ويخشى عليه سوء العاقبة والموت على الكفر. 12 - زعمه أنه يجب على المريد أن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي المغسل لا اختيار له بل يستسلم لشيخه فلا يقول: لم ولا كيف ولا علام ولا لأي شيء .. الخ. 13 - زعمه أنه أوتي اسم الله الأعظم، علمه إياه النبي صلى الله عليه وسلم ثم هول أمره وقدر ثوابه بالآلاف المؤلفة من الحسنات، خرصاً وتخميناً ورجماً بالغيب واقتحاماً لأمر لا يُعلم إلا بالتوقيف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 98 14 - زعمه أن الأنبياء والمرسلين والأولياء لا يمكثون في قبورهم بعد الموت إلا زمناً محدوداً يتفاوت بتفاوت مراتبهم ودرجاتهم ثم يخرجون من قبورهم بأجسادهم كما كانوا من قبل إلا أن الناس لا يرونهم كما أنهم لا يرون الملائكة مع أنهم أحياء. 15 - زعمه أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر بجسده مجالس أذكارهم وأورادهم وكذا الخلفاء الراشدون .. الخ. إلى غير ذلك مما لو عرض على أصول الإسلام اعتبر شركاً وإلحاداً في الدين وتطاولاً على الله ورسوله وتشريعه وتضليلاً للناس وتبجحاً منهم بعلمه الغيب .. الخ. هذا ما تيسر والله الموفق. وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عبد العزيز بن باز عبد الرزاق عفيفي, عبد الله بن غديان، السؤال السابع من الفتوى رقم (5553): س: ما هي عقيدتكم في طريقة التيجانية ورؤية المصطفى صلى الله عليه وسلم يقظة؟ ج: الفرقة التيجانية من أشد الفرق كفراً وضلالاً وابتداعاً في الدين لما لم يشرعه الله. وسبق أن سئلت اللجنة الدائمة عنهم وكتبت بحثاً في كثير من بدعهم وضلالاتهم الدالة على ذلك، وأما دعوى بعض الصوفية أنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة فشيء لا أصل له، بل هو باطل وإنما يرى صلى الله عليه وسلم يوم القيامة حين يخرج الناس من قبورهم، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة)) (1). وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عبد العزيزبن باز, عبد الرزاق عفيفي, عبد الله بن غديان, عبد الله بن قعود, المصدر: الطريقة التجانية حقائق وأسرار – اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتوى للشيخ ابن باز عن الطريقة التجانية سئل الشيخ ابن باز عن الطريقة التجانية؟   (1) رواه أحمد (3/ 2) (11000) ورواه البخاري (2412) بدون قوله يوم القيامة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 99 فأجاب قائلاً: الطريقة التيجانية لا شك أنها طريقة مبتدعة ولا يجوز لأهل الإسلام أن يتبعوا الطرق المبتدعة لا التيجانية ولا غيرها، بل الواجب الاتباع والتمسك بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الله يقول قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [النور: 40] , يعني قل يا محمد للناس: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم، ويقول عز وجل: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أولياء قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الأعراف: 3] , ويقول تعالى وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر: 7] , ويقول تبارك وتعالى وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153] , والسبل: هي الطرق المحدثة من البدع والأهواء والشبهات والشهوات المحرمة، فالله أوجب علينا أن نتبع صراطه المستقيم وهو ما دل عليه القرآن الكريم، وما دلت عليه سنة رسوله عليه الصلاة والسلام الصحيحة الثابتة، هذا هو الطريق الذي يجب اتباعه، أما الطريقة التيجانية أو الشاذلية أو القادرية أو غيرها من الطرق التي أحدثها الناس فلا يجوز اتباعها إلا ما وافق شرع الله منها أو غيرها فيعمل به، لأنه وافق الشرع المطهر لا لأنه من الطريقة الفلانية أو غيرها للآيات السابقة ولقوله تعالى لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21] , وقوله عز وجل وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100] , ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (1) متفق على صحته من حديث عائشة رضي الله عنها، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) (2) أخرجه مسلم في صحيحه، وقوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة: ((أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة)) (3) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وصلاة الفاتح هي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكروا ولكن صيغة لفظها لم ترو عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قالوا فيها: اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق والناصر الحق بالحق.   (1) رواه البخاري (2697) ومسلم (1718) واللفظ له. (2) رواه مسلم (1718) والبخاري تعليقا. (3) رواه مسلم (867) ورواه البخاري (7277) من حديث ابن مسعود بلفظ (أحسن الحديث) وبدون قوله (وكل بدعة ضلالة). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 100 وهذا اللفظ لم ترد به الأحاديث الصحيحة التي يبين فيها النبي صلى الله عليه وسلم صفة الصلاة عليه لما سأله الصحابة عن ذلك، فالمشروع للأمة الإسلامية أن يصلوا عليه عليه الصلاة والسلام بالصيغة التي شرعها لهم وعلمهم إياها دون ما أحدثوه. ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن كعب بن عجرة رضي الله عنه ((أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا: يا رسول الله أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك فقال عليه الصلاة والسلام: قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد)) (1) ومن ذلك ما ثبت في (صحيح البخاري) و (صحيح مسلم) أيضا من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد)) (2) وفي حديث ثالث رواه مسلم في (صحيحه) من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد)) (3) فهذه الأحاديث وما جاء في معناها قد أوضحت صفة الصلاة عليه التي رضيها لأمته وأمرهم بها. أما صلاة الفاتح وإن صح معناها في الجملة فلا ينبغي الأخذ بها والعدول عما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان صفة الصلاة عليه المأمور بها مع أن كلمة الفاتح لما أغلق فيها إجمال قد يفسر من بعض أهل الأهواء بمعنى غير صحيح. والله ولي التوفيق. المصدر: مجموع فتاوى ومقالات ابن باز – 6/ 356   (1) رواه البخاري (3370) ومسلم (406) (2) رواه البخاري (3369) ومسلم (407) (3) رواه مسلم (405) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 101 مراجع للتوسع: ـ الهداية الهادية إلى الطائفة التيجانية، الدكتور محمد تقي الدين الهلالي ـ دار الطباعة الحديثة بالدار البيضاء، ط. 2. 1397هـ ـ 1977م. ـ كتاب مشتهى الخارف الجاني في رد زلقات التيجاني الجاني، محمد الخضر ابن سيدي عبد الله بن مايابي الجكني الشنقطي ـ طبع بمطبعة دار إحياء الكتب العربية بمصر. ـ التيجانية، علي بن محمد الدخيل الله، نشر وتوزيع دار طيبة ـ الرياض ـ دار مصر للطباعة 1401 هـ ـ 1981م. ـ الأنوار الرحمانية لهداية الفرقة التيجانية، عبد الرحمن بن يوسف الأفريقي ـ ط. 4، توزيع الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة 1396هـ ـ 1976م. ـ جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس، التيجاني، وبهامشه رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم، قام بجمعه علي حرازم (وهو في جزأين) مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، 1380هـ ـ 1961م. ـ المقتصد الأحمد في التعريف بسيدنا أبي عبد الله أحمد، أبو محمد عبد السلام بن الطيب القادري الحسيني ـ المطبعة الحجرية بفاس ـ طبع سنة 1351هـ. ـ الدرة الخريدة شرح الياقوتة الفريدة، محمد بن عبد الواحد السوسي النظيفي، طبعة 1398هـ ـ 1978م. ـ بغية المستفيد بشرح منية المريد، محمد العربي السائح ـ دار العلوم للجميع ـ 1393هـ ـ 1973م. ـ أقوى الأدلة والبراهين على أن أحمد التيجاني خاتم الأقطاب المحمديين بيقين، جمعه حسين حسن الطائي التيجاني، دار الطباعة المحمدية ـ القاهرة. ـ أعداد مجلة طريق الحق، وهي خاصة بالطريقة التيجانية ـ تصدر بالقاهرة. ـ الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، عبد الرحمن عبد الخالق، الطبعة الثانية ـ مكتبة ابن تيمية، الكويت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 102 المطلب الأول: نسبة الطريقة الرفاعية تنسب الطريقة الرفاعية إلى أحمد الرفاعي بن سلطان علي، ويوصل أتباعه نسبه إلى موسى الكاظم بن جعفر الصادق إلى علي بن أبي طالب. ولد أحمد الرفاعي في قرية (حسن) بالقرب من أم عبيدة بالعراق 512هـ وتوفي سنة 578هـ ودفن في قرية أم عبيدة. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 103 المطلب الثاني: سيرة الرفاعي من خلال كتب المؤرخين قال الذهبي في ترجمة الرفاعي: "الإمام القدوة، العابد، الزاهد، شيخ العارفين، أبو العباس أحمد بن أبي الحسن علي بن أحمد بن يحيى بن حازم بن علي بن رفاعة الرفاعي المغربي ثم البطائحي، وكان قدم أبوه من بلاد المغرب وسكن البطائح في قرية «أم عبيدة» وهي قرية من قرى واسط بالعراق. ثم توفي وأم أحمد حمل به (1). ونشأ في كنف خاله الشيخ منصور الزاهد الذي اعتنى به. وكان شافعيا تفقه قليلاً (2) على مذهب الشافعي رحمه الله. قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية: «ويقال إنه حفظ التنبيه في الفقه على مذهب الشافعي ". (3) قال الذهبي: «وكان كثير الاستغفار عالي المقدار، رقيق القلب، غزير الإخلاص، وكان متواضعا يجمع الحطب ويجيء به إلى بيوت الأرامل. وكان يقول: «أقرب الطريق الانكسار والذل والافتقار، تعظم أمر الله، وتشفق على خلق الله - وتقتدي بسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم». وكان لا يجمع بين لبس قميصين، ولا يأكل إلا بعد يومين أو ثلاثة أكلا، وإذا غسل ثوبه ينزل في الشط كما هو قائم يفركه، ثم يقف في الشمس حتى ينشف، وإذا ورد ضيف يدور على بيت أصحابه يجمع الطعام في مئزر. وقيل أحضر بين يديه طبق تمر، فبقي ينقي لنفسه الحشف يأكله، ويقول: أنا أحق بالدون، فإني مثله دون. وكان لا يقوم للرؤساء، ويقول: «النظر إلى وجوههم يقسي القلب». توفي سنة ثمان وسبعين وخمس مائة في جمادى الأولى رحمه الله. ثم إن الذهبي قال في كتاب (العبر): «وكان إليه المنتهى في التواضع والقناعة ولين الكلمة والذل والانكسار والإزراء على نفسه وسلامة الباطن ولكن أصحابه فيهم الجيد والرديء، وقد كثر الزغل فيهم، وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذت التتار العراق: من دخول النيران وركوب السباع واللعب بالحيات، وهذا: «ما عرفه الشيخ ولا صلحاء أصحابه، فنعوذ بالله من الشيطان». (4) المصدر: الطريقة الرفاعية لعبد الرحمن دمشقية - ص10   (1) انظر ((سير أعلام النبلاء)) (21/ 77). (2) هذا اللفظ للذهبي كما في كتابه ((العبر في خبر من غبر)) (3/ 75 ط) دار الكتب العلمية 1985 تحقيق محمد السعيد بن بسيوني زغلول. (3) ((البداية والنهاية)) لابن كثير (21/ 312). (4) ((العبر للذهبي)) (3/ 75). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 104 المطلب الثالث: مؤلفات أحمد الرفاعي وقد نسبت إلى الرفاعي كتب ورسائل عديدة، فأما الكتب فنسب إليه كتاب (البرهان) المؤيد وكتاب (حالة أهل الحقيقة مع الله)، وهذان الكتابان يعتبران عند الرفاعية من أوثق ما نسب إلى الشيخ. فإنهم يقولون عنه: «هذا الكتاب الذي عز شأن سبكه عن المثيل، الذي جمعه من مجالس وعظه شرف الدين بن عبد السميع الهاشمي الواسطي، وقال شيخنا القوصي: ما قرئ هذا الكتاب - يعني البرهان المؤيد - على أهل مجلس إلا وظهرت لهم نفحات العرفان والإخلاص والتمكن». (1) أما كتاب (حالة أهل الحقيقة مع الله) فإنه ليس له مستند يصحح نسبته إلى الشيخ أحمد رحمه الله، وإنما أكد أتباعه صحة نسبته إليه، وهذا الكتاب عبارة عن تعليقات على الأحاديث التي يأتي لها بأسانيد خاصة بأهل البيت عن النبي صلى الله عليه وسلم لم تذكر في كتب الحديث كالبخاري ومسلم. ويظهر منه عدم التضلع في علم الحديث حيث أنه يذكر كثيرا أحاديث لم تصح مثل حديث ((من ولد له ولد فسماه محمدا كان هو ومولوده في الجنة)) (2) وحديث: ((نظر الولد إلى والديه عبادة)) (3) بل ويكثر أن يقول: (قال الله في بعض كتبه) (4) ثم يعول على غرائب الإسرائيليات. وفي هذين الكتابين يميل إلى نقل حكم الصوفية وأقوالهم وقد ينقل من كلامهم ما لا يليق بالمسلم اعتقاده مثل تزهيد الناس في الجنة والنهي عن طلبها مثل أن ينقل عن إبراهيم قوله: «إلهي إنك تعلم أن الجنة وما فيها لا تزن عندي جناح بعوضة بعد ما وهبت لي معرفتك». وأن رابعة كانت تصف من يطلب الجنة أنه «أجير سوء». (5) مع أنه يذكر أيضا نقيض ذلك في الكتاب نفسه (6).وكذلك ينقل فيهما دعوة المحبين إلى الرضا بالنار وحمد الله على الدخول فيها يوم القيامة لأنها من قضاء الله! مثل قوله: أن الله أمر جبريل أن يخبر أحد العابدين أنه من أهل النار فلما أخبره خر ساجداً يشكر الله ويقول: «لك الحمد يا مولاي على قضائك وقدرك حمدا يعلو حمد الحامدين». (7) وكذلك ينقل عنهم الاستهانة بها مثل قول أحدهم: «إلهي لا تدخلني في النار فإنها تصير علي بردا من حبي لك» (8).وكذلك يتضمن مخالفات صريحة للتعاليم النبوية مثل أنه أورد حديثا لا صحة له يوبخ فيه النبي صلى الله عليه وسلم أحد الناس لأنه قبل ولده (9) مع أن الثابت عنه صلى الله عليه وسلم عكس ذلك تماما.   (1) أنظر ((المعارف المحمدية في الوظائف الأحمدية)) لأحمد بن عبد الرحيم الصيادي (ص 65)، وانظر ((خزانة الإمداد)) (ص64)، وكتاب ((سواد العينين)) للشيخ عبد الكريم الرافعي. (2) أورده ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 157) وقال في إسناده من تكلم فيه، وقال الذهبي في تلخيصه (1/ 34) المتهم بوضعه حامد بن حماد العسكري، وقال ابن القيم في المنار المنيف (61) كذب، (3) رواه البيهقي في الشعب (10/ 267) (7476) عن ابن مسعود رضي الله عنه من قوله. (4) انظر كتاب ((حالة أهل الحقيقة مع الله)) (139 و 153 و 131). (5) انظر كتاب ((حالة أهل الحقيقة مع الله)) 21) و 71 و 72 73 و 76 و 84). (6) انظر كتاب ((حالة أهل الحقيقة مع الله)) (52 – 53). (7) انظر كتاب ((حالة أهل الحقيقة مع الله)) (114 – 115). (8) انظر كتاب ((حالة أهل الحقيقة مع الله)) (ص72). (9) انظر كتاب ((حالة أهل الحقيقة مع الله)) (ص92). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 105 هذا ما وجدته في الكتابين غير أنه ليس باليد ما يؤكد صحة نسبتهما إليه والله أعلم. ولعله أن يكون من الصحيح أن لا تصح نسبة ذلك إليه رحمه الله. وهناك كتب أخرى جمعها المنتسبون إليه من بعده ككتاب (المجالس الرفاعية)، وكتاب (رحيق الكوثر) وكتاب (حكم الرفاعي). وذكر الزركلي بعضا من أبيات الشعر التي نسبت إليه وقال أن الصحيح أنها ليست له (1).ومهما يكن من أمر فإن هذه الكتب إن ثبت صحتها فإن فيها ما يضاد كثيرا من المبادئ السنية الصحيحة بما يتنافى واعتقادات من انتسبوا إليه من بعده ممن يستغيثون بغير الله، فإننا نجد في كتابه (حالة أهل الحقيقة مع الله) النهي عن الاستغاثة بغير الله مرات عديدة، فيذكر فيه مثلا أن الله غضب من أحد الزهاد لما أراد أن يستغيث بغيره وقال له: ((أتستغيث بغيري وأنا الغياث؟)). (2) وكذلك كان موقفه من البدع أشد بكثير مما هو حال المنتسبين إليه اليوم، وكان يقول: «من لم يزن أقواله وأفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره لم يثبت في ديوان الرجال». (3) إذن فهذان الكتابان يظهران الرفاعي في شخصية تختلف تماما عن الصورة التي ترسمها كتب الرفاعية في ذهن القارئ. إننا نجد الرفاعي هنا ينهى عن الاستغاثة بغير الله وعن الابتداع في الدين مهما كان قليلا إلى درجة أنه يروي عن أحد السلف توقفه عن أكل البطيخ لأنه لم يرو له أن السلف أكله: فهل يتفق حاله هذا مع ما عليه المنتسبون إليه من بعده؟ وهل التزموا ما كان يحث عليه من التقيد التام بالكتاب والسنة وترك بناء الدين على المنامات واستنباط أحكام الدين من المشاهدات المنامية وإن خالفت الأحكام الشرعية؟ فلنتابع قراءة الفصول القادمة فإنها تحكي الجواب على ذلك المصدر: الطريقة الرفاعية لعبد الرحمن دمشقية - ص 11 - 14   (1) ((الأعلام)) للزركلي (1/ 174). (2) ((حالة أهل الحقيقة مع الله)) (121 - 122). (3) ((الفجر المنير)) (ص 63)، ((الكليات الأحمدية)) (120 و 121)، ((حكم الرفاعي)) (ص21)، ((قلادة الجواهر)) (ص174)، ((حكم الرفاعي)) (ص21)، وانظر كتاب ((الأنوار القدسية)) (2/ 26) للشعراني. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 106 المطلب الرابع: سيرة الرفاعي من خلال كتب التصوف ولد الشيخ أحمد الرفاعي رحمه الله في أول سنة خمس مائة. تختلف سيرة الرفاعي عند الرفاعية تختلف اختلافا كبيرا عما نجده من سيرته في كتب المؤرخين وما على القارئ إلا أن يتابع ما أنقله عن كتبهم ليتأكد من ذلك. - مولده وخلقته: لقد سرى بين الصوفية اعتقاد أن الأنبياء والأولياء خلقوا من مادة متميزة على المادة التي خلق منها البشر. فنجد عند السهروردي مثلا أن الطينة التي خلق منها البشر قد وطئتها قدما إبليس قبل أن يأخذها جبريل لتتكون منها المخلوقات. بينما الطينة التي خلق منها الأنبياء والأولياء لم تمسهما قدما إبليس فبقيت زكية نقية. (1) وأما أرواح الأنبياء والأولياء فإنها تختلف أيضا عن طبيعة أرواح البشر كما يراه الإمام الغزالي، حيث يصف أرواح الأنبياء والأولياء بـ «الروح الأمرية» وأرواح باقي البشر بأنها «الروح البهيمية». (2) وكانت هذه الأفكار مصدرا لباقي المتصوفة الذين غلوا في مشايخهم، حيث جعلوا لهم خلقة غير الخلقة المعهودة عند باقي البشر. فنجد محمد أبا الهدى الصيادي الرفاعي يجعل روح الشيخ أحمد الرفاعي مركبة من خلاصة أرواح الأنبياء بل من نور وجه الله عز وجل. فقد جاء في كتابه (قلادة الجواهر) أن الشيخ أحمد الرفاعي قال: «وحق العزيز سبحانه وتعالى: قبض العزيز جل جلاله من نور وجهه قبضة فخلق منها سيدنا المصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم فرشحت فخلقني منها» (3).وجاء في كتاب (الروض النضير) أن الله أمر كل نبي أن يعطي شيئاً من روحه إلى الشيخ الرفاعي، فأجاب الأنبياء ربهم إلى ذلك، وأعطى كل منهم شيئاً من روحه إلى الشيخ الرفاعي، فتكونت روحه من أرواحهم ومن روح جده المصطفى. (4) وبهذه الأقاويل يعطون الشيخ الرفاعي ميزة في الخلق على عامة البشر ليكون من طينة الأنبياء والأولياء الخاصة. يلحقونه بمرتبتهم ويجعلونه مشابها لهم في الأحوال والأقوال والأفعال والمقامات المصدر: الطريقة الرفاعية لعبد الرحمن دمشقية - ص 15، 16   (1) ((عوارف المعارف)) (42 - 47) ملحق بكتاب ((إحياء علوم الدين)). (2) ((الأربعين في أصول الدين)) (ص195) (3) ((قلادة الجواهر في ذكر الغوث)) الرفاعي وأتباعه الأكابر (ص133) ط: دار الكتب العلمية - بيروت، ((الفجر المنير)) في بعض ما ورد على لسان السيد أحمد الرفاعي الكبير 8 ط: المطبعة العامرة ببولاق. مصر. (4) ((الروض النضير)) (ص57) للشيخ عبد الرحمن بن حسين القرشي على هامش كتاب ((رياضة الإسماع)) للصيادي ط: التمدن. مصر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 107 المطلب الخامس: قصة نسب الرفاعي إلى آل البيت وقد نسب بعضهم الشيخ الرفاعي إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وألف الرفاعيون العديد من الرسائل والكتب لإثبات نسبته إليه صلى الله عليه وسلم وقد تزعم هذه الحملة محمد أبو الهدى الصيادي الذي لم يزل يذكر هذه النسبة في رسائله التي كتبها عن الرفاعي، وخصص لهذا الموضوع مؤلفات منها: 1 - كتاب (التاريخ الأوحد) للغوث الرفاعي الأمجد. 2 - كتاب (سلاسل القوم). وقد كان يقول: «الشيخ الإمام أحمد بن علي بن يحي بن ثابت بن حازم بن أحمد بن علي بن الحسن الملقب برفاعة بن المهدي بن محمد بن الحسن بن الحسين أحمد بن موسى بن إبراهيم المرتضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي رضي الله عنه» (1).ومع القناعة التامة بأن النسب لا يقدم ولا يؤخر في صلاح المرء أو فساده فلا يجعل الرفيع وضيعا ولا الوضيع رفيعا، فإن مدار النجاة على الإيمان والعمل الصالح، غير أنني أجد ضرورة متابعة هذه النسبة للقناعة التامة أيضاً بأن الصوفية دأبوا على ربط من يعظمون من مشايخهم بآل البيت، وعلى وضع أنساب مكذوبة عليهم مثلما فعلوا في الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى حيث نسبوه إلى أهل البيت مع أنه من قبيلة «جنكي دوست» الفارسية (2). وهذا الاسم كما ترى أعجمي. فالشيخ عبد القادر رحمه الله فارسي الأصل بشثبري النسب. (3) وقس على ذلك. وقد أنكر المحققون نسبة الرفاعي إلى أهل البيت، منهم بعض أهل الطريقة القادرية الذي كتبوا مصنفات ورسائل تبطل ما يدعيه الرفاعية من وجود أي صلة نسب بينه وبينهم. ومن ذلك كتاب (الفتح المبين فيما يتعلق بترياق المحبين) لظهير الدين القادري الذي نقل فيه عن العلامة شمس الدين ناصر الدمشقي أنه قال: «لم أعلم للرفاعي نسباً صحيحاً إلى علي بن أبي طالب، ولا إلى أحد من ذريته الأطايب، وإنما الذي وصل إلينا وساقه الحفاظ وصح لدينا أنه: أبو العباس أحمد بن الشيخ أبي الحسن علي بن يحيى بن حازم بن علي بن رفاعة المغربي الأصل البطائحي الرفاعي، نسبه إلى جده الأعلى رفاعة، قدم والده أبو الحسن رحمة الله عليه من بلاد المغرب فسكن البطائح». (4) وكذلك نفى عالم الأنساب «ابن طباطبا» هو وتلميذه ابن معية أن تكون للرفاعي أية صلة بأهل البيت منكرا أن يكون هنالك أبو القاسم محمد بن الحسن بن الحسين بن أحمد بن موسى». ونقل الصيادي عنهما قولهما: «وما رأينا ممن يملي النسب للحسين ذكر ولدا اسمه محمد أبو القاسم». ثم قالا: «ولم يذكر أحد من علماء النسب للحسين بن أحمد ولدا اسمه محمد، ولم يدّعِ السيد الرفاعي هذا النسب وإنما ادعاه أولاد أولاده». (5)   (1) ((قلادة الجواهر)) (15 و 20). (2) أنظر ((قلادة الجواهر)) (20 – 21). (3) ((مختصر عمدة الطالب)): نقلا عن ((التاريخ الأوحد)) (ص8). (4) ((الفتح المبين)) (ص102) ط: المطبعة الخيرية 1306 - القاهرة. (5) ((التاريخ الأوحد)) (46 – 50). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 108 وكذلك تعقب علامة العراق الشيخ محمود شكري الألوسي، دعوى النسب الصيادي التي نافح عنها الصيادي مؤكدا على أن دعوى الانتساب إلى إبراهيم المرتضى من موسى الكاظم رضي الله عنه لا أصل لها. قال: «فقد نقل عن صاحب (مختصر عمدة الطالب) أن الشيخ أحمد الرفاعي لم يدع هذا النسب وإنما ادعاه البطن الثالث من ولده ويقولون: أحمد بن علي بن الحسين المهدي بن أبي القاسم بن محمد بن الحسين بن أحمد بن موسى بن إبراهيم المذكور. قال أبو نصر البخاري: لا يصح لإبراهيم المرتضى عقب إلا من موسى وجعفر، ومن انتسب إلى غيرهما فهو كاذب». (1) وحتى الشيخ عبد الوهاب الشعراني الصوفي الذي لم يزل يذكر الرفاعي ومناقبه وأحواله فإنه لم يذكر هذا النسب، وإنما أورد عبارة توحي بالشك في صحة النسبة إلى أهل البيت، فإنه قال: «أحمد بن أبي الحسين الرفاعي منسوب إلى رفاعة قبيلة من العرب». (2) وبالطبع لم ترض هذه العبارة الرفاعية فأبدى الصيادي تأسفه على كلمة: (منسوب) التي وردت في كلام الشعراني حتى قال: «وقد عاتبه بذلك الشيخ أحمد القليوبي في تحفة الراغب على ذلك فقال: فما أدري من أين أتى الشيخ رحمه الله بهذه النسبة». (3) ثم إن عامة المؤرخين أصحاب الطبقات ترجموا للرفاعي ولم يتطرق واحد منهم إلى ذكر نسبته إلى أهل البيت. فالسبكي ترجم للرفاعي في طبقاته ولم يذكر هذه النسبة. فإنه قال: «الشيخ الزاهد الكبير أحد أولياء الله العارفين والسادات المشمرين، أهل الكرامات الباهرة أبو العباس بن أبي الحسن الرفاعي المغربي، قدم أبوه إلى العراق ... » (4) انتهى. وكذلك الأمر بالنسبة لعامة المؤرخين كالذهبي وابن كثير وابن العماد وابن الأثير وابن خلكان، فإنهم ترجموا للرفاعي ولم يذكروا له نسبة إلى أهل البيت. مع أن من عادتهم أنهم إذا ترجموا لرجل من أهل البيت ولم يفصلوا ذكر نسبه أن يضيفوا على الأقل ما يدل على نسبته إليهم مثل أن يستعملوا عبارة: «الحسيني» أو «الحسني» أو «العلوي» مع اسمه. مثال ذلك قال الذهبي: «الإمام القدوة أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد الهاشمي العلوي الحسيني» (5).بينما نجده يقول في ترجمته للرفاعي: «أبو العباس أحمد بن أبي الحسن علي بن أحمد بن يحيى بن حازم بن علي بن رفاعة الرفاعي المغربي ثم البطائحي، قدم أبوه من المغرب وسكن البطائح. (6) وقد علل الصيادي غفلة المؤرخين عن ذكر نسبة الرفاعي إلى أهل البيت بأن عامتهم يعنون بالوقائع التاريخية لا على أنساب الرجال وفضائلهم. وأنكر بالتالي عليهم لإطالتهم ترجمة الكثيرين من الظلمة وأهل الدنيا المحجوبين وعدم تعرضهم لأعالي مقامات المشايخ ولا إلى أنسابهم. (7) وما قاله غير صحيح، فإن عامة المؤرخين ذكروا نسب الشيخ الرفاعي كابن خلكان وابن الأثير وابن العماد وابن كثير والذهبي وابن الوردي والصفدي (8) غير أن السبب الحقيقي لنقمة الصيادي عليهم لأنهم لم يذكروا نسبة الرفاعي إلى أهل البيت، وهم محقون في عدم ذكر ذلك لعدة أسباب: أولاً: لأنه لا يوجد ما يؤكد صحة هذا النسب.   (1) ((غاية الأماني في الرد على النبهاني)) (1/ 223 - 224). (2) ((طبقات الشعراني)) (1/ 140). (3) ((التاريخ الأوحد)) (ص29)، ((قلادة الجواهر)) (22). (4) ((طبقات السبكي)) 4) / 40) ط: دار المعرفة. (5) ((سير أعلام النبلاء)) (21/ 104). (6) ((سير أعلام النبلاء)) (1/ 77 – (78. (7) ((قلادة الجواهر)) (ص 22). (8) انظر ((البداية والنهاية)) (12/ 312)، ((الوافي للصفدي)) (7/ 219)، ((شذرات الذهب)) لابن العماد (4/ 259)، ((الكامل في التاريخ)) (11/ 492) لابن الأثير، ((تاريخ ابن الوردي)) 2) / 140)، ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان 1) / (172، ((سير أعلام النبلاء)) (21/ 77). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 109 ثانياً: إذا كان مؤرخا صوفيا كالشعراني يبدي الشك في نسبة الرفاعي إلى أهل البيت مع تعظيمه له، فلماذا يلام غيره على عدم إثباته هذه النسبة ما دام أنها مشكوك بها عند الصوفية قبل غيرهم. ثالثاً: أن ما يذكره المؤرخ إنما يجب أن يكون موثوقا به لا شك فيه، وليس بوسع المؤرخ الثقة أن يعتمد الأقاويل والشائعات ويجمع المعلومات جمع حاطب ليل، ولذا فإن عدم ذكر هؤلاء هذه النسبة إنما يدل على أصالتهم وأنهم كانوا يتوثقون مما يدونونه في كتبهم. فهذا مما يبعث على الثقة بهم. وليس الاختلاف حول نسبة الرفاعي إلى أهل البيت فحسب، وإنما الاختلاف أيضا حول حصول العقب منه. فالعلامة شمس الدين ناصر الدمشقي يقول: «إن الرفاعي لم يبلغنا أنه أعقب كما جزم غير واحد من الأئمة المرضية» (1) وعامة المؤرخين قد ذكروا بأن الشيخ لم يعقب وإنما العقب من أخيه. (2) غير أن صاحب كتاب (النجوم الزواهر) يذكر أن الشيخ الرفاعي تزوج الصالحة الزاهدة «رابعة» أخت زوجته الأولى، وأعقبها السيد قطب الدين، وأن هذا الأخير تزوج في حياة أبيه وأنجب ولدا سماه «منصورا». (3) وعلى العكس من ذلك فالصيادي يذكر أن قطب الدين توفي في حياة أبيه ولم يكن قد تزوج حينئذ، ودفن في قبة جده يحيى النجار، وأن من تؤول نسبتهم إلى الرفاعي إنما هم من بنتيه زينب وفاطمة. (4) - كيف يثبت الرفاعيون نسبة شيخهم إلى آل البيت: وبما أن الدليل الذي قدمه الصيادي وغيره لإثبات نسبة الشيخ الرفاعي إلى آل البيت لم يكن كافيا: راحوا يستعيضون عن ذلك بالرؤى والحكايات المنامية. فقد ذكر الصيادي في كتابه (المعارف المحمدية) أن الشيخ أبا الفضل الواسطي كان ينكر نسبة الرفاعي إلى السلالة النبوية، وأنه رجع عن ذلك بسبب رؤيا منامية لا تميل النفس إلى تصديقها، وفيها أنه رأى أن القيامة قد قامت، واللواء على رأس محمد صلى الله عليه وسلم وفاطمة بين يديه، والرفاعي عن يمينها. قال الواسطي: «وأنا على خوف عظيم، فدنوت من السيدة فاطمة واستنجدتها فأعرضت عني وقالت للشيخ الرفاعي: يا ولدي أحمد ما أعجب حال هذا الرجل، ينكر نسبك إلي ويستنجدني؟ والله لا نجدة له عندي إلا بواسطتك. فقال لي الرفاعي: أمي هذه أدرى بأولادها منك. فقالت السيدة فاطمة: الأدب الأدب مع السيد أحمد فإنه قطعة من كبدي». (5) الدليل الآخر عندهم على ثبوت النسب: أن الرفاعي والجيلاني قالا ذلك والتأدب معهما يوجب تصديقهما من غير تردد ولا تثبت. فإن عدم تصديق ما قالوه من أنهم ينتسبون إلى أهل البيت قلة أدب في حقهم. والصحيح أنهما لم يثبت عنهما قول ذلك. قال محمد أبو الهدى الصيادي: «وقال رجل موصلي لشيخنا الشيخ عبد الرحمن جمال الدين الحدادي: يا سيدي إني رأيت بعضاً من كتب التاريخ سكت عن نسبة الشيخ عبد القادر الجيلاني وسكت عن نسبة السيد أحمد الرفاعي مع أنه عربي الأصل وأشهر منه بالسيادة، وقد قال بعض علماء فارس أن الشيخ عبد القادر «بشتبري» النسب وهكذا يقول بعض أهل بيته. فقال شيخنا قدس الله سره: أكفف يا ولدي عن الخوض واعلم أن من كتب التاريخ سكت عن نسبة الاثنين، إلا أن بعض الصوفية ذكر نسبة الشيخ عبد القادر حرصاً عليه لكيلا يطعن في نسبه من لا علم له لما اشتهر أنه من العجم ولما قيل فيه من أنه «بشتبري» النسب، والأصل الصحيح إنما هو رجل فاطمي لا ريب في نسبته إلى الجد الأعظم صلى الله عليه وسلم سكن أجداده فارس إلى زمانه .. وهذا ما يجب علينا اعتقاده، فإن الأولياء أعلم منا بالأدب الديني والواجب الشرعي، ولو لم تكن نسبته ثابتة الوصول إلى الرسول لما ادعاها قط. وأما ما ذكرته من شهرة السيد أحمد الرفاعي بالسيادة وكونه عربي الأصل والمنشأ فهو السبب الذي اعتمد عليه الصوفية وسكت عن ذكر سلسلة نسبه». (6) فهذا النص يبين أن من أهم أدلة الرفاعية على نسبة شيخهم إلى أهل البيت كونه عربي الأصل. وهذا ليس بكاف وإلا لجاز لكل عربي أن يسيغ لنفسه إلحاق نفسه بالنبوة لمجرد عروبته. الدليل الثاني حسب النص أن الرفاعي ادعى هذه النسبة. وهذا ما اتفق المؤرخون على خلافه، فإنهم ذكروا أن الرفاعي لم يدع هذا النسب وإنما ادعاه البطن الثالث من أولاده المصدر: الطريقة الرفاعية لعبد الرحمن دمشقية - ص33 - 39   (1) ((الفتح المبين)) (ص105). (2) ((البداية والنهاية)) (12/ 312)، ((شذرات الذهب)) (4/ 259)، ((الأعلام)) للزركلي (1/ 174)، ((تاريخ ابن الوردي)) (2/ 140). (3) ((النجوم الزواهر)) (ص91). (4) ((قلادة الجواهر)) 133)) و 321 و 323)). (5) ((سواد العينين في مناقب الغوث أبي العلمين)) (ص 5). (6) ((قلادة الجواهر)) (ص20)، ((جمهرة الأولياء)) (2/ 206) لأبي الفيض المنوفي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 110 المطلب السادس: قصة مد يد النبي من خارج قبره ومما يستدل به الرفاعية على صحة نسب الرفاعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة مد النبي صلى الله عليه وسلم يده إلى الرفاعي. وتفصيلها: أن الله ناداه: قم يا أحمد وزر بيت الله الحرام وزر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الرفاعي لربه: سمعا وطاعة. فسافر ومعه جم غفير إلى مكة ثم المدينة ووقف عند القبر وقال: السلام عليك يا جدي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وعليك السلام يا ولدي. فتواجد الرفاعي وقال: في حالة البعد روحي كنت أرسلها ... تقبل الأرض عني وهي نائبتي وهذه دولة الأشباح قد حضرت ... فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي فانشق التابوت ومد النبي يده إلى الرفاعي ليقبلها أمام جمع كبير من الناس يزيدون على التسعين ألفا وكان من بينهم عبد القادر الجيلاني وعدي بن مسافر وحيوة بن قيس الحراني. (1) واعتبروها حادثة متواترة يكفر منكرها (2) ويصير خارجا من ملة الإسلام كما صرح الصيادي بذلك قائلا: «فخروج يد النبي صلى الله عليه وسلم لسيدي أحمد بن الرفاعي ممكن ولا يشك فيه إلا ذو زيغ وضلالة، أو منافق طبع الله على قلبه، وإنكارها يؤدي إلى سوء الخاتمة». (3) - التعقيب على هذه القصة: إن مجرد تهديد منكر هذه القصة بكفره وسوء خاتمته إنما كان بسبب ضعف الدليل الذي يمكن أن يقدمه الرفاعية لإثباتها، وإلا فالقصة من أساسها لا تثبت والأدلة على عدم ثبوتها كالآتي: (1) أن أصحاب كتب وتراجم الصوفية الأوائل كالسبكي والشعراني وابن الملقن والمناوي لم يتعرضوا لذكر هذه الحادثة مع أنهم كانوا أقرب إلى عصر الرفاعي من المتأخرين كالصيادي، وليس من المعقول أن يحرصوا على جمع كل ما روي عنه فيروون قصة الجرادة والبعوضة ويهملون هذه الحادثة التي اهتزت لها بقاع الأرض على حد تعبير الصيادي. (2) أن المؤرخين - غير المتصوفة - كالذهبي وابن كثير وابن خلكان لم يتعرضوا لذكر هذه الحادثة إطلاقاً، ولو أنها وقعت حقيقة لتسابقوا إلى كتابتها. وقد ذكروا ما اشتهر به الرفاعيون من دخول النيران واللعب بالحيات وركوب السباع غير أنهم لم يتطرقوا إلى ذكر هذه الحادثة، الأمر الذي يبعث على الجزم بأن حبكها كان متأخرا عنهم. (3) أن رواة هذه الحادثة هم «الصوفية» الذين شهد الرفاعي نفسه بأنهم يكذبون على مشايخهم وأئمتهم، حيث قال: «واحذر الفرقة التي دأبها التفكه بحكايات الأكابر وما ينسب إليهم فإن أكثر ذلك مكذوب عليهم: وقال: «يا بني إذا نظرت في القوم الذين ادعوا التصوف وجدت أن أكثرهم من الزنادقة الحرورية والمبتدعة». (4)   (1) ((قلادة الجواهر)) (15 و20 و 108)، ((حكم الرفاعي) (ص5)، ((المعارف المحمدية)) (34 و59)، ((تنوير الأبصار)) (ص 6)، ((ذخيرة المعاد في سيرة بني صياد)) (ص 33)، ((الكنز المطلسم)) (ص 5)، ((الكليات الأحمدية)) (ص201)، ((العقود الجوهرية)) (ص 6)، ((ضوء الشمس في قول النبي بني الإسلام على خمس)) (1/ 174)، ((الغارة الإلهية)) (ص56)، ((نور الأنصاف)) (ص14)، ((التاريخ الأوحد)) (ص59)، ((إرشاد المسلمين)) (ص34)، ((سواد العينين)) (ص (10، ((ترياق المحبين)) (ص 12). ((إجابة الداعي)) (ص18)، وللصيادي كتاب خاص في هذه الحادثة اسمه: ((الفخر المخلد في منقبة اليد)) (10 - 11). (2) ((قلادة الجواهر)) (ص104). (3) ((قلادة الجواهر)) (15 و 108)، ((ضوء الشمس)) (ص175). (4) ((الكليات الأحمدية)) (122 - 123 و 156)، _ ((حالة أهل الحقيقة مع الله)) (ص 105). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 111 وتصديقا لقول الرفاعي فإني أنقل عن الصوفية ما ورد في بعض كتبهم: - ذكروا أن إبراهيم الأعزب أنشد شعرا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي: «بارك الله بك، أنت منظور بعين الرضا». (1) - وأن الشيخ بهاء الدين الرواس الرفاعي وقف عند أحد القبور فخرج له إبراهيم صلى الله عليه وسلم من القبر وأعطاه ورقة مكتوب عليها هكذا (محمد1111).ويتضمن هذا الرمز مئات الأسرار من كتاب (الجفر). (2) - وأن الشيخ علي أبو الحسن الشاذلي استأذن في الدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع النداء من داخل الروضة الشريفة يقول له: «يا علي ادخل». (3) - وأن عبد القادر الجزائري وقف تجاه القبر وقال: «يا رسول الله: عبدك ببابك، كلبك بأعتابك، نظرة منك تغنيني يا رسول الله عطفة منك تكفيني فقال له الرسول: أنت ولدي ومقبول عندي بهذه السجعة المباركة». (4) فمع ما أنه عليه الصلاة والسلام كان يكره السجع ويمقته ويصف أهله بأنهم «إخوان الكهان» (5) إلا أننا نجده هنا يصف السجع بالمبارك!! - وأن الشيخ الشعراني قال: «ومما منّ الله علي: شدة قربي من رسول الله وهي المسافة بيني وبين قبره الشريف في أكثر الأوقات، حتى ربما أضع يدي على مقصورته وأنا جالس بمصر، وأكلمه كما يكلم الإنسان جليسه». (6) وبهذا الزعم يصير الأمر مشاهدة عيانية لا منامية، وأي قيمة بعد ذلك لكتب السنة والحديث ما دام أنه صلى الله عليه وسلم حي حاضر مع هؤلاء، وهل يصير اجتهاد المجتهدين في استخراج الأحكام إلا هدرا للوقت؟ هلا طلبوا من الصوفية استفتاءه صلى الله عليه وسلم عنها توفيرا للوقت؟ وكيف يتفق أن يشتهر الصوفية بعدم الإلمام بالشريعة وبالحديث يخلطون بين الصحيح والموضوع من الحديث وبينهم رسول الله يحضرهم كلما شاؤوا؟؟ - أن الصيادي ذكر أن إبراهيم المتبولي كان يرى النبي صلى الله عليه وسلم ويتلقى أوامره المحمدية، وأن أبا العباس المرسي كان يراه صلى الله عليه وسلم ويرى الانحجاب عن رؤيته نقصا في مقام ولايته، وأن الشاذلي لم يكن طيلة حياته يفارق النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقسم على ذلك قائلا: «والله لو غاب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين». (7) أن الصيادي ذكر أن أحد أعيان الطريقة (الشيخ جلال الدين) كان يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا في المنام، قيل له كم مرة رأيته يقظة؟ قال بضعا وسبعين مرة، فأيهما أعظم: من يستلم يد النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة أم من يجلس بجانبه يقظة ويحادثه أكثر من سبعين مرة؟!! (8) (4) أنهم زعموا أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم رؤي في الرؤيا أنه شد الرحال إلى قرية الرفاعي والكعبة تسير معه وقد قال: «ها أنا والكعبة زائرون، وجلس ينادي أهل القرى في طريقه أن يزوروا معه الشيخ أحمد الرفاعي. (9) ثم تبين للراوي أن الرؤيا حقيقية فقام وذهب إلى قرية الرفاعي مشاركا موكب النبي عليه الصلاة والسلام والكعبة.   (1) ((ترياق المحبين)) (ص69). (2) ((بوارق الحقائق)) (177 – 179). (3) عن كتاب ((أبو الحسن الشاذلي)) للشيخ عبد الحليم محمود. (ص79) ط: المكتبة العصرية - القاهرة. (4) ((جامع كرامات الأولياء)) (2/ 100). (5) الحديث: ((إنما هذا من إخوان الكهان)) رواه البخاري (5758) ومسلم (1681) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (6) ((لطائف المنن والأخلاق)) (ص123). (7) ((طبقات الشعراني)) (2/ 14)، ((ضوء الشمس)) (1/ 176 – 177)، ((قلادة الجواهر)) (106 و292). (8) ((قلادة الجواهر)) (422 – 423). (9) ((روضة الناظرين)) (ص59). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 112 (5) أنهم رووا عن الرفاعي أيضا أنه في العام الثاني زار القبر مرة أخرى. قال الصيادي: «ولما حج الرفاعي عام وفاته وزار قبر النبي الذي هو أفضل من الجنة بل من العرش والكرسي، أنشد قائلا: إن قيل زرتم بما رجعتم ... يا أشرف الرسل ما نقول فخرج صوت من القبر سمعه كل من حضر وهو يقول: قولوا رجعنا بكل خير ... واجتمع الفرع والأصول (1) فالرفاعي نجده في كل مرة لا يخاطب النبي إلا بالشعر، والنبي لا يجيبه إلا بالشعر! لماذا لا يخاطبه بلغة القرآن من غير شعر ولا نثر ولا سجع؟ وهل نسي القوم قول الله تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ [يس: 69] ألم يعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبغض الشعر؟ عن قتادة: قالت عائشة: ((كان الشعر أبغض الحديث إليه)) (2). وكان صلى الله عليه وسلم يقول: ((إني والله ما أنا بشاعر وما ينبغي لي)) (3). (6) أنه يلزم من تكليم الرفاعي للنبي صلى الله عليه وسلم وإمساك يده عيانا أن يصير صحابيا، فينال شرف الصحبة. ولو قالوا بأنها كانت رؤيا لما لزم ذلك. لكنهم يصرون على أن الحادثة كانت يقظة لا مناما. (7) أن الرفاعية نقلوا عن الرفاعي أنه كان يحث المصلين على رفع الإصبع والإشارة به عند الصلاة مؤكدا على أن من فعل ذلك فإنه يمس به صدره الشريف. وأن من لم يفعل ذلك لا حصل على النبي ولا حصل له شيء من اليقين ولا علم كيف يصلي عليه. (4) فما ميزة الرفاعي عن غيره من عامة الناس الذين يمسون كل يوم صدره الشريف وعند كل صلاة! (8) أن هذا العدد الهائل الذي ذكروه «تسعين ألفا» من الناس لا تتسع له المنطقة المحيطة بالمسجد برمتها، ولا يستطيع هذا العدد رؤية تقبيل اليد كلهم في وقت واحد (5) وحتى لو وقفوا صفوفا طويلة لرؤية يد النبي صلى الله عليه وسلم لاستغرق ذلك أياما لكثرة عددهم الهائل، فهل بقي النبي مادا يده أياما أو على الأقل يوما كاملا ليراه هذا الحشد الهائل من الناس؟! (9) أنهم ذكروا في سياق القصة أن الرفاعي نودي من الحضرة العلية أن قم يا أحمد وزر البيت الحرام وزر قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال سمعا وطاعة. فإن أرادوا بذلك أن الهاتف هو الله تعالى فهذه إذن كرامة أعظم من مجرد تقبيل يد النبي صلى الله عليه وسلم فلماذا لم يعيروها اهتمامهم؟! (10) أن سياق الكلام الذي نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ينفي أن يكون هذا من كلامه، مثل أن يقول للرفاعي: «البس الزي الأسود» وكذلك قوله: «فإن الله نفع بك أهل السموات وأهل الأرض»، فبماذا انتفع به أهل السموات ثم إنه لم يكن يرد السلام بصيغة المفرد «وعليك السلام» ولم يعهد عنه لفظ «يا ولدي» ولم يقلها للحسن ولا الحسين رضي الله عنهما.   (1) ((قلادة الجواهر)) (ص (104، ((ضوء الشمس)) (1/ 176). (2) رواه أحمد (6/ 134) (25064) والطيالسي (1490) والبيهقي (10/ 245) قال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 119) رجاله رجال الصحيح، وقال البوصيري في ((الإتحاف)) إسناده صحيح على شرط مسلم وصححه الألباني في ((الصحيحة)) (3095) (3) رواه الطبري في ((التفسير)) (20/ 549) وابن أبي حاتم (10/ 3200) قال الألباني في ((الصحيحة)) (7/ 245) إسناده إلى قتادة صحيح لكنه مرسل منقطع. (4) ((قلادة الجواهر)) (ص106)، وانظر كتاب ((ضوء الشمس للصيادي)) (1/ 177). (5) ذكر الصيادي في كتاب ((الحكم الرفاعية)) (ص 5) أن الناس جميعهم رأوا يد النبي وهي تشق التابوت ليقبلها الرفاعي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 113 (11) ادعى الصيادي أن الشيخ عبد القادر الجيلاني كان موجودا وقت الحادثة. وقد أراد الصيادي من ذكر الجيلاني أن يجعل منه شاهدا على ما حدث، ولكن أين شهادة الجيلاني نفسه بذلك وهو لم يذكر في مصنفاته كالمغني والفتح الرباني شيئاً من ذلك ولا روى عنه أصحابه ولا مترجموه أنه شهد على ذلك، بل لم يعرف عنه أبدا أنه رافق الرفاعي إلى الحج. أن الصيادي يأتي لنا بشهود لم يشهدوا. إذ لن يستطيع الجيلاني بعد موته أن يكذب هذه الدعوى المنسوبة إليه. (12) أن هذين البيتين اللذين أنشدهما الرفاعي عند القبر منسوبان إلى غيره. قال الشيخ الألوسي: «إن كثيراً من أهل العلم والأدب نسب البيتين إلى غير الرفاعي. قال الشيخ صلاح الدين الصفوي في تذكرته: حكي أن ابن الفارض لما اجتمع بالشهاب السهروردي في مكة أنشده: في حالة البعد روحي كنت أرسلها ... تقبل الأرض عني وهي نائبتي وهذه نوبة الأشباح قد حضرت ... فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي قال: وممن نقل ذلك الشهاب الخفاجي في: كتابه (طراز المجالس). (1) (13) أن المتصوفة قد اشتهر عنهم ادعاء مخاطبة الموتى والتلقي عنهم وكتبهم مشحونة بذلك. مثاله: أن أبا المظفر المنصور أنشد قصيدة عند قبر الشيخ الرفاعي فظهر صوت الرفاعي من القبر يقول له: وعليك السلام. (2) وأن السيدة نفيسة - صاحبة الضريح - كانت كثيرا ما تكلم أحد المشايخ المتصوفة وهي في قبرها. (3) وأن السيد أحمد البدوي أخرج يده من القبر ووضعها بيد الشعراني ليبايعه وكان من شروط المبايعة أن يكون تحت رقابة البدوي أينما ذهب فأقره البدوي وقال وهو في قبره «نعم». (4) وهذه شبيهة بقصة مد النبي عليه الصلاة والسلام يده ليبايع الرفاعي حيث قال له: هذه البيعة لك ولذريتك إلى يوم القيامة. (5) المصدر: الطريقة الرفاعية لعبد الرحمن دمشقية - ص40 - 46   (1) ((غاية الأماني في الرد على النبهاني)) (1/ 224 – 225). (2) ((العقود الجوهرية)) (77 – 78)، ((ترياق المحبين)) (8 و 39) ط: ((البهية)) (1304) مصر للشيخ تقي الدين عبد الرحمن الواسطي. (3) ((لطائف المنن والأخلاق)) (ص403). (4) ((طبقات الشعراني)) (1/ 186). (5) ((المعارف المحمدية في الوظائف الأحمدية)) (ص34). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 114 المطلب الأول: استغاثتهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وغلوهم فيه بلا حد أما بشأن الرسول صلى الله عليه وسلم فالصيادي - والصوفية أيضاً - يعتقدون أن النبي صلى الله عليه وسلم هو علة الوجود وغاية كل موجود، ولولاه لما خلق الله الأكوان. ومع ذيوع هذه الفكرة بين المتصوفة فإنها تتعارض مع علة خلق الوجود التي صرح بها القرآن الكريم وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].وهي تصرف الناس عن معرفة السبب الحقيقي في خلق الله لهم، وهو تحقيق توحيد الله في العبادة. وهم يظنون أنهم بذلك يعظمون النبي صلى الله عليه وسلم ويرضونه ولا يدرون إنهم إنما يصرفون الناس عن معرفة الأصل الذي أرسله الله تعالى من أجله. يقول الصيادي في «نور الإنصاف» (1): «وليعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو .. العلة الغائية لخلق الخلق ومعرفة الحق». (2) وقد زعم أن مجرد تسمية الرجل «محمد» كاف في دخول الجنة وأورد لذلك حديثا لا أصل له وفيه: ((إنه ينادي يوم القيامة مناد: ألا من اسمه محمد فليدخل الجنة)) (3) (4) ويذكر الرواس الرفاعي أن هذا الاسم المحمدي «ممدود على صحائف الأكوان من أم زيق الأزل إلى حاشية ذيل الأبد». (5) وأنشد الصيادي يقول (6): أنت الذي لولاك ما كان الورى ... ولغير فهمك سره مجهول وقال الواسطي (7): هو الذي خلق الله الوجود له ... هو الذي فضله جاءت به الكتب لولاه لم تكن الأكوان كائنة ... ولم يكن للورى نسك ولا قرب وأنت أرحم من لاذ المسيء به ... وخير من يرتجى أن جدت الكرب صلى عليك إله العرش ما طلعت ... شمس وأصبح نجم وهو محتجب وقد شعر الصوفية بتناقض فكرة ربط علة خلق الكون بمحمد صلى الله عليه وسلم مع فقدان هذه العلة بموته كما قال تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ [الزمر:30]، حيث يعترض معترض ويقول: إذا كان الوجود مخلوقا من أجله فما قيمة هذا الوجود بعد موته ولأي غاية يبقى؟ فقالوا حينئذ بحياته حياة كحياته التي كان يحياها قبل موته من أكل وشرب ورقابة على الأكوان وتحكم في العوالم العلوية والسفلية وهو في قبره. وأنه يخرج ويزور الأولياء والصالحين، ويقضي بنفسه حوائج المحتاجين، ويغيث المستغيثين به. وتتجلى حقيقة الشرك واضحة عند الصوفية من خلال البيت الشعري الثالث من هذا المقطع والذي يجعل فيه الواسطي النبي صلى الله عليه وسلم أرحم من يلوذ إليه المسيء وخير مرتجى عند حصول الكرب والشدة متناسيا بذلك أرحم الراحمين سبحانه، معرضا عن قول النبي نفسه ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) (8). وعن قول الله تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 67]، وقوله: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام: 64].جاعلين رسوله ندا له. ولذلك يجعلون الله تعالى في أحد أبياتهم الشعرية ثالث الثلاثة فيقولون (9): حسبنا الله والنبي وهذا الـ ... غوث حصنا عن الجبال الرواسي ناده لن تراع وأبشر إذا ما ... قلت غوثاه يا أبا العباس ... ...   (1) ((ديوان الفيض المحمدي)) (ص39). (2) ((قلادة الجواهر)) (ص (118. (3) أورده ابن الجوزي في ((الموضوعات)) (1/ 157) وقال لا أصل له وقال الذهبي في تلخيصه له موضوع، وكذلك أورده ابن عراق الكناني في ((تنزيه الشريعة)) (1/ 173) (4) ((ضوء الشمس للصيادي)) (1/ 104)، وكذلك (1/ 183) و ((زاد الرفاعي)) كان هو ومولوده في الجنة عن كتاب ((حالة أهل الحقيقة مع الله)) (ص140). (5) ((بوارق الحقائق)) (ص176). (6) ((ديوان الفيض المحمدي)) (ص39). (7) ((ترياق المحبين)) (71 – 72)، ((روضة الناظرين)) (105، 106). (8) رواه الطبراني (11585) والحاكم (3/ 623) (6303) والبيهقي في ((الشعب)) (1043) والحديث صححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (9) ((روضة الناظرين)) (ص110). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 115 المطلب الثاني: حقيقة حياة النبي صلى الله عليه وسلم قال الصيادي: «وأما بشأن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه حي في قبره، منعم متصرف كتصرفه حال حياته، متصرف - وهو فيه - بالعالم العلوي والسفلي. (1) وهو حي سميع يأكل ويشرب ويتنعم. وأن أهل الكشف من خواص هذه الأمة انكشف لهم ذلك في العالم الروحاني لا الجسماني». (2) وأكد على أن كل الأولياء من المتصوفة: «يرونه صلى الله عليه وسلم ويسمعون خطابه الكريم، وأن الفرق بين الولي وبين غيره هو سماع خطابه المبارك وعدمه. (3) وبنى على هذا أن الاستمداد من الأموات أولى وأحرى بالإجابة من الاستمداد بالأحياء، وذلك لتصرفهم في قبورهم. قال: «وعلى هذا فالاستمداد من الأموات أسرع عندي لقضاء الحاجة. (4) وهذا من قبس التشيع، فإن الشيعة يرجون من الأموات ما لا يرجون من الحي الذي لا يموت. وهو سم شركي دس في قالب تصوف يقتل التوحيد في النفوس ويجعلها تعتقد في غير الله ما لا تعتقده في الله. وانظر إلى آثار هذا الشرك في كلام الصيادي وأشعاره الذي يستغيث الله تارة ويسترحمه ويستعينه فيقول (5): رحيم فكن عوني وغوثي وراحمي ... ويا مالك ملك فؤادي بالذكر ثم يطلب الرحمة والعون والغوث من غيره فيسألها النبي نافيا أن يجد العون والنصرة من غيره قائلاً (6): رسول الرضى أدرك عبيدك بالبشرى ... تكرم تحنن جد تعطف أبا الزهرا علمتك يا مولاي ذخري وناصري ... وعوني في الدنيا وذخري في الأخرى وأنت عياذي والنصير وموئلي ... كفى بك يا سيف القضا ذخرا غوثاه يا سيد السادات خذ بيدي ... فلن أرى لي أعوانا وأنصارا ويقول (7): غوثاه يا مصطفاه انظر بمرحمة ... عصابة قد أضرتها خطاياها ويا أبا القاسم الغوث الغياث فقد ... ضاقت بنا الأرض أقصاها وأدناها ويلح على النبي صلى الله عليه وسلم ويسأله مزيدا من الرحمة والعون والحماية والنصرة فيقول (8): أنت الذي لولاك ما كان الورى ... ولغير فهمك سره مجهول يا روح كل الكائنات ومن به ... من غير شك يحصل المأمول يا غوث كل العالمين وهيكل الـ ... ـمدد المتين إذا ألم مهيل ها أنت نصرة عاجزٍ مثلي أتاك ... له ببكاء تلهف وعويل وارحم عبيدا حين يحشر في غد ... من غير حبك ما لديه فتيل وحماك رحماك الغياث فإنني ... ما لي وحقك عن حماك عدول فأغث بفضلك واكفني هم الزمان ... ففيك فيه على بنيه أصول وارحم إذا داعي الحساب دعا فأنت ... المرتجى والسيد المأمول واشمل بعطفك والدي وإخوتي ... وبني إذ بك للمراد حصول واعطف على أهلي وكل عشيرتي ... عطفا به عند الرجاء قبول ها أنت كالئا إذا الباغي بغى ... ولحفظنا يوم الكروب كفيل ويجعل منه روح ذرات الكون وأصل سر الوجود ويزداد إلحاحا في طلب الرحمة والعون منه فيقول (9): لولاه لم يكن الوجود ولا درى ... كل العبيد تفرد المعبود لولاه ما رفعت بقبتها السما ... ء ورصعت من أنجم بعقود هو روح ذرات العوالم كلها ... ذو المعجزات وذو اللوا المقصود أدعوك دعوة مستجير لائذ ... بعريض جاهك من جفا وصدود فلأنت غوث العاجزين وذخرهم ... ومجيرهم من وهدة التنفيذ يا خير من قصد العفاة رحابه ... وأتاه صاحب مقصد بقصيد ضاقت علي مذاهبي فامنن علي ... ضعفي بإحسان يغيظ حسودي وانظر بعين الرفق كسري واكفني ... هم الزمان ووصمة التنكيد المصدر: الطريقة الرفاعية لعبد الرحمن دمشقية - ص137 - 141   (1) ((نور الإنصاف)) (14 – 15). (2) ((قلادة الجواهر)) (105 – 106)، ((ضوء الشمس)) (1/ (176. (3) ((ضوء الشمس)) (1/ 178). (4) ((نور الإنصاف)) (ص 16). (5) ديوان ((الفيض المحمدي والمدد الأحمدي)) (7 ط): مطبعة الجوائب (1298) تركيا. (6) ((ديوان الفيض المحمدي)) (67، 38). (7) ((صريح الكلام في حكم عالم المنام)) (ص195) (ضمن مجموعة أشرف الوسائل). (8) ديوان ((الفيض المحمدي)) (39 – 40). (9) ((التاريخ الأوحد)) للغوث الرفاعي الأمجد ط: المطبعة المحروسة 1931 - مصر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 116 المطلب الأول: الاستغاثة بالرفاعي هذا الباب هو النتيجة والهدف الذي من أجله سطرت كل كرامات مشايخ الرفاعية وامتيازاتهم وخوارقهم، لقد سيق كل ذلك من أجل تقرير أنهم الأغواث الذين يلجأ إليهم المضطر، ويستغيث بهم الملهوف. فمن لا يملك التصرف في الأكوان كيف يرجى منه كشف الضر ورفع الكرب؟ فلذلك ذكروا أن مشايخهم يتصرفون في الأكوان. ومن لا يملك الكشف يكون غافلا عما يغيب عنه، فكيف يرجى منه سماع الاستغاثة فلذلك ذكروا أنهم يسمعون المستغيث بهم أينما كان. ومن لا يملك تغيير المقدور وغفران الذنوب كيف يرجى منه طلب ذلك؟ فلذلك ذكروا أن مشايخهم لهم صعود ونزول يصعدون إلى السماء ويحضرون ديوان الربوبية فيمحون من ذنوب مريديهم ما شاؤوا. ولعلي قبل الشروع في دخول هذا الباب أذكر القارئ المنصف الغيور على دين الله وتوحيده بآيتين من كتاب الله: (الأولى) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:] 21. (الثانية): وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل: 53] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 117 المطلب الثاني: الاستغاثة بالرفاعي في نظر الرفاعي إن الرفاعية قد جعلوا لشيخهم رتبة «الغوثية» وذكروا أن المظلوم يستغيث به، بل إن النعجة تستغيث به إذا انقض عليها الذئب وتناديه بلغتها: «يا سيدي أحمد». (1) وأن الرفاعي ما زال يرتقي من مقام إلى آخر حتى ارتفعت رتبته عن مقام «الغوثية» حتى صار هذا المقام ناقصا وقاصرا عن المقامات الأخرى التي تلته (2).بمعنى أنه صار منزها عن رتبة «غوث الثقلين» (3) تلك الرتبة التي اعتادوا أن يصفوه بها من قبل. حتى قالوا بأنه ارتفع عنها إلى مرتبة النيابة عن النبوة وأن مرتبة النيابة عن النبوة أرفع وأجل من مرتبة الغوثية. (4) قالوا: «ولهذا لما قال له أحد تلامذته: أنت القطب، قال له الرفاعي: نزه شيخك عن القطبية. فقال له حينئذ: أنت الغوث. قال له الرفاعي: نزه شيخك عن الغوثية». (5) فهذا التنزيه عندهم إنما أراد به الرفاعي ترفعه عن هذين المقامين القاصرين الناقصين إلى ما هو أعلى منهما. (6)   (1) ((المعارف المحمدية)) (72 – 73). (2) ((قلادة الجواهر)) (ص128)، ((ترياق المحبين)) (ص 7). (3) ((روضة الناظرين)) (ص95). (4) ((المعارف المحمدية)) (ص60). (5) ((طبقات الصوفية)) للشعراني (1/ 441)، ((الفجر المنير)) (ص86) - للصيادي، ((قلادة المحبين)) (ص88)، ((التاريخ الأوحد)) (ص (106 (6) انظر ((التاريخ الأوحد)) (ص106) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 118 المطلب الثالث: موقف الرفاعي من الاستغاثة بغير الله وهذا التأويل لا يفيده كلام الرفاعي من قريب ولا من بعيد، وإنما يقال بأن سبب إنكاره على تلميذه كائن في أنه يعتقد أن ذلك من خصائص الألوهية وأن وصف المخلوق بمثل هذه الصفة شرك. يؤكد ذلك قول الرفاعي: «إذا استعنتم بعباد الله وأوليائه فلا تشهدوا المعونة والإغاثة منهم فإن ذلك شرك». (1) فهذا النص يفيد بوضوح أن الاستغاثة بالأولياء يعدها الرفاعي من الشرك المنافي للتوحيد، ولذلك اعترض على تلميذه حين وصفه بها. وزيادة على ذلك فقد كان الرفاعي يرى العكوف على قبور المشايخ والتبرك بها من الوثنية، وسمى القبر في مثل هذه الحالة «صنما».قال: «يا سادة: لا تجعلوا رواقي حرما، ولا قبري بعد موتي صنما، عليكم به سبحانه، لا يضر وينفع ويصل ويقطع ويفرق ويجمع ويعطي ويمنع إلا هو». (2) وهذا الكلام موجود في الكتب التي يشدد الرفاعي على صحة نسبتها إلى شيخهم والتي يذكر فيها أن الله يقول: «ما من عبد نزلت به بلية فاعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أسباب السماء من يديه ووكلته إلى نفسه، وما من عبد نزلت به بلية فاعتصم بي دون خلقي إلا أعطيته قبل أن يسألني» (3).وأن عيسى صلى الله عليه وسلم قال: «طوبى لعبد سأل الله ولم يسأل إلا الله». (4) وروي أن بعض الصالحين وقع في بئر، ومرت بجانب البئر قافلة فأراد أن يستغيث فهتف به هاتف «أتستغيث بغيري وأنا غياث المستغيثين؟». (5) وأن الله تعالى قال لعبد من عباده: «لا تسأل غيري فأمقتك». (6) هذا موقف الرفاعي من الاستغاثة بالمشايخ وملازمة قبورهم، وهذا هو موقف كبار أئمة الصوفية وعقلائها أمثال الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى الذي كان يشنع على المستغيثين المستعينين بغير الله فيقول في كتابه (الفتح الرباني): يا من يشكو الخلق مصائبه، إيش ينفعك شكواك إلى الخلق، لا ينفعونك ولا يضرونك، وإذا اعتمدت عليهم وأشركت في باب الحق عز وجل يبعدونك، وفي سخطه يوقعونك ... أنت يا جاهل تدعي العلم، تطلب الخلاص من الشدائد بشكواك الخلق .. ويلك، أما تستحيي أن تطلب من غير الله عز وجل وهو أقرب إليك من غيره». (7) وقال لولده عند مرض موته: «لا تخف أحدا ولا ترجه، وأوكل الحوائج كلها إلى الله عز وجل واطلبها منه، ولا تثق بأحد سوى الله عز وجل، ولا تعتمد إلا عليه سبحانه، التوحيد التوحيد، وجماع الكل التوحيد». (8)   (1) ((البرهان المؤيد)) (ص79). (2) ((البرهان المؤيد)) (ص52)، ((حكم الرفاعي)) (ص12)، ((الكليات الأحمدية)) (ص115) جمع الصيادي في هذا الكتاب أقوال الرفاعي كلها. (3) ((حالة أهل الحقيقة مع الله)) (ص124) منسوب إلى الرفاعي رحمه الله. (4) ((حالة أهل الحقيقة مع الله)) (ص68). (5) ((حالة أهل الحقيقة مع الله)) (121 - 122). (6) ((حالة أهل الحقيقة مع الله)) (ص134). (7) ((الفتح الرباني والفيض الرحماني)) (117 - 118، 159) ط: دار الكتاب العربي - بيروت. (8) ((الفتح الرباني)) (373). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 119 المطلب الرابع: موقف أتباع الرفاعي من الاستغاثة بغير الله هذا هو مذهب الرفاعي والجيلاني رحمهما الله من الاستغاثة، فما هو يا ترى مذهب الرفاعية؟ فلنستعرض هذا الكم من الأبيات الشعرية التي نسقها محمد أبو الهدى الصيادي الذي كتب في الطريقة ما يزيد على الخمسين مصنفا. فمن ذلك ادعاؤه عن الرفاعي أنه قال (1): من لاذ فينا اكتفى عن غيرنا أبدا ... وجاء في ركبنا بالأمن من ندم فالجأ بأعتاب عزتي والتمس مددي ... وطف ببابي وقف مستمطرا نعمي ولازم الذل في شطحاء منزلنا ... تنجو بهمتنا من حالة العدم وليس يعقل أن يقول الرفاعي مثل هذا القول الشركي «من لاذ فينا اكتفى عن غيرنا» وهل يكتفى أويستغنى بالرفاعي عن الله تعالى الله؟.ثم إن هذا لا يتفق مع ما حكوا عن الرفاعي أنه كان كلما طلب أحدهم الدعاء منه يقول له: «من أنا حتى أدعو لك؟ ما مثلي إلا كمثل ناموسة على الحائط لا قدر لها وكيف تدعوه نفسه إلى ذلك من هو لا شيء». (2) قال الشيخ الآلوسي في غاية الأماني: «وقد تكلمت يوما مع أحد غلاة الرفاعية إذ استغاث بالرفاعي: فقلت له: هل يسمع الآن الرفاعي نداءك وهو في قبره في قرية «أم عبيدة» ويمدك بالمدد؟ فقال: نعم. قلت: فإذا اتفق مثلك في بلاد كثيرة ومواضع متعددة ألوف مؤلفة في أقطار شاسعة، هل يسمعهم أحمد الرفاعي ويمدهم ويغيثهم؟ قال: نعم. قلت له: أرأيت إن كان كثيرون مثلك في بلاد أخرى متعددة يستغيثونه في نفس الوقت الذي تستغيث أنت فيه، هل يسمع نداءهم جميعهم في آن واحد ويغيثهم؟ قال: نعم. (3) فانظر كيف صار اعتقادهم في الرفاعي: أنه لا يشغله سمع عن سمع ولا يغفل عن أدعية الداعين واستغاثة المستغيثين ولو تعددوا واختلفت أمكنتهم في الوقت الواحد، فهذا بلا ريب إضافة صفات الخالق إلى المخلوقين!! وهذه مجموعة من أبيات الشعر التي قالها الصيادي، وقد تكون لغيره ونسبها إليه (4) وهي تحوي في ثناياها أصنافا من الشرك والاستغاثة بالرفاعي وارتجائه وطلب المدد منه. يقول الصيادي (5): يا رفاعي وقعت في أعتابك ... فتدارك عبدا يلوذ ببابك يا رفاعي يا غوث كل البرايا ... لا تضيع طفلا جميل الرجا بك أنت غوث الوجود مفتاح كنز الـ ... ـوجود والخير سحٌ من ميزابك أنت حصن الملهوف والباذل الـ ... ـمعروف والعاجزون من أحزابك أنت باب الرسول من غير شك ... وأتينا نرجو العطا من بابك وأنا عبدك الذي باعتقاد ... علقت راحتاه في أثوابك فتحرك بهمة وأغثني ... وتذكر تشرفي بانتسابك رضي الله عنك أدرك فإني ... يا رفاعي وقعت في أعتابك ويقول (6): لك يا غوثاه تصريف الزمان ... حيث أنت المرتجى في كل آن ... أنت في بابك محراب الأمان ... فتداركني وأصلح سببي ... وأغث إنني في تعب ... ... ... ويقول (7): كل الأنام عيال ... عليك يا ابن الرفاعي يا بحر كل المزايا ... ويا مجيب الدواعي ويقول (8): يا ابن الرفاعي تدارك ... لمن أتى واستجارك شيخ العريجا أغثني ... أصبحت في الحي جارك لا تلو طرفك عني ... إني أروم انتصارك يا أحمد الأصفياء ... يا وارث الأنبياء يا شيخ كل الوجود ... يا بحر فضل وجود يا ابن الرسول أغثني ... فقد تعاظم حزني فان تغاضيت عني ... يصبح عاري عارك   (1) ((قلادة الجواهر)) (233 – 234). (2) ((البرهان المؤيد)) (44). (3) ((غاية الأماني في الرد على النبهاني)) (1/ 345 – 346) لمحمود شاكر الألوسي العراقي ط: دار أحياء السنة النبوية. (4) تجدر الإشارة إلى أن الشيخ عبد الحميد الرافعي قد نحل كثيرا من أشعاره إلى الصيادي انظر ((الأعلام)) للزركلي (3/ 287). (5) ((الكنز المطلسم)) (61 – 62). (6) ((العقود الجوهرية)) (ص24). (7) ((قلادة الجواهر)) (427). (8) ((قلادة الجواهر)) (382 – 383). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 120 ويقول (1): لذ بباب الجليل الرفاعي ... ولك الأمن من ملم الدواعي وتململ برحبه فحماه ... حرم الوصل قاطع الانقطاع فهو في العارفين كعبة بيت الـ ... وصل محراب جامع الانتفاع وملاذي وملجأي ونصيري ... ومغيثي ومنقذي من ضياع فعليه الرضا من الله ما صلى مصل ... وطاف بالبيت ساعي ويظهر من البيت الآتي مدى اعتقاد الرفاعية في شيخهم من الحماية والقدرة والضر والنفع حيث يرجون منه ما لا يرجون من الله تعالى. يقول الصيادي (2): يلاذ به إن جار في الدهر حادث ... ويحمى بعلياه إذا الزمن اعتدى ويقول (3): به أحتمي إن سامني غدر غادر ... ودوما إليه في الصعاب التجائيه ومن كل كرب أستغيث باسمه ... فذا مأمني من كل عاد وعادية وما لي سواه في الأنام وسيلة ... ولا منجدا أيام تسطو أعاديه وما لي له إذا جئت خائفا ... وقمت أؤدي في القيام حسابيه ويقول (4): غوثاه بالمصطفى وبالمرسلين وفي ... كل الصحابة أهل المجد والهمم أسرع وقم واكفني شر الزمان وجد ... عطفا بنظرة لطف تحي لي عدمي وانهض بهمتك العليا وقل حصل الـ ... ـمقصود صدقا وأسعف وارع لي هممي غوثاه يا ابن رسول الله خذ بيدي ... يا سيد الأوليا يا ثابت القدم ما لي لباب رسول الله واسطة إلاّك ... فاسمح وقل لا تخش من ندم ويقول (5): توسل يا أبا العلمين عن النبي ... بنيل مأربي القصي لأنك يا رفاعي القوم غوثي ... وواسطتي لوالدك النبي وأنت (ملاحظي) في كل حال ... فداركني وشيد أركان حبي ويلاحظ في مقاطع الأبيات الأخيرة أن أبا الهدى الصيادي يدعو إلى اتخاذ الرفاعي وسيلة ليس إلى الله كما هو دأب الصوفية، بل إلى النبي، متوسلين إلى المخلوق بالمخلوق، متقربين بالرفاعي إلى النبي زلفى. وهذا شر وأشنع من شرك أهل الجاهلية الأولى الذين كانوا يتقربون بالمخلوقين إلى الخالق زلفى. وينقل عن محمد نور أفندي قوله (6): يا ابن الرفاعي الرفيع مقامه ... يا سيد الأقطاب والسادات شرفت قيعان العراق جميعها ... فغدت بقبرك مهبط البركات كم نظرة وجهتها لمضيع ... فجمعت الأمر منه بعد شتات ولكم صرفت القلب نحو عويجز ... فرفعت رتبته إلى الغايات يا من يؤمل يوم كل ملمة ... يا من يؤم حماه للفضحات يا صاحب العلمين يا بحر الندى ... يا عمدتي أبدا وحصن نجاتي أدعوك غوثا يا ابن بنت محمد ... يا سيدي يا عالي الدرجات لا تقطعن رحمي لذنب مسني ... وأقل دائما بفضلك عثراتي ...   (1) ديوان ((الفيض المحمدي)) (120 – 121). (2) ((تنوير الأبصار)) (ص10). (3) ((الكنز المطلسم)) (84 – 85). (4) ديوان ((الفيض المحمدي)) (ص126). (5) ديوان ((الفيض المحمدي)) (ص127). (6) ((الكنز المطلسم)) (80 – 81). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 121 المطلب الخامس: الاستغاثة بمشايخ الطريقة الرفاعية أما الاستغاثة بمشايخ الطريقة فمثاله قول خليفة الشيخ أحمد الرفاعي علي بن عثمان: «يا سادة، من كان له منكم حاجة فليلزمني بها، ومن شكى إلي سلطانه أو شيطانه أو زوجته أو دابته أو أرضه إن كانت لا تنبت أو نخلة لا تثمر أو دابة لا تحمل فليلزمني بها فإني مجيب له». (1) ويذكر الصيادي قصة قوم في بيروت يستغيثون بالبدوي وهو في قبره في مصر، ويسألونه بحق النبي صلى الله عليه وسلم أن ينجيهم من قبضة الإفرنج الصليبيين يقول الصيادي: «وذكر أن جماعة من أهل بيروت أسرهم الإفرنج، فألهمهم الله أن يقولوا: يا سيدي أحمد يا بدوي: إن الناس يقولون إنك تأتي بالأسرى إلى بلادهم، وقد سألناك بالنبي صلى الله عليه وسلم أن تردنا إلى بلادنا. فمكنهم البدوي من الهروب من الإفرنج». (2) وهذا يوضح حقيقة اعتقاد الرفاعية في الأموات من مشايخ التصوف وأنهم يفعلون ما لا يمكن للأحياء فعله. وقد ذكر الوتري أن من الأولياء أربعة يتصرفون في قبورهم كتصرف الأحياء تماما وهؤلاء الأربعة هم: الشيخ عقيل المنبجي والشيخ قيس الحراني والجيلاني والشيخ معروف الكرخي. (3) وقالوا في هذا الأخير: قبر معروف الكرخي: «الترياق المجرب» وأنهم جربوه لقضاء الحوائج. (4) ثم مما يلاحظ في قصة استغاثة الأسرى بالبدوي أنهم توسلوا إليه بحق النبي صلى الله عليه وسلم وهذا توسل إلى المخلوق بالمخلوق، وليس توسلا إلى الخالق بالمخلوق، وليس لله في ذلك ذكر ولا شأن عندهم. وهذه الرواية ذكرها الصيادي في كتابه (قلادة الجواهر). هذا الكتاب الذي قرظه كثير من علماء الشام ولبنان وأثنوا عليه مع ما فيه من أقوال الشرك. وروى النبهاني عن عامر العراقي أنه أتى الشيخ إبراهيم الأعزب مودعا فقال له إبراهيم: «إذا وقعت بشدة فناد باسمي. قال عامر: ففي صحراء خراسان أخذتنا خيالة (قطاع طرق) فذكرت قول الشيخ وكان بجانبي رفقة فاستحييت من ذكر اسمه بلساني لأنهم «لا يفهمون مثل ذلك» فاختلج في صدري الاستغاثة به، فلم يتم ذلك حتى رأيته على جبل يومئ بعصا إليهم فجاءوا بجميع أموالنا». (5) ولما مات الشيخ عبد الله البلتاجي زاره يوسف العجمي فضاعت حمارته في الطريق فجاء إلى قبر البلتاجي وقال له: «يا عبد الله رد علي حمارتي وإلا لم أعد أزورك. فطلع الشيخ عبد الله من القبر وأتاه بالحمارة من البرية وقال: يا يوسف إذا جئت لزيارتنا مرة أخرى فقيد حمارتك بقيد من حديد». (6) ورأى أحد مريدي الشيخ عز الدين الصياد أن ينقطع عن مجلسه وتعذر له بأعذار عديدة. وفي إحدى الليالي رأى القيامة قد قامت وأنهم جاؤا به إلى جهنم، فلما قذفوه في النار صاح «يا شيخي» فمد شيخه عز الدين الصياد يده واجتذبه قبل أن يصل، وقد لفح النار ثيابه فاستيقظ مذعورا مرعوبا وقام لوقته ذاهبا إلى شيخه المذكور، فلما دخل عليه أكب «على رجليه» معتذراً، قال له شيخه عز الدين: «ولفح اللهب كما مس ثيابك مس جبتنا وصانك الله من النار». قال المريد: «لقد رأيت أثر لفح اللهب في ثيابي وفي جبة أكمام سيدي حيث صارت دخانا». (7) علق الصيادي على هذه القصة قائلا: «وهذه الكرامة تشير إلى قوة تصرفه في البرزخ» أي تصرفه في اليوم الآخر وليس في الدنيا فحسب!! وبعد: فهذه نماذج من عقائد هؤلاء وهي في نظري تحقق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى تعبد الأوثان)) (8) والاتجاه إلى المخلوق عند الشدائد من الشرك والوثنية إذ ليس بالضرورة أن يكون الوثن ذاك الصنم الحجري. بل اتباع الهوى واستبداله بالشريعة وثنية أيضاً كما قال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية: 23]. المصدر: الطريقة الرفاعية لعبد الرحمن دمشقية - ص 127 - 154 بتصرف   (1) ((قلادة الجواهر)) (ص323)، ((روضة الناظرين)) (ص 84). (2) ((قلادة الجواهر)) (ص402). (3) ((روضة الناظرين)) (ص37). (4) ((قلادة الجواهر)) (ص437)، ((الرسالة القشيرية)) (ص 9). (5) ((جامع كرامات الأولياء)) (1/ 237). (6) ((قلادة الجواهر)) (ص413). (7) ((إرشاد المسلمين)) (102 – 103)، ((خزانة الامداد في تاريخ بني صياد)) (29 – 30). (8) رواه أبو داود (4252) والترمذي رقم (2219) وأحمد (5/ 284) (22505) والحاكم (4/ 495) (8384) والحديث سكت عنه أبو داود وقال الترمذي حسن صحيح، وصححه الألباني. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 122 المطلب الأول: أنواع الكرامات يمكن تقسيم أنواع الكرامات المحكية في كتب الرفاعية إلى ثلاثة أنواع: 1 - قسم منها يتعدى مقام الألوهية مثل الإحياء والإماتة والتصرف في الأكوان بكلمة «كن» فيكون. وإبراء مريض ودفع مرضه لآخر وادعاء علم الغيب وتبديل القوانين الكونية ومحو الشقي إلى سعيد ومحو الذنوب من اللوح المحفوظ، كل ذلك سأنقله عنهم بأمانة تامة مع الإحالة إلى ذلك من كتبهم. 2 - قسم منها يحاكي النبوة ويتعدى مقامها، بل ويطعن فيها مثل قصة تعري سيدنا إبراهيم لأحد الرفاعية، ومثل ادعائهم أن أتباع الرفاعي يغوصون بحرا غرق فيه آلاف الأنبياء .. إلى غير ذلك مما سنراه. 3 - قسم منها يسخر من الكرامة ويهبط بها إلى عالم الخيال والخرافة جاعلا الأئمة الصالحين الزهاد: عرضة لنقد الآخرين وسخريتهم لا سيما من يصطادون في الماء العكر من أعداء المسلمين الذين يظهرون هذه الخيالات على أنها تمثل تعاليم الإسلام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 123 المطلب الثاني: موقف الرفاعي من هذه الكرامات المحكية وثمة نقطة مهمة أشير إليها وهي أن الشيخ الرفاعي رحمه الله لم يكن خافيا عليه ما ينسبه المتصوفة إلى مشايخهم وأسيادهم، لذا فإنه لم يكن عجيبا أن يحذر أتباعه مما عهده عن المتصوفة من الكذب على مشايخهم حتى قال: «وأحذر الفرقة التي دأبها تأويل كلمات الأكابر والتفكه بحكايات وما نسب إليهم فإن أكثر ذلك مكذوب عليهم. وما كان ذلك إلا من عقاب الله للخلق لما جهلوا الحق، فابتلاهم الله بأناس من ذوي الجرأة السفهاء .. وسلط أيضاً أناساً من أهل البدعة والضلالة: فكذبوا على القوم وأكابر الرجال وأدخلوا في كلامهم ما ليس منه. فتبعهم البعض فألحقوا بالأخسرين أعمالا». (1) هذه شهادة من الرفاعي نفسه تناقلتها كتب الرفاعية من بعده. ونتساءل: هل التزم الرفاعيون بما حذرهم منه شيخهم وهل احتذوا حذو الصوفية الذين تكلم عنهم الرفاعي رحمه الله؟ فلنذكر الحكايات التي نسبوها إلى شيخهم بالتفصيل وذلك لنتعرف على الجواب: - كن فيكون: هل تصير لغير الله تعالى؟ الولي المتمكن عند الصوفية يسمى «متصرفا في الأكوان».والتصرف ليس له حد ينتهي إليه لا سيما وإنما الصوفي المتمكن يستطيع أن يحوز على كلمة «كن» التي يخلق الله بها الأشياء. فقد ذكروا أن الشيخ أحمد الرفاعي قال: «جاء في بعض الكتب الإلهية أن الله تعالى قال: «يا بني آدم أطيعوني أطعكم، وراقبوني أراقبكم، وأجعلكم تقولون للشيء: كن فيكون». (2) وقد نقل عن أحد الصوفية قوله: «تركت قولي للشيء: كن فيكون تأدبا مع الله». (3).ونقل عن الرفاعي قوله: «وإذا صرف الله تعالى الولي في الكون المطلق: صار أمره بأمر الله تعالى: إذا قال للشيء كن فيكون» (4) وصحيح أن الكرامة حق يجب على كل مسلم الإيمان به. أنها لا تبلغ حدا تصل فيه إلى ما لا يجوز في حق غير الله تعالى مثل كلمة «كن» التي يدعون أنها بحوزتهم وفي أيدي مشايخهم. - الإحياء والإماتة: إحياء الموتى عند الصوفية من علامات التمكن في الولاية، فإنه مما ذكروه عن الشيخ الرفاعي أنه قال: «الولي المتمكن يحيي الموتى بإذن الله». (5) ولنذكر قصة من القصص المنسوبة إلى الرفاعي ذكرها الصيادي في العديد من كتبه وفيها: «أن الشيخ الرفاعي خرج مرة مع تلاميذه إلى شاطئ الفرات فقام الشيخ شمس الدين محمد بن عثمان وسأله: يا سيدي: متى يصل المريد إلى مراده ويصير مرادا ويتصرف في الأكوان؟ فقال الشيخ: حتى يخرج عن نفسه ومألوفات حسه، ويترك جميع الشهوات المباحات وغيرها، ويصرفه الله تعالى في كون وجوده وعوالمه .. وإذا صرفه في الكون المطلق صار أمره بأمر الله تعالى: إذا قال للشيء كن فيكون. وإذا التفت إلى هذا النهر الجاري وقال لأسماكه: أجيبوا طائعين مطبوخين مشويين: يطلعوا بإذن الله ويطيعوه ولا يخالفون أمره. وكان في المجلس رجل كبير الشأن يقال له عمر الفاروثي فقال له: يا سيدي هذا الرجل الذي ذكرتموه لم يكن مخلوقا، بل ربا ثانيا!!   (1) ((قلادة الجواهر)) (ص147)، ((طبقات الشعراني)) (1/ 142). (2) ((جامع كرامات الأولياء)) للنبهاني 2) / 158). (3) ((قلادة الجواهر)) (73، 145). ((المعارف المحمدية)) (47 – 48). (4) ((إرشاد المسلمين)) 124) – 125)، ((روضة الناظرين)) (ص85). (5) ((الفجر المنير)) (5، 15 – (16، ((قلادة الجواهر)) للصيادي (73، (145، ((المعارف المحمدية)) 47) – 48)، ((إرشاد المسلمين)) (85 – 86)، ((سواد العينين)) (13 – (14، ((روضة الناظرين)) (ص58)، ((طبقات الصوفية)) لابن الملقن (99 ط): مكتبة الخانجي 1973 القاهرة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 124 فغضب الشيخ أحمد غضبا شديدا وقال: تأدب يا عمر. لا أفلح من كفر. حاشا وكلا أن يصل المخلوق إلى مرتبة الربوبية. بل لله أسماء وصفات، فإذا تخلق العبد بأسماء ربه وصفاته وتحقق بهما فينظر إليه الحق بعين قربه فيصير فعله من فعل ربه. والتفت الشيخ إلى النهر وقال: يا خلق ائتوني طائعين، واحضروا إلي مشويين لتأكل منكم الإخوان والحاضرون. فما استتم قوله حتى تراكمت عليه الأسماك من البحر ونطقت بلسان عربي فصيح: السلام عليك يا خلاصة خلقه. كل من لحمنا لنسعد بك يوم القيامة. فأخذ الشيخ من الأسماك وهي مشوية ووضعها بين أيديهم، وأتى لهم من عالم غيب الله تعالى بخبز طري ساخن رائحته تفوق المسك والعنبر، فأكل الشيخ وأكل القوم أجمعون وما بقي من الأسماك إلا العظام النخرة. - إحياء العظام النخرة: فقال السيد عمر الفاروثي: يا سيدي: ما علامة الرجل المتمكن المتصرف في كون وجوده؟ فقال الرفاعي: هو أن يقول لهذه العظام كوني سمكا كما كنت أولا بإذن الله تعالى. فما استتم كلامه حتى قامت وتناثرت سمكا حيا: شاهدة لله بالوحدانية وللنبي بالرسالة وبالسيد الرفاعي بالولاية العظمى». انتهىولقد بلغ من حب الأسماك له أنه كان كلما مشى على الشاطئ تخرج الأسماك من بطن البحر لالتماس بركاته وتزدحم على أقدامه الشريفة، وتسأله بحق الله أن يأكل منها. (1) ورووا عنه أنه خرج مرة مع جماعته إلى البر فجاعوا فرأى الشيخ سربا طائرا من الأوز (البط) فأمرهم بالنزول حالا، فنزلت إحداهن بين يديه مشوية جاهزة، فأكلها رجل من رجال الغيب كان معه وما بقي إلا عظامها، فأخذ العظام ومرر عليها يده وقال: أيتها العظام المتفرقة الأوصال المنقطعة: اذهبي بسم الله الرحمن الرحيم. فذهبت وزة سوية وطارت في الجو ثانية. (2) - الأسد يكلم الرفاعي بلسان فصيح الفصيح: وذكروا أيضاً أن الشيخ الرفاعي رأى أسداً يفترس شاباً وقد «خلع» كتفه من يده ومكث يأكله. فزجره الشيخ الرفاعي زجراً شديداً وقال له: يا خلق الله أما نهيتكم عن أذية الخلق الذين يمرون ببلادنا فنطق السبع وأتى إلى حضرة الشيخ مسلما عليه بلسان عربي فصيح قائلا له: «يا سيد السادات وصاحب الجود والكرامات: لي سبعة أيام ما أكلت شيئاً، وهذا الشاب أرسله الله لي رزقا مقسوما. فالتفت إليه الشيخ الرفاعي بنظر الغضب والجلال، فوقع السبع ميتا في الحال، فأخذ الشيخ ذراع الشاب ووضعها في مكانها وقال: بسم الله الرحمن الرحيم. ومسح عليه بيده المباركة فعاد كما كان أولا بل أشد وأقوى». (3) وهذه القصة منسوبة إلى آخر غير الرفاعي وهو الشيخ عزاز بن مستودع البطائحي ذكرها النبهاني في جامعه. (4) قال الصيادي: «وحكي أن الفقراء - أي الصوفية - كانوا يتواجدون فداسوا طفلا كان نائما فمات وترضرض حتى لم يعد يعرف ظهره من بطنه، فأحياه الشيخ بعد موته. (5) وحكي أن أمير مصر صنع لأحد الرفاعيين ضيافة عظيمة وجعل أمامه طبقا فيه دجاجة فنظر إلى الطبق وقال: «سمعت سيدي الشيخ أحمد الرفاعي يقول: الولي المتمكن يحيي الموتى بإذن الله. ثم نظر إلى الدجاجة وقال لها: قومي بإذن الله. فقامت الدجاجة وشقت المجلس وخرجت. (6) وكذلك حكي أن الشيخ محمد سراج الدين الرفاعي المخزومي قد مر بغلام يذبح شاة فلما رآه والشاة تختبط مذبوحة وقد قرب خروج روحها قال للذابح:   (1) ((قلادة الجواهر)) (ص102). (2) ((قلادة الجواهر)) (ص 73). (3) ((قلادة الجواهر)) (ص91)، وانظر ((روضة الناظرين)) للوتري 58) – 59). (4) ((جامع كرامات الأولياء)) (2/ 151). (5) ((إرشاد المسلمين)) (ص82)، ((جامع كرامات الأولياء)) (1/ 296). (6) ((إرشاد المسلمين)) 124) – (125، ((روضة الناظرين)) للوتري (ص134). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 125 يا واضع السكين بعد ذبيحه ... في فيه يسقيه رحيق لهاته ضعها بجرح الذبح ثاني مرة ... وأنا الضمين له برد حياته فأعاد الذابح السكين إلى الجرح، فانتفضت الشاة سليمة لا جرح فيها ولا ذبح (1).وجاء رجل إلى الشيخ عثمان بن وروزة البطائحي ومعه ثور ليدعو له بالبركة، فأمر الشيخ السباع واحدا تلو الآخر أن يأكلوا من ثوره حتى لم يبق من الثور قطعة لحم ثم أعاده الشيخ له سمينا أكثر مما كان ولم يتأثر بأكلهم إياه. (2) وكان الشيخ أبو محمد الشبنكي جالساً على السطح وحده فاجتاز به أكثر من مائة طير واختلطت أصواتها، فقال: يا رب قد شوش علي هؤلاء. فنظر فإذا الكل موتى. فقال: يا رب ما أردت موتهم. فقاموا ينتفضون وطاروا. (3) - نقل المرض من رجل إلى آخر: وبإمكان الولي عند الرفاعية دفع المرض من شخص وإصابة بريء به. فقد روي عن إبراهيم الأعزب - ابن أخت الشيخ الرفاعي - أنه زار مريضا عليه جرب كثير، فشكى إليه المريض كثرة التألم بهذا المرض فالتفت الشيخ إبراهيم إلى خادمه وقال له: أتحمل هذا الجرب عن هذا الفقير؟ فقال: نعم يا سيدي. فقال الشيخ: قد حملته عنك وحملته هذا، فانتقل جميع ما كان على الرجل من الجرب إلى خادم الشيخ، وبقي جسد المريض الأول كالفضة البيضاء. ثم خرج الشيخ، وخادمه يشكو من الألم، فلما كانوا ببعض الطريق رأى الشيخ خنزيرا فقال لخادمه: قد حملت عنك هذا الجرب وحملته هذا الخنزير. فانتقل الجرب إلى الخنزير وعوفي الخادم. (4) كذلك نقلوا عن الرفاعي أنه لمس بيده عين رجل مفقود منها ماء البصر فتنورت وصارت أحسن من السليمة وأقوى مع العلم بأن الرفاعي نفسه كان لا يرى إلا بعين واحدة كما ذكر الشعراني، وأن أعداءه كانوا يلقبونه بـ «الدجال الأعور». (5) كذلك مسح على رأس امرأة قد تساقط شعرها فعاد كما كان ومسح بيده على أحدبية ظهرها فاستقام ورجع قويما كما كان. (6) - دفع البلاء النازل من السماء: وقد ذكروا أن أحد تلاميذ الشيخ منصور البطائحي - خال الشيخ الرفاعي - رأى البلاء وهو نازل من السماء على العراق فاستأذن شيخه في أن يدفع هذا البلاء فأذن له الشيخ فما كان منه إلا أن أخذ قضيبا وأشار إلى السماء فتفرق البلاء واستطاع بمجرد تحريك العصا أن يرد قضاء الله النازل من السماء. (7) وكذلك الشيخ أبو محمد الشبنكي الرفاعي: إذا مر البلاء من السماء من فوق بلدته: «الحدادية» فإنه يتمزق ويرتفع بفضله. (8) - التصرف في الأكوان:   (1) ((تنوير الأبصار)) (ص72)، ((خزانة الإمداد في سيرة بني صياد)) (ص102)، ((روضة الناظرين)) للوتري (ص112). (2) ((جامع كرامات الأولياء)) (2/ 143). (3) ((روضة الناظرين)) (ص26). (4) ((قلادة الجواهر)) (ص (335، ((التاريخ الأوحد)) (ص (65، ((جامع كرامات الأولياء)) (1/ 237) (16) ((قلادة الجواهر)) (ص 103)، ((إرشاد المسلمين)) (ص 32). (5) ((طبقات الأولياء للشعراني)) 1) / 143). (6) ((سر الحال)) 140) - 141) (ضمن مجموعة أشرف الوسائل) لأبي الهدى الصيادي تحقيق عبد الحكيم عبد الباسط (ط: 1389). (7) ((قلادة الجواهر)) (ص 27)، ((جامع كرامات الأولياء)) 2) / 268). (8) ((روضة الناظرين)) (26 - 27). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 126 التصرف في الكون عند المتصوفة أشبه ما يكون بالتفويض الإلهي للولي لفعل ما يريد في الكون ويصير متصفا بصفات الحق ومتميزا بميزات عديدة منها: ما نقل عن الرفاعي أنه قال: «والولي إذا أصلح سره مع الله تعالى: كلفه ما بين السماء والأرض، ثم لا يزال يرتقي من سماء إلى سماء حتى يصل إلى محل الغوث، ثم ترتفع صفته إلى أن يصير صفة من صفات الحق تعالى، فيطلعه على غيبه حتى لا تنبت شجرة ولا تخضر ورقة إلا بنظره». (1) وزيادة على ذلك فإنه يكون له حماية خمسين فرسخا، ومائة فرسخ، وألف فرسخ .. ومنهم من يكون له حماية كذا وكذا سنة. (2) ثم لا تزال ترتفع همته وترتقي رتبته عند الله، حتى تصير همته خارقة للسموات السبع، وتصير الأرضون السبع كالخلخال برجله، ويصير صفة من صفات الحق جل وعلا لا يعجزه شيء» (3).وقد جعل الرفاعيون هذه المرتبة للشيخ الرفاعي، فذكروا أنه كان قطب الأقطاب في الأرض، ثم انتقل إلى قطبية السموات، ثم صارت السموات السبع في رجله كالخلخال. (4) المطلب الثاني: نماذج أخرى من تصرفات مشايخ الرفاعية وخوارقهم: ونبدأ بسرد ما روي عن الرفاعي: فيحكون أنه وقف مرة على شاطئ النهر وقال لأتباعه: «أعطاني الله التصرف في الأشياء كلها، ثم قال: سيري يا سفن وقف يا ماء، فأوقف حركة الماء حتى صار جماداً ومع ذلك أمر السفن بمتابعة المسير فسارت. ثم بدل الطبيعة الكونية مرة أخرى فأمر الماء أن يسير وأن تتوقف السفن فقال: سر يا ماء وقفي يا سفن. فسار الماء وجمدت السفن. (5) ومثل ذلك فعل أبو علي الروزباري حين أزعجه صوت الريح واهتزاز أغصان الشجر فنظر إلى الشجر فجمدت وبقيت الريح على سرعتها وقوتها. (6) وأصدر الرفاعي أمراً إلى شجرة بالمجيء إليه بينها وبينه نهر الفرات، وأقسم عليها بذلك قائلا: «أقسم عليك بالعزيز سبحانه إلا ما أجبت دعوتي وأتيتيني طائعة، فانشقت الأرض، وانفلق البحر، وأتت الشجرة طائعة ناطقة بلسان عربي فصيح تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، وأشهد أنك شيخ الشيوخ على الإطلاق وشيخ أهل الأرض والسماء». (7) ومن التصرفات في الطبيعة الكونية ما يروى عنه من أنه: - كان يصلي الصبح في مكة. - والظهر في المدينة. - والعصر في بيت المقدس. - والمغرب في بعلبك.- والعشاء في جبل «قاف» (8) وذكروا أن الشيخ إبراهيم الأعزب كان له خمسون ألف تلميذ، فقال أحد تلاميذه في نفسه: كيف يقدر هذا على تربية هؤلاء ومعرفتهم؟ فاطلع الشيخ على ما أسره في نفسه وقال له: إن الله تعالى جعل قلوب الكل بيدي. ثم جمع أصابعه في الهواء وإذا بتلاميذه يهرولون من كل مكان حتى امتلأ المكان، ثم بسط أصابعه فرجع كل واحد منهم من حيث جاء. (9) قال الصيادي: فانظر يا أخي إلى هذا التصريف العظيم. كفر ظاهر: إرادة الشيخ إبراهيم عندهم غلبت إرادة الله.   (1) ((الفجر المنير)) (ص 20)، ((قلادة الجواهر)) 147) - 148)، ((طبقات الشعراني)) 1) / 143). (2) ((الفجر المنير)) (ص (13، ((قلادة الجواهر)) 143) - 144). (3) ((الفجر المنير)) (ص (19، ((طبقات الشعراني)) 1) / 142). (4) ((ترياق المحبين)) (ص 9)، ((لطائف المنن)) (ص 491)، ((قلادة الجواهر)) (42، 147) ((التاريخ الأوحد)) (107) (5) ((إرشاد المسلمين)) (ص15). (6) ((إرشاد المسلمين)) (ص10). (7) ((قلادة الجواهر)) (ص92). . (8) ((قلادة الجواهر)) (ص102). وجبل قاف يعتقد الصوفية بوجوده وفيه أناس يعبدون الله لم يعصوه ولا لمرة واحدة. (9) ((قلادة الجواهر)) (ص337)، ((لطائف المنن)) و ((الأخلاق في التحدث بنعمة الله على الإطلاق)) (ص 485) للشعراني ط: عالم الفكر - مصر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 127 وقد زعموا أن الشيخ إبراهيم هذا كانت إرادته تعارض إرادة الله في ملكه، وزعموا أن الله ناداه «سيدي إبراهيم». فقد حكى محمد أبو الهدى الصيادي أن الشيخ أحمد الرفاعي قال لإبراهيم: «ناداني العزيز سبحانه وقال: إني أريد أن أخسف الأرض وأرمي السماء على الأرض، فقلت: إلهي من ذا الذي يعارضك في ملكك وإرادتك؟ قال: سيدي إبراهيم. فأخذته الرعدة ووقع على الأرض». (1) وقد رووا عن إبراهيم هذا أنه كان يقول: «أعطاني ربي عز وجل التصريف في كل من حضرني، فلا يقوم أحد ولا يقعد ولا يضحك في حضرتي إلا وأنا متصرف فيه، فقال رجل من الحاضرين في نفسه: فها أنا أقوم وأقعد إذا شئت. فقطع الشيخ إبراهيم كلامه والتفت إليه وقال: انهض. فلم أستطع. ثم قال: يا بني ألم تعلم أن قلوب الخلق بين أيدينا كالمصابيح من وراء الستارة نشهدها رأي العين. (2) وكان (على حد قولهم) ظاهر التصريف في البواطن والظواهر وكان إذا قال لأشد الناس خوفا من النار: اذهب إلى النار: لم يشعر بنفسه إلا في النار ويمكث فيها ما شاء الله ويخرج منها وما احترقت ثيابه، وكان إذا أحب رجلا لا يقدر ذلك الرجل على مفارقته ويجد باعثاً من نفسه يقوده إليه طوعا أوكرها. (3) وذكروا أيضا أن الشيخ منصور البطائحي - خال الشيخ الرفاعي - حضر معركة بين جيش العراق وجيش العجم لم تقع بعد. فصفق بيده فتصادم الجيشان، ثم قبض اليد اليسرى وقال: هذه لجيش العجم. فظهر جيش العجم على جيش العراق. فلما بسطها ظهر الجيش العراقي وهزم الجيش العجمي هزيمة ساحقة. (4) ويحكون عن الشيخ منصور أنه كان على قدر عظيم من التصريف فقد وصفوه بأن الله «أظهره للوجود، ووهبه المراتب المنيعة، وصرفه في الأكوان، وحكمه في الذرات، وألان له الصعاب، وأذل له الأسود، وجمع عليه القلوب، ونصبه قبلة للعارفين وكعبة للسالكين. (5) ومن الجدير بالذكر أن نجد في كتب الرفاعية ما يفيد إدانة الرفاعي نفسه لهذا التصريف الذي يدعيه الرفاعيون لمشايخهم، فقد جاء في كتاب (الكليات الأحمدية) أن الشيخ أحمد الرفاعي رحمه الله قال: «قال بعض صوفية خراسان أن روحانية بن شهريار تتصرف في ترتيب جموع الصوفية: ذلك لم يكن إلا لله الوهاب الفعال. إن تصرف الروح لا يصح لمخلوق. (6) - الرفاعية يعرجون إلى السماء ويمحون ما في اللوح المحفوظ   (1) ((قلادة الجواهر)) (ص80). (2) ((تنوير الأبصار)) (ص 34)، ((قلادة الجواهر)) 333) – 334)، ((إرشاد المسلمين)) (ص97)، ((التاريخ الأوحد)) (ص (63، ((جامع كرامات الأولياء)) (1 / (237، ((روضة الناظرين)) (ص (86 (3) ((روضة الناظرين)) للوتري (ص86). (4) ((روضة الناظرين)) للوتري (ص21)، ((جامع كرامات الأولياء)) للنبهاني (2/ 268). (5) ((إرشاد المسلمين)) (13 – (14 وكذلك أنظر (ص17). (6) ((الكليات الأحمدية)) (ص117). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 128 يكثر كلام الصوفية عن عروج مشايخهم إلى السماء وحضور ديوان الربوبية ومخاطبة الرحمن والاطلاع على ما في اللوح المحفوظ، بل بلغ الأمر بالرفاعية أن زعموا أن من مشايخهم من يعرج إلى السماء ويمحو من اللوح المحفوظ ما يشاء .. ومثل هذا عن كتب الطريقة النقشبندية مثل قول الشيخ أحمد الفاروقي: «كثيراً ما كان يعرج بي فوق العرش المجيد، ولقد عرج بي مرة فلما ارتفعت فوق العرش بقدر ما بين مركز الأرض وبينه رأيت مقام الإمام شاه نقشبند» إلى أن قال: «واعلم أني كلما أريد العروج تيسر لي». (1) على أننا نجد مثل ذلك بين كتب الرفاعية أيضاً. فقد ذكر أن الشيخ الرفاعي قال: «أيها الفقراء: الشيخ عثمان السالم أبادي قدس الله سره يصعد كل يوم عند غروب الشمس إلى ديوان الربوبية، وينظر ديوان ذريته: فما يجد من سيئة يمحوها ويكتب «عوضها» بلا معارضة. ثم التفت إلى ابن أخته - إبراهيم الأعزب - وقال له: يا إبراهيم لا يكون الرجل ممكنا في سائر أحواله حتى يعرض عليه عند غروب الشمس جميع أعمال أصحابه وأتباعه وتلامذته فيمحو منها ما يشاء ويثبت فيها ما يشاء». (2) قال: وأما سيدي حمزة قدس الله سره فرجل عظيم المنقبة، علي المرتبة، من كان له حاجة فليقصده يوم الأربعاء، فإنه يحضر ديوان الربوبية ويقضي الحوائج (3).وأما سيدي الشيخ منصور قدس الله سره فإنه لم يزل في السماء مثل الدلو في حوض البئر، له صعود ونزول، يقضي حوائج الناس وحوائج ذريته وأصحابه إلى يوم القيامة». (4) يتابع الرفاعي فيقول: سيدي منصور صاحب طريق عجيب وسر غريب، لأنه كان يقول في أكثر أوقاته: قال لي العزيز سبحانه كذا وقلت للعزيز سبحانه كذا وقال لي ربي وقلت لربي» (5) - تحويل الشقي إلى سعيد: وزيادة على ما يعتقده الرفاعية في مشايخهم من الإحياء والإماتة والمنع والإعطاء كما تجد مثل ذلك في شخص السيد عبد الرحيم الرفاعي شقيق علي بن عثمان خليفة الرفاعي. (6) فإنهم يعتقدون فيهم أن بإمكانهم محو ما يشاؤون من السيئات وإثبات ما يشاؤون في اللوح المحفوظ، بل وتغيير الشقي إلى سعيد وبالعكس. ولقد رووا عن الشيخ أحمد الرفاعي أنه كان يقول: «كل شيخ لا يغير صفات تلميذه ويكتب الشقي سعيدا فما هو عندنا برجل». (7) ورووا أنه دخل على الشيخ الرفاعي رجل مكتوب على جبهته سطر الشقاوة فمحاه (8)   (1) ((المواهب السرمدية في مناقب السادة النقشبندية)) (ص184) ((الأنوار القدسية في مناقب النقشبندية)) (ص 182). (2) ((قلادة الجواهر)) (ص193). (3) ((قلادة الجواهر)) (ص199). (4) ((قلادة الجواهر)) (ص199). (5) ((الفجر المنير)) (ص20) ((قلادة الجواهر)) 181) – (182، ((روضة الناظرين)) (ص (20 وينسب مثل هذا إلى مشايخ آخرين غير الرفاعية انظر ((جامع كرامات الأولياء)) (1/ (163، ((طبقات الأولياء للشعراني)) 2) /104). (6) ((تنوير الأبصار)) (ص32)، ((التاريخ الأوحد)) (ص75)، ((قلادة الجواهر)) (ص328). (7) ((قلادة الجواهر)) (ص 94). (8) ((قلادة الجواهر)) (103 – (104، ((طبقات الأولياء)) لابن الملقن (ص 98) ط: الخانجي 1973 القاهرة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 129 - الطبيعة تتبدل من أجلهم: قال الصيادي: «ثبت بين السادة الرفاعية أن وقفت الشمس في قرصها للسيد قطب الدين أحمد كي لا تفوته صلاته. فلما وصل إلى قرية «أم عبيدة» توضأ وصلى لوقته فسقطت الشمس غائبة لوقتها». (1) ولا تتوقف الشمس أيضاً عن الحركة من أجل أحد مشايخ الرفاعية، بل إنها تنكسف لموت أحدهم أيضا كما صرح بذلك الصيادي والنبهاني وغيرهما، حيث ذكروا بأن الشمس كسفت لموت إبراهيم الأعزب. (2) وهذه مخالفة صريحة لا يغفل عنها عالم ولا جاهل، فمن منا يجهل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته)) (3) وكذلك تتزحزح الجبال بمجرد إشارة من أحدهم وهو الشيخ عقيل المنبجي الملقب بـ «الطيار» لكثرة ما كان يطير في الهواء (4) وتتفجر الصخرة عيونا من الماء بوكزة منه. ويسأل عقيل هذا عن علامة الرجل المتمكن، فيقول بأن علامته: أنه لو قال لهذا الجبل تحرك لتحرك. قال: فتحرك الجبل. (5) وهذه مواصفات وقدرات خارقة عديدة تجتمع في أحد مشايخ الطريقة وهو الشيخ عبدالله بن نجم الدين مبارك الصيادي الرفاعي الذي كان يثني على نفسه قائلا: «منذ عامين وأنا أتلو سطور القربى، وأتقلب على بساط الصديقية الكاملة، وتحف حضرتي أقطاب الشرق والغرب ويجيئني الخضر، وأرى النبي صلى الله عليه وسلم «عيانا» وأتلقى عنه عليه الصلاة والسلام الأوامر الخاصة وتخدمني الهوام، وأفهم لغات الطيور والوحوش، وأسمع تسبيح الجمادات، وتمر بي حوادث الأكوان، ويرهب مكانتي الزمان، وتساعدني الأقدار بكل ما أروم ويبشرني الوارد المحمدي بالترقيات والقبول، وتسلم علي الأبدال، وتتضرع بي الأنجاب، وتنكشف لي عوالم البراري والبحار» (6)   (1) ((إرشاد المسلمين)) (ص (110، ((التاريخ الأوحد)) (ص (71، ((روضة الناظرين)) (ص 99). (2) ((قلادة الجواهر)) (ص 337)، ((جامع كرامات الأولياء)) (1/ 238)، ((تنوير الأبصار)) (ص (36، ((التاريخ الأوحد)) (ص67 (، ((روضة الناظرين)) (ص90). (3) رواه البخاري (1048) ومسلم (911). (4) ((جامع كرامات الأولياء)) (2/ 153)، وقالوا عن عقيل المنبجي أيضاً: أنه كان له التصرف في الوجود وأنه كان من الذين يبرؤون الأكمه والأبرص ويحيون الموتى بإذن الله. (5) ((ترياق المحبين)) (45 و (46، وانظر ((قلادة الجواهر)) (ص335)، ((جامع كرامات الأولياء)) 1) /237 و 2/ 268) ((روضة الناظرين)) (ص36). (6) ((تنوير الأبصار)) (ص67)، ((خزانة الإمداد)) (ص (97، ((روضة الناظرين)) (ص 109). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 130 فهذا الرجل لم يؤت ما أوتيه سليمان عليه السلام فحسب، وإنما أوتي ما أوتيه الأنبياء جملة واحدة، وربما ما لم يؤتوه أيضاً. ومما يحكى عنه من الكرامات أن أبا بكر الدينوري سمع الصوفية يروون عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث)) من أكل مع مغفور له غفر الله له)) (1)، فلم يصدق به فسأل النبي صلى الله عليه وسلم في المنام عن درجة هذا الحديث فقال له: أنا قلت هذا الحديث، وغدا تأكل مع مغفور له ويغفر الله لك. وفي اليوم التالي أخذ نجم الدين لقمة وقال له: «كل يا أخي أبا بكر، صدق سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أكل مع مغفور له غفر الله له، وأنت مغفور لك». (2) فالرجل لم يتحقق من الحديث بالرجوع إلى رجاله ورواته وإنما بالتحقق من النبي صلى الله عليه وسلم شخصياً، وهذا مشهور عند الصوفية أنهم ربما سألوه في الرؤيا عن الحديث الموضوع فيقول لهم أنا قلته، وربما سألوه عن الحديث الصحيح المتواتر فيقول: لم أقله فيعتبروه حينئذ موضوعا وإن رواه البخاري ومسلم. بمعنى آخر أن لهم إسناد خاص وحكم خاص على الحديث يأخذونه عن النبي مباشرة لا على الطريقة التي مضى عليها أهل الحديث كالبخاري ومسلم وغيرهما. ثم قد ذاع عند المتصوفة أيضا دعوى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم عيانا يقظة لا مناما، كما في نص الشيخ نجم الدين «وأرى النبي عيانا» وكما في ادعاء الشيخ جلال الدين الرفاعي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة بضعا وسبعين مرة. والذي ألف كتابا جمع فيه من اجتمعوا به يقظة وأسماه: تنوير الحلك في إمكان رؤية النبي والملك. (3) وهو قول لا يسلم من الزامات عديدة، منها: أن يصير الذي يراه يقظة «صحابيا». أن يصير زائر قبر النبي صلى الله عليه وسلم إنما يزور قبراً خالياً. أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم متنقلا تارة هنا وتارة هناك إذ أن مدعي رؤيته عيانا كثيرون بل منهم من يزعم رؤيته كل يوم بل كل ساعة، وقد بلغ الأمر بأحدهم أن ادعى أنه لو غاب عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما عد نفسه من المسلمين. (4) على أنهم ذكروا أن أبا الفضل الواسطي كان يعرف أيضا لغة الحيوانات والطيور ويذكر جميع أحوالهم وما هم عليه في البر (5). - الطعن بالأنبياءلقد كنت من خلال استعراضي لسيرة الرفاعي من خلال ما كتبه عنه الرفاعيون أنهم يحاكونه بالنبي صلى الله عليه وسلم وببعض ما جرى له مثل حادثة شق الملائكة لصدر الرفاعي، ومثل التلميح من وقت لآخر بعصمته، بل إنهم يدفعون أولياءهم دفعا إلى مرتبة النبوة حتى إنهم ليعتقدون فيهم أنهم الأولياء الكمل الذين هم في غالب أمورهم لا يعمل عملا إلا عن إذن سماوي (6). ولا يختلف الإذن السماوي عن الوحي السماوي إلا في العبارة. - إبراهيم عليه السلام يتعرى!   (1) قال ابن كثير في تفسيره لا أصل له، وفي ((المقاصد الحسنة)) (211) قال السخاوي: قال شيخنا [يعني ابن حجر]: هو كذب موضوع وقال مرة أخرى: أنه لا أصل له صحيح ولا حسن ولا ضعيف، وقال ابن القيم في ((المنار المنيف)) (140) موضوع، وفي ((أحاديث القصاص)) (36) قال ابن تيمية: ليس له إسناد عند أهل العلم ولا هو في شيء من كتب المسلمين وإنما يروونه عن سنان وليس معناه صحيحاً على الإطلاق فقد يأكل مع المسلمين الكفار والمنافقين. (2) ((روضة الناظرين)) للوتري الرفاعي (ص (92، ((التاريخ الأوحد)) (ص68)، ((إرشاد المسلمين)) (ص100). (3) ((قلادة الجواهر)) (422 – 423). (4) ((طبقات الصوفية)) للشعراني 2) / 14)، ((جامع كرامات الأولياء)) (1/ 314). (5) ((إرشاد المسلمين)) (ص 7). (6) ((قلادة الجواهر)) (ص 191). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 131 وقد قالوا على سيدنا إبراهيم عليه السلام بهتانا عظيما فزعموا أنه صلى الله عليه وسلم تعرى ليكشف الشيخ إبراهيم الأعزب عن أعضائه. جاء ذلك في كتاب (روضة الناظرين) الذي ذكر أن إبراهيم الأعزب سئل عن حال الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم فذكر مجموع صفاته وكيفية أعضائه. فقال رجل: «من أهل العلم»: ما قاله السيد إبراهيم في شأن الخليل ما وجدناه في كتاب وما نقل عن أحد. فسمع إبراهيم الأعزب قوله فتبسم وأشار بيده إلى نحوه فنظر الفقيه إلى ذلك المكان فصرخ صرخة ووقع مغشيا عليه. فلما أفاق قال: رأيت الخليل صلى الله عليه وسلم وقد تعرى ليرى أعضاءه السيد إبراهيم». (1) ولقد أثنى الصيادي على الشيخ الرفاعي بأبيات قال فيها (2): برقعتك العناية الإلهية ... يا رفاعي بالبرود السنية لم نقل أنت في مقامك معصو ... م ولكن حفظا هجرت الخطية (3) أنت زيتونة كريمة أصل ... لا شرقية ولا غربية أنت فرد الأغواث يا نبوي الـ ... خلق والخلق يثبت الفردية ثم زعم أن الرفاعي منزه عن مرتبة الغوثية لأنه نال ما هو أعلى وأجل منها وهي رتبة النيابة عن النبوة. (4) وهذا طعن بالألوهية والنبوة معا. فإن الله هو غياث العباد ومددهم وكشاف كروبهم ولا ينزه عن ذلك، وليست مرتبة النبوة بأفضل من تلك فضلا عن أن تكون النيابة عن النبوة أفضل من غوثية الله تعالى. ومن صور استهزاء الرفاعية بالأنبياء ما رووه عن الرفاعي أنه قال لأتباعه: «يا سادة: هذا البحر الذي أنتم تغوصون فيه: غرق فيه وفي ساحله مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي. ومائة ألف وأربعة وعشرون ألف ولي. ومثلهم صديقون ما وجدوا له قراراً وحارت فيه أفكارهم، وضاعت فيه أوهامهم، وذهبت فيه عقولهم. (5) - ادعاء علم الغيب مطلقا لم يختلف المسلمون يوما فيما بينهم عن علم الله الغيب: هل يشاركه فيه أحد كما قال تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ [النمل: 65]. وكما أمر نبيه أن يقول: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الأنعام: 50] وقد قال: ((إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم)) (6) متفق عليه. وقال لجبريل صلى الله عليه وسلم حين سأله عن الساعة: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل)) (7). فادعاء الكشف عن علم الغيوب من أعظم الكذب على الله. غير أنه يعتبر عند المتصوفة منقبة من المناقب وكرامة من الكرامات. فالقلب - على حد قول الشيخ الرفاعي - إذا صلح صار مهبط الوحي والأسرار والأنوار والملائكة، وإذا فسد صار مهبط الظلم والشياطين. (8) وعلى حد قوله أيضاً أنه: «إذا أراد الله أن يتخذ وليا أنعم عليه بأربع: 1 - الكفاية. 2 - الحماية. 3 - الرعاية. 4 - الهداية. فإذا تحققت هذه الأربع أكرمه بأربع أيضاً: 1 - يقرأ ما على الجباه. 2 - ويصافح الملائكة ويصافحونه. 3 - ويكلم الموتى ويكلمونه. 4 - ويدخل القبور فيعرف المنعم من المعذب. (9)   (1) ((روضة الناظرين)) (ص90). (2) ((الكنز المطلسم)) (20 - 21). (3) لقد أبقى الصوفية على حقيقة العصمة لدى مشايخهم لكنهم عمدوا إلى تغيير لفظ «العصمة» إلى لفظ آخر يؤدى نفس المعنى وهو «الحفظ». فإن من عصمه الله فقد حفظه. ففي المعنى لا فرق وإنما الفارق في اللفظ فقط. (4) ((قلادة الجواهر)) (ص (128، ((المعارف المحمدية)) (60 و 72). (5) ((قلادة الجواهر)) (ص 176). (6) رواه البخاري (4351) ومسلم (1064) (7) رواه البخاري (50) ومسلم (8) (8) ((الفجر المنير)) (ص 18)، ((قلادة الجواهر)) (ص146)، ((طبقات الشعراني)) (1/ 142). (9) ((قلادة الجواهر)) (ص167)، ((الفجر المنير)) (ص51) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 132 وإذا تحلى الأولياء بهذه الخوارق الهائلة من كفاية ورعاية وهداية وعناية فما المانع حينئذ من أن يكونوا ظل الأرض وأمان أهلها من كل خوف وأذية بعد أن ضاهوا الله في قدرته وصاروا صفة من صفاته، يقولون للشيء كن فيكون، ويتحكمون في الكون، ويكشفون المكنون!! الحقيقة أنهم صاروا عند الرفاعية كذلك، فقد ذكر الصيادي عن الشيخ عثمان القصير أنه قال: «كان الشيخ علي الرفاعي - خليفة الشيخ أحمد - أمانا لأهل الأرض، وظلا ظليلا على سائر الخلق». (1) ولما ذكر الرفاعي أنه صحب ثلاثمائة ألف أمة وأنه كان يعرف كلامهم وصفاتهم وأسماءهم وأرزاقهم وآجالهم، تعجب خادمه يعقوب فقال له الشيخ: «وأزيدك أيضاً أنه لا تستقر نطفة في فرج أنثى إلا ينظر الولي إليها ويعلم بها». فقال يعقوب: يا سيدي هذه صفات الرب جل وعلا!! فقال الشيخ: يا يعقوب، استغفر الله تعالى (2) فإن الله إذا أحب عبدا صرفه في جميع مملكته، وأطلعه على ما شاء من علوم الغيب .. وإذا كان الحق تعالى مع عبده كما يريد، صار كأنه صفة من صفاته». (3) ذكر الشعراني تلك المساجلة بين الشيخ الرفاعي وخادمه يعقوب، وزاد على ذلك بأن نقل عن شيخه (علي الخواص) شروطاً يجب توافرها في الولي الصوفي وهي: 1 - أن يكون عنده علم يكشف به الحقائق والدقائق. 2 - أن يعلم ما جاز وما وجب وما استحال. 3 - أن يكون له سريان في العوالم العلويات والسفليات. 4 - أن يكون له قوة على التلبس (4) في الصور، والتطور في الرتب. 5 - أن ينظر أحوال مريده من اللوح المحفوظ. 6 - أن يراقب مريده من حين كان في عالم الذر قبل وروده وهبوطه إلى أصلاب الآباء وبطون الأمهات. (5) وإذا كان للأولياء هذا المبلغ من الكشف والعلم الغيبي على النحو الذي يشترطه شيخ الشعراني فلا يعجب حينئذ أن يقرأ في كتب الشعراني أن شيخه المذكور كان ينظر في الميضأة فيرى الذنوب التي تتساقط عليها من أثر الوضوء، وأنه نظر مرة إلى المغطس فقال: «لا جزى الله خيرا من اغتسل في هذا المغطس فإنه قذره وأنتنه. فسألوا عمن اغتسل فيه فوجدوه رجلا كان قد فعل الفاحشة في عبده» (6) المصدر: الطريقة الرفاعية لعبد الرحمن دمشقية - ص 53 فما بعدها - الرفاعي يخاطب أمه وهو في بطنها وجاء في كتاب (الروض النضير) أن الشيخ الرفاعي كان يخاطب أمه وهو في بطنها فيقول: «يا أماه السلام عليك. فتقول: وعليك السلام يا ولدي. ما اسمك؟ فيقول: اسمي أحمد. ولقد سألها مرة - وهو حمل في بطنها -: ما تطلبين من الله؟ فقالت: الرحمة. فقال: لها أسباب سبعة: 1 - النية الصالحة. 2 - الصلوات الخمس.   (1) ((قلادة الجواهر)) (ص 350) (2) وفي ((قلادة الجواهر)) (ص (143، و ((روضة الناظرين)) (ص 59) أنه قال لمن أنكر في قلبه «استغفر الله مما خطر في قلبك» وهذا عجيب أن نرى مخلوقين يطلعون على القلوب ويأمرون الناس بالاستغفار مما خطر فيها، فإن الذي يعلم السر وأخفى قد عفا عما يخطر في البال وهؤلاء يطالبون بالاستغفار منه!! (3) ((قلادة الجواهر)) (ص 68)، ((لطائف المنن والأخلاق)) 470) – 471). (4) بمعنى التشكل بالأشكال المختلفة. (5) ((لطائف المنن والأخلاق)) 462) – 463). (6) ((لطائف المنن والأخلاق)) (ص 50). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 133 3 - الإحسان إلى الفقراء. 4 - صفاء الضمير. 5 - حفظ اللسان من الغيبة. (1) وكانت أمه تدخل على الشيخ أبي محمد الشنبكي وهي حامل به فيقوم لها إجلالا. فلما تكرر ذلك منه سئل عنه فقال: أنا أقوم إجلالا للجنين الذي في بطنها، فإنه أحد المقربين إلى الله عز وجل وهو من أصحاب المقامات. (2) - كيفية خروجه من بطن أمه قال صاحب كتاب (الروض النضير): «ولما ولدته أمه خرج منها ويده اليمنى على صدره كما يفعل المصلي. ويده اليسرى يغطي بها عورته، وكلما رفعوا يده عن عورته أعادها ليغطي عورته. وما أن خرج من بطن أمه حتى صار يحرك شفتيه، فأمر الشيخ منصور البطائحي بعض الحاضرين أن يقتربوا من شفتي الشيخ أحمد. فسمعوه يقول: سبحان الذي صوركم فأحسن صوركم. (3) ولما ولدته أمه أبى أن يرضع، وما زال على ذلك حتى أتوا له بمرضعة تقية طاهرة، فكانت تجدد وضوؤها حالة إرضاعه. ولما جاء رمضان أمسك عن الرضاع، وامتنع عن شرب الحليب نهارا إلا بعد الإفطار وبقي كذلك إلى بعد العيد. (4) - شق الملائكة لصدر الرفاعيومن قصة شق صدر النبي الكريم صلوات الله تعالى وسلامه عليه أخذ الرفاعيون فكرة الرفاعي فذكروا عنه أنه قال لابن أخته «إبراهيم الأعزب»: «اعلم أني لما دعيت إلى هذا الأمر: حملت إلى قبلة هذا البلد، وشق صدري ملك من الملائكة المقربين، فأخرج منه شيئاً مظلما وغسله بماء الحيوان من الرياء وسوء الخلق وكل ما للشيطان فيه نصيب، كل ذلك وأنا أنظر بعيني كما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم». (5) وهذه الحالة من الأحوال المطابقة لما حصل لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم غير أن المرء يتساءل: ما الغرض من حدوث مثل ذلك للرفاعي أليكون معصوما كما كان الرسول عليه الصلاة والسلام؟ وأي أمر هذا الذي أخبر أنه «دعي إليه أهو النبوة أم الرسالة؟».إننا نجد عبارة أخرى بين كتب الرفاعية تحدد لنا ما هو هذا الأمر الذي دعي إليه. فقد جاء في كتاب (سواد العينين) أن الله قد رفع الشيخ الرفاعي إلى مقام القطبية والغوثية، وأنه من أجل ذلك ذهب إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وتململ على عتبته وصار يقول: «العفو العفو» إلى أن أحاط به النداء من كل جانب «فاستقم كما أمرت». (6) إن مثل هذه الحادثة إنما وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم ضرورة لنبوته. فالعصمة من الزلل ومن كل ما للشيطان فيه نصيب إنما هو من ضرورات النبوة فما السبب في حصول مثل ذلك لغير النبي كالرفاعي؟ - صك بتحريم النار على الرفاعي وعلى كل ما تمسه يده ويدعي الرفاعية أن الشيخ الرفاعي كان بيده ورقة بيضاء فنادى أحد أتباعه وقال له: يا فلان تعال وأقرأ هذه الورقة قال: فقرأتها وهي مكتوبة بالنور. قال الرفاعي: رأيت في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني هذه الورقة وقال: يا أحمد، هذه براءتك من النار. قال: فأخذت الكتاب فقرأته وإذا فيه مكتوب: براءة ابن أبي الحسن من النار، ثم انتبهت وإذا الكتاب بيدي». (7)   (1) ((الروض النضير)) (ص15). (2) ((قلادة الجواهر)) (ص (25، ((روضة الناظرين)) للوتري ط: المطبعة الخيرية 1306 مصر ((جامع كرامات الأولياء)) 2) / 268) ط: دار صادر - بيروت. (3) ((الروض النضير)) (17 – 18). (4) ((الروض النضير)) (15، (19، ((قلادة الجواهر)) (ص25)، ((إرشاد المسلمين)) (ص30). (5) ((قلادة الجواهر)) (ص141)، ((الفجر المنير)) 8) – 9) ط: العامرة ببولاق القاهرة. (6) ((سواد العينين في مناقب الغوث)) أبي العلمين (15 - 17). (7) ((إرشاد المسلمين)) (ص 82). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 134 ولم يقتصر الأمر عند ذلك الحد، بل ازداد ليجعل كل من مسته يد الرفاعي محرما على النار. فقد ذكروا أن الله وعد الرفاعي أن كل من دخل قريته أو مس كفه لا تأكله النار ولا تضره. وحكوا عن الرفاعي أنه أمسك مرة سمكة وأعطاها إلى أحد مريديه ليشويها له فلم تنشو ولم تنضج وبقيت نيئة على حالها فتعجب المريد من ذلك فأخبره الشيخ الرفاعي أن السبب في ذلك أن الله تعالى وعده أن لا تضر النار شيئاً مسته يده. (1) - الرفاعي يبيع قصرا في الجنة وهذه قصة منسوبة إلى الشيخ الرفاعي مفادها أن الرفاعي قد باع رجلا قصرا في الجنة محدد المساحة لقاء شراء بستان في الدنيا. قال محمد أبو الهدى الصيادي: «ونقل أن الشيخ جمال الدين الخطيب كان من أكابر أصحاب السيد أحمد الرفاعي وكان يريد أن يشتري بستانا لضرورة، فامتنع صاحب البستان عن بيعه إياه، فتشفع الشيخ جمال الدين إلى الرفاعي، فأتى رد الشفاعة من صاحب البستان (إسماعيل بن عبد المنعم) الذي قال للرفاعي: يا سيدي إن اشتريته مني بما أريد بعتك إياه. فقال الشيخ: يا إسماعيل قل لي كم تريد ثمنه حتى أعطيك؟ فقال: يا سيدي تشتريه مني بقصر في الجنة؟ فقال الرفاعي: من أنا حتى تطلب مني هذا يا ولدي؟ اطلب من الدنيا. فقال: يا سيدي شيئاً من الدنيا ما أريد، فإن أردت البستان فاشريها بما أطلب. فنكس السيد أحمد الرفاعي رأسه ساعة، واصفر لونه وتغير، ثم رفع وقد تبدلت الصفرة إحمرارا وقال: يا إسماعيل قد اشتريت منك البستان بما طلبت. فقال: يا سيدي اكتب لي خط يدك. فكتب له السيد أحمد الرفاعي ورقة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اشترى إسماعيل بن عبد المنعم من العبد الفقير الحقير أحمد بن أبي الحسن الرفاعي، ضامنا على كرم الله تعالى قصرا في الجنة تجمعه حدود أربعة: الأولى: إلى جنة عدن. الثانية: إلى جنة المأوى. الثالثة: إلى جنة الخلد. الرابعة: إلى جنة الفردوس وذلك بجميع حوره وولدانه وفرشه وستره وأنهاره وأشجاره، عوض بستانه في الدنيا. وله الله شاهد وكفيل. ثم طوى الكتاب وسلمه إليه، وأوصى صاحب البستان المذكور أن يوضع الصك معه في كفنه إذا مات، ففعل أبناؤه ذلك، ولما دفنوه وجدوا صبيحة اليوم التالي وقد كتب على قبره «وقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا» (2).ويتغنى الصيادي بهذه القصة بأبيات من الشعر (3) فيقول مخاطبا الرفاعي: وبستان إسماعيل لما اشتريته ... بقصر وقد أرهنته الخط والختما وذاك بدار الخلد في ساحة الرضا ... فصدقك المولى ووعدك قد تما على أن الرفاعي قد ضمن الجنة لآخر مقابل عصفور يشتريه منه. فجاء في كتاب (قلادة الجواهر) أن واحداً من أصحاب الشيخ الرفاعي اصطاد عصفورا وشد برجله خيطا وعلقه، والعصفور يصيح من شدة الألم، فقام الشيخ أحمد الرفاعي والتمس منه خلاص هذا العصفور فأبى وقال للشيخ: "تشتريه مني؟ " فقال الرفاعي: نعم، بكم هو؟ قال: بأن أكون بصحبتك في دار السلام، وأجوز معك بالسلام على الصراط. قال الرفاعي: نعم.   (1) ((بوارق الحقائق)) (ص 229)، ((إرشاد المسلمين)) (ص (87، ((روض الرياحين)) (ص60). (2) ((قلادة الجواهر)) (70 – 71)، ((روض الرياحين)) (440 – (441، ((جامع كرامات الأولياء)) (1/ 296 – 297)، ((الكواكب الدرية)) (ص 214). (3) ديوان ((الفيض المدي)) (122 – 123). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 135 فقال صاحبه: والله على ما نقول وكيل؟ قال: نعم. قال: اعهد معي. فعهد معه وخلص العصفور». (1) لقد اعتاد المتصوفة ذكر مثل هذه الحكايات التي يعِدون فيها من شاؤوا بدخول الجنة. ومثل ذلك أيضاً ما يزعمه متصوفة آخرون عن مشايخهم كالتيجاني القائل: «وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل من رآني يدخل الجنة وإن كان كافرا». (2) وكذلك قول أحد أتباعه: «رأيت شيخنا التيجاني بيده حلة، وقال لي: من رأى هذه الحلة دخل الجنة». (3) ولا شك أن الإسلام يأبى مثل هذه الأقاصيص التي تعلق الناس بغير الله وتجعل رجاءهم فيما عند المحتاجين الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا وتقطع الرجاء فيما عند الغني الذي بيده الضر والنفع والثواب والعقاب لا بيد أحد سواه. ونستطيع القول بأن صكوك ومواثيق دخول الجنة التي يذكرها المتصوفة عن مشايخهم قد سبقهم إليها النصارى، فقد اشتهر عن الكنيسة مثل هذه الصكوك المسماة «صكوك الغفران» والتي كانت تشبه في نصها هذا النص المنسوب إلى الشيخ الرفاعي. ولا يزال النصارى إلى اليوم يسخرون من مهزلة هذه الصكوك ويهزءون بسببها من الكنيسة، فليس للنصارى ولا للمتصوفة أن يتألوا على الله فيضمنوا الجنة لأحد من عباده. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [الزخرف: 32] , أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ؟ [ص: 9]. - الرفاعي يمرض ويجوع فداء للآخرين إن فكرة تعذيب شخص فداء عن الآخرين قديمة تبنتها العديد من الديانات والمذاهب، وهي مشتهرة عند النصارى الذين زعموا أن المسيح عليه السلام تألم وتعذب من أجل الآخرين. وتعرف هذه الفكرة بمبدأ «الكفارة والفداء». والجدير بالذكر أن هذه الفكرة تسربت إلى أصحاب الطريقة الرفاعية الذين جعلوا شيخهم يتحمل البلاء والمرض نيابة عن الآخرين. فقد ذكروا أن شيخهم مرض فقال: «أقبل على الخلق بلاء عظيم فتحملته عنهم واشتريته بما بقي من عمري فباعني». وكان يبكي ويقول: اللهم اجعلني سقف البلاء على هؤلاء الخلق. (4) وكان يقول لخادمه يعقوب: ما وجد أحد من الفقراء أذى إلا وجدت ألمه في قلبي. (5) ورأى أحدهم حال الشيخ الرفاعي من الجوع والفقر فقال في نفسه: «أولاد المشايخ يركبون الخيل ويلبسون الناعم، والسيد أحمد لا يركب الخيل ولا يلبس المليح ولا يشبع من الطعام. فعلم الشيخ بما خطر في نفسه وقال له: يا ولدي استغفر الله مما خطر لك، فلو لم يجع سيدك ما شبع أحد من المسلمين، ولا ركب فرسا ولا حمارا». (6) - الرفاعي يذوب ويتحول إلى ماء ومن أعجب ما حكي عن الشيخ الرفاعي أنه كان يذوب كالرصاص ويستحيل إلى ماء كلما جلس يتعبد الله تعالى. فقد ذكر محمد أبو الهدى الصيادي أنه لما كان الله يتجلى على الرفاعي بالعظمة كان يذوب حتى يبقى بقعة ماء ثم تدركه الرحمة الإلهية فيجمد شيئاً فشيئاً حتى يعود بدنه إلى ما كان عليه فيقول لأتباعه: «لولا لطف الله ما عدت إليكم». (7)   (1) ((قلادة الجواهر)) (ص62) (2) (بغية المستفيد)) (ص216)، ((الدرة الخريدة)) (1/ 80). (3) ((رماح حزب الرحيم على حزب الرجيم)) (1/ 182). (4) ((إجابة الداعي في مناقب القطب الرفاعي)) (ص9) للشيخ إبراهيم البرنزحي، ط: المطبعة العامرة ببولاق مصر 1301. (5) ((قلادة الجواهر)) (ص 143). (6) ((روضة الناظرين)) (ص59). (7) ((قلادة الجواهر)) (ص 67)، ((اجابة الداعي)) (ص14). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 136 وذكر الصيادي والنبهاني أيضاً أن الرفاعي خرج مع أحد مرافقيه (الشيخ سعيد) في الليل فوصلا إلى بستان، فقال له الرفاعي: قف ههنا حتى أرجع. قال الشيخ سعيد: فوقفت مكاني حتى مضى من الليل شطره وهو لم يرجع. فمشيت على أثره لأعرف خبره، فإذا أنا بثيابه ملقاة على الأرض وعلى جانبه ماء، فجعلت أطوف يمينا وشمالا فلم أجده. فرجعت إلى موضعي وأنا مرعوب من ذلك إذ أقبل علي وأنواره تشرق، فسألته عن ذلك فقال: يا ولدي أنا كنت ذلك الماء الذي رأيته. نظرني العزيز سبحانه بعين اللطف فصرت كما ترى. يا سعيد لولا أن نظرني بعين اللطف لما رجعت إليكم أبدا». (1) ومثل هذه الأحوال نسبوها أيضا إلى غير الرفاعي، فقد ذكر الصيادي أن قوما جاءوا إلى الشيخ منصور البطائحي - خال الشيخ الرفاعي - فسألوه عن المحبة، فسكت ثم ذاب كما يذوب الرصاص قطرة بعد قطرة وهم ينظرونه حتى صار كالماء المائع. (2) وقد أخبرني أحد من اجتمعت بهم ممن رجعوا عن هذه الطريقة أنه قرأ في أحد كتب الرفاعية أن سبب ذهاب إحدى عيني الشيخ الرفاعي: أنه كلما جلس للعبادة والذكر يذوب ويتحول إلى ماء، فكان يجلس في طست لئلا ينتشر هذا الماء فيضيع شيء من بدنه. فكان أن جلس في الطست مرة وتحول إلى ماء إلا عيناه فإنهما بدتا وكأنهما كرتين، فدخلت ابنته ولعبت بإحداهما فعطبتها ومنذ ذلك الحين صار يرى بعين واحدة. قال لي ذاك الأخ: فقلت في نفسي: أبلغت الخرافة في الدين إلى هذا الحد؟ قال: فأقبلت على الكتاب وما صح من السنة وخلعت عني أوهام التصوف. - الرفاعي لا يأكل ولا يشرب ومما حكوه عنه من الكرامات أيضاً امتناعه عن الطعام والشراب لأيام وأسابيع وشهور، بل وربما سنوات. فقد ذكر الصيادي أن الشيخ الرفاعي خرج إلى الحج ثم إلى المدينة. ومنذ خروجه من العراق إلى أن عاد إليها من الحج لم يأكل طعاما قط، ولم يتناول جرعة ماء واحدة. (3) وذكر أيضاً أنه بقي مرة نصف نهار لم يشرب ماء فوجد قدحا على التنور وفيه ماء وسخ من غسل الأيدي. فقالت له نفسه: قد عذبتني نصف النهار بالعطش وتسقيني من هذا الماء الوسخ؟ فلما رأى منها هذا العتاب ألقى القدح من يده وأقسم أن لا يذيقها الماء سنة كاملة، وفعل ذلك. (4) ومع عدم الاقتناع بأن يبقى إنسان شيئاً يسيراً بلا ماء، فإن الظاهر أن سياق القصة مأخوذ من قصة أبي يزيد البسطامي مع الماء فإنه لا اختلاف بين القصتين بتاتا. (5) وذكروا مثل هذه الكرامات لغير الرفاعي: فالشيخ أبو رفاعة المهدي الرفاعي بقي أربعين يوما متتالية لا يأكل ولا يشرب بل ولا ينام. ومع ذلك كله لم يغب عن أداء ما افترضه الله عليه. (6) وكذلك السيد ولي الله «السكران» أبو محمد اليعقوبي الرفاعي كان كثيرا ما يمكث الستة أشهر لا يأكل طعاما ولا يشرب ماء. (7) ولقد ضرب الشيخ عثمان بن مروزة البطائحي الرفاعي الرقم القياسي في الامتناع عن الطعام والشراب، حيث بقي بلا طعام ولا شراب سبع سنين. (8) فهل حصل مثل هذه الكرامة لنبي من الأنبياء فضلا عن أن تحصل لغيرهم؟ المصدر: الطريقة الرفاعية لعبد الرحمن دمشقية - ص 18 فما بعدها   (1) ((قلادة الجواهر)) (ص81)، ((جامع كرامات الأولياء)) 2) / 99). (2) ((قلادة الجواهر)) (ص 28)، ((روضة الناظرين)) (ص (22. (3) ((الكنز المطلسم)) في مد يد النبي لولده الغوث الرفاعي الأعظم 14)، 18) المطبعة العلمية 1313 مصر. (4) ((المعارف المحمدية)) في الوظائف الأحمدية: عز الدين الصيادي الرفاعي (74) مطبعة محمد أفندي 1305 القاهرة. (5) انظر ((الرسالة القشيرية)) (ص14) للشيخ أبي القاسم بن هوازن القشيري ط دار الكتاب العربي. (6) ((ذخيرة المعاد في ذكر السادة بني الصياد)) (ص 22). (7) ((إرشاد المسلمين)) (ص117). (8) ((جامع كرامات الأولياء)) (2/ 142). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 137 المطلب الثالث: نماذج من كشوفات مشايخ الرفاعية ذكر الصيادي أن من كرامات الشيخ بهاء الدين الرواس الرفاعي: «أنه كان يتكلم على خواطر أصحابه ومريديه كما في صدورهم. (1) واعترض أحد المريدين على الشيخ إبراهيم الأعزب (ابن أخت الشيخ أحمد) فعرك الشيخ إبراهيم أذنه وزجره عن أسرار الإنكار عليه وقال له: «ألم تعلم أن قلوب الخلق بين أيدينا كالمصابيح من وراء الستارة نشهدها رأي العين» (2) وكذلك أسر أحد مريدي الشيخ عثمان بن مروزة البطائحي في نفسه الاعتراض على شيخه في قلبه فقال له الشيخ عثمان: «ألم تعلم أني أعلم ما في قلبك». (3) وكان الشيخ عبد الحافظ بن سرور الرفاعي له قدرة على إبداء ما في النفوس، ومحبة مريديه تزيد في إيمانهم. ونظرته تصلح قلوبهم. (4) وذكر أن الشيخ علي أبو الفضل الواسطي يعرف لغات الطيور والحيوانات .. وكان يتكلم على الخواطر ويكشف الأسرار، ونظرته أيضا تصلح القلوب. (5) وكشف الصوفية يحصل لغيرهم من غير المسلمين أيضاً كالكهان فإن الشياطين يكشفون لأمثالهم أخبارا غائبة عنهم وهي بذاتها ليست من علم الغيب فيظن الجاهل أن ذلك كشفا من عند الله تعالى. وقد صرح بذلك بهاء الدين الرواس فقال: «ومما لا يلتفت إليه سماع هاتف يشير إلى أمر غيبي .. وقد يكون ذلك الهاتف لا من هواتف الحق بل هو من هواتف الشياطين». (6) ويصف الصيادي ابن عمه المهدي الرواس في أبيات من الشعر فيقول: بمكنون الغيب حوى إطلاعا ... تراه بكل آتيه خبيرا (7) أما الشيخ أحمد الرفاعي نفسه فقد ذكروا أن مغنيا كان يغني للصوفية، فتواجدوا وطربوا، وكان بينهم أحمد الرفاعي صغيرا، فخسف أحمد الدف، فأنكروا عليه فقال لهم: «اسألوه عما خطر بباله. فاعترف المغني أنه لما رآهم على هذه الحالة من التمايل تذكر أنه كان البارحة مع قوم فشربوا الخمر حتى تمايلوا كتمايل المشايخ الصوفية، فخطر في باله أن هؤلاء كأولئك». (8) الكشف عن علوم المستقبل ومرض الشيخ أبو زكريا العسقلاني مرضاً شديداً حتى ظن أنه ميت لا محالة، فقال له الشيخ إبراهيم الأعزب: «أنت لن تموت في هذه المدة، قد بقي من عمرك زمان طويل. وعاش الرجل بعدها خمسين سنة». (9) أما الشيخ رجب الصيادي الرفاعي فكان يتنبأ بمن يأتيه من الزوار فيقول: «الآن بعد ساعتين أو قبيل المغرب يجيء إلينا ضيف شكله كذا وثيابه كذا وفرسه كذا وهو من القبيلة الفلانية، ومعه لنا هدية كذا. فيكون كما يقول بلا اختلاف حرف واحد». (10) المصدر: الطريقة الرفاعية لعبد الرحمن دمشقية - ص72 - 74   (1) ((خزانة الإمداد في أخبار الغوث الكبير السجاد)) مولانا عز الدين أحمد الصياد (ص171) ط: مطبعة الواعظ - مصر 1326. (2) ((إرشاد المسلمين)) (ص 97)، ((قلادة الجواهر)) (333، 335)، ((تنوير الأبصار)) (ص 34)، ((التاريخ الأوحد)) 63) و65)، ((جامع كرامات الأولياء)) 1) / 237)، ((روضة الناظرين)) (ص86). (3) ((إرشاد المسلمين)) (124 – 125). (4) ((جامع كرامات الأولياء)) (2/ 143)، ((روضة الناظرين)) (ص 134) للوتري. (5) ((إرشاد المسلمين)) لطريقة شيخ المتقين (7 ط): مطبعة محمد أفندي مصطفى - القاهرة 1307. (6) ((بوارق الحقائق)) (ص270). (7) ((تنوير الأبصار)) (ص131). (8) ((روض الرياحين)) لليافعي (437) ط: الحلبي 1955 مصر، ((جامع كرامات الأولياء)) (1/ 297) ط: دار صادر، ((روضة الناظرين)) للوتري (18)، ((الكواكب الدرية)) للمناوي (ص 212). (9) ((قلادة الجواهر)) (ص (336، ((إرشاد المسلمين)) (ص 99)، ((التاريخ الأوحد)) (ص65)، ((روضة الناظرين)) (89 – 90). (10) ((تنوير الأبصار)) (ص 119)، ((خزانة الإمداد)) (ص 159). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 138 المطلب الرابع: الرفاعي وعقيدة ختم الولاية وذكر محمد أبو الهدى الصيادي أن النبي صلى الله عليه وسلم ظهر على أبي منصور البطائحي - خال الشيخ الرفاعي - وبشره أن الله سيرزق أخته بولد يأتي من بعده اسمه أحمد الرفاعي. يكون رأسا في الأولياء كما أنه صلى الله عليه وسلم رأس في الأنبياء. (1) كذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم الشيخ علي الواسطي أن يعتني بالرفاعي، وأكد له بأنه: كما هو صلى الله عليه وسلم رأس في الأنبياء فكذلك يكون الرفاعي رأسا في الأولياء، وحذره من مغبة إهمال وصيته في الرفاعي لأن شأنه عند الله عزيز. (2) وقد ضرب الصيادي مثلا لتفضيل الرفاعي على الأولياء فقال: إذا ذكر الأنبياء فحدثوا عنهم، وإذا ذكر محمد صلى الله عليه وسلم فاسكتوا. وإذا ذكر الأولياء فحدثوا عنهم، وإذا ذكر السيد أحمد الرفاعي فاسكتوا. (3) ثم بلغ بهم الغلو في إطراء الشيخ الرفاعي رحمه الله أن جعلوه خاتم الأولياء كما أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتماً في الأنبياء وذلك جرياً على المشابهة التي بينه وبينه. فذكر الشيخ القرشي أن الله قد ختم بالرفاعي الولاية كما ختم بمحمد النبوة. (4) وعقيدة ختم الولاية فكرة صوفية أول من تكلم بها الحكيم الترمذي وابن عربي وغيرهما من غلاة الصوفية، ثم أخذها المتصوفة عنهم ونسبها كل منهم لشيخه فنسبت بعد ذلك للشيخ عبد القادر الجزائري والتيجاني وغيرهما. وحقيقة الأمر أن خاتم الأولياء هو آخر مؤمن يبقى على هذه الأرض، وليست ولاية الله تنقطع بموت أحد هؤلاء المشايخ قبل مئات السنين من الآن، فإن كل مسلم يؤمن بالله ويتقيه فهو ولي لله تبارك وتعالى. ولهذا فإن المفهوم الصوفي للولاية بعيد جدا عن مفهوم الإسلام لها. المصدر: الطريقة الرفاعية لعبد الرحمن دمشقية - ص17، 18   (1) ((تنوير الأبصار)) (ص12) للصيادي، ((التاريخ الأوحد)) (ص109)، ((الكنز المطلسم)) (ص65). (2) ((قلادة الجواهر)) (28، 29)، ((روضة الناظرين)) (ص 128). (3) ((قلادة الجواهر)) 30) – 31)، ((التاريخ الأوحد)) (ص108). (4) ((إرشاد المسلمين لطريقة شيخ المتقين)) (ص 7) للشيخ أحمد الفاروثي، ((التاريخ الأوحد)) (ص108)، ((قلادة الجواهر)) (46، 432)، ((المعارف المحمدية في الوظائف الأحمدية)) (ص90) للشيخ عز الدين الصيادي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 139 المطلب الأول: غلو الرفاعية في شيخهم ومشايخهم قالوا عن الرفاعي: إنه: «كعبة القاصدين وقبلة أهل الحال». (1) وأنه «كما أن الكعبة قبلة المصلين، وكما أن العرش قبلة أصحاب الهمم، فكذلك الشيخ قبلة المريدين. (2) فالعرش قبلة الهمم، والكعبة قبلة الجباه، وأحمد قبلة القلوب». (3) وهم بذلك جعلوا للمسلم أكثر من قبلة وجعلوا أخصها: أحمد (القبلة) إذ القلوب تتجه إليه بينما يتجه الناس إلى سواه بهممهم وجباههم، وكأن قلوبهم تكون منعزلة عن الكعبة حين يتوجهون إليها. فجعلوا الرفاعي ندا حتى للكعبة لا سيما حين أخبروا أنها أتت بنفسها والرسول صلى الله عليه وسلم إلى قرية الرفاعي (4).وأنه «غوث الثقلين» أي الذي تستغيث به الجن والإنس (5) بل إن النعجة تستغيث به إذا هاجمها الذئب وتقول بلسان فصيح أدركني يا سيدي أحمد (6).وأن الله صرفه في الكون (7) وأنه «مجيب الدواعي (8) وأمان الخائفين، والمتحكم في ذرات الكون (9) وأنه ملجأنا وملاذنا ومفزعنا وولي نعمتنا. (10) وأنه كشاف المدلهمات والكروب (11) وأن التمسك بأذياله من أسباب النجاة. (12) وأن الله ختم به الولاية فهو «خاتم الأولياء». (13) وأن الله جعله ظلا ظليلا وأمانا لأهل الأرض، وأن مقامه وخلافته تشهد بها السموات والأرض، وأن كل الناس أجابوا ولايته، حتى الذر الذين لم يزالوا في أصلاب الآباء قد شهدوا بولايته. (14) فبه يدفع الله البلاء، وبه يمطر السماء وبه يرحم الخلق، وبه تخضر الأرض، وبه يدر الضرع، وبه تنزل البركات، وبه ترفع الدرجات. (15) ووصفوا الشيخ رجب الصيادي الرفاعي بأنه «رب الخوارق والفواضل، الواجد الماجد». (16) وقالوا بأنه لو قدر أن يكون الرفاعي حيا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لنزلت فيه آيات تتلى. نقل ذلك الصيادي عن صدر الدين السبكي الذي رثى الرفاعي ببيتين من الشعر قال فيهما (17): يا ابن الرفاعي يا من شمس دولته ... لها بكل فجاج الكون عنوان لو كنت في زمن المختار شافعنا ... لجاء في خلقك الممدوح قرآن وقد يرون مثل ذلك لغير الرفاعي، فقد نقل الصيادي عن محارب بن دثار أنه أثنى على داود الطائي ثم قال: «لو كان داود الطائي في الأمم الماضية لقص الله علينا من خبره». (18)   (1) ((القواعد المرعية)) (ص7)، ((التاريخ الأوحد)) (ص103)، ((الفخر المخلد)) (ص2)، ((المعارف المحمدية)) (ص 73). (2) ((الفجر المنير)) (ص88))، ((قلادة الجواهر)) (ص132)، ((روضة الناظرين)) (ص73). (3) ((روضة الناظرين)) (ص 73) (4) ((روضة الناظرين)) (ص59). (5) ((صحاح الأخبار في نسب السادة الفاطمية الأخيار))، عن كتاب ((النجوم الزواهر)) (ص 66)، لأحمد الرحبي الحسيني ط: دار الحرية - بغداد 1980. (6) ((المعارف المحمدية)) (ص72 – 73). (7) ((قلادة الجواهر)) (ص72). (8) ((قلادة الجواهر)) (ص 427)، ((ضوء الشمس في قول النبي صلى الله علي وسلم بني الإسلام على خمس)) (1/ 134) للصيادي. (9) ((إرشاد المسلمين)) (13 – 14). (10) ((قلادة الجواهر)) (ص17) ((الفرقان)) (14 و 36)، ((القواعد المرعية)) (ص 28)، ((ضوء الشمس)) (1/ 304) (11) ((الفخر المخلد)) (ص3). (12) ((القواعد المرعية)) (ص 38). (13) ((المعارف المحمدية)) (ص90)، ((قلادة الجواهر)) (36 و 432)، ((التاريخ الأوحد)) (ص108) (14) ((قلادة الجواهر)) (35 – 36). (15) ((قلادة الجواهر)) (ص131). (16) ((تنوير الأبصار)) (ص119)، ((خزانة الامداد)) (ص159)، ((الفرقان)) (ص84). (17) ((قلادة الجواهر)) (ص 439). (18) ((قلادة الجواهر)) (ص448). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 140 وهذا غلو وادعاء أنه كان يمكن أن تكون بعض آياته على خلاف ما هي عليه الآن لو كان الرفاعي في عهد النبوة. ثم ليس الرفاعي أعز عند الله من أبي بكر وعمر اللذين كانا أحب الناس إليه وإلى نبيه صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم يرد ذكرهما في قرآنه!.وقد وصفوا تاج الدين الرفاعي أنه «غياث الملهوفين» (1) والشيخ عبد الرحيم بن علي الرفاعي أنه «غوث الثقلين» (2) يعني أن الجن والإنس تستغيث به عند الشدائد والكربات. ولقد شجب الرواس فكرة الغلو هذه التي اتسم بها الكثيرون من أهل التصوف واعتبرها من طباع أهل الشرك. قال: «وبويعت في الحضرة على عدم النظر إلى الآباء والأجداد، فإن المفاخرة بهم من طباع أهل الشرك، والغلو بهم من بقايا نخوة الجاهلية». (3) غير أنه قال كلمة حق في كتاب مليء بالباطل وهو (بوارق الحقائق) الذي يحكي فيه قصة طوافه بأهل البيت والمنتظر «الحجة» وخروجهم من قبورهم لاستقباله في كل زيارة وكل مناسبة. ثم إن آل الصيادي - والرواس منهم - يعتبرون السلالة التي غلت في الطريقة وفي الرفاعي ما لم يفعل غيرهم لا سيما محمد بن حسن وادي الصيادي الملقب بـ «أبي الهدى» الذي نقلت من كلامه أكثر انحرافات الرفاعية وغلوهم. ويأتي الشيخ بهاء الدين ابن عم الرواس بأبيات يمتدح فيها آباءه وأجداده، ويدعو المحتاجين والمضطرين إلى الاستغاثة بهم فيقول فيما ينقله الصيادي عنه (4): إشاراتنا فوق الرؤوس تخفق ... وأعلامنا تحت المعالي تصفق ومن نال من أنفاسنا هام قلبه ... وأثوابه شوقا ووجدا يمزق ونحن بنو الغوث الرفاعي أحمد ... كمالاته والسر فينا محقق ومن أمنا لم يخش ضيما ولا عنا ... وأيدي البلايا نحوه لا تطرق لنا مدد في سائر الأرض قد سرى ... ونحن شموس في سما الكون نشرق بل يقول الصيادي نفسه (5) الأحمديون للإسلام أركان ... وفوا العهود وأشعاث الحمى صانوا بهم أشد على الأخطار مقتحما ... لا السم سم ولا النيران نيران بهم تفرج عن ذي النون غمته ... وفاز نوح ولم يمسه طوفان عش طيب الأمن يا من يستجير بهم ... فما عليك لصرف الدهر عدوان ذاك الكبير أبو العباس أحمدهم ... له على ملكوت الله إيوان هذا أبو العلمين الفرد حجتنا ... في يوم لا يعرف الخلان خلان غوث الخلائق من ينبوع منهجه ... تفيض في الكون أسرار وعرفان يحمي الضعيف إذا ما سن شفرته ... دهرا وأرضى الرزايا وهو غضبان أجار حتى الثريا في مناعتها ... تود لو أنها قوم وجيران ومن صور الرفاعية في مشايخهم اعتقادهم أن البركة تحصل بمجرد ذكر أسماء مشايخهم ولذلك أمروا أتباعهم عند ذكر أسمائهم أن يمسحوا بأيديهم على وجوههم. وصرح الرفاعي أن الشيخ منصور كان يأخذ التوبة على الناس حتى الطفل الذي في المهد وحتى الأجنة في البطون (6) ثم قال: «إذا ذكرتم الشيخ منصور فأمروا أيديكم على وجوهكم ينورها الله تعالى ببركته». (7) ونقل عن أحد مشايخ الرفاعية أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وكلما ذكر أمامه أبو الوفا قال صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم ما أقول فيمن أباهي الأمم به يوم القيامة. قال الوتري: «ولذلك كان مشايخ الرفاعية إذا ذكروا أبا الوفا يسمون الله تعالى ثم يأتون بذكره». وكانوا يقولون: «عجبنا لمن يذكر اسم السيد أبي الوفا ولم يسم الله ويمس بيده على وجهه كيف لم يسقط لحم وجهه لهيبته». (8)   (1) ((روضة الناظرين)) (ص64). (2) ((روضة الناظرين)) (ص 95). (3) ((بوارق الحقائق)) (ص 272). (4) ((تنوير الأبصار)) (ص134). (5) ((الكنز المطلسم)) (85 - 87). (6) من الظواهر المخالفة للشرع عند الرفاعية أن توبة التائب تتم عن طريق الشيخ، فيذكر الصيادي دائما مجيء رجال يأتون الرفاعي ويقولون «خذ علينا العهد وتوبنا» (((قلادة الجواهر)) (57، 76، 87، 88، 89، 95). بينما التوبة في الإسلام الواسطة فيها بين العبد وربه. وإنما هذه الواسطة شبيهة بواسطة القديس عند النصارى الذين يذهبون إليه ليعترفوا بخطاياهم ويأخذون العهد على يديه أن لا يعودوا إليها. (7) ((الفجر المنير)) (ص75)، ((قلادة الجواهر)) (181 – 182)، ((روضة الناظرين)) (ص20). (8) ((ترياق المحبين)) (ص42)، ((روضة الناظرين)) (ص28). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 141 المطلب الثاني: قرية الرفاعي «أم عبيدة » البيت الحرام لقد أضحت قرية «أم عبيدة» (مسقط رأس الشيخ أحمد الرفاعي) عند الرفاعية البقعة المقدسة والبلد الحرام الذي يتقرب الخلائق بزيارته إلى الله تعالى، ويتوجه إليه أصحاب الحوائج والكربات لدفع حوائجهم وكرباتهم، وذكروا أن أمر قدسيتها قد تم بمقتضى وعد إلهي. فقد ذكر الصيادي أن الشيخ الرفاعي قال: «إن الله أعطى هذه البقعة خاصية تقرب الخلائق إلى الله، ووعدني أنه يجيب إلى هذه البقعة للزيارة زبدة الخلق لاغتنام بركتها، وأن يجعل خواص خلقه من مشارق الأرض ومغاربها في هذه البقعة». (1) وقد جعلوا قرية «أم عبيدة» بمنزلة البلد الحرام فزعموا أن الأمر الإلهي قد صدر إلى الرفاعي بأن ينادي بالناس من كل حدب وصوب ليحجوا إليها ففعل مثلما فعل إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين نادى بالناس بالحج. وزعموا أنه قال: «قيل لي: قم فناد أهل المشرق والمغرب والسهل والجبل إلى زيارة هذه البقعة السعيدة، فقام الرفاعي وصار يشير بيديه وهو واقف ويقول: «تعالوا إلى «أم عبيدة» تعالوا إلى هذه البقعة المباركة: كل شهر قوم، وكل سنة قوم، وكل وقت قوم ثم أردف يقول «نعم، نعم» فلما سئل عن ذلك قال: لما ناديت أجابوني بقدرة الله خلق كثير لا تحملهم هذه البقعة فلما رأيت ذلك قلت رويدا رويدا كل شهر قوم، كل سنة قوم». (2) - من دخلها لا تمسه النار قد جعلوا لقرية " أم عبيدة " فضائل عديدة ذكروا منها: 1 - أن زائرها يروح ويأتي تحت ظلال أجنحة الملائكة. (3) 2 - أن زائرها لا تأكله النار ولا تضره وهذا من وعد الله للشيخ الرفاعي كما يقولون. (4) وهذا ما لا يضمن في العادة لزائر مكة ولا المدينة.3 - أن زيارتها وملازمتها كفيلة بقضاء كل حاجة، ويروون في ذلك قصة الأمير عبد الله الصيرفي الذي وقع في حالة دين فلازم قبة الشيخ أحمد الرفاعي فقضيت حاجته. (5) 4 - أن زائرها يتوجه إليها عند طلب حاجته ويخطو إليها ثلاث خطوات. يقول الصيادي: «إن أهمه أمر فليتوضأ ويصلي لله ركعتين ثم يصلي على النبي مائة مرة، ثم يتجه إلى جهة البصرة محل مرقد الغوث الرفاعي ويخطو ثلاث خطوات ويقول له: أيظلمني الزمان وأنت فيه ... وتأكلني الذئاب وأنت ليث ويروى من بنانك كل ظامي ... وأظمأ في حماك وأنت غيث   (1) ((قلادة الجواهر)) (129 و 87)، ((الفجر المنير)) (ص76). (2) ((قلادة الجواهر)) (ص43). (3) ((بوارق الحقائق)) (ص224). (4) ((إرشاد المسلمين)) (ص87)، ((بوارق الحقائق)) (ص229). (5) ((المعارف المحمدية)) (ص40). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 142 وقد جربها رجل مظلوم ظلمه آل غريب فالتزم القبة الرفاعية وقال هذين البيتين فقال له الشيخ أحمد في المنام «قضيت حاجتك» فما مضى شهر حتى فني آل غريب عن آخرهم. (1) وزعموا أن الرفاعي كان يقول: «إذا كان لكم حاجة ولم تقدروا أن تصلوا إلى (قرية) أم عبيدة فتوجهوا نحوها لله تعالى ثلاث خطوات واسألوا حاجتكم». (2) وهذا متعارض مع ما أوصى به الشيخ لأتباعه: أن لا يجعلوا رواقه حرما، ولا قبره بعد موته صنما. (3) وهم يعتبرونه في قبره حيا متصرفا. ذكر الصيادي أن خادم القبة الأحمدية نعس مرة فنام وفي يده الكتاب وزجاجة الزيت بجانبه فرأى السيد أحمد في المنام وهو يقول له: «يا أبا الرضا تنبه، لولا أني صنت لك الكتاب لأخذه الزيت. فتنبه فوجد الكتاب صار في مكان والزجاجة في مكان آخر». (4) - أوصاف القرية الحرام ومزاياها عندهم وقد وصفوا هذه القرية بأنها: 1 - كعبة هموم المحققين، وحرم الأمان للطالبين، البيت المقدس الأمين، مهبط الرحمات، منبع الفتوحات، نمط الجفر العلوي. (5) 2 - محط رحال العباد ومنها ينثر الخير إلى سائر البلاد. 3 - البقعة المقدسة، طور سيناء قلوب العارفين. (6) - الرسول والكعبة يزوران قرية أم عبيدة إن كل هذه الصفات التي تتصف بها قرية أم عبيدة تجعلها أفضل من المساجد الثلاثة، وأولها في ذلك مكة. وكيف لا تكون أفضل من مكة وقد زعموا أن الكعبة رؤيت وهي قادمة تشد رحالها إلى قرية أم عبيدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم. فلقد زعموا أن أحد الصوفية رأى في المنام خياما عظيمة على الطريق فسأل: لمن هذه الخيام فقالوا: هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل إليه وسلم عليه. وقال: يا رسول الله إلى أين هذه الرحلة المباركة؟ فقال: إلى قرية أم عبيدة لزيارة أحمد بن أبي الحسن الرفاعي. فقلت: يا رسول الله: الناس لك يزورون والى نحوك يقصدون! فقال: يا حاج أنت حججت وقصدت البيت؟ فقلت: نعم. فقال: ارفع رأسك فانظر. قال: فرفعت رأسي فنظرت إلى الكعبة وهي سائرة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ها أنا والكعبة زائرون، زورا زرنا. فقام الرجل من نومه وهب ينادي في الناس ويحثهم على المبادرة إلى المسير إلى قرية الرفاعي حيث الرسول صلى الله عليه وسلم والكعبة زائرون. (7) وهم إذا تكلموا عن الكعبة لم يعظموها كتعظيمهم قرية «أم عبيدة» وإنما يقللون من شأن الطواف حولها ويثبطون الناس عن الذهاب إليها. مثلما نقل الصيادي عن الجنيد أنه كان يطوف بالبيت الحرام فاعترضته جارية وقالت: «يا جنيد: تطوف بالبيت أم برب البيت؟ فقال: أطوف بالبيتفرفعت طرفها إلى السماء وقالت: سبحانك ما أعظم مشيئتك في خلقك، خلق كالأحجار يطوفون بالأحجار». (8)   (1) ((قلادة الجواهر)) (435، 239)، ((المعارف المحمدية)) (40، 112)، ((بوارق الحقائق)) (ص 229)، ((خزانة الإمداد)) (ص34)، ((العقود الجوهرية)) (46 - 47). (2) ((قلادة الجواهر)) (129، 165، 166)، ((الفجر المنير)) (50، 61)، ((خزانة الإمداد)) (ص 34)، ((بوارق الحقائق)) (ص227). (3) ((الكليات الأحمدية)) (ص 115)، ((حكم الرفاعي)) (ص 12)، ((البرهان المؤيد)) (ص 52). (4) ((المعارف المحمدية)) (ص 40)، ((خزانة الإمداد)) (ص 33). (5) ((بوارق الحقائق)) 221 - 222. وهذا تصريح آخر من قبلهم بالجفر المكذوب. المنسوب إلى الإمام علي رضي الله عنه مما يؤكد ميول هذه الطريقة إلى التشيع. (6) ((بوارق الحقائق)) (ص 226). (7) ((إرشاد المسلمين لطريقة شيخ المتقين)) (ص 84)، ((روضة الناظرين)) للوتري (ص 59). (8) ((قلادة الجواهر)) (ص 454). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 143 إن هذه الهالة التي يحيطها الرفاعية بقرية أم عبيدة لا حقيقة لها إنما هو كلام لم يتعد الورق وبطون كتب أهل هذه الطريقة. وإلا فقرية «أم عبيدة» لا شهرة ولا ذكر لها في التاريخ، ولم يذكرها ياقوت الحموي ولا غيره. ودعوى أبي الهدى الصيادي الرفاعي أن سبط الجوزي (1) دخلها ووجد فيها خلائق كثيرة يقدرون بمائة ألف إنسان (2) دعوى لا صحة لها. فإن سبط ابن الجوزي قد ولد بعد وفاة الرفاعي بثلاث سنوات. (3) وهكذا رأينا وصف قرية الرفاعي وقبته بأنها الكعبة والحرم والبيت المقدس والبقعة المقدسة ومهبط الرحمات وكشف الكربات وموضع قضاء الحاجات فهل يتوافق كل هذا مع تعاليم شيخهم الرفاعي الذي كان يقول لهم: «يا سادة: لا تجعلوا رواقي حرماً، ولا قبري بعد موتي صنما، عليكم به سبحانه، لا يضر ولا ينفع، ويصل ويقطع ويفرق ويجمع إلا الله». (4) لقد بات من الملاحظ أنهم ينتزعون من صفات الله، ومن صفات النبوة للرفاعي، وينتزعون صفات بيت الله وبلده الحرام لقرية الرفاعي فماذا يريدون من وراء ذلك؟ المصدر: الطريقة الرفاعية لعبد الرحمن دمشقية - ص 115 - 124   (1) ذكر عنه أنه «كان يذكر في مصنفاته الغث والسمين. ويحتج بأحاديث ضعيفة كثيرة. وكان يصنف للناس بحسب مقاصدهم. فيصنف للشيعة ما يناسبهم ليعوضوه بذلك، ويصنف على مذهب أبي حنيفة لبعض الملوك لينال بذلك أغراضه، ولهذا يوجد في بعض كتبه سب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة لأجل إرضاء بعض طوائف من الشيعة. أنظر كتاب ((منهاج السنة النبوية)) (2/ 133). (2) ((بغية أولي الإفهام في الفرق بين الحال والمقام)) (ص 221) ضمن مجموعة أشرف الوسائل. (3) انظر ((دائرة المعارف الإسلامية)) (10/ 148). (4) ((الكليات الأحمدية)) (ص 115)، ((حكم الرفاعي)) (ص 12)، ((البرهان المؤيد)) (ص 52). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 144 المبحث السادس: كرامات أم خرافات؟ بجانب ما سقته عن الرفاعية من الكرامات التي تجعل لله شركاء في التصرف والقدرة وحيازة كلمة التكوين. فإني أذكر هنا نوعا آخر من الكرامات، وهي هذه المرة كرامات أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع. ولأضرب مثالا على الحد الذي وصلت إليه هذه الكرامات أنقل ما أورده النبهاني عن أحد الأولياء أنه كان كثير التطور والتغير: فتارة تدخل عليه فتراه وحشا، وتارة تدخل فتجده فيلا، وتارة تدخل فتجده صبيا صغيرا. (1) ويذكر عن ولي آخر أنه: كان إذا أراد دخول الباب فوجده مقفلا: يدخل من شقوقه التي تعجز النملة عن دخولها. (2) وإيراد مثل هذه الحكايات على أنها كرامات هو استخفاف بالكرامة وهبوط بها إلى حد المهزلة، واستخفاف بعقول الناس، وتعريض لبعض الجهال منهم إلى فتنة إنكار الكرامة من أصلها لما يراه من أنواع الترهات المسماة بالكرامات. فيخرج بسببها عما اتفق عليه أهل السنة من ثبوت الكرامة. وبالمناسبة فإن استخدام لفظ «الترهات» في حق الصوفية إنما هو صوفي المنشأ وليس مني: فقد قيل للصوفي رويم: أوصني فقال: « .. ولا تشتغل بترهات الصوفية». (3) وللرفاعية كرامات قريبة من هذا النوع الذي ذكره النبهاني منها: أن الشيخ الرفاعي سجد مرة فبقي ساجدا سنة كاملة لم يرفع رأسه أبدا حتى نبت العشب على ظهره. (4) ويتساءل المرء: أين أداء الصلوات المفروضة خلال فترة السنة هذه من جمعة وجماعة؟ بل حكى عنه أتباعه أنه حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل ساجد على صخرة منذ ثلاثمائة سنة. (5) وذكروا أن الشيخ رجب الرفاعي كان كثيراً ما يتواجد في حلقة الذكر فيقطر من عرقه العطر النفيس الخالص كما يقطر المطر. (6) وأن الشيخ منصور - خال الشيخ الرفاعي - كان إذا فتح فمه يخرج منه عمود من نور يخرق السموات السبع. (7) قال الصيادي: «(أبو الفتح الواسطي) من أكابر أحمد الرفاعي. كان يقول: اسمعوا هذا الكلام الذي له خمسة آلاف سنة ما تكلم به أحد غيري. (8)   (1) ((جامع كرامات الأولياء)) 1) / 404). (2) ((جامع كرامات الأولياء)) (2/ 180). (3) ((روضة الناظرين)) (ص 13). (4) ((قلادة الجواهر)) (ص 340)، ((خزانة الإمداد)) (ص 36). (5) ((حالة أهل الحقيقة مع الله)) (ص 107). (6) ((تنوير الأبصار)) (ص 119)، ((خزانة الإمداد)) (ص 159). (7) ((قلادة الجواهر)) (ص 44). (8) ((قلادة الجواهر)) (ص 405). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 145 أي حتى قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم. من كرامات الواسطي هذا أنه كان هناك خطيب لجامع العطار ينكر على الواسطي أشد الإنكار، وكان هذا الخطيب على منبره، فتذكر أنه جنب، فمد له الشيخ أبو الفتح كمه فوجده «زقاقا» - أي وجد في كمه شارعا ضيقا - فرأى فيه ماء ومطهرة، فاغتسل وخرج وعاد على منبره يخطب، فلما ستره الشيخ الواسطي هذه السترة: اعتقده وصار من أجل أصحابه (1) وبقي الشيخ عثمان بن مروزة البطائحي الرفاعي شاخصا بصره إلى السماء سبع سنوات دون طعام ولا شراب. ثم ما لبث أن «عاد إلى بشريته» فقيل له: اذهب إلى قريتك وجامع أهلك فقد أن ظهور ولد منك. فلما أراد مجامعة أهله صعد السطح ونادى في أهل القرية: يا أهل القرية، أنا فلان، اركبوا فإني سأركب فبلغهم الله صوته وأفهمهم معناه، فمن وافقه تلك الليلة رزق ولداً صالحاً. (2) أما الشيخ عبد الله الكيال الرفاعي الحلبي فكان يشكو من رجل غير مسلم يكثر من الإنكار عليه، فنظر الشيخ إليه نظرة وهز رأسه، فصار ذلك الرجل يهز رأسه أيضاً، وتركه الشيخ الكيال وذهب، فبقي على حاله أياما يهز رأسه، ثم ما لبث أن مات. (3) وكان الشيخ عقيل المنبجي - من كبار أصحاب الشيخ الرفاعي - يقول: «أعطاني الله الكلمة النافذة في كل شيء. ثم قام وقال: يا هوام يا حجارة يا شجر صدقوني. فوفدت الوحوش من الجبل، وملأ زئيرها وصراخها البقاع ودارت حوله ورقصت الحجارة. فهذه صاعدة، وهذه نازلة، واشتبكت الأغصان ببعضها». (4) وكان الشيخ عبد الله بن حماد الرفاعي يعمل ميعاد السماع (الأناشيد الصوفية) حول شجرة فحصل لأصحابه وجد وأحوال، فالتفت نحو الشجرة وقال لها: لقد رقص القلوب وتلك صخر ... فلم لا ترقصين وأنت عشب   (1) ((قلادة الجواهر)) (ص 405)، ((طبقات الشعراني)) (1/ 202)، ((جامع كرامات الأولياء)) (1/ 285). (2) ((جامع كرامات الأولياء)) (2 / (142. (3) ((سر الحال)) (ص 145). (4) ((ترياق المحبين)) للواسطي (ص 46)، ((روضة الناظرين)) (ص 36). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 146 فصارت الشجرة تهتز رقصا حتى اقتلعت من أصولها. (1) وأنشد إبراهيم الأعزب سماعا (نشيدا صوفيا) فتواجد ثم صاح ونادى: يا للرجال قال راوي الحادثة: «فرأيت رجال الغيب ينزلون عليه من الهواء مثنى وثلاث ورباع». (2) وإبراهيم هذا كان من أحب الناس إلى الشيخ أحمد فقد قال له مرة: «يا إبراهيم، رمى العزيز محبتي ومحبتك في الماء والهواء، فكل من شرب الماء وشم الهواء أحبني وأحبك». (3) ودخل الشيخ عمر الحريري - شيخ الطريقة الرفاعية بحماه - إلى حجرته الكبيرة مع صديقه السيد عبد الله أفندي الحلبي، وإذ به يملأ الحجرة بعد أن كبر حجمه أضعافاً عما كان عليه في خلال لحظات، فارتعد السيد عبد الله، فطمأنه الشيخ عمر، وأخبره أن ما حصل له إنما كان من فرحته بحضور روحانية المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى الحجرة. (4) وذكر الشيخ أحمد الصياد الرفاعي - من سلالة الشيخ أحمد الرفاعي -: «كنا كلما مررنا على نهر ماء استقبلت السمك الشيخ أحمد من النهر إلى الشاطئ وازدحمت على قدميه، وكذلك الدواب والغزلان في البر تقف على حافتي الطريق وتزدحم على شم قدميه الشريفين. (5) وذكروا أن الأسماك كانت تسأل الرفاعي بحق الله أن يأكلها. (6) ووقع بين الشيخ بهاء الدين الرواس وإحدى الأشجار مساجلة كلامية حين كان مع قافلة إذ توقفت فطلب الشيخ من أحد ركاب القافلة أن يسمح له بأن يستظل تحت خيمته فأبى الرجل. وإذا بشجرة تنادي الشيخ وتخاطبه مشافهة وبصوت تقول له: ما أقل حظ صاحب هذه الخيمة، ما أبعده عن ربه، بالله عليك يا ولي الله تعالى شرفني باستظلالك عندي». (7) وثبت عند الشيخ عز الدين الصيادي أن الشيخ أحمد كان إذا صعد الكرسي يسمع كلامه القريب والبعيد من إخوانه حتى الأطرش والأصم، فإن الله يفتح سمعهما لكلامه فإذا انتهى الدرس عادا إلى الصمم والبكم. (8) وكان الشيخ القطناني في دمشق يسند رأسه إلى الحائط ويسمع دروس الشيخ الرفاعي في العراق وبينهما من المسير مسافة شهرين. (9) ورأى الشيخ القوصي النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يقول له: «ولدي السيد أحمد الرفاعي يربي بحاله أكثر مما يربي بمقاله. فقام مرعوبا وأتى الشيخ الرفاعي فتبسم الشيخ له وقال: الرجل الكامل يربي بحاله أكثر مما يربي بمقاله. (10) وذكروا أن الشيخ أبا السعود أبا العشائر الواسطي كان إذا خلع نعليه يسمع الناس له أنينا كأنين المريض، فسألوه عن ذلك فقال: هي نفسي أخلعها عند النعال فتحدث أنينا عند زوال تكبرها. قالوا: وكان يصوم في المهد. (11) وحكى الصيادي أن رجلا حضر عند الرفاعي فقال له: «يا سيدي أنت تعطي الناس يدك يقبلونها فقال: ما يقبلون يدي وإنما يقبلون اسم الله العظيم.   (1) ((إرشاد المسلمين لطريقة شيخ المتقين)) 120) - 121)، ((العقود الجوهرية)) (ص 41)، ((روضة الناظرين)) (ص 122). (2) ((إرشاد المسلمين)) (ص 98)، ((قلادة الجواهر)) (ص 337)، ((روضة الناظرين)) (ص 87). (3) ((قلادة الجواهر)) (ص 330)، ((روضة الناظرين)) (ص 90). (4) ((تنوير الأبصار)) (ص 118). (5) ((قلادة الجواهر)) 102) و 340)، ((خزانة الإمداد)) (ص 36). (6) ((قلادة الجواهر)) (ص 73)، ((طبقات الصوفية)) لابن الملقن (ص 99). (7) ((بوارق الحقائق)) (ص 66). (8) ((المعارف المحمدية)) (ص 120)، ((جامع كرامات الأولياء)) (1/ 142)، ((إجابة الداعي)) للبرنزحي الرفاعي (ص 16). (9) ((روضة الناظرين)) (ص 132)، ((المعارف المحمدية)) (ص 120)، ((جامع كرامات الأولياء)) للنبهاني (1/ 142). (10) ((سلاسل القوم)) (ص 22)، ((سواد العينين)) (ص 4)، ((ترياق المحبين)) (ص 5)، ((روضة الناظرين)) (ص 57). (11) ((قلادة الجواهر)) (410 – 411). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 147 ثم مد الرفاعي أصابعه وقال: أنظر إلى أصابعي فإنها اسم الله تعالى، ففرق أصابعه وأقام الخنصر في مقام الألف والبنصر والوسطى في مقام اللامين وضم الإبهام بالسبابة حتى صار بشكل الهاء من اسم الله تعالى فتعجب الرجل». (1) وذكر الصيادي أن رجلا كان يكثر من أن يقول: لا إله إلا الله. فوقع يوما على رأسه جذع فانشج رأسه وجرى الدم فكتب على الأرض: الله الله. (2) ويحكي لنا الصيادي عن ديك الذي عند عرش الرحمن يصيح عند الصلوات الخمس ويراه أحد أولياء الرفاعية من الأرض. فيروي أن مؤذنا أذن لصلاة العصر فقال أبو الوفا للشيخ أبي محمد الشبنكي: «يا سيدي إن هذا المؤذن أذن قبل ديك العرش فأراد أبو محمد أن يمتحن كشفه وفراسته فقال له: وأنت ترى ديك العرش؟ قال نعم قال: أرنيه فقال: يا سيدي ضع قدميك على قدمي وارفع بصرك إلى هذه الجهة العلية تراه. ففعل فرأى صحة قوله ورؤياه ففرح به وسجد لله شكرا لله الذي جعله ينظر إلى العالم العلوي. (3) وحتى ماء بيوت مشايخ الطريقة كانت بمثابة ماء «زمزم» بالنسبة للمريدين. فقد كانت ماء بيت الشيخ محمود الأسمر مجربة لقضاء الحوائج والإبراء من العلل، وقد جربها أهل البصرة فنفعهم الله بها. وكذلك ماء بيت الشيخ عبد الرحمن بن إبراهيم العربي الرفاعي «مجربة»، فهي أعظم دواء لحل العقد وشفاء المرض وحصول الحاجات. (4) هذه بعض ما تجده عن الرفاعي ومشايخ الطريقة في كتب الرفاعيين وهي في الحقيقة إنما تبعث على الاستهزاء بهم وبشيخهم الرفاعي رحمه الله وتجعلهم موضع النكتة والسخرية، ولهذا أعيد ما صدرت ذكره في باب الكرامات من أن الرفاعي كان محقا حين قال: «واحذر الفرقة التي دأبها تأويل كلمات الأكابر والتفكه بحكاياتهم وما نسب إليهم، فإن أكثر ذلك مكذوب عليهم». (5) المصدر: الطريقة الرفاعية لعبد الرحمن دمشقية - ص75 - 80   (1) ((قلادة الجواهر)) 198)). (2) ((ضوء الشمس في قول النبي صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس)) للصيادي 1) /74). جمعه عبد الحكيم عبد الباسط. (3) ((ترياق المحبين)) (ص 42)، ((روضة الناظرين)) (ص 27). (4) ((خزانة الإمداد)) (110 و 121)، ((روضة الناظرين)) (115 – 116). (5) ((الكليات الأحمدية)) 122) - 123). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 148 المبحث السابع: تحذير الرفاعي أتباعه من الكذب عليه • المطلب الأول: تحذيره من كذب الصوفية على أئمتهم . • المطلب الثاني: أدلة كذبهم على الشيخ الرفاعي وعلى غيره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 149 المطلب الأول: تحذيره من كذب الصوفية على أئمتهم والذين غلوا في الرفاعي هم أنفسهم الذين رووا عنه أنه كان ينهى عن الغلو والشطح وما شابههما ويقول بأنهما «زندقة بشكل تصوف».يقول الرفاعي: «وإننا ما رأينا من عواقب أهل الغلو إلا أنهم ضلوا وأضلوا وما رأينا من عواقب التشرع - يعني الاستقامة على الشريعة وملازمة السنة - إلا السلامة». (1) وكان يحذر أتباعه من أن ينساقوا وراء حكايات المتصوفة وأكاذيبهم التي نسبوها إلى مشايخهم كما أسلفت ذلك عنه حيث قال: «واحذر الفرقة التي دأبها التفكه بحكايات الأكابر وما ينسب إليهم فإن أكثر ذلك مكذوب عليهم». (2) وفي موضع آخر نجده يكشف الستار عن حقيقة ما يكمن وراء دعاوى الوجد والتخشع والتزهد والتصفية التي يدعيها المتصوفة فيقول لأحد تلاميذه: «يا بني، إذا نظرت في القوم الذين ادعوا التصوف اليوم وجدت أن أكثرهم من الزنادقة الحرورية والمبتدعة، ورأيتهم أكثر الناس جهلاً وحمقاً، وأشدهم مكراً وخديعة، وأعظمهم عجبا وتطاولا، وأسوأهم ظنا بأهل الزهد والتقوى. (3) بل نراه يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك حين نجده يؤكد اشتقاق التصوف من أحد زهاد الجاهلية في قريش قبل الإسلام، واسمه: «الغوث بن مرة بن أد بن طابخة الربط». (4) وكان رحمه الله يعيب على الصوفية موقفهم من الفقهاء وتذمرهم من إنكارهم الدائم عليهم قائلا: «قل يا أخي للمساكين المحجوبين من الصوفية: ما تريدون أن يوجد في قطركم هذا الرجل العالم يدفع شبه الملحدين وأهل البدع والزيغ بالحجج الظاهرة». (5) ويستفاد من هذا النهي عن انتهاج منهج الصوفية المتسم بالغلو ما يلي: (أولاً) اعترافه بمادة الغلو التي عرفت عند الصوفية. (ثانياً) اعترافه بكثرة كذبهم على مشايخهم وأئمتهم. (ثالثاً) اعترافه بأن أكثرهم من الزنادقة المبتدعة الذين يتسترون بالزهد والتذلل والانكسار ويبطنون العجب والتطاول على حد قوله. (رابعاً) اعترافه بكثرة إنكار الفقهاء عليهم، وليس ذلك إلا لسهولة انتشار البدع والمخالفات الشرعية بينهم. وموقف الشيخ رحمه الله من البدعة لا يتفق وموقف أتباعه منها، ويتجلى ذلك في قوله: «لو عبد العابد ربه خمسمائة عام بطريقة غير شرعية، فعبادته راجعة إليه، ووزره عليه، ولا يقيم الله له يوم القيامة وزنا، وركعتان من فقيه في دينه أفضل عند الله من ألفي ركعة من فقير جاهل في دينه». (6) وقوله: «إياكم ومحدثات الأمور، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (7) اطلبوا الله بمتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإياكم وسلوك طريق الهدى بالنفس والهوى، فمن سلك الطريق بنفسه ضل في أول قدم».   (1) ((المعارف المحمدية)) (ص 42). (2) ((الكليات الأحمدية)) 122) - 123) ط: مطبعة الواعظ - مصر. جمع محمد أبي الهدى الصيادي. (3) ((حالة أهل الحقيقة مع الله)) (ص 105)، ((الكليات الأحمدية)) (ص 156). (4) ((البرهان المؤيد)) (ص 14). (5) ((المعارف المحمدية)) (ص 79)، ((البرهان المؤيد)) (91 - 92). (6) كتاب ((البرهان المؤيد)) (ص 4) وكتاب ((حالة أهل الحقيقة مع الله)) (ص 4). وكلا الكتابين لهما القبول عند سائر الرفاعية ويعترفون بصحة نسبتهما إليه. (7) رواه البخاري (2697) ومسلم (1718) واللفظ له. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 150 ولقد بالغ الرفاعي في الحث على اتباع السنة إلى درجة قد لا يوافقه عليها كثيرون وذلك أنه قال: «بلغنا عن بعض الأئمة أنه ما أكل البطيخ لأنه لم ينقل له كيف أكله رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ما تهاون قوم بالسنة وأهملوا قمع البدعة إلا سلط الله عليهم العدو .. وما انتصر قوم للسنة وقمعوا البدعة وأهلها إلا ورزقهم هيبة من عنده ونصرهم وأصلح شأنهم. (1) ولكن هل يوافق الرفاعيون شيخهم بأن كل بدعة ضلالة؟ وهل يتابعون الرسول صلى الله عليه وسلم في أقوالهم وأفعالهم وسلوكهم؟ إنهم كثر الزغل بينهم كما يقول الذهبي رحمه الله، وانتشرت بينهم البدع وعمل المخاريق، كما أن عامة المتصوفة يجيزون البدعة الحسنة ويتعبدون الله بها وإلا فما مصدر الخلوة المحرمية وأحزاب البر والبحر والأوراد التي لا تجد شيئاً منها في صحيح الأذكار النبوية، وما مدى شرعيتها، وهل يقيم الله لها وزنا يوم القيامة أم أنها عائدة على مبتدعيها ومتبعيها وزرا!! لقد أشرب غلاة التصوف حب البدعة والدفاع عنها حتى قال قائل منهم: «كل ما ابتدع على طريق القربة إلى الله تعالى فهو من الشريعة والسنة الظاهرة» (2) إن هذا هو الانحطاط الذي جعل التصوف محط أنظار أعداء الإسلام كالباطنية وغيرهم يبثون فيه ما يشاءون من سمومهم ليجعلوا أهل السنة ينتمون إلى السنة اسما فقط مع كونهم يتبنون في الحقيقة كثيرا من مبادئ مخالفة للسنة كالقول بالعلم الباطن واستمداد العلوم والبيعات من سلسلة المشايخ الأموات وهو عين مبدأ التلقي من المعصوم عند الباطنية، والموالد والأضرحة، ولا ننسى تعمد الفاطميين ملأ مساجد أهل السنة بالأضرحة أثناء فترة حكمهم في مصر والشام وغيرها، وكذلك الأحزاب والأوراد التي تتضمن الشرك وسجع العرافين، والسماع الذي لا يضاهيهم فيه إلا الرافضة. ولو قفل باب البدعة لاستعصى الأمر هؤلاء الأعداء وسد في وجوههم هذا الباب وحصن المسلمون دينهم وطهروا مجتمعهم من أمراض البدع المختلفة التي تعاني منها الأمة والتي توقعهم في سخط الله بسبب تبديل السنن باستحداث البدع، فإن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأنها تخل بالتشريع الإلهي، أما المعصية فلا تخل إلا بصاحبها.   (1) ((الفجر المنير)) (ص 21)، ((البرهان المؤيد)) 3) و 20 و 10 - 11 و 57 و 65)، ((المعارف المحمدية)) (ص 13)، ((قلادة الجواهر)) (ص 220)، ((إرشاد المسلمين)) (41 و 62)، ((الكليات الأحمدية)) (77 - 78)، ((ترياق المحبين)) (ص 10). (2) ((الأنوار القدسية للشعراني)) (1/ 123) على هامش الطبقات. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 151 المطلب الثاني: أدلة كذبهم على الشيخ الرفاعي وعلى غيره لقد ثبت لي من خلال متابعتي للكرامات المذكورة عن الشيخ الرفاعي أنه تم اقتباس العديد من كرامات السابقين المروية في كتب التصوف المتقدمة كالرسالة القشيرية. وللدلالة على ذلك أحيل القارئ أن يقارن القصص التالية التي نسبت إلى الشيخ الرفاعي: 1 - قصة دعوة الرفاعي والتي قال فيها: «أتستكثر علي خصلة من خصائل الكلب». والتي ذكرها الصيادي أن يقرأ القصة عينها منسوبة إلى أبي عثمان الحيري كما في الرسالة القشيرية للقشيري، وإحياء علوم الدين للغزالي وكلاهما ماتا قبل مولد الرفاعي. 2 - قصة الأسد الذي أكل الشاب وفيها أن الرفاعي قال له: «ألم أقل لكم لا تتعرضوا لضيوفنا». ذكرها الصيادي منسوبة إلى الرفاعي والعبارة في الحقيقة مذكورة في الرسالة القشيرية ومنسوبة إلى إبراهيم الدقي. 3 - قصة الأستاذ الذي أعطى كل تلميذ من تلاميذه عصفورا وأمر أن يذبح كل منهم عصفوره على حدة بحيث لا يراهم أحد ففعل كل منهم ذلك إلا الرفاعي فإنه جاء ولم يذبح العصفور، فقال له الأستاذ: لم لم تذبح العصفور؟ قال الرفاعي: يا سيدي شرطتم علي خلو المكان، وكل موضع ذهبت إليه رأيته مشغولا بالله .. هذه القصة ذكرها الصيادي في قلادة الجواهر. غير أنك تجدها بتفاصيلها موجودة في الرسالة القشيرية منسوبة إلى شيخ لم يذكر اسمه لكنها بالطبع لغير الرفاعي لأن القشيري كتب رسالته قبل أن يولد الرفاعي بعشرات السنين. ولقد روى الرفاعية من تواضع الرفاعي الشيء الكثير وأنه لم يكن يرى لنفسه مقاماً ولا رتبة ولا مشيخة حتى إنه كان يحلف بالله أن يحشره مع فرعون وهامان إن كان خطر بباله يوما أنه شيخ على أحد من الناس. ويقول: «ما مثلي إلا كمثل ناموسة على الحائط لا قدر لها». إن هذا التواضع الذي يحكيه الرفاعية عن شيخهم لا يتفق مع ما نسبوه إليه من الخفض والرفع والعطاء والمنع، وكون الأرض في قبضته والدهر طائع لأمره إلى غير ذلك مثل زعمهم أنه قال: أنا الكعبة الغرا أنا البيت والحما ... أنا المسجد الأقصى لمن جاء بالذكر أنا الدولة العظمى أنا السطوة التي ... تذل لها الأشياخ في البر والبحر وكل رجال الله طافوا بحضرتي ونا ... لوا المدادات العظيمة من ذكري فإن عدت الأقطاب أدعى كبيرهم ... وإن عدت الأشياخ في بدئهم ذكري وطاعت لي الحيات والأسد في الفلا ... وباسمي يلقى زمهرير على الجمر أنا أحمد الغوث الرفاعي وبصرتي ... محط رحال القوم في مدة العمر وأنه قال أيضاً: أنا الرفاعي طبولي في السما ضربت ... والأرض في قبضتي والأوليا خدمي الجأ بأعتاب عزي والتمس مددي ... وطف ببابي وقف مستمطرا نعمي ولازم الذل في شطحاء منزلنا ... تنجو بهمتنا من حالة العدم من لاذ فينا اكتفى عن غيرنا أبدا ... وجاء في ركبنا بالأمن من ندم وأنه قال أيضاً: أنا الرفاعي ملاذ الخافقين فلذ في ... باب جودي لتسقى الخير من ديم إذا دعاني مريدي وهو في الحج من ... البحار نجا من حالة العدم هلال سلطان عزي للوجود بدا ... وحالتي انفردت من جملة الأمم فلو ذكرت بأرض لا نبات لها ... لأقبلت بصنوف الخير والنعم ولو ذكرت بنار قط ما لهبت ... ولو ذكرت ببحر غار من عظمي ولو دعوت لميت قام لي ومشى ... بإذن ربي يسعى على القدم ونوبتي ضربت في الأرض واشتهرت ... ودولتي حكمت في العرب والعجم بعد هذا نخلص إلى نتيجة هامة وهي أن سيرة أئمة التصوف كالرفاعي والجيلاني والجنيد والبسطامي في كتب وتراجم الصوفية: متناقضة وشخصياتهم مضطربة لا يمكن التعرف على حقيقة شخصياتهم من خلال كتب التصوف المليئة بالمبالغة. إن الصوفية إذا أرادوا تعريف الناس بتواضع مشايخهم صوروهم للناس على غاية من الضعف والمذلة، وإذا أرادوا إثبات كراماتهم وقدراتهم وصفوهم بما يوصف الله به من التمكن في عوالم الكون العلوية والسفلية وكشف خفايا الضمائر والصدور وتغيير المقدور الخ .. المصدر: الطريقة الرفاعية لعبد الرحمن دمشقية - ص81 - 87 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 152 المبحث الثامن: خوارق الرفاعية وموقف الرفاعي منها • المطلب الأول: موقف صلحاء أصحابه من خوارق الرفاعية: . • المطلب الثاني: الصيادي يصرح بأن الخوارق تقع عند ذكر اسم الرفاعي. • المطلب الثالث: كيفية حصول هذه الخوارق بالتفصيل:. • المطلب الرابع: سعيد حوى والرفاعية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 153 المطلب الأول: موقف صلحاء أصحابه من خوارق الرفاعية: أما صلحاء أصحابه الذين أشار إليهم الذهبي فمنهم الشيخ شمس الدين محمد الذي كان يقول: «إظهار الكرامات مرض، وإخفاؤها سر، وما ينبغي أن تظهر الأسرار». (1) ومنهم سبط الشيخ أحمد الرفاعي: «صدر الدين علي» الذي كان يقول: «إظهار الكرامات مرض، وكتمها سر». (2) ومنهم أحمد بن محمد تاج الدين الرفاعي: «نقل الحافظ ابن حجر العسقلاني عن الإمام الذهبي قوله فيه: إنه كان كبير القدر وكان وقوراً عاقلاً فاضلاً يكره دخول النار وأخذ الأفاعي» (3). واعترف الصيادي بكراهيته لذلك. (4) وقد حمل عليهم ابن تيمية فيما يفعلونه من تفتيل الشعر وحمل الحيات، وقال بأن هذا لم يكن من شعار الصالحين ولا من الصحابة والتابعين، ولا شيوخ المسلمين ولا الشيخ أحمد بن الرفاعي ولا غيره، وإنما ابتدعت ذلك بعد موته بمدة طويلة طائفة ممن انتسبوا إليه، مخالفين بذلك طريق المسلمين. (5) وكذلك حمل عليهم الشيخ الألوسي الذي قال: «وأعظم الناس بلاء في هذا العصر على الدين والدولة: مبتدعة الرفاعية، فلا تجد بدعة إلا ومنهم مصدرها وعنهم موردها ومأخذها، فذكرهم عبارة عن رقص وغناء والتجاء إلى غير الله وعبادة مشايخهم. وأعمالهم عبارة عن مسك الحيات». ا. هـ (6) ويظهر أن إنكار أهل العلم على الرفاعية في ذلك الزمن قد اشتد حتى أصدروا فتوى بأن: أخذ الحيات وشرب السم والضرب بآلات السلاح مثل السيف والخنجر والسكين من الكفر، وفاعل ذلك يكفر. (7) ولقد ضاق الصيادي صدرا بهذه الفتوى معتبرا ذلك من جملة الحسد على هذه الطريقة، وشنع عليهم في رسالته المسماة «الغارة الإلهية» واصفا إياهم بالحسدة أصحاب التعصب الواهي (8) غير أنه هو الآخر استنكر ما يفعله الرفاعية من هذه الخوارق التي يدعون أنها كرامات على حد قوله. قال: «وإني رأيت كثيرا ممن تصدر لمشيخة هذه الطريقة العلية الرفاعية لا يعرفون أصولها ولا فروعها ولا خلواتها ولا أورادها .. غاية ما عرفوا في هذه الطريقة اللعب بالنار والدبوس والحيات وغيرها وادعوا أن هذه البراهين كرامات لهم، حاشا». (9) فالعجب أن تحصل الخوارق لهؤلاء الذين تصدروا مشيخة الطريقة مع أنهم لم يعرفوا أصول الطريقة ولا فروعها! فلم يعد من تفسير لهذه الظاهرة إلا أن تكون كما ذكر الشعراني خدعة من خدع شياطين الجن.   (1) ((تنوير الأبصار)) (ص 55)، ((قلادة الجواهر)) (ص 353)، وانظر ((روضة الناظرين)) (97 و 102). (2) ((الدرر الكامنة في أعيان المئة الثمانية)) (1/ 328). (3) ((الغارة الإلهية)) (ص 50)، ((تنوير الأبصار)) (ص 57). (4) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 494). (5) ((غاية الأماني في الرد على النبهاني)) (1/ 370). (6) عن كتاب ((الغارة الإلهية)) للصيادي (ص 2). (7) ((الغارة الإلهية))، وانظر ((قلادة الجواهر)) 201) - 203). (8) ((قلادة الجواهر)) (ص 280). (9) ((قلادة الجواهر)) (ص 433). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 154 المطلب الثاني: الصيادي يصرح بأن الخوارق تقع عند ذكر اسم الرفاعي إن احتمال أن تكون هذه الخوارق خدعة شيطانية قريب جدا وغير مستبعد لا سيما أنها تحصل لهم عند الاستعانة بالرفاعي وندائه. والرفاعية يعترفون بأن خوارقهم لا تحصل إلا عند ذكر اسم الرفاعي وطلب المدد منه. وهذه هي مادة الشرك التي بها تحصل الخوارق بواسطة الشياطين. هذه المادة التي بها يفعل الوثنيون من البوذيين والهندوس فعل خوارق مماثلة لخوارق الرفاعية. فالاعتراف الأول: من الصيادي نفسه الذي أنشد يثني على الرفاعي ويقول (1): له مدد قد أطفأ النار نوره ... وعزم به ما السيف أن سل باتر يذل الأفاعي حين يذكر اسمه ... وتخضع أسد الغاب وهي كواشر يمد ويحمي الملتجي لطريقه ... سواء بها بر ومن هو فاجر ناده واهجم على ليث الثرى ... تلقه في غابه كالثعبان ناده وأقبل على الأفعى تقف ... وتناولها تجدها غصن بان وبهذا الاعتراف يسقط ما قاله الصيادي من أن دخول الرفاعية النار مسبوق بمعجزة إبراهيم الخليل، وأن السقوط من أعلى إلى أسفل مسبوق بإسقاطه عليه السلام بالمنجنيق، وأن أخذ الحيات مسبوق بمعجزة موسى. فإن معجزة إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان سببها التوحيد ومحاربة الوثنية بين قومه. أما الرفاعية فلا تمنح الخوارق لهم إلا عند ذكر اسم الرفاعي والاستغاثة به. وأما اللعب بالحيات فلم يكن من عمل موسى وإنما كان من عمل سحرة فرعون، فإن موسى لم يمسك حية واحدة وإنما ألقى العصا فانقلبت حية، وكانت معجزته تحديا لأخذهم الحيات الذي كان من وراءه شياطين الجن. ثم إن الشبه إنما هو حاصل في الحقيقة بين الرفاعية وبين سحرة فرعون وليس بينهم وبين موسى. فإن الرفاعية يقولون: «بعزة الرفاعي» عند فعل الخوارق وكان سحرة فرعون يقولون: «بعزة فرعون» فكلا الفريقين يعتزون بغير الله فمن أين وقع الشبه بينهم وبين موسى؟ إنهم كانوا - ولا يزالون - يمسكون الحيات ويدأبون على اللعب بها والتباهي بذلك أمام الناس كما قال الشيخ الألوسي عنهم بأن أعمالهم «مسك الحيات والعقارب» (2) الاعتراف الثاني: من أحد من كانوا من كبار الطريقة الرفاعية في هذا العصر واسمه (مصطفى السعدني) (3) بقي في هذه الطريقة زمناً طويلاً إلى أن نال فيها مرتبة «الشاويشية» ثم رجع عنها. وقد التقيت به فترة بمصر، ثم أرسل إلي رسالة أخبرني فيها أنهم كانوا يستغيثون بالرفاعي ويطلبون منه أن يذلل لهم الثعابين فيتمكنون من تذليلها، وكانوا ينادون باسمه ويغرسون الدبابيس في وجوههم، والصيغة كانوا يقولونها كالتالي: ناد على الأربعة يلي أنت لهم محتاج أربع سلاطين أمارى لابسين التاج أحمد ويا أحمد (4) نظرة يا أبا فراج دسوقي وجيلاني نظرة يا ساكن بغداد أنا لاموني العوازل لقول سر الكرام راح فين أنا لهجم على الدبوس وقول مددين مدد يا أبا العلمين قال: ثم نغرس الدبوس بهذا الدعاء الشركي، الذي به كنا نمسك الثعابين ونخرجها من الشقوق أمام الناس في القرى. وقد أخبرني شخصياً أن أهم ما جعله يعيد النظر في انتمائه إلى الرفاعية هو قصة ذوبان الشيخ الرفاعي وتحوله إلى ماء كلما ذكر ربه، وما تتضمنه هذه القصة من الخرافة التي لا يمكن للعقل استساغتها. وهنا ينجلي الأمر وتنكشف حقيقته، فإن الشياطين وراء هذه الخوارق يسوقون الناس بها إلى الشرك بالله واعتقاد حل المشكلات وكشف الكربات والاتيان بالمعجزات بواسطة الرفاعي والبسملة به لا بالله. وهذا هو السر في اعتراف الشيخ صالح الرفاعي أحد كبار الرفاعية أمام ابن تيمية وأمام أمير البلاد بأن: «أحوالنا ما تنفذ أمام أهل الكتاب والسنة وإنما تنفذ أمام من لا يكون كذلك من الأعراب والترك والعامة». فذكر ابن كثير أنه قال: «نحن أحوالنا إنما تتفق عند التتار، ليست تتفق عند الشرع». قال ابن كثير: فضبط الحاضرون عليه تلك الكلمة. (5) وذلك لأن أهل الشرع والسنة تؤيدهم الملائكة فتنكص الشياطين حينئذ على أعقابها كما نكصت يوم الزينة يوم حشر الناس ضحى، وانكشف للناس السحر وبطل عمله. ولا يفلح الساحر حيث أتى   (1) ((القواعد المرعية)) (ص 33)، ((المعارف المحمدية)) (ص 90)، ((تطبيق حكم الطريقة العلية)) (ص 313) للصيادي (2) ((غاية الأماني)) (1/ 370). (3) مصري من قرية «إيتاي البارود» محافظة البحيرة. (4) يقصدون بالأول: الرفاعي وبالثاني البدوي. (5) ((البداية والنهاية)) (14/ 36). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 155 المطلب الثالث: كيفية حصول هذه الخوارق بالتفصيل: أما الكيفية التي تحصل بها هذه الخوارق فيبينها ابن تيمية الذي كان له مع الرفاعيين مواقف عديدة، قائلا بأنهم «لا يدخلون النار إلا مع خروجهم عن الشريعة، فإن الشياطين تلابس أحدهم بحيث يسقط إحساس بدنه، حتى أن المصروع يضرب ضرباً عظيماً وهو لا يحس بذلك ولا يؤثر في جلده. فكذلك هؤلاء تلبسهم الشياطين وتدخل بهم النار وقد تطير بهم في الهواء. وإنما يلبس أحدهم الشيطان مع تغيب عقله كما يلبس الشيطان المصروع .. ومنهم من يصعد في الهواء ويأخذ الحديد المحمى بالنار ثم يضعه على بدنه». أضاف: «وهؤلاء عندهم أحوال شيطانية تعتريهم عند السماع الشيطاني، فتنزل الشياطين عليهم كما تدخل في المصروع، ويزبد أحدهم كما يزبد (1) المصروع، وحينئذ يباشر النار والحيات والعقارب، ويكون الشيطان هو الذي يفعل ذلك» (2).وهذه الأحوال - والكلام له - لا تحصل لهم عند الصلاة ولا عند الذكر ولا عند قراءة القرآن، لأن هذه عبادات شرعية إيمانية إسلامية نبوية محمدية تطرد الشياطين وتلك عبادات شركية شيطانية فلسفية تستجلب الشياطين» (3).وللرفاعية مراسم يجتمعون عليها، ومن هذه المراسم: عدة النوبة وهي عبارة عن الدفوف يضربونها ليالي الجمعة والجمع، يرفعون الألوية والرايات ويضربون الدفوف، ففي إحدى زوايا الرفاعية - وهي زاوية الشيخ سلمان البارودي - في مدينة طرابلس تجري حلقات ما يسمى بالذكر كل ليلة جمعة تستخدم فيها «الآلات الموسيقية» بشكل إيقاعي، وخلال الذكر يقوم بعض المشايخ باستعمال الشيش ويبدأ بطعن المريدين ويمسك الجمر المحمى. وفي زاوية الشيخ أحمد الرافعي يعملون ذكر النوبة هذا ويضربون أنفسهم بالسلاح والشيش والنار (4).   (1) الزبد: عبارة عن كثرة التماوج والهيجان والاضطراب. (2) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 610 – 611). (3) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 575). (4) ((الطرق الصوفية ومشايخها في طرابلس)) (ص 126) للدكتور محمد درنيقة ط: دار الإنشاء. طرابلس 1984. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 156 المطلب الرابع: سعيد حوى والرفاعية ولقد اغتر الأستاذ سعيد حوى رحمه الله بما يفعله الرفاعية من كونهم يدخلون النار ولا تؤثر فيهم، ويضربون أنفسهم بالرصاص أو بالسيوف ولا يؤثر ذلك فيهم، معتبرا أن هذا من أعظم فضل الله على هذه الأمة، مع أنه اعترف في نفس الوقت أن مثل هذا قد يجري على يد بعض الفساق. قال: «إن الحجة الرئيسية للمنكرين أن هذه الخوارق تظهر على يد فساق من هؤلاء كما تظهر على يد صالحين». أجاب: «هذا صحيح، والتعليل هو: 1 - أن الكرامة ليست لهؤلاء بل هي للشيخ الأول الذي أكرمه الله عز وجل بهذه الكرامة وجعلها مستمرة في أتباعه.2 - أن هذا قد يكون استدراجا في حق بعض أتباعه الفساق (1). الجواب: 1 - أما قوله: «أن حجة المنكرين الرئيسية كون هذه الخوارق تظهر على يد الفساق من أتباع الطريقة» أن هذه الحجة ليست هي الرئيسية كما ذكر. وإنما السبب الرئيسي في الإنكار: كون هذه الخوارق تظهر على غير المسلمين كالبوذيين والهندوس مما يؤكد أن هذه الخوارق ليست في حقيقتها كرامات وإنما خدع شيطانية قد تنطلي على فاعليها أيضاً حيث يظنون أنها كرامات وهي في الحقيقة خداعات. ولولا ذلك لقلنا بأن ما يفعله أولئك البوذيون والهندوس كرامات أيضاً. 2 - أنه إذا كان الرفاعية يضربون أنفسهم بالرصاص ولا يؤثر فيهم ويدخلون الشيش في بطونهم ويخرجونه من ظهورهم: فإنه يصير من الواجب عليهم والحالة هذه أن يستعملوا هذه الكرامات لصالح المسلمين فيتحتم عليهم إخراج الأمة من هذا الذل والهوان وتسلط الأعداء على بلاد المسلمين إذ ماذا ينفع المسلمين أن يقف هؤلاء وسط المحتشدين من عامة الناس ويفعلون هذه الخوارق بينما كان الأولى بهم - إذا كان عندهم شيء من الكرامات - أن يذهبوا وكراماتهم إلى ساحات الجهاد ليريحوا المسلمين من تسلط الكفار والباطنية على بلاد المسلمين. 3 - لعل الأستاذ سعيد رحمه الله غفل عما يقوله هؤلاء عند إدخال الشيش والضرب بالنار من كلمات الشرك التي يتعلمونها من مشايخهم مثل أن يقسموا بالرفاعي من دون الله ليحقق لهم هذه الخوارق وينادونه باسمه. وهذا ما صرح به الصيادي وغيره من الرفاعية حيث قال بأن الرفاعي (2): له مدد قد أطفأ النار نوره ... وعزم به ما السيف أن سل باتر يذل الأفاعي حين يذكر اسمه ... وتخضع أسد الغاب وهي كواشر ناده واهجم على ليث الثرى ... تلقه في غابه كالثعبان ناده وأقبل على الأفعى تقف ... وتناولها تجدها غصن بان 4 - إن للكرامة سببا مهما وعظيما، ألا وهو نصر الدين ورفعته، وتأييد المؤمنين في حربهم ضد الكفار والمشركين، وماذا تنفع الكرامة إن كان أهلها أعزة في ساحات الاستعراضات أذلة: مستضعفين عاجزين عن مقاومة أعدائهم في ساحات الجهاد؟! إن الصوفية يكثرون من التحدث عن صنوف الكرامات، ولا يتدبرون السبب الذي من أجله يعطي الله هذه الكرامات، ذلك أن كرامات الأولياء إنما هي امتداد لمعجزات الأنبياء التي أيدهم الله بها لإقامة دينه وإخضاع أعداء المسلمين. 5 - أن الأستاذ سعيد وغيره يدركون تماما أن هذه الخوارق لا تحصل عند تلاوة القرآن، وإنما تحصل عند استعمال الآلات الموسيقية كالطبل والدف والمزامير وغيرها، فهذا دليل آخر على أن حالهم شيطاني وليس إيماني. 6 - أن بعض من شهدهم حدثني أنهم كانوا يشترطون عليهم ألا يقرأوا قرآنا ولا يتكلموا بشيء البتة. وقد طلبوا من أحد إخواننا أن ينصرف عنهم حيث كان يتمتم بالذكر وقراءة القرآن مما أدى إلى جرحهم لدى إدخالهم الشيش حتى قالوا: إن بين الحاضرين رجل روحه شريرة فلينصرف عنا وحكى لي أحد الثقات من أهالي عكار أنهم أدخلوا الشيش في ولد أحد أقاربه فأصيب الولد بجرح عميق وأسرعوا به إلى المستشفى، وأقسم والده أنه إن مات سيقتلهم واحداً واحداً لكن الولد لم يمت. وقد طلب أحد مشايخ التصوف في بيروت من مريده أن يجلس على الموقدة وينادي باسم الشيخ غير أن مقعدته احترقت وأخزى الله الكذب وأهله. وقد زعم أمامي واحد من أهل الطريقة الرفاعية أن من إكرام الله لهم حاصل في كونهم يأكلون الزجاج أمام الكفار وأنهم عاينوا الزجاج في بطنه وتأكدوا من صحة ذلك وأدى ببعضهم إلى الإسلام. فقلت: هذا من جهل أولئك بحقيقة الأمر، فإنهم لو علموا أن هذا يحدث للوثنيين والبوذيين لربما ارتدوا على أعقابهم. المصدر: الطريقة الرفاعية لعبد الرحمن دمشقية - ص96 - 105   (1) ((تربيتنا الروحية)) (217 – 218). (2) ((قلادة الجواهر)) (ص 433). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 157 المبحث التاسع: حقيقة العلاقة بين الرفاعية والتتار عار لا كرامة لقد عمل الصيادي على إعطاء الرفاعية في عهد دخول التتار إلى بغداد صورة مشرفة ودوراً بارزاً من غير إثبات تاريخي يدعم هذا الادعاء، إلا أن الوثائق التاريخية تشهد بخلاف ذلك. فقد بين الذهبي وغيره أن فساد الرفاعية تزامن مع دخول التتار إلى العراق بعد أن سقطت بأيديهم فقال: «قد كثر الزغل في أصحاب الشيخ أحمد وتجدد لهم أحوال شيطانية منذ أخذ التتار العراق». (1) وفي فوات الوفيات أن الرفاعية: «فسدت حالهم منذ مجيء التتار، وأنهم بدءوا يفعلون ما الشيخ بريء منه حين دخل التتار العراق. (2) إن هذين النصين ليؤكدان بوضوح على أن ابتداء هذه الخوارق إنما كان متزامنا مع دخول التتار العراق، حيث كان الرفاعية يتوددون إليهم بها ليدرؤوا شرهم أو لينالوا عندهم الحظوة والمكرمة والمكافأة على الخوارق التي كانوا يفعلونها أمامهم. فقد روى المؤرخون عنهم أنهم كانوا يترددون على التتار، ويأوون عندهم ويقبلون منهم الهدايا والأعطيات. فذكر ابن كثير مثلا أن الشيخ صالح الأحمدي - وهو من أكابر مشايخ الرفاعية في وقته - كان يأوي إلى نائب التتار " قطلو شاه " ويقيم عنده وكان هذا الأخير يكرمه جداً. وهو الذي كان قد قال لابن تيمية أمام الأمير: «أحوالنا لا تتفق إلا عند التتار، وأما عند الشرع فلا» (3) وقد اعترف الوتري والصيادي بمنزلة الشيخ صالح عند التتار وأنه كان يقيم عندهم ويكرمونه خلال إقامته عندهم. (4) إن خوارق الرفاعية قد أكسبتهم الحظوة والرضا عند التتار ومنعت عنهم القتل والتنكيل الذي أصاب كثيرا من المسلمين آنذاك، ولم تكن هذه الخوارق تحديا للتتار. إذ لو كان الأمر كذلك لشملهم القتل والتنكيل. ولو كانت أحوالهم كرامات من عند الله فأين كانت هذه الكرامات عند دخول التتار عنوة إلى بغداد يوم قتل فيه أكثر من مليوني مسلم؟ أين كان التصرف في الأكوان، أين الأمان الذي تحقق بهم، ولماذا لم يرفعوا البلاء الذي نجد في كتب الرفاعية أن مشايخهم كانوا يرفعونه بالقضيب والعصا؟ - هل أسلم زعماء التتار على يد الرفاعية؟ ولقد أراد الصيادي أن يمحو هذه الصفحة المشينة من حسن العلاقات بين الرفاعية وبين التتار وعمل على استبدالها بصفحة أخرى مناقضة لها تماما. فادعى أن للرفاعية الفضل في دخول التتار إلى الإسلام وتخليص الأمة الإسلامية من شرهم وفتنتهم حيث استولوا على بلاد المسلمين لفترة طويلة من الزمن، وقتلوا منهم مئات الآلاف واستذلوهم. وذكر أن اثنين من كبار زعماء التتار دخلا الإسلام على أيدي الرفاعية هما: «هولاكو» و «غازان خان».أما هولاكو فذكر الصيادي أنه أسلم فزعاً من الشيخ عز الدين أحمد بن محيي الفاروثي بعدما رأى بعينه دخول النار وأكل الحيات. وادعى أن ابن كثير ذكر ذلك في تاريخه وبالتحديد في حوادث سنة أربع وتسعين وستمائة (5) مع أن ابن كثير لم يذكر عن عز الدين هذا إلا أنه كان خطيبا فعزله السلطان عن الخطابة فألح عليه ألا يعزله وأخبره أنه يصلي كل ليلة مائة ألف ركعة ويقرأ في كل ركعة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1]   (1) ((العبر)) (4/ 233). ط: دار الكتب العلمية. (2) ((فوات الوفيات)) (4/ 240). (3) ((البداية والنهاية)) (14/ 47 و 36). (4) ((قلادة الجواهر)) (ص 204)، ((روضة الناظرين)) (ص 141)، وانظر ((الدرر الكامنة)) للحافظ ابن حجر (2/ 201). (5) ((خزانة الإمداد في ذخيرة بني الصياد)) 221) – 222)، ((روضة الناظرين)) (ص 63). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 158 قال ابن كثير: «وهذه دناءة وقلة عقل وعدم إخلاص من الفاروثي».وذكر أنه خرج مرة في جمع من الناس ليستسقي لهم فلم يسقوا، واستسقى لهم ثانية فلم يسقوا، ثم سقوا بعد ذلك من غير دعائه. (1) ثم إن الصيادي نقض ما قاله عن عز الدين الفاروثي، فزعم في موضع آخر أن إسلام هولاكو ورجوعه عن الكفر والزندقة كان على يد الشيخين «بندي ويعقوب» اللذين دخلا النار أمامه وشربا النحاس المذاب والسم. (2) والقولان على تناقضهما يردهما المؤرخون الذين أكدوا موت هولاكو كافرا مصابا بالصرع. وأنه مات على ملة الكفر. قال الذهبي: «ومات طاغية المغول» هولاكو بن تولى بن جنكيز خان الذي أباد الأمم ببغداد وحلب .. مات على دينه بعلة الصرع. (3) وقال ابن كثير: «وجاءت الأخبار بأن هولاكو هلك إلى لعنة الله وغضبه بمرض الصرع .. وكان ملكا جبارا فاجرا لعنه الله». (4) أما «غازان خان» فقد زعم الصيادي أنه أسلم على يد عثمان سيف الدين بن عز الدين الرفاعي. (5) وهذا غير صحيح أيضاً، فإن إسلامه كان بناء على إشارة من نائبه «نورور» كما صرح الذهبي بذلك حيث قال: «ونثر الذهب واللؤلؤ، ولقنوه شيئاً من القرآن، وفشا الإسلام في التتار». (6) وبالتالي فإننا ننتهي إلى أنه لم يسطر التاريخ للرفاعية أي فضل في دخول التتار إلى الإسلام وإنما على العكس من ذلك فإنه يشهد بفساد أحوالهم وكثرة الزغل بينهم منذ دخل التتار العراق. إن هذا الذي ذكره الصيادي لم تشهد به كتب التاريخ بل ولا طبقات التصوف المتقدمة ولم يكن معروفا حتى جاء هو وطرح دعواه التي لا دليل عليها، وإنما يمكن الشهادة بضدها استنادا إلى كتب التاريخ والطبقات التي بينت أنهم كانوا يتولونهم ويتقربون إليهم. وهذا ما عرف عن الرفاعية حتى المتأخرين منهم، فقد روي عن أحد كبار مشايخهم في عصرنا الحاضر واسمه الشيخ وهيب البارودي الرفاعي الطرابلسي (ت 1362هـ)، أنه عمل أستاذا في معهد الفرير (7) وتتلمذ على يديه المطران عبد وجورج صراف وسابا زريق وغيرهم من كهان النصارى وكان لهم معه أطيب العلاقات، وكان هو بدوره يقيم معهم علاقات ودية وصداقات مع رجال الدين المسيحي إلى درجة أنه كان يرسل أبناءه لحضور احتفالات المسيحيين في الكنائس. (8) ولا يزالون إلى اليوم تحت نظر وتأييد المتسلطين على بلاد المسلمين في مصر وغيرها، وفي لبنان يسرحون ويمرحون تحت عناية النظم المتسلطة عليه والتي يعاني منها المسلمون الويلات والدمار والقتل والسجن. المصدر: الطريقة الرفاعية لعبد الرحمن دمشقية - ص108 - 111   (1) ((انظر البداية والنهاية)) (13/ 329 – 330). (2) ((قلادة الجواهر)) (218 – 219). (3) ((كتاب دول الإسلام)) (2/ 169) ط: الهيئة المصرية العامة للكتاب - مصر، ((فوات الوفيات)) (4/ 240). (4) ((البداية والنهاية)) 13) / 245 و 248). (5) ((خزانة الإمداد)) (ص 212)، ((روضة الناظرين)) (ص 100). (6) ((دول الإسلام)) (2/ 196). (7) وهو معهد نصراني أسهم في تضييع كثير من أبناء المسلمين في لبنان وعمد إلى تربيتهم تربية نصرانية تبعدهم عن دينهم. وترغبهم بالديانة النصرانية. (8) ((الطرق الصوفية ومشايخها في لبنان)) (119 – 120) محمد درنيقة ط: دار الإنشاء بطرابلس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 159 المبحث العاشر: الشعائر الخاصة للطريقة الرفاعية: وللطريقة الرفاعية شعائر خاصة كشأن كل الطرق الصوفية وإليك أهم هذه الشعائر والعقائد .. 1 - من أهم ما يميز الطريقة الرفاعية هو التتلمذ لكل شيخ، ينقل الشعراني أيضاً عن الرفاعي أنه قال: "من تمشيخ عليكم فتتلمذوا له، فإن مد يده لكم لتقبلوها فقبلوا رجله .. ومن تقدم عليكم فقدموه وكونوا آخر شعرة في الذنب، فإن الضربة الأولى تقع في الرأس" (الطبقات الكبرى ص141). 2 - تبنت الطريقة مذهب التفويض في الأسماء والصفات زاعمة أنه مذهب السلف، ولكن الرفاعيين مع ذلك يخالفون ذلك ويؤولون تأويل الأشاعرة فيزعمون أن الله لا يوصف بفوقية أو سفلية وليس في جهة من الجهات، ولا يثبتون ما أثبته الله لنفسه، وكذلك يقولون بوجوب التقليد الفقهي .. (الطريقة الرفاعية ص42). 3 - ويجعلون السماع والمواجيد والتواجد من الصراخ وغيره مما درج عليه أهل التصوف ديناً ويكفرون من يقول ببدعية ذلك أو يعيبه. قالوا "وإن من أنكر ذلك فقد كفر، لأنه عاب خيراً أمر الله به، ومن عاب ما أمر الله به فهو كافر" (الطريقة الرفاعية ص64،78). 4 - أنكر أحمد الرفاعي ما قاله الحلاج ونفى أن يكون ولياً أو واصلاً حيث قال: "أي سادة تفرقت الطوائف شيعاً، وأحمد (يعني نفسه) بقي مع أهل الذل والانكسار والمسكنة والاضطرار، إياكم والكذب على الله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا [الأنعام: 21]. ينقلون عن الحلاج أنه قال: أنا الحق. أخطأ بوهمه، لو كان على الحق ما قال أنا الحق، يذكرون له شعراً يوهم الوحدة كل ذلك ومثله باطل، ما رآه رجلاً واصلاً أبداً، ما أراه شرب، ما أراه حضر، ما أراه سمع إلا رنة وطنيناً، فأخذهم الوهم من حال إلى حال، وما زاد قرباً ولم يزدد خوفاً فهو ممكور. إياكم والقول بهذه الأقاويل إن هي إلا أباطيل" .. أ. هـ (البرهان المؤيد ص26). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 160 وهذه أقوال صريحة في رفض أقوال الحلاج الكفرية، والتمسك بالحق والحكم على قائلها بما حكم به أهل الإسلام جميعاً في عصره أنه كافر زنديق وأنه يستحق القتل والصلب الذي وقع له. ويستطرد الرفاعي أيضاً مبيناً أن حال الأولياء الصادقين لا تكون كحال فرعون الذي قال أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24] .. وليست كذلك كحال نمرود الذي قال أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258] فيقول: "درج السلف على الحدود بلا تجاوز. بالله عليكم هل يتجاوز الحد إلا الجاهل وهل يدوس عنوة في الجب إلا الأعمى! ما هذا التطاول وذلك التطاول ساقط بالجوع. ساقط بالعطش. ساقط بالنوم. ساقط بالوجع. ساقط بالفاقة. ساقط بالهرم. ساقط بالعناء. أين هذا التطاول من صدمة صوت لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16]. العبد متى تجاوز حده مع إخوانه يعد في الحضرة ناقصاً. التجاوز علم ناقص ينشر على رأس صاحبه. يشهد عليه بالغفلة. يشهد عليه بالزهو. يشهد عليه بالحجاب. يتحدث القوم بالنعم لكن مع ملاحظة الحدود الشرعية. الحقوق الإلهية تطلبهم في كل قول وفعل. الولاية ليست بفرعونية. ولا بنمرودية قال فرعون أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]. وقال قائد الأولياء وسيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم ((لست بملك)) ((1) نزع ثوب التعالي والإمرة والفوقية. كيف يتجرأ على ذلك العارفون: والله يقول وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس: 59] وصف الافتقار إلى الله وصف المؤمنين. قال تعالى يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ [فاطر:15] , هذا الذي أقوله علم القوم. تعلموا هذا العلم. فإن جذبات الرحمن في هذا الزمان قلت. اصرفوا الشكوى إلى الله في كل أمر. العاقل لا يشكو لا إلى ملك ولا إلى سلطان. العاقل كل أعماله لله" أ. هـ (البرهان المؤيد ص26). وهذا كلام جيد جداً في رفض دعاوي الصوفية وشطحهم ولكن أتباعه اليوم يخالفون هذا تماماً فيترضون على ابن عربي ومن على شاكلته ويطبعون أقوال هؤلاء جنباً إلى جنب مع أقوال الرفاعي .. ويعتذرون عما قاله الحلاج وغيره أنه من الشطح ولا يصرحون بما صرح لنا في إبعاد قائل هذه الأقوال من الدين. وبذلك يتناقضون على عاداتهم في قولهم أحياناً في رفض الدعوى والشطح، وفي نشرهم لهذه الدعاوي وترضيهم على فاعليها. 5 - ومن المشاعر الخاصة بالطريقة الرفاعية أيضاً الخلوة الأسبوعية السنوية وتبدأ عندهم في اليوم الحادي عشر من المحرم كل عام، ومن شروطها أن لا يأكل المريد طعاماً أخذ من ذي روح، ويذكر المريد في اليوم الأول لا إله إلا الله بعدد معلوم واليوم الثاني الله الله، والثالث وهاب وهاب، والرابع حي حي والخامس مجيد مجيد .. والسادس معطي معطي .. والسابع قدوس قدوس، وكل ذلك بعدد معلوم، وكذلك أن يقول المريد بعد كل صلاة من صلوات هذا الأسبوع (اللهم صل على سيدنا محمد النبي الأمي الطاهر الزكي وعلى آله وصحبه وسلم) يقول ذلك مائة مرة، وزعموا أن لهذه الخلوة فتوحات محمدية، وعنايات أحمدية لا تحصى وأن من فعلها شاهد من البراهين العظيمة وكأن له شأن عظيم (الطريقة الرفاعية ص115).   (1) رواه ابن ماجه (3312) من حديث أبي مسعود وقال: إسماعيل وحده وصله. قال الدارقطني كما في ((تاريخ بغداد)) (6/ 275) روي موصولاً وهو وهم، والصواب أنه مرسل وقال الوادعي ((أحاديث معلة)) (305): وصله شاذ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 161 ولا يخف أن هذه الخلوة في هذا الوقت المخصوص بدعة ضلالة وكل بدعة في النار كما قال صلى الله عليه وسلم وأنها تشريع جديد لم يأذن به الله ولا رسوله، وأن فيها مشابه لصيام النصارى الذين يصومون عن ذوات الأرواح، وأن فيها تقرباً من الرافضة حيث يخصص الحادي عشر من محرم من كل عام بذلك حيث تنتهي مشاعر الرافضة الخاصة ليدخل مشاعر الرفاعية ولعل ذلك السبب في قولهم إن الرفاعي تأتي منزلته بعد الأئمة الاثني عشر مباشرة (الطريقة الرفاعية ص127). وأما تخصيصهم كل يوم بذكر خاص فهو بدعة، وأما ذكرهم الله بالاسم المفرد فقط الله، حي، مجيد فبدعة عظيمة ولم يرد ذكر الله بالاسم المفرد مطلقاً .. بل لا يذكر الله إلا بجملة مفيدة نحو (لا إله إلا الله) فهي جملة (وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله)، ونحو ذلك فكلها جمل تفيد معنى تعظيماً، فكل من ذكر الله باسم فرد من أسمائه فهو مبتدع، ولذلك لا يستغرب على هؤلاء المبتدعة أن يروا في خلواتهم هذه النيران الشيطانية التي يحسبونها أنواراً ملائكية رحمانية وما هي كذلك لأن الله لا يشرق نوره إلا في قلوب الصالحين المتبعين للحق من عباده. 6 - ومن مشاعر الطريقة الخاصة أيضاً جواز المحاضرة وربط الروح بأرواح من شاء استحضار روحه من كافر ومسلم (الطريقة الرفاعية ص120) , وكذلك من مشاعرهم ما يسمى بالاستفاضة وهي ربط قلب المريد بقلب الشيخ طلباً لإفاضة العلم الباطني إليه، وهذه بدعة صوفية معلومة. ففي التربية الصوفية يطلب من المريد أن يستحضر روح شيخه عند الذكر ويتمثله أمامه ويطلب من شيخه أن يربط روحه بروح الرسول الذي يزعمون أنه يفيض العلوم والأسرار على قلوب شيوخ الصوفية. والحق أن هذه العملية عملية شيطانية لأن المريد الذي يغيب عقله بالذكر المبتدع الذي يذكره آلاف المرات وعشرات الآلاف حتى يكل عقله ودماغه وهو في كل ذلك يحاول استحضار صورة شيخه أمامه، وقد يكون هذا في ظلام دامس فإن هذا هو الوقت المناسب ليدخل الشيطان إليه زاعماً أنه هو شيخه وأنه يراه الآن، وأنه يربط الآن قلبه بقلب الرسول ليفيض عليه العلوم والأسرار الإلهية، ويبدأ الشيطان يلقي في قلوب هؤلاء وساوسه الإبليسية فيوهم الواحد منهم أنه الآن صاعد إلى السماء، وأن هذا هو عرش الله، وهذا هو كرسيه هذه هي الأرض، وأن قد أصبحت الحبيب والعظيم وصاحب الهمة وما إلى ذلك من هذا النفح الشيطاني حتى يتصور المسكين فعلاً أنه وصل إلى مكان القرب من الله، وأن السماوات قد أصبحت طوع أمره، والأرض أصبحت كالخلخال برجله، وأنه يستطيع أن يقول للشيء كن فيكون .. وهكذا يكون المريد الذي دخل الخلوة، وذكر هذه الأذكار المبتدعة، وقطع نفسه بالظلام على هذا النحو يعود بنفس أخرى وحال أخرى غير الحال التي دخل بها. وهذا سر قولهم إن لهذه الخلوة أسراراً وبراهين عظيمة، ولو علموا أنهم يربطون قلوبهم بالشياطين لعرفوا الحق المبين وأنهم نهوا عن سلوك الطرق المعوجة لأنها لا توصل إلا إلى الهاوية والضلال المبين. 7 - وقد جعل الرفاعية الفضيلة العظمى والشرف الأسمى لهم على سائر الفرق ببركة الرفاعي فإن الله قد أبرد لأتباعه النيران، وأزال لهم فاعلية السموم، وألان لهم الحديد، وأذل لهم السباع والحيات والأفاعي، وأخضع لهم طغاة الجن (الطريقة الرفاعية ص134). ولذلك فإنهم في موالدهم ومؤتمراتهم العامة يأتون بمن يشعل النار ويدخلها إلى فمه، ومن ينفخ ناراً من فمه على هيئة التنين .. ومن يحمل الأفاعي ويلعب بها، ونحو ذلك من الشعبذات والخزعبلات التي لا يكاد يخلو منها قوم من أقوام أهل الشرك كالهنادك والفرس، وغيرهم. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 162 المبحث الحادي عشر: الرفاعية في طور جديد في النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري تزعم الطريقة الرفاعية رجل يسمى محمد مهدي الصيادي الرفاعي، الذي رفع نفسه إلى مرتبة الغوثية الكبرى، ودعا الناس إلى طريقته واقتفاء أثره، وزعم أنه سالك سبيل جده مؤسس الطريقة الرفاعية، ولكنه جاء بما لم يسبقه أحد من الدعاوي في علو منزلته، والحق أنني لم أجد أجرأ منه على مدح نفسه وكذبه فيما نسبه إلى الله ورسوله من تعظيم نفسه إلا أحمد التجاني وابن عربي، وإليك بعضاً من نصوصه في هذا الصدد .. 1 - الدرة البيضاء: ألف كراسة صغيرة سماها (الدرة البيضاء) ملأها بالجهل والغباء، وبدأها للأسف بقوله "أمرني بكتابتها وإذاعتها حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم" (المجموعة النادرة ص8) وزعم في هذه الرسالة أن الله خلق الرسول من نوره (المجموعة النادرة ص15) فأشرك بالله سبحانه وتعالى. وأن على المسلم أن يشفق على الخلق كلهم فخالف أمر الله القائل يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة: 73] ومن جملة مزاعمه في هذه الكراسة دعوة الناس إلى الاستمداد وطلب الإغاثة والإعانة من الأنبياء والأولياء (المجموعة النادرة ص18) فدعا بذلك إلى الشرك بالله سبحانه وتعالى، ودعا إلى العمل بأي رأي فقهي لأن اختلاف الأئمة رحمة (المجموعة النادرة ص23) ودافع عن ابن عربي واصفاً إياه بأنه العارف الشيخ محي الدين ابن عربي طيب الله ثراه (المجموعة النادرة ص26). وزعم أن آل الرسول من أجزائه النورانية (المجموعة النادرة ص26) وبالتالي فهم أجزاء من الله حسب زعمه أن الرسول مخلوق من نور الله .. وقسم في هذه الرسالة الأولياء فجعل منهم المجاذيب وأهل الشطح والأميين .. وجعل نفسه في آخر هذه الكراسة أفضل الأولياء في زمنه على الإطلاق حيث يقول عن نفسه: "الاختصاص رحمة من الله تعالى للعبد لا بسعي ولا بعمل ولا برأي، ولا بِجَعْلٍ يختص الله برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم: هو عطاء رباني، ومنح صمداني، وفضل أسبغ في القدم، قبل أن تتعين النسم، والعناية قسم، فأهل الاختصاص جذبتهم يد المشيئة الربانية، بمحض الفضل والعناية الصمدانية، إلى أقصى المراتب العلية وهذا المنح الباهر، والفضل الوافر، هو اليوم حصتي، ومنصته منصتي، أقامني الله في هذه المنزلة إماماً، واختارني لرتبة هذه الخصوصية ختاماً، وكشف لي مخبآت الغيب باطلاع من كرمه، وجليل نعمه، ففهمت أسرار الرموز الفرقانية وسبرت خفايا دقائق البطون القرآنية، ولم تبرح تترقى همتي بكشف تلك الحجب اللطيفة، وبشق ديباجات هاتيك المحاضر الشريفة، فأنا اليوم ولربي الحمد والشكر، وله الإحسان والبر، كنز الفيوضات الطاهرة المحمدية، وسجل العلوم المقدسة النبوية، وهذه النوبة نوبتي، تتقلب في وراث منزلتي، وخدام قدمي إلى ما شاء الله، بهذا بشرت من صاحب الوعد الصادق، وقرأته في صحف الرموزات العلوية التي طفحت بدقائق الحقائق، سينشر علم ظهور حالي بعد هذا الخفاء في الأكوان ويبرز بروز الشمس من بطن ليل الطمس للعيان، وتعكف على بابي القلوب والأرواح، ويسري سر إرشادي في الجبال والأودية والبطاح ولم يمس شأن نهجي المبارك غبار دنيوي، ولم يرجع منه حرف إلى قصد نفساني بل كله لله" (المجموعة النادرة ص37) أ. هـ. وبعد أن مدح نفسه بكل ما استطاع من نعوت يقول: "جاءت لي بذلك البشرى المحمدية الصحيحة والعناية النبوية الصريحة بوساطة روح سلطان الأولياء وزعيمهم وسيد منصتهم وكريمهم مولانا السيد أحمد الرفاعي الحسيني" أ. هـ منه بلفظه (المجموعة النادرة ص37). 2 - برقمة البلبل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 163 وتكاد تكون كل الوسائل التي ألفها هذا الصياد الرفاعي على هذا النحو ولكن في رسالة أخرى سماها (برقمة البلبل) أتى فيها بما لم يسبقه به أحد من الكذب، ولا أظن أن لاحقاً يستطيع مجاراته أيضاً في مثل هذا الكذب السمج حيث يقول في أول رسالته هذه أنه كان في سنة 1252هـ في مكة المكرمة في بيت الله الحرام، وأنه سمع بلبلاً يتكلم مع بلبل آخر وعلى حد تعبيره (يبرقم) بلغة فهمها لأنه زعم أن رجلاً من رجال الغيب كان قد علمه لغة البلابل، فزعم أن أحد البلبلين كان يتكلم مع صديقه فأخبره أن أولاد آدم كلهم مكرمون، وجميعهم مرحومون وأنه لا يجوز أن نحتقر ذرة واحدة منهم، وأن منهم أيضاً أولياء عارفين، وأن من هؤلاء الأولياء قسم يتصرفون في العالم؛ ومن جملة ما يتصرفون فيه الطير فيقول البلبل لصديقه (ومنهم المتصرفون في وفيك وفي عالم الأكوان والنائبون بإذن الله عن نبي الرحمن) ثم يستطرد الصيادي الرفاعي في هذيانه الصوفي فيزعم أن أحد البلابل قال لصديقه: إن هذا الرجل الملتحف بكسائه الرث المستقبل الكعبة (يعني نفسه) هو من آل الرسول وقد فهم لغتنا وعرف ما قلناه وهو نائب الرسول الآن في هذا الوقت، وهو عالم الزمان وشيخ الأوان .. فقال البلبل الآخر إذن تعال نتبرك به ونقبل قدميه .. ويستطرد الصيادي الرفاعي قائلاً إن البلبلين جاءا إليه، وعكفا عليه، وسألاه الدعاء، وأنهما أخبراه بعد ذلك أنه إمام الدين، وسيد الأولياء وإن نوره لا يعدله نور، وإن مدده سيعم الأمصار والأقطار حيث تشب قلوب الحاسدين له بنار، وتنفلت عليه ألسنة الجاحدين (كذا .. ) .. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 164 ويستطرد الصيادي قائلاً بأن البلبلين أخبراه أن الله قد كتب صحيفة منزلته ووضعها فوق مقام إبراهيم فقام الصيادي من فوره وأخذ الصحيفة وفرح بما وجد فيها حسب زعمه من إطناب الله في الثناء عليه، ومدحه له وتبشيره إياه بظهور طريقته وعلو شأنه. يقول الصيادي هذا: وقد طبت بالله تعالى حين قرأت ما في الصحيفة المباركة بشأني، وبشأن ظهور أمر طريقي، وكدت أطير سروراً لما امتن الله تعالى علي به من إطناب في الألقاب فيها ما نصه بلفظه: هذا غريب الغرباء أبو البراهين، وأحد آل طه ويس. خلف الأئمة الهادين. بقية أعيان العترة الطاهرين، سيف الرسالة المسلول على أهل الضلالة. المجدد الأكمل. الأشعث الأغبر. سجنجل الحكمة والفراسة المحمدية. رافع ألوية الشريعة الطاهرة الأحمدية. باني مباني أحكام الطريقة المرضية الرفاعية. شيخ الأئمة. نور المدد المصطفوي الذي سيتجلى به الظلمة. الرفاعي الثاني. الإمام الأوحد الرباني. طلسم البرهان المحمدي الذي لا يدافع. معنى ناطقة البيان النبوي الذي لا ينازع. بحر الفتح. هادم الدعوى والشطح. الفتى ابن الفتى. محمد مهدي بهاء الدين. باب النبي صلى الله عليه وسلم في العصر. وجه علي في الدهر. الفقير الغني. الضعيف القوي. الخفي الظاهر. العاجز القادر. شمس الإفاضة المصطفوية للذرات كلها من التحق بها سلم ومن أبغضه عن جحد أو حسد ندم ومن آذى نوابه وأحبابه لم يقم. ولو التفّت عليه المحافل، وسارت لأمره الكتائب، وصفت له الصفوف، ومرت لديه من قناطير الذهب المقنطرة الألوف. هذه آيه الله المخبأة في دفتر الغيب ينتفع بقراءة فحواها، والاندماج في ظل معناها، كل من لله في عناية، يصل به الله ويقطع، ويعطي ويمنع، ويرفع ويضع، هذا الزاهد الواجد، الآبد الماجد، هذا بركة الله في الكون. هذا الممهد هذا الموطد. هذا القائم لله، ولإعلاء كلمة الله، ولخدمة رسول الله، لا لغرض من أغراض الأكوان، ولا لعلو، ولا لغلو، ولا لتقدم، ولا لترفع، ولا لعظمة نفسانية، بل هو بحر مطمطم رباني، وكنز مطلسم سبحاني، أفيض له مددنا بواسطه (كذا والصواب: بوساطة)، جده سر الوجود وبارقة النظم الأول في كيانتي النسقين الطموس والشهود (محمد) صلى الله عليه وسلم هذا سيد عشاق رسول الله، وسيد محابيب الله اليوم في ملك الله عليه سلام الله ورضوان الله. وهناك غَبّت عني، وأخذت مني، وذبت معنى، وترقرقت مهنى، وانطمست بوجودي وظهرت بمجدي" انتهى منه بلفظه (برقة البلبل من المجموعة النادرة ص77 - 79). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 165 ولا يكتفي الصيادي بهذا الكذب الأبلج على الله سبحانه وتعالى فإن الله لم يخاطب أحداً بمثل هذا الخطاب المزعوم، فخطاب الله لصفوة أوليائه وهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يكن فيه عشر معشار هذا المدح بل كان عامته تأديباً وعتاباً؛ كمثل قوله لنوح: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود: 46] وذلك لمجرد قول نوح: رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي [هود: 45] وكذلك قوله لإبراهيم: لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124] عندما طلب إبراهيم أن يكون من ذريته أئمة .. وقوله لمحمد صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] وقوله سبحانه وتعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران: 128] وقوله: عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ َ [التوبة: 43] وقوله: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس: 1] وقوله: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ [الأحزاب: 37] هذا بعض من خطاب الله في قرآنه لرسله فانظر كيف يزعم هذا الصيادي أن الله كتب في صحيفة له "هذا أبو البراهين، هذا سيف الرسالة المسلول على أهل الضلالة .. هذا الإمام الأوحد الرباني .. باني مباني الطريقة المرضية الرفاعية .. هذا شمس الإفاضة المصطفوية للذرات كلها .. " .. الخ، هذا الكفر والضلال وهذا الكذب الصريح .. ومثل هذا لو كان يسمى باللغة تجوزاً مدحاً فإن أسقط الساقطين ينزه أن يمدح غيره بمثل هذا الكلام فلو أن شاعراً متملقاً كاذباً قام يمدح رجلاً بمثل هذه الأوصاف لاستحق السقوط واللعنة، ولرمي بالتزلف والجهالة والمبالغة الممقوتة، ورفع الإنسان الحقير عن مكانته. فكيف يسوغ أن ينسب مثل هذا الكلام الحقير الذي يقع في آخر سلم المدح الممجوج فينسب إلى رب العباد سبحانه وتعالى؟ أيليق أن ينسب مثل هذا التزلف الحقير لله جل وعلا .. ؟ ولا يكتفي الصيادي بالكذب المكشوف هذا على رب العالمين فيكمل بعد ذلك كذبه على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم فيقول أنه بعد أن قرأ هذه الرسالة (الربانية) التي كانت فوق مقام إبراهيم انجلى له مظهر الرسول صلى الله عليه وسلم ثم ناداه قائلاً: "قد ملأناك علماً وفهماً ومدداً وقدرة وبهاءً وعرفاناً ونوراً وحظاً كبيراً، ورفعنا لك منبراً لا يسقط، ووهبناك ناطقة تتدرج كتائب مددها في الأكوان فلا تسكت إلى يوم الدين، أنت هو القبول عندنا، المؤيد بنورنا، المبارك بعلمنا، المنصور بمددنا، نوالي من والاك، ونعادي من عاداك، ونصون بعون الله من حاماك، يرفع علمك من أفلاذ بيتنا حبيب لنا فأعد عليه نظر حنانك، وعلمه رقرقة قلبك وناطقة لسانك، ولا توافق أهل البدعة، ولا تلايم أرباب الدعوى، ولا تجنح بالقلب ولا باللسان إلى القول بالوحدة المطلقة، ولا تتعمق بالكلام على الذات والصفات، ولا تعمل الفكر في المتشابهات، خذ ما أخذ أجدادك الآل الطاهرين، وسر سير الصحابة، واتبع مناهج السلف، ووافق إماماً ترتضيه من أئمة المذاهب المتبعة اليوم، فالأربعة على حق ولا تقلد غير نبيك، وتحقق بالحب لله ولكتابه ولرسوله، ولا تشق العصا، ولا تجمع القلوب عليك بل اجمعها على الله، وعلى شريعة نبيك، وعليك بمشرب جدك السيد أحمد الرفاعي، واثبت على طريقته فإنها الطريقة المحمدية الحقة .. واعلم أنك اليوم خاتمة الصديقين وشيخ الطريقة القويمة المحمدية ثم الأحمدية .. وأنت سيد الآل فمن دونهم وصل علي وسلم" أ. هـ منه بلفظه (البرقمة ص83). ويزعم الصيادي أنه بعد أن سمع خطاب الرسول هذا غاب عن نفسه ستة أشهر كاملة، لا يصحو إلا أوقات الفروض فقط، وأنه شكر الله بعد ذلك إذ جاءته هذه النعمة الكبرى على يد طير صغير (برقمة البلبل ص82) .. فانظر إلى هذا الإسناد العجيب "حدثنا الصيادي حدثنا البلبل قال الله تعالى .. " فأين نضع هذا البلبل يا علماء الحديث وعلماء الأصول .. هل هو عدل ضابط، وهل الذي يحدث عن بلبل أيضاً يكون عدلاً ضابطاً .. وليتهم لم يقحموا اسم الله واسم رسوله في هذه الخرافات الممقوتة والمدح الكاذب لأنفسهم! وليتهم إذا أرادوا هذا العلو في الأرض وأكل أموال الناس بالباطل سلكوا غير هذا السبيل! فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 166 المبحث الثاني عشر: بعض أورادهم وللرفاعية أوراد مخصوصة كثيرة نذكر نبذة منها، فيقولون: "ومن أحزابه الشريفة هذا الحزب واسمه الحزب الصغير، وهو: (بسم الله الرحمن الرحيم اللهمّ إني أسألك بعظيم قديم كريم مكنون مخزون أسمائك وبأنواع أجناس أنفاس رقوم نقوش أنوارك وبعزيز أعزاز أعزّ عزتك وبحول طول حول شديد قوتك وبقدر مقدار اقتدار قدرتك وبتأييد تحميد تمجيد عظمتك وبسمو نموّ علوّ رفعتك وبحيوم قيوم بدوم دوام أبديتك رضوان غفران أمان رفعتك وبرفيع بديع منيع سلطانك وبصلاة سعاة بساط رحمتك وبلوامع بوارق صواعق صحيح وهيج بهيج وهيج نور ذاتك وببهر قهر جهر ميمون ارتباط وحدانيتك وبهدير تيار أمواج بحرك المحيط بملكوتك وباتساع انفساخ ميادن بواذخ كرسيك وبهيكليات علويات روحانيات أملاك عرشك وبالأملاك الروحانيين المديرين الكواكب أفلاكك وبحنين أنين تسكين المريدين لقربك وبحرقات زفرات جمعات الخائفين من سطوتك وبأمال نوال أقوال المجتهدين في مرضاتك وبتحمد تمسجد تجلد العابدين على طاعتك وتخضع تخشع تقطع مرائر الصابرين على بلوائك يا أوّل يا آخر يا ظاهر يا باطن يا قديم يا مقيم اطمس بطلسم) (1). ومن أحزابه الغريبة العجيبة " المص الر الر الر المر المر المر كهيعص ط طسم طس طسم طسم الم الم الم الم يس ص حم حم حمعسق حم حم حمعسق حم حم ق ن ... محمد رسول الله حصني مكملاً وأبو بكر يميني حرزاً ووكيلاً وعمر بن الخطاب يساري عزاً وتجملاً وعثمان بن عفان من خلفي قوة وحولا وعلي بن أبي طالب أمامي مهابة ... لا إله إلا أنت أحون قاف آدم حم هاء آمين ... شتوش هموش أطوش شرح خمدت النار من مخافته" فهذه هي الأوراد وأمثالها التي قال فيها بعض الرفاعية: "عليك بأوراد الرفاعي إنها [] [إلى شيخ أشياخ الطريقة تنسب] وداوم عليها فهي حصن وجنة [] ودرع لدفع النائبات مجرّبوباب بوصل العبد بالله عامر [] [ونهج به للمصطفى يتقرّب" (2).] وأحياناً كانوا يرددون مثل هذه الأوراد لنيل المآرب وحصول المطالب، فيذكر أحد الرفاعيين "كنت أمشي تحت جبل قاف، فجاء وقت الصلاة فتوضأت وصليت وقرأت الورد الشريف ثم ذكرت اسم سيدي أحمد (الرفاعي) فلما أتممت جاءت حية عظيمة وفي فمها درة فألقتها أمامي، ثم أنطقها الله فقالت: خذ هذه الهدية مني لحضرة سيدي أحمد، فتعجبت وقلت: أتعريفين سيدي أحمد؟ فقالت: عجيب هذا، هل على بساط الأرض من رطب ويابس من يجهل سيدي أحمد الرفاعي، بلغّه سلامي، فأنا من مردائه" (3) المصدر: دراسات في التصوف لإحسان إلهي ظهير - ص233، 234   (1) ((قلادة الجواهر)) (ص 258). (2) ((قلادة الجواهر في ذكر الغوث الرفاعي وأتباعه الأكابر)) (ص 269). (3) ((قلادة الجواهر في ذكر الغوث الرفاعي وأتباعه الأكابر)) (ص429) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 167 المبحث الثالث عشر: مناظرة شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم بن تيمية للبطائحية الرفاعية قال شيخ الإسلام قدس الله روحه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله رب السماوات والأرضين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم تسليماً دائماً إلى يوم الدين (أما بعد) فقد كتبت ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الإمارة والميدان بحضرة الخلق من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم في أمر (البطائحية) يوم السبت تاسع جمادى الأولى سنة خمس (أي بعد السبعمائة) لتشَوّف الهمم إلى معرفة ذلك وحرص الناس على الاطلاع عليه. فإن من كان غائباً عن ذلك قد يسمع بعض أطراف الواقعة، ومن شهدها فقد رأى وسمع ما رأى وسمع، ومن الحاضرين من سمع ورأى ما لم يسمع غيره ويرى لانتشار هذه الواقعة العظيمة، ولما حصل بها من عز الدين، وظهور كلمته العليا، وقهر الناس على متابعة الكتاب والسنة، وظهور زيف من خرج عن ذلك من أهل البدع المضلة والأحوال الفاسدة والتلبيس على المسلمين. وقد كتبت في غير هذا الموضع صفة حال هؤلاء (البطائحية) وطريقتهم وطريق (الشيخ أحمد بن الرفاعي) وحاله، وما وافقوا فيه المسلمين وما خالفوهم. ليتبين ما دخلوا فيه من دين الإسلام وما خرجوا فيه عن دين الإسلام، فإن ذلك يطول وصفه في هذا الموضع، وإنما كتبت هنا ما حضرني ذكره من حكاية هذه الواقعة المشهورة في مناظراتهم ومقابلتهم. وذلك أني كنت أعلم من حالهم بما قد ذكرته في غير هذا الموضع -وهو أنهم وإن كانوا منتسبين إلى الإسلام، وطريقة الفقر والسلوك، ويوجد في بعضهم التعبد والتأله والوجد والمحبة والزهد والفقر والتواضع ولين الجانب والملاطفة في المخاطبة والمعاشرة والكشف والتصرف ونحو ذلك ما يوجد- فيوجد أيضاً في بعضهم من الشرك وغيره من أنواع الكفر، ومن الغلو والبدع في الإسلام والإعراض عن كثير ما جاء به الرسول، والاستخفاف بشريعة الإسلام، والكذب والتلبيس وإظهار المخارق الباطلة وأكل أموال الناس بالباطل، والصد عن سبيل الله ما يوجد .. وقد تقدمت لي معهم وقائع متعددة بينت فيها لمن خاطبته منهم ومن غيرهم بعض ما فيهم من حق وباطل، وأحوالهم التي يسمونها الإشارات، وتاب منهم جماعة، وأدب منهم جماعة من شيوخهم، وبينت صورة ما يظهرونه من المخاريق: مثل ملابسة النار والحيات، وإظهار الدم، واللاذن والزعفران وماء الورد والعسل والسكر وغير ذلك، وأن عامة ذلك عن حيل معروفة وأسباب مصنوعة، وأراد غير مرة منهم قوم إظهار ذلك فلما رأوا معارضتي لهم رجعوا ودخلوا على أن أسترهم فأجبتهم إلى ذلك بشرط التوبة، حتى قال لي شيخ منهم في مجلس عام فيه جماعة كثيرة ببعض البساتين لما عارضتهم بأني أدخل معكم النار بعد أن نغتسل بما يذهب الحيلة، ومن احترق كان مغلوباً، فلما رأوا الصدق أمسكوا عن ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 168 وحكى ذلك الشيخ أنه كان مرة عند بعض أمراء التتر بالمشرق، وكان له صنم يعبده، قال: فقال: هذا الصنم يأكل من هذا الطعام كل يوم ويبقى أثر الأكل في الطعام بيناً يرى فيه!! فأنكرت ذلك، فقال لي إن كان يأكل أنت تموت؟ فقلت نعم، قال: فأقمت عنده إلى نصف النهار ولم يظهر في الطعام أثر! فاستعظم ذلك التتري وأقسم بأيمان مغلظة أنه كل يوم يرى فيه أثر الأكل، لكن اليوم بحضورك لم يظهر ذلك. فقلت لهذا الشيخ: أنا أبين لك سبب ذلك. ذلك التتري كافر مشرك، ولصنمه شيطان يغويه بما يظهره من الأثر في الطعام، وأنت كان معك من نور الإسلام وتأييد الله تعالى ما أوجب انصراف الشيطان عن أن يفعل ذلك بحضورك، وأنت وأمثالك بالنسبة إلى أهل الإسلام الخالص كالتتري بالنسبة لأمثالك. فالتتري وأمثاله سود، وأهل الإسلام المحض بيض، وأنتم بلق فيكم سواد وبياض. فأعجب هذا المثل من كان حاضراً!!! وقلت لهم في مجلس آخر لما قالوا تريد أن تظهر هذه الإشارات؟ قلت: إن عملتموها بحضور من ليس من أهل الشأن: من الأعراب والفلاحين، أو الأتراك أو العامة أو جمهور المتفقهة والمتفرقة والمتصوفة لم يحسب لكم ذلك. فمن معه ذهب فليأت به إلى سوق الصرف إلى عند الجهابذة الذين يعرفون الذهب الخالص من المغشوش ومن الصفر، لا يذهب إلى عند أهل الجهل بذلك. فقالوا لي: لا نعمل هذا إلا أن تكون همتك معنا، فقلت: همتي ليست معكم، بل أنا معارض لكم مانع لكم، لأنكم تقصدون بذلك إبطال شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان لكم قدرة على إظهار ذلك فافعلوا. فانقلبوا صاغرين. فلما كان قبل هذه الواقعة بمدة كان يدخل منهم جماعة مع شيخ لهم من شيوخ البر. مطوقين بأغلال الحديد في أعناقهم، وهو وأتباعه معروفون بأمور، وكان يحضر عندي مرات فأخاطبه بالتي هي أحسن؛ فلما ذكر الناس ما يظهرونه من الشعار المبتدع الذين يتميزون به عن المسلمين. ويتخذونه عبادة وديناً يوهمون به الناس أن هذا لله سر من أسرارهم، وأنه سيماء أهل الموهبة الإلهية السالكين طريقهم –أعني طريق ذلك الشيخ وأتباعه- خاطبته في ذلك بالمسجد الجامع، وقلت هذا بدعة لم يشرعها الله تعالى ولا رسوله، ولا فعل ذلك أحد من سلف هذه الأمة ولا من المشايخ الذين يقتدى بهم، ولا يجوز التعبد بذلك، ولا التقرب به إلى الله تعالى لأن عبادة الله بما لم يشرعه ضلالة، ولباس الحديد على غير وجه التعبد قد كرهه من كرهه من العلماء للحديث المروي في ذلك وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على رجل خاتماً من حديد فقال: ((مالي أرى عليك حلية أهل النار)) (1). وقد وصف الله تعالى أهل النار بأن في أعناقهم الأغلال، فالتشبه بأهل النار من المنكرات. وقال بعض الناس قد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرؤيا قال في آخره ((أحب القيد وأكره الغل. القيد ثبات في الدين)) (2) فإذا كان مكروهاً في المنام فكيف في اليقظة؟!   (1) رواه أبو داود (4223) والترمذي (1785) والنسائي (5195) وابن حبان (5488) من حديث بريدة بن الحصيب، قال الترمذي غريب، وقال النسائي في ((الكبرى)) (9442) منكر وضعفه الألباني. (2) رواه مسلم (2263) على الشك أنه مرفوع أو لا، ثم رواه من قول أبي هريرة، ورواه أبو داود (5019) والترمذي (2280) وصححه الألباني. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 169 فقلت له في ذلك المجلس ما تقدم من الكلام أو نحواً منه مع زيادة، وخوفته من عاقبة الإصرار على البدعة، وأن ذلك يوجب عقوبة فاعله، ونحو ذلك من الكلام الذي نسيت أكثره لبعد عهدي به. وذلك أن الأمور التي ليست مستحبة في الشرع لا يجوز التعبد بها باتفاق المسلمين، ولا التقرب بها إلى الله ولا اتخاذها طريقاً إلى الله وسبباً لأن يكون الرجل من أولياء الله وأحبائه، ولا اعتقاد أن الله يحبها أو يحب أصحابها كذلك، أو أن اتخاذها يزداد به الرجل خيراً عند الله وقربة إليه، ولا أن يجعل شعاراً للتائبين المريدين وجه الله الذين هم أفضل ممن ليس مثلهم. فهذا أصل عظيم تجب معرفته والاعتناء به، وهو أن المباحات إنما تكون مباحة إذا جعلت مباحات، فأما إذا اتخذت واجبات أو مستحبات كان ذلك ديناً لم يشرعه الله، وجعل ما ليس من الواجبات والمستحبات منها بمنزلة جعل ما ليس من المحرمات منها، فلا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله؛ ولهذا عظم ذم الله في القرآن لمن شرع ديناً لم يأذن الله به، ولمن حرم ما لم يأذن الله بتحريمه فإذا كان هذا في المباحات فكيف بالمكروهات أو المحرمات؟ ولهذا كانت هذه الأمور لا تلزم بالنذر، فلو نذر الرجل فعل مباح أو مكروه أو محرم لم يجب عليه فعله كما يجب عليه إذا نذر طاعة الله أن يطيعه؛ بل عليه كفارة يمين إذا لم يفعل عند أحمد وغيره، وعند آخرين لا شيء عليه. فلا يصير بالنذر ما ليس بطاعة ولا عبادة طاعة وعبادة. ونحو ذلك العهود التي تتخذ على الناس لالتزام طريقة شيخ معين كعهود أهل (الفتوة) و (رماة البندق) ونحو ذلك ليس على الرجل أن يلتزم من ذلك على وجه الدين والطاعة لله إلا ما كان ديناً وطاعة لله ورسوله في شرع الله؛ لكن قد يكون عليه كفارة عند الحنث في ذلك؛ ولهذا أمرت غير واحد أن يعدل عما أخذ عليه من العهد بالتزام طريقة مرجوحة أو مشتملة على أنواع من البدع إلى ما هو خير منها من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم واتباع الكتاب والسنة؛ إذا كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد أو يقول عن عمل: إنه قربة وطاعة وبر وطريق إلى الله واجب أو مستحب إلا أن يكون مما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك يعلم بالأدلة المنصوبة على ذلك، وما علم باتفاق الأمة أنه ليس بواجب ولا مستحب ولا قربة لم يجز أن يعتقد أو يقال إنه قربة وطاعة. فكذلك هم متفقون على أنه لا يجوز قصد التقرب به إلى الله، ولا التعبد به ولا اتخاذه ديناً ولا عمله من الحسنات، فلا يجوز جعله من الدين لا باعتقاد وقول، ولا بإرادة وعمل. وبإهمال هذا الأصل غلط خلق كثير من العلماء والعباد يرون الشيء إذا لم يكن محرماً لا ينهى عنه، بل يقال إنه جائز ولا يفرقون بين اتخاذه ديناً وطاعة وبراً، وبين استعماله كما تستعمل المباحات المحضة، ومعلوم أن اتخاذه ديناً بالاعتقاد أو الاقتصاد أو بهما أو بالقول أو بالعمل أو بهما من أعظم المحرمات وأكبر السيئات، وهذا من البدع المنكرات التي هي أعظم من المعاصي التي يعلم أنها معاص وسيئات. فلما نهيتهم عن ذلك أظهروا الموافقة والطاعة ومضت على ذلك مدة والناس يذكرون عنهم والإصرار على الابتداع في الدين، وإظهار ما يخالف شرعة المسلمين، ويطلبون الإيقاع بهم، وأنا أسلك مسلك الرفق والأناة، وأنتظر الرجوع والفيئة، وأؤخر الخطاب إلى أن يحضر (ذلك الشيخ) لمسجد الجامع. وكان قد كتب إلي كتاباً بعد كتاب فيه احتجاج واعتذار، وعتب وآثار، وهو كلام باطل لا تقوم به حجة، بل إما أحاديث موضوعة، أو إسرائيليات غير مشروعة، وحقيقة الأمر الصد عن سبيل الله وأكل أموال الناس بالباطل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 170 فقلت لهم: الجواب يكون بالخطاب. فإن جواب مثل هذا الكتاب لا يتم إلا بذلك وحضر عندنا منهم شخص فنزعنا الغل من عنقه. وهؤلاء هم من أهل الأهواء الذين يتعبدون في كثير من الأمور بأهوائهم لا بما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ [القصص: 50]. ولهذا غالب وجدهم هوى مطلق لا يدرون من يعبدون، وفيهم شبه قوي من النصارى الذين قال الله تعالى فيهم: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ [المائدة: 77]، ولهذا كان السلف يسمون أهل البدع أهل الأهواء. فحملهم هواهم على أن تجمع الأحزاب، ودخلوا إلى المسجد الجامع مستعدين للحراب، بالأحوال التي يعدونها للغلاب. فلما قضيت صلاة الجمعة أرسلت إلى شيخهم لنخاطبه بأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ونتفق على اتباع سبيله - فخرجوا من المسجد الجامع في جموعهم إلى قصر الإمارة، وكأنهم اتفقوا مع بعض الكبار على مطلوبهم، ثم رجعوا إلى مسجد الشاغور -على ما ذكر لي- وهم من الصياح والاضطراب، على أمر من أعجب العجاب. فأرسلت إليهم مرة ثانية لإقامة الحجة والمعذرة، وطلباً للبيان والتبصرة، ورجاء المنعة والتذكرة. فعمدوا إلى القصر مرة ثانية، وذكر لي أنهم قدموا من الناحية الغربية مظهرين الضجيج والعجيج والإزباد والإرعاد، واضطراب الرؤوس والأعضاء، والتقلب في نهر بردى وإظهار التوله الذي يخيلوا به على الردى، وإبراز ما يدعونه من الحال والمحال، الذي يسلمه إليهم من أضلوا من الجهال. فلما رأى الأمير ذلك هاله ذلك المنظر، وسأل عنهم فقيل له هم مشتكون، فقال ليدخل بعضهم، فدخل شيخهم، وأظهر من الشكوى عليّ ودعوى الاعتداء مني عليهم كلاماً كثيراً لم يبلغني جميعه؛ لكن حدثني من كان حاضراً أن الأمير قال لهم: فهذا الذي يقوله من عنده أو يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: بل يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال: فأي شيء يقال له؟ قالوا: نحن لنا أحوال وطريق يسلم إلينا، قال: فنسمع كلامه فمن كان في الحق معه، قالوا: ولا بد من حضوره؟ قال: نعم، فكرروا ذلك فأمر بإخراجهم، فأرسل إلي بعض خواصه من أهل الصدق والدين ممن يعرف ضلالهم وعرفني بصورة الحال وأنه يريد كشف أمر هؤلاء. فلما علمت ذلك ألقي في قلبي أن ذلك لأمر يريده الله من إظهار الدين، وكشف حال أهل النفاق المبتدعين، لانتشارهم في أقطار الأرضين، وما أحببت البغي عليهم والعدوان، ولا أن أسلك معهم إلا أبلغ ما يمكن من الإحسان، فأرسلت إليهم من عرفهم بصورة الحال، وأني إذا حضرت كان ذلك عليكم من الوبال، وكثر فيكم القيل والقال، وأن من قعد أو قام قدام رماح أهل الإيمان، فهو الذي أوقع نفسه في الهوان. فجاء الرسول وأخبر أنهم اجتمعوا بشيوخهم الكبار، الذين يعرفون حقيقة الأسرار، وأشاروا إليهم بموافقة ما أمروا به من اتباع الشريعة، والخروج عما ينكر عليهم من البدع الشنيعة. وقال شيخهم الذي يسيح بأقطار الأرض كبلاد الترك ومصر وغيرها: أحوالنا تظهر عند التتار لا تظهر عند شرع محمد بن عبدالله. وأنهم نزعوا الأغلال من الأعناق، وأجابوا إلى الوفاق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 171 ثم ذكر لي أنه جاءهم بعض أكابر غلمان المطاع وذكر أنه لا بد من حضورهم لموعد الاجتماع. فاستخرت الله تعالى تلك الليلة واستعنته، واستهديته، وسلكت سبيل عباد الله في مثل هذه المسالك، حتى ألقي في قلبي أن أدخل النار عند الحاجة إلى ذلك، وأنها تكون برداً وسلاماً على من اتبع ملة الخليل، وأنها تحرق أشباه الصابئة أهل الخروج عن هذا السبيل. وقد كان بقايا الصابئة أعداء إبراهيم الحنفاء بنواحي البطائح منضمين إلى من يضاهيهم من نصارى الدهماء. وبين الصابئة ومن ضل من العباد المنتسبين إلى هذا الدين، لسبب يعرفه من عرف الحق المبين، فالغالية من القرامطة والباطنية، كالنصيرية والإسماعيلية، يخرجون إلى مشابهة الصابئة الفلاسفة، ثم إلى الإشراك، ثم إلى جحود الحق تعالى. ومن شركهم الغلو في البشر والابتداع في العادات، والخروج عن الشريعة له نصيب من ذلك بحسب ما هو لائق، كالملحدين من أهل الاتحاد، والغالية من أصناف العباد. فلما أصبحنا ذهبت إلى الميعاد، وما أحببت أن أستصحب أحداً للإسعاد، لكن ذهب أيضاً بعض من كان حاضراً من الأصحاب، والله هو المسبب لجميع الأسباب، وبلغني بعد ذلك أنهم طافوا على عدد من أكابر الأمراء، وقالوا أنواعاً مما جرت به عادتهم من التلبيس والافتراء، الذي استحوذوا به على أكثر أهل الأرض من الأكابر والرؤساء، مثل زعمهم أن لهم أحوالاً لا يقاومهم فيها أحد من الأولياء، وأن لهم طريقاً لا يعرفه أحد من العلماء. وأن شيخهم هو في المشايخ كالخليفة، وأنهم يتقدمون على الخلق بهذه الأخبار المنيفة. وأن المنكر عليهم هو آخذ بالشرع الظاهر، غير واصل إلى الحقائق والسرائر. وأن لهم طريقاً وله طريق. وهم الواصلون إلى كنه التحقيق وأشباه هذه الدعاوي ذات الزخرف والتزويق. - أنواع من تلبيسات الرفاعية: وكانوا لفرط انتشارهم في البلاد، واستحواذهم على الملوك والأمراء والأجناد، لخفاء نور الإسلام، واستبدال أكثر الناس بالنور الظلام، وطموس آثار الرسول في أكثر الأمصار، ودروس حقيقة الإسلام في دولة التتار، لهم في القلوب موقع هائل، ولهم فيهم من الاعتقاد ما لا يزول بقول قائل. قال المخبر: فغدا أولئك الأمراء الأكابر، وخاطبوا فيهم نائب السلطان بتعظيم أمرهم الباهر، وذكر لي أنواعاً من الخطاب، والله تعالى أعلم بحقيقة الصواب، والأمير مستشعر ظهور الحق عند التحقيق، فعاد الرسول، إلي مرة ثانية فبلغه أنّا في الطريق، وكان كثير من أهل الاتحاد مجدين في نصرهم بحسب مقدورهم، مجهزين لمن يعنيهم في حضورهم. فلما حضرت وجدت النفوس في غاية الشوق في هذا الاجتماع، متطلعين إلى ما سيكون طالبين للاطلاع. فذكر لي نائب السلطان وغيره من الأمراء بعض ما ذكروه من الأقوال المشتملة على الافتراء. وقال إنهم قالوا: إنك طلبت منهم الامتحان، وأن يحموا الأطواق ناراً ويلبسوها، فقلت هذا من البهتان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 172 وها أنا ذا أصف ما كان. قلت للأمير: نحن لا نستحل أن نأمر أحداً بأن يدخل ناراً، ولا تجوز طاعة من يأمر بدخول النار. وفي ذلك الحديث الصحيح. وهؤلاء يكذبون في ذلك، وهم كذابون مبتدعون قد أفسدوا من أمر دين المسلمين ودنياهم ما الله به عليم. وذكرت تلبيسهم على طوائف من الأمراء، وأنهم لبسوا على الأمير المعروف بالأيدمري، وعلى قفجق نائب السلطة وعلى غيرهما، وقد لبسوا أيضاً على الملك العادل كتغا في ملكه، وفي حالة ولاية حماة، وعلى أمير السلاح أجل أمير بديار مصر، وضاق المجلس عن حكاية جميع تلبيسهم. فذكرت تلبيسهم على الأيدمري، وأنهم كانوا يرسلون من النساء من يستخبر عن أحوال بيته الباطنة، ثم يخبرونه بها على طريق المكاشفة، ووعدوه بالملك، وأنهم وعدوه أن يروه رجال الغيب. فصنعوا خشباً طوالاً وجعلوا عليها من يمشي كهيئة الذي يلعب بأكر الزجاج، فجعلوا يمشون على جبل المزة وذاك يرى من بعيد قوماً يطوفون على الجبل وهم يرتفعون على الأرض وأخذوا منه مالاً كثيراً ثم انكشف له أمرهم. قلت للأمير: وولده هو الذي في حلقة الجيش يعلم ذلك، وهو ممن حدثني بهذه القصة. وأما قفجق فإنهم أدخلوا رجلاً في القبر يتكلم وأوهموه أن الموتى تتكلم، وأتوا به في مقابر باب الصغير إلى رجل زعموا أنه الرجل الشعراني الذي بجبل لبنان، ولم يقربوه منه بل من بعيد لتعود عليه بركته، وقالوا إنه طلب منه جملة من المال؛ فقال قفجق: الشيخ يكاشف وهو يعلم أن خزائني ليس فيها هذا كله، وتقرب قفجق منه وجذب الشعر فانقلع الجلد الذي ألصقوه على جلده من جلد الماعز. فذكرت للأمير هذا؛ ولهذا قيل لي إنه لما انقضى المجلس وانكشف ما لهم للناس كتب أصحاب قفجق إليه كتاباً وهو نائب السلطنة بحماة يخبره صورة ما جرى. وذكرت للأمير أنهم مبتدعون بأنواع من البدع، مثل الأغلال ونحوها، وأنّا نهيناهم عن البدع الخارجة عن الشريعة، فذكر الأمير حديث البدعة وسألني عنه، فذكرت حديث العرباض بن سارية، وحديث جابر بن عبدالله، وقد ذكرتهما بعد ذلك بالمجلس العام كما سأذكره. - ابن تيمية يتحداهم بدخول النار معهم: قلت للأمير: أنا ما امتحنت هؤلاء، لكن هم يزعمون أن لهم أحوالاً يدخلون بها النار، وأن أهل الشريعة لا يقدرون على ذلك، ويقولون لنا: هذه الأحوال التي يعجز عنها أهل الشرع ليس لهم أن يعترضوا علينا، بل يسلم إلينا ما نحن عليه -سواء وافق الشرع أو خالفه- وأنا قد استخرت الله سبحانه أنهم إن دخلوا النار أدخل أنا وهم ومن احترق منا ومنهم فعليه لعنة الله، وكان مغلوباً، وذلك بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار. فقال الأمير: ولم ذاك؟ قلت: لأنهم يطلون جسومهم بأدوية يصنعونها من دهن الضفادع، وباطن قشر النارنج، وحجر الطلق، وغير ذلك من الحيل المعروفة لهم، وأنا لا أطلي جلدي بشيء فإذا اغتسلت أنا وهم بالخل والماء الحار بطلت الحيلة وظهر الحق، فاستعظم الأمير هجومي على النار، وقال: أتفعل ذلك؟ فقلت له: نعم! قد استخرت الله في ذلك وألقي في قلبي أن أفعله، ونحن لا نرى هذا وأمثاله ابتداء فإن خوارق العادات إنما تكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين له باطناً وظاهراً لحجة أو حاجة، فالحجة لإقامة دين الله، والحاجة لما لا بد منه من النصر والرزق الذي به يقوم دين الله، وهؤلاء إذا أظهروا ما يسمونه إشارتهم وبراهينهم التي يزعمون أنها تبطل دين الله وشرعه وجب إلينا أن ننصر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونقوم في نصر دين الله وشريعته بما نقدر عليه من أرواحنا وجسومنا وأموالنا، فلنا حينئذ أن نعارض ما يظهرونه من هذه المخاريق بما يؤيدنا الله به من الآيات. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 173 وليعلم أن هذا مثل معارضة موسى للسحرة لما أظهروا سحرهم أيد الله موسى بالعصا التي ابتلعت سحرهم. فجعل الأمير يخاطب من حضره من الأمراء على السماط بذلك، وفرح بذلك، وكأنهم كانوا قد أوهموه أن هؤلاء لهم حال لا يقدر أحد على رده، وسمعته يخاطب الأمير الكبير الذي قدم من مصر الحاج بهادر وأنا جالس بينهما على رأس السماط بالتركي ما فهمته منه إلا أنه قال: اليوم ترى حرباً عظيماً، ولعل ذلك كان جواباً لمن كان خاطبه فيهم على ما قيل. وحضر شيوخهم الأكابر فجعلوا يطلبون من الأمير الإصلاح وإطفاء هذه القضية ويترفقون، فقال الأمير: إنما يكون الصلح بعد ظهور الحق، وقمنا إلى مقعد الأمير بزاوية القصر، أنا وهو وبهادر، فسمعته يذكر له أيوب الحمال بمصر والمولهين ونحو ذلك، فدل ذلك على أنه كان عند هذا الأمير لهم صورة معظمة، وأن لهم فيهم ظناً حسناً والله أعلم بحقيقة الحال؛ فإنه ذكر لي. وكان الأمير أحب أن يشهد بهادر هذه الواقعة ليتبين له الحق؛ فإنه من أكابر الأمراء وأقدمهم وأعظمهم حرمة عنده، وقد قدم الآن وهو يحب تأليفه وإكرامه، فأمر ببساط يبسط في الميدان. وقد قدم البطائحية وهم جماعة كثيرون، وقد أظهروا أحوالهم الشيطانية من الإزباد والإرغاء وحركة الرؤوس والأعضاء، والظفر والحبو والتقلب، ونحو ذلك من الأصوات المنكرات، والحركات الخارجة عن العادات، المخالفة لما أمر به لقمان لابنه في قوله: "واقصد في مشيك واغضض من صوتك". فلما جلسنا وقد حضر خلق عظيم من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء والعامة وغيرهم، وحضر شيخهم الأول المشتكي، وشيخ آخر يسمي نفسه خليفة سيده أحمد، ويركب بعلمين، وهم يسمونه: عبدالله الكذاب، ولم أكن أعرف ذلك. وكان من مدة قد قدم علي منهم شيخ بصورة لطيفة وأظهر ما جرت به عادتهم من المسألة فأعطيته طلبته ولم أتفطن لكذبه حتى فارقني، فبقي في نفسي أن هذا خفي علي تلبيسه إلى أن غاب، وما يكاد يخفى علي تلبيس أحد، بل أدركه في أول الأمر فبقي ذلك في نفسي ولم أره قط إلى حين نظرته، ذكر لي أنه ذاك الذي كان اجتمع بي قديماً فتعجبت من حسن صنع الله أنه هتكه في أعظم مشهد يكون حيث كتم تلبيسه بيني وبينه. الرفاعية البطائحية ينكلون عن دعاويهم ويقرون بما هم فيه من الباطل: فلما حضروا تكلم منهم شيخ يقال له حاتم بكلام مضمونه طلب الصلح والعفو عن الماضي والتوبة، وإنا مجيبون إلى ما طلب من ترك هذه الأغلال وغيرها من البدع، ومتبعون للشريعة. (فقلت) أما التوبة فمقبولة. قال الله تعالى: غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [غافر: 3] وقال تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ [الحجر: 49 - 50]. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 174 فأخذ شيخهم المشتكي ينتصر للبسهم الأطواق وذكر أن وهب بن منبه روى أنه كان في بني إسرائيل عابد وأنه جعل في عنقه طوقاً في حكاية من حكايات بني إسرائيل لا تثبت. (فقلت) لهم: ليس لنا أن نتعبد في ديننا بشيء من الإسرائيليات المخالفة لشرعنا، وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال: ((أمتهوكون يا ابن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان موسى حياً ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم)) (1) وفي مراسيل أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى مع بعض أصحابه شيئاً من كتب أهل الكتاب فقال: ((كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتاباً غير كتابهم أنزل إلى نبي غير نبيهم)) (2) وأنزل الله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [العنكبوت: 51]. فنحن لا يجوز لنا اتباع موسى ولا عيسى فيما علمنا أنه أنزل عليهما من عند الله إذا خالف شرعنا، وإنما علينا أن نتبع ما أنزل علينا من ربنا ونتبع الشرعة والمنهاج الذي بعث الله به إلينا رسولنا. كما قال تعالى: فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [المائدة: 48]. فكيف يجوز لنا أن نتبع عباد بني إسرائيل في حكاية لا تعلم صحتها؟! وما علينا من عباد بني إسرائيل؟! تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة: 134] هات ما في القرآن وما في الأحاديث الصحاح كالبخاري ومسلم وذكرت هذا وشبهه بكيفية قوية. فقال هذا الشيخ منهم يخاطب الأمير: نحن نريد أن تجمع لنا القضاة الأربعة والفقهاء ونحن قوم شافعية. (فقلت) له هذا غير مستحب ولا مشروع عند أحد من علماء المسلمين؛ بل كلهم ينهى عن التعبد به ويعده بدعة، وهذا الشيخ كمال الدين بن الزملكاني مفتي الشافعية ودعوته وقلت: يا كمال الدين! ما تقول في هذا؟ فقال هذا بدعة غير مستحبة بل مكروهة. أو كما قال. وكان مع بعض الجماعة فتوى فيها خطوط طائفة من العلماء بذلك. (وقلت) ليس لأحد الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ولا الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأشك هل تكلمت هنا في قصة موسى والخضر؛ فإني تكلمت بكلام بعد عهدي به.   (1) رواه أحمد في ((المسند)) (15195) (3/ 387) , وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (5/ 312) , قال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (2/ 122): إسناده على شرط مسلم, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 179): فيه مجالد بن سعيد ضعفه أحمد ويحيى بن سعيد وغيرهما, وحسنه الألباني في كتاب ((السنة)) (50). (2) رواه أبو داود في ((المراسيل)) (2/ 32) , قال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (11/ 423): مرسل, وكذا ابن القيم في ((الصواعق المرسلة)) (3/ 827). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 175 فانتدب ذلك الشيخ (عبدالله) ورفع صوته. وقال: نحن لنا أحوال وأمور باطنة لا يوقف عليها، وذكر كلاماً لم أضبط لفظه: مثل المجالس والمدارس والباطن والظاهر؛ ومضمونه أن لنا الباطن ولغيره الظاهر، وأن لنا أمراً لا يقف (نسخه: لا يقدر) عليه أهل الظاهر فلا ينكرونه علينا، (فقلت) له -ورفعت صوتي وغضبت- الباطن والظاهر والمجالس والمدارس، والشريعة والحقائق، كل هذا مردود إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليس لأحد الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا من المشايخ والفقراء، ولا من الملوك والأمراء، ولا من العلماء والقضاة وغيرهم، بل جميع الخلق عليهم طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وذكرت هذا ونحوه. فقال -رفع صوته-: نحن لنا الأحوال وكذا وكذا. وادعى الأحوال الخارقة كالنار وغيرها، واختصاصهم بها، وأنهم يستحقون تسليم الحال إليهم لأجلها. ابن تيمية يتحدى البطائحية بالدخول في النار ومن احترق فعليه لعنة الله: فقلت -ورفعت صوتي وغضبت- أنا أخاطب كل أحمدي من مشرق الأرض إلى مغربها أي شيء فعلوه في النار فأنا أصنع مثل ما تصنعون، ومن احترق فهو مغلوب، وربما قلت فعليه لعنة الله، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار؛ فسألني الأمراء والناس عن ذلك؟ فقلت: إن لهم حيلاً في الاتصال بالنار يصنعونها من أشياء: من دهن الضفادع، وقشر النارنج، وحجر الطلق. فضج الناس بذلك، فأخذ يظهر القدرة على ذلك فقال: أنا وأنت نلف في بارية بعد أن تطلى جسومنا بالكبريت. (فقلت) فقم. وأخذت أكرر عليه في القيام إلى ذلك، فمد يده يظهر خلع القميص، فقلت: لا! حتى تغتسل في الماء الحار والخل، فأظهر الوهم على عادتهم فقال: من كان يحب الأمير فليحضر خشباً أو قال حزمة حطب. فقلت هذا تطويل وتفريق للجمع؛ ولا يحصل به مقصود؛ بل قنديل يوقد وأدخل إصبعي وإصبعك فيه بعد الغسل؛ ومن احترقت إصبعه فعليه لعنة الله؛ أو قلت: فهو مغلوب. فلما قلت ذلك تغير وذل. وذكر لي أن وجهه أصفر. ثم قلت لهم: ومع هذا فلو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين حقيقة، ولو طرتم في الهواء، ومشيتم على الماء، ولو فعلتم ما فعلتم لم يكن في ذلك ما يدل على صحة ما تدعونه من مخالفة الشرع، ولا على إبطال الشرع، فإن الدجال الأكبر يقول للسماء أمطري فتمطر؛ وللأرض أنبتي فتنبت، وللخربة أخرجي كنوزك فتخرج كنوزها تتبعه، ويقتل رجلاً ثم يمشي بين شقيه، ثم يقول له قم فيقوم، ومع هذا فهو دجال كذاب ملعون، لعنه الله، ورفعت صوتي بذلك فكان لذلك وقع عظيم في القلوب. وذكرت قول أبي يزيد البسطامي: لو رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف وقوفه عند الأوامر والنواهي، وذكرت عن يونس بن عبدالأعلى أنه قال للشافعي أتدري ما قال صاحبنا يعني الليث بن سعد؟ قال: لو رأيت صاحب هوى يمشي على الماء فلا تغتر به. فقال الشافعي: لقد قصر الليث لو رأيت صاحب هوى يطير في الهواء فلا تغتر به؛ وتكلمت بهذا ونحوه بكلام بعد عهدي به. ومشايخهم يتضرعون عند الأمير في طلب الصلح وجعلت ألح عليه في إظهار ما ادعوه من النار مرة بعد مرة وهم لا يجيبون، وقد اجتمع عامة مشايخهم الذي في البلد والفقراء المولهون منهم، وهم عدد كثير، والناس يضجون في الميدان، ويتكلمون بأشياء لا أضبطها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 176 فذكر بعض الحاضرين أن الناس قالوا ما مضمونه: " فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ [الأعراف: 118 - 119] , " وذكروا أيضاً أن هذا الشيخ يسمى عبدالله الكذاب. وأنه الذي قصدك مرة فأعطيته ثلاثين درهماً، فقلت: ظهر لي حين أخذ الدراهم وذهب أنه ملبس، وكان قد حكى حكاية عن نفسه مضمونها أنه أدخل النار في لحيته قدام صاحب حماة، ولما فارقني وقع في قلبي أن لحيته مدهونة، وأنه دخل الروم واستحوذ عليهم. - رجوع الرفاعية وإقرارهم العمل بالكتاب والسنة: فلما ظهر للحاضرين عجزهم وكذبهم وتلبيسهم، وتبين للأمراء الذين كانوا يشدون منهم أنهم مبطلون رجعوا، وتخاطب الحاج بهادر ونائب السلطان وغيرهما بصورة الحال، وعرفوا حقيقة المحال؛ وقمنا إلى داخل ودخلنا، وقد طلبوا التوبة عما مضى، وسألني الأمير عما تطلب منهم، فقلت: متابعة الكتاب والسنة مثل أن (لا) يعتقد أنه لا يجب عليه اتباعهما، أو أنه يسوغ لأحد الخروج من حكمهما ونحو ذلك، لو أنه يجوز اتباع طريقة تخالف بعض حكمهما، ونحو ذلك من وجوه الخروج عن الكتاب والسنة التي توجب الكفر وقد توجب القتل دون الكفر، وقد توجب قتال الطائفة الممتنعة دون قتل الواحد المقدور عليه. فقالوا: نحن ملتزمون الكتاب والسنة؟ نحن نخلعها. فقلت: الأطواق وغير الأطواق، ليس المقصود شيئاً معيناً، وإنما المقصود أن يكون جميع المسلمين تحت طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فقال الأمير: فأي شيء الذي يلزمهم من الكتاب والسنة؟ فقلت: حكم الكتاب والسنة كثير لا يمكن ذكره في هذا المجلس، لكن المقصود أن يلتزموا هذا التزاماً عاماً، من خرج عنه ضربت عنقه –وكرر ذلك وأشار بيده إلى ناحية الميدان- وكان المقصود أن يكون هذا حكماً عاماً في حق جميع الناس؛ فإن هذا مشهد عام مشهور قد توفرت الهمم عليه، فيتقرر عند المقاتلة، وأهل الديوان، والعلماء والعباد، وهؤلاء وولاة الأمور أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه. - فظائع الرفاعية في الصلاة: قلت: ومن ذلك الصلوات الخمس في مواقيتها كما أمر الله ورسوله؛ فإن من هؤلاء من لا يصلي، ومنهم من يتكلم في صلاته، حتى إنهم بالأمس بعد أن اشتكوا علي في عصر الجمعة جعل أحدهم يقول في صلب الصلاة: يا سيدي أحمد شيئاً لله. وهذا مع أنه مبطل للصلاة فهو شرك بالله ودعاء لغيره في حال مناجاته التي أمرنا أن نقول فيها: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [: الفاتحة: 5] وهذا قد فعل بالأمس بحضرة شيخهم فأمر قائل ذلك لما أنكر عليه المسلمون بالاستغفار على عادتهم في صغير الذنوب. ولم يأمره بإعادة الصلاة. وكذلك يصيحون في الصلاة صياحاً عظيماً وهذا منكر يبطل الصلاة. فقال: هذا يغلب على أحدهم كما يغلب العطاس. فقلت: العطاس من الله والله يحب العطاس ويكره التثاؤب ولا يملك أحدهم دفعه، وأما هذا الصياح فهو من الشيطان، وهو باختيارهم وتكلفهم، ويقدرون على دفعه، ولقد حدثني بعض الخبيرين بهم بعد المجلس أنهم يفعلون في الصلاة مالا تفعله اليهود والنصارى: مثل قول أحدهم أنا على بطن امرأة الإمام، وقول الآخر كذا وكذا من الإمام، ونحو ذلك من الأقوال الخبيثة وأنهم إذا أنكر عليهم المنكر ترك الصلاة يصلون بالنوبة، وأنا أعلم أنهم متولون للشياطين ليسوا مغلوبين على ذلك كما يغلب الرجل في بعض الأوقات على صيحة أو بكاء في الصلاة أو غيرها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 177 فلما أظهروا التزام الكتاب والسنة وجموعهم بالميدان بأصواتهم وحركاتهم الشيطانية يظهرون أحوالهم (قلت له) أهذا موافق للكتاب والسنة؟ فقال: هذا من الله حال يرد عليهم، فقلت: هذا من الشيطان الرجيم لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أحبه الله ولا رسوله، فقال: ما في السماوات والأرض حركة ولا كذا ولا كذا إلا بمشيئته وإرادته، فقلت له: هذا من باب القضاء والقدر، وهكذا كل ما في العالم من كفر وفسوق وعصيان هم بمشيئته وإرادته وليس ذلك بحجة لأحد في فعله؛ بل ذلك مما زينه الشيطان وسخطه الرحمن. فقال: فبأي شيء تبطل هذه الأحوال؟ فقلت: بهذه السياط الشرعية. فأعجب الأمير وضحك، وقال: أي والله! بالسياط الشرعية، تبطل هذه الأحوال الشيطانية، كما قد جرى مثل ذلك لغير واحد، ومن لم يجب إلى الدين بالسياط الشرعية فبالسيوف المحمدية. وأمسكت سيف الأمير وقلت: هذا نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلامه، وهذا السيف سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن خرج عن كتاب الله وسنة رسوله ضربناه بسيف الله، وأعاد الأمير هذا الكلام، وأخذ بعضهم يقول: فاليهود والنصارى يقرون ولا نقر نحن؟ فقلت: اليهود والنصارى يقرون بالجزية على دينهم المكتوم في دورهم، والمبتدع لا يقر على بدعته، فأفحموا لذلك. و (حقيقة الأمر) أن من أظهر منكراً في دار الإسلام لم يقر على ذلك، فمن دعا إلى بدعة وأظهرها لا يقر، ولا يقر من أظهر الفجور، وكذلك أهل الذمة لا يقرون على إظهار منكرات دينهم، ومن سواهم فإن كان مسلماً أخذ بواجبات الإسلام وترك محرماته، وإن لم يكن مسلماً ولا ذمياً فهو إما مرتد، وإما مشرك، وإما زنديق ظاهر الزندقة. وذكرت ذم المبتدعة فقلت: روى مسلم في صحيحه عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه أبي جعفر الباقر عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: ((إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)) (1). وفي السنن عن العرباض بن سارية، قال: ((خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: أوصيكم بالسمع والطاعة فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) (2) وفي رواية ((وكل ضلالة في النار)) (3).   (1) رواه مسلم (867) (2) رواه أبو داود (4607) وأحمد (4/ 126) (17184) والدارمي (95) وابن حبان (5) والحاكم (1/ 176) (332) والحديث صححه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 136) والألباني. (3) رواه النسائي (1578) من حديث جابر رضي الله عنه، وصححه الألباني. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 178 فقال لي: البدعة مثل الزنا، وروى حديثاً في ذم الزنا، فقلت هذا حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والزنا معصية، والبدعة شر من المعصية، كما قال سفيان الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ فإن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها. وكان قد قال بعضهم: نحن نتوب الناس، فقلت: مماذا تتوبونهم؟ قال: من قطع الطريق، والسرقة، ونحو ذلك. فقلت: حالهم قبل تتويبكم خير من حالهم بعد تتويبكم؛ فإنهم كانوا فساقاً يعتقدون تحريم ما هم عليه، ويرجون رحمة الله، ويتوبون إليه، أو ينوون التوبة. فجعلتموهم بتتويبكم ضالين مشركين خارجين عن شريعة الإسلام، يحبون ما يبغضه الله ويبغضون ما يحبه الله، وبينت أن هذه البدع التي هم وغيرهم عليها شر من المعاصي. قلت مخاطباً للأمير والحاضرين: أما المعاصي فمثل ما روى البخاري في (صحيحه) عن عمر بن الخطاب ((أن رجلاً يدعى حماراً، وكان يشرب الخمر، وكان يُضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كلما أتي به النبي صلى الله عليه وسلم جلده الحد فلعنه رجل مرة. وقال: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله)) (1). قلت: فهذا الرجل كثير الشرب للخمر ومع هذا فلما كان صحيح الاعتقاد يحب الله ورسوله شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فنهى عن لعنه. وأما المبتدع فمثل ما أخرجا في (الصحيحين) عن علي بن أبي طالب وعن أبي سعيد الخدري وغيرهما -دخل حديث بعضهم في بعض- ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم، فجاءه رجل ناتئ الجبين كث اللحية، محلوق الرأس، بين عينيه أثر السجود، وقال ما قال. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية؛ لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد - وفي رواية - لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل - وفي رواية - شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوا)) (2). (قلت): فهؤلاء مع كثرة صلاتهم وقيامهم وقراءتهم وما هم عليه من العبادة والزهادة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وقتلهم علي بن أبي طالب ومن معه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لخروجهم عن سنة النبي وشريعته، وأظن أني ذكرت قول الشافعي: لئن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلى الشرك بالله خير من أن يبتلى بشيء من هذه الأهواء. فلما ظهر قبح البدع في الإسلام، وأنها أظلم من الزنا والسرقة وشرب الخمر وأنهم مبتدعون بدعاً منكرة فيكون حالهم أسوء من حال الزاني والسارق وشارب الخمر أخذ شيخهم عبدالله يقول: يا مولانا لا تتعرض لهذا الجانب العزيز -يعني أتباع أحمد بن الرفاعي- فقلت منكراً بكلام غليظ: ويحك؛ أي شيء هو الجانب العزيز، وجناب من خالفه أولى بالعز يا ذو الزرجنة (كذا بالأصل) تريدون أن تبطلوا دين الله ورسوله، فقال: يا مولانا يحرقك الفقراء بقلوبهم، وقلت: مثل ما أحرقني الرافضة لما قصدت الصعود إليهم وصار جميع الناس يخوفوني منهم ومن شرهم، ويقول أصحابهم إن لهم سراً مع الله فنصر الله وأعان عليهم. وكان الأمراء قد عرفوه بركة ما يسره الله في أمر غزو الرافضة في الجبل. وقلت لهم: يا شبه الرافضة يا بيت الكذب، فإن فيهم من الغلو والشرك والمروق عن الشريعة ما شاركوا به الرافضة في بعض صفاتهم. وفيهم من الكذب ما قد يقاربون به الرافضة في ذلك، أو يساوونهم. أو يزيدون عليهم، فإنهم من أكذب الطوائف حتى قيل فيهم: لا تقولوا أكذب من اليهود على الله، ولكن قولوا أكذب من الأحمدية على شيخهم، وقلت لهم: أنا كافر بكم وبأحوالكم فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ [هود: 55]. ولما رددت عليهم الأحاديث المكذوبة أخذوا يطلبون مني كتباً صحيحة ليهتدوا بها فبذلت لهم ذلك، وأعيد الكلام: من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه، وأعاد الأمير هذا الكلام واستقر الكلام على ذلك. والحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. المصدر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية - 11/ 445   (1) رواه البخاري (6780) بلفظ مقارب. (2) رواه البخاري (3344) ومسلم (1064) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 179 المبحث الرابع عشر: الطريقة الرفاعية والتشيع: تلتقي الطريقة الرفاعية مع التشيع في أمور كثيرة أهمها ما يلي: 1 - جعل أحمد الرفاعي في المنزلة بعد الأئمة الاثني عشر مباشرة: بالرغم من أن الرفاعية ينسبون إمامهم أحمد الرفاعي إلى أنه من أولاد إبراهيم بن موسى الكاظمي بن جعفر الصادق بن محمد بن الباقر بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله عنه (الطريقة الرفاعية ص129)، إلا أن الغريب حقاً أنهم يجعلون منزلته بعد منزلة الأئمة الاثني عشر مباشرة، وهذا لا شك مبني على قول الإمامية في أن الأئمة الاثني عشر هم وُرَّاثُ الدين، وأن إماميتهم بالنص، وجعل أحمد الرفاعي آتياً في المنزلة بعد الإمام الثاني عشر الذي يزعم الشيعة أنه ابن سنتين أو ثلاث أو خمس على خلاف بينهم وأنه دخل السرداب في سامراء سنة 206هـ وأنه مهدي آخر الزمان، وأنه سيخرج ليملأ الدنيا عدلاً .. لا شك أن قول الرفاعية في أحمد الرفاعي اعتراف منهم بهذه العقيدة التي يعتقد أهل السنة أنها من المفتريات والمكذوبات وأن الحسن العسكري لم ينجب أحداً، وأن هذا المهدي لا وجود له. يقول الأستاذ محمد فهد الشقفة صاحب كتاب (التصوف بين الحق والخلق): "لدى تصفحي مواضيع كتاب بوارق الحقائق للرواس وجدت نقاطاً تحتاج إلى بيان شاف -إن كان لها بيان شاف- .. وقد علقت عليه بملاحظات". ثم ذكر المؤلف من هذه الملاحظات ما يلي: "الأولى -يذكر ناشر هذا الكتاب ومحققه في ذيل صحيفة 141 - 142 ناقلاً عن (روضة العرفان) لمؤلفها السيد محمود أبو الهدى خليفة الرواس قال فيها: (الأئمة الاثنا عشر) رضي الله تعالى عنهم أئمة آل بيت الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، تشمل إمامتهم كثيراً من المعاني اختلف فيها الفرق- ثم بعد أن يذكر رأيين لفرقتين من الشيعة الاثني عشرية من هؤلاء الأئمة، يقول: وأشرف المذاهب فيهم، مذهب أهل الحق من رجال الله العارفين فإنهم يقولون: إن الأئمة الاثني عشر، هم أئمة العترة فكل واحد منهم إمام لآل في زمانه، وصاحب مرتبة الغوثية المعبر عنها بالقطبية الكبرى، وهم: 1 - سيدنا أمير المؤمنين (علي بن أبي طالب) كرم الله وجهه، 2 - والإمام الجليل ولده أبو محمد (الحسن)، 3 - والإمام الشهيد (الحسين)، 4 - والإمام زين العابدين (علي)، 5 - والإمام (محمد الباقر)، 6 - والإمام (جعفر الصادق)، 7 - والإمام (موسى الكاظم)، 8 - والإمام (علي الرضا)، 9 - والإمام محمد (الجواد)، 10 - والإمام (علي الهادي)، 11 - والإمام (الحسن العسكري)، 12 - والإمام (محمد المهدي) المنتظر الحجة، رضي الله عنهم جميعاً. الثانية- ويذكر أيضاً عن (روضة العرفان) بعد ما تقدم في ذيل الصحيفة 142 تحت عنوان (تحفة): أن بعض الأجلاء رأى الرسول عليه الصلاة والسلام في المنام وسأله عن الإمام السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه، فقال له عليه الصلاة والسلام: هو ثالث عشر أئمة الهدى من أهل بيتي. الثالثة- ويذكر الرواس في صحيفة 212 من هذا الكتاب (بوارق الحقائق) أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: تمسك بولدي (أحمد الرفاعي) تصل إلى الله فهو سيد أولياء أمتي بعد أولياء القرون الثلاثة وأعظمهم منزلة، ولا يجيء مثله إلى يوم القيامة غير سميك (المهدي) ابن العسكري" أ. هـ (التصوف بين الحق والخلق ص196). وهذه الملاحظات التي أوردها محمد فهد الشقفة نقلاً من كتاب (بوارق الحقائق) للرواس الرفاعي لا تحتاج إلى مزيد شرح وإيضاح أن العقيدة الرفاعية هي عين العقيدة الشيعية الإمامية حول الأئمة عموماً والإمام الغائب خصوصاً. وإن كان الصيادي قد زعم تارة أن أحمد الرفاعي يأتي في المنزلة بعد المهدي الغائب، وتارة يجعله مساوياً له .. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 180 2 - إسناد الطريقة الرفاعية عن الإمام الغائب مهدي الشيعة المنتظر: وقد جعل محمد الصيادي الرفاعي المتوفى سنة 1327هـ 1909م والذي يسمونه مجدد الطريقة الرفاعية، والرفاعي الثاني، أحد أسانيده المزعومة في الطريقة إلى المهدي الغائب منتظر الشيعة حيث يقول: "لي أربعة أسانيد في المصافحة الأول عن ابن عمي السيد إبراهيم الرفاعي المفتي وسنده في المصافحة سنده في الإجازة إلى الإمام الأكبر سلطان الأولياء مولانا السيد أحمد الكبير الرفاعي رضي الله عنه وهو صافح جده يوم مد اليد والقصة أشهر من أن تذكر. والثاني عن ابن عمي وشيخي السيد عبدالله الراوي الرفاعي وسنده أيضاً سند إجازته وهو يتصل بالإمام الكبير الرفاعي رضي الله عنه وعنا به وهو قد صافح جده عليه الصلاة والسلام. والثالث عن حجة الله الإمام المهدي ابن الإمام العسكري رضوان الله وسلامه عليهما في طيبة الطيبة تجاه المرقد الأشرف المصطفوي وقال صافحت رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لي بخير. قال شيخنا (رضي الله عنه) ثم دعا لي الإمام المهدي رضوان الله عليه بخير. قال والرابع عن الخضر عليه السلام صافحته سبعاً وثلاثين مرة آخر مرة منها في مقام الشيخ معروف الكرخي (رضي الله عنه) ببغداد عصر يوم جمعة فقال صافحت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لي صافحت كفي هذه سرادقات عرش ربي عز وجل" انتهى (المجموعة النادرة ص230،231). وهذا اعتراف صريح لعقيدة الشيعة في الأئمة الاثني عشر، وبالإمام الغائب المزعوم. فأي صلة أكبر من هذا بين الطريقة الرفاعية والتشيع. 3 - وحدة الشعار بين الرفاعية والشيعة وتلتقي الطريقة الرفاعية أيضاً في شعار واحد مع التشيع وهو السواد، ولبس العمامة السوداء .. يقول محمد مهدي الصيادي الرفاعي في كتاب فذلكة الحقيقة في أحكام الطريقة: "المادة التاسعة عشرة في المائة الثالثة: لبس العمامة السوداء، ولبس العمامة البيضاء وكلاهما سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا كان زي إمامنا في طريقتنا السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه وعنا به العمامة السوداء فهي خرقته المباركة"!! (الطريقة الرفاعية ص126). فاختيار اللون الأسود ليكون الخرقة والشعار لا شك أنه توافق ظاهر آخر مع الشيعة الذين جعلوا هذا اللون شعاراً لهم. 4 - الخلوة الأسبوعية ومن مشاعر الطريقة الرفاعية الخاصة الخلوة الأسبوعية في كل عام، وابتداء دخلوها في اليوم الثاني من عاشوراء يعني الحادي عشر من محرم، وقد جعلوها شرطاً لكل من انتسب إلى هذه الطريقة، وطعامها خال من كل ذي روح (الطريقة الرفاعية ص115). ولا شك أن هذا التوقيت السنوي ليس اختياره عبثاً، لأنه يأتي بعد المشاعر الخاصة للشيعة رأساً. 5 - ادعاء الاختصاص بالرحمة يدعي الصياد وهو المؤسس الثاني للطريقة الرفاعية أنه مختص برحمة الله، ووارث رسول الله، والمختار من الله الذي كشف له الغيب، وعرف أسرار الرموز القرآنية، وباطن القرآن، وأنه كنز الفيوضات المحمدية، وأنه إمام الوقت، والإمامية تظل فيه وفي أعقابه إلى يوم القيامة .. وهذه الدعاوي جميعاً هي من دعاوي الشيعة في أئمتهم وهذه بعض نصوص عباراته في ذلك: يقول الصيادي الرفاعي: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 181 "فأهل الاختصاص جذبتهم يد المشيئة الربانية، بمحض الفضل والعناية الصمدانية، إلى أقصى المراتب العلية، وهذا المنح الباهر، والفضل الوافر، هو يوم حصتي، ومنصته منصتي، أقامني الله في هذه المنزلة إماماً، واختارني لرتبة هذه الخصوصية ختاماً، وكشف لي مخبآت الغيب باطلاع من كرمه، وجليل نعمه، ففهمت أسرار الرموز الفرقانية، وسبرت خفايا دقائق البطون القرآنية ولم تبرح تترقى همتي بكشف تلك الحجب اللطيفة، وبشق ديباجات هاتيك المحاضر الشريفة، فأنا اليوم ولربي الحمد والشكر وله الإحسان والبر، كنز الفيوضات الطاهرة المحمدية، وسجل العلوم المقدسة النبوية، وهذه النوبة نوبتي، تتقلب في ورّاث منزلتي، وخدام قدمي إلى ما شاء الله، بهذا بشرت من صاحب الوعد الصادق، وقرأته في صحف الرموزات العلوية التي طفحت بفائق الحقائق، سينشر علم ظهور حالي بعد هذا الخفاء في الأكوان، ويبرز بروز الشمس من بطن ليل الطمس للعيان، وتعكف على بابي القلوب والأرواح، ويسري سر إرشادي في الجبال والأودية والبطاح، ولم يمسس شأن نهجي المبارك غبار دنيوي، ولم يرجع منه حرف إلى قصد نفساني، بل كله لله، على منهاج رسول الله، عليه صلوات الله، لا يعبأ معناه بحال من أحوال هذه الدنيا الدنية، ولا يلتفت قائد حاله إلى مظاهرها الزائلة المطوية، وقد تفرغ رجال وراثتي حال النبي في الأمة، وتقوم بأطوار السادة القادة الأئمة، ومن رجالي وجه مولاي علي أمير المؤمنين، صهر النبي الأمين، الأسد البطين، ليث العرين، ولي هذا الخط الذي سيبرز، وكأني أراه على يد عبد يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله، من البيت الفاطمي، والفرع الأمدي، خزامي الفصيلة، خالدي القبيلة، يجدد المجد العلوي، ويرفع قواعد البيت الرفاعي، ويمهد فخار العنصر الصيادي، ينبلج شارق طالعه قرب متكين، فيقوم كما أنا حيرة للمفتونين، وجاذبة للموفقين، ويترعرع مجده في ساحة الظهور، فيرتقي إلى الشهباء، ثم إلى فروق، وبها تظهره لوامع بروق، وفي بحبوحة تلك الترقيات، وسمو هاتيك المنصات، فالمفتون قادح، والمأمون مادح ونور الله ساطع، وفي فضاء الوجودات لامع، وما النصر إلا من عند الله، يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله، ويقبل عليه من ارتضيناه وأعناه، وأسعفناه بمدد واجتذبناه، ولا يزال الأمر منبلج المظهر، ولذكر الله أكبر" أ. هـ منه بلفظه. ولا يخفى على القارئ اللبيب كلمات هذا الصيادي أن وارثه سيجدد المجد العلوي، وأنه من البيت الفاطمي .. فكلها عبارات تنبئ عن المقصد والمعتقد. ولعلنا لا نستغرب بعد ذلك ممن ترجم لهذا الصيادي الرفاعي بعد موته فقال عنه: قام السيد أبو الهدى رحمه الله مدة حياته الكريمة بأعمال جليلة نافعة ومآثر حميدة طيبة تبقى شافعة له عند ربه يوم اللقاء، وأعماله كانت منصبة على تعمير الأضرحة لآل البيت الكرام" (المجموعة النادرة ص37، 38). المصدر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - الشعراني ومهدي الشيعة المنتظر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 182 وليس هذا الانحراف عن جادة أهل السنة خاص بالرفاعية وإنما هو عام في العديد من فرق التصوف ورجالاتها. فلقد نقل الشعراني عن الشيخ حسن العراقي أنه اجتمع بالمهدي الحق وسأله عن عمره فقال له المهدي: «ولدت في أواخر المائتين من الهجرة، وعمري ستمائة سنة وأنا من ولد الإمام الحسن العسكري. قال الشعراني: هكذا أخبرني والله أعلم بحقيقة الحال. (1) غير أن الشعراني صرح في موضع آخر بأنه سأل الكمل من مشايخ التصوف فأجابوا بنفس ما قاله المهدي المزعوم سواء بسواء. (2) - مشاهد الأئمة ومقابرهم عند الفريقين وكذلك نجد التوافق الرفاعي الشيعي في شد الرحال إلى مقابر الأئمة وأخذ العلوم منهم والالتقاء بهم حيث يؤمنون بأنهم يخرجون من قبورهم متى شاؤوا لقضاء حوائج المستغيثين بهم. ولقد كان كتاب (بوارق الحقائق) للمهدي الرواس الرفاعي من أقرب الكتب الرفاعية الداعية إلى التشيع حيث سطر فيه تنقلاته الكثيرة بين قبور أئمة أهل البيت وذكر أنهم كانوا يخرجون من قبورهم واحداً واحداً أمامه، بل خرج له الأنبياء وأعطوه علوم الجفر وغيرها. ولقد جاء فيه وصف قبر الشيخ أحمد الصياد بأنه: زيتونة لا شرقية ولا غربية «بتولية فاطمية سبطية محمدية عابدية باقرية جعفرية كاظمية مرتضوية أحمدية» (3).وقد دفع الغلو بالصيادي إلى اعتبار قبر نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام أفضل من الجنة بل من عرش الرحمن ومن كرسيه. (4) وادعى على السلف الصالح أنهم اتخذوا مقابر أهل البيت والتوجه إليهم والتوسل بجاههم إلى الله ذريعة لقضاء حوائجهم. وأن الناس قد جربوا في المشرق والمغرب مقابر أهل البيت فوجدوها بابا لدفع الأكدار، وسلما لبلوغ الأوطار. ثم أنشأ يقول (5): جئت بطيبة والغرى وكربلا ... والطوس والزورا وسامراء ما زرتهم في حاجة إلا انقضت ... وتبدل الضراء بالسراء والشيعة كذلك يقدسون قبور أئمتهم، ويجدون عندها من الخشوع والرقة ما لا يجدونه في المساجد والصلوات. ويعتبرونها بابا لقضاء الحاجات وكشف الكربات فإن أئمتهم قائمون بمصالح العباد وهم في قبورهم. - مراتب الأولياء ومراتب الأئمة: وأما تقسيم الأئمة إلى أقطاب وأبدال وأوتاد وأنجاب وأغواث فإنه نظير تقسيم الباطنية للأئمة إلى الناطق والتالي والأساس والسابق ولكل وظيفته في الكون. وقد أخذ الصوفية فكرة النقباء الإثنى عشر من الإسماعيلية وكذلك فكرة أنهم لا يزيدون ولا ينقصون. (6) وكذلك يتوافق كل من الفريقين في استخدام ألقاب مخصصة للأئمة مثل لفظ:   (1) ((لطائف المنن والأخلاق في التحدث بنعمة الله على الإطلاق)) (489 – 490). (2) ((الأنوار القدسية في بيان آداب العبودية)) (1/ 4، 5، 2/ 139) على هامش ((طبقات الصوفية)) له أيضاً. ط: المكتبة الشعبية - القاهرة 1954. (3) ((بوارق الحقائق)) (56 – 57). (4) ((قلادة الجواهر)) (ص104). (5) ((قلادة الجواهر)) (ص 439). (6) ((الفتوحات المكية)) (2/ 9). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 183 «صاحب الزمان». يقول الصيادي: «ورضي الله عن الإمامين والسبعة الأقطاب وعن الأبدال والأنجاب والأوتاد والأفراد القائمين بمصالح العباد». (1) ويدعو الصيادي الله أن يعطف عليه قلب الأئمة لينال منهم حاجته، ويدفع بهم كربه فيقول: «ونسأله تعالى أن يعطف علينا قلب «صاحب الزمان» وحاشيته الكرام الأعيان، جعلناهم وسيلتنا إلى الله، أخذناهم درعاً لرد كل بلاء ودفع كل قضاء، قبلناهم بابا لنيل كل خير. (2) وفي موضع آخر يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأمر صاحب الزمان وآله أن يساعدوه في قضاء حوائج دينه ودنياه (3). وهكذا لم تعد الحاجة ترفع إلى الله وإنما تطلب من غيره بواسطة غيره أيضاً. - الرفاعية يعظمون كتاب (الجفر) الشيعي ويؤمن الرفاعية بكتاب (الجفر) الذي تعظمه الشيعة وتقدسه وتزعم أنه وعاء، فيه علم النبيين والوصيين وعلماء أمة بني إسرائيل، فيه علم ما كان وما يكون مفصلا (شيئا بشيء) إلى يوم القيامة. (4) والمهدي الرواس من الرفاعية يصرح بأن الجفر علم صانه الله تعالى بآل البيت النبوي وخص به الأئمة ووراث الأئمة من الأغواث والأقطاب والأنجاب، وفيه أسرار عظيمة مما يتعلق بكل وارث منهم وهو عبارة عما يحدثه فيهم كخلافة أمير المؤمنين علي صلى الله عليه وسلم وولده الحسن السبط الهمام، وشبله المقدام الحسين وما سيجري في عهد المهدي سلام الله عليه ورضوانه، وهو سر خاص بهم لا يتعلق بغيرهم. (5) وهنا يبرز خط التشيع بوضوح فإن الجفر ذكر إمامة علي ولم يجعلها تالية لإمامة أبي بكر وعمر. وإنما جعلها أول إمامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبالتالي يكون إقرار ذلك إقرار لمذهب الشيعة في الإمامة. ولقد كان للرواس نصيب من هذا الجفر، فزعم أنه لما اجتمع بقبر الشيخ أحمد الصياد الرفاعي (6) قال له هذا الأخير: «أنت منبع يجري منه نهر كنهر النيل. قلت: دلني سلام الله عليك على هذا النهر الذي مثلته بالنيل. فذكر أن الصياد تكرم عليه بإعطائه بعض كلمات من «الجفر» العلوي الفاطمي وحل له أسرارها. (7) وأنه حصل على تسعمائة سر من أسرار الجفر الفاطمي من الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم. وذلك حين ظهر عليه أمام قبر من قبور الأئمة. وأعطاه خرقة عليها بعض الطلاسم والرموز السحرية. قال الرواس: «وقد صرح أولياء الله من آل فاطمة عليها السلام أن من حمل هذا السطر على هذه الصورة الشريفة عوفي مريضه وأفاق مصروعه وهو المانع من كل ملم ودافع لكل مهم». (8) - محبة أهل البيت كفارة للذنوب   (1) ((القواعد المرعية)) 18) – 19)، ((المعارف المحمدية)) (ص103)، وانظر ((قلادة الجواهر)) (ص344) للصيادي. (2) ((القواعد المرعية)) (ص 19)، وانظر كتاب ((روضة الناظرين)) 95)، 136). (3) ((قلادة الجواهر)) (392 – 393). (4) ((الكافي في الأصول)) (1/ 239) كتاب ((الحجة)) باب ذكر الصحيفة والجفر والجامعة وانظر ((بصائر الدرجات)) 3) /180) للصفاري. (5) ((بوارق الحقائق)) (284 – 285). (6) يلاحظ استعمال كلمة «اجتمع» لأن الأموات من مشايخ المتصوفة يخرجون من قبورهم ويجتمعون بمن يحضرهم ممن يريد علما أو بيعة أو مددا. (7) ((بوارق الحقائق)) (78 – 79). (8) ((بوارق الحقائق)) 177) – 179). وهذا الكتاب أشبه ما يكون بكتاب رؤيا يوحنا الذي عند النصارى اللاهوتي فإن فيه من العجائب والأساطير ومشاهدة الشياطين الشيء الكثير. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 184 ومن أوجه التشابه بين الرفاعية والشيعة اعتقاد كلا الفريقين براءة محب أهل البيت من النار: يدعي الصيادي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((معرفة آل محمد براءة من النار، وحب آل محمد جواز على الصراط، والولاية لآل محمد أمان من العذاب)) (1).وأنه قال: ((من مات على حب آل محمد مات شهيدا، ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة، ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة، ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزاراً لملائكة الرحمة)) (2) (3) وأنه قال: ((الزموا مودتنا أهل البيت، فإن من لقي الله عز وجل وهو يودنا دخل الجنة بشفاعتنا، والذي نفسي بيده لا ينفع عبداً عمله إلا بمعرفة حقنا)) (4).أضاف قائلا: ((أربعة أنا لهم شفيع يوم القيامة: المكرم لذريتي، القاضي لهم حوائجهم، الساعي لهم في أمورهم، المحب لهم بقلبه ولسانه)) (5). (6) وفي المقابل نرى الشيعة يزعمون أن الله تعالى قال: ((لا أدخل النار من عرف أبا طالب وإن عصاني، ولا أدخل الجنة من أنكره ولو أطاعني)) (7) ويدعون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من رزقه الله حب الأئمة من أهل بيتي فقد أصاب خير الدنيا والآخرة فلا يشكن أحد أنه في الجنة)) (8) ونحن لا ننكر أن حبهم إيمان وهو جزء لا يتجزأ من محبة النبي صلى الله عليه وسلم لكننا لا نعتقد بكفارة محبتهم على النحو الذي تعتقده الشيعة والصوفية وهو ما تعتقده النصارى في عيسى صلى الله عليه وسلم حيث يعولون على المحبة ويطعنون في العمل ويصرفون الناس عنه. - عصمة أهل البيت النبوي: أما عصمة أهل البيت فالصيادي - من الرفاعية - يصرح بأنهم «المعصومون المحفوظون» (9) ويفسر قوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33]، قال: الرجس: الآثام والذنوب. (10) [هل يتصور وقوع الظلم منهم؟] قال الصيادي: «ولا ينبغي لمسلم أن يذمهم بما يقع منهم أصلا وإن ظلموه، فإن ذلك الظلم: ظلم في زعمه لا في نفس الأمر، حتى وإن حكم الشرع بأنه ظلم» (11) وليس أعجب من هذا التحكم والمغالطة والتحيز. هذه المغالطة التي لم يسبق إليها ابن عربي الذي جعل الذنب المذكور في قوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح: 2] , ذنبا صوريا لا معنى ولا حقيقة له. (12) ويضيف الصيادي كلامه قائلاً: بل حكم ظلمهم إيانا في نفس الأمر يشبه جري المقادير علينا .. من غرق أو حرق .. فلا يذم الإنسان قضاء الله وقدره، فكذلك الأمر في أهل البيت فإنه يقابل ما يطرأ عليه منهم بالرضا والتسليم. فلا يؤاخذهم بما طرأ منهم في حقه ولا يطالبهم به، بل يتركه لهم ترك محبة وإيثار .. (13)   (1) أورده الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (4917) وقال موضوع. (2) أورده الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (4920) وقال باطل موضوع. (3) ((ضوء الشمس)) (1/ 251، 255). (4) رواه الطبراني في ((الأوسط)) (2/ 360) وقال الهيثمي في ((المجمع)) (9/ 172) فيه ليث بن أبي سليم وغيره، وأورده الألباني في ((الضعيفة)) (4916) وقال منكر. (5) قال عنه الفتني في ((تذكرة الموضوعات)) (1/ 98) والشوكاني في ((الفوائد المجموعة)) (1/ 397) موضوع. (6) ((ضوء الشمس)) (1/ 262 - 263). (7) ((البرهان في تفسير القرآن)) للبحراني الشيعي (ص23)، ((الخصال)) للقمي (2/ 583). (8) ((تفسير نور الثقلين)) (2/ 504) للحويزي. (9) ((ضوء الشمس)) (1/ 268). (10) ((ضوء الشمس)) (1/ 251). (11) ((ضوء الشمس)) (1/ 269). (12) ((ضوء الشمس)) 1) /265). (13) ((ضوء الشمس)) (1/ 269 – 270). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 185 فيجب عليك أيها المسلم أن لا ترى لنفسك معهم حقا وتتنازل عن حقك لهم. أما إذا كنت قاضيا بين واحد من أهل البيت وآخر من عامة الناس فيأمرك الصيادي بالتالي: «عليك أن تسعى في استنزال صاحب الحق من حقه إذا كان المحكوم عليه من أهل البيت». (1) فهو يسوغ لهم الظلم ويحث الآخرين أن يطيبوا نفسا بهذا الظلم ويرضوا به كرضاهم بقضاء الله وقدره، وإلا كانوا متطاولين عليهم إن طالبوا بحقهم منهم ويدعو الحكام والقضاة أن يميلوا عن الحق إلى جانب الأئمة ولو كانوا ظالمين. وبالمقارنة بين هذه الآداب مع الأئمة وبين الآداب التي افترضتها الباطنية مع الأئمة لا نجد فرقا إلا بالعبارة، ولقد تأملت إحدى رسائل الإسماعيلية للداعي الإسماعيلي الباطني القاضي النعمان بن محمد المغربي بعنوان (كتاب الهمة في آداب اتباع الأئمة) يذكر آداب المريد مع إمامه على نحو مماثل لما يدعو الصوفية إليه. والسؤال: هل كان رسول الله ليرضيه مقابلة الظلم بالتسليم والرضا ووضع الحق بجانب أفراد أهل بيته وإن ظلموا؟ ألم يقلها صريحة مدوية أمام الملأ ((والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد صلى الله عليه وسلم يدها)) (2). (متفق عليه ألم يتوعد عمر رضي الله عنه ابن عباس بالتعزير إن لم يكف عن الفتيا بإباحة زواج المتعة؟ على أن الصيادي يوجب على كل مسلم احترام من انتسب إلى أهل البيت من غير أن يطالبوه إثبات صحة هذا النسب، يقول: «وليعلم أنه ينبغي احترام وتعظيم كل من ينتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون تكليفه إلى إثبات نسبته إليه». (3)   (1) ((ضوء الشمس)) (1/ 272). (2) رواه البخاري (3475) ومسلم (1688) (3) ((ضوء الشمس)) (1/ 263). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 186 - أبو طالب وأبوا النبي في الجنة: أما موقف الرفاعية من أبي طالب وأبوي النبي صلى الله عليه وسلم فإنه موافق لمذهب الشيعة، وللصيادي رسالة سماها: «السهم الصائب لكبد من آذى أبا طالب» ورسالة «الكنز المطلسم» ذكر فيهما أن أهل البيت كلهم مطهرون وأنهم كلهم في الجنة. وأيد رأي السيوطي الذي نص على إيمان أبي طالب وموته عليه. وأن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الجنة، وأن من رماهم بالنقص يكون مؤذيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبالتالي يكون مقتحما للكفر. (1) ناقلا عن الشيخ كمال الدين الشمني الحنفي أن من قال بأنهما في النار فهو ملعون. ولذلك إذا ذكر الصيادي أم النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «رضي الله عنها، وإذا ذكر أباه قال: المعظم». (2) وقد جاء في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل سأله عن أبيه: ((أن أبي وأباك في النار)) (3) وأما أمه فقد نهي عن الاستغفار لها. (4) وقد هاجم الصيادي من نفى إيمان أبي طالب كما سبق وأشرت إليه، غير أنه نقض هذا الموقف فحكم ببعد أبي طالب عن الدين، مبينا أن نسبة قرابته لم تنفعه، قال: «إن نسبة الأبوة المعنوية أشرف من نسبة الأبوة الظاهرية، وهي التي جعلت بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الروم رضي الله عنهم من أهل البيت، وأُبعد عنها أبو طالب ولم تنفعه نسبة العمومة. (5) وأما أبو طالب فقد تواترت الأحاديث أنه في ضحضاح من نار ولولا النبي صلى الله عليه وسلم لكان في الدرك الأسفل منها. (6) وأنه لما مات قال علي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: ((إن عمك الضال قد مات)) (7) بيد أن أحد الرفاعية يزعم أنه لما مات أبو طالب رثاه علي كرم الله وجهه بهذه الأبيات (8): أبا طالب عصمة المستجير ... وغيث المحول ونور الظلم لقد هد فقدك أهل الحفاظ ... فصلى عليك ولي النعم ولقاك ربك رضوانه ... فقد كنت للظهر من خير عم فلم يجعلوه مؤمنا فحسب وإنما جعلوه من خيرة من يستجار به. وكذلك الشيعة صنفوا العديد من الرسائل في إيمان أبي طالب مثل رسالة «مؤمن أهل البيت للخنيزي»، ورسالة للشيخ المفيد سماها «إيمان أبي طالب» ورسالة للحر العاملي سماها «شيخ الأبطح» قال فيها: «إن الشيعة الإمامية وأكثر الزيدية يقولون بإسلام أبي طالب وأنه ستر ذلك عن قريش لمصلحة الإسلام». (9) المصدر: الطريقة الرفاعية لعبد الرحمن دمشقية - ص165 - 173 - علم الباطن بين الرفاعية والباطنية دأب الباطنية على إثبات وجود علم باطن لم يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس وإنما أسره إلى خاصته. وأخص خاصته هو علي رضي الله عنه الذي أخذ هذا العلم عنه صلى الله عليه وسلم ثم تلقاه عنه أبناؤه من بعده. وبقي عند الإمام المعصوم الذي يؤتى من لدنه التأويل. وقد وصفوا الإمام علي بأنه «باب مدينة العلم» و «وصي النبي وسره».   (1) ((ذخيرة المعاد في ذكر السادة بني الصياد)) (4 – 5)، ط: مصطفى أفندي 1307. وانظر ((النجوم الزواهر)) (ص 48) لأحمد الرجيبي الحسيني ط: دار الحرية بغداد سنة 1980. (2) ((ضوء الشمس)) (1/ 112). (3) أخرجه مسلم رقم (203). (4) أخرجه مسلم رقم (976). (5) ((قلادة الجواهر)) (ص295) (6) رواه البخاري (3883)، ومسلم (ص209). (7) رواه أبو داود (3214) والنسائي (2006) والطبراني في ((الأوسط)) (5490) والبيهقي (1/ 304) والحديث سكت عنه أبو داود وقال ابن الملقن في ((تحفة المحتاج)) (2/ 21) إسناده حسن، وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/ 221) إسناده لا بأس به، وقال الألباني في ((الصحيحة)) (161) إسناده صحيح. (8) ((النجوم الزواهر)) (ص 136). (9) ((الأعلام)) للزركلي (4/ 166). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 187 ولقد اعتبر أهل السنة والحديث أن من وافق الشيعة في هذا الادعاء ألحق بهم واستحق وصفه بالتشيع ونهوا عن أخذ الحديث منه. قال النووي رحمه الله: «قال القاضي: ولما عرف عن الحارث (أحد الرواة) قبح مذهبه وغلوه في مذهب الشيعة ودعواهم الوصية إلى علي رضي الله عنه وسر النبي صلى الله عليه وسلم إليه من الوحي وعلم الغيب ما لم يطلع غيره عليه: سيء الظن في الحارث (أي تركوا روايته لذلك). (1) فهذه الألقاب التي اعتبرها القاضي غلوا في التشيع نجدها عند الصوفية عامة وعند الرفاعية بوجه خاص. فالإمام علي عند الرفاعية «باب مدينة العلوم» (2) و «سر باب النبي صلى الله عليه وسلم». (3) وقد وافقوا الباطنية في قولهم بالعلم الباطن فقال الواسطي من الرفاعية: «وقد صح أن سلمان تلقى علم الباطن عن أمير المؤمنين علي، وهو «أخذه» عن ابن عمه صلى الله عليه وسلم» (4) ويعرف عندهم أيضاً بـ «العلم المكتوم» كما وصفه الغزالي (5) أو «العلم اللدني» الذي يزعمون أخذه عن الخضر مباشرة، مثلما يدعي الباطنية أنهم أخذوه عن المهدي المعصوم صاحب الزمان والسرداب مباشرة أيضاً. وصار هذا العلم عند الصوفية علما آخر غير العلم اللدني الشرعي الذي أوتيناه من لدن نبينا والذي أوتيه هو من لدن ربه. وصارت له أحكام وفتاوى تختلف عن الأحكام المتعلقة بالعلم الشرعي حتى إنك لتجدهم يقولون في ترجمة سيرة شيخ من مشايخهم: «درس الشيخ الفلاني وأفتى في علمي الظاهر والباطن. (6) وقد جعلوا البوح بهذا العلم كفرا وأوجبوا كتمه، وهو عين قول الشيعة الباطنية الذين يقولون: «إن هذا العلم مكنون فاكتموه إلا من أهله». (7) المصدر: الطريقة الرفاعية لعبد الرحمن دمشقية - ص174، 175   (1) ((شرح النووي على مسلم)) (1/ 99). (2) ((قلادة الجواهر)) (ص19). (3) ((المعارف المحمدية)) (ص30). (4) ((ترياق المحبين)) (ص (7 ط: المطبعة البهية المصرية 1304 هـ. (5) ((ميزان العمل)) (ص111) لأبي حامد الغزالي ط: دار الكتب العلمية. (6) ((جامع كرامات الأولياء)) 1) /189) للنبهاني. (7) ((لطائف المنن)) للشعراني (ص 489). وانظر في المقابل كتاب ((من لا يحضره الفقيه)) لابن بابويه القمي الشيعي (4/ 414 – 415) باب أحوال الأنبياء والأوصياء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 188 المطلب الأول: نسبة الطريقة تنتسب هذه الطريقة إلى محمد بهاء الدين شاه نقشبند. واشتق اسمها منه، ومن ثم عرفت به. ولد في قرية بخارى سنة (717 - 791هـ).وكانت قبله تنسب إلى عبد الخالق الغجدواني، وسميت كذلك بالمجددية أو الفاروقية نسبة إلى الشيخ أحمد الفاروقي السرهندي، وبالخالدية نسبة إلى خالد النقشبندي الملقب بالطيار ذي الجناحين. وهو الذي نشر الطريقة في بلاد الشام بعد أن تلقاها من الشيخ عبد الله الدهلوي. وقد كان انتشارها مقصورا على بلاد بخارى وما حولها (1).وهو قد أخذها عن شيخه أمير كلال عن الخواجة محمد بابا السيماسي عن علي الراميتني عن محمود النغوي عن الخواجة محمد عارف الديوكري عن الخواجة عبد الخالق الغجدواني (2).وهو قد لقب بنقشبند لانطباع صورة لفظ الله على ظاهر قلبه من كثرة ذكر الله، وقيل سمي نقشبند، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع كفه الشريف على قلب الشيخ محمد بهاء الدين الأويسي نقشبند، فصار نقشا في القلب (3).   (1) ((البهجة السنية في آداب الطريقة العلية النقشبندية)) (ص35). (2) ذكره محمد الحسيني الزبيدي في كتابه ((اتحاف السادة المتقين شرح إحياء علوم الدين)) (7/ 248). (3) ((تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب)) (ص539) ط: دار احياء التراث العربي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 189 المطلب الثاني: تعاليمها وأصول الطريقة وتعاليمها فارسية النمط. قام بإخراجها أعاجم من بخارى وطاشكاند ممن كانوا متأثرين بتعاليم الفلسفة، ثم مزجوا هذه التعاليم بالإسلام وكسوها بكساء الشريعة. ومن الأدلة على ذلك ما تجده في هذه التعاليم التي بقيت عناوين تعاليمها بالفارسية حتى في كتب الطريقة العربية: (هوش دردم) بمعنى حفظ النفس عن الغفلة (نظربرقدم) بمعنى أن يكون نظر السالك إلى قدميه عند المشي. (سفردروطن) بمعنى سفر السالك من عالم الخلق إلى جناب الحق. (خلوة دارأنجمن) بمعنى المكان الذي يتخلى فيه العبد للتعبد. (يادكرد) معناه الذكر بالنفي والإثبات. (بازكشت) أي إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي. (نكاهداشت) أي حفظ القلب عن معنى النفي والإثبات عند الذكر. (يادداشت) أي حضور القلب مع الله (1).   (1) ((البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية)) (54 - 57) كتاب ((السبع الأسرار في مدارج الأخيار)) لمحمد معصوم النقشبندي (ص 98). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 190 المطلب الثالث: أصولها أصول الطريقة مجملا: وأصول الطريقة النقشبندية متوافقة في كثير من تفاصيلها مع الطرق الصوفية الأخرى. فإن فيها من البدع والشركيات والقول بوحدة الوجود وما يحكونه عن أحوال مشايخهم وخصائصهم وتصرفهم المطلق في ذرات الكون، ما لا يشك معه أحد في أن هذه الطريقة إحدى طرق الصوفية الغلاة، الخارجين على الكتاب والسنة، مع إصرار أصحابها بأنها طريقة سنية لا تخرج عن أهل السنة والجماعة شبرا واحدا (1).ونقلوا عن الشيخ محمد بارسا (أحد أجلاء أصحاب الشيخ نقشبند) في كتابه (فصل الخطاب)، أن طريقة الخواجة (شاه نقشبند) حجة على جميع الطرق ومقبولة لديهم، لأنه كان سالكا طريق الصدق والوفا ومتابعة الشرع وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ومجانبة البدع ومخالفة الهوى» (2). ما حكم المعترض على الطريقة؟ وحكموا على من قال: «الطرق الصوفية لم يرد بها كتاب ولا سنة» حكموا عليه بالكفر فقالوا:» وإياك أن تقول: الطرق الصوفية لم يأت بها كتاب ولا سنة فإنه كفر» (3).وقال صاحب (الحديقة الندية) بأن الإنكار على السادة الصوفية سم قاتل قد ورد به الوعيد الشديد وهو علامة إعراض القلب عن الله ويخشى على فاعله من سوء الخاتمة (4).بل قال السرهندي: «وأشقى جميع الخلائق وأبعدهم عن السعادة الذين يرون عيوب هذه الطائفة (5).وزعموا أن أحمد بن حنبل أوصى بمجالسة الصوفية لأنهم زادوا علينا - يعني على أئمة العلم - بكثرة العلم والمراقبة والخشية والزهد وعلو الهمة، وأن الشافعي كان يتردد عليهم ويصفهم بأن عندهم الأمر كله وهو تقوى الله. (6).ومن الملاحظ تلازم الطرق الصوفية الأربعة بالطريقة النقشبندية وهم: الجشتية والسهروردية والقادرية في حين لا يبدو أنه يسمح للمريد النقشبندي بمبايعة طريقة أخرى غيرها كالرفاعية (7). وقد تفرعت من الطريقة النقشبندية عدة طرق وهي الخالدية أو الضيائية نسبة إلى خالد ضياء الدين البغدادي الملقب بذي الجناحين. والكبروية والسرهندية أو المجددية، نسبة إلى أحمد السرهندي صاحب المكتوبات. المصدر: الطريقة النقشبندية لعبد الرحمن دمشقية - ص7 - 10   (1) ((المواهب السرمدية)) (ص3) ((الأنوار القدسية)) (ص5) ((الحدائق الوردية)) (ص 3) لعبد المجيد الخاني ط: المطبعة العامرة 1308. و ((كتاب البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية)) لمحمد بن عبد الله الخاني (ص9). (2) ((المواهب السرمدية)) (ص77). (3) ((الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية)) لمحمد بن سليمان البغدادي (ص 31). (4) ((الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية)) لمحمد بن سليمان البغدادي (ص94). ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (ص 67). (5) ((المكتوبات الربانية)) للسرهندي (ص347). (6) ((الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية)) لمحمد بن سليمان البغدادي (33 - 35). (7) انظر كتاب ((الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية)) لمحمد بن سليمان البغدادي النقشبندي (ص 12). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 191 المطلب الأول: مبادئ الطريقة تمتاز هذه الطريقة على مثيلاتها من الطرق بالاعتقادات التالية: يعتقد المنتسبون لهذه الطريقة أن المؤسس الأول لها والواضع لأسسها ومبادئها هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، بالرغم من أن أبا بكر لا يعرف اسم هذه الطريقة. وزعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((ما صب الله في صدري شيئاً إلا وصببته في صدر أبي بكر)) (1) (2). وجرى الصوفية على ربط أنفسهم باسم صحابي، لكي يكتسبوا به صبغة شرعية. فأغلب الطرق الصوفية تلتصق بعلي وسلمان الفارسي رضي الله عنهم. وكل منها تدعي تلقي العلوم المكتومة الباطنة من طريق علي الذي أوتي علم الباطن عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه محاذاة لطريق الروافض. فهم يزعمون الكشف والتوفيق والإلهام وحصول القرب من الله. وهذا يمكن تقديم الدليل أنه من الله ويدعيه كثير من المبطلين الذين يتوصلون بدعاوى الكشف إلى إقناع العوام وتخديرهم وسرقتهم. فبضاعتهم في الحديث باطلة. وزاد الكوثري كذبة أخرى وهي أن: عبد الرحيم الهندي رأى في بعض الكتب أن أبا بكر رضي الله عنه كان يستعمل الذكر الخفي على طريقة النقشبندية مع حبس النفس ولا يتنفس إلا في الصباح. وكان يشم الناس رائحة اللحم المشوي فتضرروا من هذه الرائحة ظنا منهم أنه يطبخ اللحم، وشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرهم أن هذه الرائحة التي يجدونها رائحة كبد أبي بكر وأنه ليس عنده لحم (3).وعجبا للسرهندي كيف يدعي بأنه «كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ العلوم من الوحي فكذلك هؤلاء الأكابر (مشايخ الصوفية) يأخذونها بطريق الإلهام من الأصل» (4). أي من الله مباشرة. مع أن أبا بكر لم يزعم أنه يأتيه كشف، ولا غيره من الصحابة. قالوا: ومن أبي بكر تسلسلت إلى طيفور بن عيسى أبي يزيد البسطامي وهذه مرحلة (الصديقية) ومنه إلى خواجة عبد الخالق الغجدواني وهذه المرحلة تسمى (طيفورية) ومنه إلى محمد بهاء الدين نقشبند وتسمى (خواجكانية) ومنه إلى عبيد الله أحرار وتسمى (نقشبندية) ومن محمد بهاء الدين نقشبند إلى الشيخ أحمد الفاروقي وتسمى (أحرارية) ومنه إلى الشيخ خالد وتسمى (مجددية) ومنه إلى خالد النقشبندي، وتسمى (خالدية) (5) وأنشدوا قائلين (6): سرّ الطرائق ما بين الخلائق من ... إحسانه سار للأصحاب سائره   (1) أورده ابن الجوزي في ((الموضوعات)) (1/ 319) وقال ابن القيم في ((المنار المنيف)) (240) موضوع، ومثله قال الفتني في ((التذكرة)) (ص93) (2) ((الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية)) (ص 13) لمحمد بن سليمان البغدادي المتوفي سنة 1234 ط: مكتبة الحقيقة تركيا. ((البهجة السنية في آداب الطريقة الخالدية العلية النقشبندية)) (6 و9) لمحمد بن عبد الله الخاني. ((الحدائق الوردية)) (ص188). ((رشحات عين الحياة)) (ص 7) ألفه الشيخ علي بن حسين الواعظ الهروي سنة 889 ط: المكتبة الإسلامية تركيا، ((ارغام المريد)) للكوثري (ص 29). ((رسالة في تحقيق الرابطة)) (ص13) لخالد البغدادي الملقب بذي الجناحين ضمن كتاب ((علماء المسلمين وجهلة الوهابية)) ط: مكتبة الحقيقة - وقف الاخلاص بتركيا. ((مكتوبات الامام الرباني)) السرهندي (195 و222 و229). والحديث لا أصل له كما بينه ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 319). (3) ((إرغام المريد)) للكوثري (ص30). (4) ((مكتوبات الامام الرباني)) المسمى ((بالمكتوبات الشريفة)) (ص 41). (5) ((تنوير القلوب)) (539 - 540) ((السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية)) (3 ط): مكتبة الحقيقة اسطنبول. (6) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبندية)) لعبد المجيد الخاني (7و8) المطبعة العامرة القاهرة 1308. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 192 فالنقشبندي أقواها وأقومها ... لأنه عن أبي بكر مصادره وزعموا أنه تم نقل مبادئ الطريقة بعناية عن أكابر السلف كأبي بكر وسلمان الفارسي وجعفر الصادق وبقيت كذلك حتى جاء محمد بهاء الدين الأويسي ثم جاء من بعده الإمام السرهندي (ت 1034) وهو الذي نشر الطريقة في الهند وكتب كتابه المشهور (مكتوبات الإمام) وكتاب (رشحات عين الحياة) لعلي بن الحسن الواعظ الهروي وهذا الكتاب فيه كفريات عجيبة ومع ذلك فهو كتاب عظيم عندهم، احتج به السرهندي الفاروقي النقشبندي والكوثري والخاني (1) واستحسنه واحتج به خالد البغدادي الملقب بذي الجناحين وكتابه مليء بكفر ظاهر لا يقبله مسلم ومع ذلك فإن النقشبنديين يثنون عليه ويحتجون به (2) ثم نشرها في بلاد الشام محمد أمين الكردي. ولا يزال الشيخ أمين كفتارو يعمل على نشر هذه الطريقة في بلاد الشام ولبنان إلى يومنا هذا (3).في حين يدعي عبد المجيد الخاني (4) أن النبي هو واضع أصول الطريقة قائلا: رجال الطريقة الخالدية الأولى ... هم صفوة الرحمن في كل مشهد نبي وصدّيق وسلمان قاسم ... وجعفر طيفور وخرقاني فارمدي ويأتي محمد علي الكردي فيدعي أن واضع علم التصوف وطرقه هو الله، وأنه أوحى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم (5). وفضل أهل التصوف على سائر الخلق واختصهم بطوالع الأنوار فهم الذين يغيثون الخلق. ويلزم من هذه الدعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم هذا العلم ولم يبلغه، وأن أبا بكر وسلمان كتما العلم أيضا.   (1) انظر ((البهجة السنية في آداب الطريقة العلية الخالدية النقشبندية)) (ص 48) لمحمد بن عبد الله الخاني، وانظر كتاب ((ارغام المريد في شرح النظم العتيد لتوسل المريد برجال الطريقة النقشبندية)) (ص60) ((مكتوبات الامام الرباني)) (ص13 و198) ((الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات وتحقيق الرابطة)) لحسين الدوسري ط: دار الكتب العلمية بهامش مكتوبات السرهندي (27 و106). (2) ((رسالة في تحقيق الرابطة)) (ص3) ضمن كتاب ((علماء المسلمين وجهلة الوهابيين)) ط: مكتبة الحقيقة - تركيا وهي مكتبة متخصصة في بث كتب البدع والشرك والطعن في أهل السنة. وبالرغم من تخصصها في بث الشرك فقد جعلوا لها وقفا باسم " وقف الاخلاص". (3) ((أوراد الذاكرين أوراد الطريقة النقشبندية)) (ص 10) محمد الحبش. (4) ((السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية)) (ص 7). (5) ((تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب)) (ص406). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 193 المطلب الثاني: كيف ينال المرء مرتبة الصديقية؟ فالصديقية مرتبة عظيمة ولكن: كيف ينالها المرء؟ قالوا: لا يكون الصديق صديقا حتى يشهد عليه سبعون صِدّيقا بأنه زنديق (1).ونقلوا عن بهاء الدين شاه نقشبند أن بداية الطريقة النقشبندية: نهاية الطرق الأخرى (2).وأوجبوا على الناس دخول طريقتهم وهددوا من لا يدخل الطريقة النقشبندية بأنه يكون على خطر من دينه فنقلوا عن بهاء الدين شاه نقشبند أنه قال «من أعرض عن طريقتنا فهو على خطر من دينه» (3). وهم يطعنون في الطرق الأخرى فيقولون عن الطريقة الرفاعية: ومن المدعين للطريق جماعة وسموا أنفسهم بالمشايخ الصادقين ... كالأحمدية والدسوقية والرفاعية ... فإن الغالب على هؤلاء مخالفتهم لطريق من انتسبوا إليه. وتبقى وشائج الاتصال بين الأحياء وبين الأموات من سلسلة مشائخ الطريقة ابتداء من الانضمام إلى الطريقة وأخذ العهد والبيعة، وتدوم الصلة بين المنتمين إليها دائما بسلسلة مشايخ الطريقة الأموات. فمن روحانيتهم يطلبون المدد ويتلقون المعرفة والأدب. ولهم تتم المبايعة، وتختتم مجالس ذكرهم بإهداء ثواب ذلك الختم لسلسلة مشايخ الطريقة فردا فردا (4).ولهذا كان الشيخ بهاء الدين نقشبند يجتمع بأرواح سلسلة المشايخ النقشبندية ويأخذ العهد والولاية والتكليف منهم في المقبرة (5). الحرص على الذكر الخفي والتركيز على أن يكون الذكر بالقلب ويسمونه القلب الصنوبري. وعندهم ما يسمى بالورد الخفي يكون بعد صلاة الفجر. وزعموا أن اللائق بالمبتدئ هو الذكر الجهري فإذا ما ترقى إلى المقامات العلا فإنه حينئذ ينتقل منه إلى الذكر الخفي (6).   (1) ((الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات وتحقيق الرابطة)) (ص 45) بهامش مكتوبات الإمام السرهندي. (2) ((الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية)) (ص 16) لمحمد بن سليمان البغدادي (3) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (ص 63). (4) ((الطرق الصوفية ومشايخها في طرابلس)) (205 - 206) ط: دار الانشاء والصحافة. طرابلس - لبنان. (5) ((المواهب السرمدية)) (ص 113) .. (6) ((الطرق الصوفية في طرابلس ورجالها)) لمحمد درنيقة (ص216) دار الإرشاد والصحافة. طرابلس - لبنان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 194 المطلب الثالث: السجود للكعبة التي تزور الأولياء في الله وقد شبه محمد أمين الكردي الشيخ بالكعبة: «يسجدون إليها والسجود لله: فكذلك الشيخ» (1).وهذا تحريف لمعنى الوسيلة في القرآن. والثابت عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي وابن زيد في قوله تعالى و َابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة: 35] «أي: تقربوا إلى الله بطاعته والعمل بما يرضيه» قال ابن كثير «وهذا الذي قاله الأئمة لا خلاف فيه» (2).والكعبة مسجود إليها عند القوم فقد قال السرهندي الفاروقي شيخ الطريقة النقشبندية ومجددها الأكبر: «إن حقيقة الكعبة الربانية صارت مسجودا إليها للحقيقة المحمدية ... وكما أن صورة الكعبة مسجود إليها لصور الأشياء، كذلك حقيقة الكعبة مسجود إليها لحقائق الأشياء، فإن حقائق الأشياء عبارات عن الأسماء الإلهية ... وحقيقة الكعبة فوق تلك الأسماء» (3). وقد ذكر أن الكعبة قد تذهب للطواف حول أولياء الأمة وتتبرك بهم. قال الغزالي «ومنهم من تأتي الكعبة إليه وتطوف هي به وتزوره» (إحياء علوم الدين 1/ 269) وذكر النبهاني أن الكعبة أتت إلى ابن عربي هي والحجر الأسود وطافت حوله ثم تتلمذت له وطلبت منه ترقيتها إلى المقامات العليا فرقاها، وناشدها أشعارا وناشدته (جامع كرامات الأولياء 1/ 12). قال ابن عابدين النقشبندي: «وفي البحر عن عدة الفتاوى: الكعبة إذا خرجت من أرضها لزيارة أصحاب الكرامة ففي تلك الحال جازت الصلاة إلى أرضها» (حاشية ابن عابدين 1/ 302 المطبعة الأميرية). فهذا إجماع من الصوفية بأجمعهم على أن الكعبة تقتلع من الأرض وتذهب شرقا وغربا حيث مقامات الأولياء وأضرحتهم لتتبرك هي بهم.   (1) ((المواهب السرمدية)) (ص 313) ((الأنوار القدسية)) (ص525). (2) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 52) ((زاد المسير)) (2/ 348) ((فتح القدير)) (2/ 38) ((تفسير الطبري)) (6/ 146 - 147). (3) ((مكتوبات الإمام الرباني)) السرهندي الفاروقي (ص 180) ط: دار الكتب العلمية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 195 المطلب الرابع: علاقات خاصة مع الكعبة وقال محمد المعصوم: «لما دخلت المسجد الحرام رأيت جماعة من الرجال والنساء على غاية من الحسن يطوفون معي باشتياق وتقرب شديد بحيث يقبلون البيت ويعانقونه في كل وقت. أقدامهم على الأرض ورؤسهم بلغت عنان السماء، فتبين لي أن الرجال ملائكة والنساء من الحور العين. ورأيت الكعبة تعانقني وتقبلني باشتياق تام ... ولما فرغت من الحج جاءني ملك بكتاب بقبول الحج من رب العالمين ... ولما دخلت المدينة المنورة، فلما وقفت رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج من الحجرة المطهرة وعانقني ... ثم ظهرت نسبتي: ورأيت جميع العالم من العرش إلى الثرى منورا من نوري. قال الخاني: «وكان هذا الشيخ يوصل الطالب إلى الفناء في أسبوع» (1). بل تكاد العلاقة بينهم وبين الكعبة تكون شيئاً آخر. قال عبد الكبير: «قويت في علاقة المحبة بالكعبة بحيث لم يكن لي صبر ولا قرار في محل آخر. وبينما أنا في الطواف إذ هبت الريح وحركت أستار الكعبة وانكشفت بعض جدرانها فحصل لي منه «كيفية». وظهرت مني صيحة وسقطت مغشيا علي، فلما أفقت قمت بالخجالة والانفعال وتوجهت نحو حضرة الشيخ وأردت أن أشكو إليه بعض ما بي من هذه العلاقة - أي مع الكعبة - فقال لي: يا عجمي: إيش لك مع البيت؟ فبكيت وتوسلت به «بحسب الباطن» فقال: ما ترى في البيت فهو غير محدود بل هو في الجبال وفي الجدار وفي السماء وفي الأرض وفي الحجر وفي المدر: موجود ومشهود بل كل ذلك هو هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو الله الذي لا اله إلا هو» (2).   (1) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) (ص 195) ((المواهب السرمدية)) (ص 213) ((الأنوار القدسية)) (ص196) ((جامع كرامات الأولياء)) (1/ 204). (2) ((رشحات عين الحياة)) (ص139). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 196 المطلب الخامس: اتخاذ الوسيلة على نمط الأديان الأخرى والجواب على هذا السؤال مطابق لما يقوله النصارى حرفا بحرف. فقد أجاب محمد أسعد صاحب زادة عن هذا السؤال قائلا «لما كان الطالب في الابتداء في غاية التدنس، وجناب قدسه تعالى في كمال التقديس، صارت المناسبة التي هي الإفاضة مفقودة، فلا بد من مرشد كامل بصير بالطريق يكون برزخا، ويكون له حظ وافر من الطرفين حتى يصير واسطة لوصول الطالب إلى المطلوب» (1).   (1) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (ص41). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 197 المطلب السادس: من لا شيخ له فهو كافر وفاسق عندهم بل صرحوا بأن كل من لم يتخذ له شيخا فهو عاص لله ورسوله ولا يحصل له الهدى بغير شيخ، ولو حفظ ألف كتاب في العلم (1).بل حكموا عليه بالكفر فقالوا: «من لا شيخ له فشيخه الشيطان، ومتى كان شيخه الشيطان كان في الكفر حتى يتخذ له شيخا متخلقا بأخلاق الرحمن» (2). وهذا شبيه بما نسبه النصارى إلى المسيح أنه قال: «أنا هو الطريق والحق والحياة، ليس أحد يستطيع أن يأتي إلى الأب إلا بواسطتي «(يوحنا 14: 6) وليس في الإسلام شيء يمنع من الوصول إلى الله. ولا واسطة تحول بين الله وبين عباده. نعم، الشيخ ضروري لطلب العلم منه، لا لوضع صورته في الخيال عند الله! ولا لفتح باب الكشف والوحي والاتصال بغير الله.   (1) ((الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية)) (ص 31) لمحمد بن سليمان البغدادي. (2) ((البهجة السنية في آداب الطريقة الخالدية النقشبندية)) (ص 47) لمحمد بن عبد الله الخاني. ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) لمحمد أسعد صاحب زادة: مصر 1311. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 198 المطلب السابع: الطريق إلى الله مسدودة إلا بالشيخ وزعموا أنه لا وصول للمريد إلى الله إلا بواسطة الشيخ لأنه بزعمهم بابه إلى حضرة الله تعالى ووسيلته إليه، وهو نائبه عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: «الوصول إلى الله لا يمكن أن يتم بغير صحبة العالم العارف، بل هو المظهر الذي عينه الله للمريد» (1). فإن الشيخ يجذب المريد جذبة إلى الله تسمى بالجذبة الإلهية ولا تحصيل لهذه الجذبة إلا بصحبة الشيخ (2). والشيخ كالميزاب ينزل الفيض من بحره المحيط إلى قلب المريد (3).   (1) ((أوراد الذاكرين أوراد الطريقة النقشبندية)) (ص6) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (41 و42 و44). (2) ((البهجة السنية في آداب الطريقة الخالدية النقشبندية)) (ص3) لمحمد الخاني ط: مكتبة الحقيقة اسطنبول. (3) ((البهجة السنية في آداب الطريقة العلية الخالدية النقشبندية)) (ص 42) لمحمد بن عبد الله الخاني. ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (ص 43). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 199 المطلب الثامن: نموذج من الشرك في عقيدة الطريقة أما عن الله فيصرحون بأن الصوفي الحقيقي هو الذي لا حاجة له إلى الله. قالوا «وسئل - أي بهاء الدين نقشبند - عن قولهم - أي الصوفية - الفقير هو الذي لا يحتاج إلى الله. فقال: المراد منه كما قال إبراهيم: «حسبي من سؤالي علمه بحالي» (1). وأما إلى غيره من المخلوقات فالحاجة الماسة.   (1) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) (ص 131). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 200 المطلب التاسع: يصرحون بعدم الحاجة إلى الله ولقد صرح كبار الصوفية بعدم حاجتهم إلى الله تعالى فإنه لما سألهم سائل عن علامة الصوفي (الفقير) قالوا «أن لا يكون له إلى الله حاجة» ذكره القشيري والسهروردي (1) وقد استبعدوا أن يكون هناك من يغيث الخلق غير النبي محمد، وقد أخرجوا الرب بذلك من حسابهم: من رغبتهم ورهبتهم. فتوجهوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قائلين: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم يا حبيب الإله خذ بيدي ... ما لعجزي سواك مستندي (2) ماذا تتضمن مجالس ذكر النقشبندية وتتضمن مجالس النقشبندية التوجه إلى النبي وأهل بيته بغفران الذنوب وقضاء الحوائج. وهي مجالس شبيهة بمجالس الشيعة. وإليكم بعض الأناشيد التي يغنونها في مجالسهم يتوجهون فيها إلى أهل البيت. وهنا يخاطبون النبي عليه الصلاة والسلام فيقولون: يا رسول الله وقفت بالذل في أبواب عزكم ... مستشفعاً لذنوبي عندكم بكم أعفر الخد ذلا في التراب عسى ... أن تقبلوني وترضوا عن عبيدكم فإن رضيتم فيا سعدي ويا شرفي ... وإن أبيتم فمن أرجو غيركم أنا المقر بذنبي فاصفحوا كرما ... فبانكساري وذلي قد أتيتكم نسيت كل طريق كنت أعرفها ... إلا طريقا تؤدي لحيكم لا تطردوني فإني قد عرفت بكم ... بين الورى اُدعى بصبكم يا آل طه إني عبد ذليل ... منكم أرجو استتار فضائحي يا آل طه نظرة لي بالنبي ... منكم بها تقضى جميع مصالحي أنتم كرام الدهر كل من التجا ... بجنابكم يا سادتي لم يفضح والله طهركم وأذهب عنكم رجساً ... وفضلكم بطه الأسمح وقالوا: يا من له في الكون من حاجة ... عليك بالتوسل بالسيدة الطاهرة نفيسة والمصطفى جدها ... أسرارها بين الورى ظاهرة في الشرق والغرب لها شهرة ... أنارها ساطعة فاهرة كم من كرامات لها قد بدت ... وكم من مقامات لها فاخرة عابدة زاهدة جامعة ... للخير في الدنيا والآخرة تتلو كتاب الله في لحدها ... وهي لمن قد زارها بعون الله ناظرة في كم من قطر قد سما ذكرها ... عاملة فائقة ماهرة يسقى بها الغيث إذا ما القرى ... قد هطلت في سحبها الماطرة وأما أعداء المسلمين فالأناشيد كفيلة بالقضاء عليهم. يقولون: يا رب بموسى اجعل رأس المشركين منكوسا يا رب بيحيى وزكريا دمر جسور الشيوعية يا رب بحق أيوب خلصنا من الذنوب يا رب بحق داود اقهر أشرار اليهود وقد أنشد عبد المجيد الخاني في الحدائق الوردية يقول للنبي صلى الله عليه وسلم يا شفيع الخلق في اليوم العسير ... ومجير الناس من نار السعير أنت روح الكون لولاك لما ... خلق الأفلاك مولاك القدير أنت مقصود الوجود المصطفى ... أنت بين الرسل البدر المنير وأنا عبد ضعيف مذنب ... مستجير بحماك المستنير وحماك الملجأ المقصود في ... كل حال من صغير وكبير فأغثني يا غياث الأنبياء ... ليس لي غيرك والله نصير واستجب لي وقتي ما أشتكي ... وأجرني منه يا خير مجير يا أبا الزهراء كن لي منقذا ... يوم لا يغني كبير عن صغير من لهذا المذنب العاصي إذا ... لم يجره أحمد الهادي البشير وهو ذخر العالمين المرتجى ... عاصم العاصي من الهول المبير وهو كاف للبرايا كافل ... للعطايا ظاهر المجد ظهير أنا عبد من عبيد الباب بل ... أنا في الأعتاب كلب يستمير بل أنا عبد كلاب سكنت ... طيبة الطيبة النشر العبير عطف الله علينا قلبه ... وجزأه كل خير من نذير حين قلت حيلتي: قلت له ... يا عريض الجاه إني مستجير فهو عوني وهو غوثي وبه ... أتقي اليوم العبوس القمطرير وقال أيضا: وأنت غياث كل الخلق طرا ... وجاهك ذلك الجاه الكبير إذا عطف النبي فكل أمر ... عسير من عواطفه يسير بسطت يدي مفتقرا إليه ... وقلبي بالإجابة لي قرير فحاشا أن يرد يدي صفرا ... ومن أخلاقه الجود الغزير (3) وبينما يقولون عن الله: يا كاشف المهمات يصفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفس الصفة قائلين: محمد زينة الدنيا وبهجتها ... محمد كاشف الغمات والظلم (4) وبينما يخاطبون الله قائلين: يا من يغيث المستغيث ... إن لم تغثنا من يغيث تجدهم في نفس الكتاب يخاطبون محمدا صلى الله عليه وسلم قائلين: ما مد لخير الخلق يدا ... أحد إلا وبه سعدا فلذاك مددت إليه يدي ... وبذلك كنت من السعدا باب لله سما وعلا ... شرفا وامتاز بكل علا والكل بدعوته اتصلا ... بالله وحاز به المددا إني في العسر وفي اليسر ... بحماه الوذ مدى العمر وأقول أغثني يا ذخري ... وأنلني من كفيك ندى (5) ...   (1) ((الرسالة القشيرية)) (ص125) ((عوارف المعارف)) للسهروردي (ص103). (2) ((الحجج والبينات في ثبوت الاستغاثة بالأموات)) (31 - 32)) ط: مكتبة الحقيقة - اسطنبول. (3) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) (20 – 22). (4) ((أوراد الذاكرين أوراد الطريقة النقشبندية)) قارن بين (ص 24) وبين (ص 38) (5) ((أوراد الذاكرين أوراد الطريقة النقشبندية)) قارن بين (ص 36) وبين (ص 62). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 201 المطلب العاشر: عقيدة القبور وللقبر شأن عظيم عند الصوفية عموما، فهو الوسيلة إلى الله، وهو موطن البركات وموضع قضاء الحاجات، والمتوجه إليه في الدعوات. فهذه عقيدة مصدرها ما قاله محمد أمين الكردي: وكل شأن من شؤون العبادة وطلب العلوم والكشوفات مرتبط بالقبور، بل تلقي العلوم وفيضها والبيعة والتكليف واستمداد كل خير مرتبط بالقبر. فإنهم يعتقدون أن الروحانيات تجتمع في ذلك كاجتماعهم في المنام وبعد الممات، وهو عالم اللاهوت الخارج عن عالم الأجسام والأرواح والخلق (1).وقد حصل للشيخ بهاء الدين نقشبند التكليف والولاية حينما اجتمع بسلسلة مشايخ النقشبندية الأموات في المقبرة. وأخذ طريقة الذكر الخفي من الغجدواني الميت في المقبرة (2). «قال بعض المشايخ: إن الله يوكل بقبر الولي ملكا يقضي الحوائج وتارة يخرج الولي من قبره ويقضيها بنفسه» (3). هكذا جاء إسنادها موقوفا على المشايخ ولم يرفعوا السند إلى شيء من كتاب ولا سنة. بل يزعمون أن الولي يخرج من قبره وكأنه ما يزال حيا حياة دنيوية حقيقية. ولهذا صرحوا بأن المقصود من زيارة قبور الأنبياء والأولياء «الزيارة والاستمداد وسؤال المغفرة وقضاء الحوائج من أرواح الأنبياء والأئمة عليهم السلام والعبارة عن هذا الإمداد بالشفاعة» (4).ويناقض ذلك ما جاء في الفتاوى البزازية أن «من قال إن أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر. وقال الشيخ فخر الدين أبو سعيد عثمان الجياني: «ومن ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله واعتقد بذلك فقد كفر» (5). ولا تنسى أن أكثر أتباع هذه الطريقة مقلدون للمذهب الحنفي ومنتسبون إليه ولكن أين هم من هذه الفتوى الحنفية؟ وقد كذبوا على الشافعي وزعموا أنه قال: «قبر معروف الكرخي: الترياق المجرب» (6).وجعلوا الخضر الذي تلقى عنه موسى متمذهبا بالمذهب الشافعي (7).قال الشيخ الكردي: «وما يفعله العامة من تقبيل أعتاب الأولياء، والتابوت الذي يجعل فوقهم فلا بأس به إن قصدوا بذلك التبرك، ولا ينبغي الاعتراض عليهم لأنهم يعتقدون أن الفاعل والمؤثر هو الله، وإنما يفعلون ذلك محبة فيمن أحبهم الله تعالى» (8).وقال الكردي: «ولما مات الشيخ بهاء الدين نقشبند بنى أتباعه على قبره قبة عظيمة وجعلوه مسجدا فسيحا» (9). قال «ولم يزل يستغاث بجنابه ويكتحل بتراب أعتابه ويلتجأ إلى أبوابه (10)».وزعموا أن الله أكرمه بأن جعله في قبره يشفع إلى مسافة مائة فرسخ من جهات قبره الأربع بينما الشيخ علاء الدين النقشبندي يشفع إلى أربعين فرسخا فقط (11).   (1) ((الأنوار القدسية)) (ص7). (2) ((المواهب السرمدية)) (ص113). (3) ((تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب)) (ص410). (4) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (ص38). (5) ((البحر الرائق)) (3/ 94) .. (6) ((الحجج البينات في ثبوت الاستعانة بالأموات المسمى بالدلائل السيفية)) (ص 13) للملقب بـ «محسود الزمان»!!! أبي الأسفار علي محمد البلخي (1981). (7) ((الحجج البينات في ثبوت الاستعانة بالأموات)) (ص27). (8) ((تنوير القلوب)) (ص534). (9) ((المواهب السرمدية)) (ص142). (10) ((الأنوار القدسية)) (ص142). (11) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) (ص 148). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 202 ويقترح الكردي على زائر قبور الأولياء الآداب التالية: أن يسلم أولا على الولي المقبور ثم يقف مستقبلا القبر، مستدبرا القبلة ثم يقرأ الفاتحة مرة واحدة وسورة الإخلاص إحدى عشرة مرة وآية الكرسي مرة ويهب ثوابها إليه ثم يجلس عنده ويجرد نفسه عن كل شيء حتى يصير لوحا ثم يتصور روحانيته نورا مجردا ويحفظ ذلك النور في قلبه حتى يحصل له فيض من فيوضاته. ويستعين على ذلك بالاستمداد من روحانية شيخه أولا وجعلها واسطة بينها وبين المزور» (1).ويستطيع زائر قبور المشايخ الاستفادة منهم وأخذ الفيض والمدد منهم سواء كان قريبا منهم أم بعيدا عنهم فإنه «لا يمنع البعد الصوري في الحقيقة عن التوجه إلى الأرواح المقدسة وبرهان ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((وصلوا علي حيثما كنتم)) (2) (3). محمد بهاء الدين شاه نقشبند وهو رأس الطريقة وتسمى باسمه. يصفه الكردي بأنه «الغوث الأعظم». اجتماعه بالأرواح والأشباح. وكان الشيخ بهاء الدين نقشبند يجتمع بأرواح سلسلة المشايخ النقشبندية وأخذ العهد والولاية والتكليف منهم في المقبرة (4) وتلقن الذكر الخفي من روحانية الشيخ عبد القادر غجدواني، وهذا ليس عجيبا فإن الروحانيات تجتمع بعد الممات وهو عالم اللاهوت الخارج عن عالم الأجسام. قال الخاني «ولم يجتمع بهاء الدين نقشبند مع الغجدواني في عالم الأجسام لأن بينهما خمس وسائط من رجال السلسلة» (5). المصدر: الطريقة النقشبندية لعبد الرحمن دمشقية - ص11 - 31   (1) ((تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب)) (ص 534). (2) رواه أبو داود (2042) , وأحمد (8790) (2/ 367) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: (وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال النووي في ((الأذكار)) (154): إسناده صحيح, وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (6/ 562): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)). (3) ((رشحات عين الحياة)) (ص71). (4) ((المواهب السرمدية)) (ص113). (5) ((الأنوار القدسية)) (ص7). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 203 المطلب الأول: مصادر التلقي عند الطريقة مدار الطريقة على حصول المعرفة وترقي المقامات العليا والفناء في ذات الله الذي لا إخلاص يتم بدونه (1). وليس بتعلم العلم. فإن العلم علمان: علم الوراثة وهو علم الظاهر، وهو يحصل لمن جد واجتهد في طلبه. والعلم اللدني. ويسمى علم الباطن ولا ينال إلا بالتقوى وإليه الإشارة بقوله تعالى وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ [البقرة: 282]. وهذا العلم اللدني يناله العارف بمحض العناية الإلهية وليس بالتعلم (2). بل إن هذا العلم يتلقاه الولي من الحي القيوم بلا واسطة (3).قال السرهندي كبير النقشبنديين «واعتقدوا الأذواق» (4) أي الكشف وما يميل إليه الهوى. وقال الدوسري على هامش المكتوبات بأن الصوفية «علومهم حاصلة من الحق بلا واسطة ... كما قال بعض العارفين مخاطبا لأهل النظر: أخذتم علمكم ميتا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت» (5).وقد خالفوا بذلك صريح قول النبي ((إنما العلم بالتعلم)) (6). زاعمين أن العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا علاقة له بالتقوى. وإنما التقوى هي هذا العلم الباطن الذي يروج له الباطنيون. وهذا كله لا يتم عندهم بالتعلم والتعليم. وإنما يحصل بهذه العوامل: الفيض من أرواح سلسلة رجال الطريقة الأموات. مقابلة قلب الشيخ للمريد. المحاذاة: أي محاذاة الشيخ حيث يسمع ما يقوله ولو من غير الحضور معه فإنه يسمع كلامه كما حكى ذلك الكوثري عن أحمد الكمشخاتلي صاحب (جامع الأصول) (7). المنامات والرؤى والأحلام. المصدر: الطريقة النقشبندية لعبد الرحمن دمشقية - ص33، 34   (1) ((مكتوبات الإمام الرباني)) (2) ((رشحات عين الحياة)) (ص211). (3) ((رسالة في تحقيق الرابطة)) (ص 12) لخالد البغدادي ضمن كتاب: ((علماء المسلمين وجهلة الوهابيين)) (ص12). (4) ((مكتوبات الإمام الرباني)) (ص221) الفاروقي السرهندي 221 ط: دار الكتب العلمية. (5) ((الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات وتحقيق الرابطة)) (309 - 310). (6) رواه ابن أبي عاصم كما في تغليق التعليق (2/ 78) والطبراني في ((الكبير)) (16599) وابن عساكر (1/ 266) قال ابن عساكر [فيه] مكحول لم يدرك معاوية. وقال المنذري ((الترغيب والترهيب)) (1/ 72): فيه راو لم يسم. وقال الحافظ ((الفتح)) (1/ 194): إسناده حسن وقد روي موقوفا. (7) ((إرغام المريد شرح نظم العتيد لتوسل المريد برجال الطريقة النقشبندية)) (ص87). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 204 المطلب الثاني: القبر مصدر التلقي ويحكي النقشبنديون كيفية حصول العلم وتلقي الحكمة من القبور فيقولون: إذا أراد المريد أن يزور قبور الصالحين ويستمد من روحانيتهم المقدسة فينبغي له: أن يسلم على صاحب القبر. أن يقف في طرف اليمين قريبا من رجليه ويضع يده اليمنى على اليسرى فوق سرته ويطرق رأسه على صدره أن يقرأ الفاتحة مرة والإخلاص إحدى عشر مرة وآية الكرسي مرة. أن يتصور روحانيته نورا مجردا عن الكيفيات المحسوسة ويحفظ ذلك النور في قلبه حتى يحصل له فيض من فيوضه (1).وزعموا أن السلف الصالح أباحوا البناء على القبور (2) وهذه كذبة واضحة على الكتاب والسنة وإجماع الصحابة فإنهم ما اختلفوا في تحريم البناء على القبور، واحتجوا في ذلك بكتب الزيدية الذين أفتوا بأنه يكره البناء على قبور غير المشهورين بالولاية. وزاد محمد علي الكردي على ذلك فزعم حرمة البناء على المقبرة إلا لنبي أو شهيد أو عالم أو صالح (3). المصدر: الطريقة النقشبندية لعبد الرحمن دمشقية - ص31، 32   (1) ((السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية)) (ص27) ((البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية)) (43 - 44). (2) رسالة موجهة من محمود حسن ربيع 20 محرم 1381 إلى ملك المملكة العربية السعودية آنذاك ضمن كتاب ((السعادة الأبدية)) ط: مكتبة الحقيقة (ص 15). (3) ((السعادة الأبدية)) (16 - 17). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 205 المطلب الثالث: موقفهم من التعليم والتعلم ومع أن الطريقة مبناها على العلاقة بين الشيخ والمريد فإن الشيخ ليس للتعليم وإنما هو لتحصيل الواسطة وتنظيم العلاقة بين المريد وبين الله ووضع صورة الشيخ في مخيلة المريد. ونحن لا نعلم دينا يوجب صورة شخص كشرط للوصول إلى الله إلا تصاوير هبل ويغوث ويعوق. ولهذا نهى الإسلام عن اتخاذ التصاوير لأن المشركين اتخذوها وسيلتهم للوصول إليه. بل هذا فيه إبطال لقوله تعالى وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186] فالله أقرب إلى المريد من الشيخ، ولم يقل وإذا سألك عبادي عني فإن لي أولياء يجيبون دعوة الداع إذا دعاهم. وفي الحديث ((لتتبع كل أمة ما كانت تعبد)) (1) فيتبع الذين كانوا يعبدون الشمس: صورة الشمس .. وهكذا .... بل يمكن للشيخ أن يربي مريده بالروحانية من غير أن يجتمع به اجتماعا حسيا. وزعموا أن النبي كان يربي أويسا القرني بمثل ذلك (2).   (1) رواه مسلم (183) (2) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (ص 25) (ص33 حسب الترقيم الخطأ). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 206 المطلب الرابع: طعنهم في العلم والعلم عندهم مشغلة لا توصل إلى المطلوب ذلك أنهم يحصلون العلوم الجمة في ساعات وليس كأحمد والشافعي وأبي حنيفة الذين استغرق طلبهم للعلم عشرات السنين. وقد أكدت كتب النقشبندية هذه الحقيقة فحكوا عن أبي يزيد قوله الموجه لأهل الحديث وطلبة العلم «أخذتم علمكم ميتا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت» (1). وحكى القشيري عن أبي بكر الوراق قوله «آفة المريد ثلاث: التزوج وكتابة (الحديث والأسفار)» وذكر أن أحد الصوفية سئل عن سوء أدب الفقير - أي الصوفي - فقال «انحطاطه من الحقيقة إلى العلم» (2). وهل الأموات الذين أخذ عنهم أهل الحديث إلا تابعون أخذوا عن الصحابة وأخذ الصحابة عن رسول الله الذي اشترط الله لطالب الهداية اتباعه فقال وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور: 54] قالوا «فلا سبيل للوصول إلى الله تعالى ولا يقدر أن يتوجه إليه إلا بواسطة الشيخ بل هو أقرب الطرق للوصول إلى الله: والتقرب إلى الله يكون بمشهده ومسجده وبلدته وعصاه وسوطه ونعله. وهذا موجب للقرب إلى الله ومقتض للشفاعة (3).وهذا عودة إلى المبدأ الجاهلي القديم أن القربى إلى الله لا تحصل إلا بوسيط قال تعالى اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٌ [الزمر: 3] وركوب لسنن من كان قبلنا كالنصارى القائلين: المسيح هو الطريق إلى الله لا أحد يمكنه الذهاب إلى الله الأب إلا به (4).وتسمية هذا الوسيط شيخا تعمية وتمويه فإن تعليمه للمريد يمكن أن يكون في دقائق فقد حكوا بأن الوصول عندهم يكون بطريق الجذبة (الدفعة) يدفع الشيخ بها المريد فيصل إلى أقصى المعارف وتزول بها العلقة المظلمة في القلب كتلك التي أخرجها جبريل من قلب النبي صلى الله عليه وسلم (5) والإسلام لا يعرف شيخا لا يعلم بل يكون صورة لوضع صورته في خيال السالك إلى الله! حسبما تدعو إليه النقشبندية بشدة وتدعي أنه من غير وضع صورة الشيخ في مخيلة السالك إلى الله لا يتم الوصول إلى الله ولا يمكن تحصيل المقامات العلا. وقد اعترض على وجوب وضع صورة الشيخ في مخيلة المريد بأنهم لا يمكنهم أن يأمروا المريد بوضع صورة الشيخ في مخيلة المريد إذا كان داخلا في الصلاة. فما الذي يجعل هذا التخيل حراما في الصلاة حلالا في غيرها. وما الداعي إلى رابطة بالله عز وجل غير رابطة الصلاة. المصدر: الطريقة النقشبندية لعبد الرحمن دمشقية - ص35 - 37   (1) ((المواهب السرمدية)) (ص49) ((الأنوار القدسية)) (ص99) ((طبقات الشعراني)) (1/ 5) ((الفتوحات المكية)) (1/ 365) ((تلبيس إبليس)) (ص344) ((الرحمة الهابطة)) (ص309). (2) ((الرسالة القشيرية)) (92 و126). (3) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (ص 26) (حسب الترقيم الخطأ 36) ((المواهب السرمدية)) (ص170) ((الأنوار القدسية)) (ص167). (4) ((يوحنا)) (14: 6). (5) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (ص74). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 207 المطلب الأول: شاه نقشبند يحيي ويميت وكان يكفي الشيخ بهاء نقشبند أن يقول للرجل «مت» فيموت. ثم يقول له «قم حي» فيعود إلى الحياة مرة أخرى. وذكر قصة طويلة في ذلك وأنه ألقي إليه أن يقول لصاحبه مت فمات ثم ألقي إليه أن يقول له عش فأخذت تسري به الحياة شيئًا فشيئًا ثم عاد إلى الحياة (1).وقد اعترف السرهندي أن مريدي الطريقة يقولون «الشيخ يحيي ويميت، وأن الإحياء والإماتة من لوازم مقام المشيخة (2).ويذكر محمد الكردي في تنوير القلوب أن إمداد الشيخ شاه نقشبند لأصحابه حاصل لهم في حياته وبعد موته فلا فرق بين حياته وموته في إمداد أصحابه بكل شيء ودليله قوله تعالى أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران: 144] (3). وكان شاه نقشبند يتمثل هو وكل نقشبندي بأقوال الحلاج ومنها هذا البيت: كفرت بدين الله والكفر واجب ... لدي وعند المسلمين قبيح (4) هذا البيت الشعري مشهور ومتداول في كتب النقشبنديين، كيف يكون فيه شيء من الإيمان من يستحسن نقل هذا الشعر الكفري من الحلاج الذي شهد علماء الأمة أجمعهم بكفره؟!! وسلم أحد الناس عليه فلم يرد عليه السلام ثم اعتذر إليه بعد ذلك بأنه كان مشغولا بسماع كلام الله (5).وسئل عن الأدب فقال: «الأدب ترك الأدب». (6) - أحمد الفاروقي السرهنديلقد بلغ هذا الرجل من التواضع أن فضل النصارى والكفار عامة عليه فزعم أن كفار الإفرنج أفضل منه لأن في الكافر نورانية بسبب امتزاج عالم الأمر فيه بعالم الخلق (7).مع أنه فضل نفسه على أبي بكر الصديق وزعم أنه بلغ في العروج مرتبة ارتفع فيها فوق مقام أبي بكر والخلفاء الثلاثة الآخرين. وأن بعض النقشبنديين يجد نفسه أثناء العروج في مقام الأنبياء أنه عرج إلى ما فوق مقام الأنبياء (8).وكان يقول «كثير ما كان يعرج بي فوق العرش وأرتفع فوقه بمقدار ما بين مركز الأرض وبينه، ورأيت مقام الإمام شاه نقشبند ... قال «واعلم أني كلما أريد العروج يتيسر لي (9)».ويدعي الكشف من الله مع أنه يأتي بما يؤكد أن الكشف من الشيطان فيحتج بأحاديث موضوعة لا أصل لها كحديث ((أكرموا عمتكم النخلة)) (10) (11).وينقل عن بعض الموسوسين «ما لم يصل أحدكم إلى حد الجنون لا يصل إلى الإسلام» (12).ألا صدق الشافعي حين قال «لو أن رجلا تصوف أول النهار لا يأتي الظهر حتى يصير أحمقا، وما لزم أحد الصوفية فعاد إليه عقله أبدا» (13). وزعم أنه التقى بالخضر وإلياس عليهما السلام وسألهما: أنتم تصلون على المذهب الشافعي فأجاباه بأنهما ليسا مكلفين بالشرائع ولكنهما يصليان على المذهب الشافعي وراء حضرة القطب لكونه شافعي المذهب، ولكن: كمالات الولاية موافقة للمذهب الشافعي بينما كمالات النبوة موافقة لمذهب أبي حنفية. ثم نقل عن محمد بارسا (نقشبندي كبير) أن المسيح عيسى عليه السلام إذا نزل آخر الزمان سيعمل بمذهب أبي حنيفة (14).   (1) ((المواهب السرمدية)) (133 - 134)، ((الأنوار القدسية)) (ص137) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) (ص137)، ((جامع كرامات الأولياء)) (1/ 146 - 147). (2) ((المكتوبات الربانية)) للسرهندي (ص 349). (3) ((تنوير القلوب)) (ص500). (4) ((الأنوار القدسية)) (ص134) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) (ص 134) واحتج ((ببيت الشعر)) مرة ثانية (ص 213) واحتج به السرهندي في مكتوباته (ص 282). (5) ((المواهب السرمدية)) (ص130). ((الأنوار القدسية)) (ص 135). (6) ((المواهب السرمدية)) (ص126) ((الأنوار القدسية)) (ص133). (7) ((مكتوبات الإمام الرباني)) السرهندي صفحات (17 و200). (8) ((مكتوبات الإمام الرباني)) (ص176). (9) ((المواهب السرمدية)) (ص184) ((الأنوار القدسية)) (ص182) قال وكانت الكعبة تطوف به تشريفا له ((المواهب السرمدية)) (ص185) ((البهجة السنية في آداب الطريقة الخالدية العلية النقشبندية)) (ص80) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) (ص180). (10) رواه أبو يعلى في ((مسنده)) (1/ 353) , قال ابن عدي في ((الكامل)) (8/ 183): منكر, وقال ابن حبان في ((المجروحين)) (2/ 386): [فيه] مسرور بن سعيد يروي عن الأوزاعي المناكير الكثيرة التي لا يجوز الاحتجاج بمن يرويها, وقال ابن الجوزي في ((الموضوعات)) (1/ 291): لا يصح, وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (2/ 61): [فيه] مسرور بن سعيد التميمي قال ابن عدي منكر الحديث وقال ابن حبان لا يجوز الاحتجاج بمن يرويها, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 92): فيه مسرور بن سعيد التميمي وهو ضعيف, وقال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (263): موضوع. (11) ((مكتوبات الإمام الرباني)) (ص142) وانظر ((حول تفضيل نفسه على أبي بكر)) (ص 17). (12) ((مكتوبات الإمام الرباني)) (ص144). (13) ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص 371). (14) ((مكتوبات الإمام الرباني)) (ص 305 المكتوب رقم 282). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 208 المطلب الثاني: هل يحب رسول الله علم الكلام؟ وبينما يحذر محمد الخاني في البهجة السنية من علم الكلام قائلا «وإياك وتقليد أهل الكلام فإنهم ملعبة الشيطان، يدعي أحمد السرهندي الفاروقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشره «بأنك من المجتهدين في علم الكلام» (1). وزعم أن الله ألقى إليه قائلا «إني قد غفرت لك ولمن توسل بك إلي بواسطة أو بغير واسطة إلى يوم القيامة. وقال «أريت الكعبة المطهرة تطوف بي تشريفا منه تعالى وتكريما لي» (2).ولا يخلو كتاب صوفي من ذكر طواف الكعبة حول الأولياء، ومن عقيدة أهل السنة عند الكوثري جواز ذلك (3) وأن الله تعالى أعطاه التصرف حتى لو أنه توجه إلى خشبة يابسة لاخضرت وأنه نظر مرة إلى السماء وهي تمطر فقال لها: أقلعي إلى وقت كذا. فحبس المطر إلى ذلك الوقت. وأن روحانية علي بن أبي طالب جاءته وقال له سيدنا علي: إني بعثت إليك لأعلمك علم السموات. فجمعه بروحانية أبي حنيفة والشافعي وبجميع أساتذتهم فأفاضوا عليه من بركاتهم حتى استغرق في أنوارهم (4).   (1) قارن بين ((البهجة السنية)) (ص14) وبين ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) (ص181). (2) ((المواهب السرمدية)) (ص185). (3) ((إرغام المريد شرح نظم العتيد لتوسل المريد برجال الطريقة النقشبندية)) (ص51). (4) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) (ص 182). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 209 المطلب الثالث: من الحيوانات شيوخ الطريقة وحتى الحيوانات فإن منها من وصل إلى درجة الولاية الكاملة واعتبر عند الطريقة النقشبندية من شيوخ الطريقة، قال محمد بن عبد الخاني النقشبندي «وأما الحيوانات فلنا منهم شيوخ: ومن شيوخنا الذين اعتمدت عليهم: الفرس، فإن عبادته عجيبة، والبازي والهرة والكلب والفهد والنحلة وغيرهم: فما قدرت أن أتصف بعبادتهم على حد ما هم عليها فيها» (1).   (1) ((البهجة السنية في آداب الطريقة العلية الخالدية النقشبندية)) (ص 6) لمحمد بن عبد الله الخاني. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 210 المطلب الرابع: زعمهم أن الله يتشكل بأشكال الحيوانات حكى صاحب الرشحات أن الشيخ بهاء الدين عمر كان يركب فرسا أبيض في كل الأوقات فسئل عن ذلك فأجاب بأن اختياره للفرس الأبيض لأن بعض التجليات الصورية مشهودا له كذلك. فمثلا وقع التجلي الصوري لموسى في شكل شجرة بالوادي المقدس ووقع التجلي الصوري لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في صورة شاب مخطط الوجه، وقال الشيخ محي الدين ابن عربي: رأيت ربي على صورة الفرس. قال: وهكذا فالسالكون يرون الحق سبحانه بالتجليات الصورية، حتى إنه يتجلى في جميع صور الأشياء من معادن ونباتات وحيوانات وإنسان ... وغاية التجلي الصوري وأفضله أن يتجلى الله للسالك في صورة صاحب التجلي ... ومنشأ هذا الظهور قول القائل: سبحاني وأنا الحق، وما في الجبة إلا الله، وهل في الدارين غيري، وأمثال ذلك من أدلة حصول التجلي (1).ويحكي النقشبنديون قصة متواترة بينهم عن بدايات سلوك محمد بهاء الدين نقشبند طريق التصوف فذكروا أن شيخه أمره أن يشتغل بخدمة الكلاب ومداواتهم قال «فنهضت بأعباء هذه الخدمة سبع سنين. حتى كنت إذا لاقاني في الطريق كلب وقفت حتى يمرّ هو أولا، ثم بعد ذلك أمرني أن أشتغل بخدمة كلاب هذه الحضرة بالصدق والخضوع وأطلب منهم الإمداد. وقال: إنك ستصل إلى كلب منهم تنال بخدمته سعادة عظيمة. فاغتنمت نعمة هذه الخدمة ولم آل جهدا بأدائها حسب إشارته. حتى وصلت مرة إلى كلب، فحصل لي من لقائه أعظم حال فوقفت بين يديه واستولى عليّ بكاء شديد فاستلقى (الكلب) في الحال على ظهره ورفع قوائمه الأربع نحو السماء فسمعت له صوتا حزينا وتأوها وحنينا فرفعت يدي وجعلت أقول آمين حتى سكت وانقلب ... ووجدت حرباء فخطر لي أن أطلب منها الشفاعة فاستلقت على ظهرها وتوجهت إلى السماء، وأنا أقول آمين» (2). وهذه القصة ما زالت متداولة ومتناقلة بين النقشبنديين في مجالسهم، ولم تعد شيئا منسيا. فقد احتج بها أحد مشايخ النقشبنديين في لبنان في محاضرة له مسجلة بصوته. وهو المسمى رجب ديب.   (1) ((رشحات عين الحياة)) (133 - 134). وكتاب الرشحات معتمد عند سادة الطريقة النقشبندية ولكن أكثر عوامهم لا يعلمون. فقد احتج به السرهندي الفاروقي النقشبندي والكوثري والخاني واستحسنه واحتج به خالد البغدادي في ((رسالة في تحقيق الرابطة)) (ص 3) في حين أن هذا الكتاب مليء بكفر ظاهر لا يقبله مسلم ومع ذلك فإن النقشبنديين يثنون عليه ويحتجون به. وانظر ((البهجة السنية في آداب الطريقة العلية الخالدية النقشبندية)) (ص 48) لمحمد بن عبد الله الخاني، وانظر كتاب ((إرغام المريد في شرح النظم العتيد لتوسل المريد برجال الطريقة النقشبندية)) (ص60) ((مكتوبات الإمام الرباني)) (13 و198) ((الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات وتحقيق الرابطة)) لحسين الدوسري ط: دار الكتب العلمية بهامش مكتوبات السرهندي (27 و106). كل هذه كتب نقشبندية معتمدة ومعروفة عند القوم وهي التي كانت تحيل إلى هذا الكتاب وتمدح مؤلفه من غير أن تعترض على شيء فيه. (2) ((المواهب السرمدية في مناقب النقشبندية)) لمحمد أمين الكردي (118 - 119) ((الأنوار القدسية في مناقب النقشبندية)) (ص130) لعبد المجيد الخاني جمع إبراهيم السنهوتي. ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) (ص130) ((البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية)) (ص 73). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 211 المطلب الخامس: أقوال صريحة في الكفر ومن الكفر الصريح ما حكاه صاحب الرشحات قال «جاء مولانا - سعد الدين - يوما حجرتي ورأى مصحفا في الرف: فقال ما هذا الكتاب؟ فقلت: هو مصحف. قال: إن ذلك من علامة البطالة فإن تلاوة القرآن وظيفة المتوسطين. والصلاة شغل المنتهين وأهم المهمات للمبتدئين: الاشتغال بالنفي والإثبات وترك الأهم، والاشتغال بغيره بطالةكمن يقرأ الفاتحة في القعود زعما منه أنها أم القرآن» (1).وقال صاحب الرشحات «قال مولانا - سعد الدين - كان لي أب يمشي في الماء ويضع قدمه على الهواء ولكن لم يكن له رائحة من التوحيد. وحضر مرة مجلسه كثير من الأكابر والعلماء فقال الشيخ: إن الله سبحانه ليس بعالم للغيب، فانفجع أكثر الحاضرين من هذا الكلام وارتعدت فرائصهم حتى تغطى البعض بثوبه من الخوف لكونه خلاف نص التنزيل «بحسب الظاهر» (2).وقد أقر السرهندي أن قائل هذا الكلام هو عبد الكريم اليمني وابن عربي (3).   (1) ((رشحات عين الحياة)) (ص 148). (2) ((رشحات عين الحياة)) (ص 153). (3) ((مكتوبات الإمام الرباني)) (ص 106) المكتوب المائة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 212 المطلب السادس: الرب عندهم يصلي!!! ومن مراتب ومقامات الولاية عند النقشبندية مرتبة: حقيقة الصلاة. وهي مرتبة عالية جدا. قالوا «ولعل فيما ورد في قصة المعراج «قف يا محمد فإن الله يصلي» إيماء إلى حقيقة هذه المرتبة» ثم انتهى إلى أن الله «في الحقيقة هو العابد والمعبود» (1). وهذا تصريح بموافقة ابن عربي في قوله: الرب عبد والعبد رب ... يا ليت شعري من المكلف ولقد قال أحد النقشبنديين في لبنان (أحمد بدر الدين حسون) في خطبة له مسجلة عن الإسراء والمعراج فذكر هذه العبارة أن الله يصلي ثم قال: فيا تارك الصلاة، ألا تتشبه بربك؟ ألا تقتدي بربك؟ إن ربك يصلي وأنت لا تصلي؟. فها قد زعم النقشبنديون أن الله يصلي فماذا تنتظرون يا مسلمين بعد ذلك. هذه مقولة شنيعة لم يقل بمثلها الكفرة ولا المجوس. وأن الله هو العابد وهو المعبود. ونقل السرهندي أن السلطان محمود الغزنوي أرسل إلى أبي الحسن الخرقاني النقشبندي يذكره بطاعة أولي الأمر فلما قرأ عليه أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59] , قال إني مشغول بطاعة الله بحيث لم أفرغ بعد لطاعة رسول الله» (2). الجامي يصرح: لا مبدأ ولا معاد قال السرهندي «ورأيت جماعة من المريدين يستشهد بشعر مولانا عبد الرحمن الجامي قدس الله سره: ما مبدأ ولا معاد صاح إلا وحدة ... ما نحن في ذا البين إلا كثرة موهومة (3) ...   (1) كتاب ((السبع الأسرار في مدارج الأخيار)) (ص 83) لمحمد معصوم العمري النقشبندي. (2) ((مكتوبات الإمام الرباني)) السرهندي (ص134). (3) ((المكتوبات الربانية)) للسرهندي (ص354). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 213 المطلب السابع: مقام الجهل بالله أما ثمرة وغاية الذكر عندهم حصول الجهل بالله والانتهاء إلى التصريح بأنهم يذكرون من لا يعرفون. قال «مولانا» علاء الدين «سألني الشيخ عبيد الله أحرار عن الذكر قلت: لا إله إلا الله. قال: ما هذا ذكر: هذا عبارة. قلت: فما هو عندك؟ قال: أن تعرف بأنك لا تقدر أن تعرفه. ثم قال: ينبغي - على السالك - أن يقبل ويتوجه إلى الجهل وأن ينوي الصلاة هكذا: أعبد الله الذي لا أعرفه: الله أكبر» (1).   (1) ((رشحات عين الحياة)) (ص139). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 214 المطلب الثامن: كفر آخر وأعظم من ذلك ما حكاه صاحب الرشحات أن الشيخ الجامي النقشبندي سأل أحد مريديه «ما يقول شيخكم حين يغضب عليكم؟ قال: يقول: إذا حضرتم عندي تكونون على حذر مني وإذا خرجتم من عندي تنسون الله ولا تعرفونه أبدا! قال الشيخ: فما تقولون له حينئذ؟ قال: نسكت ولا نرد شيئًا. قال الشيخ: يا عجبا ليست عندكم همة. ينبغي لكم أن تقولوا: نحن لا نعرف الله بل نعرفك أنت».وقال لهم مرة «كان الله ولم نكن نحن. ويكون الله ولا نكون. والآن نحن معدومون أيضا والله موجود (1).   (1) ((رشحات عين الحياة)) (ص140). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 215 المطلب التاسع: مقام الخمر والسُكر وكعادة السرهندي يعتذر عن مثل هذه الأقوال بأنها حصلت في حالة سكر الولي وغياب عقله. وهو عذر أقبح من ذنب. ويتغنون بمقام السكر والخمر ومدح المخمورين. (1) فيقولون كما ذكر الكردي: فيا حادي العشاق قم واحْدُ قائما ... ودندن لنا باسم الحبيب وروحنا وصُن في سرنا سُكرنا عن حسودنا ... وإن أنكرت عيناك شيئًا فسامحنا فإنا إذا طبنا وطابت قلوبنا ... وخامرنا خمر الغرام تهتكنا فلا تلم السكران في حال سكره ... فقد رفع التكليف في سكرنا عنا وسلم لنا فيما ادعيناه إنا ... إذا غلبت أشواقنا ربما بحنا وقد اعترف السرهندي كبير النقشبنديين صدور فظائع الكلام من مشايخ الطريقة النقشبندية، كقولهم بأن الولي أفضل من النبي وقول الواحد منهم أنا الحق وسبحاني ما أعظم شأني. ولكنه بررها فقال «وما وقع في عبارات مدح الكفر والترغيب في شد الزنار فمصروف عن الظاهر المتبادر فإنهم معذورون بغلبة السكر في ارتكاب هذه المحظورات» (2) السرهندي يعتبر الإنسان على صورة الله واعتبر السرهندي أن الإنسان نسخة جامعة من عالم الإمكان بطريق الحقيقة، ومن طريق الوجوب بطريق الصورة أن الله خلق آدم على صورته. قال: فالله خلق آدم على صورته وهو منزه عن الشبيه والمثلية: فكذلك خلق الله روح آدم التي هي خلاصته على صورة لا شبيهة ولا مثلية. وكما أن الحق سبحانه لا مكاني: فكذلك الروح لا مكانية. ونسبة الروح إلى العالم كنسبة الله تعالى: لا داخلة في العالم ولا خارجة عنه ولا متصلة به ولا منفصلة عنه ... وانتهى إلى أن خلق العالم يدل على أصله. وصرح بأن كمالات الإنسان مستفادة من كمالات الرب ومن هنا ورد أن الله خلق آدم على صورته ومعنى من عرف نفسه عرف ربه. فلا جرم كان الإنسان خليفة الرحمن ولا عجب: فإن صورة الشيء خليفة الشيء. وما لم يُخلق على صورة شيء لا يليق بخلافه شيء (3). ووصف القلب بالعرش المجيد وأنه لو ألقي عرش الرحمن وما فيه في زاوية من قلب العارف لما أحس به صاحبه لأن القلب جامع للعناصر والأفلاك والعرش والكرسي ... بل لصار العرش مضمحلا ومتلاشيا، ومن هذا القبيل كلام بعض المشايخ الذين صدر عنهم وقت غلبة السكر كقولهم: إن الجمع المحمدي أجمع من الجمع الإلهي» (4). وللتعريف بمعنى الشهود عند النقشبندية يقرر صاحب الرشحات أن للشهود معنيين: أحدهما: شهود الذات المبرأة عن الظهور في لباس المظاهر. يفسر الكوثري ذلك أكثر بما نقله عن الإمام الرباني في مكتوباته أن الكمال في «التوحيد الوجودي: ظهور أن العبد والرب: رب» (5). ولهذا يقسم النقشبنديون التوحيد إلى قسمين: 1 - توحيد وجودي: بمعنى أن تؤمن أنه لا موجود إلا واحد وهو الله. وأن كل ما سواه معدوم. قاله السرهندي. أضاف: ومثل هذا التوحيد قول الحسين بن منصور الحلاج: أنا الحق، وقول أبي يزيد: سبحاني ما أعظم شأني (6). 2 - توحيد شهودي: أن لا تشاهد في الكون إلا الله. وإذا كان ما سوى الله معدوما وهو كالظل، لا وجود حقيقي له ففعل ما سوى الله أيضا ليس فعلا حقيقيا وإنما هو فعل الله في الحقيقة.   (1) ((تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب)) (ص492). (2) ((مكتوبات الإمام الرباني)) السرهندي (ص 33) وكذلك (ص114). (3) ((مكتوبات الإمام الرباني)) السرهندي (ص373) وكذلك (ص326) حول النص الذي قبله. (4) المكتوبات الربانية المسماة ب ((المكتوبات الشريفة)) (ص 100) وانظر (ص236) ط: دار الكتب العلمية. (5) ((إرغام المريد شرح نظم العتيد لتوسل المريد برجال الطريقة النقشبندية)) (ص71). (6) ((مكتوبات الإمام الرباني)) المسمى ب ((المكتوبات الربانية)) (ص 56). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 216 نعم أقر السرهندي هذا القول فزعم أنه لما كانت إرادة البشر مخلوقة لله تعالى من غير تأثير لها في حصول المراد كانت تلك الإرادة كالميت ... فلذلك فالتأثير أيضا مخلوق فيها ... ففي تأثيرها لا اختيار له أصلا فيكون تأثيرها كالجماد، ثم انتهى إلى التصريح بأن المؤثر في الأفعال إنما هو قدرة الله تعالى لا تأثير لقدرة المخلوق كما هو مذهب علماء المتكلمين (1). وهؤلاء يصيحون في وجه ابن تيمية: من أين لك تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات؟ أما أن يقسموا التوحيد إلى قسمين كل منهما ينفي وجود ما خلق الله ويجعلون الخالق والمخلوق شيئًا واحدا فهذا تقسيم مشروع! ويصرح صاحب كتاب (مدارج السبع) بأن «الصوفية الوجودية هم القائلون بوحدة الوجود مثل الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي وغيره رحمهم الله الذين كانوا أرباب التوحيد، وأنهم معذورون لغلبة حالهم» (2). فالتوحيد لفظ شرعي شريف صار هؤلاء يطلقونه ويصطلحون فيما بينهم على أن معناه وحدة الوجود. فلا تغتر بلفظ التوحيد إذا ذكره النقشبنديون فإنهم يريدون به الفناء بالله ووحدة وجود الممكن بالواجب. تعالى الله عما يقولون.   (1) ((مكتوبات الإمام الرباني)) (ص 14) وكذلك أنظر (ص 28). (2) كتاب ((السبع الأسرار في مدارج الأخيار)) (48 - 50) ط: شركة مرتبيه مطبعة سي - استانبول 1331. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 217 المطلب العاشر: البشر عند النقشبنديين ظلال أسماء الله وصفاته ويحكي السرهندي أنه بالوصول إلى العالم العلوي ينتهي إلى امتزاج العدم بالوجود الذي هو منشأ الإمكان ... وبالسير إلى الله تتم دائرة ظلال الأسماء الواجبة ويحصل للسائر الوصول إلى مرتبة الأسماء والصفات، وفي هذا الموطن يتحقق الشروع في حقيقة الفناء. فإن هذه الأسماء هي في الحقيقة كالحجب، ساترة لوجه حضرة الذات تعالت وتقدست (1).ثانيهما: شهود الذات من لباس المظاهر من غير وصف الكثرة بل بنعت الوحدة ويقال لهذا الشهود عند الصوفية شهود الأحدية في الكثرة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الشهود بعد البعثة» (2). وقد عبر نقشبندي آخر وهو محمد مصطفى أبو العلا عن هذا الشهود بقوله «فإذا داوم المريد على المراقبة ترقى إلى مرتبة المشاهدة بأن ينكشف له بعين البصيرة أن أنوار وجود وحدة الذات الإلهية محيطة بجميع الأشياء وأنه تعالى متجل بصفاته وأسمائه في مصنوعاته» (3).قال صاحب الرحمة الهابطة: «قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري: قد يصدر عن العارف بالله إذا استغرق في بحر التوحيد بحيث تضمحل ذاته في ذاته وصفاته في صفاته». وذكر تندم اللقاني (4) على قتل الحلاج وأن قاتله لو فهم مقصوده من كلامه لما وجد مساغا لقتله (5).بل صرح مشايخهم كالسرهندي وغيره بأن «سائر الموجودات مظاهر الأسماء الإلهية ومرايا شؤوناته وكمالاته الذاتية» وأن هذا العالم إنما هو مظهر لظهور كمالات الأسماء والصفات الإلهية (6). وأن الله كان كنزا مخفيا فأراد أن يعرض نفسه من الخلاء إلى الملاء. وأن أشخاص العالم ظلال الأسماء والصفات حيث يخرج السالك عن أوصافه ويتصف بأوصاف ذلك الظل، وإن حصل للسالك الترقي عن هذا الظل ينصبغ بلونه ويصل إلى الأصل الذي هو اسم من الأسماء الإلهية: وحينئذ تصير القطرة بحرا والحصاة جبلا ... فلما حصل للسالك الفناء والبقاء: صار بحرا وجبلا» وهذا عندهم هو السير للتحلي بأسماء الله وصفاته ويسميه السرهندي «السير الأسمائي والصفاتي» ويحدد هذا السير بأنه «نهاية عروج الأنبياء والأولياء أولا إلى أسماء إلهية هي مبادئ تعينات وجودهم» (7).ويقول عبيد الله أحرار: «كمال الحمد أن يحمده العبد ويعرف أنه لا حامد إلا هو تعالى. وأنه - أي العبد - عدم محض لا رسم له ولا اسم ولا فعل وإنما يبتهج سرورا بكونه تعالى جعله مظهرا لصفاته (8) ... فإنه إذا تجلى الحق على قلبه - أي السالك - بالتجلي القهري يمحو منه الغير والسوا، فلا يبقى فيه إلا هو (9) فلا جرم يسمع في هذا القلب: لمن الملك اليوم لله الواحد القهار، وسبحاني ما أعظم شأني وأنا الحق وهل في الدارين غيري» (10). وقد أورد صاحب (الرشحات) تساؤلا أبداه أحد الحاضرين للشيخ سعد الدين النقشبندي ونصه ما يلي «إذا كان لا وجود غير وجود الحق سبحانه الذي هو الوجود المطلق وأن الظاهر في لباس المظاهر واحد: فما معنى مخالفة أهل الإسلام لأهل الكفر ومنازعتهم إياهم؟ أجاب الشيخ: لما كان وجود الحق سبحانه الذي هو الوجود المطلق الذي لا وجود غيره عند محققي الصوفية مقترنا بالتعينات والنسب والاعتبارات ونحوها من النعوت التي تلحقه بواسطة تعلقه بالمظاهر: جرى كل واحد من أفراد الممكنات بمقتضى مبدأ تعينه الذي هو حقيقته فأفضى ذلك إلى نزاع موسى عليه السلام بموسى السامري لاختلاف مبدأ تعينهما. فإذا ارتفعت تلك النسب والاعتبارات بحكم (وإليه يرجع الأمر كله) يرجع موسى إلى الاتفاق كما كانا على ذلك قبل عروض التعين والمراد بموسى الثاني هو السامري، فإن اسمه موسى أيضا فإن أمه ربته بين الجبال فرباه جبريل عليه السلام كما قيل: إذا الطفل لم يكتب حنينا تخلفت ... ظنون مربيه وخاب المؤمل فموسى الذي رباه جبريل كافر ... وموسى الذي رباه فرعون مرسل (11). ...   (1) ((مكتوبات الإمام الرباني)) (ص240) وانظر أيضا (ص 242). (2) ((رشحات عين الحياة)) (ص213) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (ص 41). (3) ((رسائل القصور)) (مجموعة رسائل الغزالي) بتحقيق محمد مصطفى أبي العلا (4/ 183). (4) هو إبراهيم اللقاني الملقب بالبرهان وهو صاحب كتاب ((جوهرة التوحيد)) المقرر في التدريس بالأزهر يتغزل بالحلاج ويتندم على قتله. ومع ذلك تعتمد أكبر مرجعية علمية كتبه! (5) ((الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات وتحقيق الرابطة)) (125 - 126). (6) ((مكتوبات الإمام الرباني)) (ص 121) وكذلك انظر (ص 42 و43 و326) وانظر ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (ص 83). (7) كتاب ((السبع الأسرار في مدارج الأخيار)) (ص 55) لمحمد معصوم العمري النقشبندي وانظر ((مكتوبات الإمام الرباني)) (ص 198) وانظر (ص 192). (8) أنظر ((مكتوبات الإمام الرباني)) للسرهندي الفاروقي النقشبندي (ص43). (9) و «هو» عندهم من أسماء الله الحسنى!!! (10) ((الأنوار القدسية)) (161 - 162). (11) ((رشحات عين الحياة)) (ص 213). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 218 المطلب الحادي عشر: تصريحهم بوحدة الوجود كان بعض النقشبنديين يعتبون علي ويقولون: أنت تتصدى لمن يقولون لا إله إلا الله. لماذا لا تكرس جهودك ضد أعداء التوحيد وتترك الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وشأنهم؟! ولكن ماذا تعني لا إله إلا الله عند هؤلاء؟ ولقد قال النقشبنديون: «معنى كلمة لا إله إلا الله بالنسبة إلى حال المنتهين: لا معبود إلا الله. وبالنسبة إلى حال المتوسطين: لا مقصود إلا الله. وبالنسبة إلى حال المبتدئين: لا موجود إلا الله» (1).يقول صاحب الرشحات: «قال بعض الأكابر في معنى لا إله إلا الله: أحيانا يقول في مرتبة سلوكه: لا معبود إلا الله وأحيانا لا مقصود إلا الله وأحيانا لا موجود إلا الله» (2).وذكروا أن (لا إله إلا الله) ذكر العوام. و (الله) ذكر الخواص و (هو) ذكر خواص الخواص (3). هكذا جعلوا (هو) أفضل وأعلى مرتبة في الذكر من لا إله إلا الله. فهم يقولون: لا إله إلا الله ويفهمون أن الموجود الحقيقي ولا غير هو الله بل هو متجل في صور المخلوقات التي نراها كلها!!! ويستحق المرء عندهم أن يوصف بأنه عالم بعلم التوحيد «إذا اعتقد توحيد الأفعال والصفات والذات وتقرر في قلبه أن لا فاعل في الوجود إلا الله. فحينئذ يقال لمثل هذا: إنه عالم بعلم التوحيد» (4). المصدر: الطريقة النقشبندية لعبد الرحمن دمشقية - ص 38 فما بعدها   (1) كتاب ((السبع الأسرار في مدارج الأخيار)) (ص86). (2) ((رشحات عين الحياة)) (ص141). (3) ((رشحات عين الحياة)) (ص185) ((المواهب السرمدية)) (ص162). (4) ((رشحات عين الحياة)) (ص211). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 219 المطلب الأول: الطريقة النقشبندية على ثلاث طرق وقد قسم شيخ الطريقة النقشبندية السرهندي الطريقة النقشبندية إلى ثلاث طرق: الأولى: قائلون بأن العالم موجود في الخارج بإيجاد الحق. الثانية: يقولون بأن العالم ظل الحق سبحانه. وأن الوجود قائم بوجود الحق قيام الظل بالأصل. مثلا: إذا امتد الظل من شخص وجعل ذلك الشخص من كمال قدرته وصفات نفسه منعكسة فيه».وقد زعم السرهندي أنه غلبته الحال حتى وصل إلى مقام الظلية ووجد نفسه وسائر العالم ظلا كما تقول به الطائفة الثانية من النقشبندية. ظنا منه أن الكمال في وحدة الوجود (1). الثالث: قائلون بوحدة الوجود. أي في الخارج موجود واحد فقط: وهو ذات الحق ... ويقولون: إن الحق متصف بصفات وجوبية وإمكانية، ويثبتون مراتب التنزلات، ويقولون باتصاف الذات الواحدة في كل مرتبة وأحكام لائقة بتلك المرتبة، ويثبتون للذات التلذذ والتألم، ولكن لا بالذات بل في حجب هذه الظلال المحسوسة الموهومة. ويلزم من هذا محظورات كثيرة شرعا وعقلا ... وهؤلاء الطائفة وإن كانوا واصلين كاملين ولكن كلامهم دل على طريق الضلالة والإلحاد وأفضاهم إلى الزندقة والإلحاد. فحكم بأن قولهم عين الزندقة والضلال ثم وصفهم بأنهم من الواصلين الكاملين (2). مع أنه اعتذر عن القائلين بوحدة الوجود بأن قولهم بوحدة الوجود سببه السكر وغلبة المحبة لله (3).غير أنه وافقهم على ذلك في كثير من أقواله، فزعم أنه لما وصل إلى مقام الفناء في الله «رأيت نفسي وكل فرد من أفراد العالم بل كل ذرة منه: الحق جل وعلا ورأيت نفسي عين جميع الذرات حتى وجدت تمام العالم مضمحلا في ذرة واحدة ... ثم وجدت صور العالم وأشكاله عين الحق تعالى موهومة ... فتذكرت عبارة (الفصوص) (4) حيث قال: «إن شئت قلت: إنه أي العالم حق، وإن شئت قلت: إنه خلق. وإن شئت قلت: إنه حق من وجه ومن وجه خلق ... وبعد ما شرفت بعد الفناء بالبقاء لم أجد غير الحق ووجدت جميع الذرات مرآة لشهوده سبحانه. ولما رجعت إلى نفسي وجدت الحق سبحانه مع كل ذرة من ذرات وجودي» (5). واعترف بأن عبارة (الفصوص) مشعرة بعدم التمييز بين الله وبين خلقه. وقد صدق في اعترافه هذا. وقد تقدم اعتراف مؤلف نقشبندي آخر بأن «الصوفية الوجودية هم القائلون بوحدة الوجود مثل الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي وغيره رحمهم الله الذين كانوا أرباب التوحيد، وأنهم معذورون لغلبة حالهم» (6). السرهندي يقول: وجدت الله عين نفسي. يقول أحمد السرهندي: «وجدت الله عين الأشياء كما قاله أرباب التوحيد الوجودي من متأخري الصوفية ... ثم وجدت الله في الأشياء من غير حلول وسريان، ثم وجدته سبحانه معها بمعية ذاتية، ثم رأيته بعدها ثم قبلها ثم رأيته سبحانه وما رأيت شيئًا وهو المعني بالتوحيد الشهودي وهو المعبر عنه بالفناء فوجدت الله عينها بل عين نفسي، ثم وجدته تعالى في الأشياء بل في نفسي ثم مع الأشياء بل مع نفسي» (7).وسئل شاه نقشبند عن قول البعض «إذا تم الفقر فهو الله». فقال: هذا إشارة إلى الفناء. وأنشد يقول (8):   (1) ((مكتوبات الإمام الرباني)) (ص141). (2) ((مكتوبات الإمام الرباني)) السرهندي (138 - 139). (3) ((مكتوبات الإمام الرباني)) (ص342). (4) أي ((فصوص الحكم)) لابن عربي الذي قال فيه الذهبي «إن لم يكن فيه كفر: فليس في العالم كفر». (5) ((مكتوبات الإمام الرباني)) (ص334). (6) كتاب ((السبع الأسرار في مدارج الأخيار)) (48 - 50) ط: شركة مرتبيه مطبعة سي - استانبول 1331. (7) ((المواهب السرمدية)) (ص182) ((الأنوار القدسية)) (ص181) ((البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية)) (ص78). (8) ((المواهب السرمدية)) (ص124) و ((الأنوار القدسية)) (ص132). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 220 من كان لم تكن ... لم يك إلا الله وإذا فنيت من بقي ... لم يبق إلا الله وقد تركوا للحلاج تبيين معنى وحدة الشهود فقالوا: هو كقول الحلاج: أنا الحق. وقول أبي يزيد: سبحاني (1).ومقصودهم بالتوحيد الوجودي وحدة الوجود بين الله وخلقه. والدليل على ذلك قولهم: إنه يجب على الشيخ أن يشغل المريد في ابتداء أمره بظواهر الشريعة ويغلق عليه باب الكلام في التوحيد المطلق. فإن من فتح هذا الباب على مريديه ربما تزندقوا فخسروا الدارين (2). ونحن نسأل كيف يؤدي التوحيد وعبادة الله إلى أقوال الزندقة إلا أن يكون للتوحيد عندهم معنى آخر وهو وحدة الوجود. وبالطبع، الكلام عن التوحيد على منهج الأنبياء لا يؤدي إلى الزندقة وخسارة الدارين بل من حقق التوحيد دخل الجنة. وإنما التوحيد عند النقشبندية عبارة عن وحدة الوجود ويسمونه توحيدا: تمويها وخوفا من التشنيع والتكفير (3).وقال في (تنوير القلوب) «قال أبو سعيد الخراز: إذا أراد الله أن يوالي عبدا من عبيده فتح عليه باب ذكره. فإذا استلذ الذكر فتح عليه باب القرب. ثم رفعه إلى مجالس الأنس. ثم جعله على كرسي التوحيد (4). ثم رفع عنه الحجاب وأدخله دار الفردانية وكشف له حجاب الجلال والعظمة. وإذا وقع بصره على الجلال والعظمة بقي بلا هو فحينئذ يصير العبد زمنا فانيا. ثم أنشد صاحب (التنوير) يقول: وبعد الفناء في الله كن كيفما تشاء ... فعلمك لا جهل وفعلك لا وزر (5) يقول شيخهم محمد بارسا: «إن حقيقة الذكر عبارة عن تجليه سبحانه لذاته بذاته في عين العبد» (6). وهكذا يصبح الذاكر عندهم عين المذكور وبالعكس. ويفسر عبيد الله أحرار قول الله تعالى: فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا [النجم: 29] أي أعرِض عمن استغرق واستهلك في ذات الله. واحتج بما قاله محيي الدين بن عربي: ألا بذكر الله تزداد الذنوب ... وتنطمس البصائر والقلوب وترك الذكر أحسن منه حالا ... فإن الشمس ليس لها غروب (7) - حكى صاحب (الرشحات) أن السالكين يرون الحق سبحانه بالتجليات الصورية، حتى أنه يتجلى في جميع صور الأشياء من معادن ونباتات وحيوانات وإنسان ... وغاية التجلي الصوري وأفضله أن يتجلى الله للسالك في صورة صاحب التجلي ... ومنشأ هذا الظهور قول القائل: سبحاني، وأنا الحق، وما في الجبة إلا الله، وهل في الدارين غيري. وأمثال ذلك من أدلة حصول التجلي (8). وقد زعموا أن هذه الحالة هي حالة سكر وتوهم وخطأ يحصل عند الذاكر في سكرته فيحصل له ما يشبه الوحدة بالله ولهذا تصدر عنهم هذه الكلمات وتلك الأحوال. فإذا أفاقوا عرفوا أن ما حدث لهم يشبه الاتحاد. ويخرج على ألسنتهم كلام الشطح والكفر لحصول قمة الصلة بالله! وحينئذ يقول: أنا الحق وسبحاني (9).   (1) ((البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية)) (ص81) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) (ص180). (2) ((البهجة السنية في آداب الطريقة الخالدية العلية النقشبندية)) (ص34). (3) أنظر ((مكتوبات الإمام الرباني)) السرهندي (212 و213 و214 و215 و216). (4) لا يعرف المسلمون شيئًا اسمه كرسي التوحيد ولكن المتخصصين في الصوفية يعرفون أن هذه إشارات يرمزون بها إلى وحدة الوجود والفناء في الله، هذه عقيدة موروثة من الهندوس والبوذيين. (5) ((تنوير القلوب)) (510) وكذلك (466) و ((الرسالة القشيرية)) (118 - 119). (6) ((الأنوار القدسية)) (167) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) (ص 162). (7) ((المواهب السرمدية)) (161). ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) (161). (8) ((رشحات عين الحياة)) (133 - 134). (9) كتاب ((السبع الأسرار في مدارج الأخيار)) (31) لمحمد معصوم العمري النقشبندي إستانبول 1331. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 221 المطلب الثاني: هل تتسبب العبادة الصحيحة في التلفظ بالكفر؟! وبالطبع فهذه النتيجة الخطأ دليل على أن العبادة خطأ وعلى أن الشيطان يستحوذ عليه. فلو كان هذا الذكر متوجها إلى الله توجها صحيحا لما أثمر الكفر وانتهى بادعاء الذاكر للألوهية!!! وحرم الله الاقتراب من الصلاة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء: 43] , وهؤلاء يدعون أن العبادة هي سبب السكر وتعطل العقل! وذكر صاحب كتاب (الرشحات) أن رجلا سأل المولى بهاء الدين عمر عن قول القائل: (الممكن عين الواجب) فرجع عن هذا الكلام وقال: (بل الواجب عين الممكن) فقال: ما هناك فرق بين الكلامين. فلم يتجاسر أحد في الجواب ولم يقولوا شيئًا» (1). وقد صرح صاحب (السبع الأسرار) أن حقيقة مقام الفناء هو فناء السالك هو «اتحاد وجود الممكن بوجود واجب الوجود وذلك نسبة لغلبة التوحيد وقوة ظهور الوحدة على بصيرته» (2).- وذكر في قوله تعالى لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] , أن المراد من (الملك) قلب السالك حين يتجلى الله سبحانه للقلب بقهر الأحدية لا يترك فيه شيئًا غيره فيلقي إليه صدى لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ فإذا لم ير في تلك المملكة غيره يجيب تعالى بنفسه بالضرورة بقوله: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] , ويسمع صدى (سبحاني ما أعظم شأني) و (أنا الحق) و (هل في الدارين غيري) (3).- وصرح نقشبندي آخر بأن «وجود الحق مثل المرآة: ووجود الممكنات مثل الصور التي تنجلي في المرآة. فوجود المرآة حقيقي. ووجود الصور فيها وهمي وخيالي» (4).   (1) ((رشحات عين الحياة)) (198). (2) كتاب ((السبع الأسرار في مدارج الأخيار)) (ص 58) تأليف محمد معصوم العمري النقشبندي. (3) ((رشحات عين الحياة)) (186). (4) كتاب ((السبع الأسرار في مدارج الأخيار)) (72) لمحمد معصوم العمري النقشبندي إستانبول 1331. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 222 المطلب الثالث: الاتحاد بذات الله وصفاته وأفعاله ويذكرون أنه عندما يتجلى الله للعبد بذاته يجد العبد جميع الموجودات وصفاتهم وأفعالهم متلاشية في أشعة ذاته تعالى وصفاته وأفعاله ويجدها بالنسبة إليه كالأعضاء إلى البدن ... ويرى ذاته وذات الحق سبحانه وتعالى وصفاته وصفات الحق وأفعاله مع الأفعال الحق متحدة لكونه مستهلكا في عين التوحيد، ولا يرى شيئًا غير الله. فيرى الصور الموجودة هي الله عينه وهذا ما يسمونه بالتجلي الصوري لله (1). هذا قول السرهندي. وذكر صاحب الرشحات «أن المريد إذا سلك طريق المذلة والمسكنة يحصل له الفناء حتى يرى جمال الشاهد اللاهوتي في مرآة انعدامه» (2).قال عبد الكبير: «بينما أنا في الطواف إذ هبت الريح وحركت أستار الكعبة وانكشفت بعض جدرانها فحصل لي منه «كيفية» وسقطت مغشيا علي، وتوجهت نحو حضرة الشيخ فقال لي: ما ترى في البيت فهو غير محدود بل هو في الجبال وفي الجدار وفي السماء وفي الأرض وفي الحجر وفي المدر: موجود ومشهود بل كل ذلك هو هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو الله الذي لا إله إلا هو» (3).   (1) ((رشحات عين الحياة)) (112) ((مكتوبات الامام الرباني)) السرهندي (297 و301). (2) ((رشحات عين الحياة)) (199). (3) ((رشحات عين الحياة)) (139). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 223 المطلب الرابع: بالفناء يخرجون عن طور البشرية إلى الألوهية وإذا حصل الفناء بالله عندهم صاروا طورا آخر غير الطور البشري. وبعد ورود الفيض يترقى السالك حتى تنقص مناسبته عن طور البشرية، فترتفع عنه صفات البشرية. (1) قال بهاء الدين نقشبند «كنت في بستان فغلبت علي الجذبات الإلهية فحصل لي غيبة اتصلت بالفناء الحقيقي وحقيقة الفناء في الله عز وجل ورأيت أني في صورة نجم في بحر من بحور بلا نهاية ثم بعد ست ساعات رُدَتْ إليّ بشريتي شيئًا فشيئًا» (2). ولعلك تسأل عن معنى قوله: (فعادت إلي بشريتي شيئًا فشيئًا)؟ فإلى أي مادة تحول بعد خروجه من طور البشرية؟ بالطبع إذا حصل الفناء بالله فهو خروج عن الطبيعة البشرية إلى الطبيعة الإلهية. لا سيما وأنه يتلفظ بألفاظ الكفر (أنا الحق وسبحاني) الشبيهة بقول فرعون: مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] وأَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24].   (1) كتاب ((السبع الأسرار في مدارج الأخيار)) (ص 66) لمحمد معصوم العمري. ط: 1331 إستانبول، ((المكتوبات الربانية)) للسرهندي الفاروقي (ص 40). (2) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) ص 130. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 224 المطلب الخامس: هل العشق أعظم من المحبة؟ تبين مما تقدم أن مرتبة الفناء في الله والخروج عن طور البشرية يعتبر غاية الغايات عند النقشبندية وأن كل أذكارهم وطقوسهم إنما هي لأجل ذلك. وجعل محمد أمين الكردي العشق لمرتبة خواص الخواص: «ومحبتهم لله عبارة عن التعشق الذي ينمحي به العاشق عند تجلي نور معشوقه» (1). مع أن الله لم يذكر مرتبة أفضل من مرتبة يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] وكذلك ((لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)) (2). ولم يقل: (يفنى فيهم ويفنون فيه) أو: (يعشقهم ويعشقونه). ولا يتصور مؤمن أن يحب الله أحدا أكثر من رسوله وأصحاب رسوله ولم يقل منهم أحد أنه يعشق الله أو أن الله يعشقه. وهذا هو قول العز بن عبد السلام. والعشق لفظ أفتى ابن عبد السلام بمنع استخدامه فيما يتعلق بمحبة الله كما في فتاويه (ص 72). وقال ابن الجوزي: «العشق عند أهل اللغة لا يكون إلا لما ينكح». ونقل عن أبي الحسن النوري أنه سمع رجلا يقول: «أنا أعشق الله عز وجل وهو يعشقني. فقال له: سمعت الله يقول يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54] , وليس العشق بأكثر من المحبة» وإنما يكثر التكلم عن الفناء والعشق عند الهندوس البراهمة كما اعترف به النقشبنديون بأن ما يحصل لهم من المكاشفات والتجليات والفناء في الله شبيه بما يحصل للهندوس البراهمية فقالوا: «وبراهمية الهند وجوكية وفلاسفة اليونان لهم كثير من قسم التجليات الصورية والمكاشفات المثالية والعلوم التوحيدية وليس لهم من نتائجها سوى الفساد والفضاحة ولا نصيب لهم من الرحمن» (3). ولكن كيف سلموا للهندوس ذلك واعتبروا ذلك منهم كشفا وتوحيدا وهم يعلمون أنهم أكثر الناس شركا مما يؤكد أنهم إذا أطلقوا لفظ التوحيد فإنهم يعنون به وحدة الوجود! وقد ذكروا أن طريقة الذكر عند النقشبندية تورث في قلب الذاكر سر التوحيد حتى يفنى عن نظره وجود جميع الخلق ويظهر له وجود الواحد المطلق في المظاهر» (4). وذكر عبيد الله أحرار أن الله إذا تجلى في قلب العبد يمحو منه الغير فلا يبقى فيه إلا هو، فيسمع القلب حينئذ (سبحاني ما أعظم شأني) و (أنا الحق) و (هل في الدارين غيري) (5).وقالوا: إذا توجه الشيخ إلى قلب المريد تحصل للمريد الحركة العلمية: فيخرج من دائرة الإمكان إلى دائرة الوجوب (6). وهذا الكلام يفهمه من يعلم ما اصطلح عليه علماء الكلام حيث يقسمون الموجودات إلى وجود واجب وهو الله، ووجود ممكن وهو كل ما سوى الله من المخلوقات. وخطر ببال أحد الواقفين أمام الشيخ محمد سيف الدين الفاروقي أن هذا الشيخ متكبر فعرف ما في قلبه وقال له: تكبري من تكبر الحق تعالى. والقصة نفسها منسوبة إلى بهاء الدين نقشبند (7).وفي معنى قوله تعالى إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر: 1] , أي: أعطيناك شهود الأحدية في الكثرة» (8). فهؤلاء اتحاديون وَحْدويون حلوليون يدعون إلى وحدة الوجود.   (1) ((تنوير القلوب)) 487. (2) رواه البخاري (6502) (3) ((البهجة السنية في آداب الطريقة العلية الخالدية النقشبندية)) 9 ((مكتوبات الإمام الرباني)) 218. (4) ((المواهب السرمدية)) 90. (5) ((المواهب السرمدية)) 162. (6) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) 76. (7) ((المواهب السرمدية)) 215 ((الأنوار القدسية)) 200 ((جامع كرامات الأولياء)) 1/ 204 ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) قارن بين 135 و200 وحكاها السرهندي الفاروقي في مكتوباته ص 79. (8) ((الأنوار القدسية)) 162. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 225 المطلب السادس: الحقيقة المحمدية حقيقة الحقيقة المحمدية عند القوم شيء ليس مخلوقا وإنما خلقت الأشياء منه أو به. وهذه عودة إلى عقيدة النصارى وفلسفتها. بما أن مادية نبينا صلى الله عليه وسلم عند النقشبندية قد صارت في حكم المجرد لم يكن له ظل (1). الكفر الصريح: وانظر ماذا يخفي القوم وراء لفظ الحقيقة المحمدية لتعلم: كيف ينصر الله هذه الأمة وهي على هذا المعتقد المضاهي لعقيدة النصارى والهندوس. يقول في الحدائق الوردية ما نصه: «اعلم أن الله تعالى لما توجه لخلق العالم خلق روحا كليا سماه حضرة الجمع والوجود لكونه جامعا لحقائق الوجود وسماه بالحقيقة المحمدية. لكون محمد صلى الله عليه وسلم أكمل مظاهرها .. وما زال الحق تعالى يخلق الموجودات من الحقيقة المحمدية علوية وسفلية لطيفة وكثيفة بسيطة ومركبة. وكلما خلق صورة قبضها إلى صورتها الأولى حتى انتهى الأمر إلى الإنسان فخلقه منها ولم يقبضها. فكان الإنسان صورة حضرة الجمع والوجود. ثم خلق الله العماء الذي كان فيه الرب قبل خلق الخلق وكان أول ما خلق الله في العماء الأرواح المهيمنة والعقل والنفس الكلية. فهم مخلوقون من حضرة الجمع والوجود وهم مظاهر لها. لكن دون مظهرية الإنسان الكامل. والكمال الإنساني عندهم مرآة للكمال المحمدي. والكمال المحمدي مرآة للكمال الإلهي. ولا يتجلى الحق إلا من خلف حجاب الكمال المحمدي إذ هو الواسطة العظمى التي لا كمال إلا بها (2). محمد من نور لا من طين: وقد زعموا أن جسد نبينا صلى الله عليه وسلم نوراني لأن أصل خلقته نورانية وأن روحانيته سر ملكوتي ولهذا كان لا يرى له ظل بالغدو والآصال» (3). ومحمد صلى الله عليه وسلم الإنسان الأكمل فإنه لا إنسان يماثل محمدا. وكل ما عداه فهو مخلوق منه. فهو عين الوجود الصادر من الله تعالى بلا واسطة سوى الأمر فهو صورة الأمر الإلهي الذي لا صورة له في نفس الأمر. ويكذب ذلك ما رواه مسلم عن عائشة قالت: ((فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفراش، فالتمسته فوقعت يدي في بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك)) (4) ... وفي رواية ((افتقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه، فتحسست ثم رجعت فاذا هو راكع أو ساجد)) (5) فالطبيعة ظاهرة وهو باطنها بل ليست الطبيعة غير الروح إلا باعتبار كثافة بعض الصور ولطافة بعضها. فقيل: الطبيعة مغايرة للروح، فإذا أراد الله إيجاد شيء توجه إليه الروح وتوجهه عينه وعين ما توجه على المرآة هو عين وجود صورة المتوجه: عين التوجه عين الصورة ... ولهذا فتنبهوا من يصف النبي بالإنسان الكامل يخفي عن القوم تأليها للنبي قالوا: وأول الصور: النور المحمدي لما روي: ((أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر)) (6) (7) انتهىواحتج السرهندي بقول ابن عربي: إن الجمع المحمدي أجمع وأشمل من الجمع الإلهي (8). فهل في الكفر أفحش من هذا الكفر ومن هذه الفلسفة المقتبسة من كتاب (الفتوحات المكية) وكتاب (الفصوص) الذي إن لم يكن فيه كفر فليس في الدنيا كفر كما قاله الذهبي. ومع ذلك يثني الكوثري الثناء البالغ على (الفتوحات) وأنه من أعظم السنوحات ويعلل سبب الطعن عليه من الجاهل لدقة مدركه (9). المصدر: الطريقة النقشبندية لعبد الرحمن دمشقية - ص 58 فما بعدها   (1) ((تفسير سورة التين)) (ص 9). وطبعت رسالة بالإنجليزية وزعها القبرصلي بين الإنجليز بعنوان: هل كان للنبي ظل؟ (2) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (26) (34 حسب الترقيم الخطأ). (3) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (24). (4) رواه مسلم (486) (5) رواه مسلم (487) (6) أورده العجلوني في ((كشف الخفاء)) (ح827) وعزاه إلى مصنف عبدالرزاق ولم نجده فيه، وقد سُئل السيوطي عن هذا الأثر في ((الحاوي)) (1/ 500) فقال: لا سند له يثبت البتة، وقال عنه الألباني في ((الصحيحة)) (1/ 457) أنه باطل. (7) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) (283 - 284) (ترقيم خطأ 275 - 276). (8) ((مكتوبات الامام الرباني)) المعروفة بالمكتوبات الرشيدية للسرهندي الفاروقي 193. (9) ((إرغام المريد في شرح النظم العتيد لتوسل المريد برجال الطريقة النقشبندية)) الخالدية الضيائية ط: مطبعة بكر أفندي بدار الخلافة سنة 1328 هـ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 226 المطلب الأول: صفات الأولياء عند النقشبندية هي صفات الألوهية وأما أنواع الأولياء وأوصافهم فقد توسع الكمشخاتلي النقشبندي في بيان ذلك وبالغ حتى جعل لهم صفات الربوبية. فقال ما نصه: «وأما أنواع الأولياء والمتصرفين: فمنهم قطب الأقطاب وقطب الإرشاد وقطب البلاد وقطب المتصرفين. وهم الكلمات الجامعة الإلهية. وقدرتهم القدرة الذاتية ... وهم أقطاب العالم وهؤلاء الأوتاد نوابهم: لا موت ولا عارض ولا صعق ولا تغير لهم (1)». فهكذا صرح بأنهم لا يموتون ولا يتغيرون ولا تؤثر عليهم عوارض الدنيا. يتابع فيقول: ومنهم الاثنا عشر نقيبا: وهم مطلعون على تأثيرات الكواكب التي تنزل على البروج. ومنهم النجباء وهم ثمانية عدد السموات مع الكرسي: وهم واقفون على أحوال النجوم ومطلعون على أسرار النجوم والكرسي والعرش. ومنهم: ثلاثمائة رجل من الأولياء على قلب آدم. ومنهم أربعون على قلب نوح. ومنهم سبعة غير الأبدال السبعة على قلب إبراهيم. ومنهم خمسة على قلب جبريل. ومنهم ثلاثة على قلب ميكائيل. ومنهم واحد على قلب إسرافيل. وعلمه علم إسرافيل جامع للقبض والبسط وعلى هذا المشرب أبو يزيد البسطامي. ومنهم ثمانية عشر قائمون بحقوق الله وظاهرون بأمره ويحكمون بما أراد الله. ومنهم خمسة عشر رجلا وهم المسمون رجال الحنان والعطف الإلهي. ومنهم أربعة يسمون رجال الهيبة والجلال وهم يمدون بالأوتاد الأربعة: قالبهم روحاني وقلبهم سماوي معروفون في السماء مجهولون في الأرض وعلمهم مما لا يتناهى. ومنهم رجال الاشتياق وهم خمسة. ومنهم رجال الأيام الست ... وهذه الأيام مقالة الصفات السبع: الأحد موجود من صفة السمع. والاثنين من صفة الحياة والثلاثاء من صفة البصر. والأربعاء من صفة الإرادة، والخميس من صفة القدرة. والجمعة من العلم. والسبت من الكلام. وكل واحد نال من مظهرية صاحبه: فافهم». يزعمون أن قدم الجيلاني على رقبة كل أولياء الله. الصوفية هم الطاعنون في الأولياء: وبعد هذا نسأل: من هم الطاعنون في الأولياء؟ الصوفية هم الذين زعموا أن عبد القادر الجيلاني قال: «قدمي هذه على رقبة كل ولي لله تعالى». صرح السرهندي بأن السهروردي سمعها من عبد القادر نفسه، إذ كان مصاحبا له. (2) وهذا طعن بالنبي وصحابته لأن النبي أعظم أولياء الله يليه الصحابة. وعبد القادر لم يخصص جماعة من الأولياء دون آخرين بأنهم تحت قدمه بل أطلق وعمم أن كل ولي لله فهو تحت قدمه. فمن الطاعن في أولياء الله؟! وحقيقة الأمر أن الصوفية قد كذبوا على لسان نبيهم، وكل واحد منهم يزعم أنه يراه يقظة بين الآونة والأخرى فكذبهم على سواه من باب أولى. وقد كذب الحافظ ابن رجب هذه الرواية عن الجيلاني واتهم راويها (الشطنوفي) بالوضع والكذب (3).   (1) ((جامع الأصول في الأولياء وأنواعهم وأوصافهم وأصول كل طريق ومهمات المريد وشروط الشيخ)) (131) لأحمد ضياء الدين الكمشخاتلي. طبع بالمطبعة الجمالية بمصر 1328هـ. وهذا الكتاب من أخبث كتب القوم وأوغلها في الكفر بعد كتاب ((السبع الأسرار في مدارج الأخيار)) وكتاب ((رشحات عين الحياة)). (2) ((المكتوبات الربانية)) للإمام السرهندي (350) ((نور الإنصاف في كشف ظلمة الخلاف)) (29) و ((قلادة الجواهر)) (ص 113) و ((ضوء الشمس في قول النبي بني الإسلام على خمس (133) , كلها للصيادي الرفاعي و ((جامع كرامات الأولياء)) للنبهاني (1/ 293). (3) الذيل على طبقات الحنابلة 1/ 293. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 227 المطلب الثاني: الأولياء خالقون عند صاحب (الرشحات)! بل قد نسبوا إلى الأولياء الخالقية فقال صاحب (الرشحات): «قال حضرة شيخنا: قد أعطي بعض العارفين قدرة على كل ما أرادوا خلقه» (1).ولهم نظر آخر وراء القوة المبصرة: يرون به الأشياء في ليلة مظلمة من مواضع بعيدة ولا يكون البعد المكاني مانعا عن هذا النظر» (2).   (1) ((رشحات عين الحياة)) (133). (2) ((رشحات عين الحياة)) (144). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 228 المطلب الثالث: مشائخهم فعالون لما يريدون!! هكذا أثبتوا صفات مشايخهم فقال صاحب (الرشحات): «كما أن معارضة القرآن غير ممكنة فكذلك معارضة الأولياء أصحاب الهمة (1) فإن همة العارف فعالة لا يتخلف المراد عنها فمن عارض تلك الهمة يصير مغلوبا البتة. وضرب لذلك مثالا، فحكى أن سعد الدين الكاشغري وغيره كانوا يمتحنون قوة همتهم فيذهبون إلى أمكنة المتصارعين فيتوجهون بهمتهم إلى أحد المتصارعين وهو ضعيف فيتغلب على خصمه وإن كان أقوى منه. وأن قوتهم لا يقف في وجهها ولا حتى مائة ألف رجل فإن في أكابر سلسلتهم تصرفات يحصل كلما يريده خواطرهم. والعجيب قوله أن مثل هذه الهمة تحصل حتى للكافر إذا توجه بخاطره إلى أمر وصرف همته إليه يحصل له ذلك الأمر وليس الإيمان والعمل الصالح شرطا فيه (2).ولمزيد تخويف العامة من الاعتراض فقد حكوا أن أحد أولياء النقشبنديين اعترض عليه رجل فعاقبه هذا الولي بمرض الإسهال. فصار يقعد بين النجاسات والقاذورات ويضعها في أنفه ويقول: نعم الشيء المسهل ويعمل من نجاسته دمى يلعب بها ثم تقطعت أمعاؤه ومات بسبب شدة مرض الإسهال الذي أصابه به الولي (3).وكلام الصوفية عن الخوارق لا يمت إلى الواقع بصلة فإن التاريخ لا يثبت لواحد منهم شيئًا من هذه القوة الخارقة المزعومة بالرغم من المغالطات العجيبة في كتبهم فقد زعموا أن فتح السلطان محمد الفاتح للقسطنطينية إنما تحقق حين طلب السلطان المدد من عبيد الله أحرار النقشبندي فظهر له الشيخ راكبا على فرس أبيض وقال له: لا تخف. فقال له السلطان: كيف لا أخاف وعسكر الكفار كثير؟ قال السلطان: فأراني الشيخ في كمه فإذا فيه عساكر لا تحصى. وقال له: جئتك بهذه العساكر لإعانتك» (4). فأبشروا يا مسلمين، هناك جنود مجندة في أكمام مشايخ الطريقة. ولكن؛ لماذا يخبئونهم في أكمامهم؟ وفلسطين لا تزال تحت الاحتلال. متى سمع المسلمون المغترون بترهات التصوف أن الطريقة الصوفية استردت أرضا مسلوبة؟ إن التاريخ لا يذكر للصوفية شيئًا من هذه الحكايات الغريبة. فأين كانوا يوم دخل التتار ويوم دخل الصليبيون؟ وأين هم اليوم واليهود والنصارى في الشرق والغرب يحتلون بلاد المسلمين؟ إنها دعاوى لا تعدو أوراق وكتب الصوفية الصفراء. إن الذين امتلأت كتبهم بالروايات الموضوعة والمكذوبة لم تخل من باب أولى من القصص والحكايات المكذوبة أيضا. وذكروا أيضا أن الشيخ منصور البطائحي ـ خال الشيخ الرفاعي ـ حضر معركة بين جيش العراق وجيش العجم لم تقع بعد. فصفق بيده فتصادم الجيشان، ثم قبض اليد اليسرى وقال: هذه لجيش العجم. فظهر جيش العجم على جيش العراق. فلما بسطها ظهر الجيش العراقي وهزم الجيش العجمي هزيمة ساحقة (5).   (1) الهمة اصطلاح صوفي يعني: القوة الخارقة الباطنة التي يستطيع بها الولي نصر جيش على آخر. (2) ((رشحات عين الحياة)) (216 - 217) وانظر (220 - 221). (3) ((رشحات عين الحياة)) (228 - 229). (4) ((رشحات عين الحياة)) (229). (5) ((روضة الناظرين)) للوتري (21) ((جامع كرامات الأولياء)) للنبهاني (2/ 268). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 229 المطلب الرابع: يعلمون الغيب وما في الصدور وقد صرح النقشبنديون بأن مشايخهم يعلمون ما يختلج في صدور الناس، فقال الدهلوي: «وللنقشبندية تصرفات عجيبة من التصرف في قلوب الناس والإشراف على خواطر الناس وما يختلج في الصدور» (1).لما حصل للشاه نقشبند التكليف والولاية للطريقة اجتمع مع سلفه من أصحاب الطريقة (أمواتا) فأعطوه علامات قبول ولايته وقالوا له: «تذهب غدا عند مولانا شمس الدين الأبنيكوني وتخبره بأن ما يدعيه فلان التركي صحيح، والحق مع التركي فإن أنكر السقا صحة هذه الدعوى فقل له: عندي شاهدان: الأول أنك يا سقا عطشان، فهو يعرف معنى هذه الكلمة. والثاني أنك أتيت امرأة أجنبية فحملت منك فسعيت بإسقاط الحمل ودفنته في الموضع الفلاني ... ثم اذهب إلى نسف (2) لخدمة السيد أمير كلال وستجد في المحل الفلاني شيخا يعطيك رغيفا حارا فخذه منه ولا تكلمه ... وامض على طريقك فتمر على قافلة إذا تجاوزتها استقبلك فارس فانصحه فإنه ستكون توبته على يديك» (3).ويحكون عن الشيخ عبيد الله أحرار أنه «ما من خاطر إلا وقد اطلع عليه» (4).وزعم الكوثري أن أبا الحسن الشاذلي قال: «أطلعني الله على اللوح المحفوط فلولا التأدب مع جدي رسول الله لقلت: هذا سعيد وشقي» (5).ونقلوا عن إبراهيم الدسوقي قوله لمريديه: «يا أولادي إن صح عهدكم معي فأنا قريب منكم ... فلو كان أحدكم بالمشرق وأنا بالمغرب وورد عليكم من المشكلات شيء تستخيرون به ربكم فوجهوا وجوهكم إلي، وافتحوا عين قلبكم فإنكم تروني جهارا وتستشيروني في جميع أموركم فمهما قلته لكم فاقبلوه وامتثلوه ... هكذا جرت سنة الله مع أوليائه» (6).ومن كرامات الشيخ أحمد ضياء الدين أن أحد مريديه حدثته نفسه أن يسأل حضرة الشيخ ظهور كرامة فكاشفه الشيخ في الحال بما في نفسه وقال له: الاستقامة خير من ألف كرامة» (7).وخطر ببال أحد الواقفين أمام الشيخ محمد سيف الدين الفاروقي أن هذا الشيخ متكبر فعرف ما في قلبه وقال له: (تكبري من تكبر الحق تعالى) والقصة نفسها منسوبة إلى بهاء الدين نقشبند (8).وأما محمد الخاني النقشبندي فكان يخبر بالأمر قبل أن يقع فيقع كما أخبر وكان في الاطلاع على خواطر المريدين مرآة صقيلة يلوح فيها أدنى الخطرات كأعلاها. وكان لا يسأل مريده عن أحواله أبدا بل هو الذي يخبر المريد بأطواره (9).   (1) ((شفاء العليل ترجمة القول الجميل)) (104) ط: إسلامي أكاديمي (لاهور - الهند) (2) مدينة مشهورة ببلاد فارس منها النسفي صاحب التفسير. (3) ((المواهب السرمدية)) (113 - 115) ((الأنوار القدسية)) (128 - 129) ((جامع كرامات الأولياء)) (1/ 145 - 146). (4) ((المواهب السرمدية)) (173) ((الأنوار القدسية)) (175) ((جامع كرامات الأولياء)) (2/ 140). (5) ((إرغام المريد شرح النظم العتيد لتوسل المريد برجال الطريقة النقشبندية)) للكوثري (ص 39). (6) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (38). (7) ((الأنوار القدسية)) (272). (8) ((المواهب السرمدية)) (215) ((الأنوار القدسية)) (200) ((جامع الكرامات)) (1/ 204) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) قارن بين (135 و200). (9) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) (272) ((جامع كرامات الأولياء)) (1/ 222 - 223) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 230 المطلب الخامس: لا يبالون بالجنة ولا بالنار وأنشد محمد أمين الكردي هذين البيتين إلى ربه أحبك لا أرجو بذلك جنة ... ولا أتقي نارا وأنت مراد إذا كنت لي مولى فأية جنة ... وأية نار تتقى وتراد (1) ونقل قول رابعة العدوية: «ما عبدتك طمعا في جنتك ولا خوفا من نارك ولكن لوجهك الكريم». وقول أرسلان الدمشقي: «من عبد الله لأجل الجنة والنار فهو طاغوت» (2). وهذه هي المرة الأولى يتحدث فيها صوفي عن الطواغيت. ولكن الطواغيت عنده هم الذين يرجون ثواب الله ويخافون عقابه، ويسألونه جنته ويخافون نيرانه. وقد جهل هؤلاء أن الخوف من النار ورجاء الجنة عبادة بحد ذاتها لله عز وجل. وقد أمرنا الله بما تنهانا عنه رابعة العدوية فقال وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [الأعراف: 56] , قال الطبري: «أي لا تشركوا في عملكم لله شيئًا غيره من الآلهة والأصنام وغير ذلك، وليكن ما يكون منكم في ذلك خوفا من عقابه وطمعا في ثوابه. وإن من كان دعاؤه إياه على غير ذلك فهو بالآخرة من المكذبين لأن من لم يخف عقاب الله ولم يرج ثوابه لم يبال ما ركب من أمر يسخطه الله ولا يرضاه» (3).وقال رسول الله: ((لا يجتمعان - يعني الخوف والرجاء - في قلب عبد في مثل هذا الموطن - أي عند الاحتضار - إلا أعطاه الله الذي يرجو وأمنه مما يخاف)) (4). وما قاله الطبري حق. فإن مطالبة الصوفية بحب الله حبا مجردا من طلب الجنة واجتناب النار زادهم جرأة وزندقة فاسمع ما تتناقله كتب النقشبندية عن أبي يزيد: أريدك لا أريدك للثواب ... ولكني أريدك للعقاب (5) وحكى عنه ابن الجوزي أنه قال: «إن لله عبادا لو بصقوا على جهنم لأطفئوها» «ولقد وددت أن قامت القيامة حتى أنصب خيمتي على جهنم، فسأله رجل: ولم ذاك يا أبا يزيد؟ فقال: إني أعلم أن جهنم إذا رأتني تخمد فأكون رحمة للخلق» ثم قال: «اللهم إن كان في سابق علمك أن تعذب أحدا من خلقك بالنار فعظم خلقي حتى لا تسع معي غيري» وقال: «وما النار؟ والله لئن رأيتها لأطفئنها بطرف مرقعتي» (6).وكان يقول فيما تتناقله كتب النقشبنديين «إن لله عبادا لو حجبهم في الجنة عن رؤيته لاستغاثوا بالخروج من الجنة كما يستغيث أهل النار للخروج من النار» (7).   (1) ((نوير القلوب في معاملة علام الغيوب)) (486). (2) ((الأنوار القدسية في مناقب النقشبندية)) (135). (3) ((تفسير الطبري)) (8/ 147). (4) رواه الترمذي (983) وابن ماجه (4261) والنسائي في ((الكبرى)) (6/ 262) وأبو يعلى (6/ 57) (3303) وقال الترمذي حسن غريب، وحسنه ابن العربي في ((العارضة)) (2/ 370) والألباني في ((صحيح الترمذي)). (5) ((المواهب السرمدية)) (45). (6) ((تلبيس إبليس)) (341 343 و346). (7) ((المواهب السرمدية)) (49) ((الأنوار القدسية)) (99). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 231 المطلب السادس: يقولون للشيء: كن فيكون. قال صاحب (نور العرفان) «وسئل أحد أكابر الأئمة عمن قال: أن من كرامات الولي أن يقول للشيء: كن فيكون. فنهى أحدهم هذا القائل عن ذلك؟ فقال - أي لمن نهاه - من أنكر ذلك فعقيدته فاسدة. فهل ما ادعاه صحيح - أي أن من كرامات الولي أن يقول للشيء: كن فيكون؟ فأجاب بأن ما قاله صحيح إذ الكرامة الأمر الخارق للعادة يظهره الله تعالى على يد وليه» (1).وقال الدهلوي: «وللنقشبندية تصرفات عجيبة من التصرف في قلوب الناس» (2).فمن ذلك تصرف الشيخ عبد الله الدهلوي في باطن المريدين وإلقاء الفيوضات والأسرار في صدورهم، ومن كراماته أيضا أن زوجة أحد أصحاب هذا الشيخ قد مرضت، فالتمس من حضرته أن يدعو الله تعالى بتخفيف مرضها فلم يفعل، فألح عليه، فقال له لا تبقى هذه المرأة أكثر من خمسة عشر يوما، فبقدرة الله تعالى توفيت يوم الخامس عشر» (3).وقالوا عن محمد الخواجكي الأمكنكي: «ليس من ذرة في العالم الا وهو يمدها بالروحانية» (4). أفلا تصدق أيها الغيور أن هذه الأمة قد ابتليت بالتشيع وركبت سنن من قبلها؟ أهذه التعاليم التي نادى بها سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه؟   (1) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (ص 60). (2) ((شفاء العليل ترجمة القول الجميل)) (104) و ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (36). (3) ((المواهب السرمدية)) (249 - 251) ((جامع كرامات الأولياء)) (2/ 129) ((الأنوار القدسية)) (216 - 217). (4) ((المواهب السرمدية)) (178) ((الأنوار القدسية)) (178) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) (177). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 232 المطلب السابع: من تصرفات الأولياء وحكى محمد أسعد صاحب زادة أن للأولياء الكاملين ثلاثة أنواع من التصرفات: الأول: التجسد والتمثيل بالصور: كتجسدهم في الصور في أمكنة متعددة في وقت واحد. وتسميه الصوفية بعالم المثال: وبنوا عليه تجسد الأرواح وظهورها في صور مختلفة .. واستأنسوا بقوله تعالى: فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [مريم: 17] , (1). وأكد ذلك خالد البغدادي وأن الروح تظهر في سبعين ألف صورة في دار الدنيا (2).الثاني: التصرف في الأجساد النورانية كجسد نبينا محمد لأن أصل خلقته نوراني وروحانيته سر ملكوتي: فلهذا يعتقدون أن النبي لا ظل له (3).وكما أن الشيطان لا يتمثل بصورة النبي فكذلك لا يستطيع أن يتمثل بصورة الشيخ ولذا تظهر صور المشايخ في مناطق مختلفة في آن واحد، ويمكنهم الله من الظهور بصور عديدة بلا حصر وقد يكون لهم صورة واحدة تملأ الكون. (4) المصدر: الطريقة النقشبندية لعبد الرحمن دمشقية - ص 72 فما بعدها   (1) - ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (55). (2) - ((رسالة في تحقيق الرابطة)) (7). (3) - ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (24). (4) - ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (ص 55 و59). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 233 المطلب الثامن: من كرامات مشايخ الطريقة حكي أن محمد أمين الكردي «زار قبر النبي يونس صلى الله عليه وسلم وفجأة رفع الله الحجاب بينه وبين صاحب القبر فرآه جالسا والأنبياء جلوسا حوله. وهم ينتظرون مجيء سيد البشر محمد بن عبد الله» (1)   (1) ((تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب)) (8). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 234 المطلب التاسع: لهم الثواب والعقاب وأهديت لبهاء الدين نقشبند سمكة مطبوخة وكان عنده شاب زاهد عابد فقال للشاب: أفطر فلم يقبل الشاب فقال له: أفطر وأنا أهبك صوم يوم من شهر رمضان، فأبى فقال له: أفطر وأنا أهبك صيام أيام شهر رمضان. فأبى فقال بهاء للناس: دعوه فإنه من المبعدين. فنظراً لانهماكه في أوامر أهل الله ابتلاه الله بالانهماك في الدنيا والإعراض عما فيه من سعادة العبادة» انتهى. وهذه القصة مقتبسة من (الرسالة القشيرية) (1). المصدر: الطريقة النقشبندية لعبد الرحمن دمشقية - ص95 - 97   (1) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) (ص 136) وانظر ((الرسالة القشيرية)) (151). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 235 المطلب الأول: الغلو وتقديس المشايخ وللمؤلفين النقشبنديين طريقة عجيبة في مدح مشايخهم فيقتبسون من آيات القرآن ألفاظا يستخدمونها في مدح مشايخهم كقولهم عن شيخ النقشبندية «محمد الخواجكي الأمكنكي» ما يلي: «لم يزل في بدايته بعين هدايته ملحوظا وفي ظل سلطنة تربيته محظوظا، حتى صار لمناقبه لوحا محفوظا لا يدع فضيلة جليلة إلا أحصاها ... فكان تلو والده كالشمس وضحاها والقمر إذا تلاها .. لا ذرة في العالم إلا وهو يمدها بالروحانية» (1). وهذا يشبه قول الخميني في أئمة أهل البيت: «إن لأئمتنا مقاما عظيما وخلافة تكوينية تخضع لها جميع ذرات هذا الكون» (2).ويستخدمون بعض عبارات الغلو التي يطرون بها مشايخهم كوصفهم عبد الخالق الغجدواني أنه «الغوث الصمداني والمحبوب السبحاني ومحمديته الكعبية» (3).ويصفون عبد الله الدهلوي بصفة «قيوم الزمان» (4). والمقامات عندهم خمسة وهي القلب والروح والسر والخفي والأخفى: (القلب) وهو تحت قدم آدم عليه السلام. (الروح) تحت قدمي سيدنا نوح وسيدنا إبراهيم. (السر) تحت قدم سيدنا موسى. ((الخفي) تحت قدم سيدنا عيسى. (الأخفى) تحت قدم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام (5).   (1) ((المواهب السرمدية)) (178) ((الأنوار القدسية)) (178). (2) ((الحكومة الإسلامية)) (ص 52). (3) ((الفيوضات الخالدية والمناقب الصاحبية)) تأليف محمد أسعد صاحب زادة (ص 18) على هامش كتابه ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) ط: المطبعة العلمية بمصر 1311. (4) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (88). (5) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (ص 82 - 84) كتاب ((السبع الأسرار في مدارج الأخيار)) (ص 31) تأليف محمد معصوم العمري النقشبندي ط: شركة مرتبيه مطبعة سي - استانبول 1331. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 236 المطلب الثاني: مقام الكفر من أعلى مقامات العبادة وهناك مقام (الحيرة) من أعلى المقامات عند النقشبندية وليس بعده إلا مقام اليقين. ومقام الحيرة هذا هو مقام الكفر حيث يرى المريد السالك الأشياء هي الله، وحكى السرهندي عن نفسه أنه وصل إلى مقام الفناء بالله ثم إلى مقام البقاء ثم إلى مقام الحيرة فوجد الله مع كل ذرة من ذرات وجوده. ويسمي السرهندي مقام الحيرة بالكفر الحقيقي الذي إذا خرج منه عرج إلى مقام أعلى منه وهو مقام الإيمان الحقيقي بعد الكفر الحقيقي. وهذا المقام وهو الحيرة الكبرى مخصوصة بالأكابر. أضاف قائلا: «ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الكفر الحقيقي فيقول: ((اللهم أعطني يقينا ليس بعده كفر)) (1). فكان يستعيذ من الكفر الحقيقي الذي هو مقام الحيرة» (2). فهكذا صار عند القوم مرتبة شريفة للكفر عالية جدا تحصل للعابد عندهم بعد حصول الفناء بالله.   (1) رواه الترمذي (3419) وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي ليلى من هذا الوجه. وقال ابن حبان في ((المجروحين)) (1/ 274): باطل. وقال الألباني في ((ضعيف الترمذي)) (3419): إسناده ضعيف. (2) ((مكتوبات الإمام الرباني)) (339 وانظر 334). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 237 المطلب الثالث: الرابطة بالشيخ أفضل من ذكر الله! قال صاحب (نور الهداية): «رؤية الشيخ تثمر ما يثمره الذكر، بل هي أشد تأثيرا من الذكر، وقد كانت تربية النبي لأصحابه كذلك فكانوا يشتغلون برؤية طلعته السعيدة وينتفعون بها أكثر مما ينتفعون بالأذكار» (1).- ومن الأدب مع المشايخ تمريخ أبدانهم (تدليكها) قال في (الرشحات): «قال حضرة شيخنا: كنت أمرخ الشيخ بهاء الدين عمر كثيرا وأدلكه وما كان يقول يكفي. ولا أنا كنت أترك التمريخ. وكان الشيخ ينام وله غطيط. وكان كثيرا يقول لي: تعال يا شيخ زادة ومرخ كتفي. فكنت أمرخ كتفه وكنت أنزع خفيه من رجليه أحيانا فشممت شيئًا أطيب من رائحة الخرقة التي كان يلف بها رجليه» (2).- وهم يتوجهون بالدعاء إلى حيث أماكن مشايخهم ولو من مكان بعيد ويستقبلون قبلتهم. فقد ذكر صاحب (الرشحات) أن واحدا من مريدي الشيخ قطب الدين حيدر كان جائعا فقلب وجهه نحو قرية شيخه وقال: «شيء لله يا قطب الدين حيدر لا تحرمنا من بركاتك أصلا ولا تنسانا» (3). بيوت المشايخ قبلة مقدسة- وقد جعلوا التوجه إلى قبلة الشيخ والاستمداد من باطن همته أفضل من التزام أعمال الخير بل أفضل من التزام الرجوع إلى الله عز وجل (4). - قال أحد مريدي الشيخ محمد بهاء الدين: «أمرني الشيخ شادي أحد أجلاء أصحاب الشيخ بهاء الدين أن لا يمدّ أحدنا رجله إلى جهة يكون فيها الشيخ قدس الله سره، فأتيت يوما إلى قصر العارفان (مسكن الشيخ بهاء الدين) لزيارته فأويت إلى ظل شجرة في الطريق واضطجعت فجاء حيوان فلدغني في رجلي مرتين فقمت وقد تألمت ألما شديدا. ثم اضطجعت فعاد مرة ثالثة كذلك، فجلست أتفكر في سبب ذلك مدة حتى تذكرت نصيحة الشيخ شادي ووجدت أني قد مددت رجلي إلى ناحية قصر العارفان، فعلمت أن ذلك تأديب لي على ما فرط مني» (5). 1 - عبد الله الدهلويوكان أحد كبار مشايخهم واسمه عبد الله الدهلوي يقول: «كما أن طلب الحلال فرض على المؤمنين كذلك ترك الحلال فرض على العارفين» (6).وكان يقول: «أرواح عامة المؤمنين يقبضها ملك الموت وأما قبض أرواح خاصة الخاصة فلا دخل للملائكة فيها» (7).وقال: «سمعت في سري الخطاب الإلهي ثلاث مرات: مرة وأنا في المدرسة ومرتين في الخانقاه ... وجاءتني فاطمة الزهراء فقالت لي: إني قد بعثت لزيارتك» (8).ومرضت امرأة أحد أصحابه فالتمس من حضرته أن يدعو الله تعالى لها بتخفيف مرضها فلم يفعل. فألح عليه فقال له: «لا تبقى هذه المرأة أكثر من خمسة عشر يوما. فبقدرة الله تعالى توفيت يوم الخامس عشر» (9).   (1) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (51). (2) ((رشحات عين الحياة)) (183). (3) ((رشحات عين الحياة)) (194). (4) ((رشحات عين الحياة)) (210). (5) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) (140). (6) ((المواهب السرمدية)) (241)، ((الأنوار القدسية)) (213) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) (134). (7) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) (213). (8) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) (215). (9) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) (216). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 238 2 - حبيب الله جان جانانوكان الشيخ حبيب الله جان جانان من أكابر النقشبنديين وابتدأ يرى سيدنا إبراهيم الخليل منذ أن كان عمره تسع سنوات. وكان في هذا السن كلما ذكر أبا بكر الصديق يحضر صورته ويراه بعينه. ونظر يوما في المرآة فرأى صورة شيخه بدل صورته (1).وكان «متوكلا» لا يعمل وكان يسافر مع أصحابه بغير زاد ولا راحلة فكانوا إذا نزلوا منزلا تأتيهم موائد الطعام من الغيب. (2) وهؤلاء يتركون الطعام لأن حلال الطعام عندهم حرام، ألم يقل أحد كبارهم وهو عبد الله الدهلوي: «كما أن طلب الحلال فرض على المؤمنين كذلك ترك الحلال فرض على العارفين» (3).وكان يقول: «إن الصوفي الكامل هو الذي لا ينسب الخير لنفسه ويعلم أنه مستعار، وهذا هو الحق معنى الفناء التام وحصول الشهود الصحيح وهذا سر قول الحلاج: «أنا الحق» (4). وقد عذر السرهندي الحلاج في التفوه بهذا الكفر لأن السكر قد غلبه. وحين توفي حبيب الله جان جانان النقشبندي ارتفع نصف القرآن إلى السماء ووقع في الدين فتور (5).وكان عبد الله الخاني يخبر بالامور قبل وقوعها ولا يسأل أتباعه عن أحوالهم وإنما يخبرهم عنها» (6). 3 - عبيد الله أحراروكان لعبيد الله أحرار ميزة عجيبة فكان عنده قوة ينقل بها المرض من شخص لآخر (7).ونص الدهلوي على أن نقل المرض من كرامات مشايخ هذه الطريقة (8) ويحكي الخاني أن الشيخ عبيد الله أحرار مرض فقال له الشيخ قاسم: إني قد فديتك بنفسي. فقال له عبيد الله: لا تفعل هكذا فإن المتعلقين بك كثيرون وأنت رجل شاب. فقال الشيخ قاسم: ما جئتك مستشيرا في هذا الأمر بل قررته في نفسي وصممت عليه وجئتك، وقد قبل الله مني ذلك. ففي اليوم التالي انتقل مرض الشيخ عبيد الله إلى الشيخ قاسم، وبرئ الشيخ عبيد الله من المرض برءا تاما فلم يعد بحاجة إلى طبيب (9) .. ويحكي الخاني أن تحمل المشايخ للأمراض ونقله إلى آخرين من عادة السادة أصحاب الطريقة (10).وقال أحد أصحاب المولى الجامي الذي يصفه النقشبنديون بـ (روح الله) (11) «لما سمعت بمرض مولانا الجامي حضرت إليه لعيادته فرأيت المرض قد قام منه وتوجه إلي فتضرعت إلى الله وقلت يا رب ليس لي طاقة لتحمل هذا المرض فاندفع المرض عني. وهذا الجامي حضر شخصيا أثناء نزعه الأخير وأعاده إلى الحياة بالرغم من خروج الروح منه» (12). 4 - الشيخ محمد المعصوم   (1) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) (202). (2) ((الأنوار القدسية)) (204) ((المواهب السرمدسة)) (224) ((جامع كرامات الأولياء)) (1/ 389). (3) ((المواهب السرمدية)) (241)، ((الأنوار القدسية)) (213) ((الحدائق الوردية)) (134). (4) ((المواهب السرمدية)) (227) ((الأنوار القدسية)) (205) ((مكتوبات الإمام الرباني)) (107). (5) ((الأنوار القدسية)) 207 ((المواهب السرمدية)) 231 - 232 الحدائق الوردية في حقائق النقشبندية 206. (6) ((جامع كرامات الأولياء)) (1/ 222 - 223). (7) ((جامع كرامات الأولياء)) (2/ 236) ((الأنوار القدسية)) (177) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) (ص 9) وانظر ((رشحات عين الحياة)) (247 - 248) وكذلك انظر ((الرشحات)) (262). (8) ((شفاء العليل ترجمة القول الجميل)) (104). (9) ((الأنوار القدسية)) (177) ((جامع كرامات الأولياء)) (2/ 236 - 237). (10) ((الحدائق الوردية)) (148). (11) ((مكتوبات الإمام الرباني)) (ص 10). (12) ((رشحات عين الحياة)) (124). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 239 أما الشيخ محمد المعصوم فقد كان غوثا يستغيث به الناس ويصفونه بحضرة القيوم فقد سقط أحد مريديه عن فرسه في الصحراء، قال: «فاستغثت بحضرة القيوم فحضر بنفسه وأيقظني».كذلك أشرف آخر من أتباعه على الغرق فاستغاث به فحضر في الحال وأنقذه. وكان يغيث الناس في أقصى الأرض وهو جالس في مكانه. فقد استغاث به رجل في سفينة كانت تغرق فمد الشيخ يده وانتشل السفينة وهو في بيته أمام أصحابه الذين رأوا فجأة أن كمه صارت مبللة بعد أن رأوه يمدها في الهواء (1).وجاء يوما سيل عظيم على قرية «مولانا عارف» فخاف أهلها من الغرق ففزعوا إليه فخرج وجلس مكان طغيان الماء وقال للماء: إن كان لك قوة فاحملني. فتراجع السيل (2). إن هؤلاء في الحقيقة إنما يثبتون صفات الأولياء «الحسنى» ليتعلق بهم العوام وقد عطلوا صفات الله الحسنى بالتأويلات التي يسمونها تأويلات أهل الحق. فحرروا القلوب من التعلق بالله وعلقوها بالأولياء. ويحكون عن هذا الشيخ أنه كان وليا منذ الولادة. وأنه لم يكن يأخذ ثدي أمه في رمضان. وتكلم بـ (التوحيد) وهو ابن ثلاث سنوات فقال: أنا الأرض أنا السماء أنا كذا أنا: هذا الجدار حتى هذه الأشجار حق. وكان يقول: إني أرى نفسي نورا ساريا في كل ذرة من ذرات العالم والعالم يتنور بي كالشمس. وقد خلعه الله بخلعة (أي صفة) القيومية فصاروا يصفونه بالقيوم (3).قالوا: وذكر عنده رافضي يطعن في أبي بكر وعمر فغضب الشيخ محمد المعصوم غضبا شديدا وكان بين يديه بطيخ: فأخذ السكين وقال لها: اذبحي هذا الخبيث ثم أمرّ السكين على البطيخ فمات الرافضي من وقته (4). مكالمات بين الله وبين ولدهكتب ولد الشيخ محمد المعصوم يقول لوالده: «إني تشرفت في هذه الأيام بإلهامات غريبة ومخاطبات عجيبة فقيل لي: أنت من أوليائي وأنت من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ورأيت يوما أن وصولي إلى جناب قدسه تبارك وتعالى بلا واسطة أحد. وإذا بصورتك المباركة قد ظهرت بيننا ووجدت نفسي قد اتحدت بجنابكم فهنالك ظهر تنزل الحق سبحانه بلا كيف فأرجو التصديق على هذا» (5) انتهى. المصدر: الطريقة النقشبندية لعبد الرحمن دمشقية - ص85 - 95   (1) ((جامع كرامات الأولياء)) (1/ 199) ((المواهب السرمدية)) (210) ((الأنوار القدسية)) (195) ((الحدائق الوردية)) (195). (2) ((المواهب السرمدية)) (107) ((لأنوار القدسية)) (125) (3) ((الحدائق الوردية)) (191) ((المواهب السرمدية)) (202 - 203) ((الأنوار القدسية)) (192). (4) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) (ص 195). (5) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية)) (ص 198). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 240 المبحث الثامن: النهج الباطني عند النقشبندية والصوفية وزعم عثمان سراج الدين النقشبندي أن للقرآن ظاهرا وبطنا وظهر ظهر وبطن بطن وهكذا إلى ما لا يعلمه الا الله (1). وفسر قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ [الحجر:26] أي أوجدنا كل فرد من أفراد الإنسان الباطني وهو مجرداته الخمسة: القلب والروح والسر والخفي والأخفى» (2).وقال بهاء الدين نقشبند في قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر: 1] , «أي أعطيناك شهود الأحدية في الكثرة» (3).وفسر عبد الرزاق النقشبندي بِسْمِ اللَّهِ [النمل:30] أي باسم الإنسان الكامل (4).والكمال الإنساني عندهم مرآة للكمال المحمدي. والكمال المحمدي مرآة للكمال الإلهي. ولا يتجلى الحق إلا من خلف حجاب الكمال المحمدي إذ هو الواسطة العظمى التي لا كمال إلا بها (5).وفسر مشايخ النقشبندية قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29] , بمعنى أن العبد بعد الفناء يبقى في الله فيصير مظهر تجليات أسماء الأفعال ويجد في نفسه آثار الأسماء الكونية ويحصل له حظ من كل اسم (6).وفسر الكردي قوله تعالى: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر: 32] , الظالم لنفسه أي من منع نفسه عن اللذات وما أعطاها مرادها فصار مستعدا لقبول الفيض الإلهي وحينئذ يكون مقدما على المقتصد وعلى السابق بالخيرات. وهذا تحريف للقرآن وهو عمل اليهود. وقد صرح الحافظ ابن حجر بأن تحريف معاني النصوص موجود بكثرة عند اليهود (7).وفسروا الآية إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: 10] , أي يصعد من القلوب أنوار الذكر وأنوار نازلة من العرش على قلبك، فإذا فني وجودك الجسماني عن شهودها من النور إلى النور فتصعد منك وتنزل منه» (8).وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أمط الأذى عن الطريق)) (9) قال بهاء الدين نقشبند: «الأذى معناه أذى النفس والطريق طريق الحق» (10).وقوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف: 24] , أي إذا نسيت غيره وحمل الآية على معنى الفناء في الله (11).وقوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] , المراد من (الملك) قلب السالك حين يتجلى الله سبحانه للقلب بقهر الأحدية لا يترك فيه شيئا غيره فيلقي اليه صدى لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ فإذا لم ير في تلك المملكة غيره يجيب تعالى بنفسه بالضرورة بقوله: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] , ويسمع صدى (سبحاني ما أعظم شأني) و (أنا الحق) و (هل في الدارين غيري) (12).   (1) ((تفسير سورة التين)) (ص 5) طبعة؟ كتب عليها «يوزع مجانا عن روح إبراهيم ومحاسن وناريمان فولادكار». (2) ((تفسير سورة التين)) (26) ((الحدائق الوردية في أجلاء الطريقة النقشبندية)) (171). (3) ((المواهب السرمدية)) (162) ((الأنوار القدسية)) (162) ((رشحات عين الحياة)) (174 و186). (4) ((رشحات عين الحياة)) (121). (5) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (26) (34 حسب الترقيم الخطأ). (6) ((المواهب السرمدية)) (162). (7) ((فتح الباري)) (13/ 524). (8) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (81). (9) رواه أحمد في ((المسند)) (19810) (4/ 423) من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه, وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن من أجل جابر بن عمرو الراسبي, وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1390). (10) ((الحدائق الوردية)) (ص 131). (11) ((البهجة السنية في آداب الطريقة الخالدية العلية النقشبندية)) (53) لمحمد بن عبد الله الخاني ط: مكتبة الحقيقة بتركيا. (12) ((رشحات عين الحياة)) (186). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 241 وفي قوله تعالى: وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ [يس: 37] , قالوا: النهار هو نور الوجود والليل ظلمة العدم (1).وقالوا في قوله تعالى: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه: 12] , أي اخلع حبك من الدنيا والآخرة (2). وقالوا في تفسير سورة الإخلاص: «إن أول موجود أوجده الله بلا واسطة هو التعين الأول ولما كان ظهوره من المبدأ الفياض بما يشبه الولادة قال تعالى: لَمْ يَلِدْ نفيا لشبه الولادة. ولما ظهر تعالى في المظاهر الإلهية بحسب الذات والأسماء والأفعال وكان هذا الظهور يشبه المولودية قال تعالى: وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:3] نفيا لشبه المولودية. ولما جعل الحق هذا النوع الإنساني مظهر جميع أسمائه، أن الله خلق آدم على صورته أو صورة الرحمن: فكان مرآة ذاته الأقدس الذي: هو الله أحد الله الصمد صفته وكان هذا التوهم كفر، نفى هذه المشابهة وقال: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]» (3). وقالوا عن معنى قوله تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا [الشورى: 49] , أي العبادات والمعاملات وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى: 49] , أي الأحوال والعلوم والمقامات. وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا [الشورى: 50] , أي بلا علم ولا عمل» (4). المطلب الثاني: تعاليم هندوسية ويحكي صاحب (الرشحات) قصة أحد كبار النقشبندية قال: «وكان الشيخ لا يأكل الطعام الحاصل من الحيوانات ويمتنع عنه ويقول: أنا أتعجب من الناس كيف يضعون السكين على حلق ما له عينان ينظر بهما إليهم ويقتلونه ثم يطبخون لحمه ويأكلون؟ قال صاحب (الرشحات): «ويفهم من كلام الشيخ هذا أنه في ذلك الوقت كان متحققا بمقام الأبدال فإن تلك الخصلة مخصوصة بمقام الأبدال فإنهم لا يقتلون شيئًا من الحيوانات ولا يؤذونه ولا يأكلون لحمه لغلبة شهود سريان الحياة الحقيقية في الأشياء عليهم في هذا المقام» (5). ويحكي صاحب (الرشحات) نفسه عن أحد شيوخه أنه كان يصلي قائما على رجل واحدة فقط. وهذه من تعاليم الهنود. فقد قال الغزالي: «وعباد الهنود يعالجون الكسل عن العبادة بالقيام طول الليل على رجل واحدة» (6). تعظيمهم للحسين بن منصور الحلاج   (1) ((رشحات عين الحياة)) (126). (2) ((البهجة السنية في آداب الطريقة الخالدية العلية النقشبندية)) (33) لمحمد بن عبد الله الخاني ط: مكتبة الحقيقة بتركيا. (3) الحدائق الوردية في أجلاء الطريق النقشبندية (171). (4) ((جامع الأصول في الأولياء وأنواعهم وأوصافهم وأصول كل طريق ومهمات المريد وشروط الشيخ)) (ص 141) طبع بالمطبعة الجمالية بمصر سنة 1328. (5) ((رشحات عين الحياة)) (153). (6) ((إحياء علوم الدين)) (3/ 62). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 242 هو الحسين بن منصور الحلاج كان من أصحاب أسياد الصوفية كـ " الجنيد " و"الشبلي" غير أنه كان أكثر الصوفية جرأة على إظهار العقيدة الباطنية الاتحادية للفكر الصوفي ولم يكتمها على نحو ما كان يوصي به أئمة التصوف. يقول الشبلي: «كنت أنا والحسين بن منصور شيئًا واحدا إلا أنه أظهر وكتمت» واعتبروا أن خطأه كان في إظهار ما كان يجب عليه كتمانه. (1).وقد أظهر الحلاج من كلمات الكفر ووحدة الوجود ما اضطر كثيرين من الفقهاء وحتى الصوفية إلى الفتوى بوجوب قتله كالجنيد حتى إن الرفاعي نفسه أيد من أفتى بقتله قائلا: «لو كنت في زمن الحلاج لأفتيت مع من أفتوا بقتله» «ولو كان على الحق لما قال أنا الحق .. ما أراه رجلا واصلا أبدا» (2). مع أن السرهندي يعذره لقوله هذا بأن السكر قد غلبه (3).ويروي القشيري أن الحلاج كان مصاحبا لعمرو بن عثمان المكي (أحد سادة التصوف) وكان مرة يكتب شيئًا فسأله عمرو عنه فقال: أكتب شيئًا أعارض به القرآن. فهجره ودعا عليه قائلا: «اللهم اقطع يديه ورجليه». ومن ثم قالوا: إن قتل الحلاج بطريقة الصلب وتقطيع الأيدي والأرجل إنما كان استجابة من الله لدعوة هذا الرجل (4). ومع ذلك فإن الصوفية يلمحون تارة بولائهم وتعظيمهم للحلاج وتارة يصرحون بذلك. ولكن بالرغم من ذلك كان القشيري والغزالي وغيرهما يستشهدون بكلامه في إثبات عقائد أهل السنة مما جعل الشعراني يؤكد أن القشيري إنما افتتح كتابه بالاستشهاد بكلام الحلاج لأجل إحسان الظن به. واحتج به الغزالي في إثبات أفضل مراتب التوحيد عند الصوفية وهي مرتبة «وحدة الوجود والفناء بالله». وروى الشعراني عن شيخه أبي العباس المرسي أنه كان يكره من الفقهاء خصلتين: 1 ـ قولهم بكفر الحلاج.2 ـ قولهم بموت الخضر (5). لقد كان الرجل من أعظم المصرحين بوحدة الوجود والفناء في ذات الله حتى أثر عنه ادعاء الربوبية، وضبطوا عليه كلمات قمة في الكفر كقوله «أنا الحق» و «سبحاني ما أعظم شأني» و «ما في الجبة الا الله». وقوله: مزجت روحك في روحي كما ... تمزج الخمرة في الماء الزلال فإذا مسك شيء مسني ... فإذا أنت أنا في كل حال (6) وقوله (7) الذي استحسنه الدوسري صاحب (الرحمة الهابطة): أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتنا وقد استحسنت أمهات كتب النقشبندية من الحلاج هذا البيت من الشعر الذي كان بهاء الدين يتمثل به وكان كلما ذكر اسم الحلاج قال «قدس الله سره» وهذا البيت هو: كفرت بدين الله والكفر واجب ... لدي وعند المسلمين قبيح (8) فأي إسلام يرجى ويقبل ممن يستحسن هذا البيت ويتمثل به؟!   (1) كتاب ((الحلاج)) لطه عبد الباقي سرور (104). ((الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات وتحقيق الرابطة)) (94). (2) ((حكم الرفاعي)) (16) ((المعارف المحمدية)) (10 و 47) ((سواد العينين)) (12). (3) ((مكتوبات الإمام الرباني)) السرهندي (107). (4) ((الرسالة القشيرية)) (151) وانظر ((ترياق المحبين)) (66) ((سير أعلام النبلاء)) (14/ 316). (5) ((الرسالة القشيرية)) (6) ((طبقات الشعراني)) (1/ 108) ((لطائف المنن والأخلاق)) (479) ((إحياء علوم الدين)) (4/ 247). (6) ((البداية والنهاية)) (11/ 134) ((تاريخ بغداد)) (8/ 115). (7) ((أخبار الحلاج)) (16) ((الطواسين للحلاج)) (134) ((تاريخ بغداد)) (8/ 129). ((الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات وتحقيق الرابطة)) (ص 112) بهامش المكتوبات. (8) ((الأنوار القدسية)) (134) ((الحدائق الوردية)) (134) واحتج ببيته مرة ثانية (ص 213) واحتج به السرهندي (ص 282). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 243 فيا من تتكلمون عن ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من علماء الأمة تبرءوا من مدح أئمة الكفر واستحسان كلام الكفر الذي تناقلتموه قبل أن تنقضوا الآخرين. وكان يعتبر فرعون وليا والشيطان مؤمنا. فيقول مثنيا على أخويه: «وما كان في أهل السماء موحد مثل إبليس، فصاحبي وأستاذي إبليس وفرعون، إبليس هدد بالنار وما رجع عن دعواه، وفرعون أغرق في اليم وما رجع عن دعواه، ولم يقر بالواسطة البته» (1).وقد ضبط الجنود رسالة إلى شخص وإذا فيها «من الرحمن الرحيم إلى فلان». فقالوا له: كنت تدعي النبوة فأصبحت تدعي الألوهية؟ قال: لا ولكن هذا عين الجمع عندنا، هل الكاتب إلا الله تعالى واليد فيه آلة» (2).وكتب رسالة أخرى إلى أحد خواص أصحابه قال له فيها: «ستر الله عنك ظاهر الشريعة وكشف لك حقيقة الكفر، فإن ظاهر الشريعة كفر خفي وحقيقة الكفر معرفة جلية» (3).وكان يتهكم بالقرآن ويقول عنه: «بإمكاني أن أؤلف مثله» (4).وكان قد أفتى بأن الإنسان إذا أراد الحج ولم يتمكن فليعمد إلى غرفة من بيته فيطهرها ويطيبها ويطوف بها فيكون كمن حج البيت. قال ابن كثير معقبا على فتوى الحلاج: «وكان يقول لأتباعه: من صام ثلاثة أيام لا يفطر إلا في اليوم الرابع على ورقات أجزأه ذلك عن صوم رمضان» (5).ومهما حاولوا التنصل منه والتظاهر بمخالفته فإنهم في الحقيقة مفتونون فيه ويهتمون بنقل كلامه وإشاراته في التوحيد (أي وحدة الوجود) كما فعل أبو حامد الغزالي في الاستشهاد بكلام الحلاج عن الفناء في التوحيد (6).بل يدافعون عنه ويصفونه بأعلى مقامات الولاية حتى زعم محمد معصوم النقشبندي أنه «لما وضع الحلاج في السجن كان يصلي في الليلة الواحدة خمسمائة ركعة نافلة وكان لا يأكل من أيدي الظالمين» (7).وقال الشيخ علي الراميتني: «لو كان أحد على وجه الأرض من أولاد الشيخ عبد القادر الغجدواني موجودا لما صلب الحلاج» (8).وكان الشيخ حبيب الله جان جانان يعتذر عن شطحات الحلاج ويقول: «وهذا سر قول الحسين بن منصور رحمه الله (أنا الحق) فإنه وإن كان معذورا في ذلك نظرا لغلبة السكر عليه إلا أنه كان مخطئا في تلك الرؤية» (9).   (1) ((الطواسين)) للحلاج (42 و51 - 52). (2) ((تلبيس إبليس)) 171 - 172 ((البداية والنهاية)) 11/ 138. (3) ((أخبار الحلاج)) (35). (4) انظر ((تلبيس إبليس)) 171 و ((الرسالة القشيرية)) 151 والمنتظم لابن الجوزي 6/ 162 وتاريخ بغداد 8/ 121. (5) الطبقات الكبرى للشعراني 1/ 16 - 17 ((تلبيس إبليس)) 371 ((البداية والنهاية)) 11/ 140. (6) ((إحياء علوم الدين)) (4/ 247). (7) كتاب ((السبع الأسرار في مدارج الأخيار)) لمحمد معصوم (ص 47). (8) ((المواهب السرمدية)) 99 ((الأنوار القدسية)) 121. (9) ((الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبندية)) 204 و180 وانظر إقرارهم لهذه اللفظة وكثرة استخدامهم لها ((رشحات عين الحياة)) 133 و186 ((المواهب السرمدية)) 90و162و226 - 227 و ((الأنوار القدسية)) 205 ((البهجة السنية)) 81 ((السبع الأسرار في مدارج الأخيار)) 31 أخبار الحلاج 53. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 244 وهكذا فالنقشبنديون متفقون على استحسان هذه العبارة لأنها توافق أعظم غاية الطريقة وهي: الفناء في ذات الله وتحقيق الوحدة بين العابد والمعبود فيصير الرب عبدا والعبد ربا. ويقول مولاهم الجامي «لقد أراد الحلاج بهذه العبارة حقيقة نفسه وحيث قال فرعون: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]: أراد به صورة نفسه» (1)!. فهكذا دائما: كتبهم مملوءة بإشارات وتصريحات وحدة الوجود. وجاء في كتاب (الإيمان والإسلام) للشيخ خالد البغدادي النقشبندي (ص 92) فصلا بعنوان «السلفيون» يظهر أن ملتزم الطبع ألحقه به وفيه يذكر تبديع ابن تيمية لبعض الأئمة قال: «كما تتبع ابن عربي وابن الفارض وابن سبعين وتتبع أيضا الحلاج ولا زال يتتبع الأكابر حتى تمالأ عليه أهل عصره ففسقوه وبدعوه بل كفره بعض منهم» (2). فالنقشبنديون يزعجهم طعن ابن تيمية في الحلاج وابن عربي وابن الفارض الذي كان يتغزل بالله بأبيات الشعر ويكنيه بالأنثى. موقفهم من قول أبي يزيد: سبحانيوكذلك استحسن النقشبنديون قول أبي يزيد: «سبحاني ما أعظم شأني» (3). ولم ينكروا هذا القول أو يستنكروه، بل أثبتوه على أنه نهاية ما يحصل للسالك إلى الله الفاني به. وقد زعموا - خوفا من السوط أو السيف - أن هذا القول خطأ ووهم يحصل للعبد عند بلوغه قمة الوصول إلى الله. والإسلام لا يعرف عبادة تنتهي بصاحبها إلى التلفظ بالكفر وادعاء الألوهية. وذكرت كتبهم أنه صلى بالناس الفجر ثم التفت إليهم فقال: «إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدوني. فتركه الناس وقالوا: مجنون، مسكين» (4).وجاء إلى بيته رجل فدق بابه فقال أبو يزيد: من تطلب؟ فقال الطارق: أريد أبا يزيد. فقال له أبو يزيد: ليس في البيت غير الله (5).وحكى السرهندي الفاروقي شيخ النقشبنديين أن أبا يزيد قال: «لوائي أرفع من لواء محمد» وعذره السرهندي لأنها مقولة سكرية قالها أبو يزيد في حالة سكره بالله (6).وحكوا أيضا أنه قال: «إن لله علي نعما منها أني رضيت أن أحرق بالنار بدل الخلق شفقة عليهم» (7). وقوله: «الناس يفرون من الحساب وأنا أتمناه لعله يقول لي: يا عبدي فأقول: لبيك. فيفعل بي ما يشاء» (8). وهذا مبدأ الفداء والكفارة وقبول التعذيب نيابة عن الخلق مقتبس من عقيدة النصارى نجده عند النقشبندية يروونه عن أبي يزيد. ونجده عند الرفاعية الذين نسبوا إلى شيخهم الرفاعي أنه قبل أن يعذب كفارة عن خطايا الخلق. فالنصارى تقول: «يسوع الذي صلب ومات لأجلنا وهو الآن يتردى في جهنم ليخلصنا ويضحي بنفسه من أجلنا» (9). وقال فليبس: «يسوع الذي تألم لخلاصنا وهبط إلى الجحيم».   (1) ((رشحات عين الحياة)) 143. (2) كتاب ((الإيمان والإسلام)) لخالد البغدادي النقشبندي ص 92 (3) ((المواهب السرمدية)) 48 و90و162و226 - 227 ((الأنوار القدسية)) 97و99 ((تلبيس إبليس)) 344 الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبندية 204 و180 ((رشحات عين الحياة)) 133 و186 ((الأنوار القدسية)) 205 ((البهجة السنية)) 81 ((السبع الأسرار في مدارج الأخيار)) 31. (4) ((المواهب السرمدية)) 57 ((الأنوار القدسية)) 102 ((تلبيس إبليس)) 345. (5) ((المواهب السرمدية)) 47 ((تلبيس إبليس)) 341. (6) مكتوبات السرهندي المسماة ((بالمكتوبات الشريفة)) ص 101. (7) ((الأنوار القدسية)) 103 ((تلبيس إبليس)) 341. (8) ((الأنوار القدسية)) 100. (9) ((رسالة بولس إلى أهل غلاطية)) 3: 13. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 245 وقد بلغ الزهد بأبي يزيد أن صار زاهدا في الآخرة وفي الجنة، فهو لا يريدها لكنه يريد الله فقط. قال: «أوقفني الحق بين يديه مواقف في كلها يعرض علي المملكة فأقول: لا أريدها، فقال الله: فماذا تريد؟ فقلت له: أريد أن لا أريد» (1). وصرح السرهندي بأن رفع الاثنينية بين الخالق والمخلوق مطلوب في مقام الولاية، ثم احتج بقول أبي يزيد هذا (2).وحتى العبادة لا يريدها ولا يراها مقربة إلى الله، ولهذا روى النقشبنديون عنه أنه قال: «وقفت مع العابدين فلم أر لي معهم قدما، فوقفت مع المجاهدين فلم أر لي معهم قدما، ووقفت مع المصلين فلم أر لي معهم قدما، فقلت: يا رب كيف الطريق إليك؟ فقال: اترك نفسك وتعال» (3). وإنما العبادة مشغلة ينشغل بها العابدون عن الله، هذا ما استحسن ذكره النقشبنديون بصرف النظر عن مدى ثبوت ذلك عن أبي يزيد. فقد رووا عنه أنه قال: «اطلع الله على قلوب أوليائه فرأى منهم من لم يكن يصلح لحمل المعرفة صرفا: فشغله بالعبادة» أضاف «وإن في الطاعات من الآفات ما يحتاج إلى أن تطلبوا المعاصي» (4). تعظيم النقشبنديين لابن عربييصفونه بالشيخ الأكبر ويقولون عند ذكر اسمه: «قدس الله سره» ويصفونه بـ «غوث المحققين وقطب الموحدين» مع اعترافهم بأنه كان يقول: أنا ختام الأنبياء والمرسلين (5).ولا يزال النقشبنديون يصفونه بخاتم الأولياء (6)، يعني أنه لا يوجد ولي لله بعد ابن عربي إلى يوم القيامة.   (1) ((المواهب السرمدية)) 55 ((الأنوار القدسية)) 101 - 102. (2) ((مكتوبات الإمام الرباني)) 364. (3) ((تنوير القلوب)) 469 ((الأنوار القدسية)) 98. (4) ((المواهب السرمدية)) 61 ((الأنوار القدسية)) 104 وكذلك انظر ((المواهب السرمدية)) 50. (5) ((البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية)) 51 وانظر المكتوبات ص 193. (6) ((المواهب السرمدية)) 162. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 246 وبالرغم من اعتراف السرهندي الفاروقي مجدد الطريقة النقشبندية أن ابن عربي أول من صرح بوحدة الوجود وأن عباراته مشعرة بالاتحاد وأنه بوب مسائل وحدة الوجود وفصلها. وأنه زعم أن خاتم الأنبياء يأخذ علومه من مشكاة خاتم الأولياء ويعني بخاتم الأولياء نفسه (1) انتهى. ويصرح بأن أكثر كشوفات ابن عربي مخالفة لعلوم أهل السنة بعيدة عن الصواب ولا يتبعها إلا كل مريض القلب (2).فقد استحسن السرهندي الفاروقي قول ابن عربي أن الجمع المحمدي أجمع من الجمع الإلهي. وتعجب السرهندي من اعتقاد ابن عربي بأن ذات الله مجهولة مطلقة ومع ذلك فإنه يثبت الإحاطة والقرب والمعية الذاتية. (3).وتحدث السرهندي عن الرضا بالخير والرضا بالشر ثم اعترف بأن «الإيمان مرضي الاسم (الهادي) والكفر مرضي الاسم (المضل) مخالفة لما عليه أهل الحق وفيه ميل إلى الإيجاب لكونه منشأ للرضا» (4). واعتبر أن قوله بترتيب خلافة الخلفاء الراشدين بحسب مدة أعمارهم، اعتبر ذلك من شطحاته (5).ونقل صاحب (الرحمة الهابطة) عن ابن عربي قوله: «إن الله له لسان يتكلم به وأذن يسمع بها وأن عبد القادر الجيلاني قال: رأيت ربي بعين رأسي بصورة» (6).ومع اعتذار كثيرين عن كتاب (الفتوحات المكية) لابن عربي بأنه مدسوس عليه إلا أنهم لا يزالون يصرحون بإعجابهم بالكتاب وشغفهم بقراءته فقد قال عبد المجيد الخاني عن جده محمد صاحب (البهجة السنية) بأنه كان مشغوفا بمطالعة كتب الصوفية وخصوصا كتاب (الفتوحات المكية) لابن عربي وتائية ابن الفارض قدس الله سرهما ... وكذلك كتاب (الفصوص) لابن عربي، ويسمون نصوص الفصوص بالكلمات القدسية» (7).فقد جاء في (الرشحات) «أن كتاب (الفصوص) (روح) و (الفتوحات المكية) (قلب) ومن علم (الفصوص) علما جيدا تتقوى داعية متابعته للنبي صلى الله عليه وسلم وذكر في (الرشحات) أن الشيخ محمد الكوسوي كان يعتقد مصنفات حضرة الشيخ محيي الدين ابن عربي الذي كان يقرر في كتبه التوحيد الوجودي بما لا يمكن الإنكار عليه (8). ويفسر عبيد الله أحرار قول الله تعالى: فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا [النجم:29] بما قاله محيي الدين بن عربي ألا بذكر الله تزداد الذنوب وتنطمس البصائر والقلوب وترك الذكر أحسن منه حالا فإن الشمس ليس لها غروب (9) فذكر الله يطمس البصائر والقلوب وترك الذكر خير من الذكر. في أي دين هذا؟ إن النصرانية لا تنهى عن ذكر الله كما ينهى عنه هؤلاء الذين يدعون أنهم وصلوا في محبة الله إلى المقامات العليا وهم لا يزالون يسبون الله ورسوله. ويمدحون قول الحلاج: كفرت بدين الله. ويدافع الكمشخاتلي صاحب (جامع الأصول) عن قول ابن عربي: العبد رب والرب عبد يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك رب أو قلت رب أنى يكلف غير أنه يحرفه فيجعله كالتالي: العبد حق والرب حق فليت شعري من المكلف إن قلت عبد فالعبد ميت أو قلت رب فما يكلف (10) ومما قاله ابن عربي في فصوص الكفر: فوقتا يكون العبد ربا بلا شك   (1) ((مكتوبات الإمام الرباني)) 287. (2) ((مكتوبات الإمام الرباني)) السرهندي 277. (3) ((مكتوبات الإمام الرباني)) ص 42 وانظر كذلك صفحة 193. (4) ((المكتوبات الربانية)) 267. (5) ((مكتوبات الإمام الرباني)) السرهندي الفاروقي 277. (6) ((الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات وتحقيق الرابطة)) لحسين الدوسري على هامش مكتوبات السرهندي ص 97 و99. (7) الحدائق الوردية ص 271 وانظر صفحة 282 (ترقيم خطأ 274). ((رشحات عين الحياة)) 73وانظر صفحة 128. (8) ((رشحات عين الحياة)) 111. (9) ((المواهب السرمدية)) 161. (10) ((جامع الأصول في الأولياء وأنواعهم وأوصافهم)) (296) قارنه بالفصوص (83 و90 و92). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 247 ووقتا يكون العبد عبدا بلا إفك فإن كان عبد اكان بالحق واسعا وإن كان ربا كان في عيشة ضنك ويقول: فأنت عبد وأنت رب لمن له فيه أنت عبد وأنت رب وأنت عبد لمن له في الخطاب عهد ويقول: فيحمدني وأحمده ويعبدني وأعبده ففي حال أقر به وفي الأعيان أجحده ويقلد النقشبنديون كلام ابن عربي في فلسفته الصوفية فيقولون: «فيدعون أن أول موجود أوجده الله بلا واسطة هو التعين الأول وكان ظهوره من المبدأ الفياض بما يشبه الولادة» (1).فهذه مخالفة عظيمة لعلماء الإسلام الذين طعنوا في ابن عربي وحذروا منه. أبرزهم في ذلك العلامة العز بن عبد السلام رحمه الله الذي وصفه بأنه شيخ سوء كذاب يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجا (2). وكتب الشيخ ملا علي قاري كتابا في الرد عليه لقوله بإيمان فرعون. وقد صرح بضلاله الحافظ ابن حجر والسخاوي ووصفه ابن حيان النحوي بالملحد والزنديق وقال المقري: «من لم يكفره كان كمن لم يكفر اليهود ولا النصارى (3). فكيف تكون الطريقة النقشبندية على السنة وهي تستمد تعاليمها من كتب (الفصوص) و (الفتوحات المكية) وتتجاهل تضليل أئمة الأمة لأخطر وأكفر شخصية امتلأت كتبها بكفر لم يجرؤ عليه اليهود ولا النصارى!!!.بل تقبل كل كلامه حتى قوله بأنه رأى الله على صورة فرس كما صرح به صاحب الرشحات (4)!. المصدر: الطريقة النقشبندية لعبد الرحمن دمشقية - ص98 فما بعدها   (1) ((الحدائق الوردية في أجلاء الطريق النقشبندية)) (171). (2) حكاه الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (23/ 48). (3) ((لسان الميزان)) (2/ 384) تفسير ((البحر المحيط)) لأبي حيان 3/ 449 و ((الضوء اللامع)) للسخاوي 6/ 186 و9/ 220 وانظر ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي المكي 1/ 33 - 35 و2/ 379. (4) ((رشحات عين الحياة)) 133. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 248 المبحث التاسع: آداب المريد مع شيخه أن يكون مستسلما منقادا راضيا بتصرفات الشيخ يخدمه بالمال والبدن لأن جوهر الإرادة والمحبة لا ينبني إلا بهذا الطريق، ولا ينكر عليهم شيئًا من أفعالهم لأن المنكر عليهم لا ينجو. وفضلوا خدمة الشيخ على التقرب إلى الله بالنوافل بل على أي عمل صالح آخر كما قال محمد أمين الكردي: «قال بعضهم: الخدمة عند القوم من أفضل العمل الصالح» (1).فقال عبيد الله أحرار: «وظن بعض الناس أن الاشتغال بالنوافل أولى من خدمة الشيخ وليس كذلك، فإن نتيجة الخدمة المحبة وميل القلوب لأنها جبلت على حب من أحسن إليها، وفرق بين ثمرة النوافل وثمرة الخدمة» (2). وقد تجاهلوا ثمرة التقرب إلى الله بالنوافل وهي محبة الله كما قال: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه». زاعمين أنه لا يزال المريد يتقرب إلى الشيخ بالخدمة حتى يحبه!!! وزعموا في ذلك أن صوفيا رأى النبي في المنام فسأله أن يوصيه فقال له النبي: «وقوفك بين يدي ولي الله كحلب شاة أو شي بيضة خير لك من أن تعبد الله حتى تتقطع إربا إربا، قال: حيا أم ميتا يا رسول الله؟ قال: حيا كان أو ميتا» (3). أن يحب ما يحبه شيخه ويكره ما يكرهه. وأن لا يتوجه إلا لما أراده شيخه رافعا نظره عن غيره. أن يكون اعتقاده مقصورا على معتقد شيخه. أن يفنى في الشيخ في ذاته وأفعاله وصفاته فإن الفناء في الشيخ مقدمة للفناء في الله (4). أن لا يتوضأ بمرأى من شيخه ولا يصلي النوافل بحضرته بل زاد السرهندي على ذلك فقال: ولا يذكر الله إلا بإذن الشيخ (5). أن لا يتوجه إلا لما أراده الشيخ. أن لا يتكلم في مجلس قط إلا بدستور شيخه إن كان جسمه حاضرا، وإن كان غائبا يستأذنه بالقلب (6). أن لا يشرب ماء ولا يأكل طعاما ولا يكلم أحدا في حضور شيخه. أن لا يكون متوجها إلى أحد. ولا يمد رجله عند غيبة شيخه إلى جانب هو فيه ولا يرمي بصاقه إلى ذلك الجانب. أي الجهة التي يكون فيها الشيخ في أي مكان في العالم. أن لا ينكر على شيخه قولا أو فعلا ظاهرا كان أم باطنا؛ لأن شيخه بيد الله تعالى: والله لا يأمر بالفحشاء والمنكر. أن يعتقد أن كل شيء يصدر عن شيخه يعتبره صوابا وإن لم يره صوابا في الظاهر فإنه يفعل ما يفعله بطريق الإلهام والإذن (7). أن لا يقوم في محل يقع ظله على ثوب شيخه أو ظله (8). أن لا يضع رجله في مصلاه. أن يكون بين يديه كالميت بين يدي غاسله لا يخالفه في شيء مطلقا (9). ثم أنشد الكردي شعرا يبين كيف يكون المريد من شيخه فقال: وكن عنده كالميت عند مغسل يقلبه ما شاء وهو مطاوع ولا تعترض فيما جهلت من أمره عليه فإن الاعتراض تنازع وسلم له فيما تراه ولو يكن على غير مشروع فثم مخادع (10)   (1) ((تنوير القلوب)) 528 - 530 وانظر ((المواهب السرمدية)) 79 و ((الأنوار القدسية)) 112. (2) ((المواهب السرمدية)) 163 ((الأنوار القدسية)) 161. (3) من كتاب ((بارق الحمى)) للمهدي الرواس ص 47 و181 (ضمن كتاب المجموعة النادرة). (4) ((السعادة الأبدية فيما جاءت به النقشبندية)) 30 ط: مكتبة الحقيقة أو وقف الإخلاص بتركيا. (5) ((المكتوبات الربانية)) 347. (6) ((البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية)) 26. (7) ((السبع الأسرار في مدارج الأخيار)) 105 مكتوبات السرهندي الفاروقي المعصومي 347. (8) انظر المكتوبات للإمام الرباني السرهندي 347. (9) ((الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية)) 76 - 77. ((البهجة السنية)) لمحمد الخاني 25و41و57. ((مكتوبات الإمام الرباني)) السرهندي الفاروقي 73. (10) ((تنوير القلوب)) 529. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 249 فتأمل صفات المريد تجاه شيخه: استسلام وانقياد مطلق كأنه ميت. ثم تأمل ما قاله في موضع آخر من نفس الكتاب أن أكمل أحوال العبد مع الله «أن يكون بين يدي الله تعالى كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف أراد» (1). وماذا لو كان المريد فتاة تريد أن تتخذ لها شيخا؟ أليس مطلوبا منها أن تكون ميتة (أو مستلقية) بين يدي الشيخ وأن لا تعترض على ما ظاهره حراما؟ ولقد حيرنا هذا الرجل فتارة يأمر المريد بأن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي غاسله وتارة يأمرنا بأن نكون بين يدي الله كالميت بين يدي مغسله! «أن لا ينكر على أفعالهم فإن المنكر عليهم لا ينجو» (2). أن يرى كل نعمة إنما هي من شيخه (3). أن لا يعترض عليه فيما فعله ولو كان ظاهره حراما أن لا يشير على الشيخ برأيه ... بل يرد الأمر إلى شيخه اعتقادا منه أنه أعلم منه بالأمور وغني عن استشارته» (4). وهذا معناه والله «فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الشيخ ذلك خير وأحسن تأويلا»!!! أين هذه التعاليم الهندوكية من أمر الله لنبيه بمشورة أصحابه وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159] وقد كان يستشيرهم دائما كقوله: ((أشيروا علي أيها الأنصار)) (5). وقد أشار عليه الحباب بن المنذر بخلاف رأيه يوم بدر فقال له رسول الله: ((لقد أشرت بالرأي)) (6). فأقره على نصيحته. فهذا رسول الله لم يستغن عن مشورة أصحابه وهو المعصوم. فهذه التعاليم النقشبندية تجعل للمشايخ العصمة والكمال المطلق وهذا تقديس في صورة أدب! قال تعالى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ [التوبة:31] هؤلاء وإن ادعوا أنهم لا يدعون العصمة للمشايخ فإن لسان حالهم يؤكد اعتقادهم العصمة. فهل هذا إلا طلب الشرف في الدين وتحقيق الملذات والتسلط على العوام باسم الدين وباسم التأدب مع الشيخ. فالمشيئة مشيئتهم والأمر أمرهم والخدمة لهم أحب إلى الله من صلاة النوافل إليه. وهم يراقبون المريد ولو من بعيد، ويغيثون المكروب ويقلبون الشقي إلى سعيد. الاستسلام لمعاصيهم طاعة، والاعتراض على معاصيهم معصية. من رأى منهم غلطا فليقل هذا ظاهره خطأ ولكن باطنه صواب. التوجه إلى الله لا يكون إلا بهم. بيوتهم قبلة ولنعالهم ألف وألف قبلة. وفي ذلك الاستسلام المطلق للشيخ، يقول محمد أمين الكردي: «اعلم أن كل ما وضعوه من الآداب للمريدين كتغميض العين وقت الذكر وإغلاق الأبواب فينبغي أن تتلقاه بالقبول وتعلم أنهم اقتبسوه من مصباح السنة، فإذا أردت أدبا من آدابهم ولم تعرف مأخذه من السنة فلا ينبغي أن تطيل لسانك بالاعتراض عليهم» (7). وهذه دعوة إلى التقديس وتهديد للمعترض بالحرمان على نمط وثائق الحرمان الكنسي عند النصارى لكل من يجرؤ على الاعتراض على البابا الممثل لإرادة الله على الأرض!!!   (1) تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب قارن بين صفحة 479 وبين 528 وانظر ((الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية)) 38. ((البهجة السنية)) لمحمد الخاني 25. (2) ((المواهب السرمدية)) 79 ((الأنوار القدسية)) 112. (3) ((المواهب السرمدية)) 494 - 495، ((تنوير القلوب)) 529 .. (4) ((تنوير القلوب)) 529 ((البهجة السنية في آداب الطريقة الخالدية العلية النقشبندية)) 41. (5) لم نجده بهذا اللفظ، ورواه ابن إسحاق بمعناه كما في ((البداية والنهاية)) (3/ 261) وقال ابن كثير: له شواهد. (6) رواه ابن سعد (3/ 567)، قال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (3448): ضعيف. (7) ((المواهب السرمدية)) 323. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 250 إنها تعاليم تحجر العقل وتروض على الذل وهدم الشخصية. إذ إن هؤلاء لما رأوا العقل لا يقبل بدعهم سارعوا إلى الهيمنة على عقول العوام وتسلطوا عليها بالتخويف والتهديد والطرد من رحمة الله، وسلب الفيوضات التي أفاضها الشيخ على المريد مما يجعل المريد عبدا يحقق كل معاني الإسلام للشيخ لا لله. ولا تنس أن للمشايخ مريدات لا مريدين فقط: والباقي عندك أيها القارئ. الشيخ يأمر مريده بالسرقة بل قد أرغموا المريد على ارتكاب المعصية مهما كبرت إذا أمر الشيخ مريده بها: وفي ذلك يحكون قصة للشيخ بهاء الدين مؤسس الطريقة أنه كان في بخارى مع تلميذه نجم الدين دادرك فقال الشيخ له: «أتمتثل كل ما آمرك به؟ قال: نعم. قال: فإن أمرتك بالسرقة تفعلها؟ قال: لا. قال: ولِمَ؟ قال: لأن حقوق الله تكفرها التوبة، وهذه من حقوق العباد. فقال: إن لم تمتثل أمرنا فلا تصحبنا. ففزع نجم الدين فزعا شديدا وضاقت عليه الأرض بما رحبت وأظهر التوبة والندم وعزم على أن لا يعصي له أمرا فرحمه الحاضرون وشفعوا له عنده وسألوه العفو عنه فعفا عنه» (1). ومن آداب المريد مع شيخه أيضا أن لا يتزوج زوجة طلقها شيخه أو مالت نفسه إليها. ويلزم منه أن تنطبق أحكام تحريم زواج نساء النبي بنساء الولي. وكأن الله قال: وما كان لكم أن تؤذوا أولياء الله ولا أن تنكحوا أزواجهم من بعدهم أبدا إن ذلكم كان عند الإله عظيما. وبذلك تصير زوجات الأولياء أمهات المؤمنين (2)!!! أن يلازم عند الذكر في مخيلته وبين عينيه صورة الشيخ وذلك من أصول الذكر (3). ولا يبعد عند هذه الحالة أن يتشكل الشيطان بصورة الشيخ فيكون التوجه عند الذكر للشيطان وحينئذ يفتح له عجائب الخيالات ويحصل الفناء في الشيطان في حين يظن المسكين أنه فني في ذات الله. آداب أخرى للمشيخة مع المريدين أن ينام في مكان ويجعل رأسه إلى الغرب وقدميه إلى الشرق. أن يجلس المريد بين يدي شيخه متوركا عكس تورك الصلاة. أن يغلق الباب، وهذه عندهم من أهم الآداب ويستدلون على ذلك بما زعموه أن الرسول قال لأصحابه: ((هل فيكم غريب؟ يعني أهل الكتاب. قالوا: لا، قال ارفعوا أيديكم وقولوا: لا إله إلا الله)) (4) (5). وهذا الحديث لا أصل له، ثم إن نصه يفيد أن الغريب أهل الكتاب وهم يحتجون به لغلق الباب عن المسلمين لا عن أهل الكتاب! أن يعلم المريد أسماء آبائه في الطريق لئلا ينتسب إلى غير أبيه ولأن الأبوة الروحية أقوى من الأبوة الجسمية فإنه إذا أراد أن يستمد من روحانيتهم وكان انتسابه إليهم صحيحا أمدته رجال السلسلة النقشبندية بأسرارها وأنوارها» (6).واعتبروا أنه يمكن للسالك في طريقة القوم أن يكلم من يشاء ابتداء من مشايخ الطريقة الأموات إلى النبي إلى الله. قالوا: وأقل ما يحصل للمريد إذا دخل في سلسلة القوم بالتلقين: أنه إذا حرك السلسلة تجيبه أرواح الأولياء: من شيخه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حضرة الله عز وجل (7).وجعلوا من أعرض عن السلسلة في حكم اللقيط الذي لا يعرف أباه وأمه. وحرموه ميراث النبوة فصرحوا بأنه «مقطوع الفيض غير وارث للنبي وزعموا أن النبي قال: ((طوبى لمن رآني ورأى من رآني)) (8) بل زعموا أن النبي قال في الصحيحين: ((من صافحني أو صافح من صافحني إلى يوم القيامة دخل الجنة)) (9) (10). المصدر: الطريقة النقشبندية لعبد الرحمن دمشقية - ص114 فما بعدها   (1) الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبندية 139 ((المواهب السرمدية)) 138 ((الأنوار القدسية)) 140 ((جامع كرامات الأولياء)) 1/ 150. (2) ((تنوير القلوب)) 529. (3) ((رسالة في تحقيق الرابطة)) لخالد النقشبندي الملقب بذي الجناحين 9 شفاء العليل 90 و78 ((المواهب السرمدية)) 494، ((الأنوار القدسية)) 145 ((تنوير القلوب)) 517 السعادة الأبدية 78. ((البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية)) لمحمد بن عبد الله الخاني 42 - 43 نور الهداية والهرفان ص 38. (4) رواه أحمد (4/ 124) (17162) والحاكم (1/ 679) (1844) قال الهيثمي في ((المجمع)) (10/ 81) فيه راشد بن داود وقد وثقه غير واحد وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات، وقال الألباني في ((الترغيب والترهيب)) (924) ضعيف. (5) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) 16. (6) ((السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية)) 11 - 12 ((الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية)) 11. (7) ((الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية)) 11. (8) رواه الطبراني (17880) والحاكم (4/ 96) (6994) عن عبدالله بن بسر، قال الحاكم هذه أقرب الروايات إلى الصحة، وقال الذهبي جميع بن ثوب واه، وقال الهيثمي في ((المجمع)) (10/ 20) فيه بقية وقد صرح بالسماع فزالت الدلسة، وبقية رجاله ثقات، وصححه الألباني في ((الصحيحة)) (1254) (9) لم نجد له أصلا (10) ((الحجج والبينات في ثبوت الاستعانة من الأموات)) (ص 55) ط: مكتبة الحقيقة - اسطنبول. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 251 المطلب الأول: مبدأ الرابطة عند النقشبنديين أول مبدأ يشدد عليه النقشبنديون هو مبدأ الرابطة يعدون به المريد بالوصول إلى الله والفناء فيه وفيض المعارف والحكمة والاتصال بسلسلة مشايخ الطريقة. لقد أخذ النقشبنديون يبحثون للسالك عن رابطة أخرى بالله غير تلك الرابطة التي كانت قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم أعني الصلاة. والتي كان إذا حزبه أمر نادى بلالا: ((أرحنا بها يا بلال)) (1). فابتدعوا الرابطة. وهذه الرابطة مبناها على ربط القلب بغير الله أي بالشيخ محبة وطاعة وخضوعا وتذللا. والشريعة إنما طالبت بالرابطة أن تكون بالله وليس بغيره. وزعموا أن قلب الشيخ مفتوح إلى عالم الغيب وكل لحظة يحصل فيها المدد من الله إنما تكون بواسطة الشيخ، بل إذا حدثت وسوسة فعلى المريد أن يغتسل بالماء البارد ويدخل خلوته ويتخيل صورة النبي أو صورة شيخه (2). ولكن: إن كان تخيل الشيخ موصل ضروري إلى الله فما المانع من تخيله في الصلوات الخمس؟ ولا تنس أنها صلة غير مباشرة يشترطون أن يكون الشيخ وسيطا فيها بل لا يمكن أن تحصل إلا به. أما مشروعيتها عندهم فهي مستنبطة من قوله تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ [آل عمران:31] قالوا: ففي الآية إشارة إلى الرابطة لأن الاتباع يقتضي رؤية المتبوع حساً أو تخيله معنى، وهو غرضنا من الرابطة (3).قالوا: «ومنكرها مكتوب في جبهته الخسران متسم بالمقت والحرمان» (4).الرابطة تفيد إن كانت مع الإنسان الكامل المتصرف بقوة «الولاية» لأن الإنسان الكامل مرآة الحق سبحانه وتعالى فمن ينظر إلى روحانيته بعين البصيرة يشاهد الحق فيها (5).   (1) رواه الطبراني (6230) وقال الهيثمي في ((المجمع)) (1/ 145) فيه أبو حمزة الثمالي وهو ضعيف واهي الحديث، لكن رواه أبو داود (4985) وأحمد (5/ 364) (23137) بلفظ ((يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها)) وسكت عنه أبو داود وقال العراقي في (تخريج الإحياء)) (453) إسناده صحيح، وصححه الألباني. (2) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) 48. (3) ((البهجة السنية في آداب الطريقة العلية الخالدية النقشبندية)) ص 46 لمحمد بن عبد الله الخاني. (4) ((البهجة السنية في آداب الطريقة العلية الخالدية النقشبندية)) ص 48 لمحمد بن عبد الله الخاني. (5) ((البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية)) 43. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 252 المطلب الثاني: آداب الرابطة أن يغمض العينين ويلصق اللسان بسقف الحلق والأسنان بالأسنان والشفة بالشفة مع إطلاق النفس (1). أن يستحضر صورة الشيخ في جبهته ويقررها وسط الجبهة. أن يعتقد أن تصرفات روحانية الشيخ من تصرفات الحق سبحانه. فإن الشيخ واسطة بين المريد وبين الله والإعراض عن الشيخ يعتبر إعراضا عن الله (2). أما الشيخ فإنه يتلقى العلم اللدني من الله مباشرة وبلا واسطة (3). أن لا يشرب الماء بعد الورد فإنه يطفئ حرارة الذكر. أن يتصور أن لقلبه لسانا. ويسمونه باللسان الخيالي. أن يحمل مسبحة حسنة التكوير حتى يحسن عد الأذكار بخمسة آلاف مرة. أن يلصق اللسان والأسنان والشفة ولكنه يحبس النفس تحت سرته ويتخيل منها نقش (لا) ممتدة إلى منتهى دماغه ويتخيل من دماغه نقش (إله) ممتدة إلى كتفه الأيمن. ويتخيل من كتفه الأيمن نقش (إلا الله) مارّا بها على اللطائف الخمس ضاربا بلفظ الجلالة على القلب (4).   (1) ((الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية)) 79 ((البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية)) 49 لمحمد بن عبد الله الخاني. وانظر ((رشحات عين الحياة)) ص 30. . (2) ((البهجة السنية في آداب الطريقة العلية الخالدية النقشبندية)) ص 45 لمحمد بن عبد الله الخاني. (3) ((رسالة في تحقيق الرابطة)) 12، (4) ((السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية)) ص 33. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 253 المطلب الثالث: الصورة صنم والصنم صورة ولعلك تلاحظ أهمية تخيل الأشياء والصور. ولا تنس أن الصور جماد كما أن الصنم جماد فصار تقرب المريد النقشبندي بالجماد وهو الصنم مشابه لتقرب مشرك قريش بالصنم المشكل على صورة الرجل الصالح! وهل الصنم إلا صورة؟!!! فتوى مفتي العراق ببطلان الرابطة وقد كتب محمد أسعد صاحب زادة كتابا في الرد على فتوى ببطلان الرابطة النقشبندية وأنها من البدع المنكرة قال في بدايتها: «ووقفت على التاريخ المسمى بـ (التاج المكلل) تأليف الفاضل المشهور صديق حسن خان البخاري القنوجي نواب بهوبال فرأيت فيه سؤالا واردا عليه من الأديب الفاضل السيد نعمان ابن الإمام الكبير والحجة المفسر الشهير السيد محمود الألوسي مفتي بغداد عن الرابطة الشريفة التي تستعملها ساداتنا الأئمة النقشبندية ... وملخص السؤال: ما قولكم في حكم الرابطة المستعملة عند أصحاب الطريقة النقشبندية .. وهل لها أصل من السنة والكتاب أم هي اختراع واجتهاد؟ فأجاب بما ملخصه: أما مسئلة الرابطة فلا يخفى أنها من البدع المنكرة وقد صرح بالنهي عنها الشيخ أحمد ولي الله المحدث الدهلوي فقال: قالوا: والركن الأعظم ربط القلب بالشيخ على وصف المحبة والتعظيم وملاحظة صورته. قلت: إن لله تعالى مظاهر كثيرة فما من عابد غبيا كان أو ذكيا الا وقد ظهر بحذائه شيء صار معبودا له في مرتبته ولهذا السر نزل الشرع باستقبال القبلة والاستواء على العرش وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((اذا صلى أحدكم فلا يبصق قبل وجهه فإن الله بينه وبين قبلته)) (1). وسأل جارية سوداء فقال: ((أين الله؟ فأشارت إلى السماء)) الحديث (2). فلا عليك أن لا تتوجه إلا إلى الله ولا تربط قلبك إلا به ولو بالتوجه إلى العرش ... أو إلى القبلة فيكون كالمراقبة لهذا الحديث. وقد أفاد الشيخ العلامة محمد إسماعيل الدهلوي في كتاب (الصراط المستقيم) أن هذه الرابطة بمكان من الشرك لا يخفى. وأقول: ما لنا ولقلبنا وربطه بالشيخ كائنا من كان. وإنما تربط قلوب الأنام ببارئها» (3).ثم كتب محمد أسعد صاحب زاده كتابه للرد على هذه الفتوى وزعم أنه يبرهن على صحة الرابطة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس. لكنه أتى بأدلة واهية مثل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلو بغار حراء. وتجاهل أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن جاءه الحق لم يعد يخلو بغار حراء. وأن قوله تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي [آل عمران:31] دليل على مشروعية الرابطة، وذكر ما عليه دين الفلاسفة كمبدأ الاستفاضة من أرواح الأموات الفياضة واستحضار روحانيات أموات سلسلة الخواجكان ... الخ (4).ولما أحس بضعف أدلته قال متحكما: «على أنه لا يجب علينا الاستدلال على الرابطة الشريفة بدليل لأن دليل من قلدناه من العلماء العاملين والأولياء العارفين كاف واف بالمقصود» (5).وفي موضع آخر من كتابه زعم أنه حتى لو افترضنا بأن عمل الرابطة الشريفة لا دليل عليه: وإنما استعملناه لما حصل لنا من الفائدة بالتجربة، فالإنكار علينا من أي وجه وما دليله؟» (6). المصدر: الطريقة النقشبندية لعبد الرحمن دمشقية - ص123فما بعدها   (1) رواه البخاري (406) , ومسلم (547) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه بلفظ: (إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه إذا صلى). (2) رواه مسلم (537) , من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه. (3) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) ص 3 لمحمد أسعد صاحب زادة. ط: المطبعة العلمية - مصر سنة 1311. (4) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) ص 5 و23 و29 (أو37 حسب الترقيم الخطأ). (5) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) ص 37. (6) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) ص 64. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 254 المطلب الأول: آداب الذكر عند الطريقة (1) وهذا الذكر الخفي جعلوا له آدابا: تغميض العينين وإلصاق اللسان بسقف الحلق والأسنان بالأسنان والشفة بالشفة مع إطلاق النفس (2). وجعلوا اللسان مربوطا لأن الذكر عندهم بلسان القلب لأن القلب كله لسان عندهم كما قاله محمد مصطفى أبو العلا النقشبندي (3).أن يقول بقلبه: إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي. هكذا واحدا وعشرين مرة في نفس واحد (4). لترويضه على الوسوسة. أن يقول «لسان القلب»: الله الله. مئة مرة. هكذا من غير اقتران ألفاظ التنزيه الأخرى بلفظ الجلالة كلفظ: سبحان والحمد ولا إله إلا .. إلخ. قالوا: فإن سلطان الذكر عندهم أن يقول: (الله الله) وربما جرى على لسانه (الله الله) (5) أو (هو هو) أو (ها ها) أو (هـ هـ) أو (آآ) أو (أهـ أهـ) أو (لا لا) أو عياط بغير حرف أو صرع أو تخبط. فإذا داومت على الذكر بهذه الطريقة رأيت الذكر كنار تصعد وتحرق جميع الشهوات ... ثم تشهد نارا صافية وهي علامة قوة الهمة، فإن رأيت اختلاطا في الألوان فهي حالة تلوين. وثبات لون الخضرة علامة على التمكين (6).وبهذا أبطلوا دور اللسان في الذكر. وهذه بدعة شنيعة فإن مجموع الأحاديث تبين أن مدار الذكر على اللسان لا في القلب دون اللسان كقول النبي: ((لا يزال لسانك رطبا بذكر الله)) (7) ولم يقل: لا يزال لسان قلبك؟ استقبال القبلة في مكان خال. يقول بلسانه: (إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي). ويكرر الأذكار جميعها إلى خمسة آلاف مرة .. الجلوس متوركا عكس توركه للصلاة بأن يجلس على أليته اليسرى مخرجا الرجل اليمنى من تحت الرجل اليسرى (8) ويبين له الشيخ محل القلب الصنوبري وأنه تحت الثدي الأيسر بإصبعين. الذكر يكون خفيا. إغماض العينين وإطباق الفم ووضع اليد اليمنى بالمسبحة على القلب تحت الثدي الأيسر. الاستغفار خمسا وعشرين مرة. الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين مرة. قراءة الفاتحة مرة. وسورة الإخلاص ثلاثا وإهداؤها إلى روح سيدنا محمد وأرواح سلسلة مشايخ الطريقة النقشبندية. رابطة الموت وهو استحضار النزع للروح وكأنه يعاين الموت ويسأله الملكان.   (1) هذه المعلومات مستفادة من كتاب الشيخ محمد الحامد ص 182 - 188 لعبد الحميد طهماز وكتاب ((تنوير القلوب)) للشيخ محمد أمين الكردي 511. (2) ((الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية)) 79 ((البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية)) 49 لمحمد بن عبد الله الخاني. وانظر ((رشحات عين الحياة)) ص 30. . (3) ((القصور العوالي)) (4/ 182) ط: مكتبة الجندي - القاهرة. (4) ((تنوير القلوب)) 512 - 515 ((شفاء العليل ترجمة القول الجميل)) 83 ((المواهب السرمدية)) 306 و316. (5) أفتى العز بن عبد السلام أن الذكر بالاسم المفرد (الله) بدعة لم ينقل مثله عن أحد من السلف. نقله الدوسري في كتابه ((الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات والرابطة)) ص 211 على هامش مكتوبات السرهندي. وفي كتابه هذا ما يبين تفضيل الصوفية لفظ (الله) على (لا إله إلا الله) بل قالوا بأن من قال: لا اله إلا الله. فهو مشتغل بغير الله، ومن قال: (الله) فهو مشتغل بالله (انظر 204 و206 و209). (6) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) 79 - 81. (7) رواه الترمذي (3375) وابن ماجه (3793) وابن حبان (814) والحاكم (1/ 672) (1822) والبيهقي (3/ 371) قال الترمذي: غريب من هذا الوجه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وحسنه ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/ 90) وصححه الألباني. (8) ((البهجة السنية في آداب الطريقة الخالدية العلية النقشبندية)) 41 ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) 19. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 255 المطلب الثاني: رابطة المرشد وذلك بأن يستحضر الشيخ وصورته في قلب الذاكر عند الذكر. على أساس أن الشيخ وسيلة المريد الذاكر إلى الله يتقرب به إلى الله زلفى. وقد عرف خالد البغدادي الرابطة بأنها «عبارة عن استمداد المريد من روحانية شيخه بكثرة رعاية صورته ليتأدب ويستفيض منه في الغيبة كالحضور» (1).وقيل: الفناء في الشيخ مقدمة الفناء في الله (2). وهذا من أهم المهمات وآكد الآداب في العبادة (3).أما من ينكر شيئًا من هذه الآداب أو يشك في أنها مبنية على أصول السنة فيقول الشيخ محمد أمين الكردي: «وهذا الأمر لا يجحده إلا من كتب الله على جبهته الخسران واتسم والعياذ بالله بالمقت والحرمان أولئك هم الأخسرون أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا» (4). المصدر: الطريقة النقشبندية لعبد الرحمن دمشقية - ص123 - 133   (1) ((رسالة في تحقيق الرابطة)) 3 ط: وقف الإخلاص مكتبة الحقيقة - تركيا. (2) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (ص 38) ((مكتوبات الإمام الرباني)) (73). (3) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (ص 55). (4) ((تنوير القلوب)) (518). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 256 المطلب الثالث: أصول الذكر عندهم وطريقته وغايته ونهايته من أصول الذكر عند النقشبنديين ترك الذكر باللسان وتفضيل الذكر بالقلب بدلا منه، فصاحب تنوير القلوب وغيره لا يعجبهم الذكر كثرة الأذكار اللسانية والأوراد الظاهرية (1).وقد زعموا أن الشيخ الغجدواني أخذ طريقة الذكر من الخضر الذي لقنه الذكر العددي والذكر الخفي وهو أن ينغمس في الماء ويذكر بقلبه «لا إله إلا الله محمد رسول الله» (2).علق النقشبنديون على هذا الغوص في الماء بقولهم: «ولعل الأمر بالغوص بالماء لحفظ النفس والاحتياط في حبسه» (3) وهذه الرواية المكذوبة يبطلها قول الشيخ عبد الرحمن درويش الحوت الذي قال: «لم يرد في حياة الخضر شيء يعتمد عليه» (أسنى المطالب 616). واعترافهم بأن مصدر طريقتهم في الذكر مستقاة من الخضر لا من سنة النبي ينقض قولهم أن طريقتهم مبنية على الكتاب والسنة على أصلها لم يزيدوا عليها ولم ينقصوا منها. فإن هذا الذكر الخفي شريعة خضرية لا محمدية! هذا مع عدم التسليم بأنه الخضر، وكثيرا ما ينتحل الشيطان شخصية الخضر. من الدنيا إلى الجنة فوراقال الشيخ عبد الوهاب أحد أصحاب الشيخ بهاء الدين: «لما دفن حضرة الشيخ رضي الله عنه فتح من جهة وجهه المبارك له طاقة إلى الجنة ... فدخلت عليه حوريتان وسلمتا عليه وقالتا له: نحن منذ خلقنا الله ننتظر خدمتك. فقال قدس الله سره: إني عاهدت الله تعالى أن لا ألتفت إلى شيء ما من الأشياء ما لم أتشرف برؤيته التي بلا كيف ولا مثال: وأشفع بجميع من اتصل بي وسمع مني القول الحق وعمل به» (4). المصدر: الطريقة النقشبندية لعبد الرحمن دمشقية - ص129، 130   (1) ((تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب)) (44). (2) ((المواهب السرمدية)) 77 و ((الأنوار القدسية)) (111 - 112). (3) ((البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية)) (53) ((رشحات عين الحياة)) (ص 25) ((نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان)) (ص 3) لمحمد أسعد صاحب زادة. ط: المطبعة العلمية - مصر سنة 1311. كتاب ((السبع الأسرار في مدارج الأخيار)) (ص 31) لمحمد معصوم العمري النقشبندي ((إتحاف السادة المتقين شرح إحياء علوم الدين)) (7/ 248). (4) ((الحدائق الوردية)) (141 - 142). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 257 المطلب الأول: مرتبة الطعن في النبوة ويقسم محمد المعصوم النقشبندي مراتب الولاية إلى عدة مراتب: مرتبة الولاية الصغرى. مرتبة الولاية الكبرى وهي ولاية الأنبياء. مرتبة الولاية العليا. وهي مرتبة الوصول إلى مرتبة الذات الإلهية. - أما مرتبة الولاية الكبرى وهي المقام الأخير من مقامات النقشبندية التي هي ولاية الأنبياء. - وأما مرتبة الولاية العليا. فهذا المقام من أعلى درجات الولاية السابقة بل كشف تفوقه على ولاية الأنبياء، أما فضيلة الأنبياء فهي بطريق النبوة ... - واذا تم السير في اسم «هو الظاهر» واسم «هو الباطن» اللذين هما جناحان للطيران إلى مرتبة «الذات البحت تعالت وتقدست» المعبر عنها بالولاية العليا يكون السير في مرتبة «كمالات النبوة» وفي هذا المقام قطع السير مقدرا نقطة واحدة أفضل من جميع المقامات من الولايات الثلاثة أعني الولاية الصغرى والولاية الكبرى والولاية العليا (1). وأما مرتبة ما بعد الولاية العليا فهي: مرتبة تجلي الذات تعالى من غير حجب الأسماء والصفات وجعل لها ثلاث مراتب: الأولى: مرتبة كمالات النبوة. الثانية: مرتبة كمالات الرسالة. الثالثة: مرتبة كمالات أولي العزم. وهذه المراتب كلها تحصل لغير الأنبياء. ولما أحس بأن هذا تفضيل صريح للولي على النبي اعتذر قائلا «ولا يلزم من حصول كمالات النبوة لبعض أفراد الأمة بطريق التبعية والوراثة أنهم من الأنبياء أو مساو لهم» (2).وثمة طعن آخر ظهر من أحد النقشبنديين المعاصرين وهو عبد الله الفايز الداغستاني شيخ ناظم القبرصلي حيث زعم أن «من قرأ خواتيم البقرة ولو مرة واحدة يفوز بما لم يفز به الأنبياء» (3). وهناك دوائر تحصل للسالك منها: دائرة حقيقة الكعبةدائرة حقيقة القرآن: وفي هذه المرتبة يزعمون أنه يظهر للولي في هذا المقام بواطن كلام الله ويرى كل حرف من حروف القرآن بحرا موصلا إلى كعبة المقصود ويصير لسان القارئ وقت تلاوة القرآن كالشجرة الموسوية (4). دائرة حقيقة الصلاة دائرة المعبودية الصرفة دائرة الحقيقة الموسوية دائرة الحقيقة المحمدية. دائرة الحقيقة الأحمديةدائرة الحب الصرف: وتعني أن الحب هو سبب خلق الله لظهور الممكنات كما جاء في الحديث القدسي «كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف» (5). ونقلوا عن السرهندي «إن أول شيء ظهر من خزينة المكنونة الإلهية هو الحب الذي صار سببا لخلقة الخلائق فلو لم يكن الحب لكان العالم معدوما محضا ويتحقق ههنا معنى الحديث القدسي الوارد في شأن النبي صلى الله عليه وسلم ((لولاك لما خلقت الأفلاك)) (6) وكذلك معنى الحديث () لولاك لما أظهرت الربوبية (((7) (8). دائرة اللاتعين: وهذا المقام مخصوص بسيد الأولين والآخرين. فهذا طعن في النبوة والألوهية وهو اغتراف من معين عقائد الباطنيين والقرامطة والفلاسفة.   (1) كتاب ((السبع الأسرار في مدارج الأخيار)) لمحمد المعصوم ص 66 - 72. (2) كتاب ((السبع الأسرار في مدارج الأخيار)) لمحمد المعصوم ص 77 - 78. (3) وصية مرشد الزمان وغوث الأنام ص 13. (4) كتاب ((السبع الأسرار في مدارج الأخيار)) ص 80. (5) قال ابن تيمية: ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف. وينظر كشف الخفاء2/ 132. (6) قال عنه الصغاني في ((الموضوعات)) (1/ 3) موضوع، وكذلك وافقه على وضعه الفتني والشوكاني والعجلوني والقاري والألباني. (7) لم نجد له أصلا. (8) كتاب ((السبع الأسرار في مدارج الأخيار)) ص 94 تأليف محمد معصوم العمري النقشبندي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 258 المطلب الثاني: زعمهم أنهم يرون الله في الدنيا واختلف علماء بخارى في إمكان رؤية الله فمنهم من نفى ومنهم من أثبت فأتوا إلى الشيخ محمد بارسا وقالوا له: إنا رضيناك حكما علينا في هذه المسألة. فقال للنافين: أقيموا في صحبتي ثلاثة أيام متطهرين ولا تتكلموا بشيء ما حتى أجيبكم، فلما مضت ثلاثة أيام حصل لهم حال قوي فصعقوا، فلما أفاقوا جعلوا يقبلون قدم الشيخ وقالوا: آمنا أن الرؤية حق» (1).ويؤكد محمد أمين الكردي هذه الرؤية في الدنيا فيقول: «فإذا جاهد فيه - أي الذكر - حق جهاده وصدق فيه: ظهرت النتيجة وهي: رؤية جناب الحق سبحانه وتعالى بعين البصيرة على الدوام والمداومة عليها مع المجاهدة التامة يكون دائما في التقرب وأبدا في التحبب حتى تنتهي مراقبته إلى المشاهدة من غير حجاب» وقد أثبت السرهندي رؤية النبي ربه في الدنيا (2).   (1) الحدائق الوردية 145 ((رشحات عين الحياة)) 68 ((المواهب السرمدية)) 145 - 146. (2) ((تنوير القلوب)) (515 - 516) وانظر ((المواهب السرمدية)) (ص317) ((المكتوبات الربانية)) (ص305). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 259 المطلب الثالث: ختم الخواجكان ولهذا الختم عند الطريقة شرطان: أن لا يحضر فيه أجنبي ولا أمرد: أن يغلق الباب. وهو شرط يرمز عندهم إلى كتم الطريقة ومراسيمها حتى لا تتعرض لألسنة النقاد (1).وقد يصاب من لم يحصل له الاتصال بسلسلة الطريقة عند ذكر ختم الخواجكان جنون وصرع. قال صاحب (الرشحات): «حصل لي اضطراب قوي لعدم حصول نسبة الخواجكان قدس الله أرواحهم، فكنت أضرب رأسي على الأرض في الليالي المظلمة وأخرج في النهار إلى الصحراء أبكي فيها» (2).وهذا الضرب دائم عندهم. فقد حكى صاحب (الرشحات) أن أحد مشايخ النقشبندية كان معتكفا في المسجد لا يأكل ولا يشرب فلما عزم على الخروج من المسجد ليأكل ألقى الله إليه إلهاما ربانيا أن: بعت صحبتنا على خبز؟ قال: فرجعت المسجد ثانية ولطمت وجهي بيدي حتى بقي أثر الضرب فيه أسبوعا» (3). المصدر: الطريقة النقشبندية لعبد الرحمن دمشقية - ص 134فما بعدها   (1) ((السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية)) (ص15). (2) ((رشحات عين الحياة)) (ص147). (3) ((رشحات عين الحياة)) (ص150). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 260 المطلب الأول: الخلوة وشروطها ولا يمكن الوصول عند النقشبندية إلى الله إلا بالخلوة، أقلها ثلاثة أيام وأكملها أربعون يوما. وأهم شروط هذه الخلوة: استئذان الشيخ وطلب الدعاء منه. العزلة وتعوّد السهر والجوع والذكر. أن لا يسند ظهره إلى الجدار!!! أن يكون مستيقظا من أعدائه الأربعة: الشيطان والنفس والهوى والدنيا. أن يغلق الباب وهو من أهم شروط الخلوة وأن لا يفتح الباب لمن يريد التبرك به إلا لشيخه (1).أن يرى كل نعمة حصلت له إنما هي من شيخه (2).   (1) ((البهجة السنية في آداب الطريقة الخالدية العلية النقشبندية)) (ص40). (2) ((تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب)) (493 - 505). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 261 المطلب الثاني: طقوس أخرى وقوف زماني: وشروطه وآدابه ما يلي: لا يتحدث بعد صلاة العشاء يصلي اثني عشرة ركعة في كل ركعة منها الفاتحة وسورة يس وإن لم يستطع يقطعها في الركعات الثمان: في الركعة الأولى إلى وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس:11] وفي الثانية إلى وَهُم مُّهْتَدُونَ [يس:21] وفي الثالثة إلى لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس:32] وفي الرابعة إلى فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40] وفي الخامسة إلى وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس:50] وفي السادسة إلى هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ [يس:61] وفي السابعة إلى فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [يس:71] وفي الثامنة إلى آخر السورة (1).واشترطوا على المريد لبس الخرقة وزعموا أن السلف اشترطوا في لبسها شروطا معينة (2). المصدر: الطريقة النقشبندية لعبد الرحمن دمشقية - ص139   (1) ((الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية)) (ص89). (2) ((البهجة السنية في آداب الطريقة العلية الخالدية النقشبندية)) (ص 10). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 262 المبحث الرابع عشر: أهم رجالاتها المعاصرين 1 - محمد ناظم قبرصلي وقد تلقى مبادىء الطريقة على عدة رجال أهمهم عبد الله فايز الداغستاني ثم رحل إلى طرابلس وأنشأ زوايا للطريقة هناك ثم صار ينتقل بين إسطنبول ولندن. وله أثر سيئ جدا في نشر الخرافة بين المسلمين الإنجليز الجدد وبين المهاجرين الباكستانيين والهنود في لندن. ومن خرافاته أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له ظل على الأرض وأنه نور كما تقتضي عقيدة الحقيقة المحمدية التي يعتقدها عامة الصوفية وقد وزع رسالة باللغة الإنجليزية في هذا الموضوع. وتتضمن تزكيته وتزكية شيخه عبد الله الداغستاني. وقد كتب شيخه هذا رسالة بعنوان (وصية مرشد الزمان وغوث الأنام) زعم فيها أنه تلقاها على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وروجها له تلميذه القبرصلي وترجمها بالانجليزية وفيها يدعي: أن الكافر إذا قرأ الفاتحة ينال قسما من العناية الإلهية (ص12). وأن من قرأ خواتيم البقرة ولو مرة واحدة يفوز بما لم يفز به الأنبياء (ص 13). وأن الله لم يفرق بين مؤمن ومنافق وكافر (ص 14).ولهذا حمل الأحباش عليه وعلى تلميذه القبرصلي وحذروا من ضلالهما وحذروا من كتابه (محيطات الرحمة آفاق لا متناهية) وفيه يدعو إلى ترك التعلم ويزعم أن الأولياء يتلقون الحديث وإن كان ضعيفا، ودعا إلى قبول أي حديث احتراما وإجلالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأن أوامر القطب هي ذاتها أوامر الله تعالى. وأن رحمة الله تشمل الكفار كالروس والهندوس ... وأن في الأولياء من له عيون مقدسة تحرق الشرور بين الناس فبسبب هذه النظرة تحترق شرارة الشرور. فيجوز لهم النظر إلى أي مكان حتى النساء. (1) 2 - محمد عثمان سراج الدين النقشبندي الملقب بسلطان الأولياء. وجعلوا له سلطانا على الأنبياء والصحابة. وهو رجل كردي طاعن في السن لا يكاد يتكلم. يتلقون المعرفة عنه بالاتصال الروحي وبمجرد النظر بطريقة أشعة الليزر. ينشر هو وأتباعه حروز السحر والخرافة. المصدر: الطريقة النقشبندية لعبد الرحمن دمشقية - ص 95   (1) – ((مجلة منار الهدى الحبشية)) (عدد 33 ص 52 - 53) وكذلك (عدد 48 ص 22 - 24). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 263 المبحث الخامس عشر: كلام العلماء في الطريقة النقشبندية - فتوى اللجنة الدائمة في الطريقة النقشبندية س: ما حكم الإسلام من خلال معرفتكم في الطرق الصوفية عامة والطريقة النقشبندية خاصة؟ ج: تكثر البدع عند جماعة الطرق الصوفية عموما كالذكر الجماعي في صفوف أو حلقات بصوت واحد وذكرهم الله بالاسم المفرد بصوت واحد مثل: الله الله، حي حي، قيوم قيوم .. وذكرهم بضمير الغائب مثل: هو، هو .. وذكرهم بكلمة آه، وفي نشيدهم على الأذكار شر كثير، مثل: الاستغاثة بغير الله وطلب المدد من الأموات مثل: البدوي، والشاذلي، والجيلاني، وغيرهم، وفي كتبهم بدع كثيرة وشر مستطير، ويخص النقشبندية وذكرهم الله بلفظ الجلالة في الورد اليومي بحركات قلبية مع نفس تشبه حركة اللسان بالكلام دون تحريك للسان واستحضار المريد شيخه وورده اليومي مع اعتقاد وساطته في نجاته يوم القيامة، وهذه الأمور كلها من البدع المنكرة؛ لأن تلك الأذكار لم يثبت منها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أوحي إليه من الكتاب والسنة، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (1). وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عبد العزيز بن عبد الله بن باز, عبد الله بن قعود, عبد الله بن غديان, عبد الرزاق عفيفي, المصدر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء – 3/ 52 - ورد سؤال على اللجنة الدائمة للبحوث العلمية عن أذكار الطريقة النقشبندية فأجابت: ج: المعروف عن جميع طوائف الصوفية وفرقهم أنهم يذكرون الله أذكارا بدعية، فيرقصون ويترنحون ويتمايلون يمنة ويسرة وأعلى وأسفل، ويسمون الله في ذكرهم بغير ما سمى به نفسه وبغير ما سماه رسوله صلى الله عليه وسلم؛ مثل: هو هو هو، ومثل: آه آه، ويذكرونه بالاسم مثل: الله الله الله، وبما يسمونه: الذكر القلبي، كما يفعله النقشبندية، ويذكرونه بما ذكر جماعة بصوت واحد ويستغيثون في أذكارهم بالأموات والغائبين فيقولون: مدد يا أبا العباس، مدد يا دسوقي، وذلك شرك يخرج من ملة الإسلام، ويعتقدون في مشايخهم أن لديهم علما لَدُنِّيا يطلعون به على الغيبيات، وأن لهم أسرارا يتصرفون بها وراء الأسباب العادية، وننصحك بقراءة كتاب (هذه هي الصوفية) للشيخ عبد الرحمن الوكيل لتعرف الكثير من بدعهم، وجالس من تعرف عنه أنه يتمسك بالكتاب والسنة وينكر البدعة. وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الرئيس ... نائب رئيس اللجنة ... عضو عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله بن غديان المصدر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء – 3/ 21   (1) رواه البخاري (2697) , ومسلم (1718) , من حديث عائشة رضي الله عنها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 264 مراجع للتوسع أهم الكتب النقشبندبة ومن أراد مزيد التوسع في معرفة هذه الطريقة فعليه بأهم المراجع التالية (إرغام المريد لتوسل المريد برجال الطريقة النقشبندية). لمحمد بن زاهد الدوزجوي. ت 1370. (أصفى الموارد من سلسال أحوال الإمام خالد). تأليف عثمان بن سند الوائلي النجدي. (الأنوار القدسية في مناقب السادة النقشبندية) جمعها من كتب عبد المجيد بن محمد الخاني الشيخ إبراهيم بن يس السنهوتي. ط السعادة بمصر. (البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية). محمد بن عبد الله الخاني. (أوراد الذاكرين أوراد الطريقة النقشبندية). لمحمد الحبش. ط دار المحبة، دمشق. (البهجة السنية في آداب الطريقة العلية) النقشبندية محمد بن عبد الله الخاني. ط مكتبة الإخلاص تركيا. (جامع الأصول في الأولياء وأنواعهم). أحمد ضياء الدين الكشمخانلي ط الجمالية بمصر 1328 وقد أثنى الكوثري على هذا الكتاب بالغ الثناء. (الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية) محمد بن سليمان النقشبندي. ط الإخلاص. (تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب) محمد أمين الكردي. ط دار إحياء التراث العربي. بيروت. (الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبندية) عبد المجيد بن محمد الخاني 1306. (الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات والرابطة) للشيخ حسين الدوسري بهامش مكتوبات السرهندي ط: دار الكتب العلمية. (رشحات عين الحياة) لعلي بن الحسن الواعظ الهروي وهذا الكتاب فيه كفريات عجيبة ومع ذلك فهو كتاب عظيم عندهم، وكان الكوثري يحيل الناس إليه (1). واستحسنه واحتج به خالد البغدادي الملقب بذي الجناحين في كتابه (رسالة في تحقيق الرابطة) ضمن كتاب (علماء المسلمين وجهلة الوهابيين) ط: مكتبة الحقيقة - تركيا وهي مكتبة متخصصة في بث كتب البدع والشرك والطعن في أهل السنة. وبالرغم من تخصصها في بث الشرك فقد جعلوا لها وقفا باسم " وقف الإخلاص". (السبع الأسرار في مدارج الأخيار) محمد بن معصوم المجددي ط تركيا - 1331. (السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية) عبد المجيد بن محمد الخالني الخالدي. ط الإخلاص بتركيا. (مكتوبات الإمام الفاروقي السهروهندي). ط دار الكتب العلمية. (المواهب السرمدية في مناقب النقشبندية) محمد أمين الكردي. ط السعادة سنة 1329. (نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان). محمد أسعد صاحب زادة النقشبندي. ط المطبعة العلمية بمصر 1311. كتاب: (الشيخ محمد الحامد العلامة المجاهد). تأليف عبد الحميد طهماز (2) مؤلفات ومقالات عن الطريقة النقشبندية كتاب (النقشبندية) عبد الرحمن دمشقية ط: دار طيبة. كتاب (النقد والتزييف). ط: المكتب الإسلامي. كنت نقشبنديا مقالة للشيخ محمد جميل زينو (مجلة الاستجابة العدد الرابع - مركز الملك فيصل 50704). الطرق الصوفية ومشايخها في طرابلس د. محمد درنيقة حاشية على شرح الخريدة البهية أحمد بن محمد الخلوتي الصاوي (مركز الملك فيصل 31924). تراجم إسلامية (ناصر عبيد الله أحرار) يحيى الساعاتي (مركز الملك فيصل 37801). الطرق الصوفية في آسيا ألكسندر بنغسين (مركز الملك فيصل 54201). الطرق الصوفية في شمال القوقاز لشانتال لوميرسيه (مركز الملك فيصل 54201). المصدر: الطريقة النقشبندية لعبد الرحمن دمشقية   (1) - انظر ((البهجة السنية في آداب الطريقة العلية الخالدية النقشبندية)) (ص 48) لمحمد بن عبد الله الخاني، وانظر كتاب ((ارغام المريد في شرح النظم العتيد لتوسل المريد برجال الطريقة النقشبندية)) (ص60). (2) - وهذا الرجل قد غضب من كتابي الأول (النقشبندية) لأني ذكرت كتابه من جملة مصادري عن الطريقة النقشبندية. وقد جرت بينه وبين الشيخ ناصر الدين الألباني مناظرة مهمة ثبت فيها عصبيته وتحامله على الدعوة السلفية حيث واجهه الألباني في ثنائه على المهدي الرواس الرفاعي بالرغم من قول هذا الأخير عن نبيا محمد: وهو نور أزلي طرزه صار في وجه وجوه الكون شامة طوي العالم في جبته وعلى العرش علت منه العمامة وسجلت هذه المناظرة ووضعت في كتاب بعنوان «توضيح وتعليق على الحوار الذي تم بين فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني وفضيلة الشيخ عبد الحميد طهماز. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 265 المبحث الأول: التعريف طريقة صوفية تنسب إلى أبي الحسن الشاذلي، يؤمن أصحابها بجملة الأفكار والمعتقدات الصوفية، وإن كانت تختلف عنها في سلوك المريد وطريقة تربيته بالإضافة إلى اشتهارهم بالذكر المفرد "الله" أو مضمرًا "هو". المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 266 المبحث الثاني: سيرة الشاذلي أبو الحسن الشاذلي: اختلف في نسبه، فمريدوه، وأتباعه ينسبونه إلى الأشراف ويصلون بنسبه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ كعادة أهل كل طريقة صوفية، وبعضهم ينسبه إلى الحسين، وبعضهم إلى غيره. المصدر: الموسوعة الميسرة وقال الكمشخانوي: "بل ولد بقرية عمان من قرى أفريقية قرب مرسية، وهي من المغرب الأقصى أيضاً" (77). ولكن عطاء الله الإسكندراني وهو تلميذ أبي العباس المرسي يذكر أن مبدأ ظهوره بشاذلة ولكن منشأه بالمغرب الأقصى فلم يعرف بالمنشأ والمولد، بل نسب إلى مبدأ ظهوره (78). واختلفوا في نسبه أيضاً، فمريدوه والمتعلّقون به ينسبونه إلى الأشراف ويصلون بنسبه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب، كعادة أهل كل طريقة صوفية ولو أنهم يختلفون فيما بينهم في أسماء آبائه، فالبعض ينسبونه إلى إدريس بن عبدالله المبايع له ببلاد المغرب (79). وبعضهم إلى غيره (80). وأما الجامي فينسبه في نفحاته إلى الحسين، لا إلى الحسن (81). وكان ضريراً كما سماه ابن الملقن والشعراني بالضرير الزاهد (82). ولكن لم يتضرر عيناه إلا بعد مدة من تحصيل العلم كما يظهر من ترجمته في مختلف الكتب (83). وانتقل في صغره إلى مدينة تونس، فبدأ ينتقل من مدينة إلى مدينة وبلدة إلى بلدة حتى حجّ ثم دخل العراق وبدأ يفتش عن القطب الصوفي -حسب زعمه- وقال له أحد الأولياء هناك: "إنك تبحث عن القطب بالعراق، مع أن القطب ببلادك، ارجع إلى بلادك تجده" (84). فرجع إلى بلاده باحثاً ومفتشاً عن القطب، يسأل عن المقبل والمدبر والراحل والمقيم إلى أن اجتمع به، وهو أبو محمد عبدالسلام بن مشيش، فيقول الشاذلي: أتيت إليه "وهو ساكن مغارة برباط رأس جبل، فاغتسلت في عين أسفل الجبل وخرجت عن علمي وعملي، وطلعت إليه فقيراً، وإذا به هابط إليّ، فقال: مرحباً يا علي، وذكر نسبي إلى رسول الله" (85). "ثم قال لي: يا علي، طلعت إلينا فقيراً من علمك وعملك، وأخذت منا غنى الدنيا والآخرة، فأخذني من الدهش فأقمت عنده أياماً إلى أن فتح الله عليّ بصيرتي" (86). المصدر: دراسات في التصوف لإحسان إلهي ظهير - ص 235 بتصرف ـ ذكره الإمام الذهبي في (العبر) فقال: "الشاذلي: أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الجبار المغربي، الزاهد، شيخ الطائفة الشاذلية، سكن الإسكندرية وله عبارات في التصوف توهم، ويتكلف له في الاعتذار عنها، وعنه أخذ أبو العباس المرسي، وتوفي الشاذلي بصحراء عيذاب متوجهًا إلى بيت الله الحرام في أوائل ذي القعدة 656هـ". (عيذاب على طريق الصعيد بمصر). ـ تتلمذ أبو الحسن الشاذلي في صغره على أبي محمد عبد السلام بن بشيش، في المغرب، وكان له أكبر الأثر في حياته العلمية والصوفية. ـ ثم رحل إلى تونس، وإلى جبل زغوان، حيث اعتكف للعبادة، وهناك ارتقى منازل عالية، كما تزعم الصوفية. ـ رحل بعد ذلك إلى مصر وأقام بالإسكندرية، حيث تزوج وأنجب أولاده شهاب الدين أحمد وأبو الحسن علي، وأبو عبد الله محمد وابنته زينب، وفي الإسكندرية أصبح له أتباع ومريدون، وانتشرت طريقته في مصر بعد ذلك، وانتشر صيته على أنه من أقطاب الصوفية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 267 المبحث الثالث: أنواع الكرامات المنسوبة إلى أبي الحسن الشاذلي تروي كتب الصوفية كثيرًا من كراماته وأقواله البعيدة عن التصديق، التي تنطوي على مخالفة صريحة لعقيدة الإسلام وللكتاب والسنة، اللذين هما أساس دعوته كما يقول عن نفسه، ومن هذه الكرامات والأقوال: ـ ينقل الدكتور عبد الحليم محمود نقلاً عن (درَّة الأسرار): "لما قدم المدينة زادها الله تشريفًا وتعظيمًا، وقف على باب الحرم من أول النهار إلى نصفه، عريان الرأس، حافي القدمين، يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسئل عن ذلك فقال: حتى يؤذن لي، فإن الله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب: 53] فسمع النداء من داخل الروضة الشريفة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام: يا علي، ادخل". وهذا مخالف للعقيدة. ويقول عن نفسه: "لولا لجام الشريعة على لساني لأخبرتكم بما يكون في غد وبعد غد إلى يوم القيامة" وهذا ادعاءٌ لعلم الغيب وشرك بالله تعالى. المصدر: الموسوعة الميسرة وينقل الشيخ الأكبر للأزهر سابقاً عبدالحليم محمود عن صاحب (الدرة البهية): "هو القطب الأكبر، والعلم الأشهر، والطود الأظهر العالي السنام. هو البدر الطالع الواضح البرهان، الغنيّ عن التعريف والبيان، المشتهر في الدنيا قدره، والذي لا يختلف في غوثيته اثنان. وطريه ترياق شاف لأدواء العباد، وذكره رحمة نازلة في كل ناد. سرى سرّه في الآفاق، وسارت بمناقبه الركبان والرفاق. قضى عمره في العبادة، وقصده للانتفاع أهل السعادة. وكان رضي الله عنه في العلم في الغاية، وفي الزهد في النهاية، جمع الله له الشرفين: الطيني والديني، وأحرز الفضل المحقق اليقيني" ويذكره الشاذلي بنفسه هو ومكانته السامية ودرجته الرفيعة، ومعرفته وعلمه بما يختلج في صدور الناس، وفيضه وفيضانه بقوله: "كنت في سياحتي في مبدأ أمري حصل لي تردد: هل ألزم البراري والقفار للتفرغ للطاعة والأذكار أو أرجع إلى المدائن والديار لصحبة العلماء والأخيار؟ فوصف لي وليٌّ هنالك، وكان برأس جبل فصعدت إليه، فما وصلت إليه إلا ليلاً، فقلت في نفسي لا أدخل عليه في هذا الوقت، فسمعته يقول من داخل المغارة: اللهم إن قوماً سألوك أن تسخر لهم خلقك، فسخرت لهم خلقك، فرضوا منك بذلك، اللهم وإني أسألك اعوجاج الخلق علي حتى لا يكون ملجئي إلا إليك. قال: فالتفت إلى نفسي وقلت: يا نفس انظري من أي بحر يغترف هذا الشيخ. فلما أصبحت دخلت إليه فأعربت من هيبته. فقلت له: يا سيدي كيف حالك؟ فقال: أشكوا إلى الله من برد الرضا والتسليم كما تشكو أنت من حر التدبير والاختيار. فقلت: يا سيدي أما شكواي من حر التدبير والاختيار فقد ذقته وأنا الآن فيه، وأما شكواك من برد الرضا والتسليم فلماذا؟ فقال: أخاف أن تشغلني حلاوتها عن الله. قلت: يا سيدي سمعتك البارحة تقول: اللهم إن قوماً سألوك أن تسخر لهم خلقك، فسخرت لهم خلقك، فرضوا منك بذلك، اللهم وإني أسألك اعوجاج الخلق علي حتى لا يكون ملجئي إلا إليك، فتبسم ثم قال: يا بني، ما تقول: سخر لي خلقك قل: يا رب كن لي، أترى إذا كان لك أيفوتك شيء؟ فما هذه الجناية" وحتى ابنه الصغير يعلم ما في قلوب الناس كما يذكر الشاذلي أيضاً: "كنت يوماً بين يدي الأستاذ فقلت في نفسي: ليت شعري هل يعلم الشيخ اسم الله الأعظم؟ فقال ولد الشيخ وهو في آخر المكان الذي أنا فيه: يا أبا الحسن ليس الشأن من يعلم الاسم الأعظم، إنما الشأن من يكون هو عين الاسم، فقال الشيخ من صدر المكان: أصاب وتفرس فيك ولدي" الجزء: 8 ¦ الصفحة: 268 ويقول ابن عطاء الله السكندري: إن طريقة الشاذلي تنتسب إلى الشيخ عبدالسلام بن مشيش، والشيخ عبدالسلام ينتسب إلى الشيخ عبدالرحمن المدني، ثم واحد عن واحد إلى الحسن بن علي بن أبي طالب وبعد مدة من الزمن وبقائه عند ابن مشيش قال له شيخه ابن مشيش: يا علي، ارتحل إلى أفريقية واسكن بلداً بها تسمى شاذلة، فإن الله يسميك شاذلياً، وبعد ذلك تنتقل إلى مدينة تونس وبعد ذلك تنتقل إلى بلاد المشرق، وترث فيها القطبانية ولما ورث القطبانية "وظهر بالخلافة الكبرى والولاية الكثرى والقطبية العظمى والغوثية الفردى، وخصّه الله بعلوم الأسماء ومن عليه بأعلى مقامات الأولياء، وخصوصيات الأصفياء، وانفرد في زمانه بالمقام الأكبر والمدد الأكثر والعطاء الأنفع والنوال الأوسع، بدأ يقول كما ذكروا عنه أنه قيل للشيخ أبي الحسن: من هو شيخك؟ فقال: كنت أنتسب إلى الشيخ عبدالسلام بن مشيش، وأنا الآن لا أنتسب لأحد، بل أعوم في عشرة أبحر: خمسة من الآدميين، النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وخمسة من الروحانيين، وجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل والروح الأكبر. و"تصرّف في أحكام الأولياء ومددها بالإذن والتمكين، وانفراد بسؤددها حق اليقين، وأمدّ الأولياء أجمعين، وكذا الصديقين، ونال مقام الفردانية الذي لا يجوز المشاركة فيه بين اثنين، وأجمع على ذلك من عاصره من العلماء العارفين والأولياء المقربين وخواص الصديقين، وشهد بقطبانيته وفردانيته الجمّ الكثير" (94). وبدأ يقول: "والله لقد جئت في هذا الطريق ما لم يأت به أحد" (95). حتى تعالى وتفاخر: "قدمي على جبهة كل ولي لله" (96). ومن الجدير بالذكر أن الدكتور عبدالحليم محمود الذي تولّى مشيخة الأزهر، وتخرّج من جامعة فرنساوية كتب كتاباً في تمجيد الشاذلي ومدح الشاذلية، ففي ذلك الكتاب يذكر أن الله كلّمه على جبل زغوان، الجبل الذي اعتكف الشاذلي فيه في قمته، وتعبّد وتحنّث، والذي يذكره نقلاً عن صاحب كتاب (درة الأسرار): " قرأ الشيخ على جبل زغوان سورة الأنعام إلى أن بلغ إلى قوله تعالى: وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا [الأنعام:70] أصابه حال عظيم، وجعل يكررها ويتحرك، فكلما مال إلى جهة مال الجبل نحوها ... وما كانت حياته على الجبل إلا على نباتات الأرض وأعشابها" (97). وعلى هذا الجبل ارتقى منازل، وتخطّى مراتب حيث "نبع له عين تجري بماء عذب. ثم بدأت الملائكة تحفّ بأبي الحسن، بعضها يسأله فيجيبه. وبعضها يسير معه. ثم تأتيه أرواح الأولياء زرافات ووحداناً تحفّ بأبي الحسن وتتبرك به (98). وبعد تجاوز هذه المراتب كلها التي أهّلته لأن يخاطب الرب بدون واسطة ولا ملك، كلّمه الرب تبارك وتعالى حسب قول ذلك الدكتور، فقال له: "يا علي، اهبط إلى الناس ينتفعوا بك. فقلت: يا رب أقلني من الناس فلا طاقة لي بمخاطبتهم. فقيل لي: انزل فقد أصحبناك السلامة، ودفعنا عنك الملامة. فقلت: تكلني إلى الناس آكل من دريهماتهم. فقيل لي: انفق علي، وأنا الملي، إن شئت من الجيب وإن شئت من الغيب. ونزل الشاذلي رضي الله عنه من على الجبل ليغادر شاذلة، ويستقبل مرحلة جديدة، فقد انتهت المرحلة الأولى التي رسمها له شيخه. وقبل أن نغادر معه شاذلة إلى رحلته الجديدة نذكر ما حكاه رضي الله عنه فيما يتعلق بنسبه إلى شاذلة، قال: قلت يا رب لم سميتني بالشاذلي، ولست بشاذلي. فقيل لي: يا علي، ما سميتك بالشاذلي وإنما أنت الشَّاذُّلِي بتشديد الذال المعجمة، يعني: المفرد لخدمتي ومحبتي" (99). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 269 وقبله قد تكلّم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من داخل حجرته الشريفة كما ذكر ذلك الدكتور عبدالحليم محمود نقلاً عن (درة الأسرار) عن أبي الحسن: "ولما قدم المدينة زادها الله تشريفاً وتعظيماً، وقف على باب الحرم من أول النهار إلى نصفه عريان الرأس حافي القدمين، يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً. فسئل عن ذلك فقال: حتى يؤذن لي، فإن الله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب: 53] فسمع النداء من داخل الروضة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام: "يا علي ادخل" (100). فمن يكن هذا شأنه ومقامه ومكانته لا يستبعد عنه أن يقول: "لولا لجام الشريعة على لساني لأخبرتكم بما يكون في غد وبعد غد إلى يوم القيامة" (101). وأيضاً: "أعطيت سجلاً مدّ البصر، فيه أصحابي وأصحاب أصحابي إلى يوم القيامة عتقاء من النار" (102). وعلى ذلك ينقل عنه الإسكندري عن شيخه أبي العباس المرسي خليفة أبي الحسن الشاذلي وتلميذه الخاص به أنه قال: " قال لي عبد القادر النقاد، وكان من أولياء الله: اطلعت البارحة على مقام الشيخ أبي الحسن. فقلت له: وأين مقام الشيخ؟ فقال: عند العرش. فقلت له: ذاك مقام تنزل لك الشيخ فيه حتى رأيته. وإلا مقامه فهو فوق ذلك، وقد صرّح بذلك حيث يواصل كلامه فيقول: "ثم دخلت أنا وهو على الشيخ، فلما استقر بنا المجلس قال الشيخ رضي الله عنه: رأيت البارحة عبد القادر النقاد بالمنام فقال لي: أعرش أنت أم كرسيّ؟ فقلت له: دع عنك ذا. الطينة أرضية. والنفس سماوية. والقلب عرشي. والروح كرسي. والسر مع الله بلا أين. والأمر نزل فيما بين ذلك ويتلوه الشاهد منه (103). وذكروا من جملة كراماته أنه أثناء سفره إلى الإسكندرية مكث بتونس مدة، واشتهر أمره وذاع صيته، والتف حوله خلق كثير فحسده فقيه تونس وقاضي قضاتها ابن البراء فوشاه إلى السلطان، ودسّ له عنده، وتكلّم في نسبه ولكن السلطان لم يمسه بسوء، ووقره في قلبه واحترمه ولكن منعه من الخروج، وما أن منعه إلاّ وماتت جاريته في ذاك الحين، التي أحبها فملكت عليه جميع أقطاره، ثم التهبت النار في البيت فلم يشعروا حتى احترق كل ما في البيت من الفرش والثياب وغير ذلك من الذخائر، فعلم السلطان أنه أصيب من قبل هذا الوليّ (104). ولكن من الغرائب أنه لم يصب ابن البراء شيئًاً مع تصريح عبد الحليم محمود وغيره أنه بقى على عدائه للشاذلي ومخالفته له إلى أن الشاذلي كان يسلّم عليه فلم يكن ابن البراء يردّ عليه السلام، وكان يطعن في نسبه (105). ولكن أني للمختلقين العقل، ومن أين للقصاصين العقل، والمسامرين الوضاعين الفكر. فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً. وهل يستعبد هذا من أولئك الناس الذين يفضلون هؤلاء المتصوفة على أنبياء الله ورسله ويزعمون فيهم من القدرة والاختيارات، ومعرفة علم الغيب، والتصرف في أمور الكون، وتدبير أمور الدنيا والآخرة، ومددهم الأحياء منهم والأموات، وإعطائهم الثواب والعقاب، وتقسيمهم الجنة والنار لمن يريدون ويزعمون إعطاءه، ويصفونهم بأوصاف لا تليق إلا بالواحد القهار الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل، وأمر سيد الخلائق وأفضل المخلوقات وأشرف المرسلين بأن يقول: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188] (106). قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ [الأنعام: 50] (107). قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] (108). وغيرها من الآيات الكثيرة والأحاديث المستفيضة ... ولكن المتصوفة يعتقدون في أوليائهم أوصافاً إلهية ونعوتاً ربانية فيقول الإسكندري: "لو كشف عن حقيقة الولي لعبد، لأن أوصافه من أوصافه، ونعوته من نعوته" المصدر: دراسات في التصوف لإحسان إلهي ظهير - ص 236 فما بعدها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 270 المبحث الرابع: من أبرز مشايخ الطريقة الشاذلية - أبو العباس المرسي أبو العباس المرسي: أحمد بن عمر المرسي أبو العباس شهاب الدين، من أهل الإسكندرية، لا يُعرف تاريخ ولادته وأهله من مرسيه بالأندلس، توفي سنة 686هـ ـ 1287م. ـ يعد خليفة أبي الحسن الشاذلي وصار قطبًا بعد موته، حسب ما يقول الصوفية، وله مقام كبير ومسجد باسمه في مدينة الإسكندرية. المصدر: الموسوعة الميسرة كما ينقلون عن زكي الدين الأسواني أنه قال: "قال لي الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: يا زكي، عليك بأبي العباس، فو الله إنه ليأتيه البدوي يبول على ساقيه فلا يمسي عليه المساء إلا قد أوصله إلى الله، يا زكي، عليك بأبي العباس، فو الله ما من ولي لله كان أو هو كائن إلا وقد أطلعه الله عليه، يا زكي، أبو العباس هو الرجل الكامل". ويقول أبو العباس هذا عن نفسه: "والله ما سار الأولياء والأبدال من قاف حتى يلقوا واحداً مثلنا، فإذا لقوه كان بغيتهم، ثم قال: وبالله لا إله إلا هو، ما من ولي لله كان أو كائن إلا وقد أطلعني الله عليه وعلى اسمه ونسبه وكم حظه من الله". وهو الذي قال: "والله لو حجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين". وكان يقول: "لا أعلم أحداً اليوم يتكلّم في هذا العلم غيري على وجه الأرض" وقدم إليه بعضهم طعاماً فيه شبهة يمتحنه فامتنع الشيخ من أكله، وقال: "إنه كان للشيخ المحاسبي عرق في أصبعه يضرب إذا مدّ يده إلى شبهة فأنا في يدي ستون عرقاً تضرب، فاستغرب الرجل وتاب على يديه". وتكلم يوماً في القطب وأوصافه ثم قال: "وما القطبانية بعيدة من بعض الأولياء وأشار إلى نفسه". قال: "لقد علمت العراق والشام ما تحت هذه الشعرات لأتوها ولو سعياً على وجوههم". وكان المرسي هذا أيضاً يدّعي صحبة الخضر واللقاء معه. وكان له تأويل باطني مثلما كان لأستاذه وشيخه، ومثال ما ذكره تلميذه عطاء الله الإسكندري: "سمعت شيخنا رضي الله عنه يقول في قوله عز وجل: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106] أي: ما نذهب من وليّ لله إلا ونأت بخير منه أو مثله". وكان كأستاذه يعتني بكتاب (الإحياء) لأبي حامد الغزالي، وكتاب (قوت القلوب) لأبي طالب المكي، وكتاب (ختم الأولياء) للحكيم الترمذي، وكتاب (المواقف والمخاطبات) لمحمد عبدالجبار النفري. مات سنة 686هـ. المصدر: دراسات في التصوف لإحسان إلهي ظهير - ص245، 246 - ياقوت العرش ثم خلفه على مشيخة الشاذلية ياقوت العرش وكان حبشياً. "وهو الذي شفع في الشيخ شمس الدين بن اللبان لما أنكر على سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه وسلب عمله وحاله بعد أن توسل بجميع الأولياء، ولم يقبل سيدي أحمد شفاعتهم فيه، فسار من الإسكندرية إلي سيدي أحمد، وسأله أن يطيب خاطره عليه وأن يردّ عليه حاله فأجابه. ثم إن سيدي ياقوت زوّج ابن اللبان ابنته، ولما مات أوصى أن يدفن تحت رجليها إعظاماً لوالدها الشيخ ياقوت. وإنما سمّى العرش لأن قلبه لم يزل تحت العرش، وما في الأرض إلاّ جسده. وقيل: لأنه كان يسمع لأذان حملة العرش. وكان رضي الله عنه يشفع في الحيوانات. وجاءته مرة حمامة فجلست على كتفه وهو جالس في حلقة الفقراء وأسرّت إليه شيئًاً في أذنه، فقال: بسم الله ونرسل معك أحدا من الفقراء، فقالت: ما يكفيني إلا أنت، فركب بغلته من الإسكندرية وسافر إلى مصر العتيقة حتى دخل إلى جامع عمرو فقال: اجمعوني على فلان المؤذن، فأرسلوا وراءه، فجاء، فقال له: هذه الحمامة أخبرتني بالإسكندرية أنك تذبح فراخها كلما تفرخ في المنارة، فقال: صدقت، قد ذبحتهم مراراً، فقال: لا تعد، فقال: تبت إلى الله تعالى ورجع الشيخ إلى الإسكندرية رضي الله عنه. ومناقبه رضي الله عنه كثيرة مشهورة بين الطائفة الشاذلية بمصر وغيرها المصدر: دراسات في التصوف لإحسان إلهي ظهير - ص 246، 247 - محمد المغربي ثم خلفه ناس آخرون، فاشتهر من بينهم محمد المغربي الذي يقولون عنه بأنه تنبأ بظهوره الشاذلي، فقال: "يظهر بمصر رجل يعرف بمحمد يكون فاتحاً لهذا البيت، ويشتهر في زمانه ويكون له شأن" (127). وهو الذي قال: "أعطيت الشاذلية ثلاثاً لم تحصل لمن قبلهم ولا لمن بعدهم: الأول: إنهم مختارون في اللوح المحفوظ. الثاني: إن المجذوب منهم يرجع إلى الصحو. الثالث: إن القطب منهم إلى يوم القيامة (128). وآخر هذه الثلاث أن يركز عليه، فإن كل طائفة من الطوائف الصوفية تدعي أن القطب منهم، ولا يرضى بهذه المقولة أحد من غير الشاذلية. وآخرون مثل علي بن عمر القرشي وناصر الدين بن محمد عبدالدائم وابن عبدالرحمن بن إبراهيم ومعصوم بن أحمد وغيرهم العديدون. المصدر: دراسات في التصوف لإحسان إلهي ظهير - ص247 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 271 المبحث الخامس: الأفكار والمعتقدات تشترك كل الطرق الصوفية في أفكار ومعتقدات واحدة، وإن كانت تختلف في أسلوب سلوك المريد أو السالك وطرق تربيته، ونستطيع أن نُجمِل أفكار الطريقة الشاذلية في نقاط محددة، مع العلم أن هذه النقاط كما سنرى قد تفسر لدى الصوفية غير التفسير المعهود لدى عامة العلماء والفقهاء، وهذه النقاط هي: ـ التوبة: وهي نقطة انطلاق المريد أو السالك إلى الله تعالى. ـ الإخلاص: وينقسم لديها إلى قسمين: 1 ـ إخلاص الصادقين. 2 ـ إخلاص الصِّدِّيقين. ـ النية: وتعد أساس الأعمال والأخلاق والعبادات. ـ الخلوة: أي اعتزال الناس، فهذا من أسس التربية الصوفية. وفي الطريقة الشاذلية يدخل المريد الخلوة لمدة ثلاثة أيام قبل سلوك الطريق. ـ الزهد: وللزهد تعاريف متعددة عند الصوفية منها: 1 ـ فراغ القلب مما سوى الله، وهذا هو زهد العارفين. 2 ـ وهو أيضًا ـ عندهم ـ الزهد في الحلال وترك الحرام. ـ النفس: ركزت الشاذلية على أحوال للنفس هي: 1 ـ النفس مركز الطاعات إن زَكَتْ واتقت. 2 ـ النفس مركز الشهوات في المخالفات. 3 ـ النفس مركز الميل إلى الراحات. 4 ـ النفس مركز العجز في أداء الواجبات. لذلك يجب تزكيتها حتى تكون مركز الطاعات فقط. ـ الورع: وهو العمل لله وبالله على البينة الواضحة والبصيرة الكامنة. ـ التوكل: وهو صرف القلب عن كل شيء إلا الله. ـ الرضى: وهو رضى الله عن العبد. ـ المحبة: وهي في تعريفهم: سفر القلب في طلب المحبوب، ولهج اللسان بذكره على الدوام. ـ وللحب درجات لدى الشاذلية وأعلى درجاته ما وصفته رابعة العدوية بقولها: أحبك حبَّين حب الهوى وحبًّا لأنك أهل لذاك ـ الذوق: ويعرِّفونه بأنه تلقي الأرواح للأسرار الطاهرة في الكرامات وخوارق العادات، ويعدونه طريق الإيمان بالله والقرب منه والعبودية له. لذلك يفضل الصوفية العلوم التي تأتي عن طريق الذوق على العلوم الشرعية من الفقه والأصول وغير ذلك، إذ يقولون: علم الأذواق لا علم الأوراق، ويقولون: إن علم الأحوال يتم عن طريق الذوق، ويتفرع منه علوم الوجد والعشق والشوق. ـ علم اليقين: وهو معرفة الله تعالى معرفة يقينية، ولا يحصل هذا إلا عن طريق الذوق، أو العلم اللدني أو الكشف .. إلخ. - ومع ذلك فإن الشاذلي يقول بأن التمسك بالكتاب والسنة هو أساس طريقته، فمن أقواله: "إذا عارض كشفك الكتاب والسنة فتمسك بالكتاب والسنة ودع الكشف، وقل لنفسك: إن الله تعالى قد ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة، ولم يضمنها لي في جانب الكشف ولا الإلهام ولا المشاهدة". ـ ويقول أيضًا: "كل علم يسبق إليك فيه الخاطر، وتميل إليه النفس وتلذّ به الطبيعة فارمِ به، وإن كان حقًّا، وخذ بعلم الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم واقتدِ به وبالخلفاء والصحابة والتابعين من بعده". - وكذلك فإن الصوفية عامة يرون ـ ومنهم الشاذلية ـ أن علم الكتاب والسنة لا يؤخذان إلا عن طريق شيخ أو مربٍّ أو مرشد، ولا يتحقق للمريد العلم الصحيح حتى يطيع شيخه طاعة عمياء في صورة: "المريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي مُغسِّله" لذلك يُنظر إلى الشيخ نظرة تقديسية ترفعه عن مرتبته الإنسانية. المصدر: الموسوعة الميسرة وصرح بعضهم بأنه يعلم كل ما يعلمه الله ويقدر على كل ما يقدر الله عليه وادعوا أن هذا كان للنبي ثم انتقل إلى الحسن بن علي ثم من الحسن إلى ذريته واحدا بعد واحد حتى انتهى ذلك إلى أبي الحسن الشاذلي ثم إلى ابنه خاطبني بذلك من هو من أكابر أصحابهم. وحدثني الثقة من أعيانهم أنهم يقولون: إن محمدا هو الله. وحدثني بعض الشيوخ الذين لهم سلوك وخبرة أنه كان هو وابن هود في مكة فدخلا الكعبة فقال له ابن هود وأشار إلى وسط الكعبة: هذا مهبط النور الأول. وقال له: لو قال لك صاحب هذا البيت أريد أن أجعلك إلها ماذا كنت تقول له؟ قال: فقف شعري من هذا الكلام وانخنست. أو كما قال المصدر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام بن تيمية -14/ 365 ـ السماع: وهو سماع الأناشيد والأشعار الغزلية الصوفية. وقد نقل عن أحد أعلام التصوف قوله: "الصوفي هو الذي سمع السماع وآثره على الأسباب". ونقل عن الشعراني عن الحارث المحاسبي قوله: "مما يتمتع به الفقراء سماع الصوت الحسن"، و"إنه من أسرار الله تعالى في الوجود". ـ وقد أفرد كُتَّاب (التصوف) للسماع أبوابًا منفصلة في مؤلفاتهم، لما له من أهمية خاصة عندهم. ـ يكثر في السماع الأشعار التي تصل إلى درجة الكفر والشرك، كرفع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مرتبة عالية لم يقل بها أحد من أصحابه، ولا هي موجودة في كتاب ولا سنة، فضلاً عن الإكثار من الاستغاثة لا المناجاة كما يقول البعض: يا كتاب الغيوب قد لجأنا إليك يا شفاء القلوب الصلاة عليك - وهناك أفكار واعتقادات كثيرة يجدها القارئ في كتب التصوف مبتدعة دخلت الفكر الإسلامي عن طريق الفلسفات اليونانية والهندية. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 272 المبحث السادس: أوراد الشاذلية وقد اشتهر عن الشاذلية أوراد عديدة منها حزب البر وحزب البحر والحزب الكبير وغيرها من الأحزاب والأوراد، اختلقوا لها فضائل ومناقب لم ينزل الله بها من برهان، ذكرها كل من عطاء الله الإسكندري في كتابه (لطائف المنن) والدكتور عبدالحلم محمود في كتابه (المدرسة الشاذلية وإمامها أبو الحسن الشاذلي) والآخر في (النفحة العلية في الأوراد الشاذلية). المصدر: دراسات في التصوف لإحسان إلهي ظهير - ص248 ومن الأوراد الشاذلية (وغيرهم يستعملها): قولهم في الصلاة البشيشية- أو المشيشية-: وزج بي في بحار الأحدية، وانشلْني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة، حتى لا أرى ولا أسمع ولا أحس إلا بها (1) ... - ومما جاء في الوظيفة الشاذلية (الممزوجة بصلاة سيدي عبد السلام بن بشيش، وتقرأ صباحاً ومساءً): ... اللهم صل وسلم بجميع الشئون، في الظهور والبطون، على مَن منه انشقت الأسرار الكائنة في ذاته العلية ظهوراً .. وفيه ارتقت الحقائق منه إليه، وتنزلت علوم آدم به فيه عليه .. ولا شيء إلا وهو به منوط، وبسره الساري محوط .. اللهم إنه سرك الجامع لكل الأسرار، ونورك الواسع لجميع الأنوار ... اللهم ألحقني بنسبه الروحي .. وعرفني إياه معرفة أشهد بها محياه وأصير بها مجلاه ... وسر بي في سبيله القويم وصراطه المستقيم إلى حضرته المتصلة بحضرتك القدسية ... وزج بي في بحار الأحدية المحيطة بكل مركبة وبسيطة، وانشلني من أوحال التوحيد إلى فضاء التفريد المنزه على الإطلاق والتقييد، وأغرقني في عين بحر الوحدة شهوداً، حتى لا أرى ولا أسمع ولا أجد ولا أحس إلا بها نزولاً وصعوداً، كما هو كذلك لن يزال وجوداً ... وأيدني بك لك بتأييد من سَلَك فملك، ومن ملك فسلك، واجمع بيني وبينك، وأزل عن العين غينك، وحل بيني وبين غيرك .. الله، منه بدأ الأمر، الله، الأمر إليه يعود، الله، واجب الوجود وما سواه مفقود (2) ... ومن أورادهم (مناجاة ابن عطاء الله وتُقرأ وقت السحر): ... إلهي كلما أخرسني لؤمي أنطقني كرمك، وكلما أيأستني أوصافي أطمعتني منتك .. وتردّدي في الآثار يوجب بُعد المزار، فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليك ... أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعُدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك ... وحققني بحقائق أهل القرب واسلك بي في مسالك أهل الجذب .. أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك، وأنت الذي أزلت الأغيار من أسرار أحبائك ... يا من أذاق أحبّاءه حلاوة مؤانسته فقاموا بين يديه مؤتلفين، ويا من ألبس أولياءه ملابس هيأته فقاموا بعزته مستعزين ... فاطلبني برحمتك حتى أصل إليك، واجذبني بمنتك حتى أُقْبلَ عليك ... وأنت تعرفت لي في كل شيء فرأيتك ظاهراً في كل شيء ... ومحوت الأغيار بمحيطات أفلاك الأنوار (3) ... ومن حزب الفتح لأبي الحسن الشاذلي: .. ونسألك الإحاطة بالأسرار .. وجلّت إرادتك أن يوافقها أو يخالفها شيء من الكائنات، حسبي الله (ثلاثاً) وأنا بريء مما سوى الله .. (4). - يُرجى من القارئ أن ينتبه لقوله: (وأنا بريء مما سوى الله) في معنييها، الظاهر والصوفي، وأن يلاحظ مدى شمول البراءة في المعنى الظاهر!! - ومن حزب اللطيف لأبي الحسن الشاذلي: ... إلهي لطفك الخفي ألطف من أن يُرى، وأنت اللطيف الذي لطفت بجميع الورى، حجبت من سريان سرك في الأكوان فلا يشهده إلا أهل المعرفة والعيان، فلما شهدوا سر لطفك بكل شيء أَمنوا به من سوء كل شيء .. (5). المصدر: الكشف عن حقيقة الصوفية محمود عبد الرءوف القاسم – ص 248 ومن سلك مسلكهم غايته إذا عظم الأمر والنهي أن يقول كما نقل عن الشاذلي يكون الجمع في قلبك مشهودا والفرق على لسانك موجودا كما يوجد في كلامه وكلام غيره أقوال وأدعية تستلزم تعطيل الأمر والنهي مما يوجب أن يجوز عنده أن يجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ويدعون بأدعية فيها اعتداء كما في حزب الشاذلي، وآخرون من عوامهم يجوزون أن يكرم الله بكرامات الأولياء لمن هو فاجر وكافر ويقولون هذه موهبة ويظنونها من الكرامات وهي من الأحوال الشيطانية التي يكون مثلها للسحرة والكهان كما قال تعالى وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ [البقرة: 101] إلى قوله هَارُوتَ وَمَارُوتَ [البقرة:101] المصدر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام بن تيمية -14/ 226   (1) ((النفخة العلية في الأوراد الشاذلية))، (ص: 16). (2) ((النفحة العلية))، (ص18). (3) ((النفحة العلية))، (24، 25، 26). (4) ((النفحة العلية))، (ص144). (5) ((النفحة العلية))، (ص: 155). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 273 المبحث السابع: الطريقة الشاذلية ودلائل الخيرات وقد ورد في كتاب (دلائل الخيرات) من أوراد الشاذلية، للشيخ عبد الفتاح القاضي، ورد بعض صلوات الشيخ الفاسي نصه ما يلي: "يا الله يوه واه هو يا هو يا من هو أنت، أنت هو يوه هو يا يوه هو يا جليل يا هو يا من لا هو إلا أنت هو" كما في كتاب (كنوز الأسرار في الصلاة والسلام على النبي) (ص 79) - كما يعتقد الشاذلية فيما يسمى الدائرة، والخاتم، والسيف، وكلها أسماء لمسمى واحد، ويعتقدون أن من وضع هذه الدائرة على رأسه لا يموت، ويروون الحكايات عن أقوام لم يموتوا إلا بعد أن خلعوا هذه الدائرة، وتضم هذه الدائرة أشهر الألفاظ السريانية، والمتفق عليها بين عدد كبير من الطرق الصوفية، وقد نقل شرح هذه الأسماء أحمد بن عياد في المفاخر العلية في المآثر الشاذلية، يرويه عن أبي عبد الله اليافعي، وشرح مجالات استخدام كل اسم منها، فيقول: · طَهُورٌُ: الاسم الأول الكامل في ذاته المنور لصفاته، (ويستخدم) للدخول على الملوك، كَبِّر الله سبعا ثم قل: طاء، ثم اقرأ: إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ [الشعراء: 4]، ثم قل حكمت على أنفسهم الطاء، واذكر الاسم سبعاً. · بَدْعَقٌُ: الاسم الثاني، بمعنى الباقي الذي كل شيء به باق، ذات الأقسام (أي القسم) للدخول على العلماء والقضاة، هلل الله سبعا، ثم قل باء، ثم اقرأ: سَلامٌ قَوْلا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ [يس: 58]، ثم قل: فلقت عقولهم بالقاف، ثم اذكر الاسم سبعا. · مَحْبَبَهٌُ: الاسم الثالث مبين الحكم، وملقن المنن، لاستجلاب الرزق، سبح لله سبعا، ثم اقرأ: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحديد: 1]، ثم قل: حاء، فتحت بها باب الاستمطار من الفتاح العليم، ثم اذكر الاسم سبعاً. · صُوَرَهٌُ: الاسم الرابع، الذي لهيبته كل جبار خاضع، لدفع المضار، تقول: يا سلام سبعا، ثم تقول: سلبت عن نفسي، وعن فلان من كان من عباد الله المؤمنين جميع المضار، ثم اذكر الاسم سبعا. · الخامس، وهو اسم العزة: مَحْبَبَهُ، نظير ما تقدم، تقول هنا: الحمد لله سبعا، ثم تقول: عين ملأت قلبي عزة ونورا، ومن شئت من إخوانك المؤمنين، ثم تذكر الاسم سبعا. · الاسم السادس، زهو المعروف بمفتاح الغيب: سَقْفَاطِيسٌُ: للفتح على القلب، تقول: يا سلام سبعا، ثم تقول: سين، أسألك بالسناء الأعظم أن تعطيني مفتاح قلبي، وتذكر الاسم سبعا. · الاسم السابع، وهو اسم الجلالة الموصل إلى مفتاح الكنوز، ولرتبة الكمال: سَقَاطِيمٌُ، وهو أن تقول يا الله بألف الوصل، وهاء الرفع، والمد سبعا، ثم تقول: وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ [المؤمنون: 97 - 98].رب أسألك حولا من حولك، وقوة من قوتك، وتأييدا من تأييدك حتى لا أرى غيرك، ولا أشهد سواك، ثم اذكر الاسم سبعا. ثم قال (اليافعي): أدغمت الكلام أوله صيانة له من غير أهله. ويستطرد اليافعي في بيان أسراره، فيقول: "أََحُونٌُُ أَدُمَّ حَمَّ هَاءٌُ آمين". هي الاسم الأعظم، بل ويعلم الأتباع من الصوفية كيف يذكرون بها، وينسب ذلك إلى شيخه الذي يقول: واتل الاسم الأعظم" أََحُونٌُُ أَدُمَّ حَمَّ هَاءٌُ آمين" سبعين مرة، وسَل ما تريد، وصفة السؤال أن تقول عقب تلاوتك في الوقت المخصوص: أسألك اللهم يا من هو: " أََحُونٌُُ أَدُمَّ حَمَّ هَاءٌُ آمين" افعل لي كذا وكذا. المصدر: الأسماء السريانية عند الصوفية- منتدى الدفاع عن السنة بالمغرب العربي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 274 المبحث الثامن: الجذور الفكرية والعقائدية كانت المذاهب الصوفية كلها عبارة عن مدارس تربوية تدعو إلى تزكية النفس وإلى الزهد في الدنيا والعمل الصالح، إلا أن هذه المدارس دخلتها الفلسفة اليونانية والفلسفة الهندية، وحتى النصرانية واليهودية وغيرها من الفلسفات، وذلك أثناء حركة الترجمة في القرن الرابع الهجري، فتأثرت الصوفية بها، وبدأ الانحراف في هذه المدارس عن الطريق الإسلامي السوي. فقد أخذت الصوفية من الفلسفة الهندية مراحل ترقِّي الإنسان إلى الفناء أو الزفانا، وذلك بتطهير نفسه بالجوع والزهد وترك الدنيا حتى يصل إلى السعادة الحقيقية. وأخذت الصوفية الرهبانية من النصرانية المنحرفة، وهو الانقطاع عن الناس والعزلة عن الخلق والزهد. ومن الفلسفة اليونانية نظرية الفيض الإلهي، والاتحاد والحلول عند بعض الصوفية. ولو تتبع المدقق في المذاهب الصوفية لوجد العجب من المصطلحات والمعلومات البعيدة كل البعد عن تعاليم الشريعة الإسلامية الواضحة البينة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 275 المبحث التاسع: أماكن الانتشار مركز الشاذلي الأول هو مصر وبخاصة مدينة الإسكندرية، وطنطا، ودسوق بمحافظة كفر الشيخ، ثم انتشرت في باقي البلاد العربية. وأهم مناطق نشاطها سوريا والمغرب العربي، ولها وجود إلى الآن في ليبيا، وفي السودان في الوقت الحاضر. يتضح مما سبق: أن الشاذلية طريقة صوفية تنتسب إلى أبي الحسن الشاذلي، وهو علي بن عبد الله بن عبد الجبار بن يوسف أبو الحسن الهذلي الشاذلي نسبة إلى شاذلة في المغرب بشمال أفريقيا. وتشترك هذه الطريقة مع غيرها من الطرق الصوفية في كثير من الأفكار والمعتقدات، وإن كانت تختلف في أسلوب سلوك المريد وطرق تربيته. ومجمل أفكار هذه الطريقة: التوبة، والإخلاص، النية، الخلوة، الذكر، الزهد، النفس، الورع، التوكل، الرضى، المحبة، الذوق، علم اليقين، السماع. ولهذه الألفاظ معانٍ تختلف بدرجات متفاوتة عن المعاني الشرعية. أما علم القرآن والسنة فلا يؤخذان عند الشاذلي إلا عن طريق شيخ أو مُربٍّ أو مرشد، وهو ما يستوجب على السالك الطاعة العمياء لهم. ويؤخذ على الشاذلية ما يؤخذ على الطرق الصوفية من مآخذ انحرفت بسالكيها عن الطريق الإسلامي السوي. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 276 المبحث العاشر: كلام العلماء في الطريقة الشاذلية س1: هل الطرق الصوفية مثل الشاذلية والرفاعية على حق أم أهل فرقة وضلال؟ وهل يجوز الانتماء إلى فرقة منهم أم لا؟ ج1: الطرق الصوفية جميعها يغلب عليها البدع ومخالفة الشرع فيجب الابتعاد عن تلك الطرق. وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز المصدر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء – 2/ 483 سئلت اللجنة الدائمة عن حكم الانتساب لبعض طرق الصوفية مثل الشاذلية فأجابتج: روى أبو داود وغيره من أصحاب السنن من طريق العرباض بن سارية أنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (1). فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه سيقع في أمته اختلاف كثير وتتشعب بهم الطرق والمناهج وتكثر فيهم البدع والمحدثات، وأمر المسلمين أن يعتصموا بكتاب الله وأن يتمسكوا بسنته وأن يعضوا عليها بالنواجذ، وحذرهم من التفرق والاختلاف واتباع البدع والمحدثات؛ لأنها مضلة ومتاهات تتفرق بمن سلكها عن سبيل الله فوصاهم بما وصى به عباده في قوله سبحانه: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103] وقوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153] فنوصيكم بوصية الله ووصية رسوله، وننصحكم بلزوم منهج أهل السنة والجماعة، ونحذركم ما أحدث أهل الطرق من تصوف مدخول وأوراد مبتدعة وأذكار غير مشروعة وأدعية فيها شرك بالله أو ما هو ذريعة إليه كالاستغاثة بغير الله وذكره بالأسماء المفردة وذكره بكلمة آه وليست من أسمائه سبحانه، وتوسلهم بالمشايخ في الدعاء، واعتقاد أنهم جواسيس القلوب يعلمون ما تكنه، وذكرهم الله ذكرا جماعيا بصوت واحد في حلقات مع ترنحات وأناشيد إلى غير ذلك مما لا يعرف في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله بن غديان ... عبد الله بن منيع المصدر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء – 3/ 8   (1) رواه أبو داود (4607) , والترمذي (2676) , وابن ماجه (42) , وأحمد (17184) (4/ 126) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي: حسن صحيح, وقال ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 1164): ثابت صحيح, وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 181) , وصححه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/ 582) , وقال ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 136): صحيح رجاله ثقات, وصححه الألباني. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 277 س: ما هي حقيقة هذه الطرق الكثيرة عندنا مثل: الشاذلية، والأحمدية، والسعدية، والبرهانية، وغيرها، وكيف نرد عليهم، وما الكتب الشافية في ذلك، وهل هم على حق كما يزعمون هم بذلك؟ ج: طريقة الشاذلية والأحمدية والسعدية والبرهانية ونحوها من الطرق طرق ضلال، لا يجوز للمسلم أن يتبع واحدة منها، بل الواجب عليه أن يتبع طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه وصحابته من بعده الذين أخذوا بسنته وكذا من أخذ بها بعدهم، قال صلى الله عليه وسلم: ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)) (1). وأما الرد عليهم فيحتاج إلى أن تعرف أنت تفاصيل عقائدهم وبدعهم وشبههم وتعرض ذلك على الكتاب والسنة، ونرى أن تستعين في ذلك بالكتب المؤلفة في ذلك؛ كـ (السنن والمبتدعات)، و (مصرع التصوف) لعبد الرحمن الوكيل، و (الاعتصام) للشاطبي، و (الإبداع في مضار الابتداع) للشيخ علي محفوظ، و (إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان) للعلامة ابن القيم وأمثال هذه الكتب. المصدر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء – 3/ 141   (1) رواه الترمذي (2641) , والحاكم (1/ 218) , واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (1/ 100) والآجري في ((الشريعة)) (1/ 13) , من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه, قال الترمذي هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه, وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/ 316): في طريقه عبد الرحمن بن زياد الإفريقي , وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 278 مراجع للتوسع: ـ دراسات في التصوف، إحسان إلهي ظهير، لاهور، باكستان 1409هـ. ـ سير أعلام النبلاء، للإمام الذهبي، طـ. بيروت. ـ جامع الرسائل، ابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، القاهرة 1389هـ/ 1969م. ـ الاستقامة، ابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم ط. جامعة الإمام 1403هـ/1983م. ـ التصوف في ميزان البحث والتحقيق، عبد القادر حبيب الله السندي، مكتبة ابن القيم، المدينة المنورة 1410هـ ـ 1990م. ـ المذاهب الصوفية ومدارسها، عبد الحكيم عبد الغني قاسم، مكتبة مدبولي، القاهرة 1989م. ـ لطائف المنن، ابن عطاء الله الإسكندري، مطبعة حسان، القاهرة. ـ من أعلام التصوف الإسلامي، طه عبد الباقي سرور، دار نهضة مصر. ـ المدرسة الشاذلية الحديثة ـ إمامها أبو الحسن الشاذلي، للدكتور عبد الحليم محمود. ـ الطبقات الكبرى، للشعراني، مكتبة القاهرة 1390هـ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 279 المبحث الأول: التعريف الختمية طريقة صوفية، تلتقي مع الطرق الصوفية الأخرى في كثير من المعتقدات، مثل: الغلوِّ في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، وادعاء لقياه وأخذ تعاليمهم وأورادهم وأذكارهم التي تميزوا بها، عنه مباشرة. هذا إلى جانب ارتباط الطريقة بالفكر والمعتقد الشيعيِّ وأخذهم من أدب الشيعة وجدالهم، ومحاولة المعاصرين منهم ربط الطائفة بالحركة الشيعيَّة المعاصرة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 280 المبحث الثاني: التأسيس والجذور التاريخية • المطلب الأول: نشأة الطائفة الختمية . • المطلب الثاني: أبرز شخصيات الطائفة الختمية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 281 المطلب الأول: نشأة الطائفة الختمية تعود طائفة الختمية في أصولها القريبة إلى السيد/محمد عثمان الميرغني " الختم "، (الذي ينحدر من أسرة الأشراف يقال أنها هاجرت من الحجاز في أزمان سابقة إلى تركستان ثم إلى الهند وعادت أخيرا حيث استقر بها المقام في الحجاز. ورغم اشتغال بعض أفراد الأسرة، وشهرتهم بالعلم وتصدرهم للتدريس والإفتاء بالحرم المكي، فإنه قد غلب عليهم الميل إلى التصوف وسلوك طريقة المتصوفة. فقد كان السيد عبد الله الميرغني المحجوب (1207 أو 1208هـ/1792/ 1793م) جد السيد محمد عثمان (الختم) عالما وصوفيا مشهورا، نسبت إليه العديد من المؤلفات، من بينها كتاب (فرائض الدين وواجبات الإسلام لعامة المؤمنين)، و (الفروع الجوهرية في الأئمة الإثني عشرية)، و (المعجم الوجيز في أحاديث النبي العزيز)، و (كنوز الحقائق)، و (البدر المنير)، و (مشارق الأنوار في الصلاة على النبي المختار)، وجمع شعره في ديوانين أحدهما: (العقد المنظم على حروف المعجم)، والثاني: (عقد الجواهر في نظم المفاخر)، وغيرها من المؤلفات التي تغلب عليها النزعة الصوفية، وقد أشاد الجبرتي بمناقبه وعلمه وزهده ونسب إليه بعض الكرامات (1). كما كان عم المترجم له، السيد محمد ياسين الميرغني (1255) عالما وفقيها ورعا زاهدا، أتقن علم الفرائض وألف العديد من الكتب، ودرس بالمسجد الحرام الحديث والفقه، وعرض عليه منصب الإفتاء بمكة فلم يقبله لشدة ورعه (2). وكان أخوه السيد عبد الله الميرغني (ت 1273هـ) مفتيا في مكة (3).   (1) انظر: ((عجائب الآثار في التراجم والأخبار)) عبد الرحمن الجبرتي، المختصر من كتاب ((نشر النور والزهر في تراجم أفاضل مكة)). (2) المختصر من كتاب: ((نشر النور والزهر)) (2/ 438). (3) المختصر من كتاب: ((نشر النور والزهر)) (2/ 276). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 282 في هذا المحيط العلمي المشبع بالتصوف ولد السيد محمد عثمان بمكة عام (1208هـ/1793م)، وتوفيت والدته في اليوم السابع من ولادته ورباه والده إلى أن بلغ العاشرة، وعهد بتربيته قبيل وفاته إلى عمه السيد محمد ياسين الذي كان أحد أعلام مكة وعلمائها كما أشرنا. وقد درس السيد محمد عثمان وتلقى العلم على يد عدد من علماء مكة من بينهم عمه السيد محمد ياسين، وحصل في وقت مبكر على علوم العربية والشريعة الإسلامية، حيث درس الفقه والحديث والتفسير واللغة وألف وصنف في هذه الفنون، وكتب كتاب (تاج التفاسير)، وبعض الرسائل في اللغة والتوحيد ومصطلح الحديث. ولكن غلب عليه الاهتمام بالتصوف فدرس علوم الصوفية وسلك طريقهم عبادة وسلوكا، وغلب على مؤلفاته نثرا وشعرا هذا النهج الصوفي، إذ دفعه التطلع إلى معرفة أسرار التصوف إلى الوقوف على العديد من الطرق فأخذ الطريقة النقشبندية من عدة مشايخ وبأسانيد متنوعة، وانخرط في سلك الطريقة القادرية، وتأدب بأدب الطريقة الجندية، كما تلقى الطريقة الميرغنية طريقة جده عبد الله الميرغني، والطريقة الشاذلية على يد السيد أحمد بن إدريس، حتى صار من أقطابها، واستطاع في النهاية أن يؤسس طريقة خاصة به جمع فيها من كل هذه الطرق واعتبرها خاتمة الطرق جميعها وعرفت بالطريقة (الختمية). ورغم أن السيد محمد عثمان تلقى العلم الصوفي وأخذ الطريقة على العديد من المشايخ فإنه مدين من بين هؤلاء جميعا للسيد أحمد بن إدريس، الذي أخذ منه ولازمه كأخلص ما يكون التلميذ لشيخه حتى وفاته عام 1838م، وكان السيد محمد عثمان من ألمع تلاميذ السيد أحمد بن إدريس وأقواهم منطقا وأكثرهم قبولا لدى العامة، ولذلك انتدبه شيخه إلى السودان لكي يبشر بالإسلام ويدعو إلى الطريقة الإدريسية الشاذلية، فأبحر السيد محمد عثمان من مكة إلى سواكن، ولكنه وجد الطريق إلى الداخل عبر الجبال غير مؤتمن ومن ثم ركب البحر الأحمر إلى بلدة قصير المصرية الساحلية، ودخل إلى أسوان داعيا إلى الطريقة، ولكن دعوته لم تجد قبولا فدخل بلاد النوبة جنوبا حيث صادف نجاحا كبيرا، ومنها سار إلى منطقة المحس فدنقلا. وفي تلك المناطق السودانية وجد من الناس قبولا لدعوته وترحيبا بالدخول في الطريقة والولاء لها. ورأى السيد محمد عثمان أن يتوغل برسالته إلى أعماق السودان فاتجه غربا واتخذ طريقه من الدبة بصحراء بيوضة إلى شمال كردفان وأقام فترة في تلك المناطق يبشر بالإسلام بين القبائل الوثنية ويدعو أهالي كردفان إلى طريقة شيخه أحمد بن إدريس. وقد وجد استجابة محددة لدعوته في منطقة بارا وتزوج منها كريمة السيد محمود جلاب، وأنجبت له السيد الحسن الميرغني عام 1235هـ - 1819م)، الذي نشر الطريقة فيما بعد في السودان على أوسع نطاق. ومن شمال كردفان توجه السيد محمد عثمان إلى سنار عاصمة دولة الفونج، ويصف نعوم شقير أحداث زيارته قائلا: وفي عام 1232/ 1817م حضر إلى سنار الشريف السيد محمد عثمان الميرغني مؤسس الطريقة الميرغنية في السودان، وقابل حكامها ودعا الناس إلى أخذ الطريقة، فلم يأخذها عنه إلا القليل، وأرسل حكام سنار إلى الفقيه إبراهيم بن بقادي ليناظر السيد المذكور ويختبره، فمرض حال وصوله إلى سنار وتوفي فيها قبل أن يجتمع به، ثم خرج السيد محمد عثمان الميرغني من سنار وكان عمره إذ ذاك 25 سنة (1). ومن سنار سار السيد محمد عثمان إلى البحر الأحمر، ومن هناك إلى الحجاز.   (1) ((تاريخ السودان)) نعوم شقير (ص123). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 283 وزعم أن السيد محمد عثمان لم يصادف نجاحا كبيرا في دعوته في السودان باستثناء منطقة شمال السودان وغربه، فإنه يمكن القول بأنه استطاع أن يكون له رابطة بالسودان وأن يلقى بذورا للمستقبل ويضع النواة لطائفة الختمية في تلك البلاد. وفي الحجاز استمر محمد عثمان في خدمة شيخه السيد أحمد بن إدريس وصحبه إلى منفاه في "صبيا" ولازمه حتى وفاته عام 1837م/21 رجب 1253هـ. وبعد وفاة الشيخ أحمد بن إدريس تنافس على وراثة الطريقة السيد محمد عثمان والسيد محمد بن علي السنوسي، ونتج عن هذه المنافسة أن أسس كل منهما طريقة خاصة به. واستطاع السيد محمد عثمان أن يفوز بتأييد أشراف مكة ضد السنوسي، ومن ثم أسس زاوية لطريقته في " دير الخيزران " بمكة مع زوايا فرعية في مكة وجدة والمدينة والطائف. ونتيجة لهذا التحول الذي تبعه تغير في الأوراد وأسس السلوك مما تميزت به الطريقة الختمية، أوفد السيد محمد عثمان أبناءه للأقطار المختلفة للتبشير والدعوة للطريقة الختمية. فأرسل أكبر أبنائه (محمد سر الختم) إلى اليمن وحضرموت، ثم أوفد ابنه السيد الحسن - الذي تعلم في مكة، إلى شرق السودان حيث اكتسب ثقة البجا والبني عامر والحلنقة وغيرهم من القبائل التي سبق أن زارها والده في رحلته التي أشرنا إليها من قبل. وفي هذه المناطق لقي السيد الحسن قبولا وكون أتباعا الأمر الذي دفعه في همة ونشاط إلى مواصلة سيره إلى سنار ثم إلى كردفان موطن خئولته، ثم طاف شمال السودان من ملتقى النيلين مرورا بمناطق الجعليين والرباطاب والشايقية والدناقلة والمحس وبلاد النوبة، ورغم أن السيد الحسن لم يلق نجاحا ملحوظا في المنطقة الوسطى من السودان فإن دعوته لقيت نجاحا كبيرا في الشمال والشرق. المصدر: طائفة الختمية لأحمد محمد أحمد جلي - ص 13 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 284 المطلب الثاني: أبرز شخصيات الطائفة الختمية - الحسن بن محمد عثمان (الختم): وُلد في مدينة بارا بغرب السودان عام 1235هـ/1816م من امرأة تزوجها والده بتلك المدينة خلال رحلته إلى السودان التي أشرنا لها من قبل، التحق بوالده في مكة وتلقى تعليمه بها. بعث به والده إلى السودان لنشر الطريقة الختمية. لقي الحسن نجاحًا كبيرًا في دعوته لا سيما في شمال السودان وشرقه. أصبح الحسن شيخ الطريقة في السودان وأسَّس قرية الختمية بالقرب من مدينة كسلا في شرق السودان، كمركز للطائفة، وأصبح له مكانة كبيرة في تلك الأنحاء فاقت مكانة والده مؤسس الطريقة، وظل الحسن شيخًا للطريقة حتى وفاته عام 1286هـ/1899م. - محمد عثمان تاج السر بن الحسن بن محمد عثمان (الختم): أصبح شيخ الطريقة بعد وفاة والده، وخلال فترة تولِّيه زعامة الطائفة ظهرت الحركة المهدية في السودان، فعارضها محمد عثمان تاج السر معارضةً شديدةً، وقاد أتباعه من الختمية لمقاومتها وخاضوا عدة معارك ضد جيوش المهدية في شرق السودان. وانتهى الأمر بهزيمته وفراره إلى مصر حيث ظل بها حتى وفاته عام 1303هـ/1886م. - علي الميرغني بن محمد عثمان تاج السر 1880 ـ 1968م: ولد بجزيرة مسّاوي مركز مروري بشمالي السودان عام 1880م، انتقل مع والده إلى مدينة كسلا، وحينما اضطر والده إلى الهجرة إلى مصر إثر هزيمته على يد جيوش المهدية، تركه والده مع عمه تاج السر الحسن في سواكن. ثم لحق بأبيه وبقي في مصر حتى مجيء جيش الغزاة الإنجليز للسودان، حيث اختاره الإنجليز لمرافقتهم في غزوهم للسودان للقضاء على دولة المهدية. وحينما تمَّ للإنجليز الاستيلاء على السودان وهزيمة المهدية، اتخذوه صنيعة لهم وأطلقوا عليه الألقاب ومنحوه الأوسمة والمكافآت نظير خدماته لهم. واعترفوا به زعيمًا لعموم طائفة الختمية في السودان. واستفادوا منه في القضاء على المشاعر الدينية التي حركت الثورة المهدية من ناحية، وفي كسب ولاء السودانيين من ناحية أخرى. ـ وحينما بدأت الحركة المهديَّة تظهر من جديد على يد أحد أبناء المهدي، وبمباركة الإنجليز، شعر علي الميرغني بخطورة الموقف لا سيما وأن الإنجليز أرادوا ضرب الطائفتين (الختمية والأنصار) والاستفادة من العداء التقليدي بينهما والصراع بين زعيميهما. نتيجة لذلك تحول ولاء زعيم الختمية نحو مصر، وأصبح راعياً فيما بعد للحركة السياسية التي كانت تدعو إلى الوحدة بين مصر والسودان، وظل يحرك الأحداث السياسية من وراء ستار ويلعب دوراً خطيراً فيها حتى وفاته عام 1968م. - محمد عثمان بن علي الميرغني: وُلد عام 1936م، تولَّى زعامة الطريقة بعد وفاة والده عام 1968م، وهو الزعيم الحالي للختمية. وخلافاً لوالده الذي كان يحرِّك الأحْداث السياسيَّة ويشارك فيها من وراء ستار، انخرط محمد عثمان في العمل السياسي، مستنداً إلى ولاء أتباعه وأصبح زعيماً للطائفة وللحزب الاتحادي الديمقراطي الذي تزعَّمه وقد استغل ولاء أتباعه لخدمة الحزب بينما الحزب يضم كثيراً من العلمانيين واليساريين، بل وحتى النصارى الذين تولوا مناصب عليا فيه، ومن ثم اتخذ الحزب مواقف لا تتلاءم مع انتماء الطائفة الديني كتحالفه مع الشيوعيين، وعقد اتفاقية من طرف واحد مع المتمردين، وأخيراً قيادته للتجمع الديمقراطي الذي يضم خليطاً من العلمانيين واليساريين المناهضين لشرع الله والموالين لحركة التمرد التي تحارب الإسلام. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 285 المبحث الثالث: الأفكار والمعتقدات • المطلب الأول: عقيدتهم في الرسول صلى الله عليه وسلم . • المطلب الثاني: الفناء في ذات الرسول صلى الله عليه وسلم. • المطلب الثالث: الاستمداد من الرسول صلى الله عليه وسلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 286 المطلب الأول: عقيدتهم في الرسول صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى قول الختمية بالنور المحمدي وزعمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو ذلك النور الأزلي الذي سرى في الكون أزلا فكان مصدر وجود الكون وسببه وأن الكون وجد به وله وبسببه، فإنهم أسبغوا عليه صلوات الله عليه من الصفات ما لا يكون إلا لذات الله تعالى، وذهبوا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا تدرك حقيقته ويعجز الوصف عن بيان ذاته. ويعلق السيد المحجوب على قول ابن مشيش " فلم يدركه سابق ولا لاحق " قائلا: وكيف يدرك من كان خلقه القرآن وذاته من نور ذات الرحمن ومن له كل مراتب الإحسان، ومن هو الحبيب الأكرم، والمخصوص بالتجلي الأعظم، ومن هنا قال بعض العارفين رحمهم الله: لو انكشفت حقيقته صلى الله عليه وسلم للخلق لارتدوا جميعا، إذ من كانت صفاته صفات الرحمن، وذاته من ذات نور المنان، وهو مدرك بالحواس والعيان لا يختلف في معبوديته اثنان، ومن هنا اختلف الناس في الأديان لما ظهر من تجليه تعالى في الجمادات والحيوان، ولكن سبحان الحنان المنان الذي حفظ من شاء من عباده بالدليل والبرهان، وحجز من أحب باليقين والعيان. وإذا كان الأمر كذلك فليس إلى إدراكه من سبيل، بل، ولا إلى شم رائحة السيد النبيل ولكن غاية التحقيق والإدراك أنه سيد المرسلين والأملاك. ثم يستشهد ببعض الأبيات من البردة والتي تعبر عن هذا المعنى وتقول: أعيا الورى فهم معناه فليس يرى للقرب والبعد فيه غير منفحم كالشمس تظهر للعينين من بعد صغيرة وتكل الطرف من أمم وكيف يدرك في الدنيا حقيقته قوم نيام تسلوا عنه بالحلم فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهم ولا شك أن هذا تصور للرسول مخالف تماما للإسلام وتصوره للأنبياء والرسل، فالأنبياء بما فيهم سيد المرسلين، في نظر القرآن ليسوا آلهة ولا أنصاف آلهة ولا أبناء آلهة، بل هم بشر منَّ الله عليهم بنعمة الوحي واصطفاهم لتبليغ رسالاته للناس: قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [إبراهيم: 11]. فالإسلام لم يرفع الأنبياء إلى مقام الألوهية فيتجه الناس إليهم بالعبادة أو الاستعانة مع الله كما اعتقد أهل الملل في أنبيائهم، ولم ينزل بهم إلى مستوى السفلة من الناس فنسب إليهم ارتكاب الموبقات كما زعم اليهود الذين حرفوا الكتاب وأخذوا الدين، بل إنهم بشر علم الله طيب معدنهم وحسن استعدادهم فأنزل عليهم، وحيه، اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام: 124]، وجعلهم أسوة لأتباعهم وعصمهم من قبائح الذنوب ودنيء الأعمال. ومن ثم لا ينبغي القول بأن حقيقتهم لا تدرك ولا تعرف، فالذات التي لا يدرك كنهها هي ذات الله تعالى الذي يقول عنه القرآن الكريم: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103] والحديث عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، بهذه اللغة وبمثل هذا الأسلوب يلقي بظلال من الشرك على العقيدة ويوحي بخلل في المعتقد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 287 المطلب الثاني: الفناء في ذات الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه بهذه الصورة وهذه الصفات في نظر الختمية، فإنه لا غرابة أن جعلوه غاية فنائهم ومنتهى سيرهم، واعتبروا الفناء في ذاته موصلا إلى الله سبحانه وتعالى فيقول الميرغني: "الحمد لله الذي جعل التعلق بالذات المحمدية والصلاة عليها أقرب الطرق إلى حضرته العلية، وجعلها الواسطة والصلاة عليها أعظم واسطة إليها بهية" (1)، وأطلقوا عليه لفظ الحجاب الأعظم الذي يقوم بين السالك وبين الله سبحانه وتعالى. ويقول المحجوب: إن السالك الصادق، إذا توجه بكمال السير، وفنى عن السوي والغير انكشف له أنه صلى الله عليه وسلم قائم بين يدي الله، وأنه سبحانه متوجه إليه بالتجليات كلها لأنها مقصودة من الوجود، وما سواه فإنما تحصل له رشحات من ذلك تتميما لفيض فضله وتكميلا لعموم رحمته، فكل من رام حقيقة التجليات انحجب عنها بسيد السادات، فهو الحجاب الأعظم الذي لا يمكن قطعه" (2).   (1) مجموعة ((فتح الرسول)) محمد عثمان الميرغني (1367/ 1948)، مصطفى الحلبي، مصر، (ص 7). (2) ((النفحات القدسية))، (ص 133). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 288 ووفقا لهذا التصور فإن همة هؤلاء اتجهت إلى الاستغراق في الرسول صلى الله عليه وسلم سعيا إلى الفناء فيه وتوجهوا إلى الله بالدعاء أن يبلغهم هذه الغاية وينيلهم هذا المقصود: وهذا المحجوب في تعليقه على قول ابن مشيش "واجعل الحجاب الأعظم حياة روحي، وروحه صلى الله عليه وسلم سر حقيقتي، وحقيقته جامع عوالمي" ويقول: أي حاوي أسراري وأنواري كي لا تهيم روحي في محبة خالقها إلا بشوقه، ولا تنير حقيقتي إلا بغرام روحه، ولا يصير جامع عوالمي إلا حقيقة ذاته. ثم يردف قائلا: وإذا أذهب عينه من البين لم يبق إلا استعداد حائز الشرفين وسيد الكونين صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وعظم، وهذا كما يقول المحجوب مقام الفناء في الرسول صلى الله عليه وسلم الموصل إلى كمال الوصول. ويدافع المحجوب عن ابن مشيش وما اتهم به من أنه قدم الفناء في الله على الفناء في الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: فإن قيل: كيف يطلب الشيخ الفناء في الله بقوله: " وأغرقني في عين بحر الوحدة "، ثم يؤخر طلب الفناء في الرسول صلى الله عليه وسلم على أنه عادة الله في أوليائه جارية بعكس هذا؟ قلت: هذا لا يصح إيراده لمن له ذوق عظيم وفهم مستقيم، لأن كلام الشيخ (ابن مشيش)، من أول الصلاة، فناء فيه صلى الله عليه وسلم. يعرف ذلك من كان من أربابه وقد تخلى من حجابه، وليس هذا إلا فناء خاصة يرقيه إلى مرتبة خاصة يشير إليها قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)) (1) , وقد جاءنا بثلاثة أشياء يفترض علينا محبتها ولزومها: الأول: ذاته الشريفة وقد بالغ في محبتها وجعلها حياة روحه التي بها ذكر، الثاني: صفاته المنيفة وقد أشار إلى محبتها بقوله: "وروحه سر حقيقتي"، والثالث: ما نبأنا به عن الله وهو شامل للكل وقد أومأ إليه بقوله: " وحقيقته جامع عوالمي " فإذا لا ذات له ولا صفة فضلا عن هوى، وهذه المرتبة هي الاستقامة " (2).وقد ردد الميرغني (الختم) في صلواته وأدعيته وأشعاره هذه المعاني طلبا للفناء في الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول في أحد صلواته: "اللهم صل وسلم وبارك عليه وببركة الصلاة عليه اجعله اللهم لي سمعا وبصرا وقوى لأفني لديه " (3)، ويقول أيضا: " وأن تجعله يا رب روحا لذاتي من جميع الوجوه في الدنيا قبل الآخرة يقظة ومناما ظاهرا وباطنا إنك على كل شيء قدير" (4)، ويقول: "وفرحني بالفناء والبقاء في نبيك الأعظم" (5). وفي منظومة أسماء الله الحسنى من مجموع الأوراد الكبير يقول الميرغني سائلا المولى سبحانه وتعالى: وتمنحنا حسن اليقين وتوبة وتصحبنا تأديب حق النبوة وتجلي لنا أسرار حضرة ذاتكم تخلقنا بصفاتكم يا مثبت وتمنحنا حسن الفناء في نبينا وتبقينا فيه به بعناية (6) وفي حديثه عن سر الطريقة الختمية يقول الميرغني: " واعلم أن كل الخير في العكوف على جانب الحبيب وهذا هو المقصود إلى هنا يا لبيب، وذلك أما تعلقا صوريا أو معنويا. فالصوري على نوعين: الأول: باتباع جميع أوامره واجتناب نواهيه وذلك بمواظبة سننه وآثاره والعكوف على ما ورد عنه لتحظى بأسراره وصحوب ارتكاب العزائم لتحظى بالمغانم. والثاني: الفناء في محبته وشدة الشوق والغيبة في مودته وكثرة تذكره والصلاة عليه ومداومة مطالعة المدائح المحركة للشوق إليه. والمعنوي أيضا على نوعين: الأول: استحضار صورته الشريفة وذاته المنيفة وحضرته العفيفة. والثاني: استحضار حقيقته العظيمة وهذا مشهد أهل الأحوال الكريمة واستمداد العالم منه محقق، فقد وقع لنا في الكشف أنه روح الكون، ونوره به قائم العالم" (7).   (1) رواه ابن أبي عاصم في ((السنة)) (15) وقال ابن رجب ((جامع العلوم والحكم)) (2/ 393): تصحيح هذا الحديث بعيد جدا وقال الألباني: ضعيف. (2) ((النفحات القدسية))، (ص 144). (3) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص 197). (4) ((مجموع الأوراد الكبير)) محمد عثمان الميرغني (1358/ 1939)، مصطفى الحلبي، (ص 46). (5) ((مجموع الأوراد الكبير))، (ص 55). (6) ((مجموع الأوراد الكبير))، (ص 27). (7) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص 138). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 289 المطلب الثالث: الاستمداد من الرسول صلى الله عليه وسلم تبعا لهذا التصور لذات الرسول صلى الله عليه وسلم، توجه الميرغنيه بدعواتهم واستغاثاتهم وشكاواهم إليه، سائلينه أن يفك ضيقهم وينصرهم على عدوهم مخاطبين إياه بأنه مزيل للغم والكرب، ومفرج للهم والضيق، وتكاد لا تخلو قصيدة من قصائد مدحهم للرسول صلى الله عليه وسلم من معنى من هذه المعاني أو منها جميعها، فأشعارهم جميعها تتضح بهذه المعاني التي تجعل الرسول ملجأ السائلين، وقبلة المحتاجين، يتوجهون إليه بالدعاء ويتوسلون إليه بالإعانة. ولعل في النماذج التالية ما يكشف عن هذه الحقيقة في عقائد الختمية ومبادئهم: يقول "الميرغني الختم" في النفحات المدنية مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم: كر صلى الله عليك يا نبي ما مزيل الغم والكربى كل هم أنت تفرجه إن وفاء للعجم والعربي فأغث يا خير غوث بدا وأجل كربا عم من حقبى وأرحنا من عنا سيدي من عنا الدنيا والأخرى نبي (1) ويقول أيضا في (النور البراق) مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم: إليك التجائي حين تذهل الورى وفي دار دنيا وفي يوم محشرا فإنك ملجأ للأنام تحفظ ... وقول أبا عثمان ابني لك الهنا بما رمته لا تختشي قط بطشنا غفرنا لزلات دنوناك نحونا تمتع بنا في أخرة وكذا الدنا (2) ويقول في قصيدة أخرى من نفس الديوان مخاطبا الرسول بأنه عليه الاعتماد في الدنيا والآخرة وعند الموت، ويرجو من الرسول أن يحضر وفاته وأن يجهزه بعد موته وينزله في القبر ويحضر معه سؤال الملكين وأن يكون أنيسه في القبر وشفيعه في يوم الحشر (3). وتتردد هذه المعاني أيضا في أشعار هاشم بن الميرغني (الختم). ومن بين هذه الأشعار قوله مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم: رسول الله زيل الخطب عني فصب معسر قد زاد عسري رسول الله أشكو الحال حقا إليك ومن يغيث سواك ضري رسول الله امح ثم محص ذنوبا ثم آثامي ووزري وأوهبني رضاك وقل محبي وابني هاشم لا تخش ضري (4) ويصف الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: وإنه المرتجى في كل نائبة وكل صرف وإيجال ومنعسر فجد علي بما يغني ويسعدني واسقني منك فيض الكأس منهمر (5) ويقول في قصيدة أخرى عن الرسول: مغيث من استغاث به كلمح مفرج لوعة العبد الشجي رجوتك يا نبي الله سرعا تطهرني من الدنس الخسي وتسعدني وتقضي ذي منائي تدمر كل ذي طاغ بغي فإنك عالم يا غوث ما بي ومضموني وجهري والخفي رحيم سيد بر وصول سراج أنور نور مضي (6) وتتردد أيضا هذه المعاني في أشعار جعفر الميرغني ومدائحه فهو أيضا يستغيث بالرسول صلى الله عليه وسلم ويسأله أن يعدل من أحواله وأن يهب له قربا ووصلا ويصفه بأنه مغيث المكروبين وهادي الضالين: فلنستمع إليه: فديتك يا رسول الله أغثني فجاهك يمنع الأسواء منعا أجرني من عدو رام قتلي يحاول مهجتي ختلا وخدعا ونفس تأمر الإنسان سوءا ومعصية بشؤم الذنب تدعى وحول حالتي لطريق هدي وضع عن ظهري الأوزار وضعا وكن لي واقيا في يوم حشر   (1) ((ديوان النفحات المدنية في المدائح المصطفوية))، محمد عثمان الميرغني ملحق ((بالنور البراق))، (ص 35). (2) ((النور البراق في مدح النبي المصداق)) محمد عثمان الميرغني، مكتبة القاهرة (ص 29). (3) ((النور البراق في مدح النبي المصداق))، (ص 27). (4) ((ديوان شفاء القلوب والغرام في مدح من أضحى للأنبياء ختام))، هاشم بن الختم محمد عثمان الميرغني. مصطفى الحلبي، مصر (1355/ 1936)، (ص 25). (5) ((ديوان شفاء القلوب والغرام في مدح من أضحى للأنبياء ختام))، (ص 45). (6) ((ديوان شفاء القلوب والغرام في مدح من أضحى للأنبياء ختام))، (ص 53). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 290 إذا انقطع الرجاء وخاب مسعى (1) ويقول أيضا: أغثني يا شفيع الخلق طرا جميل الذات والطبع السليم وكن لي واقيا في كل أمر ودمر شر شيطان رجيم أذقني برد عفوك يا رجائي وهديا للطريق المستقيم وهبني منك قربا ثم وصلا أنال به شهودا من رحيم (2) ويقول أيضا في قصيدة أخرى: رسول الله ما لي من مغيث سواك يغيث من كرب وخطب رسول الله هب لي منك فتحا وأمنا منك في أهلي وسربي رسول الله هب لي منك فيضا وقربا من جنابك أي قرب (3) من هذه النصوص يتبين لنا أن الختمية يذهبون إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم مصدر للمدد والعون، فهو يجيب دعاء المضطر ويفرج كرب المستغيث، ويغيث الملهوف، ولا شك أن هذا اعتقاد باطل مخالف لأساسيات العقيدة الإسلامية، وزعم واهن يرده القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيحة. فقد بين القرآن الكريم أن الله وحده هو المتصرف في الكون وأن النفع والضر بيده سبحانه وأن الإحياء والإماتة والرزق والمنع والعطاء منه وحده لا شريك له في ذلك، وهو الذي يملك الهداية والضلال وفي الجملة فإن الخلق والأمر بيده. سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شيئا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [الفتح: 11] قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ [يونس: 31]. وبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك لا لنفسه ولا لأحد شيئًا، وأمره أن يقول ذلك للناس: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إذا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [يونس: 49]. قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا [الجن: 21] وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ [التوبة: 92]. ويؤكد الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه هذه المعاني في أحاديثه، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس: ((إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله, واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك, ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء, لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) (4).ويقول صلى الله عليه وسلم: ((لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل)) (5).   (1) ((الديوان الكبير)) المسمى رياض المديح جعفر الصادق الميرغني، المكتبة الثقافية، بيروت، (ص 5). (2) ((الديوان الكبير))، (ص 5). (3) ((الديوان الكبير))، (ص 12). (4) رواه الترمذي (2516) وأحمد (1/ 303) (2763) والحاكم (6303) قال الترمذي حسن صحيح، وصححه الألباني. (5) رواه الطبراني وقال الهيثمي في ((المجمع)) (10/ 159) رجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة وهو حسن الحديث. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 291 وبين القرآن أنه لا ينبغي أن يدعو المؤمن غير الله ولا يستعين إلا به ولا يطلب كشف كرب أو جلب النفع ودفع الضرر من أحد غيره نبيا أو ملكا أو غيره من الكائنات، وأن من يفعل ذلك فقد أشرك مع الله غيره وحبط عمله وكان في الآخرة من الخاسرين: وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون: 117]، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف: 5]، قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء: 56]. فهذه الآيات فيها الدلالة الواضحة على النهي عن اتخاذ الوسائل ودعاء غير الله سبحانه، بل الواجب إخلاص العبادة لله والتوجه إليه وحده فمنه وحده النفع والضر والمنع والعطاء. ويقول ابن تيمية: "من يدعي القول بضرورة واسطة بينه وبين الله، إن أراد أنه لابد لنا من واسطة تبلغنا أمر الله فهذا حق، فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه وما أمر به وما نهى عنه، ولا يعرفون ما يستحقه من أسمائه الحسنى وصفاته العلى وأمثال ذلك إلا بالرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده. . إلى أن قال: "وإن أراد بالواسطة أنه لابد من واسطة في جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم، يسألونه ذلك، ويرجعون إليه فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع ويجتنبون المضار، ثم قال: " وقال تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذ أَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 79 - 80]، فبين سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر، فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يسألهم غفران الذنب وهداية القلوب وتفريج الكروب وسد الفاقات فهو كافر بإجماع المسلمين " (1).وقال الإمام الحافظ بن عبد الهادي في رده على السبكي، " وقوله- أي وقول السبكي- إن المبالغة في تعظيمه، أي تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، واجبة: إن أريد به المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيما، حتى الحج إلى قبره والسجود له والطواف به، واعتقاد أنه يعلم الغيب وأنه يعطي ويمنع ويملك لمن استغاث به دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين، ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء ويدخل الجنة من يشاء، فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك وانسلاخ من جملة الدين " (2).   (1) ((مجموع الفتاوى)) (1/ 121 – 124 – 126). بتصرف. (2) ((تيسير العزيز الحميد))، (ص231). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 292 قول الختمية برؤية الرسول صلى الله عليه وسلم ولقياه والتلقي منه: وفقا لتصورهم لذات الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ذهب الختمية إلى أنهم يرون الرسول صلى الله عليه وسلم ويلقونه ويحضر احتفالاتهم بمولده صلى الله عليه وسلم، وأنهم يتلقون منه وتلقوا كثيرا من أسس الطريقة وأورادها وتعاليمها. فيذهب الشيخ محمد عثمان (الختم) إلى أنه وضع راتبه بإذن من الرسول صلى الله عليه وسلم: " إننا لم نضع شيئًا منه إلا بإذن إلهي وسر محمدي وكل ترتيبه كذلك. . حتى أني كنت أكتب نبيا رسولا، فقال لي المصطفى نبيا ورسولا (1)، ويذهب إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أمره أن يصنف مولدا وأن يجعل إحدى قافيتيه هاء والأخرى نونا، وبشره بأنه يحضر قراءته وأن الدعاء مستجاب في ختمه وعند ذكر ولادته صلى الله عليه وسلم (2)، ويدعي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبره بلزوم التمسك بطريقته لكل من وقف عليها: " اعلموا معشر الإخوان. . أنه أخبرني المصطفى أن من وقف على طريقتي ولم يتمسك بها فهو محروم، ومن تمسك بها وتركها يخشى عليه سوء الخاتمة فمن رأيتموه تمسك بها ثم تركها فلا تظنوا فيه خيرا ولو رأيتموه طائرا " (3).ويزعم أنه حينما هم بتأليف (مجموع فتح الرسول) استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في تأليفها فأذن له، ووعده بقبول الناس لها وقبولها منهم، " ثم أردت هذا الجمع على نسق ما ذكرت آنفا، فدخلت الحجرة ووقفت بين يدي المصطفى صلى الله عليه وسلم واستأذنته في ذلك الصفا، فأذن وأمد بسر بالمقصود وفا. فبدأت بالخطبة ثم إلى قولي بهية، وتركتها بائتة تحت الستر ليلة هنية، وسألت منه قبولها عني، ومن الزهراء والصاحبين وقبول الناس لها وقبولها منهم، فجاد بلامين، وأفاد أن بها يحصل سر الفتح والقرب منه في الدارين، وأنبأ بما لا تسعه عقول السامعين " (4). ويقول في كتابه (تاج التفسير) عند تفسير الآية: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام: 122]، يقول: لما وصلت في التفسير إلى هذا الموضع رأيت في تلك الليلة المصطفى صلى الله عليه وسلم في محفل من الرسل الكرام، ويقول لي: الأنبياء من نوري، وطارت نقطة نور منه فتخلق منها صورة سيدنا إسماعيل الذبيح فقال لي: هكذا خلقوا من نوري والأولياء من نور الختم!!. . ثم رأيته الليلة، فقال لي صلى الله عليه وسلم: ما قام بأمر الله والمؤمنين أحد بعدي مثلك، شكر الله سعيك، فقلت: كيف يا رسول الله؟ فقال: تعبت في المؤمنين ونصحتهم ما تعب فيهم أحد بعدي مثلك فقلت له: أأرضاك ذلك؟ قال: أرضاني وأرضى الله من فوق سبع سمواته وعرشه وحجبه. ثم نادى رضوان فقال: يا رضوان عمر جنانا ومساكن لابني محمد عثمان وأبنائه وصحبه وأتباعه وأتباع أتباعه إلى يوم القيامة. ثم قال: يا مالك فحضر فقال عمر في النار مواضع لأعداء محمد عثمان إلى يوم القيامة (5)،   (1) ((شرح الراتب)) المسمى ((بالأسرار المترادفة)) محمد عثمان الميرغني ضمن (مجموعة النفحات الربانية)، (ص 95). (2) ((مولد النبي)) المسمى ((بالأسرار الربانية)) محمد عثمان الميرغني، ط1، المكتبة الإسلامية، الخرطوم، (ص 12). (3) ((شرح الراتب))، (ص 112). (4) مقدمة ((مجموعة فتح الرسول))، (ص 8). (5) ((تاج التفاسير)) محمد عثمان الميرغني، (1/ 146) .. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 293 ويقول في كتاب (مجموعة الفتح): "لما كان ليلة الأحد أدخلت آخر الليل إلى الحجرة الفاخرة ووقفت بين يدي الحبيب وقال لي في تلك الليلة: أنت محبوبي وأنت مطلوبي وأنت مرغوبي – وأشار أن في أتباعي ما ينوف عن ألف يكونون من أكابر المقربين" (1)، ويذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم حضر أثناء قراءته المولد فيقول: كان يوم الجمعة يوم ثلاثة وعشرين من رجب الذي فيه الأنوار تنصب، كنت في قراءة المولد فحضر صاحبه صلى الله عليه وسلم ومعه جمع من أهل منصبه، فبشرني بأن عشرة من الذرية يكونون ورثة الكبار من الذروة النبوية، منهم الثمانية الظاهرون له في السموات في المعراج (2)، ونوح والمرقى لكل في علو الأدراج، وألف من الصحب يكونون في الجوار في أعلى الجنان مع الأنبياء من جواره وذلك أكبر امتنان " (3).والقول برؤية الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام حق لا شك فيها ويمكن تحققها لبعض الصالحين، لما ورد من الأحاديث الصحيحة التي بين فيها صلوات الله وسلامه عليه ذلك ووضح أن الشيطان لا يتمثل به ومن ثم فمن رآه في المنام فقد رآه حقا. ومن ذلك ما رواه أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة)) (4).وما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من رآني فقد رأى الحق فإن الشيطان لا يتكونني)) (5).وأما رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد موته يقظة، فلم يقل بها أحد من أهل السنة والجماعة، ومن ثم فإن مزاعم بعض الصوفية أنهم يرون الرسول صلى الله عليه وسلم عيانا لا أساس له، ومن زعم أنه رأى ما يوهم ذلك فليعلم أنه من تلبيس الشيطان ولا ينطبق عليه، ((فإن الشيطان لا يتمثل بي))، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي)) (6).فهذا في رؤية المنام لأن الرؤية في المنام تكون حقا وتكون من الشيطان، فمنعه الله أن يتمثل به في المنام، وأما في اليقظة فلا يراه أحد بعينه في الدنيا. فمن ظن أن المرئي هو الميت فقد أتي من جهله، ولهذا لم يقع مثل هذا لأحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وبعض من رأى هذا أو صدق من قال أنه رآه، اعتقد أن الشخص الواحد يكون بمكانين في حالة واحدة فخالف صريح المعقول، ومنهم من يقول إن: هذا رفيقه ذلك المرئي (أي قرينه وشبحه) أو هذه روحانيته، أو هذا معناه تشكل، ولا يعرفون أنه جني تصور بصورته، ومنهم من يظن أنه ملك، والملك يتميز عن الجني بأمور كثيرة، والشياطين يوالون من يفعل ما يحبونه من الشرك والفسوق والعصيان، فتارة يخبرونه ببعض الأمور الغائبة ليكاشف بها، وتارة يؤذون من يريد أذاه بقتل أو تمريض ونحو ذلك، وتارة يجلبون له من يريد من الإنس، وتارة يسرقون له ما يسرقون من أموال الناس من نقد وطعام وثياب وغير ذلك، فيعتقد أنها من كرامات الأولياء وإنما يكون مسروقا".   (1) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص 137). (2) هم: آدم ويحيى وعيسى ويوسف وإدريس وهارون وموسى وإبراهيم: انظر، ((المولد)). (ص: 46). (3) ((النفحات المكية))، (ص 5). (4) رواه البخاري (6994) وروى مسلم الشطر الأول منه (ص2266). (5) رواه البخاري (6997) ورواه مسلم إلى قوله: الحق (ص2267). (6) رواه مسلم (2268). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 294 وتارة يحملونه في الهواء فيذهبون به إلى مكان بعيد، فمنهم من يذهبون به إلى مكة عشية عرفة ويعودون به فيعتقد هذا كرامة مع أنه لم يحج حج المسلمين: لا أحرم ولا لبى ولا طاف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، ومعلوم أن هذا من أعظم الضلال" (1).وقد بين القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم أن اتصال الرسول بالناس قد انقطع بوفاته وأنه لا صلة له بالناس بعد أن أدى رسالة ربه وتوفاه الله تعالى. فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنكم تحشرون حفاة عراة غرلا ثم قرأ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 104] وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم، وإن أناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: أصحابي أصحابي. فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول كما قال العبد الصالح)) (2)، وقال الألوسي: "ومعنى الجملتين إني ما دمت فيهم كنت مشاهدا لأحوالهم فيمكن لي بيانها فلما توفيتني كنت أنت المشاهد لذلك لا غيرك فلا أعلم حالهم ولا يمكنني بيانها" (3).وعليه فإن ما يدعيه بعض الصوفية، كالختمية، من أنهم يتلقون علوما ومعارف عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته يقظة في الدنيا، ليس من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من تخييل الشيطان وتوهيمه – ويذكر ابن تيمية، أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يطمع الشيطان أن يضلهم كما أضل غيرهم من أهل البدع الذين تأولوا القرآن على غير تأويله، أو جهلوا السنة، أو رأوا وسمعوا أمورا من الخوارق فظنوها من جنس آيات الأنبياء والصالحين وكانت من أفعال الشياطين. فأهل الهند يرون من يعظمونه من شيوخهم الكفار وغيرهم، والنصارى يرون من يعظمونه من الأنبياء والحواريين وغيرهم، والضُّلال من أهل القبلة يرون من يعظمونه، إما النبي وإما غيره من الأنبياء يقظة، ويخاطبهم ويخاطبونه، وقد يستفتونه ويسألونه عن أحاديث فيجيبهم، ومنهم من يخيل إليه أن الحجرة قد انشقت وخرج منها النبي صلى الله عليه وسلم وعانقه هو وصاحباه، وهذا وأمثاله أعرف ممن وقع له هذا وأشباهه عددا كثيرا. وقد حدثني بما وقع له في ذلك، وبما أخبره به غيره من الصادقين من يطول هذا الموضوع بذكرهم. ولكن كثيرا من الناس يكذب بهذا، وكثيرا منهم إذا صدق به يظن أنه من الآيات الإلهية، وأن الذي رأى ذلك رآه لصلاحه ودينه، ولم يعلم أنه من الشيطان، وأنه بحسب قلة علم الرجل يضله الشيطان" (4).   (1) ((قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة)) ابن تيمية، (ص29). (2) رواه البخاري (3349) ومسلم (2860) (3) ((روح المعاني)) الألوسي، (7/ 69). (4) ((مجموع الفتاوى))، (27/ 392). بتصرف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 295 المبحث الرابع: دعاوى مشايخ الختمية وادعاء أتباعهم فيهم يدعي مشايخ الختمية أنهم استمرار لمدد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبناء على ذلك فإنهم أعطوا لأنفسهم من الصفات ما أعطوه للنبي صلى الله عليه وسلم وأسبغوا على أنفسهم من القدرات ما أسبغوه على النبي صلى الله عليه وسلم، فادعوا بأنهم المدخل للحضرات الإلهية، وأن مقامهم برزخ بين النبوة والولاية، وادعوا التصرف في الكون وزعموا أنهم يغيثون من يلتجئ إليهم ويحتمي بحماهم فيزيلون كربات المكروبين وهم المهمومين وأنهم الوسيلة للسعادة في الدنيا والنجاة من العذاب يوم الدين. ومن ثم يدعون الناس إلى اتباعهم، ويدعون من تبعهم إلى الاعتقاد فيهم هذه المعتقدات الباطلة. فالميرغني (الختم) يصف نفسه وآله في إحدى قصائده، بأنهم مفاتيح الحضرة الإلهية، وأنهم يعطون من يخلص إليهم ويسدون الباب أمام من لا يعتقد فيهم، ولن ينال شيئًا مهما اجتهد في نيله عن غيرهم. نحن المفاتيح للحضرات أجمعها ونحن باب الإله الواحد الصمد ونحن بززخ بين النبوة والولاية العظمى أي وبابه الحمد فمن يريد لماذا نحن قلناه يأتي (إلينا) بإخلاص بلا بدد نعطيه مأموله ونوله فوقا وذا بفضل مرقينا العلي سندي ومن يقافي (يجافي) نسد الباب دونه لا يجد دخولا ولو قد قام بالجهد فقم مريد الغنى وديم فينا فنى تلقى علوما تفوق الحصر والعدد وقل إلهي بختم الأولياء أفض محمد عبدكم عثمان للمدد وقل به يا رسول الله أدركني بما أرجيه من نيل كذا سعد تجد مناك وكم من طالب أمنا له النبي يوم أسبوع ذا ولد أبقاه ربي وأحياه وحققه باسمه عبده وهديه مددي (1) ويورد الميرغني رواية عن شيخه أحمد بن إدريس يقول فيها: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبره أن محمد بن عثمان الميرغني أعظم الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد المنتظر وأنه من المصطفين منذ الأزل ومن ثم فلا عجب أن يفنى الناس فيه ويهيموا. حديث أتانا عالي إسناد حكمة به صرت ولهانا مع كل أخوة خذ إسناده حديثا من غير مرية محمد بارة، المدعو مني خليفة (عن الشيخ ابن إدريس قطب الولاية) يقول: لقد حدثني يوما مبشرا أمام جميع الأولياء بلا مرا عن المصطفى أنبأ له ليسطرا يقول حلف والله والله كررا (بأن أعظم الناس الأكابر حضرتي) لدى الله من بعدي ومن بعد منتظرا هو والله عثمان الخاتم الذي جرى له الإصطفاء قدما ولم يكن مشهرا بلا زمان ألست كان منظرا (فبالله هيموا فيه ثم إخوتي (2)) ... وفي إحدى قصائده أو شطوحاته يؤكد الميرغني هذا المعنى ويدعي بأنه ختم الأولياء ومن ثم فهو أعظم من كل الأولياء السابقين، وإن مكانته تأتي بعد مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم ويدعو الناس من ثم أن يلوذوا به عند النزول وأن يستمدوا منه الكمال: أنا ختم إذا ما كان دوري سترأى يا فتى ماذا منالي لكل الأولياء من عهد آدم إلى دور "الوسيلة" في المآل فيوض من بحار وهي قطر من أسراري ولا يخفاك قالي إذا قاموا جميعهم صفوفا أضاهيهم وأعلاما ترى لي فإني أحمد المولى تعالى على كوني بإثر أولي الكمال فدوري خلف دور المصطفى مع قيام الكل خلفي في المجال وصحبي ثاني الدور المعلى وقرني ذاك قرن لا محال ويشهد لي اقتفائي نسج طه فمن مثلي وصحبي في المعالي فلذ بي في نوازل كل ضيم وأستمدد إذا رمت الكمال بإمدادي وقل رب الورى هب بختمك لي منائي والمجال (3)   (1) ديوان ((مجمع الغرائب المفرقات من لطائف الخرافات الذاهبات)) محمد عثمان الميرغني مصطفى الحلبي، (1355/ 1936)، (ص 60). (2) ديوان ((مجمع الغرائب)) (ص 62). (3) ديوان ((النفحات المدنية))، (ص 88). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 296 وفي قصيدة أخرى يؤكد الميرغني هذه المعاني ويدعي أنهم ورثوا هذا المجد من عالم النور، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن مكانتهم في رؤيا منامية وذكر أن من زار عثمان فقد رأى الرسول ومن بايعه بايع الرسول. . إلخ. ما الفخر إلا لنا من سابق الأزل ما العز إلا بنا من حضرة الرسل من عالم الذر مولى الخلق قدمنا تقديم حق بلا ريب ولا زغل فطالما أنبأ المختار من عظم عنا وطال بناه دوحة الكمل لنا وهو الصادق المصدوق في وعد وقوله الصدق لا يدخله من خلل ومن رآه مناما قد رآه بلا شك كما جاء في متن الحديث عل وكم مرارا يفيد الناس قائل ذا من زار عثمان ابني زارني حصل ومن يبايعه بايعني ومن يكن صافحه صافحني بايعه على عجل يدخل جنان نعيم نعم فردوس جواره يحظى من غير ما ملل بشرى لكم يا أصحاب الختم قاطبة من مثلكم في الورى قد نال أو ينل (1) ولم تقتصر هذه الدعاوى على الميرغني (الختم) وحده بل إن ابنه هاشم ادعى أيضا أنه الغوث والقطب المقدم الذي يرضى الله لرضاه ويغضب لغضبه وله التصرف في الكون، والإدخال في الحضرات وإنهم مدد للكثيرين: أنا الغوث الذي ربي إلهي أتى بي في الكيان بلا محال أنا إن شئت أدعو الكون يرقص بإذن الله وأسكن دع جدالي أنا لرضائي يرضى الله ربي لغضبي يغضب الله ذو الجلال أنا الهادي أنا القطب المقدم لأهل الله دع عنك الفضال وأطع واسمع ولا تنكر وبادر إلي لتستقي كأس الزلال وأدخلك المسارع كل حضرة بيدي لا تضام فخذ مقالي أنا مقدام أهل الوقت جمعا أنا متبوع فيهمو قطب وآل ومن صغري استمد الكل مني مدادي وارتقى سطح الكمال وحالي ليس يدركه الطحاطح تعلم حالتي واشطح بحال أتدري من أنا يا من تفرد وهو روحي ورب بلا محال (2) وتبعا لهذا فإن آل الميرغني يدعون الناس طرا إلى اتباعهم والدخول في طريقتهم لكي ينالوا السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة فيقول الميرغني (الختم): ألا يا معشر الناس لنا الرحمن أجرا مدادا ثم طه تولانا وأمرا فمن يأتي إلينا بدنياه والأخرى سيلقى كل عز وإحسانا وبرا علوا فوق خلق وينجو يوم حشرا وندخله الحضائر ونعطي ما يسرا ومن يعرض فحسبه وبالآثام خسرا وهما ثم غما وخفضا معه ذعرا وفي الأخرى سيلقى من المختار زجرا فهيا من يردنا يجينا نحن أمرا سنعطيه مراما وفضلا نعم فخرا (3) ويقول أيضا داعيا الناس إلى أن يلوذوا بهم ويدعوا ما سواهم حتى ينالوا المكارم لأنهم هم أهل الوقت: فمن يتبع لأهل الوقت يحظى ومن عنهم يجد يلقى بلايا فيا إخوان يا أهل العصر لوذوا بنا ودعوا سواناهم خوايا فمن يشغل بقول أبي وشيخ يقصر يا محبي في العطايا ومن يخلص ينل عني المكارم وحب الأولياء جمعا سمايا (4) بل يدعي الميرغني الكبير أن مجرد رؤيته ينال بها المحظي الجنة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بشره بذلك وينقل عنه ابنه جعفر ذلك فيقول: (سمعته مرارا يقول: "من رآني أو رأى من رآني إلى خمسة لا تمسه النار"، يقول: قال لي جدي النبي المختار) (5). ويقول الميرغني نفسه ذلك ناسيا الوعد بإدخال من يراه الجنة إلى الله سبحانه وتعالى؛ لقد صار رب العزة سمعي وناظري وقلبي ورجلي مع يدي ولساني وأوعدني أن لا يعذب مسلما رآني حقيقا أو رأى من رأني وإني كبير الأولياء بأسرهم جمعنا من العرفان كل بيان (6)   (1) ديوان ((النفحات المدنية))، (ص 93). (2) ديوان ((شفاء القلوب))، (ص 74)، وانظر أيضا (ص 76). (3) ديوان ((النفحات المدنية))، (ص 46). (4) ديوان ((النفحات المدنية))، (ص 55). (5) ديوان ((النفحات المدنية))، (ص 48). (6) ديوان ((النفحات المدنية))، (ص 98). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 297 ويزعم أيضا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: "من صحبك ثلاثة أيام لا يموت إلا وليا" (1)، ويحكى أنه لما قدم المدينة قال له ساكنها عليه أفضل الصلاة والسلام في مكة: "إن من زارني في سنتك هذه والتي قبلها والتي بعدها عندنا مقبول" (2). ودعاوى المراغنة هذه دعاوى عريضة تحتاج إلى إثبات، كما أنها مخالفة تماما للأدب الإسلامي الذي نهى عن تزكية المرء نفسه: أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا [النساء: 49 - 50]، فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم: 32]، كما أنها لا تتفق مع أدب المؤمن الذي ينبغي أن يكون دوما في مقام بين الخوف والرجاء، الخوف من أن لا يقبل عمله أو لا يختم له بالصالحات، والرجاء في القبول وحسن الخاتمة. فالاطمئنان التام والجزم بالنتائج بهذه الصورة التي يحملها أدب المراغنة مخالف حتى لسلوك كثير من المتصوفة. وتتضح عدم مصداقيته حين يصل إلى درجة الفخر والتباهي ودعوة الناس إلى التصديق بهم واتباعهم نتيجة لذلك. أما زعم الميرغني بأن الرسول صلى الله عليه وسلم بشره بأن من رآه أو رأى من رآه إلى خمسة لا تمسه النار. "فهذه دعوى تحتاج إلى برهان، وميزة لم تكن للنبي صلى الله عليه وسلم نفسه ولا لأحد من الأنبياء قبله، فهل الميرغني أفضل من الرسول صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه السلام كان يرى الكفار ويرونه كل يوم ولم يكن ينفعهم ذلك، بل إن الله سبحانه وتعالى أخبره أن استغفاره للكفار ودعاءه لهم لا ينفعهم، فقال سبحانه: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 80] لأن الجنة بعد تفضل الله تعالى بالأعمال: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف: 72]، ورؤية الميرغني ليست من العمل في شيء. نتيجة لهذا الفضل والميزة التي أسبغها أئمة الختمية على أنفسهم والمكانة عند الله والولاية التي ادعوها، ساد في أدبهم التوسل ببعضهم البعض، وساد في أدب أتباعهم التوسل بهم والتوجه إليهم بالدعاء وطلب العون والنصر وتفريج الكروب وإزالة الهموم وإغاثة الملهوف إلى غير ذلك من أنواع الدعاء والتوجه والعبادة التي لا ينبغي أن تكون إلا لله، والذي هو في واقع الأمر نوع من الشرك في العبادة. وقد كان مشايخ الطريقة قدوة لأتباعهم في هذا النهج والسلوك. فنجد الميرغني (الختم) يمدح شيخه ابن إدريس ويعتبره مقدما له وملجأ، وأن له يمينا إذا قبلها الشخص تمحو أوزاره!! على من له يمن اليمين ومن له يمين إذا ما قبلت تمحو للوزر فيا عمدتي يا مركزي يا مقدمي ويا ملجئي والله والله والطهر ويذكر أنه لم يصحب شيخه لغاية دنيوية وإنما رغبة في أن يحضر الشيخ موته ويدفع عنه سوء الخاتمة، وأن يحضر شيخه والمصطفى صلى الله عليه وسلم ويؤنساه في وحشة قبره، وأن يدنيه شيخه منه في يوم الحشر: نعم مرادي حين يحضرني موتي تدافع عني السوء تختم لي عمري بحسن ختام يحضر المجتبى أيضا تدافعا عني لوحشة ذا القبر وفي الحشر تدنيني لنحو لوائكم تقول أيا ابن إدريس للمصطفى ذخر محمد عثمان المسيء الذي له من الذنب أوزار تفوق عن الحصر (3)   (1) ((لؤلؤة الحسن الساطعة)) (ص 46). (2) ((لؤلؤة الحسن الساطعة)) (ص 48). (3) ديوان ((مجمع الغرائب))، (ص 24)، وانظر أيضا صفحات (26 – 35). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 298 ولا أدري كيف يتصور الميرغني أن شيخه سيقدم له كل هذه المساعدات والعون وهو ميت في قبره. ونجد أيضا محمد سر الختم يصف جده السيد المحجوب بصفات تفوق صفات البشر، فينسب إليه معرفة حجب القلوب، وأنه يفرج الكربات إذا دعي اسمه، وينجد من يستنجد به حيا أو ميتا، على السواء، وأن إليه التصرف في الكون، لأنه كما يقول: من سلالة، من التجأ إلى حماها سعد، ومن الذين هم خزائن أسرار الإله: يا رب أمدنا بفيض الميرغني السيد المحجوب غوث اللاهف كشاف حجب للقلوب فأصبحت ملأى بنور الحق ذات تحائف كم فرج الكربات إن دعي اسمه يأتي كلمع البرق أرأف رائف خلع الإله على اسمه خلع الرضا وحباه كل مواهب وتحائف نطق الجماد له وكان بمحضر في شهر صوم في تلاوة عاكف إذا ما تلا وأتى سلاما قالها فأجابه الكون المقر لعارف فاهتزت الأشجار والأحجار قائلة سلاما كررت بمواقف نجداته بحياته كمماته جرب فسرعتها كبرق خاطف إلى أن يقول: هو صفوة الأخيار والأطهار من قوم لهم في الدين حسن مواقف من يلتجئ بحماهمو يلقى الهنا فوق الرجا جادوا لنا بمضاعف وهم الخزائن للإله وسره المكنون في الملأ العلي الصائف وهم العطية للرضا وكوثر المختار في الذكر الحكيم الواصف (1) ويمدح جعفر الميرغني والده محمد عثمان ويدعو مريديه أن يتوسلوا به لقضاء حاجاتهم وتحقيق آمالهم إذ هو الذي يغيث المكروب ويشفي السقيم وبجاهه تكون النجاة: يا رب صلي على مقام الختم سيدنا وحفه بالرضا يا واسع الكرم بادر بصدق وود عالي الهمم وأنزل بساحة ختم القوم من حرم وحط رحلك في أبوابه فعسى بجاهه ينجك المولى من العدم وسل به كل ما ترجوه من أمل فهو الذي جوده كالغيث والديم غياث ذي كرب شفاء ذي وصب غوث لذي نصب في السهل والأكم (2) ويقول أيضا عن والده مادحا له واصفا له بصفات تتضمن معاني مخالفة لمقررات العقيدة الإسلامية فيقول: إنه ملاذ الخائفين، الذي يصفح عن الزلات، ويغيث المكروبين ولا أدري ماذا ترك هذا السيد لله سبحانه وتعالى من صفات: أنت الغياث إذا ناداك ذو كرب أنت العياذ ملاذ الخائف الحزن أنت الصفوح عن الزلات يا أملي كجدك المصطفى المعهود بالمنن (3) ونجد أيضا محمد سر الختم يمدح والده (محمد عثمان الختم) مدعيا أن من لاذ به في الدنيا نجا، وفوق هذا فإنه يجادل عن من قصده في يوم الحشر: من لاذ بالختم إذ نابته واقعة مثل الحديد ورت نار الورى شرره يكفيه ذاك وفي العقبى مجادلة في الحشر يوم امتحان الله من وره (4) ويقول محمد سر الختم الحفيد مادحا جده (محمد عثمان الختم) طالبا من الناس أن يلوذوا به ليحقق لهم مقاصدهم وأن ييمموا حماه ليجدوا ما يطلبون: ختم الولاية والعرفان سيدنا السيد السند القدسي عثمان الميرغني الذي ما زال معتصما بربه وله من شأنه شان يمم حماه تجد ما أنت طالبه ينصاع بالذكر من جدواه إنسان ولذ به عندما أملت نيل مني وحقق القصد فيه فهو محسان (5) ويقول عثمان تاج السر يمدح عمه محمد الحسن الميرغني: أضحت رقاب الخلق خاضعة له والوحش في الفلوات والأفيال فالملك والملكوت طوع يمينه والكون والجبروت طوع شمال يا واقفا عند المقام فلذ به وأمدد أكف الفقر والإذلال فالله يقبل كل من يسأل به متوسلا ويجيبه في الحال (6)   (1) ملحقات ((القصائد المدنية)) محمد سر الختم ملحق، ((النور البراق))، (ص 106). (2) ((الديوان الكبير))، المسمى ((رياض المديح)) جعفر الميرغني (ص 33). (3) ((الديوان الكبير))، المسمى ((رياض المديح)) جعفر الميرغني (ص 73). (4) ديوان ((مجمع الغرائب))، (ص 141) (ملحقات). (5) ((القصائد المدنية))، (ملحقات النور البراق)، (ص 108). (6) ((النور البراق))، (ملحقات)، (ص 120). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 299 هذه النقول المتنوعة من أدب مشائخ الختمية تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن هؤلاء القوم يظنون في أنفسهم أنهم يجيبون دعوة المضطر، ويتصرفون في الكون، ويكشفون حجب الغيب، وينفسون كربات المكروبين وأنهم وسيلة يتوسل بها لقضاء الحاجات وإجابة الدعوات وأن بهم تنال السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة. وإذا كان هذا هو ظن المشائخ بأنفسهم ودعواهم، فلا عجب أن نجد أن الطريقة في جملتها دائرة حول أشخاصهم فيتخذهم الأتباع واسطة بينهم وبين الله، ويتوسل بهم المريدون، ويصفونهم بكل الصفات التي تحمل في طياتها معاني الشرك، وتمتلئ بالتصورات التي لا تليق إلا بذات الله سبحانه وتعالى. فهذا أحد المريدين يقسم أن مقام محمد عثمان الختم لا يدانيه أحد، وأن من يرد السعادة في الدارين فعليه بهذا السيد الذي بشره الرسول بأن من رآه لا تمسه النار: إن رمت أن تحظى بكل فضيلة وتفوز في الدارين بالإسعاد وتجار من ضيق الزمان وغدره ومن العنا والضر والأنكاد فعليك بالحبر الهمام أبي الوفا الميرغني عثمان ذي الإسناد قطب الورى وأميرهم والمرتضى ختم الكرام القادة الأمجاد تالله ما نال امرؤ كمقامه وفضله لا يحصى بالتعداد (1) إلى أن يقول: قد بشر الهادي النبي المجتبى المنتقى عثمان ذا الإرشاد من رآه حقيقة بمحبة أو من رأى فلخمسة يا حادي ما مست النيران قطعا جسمه فمكارم تبنى بكل سداد وإذا تصبك ملمة فبه استغث متصرخا ينجي كقدح زناد (2) وهذا أبو بكر بن المتعارض خليفة الشيخ الحسن الميرغني يخاطب شيخه في لغة صوفية رمزية لا يخاطب بها إلا الله تعالى، ويقف، كما يقول، أمامه في ذلة وتجرد عن كل فعل وحس وروح وقلب، ذاهلا عن ثنويته، كما يقول، وعن وجوده، ويطلب منه أن يتجلى له تجلي الرسول لشيخه ويذيقه من الكأس التي أذاقه منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتحدث عن غيبة شيخه واحتجابه ويطلب منه في إلحاح أن يكشف عن ذاته ويظهر له بعض علاماته، ويبدل جسمه نورا بسيطا ويعلمه كتاب (الجفر) المحيط بالبواطن وأن يعدل حاله، ويسأل الله في إلحاح أن يزيل عنه حجاب البعد وكرمه برؤية ذات شيخه، وهكذا نجد بأن الشيخ تقمص صورة الرسول ونعته بنعوته فلنستمع إلى بعض ما يقول ابن المتعارض مخاطبا شيخه الحسن الميرغني: على ذات الذوات إمام كل بكنه الذات للذات التجلي ببابك قد وقفت بكل ذل وكل تجرد عن كل فعلي وعن جسمي وروحي ثم قلبي وعن سري وعن وصفي لقولي وعن ثنويتي عن كل دعوى ورؤية ذاك مني في التجلي وعن كل التوهم عن وجودي فأنت الأكرم الذاتي كن لي كما كان الرسول حباك ذاتا هي الكنه المحيط بكل كلي ثم يقول: منى يا أكرم الكرماء تمحو بطلعة شمس ذاتك كل ظلي تربينا بحجرك في سويدا عميم الجود مرفوع المحلي وتسقينا شرابا أحمديا لإطلاقات كنه الكنه يعلي وكم علمتنا حكما أفادت بأنك أنت صرت عديم مثل وأنك نلت سرا لا يضاهى تلوت الأعظم الأسنى بشكل ألوفا وانفردت بذات أحمد بغير حجاب نور في التدلي وأنا قد جزمنا واعتقدنا يقينا غير منفك بحل فهذا القول أين الفعل شيخي وأستاذي متى ومتى تخلي غيابك واضطراب القلب يسكن خليلي قال لاطمئنان عقلي وكم في الأرض قبلك من رجال وكم نطقوا وكم قالوا بقولي فإن كنت المشار إليه فاخرج بخال الحسن بل بلباس نعل وبدل جسمنا نورا بسيطا يضيء كما السراج بجنح ليل وعلمنا كتاب الجفر علما محيطا بالبواطن والتجلي وبدل هذه الأحكام وأظهر وجود الله في أزل بعدل فمالك في البشائر غير هذا ظهرت أم اختفيت فأكشفن لي نقاب الوجه أنظره عيانا فأطرب حين أذكر أو أصلي إلى كم تمنحني لست أقوى لبلوى البعد عجل جمع شملي   (1) ديوان ((شفاء القلوب))، (ص 121). (2) ديوان ((شفاء القلوب))، (ص 121). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 300 فإني طائح بالباب دهرا أروم بمحض جودك كل فضل إلى أن يقول سائلا الله تعالى: وأكرمني برؤية ذات شيخي بكل جواهري حجبي تولي (1) وفي نفس الأسلوب وفي لغة مليئة بالخضوع والذل يخاطب عبد الله بن أبي بكر القلوصي جعفر الميرغني حين ودعه فيقول: فها أنا الآن ملهوفا ومضطربا أسامر النجم أدعو وقت أسحاري أن يجمع الله شملي عن قريب بكم بجاه طه وبالزهراء وأحبار حتى أمرغ خدي في مواطئكم وألثم النعل وأسعى سعي حمار يا ابن غوث الورى عثمان من بهرت أسراره وسمى قدرا بمقدار يا جعفر الفضل جد بالفضل يا ثقتي فإنك الميرغني غث عبدك العاري (2) ويشيد أحد المريدين بآل الميرغني، مصرحا بأن من استجار بهم لا تسطو عليه حوادث الدهر، داعيا الله أن يفرج بهم كرباته ويحقق عن طريقهم رجاءه: محبتهم فرض على كل مسلم مودتهم في الله لله قربان هم الصيد آل الميرغني معدن الحلي إذا ما فاخر الأقران بالمجد وازدانوا وهل نتقي من حادث الدهر سطوة ونحن لسر الختم في مصر جيران إلهي بهم فرج من الهم كربتي وحقق رجائي والرجاء منك غفران (3) وقد أصبحت هذه المعتقدات الباطلة والبدع المنكرة من الأتباع والشيوخ هي الطابع المميز لأصحاب الطريقة الختمية، فالأتباع والمريدون يدعون مشائخ الطريقة أحياءا وأمواتا، ويعتقدون أنهم ينجونهم من النار ويفرجون عنهم كرب الدنيا فيشفون مرضاهم، ويعينون محتاجهم، والمشائخ لا ينكرون هذا الأمر إن لم يشجعوه. وقد أشار الشيخ أبو الحسن الندوي في مذكراته إبان زيارته للسودان عام 1951م، أنه رأى أثناء خروجه من دار السيد علي الميرغني حلقة قائمة من الشباب يرددون في لحن: (شيئًا لله يا حسن. . أنت سلطان الزمن) فأنكر هذا النشيد الذي لا يرى له مبررا كما يقول، والذي يعارض التوحيد معارضة صريحة، وكيف تجوز الاستغاثة بشيخ ميت والاعتقاد بأنه سلطان الزمن وتساءل الأستاذ الندوي عما إذا كان السيد يعلم هذا فيوافقهم عليه أو لا يعلمه. . (4)، وقد رأينا من قبل الإجابة على هذا التساؤل، وتبين لنا أن الختمية جميعا سادة وأتباعا يعتقدون هذه الاعتقادات الباطلة المخالفة تماما لعقيدة التوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى. وقد سرت هذه المعتقدات لدى عامة الختمية وأصبحوا يعبرون عنها في أشعارهم وأناشيدهم الشعبية ويتخذونها شعارا لهم، ولعل في المقاطع التالية من أدب الشايقية ما يكفي: فيقول أحد شعراء الشايقية عن أئمة المراغنة: ابن عثمان جدكم والحقائق عندكم والبفوت فوق حدكم أسقوه كأس الحنظل يا ابن عثمان الشريف من حمو النار يا لطيف في الصراط حالتنا كيف في حوى السيد علي ود عثمان قليبنا بريدوا والختمية جملة عبيدو جيد لينا بالسيدة مريم ستي وقيعه ما بيندم ستي يا بنت سيدي هاشم وأبوك لابس الرجال خاتم (5)   (1) ديوان ((شفاء القلوب))، (ص 119). (2) ((الديوان الكبير)) (ص 79). (3) ديوان ((مجمع الغرائب)) (156 – 158). (4) ((مذكرات سائح في الشرق العربي)) (ط3 1398/ 1978)، مؤسسة الرسالة، بيروت (ص 208). (5) جريدة ((الراية السودانية)). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 301 إن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد الأنبياء والأولياء وسيد ولد آدم وهو المرسل من عند الله، لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا ولا يملك هداية شخص أو إلهامه، فمن باب أولى أن أهل الأرض جميعا لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، إلا بإذن الله، ومن ثم فإن دعوى أصحاب هذه الطريقة وغيرها من الطرق أنهم يستطيعون التصرف في أقدار الله الكونية وأن بيدهم النفع والضر والمنع والعطاء دعوى باطلة فاسدة مخالفة لتعاليم الإسلام وأصوله. بل إن مثل هذا الاعتقاد قد يؤدي إلى الكفر، وهو شبيه باعتقاد النصارى في المسيح وغلاة الشيعة في علي. يقول ابن تيمية في تفسير معنى كلمة، "الغوث": "مثل تفسير بعضهم أن الغوث هو الذي يكون مدد الخلائق بواسطته في نصرهم ورزقهم، حتى يقول: "إن مدد الملائكة وحيتان البحر بواسطته، فهذا من جنس قول النصارى في المسيح عليه السلام، والغالية في علي رضي الله عنه، وهذا كفر صريح يستتاب منه صاحبه، فإن تاب وإلا قتل فإنه ليس في المخلوقات لا ملك ولا بشر يكون إمداد الخلائق بواسطته". ويذكر ابن تيمية أيضا أن من بين أسباب المروق من الإسلام الغلو في بعض المشائخ بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح عليه السلام، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني أو ارزقني أو اجبرني، أو أنا في حسبك. ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل، فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده، ولا يدعى معه إله آخر، والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح، والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو يعبدون صورهم يقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إلى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3]، وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ [يونس: 18] فبعث الله رسله تنهى أن يدعي أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة" (1). وهكذا يتبين لنا خطورة معتقدات أصحاب هذه الطائفة، وخطر آرائهم وفساد تصوراتهم وما تضمنته من غلو قد يؤدي إلى الشرك المحقق. وهي كما أسلفنا معتقدات مصادمة لصريح القرآن الذي دل في أكثر من آية على أن الله سبحانه هو وحده المتفرد بالخلق والتصرف والتدبير والتقدير، أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54]، ولِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [المائدة: 120]، ونفى أن يكون لغيره سبحانه تصرف في الكون وبين أن من غير الله عاجزون عن نصرة أنفسهم فهم عن نصرة غيرهم أعجز وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ [فاطر: 13]، ومن ثم فإن الاستغاثة بهم لا فائدة منها ولا جدوى، بل تقود إلى الشرك أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ [النمل: 62]، قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام: 63 - 64]. وأفحش من هذا وأنكر توجيه دعائهم واستغاثتهم بالأموات من المشائخ، لأن الميت كما هو معلوم قد انقطع حسه وحركته وأمسك الله روحه اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ [الزمر: 42]، ومن ثم فإن أعماله قد انقطعت فلا زيادة ولا نقصان بل إنه رهين بما كسب كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر: 38]، وفي الحديث: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله. .)) (2) الحديث، فإذا كان الميت عاجزا عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره. ودعوى هؤلاء إن هذه كرامات للميتين، مجرد مغالطة واضحة، إذ أن الكرامة شيء من عند الله يكرم بها أولياءه لا قصد لهم فيها ولا تحدي ولا قدرة ولا علم، بينما هؤلاء يخاطبون مشائخهم الميتين كأنهم يسمعون، ويستغيثون بهم كأنهم قادرون، ويلجأون إليهم ويستجيرون بهم كأنهم عالمون بأحوالهم وشئونهم، فيا بئس ما يقولون وما يعتقدون. المصدر: طائفة الختمية لأحمد محمد أحمد جلي – ص 75فما بعدها   (1) انظر: ((تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد)) الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ط 4، 1400هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق (ص 228). (2) رواه مسلم (2682) بلفظ (أحدكم) وورد بلفظ (الإنسان) في السنن وغيرها، والحديث صححه ابن عساكر وابن تيمية وابن خزيمة والألباني. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 302 المطلب الأول: مقدمات الذكر جعل الختمية للذكر مقدمات معينة لابد من القيام بها قبل أن يلقن الشيخ المريد الذكر ويقول في ذلك السيد محمد عثمان (الختم) تحت عنوان " كيفية انتقال المقدمات " مخاطبا المريد: " تغتسل أولا كغسل الجنابة يوم الأربعاء بأمر شيخك وتصلي ركعتين: الأولى بالفاتحة والكافرون، والثانية بالفاتحة وسورة النصر، ثم تسلم وتقرأ البيعة بالكيفية المشار إليها في غير هذا المكان، ثم تشرع في التهليل وعدده سبعون ألفا بالوضوء، وتستعمل في مجلسك ذلك نحو مائة مرة، ثم تتم باقي العدد قائما أو قاعدا بالوضوء، ثم بعد فراغك من التهليل تغتسل ثانيا كما تقدم وتستعمل الإخلاص مائة ألف بالوضوء أيضا ثم تغتسل أيضا كما تقدم يوم الأربعاء بعد الصبح وتستعمل البسملة اثني عشر ألفا في مجلس واحد مع الطهارة الكاملة، ثم بعد تمام المقدمات تمضي إلى شيخك يلقنك الذكر ويمسكك الأساس الكبير ذا الفيض الغزير (1). المصدر: طائفة الختمية لأحمد محمد أحمد جلي – ص 113   (1) ((مجموع الأوراد الكبير)) (محمد عثمان الميرغني)، (ص 62). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 303 المطلب الثاني: ما في أوراد الختمية وأذكارهم من بدع للختمية أوراد وأذكار كثيرة جمع بعضها في كتاب (مجموع الأوراد الكبير)، و (مجموعة فتح الرسول)، وكلاهما للسيد محمد عثمان الميرغني (الختم). وسنتناول فيما يلي بالتحليل ما يتضمنه هذان الكتابان، ومن خلال ذلك يمكن أن نقيم أوراد هذه الطائفة وأذكارها. أما (مجموعة فتح الرسول)، فيتضمن الصلوات والأذكار التالية: فتح الرسول ومفتاح بابه للدخول لمن أراد الوصول. صلاة باب الفيض والمدد من حضرة الرسول السند. صلاة الجواهر المستظهرة من الكنوز العلية. راتب الطريقة الميرغنية الختمية. منظومة أسماء الله الحسنى المسماة بحبل الوصال. صلاة نور الأنوار في الصلاة على النبي المختار. صلاة جواهر السطح في الصلاة بسورة الفتح. صلاة الشهود المحمدي. قصيدة منجية العبيد في التوحيد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 304 أما " فتح الرسول ومفتاح بابه للدخول ": فقد ذكر الميرغني أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشره أن بها يحصل سر الفتح والقرب منه في الدارين. وهي مقسمة إلى أحزاب سبعة بعدد أيام الأسبوع بدءا بالسبت وانتهاء بالجمعة، وكل حزب منها يتضمن خمسة فصول: الفصل الأول: يشتمل على أحاديث في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني: في الصلاة عليه، والثالث: في صلاة الصحابة والتابعين، والرابع: فيما صلى به كمل العارفين، والخامس: فيما صلى به المؤلف نفسه. ولا شك أن تخصيص يوم معين بدعاء معين ابتداع لا دليل عليه من الشرع، ولم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، وفي الدعاء الذي هو عبادة وفي الذكر ينبغي التقيد بما أثر عنه صلى الله عليه وسلم من هدي، أما مضامين هذه الفصول فإن ما ذكره مؤلف هذه الصلاة من أحاديث في فضل الصلاة عليه فإن المؤلف لم يتقيد بصحتها بل أورد كثيرا من الأحاديث الضعيفة وحرص على نسبتها إلى مظانها في الكتب وربط ذلك بسجع متكلف يهتم باللفظ أكثر من اهتمامه بالمعنى، فلنستمع إليه وهو يقول: اللهم صلى وسلم وبارك على الراحم لنا بقوله: ((إذا صليتم علي فعمموا)) (1) اللهم صلي وسلم عليه عدد ما قرئ هذا الحديث في شرح الشرعة، وعلى آله وصحبه أهل الشرف والرفعة ". ثم يورد حديثا آخر ويقول: اللهم صلي وسلم وبارك عليه عدد ما نظر هذا الحديث في " تنبيه الغافلين "، وعلى آله وصحبه الرحماء بينهم الأشداء على الكافرين ". وبعد حديث آخر يقول: اللهم صلي وسلم وبارك عليه عدد ما حكي هذا الحديث في المستطرف والنزهة، وعلى آله وصحبه التاركين لكل شبهة " (2)، وهكذا يجري هذا الفصل والفصول المشابهة له في أدعية الأيام الأخرى. وفي الفصول التي خصصها للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، لم يلتزم المؤلف بالصيغ المأثورة الصحيحة الواردة في الصلاة على النبي، بل زاد عليها أشياء لا أصول لها كقوله: " اللهم وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد (3). وفي الفصل الثالث يورد بعض الصلوات المنسوبة إلى علي وابن مسعود رضي الله عنهما (4).ولم يؤثر أنه كان لهؤلاء الصحابة صلوات خاصة بل كانوا متقيدين بالصيغ الصحيحة الواردة عنه صلى الله عليه وسلم، وفي الفصل الرابع يورد المؤلف صلوات لأحمد بن إدريس، وابن مشيش، والشاذلي، وعبد الله المحجوب. وأحمد البدوي وغيرهم من أعلام الصوفية، وبعض هذه الصلوات يحمل في طياته معاني وحدة الوجود وصيغ التجلي والفناء البدعي، كصلاة ابن مشيش مثلا التي يقول فيها: اللهم ألحقني بنسبه وحققني بحسبه وعرفني إياه معرفة أسلم بها من موارد الجهل وأكر بها من مواهب الفضل واحملني على سبيله إلى حضرتك حملا محفوفا بنصرتك، واقذف بي على الباطل فأدمغه، وزج بي في بحار الأحدية وانشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة حتى لا أرى ولا أسمع ولا أجد ولا أحس إلا بها (5). وفي بعضها إشارة إلى النور المحمدي كصلاة أحمد البدوي: اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد شجرة الأصل النورانية ولمعة القبضة الرحمانية. . اللهم صلي وسلم على سيدنا محمد السابق للخلق نوره ورحمة للعالمين ظهوره (6).   (1) قال السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (61) لم أقف عليه بهذا اللفظ، لكن رواه ابن عساكر بلفظ (صلوا على النبيين إذا ذكرتموني فإنهم قد بعثوا كما بعثت) كما في ((الجامع)) للسيوطي، وحسنه الألباني. (2) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص 12). (3) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص 16). (4) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص 18). (5) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص 20). (6) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص 22). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 305 أما الفصل الخامس، والذي هو من وضع المؤلف نفسه، فهو مليء بالتصورات والمعاني التي سبق أن ذكرناها عن معتقدات الختمية في الرسول كمظهر للتجلي الإلهي ومدد للكون، الخ، ومن بين صلواته مثلا: اللهم صلي وسلم وبارك على إنسان عين الممالك. . قبلة التجلي الذاتي ومظهر النور الصفاتي ومجلي الاسم الأعظم. . المطلع على الغيوب. . اللهم صلي وسلم وبارك على سر العدد، اللهم صلي وسلم وبارك على ممد المدد (1)، وتتكرر هذه النماذج في كل الأحزاب وفقا للأيام التالية فلتراجع. أما صلاة باب الفيض والمدد: فهي مقسمة إلى ثلاثة أثلاث، يقرأ كل يوم ثلث، وفي يوم الجمعة تقرأ كلها، وهي في جملتها من تأليف السيد محمد عثمان ليس فيها دعاء مأثور ولا تجري على صيغة الصلوات المأثورة، بل ينتظمها نسق معين من السجع المتكلف في كثير من الأحيان، كقوله مثلا: اللهم صلي وسلم وبارك على من به تفرج الكرب، وتدفع البلايا الآتية بالكبب، وتحل به العقد، وترفع الهموم والشدد، وتقضي الحوائج، وترفع المهمات، وتنال الرغائب وحسن المعطيات، وتحسن الخواتم التي هي أقصى البغيات، وعلى آله وصحبه سفن النجاة " (2)، كما أنها أيضا تتضمن بعض المعاني المبتدعة، كما ورد في قوله: اللهم صلي وسلم وبارك على عرش تجليات الذات، كرسي أنوار الصفات روح العالم وسره المكنون، ممد الكون وأس جداره المخزون، من تخدمه رؤساء الملائكة وتتشرف بخدمته، وتتضع لديه أكابر الرسل وتتحلى بحليته. . اللهم أدخلنا من بابه وأمحقنا في جنابه واجعلنا من أحبابه. . الخ (3). المصدر: طائفة الختمية لأحمد محمد أحمد جلي – ص113 فما بعدها   (1) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص 24). (2) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص 126). (3) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص 136). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 306 المطلب الثالث: صلاة الجواهر المستظهرة وهذه الصلاة أيضا مقسمة إلى ثلاثة أجزاء يذكر الميرغني أنه ألفها وعمره أقل من العشرين عاما ولكنها تحوي معارف لم ينلها إلا كمل الواصلين. هذي الصلاة حوت معارف لم تنل إلا لذي أهل الكمال الواصلين أبديتها في وقال تعالى بدء الحال عمري بعشرين تعلى من سنين (1) ورغم دعوى الميرغني حول مضمون هذه الصلاة، فإنها في الواقع تجري على أسلوب من السجع فيه كثير من التكلف كقوله: اللهم بألف الابتداء وباء الانتهاء وبالصفات العلي، وبالذات يا أعلى صلي على سلطان المملكة، وإمام الحضرة المقدسة، المفيض على الملأ الأعلى من وراء حجبك الجلا، من قامت به عوالم الجبروت، وظهرت عنه عوالم الملك والملكوت، المطمطم بالأنوار العلية، والكنز الذي لا يعرفه على الحقيقة إلا مالك البرية " (2). وتتخللها أيضا بعض المعاني المبتدعة: اللهم أشهدني جماله وأمحقني في جلالك وجلاله (3). اللهم صلي على السر المطلسم، والكنز المبهم والرمز الذي لا يفهم (4)، كما استشهد فيها وأشار إلى بعض الأحاديث الموضوعة كحديث الكنز الخفي، والنور المحمدي (5)، وحديث "مدينة العلم " (6) (7). راتب الطريقة الميرغنية الختمية: هو في جملته عبارة عن أدعية مأثورة وصلوات وأذكار وردت في أحاديث صحيحة، ورغم ذلك فإنه لا يخلو من بعض الأدعية المبتدعة التي يغلب عليها السجع المتكلف، كقوله مثلا: اللهم يا دائم الفضل على البرية، ويا باسط اليدين بالعطية، يا صاحب المواهب السنية صلي على سيدنا محمد خير الورى بالسجية، واغفر لنا يا ذا العلا في هذه العشية (8).كما أن فيه بعض الأدعية التي تشير إلى عقائد مبتدعة كالتجلي ومن ذلك قوله: يا رب يا رحمن يا عظيم أسألك تجليا يذهب عني حجب النفس الظلمانية، يا فرد يا أحد يا نور تجلى لي بالتجليات الصمدانية (9)، كما يأمر ببعض الحركات لدى بعض الأدعية، كوضع اليدين على الركبتين، ووضع اليدين على الصدر (10)، كما يصف قطب الطريقة الختمية بأنه صاحب الضريح الذي تقضى لديه حوائج البرية (11).   (1) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص 145). (2) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص 146). (3) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص 148). (4) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص 156). (5) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص 144). (6) حديث (أنا مدينة العلم وعلي بابها .. ) رواه الحاكم (4637) والطبراني (11083) والعقيلي في ((الضعفاء)) (5/ 457) قال الهيثمي في ((المجمع)) (9/ 114) فيه عبد السلام بن صالح الهروي وهو ضعيف، وقال الحاكم إسناده صحيح، وقال الذهبي بل موضوع، وقال العقيلي لا يصح في هذا المتن حديث، وقال القرطبي في ((التفسير)) (9/ 336) باطل، وقال الدارقطني في ((العلل)) مضطرب غير ثابت، وقال الترمذي: منكر، وكذا البخاري، وقال: إنه ليس له وجه صحيح، وقال ابن معين فيما حكاه الخطيب في ((تاريخ بغداد)) إنه كذب لا أصل له، وأورده ابن الجوزي في ((الموضوعات)) وأشار إلى هذا ابن دقيق العيد، بقوله: هذا الحديث لم يثبتوه، وقيل: إنه باطل، وقال ابن تيمية موضوع، وكذلك أورده ضمن ((الموضوعات)) كل من الشوكاني وابن عراق والألباني. (7) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص 153). (8) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص 163). (9) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص 158). (10) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص 165). (11) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص 167). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 307 صلاة نور الأنوار: وهذه الصلاة مرتبة على الحروف الهجائية تبدأ بالهمزة وتنتهي بالياء (1). وتقرأ كل يوم مرة، وهي أيضا مسجوعة تنتهي كل صلاة منها بحرف معين: ففي حرف الثاء مثلا يقول: اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد عدد من برحمتك يستغيث، وصلي وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وقنا بها شر كل خبيث (2). وفي حرف الخاء يقول: اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد الذي شرعه لجميع الشرائع ناسخ، وصلي وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد ما تأدب تلميذ بين يدي المشائخ (3). وهكذا يجري السجع مع كل الحروف. صلاة جواهر السطح في الصلاة بسورة الفتح: وهي صلاة مسجوعة يقتبس فيها المؤلف آيات سورة الفتح ويضمنها أدعية من وضعه بحيث تأتي الآية في نهاية كل مقطع من الدعاء ويبدأ بقوله: اللهم صلي وسلم وبارك على مظهر فضلك العميم ومجلي فيضك الفخيم المغفور له كما نص الباري، فنسأل الله به الأسرار والمواهب من منحه ما يملأ الوجود ظلا وفيئا، إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا [الفتح: 1 - 2]. . اللهم صلي وسلم وبارك على المعاين في كل المواقع العظيمة، والمؤيد بالتآييد الإلهية الكريمة المعتز باعتزازك المرتفع على من سواه حقا وتمييزا بتمام. وينصرك الله نصرا عزيزا. وهكذا تجري الصلاة إلى تمامها (4). ولم يؤثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة أو التابعين أن وضعوا دعوات بهذه الطريقة أو أنشأوا صلوات مبتدعة كهذه. صلاة الشهود المحمدي: أما هذه الصلاة فيدعي مؤلفها أن لها خصائص معينة بينها له الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: " لما أراد الحق تعالى إبراز هذه الصلاة أجلسني بين يدي الحبيب عليه الصلاة والسلام، ثم قال لي صاحب المدد صلي علي في هذا الحين بصلاة تليق بجمالي لتفوز بكمالي، وأنا ضامن لمن صلى علي بها أن لا يموت حتى يشاهدني، وبها في الجنة سيمدحني، وتزيد حسناته بكل حرف وتذهب سيئاته (5).وهذه الصلاة كغيرها من مؤلفات الميرغني يسودها السجع، ومؤلفها يشير إلى ذلك حينما قال: ومع ذلك كلما اشتبه علي يشير لي (أي الرسول) بلفظة من أول تلك السجعة (6). ومن ذلك مثلا: اللهم صلي وسلم وبارك على ميزاب حضرتك العندية، سقف كعبة كمالاتك الربانية، متجر بيعتك الرحمانية ركن يماني أسرارك الفردانية، حجر أمنك الذي من دخله أمن من سطواتك الرهبوتية، مقام خلتك الذي من غاب فيه لم تدرك حقيقته العوالم الخلقية الخ (7)، وبالإضافة إلى ذلك فقد ورد في هذه الصلاة بعض الكلمات الأعجمية التي لا مفهوم ظاهر لها. فيسأل الميرغني الله قائلا: وألحق دائرتي في الطهارة الخالصة من النفسانية بإفاضة من علم عيسى روح التكريم. أحما حميثا أطما طميثا وكان الله قويا عزيزا، حم. ن. صرفت بحول الله صدمات نفوسنا ووقينا شر خطراتها فإمداد ربنا الخ (8).   (1) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص 178 - 192). (2) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص 181). (3) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص 182). (4) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص 194 - 206). (5) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص207). (6) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص207). (7) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص8). (8) ((مجموعة فتح الرسول))، (ص210). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 308 أما مجموع الأوراد الكبير: فهو يشتمل أيضا على مجموعة من الصلوات والأوراد والأذكار المختلفة للشيخ محمد عثمان الميرغني، وغيره من مشائخ الطريقة. وفي أول، هذا المجموع نجد "الأساس" الذي يؤديه أفراد الطريقة عقب الصلوات، وهو عبارة عن أدعية تشتمل على كثير من الآيات القرآنية كأواخر البقرة، والإخلاص والمعوذتين والفاتحة. ولكن نجد فيه أيضا جملة من الأدعية غير المأثورة التي يسود فيها سجع متكلف ودعوات وذكر بالاسم المفرد: " الله " و " هو ". وبعض العبارات التي تتضمن معاني الوحدة والتجلي والنور المحمدي. ففي عبارات مسجوعة يقول (الختم) مؤلف الأساس: اللهم بألف الابتداء وباء الانتهاء وبالصفات العلى وبالذات يا أعلى، صلي على سلطان المملكة، وإمام الحضرة المقدسة المفيض على الملأ الأعلى من وراء حجبك الجلا من قامت به عوالم الجبروت وظهرت عنه عوالم الملك والملكوت المطمطم بالأنوار العلية والكنز الذي لا يعرفه على الحقيقة إلا مالك البرية. . المكمل لعباد الله بالنفحات الفردية والمؤيد لهم بالظهورات الأنسية والعرش كما يليق بهما، من ظهر الرب من أجله من العما ذروة الدواوين الإلهية، ترجمان الحضرات الصمدانية روح المعارف العلمية ومادة الحقائق النورانية المتجلي في سماء الربوبية (1).وبعد الأساس نجد مجموعة من الأذكار والأوراد خاصة بأوقات معينة فذكر بعد (يس) في الصباح ودعاء الاضطجاع، وأذكار الضحى وأوراد ما بعد الظهر، وأوراد ما بعد العصر وما بعد المغرب وأذكار السحر وأوراد آخر الليل، وهي في جملتها لا تخرج عما سبق أن أشرنا إليه من أنها أدعية غير مأثورة يغلب على معظمها السجع والتكلف، ويؤخذ عليها أنها تخصص أوقاتا معينة بدعوات معينة غير مأثورة من غير سند أو دليل شرعي، وقراءة سور معينة بعدد معين في أوقات معينة من غير أن يؤثر ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما (المناجاة) التي تأتي بعد هذه الأدعية والأذكار، فينص على قراءتها بعد الفراغ من أذكار وقت السحر، وهي في جملتها توجه لله سبحانه وتعالى أن يكشف لتاليها عن عالم الملك والملكوت، ويطلعه على الأسرار المودعة في كل العوالم والناسوت وهي مليئة بالعبارات المتضمنة لمعاني طلب الفناء والغيبة والكشف والمشاهدة: " إلهي زج بي في بحار أسرارك اللاهوتية، وزمزم قلبي لمشاهدة ذاتك العلية وزهدني فيما سواك ليدوم شربي بكرة وعشية. . إلهي شرفني بشروق نور لاهوتيتك في ناسوتي وشممني ذلك حتى لا أرى ولا أسمع إلا بك في رغبوتي ورهبوتي، وأشدد قوتي بذلك حتى أفوز برحموتي. إلهي صرفني في عالم الملك والملكوت وصب علي أنوار الرحموت، وصم على قلبي عن الالتفات لسواك من العرش إلى البهموت، إلهي ضمني إليك ضم فناء وبقاء بك، ونور لي بنورك لأشهدك في كل مكون بقدرتك، واكشف لي الغيوب وطورني في حالة أنال بها صحبة الخضر وصاحبه المحبوب إلهي فك لي عن كل سر مطلسم وفرحني بالفناء والبقاء في نبيك الأعظم وفرج عن قلبي وسويداي كل هم وغم. . وقلبني في حضراتك وحضرات مصطفاك حتى (أكون) في المشاهدة أقوى " (2).وبعد ذلك نجد أدعية خاصة بعاشوراء وليلتي العيدين، وليلة النصف من شعبان، وأذكار للأشهر الحرم، وأدعية لختم القرآن وأذكار ليلة الجمعة والإثنين، وهي كلها أدعية وأوراد غير مأثورة، فأذكار ليلتي الإثنين والجمعة تجري على النحو التالي: بعد قراءة المولد، تقول لا إله إلا الله الأمان الأمان، محمد رسول الله السلطان السلطان تمد بها صوتك إلى تمام عشر، ثم " الشكية" (3)،   (1) ((مجموع الأوراد الكبير)) محمد عثمان الميرغني مصطفى الحلبي، مصر، (135/ 1939، (ص 6). (2) ((مجموع الأوراد الكبير))، (ص 54). (3) ((مجموع الأوراد))، (ص 59) .. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 309 بصوت واحد، ثم لا إله إلا الله خمسين مرة، ثم لا معبود إلا الله، خمسين مرة، ثم لا موجود إلا الله خمسين مرة، ثم ما في الملك إلا الله خمسين مرة، ثم هو الله مائة مرة، ثم الله الله خمسمائة، ثم الله قيوم مائة، ثم يا حي يا قيوم مائة وأربعة وخمسين، ثم قراءة البراق حرفا أو حرفين، ثم ما استطعت من القصائد والسفائن ثم "الله جل الله الخ" (1). وبعد هذه الأدعية والأذكار نجد ما سماه الختم نور الإله في الصلاة بتعريف المصطفى نفسه ومولاه. ويقول الناشر: إن المؤلف وضع كل هذه الصلوات بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم وأن قارئها فائز بثواب الصلاة وثواب تلاوة الكتب المنزلة وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدد الأستاذ المؤلف فهي مرقاة الكمالات الموصلة إلى أرفع الدرجات " (2)، وهذه الصلاة في جملتها صيغ من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم غير مأثورة مقسمة إلى سبعة أحزاب على عدد أيام الأسبوع لكل يوم حزب يقرأ فيه، بدءا بالسبت وانتهاء بحزب الجمعة، وهي أيضا مليئة بالسجع المتكلف. ويتضمن هذا المجموع بعض الأحزاب والأدعية والاستغاثات للميرغني الختم من أهمها: "حزب الفتح" و "حزب النصر"، وهذا الأخير كما يقول: لعقد الألسن والدخول على الأمراء والوزراء ولو كانت السيوف على رأسه، وأن من قرأه نجا من شرهم، ومن حكم عليه بسجن ثم قرأه لم يدخله أبدا بإذن الله، ومن قرأه ودخل على قوم يبغضونه فإنه يرى منهم المحبة ويرون منه الهيبة " (3)، ثم دعاء آية الكرسي (4). وهذه الأدعية عبارة أيضا عن آيات قرآنية ودعوات خاصة يسود فيها ما سبق أن أشرنا إليه كظاهرة عامة في أوراد الختمية وهي ظاهرة السجع المتكلف. ثم نجد للميرغني أيضا ما سماه بالصلاة المحمدية (5). وقد ذهب إلى أن هذه الصلاة المحمدية خوطب بها من حضرة المخصوص بالعبودية (الرسول صلى الله عليه وسلم)، بعدما أجلسني – كما يقول – بين يديه وأمرني أن أمدحه بها وقال لي: من قرأها كنت أنيسه في وحشته وجليسه في حفرته وأنها تمحو عنه بكل حرف سيئة وتكتب له بها حسنة " (6)، وهذه الصلاة أيضا ليس فيها شيء من الأدعية أو الصلوات المأثورة بل تجري على السجع المتكلف وتتضمن كثيرا من المعاني والعبارات المبتدعة: اللهم صلي وسلم على فاتح الوجودات الكونية السابق في ضمن قبضتي الأزلية عين كنوز العلماء في حضرة الشهود، المقصود من الرتق قبل فتق الوجود روح حياة اللاهوت ومكنون سر الناسوت. ثم يدعو الله قائلا: هب لي من نور جمالك هيبة وارزقني من سر جلالك سطوة أتصرف بها في جميع الأرواح وأتمكن بها من جذب القلوب والأشباح، واجعل اللهم نصرتي بتوحيدك واستهلكني في فناء شهودك وأفض علي من روحانية الختم الأكرم فيضا متصلا بنوال أستاذه الأعظم مع بقائي في شهود حبيبك المصطفى ونبيك المجتبى " (7). . الخ. وقد اهتم المراغنة، كغيرهم من الصوفية، بأدعية خاصة وأوراد معينة لمخاطبة الجن والمقدرة على تسخيرهم وجعلهم في خدمتهم، والسيطرة على طريقهم على الناس والتصرف في الكون.   (1) ((مجموع الأوراد))، (ص 74). (2) ((مجموع الأوراد))، (ص 76). (3) ((مجموع الأوراد))، (ص 106). (4) ((مجموع الأوراد))، (ص 110/ 113). (5) ((مجموع الأوراد))، (ص 113/ 115). (6) ((مجموع الأوراد))، (ص 113). (7) ((مجموع الأوراد))، (ص 113/ 115). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 310 ولا شك أن هذه كلها دعوات شيطانية وأوراد مبتدعة لم ينزل الله بها سلطانا، ومن ثم جاءت مغلقة في كلماتها، غريبة في عباراتها، مليئة بالألفاظ الأعجمية، ومن هذه الأوراد والدعوات دعوة البرهتية لمحمد الحسن الميرغني، والتي يبدأها بمخاطبة تلك الأرواح مقسما عليهم وزاجرا لهم مذكرا إياهم بالعهد المأخوذ عليهم من سليمان بن داود وما عاهدهم عليه عند باب الهيكل الكبير ببابل ثم يخاطبهم قائل: أيتها الأرواح الروحانية العلوية والسفلية وخدام العهد الكبير بحق ما تلوته عليكم وما أتلوه عليكم وهو برهتية، كرير، تتلية، طوران، مزجل، بزجل، ترقب، برهش، غلمش، خوطير. . ويذكر عددا من هذه الأسماء الأعجمية إلى أن يصل إلى شمخاهر شمهاهير، شمهاهير هو رب النور الأغلاغيطال غيطل فلا إله إلا هو رب العرش العظيم أهـ ياهـ هيوه بقطريال أجب يا شرنطيائيل الملك الموكل بالعهد بكهطهطهونية كهطهطهونية ياه واه نموه. . الخ ويطلب منهم بحق ذلك الاسم الأعظم أن يهبطوا إلى الأرض بحق هذه الأسماء عليهم، ويخاطب فريقا آخر أن يجيبوا ويزجروا له الملوك العلوية والسفلية ويحضروهم إلى مقامه ويفعلوا ما يأمرهم به. ثم يخاطب الملك الموكل بفلك الشمس بأن يزجر له خادم الأحد وأن يحضر إلى مقامه، والملك الموكل بفلك القمر بأن يزجر خادم الإثنين، والملك الموكل بفلك المريخ ليحضر خادم الثلاثاء، والملك الموكل بفلك عطارد ليزجر ويحضر خادم الأربعاء، والملك الموكل بفلك المشتري ليزجر خادم الخميس ويحضره، والملك الموكل بفلك الزهرة ليحضر خادم الجمعة والملك الموكل بفلك زحل ليحضر خادم يوم السبت ويخاطبهم جميعا: أجيبوا أيتها الملوك السبعة العلوية والسبعة السفلية وأحضروا إلى مقامي أسرع من لمح البصر وأوفوا بعهد الله ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ". ولا أدري أين العبادة من هذه الطلاسم والشعوذة والدجل وتسخير الأرواح ومخاطبة الشياطين والجن والعفاريت. وفي دعاء اسم يا حي يا قيوم، يطلب محمد الحسن الميرغني أن يمده الله بمدد يخضع له كل جبار عنيد وشيطان مريد وأن ينفع كل موجود علوي أو سفلي بهذا المدد ويقول: أسألك أن تمدني بروحانية اسمك الحي القيوم حتى تكون معي إذا قال للشيء كن فيكون من غير معالجة ولا تعب ولا معاناة ولا نصب، أجب يا مور شطيث ويا طهيوج أسألك يا من هو آحون قاف أدم هاء آمين (1). ولا أدري بمن يخاطب بهذه الألفاظ الأعجمية، ومن هو أحون وقاف الخ المتوجه إليهم بالسؤال. وفي دعوة اسم ودود يسأل السيد محمد الحسن الميرغني الله أن يسخر له العباد ويقول: " اللهم إني أسألك بنور سرك وسر ودك الذي ألقيته على أنبيائك وأصفيائك وأوليائك أن تلقي ودي ومحبتي في قلوب عبادك أجمعين. . وأن تسخر لي روحانيتهم كما سخرت البحر لموسى عليه السلام، وسخرت الجن والإنس والشياطين لسيدنا سليمان عليه السلام، وأن تلين قلوبهم كما ألنت الحديد لسيدنا داود عليه السلام، واجعل اللهم ناصيتهم بيدي فإنك أنت العزيز القوي الحميد الحي القيوم ذو الجلال والإكرام بحق مالخ مليخ امليخوم أجب يا طئكيائيل وأنت يا اسطيس بحق جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم السلام "، ويعجب المرء من هوية هؤلاء الذين يستشفع بهم لله تعالى، والذي يستشفع جبرائيل فيهم.   (1) ((مجموع الأوراد))، (ص120 - 121). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 311 وفي (مجموعة فتح الرسول) وتحت عنوان: " باب إرسال الهواتف "، نجد أيضا هذه الطلاسم والأسماء الأعجمية الغريبة يستعان بها لتخويف الناس وإرهابهم، فينقلون عن محمد النورسي صيغة هذا الدعاء، ويقدم له كما يقولون: أن تصوم لله تعالى يوم الخميس وتصلي العشاء الآخرة ليلة الجمعة، ثم تصلي ركعتين لله تعالى وتقرأ الجلالة ألف مرة، وعلى رأس كل مائة تقول هذا الدعاء: اللهم إني أسألك بألف القائم، الذي ليس قبله سابق، وأسألك بالأمين الذي تمم بهم الأسرار، وجعلتهم بين العقل والروح، وأسألك بها المحيطة باللام، والمتحركات والصوامت والجوامد والنواطق، نموخ سلوخ بعزة أجب سيد يا كيهيائيل، واذهب إلى فلان بن فلانة، على صفتي وكيستي واسمي ولبسي وامض إليه وخوفه خوف الموتى حتى إذا أصبح يأتي إلي ويقضي حاجتي، الوحا، العجل، الساعة (1) "!!!. من هذا العرض لأوراد الختمية وأذكارهم يتبين لنا ما يأتي: إن أذكار الختمية وأورادهم بعيدة كل البعد عن الأذكار الواردة في القرآن والمأثورة عن الرسول صلى الله عليه وسلم. أنهم خصصوا أذكارا معينة وأورادا معينة بأيام خاصة وأوقات خاصة من غير دليل شرعي أو سند من أثر. إن أورادهم وأذكارهم يغلب عليها السجع المتكلف الذي يصرف الذهن عن التوجه إلى الله في صدق ومخاطبته تعالى في إخلاص. إن بعض أورادهم مليئة بالألفاظ الأعجمية والأسماء الغريبة لروحانيات يخاطبونها كما يزعمون ويسعون إلى تسخيرها لخدمتهم. وعلى كل واحدة من هذه النقاط نورد ما يلي: أما بالنسبة للقضية الأولى والثانية، فإنه مما لا مأخذ فيه أن يدعو المسلم الله سبحانه وتعالى بما شاء من أنواع الأدعية والأذكار، سواء كانت مما ورد في الكتاب والسنة أم لا، بشرط أن لا تتضمن مخالفة ما للعقائد أو التصورات الإسلامية، رغم أنه من الأفضل، أن يقتصر المسلم ما أمكنه ذلك، ويتقيد بما ورد في الكتاب والسنة. ولكن يتوجه الإنكار حين يتخذ المسلم هيئات معينة وكيفيات مخصوصة من الأدعية والأذكار والصلوات، ويجعل لنفسه أدعية معينة وأوراد مخصوصة يرددها في أوقات معينة وبأعداد محدودة ويتخذها شعارا لطائفة معينة يتميزون بها عن سائر المسلمين ويعتقدون أنها واجبة أو مندوبة، ويرتبون على ذلك ما لا يحصى من الثواب، وأن من تركها حلت عليه العقوبة ويستغنون بها عن الأوراد الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة فالختمية وقعوا في هذا الخطأ حينما اتخذوا لهم أورادا خاصة وأذكارا معينة وخصصوها بأوقات وأعداد وجعلوها شعارا لطائفتهم وآثروها على الأدعية المأثورة والأذكار الواردة في القرآن والسنة ولا شك أن هذا تشريع ما لم يأذن به الله في أمر العبادة التي ينبغي فيها التقييد والتقليد، وهذا داخل في الأعمال المردودة على صاحبها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) (2).وقد قرر كثير من علماء الإسلام أن مثل هذه الأوراد من البدع المحرمة وأكدوا أنه لا ينبغي الاستعاضة بهذه الأوراد المأخوذة من الطريقة أو مشايخها عما ورد عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيقول ابن الجوزي: ثم من أقبح الأشياء القول: إن الصوفية ينفردون بسنن، لأنها إن كانت منسوبة إلى الشرع فالمسلمون كلهم فيها سواء، والفقهاء أعرف بها، فما وجه انفراد الصوفية بها، وإن كانت بآرائهم فإنما انفردوا بها لأنهم اخترعوها (3).   (1) ((مجموعة فتح الرسول)) (ص 142). (2) رواه مسلم (1718) والبخاري تعليقا. (3) ((تلبيس إبليس)) (ابن الجوزي) (ص 195). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 312 ويحذر القاضي عياض من تلك الأدعية المبتدعة والاشتغال بها بدلا من الأدعية المأثورة فيقول: أذن الله في دعائه وعلم الدعاء في كتابه لخليفته، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء لأمته، واجتمعت فيه ثلاثة أشياء: العلم بالتوحيد والعلم باللغة والنصيحة للأمة، فلا ينبغي لأحد أن يعدل عن دعائه صلى الله عليه وسلم، وقد احتال الشيطان للناس من هذا المقام فقيض لهم قوم سوء يخترعون لهم أدعية يشتغلون بها عن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأشد ما في الحال أنهم ينسبونها إلى الأنبياء والصالحين فيقولون: دعاء نوح، دعاء يونس، دعاء أبي بكر الصديق، فاتقوا الله في أنفسكم لا تشتغلوا من الحديث إلا بالصحيح ". وإلى مثل ذلك يذهب أبو بكر بن العربي عند تفسير قوله تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأعراف: 180]. قال: " يقال ألحد ولحد إذ مال والإلحاد يكون بوجهين: بالزيادة فيها والنقصان منها، كما يفعله الجهال الذين يخترعون أدعية يسمون فيها البارئ بغير أسمائه، ويذكرونه بما لم يذكره من أفعاله، إلى غير ذلك مما لا يليق به، فحذار منها، لا يَدْعُونَّ أحد منكم إلا بما في الكتب الخمسة وهي: كتاب البخاري، ومسلم، والترمذي، وأبي داود، والنسائي، فهذه الكتب هي بدء الإسلام، وقد دخل فيها ما في الموطأ الذي هو أصل التصانيف، وذروا سواها ولا يقولن أحد أختار دعاء كذا، فإن الله قد اختار له وأرسل بذلك للخلق رسوله ". وقال القرطبي عند تفسير قوله تعالى: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 147]، " فعلى الإنسان أن يستعمل ما في كتاب الله وصحيح السنة من الدعاء، ويدع ما سواه، ولا يقول أختار كذا فإن الله تعالى قد اختار لنبيه وأوليائه وعلمهم كيف يدعون " (1)، وقال أيضا في تفسير قوله تعالى: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف: 55] وبعد أن ذكر وجوها من الاعتداء في الدعاء قال: " ومنها أن يدعو بما ليس في الكتاب والسنة فيتخير ألفاظا مفقرة وكلمات مسجعة قد وجدها في كراريس لا أصل لها ولا معول عليها فيجعلها شعاره ويترك ما دعا به رسوله عليه السلام وكل هذا يمنع من استجابة الدعاء " (2)، وقد بلغ من تشديد العلماء في إنكار أي زيادة على ما أثر عن رسول الله من صيغة الصلاة عليه والأدعية والأذكار أن أنكر ابن العربي ما زاده ابن أبي زيد المالكي، " وارحم محمد وآل محمد "، وقوله باستحباب ذلك وخطأه في ذلك قائلا: " إن النبي علمنا كيفية الصلاة عليه فالزيادة على ذلك استقصار لقوله واستدراك عليه ". ولا أدري ماذا كان سيقول ابن العربي لو رأى ما زاده هؤلاء الختمية وأمثالهم وما اخترعوه من أدعية وأذكار مليئة بالبدع في ألفاظها والانحراف في معانيها. أما السجع في الدعاء فإنه من الأسباب التي تصرف القلب عن معرفة الله وتدفعه إلى التعلق بالألفاظ بدلا من الغوص على المعاني ومن ثم كرهه العلماء، وقال الطرطوشي: " ويكره السجع في الدعاء وغيره، وليس من كلام الماضين "، ويورد رواية عن ابن وهب عن عروة بن الزبير أنه كان إذا عرض عليه دعاء فيه سجع عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه قال: " كذبوا لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه سجاعين ". كما أورد رواية عن البخاري في صحيحه أن ابن عباس قال لعبيد بن عمير: " أقصص يوما ودع يوما ولا تمل الناس، وإياك والسجع في الدعاء فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا لا يفعلون إلا ذلك أي ترك السجع ". أما توجيه الدعاء والأذكار نحو السيطرة على الجن واستخدام الشياطين والأرواح في جلب نفع ودفع ضر فهذا من أنكر المنكرات ونوع من الشعوذة والباطل الذي يؤدي إلى الشرك والعياذ بالله، كما أن استخدام الألفاظ العجمية التي لا يدرك معناها قد تتضمن نوعا من الشرك كما قال مالك رضي الله عنه إذ روي عنه أنه قال في هذه الألفاظ السريانية والعبرانية والعجمية: وما يدريك لعلها تكون كفرا " (3). المصدر: طائفة الختمية لأحمد محمد أحمد جلي – ص 117فما بعدها   (1) ((الجامع لأحكام القرآن)) أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، (ط 3)، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة 1387/ 1967، (4/ 231). (2) ((الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار))، محي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، (ط 4)، 1375/ 1955م، مصطفى الحلبي، (ص 107). (3) ((السنن والمبتدعات))، (ص 267). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 313 المبحث السادس: البيعة وأخذ الطريق الختمية طريقة صوفية تركز كما تركز الطرق الأخرى على أخذ البيعة من الأتباع والعهد من المريدين، ولهم طقوس خاصة يلزمون بها من أراد أن يسلك هذه الطريقة وينخرط في سلكها، وتتمثل هذه الطقوس فيما يأتي: يضع الشيخ يده في يد المريد ويقول ويجاوبه المريد معه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم: اللهم إني تبت إليك ورضيت بسيدي السيد محمد عثمان الميرغني شيخا لي في الدنيا والآخرة فثبتني اللهم على محبته وعلى طريقته في الدنيا والآخرة بحق سيدنا محمد بن عبد الله بن عدنان وبحق بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين إلى آخر السورة، (بشرط أن تكون البسملة والفاتحة في نفس واحد)، ثم يقرأ سورة "والعصر" إلى آخرها، ثم يقول الشيخ للمريد سرا: ثبتك الله على الحق وعلى الصبر وعلى الطريقة المحمدية المستقيمة بحق (أهم سفك حلع يص، وبحق آحون قاف أدم هاء آمين) ثم يقول الشيخ: أهيم بطه مذ أعيش وإن أمت سأوكل بطه من يهيم به دهري الجزء: 8 ¦ الصفحة: 314 ثم يقول الشيخ للمريد: اتخذتك مريدا لسيدي السيد محمد عثمان الميرغني الختم رضيت؟ فيقول له المريد قبلت، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم" (1).والبيعة الصوفية تتضمن التزاما من قبل المريد بالولاء والطاعة التامة للشيخ والالتزام بآداب الطريقة، ولا شك أن هذه بدعة لم تعرف لدى سلف هذه الأمة، وليس هناك بيعة ملزمة للمسلم سوى بيعة إمام جماعة المسلمين، إذ أن قيام الجماعة المسلمة واجب على المسلمين وانتماء المسلم لهذه الجماعة واجب عليه، وقد يقال أنه لا بأس بالبيعة إذا كان الغرض منها تعلم العلم النافع من الشيخ واكتساب أعمال صالحة منه وأخذ المنهاج والطريقة المؤدية والموصلة إلى الله (2)، ولكن مما يلاحظ أن بيعة الختمية هذه ليس فيها إشارة إلى هذا المضمون كما أنها تتضمن أمورا منكرة لا أساس لها، كإلزام المريد وإقراره بأن يتخذ الشيخ محمد عثمان الميرغني وليا له في الدنيا والآخرة، وقد أشار ابن تيمية إلى أن مثل هذا القول بدعة منكرة من جهة أن المريد جعل نفسه لغير الله، ومن جهة أن قوله شيخ لي في الدنيا والآخرة كلام لا حقيقة له، فإنه إن أراد أن يكون معه في الجنة فهذا إلى الله لا إليه، وإن أراد أن يشفع فيه وإلا لم يشفع، وليس بقوله أنت شيخي في الآخرة يكون شافعا له. هذا إن كان الشيخ ممن له شفاعة، فقد تقدم أن سيد المرسلين والخلق لا يشفع حتى يأذن الله له في الشفاعة بعد امتناع غيره منها. وكم من مدع للمشيخة وفيه نقص من العلم والإيمان ما لا يعلمه إلا الله تعالى " (3).وقد حاول بعض الختمية المعاصرين الدفاع عن اتخاذ السيد محمد عثمان شيخا في الدنيا والآخرة محتجين بقوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً [الإسراء: 71] زاعمين أن المولى سبحانه وتعالى يدعو الناس بأئمتهم يوم القيامة لأن المرء يحشر مع من أحب" (4).وهذا فهم للآية لا سند له، إذ أن الإمام في الآية فسر بأنه النبي صلى الله عليه وسلم كما قال مجاهد وقتادة، بإمامهم أي نبيهم، وهذا كقوله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [يونس: 47]، وقال بعض السلف هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث، لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن زيد: بكتابهم الذي أنزل على نبيهم، واختاره ابن جرير. وروي عن مجاهد أنه قال: بكتبهم فيحتمل أن يكون أراد ما روي عن ابن عباس في قوله: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:71] أي بكتاب أعمالهم. وهذا القول هو الأرجح لقوله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس: 12]، وقال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [الكهف: 49]، ويحتمل أن المراد " بإمامهم " أي كل قوم بمن يأتمون به، فأهل الإيمان ائتموا بالأنبياء عليهم السلام وأهل الكفر ائتموا بأئمتهم (5). وهكذا نجد أن الإمام في الآية المراد به الكتاب أو الرسول ولم يقل أحد من السلف أن المراد به الأئمة، اللهم إلا إذا أريد به أئمة أهل الكفر والعياذ بالله. ويضاف إلى ذلك أن ما ورد في صيغة البيعة من كلمات أعجمية لا يعرف معناها، أو طلاسم لا معنى لها، لا أصل له في دين الله، بل من البدع المنكرة، كما سبق أن أشرنا. المصدر: طائفة الختمية لأحمد محمد أحمد جلي – ص 132   (1) ((مجموع الأوراد الكبير)) (ص 125) انظر أيضا (ص62). (2) ((قضايا التصوف الإسلامي)) عبد الله حسن رزوق دار الفكر – الخرطوم، (ط 1)، 1985، (ص339). (3) ((مجموع الفتاوى)) ابن تيمية (11/ 513). (4) ((الختمية العقيدة والتاريخ والمنهج)) محمد أحمد حامد محمد خير دار المؤمنون، الخرطوم، (ط2)، 1407/ 1987م، (ص 133). (5) مختصر ((تفسير ابن كثير)) (الصابوني) (2/ 389). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 315 المبحث السابع: الخلوة عند الختمية من وسائل الصوفية في طريق السير إلى الله تعالى دخول الخلوة والاعتزال عن الناس لفترة معينة يشتغلون فيها بالعبادة والذكر، والختمية شأنهم شأن غيرهم من الصوفية اهتموا بالخلوة وبينوا كيفية دخولها وما يشتغلون به فيها من أعمال، ففي الفصل الأول الذي عقده السيد / محمد عثمان الميرغني عن " كيفية الخلوة " يقول: الحمد لله الذي جعل الخلوة فيها أسرار الجلوة (1)، بمعنى أن الخلوة فيها لوائح الفتح ومحل التمكين والشطح ومنها اللوامع تزهر وإليها الكمالات تظهر "، ويفتخر الميرغني بأن خلوتهم من أعظم الخلوات إذ قل أن يدخلها إنسان إلا وتبدو له فيها سواطع الفتوحات وغالبا ثلاثا وقل أن تستعمل سبعا (2).والخلوة بهذه الصورة الصوفية ليست من المسائل التي شرعها الإسلام فالله شرع من العبادات الإسلامية الاعتكاف وفقا لآدابه الشرعية المعروفة، كما أن الإنسان يمكن أن يعتزل الناس في فضول المباحات ويعتزل ما لا ينفع وذلك بالزهد فيه فهو مستحب، وقد قال طاووس: نعم صومعة الرجل بيته يكف فيه بصره وسمعه، كما يمكن للإنسان أن يختلي في بعض الأماكن إذا أراد اكتساب علم أو عمل بشرط أن لا يتخلف عن الجمعة والجماعة، وفقا لما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الناس أفضل؟ قال رجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله كلما سمع هيعة طار إليها يتتبع الموت مظانه، ورجل معتزل في شعب من الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويدع الناس إلا من خير " (3).وقد حاول الصوفية أن يلتمسوا سندا شرعيا لخلوتهم هذه، وزعموا أن لهم أسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان يختلي في غار حراء، وقد أشار إلى ذلك محمد عثمان الميرغني في قوله: " الحمد لله الذي جعل الخلوة فيها أسرار الجلوة "، والصلاة والسلام على من اختلى في غار حراء فجاءه الفتح من الوحي بلا امتراء، وأشهد أن لا إله إلا الله القائل: قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران: 41]، وأشهد أن سيدنا محمد المنزل عليه اقرأ وذلك من سر اختلائه وصار لنا كنزا " (4).وهذا الاحتجاج غير صحيح لأن اختلاء الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار كان قبل النبوة والبعثة، ولسنا مأمورين بأن نتأسى إلا بما جاء به الشرع بعد النبوة إضافة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن جاءه الوحي لم يعتزل في ذلك الغار ولم يفعل ذلك أحد من أصحابه أو التابعين، مع أنه أقام في مكة قبل الهجرة بضعة عشرة سنة ودخل مكة في عمرة القضاء، وعام الفتح أقام بها قريبا من عشرين ليلة وأتاها في حجة الوداع وأقام بها أربع ليال، وقد ذكر ابن تيمية أن هذا كان مما يأتيه الناس في الجاهلية. ويقال إن عبد المطلب هو الذي سن لهم إتيانه لأنه لم تكن لهم هذه العبادات الشرعية التي جاء بها بعد النبوة صلوات الله عليه، كالصلاة والاعتكاف في المساجد، فهذه تغني عن إتيان حراء بخلاف ما كانوا عليه قبل نزول الوحي " (5).وبالإضافة إلى ذلك، فإن خلوة الختمية لها طقوس خاصة لا سند لها من الشرع، كما أنها تحتوي على أوراد مبتدعة وأذكار منكرة لم يرد بها أثر.   (1) ((مجموع الأوراد الكبير)) (ص 63). (2) ((مجموع الأوراد الكبير)) (ص 64). (3) ((مجموع الفتاوى))، (10/ 405) بتصرف. (4) ((مجموع الأوراد الكبير)) (ص 63). (5) ((مجموع الفتاوى))، (10/ 394). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 316 إذ اشترطوا على داخل الخلوة إذا جاء داخلا فيها أن يقدم رجله اليمنى ويقول عند تقديمها: بسم الله الرحمن الرحيم على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى طريقة سيدي محمد عثمان: رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا، رب أدخلني مدخل صدق إلى حضرتك وأخرجني مخرج صدق لإهداء (الهداية) خلقك واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ينصرني على غفلاتي ويؤيد لي حقيقة حقائقي المنتجة من خيالاتي وحققني يا حق بالكمالات، وبعد دخولك تقول: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم أمدني برسول الله وبسيدي جبريل وأمدني بسيدي أحمد بن إدريس وأمدني بسيدي عثمان شيخنا صاحب الإيقان في خلواتي وجلواتي ودنياي وآخرتي، ثم تقرأ الاستغفار الكبير المستعمل في أذكار الإصفرار ثلاثا وسبعين مرة، ثم الاستغفار وهو أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، ثلاثمائة وثلاث عشرة، ثم لا إله إلا الله اثني عشر ألفا، ثم الاسم الفرد (الله) ستا وستين ألفا، ثم هو هو أحد عشر ألفا، ثم حي قيوم سبعة آلاف وأربعمائة وأربعين مرة، كل ذلك نصف باللسان ونصف بالقلب ما عدا الاستغفارين، ثم " الصلاة الذاتية " ثلاثمائة وثلاثا وستين مرة " الله " بألف الابتداء ثلاثا وستين، ثم " الفواتح الثلاثة "، وكل ذلك مع تغميض عينيك وتخيل ذات شيخك السيد محمد عثمان، فإذا ظهرت لك روحانيته فتخيل من جهة قلبه نورا فإذا ظهر لك النور فتأمل فيه الصور حتى تظهر لك روحانية المصطفى صلى الله عليه وسلم وترى ما ترى من أنبياء وأولياء وروحانيتهم، وهناك مبادئ الفتح، ومن ثم يتسع الإمداد ولا تغفل عن شيخك محمد عثمان ولو بلغت مقام القطبية ولا تدخل إلا بإذنه أو بإذن متكمل من تلامذته وصار مربيا " (1)، ثم يحددون أنواعا معينة من الأكل فيقولون: " وليكن أكلك خبزا على دهن سمسم وإن كان خبز شعير فأحسن، وسكرا وما أشبه ذلك، ولا تأكل كل ما خرج من ذي روح إلى أن تخرج من خلوتك" (2). وهكذا نجد أن الخلوة عند الختمية تتضمن ما يأتي: إن هدفها الأساسي هو الوصول إلى الحضرة الإلهية وحدوث التجليات والكشف للعابد ولا شك أن هذا ليس هو هدف العبادة في الإسلام. فيها يطلب العابد المدد من الرسول صلى الله عليه وسلم وجبريل ومشايخ الطريقة وهذا أيضا من الأمور المنكرة فلا يطلب المدد والعون إلا من الله تعالى كما سبق أن أشرنا. إنها تطلب من المريد استحضار صورة السيد محمد عثمان حتى تظهر له روحانيته ثم يظهر نور من جهة القلب، ويظل الحال هكذا حتى تظهر له روحانية النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كله من الأمور المبتدعة التي لا أساس لها من الشرع ولا تمثل أثرا من آثار العبادة الشرعية، كما أن في ذلك صرف للعابد عن الله تعالى وتوجيه فكره وخياله إلى بعض من خلقه كشيخه وفي هذا ما فيه من أنواع الشرك وأصناف البدع إذ أن العبادة ينبغي أن تكون خالصة لله تعالى لا شركة لأحد فيها لا بتوسط ولا طلب ولا دعاء. إنها تتضمن أورادا معينة وأذكارا محددة بأعداد محصورة وكل ذلك من غير سند شرعي، إضافة إلى أنها تتضمن ذكر الله تعالى بالاسم المفرد وقد رأينا من قبل ما في ذلك من ابتداع في الشرع وخطأ في القول واللغة. وإذا كانت هذه الوسائل جميعها غير مشروعة ولا تتفق مع الشرع فلا عجب أن يرى صاحب الخلوة بعض الخيالات أو الصور أو الروحانيات التي قد تكون في غالبها من الشياطين الذين كثيرا ما يتصورون بصورة الإنس في اليقظة والمنام، وقد تأتي لمن لا يعرف فيقول أنا الشيخ فلان أو العالم فلان وربما قالت أنا أبو بكر وعمر وربما يأتي في اليقظة دون المنام وقال: أنا المسيح، أنا موسى، أنا محمد، وهذا كله من تلبيس الشياطين على الناس لأنهم اتخذوا غير طريق المؤمنين واستبدلوا نهج الشرع مناهج وأساليب ما أنزل الله بها من سلطان. إن الإسلام قد شرع الاعتكاف في المساجد، وسن الاعتكاف في المساجد في رمضان طلبا لليلة القدر، وفي الإسلام يجوز الاعتزال إذا ساءت أحوال الناس وخاف المسلم الفتنة في دينه، فله أن يعتزل الناس فيبقى في منزله أو مزرعته أو باديته يرعى غنمه كما جاء ذلك في حديث البخاري: ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن)) (3). أما الخلوة، بذلك المفهوم الذي يقول به الختمية، وما فيها من طقوس مختلفة، وأذكار مبتدعة، فلا أساس لها من الشرع، ولا سند لها من الدين. المصدر: طائفة الختمية لأحمد محمد أحمد جلي – ص 134   (1) ((مجموع الأوراد الكبير)) (ص 64). (2) ((مجموع الأوراد الكبير)) (ص 66). (3) رواه البخاري (19). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 317 المبحث الثامن: الختمية والتشيع • المطلب الأول: مشايخ الختمية وأئمة الشيعة الاثني عشرية . • المطلب الثاني: الختمية امتداد لتاريخ الشيعة. • المطلب الثالث: الختمية وحركة البعث الشيعية المعاصرة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 318 المطلب الأول: مشايخ الختمية وأئمة الشيعة الاثني عشرية يرتبط الختمية من ناحية نسبهم كما يقولون بأئمة الشيعة الاثني عشرية وقد أورد السيد جعفر الميرغني نسب والده محمد عثمان (الختم) مؤكدا ذلك على النحو التالي: " إنه محمد عثمان بن السيد محمد أبي بكر بن مولانا السيد عبد الله الميرغني المحجوب بن السيد إبراهيم بن السيد حسن بن السيد محمد أمين بن السيد علي المرغني بن السيد حسن بن ميرخورد بن حيدر بن حسن بن عبد الله بن علي بن حسن بن السيد حيدر ابن ميرخورد بن حسن بن أحمد بن علي بن إبراهيم بن يحيى بن حسن بن بكر بن علي بن محمد بن إسماعيل بن ميرخورد البخاري بن عمر بن علي بن عثمان بن علي المتقي بن الحسن الخالص بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وابن الزهراء البتول (1).وفي مقدمة كتابه (لؤلؤة الحسن)، حمد السيد جعفر الميرغني الله تعالى الذي جعلهم منتمين إلى أهل البيت المطهر بنص الآيات القرآنية، ومن الذين أودع الله فيهم سر النبوة، وشفعهم في أمة جدهم محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: " وأشكره على أن دلنا بالتمسك والانتماء لخلاصة الوجود، المطهرين بنص الآيات تطهيرا سبق لهم في الأزل بخالص الكرم والجود، وأوجب لهم إنافة المقام، وعلو القدر في عالم الغيب والشهود، وصرخت بذكره ألسنة أفواه آية قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ [هود:73]، فبان بذلك رفع الشأن. . وأشهد أن لا إله إلا الله الحاكم بالتقدير لهذه النسبة في الدارين، المانح لهم الشفاعة في أمة جدهم سيد الكونين، المودع سر النبوة فيهم، فبه دائما صباح وجوههم مسفرة تقر برؤيتها كل عين " (2).وهكذا ينتسب الختمية - كما يقول أحد أتباعهم - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، من خلال الأئمة الاثني عشر، الذين التفت حولهم الأمة الإسلامية بقلوبها وجوارحها في القرون الأولى من الإسلام بزعمه. وبعد أن أورد هذا الكاتب سلسلة النسب أعلاه قال: وكما هو واضح من النسب أعلاه فإن السادة المراغنة ينتسبون إلى الأئمة الاثنى عشر عظماء الأمة المحمدية ووارثي علم المصطفى وباب مدينة العلم "علي" وشهرتهم تغني عن التعريف بهم فقد كانوا أقمار السموات ونجوم الأرضين " (3). ومعلوم أن المراد بالأئمة الاثني عشر - في هذه الإشارة - أئمة الشيعة الذين يبدأون بعلي ثم. . الحسن والحسين، وينتهون كما يقول الشيعة بمحمد بن الحسن العسكري (المهدي الغائب أو المنتظر)، وعند هذا الأخير الثاني عشر تقف سلسلة الأئمة عند الشيعة، لأنه اختفى أو غاب غيبة صغرى ثم غيبة كبرى لم يظهر بعدها حتى الآن. ونسب الختمية بهذا التسلسل، ودعوة ارتباطهم بالأئمة الاثنى عشر يثير عدة إشكالات: أولها: أنه يوجد اضطراب في عدد هذه السلسلة، إذ أن فيها ثلاثة أسماء وردت في رواية جعفر هذه، لم ترد في الروايات الأخرى، كما أن الاسم حسن، ورد في روايات أخرى باسم " عيسى " والاسم بكر ورد باسم " أبي بكر".   (1) ((لؤلؤة الحسن الساطعة))، (ص 39). (2) ((لؤلؤة الحسن الساطعة))، (ص 38). (3) ((الختمية، العقيدة والتاريخ والمنهج))، (ص 32). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 319 ثانيها: إن سلسلة هذا النسب تثبت أن الحسن الخالص أو الحسن العسكري، الإمام الحادي عشر عند الشيعة، له ابن، هو " علي التقي "، ومنه انحدر المراغنة، وهذا ما لا يقول به الشيعة أنفسهم، لأنهم يدعون أن ابن حسن العسكري هو (محمد المهدي) الذي اختفى، وهو غلام في الخامسة، أو الثالثة من عمره. فضلا عن أن بعض المؤرخين ينكرون وجود ابن للحسن العسكري في الأساس، الأمر الذي يؤدي إلى الشك في تسلسل نسب المراغنة بهذه الصورة التي وصفوها. ثالثها: إن هذا النسب، لو صح في بدايته، فلا شك أنه في وقت متأخر قد اختلط ببعض الدماء الأعجمية، وما اسم ميرخورد، الذي ورد أكثر من مرة، واسم ميرغني الذي يقول المراغنة أنه اسم فارسي، أوضح دليل على ذلك. وسواء صح هذا النسب أم لم يصح فينبغي أن يعلم أن الناس في مفهوم الإسلام لا يتمايزون لأنسابهم ولا يتفاضلون لأحسابهم، بل إن الإسلام وضع التقوى مقياسا لكرامة الإنسان وفضله، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13]، وأكد الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في قوله: ((لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أبيض على أسود, ولا أسود على أبيض إلا بالتقوى، الناس من آدم وآدم من تراب)) (1). المصدر: طائفة الختمية لأحمد محمد أحمد جلي - ص 142   (1) رواه أحمد (5/ 411) (23536) والبيهقي في ((الشعب)) (4774) بدون الجملة الأخيرة فهي في حديث آخر، قال الهيثمي في ((المجمع)) (3/ 266) رجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في ((الصحيحة)) (2700) وأما الجملة الأخيرة فوردت في حديث رواه أبو داود (5116) والترمذي (3956) وأحمد (2/ 361) (8721) وصححه الألباني. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 320 المطلب الثاني: الختمية امتداد لتاريخ الشيعة يعتبر الختمية أنفسهم امتدادا لهذا التاريخ الشيعي المتمثل في ولاية أهل البيت، والمرتبط بحركة البعث الشيعية المعاصرة. بل يدعون أن تاريخ السودان كله ما هو إلا استجابة لولاية أهل البيت وتحقيق لها. فيقول أحد الختمية: " إن الأئمة من آل البيت هم الزعماء والقادة وأهل الكلمة والتوجيه في كل الممالك السودانية، ويضرب مثلا لذلك بملوك العبدلاب، الذين هم أشراف من آل البيت، ثم دولة المهدية والتي قامت على يد إمام من آل البيت وهو محمد أحمد المهدي " (1). وإذا كان المهدي من آل البيت وزعامته زعامة مشروعة، فلماذا إذن حاربه أسلاف المراغنة؟ وأعانوا على تقويض دولته؟. أما زعامة آل الميرغني فإنها، عند الختمية، متميزة عن كل هذه الزعامات. وإن زعامة آل الميرغني من أميز وأعظم الزعامات في معظم بقاع السودان من قبل الفتح التركي وإلى يومنا هذا، وكان لهذه الأسرة الطاهرة من آل البيت النصيب الأوفى في تشكيل وصياغة تاريخ السودان الحديث" (2).وقد رأينا من قبل شذرات من تاريخ أسرة الميرغني في السودان وباسترجاع بعض أحداث تاريخ السودان الحديث، والمعاصر يتبين مدى بعد هذا الكاتب عن الحقيقة في تصويره لدور أسرة الميرغني في صياغة تاريخ السودان الحديث (3).وقد حاول الختمية المعاصرون أن يضفوا على زعمائهم ما أضفاه الشيعة على أئمتهم، من إيجاب الطاعة الكاملة لهم، والموالاة المطلقة. وربطوا ذلك بحركتهم السياسية والأحزاب التي أنشأوها كما سبق أن رأينا، فدور الإمام أو الزعيم يتمثل في الرعاية وتوجيه الأتباع والمريدين في الأمور الجسيمة، ودوره شبيه بدور علماء الشيعة أو المرجعية الشيعية. وهم (أي الزعماء) في هذا الأمر أشبه ما يكون بأمر المرجعية في إيران حيث يفتي الإمام الأكبر في الأمور الجسيمة ويوجه وينصح ولكن تحكم البلاد برئيس جمهورية ورئيس وزراء وبرلمان منتخب (4). بل إن الرعاية كما يقول أحد الختمية: تلزم بالنسبة للختمية من جهتين: من جهة أن الختمية طريقة صوفية، والتصوف يقوم على الالتزام ببيعة معينة توجب طاعة تامة للشيخ المرشد ومن ثم فإن طاعة أهل الطريقة الختمية لشيخهم أمر لابد منه، وإن لم يلتزموا بذلك خرجوا عن الطريقة إلى غير رجعة. والجهة الثانية: المتمثلة في وجوب ولاية أهل البيت عليهم كبقية المسلمين على اعتبار أن السادة المراغنة من أهل البيت فتجب طاعتهم تبعا لهذا. وقد حاول زعماء الختمية استغلال هذه المفاهيم في المجال السياسي فألزموا أتباعهم بنهج سياسي معين، والالتزام بإشارتهم في المواقف السياسية، وربطوا ذلك كله بعقد البيعة، فمن لم يتبع زعماء الطائفة في مواقفهم السياسية سقطت بيعته، بل يخشى عليه سوء الخاتمة: " تجب الإشارة في هذا المجال إلى أن أي ختمي انضم إلى أي حزب آخر غير الاتحادي الديمقراطي أو صوت له في الانتخابات أو عارض قيادات الحزب الاتحادي الديمقراطي فإن بيعته ساقطة ويخشى عليه سوء الخاتمة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الحاكم ((أهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف فإذا خالفتهم قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس)) (5) (6).ومن ناحية أخرى فإن زعيم الختمية كالإمام عند الشيعة، لا يقدم على رأيه، ورأيه ملزم لمن عداه من القادة والسياسيين، ومن ثم اعتبر الختمية من ملامح الجمهورية الإسلامية وجود إمام من أئمة أهل البيت تكون له الكلمة القاطعة والرأي النهائي في كل أمر من الأمور: " يجب أن يوجد من أئمة البيت من يكون رأيه ملزما للسياسيين في كل أمر من الأمور، لأنهم لا يضلون بنص القرآن والسنة، وسندنا في ذلك ولاية أهل البيت التي أعلنها الرسول وأخذ بها الخلفاء الراشدون، وقد ثبت أن سيدنا عمر كان يأخذ برأي الإمام علي في كل أمر من الأمور وهو القائل عن علي: " هو مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة " (7). ولعل هذا يفسر لنا لماذا لم يهتم زعماء الختمية بعقد مؤتمر عام لحزبهم الاتحادي الديمقراطي طيلة الثلاثة أعوام من الديمقراطية الثالثة في السودان؟ إذ أن الرأي في واقع الأمر هو رأي الزعيم الملهم الذي لا يخطئ ولا يضل!! المصدر: طائفة الختمية لأحمد محمد أحمد جلي – ص 165   (1) [14028])) ((الختمية، العقيدة والتاريخ والمنهج))، (ص 17). (2) [14029])) ((الختمية، العقيدة والتاريخ والمنهج))، (ص 23). (3) [14030])) ((الختمية، العقيدة والتاريخ والمنهج))، (ص 20 - 43). (4) [14031])) ((الختمية، العقيدة والتاريخ والمنهج))، (ص 24). (5) رواه الحاكم (4715) وقال صحيح الإسناد وتعقبه الذهبي بقوله: بل موضوع. (6) [14033])) ((الختمية، العقيدة والتاريخ والمنهج))، (ص 25). (7) [14034])) ((الختمية، العقيدة والتاريخ والمنهج))، (ص 152). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 321 المطلب الثالث: الختمية وحركة البعث الشيعية المعاصرة حاول الختمية أن يؤكدوا أن جذور الشيعة والصوفية واحدة، فزعموا أن كل الطرق الصوفية خرجت من مشكاة آل البيت وانتقلت من بلاد الشيعة إلى بقية أنحاء العالم الإسلامي، كما أن كبار الصوفية، في رأي الختمية مرتبطين بالشيعة وأئمتهم، فعبد القادر الجيلاني (ت: 561هـ) الذي تعود إليه كل الطرق الصوفية شريف من آل البيت سنده في الطريقة إلى الأئمة الاثنى عشر الذين هم أئمة الشيعة في كل شيء، والكرخي تلميذ الرضا، وأبو يزيد البسطامي تلميذ جعفر الصادق، ويحاول كاتب ختمي معاصر أن يزين صورة الشيعة لدى الختمية، ويبرئهم من الأصول التي يقرون بها ويذهب إلى أن أعداءهم من بني أمية وبني العباس هم الذين شوهوا صورتهم وبدأ الناس يصدقون هذه الأكاذيب حولهم – ومن هنا بدأت الجفوة المفتعلة. ويردد الكاتب مزاعم الشيعة حول طائفتهم، ويذهب إلى أن الشيعة هم الذين نقلوا لنا السنة، وروايات القرآن، وهم أعلم الناس بالعربية والأصول وبقية العلوم الشرعية، ويذهب إلى أن الخلاف مع الشيعة مجرد خلاف في وجهات النظر السياسية منذ فجر الإسلام، ولم يتصل قط بأسس العقيدة كما يظن بعض الجهال (1)، أما دعوى الكاتب بأن الشيعة نقلوا السنة وروايات القرآن الخ. . فهذا ترديد لمزاعم الشيعة الذين ادعوا بأنهم أصل العلوم الإسلامية وواضعي أسسها، وهذه لاشك دعوى باطلة لا أساس لها، وإذا كان علماء الشيعة هم أساس الحركة العلمية، فما هو دور الأئمة الأربعة في مجال الفقه والأصول، وأصحاب الصحاح الستة في مجال الحديث، والطبري في التفسير والتاريخ والواقدي وابن هشام في السيرة والخليل والأصمعي في الأدب " (2)!! أما القول بأن الخلاف مع الشيعة مجرد خلاف في وجهات النظر السياسية، فهذا صحيح وينطبق على التشيع في بداياته الأولى، إذ كان الخلاف حول الإمامة، ولم يلبث هذا الخلاف أن تشعب وقاد في النهاية إلى تبني الشيعة آراء متعلقة بالقرآن وسلامة نصه من التحريف، والسنة ومدلولاتها وحجيتها والصحابة رضوان الله عليهم وأمانتهم في نقل هذا الدين، وتبنوا في كل هذه المسائل عقائد وآراء منحرفة عن الشرع ومخالفة لمعتقدات أهل السنة والجماعة (3).ويؤكد الكاتب الارتباط الوثيق بين الشيعة والصوفية وتطابق المبادئ والأصول، " الحقيقة التي لابد من إدراكها أن الصوفية من أهل السنة هم الوجه الآخر للشيعة، فكلاهما مؤمن بولاية أهل البيت مقر ببيعة لإمام قائم يسعى لتطبيق الشريعة بالإضافة إلى تطابقهما في مسألة السلوك على الشيخ المرشد " (4).وإذا كانت الأصول والمبادئ متوافقة، والغايات واحدة، فينبغي تضافر الجهود بين الفئتين من أجل البعث الإسلامي: " إن مظاهر الوعي الإسلامي تؤكد حتمية التقاء الصوفية من أهل السنة والشيعة، للتقارب العظيم في كل شيء ووحدة المصير والمبدأ والهدف " (5)،   (1) [14035])) ((الختمية، العقيدة والتاريخ والمنهج))، (ص 128). (2) [14036])) انظر: ((ضحى الإسلام)) أحمد أمين، (ط2)، مكتبة النهضة المصرية. موسوعة ((الحضارة الإسلامية)) أحمد شلبي، (مجلد: 3، ط 5)، 1974، (ص 233) وما بعدها. ((دراسات في تطور الحركة الفكرية في صدر الإسلام)) صالح أحمد العلي (ط1)، 1403/ 1983م. (3) [14037])) انظر: ((دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين)) أحمد جلي، (151 – 244). (4) [14038])) ((الختمية، العقيدة والتاريخ والمنهج))، (ص 127). (5) [14039])) ((الختمية، العقيدة والتاريخ والمنهج))، (ص 128) .. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 322 ويدعي هذا الكاتب أن البعث الإسلامي لن يكون إلا على يد المؤمنين بولاية أهل البيت (الشيعة والصوفية) " إن البعث الإسلامي لن يأتي إلا عن طريق المؤمنين بولاية أهل البيت وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حين ذكر مهدي آخر الزمان ذكر أنه من آل البيت، وهكذا فإن البعث القادم لن يكون إلا على أيدينا، وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا إشارة واضحة إلى أننا أصحاب البعث الإسلامي في الأمة المحمدية " (1). من هذا العرض يتبين لنا مدى الصلة بين إحدى الطرق الصوفية وهي طائفة الختمية وبين الفكر الشيعي والحركة الشيعية المعاصرة. وأن طائفة الختمية تبنت فكرة الشيعة حول آل البيت وارتباط هذا التصور بقضية الإمامة وأن الختمية استندوا للأدب الشيعي وحجج الشيعة وبراهينهم لإثبات أحقية أهل البيت بالولاية والإمامة، سعيا منهم لإثبات هذا الحق لمشايخهم، وأن بعض الختمية وقعوا فيما وقع فيه الشيعة من تجريح للصحابة واتهامهم بأنهم كتموا بعض الأحاديث الدالة على ولاية علي، وكذلك فسروا تاريخ الإسلام بمثل ما فسره به الشيعة وربطوا تاريخ طائفتهم بتاريخ الحركة الشيعية عن طريق الربط بين أصول التصوف والتشيع من ناحية، وعن طريق ربط حركة البعث الإسلامي وقصرها على الطائفتين المؤمنتين بولاية أهل البيت كما يزعمون من ناحية أخرى. وهذا كله يؤكد تسرب الفكر الشيعي إلى بعض الجماعات الصوفية وتأثر تلك الجماعات بفكر الشيعة وحركاتهم المعاصرة. المصدر: طائفة الختمية لأحمد محمد أحمد جلي – ص 167   (1) [14040])) ((الختمية، العقيدة والتاريخ والمنهج))، (ص 128). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 323 المبحث التاسع: بعض من مخالفات الطريقة الختمية والرد عليها المخالفة الأولى: يزعم الشيخ الميرغني السيد محمد عثمان شيخ الطريقة الختمية " أن الله كلمه وقال له أنت تذكرة لعبادي ومن أراد الوصول إليَّ فليتخذك سبيلا وأن من أحبك وتعلق بك هو الذي خلد في رحمتي ومن أبغضك وتباعد عنك فهو الظالم المعدود له العذاب الأليم، وهذا في كتاب (الطريقة الختمية) بعنوان (الهبات المقتبسة) تأليف الشريف السيد محمد عثمان (ص 76). وأما الرد على ذلك الافتراء على الله والتضليل بعباده من وجوه:- أولاً: كيف يدعي الميرغني أن الله كلمه وخاطبه هل هو نبي أم رسول؟ يقول الله تعالى وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى: 51] ثانياً:- كيف يدعي الميرغني أنه هو السبيل إلى الله وقد بين الله في كتابه الكريم أن سبيل التقرب إليه عن طريق كتابه وسنة نبيه وليس الطريقة الختمية حيث يقول الله تعالى وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155] , ويقول الله تعالى وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [سورة الحشر:7] وقد جاء في الحديث، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله تعالى وسنة رسوله)) (1) , وقد بين الله تعالى أن كل طريق غير هذا فهو من طرق الشيطان صوفياً كان أو غيره وذلك في قوله تعالى وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153] , وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود في تفسيرها أنه خط خطاً مستقيماً على الأرض وقال هذا صراط الله وهذه هي السبل وعلى كل سبيل شيطان يدعو إليه فنعوذ بالله من طرق الشيطان. ثالثاً:- كيف يتجرأ الميرغني ويزعم أن الله قال له من أحبك يخلد في رحمتي ومن أبغضك فله العذاب الأليم؟ إن المعلوم في الشريعة أن الحب في الله والبغض في الله عبادة يتقرب بها إلى الله وقد جاء في حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:) (إن أوثق عرى الإيمان الحب في لله والبغض في الله)) رواه البيهقي (2) , ولكن هذا لايبنى على الهوى وإنما يرجع فيه لأحكام الشرع فمن التزم بأحكام الشرع تلزم محبته في الله ومن اختلف مع أحكام الشرع يلزم بغضه في الله وهنا يرد السؤال هل وافق الميرغني في قوله هذا وهل اتفقت طريقته مع الكتاب والسنة؟ الجواب إنها قد اختلفت تماماً مع الكتاب والسنة وهنا يلزم بغضه في الله وبغض طريقته والكشف عن زيفه وهذا من أعلى مقامات التقرب إلى الله.   (1) [14041])) رواه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (10/ 114) , والحاكم في ((المستدرك)) (1/ 171) , من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه, وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (40). (2) [14042])) رواه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (10/ 233) , من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بلفظ: (يا عبد الله أي عرى الإسلام أوثق قال قلت الله ورسوله أعلم قال الولاية في الله الحب في الله والبغض في الله) , قال الألباني في ((صحيح الجامع)) (2539): صحيح. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 324 المخالفة الثانية: يزعم الميرغني " أن رسول الله قال له من صحبك ثلاثة أيام لايموت إلا ولياً وأن من قبل جبهتك كأنما قبل جبهتي ومن قبل جبهتي دخل الجنة ومن رآني أو رأى من رآني إلى خمس لم تمسه النار، وهذا في كتاب (الطريقة الختمية) بعنوان (مناقب صاحب الراتب) تأليف السيد محمد عثمان الميرغني (ص 102). أما الرد على ذلك الإفك والدجل من وجوه: أولاً: - أين ومتى التقى بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى قال له ذلك؟ لاشك أن ذلك كذب جلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويكفي ما جاء في مقام الوعيد لأمثال هؤلاء ما أخرجه البخاري عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) (1). ثانياً:- من هو الميرغني حتى يكون من صحبه ثلاثة أيام لا يموت إلا ولياً؟ وهل ضمن لنفسه أنه من أولياء الله ناهيك عن من يصحبه؟ قال تعالى قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: 111] , ويقول تعالى في تكذيبه وادعائه فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم: 32]. ثالثاً:- كيف يزعم ويفتري الميرغني أن من رآه أو رأى من رآه إلى خمس يدخل الجنة وهل هو ضمن الجنة لنفسه ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رآه كثير من اليهود والنصارى والمشركين وماتوا على الكفر فهل يا ترى هو أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكيف يحكم المفتري هذا على خاتمة أناس بمجرد رؤيته فقط وقد علَّمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تحكم على خاتمة المرء مع عمله وذلك في حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعاً فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعاً فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) رواه مسلم (2). المخالفة الثالثة:- " يزعم الميرغني أنه أعطي راتباً لا يقدر على قراءته أحد غير النبي صلى الله عليه وسلم والمهدي " وهذا في كتاب (الطريقة الختمية) بعنوان (رسالة الختم) تأليف السيد جعفر بن السيد محمد عثمان (ص111). وأما الرد على ذلك السخف والدجل من وجوه، أولاً: قال أعطيت راتباً ولم يبين من الذي أعطاه ولاشك في أن الذي أعطاه إياه هو شيطانه وإلا لو كان من شريعة الإسلام يلزمه أن يبين أهو من الكتاب والسنة حتى نعرفه وذلك لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59] ثانياً:- مما يدل على أنه ليس من الدين أن الله جعل التكليف على وسع البشر وذلك لقوله تعالى لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة: 276]. ثالثاً:- إنه يزعم أنه لا يستطيع قراءته غير النبي والمهدي وهذا يعني أنه حتى هؤلاء لا يستطيعون قراءته فما الفائدة إذا من هذا الراتب.   (1) [14043])) رواه البخاري (3461). (2) [14044])) رواه مسلم (2643) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بلفظ: ( ..... إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب ... ) والحديث رواه البخاري (3332). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 325 المخالفة الرابعة:- الختمية يزعمون لو كان نبي بعد النبي لكان محمد عثمان الميرغني حيث ورد في كتاب (الطريقة الختمية) بعنوان (رسالة الختم) تأليف السيد جعفر بن السيد محمد عثمان الميرغني (ص 115 – 116) ما يأتي في مدحه أن الرسول قال ذلك وقدمها مادحهم في قوله:- ولو كان بعدي يأتي نبي فعثمان كان له أُوحِيَ وهذا افتراء واضح وكذب صريح يختلف مع قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرج الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((لو كان نبي بعدي لكان عمر)) (1) وفي رواية أخرى ((لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر)) (2). المخالفة الخامسة:- يزعم الختمية أنه لا يجوز زيارة المريد للشيخ إلا على طهارة وأن حضرة الشيخ هي حضرة الله وذلك في كتاب (منحة الأصحاب) تأليف أحمد بن عبدالرحمن تلميذ السيد محمد سر الختم الميرغني (ص 67) , حيث ورد الآتي في آداب المريد مع الشيخ " وأن لا يزور المريد الشيخ إلا على طهارة لأن حضرة الشيخ هي حضرة الله " وفي هذا يتعجب العقلاء فكيف يتطهر لزيارة الشيخ وقد أشارت النصوص إلى أحكام الطهارة ما يجب وما يستحب ومن حيث لا يوجد دليل للطهارة في زيارة الأشخاص حتى ولو كان في درجة رسول وقد أخرج البخاري في (الصحيح) عن أبي هريرة أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة فانخنس منه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ((أين كنت يا أبا هريرة قال كنت جنباً فكرهت أن أجالسك فقال النبي صلى الله عليه وسلم سبحان الله إن المؤمن لا ينجس)) (3). ". فهل يا ترى مشايخ الصوفية أفضل أم النبي صلى الله عليه وسلم. المخالفة السادسة:- يزعم الختمية بأنه عند الشدائد ينبغي أن تلجأ إلى الميرغني من دون الله وهذا ضلال يتفق عليه المتصوفة أجمعهم حيث ورد في كتاب (الطريقة) بعنوان (تجمع الأوراد الكبير) (ص 147) تأليف محمد عثمان الميرغني في قوله: ومهما أتاك خطب جليل فقم وناده وقل يا ميرغني   (1) [14045])) رواه الترمذي (3686) , وأحمد في ((المسند)) (17441) (4/ 154) , والحاكم في ((المستدرك)) (3/ 92) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث مشرح بن عاهان, وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي, وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/ 199): معروف, وحسنه الألباني في ((صحيح الترمذي)) و ((صحيح الجامع)) (5284). (2) [14046])) قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 68) , رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد المنعم بن بشير وهو ضعيف, وقال ابن عدي في ((الكامل)) (4/ 175): متنه مقلوب, وقال ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (44/ 114): بهذا اللفظ غريب, وقال ابن الجوزي في ((الموضوعات)) (2/ 65): لا يصح, وقال الذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (2/ 50): [فيه] رشدين بن سعد سيء الحفظ غير معتمد. (3) [14047])) رواه البخاري (283) , ومسلم (371). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 326 وأما الرد على ذلك الضلال فيكذبه قوله تعالى وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] وقوله تعالى وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186] , وقول النبي صلى الله عليه وسلم من حديث بن عباس ((إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله)) (1) رواه الترمذي وقوله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف: 5]. المخالفة السابعة:- الختمية يذكرون الله بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان ويسمونه بأسماء غير أسمائه الحسنى وقد ذكر في أذكارهم في دعوة البرهتية عن السيد محمد الحسن الميرغني في كتاب (مجمع الأوراد الكبير) (ص 116) " أن يقول بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا برهتيه، تبتليه طوارك، مزحل، برهشب، خوطر، قلينهود، برشا كطهير بانموا شلخ، شماهير، شمها حيرحورب النور الأعلى عبطال فلا إله إلا هو رب العرش العظيم " وهذا الذكر فيه تلبيس للحق بالباطل وقد قال تعالى: وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 42] , وتلك الكلمات ليست أصل في الكتاب والسنة ولاشك أنها من وحي الشياطين وقد قال تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأعراف: 180]. المخالفة الثامنة:- يزعم الختمية أنه يجب على المريد طاعة شيخه وإن خالف الشرع وذلك حيث ورد في كتاب (الطريقة) بعنوان (منحة الأصحاب) تأليف أحمد عبدالرحمن تلميذ السيد محمد سر الختم (ص 67) ما يأتي (فإذا قال الشيخ للمريد اقرأ كذا أو صم كذا أو قال له وهو صائم أفطر أو قال له لا تقم الليلة فإنه يطيعه، قال سيدي أبو يزيد البسطامي لتلميذ له أفطر ولك أجر يوم فأبى وقال ولك أجر جمعة فأبى فقال ولك أجر شهر فأبى وقال ولك أجر سنة فأبى فقال له بعض الحاضرين مخالفتك هذه تضرك فقال الشيخ دعو من سقط من عين الله) وأما الرد على ذلك الضلال:- مفهوم أن الشريعة جاءت تدعو العباد للأعمال الصالحة يقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [الكهف: 107] , ويقول تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1 - 3].وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرغب الصحابة في الأعمال الصالحة وقد جاء فى الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال) (نعم الرجل الصالح عبدالله بن عمر لو كان يقوم الليل، قال ابن عمر ما تركت قيام الليل بعد ذلك)) رواه أحمد (2).   (1) [14048])) رواه الترمذي (2516) , وأحمد في ((المسند)) (2763) (1/ 303) , والحاكم في ((المستدرك)) (3/ 623) , قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح, وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (1/ 182): من أصح ما روي عنه, وقال ابن رجب في ((العلوم والحكم)) (1/ 459): حسن جيد, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (4/ 270): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)) و ((صحيح الجامع)) (7957). (2) [14049])) ((مسند أحمد)) (6330) (2/ 146) , والحديث رواه البخاري (1122) , ومسلم (2479). ولفظه: (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل قال سالم فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلا). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 327 وفي الحديث أيضاً عن أبي أمامة ((أن رجلاً قال يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار قال عليك بالصوم)) (1) , فكيف ينهى الشيخ المريد من العمل الصالح مثل قيام الليل والصيام كما يزعم المتصوفة وكيف يحق للمريد أن يطيع شيخه، فالتصوف في منهجه يمثل استعباد الشيوخ لمريديهم وليعلم هؤلاء المساكين أنهم على ضلال، وأن الإسلام قد جاء لتحرير العباد من هؤلاء الشيوخ وأمثالهم، ومن هنا كان قول النبي صلى الله عليه وسلم ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)) رواه أحمد (2). وفي رواية أخرى ((إنما الطاعة في المعروف)) رواه البخاري (3) .. أما عن قصة أبي يزيد البسطامي الذي أمر التلميذ بالفطر وضمن له الأجر فهي تمثل قمة الضلال باسم الدين فإنه لم يكتفي بأمره له بالفطر بل تعدى إلى أكبر من ذلك وضمن له أجراً وكأنه هو الإله الذي يصام له ويملك الثواب سبحانك ربي هذا بهتان عظيم. هذه بعض مخالفات الطريقة الختمية للشريعة الإسلامية وإن كانت المخالفات كثيرة. وبهذا يلزم كل مسلم إن كان من أصحابها أن يتركها وعلى الجميع أن يحذرها ويُحذر منها المصدر: الطريقة الختمية لمحمد مصطفى عبد القادر   (1) [14050])) رواه النسائي (2220) (4/ 165) , وأحمد في ((المسند)) (22249) (5/ 255) , والحاكم في ((المستدرك)) (1/ 582) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه بلفظ: ( ... مرني بأمر آخذه عنك قال عليك بالصوم .. ) , قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 184): رجال أحمد رجال الصحيح, وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (4/ 126): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (4044). (2) [14051])) ((مسند أحمد)) (1095) (1/ 131) , من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه, قال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)): إسناده صحيح. (3) [14052])) (صحيح البخاري)) (7145) , ومسلم (1840). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 328 المبحث العاشر: الجذور الفكرية والعقائدية يحدِّد مؤسس الطريقة محمد عثمان الميرغني المصادر التي استمد منها أصول طريقته قائلاً: "اعلم أن طريقتنا هذه مجتمعة من خمسة حروف نقشها (نقش جم) تنقش من الفؤاد التصوف جم، فالنون نقشبندية، والقاف قادرية، والشين شاذلية، والجيم جنيدية، والميم ميرغنية، وهي محتوية على أسرار هذه الطرق الخمس وبعض أواردها". • يتضح من تحليل معتقداتهم وأفكارهم أنهم استفادوا من ذلك التراث الصوفي الفلسفي الغنوصي الذي بدأه الحلاج، وعدّل فيه وزاد عليه وطوَّره تلامذته كابن سبعين وابن الفارض، وعبروا عنه في نظرياتهم عن الفناء والحلول والاتحاد ووحدة الوجود. استمد الختمية ـ المعاصرون منهم خاصةً ـ كثيراً من أفكارهم من فكر الشيعة ومعتقداتهم واستفادوا من أدب الشيعة وما استندوا إليه من جدل حول الإمامة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 329 المبحث الحادي عشر: الانتشار ومواقع النفوذ ـ بدأت الطريقة من مكة والطائف، وأرست لها قواعد في جنوب وغرب الجزيرة العربية، كما عبرت إلى السودان ومصر. ـ تتركز قوة الطريقة من حيث الأتباع والنفوذ الآن، في السودان، لا سيما في شمال السودان وشرقه وأطراف إريتريا المتاخمة للسودان ومصر. يتضح مما سبق: أن الختمية طريقة صوفية تلتقي مع الطرق الصوفية الأخرى في كثير من المعتقدات المنحرفة والتي من أبرزها الغلو في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم والقول بالحلول ووحدة الوجود. هذا فضلاً عن ارتباطها الوثيق ـ في العصر الحاضر ـ بالفكر والمعتقد الشيعي خاصة فيما يتعلق بأقوال الشيعة وجدلهم حول الإمامة، وينتشر أتباع هذه الطريقة حاليًّا في مصر وفي السودان وبخاصة في الشمال والشرق، وأطراف إريتريا المتاخمة للسودان. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 330 مراجع للتوسع: ـ مجموعة النفحات الربانية، المشتملة على سبعة رسائل ميرغنية، مصر، مصطفى الحلبي ط ثانية 1400هـ/1980م. ومن أهم ما تشتمل عليه: (أ) النفحات المكية واللمحات الحقية في شرح أساس الطريقة الختمية، محمد عثمان الميرغني المكِّي. (ب) لؤلؤة الحسن الساطعة في بعض مناقب ذي الأسرار اللامعة، جعفر الصادق بن محمد عثمان. (ج) شرح الراتب المسمى بالأسرار المترادفة، محمد عثمان الميرغنيّ المكِّي. ـ النور البراق في مدح النبي المصداق، محمد عثمان الميرغني، القاهرة مكتبة القاهرة د. ت. ـ تاج التفاسير، محمد عثمان الميرغني بيروت، دار المعرفة 1399هـ/1979م. ـ ديوان النفحات المدنية في المدائح المصطفوية، محمد عثمان الميرغني، ملحق بالنور البراق. مجموعة فتح الرسول ـ محمد عثمان الميرغني، مصر، مصطفى الحلبي 1367هـ/ 1948م. ـ ديوان مجمع الغرائب والمفارقات من لطائف الخرافات الذاهبات، محمد عثمان الميرغني، مصر، مصطفى الحلبي 1355هـ/1936م. ـ مولد النبيِّ المسمى بالأسرار الربانية، محمد عثمان الميرغني، الخرطوم، المكتبة الإسلامية، ط أولى 1396هـ/1976م. ـ الديوان الكبير المسمى رياض المديح، جعفر بن محمد عثمان الميرغني، بيروت، المكتبة الثقافية. ـ طائفة الختمية أصولها التاريخية وأهم تعاليمها، أحمد محمد أحمد جلي، بيروت، دار خضر للنشر والتوزيع، ط أولى 1413هـ/1992م. ـ الختمية: العقيدة والتاريخ والمنهج، محمد أحمد حامد محمد خير الخرطوم، دار المأمون، ط ثانية 1407هـ/ 1987م. ـ تاج الأولياء، علي زين العابدين، دار مكتبة الهلال، ط أولى 1984م. ـ مجموع الأوراد الكبير، محمد عثمان الميرغني، مصر، مصطفى الحلبي 1358هـ/1939م. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 331 المبحث الأول: التعريف الطريقة القادرية من الطرق المشهورة في بلاد أفريقيا والبلدان العربية وشبه القارة الهندية الباكستانية نسبة إلى عبد القادر الجيلي أو الجيلاني نسبة إلى جيل وهي بلاد متفرقة وراء طبرستان ويقال لها جيلان وكيلان المصدر: دراسات في التصوف – إحسان إلهي ظهير- ص 249 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 332 المبحث الثاني: التعريف بالشيخ عبد القادر الجيلاني هو عبد القادر بن أبي صالح بن عبد الله الجيلي ثم البغدادي، ولد بكيلان، ووفد بغداد شاباً سنة 488 هـ، وتفقه على عدد من مشايخها خاصة أبي سعيد المُخَرَّمي، وكان على مذهب الإمام أحمد في صفات الله - عز وجل -، وبغض الكلام وأهله، وفي القدر، وفي الفروع، خلف شيخه أبا سعيد المُخَرَّمي على مدرسته، ودرَّس فيها وأقام بها إلى أن مات. قال ابن السمعاني عنه: (إمام الحنابلة وشيخهم في عصره، فقيه صالح، ديِّن خيِّر، كثير الذكر، دائم الفكر، سريع الدمعة). ولد للشيخ عبد القادر تسعة وأربعون ولداً، سبعة وعشرون ذكراً والباقي إناث. جلس الشيخ عبد القادر للوعظ سنة 520هـ، وحصل له القبول من الناس، واعتقدوا ديانته وصلاحه، وانتفعوا بكلامه ووعظه. المصدر: عبد القادر الجيلاني الشيخ المفترى عليه - الأمين محمد الحاج الجزء: 8 ¦ الصفحة: 333 المبحث الثالث: الطوام التي نسبت إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني لقد افتُري على هذا الشيخ افتراء عظيماً، وكُذِّب عليه كذباً مهيناً، ونسب إليه من الكرامات والدعاوى الكاذبات ما لا يقبله عقل ولا دين، منها: 1. ما نسبه صوفية المشرق من أن الشيخ عبد القادر الجيلاني متصرف في الأكوان. 2. ما نسبوه إليه أنه قال: "قدمي هذه على رقبة كل ولي"!!! بل لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أنه قال ذلك بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 3. وصفه بأنه هو القطب والغوث. 4. نسبة السماع الصوفي المحرم ودق الطبول الذي يمارسه الصوفية إليه. 5. المبالغة في مدحه والكذب فيه. 6. نسبة الكثير من الممارسات الصوفية إليه. 7. زعم أنه هو النائب عن الله في إدارة الكون. 8. وأنه غياث المستغيثين. 9. وأنه يمشي على الهواء. 10. وأن مجرد اسمه إذا كُتِبَ في كفن الميت لن تمسه النار. هذا قليل من كثير، وغيض من فيض مما نسب إليه. المصدر: عبد القادر الجيلاني الشيخ المفترى عليه - الأمين محمد الحاج الجزء: 8 ¦ الصفحة: 334 المبحث الرابع: الأدلة على اعتقاد الصوفية لهذه العقائد الباطلة الأدلة على اعتقاد الصوفية لهذه العقائد ونسبتها إلى الشيخ عبد القادر زوراً وبهتاناً كثيرة جداً، ولكن سنشير إلى طرف منها لضيق المقام، فنقول: يقول الشيخ عبد الرحيم البرعي السوداني في مدح عبد القادر الجيلاني: هو القطب والغوث الكبير هو الذي أفاض على الأكوان كالبحر والسيل وعند ظهور الحال يخطو على الهوى ويُظهر شيئاً ليس يُدرك بالعقل بأكفان مَنْ قد مات إن كُتِبَ اسمُه يكون له ستراً من النار والهول وكل ولي عنقه تحت رجْله بأمر رسول الله يا لها من رجل ينوب عن المختار في حضرة العلا ويحكم بالإحسان والحق والعدل وقال آخر مكذباً على الجيلاني - رحمه الله -: وولاني على الأقطاب جمعاً فحكمي نافذ في كل حال مريدي لا تخف واشٍ فإني عزوم قاتل عند القاتل طبولي في السماء والأرض دقت وشاؤس السعادة قد بدا لي بلاد الله ملكي تحت حكمي وأوقاتي لقلبي قد صفا لي نظرت إلى بلاد الله جمعاً كخردلة على حكم اتصال أنا الجيلي محيي الدين اسمي وأعْلامي على رأس الجبال وزعموا أنه قال: إن أزمَّة أهل الزمان على قلبي، وأنا المتصرف في عطائهم ومنعهم وزعموا أنه قال: إن قلوب الناس في يدي، إن أردتُ صرفها عني صرفتها، وإن أردتُ صرفتها إلي. وقال أحدهم: إن الشيخ الجيلاني هو غوث الأغواث، وإن له حق التثبيت في اللوح المحفوظ، وأنه يملك أن يجعل المرأة رجلاً. ونقل البريلوي شيخ الطريقة البريلوية بالهند وباكستان وبنقلاديش: أن الشيخ عبد القادر كان يمشي في الهواء على رؤوس الأشهاد في مجلسه، ويقول: ما تطلع الشمس حتى تسلم عليَّ. وقال البريولي كذلك: إن الشيخ عبد القادر فرش فراشه على العرش، وأنزل العرش على الفرش. المصدر: عبد القادر الجيلاني الشيخ المفترى عليه - الأمين محمد الحاج الجزء: 8 ¦ الصفحة: 335 المبحث الخامس: مصدر هذه الطوام وغيرها مصدر هذه الطوام العظام، والآفات الجسام، وغيرها كثير، كتاب كبير في ثلاث مجلدات في مناقب الشيخ عبد القادر جمعها من غير خطام، ولا زمام، ولا تحرير، ولا اهتمام أبو الحسن الشطنوفي المصري، فهو الذي تحمل بثها وسيبوء بوزرها، ولا ينقص ذلك من أوزار من اتبعه شيئاً. قال الحافظ ابن رجب الحنبلي - رحمه الله -: "كان الشيخ عبد القادر - رحمه الله - في عصره معظماً، يعظمه أكثر مشايخ الوقت من العلماء والزهاد، وله مناقب وكرامات كثيرة، ولكن قد جمع المقرئ أبو الحسن الشطنوفي المصري في أخبار الشيخ عبد القادر ومناقبه ثلاث مجلدات، وكَتَبَ فيها الطم والرم، وكفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع. وقد رأيتُ بعض هذا الكتاب، ولا يطيب على قلبي أن أعتمد على شيء مما فيه فأنقل منه إلا ما كان مشهوراً معروفاً من غير هذا الكتاب، وذلك لكثرة ما فيه من الرواية عن المجهولين، وفيه الشطح، والطامات، والدعاوى، والكلام الباطل، ما لا يحصى، ولا يليق نسبة مثل ذلك إلى الشيخ عبدالقادر - رحمه الله -، ثم وجدت الكمال جعفر الأدفوني قد ذكر أن الشطنوفي نفسه كان متهماً فيما يحكيه في هذا الكتاب بعينه". قلت: مصيبة الصوفية الكبرى، وداهيتهم العظمى أنهم لا يميزون بين الصحيح والموضوع، ولا بين الباطل والحق، بل يتلقون جلَّ عقائدهم عن طريق الهواتف والمكاشفات، والأحاديث الموضوعات، وقد ميز الله هذه الأمة على غيرها من الأمم بالأسانيد العالية، فلا يقبلون خبراً إلا إذا كان مسنوداً، ورجاله ثقات عدول. ولهذا قال جمع من السادة العلماء: إن هذا العلم دين فانظروا ممن تأخذون دينكم،؛ فالعلم لا يؤخذ من أي كاتب ولا كتاب، ولا حاطب ليل لا يميز بين صحيح وسقيم، ولا صاحب بدعة وهوى، المصدر: عبد القادر الجيلاني الشيخ المفترى عليه - الأمين محمد الحاج الجزء: 8 ¦ الصفحة: 336 المطلب الأول: المآخذ التي أخذت على عبد القادر الجيلاني لأهل العلم مآخذ أخذوها على هذا الشيخ، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: 1. له مصنفان هما "الغنية لطالبي طريق الحق"، و"فتوح الغيب"، ضمنها كثيراً من الأحاديث الضعيفة والموضوعة. 2. خالف متقدمي المشايخ أمثال الجنيد، وإبراهيم بن أدهم، وغيرهما، الذين كانوا معتصمين بمنهج أهل السنة والجماعة. 3. بعض الشطحات إن صحت عنه، نحو قوله: "قدمي هذه على رقبة كل ولي لله"!! ولا إخالها تصح عنه. 4. السياحة والهيام في البرية، لمخالفة ذلك لما جاء به سيد البرية. المصدر: عبد القادر الجيلاني الشيخ المفترى عليه - الأمين محمد الحاج الجزء: 8 ¦ الصفحة: 337 المطلب الثاني: أقوال أهل العلم عن الشيخ عبد القادر وما نسب إليه قال الإمام الذهبي خاتماً ترجمة الشيخ عبد القادر بقوله: (وفي الجملة الشيخ عبد القادر كبير الشأن، وعليه مآخذ في بعض أقواله ودعاويه، واللهُ الموعد، وبعض ذلك مكذوب عليه). وقال عنه الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "كان له سمت حسن، وصمت غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان فيه زهد كثير، وله أحوال صالحة ومكاشفات، ولأتباعه وأصحابه فيه مقالات، ويذكرون عنه أقوالاً وأفعالاً، ومكاشفات أكثرها مغالاة، وقد كان صالحاً ورعاً، وقد صنف كتاب (الغنية)، و (فتوح الغيب)، وفيهما أشياء حسنة، وذكر فيهما أحاديث ضعيفة وموضوعة، وبالجملة كان من سادات المشايخ". وقال الحافظ ابن رجب معتذراً لما صدر من الشيخ عبد القادر: "ومن ساق الشيوخ المتأخرين مساق الصدر الأول، وطالبهم بطرائقهم، وأراد منهم ما كان عليه الحسن البصري وأصحابه مثلاً من العلم العظيم، والعمل العظيم، والورع العظيم، والزهد العظيم، مع كمال الخوف والخشية، وإظهار الذل والحزن والانكسار، والازدراء على النفس، وكتمان الأحوال والمعارف والمحبة والشوق ونحو ذلك، فلا ريب أنه يزدري المتأخرين، ويمقتهم، ويهضم حقوقهم، فالأولى تنزيل الناس منازلهم، وتوفيتهم حقوقهم، ومعرفة مقاديرهم، وإقامة معاذيرهم، وقد جعل الله لكل شيء قدراً. ولما كان الشيخ أبو الفرج بن الجوزي عظيم الخبرة بأحوال السلف والصدر الأول، قل من كان في زمانه يساويه في معرفة ذلك، وكان له أيضاً حظ من ذوق أحوالهم، وقسط من مشاركتهم في معارفهم، كان لا يعذر المشايخ المتأخرين في طرائقهم المخالفة لطرائق المتقدمين ويشتد إنكاره عليهم. وقد قيل: إنه صنف كتاباً ينقم فيه على الشيخ عبد القادر أشياء كثيرة. إلى أن قال: وللشيخ عبد القادر - رحمه الله - كلام حسن في التوحيد والصفات، والقدر، وفي علوم المعرفة موافق للسنة. وله كتاب (الغنية لطالبي طريق الحق)، وهو معروف، وله كتاب (فتوح الغيب)، وجمع أصحابه من مجالسه في الوعظ كثيراً، وكان متمسكاً في مسائل الصفات والقدر ونحوها بالسنة، بالغاً في الرد على من خالفها). ولا شك أن الكمال لله وحده، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا ينبغي لأحد أن يقلد دينه الرجال، أو أن يقلد أحداً في كل ما يقول سوى الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ وينبغي للمسلم أن يزن كلام أي إنسان بميزان الشرع، فما وافق الكتاب قبل وما خالف الكتاب والسنة رُدَّ ولا كرامة. لقد أمرنا الله باتباع الطريقة المحمدية والتمسك بالسنة المرضية ونبذ ما سواها من الطرق الصوفية وغير الصوفية البدعية، وما عداها من المناهج: "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرَّق بكم عن سبيله"، وقال رسوله الناصح الأمين: ((وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة؛ قيل: ما الواحدة؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي)) (1) , فمن كان على ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام فهو الناجي، ومن خالف ذلك فهو الهالك الخاسر. عليك أخي الحبيب بالحنيفية السمحاء، والمحجة البيضاء، والطريقة المثلى، طريقة النبلاء الشرفاء، أتباع الرسل والأنبياء، وإياك إياك أن تنتمي إلى غيرها من هذه الطرق، فكلها والله بدع ومخالفات وعقائد فاسدة ومناهج منحرفة. المصدر: عبد القادر الجيلاني الشيخ المفترى عليه - الأمين محمد الحاج   (1) رواه الترمذي (2641) , والحاكم (1/ 218) , واللالكائي في ((شرح أصول إعتقاد أهل السنة والجماعة)) (1/ 100) والآجري في ((الشريعة)) (1/ 13) , من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه, قال الترمذي هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه, وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/ 316): في طريقه عبد الرحمن بن زياد الإفريقي , وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 338 المبحث السابع: مصادر التلقي عندهم مصادر التلقي عندهم حدثني قلبي عن ربي. فهي إلهامات على حد زعمهم من الله تعالى وفتوحات، فهذا معطى وهذا واصل، وهذا عارف، ومع ذلك فاسأله عن معنى لا إله إلا الله، أو اسأله عن مسألة في الدين، فهذا لا يهمهم تعلمه أو تعليمه، وإنما كانوا يهتمون أكثر ما يهتمون بالقصائد الشعرية ودراسة السيرة النبوية دون تمييز للصحيح من الضعيف من الأحاديث المروية. فلا حاجة لهم بالشريعة الإسلامية المطهرة، وهم يتهمون علماء الشريعة بأخذهم العلم ميتاً عن ميت، وهم يأخذون العلم عن الحي الذي لا يموت. فليسوا بحاجة إلى "تفسير الطبري" ولا "ابن كثير" ولا لـ"صحيح البخاري" و"صحيح مسلم"، والله سبحانه قال لرسوله - صلى الله عليه وسلم-: وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه: 114]. وقال سبحانه: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ [محمد: 19]. وحسبك أن أول ما أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم- اقْرَأْ [العلق:1]. والقراءة وسيلة للعلم. ونبينا - صلى الله عليه وسلم- قال: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم)) (1). وقال - صلى الله عليه وسلم-: ((إنما العلم بالتعلّم)) (2). فطرق التصوف متعددة وأهلها قلوبهم مختلفة، فكان شيخنا يطعن بشيخ آخر، وسمعت عن آخر يطعن بشيخنا، فمن على الحق منهم؟؟ وهل هذه الطرق جميعها نقلت عنه - صلى الله عليه وسلم-؟ أم أنها كلها غير طريق النبي وصحبه؟ وهذا هو الحق الذي لا مِرْيَة فيه. فمنهج النبي - صلى الله عليه وسلم- منهج واحد وسبيله سبيل واحد، وهو سبيل الحق، وهذه الطرق منحرفة عن الحق؛ لأنها لو كانت على الحق لكانت طريقة واحدة متفقة لا مختلفة، والنبي - صلى الله عليه وسلم- قد بين طريق الحق. المصدر: ذكرياتي مع الطريقة القادرية لنزيه بن علي آل عرميطي   (1) رواه ابن ماجه (224) , والطبراني في ((الأوسط)) عن أنس وعن أبي سعيد وعن ابن عباس وأبو يعلى (2837) عن أنس والطبراني في ((الكبير)) (10461) عن ابن مسعود وفي ((الصغير)) (ص61) عن الحسين بن علي، وقد تكلم عليها جميعها الهيثمي في ((المجمع)) (1/ 119) ورواه البيهقي في ((الشعب)) (2/ 724) وقال: هذا حديث متنه مشهور إسناده ضعيف وقد روي من أوجه كلها ضعيف، ورواه ابن ماجه (224) من حديث أنس وفيه زيادة ((وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب))، ورواه ابن عبدالبر في ((العلم)) (1/ 23) وقال يروى عن أنس من وجوه كثيرة كلها معلولة لا حجة في شيء منها عند أهل العلم بالحديث من جهة الإسناد ونقل عن ابن راهويه قوله: لم يصح فيه الخبر، ورواه البزار (1/ 172) وقال: غير صحيح روي من غير وجه، هذا كذب ليس له أصل عن ثابت عن أنس، وقال الخطيب في ((تاريخه)) (9/ 369) منكر، وقال الذهبي في ((الميزان)) (3/ 15) باطل، وقال ابن حجر في ((اللسان)) (4/ 105) لا يثبت، وقال العراقي فيه ((تخريج الإحياء)) (1/ 16) ضعفه أحمد والبيهقي، وقال ابن القيسراني في ((الذخيرة)) (3/ 1560) عن ابن مسعود فيه منكر الحديث وعن جابر فيه متروك الحديث وعن ابن عمر فيه كذاب وعن أنس من طرق في كل منها ضعيف أو متروك، وحسنه السيوطي في ((تدريب الراوي)) (2/ 164) وكذلك ملا علي قاري في ((شرح مسند أبي حنيفة)) (ص76)،، وقال السخاوي في ((المقاصد)) (1/ 328) ولكن قال العراقي قد صحح بعض الأئمة بعض طرقه كما بينته في تخريج الإحياء، وقال المزي: إن طرقه تبلغ به رتبة الحسن، ثم نبه السخاوي أنه قد ألحق بعض المصنفين بآخر هذا الحديث (ومسلمة) وليس لها ذكر في شيء من طرقه، وصححه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)) دون الزيادة التي فيه. (2) رواه البخاري تعليقا في كتاب العلم باب العلم قبل العمل، ورواه الطبراني في ((الأوسط)) (ص68) عن أبي الدرداء، قال الهيثمي في ((المجمع)) (1/ 128) فيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد وهو كذاب، وقال عن حديث معاوية: رواه الطبراني في ((الكبير)) وفيه رجل لم يسم وعتبة بن أبي حكيم وثقه أبو حاتم وأبو زرعة وابن حبان وضعفه جماعة، وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (1/ 46) في إسناده راو لم يسم، وقال الذهبي في ((تلخيص العلل)) ضعيف منقطع، وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/ 218) إسناده ضعيف، وحسن إسناده ابن حجر في ((الفتح)) (1/ 194) وحسنه الألباني كما في ((الصحيحة)) (ص342). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 339 المطلب الأول: اعتقاد القادرية بعقيدة وحدة الوجود ذكر القادري في كتابه (الفيوضات الربانية) أذكاراً تبوح بوحدة الوجود منها: -"واحفظني اللهمّ بك في مراتب وجودك بشهودك حتى لا أشهد غير أفعالك وصفاتك بوجهك الحق لا إله إلا الله (تعني عندهم أنّ كل الألهة هي الله بينما معناها عند أهل السنة لا معبود بحقٍ إلا الله وإلا فالألهة المعبودة الباطلة كثيرة فافهم هذا فإنّ الصوفية يعنون بلا إله إلا الله أنّ كل الألهة المعبودة هي الله لأنّه ما ثَمَّ إلا الله كما هو اعتقاد وحدة الوجود التي نحن بصدد التحذير منها) وامح عني نقطة الغيرية لا أشاهدك ولا أدري غيرك يا هو يا هو يا هو لا سواك موجود يا وجود الوجود"صـ16. -"ومتِّع سري بسرك في الحضرات الشهودية وأطلق لساني بالعلوم اللدنية ياحي ياحي وهذا الاسم للنفس المطمئنة وعالمها الحقيقة المحمدية ومحلها السر وواردها الحقيقة"ص17.-"يا واحد أنت الموجود، أنت الموجود في ذاتك بألوهيتك يا واحد .. وهذا الاسم للنفس الراضية ولون نورها أخضر وعالمها اللاهوت ومحلها سر السر". -"الاسم السادس عزيز عدد تلاوته 74644 أربعة وسبعون ألفاً وستمائة وأربع وأربعون مرة وهو للنفس المرْضية ولونها أسود (لعل وجه صاحبها أسود) وعالمها الشهادة"صـ 17. -"وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدونِ أي ليعرفوني (كذا). كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق لأُعرف من عرف نفسه فقد عرف ربه (!). لا معبود إلا الله لا مُراد إلا الله. يا أحد نَزِّهْ ناسوتي باسمك الأحد فَرِّدْ نفسي باسمك الأحد. قَدِّسْ سري بسرك الصمد فَرِّدْ سري باسمك الصمد ياصمد"صـ 28. -"الحمد لله الذي وُجِدَ في كل شيء"صـ41. -"اللهم صلِّ على مظهر الوجود الكلي والجزئي وإنسان عين الوجود العلوي والسفلي، مَجْلَى الذات ومظهر الأسماء والصفات، روح الأرواح الساري في جميع الأشباح مجمع حقائق اللاهوت منبع رقائق الناسوت"صـ181. وتجد عند هؤلاء القادرية أيضاً النفَس الشيعي عند قوله في أحد الأوراد: "نادِ علياً مظهر العجائب تجده عوناً في النوائب، كل هم وغم سينجلي بنبوتك يا محمد بولايتك يا علي يا علي يا علي"صـ27. وتجد عندهم كذلك تمتمات وطلاسم سحرية من مثل: "اللهم صحّاً صحّاً صحّاً وحّاً بحّاً حم لا ينصرون -اللهم مسخِّر القلوب لمن كان مهجوراً حتى يعود محبوباً بهبوب هبوبٍ بلطفٍ خفي يا ألله بصعصعٍ صعصعٍ والبهاء والنور التام بسهسهوب سهسهوب ذي العز الشامخ بطهطهوب لَهوب (يخاطب هنا الجني المخلوق من لهب) حم كهوب كهوب الذي سخّر كل شيء إلا ما سخّرتَ لي قلوب عبادك أجمعين من الجن والإنس واجلب خواطرهم. بسوسم سوسم دوسم حوسم يراسم كاهٍ بركاه آل شدّاي توكل يا عنقود وَيَنْقُود وياعبد النار بعقد ألسنة الناس أجمعين"إه‍ صـ128. المصدر: حجة المؤمن على من اعتقد أن فرعون مؤمن لمنصور بن سليمان الحمدوني ـ الاعتقاد بأنه بإمكان الصوفي رؤية الله في الدنيا، وذلك برفع حُجُب الكائنات عن قلبه. يقول عبد القادر: "المؤمن العارف له عينان ظاهرتان، وعينان باطنتان، فيرى بالعينين الظاهرتين ما خلق الله عز وجل في الأرض، ويرى بالعينين الباطنتين ما خلق الله عز وجل في السماوات، ثم يرفع الحجب عن قلبه، فيراه، فيصير مقرّباً" (1).ـ ذم الآخرة وطلاّبها، بزعم أن مقصود الصوفية هو الوصول إلى الامتزاج بالوجود الإلهي، إذ يقول الجيلاني: "شجاعة الخواص (أي الصوفية) في الزهد في الدنيا والآخرة" (2). ويقول أيضا "اخلع نعليك: دنياك وآخرتك، وتجرد عن الأكوان، وافن عن الكل، وتطيب بالتوحيد" المصدر: موقع الراصد نت   (1) ((الفتح الرباني)) لعبد القادر الجيلاني. (2) ((فتوح الغيب)) لعبد القادر الجيلاني. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 340 المطلب الثاني: اعتقاد القادرية بعقيدة الحلول والحقيقة المحمدية ويمضي في الغوثية-المنسوبة لشيخ القادرية- صـ5 فيقول: "ثمّ قال لي (أي الله): يا غوث الأعظم ما ظهرتُ في شيء كظهوري في الإنسان"إه‍. وهذا صريح في الحلول والوحدة والاتحاد، أي أنّ الإنسان أكمل مظهر تعيَّن فيه الرب. "ثمّ سألت يا ربِّ من أي شيءٍ خلقت الملائكة؟ قال لي يا غوث الأعظم خلقت الملائكة من نور الإنسان وخلقت الإنسان من نوري"إه‍. وهذا كفر لأنّه مصادم للقرآن وما عُلم ضرورة من دين الإسلام. قال تعالى: وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ [السجدة: 7]. وقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ [الأنعام: 2]. وقال عزّ مِن قائِل: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ [الروم: 20] وقد علمتَ أنّ الملائكة كانوا مخلوقين يسبحون بحمد الله ويقدِّسونه قبل أن يُخلق آدم، فكيف خُلقوا من نوره!!؟ فأنت مخير بين قول الله وقول الصوفية وإن كان يقصد بهذا الإنسان النبيَ صلى الله عليه وسلم فالنبيُ من ولد آدم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((خُلقت الملائكة من نور، وخُلق الجان من مارج من نار، وخُلق آدم مما وصف لكم)) (1) رواه مسلم. ثم يستطرد الغوث المستوحش: "ثم قال لي: يا غوث الأعظم جعلت الإنسان مطيتي، الإنسان سري وأنا سره لو عرف الإنسان منزلته عندي لقال في كل نفسٍ من الأنفاس: لمن الملك اليوم. ما أكل الإنسان وما شرب وما قام وما قعد وما نطق وما صمت وما فعل فعلاً وما توجَّه لشيءٍ وما غاب عن شيءٍ إلا وأنا فيه ساكنه ومتحركه .. جسم الإنسان وقلبه وروحه ... وكل ذلك ظهرتُ له نفس بنفس لا هو إلا أنا ولا أنا غيره"اهـ وهو صريح في زندقة الاتحاد.   (1) رواه مسلم (2996) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 341 المطلب الثالث: إلغاء مسألة الثواب والعقاب عند القادرية والصوفية عامّة وأنه لا فرق بين الجنة والنار ولا بين الطائع والعاصي ثم قال القادري في الفيوضات صـ7 مفترياً على الله أنه أوحي إلى شيخهم عبد القادر: "ثمّ قال لي (أي الله): لا ألفة ولا نعمة في الجنان بعد ظهوري فيها ولا وحشة ولا حرقة في النار بعد خطابي لأهلها"اهـ. وكيف لا يكون في النار حرقة والله يقول لأهلها: اخسئوا فيها ولا تكلمون. وهذا إلغاء لمسألة العقاب والثواب. وليس ذا بمستنكر عند الصوفية طالما أن الكل عين واحدة هي الله فالجنة والنار سواء والمسلمون والكافرون وموسى وفرعون سواء وكلهم مرحومون إذ هم جميعاً عابدون لله بل هم الله، وقد مرَّ قول ابن عربي: (أما أهل النار فمآلهم إلى النعيم)، وقول الباني والحسُّون: (إن أهل النار يتلذذون فيها). ولمّا كان الأمر كذلك فلا فرق بين الطاعة والمعصية بل المعصية -عندهم- أفضل، يقول القادري في كتابه المذكورصـ11: "ثم قال لي-أي الله- يا غوث الأعظم ما بعد عني أحدٌ من أهل المعاصي وما قرب أحدٌ مني من أهل الطاعات، وأهل الطاعات محجوبون بالطاعات. بشِّر المذنبين بالفضل والكرم وأنا بعيد من المطيع إذا فرغ من الطاعات (1) ثم قلت: أي عمل أفضل عندك؟ قال: العمل الذي ليس فيه سوائي من الجنة والنار وصاحبه عنه غائب"اهـ. وهذا المعنى معروف لدى الصوفية فمن الشرك -عندهم- طلب الجنة والخوف والتعوُّذ من النار لأنّ المنشود -عندهم- هو الاتحاد بالله وحلوله بهم، وربّما تلطّفوا فأوهموا قارئ بعض عباراتهم أنّ المقصود رضى الله وحبه فينقلون في كتبهم كثيراً عن امرأة ناقصة عقل ودين (1) قولها: "ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك" مع أنّه مخالف للقرآن وما كان عليه الأنبياء الذين هم أشد حبّاً لله قال تعالى في وصفهم: وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء: 90]. وقال سبحانه: قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام: 15] وقال تبارك اسمه: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 16]، وقال تعالى حاكياً عن السحرة الذين آمنوا بموسى: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا [طه: 73]، وأخبرنا سبحانه أنّ من صفات عباد الرحمن أنّهم يقولون: رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [الفرقان: 65]، وقال سبحانه في وصف المحسنين: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة: 16] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدندن في صلاته حول طلب الجنة والتعوذ من النار كما في حديث الفتى الأنصاري ((الذي خاصم معاذاً رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لمّا أطال معاذ الصلاة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم وأنت ماذا تقول في صلاتك يا ابن أخي؟ فقال الفتى: أمّا أنا فأسأل الله الجنة وأعوذ به من النار ولا أفهم دندنتك ودندنة معاذ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حولها ندندن)). الحديث (1). المصدر: حجة المؤمن على من اعتقد أن فرعون مؤمن لمنصور بن سليمان الحمدوني   (1) رواه أبو داود (792) وابن ماجه (910) والحديث سكت عنه أبو داود، وقال النووي في ((خلاصة الأحكام)) (1/ 443) إسناده صحيح، وصححه ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/ 226) وصححه الألباني. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 342 المطلب الرابع: اعتقادهم أن الولي يقول للشيء كن فيكون ومن العقائد التي تضمنتها الغوثية التي زعم القادرية في كتابهم (الفيوضات الربّانية) (ص7) أن الله أوحاها إلى شيخهم عبد القادر الجيلاني ويتفق عليها جميع الصوفية قوله: "ثمّ قال لي (أي الله) ياغوث الأعظم: الفقير (أي الصوفي) له أمر في كل شيء إذا قال لشيءٍ كن فيكون".اهـ وهذا سلب صفة خاصة بالله وحده قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82]. ولا يخفى أنّ مشاركة أحد له سبحانه في هذه الخصوصية لا تبقي للآية فائدة، ولا شكّ أنّ من اعتقد هذا فقد كفر. وقد كرر القادري هذا المعنى فقال من قصيدة: "وأمري أمر الله إن قلت كن يكن"اهـ (ص 48) من (الفيوضات الربانية للطريقة القادرية) لمؤلفه إسماعيل القادري. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 343 المطلب الخامس: دعوة القادرية الناسَ إلى عبادة شيخهم وطلب الحاجات منه والاستغاثة به من دون الله لقد غفل المبتدعة عن كل السنن والضوابط التي تحفظ لهم دينهم، وتقحّموا في مهاوي الضلال والوثنية، وليت أن الأمر وقف عندهم، بل عملوا على استدراج النساء والسذَّج والبسطاء من المسلمين، حتى أصلوهم في هذه المهالك، فبعد أن زوَّقوا أوثانهم، وأحكموا بناءها-ضاربين بتعاليم نبيهم عرض الجدار- دأب أرباب الطرق وسدنة القبور والأضرحة على دعوة الناس إليها بصنوف الترغيبات فنسبوا إلى هذه الأوثان خوارق العادات، وكواشف الملمات، ليغروا الناس بالقدوم إليها والعكوف عليها، ولا زالوا يغلون فيها حتى أضفوا على مقبوريهم صفات الربوبية، من تصرف وتدبير، وخفض ورفع، وإعطاء ومنع، وتنافست الطرق في إسباغ هذه الصفات على أربابها وأوثانهم فمن ذلك ما تنسبه الطريقة القادرية إلى شيخها عبد القادر الجيلاني، قوله في قصيدة سمّوها (الوسيلة): ضريحي بيت الله من جاء زاره يهرول له يحظى بعزٍ ورفعة وأمري أمر الله إن قلت كن يكن وكلٌ بأمر الله فاحكم بقدرتي وعاينتُ إسرافيل واللوح والرضا وشاهدت أنوار الجلال بنظرتي وشاهدت ما فوق السماوات كلها كذا العرش والكرسي في طي قبضتي وناظرٌ ما في اللوح من كل آيةٍ وما قد رأيت من شهود بمقلةِ ولولا رسول الله بالعهد سابقاً لأغلقت بنيان الجحيم بعظمتي مريدي تمسَّكْ بيْ وكن بيَ واثقاً لأحميك في الدنيا ويوم القيامة توسَّلْ بنا في كل هول وشدةٍ أغيثك في الأشياء طراً بهمتي ثم يستمر الشيخ -فيما نسبوه إليه- في إضفاء صفات الله على نفسه، ثم يصرح بحلول الله فيه واتحاده به، ويبوح بوحدة الوجود، وأنه هو الله وأنه موجود منذ الأزل، فاسمعه يقول: وسري سرُّ الله سارٍ بخلقه ودُقتْ لي الكاسات في الأرض والسما ذراعي من فوق السماوات كلها وأعلم نبات الأرض كم هو نابت وأعلم علم الله أحصي حروفه ملكت بلاد الله شرقاً ومغرباً ولي نشأةٌ في الحب من قبل آدم أنا كنت في العليا بنور محمد أنا كنت مع نوح أشاهد في الورى أنا كنت مع يعقوب في عشو عينه أنا الذاكر المذكور ذكراً لذاكرٍ أنا الواحد الفرد الكبير بذاته فلذ بجنابي إن أردت مودتي وأهل السما والأرض تعرف سطوتي ومن تحت بطن الحوت أمددت راحتي وأعلم رمل الأرض كم هو رملةِ وأعلم موج البحر كم هو موجةِ وإن شئتُ أفنيت الأنام بلحظتي وسرِّي سرى في الكون من قبل نشأتي وفي قاب قوسين اجتماع الأحبة بحاراً وطوفاناً على كف راحتي وما برئت عيناه إلا بتفلتي أنا الشاكر المشكور شكراً بنعمتي أنا الواصف الموصوف شيخ الطريقة ولديهم استغاثة بالشيخ تسمى الاستعانة، يظهر فيها جلياً اعتقادهم أن الشيخ هو الله: "يا سلطان العارفين، يا باز الأشهب، يا فارج الكرب، ياغوث الأعظم، يا واسع اللطف والكرم، يا كنز الحقائق، يا معدن الدقائق، يا صاحب الملك والملوك، يا هاوي النسيم، يا محيي الرميم، يا مبدي جمال الله (أي هو صورة الله المصغَّرة) يا راحم الناس، يا مذهب البأس، يا مفتاح الكنوز، يا كعبة الواصلين، يا قوي الأركان، يا مجلي الكلام القديم، يا نار الله الموقدة (صح)، يا حياة الأفئدة يا مقصود السالكين، يا قاضي القضاة، يافاتح المغلقات، يا كافي المهمات، يا ضياء السماوات والأرضين، يا غافر الأوزار، يا إمام الأئمة، يا كاشف الغمة، يا من ظهر سره في الدنيا والآخرة، يا شاهد الأكوان بنظره، يا مبصر العرش بعلمه، يا قطب الملائكة والإنس والجن، ياقطب العرش والكرسي واللوح والقلم ... إلخ هذا الكفر والهذيان"إهـ. انظر (الفيوضات القادرية/194). المصدر: حجة المؤمن على من اعتقد أن فرعون مؤمن لمنصور بن سليمان الحمدوني الجزء: 8 ¦ الصفحة: 344 المبحث التاسع: الخلوة المرحلة النهائية للوصول وهذه المرحلة من السلوك عندهم تأتي رتبة عالية، حيث هي المرحلة الأخيرة لحصول الفتح والكشف عن الحقيقة التي هي ثمرة الرحلة الصوفية، ولا يستطيع تخطي هذه المرحلة بزعمهم إلا من أضيئت بصيرته وأزيحت عنه الأستار، وتوارت عنه الحُجُب، فيرى ما يرى مما يغيب عن الورى. وخلاصة ذلك: أن يجلس المريد في عزلة عن الناس وحده أو مع بعض المريدين. وكان من حظي أن دخلت هذه الخلوة مع بعض المريدين، وهي عبارة عن كهف "مغارة" صائماً للنهار قائماً لليل بذكر لفظ الجلالة - الله. وخلال هذه الفترة التي كانت تقارب - أسبوعاً - لم أجد شيئاً مما يصفونه أو يتخيلونه، مما يخيله الشيطان أو تصوره الأوهام، فلم ينكشف لي الحجاب ولم أرَ شيئاً، لا نوراً يخطف الأبصار ولا أمراً تنكشف به الأسرار، بل خرجت من هذه الخلوة - بتوفيق الله - مجهد الجسم لقلة الطعام وموالاة الصيام، والسهر المضني، قلق البال، حائر الفؤاد، صفر اليدين، من الفتوحات الّلاتي يدَّعونها. أما في اصطلاح الشيخ فلم يحن الوقت للفتوح بعد، ويتم إعلان النتيجة فيما بعد (مَحْجُوب)!! وأما بعض من كان معي فخرج ليخبر الشيخ بما رأى وما حصل له من المشاهدات والكرامات والأنوار والأسرار، مما يجعل الشيخ يعطيه وصف الأبرار - فيصبح عارفاً بالله - واصلاً، فُتِحَ عليه، ويَعزي الشيخ هذه النتيجة إلى أن فلاناً يصلح للولاية، وفلاناً لا يصلح، مع أنَّ الكل يأخذ بنفس الأسباب ولا يصلون إلى النتيجة الواحدة، مما يشكك المريدين المحجوبين بالعدل الإلهي - حاشا لله وكلا -: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف: 76]. مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [النساء: 79]، فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل: 5 - 10]. وهكذا تسبب هذا الشيخ للمريد المحجوب بالشرود والحيرة والقلق والاضطراب والتشكيك، مما يؤدي ببعض المريدين إلى الحقد والكراهية أو إلى مستشفيات الأمراض النفسية أو حتى إلى الجنون، ولقد وجدت بعض هؤلاء المريدين يشكو حاله، وانشغال باله مما أحدثوا فيه من تناقضات واختلافات وهكذا الباطل يحدث في أهله. قال الله تعالى عن القرآن: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء: 82]. فالنتيجة الحتمية لمن لم يسلك طريق الأنبياء هي الزَّيغ والانحراف: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5]، ففتحت عليهم أبواب الضلالة وحرموا من الهداية. والله سبحانه قال عن رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم-: وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور: 54]، وقال سبحانه: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور: 56]. وقال سبحانه: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ [آل عمران: 31]. ولذلك حصل لي ما حصل مما يصعب وصفه بسبب سلوكي معهم وذلك بسبب جهلي لطريق الحق لقلة أهله وندرة السالكين فيه. وهكذا لم يفتح الله عليّ حسب اصطلاحهم، فالحمد لله على توفيقه لي حيث جنَّبني الغواية ووفقني للهداية. المصدر: ذكرياتي مع الطريقة القادرية لنزيه بن علي آل عرميطي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 345 المبحث العاشر: تحريفهم لمعاني النصوص وهكذا أهل هذه الطرق يُحرِّفون النصوص عن معناها الصحيح ليستدلوا على باطلهم: يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ إني يُؤْفَكُونَ [التوبة: 30]. ومن الأمثلة على ذلك استدلالهم بقول الله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99]، قالوا: اليقين هو المعرفة والوصول. وفي التفاسير المعتمدة عند المسلمين: اليقين هنا الموت (1). قال الله تعالى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر: 42 - 47]، أي: الموت. فمعنى ذلك عندهم أن محمداً- صلى الله عليه وسلم- لم يصل إلى درجة اليقين التي يعنونها لأنه - صلى الله عليه وسلم- ما انقطع عن عبادة ربه حتى موته - صلى الله عليه وسلم-. أما هؤلاء فقد عبدوا الله زمناً ثم حصل لهم اليقين على حد زعمهم فتركوا العبادة لأنهم وصلوا!!! وهم يُصرحون بذلك كما قال الشيخ لنا مرة يُردد قول من سبقه من أهل الضلال: "نحن خضنا بحراً وقفت الأنبياء على شاطئه" المصدر: ذكرياتي مع الطريقة القادرية لنزيه بن علي آل عرميطي   (1) (([14060] ((تفسير ابن كثير)) (2/ 560). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 346 المبحث الحادي عشر: زعم شيخ الطريقة القادرية باليمن أن النبي صلى الله عليه وسلم يوزع "القات" جاء في كتاب (الدرة الفريدة) للشيخ أحمد عثمان مطير شيخ الطريقة القادرية في محافظة الحديدة باليمن قال: وبمناسبة ذكر القات أنقل ما ذكره الكاتب شيخي العلامة أحمد عبد الباري عاموه ـ رحمه الله تعالى ـ قال ما لفظه: (فائدة) نُقل عن الشيخ الكبير عبد القادر الجنيد أنه نام ذات ليلة فرأى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وبين أيديهم شيء من القات، قال: فناولني النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من القات، ففزعت من النوم وأنا قابض على القات في يدي، ومعي ندم عظيم لما لم أسأله عن فائدة القات، فرجعت إلى منامي فرأيته صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه على ما هم عليه فسألته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عبد القادر إنه نزل به جبريل الآن! يا عبد القادر كُلْ مِنْه فإن آكله لا ينطق إلا بالصواب. وكانت الرؤيا في سنة 953 هـ قال شيخنا: ورؤيتُهُ صلى الله عليه وسلم حقٌ ومن رآه مناماً فكأنما رآه يقظة" اهـ. (1). المصدر: الدرة الفريدة في تاريخ محافظة الحديدة لأحمد عثمان مطير - ص 41 - طبعة دار المصباح -اليمن   (1) (([14061] من كتاب: ((الدرة الفريدة في تاريخ محافظة الحديدة)) صفحة (41) طبعة دار المصباح (الحديدة اليمن). مؤلف الكتاب: أحمد بن عثمان مطير؛ يقولون في ترجمتهم له في بداية كتابه المذكور آنفاً: صاحب الفنون الكثيرة والعلوم الغزيرة الشاعر الأديب الحافظ النحوي والأصولي الفرضي والفقيه الألمعي!! من شيوخ الطريقة القادرية في محافظة الحديدة في زمانه، وكما ذكر هو في هذا الكتاب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 347 المبحث الثاني عشر: من أوراد الطريقة القادرية ... الاسم الثالث (هو)، عدد تلاوته أربعة وأربعون ألفاً وستمائة مرة، وتوجهه: يا من هو الله لا إله إلا أنت هو هو هو، إلهي حقق باطني بسر هويتك، وأفن مني أنانيتي إلى أن تصل إلى هوية ذاتك العلية، يا من ليس كمثله شيء، أفنِ عني كل شيء غيرك، وخفف عني ثقل كثائف الموجودات، وامحُ عني نقطة الغيرية لأشاهدك ولا أدري غيرك، يا هو يا هو يا هو، لا سواك موجود، لا سواك مقصود، يا وجود الوجود (1). ومن أورادهم أيضاًالحمد لله الذي كيَّف الكيْف، وتنزه عن الكيفية، وأيَّن الأيْن وتعزز عن الأينية، ووُجد في كل شيء وتقدس عن الظرفية، وحضر عند كل شيء وتعالى عن العندية (2).- ومنها: .. يا أول كل شيء، ويا آخر كل شيء، ويا ظاهر كل شيء، ويا باطن كل شيء (3) - أقول: هذا مثل قولهم: (وما الكلب والخنزير إلا إلهنا)، و (ولا يهولنك صدور الكائنات الدنسية من سنخ القدوسية)، وغيرها.- ومنها: .. إلهنا فطهر قلوبنا من الدنس لنكون محلاً لمنازلات وجودك، وخلصنا من لوث الأغيار لخالص توحيدك، حتى لا نشهد لغير أفعالك وصفاتك وتجلي عظيم ذاتك (4).- ومنها: .. رباه رباه غوثاه، يا خفياً لا يظهر، يا ظاهراً لا يخفى، لطُفَتْ أسرار وجودك الأعلى فتُرى في كل موجود، وعلت أنوار ظهورك الأقدس فبدت في كل مشهود (5).- ومنها: .. رب أشهدني مطلق فاعليتك في كل مفعول حتى لا أرى فاعلاً غيرك، لأكون مطمئناً تحت جريان أقدارك، منقاداً لكل حكم ووجود عيني وغيبي وبرزخي، يا نافخاً روح أمره في كل عين، اجعلني منفعلاً في كل حال لما يحولني عن ظلمات تكويناتي، وألحق فعلي وفعل الفاعلين في أحدية فعلك (6). ومن أورادهم أيضاًإلهي عم قِدَمُك حَدَثي ولا أنا، وأشرق سلطان نور وجهك فأضاء هيكل بشريتي فلا سواك، فما دام مني فبدوامك، وما فني مني فبرؤيتي إليك، وأنت الدائم لا إله إلا أنت، أسألك بالألف إذا تقدَّمَتْ، وبالهاء إذا تأخرت، وبالهاء مني إذا انقلبت لاماً، أن تفنيني بك عني، حتى تلتحق الصفة بالصفة، وتقع الرابطة بالذات (7). - أقول: (الألف إذا تقدَّمَتْ، والهاء إذا تأخرت، والهاء مني إذا انقلبت لاماً)، هذا لغز أرجو من القارئ أن يتسلى بحله قبل قراءة هذا الحل في السطور التالية. الحل: أمامنا في هذا اللغز ثلاثة عناصر: الألف المتقدمة، والهاء المتأخرة، واللام (المنقلبة عن الهاء منه)؟ بما أن الألف متقدمة والهاء متأخرة، إذن، فاللام متوسطة بينهما، ويكون اللغز هو كلمة (إله).   (1) ((الفيوضات الربانية في المآثر والأوراد القادرية))، (ص: 16). (2) ((الفيوضات الربانية)) (عقيدة الغوث الأعظم)، (ص: 41). (3) ((الفيوضات)) (ورد الصبح)، (ص: 115). (4) ((الفيوضات)) (ورد العشاء)، (ص: 138). (5) ((الفيوضات)) (ورد الاثنين)، (ص: 143). (6) ((الفيوضات)) (ورد الاثنين)، (ص: 144). (7) ((الفيوضات)) (ورد الأربعاء)، (ص: 145). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 348 ويحوي هذا اللغز لغزاً آخر هو قوله: (والهاء مني)، التي يعني بها: الهاء من الضمير (هو) العائد عليه. وأترك للقارئ التسلي بتحليله وإلى ماذا يشير؟ - ومن أورادهم: ... يا هو يا الله (ثلاثاً) لا إله غيرك، أسقنا من شراب محبتك، وأغمسنا في بحار أحديتك، حتى نرتع في بحبوحة حضرتك، وتقطع عنا أوهام خليقتك (1).- ومنها: اللهم صل وسلم على من له الأخلاق الراضية ... الأنيس بك والمستوحش من غيرك، حتى تمتع من نور ذاتك، ورجع بك لا بغيرك، وشهد وحدتك في كثرتك (2).- ومنها: ... وطهِّرنا من قاذورات البشرية، وصفّنا بصفاء المحبة الصديقية من صدأ الغفلة ووهم الجهل، حتى تضمحل رسومنا بفناء الأنانية ومعاينة الطمسة الإنسانية في حضرة الجمع، والتحلية، والتحلي بألوهية الأحدية، والتجلي بالحقائق الصمدانية في شهود الوحدانية، حيث لا حيث ولا أين ولا كيف، ويبقى الكل لله وبالله ومن الله وإلى الله ومع الله غرقاً بنعمة الله في بحر منة الله (3).- ومنها: ... صلاةً هو لها أهل، صلاة تفرّج بها عنا هموم حوادث عوارض الاختيار، تمحو بها عنا ذنوب وجودنا بماء سماء القربة، حيث لا بين ولا أين ولا جهة ولا قرار، وتفنينا بها عنا في غياهب غيوب أنوار أحديتك، فلا نشعر بتعاقب الليل والنهار، وتحولنا بها سماح رياح فتوح حقائق بدائع جمال نبيك المختار، وتلحقنا بها أسرار ربوبيتك في مشكاة الزجاجة المحمدية، فتضاعف أنوارنا بلا أمد ولا حد ولا إحصار (4) ومن أورادهم أيضاً ... وأيدني اللهم عند شهود الواردات بالاستعداد والاستبصار، وأفض علي من بحار العناية المحمدية والمحبة الصديقية ما أندرج به في ظُلَم غياهب عيون الأنوار، واجمعني واجعل لي بين سرِّك المكنون الخفي والاستظهار، واكشف لي عن سر أسرار أفلاك التدوير في حواشي التصوير، لأدبركل فلك بما أقمته من الأسرار، واجعل لي الحظ الخطير الممدود القائم بالعدل بين الحرف والاسم، فأحيط ولا أُحاط، بإحاطة: لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] (5). الرجاء الانتباه بإمعان إلى الجملة (فأحيط ولا أُحاط .. )! وبأي إحاطة؟! بإحاطة: لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16]!! وفهمكم كفاية. المصدر: الكشف عن حقيقة الصوفية لمحمود عبد الرءوف القاسم – ص 242   (1) ((الفيوضات)) (ورد صلاة الكبرى)، (ص: 158). (2) ((الفيوضات)) (ورد صلاة الكبرى)، (ص: 158). (3) ((الفيوضات)) (ورد صلاة الكبرى)، (ص: 167). (4) ((الفيوضات))، (ص: 177). (5) ((الفيوضات))، (حزب الحفظ)، (ص: 183، 184). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 349 المبحث الثالث عشر: مخالفات الطريقة القادرية للشريعة الإسلامية المخالفة الأولى: - الشيخ الجيلاني يصرح بأنه هو الواحد والصمد وهما من أسماء الله تعالى وأصحاب الطريقة القادرية يؤيدون ذلك، جاء في كتاب الفيوضات الربانية في المآثر والأوراد القادرية ص 47 "قال الشيخ في الشطح والتوقير (أنا الذاكر المذكور ذكرًا لذاكر، أنا الشاكر المشكور شكرا بنعمه، أنا السامع المسموع في كل نعمه، أنا الواحد الفرد الكبير بذاته، أنا الواصف الموصوف شيخ الطريقة) " والرد على هذا الكفر والإلحاد واضح من كتاب الله تعالى. وتكذيبه من أوجب الواجبات على كل مسلم لقوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَد [الإخلاص: 1 - 4] ولقوله تعالى: إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ [النحل: 22] المخالفة الثانية الشيخ الجيلاني يزعم أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء وكان مع نوح زمان الطوفان وكان مع إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وأنه أطفأ النار بدعوته!! وأصحاب الطريقة القادرية يؤيدون ذلك، جاء في كتاب (الفيوضات الربانية في المآثر والأوراد القادرية) (ص 47) قال الشيخ"أنا كنت في العليا بنور محمد وفى قاب قوسين عند اجتماع الأحبة، أنا كنت مع نوح أشاهد في الورى بحاراً وطوفاناً على كف قدري. وكنت مع إبراهيم ملقى بناره وما برّد النيران إلا بدعوتي" والرد على ذلك الافتراء واضح وجلي من حيث البعد التاريخي بين الجيلاني وأولئك الأنبياء وهذه حقيقة لا تقبل الجدل ثم ادعائه أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في قاب قوسين فهذا يكذبه صريح النص القرآني فالآية تقول فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [النجم: 9] وذلك بصيغة المفرد فلو كان الجيلاني معه لتغيّر اللفظ إلى صيغة المثنى وصار (فكانا قاب قوسين أو أدنى) مما يتضح الكذب. أما عن ادعائه أنه كان مع إبراهيم عليه السلام في النار فأيضاً يكذبه صريح النص القرآني فالآية جاءت بصيغة المفرد قال تعالى قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ [الأنبياء: 68] فلو كان الجيلاني معه كما يزعم لتغير اللفظ إلى صيغة المثنى فكان (حرقوهما وانصروا آلهتكم .. ) فبينت بطلان ادعائه. أما عن ادعائه أن النار أطفأت بدعوته فيكذبه صريح قوله تعالى قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء: 69] ولذا يتضح ذلك الزيف والضلال. المخالفة الثالثة: - يزعم الجيلاني أن ضريحه بيت الله لمن جاء زائراً وأصحاب الطريقة القادرية يؤيدون ذلك، جاء في كتاب الفيوضات الربانية في المآثر والأوراد القادرية ص33 في الوسيلة "ضريحى بيت الله من جاء زاره، يهرول له يحظى بعز ورفعة" والرد على ذلك الكفر أنه يدعو لعبادته حياً وميتاً وذلك لأن الطواف عبادة وتصرف لله ولا تكون إلا ببيت الله الحرام قال تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج: 29] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في معنى قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [البقرة: 257] الطواغيت كثيرون ورؤوسهم خمس: إبليس، ومن عُبد وهو راض، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه، ومن ادعى شيئاً من علم الغيب، ومن لم يحكم بما أنزل الله. المخالفة الرابعة: - الجزء: 8 ¦ الصفحة: 350 الجيلاني يزعم أن أمره أمر الله وأنه يعلم عدد نبات الأرض وعدد أمواج البحر ويعلم عدد رمل الأرض، ويعلم علم الله ويحصي حروفه!!! وأصحاب الطريقة القادرية يؤيدون ذلك، جاء في كتاب (الفيوضات الربانية في المآثر والأوراد القادرية) (ص33 - 36) (قال الشيخ في الوسيلة: "وأمري أمر الله إن قلت كن يكن وكل بأمر الله أحكم بقدرتي. وأعلم نبات الأرض كم هو نابت. وأعلم رمل الأرض كم هو رملة، وأعلم علم الله أحصي حروفه، وأعلم موج البحر كم هو موجة") والرد على ذلك الكفر أوضح من الشمس في رابعة النهار، أما عن ادعائه أن أمره أمر الله فذلك يكذبه قوله تعالى إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82]، وقوله تعالى وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُّبِينًا [الأحزاب: 36] أما عن ادعائه أنه يعلم عدد نبات الأرض وعدد رمل الأرض وعدد موج البحر فيكذبه قوله تعالى وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [الأنعام: 59]. أما عن ادعائه أنه يعلم علم الله ويحصي حروفه فيكذبه قوله تعالى قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف: 109]، ويكذبه صريح قوله تعالى: قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل: 65] المخالفة الخامسة: - الجيلاني يزعم أنه يحمي أتباعه في الدنيا ويوم القيامة من كل شر ويدعوهم للاستغاثة به!، وأصحاب الطريقة القادرية يؤيدون ذلك، جاء في كتاب (الفيوضات الربانية في المآثر والأوراد القادرية) (ص47) (قال الشيخ في (الوسيلة): مريدي لك البشرى تكون على الوفاء ... إذا كنت في هم أغثك بهمتي مريدي تمسك بي وكن بي واثقاً ... لأحميك في الدنيا ويوم القيامة أنا لمريدي حافظ مما يخافه ... وأنجيه من شر الأمور وبلوة وكن يا مريدي حافظاً لعهد وما ... أكن حاضر الميزان يوم الوقيعة والرد على ذلك الكفر والافتراء من وجوه: الأول: كيف يدعو الجيلاني أتباعه أن يستغيثوا به وقد قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ((إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله)) (1) رواه الترمذي، فدعاء أي مخلوق من دون الله كفر وضلال والدليل على هذا قوله تعالى وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف5: -6].   (1) رواه الترمذي (2516) وأحمد (1/ 303) (2763) وأبو يعلى (2556) والحاكم (3/ 623) (6303) قال الترمذي حسن صحيح وصححه الألباني. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 351 الثاني: كيف يزعم الجيلاني أنه يحمي أتباعه من كل شر وبلوى في الدنيا ويوم القيامة وقد قال تعالى في الرد على ذلك الإفك قل ادعو الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا [الإسراء: 56]، وقال تعالى: وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ [الأنعام: 17]، وقال تعالى: وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ [يونس: 106]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((واعلم لو أن الأمة اجتمعت على أن ينفعوك لا ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رُفعت الأقلام وجفّت الصحف)) (1) رواه الترمذي. ثم إن أفضل الخلق هو النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً قال تعالى قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًاً [الجن: 21 - 22]، وقال تعالى: قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد: 16]. أما في ادعائه بأنه يحمي أتباعه ومن تمسك به يوم القيامة يكذب قوله تعالى يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار: 19]. وقال تعالى يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان: 33]. وقال تعالى يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج: 1 - 2] وقال تعالى قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام: 12]. أما عن ادعائه بأنه يكون حاضراً عند الميزان كى ينجو مريده فيكذبه حديث عائشة رضي الله عنهاأنها قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يذكر أحدٌ أحدا يوم القيامة فقال: ((أما في ثلاثة مواضع فلا يذكر أحد أحدا، عند تطاير الصحف وعند الصراط وعند الميزان حتى يعلم أيثقل ميزانه أم يخف)) (2) رواه أحمد. المخالفة السادسة: -   (1) رواه الترمذي (2516) وأحمد (1/ 293) (2669) والطبراني (11440) قال الترمذي حسن صحيح، وحسنه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 327) وقال أحمد شاكر إسناده صحيح، وصححه الألباني. (2) رواه أبو داود (4755) وقال ابن حجر في ((هداية الرواة)) (5/ 174) منقطع، والحديث ضعفه الألباني. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 352 إنّ أصحاب الطريقة القادرية يتعبدون بالكفر والضلال والأباطيل جاء في كتاب (الفيوضات الربانية) في المآثر والأوراد القادرية ص32 "إذا وقع لك هم أخطو أحد عشر خطوة إلى جهة العراق وتقول في الأول يا شيخ محيي الدين وفي الثانية يا سيدي محيي الدين وفي الثالثة يا مولانا محيي الدين وفي الرابعة يا مخدوم محيي الدين وفي الخامسة يا درويش محيي الدين وفي السادسة يا خواجة محيي الدين وفي السابعة يا سلطان محيي الدين وفي الثامنة يا شاه محيي الدين وفي التاسعة يا غوث محيي الدين وفي العاشرة يا قطب محيي الدين وفي الحادية عشر يا سيد السادات عبد القادر محيي الدين ويا شيخ الثقلين أغثني " وهذا كفر واضح بدعائه غير الله وقد سبق بيانه، ثم إنه بدعة وتبديل لشرع الله ويكفي العمل بموجب صلاة الاستخارة التي علمناها من النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح الإمام مسلم. المخالفة السابعة: - أباطيل وبدع وضلالات في أوراد وأذكار الطريقة القادرية، جاء في كتاب (الفيوضات الربانية) في المآثر والأوراد القادرية ص135،ورْد دعوة الجلالة تقرأ (دعوة الجلالة) 166 و17، وبعد القراءة تقسم عليها بهذا القسم وهو محضرة الغوث الأعظم والقطب المعظم الشيخ محيي الدين عبد القادر الجيلاني (اللهم أسألك بسر سر هو أنت وعدت به أهل الذكر فهو من مريه ذاهل اتيوتغ املولخ بّ أى آمن أى امى مهياش طهفليوش انقطع الرجاء واغوثاه العمل)، وفي صفحة 144 في أوراد تقرأ عند المهمات وذكرها الشيخ في كتابه (الغيثة) (قلبي قطبي وقالبي لبناني في سرى خضري وعليه عرفاني ماروت عقلي وكليمي روحي فرعوني نفسي والهوى مائي تسع مرات أو ست مرات) وفي ص84 في الفيوضات الربانية والأوراد القادرية 25 ورد الظهر نقول (يا الله بصعع بصعع والباء بهبوب هبوب أو النور السام بسهسهوب سهسهوب ذي الفر الشامخ مطهطهوب هطوب يا الله يا الله كهوب كهوب كهوب بي.) والرد على ذلك الكفر والضلال أن ذلك من جنس تلبيس الحق بالباطل وقد قال تعالى وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 42]، فالذكر عبادة ولكن يتعبد بها على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس على طريقة الجيلاني ولا غيره حتى تلك الأذكار يجمع فيها بين اسم الله وأسماء الشياطين ويسمى بها الله وقد قال تعالى وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الاعراف: 180]، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من البدع والمبتدعين وذلك في قوله ((إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)) (1) أبو داود والبيهقي وعن ابن عباس رضي الله عنه ((من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) (2) الطبراني، ونعوذ بالله من الخذلان والكفر بعد الإيمان، ونسأل الله السداد والهدى وأن يثبت قلوبنا على دينه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. المصدر: الطريقة القادرية لمحمد مصطفى عبد القادر   (1) بهذا اللفظ غير موجود كاملا، فقد رواه بدون الشطر الأخير الحاكم (1/ 176) (332) وابن أبي عاصم في ((السنة)) (25) وصححه الألباني، والشطر الأخير رواه النسائي (1578) من حديث جابر رضي الله عنه، وصححه الألباني. (2) رواه أبو داود (4530) والنسائي (4734) وأحمد (1/ 119) (959) والبزار (1/ 421) وأبو يعلى (338) والبيهقي (8/ 29) والحديث صححه الألباني. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 353 المبحث الرابع عشر: الانتشار ومواقع النفوذ تنتشر القادرية في العراق ومصر وتركيا واليمن والصومال والهند والمغرب وغرب السودان وبعض بلدان أفريقيا، وتفرعت منها طرق صغيرة، منها: اليافعية والنابلسية والرومية والعروسية (1). ومنها كذلك: الصمادية والرومية والعزيزية والهندية والمقدسية (2). ومنها أيضاً: الأشرفية في تركيا، نسبة لمؤسسها عبد الله الأشرفي الرومي، وتسمى أيضاً: الواحدية (3). ومنها في السودان: الطريقة البكائية، ولها فرعان: الفضيلة، والآل سيدية. والطريقة العركية، وتتركز في مدينتي أبو حراز وطيبة الشيخ عبد الباقي في ولاية الجزيرة، وشيخها الحالي هو أحمد عبد الباقي، وقد خلف والده على مشيخة الطريقة سنة 1992م. وتنسب هذه الطريقة إلى الشيخ عبد الله العركي، المتوفى سنة 1019هـ (1611م). وفيما يتعلق بالطريقة القادرية عموماً، فيعتقد أن الذي أدخلها إلى السودان، تاج الدين البهاري، في القرن العاشر الهجري [. ومنها: البودشيشية، في المغرب، وشيخها الحالي حمزة بن العباس]. ومنها: اليافعية، والمشارعية، والعرابية في اليمن والصومال. ومنها: البناوة، والكرزمر في الهند. ومنها: الخلوصية، والهندية، والنابلسية، والرومية، والوصلنية في تركيا. الكسنزانية، في العراق، وخاصة في مدينة كركوك، وشيخها الحالي هو محمد الكسنزاني، المولود سنة 1358هـ (1938م)، وتنسب الطريقة إلى عبد الكريم الشاه الكسنزان المولود سنة 1240هـ في شمال العراق، وقد انتسب إليها عدد من المسؤولين العراقيين السابقين. كما أنها تعد أصلاً لكثير من الطرق التي نشأت بعدها، كالعدوية (4).، والمدينيّة، والسهروردية، والأكبرية، والمولوية، والرفاعية، والخلوتية (5). ومن فروعها في مصر: 1ـ الفارضية: وتستمد اسمها من أحد مشايخهم المتأخرين، وهو محمد الفارضي، المتوفى سنة 1285هـ. ومقر هذه الطريقة جامع السادة القادرية بالقرافة الصغرى بالقاهرة، وشيخها الحالي: مسعود عبد السلام حجازي. 2ـ القاسمية: وهي الأخرى اشتقت اسمها من أحد شيوخها المتأخرين، وهو قاسم بن حمد الكبير. ومن أقطاب هذه الطريقة الشيخ أحمد بن عبد الحي الأشهب، صاحب بعض المؤلفات مثل: هداية المريد، وهداية السالكين، والنصيحة المرضية. والكتاب الأخير في العقيدة والأوراد القادرية. وشيخ الطريقة الحالي في مصر: حسين أحمد علي القادري. 3ـ الشرعية: واشتق اسمها من استخدام شيخها عبد المنعم القادري، للفظة "الشرعية" في بعض مؤلفاته، مثل: الركائز الإيمانية في أصول مجلس ذكر طريقة السادة القادرية الشرعية. 4ـ النيازية: واشتقت اسمها من الشيخ عبد الرحمن نيازي، المتوفى سنة 1311هـ والذي قدم من تركيا إلى مصر واستوطن بها، وأقام في مدينة الإسكندرية، وهي الآن مقر هذه الطريقة (6). المصدر: موقع الراصد نت   (1) ((الطرق الصوفية للسهلي)) (ص85). (2) ((التصوف والتطرف للرجا)) (ص211). (3) ((الموسوعة الصوفية)) (ص 364). (4) الطريقة التي أسسها عدي بن مسافر، لتتطور فيما بعد إلى الديانة اليزيدية. (5) ((عقيدة الصوفية للقصير)) (ص191). (6) ((الموسوعة الصوفية)) (ص 139ـ 140)، و ((مجلة التصوف الإسلامي)) (العدد 304 ص 48). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 354 المبحث الخامس عشر: فتاوى اللجنة الدائمة في الطريقة القادرية 1 - فتوى اللجنة الدائمة في حكم جمع الناس لقراءة مناقب الشيخ عبد القادر س- ما حكم جمع إنسان جيرانه لقراءة مناقب الشيخ عبد القادر؛ لأنه يؤدي إلى محبة الأولياء ثم يمد له سماطا يقصد إكرام الضيوف؛ عملا بحديث: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه فما حكم ذلك هل هو حرام أو مكروه أو سنة؟ ج- محبة أولياء الله وإكرام الضيف من محاسن الشريعة ومما حث عليه الكتاب والسنة، لكن اتخاذ قراءة مناقب الشيخ عبد القادر أو نحوه وسيلة لمحبة الأولياء واتخاذ مد السماط عادة عند ذلك من البدع التي تفضي إلى الغلو في عبد القادر وأمثاله وقد تنتهي إلى دعائه والاستغاثة به والتوسل بجاهه عند الدعاء، وذلك ممنوع شرعا؛ لأنه إما شرك كالاستغاثة به وإما ذريعة كالتوسل به أو بجاهه إلى الله، ولأنه يقع كثيرا في تراجم من يسمون أولياء من الكذب والأباطيل ما قد يفضي إلى الغلو فيهم، وخير من ذلك أن يجمع معارفه على قراءة القرآن ودراسته وقراءة الأحاديث الصحيحة لمعرفة الأحكام والاتعاظ بذلك. وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الرئيس ... نائب رئيس اللجنة ... عضو ... عضو عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان المصدر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء – 3/ 50 2 - فتوى اللجنة الدائمة في الطريقة القادرية س- يطلب فيه السائل إعطاءه فكرة عن الطائفة القادرية، ويذكر أنه قرأ كتابا من كتب هذه الطائفة يسمى: (الفيوضات الربانية) في المآثر والأوراد القادرية فوجد فيه قصيدة تتضمن دعاوى ومآثر لشيخ الطريقة القادرية فهل ما فيها حق أو باطل؟ وقد أرسل السائل القصيدة مع استفتائه لإفتائه عما فيها. ج- إن القصيدة التي أرسلها المستفتي ليعرف ما فيها هل هو حق أو باطل تدل على أن قائلها جاهل يدعي لنفسه دعاوى كلها كفر وضلال. فيدعي أن كل علوم العلماء مستقاة من علمه وفروع له، وأن سلوك العباد إنما هو بما فرضه وسنه لهم، وأنه يقدر على إغلاق الجحيم بعظمته لولا سابق عهد من الرسول، وأنه يغيث من وفى له من المريدين وينجيه من البلايا ويحميه في الدنيا والآخرة ويؤمنه من المخاوف ويحضر معه الميزان يوم القيامة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 355 فهذه الدعاوى الكاذبة لا تصدر إلا من جاهل لا يعرف قدر نفسه، فإن كمال العلم لله وحده وإن شئون الآخرة ومقاليد الأمور إلى الله وحده لا إلى ملك مقرب ولا إلى نبي مرسل ولا لصالح ما من الصالحين، وقد أمر الله رسوله - وهو خير خلقه - أن يتلو على الأمة قوله تعالى: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188] وقوله تعالى: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الجن: 21] وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألصق الناس به وأقربهم إليه رحما وأولاهم بمعروفه أن ينقذوا أنفسهم من عذاب الله بالإيمان به سبحانه والعمل بشريعته، وأخبرهم أنه لا يغني عنهم من الله شيئًا، وأخبر أن آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى يقول كل منهم يوم القيامة: نفسي، نفسي، فكيف يملك شيخ الطريقة القادرية أو غيره من المخلوقين أن ينجي مريديه وأن يحمي من وفى له بعهده ويغيثه ويحضر معه عند وزن أعماله يوم القيامة؟! وكيف يملك أن يغلق أبواب الجحيم بعظمته؟ إن هذا لهو البهتان المبين والكفر الصراح بشريعة رب العالمين. لقد زاد صاحب هذه القصيدة في غلوه وتجاوز حد الحس والعقل والشرع، فادعى أنه كان بنور محمد قبل أن يكون الخلق، وأنه كان في قاب قوسين اجتماع الأحبة أي مع جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وأنه كان مع نوح عليه السلام في السفينة وشاهد الطوفان على كف قدرته، وأنه كان مع إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وأن هذه النار بردت بدعوته، وأنه كان مع إسماعيل، وأنه ما نزل الكبش إلا بفتواه أو فتوته، وأنه كان مع يعقوب عليه السلام حينما أصيب بصره، وأن عينيه ما برئتا إلا بتفلته، وأنه هو الذي أقعد إدريس عليه السلام في جنة الفردوس، وأنه كان مع موسى عليه السلام حين مناجاته لربه، وأن عصا موسى مستمدة من عصاه، وأنه كان مع عيسى في المهد، وأنه هو الذي أعطى داود حسن الصوت في القراءة، بل ادعى أفحش من ذلك: ادعى أنه هو الله في الأبيات الثلاثة من قصيدته وأصرحها قوله: أنا الواحد الفرد الكبير بذاته أنا الواصف الموصوف شيخ الطريقة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فأي كفر بعد هذا الكفر والعياذ بالله؟. فيا أيها الأخ المستفتي يكفيك من شر سماعه ويغنيك عن معرفة تفاصيل تاريخ وسيرة القادرية ما في قصيدة شيخ هذه الطائفة من البهتان والكفر والطغيان، واجتهد في معرفة الحق من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبيان السلف الصالح من الصحابة وتابعيهم للكتاب والسنة النبوية الصحيحة مع اعتقادنا أن الشيخ عبد القادر الجيلاني الذي تنسب إليه هذه الطريقة بريء من هذه القصيدة براءة الذئب من دم ابن يعقوب، وأتباعه يكذبون عليه كثيرا وينسبون إليه ما هو بريء منه. وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان المصدر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء -3/ 47 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 356 المبحث الأول: التعريف بالبريلوية البريلوية فرقة صوفية نشأت في شبه القارة الهندية الباكستانية في مدينة بريلي في ولاية أوترابراديش بالهند أيام الاستعمار البريطاني. المصدر: الموسوعة الميسرة البريلوية ... نشأت شديدة الانحراف عن الإسلام، ولعله لن يمضي وقت طويل حتى ينسى أتباعها أنهم أتباع طريقة صوفية، وتغدو ديانة جديدة مستقلة، والتشيع فيها واضح المصدر: الكشف عن حقيقة الصوفية لمحمود عبد الرؤوف قاسم ص811 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 357 المبحث الثاني: التأسيس والجذور التاريخية • المطلب الأول: سيرة البريلوي . • المطلب الثاني: أسرته. • المطلب الثالث: وفاته. • المطلب الرابع: مبالغات البريلويين وغلوهم فيه. • المطلب الخامس: مؤلفاته. • المطلب السادس: مخالفته الجهاد والمجاهدين، ومناصرته الاستعمار والمستعمرين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 358 المطلب الأول: سيرة البريلوي ولد قائد هذه الطائف وزعيمها ومؤسس هذا الحزب وبانيه في بيت علمي حيث كان أبوه نقي علي وجده رضا علي يعدّان من العلماء الأحناف (1) في 14 يونيو 1865م الموافق 10 شوال 1272هـ (2) فسمى بمحمد، وأمه سمته أمّن ميان، ووالده أحمد ميان، وجده أحمد رضا (3) ولكنه لم يرض بهذه الأسماء كلها فسمى نفسه عبدالمصطفى (4) وكان يلتزم باستعماله في المكاتبات والرسائل والكتب. ...... وأما البريلويون فيحكون القصص وينسجون الأساطير في إمامهم مثل الطوائف الكثيرة التي يبنون عمائرها على الحكايات الباردة والمختلقات الباطلة لرفع قيمته وشأنه، وإعلاء كلمتهم ودعوتهم مع أن الكذب يجلب الذم والنقيصة بدل الثناء والمديحة، فيقولون: إنه في الرابعة من عمره قرأ القرآن كله، وقبل الرابعة بكثير "يعني في الثالثة أو قبل ذلك" عندما جلس أول مرة لدى أستاذه ليبدأ بالألف والباء بدأ أستاذه ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم علمه ألف، ب، ت إلى أن لقنه بقوله: لام ألف: لا، فسكت البريلوي، فلقنه أستاذه مرة أخرى قل: لام ألف لا، قال البريلوي الطفل: قرأت الألف وقرأت اللام، فلم مرة ثانية؟ فقال له جده رضا علي: يا بني إقرأ كما يعلمك معلمك، فنظر الطفل إلى جده نظرة عرف جده بنور إيمانه من نظرته تلك أن هذا الطفل سيكون شمسا للعلم والحكمة ويجلي العالم بنوره ويريد أن يكشف الأسرار من قلبه وبصره من الآن، فقال: صدقت أنت قرأت الألف واللام مقدما ولكن الألف الذي قرأته سابقا لم يكن ألفا حقيقية بل كانت همزة لأن الألف يكون ساكنا دائما ولا يمكن الابتداء بالساكن لأجل ذلك يؤتى بلام قبله حتى يعرف الألف ويعلم. فالبريلوي الطفل لم يقتنع مرة ثانية وقال: فلم خصص اللام بالابتداء وكان من الممكن أن يبدأ بالباء والتاء والدال والسين، فتحير الجد فقال: بدئ اللام لأنه يتفق بالألف صورة وسيرة (5) - إلى آخر ذلك من الخرافات - وهل لقائل أن يقول وسائل أن يسأل عن هؤلاء الأعاجم: أي اتفاق بين الألف واللام صورة وسيرة إنتبه له ذلك الطفل الصغير الذي لم يبلغ الثالثة أو الرابعة من العمر، والذي لم يعرفه معلموا الألسنة ومهرتها ولم ينتبهوا إلى هذه الخرافة، ومادونها خرافة. وفي أول يوم من تعليمه عرفه ذلك الصغير كأن القوم يريدون تشبيه زعيمهم بالأنبياء والرسل حيث أنهم يعلمون بدون تعليم الخلق إياهم بل وأكثر من ذلك يحاولون أن يزيدوه عليهم ويرفعوه فوقهم "عياذا بالله" حيث إنه لم ينقل عن واحد منهم في الروايات الصحيحة والكتب المعتمدة مثل هذا التنقيب والتحقيق، والتفحص والتعمق - حسب مزاعمهم - اللهم إلا ما نقل في المرويات المرميات والكتب القصصية الخيالية من المفتريات على البعض. وفعلا هذا ما قصدوه، وهذا ما يريدونه لأنهم كتبوا قبل بيان هذه القصة قصصها مثلها بأن أحمد رضا لم يكن يحتاج إلى تعليم المعلمين وتدريس المدرسين لأن الله نفسه علمه منذ ولادته أو لعله قبل ولادته؟ وقد صرح بذلك ناسجوا الخيال حيث يقول واحد منهم قبل ذكر هذه القصة: إن عالم الغيب ملأ قلبه وروحه، ذهنه وفكره من الإيمان واليقين، وملأ صدره المبارك من العلوم والمعارف وجعله خزينة لها، ولأجل ذلك مشى الحضرة الأعلى رضي الله تعالى عنه ظاهرا في طرق عالم الأسباب (6).   (1) ((تذكرة علماء هند)) (64). (2) ((حياة أعلى حضرة)) (1/ 1). (3) ((البريلوي)) للبستوي (25). (4) ((من هو أحمد رضا)) للقادري (15). (5) ((البريلوي)) للبستوي (26،27) ((أنوار رضا)) (355) وغيرهما من الكتب. (6) ((البريلوي)) للبستوي (26). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 359 هذا وهو نفسه لم يكن يرضى بشأن أقل من شأن الأنبياء حتى أنه قال مرة لأتباعه ومريديه وهو يشكو من صداعه وحماه: أن هذه الأمراض مباركة، وكانت تلازم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فالحمد لله لازمتني كما لازمتهم" (1). وعلى ذلك كان يقول: إن تاريخ ولادتي يستخرج من قول الله عز وجل والذي ينطبق على: أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ [المجادلة: 22] (2).وهذا هو ظفر الدين أيضا كتب عن طفولته أنه عندما كان يقرأ القرآن "وهو دون الرابعة من العمر" لقنه أستاذه آية من القرآن ولكن البريلوي كلما يحاول أن يقرأ لم يكن يتمكن، فلاحظ هذا جده فاستغرب، وبعدما نظر في المصحف رأى أنه كان في قراءة المعلم لحنا ولسان البريلوي كان يأبى بقراءة هذه الآية ملحونا (3). يعني أن العصمة كانت حاصلة له وحتى في صغره ولم ينطق بغلط، وقد نص عليه القوم وما أكثرهم وما أجرأهم على الله، فكتب غير وحد منهم: أن قلم أحمد رضا ولسانه حفظ من زلة وحتى قدر النقطة مع الثابت أن لكل عالم هفوة" (4). وقال الآخر: إن البريلوي لم ينطق بلسانه المبارك بلفظة غير شرعية، والله عصمه من كل زلة" (5).وأيضا "إن أحمد رضا عصم في طفولته من الانحراف والغلطة وأودع فيه أتباع الصراط المستقيم" (6).و "إن الله صان قلمه ولسانه من الخطأ (7).وأكثر منه صراحة أن الحضرة الأعلى "أي البريلوي" كان في يد الغوث الأعظم "يعني الشيخ عبدالقادر الجيلاني" كالقلم في يد الكاتب، والغوث الأعظم في يد رسول الله محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كالقلم في يد الكاتب، والرسول في الحضرة الإلهية ما ينطق عن الهوى" (8). وعلى ذلك قال بريلوي في حقه: إن "رضى الله في رضى الرسول، ورضى رسول الله في رضى البريلوي" (9) و "إن وجود البريلوي كان آية من آيات الله المحكمات" (10). وعلى ذلك قال أحد المهينين لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن زيارة البريلوي قللت اشتياقنا إلى زيارة أصحاب النبي عليه وسلم" (11) هذا ما نسجته الأيدي الأثيمة من الخرافات والخزعبلات لإثبات أباطيلهم وأكاذيبهم والكذب لا يفيد الكذاب. وأخيرا قصة أخرى وما أردأها وما أكثرها "أن شخصا لقى البريلوي وهو لم يتجاوز يوم ذلك ثلاث سنوات وستة أشهر من العمر، فكلمه بالعربية الفصحى فرد عليه البريلوي بالعربية مثله، ولم ير ذلك الرجل بعد" (12). هذا وهذه الأشياء كلها لم تكفهم ولم يقتنعوا بها حتى قالوا: إن والده الذي كان يدرسه ويعلمه قال له مرة: لا أدري أعلمك أم تعلمني؟ ويوم ذلك لم يتجاوز العاشرة من عمره" (13).والجدير بالذكر أن المدرس الذي كان يدرسه مرزا غلام قادر بيك (14) كان أخا للمرزا غلام أحمد المتنبي القادياني. ويقولون: إنه فرغ من التعليم والدراسة وجلس على مسند الإفتاء وعمره لم يتجاوز الرابع عشرة سنة" (15). وكما يذكره هو نفسه بالتحديد:"الحمد لله أفتيت أول فتيا حينما كنت في الثالثة عشر من عمري للرابع عشر من شعبان سنة 1286هـ، وفي هذا التاريخ فرضت على الصلاة وتوجهت إلى الأحكام" (16). المصدر: البريلوية عقائد وتاريخ لإحسان إلهي ظهير - ص13   (1) ((ملفوظات)) (1/ 64). (2) ((حياة أعلى حضرة)) (1). (3) ((حياة أعلى حضرة)) (22). (4) ((ياد أعلى حضرة)) لعبد الحكيم شرف (32). (5) ((الفتاوى الرضوية)) مقدمة (2/ 5) لمحمد أصغر العلوي. (6) ((أنوار رضا)) (223). (7) ((أنوار رضا)) (271). (8) ((أنوار رضا)) (270). (9) ((باغ فردوس)) لأيوب رضوي (7). (10) ((أنوار رضا)) (100). (11) ((وصايا البريلوي)) (24). (12) ((حياة أعلى حضرة)) (22). (13) مقدمة ((فتاوى رضوية)) (2/ 6). (14) ((البريلوي)) للبستوي (32)، ((أعلى حضرة)) (32). (15) ((البريلوي)) للبستوي (32). (16) ((من هو أحمد رضا)) للقادري (17). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 360 المطلب الثاني: أسرته إن أسرة البريلوي التي ولد فيها لم يعرف عنها كثير غير أن والده وجده كانا من الذين ينتسبون إلى العلم كما مر. نعم إن المخالفين يقولون: إنه من أسرة شيعية أظهر تسننها تقية للإضرار بهم ويستدلون على ذلك بأمور: أولا: إن أسماء آبائه وأجداده أسماء شيعية لم تكن رائجة في أهل السنة مثلها، وهذه هي الأسماء: أحمد رضا بن نقي علي بن رضا علي بن كاظم علي (1). ثانيا: إن البريلوي تكلم بكلمات حول الصديقة، أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها لا يتصور التفوه بها من سني أبدا. ثالثا: إنه روّج في السنة عقائد وأفكاراً لم تكن رائجة بين السنة في شبه القارة الهندية الباكستانية قبله، وكلها كانت مأخوذة من الشيعة علم الغيب للأنبياء والصلحاء وعلم ما كان وما يكون، والاختيار والقدرة وغيرها من الأشياء (2).رابعا: إنه كان يروى روايات شيعية وأحاديثها ويروّجها بين السنة ويستدل بها مثل "إن عليا قسيم النار" (3).وأيضا "إن فاطمة سميت بفاطمة لأن الله فطمها وذريتها من النار" (4).وكان يقول: إن ترتيب الأغواث أي المغيثين للخلق والذين يستغاث بهم يبدأ من علي رضي الله تعالى عنه إلى الحسن العسكري، الأئمة الإحدى عشر عند الشيعة" (5). وقال: إن عليا يدفع البلا ويكشف الكروب لمن يقرأ الدعاء السيفي المشهور سبع مرات أو ثلاث مرات أو مرة واحدة، وهذا هو الدعاء: ناد عليا مظهر العجائب تجده عونا لك في النوائب كل هم وغم سينجلي بولايتك يا علي يا علي " (6) وأيضا "إن هذا الشعر نافع لدفع الأمراض وسبب لحصول الوسيلة والثواب وهو هذا: لي خمسة أطفي بها حر الوباء الحاطمة المصطفى والمرتضى وابناهما والفاطمة " (7) ثم ويتحدث عن الجفر الشيعي ويقرّه حيث يقول: الجفر جلد كتبه جعفر الصادق، كتب فيه لآل البيت كلما يحتاجون إليه وإلى معرفته وكلما يكون إلى يوم القيامة" (8). كما يذكر الجامعة الشيعية أيضا بقوله: (الجفر) و (الجامعة) كتابان لعلي رضي الله عنه ذكر فيهما الحوادث التي تحدث إلى انقراض العالم على طريقة علم الحروف، وكان الأئمة المعروفون من أولاده يعرفونها ويعلمون بها" (9). وروى هذه الرواية المكذوبة وأقرها ولقنها أهل السنة:"قيل للرضا – الإمام الثامن والمعصوم لدى الشيعة – رضي الله تعالى عنه: علمني كلاماً أتكلم به إذا زرت واحدا منكم أهل البيت؟ فقال: أدن من القبر وكبّر الله أربعين مرة ثم قل: السلام عليكم يا أهل البيت إني مستشفع بكم ومقدمكم أمام طلبي وإرادتي ومسألتي وحاجتي، وأشهد الله أني مؤمن بسركم وعلانيتكم، وأني أبرأ إلى الله تعالى من عدو محمد وآل محمد من الجن والإنس" (10).وقد كتب في إحدى كتبه "لا بأس بوضع تمثال مقبرة الحسين في البيت للتبرك" (11).   (1) ((حياة أعلى حضرة)) (2). (2) ((فتاوى بريلوية)) (14). (3) ((الأمن والعلى)) للبريلوية (58). (4) ((ختم نبوت)) للبريلوي (98). (5) ((ملفوظات)). (6) ((الأمن والعلى)) (12،13). (7) ((الفتاوى الرضوية)) (6/ 187). (8) ((خالص الاعتقاد)) للبريلوي (48). (9) ((خالص الاعتقاد)) للبريلوي (48). (10) ((حياة الموات)) المندرج في ((الفتاوى الرضوية)) (4/ 299). (11) رسالة ((بدر الأنوار)) للبريلوي (57). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 361 هذا وما أكثر مثله. خامسا: إن سلسلة بيعته تصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة أئمة الشيعة كما ذكر نفسه في عبارته العربية "اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد المصطفى رفيع المكان، المرتضى علي الشان الذي رجيل من أمته خير من الرجال السالفين، وحسين من زمرته أحسن من كذا وكذا، حسنا من السابقين، السيد السجاد زين العابدين، باقر علوم الأنبياء والمرسلين ساقي الكوثر، ومالك تسنيم، وجعفر الذي يطلب، موسى الكليم، رضا ربه بالصلاة عليه" (1). ومن هذه العبارة يظهر أيضا نبوغه في العربية ومهارته فيها، الشخص الذي يقولون عنه: إنه كان يتكلم بها وهو في الثالثة من العمر. ولا ندري أي تركيب هذا وأية عبارة هذه "حسين من زمرته أحسن من كذا وكذا"؟ وأيضا ما معنى "باقر علوم الأنبياء"؟ وما معنى "بالصلاة عليه"؟. فالحاصل أنهم يستدلون على تشعيه من أقاويله ومعتقداته التي أراد ترويجها في السنة. سادسا: إنه كفّر السنة وأساطينها من شبة القارة وخارجها، وصرح بأن مساجدهم لا يحكم عليها أنها مساجد، ولا يجوز مجالستهم ومناكحتهم غير أنه لم يجعل الشيعة هدف فتاويه ولم يتكلم على مراكزهم ومعابدهم وحسينياتهم بل عكس ذلك يروون عنه "إن شيعة بنوا حسينية ثم ذهبوا إلى البريلوي ليختار لها إسما فاستخرج أسمها من التاريخ (2).سابعا: إنه نظم بعض القصائد بالغ فيها في مدح أئمة الشيعة ومنقبتهم" (3). ولأجل هذه الأشياء يتهمه المخالفون هو وأسرته بالتشيع وأنه كان يعمل على حسابهم ويروج دعوتهم متقنعا بنقاب السنة. المصدر: البريلوية عقائد وتاريخ لإحسان إلهي ظهير - ص21   (1) ((أنوار الرضا)) (27). (2) ((ياد أعلى حضرة)) لشرف البريلوي (29). (3) انظر لذلك ((حدائق بخشش)) للبريلوي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 362 المطلب الثالث: وفاته مات البريلوي من مرض ذات الجنب ويقولون: لما حضره الوفاة أوصى بوصايا عديدة – وقد طبعت هذه الوصايا في رسالة مستقلة باسم "وصايا شريف" – منها ما أوصى بها طائفته وجماعته:"تمسكوا بديني ومذهبي الذي هو ظاهر من كتبي، تمسكوا به واستقيموا عليه لأنه فرض أهم من جميع الفروض" (1).وقال: لا أدري ما بقائي فيكم ... أنتم ضئان المصطفى الساذجة صلى الله تعالى عليه وسلم وإن الذئاب محيطون بكم من كل الجوانب ويريدون أن يغووكم ويوقعوكم في الفتنة ويذهبوا بكم إلى الجحيم، فاجتنبوهم وخاصة الديوبنديين" (2).وآخر ما قال: إن أمكن فأرسلوا في الأسبوع مرتين أو ثلاثا في الفاتحة "يعني النذر" هذه الأشياء: المحلبية المثلجة ولو كانت من لبن الجاموس، والأرز البرياني، والأزر البخاري، والكباب، والكوفة، والمطبق، والقشطة، والفول، والسمبوسة، وعصير الفتاح، وعصير الرمان، والقارورة الغازية، والحليب المثلج فإن أمكن فأرسلوا كل يوم منها ولو شيئاً واحدا وإلا فكما ترون" (3).ومات في 25 صفر 1340هـ الموافق 1921م بعدما عمر 68 سنة ظهرا (4) .....   (1) ((وصايا شريف)) ترتيب حسنين رضا (10) ط آغرة الهند. (2) ((البستوي)) (105). (3) ((البستوي)) (9،10). (4) ((البريلوي)) للبستوي (11). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 363 المطلب الرابع: مبالغات البريلويين وغلوهم فيه ولو ما كان هذا لكان هناك قصص وأساطير، وهل يستبعد الأساطير من القوم الذين اختلقوا أن جنازته لما حملت:"رأى بعض الناس أنه حملها ملائكة الرحمان على أكتافهم" (1). والذين قالوا فيه: أن رسول الله كان جالسا في جمع من أصحابه منتظرا مجيء البريلوي لأنه لما سئل عن سكوته وسكوت أصحابه فقال: نحن ننتظر البريلوي حتى يأتي" (2).وأكثر في ذلك "إن رسول الله صل الله تعالى عليه وسلم أرسل هدية الطيب لغسل البريلوي" (3). ومادمنا بدأنا في مبالغات القوم ومقالاتهم في البريلوي نريد أن نذكر بعض ما قالوه في حقه: فمن المغالاة التي بلغت حد الإساءة والإهانة قول البريلويين: إن رؤية البريلوي قللت شوق زيارة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – عياذ بالله –" (4).ولا يوجد في القرنين الأخيرين من عالم جامع مثله" (5).وقال الثاني: إنه لا نظير لجلالته العلمية وكماله العملي، وإن البريلوي كان عديم النظير في قوة علمه وإصابة رأيه" (6).وقال الثالث: إن البريلوي أحيا الدين بتعليماته" (7).ورابع قال: إن "الفتاوى الرضوية" تشتمل على آلاف من المسائل التي لم تسمعها أذن العلماء" (8).وقال الخامس: لو رأى أبو حنيفة رحمه الله (الفتاوى الرضوية) لقرت عينه ولجعل مؤلفها من جملة الأصحاب (9).وقال السادس: إنه هو كان أبا حنيفة عصره" (10).وسابعهم أعتقد إن هذا كله لا يكفي فقال: إن البريوي كان يملك فطانة أبي حنيفة في الاجتهاد وضياء الخصاف وعقل الرازي وذاكرة قاضي خان" (11).وليس هذا فحسب، بل كان "عكس الصديق في قول الحق، ومظهر الفاروق في تمييز الباطل، وصورة ذي النورين في الجود والرحم، وسيف عليّ في ضرب الباطل" (12). هذا ما قاله ثامنهم. والتاسع قال: إن البريلوي كان معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم" (13).وقال العاشر: إن أحمد رضا حجة الله في الأرض" (14). فتلك عشر كاملة. وهذه الأشياء إن دلت على شيء دلت على مسابقة القوم في المبالغة والغلو ونحن ذكرنا فيما مر أنهم يقولون بصيانته من الأغلاط وعصمته من الأخطاء مع أن العصمة ليست إلا من اختصاصات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. وهناك بعض الأشياء الأخرى نذكرها إكمالا للبحث وبرهانا على أن القوم تعودوا الكذب. منها أنهم يقولون: إن البريلوي رأى في طفولته مومسات في الطريق، فرفع قميصه ووضعه على العيون حجابا منهم، ولما رفع القميص تعرى "فضحكت عليه المومسات وقلن له: غطيت وجهك وكشفت سترك، فأجاب: إذا زلت البصر ضل القلب، وإذا ضل القلب هتك الستر، وكان عمره آنذاك ثلاث سنوات وستة أشهر" (15). وهل لسائل أن يسأل من الذين يريدون أن يجعلوه فوق البشر! كيف عرف الزانيات بأنهن زانيات مومسات؟ الطفل الذي لا يعرف ستر عورته، ومن أين عرف معاملات النظر والقلب وتأثيرهما على الستر. وهل يحتاج الكذب إلى العقل؟ كلا!   (1) ((أنوار رضا)) (272)، وأيضا ((روحون كي دنيا)) مقدمة (22). (2) ((البستوي)) (121) والفتاوى الرضوية (2/ 13). (3) ((وصايا البريلوي)) (19). (4) ((وصايا البريلوي)) (24) ترتيب حسنين رضا ابن أخ البريلوي. (5) ((وصايا البريلوي)) (24) ترتيب حسنين رضا ابن أخ البريلوي. (6) ((شرح الحقوق)) مقدمة (8). (7) ((شرح الحقوق)) مقدمة (7). (8) ((بهار شريعت)) (1/ 3). (9) مقدمة ((الفتاوى الرضوية)) (11) (4). (10) مقدمة ((الفتاوى الضوية)) ج5 ص ب. (11) مقدمة ((الفتاوى الضوية)) (210). (12) ((أنوار رضا)) (263). (13) ((أنوار رضا)) (263). (14) ((أنوار رضا)) (303). (15) ((سوانح أعلى حضرة)) لبدر الدين (110) و ((أنوار رضا)). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 364 ويقولون: إن علماء الطبيعة في أوروبا، والفلاسفة في آسيا، كانوا يرتعدون من هيبة علم البريلوي" (1).و "إن البريلوي كان يحفظ جميع الكتب المتداولة والغير المتداولة التي ألفت وكتبت في أربعة عشر قرنا، وإن أرباب اللغة والاصطلاح عجزوا عن إيجاد لفظة تعبر عن مقامه الرفيع" (2). ومن ناحية أخرى يقولون: إن البريلوي لما ذهب للحج ذهب إلى مسجد خيف هناك وبات فيه فبشر بالمغفرة" (3).وإنه كان مجدداً وسيداً وإماماً ومرشداً ومالكاً وشافعاً وداره دار الشفا، وهو الذي أبصر العيان وأسمع البكم، وإنه مشكاة نور الله ومرآة حسن المصطفى وأسد أسود الله" – إلى آخر ذلك من الخرافات – (4) و "إنه قاضي الحاجات وكاشف الكروب ومحلّل المشكلات وساقي الكوثر وصاحب القبر والنشر والحشر، وهو الغوث وقطب الأولياء وخليفة المصطفى وخضر بحر الهدى، والمعطي والرزاق" (5). هذا ومثل هذا كثير. فهذا هو القوم وهذا هو البريلوي زعيمهم، وهذه هي مجازفاتهم وغلوهم فيه وإن البريلوي هو الذي لقّن طائفته هذه العبارات وعلمهم، ولم ير له مثيل في الغلو في شبه القارة كلها وسيأتي بيان مجازفاته ومبالغاته في المباحث الآتية لكننا نريد أن نثبت ههنا شيئين فقط لإثبات ما قلناه بالدليل، فإن البريلوي قال مخاطباً الشيخ عبدالقادر الجيلاني رحمه الله: ياغوث إن أقطاب العالم كلهم يطوفون بالبيت العتيق ولكن الكعبة تطوف حول بابك العالي" (6) – عياذا بالله -. ومن بالغاته في نفسه أنه قال: أنا ملك مملكة البيان ولابد للناس من تسليم كلما أقوله" (7).و "إن صدري عيبة العلوم لا أسأل عن شيء إلا وأجيب عليه فوراً في أي علم كان" (8). ومرة عاكس الأمر في مبالغاته حيث أخرج شخصه عن الآدمية والإنسانية فقال مخاطبا نفسه: لا يسأل أحد عنك ولا يبالي أحد بك لان كلابا أمثالك كثيرون" (9).وأيضا يقول عن نفسه: أنا كلب الغوث الأعظم وفي عنقي قلادته" (10). ومرة طلب شيخ البريلوي كلبين أصيلين من سلالة عالية فذهب إليه البريلوي بابنيه وقدمهما إليه بقوله: يا سيدي! جئت إليكم بهذين الكلبين الأصيلين وإنهما من نسل جيد عال فاقبلوهما مني" (11). فهذه هي المبالغات وها هي طرفاها الأدنى والأعلى، الإمام الهمام المرشد، الغوث المغيث القطب، قاضي الحاجات فارج الهم، كاشف الغم، مجيب الدعوات وكلب وأبو الكلاب!. فعلى هذه المبالغات والمجازفات والترهات والشطحات قامت شريعته وأسست ديانته وراج سوقه واشتهر ماله. المصدر: البريلوية عقائد وتاريخ لإحسان إلهي ظهير - ص45   (1) ((روحون كي دنيا)) (26). (2) ((روحون كي دنيا)) (265). (3) ((حياة أعلى حضرة)) لظفر الدين البهاري (12)، أيضا ((أنوار رضا)) (235). (4) ((نفخة الروح)) لأيوب على البريلوي (5) ط بريلي. (5) ((نفخة الروح)) (47،48). (6) ((حدائق بخشش)) دويان شعر للبريلوي. (7) ((أنوار رضا)) (319)، وأيضاً ((حدائق بخشش)). (8) ((شرح الحقوق)) (8) المقدمة. (9) ((شرح الحقوق)) (11) المقدمة، و ((حدائق بخشش)). (10) ((حدائق بخشش)) (5). (11) ((أنوار رضا)) (238). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 365 المطلب الخامس: مؤلفاته إن البريلوي لم يكتب كتابا، وإنما كتب الفتاوى في جواب استفتاءات يستفسره الناس من طائفته فكان يرد على أسئلتهم ويفتيهم على استفتاءاتهم بمعونة أشخاص عديدين الذين كانوا معينين موظفين عنده لأداء هذه المهمة، ولأنهم كانوا أفرادا عديدين لذلك كان كل واحد يكتب ويجمع الجواب من كتب فقهية موجودة، وربما كانت ترسل الاستفتاءات إلى مدن أخرى لوجود بعض الكتب هناك وبعض المساعدين فيها فكانوا يرسلون الأجوبة بالعبارات المنقولة من بطون هذه الكتب ثم تجمع هذه الفتاوى كلها وتقدم إلى البريلوية، والبريلوي يجمعها ويصوغها في عباراته بدون التنقية والتنقيح، وعلى ذلك يوجد فيها الإبهام الشديد والتعقيد والإغلاق، ويوقع القارئ في الحيرة والاضطراب، ثم قبل إرسالها إلى المستفتي كان يطلق عليها الاسم المناسب للاستفتاء والاسم التاريخي الآخر أي الاسم الذي يخرج منه تاريخ كتابة الفتوى وبعد نقلها عنده يرسلها إلى المستفتين، وأحيانا كان يطبعها قبل أن يرسلها بصورة كتيب أو رسالة، وهذا كان دأبهز وكان يراعي في الفتاوى أن يكون فيها الرد على المتمسكين بالكتاب والسنة والدعاة إلى التوحيد الخالص، ولذلك يرى القارئ أكثر ما يرى من انطلاقة قلمه في المسائل الخلافية أو المسائل الخرافية كما يسميها المخالفون له مثل علم الغيب للرسل والأولياء والصالحين، وكونهم من جنس البشر أو النور، ووجودهم في بقعة من بقاع العالم في آن واحد وحياتهم بعد وفاتهم وتصرفاتهم الكاملة في عالم الكون والتدبير أثناء وجودهم في الدنيا وغيابهم منها، وقدرتهم واختياراتهم، والتبرك بالقبور وأصحابها وبالتماثيل والصور وغير ذلك من المسائل. وعلى ذلك يمكن القول بأنه لم يؤلف وحتى في فتاويه إلا ما يعدّ على أصابع اليدين لأن جل فتاويه أن لم نقل كلها يدور حول هذه المواضيع، الواحدة المتحدة في ذاتها وجوهرها. وإليكم النصوص التي تثبت ما قلناه من كتب القوم أنفسهم، أولا: إن قول البريلويين إن كتبه تتجاوز الألف هذا مما لا يثبت بالدليل لأن لفظة الكتاب لا تشمل إلا فتاواه التي طبعت في ثماني مجلدات فقط صغير الحجم وكبيرة، والباقي كلهاه رسائل وكتيبات لا يطلق عليها اسم الكتاب. ومن الطرائف أن الفتاوى بمجلداتها الثمانية لم يطلق عليها اسم الكتاب إلا أنه أدرج فيها هذه الرسائل والكتيبات جميعا فغرق جل هذه الرسائل إن لم نقل كلها في هذه المجلدات وأدرج فيها، ومثال ذلك (الفتاوى الرضوية) المجلد الأول من هذه المجلدات الثمانية، وهو يشتمل على أحدى وثلاثين رسالة التي عددناها بالنظرة الخاطفة الأولى. وهذه هي أسماءها: 1 - الجود الحلو. 2 - تنوير القنديل. 3 - أخر مسائل. 4 - النميقة الأنقى. 5 - رحب الساعة. 6 - هبة الحمير. 7 - مسائل أخر. 8 - فصل البئر. 9 - بارق النور. 10 - ارتفاع الحجب. 11 - الطرس المعدل. 12 - الطلبة البديعة. 13 - بركات السماء. 14 - عطاء النبي. 15 - النور والنورق. 16 - سمع الندر. 17 - حسن التعمم. 18 - باب العقائد. 19 - قوانين العلماء. 20 - الجد السعيد. 21 - مجلى الشمعة. 22 - تبيان الوضوء. 23 - الدقة والتبيان. 24 - النهي النمير. 25 - الظفر لقول زفر. 26 - المطر السعيد. 27 - لمع الأحكام. 28 - المعلم الطراز. 29 - نبه القوم. 30 - أحلى الأعلام. 31 - الأحكام والعلل. وبعض هذه الرسائل لا تشتمل إلا على ست صفحات مثل (تنوير القنديل) وسبع صفحات مثل (تبيان الضوء) والبعض على ثماني صفحات مثل (لمع الأحكام) و (هبة الحمير).فهذه هي حقيقة القوم وهذه هي حقيقة العدد الكبير لمؤلفات الرجل، وقد ذكرت هذه الرسائل في عداد مؤلفاته (1).   (1) انظر لذلك ((المجمل المعدد لتأليفات المجدد)). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 366 ثانيا: من السهل أن يقال عن شخص أنه ألف ألف كتاب أو ألفين أو أكثر لأن هذا القول لا يحتاج إلى كثير العناء والكلفة، ومن الصعب أن يثبت له ذلك، فهكذا القوم. فإن البريلوي نفسه ذكر في إحدى كتيباته بأنه ألف حتى ذلك اليوم مائتي كتاب (1) وابنه علق عليه بأن هذا العدد من الكتب هي التي كتبت ردا على الوهابية، وأما جميع مؤلفاته فتبلغ أربع مائة كتاب، منها فتاواه في أثنى عشر مجلدا (2).وأما تلميذه وخليفته البهاري فهو لم يستطع أن يعد أكثر من ثلاثة مائة وخمسين رسالة وكتيبا (3).ثم اجتمع القوم واستقلوا هذا العدد وحاولوا أن يجازفوا ويبالغوا، فلم يستطع آخرهم أن يعد أكثر من ثمانية وأربعين وخمس مائة كتاب (4). ولبيان أضحوكة القوم وأطروفتهم نذكر أسماء بعض الكتب التي عدوها من جملة من مؤلفاته: (حاشية صحيح البخاري) (حاشية صحيح مسلم) (حاشية النسائي) (حاشية ابن ماجه) (حاشية التقريب) (حاشية مسند الإمام الأعظم) (حاشية مسند الإمام أحمد) (حاشية الطحاوي) (حاشية خصائص كبرى) (حاشية كنز العمال) (حاشية كتاب الأسماء والصفات) (حاشية الإصابة) (حاشية موضوعات كبير) (حاشية شمس بازغة) (حاشية عمدة القاري) (حاشية فتح الباري) (حاشية نصب الراية) (حاشية فيض القدير) (حاشية أشعة اللمعات) (حاشية مجمع بحار الأنوار) (حاشية تهذيب التهذيب) (حاشية مسامرة ومسايرة) (حاشية تحفة الأخوان) (حاشية مفتاح السعادة) (حاشية كشف الغمة) (حاشية ميزان الشريعة) (حاشية الهداية) (حاشية بحر الرائق) (حاشية منية المصلي) (حاشية رسائل شامي) (حاشية الطحطاوي) (حاشية فتاوى خانية) (حاشية فتاوى خيرية) (حاشية فتاوى عزيزية) (حاشية شرح شفا) (حاشية كشف الظنون) (حاشية تاج العروس) (حاشية الدر المكنون) (حاشية أصول الهندسة) (حاشية سنن الترمذي) (حاشية تيسير شرح جامع الصغير) (حاشية كتاب الآثار) (حاشية سنن الدارمي) (حاشية الترغيب والترهيب) (حاشية نيل الأوطار) (حاشية تذكرة الحفاظ) (حاشية إرشاد الساري) (حاشية مرعاة المفاتيح) (حاشية ميزان الاعتدال) (حاشية العلل المتناهية) (حاشية شرح الفقه الأكبر) (حاشية كتاب الخراج) (حاشية بدائع الصنائع) (حاشية كتاب الأنوار) (حاشية فتاوى عالمكيري) (حاشية فتاوى بزازية) (حاشية سرح زرقاني) (حاشية ميزان الأفكار) (حاشية شرح جغميني) ... فهذا هو ما في جعبة القوم أنهم ذكروا جميع الكتب التي كانت في مكتبة البريلوي وكان يلقى عليها النظرات، أو علق على صفحة وصفحتين منها فجعلوها مصنفا لمجددهم وعدوها في جملة كتبه ومؤلفاته، ثم ولم يطبع منها ولا كتيب فضلا عن كتاب، وعلى هذا يمكن لكل شخص أن يدعى ويقول: إن مؤلفاته تجاوزت الآلاف المؤلفة، وأمثالنا الذي يكتب في الفرق والأديان، والردود على الفرق الباطلة المنحرفة عن الصراط المستقيم، والزائغة عن جادة الصواب، ويطالع كتبهم ويكتب عليها الانتقادات يمكن له أن يقول: إن مؤلفاته جاوزت خمسة آلاف مؤلف لأننا في الكتابة عن هذه الطائفة أعنى البريلوية قرأنا أكثر من ثلاث مائة كتيب ورسالة ومؤلف، ونادرا تركنا كتابا واحدا منها ولم نعلق عليه، وهذا أيضا من تعليقاتنا علي تلك الكتب.   (1) انظر ((الدولة المكية)) (10). (2) ((الدولة المكية)) (11). (3) انظر ((المجمل المعدد)). (4) ((أنوار رضا)) (325). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 367 إن كان الأمر هكذا فأية مفاخرة فيه؟ وإكمالا للبحث نورد الأقوال المتضاربة المتخالفة في بيان عدد المؤلفات من الآخرين فإن البريلوي قال: إن كتبه بلغت مائتين (1) وخليفته وتلميذه قال: أنها ثلاث ومائة وخمسون كتابا (2) وابنه قال: أنها أربع مائة كتاب (3) وصاحب (أنوار رضا) إنها خمس مائة وثمانية وأربعون كتابا (4) وقال البهاري: ست مائة كتاب (5) وألف كتاب (6).وثالثا: إن كل ما طبع من الرسائل والكتيبات من اليوم الذي كان البريلوي حيا إلى يومنا هذا لا يتجاوز عن خمس وعشرين ومائة كما ذكره صاحب (أنوار رضا) (7) وهي التي أدرجت في فتاواه. رابعا: نذكر أكذوبة أخرى ومبالغة القوم في بيان المؤلفات لمناسبة ما ذكرناه أنفا، فقد كتب "حضرة بران الملة والدين مولانا المفتي محمد برهان الحق القادري الرضوي المفتي الأعظم الجبل بوري" – "إن البريلوي كان مجددا، والدليل عليه أنه كتب الفتاوى التي لا يوجد لها مثيل في المتقدمين والمتأخرين، والتي تشتمل على اثني عشر مجلدا" والمعروف أنه لم يطبع منها حتى اليوم إلا ثماني مجلدات. ثانيا: من بين هذه المجلدات الثمانية لم يطبع منها إلا المجلد الواحد على القطع الكبير والبقية كلها على الحجر الصغير. ثالثا: إن واحدا من هذه المجلدات لا يشتمل على ألف صفحة فضلا عن الزيادة عليها والمجلد الذي طبع على القطع الكبيرة يشتمل على 264 صفحة، والبقية المطبوعة على الحجم الصغير يشتمل على 500 أو 600 صفحة، وواحد منها يشتمل على 325 صفحة، ولا واحد من هذه المجلدات يبلغ عدد صفحاتها ألف صفحة. ولقد فصلنا القول في هذا للفت النظر إلى أن مذهب هذه الطائفة وأمثالها لا يقوم ولا يؤسس إلا على المبالغات والمغالات والأكاذيب. خامسا: إن كتاب هذه الفتاوى كانوا متعددين من أنصار البريلوي وأتباعه وتلامذته ومؤيديه، ولقد ذكر البهاري في غير موضع من كتابه الذي كتبه في ترجمته أن البريلوي كان يأتيه الاستفسارات فيوزعها على الكتاب للجواب عليها، كما أقر بذلك البريلوي نفسه في خطابه الذي كتبه إلى أحد المعاصرين والمناصرين له "إنني أرسل إليكم شخصا الذي هو مدرس في مدرستي ومعين لي في الفتاوى" (8). ويكتب في خطاب آخر:"وصلت إلى عبارات التفاسير وأحتاج إلى ما بقى منها. وما هو تفسير (روح المعاني)؟ ومن هو الآلوسي البغدادي؟ لا أعرفه، إن كان لديك ترجمته أو شيء من الكتاب فأخبرني بذلك، وأيضا أحتاج إلى عبارات هوامش (المدارك) " (9) وأيضا "أحتاج في مسألة الخضاب إلى العبارات الكاملة من هذه الكتب، إن كانت هذه الكتب موجودة عندك فيها ونعمت، وإلا فاذهب إلى "بتنه" وانقلها من هناك: التاتارخانية، (زاد المعاد)، (عقد الفريد) لابن عبدربه، (نزهة المجالس)، (صراح)، (قاموس)، (تاج العروس)، (خالق زمخشري)، (مغرب) مطرزي، (مصباح المنير)، (مختار الصحاح)، (نهاية ابن الأثير)، (مجمع البحاري)، (تحفة مخزن الأدوية)، (تذكرة أنطاكي)، (جامع ابن بيطار)، (أنوار الأسرار)، (مرقاة)، (أشعة اللمعات)، (فتح الباري)، (عمدة القاري)، (إرشاد الساري)، (شرح مسلم للنووي)، (شرح شمائل الترمذي)، (شرح شرعة الإسلام)، (شرح مشارق الأنوار)، (تيسير السراج المنير)، و (شرح الجامع الصغير) " (10). وبهذا كله يثبت أنه لم يكن وحيدا في كتابة هذه الفتاوى، بل كان له المساعدون والأعوان الذين كانوا يحققون المسائل ثم يقدمونها إليه، فكان يرسلها إلى المستفتين وينسبها إلى نفسه. المصدر: البريلوية عقائد وتاريخ لإحسان إلهي ظهير- ص28   (1) ((الدولة المكية)) (1). (2) ((المجمل المعدد)). (3) ((الدولة المكية)) (11). (4) ((أنوار رضا)) (325) وما بعد. (5) ((حياة أعلى حضرة)) (13). (6) ((ضميمة المعتقد المنتقد)) و ((من هو أحمد رضا)) (25). (7) ((أنوار رضا)) (325). (8) ((حياة أعلى حضرة)) (244). (9) ((حياة أعلى حضرة)) (266). (10) ((حياة أعلى حضرة)) (281). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 368 المطلب السادس: مخالفته الجهاد والمجاهدين، ومناصرته الاستعمار والمستعمرين إن العصر الذي وجد فيه البريلوي كان عصر ابتلاء المسلمين ونكبتهم وأدبارهم في شبه القارة لأن الاستعمار الانجليزي الغاشم طوى بساط المسلمين وحكمهم عن هذه القارة، وتسلط عليها تسلطا كاملا عام 1857م بعد إراقة دمائهم وكسر شوكتهم وتدمير قوتهم وزعمائهم وطردهم عن وطنهم ومنبت رأسهم، وكان المستعمرون يرون أنه لم يبق لهم قوة رادعة تردعهم عن مطامعهم، وتمانعهم عن أغراضهم ومنافعهم من بسط النفوذ، والغصب، والنهب، اللهم إلا شرارة في رمادهم وشعلة في ترابهم ولم يكن يظنون مصدرها ومولدها إلا المسلمين عامة والوهابين خاصة". لمعرفتهم أن المسلمين ثائرون على الاستعمار لضياع دولتهم وملكهم وغصب قوتهم واقتدارهم لأنهم هم كانوا حكاما على شبه القارة عند تسلط الإنجليز وقد سلبوا منهم الاختيار والملك، والوهابيين لأنهم هم كانوا أكثر الناس ثورة من بين المسلمين وهم الذين قاوموهم ونازلوهم في ميادين مختلفة، وقاتلوهم، ورفعوا علم الجهاد ضدهم، ونغّصوا عليهم عيشهم وكدّروا عليهم صفوهم، فكم من الحارات هدمت بأسرها على أهاليها وسكانها، وكم من القرى دمّرت بما فيها من الأطفال والأشياخ والنساء بتهمة أنهم وهابيون، يريدون التمرد على المستعمر الغاصب (1) وشنق أكثر من مائة ألف عالم موحد، متبع السلف بتهمة الوهابية والطغيان في بنغال فقط (2). وقد كتب هنتر في كتابه (مسلمو الهند):إنه لا خطر على الإنجليز ولا على بقائهم في السلطة اللهم إلا من الوهابيين لأنهم هم يثيرون القلق الإضطراب والفتن ضدنا، وهم الذين يهيجون الناس ويحرضونهم باسم الجهاد على خلع ربقة الإطاعة والولاء لنا" (3).   (1) انظر ((تذكرة علماء صادق بور)). (2) انظر لذلك كتاب ((وهابي ترائيلز)). (3) ((وهابي ترائيلز)) (32) ط اردو. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 369 ثم بعد الانتفاضة التي سميت بانتفاضة 1857م، والتي سمّاها المستعمرون "الغدر" قدم الوهابيون وعلماؤهم وزعماؤهم وقادتهم إلى المشانق جملة لإستيصال شأفتهم وقطع دابرهم سنة 1863م إلى 1865م، وممن سجن في تلك الآونة علماء بارزين لأهل التوحيد عامة ولأهل الحديث خاصة مثل الشيخ جعفر تانيسري، والشيخ عبدالرحيم، وعبدالغفار، وشيخ المسلمين الشيخ يحيى على صادق بوري، والشيخ أحمدالله وغيرهم، ثم بعدهم قائد أهل الحديث وزعيم متبعي السلف الصالح، العلم الرفيع شيخ الكل الشريف نذير حسين المحدث الدهلوي. ولم يكتف المستعمرون بهذا، بل أصدروا فرمانا آخر لمصادرة أملاك هؤلاء المجاهدين (1).وأكثر من ذلك هدمت عمائرهم ودمرت بيوتهم وحتى نبشت قبور أسرهم وأهليهم (2).وأخيراًَ أراد الإنجليز في محاولتهم القضائية على الحركة الوهابية القبض على الإمام الكبير لأهل الحديث وقائدهم وزعيمهم شيخ الكل الشريف نذير حسين المحدث الدهلوي ولكنهم كانوا يخافون هيبته العلمية ومقامه الشامخ ورسوخه في المسلمين، فاضطربوا في أمره كي لا يثور المسلمون وتقوم قيامتهم، فسجنوه لمدة ثم اضطروا إلى إطلاق سراحه (3) ولكنه بدؤا يتحفظونه والآخرين من أمثاله، ثم رأوا أن الأمر لا يسوغ لهم، ولا يستريحون من إشتعال نائرة المسلمين عامة والوهابيين خاصة، فقرروا إشاعة الفتن بين المسلمين أنفسهم كي ينشغلوا بها عنهم ويتقاتلوا ما بينهم، فاستعملوا لهذه الأغراض والتفريق بين المسلمين أشخاصا عديدين منهم، واختاروهم لمهمتهم، فكان واحد من هؤلاء غلام أحمد القادياني (4) والثاني هذا البريلوي كما يتهمه المخالفون (5). أما القادياني فأمره مكشوف، وأما البريلوي فيحتاج أمره إلى البيان والتوضيح.   (1) ((وهابي تحريك)) (292). (2) ((تذكرة صادق)) لعبدالرحيم. (3) ((وهابي تحريك)) (315). (4) انظر لثبوت ذلك كتابنا ((القاديانية)) ط إدارة ترجمان السنة لاهور، وط المكتبة العلمية للنمنكاني بالمدينة المنورة. (5) انظر ((بريلوي فتوى))، ((تكفيري أفساني))، ((آئينة صداقت))، ((مقدمة الشهاب الثاقب))، مقدمة ((رسائل جاند بوري)) و ((فاضل بريلوي)) لمسعود أحمد البريلوي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 370 إن الكلمة الرائجة عند الاستعمار، والمنقولة عنهم هي "فرّق تسد"، فحمّلوا لواء التفريق والتكفير لأحمد رضا البريلوي، فإنه حمل هذا اللواء ورفعه فوق شبه القارة كلها، فلم يجد شخصا إلا وسبّه وشتمه وفسّقه وكفّره، وخاصة الذين نازلوا الاستعمار وقاتلوا ضده، والذين مازالوا يترقبون عليهم الدوائر ويتحيّنون لهم الفرص لينقضوا عليهم ويطردوهم من بلادهم، فرماهم بأسهمهم التي قصد المستعمرون أن يرميهم بها، وحرّض السذج من المسلمين عليهم باسم الدين والإسلام، واتهمهم إياهم وطوائفهم بهتك حرمات الصالحين وتصغير شأن الأولياء وتقليل مرتبة الأنبياء حسب الخطة المرسومة، فشحذ عليهم لسانه وسنانه، وسل عليهم سيف قلمه وبيانه، ولقن الناس بابتعادهم عنهم وعن حركاتهم القومية والوطنية، وعندما كان هؤلاء المجاهدون أتباع الرسول المجاهد الباسل صلوات الله وسلامه عليه، يستغلون الوقائع والحوادث لقلب نظام حكم الإنجليز في شبه القارة الهندية الباكستانية كان يقف البريلوي في وجههم ويسد طريقهم بتأييد السذج من المسلمين وعامتهم، الذين أغتروا بحب الأولياء والصالحين، بإيدي خفية من وراء الأستار وبمساندتهم وتأييدها ومناصرتها، فهكذا وبهذه الأعمال هون البريلوي للمستعمرين الإنجليز القضاء على مخالفيهم، الوهابيين والمناوئين لحكمهم، والمبغضين وجودهم في وطنهم، لأن الشخصيات البارزة والزعماء الأقوياء في الحركات المناوئة للحكم صارت شخصيات مختلفة بين المسلمين بعد ما كان المسلمون ينظرون إليهم نظرة إجلال وإكبار، ونظرة تقديم وإحترام. فإن الباحث والقارئ يندهش ويتحير عندما يرى أنه لم تقم حركة في شبه القارة لمواجهة الاستعمار إلا وخالفها البريلوي وكفّر زعماءها هو وذووه، طائفته ومناصروه. ونذكر ههنا حكرة عرفت بحركة الخلافة وحركة أخرى التي اشتهرت بركة ترك الموالاة، وبذلك يظهر عمله وموقفه من الاستعمار واستخلاص الوطن منه، ونظرته للمسلمين المستعبدين المستضعفين، ووجهته تجاه إخوانهم ونكباتهم. وقبل أن ندخل الموضوع في صميمه نريد أن نبيّن أن الأحزاب الكبيرة التي قاومت الاستعمار ونازلت المستعمرين كانت حزب المجاهدين الموحدين الذين سموا من قبل مخالفيهم الوهابيون أو الحركة الوهابية، وجميعة علماء الهند، ومجلس أحرار الإسلام، وحزب الخلافة، وحزب الرابطة المسلمة، ونيلي بوش، من المسلمين، وحزب الفائيين، وآزاد هند فوج، وحزب الوطنين، للهندوس وحزب الغاندي كونجرس، فلقد اعتزلت البريلوي والبريلوية عن جميع هذه الحركات واجتنبوها، وكفر وكفروا هذه الأحزاب كلها، وخاصة الرابطة المسلمة وبالأخص حزب المجاهدين مع قادتها زعمائها، وحرموا الدخول فيها ومشاركتها لتحرير الوطن كما سيلاحظ القارئ كل هذا في الباب الذي خصصناه لهذا الغرض. وهنا نحن ندخل في أصول الموضوع. إن البريلوية وعلى رأسها البريلوي نفسه أمر المسلمين بالتباعد عن هذه الحركات كلها واعتزالهم إياها، كما أفتى بتحريم الجهاد في ربوع هذه البلاد مستدلا بأن الهند ليس بدار الحرب ولا يؤذن ويعلن بالجهاد إلا فيها، ولم يكتف على هذا فحسب، بل إرضاء للآخرين تجاوز أكثر من ذلك وقال: إن الهند دار الإسلام وكتب رسالة مستقلة باسم "إعلام الأعلام بأن هندوستان دار الإسلام". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 371 وأغرب من ذلك إن هذه الرسالة التي تشتمل على عشرين صفحة من الحجم الصغير خصص فيها قسما لبيان أن الهند التي تسلط عليها الإنجليز الكفار ونهبوها وغضبوها هي دار الإسلام كما أن قسما من هذه الرسالة خصصه لبيان –أن الوهابيين لمرتدون، ولا يجوز أخذ الجزية منهم ولا يعطى لهم الأمان المؤبد، ويجوز استرقاق نسائهم، ولا تحل مناكحتهم ولا أكل ذبائحهم ولا الصلاة على ميتتهم، ولا مخالطتهم ولا مجالستهم ولا محادثتهم ولا مشاركتهم في أمورهم، قاتلهم الله أن يؤفكون" (1). وبهذا يظهر السر المكنون والأسباب التي حرّضت البريلوي لكتابة هذه الرسالة وإصدار الفتوى في صالح المستعمرين ومخالفة الجاهدين المستخلصين الهند من مخالبهم. وأما حركة الخلافة التي زلزلت أقدام الإنجليز وزحزحت عرشهم وضعفت شوكتهم في الهند فهي الحركة التي قامت على أساس أن المستعمرين الإنجليز وعدوا عام 1917م الهنديين بتحرير وطنهم وأراضيهم بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ولكنهم بعدما فازوا في هذه الحرب عام 1918م غدروا بهذا الوعد، فيكتب عن هذه الأحوال أحد البريلويين."أن الإنجليز لما انتصروا على ألمانيا وتركيا والنمساء وعاهدوا الأتراك على شروطهم القاسية إنحرفوا عن وعدهم الذي وعدوا به الهنديين من تحرير الهند، فاضطرب من ذلك الغدر الهنديون الأحرار وثاروا ضدهم وأرادوا أن ينتقموا الإنجليز بخيانتهم وغدرهم، فاستغلوا لذلك مسألة الخلافة في تركيا، وحرّضوا الناس على أن حفظ الخلافة الإسلامية وصيانتها من الفرائض والواجبات، ومحاربة مخالفيها "أي الإنجليز" فرض عين، فقامت على هذا الأساس حركة الخلافة وأثارت ضجة كبرى في أوساط المسلمين (2).وفعلا عام 1919م استغل قادة المسلمين وزعماء حركة تحرير البلاد هذه النعرة ضد الاستعمار الإنجليزي الغاشم وهيجوا عواطف الناس وحرضوهم على وضع الأغلال والأواصر وكسر القيود والسلاسل، وحثوهم على الضربة القاضية على رأس الاستعمار والمستعمرين كما صرح بذلك أحد أعلام هذه الحركة، العالم الجليل الذي لقب بلقب أمام الهند والذي روّج الدعوة السلفية في ربوعها الشيخ أبو الكلام آزاد (3). فأدرك البريلوي خطر هذه الحركة وما تشتمل وتتضمن على دعوة الجهاد واستخلاص الوطن، فبادر بكتابة رسالته المشهورة للقضاء على هذه الحركة وإقامة السد المنيع في وجهها، وألف رسالة أخرى (دوام عيش) أبطل فيها دعوى المناصرين للخلافة التركية مستدلا بأن الخليفة لا يكون إلا قرشيا، فمادام إن العثمانيين الأتراك ليسوا من قريش فلا نثبت خلافتهم وعلى ذلك ليس على مسلمي الهند مناصرتها ومساعدتها ومحاربة الإنجليز ومقاتلتهم لأجلها وقد صرح أكثر من ذلك حيث قال: إن حماية الأتراك خداع محض وإلا المقصود الأصلي من ذكر اسم الخلافة تحرير الأراضي الهندية" (4). ومن الغرائب أيضا أن هذه الرسالة التي كتبها للضربة على حركة تحرير الهند وزحزحة أقدام المسلمين فيها لم يتركها خالية عن السباب والشتائم على الوهابيين، رافعي علم الجهاد ومعلني كلمة الحق في هذه الديار.   (1) ((إعلام الأعلام بأن هندوستان دار الإسلام)) (19،20). (2) مقدمة ((دوام عيش)) لمسعود البريلوي. (3) مقدمة ((دوام عيش)) لمسعود البريلوي (17). (4) ((دوام عيش)) (63) ط بريلي و (95) ط لاهور. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 372 وأما حركة ترك الموالاة فإنها قامت على أنقاض حركة الخلافة، ففي سنة 1920م لما رأى مسلموا الهند أن الإنجليز لا يريدون أن يخضعوا لطلباتهم وينزلوا على رغباتهم ويفوا بالعهود التي عهدوا بها الهنديين ويغادروا بلادهم قاموا بإقدام آخر، وهو أن يترك الهنديون المعاملات مع الإنجليز المستعمرين ويتجنبوا عنهم ويعلنوا بترك ولائهم ويقاطعوا الحكومة الإنجليزية مقاطعة تامة، لا يطاوعونهم ولا يشاركونهم في أمورهم ولا يشتركون معهم ولا يقدمون لهم الجمارك والضرائب ولا يأخذون منهم المراعاة ولا يحكمونهم فيما بينهم وفي أمورهم ولا يقبلون وظائفهم، فعاونهم في ذلك طلاب الحرية من الهندوس أيضا وعلى رأسهم زعيمهم وقائدهم الغاندي، فتكونت ثورة عظيمة ضد الاستعمار لم ير لها مثال سابق في تاريخ الهند بعد ثورة 1857م، وأشترك فيها جميع طوائف المسلمين وزعماؤهم وقادتهم وعلماؤهم غير البريلويين، فلم يشاركوا في هذه الحركة الوطنية أيضا كدأبهم القديم، بل عكس ذلك أنهم بادروا بإصدار فتاويهم ضد القائمين بهذه الحركات مناصرة للاستعمار ومساعدة للمستعمرين، رافعين الأصوات أن ترك موالاة الاستعمار الإنجليزي الغاشم الكافر حرام، فقد كتب البريلوي كتيبا مستقلا والذي أدرج فيما بعد في فتاويه باسم "المحجة المؤتمنة في آية الممتحنة"، وبدأ كتيبه هذا حسب عادته بقوله: إن المعاملة الدنيوية التي لا تضر الدين ليست ممنوعة مع أحد سوى المرتدين مثل الوهابية والديوبندية وأمثالهم" ثم بعد ذلك كتب بألفاظ واضحة: إن المقصود من هذه الحركات هو الحصول على الحرية من الإنجليز لا غير" (1) ثم قال بألفاظه الصريحة التي تنبئ بما في الصدور: أنه لا جهاد علينا مسلمي الهند بنصوص القرآن العظيم، ومن يقول بوجوبه فهو مخالف للمسلمين ويريد إضرارهم" (2). ثم رد على من يستدل على جهاده بجهاد حسين بن علي رضي الله عنهما فقال: إنه لم يكن يريد القتال، بل سلط عليه القتال، وحرام على سلطان الإسلام الذي يجب عليه إقامة الجهاد أن يبدأ بقتال الكفار إذا لم يكن يكافئهم، فكيف ونحن لا نستطيع مكافئة الإنجليز ومحاربتهم" (3).ثم نصح المسلمين بقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: 105] – محرفاً الكلم عن مواضعه - (4).وأخيراً ختم كتابه هذا أيضاً بتكفير كل من يناضل ضد المستعمرين ويدعو إلى ترك الموالاة لهم والمعاملة معهم" (5). وقبله قد أفتى بتعطيل الجهاد في كتابه (دوام العيش) بقوله:"لا جهاد وقتال على مسلمي الهند (6).فشُهّر بين المسلمين بعمالة الاستعمار والعمل على حسابهم، ولأجل ذلك اضطر أحد مريديه إلى القول: بأن المسلمين ظنوا فيه ظن السوء" (7).والآخر كتب "إن أكثر مريديه ومعتقديه إنحرفوا عنه لاختلافه مع حركة الخلافة" (8). فهذه هي الأعمال التي قام بها في عصر كان مسلموا الهند فيه مبتلين بابتلاءات صعبة شديدة وكانوا يجتاحون فيه المراحل الحرجة والظروف الضيقة والأحوال العصيبة. ولا يمكن لمنصف أن يعرض عن القول بأن كل وزن البريلوي والبريلوية وثقلهم كان في كفة المستعمر الإنجليزي الغاصب إن لم يقل بعمالتهم وجاسوسيتهم وعملهم على حسابهم، لأنه أمر الناس بمقاطعة الجهاد والمجاهدين وترك موالاتهم ضد الاستعمار والمستعمرين بل خلاف ذلك أمر الناس بولايتهم وموالاتهم. فالمسلمون يقاطعون ويخاذلون، والنصارى المستعمرون يوالون ويناصرون. وعلى ذلك كتب الإنجليزي المشهور "فرانسس رابنسن":"إن البريلوي كان عمله حماية الحكومة الإنجليزية، فإنه أيد الحكومة في الحرب العالمية الأولى، واستمر في هذه الحماية والتأييد للحكومة حتى أيام حركة الخلافة سنة 1921م وعقد المؤتمر في بريلي وجمع فيه العلماء الذين كانوا يخالفون ترك موالاة الحكومة، والذين كان لهم أثر كبير في نفوس العامة المتعلمين والدارسين المسلمين" (9). المصدر: البريلوية عقائد وتاريخ لإحسان إلهي ظهير- ص36   (1) ((المحجة المؤتمنة)) لأحمد رضا (155). (2) ((المحجة المؤتمنة)) (208). (3) ((المحجة المؤتمنة)) (210). (4) ((المحجة المؤتمنة)) (602). (5) انظر خاتمة الكتاب (211). (6) ((دوام العيش)) (46). (7) مقدمة ((دوام العيش)) (18). (8) ((كتابي دنيا)) مقال حسن النظامي (2) نقلا عن مقدمة ((دوام العيش)) (18). (9) ((سيبترزم امنك اندين مسلمز)) (443)، ((كامبرج يونيورستي)) ط مطبعة كامبرج يونيورستي 1974م. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 373 المبحث الثالث: أبرز زعماء البريلوية فمن أبرزهم نعيم الدين المراد آبادي ولد في يناير سنة 1883م وكان معاصراً للبريلوي، ولم يكن بينهما أية رابطة سوى مخالفة كل واحد منهما الموحدين وأتباع الكتاب والسنة، وتأييد الرسوم والعادات الهندوسية التي دخلت على المسلمين باسم الدين وراجت فيه، ومناصرة البدعات، والتبرك بالقبور والتوسل بالصالحين، والنذور للأموات، وإقامة الأعياد التي تسمى الأعراس وغير ذلك من الأمور. "وإنه أسس مدرسة في مراد آباد بالهند وسماها في البداية "مدرسة أهل السنة" ثم غير إسمها وسماها "بالجامعة النعيمية" ويتلقب تلامذة هذه المدرسة والمتخرجون منها النعيميون. "وإنه أسس مدرسة في مراد آباد بالهند وسماها في البداية " مدرسة أهل السنة" ثم غير إسمها وسماها "بالجامعة النعيمية" ويتلقب تلامذة هذه المدرسة والتخرجون منها النعيميون. وكان المراد آبادي يشاهد ويرى شدة البريلوي وقسوته على السلفيين والدعاة إلى التوحيد الخالص، والعاملين بالكتاب والسنة، فكان يعجب به ويفرح، ويظهر سروره ويؤيده ويناصره ويكتب ويؤلف في تأييده وتوثيقه، كما كتب بعض الكتيبات في نفس المسائل التي أثار البحث حولها البريلوي. ومن أهم ما ألف هوامش القرآن الكريم باللغة الأردية وسمّاها (خزائن العرفان) التي نشرت فيما بعد مع ترجمة معاني القرآن إلى اللغة الأردية للبريلوي و (أطيب البيان) الكتاب الذي ردّ به على (تقوية الإيمان) للشهيد الشاه إسماعيل الدهلوي، و (الكلمة العليا) في إثبات علم الغيب للنبي صلى الله عليه وسلم وغيرها من الكتب والرسائل، ومات سنة 1948م، وطائفته تلقبه بلقب صدر الأفاضل" (1).ومن زعمائهم أمجد علي "ولد في كهوسي بولاية أعظم كره، ودرس في المدرسة الحنفية بجونبور، وتخرج سنة 1320هـ وأيد دعوة البريلوي ونصرها بكل قوة، ومكث مدة في بريلي عند البريلوي، وألف عدة مؤلفات في تأييد مسلكه وموقفه، وساعده في تكوين مذهبه وطائفته، ومن أهم ما صنفت كتاب فقه باسم (بهار شريعت) الذي بين فيه المسائل والأحكام في ضوء التعليمات البريلوية، وصار الكتاب فيما بعد موسوعة فقه للبريلوية ومات سنة 1367هـ الموافق سبتمبر 1948م" (2). ومن قادة البريلويين السيد ديدار علي الذي ولد في نواب بور بولاية ألور في الهند سنة 1270هـ ودرس على الشيخ أحمد على السهارنفوري، وبعد تخرجه سنة 1293هـ درس في المدارس الحنفية العديدة حتى استقر في مدينة لاهور، ويقول كاتب ترجمته: إنه وقي وحفظ مدينة لاهور من الوهابية والديوبندية ومن عقائدهم المسمومة وتوفي في أكتوبر سنة 1935م. ومن مؤلفاته (تفسير ميزان الأديان) في جزئين صغيرين و (علامات الوهابية) وبعض الكتيبات الأخرى" (3).ومن كبار زعمائهم حشمت علي ولد بالكهنو في الهند وكان أبوه من مريدي السيد عين القضاة وباشارة منه أدخله في المدرسة الفرقانية، فقرأ القرآن ودرس بعض الكتب في لكهنو ونشا وربي هناك ثم إنتقل إلى مدرسة البريلوي أحمد رضا "منظر إسلام" ودرس على يدي أمجد علي الذي يلقبه القوم بصدر الشريعة وفرغ من دراسته سنة 1340هـ واستلم الشهادة من ابن البريلوي أحمد رضا، ثم بدأ يروج تعاليم البريلوية ويناصرها فلقبه البريلوي "بغيظ المنافقين" وأعطاه سند خلافته، واشتهر بالرد على الوهابية والديوبندية ثم مرض بمرض سرطان ومات من ذلك سنة 1380هـ ودفن في بيلي بهيت في الهند" (4).   (1) ((تذكرة علماء أهل السنة))، و ((حياة صدر الأفاضل))، وحاشية ((الاستمداد)) لمصطفى رضا ابن البريلوي. (2) ((الاستمداد)) الهامش (90،91). (3) ((الاستمداد)) الهامش (94) و ((تذكرة علماء أهل السنة)). (4) ((تذكرة علماء أهل السنة)) لمحمود البريلوي (82،83) ط كانبور. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 374 ومن قادتهم مفتي أحمد يار نعيمي البدايوني."ولد في بدايون سنة 1906م ودرس مدة في "المدرسة الإسلامية" عند الديوبنديين ثم انتقل منها إلى مراد آباد ودرس عند السيد نعيم الدين المراد آبادي ولذلك يلقب نفسه بنعيمي، ثم عين مدرسا في مدرسته وبعد ذلك انتقل إلى مدن عديدة في الهند حتى استقر في كجرات وأسس مدرسة باسم "الجامعة الغوثية النعيمية" واسم مدرسته يدل على عقائده ومعتقداته، وكان من كبار المناصرين للبريلوي والبريلوية، وكتب كتبا عديدة لتأييد هذه الطائفة ونشر أفكارها وعقائدها، ومن أهمها كتابه (جاء الحق) الذي حاول فيه مناصرة مذهبه ومسلكه وكرس جهده في الرد على يسميهم الوهابيين، أتباع الكتاب والسنة وسالكي مسلك التوحيد في شبه القارة، وله هوامش على ترجمة القرآن للبريلوي سماها "نور العرفان" أيد فيها مسلكه وموقفه وأوّل كثيراً من الآيات من معانيها الأصلية ومدلولاتها الحقيقية، كأستاذه المراد آبادي وقائد طائفته البريلوي، وله أيضا رسالة "رحمة إله بوسيلة أولياء" و"سلطنة مصطفى" وغيرها من الكتيبات والرسائل ومات سنة 1971م" (1). المصدر: البريلوية عقائد وتاريخ لإحسان إلهي ظهير- ص51   (1) ((تذكرة أكابر أهل السنة)) (54 - 58) لشرف القادري، و ((اليواقيت المهرية)) (39) و ((سيرة سالك)) للكوكب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 375 المبحث الرابع: معتقدات البريلوية • المطلب الأول: الاستغاثة والاستعانة بغير الله . • المطلب الثاني: قدرة الأنبياء والأولياء واختياراتهم. • المطلب الثالث: سماع الموتى. • المطلب الرابع: مسألة علم الغيب. • المطلب الخامس: مسألة بشرية الرسول. • المطلب السادس: مسألة الحاضر والناظر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 376 المطلب الأول: الاستغاثة والاستعانة بغير الله أن البريلويين قالوا يقول لم يأت الإسلام إلا للرد عليه. وهو "إن لله عبادا إختصهم بحوائج الناس يفزعون إليها بحوائجهم" (1). وقال البريلوي: إن الاستعانة والاستغاثة بغير الله مشروع ومرغوب، ولا ينكره إلا مكابر أو معاند" (2). سواء كان المستغاث والمستعان من الأحياء أو الأموات، وسواء كان نبيا ورسولا أو وليا وصالحا لا فرق بينهم، فإنهم ولاة الأمور وقضاة الحاجات ودافعوا البليات وشافوا الأمراض وكاشفوا الكربات. ولقد نص على ذلك البريلوي والبريلويون حيث قالوا: الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأنبياء والصالحين جائزة" (3). ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو دافع البلاد ومانح العطاء" (4).و "إن جبرائيل عليه الصلاة والسلام قاضي الحاجات، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قاضي قضاة الحاجات حيث أنه علي السلام يقضي حوائج جبرائيل أيضا" (5). وعلى كذلك رضي الله تعالى عنه، كما نقل البريلوي: ناد عليا مظهر العجائب ... تجده عونا لك في النوائب كل هم وغم سينجلي ... بولايتك يا علي يا علي (6) والشيخ عبدالقادر الجيلاني رحمه الله تعالى، كما كذبوا عليه أنه قال: من استغاث بي في كربة كشفت عنه، ومن ناداني في كربة كشفت عنه، ومن نادى بإسمى في شدة فرجت عنه، ومن توسل بي إلى الله في حاجة قضيت حاجته" (7). وأيضا هناك صلاة غوثية: وصورتها أن يصلى ركعتين، ثم يخطو إلى بغداد إحدى عشرة خطوة، وكلما يضع قدمه يستغيث بالغوث "أي الشيخ الجيلاني" ويناديه باسمه ويقدم حاجته ويقرأ هذين البيتين: أيدركني ضيم وأنت ذخيرتي ... وأظلم في الدنيا وأنت نصيري وعار على حامى الحمى وهو منجدي ... إذا ضاع في البيداء عقال بعيري" (8) وكان البريلوي يقول: ياظل إله شيخ عبدالقادر ... شيئا لله شيخ عبدالقادر عطفا عطفا عطوف عبدالقادر ... اصرف عنا الصروف عبدالقادر (9) كما كتب: إن لأهل الدين مغيثا وهو عبدالقادر" (10). وقد قال: إنني لم استعن في حياتي أحدا ولم أستغث غير الشيخ عبدالقادر، كلما أطلب المدد أطلب منه، وكلما أستغيث أستغيث به، ومرة حاولت أن أستغيث وأستعين بولي آخر "حضرت محبوب الهي" وعندما أردت النطق باسمه للاستغاثة والاستعانة ما نطقت إلا بياغوثاه، فإن لساني يأبى أن ينطق الاستغاثة بغيره" (11). وأحمد زروق أيضا، كما ذكرو أن أحمد زروق قال في قصيدته: إنا لمريدي جامع لشتاته ... إذا ما سطا جورا الزمان بنكبة وإن كنت في ضيق وكرب ووحشة ... فناد بيازروق آت بسرعة (12) وابن علوان كذلك:"إن الإنسان إذا ضاع له شيء وأراد أن يرده الله فليقف على مكان عال مستقبل القبلة ويقرأ الفاتحة ويهدي ثوابها للنبي عليه الصلاة والسلام، ثم يهدي ثوابها لسيدي أحمد بن علوان، ثم يقول: يا سيدي يا أحمد بن علوان إن لم ترد عليّ ضالتي وإلا نزعتك من ديوان الأولياء" (13).   (1) ((الأمن والعلي)) للبريلوي (29) ط دار التبليغ لاهور. (2) رسالة ((حياة الموات)) للبريلوي المندرجة في ((الفتاوى الرضوية)) (4/ 300) ط باكستان. (3) رسالة ((حياة الموات)) للبريلوي المندرجة في ((الفتاوى الرضوية)) (4/ 300) ط باكستان. (4) ((الأمن والعلى)) للبريلوي (10). (5) ((ملفوظات)) (99) ط لاهور. (6) ((الأمن والعلى)) (13). (7) ((بركات الاستمداد)) للبريلوي في ((رسائل رضوية)) وأيضا ((فتاوى أفريقية)) ليربلوي (62) ((جاء الحق)) لأحمد يار (200). (8) و ((جاء الحق)) لمفتي البريلوية أحمد يار (200). (9) ((حدائق بخشش)) (186). (10) ((حدائق بخشش)) (181). (11) ((ملفوظات)) (307). (12) ((حياة الموات)) للبريلوي المندرج في ((الفتاوى الرضوية)) (4/ 300)، ((جاء الحق)) (199). (13) ((جاء الحق)) (199). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 377 والسيد محمد الحنفي أيضا: إن محمد الحنفي كان يتوضأ في خلوته، فيوما من الأيام خلع نعله ورماها في الفضاء وأعطى الثانية لخادمه وقال له: ضعها عندك حتى يأتي بالثانية أحد وبعد مدة طويلة جاء الشخص من الشام ومعه تلك النعل التي رماها الشيخ وغابت في الفضاء وقال: مرشيد وشيخي!، إن ناهبا جاء لينهبني وركب على صدري ليذبحني، فناديت يا سيدي محمد حنفي، فحضرت النعل من الغيب وضربت صدر ذلك الناهب فأغمى عليه فنجوت منه" (1). والسيد البدوي أيضا، فليقل المريد والمستغيث به: يا سيدي أحمد بدوي خاطر معي (2). ونقلوا عنه أنه قال: من كانت له حاجة فليأت إلى قبري ويطلب حاجة أقض حاجته" (3). وأبو عمران موسى أيضا:"كان إذا ناداه مريده أجابه من مسيرة سنة أو أكثر" (4). هذا وقالوا: كل من كان متعلقا بنبي أو رسول أو ولي فلابد له أن يحضره ويأخذ بيده في الشدائد" (5). ومشايخ الصوفية أيضا: مشايخ الصوفية يلاحظون أتباعهم ومريديهم في جميع الأحوال والشدائد" (6) والاستغاثة والاستعانة ليس بمشروع عند القوم من الأحياء فحسب، بل ومن أهل القبور أيضا، كما يقول البريلوي: إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا من أصحاب القبور" (7). وقال واحد منهم: إن زيارة القبور تنفع وتفيد، وإن أصحاب القبور يعينون الزوار" (8).و "إن المقصود من زيارة القبور أن يستفاد من أهلها" (9).و "إن قبر موسى الكاظم لدرياق أكبر" (10). وقال البريلوي: إن محمد بن الفرغل كان يقول: أنا من المتصرفين في القبور، فمن كانت له حاجة فليأت إلى قبالة وجهي ويذكر حاجة أقضها له" (11). كما نقل عن السيد البدوي أنه قال بعد مقولته: أقضها له":فإنما بيني وبينكم فداع من تراب، وكل رجل يحجبه عن أصحابه فداع من تراب فليس برجل" (12). فهذه هي عقائد القوم في الاستغاثة والاستعانة بغير الله، وقد قال الله عز وجل في كتابه المحكم الذي أنزله الهدية البشر وشفاء ورحمة للمؤمنين، قال فيه على لسان عباده الصالحين الذين علموا منه عقيدة التوحيد الخالص: العقيدة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5]. وقال جل مجده مستنكرا قول المشركين وفعلهم ومؤبخاً إياهم: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ [سبأ: 22]. وقال سبحانه وتعالى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُنَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر 13 - 14]. وقال مبينا فسادهم ومظهرا عوارهم:   (1) ((أنوار الانتباه في حل نداء يا رسول الله)) المندرج في ((مجموعة رسائل رضوية)) للبريلوي (1/ 180) ط كراتشي. (2) ((أنوار الانتباه في حل نداء يا رسول الله)) المندرج في ((مجموعة رسائل رضوية)) للبريلوي (1/ 180) ط كراتشي. (3) ((أنوار الانتباه في حل نداء يا رسول الله)) المندرج في ((مجموعة رسائل رضوية)) للبريلوي (1/ 180) ط كراتشي. (4) ((مجموعة رسائل رضوية)) للبريلوي (1/ 180) ط كراتشي. (5) ((فتاوى أفريقه)) للبريلوي (135). (6) ((حياة الموات)) المندرج في ((الفتاوى الرضوية)) (4/ 289). (7) ((الأمن والعلى)) (44). (8) ((كشف فيوض)) لمحمد عثمان البريلوي (39). (9) ((كشف فيوض)) لمحمد عثمان البريلوي (43). (10) ((كشف فيوض)) لمحمد عثمان البريلوي (57). (11) ((أنوار الانتباه)) (182). (12) ((أنوار الانتباه)) (181). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 378 قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلاَّ غُرُورًا [فاطر: 40]. وبين لهم مؤكدا: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ [الأعراف: 197]. وأيضا: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ [الرعد 14]. وأيضا: وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [العنكبوت: 22]. وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأل المشركين والمستعين بغير الله أن يجيبوه على سؤاله: أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ [الزمر: 38]. وأَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [النمل: 62]. ثم أراد إفهامهم فقال: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأعراف: 194]. وأيضا: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا [الرعد: 16]. وشنع عليهم قولهم بقوله عز شأنه: إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا [النساء: 117] ثم حكم عليهم بقوله: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف: 5]. وقد ذكر الله عز وجل في كتابه المحكم عديدا من الأنبياء وعباده الصالحين وهم احتاجوا إلى الاستغاثة والاستعانة والدعاء في مسائلهم ومشاكلهم والملمات التي المت بهم، فلم يستغيثوا ولم ينادوا إلا ربهم وحده من آدم إلى نوح، ومن إبراهيم إلى موسى، ومن يونس إلى خاتم النبيين وأشرف المرسلين محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، سواء كان مطالبة المغفرة أو الولد أو الشفاء أو النجاة من المآزق والمهالك، من البؤس والفقر والسجن وغير ذلك، أو طلب النصر، فلم يتقدموا بدعواتهم إلا إلى الله وحده، ولم ترد واقعة ولا حادثة استغاث أحد من عباد الله المقربين وأوليائه المنتخبين بأحد دونه وسواه. ولكن البريلوي يقول: كل من كان متعلقا بنبي أو رسول أو ولي قفلابد أن يأخذ بيده في الشدائد" (1).   (1) ((فتاوى أفريقه)) للبريلوي (135). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 379 وقال الآخر: إن جميع العالم للأولياء ككفة يد ينظرون إليها، وإن ناداهم أحد واستغاث بهم من أية بقعة كان يغيثونه ويقضون حوائجه" (1).هذا والرسول عليه الصلاة والسلام قال لابن عمه عبدالله ابن عباس رضي الله عنه: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جف القلم بما أنت لاق، فلو جهدت الخليفة على أن تنفعك لم تنفعك إلا بشيء كتبه الله لك، ولو جهدت أن تضرك لم تضرك إلا بشيء كتبه الله عليك)) (2). ولكن البريلوي يقول: إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا من أصحاب القبور" (3). ثم وأكثر من ذلك يطعن ويقدح في الذين ينكرون عليه هذا القول ولا يستغيثون إلا الله وحده ولا يستعينون إلا به ولا يتوكلون إلا عليه ولا يدعون إلا إياه إتباعا بالثقلين كتاب الله وسنة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، يشنع عليهم هذا المحدث المبتدع بقوله: حدث في زماننا شرذمة قليلة ينكرون الاستمداد من الأولياء، ويقولون ما يقولون وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون" (4). فذاك قول الله عز وجل وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة، وهذا قول البريلويين، وإنهم عكسوا الأمور حيث سموا متبعي الكتاب والسنة المحدثين، وسموا أنفسهم المتبعين والمتمسكين بأقاويل المتقدمين الذين ما أنزل الله بهم من سلطان مصداق قول الله عز وجل: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ [البقرة: 170]. ولا يعلمون أنهم لا يتبعون من المتقدمين إلا الذين لم ينزل الله إلا للرد عليهم، ولقد قال بأصرح الألفاظ وأظهرها: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186]. ووَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60]. وصدق الله مولانا العظيم.   (1) ((جاء الحق)) (138،139). (2) رواه الترمذي (2516) بلفظ: ( ... واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعواعلى أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف) وقال حسن صحيح, وحسنه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 327). وقال أحمد شاكر في تحقيقه لـ ((مسند أحمد)) (4/ 233): إسناده صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (3) ((الأمن والعلى)) (46). (4) رسالة ((حياة الموات)) المندرجة في ((الفتاوى الرضوية)) (4/ 301،302). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 380 المطلب الثاني: قدرة الأنبياء والأولياء واختياراتهم ويقرب من هذه المسألة ويتعلق بها مسألة أخرى، وهي مسألة قدرة الأنبياء والأولياء واختياراتهم حيث أن القوم جعلوا الله معطلا معزولا عن الاختيار والقدرة والاقتدار – عياذا بالله – لأن الاستغاثة والاستعانة والاستمداد والدعاء لا يكون إلا من القادر والمختار، وإن الأنبياء والصلحاء والأولياء انتقلت إليهم قدرة الله وملكه واختياراته – حسب زعمهم – ولم يبق عنده شيء، لذلك على الناس أن يرجعوا إليهم ويراجعوا إياهم، يستغيثوا بهم ويستعينوا منهم ويسألوا عنهم، والله فوض إليهم أموره ولم يبق عنده شيء، وصار متقاعدا متعطلا، عن العمل والقدرة، ونوابه أنبياءه وأولياؤه هم الذين أخذوا زمام الأمور في أيديهم، وهم ملاك الأرض ومن فيها وما فيها، وهم حكام السماء ولهم كلمة مطلقة، ينفذون أوامرهم في الكونين، ويتصرفون فيهما بما يشاؤن، وهم الذين يخلقون، وهم الذين يرزقون، وهم الذين يعطون ويمنعون، وهم الذين يحيون ويميتون، وهم الذين يدبرون الأمر، ومنهم النصر والمدد، ومنهم الشفاء والعطاء، ومن عندهم كل شيء. وليس لله إلا العبادات وهم له شركاء فيها أيضا. وقبل أن نسرد النصوص من كتب القوم نريد أن نلفت أنظار القراء إلى أن كفار مكة ومشركي الجزيرة وثنيى الجاهلية ما كانوا بأفسد منهم اعتقاداً أو أرداً منهم معتقدا الذين لم يأت إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لبيان ضلالهم وشركهم بالله وإصلاحهم وتطهيرهم من هذه الوثنيات والشركيات. وكذلك الأنبياء والرسل قبله هل جاؤا بشيء غير الرد على مثل هذه الأفكار الباطلة والنظريات الخبيثة الرديئة؟ وهل الرسول العظيم صلوات الله وسلامه عليه دعا في حياته المكية طوال ثلاثة عشر سنة إلى غير توحيد الألوهية والربوبية وتوحيد الأسماء والصفات؟ ثم وكيف يستسيغ لقوم ينسبون أنفسهم إلى الإسلام ويدعون النسبة إلى محمد بن عبدالله رسول الله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم حامل لواء التوحيد ورافع رأية وحدانية الله وقدرته واختياراته، والقائل بأمره: لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ [الدخان:8]. وبِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك: 1] وبِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ [المؤمنون: 88] وبِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس: 83] وإِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58] ووَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا [هود: 6] ووَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [العنكبوت: 60] وقُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ [سبأ: 36] واللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 26] وغير ذلك من الكثير الكثير الذي ملئ منه الكتاب العزيز الحميد. نعم كيف يستسيغ لهؤلاء الناس أن يدعوا الإسلام وانتسابهم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ثم ينكروا تعاليمه وإرشاداته وتوجيهاته، ويتنكروا على الآيات التي نزلت عليه، أنزلها رب السماوات والأرض رب العالمين، ونزل بها جبرئيل الروح الأمين على قلب سيد البشر رحمة للعالمين هدى للمتقين وبشرى للمحسنين ورحمة للمؤمنين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 381 فلينصف القراءة وليعدل الباحثون أيحق للقائلين بتلك المقولات أن ينسبوا إلى أفكارهم وأبطالهم آرائهم، ومن جاء حامله ومبلغه للقضاء على وثنياتهم وإشراكهم بالله: وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاء وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ [فاطر: 19 - 22] وصدق الله عز وجل: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [البقرة: 213]. فيا أسفا على هؤلاء الغفلة وقد تسرب الشرك إليهم ودبت الوثنيات والبدعيات والخرافات والجاهلية كبيب النمل وهم لا يدرون عنها. وقد استحوذ عليهم الشيطان فلقنهم على أنها هي الإسلام وهؤلاء الذين قال الله عز وجل فيهم: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف: 103 - 104] بعدما أخبر عنهم بقوله: سبحانه وتعالى: أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً [الكهف: 101 - 102] وإليكم نصوص الذين يضاهؤن قول الذين كفروا من قبل، فيقول البريلوي إن كل مفاتيح الكون في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مالك الكل، وأنه النائب الأكبر للقادر، وهو الذي يملك كلمة "كن". وأما ابنه فيكتبت تحته تأييد الأبيه نقلا عن واحد ممن كان على منوال أبيه وطائفته: كل ما ظهر في العالم فإنما يعطيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي بيده المفاتيح، فلا يخرج من الخزائن الإلهية شيء إلا على يديه، وإنه "صلى الله عليه وسلم" إذا رام الأمر لا يكون خلافه، وليس لذلك الأمر في الكون صارف" (1). وقال البريلوي أيضا: إن رسول الله ص هو المبرئ من السقم والآلام، والكاشف عن الأمة كل خطب وهو المحيى، وهو الدافع عن المعضلات، والنافع للخلق، والرفع للمراتب، وهو الحافظ والناصر، وهو دافع عن المعضلات، والنافع للخلق، والرفع للمراتب، وهو الحافظ والناصر، وهو دافع البلاء أيضاً، وهو الذي أبرد على الخليل النار، وهو الذي يهب ويعطى، وحكمه نافذ وأمره جار في الكونين" (2). وقال أيضا ناقلا عن واحد من أئمته: هو صلى الله عليه وسلم خزانة السر وموضع نفوذ الأمر، فلا ينفذ أمر إلا منه، ولا ينقل خير إلا عنه" (3). وقال أيضا: منه الرجا منه العطا منه المدد ... في الدين والدنيا والأخرى للأبد" (4)   (1) ((الاستمداد على أجيال الارتداد)) للبريلوي (32،33). (2) ((الاستمداد على أجيال الارتداد)) للبريلوي (29،30). (3) ((الأمن والعلى)) (105). (4) ((الفتاوى الرضوية)) (1/ 577). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 382 ويقول الآخر: إن رسول الله سيد الكونين سخى رزاق ونحن محتاجون إليه" (1).و "إن اسمه مكتوب على العرش ليلعم أن العرش ملكه وهو مالكه – عياذ بالله –" (2).و "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم متصرف في كل مكان" (3). ومثل ذلك قال البريلوي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خليفة الله الأعظم، وإنه متصرف في الأرض والسماء" (4). وبريلوي آخر نقل عن البريلوي أنه قال: إن رسول الله مالك الأرضين ومالك الناس ومالك الأمم ومالك الخلائق، وبيده مفاتيح النصر ولمدد، وبيده مفاتيح الجنة والنار، وهو الذي يعز في الآخرة، ويكون صاحب القدرة والاختيار يوم القيامة، وهو الذي يكشف الكروب ويدفع البلاء، وهو حافظ لأمته وناصر لها، وإليه ترفع الأيدي بالاستجداء" (5). وقال آخر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نائب الرب يعطي ما يشاء من يشاء، وينزع ما يشاء ممن يشاء" (6)."وإن الأرض في قبضته وتصرفه، وإن الجنة سلطنته ورياسته، وإنه هو قسام الأرزاق" (7). وقال مفتي البريلوية: إن جميع العالم وكل الأمور في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصرف فيه وفيها كما يشاء ويعطي منه ومنها ما يشاء من يشاء" (8). هذا والأنبياء الآخرون كذلك."إن الأنبياء يتصرفون في بواطن الخلق وأرزاقهم كما يتصرفون في ظواهر الخلق" (9). وصحابة الرسول كذلك، كما روى البريلوي روايات موضوعة في ذلك، منها: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ويؤتى بمنبرين من نور، فينصب أحدهما عن يمين العرش والآخر عن يساره، ويعلوهما شخصان، فينادي الذي عن يمين العرش: معاشر الخلائق! من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا رضوان خازن الجنة، إن الله أمرني أن أسلم مفاتيح الجنة إلى محمد وأن محمدا أمرني أن أسلمها إلى أبي بكر وعمر ليدخلا محبيهما الجنة، ألا فشاهدوا. ثم ينادي الذي عن يسار العرش: معاشر الخلائق! من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا مالك خازن النار، إن الله أمرني أن أسلم مفاتيح النار إلى محمد ومحمد أمرني أن أسلمها إلى أبي بكر وعمر ليدخلا مبغضيهما النار، ألا فاشهدوا" (10). وأيضا ما رواها: إن رسول الله قال: إن عليا قسيم النار يدخل أولياءه الجنة وأعداءه النار" (11). وأما الشيخ عبدالقادر الجيلاني فإنه غوث المغيثين وغياث المستغيثين، فإن البريلوي قال فيه: إن الشيخ عبدالقادر متصرف في العالم ومأذون له ومختار، وهو المدبر لأمور العالم" (12).و "ياغوثي أنت المحيى وأنت المميت، وأن النبي هو القاسم وأنت الموصل" (13). وينادي أيضا: يا ظل إله عبدالقادر ... ويا ملجأ العباد عبدالقادر ... إننا لمحتاجون وفقراء ... وأنت ذو التاج والكرم ... شيئا لله الشيخ عبدالقادر" (14) ... وقال في قصيدته العربية: حمدا يا مفضل عبدالقادر يا ذا الأفضال ... مولاى بما منت بالجود عليه من دون سؤال يا منعم يا مجمل عبدالقادر أنت المتعال ... امنن وأجب السائل عبدالقادر جد بالآمال" (15).   (1) ((مواعظ نعيمية)) (27) ط باكستان. (2) ((مواعظ نعيمية)) (41) ط باكستان. (3) ((مواعظ نعيمية)) (336) ط باكستان. (4) ((الفتاوى الرضوية)) (6/ 155). (5) ((أنوار رضا)) (240) مقال إعجاز البريلوي. (6) ((بهار شريعت)) لأمجد على جزء (1/ 15). (7) ((بهار شريعت)) لأمجد علي جزء (1/ 15). (8) ((جاء الحق)) لأحمد يار البريلوي (195). (9) ((جاء الحق)) لأحمد يار البريلوي (195،196). (10) ((الأمن والعلى)) للبريلوي (57). (11) ((الأمن والعلى)) للبريلوي (57). (12) ((حدائق بخشش)) للبريلوي (26). (13) ((حدائق بخشش)) للبريلوي (125،126). (14) ((حدائق بخشش)) للبريلوي (125،126). (15) ((حدائق بخشش)) للبريلوي (179). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 383 وقال: إن عبدالقادر فرش فراشه على العرش، وأنزل العرش على الفرش" (1). ويقول: إن عبدالقادر مغيث لأهل الدين" (2).و "إن الشيخ الجيلاني هو الغوث الذي حصلت له قدرة كلمة "كن فيكون" (3). ويكذبون على الشيخ الجيلاني أنه قال: وولاني على الأقطاب جمعا ... فحكمى نافذ في كل حال مريدي لا تخف واش فإني ... عزوم قاتل عند القتال طبولي في السماء والأرض دقت ... وشاؤس السعادة قدبالي بلاد الله ملكي تحت حكمي ... وأوقاتي لقلبي قد صفالي نظرت إلى بلاد الله جمعا ... كخردلة على حكم اتصال أنا الجيلي محي الدين اسمي ... وأعلامي على رأس الجبال" (4) كما يكذبون عليه أنه قال: إن أزمة أمر أهل الزمان على قلبي، وهو متصرف في عطائهم ومنعهم" (5). ونسبوا إليه أيضا أنه قال: إن قلوب الناس في يدي، إن أردت صرفها عني صرفتها، وإن أردت صرفتها إلى" (6). وقال الآخر: إن الشيخ الجيلاني هو غوث الأغواث، وإن له حق التثبيت في اللوح المحفوظ، وإنه يملك أن يجعل المرأة رجلا" (7).وأيضاً "أزال موت شخص كان مكتوبا في اللوح المحفوظ بأنه يموت، وهكذا غير قضاءه وقدره" (8). ونقل البريلوي عن أئمته في الضلال: إن الشيخ عبدالقادر كان يمشي في الهواء على رؤس الأشهاد في مجلسة ويقول: ما تطلع الشمس حتى تسلم على" (9). فمادام الشيخ عبدالقادر مأذونا مختارا، متصرفا، محييا، مميتا، مغيثا، معطيا، موصلا، فلماذا الدعاء إلى الله، ولماذا الاستغاثة به والاستعانة منه والتوكل عليه، فكلما يطلبه الإنسان يطلب من الشيخ الجيلاني – عياذا بالله -. ثم وليس هذا كله مختصا بالجيلاني والصحابة والأنبياء وسيد الرسل، بل أن عامة الأولياء والصالحين والمتصوفة ومشايخ الطرق يملكون كل هذه الأشياء ويقدرون عليها، وأن الأرض في قبضتهم، وأن السماء في ملكهم، كما ينقل البريلوي عن واحد من أمثاله أنه قال: إن أئمة الفقهاء والصوفية كلهم يشفعون في مقلديهم ويلاحظون أحدهم عند طلوع روحه وعند سؤال منكر ونكير له وعند الحشر والنشر والحساب والميزان والصراط ولا يغفلون عنهم في موقف من المواقف ... وجميع الأئمة المجتهدين يشفعون في أتباعهم ويلاحظونهم في شدائدهم في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة حتى يجاوزوا الصراط" (10). وهو الذي قال: إن ملك "البدل" من السماء إلى الأرض، وإن ملك "العارف" من العرش إلى الفرش" (11). وأما البريلوي فإنه قال: إن نظام الخلق قائم بوساطة الأولياء" (12).و "إن الأولياء يحيون الأموات ويبرؤن الأكمة والأبرص، ويطوون الأرض كلها بقدم واحد" (13).و "لا يخلو زمان من الغوث، ولا تقوم السموات والأرض إلا به (14).   (1) ((حدائق بخشش)) للبريلوي (184). (2) ((حدائق بخشش)) للبريلوي (179). (3) ((حدائق بخشش)) للبريلوي (122). (4) ((الزمزمة القمرية في الذب عن الخمرية)) (356) وما بعد. (5) ((خالص الاعتقاد)) للبريلوي (49). (6) ((حكايات رضوية)) للبركاتي منقولة عن ((ملفوظات)) للبريلوي (125). (7) ((باغ فردوس)) لأيوب على رضوي البريلوي (26) ط بريلي الهند. (8) ((باغ فردوس)) لأيوب علي رضوي البريلوي (26) ط بريلي الهند. (9) ((الأمن والعلى)) للبريلي (109). (10) ((الاستمداد)) الهوامش (35،36). (11) ((الاستمداد)) الهوامش (34). (12) ((الأمن والعلى)) (24). (13) ((الحكايات الرضوية)) (44). (14) ((الحكايات الرضوية)) (102). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 384 وقال الآخر منهم: إن أولياء الله ينصرون أولياءهم ويدمرون أعداءهم (1).و "إن للأولياء قدرة واختيار أن يرجعوا السهم المطلق من الرمية إليها" (2).و "إن الوهابيين يقولون: إن أولياء الله لا يستطيعون دفع الذباب عن قبورهم ولكنهم لا يعلمون أن لهم قدرة أن يقلبوا العالم كله ولكنهم لا يتوجهون إلى ذلك" (3).و "إن أولياء الله لهم تأثر في تغيير القضاء المعلق" (4). ويقول الآخر: إن تصرف الأولياء يزداد بعد وفاتهم" (5). هذا ومثل هذا كثير جدا. فهذه هي معتقدات القوم في الأولياء والصالحين وفي الأنبياء والمرسلين كمعتقدات النصارى واليهود في المسيح وعزيز والكليم، وكعقيدة المشركين والوثنيين القدامى في اللات والهبل والعزى والمناة ويغوث ويعوق ونسر وغيرهم من عباد الله الصالحين الذين جعلوهم لله شركاء. ومادام أن أنبياء الله ورسله وأولياء الله وصلحاءه يملكون هذه القدرة والاختيار فلابد أن يحصل لمؤسس هذه الطائفة نصيب منها. وفعلا نسب أنصاره ومناصروه إلى البريلوي أحمد رضا أكثر مما نسبه هو والآخرون إلى المشايخ والصالحين والأولياء. فقالوا فيه: إنه مالك ورزاق وسيد مرشد ومالك وشافع ومغيث وغير ذلك" (6). ويناديه أحد أتباعه ويدعوه بقوله: يا سيدي يا رزاق أعطني من نوالك، لأن كلبك هذا راج لعطائك منذ مدة فانظر إلى عبيدك هذا بنظرة الكرم، لأنه مهما ارتكب من الأخطاء والذنوب فإنه كلبك" (7).وأيضا "إن تركنا بابك يا أحمد رضا فمن أين نسأل ونستجدي، لم يخب أحد من بابك، فإنك يا أحمد رضا تعطي السائلين كل ما يطلبونه" (8). وقيل في قبره: إن قبره ومزاره دار الشفاء للمرضى، وإنه حلال المشاكل ومسهل الأمور وقاضي الحاجات" (9).و "إن المرضى كانوا يستشفون من عيسى، ولكن أحمد رضا يحيى الأموات" (10). وقال الآخر: إن أحمد رضا هو المبصر للقلوب والأعين، وهو معطي الإيمان، وهو المنجي في الكونين" (11). ويقول: إن أحمد رضا هو الرزاق وهو مجيب الدعوات وهو حلال المشاكل، وهو الغوث وقطب الأولياء، وهو الذي كان له الظل في الحشر يوم لا يكون هناك الظل، وتحصل معيته في القبر والحشر والنشر، وإنه هو الرزاق ونحن فقراء إليه" (12). فهذا هو القوم وهذه هي معتقداتهم مخالفة تماما لتعاليم الرحمن الذي بينهما في القرآن، وتعاليم الرسول الكريم التي ثبتت بالأحاديث الصحيحة الثابتة عنه صلوات الله وسلامه عليه، بل هي عين تلك العقائد التي كان مشركو قريش وكفار الجزيرة وأهل الجاهلية الأولى يعتقدونها ويؤمنون بها، ولم يأت نبي الله تبارك وتعالى وصلواته وسلامه عليه إلا للقضاء عليها وإبطالها كما بيناه سابقا. وقبل أن نختم هذا البحث نريد أن نورد ههنا ما كتبه علامة شبه القارة ووحيد عصره النواب الشيخ صديق حسن خان في تفسيره "فتح البيان" تحت قول الله عز وجل: قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما يشاء الله:   (1) ((رسول الكلام)) لديدار علي البريلوي (129) ط لاهور. (2) ((جاء الحق)) لأحمد يار (197). (3) ((جاء الحق)) لأحمد يار (213). (4) ((بهار شريعت)) جزء أول (6). (5) ((الفتاوى النعيمية)) (249). (6) انظر لذلك ((مدائح أعلى حضرة)) لأيوب رضوي (4،5). (7) انظر لذلك ((مدائح أعلى حضرة)) لأيوب رضوي (4،5). (8) انظر لذلك ((مدائح أعلى حضرة)) لأيوب رضوي (4،5). (9) ((مدائح أعلى حضرة)) (9) وما بعد. (10) ((مدائح أعلى حضرة)) (25). (11) ((نغمة الروح)) لعبدالستار البريلوي (42). (12) ((نغمة الروح)) (46). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 385 وفي هذا أعظم وازع وأبلغ زاجر لمن صارديدنه وهجيراه المناداة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الاستعانة به عند نزول النوازل التي لا يقدر على دفعها إلا الله سبحانه، وكذلك من صار يطلب من الرسول ما لا يقدر على تحصيله إلا الله سبحانه، فإن هذا مقام رب العلمين، الذي خلق الأنبياء والصالحين وجميع المخلوقين، ورزقهم وأحياهم ويميتهم، فكيف يطلب من نبي من الأنبياء، أو ملك من الملائكة، أو صالح من الصالحين ما هو عاجز عنه غير قادر عليه؟ ويترك الطلب لرب الأرباب، القادر على كل شيء، الخالق الرزاق المعطي المانع؟ وحسبك بما في الآية من موعظة، فإن سيد ولد آدم وخاتم الرسل يأمره الله بأن يقود لعباده: لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا: فكيف يملكه لغيره؟ وكيف يملكه غيره – ممن رتبته دون رتبته، ومنزلته لا تبلغ إلى منزلته – لنفسه، فضلا عن أن يملكه لغيره؟ فيا عجبا لقوم يعكفون على قبور الأموات الذين قد صاروا تحت أطباق الثرى ويطلبون منهم الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل كيف لا يتيقظون لما وقعوا فيه من الشرك، ولا ينتبهون لما حل بهم من المخالفة لمعنى "لا إله إلا الله"، ومدلول "قل هو الله أحد"؟ وأعجب من هذا إطلاع أهل العلم على ما يقع من هؤلاء ولا ينكرون عليهم، ولا يحولون بينهم وبين الرجوع إلى الجاهلية الأولى، بل إلى ما هو أشد منها، فإن أولئك يعترفون بأن الله سبحانه هو الخالق الرزاق، المحيى المميت، الضار النافع، وإنما يجعلون أصنامهم شفعاء لهم عند الله، ومقربين لهم إليه، وهؤلاء يجعلون لهم قدرة على الضر والنفع، وينادونهم تارة على الاستقلال، وتارة مع ذي الجلال، وكفاك من شر سماعه، والله ناصر دينه، ومطهر شريعته من أوضار الشرك، وأدناس الكفر، ولقد توسل الشيطان – أخزاه الله – بهذه الذريعة إلى ما تقربه عينه، وينثلج به صدره، ومن كفر كثير من هذه الأمة المباركة "وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا"، إنا لله وإنا إليه راجعون" (1). هذا وذكر شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في فتاواه قول بايزيد البسطامي أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق. وقول الشيخ أبي عبدالله القرشي المشهور بالديار المصرية، استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون، كما نقل دعاء موسى عليه السلام الذي كان يدعو به: أللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك. – ثم بعد ذلك: لا يعرف عن أحد من المسلمين أنه جوز مطلق الاستغاثة بغير الله، ولا أنكر على من نفى مطلق الاستغاثة عن غير الله" (2).   (1) ((فتح البيان)) للنواب صديق حسن خان (4/ 225). (2) ((فتاوى شيخ الإسلام)) (1/ 112). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 386 المطلب الثالث: سماع الموتى ويتعلق بالمسألتين السابقتين أي مسألة الاستغاثة والاستعانة عن غير الله، ومسألة قدرة الأنبياء والأولياء واختياراتهم مسألة سماع الموتى، لأن الجهال الذين ينادون الأنبياء والرسل والأولياء والصالحين بعد موتهم ويدعونهم من دون الله عز وجل، لا يدعونهم ولا ينادونهم إلا للاعتقاد بأن الموتى يسمعون ويستجيبون لندائهم ودعائهم مع تملكهم القدرة والاختيار. ولأجل ذلك قالوا: إن الأولياء والصالحين يسمعون ويبصرون في قبورهم أكثر مما كانوا يسمعون ويبصرون في حياتهم" (1). لأنهم في معتقدهم قبل موتهم كانوا عاجزين، وبالأسباب الكونية مقيدين، فإذا ماتوا انطلقوا وتفلتوا من تلك الأسباب، وعلى ذلك يقول أحد البريلويين: إن النفوس القدسية إذا تجردت عن العلائق البدنية اتصلت بالملأ الأعلى وترى وتسمع الكل كالمشاهد" (2). وقال الآخر: إن الموتى يسمعون، وإن المقربين بعد موتهم ليغيثون" (3). والثالث قال: إن الشيخ الجيلاني يرى في كل حين، ويسمع نداء الجميع" (4).وأما البريلوي فقد كتب: إن الأموات ليسمعون، إذ لا يخاطب" إلا من يسمع" (5). ولقد كتب رسالة مستقلة باسم "الوفاق المبين بين سماع الدفين وجواب اليمين" التي طبعت في ضمن الرسائل التي شكلت وكونت منها "الفتاوى الرضوية". وقد حكي عدة حكايات كاذبة أثبت بها أن الموتى يسمعون، بل أكثر من ذلك أنهم يتكلمون أيضا. ومنها هذه الحكاية التي ذكرت في "ملفوظات" و "الحكايات الرضوية":أن السيد إسماعيل الحضرمي مر على المقابر ومعه أصحابه فوقف على أربعين قبرا وقفة طويلة وبدأ يبكي حتى انتصف النهار فضحك، فسئل عن أسباب بكاءه وضحكه فقال مررت على هذه القبور لأن أصحابها الأربعين كانوا يعذبون فبدأت أشفع لهم عند الرب وأبكى على عذابهم حتى رفع عنهم العذاب ولما انتهيت سمعت امرأة تناديني من آخر المقابر وتقول: يا سيدي! أنا مغنية فلانة فشفعت لهم وحرمتني عنها فضحكت من قولها وقلت لها: أنت منهم، ورفع عنها العذاب" (6). هذا ويقول آخر من أتباعه: يجوز النداء بعلي وغوث لأن هؤلاء المحبوبين لدى الله يسمعون بعد موتهم" (7). هذا ولقد قال البريلوي أكثر من ذلك. وهو: إن الأولياء والأنبياء لا يموتون ويدفنون أحياء وحياتهم في القبر حياتهم في الدنيا بل أكثر منها وأفضل، فيقول البريلوي في الأنبياء: إن حياة الأنبياء حياة حقيقية حسية دنيوية يطرأ عليهم الموت لثانية من الثواني ليصدق وعد الله، وإلا بعد الثانية من الوقت يرجع لهم الحياة ويصيرون كما كانوا ويحكم على هذه الحياة بالأحكام الدنيوية ولأجل ذلك لا يقسم ميراثهم ولا يزوج من أزواجهم ولا عليهم من عدة فإنهم يأكلون في قبورهم ويشربون ويصلون" (8). وقال الآخر: إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة ولكنهم يصلون بين يدى الله" (9). ويقول الآخر: إن الأنبياء أحياء في قبورهم وهم يمشون فيها ويتماشون، يصلون فيها ويتكلمون، وفي أمور الخلق يتصرفون" (10).   (1) ((بهار شريعت)) لأمجد علي (56). (2) ((بهار شريعت)) لأمجد علي (18،19). (3) ((علم القرآن)) لأحمد يار (189). (4) ((إزالة الضلالة)) لمفتي عبدالقادر (6)، وقد وثق هذا الكتاب من قبل البريلوي ط لاهور. (5) ((الفتاوى الرضوية)) (4/ 327). (6) ((الحكايات الرضوية)) أي المجوعة التي اشتملت على الحكايات التي حكاها البريلوي عن طاقة الأولياء والصالحين واختياراتهم (57). (7) ((الفتاوى النورية)) لنور لله القادري (527). (8) ((ملفوظات للبريلوي)) (3/ 276). (9) ((رسول الكلام)) لديدار علي (1). (10) ((حياة النبي)) للكاظمي (3) ط ملتان باكستان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 387 وأما النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فيقولون: إنه قبل دفنه صلى الله عليه وسلم كان حيا يتكلم كما صرح بذلك القوم، فيقول البريلوي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل به الصحابة إلى قبره كان يتكلم ويقول أمتي أمتي" (1). ويقول الآخر: لم يطرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا للحظة لأنه عندما أريد قبض روحه للحظة كانت الحياة موجودة في جسده" (2). والثالث قال: لا فرق بين موته وحياته عليه السلام في معرفته بأحوالهم ونياتهم وعزائمهم وخواطرهم، وذلك جلى عنده لا خفاء به" (3). ويقول الآخر: إن الناس لما فارقوا المدينة في وقعة الحرة أياما ثلاثة ولم يدخل أحد المسجد النبوي الشريف كان يسمع الأذان من قبر النبي صلى الله عليه وسلم في الأوقات الخمسة" (4) وآخر يقول: لما وضعت جنارة أبي بكر رضي الله عنه أمام الحجرة الشريفة نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس قد سمعوا نداءه: أدخلوا الحبيب إلى الحبيب" (5). هذا وليس هذا مختصا بالأنبياء. فالأولياء والصلحاء مثلهم في ذلك، كما يقول أحد البريلويين: إن أولياء الله لا يموتون ولكن ينتقلون من دار إلى دار" (6). وبنفس ذلك قال البريلوي نفسه حيث كتب: إن حضرات الأولياء أحياء بعد وصالهم "أي وفاتهم"، ولهم تصرفات وكرامات باقية، وفيوضهم جارية، وإعانتهم وإغاثتهم ثابتة" (7). ويقول الآخر: إن موت أولياء الله كمثل الرؤية التي يرونها للحظة كالبرق الخاطف" (8). وأما البريلوي فإنه قال: إن الأولياء أحياء في قبورهم بالحياة الدائمية، ويكون علمهم وإدراكهم وسمعهم وبصرهم أقوى من قبل" (9). ونقل عن أئمته أنهم قالوا: إن الأولياء أحياء وإن ماتوا، وإنما ينقلبون من دار إلى دار" (10).و "إن شخصا مات، ولما حضره شيخه ليقبره فتح عينيه، فقال له: حي أنت؟ قال: نعم أنا حي، وكل محب الله. حي" (11).وعنون: إن الأنبياء والأولياء والشهداء أحياء بأبدانهم مع أكفانهم" (12). كما يحكى: إن شخصا مسافرا اظلم عليه الليل، فأراد الاستراحة فوضع أمتعته ونام ووضع رأسه على كوم مرتفع، فلما أصبح رأى أن هذه الكومة قبر لشخص، فإذا يناديه صاحب ذلك القبر ويشكو إليه: لقد آذيتني منذ الليلة" (13). ويتسابق القوم في الكذب حيث يحكى الآخر: إن شخصا مات فغسلوه وكفنوه فنادى: عجلوا بي وبجنازتي، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرني ليصلى علي" (14). فهذه هي ترهات القوم، وهذه هي عقيدتهم مخالفة لما قال الله عز وجل وقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنافية لشريعة الإسلام النقية الصافية عن شوائب الشرك والوثنية والأوهام، وإنما اعتقد القوم بهذه العقائد ليجعلوا لله شركاء وأندادا كعمل أهل الجاهلية الأولى الذين قال الله عز وجل فيهم:   (1) رسالة ((نفي النفي عمن أنار بنوره كل شيء)) للبريلوي المندرجة في ((مجموعة رسائل رضوية)) (1/ 221) ((حياة النبي)) للكاظمي (47). (2) ((حياة النبي)) (104). (3) ((جاء الحق)) لأحمد يار البريلوي (150،151). (4) ((هداية الطريق في بيان التحقيق والتقليد)) لديدار على البريلوي (86). (5) ((حياة النبي)) (125). (6) ((الفتاوى النعيمية)) لاقتدار بن أحمد يار البريلوي (245). (7) ((الفتاوى الرضوية)) (4/ 236). (8) ((الفتاوى النعيمية)) (245). (9) ((الحكايات الرضوية)) (44). (10) ((أحكام قبور مؤمنين)) المندرج في ((رسائل رضوية)) (243). (11) ((أحكام قبور مؤمنين)) المندرج في ((رسائل رضوية)) (245). (12) أنظر لذلك رسالة ((أحكام قبور مؤمنين)) (239). (13) ((أحكام قبور مؤمنين)) (247). (14) ((حياة النبي)) للكاظمي البريلوي (46). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 388 وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف: 5] وقال تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ [الأعراف: 191 - 198] هذا ولقد حكى الله عز وجل عن مشركي قريش والجزيرة عقيدتهم في الاستغاثة بالله والاستعانة بغير الله في قوله: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [يونس: 22] يعني أنهم على الأقل في أسفارهم البحرية لا ينادون إلا الله لاعتقادهم أن غير الله ومن دون الله لا يستطيعون نصرهم في البحار ولا يقدرون عليها. خلافا لهذا القوم فإنهم لا يستغيثون لا في البر ولا في البحر إلا بغير الله، ولا ينادون إلا غيره، كما نقلنا عن البريلوي أنه قال: إني لم أستغث في حياتي أحدا ولم أستعن بغير الشيخ عبدالقادر، كلما أطلب المدد أطلب من الشيخ الجيلاني، وكلما أستغيث استغيث به" (1). ولأجل ذلك كتب الشيخ الآلوسي المفسر الحنفي في تفسيره تحت هذه الآية: فالآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره تعالى في تلك الحال، وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير، وخطب جسيم، في بر أو بحر دعوا من لا يضر ولا ينفع، ولا يرى ولا يسمع، فمنهم من يدعو الخضر وإلياس، ومنهم من ينادي أبا الخميس والعباس، ومنهم من يستغيث بأحد الأئمة، ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشايخ الأمة، ولا ترى أحدا فيهم يخص مولاه بتضرعه ودعاه ويكاد يمر له ببال أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال، فبالله عليك قل لي: أي الفريقين من هذه الناحية أهدي سبيلا، وأي الداعيين أقوم قيلا؟ وإلى الله المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة، وتلاطمت أمواج الضلالة، وخرقت سفينة الشريعة، واتخذت الاستغاثة بغير الله تعالى للنجاة ذريعة، وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف، وحالت دون النهى عن المنكر صنوف الحتوف" (2). وأما السيد رشيد رضا المصري فإنه كتب: وفي هذه الآية وأمثالها بيان صريح لكون المشركين كانوا لا يدعون في أوقات الشدائد وتقطع الأسباب بهم إلا الله ربهم، ولكن من لا يحصى عددهم من مسلمي هذا الزمان بزعمهم لا يدعون عند أشد الضيق إلا معبوديهم من الميتين كالبدوي والرفاعي والدسوقي والجيلاني والمتبولي وأبي سريع وغيرهم ممن لا يحصى عددهم، وتجد من حملة العمائم الأزهريين وغيرهم ولا سيما سدنة المشاهد المعبودة الذين يتمتعون بأوقافها ونذورها من يغريهم بشركهم، ويتأوله بتسميته بغير اسمه في اللغة العربية كالتوسل وغيره. وقد سمعت من كثيرين من الناس في مصر وسورية حكاية يتناقلوننها، وربما تكررت في القطرين لتشابه أهلهما وأكثر مسلمي هذا العصر في خرافاتهم، ملخصا: إن جماعة ركبوا البحر، فهاج بهم حتى اشرفوا على الغرق، فصاروا يستغيثون معتقديهم، فبعضهم يقول: يا سيد يابدوي! وبعضهم يصيح: يا رفاعي! وآخر يهتف: يا عبدالقادر يا جيلاني! ... الخ، وكان فيهم رجل موحد ضاق بهم ذرعا فقال: يا رب أغرق أغرق، ما بقي أحد يعرفك" (3). فالله نسأل أن يهدينا إلى سواء السبيل ويحفظنا من الشرك والمشركين.   (1) ((ملفوظات)) (307). (2) نقلا عن ((الآيات البينات في عدم سماع الأموات)) مقدمة (17). (3) ((تفسير المنار)) (11/ 338،339). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 389 المطلب الرابع: مسألة علم الغيب ومن أهم المعتقدات التي يعتقد بها البريلويون خلاف أهل السنة هي عقيدتهم بأن الأنبياء ورسل الله والصالحين من عباده والأولياء يعلمون الغيب، غيب السموات والأرض، مخالفين النصوص الصريحة من الكتاب والسنة وحتى الفقه الحنفي أيضا مع انتسابهم إلى الحنفية، فالله تبارك وتعالى يقول في محكم كتابه: قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ [النمل: 65] وقال: إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [فاطر: 38] وقال جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحجرات: 18] ووَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ [هود: 123] وأمر لنبيه أن يقول: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ [يونس: 20]. وقال تبارك وتعالى: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [الأنعام: 59]. وقال وهو أصدق القائلين: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34] هذا ومثل هذا فإنه لكثير، وبمثل هذا ورد في الأحاديث الشريفة التي يأتي بيان بعضها أثناء الكلام، ولكن البريلويين يقولون عكس ذلك: إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يعلمون، بل يرون ويشاهدون جميع ما كان وما يكون من أول يوم إلى آخره (1).و "أن الأنبياء يعلمون الغذيب منذ ولادتهم" (2).هذا وأما النبي صلى الله عليه وسلم، فحصل له جميع العلوم الجزئية والكلية وأحاط بها" (3). وقال: إن علم اللوح وعلم القلم وعلم ما كان وما يكون جزءا واحدا من علوم النبي صلى الله عليه وسلم" (4).و "إن علومه "أي النبي صلى الله عليه وسلم" تتنوع إلى الجزئيات والكليات وحقائق ودقائق وعوارض ومعارف تتعلق بالذات والصفات، وعلم اللوح والقلم إنما يكون سطراً من سطور علمه ونهرا من بحور حلمه، ثم مع هذا ببركة وجوده صلى الله عليه وسلم، هو وسع العالمين علما وحلما" (5). كما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم عليم بجميع الأشياء من شئونات الإلهية وأحكام صفات الحق والأسماء والأفعال والآثار وأحاط بجميع العلوم الظاهرة والباطنة والأولى والآخرة" (6). وقال الآخر من طائفته: ولم يحجب عن روح النبي صلى الله عليه وسلم شيء من العالم، فهو مطلع على عرشه وعلوه وسفله ودنياه وآخرته وناره وجنته، لأن جميع ذلك خلق لأجله صلى الله عليه وسلم" (7).وقال: إن علم النبي صلى الله عليه وسلم محيط بجميع المعلومات الغيبية الملكوتية" (8).   (1) نص ما قاله البريلوي أحمد رضا في رسالته ((الدولة المكية بالمادة الغيبة)) (58) ط لاهور باكستان. (2) ((مواعظ نعيمية)) لأحمد يار البريلوي (192). (3) ((الدولة المكية)) (230). (4) ((خالص الاعتقاد)) للبريلوي (38). (5) ((خالص الاعتقاد)) للبريلوي (38). (6) ((الدولة المكية)) (210). (7) ((الكلمة العليا لإعلاء علم المصطفى)) لنعيم الدين المراد آبادي (14). (8) ((الكلمة العليا لإعلاء علم المصطفى)) لنعيم الدين المراد آبادي (56). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 390 وقال الآخر: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم جميع المخلوقات والموجودات وجميع أحوالهم تماما وكمالا من ماضيهم وحالهم ومستقبلهم، ولا يخفى عليه خافية، كما أنه يعلم خالقهم وبارئهم" (1) وآخر أراد أن يسبق هذا فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم الذي يعلم أحوال قلوب الجمادات والحيوانات ألا يعلم أحوال قلوب عشاقه ومحبيه" (2).و "إن النبي صلى الله عليه وسلم لو وضع قدمه على حيوان لعلم الحاضر والغائب، فالوي الذي يضع عليه النبي صلى الله عليه وسلم يده كيف لا يصير عالما للشاهد والغائب" (3).و "أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جازمون بإطلاعه على الغيب" (4). وأكثر من ذلك "أن النبي عليه الصلاة والسلام يعلم الغيوب الخمسة التي هي مخصوصة بذات الله تبارك وتعالى، والتي قال عنها الرب جل مجده: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34] اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد: 8 - 9] وقال جل مجده: إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى [طه: 15] وقال عز وجل مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الأعراف: 187] وأيضا قال الله عز وجل: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ [الأحزاب: 63] وقال عز وجل: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ [الأنعام: 2] وغير ذلك من الآيات الكثيرة مثل وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الزخرف: 85]. ووَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ [الأنعام: 59] والرسول عليه الصلاة والسلام نفسه نفى هذه الغيوب عنه وعن غيره وبين أنها مختصة بالرب جل مجده لا يشاركه أحد في العلم بها، كما ورد في حديث جبرئيل المشهور ((أنه قال في جواب سائل سأله: متى الساعة؟ قال "عليه الصلاة والسلام": ما المسئول عنها بأعلم من السائل وسأخبرك عن أشراطها إذا ولدت الأمة ربها وإذا تطاول رعاة إبل البهم في البنيان في خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ .. [لقمان: 34])) (5). وقال عليه السلام: ((مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غدا إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله)) (6).   (1) ((تسكين الخواطر في مسألة الحاضر والناظر)) لأحمد سعيد الكاظمي البريلوي (65) ط سكر، باكستان. (2) ((مواعظ نعيمية)) لاقتدار. (3) ((مواعظ نعيمية)) لاقتدار (364،365). (4) ((خالص الاعتقاد)) (28). (5) رواه البخاري (50)، ومسلم (9). من حديث أبي هريرة واللفظ للبخاري. (6) رواه البخاري (7379)، من حديث عبدالله ابن عمر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 391 وأيضا ما رواه جابر رضي الله عنه أنه قال: ((سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بشهر: تسألوني عن الساعة؟ وإنما علمها عند الله)) (1). وعن بريدة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((خمس لا يعلمهن إلا الله، عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت)) (2). هذا ومثل هذه الروايات كثيرة جدا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن القوم يقولون عكس ذلك تماما، فها هو البريلوي يقول: لم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن أعلمه الله تعالى بهذه الغيوب الخمس" (3).و "إنه صلى الله عليه وسلم أوتي علم الخمس في آخر الأمر لكنه أمر فيها بالكتمان" (4). وقال الآخر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم غيوب الماضي والمستقبل ويعلم أكثر ما في اللوح المحفوظ ويعلم علم الساعة" (5). وينقل عن أمثاله: يعلم محمد عليه السلام ما بين أيديهم من الأمور الأوليات قبل الخلائق وما خلفهم من أحوال القيامة وفزع الخلق وغضب الرب .... وهو شاهد على أحوالهم، ويعلم ما بين أيديهم من سيرهم ومعاملاتهم وقصصهم وما خلفهم من أمر الآخرة وأحوال أهل الجنة والنار وهم لا يعلمون شيئا من معلوماته إلا بما شاء من معلوماته، وعلم الأنبياء من الأولياء بمنزلة قطرة من سبعة أبحر، وعلم نبيا من الأنبياء بهذا المنزلة" (6). ثم يقول: لا فرق بين موته وحياته صلى الله عليه وسلم في مشاهدته لأمته ومعرفته بأحوالهم ونياتهم وعزائمهم" (7). ويقال آخر: إن رسول الله يشاهد من المدينة العالم كله" (8). وكذب الآخر على نبي الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((علمي بعد وفاتي كعلمي في حياتي يا أهل الهدى وأولى الفضل والتقى)) (9) (10). وليس هذا فحسب، بل قال البريلوي: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم هذه الغيوب الخمسة فحسب، بل كان يعطى هذه العلوم من شاء من خدمه" (11). وقال الآخر: إن المراد من قول الله عز وجل وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 3] هو النبي صلى الله عليه وسلم" (12).   (1) رواه مسلم (2538). (2) رواه أحمد (5/ 353) (23036). قال ابن كثير في ((تفسيره)) (6/ 355): إسناده صحيح، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 92): رجال أحمد رجال الصحيح. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (3255). (3) ((خالص الاعتقاد)) للبريلوي (53). (4) ((خالص الاعتقاد)) للبريلوي (56)، أيضا ((الدولة المكية بالمادة الغيبية)) (144). (5) ((جاء الحق)) (43). (6) ((جاء الحق)) (50،51). (7) ((خالص الاعتقاد)) (39) أيضا ((جاء الحق)) (151). (8) ((مواعظ نعيمية)) لأحمد يار (326). (9) موضوع, انظر ((السلسلة الضعيفة)) (5875). (10) ((رسول الكلام لبيان المولد والقيام)) لديدرا علي (1). (11) ((خالص الاعتقاد)) للبريلوي (14). (12) ((تسكين الخواطر)) للكاظمي البريلوي (52،53). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 392 ثم وهذه الغيوب الخمسة لم يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم وحده، بل يعلمها كثير من الناس، كما صرح بذلك البريلوي حيث قال ناقلا عن أمثاله: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخفى عليه شيء من الخمس المذكورة في الآية الشريفة، وكيف يخفى عليه ذلك والأقطاب السبعة من أمته الشريفة يعلمونها وهم دون الغوث؟ فكيف بسيد الأولين والآخرين، الذي هو سبب كل شيء ومنه كل شيء" (1).وأيضا "وكيف يخفى أمر الخمس عليه صلى الله عليه وسلم والواحد من أهل التصرف من أمته الشريفة لا يمكنه التصرف إلا بمعرفة هذه الخمس فاسمعوا هذا يا منكرين ولا تكونوا لأولياء الله مكذبين، فإن تكذيبهم خراب للدين وسينتقم الله من الجاحدين وأعاذنا الله بعباده العارفين" (2). وقبل ذلك أثبت أيضا في كتابه: رأينا جماعة علموا متى يموتون وعلموا ما في الأرحام حال حمل المرأة وقبله" (3).وقال واحد منهم: كثيرا ما سمعت من الأولياء يمطر السماء غدا أو ليلا فحصل كما قال .... وسمعت أيضا من بعض أولياء الله أنه أخبر ما في الرحم من ذكر وأنثى ورأيت بعيني ما أخبر وسمعت واقعة غد قبل المجيء" (4). ومنهم الشيخ المكارم. فقد أدرج البريلوي هذه الحكايات الوضعية الباطلة في كتابه لإثبات الغيوب الخمسة وغيرها من الغيوب له مخالفا آيات القرآن الكريم وتصريحات الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم فيقول بعربيته: إن أبا المجد يقول: كنت عند الشيخ مكارم رضي الله تعالى عنه بداره على نهر الخالص، فخطر في نفس لو رأيت شيا من كراماته فالتفت إلى مبتسما وقال: سيدخل علينا خمسة أنفار أحدهم عجمي أبيض اللون أحمر، نجده الأيمن شامة بقى من عمره تسعة أشهر، ثم يفترسه أسد في البطائح ومن ثم يبعثه الله تعالى. والآخر عراقي أبيض أشقر بعينه برجله عرج يمرض عندنا شهرا ثم يموت. والآخر مصري أسمر، في كفه الأيسر ست أصابع، وبفخذه الأيسر طعنة رمح أصيب بها منذ ثلاثين سنة يموت بأرض الهند تاجرا بعد عشرين سنة. والآخر شامي آدمي اللون، شئن الأصابع، يموت بأرض الحريم على باب دارك بعد سبع سنين وثلاثة أشهر وسبعة أيام. والآخر من أرض اليمن، أبيض اللون، هو نصراني وتحت ثيابه زنار، خرج من بلاده منذ ثلاث سنين ولم يعلم به أحد ليمتحن المسلمين من يكشف منهم حاله، وقد اشتهى العراقي أوزة بارز، واشتهى المصري عسلا بسمن، واشتهى الشامي تفاحا من فاكهة الشام، واشتهى اليمني بيضا مسلوقا، ولم يجد أحد بشهوة الآخر، وستأتينا أرزاقهم وشهواتهم رغدا من كل مكان والحمد لله رب العالمين.   (1) ((خالص الاعتقاد)) (53،54). (2) ((خالص الاعتقاد)) (54) و ((الدولة المكية)) (48). (3) ((خالص الاعتقاد)) للبريلوي (53) أيضا ((الكلمة العليا)) للمرادآبادي (35). (4) ((الكلمة العليا)) (94،95). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 393 قال أبو الحمد رحمه الله تعالى: فوالله لم نلبث إلا يسيرا حتى دخلوا خمسة كما وصف الشيخ رضي الله تعالى عنه لم يخل من أوصافهم بشيء، فسألت المصري عن طعنة فخذه، فتعجب من سؤالي، فقال: هذه طعنة أصبت بها منذ ثلاثين سنة، ثم جاء رجل ومعه تلك الأصناف التي اشتهوها فوضعها بين يدي الشيخ رضي الله تعالى عنه، فأمره فوضع بين يدي كل واحد منهم شهوته وقال لهم: كلوا ما اشتهيتهم، فأغمى عليهم، فلما أفاقوا قال قال اليمني للشيخ: يا سيدي ما وصف الرجل المطلع على أسرار الخلق، قال: أن يعلم أنك نصراني وتحت ثيابك زنار، فصرخ الرجل وقام إلى الشيخ وأسلم فقال له: يا بني كل من رآك من المشايخ فقد عرف حالك ولكن عرفوا عن إسلامك على يدي فامسكوا عن كلامك. قال: ولقد جرت الحال في وفاتهم كما أخبر الشيخ رضي الله تعالى عنه في الوقت الذي ذكره والمكان الذي عينه من غير تقديم ولا تأخير، ومات العراقي عند الشيخ في الزاوية بعد أن مرض شهراً، وكننت ممن صلى عليه، ومات الشامي عندنا بالحريم على باب طريح ونودي له فخرجت فإذا هو صاحبنا الشامي وبين موته وبين الوقت الذي اجتمعت به عند الشيخ رضي الله تعالى عنه سبع سنين وثلاثة أشهر وسبعة أيام رحمة الله تعالى، فانظر إلى هذا الذي هو خادم من خدم خدام محمد رسول الله قد أخبر في نفس واحدة باثنين وسبعين غيبا فيها ما في الصدور وأمكنة الموت وأزمنة الموت وأسباب الموت، وما يكسب غدا إلى غير ذلك" (1). هذا ولقد كذبوا على الشيخ الجيلاني أنه كان يقول: ما تطلع الشمس حتى تسلم على، وتجيء السنة إلى وتسلم على وتخبرني بما يجري فيها، ويجيء الشهر ويسلم على ويخبرني بما يجري فيه، ويجيء اليوم ويسلم على ويخبرني بما يجري فيه، وعزة ربي، إن السعداء والأشقياء ليعرضون على، عيني في اللوح المحفوظ، أنا غائض في بحار علم الله ومشاهدته، أنا حجة الله عليكم جميعا، أنا نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووارثه في الأرض" (2). ومن أكاذيبهم عليه أيضا: لولا لجام الشريعة على لساني لأخبركم بما تأكلون وما تدخرون، أنتم بين يدي كالقوارير أرى ما في بواطنكم" (3). ويقول أحد البريلويين مناديا إياه: أيها الغوث الأعظم أنت مطلع على الصغير والكبير، وأنت تعلم ما يختلج في الصدور" (4). ولما فتح هذا الباب للبعض فلم لا يفتح للآخرين؟ ففعلا فتحوه على مصراعيه. فقالوا: لا يكمل الرجل حتى يعلم حركات مريده في انتقاله في الأصلاب وهو نطفة من يوم ألست بربكم إلى استقراره في الجنة أو في النار" (5). وقال البريلوي: الكامل قلبه مرآه الوجود العلوي والسفلي كله على التفصيل" (6). ونقل أيضا: ليس الرجل من يقيده العرش وما حواه من الأفلاك والجنة والنار، وإنما الرجل من نفذ بصره إلى خارج هذا الموجود كله" (7).و "ما السموات السبع والأرضون السبع في نظر العبد المؤمن إلا كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض" (8). ويقول الآخر: يتطلع العبد إلى حقائق الأشياء ويتجلى له الغيب وغيب الغيب" (9).   (1) ((الدولة المكية)) (162) وما بعد. (2) ((الأمن والعلى)) للبريلوي (109)، أيضا ((الكلمة العليا)) للمرادآبادي (67)، ((خالص الاعتقاد)) للبريلوي (49). (3) ((خالص الاعتقاد)) (49). (4) ((باغ فردوس)) لأيوب رضوي البريلوي (40). (5) ((الكلمة العليا)) للمراد آبادي (69)، ((تسكين الخواطر)) للكاظمي (146)، ((جاء الحق)) (87). (6) ((خالص الاعتقاد)) (51). (7) ((خالص الاعتقاد)) (51). (8) ((خالص الاعتقاد)) (51). (9) ((جاء الحق)) (85). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 394 ولقد حكى القوم حكايات باردة طويلة عريضة في هذا الموضوع، وأثبتوا أن جميع الأولياء فضلا عن الأنبياء والرسل يعلمون الغيب وحتى العامة وحتى حيواناتهم، ونسجوا أساطير كثيرة في ذلك أعاذنا الله منهم ومنها. فهذه هي عقيدة القوم في علم الغيب الذي يثبتونه لغير الله وذلك ما قال الله عز وجل وقال رسوله صلوات الله وسلامه عليه: وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [النحل: 77] ولَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ [الكهف: 26] وإِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [فاطر: 38] ويَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه: 110] وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188] وقُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ [الأنعام: 50] وقال جل وعلا منبها إياه ومخبرا الخلق أنه لا يعلم الغيب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التحريم: 1]. ونفى عنه الغيب في قوله: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [التوبة: 101] وقال جل وعلا: عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة: 43] كما نفى الغيب عن الرسل قاطبة حيث قال: يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [المائدة: 109] كما نفى الغيب عن ملائكته بقوله: قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة: 32] والوقائع والشواهد في هذا كثيرة لا تحصى في الكتاب والسنة من الأنبياء والمرسلين من آدم إلى نوح ومن الخليل إلى الكليم ومنه إلى خاتم الأنبياء وسيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. والسيرة النبوية وأحوالها مليئة بالأمور التي تقطع جازما بأنه لم يكن يعلم الغيب وإلا فلم يحدث تلك الحوادث التي حدثت كشهادة القراء في بئر معونة وبيعة الرضوان ووقعة الإفك وتأبير النخل وحادثة العرنيين وغيرها من الوقائع والحوادث الكثيرة الكثيرة، ولكن القوم يصرون على أن الأنبياء والأولياء ليعلمون الغيب وحتى البريلوي حيث قالوا: إن أحمد رضا البريلوي كان يعرف يوم موته ووقت موته بالتحديد" (1).ولم يفعلوا هذا إلا لأن يؤلهوا البشر ويرفعوه إلى حد ليس له أن يرفع إليه، لأجل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((لا أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله)) (2). وقال: لا تطروني كما اطرأت النصارى عيسى بن مريم" (3). ((ولما قالت جارية في المدينة: وفينا نبي يعلم ما في غد: أنكر عليها وقال صلى الله عليه وسلم: دعي هذا، وقولي ما كنت تقولين، لا يعلم ما في غد إلا الله)) (4).صدق الله جل وعلا وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذب من قال خلاف ذلك كما قالت الصديقة بنت الصديق زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عاشرته، أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (من حدثك أنه "صلى الله عليه وسلم" يعلم الغيب فقد كذب وهو يقول لا يعلم الغيب إلا الله) (5).   (1) انظر لذلك ((وصايا البريلوي)) (7). (2) رواه أحمد (3/ 153) (12573) من حديث أنس رضي الله عنه, قال محمد بن عبد الهادي في ((الصارم المنكي)) (459): إسناده صحيح على شرط مسلم. وقال أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 611): إسناده صحيح. وقال الحكمي في ((معارج القبول)) (2/ 532): إسناده جيد. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1097): إسناده صحيح على شرط مسلم. (3) رواه البخاري (3445) من حديث عمر بن الخطاب. (4) رواه البخاري (5147) من حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء (5) رواه البخاري (7830) من حديث عائشة رضي الله عنهما. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 395 المطلب الخامس: مسألة بشرية الرسول ومن غرائب ما يعتقده القوم مع انتسابهم إلى الإسلام واعتقادهم في القرآن وتسميتهم أنفسهم أهل السنة عقيدتهم في النبي صلى الله عليه وسلم بأنه نور من نور الله مع أن القرآن الكريم صرح ببشريته أكثر من مرة، وكما صرح أن الكفار في كل عصر من عصور الرسل وفي زمان سيد المرسلين لم ينكروا نبوة أولئك إلا لكونهم بشرا كما حكى الله عز وجل عنهم وعن إنكارهم في كلامه بقوله: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولاً [الإسراء: 94] ثم رد الله عليه بقوله: قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً [الإسراء: 95] وحكى عن قوم قوم سبب إنكارهم وردهم على أنبياء الله ورسله فقال عن قوم نوح وعاد وثمود إنهم أنكروا، بقوله: قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ [إبراهيم: 10] فرد عليهم الرسل مقرين ببشريتهم – قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ [إبراهيم: 11] كما حكى الله عن أهل انطاكية: وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا [يس: 13 - 15]. وعن فرعون وملائه: ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا [المؤمنون 45 - 47] وعن قوم نوح أنه إذا أرسل إليهم نوح صلوات الله وسلامه عليه: تَتَّقُونَ 23 فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لأَنزَلَ مَلائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ [المؤمنون: 24 - 25]. وعن ثمود قوم صالح عليه السلام إنهم قالوا بنفس تلك المقولة فيه وهي: مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ [المؤمنون: 33 - 34] وأصحاب الأيكة أيضا قوال لعشيب: وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ [الشعراء: 186] وكفار مكة قالوا بنفس ذلك القول لخاتم النبيين وسيد المرسلين: وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ [الأنبياء: 3] فأجابهم الله بقوله: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الكهف: 110] قل سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً [الإسراء: 93] وبين للناس عامة عن جنس الرسول العظيم عليه الصلاة والسلام حيث قال: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ [عمران: 164] ولَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ [التوبة: 128] وقال: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 396 كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا [البقرة: 151] والرسول عليه الصلاة والسلام نفسه أخبر عنه بقوله: ((إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني)) (1).وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما كان إلا بشرا من البشر يغسل ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه)) (2). فقد أورد البريلوي في كتابه رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مولود إلا وفي سرته من التربة خلق منها حتى يدفن فيها، وأنا وأبو بكر وعمر خلقنا من تربة واحدة فيها ندفن)) (3). هذا ما قاله الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم عن بشرية الأنبياء وسيد الرسل خلافا للمنكرين الذين أنكروا نبوة الأنبياء ورسالة الرسل، فإنهم لم ينكروها إلا لاعتقادهم بأن البشر لا يمكن أن يكون نبيا، أو بتعبير آخر أن الأنبياء لا يكونون من البشر، لأن النبوة منافية للبشر، فالنبوة والبشرية لا تجتمعان فإما بشرا وإمانبيا، ولأنهم كانوا يعلمون علما يقينيا أن أولئك الأخيار بشر مثلهم، ولدوا بينهم وتناكحوا وتزوجوا وتناسلوا ويمشون في الأرض ويأكلون ويشربون ويلازمهم اللوازم البشرية أنكرو نبوتهم ورسالتهم. وأما القوم وأمثالهم من الجهلة لما ولدوا في البيئة الإسلامية وبيوت المسلمين لم يستطيعوا إنكار نبوتهم ولكنهم اعتقدوا بنفس تلك العقيدة هي المنافاة بين البشرية والنبوة، فانكروا بشرية الأنبياء والرسل، والتجئوا إلى روايات موضوعة وحكايات باطلة وأساطير مختلقة، وإلى التأويل الباطني المستعار من غلاة الروافض والإسماعيلية لآيات القرآن الحكيم وأحاديث الرسول العظيم صلوات الله وسلامه عليه فقالوا: إن رسول الله ص نور من نور الله، وكل الخلائق من نوره" (4).و "أن الله خلق الصورة المحمدية من نور اسمه البديع القادر ونظر إليها باسمه القاهر، ثم تجلى عليها باسم اللطيف الغافر" (5). وأما البريلوي فلقد كتب رسائل عديدة في أثبات نورانية محمد صلى الله عليه وسلم، منها: رسالته التي سماها "صلاة الصفا في نور المصطفى" فلقد كتب في مقدمتها بعربيته العجيبة: اللهم لك الحمد يا نور، يا نور النور، يا نور قبل كل نور، ونور يعد كل نور، يا من له النور، وبه النور، ومنه النور، وإليه النور، وهو النور، صل وسلم وبارك على نورك المنير الذي خلقته من نورك وخلقت من نوره الخلق جميعا، وعلى أشعة أنواره، آله وأصحابه وأقماره أجمعين" (6).   (1) رواه البخاري (401) ومسلم (572) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (2) رواه أحمد (6/ 256) (26237) , والبخاري في ((الأدب المفرد)) (420) , قال الذهبي في ((سير أعلام النبلا)) (7/ 158): إسناده صالح. وصححه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)). (3) رواه الخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد)) (2/ 313) قال الذهبي في ((تلخيص العلل المتناهية)) (65): موضوع. (4) ((مواعظ نعيمية)) لأحمد يار البريلوي (14). (5) ((الفتاوى النعيمية)) (37). (6) رسالة ((صلاة الصفا)) للبريلوي المندرجة في ((مجموعة رسائل)) (33). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 397 وأدرج فيها رواية موضوعة باطلة ونسبها إلى الحافظ عبدالرزاق أنه أخرجها في مصنفه مع أنها لم ترد فيه، والرواية هذه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لجابر: يا جابر إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله تعالى، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا شمس ولا قمر ولا جن ولا إنس، فلما أراد الله تعالى أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول جملة العرش ومن الثاني الكرسي، ومن الثالث باقي الملائكة، ثم قسم الرابع أربعة أجزاء فخلق من الأول السموات، ومن الثاني الأرضين، ومن الثالث الجنة والنار، ثم قسم الرابع أربعة أجزاء الحديث بطوله" (1) (2). وعلق عليها بقوله: وقد تلقت الأمة هذا الحديث بالقبول، وإن تلقى الأمة بالقبول هو ذلك الشيء العظيم الذي لا حاجة للسند بعده" (3). فلا ندري أية أمة يقصدها البريلوي؟ إن يريد من الأمة أمثاله من الذين يتبعون الجهل والزيغ والاعوجاج فلا يضر، وإن يريد من الأمة علماءها والمهرة الحذقة في الحديث فلا وجود لتلقيهم بالقبول هذه الرواية ثم ومن قال بان تلقى الأمة بالقبول لرواية يجعلها في مرتبة لا ينظر إلى أسنادها؟، وكيف وأن الرواية بظاهرها تعارض نصوص القرآن الصحيحة والأحاديث الثابتة من بشريته صلى الله عليه وسلم، والواقع أيضا يعارضها حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد في بيت عبدالله بن عبدالمطلب، وولد يتيما أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى [الضحى:6]، وربي في خديجة وعائشة وزينب وحفصة وغيرهن عليهن شابيب الرحمة والرضوان، وشب وترعرع في مكة المكرمة واكتهل وهاجر إلى طيبة، وولد له الأولاد من إبراهيم والقاسم والطيب والطاهر، وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، وكان له أرحام وأصهار من أبي بكر وعمر وأبي سفيان ومن أبي العاص وعثمان علي رضوان الله عليهم أجمعين، وكان من أعمامه حمزة والعباس وأبو طالب وأبو لهب، ومن عماته صفية وأروى وله الأقارب من الحسب والنسب. فما قيمة تلك الروايات الواهية أمام هذه النصوص والوقائع؟ ثم القوم ازدادوا في جهالاتهم فقالوا: إن محمد صلى الله عليه وسلم ليس بعين الله، ولا هو غير الله، هو مظهر صفات الله، محيى الأرواح، منه خلق الجن ومنه الإنس، ومنه ظهر العرش والكرسي، ومنه حواء ومنه آدم صلى الله عليه وسلم" (4).والملائكة أيضا كما ذكر البريلوي: الملائكة شرر تلك الأنوار لأنه قال: من نوري خلق كل شيء" (5). ويقول: إن في مرتبة الوجود ليس إلا ذات الحق والباقي كله عكسه وظله، وكذلك في مرتبة الإيجاد إلا ذات محمد صلى الله عليه وسلم والباقي كله عكس فيضه وفي كماله" (6).و "هو روح الأكوان وحياتها وسر وجودها ولولاه لذهبت وتلاشت" (7). وقال أيضا في بداية رسالته التي ألفها لإثبات كونه نورا ولا ظل له ولا في اسم – نفي الفي عمن أنار بنوره كل شيء –   (1) رسالة ((صلاة الصفا)) للبريلوي المندرجة في ((مجموعة رسائل)) (33). (2) ذكره اللكنوي في ((الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة)) (1/ 42) , والعجلوني في ((كشف الخفاء)) (1/ 265). (3) رسالة ((صلاة الصفا)) للبريلوي المندرجة في ((مجموعة رسائل)) (33). (4) ((ديوان ديدار علي)) (41). (5) ((صلاة الصفا)) للبريلوي المندرجة في ((مجموعة رسائل)) (1/ 37). (6) ((صلاة الصفا)) (60). (7) ((صلاة الصفا)) (60). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 398 قال فيها: الحمد لله الذي خلق قبل الأشياء نور نبينا من نوره وفتق الأنوار جميعا من لمعات ظهوره، فهو صلى الله عليه وسلم نور الأنوار وممد جميع الشموس والأقمار، سماه ربه في كتابه الكريم نورا وسراجا منيرا، فلولاه لما استنارت شمس، ولا تبين يوم من أمس، ولا تعين وقت الخمس" (1). ونقل من أئمته: إن ظله كان لا يقع على الأرض وإنه كان نورا، فكان إذا مشى في الشمس أو القمر لا ينظر له الظل" (2). وقال في قصيدته التي سماها قصيدة النور: إنك نور وكل عضو من أعضائك نور وكل ولد من أولادك نور، أنت عين النور وأصلك كلهم نور" (3). ولأجل ذلك ذلك قال أحد البريلويين في بيت شعر في الأردية ونريد نثبته ههنا قبل ترجمته: وهي جو مستوى عرش تها خدا هوكر ... اتر برا مدينه مين مصطفى هوكر أي أن الذي كان مستويا على العرش بصورة الآله. هو الذي نزل في المدينة بصورة المصطفى. وأما معنى كونه نورا من نور الله فيقول الشيخ البريلوي: إن الله لم يبين لنا كيفية كونه نورا من نوره، ولا سبيل لنا إلى معرفته بدون الله فهو من المشتابهات التي أمرنا بالإيمان عليها بلا خوض فيها" (4). هذا ولما عرضت عليهم الآيات التي فيها تصريح لبشريته عليه الصلاة والسلام قالوا: يعلم من لفظة "قل" لا يجوز لأحد أن يقول: بشر مثلكم غير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم " (5).لأن التقول ببشرية الرسل هو من دأب الكفار" (6). فهذا هو القوم وهذه هي معاندتهم لتعاليم الإسلام الصافية الصحيحة ومكابرتهم للحق الواضح ومخالفتهم للآيات البينات أعاذنا الله منها ومنهم، فمن يهده الله فلا مضل له ومن يضلله فلا هادي له.   (1) ((نفي الفي عمن أنار بنوره كل شيء)) للبريلوي المندرجة في ((مجموعة رسائل)) (199). (2) ((نفي الفي عمن أنار بنوره كل شيء)) للبريلوي المندرج في ((مجموعة رسائل)) (202). (3) ((نفي الفي عمن أنار بنوره كل شيء)) للبريلوي المندرج في ((مجموعة رسائل)) (224). (4) ((من هو أحمد رضا البريلوي الهند)) لشجاعت علي البريلوي (39). (5) ((مواعظ نعيمية)) لأحمد يار الكجراتي (115). (6) ((الفتاوى الرضوية)) للبريلوية (6/ 143)، ((مواعظ نعيمية)) (115). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 399 المطلب السادس: مسألة الحاضر والناظر ومن أخص المعتقدات التي يعتقدها البريلويون هي ما يخالفه العقل والعقل من كون الرسول صلى الله عليه وسلم حاضراً في كل مكان ناظراً كل شيء بالمعنى الذي لا يطلق حتى وعلى الخالق المتعال العليم الخبير جل وعلا، فيقول البريلويون: لا يخلو مكان ولا زمان إلا والرسول صلى الله عليه وسلم موجود فيه" (1). وقال: لا يستبعد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون حاضرا موجودا في الأمكنة المتعددة التي لا تعد ولا تحصى، بوجوده المقدس بعينه" (2). ويقول الآخر ناقلا عن أئمته: مدام الولي حاضرا وناظرا في كل مكان وزمان فلم لا يكون النبي كذلك، فقال: ولا تباعد عن الأولياء حيث طويت لهم الأرض وحصلت لهم أبدان مكتسبة متعددة وجدوها في أماكن مختلفة في آن واحد" (3).و "الرسول عليه السلام له الخيار في طواف العالم مع أرواح الصحابة ولقد رآه كثير من الأولياء" (4). ونقل عن الآخرين من أمثاله: النظر في أعمال أمته والاستغفار لهم من السيئات، والدعاء بكشف البلاء عنهم، والتردد في أقطار الأرض والبركة فيها، وحضور جنازة من صالحي أمته، فإن هذه الأمور من أشغاله صلى الله عليه وسلم" (5). ويقول البريلوي نفسه: إن الأولياء يستطيعون الحضور في عشرة آلاف مدينة في آحد واحد وثانية واحدة إن شاؤا وأرادوا" (6). وأما الأنبياء؟ فقال: إن روح النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حاضر في بيوت أهل الإسلام" (7).و"إن نظرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل ذرة من ذرات العالم في كل حين، وإنه يحضر تلاوة القرآن وقراءة المولد وقراءة القصائد كما إنه يحضر جنازة الصالحين بجسمه الأطهر" (8). ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد خلق آدم وما جرى عليه من الإكرام ثم إخراجه من الجنة بسبب مخالفته أمر الله وما تاب الله عليه إلى آخر ما جرى عليه من الأمور، وإنه شاهد خلق إبليس وما جرى عليه .... وإن الروح المحمدي لما قبض عن آدم الذي كان فيه لم يضل ولم ينس ما بقى فيه، وبعد قبضه جرى عليه ما جرى من النسيان وما تبع" (9). ويقول الآخر: إنه صلى الله عليه وسلم ليس بحاضر موجود فحسب بل: إن أهل الله يرونه بأعينهم الحسية في حالة اليقظة في الأوقات الكثيرة" (10).وإن أهل البصيرة يرون رسول الله ص حتى في صلواتهم" (11). ويقول أيضا: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم حي بجسده وروحه وإنه يتصرف حيث يشاء في أقطار الأرض وأطرافها وفي الملكوت وهو بهيتة التي كان عليها قبل وفاته لم يتبدل منه شيء، وإنه مغيب عن الأبصار كما غيبت الملائكة مع كونهم أحياء بأجسادهم فإذا أراد الله تعالى رفع الحجاب عمن أراد إكرامه برؤيته رآه على هيئته التي كان عليها صلى الله عليه وسلم لا مانع من ذلك ولا داعي إلى التخصيص بالرؤية المثالية" (12). ويقول البريلوي: إن كرشنا الكافر كان يحضر في مئات الأمكنة في آن واحد وهذا مع كفره فلم لا يستطيع الأولياء حضورهم في أمكنة متعددة؟ " (13).   (1) ((تسكين الخواطر في مسألة الحاضر والناظر)) لأحمد سعيد الكاظمي البريلوي (85). (2) ((تسكين الخواطر في مسألة الحاضر والناظر)) لأحمد سعيد الكاظمي البريلوي (18). (3) ((جاء الحق)) (150). (4) ((جاء الحق)) (154). (5) ((جاء الحق)) للكجراتي البريلوي (154). (6) ((ملفوظات)) للبريلوي (113). (7) ((خالص الاعتقاد)) (40). (8) ((جاء الحق)) (155). (9) ((جاء الحق)) (156). (10) ((تسكين الخواطر في مسألة الحاضر والناظر)) (18). (11) ((تسكين الخواطر في مسألة الحاضر والناظر)) (86). (12) ((تسكين الخواطر في مسألة الحاضر والناظر)) (86). (13) ((فتاوى رضوية)) (6/ 142) وأيضا ((ملفوظات)) (114). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 400 وقال الآخر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حاضر رسالة كل رسول وما وقع من لدن آدم إلى أن ظهر بجسمه الشريف" (1). وهذا مع قول الله عز وجل لنبيه بعد ما حكى وقائع موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ [القصص: 44] وأيضا: وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [القصص: 45] وكما قال: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص: 46] وقال لنبيه بعد حكاية قصة مريم: وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44] وقبل ذلك بين له أخبار نوح ويوسف فقال: تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود: 49] ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [يوسف: 102] وحكى الله عز وجل في كتابه بذهاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بقوله: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الإسراء: 1] أي أنه ذهب به إلى المسجد الأقصى حيث لم يكن هناك من قبل وإلا لم يخبر بذهابه هناك، ولم يتعجب به قومه. وقال جل من قائل: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا [التوبة: 40] أي أخرجوه من مكة وذهب بأبي بكر إلى الغار وبعد خروجه لم يكن في مكة وقبل خروجه لم يكن في الغار. وقال: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران: 123] إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ [الأنفال: 42] أي نصر الله رسوله عند نزوله ببدر وفي العدوة الدنيا عند نزول الكفار في العدوة القصوى حيث خرج من المدينة مع أصحابه الثلاث مائة وثلاث عشرة مجاهد ولم يكن في المدينة بعد خروجه كما لم يكن في البدر قبل خروجه إليها، وقال: َقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: 18] فكان هذا في الحديبية في العام السادس بعد الهجرة حيث لم يكن في المدينة كما لم يكن في مكة ولم يكن في الحديبية موجودا قبله ولم يبقى فيها بعد رجوعه إلى المدينة وقال: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ [الفتح: 27] أي لتدخلن فيه حيث لم تكن موجودا فيه من قبل،   (1) ((جاء الحق)) (163). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 401 وغير ذلك من الآيات الكثيرة الكثيرة والوقائع اليومية التي كانت تحدث في حياته صلى الله عليه وسلم من وجوده في الحجرة الشريفة وانتظار الصحابة إياه في المسجد، وخروجه من البيت ووجوده في المسجد، وعدم وجوده في المسجد عند وجوده في السوق، وعدم وجوده في المدينة عند وجوده في الحنين، ووجوده في تبوك وعدم وجوده في المدينة، ووجوده في العرفات وعدم وجوده في مكة والمدينة في حجة الوداع وغير ذلك من الحوادث الظاهرة والأمور الجلية التي لا خفاء فيها إلا لمن أعمى الله بصره فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46]. وهذا مع قول البريلويين: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاضر وناظر في كل مكان وزمان – مع القول -: لا يجوز استعمال لفظة الحاضر على الله عز وجل" (1).وذلك مع هذا – "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أحوال جميع الموجودات والمخلوقات ولا تخفى عليه خافية" (2). وأيضا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى جميع الدنيا بعينه المباركة" (3).وأنه عليه الصلاة والسلام ليس ببعيد عن أحد ولا غير خبير بأحد" (4). والبريلوي قال: لا فرق بين موته وحياته صلى الله عليه وسلم في مشاهدته لأمته ومعرفته بأحوالهم ونياتهم وعزائمهم وذلك عنده جلى لا خفاء" (5). ويقول: ابكوا أيها الوهابيون! لأن نبي الله صلى الله عليه وسلم حاضر وناظر ولم يحدث في العالم شيء ولا يحدث إلا ويراه ويشاهده، فهو حاضر في كل مكان وناظر كل شيء" (6). ومادام رسول الله صلى الله عليه وسلم حاضرا وناظرا فللبريلوي حق أن يكون كذلك، وفعلا قالوا: إن أحمد رضا البريلوي حيٌّ موجود اليوم بيننا ويعيننا ويغيثنا" (7). فليبك على الإسلام من كان باكيا فهذا هو دين القوم وذلك هو دين الله القيم الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم والذي قال عنه بأمر من ربه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف: 108] ووَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153] وهل من مفكر ليتفكر ومتدبر ليتدبر؟ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24] المصدر: البريلوية عقائد وتاريخ لإحسان إلهي ظهير- ص55   (1) ((تسكين الخواطر في مسألة الحاضر والناظر)) لأحمد سعيد الكاظمي (5). (2) ((تسكين الخواطر)) (65). (3) ((تسكين الخواطر)) (900). (4) ((خالص الاعتقاد)) (39). (5) ((خالص الاعتقاد)) (46). (6) ((خالص الاعتقاد)) للبريلوي (46). (7) ((أنوار رضا)) (246). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 402 المبحث الخامس: تعاليم البريلوية إن للبريلويين تعالم خاصة بهم كما أن لهم عقائد مخصوصة يمتازون بها من فرق أهل السنة عامة، ومن فرق الأحناف خاصة، وكل هذه التعاليم تدور حول الأكل والشرب باسم التبرك والتعظيم لأنه لم يؤسس هذا المذهب إلا لسلب الأموال من الجهلة والسذج من الناس، وجلب المنافع للأحبار والرهبان، ولم تكون هذه الشريعة إلا للنهب والغصب باسم القرابين والنذور من المتبعين والمريدين، فاقدي الشعور والعقل، وأسارى الغفلة والجهل، المخدوعين بكرامات الأولياء وشعوذة الماكرين. فقادة البريلوية وزعماءها جعلوا الدين متجرا لم يحتاجوا إلى وضع رأس المال فيه، وربحوا أرباحا مضاعفة بدون زيادة عناء وكثرة جد وجهد وكلفة وتعب أكثر مما يربح بها أصحاب رؤوس الأموال الباهظة بمشاكل ومتاعب، فأمروا ببناء المقابر والمشاهد وجعلوا أنفسهم سدنتها، ثم أجبوا تقديم النذور والقرابين إليها ليحتجزوها ويدخروها ويتكاثروا بها، ثم أقاموا عليها الأعياد والأعراس وفرضوا على الناس الحضور فيها والمجيء إليها بالسجايا والسجاجيد والقناديل والشموع والزيت والعطور والحلوان والستائر والقرابين وما إلى ذلك من الأشياء ليزدادوا بها مالاً وغنى، واخترعوا ضرائب كثيرة على الحياة والممات وفرضوها على المغفلين الذين ينفقون ويضيعون، ويقترفون الآثام بدل أن يحرزوا أجرا وثوابا، وللمحافظة على تجارتهم هذه أعموا أبصارهم وصموا آذانهم وختموا على قلوبهم كي لا تتفلت من أيديهم هذه الأغنام المدرارة الساذجة فحرموا عليهم الاستماع إلى من الموحدين، والمتبعين كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإصغاء إليهم، والمجالسة معهم، والاختلاط بهم، والحضور في خطباتهم واجتماعاتهم، والنظر في كتبهم، كي لا يعقل المغفل، ويتنور من أحيط بالظلام، ويتعلم من رغب عن الجهل فقال قائلهم: حرام على المسلمين أن يقرؤا كتب الوهابيين وأن ينظروا فيها" (1).و "من جالس الوهابية أو اختلط بهم لا يجوز مناكحته" (2). وغير ذلك: ولم تكن هذه الاحتياطات كلها إلا للحافظ على جهالاتهم ومناصبهم النافعة المفيدة في آن واحد، ولكن من أراد الله دايته والخير به فلم يمنعه هذا الحصار لأن يخرج من الظلمات إلى النور وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ [النور: 40]. ....... واخترع القوم اختراعات أخرى باسم الدين لإرواء غلتهم وإشباع بطونهم الجائعة التي لا تشبع قبل انفجارها ومنها الأعياد على قبور الأولياء والصالحين التي تسمى بالأعراس، ومحافل الميلاد، والفاتحة، وطعام اليوم الثالث والسابع والحادي عشر والسابع عشر والحادي عشر والسابع عشر والأربعين وغيرها فإن العارف يعرف بأول وهلة أن ليس المقصود من هذه الأشياء كلها إلا التجارة ولو كانت خاسرة في الدنيا والآخرة واكتساب الرزق ولو حارما، والضحك على السذج والمغفلة الذين يظنون بأن أمواتهم يغفرون بهذه الأشياء ولو كانوا مسيئين مذنبين، وكانوا يعصون الله ورسوله ويرتكبون الفسوق والفجور ويقترفون الكبائر والإثم، ويشركون بالله ويهجرون كتابه، فإن إقامة الأعياد على القبور والحضور في مجالس الميلاد وقراءة الفاتحة وإطعام المشايخ وأئمة المساجد الطعام تنجيهم من عذاب النار والجحيم، وتدخلهم جنات تجري تحتها الأنهار.   (1) ((بالغ النور)) المندرج في ((الفتاوى الرضوية)) (6) (54). (2) رسالة ((ماحي الضلالة)) للبريلوي المندرجة في ((الفتاوى الرضوية)) (5/ 89). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 403 فقالوا: إن أولياء الله هم أبواب رحمة الرب وينبغي طلب الرحمة من الأبواب. ولأجل ذلك تزار المشاهد والمقابر حتى تؤخذ الرحمة، كما أن زكريا عليه السلام دعا عند ولية من أولياء الله مريم ليهبه الله ولدا صالحا هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران: 38] لأن الدعاء عند الأولياء يقبل" (1). وأيضا: إن الأعياد على القبور سبب لحضور الناس عند الأولياء وهي من شعائر الله، والله حرّض المؤمنين على تعظيم الشعائر وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32] وفيها فوائد لا تعد ولا تحصى" (2). وقال تلميذ البريلوي: إن عرس الأولياء وقراءة القرآن والفاتحة والوعظ وإيصال الثواب موجب للبركات لأن الأولياء أحياء في قبورهم وقد زادت قوة علمهم وإدراكهم وسمعهم وبصرهم" (3). وقال الآخر: إن الأعراس والأعياد على القبور يعني اجتماع الناس على قبور أهل الله ومشاهدهم في يوم معين سنة سيد الأنبياء .... ومن ثم طبخ الطعام وتنوير المقام وبسط الفرش سبب للبركات وموجب للثواب وإنها لثابتة بالشريعة ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومخالفتها مخالفة الرسول" (4).إن الصلاة في مشاهد الأولياء ومزاراتهم للاستظهار والاستمداد بأرواحها للحصول على أثر من آثار عباداتهم يمين القبور أو يسارها موجب لنزول البركات وحصولها" (5). هذا،"وأما قول الوهابية أن تقبيل القبور شرك فهو من غلوهم ومبالغاتهم" (6). وأن النذر لغير الله لا تدخل في العبادة ولا يصير الإنسان مشركا مادام لا يعبد غير الله، فإن الشرك أن يعتقد أن غير الله معبود وأما دون ذلك فلا يقال أنه شرك وفاعله أو قائله مشرك" (7). وأما طواف القبور فإنها جائز مستحب عند القوم: ولا بأس إن طاف حول القبر لحصول البركات" (8)."لأن قبور الأولياء من شعائر الله المأمور بها التعظيم" (9).وأخيرا: إن العرش "أي العيد على القبر في يوم معين مخصوص" سمى عرسا لأن ذلك اليوم يزور الأولياء عروس الكون أي محمدا صلى الله عليه وسلم، لأنهم يوم وفاتهم يزورونه ويرونه" (10). ثم أفتى أحد علماء القوم: لا تجوز الصلاة إلا من يقيم الأعراس ويقرأ الفاتحة وأما المخالفين لهذه الأشياء فلا صلاة خلفهم" (11). - هذا ومن تعاليم البريلوية زيارة الآثار والحث عليها والتبرك بها سواء صحت نسبتها أم لا تصح لأنها أيضا تسبب كسب المال بخداع المسلمين، فلقد كتب البريلوي عبدالمصطفى أحمد رضا رسالة مستقلة في إثباتها والتحريض عليها باسم "بدر الأنوار في الآداب بالآثار". وقال مقدم هذه الرسالة: إن آثار الأولياء هي من شعائر الله، ومن آيات الله التي أمر الله بتعظيمها والتبريك بها" (12). وأما البريلوي نفسه فكتب: إن الذي ينكر تعظيم آثار الأنبياء والتبرك بها فإنه منكر القرآن والسنة وجاهل خاسر، وضال فاجر" (13).   (1) ((جاء الحق)) (335). (2) ((مواعظ نعيمية)) لمفتي البريلوية الكجراتي (224). (3) ((بهار شريعت)) جزء أول وهذا الكتاب وثقه البريلوي نفسه. (4) رسالة ((المعجزة العظمى المحمدية)) لنعيم الدين المراد آبادي البريلوية المندرجة في ((فتاوى صدر الأفاضل)) (160). (5) رسالة ((حاجز البحرين)) للبريلوي المندرجة في ((الفتاوى الرضوية)) (2/ 333). (6) ((الفتاوى الرضوية)) (10/ 66). (7) ((الفتاوى الرضوية)) (10/ 207) وما بعد. (8) ((بهار شريعت)) (4/ 133) لأمجد علي وموثق من قبل البريلوي. (9) ((علم القرآن)) لأحمد يار البريلوي (36). (10) ((حكايات رضوية)) للبركاتي البريلوي (146). (11) ((الحق المبين)) للكاظمي البريلوي (74). (12) مقدمة ((رسالة بدر الأنوار)) (8). (13) رسالة ((بدر الأنوار)) للبريلوي (12). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 404 ونقل من أحد متبوعيه أنه قال: ومن إعظامه وإكباره صلى الله عليه وسلم إعظام جميع أسبابه وإكرام مشاهده وأمكنته من مكة والمدينة ومعاهده وما لمسه أو عرف به" (1).هذا وما دام يعظم آثار النبي. فآثار الأولياء والصالحين والعلماء تعظّم أيضا ويتبرك بها لأنهم ورثوا بركاته وفيوضه" (2)."ولا يحتاج أن يطلب دليل وسند لصحة نسبة هذه الآثار إلى أصحابها ويكفي في ذلك أن تكون نسبتها مشهورة بين الناس" (3). وكيف تعظّم هذه الآثار ويتبرك بها؟ بينها البريلوي في رسالة أخرى، أن يبوس هذه الآثار ويقبلها لأنه دستور أهل الحب والولاء ومسطور في كلمات الأئمة والعلماء مثل منائر المدين وجدرانها ولو لم تكن في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، وبنيت وأحدثت بعده ولم تتشرف بمسه ورويته ولكنها واقعة في بلدته – ثم استدل بكلمات أئمته كما صرح، وأول إمام له هو مجنون بني عامر – ولله در من قائل: أمر على الديار ديار سلمى ... أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا ثم استدل بإمامه الآخر فإنه قال: وجدير لمواطن استملت تربتها على جسد سيد البشر صلى الله عليه وسلم مدارس ومساجد ومشاهد ومواقف أن تعظم عرصاتها وتنسم نفحاتها وتقبل ربوعها وجدرانها. وعليّ عهد أن ملأت محاجري ... من تلكم الجدران والعرصات لأغفرن مصون شيبي بينها ... من كثرة التقبيل والرشفات وحتى عتبات قبور الأولياء وأبوابها كما صرح البريلوي في رسالته هذه" (4). وأنها سبب الفوز والنجاة: فبادر والثم الآثار منها ... بقصد الفوز في يوم الحساب (5) وماذا كان يعمله مشركو مكة وكفار الجزيرة أو غير هذا أو أكثر من ذلك؟ ولكن القوم تجاوزوا الحدود وسبقوهم حيث قالوا: لا يجوز تقبيل جدران المدينة والقبور وآثار الأنبياء والصلحاء والعلماء فحسب بل يجوز أيضا تقبيل صور هذه الأشياء وأمثالها وتماثيلها بل ويجب، فيقول البريلوي: إن الأرفع والأعلى والأجلى بأن علماء الشريعة والأئمة المعتمدين طبقة عن طبقة عن الشرق والغرب، من العرب والعجم كانوا يصورون النعال المطهرة والروضة المعطرة لسيد البشر ويمثلونها ويسطرونها في الكتب ويقبلونها ويضعونها على العيون والرؤوس وكانوا يأمرون به" (6)."وكانوا يتوسلون بها "أي هذه التمائيل والصور" في دفع الأمراض وحصول الأغراض ويتحصلون بها عظيم البركات وجليل المنافع" (7). والمنافع التي تحصل منها يبينها البريلوي نفسه بقوله: من يوجد عنده صورة النعل يحفظ من ظلم الظالمين وشر الشياطين وحسد الحاسدين وإن أمسكتها المرأة بيدها اليمنى في مخاضها سهلت عليها الولادة، ومن حفظها عنده والتزمها عظم في أعين الخلق وحصلت له زيارة الروضة المقدسة أو زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه، وإن احتفظها العساكر لا يهزمون والقوافل لا ينهبون، وإن وضعت في السفن لا تغرق وفي الأموال لا تسرق، وأية حاجة يتوسل بها تقضى، ولأية نية تعلق توفي، ومواضع المرض والوجع لو وضعت عليها تشفى، ومن المصائب والآلام المهلكة تنجي" (8).   (1) ((بدر الأنوار)) (21). (2) ((بدر الأنوار)) الفصل الثاني (23). (3) ((بدر الأنوار)) الفصل الرابع (43). (4) رسالة البريلوي ((ابرّ المقال في قبلة الإجلال)) المندرج في ((مجموعة رسائل)) (159) وما بعد. (5) رسالة البريلوي ((ابرّ المقال في قبلة الإجلال)) المندرج في ((مجموعة رسائل)) (143). (6) ((أبرّ المقال في قبلة الإجلال)) (143). (7) ((بدر الأنوار في آداب الآثار)) (38). (8) ((بدر الأنوار في آداب الآثار)) (38). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 405 ونقل من أئمته في هذه الخرافات التي لا تقل عن خرافات الجاهلية الأولى أنهم قالوا: ألثم التراب الذي حصل له النداوة من أثر النعل الكريمة إن أمكن ذلك وإلا فقل أمثالها" (1)."ومن فوائد ذلك أن من لم يمكنه زيارة الروضة فليزر أمثالها وليلثّمه مشتاقا لأنه ناب مناب الأصل كما قد ناب مثال نعله الشريفة منابة عينها في المنافع والخواص بشهادة التجربة الصحيحة، ولذا جعلوا له من الإكرام والاحترام ما يجعلون للمنوب عنه" (2). وأيضا:"من فوائد ذلك أن يزور الأمثال من لم يتمكن من زيارة الروضة ويشاهدها مشتاقا ويلثمها ويزداد فيها حبا وشوقا وقد استنابوا مثال النعل عن النعل وجعلوا من الإكرام والاحترام ما للمنوب عنه وذكروا له خواصاً وبركات" (3). وبعد ذلك كتب آداب زيارة هذه التماثيل والصور بعد بيان حقيقة هذه الأشياء."وإنها من المعظمات الدينية، وتعظيمها وتكريمها على وجه الشريعة من مقتضيات إيمان صحيح الإيمان" (4).ويجب على من يزور هذه الآثار أو أشياء تدل على تلك الآثار أن يتصور الرسول ذا النور صلى الله عليه وسلم ويصلي عليه بكثرة وكثرة .... وكذلك من يزور شبيه الروضة المباركة فليعظمه ويكرمه ويكثر الصلاة والسلام مثلما كان يفعل عند زيارة الأصل" (5). ثم بيّن فضائل ومناقب تقبيل هذه التماثيل والصور ونقل فيها أبياتا منها: لمن قد مس شكل نعال طه ... جزيل الخير في يوم المآب وفي الدنيا يكون بخير عيش ... وعزفي الهناء بلا ارتياب وفي مثلك يا نعال أعلى النجبا ... أسرار بها شهدنا العجبا من صاخ خده به مبتهلا ... قد قام له ببعض ما قد وجبا (6) وفمن قبلتها مثل نعل كريمة ... بتقبيلها يشفى من اسمه استشفى فقبله لثما وامسح الوجه موقفا ... بنية صدق تبلغن ما كنت مضمرا" (7) ومن سوء أدب القوم في جناب الله عز وجل أنهم يوقرون مثال النعل ويعظمون المقابر والمشاهد ولكنهم ليسيئوا إلى حضرة الرب جل وعلا حيث يقولون: يجوز كتابة اسم الجلالة في تمثال النعل – ثم استدل برواية – أن الأئمة كانوا يكتبون في ظهور النعال" (8). وبعد هذا كله أظهر ما لأجله روج هذه الأشياء وأمر بتعظيمها وبتكريمها والتبرك بها وهو الأكل والشرب والكسب فقال: "ويستحب للزائر أن يقدم النذور إلى من يأتي بهذه الآثار الشريفة للنبي صلى الله عليه وسلم أو للولي المكرم المعظم فيثاب المهدي والآخذ لإعانة المسلمين حيث أعان المزور الزائرين بزيارة هذه الآثار وأعان الزوار المزور بتقديم النذور إليه مصداق قول الرسول عليه السلام: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه".قال: وقال صلى الله عليه وسلم: الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، وخاصة حينما يكون أصحاب الآثار والتبركات من الأشراف الكرام، لأن خدمتهم سبب لحصول الأجر والبركات" (9). فهذا هو دين القوم وهذه هي تعليماتهم ضد تعليمات ذلك النبي الكريم عليه الصلاة والسلام الذي منع أصحابه وأمته من المبالغة حتى في ذاته صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم)) " (10).   (1) ((أبرّ المقال في قبلة الإجلال)) للبريلوي (148). (2) ((أبرّ المقال في قبلة الإجلال)) للبريلوي (148). (3) ((أبرّ المقال في قبلة الإجلال)) للبريلوي (150،151). (4) ((بدر الأنوار)) (53). (5) ((بدر الأنوار)) (56). (6) ((بدر الأنوار)) (144). (7) ((بدر الأنوار)) (56). (8) ((بدر الأنوار في آداب الآثار)) (41،42). (9) ((بدر الأنوار)) (50،51). (10) رواه البخاري (3445). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 406 وعلى ذلك كتب الملا على القارئ الحنفي: أنه ألجأ هؤلاء على هذا الغلو اعتقادهم أنه يكفّر عنهم سيئاتهم ويدخلهم الجنة وكلما غلوا كانوا أقرب إليه فهم أعصى الناس لأمره وأشدهم مخالفة لسنته، فيهم شبه ظاهر من النصارى غلوا على المسيح أعظم الغلو وخالفوا شرعه ودينه أعظم المخالفة" (1). وقال عليه السلام: ((لا ترفعوني فوق حقي فإن الله تعالى قد اتخذني عبدا قبل أن يتخذني رسولا)) (2). وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبدالله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله)) (3). فهل يرضى ويتصور في دينه الذي جاء به عن خالق الكون رب السموات والأرض أن تعظم تلك الصور والأمثال والتماثيل وتلك الشبيهات التي لم تأت شريعة السماء إلا لإبطالها وهدمها والرد عليها. معاذ الله أن يكون كذلك ولكن أنى لهؤلاء الناس أن يتوجهوا إلى تعاليم القرآن ومن نزل عليه القرآن. وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 125] صدق الله العظيم. واخترعوا للأكل والشرب مسألة غريبة وبدعة قبيحة وهي إن مات شخص ولم يصل ولم يصم فيمكن إدخاله الجنة بتقديم الطعام إلى الأحبار والرهبان غير كثير، عن كل صوم نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير، وكذلك عن كل صلاة، ومن جاء ليتاجر بالجملة فيرخّص له خصوصا حيث جعلوا له الحيلة، وإليكم بيان ذلك من كتب القوم الذين نسوا ما قال الله عز وجل في محكم كتابه: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء: 10] وقال الله عز وجل: وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى النجم: 39 - 40 [.] وقال وهو أصدق القائلين: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام: 164]. وقال: يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة: 9] ولكن القوم يقولون ضاربين صفحا عن كلام الله الحق وعن تعاليم الرسول الصادق الأمين عليه السلام ويقولون:   (1) ((الموضوعات)) للملا علي القاري الحنفي (119،120). (2) رواه الطبراني في ((الكبير)) (3/ 128) (2889). قال ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (4/ 76): مرسل حسن. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 24): إسناده حسن. (3) رواه أحمد (3/ 153) (12573) من حديث أنس رضي الله عنه, قال محمد بن عبد الهادي في ((الصارم المنكي)) (459): إسناده صحيح على شرط مسلم. وقال أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 611): إسناده صحيح. وقال الحكمي في ((معارج القبول)) (2/ 532): إسناده جيد. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1097): إسناده صحيح على شرط مسلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 407 إن وارث يقول عن الميت الذي لم يكن يصلى ولا يصوم هكذا: كل حق من حقوق الله لزم على ذمة هذا الميت من الفرائض والواجبات والمنذورات وغير ذلك، بعضها أدى وبعضها لم يؤد فالتي أدى قبل الله بفضله وبجاه سيد الأنبياء والمرسلين واستدعاء هذه الجماعة الحاضرة من المسلمين والتي لم يؤد وبقيت على ذمته فبعضها قابلة للفدية وبعضها ليست بقابلة لها، فالذي بقابلة لها غفرها الله تعالى له وتجاوز عنه والتي قابلة للفدية وبقيت في ذمته أعطيت في فديتها هذا المصحف الشريف مع هذا النقد والجنس" (1).أو "وهبت هذا المصحف الشريف مع هذا النقد والجنس لإسقاط ما على ذمة هذا الميت من الصلاة والصيام وغير ذلك" (2). وإن كان شخص لم يصل ولم يصم في حياته كلها؟ فيقولون يحسب على الميت بحسب مدة عمره بعد إسقاط اثنتي عشرة سنة للذكر وتسع سنوات للأنثى لأنها أقل مدة بلوغها فيجب عن كل شهر نصف عزارة بالمد الدمشقي ولكل سنة شمسية ست عزائر" (3). ولكن يصير بهذا الحساب وزنا غير قليل وصاعات كثيرة، فما الحيلة؟ فقالوا: يأخذ مقدار الحدود ويدفع ذلك المقدار للفقير فيسقط عن الميت بقدره، ثم يهبه الفقير للولي ثم يدفعه للفقير فيسقط بقدره، ثم يهبه الفقير للولي ويقبضه ثم يدفع الولي للفقير حتى يسقط ما كان على الميت من صلاة وصيام" (4).ولو لم يترك المال "يستقرض وارثه نصف صاع مثلا ويدفعه للفقير ثم يدفعه الفقير للوارث ثم وثم حتى يتم" (5). ويصرحون بتسمية هذا الخداع بالحيلة حيث يقولون: فالحيلة لإبراء ذمة الميت عن جميع ما عليه أن يدفع ذلك المقدار اليسير بعد تقديره بشيء من صيام أو صلاة أو نحوه ويعطيه للفقير بقصد إسقاط ما يرد عن الميت ثم بعد قبضه يهبه الفقير للولي أو للأجنبي ويقبضه ثم يدفعه الموهوب له للفقير كجهة الإسقاط متبرءاً به عن الميت ثم يهبه الفقير للولي" (6). فهكذا باع القوم آخرتهم بدنياهم وحرضوا الناس على عدم العمل وترك الصلوات والصوم والأعمال التي عليها مدار النجاة حسب تعاليم الله جل وعلا وإرشادات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما دام دخل القوم في الحيل فوصلوا إلى أقصاها فقالوا: أسهل طريقة أن يبيع الوارث على الفقير مصحفا صحيحا قابلا للقراءة بغبن فاحش ثم يهب الفقير له ثم فثم حتى يستتم لعل الله يجعله فدية في مقابلة الصوم والزكاة والمنذورات" (7). ولا يسعنا إلا أن نقول نعم إنها حيلة ولكنها حيلتكم لأكل أموال الناس بالباطل. وهناك الحيل الأخرى نستعيذ بالله منها ومن موجديها. ومن تعليمات القوم التي ابتدعوها واخترعوها باسم الشريعة وروّجوها في المسلمين باسم الإسلام وفسّقوا وكفروا كل من يعارضهم ويخالفها، تقبيل الإبهاميين في الأذان عند استماع اسم الرسول عليه الصلاة والسلام،   (1) ((غاية الاحتياط في حيلة الإسقاط)) المندرجة في مجموعة ((بذل الجوائز)) (35) ط لاهور، باكستان. (2) ((غاية الاحتياط في حيلة الإسقاط)) المندرجة في مجموعة ((بذل الجوائز)) (26) ط لاهور، باكستان. (3) ((جاء الحق)) (387). (4) ((غاية الاحتياط في جواز حيلة الإسقاط)) للقادري البريلوي (41). (5) ((جاء الحق)) (387). (6) ((غاية الاحتياط في جواز حيلة الإسقاط)) للقادري البريلوي (41). (7) ((غاية الاحتياط في حيلة الإسقاط)) (44). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 408 فكتب البريلوي في إثباتها رسالة مستقلة التي أدرجت في فتاواه "منير العين في حكم تقبيل الإبهامين" قال فيه: عن الخضر عليه السلام أنه قال: من قال حين يسمع المؤذن يقول أشهد أن محمدا رسول الله مرحبا بحبيبي وقرة عيني محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم ويقبل إبهاميه ويجعلهما على عينيه لم يرمد أبدا" (1). وكتب أحد غيره: من قبل إبهاميه عند سماع اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأذان ووضعها على عينيه فحصل على الفوائد الدينية والدنيوية وأثيب على ذلك وقد عمل به الصحابة وعليه عمل عامة المسلمين، ولقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من سمع اسمي في الأذان ووضع إبهاميه على عينيه فأنا طالبه في صفوف القيامة وقائده إلى الجنة)) (2). فانظر إلى القوم وجرأتهم على التقول والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: ((من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)) (3). لأن الرواية الأولى نقولها عن المقاصد الحسنة للسخاوي والسخاوي نفسه كتب قبل إيرادها في كتابه: وكذا ما أورده أبو العباس أحمد بن أبي بكر الرداد المتصوف في كتابه (موجبات الرحمة وعزائم المغفرة) بسند فيها مجاهيل مع انقطاعه عن الخضر". فهل بعد هذا كله يجوز الاستدلال بها مع وجود اسم الخضر ومع ما في وجوده من الكلام، والرواية الثانية ليس لها أثر ولا رسم وما أدري من أين جاء بها وهذا مع قول العلماء في مثل هذه الروايات كلها: الأحاديث التي رويت في تقبيل الأنامل وجعلها على العينين عند سماع اسمه عن المؤذن في كلمة الشهادة كلها موضوعات". والسخاوي نفسه قال بعد بيان جواز العمل في الفضائل والترغيب والترهيب بالحديث الضعيف: وأما الموضوع فلا يجوز العمل به بحال" (4).وذكر كل من السخاوي والسيوطي والعلي والقاري ومحمد طاهر الفتني والشوكاني وغيرهم أن مثل هذه الروايات كلها غير ثابتة" (5). ولكن البريلوي مع ذلك يقول: إن الذي ينكر تقبيل الإبهامين فإنه يرد إجماع الأمة ويتبع غير سبيل المؤمنين الذي وعد الله عليه بالوعيد المؤكد وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء: 115] (6). وقال: لا يمنع عن هذا إلا من يفتري على الشريعة ويحترق من اسم النبي ويحسده وتعظيم النبي بجميع أنواع التعظيم الذي ليس فيه مشاركة الله تعالى في الألوهية أمر مستحسن عند من نوّر الله أبصارهم" (7). ومن أكاذيب القوم ومحدثاتهم الكثيرة الكبيرة التي لا نهاية لها – لأنهم بنوا بناءهم على المحدثات والمخترعات التي لم ينزل الله بها من سلطان ولم يرد فيها ثبوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم – إنهم يقولون: أن يكتب هذا الدعاء "لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا إله إلا الله له الملك والحمد، لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أو بسم الله الرحمن الرحيم" ويوضع على صدر الميت – ثم؟ "من كتب هذا الدعاء وجعل بين صدر الميت وكفنه في رقعة لم ينله القبر ولا يرى منكرا ونكيرا" (8).   (1) ((منير العين في حكم تقبيل الإبهامين)) المندرجة في ((الفتاوى الرضوية)) (383). (2) ((جاء الحق)) (394). (3) رواه البخاري (1291) , من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه, ومسلم (3) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (4) ((القول البديع)) (196). (5) انظر ((تذكرة الموضوعات)) للفتني (36) والموضوعات للقاري (75) والفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني (19،20). (6) رسالة ((منير العين)) المندرجة في ((الفتاوى الرضوية)) (2/ 488). (7) رسالة ((منير العين)) المندرجة في ((الفتاوى الرضوية)) (2/ 496). (8) رسالة ((الحرف الحسن في الكتابة على الكفن)) للبريلوي المندرجة في ((الفتاوى الرضوية)) (4/ 127). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 409 وأيضا: من كتب على جبهة الميت أو عمامته أو كفنه "عهد نامه" يرجى أن يغفر الله للميت، وأوصى بعضهم أن يكتب في جبهته وصدره بسم الله الرحمن الرحيم ففعل ثم رؤي في المنام فسئل فقال: لما أودعت في القبر جاءتني ملائكة العذاب فلما رأوا مكتوبا على جبهتي قالوا: أمنت من عذاب الله" (1). وكتب بريلوي آخر: إن "عهد نامه" هذا يكتب كي يتذكر الميت عند سؤال المنكر والنكير الجواب لأنهما عندما يسألانه يقرأ المكتوب ويجيب عليهما" (2). ومن ميزاتهم التي يمتازون بها عن الآخرين وحتى الأحناف أنهم يلتزمون محدثات الأمور ويصرون عليها ويشتمون تاركها ويسبونه ويطعنون فيه ويتهمونه بالوهابية. ولا غرو أن متبعي الكتاب والسنة يطعنون ويبغضون من قبل الخرافيين وأهل البدع والأهواء وأصحاب الزيغ والضلال. ومن هذه الميزات والتعاليم التي ألزموها على مقلديهم ومتبعيهم الدعاء بعد صلاة الجنازة مخالفين الكتاب والسنة، والفقه الحنفي أيضا، فيقول البريلوي: الذي يمنع عن الدعاء بعد الجنازة هو يتمسك بالمخالفة الصريحة للفقه الحنفي ولكن النجدية قوم يجهلون" (3). وأما ما ورد من منع القيام بعد صلاة الجنازة في الفقه الحنفي فقال عنه: إن المراد منه المداومة" ثم استدل على ذلك ببيت شعر خبيث للطعن على المخالفين وبعبارة خبيثة فيقول: إن المراد من القيام المداومة كما بيناه في الفتوى الأولى ومنه قول القائل: ولا يقوم على ذلك يراد به ... إلا الأذلان غير النجد والوتد ليس المراد بأن حمار النجد عند إرادة ذل به يقوم ولا يقعد بخلاف غيره فإنه يقعد، وإنما أراد أن الحمار النجدي يدوم ويصبر على الذل ويرضى به" (4) .... فهذه هي تعاليم البريلوية مخالفة صريح الاختلاف لتعاليم الكتاب والسنة وتعاليم الحنفية أيضا أوردناها وأثبتناها من كتب القوم أنفسهم بذكر الصفحات والمجلدات. المصدر: البريلوية عقائد وتاريخ لإحسان إلهي ظهير- ص113   (1) رسالة ((الحرف الحسن في الكتابة على الكفن)) للبريلوي المندرجة في ((الفتاوى الرضوية)) (4/ 129). (2) ((جاء الحق)) (340). (3) ((بذل الجوائز على الدعاء بعد صلاة الجنائز)) المندرجة في ((الفتاوى الرضوية)) (4/ 25،26). (4) ((الفتاوى الرضوية)) (4/ 26). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 410 المبحث السادس: البريلوية وتكفير المسلمين فإن القوم قد حصروا الإسلام في الجماعة التي تعتنق بدعتها ومخترعاتها. وتعترف بإمامة قادتها ومشيختها، ويدينون في الله بأنه متعطل متقاعد لا يملك شيئاً وقد سلم قدرته واختياره لأولياء الأمر وأصحاب الطرق وعباده. الذين يعدونهم هؤلاء صالحين، وهم أصحاب القدرة المطلقة والخيارات الإلهية والطاقات الصمدية، فالله ينزل من عرشه لزيارتهم، والكعبة تطوف حولهم. والملائكة خدم لأبوابهم والسماء مطوية بأيمانهم والأرض مقبوضة بشمائلهم، والسحب تنزل بأوامرهم، والأرزاق تقسم بإشارتهم، فهم يملكون الموت والحياة والبعث والنشور، وإحياء الموتى والسماع لمن في القبور وإغاثة الملهوفين وكشف كرب المكروبين ونصر المستغيثين ومدد المضطرين – عياذا بالله – وغير ذلك من الخرافات والترهات كما مر بيانها. فعلى الجميع أن يسفّه رأيه ويحجر عقله ويغلف قلبه ويقول بهذا القول ويعتقد بهذا المعتقد وإلا فقد خرج عن الإسلام والإسلام البريلوي بتعبير صحيح. فأهل الحديث كفرة فجرة مرقوا عن الدين لأنهم قالوا باتباع الكتاب الذي أنزله الله على سيد البشر هدى للناس ورحمة للمؤمنين، واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فإنهم بتمسكهم بهذين الأمرين ضلوا وأضلوا لأنهم لم يدخلوا فيهما إطاعة أحمد رضا البريلوي ولا أذنا به وعملائه متمسكين بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله" (1). وقالوا إن الله لم يأمر في كتابه إلا إطاعته وإطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في الآيات الكثيرة الكثيرة ونورد منها ثلاثة فقط. وَأَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران: 132] وأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ [الأنفال: 20] ويَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [محمد: 33] فلم يذكر فيها لا أحمد رضا ولا غيره ولم يلزمهم الإيمان به. وكيف لا يكفرون وهم يدعون إلى كتاب الله وسنة رسول الله، والكتاب لا يشملهم والسنة لا توافقهم. وأتباع محمد بن عبدالوهاب كفرة وفسقة لأنهم كفروا ببدعاتهم وخرافاتهم واعتقادهم بإلوهية رب العرش العظيم وبإمامة سيد المرسلين. والديوبنديون مرتدون مارقون عن الدين خارجون عن الإسلام لأنهم لم يؤمنوا بالقصص التي اختلقوها والأساطير التي اخترعوها والخرافات التي جعلوها دينا وشريعة. والندويون أنجاس مشركون لأنهم لم يبايعوا البريلوي ولم يذعنوا بإمامته وقيادته. ولم يتفوهوا بأقاويلهم وخزعبلاتهم، وكيف لا يمرقون عن الدين وهم يجعلون الفقه الحنفي حكماً بينهم وبين القوم. ومع ادعاء القوم أنهم أحناف فالفقه الحنفي يناوئهم ويخالفهم. وشعراء الإصلاح في شبه القارة الهندية وكتابه وأدباؤه والدعاة إليه ضالون مضلون لأنهم بدعوتهم المسلمين إلى الإصلاح يبعدونهم عن التقاليد العتيقة والعادات القديمة والرسوم الجاهلية والأفكار الوثنية الهندوكية من عبادة الأوثان والقبور والركوع والخشوع أمام العتبات والدهاليز وأبواب المزارات، والخوف من الشجر والحجر والظل والقط والسنور وغير ذلك من الخرافات.   (1) أخرجه مالك بلاغا (1594) وابن عبد البر في ((التمهيد)) (24/ 331) وقال: محفوظ معروف مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم شهرة يكاد يستغني بها عن الإسناد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 411 وزعماء التعليم فجرة ملاحدة لأنهم بتعليمهم الأمة الإسلامية يبددون ظلام الجهل. ويعممون نور العلم في أناس توارثوا العبودية للمشيخة المتزعمين الولاية والتقرب إلى الله والشفاعة للخلق. والساسة ومحرروا الأمة من أغلال الاستعمار كفرة وملاعين لأنهم لا يريدون فقط تحرير الأراضي الهندية الباكستانية من براثين الإنجليزي الغاشم وكسر قيود المستعبدين المستضعفين، بل ومع ذلك يريدون أن يحرروهم من سجن وقيد المستغلين المترفين والمستبدين باسم الدين. وحملة لواء الجهاد وعلم القتال في سبيل الله بغاة طغاة ومباحوا الدم لأنهم ينفثون روح الجهاد في الضعفاء والمساكين يخرجونهم عن خانقاهاتهم وتكاياهم ويصرفونهم عنهم وعن الجهاد الأكبر إلى الجهاد الأصغر. ويحرضونهم على الإنفاق في سبيل الله لشراء الأسلحة ورباط الخيل بدل الإنفاق في المواليد والأعراس والأعياد على القبور. ودعاة الحكومة الإسلامية والخلافة النبوية والإمارة الشرعية أصحاب زيغ وضلال لأنهم يرشدون الناس إلى دولة إسلامية غير دولتهم التي أقاموها في حجراتهم والخلافة التي يوزعونها في تكاياهم والإمارة التي يقيمونها في زواياهم. فهؤلاء جميعا فسقة فجرة، كفرة مرتدون، خارجون عن الدين، مارقون عن المذهب لأنهم يكفرون بالبريلوي ومن وافقه ولا يؤمنون بعقائده ومعتقداته. فلم يسلم من هؤلاء البريلويين شخص قام بكل هذه الأمور المذكورة أو اعتقد ما ذكرناه سابقا سواء كان من شبه القارة أو خارجها وسواء كان من المتأخرين أو من المتقدمين ولا أظن أن طائفة من الطوائف وفرقة من الفرق المنتمية إلى الإسلام وسعت التكفير إلى حد وسعه البريليون. فإنهم كفروا كل من اختلف معهم في صغيرة أو كبيرة، في عقيدة أو في رأي وحتى كفروا كل من لم يوافق على تكفيرهم الأشخاص بعيانهم وذواتهم ولو لم يختلفوا معهم لأن عدم الموافقة غير مسموح به في مناهجهم فضلا عن الاختلاف، والمعروف أن عدم الموافقة أخف بكثير من المخالفة والاختلاف، فإنهم كفروا كثيرا من الناس الذين كانوا معهم في معتقداتهم العامة وعقائدهم الخاصة اللهم إلا أنهم لم يوقعوا على الوثائق والمستندات التي أعطوها لمخالفيهم كشهادة الكفر والارتداد ولم يوافقوهم على التصريح بتكفيرهم وبتعبير صحيح لم يتقولوا بمقولتهم في أولئك الأشخاص المعينين ولو أنهم كانوا متفقين معهم لمخالفتهم أفكارهم ومعتقداتهم، فقالوا، إن من تردد وتأخر في تكفير من كفرناه أو شك في كفره فقد كفر. فإن العالم الحنفي الكبير الشيخ عبدالباري اللكنهوي الذي كان متفقاً معهم في كثير من المعتقدات ومؤيدا لهم ومناصرا لآرائهم كفروه وصرح بتكفيره السيد البريلوي نفسه بسبب أنه تذبذب في التصريح بتكفير بعض العلماء الأحناف المخالفين له وللبريلويين في الرأي (1). فقال البريلوي: إن كفره صريح وبواح، ثم أردف فتواه بفتاوى أخرى تحوم حول تكفير الشيخ عبدالباري وقد جمع ابنه جميع فتاواه في كتاب مستقل (الطاري الداري لهفوات عبدالباري). وما أكثر ما يقوله هو وذووه بعد تكفير من يكفرونه من المسلمين، من شك في كفره فقد كفر. وهذا ما شهد به السيد عبدالحي اللكهنوي والد السيد أبي الحسن علي الندوي الكاتب الإسلامي المشهور، فإنه قال في كتابه في ترجمة أحمد رضا البريلوي:   (1) ((مصحح دماغ مجنون)) (14) ط بريلي الهند. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 412 كان متشددا في المسائل الفقهية والكلامية، متوسعاً ومسارعاً في التكفير قد حمل لواء التكفير والتفريق في ديار الهند في العصر الأخير، وتولى كبره وأصبح زعيم هذه الطائفة تنتصر له وتنتسب إليه وتحتج بأقواله وكان لا يتسامح ولا يسمح بتأويل كفر من لا يوافقه على عقيدته وتحقيقه أو من يرى فيه انحرافا عن مسلكه ومسلك آبائه، شديد المعارضة، دائم التعقب لكل حركة إصلاحية. انعقدت حفلة "مدرسة فيض عام" سنة 1311 في كانبور حضرها أكثر العلماء النابهين، وهي الحفلة التي تأسست فيها ندوة العلماء، ومن أكبر أغراضها توحيد كلمة المسلمين وإصلاح ذات البين بين علماء الطوائف وإصلاح التعليم الديني، وحضرها المفتي أحمد رضا المترجم وخرج منها وقد قرر محاربة هذه الجمعية فأصدر صحيفة سماها "التحفة الحنفية لمعارضة ندوة العلماء". وألف نحو مائة رسالة وكتاب في الرد عليها، وأخذ فتاوى العلماء في أنحاء الهند وتوقيعاتهم في تكفير علماء الندوة في كتاب سماه (إلجام السنة لأهل الفتنة) وأخذ على ذلك توثيق علماء الحرمين ونشره في مجموعة (فتاوى الحرمين برجف ندوة المين) سنة 1317هـ. ثم انصرف إلى تكفير علماء ديوبند كالإمام محمد قاسم نانوتوي والعلامة رشيد أحمد الكنكوهي والشيخ خليل أحمد السهارنفوري ومولانا أشرف علي التهانوي ومن والاهم، ونسب إليهم عقائد هم منها براء، ونص على كفرهم وأخذ على ذلك توثيقات علماء الحرمين الذين لا يعرفون الحقيقة ونشرها في مجموعة سماها "حسام الحرمين على منحر أهل الكفر والمين" قال فيها: من شك في كفرهم وعذابهم فقد كفر واشتغل بهذا الرد والنقص والمحاربة والمعارضة لا تأخذه في ذلك هوادة ولا يعتريه وهن حتى أصبح التكفير شغل الناس الشاغل وكانت مضاربات ومحاكمات وفتن ومشاغبات" (1). ولم يكن هو وحيداً في أسلوبه وشأنه هذا. بل كل واحد من طائفته انتهج منهجه وسلك مسلكه وذهب مذهبه، فكفروا كل العالم وأخرجوا المسلمين من الإسلام متربعين على مساندهم وجالسين على عروشهم بعد ما أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعه الكفرة في الإسلام مع تحمل الشدائد والآلام والأذى وقطع العوائق التي تحول بينه وبين ذلك. فكان هو ومتبعوه مدخلوا ملة الكفر في الإسلام وهؤلاء مخرجوا الملة الإسلامية من الإسلام، فكفروا أهل الحديث بدون جريمة ارتكبوها وبدون إثم اقترفوه اللهم إلا أنهم اختاروا موقفاً رأوه مطابقا للكتاب والسنة ودعوا المسلمين إلى نبذ الخلافات ورفع النزاعات بردها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حسب توجيه الله وإرشاده، َإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء: 59]. وقالوا إن الله لم يوجب على أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا طاعته وطاعة نبيه عليه الصلاة والسلام، وأما ما سواهما فلم يرد نص فيه لا في القرآن ولا في السنة اللهم إلا أن يوجد قول موافق لهذين الأصلين الأساسيين، وبهذا أمر الناطق بالوحي صلوات الله وسلامه عليه حيث قال: ((تركت فيكم أمرين كتاب الله وسنتي لن تضلوا ما تمسكتم بهما)) (2)، وأما ما ورد من الآخرين، من العلماء والمشايخ فينظر إن كان له أصل فيلتفت إليه وإلا يضرب به على الحائط.   (1) ((نزهة الخواطر وبهجة السامع والنواظر)) (8/ 39). (2) رواه الدارقطني (4/ 245)، والبيهقي (10/ 114)، قال ابن عدي في ((الكامل)) (5/ 106): غير محفوظ. وقال الذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (2/ 302): [فيه] صالح بن موسى بن عبد الله ضعيف، وحسن الألباني إسناده في ((منزلة السنة)) (13). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 413 كما أنهم قاوموا البدعات والخرافات التي دخلت على المسلمين من الوثنيين والهندوس باسم الإسلام، وقالوا إن الدين قد كمل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادة الله عز وجل. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3]. فكل شيء أحدث في الإسلام ولا يؤيده آية من كتاب الله أو أمر من رسول الله فهو مردود. ((من أحدث في أمرنا هذا فهو رد)) (1).وقال: ((فإن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)) (2). ولو كان ذلك من الدين أو من المستحسن لما ترك الله بيانه ورسوله صلى الله عليه وسلم تفصيله، فعدم وروده ووجوده في الكتاب والسنة يدل على أنه ليس من الدين، ولو كان من الدين ولم يرد ذكره فيهما لما كان الدين كاملا. فرأى القوم أن أعيادهم على القبور وأعراسهم على الأموات وملاهيهم وملاعبهم ورقصاتهم على الطبول والدفوف وسماعهم الأناشيد والقصائد على الناي والمزامير التي أصبغوها بصبغة دينية بطلت، وأن دكاكينهم التي فتحوها باسم التكايا والزوايا وإغاثة الملهوفين وإمداد المكروبين وشفاء المرضى ووهب الأولاد وتقسيم التمائم والعلائق عطلت، وإن الطرق ومشيختها دمرت، وحلوان الكاهن راحت وذهبت فانكبوا على منكريهم ومخالفيهم على أهل الحديث الذين يريدون أن يحرروا الناس من أغلالهم التي وضعوها عليهم وأن يفكوهم ويخلصوهم من مكائدهم وحبائلهم التي فرشوها منذ أجيال لاصطيادهم، فكفروهم وكفروا أعلامهم وعلمائهم، ودعاتهم ووعاظهم دعاة الكتاب والسنة، دعاة الحق والهدى، دعاة الصدق والصفا، وعلى رأسهم رائد حركة أهل الحديث وقائدها المجاهد الباسل الفارس البطل العالم الكامل والشهيد الشاه إسماعيل حفيد الشاه ولي الله الدهلوي، الذي حمل لواء الجهاد ضد الاستعمار الإنجليزي والسيخ الذين استولوا على البلاد المسلمة ونفذوا فيها الكفر وأباحوا دماء المسلمين.   (1) رواه البخاري (2667) , ومسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنهما. (2) رواه مسلم (867) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه, بدون لفظ: (وكل ضلالة في النار). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 414 وحمل لواء الإسلام لإقامة دولة إسلامية في جزء من الأراضي الهندية لتنفيذ الشريعة الإسلامية الغراء بحذافيرها وكان مجدداً للدعوة الإسلامية الصحيحة ومحييا الطريقة السلفية المستقيمة التي اختفى صوتها منذ قرون واضمحلت وتلاشت تحت البدعات المتراكمة والخرافات المكدسة وتغيرت بالطريقة الخلفية الخبيثة حتى صارت القبور تعبد وتسجد إليها وعليها والمساجد خربت من الهدى والهداة وخلت من العباد والرواد، والتكايا عمرت وازدهرت، وعبادة الله وحده تركت، وحدود الله عطلت، وشريعة الله نبذت، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم غلبت بأقاويل الرجال وأفعال المتصوفة الجهلة، واشتريت الضلالة بالهدى واختيرت الظلمة بالنور، فقام وقاوم وجاهد بقلمه ولسانه وبيده وسيفه، فأخرج الكتاب وبدأ يعلمه ويفسره ويوضحه ويبينه، ودعا الناس إلى الهدى بنوره والتمسك بتعاليمه بعد أن كان مغلفا في الغلف الحريرية وموضوعا للتبرك والتقبيل أو الحلف واليمين، فكتب في ضوء الكتاب كتابه المشهور (تقوية الإيمان) داعيا الناس إلى عبادة الله وحده والتوحيد الخالص والاجتناب عن الشرك والاستغاثة بغير الله من المشايخ وأصحاب القبور، ومنع الناس عن النداء لغير الله والحلف به ودعاهم إلى الكتاب وإلى مبين الكتاب محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ونبذ التقليد الآبائي والجمود المذهبي كما دعاهم إلى ساحة القتال لإعلاء كلمة الله ورفع رايته وإقامة الدولة الإسلامية يحكم فيها بكتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم وارتحل هو وذووه وتلامذته وملبوا دعوته إلى ساحة الجهاد، فكان وكانوا يقاتلون في سبيل الله ويعرضون أنفسهم على الأسنة والسيوف آناء النهار، ويقومون بالدرس والتدريس لكتاب الله القرآن المجيد وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم آناء الليل فلما جنح الليل تتجافى جنوبهم عن المضاجع، ولما أسفر الصبح يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون، فكانوا قوامين بالليل صوامين بالنهار، وهم كانوا مصداق قول الله عز وجل، إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 111]. وكفروا بعده وريث دعوته وجهاده المحدث الجليل والعالم النبيل شيخ الطائفة المنصورة في عصره الرباني من سلالة الرسول الشريف نذير حسين الدهلوي الذي حمل لواء السنة في شبه القارة الهندية الباكستانية، وبدد غيوم الجهل والضلالة ونوره بنور الكتاب والسنة، وجلس مسند الشاه ولي الله الدهلوي ونقح تعليماته وهذب وجدد شوق الهنديين إلى الكتاب والسنة بعد ما أعرض عنهما الجامدون وطووا عنهما كشحا، وأحيا العمل بالحديث بعد ما طال الأمد على تركه، ونشط وأنشط تلامذته في نشر الحديث الشريف في ربوع هذه القارة، وبلغ صيته وشهرته الآفاق، وتفوه العالم بروح وريحان السنة المحمدية على صاحبها الصلاة والسلام حتى قال أحد علماء مصر السيد رشيد رضا. ولولا عناية إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر لقضي عليها بالزوال من أمصار الشرق (1).بعدما كتب: حتى أن من المقلدين الجامدين من لا يرى لهذه الكتب فائدة إلا التبرك بها والصلاة على النبي عند ذكره وذكرها (2).   (1) ((مفتاح كنوز السنة)) مقدمة السيد رشيد رضا صفحة ق. (2) ((مفتاح كنوز السنة)) مقدمة السيد رشيد رضا صفحة ق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 415 فكفر البريلوي وأذنا به هذين الإمامين الهمامين، كما كفر أتباعهم متبعي السلف أهل الحديث وخاصة الأول منهما فلم يجد في لغته شتيمة إلا وقذفه بها ولا طعنا إلا جرحه به، وكتب رسالة مستقلة في إثبات كفره حسب زعمه وسماها "الكوكبة الشهابية على كفريات أبي الوهابية" فيقول في عربيته المكسرة:"يا أيها المنافقون المردة الفاسقون الزاعم كبيركم أن مدح الرسول كمدح بعضكم بعضا بل أقل منه في حسباتكم قد بدت البغضاء من أفواهكم وما تخفي صدوركم أكبر والله مخرج أضغانكم استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله وتعظيم الرسول وقد نطق القرآن بخذلانكم زاد فاءكم الشيطان نقطا من شينه وقاعدكم التدوير من دائرة نونه فأراكم تقوية الإيمان في تفويت إيمانكم، ما كان ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما الله بغافل عن كفرانكم" (1). ثم قال رداً على سؤال السائل: إن الوهابيين غير المقلدين وإمامهم الذي ذكر كفره قطعاً ويقينا من وجوه كثيرة وحسب تصريحات الفقهاء وأصحاب الفتاوى الأكابر والأعلام رحمهم الله الملك المنعام أن حكم الكفر ثابت عليهم وقائم ولا ينفعهم كلمة التوحيد ولا ينفى عنهم الكفر .... وقد أقر هؤلاء وأمامهم في كتابه (تقوية الإيمان) الذي يعدونه مثل القرآن بكفرهم الصريح والظاهر" (2). وينقل كلام الشهيد الدهلوي من كتابه (تنوير العينين): ليت شعري كيف يجوز التزام تقليد شخص معين مع تمكن الرجوع إلى الروايات المنقولة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الصريحة الدالة على خلاف قول الإمام فإن لم يترك قول إمامه ففيه شائبة من الشرك وقول أتباع شخص معين بحيث يتمسك بقوله وإن ثبت على خلافه دلائل من السنة والكتاب" ثم يقول:"وهذا من كفرياته فلذلك كفر" (3).أي كفر الشهيد الدهلوي لأنه يرى أن التزام التقليد الشخصي لا يجوز مع تمكن الرجوع إلى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تدل على خلاف قول الإمام، وإن ترك السنة لا يجوز مقابل قول شخص من الأشخاص فهذا هو كفر في نظر البريلوي، وإن كان هذا كفر فلا ندري ما هو الإسلام؟ (4) فيا عجباه أن تكون الدعوة إلى كتاب الله وسنة رسوله كفراً والدعوة إلى غيرهما إسلاماً. فليبك على الإسلام من كان باكيا ومثل هذه الوجوه التي بلغ عددها السبعين كفر البريلوي ذلك الإمام المجاهد محيي السنة وماحي البدعة الشهيد وقال في آخر رسالته: إن تكفيره وتكفير أتباعه الوهابيين يجب فقها لأنهم ينسبون إلى محمد بن عبدالوهاب النجدي فكان معلمهم الأول فكتب كتابه (التوحيد)، و (تقوية الإيمان) ليس إلا ترجمته في اللغة الأردية. فإمامهم كان الشيخ النجدي فقبل مذهبه إسماعيل الدهلوي وترجم كتابه باسم (تقوية الإيمان) الذي ليس حقيقة إلا تفوية الإيمان، فبالنسبة إلى معلمهم الأول هم الوهابيون وبالنظر إلى معلمهم الثاني هو الإسماعيليون، فثبت أن هؤلاء الوهابيين الإسماعيليين وإمامهم يلزمهم الكفر جزما وقطعا ويقينا من وجوه كثيرة وإنهم كلهم مرتدون بل كفرة (5). وقال: إن إسماعيل الدهلوي كان كافرا محضا (6).   (1) ((الكوكبة الشهابية في كفريات أبى الوهابية)) لأحمد رضا (78) ط نوري بك وبو لاهور. (2) ((الكوكبة الشهابية في كفريات أبى الوهابية)) لأحمد رضا (10) ط نوري بك وبو لاهور. (3) ((الكوكبة الشهابية في كفريات أبي الوهابية)) لأحمد رضا (49) ط نوري بك وبو لاهور. (4) ((الكوكبة الشهابية في كفريات أبي الوهابية)) لأحمد رضا (60) ط نوري بك وبو لاهور. (5) ((الكوكبة الشهابية في كفريات أبي الوهابية)) لأحمد رضا (60) ط نوري بك وبو لاهور. (6) ((دامان باغ ملحق سبحان السبوح)) (134). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 416 وسئل مرة، ماذا ينبغي أن يعتقد في إسماعيل الدهلوي؟ فأجاب: إن اعتقادي أنه مثل يزيد، وإن كفّره أحد فلا يمنع من تكفيره (1). ولم يجد شتيمة إلا وقد شتمه بها، وفي إحدى كتبه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم علم ما كان وما يكون، وهذا ما يعتقده أئمة ديننا لم يختلف فيه أحد إلا ذلك المتمرد الطاغي وعبدالشيطان اللعين – يعني إسماعيل الدهلوي –" (2).وأيضا قال: إنه كان يهودي الأفكار" (3).هذا، وأما كتابه (تقوية الإيمان) فقالوا في حقه: إنه ليس تقوية الإيمان بل إنه تفوية الإيمان وقال: إن تفوية الإيمان هو القرآن الكاذب لدين الوهابية" (4).وأيضا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم أوصل القرآن الدهلوي الجديد "تقوية الإيمان" الجحيم (5).ويقول إن مصنفات إسماعيل الدهلوي مثل "تقوية الإيمان" و "تنوير العينين" و "إيضاح الحق" و "الصراط المستقيم" كلها تصانيف كفرية، كما أنها أنجس من البول ومن لم يعتقد ذلك – فماذا؟ " فإنه زنديق (6). ثم ولم يقتنع بهذا كله ولم يشبع ولم يعده كافيا حسب طبيعته ومزاجه فقال: إن قراءة تقوية الإيمان أشد جرمة من الزنا وشرب الخمر" (7). ... ثم تبعه في تكفير هؤلاء الكرام البررة ومن والاهم أتباعه وأذنابه، فقال قائلهم: إن أهل الحديث أتباع نذير حسين الدهلوي وأمير أحمد السهسواني وأمير حسن السهسواني وبشير حسن قنوجي ومحمد بشير قنوجي كلهم كفرة قطعا ويقينا بحكم الشريعة المطهرة ومرتدون مستحقون العذاب الأبدي الشديد ولعنة الرب الوحيد" (8).وقال في مقام آخر: "وأتباع ثناء الله الأمر تسري وغيرهم"، كلهم كفرة مرتدون بحكم الشريعة المطهرة" (9). وقالوا في شيخ الإسلام والمسلمين في زمانه ووكيل الملة الإسلامية ومدافعهم ومناظرهم الذي سماه الشيخ رشيد رضا المصري:"الرجل الإلهي في الهند" (10). والذي ألجم السكوت جميع الفرق الباطلة والمناوئة للإسلام والشريعة السماوية الغراء من القاديانية والآرية والهندوس والمجوس والمسيحيين وغيرها من الفرق الكافرة والمنحرفة قالوا فيه: إن ثناء الله ورئيس غير المقلدين "السلفيين أهل الحديث"، مرتد" (11). وقال البريلوي نفسه في حق شيخ الإسلام: إن ثناء الله الأمرتسري تستر باسم الإسلام ولكنه عبد للهندوس" (12). ومدام الشهيد الدهلوي كافرا والمحدث الدهلوي كافرا أيضا وتلامذتهم ومنتهجوا منهجهم لزم أن يكون قادتهم الأولون وزعماؤهم المتقدمون، الدعاة إلى الكتاب والسنة كفرة مرتدون أيضا – معاذ الله –   (1) ((ملفوظات أحمد رضا)) (1/ 110) بترتيب ابنه محمد مصطفى رضا خان طبع حامد ايند كمبني لاهور. (2) ((الأمن والعلى)) لأحمد رضا البريلوي (112) ط داء التبليغ لاهور 1396هـ. (3) ((الأمن والعلى)) لأحمد رضا البريلوي (112) ط داء التبليغ لاهور 1396هـ. (4) ((الأمن والعلى)) (72). (5) ((الأمن والعلى)) (195). (6) ((دامان باغ)) سبحان السبوح (134) ط لاهور. (7) ((العطايا النبوية في الفتاوى الرضوية)) مجموعة فتاوى البريلوي (6/ 183) ط الهند. (8) ((تجانب أهل السنة عن أهل الفتنة)) لمحمد طيب القادري المصدق من قبل حشمت علي القادري الرضوي تلميذ البريلوي الملقب بمظهر أحمد رضا وغيره من العلماء الكبار للبريلويين (219) ط مطبعة بريلي 1361هـ. (9) ((تجانب أهل السنة)) (248). (10) ((مجلة المنار)) المجلد الثالث والثلاثون لسنة 1351 هـ (639). (11) ((تجانب أهل السنة)) (247). (12) ((الاستمداد)) للبريلوي (147). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 417 وفعلاً كفر الأولين أيضا مثل شيخ الإسلام والإمام الهمام ابن تيمية رحمة الله تعالى عليه، وإمام أهل العصر الحافظ ابن حزم الأندلسي الظاهري، وغيرهما من دعاة الحق وهداة الصدق فقال: إن معلم هؤلاء الناس إبليس الخبيث عليه اللعن، علم مقتداهم ابن حزم فاسد العزم فاقد الجزم ظاهري المذهب رديء المشرب" (1).وقال: إن ابن حزم كان صابيا خبيث اللسان" (2). وقال في شيخ الإسلام إمام أهل السنة ابن تيمية رحمه الله تعالى: إن ابن تيمية كان يهذي جزافا" (3). وقال نعيم الدين المراد آبادي أحد خلفاء البريلوي: إن ابن تيمية أفسد نظم الشريعة – ثم نقل عن أحد من أمثاله – ابن تيمية عبد خذله الله وأضله وأعماه وأصمّه وأذله .... وإنه مبتدع ضال ومضل جاهل غال" (4) ". وقال آخر من أتباعه،"ابن تيمية ضال مضل" (5).و "ابن تيمية كان فاسد المذهب" (6). وابن القيم كذلك حيث قال:"إنه لا اعتماد على قول ابن القيم لأن ابن القيم كان ملحدا" (7). ومادام هؤلاء كانوا صائبين ملحدين لزم أن يكون الإمام الشوكاني السالك مسلكهم كذلك فقال:"وإن الشوكاني عقله ناقص مثل متأخري الوهابية" (8)."وأن الشوكاني كان فاسد المذهب" (9). وأما مجدد الدعوة السلفية في شبه الجزيرة، وإمام أهل التوحيد محيي السنة، قاطع الشرك والبدعة شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب وأتباعه فكانوا الهدف الأكبر للبريلوي والبريلويين كإخوانهم البدعيين والقبوريين في البلاد العربية، لأنه لا يوجد بدعي أو قبوري في العالم إلا ويرى الشيخ أكبر حجر في طريقه، والسد المنيع في سبيله. ولم يجد البريلوي وأذنابه لفظة سوء إلا أطلقوها على ذلك الإمام المظلوم، ولا فتوى إلا وأفتوا به عليه. فقال البريلوي: وقد كتب حديثا أن الله عز وجل يقول يوم القيامة لمن اسمه أحمد ومحمد، أدخلا الجنة فإني أكتب على نفسي أن لا أدخل النار من اسمه أحمد ولا محمد – ثم تذكر أن هذه الرواية تشمل شيخ الإسلام ابن عبدالوهاب الذي اسمه محمد – فقال: إن هذا الحديث ومثله أحاديث أخرى ((من ولد له مولود فسماه محمدا هو ومولوده في الجنة)) (10). وغيره لا يشمل إلا أهل السنة صحيحي العقيدة "أي البريلويين فقط"، لأن فاسدي المذهب كلاب جهنم، ولا يقبل عمل منهم فإنه لو قتل مظلوما بين الحجر والمقام وقد صبر على قتله راجيا المغفرة وطالبا الثواب لا ينظر الله عز وجل إليه ويلقيه في الجحيم، وبهذا صرحت في فتاواي في مواضع عديدة، وعلى ذلك ليس في هذه الأحاديث بشارة لمحمد بن عبدالوهاب النجدي وغيره الضالين" (11).   (1) ((سبحان السبوح)) (37). (2) ((حاجز البحرين)) لأحمد رضا (2/ 237)) ط باكستان. (3) ((الفتاوى الرضوية)) (3/ 399). (4) ((سيف المصطفى)) للبريلوي (92). (5) ((فتاوى صدر الأفاضل)) (31،32) ط مراد آباد الهند. (6) ((جاء الحق)) لأحمد رضا البريلوي مفتي القوم ط كجرات، باكستان. (7) "فتاوى الرضوية" (4/ 199). (8) "فتاوى الرضوية" (2/ 442). (9) ((سيف المصطفى)) (95). (10) ذكره ابن الجوزي في ((الموضوعات)) (1/ 241) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه, وقال في إسناده من تكلم فيه. وقال الذهبي في ((ميزان الإعتدال)) (1/ 447): موضوع. وقال ابن القيم في ((المنار المنيف)) (52): موضوع. وقال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (171): موضوع. (11) ((أحكام الشريعة)) للبريلوي جزء أول (80) ط كراتشي باكستان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 418 وقال:"إن أخبث المرتدين هم الوهابيون" (1).و "إن الوهابيين أخبث وأضر وأنجس من اليهود والنصارى والوثنيين والمجوس" (2).ويقول: إن الوهابيين المنسوبين إلى ابن عبدالوهاب النجدي الذي كتب (كتاب التوحيد) وأهان الحرمين الطيبين زادهما الله شرفا وتكريما، وشن عليهما الغارات وأوقع فيهما الشر والظلم والقتل، فكان يعد جميع أهل الإسلام غير فرقته الخبيثة مشركين فيجب تكفيرهم فقها، وإن طائفته من فروع الخوارج الذين خرجوا على سيدنا ومولانا علي كرم الله وجهه الكريم، ودخل الجحيم من ذي الفقار لأسد الله القهار قاتل الكفار الذين ورد الحديث فيهم أنهم لا ينقطعون إلى قيام الساعة حتى يخرج آخرهم مع الدجال اللعين، فبموجب هذا الوعد الصادق لا يزال هذا القوم المغضوب عليهم يثيرون الفتن، فخرجوا في القرن الثالث عشر من ديار نجد واشتهروا باسم النجديين وكان إمامهم الشيخ النجدي، حتى كسر الله شوكتهم وخرب بلادهم وظفر بهم عساكر المسلمين عام 1233هـ (3). ويقول في جواب سائل سأله هل الفرقة الوهابية كانت موجودة في عهد الخلفاء الراشدين؟ قال: نعم! هؤلاء الذين خرجوا على عليّ رضي الله عنه ... والآن وقد خرجوا باسم الوهابيين وإمامهم ابن عبدالوهاب النجدي وردت علائمهم في الحديث وهي موجودة فيهم بأسرها تحقرون صلاتكم عند صلاتهم، وصيامكم عند صيامهم، وأعمالكم عند أعمالهم، يقرأون القرآن لا تجاوز طراقيهم؟ - هكذا – يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية سيماهم التحليق مشمري الأزر، وكان النجدي ابن عبدالوهاب مغاليا في التحليق حتى لو أن امرأة دخلت في دينه النجس كان يحلق رأسها لأنها من باقيات زمان الكفر" (4). وغير ذلك من الخرافات."وكان أبوهم في زمن النبي وقد أمر النبي الصديق والفاروق بقتله ولو قتل لما كان لهم اليوم فتنة" (5). وكتب أحد أذنابه أن الرسول صلى الله عليه وسلم تنبأ عن هذه الفتنة النجدية بقوله: هناك زلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان، وإن كل أهل السنة والأحناف على وجه الأرض متفقون مجمعون قاطبة أن محمد بن عبدالوهاب كان خارجيا باغيا ومن اعتقد بعقائده فهو عدو للدين وضال مضل" (6).وقال بمثل هذا القول أمجد علي الرضوي البريلوي أيضا في كتابه (7).وقال واحد آخر وقد فاق أوائله من الأفاكين الكذابين في الاتهام والبهتان: إن الوهابيين النجديين قتلوا الخلائق بدون إثم في الحرمين الشريفين وزنوا بنسائهم وبناتهم وأسروهم وجعلوا نساءهم إماء، وأكثروا قتل الأشراف ... وما فعله ابن سعود في الحرمين الشريفين هو واضح وظاهر على كل حاج وقد رأيت هذا بعيني هناك" (8). وهذا مع نبوءة البريلوي "أن النجديين لا يتسلطون على الحرمين وإن الله كسر شوكتهم وخذلهم".   (1) ((أحكام الشريعة)) للبريلوي جزء أول (123) ط كراتشي باكستان. (2) ((أحكام الشريعة)) للبريلوي جزء أول (124) ط كراتشي باكستان. (3) ((الكوكبة الشهابية على كفريات أبي الوهابية)) (58،59). (4) ((ملفوظات مجدد المائة الحاضرة)) "أي البريلوي" بجمع وترتيب ابنه محمد مصطفى رضا خان (66) ط لاهور باكستان. (5) ((ملفوظات مجدد المائة الحاضرة)) "أي البريلوي" بجمع وترتيب ابنه محمد مصطفى رضا خان (67،68) ط لاهور باكستان ملخصا. (6) ملخص ما كتبه أحمد سعيد الكاظمي البريلوي في كتابه ((الحق المبين)) (10 - 12) ط ساهيوال باكستان. (7) ((بهار شريعت)) (1/ 46،47). (8) ((جاء الحق وزهق الباطل)) لمفتي البريلويين أحمد يار (574). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 419 ومظهر البريلوي لم يترك كلمة خبيثة إلا وقد استعملها في حقهم: النجديين الملاحدة، وزنادقة نجد، وأبالسة نجد كفرة مرتدون لعقائدهم الخبيثة والملعونة قطعياً" (1). وقال في حق إمام الجامع ببمبئ أحمد يوسف الذي استقبل أبناء العال السعودي في بومبي حينما زار الهند قال فيه: إن أحمد يوسف المردود استقبل أبناء ابن سعود، ومدح الحكومة النجدية وابن سعود النجدي وأبناءه، الحكومة التي تعتقد عقائد الكفر النجسة الخبيثة. ووقر الكفرة المرتدين واستقبلهم وعظم الملة النجدية الخبيثة، وبذلك كفر وارتد، واستحق الغضب الإلهي وهدم الإسلام والسنة، وحرك العرش الإلهي، ومن شك في كفره فهو أيضا كافر" (2). هذا والشتائم والتكفير والتفسيق لشيخ الإسلام وأتباعه والحكومة السعودية شيء يسير عند البريلوي والبريلوية. ولا نرى أحدا أغضب هؤلاء القوم مثل ما أغضبهم الموحدون المؤمنون بكتاب الله والمتمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يوجد كلمة مؤلمة وشتيمة خبيثة إلا ويستعملونها خلاف هؤلاء الناس، وكتب أكابرهم وأصاغرهم بالرد على هؤلاء الناس كتب كثيرة وقليلا ما يوجد فيها شيء غير ذلك من الوعظ والنصيحة للمسلمين وتحريضهم على عبادة الله وأداء حقوق العباد وحسن المعاشرة وطيب الخلق ومراعاة حقوق الآخرين وغير ذلك من الأمور التربوية الإسلامية، كما أن كتبهم خالية عن الرد على الفئات الخارجة عن الدين والباغية على الإسلام، كالقاديانية والهندوكية والنصارى والبابية والبهائية والباطنيين والروافض وغير ذلك من الطوائف. فالباحث والقارئ يرى العجب العجاب حينما يتفحص كتب القوم ويجد أنها مليئة من أقذع الفواحش وأقبح الشتائم لمصلحي الأمة وهداتها، ولا يجد كلمة ضد أعداء الإسلام والمسلمين وضد أعداء الله ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. فهذا هو دأب القوم وهذه أحوالهم مع أهل الحديث ومع أتباع شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب. وأما الديوبنديون إخوتهم الأحناف المقلدون للإمام نعمان بن ثابت أبي حنيفة الكوفي رحمه الله فهم أيضا لم يسلموا من قساوة قلبهم، وحدة لسانهم، وشدة فتاويهم من التفسيق والتكفير، ومن شتائمهم القذرة، ولعناتهم الكثيرة المتتالية المتعالية المتراكمة، بل هم الذين صاروا أكبر رمية لألسنتهم المشرعة ولأرماحهم المشحذة ولأسهمهم المطلقة، فلم يتركوا واحدا من كبيرهم وصغيرهم إلا وفسقوه وكفروه وأفتوا بإلحاده وارتداده، وفي ارتداد من يشك في ارتدادهم، وكفر من يتردد في تكفيرهم فبدأ بتكفيرهم البريلوي، ولا زال آخر واحد من البريلويين يكفرهم، ويكفر من يتأخر من كفرهم ..... فقال البريلوي في الديوبنديين عامة:"ومن شك في كفر الديوبنديين فإنه كافر أيضا" (3). وليس هذا فحسب بل أكثر من ذلك:"من صلى خلف أحد الديوبنديين فإنه أيضا ليس بمسلم" (4) هذا "وكل من يعتقد باعتقادهم فهو كافر مرتد" (5) "ولم يبرد غضبه إلى هذا الحد حتى تجاوز جميع الحدود وقال: من يمدح دار العلوم ديوبند أو لا يعتقد بفساد الديوبنديين ولا يكرههم يكفي هذا بأن يحكم عليه بعدم الإسلام" (6).   (1) ((تجانب أهل السنة)) (267،268). (2) مختصرا ((تجانب أهل السنة)) (268 - 272). (3) ((الفتاوى الرضوية)) (6/ 82). (4) ((الفتاوى الرضوية)) (6/ 77). (5) ((بالغ النور)) المندرج في ((الفتاوى الرضوية)) (6/ 43). (6) ((المبين في ختم النبيين)) المندرج في ((الفتاوى الرضوية)) (6/ 110). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 420 ثم ازداد في قهره وغضبه فقال:"التعامل مع الديوبنديين في حياتهم ومماتهم كمعاملة المسلمين حرام، حتى استخدامهم بالأجرة أو خدمتهم بالأجرة حرام، ويجب التباعد عنهم" (1)."وحرام أن يعطى لهم لحم الأضحية" (2). وقال آخر من أتباعه وطائفته:"إن الديوبنديين مبتدعون ضالون وهم شرار خلق الله" (3). وآخر قال:"إن الديوبنديين يدعون الإسلام فهم كفرة مرتدون لئام بحكم الشريعة المطهرة" (4). وما أكثر ما أكفرهم في كتابه هذا. وإلى أيّ حد بلغ كفرهم وارتدادهم؟ قال البريلوي نفسه: إنهم أكفر من الهندوس والمسيحيين والقاديانية، فقال:"إن كان هناك اجتماع للهندوس والنصارى والقاديانية والديوبنديين فينبغي أن يركز الرد على الديوبنديين فقط لأنهم خرجوا عن الإسلام وارتدوا عنه، فالوفاق مع الكفار أولى من الاتفاق مع المرتدين" (5)."وإن كتب الديوبنديين أنجس من الكتب المختلفة للهندوس، وأما الشك في كفر أشرف علي الديوبندي والشبهة في عذابه فهو كفر أيضا وأما الاستنجاء بها "أي بكتب الديوبنديين" فلا يجوز لا لتعظيم كتبهم، بل لتعظيم الحروف التي كتبت بها" (6). وقال واحد آخر:"إن كتب الديوبنديين جديرة أن يبصق عليها، بل ويبال فيها، ولكن البول عليها ينجس البول ويخبثه، اللهم أعذنا من إبليس وأولاده "أي الديوبنديين" آمين" (7). هذا ما قاله البريلوي وأمته البريلويون في الديوبنديين نقلنا من كتبهم وعباراتهم أنفسهم. - وأما الندويون "أي تلامذة دار العلوم ندوة العلماء وأساتذتها والمتعلقين بها والقائمين عليها". فلم يكن حظهم أحسن من الآخرين حينما كفرهم البريلويون أيضا وحكموا عليهم بالارتداد فقال البركاتي ومصدقه حشمت علي نائب البريلوي: إن الندويين دهريون مرتدون وأذناب لقائد الدهريين" (8). وقال البريلوي نفسه: إن الندوة هي الشركة المبيرة "أي المهلكة" وكلهم يروحون إلى الجحيم" (9).وأصدر فتوى أخذ عليها توقيعات من أكابر طائفته في تكفير علماء الندوة، وأصدرها باسم "إلجام السنة لأهل الفتنة" ثم نشره في "مجموعة فتاوى الحرمين برجف ندوة المين" كما مر ذكره عن السيد الحسني فيما مر من هذا الباب، ولذلك ذكر صاحب (التجانب) في مجموعة من أفتوا عليهم بالكفر والارتداد أهل ندوة العلماء (10).   (1) ((المبين في ختم النبيين)) المندرج في ((الفتاوى الرضوية)) (6/ 95). (2) ((الفتاوى الرضوية)) (6/ 167). (3) ((تفسير ميزان الأديان)) لديدار علي (2/ 270) ط لاهور. (4) ((تجانب أهل السنة)) (112. (5) ((ملفوظات مجددة المائة الحاضرة)) لابن البريلوي (325،326). (6) ((الفتاوى الرضوية)) (2/ 136) كتاب الطهارة باب الاستنجاء ط مكتبة رضوية فيصل آباد. (7) هامش كتاب ((سبحان السبوح)) للبريلوي (75 ط لاهور باكستان. (8) ((تجانب أهل السنة)) (90). (9) ((ملفوظات)) للبريلوي (201). (10) ((تجانب أهل السنة)) (90). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 421 ثم أشمل هؤلاء جميعا أي الندويين، والديوبنديين، وأتباع شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، وأهل الحديث السلفيين تحت اسم "الوهابية أو الوهابيين" حسب زعمه بأنهم كلهم استرشدوا في عقائدهم ضد الشرك والبدع والخرافات من شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، فأولا كان يخاطبهم البريلوي والبريلويون بهذا الاسم فقط وعند إطلاق هذه اللفظة يراد بها هذه الطوائف الأربعة، وبعد ذلك بدؤا يلقبونهم بألقاب خبيثة، ويرمونهم بتهم باطلة، وينفرون الناس عنهم ويشهرونهم بين الناس بأوصاف غير طيبة وكاذبة فاجرة، وبينوا أحكامهم وأحكام المعاملة معهم، فقالوا وعلى رأسهم البريلوي نفسه فقال:"إن الوهابية وزعماءهم كفرة لوجوه كثيرة، ونطقهم بالشهادة ليس بناف عن الكفر" (1).وأيضا: "إن هذه الطائفة ثبت كفرهم بآلاف الوجوه والأسباب" (2).و "إنهم كفرة مرتدون بإجماع الأئمة "يعني أئمة الأمة البريلوية" (3).وقال: "إن الوهابيين مرتدون ومنافقون لأنهم يتظاهرون بالإسلام بنطقهم بالشهادة" (4)."وإن الوهابيين أرذل من إبليس وأفسد منه وأضل لأن الشيطان لا يكذب وهؤلاء يكذبون" (5).و "لعن الله الوهابية وأذلهم وجعل النار مثواهم" (6).وقال: إن الوهابية قاتلهم الله أنى يؤفكون" (7).و "إن الوهابيين في أسفل السافلين" (8).و "إن الله كتب في نصيبهم الكفر" (9). ومادام هؤلاء كفرة مرتدين فلا يصلى خلفهم ولا عليهم، ولقد أفتى بذلك البريلوي وطائفته: فإن سائلا سأل البريلوي عن الصلاة خلف الوهابية فقال:"ليست صلاتهم صلاة وجماعتهم جماعة" (10). وسئل عن حكم المسجد الذي بناه الوهابيون فقال: "هم كفرة ومسجد الكفار حكمه حكم البيت العادي" "أيضا" كما قال في جواب سائل سأله هل يرد على أذان مؤذن وهابي فقال:"لا، لأن صلاتهم لا تعد صلاة، ولا أذانهم أذاناً" (11). وأما مسجد المسلمين فلا يسمح بدخول الوهابيين فيه كما صرح بذلك المراد آبادي أحد خلفاء البريلوي، ومعاصره ونائبه فقال:"إن الوهابيين والغير المقلدين لا حق لهم في مساجد المسلمين ودخولهم يسبب الفساد، وإن لم يمتنعوا منها فيمنعون رسميا" (12). وقد كتبوا كتابا مستقلا لبيان وجوب إخراج الوهابيين عن المسجد سموه (إخراج الوهابيين عن المساجد)) وقد شدّدوا على ذلك حتى كتبوا على صفائح مساجدهم: "لا يؤذن للوهابيين أن يصلوا فيها" وحتى في هذا عصر النور والعلم بقى بعض المساجد وعلى جبهاتها مكتوب: يا شيخ عبدالقادر جيلاني شيئا لله، وتحته: ممنوع الدخول للوهابيين، ولقد شاهدت بعيني مسجدين في لاهور لازال مكتوب عليهما هذه العبارة. وقال: "إن الصلاة خلف الوهابية باطل محضا" (13).ومثل ذلك قال مفتي البريلوية أحمد يارخان الكجراتي في فتاواه (14).   (1) ((الكوكبة الشهابية في كفريات أبي الوهابية)) لأحمد رضا (10) ط لاهور. (2) ((الكوكبة الشهابية في كفريات أبي الوهابية)) لأحمد رضا (59) ط لاهور. (3) ((الكوكبة الشهابية في كفريات أبي الوهابية)) لأحمد رضا (60) ط لاهور. (4) ((أحكام شريعت)) للبريلوي (112) ط كراتشي. (5) ((أحكام شريعت)) للبريلوي (117) ط كراتشي. (6) ((فتاوى أفريقة)) (125). (7) ((فتاوى أفريقة)) (172). (8) ((خالص الاعتقاد)) (54). (9) ((المبين في ختم النبيين)) المندرج في ((الفتاوى الرضوية)) (6/ 198). (10) ((ملفوظات)) (105). (11) ((ملفوظات)) (105). (12) ((فتاوى نعيم الدين المراد آبادي)) (64). (13) ((بالغ النور)) المندرج في ((الفتاوى الرضوية)) (6/ 43) وأيضا ((بريق المنار)) المندرج في ((الفتاوى الرضوية)) (4/ 218). (14) ((فتاوى نعيمية)) (1/ 104) ط باكستان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 422 وقال البريلوي نفسه:"إن صلّى الوهابي على جنازة مسلم فلا جنازة له، وإن دفن فكأنه دفن بدون صلاة الجنازة" (1). وأما الصلاة على الوهابيين؟ فقال في جواب سائل سأله ما حكم شخص صلى على رجل مات من الوهابيين؟ فقال:"أن الوهابية كفرة مرتدون، ومن صلى عليهم فقد كفر" (2).كما أنه لا يجوز لهم الدعاء لأن الله قال فيهم: "ثم لا يعودون" (3).هذا وليس هذا فحسب، بل من اعتقد أن الوهابيين مسلمون فهو كافر ولا يجوز الصلاة خلفه كما صرح به البريلوي في كتابه" (4).وقال آخر: "من يتكلم في البريلوي لا تجوز الصلاة خلفه" (5) وأما المعاملات الأخرى فحرام أيضا فقال:"إن اللقاء مع الوهابيين حرام ومجالستهم حرام، وعيادتهم حرام إن مرضوا، وإن ماتوا فغسلهم حرام وحمل جنائزهم حرام" (6). وقال المراد آبادي:"إن الوهابية ضالون مضلون وملحدون لا تجوز الصلاة خلفهم، ولا يجوز الاختلاط معهم" (7).وأيضا "الاستماع إلى حديثهم حرام والجلوس في مجالسهم وخطباتهم حرام" (8).هذا و "المصافحة بهم حرام والسلام عليهم حرام وموجب للمآثم والمعاصي" (9).ولا يجوز للأحناف أن يشربوا الماء من بئر الوهابيين" (10).و "رد السلام عليهم حرام" (11).وليس هذا فحسب: "بل من عاملهم وجالسهم فمناكحته أيضا حرام" (12).وإن قرأ خطبة النكاح وهابي وعقده فالنكاح باطل، ولابد من تجديد النكاح وتجديد الإسلام أيضا" (13).و "إن إشهاد الوهابي على النكاح حرام أيضا" (14). وقال أحد تلامذته وخلفائه: إن النكاح من وهابي حرام لأنه ليس كفوا للمسلم" (15). ولكن أنى لتلميذه أن يبلغه في القسوة والشدة فقال هو نفسه "أي البريلوي":إن الوهابي المرتد لا يزوج، لا من حيوان ولا من إنسان فإن تزوج يكون زنا محضا" (16). ولأول مرة أريد أن أسأل البريلويين هل هم يزوجون ويتزوجون من حيوان؟ وقال: إن الاستفتاء من الوهابية حرام حرام حرام بالتأكيد، ومن شك في كفره وعذابه فقد كفر" (17). وقال أمجد علي: من أعطى الزكاة لأحد من الوهابيين فلا زكاة له" (18).وقال في جواب سائل: إن تدريس الأطفال عند الوهابيين حرام حرام حرام، ومن فعل ذلك فهو عدو لأولاده ومجتلي في الآثام، وقد قال الله عز وجل: قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم: 6] (19). وأما ذبائح الوهابيين فقال: إن ذبيحة اليهودي حلال وكذلك ذبيحة النصراني حلال، وأما ذبيحة الوهابيين فلو سموا الله عليها مئة ألف مرة وكانوا من المتقين فحرام أكلها لأنه لا ذبيحة لمرتد" (20).كما قال: إن ذبيحة الزناة الخلص الثابت زناهم حلال أكلها" (21).   (1) ((الفتاوى الرضوية)) (4/ 12). (2) ((ملفوظات)) (76). (3) ((ملفوظات)) للبريلوي (286). (4) ((المبين)) المندرج في ((الفتاوى الرضوية)) (6/ 80،81). (5) ((فتاوى نعيم الدين المراد آبادي)) (64). (6) ((فتاوى نورية)) (1/ 213). (7) ((الفتاوى الرضوية)) (6/ 90). (8) ((مجموعة فتاوى نعيم الدين)) (112). (9) ((بريق المنار)) المندرج في ((الفتاوى الرضوية)) (4/ 218). (10) ((جاء الحق)) (2/ 222). (11) ((فتاوى أفريقة)) (170). (12) ((ماحي الضلالة)) المندرج في ((الفتاوى الرضوية)) (5/ 72). (13) ((ماحي الضلالة)) المندرج في ((الفتاوى الرضوية)) (50) و (89). (14) ((فتاوى أفريقة)) (69). (15) ((بهار شريعت)) لأمجد علي (7/ 32). (16) ((إزالة العار)) المندرج في ((الفتاوى الرضوية)) (5/ 194 أيضا ((بالغ النور)) المندرج في ((الفتاوى الرضوية)) (6/ 55). (17) ((الفتاوى الرضوية)) (4/ 106). (18) ((أحكام شريعت)) (1/ 122). (19) ((بهار شريعت)) (5/ 46). (20) ((فتاوى أفريقة)) (27). (21) ((أحكام شريعت)) (237). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 423 لماذا هذا كلّه؟ فقال لأن أشد الناس كفرا المجوس، وكفرهم أشد من اليهود والنصارى، وكفر الهندوس أشد من المجوس، وكفر الوهابيين أشد من الهندوس" (1).وقال: إن الوهابيين أخبث وأضر من الكفرة الحقيقيين من اليهود والوثنين وغيرهم" (2).وقال: إن الوهابيين أرذل من الكلاب وأنجس منها لأنه لا عذاب على الكلاب وهؤلاء يستحقون العذاب الشديد" (3). ولم يكفروا هؤلاء الأبرار لأنهم لم يؤمنوا بالخرافات التي أتى بها البريلويون واختلقها الخرافيون، ولم يتركوا قول الله وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم مقابل هؤلاء المفترين على الله كذبا والمتهمين رسوله صلى الله عليه وسلم باطلا، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [البروج: 8 - 9]. هذا وقبل أن ننتقل إلى بحث آخر نريد أن نذكر هاهنا أن البريلويين والبريلوية شددوا على من يقرأ كتب الوهابيين، ومنعوا البريلويين منعا باتا أن يقرؤا كتب غيرهم. فقال البريلوي: إن مطالعة كتب الوهابيين حرام" (4).وقال الآخر: لا يجوز لغير العالم أن ينظر في كتب الوهابيين" (5).وأما البريلوي فإنه قال: وحتى للعالم الكامل لا يجوز أن ينظر في كتب الوهابيين" (6). ولقد قال البريلوي في خصوص أحد الكتب لأحد العلماء الوهابيين: حرام على المسلمين أن ينظروا في هذا الكتاب" (7). ونقل المراد آبادي عن واحد من أئمته:"وإياك أن تصغي إلى كتب ابن تيمية وابن القيم الجوزية وغيرهما ممن اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوه، فمن يهديه من بعد الله وكيف تجاوز هؤلاء الملحدون الحدود وتعدو الرسوم وخرقوا سياج الشريعة والحقيقة، فظنوا بذلك أنهم على هدى من ربهم وليسوا كذلك، بل إنهم على أسوأ الضلال وأقبح الخصال وأنهى الكذب والبهتان، فخذل الله جمعيتهم وطهر الأرض من أمثالهم" (8). فتاوى البريلويين بالتواء الحج لتولي الوهابيين الحكم في الحجاز:- ومن بغض البريلويين لأتباع السلف الصالح، المتمسكين بالكتاب والسنة أنهم أفتوا بسقوط فريضة الحج وقد أصدر كتيبا في ذلك الخصوص باسم (تنوير الحجة لمن يجوز التواء الحجة) وقد كتب هذا الكتاب ابن البريلوي ومفتي البريلويين مصطفى رضا. وصادق عليه ووقع أكثر من خمسين عالما من علماء القوم من جميع أطراف شبه القارة من الأعيان والأكابر. منهم مظهر البريلوي الذي يسمي نفسه عبيد الرضا حشمت علي، وابن البريلوي الثاني حامد رضا، والمراد آبادي نعيم الدين، ودلدار علي، وغيرهم من أساطين القوم، وبدأ كتيبه هذا بخطبته، اللهم اغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين لاسيما النجديين المفسدين المارقين من الدين مروق السهم من الرمية والخارجين منه كما تخرج الشعرة من العجين، ثم لا يجد شتيمة إلا وشتم بها الحكومة السعودية الميمونة، ولا فرية إلا وافترى بها على الملك الراحل عبدالعزيز آل السعود رحمه الله وغفر له، ولا بهتانا وكذبا إلا واستعمله وتقول به بكل جرأة وشجاعة بلا خوف من الله وحياء منه.   (1) ((بالغ النور)) المندرج في ((الفتاوى الرضوية)) (6/ 13). (2) ((أحكام شريعت)) (124). (3) ((إزالة العار)) المندرج في ((الفتاوى الرضوية)) (5/ 138). (4) ((المبين)) المندرج في ((الفتاوى الرضوية)) (6/ 9). (5) ((بهار شريعت)) (5/ 11). (6) ((ملفوظات)) ص335). (7) ((بالغ النور)) المندرج في "الفتاوى النبوية" (6/ 54). (8) ((فتاوى نعيم الدين مراد آبادي)) (33، 34). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 424 وأخيراً أفتى بسقوط فريضة الحج في عهدهم وعصرهم وفي زمان توليهم وإمارتهم، وقد علق أحد الموقعين على هذه الفتوى أن بهذا الإفتاء تطهر أراضي الحرمين الطيبين من شياطين النجدية. فهؤلاء هم البريلويون، وهذا هو بغضهم للموحدين والمتبعين كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن دلت هذه الفتوى على شيء دل على قساوة قلوبهم وتحجر عقولهم وإطالة لسانهم وتلاعبهم بالدين وجعلهم الشريعة هدفا لأغراضهم الدنيئة حتى أسقطوا فريضة من فرائض الله على المسلمين بلا سبب فقط اللهم إلا إظهاراً لحقدهم وحنقهم وحسدهم على الناس الذين أعزهم الله وولاهم الحكم والحكومة. وما رأينا طائفة من طوائف العالم التي تنتمي إلى الإسلام قاسية القلب ومطلق اللعنات مثل هذه الطائفة غير الشيعة فلا ندري أيهما أشد أو أكثر؟ وقد أطلنا الكلام فيه لبيان القوم وأصلهم وبيان معتقداتهم وعقائدهم تجاه المخالفين في الرأي والمناوئين في الفكر. ..... فلقد كفر البريلوي والبريلوية شعراء الإصلاح في شبه القارة الهندية وكتابه وأدباءه والدعاة إليه مثل الشيخ نذير أحمد خان الدهلوي والسيد شبلي النعماني والسيد ألطاف حسين حالي والشيخ ذكاء الله الملقب بشمس العلماء والنواب مهدي علي خان والنواب مشتاق حسين. وأما شاعر الرسالة المحمدية على صاحبها الصلاة والسلام وشاعر المسلمين في شبه القارة الهندية الباكستانية الذي نفخ روح الجهاد فيهم وحرضهم على نبذ الرسوم الجاهلية وعادات الكفرة وترك التكايا والزوايا، وحذر عن الجمود المذهبي والتقليد الشخصي الدكتور محمد إقبال؟ قالوا عنه: إن إبليس ينطق على لسان الفلسفي الملحد دكتور محمد إقبال" (1).وأيضا "إن مذهب إقبالا لا علاقة له بالدين الإسلامي الصحيح" (2).وقال خليفة البريلوي ونائبه: لا يجوز للمسلمين مجالسة محمد إقبال ومحادثته وإلا فيكونون مذنبين ذنباً عظيما" (3). كما كفروا الشاعر الإسلامي الجليل شاعر التوحيد وأهل التوحيد الشيخ ظفر علي الملقب بظفر الملة والدين، والذي أحيا شوق الجهاد في نفوس المستعبدين وأضرم في قلوبهم النار ضد الاستعمار الإنجليزي الخبيث وعملائه القاديانية وغيرها من الفرق الباطلة، فكفروه وكتبوا في تكفيره رسالة مستقلة باسم "القسورة على أدوار الحمر الكفرة الملقب علي ظفر رمة من كفر" بتوقيعات كثيرة من أكابر البريلويين، وقد ألفها ابن البريلوي مصطفى رضا خان. .... وقد كتب البريلوي نفسه عن نفسه:"نحن نتحفظ في تكفير المسلم ونحاول أن لا نكفر من قال لا إله إلا الله حتى الإمكان" (4). فهذا كان حاله وحال طائفته مع هذه الاحتياطات والتحفظات بأنهم كفروا جميع العالم، ولو لم يكونوا محتاطين لم ندر ماذا كانوا يفعلون؟. ونختم القول في هذا الباب بطريفة وهي أن علماء الهند والباكستان أثبتوا من كتبه أنه في شدة غضبه وغيظه كفر نفسه مرات عديدة حيث قال بعد إصدار الفتوى في تكفير أشخاص: من شك في كفرهم وعذابهم فهو كافر، ثم نسى وسماهم مسلمين. المصدر: البريلوية عقائد وتاريخ لإحسان إلهي ظهير- ص153   (1) ((تجانب أهل السنة)) (340). (2) ((تجانب أهل السنة)) (341). (3) نقلا عن ذكر إقبال (129، وسركزشت إقبال (191). (4) ((الفتاوى الرضوية)) (6/ 251 ط الهند. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 425 المبحث السابع: خرافات البريلوية ما من قوم مبتدعة إلا ولهم قصص وحكايات، خرافات وترهات لتقوية باطلهم وتأييد كذبهم كي لا يبقوا بلا سند واستناد، ولا يطعنوا بعدم الدليل والبرهان، وعندما لا يجدون المستند في الأصلين العظيمين في الشريعة الإسلامية من الكتاب والسنة يلتجئون إلى الأساطير الوهمية والقصص الخيالية، والحكايات الباردة الكاذبة، ويقدمونها كالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة ليقوم لهم عود ويستقيم بهم عمود، وأنى لهم ذلك! فلا يقوي الباطل الباطل ولا ينصر المخزول الخازل ولا يكدّس الكذب إلا ظلمات بعضها فوق بعض ولا ينسج الجهل إلا بيت العنكبوت وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون، وهم الذين قال فيهم الله عز وجل: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف: 104]. فيخسرون الدين لإعراضهم عن الحق والحقيقة وإهمالهم القرآن والسنة ويخسرون الدنيا لانحرافهم عن الحقائق الثابتة والحوادث الواقعة وذلك هو الخسران المبين، وأما من اجتنب من البدع والمحدثات واحترز عن الأهواء والوهميات فقد تمسك بالهدى واتبع النور الذي أنزله الله لتبديد الظلمات وتشتيت الجهل، هل يستوي الظلمات والنور، وقد قال الرب جل وعلا: وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ [النور: 40]. فكم من فئة منحرفة زائغة ومنتمية إلى الإسلام اتخذوا هذا القرآن مهجورا. وجعلوا الأراجيف ملتزمة الإطاعة والاتباع، وكم من قوم جعلوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ممتروكة وبدعات المنتحلين المبطلين الأدعياء متبوعة. فإن البريلويين على دأب هؤلاء ومنوالهم فما تركوا أكذوبة إلا واعتنقوها ولا أضحوكة إلا وتمسكوا بها لإحقاق الباطل وإبطال الحق وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون. ولكم مضحكاتهم ومبكياتهم في آن واحد وما أكثرها وأطولها ولكننا نقتصر على التي ساقها وسمر بها البريلوي أحمد رضا نفسه، وقليلا ما نذكر التي أوردها البارزون من أنصاره وأتباعه والمعتمدين لدى القوم فيقول البريلوي وهو يحاول إثبات معتقداته الواهية المخالفة نصوص الكتاب والسنة من قدرة الأولياء واختياراتهم على إغاثة المستغيثين وإجابة المضطرين وكشف الضر عن المكروبين وعلمهم بالغيب وحضورهم في كل مكان وزمان فيقول قبل ذكر أحد المشايخ إنه: إذا ناداه مريده أجابه من مسيرة سنة أو أكثر" (1). وبعد قول القائل: أنا من المتصرفين في قبورهم فمن كانت له حاجة فليأت إلي قبالة وجهي ويذكرها أقضها له" (2). فيستدل لتصديق هذه الأقوال المكذوبة على أصحابها بحكاية باطلة كاذبة لتقوية الكذب بالكذب فيحكي: أن سيدي مدين بن أحمد الأشبوني رضي الله عنه كان يتوضأ فإذا خلع نعله ورماها إلى بلاد المشرق، وبعد سنة كاملة حضر إليه شخص ومعه تلك النعل فقال: يا شيخي كانت ابنتي في بادية فتعرض لها رجل قبيح بالسوء وابنتي لم تكن تعرف اسم شيخي ومرشدي فنادت يا شيخ أبي! لاحظني. فلم تنطق بهذا الاسم ولم تستغث به حتى جاءته هذه النعل وضربت رأس ذلك الرجل فنجت ابنتي" (3).   (1) رسالة البريلوي ((أنوار الانتباه في حل نداء يا رسول الله)) المندرجة في ((مجموعة رسائل)) للبريلوي (1/ 182). (2) رسالة البريلوي ((أنوار الانتباه في حل نداء يا رسول الله)) المندرجة في ((مجموعة رسائل)) للبريلوي (1/ 182). (3) ((أنوار الانتباه)) (1/ 182). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 426 ومثل هذه الحكاية حكى عنب ابن محمد الحنفي. أن أحد مريديه كان في السفر فتعرض له السراق في الطريق وجلس واحد على صدره ليذبحه فنادى: يا سيدي محمد حنفي! خاطر معي، فما أن ناداه باسمه إلا وحضرت نعله طائرة وضربت على صدر السارق فأغمي عليه ونجا مريد السيد الحنفي" (1).ويختلق قصة أخرى أن فقيرا كان يتسول فمرة وقف على باب دكان شخص وسأله أن يعطيه روبية فامتنع الراعي من إعطائها إياه فقال له الفقير، أعطني وإلا قلبت عليك الدكان، فاجتمع الناس وازدحموا ومر عليهم رجل ذو قلب فقال للراعي: أعطه الروبية وإلا انقلب عليك الدكان، فقال له الناس، أيها الشيخ إنه رجل جاهل ومخالف للشريعة كيف يستطيع أن يعمل هذا؟ فقال الشيخ: أنا شاهدت وعاينت قلبه فوجدته خاليا فألقيت نظرة المشاهدة في باطن شيخه فوجدته خاليا أيضا ولكنني تعمقت وشاهدت شيخ شيخه فوجدته من العارفين المتصرفين ورأيته واقفا لأن ينطق هذا الفقير وينفذ ما نطق به ويقلب على الراعي دكانه" (2). فهذه هي الدلائل الواضحة والحجج القاطعة والبراهين الدامغة على قدرة الأولياء وتمكنهم على إغاثة المستغيثين ونصرة المصابين ودفع بلاء المبتلين. ومن الحكايات العجيبة الغريبة التي اخترعوها لبيان قوة الأولياء وقدرتهم: إن شخصا حضر بايزيد البسطامي رضي الله عنه فرآه ينظر إلى السماء وعيناه تفيض من الدمع فقال له: يا سيدي ما هذا؟ قال: ذهبت إلى العرش وطويت الأرض بقدم واحد فإذا أراه أي العرش فاغراً فاه في طلب الرب كالذئب الجائع، فاستغربت وصرخت، إن هذا لشيء عجاب، يخبرنا الرحمن أنه على العرش استوى، فجئت إليك في طلبه وأجدك في هذا الحال، فأجاب العرش أما ما قاله لي جل وعلا: يا عرش إن تريد أن تجدني فاطلبني في قلب بايزيد" (3). هذه، ومن اختياراتهم أن الحيوانات المفترسة تهابهم وتخاف منهم وتطيعهم، ولهم من علم الغيب أنهم يعرفون ما يختلج في صدور الناس. فيحكي البريلوي هذه الأسطورة: أن رجلين عالمين حضراً إلى ولي من أولياء الله وصلا خلفه، فقرأ القرآن في الصلاة ولم يرتله ترتيلا ولم يخرج الحروف من مخارجها حسب قواعد التجويد، فخطر في بالهما أي ولي هذا الذي لا يعرف قواعد التجويد فعرف الولي ما اختلج في صدورهما ولكنه سكت ثم ذهب الرجلان العالمان إلى النهر للغسل وخلعا أثوابهما ووضعاها على الحافة فجاء أسد وجمع الأثواب وجلس عليها فانتظرا ذهابه حتى يخرجا ولكنه لم يأت ليذهب وبلغ الخبر إلى الولي فأسرع إلى الأسد وأخذه من أذنه ولطمه على خده الأيمن فولى وجهه ثم لطمه على الجانب الأيسر فانحرف يمينا ثم قال قومتم اللسان "إشارة إلى علمهم بالتجويد والقراءة" ونحن قومنا القلوب وكان هذا ردا منه على ما خطر في قلوبهما" (4).   (1) ((أنوار الانتباه)) (181). (2) ((ملفوظات لمجدد المائة الحاضرة)) أحمد رضا البريلوي بترتيب ابنه مصطفى رضا البريلوي (189). (3) ((حكايات رضوية)) المروية عن البريلوي أحمد رضا بترتيب مفتي البريلوية محمد خليل. (4) ((حكايات رضوية)) نقلا عن ((الملفوظات للبريلوي)) (110) ط باكستان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 427 وما أكثر هذه الخرافات في كتب القوم وأطول بها. وأما المضحكات المبكيات فإنها كثيرة. ومنها ما يحكيها البريلوي: أن سيدي أحمد كانت له زوجتان وكان من مريدي الشيخ سيدي عبدالعزيز الدباغ رضي الله تعالى عنه، فقال له مرة يا سجلماسي! مالك وقد جامعت وباشرت زوجتك عندما كانت الثانية يقظة ناظرة؟ فقال: يا سيدي! لم تكن مستيقظة بل إنها كانت نائمة، فقال: لا إنها تظاهرت النوم ولكنها لم تكن نائمة، فقال: كيف علمت ذاك يا سيدي! قال له شيخه، أكان هناك سرير آخر ثالث؟ قال: نعم كان هناك، فقال: كنت أنا على ذلك السرير" (1). أستغفر الله من هذه الخرافات، وهل هناك خرافة أكبر وأنجس من هذه؟ شيخ ينام بين المريد وأزواجه في غرفة واحدة؟ ثم أكثر من ذلك يراقب حركاته وسكناته وحتى مباشرته مع زوجته ويراقب الأخرى ونظرتها إليهما. أهذا دين وهذه شريعة؟ فإن كان الدين هذا فلا ندري ما هو الإلحاد والزندقة، والفجور والفسوق؟ ولا نعلم ما هو الحياء وما هي الأخلاق التي يعلم الأجيال الناشئة من غض البصر والإعراض عن اللغو؟ مدام أولياء الله حسب زعم القوم يعملون هذه الأعمال ويرتكبون هذه الفواحش، وينظرون إلى المحرمات الشرعية وينامون بين النساء الأجنبيات ويترقبون الحركات الزوجية ما بينهم ثم يخبرون بكل وقاحة وفضاحة ما شاهدوها وعاينوها في الخلوات. إن كانت هذه هي الولاية وهذه هي الكرامات فعلى الكرامات والولايات السلام. ثم يعلق على هذه الحكاية التي لم تخترع ولم تختلق إلا للاستلذاذ بالشهوات وذكرها، يعلق المعلق الفاضل: يستنتج من هذه الواقعة أن الشيخ لا يفارق مريده في آن ما كما قال الشعراني في "الميزان":إن أئمة الفقهاء والصوفية كلهم يشفعون في مقلديهم ويلاحظون أحدهم عند طلوع روحه وعند سؤال منكر ونكير له وعند النشر والحشر والحساب والميزان والصراط ولا يغفلون عنهم في موقف من المواقف" (2). هذا ويحكي البريلوي حكاية أخرى في "ملفوظاته" ومن بينها يبين فوائد الأعيان والأعراس على القبور ويلفت انتباه السوقة والأوباش من الناس إليها: أن السيد أحمد البدوي الكبير رضي الله تعالى عنه كان يقام على قبره الأعراس والأعياد إلى ثلاثة أيام يوم ميلاده، وكان الناس يجتمعون عليه سنويا ومن بين الذين كانوا يحضرون على الدوام الإمام عبدالوهاب الشعراني، فحضر في عيد ميلاده مرة وكان الناس مزدحمين إذ وقع نظره على جارية تاجر، فوقعت في قلبه واستأسرته فذهب إلى القبر فناداه السيد البدوي: يا عبدالوهاب! أأعجبتك تلك الجارية؟ فقال: نعم! لا ينبغي لمريد أن يكتم سره عن شيخه، فقال، أحسنت وقد وهبتك هذه الجارية، فاستغرب الشعراني أن الشيخ كيف يهبني إياها حيث أنها لتاجر فلاني، وبعد حين حضر التاجر وقدم الجارية نذرا إلى مزاره المقدس فألهم خادم القبر أن يقدم هذه الجارية هدية ونذرا إلى عبدالوهاب فتحير الشعراني وتأخر حتى ناداه السيد البدوي ولم هذا التأخير الآن يا عبدالوهاب! اذهب بها إلى الحجرة الفلانية واقض بها حاجتك" (3). فأراد البريلوي إثبات علم الغيب للأولياء وتصرفهم وقدرتهم على الأمور حتى وبعد الموت ولم يجد السند والدليل على ذلك إلا هذه القصص الباطلة الكاذبة والحكايات الجنسية الشهوانية الفاسدة. فهذه هي الدعاوى وتلك هي البراهين:   (1) ((حكايات رضوية)) نقلا من ((ملفوظات البريلوي)) (55). (2) ((حكايات رضوية)) تعليق مفتي البريلوية محمد خليل البركاتي (55) أيضا حاشية ((الاستمداد على أجيال الارتداد)) لابن البريلوي مصطفى رضا (35). (3) ((ملفوظات)) البريلوي مجدد المائة الحاضرة عند القوم (275،276). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 428 وأكثر من ذلك وأغرب أن الشيخ وحده لا يعلم علم الغيب ولا يطلع على ما يختلج في صدور الناس عامة وفي صدور مريديه خاصة بل مريدو الشيخ أيضا يطلعون عليه بتقبيل أرجل المشايخ والأرض التي تمس أقدامهم، والدليل على ذلك حكاية أيضا رواها البريلوي نفسه: إن حضرة سيدي سيد محمد كان من أكابر العلماء وأجلة الأشراف، ومرة كان يمشي في الطريق إذ رأى حضرة نصير الدين محمود شراغ الدهلوي على مركبه فبادر إليه وقبل ركبته فقال له شيخه: اذهب إلى الأسفل أيها الشريف! فقبل السيد محمد رجله، فقال له شيخه وإلى الأسفل منها أيضا، فتأخر السيد محمد وقبل الأرض التي مستها سنابك خيل شيخه، فاستغرب الناس وقالوا: إن سيدا جليل مثل الشريف محمد قبر ركبة الشيخ فلم يرض، فقبل رجله فلم يرض، ثم قبل سنابك خيله ولم يرض، حتى قبل الأرض أمامه. فقال السيد محمد: إن الناس لا يعلمون أن شيخي ما أعطاني بهذه القبلات، فإنني لما قبلت ركبته انكشف علي عالم الناسوت، ولما قبلت رجله انكشف على عالم الملكوت، وعند تقبيلي سنابك الخيل تنور علي عالم الجبروت، ولما قبلت الأرض ظهر عليّ كل ما كان في عالم اللاهوت" (1). فهؤلاء الذين قال فيهم الرب جل وعلا: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ [البقرة: 16]. وقالوا أن الأولياء كالأنبياء أحياء في قبورهم ولا يطرأ عليهم الموت إلا لثوان ولحظات كخطف البصر ثم يرجع إليهم أرواحهم ويحيون حياة دنيوية مع الأبدان، يسمعون ويجيبون، ويقومون ويجلسون، ينامون ويستيقظون. فإن قيل للقوم، هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين؟ قالوا: كان الشيخ أحمد بن الرفاعي يرسل كل عام مع الحجاج السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فلما زاره وقف تجاه مرقده وأنشد: في حالة البعد روحي كنت أرسلها ... تقبل الأرض مني فهي نائبتي وهذه نوبة أشباح قد حضرت ... فأمدد يديك لكي تحظى بها شفتي فقيل إن اليد الشريفة بدت فقبّلها" (2).والأولياء كذلك، وبرهان ذلك "أن الإمام عبدالوهاب الشعراني قدس الله سره الرباني كان يلتزم الحضور في عرس سيدي أحمد البدوي الكبير رضي الله تعالى عنه ومرة حصل له التأخير في الحضور ليومين فرأى المجاورون لمرقد الحضرة أن حضرة السيد البدوي يرفع حجابه بتكرار ويسأل عن مريده عبدالوهاب هل حضر أم لم يحضر حتى الآن؟ فلما حضر أخبره المجاورون لقبره بما جرى من رفع الحجاب عن القبر وسؤال الحضرة عنه فقال عبدالوهاب: أيعلم السيد بحضوري على مرقده ومزاره فقالوا: وكيف! وهو الذي قال: من أراد زيارتي من منزله مهما بعد منزله أعلم بإرادته وأرافقه حتى يحضر قبري ولا يضع حمله إلا وأكون ضامنا له" (3).وأكثر من ذلك، نعم أكثر من ذلك حيث يحكي: إن شقيقين قتلا في سبيل الله وكان لهما أخ ثالث فلما جاء يوم زواجه حضرا في حفلة الزفاف فاستغرب الأخ الثالث حضورهما، فقالا: نحن أرسلنا خصيصا للمشاركة في هذه الحفلة ثم هما اللذان تولا عقدة النكاح وبعد ذلك رجعا إلى مكانهما" (4).   (1) ((حكايات رضوية)) نقلا عن ((ملفوظات البريلوي)) (63،64). (2) رسالة ((ابرّ المقال في قبلة الإجلال)) المندرجة في ((مجموعة رسائل)) للبريلوي (173). (3) ((ملفوظات)) للبريلوي (275). (4) ((حكايات رضوية)) نقلا عن ((أنوار الانتباه)) للبريلوي (116). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 429 ويقص علينا بقصة أخرى: إن سيدنا أبا سعيد الخزاز قدس الله سره الممتاز يروي أنني كنت في مكة المكرمة ورأيت شابا ميتا على باب بني شيبة فالتفت إلي فتبسم ضاحكا وقال يا أبا سعيد! أما علمت أن الأحباء أحياء وإن ماتوا وإنما ينقلبون من دار إلى دار" (1). وأيضا: إن حضرة سيدي أبا سعيد قدس الله سره يقول: مات فقير فنزل به في قبره وفتحت كفنه ووضعت رأسه على التراب ليرحمه الله على فقره ومسكنته ففتح الفقير عينيه وقال: يا أبا علي! تذللني بين يدي من يدللني؟ فاندهشت وقلت: يا سيدي! أحياة بعد الموت؟ قال لي: أنا حي وكل محب لله حي، لأنصرنك بجاهي غدا" (2). وما أكثر مثلها، ومنها: إن امرأة ماتت ثم كفنت ودفنت فلقيت ابنها في منامه فقالت: إن كفني بلى وأستحيي أن أذهب به إلى رفاقي ففي اليوم الثالث من هذا اليوم يأتي إلينا فلان فلما يكفن ضع في أكفانه كفنا جديدا جيدا لي. فلما أصبح الابن وفتش عن ذلك الرجل علم أنه صحيح لا مرض له ولكن اليوم الثالث أخبر أنه مات، فاستعجل الابن وأحضر الكفن الجديد الغالي ووضعه في أكفانه وقال: أصل هذا إلى أمي ولما نام ليلته حضرته أمه وقالت: جزاك الله خيراً أرسلت إلي كفنا جيدا" (3). ولا بأس أن نحكي حكاية أخرى التي تنبئ عن انتقال الميت من مكان إلى مكان آخر بنفسه كما يحكي أحد البريلويين: إن امرأة صالحة ماتت في جونبور "مدينة من مدن الهند" ورجل غير صالح من جونبور مات في المدينة المنورة ودفن في البقيع فانتقلت المرأة الصالحة من جونبور إلى البقيع ونقلت جثة ذلك الرجل من قبره إلى قبرها جونبور ورأى الناس هذه الحادثة بأعينهم" (4).وأما قدرتهم على إحياء الموتى فأيضا ثابتة في أساطير الأولين ووجدوا آبائهم لها معتقدين، منها: إن حضرة سيدي أحمد جان رضي الله تعالى عنه كان يمر على طريق فرأى فيلا ميتا والناس مجتمعين حوله، فذهب إليهم وقال: ما الذي حدث؟ قالوا إن الفيل قد مات فقال: إن خرطومه صحيح وعينيه كذلك، وكذلك يديه ورجليه فكيف مات؟ وما نطق بهذه الكلمات إلا وتحرك الفيل ووقف حيا" (5).وأيضا: إن الشيخ الجيلاني نظر نظرة الغضب إلى الحدأة فسقطت ميتة ثم لمسها فطارت حية" (6).   (1) رسالة "أحكام قبور المؤمنين" المندرجة في ((مجموعة رسائل)) (2/ 243) تحت عنوان "أن الأنبياء والشهداء والأولياء أحياء بأبدانهم مع أكفانهم". (2) رسالة "أحكام قبور المؤمنين" المندرجة في ((مجموعة رسائل)) (2/ 243– 244) تحت عنوان "أن الأنبياء والشهداء والأولياء أحياء بأبدانهم مع أكفانهم". (3) ((ملفوظات)) للبريلوي (95). (4) ((مواعظ نعيمية)) لمفتي البريلوية أحمد يارخان البريلوي (26). (5) ((حكايات رضوية)) نقلا عن ((ملفوظات البريلوي)) (53). (6) ((باغ فردوس)) للرضوى البريلوي (27). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 430 هذا ومن غرائب القوم أنهم يسامرون بالأساطير التي يمجها العقل ويزدريها الفكر. ومنها "أن شخصين من أولياء الله كانا يسكنان على جانبي النهر، فمرة طبخ أحدهما المحلبية وأراد إرسالها إلى الثاني على الضفة الثانية، فقال لخادمه اذهب بها إلى صديقنا ذاك. فقال: وكيف أجتاز النهر وليس عندنا ما أجتاز به من سفينة وغيرها، فقال: اذهب إلى النهر وقل له: جئت من عند شخص لم يجامع امرأته قط فاستغرب الخادم وغرق في الحيرة لأن الشيخ كان له أولاد، فامتثل الأمر وذهب إلى النهر، وقال له ما قاله الشيخ فانفلق النهر ومر منه سالما فقدم على صاحب تلك الضفة المحلبية فأكل منها ودعا له بالخير وقال: سلم على سيدك، فقال له الخادم: أبلغ سلامك إليه عندما أصل هناك، وكيف الوصول إليه وبيني وبينه نهر، فقال: اذهب إلى النهر وقل له: جئت من عند شخص لم يطعم من ثلاثين سنة فازدادت حيرته لأنه شاهده وهو يأكل من المحلبية التي جاء بها إليه ولكنه لم يبلغ رسالته إلى النهر حتى انشق له الطريق فيه" (1).ومن غرائب ما يحكونها هي "أن رجلا من مريدي يحيى المنيري سقط في البحر وكاد أن يغرق فظهر الخضر عليه السلام وقال له، هات يدك في يدي أنقذك من الغرق، فانتبه المريد وقال: لا يا سيدي! إن هذه اليد في يد المنيري فلا أتركه وأذهب إلى غيره، فغاب الخضر عليه السلام وحضر المنيري وأخذ بيده ونجاه من الغرق" (2).ومنها أيضا "أن بشراً الحافي لم يكن يلبس النعلين ولذلك سمي بالحافي، وكان من عظمته واحترامه أن الحيوانات لم يكن يبولون في الطرق التي كان يمر فيها الحافي ولم تكن ترفث كي لا تتوسخ قدمه فيوما فعندما رأى شخص الرفث والبول في الطريق الذي كان يمر فيه الحافي فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وسئل عن تفوهه بهذه الكلمات فقال: هذا دليل على أن الحافي قد مات ثم فتش وثبت أن ما قاله حق رضي الله تعالى عنه" (3). وأن الأولياء لهم قدرة واختيار أن ينقذوا أهل النار من النار وينجوا المعذبين من العذاب، وبرهان ذلك:"إن السيد إسماعيل الحضرمي مر على المقابر وكان معه الإمام محب الدين الطبري، فقال له أتؤمن أن أهل القبور يكلمون الأحياء؟ قال: نعم أؤمن بذلك، فقال له: إن صاحب هذا القبر كان يقول لي: أنا من أهل الجنة، ثم وقف على قبور تجاوز عددهم من أربعين قبراً وبدأ يبكي حتى طلعت الشمس وأسفر النهار ثم ضحك وقال: أنت منهم، فسئل ما هذا وما الذي حدث؟ قال: إن أصحاب هذه القبور كانوا يعذبون فبدأت أبكي وأشفع لهم حتى قبلت شفاعتي ورفع عنهم العذاب، وكان قبر في ناحية لم ألتفت إليه، فسمعت أن قائلة تقول لم حرمتني من شفاعتك وأنا منهم، "يعني كنت معهم في العذاب وقبري بينهم" كنت مغنية فلانية فشفعت لهم ولم تشفعني؟ فضحكت من قولها وقلت: أنت منهم أيضا، ورفع عنها العذاب" (4). وكتب البريلوي: أن شابا كان جالسا في مجلس ابن عربي فبكى فقال له ابن عربي ما يبكيك؟ قال رأيت في الكشف أن أمي تعذب وملائكة النار يجرونها إلى النار، فقال ابن عربي كان ثواب بعض الأوراد مدخراً عندي فقلت في نفسي إنني وهبت لها هذا الثواب، وبدأ الشاب يضحك، فقيل له: ما الذي حدث حتى انقطعت عن بكائك وبدأت تضحك؟ فقال: رأيت ملائكة العذاب تركوا أمي وأخذتها ملائكة الرحمة وذهبوا بها إلى الجنة بدل النار" (5).   (1) ((الحكايات الرضوية)) نقلا عن ((ملفوظات)) للبريلوي (53). (2) ((ملفوظات البريلوي)) (164) (3) ((الحكايات الرضوية)) (172). (4) ((حكايات رضوية)) نقلا عن ((ملفوظات)) البريلوي (57،85). (5) ((ملفوظات البريلوي)) حكايات رضوية (48). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 431 وهل يحتاج بعدئذ إلى دليل وبرهان؟ بعد هذه الأدلة القطعية قطعية الثبوت والدلالة؟ ومن سأل أو طلب فهو وهابي كافر. معاذ الله من هذه العقول الضعيفة والقلوب المريضة التي استولى عليها الشيطان وأضلها عن سواء السبيل. ومن عجائب ما يحكون وغرائب ما يسطرون هي القصص التي ترغب الناس عن الله وتوجههم إلى غير الله وتنبئ أنه لم يبق لله قدرة ولا اختيار ولا نفوذ ولا رسوخ بل كل هذه الأشياء انتقلت إلى الأولياء والصالحين، فبيدهم كل شيء فلا استغاثة إلا بهم ولا نجاة إلا في أيديهم، وخير مثال لهذا ما حكاه البريلوي نفسه: أن سيدي بايزيد البسطامي وقف على شاطئ الدجلة فسمى الله ونزل فيه ومشى على ماءه كمشيته على الأرض فرآه شخص وكان يريد عبوره أيضا فنزل فيه ومشى خلفه وسمى باسمه ولما قرب منه رآه وهو يذكر الله فقلده فسمى الله فإذا بدأ يغرق فالتفت إليه بايزيد وقال له: اسمي اسمي لا اسم الله، كيف تجرأ على ذكر اسمه وتترك اسمي؟ فقال له الغريق رأيتك تسمي الله فسميت، فقال: وهلا وصلت إلي حتى تصل إليه، فنادى باسم بايزيد ونجا من الغرق وبدأ يمشي على الماء كأنه يمشي على الطريق الممهد في الأرض" (1). ونختتم هذا الباب على حكاية طريفة أخرى من المئات والألوف التي عليها أسس القوم دينهم وبنوا شريعتهم وجعلوها مستندهم وحجتهم في الدين والدنيا، وما أخسرهم وأبخس بهم، فقالوا، والقائل البريلوي نفسه: أن عارفا كان يبحث عن شيخ ومرشد كامل ولكنه لم يهتد إليه ففي ليلة من الليالي قال لله عز وجل: وعزتك وجلالك صباحا أبايع أول شخص ألتقيه بعد طلوع الفجر، فلما أصبح خرج عن بيته ووقف في الطريق ينتظر أول القادمين، وكان سارقا حاملاً لسرقته، فبادر إليه وأخذ يده وقال له مد يدك أبايعك، فاستغرب السارق وتحير وأراد أن يهرب منه ولكنه لم يتركه حتى اضطر إلى أن يبوح بحقيقته فقال له: يا شيخ ماذا تريد مني وأنا سارق مشهور ونهاب معروف، وهذا هو مال السرقة على غاربي؟ قال له العارف: مهما يكن من الأمر فأنا حلفت بالله أن لا ألتقي بأول شخص في الصباح إلا وأبايعه على يده، فأنت أول من لقيته فلا أتركك إلا أن تأخذ بيعتي، ولما رأى الخضر عليه السلام هذه الواقعة ورأى صدق الطالب حضر وأخذ بيد السارق وخلع عليه جميع مراتب الولاية ومناصبها واجتاز به المقامات وأدخله في الكلمة وهو واقف على موقفه ثم أمره أن يأخذ بيعة ذلك العارف" (2). فهؤلاء هم القوم وهذه هي حججهم وبراهينهم في إثبات المسائل الشرعية والعقائد الدينية ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى [النجم:30] وقال الله جل وعلا: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً 43 أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان: 43 - 44] المصدر: البريلوية عقائد وتاريخ لإحسان إلهي ظهير- ص213   (1) ((حكايات رضوية)) نقلا عن ((ملفوظات البريلوي)) (52،53). (2) ((حكايات رضوية)) بجمع وترتيب مفتي البريلوية وتلميذ البريلوي خليل البركاتي (71،72). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 432 المبحث الثامن: الانتشار ومواقع النفوذ انطلقت الدعوة من بريلي بولاية أوترابرديش بالهند، لتنتشر في القارة الهندية كلها (الهند والباكستان وبنجلاديش وبورما سريلانكا). لهم وجود في انجلترا، كما لهم نفوذ في جنوب أفريقيا وكينيا ومورشيوس وعدد من البلدان في قارة أفريقيا المصدر: الموسوعة الميسرة ويتضح مما سبق إن البريلوية فرقة صوفية نشأت في شبه القارة الهندية الباكستانية إبان الاستعمار البريطاني، وهم يغلون في الأنبياء والأولياء، ويحاربون دعاة التوحيد الخالص، ويعتقدون أن الرسول صلى الله عليه وسلم له قدرة يتحكم بها في الكون، وأنه صلى الله عليه وسلم والأولياء من بعده لهم قدرة على التصرف في الكون، ولديهم عقيدة اسمها عقيدة الشهود فيعتقدون أن النبي صلى الله عليه وسلم حاضر وناظر لأعمال الخلق في كل زمان ومكان، وهم ينكرون بشريته صلى الله عليه وسلم ويحثون أتباعهم على الاستغاثة بالأنبياء ويشيدون القبور ويعمرونها وينيرونها بالشموع والقناديل المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 433 المبحث التاسع: فتاوى اللجنة الدائمة في الطريقة البريلوية س: جماعة معينة في الباكستان تسمى البريلوية أو جماعة نواري نسبة إلى رئيسهم الحالي المعروف بنواري حيث طلبت من فضيلتكم الحكم الشرعي بهم وباعتقادهم وبالصلاة خلفهم ليكون ذلك بردا وسلاما على قلوب كثيرة لا تعرف الحقيقة ومرة ثانية، أذكركم ببعض خرافاتهم واعتقاداتهم الشائعة: 1 - الاعتقاد بأن الرسول عليه الصلاة والسلام حي. 2 - الاعتقاد بأن الرسول عليه الصلاة والسلام حاضر وناظر خاصة بعد صلاة الجمعة مباشرة. 3 - الاعتقاد بأن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام الشفيع مسبقا. 4 - يعتقدون بالأولياء وأصحاب القبور ويصلون عندهم طالبين منهم قضاء الحاجة. 5 - إشادة القباب وإضاءة القبور. 6 - قولهم المشهور: يا رسول، يا محمد صلى الله عليه وسلم. 7 - يسخطون بمن يجهر بالتأمين ويرفع يديه في الصلاة ويعتبرونه وهابي. 8 - التعجب الشديد عند استعمال السواك عند الصلاة. 9 - تقبيل الأصابع أثناء الوضوء والأذان وبعد الصلاة. 10 - يردد إمامهم دائما بعد الصلاة ... الآية: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [:56] وبالتالي فإن جميع المأمومين يصلون على النبي بشكل جماعي بصوت عال. 11 - يتحلقون بعد صلاة الجمعة واقفين وينشدون ويمدحون بصوت مرتفع. 12 - بعد ختم القرآن الكريم في تراويح شهر رمضان يطهون الطعام الكثير ويوزعونه في صحن المسجد بالإضافة إلى الحلويات. 13 - يشيدون المساجد ويهتمون بزخرفتها كثيرا، ويكتبون فوق المحراب: يا محمد. 14 - يعتبرون أنفسهم هم أصحاب السنة والعقيدة الصحيحة وغيرهم على خطأ. 15 - ما الحكم الشرعي بالصلاة خلفهم؟ علما بأنني طالب طب في كراتشي وأسكن بجوار المسجد والمسلطة أو المشرفة عليه تلك الجماعة البريلوية. ج: من هذه صفاته لا تجوز الصلاة خلفه، ولا تصح لو فعلت من عالم بحاله؛ لأن معظمها صفات كفرية وبدعية تناقض التوحيد الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه وتعارض صريح القرآن، مثل قوله سبحانه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ [الزمر:30] وقوله: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18] وينكر عليهم البدع التي يفعلونها بأسلوب حسن فإن قبلوا فالحمد لله، وإن لم يقبلوا هجرهم وصلى في مساجد أهل السنة، وله في خليل الرحمن أسوة حسنة في قوله: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا [مريم:48] وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز المصدر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء -3/ 81 س: هنا في الباكستان علماء فرقة البريلوية يعتقدون أنه لا ظل للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا دلالة على عدم بشرية النبي صلى الله عليه وسلم. هل هذا هو الحديث الصحيح. ليس الظل للنبي صلى الله عليه وسلم؟ ج: هذا القول باطل مناف لنصوص القرآن والسنة الصريحة الدالة على أنه صلوات الله وسلامه عليه بشر لا يختلف في تكوينه البشري عن الناس وأن له ظلا كما لأي إنسان، وما أكرمه الله به من الرسالة لا يخرجه عن وصفه البشري الذي خلقه الله عليه من أم وأب، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ [الكهف:110] الآية، وقال تعالى: قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ [إبراهيم:11] الآية. أما ما يروى من أن النبي صلى الله عليه وسلم خلق من نور الله فهو حديث موضوع. وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز المصدر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء -1/ 392 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 434 الفصل العاشر: كشف بطائفة من الطرق الصوفية غير ما ذكر إنها ليست طرقاً، وإنما هي مشيخات أخذت أسماءها من أسماء مشايخها، الذين كانوا وما زالوا يجمعون حولهم المريدين والسالكين، ليحصلوا بذلك على المدد، أي: الأموال التي تنهمر عليهم، إما من المريدين مباشرة، أو بسبب هؤلاء المريدين، هذا المدد مضافاً إلى اللذة التي يجدونها في الجذبة، مع هلوساتها التي توهمهم أنهم تحققوا بالألوهية، كل هذا يدفعهم إلى التفاني في خدمة إبليس للإبقاء على مسيرة الكهانة، وجر المسلمين إلى أشراكها، والفرق بين الطرق هو بكلمات الأذكار لا بمعانيها، وبأشكال الحضرة، أما الرياضة والوصول والكشف والحقيقة التي هي هي الصوفية، فواحدة. وهذه طائفة مما يسر الله سبحانه الوقوف عليه من مشيخاتهم، أوردها بإيجاز: المحاسبية: نسبة إلى الحارث بن أسد المحاسبي، بصري، مات في بغداد سنة 243 هـ. الطيفورية (أو البسطامية): نسبة إلى أبي يزيد، طيفور بن عيسى البسطامي، اختلفت كتبهم (المؤيدة بالكشف!!) في تاريخ وفاته على قولين: سنة (234هـ)، وسنة (261هـ). السقطية: نسبة إلى أبي الحسن، السري بن المغلس السقطي، خال الجنيد وأستاذه، وإليه ينتمي أكثر المشايخ في بغداد، مات فيها سنة 251 هـ. القصارية: نسبة إلى أبي صالح، حمدون بن أحمد بن عمارة القصار، شيخ الملامتية في نيسابور، مات فيها عام 271 هـ. الجنيدية: نسبة إلى الجنيد بن محمد (أبي القاسم) سيد الطائفة الصوفية- كما يلقبونه- أصله من نهاوند، ومولده ومنشؤه في العراق، ويقال له أيضاً: (القواريري)، مات في بغداد سنة (297هـ). النورية: نسبة إلى أبي الحسين، أحمد بن محمد بن عبد الصمد النوري، بغوي الأصل، بغدادي المولد والمنشأ، مات سنة (295هـ). السهلية: نسبة إلى سهل بن عبد الله التستري (أبي محمد) مات سنة 273 أو 283 هـ. الخرازية: نسبة إلى أبي سعيد، أحمد بن عيسى الخراز، يقال له: لسان التصوف، بغدادي، مات سنة (277هـ). الحكيمية: نسبة إلى أبي عبد الله، محمد بن علي الترمذي، الحكيم، مات سنة (296) أو (320هـ)، ولعلها الأرجح، وهو غير الترمذي المحدث صاحب (السنن). الحلاجية: نسبة إلى أبي المغيث، الحسين بن منصور الحلاج، فارسي، نشأ بواسط في العراق، مات قتلاً على الزندقة في بغداد سنة (309هـ). والصوفية كلهم يزكونه، وعلى رأسهم الغزالي في (إحيائه)، والقشيري في (رسالته)، والجيلاني في (فتحه وفتوحه)، وابن عربي في كتبه. الخفيفية: نسبة إلى أبي عبد الله محمد بن خفيف الضبي الشيرازي، مات سنة (371هـ) أو (391هـ). السيارية: نسبة إلى أبي العباس، القاسم بن القاسم السياري من مرو، مات سنة (342هـ). هذه الطرق، هي الأصول للطرق التي ظهرت فيما بعد، وقد اندثرت أسماؤها بعد أن انقسم كل منها إلى طرق كثيرة، بسبب المشايخ الذين ظهروا فيها، ثم أصل كل منهم طريقة باسمه على حساب اسم شيخه. والظن أن هناك طرقاً غير هذه، واكبتها أو تقدمتها. الجنبلانية: مؤسسها أبو محمد عبد الله بن محمد الجنبلاني، من بلدة جنبلا في فارس، مات فيها سنة 287 هـ واليها يعود الفضل في نشر المذهب النصيري. الملامتية: تنسب أحياناً لحمدون القصار، لكن الذي بلورها وأعطاها شكلها النهائي هو تلميذه أبو محمد عبد الله بن منازل، مات بنيسابور سنة (329) أو (330هـ)، وسموا أنفسهم الملامتية، من (الملامة) لأنهم يشتغلون بملامة أنفسهم ويهملون الشريعة والأخلاق، وقد اضمحلت كطريقة مستقلة، لكنها استمرت تظهر في سلوك كثير من الأولياء في كل الطرق، يتظاهرون بالتهتك وإتيان البهائم وشرب الخمور وتناول الحشيش والسرقة وغير ذلك، ليستروا عن الناس ولايتهم وصديقيتهم! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 435 الكازرونية: نسبة إلى أبي سعيد الكازروني، تتلمذ على ابن خفيف، وكان يلقب بـ (المرشد)، ولم أقف من ترجمته على أكثر من هذا، ويمكن أن تكون نسبة إلى أبي إسحاق، إبراهيم بن شهريار، مات في كازرون (في إيران) سنة 426 هـ، تخرج في الخفيفية بأبي محمد الحسين الأكار، ولعل هذا هو الأرجح، ويدعي أصحاب الطريقة الأويسية في إيران أن الكازروني من رجال سلسلتهم. السالمية: تنسب إلى أبي عبد الله محمد بن أحمد بن سالم (الكبير) بصري، مات سنة (297هـ)، وإلى ابنه أبي الحسن أحمد بن محمد (ابن سالم الصغير) مات لسنة (360هـ)، وهو أستاذ أبي طالب المكي، والسالمية فرع من السهلية. المسرية: نسبة إلى محمد بن عبد الله بن مسرة الجبلي، مات سنة (319هـ)، إسماعيلي، اتهم بالزندقة فخرج فاراً من الأندلس، ثم عاد إليها بعد مدة، وطريقته أم الطرق الصوفية في الأندلس، وهو غير ابن مسرة المحدث الحافظ الفقيه (1). الحلمانية: أسسها أبو حلمان الفارسي الحلبي في دمشق في القرن الرابع أو بعده بقليل، حاربها الأشاعرة؛ لأن أتباعها كانوا يصرحون بوحدة الوجود، فلم تعمر طويلاً. القشيرية: نسبة إلى أبي القاسم، عبد الكريم بن هوازن القشيري، مؤلف الرسالة القشيرية، مات في نيسابور سنة 465 هـ، ولعلها هي التي تسمى أيضاً: (الهوازنية). الصديقية: ينسبونها إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومؤسسها هو أبو بكر بن هوار من قبيلة الهواريين الكردية، سكن في البطائح في جنوب العراق، في قرية الحدادية، وهو من أهل القرن الخامس الهجري، أخذ طريقته عن أبي بكر الصديق في المنام حيث ألبسه ثوباً وطاقية ومر بيده على ناصيته، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر بك تَحْيا سننُ أهلِ الطريق من أمتي بالعراق بعد موتها ... ثم استيقظ فوجد الثوب والطاقية بعينيهما عليه). العريفية: نسبة إلى ابن العريف، أبي العباس، أحمد بن محمد بن موسى، من المرية في الأندلس، مات في صنهاجة في المغرب سنة (535هـ) أو سنة (536هـ)، وهو غير ابن العريف النحوي الشاعر، وبالعريفية تخرج ابن عربي. العدوية: أسسها عدي بن مسافر، تلميذ عبد القادر الجيلاني، توفي في قرية بالس في جبل لالش من جبال الهكارية قرب سنجار، شمالي العراق، سنة (555هـ) أو (557هـ) أو (585هـ)، وقد تطورت هذه الطريقة، وأتباعها اليوم هم (اليزيديون) عبدة الشيطان. البيانية: نسبة إلى الشيخ أبي البيان: بنان أو بناء بن محمد بن محفوظ (السلمي) أو (القرشي) الحوراني ثم الدمشقي، مات سنة (551هـ). المدينية: نسبة إلى أبي مدين، شعيب بن حسين (أو حسن) الأندلسي، استوطن بجاية في المغرب، مات وهو في طريقه للقتل على الزندقة سنة (590هـ) أو (593هـ) في تلمسان. الرحيمية القنائية: نسبة إلى عبد الرحيم القنائي، مغربي أخذ عن أبي يعزى، ثم انتقل إلى مصر ومات فيها سنة (592هـ) في قنا. وقد وهم من قال: إنه لم يكن شيخ طريقة. ولكن يظهر أنها اندثرت. القَلَنْدرية: نسبة إلى قلندر يوسف، أندلسي هاجر إلى المشرق، وقد ظهرت هذه الطريقة لأول مرة في دمشق سنة (610هـ)، وأتباعها يحلقون لحاهم، ولا يأخذون أنفسهم بشعائر الدين الإسلامي ولا بمقومات الأخلاق، مات قلندر يوسف في دمياط بمصر، والطريقة منتشرة في الهند، نشرها الشيخ قطب الدين العمري الجونبوري (أجهل عصره).   (1) المحدث الحافظ الفقيه وهب بن مسرة بن مفرج التميمي الحجاري، من وادي الحجارة بالأندلس، توفي سنة (346هـ)، وقد وهم فيه الحافظ الذهبي وتبعه ابن حجر بسبب تشابه نسبته مع ابن مسرة الصوفي، هذا التعريف مقتبس عن مجلة ((دار الحديث الحسنية)) (العدد: الثالث)، سنة (1402هـ-1982م)، (ص: 145). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 436 الكبروية: للشيخ نجم الدين أبي الجناب أحمد بن عمر بن محمد الخوارزمي الكبري، أشهر صوفية الفرس، ولد وعاش في مدينة (خيوة) من أعمال خوارزم، مات فيها سنة 618 هـ أو قبلها بقليل، ويقال: إنه أخذ التصوف عن روز بهان (1) في مصر، لكني أظنه تخرج في القادرية بأحد تلاميذ عبد القادر. الجِشْتية: نسبة إلى قرية (جشت) في هراة، (في الشمال الغربي من أفغانستان)، مؤسسها أبو إسحاق الدمشقي الجشتي، وهو من أحياء العقود الأخيرة من القرن السادس الهجري، ولعله أدرك بعض الأولى من القرن السابع، وهي منتشرة في الهند، نشرها هناك خواجة معين الدين حسن السنجري الأجميري، مات في أجمير سنة 620 هـ أو 627هـ أو 634 هـ، وقبره محجة للمسلمين والهندوس على السواء، وقد كان لبعض أتباعها دور في نشر الإسلام بين الهندوس، ويقول مؤلف (الثقافة الإسلامية) في الهند: إنها أول طريقة أخذها أهل الهند. اليونسية: نسبة إلى يونس بن يوسف بن مساعد الشيباني البخاري، لا شيخ له، مات سنة 619 هـ في قرية (القنية) من أعمال (داريا) قرب دمشق، وهي غير اليونسية الفرقة الشيعية التي ذابت فيما بعد في المتاولة، وغير اليونسية، الفرقة المرجئية. السهروردية: نسبة إلى شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي البغدادي، مات في بغداد سنة 632 هـ. البابائية أو (البابية): نسبة إلى بابا إسحاق الكفرسوذي (من كفرسوت بنواحي حلب) التركماني، وقيل: نسبة إلى بابا إلياس، أو إليهما معاً باعتبارهما شريكين، وقد بدأت شهرة (بابا) في بلاد الروم (تركيا) سنة 628 هـ. قُتل بابا إسحاق سنة 638 هـ، قتله السلطان غياث الدين كيخسرو الثاني السلجوقي، وعفا عن بابا إلياس، وهي غير البابية التي أنجبت البهائية. الأكبرية أو (العربية) أو (الحاتمية): نسبة إلى الشيخ الأكبر ... ابن عربي الحاتمي، أندلسي من مرسية، طاف البلاد، واستقر في دمشق، ومات فيها سنة (638هـ)، تخرج بالعريفية، ويعتبره الإسماعيلية من أعلامهم. الشوذية: مؤسسها أبو عبد الله الشوذي الإشبيلي المعروف بـ (الحلوي) توفي على الأرجح مع مطلع القرن السابع الهجري في تلمسان، وفي الشوذية تخرج ابن سبعين. الحريرية: نسبة إلى علي بن أبي الحسن بن منصور الحريري، مات في (بُسر) من حوران سنة (645هـ)، وقد اضمحلت الآن. البكتاشية: نسبة إلى حاجي بكتاش، محمد بن إبراهيم بن موسى الخراساني، من أعوان بابا إلياس، نزح من خراسان إلى تركيا ومات في نوشهر حوالي منتصف القرن السابع الهجري، منتشرة في تركيا وشرقي أوروبا ومصر، وغلو التشيع الاثني عشري واضح فيها. الأحمدية أو (السطوحية): نسبة إلى أحمد البدوي، من المغرب، هاجر أبوه إلى مكة، وهاجر هو منها إلى مصر بعد أن مر على العراق، وزار أضرحتها، أقام في مدينة طندتا (طنطا) ومات فيها سنة (675هـ)، وسميت السطوحية لأنه كان يقيم على السطح بصورة دائمة، ويقولون: إنه كان لا يصلي، وهو (مثل غيره من الصوفية) من سلالة فاطمة الزهراء رضي الله عنها. العلوية: مؤسسها الأستاذ الأعظم، محمد بن علي بن محمد ... باعلوي، ولد في مدينة تريم بحضرموت، ومات فيها سنة (653هـ). العلية السعدية: نسبة إلى سعد الدين الجباوي (من قرية جبا في الجولان)، ابن يونس الشيباني، مات حسب أعلام الزركلي سنة (621هـ)، والظن أنه أدرك النصف الثاني من القرن السابع. الأدهمية: نسبة إلى الشيخ أدهم؟ مدفون في القدس، ولعله من أحياء العقود الأخيرة من القرن السابع أو الأولى من الثامن الهجري.   (1) يختلف اسمه من مرجع إلى آخر، فقد ورد: (روز بهار)،، (روز بهان)،، (روز نهار)،، (زون بهار)، ولم يساعد الكشف على معرفة الصحيح منها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 437 البرهامية أو (الدسوقية) مؤسسها إبراهيم الدسوقي، من المغرب، مات في مصر سنة (676هـ). السبعينية: نسبة إلى ابن سبعين، أندلسي، انتقل إلى مكة ومات فيها (يقال: منتحراً) سنة (667هـ) أو (668هـ) أو (669هـ). وأتباعها يسمون (الليسية) لأن ذكرهم كان: (ليس إلا الله). الششترية: نسبة إلى أبي الحسن علي النميري الششتري، تلميذ ابن سبعين، أندلسي، مات في مصر (دمياط)، سنة (668هـ). السنية السعدية: أسسها سعد الدين محمد بن المؤيد ... بن حمويه، شيعي (1)، سكن سفح قاسيون في دمشق، ثم رجع إلى بلده الأصلي خراسان، انتشرت طريقته في الشام وخراسان بين السنة الذين تشيعوا اتباعاً لشيخهم، وسموه: (يسعى العجم) إشارة إلى الآية الكريمة: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [القصص: 20]، مات في خراسان سنة (650هـ)، ويسمونه أيضاً: سعد الدين الحموي، تخرج في الطريقة الأكبرية بالشيخ الأكبر نفسه. المولوية أو (الجلالية): نسبة إلى المولى جلال الدين محمد بن محمد بن الحسين الرومي، بلخي، هاجر وهو صغير مع أبيه إلى سيواس وغيرها؛ حتى استقر في قونية (عاصمة السلاجقة) في تركيا، زار دمشق واتصل بابن عربي وتلاميذه، ومنهم سعد الدين الحموي والقونوي، وفي قونية وصل إلى مقام الفرق الثاني على يد شمس تبريز محمد بن علي بن ملك داد (لعله إسماعيلي)، مات جلال الدين سنة (672هـ). النعمانية: نسبة إلى أبي عبد الله، شمس الدين محمد بن موسى بن النعمان، مغربي، قدم الإسكندرية شاباً ومات فيها سنة (683هـ). المسلمية: شيخها حسن بن مسلم، مصري، مات في القاهرة سنة (764هـ). المنايفية: شيخها رمضان الأشعث، مات في مصر في القرن الثامن. الوفائية: نسبة إلى محمد وفا بن محمد بن محمد النجم، ولد في الإسكندرية، ثم رحل إلى القاهرة، ومات فيها سنة (765هـ)، ومحمد وفا معدود من رجال السلسلة الشاذلية. الهمدانية: نسبة إلى علي بن الشهاب الهمداني، فارسي، مات سنة (786هـ)، تخرج في الكبروية، ولعل اهتمامه بعبد القادر الجيلاني كان عن طريقها، وللهمدانية دور في نشر التشيع في إيران. الركنية: نسبة إلى ركن الدين، أبو المكارم، علاء الدولة السمناني، من قرية سمنان في خراسان، مات سنة (736هـ)، تخرج في الكبروية، وكان يعارض بشدة التصريح بوحدة الوجود. الحروفية: أسسها فضل الله بن عبد الرحمن الحسيني الإستراباذي، شيعي، كان يتنقل بين مدن فارس، قتل سنة (804هـ)، وسميت الحروفية لاعتنائهم الزائد بالحروف وأسرارها على طريقة الأوفاق والطلاسم، والزايرجة واستنطاق الحروف والتنجيم، وقد اندمجت الحروفية فيما بعد بالبكتاشية وطورتها، (كان الخليفة الثاني لفضل الله يسمى: علي الأعلى). الصفوية: نسبة إلى صفي الدين، إسحاق بن جبرائيل -والظاهر أنه تركي- العلوي -الحسني أو الحسيني-، توفي في أردبيل سنة (735هـ) على الأرجح، أخذ التصوف عن الشيخ إبراهيم الزاهد الكيلاني لعلها الطريقة القادرية، تشيع هو أو ابنه صدر الدين موسى (مات سنة 794 هـ)، كان أتباعه من السنة الذين انقلبوا إلى شيعة بسبب شيوخهم صفي الدين وأولاده وأحفاده (المؤلهين)، وكلهم من شمالي إيران، وقد قويت طريقته وكثر أتباعها في زمن خلفائه حتى استطاع أحد أحفاده (إسماعيل بن حيدر) أن يتملك بهم على إيران سنة (905هـ). والطرق الأربع: الهمدانية، والسنية السعدية، والحروفية، والصفوية، هي التي بدأت العمل على نشر التشيع في إيران، وقد ذابت السنية السعدية والحروفية، بينما تابعت الصفوية عملها حتى تحولت إلى ملك، ثم إلى فرقة جديدة أضيفت إلى الفرق الإسلامية هي (القيزيلباشية).   (1) ((الصوفية بين الأمس واليوم))، (ص136). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 438 النوربخشية: نسبة إلى محمد بن عبد الله الملقب (نور بخش) أي واهب الأنوار، هاجر أبوه من الإحساء، وسكن في بلدة (قاين)، وانتسب أولاً إلى الطريقة الهمدانية، ثم أكد نسبته إلى علي بن أبي طالب عن طريق الكشف، فعرف أنه من سلالة موسى الكاظم، كما عرف عن طريق الكشف أنه المهدي، وساعده على ذلك اسمه (محمد بن عبد الله)، وسمى ابنه (القاسم)، فأصبح (أبو القاسم محمد بن عبد الله) (1)، وكان يصرح علناً أن حركته ترمي إلى الجمع بين التصوف والتشيع (2)، والملاحظ أنه شيعي، لكنه ادعى المهدوية حسب النصوص السنية، والطريقة الآن شيعية كلها، وقد ساعدت كثيراً جداً على انتشار التشيع في إيران والهند، مات نوربخش سنة 869 هـ (3) في الري. وفي أواسط القرن العاشر هرب شيخ النوربخشية (طاهر بن رضا الإسماعيلي القزويني) مع جمع من أتباعه إلى الهند حيث نشروا التشيع هناك مع الطريقة. النعمتللاهية: نسبة إلى نعمة الله الولي العلوي الحلبي، ساح ولقي عبد الله اليافعي، ثم استقر في ماهان (من أعمال كرمان)، وكان مريدوه يسجدون له، ويرون أنه المعني بالآية: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ [النحل: 83]، وقد صارت الطريقة كلها شيعية بعد أن كان مؤسسها سنياً حنفياً ميالاً إلى التشيع، تخرج بالشاذلية، مات سنة 834 هـ، وعمره قريب من مائة سنة، وانتشرت النعمتللاهية في إيران والهند، وهي أوسع الطرق انتشاراً في إيران، وقد ساعدت كثيراً على انتشار التشيع هناك. المشعشعية: مؤسسها محمد بن فلاح بن هبة الله، وهو كغيره من الأولياء، من سلالة فاطمة الزهراء، رضي الله عنها، ولعله في الأصل درزي من وادي التيم، تصوف وتفقه في مدينة الحلة بعلوم الشيعة الاثني عشرية على يد أحمد بن فهد الحلي، وتزوج ابنته، ثم تنقل حتى وصل إلى بادية خوزستان، حيث أخبره الكشف أنه المهدي المنتظر (مهدي السنة)، حصلت على يده خوارق كثيرة كثر بسببها أتباعه، وكلهم من السنة الذين تحولوا إلى مذهب شيخهم المؤله الشيعي، وكان يسمي خوارقه (التشعشع)، وكان يقطع الطرق، وينهب الحجاج، امتلك الأهواز والحويزة (العاصمة)، وأكثر بلاد خوزستان، مات سنة 866 هـ. الشطارية: نسبة إلى عبد الله شطار الخراساني، مات سنة 832 هـ في مدينة ماندو في الهند الوسطى، وقد كانت في القرن العاشر طريقة الهند الرئيسية، أدخلت اليوغا في رياضتها، واهتمت كثيراً بالسيمياء (السحر). المدارية: أسسها بديع الدين مدار المكنيوري (الهند)، مات سنة 844 هـ، كان أتباعها من أهل الوحدة المطلقة، أي يصرحون بوحدة الوجود، ومن أهل التجريد الظاهري، يكتفون بستر العورة الظاهرة، ويجترئون على مناهي الشرع. العيدروسية: نسبة إلى عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن العيدروس، من مدينة تريم في حضرموت، مات فيها سنة 865 هـ، وقد تخرج في العلوية، وهي منتشرة أكثر شيء في الهند وحضرموت. الشابية: نسبة إلى أحمد بن مخلوف الشابي، تونسي، مات في القيروان سنة 887 هـ، وهي فرع من الشاذلية. الجزولية: نسبة إلى محمد بن عبد الرحمن ... بن سليمان الجزولي السملالي، مؤلف: (دلائل الخيرات)، مات سنة 869 أو 870 هـ في المغرب، وجزولة هي إحدى قبائل البربر، ولكنه مع ذلك من سلالة فاطمة الزهراء.   (1) ((الفكر الشيعي والنزعات الصوفية))، فصل محمد بن عبد الله الملقب بنور بخش، وهو نقلاً عن نفحات الأنس، (ص286). (2) ((الفكر الشيعي والنزعات الصوفية))، فصل محمد بن عبد الله الملقب بنور بخش، وهو نقلاً عن نفحات الأنس، (ص286). (3) ((الصوفية ببن الأمس واليوم))، (ص137). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 439 الزرّوقية: نسبة إلى أبي العباس أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرنوي الفاسي، المعروف بزروق، يقول عنه أبو الفيض المنوفي في جمهرة الأولياء: ولد يوم الخميس/ 12 محرم / عام 840 هـ، وعاش (63 سنة)، ومات سنة 899 هـ (1)، وقد تخرج في الشاذلية. العيساوية: نسبة إلى سيدي محمد بن عيسى، من بلاد السوس (المغرب)، تخرج في الطريقة الجزولية، مات في (مكناسة الزيتون) سنة 933 هـ، ويظهر أنها والجزولية فرعان من الرفاعية، لأنهما تعتمدان الطبول وضرب الشيش والخناجر وأكل الزجاج والحيات، وفيهما كثير من المنكرات - شأن كل الطرق - لكن محموداً أبا الفيض المنوفي يجعل الجزولية فرعاً من الشاذلية. الكَنكَوهية: نسبة إلى الشيخ عبد القدوس الكَنكَوهي، هندي، كان يصرح بوحدة الوجود ويدعو إليها بقوة، وهي فرع من الصابرية الجشتية، مات الكَنكَوهي سنة 933هـ. الجهنجهانوية: نسبة إلى عبد الرزاق الجهنجهانوي، هندي، مات سنة 949 هـ، مزج بين القادرية والجشتية، وكان عالماً معروفاً، ويدعو إلى وحدة الوجود متحمساً لها ولمحيي الدين بن عربي. المهدوية: مؤسسها (المهدي المنتظر) محمد بن يوسف الجنبوري، من جونبور في الهند، ومن أحياء القرن التاسع وأوائل العاشر الهجريين، توفي في خراسان، أخبره الكشف أنه المهدي المنتظر، وانتشرت طريقته في كجرات والدكن من بلاد الهند، وقد تحولت إلى فرقة من الفرق المنحرفة، ويجب أن لا نخلط بينها وبين المهدية السودانية التي جاءت بعدها بأربعة قرون. الخلْوتية: نسبة إلى (أخي) محمد بن أحمد بن محمد كريم الدين الخلوتي، أخذها عن محمد صلى الله عليه وسلم مباشرة في اليقظة لا في المنام، وكان يقول: طريقتي محمدية، مات سنة 986 هـ في مصر. المجددية (أو الأحمدية): نسبة إلى مجدد الألف الثاني أحمد بن عبد الأحد الفاروقي السرهندي، من الهند، توفي سنة 1034 هـ/ 1625م، والطريقة فرع من الباقية التي هي فرع من النقشبندية، منتشرة في الهند وفي أكثر بلاد المسلمين، ولعلها غير موجودة في شمال إفريقية. البيرامية: نسبة إلى إبراهيم (بل بيرم) بن تيمورخان، من بوسنة في البلقان، طاف البلاد، وله في كل بلد اسم، فاسمه في ديار الروم علي، وفي مكة حسن، وفي المدينة محمد، استقر في مصر، ومات فيها سنة 1026هـ. الوزانية: نسبة إلى عبد الله بن إبراهيم بن موسى اليَمْلَحي المصمودي الوزاني، نسبة إلى بلدة وزان في المغرب، مات سنة 1089هـ، الموافقة لـ 1678م. الذهبية: نسبة إلى آقا سيد محمد القريشي الذهبي، فارسي، ولعله من أهل النصف الأول من القرن الثاني عشر الهجري، والطريقة منتشرة بين الشيعة في إيران والهند، وهي فرع من النعمتللاهية. الدرقاوية: نسبة إلى العربي أو (محمد العربي) بن أحمد ... الدرقاوي، مغربي مات سنة (1239هـ)، وهي فرع من الشاذلية. الولي اللاهية: نسبة لولي الله، أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي المتوفى سنة (1176هـ-1763م)، تخرج بالطريقة الأحسنية التي هي فرع من الطريقة الباقية، التي هي بدورها فرع من النقشبندية، له دور هام في نشر علم الحديث في الهند، ولعل هذا ناتج عن تأثره بدعوة محمد بن عبد الوهاب، والطريقة منتشرة في الهند. المحمدية الأحسنية: مؤسسها أحمد بن عرفان البريلوي الشهيد، قاد جهاداً إسلامياً في محاربة الاستعمار، لكن صوفيي الهند خذلوه، لأنه- مع تصوفه- كان يقول بالنهج السلفي، قتل مجاهداً سنة 1246هـ-1831م، وطريقته فرع من الأحسنية (سيرد ذكرها) ولعله تخرج بالولي اللاهية.   (1) الصحيح أنه ولد عام (846هـ)، وعاش (54 عاماً)، ومات سنة (899هـ). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 440 الرحمانية: فرع من الخلوتية، تنسب في المغرب إلى محمد بن عبد الرحمن بوقبرين، مات في تونس سنة (1028هـ)، وينسبونها في بلاد الشام إلى عبد الرحمن الشريف، مات سنة (1305هـ). الإدريسية: أسسها أحمد بن إدريس، مغربي من الأدارسة، تجول في البلاد، واستقر في اليمن، طريقته محمدية، أخذها عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة في اليقظة لا في المنام، مات في بلدة (صبية) في تهامة عسير سنة 1253 هـ، وطبعاً رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في اليقظة بالكشف. الرشيدية: نسبة إلى إبراهيم الرشيد، تلميذ أحمد بن إدريس، سار على نفس طريقته، وهو سوداني، تنقل، ومات في مكة سنة 1291هـ، ويجب أن لا نخلطها مع الرشيدية إحدى فرق الخوارج. السنوسية: أسسها محمد بن علي السنوسي، تنقل، ومات في جغبوب (ليبيا) سنة 1276 هـ/ 1859م، وكانت ولادته في مستغانم (الجزائر)، وفي فترة ما كانت السنوسية شبيهة بالحزب السياسي ولها دور في محاربة الاستعمار. المدنية: نسبة إلى محمد بن حمزة بن ظافر المدني، خرج من المدينة المنورة واستقر في المغرب الأقصى، وكان مبدأ ظهور طريقته عام 1240 هـ، وهي فرع من الشاذلية. الأوَيْسِيَّة: ينسبونها - زوراً - إلى أويس القرني (وهذا بدهياً غير صحيح)، ظهر أويس في خلافة عمر بن الخطاب، توفي سنة 37 هـ ترجيحاً، وفي السلسلة الأويسية كثير من التخليط، فهم يجعلون من شيوخ سلسلتهم: ابن خفيف، والكازروني، والكبرى، ونوربخش، ولا يستبعد أن يكون مؤسسها (جلال الدين علي أبو الفضل عنقا)، توفي في طهران سنة 1293 هـ، أو شيخه (عبد القادر جهرمي)، مات سنة 1262 هـ، وإن صعدت فلا تبعد. المهدية: نسبة إلى (المهدي المنتظر) محمد بن أحمد بن عبد الله، من السودان، تلقب بالمهدي المنتظر سنة 1298 هـ، واستطاع السيطرة على السودان، توفي بالوباء سنة 1302، ويعرف أتباعه أيضاً بالدراويش، وقد أخذت في فترة ما شكل الحزب السياسي، وهي غير المهدوية الهندية المار ذكرها. اليَشْرطية: أسسها علي اليشرطي، مغربي هاجر إلى عكا في فلسطين ومات فيها سنة 1316 هـ، وهي فرع من الشاذلية، ويتحدث الناس عن منكر فيها يسمونه: التنوير، وقد انتسب إليها السلطان عبد الحميد قبل انهياره بمدة وجيزة، على يد محمود أبي الشامات (دمشقي). المدانية: نسبة إلى محمد المداني القصيبي التونسي، من أحياء العقود الوسطى من القرن الرابع عشر الهجري، وهي منتشرة في تونس وما حولها، وهناك من يتهم المداني بالتعامل مع الاستعمار الفرنسي. الكسْنَزانية: نسبة إلى عبد الكريم الكسنزاني، عراقي، لعل وفاته كانت بعد عام 1360 هـ، وهي موجودة في العراق ولعلها فرع من القادرية. العلاوية: نسبة إلى أحمد بن مصطفى العلاوي من مستغانم في الجزائر، مات فيها سنة 1353هـ. الحصافية: نسبة إلى حسنين الحصافي، مصري، من أهل النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري، وهي فرع من الشاذلية. المريدية: منتشرة في السنغال، مؤسسها (أحمد بنب)، سنغالي من أحياء عام (1926م). الفيضية: شيخها محمود أبو الفيض المنوفي، مصري، أسس في عام 1927 م في القاهرة الكلية الصوفية التي بقيت حتى عام 1933 م. ولعله لا يزال حياً حتى كتابة هذه الكلمات؟ وهي فرع من الشاذلية. الخليلية: نسبة إلى الحاج محمد أبي خليل، من الزقازيق في مصر، توفي بعد سنة 1945م، وهي فرع من الأحمدية. النورسية: نسبة إلى سعيد النورسي، أبرز المشايخ الذين لم يتعرضوا للتصفية في زمن مصطفى كمال، منتشرة في تركيا. - إلى جانب هذه الطرق، طرق أخرى يسر الله سبحانه معرفة أسماء مؤسسيها، ولم يتهيأ لي معرفة أزمنتهم وأمكنتهم، وهي: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 441 الجهرية: مؤسسها الخواجة أحمد السيوري!! منتشرة بين مسلمي الصين، حيث يجعلون مؤسسها الأول عمر بن الخطاب، وينسبونها في الوقت ذاته إلى (ماهولونج)، لعله من أحياء أوائل القرن العشرين الميلادي. البرهانية: نسبة إلى الشيخ برهان، منتشرة في السودان ومصر، ويجب ألا نخلطها مع البرهانية الغزالية. المشارعة: نسبة إلى أحمد بن موسى المشْرع اليمني. الخشنية: نسبة إلى قطب الدين الخشني؟ وأظنها تصحيفاً من (الجشتية). النورية: نسبة إلى نور الدين الإسفراييني، وهي غير النورية القديمة المنسوبة لأبي الحسين النوري. الوفائية: نسبة إلى أبي الوفا لعله العراقي (تاج العارفين) من أهل النصف الأول من القرن السادس؟ إن كان ذلك فهي فرع من الصديقية، وهي غير الوفائية المنسوبة إلى محمد ولا الشاذلي المصري. العِشقية: نسبة إلى أبي يزيد العشقي، لعلها أصل للشطارية، أو لعلها فرع منها. الغوثية: نسبة إلى غوث الله. العمرية: لعلها نسبة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه! وأول من دخل بالخرقة العمرية إلى الشام هو عقيل المنبجي، ويسمونه: (الطيار)، لأنه انتقل من قريته في المشرق إلى منبج في شمال الشام طائراً في الهواء، ولعل وجوده في منبج كان في العقود الوسطى من القرن السادس الهجري. الهوازنية: أظنها نسبة إلى عبد الكريم بن هوازن، فإن كان ذلك فهي (القشيرية). العفيفية: شيخها عفيفي أحمد الساكت، مصري، من أحياء 1968م، وهي فرع من طريقة تسمى: الهاشمية، وهي غير العفيفية الشاذلية. الصاوية: لعلها نسبة إلى أحمد الصاوي، فتكون فرعاً من الخلوتية. الدمرداشية: لعلها نسبة إلى عبد الرحيم مصطفى الدمرداش، مصري، قريب. العزازية: شيخها إبراهيم العزاوي، (ولعلها العزاوية)، مصري من أحياء 1968م. الحبيبية: شيخها محمد عبد الباقي الحبيبي، مصري، من أحياء 1968م. المغازية: شيخها أحمد أبو الفتح المغازي، مصري، من أحياء 1968م. الخضيرية: شيخها محمد نور الخضيري، مصري، من أحياء 1968م. المروانية: شيخها محمد يوسف مروان، مصري، من أحياء 1968م. الطرق الست الأخيرة، ليس من الضروري أن يكون مؤسسوها هم المشايخ المذكورة أسماؤهم، فقد يكون بعضهم، أو كلهم، ورثوا مشيختها عن آبائهم أو أجدادهم. أهل الحق: طريقة متفرعة عن الصفوية وفيها غلوها، منتشرة في القرى العراقية والإيرانية الواقعة بين السليمانية وخانقين، وهي الآن أقرب إلى أن تكون فرقة دينية. وطرق متفرعة عن الجشتية منتشرة في الهند وفي غيرها (أجهل عصر مؤسسيها): النظامية: نسبة إلى نظام الدين البدايوني، وهي فرع من الجشتية. الصابرية: نسبة إلى علاء الدين بن أحمد الصابر، وهي فرع من الجشتية من أهل الوحدة المطلقة. الكَيسودرازية: منسوبة إلى السيد محمد بن يوسف الحسيني الدهلوي المدفون بكَلبركَة، وهي فرع من النظامية. الحسامية: شيخها الشيخ حسام الدين المانكبوري، وهي فرع من النظامية أيضاً. الصفوية المينائية: شيخها صفي الدين السائنيوري وهي فرع من النظامية أيضاً. الفخرية: شيخها مولانا فخر الدين الدهلوي وهي فرع من النظامية. وطرق متفرعة عن النقشبندية ومنتشرة في الهند وفي غيرها، أجهل، عصر مؤسسيها: الباقية: شيخها رضي الدين أبو المؤيد عبد الباقي بن عبد السلام النقشبندي الدهلوي وقد تفرعت عنها المجددية المار ذكرها، ومنها تشعبت الطرق التالية: الزبيرية: شيخها زبير بن أبي العلا بن محمد نقشبند، فرع من المجددية. المظهرية: للشيخ شمس الدين حبيب الله جانجانان العلوي الدهلوي، فرع من المجددية. الأحسنية: شيخها آدم بن إسماعيل البنوري، وهي فرع من الباقية، والولي اللاهية، والمحمدية الأحسنية فرعان منها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 442 العَلَمية: للشيخ علم الله بن فضيل البريلوي، فرع من الأحسنية. وطرق متفرعة عن النقشبندية الممزوجة بالجشتية، منتشرة في الهند. العلائية: للأمير أبي العلاء بن أبي الوفاء الحسيني النقشبندي الأكبرآبادي، وهي مزج للطريقة النقشبندية ببعض أشغال الطريقة الجشتية. المحمدية العلائية: شيخها محمد بن أبي سعيد الكالْبوي، فرع من العلائية. المنعمية: للشيخ منعم بن عبد الكريم البهاري، فرع من العلائية. الأفضلية: للشيخ محمد أفضل بن عبد الرحمن العباسي الإله آبادي، فرع من العلائية. وطرق متفرعة عن الكبروية منتشرة في الهند. اليعقوبية: للشيخ يعقوب بن الحسن الصرفي الكشميري، وهي فرع من الهمدانية التي مر ذكرها والتي هي بدورها فرع من الكبروية. الفردوسية: شيخها الإمام شرف الدين أحمد بن يحيى المنيري، تخرج في الكبروية. وطرق متفرعة عن الشاذلية، يمكن أن يكون مؤسسوها آباء أو أجداداً للمشايخ المذكورين وكلهم مصريون من أحياء 1968م. القاوقجية: شيخها محمد رضا أبو الفتح القاوقجي. الجوهرية: شيخها رفعت الجوهري. المحمدية الشاذلية: شيخها محمد زكي إبراهيم، ويجب ألا نخلطها مع الطرق المحمدية الأخرى. الإدريسية: شيخها الحسن الإدريسي، وهي غير الإدريسية التي تفرعت عنها الرشيدية. العفيفية: شيخها محمد عبد الباقي العفيفي، وهي غير العفيفية الهاشمية، وكلتاهما منتشرتان في مصر. العزمية: شيخها أحمد ماضي أبو العزائم، منتشرة في مصر، ويوجد في سورية أيضاً طريقة (العزمية) ولا أعرف إن كانت نفس هذه الطريقة المتفرعة عن الشاذلية، أم غيرها؟ العَروسية: لعلها نسبة إلى مصطفى العروسي، شيخ الجامع الأزهر بين عامي 1860م - 1870م. الناصرية، القاسمية، السالمية، الهاشمية المدنية، الحامدية. وطرق أخرى متفرعة عن الأحمدية (السطوحية)، مشايخها المذكورون مصريون من أحياء 1968م، ويمكن أن يكونوا ورثوا المشيخة عن آبائهم أو أجدادهم. المنايفة: نسبة إلى عبد الله فؤاد المنوفي. الفرغَلية: نسبة إلى أحمد صبري الفرغلي. الشعيبية: نسبة إلى محمد حسن الشعيبي. الشناوية: نسبة إلى حسن محمد سعيد الشناوي. السالمية: وهي غير السالمية الشاذلية، وهما غير السالمية القديمة التي تخرج بها أبو طالب المكي. الكناسية، الزاهدية، الإمبابية، المرازقة، الحلبية، التسقائية، البيومية. [وطرق متفرعة عن الخلوتية (ولها نفس الملحوظات على سابقتها).] المصلحية: شيخها عبد العزيز المصيلحي. المسلمية: شيخها محمد حسن المسلمي، وهي غير المسلمية التي مرت قبل صفحات. العلوانية: شيخها محمد محمود علوان. الشبراوية: شيخها مصطفى عبد الخالق الشبراوي. الطيفية: شيخها أحمد محمد طيف. الغُنَيْميَّة: كنية مؤسسها (الغُنيمي)، لا أعرف اسمه، لكن له ذرية من أحفاده هاجروا إلى دمشق، وقد هداهم الله له المنة، فنبذوا باطل الصوفية، وصار منهم دعاة إلى الحق والهدى. البهوتية: فرع من الخلوتية. [وطرق متفرعة عن البرهامية (ولها نفس الملحوظات على سابقاتها):] الشهاوية: شيخها أبو المجد الشهاوي. الزنوبية: فرع من البرهامية. [وطرق لم أستطع العثور على أكثر من أسمائها (إلا الشيء القليل):] الخاكْساوية: فرع من النعمتللاهية، منتشرة بين الشيعة في إيران والهند. المغربية: لعلها فرع من الرحمانية المغربية (الخلوتية)، ولعلها هي نفسها؟ الخوْفية أو (الخفية): أتباعها لا يجهرون بأذكارهم (الجالسة الصامتة)، منتشرة بين مسلمي الصين، وينسبونها هناك إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه. البكرية: لعلها نسبة إلى أبي بكر بن هواري، فتكون هي (الصديقية). الدرويشية: منتشرة في شمال إفريقية، ولعلها المهدية. التسعينية: منتشرة في السودان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 443 البرهومية: منتشرة في السودان ومصر. النُّورانية: منتشرة في الهند. الغُرابية: وهي غير الغرابية، الفرقة الشيعية التي ذابت فيما بعد في المتاولة. الدندراوية: منتشرة في العراق. الديوبندية: نسبة إلى مدينة ديوبند في الهند. القاسمية: هي غير القاسمية الشاذلية، وكلتاهما منتشرتان في مصر، ومنها تفرعت القادرية (غير الجيلانية). الهاشمية: منها تفرعت العفيفية ولا أعرف إن كانت هي نفس الهاشمية المدنية، منتشرة في مصر. الأحمدية الكتانية: منتشرة في المغرب. الشيبانية: فرع من التغلبية الآتي ذكرها. العزمية: منتشرة في سورية، ولا أعرف إن كانت هي نفس (العزمية الشاذلية) أم غيرها. الكاكائية: منتشرة بين الأكراد في شمال العراق، ولعلها نسبة إلى اسم قبيلة، أو بمعنى (الأخوية). الإبراهيمية: منتشرة في الأكراد شمال العراق، وهي الآن أقرب إلى أن تكون فرقة دينية، ومثلها: الشَّبَك، والماولية، والباجوان، وكلها منبثقة عن تفاعل بين البكتاشية والقيزلباشية. الجنابذية: منتشرة في إيران، ولعلها حديثة العهد. الكونايادية، الصفائية، الأوجاغية: هذه الطرق الثلاث موجودة في شمال إيران الغربي، وشمال العراق، وفي الأناضول الشرقي. السعيدية، التغلبية، الخواطرية، الحيدرية، الخزنوية، اليسوية. كما يتحدثون عن الطريقة (المحمدية) وهي أن محمداً صلى الله عليه وسلم يأتي بذاته، ويلقنها للشيخ العارف، في اليقظة لا في المنام، (أي: يلقنه أورادها)، وطبعاً يرونه بالكشف. وممن قالوا عن أنفسهم: إنهم على الطريقة المحمدية: محمد الخلوتي، عبد الغني النابلسي الذي صنف فيها كتاب: (شرح الطريقة المحمدية)، أحمد بن إدريس، أحمد التجاني، وطبعاً هناك غيرهم. هذا ما يسره الله له الحمد، مع العلم أن بعض هذه الطرق اندثرت أو ذابت في طرق نشأت على أنقاضها، وبدهي أن طرقاً كثيرة غيرها وجدت ولم يتهيأ لي الوقوف عليها، وخاصة ما كان في إندونيسيا، وماليزيا، وسريلانكا، وإفريقيا الوسطى والجنوبية، وفي روسيا. وأذكر هنا أيضاً، أن هذه ليست طرقاً بالمعنى الصحيح، إنما هي تبعيات لمشايخ فقط، لذلك كان الصحيح أن تسمى الواحدة منها (المشيخة)، فيقال: المشيخة الرفاعية، والمشيخة القادرية، والمشيخة النقشبندية، والمشيخة السهروردية، والمشيخة البرهامية، والمشيخة الأحمدية، والمشيخة الشاذلية، والمشيخة الخلوتية ... إلخ. وفي إيران يستعملون غالباً كلمة (مكتب)، أي: مدرسة، بدلاً من كلمة (طريقة). وهناك ملحوظة هامة جداً، وهي أن أكثر مؤسسي الطرق يجعلون نسبهم متصلاً بفاطمة الزهراء، ولهم في معرفة ذلك طريقان: الكشف والادعاء الجريء، والذين لا يفعلون ذلك قليلون بينهم. كما يلاحظ أن هناك مركزين رئيسيين، كانت تنشأ فيهما الطرق الصوفية، ثم تنتشر منهما في بقية البلاد. أ- مصر: وتأتي في الدرجة الأولى من حيث الكمية، وفي المرحلة الثانية تاريخياً، مع ملحوظة أن عدداً مرموقاً من مشايخها وفدوا إليها من المغرب. ب- العراق: وتأتي في الدرجة الثانية من حيث الكمية، وفي المرحلة الأولى تاريخياً، مع ملحوظة أن عدداً مرموقاً من مشايخها وفدوا إليها من فارس. وطبعاً؛ سيل الطرق لا ينقطع، ففي كل يوم جديد. وقد ظهرت مؤخراً طريقة جديدة في مصر اسمها: (العصبة الهاشمية والسدنة العلوية والساسة الحسينية الحسنية)، يقودها رجل من صعيد مصر يسميه أتباعه: (الإمام العربي)، وهو يعتزل الناس في صومعة، ويمرون عليه صفوفاً يسلمون عليه ويحدثونه، ويمنحهم البركات ويكشف لهم المخبوء، كل هذا من وراء ستار، فهم يسمعون صوته ولا يرون شكله، إلا المقربون. المصدر: الكشف عن حقيقة الصوفية لمحمود عبد الرؤوف القاسم – ص 353 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 444 المبحث الأول التعريف بالديوبندية: الديوبندية هم طائفة من الحنفية في شبه القارة الهندية وغيرها، يسلكون مسلك جامعة "ديوبند" وينتمون إليها، وذلك تمييزاً لهم عن إخوانهم "البريلوية" إحدى طائفتي الحنفية، الذين ينتمون إلى إمام البدعة أحمد رضا خان البريلوي، الذي ولد بمدينة "بريلي" إحدى مدن ولاية أوترابراديش بالهند عام 1272 هـ ومات في 1340هـ. و"ديوبند" هي بلدة في ولاية أوترا براديش، اكتسبت شهرتها من أجل الجامعة الإسلامية الشهيرة "دار العلوم" التي تأسست فيها عام 1283هـ، ... وكان الهدف الأساسي من إنشاء هذه الجامعة هو تأييد المذهب الحنفي ونشره وإخضاع السنة النبوية وتطويعها للفقه الحنفي المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص21 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 445 المطلب الأول: النشأة أسس جامعة ديوبند مجموعة من علماء الهند بعد أن قضى الإنجليز على الثورة الإسلامية في الهند عام 1857م فكان تأسيسها رد فعل قويٍّ، لوقف الزحف الغربي ومدنيته الماديَّة على شبه القارة الهندية لإنقاذ المسلمين من مخاطر هذه الظروف، خاصة وأن دلهي العاصمة قد خرِّبت بعد الثورة، وسيطر عليها الإنجليز سيطرة كاملة، وخاف العلماءُ أن يُبْتَلع دينُهم، فأخذ الشيخ إمداد الله المهاجر المكي وتلميذه الشيخ محمد قاسم النانوتوي وأصحابهم برسم الخطط للمحافظة على الإسلام وتعاليمه. فرأوا أن الحل بإقامة المدارس الدينية، والمراكز الإسلامية. وهكذا أسست المدرسة الإسلامية العربية بديوبند كمركز للدين والشريعة في الهند في عصر حكومة الإنجليز. ـ وقد بدأت دار العلوم بمدرسة دينية صغيرة بقرية ديوبند تأسست في 15 محرم 1283هـ الموافق 30 أيار (مايو) 1866م، ثم أصبحت من أكبر المعاهد الدينية العربية في شبه القارة الهندية. ـ وفي عام 1291هـ تم إنشاء البناء الخاص بالجامعة، بعد بقائها تسع سنوات بدون بناء وكانت الدروس في ساحة المسجد الصغير وفي الهواء الطلق. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 446 المطلب الثاني: ملخص أفكار ومبادئ المدرسة الديوبندية ـ المحافظة على التعاليم الإسلامية، والإبقاء على شوكة الإسلام وشعائره. ـ نشر الإسلام ومقاومة المذاهب الهدَّامة والتبشيريّة. ـ نشر الثقافة الإسلامية ومحاربة الثقافة الإنجليزية الغازية. ـ الاهتمام بنشر اللغة العربية، لأنها وسيلة الاستفادة من منابع الشريعة الإسلامية. ـ الجمع بين القلب والعقل وبين العلم والروحانية. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 447 المطلب الثالث: مواقع النفوذ والانتشار لم تمض سوى فترة قصيرة على تأسيس دار العلوم بديوبند حتى اشتهرت وتقاطرت إليها قوافل طلاب العلوم الإسلامية من أطراف القارة الهندية. · وقد لعبت دارُ العلوم دوراً هاماً في نشر الثقافة الإسلامية خارج الهند، وقد انتشرت المدارس الشرعية التابعة لدار العلوم في أقطار عديدة منها الهند وباكستان. · وقد أسس أحد خريجي دار العلوم المدرسة الصولتيَّة في مكة المكرمة في بداية هذا القرن. وهي المدرسة التي قدمت خدمة جليلة من نشر العلوم الشرعية، وكذلك المدرسة الشرعية في المدينة المنورة - بجوار الحرم المدني وقد أسستها أسرة الشيخ حسين أحمد المدني رئيس هيئة التدريس في دار العلوم سابقاً الذي ظل سبع عشرة سنة يدرس في الحرم النبوي بعد هجرته إلى المدينة أثناء الاضطرابات في الهند. · ومعلومٌ أن أغلب رجال جماعة التبليغ المشهورة في الهند والعالم الإسلامي، هم من خريجي دار العلوم مثل الشيخ محمد يوسف مؤلف كتاب (حياة الصحابة) والشيخ محمد إلياس مؤسس الجماعة. · بالنسبة لندوة العلماء في لكنهو بالهند فإنَّ أغلب علمائها من خريجي دار العلوم أيضاً، ومنهم رئيسها الحالي العلاّمة الداعية أبو الحسن الندوي. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 448 المبحث الثالث أهم زعمائها: · الشيخ محمد قاسم ولد بناتوته سنة 1248هـ ورحل إلى سهارنبور في صغر سنه وقرأ المختصرات على الشيخ محمد نواز الهارنبوري. ثم سافر إلى دلهي وقرأ على الشيخ مملوك على النانوتي سائر الكتب الدراسية، وأخذ الحديث على الشيخ عبد الغني بن أبي سعيد الدهلوي، وأخذ الطريقة عن الشيخ الحاج إمداد الله العمري التهانوي المهاجر المكي، وكان ممن قام ضد الاستعمار البريطاني في الثورة المشهورة سنة 1273هـ. وفي 15 محرم 1273هـ أسس مدرسة دار العلوم بديوبند وتحمل مسؤولية إدارتها وشاركت في تربية طلابها رفيقة الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي. وقد لخص هدفها في رده على اللورد ميكالي الإنجليزي بقوله: " إن غرضنا من التعليم هو إيجاد جيل يكون بلونه وعنصره هندياً، يتنور قلبه وعقله بنور الإسلام، وتموج نفسه بالعواطف الإسلامية، ثقافة وحضارة وسياسة ". وذلك ردا على قول اللورد ميكالي " إن الفرصة من خطتنا التعليمية هو إنشاء جيل من الهند، يكون هندي النسل واللون، وأوربي الفكر والذهن ". · الشيخ أحمد الكنكوهي: أحد أعلام الحنفية وأئمتهم في الفقه والتصوف قرأ على كبار مشايخ عصره حتى برع وفاق أقرانه في المنقول والمعقول واستفاد منه خلق كثير. وهو أحد الذين بايعوا الشيخ إمداد الله المهاجر المكي على الطريقة. وكان زميلاً للشيخ محمد قاسم الناناتوي. وله مؤلفات عديدة منها مجموعة فتاواه في عدة مجلدات، توفي عام 1323هـ. · الشيخ حسين أحمد المدني والملقب بشيخ الإسلام: ولد في التاسع عشر من شوال سنة 1296هـ وتلقى مبادئ العلوم في تانده من مديرية فيض آباد الهند وطن آبائه. وفي سنة 1309هـ سافر إلى دار العلوم الديوبندية وفيها تعلم الحديث عن الشيخ محمود حسن الديوبندي الذي لازمه مدة طويلة وكذلك تلقى من الشيخ خليل أحمد السهارنفوري، وبايع على الطريقة على يد الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي الذي أجازه على البيعة والإرشاد والتلقين. ولا شك أن هذا السلوك سلوك مبتدع لم يعرفه السلف الصالح. ـ سافر إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، بصحبة والده أيام الحرب العالمية فأسره ولاة الأمر ـ الشريف حسين بعد خروجهم على الدولة العثمانية ـ وتم ترحيله بصحبة شيخه محمد حسن الديوبندي إلى مصر ثم إلى مالطا أسرى لمدة ثلاثة سنين وشهرين. وفي عام 1338هـ أفرج عنه ثم عاد إلى الهند وقام بتدريس الحديث وإلقاء المحاضرات والخطب الحماسية ضد الاستعمار الإنجليزي فتم القبض عليه مرة أخرى في جمادى الآخرة 1361هـ وسجن لمدة سنتين وعدة أشهر في سجن مراد آباد وسجن إله آباد إلى أن أطلق سراحه في السادس من رمضان 1363هـ. استمر في جهاده بالتعليم ومناهضة الاستعمار إلى أن وافاه الأجل في الثالث عشر من جمادى الأولى سنة 1377هـ. ومن مؤلفاته: نقش حيات في مجلدين، وكتاب (الشهاب الثاقب على المسترق الكاذب). · محمد أنور شاه الكشميري: أحد كبار فقهاء الحنفية وأساطين مذهبهم تخرج في جامعة ديوبندي وولي التدريس في المدرسة الأمينية بدلهي، ثم شغل مشيخة الحديث في جامعة ديوبند. في عام 1346هـ تولى رئاسة التدريس وشياخة الحديث فيها إلى جامعة دابهيل كجرات وله مؤلفات عديدة. ويعد من أبرز علماء عصره في قوة الحفظ وسعة الاطلاع. وكان أحد الذين لعبوا دوراً هامًّا في القضاء على فتنة القاديانية في شبه القارة الهندية. توفي عام 1352هـ. · ومن أعلام الديوبندية الحديثة: . الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي، رئيس جامعة ندوة العلماء في لكنهو ورئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية، وهو داعية مشهور. · والشيخ حبيب الرحمن الأعظمي. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 449 المبحث الرابع: فرق الديوبندية وأما الديوبندية فلهم أغصان وأفنان وهم ضروب وألوان فمنهم من هو أقرب شيء إلى أهل السنة والتوحيد كالجماعة الفنجفيرية ومن على شاكلتهم فلهم مساع جميلة في محاربة كثير من البدع والشركيات- شكر الله مساعيهم- لولا ما عندهم من عقيدة ماتريدية والتعصب المذهبي المقيت وتحريف الأحاديث الصحيحة الصريحة نضالا عن مذهبهم الحنفي كالكوثرية. أما غلاة الديوبندية فلهم شعبتان: الأولى: شعبة التربية والتبليغ، وهي المعنية بجماعة التبليغ. فجماعة التبليغ كما أنهم ديوبندية أقحاح كذلك ماتريدية أجلاد ويحملون أفكارا صوفية خطيرة وبدعا قبورية كثيرة مع فوائد علمية وفيرة وقد ألف الشيخ العلامة محمد زكريا رحمه الله كتبا كثيرة جدا تعد منهجا لجماعة التبليغ يسيرون عليه ويهتدون مع أن تلك الكتب مكتظة ببدع وخرافات وتبركات ما أنزل الله بها من سلطان فهذه الكتب دليل قاطع على أن هذه الجماعة مبتدعة تحمل أفكارا قبورية كثيرة خطيرة. والثانية: شعبة التدريس والتعليم وغالب رجال هذه الشعبة أئمة في جميع مراجع العلوم النقلية والعقلية وقد أعطاهم الله أذهانا وقادة ومكانة مرموقة في الزهد لا أستطيع وصفها، وكثير منهم حاربوا كثيرا من البدع والشركيات وهم حرب على البريلوية وهذا من حسناتهم التي لا تنسى ولكنهم مع هذا صوفية أصلاب ماتريدية أجلاد يحملون بدعا قبورية خطيرة كثيرة تدل على غفلة شديدة عن حقيقة التوحيد وحقيقة ما يضاده من الشرك ووسائله وهم أعداء لأهل الحديث متعصبون كالكوثرية وهذا في الحقيقة وقوع في نوع من التناقض الواضح الفاضح. المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني- 3/ 302، 303 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 450 المبحث الأول: القول بوحدة الوجود عقيدة وحدة الوجود من العقائد الصوفية القبورية التي تسربت إلى كبار مشايخ الديوبندية وأئمتهم الأجلة وأكابرهم. وقد اعترف الشاه أنور الملقب عندهم بإمام العصر (1352هـ) بأن مشايخنا مولعون بعقيدة وحدة الوجود ولكني لست بمتشدد فيها. وقال الشيخ حكيم الملة (أمة الديوبندية) أشرف علي التانوي (1362هـ) أحد كبار أئمة الديوبندية وشيخهم الثالث في التصوف عن الشيخ إمداد الله إمام الديوبندية وشيخهم الأول في التصوف (1317هـ) أنه قال: (أعجبني بعض الأمور الطيبة في الحرمين). منها أن عقيدة وحدة الوجود انتشرت كثيراً في الناس وارتكزت فيهم حتى الأطفال، فقد ذهبت مرة إلى مسجد قباء فسمعت شخصاً يقول: يا الله يا موجود فقال الآخر بل في كل الوجود. فلما سمعت ذلك طرأ علي حال ثم رأيت الأطفال يلعبون فقال أحدهم: يا الله ليس غيرك. فطربت منه إلى حد زالت قواي؛ فقلت لهم: لم تذبحونني. تنبيه: الذي يعتقد عقيدة وحدة الوجود يقال له: الموحد عند الصوفية الوجودية الاتحادية. بناء على هذا الاصطلاح الوثني استمع أيها المسلم للقصة التالية: قال حكيم أمة الديوبندية (1362هـ) عن الشيخ إمداد الله الشيخ الأول في التصوف للديوبندية (1317هـ): (قيل لموحد: إذا كان الحلوى والخرء شيئاً واحداً فكل الحلوى والخرء جمعاً!!! فجعل هذا الموحد شكله شكل الخنزير، فأكل الخرء ثم حول نفسه من صورة الخنزير إلى صورة الآدمي فأكل الحلوى). وقد علق على هذه الأسطورة الإلحادية الوثنية والوجودية الصوفية الشيخ أشرف علي الملقب بحكيم الأمة فقال: (إن هذا المعترض على هذا الموحد كان غبياً؛ ولذلك تكلف هذا الموحد هذا التصرف، وإلا فالجواب ظاهر وهو أن الحلوى والخرء متحدان في الحقيقة لا في الأحكام والآثار). قلت أيها المسلم دقق النظر في هذه الأسطورة الإمدادية الديوبندية الصوفية الاتحادية، وهذا التعليق الأشرفي الحكيمي الديوبندي الصوفي الإلحادي يتبين لك فيها الطامات الآتية: الأولى: تسمية هذا الاتحادي الصوفي الإلحادي موحداً. فالصوفية الاتحادية والحلولية الإلحادية لا يسمون الشخص موحداً إلا إذا أنكر توحيد الأنبياء والمرسلين، واعتقد أن الله تعالى هو كل شيء وهو الاتحاد أو أنه تعالى هو كل شيء وهو الحلول. وأما الجهمية الأولى فيسمون معطل الصفات والأسماء موحداً وأما الماتريدية والأشعرية فيسمون معطل بعض الصفات موحداً. وأما القبورية فيسمون المستغيث بالأموات موحداً. الطامة الثانية: أن هذا الولي الموحد الاتحادي الإلحادي الوثني قد وصل في القدرة والتصرف إلى حد كان قادراً على قلب الأعيان والحقائق حتى قلب نفسه خنزيراً ثم انقلب من الخنزير آدمياً بقدرة كن فيكون. الطامة الثالثة: عقيدة وحدة الوجود: وأن جميع ما في هذا الكون شيء واحد في الحقيقة وإنما الفرق في الأحكام والآثار، وأن الخالق والمخلوق شيء واحد في الحقيقة، فما ثم إلا هو وإنما الفرق بالاعتبار لا بالحقيقة. الطامة الرابعة: تناول هذا الولي الموحد الإلحادي الاتحادي الوثني الخرء وأكله إياه بعدما انقلب خنزيراً أنجس الحيوانات في خلق الله تعالى، ويلزم هذا الخنزير أن يجامع أمه وأخته وبنته ومحارمه؛ لأن هذا الولي لما انقلب خنزيراً حل له أكل أغلظ النجاسات وهو الخرء، فيحل له وطء المحارم أيضاً لأن الخنزير غير مكلف فلا محارم له. الطامة الخامسة: مناصرة ذلك الولي الاتحادي الإلحادي الوثني والدفاع عنه، والطعن فيمن ينكر على هؤلاء الملاحدة ممن لا يعتقد عقيدة وحدة الوجود بأنه غبي أحمق في الاعتراض على هذا الولي الموحد الإلحادي الاتحادي الوثني. ولقد قال بعض الصوفية الملاحدة الاتحادية: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 451 إنني قد سجدت لله حينما لم تكن ذات الله ولا صفاته. فقال الشيخ أشرف على التهانوي عن شيخ الديوبندية إمداد الله: إن معناه: أنني عبدت الله حينما كان الله في مرتبة الأعيان، ولم يكن وقت الظهور العيني لذاته وصفاته. قال الشيخ الأول في التصوف للديوبندية إمداد الله (1317هـ): إن معناه أن العالم قديم في مرتبة الأعيان لأن هذا النور والشعاع لصفات الله تعلى وصفاته قديمة. وقد صرح شيخ الديوبندية إمداد الله بعقيدة وحدة الوجود في صدد الثناء على الله تعالى كما صرح بأن عقيدة وحدة الوجود هي عقيدته وعقيدة جميع مشايخه وعقيدة مريديه وذكر فيهم الشيخ النانوتوي الإمام الأول للديوبندية والشيخ الجنجوهي الإمام الثاني للديوبندية. ومن شعار الديوبندية في باب وحدة الوجود قولهم: (لا موجود إلا الله ولا مقصود إلا الله ولا محبوب إلا الله). ومن شعارهم ما يرددون من قول الحلاج (309هـ): (سبحاني ما أعظم شأني) ..... وقد حكى الديوبندية عن شيخهم إمداد الله (1317هـ) أنه قال: ... لي انشراح الصدر في مسألة وحدة الوجود، وقالوا: إن الشيخ كان إذا تكلم في وحدة الوجود يطرأ على السامعين الاطمئنان والوجود. قلت: هذا هو التصوف التقي النقي اللب الخالص من القشور كما تزعم الديوبندية؟ نعم تصوف الديوبندية نقي خالص، ولكن عن توحيد الأنبياء والمرسلين، وعن السلف الصالح أئمة هذا الدين. المصدر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية لشمس الدين السلفي الأفغاني-2/ 790 - 795 يقول شيخ مشايخ الديوبندية الحاج إمداد الله المهاجر المكي: "القول بوحدة الوجود حق وصواب، وأول من خاض في المسألة هو الشيخ محيي الدين ابن عربي. ورأي ابن عربي وعقيدته في هذه المسألة لا يحتاج إلى البيان والإيضاح، فإنه هو القائل: "إن الوجود المخلوق هو الوجود الخالق" وقال: "وفي كل شيء له آية، تدل على أنه عينه، فما في الوجود إلا الله". وقد حاول الشيخ إمداد الله إثبات هذه العقيدة الزائفة والاستدلال عليها بآية من القرآن الكريم، فقال: "الرسول صلى الله عليه وسلم متصل بالحق سبحانه، فمن المسوغ أن نقول لعباد الله عباد الرسول، ولهذا قال الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ [الزمر:53] وضمير المتكلم - المجرور بالإضافة - هو الرسول". هذا، وقد تبعه في ذلك الشيخ أشرف على التانوي وزاد عليه قائلاً: "والقرينة أيضاً تؤيد هذا المعنى، فإنه قال بعده: لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53]، فلو كان الضمير راجعاً إلى لفظ الجلالة لكان النظم "لا تقنطوا من رحمتي"، حتى يتناسب مع قوله: يا عبادي ". هكذا قال شيخ مشايخهم ومريده، وكأنهما تناسيا قول الله تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ [آل عمران:79]. ثم أنه لم يقف عند هذا الحد، بل أضاف عليه قائلاً: "التفريق بين العبد والمعبود هو الشرك عينه". ولذلك نادى أبويزيد البسطامي وقال: "سبحاني ما أعظم شأني" وجهر منصور الحلاج بقوله: "أنا الحق". وهؤلاء كلهم من خواص هذه الطائفة، وهذه الأقوال كلها من هذا الباب (وحدة الوجود). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 452 ولم يكتف الشيخ إمداد الله بحكاية أقوال الوجودية، بل أراد أن يضيف عليها فقال:"العبد قبل وجوده كان هو الرب باطناً، والرب هو العبد ظاهراً، وعليه يدل الحديث القدسي: ((كنت كنزاً مخفياً))، وما مثل الخالق مع خلقه إلا كمثل النواة مع الشجرة، فإن الشجرة بأوراقها وأغصانها وأزهارها كانت مكنونة في النواة، ولما أظهرت النواة ما في باطنها اختفت هي عن الأنظار، فالناظر يرى الشجرة ولا يرى النواة". هكذا قال الشيخ إمداد الله ونسي ما صرح به القرآن في محكم آياته لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:3]. كما أنه لم ينتبه إلى النتائج المستلزمة لهذا القول بحيث تكون المخلوقات كلها مظاهر للخلّاق العظيم، بما فيها الكلاب والفئران والقطط وغيرها؛ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. ثم أضاف الشيخ إمداد الله قائلاً: "من أراد أن يجلس مع الله فليجلس مع أهل التصوف".وقال مستدلاً بحديث ((من رآني فقد رأى الحق)) (1): "معناه من رآني فقد رأى الله تعالى". وقال أيضاً: "إن الصوت الذي سمعه موسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه:12] إنما كان من باطن موسى نفسه". وقال الشيخ فضل حق الخير آبادي في كتابه: "لو كلفت الرسل بالدعوة إلى وحدة الوجود لبطلت الحكمة التي من أجلها أرسلت الرسل، فأمروا أن يكلموا الناس على قدر عقولهم". فيا للعجب! لو كانت عقيدة وحدة الوجود حقاً، وعرفها الأنبياء والرسل، أما كان عليهم أن يبينوها للناس ولا يكتمونها؟ والله سبحانه يقول يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67].وقالت عائشة رضي الله عنها: (من حدّثك أن محمداً كتم شيئا مما أنزل الله عليه فلقد كذب) (2). وقال الشيخ محمد أنور الكشميري في شرحه لحديث ((لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل)) (3) الحديث، وهذا نصه: "وهاهنا بحث للصوفية في فضل القرب بالنوافل، والقرب بالفرائض، فقالوا: إن العبد في القرب الأول يصير جارحة لله جل مجده، والله سبحانه نفسه يكون جارحة لعبده في القرب الثاني". وقال في شرحه لقطعة: "فكنت سمعه الذي يسمع به": "قلت: وهذا عدول عن حق الألفاظ، لأن قوله: كنت سمعه الذي بصيغة المتكلم يدل على أنه لم يبق من المتقرب بالنوافل إلا بجسده وشبهه، وصار المتصرف فيه الحضرة الإلهية، وهذا الذي عناه الصوفية بالفناء في الله تعالى، أي الانسلاخ عن دواعي نفسه حتى لا يكون المتصرف فيه إلا هو، (إلى أن قال) وفي الحديث لمحة إلى وحدة الوجود، وكان مشايخنا مولعون بتلك المسألة إلى زمن الشاه عبد العزيز، أما أنا فلست بمتشدد فيها". وقال في شرحه لقول: فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق" ما نصه: "وفيه رائحة من وحدة الوجود، لأنه يدل على أن تلك الرحمة عينها جعلت بين العباد، مع أنها كانت جزء من أجزاء رحمة الرب، فما كان للرب جل مجده صارت للعباد بعينها، وهل الوحدة المذكورة ممكنة أو لا؟ فالوجه أنها ممكنة، إلا أن الغلو فيها غلو". وقال الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي في كتابه:   (1) رواه البخاري (6996) ومسلم (2267) من حديث أبي قتادة. (2) رواه البخاري (6502). (3) رواه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 453 "أريد أن أرسل هنا قصتين لأكابرنا كنموذج، إحداهما رسالة سامية لشيخ المشايخ قطب الإرشاد حضرة الكنكوهي، قدس سره، التي كتبها إلى شيخه شيخ العرب والعجم الحاج إمداد الله أعلى الله مرتبته، وهي مطبوعة في "مكاتيب رشيدية" أيضاً، يقول: "إن إطالة الكلام إساءة أدب، اللهم اغفر، فإنما كتب بأمر الشيخ، أنا كذاب، أنا لا شيء، لا ظل إلا ظلك، ولا وجود إلا وجودك، من أنا؟ لا شيء وما أنا هو أنت، وتفريق أنا وأنت هو شرح محض، أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلى بالله". ويقول في كتابه (تبليغي نصاب): "إن الحق سبحان منبع في الواقع لكل حسن وجمال، والحق أنه لا يوجد في الكون جمال سواه". وقال بيتاً في أبي منصور الحلاج المصلوب - الداعي المعروف إلى عقيدة وحدة الوجود - ما معناه: "إنما صلب أبو منصور لتركه التأدب (مع الله)، فقوله "أنا الحق" كان حقاً، إلا أن فيه لفظ يؤدي على إساءة أدب". هذا، وقد قال "صوفي إقبال" - وهو من أخص أصحاب الشيخ محمد زكريا - بيتاً يمدح به الشيخ محمد زكريا ويذكر منّه على طائفته، ما معناه: "من الذي أوقفنا على سر الوحدة (وحدة الوجود) حيث بين لنا أن العشق والمعشوق والعاشق كلها شيء واحد". وقال الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي: "إن نسبة الشيخ (قاسم النانوتوي مؤسس دار العلوم بديوبند) كانت مورداً لتجلي الذات المحضة، يعني ذات الله سبحانه وتعالى". ويقول الشيخ أشرف على التانوي وهو يشرح قصة لطرد الجن أيام الشاه عبدالعزيز، والذي طرده هو الشيخ الشاه عبدالقادر، يقول التانوي: "هناك درجة للكاملين، هي درجة "أبو الوقت"، من وصل إليها يصبح قادراً على أن يورد على نفسه التجلي في أي وقت شاء، كذا سمعت مرشدي؛ فلا غرو أن يكون حضرة الشاه قد أورد على نفسه تجلياً من الجبار، فطرد الجن بالتوجه، لكون التجلي مظهراً لهذه الصفة". ومن أكابر الديوبندية الشيخ ضامن علي الجلال آبادي، وفيما يلي نقدم إلى القارئ قصة تتعلق به، وهي غريقة في عقيدة وحدة الوجود، وهي أيضاً تمثل معتقدات علماء ديوبند في المسألة، يقول الراوي: "ذات يوم سأل الشيخ خليل أحمد السهارنفوري شيخه عن الحافظ لطافت علي، المعروف بالحافظ "ميندهو" شيخ بوري فقال: "كان كافراً بحتاً" - ثم تبسم وقال: "وأما ضامن علي الجلال آبادي فكان غريقاً في التوحيد". وقال مرة أخرى: "إن عددا كبيراً من بغايا مدينة "سهارنفور" كُنّ من مريدي الشيخ ضامن علي، فنزل يوماً عند واحدة منهن فاجتمعن في بيتها كلهن غير واحدة منهن، فسأل الشيخ عن سبب غيابها، فقلن بأننا قد حاولنا إقناعها للحضور لزيارتكم الكريمة، ولكنها اعتذرت وقالت: أنا غريقة في المعاصي، مسودة الوجه، بأي وجه استقبل الشيخ، فألح الشيخ عليهن بإحضارها عنده، فلما جئن بها وحضرت بين يديه، سألها عن سبب غيابها، فقالت منعني الحياء أن أحضر في مجلسك الشريف وأنا عاصية مسودة الوجه، فقال الشيخ: لم تستحين؟ هل الفاعل والمفعول به إلا هو؟ فما أن سمعت البغي مقال الشيخ حتى اشتعلت غضباً وقالت: لا حول ولا قوة إلى بالله، أنا عاصية مسودة الوجه، ولكنني أتبرأ من مثل هذا الشيخ كل البراءة، وتولت مدبرة والشيخ جالس ناكس الرأس ندماً وحياء". ويقول الشيخ شبير أحمد العثماني في تفسيره لقوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور:35] ما معناه: "كل مخلوق حصل له نور الوجود من الله، فالقمر والشمس والكواكب والملائكة والأنبياء والأولياء أي نور فيهم ظاهري أو باطني فهو مستفاد من هذا المنبع النوري. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 454 ويقول أيضاً:"كان عليه الصلاة والسلام يدعو ربه في ظلمات الليل ويقول: ((أنت نور السموات والأرض)) (1). ويسأله النور في سمعه وبصره وقلبه وجميع أعضائه، ويقول في آخر دعائه: ((واجعل لي نوراً)) (2). أو: ((وأعظم لي نوراً)) (3). أو: ((واجعلني نوراً)) (4). ويقول في تفسيره لقوله تعالى: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]. ما ترجمته:"يروى عند الصوفية حديث ((كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف)) (5) فالحديث وإن لم يكن صحيحاً عند المحدثين ولكن مفهومه لعله مأخوذ ومستفاد من هذه الآية" ويقول مؤلف كتاب (انكشاف): "الكشف الأكبر يسمى الكشف الإلهي أيضاً، ويراد منه مشاهدة ذات الحق سبحانه ومعاينتها وارتفاع الحجابات والنسب جميعاً، وهذا الكشف هو غاية السالك الأصلية، فيرى الخلق عين الخالق بنور البصيرة، كما يرى الحق عين الخلق". ويقول مؤلف كتاب (تعليم الإسلام): "هناك مسألة في التصوف دقيقة جداً، وهي مسألة وحدة الوجود، وهي تعني أن الموجود كله الله، ووجود ما سواه وهم وخيال، كما يخيل الحباب ماء والثلج ماء، كما يقول الشيخ جامي: ليس في الكائنات غيرك شيء، أنت شمس الضحى وغيرك فيء، والفيء هو الظل". ثم علق عليه المؤلف قائلاً: "فعلم من ذلك أن قولهم "لا موجود إلا الله" كلام صحيح". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص29 - 42   (1) رواه البخاري (1120) ومسلم (769) من حديث ابن عباس. (2) رواه البخاري (6316) ومسلم (763) من حديث ابن عباس. (3) (([14586] رواه مسلم (763). (4) رواه مسلم (763). (5) قال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (18/ 376): ليس هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف له إسناد صحيح ولا ضعيف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 455 المبحث الثاني التأويل لصفات الله إن العلامة المحدث الفقيه خليل أحمد السهارنفوري أحد كبار أئمة الديوبندية (1346هـ) ومؤلف (بذل المجهود شرح سنن أبي داود) قد ألف كتابا يعد أهم كتب الديوبندية في العقيدة على الإطلاق وعليه توقيعات وتقريظات لخمسة وستين عالما من كبار العلماء الديوبندية وغيرهم والكتاب مطبوع بعنوان (المهند على المفند) باللغة العربية وقد ترجم قريبا إلى اللغة الأردية أيضا .... ومما قال في هذا الكتاب إنا بحمد الله ومشايخنا وجميع طوائفنا ... متبعون لأبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني- 3/ 304 سئل الشيخ السهارنفوري: "ما قولكم في أمثال قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] هل تجوّزون إثبات جهة ومكان للباري تعالى أم كيف رأيكم فيه؟ ". فأجاب عليه بقوله: "قولنا في أمثال تلك الآيات أنّا نؤمن بها ولا يقال كيف، ونؤمن بالله سبحانه وتعالى متعال ومنزه عن صفات المخلوقين وعن سمات النقص والحدوث كما هو رأي قدمائنا، وأما ما قال المتأخرون من أئمتنا في تلك الآيات يأولونها بتأويلات صحيحة سائغة في اللغة والشرع أنه يمكن أن يكون المراد من الإستواء الاستيلاء ومن اليد القدرة إلى غير ذلك تقريباً إلى أفهام القاصرين فحق أيضاً عندنا، وأما الجهة والمكان فلا يجوز إثباتهما له تعالى ونقول إنه تعالى منزه ومتعال عنهما ومن جميع سمات الحدوث". وقال الشيخ أنور شاه الكشميري ما نصه: "الأسماء الحسنى عبارة عن الإضافات عند الأشاعرة أما عند الماتريدية فكلها مندرجة في صفة التكوين". وهذه المسألة هي التي أشار إليها الشيخ حسين أحمد المدني بقوله: - وهو يفترى على أتباع الشيخ محمد بن عبدالوهاب بأسلوبه الخاص - "إن الطائفة الوهابية تثبت الجهة والاستواء الظاهري في آية: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] وغيرها من الآيات في هذا الموضوع، ما يؤدي إلى التجسيم، وأما أكابرنا الأجلاء ففي مثل هذه الآيات والأحاديث إما يتوقفون فيها عن التجسيم وسمات الحدوث كالسلف الصالح، وإما يؤولونها بتأويلات سائغة كالخلف". ويقول ملا علي القاري الحنفي في شرح الفقه الأكبر: "وأما علوه تعالى على خلقه المستفاد من نحو قوله تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18] فعلو مكانة ومرتبة، لا علو مكان، كما هو مقرر عند أهل السنة والجماعة، بل وسائر طوائف الإسلام من المعتزلة والخوارج وسائر أهل البدعة إلا طائفة من المجسمة وجهلة من الحنابلة القائلين بالجهة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ... " هذا ويقول الشيخ محمود الحسن - الملقب بشيخ الهند لدى طائفته في ترجمته لقوله تعالى: وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:115] الآية، ما معناه: "فأينما تولوا وجوهكم فالله متوجه هناك ... " ويقول الشيخ شبير أحمد العثماني في تفسيره للآية المذكورة ما ترجمته: "هذا مما اختلف فيه اليهود والنصارى، فكان كل واحد منهما يفضّل قبلته على قبلة الآخر، فقال تعالى: إن الله ليس مختصّاً بجانب، وإنما هو منزّه من كل مكان ومن كل جهة، إلا أنه متوجه في أي مكان تولون وجوهكم نحوه بأمره تعالى، ويقبل منكم عبادتكم. المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 241 - 243 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 456 المطلب الأول: الاستغاثة بأرواح الأحياء والأموات عقيدة الاستغاثة والاستعانة بالأموات من أكبر عقائد الديوبندية. وإليكم نص ما قاله شبير أحمد العثماني (1369هـ)؛ قال في تفسير قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] ) علم من هذه الآية الشريفة: أنه لا يجوز الاستمداد في الحقيقة من غير الله، ولكن إذا جعل شخص مقبول واسطة لرحمة الله، وطلب منه العون على اعتقاد أنه غير مستقل في الإعانة، فهذا جائز؛ لأن هذه الاستعانة بهذا الولي في الحقيقة استعانة بالله تعالى (. وقالوا إن الاستمداد من أرواح الأموات هو عقيدة جميع أهل السنة بدليل أن الله تعالى قد سخر الملائكة لإعانة خلقه ومددهم. قلت: هذا الذي قاله هؤلاء الديوبندية هو اعتقاد جميع القبورية في استغاثتهم بالأموات. والاستعانة منهم عند إلمام الملمات فكلهم يقولون: إننا لا نستغيث بالأولياء على اعتقاد أنهم مستقلون بالنفع والضر؛ بل إن الله تعالى جعلهم وسيلة وواسطة بينه وبين عباده لقضاء حوائجهم. وقالوا: لا يتحقق الشرك إلا إذا اعتقد أحد فيهم الاستقلال بالنفع والضر والقدرة دون العطاء من الله تعالى. وقد أبطلت هذه العقيدة بكلام علماء الحنفية بحمد الله وبينت على لسان علماء الحنفية: أن المشركين السابقين أيضاً لم يعتقدوا في آلهتهم القدرة الذاتية والاستقلال بالنفع والضر وإنما كان شركهم شرك الشفاعة والواسطة والتوسل. فكلام الديوبندية وغيرهم من القبورية لا يختلف عن كلام المشركين السابقين. المصدر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية لشمس الدين السلفي الأفغاني-2/ 787، 788 يقول الشيخ مناظر أحسن الكيلاني: "فلسنا ننكر الاستغاثة بأرواح المشايخ". وقال الشيخ نجم الدين الديوبندي: "إن علماء ديوبند لا يقولون إن الإنسان لا يتصرف البتة في حياته أو بعد مماته". وتزيد هذه العقيدة إيضاحاً القصة التالية: "حكى الشيخ أشرف علي التانوي عن الشيخ نظام الدين عن الشيخ عبدالله هراتي قال حدثنا الولائتي وهو ثقة أن صديقاً له وكان من المبايعين على يد الشيخ إمداد الله المكي. سافر للحج راكباً في سفينة (باخرة). فاصطدمت بصخرة وكادت أن تغرق أو تصدم مرة أخرى فتنكسر قطعاً، فأيقن بالهلاك ويئس من النجاة وفي هذه الحالة توجه نحو الشيخ والتمس منه العون قائلاً: أية ساعة أحرى أن تغيثني فيها من هذه الساعة، والله سميع بصير ومدبر مطلق، فخرجت السفينة سالمة ونجا ركابها؛ هذا ما حصل في السفينة. وأما ما حصل في بيت الشيخ، فإنه في اليوم التالي أمر خادمه أن يكبس ظهره لألم فيه شديد، فرفع الخادم قميص الشيخ وهو يكبس ظهره، فإذا فيه خداش وجلده منخرق من مواضع عديدة، فسأل الخادم عن سبب خداش ظهره وإصابة جلده فقال الشيخ: ليس بشيء، فأعاد عليه السؤال فلم يجب الشيخ، فقال الخادم: يا سيدي إنك لم تخرج من بيتك ولم تذهب إلى مكان فكيف خدش ظهرك؟. فلما رآه ملحاً أجاب الشيخ قائلاً: إن باخرة كادت أن تغرق وفيها أخ لك في الدين والسلسلة وأقلقني تضرعه، فرفعت الباخرة على ظهري حتى جرت سالمة ونجا عباد الله، فلعل هذا الخداش من أثره، ولذلك أحس بالألم، ولكن لا تخبر بهذه القصة أحداً". وهناك قصة أخرى في هذا الموضوع، قريبة من القصة المذكورة أعلاه، ما ملخصها: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 457 "روى الشيخ أشرف على التانوي عن الحافظ عبدالقادر التانوي عن الشيخ محمد قدس سره - يقول: ركبنا في الباخرة إلى الحج، فجاءها الطوفان، واستمر أياماً، حتى وقعت الباخرة في الخطر، وكادت أن تغرق، فنادى القبطان بأعلى صوته: الآن وقت الدعاء، فليدعوا الله سبحانه - فجلست أنا في المراقبة، وطرأت عليّ كيفية خاصة، وعرفت أن الباخرة قد حمل إحدى جناحيها الحافظ محمد ضامن على كتفه والأخرى الحاج المكي على كتفه، حتى جعلاها مستوية على الماء، تجرى بالسلامة؛ وفرح الناس فرحاً شديداً. وأما أنا فقد سجلت في دفتري هذه القصة بالوقت واليوم والتاريخ والشهر، ولما رجعت من سفري هذا إلى قرية "تهانة" رأيت ما كنت قد سجلت في دفتري، وسالت بعض الناس، فأخبرني "قدرت علي الفنجابي" وكان من خدام الشيخ إمداد الله المكي، وقال: في ذلك الوقت أنا كنت حاضراً في خدمة الشيخ، إذ خرج الشيخ من حجرته ودفع إليّ إزاره، وهو مبتل، وقال: اغسله بماء البئر ونظفه؛ فلما شممته وجدت فيه رائحة ماء البحر ودسومته، ثم خرج الحافظ ضامن علي من حجرته ودفع إليّ إزاره، وفيه أيضاً أثر ماء البحر". ومما يتعلق بهذا الموضوع هو ما قاله الشيخ شبير أحمد العثماني في تفسيره لقوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] الآية، ما معناه: "علم من هذه الآية الشريفة أنه لا تجوز الاستعانة حقيقة إلا بذات الله سبحانه، إلا إذا كان العبد مقبولاً (مقرّباً) وجعلته واسطة محضة وغير مستقلة لحصول الرحمة الإلهية واستعنت به استعانة ظاهرة، فهذا جائز، لأنه في واقع الأمر هي استعانة بذات الحق سبحانه". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص69 - 72 يقول الشيخ مناظر أحسن الكيلاني ما معناه: "إن رأي علماء ديوبند في الاستغاثة بأرواح الصالحين بعد مماتهم لا يختلف عن رأي عامة أهل السنة والجماعة، وذلك لأن الله تعالى يقيض ملائكته لنصر عباده، كما ورد في القرآن، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعانه موسى عليه السلام في تخفيف الصلاة، وبشره الأنبياء الآخرون، فما المانع من أن تستعمل القدرة الإلهية هذه الأرواح الطيبة وتقيضها لإغاثة المؤمن المضطرب، أيّةُ آية تنكر ذلك وأي حديث يرد عليه". هذا وقد نقل مؤلف كتاب (انكشاف) قصصاً وعبارات من إحياء علوم الدين "للغزالي، ثم علق عليها قائلاً: "فمن خلال هذه النقول يمكنك أن تصل إلى هذه النتيجة جيداًَ، بأن أرواح الصالحين مختارة بأمر من الله إلى حد كبير". وقال في موضع آخر: "إن ولاية الصالحين وكراماتهم باقية، ومستمرة بإذن الله حتى وبعد وفاتهم، وحسبك في هذا الصدد أن تعلم أن أرواح الصالحين متمكنة من العودة إلى الدنيا وإغاثة الآخرين بإذن الله". ويقول الشيخ أخلاق حسين القاسمي: "إن أرواح المؤمنين وخاصة أرواح الأولياء والصالحين قادرة على التصرف في هذا الكون بعد مفارقة الأجساد، ويحصل هذا التصرف تبعاً لسنن الله تعالى. وفي الفتاوى الإمدادية: "إن الاستعانة بأرواح المشايخ أمر ثابت عند صاحب كشف الأرواح". وبعد هذه النقول نقدم أمام القارىء قصتين من القصص المذكورة في مؤلفات علماء هذه الطائفة، الموثوق بها لديهم، وبهاتين القصتين تزداد معتقدات هذه الطائفة وضوحاً وبياناً. يقول مؤلف "سوائح قاسمي": الجزء: 8 ¦ الصفحة: 458 "اتفق عالم بريلوي وطالب ديوبندي على مناظرة بينهما. لم يوافق الطالب الديوبندي على المناظرة إلا خائفاً. واتفقا على موضوع المناظرة والمكان الذي تعقد فيه، فلما حان ميقاتها جاء عالم البريلوية وعلى رأسه عمامة كبيرة ومعه أحمال من الكتب وجماعة كبيرة من أعوانه ومريديه. وكان الطالب الديوبندي نحيف الجسد منحنى القامة، خفيف الصوت، والمسكنة بادية على مظهره وملبسه، حضر المجلس وهو خائف يرتعد. وجلس أمام المناظر البريلوي متوكلا على الله؛ وبقية القصة جديرة بأن نسمعها من صاحب القصة نفسه فلندعه يحدث بها، قال: جلست أمام عالم البريلوية ولم نخض في الكلام حتى أحسست بجنبي رجلاً لم أكن أعرفه فإذا هو يقول: ابدأ ولا تخف، فتقوى جأشي وجعل لساني ينطلق بكلمات لا أعرفها، حاول العالم البريلوي أن يرد على كلامي أول الأمر ثم لم يلبث حتى قام من مجلسه ووضع رأسه عند قدمي، انحلت عمامته فقال ودموعه تسيل على خديه، يا سيدي لم أكن أعرف علو كعبك وسمو مكانتك في العلم، سامحني لله، قولك هو الحق، وكنت على خطأ، واعترت الجماهير الحضور حيرة إذ فوجئوا بما لم يخطر ببالهم، ثم قال الديوبندي: إن الرجل القادم غاب فجأة كما كان ظهر فجأة، فلم أعرف الرجل ولم أعرف قصته، وعظمت منزلة الديوبندي عند أهل القرية ونال من التوقير والإكرام ما لم يكن ينال من قبل". قال شيخ الهند (محمود الحسن الديوبندي) سألت ذاك المناظر الديوبندي عن هذا الذي أتاه فجأة وغاب فجأة، فوصفه فإذا هو يصف شيخنا وصفاً دقيقاً كأني أنظر إلى وجه الشيخ بأم عيني. فقلت له: إنه كان شيخنا النانوتوي (ظهر بإذن الله ليكون ظهيراً لك). وذكر الخواجة عزيز الحسن المجذوب في كتابه (قصة وفاة محمد فريد) جد الشيخ أشرف علي التانوي، وأنه دخل بيته بعد وفاته وأعطى زوجته حلاوةّ، وإليك القصة بتمامها: يقول المؤلف: "خرج حضرته (أي محمد فريد) في موكب زواج، وبينما هم في الطريق إذ هجم عليهم طائفة من قطاع الطريق، وكان مع الشيخ قوس وسهام، فرماهم بها بكل شجاعة، ولكن قطاع الطريق كانوا كثيري العَدد والعُدد، وهؤلاء في قلة، فاستشهد المذكور في هذه المعركة. وبعد استشهاده حدثت واقعة عجيبة، فإنه دخل بيته ليلاً، مثل الأحياء، وأعطى زوجته حلاوة وقال: أنا أزوركم كل يوم هكذا، إذا لم تظهري هذا على أحد، ولكن خشي أهل البيت أن يظن الناس بهم سوءاً حينما يرون الأولاد يأكلون الحلاوة، فأباحت بالسر، ولم يرجع الشيخ بعد ذلك اليوم، وهذه القصة مشتهرة بين أفراد هذه الأسرة". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 77 - 81 يقول الشيخ أشرف علي التانوي: "أحلف بالله أنه ما ذهب أحد إلى قبره الشريف - صلى الله عليه وسلم- إلا جبر كسره، وتلافي نقصانه، وما لاذ به لائذ إلا رجع آمناً وما خاب رجاءه. وما حضر عند قبره الشريف عائل فقير إلا قضيت حوائجه، وما دعاه محزون عند حادثة نزلت به إلى أجابه العون والتيسير منه صلى الله عليه وسلم". ويقول الشيخ الحاج إمداد الله في قصيدة له يمدح بها شيخه، ما معناه: "أنت يا سيدي؛ نور محمد - صلى الله عليه وسلم- وخاصته ونائبه في الهند، وأنت المعين، فلا ينبغي لإمداد الله أن يخاف شيئاً بعد هذا، وهذه الأحاديث المليئة بالحب، التي ترتجف لها الأطراف. ويا سيدي؛ نور محمد - صلى الله عليه وسلم- هذا أوان الإغاثة وليس في الدنيا من نعتمد عليه سواك، ولا من نلتجي إليه غيرك، وحتى يوم القيامة أقول على ملأ من الناس آخذاً بأذيالك: يا سيدي نور محمد - صلى الله عليه وسلم- هذا أوان إغاثتك إيانا" هذا، وفي مقالات الكوثري: "يجوز النداء للرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لتفريج الكربات، وأنه عمل متوارث بين الصحابة رضي الله عنهم". كما يجوز النداء له صلى الله عليه وسلم في غيبته. ويقول الشيخ حسين أحمد المدني وهو يرد على أتباع الشيخ محمد بن عبدالوهاب: "الوهابية النجدية يعتقدون وينادون على مرأى ومسمع إن القول: "يا رسول الله" استعانة بغير الله وهذا شرك". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص121، 122 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 459 المطلب الثاني: المراقبة عند القبور العكوف والمراقبة إلى القبور من سمات أكابر علماء الديوبندية. فقد ذهب الشيخ خليل أحمد السهارنفوري (1346هـ) مؤلف (المهند على المفند)، و (بذل المجهود)، وأحد كبار أئمة الديوبندية بمرافقة الشيخ أشرف على التهانوي الملقب عند الديوبندية بحكيم الأمة الديوبندية (1362هـ) إلى ضريح الخواجة معين الدين الأجميري إمام الصوفية الجشتية (627هـ) وبمجرد وصوله إلى قبره جلس إلى القبر مراقباً، واستغرق في المراقبة إلى حد لم يشعر بما جرى وبما يجري، والناس كانوا يسجدون إلى القبر ويطوفون به ويرتكبون أنواعاً من الشرك. قلت: مع هذا الشرك البواح لم تتمعر جباه هؤلاء الأئمة، ولم ينكروا على هؤلاء الوثنية الذين جعلوا هذا القبر وثناً يعبدونه من دون الله بكلمة واحدة؛ بل جلس هذا الإمام للمراقبة إلى القبر لأن هذا كان يهمه وقد فعل! وقد صرح الشيخ رشيد أحمد الجنجوهي (1323هـ) الإمام الثاني للديوبندية بأن الشيخ الحاج (أظنه إمداد الله 1317هـ شيخ الديوبندية) قد جلس مراقباً إلى قبر الحضرة قلندر إلى آخر القصة التي فيها عبرة ونكال. ومن العجب العجاب أن أئمة الديوبندية قد يذكرون هذه الأساطير الوثنية بدون أي إنكار على أنها وحي من السماء؟! بل يعدونها من أعظم المناقب وأكبر الكرامات سبحان قاسم العقول!!! وكل هذا من آفة التصوف والجهل بحقيقة توحيد الأنبياء والمرسلين. ومن ذلك كله يقول الديوبندية إن أئمتنا جمعوا بين الشريعة والطريقة وجعلوا الطريقة خادمة للشريعة، وأخذوا لب التصوف وتركوا قشره، ونظفوا التصوف من كل باطل وخرافة، وأخذوا التصوف النقي الطاهر المصدر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية لشمس الدين السلفي الأفغاني-2/ 788 - 790 وذكر الشيخ محمد الثاني الحسني في كتابه (سيرة محمد يوسف): "إن الشيخ محمد إلياس كان يجلس في أكثر الأحيان خلف قبر عبدالقدوس الكنكوهي - رئيس الطريقة الجشتية الصابرية- وكان يجلس في الخلوة قرب قبر نور سعيد البدايوني، ويصلي بالجماعة هناك". كما ذكر محمد أسلم الباكستاني عن سردار محمد الباكستاني أنه قال: "ضللت في جماعة التبليغ عشر سنوات تقريباً، وكثيراً ما ذهبت مع الشيخ محمد يوسف الدهلوي أمير جماعة التبليغ في ذلك الوقت قريباً من نصف الليل إلى قبر محمد إلياس في محلة نظام الدين مقر الجماعة بدهلي، فكنا نجلس حول قبره وقتاً طويلاً في حالة المراقبة، ساتري الرؤوس". قال: "وكان الشيخ محمد يوسف يقول: إن صاحب هذا القبر شيخنا محمد إلياس يوزع النور الذي ينزل من السماء في قبره بين مريديه حسب قوة الارتباط والتعلق به. وكذلك كنا نجلس أيضاً على قبر الشيخ عبد الرحيم رأي فوري في هيئة المراقبة. وكان الشيخ محمد يوسف يجلس مراقباً عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم عدة ساعات خلال إقامته في المدينة المنورة". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص132، 133 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 460 المطلب الثالث: التبركات البدعية والشركية: عند الديوبندية- ولا سيما أئمتهم وأكابرهم- عجائب وغرائب من التبركات البدعية، كل ذلك من ظواهر الصوفية ومظاهر القبورية. وإليكم بعض النماذج من تلك التبركات البدعية التبرك بختم كتاب (إحياء علوم الدين) للغزالي (505هـ). قلت: هل يتبرك بكتاب صوفي قبوري خرافي؟! وللقبورية الصوفية شغف عظيم بهذا الكتاب، وهو مصحف من مصاحف الصوفية والقبورية جميعاً. وقد حكوا عن الإمام النووي رحمه الله تعالى (676) أنه قال: (كاد الإحياء أن يكون قرآناً). قلت: لم يحققوا ثبوت هذه المقالة عن النووي وما أظنها إلا كذباً عليه. التبرك بالمثنوي للرومي الحنفي (672هـ) إمام الصوفية المولوية. للديوبندية شغف بهذا المصحف وختمه والاحتفال به. وقد تهافت عليه القبورية الرومية والتركية والإيرانية والأفغانية والهندية تهافت الفراش على النار. وقد سماه القبورية: قرآناً بهلوياً (أي القرآن الفارسي). وقال الرومي نفسه في الثناء على كتابه (المثنوي) مضاهئاً به القرآن: (بأيدي سفرة كرام بررة، يمنعون أن لا يمسه إلا المطهرون، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ... ). التبركات بالحجرة النبوية والتبرك بالغلاف والتبرك بتمر المدينة النبوية والتبرك بنوى التمر والتبرك بتراب الحجرة الشريفة والتبرك بأقمشة المدينة وثيابها، بل التبرك بالزيت المحروق في الحجرة الشريفة والتبرك بإدخال الأطفال إلى الحجرة الشريفة. التبرك بقبر النبي صلى الله عليه وسلم وموضع جلوسه، وما مسته يده الشريفة، وما مرت عليه قدمه صلى الله عليه وسلم وكذا المنبر. المصدر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية لشمس الدين السلفي الأفغاني-2/ 799 - 801 يقول الشيخ أشرف على التانوي في كتابه ما ترجمته: "ذكر الشيخ معين الدين - أكبر أبناء الشيخ محمد يعقوب النانوتوي - كرامة ظهرت لأبيه بعد الوفاة، قال: انتشرت الحمى في قريتنا "نانوته" وجعل الناس يستشفون بتراب قبر الشيخ محمد يعقوب، فكل من أخذ شيئا من تربة قبره وعلقه بجسده اشتفى من الحمى، حتى ذهب الناس بالتراب كله، وقد قمت بإعادة التراب على القبر عدة مرات، وكلما أعدت التراب عليه أخذوه، حتى تعبت من كثرة إلقاء التراب على القبر، فذهبت إليه وقلت له: ما بال هذه الكرامة، جلبت علينا المشاكل، اسمع! إن اشتفى أحد بعد هذا فلن نعيد على قبرك تراباً وستبقى مستويا هكذا، يدوسك الناس بنعالهم، فلم يشتف أحد بعد ذلك اليوم، واشتهر هذا بين الناس كما كان قد اشتهر من قبل اشتفاء الناس به، فانتهى الناس من التقاط التراب من قبره". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص87، 88 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 461 المطلب الرابع: المغالاة في الرسول وأئمتهم والصالحين الفرع الأول: المغالاة في رسول الله أولا: اعتقاد أن نوره أول المخلوقات وخلق من أجله الأفلاكمشايخ الديوبندية يضاهئون قول البريلوية والقبورية، ويقولون إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق من نور الله سبحانه وتعالى وأنه أول الخلق، مستدلين على ذلك بروايات موضوعة، فقد أورد الشيخ أشرف على التانوي في كتابه حديثاً موضوعاً عن جابر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء قال: ((يا جابر إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله تعالى، وليس في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جن ولا إنس، فلما أراد الله أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأول حملة العرش ومن الثاني الكرسي ومن الثالث باقي الملائكة، ثم قسم الجزء الرابع إلى أربعة أجزاء، فخلق من الأول السموات ومن الثاني الأرضين والثالث الجنة والنار)) (1). ثم قال الشيخ التانوي بعد ذكره لهذا الحديث الموضوع: "ثبت بهذا الحديث أن النور المحمدي هو أول الخلق مطلقاً، وتحققت له الأولية الحقيقية". ثم ذكر الشيخ التانوي رواية أخرى، ولعلها أوهى من الأولى، ونصها:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى السماء فقال: أسألك بحق محمد إلا غفرت لي، فأوحى الله إليه ومن محمد، فقال: تبارك اسمك، لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك إذا فيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنه ليس أحد أعظم عندك قدراً ممن جعلت اسمه مع اسمك، فأوحى الله إليه يا آدم إنه آخر النبيين من ذريتك، ولولا هو ما خلقتك)) (2). وقال الشيخ حسين أحمد المدني في كتابه: "إن الوهابية يسيئون الأدب بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون ليس له علينا إلا فضيلة قليلة وليس له علينا حق ولا إحسان ولا يفيدنا شيئاً بعد موته، وتقول أكابر الوهابية: إن عصاي هذا أنفع لنا منه صلى الله عليه وسلم أذود بها الكلاب، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينفع شيئا".   (1) أورده العجلوني في ((كشف الخفاء)) (827) وعزاه إلى ((مصنف عبد الرزاق)) وليس الحديث في المصنف وزعم بعضهم أنه في القطعة المفقودة من المصنف وأنه وجدها وتبين كذبه وافتراؤه بما ليس هنا موضع بيانه، وعزاه أيضا اللكنوي في كتابه ((الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة)) (1/ 42) للمصنف أيضا وذكر أيضا أن الحديث ذكره القسطلاني في ((المواهب اللدنية))، وقال السيوطي في ((الحاوي في الفتاوي)) (1 - 479) " ليس له إسناد يعتمد عليه" (2) رواه الحاكم (2/ 672) والطبراني في ((الأوسط)) (6502) و ((الصغير)) (992)، والبيهقي في ((الدلائل)) (5/ 489) وابن عساكر (7/ 437) قال الحاكم صحيح الإسناد وتعقبه الذهبي فقال بل موضوع، وقال البيهقي: تفرد به عبد الرحمن بن أسلم من هذا الوجه عنه وهو ضعيف. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 256): فيه من لم أعرفهم. وقال ابن حجر في ((إتحاف المهرة)) (12/ 97): عبد الرحمن متفق على تضعيفه. وقال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (12): موضوع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 462 ثم ذكر المدني حب علماء ديوبند لرسول الله صلى الله عليه وسلم واحترامهم له واعتراف فضله وإحسانه عليه الصلاة والسلام، ثم قال:"هذا هو معنى ((لولاك لما خلقت الأفلاك)) (1) و ((أول ما خلق الله نوري)) (2) و ((أنا نبي الأنبياء)) (3) وغيرها من الأحاديث". فذكر المدني لهذه الروايات الواهية الموضوعة يدل على أنه يرى ما يراه الآخرون من طائفته بأن النور المحمدي هو أول الخلق وأن الدنيا ما خلقت إلا لأجله صلى الله عليه وسلم. ومما يتعلق بعقيدة الديوبندية في خلق الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه أول الخلق، هو ما قاله الشيخ شبير أحمد العثماني في تفسيره لقوله تعالى: وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:163] وفيما يلي ترجمته: "ذهب عامة المفسرين إلى أن المراد بهذه الآية هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أول المسلمين نظراً إلى الأمة المحمدية". ثم قال:"ولكن لما كان الرسول صلى الله عليه وسلم أول الأنبياء كما جاء عند الترمذي: ((كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد)) (4) الحديث، فما الريب في كونه صلى الله عليه وسلم أول المسلمين؟ ". وقال أيضا في تفسيره لقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب:7]، ما يلي: "قدّم الله تعالى ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على بقية أولى العزم من الرسل، مع أنه آخر الأنبياء ظهوراً في عالم الشهادة، وذلك لأنه أول الأنبياء منزلة، كما أنه أقدمهم وجوداً في عالم الغيب، كما ثبت في الحديث". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 188 - 192 ثانيا: اعتقاد علمه الغيب سئل الشيخ خليل أحمد السهارنفوري: "هل تقولون أن علم النبي عليه السلام مقتصر على أحكام الشريعة فقط أم أعطي علوماً متعلقة بالذات والصفات والأفعال للباري عز اسمه والأسرار الخفية والحكم الإلهية وغير ذلك مما لم يصل إلى سرادقات علمه أحد من الخلائق كائناً من كان"؟. فأجاب عليه بقوله: "نقول باللسان ونعتقد بالجنان أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق قاطبة بالعلوم المتعلقة بالذات والصفات والتشريعات من الأحكام العملية والحكم النظرية والحقائق الحقة والأسرار الخفية وغيرها من العلوم، ما لم يصل إلى سرادقات ساحته أحد من الخلائق، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولقد أعطى علم الأولين والآخرين، وكان فضل الله عليه عظيماً". ويقول الشيخ حسين أحمد المدني في كتابه وهو يذم الوهابية ويطعن فيهم:   (1) أورده الصغاني في ((موضوعاته)) (52) وكذلك الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (282) وقال موضوع، وقال اللكنوي في ((الأسرار المرفوعة في الأحاديث الموضوعة)) (1/ 44) قال علي القاري في ((تذكرة الموضوعات)) (2) حديث: (لولاك لما خلقت الأفلاك). قال العسقلاني موضوع كذا في ((الخلاصة)).أ. هـ (2) قال اللكنوي في ((الآثار المرفوعة في الأحاديث الموضوعة)) (1/ 43) لم يثبت بهذا المبنى ونقل عن السيوطي قوله عنه أنه لم يرد بهذا اللفظ وقال الألباني أنه باطل كما في ((السلسلة الصحيحة)) (1/ 820). (3) لم نجده (4) رواه أحمد (5/ 59) (20615) والحاكم (2/ 665) (4209) من حديث ميسرة الفجر ورواه الترمذي (3609) من حديث أبي هريرة. بلفظ (متى وجبت لك النبوة قال: .. ) وقال الحاكم صحيح الإسناد وقال الذهبي صحيح وقال الترمذي حسن صحيح غريب من حديث أبي هريرة لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وصححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (/ 1856) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 463 "يعتقد الوهابية أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه مقتصر على أحكام الشريعة فقط، وليس له أي نصيب من العلوم الباطنية والأسرار الحقيقية، وأما أكابرنا فيرون أنه صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق قاطبة بعلوم الأحكام والشرائع وبالعلوم المتعلقة بالذات والصفات والأفعال للباري عز اسمه، وبالأسرار الكونية الحقة وغيرها من العلوم، بحيث لم يصل إلى سرادقات ساحته أحد من الخلائق، ولقد أعطي علوم الأولين والآخرين، لا يساويه في ذلك أحد، لا بشر ولا ملك مقرب فضلاً عن أن يكون أفضل منه ... ". وقال الشيخ شبير أحمد العثماني في تفسيره لقوله تعالى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143] الآية، ما معناه: " ... وكما جاء في الأحاديث أن الكفار من الأمم السابقة حينما يكذبون رسلهم ويقولون بأنه ما جاءنا في الدنيا رسول يهدينا إلى الصراط المستقيم، فحينئذ تقوم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وتشهد على صدق الأنبياء، ويكون الرسول صلى الله عليه وسلم شهيداً على صدق أمته وعدالتهم، الذي هو مطلع على أحوال أمته جميعاً ... ". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 165 - 167 ثالثا: اعتقاد أنه حي حياة دنيوية في قبره عامة الديوبندية يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة دنيوية بجسده العنصري لا حياة برزخية وأنه صلى الله عليه وسلم يصلي في قبره بأذان وإقامة وأن خروجه صلى الله عليه وسلم من الدنيا انعزال كانعزال المعتكف أربعين يوما مثلا ولذلك لا يجوز لأحد نكاح أزواجه صلى الله عليه وسلم المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني- 3/ 305 يعتقد علماء ديوبند في هذه المسألة ما يخالف معتقد أهل السنة، حيث يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة دنيوية، ويذكرون في هذا الصدد بعض القصص التي حصلت لأكابرهم عن طريق الكشف والكرامة. قال القاضي مظهر حسين الديوبندي: "إن الأنبياء عليهم السلام أحياء في قبورهم، يسمعون تسليم الزوّار، ولا يحول التراب والجدران دون السماع، وقد أجمعت الأمة على هذه العقيدة". وقال الشيخ خليل أحمد السهارنفوري وهو يجيب على سؤال في موضوع حياة النبي صلى الله عليه وسلم في قبره، وفيما يلي نصه: "عندنا وعند مشائخنا حضرة الرسالة صلى الله عليه وسلم حي في قبره الشريف وحياته صلى الله عليه وسلم دنيوية من غير تكليف وهي مختصة به صلى الله عليه وسلم وبجميع الأنبياء صلوات الله عليهم والشهداء، لا برزخية، كما هي حاصلة لسائر المؤمنين بل لجميع الناس، كما نص عليه العلامة السيوطي في رسالته أنباء الأذكياء بحياة الأنبياء حيث قال قال الشيخ تقي الدين السبكي حياة الأنبياء والشهداء في القبر كحياتهم في الدنيا ويشهد له صلاة موسى عليه السلام في قبره، فإن الصلاة تستدعي جسداً حيًّا إلى آخر ما قال، فثبت بهذا أن حياته دنيوية برزخية لكونها في عالم البرزخ، ولشيخنا شمس الإسلام والدين محمد قاسم العلوم على المستفيدين قدس الله سره العزيز في هذا المبحث رسالة مستقلة دقيقة المأخذ بديعة المسلك لم ير مثلها، قد طبعت وشاعت في الناس واسمها "آب حيات" أي ماء الحياة". وقال أيضاً: "الرسول صلى الله عليه وسلم حي في قبره، يسمع تسليم من يسلم عليه من داخل المسجد، مهما خفض به صوته". وقال الشيخ أشرف على التانوي: "أما كون الرسول صلى الله عليه وسلم يسمع سلام المسلِّم من قريب، وإبلاغ الملائكة إياه من بعيد، بصفة دائمة مستمرة، فهو أمر ثابت". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 464 وقال الشيخ أنور شاه الكشميري:"الأنبياء أحياء، وإن كثيراً من الأعمال قد ثبتت في القبور، كالأذان عند الدارمي، وقراءة القرآن عند الترمذي (1) ". وقال أيضاً:"والأحاديث في سماع الأموات قد بلغت مبلغ التواتر وفي حديث صححه أبو عمر أن أحداً إذا سلم على الميت فإنه يرد عليه ويعرفه إن كان يعرفه في الدنيا (2)، .. (إلى أن قال) ولذا قلت بالسماع في الجملة، بقي القرآن فأمره صعب، قال تعالى: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [النمل:80] وقال: وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ [فاطر:22] وهو بظاهره يدل على النفي مطلقاً، فقيل بالفرق بين السماع والإسماع، والمنفي هو الثاني دون الأول، والمطلوب هو الأول دون الثاني". وفي موضوع آخر فقد صرح الشيخ أنور شاه الكشميري والشيخ شبير أحمد العثماني بأن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في قبره بأذان وإقامة". كما احتج الشيخ محمد قاسم النانوتوي والشيخ رشيد أحمد الكنكوهي والشيخ أشرف علي التانوي لإثبات هذه العقيدة الباطلة بأن تركة النبي صلى الله عليه وسلم لا تورث، وأن أزواجه لا يحللن لأحد بعده، فهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة عنصرية، لكنه انعزل عن الناس كما ينعزل المعتكف أربعين يوماً مثلاً ... ". هذا، وقد ذكر الشيخ أحمد حسين الديوبندي قصة 3 لشيخ حسين أحمد المدني فقال: "جلس الشيخ المدني يدرس في المسجد النبوي عند باب الرحمة، مستقبلاً بوجهه إلى الشبابيك، وكان في الطلاب من يشك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فرفع هذا الطالب بصره نحو الحجرة الشريفة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، ولا قبة هناك ولا شبابيك، فأراد الطالب أن يلفّت أنظار زملائه إليه فمنعه الشيخ من ذلك، ثم رفع الطالب بصره مرة أخرى نحو الحجرة فإذا كل شيء قد رجع إلى حاله". كما ذكر الشيخ محمد زكريا - شيخ جماعة التبليغ - القصة التالية: "إن الشيخ أحمد الرفاعي لما جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم قام مقابل القبر الأطهر وأنشد هذين البيتين: وفي حالة البعد روحي كنت أرسلها ... تقبل الأرض عني وهي نائبتي وهذه دولة الأشباح قد حضرت ... فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من قبره فقبّلها الرفاعي، وقد شاهد هذه القصة جمعاً يقارب (90000) شخص، ومنهم المحبوب السبحاني القطب الرباني الشيخ عبدالقادر الجيلاني، وكلهم شرفوا بزيارة يده صلى الله عليه وسلم".   (1) الترمذي (2890) من حديث ابن عباس ولفظه: قال: ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر فإذا فيه إنسان يقرأ سورة تبارك الذي بيده الملك حتى ختمها فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا فيه إنسان يقرأ سورة تبارك الملك حتى ختمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (6/ 36): صحيح. وقال الألباني في ((ضعيف الترمذي)): ضعيف، وإنما صح منه قوله هي المانعة (2) رواه ابن عبد البر في ((الاستذكار)) (1/ 185) عن ابن عباس مرفوعا (ما من أحد مر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام) قال الأشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (345): إسناده صحيح. وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (3/ 305): صحيح. ورواه البيهقي في ((الشعب)) (8857) من حديث أبي هريرة وقد ضعفه الألباني بالطريقين في الضعيفة (4493) وقال ابن رجب في ((أهوال القبور)) (فصل: معرفة الموتى بمن يزورهم ويسلم عليهم) غريب بل منكر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 465 ولم يقف علماء ديوبند عند هذا الحد، بل ذهبوا إلى أن الشهداء أيضاً أحياء حياة دنيوية في قبورهم، فقد حكى الشيخ أشرف على التانوي قصة ما ملخصها: "إ‘ن رجلاً من أصحاب القبر زار قبر الحافظ، فلما انتهى من قراءة الفاتحة عليه، قال: إن في صاحب القبر مداعبة، فإني لما بدأت في قراءة الفاتحة عليه قال لي: لماذا جئت تقرأ الفاتحة على الأحياء، اذهب وأقرأها على ميت من الأموات، فسأل الناس عن صاحب هذا القبر فأخبروه أنه مات شهيداً في سبيل الله". هذه نبذة مما يحكيه مشايخ الديوبندية وعلماؤها، ويعتقد به عامتهم اعتقاداً لا يترك لهم مجالاًُ حتى يسألوا مشايخهم كيف علم المقبور بمجيء أحد إلى قبره للزيارة وقراءة الفاتحة عليه، والقرآن يقول: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:21]. ملحوظة مهمة: ولا يخفى على القارئ أن مسألة حياة النبي صلى الله عليه وسلم من أهم المسائل التي اختلف عليها علماء أهل الحديث وعلماء الطائفة الديوبندية في شبه القارة الهندية قديماً وحديثاً، وهي التي أشار إليها الشيخ حسين أحمد المدني الملقب بشيخ الإسلام لدى طائفته، بقوله: "يعتقد النجدي وأتباعه أن حياة الأنبياء عليهم السلام كانت فقط إلى العصر الذي عاشوه في الدنيا، وأما بعد مماتهم فهم وعامة المؤمنين سواء في الموت، وأنه ليس لهم حياة بعد الموت إلا الحياة البرزخية التي ثبتت لجميع أفراد الأمة، ويرى البعض منهم سلامة جسد النبي دون بقاء علاقته بالروح، كما نسمع منهم كلمات شنيعة في حياة النبي عليه السلام لا يجوز أن ننقل هذه الكلمات بلساننا، وكتبوا ذلك في كتبهم ورسائلهم، وأما أكابرنا فإن رسائلهم ومعتقداتهم تخالف كل ذلك، فقد ألف حضرة الشيخ النانوتوي كتاباً ضخماً في هذا الموضوع، والكتاب معروف لدى جميع الناس، أثبت فيه حياة النبي وذكر أدلة قوية لمذهب أهل الكنكوهي، قدس الله سره، أيضاً أيد ذلك وصرح به في كتابه (هداية الشيعة) و (رسالة الحج) وغيرها ومن أراد الإطلاع على هذه المسألة فليراجع (آب حيات) و (هدية الشيعة) و (أجوبة أربعين) و (اللطائف القاسمية) و (زبدة المناسك) وغيرها من الرسائل، وهذه مسألة خاصة خالفت الوهابية فيها علماء الحرمين، مما أدى الأمر عدة مرات إلى الجدل والنزاع". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 199 - 205 رابعا: اعتقاد أن زيارة قبره من أعظم القربات علماء ديوبند يرون زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم من أعظم القربات وقريبة من الواجب. يقول الشيخ خليل أحمد السهارنفوري في كتابه إجابةً على أسئلة وجهت إليه، وإليك نص السؤال والجواب: " (1) ما قولكم في شد الرحال إلى زيارة سيد الكائنات عليه أفضل الصلوات والتحيات وعلى آله وصحبه (2) أي الأمرين أحب إليكم وأفضل لدى أكابركم للزائر هو ينوي وقت الارتحال للزيارة زيارته عليه السلام أو ينوي المسجد أيضاً وقد قال الوهابية إن المسافر إلى المدينة لا ينوي إلا المسجد النبوي؟ ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 466 وأجاب عليه الشيخ السهارنفوري بما يلي:"عندنا وعند مشايخنا زيارة قبر سيد المرسلين (روحي فداه) من أعظم القربات وأهم المثوبات، وأنجح لنيل الدرجات بل قريبة من الواجبات، وإن كان حصوله بشد الرحال وبذل المهج والأموال، وينوي وقت الارتحال زيارته عليه ألف الف تحية وسلام وينوي معها زيارة مسجده صلى الله عليه وسلم وغيره من البقاع والمشاهد الشريفة بل الأولى ما قاله العلامة الهمام ابن الهمام أن يجرد النية لزيارة قبره عليه الصلاة والسلام ثم يحصل له إذا قدم زيارة المسجد لأن في ذلك زيادة تعظيمه وإجلاله صلى الله عليه وسلم ويوافقه قوله صلى الله عليه وسلم: ((من جاءني زائراً لا تحمله حاجة إلا زيارتي كان حقاً عليَّ أن أكون شفيعاً له يوم القيامة)) (1) وكذا نقل عن العارف السامي الملا جامي أنه أفرد الزيارة عن الحج وهو أقرب لمذهب المحبين، وأما ما قالت الوهابية من أن المسافر إلى المدينة المنورة على ساكنها ألف ألف تحية لا ينوي إلا المسجد الشريف استدلالاً بقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) (2) فمردود لأن الحديث لا يدل على المنع أصلاً بل لو تأمله ذو فهم ثاقب لعلم أنه بدلالة النص يدل على الجواز، فإن العلة التي استثنى بها المساجد الثلاثة من عموم المساجد والبقاع هو فضلها المختص بها، وهو مع الزيادة موجود في البقعة الشريفة، فإن البقعة الشريفة والرحبة المنيفة التي تضم أعضائه صلى الله عليه وسلم أفضل مطلقاً حتى من الكعبة ومن العرش والكرسي، كما صرح به فقهاؤنا رضي الله عنهم، لما استثنى المساجد لذلك الفضل الخاص فأولى ثم أولى أن يستثنى البقعة المباركة لذلك الفضل العام، وقد صرح بالمسألة كما ذكرناه بل بالبسط منها شيخنا العلامة شمس العاملين مولانا رشيد أحمد الكنكوهي قدس الله سره العزيز في رسالته "زبدة المناسك" في فضل زيارة المدينة المنورة وقد طبعت مراراً وأيضاً في هذا المبحث الشريف رسالة لشيخ مشائخنا مولانا المفتي صدر الدين الدهلوي قدس الله سره العزيز، أقام الطامة الكبرى على الوهابية ومن وافقهم وأتى ببراهين قاطعة وحجج ساطعة سماها (أحسن المقال في شرح حديث لا تشد الرحال)، طبعت واشتهرت، فليرجع إليها والله تعالى أعلم".   (1) رواه الطبراني (13149) وفي ((الأوسط)) (4546) قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 5): فيه مسلمة بن سالم وهو ضعيف. وقال ابن عبد الهادي في ((الصارم المنكي)) (93): ضعيف الإسناد، منكر المتن. وقال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (5732): ضعيف جدا. (2) (([14598] رواه البخاري (1189) ومسلم (1397) من حديث أبي هريرة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 467 ويقول الشيخ أنور شاه الكشميري في شرحه لصحيح البخاري حول حديث ((لا تشد الرحال)) ما نصه."قوله: ((لا تشد الرحال .. )) الخ وقد افتتن الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى لأجل هذا الحديث في الشام مرتين فحبس مرة مع تلميذه ابن القيم رحمه الله تعالى وأخرى وحده حتى توفي فيه، وكان من مذهبه أن السفر إلى المدينة لا يجوز بنية زيارة قبره صلى الله عليه وسلم لأجل هذا الحديث، نعم يستحب له بنية زيارة المسجد النبوي وهي من أعظم القربات، ثم إذا بلغ المدينة يستحب له زيارة قبره صلى الله عليه وسلم أيضاً لأنه يصير حينئذ من حوالي البلدة وزيارة قبورها مستحبة عنده، وناظره في تلك المسألة سراج الدين الهندي الحنفي وكان حسن التقرير فلما شرع في المناظرة جعل الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى يقطع كلام الهندي فقال له: ما أنت يا ابن تيمية إلا كالعصفور إلخ، وقال الشيخ ابن الهمام رحمه الله تعالى: إن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم مستحبة وقريب من الواجب، ولعله قال قريباً من الواجب نظراً إلى هذا النوع، وهو الحق عندي فإن آلاف الألوف من السلف كانوا يشدون رحالهم لزيارة النبي ويزعمونها من أعظم القربات، وتجريد نياتهم أنها كانت للمسجد دون الروضة المباركة باطل، بل كانوا ينوون زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً، وأحسن الأجوبة عندي أن الحديث لم يرد مسألة القبور، لما في المسند لأحمد رحمه الله تعالى ((لا تشد الرحال إلى مسجد ليصلى فيه إلا إلى ثلاثة مساجد)) (1)، فدل على أن نهي شد الرحال يقتصر على المساجد فقط ولا تعلق له بمسألة زيارة القبور، فجره إلى المقابر مع كونه في المساجد ليس بسديد، قال الشافعي (كذا) رحمه الله تعالى: بلغني أن الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى كان ينهى عن شد الرحال لها أما لو ذهب بدون الشد جاز، قلت: مذهبه النهي عن السفر مطلقا سواء كان بشد الرحال أو بدونه".   (1) لم أجده بهذا اللفظ وإنما رواه أحمد (6/ 397) (27273) بسنده عن أبي بصرة الغفاري قال: لقيت أبا هريرة وهو يسير إلى مسجد الطور ليصلي فيه قال فقلت له لو أدركتك قبل أن ترتحل ما ارتحلت قال فقال ولم قال فقلت إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي قال الألباني في ((الإرواء)) (4/ 142): إسناده حسن. وقال الأرنؤوط: صحيح. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 468 ويقول الشيخ حسين أحمد المدني في كتابه وهو يقارن بين أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه وبين علماء ديوبند في المعتقدات:"وتعتقد هذه الطائفة - أي الوهابية - بأن زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم والحضور عند ضريحه الشريف ومشاهدة روضته المطهرة بدعة محرمة، وأن السفر إليها بهذه النية محظور، ويستدلون على ذلك بـ (حديث) ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) (1)، وحتى يعتقد بعضهم- والعياذ بالله- أن سفر الزيارة بمنزلة الزنا. وإذا جاء هؤلاء إلى المسجد النبوي فلا يصلون ولا يسلمون على صاحب النبوة عليه الصلاة والسلام، ولا يدعون متوجهين إليه، وأما أكابرنا (أي أكابر ديوبند) فيخالفون هذه الطائفة الباغية في هذه المسألة من كل ناحية، ودائماً يسافرون لزيارته صلى الله عليه وسلم، خائفين من (حديث) ((من حج، ولم يزرني ... )) (2) وعاملين بـ (حديث) ((من رآني ... )). المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 213 - 218 يعاكسون سلف هذه الأمة وأئمة السنة في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: الزائر ينوي زيارة قبره صلى الله عليه وسلم ويجرد النية لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم وتكون زيارة مسجده صلى الله عليه وسلم تبعا؛ لأن في ذلك زيادة تعظيم وإجلال له صلى الله عليه وسلم وأما ما قالته الوهابية من أن الزائر ينوي زيارة المسجد وتكون زيارة القبور تبعا فمردود والمختار أن يستقبل الزائر قبره صلى الله عليه وسلم في الدعاء المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني- 3/ 305 خامسا: التوسل به وبالأنبياء والصالحين التوسل بالصالحين أحياء وأمواتاً، بل التوسل بأمثال ابن عربي الاتحادي الملحد الوجودي (638هـ) والشعراني الوثني (973هـ) من أعظم عقائد الديوبندية. وقد جعلوا مسلك التوسل بالأحياء والأموات من المسائل التي امتازت الديوبندية بها عن الوهابية. المصدر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية لشمس الدين السلفي الأفغاني-2/ 803 علماء ديوبند يرون جواز التوسل في الدعوات بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، وحتى بالأنبياء والصالحين بعد مماتهم. فيقول الشيخ خليل أحمد السهارنفوري في كتابه إجابة على بعض الأسئلة، وفيما يلي نص الأسئلة والأجوبة: "هل للرجل أن يتوسل في دعواته بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد الوفاة أم لا؟ ". "أيجوز التوسل عندكم بالسلف الصالحين من الأنبياء والصديقين والشهداء وأولياء رب العالمين أم لا". وأجاب عليه الشيخ السهارنفوري بقوله: "عندنا وعند مشائخنا يجوز التوسل في الدعوات بالأنبياء والصالحين من الأولياء والشهداء والصديقين في حياتهم وبعد وفاتهم بأن يقول في دعائه اللهم إني أتوسل إليك بفلان أن تجيب دعوتي وتقضى حاجتي إلى غير ذلك، كما صرح به شيخنا ومولانا الشاه محمد إسحاق الدهلوي ثم المهاجر المكي، ثم بينه في فتاواه شيخنا ومولانا رشيد أحمد الكنكوهي رحمة الله عليهما، وفي هذا الزمان شائعة مستفيضة بأيدي الناس، وهذا المسألة مذكورة على صفحة 93 من المجلد الأول منها فليرجع إليها من شاء". وقال محمد زاهد الكوثري، وهو يحرف ما ورد من نصوص التوسل والوسيلة في الكتاب والسنة إلى ما يلي:   (1) (([14600] رواه البخاري (1189) ومسلم (1397) من حديث أبي هريرة. (2) أخرجه ابن حبان في المجروحين (3/ 73) وابن عدي (7/ 14). قال الدارقطني في ((تعليقات على المجروحين)) (272) غير محفوظ عن النعمان بن شبل إلا من رواية ابن ابنه عنه، والطعن فيه عليه. وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (27/ 29): كذب. وقال الذهبي في ((ترتيب الموضوعات)) (185): وضع على مالك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 469 "إن التوسل لغة وشرعاً هو التوسل بذات الولي وشخصه في حضوره وغيبته وبعد موته، وبذلك جرت الأمة طبقة فطبقة، رغم كل مفترّ أفّاك". ويوضح معتقد هذه الطائفة في هذه المسألة أيضاً ما قاله الشيخ أنور شاه الكشميري في شرحه لأثر "وإنا نتوسل إليك بعم نبينا" ونصه:"قوله: (وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا فيسقون) (1). قلت: وهذا توسل فعلي، لأنه كان يقول له بعد ذلك: قم يا عباس فاستسق، فكان يستسقي لهم، فلم يثبت منه التوسل القولي، أي الاستسقاء بأسماء الصالحين فقط، بدون شركتهم. أقول: وعند الترمذي ((أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أعرابياً هذه الكلمات، وكان أعمى، اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ... ، إلى قوله: اللهم فشفعه في)) (2)، فثبت منه التوسل القولي أيضاً، وحينئذ إنكار الحافظ ابن تيمية تطاول. وهذه المسألة هي التي أشار إليها الشيخ حسين أحمد المدني في كتاب (الشهاب الثاقب) بقوله: "إن أكابرنا يتوسلون دائماً بالأنبياء الكرام والأولياء العظام، ويأمرون أتباعهم بذلك، والذي يحرّمه الوهابية كالشرك، وقد كتب الشيخ النانوتوي - رحمة الله عليه- قصيدة طويلة في توسل مشايخ السلسلة الجشتية الصابرية، وهي مطبوعة ضمن كتاب (إمداد السلوك) وغيره من الرسائل الأخرى". ثم ذكر الشيخ المدني أبياتاً من هذه القصيدة، وقال: "هل الوهابية يرون استعمال هذه الكلمات؟ ويتبين للذي يتمعن في هذه القصيدة أن هؤلاء الأكابر يخالفون ويعارضون عقائد الوهابية أشد المعارضة، فالوهابية لا يجوز عندهم التوسل بالأنبياء فضلاً عن الأولياء، ومن ثم فإن استعمال كلمة "بحق فلان" أكره عندهم من ذلك، بل لا يجوز عندهم مثل هذا المدح والثناء". وقال أيضاً: "وقد طبعت الوهابية عدة رسائل في هذا الموضوع، صرحوا فيها بمنع التوسل بالرسول عليه السلام وبالأولياء الكرام، ومن أراد أن يتأكد من ذلك فله أن يتأكد". كما سئل الشيخ السهارنفوري: "هل للداعي في المسجد النبوي أن يجعل وجهه إلى القبر المنيف ويسأل من المولى الجليل متوسلاً بنبيه الفخيم النبيل"؟. فأجاب عليه بقوله: "المختار أن يستقبل وقت الزيارة مما يلي وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم، وهو المأخوذ به عندنا وعليه عملنا وعمل مشائخنا، وهكذا الحكم في الدعاء، كما روى عن مالك رحمه الله تعالى لما سأله بعض الخلفاء، وقد صرح به مولانا الكنكوهي في رسالته زبدة المناسك، وأما مسائلة التوسل فقد مرت في نمرة نمبر 3، 4". ويقول الشيخ شبير أحمد العثماني في تفسيره لقوله تعالى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:14] الآية، ما معناه: "أي إن الله تعالى نجّى هذه الأمة من عذاب الدنيا بطفيل الرسول عليه الصلاة والسلام، وإلا لكان هذا الأمر يستحق العذاب". ويقول في تفسيره لقوله تعالى: قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا [الإسراء:100] الآية، ما يلي: " ... إن الخزائن الحاصلة بطفيل محمد صلى الله عليه وسلم لأتباعه لتحصل لهم وليجود بها الرسول وأتباعه على البشر، ولا يبخلون بها". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 223 - 228   (1) رواه البخاري (1010) من حديث عمر. (2) رواه الترمذي (3578) وابن ماجه (1385) من حديث عثمان بن حنيف، قال الترمذي: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وهو الخطمي. وقال ابن تيمية في ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (1/ 18) صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 470 الفرع الثاني: المغالاة في أئمتهم والصالحين أولا: اعتقاد تصرفهم في الكون 1 - اعتقاد طي الزمان والمكان لأئمتهم طائفة الديوبندية ترى وتعتقد في مشايخهم أنهم كانوا يطوون مسافات بعيدة خلال لحظات، وكانوا يزورون المسجد الحرام كل يوم، حال كونهم مقيمين بالهند، أو بأي مكان آخر بعيد من مكة المكرمة. حكى مؤلف "تذكرة الرشيد" عن الشيخ محمود حسن النكينوي قال: "أخبرتني حماتي (أي أمّ زوجتي) وقد أقامت بمكة اثنا عشر عاماً مع أبيها، وكانت تقية عابدة صالحة، وكانت تحفظ مئات الأحاديث عن ظهر القلب، فقالت: إن الشيخ الكنكوهي تلاميذه كثرٌ، ولكنه للأسف أنهم لم يعرفوه على كثرتهم، ففي الأيام التي أقمت بمكة كنت أرى الشيخ الكنكوهي يصلي الفجر كل يوم في الحرم الشريف، وأيضاً سمعت الناس يقولون: هذا الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي، يأتي كل يوم من قرية "كنكوه" (في الهند) ". وهناك قصة أخرى رواها الشيخ أشرف على التانوي عن الشيخ محمد إسماعيل عن الشيخ أحمد حسين قال: "وصلت إلى بيت الله، فلقيت رجلاً حكى لي عن نفسه فقال: ذهبت إلى المدينة وأقمت بها أياماً، فرأيت محمداً صلى الله عليه وسلم في الطواف، وأمرني أن أبايع على أيدي الأسرة الصابرية، فرجعت إلى مكة المكرمة وبايعت أحد المشايخ، امتثالاً لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكنتُ أحضر إلى حضرة الحاج رضي الله عنه، فقلت له يوماً، سمعت من بعض المشايخ أن هناك طريقاً لو سلكه أحد بعد صلاة الظهر يصلي العصر بالمدينة الطيبة، ثم يعود ويصلي المغرب بمكة، فقال الشيخ إمداد الله: أما أنا فلا أعرف هذا الطريق، فقلت له: إن كنت لا تعرف ذلك فما حاجة البقاء في مكة؟، ثم رجعت، وبعد أيام قال لي حضرة الحاج رضي الله عنه: هيا بنا نخرج للتنزه، وأخذ بيدي في يده المباركة، وصعد بي فوق جبل ونزلنا منه فإذا نحن بالمدينة، فصلينا هناك، ثم رجعنا وصلينا الصلاة الثالثة في مكة المكرمة". وسوف تتضح هذه المسألة أكثر بعد الإطلاع على ما قاله الشيخ أنور شاه الكشميري في شرحه لصحيح البخاري وهو يفسر قوله تعالى: وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا [الإسراء:55] وإليك النص بكامله، فلعلك تجد فيه بعض العجائب الأخرى: "باب "قوله: وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا [الإسراء:55] "- قوله: (فكان يقرأ قبل أن يفرغ) أي معجزة، وفي رواية: أنه كان يفرغ من قراءته فيما بين أن يضع قدميه في الركابين، وذكر السيوطي عن بعض الأولياء أنه كان يختم القرآن تسع مرات في يوم وليلة، وكان الشيخ السهروردي يفعله ستين مرة في يوم، ويحكى عن ثقة أن الشاه إسماعيل ختمه بعد العصر إلى الغروب مع ترتيل، وهو بين أيدي الناس، وعند الترمذي: ص183 في"كتاب الدعوات" أن عمر بن هانئ كان يصلي ألف سجدة كل يوم، ويسبح مائة ألف تسبيحة، وصنف ابن كثير رسالة في متعلقات القرآن، ووضع فيها فصلاً جمع فيه أسماء الذين ختموا القرآن في يوم وليلة، أو دونه، فالحكاية في مثله قد تواترت، بحيث لا يسوغ منها الإنكار، ولكن من يحرم عن الخير يجعل رزقه أنه يكذب بالكرامات، والبركات، ويزعمه مستحيلاً، ثم هذه المسألة تسمى عند الصوفية بطي الزمان، أما طي المكان، فهو مسلَّم بلا نكير، ففي "الفتوحات" أن الجوهري أجنب مرة، فذهب إلى نهر ليغتسل، فنعس فيه، فإذا هو يرى في المنام أنه دخل بغداد، وتزوج فيها امرأة، وولدت منه أولاداً، فإذا هب من نومه، رجع إلى بيته، ولم يمض بعد ذلك مدة، إذ جاءته امرأة من بغداد، تدعي إنه نكحها، وهؤلاء صبيان منه، ومر عليه العارف الجامي في "النفخات"، وأغمض عنه، وأنكره الشيخ المجدد، قلت: لا استحالة فيه، فهو من باب طيّ الزمان عندي". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 471 والعجب أن الشيخ الكشميري يحمل سفره صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج على ما عرف عند الصوفية بـ"طي الزمان" كما ذكر ذلك تلميذه فقال معلقاً على كلمة "طي الزمان" ما نصه: "وعليه حمل الشيخ سفره صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج. فيقول في قصيدته في الإسراء: أبدى له طي الزمان فعاقه رويدا عن الأحوال حتاه ما أجرى المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 102 - 105 2 - اعتقاد تصرف أئمتهم في الكون بالإحياء والإماته وغيرهما عقيدة الديوبندية في تصرف الأموات وتجسد الأرواح وتدمير الأعداء ونصر الأولياء: قال القاضي ثناء الله الباني بتي أحد كبار أعاظم أئمة الديوبندية الملقب عندهم ببيهقي الوقت (1225هـ) في تفسير قوله تعالى: بَلْ أَحْيَاء [البقرة:154]: (يعني أن الله يعطي لأرواحهم قوة الأجساد، فيذهبون من الأرض والسماء والجنة حيث يشاؤون؛ وينصرون أولياءهم ويدمرون أعداءهم). قلت: تدبر أيها المسلم إلى هذه الوثنية السافرة. ولقد استدل بكلام هذا القاضي ونقله الداجوي الديوبندي، وغيره. واحتج البريلوية على عقيدة الديوبندية بكلام إمامهم هذا إتماماً للحجة عليهم. هكذا عقيدة تصرف الأرواح وإتيانها إلى أبواب بيوتهم، وتصرفها في الإنسان الحي وغيره، من أوضح عقائد الديوبندية. تنبيه: لقد شن الفنجفيرية الغارة على هذا الداجوي لأجل هذه الخرافات. والفنجفيرية في ذلك على حق .. ولكن هذا الداجوي إنما تبع أئمته الديوبندية، فما بال الفنجفيرية يعظمون الباني بتي ويحكمون على الداجوي بأنه مشرك المصدر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية لشمس الدين السلفي الأفغاني-2/ 783، 784 أسطورة الكلب والولي صاحب الكرامة: قال الشيخ حكيم أمة الديوبندية عن شيخ الديوبندية إمداد الله (1317هـ) أنه قال: (كان الحضرة الجنيد البغدادي جالساً فمر كلب أمامه فوقع نظره عليه فصار الكلب صاحب الكمال إلى حد تبعته كلاب تلك المدينة، ثم جلس ذلك الكلب في مكان وجلست تلك الكلاب حوله كالحلقة وانشغلت كلها في المراقبة). قلت هذه حالة الكلب في الكمال والولاية والكرامة لأجل نظرة وقعت عليه من نظرات الجنيد، فما ظنك بإنسان وقعت عليه نظرة من نظراته؟ المصدر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية لشمس الدين السلفي الأفغاني-2/ 797 قول الديوبندية في قدرة الأولياء أحياء وأمواتاً ومددهم لزوارهم: قال الشيخ نصير الدين الغورغشتوي إمام الديوبندية في مناطق بشاور وأفغانستان (1388هـ): (إن للأولياء مدداً ظاهراً بالغًا لزوارهم بحسب أدبهم). قالوا إن للأولياء قدرة من الله تعالى إلى حد يستطيعون أن يقدروا على السهم المتدفق المرسل من القوس، فيردوه إلى القوس قبل أن يصل إلى الهدف، ويستطيعون أن يجعلوا قل (أي كن) بدل لا (لا تقل) (أي لا تكن) وأن هذا من الكرامات الحسية. قالوا إن شخصاً صاحب الكشف أراد زيارة قبر الحافظ محمد ضامن رحمة الله عليه ليقرأ عليه سورة الفاتحة فلما ذهب إلى قبره وقرأ عليه سورة الفاتحة قال لرفقته: إن هذا الولي مزَّاح عجيب إلى الغاية لأنني حينما كنت أقرأ عليه سورة الفاتحة قال لي: اذهب إلى ميت فاقرأ عليه الفاتحة ماذا تصنع ههنا؟ جئت لتقرأ الفاتحة على الأحياء! يعني: أن هذا الولي يقول: أنا حي لا حاجة لي أن تقرأ علي الفاتحة، اذهب إلى ميت فاقرأ عليه؟! قلت: انظر أيها المسلم إلى قدرة هذا الولي المقبور الحي في قبره؛ حيث إنه سمع سورة الفاتحة وعلم بالزائر ثم كلمه ذلك الكلام الذي فيه سخرية ومزاح، وإخباره بأنه حي لا يحتاج إلى الفاتحة، وأن الفاتحة لا تقرأ إلا علي ميت؟! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 472 ثم انظر إلى صاحب هذا الكشف الزائر وقدرته على سماع كلام المقبور مع أنه لم يرد السفر إلى زيارة القبور؛ كما أنه لم يرد قراءة الفاتحة عليها. ولكن كل ذلك من شؤم التصوف القبوري الذي يزعمون أنه نقي وتقي ولب خالص عن القشور. المصدر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية لشمس الدين السلفي الأفغاني-2/ 797 - 799 فيما يلي بعض القصص لأكابر ومشايخ ديوبند، والتي تدل - زعماً منهم- على أنهم كانوا يملكون الموت والحياة عن طريق الكرامة أو باستخدام قوة التصوف التي يملكونها. ذكر الخواجة عزيز الحسن المجذوب في كتابه: "إن الشيخ أحمد حسين- أحد تلاميذ الشيخ التانوي- دعا على رجل، فمات ذلك المدعو عليه من فوره، فلم يفرح أحمد حسين بهذه الكرامة، بل فزع للأمر، وكتب إلى شيخه التانوي يسأله هل عليَّ من إثم في ذلك؟ فأجابه الشيخ التانوي بقوله: إن كنت تملك قوة التصوف، واستخدمت هذه القوة في الدعاء على الشخص المذكور، كنت آثماً". وهناك قصة أخرى قريبة من القصة المذكورة حصلت من الشيخ محمد قاسم النانوتوي. وقد ذكرها الشيخ مناظر أحسن الكيلاني في كتابه حيث قال: "عُقد للشيخ محمد قاسم مجلس للوعظ في مدينة لكناؤ، فتآمر الروافض لإفشال هذا المجلس، ودعوا أربعة من مجتهديهم، ورتبوا لكل واحد منهم عشرة أسئلة، يوردونها على الشيخ واحداً تلو الآخر، وأجلسوهم في الزوايا الأربعة في المجلس، كل واحد في زاوية، فأجاب الشيخ محمد قاسم النانوتوي على جميع أسئلتهم مرتبة قبل أن يعرضوها عليه، فبهت الروافض وندموا على خيبة مؤامرتهم، ثم دبروا مكيدة أخرى للاستهزاء بالشيخ والضحك عليه، -يقول راوي القصة- فجاءت الروافض يطلبون من الشيخ أن يصلي على شاب منهم مات، فاعتذر الشيخ وقال: نحن من أهل السنة، وأنتم الشيعة، والخلاف قائم بيننا في الأصول والفروع، فكيف تجوّزن الاقتداء بمثلي؟ قالوا: نحن نحترمك ونرجو من حضرتك أن تصلي عليه، وكانوا قد دبروا مكيدة، والجنازة كانت مزورة، وكانوا قد قرروا فيما بينهم أن الشاب المتماوت سوف يقوم بعد التكبيرة الثانية، حتى يضحكوا على الشيخ، فذهب الشيخ إلى المصلى، وقام يُرى عليه آثار الغضب، فتقدم وكبّر ثم كبّر، ولما لم يتحرك الشاب بعد التكبيرة الثانية، كما قرروا فيما بينهم، قلقوا عليه، ونادوه ولكنه لم يكن ليقوم، فأتم الشيخ أربع تكبيرات وسلّم، ثم قال: إنه لن يقوم إلا يوم القيامة، فكشفوا عنه، فإذا هو قد مات، فجعلت الروافض يبكون ويدعون بالويلات ويضربون صدورهم ندماً وحسرة". وقال الشيخ أنور شاه الكشميري وهو يبين معتقده في إحياء الميت من الولي هل يمكن ذلك أم لا؟ ونصه: "وهل يمكن إحياء الميت من الولي أو لا؟ فكنت متردداً في ذلك حتى رأيت حكاية نقلها الشيخ عبدالغني النابلسي عن العارف الجامي رحمه الله تعالى أن رجلاً من الأغنياء اتخذ له طعاماً وطبخ دجاجة ميتة اختياراً له، ثم دعاه فجاء العارف الجامي وقال قم بإذن الله، فكان كما قال، إلا أني لا أعرف سنه، وهكذا نقل الشنطوفي ووثقه المحدثون عن الشيخ عبدالقادر حبلى رحمه الله أنه كان يذكر الناس إذ جاءت حدياً تصيح حتى شوشت على الشيخ كلامه فدعا عليها وقال: مالك قطع الله عنقك، فسقطت على الأرض ميتة من ساعتها، ثم إذا فرغ الشيخ عن الوعظ قام ورآها ميتة في فناء المسجد فسأل عنها فأخبر بها فقال بها قم بإذن الله فطارت، وهكذا جاء رجل في "بجنور فقطع عنق طائر حتى فصلها بين أعين الناس ثم ضمها فكانت كما كانت قبله". ويقول الشيخ بدر عالم الميرتي - تلميذ الشيخ الكشميري- في تعليقه على "فيض الباري" بصدد القصة التي نقلها الكشميري عن الشنطوفي عن الشيخ عبدالقادر، وفيما يلي نصه: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 473 "وسمعت من حضرة صاحب هذه الأمالي رحمه الله حكاية لطيفة أخرى أيضاً في هذا الصدد، وهي أن صبياً كان يشتغل بالاستفادة والتعلم عند بعض العرفاء، فزارته يوما أمه وبيده خبز شعير يأكله، ودخلت على الشيخ فرأت عنده دجاجة مشوية، فشكت إليه وقالت: تطعم ابني خبز الشعير وأنت تأكل هذه، فأشار الشيخ إلى الدجاج وقال قم بإذن الله، فقام حياً فتحيرت، فقال الشيخ، إذا وصل ابنك إلى هذه المنزلة فيأكل الدجاج، وأنا أيضاً كنت قبل ذلك أكل خبز الشعير كما هو يأكله الآن" ...... ويذكر مؤلف (البصائر) في كتابه: "وقد تواتر عن كثير من الأولياء أنهم ينصرون أولياءهم ويدمرون أعداءهم". ومما يتعلق بمعتقدات الديوبندية في موضوع التصوف هو ما قاله الشيخ شبير أحمد العثماني في "بلعم بن باعوراء" وذلك تفسيراً لقوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا [الأعراف:175] حيث قال: "ذهب معظم المفسرين إلى أن هذه الآيات نزلت في بلعم بن باعوراء الذي كان رجلاً عالماً درويشاً صاحب التصرف، ثم انسلخ من آيات الله ... إلخ". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص107 - 112 3 - اعتقاد قدرتهم على شفاء المرضى والمصابين يقول الشيخ محمد قاسم النانوتوي - مؤسس جامعة ديوبند-: "إن خواجة أحمد جامح كان مشهوراً مستجاب الدعوات، فجاءته امرأة بابن لها أعمى فقالت: امسح بوجهه وردَّ عليه بصره. قالت ذلك ثلاث مرات أو أربعاً. وكان هذا الولي يقول لها: "أنا لست أهلاً لذلك". فلما ألحت المرأة وأصرّت على طلبها - قام هذا الولي من مجلسه قائلاً: إن هذا الفعل يليق بعيسى عليه السلام، ولست أهلاً لذلك. فجاءه إلهام من الله وقال الله تعالى له: "من أنت؟ ومن عيسى؟ ومن موسى؟ ارجع وامسح وجه ابن هذه المرأة". وقال الله تعالى له أيضاً باللغة الفارسية: "ما ميكنم" فلما سمع هذا الولي قول الله تعالى: "ما ميكنم". بالفارسية حرف وصوت. رجع قائلاً: "ما ميكنم، ما ميكنم" ويكرره، ومسح على وجه ابن تلك المرأة فبرأ ورجع بصره!! ". ثم علق الشيخ النانوتوي على هذه القصة بما يلي: "إن الحمقى من الناس يزعمون أن كلمة "ما ميكنم" كلام هذا الولي نفسه، كلا بل هو قول الحق تعالى، فكان هذا الولي يردد قول الحق تعالى مراراً وتكراراً بلذة هذا الإلهام. كما أن أحداً من الناس يردد شعر أحد من الشعراء يتلذذ به". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن - ص116، 117 قلت: معاذ الله من خيال صوفي وقياس فلسفي انظر أيها المسلم كيف جعل هذا الإلهام وقوله بالفارسية: ما مينكم. كلام الله مباشرة مع أن الماتريدية يعتقدون أن القرآن مخلوق وأنه ليس كلام الله حقيقة بل هو دال على كلام الله لأن كلام الله ليس بحرف وصوت ولم يسمع كلام الله أحد من خلقه لا محمد صلى الله عليه وسلم ولا موسى عليه السلام ولا جبريل عليه السلام أما هذا الولي فقد سمع هذه الجملة الفارسية ما مينكم من الله مباشرة وهذا كلام الله على الحقيقة وإنما الولي ردده على لسانه كما يردد أحدنا شعرا لأحد الشعراء مع أن هذا من حجج أهل السنة لإثبات صفة الكلام المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات3/ 311 ويحكى الشيخ نجيب الديوبندي القصة التالية: " ... وكان الشيخ النانوتوي أيضاً قد أصابته رصاصة في إحدى صدغيه، التي هي من أشد الأعضاء خطراً، حتى أن شعرات من لحيته كانت قد احترقت بسبب هذه الرصاصة، وظن الناس أنه قد استشهد، ولكنه قام بجرأة ومسح يده على وجهه فكأنه لم يصبه شيء". ونفس هذه القصة يذكرها الشيخ عاشق إلهي فيقول: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 474 "أنه ذات مرة جلس الشيخ قاسم العلوم ممسكاً رأسه بيده، وقد شاهد بعض الناس أنه أصابته رصاصة في إحدى صدغيه وخرجت من الجانب الآخر مروراً بالدماغ، فأقبل عليه حضرة الشيخ الكنكوهي وقال له: ما بك؟ ثم وضع عمامته على رأسه ونظر إلى الرأس فما كان هناك أثر للرصاصة، والعجب أن الملابس كلها كانت مبللة بالدم". وهذه القصة نفسها يحكيها الشيخ محمد يعقوب فيقول: "إن الشيخ النانوتوي لما أصابته الرصاصة قال له: ما بك؟ فقال: أصابتني رصاصة، فوضع العمامة عن رأسه ونظر إليه فما كان هناك أثر للرصاصة، والعجب أن الملابس كلها كانت مبللَّة بالدم". فهذه الروايات الثلاثة للقصة المذكورة متفقة على أن الرصاصة أصابت في رأس الشيخ النانوتوي، وأنه ما كان هناك أي أثر للرصاصة في رأسه، وأن ملابسه كلها كانت مبللة بالدم. يقول الشيخ مناظر أحسن الكيلاني في توجيهه لهذه القصة متعددة الروايات: "فالحاصل أنه ما كان هناك أثر للرصاصة، كان لابد من عادة أثر إصابة الرصاصة، كما شاهد الناس ذلك، سواء قلنا في توجيهه أنه كان نتيجة التصرف الباطني لسيدنا الإمام الكبير كما يبدو ذلك من رواية الشيخ محمد طيب، أم قلنا أنه كان ذلك بسبب تدخل توجه الشيخ الكنكوهي نفسه، كما أشار إلي ذلك الشيخ عاشق إلهي". ثم يقول الكيلاني: "ولو أرادوا لفعلوا مثل ذلك بالحافظ الشهيد". هذا، ويقول الشيخ محمد طيب معلقاً على القصة المذكورة: "يبدو من كلام المصنف الإمام يعقوب أن عدم تأثير الرصاصة كانت كرامة لحضرة الشيخ نفسه". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن - ص 117 - 119 4 - اعتقاد أن أرواحهم تتمثل في الأجساد عقيدة إتيان الموتى في أجسادهم العنصرية البشرية المادية للقضاء والفصل يقظة من أعظم عقائد كبار أئمة الديوبندية، ولهم في هذا الباب أساطير عجيبة غريبة. ومنها إتيان إمام الديوبندية ومؤسس مدرستهم: الشيخ النانوتوي (1297هـ) لفصل القضاء على المخاصمة التي وقعت في مدرسة ديوبند. وللشيخ أشرف علي التهانوي الملقب بحكيم الأمة عند الديوبندية (1363هـ) عجائب في التعليق على هذه القصة، فزاد الطين بلة والمريض علة. وللديوبندية أعاجيب في الدفاع عن هذه الأساطير. وقد احتجت البريلوية على الديوبندية بهذه الأساطير الوثنية. وفي ذلك عبرة ونكال فهل من مدكر؟!؟! قصة أخرى: في إتيان إمام الديوبندية بعد موته لمناظرة عالم ديوبندي في مناظرته لرجل بريلوي، ولم يكن لهذا الديوبندي المسكين بمناظرة هذا البريلوي القوي أي قِبَل وقوة، وكاد أن ينهزم لولا إتيان الناتوتي لمناصرته؟!؟! أسطورة ثالثة: في إتيان الخواجة الأجميري الجشتي إمام الصوفية الجشتية (627هـ) لمناصرة الشيخ إمداد الله إمام أئمة الديوبندية في التصوف والبيعة (1317هـ) وذلك يقظة دون منام وبجسده العنصري البشري الدنيوي، والقصة طويلة، ولكنها وثنية محضة المصدر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية لشمس الدين السلفي الأفغاني-2/ 784،785 قال الشيخ أشرف على التانوي في كتابه: "إن أهل التصرف يقدرون على العناصر، فيركّبون الأجساد ويتشكلون في الأشكال، وذلك لأن الروح ذات انبساط، فيوقفون بينها وبين عدد من الأجساد، مما يسهّل عليهم التشكل في أشكال مختلفة". وقال الشيخ القاري محمد طيب: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 475 "إنه حصل نزاع بين كبار المدرسين في دار العلوم، ودخل في هذا النزاع مدير الدار الشيخ رفيع الدين رئيس المدرسين والشيخ محمود الحسن، وطال النزاع، وبينما هم كذلك إذ طلب الشيخ رفيع الدين من الشيخ محمود الحسن أن يحضر إلى حجرته - الواقعة في دار العلوم- وذلك بعد صلاة الفجر صباحاً، فذهب الشيخ محمود الحسن ودخل عليه في حجرته، وكان الجو بارداً جداً آنذاك، فقال له الشيخ رفيع الدين: انظر أولاً إلى شعاري وهو من القطن، فرأه الشيخ محمود الحسن فإذا هو مبلل يقطر، فقال الشيخ رفيع الدين: لقد جاءني الشيخ النانوتوي، رحمة الله عليه، بجسده العنصري آنفاً، مما عرقتُ له عرقاً شديداً، وأمرني أن أخبرك بأن لا تقع في هذا النزاع، وما دعوتك إلا لأبلغك هذا فقال الشيخ محمود الحسن: أتوب على يديك مما كان مني، وأتعاهد بأنني لن أتكلم في هذا الأمر بشيء". هذا، وقد صدّق الشيخ أشرف على التانوي هذه القصة ووجّهها قائلاً: "إن هذه الواقعة فيها تمثل للروح، وله صورتان: الأولى: أن هذا الجسد كان مثالياً شبيهاً بالجسد العنصري. والثانية أن الروح تصرفت في العناصر وهيأت لها جسداً عنصرياً". هذا، وقد ذكر الشيخ مسعود الدين العثماني في كتابه أن بعض الديوبندية يقولون: إن مدرسة ديوبند أسسها النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يأتي إلى هذه الدار أحياناً مع أصحابه وخلفائه لتدقيق حساب المدرسة". كما ذكر الشيخ أشرف على التانوي في كتابه القصة التالية: "يقول ديوان محمد ياسين - وكان من خدام الشيخ النانوتوي رحمة الله عليه - كنت مشغولاً بالذكر تحت القبة الشمالية في مسجد "جَهتّة" وكان الشيخ النانوتوي رحمة الله عليه، مراقباً في صحن المسجد في الجهة الشمالية نفسها، وكان متوجهاً إلى قلبي، إذ طرأت عليّ حالة خاصة، ورأيت وأنا في حالة الذكر، أن غاب سقف المسجد وقبته، مع بقاء جدرانه، وأن نوراً عظيماً في القضاء ممتد إلى السماء، إذ رأيت عرشاً ينزل من السماء، وعليه الرسول صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الأربعة على الزوايا الأربعة، نزل العرش حتى استقر قريباً مني في المسجد، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد خلفائه: اذهب وائت بالشيخ محمد قاسم، فذهب وأتى به، فطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الشيخ محمد قاسم حساب المدرسة، فقدم الشيخ حساب المدرسة بكل دقة، ففرح الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا فرحا شديداً وأذن له بالذهاب، ثم صعد العرش إلى السماء وغاب عن الأنظار". ثم قال الشيخ التانوي معلقاً على هذه القصة: "إن هذه الواقعة كانت نوعاً من الكشف، والذي يحتمل أن يكون قد حصل بتوجه الشيخ، ولعل تعبير هذه الواقعة هو أن يرى صاحبها ما رأى فيها من تدقيقه صلى الله عليه وسلم لحساب المدرسة، حتى يطمئن الذين كان في قلوبهم شك حول ذلك، وأما المعاندون فمن دأبهم التشكيك حتى في الوحي". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 95 - 97 ثانيا: اعتقاد معرفتهم بالأمور الغيبية: تمهيد علماء ديوبند يدّعون في أكابرهم ومشايخهم علمهم بالمغيبات، ويذكرون عنهم قصصاً نذكر بعضاً منها في السطور القادمة، إن شاء الله تعالى. يقول الشيخ إمداد الله المهاجر المكي: "وقد زعم بعض الناس أن الأنبياء والأولياء لا يعلمون الغيب، وأما أنا فأقول إنه بإمكان أهل الحق أن يبصروا المغيبات ويدركوها إذا ما التفتوا إليها".وجاء في حاشية "فيض الباري" للشيخ أنور شاه الكشميري بصدد شرح حديث ((إلا أخبرتكم في مقامي هذا)) (1) ما نصه:   (1) رواه البخاري (540) ومسلم (2359) من حديث أنس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 476 "قلت ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم عالماً للغيب مطلقاً ظاهراً عليه بمفاتيحه كما فهمه بعض الجهلاء، لما كان لهذا التقييد معنى، بل هو من نحو تجلي عليه إذ ذاك على نحو ما يطرأ على الأولياء من بعض تلك الأحوال، فتارة يخبرون عن العرض وأخرى يغفلون عن الفرش، وأحوال الأنبياء أرفع ... ". وجاء أيضاً في حاشية "فيض الباري" ما نصه: " ... أن الأولياء يرون في كشوفهم أشياء بعين الباصرة لا نراها، كذلك الأنبياء عليهم السلام يرون المغيبات بعين الباصرة في اليقظة ... ". ويقول الشيخ نجم الدين الديوبندي في كتابه: "إن علماء ديوبند لا يقولون أبداً أنه لا يطلع أحدٌ غير الله على شيء من الغيب، كما أنهم لا يقولون إن الإنسان لا يستطيع التصرف البتة، في حياته أو بعد مماته". وقال أيضاً: "بل إنهم ذهبوا إلى أن من المغيبات ما يعلمها عامة الناس، بل الأصفياء من الأولياء والأنبياء المقربين". وقال: "ثم وجد في كل زمان وفي كل عصر مَن منَّ الله عليه وأطلعه على كثير من الغيب". وقال صاحب "انكشاف": "أما اطلاع أولياء الله وخاصته على بعض المغيبات فليس من علم الغيب في شيء، ومن حمله على العلم بالغيب فهو جاهل لا يعقل". وقال الشيخ محمد يسين الديوبندي: "لا يخبر الشيخ إلا بما شاهده وعاينه". وقال الشيخ أنوار الحسن الهاشمي - أحد دعاة دار العلوم بديوبند: "إن أولياء الله الكاملين الذين قضوا معظم حياتهم في تزكية النفوس وترويضها تحصل لهم ملكة راسخة تكشف عليهم في المنام واليقظة أموراً خفيت على عامة الناس". وقال الشيخ المفتي عزيز الرحمن الديوبندي: "قد حدث عدة مرات أن الليلة التي قرأ فيها الشيخ حسين أحمد المدني سورة القدر في صلاة الوتر من شهر رمضان، كانت هي ليلة القدر، كما جربنا عليه مراراً أنه كان يستعد للعيد منذ الصباح قبل ليلة الهلال، ويختم القرآن قبلها بيوم، حتى ولو كان الشهر ناقصاً (تسعاً وعشرين يوماً) وبناءً على عادته فقد كان يعرف كل من في "الخانقاه" بأن الليلة ليلة العيد". وقال مؤلف "أرواح ثلاثة": "إن الشاه عبدالقادر كان يعرف تمام شهر رمضان ونقصانه عند مستهله، فإذا عرف تمامه وأنه لا يرى هلال العيد إلا بعد ثلاثين قرأ في صلاة التراويح في الليلة الأولى جزءاً واحداً، وإذا كان الشهر ناقصاً قرأ جزءين، وبما أن هذا الأمر كان قد أصبح مجرّباً فكان الشاه عبدالعزيز يبعث شخصاً يستعلم عن القدر الذي قرأه الشاه عبدالقادر. فإن أخبره بأنه قرأ جزءين قال الشاه عبدالعزيز لأصحابه: ما يكون الشهر إلا ناقصاً". هذا، وقد علق عليه شيخ الديوبندية الشيخ محمود حسن فقال: "وقد اشتهر هذا الأمر في دلهي بحيث أصبح التجار وأصحاب السوق يعتمدون عليه في مواعيدهم". كما ذكر المؤلف قصة أخرى فقال: "كان الطيب "خادم علي" جالساً في مسجد في رمضان، وجاء وقت الإفطار فأفطر، إذ دخل عليه نفر من الروافض وقالوا: قسماً بالحسين، أفطرت ولم تغرب الشمس؛ قال خادم على: كذبتم، ما أفطرت إلا بعد غروبها؛ فألحوا على اعتراضهم، فقال خادم علي: إن قلوبنا عامرة بالإيمان والدين، فهي لا تخطئ في الشهادة، وإن كنتم في شك مما أقول فاحبسوني في غرفة وأغلقوا عليّ الأبواب، وراقبوا الشمس، ولسوف أخبركم عند غروبها، وسوف تصدّقوني، وقد استغربت الروافض هذه الدعوى، وعزموا على تجربتها، ففي اليوم التالي حبسوه في غرفة، وصعدوا فوق السطح ينتظرون غروب الشمس، فلما غربت ناداهم "خادم علي" من الغرفة بأن الشمس قد غربت، فعرفوا صدق دعواه". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 168 - 172 اعتقاد كشفهم لما في القبور والقلوب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 477 إن مسألة كشف القبور ومخاطبة الأرواح من المسائل المهمة لدى الصوفية، والتي تميّز الديوبندية عن غيرها، فهم يؤمنون بها إيماناً لا يترك لهم مجال الشك فيها. قال "الله يار" الديوبندي: "كان شيخنا قد أعطي حظاً وافراً من كشف القلوب وكشف القبور". وقال الشيخ نجم الدين الديوبندي: "وهل قال أحد من علماء ديوبند أنه لا ترتفع الحجب أمام الصالحين". وقال مؤلف "انكشاف" "أولئك الصالحون يشاهدون عالم المثال والأنوار والتجليات بأعينهم، لصفاء قلوبهم". ولنقرأ فيما يلي قصة تزيد هذه العقيدة أيضاحاً: ذكر الشيح حسين أحمد المدني في كتابه: "إن شيخاً نقشبنديًّا زار قرية ديوبند أيام حركة الخلافة، وقام مراقباً على قبر الشيخ النانوتوي، وأطرق طويلاً، ثم رفع رأسه وقال: عرضتُ على الشيخ ما نعاني من الحكام الإنجليز، فأشار إلى الشيخ محمود الحسن وقال: هذا آخذ بقائمة العرش يناشد ربه أن يطرد الإنجليز من الهند". ويقول مؤلف "انكشاف" عن هذه القصة: "هذا ما حكاه الشيخ حسين أحمد المدني، ويدل على عدة أمور، منها مخاطبة الأرواح، وكشف القبور، وكون الأرواح موجودة في القبور، وأنها خبيرة بأحوال الدنيا، وأنها تدعو لأهل الدنيا أو عليهم، والاستفادة من الأرواح". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 141، 142 إن عقيدة الديوبندية في كشف القلوب لا تختلف كثيراً عن عقيدتهم في مسألة علم الغيب والعلم بما في الصدور، كما يتضح ذلك من خلاص النقول التالية: قال الشيخ أخلاق حسين القاسمي: "إن الشيخ المدني أحس بما خطر على قلب الحاج، بقوة إيمانه، وهذا ما يسمى في اصطلاح الصوفية بكشف القلوب". ولما اعترض أحد البريلوية على مثل هذه القصة أجابه مؤلف "انكشاف" قائلاً: "لو سلمنا أن الشيخ المدني اطلع على ما تخفي القلوب، بواسطة الكرامة، فأي غرابة في ذلك". وقال في موضع آخر: "والذي لا يفرق بين الكشف وبين علم الغيب، ويجعلها شيئاً واحداً، فهو جاهل لا يعرف لطائف الشريعة الإسلامية". وذكر الشيخ عبدالماجد الدريا آبادي فقال: "شهد قلبي أن شيخي متنور القلب، وتظهر عليه خفايا الأمور، ولا يسبقه أحد في الكشف والكرامة، فما قمت من مجلسي ذلك حتى أيقنت أن للشيخ قدماً راسخة في علم الغيب وكشف القلوب". وقال الشيخ حبيب الرحمن: "إن "ديوان جي" - وكان من أخص خدام الشيخ النانوتوي- كان قد بلغ أمره في الكشف بحيث أنه كان يبصر المارين على الشارع من عقر داره، ولا تحول الجدران دون ذلك عند اشتغاله بالذكر". وذكر مؤلف "أرواح ثلاثة": "كان الشيخ "فضل حق" يقرأ الحديث على الشاه عبدالقادر، وكان الشاه عبدالقادر من كبار أصحاب الكشف، حتى فاق جميع أسرته في هذه الصفة، فكان يعرف عن طريق الكشف هل جاء فضل حق يحمل كتبه بنفسه أو حملها خادمه، فكان لا يدرّسه إلا إذا جاء يحمل كتبه بنفسه". وقال الشيخ شبير أحمد العثماني في تفسيره لقوله تعالى: وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ [غافر:32]. الآية: "ذهب عامة المفسرين على أن المراد بيوم التناد هو يوم القيامة، ولكن ذهب حضرة الشاه إلى أن المراد بيوم التناد هو اليوم الذي جاء فيه العذاب إلى قوم فرعون - إلى أن قال- فلعل هذا الرجل المؤمن علم عن طريق الكشف أو عن طريق القياس أنه هكذا يأتي العذاب على كل قوم". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 143 - 145 اعتقاد علمهم بما في الصدور الجزء: 8 ¦ الصفحة: 478 إن العلم بما في الصدور من الأمور الغيبية التي استأثر الله تعالى بعلمها، وقد دلت على ذلك نصوص من الكتاب والسنة، منها قوله تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19]. وقوله تعالى: وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النحل:19] وقوله تعالى: رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ [الإسراء:25].وفي الحديث: ((إن الله تعالى يقول لعبده يوم القيامة سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم)) (1). وبعد هذه النصوص الصريحة نقرأ فيما يلي أقوالاً وقصصاً لعلماء ديوبند حتى نعرف معتقدهم في هذه المسألة. ذكر مؤلف "تذكرة الرشيد" قصة حصلت لـ"ولي محمد" مع شيخه الكنكوهي، ثم قال "ولي محمد". "أنا أخاف كثيراً من مقابلة الشيخ - أي الكنكوهي- فإنه يطلع على وساوس القلب، ونحن لا نملك دفعها". وقال الشيخ نذر محمد، وكان من أصحاب الشيخ الكنكوهي: "كنت شديد الغيرة وكنت لا أسمح لزوجتي أن تخرج من البيت أو أن يسمع صوتها أحد ليس بمحرم لها، فلما خرجت لمبايعة الشيخ خطر ببالي أن الشيخ ليسمع صوتها، فاطلع الشيخ عن طريق الكرامة على ما وسوست به نفسي، وأمرني أن أجلسها في الغرفة وأغلق عليها الباب". وقال الشيخ أشرف على التانوي: "إن قلب الشاه عبدالرحيم الرايفوري كان نورانيًّا جدًّا فكنت أخاف أن أجلس عنده خشية أن تنكشف عيوبي". وقال الشيخ محمد قاسم النانوتوي في الشيخ محمد يعقوب الديوبندي: "إن الشيخ جدُّ خبير بخفايا النفس وأسرارها الدقيقة". وقال مؤلف "انكشاف": "حسبك أن تطلع على ما قاله سلطان الأولياء محيي الدين ابن عربي في الفتوحات المكية، مما يسهل لك الحكم في مسألة إمكان الإطلاع على هواجس النفس وخطرات القلب عن طريق الكرامة، فإنه قال فيه: الكرامة على نوعين؛ حسية ومعنوية، فالعامة لا تعرف إلا الحسية كالإطلاع على ما تخفي الصدور، والإخبار عن المغيبات وإعلام الناس بالأخبار الحالية والمستقبلية". ثم قال: "فعلى القارئ المنصف أن يحكم دون أن يتعصب لرأي هل في ذلك ما يخالف الشرع، ولكن قبل الإجابة بنفي أو إثبات لابد من أن تجعل نصوص شيخ الإسلام العلامة ابن عربي صاحب الفتوحات المكية أمامك".وفي هذا المقام يجدر بنا أن نشير إلى نقطة مهمة، وهي أن الكشف من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، فرفع له بيت المقدس وهو في مكة (2)، كما أنه رأى ما كان يجري في "مؤتة" وهو بالمدينة (3)، ولكنه لم يكن ذلك بصفة دائمة مستمرة، فلم يطلع صلى الله عليه وسلم على عقد ضاع لعائشة رضي الله عنها في موقعة بني المصطلق (4)، كما هو معروف في كتب التاريخ والسير والتفسير والحديث. وبعد معرفة هذه الحقيقة نقرأ ما قاله مؤلف "انكشاف" في علماء الصوفية والديوبندية: "الكشف هو الاطلاع على الأسرار والأخبار الخفية، وهو على نوعين: الأصغر والأكبر، فالأصغر، ويقال له الكشف الكوني أيضاً، ويطلع به السالك على أحوال الملائكة والأرواح والعرش والكرسي واللوح المحفوظ وما يحدث في السموات والأرض، وينكشف له أحوال أهل القبور، وأما الكشف الأكبر فهو مشاهدة الذات الإلهية، فعلماء ديوبند الكبار هدفهم الأول هو الكشف الأكبر، وأما الكشف الأصغر فيرونه مفيداً ومساعداً في السلوك". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 151 - 154 اعتقاد علمهم بالآجال   (1) رواه البخاري (2441) ومسلم (2768) من حديث ابن عمر (2) ينظر ((صحيح البخاري)) (3886) و ((دلائل النبوة)) للبيهقي (2/ 390 - 396). (3) ينظر ((صحيح البخاري)) (2798). (4) ينظر ((صحيح البخاري)) (334) ومسلم (367). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 479 إن العلم بالآجال من الأشياء التي استأثر الله بعلمها، قال تعالى: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34]. ولكن الديوبندية تزعم أنه ليس من خصائص الله سبحانه وتعالى بل يمكن الاطلاع عليه من خلال الكشف والمراقبة، كما أن مؤلفي هذه الطائفة يحكون قصصاً وروايات تدل على ما ذكرناه، وهذه القصص كثيرة وكثيرة، نكتفي على ذكر بعض منها دون أي تعليق عليها. ذكر مؤلف "أرواح ثلاثة": "إنه خرج الشيخ مظفر حسين حاجاً إلى مكة في 23 جمادى الثانية عام 1282هـ، وأصيب بمرض الإسهال قبل وصوله إلى مكة، وذات مرة قال للشيخ إمداد الله وهو في مكة: أتمنى أن أموت بالمدينة المنورة ولكنه يبدو أن أجلي قد قرُب، فلو راقبت، فراقب الشيخ، ثم رفع رأسه وقال: لا، وسوف تصل إلى المدينة، وبعد أيام برئ مظفر حسين من مرضه، وتوجه إلى المدينة في اليوم التالي، ولما كان على مسافة يوم من المدينة عاد مرضه، فمات بالمدينة في 10 محرم عام 1283هـ ودفن بالبقيع قريباً من قبر عثمان رضي الله عنه". وذكر الشيخ رياض أحمد - رئيس جمعية علماء ميوات- لقاءه الأخير مع الشيخ حسين أحمد المدني، قال: "قلت للشيخ: يا سيدي! سوف أحضر إليكم في نهاية هذه السنة، إن شاء الله. فقال الشيخ المدني: لن نجتمع في هذه الدنيا مرة أخرى، بل نلتقي يوم القيامة، إن شاء الله، فذرفت عيون الحاضرين في المجلس". هذا، وقد اعترض أحد البريلوية على هذه القصة المذكورة فأجابه مؤلف "انكشاف" قائلاً: "لو سلمنا أن الشيخ المدني علم بموعد وفاته قبل أوانه فأي غرابة في ذلك؟ فإن مثل هذا لا يستبعد من ذكاء وفراسة الصالحين". وقال مؤلف "تذكرة الرشيد" ما ملخّصه: "مرض النواب "تشاري" مرضاً شديداً، يئس الناس من حياته، فأرسلوا رجلاً إلى الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي يطلب منه الدعاء للمريض المذكور، فقال الشيخ لمن معه في المجلس: ادعوا لفلان، فحزن الناس بذلك، حيث أن الشيخ ما وعد له بالدعاء، فطلبوا منه الدعاء له مرة أخرى، فقال: إن الأمر قد قدٍّر، وأنه لم يبق إلا أيام قليلة من حياته، فلما سمعوا منه ذلك لم يكن لهم مجال للكلام فيه، ويئسوا من حياة النواب، ولكن الرسول طلب منه وقال: ادع الله له أن يفيق ويصحو من غمته، حتى يوصى ويقول ما شاء في أمور الدولة، فقال الشيخ: لا حرج في ذلك، فدعا له وقال: سيفيق من مرضه، إن شاء الله؛ فكان الأمر كما أخبر به الشيخ، وأفاق النواب من مرضه إفاقه طارت الأصوات بخبر صحته وشفاءه إلى الأماكن البعيدة، ... وفجاءة اشتد به المرض وانتقل إلى عالم الآخرة". وهذا غيض من فيض وقليل من كثير، ومن أراد المزيد فعليه أن يرجع إلى مؤلفات أكابر هذه الطائفة، يجد فيها الكثير والكثير من مثل هذه القصص والحكايات. المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 147 - 149 اعتقاد معرفتهم بزمن نزول المطر وقدرتهم على حبسه ذكرت مجلة "نقيب" قصة من مذكرات السيدة "ثامنة خاتون" تقول: "لما أردنا بناء المنزل بدأنا بالمرحاض نظراً لأمر الوالد الكريم بذلك، وكانت الأيام أيام مطر، إلا أنه ما كان ينزل المطر في تلك الأيام، وكان الفلاحون في قلق شديد، فقلت للوالد: ادع الله أن يسقي الناس، فقال: كيف ينزل المطر ومرحاضنا لم يكتمل بناءه بعد؛ قلت: ومتى سيكتمل بناءه؟ قال: قد اكتملت الجدران ولم يبق إلى السقف، وسوف يتم الليلة. تقول السيدة المذكورة: وبعد يومين نزل مطر غزير، فسألت الوالد وكان في البيت: ألا يضر المطر مرحاضنا؟ قال: لا، بل يشيده، فقلت: هل كان المطر حبس من أجل مرحاضنا؟ فلم يرد على أن تبسم ولم يقل شيئاً". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 480 يا للعجب؛ هل بلغ من نفوذ هؤلاء من قضاء الله وقدره إلى هذا الحد، فيحبس المطر عن عامة الناس لمصلحة شخصية تافهة، والأرض تحترق والحقول تتجفف، وصاحب المرحاض يقول لابنته في تدلل وعدم مبالاة: كيف يمكن أن ينزل المطر ومرحاضنا لم يكتمل بناؤه بعد. هذا، وقد حكى الشيخ جميل الرحمن قصة عن مؤتمر لحزب الكانغرس الذي كان الشيخ حسين أحمد المدني موجوداً فيه، يقول: "قبل بدء المؤتمر بقليل تغيمت السماء فجأة، وتحير المسئولون عن عقد المؤتمر، إذ جاءني شخص مجذوب الهيئة غير معروف، وذهب بي إلى مكان منعزل وقال: أخبر الشيخ حسين أحمد بأنني خادم هذه المنطقة، فإن كان يريد أن يحبس المطر فهذا يكون عن طريقي وتوسطي، فتوجهت إلى المخيم الذي كان فيه حضرة الشيخ، فلما سمع ذلك مني قال في لهجة عجيبة وقورة، وهو على سريره: قل له: إن المطر لا ينزل، فخرجت من عنده لأبلغ هذا الجواب ذلك الرجل، وبحثت عنه كثيراً فلم أجده؛ وبعد قليل بدأ يزول الغمام، وصحت السماء خلال دقائق معدودة، وما نزل المطر حتى انتهينا من المؤتمر". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 155، 156 اعتقاد علمهم بما في الأرحام إن الديوبندية تزعم أن هناك من يعلم ما في الأرحام، غير الله سبحانه وتعالى، كما أن هذه الطائفة تحكي عن أكابرها ومشايخها روايات وقصصاً تدل على أنهم كانوا يعرفون المولود قبل ولادته هل هو ذكر أم أنثى، نكتفي على ذكر بعض منها: قال مؤلف "أرواح ثلاثة": "كان من قبيلة راجبوت رجل يسمى عبدالله خان، وكان من أخص أصحاب الشاه عبدالرحيم الولائتي، وكان قد بلغ من أمره أنه كلما جاءه أحد يطلب منه التعويذ لزوجته الحامل، كتب له التعويذ وأخبره بما تضعه زوجته من ذكر أو أنثى، وفعلاً فكانت المرأة تضع حسبما أخبر به". وذكر المؤلف أيضاً قصة أخرى فقال: "ذكر الشيخ حبيب الرحمن أن "راؤ عبدالرحمن" خليفة الشاه عبدالعزيز - كان من أصحاب الكشف، وكان قد بلغ من كشفه أنه كلما جاءه من يطلب منه التعويذ للولد، قال له دون أن يتردد: اذهب، وأخبره بما ستضعه زوجته من ذكر أو أنثى؛ فقيل له: كيف تخبر بهذا؟ فقال: ماذا أفعل، يعرض عليّ المولود فأراه ولا أشك". وقال الشيخ نجم الدين الديوبندي، وقد اعترض على الديوبندية أحد البريلوية بقوله: إنكم تكفّروننا وتبدعوننا لمثل هذه المعتقدات مع أنكم تعتقدون في مشايخكم وكبار علمائكم مثل عقائدنا؟ فأجابه نجم الدين الديوبندي قائلاً: "إنه لم يقل أحد من علمائنا قط أن الحجب لا ترفع أمام الصلحاء والأولياء". وقال أيضاً وهو يردّ على مثل الاعتراض السابق: "إنه كان القاضي عبد الغني - مرشد والد الشيخ سعيد أحمد الأكبر آبادي- قد اطلع بإلهام من الله على أنه سيولد لوالد الشيخ سعيد الأكبر آبادي ولد ذكر، وذلك قبل ميلاده، فأية غرابة في ذلك". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 157 - 159 اعتقاد اطلاعهم على اللوح المحفوظ عقيدة الديوبندية في اطلاع الأولياء على اللوح المحفوظ: قال القاضي الباني بتي (1255هـ) شيخ الديوبندية والملقب عندهم ببيهقي الوقت، وتبعه الشيخ صفدر الديوبندي، واللفظ للأول: (ومن هذا القبيل ما قيل إنه قد ينكشف على بعض الأولياء بعض الأحيان اللوح المحفوظ: فينظرون فيه القضاء المبرم والمعلق) المصدر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية لشمس الدين السلفي الأفغاني-2/ 804، 805 ثالثا: تنزيل أئمتهم منزلة الألوهية والرسالة (أشرف علي رسول الله) الديوبندية يعتقدون في الشيخ عبد القادر الجيلاني (561هـ) أنه الغوث الأعظم، وغوث الثقلين كما قالوا في إمام النقشبندية: إنه غوث الورى السبحاني. وهذه جريمة قبورية ووثنية سافرة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 481 المصدر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية لشمس الدين السلفي الأفغاني-2/ 775 خلع إمام الديوبندية على الجيلاني خلعة الألوهية. فقد وقفت على كفر بواح وشرك صراح لم أره عند الأولين ولا عند الآخرين من قبورية هذا الأمة الإسلامية إلا عند مشركي الجاهلية. وهو أن إمداد الله إمام الديوبندية قد نص على أن الجيلاني فاز بمرتبة الألوهية حيث قال: (لقد تناظر رجلان فقال أحدهما: إن الشيخ معين الدين الجشتي رحمة الله عليه أفضل من الحضرة الغوث الأعظم الجيلاني قدس سره. وقال الآخر: إن الحضرة الغوث المطهر الجيلاني أفضل من الشيخ الجشتي. فقلت لا ينبغي لنا أن نفضل بعض الأولياء على بعض، وإن كان الله تعالى قال: فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:253] فقال مفضل الجيلاني على الجشتي: لما قال الحضرة الغوث المطهر الجيلاني: قدمي على رقاب أولياء الله قال الحضرة معين الدين الجشتي: بل على عيني. فثبت أفضلية الغوث الجيلاني على الجشتي. قال إمداد الله إمام الديوبندية: فقلت: هذا يدل على أفضلية الحضرة معين الدين الجشتي على الحضرة الغوث الجيلاني؛ لأن الحضرة الغوث الجيلاني في ذلك الوقت كان في مرتبة الألوهية وكان الحضرة الشيخ الجشتي في مرتبة العبودية. قلت: سبحانه وتعالى على أن يكون معه أحد في مرتبة الألوهية والغوثية؟؟؟ وأقول: ما كنت أظن أن الديوبندية قد وصلوا في خرافاتهم القبورية الصوفية إلى حد التنصيص على ألوهية الجيلاني. ولكن تبين أن الديوبندية كمن قيل فيه: وكنت أرى زيداً كما قيل سيداً إذا إنه عبد القفا واللهازم وأقول أيضاً: قد كنت أسمع أن كتب الديوبندية مكتظة بالخرافات القبورية الصوفية، ولكن كنت أستنكر تلك الأخبار، وأستكبرها وأستكثرها عليهم، وكنت أقول: لعلها كذب عليهم؛ لما عندهم من العلوم الجمة وتظاهرهم بالسنة؛ ثم لما أمعنت النظر في كتبهم وجدت عندهم من الطامات القبورية والخزعبلات الصوفية ما لا يخطر بالبال فكان الأمر كما قيل: وأستنكر الأخبار قبل لقائه فلما التقينا صدّق الخبرَ الخبرُ هذه عدة أمثلة كقطرة من البحر أو كحبة من الصبرة ذكرتها لبيان أن الديوبندية قبورية إلا من شاء الله منهم. فهل يشك أحد في قبوريتهم؟ وقد رأيتم تصوفهم النقي فما ظنكم بغير النقي؟؟ فحسبكم هذا التفاوت بيننا وكل إناء بالذي فيه ينضح وللتفصيل موضع آخر. ولو كان هذا موضع القول لاشتفى به القلب لكن للمقال مواضع. المصدر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية لشمس الدين السلفي الأفغاني-2/ 805 - 807 ذكر أحد مريدي الشيخ أشرف علي التانوي قصة حصلت له حيث كتب إلى شيخه التانوي: "إني رأيت نفسي في المنام أني كلما أحاول أن أنطق كلمة الشهادة على وجهها الصحيح يجري على لساني بعد لا إله إلا الله: أشرف علي رسول الله" وقد أجاب الشيخ التانوي على ذلك فقال: "إنك تحبني على غاية الدرجة، وهذا ثمرة هذا الحب ونتيجته". وقد حكى هذا المريد في خطاب له وجّهه إلى مرشده التانوي هذه القصة، فقال بعد ذكر الرؤيا: "فاستيقظت من الرؤيا، فلما خطر ببالي خطأ كلمة الشهادة أردت أن أطرح هذا من قلبي، فجلست ثم اضطجعت على الشق الآخر وبدأت أقول: الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأتدارك هذا الخطأ، ولكني أقول: اللهم صلِّ على سيدنا ونبينا ومولانا أشرف علي والحال أنني مستيقظ ولست في رؤيا، لكني مع هذا أنا مضطر ومجبور ولا أقدر على لساني". فأجاب الشيخ التانوي على ذلك بقوله: "في هذا تسلية لك بأن الشخص الذي ترجع إليه هو بعون الله تعالى متبع للسنة". وذكر مؤلف تذكرة الرشيد: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 482 "إنه سمع من الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي عدة مرات يقول: "اسمعوا؛ الحق هو الذي يقوله رشيد أحمد وأقسم بالله أني لست بشيء إلا أن الهداية والنجاة موقوفة على اتباعي في هذا الزمن". وذكر الأستاذ محمد أسلم نقلاً عن بعض مؤلفات التبليغيين: "أنه لما توفي الحاج إمداد الله، كان الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي - وهو من تلاميذ الحاج إمداد الله - يذكره دائماً ويقول: آه رحمه للعالمين، آه رحمه للعالمين". وقال الشيخ مناظر أحسن الكيلاني: "إن الشيخ محمد قاسم النانوتوي شكا إلى مرشده حاجي إمداد الله، فقال: كلما وضعت السبحة في يدي؛ ابتليت بمصيبة، وبلغ الثقل بحيث كأنه وضع عليَّ أحد صخرات، كأن وزن كل صخرة مئات منِّ، ووقف اللسان والقلب؟ فقال الحاج إمداد الله: إن هذا فيضان النبوة على قلبك، وهذا هو الثقل الذي كان يحسه النبي صلى الله عليه وسلم وقت الوحي، فيستخدمك الله لعمل كان يفعله الأنبياء". وذكر الأستاذ محمد أسلم عن الخواجة معين الدين الجشتي: "أن رجلاً جاءه للمبايعة، وقبّل رجليه، فأجلسه الشيخ، فقال: إني جئت لأكون مريدكم. فقال الخواجة معين الدين الجشتي: هل تفعل ما آمرك؟ فإن تقبل هذا الشرط؛ أجعلك مريدي. قال الرجل: أنا أعمل بكل ما تقول. فقال الخواجة: قد تعودت على قراءة كلمة الإسلام (لا إله إلا الله محمد رسول الله)؛ فاقرأ مرة هكذا: (لا إله إلا الله، جشتي رسول الله) ولأجل أنه كان راسخاً في عقيدته؛ قرأ كما أمره الشيخ، فبايعه الخواجة، وأعطاه الخلعة، وأنعم عليه، ثم قال: إنما اختبرتك لأعرف مدى حبّي وتقديري في قلبك، ما كنت قاصداً منك قراءة كلمة الإسلام بهذا الطريق، فيظهر من هذا صدق اعتقادك بي، وصرت الآن مريداً لي صادقاً، هكذا ينبغي للمريد أن يكون صادقاً في جناب شيخه". وذكر الشيخ محمد الثاني الحسني في كتابه (سيرة محمد يوسف) (ص196) ما يلي: "إن الشيخ زكريا حرر شهادة الإجازة للخلافة التي أعطاها الشيخ إلياس لولده الشيخ محمد يوسف، فقال فيه: أنا أجيز هؤلاء للبيعة، فأضاف فيها الشيخ محمد إلياس وأملي: وأنا أجيزها نيابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 181 - 185 رابعا: اعتقادهم أن أئمتهم قد يفوقون الأنبياء في العمل وغيره ذهبوا إلى أن الأئمة يتفوقون على الأنبياء في العمل، كما قال الشيخ محمد قاسم النانوتوي - مؤسس دار العلوم بديوبند - في كتابه (تحذير الناس) (ص5): "إن الأنبياء يمتازون بين أمتهم بعلمهم، وأما الأعمال ففي بعض الأحيان يساويهم أتباعهم في الظاهر بل يتفوقون عليهم في العمل". كما ذكر أيضاً عن الشيخ محمد إلياء - مؤسس جماعة التبليغ - أنه كتب في خطاب أرسله إلى أعضاء جماعته: "إذا لم يرد الله أن يقوم أحد بعمل فلا يمكن حتى للأنبياء أن يبذلوا جهودهم فيقوموا بشيء، وإذا أراد الله شيئاً، يقوم أمثالكم الضعفاء بالعمل الذي لم يستطع الأنبياء". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص186، 187 خرافة عجيبة غريبة ذكرها حكيم الأمة عن شيخ الديوبندية إمداد الله: أنه قال: (لما عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم والتقى بموسى عليه السلام استفسره موسى عليه السلام وقال إنك قلت: ((علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل)) (1) كيف يصح هذا؟! فحضر حجة الإسلام الغزالي وسلم بإضافة: وبركاته ومغفرته) فقال له موسى عليه السلام: ما هذا الطول أمام الأكابر؟!   (1) قال السخاوي في ((المقاصد)) (459) قال شيخنا ومن قبله الدميري والزركشي إنه لا أصل له، ومثله قال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (466) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 483 فقال له الغزالي: إن الله تعالى قال لك: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى [طه:17] فلم طولت في الجواب قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [طه:18]؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: للغزالي: أدب يا غزالي). وقد علق على هذه الأسطورة حكيم أمة الديوبندية فقال: (قوله: أدب يا غزالي يمكن أنه كشف لأحد الأكابر، وأن هذه المكالمة بين الغزالي وبين موسى في المعراج أيضاً كشفت له لأن هناك اجتماع الأرواح وليس المراد المعراج الجسدي). أقول: تفكر أيها القارئ طالب الحق في هذه الأسطورة كم فيها من الطامات: الطامة الأولى: نسبة حديث علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه حديث لا أصل له موضوع باطل مختلق مصنوع. الطامة الثانية: تصرف روح الغزالي وقدرته إلى أن وصل إلى مجلس الأنبياء والمرسلين في السموات العلى. الطامة الثالثة: انهزام موسى عليه السلام في المناظرة أمام الغزالي وغلبة الغزالي على موسى عليه السلام. الطامة الرابعة: نسبة قول: أدب يا غزالي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه ليس بكلام عربي فصيح بل هو كلام ركيك عربية ونحوية، والعبارة الفصيحة أن يقال: الأدب أيها الغزالي. قلت: هذا كله من آفات التصوف النقي اللب الخالص من القشور الذي يدعيه الديوبندية. المصدر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية لشمس الدين السلفي الأفغاني-2/ 795 - 797 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 484 تمهيد إن العلامة المحدث الفقيه خليل أحمد السهارنفوري أحد كبار أئمة الديوبندية (1346هـ) ومؤلف (بذل المجهود شرح سنن أبي داود) قد ألف كتابا يعد أهم كتب الديوبندية في العقيدة على الإطلاق وعليه توقيعات وتقريظات لخمسة وستين عالما من كبار العلماء الديوبندية وغيرهم والكتاب مطبوع بعنوان (المهند على المفند) باللغة العربية وقد ترجم قريبا إلى اللغة الأردية أيضا .... ومما قال في هذا الكتاب: إنا بحمد الله ومشايخنا وجميع طوائفنا .... منتسبون إلى الطرق الأربعة الصوفية العلية المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني- 3/ 304 تنتسب من طرق الصوفية إلى طرق النقشبندية الجشتية والقادرية السهروردية طريقاً وسلوكاً. المصدر: الموسوعة الميسرة الديوبندية كلهم جميعاً صوفية نقشبندية أصحاب بيعة، حتى الفنجفيرية الرادين على القبورية منهم. أقول: لا تنس أيها القارئ الكريم اعتراف الشيخ عامر العثماني أحد كتاب الديوبندية: بأن سبب انخراط مشايخنا الديوبندية في الخرافات القبورية إنما هو التصوف. والديوبندية الفنجفيرية يوصون تلاميذهم أن يكونوا صوفية وأن تكون الطرق الأربع الصوفية عندهم كالمذاهب الأربعة الفقهية. المصدر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية لشمس الدين السلفي الأفغاني-2/ 782 لقد قام أحد الكتاب الأدباء البريلوية وهو أرشد القادري فألف كتابا في الرد على الديوبندية سماه (الزلزلة) ذكر فيه شيئا كثيرا من الخرافات والشركيات عن كتب الديوبندية والحقيقة والحق - والحق يقال- أن هذا الرجل زلزل الديوبندية جميعا بهذا الكتاب حيث لم تقدر الديوبندية بجواب صحيح عن هذا الكتاب حتى الآن وهذا المؤلف البريلوي يطلب الإنصاف من الديوبندية ويقول لهم مرارا وتكرارا إن تلك العقائد التي كفرتمونا لأجلها موجودة في كتب أئمتكم فلم تكفروننا. وقد اعترف بهذه الحقيقة أحد كتاب الديوبندية وأدبائهم ألا وهو الشيخ عامر العثماني مدير مجلة التجلي بديوبند وصرح بأن كل ما نقله أرشد القادري البريلوي عن كتب مشايخنا الديوبندية من الخرافات والشركيات فهو موجود في كتب مشايخنا بلا شك وصرح أيضا بأن كل بدعة دخلت على مشايخنا الديوبندية إنما دخلت عليهم من باب التصوف. المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني- 3/ 314 وقال الشيخ محمد يوسف البنوري وهو يشرح طريقة الديوبندية ومذهبهم: "وطريقة الديوبندية التي كان عليها كبار علمائهم هو الإقرار بإمامة فقيه الأمة الإمام أبي حنيفة مراعاة لما للفقه والاجتهاد من مكانة عليا في الشريعة الغراء بعد الحديث النبوي الشريف. وإنه لابد من علوم الصوفية وعلوم تزكية القلوب المتناقلة عن أصحابها، ولابد من مزجها مع علوم الشريعة مزجاً صحيحاً. ويعترف لابن تيمية بجلالة شأنه وفي الوقت نفسه يعترف للشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي بكمالاته فأجمع لدينا تقليد الإمام أبي حنيفة وأتباع الأحاديث النبوية مع علوم الصوفية وتكوّن من هذا المزيج (الثلاثي) مذهب رائع ألا وهو مذهب الطائفة الديوبندية. المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 25، 26 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 485 المبحث الأول: تصور الشيخ إن عقيدة "تصور الشيخ" من أخطر معتقدات مشايخ ديوبند، وهي عملية صوفية بحتة، حيث يتصور السالك شيخه الغائب أو الميت، ويحاول رسم صورته على قلبه، حتى ترتسم فيه، فإذا ارتسمت تكلم شيخه بواسطة هذه الصورة واستشاره في الأمور التي يريدها، وفي هذه العقيدة ما فيها، وسوف تتضح هذه العقيدة وما فيها من الانحراف بقراءة القصة التالية: قال مؤلف "أرواح ثلاثة": "جرى نقاش في مجلس الشيخ الكنكوهي حول مسألة تصور الشيخ، وكان الشيخ متحمساً فقال: أأقول؟ قالوا: قل، ثم قال: أأقول؟ قالوا: قل، ثم أعاد ثلاثاً وقال: أأقول: قالوا: قل، فقال: لقد بقيت صورة الشيخ إمداد الله ثابتة في قلبي ثلاث سنوات كاملة، وما عملت عملاً إلا بإذن منه، ثم أخذه الحماس مرة أخرى فقال: أأقول؟ قالوا: قل، فقال: مضت عليّ سنوات ورسول الله صلى الله عليه وسلم في قلبي، ولم أعمل خلال هذه المدة عملاً بدون سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، ثم ازداد تحمساً وقال أأقول؟ قالوا: قل، فسكت، ولما ألحّوا عليه قال: دعوني؛ وفي اليوم التالي لما ألحّوا عليه إلحاحاً شديداً أخبر بأنه ارتقى إلى مرتبة الإحسان". هذا، وقد علق الشيخ أشرف علي التانوي على هذه القصة وقال: "إن استحضار الصورة واستشارتها يحصل بملكة التخيل في أغلب الأحيان، وقد تتمثل الروح جسداً خرقاً للعادة، وكلتا الحالتين لا يلزمهما الدوام". ثم أخبر عن حاله وقال: "كنت على صلة وارتباط مع الشيخ إمداد الله، وكان هو في مكة وأنا في الهند، فما قمت ولا قعدت إلا بإذن منه، ثم كنت على صلة مثلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم". ويقول الشيخ شبير أحمد العثماني في تفسيره لقوله تعالى: مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ [الحج:15]، ما ترجمته: "إن ضمير المفعول في "لن ينصره" راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، الذي تصوره موجود دائماً في قلب كل تالٍ للقرآن، لأنه صلى الله عليه وسلم أول المخاطبين بالقرآن" ولا شك أن هذا التفسير مبني على عقيدة تصور الشيخ لدى الصوفية حيث يعتقدون أن المريد حينما يأخذ الورد من الشيخ فهو عند الذكر باللسان يتصور شيخه في القلب وبما أننا أخذنا القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم فلا بد أن يكون تصوره موجودا في قلب كل تال للقرآن كلما قرأ القرآن. المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص49 - 51 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 486 المبحث الثاني: أشغال الصوفية والفيوضات الباطنية عقيدة الاستمداد من أهل القبور وروحانية المشايخ وحصول الفيض من قبورهم وصدورهم من أعظم عقائد أكابر الديوبندية. وقد صرح الشيخ أنور شاه الملقب عندهم بإمام العصر (1352هـ) بأن الاستفاضة من أهل القبور تجوز لكونها ثابتة عند أرباب الحقائق الصوفية. قلت: هذه ظاهرة وثنية قبورية؟! وللديوبندية في ذلك عجائب واهتمام بالغ واعتناء كامل. وقد احتجت البريلوية بهذه النصوص الوثنية على الديوبندية وقالوا للديوبندية: أنتم إذاً تجوزون الاستمداد من الأموات إلى هذا الحد فلم تنكرون علينا المصدر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية لشمس الدين السلفي الأفغاني-2/ 786 - 787 وقال السهارنفوري في المهند: ويستحب مبايعة شيخ راسخ القدم ويضع يده في يده ويحبس نظره في نظره ويشتغل بأشغال الصوفية من الذكر والفكر والفناء الكلي ويصح الاستفادة من روحانية المشايخ ووصول الفيوض الباطنية من صدورهم وقبورهم على الطريقة المعروفة عندهم لا بما هو شائع عند العوام. المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني- 3/ 304، 305 جمهرة الديوبندية على جواز حصول الفيض من القبور وأهلها بعد موتهم مع أنهم يعترفون أن الاستفاضة من أهل القبور ليست من طريقة السلف ولكن قالوا تجوز لأنها ثابتة عند أرباب الحقائق يعنون الصوفية الخرافية فأرباب الحقائق مصدر جديد لتلقي العقيدة المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني- 3/ 306 وقال الشيخ حسين أحمد المدني وهو يقارن بين أكابره وبين أتباع الشيخ محمد بن عبدالوهاب في العقائد: "إن الوهابية يعدون الأشغال الباطنية وأعمال الصوفية كالمراقبة والذكر والفكر والإرادة وربط القلب بالشيخ والفناء والبقاء والخلوة وغيرها بدعة وضلالة، ويرون أقوال هؤلاء الأكابر وأفعالهم شركاً في الرسالة. كما أنهم يرون الدخول في السلاسل الصوفية، مكروهاً بل أقبح من ذلك، كما لا يخفى ذلك على من سافر إلى الديار النجدية وخالطهم، وأما الفيوض الروحية فهي لا اعتبار لها عندهم، وأما أكابرنا الأجلاء فيسلكون الطرق الصوفية الباطنية، شعارهم الرياضة والفكر والذكر". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص58، 59 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 487 المبحث الثالث: الاشتغال بقراءة البردة ودلائل الخيرات وغيرهما اهتمام الديوبندية بدلائل الخيرات للجزولي الخرافي (863هـ أو 870هـ) درساً وقراءة ورواية وإجازة، وهذه آية القبورية الواضحة الفاضحة. المثال الثامن والعشرون: شغف الديوبندية بقصيدة البردة للبوصيري (696هـ) الخرافي القبوري الصوفي درساً وقراءة ورواية وإجازة وهي متوراثة عندهم. وللقبورية عامة إعظام وإجلال لها وتبرك بها. وقال الشيخ حسين أحمد أحد كبار أئمة الديوبندية (1377هـ) في المقارنة بين أهل التوحيد الذين يسمونهم الوهابية وبين الديوبندية: (إن الوهابية الخبيثة تستقبح جداً قراءة دلائل الخيرات، والقصيدة البردية، والقصيدة الهمزية ويجعلون بعض أبيات قصيدة البردة من قبيل الشرك كقول البوصيري: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم مع أن أئمتنا وأكابرنا كانوا يأمرون مريدهم بقراءة مثل هذه الكتب ويجيزونها، والشيخ محمد قاسم النانوتوي والشيخ الكنكوهي رحمهما الله أجازا قراءتها لآلاف من الناس وكانا يقرآنها. وقد أنشد الشيخ محمد قاسم النانوتوي مثل هذا البيت الذي في قصيدة البردة فقال: انصر أيها الكريم الأحمدي لأنه ليس لقاسم أحد سواك فإذا أنت لم تسأل عن حالنا فمن يسأل، ومن يكون معيناً لنا غيرك؟؟؟ المصدر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية لشمس الدين السلفي الأفغاني-2/ 801 - 803 سئل الشيخ خليل أحمد السهارنفوري: "ما قولكم في تكثير الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقراءة دلائل الخيرات والأوراد". فأجاب على هذا السؤال بقوله: "يستحب عندنا تكثير الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو من أرجى الطاعات وأحب المندوبات سواء كان ذلك بقراءة الدلائل والأوراد الصلواتية المؤلفة في ذلك أو بغيرها، وكان شيخنا العلامة الكنكوهي يقرأ الدلائل وكذلك المشائخ الأخر من ساداتنا، وقد كتب في إرشاداته مولانا ومرشدنا قطب العالم حضرة الحاج إمداد الله قدس سره العزيز وأمر أصحابه بأن يجربوه، وكانوا يروون الدلائل رواية وكان يجيز أصحابه بالدلائل مولانا الكنكوهي رحمة الله عليه" وقال الشيخ حسين أحمد المدني في كتابه: "إن الوهابية الخبيثة ترى أن الإكثار من الصلاة والسلام على النبي عليه السلام، وقراءة دلائل الخيرات وقصيدة البردة والقصيدة الهمزية وغيرها، وجعلها ورداً أمر قبيح جداً، كما أنهم يعدون بعض أبيات قصيدة "البردة" شركاً، كبيت: يا أشرف الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم وأما مشايخنا الأجلاء فكانوا يمنحون أتباعهم وثائق لقراءة "دلائل الخيرات" وغيرها، ويأمرونهم بالإكثار من قراءتها ومن الصلاة والسلام على النبي عليه السلام، وقد كان الشيخ الكنكوهي والشيخ النانوتوي رحمة الله عليهما يقرآن دلائل الخيرات كما أنهما منحا الإجازة لقراءتها لآلاف أتباعهما". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص63 - 65 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 488 المبحث الرابع: اعتقاد رؤية الرسول في اليقظة عقيدة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً في هذه الحياة الدنيا من أبرز العقائد الديوبندية. والديوبندية قد ادعوا وقوع ذلك ولهم في ذلك أساطير. وقد ادعى ذلك قبلهم كثير من الصوفية؛ منهم التفتازاني فيلسوف الماتريدية والقبورية (792) حيث إنه ادعى رؤيته النبي صلى الله عليه وسلم وأنه تفل في فيه فتضلع علماً ونوراً. وقد صدقه في هذا الإفك البواح كله بعض الديوبندية. وللسيوطي في ذلك رسالة خرافية، سماها: (تنوير الحلك في إمكانية رؤية النبي والملك). فالديوبندية قد ورثت ميراث الخرافة من سلفهم أهل الخرافة؟! ولا يخفى مفاسدها. المصدر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية لشمس الدين السلفي الأفغاني-2/ 785،786 وقد ذكر شيخ جماعة التبليغ "شيخ الحديث محمد زكريا" رحمه الله وسامحه قصة خرافية قبورية أخرى وهي أن الشيخ أحمد الرفاعي لما جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم قام مقابل القبر الأظهر وأنشد هذين البيتين في حالة البعد روحي كنت أرسلها تقبل الأرض عني وهي نائبتي وهذه دولة الأشباح قد حضرت فامدد يمينك كى تحظى بها شفتي فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من قبره فقبلها الرفاعي وقد شاهد هذه القصة جمع يقارب 90000 شخص ومنهم المحبوب السبحاني القطب الرباني الشيخ عبد القادر الجيلاني وكلهم شرفوا بزيارة يده صلى الله عليه وسلم المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني- 3/ 308، 309 يرى علماء ديوبند أنه يمكن زيارة النبي صلى الله عليه وسلم ورؤيته في اليقظة رأي العين، ويذكرون في هذا الصدد قصصاً ووقائع حصلت لأكابرهم ومشايخهم، ونقدم فيما يلي بعضاً منها: يقول الحاج إمداد الله المكي: "كان الشيخ قلندر يتشرف بزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم، إذ لطم ولداً كان من الأشراف، فانقطعت عنه هذه الزيارة، فراجع مشايخ المدينة، فأحالوه إلى امرأة من المجاذيب وكانت من أولياء الله، فلما دخلت هذه المرأة في المسجد النبوي وعرض عليها الشيخ قصته تحمست وأخذت بيده وقالت: شف هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى الشيخ قلندر رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليقظة رأى العين ... ". ويقول الشيخ أشرف علي التانوي في كتابه: "تحدى الروافض مرة الشيخ النانوتوي وقالوا: لئن أريتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليقظة، وشهد لك الرسول صلى الله عليه وسلم بالصدق، اعتنقنا عقيدة أهل السنة والجماعة، فقال الشيخ: أعطوني موثقاً من الله، ولأرينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليقظة، فتردد الروافض". ثم قال الشيخ التانوي معلقاً على هذه القصة:"قال الشيخ ذلك إما لكونه متمكناً من مثل هذا التصرف، وإما لثقته بقوله عليه السلام ((لو أقسم على الله لأبره)) (1). وذكر الشيخ التانوي أيضاً في كتابه قال:   (1) رواه البخاري (2703) ومسلم (1675) من حديث أنس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 489 "يقول ديوان محمد ياسين - وكان من خدام الشيخ النانوتوي رحمة الله عليه- كنت مشغولاً بالذكر تحت القبة الشمالية في مسجد "جهته" وكان الشيخ النانوتوي رحمة الله عليه، مراقباً في صحن المسجد في الجهة الشمالية نفسها، وكان متوجهاً إلى قلبي، إذ طرأت عليّ حالة خاصة، ورأيت وأنا في حالة الذكر، أن غاب سقف المسجد وقبته، مع بقاء جدرانه، وأن نوراً عظيماً في الفضاء ممتد إلى السماء، إذ رأيت عرشاً ينزل من السماء، وعليه الرسول صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الأربعة على الزوايا الأربعة، نزل العرش حتى استقر قريباً مني في المسجد، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد خلفاءه: اذهب وأت بالشيخ محمد قاسم، فذهب وأتى به، فطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الشيخ محمد قاسم حساب المدرسة، فقدم الشيخ حساب المدرسة بكل دقة، ففرح الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا فرحاً شديداً وأذن له بالذهاب، ثم صعد العرش إلى السماء وغاب عن الأنظار". ثم يقول الشيخ التانوي معلقاً على هذه القصة: "إن هذه الواقعة كانت نوعاً من الكشف، والذي يحتمل أن يكون قد حصل بتوجه الشيخ، ولعل تعبير هذه الواقعة هو أن يرى صاحبها ما رأى فيها من تدقيقه صلى الله عليه وسلم لحساب المدرسة حتى يطمئن الذين كان في قلوبهم شك حول ذلك، وأما المعاندون فمن دأبهم التشكيك حتى في الوحي". ويقول الشيخ عاشق إلهي الميرتي في تذكرة حياة الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي ما معناه: "إن رجلاً بايع الشيخ (رشيد أحمد الكنكوهي) عن طريق الرسالة واشتغل بالذكر، وخلال أيام حصل له اللقاء مع أرواح الأنبياء الطيبة - عليهم السلام- وبالتدرج بدأ يشعر كأن سائر أعضاء جسده حتى عروقه وشعراته مرتبطة بتلك الأرواح، إذ طرأ عليه حال السكر، التي انكشفت له فيها المغيبات، وتشرف بحراسة مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم". هذا، وقد ذكر الخواجه عزيز الحسن المجذوب في تذكرة حياة الشيخ أشرف علي التانوي ما معناه: "كان في مدينة "كانفور" درويشاً شهيراً ومعتمداً عليه، يدعى بـ"حضرت شاه غلام رسول"، ويلقب بـ"رسول نما"، لأنه بتصرفه كان يزور بالناس لرسول صلى الله عليه وسلم وفي اليقظة". والقصص في هذا الموضوع كثيرة، رواها علماء ديوبند عن كبارهم ومشايخهم، ومن أراد المزيد فعليه أن يراجع كتبهم ومؤلفاتهم، مثلاً "شمائم إمدادية" و"أرواح ثلاثة" وغيرهما. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 490 ثم إن الشيخ أنور شاه الكشميري قد فصّل في هذا الموضوع، وصرح بإمكان رؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة، وأنها رؤية متحققة، وإنكارها جهل، وجاء لذلك بروايات وحكايات وتأويلات غريبة، وفيما يلي النص بكامله:"ثم التحقيق أن رؤيته صلى الله عليه وسلم لا يتعين في رؤية عين الذات المباركة فإن الأحوال في رؤية الشخص مختلفة فربما نرى شخصاً من الأحياء ولا يكون له علم برؤيتنا ولو كان في المنام عين ما في الخارج لكان عنده شعور بها، فالمرئي إذا والله تعالى أعلم قد يكون صورة مخلوقة لله تعالى على مثال تلك الصورة أي أنه تعالى يخلق حقيقة على مثال صورته وروحانيته أرانا إياها وأوقع في نفسنا مخاطبتها إياها، وقد تكون روحه المباركة بنفسها مع البدن الثاني. ثم قد تكون يقظة أيضاً كما أنها قد تكون مناماً، ويمكن عندي رؤيته صلى الله عليه وسلم يقظة لمن رزقه الله سبحانه كما نقل عن السيوطي رحمه الله تعالى (وكان زاهداً متشدداً في الكلام على بعض معاصريه ممن له شأن) أنه رآه صلى الله عليه وسلم اثنين وعشرين مرة وسأله عن أحاديث ثم صححها بعد تصحيحه صلى الله عليه وسلم، وكتب إليه الشاذلي يستشفع به ببعض حاجته إلى سلطان الوقت وكان يوقرّه فأبى السيوطي رحمه الله تعالى أن يشفع له وقال إني لا أفعل وذلك لأن فيه ضرر نفسي وضرر الأمة لأني زرته صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا أعرف في نفسي أمراً غير أني لا أذهب إلى باب الملوك فلو فعلت أمكن أن أحرم من زيارته المباركة فأنا أرضى بضررك اليسير من ضرر الأمة الكثير. والشعراني رحمه الله تعالى أيضاً كتب أنه رآه صلى الله عليه وسلم وقرأ عليه البخاري في ثمانية رفقة معه ثم سماهم وكان واحد منهم حنفياً وكتب الدعاء الذي قرأه عند ختمه. فالرؤية يقظة متحققة وإنكارها جهل. ثم عند مسلم في لفظ آخر ((فسيراني في اليقظة)) (1) ولعله حديث آخر ومضمون آخر يقتصر على حياته صلى الله عليه وسلم وفيه تبشير بالصحابية لمن كان رآه في المنام ولكن الراوي شك فيه وقال أو فكأنما رآني، فوقع التردد في أنهما حديثان أو واحد. ونقل العيني رحمه الله تعالى فيه زيادة أخرى "فإني أرى في كل صورة" وهي تضر الطائفة الأولى فإنها تشعر بالتعميم وأن لا تخصيص بحلية دون حلية. أقول وظاهر حديث البخاري يومئذ الطائفة الأولى سيما إذا كان من لفظه ((فإن الشيطان لا يتكونني)) (2)، وحينئذ صرف هذه الزيادة عن ظاهرها أولى فإنها لا توازي حديث البخاري وشرحها عندي دفع استبعاد: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في المنام هو ولم يتمكن الشيطان من تمثله فكيف تكون رؤيته في زمان واحد لأشخاص عديدة في أمكنة كذلك، والجواب أنه ممكن لأنه يرى في كل صورة أما أن تكل صورة مثالية أو عينه صلى الله عليه وسلم فهو تابع لمنامه قد تكون كذا وقد تكون كذا. المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 233 - 238   (1) رواه البخاري (6993) ومسلم (2266) من حديث أبي هريرة. (2) رواه البخاري (6997) من حديث أبي سعيد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 491 الفصل الرابع: موقفهم من أهل السنة قد بالغت الديوبندية وأفرطت في نصب العداء لأهل التوحيد الذين يسمونهم (الوهابية) ولهم في شتمهم وسبهم عجائب يستحي منها من عنده حياء، ولا يرتكب مثل هذه الأفعال إلا من لا يخاف الله رب العالمين. وقد تقدم نماذج من ذلك. ولذا أتمثل قول الشاعر: عجبت لشيخ يأمر الناس بالتقى وما راقب الرحمن يوماً وما اتقى المثال الثالث: أنه قد ألف الشيخ خليل أحمد السهارنوفوري (1346هـ) كتابه المعروف (المهند على المفند) والشيخ حسين أحمد المدني (1377) كتابه المشهور (الشهاب الثاقب) وكلاهما في البراءة من عقائد أهل التوحيد الذين يسمونهم (الوهابية). وهما من أعظم أكابر الأئمة الديوبندية، وهذان الكتابان مكتظان بالخرافات القبورية والخزعبلات الصوفية، وكلاهما من أقدس كتب الديوبندية المعول عليها، ولا سيما (المهند على المفند) باللغة العربية، وقد ترجم قريباً إلى اللغة الأردية، وطبعت الترجمة مع الأصل، وسميت الترجمة (ماضي الشفرتين على خادع أهل الحرمين) وكم أضلت هذه الترجمة من خلائق لا يحصون. المصدر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية لشمس الدين السلفي الأفغاني-2/ 775 عداوتهم الرهيبة للإمام محمد بن عبد الوهاب التميمي رحمه الله تعالى خاصة والسلفيين عامة ويذكرونهم حسب عادة أهل الأغراض والأمراض بلقب الوهابية ثم يقولون الوهابية الخبيثة الخبثاء وينبزونهم بالفرقة الزائغة ويرمونهم بالتشكيكات والتلبيسات والجهل والضلال وأن ابن القيم هو الأب لهذه الفرقة ويقولون إن محمد بن عبد الوهاب والوهابية من الخوارج واستباحوا قتل أهل السنة ويستحلون دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم ويقولون: فأيم الله لم نر طائفة يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية إلا هذه الطائفة المنكرة لتقليد السلف الذامة لأهلها ويقولون كان محمد بن عبد الوهاب رجلا بليدا قليل العلم فكان يتسارع إلى الحكم بالكفر وقالوا إن محمد بن عبد الوهاب كان يحمل خيالات باطلة وعقائد فاسدة حارب أهل السنة وقتلهم واغتنم أموالهم وكان يسيء الأدب في حق السلف الصالحين ولذلك يبغضه العرب بغضا أشد من بغضهم لليهود والنصارى والمجوس الحاصل أنه كان ظالما باغيا سفاكا فاسقا. أقول إنا لله وإنا إليه راجعون سبحانك هذا بهتان عظيم المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني- 3/ 312،314 المثال السابع: أنه قد ظهر كتاب جديد بعنوان (إمام الزنادقة ابن تيمية) لمجموعة من علماء الديوبندية في مناطق بشاور وردان وسوات ودير من مناطق باكستان. وفي هذا الكتاب عجب العجاب من الوثنيات والشتائم والسباب. المصدر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية لشمس الدين السلفي الأفغاني-2/ 777 المثال الثامن: أنه من ذا الذي لم يعرف الكوثري؟ فالكوثري إمام القبورية والجهمية وشيخ عصبة التعصب في آن واحد، وشتائمه لأئمة السنة وولوغه في علماء الأمة، ولا سيما ابن تيمية (728هـ) وابن القيم (751هـ) ومجدد الدعوة الهمام (1206هـ) مما لا يخفى على من يهتم بالتوحيد ويعرف البدعة وأهلها. ومن أخبث كتب الكوثري على الإطلاق كتب ثلاثة (تبديد الظلام) (الرد على النونية) و (المقالات) وهذه الكتب كلها معظمة عند الديوبندية. وإن كنت في شك من ذلك فعليك بمقدمة البنوري الكوثري أحد أئمة الديوبندية (1397هـ) التي كتبها في إجلال هذه الكتب الثلاثة وفي الكتابين الأولين عجائب من الوثنيات السافرة والقبوريات الماكرة الفاجرة. الحاصل: أن للكوثري موقعاً عظيماً في قلوب الديوبندية ومن الإعظام له ولكتبه ومقالاته الوثنية الجهمية والإجلال مالا يخطر بالبال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 492 المصدر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية لشمس الدين السلفي الأفغاني-2/ 777، 778 المثال العاشر: أن الشيخ غلام الله الديوبندي الباكستاني (1980م) رحمه الله قد ألف كتاباً في التفسير سماه (جواهر القرآن) أجاد فيه الرد على القبورية وبين وثنيتهم فجزاه الله عن التوحيد وأهله خير الجزاء. ولما كان شاذًّا عن عقائد الديوبندية عند جمهور الديوبندية تصدى له الشيخ عبد الشكور المذكور وكيل الديوبندية فألف في الرد عليه كتاباً سماه (هداية الحيران في جواهر القرآن) حقق فيه أنه قد شذ عن الديوبندية وخرج على عقائدهم. وكتابه (هداية الحيران) أيضاً دعوة إلى القبورية، وقد شحن فيه نصوصاً من كتب كبار أعلام الديوبندية لمناصرته والرد على مؤلف جواهر القرآن. المثال الحادي عشر: أن الشيخ محمد طاهر بن آصف الفنجفيري الملقب عند الحنفية بشيخ القرآن (1407هـ) من معاصري الديوبندية الباكستانية رحمه الله تعالى قد وفقه الله تعالى لمطالعة كتب أئمة الإسلام ولا سيما شيخ الإسلام (728هـ) وابن القيم الهمام (751هـ) ومجدد الدعوة الإمام (1206هـ) فتجرد للرد على القبورية وشن الغارة عليهم فنفع الله به خلقاً كثيراً، وانتشر تلاميذه في مناطق بشاور والقبائل الحرة وأفغانستان (مع ما عنده من العقائد الماتريدية والأفكار الصوفية النقشبندية وطامات الديوبندية والتعصب للمذهب الحنفي كالكوثري) ولكن الديوبندية عارضوه وصاروا ضده وعليه يداً واحدة ورموه عن قوس واحدة وحاربوه وشنوا عليه الغارات زعماً منهم أنه شذ عن جماعة الديوبندية والتحق بالوهابية. قلت: كان رحمه الله حنفيا متعصباً ماتريديا جلداً نقشبنديا صوفيا بحتاً، ولكن كان ذنبه عند الديوبندية أنه كان حرباً شعواء على القبورية فرحمه الله رحمة واسعة إيانا، وسامحه وغفر لنا وله. المصدر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية لشمس الدين السلفي الأفغاني-2/ 779،780 إجلال الديوبندية للملاحدة الزنادقة الوجودية الإلحادية الاتحادية الحلولية من الصوفية القبورية الوثنية. فقد قال الشيخ حسن أحمد صدر المدرسين بدار العلوم ديوبند وأحد كبار أئمة الديوبندية (1377هـ) في المقارنة بين أهل التوحيد الذين يسمونهم الوهابية وبين الديوبندية: (إن الوهابية يطعنون في أئمة الطريقة أمثال الخواجة بهاء الدين نقشبند، والخواجة معين الدين الجشتي، وغوث الثقلين عبد القاهر الجيلاني، والشيخ عبد الوهاب الشعراني، وغيرهم قدس الله أسرارهم أجمعين، ويسيئون الأدب في حقهم. لكن أئمة الديوبندية يحبون هؤلاء ويعظمونهم، ويرون أن التوسل بمحبتهم وتعظيمهم مفيد إلى الغاية القصوى وباعث للبركات وموجب لرضا الله سبحانه وتعالى. الحاصل: أنه لا علاقة لعقائد الوهابية بأكابر الديوبندية) المصدر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية لشمس الدين السلفي الأفغاني-2/ 803 سئل الشيخ خليل أحمد السهارنفوري: "قد كان محمد بن عبد الوهاب النجدي يستحل دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، وكان ينسب الناس كلهم إلى الشرك ويسب السلف، فكيف ترون ذلك، وهل تجوّزون تكفير السلف والمسلمين وأهل القبلة أم كيف مشربكم؟ ". وأجاب عليه السهارنفوري قائلاً: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 493 "الحكم عندنا فيهم ما قال صاحب الدر المختار، خوارج هم قوم لهم منعة خرجوا عليه بتأويل، يرون أنه على باطل كفراً ومعصية، توجب قتاله، بتأويلهم يستحلون دماءنا وأموالنا ويسبون نساءنا إلى أن قال وحكمهم حكم البغاة، ثم قال: وإنما لم نكفرهم لكونه عن تأويل وإن كان باطلاً، وقال الشامي في حاشيته، كما وقع في زماننا في أتباع عبدالوهاب الذين خرجوا من نجد وتغلبوا على الحرمين، وكانوا ينتحلون مذهب الحنابلة، لكنهم اعتقدوا أنهم هم المسلمون وأن من خالف اعتقادهم مشركون، واستباحوا بذلك قتل أهل السنة وقتل علمائهم، حتى كسر الله شوكتهم. ثم أقول ليس هو ولا أحد من أتباعه وشيعته من مشائخنا في سلسلة من سلاسل العلم من الفقه والحديث والتفسير والتصوف، وأما استحلال دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم فإما أن يكون بغير حق أو بحق، فإن كان بغير حق فإما أن يكون من غير تأويل فكفر وخروج عن الإسلام، وإن كان بتأويل لا يسوغ في الشرع ففسق، أما إن كان بحق فجائز بل واجب. وأما تكفير السلف من المسلمين فحاشا أن نكفر أحداً منهم، بل هو عندنا رفض وابتداع في الدين؛ وتكفير أهل القبلة من المبتدعين فلا نكفرهم ما لم ينكروا حكماً ضرورياً من ضروريات الدين، فإذا ثبت إنكار أمر ضروري من الدين نكفرهم ونحتاط فيه، وهذا دأبنا ودأب مشايخنا، رحمهم الله تعالى". وقال في موضع آخر: "إن أحمد رضا خان البريلوي يكفر علماء الأمة كما كفّرهم الوهابية أتباع محمد بن عبدالوهاب، خذله الله تعالى كما خذلهم". وقال الشيخ أنور شاه الكشميري: "أما محمد بن عبدالوهاب النجدي فإنه كان رجلاً بليداً قليل العلم، فكان يتسارع إلى الحكم بالكفر،، ولا ينبغي أن يقتحم في هذا الوادي إلا من يكون متيقظاً متقناً عارفاً بوجوه الكفر وأسبابه".وقال الشيخ محمد التانوي في تعليقه على سنن النسائي في شرح حديث أبي سعيد الخدري عن ظهور الخوارج، والذي جاء فيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من ضئضئي هذا قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)) (1) الحديث. فقال الشيخ التانوي- شرحاً لهذا الحديث- ما يلي نصه: " ... ثم ليعلم أن الذين يدينون دين ابن عبد الوهاب النجدي ويسلكون مسالكه في الأصول والفروع، ويدعون في بلادنا باسم الوهابيين وغير المقلدين، ويزعمون أن تقليد أحد الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم شرك، وأن من خالفهم هم المشركون، ويستبيحون قتلنا أهل السنة وسبي نسائنا، وغير ذلك من العقائد الشنيعة التي وصلت إلينا منهم بواسطة الثقات وسمعناها بعضاً منهم أيضاً، هم فرقة من الخوارج، وقد صرح به العلامة الشامي في كتابه (رد المحتار) عند قول صاحب "الدر المختار": ويكفرون أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم، في كتاب البغاة، حيث قال: قد علمت أن هذا غير شرط في مسمى الخوارج، بل هو بيان لمن خرجوا على سيدنا علي رضي الله عنه، وإلا فيكفي فيهم اعتقاد كفر من خرجوا عليه، كما وقع في زماننا في أتباع ابن عبد الوهاب الذي خرجوا من نجد وتغلبوا على الحرمين، وكانوا ينتحلون مذهب الحنابلة، لكنهم اعتقدوا أنهم هم المسلمون، وأن من خالف اعتقادهم مشركون، واستباحوا بذلك قتل أهل السنة وقتل علمائهم، حتى كسر الله شوكتهم وخرب بلادهم وظفر بهم عساكر المسلمين عام ثلاث وثلاثين ومائتين وألف". وقال الشيخ حسين أحمد المدني:   (1) رواه البخاري (3344) ومسلم (1064). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 494 "إن محمد بن عبد الوهاب النجدي ظهر في بداية القرن الثالث عشر من نجد العرب، وبما أنه كان يحمل معه أفكاراً باطلة وعقائد فاسدة فقتل وقاتل أهل السنة والجماعة، وما زال يكرههم على معتقداته ويستحل أموالهم، وعدّ قتلهم موجباً للأجر والرحمة، وآذى أهل الحجاز وبخاصة سكان الحرمين إيذاء شديداً، كما تفوه في شأن السلف الصالح وأتباعهم بكلمات هي في غاية الشناعة والوقاحة، حتى اضطر الكثير منهم إلى مغادرة مكة والمدينة فراراً من إيذائه، واستشهد على يده وأيدي جيوشه آلاف من الرجال المسلمين. والحاصل أنه كان رجلاً ظالماً عاصياً فاسقاً سفاكاً، ومن أجل ذلك مازالت للعرب ولا تزال عداوة قلبية معه ومع أتباعه بحيث لا يبغضون اليهود ولا النصارى ولا الهندوس كما يبغضون الوهابيين". وزاد قائلاً: "وكان محمد بن عبد الوهاب يعتقد بأن كافة أهل العالم وجميع مسلمي بلاد العرب كافرون ومشركون، وأن قتلهم وقتالهم ونهب أموالهم جائز بل واجب". هذا، وقد وجّه إليه الشيخ رياض أحمد القاسمي- من سكان مدينة لاهور- أسئلة، أولها ما يلي: "هل كتاب (الشهاب الثاقب على المسترق الكاذب) ضد الوهابية والبريلوية من مؤلفاتك؟ ". وأجاب الشيخ المدني عن هذا السؤال قائلاً: "إن كتاب (الشهاب الثاقب على المسترق الكاذب) من مؤلفاتي، وهو أول كتاب صنفته رداً على مولانا أحمد رضا خان البريلوي، وأوردت فيه ذكر الوهابية تبعاً، وغرضي بذلك هو إظهار أن علماءنا ليسوا على الإفراط ولا على التفريط، وإنما يسلكون مسلكاً وسطاً، وأن أهل السنة والجماعة هم الأتباع الصادقون للأسلاف الكرام". والسؤال الثاني الذي وجهه السائل إلى المدني هو ما يلي: "هل اليوم أيضاً أنت على نفس الموقف الذي أبديته في ذلك الكتاب أم رجعت عنه؟ وهل ترى المرحوم محمد بن عبدالوهاب خارجياً أم عالماً متبعاً للسنة؟ كما ذكره شيخك مولانا رشيد أحمد الكنكوهي - رحمة الله عليه- في فتاواه ... ". فأجاب عنه الشيخ المدني قائلاً: "نعم، اليوم أيضاً أنا على نفس الموقف الذي ذكرته في ذلك الكتاب (الشهاب الثاقب) وهو موقف أسلافي الكرام، ولست أنا أول من كتبت ذلك في محمد بن عبدالوهاب وجماعته، بل وقد صرح به العلامة الشامي - رحمه الله- على صفحة (339) من الجزء الثالث من كتابه (رد المحتار حاشية الدر المختار)، وهو كتاب يستند إليه ويفتى به في الفقه الحنفي. ولما كان صاحب (رد المحتار) العلامة الشامي - رحمه الله- من سكان تلك المنطقة ومن معاصري ذلك الزمن، وكان قد سافر حاجاً إلى مكة المعظمة أيام سيطرة جماعة محمد بن عبد الوهاب على الحجاز عام 1233هـ، كما صرح بذلك على صفحة (674) من الجزء الأول من كتابه، فهو أعلم بأحوال محمد بن عبد الوهاب وجماعته أكثر ممن كان بعيداً منهم أو متأخراً عن عصرهم؛ وأما مولانا الكنكوهي - قدس سره العزيز- فإنه من أبعد المتأخرين عنهم ومن سكان الهند، فليس له إلمام تام بأحوال هذه الجماعة. كما صرح بذلك على صفحة (64) من فتاواه المعروفة بفتاوى رشيدية. وأما ما كتب على صفحة (8) من فتاواه في تحسين محمد بن عبد الوهاب وجماعته، فإن مداره على الأقوال المسموعة الشائعة فقط. وقد كان مولانا الكنكوهي يعتمد كثيراً على كتاب الشامي هذا، بل ومعظم فتاواه مأخوذة منه". كما أن هناك مكتوب آخر للشيخ المدني، صرح فيه بأن أتباع محمد بن عبد الوهاب أراقوا دماء المسلمين أنهاراً في الحرمين الشريفين خلال فترة 1220هـ-1233هـ؛ حيث قال تعليقاً على تعليمات الأستاذ المودودي وأنها جاءت بنتائج سيئة: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 495 "ألم يكن من نتائج مثل هذه التعليمات، ما ظهر من الخوارج في النهروان وغيرها من سفك دماء المسلمين، وأتباع عليّ ومعاوية رضي الله عنهما، وما أحدثه أتباع محمد بن عبد الوهاب النجدي من سفك دماء المسلمين أنهاراً في الحجاز، مكة المعظمة والمدينة المنورة خلال فترة 1220 - 1233هـ. ففي رد المحتار حاشية الدر المختار الشامي (3 - 339): كما وقع في زماننا من أتباع محمد بن عبدالوهاب الذين خرجوا من نجد (وتغلبوا على الحرمين) وكانوا ينتحلون مذهب الحنابلة، لكنهم اعتقدوا أنهم هم المسلمون وأن من خالف اعتقادهم مشركون، واستباحوا بذلك قتل أهل السنة وقتل علمائهم، حتى كسر الله شوكتهم وخرب بلادهم وظفر بهم عساكر المسلمين عام ثلاث وثلاثين ومائتين وألف" أهـ. وما ظهر من "الغطغط" و"الدخنة" في صورة قتل المسلمين ونهب أموالهم أيام سيطرة ابن سعود، حتى عجز ابن سعود من هذه القبائل وقوض قواتهم، فكان كل ذلك نتائج لمثل هذه التعليمات التي يقوم بها اليوم أتباع الأستاذ المودودي". نماذج أخرى من طعونات المدني: ومن افتراءات الشيخ المدني وطعوناته في إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأتباعه ما يلي: قال الشيخ المدني وهو يقارن بين علمائه وبين أتباع الشيخ محمد بن عبدالوهاب ما معناه: "إن الشيخ الكنكوهي- قدس الله سره العزيز- وأتباعه يسلكون مسلك الاحتياط الشديد في تكفير المسلمين ويتحمسون لأتباع السلف الصالح، بخلاف الوهابية، حيث أنهم يكفرون المسلمين بأدنى شبهة وهمية، ويستحلون أموالهم وغيرها". وقال: "إن هؤلاء- علماء ديوبند- يثبتون شفاعة الرسول المقبول عليه السلام، بخلاف الوهابية، فإنهم يأتون في هذه المسألة بآلاف التأويلات، وبحيث يصلون قريباً من منزلة إنكار الشفاعة". هذا، وقد فصّل المدني كلامه في بيان تعظيم علمائه وأكابره للحرمين الشريفين، وحبهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأتباعهم لآثاره وسننه، ثم قال في كلمات صريحة بأن الوهابية ليسوا كعلماء ديوبند في جميع هذه الأمور المذكورة، ولا يعتقدون مثل اعتقادهم، بل يسيئون إلى شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يعظمونه ولا يحترمون الحرمين الشريفين، وتوطيداً لدعواه فقد نقل المدني أبياتاً لعلمائه تتعلق بحب الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قارن بينهم وبين أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله- قائلاً: "أهذه هي حال الوهابية الخبثاء؟ أمثل هذه الكلمات تخرج من ألسنتهم النتنة؟ أمثل هذه العبارات الخلابة تصدر من أقلامهم النجسة؟ كلا، إن هؤلاء الخبثاء يرون مثل هذا الكلام شركاً، ويعدون هذا الموضوع - أي موضوع مدح الرسول صلى الله عليه وسلم- نوعاً من أنواع الخرافات". ملحوظة: لقد حاول بعض علماء ديوبند في العصر المتأخر أن يبرؤوا علماءهم عما كتبوه في الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه وأن يثبتوا رجوعهم عن كل ذلك، ولكنه وللأسف الشديد أن جميع هذه المحاولات غير أمينة، فإنها دعايات لا تتجاوز القول بالأفواه، بل مجرد لبس يهدف إلى أغراض وغايات، فإنهم يتظاهرون بها في مكان دون آخر، وبين شخصيات دون أخرى، فالكتب التي أفردوها بالتأليف رداً على الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته، والتي تحتوي على الافتراءات والمطاعن والأقاويل المكذوبة على الدعوة وأتباعها، كلها مازالت مروجة عندهم طبعاً ونشراً وتصديراً، تحظى بالإعجاب والقبول لدى علمائهم وعامتها. ولمزيد من الاطلاع على هذا الموضوع يمكن الرجوع إلى كتاب (دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب في شبه القارة الهندية). المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 247 - 259 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 496 المبحث الأول: وجوب التقليد غلو الديوبندية في التقليد الأعمى إلى حد اعترفوا بأن الحق في مسألة كذا مذهب الشافعي. ولكننا مقلدون يجب علينا تقليد إمامنا أبي حنيفة. وقالوا: المتنقل من مذهب إلى مذهب يستوجب التعزير ولو باجتهاد وبرهان. قلت: وهذا الغلو في التقليد هو في الحقيقة نوع من أنواع الشرك إذ هو من اتخاذ الأئمة أرباباً من دون الله. وهذا النوع من الطاعة المطلقة لغير الله شرك بالله عز وجل ومن هذا القبيل عدم تجويز إمام الفنجفيرية الانتقال من مذهب إلى آخر المصدر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية لشمس الدين السلفي الأفغاني-2/ 804 إن العلامة المحدث الفقيه خليل أحمد السهارنفوري أحد كبار أئمة الديوبندية (1346هـ) ومؤلف (بذل المجهود شرح سنن أبي داود) قد ألف كتابا يعد أهم كتب الديوبندية في العقيدة على الإطلاق وعليه توقيعات وتقريظات لخمسة وستين عالما من كبار العلماء الديوبندية وغيرهم والكتاب مطبوع بعنوان (المهند على المفند) باللغة العربية وقد ترجم قريبا إلى اللغة الأردية أيضا .... ومما قال في هذا الكتاب إنا بحمد الله ومشايخنا وجميع طوائفنا مقلدون للإمام أبي حنيفة في الفروع المصدر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني- 3/ 304 الجامعة الإسلامية الشهيرة "دار العلوم" .... كان الهدف الأساسي من إنشاء هذه الجامعة هو تأييد المذهب الحنفي ونشره وإخضاع السنة النبوية وتطويعها للفقه الحنفي، وهذه حقيقة لا مبالغة فيها، وقد اعترف بها عدد من كبار علمائهم، كما ذكر المفتي الشيخ محمد شفيع أنه ذات يوم دخل على شيخه العلامة الشيخ محمد أنور الكشميري في حجرته قبيل صلاة الفجر، فسمعه يقول ويردد هذه الفقرة: "يا للأسف قد ضيّعت حياتي كلها". فلما سمع الشيخ محمد شفيع شيخه الكشميري يردد هذه الفقرة عدة مرات قال له: يا شيخنا! لقد قضيت حياتك كلها في تدريس القرآن والحديث، فإذا كانت هذه المهنة تضييعاً للحياة فما رأيك في أولئك الذين انشغلوا بهذه المهنة؟ فأجاب عليه الشيخ الكشميري بقوله: "إن الإسلام مهجوم عليه في جميع أنحاء العالم، ونحن مشغولون بتأييد الإمام أبي حنيفة وتوثيقه، وردِّ العلماء المخالفين له ونقدهم، بدلاً من أن نواجه الهجمات الحقيقية ضد الإسلام، فما هذا إن لمن يكن تضييعاً للحياة؟ " [ويقول الشيخ عبد الشكور الحنفي في مقال له بعنوان "بركات ديوبند" وهو يتبرأ من الوهابية ويشكو ممن يسمون الديوبندية بالوهابية أو النجدية، ما معناه:] "لقد رفع الحساد المتأخرون أصواتهم (ضد علماء ديوبند) إلى حد إمكانياتهم، فرموهم بأنهم وهابيون نجديون، وأمطروا عليهم قنابل فتوى الكفر، وحاولوا استئصالهم ما بين دار الكفر إلى دار الإسلام، ولكنهم في عاقبة الأمر فشلوا كما فشلت الفتنة اللهابية في عصر النبوة - على صاحبها الصلاة والسلام -، إلى أن قال: إن المدرسة العالية بديوبند بركاتها هي نفس بركات أسرة ولي الله الدهلوي علماً وعملاً وصدقاً وإخلاصاً، وأما من أراد أن يقول شيئاً في علمائنا حسداً من عند نفسه فليقل في بيته ما شاء أن يقول وهابياً أو نجدياً أو ملحداً أو كافراً أو مرتداً، ولكن الحقيقة أن مدرسة ديوبند هي المدرسة الوحيدة التي تحمل راية خدمة الإسلام الصحيح وتأييد المذهب الحنفي الخالص". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن - ص 21 - 23 سئل الشيخ خليل أحمد السهارنفوري: "هل يصح لرجل يقلد أحداً من الأئمة الأربعة في جميع الأصول والفروع أم لا، وعلى تقدير الصحة هل هو مستحب أم واجب، ومن تقلدون من الأئمة فروعاً وأصولاً؟ " فأجاب عليه بقوله: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 497 "لابد للرجل في هذا الزمان أن يقلد أحداً من الأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم بل يجب، فإنا جربنا كثيراً ممن ترك تقليد الأئمة واتبع رأي نفسه وهواها فسقط في حفرة الإلحاد والزندقة، أعاذنا الله منه، ولأجل ذلك نحن ومشائخنا مقلدون في الأصول والفروع لإمام المسلمين أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، أماتنا الله عليه وحشرنا في زمرته، ولمشايخنا في ذلك تصانيف عديدة شاعت واشتهرت في الآفاق". وقال الشيخ حسن أحمد المدني وهو يذكر الفرق الشاسع بين أكابر ومشايخ ديوبند وبين أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "إن الوهابية يرون تقليد إمام معين شركاً في الرسالة. ويذكرون الأئمة الأربعة ومقلديهم بكلمات واهية خبيثة، ومن أجل ذلك يخالفون أهل السنة والجماعة، وغير المقلدين بالهند أتباع لهذه الطائفة الشنيعة وإن وهابية نجد العرب مع ادعائهم أنهم حنابلة، إلا أنهم لا يعملون بمذهب الإمام أحمد بن حنبل - رحمة الله عليه- في جميع المسائل، بل يتركون الفقه الحنبلي إذا عارضه حديث على فهمهم، وهم أيضاً متعودون على استخدام الكلمات البذيئة والسيئة في أكابر الأمة، مثل إخوانهم غير المقلدين، وأما أكابرنا فهم مخالفون لهذه الطائفة في جميع هذه الأمور، فهم مقلدون للإمام الأعظم أبي حنيفة رحمة الله عليه، في الأصول والفروع، ويرون وجوب تقليد إمام من الأئمة الأربعة كما فصّل في ذلك الشيخ النانوتوي في كتابه (لطائف قاسمية) والشيخ الكنكوهي في (سبيل الرشاد)، بل أن الشيخ الكنكوهي ألف رسالة مستقلة في وجوب التقليد الشخصي، حيث أنه قد ألف عدة رسائل في الرد على الوهابية ... ". وقال الشيخ محمود الحسن الديوبندي الملقب بشيخ الهند (1339هـ) وهو يوجب تقليد الإمام أبي حنيفة، حتى ولو كان رأيه مخالفاً للحق الصريح، حيث قال: "فالحاصل: أن مسألة الخيار من مهمات المسائل، وخالف أبو حنيفة فيه الجمهور وكثيراً من الناس المتقدمين والمتأخرين، وصنفوا رسائل في ترديد مذهبه في هذه المسألة، ورجّح مولانا الشاه ولي الله المحدث الدهلوي قدس سره في رسالته مذهب الشافعي من جهة الأحاديث والنصوص، وكذلك قال شيخنا مدّ ظله بترجيح مذهبه، وقال: الحق والإنصاف أن الترجيح للشافعي في هذه المسألة. ونحن مقلدون يجب علينا تقليد إمامنا أبي حنيفة". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 261 - 263 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 498 المبحث الثاني: تحريف نصوص الكتاب والسنة لنصرة مذهبهم إن التحريف في نصوص الكتاب والسنة من الأمور الخطيرة التي تقشعر جلود المسلم من تصورها، حيث أنه تقوّل وافتراء على الله سبحانه، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وزيادة في كتاب الله وفي حديث نبيه صلى الله عليه وسلم، إلا أن علماء ديوبند لم يبالوا بذلك وحرفوا نصوصاً من القرآن الكريم ومن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك ترجيحاً لمذهبهم وتأييداً لمسائلهم الفقهية، فإلى الله المشتكى. يقول الشيخ محمود الحسن الديوبندي في كتابه (إيضاح الأدلة) حماية للتقليد وتأييداً للمذهب الحنفي ما ترجمته: "كما أن طاعة النائبين بمنزلة طاعة الحكام، كذلك طاعة الأنبياء عليهم السلام وجميع أولي الأمر طاعة لله تعالى بعينها، فمن رأى أن طاعة أتباع الأنبياء وطاعة أولي الأمر ليست داخلة في طاعة الله تعالى فهو كما يظن بعض قليلي الفهم أن طاعة النائبين ليست داخلة في طاعة الحكام. ولذلك قال تعالى: أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59]. ومعلوم أن المراد من أولى الأمر في هذه الآية هم غير الأنبياء عليهم السلام، فظهر من الآية أن الأنبياء عليهم السلام وجميع أولى الأمر واجب اتباعهم، فأنتم (خطاب لأهل الحديث) قد رأيتم الآية فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59] ولكن ما علمتم إلى الآن أن القرآن الذي نقلتم منه هذه الآية موجودة فيه أيضاً تلك الآية التي نقلتها أنا، ولا عجب أنكم تفتون بنسخ إحداهما للأخرى ظنّاً منكم حسب عادتكم أنهما متعارضتان". والجدير بالذكر أنه بعد مرور ثلاثين عاماً على طبع هذا الكتاب، ثم طبعه للمرة الثانية في عام 1330هـ ولكنه وللأسف الشديد أن علماء ديوبند لم يحذفوا منه هذه العبارة التي تشتمل على التحريف الواضح البين، ولم يعلقوا عليها شيئاً في الهامش، مع أن علماء أهل الحديث ردوا على مؤلفه وأنكروا على ما جاء به في كتابه من التحريف، بعد طبع الكتاب للمرة الأولى، وكان من الذي ردوا على مؤلف الكتاب المذكور الشيخ محمد بن إبراهيم الجوناكري وذلك في جريدته (أخبار محمدي) التي كانت تصدر في دلهي عاصمة الهند، ثم ذكر ذلك كله في هامش كتابه (طلاق محمدي). ومن الذين حرّفوا في كتاب الله الشيخ شبلي النعماني (المتوفى 1332هـ) الملقب عند الحنفية بحجة الملك والدين وبشمس العلماء، ألّف كتابه (سيرة النعمان) وذكر فيه أحوال الإمام أبي حنيفة - رحمه الله- وسعى جاهداً فيه لترجيح مذهبه على المذاهب الفقهية الأخرى في المسائل المعروفة التي لازالت مختلفاً فيها، ومنها هل الأعمال داخلة في الإيمان أم لا، وجاء بدلائل قاطعة - ظناً منه- على أن الأعمال ليست بداخلة في الإيمان، ومن هذه الأدلة ذكر آية محرفة من عنده فقال: "والآيات التي استدل بها الإمام يثبت بها بداهة أن الأمرين منفصلان، لأن في جميع الآيات عطف العمل على الإيمان، وظاهر أن الجزء لا يمكن عطفه على الكل "من يؤمن بالله فيعمل صالحاً: فيه حرف التعقيب، الذي يحصل به فصل قطعي في هذا البحث". هذه الآية في سورة التغابن، وفيها وَيَعْمَلْ صَالِحًا [التغابن:9]، ولكن حرّف فيها النعماني ليثبت أن العمل ذكر متعقباً بالفاء ومؤخراً، أي بعد الإيمان مما يدل على أن الإيمان يكتمل دون العمل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 499 والجدير بالذكر أن علماء أهل الحديث قد ردوا على مؤلف "سيرة النعمان" في ما جاء به في تحريف النص في كتابه وأنكروا عليه ذلك، ومنهم العلامة المحدث عبد العزيز الرحيم آبادي وذلك في كتابه (حسن البيان في ما في سيرة النعمان) وطبع هذا الكتاب في دلهي عام 1346هـ، ولكنه بعد طبع كتاب (حسن البيان) بسنوات طبع كتاب النعماني للمرة الثانية، ولم يغيروا شيئاً من كتابه ولم يعلقوا على مكان التحريف رداً ولا إصلاحاً. وفي العصر القريب ظهرت رسالة باسم "تحقيق مسألة رفع اليدين" لمؤلفها مولانا أبو معاوية صفدر جالندري، ونشرها "أبو حنيفة أكيدمي" بيهاولفور، حاول مؤلفها فيها أن يجمع كل ما وجد من الأدلة على عدم رفع اليدين في الصلاة غير تكبيرة الإحرام، وادعى أن عدم رفع اليدين ثابت من القرآن الكريم، وقال إنه ورد في القرآن الأمر بالسكوت في الصلاة، ثم ذكر ثلاث آيات في ذلك وقال في الثالثة: يقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ [النساء: 77] ثم ترجم هذه العبارة باللغة الأردية محرّفاً فيها، فقال ما ترجمته بالعربية: "يا أيها الذين آمنوا كفوا أيديكم إذا صليتم". ثم قال: "وقد استدل بعض الناس بهذه الآية أيضاً على منع رفع اليدين في الصلاة". وقد ارتكب غلاة الحنفية الديوبندية التحريف أيضاً في نصوص حديث الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم، وما يمنعهم من ذلك، وقد ارتكبوا ما هو أعظم وأكبر من ذلك، وهو التحريف في كلام الله تعالى، ومن الذين حرفوا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الشيخ محمود الحسن - الملقب بشيخ الهند لدى طائفته- فقد أخرج الإمام أبو داود في سننه بسنده عن الحسن أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- (جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يصلي لهم عشرين ليلة، ولا يقنت بهم إلا في النصف الباقي). هكذا نص الحديث في جميع نسخ السنن لأبي داود وشرحها المطبوعة إلى عام 1318هـ. ثم بدأ غلاة الحنفية الديوبندية يحرفون فيه مرحلة بعد مرحلة، حيث طبع هذا الكتاب- (السنن) - بحاشية الشيخ محمود الحسن، فجعلوا في صلب الحديث لفظ "ليلة" وأشاروا في الهامش إلى أن في بعض النسخ "ركعة"، ثم طبع الكتاب - (السنن) - بحاشية الشيخ فخر الحسن الديوبندي فجعلوا في الصلب لفظ "ركعة" وفي الهامش "ليلة" وما ذلك كله إلا لإيهام الناس بأن النسخ مختلفة. وبناءُ هذا الاختلاف المزعوم المختلق هو أن هذا الحديث موجود في سنن أبي داود مع شرحه "بذل المجهود" للشيخ خليل أحمد السهارنفوري، في باب "قنوت الوتر" بلفظ "عشرين ليلة"، ومكتوب في الحاشية "في نسخة "ركعة"، كذا في نسخة مقروءة على الشيخ مولانا محمد إسحاق رحمه الله تعالى". ولكنه لم يُذكر من القائل لهذا القول؟ ومن الذي رأى تلك النسخة المقروءة على الشيخ محمد إسحاق؟ وأين هذه النسخة القيمة؟ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى [النجم:23] وهذه نبذة يسيرة مما ارتكبه الديوبندية في كتاب الله وحديث المصطفى عليه الصلاة والسلام، من تحريف وتأويل، تأييداً لمذهبهم الفقهي، وردّاً على غيرهم في المسائل الفرعية. ومن الصعب جداً أن نذكر في هذه العجالة كل ما اطلعنا عليه من مثل هذه التحريفات، ومن أراد المزيد على ما ذكرناه فليراجع الكتب والمؤلفات الأخرى في هذا الموضوع. المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 265 - 270 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 500 المبحث الأول: الرد على عقيدة وحدة الوجود لقد وجه إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء سؤال حول حديث ((كنت سمعه الذي يسمع به .... )) الذي يستدل به الصوفية على موقفهم الخاطئ، وفيما يلي نص السؤال والجواب: السؤال: ما معنى قوله تعالى في الحديث القدسي: ((فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها)) (1)؟ الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه .. وبعد: الجواب: إذا أدى المسلم ما فرض عليه ثم اجتهد في التقرب إلى الله تعالى بنوافل الطاعات واستمر على ذلك وسعه أحبه الله تعالى، وكان عونا له في كل ما يأتي ويذر، فإذا سمعه كان مسدداً من الله في سمعه فلا يستمع إلا الخير ولا يقبل إلا الحق وينزاح عنه الباطل، وإذا أبصر بعينه أو قلبه أبصر بنور من الله فكان في ذلك على هدى من الله وبصيرة نافذة بتأييد الله وتوفيقه، فيرى الحق حقاً والباطل باطلاً، وإذا بطش بشيء بطش بقوة من الله فكان بطشه من بطش الله نصرة للحق، وإذا مشى فكان مشيه في طاعة الله طلباً للعلم وجهاداً في سبيل الله، وبالجملة كان عمله بجوارحه الظاهرة والباطنة بهداية من الله وقوة منه سبحانه. وبهذا يتبين أنه ليس في الحديث دليل على حلول الله في خلقه أو اتحاده بأحد منهم، ويرشد إلى ذلك ما جاء في آخر الحديث من قوله تعالى: ((ولئن استعاذ بي لأعيذنه)) وما جاء في بعض الروايات من قوله: "فبي يسمع وبي يبصر .. إلخ" فإن ذلك إرشاد إلى المراد في أول الحديث وتصريح بسائل ومسؤول ومستعيذ ومعيذ ومستعين ومعين، وهذا الحديث نظير الحديث القدسي الآخر، يقول الله تعالى: ((عبدي مرضت فلم تعدني .. الخ)) (2) فكل منهما يشرح آخره أوله، لكن أرباب الهوى يتبعون ما تشابه من النصوص ويعرضون عن المحكم منها فضلوا سواء السبيل". هذا، وجاء في فتاوى ابن العثيمين:"المثال التاسع: ذكر فضيلتكم قوله - تعالى - في الحديث القدسي ((ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) (3) وهذا حديث صحيح خرجه البخاري في (صحيحه) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم إن الله قال: ((من عادي لي ولياً فقد آذنته بالحرب)) وذكر تمام الحديث. ولا ريب أنه لا يراد من الحديث أن يكون الله - تعالى وتقدس - عين سمع الولي، وبصره، ويده، ورجله، ولا يمكن أن يقال إن هذا ظاهر الحديث لمن تدبره تدبراً جيداً حتى يقال إنه يحتاج إلى التأويل بصرفه عن ظاهره، فإن في سياق الحديث ما يمنع القول بهذا، وذلك أن الله - تعالى - قال فيه: ((وما يزال عبدي يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه)). وقال: ((ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)). فأثبت عبداً ومعبوداً. ومتقرباً ومتقرباً إليه. ومحباً ومحبوباً، وسائلاً ومسئولاً. ومعطياً ومعطى. ومستعيذاً ومستعاذاً به. ومعيذا ومعاذاً. فسياق الحديث يدل على اثنين متباينين، كل واحد منهما غير الآخر. وعلى هذا فيمتنع أحدهما أن يكون وصفاً في الآخر، أو جزءاً من أجزائه، ولا يمكن لأحد أن يفهم هذا الفهم من مثل هذا السياق أبداً. اللهم إلا أن يكون بليد الفكر، أو معرضاً عن التدبر، أو ذا هوى أعماه.   (1) رواه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة. (2) رواه مسلم (2569) من حديث أبي هريرة. (3) رواه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1 ولا يفهم أحد من مثل هذا السياق - إذا تدبره وكان ذا فكر سليم - إلا أن المراد به تسديد الله - تعالى - للعبد إدراكاً وعملاً، بحيث يكون إدراكه بسمعه وبصره بالله ولله وفي الله، وكذلك عمله بجوارحه فيتم له بذلك كمال الاستعانة والإخلاص، والمتابعة غاية التوفيق. وهذا ما فسره به السلف وهو تفسير مطابق للفظ متعين بالسياق، وليس فيه تأويل ولا صرف للكلام عن ظاهره ولله الحمد والمنة". وجاء فيه أيضاً والشيخ يذكر ثلاثة أقسام للفناء: "القسم الثاني: صوفي بدعي وهو: الفناء عن شهود السوي أي عن شهود ما سوى الله تعالى، وذلك أنه بما ورد على قلبه من التعلق بالله عز وجل وضعفه عن تحمل هذا الوارد ومقاومته، غاب عن قلبه كل ما سوى الله عز وجل ففني بهذه الغيبوبة عن شهود ما سواه، ففني بالمعبود عن العبادة وبالمذكور عن الذكر، حتى صار لا يدري أهو في عبادة وذكر أم لا، لأنه غائب عن ذلك بالمعبود والمذكور لقوة سيطرة الوارد على قلبه. وهذا فناء يحصل لبعض أرباب السلوك، وهو فناء ناقص من وجوده: الأول: أنه دليل على ضعف قلب الفاني، وأنه لم يستطع الجمع بين شهود المعبود والعبادة، والأمر والمأمور به، وأعتقد أنه إذا شاهد العبادة والأمر اشتغل به عن المعبود والآمر، بل إذا ذكر العبادة والذكر كان ذلك اشتغالاً عن المعبود والمذكور. الثاني: أنه يصل بصاحبه إلى حال تشبه حال المجانين والسكارى حتى إنه ليصدر عنه من الشطحات القولية والفعلية المخالفة للشرع ما يعلم هو وغيره غلطه فيها، كقول بعضهم في هذه الحال: "سبحاني .. سبحاني أنا الله. ما في الجبة إلا الله أنصب خيمتي على جهنم" ونحو ذلك من الهذيان والشطح. الثالث: أن هذا الفناء لم يقع من المخلصين الكمل من عباد الله، فلم يحصل للرسل، ولا للأنبياء، ولا للصديقين والشهداء. فهذا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رأى ليلة المعراج من آيات الله اليقينية ما لم يقع لأحد من البشر وفي هذه الحال كان، صلى الله عليه وسلم، على غاية من الثبات في قواه الظاهرة والباطنة كما قال الله تعالى عن قواه الظاهرة: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17]. وقال عن قواه الباطنة: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11] وهاهم الخلفاء الراشدون أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم أفضل البشر بعد الأنبياء وسادات أوليائهم لم يقع لهم مثل هذا الفناء، وهاهم سائر الصحابة مع علو مقامهم وكمال أحوالهم لم يقع لهم مثل هذا الفناء. وإنما حدث هذا في عصر التابعين فوقع منه من بعض العباد والنساك ما وقع، فكان منهم من يصرخ، ومنهم من يصعق، ومنهم من يموت وعرف هذا كثيراً في بعض مشايخ الصوفية. ومن جعل هذا نهاية السالكين فقد ضل ضلالاً مبيناً، ومن جعله من لوازم السير إلى الله فقد أخطأ. وحقيقته: أنه من العوارض التي تعرض لبعض السالكين لقوة الوارد على قلوبهم وضعفها عن مقاومته، وعن الجمع بين شهود العبادة والمعبود ونحو ذلك. القسم الثالث: فناء إلحادي كفري وهو: الفناء عن وجود السوي، أي عن وجود ما سوى الله عز وجل، بحيث يرى أن الخالق عين المخلوق، وأن الموجود عين الموجد، وليس ثمة رب ومربوب، وخالق ومخلوق، وعابد ومعبود وآمر ومأمور، بل الكل شيء واحد وعين واحدة. وهذا فناء أهل الإلحاد القائلين بوحدة الوجود كابن عربي، والتلمساني وابن سبعين، والقونوي ونحوهم ... وهؤلاء أكفر من النصارى من وجهين: أحدهما: أن هؤلاء جعلوا الرب الخالق عين المربوب المخلوق وأولئك النصارى جعلوا الرب متحداً بعبده الذي اصطفاه بعد أن كانا غير متحدين. الثاني: أن هؤلاء جعلوا اتحاد الرب سارياً في كل شيء، في الكلاب والخنازير والأقذار والأوساخ. وأولئك النصارى خصوه بمن عظموه كالمسيح، وتصور هذا القول كاف في رده، إذ مقتضاه: أن الرب والعبد شيء واحد، والآكل والمأكول شيء واحد، والناكح والمنكوح شيء واحد، والخصم والقاضي شيء واحد، والمشهود له وعليه والشاهد شيء واحد، وهذا غاية ما يكون من السفه والضلال. قال الشيخ رحمه الله: ويذكر عن بعضهم أنه كان يأتي ابنه ويدعي أنه الله رب العالمين: فقبح الله طائفة يكون إلهها الذي تعبده هو موطوءها الذي تفترشه. المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 43 - 48 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 2 المبحث الثاني: الرد على عقيدة تصور المشايخ: يقول الشيخ حمود بن عبد الله التويجري - رحمه الله - رداً على ما قاله الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي: "قلت: ما ذكر في هذه الجملة من الهوس فإنما هو من تضليل الشيطان له، وتمكنه من إغوائه، بحيث كان الشيطان يخيل إليه أن وجه الشيخ إمداد الله كان في قلبه ثلاث سنوات كاملة، وأنه ما فعل شيئاً بغير إذنه، وكان الشيطان يخيل إليه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في قلبه هذه السنوات التي زعم أنها كانت له مع شيخه إمداد الله، وأنه ما فعل شيئاً بدون سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه!! ولا يخفى ما في هذا الكلام من مخالفة العقل الصحيح. وعلى هذا؛ فإنه ينبغي أن تضم هذه الجملة إلى أخبار الحمقى والمجانين". كما حكى العلامة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي عن نفسه قبل أن يعتنق بمذهب السلف، فقال: " ... وهذا النوع من الشرك مشهور عند المتصوفة أصحاب الطرائق القِدَدِ. وأنا بنفسي حين طلبت الورد من الشيخ عبدالكريم المنصوري لأبايعه على الدخول في الطريقة التجانية لقّنني الأذكار وهي "لا إله إلا الله" مائة مرة، "أستغفر الله" مائة مرة، الصلاة على النبي بصلاة الفاتح مائة مرة، قال لي "وإذا شرعت في الذكر فلتكن مستقبل القبلة، جالساً كجلوسك للتشهد، مغمض العينين، لا تتكلم مع أحد ما دمت تذكر، وتصور بقلبك صورة شيخك الشيخ أحمد التجاني، وجهه أبيض، مشرب بحمرة، وله لحية بيضاء، على رأسه عمامة، فكنت أفعل ذلك، وهو شرك وكفر، ولكن التجانيين لا يؤمرون بذلك في الصلاة، فهؤلاء زادوا على شركهم فنعوذ بالله من الضلال، فإن من ترك الكتاب والسنة واستبدلهما بأوهام المتصوفة لم يبق له دين ولا عقل، كما قال الشافعي رحمه الله: "لو أن رجلاً صاحب الصوفية من الصبح إلى الظهر لذهب عقله". قال محمد تقي الدين: وكذلك دينه وماله يذهبان أيضا ذلك وهو الإفلاس العظيم". وقد ذكر الدكتور الهلالي نفس هذه القصة - قصة أخذ الورد من الشيخ عبدالكريم المنصوري - في موضع آخر في كتابه بشيء من التفصيل، وذلك رداً على الشيح حسين أحمد المدني فقال: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 3 مقصوده بأذكار الأولياء الأوراد التي يعطيها شيوخ التصوف أتباعهم ويسمونها أوراداً، وهي حبال يربطون بها أتباعهم، وقد أخذت أحد هذه الأوراد وهو ورد الطريقة التيجانية وبقيت فيه تسع سنين، وفي السنة الأخيرة صرت مقدما، وبعد انقضاء تسع سنين سافرت من وجدة إلى فاس لزيارة قبر الشيخ أحمد التيجاني واعتكفت عنده ثلاثة أيام وأنشدته ثلاث قصائد، طلبت منه فيها خير الدنيا والآخرة، وكان ذلك في أوائل ربيع الأول سنة 1338هـ. وبعد ذلك جمعني الله تعالى بأستاذي شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي الذي أخرجني الله بدعوته من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد والسنة، فإن قلت: وهل أخذ الورد يسمى شركاً؟ فالجواب: سأحكي لك كيف أخذت الورد وتول أنت الحكم. كان عمري حين أخذت الورد عشرين سنة فتوجهت إلى الشيخ عبدالكريم المنصوري وقلت له أريد أن تعطيني ورد الطريقة التيجانية فذهب بي إلى مكان بعيد من السوق وجلسنا على الأرض وقال لي: أبشر بخير فإن هذا الورد فيه فضائل كبيرة، منها: أن صاحبه إذا داوم عليه إلى الموت يدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب، هو ووالده وأولاده وأزواجه، والحفدة، وهنالك فضائل أخرى ستجدها في كتب الطريقة، فقال لي: إذا جلست لذكر الورد يجب أن تكون على طهارة تامة. طهارة الحدث، وطهارة الخبث، وأن تجلس كجلوسك للتشهد، مستقبل القبلة، ولا تتكلم في أثناء الذكر، وإن غمضت عينيك فهو أحسن، وتصور أمامك صورة الشيخ أحمد التيجاني، ووجهه، أبيض مشرب بحمرة، ولحيته بيضاء، وعلى رأسه عمامة، وتصور أن عمودا من النور يخرج هن قلبه ويدخل قلبك، وهذا يسمونه الاستمداد، وهذا العمود الذي زعم أنه يخرج من قلب الشيخ ويدخل في قلبي ينور القلب ويشرح الصدر، ويثبت الإيمان وهذا كفر، لأن من اعتقد أن هداية القلوب يقدر عليها ملك، أو نبي، أو صالح، فهو كافر. ومن المعلوم أن أبا طالب عمّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يحسن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان للنبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة الأب من حين كان عمر النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين إلى أن صار عمره خمسين سنة، وتحمل الشدائد والآلام والجوع والمقاطعة في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك حين حضرته الوفاة ذهب إليه النبي صلى الله عليه وسلم ووجد عنده أبا جهل بن هشام وعبدالله بن أبي أمية، فدنا منه وقال له يا عم: قل: "لا إله إلا الله كلمة أحاج له بها عند الله". فقال له الرجلان المذكوران وهما من شرار كفار مكة: أترغب عن دين عبدالمطلب؟ يعنيان: كيف تترك دين أبيك وأسلافك وتدخل في دين جديد وأنت سيد قريش؟ فكلما قال له النبي صلى الله عليه وسلم ((يا عم: قل: لا إله إلا الله)) أعادا عليه مقالهما. فكان آخر كلامه هو أن قال: هو على دين عبدالمطلب. فمات كافراً. فحزن عليه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه مات كافراً، فأنزل الله تعالى عليه قوله إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56]. وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((لأستغفرن لك ما لم أنه عنك)) فاستغفر له حتى أنزل الله تعالى عليه من سورة التوبة: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113] فترك النبي صلى الله عليه وسلم الاستغفار لعمه (1). فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يدخل الهداية في قلب عمه الذي هو صنو أبيه، كيف يستطيع شيخ الطريقة أن ينوّر بذلك العمود المكذوب قلب المريد؟ فمن زعم أن غير الله تعالى- وإن كان ملكا أو نبيًّا- يقدر على هداية القلوب فهو كافر، مشرك". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص51 - 55   (1) رواه البخاري (1360) ومسلم (24) من حديث المسيب بن حزن. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 4 المبحث الثالث: الرد على ما ابتدعوه من أوراد وأشغال صوفية لقد وجه إلى اللجنة الدائمة سؤال عن حكم الطرق والأوراد الصوفية، وفيما يلي نصه وجواب اللجنة عليه: السؤال: حكم الطرق الصوفية والأوراد التي نظموها ورتبوها قبل صلاة الفجر وبعد صلاة المغرب، وحكم من زعم أنه رأى النبي يقظة وسلم عليه بقوله: السلام عليك يا عين العيون وروح الأرواح؟. الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه ... وبعد: الجواب: الطرق والأوراد التي ذكرتها طرق وأوراد محدثة مبتدعة، ومن جملتها طريقة التيجانية والكتانية، ولا يشرع من أورادهم إلا ما وافق الكتاب والسنة الصحيحة. كلام الشيخ حسين أحمد المدني المذكور سابقاً: "مقصوده أن يعيب على أهل السنة إنكارهم لبدعة المولد المأخوذة من النصارى في أواسط القرن الرابع الهجري، أخذها منهم أبو القاسم العزفي من أهل سبتة، ولم يأخذها من بعيد؛ فإن سبتة مجاورة للأندلس، وأهلها نصارى. فيقال له: هذا المولد المقتبس من النصارى؛ من أحدثه؟ هل هو سنة أو بدعة؟ هل فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو التابعون أو الأئمة المجتهدون أو أهل الحديث، كالسفيانين وعبد الله بن المبارك ومالك وأحمد والبخاري ومسلم؟ حاشاهم من ذلك". وأما قول حسين أحمد: "وقياساً على هذا يرون أذكار الأولياء أمراً قبيحاً". فقد قال الهلالي في الرد عليه: مقصوده بأذكار الأولياء الأوراد التي يعطيها شيوخ التصوف أتباعهم ويسمونها أوراداً، وهي حال يربطون بها أتباعهم". إلى أن قال: "ثم قال لحسين أحمد مطية الاستعمار الهندي: هذه الأذكار التي نسبتها لأوليائك - أولياء الشيطان -: هل جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وعلمها أمته وورثها إياهم، أم هي وحي أنزل على أولئك الأولياء لا يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإن قال: هي مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وورثها أمته؛ صار أخذ الإذن فيها بدعة، وإنما يعلم أهل العلم ألفاظها ومعانيها، ولا تحتاج إلى إذن؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاها أمته وأذن لها فيها. ومن ضلالات المتصوفة أنهم يقولون: إن الذكر إذا أخذ بالإذن من الشيخ يكون أجره أعظم، وإذا لم يؤخذ الإذن من الشيخ يكون أجره أقل. فمن ذلك قول التجانيين عن شيخهم - بزعمهم -: إن صلاة الفاتح لما أغلق إذا أخذت بالإذن من الشيخ أو ممن أذن له الشيخ؛ تعدل ستة آلاف ختمة من القرآن، وإذا ذكرت بغير إذن؛ فهي كسائر الصلوات، لا فضل لها على غيرها! فإذا أنكر الموحدون أوراد شيوخ التصوف؛ فإنما أنكروا البدع المحدثة، فمتى أعطى أبو بكر الصديق ورداً؟! ومتى أعطى عمر ورداً؟! وكذلك يقال في عثمان وعلي وسائر الصحابة؟! وهل كانت في الصحابة طرق: طريقة بكرية، وطريقة عمرية، وطريقة عثمانية، وطريقة علوية، وطريقة جابرية، وطريقة مسعودية؟! سبحانك هذا بهتان عظيم. فحسين أحمد يعيب الموحدين لمحافظتهم على سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومحاربتهم البدع، فإذا عبرنا بمحبة سنة النبي صلى الله عليه وسلم وترك البدع؛ فقد مدحنا من حيث يريد ذمّنا". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص60 - 62 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5 المبحث الرابع: الرد على ما جاء في دلائل الخيرات والبردة والهمزية يقول الشيخ حمود بن عبد الله التويجري رداً على كلام الشيخ حسين أحمد المدني السابق ما نصه: "وأما قراءة "دلائل الخيرات" وقصيدتي "البردة" و"الهمزية"، وجعلها ورداً؛ فهو أمر قبيح جدًّا؛ لما في هذه الثلاث من الغلو والإطراء الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه ويشدد فيه، بل إن قصيدتي "البردة" و"الهمزية" قد اشتملتا على الشرك الأكبر، الذي هو أعظم الظلم وأقبح المنكرات وأشد المحرمات تحريماً، فلا يجعل هاتين القصيدتين و"دلائل الخيرات" ورداً إلا من هو مفتون بالشرك والبدع والغلو والإطراء. وقد قال الدكتور محمد تقي الدين الهلالي في الرد على حسين أحمد: "أما دلائل الجهالات والضلالات الذي سميته "دلائل الخيرات"؛ ففيه ضلالات كثيرة: منها قوله في ثلاثة مواضع: "اللهم صل على سيدنا محمد عدد معلوماتك وأضعاف ذلك". وقوله: "اللهم صل على سيدنا محمد حتى لا يبقى من الصلاة شيء". وقوله: "اللهم ارحم سيدنا محمداً حتى لا يبقى من الرحمة شيء، اللهم بارك على سيدنا محمد حتى لا يبقى من البركة شيء". فجعل معلومات الله معلومات محدودة، وعدل عن الصلاة التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم جميع المسلمين، واقتصر عليها أصحابه والتابعون لهم بإحسان، وأحدث بدعة، وألف كتاباً يتلى كما يتلى القرآن، وابتدع زيادة: "سيدنا". ولله درُّ الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني إذ يقول في مدح شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب: وحرق عمدا للدلائل دفتراً ... أصاب ففيها ما يجل عن العد علو نهى عنه الرسول وفرية ... بلا مرة فاتركه إن كنت تستهدي أحاديث لا تغزي إلى عالم فلا ... تساوي فليسا إن رجعت إلى النقد وصيرها الجهال للذكر ضرة ... ترى درسها أزكى لديهم من الحمد لقد سرني ما جاءني من طريقه ... وكنت أرى هذي الطريقة لي وحدي قال الهلالي: "وأما "البردة" و"الهمزية"؛ ففيها من الشرك والضلال ما لا يرتضيه إلا كل مشرك دجال؛ فمنها قوله: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم وقوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم فماذا بقي لله تعالى؟! قاتل الله الغلاة المشركين. وفي "الهمزية" قوله: يا رحيما بالمؤمنين إذا ما ... ذهلت عن أبنائها الرحماء يا شفيعا في المذنبين إذا أشفـ ... ـق من خوف ذنبه البرآء جد لعاص وما سواي هو الـ ... ـعاصي ولكن تنكري استحياء وتداركه بالعناية ما دام له ... بالذمام منك ذماء وهذا شرك صريح وبهتان قبيح، لا يستسيغه إلا كل قلب مريض؛ مثل قلب حسين أحمد نصير الشرك والوثنية" انتهى. وقال الشيخ عبدالرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في كتابه (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد): "وقد اشتهر في نظم البوصيري قوله: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 وما بعده من الأبيات التي مضمونها إخلاص الدعاء واللياذ والرجاء والاعتماد في أضيق الحالات وأعظم الاضطرار لغير الله، فناقضوا الرسول صلى الله عليه وسلم بارتكاب ما نهى عنه أعظم مناقضة، وشاقوا الله ورسوله أعظم مشاقة، وذلك أن الشيطان أظهر لهم هذا الشرك العظيم في قالب محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، وأظهر لهم التوحيد والإخلاص الذي بعثه الله به في قالب تنقيصه، وهؤلاء المشركون هم المتنقصون الناقصون، أفرطوا في تعظيمه بما نهاهم عنه أشد النهي، وفرطوا في متابعته فلم يعبؤوا بأقواله وأفعاله، ولا رضوا بحكمه، ولا سلموا له، وإنما يحصل تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بتعظيم أمره ونهيه، والاهتداء بهديه، واتباع سنته والدعوة إلى دينه الذي دعا إليه، ونصرته، وموالاة من عمل به، ومعاداة من خالفه، فعكس أولئك المشركون ما أراد الله ورسوله علماً وعملاً، وارتكبوا ما نهى الله عنه ورسوله؛ فالله المستعان" انتهى كلامه رحمه الله. وذكر الشيخ سليمان بن عبدالله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في كتابه (تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد) قول البوصيري: إن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم ثم قال "فجعل الدنيا والآخرة من جوده، وجزم بأنه يعلم ما في اللوح المحفوظ، وكل ذلك كفر صريح! ومن العجب أن الشيطان أظهر لهم ذلك في صورة محبته عليه السلام وتعظيمه ومتابعته، وهذا شأن اللعين، لابد أن يمزج الحق بالباطل؛ ليروج على أشباه الأنعام، أتباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق". إلى أن قال: "وبالجملة؛ فالتعظيم النافع هو: التصديق بما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، والموالاة والمعاداة والحب والبغض لأجله، وتحكيمه وحده، والرضى بحكمه، وأن لا يتخذ من دونه طاغوت يكون التحاكم إلى أقواله، فما وافقها من قوله صلى الله عليه وسلم؛ قبله، وما خالفها؛ رده، أو تأوله، أو أعرض عنه" انتهى. المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 65 - 68 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 7 المبحث الخامس: الرد على اعتقادهم جواز الاستغاثة بغير الله لقد وجّه إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، سؤال في هذا الموضوع، وفيما يلي نص السؤال والجواب: السؤال: هل يمكن أن يعين ولي من أولياء الله أحداً من بعيد، مثلاً يسكن رجل في الهند ويسكن ولي في السعودية، فهل يمكن أن يعين السعودي الهندي إعانة بدنية مع أن السعودي موجود في السعودية والهندي موجود في الهند؟ الجواب: يمكن أن يعين الأحياء من الأولياء وغير الأولياء من استعان بهم في حدود الأسباب العادية، ببذل المال أو شفاعة عند ذوي سلطان مثلاً أو إنقاذ من مكروه ونحو ذلك من الوسائل التي هي في طاقة البشر، حسب ما هو معتاد ومعروف بينهم. أما ما كان فوق قوى البشر من الأسباب غير العادية، كالمثال الذي ذكره السائل، فليس ذلك إلى العباد، بل هو إلى الله وحده لا شريك له، فهو القادر على كل شيء، وهو الذي إليه السنن الكونية، يمضي منها ما شاء أو يخرق منها ما شاء، ولهذا كانت له دعوة الحق وإليه الملجأ وحده وبه العون دون سواه، فإنه وحده الذي أحاط بكل شيء علماً ووسع كل شيء حكمة ورحمة. ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا راد لما قضى وهو على كل شيء قدير. قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:5 - 6]. وقال تعالى: إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14]. وعلمنا في سورة الفاتحة أن نقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]. كما أمرنا النبي، صلى الله عليه وسلم، ألا نسأل إلا الله ولا نستعين إلا به بقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله)) (1). وجاء أيضاً في فتاوى اللجنة الدائمة ما يلي: "الاستعانة بالحي الحاضر القادر فيما يقدر عليه جائزة، كمن استعان بشخص فطلب منه أن يقرضه نقوداً أو استعان به في يده أو جاهه عند سلطان لجلب حق أو دفع ظلم. والاستعانة بالميت شرك وكذلك الاستعانة بالحي الغائب شرك؛ لأنهم لا يقدرون على تحقيق ما طلب منهم لعموم قوله تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18] وقوله سبحانه: وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ [يونس:106] وقوله عز وجل: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13 - 14]. والآيات في هذا المعنى كثيرة والله المستعان. المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن - ص 74 - 76 سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - عمن يزور القبور ويدعو الأموات وينذر لهم ويستغيث بهم ويستعين بهم، لأنهم كما يزعم أولياء لله، فما نصيحتكم لهم؟ فأجاب بقوله: "نصيحتنا لهؤلاء وأمثالهم أن يرجع الإنسان إلى عقله وتفكيره، فهذه القبور التي يُزعم أن فيها أولياء تحتاج:   (1) رواه الترمذي (2516) وقال: صحيح. وقال ابن رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 459): حسن جيد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 8 أولا: إلى إثبات أنها قبور إذ قد يوضع شيء يشبه القبر ويقال هذا قبر فلان، كما حدث ذلك مع أنه ليس بقبر. ثانياً: إذا ثبت أنها قبور فإنه يحتاج إلى إثبات أن هؤلاء المقبورين كانوا أولياء لله لأننا لا نعلم هل هم أولياء لله أم أولياء للشيطان. ثالثاً: إذا ثبت أنهم من أولياء الله فإنهم لا يزارون من أجل التبرك بزيارتهم، أو دعائهم، أو الاستغاثة بهم، والاستعانة بهم، وإنما يزارون كما يزار غيرهم للعبرة والدعاء لهم فقط، على أنه إن كان في زيارتهم فتنة أو خوف فتنة بالغلو فيهم، فإنه لا تجوز زيارتهم دفعاً للمحظور ودرءاً للمفسدة. فأنت أيها الإنسان حكم عقلك، فهذه الأمور الثلاثة التي سبق ذكرها لابد أن تتحقق وهي: أ- ثبوت القبر. ب- ثبوت أنه ولي. ج- الزيارة لأجل الدعاء لهم. فهم في حاجة إلى الدعاء مهما كانوا، فهم لا ينفعون ولا يضرون، ثم إننا قلنا إن زيارتهم من أجل الدعاء لهم جائزة ما لم تستلزم محظوراً. أما من زارهم ونذر لهم وذبح لهم أو استغاث بهم، فإن هذا شرك أكبر مخرج عن الملة، يكون صاحبه به كافراً مخلداً في النار". كما سئل فضيلته عن حكم دعاء أصحاب القبور، فأجاب بقوله: "الدعاء ينقسم إلى قسمين. القسم الأول: دعاء عبادة، ومثاله الصلاة، والصوم وغير ذلك من العبادات، فإذا صلى الإنسان، أو صام فقد دعا ربه بلسان الحال أن يغفر له، وأن يجيره من عذابه، وأن يعطيه من نواله، ويدل لهذا قوله - تعالى -: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]. فجعل الدعاء عبادة، فمن صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله فقد كفر كفراً مخرجاً عن الملة، فلو ركع الإنسان أو سجد لشيء يعظمه كتعظيم الله في هذا الركوع أو السجود لكان مشركاً خارجاً عن الإسلام، ولهذا منع النبي، صلى الله عليه وسلم، من الانحناء عند الملاقاة سدّاً لذريعة الشرك، فسئل عن الرجل يلقى أخاه أينحني له؟ قال: "لا". وما يفعله بعض الجهال إذا سلم عليك انحنى لك خطأ ويجب عليك أن تبين له ذلك وتنهاه عنه. القسم الثاني: دعاء المسألة، وهذا ليس كله شركاً بل فيه تفصيل: أولاً: إن كان المدعو حيّاً قادراً على ذلك فليس بشرك، كقولك اسقني ماء لمن يستطيع ذلك، قال، صلى الله عليه وسلم: ((من دعاكم فأجيبوه)) (1). قال الله - تعالى -: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ [النساء:8] فإن مد الفقير يده وقال ارزقني أي: أعطني فهو جائز كما قال - تعالى -: فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ [النساء:8]. ثانيا: إن كان المدعو ميتاً فإن دعاءه شرك مخرج عن الملة. ومع الأسف أن في بعض البلاد الإسلامية من يعتقد أن فلاناً المقبور الذي بقي جثة أو أكلته الأرض ينفع أو يضر، أو يأتي بالنسل لمن لا يولد له، وهذا - والعياذ بالله - شرك أكبر مخرج عن الملة، وإقرار هذا أشد من إقرار شرب الخمر، والزنا، واللواط؛ لأنه إقرار على كفر، وليس إقراراً على فسوق فقط، فنسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين". وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة ما يلي:   (1) رواه أبو داود (1672) وأحمد (2/ 68) (5365). والحاكم (1/ 572) (1502) والحديث سكت عنه أبو داود, وقد قال في ((رسالته لأهل مكة)) كل ما سكت عنه فهو صالح. وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين وقال النووي في ((الأذكار)) (458): صحيح. وقال ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (5/ 250): صحيح. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 9 السؤال: رجل يعيش في جماعة تستغيث بغير الله، هل يجوز له الصلاة خلفهم وهل تجب الهجرة عنهم وهل شركهم شرك غليظ وهل موالاتهم كموالاة الكفار الحقيقيين؟ الجواب: إذا كانت حال من تعيش بينهم كما ذكرت من استغاثتهم بغير الله، كالاستغاثة بالأموات والغائبين عنهم من الأحياء أو بالأشجار أو الأحجار أو الكواكب ونحو ذلك فهم مشركون شركاً أكبر يخرج من ملة الإسلام، لا تجوز موالاتهم كما لا تجوز موالاة الكفار، ولا تصح الصلاة خلفهم ولا تجوز عشرتهم ولا الإقامة بين أظهرهم إلا لمن يدعوهم إلى الحق على بينة، ويرجو أن يستجيبوا له وأن تصلح حالهم دينياً على يديه، وإلا وجب عليه هجرهم والانضمام إلى جماعة أخرى يتعاون معها على القيام بأصول الإسلام وفروعه وإحياء سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجد اعتزل الفرق كلها ولو أصابته شدة، لما ثبت عن حذيفة، رضي الله عنه، أنه قال: ((كان الناس يسألون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه. فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. فقلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر. فقلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جنهم من أجابهم إليها قذفوه فيها. فقلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: نعم هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: يا رسول الله فما تأمرني إن أدركني ذلك. قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام. قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)) (1).متفق على صحته. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن - ص82 - 86 لقد وجه إلى اللجنة الدائمة سؤال، فيما يلي نصه وجواب اللجنة الدائمة: السؤال: نداء ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم في كل حاجة والاستعانة به في المصائب والنوائب من قريب أعني عند قبره الشريف أو من بعيد أشركٌ قبيح أم لا؟ الجواب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ونداؤه والاستعانة به بعد موته في قضاء الحاجات وكشف الكربات شرك أكبر يخرج من ملة الإسلام سواء كان ذلك عند قبره أم بعيداً عنه، كأن يقول يا رسول الله اشفني أو رد غائبي أو نحو ذلك، لعموم قوله تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18] وقوله عز وجل: وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117] وقوله عز وجلّ: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13 - 14]. كما قالت اللجنة إجابة على سؤال آخر وجّه إليها:   (1) رواه البخاري (3606) ومسلم (1847). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 10 "نداء الإنسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غيره كعبد القادر الجيلاني أو أحمد التيجاني عند القيام أو القعود والاستعانة بهم في ذلك أو نحوه لجلب نفع أو دفع ضر نوع من أنواع الشرك الأكبر الذي كان منتشراً في الجاهلية الأولى، وبعث الله رسله عليهم الصلاة والسلام ليقضوا عليه وينقذوا الناس منه ويرشدوهم إلى توحيد الله سبحانه وإفراده بالعبادة والدعاء، وذلك أن الاستعانة فيما وراء الأسباب العادية لا تكون إلا بالله تعالى؛ لأنها عبادة فمن صرفها لغيره تعالى فهو مشرك، وقد أرشد الله عباده إلى ذلك فعلّمهم أن يقولوا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] وقال: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]. وبين لهم أنه وحده بيده دفع الضر وكشفه وإسباغ النعمة وإفاضة الخير على عباده وحفظ ذلك عليهم، ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا راد لما قضى وهو على كل شيء قدير، قال تعالى: وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس:106 - 107] وقال فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين وهو يجيب على سؤال وجّه إليه:"ومن استغاث برسول الله صلى الله عليه وسلم، معتقداً أنه يملك النفع والضر فهو كافر مكذب لله تعالى مشرك به لقوله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60] وقوله تعالى: قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الجن:21 - 22]. وقوله، صلى الله عليه وسلم، لأقاربه: ((لا أغني عنكم من الله شيئاً)) (1) كما قال ذلك لفاطمة وصفية عمة رسول الله، صلى الله عليه وسلم. ولا تجوز الصلاة خلف هذا الرجل ومن كان على شاكلته ولا تصح الصلاة خلفه ولا يحل أن يجعل إماما للمسلمين". وقال فضيلته إجابة على سؤال وجّه إليه، وهو يذكر أقسام المديح للنبي صلى الله عليه وسلم:"والقسم الثاني: من مديح الرسول، صلى الله عليه وسلم، قسم يخرج بالمادح إلى الغلو الذي نهى عنه النبي، صلى الله عليه وسلم، وقال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله)) (2). فمن مدح النبي، صلى الله عليه وسلم، بأنه غياث المستغيثين ومجيب دعوة المضطرين، وأنه مالك الدنيا والآخرة، وأنه يعلم الغيب وما شابه ذلك من ألفاظ المديح فإن هذا القسم محرم بل قد يصل إلى الشرك الأكبر المخرج من الملة، فلا يجوز أن يمدح الرسول، عليه الصلاة والسلام، بما يصل إلى درجة الغلو لنهي النبي، صلى الله عليه وسلم، عن ذلك. كما سئل فضيلته عن أنواع الشرك فقال: " ... والشرك نوعان: شرك أكبر مخرج عن الملة، وشرك دون ذلك.   (1) رواه البخاري (2753) ومسلم (206). (2) رواه البخاري (3445) من حديث عمر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 11 النوع الأول: الشرك الأكبر وهو: "كل شرك أطلقه الشارع وهو يتضمن خروج الإنسان عن دينه" مثل أن يصرف شيئاً من أنواع العبادة لله - عز وجل - لغير الله، كأن يصلي لغير الله، أو يصوم لغير الله، أو يذبح لغير الله، وكذلك من الشرك الأكبر أن يدعو غير الله - عز وجلّ - مثل أن يدعو صاحب قبر، أو يدعو غائباً ليغيثه من أمر لا يقدر عليه إلا الله - عز وجل- وأنواع الشرك معلومة فيما كتبه أهل العلم". ومن إجابته- حفظه الله- عن حكم البناء على القبور: "البناء على القبور محرَّم وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم لما فيه من تعظيم أهل القبور وكونه وسيلة وذريعة إلى أن تعبد هذه القبور وتتخذ آلهة مع الله كما هو الشأن في كثير من الأبنية التي بنيت على القبور فأصبح الناس يشركون بأصحاب هذه القبور، ويدعونها مع الله - تعالى- ودعاء أصحاب القبور والاستغاثة بهم لكشف الكربات شرك أكبر وردّة عن الإسلام. والله المستعان". وقال فضيلته فيمن يزور القبور ويدعو الأموات ويستغيث بهم ويستعين بهم: " ... أما من زارهم ونذر لهم وذبح لهم أو استغاث بهم، فإن هذا شرك أكبر مخرج عن الملة يكون صاحبه به كافراً مخلداً في النار". كما سئل فضيلته عما يقوله الناس عند الشدة: "يا محمد، أو يا علي، أو يا جيلاني" فأجاب بقوله: "إذا كان يريد دعاء هؤلاء والاستغاثة بهم فهو مشرك شركاً أكبر مخرجاً عن الملة، فعليه أن يتوب إلى الله - عز وجل- وأن يدعو الله وحده، كما قال - تعالى-: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ [النمل:62]، وهو مع كونه مشركاً سفيه مضيع لنفسه، قال الله - تعالى-: وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130] وقال وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف:5]. وسئل أيضاً عن رجل محافظ على الصلاة والصيام، وظاهر حاله الاستقامة، إلا أن له حلقات يدعو فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، وعبد القادر، فما حكم عمله هذا؟ فأجاب بقوله: "ما ذكره السائل يحزن القلب، فإن هذا الرجل الذي وصفه بأنه يحافظ على الصلاة، والصيام، وأن ظاهر حاله الاستقامة قد لعب به الشيطان وجعله يخرج من الإسلام بالشرك وهو يعلم أو لا يعلم، فدعاؤه غير الله - عز وجل- شرك أكبر مخرج عن الملة، سواء دعا الرسول، عليه الصلاة والسلام، أو دعا غيره، وغيره أقل منه شأناً وأقل منه وجاهة عند الله - عز وجل- فإذا كان دعاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، شركاً فدعاء غيره أقبح وأقبح من عبد القادر أو غير عبد القادر، والرسول عليه الصلاة والسلام، نفسه لا يملك لأحد نفعاً ولا ضرًّا قال الله تعالى آمراً له: قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا [الجن:21]. وقال آمراً له: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ [الأنعام:50]، وقال تعالى آمراً له: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188]. بل قال الله تعالى آمراً له: قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الجن:22]. فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه لا يجيره أحد من الله فكيف بغيره؟! فدعاء غير الله شرك مخرج عن الملة، والشرك لا يغفره الله عز وجل إلا بتوبة من العبد لقوله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:48] وصاحبه في النار لقوله تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]. ونصيحتي لهذا الرجل أن يتوب إلى الله من هذا الأمر المحبط للعمل فإن الشرك يحبط العمل قال الله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]. فليتُب إلى الله من هذا، وليتعبد لله بما شرع من الأذكار والعبادات، ولا يتجاوز ذلك إلى هذه الأمور الشركية وليتفكر دائماً في قوله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60] المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن – ص 123 - 130 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 12 المبحث السادس: الرد على تبركاتهم البدعية والشركية يقول الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين - رحمه الله تعالى - ما نصه: "وليعلم أن الله - عزّ وجلّ - قد يفتن الإنسان بشيء من مثل هذه الأمور فقد يتعلق الإنسان بالقبر فيدعو صاحبه أو يأخذ من ترابه يتبرك به فيحصل مطلوبه ويكون ذلك فتنة من الله - عزّ وجلّ - ولهذا الرجل، لأننا نعلم أن هذا القبر لا يجيب الدعاء وأن هذا التراب لا يكون سبباً لزوال ضرر أو جلب نفع، نعلم ذلك لقول الله - تعالى -: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 5 - 6]. وقال تعالى-: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:20 - 21]. والآيات في هذا المعنى كثيرة تدل على أن كل من دُعي من دون الله فلن يستجيب الدعاء ولن ينفع الداعي، ولكن قد يحصل المطلوب المدعو به عند دعاء غير الله فتنة وامتحانا، ونقول: إنه حصل هذا الشيء عند الدعاء - أي عند دعاء هذا الذي دُعي من دون الله - لا بدعائه، وفرق بين حصول الشيء بالشيء، وبين حصول الشيء عند الشيء، فإننا نعلم علم اليقين أن دعاء غير الله ليس سبباً لجلب النفع أو دفع الضرر بالآيات الكثيرة التي ذكرها الله - عزّ وجلّ- في كتابه ولكن قد يحصل الشيء عند هذا الدعاء فتنة وامتحانا، والله - تعالى- قد يبتلي الإنسان بأسباب المعصية ليعلم - سبحانه وتعالى- من كان عبداً لله ومن كان عبداً لهواه، ألا ترى إلى أصحاب السبت من اليهود حيث حرم الله عليهم أن يصطادوا الحيتان في يوم السبت فابتلاهم الله - عزّ وجلّ- فكانت الحيتان تأتي يوم السبت بكثرة عظيمة وفي غير يوم السبت تختفي، فطال عليهم الأمد، وقالوا كيف نحرم أنفسنا هذه الحيتان ثم فكروا وقدروا ونظروا فقالوا نجعل شبكة ونضعها يوم الجمعة ونأخذ الحيتان منها يوم الأحد، فأقدموا على هذا الفعل الذي هو حيلة على محارم الله فقلبهم الله قردة خاسئين، قال الله - تعالى-: واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163]. وقال - عزّ وجلّ-: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة: 65 - 66]. فانظر كيف يسر الله لهم هذه الحيتان في اليوم الذي مُنعوا من صيدها فيه ولكنهم - والعياذ بالله - لم يصبروا فقاموا بهذه الحيلة على محارم الله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 13 ثم انظر إلى ما حصل لأصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم حيث ابتلاهم الله - تعالى - وهم محرمون بالصيود المحرمة على المحرم فكانت في متناول أيديهم ولكنهم - رضي الله عنهم - لم يجرؤوا على شيء منها قال الله - تعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة:94]. كانت الصيود في متناول أيديهم يمسكون الصيد العادي باليد وينالون الصيد الطائر بالرماح فيسهل عليهم جداً، ولكنهم- رضي الله عنهم- خافوا الله عزّ وجلّ فلم يقدموا على أخذ شيء من الصيود. وهكذا يجب على المرء إذا هيئت له أسباب الفعل المحرم أن يتقي الله عزّ وجلّ وأن لا يقدم على فعل هذا المحرم وأن يعلم أن تيسير أسبابه من باب الابتلاء والامتحان فليحجم وليصبر فإن العاقبة للمتقين". هذا، وقد سئل الشيخ- حفظه الله تعالى- عن حكم النذر والتبرك بالقبور والأضرحة، فأجاب بقوله: "النذر عبادة لا يجوز إلا لله - عزّ وجلّ- وكل من صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله فإنه مشرك كافر، قد حرّم الله عليه الجنة، ومأواه النار، قال الله - تعالى-: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ. [المائدة:72]. وأما التبرك بها: فإن كان يعتقد أنها تنفع من دون الله - عزّ وجلّ- فهذا شرك في الربوبية مخرج عن الملّة، وإن كان يعتقد أنها سبب وليست تنفع من دون الله فهو ضالّ غير مصيب، وما اعتقده فإنه من الشرك الأصغر، فعلى من ابتلي بمثل هذه المسائل أن يتوب إلى الله - سبحانه وتعالى- وأن يقلع عن ذلك قبل أن يفاجئه الموت، فينتقل من الدنيا على أسوأ حال، وليعلم أن الذي يملك الضر والنفع هو الله سبحانه وتعالى وأنه هو ملجأ كل أحد، كما قال الله تعالى: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ [النمل: 62]. وبدلاً من أن يتعب نفسه في الالتجاء إلى قبر فلان وفلان، ممن يعتقدونهم أولياء، ليلتفت إلى ربه -عزّ وجلّ- وليسأله جلب النفع ودفع الضرّ، فإن الله - سبحانه وتعالى- هو الذي يملك هذا". كما سئل فضيلته عن حكم التبرك بالقبور والطواف حولها بقصد قضاء حاجة أو تقرب، وعن حكم الحلف بغير الله، فقال: "التبرك بالقبور حرام ونوع من الشرك وذلك لأنه إثبات تأثير شيء لم ينزل الله به سلطانا ولم يكن من عادة السلف الصالح أن يفعلوا مثل هذا التبرك، فيكون من هذه الناحية بدعة أيضاً، وإذا اعتقد المتبرك أن لصاحب القبر تأثيراً أو قدرة على دفع الضرر أو جلب النفع كان ذلك شركاً أكبر إذا دعاه لجلب المنفعة أو دفع المضرة. وكذلك يكون من الشرك الأكبر إذا تعبد لصاحب القبر بركوع أو سجود أو ذبح تقرباً له وتعظيماً له، قال الله تعالى: وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117]. وقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]. والمشرك شركاً أكبر كافر مخلد في النار والجنة عليه حرام لقوله تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]. ويجب الإنكار على من تبرك بالقبور أو دعا المقبور أو حلف بغير الله وأن يبين له أنه لن ينجيه من عذاب الله قوله: هذا شيء أخذنا عليه، فإن هذه الحجة هي حجة المشركين الذين كذبوا الرسل وقالوا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ [الزخرف:23] فقال لهم الرسول: أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف:24] قال الله تعالى: فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الزخرف:25]. ولا يحل لأحد أن يحتج لباطله بكونه وجد عليه آباءه، أو بكونه عادة له ونحو ذلك، ولو احتج بهذا فحجته داحضة عند الله تعالى لا تنفعه ولا تغني عنه شيئاً. وعلى الذين ابتلوا بمثل هذا أن يتوبوا إلى الله وأن يتبعوا الحق أينما كان وممن كان ومتى كان، وأن لا يمنعهم من قبوله عادات قومهم أو لوم عوامهم، فإن المؤمن حقاً هو الذي لا تأخذه في الله لومة لائم ولا يصده عن دين الله عائق". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن - ص 88 - 94 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 14 المبحث السابع: الرد على اعتقادهم تمثل أرواح أئمتهم والصالحين بالأجساد يقول الشيخ حمود التويجري ردا على ما قاله التبليغيون من مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى دار العلوم بديوبند لتدقيق حساب المدرسة:"قلت: ما جاء في هذه القصة الخرافية فهو من أعظم الافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى خلفائه وأصحابه، وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من كذب عليَّ متعمداً؛ فليتبوأ مقعده من النار)) (1). فلا يأمن الذين افتروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى خلفائه وأصحابه أن يكون لهم نصيب وافر من هذا الوعيد الشديد، وكذلك الذين يعتقدون صحة هذه الخرافة من التبلغيين وغيرهم لا يأمنوا أن يكون لهم نصيب وافر من الجزاء على هذه الفرية العظيمة. كما يقول الدكتور تقي الدين الهلالي بعد ذكره لهذه القصة معلقاً عليها أخطاءهم: "اقرؤوا أيها الناس، واعجبوا كيف يؤسس النبي صلى الله عليه وسلم مدرسة تحارب سنته وتنبذ هديه، فهي ماتريدية في العقائد، حنفية في المذهب، أسست على معصية الرسول والتفرق في الدين، لا يرضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء الراشدون المهديون ولا أبو حنيفة رحمه الله. لأن عقيدة أبي حنيفة التي رواها عنه الثقات بعيدة كل البعد من الماتريدية والتقليد والتفرق، ولكن؛ إذا لم تستح؛ فاصنع ما شئت، وقل ما شئت". وقال أيضا: ولماذا يحضر النبي صلى الله عليه وسلم لتدقيق الحساب؟! هل نزلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى جعلوه حاسباً لهم نفقات المدرسة؟! وكفى بهذا سوء أدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله ماذا يبلغ الجهل والتقليد والتعصب بأهله؟؛". ولا شك أن القول بتمثل الأرواح في الأجساد من خرافات المتصوفة التي ابتليت به الأمة، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة ولا يتحرك في قبره بمدِّ يَدٍ أو غيرها، فكيف بمن هو دونه، وكيف يمكن لهؤلاء الصوفية - أصحاب ديوبند - أن يتشكلوا في الأشكال بعد مماتهم ويأتوا إلى الدنيا لحل نزاع أصحابهم؟ يقول علماء اللجنة الدائمة: "الأصل في الميت نبيًّا أو غيره أنه لا يتحرك في قبره بمد يد أو غيرها، فما قيل من أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج يده لبعض من سلَّم عليه غير صحيح بل هو وهم وخيال لا أساس له من الصحة". وجاء أيضاً في فتاوى اللجنة الدائمة إجابة على سؤالٍ حول رد الأرواح إلى الأجساد: " ... ثانياً: رد روح شخص معين إلى جسده بعد قبض الله لها ممكن بقدرة الله عز وجل لكن إثبات وقوعه يحتاج إلى دليل. ثالثاً: ورد في القرآن أدلة تدل على رد أرواح بعض المخلوقات لحكم أرادها الله تعالى، ومن ذلك ما جاء في قصة قتيل بني إسرائيل، قال تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى [البقرة:72 - 73] الآية، ومن ذلك رد روح عزير وحماره بعد مائة سنة، قال تعالى: كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259]. ومن ذلك رده جلّ وعلا أرواح الطير في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260]. المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 98 - 100   (1) رواه البخاري (110) ومسلم (3) من حديث أبي هريرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 15 المبحث الثامن: الرد على اعتقاد تصرف أئمتهم في الكون لقد وجّه إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء سؤال ما يلي نصه، مع إجابة اللجنة عليه: السؤال: إنني أسمع وأرى بعيني يقولون بأن الأولياء عندهم التصرف في الدنيا في العبد ويقولون بأنهم عندهم أربعين وجهاً تراه رجلاً وتراه ثعباناً وأسداً وغير ذلك، ويذهبون عند المقابر وينامون هناك ويدلجون هناك، ويقولون بأنه يقف عندهم في المنام ويقول لهم اذهبوا فإنك شفيت فهل هذا الكلام صحيح أم لا؟ الجواب: ليس للأولياء تصرف في أحد، وما آتاهم الله من الأسباب العادية التي يؤتيها الله لغيرهم من البشر، فلا يملكون خرق العادات، ولا يمكنهم أن يتمثلوا في غير صور البشر من ثعابين أو أسود أو قرود أو نحو ذلك من الحيوان، إنما ذلك أعطاه الله للملائكة والجن وخصهم به، ويشرع الذهاب إلى القبور لزيارتها والدعاء بالمغفرة والرحمة لأهلها ولا يجوز الذهاب إليها لطلب البركة والشفاء من أهلها والاستغاثة بهم في تفريج الكربات وقضاء الحاجات، بل هذا شرك أكبر، كما أن الذبح لغير الله شرك أكبر سواء كان عند قبور الأولياء أم غيرهم، فما حكيته عنهم مخالف للشرع بل من البدع المنكرة والعقائد الشركية وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. هذا، ومما قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز- رحمه الله- إجابة على سؤال وجّه إليه: "وأما دعاؤهم غير الله، واستغاثتهم بغير الله، أو زعمهم أن آباءهم وأسلافهم يتصرفون في الكون، أو يشفون المرضى أو يجيبون الدعاء مع موتهم أو غيبتهم، فهذا كله من الكفر بالله عز وجلّ، وكله من أعمال المشركين". كما وجه إلى اللجنة الدائمة سؤال يقول: ما معنى قول المنتسبين للتصوف: إن فلاناً صاحب الوقت وإنه من أهل التعريف ... الخ". فأجابت اللجنة عليه بما يلي: "معنى أن فلاناً صاحب الوقت ... الخ: أن هناك من إليه شؤون الخلق من البشر، ولديه قدرة على التصرف في أمورهم، يفرج شدتهم ويفكهم ويخلصهم مما أحاط بهم من البلاء، ويسوق إليهم ما شاء من الخيرات في نظرهم، ومن اعتقد ذلك فهو مشرك مع الله غيره في الربوبية وتدبير شؤون الخلق، ولا تصح الصلاة وراءه، ولا يجوز توليته أمر المسلمين ولا أن يجعل إماما لهم في الصلاة لكفره الصريح وشركه البين وهو أشر من شرك الجاهلية الأولى، قال الله تعالى: قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يونس:31 - 32]. إلى غير ذلك من الآيات. المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 112 - 114 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 16 المبحث التاسع: الرد على التزامهم المراقبة عند القبور لمعرفة الغرض من المراقبة عند القبور والمرابطة عليها ومعرفة مدى خطورة هذه العقيدة نقرأ ما كتبه العلامة تقي الدين الهلالي رداً على ما قاله الشيخ محمد يوسف، يقول الدكتور الهلالي: "قول محمد يوسف: "إن صاحب هذا القبر- يعني: أباه محمد إلياس- يوزع النور الذي ينزل من السماء في قبره بين مريديه حسب قوة الارتباط والتعلق به": هذا يسمى في اصطلاح غيرهم من أهل طرائق التصوف استمداداً. وقد تقدم أن الشيخ عبد الكريم المنصوري السلجماسي لما أعطاني الطريقة التجانية؛ أمرني إذا جلست لذكر الله تعالى أن أتصور صورة الشيخ أحمد التجاني أمامي وعمود من نور يخرج من قلبه ويدخل في قلبي؛ يعني أنه ينور قلبي ويشرح صدري ويؤهِّله للفيوض. وهذا كفر صريح. وقد أخبرني الثقات أن عليًّا أبا الحسن الندوي كان يجلس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم مستقبلاً الحجرة الشريفة في غاية الخشوع، لا يتكلم ساعتين وأكثر، فاستغربت هذا الأمر، وفهمت أنه استمداد، ولم أكن أعلم أن هذا شائع عندهم في طريقتهم، إلى أن كشفه محمد أسلم جزاه الله خيراً. فهذا شرك بالله تعالى، واتخاذ وسائط بين العبد وبين ربِّه، وقد رأيت في كتاب (كشّاف القناع في شرح الإقناع) - من أشهر كتب فقه الحنابلة- ما نصه: قال الشيخ رحمه الله: من اتخذ وسائط بينه وبين الله؛ كفر إجماعاً. والمراد بالشيخ هنا هو شيخ الإسلام أحمد بن تيمية. ومن المعلوم أن الله تعالى هو الذي يمد عباده بالأرزاق الحسية كالطعام والشراب وقوة البدن، وبالأرزاق المعنوية؛ كهداية القلوب وتنويرها وشرح الصدور والتجليات لها، ولكن الله تعالى لا يحتاج إلى واسطة يتوسط بينه وبين خلقه في منحهم تلك الأرزاق؛ لا من الملائكة، ولا من الأنبياء، ولا من الصالحين. فالملائكة يستغفرون للمؤمنين، ويسألون الله لهم الرحمة، ولا يستطيعون أن يعطوهم مثقال ذرة من ذلك ولا أقل. والأنبياء يعلمون أممهم، ويبلغونهم رسالة ربهم، ولا يستطيعون أن يعطوا أحداً منهم مثقال ذرة من الهداية ولا أقل من ذلك؛ لأن الهداية بيد الله وحده. قال الله تعالى لسيد الأنبياء: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء [القصص:56]. وطرائق المتصوفة يشبه بعضها بعضاً في ضلالاتها وشركها، وقول محمد يوسف: إن أباه محمد إلياس يوزع النور الذي ينزل عليه من الله تعالى على حسب ارتباط المريدين به وقوة إخلاصهم واستمدادهم أدهى وأمرّ مما تقدَّم وزيادة وضوح لهذا النوع من الكفر". ويقول الشيخ حمود التويجري في كتابه: "ومن الشركيات التي ذكرت عن بعض مشايخ التبليغيين أنهم كانوا يرابطون على القبور، وينتظرون الكشف والكرامات والفيوض الروحية من أهل القبور، ويقرون بمسألة حياة النبي صلى الله عليه وسلم وحياة الأولياء حياة دنيوية لا برزخية". وقال: "وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أنكر على الرجل الذي أشركه مع الله في المشيئة؛ فكيف بمن صرف للنبي صلى الله عليه وسلم أشياء كثيرة من خصائص الألوهية، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم معتمداً له في الاضطرار، وملجأ ومستغاثاً من الضر والشدائد، وسنداً ومدداً وملتحداً وساتراً للذنوب والفند، وعافياً ومقيلاً للعثار؟! ". وقال أيضاً: "فلينتبه المفتونون بالقبور والتمائم والتعاويذ الشركية والشعوذة والأحوال الشيطانية من التبليغيين وغيرهم لهذا الوعيد الشديد لمن أشرك بالله، ولا يستهينوا به، ولا يأمن الواقعون في أي نوع من الشرك أن يكون لهم نصيب وافر من الوعيد الشديد للمشركين". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن - ص 133 - 136 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 17 المبحث العاشر: الرد على اعتقاد علم أئمتهم بما في الأرحام لاشك أن مسالة العلم بما في الأرحام من الأمور الغيبية التي لا يعلمها أحد إلا الله سبحانه وتعالى. ونكتفي في هذا الباب على تقديم فتوى اللجنة الدائمة إلى القارئ، وفيما يلي نص السؤال والجواب: السؤال: في عدد العربي 205 ص45 التاريخ ديسمبر 1975م في سؤال وجواب أثبت أن الرجل هو الذي يحدد نوع الجنين فما موقف الدين من هذا؟ وهل يعلم الغيب أحد غير الله؟. الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه .. وبعد: الجواب: أولاً: إن الله سبحانه وتعالى هو وحده الذي يصور الحمل في الأرحام كيف يشاء فيجعله ذكراً أو أنثى كاملاً أو ناقصاً، إلى غير ذلك من أحوال الجنين، وليس ذلك إلى أحد سوى الله سبحانه؛ قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:6]، وقال تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49 - 50] فأخبر سبحانه أنه وحده الذي له ملك السماوات والأرض، وأنه الذي يخلق ما يشاء فيصور الحمل في الأرحام كيف يشاء من ذكورة أو أنوثة، وعلى أي حال شاء من نقصان أو تمام ومن حسن وجمال أو قبح ودمامة إلى غير ذلك من أحوال الجنين ليس ذلك إلى غيره ولا إلى شريك معه، ودعوى أن زوجاً أو دكتوراً أو فيلسوفاً يقوى على أن يحدد نوع الجنين دعوى كاذبة، وليس إلى الزوج ومن في حكمه أكثر من أن يتحرى بجماعه زمن الإخصاب رجاء الحمل، وقد يتم له ما أراد بتقدير الله وقد يتخلف ما أراد، إما لنقص في السبب أو لوجود مانع من صديد أو عقم أو ابتلاء من الله لعبده، وذلك أن الأسباب لا تؤثر بنفسها وإنما تؤثر بتقدير الله أن يرتب عليها مسبباتها، والتلقيح أمر كوني ليس إلى المكلف منه أكثر من فعله بإذن الله، وأما تصريفه وتكييفه وتسخيره وتدبيره بترتيب المسببات عليه فهو إلى الله وحده لا شريك له، ومن تدبر أحوال الناس وأقوالهم وأعمالهم تبين منهم المبالغة في الدعاوى والكذب والافتراء في الأقوال والأفعال جهلاً وغلواً في اعتبار العلوم الحديثة وتجاوزاً للحد في الاعتداد بالأسباب، ومن قدر الأمور قدرها ميز بينما هو من اختصاص الله منها وما جعله الله إلى المخلوق بتقدير منه لذلك سبحانه". وجاء أيضاً في "فتاوى اللجنة الدائمة" السؤال والجواب التالي: السؤال: يقول الله تعالى في كتابه العزيز: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34]، من ضمن الآية الكريمة أن الله يقول: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ [لقمان:34]. لقد صار بيني وبين أحد الأصدقاء نقاش كبير حول هذه الآية، فلقد قال لي إن العلم الحديث والأطباء قد توصلوا لمعرفة ما في رحم المرأة هل هو ذكر أم أنثى بواسطة الأشعة، وقلت له: الله سبحانه يقول: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ [لقمان:34]، هل معنى الآية أن العلم لم يكتشف ما في الأرحام أم أن الآية تفسيرها غير ذلك؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 18 الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه .. وبعد: الجواب: ثبت في الأحاديث الصحيحة أن مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، وأنها المذكورة في الآية المسؤول عنها، من ذلك ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مفاتيح الغيب خمسة لا يعلمهن إلا الله إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34])) (1) وفي رواية له عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مفاتح الغيب خمس ثم قرأ: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ [لقمان: 34])) (2) رواه الإمام أحمد عنه (3) وعن ابن مسعود بمعناه (4)، وروي من طرق أخرى تؤيد ما دلت عليه الآية، ومعنى الآية أن الله تعالى استأثر بعلم الساعة فلا يجليها لوقتها إلا هو، فلا يعلمها لميقاتها ملك مقرب ولا نبي مرسل، وقد أعلمهم الله بأماراتها ولا يعلم متى ينزل الغيث ولا في أي مكان ينزل إلا الله، وقد يعرف ذلك أهل الخبرة عند وجود الأمارات وانعقاد الأسباب علماً تقريبياً إجمالياً يشوبه شيء من التخمين وقد يتخلف، واختص سبحانه أيضاً بعلم ما في الأرحام تفصيلاً من جهة تخلقه وعدم تخلقه ونموه وبقائه لتمام مدته وسقوطه قبلها حياً أو ميتاً وسلامته وما قد يطرأ عليه من آفات دون أن يكسب علمه بذلك من غيره أو يتوقف على أسباب أو تجارب بل يعلم ما سيكون عليه قبل أن يكون وقبل أن تكون الأسباب، فإن مقدر الأسباب وموجودها عليم لا يتخلف ولا يختلف عنه الواقع وهو الله سبحانه، وقد يطلع المخلوق على شيء من أحوال ما في الأرحام من ذكورة أو أنوثة أو سلامة أو إصابته بآفة أو قرب ولادة أو توقع سقوط الحمل قبل التمام، لكن ذلك بتوفيق من الله إلى أسباب ذلك من كشف بأشعة لا من نفسه ولا بدون أسباب وذلك بعد ما يأمر الله الملك بتصوير الجنين، ولا يكون شاملاً لكل أحوال ما في الرحم بل إجمالاً في بعضه مع احتمال الخطأ أحياناً، ولا تدري نفس ماذا تكسب غداً من شؤون دينها ودنياها، فهذا أيضاً مما استأثر الله بعلمه تفصيلاً، وقد يتوقع الناس كسباً أو خسارة على وجه الإجمال مما يبعث فيهم أملاً وإقداماً على السعي أو خوفاً وإحجاماً بناء على أمارات وظروف محيطة بهم فكل هذا لا يسمى علماً، وكذا لا تدري نفس بأي أرض تموت في بر أو بحر في بلدها أو بلد آخر إنما يعلم تفصيل ذلك الله وحده فإنه سبحانه له كمال العلم والإحاطة بجميع الشؤون علنها وغيبها، ظاهرها وباطنها. وجملة القول: إن علم الله من نفسه غير مكتسب من غيره ولا متوقف على أسباب وتجارب وأنه يعلم ما كان وما سيكون، وأنه لا يشوب علمه غموض ولا يتخلف وأنه عام شامل لجميع الكائنات تفصيلاً جليلها ودقيقها بخلاف غيره سبحانه والله المستعان". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن - ص 159 - 164   (1) رواه الطبري (20/ 161) وبنحوه رواه البخاري (4627) (2) رواه البخاري (4778). (3) ((المسند)) (2/ 24) (4766). (4) رواه أحمد (1/ 438) (4167) وأبو يعلى (5028). قال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 266): رجاله رجال الصحيح. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (6/ 100): إسناده صحيح. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 19 المبحث الحادي عشر: الرد على اعتقاد علم النبي والأولياء للغيب يقول فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين إجابة على سؤال وجه إليه، وإليك نص السؤال والجواب: سئل فضيلة الشيخ: عن حكم من يدّعي علم الغيب؟ "فأجاب بقوله: الحكم فيمن يدعي علم الغيب أنه كافر؛ لأنه مكذّب لله عزّ وجلّ -قال الله- تعالى: قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65]، وإذا كان الله - عز وجل- يأمر نبيه محمداً، صلى الله عليه وسلم، أن يعلن للملأ أنه لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله، فإن من ادعى علم الغيب فقد كذب الله - عز وجل- في هذا الخبر. ونقول لهؤلاء كيف يمكن أن تعلموا الغيب والنبي، صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب؟؛ هل أنتم أشرف أم الرسول، صلى الله عليه وسلم؟! فإن قالوا نحن أشرف من الرسول. كفروا بهذا القول، وإن قالوا هو أشرف فنقول لماذا يحجب عنه الغيب وأنتم تعلمونه؟! وقد قال الله عز وجل عن نفسه: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن:26 - 27]. وهذه آية ثانية تدل على كفر من ادعى علم الغيب، وقد أمر الله - تعالى- نبيه، صلى الله عليه وسلم، أن يعلن للملأ بقوله: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ [الأنعام:50]. هذا، وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين- حفظه الله- عن حكم من ادعى الغيب، وما هي أنواع الغيب، التي يتشوق الإنسان إلى معرفتها؟ فأجاب: "من ادعى علم الغيب فهو كاهن أو ساحر أو طاغوت، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله، لقوله تعالى: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ [الأنعام:59] والمراد بالغيب علم ما يكون في الأزمنة القادمة وعلم الآجال والأعمار، ونحو ذلك". وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة الأسئلة والأجوبة التالية: السؤال: هل النبي صلى الله عليه وسلم حاضر وناظر "أي يعلم الغيب فالحاضر عنده والغائب سواء"؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 20 الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه .. وبعد: الجواب: الأصل في الأمور الغيبية اختصاص الله بعلمها، قال الله تعالى: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [الأنعام:59]، وقال تعالى: قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65]، لكن الله تعالى يطلع من ارتضى من رسله على شيء من الغيب قال الله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن:26 - 27] وقال تعالى: قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ [الأحقاف:9]، وثبت في حديث طويل من طريق أم العلاء أنها قالت: "لما توفي عثمان بن مظعون أدرجناه في أثوابه فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله عز وجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما يدريك أن الله أكرمه فقلت لا أدرى بأبي أنت وأمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي فقلت: والله لا أزكي بعده أحداً أبداً)) رواه أحمد (1) وأخرجه البخاري في كتاب الجنائز من صحيحه (2)، وفي رواية له ((ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به)) (3) وقد ثبت في أحاديث كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعلمه الله بعواقب بعض أصحابه فبشرهم بالجنة، وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند البخاري ومسلم أن جبريل سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الساعة فقال: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل)) (4). ثم لم يزد على أن أخبره بأماراتها فدل على أنه علم من الغيب ما أعلمه الله به دونما سواه من المغيبات وأخبر به عند الحاجة". ومما جاء في فتاوى اللجنة:   (1) رواه أحمد في ((المسند)) (6/ 436) (27497) (2) رواه البخاري (1243). (3) رواه البخاري (7004). (4) رواه البخاري (50) ومسلم (9) من حديث أبي هريرة، وهو عند مسلم (8) من حديث عمر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 21 "السؤال: أقسام الغيب، وهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، وهل كان علمه له كلياً أو جزئياً. الجواب: من الغيب ما استأثر الله بعلمه فلم يطلع عليه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً كتحديد الوقت الذي يقوم فيه الخلق لله رب العالمين للحساب، فإنه لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله، قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الأعراف:187]، وقال تعالى: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [الأحزاب:63]، وقال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا [النازعات:42 - 45]، وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما الحديث الطويل المشهور أن جبريل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ((متى الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل)) (1) ثم أخبره بأماراتها. ومن الغيب ما أعلمه الله بعض عباده كالأمور المستقبلية التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم فكانت معجزة له وآية من آيات الله خص الله بها رسوله وهي داخلة في قوله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ [الجن:27]، وفي قوله: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء [عمران:179]، وبهذا يتبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم الغيب علماً كلياً وإنما كان يعلمه علماً جزئياً في حدود ما أطلعه الله عليه، شأنه في ذلك شأن إخوانه النبيين، والمقصود الإيضاح بالمثال لا للاستقصاء". وجاء في الفتاوى أيضاً: "السؤال: إذا قلنا لإخواننا هنا إن علم الغيب خاص بالله تعالى فلا يعلم الغيب رسول ولا ملك قالوا لنا إن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب وهذا القرآن الذي جاء به هو غيب و ... و ... و ... ويستدلون أيضاً بقوله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن:26 - 27] والرسول ممن ارتضاه الله يعلم الغيب. فما رد فضيلتكم في هذا وهل يجوز القول بأن الرسول يعلم الغيب استناداً إلى هذه الآية. الرجاء من معاليكم الرد على هذا السؤال. الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه .. وبعد:   (1) رواه البخاري (4777) ومسلم (10) من حديث أبي هريرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 22 الجواب: علم الغيب خاص بالله تعالى لقوله تعالى: قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65] وقوله: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف:188] لكنه سبحانه يطلع من يشاء من عباده كالملائكة والأنبياء والمرسلين على ما شاء من غيبه لقوله تعالى:: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن:26 - 27] ومن ذلك ما أنزله الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الوحي ومنه القرآن، وكذلك شأن الله مع أنبيائه ورسله السابقين غير أن علمهم ذلك ليس لهم من أنفسهم بل بإعلام الله إياهم ثم إن هذه النصوص لا تدل على أن الله تعالى علمهم كل غيب وإنما تدل على أنه علمهم ما شاء منه". وجاء أيضاً: "السؤال: ما حكم زيارة المرابطين الذين يزعمون علم الغيب ما حكم الشرع فيهم ومن سكت عنهم ومن زارهم؟ الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه .. وبعد: الجواب: علم الغيب من اختصاص الله جل وعلا، ومن ادعى علم الغيب من الناس فقد ادعى لنفسه ما هو من اختصاص الله جل وعلا وجعل نفسه شريكاً له في ذلك وقد يظهر الله ما شاء من الغيب لمن ارتضاه من رسله، قال تعالى: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ [الأنعام:59] وقال تعالى قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65] وقال تعالى:: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن:26 - 27] فقد دلت هذه الآيات على أنه جل وعلا منفرد بالغيب دون خلقه ثم استثنى من ارتضاه من الرسل فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم وجعله لهم ودلالة صادقة على ثبوتهم، وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب الحصى وينظر في الكتب ويزجر الطير ويدعي علم الغيب ممن ارتضاه من الرسل فيطلعه على ما يشاء من غيبه بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه. وبهذا يعلم أن زيارتهم محرمة وأنهم كفار ولا يجوز السكوت عنهم ولا عمن زارهم بل الواجب بيان الحق للكل أداء للأمانة وبراءة للذمة ونصحاً للأمة". وجاء أيضاً في الفتاوى إجابة على سؤال ما يلي: "إن الله سبحانه حكم بأن علم الأمور الغيبية خاص به فقال: قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65] ولم يستثن من ذلك إلا من ارتضى من رسله فيظهره على ما شاء من الغيب قال تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن:26 - 27]. فمن ادعى من أمم الأنبياء والمرسلين أنه يعلم الغيب فهو كاذب، ومن زعم أن أحداً من الأولياء والصالحين أتباع الرسل عقيدة وعملاً يعلم الغيب فهو مخطئ كاذب لمخالفته ما نزل من آيات القرآن وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الدالة على اختصاص الله تعالى بعلم المغيبات". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن - ص 172 - 180 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 23 المبحث الثاني عشر: الرد على اعتقاد أن النبي مخلوق من نور وأنه أول خلق الله لقد وجهت إلى كبار علماء السنة وإلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عدة أسئلة حول موضوع خلق الرسول صلى الله عليه وسلم هل هو بشر أم خلق من النور؟ وهل هو أول الخلق؟ وما إلى ذلك من الأسئلة، نقدم فيما يلي بعضاً منها مع ذكر إجابة العلماء عليها. السؤال: "إذا مات الشخص وهو يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس ببشر وأنه يعلم الغيب وأن التوسل بالأولياء والأموات والأحياء قربة إلى الله عز وجل فهل يدخل النار ويعتبر مشركاً؟ علماً أنه لا يعلم غير هذا الاعتقاد وأنه عاش في منطقة علماؤها وأهلها كلهم يقرون بذلك، فما حكمه، وما حكم التصدق عنه والإحسان إليه بعد موته؟ ". وأجاب عليه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله- بقوله: "من مات على هذا الاعتقاد بأن يعتقد أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس ببشر أي ليس من بني آدم أو يعتقد أنه يعلم الغيب فهذا اعتقاد كفري يعتبر صاحبه كافراً كفراً أكبر، وهكذا إذا كان يدعوه ويستغيث به أو ينذر له أو لغيره من الأنبياء والصالحين أو الجن أو الملائكة أو الأصنام؛ لأن هذا من جنس عمل المشركين الأولين كأبي جهل وأشباهه، وهو شرك أكبر". كما أجاب فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين على مثل هذا السؤال بقوله:"من اعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم نور من الله وليس ببشر وأنه يعلم الغيب فهو كافر بالله ورسوله وهو من أعداء الله ورسوله، وليس من أولياء الله ورسوله، لأن قوله هذا تكذيب لله ورسوله، ومن كذب الله ورسوله فهو كافر، والدليل على أن قوله هذا تكذيب لله ورسوله قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ [الكهف:110] وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني)) (1). هذا وقد وجِّه إلى اللجنة الدائمة السؤال التالي: "هل النبي صلى الله عليه وسلم نور من نور الله كما يقول بعض الناس، وهل هو نور عرش الله سبحانه وتعالى"؟ فأجابت اللجنة عليه بما يلي: "النبي صلى الله عليه وسلم نور هدى ورشاد كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا [الأحزاب:45 - 46]. وليس بدنه نوراً وليس هو من نور الله الذي هو وصفه بل هو لحم وعظم وما خالطهما خلق من أب وأم كغيره كما مضت بذلك سنة الله تعالى في البشر وكان يأكل ويشرب ويقضي من شأنه وله ظل إذا مشى في شمس أو نحوها، وأما قوله تعالى: قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ [المائدة:15 - 16] الآية، فالمراد بالنور في ذلك ما يبعثه الله به من الوحي، من عطف الخاص على العام ولم يثبت في القرآن ولا في السنة الصحيحة أنه نور عرش الله فمن زعم ذلك فهو كاذب. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم".   (1) رواه البخاري (401) ومسلم (572) من حديث ابن مسعود الجزء: 9 ¦ الصفحة: 24 كما وجّه إلى اللجنة السؤال التالي:"إن جل الناس يعتقدون أن الأشياء خلقت من نور محمد صلى الله عليه وسلم وأن نوره خلق من نور الله ويروون ((أنا نور الله وكل شيء من نوري)) (1) ويروون أيضاً ((أول ما خلق الله نور محمد صلى الله عليه وسلم)) (2) فهل لذلك من أصل؟ ويروون ((أنا عرب بلا عين أي رب، أنا أحمد بلا ميم أي أحد)) (3) فهل لذلك من أصل؟ وأجابت اللجنة عليه بما يلي: "سبق منا جواب مفصل بالفتوى رقم 2871 هذا نصها: "وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه نور من نور الله إن أريد به أنه نور ذاتي من نور الله فهو مخالف للقرآن الدال على بشريته، وإن أريد بأنه نور باعتبار ما جاء به من الوحي الذي صار سبباً لهداية من شاء من الخلق فهذا صحيح وقد صدر من اللجنة فتوى في ذلك هذا نصها: للنبي صلى الله عليه وسلم نور هو نور الرسالة والهداية التي هدى الله بها بصائر من شاء من عباده، ولا شك أن نور الرسالة والهداية من الله قال تعالى وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ [الشورى:51 - 53]. وليس هذا النور مكتسباً من خاتم الأولياء كما يزعمه بعض الملاحدة، أما جسمه صلى الله عليه وسلم فهو دم ولحم وعظم .. إلخ، خلق من أب وأم ولم يسبق له خلق قبل ولادته وما يروى أن أول ما خلق الله نور النبي صلى الله عليه وسلم أو أن الله قبض قبضة من نور وجهه وأن هذه القبضة هي محمد صلى الله عليه وسلم ونظر إليها فتقاطرت فيها قطرات فخلق من كل قطرة نبياً أو خلق الخلق كلهم من نوره صلى الله عليه وسلم فهذا وأمثاله لم يصح منه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن خلال الفتوى السابقة يظهر أنه اعتقاد باطل. وأما ما يروى: أنا عرب بلا عين فلا أساس له من الصحة وهكذا أنا أحمد بلا ميم، وصفة الربوبية والانفراد من الصفات المختصة بالله سبحانه وتعالى فلا يجوز أن يوصف أحد من الخلق بأنه الرب ولا أنه أحد على الإطلاق، فهذه الصفات من اختصاص الله سبحانه ولا يوصف بها الرسل ولا غيرهم من البشر. كما وجّه إلى اللجنة الدائمة سؤال حول ((لولاك ما خلقت الأفلاك)) (4) أهذا حديث موضوع أو ضعيف"؟ فأجابت اللجنة عليه بما يلي: "ذكره العجلوني في "كشف الخفا ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس" وقال: قال الصغاني إنه موضوع، ثم قال: وأقول: لكنه معناه صحيح وإن لم يكن حديثاً. نقول بل هو باطل لفظاً ومعنى؛ فإن الله تعالى إنما خلق الخلق ليعبدوه كما قال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] ولم يثبت حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن الخلق خلقوا من أجله لا الأفلاك ولا غيرها من المخلوقات في الأحاديث الموضوعة وقال: قال الصغاني موضوع. ومما يدل على ذلك قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم". كما وجه إلى اللجنة السؤال: هل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أول خلق الله أم سيدنا آدم"؟ فأجابت اللجنة عليه بما يلي: "أول خلق الله من البشر آدم عليه الصلاة والسلام بإجماع المسلمين وبصريح القرآن، ونبينا عليه الصلاة والسلام بشر من سلالة آدم، وأما قول بعض الجهلة، إن نبينا أول خلق الله أو أنه مخلوق من نور الله أو من نور العرش فقوله باطل لا أساس له من الصحة". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن - ص 192 - 198   (1) بهذا اللفظ لم نجده (2) قال اللكنوي في ((الآثار المرفوعة في الأحاديث الموضوعة)) (1/ 43) لم يثبت بهذا المبنى ونقل عن السيوطي قوله عنه أنه لم يرد بهذا اللفظ. وقال الألباني أنه باطل، كما في ((السلسلة الصحيحة)) (1/ 820) (3) لم نجده (4) أورده الصغاني في ((موضوعاته)) (52) وكذلك الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (282) وقال موضوع، وقال اللكنوي في ((الأسرار المرفوعة في الأحاديث الموضوعة)) (1/ 44) قال علي القاري في ((تذكرة الموضوعات)) (2) حديث: (لولاك لما خلقت الأفلاك). قال العسقلاني موضوع كذا في ((الخلاصة)).أ. هـ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 25 المبحث الثالث عشر: الرد على اعتقادهم حياة النبي في قبره حياة دنيوية وجهت إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء أسئلة عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم وعن سماعه كل دعاء ونداء، فأجاب عليها كبار العلماء، وفيما يلي نص الأسئلة والأجوبة: السؤال: في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أكان النبي صلى الله عليه وسلم حياً في قبره الشريف بإعادة الروح في الجسد والبدن (العنصرية) بحياة دنيوية حسية أو حياً في أعلى عليين بحياة أخروية برزخية بلا تكليف كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت: ((اللهم بالرفيق الأعلى)) (1) وجسده المنور الآن كما وضع في قبر بلا روح والروح في أعلى عليين، واتصال الروح بالبدن والجسد المعطر عند يوم القيامة كما قال الله تعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التكوير:7] الجواب: إن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة برزخية يحصل بها التنعيم في قبره بما أعده الله له من النعيم جزاء له على أعماله العظيمة الطيبة التي قام بها في دنياه، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام، ولم تعد إليه روحه ليصير حياً كما كان في دنياه ولم تتصل به وهو في قبره اتصالاً يجعله حياً كحياته يوم القيامة بل هي حياة برزخية وسط بين حياته في الدنيا وحياته في الآخرة، وبذلك يعلم أنه قد مات كما مات غيره ممن سبقه من الأنبياء وغيرهم، قال الله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34] وقال: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:26 - 27] وقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ [الزمر:30] إلى أمثال ذلك من الآيات الدالة على أن الله قد توفاه إليه؛ ولأن الصحابة رضي الله عنهم قد غسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه، ولو كان حياً حياته الدنيوية ما فعلو به ما يفعل بغيره من الأموات. ولأن فاطمة رضي الله عنها قد طلبت إرثها من أبيها صلى الله عليه وسلم لاعتقادها بموته ولم يخالفها في ذلك أحد من الصحابة، بل أجابها أبو بكر رضي الله عنه بأن الأنبياء لا يورثون (2). ولأن الصحابة رضي الله عنهم قد اجتمعوا لاختيار خليفة للمسلمين يخلفه وتم ذلك بعقد الخلافة لأبي بكر رضي الله عنه، ولو كان حياً كحياته في دنياه لما فعلوا ذلك فهو إجماع منهم على موته. ولأن الفتن والمشاكل لما كثرت في عهد عثمان وعلي رضي الله عنهما وقبل ذلك وبعده لم يذهبوا إلى قبره لاستشارته أو سؤاله في المخرج من تلك الفتن والمشاكل وطريقة حلها، ولو كان حياً كحياته في دنياه لما أهملوا ذلك وهم في ضرورة إلى من ينقذهم مما أحاط بهم من البلاء. أما روحه فهي في أعلى عليين لكونه أفضل الخلق، وأعطاه الله الوسيلة وهي أعلى منزلة في الجنة عليه الصلاة والسلام.   (1) رواه البخاري (4463) ومسلم (2444). (2) رواه البخاري (4240) ومسلم (1759) من حديث عائشة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 26 ومن تلك الأسئلة أيضاً: السؤال: هل يسمع النبي صلى الله عليه وسلم كل دعاء ونداء عند قبره الشريف أو صلوات خاصة حين يصلى عليه كما في الحديث ((من صلى عليّ عند قبري سمعته ... )) (1) إلى آخر الحديث أهذا الحديث صحيح أو ضعيف أو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: الأصل أن الأموات عموماً لا يسمعون نداء الأحياء من بني آدم ولا دعاءهم كما قال تعالى: وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ [فاطر:22] ولم يثبت في الكتاب ولا في السنة الصحيحة ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يسمع كل دعاء أو نداء من البشر حتى يكون ذلك خصوصية له وإنما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه يبلغه صلاة وسلام من يصلي ويسلم عليه فقط سواء كان من يصلي عليه عند قبره أو بعيداً عنه كلاهما سواء في ذلك، لما ثبت عن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو فنهاه وقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم)) (2).أما حديث: ((من صلى عليّ عند قبري سمعته ومن صلى علي بعيداً بلغته)) (3) فهو حديث ضعيف عند أهل العلم، وأما ما رواه أبو داود بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)) (4).   (1) رواه البيهقي في ((حياة الأنبياء)) (46) وفي ((الشعب)) (3/ 140) و ((الكامل في الضعفاء)) في ترجمة محمد بن مروان السدي وقال عن الحديث لا أصل له من حديث الأعمش وليس بمحفوظ ولا يتابعه إلا من هو دونه وابن الجوزي في ((الموضوعات)) (2/ 38) قال البيهقي: (فيه) أبو عبد الرحمن هذا هو محمد بن مروان السدي فيما أرى وفيه نظر. وقال ابن الجوزي: لا يصح. وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (37/ 116): في إسناده لين لكن له شواهد ثابتة وقال الألباني موضوع كما في ((ضعيف الجامع)) (12445) (2) رواه أبو داود (2042) وابن أبي شيبة (2/ 150) وأحمد (2/ 376) (8790) بلفظ: (صلاتكم بدل تسليمكم)، وأبو يعلى (469). قال البزار في ((البحر الزخار)) (2/ 148): روي بهذا الإسناد أحاديث صالحة فيها مناكير، وهذا غير منكر. وقال الهيثمي في ((المجمع)) (3/ 4) فيه حفص بن ابراهيم الجعفري ذكره ابن أبى حاتم ولم يذكر فيه جرحا وبقية رجاله ثقات وقال النووي في ((الخلاصة)) (1/ 440): إسناده صحيح. وقال ابن عبد الهادي في ((الصارم المنكي)) (323): جيد وصححه الألباني. (3) رواه البيهقي في ((حياة الأنبياء)) (46) وفي ((الشعب)) (3/ 140) و ((الكامل في الضعفاء)) في ترجمة محمد بن مروان السدي وقال عن الحديث لا أصل له من حديث الأعمش وليس بمحفوظ ولا يتابعه إلا من هو دونه وابن الجوزي في ((الموضوعات)) (2/ 38) قال البيهقي: (فيه) أبو عبد الرحمن هذا هو محمد بن مروان السدي فيما أرى وفيه نظر. وقال ابن الجوزي: لا يصح. وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (37/ 116): في إسناده لين لكن له شواهد ثابتة وقال الألباني موضوع كما في ((ضعيف الجامع)) (12445) (4) رواه أبو داود (2041) وأحمد (2/ 527) (10827) والبيهقي (5/ 245). والحديث سكت عنه أبو داود , وقد قال في ((رسالته لأهل مكة)) كل ما سكت عنه فهو صالح. وقال النووي في ((الأذكار)) (154): إسناده صحيح. وقال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 173): على شرط مسلم. وحسنه الألباني الجزء: 9 ¦ الصفحة: 27 فليس بصريح أنه يسمع سلام المسلم بل يحتمل أنه يرد عليه إذا بلغته الملائكة ذلك لو فرضنا سماعه سلام المسلم لم يلزم منه أن يلحق به غيره من الدعاء والنداء. هذا، ويقول الشيخ حمود التويجري ردًّا على كلام حسين أحمد السابق: "قلت: يلزم على قول حسين أحمد: "إن الأنبياء أحياء حياة حقيقية غير برزخية" لوازم باطلة: منها: أن يكون الأنبياء يمشون على الأرض مثل غيرهم من الأحياء، ويأكلون ويشربون، ويحتاجون إلى قضاء الحاجة مثل غيرهم من الأحياء، وأن يكونوا ظاهرين بين الناس يراهم الناس ويجالسونهم ويتعلمون منهم، وكل من هذه الأمور باطل معلوم البطلان بالضرورة عند كل عاقل، والقول بها أو بشيء منها هوس وهذيان لا يصدر من أحد له أدنى شيء من العقل. ومن اللوازم الباطلة التي تلزم على قول حسين أحمد أيضاً: أن يكون قبر النبي صلى الله عليه وسلم خالياً من جسده الشريف، وكذلك قبور سائر الأنبياء، وهذا معلوم البطلان بالضرورة عند كل عاقل، ولا يقول به إلا من هو مصاب في عقله. ومن اللوازم الباطلة أيضاً ما يترتب على هذا القول الباطل من تكذيب النصوص الدالة على موت النبي صلى الله عليه وسلم وموت سائر البشر، كقوله تعالى في سورة الزمر: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ [الزمر:30]. وقوله تعالى وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144] وقوله تعالى في سورة الأنبياء: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ الأنبياء:34 - 35 [.] وقوله تعالى في سورة العنكبوت: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت:57] وقوله تعالى في سورة آل عمران: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185] وقوله تعالى في سورة الرحمن:: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ الرحمن:26 - 27 [] فإذا كان حسين أحمد وغيره من مشايخ جماعة التبليغ المخرفين يرون أن الأنبياء أحياء حياة حقيقية، وأن لجماعتهم وأكابرهم حظ وصول في مجالس النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً، ويرون بطلان ما يعتقده شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه من أن حياة الأنبياء كانت في المدّةِ التي قضوها في الدنيا، بعد ذلك هم وأتباعهم سواء في الموت؛ فماذا يجيبون به عن هذه النصوص الدالة على أن الموت عام للأنبياء وغيرهم من سائر البشر؟! وماذا يجيبون به عن الأحاديث الكثيرة التي جاءت في موت النبي صلى الله عليه وسلم ودفنه؟! وما ثبت عنه أنه قال: ((أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة)) (1)؟!. وإذا لم يكن لهم جواب صحيح عن الآيات التي تقدم ذكرها، وعن الأحاديث الدالة على موت النبي صلى الله عليه وسلم ومكثه في قبره إلى يوم القيامة؛ فالواجب عليهم الرجوع إلى الحق الذي يدل عليه الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهو اعتقاد موت الأنبياء وغيرهم من سائر البشر، واعتقاد أن الأنبياء وغيرهم من الأموات لا يزالون في قبورهم إلى يوم القيامة، وأن أول من ينشق عنه القبر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا هو الاعتقاد الصحيح، وما خالفه، فهو من العقائد الفاسدة التي زينها الشيطان لأوليائه من الصوفية والتبليغيين. المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن - ص 206 - 212   (1) رواه الترمذي (3148) وابن ماجه (4308) وأحمد3/ 2 (11000) من حديث أبي سعيد. قال الترمذي: حسن صحيح. وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 326): في إسناده علي بن يزيد بن جدعان. وقال الألباني في ((صحيح الترمذي)) (3615): صحيح. ورواه البخاري (2412) بلفظ: (فأكون أول من تنشق عنه الأرض). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 28 المبحث الرابع عشر: الرد على اعتقاد جواز شد الرحال إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من أعظم القربات يقول سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز - رحمه الله- في جوابه لسؤال: ما حكم السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من قبور الأولياء والصالحين وغيرهم؟ "لا يجوز السفر بقصد زيارة قبر النبي، صلى الله عليه وسلم، أو قبر غيره من الناس في أصح قولي العلماء، لقول النبي، صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)). متفق عليه (1). والمشروع لمن أراد زيارة قبر النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو بعيد عن المدينة أن يقصد بالسفر زيارة المسجد النبوي فتدخل زيارة القبر الشريف وقبرَيْ أبي بكر وعمر والشهداء وأهل البقيع تبعاً لذلك. وإن نواهما جاز لأنه يجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً، أما نية القبر بالزيارة فقط فلا تجوز مع شد الرحال، أما إذا كان قريباً بالزيارة فقط فلا تجوز مع شد الرحال، أما إذا كان قريباً لا يحتاج إلى شد الرحال ولا يسمى ذهابه إلى القبر سفراً فلا حرج في ذلك، لأن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم، وقبر صاحبيه من دون شد رحل سنة وقربة، وهكذا زيارة قبور الشهداء وأهل البقيع وهكذا زيارة قبور المسلمين في كل مكان سنة وقربة لكن بدون شد الرحال، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة)). أخرجه مسلم في صحيحه (2). وكان صلى الله عليه وسلم، يُعلِّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية)) أخرجه مسلم أيضاً في صحيحه (3) ". كما سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن حكم السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فأجاب بقوله: "شد الرحال إلى زيارة القبور لا يجوز، لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، يقول: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)) والمقصود بهذا أنه لا تشد الرحال إلى أي مكان في الأرض لقصد العبادة بها الشد، لأن الأمكنة التي تخصص بشد الرحال هي المساجد الثلاثة فقط وما عداها من الأمكنة لا تشد إليها الرحال، فقبر النبي، صلى الله عليه وسلم، لا تشد الرحال إليه وإنما تشد الرحال إلى مسجده فإذا وصل المسجد فإن الرجال يسن لهم زيارة قبر النبي، صلى الله عليه وسلم وأما النساء فلا يسن لهم زيارة قبر النبي، صلى الله عليه وسلم، والله الموفق". هذا، وقد وجّهت إلى اللجنة الدائمة عدة أسئلة في هذا الموضوع، ومما أجابت اللجنة على تلك الأسئلة:"لا يجوز شد الرحال لزيارة قبور الأنبياء والصالحين، وغيرهم بل هو بدعة، والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) (4). وأما زيارتهم دون شد رحال فسنة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة)). أخرجه مسلم في صحيحه". "السفر لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز، والمشروع زيارة مسجده، والصلاة فيه، وليست بواجبة، ومن زار مسجده صلى الله عليه وسلم شرع له أن يسلم عليه وعلى صاحبيه رضي الله عنهما.   (1) رواه البخاري (1189) ومسلم (1397) من حديث أبي هريرة (2) رواه ابن ماجه (1569) ورواه مسلم (976) بلفظ الموت بدل الآخرة. (3) رواه مسلم (975). (4) رواه مسلم (1718) والبخاري معلقا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 29 وطاعته صلى الله عليه وسلم وملازمة سنته وهديه ابتغاء ثواب الله في أي زمان أو مكان من أسباب السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة. وبالله التوفيق"."لا يلزم الحجاج رجالاً ونساء زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ولا البقيع، بل يحرم شد الرحال إلى زيارة القبور مطلقاً ويحرم ذلك على النساء ولو بلا شد رحال، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)) (1) ((ولأنه صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور)) (2) ويكفي النساء أن يصلين في المسجد النبوي ويكثرن من الصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد وغيره. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم". "شد الرحال لا يجوز إلا إلى المساجد الثلاثة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) وهذا قول ابن القيم رحمه الله وشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية وجمع كثير من أهل العلم عملاً بالحديث المذكور وبذلك تعلم أنه لا يجوز في أصح قولي العلماء شد الرحال لقبر الخليل ولا غيره من القبور للحديث المذكور". المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن - ص 218 - 222   (1) رواه البخاري (1189) ومسلم (1397) من حديث أبي هريرة. (2) رواه أبو داود (3236) والترمذي (320) والنسائي (2043). والحديث سكت عنه أبو داود , وقد قال في ((رسالته لأهل مكة)) كل ما سكت عنه فهو صالح. وقال الترمذي: حسن. وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (2/ 150). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 30 المبحث الخامس عشر: الرد على اعتقاد جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول سماحة الشيخ ابن باز - رحمه الله- في جوابه على سؤال وجّه إليه في حكم التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ما نصه: "التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فيه تفصيل، فإن كان ذلك باتباعه ومحبته وطاعة أوامره وترك نواهية والإخلاص لله في العبادة فهذا هو الإسلام وهو دين الله الذي بعث به أنبياءه، وهو الواجب على كل مكلف .. وهو الوسيلة للسعادة في الدنيا والآخرة، أما التوسل بدعائه والاستغاثة به وطلبه النصر على الأعداء والشفاء للمرضى - فهذا هو الشرك الأكبر وهو دين أبي جهل وأشباهه من عبدة الأوثان، وهكذا فعل ذلك مع غيره من الأنبياء والأولياء أو الجن أو الملائكة أو الأشجار أو الأحجار أو الأصنام. وهناك نوع ثالث يسمى التوسل وهو التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم أو بحقه أو بذاته مثل أن يقول الإنسان: أسألك يا الله بنبيك أو جاه نبيك أو حق نبيك أو جاه الأنبياء أو حق الأنبياء أو جاه الأولياء أو الصالحين وأمثال ذلك فهذا بدعة ومن وسائل الشرك ولا يجوز فعله معه صلى الله عليه وسلم ولا مع غيره؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يشرع ذلك، والعبادات توقيفية لا يجوز منها إلا ما دل عليه الشرع المطهر، وأما توسل الأعمى به في حياته صلى الله عليه وسلم فهو توسل به صلى الله عليه وسلم ليدعو له ويشفع له إلى الله في إعادة بصره إليه، وليس توسلاً بالذات أو الجاه أو الحق كما يعلم ذلك من سياق الحديث وكما أوضح ذلك علماء السنة في شرح الحديث. وقد بسط الكلام في ذلك شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في كتبه الكثيرة المفيدة، ومنها كتابه المسمى: (القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة) وهو كتاب مفيد جدير بالاطلاع عليه والاستفادة منه. وهذا حكم جائز مع غيره صلى الله عليه وسلم من الأحياء كأن تقول لأخيك أو أبيك أو من تظن فيه الخير: ادع الله لي أن يشفيني من مرضي أو يرد عليّ بصري أو يرزقني الذرية الصالحة أو نحو ذلك بإجماع أهل العلم. والله ولي التوفيق". وقال الشيخ ابن عثيمين في جوابه على سؤال وجّه إليه: "واعلم أن المقصود بالزيارة أمران: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 31 أحدهما: انتفاع الزائر بتذكر الآخرة والاعتبار والاتعاظ، فإن هؤلاء القوم الذين هم الآن في بطن الأرض، كانوا بالأمس على ظهرها، وسيجري لهذا الزائر ما جرى لهم، فيعتبر ويغتنم الأوقات والفرص، ويعمل لهذا اليوم الذي سيكون في هذا المثوى الذي كان عليه هؤلاء. وثانيهما: الدعاء لأهل القبور بما كان الرسول، صلى الله عليه وسلم يدعو به من السلام وسؤال الرحمة، وأما أن يسأل الأموات ويتوسل بهم فإن هذا محرم ومن الشرك؛ ولا فرق في هذا بين قبر النبي، صلى الله عليه وسلم وقبر غيره، فإنه لا يجوز أن يتوسل أحد بقبر النبي عليه الصلاة والسلام، أو بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، فإن هذا من الشرك لأنه لو كان هذا حقاً لكان أسبق الناس إليه الصحابة- رضي الله عنهم- ومع ذلك فإنهم لا يتوسلون به بعد موته فقد استسقى عمر- رضي الله عنه- ذات يوم فقال: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا) ثم قام العباس- رضي الله عنه- فدعا (1)، وهذا دليل على أنه لا يتوسل بالميت مهما كانت درجته ومنزلته عند الله - تعالى- وإنما يتوسل بدعاء الحي الذي ترجى إجابة دعوته؛ لصلاحه واستقامته في دين الله - عزّ وجلّ- فإذا كان الرجل ممن عرف بالدين والاستقامة وتوسل بدعائه، فإن هذا لا بأس به كما فعل أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه-، وأما الأموات فلا يتوسل بهم أبداً، ودعاؤهم شرك أكبر مخرج من الملة، قال الله - تعالى-: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60] وقال أيضاً: "أما التوسل الممنوع فهو أن يتوسل الإنسان بالمخلوق، فإن هذا لا يجوز، فالتوسل بالمخلوق حرام، يعني لا بدعائه ولكن بذاته، مثل أن تقول (اللهم إني أسألك بمحمد صلى الله عليه وسلم كذا وكذا) فإن هذا لا يجوز، وكذلك لو سألت بجاه الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يجوز، لأن هذا المسبب لم يجعله الله ورسوله سبباً". هذا، وقد وجهت إلى اللجنة الدائمة أسئلة في هذا الموضوع ومما أجابت اللجنة عليها: "التوسل إلى الله في الدعاء بجاه الرسول صلى الله عليه وسلم أو ذاته أو منزلته غير مشروع لأنه ذريعة إلى الشرك، فكان البحث فيه لبيان ما هو الحق من مباحث العقيدة، وأما التوسل إلى الله بأسمائه جل شأنه وبصفاته وباتباع رسوله والعمل بما جاء به من عقيدة وأحكام فهذا مشروع. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم". "أولاً: التوسل على الله ببركة القرآن مشروع وليس شركاً. ثانياً: التوسل ببركة بعض المخلوقين مثل النبي صلى الله عليه وسلم من البدع المنكرة، لأن التوسل من العبادات التوقيفية ولم يثبت في الشرع المطهر ما يدل على جوازه في المخلوقين أو حقهم أو جاههم أو بركتهم، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) (2). المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن - ص 228 - 232   (1) رواه البخاري (1010) من حديث عمر. (2) رواه مسلم (1718) والبخاري معلقا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 32 المبحث السادس عشر: الرد على قولهم بجواز رؤية النبي يقظة جواب اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء على سؤال وجه إليها وفيما يلي نص السؤال والجواب: السؤال: هل صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يُرى في اليقظة كما يزعم الصوفية في أنهم يرونه يقظة؟ الجواب: الرسول صلى الله عليه وسلم توفي، وهو حي في قبره حياة برزخية لا يعلم كيفيتها إلا الله جل وعلا، وأما دعوى أنه يرى يقظة فهذا ليس بصحيح لعدم الدليل الدال عليه، ولأنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، فدل ذلك على أنه لا يخرج من قبره يوم القيامة، ويدل على ذلك في حقه وحق غيره: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ [الزمر:30] وقوله عز وجل: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:15 - 16] فدل على أنه ليس هناك خروج من القبور قبل يوم القيامة. المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن - ص 238، 239 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 33 المبحث السابع عشر: الرد على تأويلهم صفة العلو سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن قول بعض الناس إذا سئل "أين الله" قال: "الله في كل مكان" أو "موجود" فهل هذه الإجابة صحيحة على إطلاقها؟ فأجاب بقوله:"هذه إجابة باطلة لا على إطلاقها ولا تقييدها فإذا سئل أين الله؟ فليقل: "في السماء"، كما أجابت بذلك المرأة التي سألها النبي، صلى الله عليه وسلم، ((أين الله؟ " قالت: في السماء)) (1). وأما من قال: "موجود" فقط. فهذا حيدة عن الجواب ومراوغة منه. وأما من قال: "إن الله في كل مكان" وأراد بذاته فهذا كفر لأنه تكذيب لما دلت عليه النصوص، بل الأدلة السمعية، والعقلية، والفطرية، من أن الله - تعالى- عليٌّ على كل شيء وأنه فوق السموات مستوٍ على عرشه". كما سئل فضيلته عن تفسير استواء الله - عز وجل- على عرشه بأنه علوه -تعالى- على عرشه على ما يليق بجلاله؟ فأجاب بقوله: "تفسير استواء الله تعالى على عرشه بأنه علوه- تعالى- على عرشه على ما يليق بجلاله هو تفسير السلف الصالح. قال ابن جرير إمام المفسرين في تفسيره "من معاني الاستواء: العلو والارتفاع كقول القائل: استوى فلان على سريره يعني علوه عليه". وقال في تفسير قوله - تعالى-: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] "يقول جل ذكره: الرحمن على عرشه ارتفع وعلا". أ. هـ. ولم ينقل عن السلف ما يخالفه. ووجهه: أن الاستواء في اللغة يستعمل على وجوه: الأول: أن يكون مطلقاً غير مقيد فيكون معناه الكمال كقوله - تعالى-: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى [القصص:14]. الثاني: أن يكون مقروناً بالواو فيكون بمعنى التساوي. كقولهم: استوى الماء والعتبة. الثالث: أن يكون مقروناً بإلى فيكون بمعنى القصد كقوله - تعالى-: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء [فصلت:11]. الرابع: أن يكون مقروناً بعلى فيكون بمعنى العلو والارتفاع كقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]. وذهب بعض السلف إلى أن الاستواء المقرون بإلى كالمقرون بعلى، فيكون معناه الارتفاع والعلو، كما ذهب بعضهم إلى أن الاستواء المقرون بعلى بمعنى الصعود والاستقرار. وأما تفسيره بالجلوس فقد نقل ابن القيم في (الصواعق) (4/ 1303) عن خارجة بن مصعب في قوله - تعالى-: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] قوله: "وهل يكون الاستواء إلا الجلوس". أ. هـ. وقد ورد ذكر الجلوس في حديث أخرجه الإمام أحمد عن ابن عباس - رضي الله عنهما- مرفوعاً. والله أعلم. المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن - ص 243 - 246   (1) رواه مسلم (537). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 34 المبحث الثامن عشر: الرد على إيجابهم اتباع أبي حنيفة قال فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - حفظه الله- إجابة على سؤال وجّه إليه: " ... ولكن ليعلم أن هذه المذاهب الأربعة لا ينحصر الحق فيها بل الحق قد يكون في غيرها، فإن إجماعهم على حكم مسألة من المسائل ليس إجماعاً للأمة، والأئمة أنفسهم رحمهم الله ما جعلهم الله أئمة لعباده إلا حيث كانوا أهلاً للإمامة حيث عرفوا قدر أنفسهم، وعلموا أنه لا طاعة لهم إلا فيما كان موافقاً لطاعة النبي، صلى الله عليه وسلم، وكانوا يحذرون عن تقليدهم إلا فيما وافق السنة، ولا ريب أن مذهب الإمام أبي حنيفة، ومذهب الإمام أحمد، ومذهب الإمام الشافعي، ومذهب الإمام مالك وغيرهم من أهل العلم أنها قابلة لأن تكون خطأ وصواباً، فإن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله، صلى الله عليه وسلم ... ". وجاء أيضاً في فتاواه: " ... وهو جائز لمن لا يصل إلى العلم بنفسه لقوله: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:43]. والمذاهب المشهورة أربعة، وهناك مذاهب أخرى كمذهب الظاهرية، والزيدية، والسفيانية، وغيرهم، وكل يؤخذ من قوله ما كان صواباً، ويترك من قوله ما كان خطأ، ولا عصمة إلا في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. المصدر: الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن - ص 263، 264 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 35 مراجع للتوسع: مراجع الديوبندية: ـ جامعة ديوبند رسالتها وإنجازاتها لعدد من العلماء. ـ جامعة دار العلوم بديوبند تاريخها وخدماتها. ـ مائة وسبعة عشر عاماً للجامعة الإسلامية ـ دار العلوم بديوبند ـ الهند ـ في ضوء خدماتها العلمية والدعوية والاجتماعية. ـ (هذه المطبوعات من نشر مكتب الاحتفال المئوي للجامعة الإسلامية ـ دار العلوم ـ ديوبند ـ الهند). ـ أرواح ثلاثة "أردو" نجم الدين حقاني مطبعة كتب خانه مظهري كراجي. ـ الشهاب الثاقب "أردو" حسين أحمد مدني ـ مطبعة مكتبة مدينة لاهور. ـ عقائد وكمالات ديوبند "أردو" مولانا الله بار ـ مطبعة مكتبة رشيدية لاهور. ـ نقش حيات "أردو" حسين أحمد مدني ـ مطبعة الأشاعت كراجي. ـ مقدمة مسلك علماء ديوبند "أردو" مولانا يوسف بنوري ـ مطبعة الأشاعت كراجي. ـ سوانح قاسمي ـ مناظر أحمد كيلاني، مكتبة رحمانية لاهور. ـ شمائل إمدادية حاج إمداد الله المهاجر المكي. ـ مقالات حكمت، أشرف علي تهانوي ـ إدارة التأليف. ـ المهند على المفند ـ أحمد سهارنفوري ـ مكتبة المدينة لاهور. ـ نشر الطيب، أشرف علي تهانوي. ـ كرامات إمدادية ـ أشرف تهانوني. ـ جريدة الداعي من إصدار الجامعة الإسلامية دار العلوم ديوبند الهند العدد 17 ـ 18 السنة 16 العدد 10 السنة 17. كتب ورسائل لغير الديوبنديين: ـ دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وأثرها على الحركات الإسلامية المعاصرة ـ صلاح الدين مقبول أحمد. ـ دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب ـ أبو المكارم بن عبد الجليل في شبه القارة الهندية بين مؤيديها ومعانديها ـ مكتبة دار السلام ـ الرياض. ـ الديوبندية ـ سيد طالب الرحمن ـ نازكوبرنترز راولبندي "باكستان". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 36 المبحث الأول: تعريف الباطنية لفظ الباطنية مأخوذ من كلمة بطن بمعنى خفي فهو باطن, جمعه بواطن, واستبطن أمر وقف على دخلته, والباطنة بالكسرة, السريرة, والباطن هو داخل كل شيء ومن الأرض ما غمض يسمى باطنا (1). والباطنية: هي الفرق التي تنتسب إلى التشيع, وحب آل البيت, وتتخذ من ذلك ستارا وغطاء لخداع المسلمين مع إبطانهم للكفر المحض والباطنية اصطلاح عام يطلق على جمع من الطوائف والفرق المتعددة المتشعبة, وبينها قاسم مشترك هو الاعتقاد بالظاهر والباطن, وتأويل نصوص الشريعة تأويلا باطنا يتوافق مع معتقدات زعموا أنهم اختصوا بها وبمعرفتها دون سواهم وبهذا يعلم أن الباطنية ليست فرقة واحدة, وإنما فرق متعددة.   (1) راجع ((القاموس المحيط)) , الفيروزأبادي (4/ 202) راجع تعريف الباطنية: ((أصول الإسماعيلية)) (1/ 221 - 222) ((الموسوعة)) (2/ 981). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 37 المبحث الثاني: سبب التسمية وسبب تسميتهم بهذا الاسم لأنهم يزعمون أن لظواهر القرآن بواطن يعرفونها دون سواهم, قال الشهرستاني في سبب تسميتهم بهذا اللقب: "إنه لزمهم بهذا اللقب لحكمهم بأن لكل شيء ظاهرا وباطنا, ولكل تنزيل تأويلا" (1).   (1) ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 292) وراجع ((الموسوعة)) (2/ 282). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 38 المبحث الثالث: بداية الحركة الباطنية يرى علماء الفرق والتاريخ أن بداية ظهور حركة الباطنية في أيام المأمون على يد حمدان بن قرمط, وعبد الله بن ميمون القداح, وأن هذه الدعوة انتشرت في زمن المعتصم العباسي, وأنهم اجتمعوا في سجن المهدي, للتنسيق بينهم, وكانوا أربعة رجال, وهم: أحمد بن الحسين, وعبد الله بن ميمون بن قداح, والزنداني, وحمدان بن قرمط" (1).قال البغدادي: اعلموا أسعدكم الله أن ضرر الباطنية على فرق المسلمين أعظم من ضرر اليهود والنصارى والمجوس بل أعظم من مضرة الدهرية" (2). وقال: "الذين أسسوا دعوة الباطنية: جماعة منهم ميمون بن ديصان المعروف بالقداح, وكان مولى لجعفر الصادق, وكان بالأهواز ومنهم: محمد بن الحسن بدندان, اجتمعوا كلهم مع ميمون بن ديصان في سجن العراق, فأسسوا في ذلك السجن مذاهب الباطنية .. , ثم رحل ميمون بن ديصان إلى ناحية المغرب, وانتسب في تلك الناحية إلى عقيل بن أبي طالب, وزعم أنه من نسله, فلما دخل في دعوته قوم من غلاة الرفض والحلولية, ادعى أنه من ولد إسماعيل بن جعفر الصادق ثم ظهر في دعوته إلى الباطنية رجل يقال له حمدان بن قرمط ... , وإليه ينتسب القرامطة".قال البغدادي: "الذي يصح عندي من دين الباطنية أنهم دهرية زنادقة يقولون بقدم العالم, وينكرون الرسل والشرائع كلها" (3). المصدر: ضوابط تكفير المعين عند شيخ الإسلام ابن تيمية وابن عبد الوهاب لأبي العلا بن راشد – ص 304   (1) راجع في ذلك ((التبصير)) للأسفرائني, و ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي, (ص28). (2) راجع في ذلك ((التبصير)) للأسفرائني, و ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي, (ص82). (3) راجع نص الرسالة ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي, (ص296). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 39 المبحث الرابع: فرق الباطنية يشترك الغزالي وابن الجوزي في ذكر ألقاب الباطنية الثمانية وهي: الباطنية والتعليمية والسبعية والقرامطة والإسماعيلية والخرمية والبابكية والمحمرة (1). والملاحظ على هذه الألقاب أن بعضها يدل على فرق الباطنية وبعضها يدل على أصولهم ومعتقداتهم، والبعض الآخر يدل على الحركات الثورية التي تعتبر كالممهد والبداية لظهور التيار الباطني في العالم الإسلامي وتفصيل ذلك كالآتي: فالباطنية لقب عام تشترك فيه عدة فرق وينضوي تحت لوائه طوائف متعددة القاسم المشترك بينها تأويل النصوص الشرعية عن معناها الظاهر إلى معان باطنية غير معهودة ومعروف لدى المسلمين شرعاً أو لغة أو عقلاً ومن أشهر هذه الفرق طائفتا الإسماعيلية والقرامطة وقد اقتصر ابن الجوزي والغزالي عليهما ولم يتعرضا لبقية الفرق الأخرى والسبب في ذلك –والله أعلم- أن الفرق الأخرى عندهما كالنصيرية أو الدروز إما أنها في أصلها ترجع إلى الشريعة الإمامية كالنصيرية أو أنها تعتبر فرعاً من فروع إحدى الفرق الباطنية التي ذكروها كالإسماعيلية فإن الدروز من الفرق التي انشعبت من الإسماعيلية. وأما لقب التعليمية فيعبر عن أصل من أصول الباطنية والمراد منه –كما ذكر الغزالي- إبطال الرأي وإغلاق باب الاجتهاد والتعلم من الإمام المعصوم (2).ولقب السبعية يدل على بعض معتقداتهم عن الكون والأئمة مع تقديس هذا العدد لديهم حتى أن بعض علماء الفرق لقب بعض الإسماعيلية بالسبعية (3).أما لقب الخرمية والبابكية والمحمرة فإنها جميعاً ترجع إلى حركة ثورية قامت في العصر العباسي وكان قيامها سنة 201هـ ومن آثارها وأهدافها في آن واحد إنهاك وإضعاف الدولة العباسية وذلك من خلال المعارك الدامية ليتسنى للحركات الباطنية الأخرى الظهور والمقاومة وأخيراً تم القضاء عليهم عام 223هـ ولكل لقب سبب فالخرامية نسبة إلى حاصل المذهب وزبدته، والبابكية نسبة إلى بابك والمحمرة نسبة إلى لبسهم ثياباً مصبوغة بحمرة (4). وبقي من هذه الألقاب لقبا القرامطة والإسماعيلية وهما فرقتان من أكبر الفرق الباطنية وأقدمها ظهوراً ونشأ بعدهما الفرقتان الأخريان وهما: (1) النصيرية نسبة إلى ابن نصير مؤسس الفرقة وظهروا في جبال الشام وسواحله وكان لابن تيمية رحمه الله مواقف جهادية معهم بالسيف والقلم ولا زالت الفرقة موجودة إلى يومنا هذا حيث دعمهم وقواهم الاستعمار الفرنسي وبالتالي صار لهم قوة وسلطة وسماهم بالعلويين (5). (2) الدروز. نسبة إلى محمد بن إسماعيل الدرزي أحد المؤهلين للحاكم العبيدي وهي طائفة من طوائف الباطنية انشقت عن الإسماعيلية في عهد الحاكم واتخذت لها مبادئ في ظاهرها مخالفة لمبادئ الإسماعيلية وفي حقيقتها وجوهرها موافقة ومؤيدة لها (6). ولذا فإن فرق الباطنية الكبرى أربع فرق هي: الإسماعيلية. القرامطة. النصيرية. الدروز. وجميع هذه الفرق تندرج تحت ستار التشيع لآل البيت ويعمها القول بالباطن. ويضيف بعض الكتاب المعاصرين فرقاً أخرى للباطنية لا تزال منتشرة بين المسلمين إلى يومنا هذا ولكل فرقة رأي ونصيب من التأويل الباطني وذلك كالبابية والبهائية والقاديانية. والحقيقة أن فرق الباطنية كثيرة ومتجددة ومن الصعب حصرها واعتبارها محددة ومعدودة؛ لأن لهم –كما يقول الشهرستاني- دعوة في كل زمان مقالة جديدة بكل لسان (7). كما أن لهم فروعاً في عصرنا الحاضر تظهر لكل قوم بمظهر تقضي به البيئة التي يعيشون فيها وما فرقة القرآنيين في الباكستان أو الجمهوريين في السودان أو البلاليين في الولايات المتحدة إلا نماذج واقعية على استمرار التيار الباطني على خلاف الأزمان والأمصار. وحسبنا في حصر فرق الباطنية القاعدة المشهورة عند علماء الفرق والمقالات وخلاصتها: أن القائل لكل ظاهر باطن ولكل تنزيل تأويل. وإن الظاهر بمنزلة القشرة والباطن بمنزلة اللب كل قائل لذلك يعتبر باطنياً. المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان عبد الله السلومي – 1/ 224   (1) انظر ((فضائح الباطنية)) للغزالي (ص11 - 17)، و ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص102 - 106). (2) ((فضائح الباطنية)) للغزالي (ص17). (3) ((اللباب)) لابن الأثير (1/ 531) وانظر ((نشأة الفكر الفلسفي)) (2/ 406)، و ((الصلة بين التصوف والتشيع)) للشيبي (ص200). (4) ((فضائح الباطنية)) للغزالي (ص14))، و ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص105 - 106)، و ((القرامطة)) لابن الجوزي (ص48). (5) ((هامش المنتقى)) لمحب الدين الخطيب (ص99)، وكتاب ((دراسة عن الفرق)) لأحمد جلي (ص258). (6) ((الحركات الباطنية في العالم الإسلامي)) لمحمد الخطيب (ص199). (7) ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 192). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 40 المبحث الأول: الحركات الباطنية وأثرها في تدمير الأمة يمثل الباطنيون أهم الأسباب التي أدت إلى تدهور الأمة الإسلامية، حيث كانوا يعتمدون على عقائد اليهود والزرادتشتيه وغيرها من الملل والنحل والفرق الأرضية التي كانت تنخر في جسد الأمة. وقد أدت حروب المغول والتتار والصليبيين إلى ضعف الأمة الإسلامية وتفرقها. مما جعل المجال خصبا أمام الباطنيين، فنشطوا في دعوتهم، واستغلوا الفرص لنشر مبادئهم الهدامة. وقد وضح لنا أبو حامد الغزالي رحمه الله، الباطنية ومبادئهم وأهدافهم توضيحا دقيقا في مقالته (مما تطابق عليه نقلة المقالات قاطبة أن هذه الدعوة لم يفتتحها منتسب إلى ملة، ولا معتقد لنحله معتضد بنبوة، فإن مساقها ينقاد إلى الانسلال من الدين كانسلال الشعرة من العجين، ولكن تشاور جماعة من المجوس والمزدكية، وشرذمة من الثنوية الملحدين، وطائفة كبيرة من ملحدة الفلاسفة المتقدمين، ضربوا سهام الرأي في استنباط تدبير يخفف عنه ما نابهم من استيلاء أهل الدين، وينفس عنهم كربة ما دهاهم من أمر المسلمين، حتى أخرسوا ألسنتهم عن النطق بما هو معتقدهم، من إنكار الصانع وتكذيب الرسل، وجحد الحشر والنشر، والمعاد إلى الله في آخر الأمور، وزعموا أنا بعد أن عرفنا الأنبياء كلهم مخرقون منمسون (1): فإنهم يستعبدون الخلق بما يخيلونه إليهم من فنون الشعوذة – وقد تفاقم أمر محمد، واستطارت في الأقطار دعوته، واتسعت ولايته، واتسقت أسبابه وشوكته، حتى استولوا على ملك أسلافنا، وانهمكوا في التنعم في الولايات المتحدة مستحقرين عقولنا، وقد طبقوا وجه الأرض ذات الطول والعرض، ولا مطمع في مقاومتهم بقتال، ولا سبيل إلى استنزالهم عما أصروا عليه إلا بمكر واحتيال، ولو شافهناهم بالدعاء إلى مذهبنا لتنمروا علينا، وامتنعوا عن الإصغاء إلينا، فسبيلنا أن ننتحل عقيدة طائفة من فرقهم، هم أركهم عقولا، وأسخفهم رأيا، وألينهم عريكة، لقبول المجالات وأطوعهم للتصديق بالأكاذيب المزخرفات، وهم الروافض، ونتحصن بالانتساب إليهم، والاعتزاء إلى أهل البيت عن شرهم، ونتودد إليهم بما يلائم طبعهم: من ذكر ما تم على سلفهم من الظلم العظيم، والذل الهائل، ونتباكى على ما حل بآل محمد – صلى الله عليه وسلم – ونتوصل به إلى تطويل اللسان في أئمة سلفهم الذين هم أسوتهم وقدوتهم، حتى إذا قبحنا أحوالهم في أعينهم وما ينقل إليهم شرعهم بنقلهم وروايتهم – اشتد عليهم باب الرجوع إلى الشرع، وسهل علينا استدراجهم إلى الانخلاع عن الدين، وإن بقي عندهم معتصم من ظواهر القرآن ومتواتر الأخبار أوهمنا عندهم أن تلك الظواهر لها أسرار وبواطن، وأن إمارة الأحمق الانخداع بظواهرها، وعلامة الفطنة اعتقاد بواطنها، ثم نبث إليهم عقائدنا، ونزعم أنها المراد بظواهر القرآن، ثم إذا تكثرنا بهؤلاء، سهل علينا استدراج سائر الفرق بعد التحيز إلى هؤلاء، والتظاهر بنصرهم. ثم قالوا: طريقنا أن نختار رجلا ممن يساعدنا على المذهب، ونزعم أنه من أهل البيت، وأنه يجب على كافة الخلق مبايعته، وتتعين عليهم طاعته، فإنه خليفة رسول الله، ومعصوم عن الخطأ والزلل من جهة الله تعالى، ثم لا نظهر هذه الدعوة على القرب من جوار الخليفة الذي وسمناه بالعاصمة، فإن قرب الدار ربما يهتك هذه الأستار، وإذا بعدت الشقة، وطالت المسافة فمتى يقدر المستجيب إلى الدعوة أن يفتش عن حاله، وأن يطلع على حقيقة أمره. ومقصدهم بذلك كله الملك والاستيلاء والتبسط في أموال المسلمين وحريمهم، والانتقام منهم فيما اعتقدوه فيهم، وعالجوهم به من النهب والسفك، وأفاضوا عليهم من فنون البلاء. وقد جرت الباطنية على العالم الإسلامي من ويلات وخطوب، فلطالما عاثت في ربوعه فسادا، وجاست خلاله حرابا، وقد كانت الكوباء، إذا أتت على شيء جعلته كالرميم، بلقعا يبابا، كأن لم تغن بالأمس، حتى الكعبة المقدسة لم تسلم من سطواتها المخربة، ولم تنج من حملاتها المدمرة. أصول فرق الباطنية: أصل هؤلاء كلهم المجوس الذين ذهب ملكهم على يد الفاتحين من المسلمين، فمكروا وتحركوا لإعادة نار المجوس الذين يعظمون الأنوار والثيران والماء والأرض، ويقرون بنبوة زرادشت، ولهم شرائع يرجعون إليها. المصدر: البرهان في علامات مهدي آخر الزمان للمتقي الهندي – 1/ 173   (1) نمس عليه الأمر: لبس عليه ودلس, ومخرق مثله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 41 المبحث الثاني: أثرها في الناحية الفكرية إن الهدف السياسي للحركات الباطنية هو إسقاط الخلافة الإسلامية وإعلان الإمامة الشيعية أمر لا يختلف فيه اثنان ولكن اتجاه هذه الحركات بعد فترة طويلة من ظهورها اتجاها دينيا وفكريا تستر به اتجاهها السياسي يثير الشك والانتباه ويبدو أن هذه الحركات - وعلى رأسها الإسماعيلية – قد تنبهت إلى نقطة مهمة وخطيرة وهي أن غالبية الحركات والثورات التي اشتعلت ضد الخلافة الإسلامية قد آلت إلى الفشل الذريع لعدم استنادها على مفهوم ديني وفكري تدعم به حركتها. وقد سارعت الحركة الباطنية الشيعية لاستغلال هذه النقطة أبشع استغلال فجعلت لأئمتهم من نسل علي بن أبي طالب صفات أوصلتهم إلى رتبة الإجلال والتقديس بل في بعض الأحيان إلى درجة الألوهية فهم بفضل الصفات التي أودعها الشيعة فيهم أئمة المسلمين وفقهاؤهم ووارثو رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فيأمرون ويعلمون باسم الله كما كان يفعل عليه الصلاة والسلام حتى أنهم أضافوا إلى (أركان الإسلام الخمسة) ركنا سادسا وهو الولاية أي الانضواء إلى الأئمة وعدم مخالفتهم وموالاة أعدائهم وبهذا الركن الذي أدخلوه على الإسلام استطاعوا أن يروجوا ما يريدون على أنه من الأئمة الذين لا تجوز مخالفتهم بحيث أصبحت حركة التشيع تعني اتجاها مغايرا للإسلام الصحيح بأفكارها الدينية وعقائدها الجديدة الغريبة على الإسلام والمسلمين. وهكذا نشأت أنظمة سرية تعمل على نشر الآراء الدينية والفكرية الجديدة بين الناس فكانت الحركة الباطنية الشيعية (عبارة عن دعاية خفية مستترة أكثر مما هي مقاومة مكشوفة وهذا ما جعلها مخالفة لغيرها من الفرق وهي دعاية يحيط بها جو من الأسرار وتغشاها أساليب المكر والمرواغة) (1).فكان من أكبر ما تمتاز به الحركة الفكرية في القرن الرابع الهجري ظهور مذهب الشيعة يحمل بين ثناياه الكثير من الأفكار الشرقية القديمة ويجعلها مكان بعض الأفكار الإسلامية وقد كان فللإسماعيلية دور كبير وخطير في حمل هذه الأفكار ومزجها بالعقائد الإسلامية (فالضلال لم يتفشى في العالم الإسلامي بقدر ومثل ما تفشى بسبب الفرق الشيعية وما غير السنن إلا المتشيعون الذين دخلوا الإسلام لهدمه وتقويض أركانه) (2). ومن البديهي أن يكون لأتباع الحركة الباطنية أهدافا مرسومة وغايات بعيدة من وراء زرع هذه الأفكار في العالم الإسلامي من أهمها إزالة هالة الخوف والقداسة عن العقائد الإسلامية ومناقشتها ووضعها تحت مجهر العقل والحس من قبل أصحاب النفوس المريضة التي نافقت الإسلام ودخلت به رياء ونفاقا أو خوفا وبذلك شجعت الحركة الباطنية أصحاب تلك النفوس للزنادقة والمجوس والفلاسفة الصابئة وغيرهم من الذين كانوا يتربصون الفرص للنيل من الإسلام والمسلمين. وهكذا نلاحظ وبعد فترة من ظهور هذه الحركة أنها مهدت الطريق لأمثال الفارابي وابن سينا والكندي والمعري وغيرهم ليتجرأوا ويجاهروا بكفرهم وفلسفتهم الأفلاطونية الوثنية. ولم يقف الأثر الفكري للحركة الباطنية عند هذا الحد بل أوجدت لها أثرا واضحا على الصوفية والصوفيين بأفكارها وعقائدها الفلسفية ويبدو أن عملية المطاردة لأتباع الفرق الباطنية جعلت الكثير منهم يختفون في حلقات الصوفيين وهذا كان له أثر خطير على أفكار الصوفية فظهر منهم الغلاة المتأثرون بأفكار الإسماعيلية وفلسفتها الذين زعموا وحدة الوجود والاتحاد بالمعبود ولم يكن لهم أي اهتمام بالأديان ولا بالإسلام أمثال الحلاج وابن العربي والسهروردي والبسطامي وغيرهم.   (1) ((العقيدة والشريعة في الإسلام)) جولد تسيهر (ص: 180). (2) ((الصراع المذهبي في أفريقيا)) عبدالعزيز المجذوب (ص: 183). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 42 وأن الطابع الفسلفي للحركة الباطنية قد جعل نظرية الإمام وولايته محورا تدور حوله الأفكار الباطنية وترتب على ذلك رفع منزلة علي بن أبي طالب وذريته إلى مرتبة الألوهية وتجسد الجوهر الإلهي في أشخاصهم (مما أفسح المجال لظهور عقائد وتصورات للألوهية مغرقة في التشبيه والتجسيم والمادية وإلى آراء أسطورية محضة تسلب أصحابها أدنى حق في معارضة الوثنية أو المقابلة بين عقائدهم وعقائد الوثنيين) ولعبيد الله مهدي (مؤسس الدولة العبيدية في المغرب) مواقف من الزيغ والضلال تدل على مدى المغالاة الذي وصل إليها الباطنيون (فقد حكى أحدهم أنه سمع الكفر بأذنيه وذلك أنه حضر شهادة وكان فيه جمع من أهل سنة ومشارقة وكان بالقرب مني – يحكي عن نفسه – أبو قضاعة الداعي فأتى رجل مشرقي من أهل الشرق ومن أعظم المشارقة فقام إليه رجل مشرقي وقال إلى هاهنا يا سيدي إلى جانب رسول الله يعني أبا قضاعة الداعي ويشير بيده إليه فالخليفة العبيدي الإله وداعيه أبو قضاعة ورسوله) (1). بالإضافة إلى ذلك فإن من أقوى المؤثرات الفكرية التي ساعدت الفكر الباطني على الانتشار دعوى الإسماعيلية وأتباعها بوحدة الأديان فهم في سبيل الوصول إلى غايتهم المريبة كانوا يظهرون للناس في أثواب مختلفة ويكلمون كل شخص بلغة خاصة مما صادف هوى في نفوس بعض أفراد وجماعات تبغض الإسلام والمسلمين فوجد هؤلاء الإسماعيلية كل ما يهدفون إليه من هدم للإسلام وتقويض لأركانه. ويؤيد هذا أيضا أن جماعة إخوان الصفاء الإسماعيلية كانت تضم في صفوفها (أبا إسحاق الصابي الحراني وهو من عبدة النجوم (الصابئة) ويحيى بن عدي النصراني رئيس أساقفة الكنيسة اليعقوبية وماني المجوسي وأبو سليمان المنطقي السجستاني الإسماعيلي فما الذي يجمع هؤلاء ويدعوهم إلى تأليف مجمع سري) إلا الهدف الواحد وهو هدم التوحيد الإسلامي بالأفكار الوثنية المستترة برقع التحرر. وينبغي أن لا يغيب عن أذهاننا النشاط الفكري الواسع للحركات الباطنية في العصر الحالي وكل مطلع على النشاط الثقافي وخاصة في مجال النشر يرى كثيرا من دور النشر المتسترة من كتب الباطنية والباطنيين المسمومة الشيء الكثير على اعتبار أنها كتب التراث الذي يجب أن يحفظ أو التاريخ الذي يجب أن يدون ولا يضيع مستغلين جهل القارئ المسلم بحقيقتها وأصلها وبذلك يضللون الكثير من العقول. ويمكن أن نضيف إلى ذلك النشاط الباطني المخيف للإسماعيلية في كثير من الولايات الأمريكية والبلدان الأفريقية حيث مهد لها أعداء الإسلام الطريق هناك بعد أن خافوا من امتداد الإسلام إلى تلك البلاد فافتتحت الإسماعيلية المراكز الضخمة في ظاهرها دعوة الإسلام وفي باطنها هدم للإسلام وتقويض له. المصدر: الحركات الباطنية في العالم الإسلامي لمحمد أحمد الخطيب – ص437   (1) ((العقيدة والشريعة في الإسلام)) جولد تسيهر (ص: 180). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 43 المبحث الثالث: أثرها في الناحية الاجتماعية لقد كان للفوضى الاجتماعية التي أوجدتها الباطنية في جسم المجتمع الإسلامي من أهم الأخطار العظيمة الذي هدد المسلمين في القرون الماضية وأخص بالذكر الثورات المتلاحقة على الخلافة العباسية التي أوجدت هذه الفوضى. ومن أخطر الآفات الاجتماعية التي ظهرت في المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت انعدام الثقة بين أفراد المجتمع بل بين أفراد الأسرة الواحدة بسبب الغزو الفكري الباطني لعقول الناس وخاصة الشباب منهم مما أحدث ارتباكا فكريا خلف من ورائه انحلالا اجتماعيا خطيرا ترك أثاره على تعامل الناس مع بعضهم البعض وعلى تعامل أفراد الأسرة الواحدة أيضا. وقد ظهر هذا واضحا في أيام ظهور القرامطة والحشاشين الذين سلبوا بأفكارهم الهدامة بعض عقول الشباب المراهق غير الواعية بما يدور حولها بحث أصبح هؤلاء أداة بلا عقل ولا إرادة في يد زعماء الباطنية يحققون بها غاياتهم المريبة. وتعطينا القصة التالية التي رواها ابن الأثير صورة واضحة للوضع الاجتماعي الخطير الذي خلفته الباطنية على أفراد المجتمع الإسلامي فيقول (ذكر عن متطبب يدعى أبا الحسين قال: جاءتني امرأة بعدما أدخل القرمطي صاحب الشامة بغداد وقالت أريد أن تعالج جرحا في كتفي فقلت ها هنا امرأة تعالج النساء فانتظرتها فقعدت هي باكية مكروبة فسألتها عن قصتها قالت كان لي ولد طالت غيبته عني فخرجت أطوف عليه البلاد فلم أره فخرجت من الرقة في طلبه فوقعت في عسكر القرمطي أطلبه فرأيته فشكوت إليه حالي وحال أخواته فقال دعيني من هذا أخبريني ما دينك فقلت أما تعرف ديني فقال ما كنا فيه باطل والدين ما نحن فيه اليوم فعجبت من ذلك وخرج وتركني ووجه بخبز ولحم فلم أمسه حتى عاد فأصلحه. وأتاه رجل من أصحابه فسأله عني هل أحسن من أمر النساء شيئا فقلت نعم فأدخلني دارا فإذا امرأة تطلق فقعدت بين يديها وجعلت أكلمها ولا تكلمني حتى ولدت غلاما فأصلحت من شأنه وتلطفت بها حتى كلمتني فسألتها عن حالها فقالت أنا امرأة هاشمية أخذنا هؤلاء الأقوام فذبحوا أبي وأهلي جميعا وأخذني صاحبهم فأقمت عنده خمسة أيام ثم أمر بقتلي فطلبني منه أربعة أنفس من قواده فوهبني لهم وكنت معهم فوالله ما أدري ممن هذا الولد منهم. قالت فجاء رجل فقالت لي هنيه فهنيته فأعطاني سبيكة فضة وجاء آخر وآخر أهني كل واحد منهم ويعطيني سبيكة فضة ثم جاء الرابع ومعه جماعة فهنيته فأعطاني ألف درهم وبتنا فلما أصبحنا قلت للمرأة قد وجب حقي عليك فالله الله خلصيني قالت ممن أخلصك فأخبرتها خبر ابن فقالت عليك بالرجل الذي جاء آخر القوم فأقمت يومي فلما أمسيت وجاء الرجل قمت له وقبلت يده ورجله ووعدته أنني أعود بعد أن أوصل ما معي إلى بناتي فدعا قوما من غلمانه وأمرهم بحملي إلى مكان ذكره وقال اتركوها فيه وارجعوا فساروا بي عشرة فراسخ فلحقنا ابني فضربني بالسيف فجرحني ومنعه القوم وساروا بي إلى المكان الذي سماه صاحبهم وتركوني وجئت إلى هاهنا قالت ولما قدم الأمير بالقرامطة وبالأسارى رأيت ابني فيهم على جمل عليه برنس وهو يبكي فقلت لا خفف الله عنك ولا خلصك!؟ (1). وهكذا فقد أصبح الابن جاحدا لأمه والأب لا يعترف بابنه والصديق عدوا لصديقه بعد الغزو الباطني الخطير لأفكار المسلمين.,   (1) ((الكامل في التاريخ)) ابن الأثير (7/ 524 - 526). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 44 ويمكن أن يضاف إلى البلبلة الفكرية التي سببت الانحلال الاجتماعي سبب آخر وهو أن الحركة الباطنية استغلت حالة الفقر التي كان يعيشها بعض أفراد المجتمع الإسلامي فعملت على إشباع شهواتهم الجنسية والمالية وخاصة لذوي النفوس المريضة منهم مما سهل الأمر على الحركة الباطنية أن تستغلهم أبشع استغلال وهذا ما هو واضح عند القرامطة والحشاشين على وجه الخصوصوعند ظهور الدولة العبيدية في المغرب وامتدادها بعد ذلك إلى مصر (بلغ التعفن الاجتماعي أقصى مداه حيث عمد الشيعة إلى إنزال الويلات بالناس فجاروا عليهم جورا شديدا وتعللوا على أموال الناس من كل جهة وقد أصاب الناس على ذلك طاعون شمال إفريقيا وما والاها إلى مصر سنة 307هـ نشأ قطعا عما يعاني الناس من انهيار اجتماعي زاده الفقر استفحالا والمجاعة تعفنا (1). أما الباطنية من الحشاشين فقد أحدثوا انهيارا اجتماعيا لا مثيل له تدل خطورته على الوضع الذي وصل إليه الناس في ذلك الوقت حيث صار هؤلاء مصدرا للخوف والقلق بين جميع طبقات الناس فصار الأخ لا يثق بأخيه والأب يخاف من ابنه والأمير لا يعلم المخلص من أتباعه وحراسه لخوفهم أن يكون واحدا منهم ممن سلب الباطنية عقولهم بأفكارها المريبة البراقة. ومن البديهي أن تحدث هذه الأمور مجتمعة شرخا اجتماعيا كانت له انعكاساته على الوضع السياسي للعالم الإسلامي وهو يقاوم الأعداء الخارجيين من الصليبيين والتتار فكانت الباطنية عدوا داخليا يوالي الطعنات المخيفة من الخلف مما أضعف المسلمين وأحدث ثغرة عميقة في صفوفهم. ومن الأمور الخطيرة أيضا التي عملت الباطنية على تحقيقها في المجتمع الإسلامي وهو يواجه الصليبيين والتتار محاولتها قتل عدد كبير من خيرة العلماء والقادة والأمراء في محاولة منها لإبعاد هؤلاء عن طريقها حتى يفسح المجال لها لتنفيذ أغراضها الجهنمية في المجتمع الإسلامي فكان فَقْدُ أمثال هؤلاء من المجتمع عاملا خطيرا في ارتباك المجتمع الإسلامي وتخلخله. من ذلك أنهم قتلوا في همذان قاضي القضاة زين الإسلام أبا سعد محمد بن نصر الهروي أثناء عودته من خراسان إلى بغداد ولم يجرؤ شخص على أن يتبعهم للخوف منهم وفي سنة 1126هـ قتلوا البرسقي أتابك الموصل وفي سنة 1127هـ قتلوا المعين وزير السلطان سنجر بن ملكشاه صاحب خراسان وفي سنة 1130هـ أرسل الباطنية من مركزهم في آلموت اثنين من الخراسانية لقتل تاج الملوك بوري أتابك دمشق ويطول بنا الأمر لو حاولنا تسجيل كافة الاغتيالات الباطنية ولكن يكفي أن نختم هذه القائمة بالإشارة إلى أنهم حاولوا أكثر من مرة قتل صلاح الدين الأيوبي ولكن الله سلمه (2). هذا غيض من فيض للأثر الاجتماعي الذي أوقعته في القرون الماضية أما حديثا فيكفي أن نجمل بأمر خطير تعمل على تحقيقه الباطنية بجميع فرقها وهو امتدادهم البشري إلى كافة المدن والقرى المجاورة لمعاقلهم في محاولة منهم للسيطرة على أكبر قدر من أراضي المدن والقرى التي يقطنها المسلمون ويمكن أن نلاحظ هذا الزحف البشري بوضوح في سوريا فقد ترك مئات الألوف من النصيرية جبالهم واستوطنوا دمشق وحلب وحماة وحمص مما أحدث شرخا عميقا في مجتمعات هذه المدن وخاصة بعد أن أصبح هؤلاء الباطنيون المسيطرون على مقدرات هذه المدن سياسيا وماديا. وهكذا ظلت الباطنية قديما وحديثا مصدرا خطيرا للانحلال السياسي والاجتماعي بأفكارها المسمومة وأعمالها الإرهابية ومن البديهي أن يكون لهذا الخطر الباطني في المستقبل أثر لا يجوز الاستهانة به. المصدر: الحركات الباطنية في العالم الإسلامي لمحمد أحمد الخطيب – ص441   (1) ((الصراع المذهبي في أفريقيا)) عبدالعزيز المجذوب (ص: 237). (2) ((الحركة الصليبية)) سعيد عاشور (1/ 559 - 560). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 45 المبحث الرابع: أثرها في الناحية السياسية إن أسوأ الآثار التي ترتبت نتيجة لظهور الحركة الباطنية هو انقسام العالم الإسلامي إلى فئتين متناحرتين فقد استطاعت الباطنية (المتمثلة بالإسماعيلية) استمالة قبيلة كتامة في بلاد المغرب مما ساعدها كثيرا على قيام أول دولة لها سميت بـ (الدولة الفاطمية) أو (العبيدية). ولا شك أن قيام هذه الدولة الباطنية قد أوجد انقساما خطيرا في صفوف المسلمين هو الأول من نوعه لادعاء حكام هذه الدولة أنهم من ذرية آل البيت وبأحقيتهم أن يكونوا أئمة المسلمين بعد أن كان المسلمون جميعهم يتجهون في ولائهم إلى الخليفة العباسي في بغداد ولكن سرعان ما تكشف حقيقة هؤلاء الأعداء عندما عملوا مرارا على إثارة الفتن بين السنة والشيعة في العراق مقر الخلافة العباسية وعلى إظهار باطن ما يعتقدون في قوانينهم وتصرفات أتباعهم. ومن المؤكد أن تفتيت العالم الإسلامي الذي عمل على تنفيذه أتباع الباطنية كان له أثر بالغ الخطورة على التطورات السياسية فيه وخاصة وهو يواجه الصليبيين والتتار فإذا به يتعرض لطعنة قوية من الخلف من جانب الباطنية أضعف المسلمين وأحدث ثغرة قوية في جبهتهم نفذ من خلالها الأعداء من الصليبيين وغيرهم فاستطاعوا بذلك أن يوطدوا قوتهم داخل بلاد المسلمين. وينبغي أن لا يغيب عن أذهاننا أن الباطنية كانت تمد يد العون والمساعدة لهؤلاء الأعداء وتتحالف معهم في سبيل القضاء على الخلافة الإسلامية (ولما تحرك الصليبيون صوب الجنوب كانت سياسيتهم التقليدية تقوم على محالفة الفاطميين الشيعة بمصر لمناهضة الخلفاء العباسيين والترك السنيين (1).   (1) ((تاريخ الحروب الصليبية)) ستيفن رنسيمان (2/ 33). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 46 وكان أكثر عونا للصليبيين وأشد خطرا على كل محاولة إسلامية لقتالهم فرقة الحشاشين الذين عرفوا بالقتل والتدمير وأصبحوا أداة غادرة بيد الصليبيين موجهة ضد المسلمين. فكان ما أقدموا عليه من اغتيالات ضد القادة المسلمين موضع ترحيب وتقدير من قبل الصليبيين بعد أن وجدوا فيهم ضالتهم المنشودة فسارعوا للتحالف الوثيق معهم وكان هذا التحالف واضحا عندما زحف المسلمون على الصليبيين حتى بلغوا طبرية في فلسطين بقيادة مودود وطغتكين سنة 1113م فأغضب هذا الباطنية فعملوا على قتل مودود بينما كان يدخل المسجد الكبير لتأدية صلاة الجمعة فطعنه أحد الباطنية بخنجر فلقي مصرعه (1). وهكذا تخلص الفرنج من عدو لدود لهم بمصرع مودود على يد الباطنية. وزاد من نفوذ الباطنية في بلاد الشام اعتناق رضوان ملك حلب للمذهب الباطني وعطفه على أتباعه فاستغل الباطنية تلك المكانة وأخذوا يباشرون أعمالهم الإجرامية ضد زعماء المسلمين (2). وما اتسمت به سياسة رضوان الباطنية أسهمت إلى حد كبير في توطيد ملك الفرنج في الشام (3).وتوطدت العلاقات الودية بين الصليبيين والباطنية في أيام نور الدين وصلاح الدين اللذين عملا جاهدين على توحيد العالم الإسلامي ضد الصليبيين فقد كانت كراهية الباطنية لنور الدين شديدة واعتبروه عدوهم اللدود نظرا لأن سلطانه قيد توسعهم فحقدوا عليه وعاونوا حلفاءهم الصليبيين ضده حتى أنه عندما استطاع نور الدين أن يلحق الهزيمة بالصليبيين نرى زعيم الحشاشين حينئذ (علي بن وفا الكردي) يسارع للتحالف مع الصليبيين ويقوم بهجوم مفاجئ على نور الدين سنة 1148م بالقرب من أنطاكية ولم يكتفوا بذلك بل حاولوا اغتيال نور الدين وأرسل زعيم الحشاشين الجديد رشيد الدين سنان إلى الصليبيين يعرض عليهم إجراء تحالف وثيق لمناهضة نور الدين ملوحا بأنه يفكر مع قومه في التحويل إلى النصرانية (4).ولم يتوان هذا الحشاش عن محاولة اغتيال صلاح الدين الأيوبي نفسه فقد تم اكتشاف جماعة من الباطنية عند خيمة صلاح الدين في جوف عسكره (5). بعد أن استطاع أن يدحر الصليبيين وقد تكررت هذه المحاولة عدة مرات وكل هذا يدل بالطبع على نوعيه الحقد الدفين الذي يكنه الباطنيون لكل ما يحمل علامة النصر للإسلام والمسلمين. ويحسن بنا أن نلاحظ أن من الآثار السياسية للحركة الباطنية الفتن السياسية التي قامت بها فأدخل العالم الإسلامي في بلبلة وقلاقل جعله نهبا للأعداء من كل جهة.   (1) ((تاريخ الحروب الصليبية)) ستيفن رنسيمان (2/ 206). (2) ((الحركة الصليبية)) سعيد عاشور (1/ 555). (3) ((تاريخ الحروب الصليبية)) ستيفن رنسيمان (2/ 206). (4) ((تاريخ الحروب الصليبية)) ستيفن رنسيمان (2/ 641). (5) ((تاريخ الحروب الصليبية)) ستيفن رنسيمان (2/ 675). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 47 فالاضطرابات التي قام بها أدعياء التشيع من الباطنية أمثال الخطابية وغيرها كانت تمهيدا لثورات وقلاقل أكبر خطرا حاقت بالعالم الإسلامي قام بها بعد ذلك الباطنيون وأهم تلك القلاقل ثورة القرامطة الإرهابية وما حملته من فتنة سياسية أحرقت الأخضر واليابس وأحدثت فراغا كبيرا في صفوف المسلمين وقوتهم دخل من خلاله الأعداء من كل صوب إلى قلب العالم الإسلامي فوجدوا من أتباع الباطنية خير عون ومساعد لهم ضد المسلمين. والمطلع على تاريخ الباطنية لا بد أن يربط القديم بالحديث في تاريخ هؤلاء فما نراه اليوم من أعمالهم لا يمكن أن نستغربه فتاريخهم السياسي القديم أسود حالك بالسواد مليء بالحقد والكراهية وتاريخهم الحديث امتداد لهذا التاريخ (فقد جهد الاستعمار الأوروبي ليجد أسلحة يهدم بها الإسلام ويسيطر على المسلمين ويبدو أن الإسماعيلية كانوا أحد هذه الأسلحة فإذا بإمام إسماعيلي يظهر من جديد يساعد الإنجليز ويساعده الإنجليز يتيح له الإنجليز أن ينشر مذهبه بين مسلمي مستعمراتهم ويضمن لهم هو أن يخضع أتباعه لهم (1). والنصيرية في السنين الماضية فاقت الإسماعيلية في تحالفها الوثيق مع أعداء الإسلام والمسلمين فأصبحت أداة خبيثة بيد اليهودية والصليبية مزروعة في جسم العالم الإسلامي تتحرك وتنفذ مخططات الأعداء بكل حقد وخاصة بعد أن استولت على مقاليد الأمور في سورية فكان تسليم الجولان لإسرائيل عبارة عن صفقة خائنة عقدت بين النصيرية والدولة اليهودية لا تزال آثارها الإجرامية تتفاقم إلى اليوم. ولم يكتف النصيريون بهذا فعملوا أيضا على تحطيم المسلمين في لبنان بعد أن كاد المسلمون أن يسيطروا على أكثر لبنان فدخلت قوات النصيريين لبنان وحطمت هذا النصر ودكت مخيم تل الزعتر بمعاونة قوات النصارى واليهود يقتلون ويشوهون ويهتكون الأعراض معاً. وهكذا نرى أن الباطنية كانت ولا تزال مصدر الفتن والقلاقل في المجتمع الإسلامي وعونا لكل عدو لهذه الأمة تساعده بكل ما أوتيت من قوة لعلها بذلك تحقق هدفها وهو هدم الإسلام وقتل المسلمين. المصدر: الحركات الباطنية في العالم الإسلامي لمحمد أحمد الخطيب – ص445   (1) ((موسوعة التاريخ الإسلامي)) أحمد شلبي (2/ 189 – 190). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 48 المطلب الأول: التعريف الإسماعيلية فرقة باطنية، انتسبت إلى الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق، ظاهرها التشيع لآل البيت، وحقيقتها هدم عقائد الإسلام، تشعبت فرقها وامتدت عبر الزمان حتى وقتنا الحاضر، وحقيقتها تخالف العقائد الإسلامية الصحيحة، وقد مالت إلى الغلوِّ الشديد لدرجة أن الشيعة الاثني عشرية يكفِّرون أعضاءَهَا. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 49 المطلب الثاني: فرق الإسماعيلية ظهر التفرق في طائفة الإسماعيلية كسائر فرق الشيعة منذ نشأتها حيث نجد هذه المصطلحات والأسماء الآتية في كتب الفرق وكلها تدل على فرق عديدة وانشقاقات في داخل فرقة الإسماعيلية وهذه طبيعة السبل التي نهانا الله عنها وحذرنا من أتباعها كما قال تعالى وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153]، وهذه الفرق حسب أسمائها في كتب المقالات على النحو الآتي: 1ـ الإسماعيلية الخالصة: وهم الذين قالوا: إن الإمام بعد جعفر ابنه إسماعيل بن جعفر وأنكروا موت إسماعيل في حياة أبيه وقالوا إن ذلك على جهة التلبيس لأنه خاف عليه فغيبه عنهم وزعموا أن إسماعيل لا يموت حتى يملك الأرض ويقوم بأمور الناس وأنه هو القائم لأن أباه أشار إليه بالإمامة بعده وقلدهم ذلك له وأخبرهم أنه صاحبهم وهذه الفرقة تنتظر إسماعيل بن جعفر وجزم كل من الأشعري القمي والنوبختي إلى أن هذه الفرقة هي الخطابية أتباع أبي الخطاب قبل موته ولما توفى أبو الخطاب انضم أتباعه إلى الإسماعيلية وقالوا بإمامة إسماعيل في حياة أبيه مع إنكارهم لموته في تلك الفترة. 2ـ الإسماعيلية المباركية أو الإسماعيلية الثانية: وهم القائلون بأن الإمام بعد جعفر هو محمد بن إسماعيل بن جعفر وأمه أم ولد وقالوا إن الأمر كان لإسماعيل في حياة أبيه فلما توفي قبل أبيه جعل جعفر بن محمد الأمر لمحمد بن إسماعيل وكان الحق له ولا يجوز غير ذلك لأنها لا تنتقل من أخ إلى أخ بعد الحسن والحسين رضي الله عنهما ولا يكون الإمام إلا في العقاب ولم يكن لأخوة إسماعيل عبدالله وموسى في الإمامة حق كما لم يكن لمحمد ابن الحنفية فيها حق مع علي بن الحسن وأصحاب هذه المقالة يسمون المباركية نسبة إلى رئيس لهم يسمى المبارك كان مولى لإسماعيل بن جعفر المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي - 2/ 352 3ـ فرقة القرامطة: فرقة باطنية ثورية انشقت عن حركتها الأم الإسماعيلية وأصبحت فرعا من فروعها وسموا بالقرامطة نسبة إلى زعيمها وداعيتها الأول (حمدان قرمط) الذي يقول عنه الغزالي: كان حمدان أحد دعاة الباطنية في الابتداء حيث استجاب له في دعوته رجال فسموا قرامطة وقرمطية ودار بينهما محاورة دعوية استجاب فيها حمدان لجميع ما دعاه إليه هذا الباطني ومنها أخذه العهد والميثاق على حمدان بالبيعة للإمام الإسماعيلي والتزام سر الإمام وسر هذا الداعية ومن ثم انتدب حمدان للدعوة وصار أصلا من أصولها المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان عبد الله السلومي – 2/ 353 و (انظر بحث القرامطة من هذه الموسوعة) 4ـ فرقة الدروز: هذه الفرقة من فرق الباطنية الإسماعيلية التي جاهرت بالغلو في شخصية الحاكم فانشقت عن المذهب الإسماعيلي ورغم انشقاقها وتفردها ببعض المعتقدات فإنها بلا شك وليدة الدعوة الإسماعيلية وبتعبير أدق جناحا من أجنحتها. المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 358 و (انظر بحث الدروز من هذه الموسوعة) 5ـ الإسماعيلية المستعلية: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 50 يعتبر انقسام الطائفة الإسماعيلية إلى مستعلية ونزارية أضخم انقسام وافتراق منذ تأسيسها وبدايتها إلى عصرنا الحاضر حيث اتجهت كل فرقة إلى إمام من أئمتها في فترة الظهور وتمسكت به وبإمامة نسله من بعده إن كان له نسل أو عقب وحدث من جراء هذا الانقسام أن أصبح لكل فرقة كتب خاصة بها لأن لكل فرقة دعاة خاصين ومنظمين فكريين بل أصبح بعد ذلك لكل فرقة دولة خاصة بها ولا أدل على ذلك من دولة الصليحيين في اليمن والتي تمثل الإسماعيلية المستعلية ودولة الصباحيين أو الحشاشين في ألموت وجنوب فارس والتي تمثل الإسماعيلية النزارية. وبداية هذا الانقسام وسببه كما ذكرنا سابقا أن المستنصر العبيدي (الإمام الثامن من أئمة الظهور عند الإسماعيلية) لما مات في ذي الحجة من عام 487هـ أقام الأفضل ابن بدر أمير الجيوش ابنه المستعلي بالله بن المستنصر واسمه أبو القاسم أحمد للإمامة والحكم وخالفه في ذلك أخوه نزار بن المستنصر وبعد مناوشات بينهما فر إلى الإسكندرية ثم حاربه الأفضل حتى ظفر به فقتله ثم أمر الأفضل الناس بتقبيل الأرض وقال لهم قبلوا الأرض لمولانا المستعلي بالله وبايعوه فهو الذي نص عليه الإمام المستنصر قبل وفاته بالخلافة من بعده (1).وبذلك انقسمت الإسماعيلية إلى مستعلية أتباع المستعلي ونزارية أتباع نزار والحديث الآن عن المستعلية حيث يسمون بهذا الاسم نسبة إلى القول بإمامة المستعلي مع إنكار إمامة نزار بن المستنصر ويقولون إنه نازع الحق أهله من حيث أن الحق في الإمامة والخلافة كان لإمامهم المستعلي فادعاه لنفسه ويقولون إن شيعته على الباطل ويرون من الضلال اتباع الحسن الصباح داعية نزار والناقل عن المستنصر النص على إمامته (2). ومن أسماء هذه الفرقة فيما بعد الطيبية نسبة إلى الطيب ابن الآمر المزعوم. الذي سبق أن ذكرنا ادعاء الملكة أروى الصليحية إمامته وكفالتها له. وبعد ذلك أطلق عليهم لقب الإسماعيلية الطيبية لزعمهم بإمامته وإمامة نسله المستورين من بعده كما يطلق على هذه الفرقة الإسماعيلية الغريبة وهؤلاء هم إسماعيلية مصر واليمن وبعض بلاد الشام تمييز لهم عن الإسماعيلية الشرقية إسماعيلية بلاد فارس أصحاب الحسن الصباح (3). وتبنى هذه الفرقة وأبقاها الدولة الصليحية الذين حاولوا نشرها وبسطها في بلاد اليمن حتى انقرضت الدولة الصليحية عام 563هـ ولم يقم أتباع هذه الفرقة بأي نشاط سياسي يذكر ونراهم اتجهوا بعد ذلك اتجاها جديدا هو التجارة والاقتصاد واتخذوا التقية والستر – كعادتهم في التمويه – أسلوبا في نقل الدعوة الإسماعيلية المستعلية الطيبية إلى شبه القارة الهندية وظهر لهم لقب جديد ومسمى يتناسب مع مهنتهم وهو (البهرة) وسبب ذلك أنه عندما اعتنق جماعة من الهندوس الدعوة الإسماعيلية الطيبية وكثر عددهم في الهند عرفت الدعوة بينهم باسم البهرة وهي كلمة هندية قديمة معناها التاجر   (1) ((انظر الكامل في التاريخ لابن الأثير)) (8/ 173) و ((الخطط)) للمقريزي (2/ 34 - 35). (2) ((صبح الأعشى)) للقلقشندي (13/ 243). (3) ((طائفة الإسماعيلية)) لمحمد كامل حسين (ص: 46 – 62) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 51 البهرة: عندما اعتنق جماعة من الهندوس الدعوة الإسماعيلية الطيبية وكثر عددهم في الهند عرفت الدعوة باسم البهرة الذي يرمز إلى مهنتهم التي اشتهروا بها وهي التجارة حيث انصرفوا لها وحاولوا نشر عقيدتهم عن طريقها ولذا نجد أن دعوتهم انتشرت في أقطار متعددة نتيجة جهل الشعوب الإسلامية بهذه الدعوة الباطنية وعدم فهم الإسلام فهما صحيحا فلهم أتباع في بلاد الهند والباكستان وعدن كما يوجد عدد منهم في اليمن الشمالي في جبال حراز ولا زال يطلق عليه اسمهم الحقيقي والأصلي حيث يدعون بالقرامطة والباطنية ومن آثارها – كما يقول النشار – قبيلة يام وهي إلى اليوم باطنية تنتمي إلى بهرة الهند (1). ويشتهر البهرة بالتعصب الشديد لمذهبهم وعقيدتهم وتقاليدهم التي ورثوها من قادتهم وزعمائهم (إسماعيلية اليمن المعروفين بالصليحيين) فهم يحافظون عليها محافظة تامة ولا يقبلون تبديلا لتلك التقاليد أو تطويرها ومن مظاهر ذلك: 1ـ الزي الخاص بهم رجالا ونساء حتى أن الناظر المتمعن فيهم يعرف البهري من غيره. 2ـ لهم أماكن خاصة للعبادة لا يدخلها غيرهم أطلقوا عليها اسم جامع خانة فهم لا يؤدون فريضة الصلاة إلا في الجامع خانة مع رفضهم لإقامة الصلاة في المساجد التي لغيرهم من المسلمين. (وقد شاهدت مرارا وتكرارا البهريين يخرجون من المسجد الحرام عند إقامة الصلاة ويذهبون لأدائها في رباط لهم يسمى (الرباط السيفي) يقع بالقرب من الحرم المكي في الجهة الجنوبية).3ـ الحرص الشديد على ستر عقائدهم المذهبية الباطنية إما في الظاهر فإنهم قد يشاركون المسلمين في أداء بعض الفرائض والأركان (2).ورغم اتفاق البهرة ظاهريا مع غيرهم من المسلمين في العبادات والشعائر فإنهم يعتقدون عقائد باطنية بعيدة كل البعد عند معتقد أهل السنة والجماعة فهم مثلا يؤدون الصلاة كما يؤديها المسلمون ويحافظون على حدودها وأركانها كالمسلمين تماما ولكنهم يقولون إن صلاتهم هذه للإمام المستور من نسل الطيب بن الآمر ويؤدون شعائر الحج كما يؤديها المسلمون ولكنهم يقولون إن الكعبة التي يطوفون حولها هي رمز للإمام وهكذا يذهبون في عقائدهم مذهبا باطنيا يلتقي مع التيار الباطني العام (3).   (1) ((نشأة الفكر الفلسفي)) (4/ 432). (2) انظر ((طائفة الإسماعيلية)) لمحمد كامل حسين (ص: 52 – 53) بتصرف. (3) ((دراسة عن الفرق)) لأحمد جلي (ص: 229). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 52 وفي القرن العاشر الهجري انقسم البهرة إلى طائفتين تسمى إحداهما بالداودية والأخرى بالسيمانية ويرجع هذا الانقسام إلى الخلاف على من يتولى مرتبة الداعي المطلق للطائفة. فالفرقة الداودية تنتسب إلى الداعي السابع والعشرين من سلسلة دعاة الفرقة المستعلية الطيبية ويسمى بقطب شاه داوود برهان الدين المتوفى سنة 1021هـ وهم الأكثرية وهم بهرة كجرات ولذا أصبح مركز دعوتهم في الهند حيث يقيم داعيتهم الآن وهو طاهر سيف الدين في مدينة بومباي ويعتبر الداعي الحادي والخمسين من سلسلة الدعاة حيث بينه وبين الداعي الذي تنتسب إليه الداودية اثنان وعشرون داعيا ذكرهم العزاوي بالترتيب في مقدمته سمط الحقائق (1).أما الفرقة السليمانية فتنتسب إلى الداعي سليمان بن الحسن الذي أبى أتباعه الاعتراف بداوود بدعوى عجب شاه اختار سليمان وأعطاه وثيقة بذلك ويدعي جماعته أنها لا تزال عندهم تلك الوثيقة وتبعه شرذمة قليلة نسبوا إليه ويتواجدون في اليمن ورئيسها الحالي علي بن الحسن ومحل إقامته بنجران جنوبي السعودية وهذه الطائفة منتشرة في قبائل بني يام باليمن وبعض أفراده مقيمون في الهند والباكستان (2). وكلا الداعيان برتبة (داع مطلق) وهي مرتبة وراثية تنتقل من أب إلى ابن وصاحبها يتمتع بنفس الصفات التي كان يوصف بها الأئمة على أنها صفات مكتسبة وليست ذاتية (3). ومما يدل على استعباد هؤلاء الدعاة لأتباعهم وخضوعهم لهم كما يخضعون للأئمة المظاهر التالية:1ـ تعظيم دعاتهم المطلقين وتحيتهم بانحناء الرؤوس وتقبيل الأرض بين يديهم حتى ليكادوا يسجدوا لهم كما يعتقدون أنه – أي الداعي المطلق – كالمعصوم لا يخطئ ولا يضل أبدا وطاعته واجبة (4).2ـ تقديس الأتباع لزعيمهم حتى أنه استخف بهم وأخذ يصنع الصكوك لأتباعه على قطع في الجنة وهذا مما نقل عن علي بن الحسن زعيم المكارمة في نجران (5). 3ـ تأليه الأئمة أو الداعي المطلق الذي يحل محله وأدل شيء على ذلك ما نقله لنا الدكتور محمد كامل حسين في طائفة الإسماعيلية عن محاورة جرت بينه وبين أحد زعماء الأغاخنية في العصر الحاضر ونصها قوله لأغاخان: لقد أدهشتني بثقافتك وعقليتك فكيف تسمح لأتباعك أن يدعوك إله؟ فضحك طويلا جدا وعلت قهقهاته ودمعت عيناه من كثرة الضحك ثم قال: هل تريد الإجابة عن هذا السؤال. إن القوم في الهند يعبدون البقرة ألست خيرا من البقرة (6). وهذا وإن كان حدثنا لزعيم الأغاخانية إلا أن زعيم البهرة كذلك حيث يعبده أتباعه ويؤلهونه (7). المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 362 (و (انظر بحث (البهرة) من هذه الموسوعة))   (1) ((سمط الحقائق)) (ص: 8 - 9). (2) ((القرامطة)) لطه الولي (ص: 35) و ((طائفة الإسماعيلية)) لمحمد كامل حسين (ص: 52). (3) ((طائفة الإسماعيلية)) لمحمد كامل حسين (ص: 52). (4) ((غلاة الشيعة)) للزعبي (ص: 228). (5) انظر ((دراسة عن الفرق)) لأحمد جلي (ص: 229 – 231). (6) ((طائفة الإسماعيلية)) (ص: 126). (7) انظر ((فتوى هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية)) رقم 2289 تاريخ 27/ 2/1399هـ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 53 6ـ الإسماعيلية النزارية (الحشاشون) يعتبر الإسماعيليون النزاريون طائفة وفرقة من أكبر الطوائف والفرق الإسماعيلية في العصر الحاضر حيث بدأ انفصال هذه الفرقة وتكونها بعد وفاة المستنصر عام سبع وثمانين وأربعمائة هجرية وكان حسب تقاليد الإسماعيلية قد نص على إمامة ابنه نزار لكن الوزير الجمالي صرف النص إلى أخيه المستعلي – ابن أخت الوزير – كما سبق أن ذكرنا ذلك تفصيلا وحصل من جراء ذلك انقسام الإسماعيلية إلى مستعلية ونزارية وعلى الرغم من القضاء على نزار وقتله في الإسكندرية على يد وزير المستعلي الأفضل بن بدر الجمالي ولم يكن له عقب مستتر أو ظاهر على الرغم من ذلك فإن أحد دعاة الإسماعيلية ويدعى بالحسن الصباح انتصر لنزار وأصبح يدعو له ولأبنائه من بعده وجعل نفسه نائبا للإمام المستور من ولد نزار وأصبح يدعو له وبذلك تكونت هذه الفرقة وأصبح يطلق عليها الإسماعيلية النزارية نسبة إلى نزار بن المستنصر كما يطلق عليها اسم الدعوة الجديدة تمييزا لها عن الدعوة الإسماعيلية الأولى كما يطلق عليها الإسماعيلية الشرقية نسبة إلى مكان ظهورها وانتشارها وإشارة إلى انفصالها عن الإسماعيلية الأم والتي تسمى بالإسماعيلية الغربية (1). ويسميها بعض الكتّاب المعاصرين بإسماعيلية إيران نسبة إلى مكانها (2).،وجميع هذه المسميات دالة عليها ومحددة لها وقد عاصر ظهور هذه الفرقة عالمان كبيران تولى كل واحد منهما فضح هذه الفرقة وبيان باطنيتها وشدة خطرها وعظم ضررها على الإسلام والمسلمين وهما: الإمام الغزالي الذي ألف كتابه (فضائح الباطنية) والشهرستاني الذي أفرد لهم حديثا خاصا بهم عند قوله ثم إن أصحاب الدعوة الجديدة .. إلخ (3).،وحفاظا على بقاء هذه الفرقة وإظهارها ادعى منظموها أن لنزار بن المستعلي ولدا ثم له نسلا استمرت الإمامة فيهم وبقيت ولكنهم – أي النزاريون – فيما بعد كذبوا أنفسهم حيث ادعوا الإمامة للحسن الصباح ومن جاء بعده ممن خلفه في قيادة دولة الحشاشين أو الفدائيين ولا أدل على ذلك من ادعاء الحسن الثاني من نسل الحسن الصباح في عام 559هـ أنه هو الإمام من نسل نزار بن المستنصر وأصبح اسمه لا يذكر إلا مقرونا (على ذكره السلام) كما يطلق في العادة في الأئمة المستقرين وبذلك أصبح حكام ألموت بعد الحسن الثاني والذين جاءوا بعده من النسب الفاطمي وهكذا أتى الحسن الثاني – كما يقول بدوي – بثلاثة تجديدات ما لبث النزارية في كل مكان أن قبلوها على درجات متفاوتة وأولها أنه أعلن نفسه خليفة لله في أرضه ولم يعد مجرد داع كما كان أسلافه (4). ويعتبر الحسن الصباح العقل المدبر الذي نظم هذه الطائفة ووجهها ومن ثم نشرها في بلاد فارس مما نتج عن هذه الجهود قيام دولة الحشاشين أو الفدائيين كما سنفصل القول إن شاء الله في دولتهم عند الحديث عن دول الإسماعيلية في آخر هذا الفصل.   (1) ((طائفة الإسماعيلية)) لمحمد كامل حسين (ص: 62). (2) انظر ((كتاب دولة الإسماعيلية في غيران)) لمحمد السعيد جمال الدين (ص: 42) (3) ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 195). (4) ((مذاهب الإسلاميين)) للدكتور عبد الرحيم بدوي (2/ 345) وكتاب دراسة عن الفرق لأحمد جلي (ص: 23). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 54 وبعد أن بدأت دولة الحشاشيين أو الإسماعيلية النزارية في ألموت في الأفول ظهر داعية إسماعيلي نزاري في بلاد الشام واسمه راشد الدين سنان ويلقب بشيخ الجبال وحاول تجميع طائفة الإسماعيلية من جديد حيث أن دعوة الإسماعيلية في بلاد الشام ترجع إلى وقت مبكر ولاسيما في مدينة سلمية التي كانت مقرا للأئمة المستورين والإمام الظاهر عبيد الله المهدي. ومن أساليبهم التي حاولوا بها نشر مذهبهم وتقوية سلطتهم الاستيلاء على الحصون والقلاع ولذا يقول الدكتور محمد كامل حسين: وما زال الإسماعيلية النزارية في الشام يشترون الحصون أو يستولون عليها حتى بلغ عدد حصونهم الرئيسة في الشام في القرن السابع للهجرة ثمانية حصون هي القدموس ومصياف وبانياس والكهف والخوابي والمنيقة والقليقة والرصافة ثم يضيف قائلا: وازدادت قوة الإسماعيلية بالشام بظهور شخصية فذة وداعية داهية في سياسته وفي مواهبه وحكمته وهو (راشد الدين سنان) الذي استطاع بمقدرته وكفايته أن يجمع كل إسماعيلية الشام فقد كان الإسماعيلية في الشام يدينون بإمامة أصحاب قلعة ألموت في فارس فجاء سنان وكون مذهب السنانية واعترفوا بإمامته غير أنهم عادوا بعد موته إلى طاعة الأئمة بألموت وبالرغم من تحولهم هذا فإن إسماعيلية الشام إلى الآن يذكرون الإمام راشد الدين على أنه أعظم شخصياتهم على الإطلاق (1).وقد تعاصر شيخ الجبل مع القائد المجاهد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله وكانت بينهما مساجلات كلامية حادة في أول الأمر ولكن صلاح الدين رحمه الله لما تبين له أنهم بقيادة شيخ الجبل يبيتون له ولجنده من أهل السنة أمرا ويضمرون لهم شرا حيث حاول عدد من الإسماعيلية اغتيال صلاح الدين بعد ذلك عزم على قتالهم والقضاء عليهم ففي سنة 572هـ قصد صلاح الدين بلد الإسماعيليين وانتصر عليهم كما حصر قلعة مصياف واضطروا بعد ذلك إلى طلب الصلح. (2).وظل أمر الإسماعيلية النزارية في الشام بعد ذلك يضعف تارة ويقوى تارة أخرى إلى أن استسلمت آخر قلاعهم للظاهر بيبرس عام 672هـ وخفت أمرهم من الحياة السياسية حتى لم يسمع عنهم شيئا ولم تنقل الكتب التاريخية عنهم أحداثا تذكر ويبدو أن لجأوا إلى التقية والدعوة سرا إلى أن ظهر في إيران رجل شيعي يدعى حسن علي شاه ما بين سنة 1219هـ إلى سنة 1298هـ جمع حوله عددا من الإسماعيلية وغيرهم وقام بأعمال هدد بها الأمن وأقلق بها السلطات. في إيران حتى ذاع صيته وأصبح أسطورة على ألسنة الناس وانضمت إليه جماعات كثيرة إعجابا به أو طمعا في مكاسب آلية تأتيهم عن طريقه وواكب ظهور هذه الثورة التي هددت الأسرة القاجارية الحاكمة في إيران ظهور الإنجليز كقوة لها مطامع في بلاد فارس ومن ثم اتصلوا بحسن علي شاه وعضدوه ومنوه حكم فارس وفعلا قام حسن علي شاه بثوره عام 1840م كانت نهايتها الفشل والقبض على قائدها ولكن الإنجليز تدخلوا وحصلوا على أمر بالإفراج عنه بشرط أن يجلو عن إيران كلها وزين له الإنجليز الذهاب إلى أفغانستان ليكون صنيعة لهم هناك ولكن الأفغانيين كشفوا عن هويته واضطروه إلى الرحيل إلى الهند واتخذ من مدينة بومباي مقرا له وأراد الإنجليز أن يستفيدوا منه مرة أخرى ومن ثم اعترفوا به إماما للطائفة الإسماعيلية النزارية وخلعوا عليه لقب أغاخان ومنحوه السلطة المطلقة على أتباعه الإسماعيلية فالتف حوله الإسماعيلية في الهند (3).   (1) ((طائفة الإسماعيلية)) لمحمد كامل حسين (ص: 98 – 99). (2) انظر ((مذاهب الإسلاميين)) للدكتور بدوي (2/ 378 – 293). (3) ((دراسة عن الفرق)) لأحمد جلي (239 – 240). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 55 وهذا بلا شك منعطف جديد أو تلفيق في انقطاع أئمة الإسماعيلية عموما والنزارية بوجه خاص حيث أن أمر النزارية انتهى بانتهاء أئمة وحكام ألموت عام 654هـ ولكن الاستعمار الإنجليزي لفق لهم هذه الشخصية المجهولة نسبا ودينا يصف الدكتور محمد حسين مشاعر الإسماعيليين وبداية هذه المسميات والألقاب عند ظهور هذا الرجل بقوله فتجمع – حول المدعو حسن علي شاه الملقب بأغا خان- الإسماعيلية في الهند وفرحوا بظهور شأنهم بعد أن ظلوا مغمورين طوال هذه القرون وبظهور إمامهم الذي ظل في الستر والكتمان مئات السنين!! فرأى حسن علي شاه أو أغاخان نفسه بين جماعة يطيعونه طاعة تدين دون أن يكون لهم غرض مادي فقوي نفوذه بينهم وأصبح كأنه سلطانهم الفعلي فأخذ ينظم شؤونهم إلى أن توفى عام 1298هـ وبذلك وجدت الأسرة الأغاخانية وصارت لهم إمامة الإسماعيلية النزارية وانتسبوا إلى الإمام نزار بن المستنصر بالله الفاطمي ومؤسس هذه الأسرة هو حسن علي شاه وهو أول إمام إسماعيلي لقب بأغاخان (1). ومن هنا أطلق على الإسماعيلية في العصر الحاضر (الأغاخانية) فكما أن طائفة البهرة امتدادا للإسماعيلية المستعلية فكذلك طائفة الأغاخانية امتداد للإسماعيلية النزارية. و (انظر بحث (الإسماعيلية المعاصرة) من هذه الموسوعة) وقد اشتهر من زعمائهم الذين أطلقوا عليهم أئمة فيما بعد أربعة أشخاص وهم. 1ـ أغاخان الأول الذي نصبه الإنجليز على الطائفة بعد تجميعها من سنة 1233هـ حتى هلك عام 1298هـ 2ـ ابن علي شاه المعروف باسم أغاخان الثاني وتوفي بعد فترة قصيرة من توليه زعامة الطائفة حيث هلك عام 1302هـ3ـ وبعد تولي زعامة الطائفة ابنه محمد علي شاه ولقب بأغاخان الثالث وهو أشهر زعماء الأغاخانية حيث طالت مدته وبقي في زعامة الطائفة حتى هلك عام 1377هـ فتكون فترة زعامته خمسا وسبعين سنة وقد تظاهر بأعمال أكسبته بعض الشهرة كدفاعه عن الخلافة العثمانية ودفاعه عن حقوق الأتراك بعد سقوط الخلافة ومشاركته في تأسيس الرابطة الإسلامية بالهند وإنشاء جامعة عليكرة الشهيرة في الهند (2). المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 367 و (انظر بحث (الحشاشون) من هذه الموسوعة)   (1) ((طائفة الإسماعيلية)) لمحمد كامل حسين (ص: 113). (2) ((طائفة الإسماعيلية)) لمحمد كامل حسين (ص: 113). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 56 المبحث الثاني: أئمة الإسماعيلية الأئمة الأوائل: إسماعيل بن جعفر محمد بن إسماعيل - أئمة دور الستر بعد محمد بن إسماعيل: حاول الإسماعيليون تغطية هذه الفترة الغامضة وإغلاق الثغرة المخلة بتسلسل إمامة أئمتهم بعد محمد بن إسماعيل فطبقوا نظرية الاستتار على عدد من أئمتهم اختلفوا في أسمائهم وألقابهم وعددهم اختلافا كثيرا مما يشعر بالتلفيق ومحاولة تركيب المذهب من جديد وهذه الفترة الغامضة مثار جدل ونقاش بين المؤرخين والنسابين حول فاطمية الدولة أو عبيديتها ..... ويصف الدكتور محمد كامل حسين هذه الفترة بقوله: "إنها فترة غامضة أشد الغموض حتى أن بعض مؤرخي وكتاب الإسماعيلية تحدثوا عن هذه الفترة رمزا دون تصريح مما يجعل موضوع الحديث عن دور الستر شاقا وعسيرا على كل باحث في تأريخ الإسماعيلية فإن الشيعة عامة والإسماعيلية بوجه خاص اتخذوا التقية مذهبا من مذاهبهم". المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 1/ 255 - أئمة الظهور من عبيد الله المهدي حتى سقوط الدولة الفاطمية (العبيدية) كان من نتاج الدعوة الإسماعيلية أن قامت لهم دولة واسعة الأطراف امتدت حينا من الزمن توالى عليها وتعاقب عدد من الحكام ابتداء من عام 297هـ حتى قضى صلاح الدين الأيوبي رحمة الله عليه على دولتهم نهائيا عام 567هـ وعدد حكامها أربعة عشر أولهم المهدي وآخرهم العاضد وبيان ذلك بالتفصيل عن هؤلاء الحكام كالآتي: 1 - عبيد الله المهدي أول أئمة دور الظهور: يكنى بأبي محمد ويلقب بالمهدي ويعرفه الذهبي بأنه أول من قام من الخلفاء الخوارج العبيدية الباطنية الذين قلبوا الإسلام وأعلنوا بالرفض وأبطنوا مذهب الإسماعيلية وبثوا الدعاة يستغوون الجبلية والجهلة وادعى هذا المدبر أنه فاطمي من ذرية جعفر الصادق ... المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 1/ 275 2 - القائم: الإمام الإسماعيلي الثاني (وقام القائم بأمر الله مقام المهدي بعده واقتفى سيرته وآثاره وأحكامه) (1).وعمره يومئذ سبع وأربعون سنة (2). 3 - إسماعيل المنصور: الإمام الإسماعيلي الثالثفخلفه من بعده في الزعامة الإسماعيلية ابنه إسماعيل الملقب بالمنصور بعد ما مات ابنه البكر القاسم الذي كان قد نص عليه القائم باستخلافه على الناس لكنه مات في حياة أبيه (فكان يقال بالقيروان: ما أكثر كذب هؤلاء المشارقة) (3). 4 - معد بن إسماعيل المعز الإمام الإسماعيلي الرابعولي بعد المنصور الزعامة الإسماعيلية وبلاد المغرب ابنه معد المكنى بأبي تميم الملقب بالمعز لدين الله سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة (4). 5 - العزيز بالله نزاروخلف من بعده ابنه الثالث بعد تميم وعبدالله سنة خمس وستين وثلاثمائه وكان مولده بالمهدية من القيروان ببلاد المغرب سنة أربع وأربعين أو سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة (5). 6 - أبو علي المنصور الحاكم بأمر اللهوخلفه بعده ابنه الوحيد أبو علي المنصور البالغ من العمر الحادية عشرة سنة الذي ذكره الذهبي بقوله (الإسماعيلي الزنديق المدعي الربوبية) (6). 7 - الظاهر بن الحاكمقامت أخت الحاكم ست الملك بأمور البلاد وعزلت عبد الرحيم بن إلياس من ولاية العقد وأقامت ابنه البالغ من العمر ست عشرة سنة عليا مقامه ولقبته بالظاهر وبويع له بالخلافة يوم عيد النحر سنة إحدى عشرة وأربعمائة وعمره ست عشرة سنة (7). 8 - المستنصر أبو تميم معد بن الظاهروولي أبو تميم معد المتلقب بالمستنصر سنة سبع وعشرين وعمره يومئذ سبع سنين وأمه أم ولد كانت أمة سوداء لتاجر يهودي يقال له أبو سعد سهل بن هارون التستري فابتاعها منه الظاهر واستولدها المستنصر فلما أفضت الخلافة إليه استندت أمه أبا سعد ورقته درجة عليا (8). 9 - أبو القاسم أحمد بن المستنصر المتلقب بالمستعلي لما مات المستنصر بادر الأفضل؛ قام الوزير أفضل شاهنشاه وأجلس ابنه الأصغر أحمد على عرض البلاد ولقبه بالمستعلي. 10 - أبو علي المنصور المتلقب بالآمر ولى بعد المستعلي إمامة الإسماعيلية وزعامتها أبو علي المنصور يوم مات أبوه سنة خمس وتسعين وأربعمائة وهو طفل له من العمر خمس سنين وأشهر وأيام المصدر: الإسماعيلية لإحسان إلهي ظهير – ص121 - 161   (1) ((افتتاح الدعوة)) (ص: 331) و ((عيون الأخبار)) (ص: 158). (2) انظر ((كتاب الأزهار ومجمع الأنوار)) للداعي حسن بن نوح الهندي (ص: 237). (3) ((تثبيت دلائل النبوة)) (2/ 601). (4) انظر ((افتتاح الدعوة)) (ص: 335). (5) ((النجوم الزاهرة)) (4/ 112) أيضا ((تاريخ ابن إياس)) الجزء الأول القسم الأول (ص: 192) ((الفلك الدوار)) (ص: 157) و ((كتاب الأزهار) (ص: 239) من (المنتخبات الإسماعيلية) و ((البيان المغرب)) (ص: 229). (6) ((سير أعلام النبلاء)) (15/ 173). (7) ((الخطط)) للمقريزي (1/ 354). (8) ((الخطط)) للمقريزي (ص: 355). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 57 المبحث الثالث: مراتب الأئمة أعطى الإسماعيلية الإمامة أهمية كبرى سواء من الناحية الاعتقادية أو الجانب التنظيمي فقد أطلقوا على هذه المراتب أسماء مختلفة وقسموها إلى درجات متعددة فمن الأسماء التي أطلقوها ما يعرف عندهم بالأدوار والأكوار والمراد من ذلك: فترات زمنية معينة يكون في كل منها ناطق –أي نبي- وسبعة أئمة وقد ذكر السجستاني -أحد علمائهم- أن الدور على نوعين: دور كبير ودور صغير. فالدور الكبير يتعلق بالأنبياء ويطلق عليهم اسم النطقاء وهو الفترة الزمنية التي تكون بين كل نبي ونبي. أما الدور الصغير فهو يتعلق بالأئمة الذين بين كل ناطق وناطق وهو الفترة الزمنية وبين كل إمام وإمام ويتخلل الدور –كما قلنا- سبعة أئمة مستقرين إلا في الفترات التي تحدث لعلل وأسباب (1).ففي الظروف الطارئة والاستثنائية يمكن أن يزاد في عدد الأئمة المستودعين عن سبعة وذلك عندما يقع الستر على الأئمة المستقرين أو تحصل الفترة التي هي بالتعبير اضطرار الإمام المستقر إلى الستر والاحتجاب (2). ويحدد الإسماعيلية هذه الأدوار –كما يقول السجستاني- على النحو الآتي: إن آدم هو الناطق الأول للدور الأول وأساسه الصامت شيث وبعده ستة أئمة. وبعده نوح صاحب الدور الثاني وأساسه الصامت سام وبعده ستة أئمة. وبعده إبراهيم صاحب الدور الثالث وأساسه الصامت إسماعيل وبعده ستة أئمة وبعده موسى صاحب الدور الرابع وأساسه هارون وبعده ستة أئمة. وبعده عيسى صاحب الدور الخامس وأساسه شمعون الصفا ومن بعده ستة أئمة. ومن بعده محمد صاحب الدور السادس وأساسه علي بن أبي طالب ومن بعده أئمة كثيرون حتى القائم الذي هو صاحب الدور السابع وصاحب الكشف والظهور (3).فالأئمة طبقا لما عرف عند الإسماعيلية بنظرية الدور يحملون صفات من سبقهم من الأنبياء الذي يسمونهم بالنطاق وأول هؤلاء الأئمة بين كل ناطقين يعرف بالأساس وهو كما يقولون الباب إلى علم الناطق في حياته والوصي بعد مماته والإمام لمن هم في زمانه (4).ويلاحظ في أدوار الأئمة أنها تتم بسبعة وهو إشارة إلى أصل من أصولهم الاعتقادية التي يدينون بها ولذا يطلق عليهم بعض العلماء السبعية لاعتقادهم أن أدوار الإمامة سبعة وأن الانتهاء إلى السابع هو آخر الدور وهو المراد بالقيامة وأن تعاقب هذه الأدوار لا آخر له قط (5). أما مراتب الأئمة فهي كالتالي: 1 - الإمام المقيم: وهو الذي يقيم الرسول الناطق ويعلمه ويربيه ويدرجه في مراتب رسالة النطق وينعم عليه بالإمدادات ويطلق عليه أحياناً اسم (رب الوقت) وصاحب القصر وتعتبر هذه الرتبة أعلى مراتب الإمامة وأرفعها وأكثرها دقة وسرية. 2 - الإمام الأساسي: وهو الذي يرافق الناطق في كافة مراحل حياته ويكون ساعده الأيمن وأمين سره والقائم بأعمال الرسالة الكبرى والمنفذ للأوامر العليا. فمنه يتسلسل الأئمة المستقرون في الأدوار الزمنية وهو المسؤول عن شؤون الدعوة الباطنية القائمة على الطبقة الخاصة ممن عرف التأويل ووصلوا إلى العلوم الإلهية العليا. 3 - الإمام المتم:   (1) ((إثبات النبوات)) للسجستاني (ص 181). (2) انظر ((الخلفية العقائدية)) لفضيلة الشامي (ص 319). (3) ((إثبات النبوات)) للسجستاني (ص 193). (4) انظر كتاب ((قرامطة العراق)) لعليان (ص 187، 188) (5) ((فضائح الباطنية)) للغزالي (ص 16). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 58 وهو الذي يتم أداء الرسالة في نهاية الدور. والدور كما هو معروف أصلاً يقوم به سبعة من الأئمة. فالإمام المتم يكون سابعاً ومتماً لرسالة الدور. وأن قوته تكون معادلة لقوة الأئمة الستة الذين سبقوه في الدور نفسه بمجموعهم. ومن جهة ثانية يطلق عليه اسم ناطق الدور أيضاً أي أن وجوده يشبه وجود الناطق بالنسبة للأدوار. أما الإمام الذي يأتي بعده فيكون قائماً بدور جديد ومؤسسا لبنيان حديث. 4 - الإمام المستقر: هو الذي يملك صلاحية توريث الإمام لولده كما أنه صاحب النص على الإمام الذي يأتي بعده ويسمونه أيضاً الإمام بجوهر والمتسلم شؤون الإمامة بعد الناطق مباشرة والقائم بأعباء الإمام أصالة (1).ومما يميز الإمام المستقر من المستودع أن استقرار الإمامة لا تكون إلا بأبناء علي بن أبي طالب روحياً وجسمياً كما أن للمستقر الحق في تفويض الإمامة لأحد دعاته الثقات ليبث الدعاية باسمه بينما هو يبقى بعيداً عن الخطر. ويذكر المستشرق لويس: أنه بموجب هذا المبدأ انتحل بعض الدعاة ألقاب الإمامة ووظائفه فكانوا يدبرون الحركات ويخبرون باتجاه الرأي العام دون أن يتعرض الإمام المستقر لخطر. ومن هذا ما نقرأه في عدة كتب إسماعيلية بأن الإمام أحمد –الذي ينسب له تأليف رسائل إخوان الصفا- أذن للداعي الترمذي أن يظهر بين الناس إماماً ويتقبل الموت بهذه الصفة وذلك للتأكد مما إذا كانت الظروف ملائمة لإظهار أمره (2). 5 - الإمام المستودع: هو الذي يتسلم الإمامة في الظروف والأحوال الاستثنائية وفي الفترات المظلمة التي يخيم فيها الظلام على النور –بزعمهم- عند احتجاب الإمام الأصيل فيقوم عندئذ بمهمات الإمامة نيابة عن الإمام المستقر بنفس الصلاحيات. ولكن من الواضح والأكيد أنه لا يستطيع توريث الإمامة لأحد من ولده بل تبقى مستودعه عنده لحين انجلاء الظلمة وعندئذ يعود الحق إلى نصابه والإمامة إلى أصحابها الشرعيين، ومن إطلاقات الإسماعيلية على هذا الإمام المستودع "نائب غيبة" (3). إن وضع الأئمة في مراتب على هذا النحو تخطيط مبتدع يخدم أهدافاً وأغراضاً باطنية. فمثلاً فكرة الإمام المستقر والإمام المستودع اتخذها الإسماعيلية وسيلة لتبرير إمامة القداحيين وكأن هناك سلسلة من الأئمة المستقرين من أبناء محمد بن إسماعيل بينما في حقيقة الأمر لا وجود لهؤلاء الأئمة المزعومين حيث مات محمد بن إسماعيل دون عقب –كما أسلفنا- ومن ثم أصبح القداحيون هم الأئمة للإسماعيلية وحتى لا تنكشف هذه الحقيقة ابتدعوا فكرة الاستقرار والاستيداع الإمامي فمرت فترة تاريخية عرفت عند المؤرخين بفترة الاستتار أو دور الأئمة المستورين. وتعتبر هذه نموذجاً عملياً لهذه الفكرة عند الإسماعيلية. المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 1/ 323   (1) ((الإمامة في الإسلام)) لعارف تامر (ص143، 144). (2) انظر كتاب ((أصول الإسماعيلية)) لبرنارد لويس (ص 127). (3) انظر كتاب ((الخلفية العقائدية)) لفضيلة عبد الأمير الشامي (ص 329). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 59 المبحث الرابع: درجات دعاتهم ومراتبهم 1 - الإمام: ويعتبر في قمة الدعاة فله رتبة الأمر والسياسة للأمة التي هو بعض منها وعن ذلك يقول تامر: إن رتبة الإمام تمثل القيادة العليا المطلقة فهي أعلى سلطة وأرفعها في الدعوة وهي مصدر كل قانون أو تنظيم أو تشريع (1).وبالغ الإسماعيلية في رتبة الإمام حتى قالوا: إن أهميته تأتي بعد الناطق (أي النبي المرسل) فهو يقوم بتأويل الشرائع ويدرك العلوم الإلهية من حيث لا يتهيأ للواحد إدراكها واستفادتها (2). 2 - الباب: تعتبر هذه المرتبة سرية للغاية حيث لا يعرف شاغلها إلا الإمام نفسه فهي من أرفع مراتب الدعوة بعد رتبة الإمام الدينية مباشرة وقد وصف أحد الدعاة هذه المرتبة بقوله: "وحد الباب هو من حدود الصفوة واللباب فهو أفضل الحدود وهو حد العصمة ولا ينتهي إلى ذلك الآحاد والأفراد". 3 - داعي الدعاة: رتبة تلي رتبة الباب أو الحجة –كما يسمونه- ويحدثنا المقريزي عن أوصاف من يلي هذه المرتبة بقوله: إن داعي الدعاة يلي قاضي القضاة ويتزيا بزيه في اللباس وغيره ويشترط فيمن يصل إلى هذه الرتبة أن يكون عالماً بجميع مذاهب أهل البيت يقرأ عليه ويأخذ العهد على من ينتقل من مذهبه إلى مذهبهم وبين يديه من نقباء المعلمين اثنا عشر نقيباً وله نواب في سائر البلاد (3). 4 - داعي البلاغ: يعتبر أحد الحدود السبعة المتمين لدور الإمام ورابع الحجج التي بان عنها الباب وهي داعي البلاغ والحجة والباب والإمام (4).ومن مهمات داعي البلاغ الاحتجاج بالبرهان في إثبات الحدود العلوية ومراتبها في وجوداتها مع تعريف المعاد حسبما هو وارد في معتقدات الباطنية (5).وهذا بالنسبة للمعتقدات وتأويلها أما النواحي التنظيمية فيعتبر داعي البلاغ مسئولاً عن تبليغ الأوامر التي يرسلها داعي الدعاة إلى الأقاليم وعن سيرتها ووصولها كما عليه تحرير الرسائل وكتابة البلاغات فهو قائم بالبلاغ والإبلاغ لكل شيء في حينه (6). 5 - الداعي المطلق: تشير المصادر الباطنية إليه بخطين يتصل أحدهما بالآخر ويكنى عنهما "بالسلم" ويقولون: إن تلك إشارة إلى الداعي المطلق في الجزيرة كلها. وسمي بالسلم تشبيهاً له بسلم نجاة يرتقي به نفوس أهل جزيرته إلى أن تحل في حظيرة القدس بوساطته ووساطة من فوقه من الحدود، وكان ذا خطين موصولين إشارة إلى إنه يقوم لأهل جزيرته مقام الإمام في أوقات الفترات لاستتار دعاة البلاغ والحجج والأبواب باستتار الإمام وهو جائز بالنسبة إلى من دونه من الحدود رتبة التذكير فلم يكن فيهم خطان متصلان غيره (7). 6 - الداعي المحدود أو المحصور: ويتعلق به مراسم العبادة العلمية الظاهرة وتعريف الحدود السفلية وأدوارها صغاراً وكباراً ويقابل من الحدود السفلية الفلك الثامن والمسمى "بعطارد" (8).وتشير بعض المصادر الباطنية إلى الداعي المحصور بالطميس والأبتر. ومعنى ذلك أن الطميس فيه إشارة إلى أن رتبته خفية في الدعوة لا تكاد تعرف عند أكثر أهلها وكونه أبتر إشارة إلى أنه ليس له إقامة حد ولا إطلاقه إذ هو بالنسبة للداعي المطلق كالأنثى فكني عنه بالأبتر والطميس بهذا المعنى (9). 7 - الجناح الأيمن:   (1) ((القرامطة)) لعارف تامر (ص 103). (2) ((الإيضاح)) لأبي فراس (ص 161) (3) ((الخطط المقريزية)) للمقريزي (2/ 226). (4) ((أربعة كتب إسماعيلية جمع شتروطمان)) (ص 51). (5) ((راحة العقل)) للكرماني (ص 252). (6) ((القرامطة)) لعارف تامر (ص 403، 104). (7) ((رسالة الاسم الأعظم)) لمجهول (ص174، 175)، ضمن أربعة كتب إسماعيلية. (8) ((راحة العقل)) للكرماني (ص 252، 256). (9) ((رسالة الاسم الأعظم)) لمجهول (ص 174) ضمن أربعة كتب إسماعيلية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 60 8 - الجناح الأيسر: درجتان من درجات الدعاة وهما ملحقان بصورة دائمة بالداعي المطلق فهما جناحاه يقدمان له الخدمات أثناء جولاته في الأقاليم للدعاية ويطلقون عليهما أحياناً "اليد" أي أنهما يقدمان الخدمات للداعي كما تقدم اليد الخدمات للجسم وهذان لهما مهمتان صعبتان فإن عليهما أن يذهبا مسبقاً إلى البلد التي يقرر الداعي الذهاب إليه فيدرسان أوضاعه السياسية والعلمية والأدبية وحالة ندواته ومدارسه وطبقات أهله وعلمائه وشعرائه ونفسياتهم ونواحي القوة والضعف لديهم وميولهم وأديانهم وما هم عليه من المكانة الاجتماعية وبعد أن يدرسا كل شيء عن البلد يعودان إلى الداعي المطلق ويقدمان له تقريرهما فينتقل إلى البلد المقرر على ضوء تقريرهما بينما ينتقل الجناحان إلى البلد الثاني المقرر زيارته (1). 9 - الداعي المأذون: تناول فلاسفة الإسماعيلية هذه الدرجة بالإيضاح ولكنهم اختلفوا حول أقسام المأذونين. فالسجستاني قال إنهم ثلاثة أقسام: (أ) مأذون مطلق. (ب) مأذون محدود. (ج) مأذون (2). والكرماني اعتبرهم قسمين: (أ) مأذون مطلق. (ب) مأذون محدود. وقال عن الأخير أنه هو المكاسر (3). 10 - المكاسر: تعتبر هذه الدرجة من المراكز الظاهرة للدعاة حيث أن من مهامه الأساسية مخالطة الناس بلا تحفظ وترغيبهم إلى عقيدته وفكرته ومن ثم اختيار من يصلح للدعوة والولوج في مراتبهم. ويحدد الكرماني مهام المكاسر بقوله: أن عليه جذب الأنفس المستجيبة (4).والواقع أن فلاسفة الإسماعيلية قديماً وحديثاً تحدثوا عن هذه الدرجة كثيراً لظهورها وعدم استتار أصحابها (5). المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 1/ 336   (1) ((القرامطة)) لعارف تامر (ص 105). (2) ((تحفة المستجيبين)) للسجستاني (ص 154). (3) ((راحة العقل)) للكرماني (ص 256). (4) ((راحة العقل)) للكرماني (ص 256). (5) انظر على سبيل المثال ((المجالس المؤيدية)) للشيرازي (2/ 211)، و ((الذخرية)) للوليد (ص 65)، و ((طائفة الإسماعيلية)) لمحمد كامل حسين (ص 134 - 135)، و ((أعلام الإسماعيلية)) لمصطفى غالب (ص20 - 22). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 61 المبحث الخامس: أبرز دعاة الإسماعيلية إن الإسماعيلية وليدة أفكار وآراء لأشخاص ساهموا في نشأتها وتكوينها وإبرازها من العدم إلى الوجود مبنية على أسس شيعية وقواعد باطنية من الحاقدين الحانقين على الأمة المحمدية وأسلافها وخاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسهم خلفاؤه الراشدون الثلاثة وأزواجه أمهات المؤمنين ومن سلك مسلكهم واهتدى بهديهم وتبعهم على مر الزمان وكر الدهور فحاولوا القضاء على الخلافة الإسلامية والدولة المسلمة آنذاك وإقامة مملكتهم وسلطنتهم على أنقاضها وأشلائها وهدم شريعة الإسلام التي جاء بها محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه شرعية العمل والجد والجهد والجهاد شرعية تأمر أتباعها بإتيان المعروف وتنهاهم عن الفحشاء وتضع عن معتنقيها إصر العمل وأغلال الجهد وثقل التقيد بالأوامر والإرشادات وإطلاق الحريات لهم بكل ما يريدون ويشتهون. فاشترك الكثيرون الكثيرون لبناء عمارة هذه الديانة وبنيان هذا المذهب كل بقدره وإمكاناته وقوته وطاقته بالكتابة والخطابة والرأي والفكر ووضع القواعد والمعتقدات واختلاف العقائد والآراء. فمن هذه المجموعة والأفكار تكون المذهب وهؤلاء هم الذين اختلقوه وبنوه ولذلك يرى القارئ والباحث التناقض الظاهر والتعارض البين في مسألة واحدة لدى الإسماعيلية مع ادعائهم أن مذهبهم مأخوذ عن المعصوم الذي لا يخطئ ولا يغلط وقد صدق الله عز وجل وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء: 82] وعلى ذلك نريد أن نذكر بعض الأشخاص البارزين الذين لهم دور كبير في تكوين هذه النحلة وتأسيس قواعدها وترسيخ أصولها وأسسها ونشر أفكارها ومعتقداتها ........ فمنهم: أبو حنيفة النعمان بن محمد بن منصور هو أبو حنيفة النعمان بن محمد بن منصور بن أحمد بن حيون التميمي المغربي نسبة إلى بني تميم ويسميه الإسماعيلية القاضي النعمان تهربا من أن يلتبس اسمه باسم أبي حنيفة النعمان بن ثابت المشهور وقد اختلف في ولادته فيقال إنه ولد سنة 259هـ (1). وقيل سنة 293هـ (2). ولد في القيروان كما يذكر الزركلي (3). في بيئة إسماعيلية من أبوين إسماعليين (4). لا كما يقوله ابن خلكان بأنه كان مالكيا ثم انتقل إلى الإسماعيلية (5). ولا اثنا عشريا كما يقوله النوري الطبرسي (6). ولا حنفيا كما ذكره أبو المحاسن (7).بل إن أباه كان من دعاة الإسماعيلية (الذين تلقوا البذرة الإسماعيلية الأولى على أيدي الحلواني وأبي سفيان (8). نبذة من تعاليم القاضي النعمان إن من تعاليم القاضي النعمان أنه كان يعتقد بتحريف القرآن الكريم ولقد صرح بهذه العقيدة في كتابه (أساس التأويل). ........... وكان يعتقد بنسخ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بمجيء القائم ...... وغير ذلك من العقائد المنحرفة الباطلة فهذه هي بعض عقائد قاضي الإسماعيلية وتعاليمه.   (1) انظر مقال المستشرق 1907 j.a.o.s(gotthell). (2) انظر مقال آصف فيضي الإسماعيلي ((القاضي النعمان)) في مجلة ( j.r.a.s.)1934 م (3) ((الأعلام)) للزركلي. (4) ((اختلاف أصول المذاهب)) المقدمة لمصطفى غالب الإسماعيلي وأيضا آصف فيضي في مقاله المذكور. . (5) ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (2/ 166) .. (6) ((مستدرك الوسائل)) للنوري الطبرسي (3/ 213). (7) ((النجوم الزاهرة)) (4/ 107) (8) انظر ((مقدمة اختلاف أصول المذاهب)) لمصطفى غالب (ص: 10) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 62 ولقد انتقل النعمان مع المعز إلى مصر عند انتقاله إليها وشارك في القضاء مع أبي طاهر الذهلي الذي كان على قضاء مصر قبل استيلاء المعز عليها. وكان النعمان من بناة هذا المذهب كما ذكر الفيضي نقلا عن الداعي الإسماعيلي عماد الدين أن النعمان كان مشرعا وإنه كان دعامة من دعائم المذهب الإسماعيلي وأضاف الفيضي الإسماعيلي بأنه فيما أحسبه وصل إلى رتبة الحجة (1). جعفر بن منصور اليمنومن أهمّ بناة المذهب الإسماعيلي وزعماء الديانة الإسماعيلية وقادتها جعفر (2) الذي هو ابن الحسن بن فرج بن حسن بن حوشب بن زادان الوفي، الداعي الإسماعيلي المشهور الذي أرسله الإمام الإسماعيلي المستور قبل ظهور ابنه المهدي الإسماعيلي في المغرب. تعاليمه: من أهم تعاليمه أنه يعتقد بألوهية الأئمة والحلول والتناسخ والغيبة والرجعة وتكفير الصحابة والطعن في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وتشديد القول فيهم وتكفير كل من لا يؤمن بولاية علي، ونسخ شريعة محمد صلوات الله وسلامه عليه بقيام القائم ونزول جبريل عليه وجعل العبادات كلها رموز أو إشارات على الباطن، ويغلب على كتاباته الغلو والمبالغة والإغراق، وأيضاً عدم المبالاة والاحتياط والتحفظ غير ما يوجد في كتابات النعمان القاضي لأننا كما قلنا إن كتابات النعمان تعد من الظاهر بينما تعدّ كتابات جعفر من الباطن. أحمد حميد الدين الكرماني: ومن الدعاة الإسماعيلية الكبار الذي صاغوا دعوتها في قالب الفلسفة، وأصبغوها بصبغة منطقية، وقدّموها إلى الناس في قوالب الأفلاطونية الحديثة، أحمد حميد الدين بن عبدالله الكرماني، ويظهر أنه ولد في كرمان في فارس، وانتقل في بداية حياته إلى البصرة، ومنها كان يتردد على بغداد، وكان يلقي فيها دروسه الباطنية ومحاضراته التأويلية التي جمعت فيما بعد في كتابين (المجالس البغدادية) و (المجالس البصرية) (3). المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي ومن الدعاة المشهورين للإسماعيلية الذين ساهموا في نشر مذهبهم ودينهم بين الناس, وقدموا له الجهود الجبارة, وتحملوا له العناء والمشقة ولعبوا في توسيع نطاقه دورا هاما, هبة الله بن موسى بن داؤد الشيرازي. أبو يعقوب إسحاق السجستاني ومن الدعاة المشهورين الذين وضعوا أسس الديانة الإسماعيلية، وأرسخوا قواعدها، وأعطوها صبغة فلسفية أبو يعقوب إسحاق بن أحمد السجستاني أو السجزي وكان يلقب بدندان. أبو عبدالله النسفيأبو عبدالله النسفي أستاذ السجستاني كان تلميذاً للداعي الإسماعيلي بخراسان الحسين بن علي المروزي، وحاول نشر الدعوة الإسماعيلية في بلاد خراسان وما وراء النهر، واستطاع هذا الداعي الإسماعيلي أن يوقع في فخه وشراكه نصر بن أحمد الساماني، ويحصل منه على تأييده للمهدي الإسماعيلي الذي ظهر في بلاد المغرب آنذاك (4). أبو حاتم الرازي وكان من الدعاة الإسماعيلية القدامى أبو حاتم أحمد بن حمدان بن أحمد الورسامي، وقد ذكره الحافظ ابن حجر في (لسان الميزان) بقوله:"ذكره أبو الحسن بن بابويه في تاريخ الري، وقال: كان من أهل الفضل والأدب والمعرفة باللغة، وسمع الحديث كثيراً، وله تصانيف، ثم أظهر القول بالإلحاد وصار من الدعاة الإسماعيلية، وأضلّ جماعة من الأكابر، ومات في سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة" (5). المصدر: الإسماعيلية لإحسان إلهي ظهير – ص 691 - 720   (1) انظر مقال الفيض للقاضي النعمان في (المجلة الآسيوية الملكية) (ص: 12) ( j.r.a.s.(1934 م. (2) ومن الغرائب أن بعض الباحثين الذين كتبوا عن الإسماعيلية ما استطاعوا أن يفرقوا بين جعفر وبين أبي القاسم الملقب بمنصور اليمن، فخلطوا بين هذا وذاك لعدم التمكن والتعمق في الموضوع، ولعدم وجود مصادر كافية ومراجع وافية في تراجم رجال الإسماعيلية وسيرهم وأحوالهم، فمثلاً إن الأستاذ طه الولي مؤلف كتاب "القرامطة أول حركة اشتراكية في الإسلام ط: دار العلوم للملايين، بيروت" خلط بين الأب والابن ولم يفرق بين سيرة هذا ومؤلفات ذاك، ومثل هذا كثير حتى لدى الإسماعيلية أنفسهم من الكتاب المحدثين مثل مصطفى غالب الإسماعيلي ومحمد حسن الأعظمي وغيرهم الذين لم يؤلفوا ما ألفوا إلا على السلب والنهب وسرقات جهود الآخرين حيث ينقلون القطعات الكبيرة والمقتطفات الطويلة بدون ذكر من اقتبسوا منه واقتطفوا عنه، ولا أظن أن أحدا من الدارسين للمذهب الإسماعيلي قد جدّ جده واجتهد مثل الهمدانيين والفيضي وزاهد على الإسماعيليين، ومحمد كامل حسين من غيرهم، مع أخطاء وأوهام كبيرة وكثيرة، التي لا يخلو ولا ينجو منها كاتب ومؤلف، وخاصة في هذه المواضيع العويصة. وأما البيروتيون فحسبنا الله عليهم، لا يفترسون إلا الأموات ولا يقعون إلا على صيد الغير. (3) انظر ( A guide to Ismaili literature By IVANOW p. 46). (4) أنظر ((سياست نامة)) الملك طوسي (2/ 278) وما بعد. (5) انظر ((لسان الميزان)) (1/ 164) رقم 523ط حيدر آباد – دكن 1329هـ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 63 المبحث السادس: أصول الإسماعيلية تمهيد غني عن البيان أن للإسماعيلية أصولا وقواعد واهية ولفقوها وأصبحت معتقداتهم المتعددة وآراءهم المتشعبة ترجع إلى هذه الأصول وترتبط بها ومن خلال الاستقراء والمتابعة لمصادر الإسماعيليين المعتمدة عندهم وصلت إلى أصلين هما الأساس والمرجع لجميع معتقداتهم وآرائهم فعن طريقهما شرعوا وبناء عليهما ابتدعوا وهذان الأصلان هما: الإمامة والتأويل الباطني وتفصيل القول فيهما كالآتي: أصل الإمامة تمهيد تعتبر الإمامة من الأصول التي قام عليها مذهب الشيعة على تعدد فرقهم وتشعبها حيث تعد ركنا أساسيا في مذهبهم تطغى بأهميتها ومنزلتها على جميع المعتقدات والأصول الإيمانية بل هي في نظرهم أهم وأعظم من أركان الإسلام الخمسة وأركان الإيمان الستة المتفق عليها بين المسلمين ومما نقل الشهرستاني عن الشيعة جميعا قولهم: إن الإمامة ليست قضية مصلحية تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنصبهم بل هي قضية أصولية وهي ركن الدين لا يجوز للرسل إغفالها وإهمالها ولا تفويضها إلى العامة وإرسالها (1). ومع انحراف الشيعة الاثنى عشرية وغلوهم في أصل الإمامة واعتقاداتهم في الأئمة فإن الشيعة الإسماعيلية أشد غلوا وتطرفا وأعظم انحرافا في هذا الأصل المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 413 تعريف الإمامةـ تعريف الإمامة عندهم: هي كما يقول الشيرازي – اعتقاد وصاية علي بن أبي طالب وإمامة الأئمة المنصوص عليهم من ذريته ووجوب طاعته وطاعة الأئمة (2). ـ أهمية الإمامة: إن الدارس لكتب الإسماعيلية يرى الإصرار العجيب حول هذا الأصل وتضخيمه حتى يطغى على جميع المعتقدات والآراء فهو محور أساسي تدور عليه كل عقائد الإسماعيلية فعندهم أن الإمامة أحد أركان الدين بل هي الإيمان بعينه وعن ذلك يقول أحد دعاتهم أن الإمامة أحد أركان الدين بل هي الإيمان بعينه وهي أفضل الدعائم وأقواها لا يقوم الدين إلا بها كالدائرة التي تدور عليها الفرائض لا تصح إلا بوجودها (3). المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 414 ـ تفضيل الإمامة على النبوة بلغ الغلو في أصل الإمامة عند الإسماعيليين أقصاه حيث اعتبروا رتبتها أعظم قدرا وأفضل منزلة من النبوة والرسالة فأطلقوا على النبوة والرسالة رتبة (الاستيداع) وأطلقوا على الإمامة والوصاية رتبة (الاستقرار) ولا شك بأفضلية الرتبة الثانية على الأولى حسب أصول الإسماعيلية وقواعدها المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 417 ـ استمرار الإمامة أو تسلسلها: إن هذا المعتقد ضمن أصل الإمامة مما يختلف فيه الإسماعيليون عن الإماميين الاثنى عشرية ذلك أن الفرقة الثانية وإن كانوا يسلسلون الإمامة إلى الإمام الثاني عشر فإنه يعتبر آخر الأئمة وليس لديهم من ذلك الوقت إمام إلى الآن طمعا في خروجه من السرداب المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 418   (1) ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 146). (2) ((ديوان المؤيد)) لمحمد كامل حسين (ص: 70). (3) ((المصابيح في إثبات الإمامة)) للكرماني (ص: 12). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 64 ـ نظرية الاستقرار والاستيداع: وهي عقيدة اختص بها الإسماعيلية ويعنون بها أن الإمامة نوعان: إمامة مستقرة وإمامة مستودعة فحينما يتولى الإمامة شخص من آل البيت حسب سلسلتهم لهؤلاء الأئمة يكون مستقرا وهو الذي يملك نقل الإمامة إلى من بعده أما حينما يتولاها الحجة أو أحد الدعاة المقربين من الإمام فإنه يكون إماما مستودعا فتعتبر الإمامة عنده وديعة لا يملك نقلها إلى أحد البتة بل يسلمها إلى صاحبها الأصلي عند زوال أسباب الاستيداع فالإمام المستودع هو ذلك الشخص الذي يتولى الإمامة مؤقتا كأن يكون الإمام المستقر صغيرا لا يستطيع القيام بمهام الإمامة أو يجب أن يكون مستورا لا يظهر إلا للمقربين إليه في بعض الظروف الاستثنائية (1). المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 419 أصل الأئمة - دعوى ألوهية الأئمةأضاف الإسماعيليون إلى أئمتهم صفات الألوهية وغلوا في ذلك غلوا مخرجا عن ملة الإسلام فمن وصاياهم إلى أتباعهم قول أحد دعاتهم: والعلم بأن الإمام الموجود للأنام لا يخلو منه مكان لأنه إلهي الذات سرمدي الحياة ولو لم يتأنس بالحدود والصفات لما كان للخلق إلى معرفته وصول (2). .............. وقد أكد داعي دعاة الإسماعيلية على هذه الأوصاف الإلهية في ديوانه فمما مخاطبا أحد الأئمة الإسماعيلية: فوجهك وجه الإله المنير ونورك من نوره كالحجاب يداك يد الله مبسوطتان وأنت له الجنب غير ارتياب وإنك برهانه في الأنام وأنك صمصامه في النصاب ويقول أيضا: شهدت بأنك وجه الإله وجوه الموالي به ناضرة ويقول أيضا: الوجه وجه الله والجنب جبنه من الوحي قد قامت عليه الدلائل كما يقول أيضا: قد حله وجه الإله وجنبه ولسان صدق محمد وجنانه (3). المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 422 نورانية الأئمة من مظاهر الإسماعيليين في أصل الإمامة والأئمة زعمهم بأن تكوينهم الخلقي يختلف عن سائر البشر ولا يقل هذا الزعم خطورة عن سابقه بل إنه يعتبر سلما ودرجة للقول بألوهية الأئمة فزعموا عن الإمام أنه مكون من جزئين جزء لاهوتي وجزء ناسوتي وبعبارة أدق إله في جسم إنسان. ومما قاله الباطنيون عن ذلك إن محمدا وعليا خلقا من نور واحد ونسبوا إلى علي بن أبي طالب – كذبا وبهتانا - أنه قال أنا ومحمد من نور واحد من نور الله تعالى وأنه قال أيضا نحن نور من نور الله وشيعتنا منا. وفي شعر المؤيد ما يدل دلالة واضحة على الفكرة يقول عن الأئمة: من شجر العقل الثمر مجدهم الله لهم معاني الزبر وفضل آي الزمر من نور ربي خلقوا طابوا وطاب الخلق المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 427   (1) ((أسرار النطقاء)) لجعفر بن منصور اليمن، وانظر ((قرامطة العراق)) لعليان (ص: 282) ٍ. (2) ((غاية المواليد)) لأبي الخطاب (ص: 129) من أصول الإسماعيلية لبرنارد لويس. (3) ((ديوان المؤيد مقدمة محمد كامل حسين)) (ص: 8 – 82) والأبيات الثلاثة الأولى في القصيدة رقم 11 من الديوان (ص: 231). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 65 علم الأئمة للغيبادعى الإسماعيلية لأئمتهم خاصية لا يملكها أو يتصف بها سوى الله عز وجل العليم الخبير فزعموا أن أئمتهم يعلمون الغيب ويكشفون عن المكنون وهذه نصوصهم ناطقة بنفسها شاهدة على فريتهم وقولتهم العظيمة يقول قاضيهم ابن حيون وجاء عن أولياء الله من الأخبار عما كان يكون من أمر العباد (1).ويقول الكرماني عند ذكره للحاكم إن له معجزة بل معجزات وأخبار بالكائنات قبل كونها وإظهارا للعلوم المكنونة (2).وقال المؤيد الشيرازي: إن الأئمة يعلمون من أمر المبدأ والمعاد ما حجبه الله عن كافة العباد (3). المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي - 2/ 428 عصمة الأئمة كما ادعى الإسماعيليون خصائص وصفات, الاطلاع على حقائق الخلق في كل الأمور إلا أنه لا ينزل عليه الوحي وإنما يتلقى ذلك من النبي لأنه خليفته وبإزاء منزلته ولا يعصم غيره من الخلق حتى الأنبياء أنفسهم (4). ومما قال أحد شعراء الإسماعيلية في إثبات العصمة: أن الإمام قائم بالحكم بين الورى مؤيد بالعصمةوكل ما يفعله صواب لا شك في ذاك ولا ارتياب (5). المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 431   (1) ((تأويل الدعائم)) للقاضي بن حيون (1/ 145). (2) ((المصابيح في إثبات الإمامة)) للكرماني (ص: 140). (3) ((المجالس المؤيدية)) للشيرازي (ص: 441). (4) ((انظر ((قرامطة العراق)) لعليان (ص: 178). (5) ((القصيدة الصورية)) لمحمد علي الصوري (ص: 65). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 66 أقوال علماء الفرق في أصل إمامة الإسماعيلية وأئمتهميقول الإمام الغزالي: وقد اتفقوا – أي الباطنية – على أنه لا بد في كل عصر من إمام معصوم قائم بالحق يرجع إليه في تأويل الظواهر وحل الإشكالات في القرآن والأخبار والمعقولات واتفقوا على أن هذا الإمام هو المتصدي لهذا الأمر وأن ذلك جار في نسبهم لا ينقطع أبد الدهر واتفقوا على أن الإمام يساوي النبي في العصمة والاطلاع على حقائق الحق في كل الأمور ولا يتصور في زمان واحد إمامان ويستظهر الإمام بالحجج والمأذونين والأجنحة ثم قالوا: إن لكل فترة زمنية نبي ناطق ومعنى الناطق أن شريعته ناسخة لما قبله ومعنى الصامت أن يكون قائما على ما أسسه غيره وبين كل ناطق وآخر ستة أئمة وعدد النطقاء سبعة أولهم آدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمد صلى الله عليه وسلم وعلى إخوانه الأنبياء والمرسلين وسوسه (1) علي بن أبي طالب وبعده ستة من الأئمة سادسهم جعفر الصادق وقد استتموا سبعة مع محمد بن إسماعيل الذي صار ناسخا لما قبله وهكذا يدور الأمر أبد الدهر إلى أن يقول الغزالي هذا ما نقل عنهم مع خرافات كثيرة أهملنا ذكرها ضنة بالبياض أن يسود بها (2).ويقول الملطي: إن الإسماعيلية يقولون عن أئمتهم أنهم يعلمون الغيب ويقدرون على كل شيء ولا يعجزهم شيء ويقهرون ولا يقهرون ويعلمون ولا يعلمون ولهم علامات ومعجزات وأمارات ومقدمات قبل مجيئهم وظهورهم وبعد ظهورهم يعرفون بها وهم مباينون لسائر الناس في صورهم وأطباعهم وأخلاقهم وأعمالهم (3).ويقول ابن الجوزي: إن الطريق الذي سلكه الإسماعيلية هو اختيار رجل يزعم أنه من أهل البيت يجب على كل الخلق كافة متابعته ويتعين عليهم طاعته ويكون هذا الإمام معصوما من الخطأ والزلل من جهة الله تعالى (4). وفي موضع آخر قال عن الإسماعيلية أنهم اتفقوا على أنه لا بد لكل عصر من إمام معصوم قائم بالخلق يرجع إليه في تأويل الظواهر مساو للنبي عليه الصلاة والسلام في العصمة (5).أما الشهرستاني فيقول عنهم فيما يتعلق بأصل الإمامة: أنهم قالوا لن تخلو الأرض قط من إمام حي قائم إما ظاهر مكشوف وإما باطن مستور فإذا كان الإمام ظاهر جاز أن يكون حجته مستورا وإذا كان الإمام مستورا فلا بد أن يكون حجته ودعاته ظاهرين وقالوا إن الأئمة تدور أحكامهم على سبعة سبعة كأيام الأسبوع والسموات السبع والكواكب السبعة ومن مذهبهم أن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية وكذلك من مات ولم يكن له بيعة إمام مات ميتة جاهلية (6).   (1) عرف الإمام الغزالي السوس بأنه هو الباب إلى علم النبي في حياته والوصي بعد وفاته والإمام لمن هو في زمانه. وانظر ((فضائح الباطنية)) للغزالي (ص43). (2) انظر ((فضائح الباطنية)) للغزالي (ص: 42 – 44). (3) ((التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع)) للملطي (ص: 20). (4) ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 106). (5) ((تلبي إبليس)) لابن الجوزي (ص: 108). (6) ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 192). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 67 وحتى علماء الفرق من الشيعة الإمامية ذكروا معتقدات الإسماعيلية ذما لها وبيانا لغلوهم فيها فمما ذكره النوبختي عن إمامة محمد بن إسماعيل أو دعوى نبوته نقلا عن إمام رسول والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد ومحمد بن إسماعيل بن جعفر وهو الإمام القائم المهدي ومعنى القائم المهدي عندهم أنه يبعث بالرسالة وبشريعة جديدة ينسخ بها شريعة محمد صلى الله عليه وسلم واعتلوا في نسخ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وتبديلها بأخبار رووها عن أبي عبدالله جعفر بن محمد أنه قال لو قام قائما علمتم القرآن جديدا وأنه قال بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء ونحو ذلك من أخبار القائم. ويزعمون كذلك أن لا نبي بعد نبيهم المزعوم فهم يعتقدون أن محمد بن إسماعيل هو خاتم النبيين الذي حكاه الله عز وجل. كما يعتقدون أن محمد بن إسماعيل من أولي العزم من الرسل وأولو العزم عندهم سبعة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وعلى من سبقه من الأنبياء والمرسلين ثم علي بن أبي طالب ثم محمد بن إسماعيل وبنوا ذلك على معنى أن السموات سبع وأن الأرضين سبع وأن الإنسان بدنه سبع يداه ورجلاه وظهره وبطنه وقلبه وأن رأسه سبع عيناه وأذنا ومخراه وفمه وفيه لسانه كصدره الذي فيه قلبه وأن الأئمة كذلك وقلبهم محمد بن إسماعيل (1).وبمثله ذلك ذكره القمي في مقالاته والأقرب أن أحدهما نقل عن الآخر لما فيه من تشابه بينهما في الألفاظ والعبارات (2).ويقرر أحد الكتاب المعاصرين أصل الإمامة عند الإسماعيلية بقوله: وقد ابتدع الإسماعيلية نظريات كثيرة للإمامة ترمي في مجموعها إلى تقديس شخص الإمام الإسماعيلي مستورا كان أم ظاهرا ونادوا بعصمة الأئمة واستتارهم وظهورهم كما بحثوا الاستقرار والاستيداع الإماميين وفرقوا بين الإمام المستقر والإمام المستودع ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن الغرض الأساسي من نظرية الاستيداع الإمامي مقارعة الشيعة الاثنى عشرية وإبطال ادعائهم أن موسى الكاظم نال الإمامة بعد جعفر الصادق فإن المعتدلين من الإسماعيلية (كذا) يقرون بأن موسى الكاظم كان مع محمد بن إسماعيل كالحسن بن علي مع أخيه الحسين وأبنائه فكما أن الحسن كان إماما مستودعا للحسين وأبنائه والواقع أن الإسماعيلية استخدموا نظرية الاستيداع الإمامي لمقاومة الاثنى عشرية وإبطال حقهم في الإمامة من جهة وجذبهم إلى المذهب الإسماعيلي من جهة أخرى لأنهم أقروا للاثنى عشرية بإمامة موسى الكاظم ولكنهم في الوقت نفسه نفوها عن أبنائه (3). المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 439 الخلاصة في معتقدهم في الأئمة والإمامة 1ـ إن الإمامة ركن الدين وأساسه بل إن جميع أركان الدين وما يتعلق بذلك من معتقدات وأعمال راجع إليها ويتوقف قبوله على الاعتقاد بها والإيمان بأصالتها. 2ـ أن أئمة الإسماعيلية لهم منزلة فوق سائر البشر ومن ذلك دعوى أن من خصائصهم علم الغيب والقدرة على كل شيء. 3ـ أن الأئمة لهم من الميزات والخصائص ما يجعلهم في مصاف الأنبياء والمرسلين من دعوى عصمتهم واختصاصهم بالتأويل.   (1) ((رق الشيعة)) للنوبختي (ص: 84 – 85). (2) ((المقالات والفرق)) للقمي ص: 84 - 85. (3) ((كتاب عبيد الله المهدي)) لحسن إبراهيم وطه شرف (ص: 280 – 282). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 68 4ـ الاعتقاد بأن الإمامة محصورة ومقيدة فقط بعلي بن أبي طالب ونسله من بعده مع وجوب تسلسلها وتعيينها واستمرارها في آل البيت والد فولده إلى النهاية. هذه المعتقدات الأربع مما تنص عليها نصوص علماء الفرق ونصوص الإسماعيلية أنفسهم ولهم مع ذلك معتقدات أشد غلوا وأعظم ضلالا وأغلظ زيفا وإلحادا نأخذها بوضوح ظاهر ودلالة بينة من نصوص الإسماعيلية فقط وكأني بعلماء الفرق والمقالات أعرضوا عنها وعن ذكرها صراحة إما تنزيها لمؤلفاتهم وإما خوفا من ظهورها وانتشارها بين الناس فيما سلف وعلى كل فحاكي الكفر لا يكفر وما ظهر وانتشر يجب فضحه واستبانته ومن هذه المعتقدات. 1ـ الاعتقاد بألوهية الأئمة وإطلاق صفات الله عز وجل عليهم. 2ـ الخضوع والانحناء والسجود للأئمة وصرف سائر العبوديات لهم. الاعتقاد بأن الأئمة تكونوا من نور الله عز وجل وأنهم آلهة في أجسام بشر أو صورة بشر. هذا فيما يتعلق بالإلهيات أما فيما يتعلق بالنبوات فإنهم غلوا أيضا حتى اعتقدوا المعتقدات الآتية: 1ـ أن محمد بن إسماعيل ناطق سابع من النطقاء السبعة. 2ـ أنه ناسخ لشريعة الأنبياء والمرسلين من قبله مع النص منهم على نسخه لشريعة نبينا محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام والتي يسمونها بالدور السادس أو شريعة الرسول السادس. 3ـ تفضيل الوصي والأئمة من بعده على الأنبياء والرسل أو بمعنى آخر الاعتقاد بأفضلية الإمامة والوصاية على النبوة والرسالة. 4ـ وأخيرا ابتداع مسميات للأئمة لها دلالات خطيرة كالإمام الناطق والصامت والإمام المستقر والمستودع. المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 443 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 69 تمهيد التأويل الباطني أصل من أصول الإسماعيلية. يقول الإمام الغزالي: إنهم لقبوا بذلك لأنهم يدعون أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب من القشر وأنها بصورها توهم عند الجهال الأغبياء صورا جلية وهي عند العقلاء والأذكياء صور وإشارات إلى حقائق معينة وأن من تقاعد عقله عن الغوص على الخفايا والأسرار والبواطن والأغوار وقنع بظواهرها مسارعا إلى الاغترار كان تحت الآصار والأغلال معنى الأوزار والأثقال. (1).ويتفق ابن الجوزي مع الغزالي في سبب التسمية حتى أنه ليخيل للقارئ أن الأول نقل من الثاني وذلك للتشابه بينهما في العبارات والمدلولات (2).أما الشهرستاني فيقول: إنه لزمهم لقب الباطنية لحكمهم بأن لكل ظاهر باطنا ولكل تنزيل تأويلا (3).ويقول يحيى العلوي: إنهم لقبوا بالباطنية لدعواهم أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب من القشر واعتقدوا أنه من ارتقى إلى علم الباطن انحط عنه التكليف واستراح منه وأن الجهال هم المنكرون للباطن (4).ويشارك الديلمي من سبقه من العلماء في سبب التسيمة فيقول: إنهم لقبوا بالباطنية لأنهم ينسبون لكل ظاهر باطنا ويقولون إن الظاهر بمنزلة القشور والباطن بمنزلة اللب المطلوب (5).ويقول صاحب الفرق الإسلامية: إنهم لقبوا بالباطنية لقولهم بباطن الكتاب دون ظاهره فقالوا: إن للقرآن باطنا وظاهرا والمراد منه باطنه دون ظاهره ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة اللب إلى القشر والمتمسك بظاهره معذب بالمشقة بالاكتساب وباطنه مؤد ترك العمل بظاهره (6). وينفرد ابن خلدون عمن سبق ذكرهم من العلماء حول سبب تسميتهم بالباطنية حيث يقول: إن تسميتهم بذلك لقولهم بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق وأنه الإمام الباطني أي المستور (7). وما ذكره ابن خلدون لا يخرج في حقيقة الأمر مع ما أجمع عليه علماء الفرق لأن باطنية الإسماعيلية تعم كل شيء في حياتهم من نصوص شرعية ومعتقدات وأعمال وبالطبع يدخل في ذلك القول بباطنية أئمتهم وأنهم مستورون عن عامة الناس. المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 473   (1) ((فضائح الباطنية)) للغزالي (ص: 11 - 12). (2) تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 102). (3) ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 192). (4) ((الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام)) للعلوي (ص: 22). (5) ((بيان مذهب الباطنية وبطلانه)) للدليمي (ص: 21). (6) ((مخطوطة الفرق الإسلامية)) لمؤلف مجهول (ص: 68). (7) ((مقدمة ابن خلدون)) (ص: 201). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 70 المطلب الأول: أهمية التأويل الباطني عند الإسماعيلية اعتقد الإسماعيلية أن كل شيء ظاهر محسوس في هذا الكون له معنى آخر خفي يعرف بالمعنى الباطن فألفاظ القرآن مثلا لها معنى باطن غير المعنى الحرفي الظاهر حتى أنهم في ذلك نسبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين موضوعين فروى قاضي الإسماعيلية ابن حيون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما نزلت علي آية من القرآن إلا ولها ظهر وبطن)) (1) (2).وروى أبو حاتم الرازي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما نزلت علي آية إلا ولها ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع)) (3) (4).ومن منطلق التأويل الباطني قالوا: إنه لا بد لكل محسوس من ظاهر وباطن فظاهره ما تقع الحواس عليه وباطنه ما يحويه ويحيط العلم به بأن فيه وظاهره مشتمل عليه (5). ولأهمية التأويل الباطني وتأصيله عندهم قالوا: إن الذي يقف على ظاهر القرآن ولا يقف على تأويله الباطني مثله مثل الحمار الذي يحمل أسفارا فقوله تعالى مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة: 5]، وفرقوا بين الظاهر والباطن بقولهم: إن الظاهر هو الشريعة والباطن هو الحقيقة وصاحب الشريعة هو الرسول صلى الله عليه وسلم والدعوة الباطنة قسط وصيه الذي فاض منه عليه جزيل الإنعام (6). ورووا حديثا مكذوبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أنا صاحب التنزيل وعلي صاحب التأويل)) (7). المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 473   (1) بهذا اللفظ لم نجده، لكن روي بلفظ ((أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل حرف منه ظهر وبطن)) رواه ابن حبان في صحيحه (1/ 276) (75) والطبراني (10/ 105) (10127) والبزار (3/ 19) والطبري في ((التفسير)) (1/ 22) قال الهيثمي في ((المجمع)) (7/ 152) رواه البزار وأبو يعلى في الكبير وفي رواية عنده لكل حرف منها بطن وظهر، والطبراني في الأوسط باختصار آخره ورجال أحدهما ثقات. ورواية البزار عنه محمد بن عجلان عن أبى إسحق قال في آخرها لم يرو محمد بن عجلان عن إبراهيم الهجري غير هذا الحديث، قلت ومحمد بن عجلان إنما روى عن أبى إسحق السبيعي فان كان هو أبو إسحق السبيعي فرجال البزار أيضا ثقات. وصححه شاكر في تحقيق الطبري، وضعفه الألباني في ((الضعيفة)) (2989) (2) ((أساس التأويل)) للقاضي ابن حيون (ص: 29 – 30). (3) ((أعلام النبوة)) لأبي حاتم الرازي الإسماعيلي. (4) رواه الطبري (1/ 22) وأبو يعلى (9/ 80) وعبدالرزاق في ((المصنف)) (3/ 359) قال شاكر في تحقيق الطبري (إسناده ضعيف). (5) ((أساس التأويل)) لابن حيون (ص: 28). (6) الافتخار)) للسجستاني (ص: 71). (7) ((الذخيرة)) للداعي علي بن الوليد (ص: 113) والحديث ليس له أصل في كتب السنة، بل هو مروي في بعض كتب الرافضة بغير إسناد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 71 المطلب الثاني: نماذج من تأويل الإسماعيلية للآيات القرآنية أكثر الإسماعيلية من تأويل الآيات تأويلا باطنيا حتى أن لهم كتب خاصة مستقلة لتأويل الآيات القرآنية وذلك ككتاب (الكشف) للداعية الإسماعيلية جعفر بن منصور اليمن ومما أول به التسمية أنه قال: إن (بسم الله) سبعة أحرف يتفرغ منها اثنا عشر ويتلوها اثنا عشر حرفا (الرحمن الرحيم) والسورة الحمد وهي سبع آيات فالسبع التي هي (بسم الله) تدل على النطقاء السبعة ويتفرع منها اثنا عشر تدل على أن الكل ناطق اثنى عشر نقيبا ثم الاثناء عشر التي هي (الرحمن الرحيم) يتفرع منها تسعة عشر فدل ذلك على أن النطقاء يتفرع منهم بعد كل ناطق سبعة أئمة واثنا عشر حجة فذلك تسعة عشر والسبع آيات هي سورة الحمد أمثال لمراتب الدين السبع فسورة الحمد يستفتح بها كتاب الله كذلك مراتب الدين يستفتح بها أبواب علم دين الله (1).وعن الحروف في أوائل السور قالوا في تأويل قوله تعالى آلم في سورة البقرة أن الألف فيها تدل على الناطق واللام على الوصي والميم على الإمام المتم وبهذا الأسلوب أولوا جميع الحروف المقطعة في أوائل السور (2). وفي تأويل آية الكرسي قال أحد دعاة الإسماعيلية: إن حروف المعجم لما كانت محدثة لم تدل إلا على محدث مثلها وإنما يضطرنا العجز إلى أن نكني (كذا) عنه بما يستحقه أسماؤه العليا لعدمنا ما نصفه به فكان المكنى عنه – حقيقة – بالحي القيوم وسائر النعوت المذكورة في الآية هو أول مبدع أبدعه الله تعالى وهو اسمه الأعظم وقوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ [البقرة: 255]، هو تنزيه له تعالى عما يعتري أبناء الطبيعة من السنة التي هي الغفلة والنوم وقوله تعالى لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة: 255]، هو إخبار أن من لا تجاسره الخواطر ملكه لما خصه به وأنعم عليه من المدة الأزلية التي كانت جزاء عن تنزيهه لمبدعه عن جميع ما في العوالم الروحاني والطبيعي والديني وما احتوت عليه سمواتهم وأرضهم والسموات الطبيعية هي الأفلاك والأرض هي المركز في عالم الكون والفساد والسموات في العالم الروحاني والديني هم المفيدون والأرض هم المستفيدون فكل واحد منهم سماء لتأليه وأرض لعاليه والمبدع الأول تعالى مبدعه مالك للجميع ممد للكل وبأمره الساري إليهم قاموا وبمادته الأزلية المتصل بهم داموا واستقاموا. وقوله تعالى: مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [البقرة: 255]، معناه أنه لا يقدر على الشفاعة ويقبل منه إلا من قام في مرتبة من مراتب العالمين الروحاني والديني بإذنه وأفاد وهدى بأمره بوساطة من سبق عليه الحدود. وقوله تعالى: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء [البقرة: 255]، إخبار منه سبحانه أن أحدا من هذه العوالم لا يحيط بعلم إلا بما أفاضه عليه وشاء أن يهديه إليه.   (1) ((كتاب الرشد والهداية)) لابن حوشب (ص: 190). (2) انظر ((نماذج كثيرة نقلها الشيخ إحسان إلهي عن كتبهم في كتابه ((الإسماعيلية تاريخ وعقائد)) (ص 539). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 72 وقوله وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ [البقرة: 255]، فكرسيه في العالم الروحاني هو تأليه الذي أقامه لهداية أهل عالم الإبداع وسعهم رحمة وإفادة وكرسيه في العالم الديني هو كل مقام في عصره من نبي ووصي وإمام وهو الذي وسع من في ضمنه من سموات الدين وأرضه هداية ورحمة وكرسيه في العالم الحسي الطبيعي النفس الفلكية والحياة المحركة لها العناية الإلهية التي وسعت كل ما في عالم الطبيعة تجربة ونقلا لكل شيء من جزئياتها إلى ما يليق به من كون أو فساد. وقوله تعالى وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة: 255]، معناه لا يثقله ولا يشغله ما صرف إليه مبدعه تعالى عمن فظ العوالم بأمر لكونه عاليا في شريف منزلته عظيما في تدبيره للخلائق بأمر موجده وقدرته فاعلم (1).   (1) أربع كتب إسماعيلية جمع شتروطمان ضمن مسائل مجموعة من الحقائق العالية والأسرار السامية (ص: 35 - 36). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 73 وفي تأويل قوله تعالى وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [189: البقرة]، نجد أن المؤيد الشيرازي أحد دعاة الباطنية يتهكم بتفسير أهل السنة لهذه الآية ويؤولها تأويلا باطنيا حسب منهجهم في تأويل النصوص يقول فيا لها من غشاوة تمتد على بصر من لا يتدبر فحوى هذه الآية حق التدبر ولا يتفكر في معناها واجب التفكر من الذي جهل فيما مضى من الأزمنة وغابرها وغائب الأوقات وحاضرها أن الأبواب على البيوت من أجل الدخول فيها منصوبة وإليه على علاته منسوبة فما وجه تأديب الله سبحانه لخلقه بشيء يتساوى في علمه العالم والجاهل والغني والفقير من البصيرة ولولا أنه سبحانه غني بالبيت غير المبني من الطين والحجارة وكنى عن سواه بهذه الكناية والإشارة ولم لا يكون هذا البيت بيت الله الحي الناطق الذي أغاث به سبحانه الخلائق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره باديا وكل إمام في زمانه ثانيا بيوت الله المعمورة بالحكم ومعالم الدين التي هي منجاة الأمم. ولم لا يكون باب البيت أمير المؤمنين الذي هو باب النجاة وسبب دائم للحياة فعند ذلك يخلص من الآية المذكورة الزبدة وتسقط عنها في النقص إذا حملت على جهة ظاهرها العهدة ويكون كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها دليلا وبما تكلفت به كفيلا: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب)) (1) (2).   (1) حديث (أنا مدينة العلم وعلي بابها .. ) رواه الحاكم (4637) والطبراني (11083) والعقيقلي في ((الضعفاء)) (5/ 457) قال الهيثمي في ((المجمع)) (9/ 114) فيه عبد السلام بن صالح الهروي وهو ضعيف، وقال الحاكم إسناده صحيح، وقال الذهبي بل موضوع، وقال العقيلي لا يصح في هذا المتن حديث، وقال القرطبي في ((التفسير)) (9/ 336) باطل، وقال الدارقطني في ((العلل)) مضطرب غير ثابت، وقال الترمذي: منكر، وكذا البخاري، وقال: إنه ليس له وجه صحيح، وقال ابن معين فيما حكاه الخطيب في ((تاريخ بغداد)) إنه كذب لا أصل له، وأورده ابن الجوزي في ((الموضوعات)) وأشار إلى هذا ابن دقيق العيد، بقوله: هذا الحديث لم يثبتوه، وقيل: إنه باطل، وقال ابن تيمية موضوع، وكذلك أورده ضمن ((الموضوعات)) كل من الشوكاني وابن عراق والألباني. (2) ((كتاب المجالس المؤدية)) للشيرازي (ص: 203). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 74 ولكون هذه التأويلات الباطنية للآيات القرآنية غير مبنية على حدود وضوابط أو قيود نجد أنهم يتهجمون على علماء المسلمين ولا سيما المفسرين منهم فيصفونهم بالعامة حينا وبالجهل حينا آخر فهذا قاضي الإسماعيلية النعمان بن حيون يقول عند تأويله لإحدى الآيات القرآنية: إن العامة الجاهلين المسمون بالعلماء قد عمهم الجهل حيث فسروا قوله تعالى وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم [38: الأنعام] وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ [82: النمل]، بأن المراد بالدواب ذوي الحوافر والأظلاف ويتهمكم بهذا التفسير ثم يقول والله منزه عما يقولون ومبرأ من إفكهم وضلالتهم (أي مفسري المسلمين) ثم يفسر الآية حسب منهجهم في التأويل الباطني باللعب بألفاظ القرآن يقول إن المراد بالدواب هم الدعاة والأرض في الآية الثانية مثل الحجة والدابة الجناح والطائر يدل على الداعي لأن هناك جناحا أيمن وجناحا أيسر وهو ما تدل عليه الآية الأولى وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ومما يؤيد ذلك حسب زعمه قوله تعالى حكاية عن عيسى وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي [المائدة: 110]، يعني أقيم لكم داعيا من الإمام. (1).وفي تأويل قوله تعالى إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 79]، يقول داع باطني معاصر أن معناها إني وجهت وجهي للذي فطر الأنبياء العظام وأرسلهم بالظواهر في الأنام وأرسل حججهم بتأويل ما أتو به وبحقائقه وأسراره ودقائقه وما أنا من القائلين إنه يحل في الأجسام بل هو يتجلى في كل زمان ومكان بكل مقام وذلك هو العقل العاشر والمدبر الظاهر (2). وفي تأويل قصة ابني آدم الواردة في قوله تعالى وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا إلى قوله قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة: 27 - 31] ذكر الداعي الباطني الكرماني تأويلات باطنية فجة لجميع الألفاظ والأعلام الواردة في هذه الآيات الخمس فابني آدم هما الضد الذي اعتقد أن العبادة ليست إلا بالظاهر من الأعمال والولي الذي اعتقد أن العبادة بالظاهر والباطن وأن الخلاص بهما جميعا والقربان هو اعتقاد كل منهما فتقبل من أحدهما وهو الولي ولم يتقبل من الآخر وهو الضد والمتيقن أن الذين يجمعون بين العلم والعمل أي الظاهر والباطن والقتل هو دفع من يستحق مرتبة من مراتب الدعوة عنها إلى أقل منها والغراب عبارة عن رجل من أصحاب الناطق ليوضح للضد أمره ومنزلته وبعد ذلك لا يستنكف هذا الباطن أن يطبق ذلك في حق أبي رضي الله عنه وابنه محمد حيث يعتبره من المختصين بالولي (أي محمد) وهو الغرب. وهذا من جهة الدين أما من جهة النسب فيعبر عنه بالضد إلخ هذه التأويلات الغثة الركيكة مبنى ومعنى. المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 478   (1) ((مخطوطة الرسالة المذهبة)) للقاضي الإسماعيلي النعمان بن حيون (ص: 92 - 93). (2) ((مخطوطة حياة الأحرار)) لعلي المكرمي (ص: 24). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 75 المطلب الثالث: تأويل الإسماعيلية للتكاليف الشرعية نظرا لأصالة التأويل الباطني عند الإسماعيلية فإنه يسري في جميع أمورهم الاعتقادية أما العبادات العلمية عند المسلمين كالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد فقد أولوها كذلك تأويلا باطنيا وحسيا في ذلك موسوعتهم الباطنية (تأويل دعائم الإسلام) لقاضي الإسماعيلية ابن حيون حيث أول جميع شرائع الإسلام من منطلق الظاهر والباطن فهو يقول عن الصلاة إن مثلها مثل الدعوة والمؤذن الذي ينادي للصلاة هو الداعي الذي يدعو إلى باطن الدعوة فظاهر الصلاة إتمام ركوعها وسجودها وفروضها ومسنونها وباطنها إقامة دعوة الحق في كل عصر ويقول إن من مثل الصلوات الخمس في عددها مثل الدعوات الخمس لأولي العزم من الرسل الذين صبروا على ما أمروا به ودعوا إليه فكل صلاة منها مثل لدعوة كل واحد من أولي العزم الخمسة فصلاة الظهر مثل لدعوة نوح والعصر مثل لدعوة إبراهيم والمغرب مثل لدعوة موسى والعشاء الآخرة مثل لدعوة عيسى والفجر وهي الصلاة الخامسة مثل للدعوة الخامسة وهي دعوة خامس أولي العزم من الرسل محمدا صلى الله عليه وسلم (1). وعن تأويل الزكاة يقول إن المراد منها في الظاهر إخراج ما يجب على الأغنياء في أموالهم ودفع ذلك إلى أئمة الذين تعبد الله عز وجل الناس بدفع ذلك إليهم وأما في الباطن فمثلها مثل الأسس والحجج الذين يطهرون الناس ويصلحون أحوالهم وينقلونهم في درجات الفضل بما يوجبه أعمالهم فيكون على هذا قوله لا صلاة إلا بزكاة يعني أنه لا تقوم الدعوة إلا بمعرفة الأسس الذين هم أوصياء النبيين والحجج الذين هم أوصياء الأئمة وحينما تحدث عن وضع الزكاة في غير موضعها قال وتأويل ذلك في الباطن إن طهارة أهل كل عصر وزمان إنما يكون عند إمام زمانهم أو عند من أقامهم ونصبهم لطهارتهم فما كان من أعمالهم التي توجب الطهارة لهم لم يجزهم دفعها إلا إلى من يلي طهارتهم وتزكيتهم (2).   (1) ((تأويل الدعائم)) لابن حيون الإسماعيلي (1/ 177 – 179). (2) ((تأويل الدعائم)) لابن حيون الإسماعيلي (3/ 58 – 59). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 76 وعن تأويل الصوم قال إن له معنيين: المعنى الظاهر هو المتعارف عند عامة الناس الإمساك عن الطعام الشراب والجماع وما يجري مجرى ذلك وأما المعنى الباطن للصوم فهو كتمان علم باطن الشريعة عن أهل الظاهر والإمساك عن المفاتحة به ممن لم يؤذن له في ذلك ومما قال إن مثل أيام شهر رمضان التي أمر الله عز وجل بصومها ما يقابلها من عشرة أئمة وعشرة حجج وعشرة أبواب وذلك في التأويل كتمان أمرهم وما يلقونه من التأويل إلى من عاملوه إلى أن يأذنوا في ذلك لمن يرونه. وقال إن الأيام أمثالها في الباطن أمثال النطقاء والليالي أمثالها أمثال الحجج فكما أنه لا بد لكل يوم من ليلة فكذلك لا بد لكل ناطق من حجة فمثل ليلة القدر مثل حجة خاتم الأئمة وحجته يقوم قبله لينذر الناس بقيامه ويبشرهم به ويحضهم على الأعمال الصالحة قبل ظهوره واغتنام ذلك لأنه إذا قام انقطع العمل ولم يقبل ولم ينفع (1).وعن الركن الخامس من أركان الإسلام وهو الحج قال قاضي الإسماعيلية: إن للحج ظاهرا وباطنا فظاهره الإتيان إلى البيت العتيق بمكة لقضاء المناسك عنده وباطنه الذي جعل الظاهر دليلا عليه إتيان إمام الزمان من نبي وإمام لأن إمام الزمان مثله في الباطن مثل البيت الحرام وقال عن الاستطاعة الواردة في قوله تعالى ...... وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران: 97]، بأن لها معنيين الظاهر وجود الزاد والراحلة وأمن السبيل وأما المعنى الباطن المراد من الزاد فهو العلم والحكمة اللذين بهما حياة الأرواح الحياة الدائمة والراحلة مثلها في الباطن أولياء الله وأسبابهم الذين يحملون أثقال العباد دينا ودنيا فإذا وجد من وقف لطلب معرفة إمام زمانه من أسباب أولياء الله الدعاء إليهم من يدله عليه ويعرفه به ويفاتحه من العلم والحكمة بما يشهد لصحة قوله ويبين ما دعاه إليه فذلك في الباطن على ذلك وحامله عليه وهاديه إليه ومفيده من العلم والحكمة ما يثبت ذلك عنده مأمونا غير متهم بالكذب وسوء المذهب ولا معروفا بذلك (2).وعن تأويل الجهاد الذي يعتبرونه الدعامة السابعة من دعائم الإسلام أولوه تأويلا باطنيا لصالح مذهبهم والدعاية له ونشره بين الناس فمما قال قاضي الإسماعيلية عن المعنى الباطن للجهاد أنه الاستجابة لدعوتهم ومجاهدة النفس على الإيمان بها وردع من يمتنع من القيام بنشرها وقال عن تأويل النفقة في الجهاد أن معناها ما يتلقاه المستفيدون من المفيدين من علم أولياء الله حيث إنهم يفيدون نقباءهم من علم ظاهر الشريعة وعلم باطنها حسبما ينبغي لهم ويفيد النقباء من ذلك من يستفيد منهم بقدر قسطه وكذلك يفيد أهل كل طبقة من دونهم من المستفيدين فهم بقدر احتمالهم وما توجبه حدودهم (3). إن كل هذه التأويلات سواء للنصوص الشرعية أو للتكاليف العملية ليست مما نسبه أهل الفرق والمقالات إلى الباطنيين ولكنه مما في كتبهم الباطنية فحسب وهي أمثلة لما تفيض به كتبه الباطنية الكثيرة والتي تبين لنا حقيقة الفرقة الباطنية عموما والتأويل الباطني لديها خصوصا. المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 478   (1) ((تأويل الدعائم)) لابن حيون الإسماعيلية (3/ 107). (2) ((تأويل الدعائم)) لابن حيون الإسماعيلية (3/ 143 - 144). (3) ((تأويل الدعائم)) لابن حيون الإسماعيلية (3/ 270 - 272). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 77 المطلب الرابع: أقوال علماء الفرق في التأويل الباطني عند الإسماعيلية وأما أهل المقالات من علماء المسلمين فقد نقلوا نماذج كثيرة من مثل هذه التأويلات – التي قررها الباطنيون لأنفسهم مستخلصين بعد ذلك هدفا خطيرا ويسعى إليه أهل هذا التأويل فمما قال البغدادي: إنهم تأولوا لكل ركن من أركان الشريعة تأويلا يورث تضليلا فزعموا أن معنى الصلاة موالاة إمامهم والحج زيارته وإدمان خدمته والمراد بالصوم الإمساك عن إفشاء السر للإمام دون الإمساك عن الطعام وزعموا أن من عرف معنى العبادة سقط عنه فرضها وتأولوا في ذلك قوله تعالى وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99]، واليقين معرفة التأويل ونقل البغدادي رسالة متبادلة بين باطنيين ومما جاء فيها: وهل الجنة إلا هذه الدنيا ونعيمها وهل النار وعذابها إلا ما فيه أصحاب الشرائع من التعب والنصب في الصلاة والصيام والجهاد والحج (1).وقال الحمادي اليماني – وهو ممن دخل مذهبهم واطلع على أسرارهم – وأنهم في أول الدعوة يلبسون على المدعو فيحضونه على شرائع الإسلام لكنهم يخدعونه بروايات محرفة وأقوال مزخرفة ويتلون عليه القرآن على غير وجهه ويحرفون الكلم عن مواضعه فإذا رأوا منه قبولا وانقيادا قالوا له لا تقنع لنفسك بما قنع به العوام من الظواهر وتدبر القرآن ورموزه واعرف مثله وممثوله واعرف معاني الصلاة والطهارة والزكاة والصوم والحج فإن لهذه ممثولات محجوبة وهو باطنها فالصلاة صلاتان والزكاة زكاتان وكذلك الحج والصوم. وما خلق الله سبحانه من ظاهر الأدلة باطن فالظاهر ما تساوى به الناس وعرفه الخاص والعام وأما الباطن فقصر علم الناس عن العلم به فلا يعرفه إلا القليل فلا يزال الداعي ينقل مدعوه من درجة إلى أخرى حتى يحط عنه جميع التكاليف الشرعية ويقع ذلك المستجيب موقع الاتفاق والموافقة لأنه مذهب الراحة والإباحة يريحهم مما تلزمهم الشرائع من طاعة الله ويبيح لهم ما حظر عليهم من محارم الله (2). ويقول الغزالي: إن من ارتقى إلى علم الباطن انحط عنه التكليف واستراح من أعبائه وهم المرادون بقوله تعالى .... وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ..... [الأعراف: 157]، وفي موضع آخر قال: إن معتقد الباطنية في التكاليف الشرعية الإباحة المطلقة ورفع الحجاب واستباحة المحظورات واستحلالها وإنكار الشرائع وبناء على هذا المعتقد صنفوا الخلق صنفين:   (1) ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 280 281). (2) ((كشف أسرار الباطنية)) للحمادي (ص: 11 – 12). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 78 الصنف الأول: المستجيبون لدعوتهم وهؤلاء في نظرهم أحاطوا من جهة الإمام بحقائق الأمور واطلعوا على بواطن الظواهر حتى وصلوا إلى رتبة الكمال في العلوم وعندئذ تنحط عنهم التكاليف العلمية وتحل عنه قيدوها لأن المقصود من أعمال الجوارح تنبيه القلب لينهض لطلب العلم فإذا ناله استعد للسعادة القصوى وسقط عنه تكليف الجوارح. الصنف الثاني: الجهال والأغبياء – أي المسلمون في زعمهم – الذين يجهلون بواطن الأمور وتأويلاتها فهؤلاء لا يمكن رياضة نفوسهم إلا بالأعمال الشاقة ولذا يكلفون بتأدية العبادات وأعمال الجوارح عقوبة ونكالا لهم ويضيف الغزالي إلى أن هذا فن من الإغواء شديد على الأذكياء والغرض منه هدم قوانين الشرع (1). ويقول ابن تيمية رحمه الله في معرض رده على مبتدعة أهل الكلام: أنهم لما فتحوا باب القياس الفاسد في العقليات والتأويل الفاسد في السمعيات صار ذلك دهليزا للزنادقة الملحدين ... حتى انتهى الأمر بالقرامطة الباطنيين إلى إبطال الشرائع المعلومة كلها كما قال رؤسائهم بالشام: قد أسقطنا عنكم العبادات فلا صوم ولا صلاة ولا حج ولا زكاة (2).وقال المرتضى: إن الباطنية يقولون إن فائدة الظاهر من الأعمال أن يتوصل بها إلى فهم الباطن فمتى فهمه العبد سقطت عنه الأعمال إذ قد حصل المقصود بها (3).ونقل الديلمي والمرتضى ما كتبه أبو القاسم القيرواني في كتابه (البلاغ إلى وصيف المحمدي) أنه حلله من عقاله وأطلقه من وثاقه فلا صوم عليه ولا صلاة ولا حج ولا جهاد ولا يحرم عليه شيء من طعام وشراب ونكاح (4).ويقول الشاطبي: إن هدف الباطنيين من تأويلهم: إنهم أرادوا باعتقادهم هذا إبطال الشريعة جملة وتفصيلا وإلقاء ذلك فيما بين الناس لينحل الدين في أيديهم فلم يمكنهم إلقاء ذلك صراحا فيرد ذلك في وجوههم وتمتد إليهم أيدي الحكام فصرفوا أعناقهم إلى التحيل ومن جملتها صرف الهمم من الظواهر إحالة على أن لها بواطن هي المقصودة (5).وهكذا ومن خلال ما نقلناه سابقا عن الإسماعيلية من تأويلات باطنية وما نقلناه آنفا عن علماء الفرق وتصويرهم لهذه التأويلات يتضح لنا الإجماع على أن هدف الإسماعيليين الخطير التحلل من الشرائع وإسقاط العمل بالظاهر الذي هو في حقيقة الأمر جميع شرائع الإسلام وأركانه العملية وليست هذه تهمة أو مجرد رد بدون تثبت وأدلة من جانب علماء المسلمين بل إن المتتبع لمثل هذه النتائج يجدها بكل دقة وأمانة في كتب الباطنيين أنفسهم وهذا عدد من نصوصهم على هذه النتيجة أو ذلك الهدف الأساسي من التأويل مقارنة بما أسلفنا من نقول لعلماء المسلمين فمن أدعية المعز العبيدي دعاء أسموه (دعاء يوم السبت) ومما جاء فيه قوله: وعلي القائم بالحق الناطق بالصدق التاسع من جده الثامن من أبيه الكوثر السابع من آبائه الأئمة سابع الرسل من آدم وسابع الأوصياء من شيث وسابع الأئمة من البررة .... إلى قوله الذي شرفته وعظمته وكرمته وختمت به عالم الطبيعة وعطلت بقيامه ظاهر شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كل ذلك بالقوة لا بالفعل (6)   (1) ((فضائح الباطنية)) للغزالي (ص: 12 – 46 – 47). (2) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/ 552). (3) ((مخطوطة المنية والأمل للمهدي)) لدين الله المرتضى (ص: 38). (4) ((مخطوطة المنية والأمل للمهدي)) لدين الله المرتضى (ص: 238) ((بيان مذهب الباطنية وبطلانه)) للديلمي (ص: 81). (5) ((الاعتصام)) للشاطبي (1/ 252). (6) ((الحقائق الخفية)) للداعي طاهر الحارثي (ص: 129 - 130) .. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 79 وفي بعض مصادر الإسماعيليين إفصاح عن سقوط العمل بالظاهر لبعض الدعاة في مرحلة من مراحل سلم العدوة يقول أحد دعاتهم: من عرف هذا الباطن سقط عنه عمل الظاهر وإنما وضعت الأصفاد والأغلال على المقصرين أما من بلغ وعرف هذه الدرجات التي قرأتها عليك فقد أعتقته من الرق ورفعت عنه ورفعت عنه الأغلال والأصفاد وإقامة الظاهر (1). ويقول داعيهم الباطني سنان راشد الدين: إن الإنسان متى عرف الصورة الدينية فقد عرف حكم الكتاب ورفع عنه الحساب وسقط عنه التكليف وسائر الأسباب (2). وفي كتاب (الحقائق الخفية): أن حجج الليل هم أهل الباطن المحض المرفوع عنهم في أدوار الستر التكاليف الظاهرة لعلو درجاتهم (3).وعند المطارمة – وهم فرع من فروع الإسماعيلية – أن لكل إمام اثنى عشر حججا في حضرته السامية وهم أهل الحقائق السانية لا يدخلون تحت التكاليف لأنهم قاموا بذلك قبل التصاريف (4). هذه هي نصوص القوم – وكما نلاحظها – ناطقة بنفسها على الإقرار والاعتراف على غرضهم من التأويل الباطني – وهو إسقاط الجانب العملي من دين الإسلام بتأويلات ساقطة وهذا هو أهم هدف يرنون إليه ولهم مع ذلك أغراض أخرى أجملها في ثلاثة أمور: الأمر الأول: التشكيك في المصادر الأصلية للمسلمين وهما كتاب عز وجل وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ومن وصايا أحد أئمتهم إلى داع من دعاته قوله وأوصيك بتشكيك الناس في القرآن والتوراة والزبور والإنجيل وبدعوتهم إلى إبطال الشرائع وإبطال المعاد (5). الأمر الثاني: إن الإمامة أصل من أصولهم – كما سبق أن ذكرنا – فمن دعواها ومن طريقها يشرع أئمتهم حسبما يهوون ويريدون لأنهم هم أصحاب التأويل الذين يعرفون بواطن النصوص والأدلة ولذا فهم يؤولون حسب أغراضهم ومعتقداتهم. الأمر الثالث: الدخول إلى الناس من عدة وجوه للدعوة إلى مذهبهم فمن كان مائلا إلى التحلل من العبادات والتكاليف أولوا له النصوص على الوجه الذي يستطيعون به جذبه إليهم ومن كان مائلا إلى الشهوات فتحوا له باب الانغماس فيها. ومن كان مائلا إلى الزهد حملوه على العبادات وهكذا يعتبر التأويل الباطن أصلا من أصول الباطنية على تعدد فرقها وتشعب سبلها لأنها تؤدي إلى هذه الأهداف والغايات التي يسعى إليها كل باطني هدما وتخريبا وفي استدلاله بالآيات القرآنية وما صح من الأحاديث القليلة جدا يحققون أمورا أربعة – كما ذكر كاتب معاصر – هي: 1ـ عدم رفض القرآن – في الظاهر – ككتاب ديني مقدس. 2ـ التخلي – في الباطن – عن أحكامه وملزماته وفروضها من خلال تأويلها. 3ـ وفي نفس الوقت دعم حركتهم وعقائدهم – الباطنية – وتعزيزها بآيات قرآنية وأحاديث كثيرة جدا الصحيح منها أقل القليل.4ـ وفي نفيهم – أو تجاوزهم – المعاني الظاهرية للقرآن يبرز الفراغ الفكري الذي كانت تملأه تلك المعاني ومن هنا يفتح المجال لنزعاتهم وتطلعاتهم كي تتحرك وتؤثر بحرية بعيدة المدى (6).هذه هي أهم أهداف الإسماعيليين من أصلهم هذا الذي لا يقل خطورة عن أصلهم الأول (الإمامة) وكلا الأصلين يمثلان تجاوزا خطيرا لكل العقائد والمفاهيم الإسلامية بل أنهما في حقيقة الأمر محاولة جادة يائسة لنسف الإسلام بعظمته وشموله وواقعيته وإحلال المفاهيم الباطنية الإلحادية – بقزامتها وضآلتها – محله ورحم الله الإمام الغزالي الذي عرف أهدافهم وفضحهم بكتابه (فضائح الباطنية) ومما قال عنهم: إن هذه الدعوة لم يفتتحها منتسب إلى ملة ولا معتقدة لنحلة معتضد بنبوة فإن مساقها ينقاد إلى الانسلال من الدين كانسلال العشرة من العجين (7). المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 485   (1) ((الهفت الشريف)) (ص: 65). (2) ((كتاب شيخ الجبل الثالث)) لمصطفى غالب (ص: 141). (3) ((الحقائق الخفية)) للأعظمي (ص: 102). (4) ((حياة الأحرار)) لمحمد علي المكرمي مخطوطة (ص: 61) (5) ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 277). (6) ((الحركات الباطنية في العالم الإسلامي)) لمحمد الخطيب (ص: 113). (7) ((فضائح الباطنية)) للغزالي (ص: 18). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 80 المطلب الخامس: إبطال أصل التأويل الباطني عند الإسماعيلية تصدي علماء المسلمين لأصل الإسماعيلية هذا بالرد والإبطال على الرغم من رداءة آراءهم وخلوها من الحجة والدليل يقول ابن حزم: إن القائلين بالظاهر والباطن لا تعلق لهم بحجة أصلا وليس بأيديهم إلا دعوى الإلهام والقحة والمجاهرة بالكذب ... إلخ. ثم قال: اعلموا أن دين الله تعالى ظاهر لا باطن فيه وجهر لا سر تحته كله برهان لا مسامحة فيه وكل من ادعى للديانة سرا وباطنا فهي دعاوى ومخارق واعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكتم من الشريعة كلمة فما فوقها ولا اطلع أخص الناس به من زوجة أو ابنه أو عم أو ابن عم أو صاحب على شيء من الشريعة كتمه عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم ولا كان عنده عليه السلام سر ولا رمز ولا باطن غير ما دعى الناس كلهم إليه ولو كتمهم شيئا لما بلغ كما أمر (1). أما ابن تيمية فيقول: إن تأويلات الباطنية وتفسيراتها مما يعلم بطلانها فكل مؤمن بل كل يهودي ونصراني يعلم علما ضروريا أنها مخالفة لما جاءت به الرسل كموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين. فكلام هؤلاء عن الباطن ومعانية مخالف لأصول الدين حيث أن المعاني الباطنية التي تفوهوا بها باطلة وما كان في نفسه باطلا فلا يكون الدليل عليه إلا باطلا لأن الباطل لا يكون عليه دليل يقتضي أنه حق (2).ثم بعد ذلك بنى ابن تيمية حكمه على من أول الكتاب والسنة سواء بالرموز الباطنية كما هو مذهب القرامطة والفلاسفة أو بالأذواق والمواجيد كما هو مذهب الصوفية يقول عن هؤلاء ومن سلك سبيلهم: أن من فسر القرآن والحديث وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله ملحد في آيات الله محرف للكلم عن مواضعه وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام (3). تتبع ابن تيمية دعوى الباطنية هذه وفندها وأبطلها بأسلوب علمي قائلا: إن مذهبهم في الباطن يهدم بعضه بعضا وذلك من وجوه: الأول: أنهم حينما أبطنوا خلاف ما أظهروا للناس وسعوا في ذلك بكل طريق وتواطؤا عليه التبس أمرهم على كثير من أتباعهم وحينما ظهرت حقيقة أمرهم لبعض موافقيهم ومخالفيهم – حيث صنفت الكتب في كشفهم – أصبح لا حرمة لهم ولا ثقة بما يخبرون ولا التزام طاعة فيما يأمرون حيث عرف باطنهم بكشف أسرارهم ورفع أستارهم. الثاني: إن مخالفة الباطن للظاهر ليس له حد محدود بل إذا علمه هذا علمه هذا وعلمه هذا فيشع هذا ويظهر حتى يصبح ظاهرا يعرفه كل أحد وهذا يخالف مبدأهم من أن علم الباطن خاص بالأئمة ومع انتشار ذلك ينتقض على مذهبهم جميع ما خاطبوا الناس به. الثالث: أنه ما من خطاب يخاطب به الباطني أتباعه إلا ويجوزون أن يكون أراد غير ما أظهره لهم فلا يثقون بأخباره وأوامره فيختل عليه الأمر كله فيكون مقصود صلاحهم فيعود ذلك بالفساد عليه بل كل من وافقه لا بد أن يظهر خلاف ما أبطن ولذا لا نجد أحدا من موافقيهم إلا ولا بد أن يبين أن ظاهره خلاف باطنه ويحصل للباطنية بذلك من كشف الأسرار وهتك الأستار ما يصيرون به من شرار الكفار (4). المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 491   (1) ((الفصل)) لابن حزم (4/ 114 – 116). (2) ((رسالة الظاهر والباطن)) لابن تيمية (ص: 235). (3) ((رسالة الظاهر والباطن)) ابن تيمية (ص: 235). (4) انظر ((نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام)) للنشار 2/ 420 - 421. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 81 المبحث الثامن: ضلالات الإسماعيلية الضلالة الأولى: إشراكهم بالله عز وجل الشرك الأكبر وذلك باعتقادهم آلهة متعددة لها من التأثير والتدبير في الكون ما ثبت لله وحده وهم وإن لم ينطقوا بذلك صراحا ويظهروا به أمام الخلق إلا أن فلسفتهم وفكرهم يؤول إلى هذا الاعتقاد المخرج من الملة الإسلامية بل من الملل السماوية كلها ولذا اتفق نقلة المقالات – كما قال العلوي – عنهم من غير تردد على أنهم يعتقدون بإلهين قديمين لا أول لوجودهما من الحديث والزمان إلا أن أحدهما علة لوجود الثاني واسم العلة السابق واسم المعلول التالي وأن السابق خلق العالم بواسطة التالي (1). إن هذا المعتقد لدى الإسماعيلية لم يكن جديدا أو مبتكرا من عندهم بل هو من الركام المتناثر الذي كان منتشرا قبل الإسلام لدى الأمم المختلفة ما بين فلسفات اليونان ومعتقدات المجوس وتحريفات اليهود والنصارى حيث لفق الإسماعيلية من هؤلاء وأولئك تصوراتهم المنحرفة المحرفة وسرقوا هذه التصورات والأفكار وأضافوا إليها ما هو أشد كفرا وإلحادا واعتبروها – مع ذلك – عقيدة ومنطلقا لهم ولذا يقارن أحد المؤلفين الذين ردوا عليهم وكشفوا باطنهم يقارن بينهم وبين مذهب المجوس ويقول إنه – أي مذهب الإسماعيلية – يضاهي مذهب المجوس من عدة وجوه: الوجه الأول: أن الباطنية قالوا بالاثنينية كما قالت المجوس وعبروا عنها بالسابق والتالي كما عبر المجوس عن الاثنين بيزدان واهرمن. الوجه الثاني أن الباطنية قالوا بقدم السابق وحدوث التالي كما قال المجوس بقدم يزدان وحدوث اهرمن. الوجه الثالث: أن الباطنية أضافوا النقص إلى التالي كالمجوس أضافوا النقائص كلها إلى اهرمن. الوجه الرابع: أن من مقولات الباطنية الاعتقاد بأن التالي معلول عن السابق ومتولد عنه كالمجوس فإنهم قالوا إن اهرمن حصل عن يزدان وتولد من فكرته. الوجه الخامس: أن المجوس قالوا إن حدوث هذه التراكيب عن يزدان والباطنية قالوا إن حصولها عن السابق بوسائط ومن هنا يعلم مشابهة معتقد الإسماعيلية لمذهب المجوس بل يقول المؤلف: إن الباطنية أسوأ حالا منهم لأمرين: الأمر الأول: أن المجوس لما أثبتوا يزدان إلها واعتقدوا إلهيته وصفوه بصفات الكمال من القدرة والعلم الحياة بينما الباطنية الإسماعيلية سلبوا عن إلههم جميع صفات الكمال. الأمر الثاني: إن الباطنية لم يقنعوا بسلب الصفات الإلهية عنه بل ضموا إليه جهالة أخرى فقالوا عنه: أنه قادر ولا قادر وعالم ولا عالم وموجود ولا موجود فخرجوا به عن جميع القضايا العقلية كما اعتقدوا خروجه ن حكم السلب والإيجاب معا وهذا فيه من فحش المقال والجهالة ما غطى على معتقد المجوس (2).والاعتقاد بتعدد الآلهة فضلا ن كونه اعتقادا باطلا في ذاته فإنه يعتبر أمرا خطيرا له أثر كبير في الضمير البشري وفي الحياة الإنسانية كلها ولذا عني الإسلام عناية كبرى بتحرير أمر العقيدة الصحيحة خالية من جميع الشوائب والمؤثرات وحدد الصورة وعلاقة الخلق بها فتستقر عليها نظمهم وأوضاعهم وعلاقاتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وآدابهم وأخلاقهم كذلك مما يمكن أن تستقر هذه الأمور كلها إلا أن تستقر حقيقة الألوهية وإلى جانب تحديد الصورة الصحيحة لعقيدة الألوهية لم يغفل الإسلام الرد على جميع الانحرافات والأخطاء التي وقعت فيها الديانات المحرفة والفلسفات الخابطة في الظلام – سواء ما كان منها قبل الإسلام وما وجد بعده كذلك حول عقيدة الألوهية (3).   (1) ((الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام)) (ص: 38). (2) ((الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام)) (ص: 44 - 45). (3) انظر ((خصائص التصور الإسلامي)) لسيد قطب (ص: 44). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 82 وبعد هذا العرض نصل إلى أن النصوص الشرعية بأجمعها بينت ضلال من يعتقد بتعدد الآلهة وسلكت في ذلك مسلكين: الأول: عرض الصورة الصحيحة لعقيدة الألوهية وهذا كثيرا ما ور في الآيات القرآنية على ألسنة الرسل وذلك بالدعوة إلى التوحيد وإفراد الله عز وجل بالعبادة قال تعالى لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأعراف: 59] وكذلك يتكرر الأمر بتوحيد الله في قصة كل رسول ومن الآيات الصريحة في هذا الباب قول الله عز وجل مخاطبا نبيه عيسى عليه الصلاة السلام بقوله وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [المائدة: 116] مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة: 117] وكذلك قول الله عز وجل مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]، وكذلك قوله تعالى وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة: 163]، وقوله تعالى إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ [الصافات: 4 - 5]، المسلك الثاني: الرد على جميع الانحرافات والتصورات الضالة في حقيقة الألوهية وهذا النوع كثير في القرآن وما ذاك إلا لأن هذه التصورات منطلق للكفر والضلال قال تعالى في سورة الإخلاص قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [1 - 4: الإخلاص] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 83 ومن أبلغ الأدلة في الرد على معتقد الإسماعيلية القائلين بإلهين اثنين قول الله عز وجل مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون: 91]، وقوله عز وجل وَقَالَ اللهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ [النحل: 51]، وقال تعالى الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا [الفرقان: 2 - 3]، وقال تعالى ...... وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا [الإسراء: 39]، قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً [الإسراء: 42] سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا [الإسراء: 43] قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام: 19] المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي - 2/ 545 الضلالة الثانية: اعتقاد الإسماعيلية بالسلب المحض لله عز وجل ومنهجهم في ذلك نفي الأسماء والصفات عن الله عز وجل جملة وتفصيلاً وتصوير الله عز وجل بصورة خيالية لا حقيقة لها ولا وجود ويصبح الإله عندهم إلهاً سلبياً لا يمكن وصفه بشيء حتى لفظ الوجود وذلك الموقف من الإسماعيلية شبيه بموقف جان اسكوت اريجين (المتوفى حوالي سنة 877م) حيث أثبت لاهوتاً سلبياً ومن المسائل التي ذكرها عن لاهوته السلبي قوله: هل يمكن وصف الله بالوجود؟ وأجاب أننا لا نستطيع أن نقول عن الله أنه موجود وإنما يمكن أن نقول أنه فوق الوجود (1).وأصل هذا الاعتقاد عند الإسماعيلية وسائر فرق النفاة للأسماء والصفات –كما يقول ابن تيمية- مأخوذ من المشركين والصابئين من البراهمة والمتفلسفة ومبتدعة أهل الكتاب الذين يزعمون أن الرب ليس له صفة ثبوتية أصلاً وهؤلاء أعداء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وهم يعبدون الكواكب (2). المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – ص 552   (1) انظر ((مذاهب الإسلاميين)) للدكتور عبدالرحمن بدوي (2/ 223، 224). (2) ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (1/ 9). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 84 المبحث التاسع: معتقد الإسماعيلية في الإلهيات إن الإسماعيلية يعتقدون بأن الله لا يوصف ولا يسمى باسم, مخالفين صريح القرآن والسنة ومؤولين بتأويلات فاسدة باردة كاسدة بعيدة كل البعد عن منطوقها ومفهومها سالكين مسلك الثنويين والوثنيين والمجوس وجاعلين الإله الواحد آلهة متعددة والرب الواحد أربابا متفرقين متعددين قائلين بالواحد الممتنع وجوده مكابرين مجادلين آيات القرآن الناطق بأسماء الله وصفاته وأحاديث الرسول المعصوم المدعم بالوحي المصدر: الإسماعيلية لإحسان إلهي ظهير – ص 273 يقول العلامة ابن تيمية رحمه الله بعد أن ذكر منهج السلف في الإيمان بالله وأسمائه وصفاته: وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب ومن دخل في هؤلاء من الصابئة والمتفلسفة والجهمية والقرامطة والباطنية ونحوهم فإنهم على ضد ذلك يصفونه بالصفات السلبية على وجه التفصيل ولا يثبتون إلا وجودا مطلقا لا حقيقة له عند التحصيل وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان يمتنع تحققه في الأعيان فقولهم يستلزم غاية التعطيل وغاية التمثيل فإنهم يمثلونه بالممتنعات والمعدومات والجمادات ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلا يستلزم نفي الذات فغلاتهم يسلبون عنه النقيضين فيقولون: لا موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات فسلبوا النقيضين وهذا ممتنع في بداهة العقول وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب وما جاء به الرسول فوقعوا في شر مما فروا منه فإنهم شبهوه بالممتنعات إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين كلاهما من الممتنعات (1).وفي موضوع آخر يقول: وإنما ينكر أن تكون هذه الأسماء حقيقة النفاة من القرامطة الإسماعيلية الباطنية ونحوهم من المتفلسفة الذين ينفون عن الله الأسماء الحسنى ويقولون: ليس بحي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز ولا موجود ولا معدوم فهؤلاء ومن ضاهاهم ينفون أن تكون له حقيقة ثم يقول بعضهم: إن هذه الأسماء لبعض المخلوقات وأنها ليست له حقيقة ولا مجازا وهؤلاء الذين يسميهم المسلمون الملاحدة لأنهم ألحدوا في أسماء الله وآياته وكانوا عند المسلمين أكفر من اليهود والنصارى (2). ويقول أيضا: إن الإسماعيلية وضعوا لأنفسهم اصطلاحات روجوها على المسلمين ومقصودهم بها مقصود الفلاسفة الصابئون والمجوس الثنوية كقولهم السابق والتالي ويعنون به العقل والنفس ويقولون هو اللوح والقلم وأصل دينهم مأخوذ من دين المجوس والصابئين. ويضيف ابن تيمية إلى أن هذه المعتقدات مما وجدها في كتبهم وذكرها أيضا الكاشفون لأسرارهم والهاتكون لأستارهم كالقاضي أبي بكر بن الطيب والقاضي أبي يعلى (3). ونقل الشهرستاني صورة شاملة لمعتقدهم في الإلهيات ومما قال عنهم أنهم قالوا في الباري عز وجل: إنا لا نقول عنه موجود ولا لا موجود ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز. وكذلك في جميع الصفات فإن الإثبات الحقيقي يقتضي شركة بينه وبين سائر الموجودات في الجهة التي أطلقنا عليها وذلك تشبيه فلم يكن الحكم بالإثبات المطلق والنفي المطلق بل هو إله المتقابلين وخالق المتخاصمين والحاكم بين المتضادين ونقلوا في هذا نصا عن محمد الباقر أنه قال (لما وهب العلم للعالمين قيل هو عالم ولما وهب القدرة للقادرين قيل هو قادر فهو عالم قادر بمعنى أنه وهب العلم والقدرة ولا بمعنى أنه قام به العلم والقدرة أو وصف بالعلم والقدرة)   (1) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 7 – 8). (2) انظر ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/ 197). (3) ((مخطوطة بغية المرتاد)) لابن تيمية (ص: 6). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 85 فقيل فيه أنهم نفاة الصفات حقيقة معطلة الذات عن جميع الصفات قالوا: وكذلك نقول في القدم. إنه ليس بقديم ولا محدث بل القديم أمره وكلمته والمحدث خلقه وفطرته. أبدع بالأمر العقل الأول الذي هو تام بالفعل ثم بتوسطه أبدع النفس التالي الذي هو غير تام ونسبة النفس إلى العقل أما نسبة النطفة إلى تمام الخلقة والبيض إلى الطير وأما نسبة الولد إلى الوالد والنتيجة إلى المنتج وأما نسبة الأنثى إلى الذكر والزوج إلى الزوج. قالوا: ولما اشتاقت النفس إلى كمال العقل احتاجت إلى حركة من النقص إلى الكمال واحتاجت الحركة إلى آلة الحركة فحدثت الأفلاك السماوية وتحركت حركة دورية بتدبير النفس وحدث الطبائع البسيطة بعدها وتحركت حركة استقامة بتدبير النفس أيضا فتركبت المركبات من المعادن والنبات والحيوان والإنسان واتصلت النفوس الجزئية بالأبدان وكان نوع الإنسان متميزا عن سائر الموجودات بالاستعداد الخاص لفيض تلك الأنوار وكان عالمه في مقابلة العالم كله وفي العالم العلوي عقل ونفس كلي فوجب أن يكون في هذا العالم عقل مشخص هو كل وحكمه حكم الشخص الكامل البالغ ويسمونه الناطق وهو النبي ونفس مشخصة وهو كل أيضا وحكمه حكم الطفل لناقص المتوجه إلى الكمال أو حكم النطفة المتوجة إلى التمام أو حكم الأنثى المزدوجة بالذكر ويسمونه الأساس وهو الوصي. قالوا: وكما تحركت الأفلاك والبائع بتحريك النفس والعقل كذلك تحركت النفوس والأشخاص بالشرائع بتحريك النبي والوصي في كل زمان دائرا على سبعة سبعة حتى ينتهي إلى الدور الأخير ويدخل زمان القيامة وترتفع التكاليف وتضمحل السنن والشرائع وإنما هذه الحركات الفلكية والسنن الشرعية لتبلغ النفس إلى حال كمالها وكمالها بلوغها إلى درجة العقل واتحادها به ووصولها إلى مرتبته فعلا وذلك هو القيامة الكبرى (1). ويقارن البغدادي بين معتقد الإسماعيلية في الإلهيات ومعتقد المجوس المثنوية القائلين بالنور والظلمة وأنهما صانعان قديما وهما الأصلان في تدبير العالم ويصل بعد ذلك إلى أن هذا المعتقد هو أساس دين الباطنية ومنه استمدوا معتقدهم في الله عز وجل ونقل بعد ذلك عن زعماء الباطنية هذه الخلاصة الموجزة عن معتقدهم في الإلهيات بقوله: وذكر زعماء الباطنية في كتبهم أن الإله خلق النفس فالإله هو الأول والنفس هو الثاني وهما مدبرا هذا العالم وسموها الأول والثاني وربما سموها العقل والنفس ثم قالوا إنهما يدبران هذا العالم بتدبير الكواكب السبعة والطبائع الأولى. ثم يضيف البغدادي إلى أن قولهم أن الأول والثاني يدبران العالم هو بعينه قول المجوس بإضافة الحوادث لصانعين أحدهما قديم والآخر محدث إلا أن الباطنية عبرت عن الصانعين بالأول والثاني وعبر المجوس عنهما بيزدان وأهرمن. ويستدل أيضاً بأن هذا المعتقد هو بعينه معتقد المجوس أن داعيهم النسفي قال في كتابه المعروف بـ (المحصول): أن المبدع الأول أبدع النفس ثم أن الأول والثاني مدبر العالم بتدبير الكواكب السبعة والطبائع الأربع وهذا في التحقيق معنى قول المجوس أن اليزدان خلق أهرمن وأنه مع أهرمن من مدبران للعالم. ويخلص البغدادي بعد ذلك إلى أن معتقد الإسماعيلية هذا نتيجة جحد الصانع والاعتقاد بقدم العالم وأنهم دهرية زنادقة ويستدل على ذلك بما قرأه واطلع عليه في كتابهم المترجم بالسياسة والبلاغ الأكيد والناموس الأعظم وفيه قولهم ونحن مجمعون مع الفلاسفة على القول بقدم العالم لو ما يخالفنا فيه بعضهم من أن للعالم مدبرا لا يعرفونه (2).   (1) ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 193 - 194). (2) ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص269 - 270، 277 - 278). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 86 ويفصل الغزالي الحديث عن معتقد الإسماعيلية في الإلهيات –وكأني به وقد اطلع على جل كتبهم في هذا الباب- بصورة أكثر تفصيلاً وبصيغة الإجماع كذلك يقول عنهم: وقد اتفقت أقاويل نقلة المقالات من غير تردد أنهم قائلون بإلهين قديمين لا أول لوجودهما من حيث الزمان إلا أن أحدهما علة لوجود الثاني واسم العلة السابق واسم المعلول التالي وأن السابق خلق العالم بواسطة التالي لا بنفسه وقد يسمى الأول عقلاً والثاني نفساً ويزعمون أن الأول هو التام بالفعل والثاني بالإضافة إليه ناقص لأنه معلوله وربما لبسوا على العوام مستدلين بآيات من القرآن عليه كقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، نَحْنُ قَسَمْنَا [الزخرف:32] وزعموا أن هذه إشارة إلى جمع لا يصدر عن واحد ولذلك قال: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى:1]، إشارة إلى السابق من الإلهين فإنه الأعلى ولولا أن معه إلهاً آخر له العلو أيضاً لما انتظم إطلاق الأعلى وربما قالوا: الشرع سماهما باسم القلم واللوح والأول هو القلم فإن القلم مفيد واللوح مستفيد متأثر والمفيد فوق المستفيد. وربما قالوا اسم التالي القدر في لسان الشرع وهو الذي خلق الله به العالم حيث قال: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]. المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – ص 535 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 87 المطلب الأول: تعريف النبوة عندهم يعرف السجستاني النبوة بقوله: النبوة قوة ثابتة من جهة الكون والفساد تحدث في نفس النبي تدرجا جزءا بعد جزء وعملا بعد عمل وزيادة بعد نقصان إلى أن يكمل تكوينها فتظهر مصورة محلاة فلا تزال في ارتفاع إلى أن تبلغ المنتهى في الرفعة (1). وتبعا لذلك التعريف بأن النبي عندهم: عبارة عن شخص فاضت عليه من السابق بواسطة التالية قوة قدسية صافية مهيأة لأن تنتقش عن الاتصال بالنفس الكلية بما فيها من الجزئيات. المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي - 2/ 575 فالنبي عندهم شخص يتحلى بالخصال الاثنتي عشرة: أولا: أن يكون تام الأعضاء. ثانيا: أن يكون جيد الفهم. ثالثا: أن يكون جيد اللفظ. رابعا: أن يكون فطنا ذكيا. خامسا: أن يكون حسن العبارة. سادسا: أن يكون محبا للعلم والإفادة. سابعا: أن يكون محبا للصدق. ثامنا: أن يكون غير شره في الأكل والشرب والنكاح. تاسعا: أن يكون كبير النفس. عاشرا: أن يكون زاهدا في الدنيا. حادي عشر: أن يكون محبا للعدل. ثاني عشر: أن يكون قوي العزيمة. (2) وقالوا: "إذا اجتمعت هذه الخصال في واحد من البشر, في دور من أدوار القرانات في وقت من الزمان, فإن ذلك الشخص هو المبعوث وصاحب الزمان والإمام للناس ما دام حيا, فإذا بلغ الرسالة وأدى الأمانة, ونصح الأمة, ودون التنزيل, ولوح التأويل, وأحكم الشريعة, وأوضح المنهاج, وأقام السنة, وألف شمل الأمة, ثم توفي ومضى إلى سبيله, بقيت تلك الخصال في أمته وراثة منه. وإن اجتمعت تلك الخصال في واحد من أمته, أو جلها, فهو الذي يصلح أن يكون خليفة في أمته بعد وفاته" المصدر: الإسماعيلية لإحسان إلهي ظهير – ص 321   (1) ((إثبات النبوات)) للسجستاني (ص: 111). (2) انظر ((رسائل إخوان الصفاء)) (4/ الرسالة السابعة والأربعون)، والرسالة السادسة من العلوم الناموسية والشرعية في ما هية الناموس الإلهي و ((شرائط النبوة)) (ص: 129 - 130) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 88 المطلب الثاني: المنطلقات الأساسية لمعتقد الإسماعيلية عن النبوة والأنبياء فهم أولاً: اعتبروا النبوة رتبة يمكن لأي مدعي الوصول إليها ولاسيما المستجيبين لفكرتهم ودعوتهم ومن أبرز ذلك ما يسمونه بالناطق وهذا اللفظ يطلق في بعض عبارتهم على النبي أو الرسول، وفي البعض الآخر رتبة عالية من رتب المرتقين في سلم الدعوة يصل إليها المستجيب. وتبعاً لذلك عرفوا النبوة تعريفاً يعتبرها قدراً مشتركاً بين سائر البشر كسائر العلوم والمدركات التي تنال بالجهد والكسب. وثانياً: اعتبروا رتبة الولاية والوصاية أعظم قدراً وأفضل منزلة من رتبة النبوة والرسالة ومن هذا المنطلق اعتقدوا أن بعض أئمتهم وزعمائهم أنداداً ومماثلين للأنبياء والرسل بل فضلوهم في بعض الحالات ويبدو هذا واضحاً من خلال عباراتهم عن محمد بن إسماعيل. وثالثاً: أنكروا معجزات الأنبياء والرسل واعتبروها من جملة المخاريق والشعبذة وما ورد من هذه المعجزات مما لا سبيل إلى وروده فسروه حسب تأويلاتهم الباطنية. ورابعاً وأخيراً لا يؤمنون بختم النبوة وانقطاع الوحي وانتهاء الرسالات بل اعتقدوا خلاف ذلك مما جعل المجال مفتوحاً أمام المشعوذين والدجالين سواء منهم أو من غيرهم. إن هذه الضلالات الأربع التي استخلصتها آنفاً من نصوصهم ونصوص علماء الفرق تعتبر من أظهر معتقداتهم وأبرزها عن النبوات والأنبياء وهي كافية لإيضاح ضلالهم وإلحادهم في هذا الأصل. المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 596 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 89 المطلب الثالث: استمرار النبوة والرسالة عندهم من أبرز معتقدات الإسماعيلية في هذا الفصل اعتقادهم الصريح استمرار النبوة والرسالة وعدم إيمانهم ختمهما بالنبي الخاتم نبينا محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام فهم يعتقدون صراحة بنبوة ورسالة قائمهم محمد بن إسماعيل الذي يسمونه بالناطق السابع ولا يجدون غضاضة في القول بأنه أتى ناسخا لشريعة الرسول السادس بل ناسخا لجميع الشرائع كلها والتي أتى بها النطقاء الستة قبله وهذه عباداتهم – بل كفرياتهم – في هذا المعتقد. يقول السجستاني: إن من وقف على حد إبراهيم وآمن به وصدقه في دعواه ولم يعبره إلى حد موسى فقد فرق بينه وبين موسى والذي أوصل حده بحده ومن وقف على حد موسى وآمن به وصدقه ولم يعبر إلى حد عيسى فقد فرق بينه وبين عيسى والذي أوصل الله حده به ومن وقف على حد عيسى وأمن به وصدقه ولم يعبره إلى محمد صلى الله عليه وسلم وآمن به وصدقه ولم يعبره على حد القائم كما قال: بعثت أنا والساعة كهاتين فقد فرق بينه وبين صاحب القيامة والذي أوصل الله حده بحده (1).ويقول أيضا تحت عنوان (في دور القائم ورسومه وقدرتها) إن القائم سلام الله على ذكره في الولادة والاغتذاء وظهور النسل عنه كآبائه عليهم السلام ولا فرق بينه وبينهم من هذه الجهة إلا بشرف الرتبة وهو متمم النطقاء فإذا ظهر ظهرت الآيات وتكشفت المستورات وأفطر المؤمنون من صيامهم وأن القائم هو نهاية الكل من الرسل وهو يجمع بين النواميس المختلفة المتفرقة المتباينة بالكشف عن حقائقها فتصير مجموعة كأنها شريعة واحدة وكأن أممها أمة واحدة (2). ويقول الداعي طاهر الحارثي: إن محمد بن إسماعيل يعتبر متما للدور وخاتما للرسل المنتهية إليه غاية الشرائع المختومة به المشتمل على مراتب حدودها المحيط بعلومهم وهو القائم بالقوة صاحب الكشفة الأولى قائم القيامة الكبرى. يقول الإسماعيليون عن نبيهم المزعوم إن قيامه يعتبر تمام دور الستر واعتقاد دور الكشف ونسخ شريعة الرسول السادس – ويقصد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم – ومن أدعية الحاكم العبيدي المعز قوله وعلى القائم بالحق الناطق بالصدق التاسع من جده الثامن من أبيه الكوثر السابع من آبائه الأئمة سابع الرسل من آدم وسابع الأوصياء من شيث وسابع الأئمة من البررة .. إلى قوله الذي شرفته وعظمته وكرمته وختمت به عالم الطبيعة وعطلت بقيامه ظاهر شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كل ذلك بالقوة لا بالفعل (3).ومن عباراتهم عنه قولهم إنه المحدد للنسخ بخروجه بالسيف وظهوره وقلة استتاره وقتله الأضداد وقهره لهم وكونه أقوى من الناسخ وأعظم قدرة وأظهر أمرا (4). المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 587   (1) ((إثبات النبوات)) للسجستاني (ص: 42 - 43). (2) ((إثبات النبوات)) للسجستاني (ص: 91). (3) ((إثبات النبوات)) للسجستاني (ص: 130). (4) ((الحقائق الخفية)) للأعظمي (ص: 129 – 130). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 90 المطلب الرابع: أقوال علماء الفرق في معتقد الإسماعيلية عن النبوة والأنبياء يقول الإمام الغزالي: إن مذهبهم في النبوات قريب من مذهب الفلاسفة وهو أن النبي عبارة عن شخص فاضت عليه من السابق – بواسطة التالي – قوة قدسية صافية مهيأة لأن تنقش – عند الاتصال بالنفس الكلية – بما فيها من الجزئيات كما قد يتفق ذلك لبعض النفوس الزكية في المنام حتى تشاهد من مجاري الأحوال في المستقبل إما صريحا بعينه أو مدرجا تحت مثال يناسبه مناسبة ما افتقر فيه إلى التعبير إلا أن النبي هو المستعد لذلك في اليقظة فلذلك يدرك النبي الكليات العقلية عن شروق ذلك النور وصفاء القوة النبوية كما ينطبع مثال المحسوسات في القوة الباصرة من العين عند شروق نور الشمس على سطوح الأجرام السفلية. وزعموا أن جبرائيل عبارة عن العقل الفائض عليه ورمز إليه شخص منسجم متركب عن جسم لطيف أو كثيف يناسب المكان حتى ينتقل من علو إلى سفل. وزعموا أن هذه القوة القدسية الفائضة على النبي لا تستكمل في أول حلولها كما لا تستكمل النطفة الحالة في الرحم إلا بعد تسعة أشهر فكذلك هذه القوة كمالها في أن تنتقل من الرسول الناطق إلى الأساس الصامت وهكذا تنتقل إلى أشخاص بعضهم بعد بعض حتى يكمل في السابع. ثم ينقل عنهم أيضا أنهم قالوا: كل نبي لشريعته مدة فإذا انصرمت مدته بعث الله نبيا آخر ينسخ شريعته ومدة شريعة كل نبي سبعة أعمار وهو سبعة قرون فأولهم هو النبي الناطق ومعنى الناطق أن شريعته ناسخة لما قبله ومعنى الصامت أن يكون قائما على ما أسسه غيره ثم أنه يقوم بعد وفاته ستة أئمة إمام بعد إمام فإذا انقضت أعمارهم ابتعث الله نبيا آخر ينسخ الشريعة المتقدمة وزعموا أن أمر آدم جرى على هذا المثال وهو أول نبي ابتعثه الله في فتح باب الجسمانيات وحسن دور الروحانيات. وبعد نقل الغزالي لجميع مزاعمهم في النبوات يؤكد على أن هذه المعتقدات مستخرجة من مذاهب الفلاسفة في النبوات مع تحريف وتغيير (1). ويحكم البغدادي على الباطنية – والإسماعيلية فرقة منهم – بأنهم دهرية زنادقة لقولهم بقدم العالم وإنكارهم للرسل والشرائع ويستدل على ذلك بكتاب السياسية والبلاغ الأكيد وفيه رسالة متبادلة بين عبيد الله المهدي – أول أئمة دور الظهور عند الإسماعيلية وداعية من دعاته ومما ورد في هذه الرسالة قول الداعية: وأنا والفلاسفة مجمعون على أن الأنبياء ما هم إلا أصحاب نواميس وحيل ساسوا بها الناس طلبا للزعامة بدعوة النبوة والإمامة وكل واحد من هؤلاء صاحب دور مسبع إذا انقضى دور سبعة تبعهم سبعة في دور آخر ومما جاء في هذا الكتاب أيضا الوصية التالية من الإمام الإسماعيلي لأحد دعاته قائلا: وينبغي أن تحيط علما بمخاريق الأنبياء ومناقضتهم في أقوالهم كعيسى ابن مريم قال لليهودي لا أرفع شريعة موسى ثم رفعها بتحريم الأحد بدلا من السبت وأباح العمل في السبت وأبدل قبله موسى بخلاف جهتها ولهذا قتلته البلاد لما اختلفت كلمته. ثم قال له: ولا تكون كصاحب الأمة المنكوسة حيث سألوه عن الروح فقال: الروح من أمر ربي لما لم يحضره الجواب ولا تكون كموسى التي لم يكن له عليها برهان سوى المخرقة بحسن الحيلة والشعبذة ولما لم يجد المحق – فرعون – في زمانه عنده برهانا قاله له: لئن اتخذت إلها غيري – وقال لقومه: أنا ربكم الأعلى لأنه كان صاحب الزمان في وقته (2).ونقل البغدادي أيضا عن بعض من دخل في دعوى الباطنية وتاب من ضلالهم أنهم لما وثقوا منه بإيمانه بدعوتهم قالوا له: إن المسلمين بالأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وكل من ادعى النبوة كانوا أصحاب نواميس ومخارق أحبوا الزعامة على العامة فخدعوهم بنيرنجات واستعبدوهم بشرائعهم. (3).أما الديلمي فيقول إن الباطنية والإسماعيلية فرقة منهم يجحدون النبوات وينكرون المعجزات ويزعمون أنها من قبيل الشعبذة والطلسمات ويقولون إن النبوة مادة ترد عن السابق على قلب من وقعت به للتالي عناية وأنه إنما يأتي من ما يقال أنه معجز لمعرفته بخواص الأشياء وطبائعها ويطعنون على الأنبياء صلوات الله عليهم جميعا خصوصا محمدا صلى الله عليه وسلم ويسمونه زعيم الأمة المنكوسة (4). المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 591   (1) ((فضائح الباطنية)) للغزالي (40 – 43). (2) انظر ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 278 – 281). (3) انظر ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 282). (4) ((بيان مذهب الباطنية وبطلانه)) للديلمي (ص: 35 – 36). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 91 المطلب الأول: تأويل القيامة وما بعدها إن المتتبع لكتب الإسماعيلية وتأويلها مراحل الإنسان من قيامته حتى بعثه وحشره ثم حسابه وجزاءه بالجنة أو النار يجد مفاهيم عجيبة غريبة عن هذه المراحل وكلها تنبع من حقيقة واحدة لديهم هي الإنكار الكامل والمخالفة التامة لما أجمعت عليه الأمة الإسلامية من معنى القيامة وهي بعث الأموات من قبورهم وقيامهم مرة أخرى لحياة يثاب فيها المحسن ويعاقب المسيء وفيما يلي تفصيل هذه المراحل وبيان معناها ومدلولها عند الإسماعيلية وتوثيق ذلك بأقوالهم ونصوصهم. الموت: يؤول الإسماعيلية الموت بأنه مفارقة الروح للجسم ورجوع كل شيء إلى جنسه فالروح تصعد إلى العوالم الروحانية وتسبح في تلك العوالم فإن كانت صالحة مؤمنة انضمت إلى العقول الإبداعية وإن كانت غير ذلك رجعت إلى العوالم السفلية وأصبحت تظهر في النفوس الشريرة من الجن والشياطين والهوام وغيرها. أما الجسد فإنه يعود إلى أصله وعنصره التراب ويؤول كل عنصر منه إلى أصله وما يجانسه (1).ويعرف الحامدي الموت بأنه النقلة إلى حده ومصير الإنسان بتلك النقلة إلى عالم ثان غير الأول (2). الحياة البرزخية: وهذه المرحلة تشمل القبر ونعيمه أو عذابه. فعرف الإسماعيلية القبر بأنه الصورة الجسمانية والهياكل الجرامانية وعذاب القبر هو تأثر النفس بسبب ما يظهر عليها من الصور الهيولانية المخالفة للطباع وذلك على سبيل التغير (3). وقالوا: إن البرزخ على ضربين محمود ومذموم فالأول ما يصل إليه المؤمنون بعد نقلهم من المراتب ويكونون فيها إلى أوان البعث الكلي الذي هو ظهور القائم. وأما الثاني فهو ما يصير إليه أضداد الحق وسائر العصاة بعد موته من برازخ الهبوط وقناطر العذاب كل منهم بقدر استحقاقه موقوفون إلى أوان البعث (4). وقالوا عن حقيقة الملكين اللذين يأتيان الميت في قبره أن المراد منهما ناطق كل دور ووصيه فهما الملكان المشار إليهما في عصرهما بمبشر وبشير لأوليائه ومنكر ونكير لأضداده وعلى هذا القول ينطوي الأمر في كل وقت وزمان. المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 615   (1) انظر ((طائفة الإسماعيلية)) لمحمد كامل حسين (ص: 171 – 172). (2) ((رسالة زهر بذر الحقائق)) للحامدي (ص: 177) من منتخبات إسماعيلية. (3) رسالة الدستور للداعي الإسماعيلي شمس الدين الطيبي (ص: 93) ضمن أربع رسائل إسماعيلية جمع عارف تامر. (4) أربعة كتب إسماعيلية جمع شتروطمان (ص: 134). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 92 المطلب الثاني: البعث والمعاد عرف الإسماعيلية البعث بأنه فعل الله تعالى من جهة الملائكة المقربين في المبعوث الطبيعي كمالا له ليكون منبعثا الانبعاث الثاني ومعناه هو المعرب عنه بالنفخ المخصوص بالقوة التي هي إفاضة على المفاض عليه الذي كان من قبل خاليا منها فيحيا الحياة الأبدية .. ذلك أن ثم نوعين من البعث: الأول: هو النفخ الأول ويكون في عالم الطبيعة وينقسم إلى ما يكون بتعليم وإلى ما يكون بتأييد إلهي والذي يكون بتأييد إلهي هو إسراء القوى الإلهية من عالم الملكوت في نفس المبعوث الكائن في عالم الطبيعة وسريانها فيها فيتيسر لها جميع الأمور المتعلقة بالسعادات الأبدية والكمال الثاني وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن ذلك بإلقاء الروح حيث يقول رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ...... [غافر: 15]، فوضع الدرجات هو القائم بالفعل الذي هو الإلقاء بأمر الله سبحانه والروح هو بركات القدس والملكوت الفائض من أمره الذي هو المبدع الأول والموجود الأول وعلى من يشاء من عباده هم عباده المصطفون الذين كانت أنفسهم في ظلمات الطبيعة خالية وهي فهيا غير مكتسبة فشبه تعالى وتكبر الإسراء والتسريب بالنفخ وذلك من جهة المنصوبين للعناية بموجودات عالم الطبيعة في نفس المبعوث تأثيرا وهو الذي به يصعق من في السموات والأرض ليكون المبعوث في الكمال منبعثا بالفعل الذي يقتضيه كماله. أما القسم الثاني من النفخ الأول وهو ما يكون بتعليم من جهة من يكون طبيعيا فلكون ما يعلم من جهة المبعوث المرقي إلى درجة الكمال المنبعث الانبعاث الثاني القائم بالتعليم مما يتم فيه البعث ولذلك سمي بعثا وهو: إقامة النعمة على البشر بالمبعوث المؤيد فيكون ما يعلمهم ويدعوهم إليه ثم يقومون به سببا لهم في نيل السعادة في الدنيا وطريقا إلى الفوز بالحياة الأبدية في الأخرى وأمرا يجري مثلا من أنفسهم مجرى النفس النامية التي هي سبب لحصول القوة الحسية فيكون ذلك بعثهم وبالجملة فإن هذا البعث يكون بواسطة المؤدين من الله من الأنبياء والأوصياء والأئمة. والنوع الثاني من البعث: وهو النفخ الثاني الخصوصي بالقيامة عند تكامل الأدوار واستكمال قيام العلم بالفعل حين تتجرد الصورة بكمالها فتسطع فيها أنوار الملكوت (1). وبتعبير آخر قسم الحامدي البعث إلى نوعين: فالبعث الأول هو بعث الصورة الحاصلة للمستفيد حيث تبعث له العلوم الإلهية والمعارف الربانية. وأما البعث الثاني فهو النقلة إلى حد وبها يصير في عالم ثان وبعث وذلك عند قيام القائم وذلك هو البعث الحقيقي (2).ويفسر الكرماني الآيات القرآنية التي تتحدث عن البعث وفق ذلك المعتقد فيقول عن قوله تعالى وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ [الزمر: 68] يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا [النبأ: 18] أن فيهما إشارة إلى صاحب الدور السابع الذي يحصل في الوجود آخر دور حين يبعث في عالم الطبيعة أولا كما يبعث أصحاب الأدوار فيطيعونه أمة بعد أمة وبه يتم الخلق الجديد فينفخ أولا في دار الطبيعة باب الجزاء وفي دار الآخرة ثانيا وهو النفخ الأول فالبعث يتم لصحاب الدور السابع (3). المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 617   (1) انظر ((راحة العقل)) للكرماني) (ص: 511 - 513). (2) ((زهر الحقائق)) للحامدي (ص: 177). (3) انظر ((راحة العقل)) للكرماني (ص: 514 - 515). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 93 المطلب الثالث: معاد أهل دعوتهم وسموه معاد المؤمنين وأرادوا به أن كل محدود يعود إلى حده ويكون نقلته إليه إذا أطاعه فيما رضي الله كان ابتداؤه منه وذلك ما يلقيه إليه من علوم أولياء الله تعالى أو معاده إليه وذلك أن النفس المحدودة الحسية تنصبغ بما يلقيه الحد من العلوم الشريفة فتعود ناطقة كما يرد الإكسير الصفر ذهبا حذو الحذو فيعود حينئذ إلى ذلك الحد بذلك المغناطيس الذي ألقاه على المحدود من العلم النبوي فيجذبه إليه لما ألقاه إليه ولم يسم المعاد معادا إلا أنه يعود إليهما ألقاه إلى المحدود. القسم الثاني: وهو معاد أهل الظاهر ويقصد بهم من لا يؤمن بمذهبهم فلا معاد لهم وذلك أن من كان منهم مناصبا لأهل الحق معاندا وطاعنا عنهم فإنه عند موته لا تفارق نفسه جسمه البتة بل تبقى معاقبة فيه يكون العذاب على الكل ولا يفارق منه شيء غير ذلك التصور دون النفس وهذا التصور يريد الصعود فتركبه أشعة الكواكب فيعود إلى البيوت المظلمة فإذا مات ذلك الذي مازجه فارقه حينئذ وعاد إلى مغناطيس مظلم (1). ويصف أحد دعاتهم المعاد المحمود بقوله: مازجت الصورة تلك الذات حتى إذا ما دنت الوفاة في أفق المكاسر المحدود فمستقر المؤمن الرشيد جميعهم إلى مقام الباب ومنتهى الكل بلا ارتياب ومركز الهياكل الشريفة وهو مقر الأنفس اللطيفة وخلاصة رأيهم في المعاد أن الإنسان بعد موته يستحيل عنصره الترابي وجسمه إلى ما يجانسه من التراب وتصعد روحه إلى الملأ الأعلى فإذا كان مؤمنا بالإمام حشر في زمرة الصالحين وأصبح ملكا مدبرا كسائر العقول المدبرة لهذا الكون وإن كان شريرا مناصبا للإمام حشر مع الأبالسة والشياطين وهم أعداء الإمام (2). المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 619   (1) ((زهر الحقائق)) للحامدي (ص: 173 - 175). (2) ((الحركات الباطنية)) لمصطفى غالب (ص: 106). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 94 المطلب الرابع: أقوال علماء الفرق عن معتقد الإسماعيلية في الأخرويات كشف الإمام الغزالي عن تأويلات الإسماعيلية في معتقداتهم الأخروية وبين ما في هذه التأويلات من هدم للإيمان وجحد لما أعده الله للبشر من ثواب وعقاب فقال: وقد اتفقوا – أي الباطنية – عن آخرهم على إنكار القيامة وأن هذا النظام المشاهد في الدنيا من تعاقب الليل والنهار وحصول الإنسان من نطفة والنطفة من إنسان وتولد النبات وتولد الحيوانات لا ينصرم أبد الدهر وأن السموات والأرض لا يتصور انعدام أجسامها وأولوا القيامة وقالوا إنها رمز إلى خروج الإمام وقيام قائم الزمان وهو السابع الناسخ للشرع المغير للأمر وربما قال بعضهم إن للفلك أدوارا كلية تتبدل أحوال العالم تبدلا كليا بطوفان أو سبب من الأسباب وأما المعاد فأنكروا ما ورد به الأنبياء ولم يثبتوا الحشر والنشر للأجساد ولا الجنة والنار ولكن قالوا معنى المعاد عود كل شيء إلى أصله فالإنسان مركب من العالم الروحاني والجسماني أما الجسماني منه وهو الجسد فينحل ويعود كل خلط إلى طبيعته وأصله وذلك هو معاد الجسد وأما الروحاني وهو النفس فإنها إن صفيت بالمواظبة على العبادات وزكيت بمجانبة الشهوات وغذيت بغذاء العلوم والمعارف المتلقاة من الأئمة الهداة اتحدت عند مفارقة الجسم بالعالم الروحاني الذي منه انفصالها وتسعد بالعود إلى وطنها الأصلي ولذلك سمي رجوعا فقيل لها: ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً [الفجر: 28] وهي الجنة وإليه وقع الرمز في قصة آدم وكونه في الجنة ثم انفصاله عنها ونزوله إلى العالم السفلاني ثم عوده إليها بالآخرة. وأما النفوس المنكوسة المغمورة في عالم الطبيعة المعرضة عن رشدها من الأئمة المعصومين فإنها تبقى أبد الدهر في النار إلى معنى أنها تبقى في العالم الجسماني تتناسخها الأبدان فلا تزال تتعرض فيها للألم والأسقام فلا تفارق جسدا إلا ويتلقاها آخر ولذلك قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ [النساء: 56] فهذا مذهبهم في المعاد وهو بعينه مذهب الفلاسفة (1).ونقل البغدادي رسالة عبيد الله المهدي – أحد أئمة الإسماعيلية – إلى أحد أتباعه ودعاته ومما جاء في آخرها قوله: إن صاحبهم – أي الرسول محمد صلى الله عليه وسلم – حرم عليهم – أي على المسلمين – الطيبات وخوفهم بغائب لا يعقل وهو الإله الذي يزعمونه وأخبرهم بكون ما لا يرو أنه أبدا من البعث من القبور والحساب والجنة والنار حتى استعبدهم بذلك عاجلا وجعلهم له في حياته ولذريته بعد وفاته خولا واستباح بذلك أموالهم بقوله قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى: 23] فكان أمره معهم نقدا وأمرهم معه نسيئة وقد استعجل منهم بذل أرواحهم وأموالهم على انتظار موعود لا يكون وهل الجنة إلا هذه الدنيا ونعيمها؟ وهل النار وعذابها إلا ما فيه أصحاب الشرائع من التعب والنصب والصلاة والصيام والجهاد والحج (2).وعبر الشهرستاني عن مراد الإسماعيلية بالقيامة الكبرى بأنه كمال النفس وبلوغها إلى درجة العقل عن طريق الحركات الفلكية والسنن الشرعية وإذا وصلت النفس إلى مرتبة العقل فعلا فهذا إيذان بانحلال تراكيب الأفلاك والعناصر والمركبات وانشقاق السماء وتناثر الكواكب وتبدل الأرض ..   (1) انظر ((فضائح الباطنية)) للغزالي (ص: 44 - 46). (2) ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 281 – 282). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 95 إلخ وهناك يحاسب الخلق ويتميز الخير عن الشر والمطيع عن العاصي وتتصل جزئيات الحق بالنفس الكلي وجزئيات الباطل بالشيطان المضل المبطل فمن وقت الحركات إلى وقت السكون هو المبدأ ومن وقت السكون إلى ما نهاية له هو الكمال (1).ويقسم الإمام ابن تيمية المنكرين للمعاد فيقول إن طوائف من الكفار والمشركين ينكرون المعاد بالكلية فلا يقرون لا بمعاد الأرواح ولا الأجساد وأما المنافقون من هذه الأمة الذين لا يقرون بألفاظ القرآن والسنة المشهورة فإنهم يحرفون الكلام عن مواضعه ويقولون هذه أمثال ضربت لفهم المعاد الروحاني وهؤلاء مثل القرامطة الباطنية الذين قولهم مؤلف ممن ضاههم من كاتب أو متطبب أو متصوف كأصحاب سائل إخوان الصفا وغيرهم أو منافق هؤلاء كلهم كفار يجب قتلهم باتفاق أهل الإيمان فإن محمدا صلى الله عليه وسلم قد بين ذلك بيانا شافيا قاطعا للعذر وتواتر ذلك عند أمته خاصها وعامها وقد ناظره بعض اليهود في جنس هذه المسألة وقال يا محمد أنت تقول أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ومن يأكل ويشرب لا بدل له من خلاء فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((رشح كرشح المسك, ويجب على ولي الأمر قتل من أنكر ذلك ولو أظهر التصديق بألفاظه فكيف بمن ينكر الجميع (2) ........... ويشارك العلوي من سبقه في نقل مذهب الإسماعيلية عن القيامة وأحوال المعاد فيقول: إنهم اتفقوا من عند آخرهم على إنكار القيامة ولم يثبتوا الحشر والنشر وإعادة الأجساد ولا الجنة والنار على حد ما وردت به الشريعة ونطق به الأنبياء. وتأولوا القيامة وقالوا إنها إشارة إلى خروج الإمام وقيام قائم الزمان وهو السابع الناسخ للشرع المغير للأمر (3). وتحدث الملطي عن معتقدهم في الأخرويات بشيء من التفصيل والبيان فقال: إنهم زعموا أنه لا جنة ولا نار ولا بعث ولا نشور وأن من مات بلى جسده، ولحق روحه بالنور الذي تولد منه حتى يرجع كما كان. وزعموا أن كل ما ذكره الله عز وجل في كتابه من جنة ونار وحساب وميزان وعذاب ونعيم فإنما هو في الحياة الدنيا فقط من الأبدان الصحيحة والألوان الحسنة والطعوم اللذيذة والروائح الطيبة والأشياء المبهجة التي تنعم فيها النفوس والعذاب هو الأمراض والفقر والآلام والأنصاب وما تتأذى به النفوس وهذا عندهم الثواب والعقاب على الأعمال (4). إن هذه النصوص تعتبر صورة واضحة لمعتقد الإسماعيلية في القيامة والمعاد وسائر أمور الآخرة وهذه المصادر ملزمة لأنها مصادرهم ومؤلفاتهم مباشرة وتتأكد أكثر حينما نجد علماء المسلمين الكاشفين لأسرارهم يصلون إلى النتائج الثابتة في مصادر الإسماعيلية ومن خلال هذه النصوص مجتمعة نستخلص معتقدهم في هذا الفصل بالصورة التالية: أن معتقد الإسماعيلية في أمور الآخرة مبني على بعض أصولهم الإلحادية ومن هذه الأصول التي انطلقوا منها عن أمور الآخرة: أولا: القول بالظاهر والباطن حيث اعتبروا جميع ما ورد في القرآن وعلى لسان الرسول صلى الله عليه وسلم من الموت وعذاب القبر والجنة والنار كل هذه الأمور لها باطن غير المعروف والواضح لدى المسلمين.   (1) ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 194). (2) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/ 314 – 315). (3) ((الأنعام لأفئدة الباطنية الطغام)) (ص116). (4) ((التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع)) (ص20 - 21). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 96 ثانياً: القائم السابع حيث اعتبروا ظهوره إيذاناً بقيام القيامة وخراب الأفلاك وبدء الحساب والجزاء، ولتشبثهم بهذه الأصول التي لا أساس لها ولا بقاء ذهبوا مذهباً عجيباً وسلكوا مسلكاً فريداً فقالوا: إن المراد من البعث درجة معينة يصل إليها المستجيب ويكون مؤهلاً لأن تبعث له العلوم والمعارف وبذلك يصير في عالم آخر وذلك هو البعث الحقيقي. وأما الموت فإنهم اعتبروه انتقال التصور الموجود عند الإنسان فإن كان موافقاً لعقيدتهم انتقل هذا التصور إلى هياكل نورانية –كما يسمونها- وانضمت إلى العقول المدبرة لهذا الكون وهذا هو معاد أهل الباطن وإن كان مخالفاً لهم فإنه عند الموت لا تفارق نفسه جسمه. وإنما الذي يفارقه تصوره الفاسد –كما يزعمون-. ومن هذا السفه والعبث الذي لا نهاية له عند الإسماعيلية في ركن من أركان الإسلام العظيمة يتضح لنا أنهم لا يؤمنون ببعث ولا جزاء ولا عقاب، ولا معاد ولا يثبتون سوى الدنيا داراً ولذا أولوا جميع ما ورد في القرآن عن الآخرة فقالوا إن معنى القيامة قيام قائم الزمان فلا آخرة إذا ومعنى الجنة العلوم الجارية من قبل نطقائهم وأئمتهم والتي لا يحصل عليها إلا القليل حيث أن على هذه العلوم –الجنة- موكلاً لا يأذن لكل واحد في الدخول إليها. وأما النار فالمراد منها –عندهم- الشرائع التي يعمل المسلمون بها وصورة العذاب فيها هو مزاولتها واستعمالها وإجهاد البدن في تطبيقها حيث لا ثواب ولا عقاب. إن المتأمل وصاحب الفطرة السليمة يعتبر هذه التأويلات الباطنية رد صريح وواضح لنصوص الشريعة الإسلامية الغراء في ركن من أركان الإيمان ومن المجمع عليه بين المسلمين قاطبة أن من رد نصاً واحداً سواء من نصوص القرآن أو الأحاديث الثابتة الصحيحة فهو كافر لرده ما جاء عن الله وما جاء عن الرسول عليه الصلاة والسلام فكيف بمن رد نصوصاً كثيرة وذلك كنصوص البعث والمعاد والحساب والجنة والنار. المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – ص 629 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 97 المطلب الأول: التكاليف الشرعية صورة عملية تطبيقية لعقيدة المسلم تعتبر التكاليف الشرعية – من صلاة وزكاة وحج وصوم وجهاد – صورة عملية تطبيقية لعقيدة المسلم التي يدين بها ويعتقدها وذلك لأن الفكر والسلوك في حس المسلم مرتبط أحدهما بالآخر لا انفصال بينهما ومتى حدث شيء من ذلك فهو صورة من صور الانحراف عن الصراط المستقيم. كما أن التكاليف الشرعية أيضا تعتبر أركانا أساسية يقوم عليها هذا الدين فلا يصح إسلام إلا بتطبيقها والعمل بها جميعا ومن الأدلة الواضحة على ذلك ما ورد في حديث جبريل حينما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإسلام أجابه بقوله ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا)) (1). ومن هذين الاعتبارين يتضح لنا أن الاعتقاد بوجوب أداء التكاليف الشرعية جزء لا يتجزأ من عقيدة المسلم وأن الإخلال بهذه التكاليف – تركا أو تأويلا أو تكذيبا – يعتبر هدما لأركان هذا الدين وأسسه. المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 649   (1) رواه مسلم (8). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 98 المطلب الثاني: معتقدهم في التكاليف الشرعية من أبرز الفرق الغالية التي هدمت ركن التكاليف الشرعية فرقة الإسماعيلية وسائر الفرق الباطنية حيث نهجوا منهجا غريبا في بيان حقيقتها وحكمها فأسقطوها واعتبروا مزاولتها من جنس العذاب والعقاب ولذا فإن معتقدهم عن التكاليف الشرعية مبني على أمرين ... الأمر الأول: القول بالظاهر والباطن فما من نص ورد عن الصلاة أو الزكاة أو الصوم أو الحج أو الجهاد إلا وجعلوا له معنيين المعنى الظاهر وهو ما فهمه المسلمون والمعنى الباطن وهو ما اكتشفوه واعتبروه من خواص أئمتهم. الأمر الثاني: معتقدهم عن البعث والجزاء والثواب والعقاب حيث اعتبروا مزاولة الأعمال الشرعية التكليفية عقابا وعذابا لمخالفيهم وبالمقابل فإن أتباعهم المؤمنين بدعوتهم وصلوا – بزعمهم – إلى مرتبة تحط عنهم فيها جميع التكاليف والأعمال البدنية وهذا هو خلاصة معنى الثواب والجزاء الذي يؤمنون به ومما يدل على هذين الأمرين وأنهما الأصل الحقيقي لمعتقدهم عن الشرائع الإسلامية ما نقل عنهم من تأويلات باطنية لهذه الشرائع ومعتقدات خاصة في أحكامها أما الأمر الأول فقد ألفت فيه موسوعة كبيرة تعتبر أصلا وأساسا لتأويلاتهم للتكاليف الشرعية ألفها قاضيهم المشهور بابن حيون الإسماعيلي قاضي المعز واسم هذه الموسوعة دعائم الإسلام وتقع في مجلدين وتعتبر القسم الأول أما القسم الثاني فاسمها تأويل الدعائم وتقع في ثلاثة مجلدات ولو تتبعنا ما فيها من تأويلات باطنية لشرائع الإسلام الأساسية لوجدنا هذه الموسوعة تفيض بالباطل في تأصيل التأويلات الباطنية في مذهب الإسماعيلية فالصلاة قال عنها في التأويل أن مثلها مثل الدعوة – ويقصد بذلك دعوة الإسماعيلية – والمؤذن الذي ينادي للصلاة هو الداعي الذي يدعو إلى باطن الدعوة وظاهر الصلاة إتمام ركوعها وسجودها وفروضها ومسنونها وباطنها إقامة دعوة الحق في كل عصر ويقول إن مثل الصلوات الخمس في عددها مثل الدعوات الخمس لأولي العزم من الرسل الذين صبروا على ما أمروا به ودعوا إليه وكل صلاة منها مثل لدعوة كل واحد من أولي العزم الخمسة وصلاة الظهر مثل لدعوة نوح والعصر مثل لدعوة إبراهيم والمغرب مثل لدعوة موسى والعشاء الآخرة مثل لدعوة عيسى والفجر وهي الصلاة الخامسة مثل للدعوة الخامسة – وهي دعوة خامس أولي العزم من الرسل محمد صلى الله عليه وسلم (1).وأما الزكاة فقال في تأويلها أن المراد منها الظاهري إخراج ما يجب على الأغنياء في أموالهم ودفع ذلك إلى الأئمة الذين تعبد الله عز وجل الناس بدفع ذلك إليهم وأما في الباطن فمثلها مثل الأسس والحجج الذين يطهرون الناس ويصلحون أحوالهم وينقلونهم في درجات الفضل بما يوجبه أعمالهم يكون على هذا قوله: لا صلاة إلا بزكاة يعني أنه لا تقوم الدعوة إلا بمعرفة الأسس الذين هم أوصياء النبيين والحجج الذين هم أوصياء الأئمة وحينما تحدث عن وضع الزكاة في غير موضعها قال وتأويل ذلك في الباطن أن طهارة أهل كل عصر وزمان إنما يكون عند إمام زمانهم أو عند من أقامهم ونصبهم لطهارتهم فما كان من أعمالهم التي توجب الطهارة لهم لم يجزهم دفعها إلا إلى من يلي طهارتهم وتزكيتهم (2). وأما الصوم فإن له معنيين أيضا: المعنى الظاهر هو المتعارف عند عامة الناس بالإمساك عن الطعام والشراب والجماع وما يجري مجرى ذلك. وأما المعنى الباطن للصوم فهو كتمان علم باطن الشريعة من أهل الظاهر والإمساك من المفاتحة به ممن لم يؤذن له في ذلك.   (1) ((تأويل الدعائم)) للقاضي ابن حيون (1/ 177 - 179). (2) ((تأويل الدعائم)) للقاضي ابن حيون (3/ 58 - 67). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 99 ومما قالوا: إن مثل أيام شهر رمضان التي أمر الله عز وجل بصومها ما يقابلها من عشرة أئمة وعشرة حجج وعشرة أبواب وذلك في التأويل كتمان أمرهم وما يلقونه من التأويل إلى عاملوه إلى أن يأذنوا في ذلك لمن يرونه. وحينما تحدث النعمان بن حيون عن مفسدات الصوم وكفارة ذلك ذكر قصة الرجل الذي باشر أهله في رمضان وقال مؤولا لها أن تأويل ذلك في الباطن هو مفاتحة من لا يجوز مفاتحته في تأويل الباطن وعن كفارة ذلك فإن كان المفاتح بذلك يقدر على أن يؤدي عن مؤمن فكاك رقبته من أن يستحق ذلك وأد يعنه فكه فإن لم يجد ذلك كان عليه الرجوع بالتوبة إلى مفيده وبابه وإن لم يفاتح أحدا. ومعنى صيام شهرين متتابعين الكتمان على الأصلين ومن التأويلات الباطنية في هذا الباب قوله إن المعنى الباطني لتقبيل الرجل زوجته أو مباشرتها في نهار رمضان أن يفاتح المفاتح من لا تجب له المفاتحة بمعاريض من الكلام الذي يكون سببا وداعية إلى كشف الباطن وبيان التأويل وينبغي له أن يتنزه عن ذلك كما يخاف عليه ألا يكون ضابطا لنفسه من أن يبدي ذلك أو يدل عليه بشيء يفهم عنه من يفاتحه به ذلك من أجل دلالته. وقال إن الأيام أمثالها في الباطن أمثال والليالي أمثالها أمثال الحجج وكما أنه ليلة القدر مثل حجة خاتم الأئمة وحجته يقوم قبله لينذر الناس بقيامه ويبشرهم به ويحضهم على الأعمال الصالحة قبل ظهوره واغتنام ذلك لأنه إذا قام وانقطع العمل ولم يقبل ولم ينفع وتأول آيات القرآن الواردة في ليلة القدر بناء على هذا المعنى فقال في معنى قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] بأن هناك يعني خاتم الأئمة وذلك بقيام آخر دعوة لحجته وقوله لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر: 3] بأن حجة خاتم الأئمة خير من ألف نقيب ولو قاموا في الأرض ولم يقوموا مقامه وقال في تأويل معنى قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:3 - 4] بأن المراد بذلك حجته خاتم الأئمة الذي يفترق الحكمة في الأرض وعند ذلك تشمل جميع أهل الأرض البركة ويجمع الله عز وجل لهم جميع أهل الأديان ويكون الدين كله لله ويؤمن جميع الناس (1). وعن الركن الخامس من أركان الإسلام وهو الحج قال قاضي الإسماعيلية: إن للحج ظاهرا وباطنا فظاهره الإتيان للبيت العتيق لقضاء المناسك عنده وتعظيمه وباطنه الذي جعل الظاهر دليلا عليه إتيان إمام الزمان من نبي وإمام لأن إمام الزمان مثله في الباطن مثل البيت الحرام. المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 649   (1) ((تأويل الدعائم)) لابن حيون (3/ 107 – 125). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 100 المطلب الثالث: أقوال علماء الفرق عن معتقد الإسماعيلية في التكاليف الشرعية يقول الملطي: إن القرامطة – وهم فرقة من الفرق الإسماعيلية – يزعمون أن الصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر الفرائض نافلة لا فرض وإنما هو شكر للمنعم وأن الرب لا يحتاج إلى عبادة خلقه وإنما ذلك شكرهم فمن شاء فعل ومن شاء لم يفعل والاختيار في ذلك إليهم (1).ويقول البغدادي: إنهم تأولوا لكل ركن من أركان الشريعة تأويلا يورث تضليلا فزعموا أن معنى الصلاة موالاة إمامهم والحج زيارته وإدمان خدمته والمراد بالصوم الإمساك عن إفشاء سر الإمام واستدل البغدادي على إسقاط التكاليف الشرعية عندهم بالرسالة المتبادلة بين إمام الإسماعيلية (عبيد الله المهدي) وبين أحد دعاتهم ومما جاء في هذه الرسالة قوله وله الجنة إلا هذه الدنيا ونعيمها وهل النار وعذابها إلا ما فيه أصحاب الشرائع من التعب والنصب في الصلاة والجهاد والحج (2) ويقول الحمادي اليماني: وهو ممن دخل مذهبهم واطلع على أسرارهم – أنهم في أول الدعوة يلبسون على المدعو فيحضونه على شرائع الإسلام لكنهم يخدعونه عن مواضعه وأقوال مزخرفة ويتلون عليه القرآن على غير وجهه ويحرفون الكلم عن مواضعه فإذا رأوا منه قبولا وانقيادا قالوا له لا تقنع لنفسك بما قنع العوام من الظواهر وتدبر القرآن ورموزه واعرف مثله وممثوله واعرف معاني الصلاة الطهارة والزكاة والصوم والحج فإن لهذه منقولات محجوبة وهو باطنها فالصلاة صلاتان والزكاة زكاتان وكذلك الحج والصوم وما خلق الله سبحانه من ظاهر إلا وله باطن فالظاهر ما تساوي به الناس وعرفه الخاص والعام وأما الباطن فقصر علم الناس عن العلم به فلا يعرفه إلا القليل فلا يزال الداعي ينقل مدعوه من درجة إلى أخرى حتى يحط عنه جميع التكاليف الشرعية ويقع ذلك من المستجيب موقع الاتفاق والموافقة؛ لأنه مذهب الراحة والإباحة يريحهم مما تلزمهم الشرائع من طاعة الله ويبيح لهم ما حظر عليهم من محارم الله (3). ويوضح الإمام الغزالي أن معتقدهم في التكاليف الشرعية الإباحة المطلقة ورفع الحجاب واستباحة المحظورات واستحلالها وإنكار الشرائع ويقول أنهم صنفوا الخلق وفق هذا المعتقد إلى صنفين. الصنف الأول: المستجيبون لدعوتهم وهؤلاء في نظرهم أحاطوا من جهة الإمام بحقائق الأمور واطلعوا على بواطن الظواهر حتى وصلوا إلى رتبة الكمال في العلوم وعندئذ تنحط عنهم التكاليف العملية وتنحل عنهم قيودها لأن المقصود من أعمال الجوارح تنبيه القلب لينهض لطلب العلم فإذا ناله استعد للسعادة القصوى وسقط عنه تكاليف الجوارح. الصنف الثاني: الجهال والأغبياء – أي المسلمون في زعمهم – الذين يجهلون بواطن الأمور وتأويلاتها فهؤلاء لا يمكن رياضة نفوسهم إلا بالأعمال الشاقة ولذا يكلفون بتأدية العبادات وأعمال الجوارح عقوبة ونكالا لهم. ويضيف الغزالي إلى أن هذا فن من الإغواء شديد على الأذكياء والغرض منه هدم قوانين الشريعة (4).وللعلامة ابن تيمية رحمه الله عدة إشارات إلى هذا المعتقد لدى الإسماعيلية المتمثل في إسقاط التكاليف الشرعية ومما قاله في ذلك أنهم اعتبروا الشرائع المأمور بها والمحظورات المنهي عنها من الأمور المنفية وأن لها تأويلات باطنية تخالف ما يعرفه المسلمون منها فالصلوات الخمس معرفة أسرارها وصيام رمضان كتمانها وحج البيت السفر إلى شيوخهم (5). ونقل عن بعض رؤساء الباطنية أنه قال لأتباعه: قد أسقطنا عنكم العبادات فلا صوم ولا صلاة ولا حج ولا زكاة (6). ويقول في موضع آخر أن الإسماعيلية خرجوا من التكليف بدعوى كمال التحقيق حيث يقول أحدهم إن العبد يعمل حتى تحصل له المعرفة وعندئذ يصل إلى الغاية وتسقط عنه العبادات التي تجب على العامة كالصلوات الخمس وصيام رمضان وحج البيت وتحل له المحرمات التي لا تحل لغيره. وينقل بعد ذلك اتفاق أئمة الإسلام على كفر من اعتقد هذا أو قاله لأن الأمر والنهي قائم على كل بالغ عاقل إلى أن يموت لقوله وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99] والمراد باليقين هنا هو ما بعد الموت لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن عثمان بن مظعون: ((أما عثمان فإنه أتاه اليقين من ربه)) (7). المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 661   (1) ((كتاب التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع)) لأبي حسين الملطي (ص: 20). (2) ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص/ 280 – 282). (3) ((كشف أسرار الباطنية)) للحمادي (ص: 11 - 12). (4) انظر ((فضائح الباطنية)) للغزالي (ص: 46 - 47). (5) ((مجموع الفتاوى)) ابن تيمية (ص: 292). (6) ((مجموع الفتاوى)) ابن تيمية (5/ 552). (7) انظر ((مجموع الفتاوى)) ابن تيمية (11/ 539 – 540) (4/ 163) والحديث رواه البخاري (2687) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 101 المطلب الرابع: هدف الإسماعيلية من تأويل التكاليف ونقدهم كشف علماء المسلمين منطلق الإسماعيلية وهدفهم من تأويلاتهم الباطنية ومما نقل عنهم في ذلك نصوص كثيرة نقتصر على نماذج منها: يقول الشاطبي: إن جميع التأويلات الباطنية – بما فيها التكاليف – يقصد من ورائها إبطال الشريعة جملة وتفصيلا وإلقاء ذلك بين الناس لينحل الدين في أيديهم (1). ويقول البغدادي: أن غرض الباطنية الدعوة إلى دين المجوس بالتأويلات التي يتأولون عليها القرآن والسنة. ويعبر ابن تيمية عن هدفهم من التأويل مع بيان خطورته واستغلال الفرق له بقوله: إن التأويل الفاسد في السمعيات صار دهليزا للزنادقة الملحدين وذلك كفرق الباطنية من القرامطة والإسماعيلية وغيرهم الذين انتهى بهم الأمر إلى إبطال الشرائع المعلومة كلها (2).وهنا لا بد من الإشارة إلى أن تأويلاتهم للتكاليف الشرعية ساقطة وسخيفة لخروجها عن مألوف الألفاظ ودلالات المعاني التي نزل بها القرآن الكريم وجاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم حسب قواعد وأصول اللغة العربية كما أن هذه التأويلات تخالف الأصول الإسلامية والأدلة الشرعية التي أمرت بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج والجهاد إقامة عملية محسوسة وليست كما زعم الإسماعيلية إشارات ورموز إلى أمور معنوية ومما له مدلول لأن الاستجابة لهذه العبادات ومزاولتها عمليا دلالة على إسلام المسلم ودخوله في دين الله عز وجل ومن ثم عصمة ماله ودمه كمال قال تعالى فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ [التوبة: 5] وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)) رواه البخاري ومسلم (3).ولذا يقول ابن تيمية إن هذه التأويلات الباطنية مما علم بالاضطرار أنها كذب وافتراء على الرسل صلوات الله عليهم وتحريف لكلام الله ورسوله عن مواضعه وإلحاد في آيات الله (4).ويقول في موضع آخر أن وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الفواحش والخمر هذه الأمور مسائل عملية والمنكر لها يكفر بالاتفاق (5).كما يقول الديلمي: والعجب من عاقل نشأ في دار الإسلام وعرف أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وشدة اجتهاده في عبادة الله تعالى من الصلاة والصوم وغير ذلك فإنه صلى حتى تورمت قدماه ثم ينخدع بكلام هؤلاء الجهلة القائلين بأن هذه العبادات لها تأويلات وبواطن وهي المقصود في الحقيقة (6).ولغرابة تأويلات الإسماعيلية وإمعانها في الغلو المخرج من الملة فإنه حتى المستشرقين الكفرة المشهورين بحقدهم على الإسلام عابوا وانتقدوا هذا المنطلق عند الشيعة واعتبروه من أخطر المبادئ والتي عملت لهدم الشريعة الإسلامية ومن ذلك وعلى سبيل المثال ما قاله المستشرق اليهودي جولد تسيهر أن آيات الكتاب سهلة يسيرة ولكنها على سهولتها تخفي وراء ظاهرها معنى خفيا مستترا ويتصل بهذا المعنى الخفي معنى ثالث يحير ذوي الأفهام الثاقبة ويعييها والمعنى الرابع ما من أحد يحيط به سوى الله واسع الكفاية من لا شبيه له وهكذا نصل إلى معان سبعة الواحد تلو الآخر ففي كل مرحلة أو درجة أعلى من سابقتها يصبح المعنى الباطني والرمزي المتعلق بالمرحلة السابقة أساسا للقيام بتأويلات أخرى أعظم دقة والتواء إلى أن تبخر تبخرا تاما موضوع التفسير الإسلامي الذي كان الأساس الأول منذ البداية (7). المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 661   (1) انظر ((الاعتصام)) للشاطبي (1/ 252). (2) ((مجموع الفتاوى) ابن تيمية (5/ 252). (3) رواه البخاري (25) ومسلم (20). (4) ((مجموع الفتاوى)) ابن تيمية (3/ 30). (5) ((المسائل الماردينية)) ابن تيمية (ص: 67). (6) ((بيان مذهب الباطنية وبطلانه)) للديلمي (ص: 61). (7) ((العقيدة والشريعة)) لجولد تسهير (ص: 243). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 102 المبحث الثالث عشر: حكم الإسلام في طائفة الإسماعيلية إن الحكم على طائفة الإسماعيلية هل هي فرقة من الفرق الإسلامية أو هي فرقة من الفرق الخارجية عن الإسلام مبني على أمرين هامين: أولهما: النظر والتأمل في معتقدات القوم وتصوراتهم ومن ثم سلوكهم وواقعهم وهذا الأمر من الوضوح بمكان حيث أنه ما من فصل من فصول البحث – ولا سيما الباب الخاص بأصول الإسماعيلية ومعتقداتها – إلا وفيه الحكم البين الواضح الدال على كفرهم وردتهم وخروجهم من الإسلام جملة وتفصيلا وهذا الحكم نستطيع أن نقول بسهولة أنهم هم الذين قرروه على أنفسهم فمعتقدهم بالله مبني على تعدد الآلهة حيث أناطوا خلق الخلق وإدارة الكون وتدبير أمر العالم علويه وسفليه على العقلين الأول أو الثاني أو السابق والتالي مع الإلحاد في أسماء الله وصفاته بجحدها ونفيها عن الله بالكلية وفي باب النبوات اعتبروا النبوة رتبة من مراتب دعوتهم يتمكن المستجيب لهذه الدعوة من الوصول إليها ومن جراء ذلك أصبحت النبوة مقاما يحق إدعاءه لسائر الخلق. كما أنهم لم يؤمنوا بختم النبوة وانقطاع الوحي مع إنكارهم لمعجزات الرسل والأنبياء وزعمهم بأفضلية الولاية والوصاية على النبوة والرسالة وأي واحد من هذه المزاعم كفر مخرج من الملة الإسلامية فكيف بها وقد اجتمعت عندهم. وفي باب الأخرويات يبطلون الاعتقاد بالقيامة والمعاد على الوجه المتفق عليه بين علماء الملة الإسلامية حيث يعتقد بأن القيامة هي قيام قائمهم وأن الثواب والعقاب إنما هو في الدنيا ومما لا شك فيه أن من أنكر أو أول معتقدا وركنا أساسيا من أركان الإيمان أنه يعتبر كافرا ومرتدا. وفي باب الأعمال التكليفية الشرعية نجد أنهم قد أسقطوا هذه الأعمال وأولوها حتى انتهى بهم الأمر إلى تركها وإهمالها بل أنهم أولوا مزاولتها على أنها صورة من صور العذاب ومن اعتقد ذلك أو عمله فلا شك بكفره وردته لمعارضة ذلك لأدلة الشرعية الموجبة أداء الصلاة والزكاة والصوم والحج فمن لم يقم بها ويؤيدها فإنه قد أخل بأركان الإسلام وقواعده ومن ثم لا يعتبر مسلما فكيف بمن لم يقم بها مع اعتقاده خلافها والدعوة إلى تركها لا شك أن كفره أغلظ من الجنس الأول وهذا هو حال الإسماعيلية كما رسم ذلك دعاتهم وسطره علماؤهم. والخلاصة في هذا الأمر أن معتقدهم في أمر واحد من هذه الجوانب الأربعة كاف في الحكم عليهم بأنهم فرقة خارجة عن الفرق الإسلامية جملة وتفصيلا وأن نسبتهم إلى الإسلام تعتبر مخالفة للأدلة ومغالطة للواقع الذي عاشوه والمنهج الذي رسموه - إذا كان ذلك في أمر واحد فقط فكيف بهذه الأمور الأربعة وقد اجتمعت بهم نعوذ بالله من الكفر المغلظ ونعوذ بالله من عاقبة ومصير أصحابه دنيا وأخرى قال تعالى إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء: 145] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 103 الأمر الثاني: بين علماؤنا من أهل السنة والجماعة حقائق طائفة الإسماعيلية وأهدافها ومعتقداتها ومن ثم استخلصوا الحكم عليها بناء على الأدلة الشرعية وبناء على واقع الإسماعيلية حتى غدت وأصبحت -ولله الحمد – صورتهم واضحة ومنطلقاتهم معلومة وهذه هي نصوص العلماء: يقول الإمام الغزالي – وهو من مشاهير أهل العلم الذين خبروهم وعرفوا أسرارهم – أن مذهب الباطنية – والإسماعيلية فرقة منها – مذهب ظاهره الرفض وباطنه الكفر المحض ثم يضيف إلى أنهم يوافقون اليهود والنصارى والمجوس على جملة معتقداتهم ويقرونهم عليها (1).ونقل المحبي في (خلاصة الأثر) ما يلي: وأما القول فيهم – الباطنية – من جهة الاعتقاد منهم والنصيرية والإسماعيلية على حد سواء والجميع زنادقة وملاحدة ثم نقل عن كثير من كبار أهل العلم في المذاهب نص قولهم إن كفر هذه الطوائف مما اتفق عليه المسلمون وأن من شك في كفرهم بعد العلم بحالهم فهو كافر مثلهم وأنهم أكفر من اليهود والنصارى (2). وحينما تحدث البغدادي في الباب الرابع من كتابه (الفرق بين الفرق) وضع عنوانا لهذا الباب قائلا: بيان الفرق التي انتسبت إلى الإسلام وليست منه ثم ذكر من هذه الفرق الباطنية وقال إن ضررها على فرق المسلمين أعظم من ضرر اليهود والنصارى والمجوس بل أعظم مضرة من الدهرية وسائر أصناف الكفرة عليهم بل أعظم من ضرر الدجال الذي يظهر في آخر الزمان لأن الذين ضلوا لا عن الدين بدعوة الباطنية من وقت ظهور دعوتهم إلى يومنا أكثر من الذين يضلون بالدجال في وقت ظهوره لأن فتنة الدجال لا تزيد مدتها على أربعين يوما وفضائح الباطنية أكثر من عدد الرمل والقطر ... إلى أن قال: الذي يصح عندي من دين الباطنية أنهم دهرية زنادقة يقولون بقدم العالم وينكرون الرسل والشرائع كلها لميلها إلى استباحة كل ما يميل إليه الطبع ثم ذكر أدلة كثيرة نقلها من رسائلهم وكتبهم تدل على أنهم دهرية مجوس زنادقة. وفي آخر الباب قال وقد بينا خروج فرق الباطنية والإسماعيلية كبرى فرقهم عن جميع فرق الإسلام بما فيه كفاية والحمد لله على ذلك (3).   (1) ((فضائح الباطنية)) للغزالي (ص: 37). (2) ((مقدمة كشف أسرار الباطنية)) للكوثري (ص: 9). (3) انظر ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 220 – 265 – 266 - 278 - 299). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 104 وفي كتابه (أصول الدين) ذكر أن طائفة الباطنية خارجة عن فرق الأهواء وداخلة في فرق الكفر الصريح لأنها لم تتمسك بشيء من أحكام الإسلام في أصوله ولا في فروعه وأن دعاتهم خالفوا المسلمين في التوحيد والنبوات وفي تأويل الآثار والآيات وأنهم كانوا دعاة المجوس بالتمويه إلى دين الثنوية. وبعد أن يستعرض عقائدهم يقول: واختلف أصحابنا في حكمهم فمنهم من قال هم مجوس وأجاز أخذ الجزية منهم وحرم ذبائحهم ونكاحهم ومنهم من قال حكمهم حكم المرتدين إن تابوا وإلا قتلوا وهذا هو الصحيح عندنا ثم ساق البغدادي بعد ذلك فتوى الإمام مالك في الباطني والزنديق قال عنهما إن جاءا تائبين ابتداء قبلنا التوبة منهما وإن أظهرا التوبة بعد العثور عليهما لم تقبل التوبة منهما وأن هذا هو الأحوط فيهم (1).وتحدث ابن حزم عن دار الإسلام ودار الحرب واعتبر أن الأراضي التي حكمها بعض الفرق الباطنية تعتبر دار كفر وذلك لصريح كفرهم وذلك كالقرامطة مثلا وهم من فرق الإسماعيلية وأما ديار العبيديين لظهور الإسلام فيها فإنها وإن حكمها العبيديون تعتبر دار إسلام وإن كان حكامها في حقيقة أمرهم كفارا يقول ابن حزم عن ذلك إن من سكن في طاعة أهل الكفر من الغالية كالعبيديين ومن جرى مجراهم لا يعتبر كافرا لأن أرض مصر والقيروان وغيرهما الإسلام فيها هو الظاهر وولائهم على كل ذلك لا يجاهرون بالبراءة من الإسلام بل إلى الإسلام ينتمون وإن كانوا في حقيقة أمرهم كفارا وأما من سكن في أرض القرامطة مختارا فكافر بلا شك لأنهم معلنون بالكفر وترك الإسلام (2).وفي موضع آخر يقول عن الإسماعيلية أنها طائفة مجاهرة بترك الإسلام جملة وقائلة بالمجوسية المحضة (3). فابن حزم يجزم بكفر القرامطة والعبيديين وهما من الإسماعيلية حيث الأولى فرقة من فرقهم وأما العبيديون فإنهم أئمة الإسماعيلية في فترة الظهور وعددهم اثنا عشر حاكما. ويفصل الديلمي حكمه على طائفة الباطنية وفرقها فيقول إن الذي يدل على كفر الباطنيين وجوه كثيرة وذكر منها عشرين وجها ثم قال إن دلائل كفرهم مترتبة على أمور ثلاثة اعتقادات وأقوال وأفعال ومتى حصل واحد منها كفى في كون مرتكبه كافرا وإن اجتمعت فأجدر أن يكون كافرا فالباطنية على هذا من أكفر الكفار لاجتماع هذه الأمور الثلاثة (4).ويصف الشاطبي الباطنية بأنهم ثنوية دهرية إباحية ينكرون النبوة والشرائع وأمور المعاد بل إنهم ينكرون الربويبة (5). ومن أهم الأحكام في هذا الباب ما نقل عن ابن تيمية رحمه الله من الفتوى المشهورة في موسوعة مجموع الفتاوى حيث سئل عن الفرق الباطنية ما حكم الإسلام فيها وما حكم التعامل مع هذه الطوائف فأجاب إجابة طويلة نقتصر منها على ما يتعلق بالإسماعيلية.   (1) ((أصول الدين)) للبغدادي (ص: 329 – 331). (2) ((كتاب المحلى)) لابن حزم (13/ 139). (3) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) لابن حزم (2/ 116). (4) ((بيان مذهب الباطنية وبطلانه)) للديلمي (ص: 71). (5) ((الاعتصام)) للشاطبي (1/ 253). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 105 يقول إن جمهور المصنفين من المتقدمين والمتأخرين ذكروا بطلان نسبهم حتى صنف العلماء في كشف أسرارهم وهتك أستارهم ومن ذلك القاضي أبو بكر الباقلاني ألف كتابه المشهور في كشف أسرارهم وهتك أستارهم وذكر أنهم من ذرية المجوس وذكر من مذاهبهم ما بين فيه أن مذاهبهم شر من مذاهب اليهود والنصارى بل ومن مذاهب الغالية الذين يدعون إلوهية على أو نبوته فهم أكفر من هؤلاء وكذلك القاضي أبو يعلى في كتابه (المعتمد) ذكر فصلا طويلا في شرح زندقتهم وكفرهم وكذلك أبو حامد الغزالي ذكر في كتابه الذي سماه (فضائل المستظهرية وفضائح الباطنية) بأن ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر الحض وكذلك القاضي عبد الجبار بن أحمد وأمثاله من المعتزلة المتشيعة يجعلون هؤلاء – أي الإسماعيلية – من أكابر المنافقين الزنادقة فهذه مقالة المعتزلة في حقهم فكيف تكون مقالة أهل السنة والجماعة والرافضة الإمامية – مع أنهم من أجهل الخلق وأنهم ليس لهم عقل ولا نقل ولا دين صحيح ولا دنيا متصورة – يعلمون أن مقالة هؤلاء مقالة الزنادقة المنافقين ويعلمون أن مقالة هؤلاء الباطنية شر من مقالة الغالية الذين يعتقدون إلوهية علي رضي الله عنه .... ثم يضيف قائلا: إن علماء الأمة المأمونون علما ودينا يقدحون في نسبهم ودينهم لا يذمونهم بالرفض والتشيع فإن لهم في هذا شركاء كثيرين بل يجعلونهم من القرامطة الباطنية الذين منهم الإسماعيلية والنصيرية ومن جنسهم الخرمية المحمرة وأمثالهم من الكفار المنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر ولا ريب أن اتباع هؤلاء باطل وقد وصف العلماء أئمة هذا القول بأنهم الذين ابتدعوه ووضعوه وذكروا ما بنوا عليه مذاهبهم وأنهم أخذوا بعض قول المجوس وبعض قول الفلاسفة فوضعوا لهم السابق والتالي والأساس والحجج والدعاوى وأمثال ذلك من المراتب التي آخرها البلاغ الأكبر والناموس الأعظم وإذا كان كذلك فمن شهد لهم بصحة نسب أو إيمان فأقل ما في شهادته أنه شاهد بلا علم قاف ما ليس له به علم وذلك حرام باتفاق الأمة بل ما ظهر عنهم من الزندقة والنفاق ومعاداة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم دليل على بطلان نسبهم الفاطمي ... ثم يقول إن هؤلاء أكفر من اليهود والنصارى وأن ما نقل عنهم وفي رسائلهم الخاصة مخالفة للملل الثلاث دين الإسلام ودين النصارى ودين اليهود فهؤلاء خارجون عن الملل الثلاث. وبالجملة فعلم الباطن الذي يدعون مضمونه الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر بل هو جامع لكل كفر لكنهم فيه على درجات فليسوا مستوين في الكفر إذ هو عندهم سبع طبقات كل طبقة يخاطبون بها طوائف من الناس بحسب بعدهم من الدين وقربهم منه ... ثم يبين ابن تيمية رحمه الله آثار كفرهم في البلاد التي حكموها بقوله: ولأجل ما كان أئمة الإسماعيلية عليه من الزندقة والبدعة بقيت البلاد المصرية مدة دولتهم حوالي مائتي سنة قد انطفأ نور الإسلام والإيمان حتى قامت فيها العلماء: إنها كانت دار ردة ونفاق كدار مسيلمة الكذاب (1).   (1) ((مجموع الفتاوى)) ابن تيمية (35/ 129 – 133 – 134 – 135 – 139). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 106 وفي موضع آخر بعد أن ذكر ألقابهم وأسمائهم ومنها الإسماعيلية والباطنية قال: إن شرح مقاصدهم يطول وهم كما قال العلماء فيهم: ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض وحقيقة أمرهم أنهم لا يؤمنون بنبي من الأنبياء والمرسلين لا بنوح ولا إبراهيم ولا موسى ولا عيسى ولا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين. كما أنهم لا يؤمنون بشرع من الكتب المنزلة من الله عز وجل لا التوراة ولا الإنجيل ولا القرآن ولا يقرون بأن للعالم خالقا خلقه ولا بأن له دينا أمر به ولا أن له دارا يجزي الناس فيها على أعمالهم غير هذه الدار وهؤلاء اتفق علماء المسلمين على أنه لا تجوز مناكحتهم ولا تباح ذبائحهم وأوانيهم وملابسهم كأواني المجوس وملابس المجوس. ولا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين ولا يصلى على من مات منهم كما قال تعالى عن المنافقين وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة: 84] فكيف بهؤلاء الباطنية فهم مع زندقتهم ونفاقهم يظهرون الكفر والإلحاد (1).ومن علماء أهل السنة والجماعة الذين بينوا حال الإسماعيلية وحكموا عليها الإمام ابن القيم رحمه الله يقول: "ومن أشر طوائف المجوس الذين لا يقرون بصانع ولا معاد ولا نبوة ولا حلال ولا حرام الخرمية أصحاب بابك الخرمي وعلى مذهبهم طوائف القرامطة والإسماعيلية والنصيرية والدرزية وسائر العبيدية الذين يسمون أنفسهم الفاطمية وهم من أكفر الكفار فكل هؤلاء يجمعهم هذا المذهب ويتفاوتون في التفصيل فالمجوس شيوخ هؤلاء كلهم وأئمتهم وقدوتهم وإن كان المجوس قد يتقيدون بأصل دينهم وشرائعهم وهؤلاء لا يتقيدون بدين من ديانات العالم ولا بشريعة من الشرائع (2). ويقول الكوفي – وهو ممن عاصرهم – إن دعوة الإسماعيلية في الكوفة ترجع إلى مذاهب الثنوية وتهدف إلى تحقيق مذاهب المجوسية في مواضع أخر ويحوم حولها أمور مختلطة من نحل كثيرة. ثم يذكر الكوفي عن رجل اسمه أبو عبدالله بن إسماعيل دخل دعوة الباطنية ثم خرج منها تائبا بعد أن عرف أسرارها يقول هذا الرجل أشهد على أن القصد بمبتدأ هذه الدعوة لم يكن للتشكيك في الإسلام ونقل المملكة عن العرب خاصة وإنما كان القصد فيه إثبات دين المجوسية من بين سائر الأديان المختلطة. وفي موضع آخر يقول إن غرضهم من دعوته هو الخلع من الإسلام والشرائع المعروفة وديانات الرسل المشهورة (3).ويذكر العراقي أنه بدعوتهم إلى ترك العمل بالظاهر ودعوتهم إلى القول بالباطل إنما يقرعون باب الفتنة والفساد ويؤيدون الكفر والإلحاد ثم يضيف إلى أنه لا يوجد طائفة من الكفرة أخبث ولا أكثر فسادا منهم ثم يقول إن غرضهم تعطيل الرسل وإبطال الحكم بالظاهر والمدعو لديهم يتدرج في دعوتهم حتى يصل إلى النهاية التي إذا بلغها انسلخ من الإسلام ودخل في الكفر (4).وينقل الديلمي في موضع غير ما تقدم الإجماع على كفرهم يقول إن الأمة قد أجمعت على كفرهم فلا ترى أحدا اليوم من علماء المسلمين من المشرق إلى المغرب أنه يتوقف في كفرهم ولا شك أن الإجماع من آكد الدلائل النقلية (5).ونقل الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إجماع أهل العلم على كفر أئمة الإسماعيلية (العبيديين) وقال إن بني عبيدة لما أظهروا الشرك ومخالفة الشريعة وظهر منهم ما يدل على نفاقهم وشدة كفرهم أجمع أهل العلم على أنهم كفار يجب قتالهم وأن دارهم دار حرب ولذلك غزاهم المسلمون واستنقذوا ما بأيدهم من بلدان المسلمين (6). هذه هي نماذج من أقوال أهل العلم قديما وحديثا وحكمهم الواحد في هذه الطائفة الباطنية (الإسماعيلية) وأنها من الفرق المنتسبة للإسلام انتسابا فهي خارجة عن الفرق الإسلامية بل خارجة حتى عن الاثنين والسبعين فرقة الهالكة كما ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 663   (1) ((مجموع الفتاوى)) ابن تيمية (ص: 152 – 154 – 155). (2) ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/ 247 – 249). (3) انظر ((الرد على الإسماعيلية القرامطة)) في المواضع التالية (ص: 33 – 35 – 173). (4) انظر ((الفرق المفترقة بين أهل الزيغ والزندقة)) لعثمان العراقي (ص: 104 – 105 – 108 – 114). (5) ((بيان مذهب الباطنية وبطلانه)) للديلمي (ص: 99). (6) نص هذه الفتوى في كتاب ((مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم)) لمحمد بن عبدالوهاب (ص: 33) وفي ((كتاب مجموعة التوحيد النجدية)) (ص: 229). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 107 الفصل الرابع: الإسماعيلية المعاصرة • المطلب الأول: تعريف بطائفة البهرة (الإسماعيلية) ونشأتها . • المطلب الثاني: عقيدتهم. • المطلب الثالث: كتبهم. • المطلب الرابع: زعماؤهم. • المطلب الخامس: بدء الدعوة الإسماعيلية في الهند. • المطلب السادس: أحوالهم الاقتصادية والتعليمية ولغتهم وطقوسهم. • المطلب السابع: في أحوالهم الاجتماعية. • المطلب الثامن: النظام الحالي للدعوة الطيبية. • المطلب التاسع: البهرة وتعاونهم مع الاستعمار. • المطلب العاشر: فتاوى العلماء عن فرقة البهرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 108 المطلب الأول: تعريف بطائفة البهرة (الإسماعيلية) ونشأتها • أولا: التعريف . • ثانيا: نشأة البهرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 109 أولا: التعريف البوهرة أو البهرة فرقة من الشيعة الإسماعيلية الطيبية القائلة بإمامة أحمد المستعلي دون أخيه نزار، وكلمة البوهرة مشتقة من أصل غجراتي (وهوروو vohoryu) بمعنى التجارة والبوهرة معناه التاجر (1).ويقول صاحب (الترجمة الزاهرة) (2): (ولفظ "البهرة" معناه التجار، يقول أهل غجرات لمن يبيع ويشتري بهرة، وقيل فيه قول آخر، وهذا أظهر وأشهر، وسموا بهذا الاسم لمتاجرتهم مع العرب، فالذين دعوهم إلى الإسماعيلية أول الأمر كانوا تجاراً وقاموا بالدعوة في قوم تجار، وأن هؤلاء المسلمين الجدد الذين دخلوا في المذهب الإسماعيلي جعلوا يتاجرون العرب وسموا أولاً "بِيُوهَارِي" ثم تخففت الكلمة وصارت "بُوْهَرى" بكثرة الاستعمال). فكلمة بوهرة أو بهرة تفيد معنى التجارة في اللغة الهندية كما بين ذلك صاحب كتاب (رأس مالا) وآزاد البلجرامي الذي كان ماهراً باللغة الهندية والسنسكريتية وشاعراً قديراً يقرض الشعر في اللغتين على السواء. وقيل: هو مشتق من "بوه راه" بمعنى الصراط المستقيم، وقيل: بل هو مأخوذ من "بهو راه" ومعناه: طرق شتى على أنهم كانوا مجموعة من قبائل شتى. وقال بعضهم: هو مأخوذ من "بهرى"؛ أي: قطار الإبل، ويطلق ذلك على قافلة التجار غالباً. وهناك البعض الآخر يقول بأنه مأخوذ من "بُهُرَاجُ" بمعنى التأمل في الأمور (3).ويقول السيد أبو ظفر: (الحقيقة هي أن كلمة بوهرة أصلها من السنسكريتية "وُوِهرَا اوِيُهُ وَرُوُ" يدل على معنى التعاطي والتداول، والكلمة الهندية "وِيُهُ وُهَارِي"؛ أي: بِيُوُبَارِي مشتقة من هذا الأصل بمعنى التاجر، وقد دخله التخفيف مع كثرة التداول فصارت "وُوُهَرَهُ" وجعله المسلمون "بوهرة") (4).ومن المحتمل جدًّا أن يكون هذا اللفظ ذا أصل عربي؛ فقد جاء في (القاموس المحيط): (بهراء: قبيلة، وبهرة بالضم: ع "أي موضع" بنواحي المدينة ع "موضع" باليمامة) (5).وفي (الصحاح): (بهراء قبيلة من قضاعة، وهي بهراء بن عمرو، ويؤيد هذا القول ادعاء أهل "نِرُمَة" و"كَمُ كُوُرِي" أنهم جاؤوا مهاجرين من المدينة والطائف) (6).ويقول السيد أبو ظفر: (إن أحد أصدقائه وهو "قاضي أحمد ميان اختر" له رأي آخر في أصل هذه الكلمة يقول: إنه مركب من كلمتين غجراتيتين وهما "بي" بمعنى الاثنين و"سَرَا" بمعنى الرأس، أي ذو رأسين، وهذا يطلق على مخلوط النسل، أي الذين ولدوا من اختلاط العرب والهنود) (7)، وهذا محتمل وإن كان بعيداً؛ لأن قلب السين هاء معروف في الغجراتية. وعلى كل حال؛ فالكلمة تطلق على التجار المسلمين غالباً بغض النظر عن النسل والوطن، سواء كانوا من مهاجري المدينة أو من بني قضاعة أو كانوا "التجار العرب" أو من عامة التجار. المصدر: البوهرة تاريخها وعقائدها - رحمة الله قمر الهدى الأثري - ص21   (1) ((أردو دائرة معارف إسلامية)) (مادة بوهرة، ج5). (2) ((الترجمة الزاهرة لفرقة بهرة الباهرة)) (ص: 95). (3) انظر ((تذكرة العلامة الشيخ محمد بن طاهر الفتني)) (ص: 15، 16). (4) ((تذكرة علامة شيخ محمد بن طاهر)) (ص: 17). (5) ((القاموس المحيط)) (مادة بهر). (6) انظر: ((التذكرة)) المذكور آنفاً. (7) انظر: ((التذكرة)) (ص: 18). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 110 ثانيا: نشأة البهرة إن الحركة الإسماعيلية كانت في نشأتها الأولى تدعو إلى إمامة إسماعيل بن جعفر الصادق. وظلت الفرقة الإسماعيلية تعمل في الستر والكتمان حتى ظهرت حركة "عبيد الله المهدي" في المغرب فقويت به شكوتهم ثم تسلم الإمامة من بعده المنصور ثم المعز لدين الله الفاطمي، ثم تولاها العزيز بالله ثم الحاكم بأمر الله، ثم الظاهر ثم المستنصر بالله وبعد وفاة المستنصر وقع الخلاف بين ولديه نزار والمستعلي. وقد تمكن المستعلي من استلام زمام الخلافة والإمامة بالقوة وبمساعدة خاله "الأفضل الجمالي" قائد الجيوش الفاطمية". وبذلك انقسمت الإسماعيلية إلى فرقتين: 1 - المستعلية. 2 - نزارية. أما المستعلية فقد استمر أئمتها في إدارة شؤون الخلافة في البلاد المصرية. وبعد المستعلي جاء الآمر بالله ثم الطيب بن الآمر الذي يدعون أنه دخل كهف الستر والغيبة، وفي هذه الفترة استلم أربعة وكلاء شؤون الإمارة والخلافة وهم: 1 - الحافظ. 2 - الظاهر. 3 - الفائز. 4 - العاضد. وفي عهد العاضد استولى القائد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله على شؤون الدولة الفاطمية، وبذلك تفرق الإسماعيلية بفرقتيها النزارية – والمستعلية. فكون الإسماعيليون في اليمن فرقة إسماعيلية مستعلية باسم "الإسماعيلية الطيبية"، وتعرف اليوم باسم طائفة البهرة. ولم يمارس الإسماعيلية الطيبية أي نشاط سياسي ولكنهم ركنوا إلى التجارة بين الهند واليمن، ووجدوا في ذلك فرصة لنشر الدعوة في الهند وخاصة في ولاية "جوجرات" وأقبل الهندوس على الإسلام حتى كثر عددهم في الهند وعرفوا باسم "البهرة". تشير المصادر التي بحثت عن أصل "البهرة" أنها مأخوذة من فهرو Vehru التي تعنى التجارة في اللغة الجوجارتيه الهندية، فالبهرة هم التجار، وسموا بذلك لأن السواد الأعظم من تلك الأمة تعمل في التجارة منذ ارتباطهم بمهد الإسلام. وقد انقسمت الإسماعيلية الطيبية في القرن العاشر الهجري إلى فرقتين: وكان الانقسام نتيجة الخلاف على من يتولى مرتبة الداعي المطلق للطائفة، وانقسمت إلى فرقتين: الفرقة الأولى: السليمانية: نسبة إلى الداعي سليمان بن حسن. الفرقة الثانية: نسبة إلى الداعي قطب شاه داود وهو الداعي السابع والعشرون الذي انتقل مركزهم من اليمن على الهند في القرن العاشر الهجري، وداعيتهم هو "طاهر سيف الدين" وهو الداعي الحادي والخمسون في سلسلة دعاة الإسماعيلية الطيبية ويقيم في مدينة بومباي. المصدر: سلسلة ماذا تعرف عن ... لأحمد بن عبد العزيز الحصين - 1/ 353 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 111 يعتبر انقسام الطائفة الإسماعيلية إلى مستعلية ونزارية أضخم انقسام وافتراق منذ تأسيسها وبدايتها إلى عصرنا الحاضر حيث اتجهت كل فرقة إلى إمام أئمتها في فترة الظهور وتمسكت به وبإمامة نسله من بعده إن كان له نسل أو عقب وحدث من جراء هذا الانقسام أن أصبح لكل فرقة كتب خاصة بها لأن لكل فرقة دعاة خاصين ومنظمين فكريين بل أصبح بعد ذلك لكل فرقة دولة خاصة بها ولا أدل على ذلك من دولة الصليحيين في اليمن والتي تمثل الإسماعيلية المستعلية ودولة الصباحيين أو الحشاشين في الألموت وجنوب فارس والتي تمثل الإسماعيلية النزارية. وبداية هذا الانقسام وسببه كما ذكرنا سابقا أن المستنصر العبيدي (الإمام الثامن من أئمة الظهور عند الإسماعيلية) لما مات في ذي الحجة من عام 487هـ أقام الأفضل ابن بدر أمير الجيوش ابنه المستعلي بالله بن المستنصر واسمه أبو القاسم أحمد للإمامة والحكم وخالفه في ذلك أخوه نزار بن المستنصر وبعد مناوشات بينهما فر إلى الإسكندرية ثم حاربه الأفضل حتى ظفر به فقتله ثم أمر الأفضل الناس بتقبيل الأرض وقال لهم قبلوا الأرض لمولانا المستعلي بالله وبايعوه فهو الذي نص عليه من المستنصر قبل وفاته بالخلافة من بعده (1).وبذلك انقسمت الإسماعيلية إلى مستعلية أتباع المستعلي ونزارية أتباع نزار والحديث الآن عن المستعلية حيث يسمون بهذا الاسم نسبة إلى القول بإمامة المستعلي مع إنكار إمامة نزار بن المستنصر ويقولون إنه نازع الحق أهله من حيث أن الحق في الإمامة والخلافة كان لإمامهم المستعلي فادعاه لنفسه ويقولون إن شيعته على الباطل ويرون من الضلال اتباع الحسن الصباح داعية نزار والناقل عن المستنصر النص على إمامته (2). ومن أسماء هذه الفرقة فيما بعد الطيبية نسبة إلى الطيب ابن الآمر المزعوم الذي سبق أن ذكرنا ادعاء الملكة أروى الصليحية إمامته وكفالته له. وبعد ذلك أطلق عليهم لقب الإسماعيلية الطيبية لزعمهم بإمامته وإمامة نسله المستورين من بعده كما يطلق على هذه الفرقة الإسماعيلية الغريبة وهؤلاء هم إسماعيلية مصر واليمن وبعض بلاد الشام تمييزا لهم عن الإسماعيلية الشرقية إسماعيلية بلاد فارس أصحاب الحسن الصباح (3). وتبنى هذه الفرقة وأبقاها الدولة الصليحية الذين حاولوا نشرها وبسطها في بلاد اليمن حتى انقرضت الدولة الصليحية عام 563هـ ولم يقم أتباع هذه الفرقة بأي نشاط سياسي يذكر ونراهم اتجهوا بعد ذلك اتجاها جديدا هو التجارة والاقتصاد واتخذوا التقية والستر – كعادتهم في التمويه – أسلوبا في نقل الدعوة الإسماعيلية المستعلية الطيبية إلى شبه القارة الهندية وظهر لهم لقب جديد ومسمى يتناسب مع مهنتهم وهو (البهرة) وسبب ذلك أنه عندما اعتنق جماعة من الهندوس الدعوة الإسماعيلية الطيبية وكثر عددهم في الهند عرفت الدعوة بينهم باسم البهرة وهي كلمة هندية قديمة معناه التاجر   (1) ((انظر الكامل في التاريخ لابن الأثير)) (8/ 173) ((الخطط)) للمقريزي (2/ 34 - 35). (2) ((صبح الأعشى)) للقلقشندي (13/ 243). (3) ((طائفة الإسماعيلية)) لمحمد كامل حسين (ص: 46 – 62) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 112 البهرة: عندما اعتنق جماعة من الهندوس الدعوة الإسماعيلية الطيبية وكثر عددهم في الهند عرفت الدعوة باسم البهرة الذي يرمز إلى مهنتهم التي اشتهروا بها وهي التجارة حيث انصرفوا لها وحاولوا نشر عقيدتهم عن طريقها ولذا نجد أن دعوتهم انتشرت في أقطار متعددة نتيجة جهل الشعوب الإسلامية بهذه الدعوة الباطنية وعدم فهم الإسلام فهما صحيحا فلهم أتابع في بلاد الهند والباكستان وعدن كما يوجد عدد منهم في اليمن الشمالي في جبال حراز ولا زال يطلق عليه اسمهم الحقيقي والأصلي حيث يدعون بالقرامطة والباطنية ومن آثارها – كما يقول النشار – قبيلة يام وهي إلى اليوم باطنية تنتمي إلى بهرة الهند (1). ويشتهر البهرة بالتعصب الشديد لمذهبهم وعقيدتهم وتقاليدهم التي ورثوها من قادتهم وزعمائهم (إسماعيلية اليمن المعروفين بالصليحيين) فهم يحافظون عليها محافظة تامة ولا يقبلون تبديلا لتلك التقاليد أو تطويرها ومن مظاهر ذلك: 1ـ الزي الخاص بهم رجالا ونساء حتى أن الناظر المتمعن فيهم يعرف البهري من غيره. 2ـ لهم أماكن خاصة للعبادة لا يدخلها غيرهم أطلقوا عليها اسم جامع خانة فهم لا يؤدون فريضة الصلاة إلا في الجامع خانه مع رفضهم لإقامة الصلاة في المساجد التي لغيرهم من المسلمين. (وقد شاهدت مرارا وتكرارا البهريين يخرجون من المسجد الحرام عند إقامة الصلاة ويذهبون لأدائها في رباط لهم يسمى (الرباط السيفي) يقع بالقرب من الحرم المكي في الجهة الجنوبية).3ـ الحرص الشديد على ستر عقائدهم المذهبية الباطنية إما في الظاهر فإنهم قد يشاركون المسلمين في أداء بعض الفرائض والأركان (2).ورغم اتفاق البهرة ظاهريا مع غيرهم من المسلمين في العبادات والشعائر فإنهم يعتقدون عقائد باطنية بعيدة كل البعد عند معتقد أهل السنة والجماعة فهم مثلا يؤدون الصلاة كما يؤديها المسلمون ويحافظون على حدودها وأركانها كالمسلمين تماما ولكنهم يقولون إن صلاتهم هذه للإمام المستور من نسل الطيب بن الآمر ويؤدون شعائر الحج كما يؤديها المسلمون ولكنهم يقولون إن الكعبة التي يطوفون حولها هي رمز للإمام وهكذا يذهبون في عقائدهم مذهبا باطنيا يلتقي مع التيار الباطني العام (3). وفي القرن العاشر الهجري انقسم البهرة إلى طائفتين تسمى إحداهما بالداودية والأخرى بالسليمانية ويرجع هذا الانقسام إلى الخلاف على من يتولى مرتبة الداعي المطلق للطائفة. فالفرقة الداودية تنتسب إلى الداعي السابع والعشرين من سلسلة دعاة الفرقة المستعلية الطيبية ويسمى بقطب شاه داوود برهان الدين المتوفى سنة 1021هـ وهم الأكثرية وهم بهرة كجرات ولذا أصبح مركز دعوتهم في الهند حيث يقيم داعيتهم الآن وهو طاهر سيف الدين في مدينة بومباي ويعتبر الداعي الحادي والخمسين من سلسلة الدعاة حيث بينه وبين الداعي الذي تنتسب إليه الداودية اثنان وعشرون داعيا ذكرهم العزاوي بالترتيب في مقدمته سمط الحقائق (4).أما الفرقة السليمانية فتنتسب إلى الداعي سليمان بن الحسن الذي أبى أتباعه الاعتراف بداود بدعوى عجب شاه اختار سليمان وأعطاه وثيقة بذلك ويدعي جماعته أنه لا تزال عندهم تلك الوثيقة وتبعه شرذمة قليلة نسبوا إليه ويتواجدون في اليمن ورئيسها الحالي علي بن الحسن ومحل إقامته بنجران جنوبي السعودية وهذه الطائفة منتشرة في قبائل بني يام باليمن وبعض أفراده مقيمون في الهند والباكستان (5). وكلا الداعيان برتبة (داع مطلق) وهي مرتبة وراثية تنتقل من أب إلى ابن وصاحبها يتمتع بنفس الصفات التي كان يوصف بها الأئمة على أنها صفات مكتسبة وليست ذاتية (6) المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان بن عبد الله السلومي – 2/ 362   (1) ((نشأة الفكرة الفلسفي)) (4/ 432). (2) انظر ((طائفة الإسماعيلية)) لمحمد كامل حسين (ص: 52 – 53) بتصرف. (3) ((دراسة عن الفرق)) لأحمد جلي (ص: 229). (4) ((سمط الحقائق)) (ص: 8 - 9). (5) ((القرامطة)) لطه الولي (ص: 35) ((طائفة الإسماعيلية)) لمحمد كامل حسين (ص: 52). (6) ((طائفة الإسماعيلية)) لمحمد كامل حسين (ص: 52). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 113 المطلب الثاني: عقيدتهم 1 - يعتقد البهرة بألوهية أئمتهم، فيصلون كما يصلي المسلمون ولكنهم يقولون إن صلاتهم للإمام الإسماعيلي الطيب بن الآمر الذي داخل الستر سنة 525هـ "حسب اعتقادهم" وأن أئمتهم المستورون من نسله إلى يومنا الحاضر. وقد نشرت جريدة "من" الباكستانية بتاريخ 6/ 10/1977م تقول: "رجل بوهري يسجد لكبير علماء البهرة". 2 - يقدمون صلاتهم وأعيادهم قبل يوم أو يومين وهكذا الحج إلى بيت الله الحرام. وينقل الشيخ محمد نجم الغني عن أحد حجاج البهرة قوله في أداء مناسك الحج فيقول: "إنا وصلنا عرفات قبل الناس، كما وصل إليها إسماعيلية اليمن ... وقد أدى جميعنا مراسم الحج قبل الناس بيومين. وحين تجمهرنا في عرفات تحت قيادة عالم إسماعيلي يمني أحاط بنا جمع من أهل السنة، وسألونا عما نعمل قبل الوقفة، فأجبناهم بقراءة أدعية مأثورة، فانصرفوا بعد سماع هذا الجواب الساذج، ثم انصرفنا إلى مزدلفة، وقضينا فيها ليلتنا جوار طريق الطائف الذي يسلكه الحجاج القادمون من هذه المدينة، وكلما سألنا الجمع السني القادم إلى عرفة عن سبب انصرافنا عنها أجبناهم بأنا قادمون من الطائف، سننزل مكة، ثم نقدم منها إلى عرفة، وهكذا قضينا تلك الليلة، ثم عدنا إلى عرفة، وسرنا شركاء لعامة الحجيج". 3 - أباحوا الربا علانية عطاء وأخذا. 4 - يرون أن الكعبة هي رمز على الإمام. 5 - إحياء كل ما يتعلق بالفاطميين من قبور ومساجد، فهم يدفعون أموالاً طائلة لتشييد هذه القبور والمساجد. ومن أعمالهم أنهم قاموا بإصلاح ضريح كربلاء والنجف والضريح الفضي لمشهد رسول حسين والسيدة زينب في القاهرة، كما عملوا قبة من الذهب فوق ضريح الحسين المزعوم في القاهرة. وهذه مقابلة أجرتها جريدة القبس الكويتية مع الشيخ يوسف البهري الذي صرح قائلا: (إن سلطان البهرة محمد برهان الدين قام بمشروعات إسلامية وبناء مواقع في كثير من بلدان العالم وأحدث هذه المشاريع وأكبرها مشروع يقام حاليا في جمهورية مصر العربية وهو ترميم جامع "الأنوار" الكبير الذي بناه الخليفة الفاطمي قبل ألف عام). ويعتبر البهرة بوضعهم الحالي ورثة الفاطميين المصريين، وأمناء دعوتهم عقيدة وتشريعا، ومؤلفات العهد الفاطمي هي المصادر المعتمدة لباطنيتهم دون ريب، وإن كنت ترى أن عامتهم قد تأثر بالهندوسية والفكر الغربي معاً في الآونة المعاصرة، وأخذ يتخلص من قيود التكتم والانزواء، وأسرار الدعوة وفلسفة اليونان، غير أن زعيمهم "الداعي المطلق" مازال محور الحركة والتكتل، لذا لا يسهل النفوذ إليهم، والوصول إلى ما عندهم، وما يحتفظون به من وفاق أو خلاف مع شرع الله ويعود ذلك إلى إن قوام الدعوة الإسماعيلية هو الإخفاء وعدم العمل في وضح النهار، فإن كان أعداؤهم الأمويون والعباسيون في الأزمة الغابرة أجبروهم على ذلك السير فقد تمت السيطرة على جزء غير يسير من العالم الإسلامي، إبان عهد الفاطميين في مصر، والصليحيين في اليمن، غير أن دعوتهم لم تظهر من وراء القضبان الحديدية، ولا تزال كذلك رغم انتشار العلمانية والإلحاد في الدول التي يسكنونها الآن، وإنهم اليوم في مأمن على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم إن أرادوا الكشف عما يبيتون في ظلام الليل. فالبهرة كاليهود، لا يسمحون لأحد باعتناق مذهبهم، ما لم يولد في أصل بهري، لذا يقول المرزا محمد سعيد، أحد المعتمدين في وزارة التعليم في الهند: (إن البهرة على العموم أمة محصورة، لا يصح لفرد غير إسماعيلي الآن اعتناق مذهبهم البتة، كما أن أواصر النكاح تدور فيما بينهم كالحلقة المفرغة). 6 - يعتقدون أن الإمام الطيب بن الآمر دخل الستر "الغيبة" في الكهف. 7 - يعتقدون أن الأئمة الثلاثة "أبو بكر وعمر وعثمان" مغتصبون الخلافة من علي بن أبي طالب. 8 - يعتقدون أن أئمتهم ينحدرون من سلالة الإمام علي بن أبي طالب وهم معصومون من الخطأ! 9 - يحترمون القرآن الكريم ظاهرياً ويفسرونه تفسيراً باطنياً شيطانياً. 10 - قبلتهم في صلاتهم يتوجهون إلى قبر الداعي الحادي والخمسين طاهر الدين المدفون في مدينة بومباي في الهند ويطلقون عليه اسم "الروضة الطاهرة". 11 - وتجب عليهم الصلاة في العشرة أيام الأولى من شهر محرم ... وفي غيرها لا تجب عليهم الصلاة .. ولا يصلون إلا في مكان خاص بهم يسمى – الجامع خانة – وإذا لم يذهب الشخص منهم إلى الجامع خانة في العشرة أيام الأولى من محرم يطرد من الطائفة ويفرض عليه الحرمان. 12 - والزكاة والصيام والحج عندهم معاني غير التي نفهمها. 13 - كل فرد قبل أن يسافر يذهب إلى الروضة الطاهرة ويطوف بها عدة مرات. وهكذا إذا جاء من السفر يطوف عدة مرات قبل الذهاب إلى بيته وأهله. المصدر: سلسلة ماذا تعرف عن ... لأحمد بن عبد العزيز الحصين - 1/ 356 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 114 المطلب الثالث: كتبهم وقد قلنا في موضع سابق إن البهرة تستعمل السرية التامة والكتمان في أمور عقيدتهم ومؤلفاتهم من الكتب، وهكذا لم يطبع من كتبهم إلا النادر جداً، ومن أمثلة ذلك: 1 - كتاب (النصيحة)، لمؤلفه الداعي الحادي والخمسين طاهر سيف الدين. وهذا الكتاب يعتبرونه قرآنهم ويخرجون منه أحكامهم وعباداتهم. 2 - (دعائم الإسلام): مخطوط لم يطبع. 3 - (الحقائق): مخطوط لم يطبع. 4 - (ضوء نور الحق المبين): تأليف داعي البهرة طاهر سيف الدين، وقد كلف أتباعه بقراءته على جموع البهرة، وفي مجالسهم الخاصة والعامة. وإن تصفحنا الكتاب نجد المؤلف يكفر جميع أمة التوحيد، ما عدا أتباعه الداودية، فنراه مثلا يحكم على من لم يؤمن بقوله: "من لا يؤمن بي، ويعترف بأني داع له يجب عليه اتباعي، لا يقبل منه توحيده، أي ليس بمسلم البتة ... ومن يسمون أنفسهم أهل السنة والجماعة لا تقبل منهم كلمة الشهادة، بل تضرب بها وجوههم، وليسوا بمسلمين". 5 - (صحيفة الصلاة). المصدر: سلسلة ماذا تعرف عن ... لأحمد بن عبد العزيز الحصين -1/ 361 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 115 المطلب الرابع: زعماؤهم لهم زعماء يتعاقبون وكل يطلق عليهم اسم "الداعي" ويعتبر الزعيم ممثلاً دنيوياً للإمام ويتولى نيابة الإمام الدينية. ومنصب الداعي ليس وراثياً كالإمامة إنما هو مكتسب إلا أن الدعاة المتأخرين لم يلتزموا بهذه التعاليم .. وخرجوا على المعتقدات والأصول الأساسية للطائفة .. فادعوا لأنفسهم العصمة كالأئمة سواء بسواء ... وجعلوا منصب الداعي وراثياً في أبناء العائلة الحاكمة .. وصدق الله العظيم إذ يقول: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ [القصص: 41]. ومن الملاحظ أن أسماء الدعاة متشابهة .. فنجد ستة منهم باسم شمس الدين، وستة آخرين باسم بدر الدين، وأربعة باسم نجم الدين وثلاثة باسم حسام الدين واثنين باسم زكي الدين واثنين باسم زين الدين، واثنين باسم سيف الدين، وهكذا .. كما هو الحال في البابوية والنصرانية. وأئمتهم لهم النفوذ والسيطرة على طائفتهم البهرية. فالداعي أو إمام البهرة حرموا على كل بهري قراءة أية صحيفة أو الدخول إلى الجامعات والترشيح وغيرها. يقول "نورمان آل كونتر أكنز" وهو أحد أبناء البهرة الذين ثاروا في وجه الداعي والإمام للمطالبة بإصلاح شؤون طائفة البهرة: (إن أي فرد من أفراد طائفته لا يملك أن يحيا حياته الخاصة به أو أن يقرأ مجلة أو صحيفة أو كتاباً أو أن يساهم في إصدارها إلا بإذن من الداعي ... ولا يستطيع أن يدرس في مدرسة أو جامعة أو يرسل أبناءه إليها إلا بإذن خاص من الداعي ... ولا يستطيع أي فرد أن يمارس أي نوع من أنواع التجارة أو المحاماة أو الطب أو الأعمال الحسابية أو غير ذلك من الأعمال الأخرى إلا بإذن من الداعي كذلك. والأدهى من ذلك أن أفراد الطائفة لا يستطيعون دفن موتاهم إلا بتصريح منه. ولا حرية لأي فرد من أفراد الطائفة في انتخاب أي مرشح – من أحزاب أو هيئات أو اتحادات – لا يرضى عنه الداعي .. ولا يستطيع أن يشكل نقابة أو ينسب إلى عضوية نقابة أو جمعية بغير إذن منه ... ). وكانت نهاية هذا الرجل الذي ثار في وجه طواغيت أئمة البهرة هو الإعدام، فقد أعدم بأمر الداعي. وقد استلم زمام طائفة البهرة منذ أن دخل إمامهم الطيب بن الآمر الكهف أو الستر والغيبة حتى عام 1965 الذي جاء فيه طاهر سيف الدين فيكون ترتيبه الحادي والخمسين، وحين توفي جاء الدكتور محمد برهان الدين فأصبح الثاني والخمسين من سلسلة الإسماعيلية الطيبية. المصدر: سلسلة ماذا تعرف عن .. لأحمد بن عبد العزيز الحصين - 1/ 363 زعيمهم الحالي زعيمهم الحالي – الدكتور محمد برهان الدين - الذي يقدسونه ويسجدون له ويقبلون قدميه وله الكلمة الأولى والأخيرة والآمر الناهي، والذي يعيش اليوم كعيشة ملوك وأباطرة القياصرة وطائفته تعيش في بؤس وحرمان. ويعامل الداعي – الثاني والخمسون – الدكتور ملاجي محمد برهان الدين أفراد طائفته كما يعامل السيد عبيده .. فما أن يبلغ أي فرد من أفراد الطائفة الرابعة عشرة من عمره حتى يصبح خادماً طيعاً للداعي .. ومع أن الحياة الاجتماعية والاقتصادية قد تطورت وتغيرت في كثير من البلدان خلال المئة عام المنصرمة .. إلا أن الداعي ما زال يمارس عملية ابتزاز بشعة لأفراد طائفته .. وتعتبر محكمة .. "ناثواني كوميشن" غير الحكومية أول من حاول الحد من سيطرة الداعي وكبح جماحه .. وعائلة الداعي الحاكمة والمهيمنة على شؤون الطائفة ... تملك الكثير من المال الذي تستطيع بواسطته شراء تأييد بعض المسلمين ذوي النفوذ أو على الأقل لضمان سكوتهم عما يرتكبون من بشاعات باسم الإسلام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 116 تقول نشرة بلغة الأردو تسمى "غلامانة روش" وقد نشرت صورة أخرى في جريدة باكستانية تسمى – الشمس – والصادرة بتاريخ 6/ 10/1977م. "ومما يؤيد إصراره على سجود أفراد طائفته له .. .... تلك المرثية التي رثى بها والده – طاهر سيف الدين حيث قال: سجدت له دأباً وأسجد دائماً ... لدى قبره مستمتعاً للرغائب ... ... لدى قبره أسجد ثم بلغ إلى أبي ... سلام ابنه في رزئه أي نائب ... ... ويفرض على النساء أن يقبلن يديه ورجليه لدى مقابلته. ويعتبر نفسه أنه المالك المطلق لكل ممتلكات طائفته المادية والمعنوية .. وكل خارج على إرادته .. أو مناهض لأفكاره وشعائره الإنسانية فإنه يفرض عليه مقاطعة جماعية .. ويعتقد الداعي الحالي كذلك أنه الممثل الروحي للإله على الأرض .. أي: ظل الله في الأرض. وقد وقعت حادثة منذ وقت قريب ترينا كيف تعامل العائلة الحاكمة أفراد الطائفة بقسوة بالغة .. وكيف أن حقوقهم المشروعة مهضومة ... ففي تاريخ 11/ 10/1977م توفيت سيدة عمرها 65 عاما تدعى "سوجرابي" في مدينة جمناجر بولاية جوجارت .. ولم يسمح لأقاربها بدفنها .. لأن زوجها – أكبر علي سليمان جي مكاتي – والبالغ من العمر 73 عاماً والذي لا يزال على قيد الحياة .. قد شارك في مؤتمر للمصلحين قبل خمسة وعشرين عاماً ... مع أنه قدم الكثير من الاعتذارات إلا أن شبح "البارات" لا يزال يطارد باقي أفراد عائلته. وبعد تدخل عضوتي البرلمان المركزي في دلهي في الأمر .. "السيدة رانجنكر والسيدة لاجور" وافق الداعي الحالي على دفن الجثة بعد تعفنها على ألا يحضر الجنازة كل من زوجها وأولادها .. أو أي فرد من أقارب المتوفاة .. وعلى أن تدفن دون أن تقام عليها صلاة الجنازة .. وأن تدفن من غير كفن .. ولم يستطع أي فرد أن يحتج أو يعارض أو يجادل في هذا الشأن. وقد قام الداعي الدكتور محمد برهان الدين بزيارة للعالم الإسلامي والأوروبي ليتفقد مراكز البهرة ومشاريعهم واجتمع مع ممثليه سراً، وقد صرح قائلا: (سأقوم بجولة في عدد من دول مجلس التعاون الخليجي وبناء عدد من المساجد على الطراز الإسلامي القديم ولقاء المسؤولين فيها وأبناء طائفة البهرة، فكلنا نعمل من أجل رفعة وعزة الإسلام). وقام بزيارة دول الخليج وقابل الأمراء والشيوخ وكبار رجال الدولة: وأقيمت له الاحتفالات من قبل جماعة البهرة المنتشرة بدول الخليج وإلقاء المحاضرات والندوات على جماعته، ومن ثم جمع الأموال الطائلة من جماعة البهرة ووزع عليهم البركات والمغفرة وحث على زيادة النشاط والهمم. وقد قام هذا الرجل الإسماعيلي من قبل بإهداء مقصورة من الفضة الخالصة ومحلاة بآية قرآنية موشاة بالذهب الخالص إلى الضريح المنسوب إلى السيدة زينب بنت علي رضي الله عنهما في مصر المصدر: سلسلة ماذا تعرف عن ... لأحمد بن عبد العزيز الحصين -1/ 365 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 117 أولا: الدعوة الإسماعيلية في الهند إن الداعي أبا القاسم حسن بن الفرح بن الحوشب لما قام بنشر الدعوة في اليمن أرسل دعاته إلى الهند والسند، فالذي أرسل إلى الهند كان اسمه هيشم وكان ابن الأخ لأحمد بن عبد الله بن خليع (1). فكانت الدعوة أقيمت في الهند منذ سنة 270هـ، وبعد ذلك بعث المعز في عهده "341 - 365" الداعي جله بن شيبان إلى مدينة دلهي، فدخل في الإسلام سلطان مستنافور وأغلب سكانها بجهوده وعلى يديه. ولما استولى محمود الغزنوي على مدينة ملتان فوجد العامل عليها إسماعيليا قرمطيا، ولا تفصل الكتب التاريخية هذا الإجمال (2). نعم، نرى في عهد المستنصر "427 - 487" ذكر دعاة ثلاثة أرسلوا إلى الهند وهم: أحمد، وعبد الله، ونور محمد "نور الدين"، وأقاموا في كنبايه ميناء غجرات، وتفقدوا أحوال الهنود بكل دقة؛ فيروى في شأن دعوة عبد الله ونجاحه روايات عديدة، منها استخراج الماء من بئر فلاح وزوجته وكانت جافة، فلما رأوا هذه الكرامة أسلموا، والأخرى أنه كان تمثال فيل معلق في معبد بدون سند، فأسقطه عبد الله على الأرض باستخراج مغناطيس في جدرانه، فلما رأى كهنة المعبد ذلك دخلوا في الإسلام. وقد ذكر صاحب (الترجمة الزاهرة) قصة عبد الله كالتالي: (جاءهم رجل من اليمن ولي من الأولياء وتقي من الأتقياء، كامل في العلم والعمل، مصون من الخطأ والخطل، موسوم بمولانا عبد الله العابد الأواه ذي الشرف والجاه، فنزل فيما يؤثر بموضع كهمبايت ولقي رجلاً يدعي كاكا أكيلا وامرأته كاكي أكيلي في مزرعة لهما، فقال له كاكا أكيلا: من أنت ومن أين أقبلت؟ فقال: من أرض العرب وقد احتجت الآن إلى ماء لأشرب فإن كان عندك ماء فهاته. فقال: يا أخا العرب! إن ها هنا بئراً قد أصبح ماؤها غوراً، فمن يأتينا بماء معين؟ فقال: أين هي أرني مكانها، فمر به إليها فقال له: أيها الرجل! إن فاضت البئر ماء فراتاً أفتدخل في ديني وتترك دينك؟ فقال: نعم هو لك عليَّ، فأحسن إليَّ فضرب في البئر حينئذ السهم فبلغ الحجر فانشق انشقاقاً ونبع الماء واندفق اندفاقاً، فلما رأى الرجل هذا المعجز لم يلبث أن أسلم وأذعن لأمر ذلك الولي وأسلم هو وامرأته المذكورة في تلك المزرعة المشهورة، فحسن إسلامهما وسعيا معه مساعي مشكورة) (3).ثم ذهب عبد الله إلى مدينة فتن التي كانت عاصمة الولاية لغجرات، وتأثر بدعوته الهنادك هناك، وقلق بذلك الحاكم سده راج جي شنكة "بهارمل 487 - 528"، فأرسل الكتيبة المسلحة للقبض عليه، ولكنها لم تتمكن منه لأنه خيل إليهم أن عبد الله محاط به بسور من النار حتى جاء الحاكم نفسه، وزال هذا السور بأمر من عبد الله وأمكن للحاكم دخولها، فاستغرب ذلك وطلب منه كرامة أخرى غيرها، فأمر عبد الله صنماً في المعبد أن يشهد أن دين العرب هو الحق، فلما سمع الحاكم ذلك من الصنم أسلم هو ومن معه من رفقائه (4).   (1) ((موسم بهار)) (3/ 24)، ((تاريخ فاطميين مصر)) (ج2/ 81). (2) ((تاريخ غجرات)) (ص: 235). (3) ((الترجمة الزاهرة بهرة الباهرة)) (ص: 89 - 90). (4) (( THE OBHRASH)) (CH 4, P113) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 118 وهناك رواية أخرى: أن عبد الله وصل غجرات ورأى الهنادك لا يعرفون عن الإسلام شيئاً، وكانوا أتباعاً لسادن في المعبد واثقين به كل الوثوق، فأحس بالخطر إن قام بدعوته فيهم وجاء بمعارضته أمامهم، فتظاهر بالزهد والتنسك وصار كواحد من أتباع ذلك السادن، وجد في تعلم لغتهم، فلما أتقن اللغة وتكلم بها مثلهم ناظر السادن في مسائل شتى، حتى أثر في الخادم كلامه وتغيرت أفكاره وأسلم مع جماعة من أتباعه ومن بينهم كان وزير للحاكم يسمى (تارمل رها) ووصل خبر إسلام الوزير للحاكم بهارمل وجاء يزوره على غفلة منه فرآه يصلي فثار ثائره وقال: ما لي أراك تقوم وتقعد هكذا؟ فأجابه: رأيت هنا حية تسعى وأنا الآن في بحث عنها، فأمر الحاكم بتفتيشها فلم يلبث حتى وجدت الحية حقيقة، فأسلم الحاكم وأخفى ذلك عن رعاياه، وتشرف باعتناق الإسلام والده كمارايالا وإجايايالا "يعقوب" ومرشده الجيني همارجاريه، ويقال: إن ابن بهارمل يعقوب اعتزل عن الملك محافظة على إسلامه من فتنة الكفار، وحاول نشر الدعوة في الخفاء والسر، وسلك ابنه إسحاق مسلك أبيه وكان في ذريتهم من ناب في الهند عن الراعي المطلق في اليمن. وإلى اليوم قبور عبد الله وأحمد والفلاح وزوجته في كنباية تزار من قبل الإسماعيليين. والداعي عبد الله المذكور أرسل زميله نور محمد "نور الدين" إلى جنوب الهند ونال هذا الداعي نجاحاً ملموساً في ضواحي أورنغ آباد، وقبره موجود في قرية دوند كاول على بعد أربعين كيلومتراً من مدينة أورنغ آباد، ويعرف ضريحه بمزار "لائي صاحب".وفي تلك الأيام بعث من اليمن داع آخر اسمه فخر الدين "بايحيى صاحب" وصرف جهوده في نشر العقيدة الإسماعيلية حتى قتل أثناء سفره بأيدي أناس من قبيلة بهيل، ودفن في قرية كلياكوك (1). والخلاصة أن الدعوة الإسماعيلية ابتدأت في الهند منذ سنة 270هـ وما زال عدد الأسماعيليين في تزايد حتى نقل مركز الدعوة من اليمن إلى الهند في سنة 946هـ.   (1) (( ISLAMIC LAW ISMAILI COMMUNITIES)) (PG: 388) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 119 ثانيا: انتقال مركز الدعوة من اليمن إلى الهند • 1 - الطائفة الجعفرية . • 2 - الفرقة السليمانية. • 3 - الفرقة العلوية والفرقة النغوشية. • 4 - الفرقة الهجومية. • 5 - الفرقة الهبتية. • 6 - طائفة أصحاب البستان المهدي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 120 1 - الطائفة الجعفرية قد تفرعت فرق عدة في عهد الدعاة منها الفرقة الجعفرية المنسوبة إلى جعفر بن أبي جعفر الغجراتي، كان طالباً يدرس في أحمد آباد عند نائب الداعي علي بن عبد الله، فلما استكمل ما عنده طلب من النائب أن يأذن له، بالذهاب إلى اليمن لاستكمال علوم آل البيت، ولكنه لم يأذن له وخرج بدون إذنه وتعلم هناك ورجع، وبعد رجوعه من اليمن بدأ يصلي بالناس بدون إذن النائب سيدي حسن، وقد منعه ولكنه لم يمتنع بل أعلن براءته منهم، وجعل يدعو الناس إلى أهل السنة حتى قوي أمره وعلا صيته، وقد خسرت الدعوة الطيبية خسراناً عظيماً لتركه هذه الدعوة، حتى يقال إن 75% خرجوا منها واختاروا مذهب أهل السنة، وكان مقره فتن الذي يوجد الآن في أحمد آباد، يقال: من عهد جعفر شُدِّد على الشيعة لا سيما البواهر (1).   (1) (( THE BOHRAS)) (CH: 4, PG: 159) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 121 2 - الفرقة السليمانية توفي الداعي السادس والعشرون داود بن عجب شاه سنة 999هـ في أحمد آباد بالهند وخلفه داود بن قطب شاه الذي كان موجوداً في أحمد آباد آنذاك، ولكن سليمان بن حسن الذي أرسله سيدنا داود بن عجب شاه والياً على اليمن ادعى بأنه نص عليه وأيده أكثر سكان اليمن وسموا فيما بعد بالسليمانيين، واتبع كثير من الإسماعيليين سيدنا داود بن قطب واشتهروا بين الناس بالداووديين. لا فرق بين عقائد هاتين الفرقتين، وتعمل كل واحدة منهما على ظاهر الشريعة المحمدية، إلا أن السليمانيين يرون أن دور قائم القيامة قد بدأ كما هو ظاهر من دعاء الفاتحة عندهم، وأعد المستشرق أيفانوف فهرس مصنفات لدعاة السليمانية والداؤودية الذي تم طبعه في كتاب (الهدى إلى الكتب الإسماعيلية)، وقد توجد في زماننا الفرقتان في عدد كبير بالنسبة للفرق الأخرى (1)، والداؤودية هي التي مركزها الآن في بومباي، والسليمانية تتمركز في اليمن.   (1) (( ISLAMIC LAW AND ISMAILI COMMUNITIES)) – (( بوهرة فرقة)) (ص: 20). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 122 3 - الفرقة العلوية والفرقة النغوشية وقد نص الداعي الثامن والعشرون الشيخ آدم صفي الدين المتوفى سنة 1030هـ على الداعي عبد الطيب زكي الدين ولكن حفيده علي بن إبراهيم ادعى بأنه نص عليه وسمى أتباعه بالعلويين، وكانوا يسكنون في "برودة" بغجرات وكانوا في عدد قليل، وقد انشق من هذه الفرقة رجال كانوا يعتقدون بحرمة أكل اللحوم، واشتهروا بالنغوشية ويوجد منهم اليوم أربعة من بيوتهم فقط. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 123 4 - الفرقة الهجومية الداعي الثالث والثلاثون بيرخانم شجاع الدين المتوفى سنة 1065هـ، أرسل من أتباعه أحمد بن فتح محمد إلى جهان آباد لمحاولة إطلاق سراحه، وكان في السجن ولكن لم ينجح فيها، وقد مضت ستة أشهر وعاد بدون إذن، فأنكر عليه ولم يعف عنه بعد أن قدم إليه طلباً للعفو، فخرج على سيدنا مع أصحابه وقال: إن أخطأ الداعي يعزل عن منصبه، ويخلفه مساعده الأول، ووافق عليه أناس، واشتهر هؤلاء بالطائفة الهجومية ولكن لم تبق هذه زمناً طويلاً (1).   (1) ((إسماعيلي مذهب)) (ص: 294). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 124 5 - الفرقة الهبتية ظهرت هذه الفرقة في عهد الداعي الأربعين سيدنا هبة الله المؤيد في الدين المتوفى سنة 1139هـ، وبعد وفاة لقمان جي ادعى من تلاميذه إسماعيل بن عبد الرسول وابنه هبة الله بن إسماعيل اتصالهما بالإمام بواسطة عبد الله بن الحارث داعي البلاغ، وقد تجرأ هبة الله في القول بأنه حاز على مرتبة الحجة الليلي، فبدأ بدعوته في أجين وقام ضد الداؤووديين، ولكن لم ينجح بل قطع أنفه حتى اشتهر بالمجدوع، وكان علامة دهره، وقد أعد فهرساً نافعاً لكتب الدعوة، وهذا الفهرس اشتهر بين أوساطهم بـ "فهرس المجدوع"، واستفاد المستشرق "إيفانوف" من هذا الفهرس في إعداد كتابه "المرشد إلى كتب الإسماعيلية" وهو مطبوع، توجد كيفية هذه الفرق بالتفصيل في "منتزع الأخبار" و"موسم بهار" في مجلده الثالث. وفي كتاب نزار داؤودي يوجد تاريخ الإسماعيليين بالاختصار وعاداتهم وتقاليدهم ووسائل جمع الأموال، وكيفية أحوال زماننا باللغة الإنجليزية (1).   (1) ((إسماعيلي مذهب)) (ص: 294). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 125 6 - طائفة أصحاب البستان المهدي وفي عهد الداعي التاسع والأربعين محمد برهان الدين المتوفى سنة 1323هـ ادعى عبد الحسين بن جيواجي التاجر في بومباي أنه تم اتصاله بإمام الزمان، وأن الإمام بشره بدرجة الحجة، وهذه الحجة "الدرجة" أعلى وأرفع من درجة الداعي المطلق، ورتب صاحب هذا الادعاء مبادئ الدعوة على منهج الشيوعية، وقد بنى بستاناً لتطبيق هذه المبادئ وسمى هذا البستان "مهدي باغ" بالبستان المهدي، ولكن لم ينجح في سعيه وأتباعه الذين يتسمون "بالملك" في زماننا هذا، هم القائلون بترك الفرائض لظهور الحجة عندهم، وجعلوا الفرائض تطوعاً وألغوا النوافل ولا يزيد عددهم عن مائتين وخمسين نسمة (1). المصدر: البوهرة تاريخها وعقائدها لرحمة الله قمر الهدى الأثري - ص100   (1) ((تاريخ فاطميين مصر)) (ج2/ ص ... ). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 126 أولا: أحوالهم الاقتصادية والتعليمية يقدر بعض المؤرخين عدد البواهر في الهند مليوناً واحداً ولكن هذا التقدير لا يخلو من مبالغة لأن كثيراً منهم رجعوا عن الإسماعيلية ودخلوا في زمرة أهل السنة كما ذكرنا عند قولنا في الفرقة الجعفرية وهم أهل السنة والجماعة ولا يوجد في هذا الصدد مصدر موثوق به إلا سجل الداعي المطلق في المركز، والوصول إلى ذلك عسير، ولكن القائد الأعلى للطائفة قد صرح في بيان أدلى به في المحكمة أنهم الآن 300000 نسمة. ويقيم أهل الطائفة في اليمن وفيجي ويقدر عددهم ما بين خمس وعشرين ألفاً وثلاثين ألفاً والذي قاله “ S, K, Raeq” في كتابه "غلشن معلومات والذي طبع في سنة 1975 أنهم 317844 نسمة". وعلى كل حال فعددهم لا يتجاوز الآن نصف مليون وهم منتشرون في جميع ولايات الهند ولكن 50% يسكنون في غجراته، وأما خارج الهند فأغلبيتهم في مدينة كراتشي بباكستان فهم هناك 25000، والبقية منتشرون في شتى بلاد الشرق والغرب وأغلبية البواهر يشتغلون بالتجارة حتى الآن ولا يوجد فيهم نسبة مثقفين أكثر من غيرهم فلا يوجد مهرة في التدريس، ولا الأساتذة والأطباء والمحامون. وقبل أيام التفتوا إلى كسب العلوم والثقافة في زمن قائدهم ملا طاهر سيف الدين ولكن ما زالت هذه الفكرة محتكرة على أهل بيوت الكهنة ولم تتجاوز إلى غيرهم إلا قليلاً يسيراً. وقد يرى بعض الباحثين أن نشاطاتهم العلمية متقدمة ويشيدون بذكرها بأن طائفة البوهرة أحرزت في حياة الداعي الراحل الواحد والخمسين سيدنا طاهر سيف الدين تقدماً ملحوظاً لم يسبق له مثيل خلال ثمانية قرون من تاريخ الدعاة الفاطميين، وفي المرافق التعليمية والاقتصادية والتنظيمية، ومنذ أن تولى منصب "الداعي المطلق" في عام 1915م قام برحلات إلى مراكز الطائفة في الهند وخارجها لتنظيم شؤون الدعوة وتم تحت زعامته بناء أكثر من 350 مسجداً ونحو 300 مدرسة خاصة بأتباعه ومن المعاهد العلمية الكبيرة الجامعة السيفية "الأكاديمية" العربية بمدينة سورت" بولاية كجرات وتعتبر الجامعة السيفية مركز التعليم للمذهب الفاطمي في العالم اليوم ويفد إليه الطلاب من أبناء الطائفة من البلاد العربية والإفريقية والأوروبية وغيرها (1) وهناك نشاط في تعليم بناتهن تعليماً دينياً إلى حد التأويل (2). مراحل التعليم في الجامعة: لابد لطلاب هذه الجامعة من أن يتخطو ثلاث مراحل: مرحلة العلوم الظاهرة ومنها الفروع الفقهية واللغة العربية والتفسير والتاريخ والحديث وغيرها، ويقضي بها الطالب ثماني سنوات، وتليها مرحلة ثانية لدراسة علوم التأويل ومدتها على الأقل سنتان، ثم تأتي بعد ذلك المرحلة الأخيرة لدراسة الحقيقة أي الفلسفة الفاطمية وتستغرق سنتين فما فوق (3).وبها مكتبة كبيرة تضم المصادر القديمة والكتب الجديدة وغنية بالتراث الفاطمي والوثائق الإسماعيلية القديمة القيمة، وقد جرى عرف هذه الجامعة على التشديد في أمر الإطلاع على مكتبتها السرية التي نقلت من مصر إلى اليمن ثم إلى شبه القارة الهندية الباكستانية منذ قرون طويلة (4).والجدير بالذكر أن بعض الدعاة قاموا بإغلاق هذه الجامعة مبررين ذلك أن الشباب يتحررون عن النظام وعن تقاليد الطائفة الدينية" (5). والمشهور عنهم أنهم تجار كبار وعلماء بارزين في جميع مجالات الحياة لكن الحقيقة هي كما شهد شاهد من أهلها وصاحب البيت أدرى بما فيه من غيرهم.   (1) انظر ((مجلة الأزهر)) (إبريل 1966م طائفة البهرة). (2) ((رسالة ضياء الحق)) (ص: 47). (3) ((فتى الهند وقصة الباكتسان)) (ص: 91). (4) ((تأويل الدعائم)) مقدمة (1/ 10). (5) ((فاطمي دعوت إسلام)) (ص: 193)، ((إسماعيلي مذهب)) (ص غ، 11، 12). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 127 والبواهر السليمانية وإن كانوا أقل عدداً منهم ولكنهم أحرار في نشاطاتهم ظاهرون باهرون ولهم تقدم ملموس في جميع ميادين الثقافة والعلوم. وعدد المحلات التجارية والمؤسسات كما أحصاها مؤلف كتاب "غلشن معلومات" 18331 منها محلات للظروف المعدنية وللمواد الغذائية وللثياب، ولهم بعض مصانع الزجاج والصفائح والأخشاب والأدوات الكتابية والعطورات والأدوية والمجوهرات ... إلخ. وتمتاز هذه المحلات بأنه لا يوجد فيها أي محل للمسكرات والمخدرات والخمور والسجائر، فإن استعمال هذه الأشياء ممنوع منعاً باتاً فيهم وإن كان الجيل الجديد استباحوا السيجارة وعمت البلوى ومع ذلك ملتزمون بالامتناع عن تجارة هذه الأشياء. وهؤلاء يلتزمون بالأصول الدينية عندهم والرسوم المذهبية ونساؤهم أشد في ذلك فلا يرغبن في الخروج على تقاليد الطائفة في الزواج مثلاً، ويحاولن لإبقاء رجالهم في حدود الدين، ونسبة التعليم في النساء أقل لأن الطبقة الكهنوتية لا تشجعهن على ذلك. وقبل العشرينات كانوا لا يرغبون في الوظائف ويؤثرون التجارة التافهة عليها، وقد تكون هذه نتيجة إبعادهم من العلوم والثقافة من قبل ساداتهم، والآن بعد تغير الأحوال وتعميم العلوم الحديثة والصناعات قد دخلوا في مجالات الحياة الأخرى كالوظائف في الصيدليات والتدريس والهندسة ومنهم من دخل في الوظائف الحكومية، وإنهم يهتمون بالنظافة أشد اهتمام، والمراد بالنظافة هو نظافة الجسم والملبس والمنزل وأنهم أدخلوا الطهارة في أركان الإسلام كما ذكرنا ذلك فيما مضى عند ذكر العقائد، فإنهم لا يصلون في أي لباس شاءوا؛ بل لابد من لباس مخصوص بذلك يرتدونها عند الصلاة، وذلك يشتمل على قميص خاص وسروال وطاقية خاصة مزركشة وسجادة صلاة، حتى يعرفون بملابسهم الممتازة الخاصة وطاقيتهم الذهبية المدورة ولا سيما في المناسبات الدينية، وكذلك عباء خاص يسمى "شيرواني" ونساؤهم لا يلبسن إلا ملابس من طراز خاص وعباءة ممتازة معروفة من قديم الزمان ولم يغيرن ذلك مثل الرجال. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 128 ثانيا: لغتهم وطقوسهم أن البوهرة الغجراتيين يتكلمون بالغجراتية الخالصة وهم الأغلبية وأما بواهر "اندور" و"أجين" و"رتلام" و"رام فور" فيتكلمون الهندية الممزوجة بالغجراتية وتوجد في مخاطباتهم ألفاظ عربية بكثرة، وذلك لأن كتبهم الدينية كلها باللغة الغجراتية التي كانت تكتب بالخط العربي ويكثر فيها ألفاظ وتراكيب عربية وإن كانت هذه الكتب قد توجد بالخط الغجراتي أيضاً في هذه الأيام. والمراسيم الدينية من قبل الداعي والقائد الأعلى تصدر باللغة العربية الفصيحة وكل مقدمة من الرسائل تبدأ بحمد الله والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطاهرين والأئمة الدعاة أجمعين وذلك باللغة العربية ولو كان الكتاب في لغة ما، وعامة البوهرة الذين لا يفهمون اللغة العربية يستفهمونه من أئمة المساجد أو العمال. ولهم عادات وطقوس هندوسية في حفلات الزواج فيستعملون معجون الكركم على جسم العريس في تلك الأيام، ويقومون بتقاليد وثنية في استقبال العريس بإيقاد السرج، ويفرشون طريق العريس بالنقود المالية الثمينة. وإذا مات فيهم أحد يقومون بإقامة الولائم بعد التكفين وفي اليوم الثالث والتاسع والأربعين وبعد تمام السنة، ولا يقام أي فرح من الأفراح خلال أربعين يوماً حداداً على الميت، وتوجد فيهم أوهام الوثنيين الهنادك مثل اعتقاد حلول أحد في جسم أحدهم ويتشاءمون بمرور الجنازة من أمامهم، ويستعملون التمائم والتعاويذ خوفاً من إصابات العين، ولا يبدءون أي عمل إلا بعد استشارة العرافين والمنجمين وكذلك عند البدء في السفر، وهكذا الطلاب إذا أرادوا الدخول في الاختبارات يقومون بأخذ نفثات من قبل أحد الدعاة". المصدر: البوهرة تاريخها وعقائدها لرحمة الله قمر الهدى الأثري - ص279 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 129 ثالثا: مصادر دخل داعي البهرة مصادر دخل داعي البهرة الدكتور محمد برهان الدين الذي أصبح الداعي رقم "52" في سلسلة الدعاة الإسماعيلية الطيبية يبلغ دخله السنوي "120" مليون روبية هندية في السنة. وكل فرد من أفراد عائلته يتقاضي "8000" ثمانية آلاف روبية شهرياً. وتتكون عائلته من "188" فرداً غير السيارات والمساكن الحديثة المكيفة. ولكن كيف يحصل على هذه المبالغ الطائلة وما هي مصادر دخله. يقول عبد الله الراشد: "تسن الحكومة البهرية ضرائب إجبارية على أفراد الطائفة .. في حين أنها تدعي أنها تطوعية .. وقد اشترى عدة فنادق من هذه الضرائب التي يفرضها على أفراد طائفته .. واشترى أيضاً مشروع المياه الغازية – الكوكا كولا – في بومباي .. وبجانب ذلك فإنه عندما تقوم العائلة المالكة بإنجاز مشروع أو أي عمل .. فالتبرعات تصبح واجبة على أفراد الطائفة .. فعندما اشترت العائلة الحاكمة فندق – سندز هاوس – في بومباي .. فرض الداعي على كل فرض من أتباعه صغيراً كان أم كبيراً أن يدفع 10 روبيات لتغطية النفقات. ويتاجر مع أفراد عائلته بالذهب الذي يهربونه من أفريقيا وسيلان حيث استطاعوا تهريب ملايين المجوهرات والأحجار الكريمة ... وعندما تحمل الأم بابنها عليها أن تدفع، وكذلك إذا مات فعليها أن تدعف الضريبة المقررة. وعندما ينمو الطفل ويكبر .. يفرض على أهله أن يذهبوا به إلى أحد أتباعه ممن يحملون لقب شيخ يعمل له تعويذة – حجاب – ويعلمه كلمة الشهادتين .. مقابل ضريبة معلومة .. والذي يريد أن يحوز رضى الداعي عليه أن يدفع الكثير .. حتى كلمة – بسم الله الرحمن الرحيم – من الداعي تكلفهم ما بين 500 – 50.000 روبية كل حسب طاقته .. – كل ألف روبية تساوي حوالي 35 ديناراً كويتيا. ومكتب ضريبة الدخل التابع للداعي متيقظ ويعرف بالضبط مكسب كل فرد طيلة أيام السنة حتى يستطيع جمع الضرائب منه بدقة. ويجب على كل فرد من أفراد الطائفة أن يشتري تذكرة خاصة بصلاة العيد يصدرها مكتب الداعي وتختلف قيمتها في الصف الأول عن قيمتها في الصف الأخير، فالتذكرة في الصف الأول خلف – الملا جي الدكتور محمد برهان الدين – تكلفة 1000 روبية و 800 روبية في الصف الثاني و600 روبية في الثالث، وكلما ابتعد عن – الملا جي ... – كلما خف الحمل عن جيبه .. وفي الصف الأخير يتراوح ثمن التذكرة ما بين 5 بيزات إلى 100 روبية وجثة الميت منهم لا تدفن إلا بعد أن يدفع أقارب الميت ضريبة مقابل ذلك لمكتب الداعي .. وبعدها يصدر الداعي – صك غفران – يسمى – روكو شيتي – لذلك الميت ويدفن معه في القبر؟؟ وهذه الصكوك ثلاثة أنواع: فأقارب المتوفى الذين يدفعون أكثر من خمسين ألف روبية .. يحصلون على – صك غفران – أو – شقة – من الدرجة الأولى في الجنة؟؟ أما من يدفع أقل من خمسين ألف روبية .. فيحصل على – صك غفران – أو شقة – من الدرجة الثانية .. والذين يدفعون أقل من – ألف روبية – يأخذون صك غفران أو – شقة – من الدرجة الثالثة .. ولقب "الشيخ" يشتري بمبلغ 52 ألف روبية .. أما لقب "الملا" فيشترى بعشرة آلاف روبية فقط. ومن الأمور الغريبة أن كل مولود يولد .. على ذويه أن يحملوه للداعي أو نائبه كي يباركه ويسميه .. بمعنى .. أن أي فرد من أفراد الطائفة لا يملك أن يتسمى بما يشاء من الأسماء .. بل الداعي هو الذي يختار له الاسم .. لا والديه .. وبالطبع لابد من الدفع في مثل هذه الحالة. ومن العجيب أنه باع كثيراً من المساجد التي ارتفعت أثمان الأرض بجوارها حتى المقابر لم تسلم من أذى الداعي .. فقد باع مقبرة كبيرة في بلدة "برهان يو" بأغلى الأثمان بعد أن قسمها إلى قسائم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 130 ولكن أين تذهب كل هذه الأموال؟ إنه يدخر قسماً منها في البنوك السويسرية. وينفق القسم الآخر في بناء قبور أعوانه المقربين وقبور آل البيت .. في حين أن الأحياء من أبناء طائفته بحاجة ماسة للمساعدة. ومن المعروف أن لهم مراكزا في دول الخليج يتم فيها الاحتفالات بكافة المناسبات وفي كل دولة من دول الخليج ممثل بهري يمثل الداعي "الدكتور محمد برهان زعيمهم الأوحد". ويجعلون في كل بلد من البلدان التي يعيش فيها جماعة البهرة رجل من رجال دينهم، وبشرط أن يكون متخرج من الجامعة "السيفية" ويطلقون عليه "عامل" ليقوم بجمع "الخمس" من كل فرد من أفراد طائفتهم سنوياً سواء كان عاملاً أو غير عامل، ولو تأخر عن الدفع فإنه يطرد من الطائفة ويفرض عليه الحرمان. وهذه رسالة من أحد الهنود الذين يشتغلون في الكويت يطلب الحماية من طائفته التي تفرض الضرائب عليهم. وهذا نص الرسالة مترجمة من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية: (الكويت بلد طيب لكن في الكويت توجد حكومة من الملالي البهرة – ومكانهم في الحسينية – منطقة العارضية. وهم يأتون إلى الكويت بدافع المال. ويتقاضى زعيمهم دينارين عن كل شخص. والمبلغ المتحصل وهو يترواح بين 70 ألف و 100 ألف دينار كويتي يرسل بحوالة مالية بريدية إلى الهند. ويستفيد بهذا المبلغ أقرباؤهم في الهند. ولهؤلاء طقوسهم وحفلاتهم الخاصة في الكويت. ورئيسهم "الملا" يقطن في منطقة الدسمة بالقرب من الجمعية التعاونية ويدفع إيجاراً قدره 750 ديناراً في الشهر. يمكنك التحقق من الأمر وإبلاغ الشرطة. شكراً. يوجد بالداخل نسخة بالإضافة إلى عنوان الملا). وكل واحد من البهرة يخرج عن عقيدتهم يقتل، ففي سنة 986هـ قتل على يدهم جمال الدين محمد طاهر الصديقي الهندي الفتني حين تاب إلى الله ورجع عن عقادئهم الشيطانية، رحمه الله رحمة واسعة. المصدر: سلسلة ماذا تعرف عن ... لأحمد بن عبد العزيز الحصين - 1/ 375 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 131 المطلب السابع: في أحوالهم الاجتماعية عقد الزواج: وذلك لا يختلف عن بقية الفرق عند المسلمين فإنه ينعقد بالإيجاب والقبول، إلا العهد الخفي الذي لابد من تجديده قبل النكاح فهو أكثر اهتماماً بل وجوباً من الإيجاب والقبول. يقول عباس علي نجف على حال البوهرة أنه لابد للقاضي أن يشهد بتجديد عهدهما قبل الإيجاب والقبول ولا يصح القيام بعقد النكاح إلا للداعي المطلق أو الذي أذن له من القضاة والعمال، أما النكاح الذي لم يقم به هو أو ما دونه فلا يعتبر صحيحاً. وذلك مع أن قاضي القضاة النعمان قد صرح في كتابه (الاقتصار) أن مثل هذا النكاح يعتبر صحيحاً ولا حاجة إلى تجديد العهد اعتماداً على عقيدتهم، وحتى أن المصنف المذكور آنئذ يقول: "إن النكاح إذا قام به القاضي الحق فيقوم ذلك مكان التجديد ولا يحتاج إلى ذلك، وتوجد أمثلة عقود النكاح التي قد أفتى مفتي الدعاة المطلقين ببطلانها وأن الأولاد الذين ولدوا من مثل هذه الأنكحة أولاد زنى (1). المكوس: إن البواهر الداوودية ملزمون بأداء عشرة أقسام من المكوس أو الرسوم، منها: 1 - الزكاة، 2 - الصلة، 3 - الفطرة، 4 - نذر المقام، 5 - حق النفس، 6 - الخمس، 7 - النذر، 8 - التسليم، وتسلم هذه المحصولات للداعي وتكون ملكيته الخاصة. أما الصلة: فهي من بدع الكهنة الإسماعيلية ولا توجد في أي من كتب الشريعة ولكنها تؤخذ بالالتزام كسائر الضرائب وعليها مِلاكُ معيشة الإمام. نذر المقام: هي المنذور لأي أمر من أمورهم أي أنهم إذا تعرضوا لأي مرض أو خطر فينذرون المال باسم الداعي عند النجاة منه وهي عادة في كل أسر البواهر يعملون بها سنوياً. الخمس: معروف في الشريعة الإسلامية ولكنه يؤخذ عندهم من التجار الكبار من فوائدهم المالية من أي نوع كان. حق النفس: وهي أيضاً من ابتداعاتهم، تؤخذ من ورثة المتوفين ولا وجود لمثل هذه الخرافات في الشريعة الإسلامية، وقدر مصنف كتاب "كلزار داودي" هذا المال فقال: (إن هذا المبلغ لا يقل عن مائة وعشرة ملايين روبية). يقدم بعض الأموال من التجار بكتابة "بسم الله" على المحلات التجارية في بداية العام الجديد. صناديق على الضرائح: وهناك صناديق المال موضوعة على المزارات وقبور أوليائهم لجمع النذور والصدقات. ومن هذه البيانات يستدلون على كون البوهرة حزباً قيامه على المال لا غير وكما عرفنا أن أغلبية البوهرة كانوا هنادك وثنيين فقبلوا الإسماعيلية مع ما كانت عندهم من عقائدهم القديمة، ولذلك نجد فيهم بقايا تلك العادات والتقاليد مثلاً تكون بداية العام التجارية عندهم من عيد الوثنيين "ديوالي" Diwali لأن هذا هو من كبريات الأعياد التي تبدأ بها السنة المالية عند الهنادك. وبهذه المناسبة يطلبون من الداعي المطلق أو من عامله كتابة "بسم الله" على محلاتهم التجارية تيمناً وبركة، وتجمع فيها أموال طائلة باسم "التسليم". التقويم الإسماعيلي: ويؤرخون بتواريخ الهجرة ولكن التقويم المعتمد عندهم هو التقويم الفاطمي الذي أعد على الحسابات الفلكية وليس مداره على رؤية الهلال كما هو معروف عند جمهرة المسلمين سوى هذه الفرقة، فترى أنهم يقيمون حفلات الأعياد وغيرها قبل يوم أو يومين من الذين يكون اعتمادهم على رؤية الهلال.   (1) ((بوهرة فرقة)) (ص: 58 - 59) (( The Bohras)).. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 132 العشر الأوائل من شهر محرم: تكون هذه الأيام أيام حزن وعزاء على شهادة الحسين بن علي رضي الله عنهما، وتقام مجالس العزاء كل يوم من هذه الأيام تبدأ من الساعة العاشرة صباحاً إلى الساعة الواحدة والنصف. ومع ختام هذه المجالس يستضاف أهلها ويهتمون بصوم اليوم العاشر تذكاراً لشهادة الحسين وأصحابه الذين استشهدوا ظماءاً وجياعاً، ويبكون ويتباكون كل هذه الأيام ويدقون الصدور ويشقون الجيوب ويتظاهرون بالأسى والأحزان، وينظمون في المساء حفلة عزاء جماعية فيأكلون أكلة خاصة يسمونها كشري من الرز واللحم والبهارات الهندية، ويؤخرون مناسبات الأفراح بعد هذه العشرة إلى أربعين يوماً. تدفين الميت: لا فرق بين تجهيز موتى المسلمين والبواهر إلا أن البواهر يضعون رقعة "رسالة" مع موتاهم في قبورهم يكتب فيها العبارة التالية: "أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم، اللهم هذا العبد وسائر الموتى يرجون رحمتك، فاغفر لهم برحمتك، واجعل أرواحهم مع أرواح الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين. اللهم ارحم هذا الجسد وأصلح الوارثين له بجاه الملائكة المقربين وبجاه ميكائيل وبجاه الأنبياء أشرف المخلوقين وبجاه الأمين المختار محمد صلى الله عليه وسلم، وبجاه وارثه علي بن أبي طالب، وبجاه والده .... ذي المكانة العالية، وبجاه سيف نبيك وبجاه السيدة فاطمة وبجاه سبطي الرسول الحسن والحسين وبجاه علي بن الحسين، وبجاه محمد بن علي، وبجاه جعفر بن محمد، وبجاه إسماعيل بن جعفر، وبجاه عبد الله المستور وأحمد المستور وحسين المستور والسيد المهدي وسيدنا القائم وسيدنا المنصور وسيدنا المعز وسيدنا العزيز وسيدنا الحاكم، وسيدنا الظاهر وسيدنا المستنصر وسيدنا المستعلي وسيدنا الآمر وسيدنا الإمام الطيب أبي القاسم أمير المؤمنين وبجاه المرسلين منهم والنائبين عنهم، وبجاه الرسول وبجاه قائم آخر الزمان وبجاه نوابهم وبجاه الإمام الموجود الحالي رحمهم الله أجمعين، وأطال الله ظل الداعي الحالي وأعز سيدنا ويجعله الله مشرعاً عادلاً، وإن الله خير المعين وخير الحافظين ولا حول ولا قوة إلا بالله". وهذا العبارة تسمى عندهم "الرقعة" أو "الرسالة" التي تكون من قبل الداعي أو نائبه صارت جزءاً واجباً لا يستغنى عنه ولا يتصور دفن موتاهم بدونها. والبوهرة اليوم يأتون للحج والعمرة ولكنهم مع ذلك يقولون بتسوية الحج وزيارة كربلاء والنجف، ويتمنى كل فرد من أفراد هذه الطائفة الحج مع زيارة كربلاء وبل يحاولون أن يجمعوا بينهم في سفر واحد. فهذه هي صور من حياتهم الاجتماعية. المصدر: البوهرة تاريخها وعقائدها لرحمة الله قمر الهدى الأثري - ص284 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 133 المطلب الثامن: النظام الحالي للدعوة الطيبية لقد سبق القول على غيبة الإمام الطيب وظهور الدعاة المطلقين الذين يقومون بمهام الدعوة وإرشاد الناس في الشؤون الدينية. والداعي المطلق الحالي هو محمد برهان الدين بن طاهر سيف الدين الداعي الثاني والخمسون، وهو رجل فاضل ماهر في العلوم التأويلية والآداب العربية نثراً ونظماً يقرض الشعر بالعربية نذكر له بيتين قالهما على موت والده بعد دفنه في الروضة الطاهرة "التاج المحل السيفي". سجدت له دأباً وأسجد دائما ... لدى قبره مستمتعاً للرغائب لدى قبره أسجد ثم بلغ إلى أبي ... سلام ابنه في رزئه أي نائب (1) تخرج في الجامعة السيفية وجلس على كرسي الدعوة الإطلاقية بعد موت أبيه طاهر سيف الدين سنة 1385هوالداعي المطلق هو الذي يعين مأذوناً ومكاسراً، وكان هؤلاء الحدود يقومون بنشر الدعوة الإسماعيلية في دور الظهور ويصرفون كل الجهود في تحقيقها ومن زمان انضوت شؤون الدعوة وتركوا دعوة الناس إليها وإدخالهم فيها جهاراً (2) ولكن الداعي الحادي والخمسين قد خطط تخطيطاً جديداً في الأمور الدعوية كما مر وسيجيء. "والمكاسرون هم أصغر طبقة من درجات الدعاة كانت وظيفتهم أن يشككوا الناس في عقيدتهم وكانوا لا يجاوزون ذلك إلى عمل آخر، والداعي المكاسر كان يختار اختياراً خاصاً ولا يسمح له بالمكاسرة إلا بعد امتحان عسير وتجارب كثيرة. ويلقن بمسائل اختلاف المذاهب ويبرز له مواطن الضعف في كل مذهب، ثم يعلم كيف يجادل صاحب هذه الآراء وكيف يناقشه، ثم يدرب على فهم نفسية الناس وكيف يخاطب كل طائفة للاستمالة إليه. وكان عليه أن يتظاهر أمام جمهور أهل السنة بأنه سني متعصب، ويتظاهر أمام أهل الشيعة بأنه شيعي متطرف، وأمام الصوفية بأنه من الأقطاب، وأما المسيحيين، بأنه منهم، وكذا كان يخاطب كل قوم حسب عقيدتهم ومذهبهم وعقليتهم. ثم يأخذ السائل إلى أحد الدعاة الذين هم أرقى منه مرتبة ويصفه له المكاسر بأنه العالم الحبر الذي على يديه يزول الشك من النفس لغزارة علمه وسعة اطلاعه، فإذا رأى هذا الداعي منه إصراراً على الوصول إلى معرفة الحقيقة كاملة أحاله إلى الداعي المأذون وهو من دعاة الليل الذي يبدأ بأخذ العهود والمواثيق المؤكدة عليه بأن لا يفشي سراً ولا يطلع على آرائه أحداً من الناس، فإذا وثق به بدأ يكاشفه ببعض الأسرار الحقيقة التي لا ينزعج منها أحد. وهكذا يتدرج المستجيب بين الدعاة حتى يسمح له أخيراً بحضور مجالس داعي دعاة الجزيرة وهو كبير دعاتهم الذي كان له وحده الحق في أن يعلم الناس التأويلات الباطنية للدين والقرآن والحديث كما كان له الحق في تعليم الدعاة فلسفة الدعوة المذهبية "أي علم الحقيقة" فإن سمح للمستجيب أن يستمع إلى محاضرات داعي دعاة الجزيرة فقد هيأ نفسه بذلك لأن يكون داعياً (3). كان هذا هو النظام المعمول به في الدعوة الإسماعيلية عندهم في أوائل عهدهم وقد جرب هذا النظام في الهند في العهد الفاطمي، وقد حاز نجاحاً ملموساً فدخل كثير من الهنود في الإسماعيلية بجهود أمثال هؤلاء الدعاة، ولكن بعد انقضاء الدولة الفاطمية في مصر والصليحية في اليمن، تأثرت الدعوة في الهند ولم تعد ناجحة في استمالة الناس إليها أو إدخالهم فيها، وزد على ذلك أن إسماعيلية الهند لم ترغب في أي مرحلة من مراحلهم التاريخية في السياسة والدولة، فانضوت في دائرة ضيقة لم تكد أن تخرج منها.   (1) ((داعي مطلق)) (ص: 6). (2) ((فاطمي دعوت إسلام)) (ص:194). (3) ((طائفة الإسماعيلية)) (ص: 139). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 134 فعاد المأذون والمكاسر ذكرى لأيام مضت في تاريخهم لم توجد فيها أي حركة أو نشاط، فالداعي الحالي هو محمد برهان الدين بن طاهر سيف الدين كما ذكرنا، والمأذون هو خزيمة بها صاحب، والمكاسر هو صالح بها صاحب بن طاهر سيف الدين، وعلى هؤلاء الثلاثة قيام دعوتهم، وأفراد عائلة الداعي المطلق هم المسيطرون على نظام دعوتهم وهم الذين يقومون بالمراقبة على ميزانية الدعوة التي تبلغ إلى مئات الملايين، ولا يجوز لأحد من غير هذه العائلة الكهنوتية أن يتكلم بكلمة في شؤون الدعوة أو المال، وحتى أن أطفال بيوت الدعوة يؤثرون على كبار المثقفين والعلماء، ويعامل هؤلاء الأطفال والبنات كأولاد الملوك والشاهنشاه من قبل أتباعهم وهم يرغبون في ذلك ويظهرون بفخفختهم وكبريائهم بأرستقراطيتهم، ويشجعون أتباعهم على تقبيل أيديهم وأرجلهم والسجدة أمامهم كسجودهم للصلاة أمام الله. وكذا يقدس أطفالهم كثير من رجال العلم والثقافة الكبار لديهم. الميثاق: إن البوهرة يأخذون العهد والميثاق على طاعة دعاتهم عند بلوغهم، فهو إقرار منهم بوفائهم للحركة الإسماعيلية، ويُستغل ذلك العهد من الناحية السياسية. واستُبدل محتوى الميثاق بعد البيان الذي أدلى به الداعي طاهر سيف الدين أمام المحكمة، وقد يصعب للباحثين عن العقائد الإسماعيلية الوقوف على متن الميثاق في أوائل عهد الإسماعيلية، ونقل المقريزي هذا الميثاق في كتابه وذكر ما يتعرض له من العقاب ناقض هذا الميثاق. والداعي الحالي لا يأخذ هذا الميثاق من أتباعه إلا لاستكمال سيطرته عليهم، ولذلك رفعت شكوى من جمهور البوهرة في الهند إلى محكمة برهان فور ضد الداعي أنه حرف في متن الميثاق وقد احتجوا على ذلك ما جاء في كتاب (تحفة القلوب) الذي ألفه الداعي الثالث في سنة 560هـ، وهذا الكتاب موثوق به عند عامة البوهرة. متن الميثاق في تحفة القلوب: "بأن الداعي بعد الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله يأخذ الميثاق للإمام من الله والوصي والولي ومن الإمام الحالي، بأنه يؤمن بالله وملائكته ورسله وأئمته، وبأنه مخلص في طاعة كل من الوصي إلى الإمام الحالي، وبأنه ناصر الإمام الموجود ولا يغدر به قط وأنه لا يطلع على أسرار دينه أحداً من غير أهله، ولا يهين أحداً من المؤمن المعاهد معه، ويحب من يحب الإمام ويبغض من يبغضه ويبتعد عن أمثال هؤلاء ويكون مخلصاً في طاعة الإمام، ويكون جزاء نقض العهد منه مثل غيره، وذلك الداعي يستدعي ذلك المعاهد لدى الإمام ويخبره عن عهده ولا يحق له أن يعطيه رقعة ما من عند نفسه". وأما ما جاء في الميثاق الحالي هو كما يأتي: 1 - والإمام أو الداعي إن استنفر للجهاد ضد أعدائه فتنصرون بأموالكم وأنفسكم وتخلصون في طاعة الإمام وداعيه قولوا نعم. 2 - وتمتثلون بأوامر الإمام أو داعيه ولا تكونون من العصاة، ولا تغدرون الداعي، ولا تدعون منصب الدعاة، وتكونون عوناً للداعي، ولا تتحيلون مع الدعاة قولوا نعم. 3 - وتطيعون داعي الإمام على كل حال، وتمتنعون عما نهاه الداعي ولا تتقدمون أمام الداعي، وتحبون من أحبه الداعي وتبغضون من أبغضه، وتقاتلون من يقاتلهم الداعي، من يعص الداعي يخرج من الطائفة سواء كان صغيراً أو كبيراً، قريباً أو بعيداً لا تناقشونه في أي أمر، ولا تكاتبونه سراً ولا علانية، ولا تخاطبونه مخاطبة الأصدقاء لأصدقائهم، ولا تتحلون بأخلاق أعداء الداعي وعاداتهم ولا تتخذون وسيلتهم، وعدو الداعي عدوكم قولوا نعم المصدر: البوهرة تاريخها وعقائدها لرحمة الله قمر الهدى الأثري - ص288 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 135 المطلب التاسع: البهرة وتعاونهم مع الاستعمار ففي عهد الداعي السابع والأربعين عبد القادر نجم الدين "1845م – 1885م" توطدت علاقات البهرة مع الدولة المستعمرة أكثر من كل العهود السابقة، نتيجة التعاون الوثيق بين داعي البهرة والحكام وظهرت نتيجة التعاون في الامتيازات التي وهبت له، فقد اعتبرته الدولة أعظم رؤساء منطقة دكن على الإطلاق واستثنته من قانون حمل السلاح، وحمته من المثول أمام القضاء المدني، ومازال الدعاة يتمتعون بهذه الميزات حتى اليوم. أما الداعي الحادي والخمسون طاهر سيف الدين فتعاونه مع المستعمرين مازال حديث الشيوخ ومن طال بهم العمر حتى الآن، فما أن تولى سدة الدعوة الطيبية أثناء الحرب العالمية الأولى 1915م، حتى أعلن ولاءه للدولة الحاكمة، ويعبر الشيخ أبو ظفر الندوي عن هذا الإخلاص المتفاني فيقول: "ظلت علاقته مع الدولة حسنة على الدوام. والدولة بدورها أقرت له بكل الامتيازات الممنوحة للدعاة السابقين. لذا اعترفت له بالأمير الممتاز في ولاية دكن كلها، وفي الحرب العظمى قدر سيدنا طاهر سيف الدين الموقف حق التقدير، فظهر بعد نظره في الإخلاص للدولة، وإنقاذها بكل السبل الممكنة، فوهب لها أموالاً طائلة، وأقرضها أخرى، وحث الأتباع على نهج هذا المنهج، وقد مُدَّت هذه اليد المنقذة إلى المستعمرين حين كانت حركة الرسائل الحريرية المسلمة تخطط لطردهم، وحين كان المسلمون موقنين أن الغرب يريد أن يمزق الخلافة العثمانية رمز وحدة المسلمين، ويرغب في الإجهاز عليها، وتوزيع ثرواتها من الولايات المسلمة بين الغاشمين الأوروبيين". المصدر: سلسلة ماذا تعرف عن ... لأحمد بن عبد العزيز الحصين - 1/ 382 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 136 المطلب العاشر: فتاوى العلماء عن فرقة البهرة • فتوى اللجنة الدائمة . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 137 فتوى اللجنة الدائمة س1: كبيرُ علماءِ بوهرة يصرُ على أنهُ يَجبُ على أتباعهِ أن يقدموا له سجدةً كلما يزورونهُ. فهل وجد هذا العملُ في زمنِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو الخلفاء الراشدين، وحديثاً نُشرت صورةٌ لرجلٍ بوهري يسجد لكبيرِ علماء بوهرة في جريدة - من - الباكستانية المعروفة الصادرة في 6/ 10/1977م ولإطلاعكم عليها نرفقُ لكم تلك الصورة؟ جـ1: السجودُ نوعٌ من أنواعِ العبادةِ التي أمر الله بها لنفسهِ خاصةً، وقربة من القربِ التي يجب أن يتوجه العبدُ بها إلى الله وحده، لعموم قولهِ تعالى: ولقدْ بَعَثْنا في كلِّ أُمّةٍ رسولاً أنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطّاغوتَ [النحل: 36]، وقولهُ: وما أرْسلْنا من قبلِكَ مِنْ رسولٍ إلاّ نوحي إليهِ أنّهُ لا إله إلاّ أنا فاعبدون [الأنبياء: 25]، ولقوله تعالى: ومِنْ آياتِهِ اللّيلُ والنّهارُ والشمسُ والقمرُ لا تسجُدوا للشمسِ ولا للقَمَرِ واسجُدوا لله الذي خَلَقَهُنَّ إنْ كُنتمْ إيّاهُ تَعبدون [فصلت: 37]، فنهى سبحانهُ عباده عن السجودِ للشمسِ والقمر، لكونهما آيتين مخلوقتين لله فلا يستحقان السجود ولا غيره من أنواعِ العبادات. وأمر تعالى بإفراده بالسجود لكونهِ خالقاً لهما ولغيرهما من سائرِ الموجودات، فلا يصحُ أن يُسجدَ لغيرهِ تعالى من المخلوقات عامة، ولقوله تعالى: أفَمِنْ هذا الحديثِ تَعجبون، وتضحكونَ ولا تبْكون، وأنتمْ سامدون، فاسجدوا لله واعبدوا [النجم: 59 - 62] فأمر بالسجود له تعالى وحدهُ، ثم عم فأمر عباده أن يتوجهوا إليه وحدهُ بسائرِ أنواعِ العبادةِ دون سواه من المخلوقات، فإذا كان حالُ البوهرةِ كما ذُكر في السؤالِ فسجودهم لكبيرهم عبادةٌ وتأليهٌ له، واتخاذ له شريكاً مع الله أو إلهاً من دون الله. وأمره إياهم بذلك أو رضاه به يجعلهُ طاغوتاً يدعو إلى عبادةِ نفسه فكلا الفريقين التابع والمتبوع كافرٌ باللهِ خارجٌ بذلك عن ملةِ الإسلامِ والعياذُ بالله. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 138 س2: كبير علماء بوهرة يدعي أنه الروح الكلي للروح والإيمان - العقائد الدينية - نيابة عن أتباعه؟ ج: إذا كان كبير علماء بوهرة يدعي ما ذكر فدعواه باطلة سواء أراد بما يدعيه من مِلْك الروح والإيمان أن الأرواح والقلوب بيده يصرفها كيف يشاء يهديها إلى الإيمان أو يضلها عن سواء السبيل فإن ذلك ليس إلى أحد سوى الله تعالى، لقوله سبحانه: فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 125] وقوله: مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا [الكهف: 17] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن تصريف القلوب بهدايتها وإضلالها إلى الله دون سواه، ولما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم: ((قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يصرفها كيف يشاء)) (1). ومن دعائه صلى الله عليه وسلم عند فزعه إلى ربه بقوله: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)) (2) أو أراد بملكه الأرواح والإيمان نيابة عن جماعته أن إيمانه يكفي أتباعه أن يؤمنوا وأنهم يثابون بذلك يؤجرون وينجون من العذاب، وإن أساءوا العمل وارتكبوا الجرائم والمنكرات فإن ذلك مناقض لما جاء في القرآن من قوله تعالى: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة: 286] وقوله: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور: 21] وقوله: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر: 38 - 42] الآيات وقوله: مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء: 123 - 124]، وقوله: وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم: 39]، وقوله: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [فاطر: 18]، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أن كل إنسان يجزى بعمله خيراً كان أم شراً، ولما ثبت في الحديث من أن النبي صلى الله عليه وسلم قام حين أنزل عليه وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] فقال: ((يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا)) (3). س4: ويدعي أنه المالك الكلي لجميع أملاك الوقف، وأنه غير محاسب على جميع الصدقات، وهو الله على الأرض، كما ادعى ذلك كبير العلماء المتوفى سيدنا طاهر سيف الدين في قضية بالمحكمة العليا في مدينة بومباي، وله القدرة الكاملة على جميع أتباعه.   (1) رواه مسلم (6921). (2) رواه الترمذي (2140) والحاكم (1927) وقال: "إسناده صحيح"، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (7987). (3) رواه البخاري (4771) ومسلم (525). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 139 ج: ما ذكر في السؤال عن دعوى البوهرة ملكه الكلي لجميع أملاك الوقف وأنه غير محاسب على جميع الصدقات وأنه هو الله على الأرض كلها دعاوى باطلة، سواء صدرت منه أم من غيره، أما الأولى فلأن أعيان الأوقاف لا تملك وإنما يملك الانتفاع بغلتها وذلك بصرفها إلى الجهات التي جعلت وقفاً عليها لا إلى غيرها، فلا يملك كبير البوهرة أعيان - أي أوقاف - ولا يملك شيئاً من غلتها إلا غلة ما جعل وقفاً عليه إن كان أهلاً لذلك. وأما الثانية: وهي دعوى أنه غير محاسب فلأن كل امرئ محاسب على جميع أعماله من التصرف في الصدقات وغيرها بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة. وأما الثالثة: وهي دعوى أنه الله في الأرض - فكفر صريح ومن ادعى ذلك فهو طاغوت يدعو إلى تأليه نفسه وعبادتها، وبطلان ذلك معلوم من دين الإسلام بالضرورة. س5: ويدعي أنه يحق له أن يعلن البراءة والمقاطعة الاجتماعية ضد الذين يعترضون على مثل هذه الأعمال. ج: إن كانت صفة كبير علماء بوهرة على ما تقدم في الأسئلة فلا يجوز له أن يتبرأ ممن يعترضون عليه فيما ارتكبه من أنواع الشرك، بل يجب عليه قبول نصحهم والإقلاع عن تأليه نفسه وعن دعوى اتصافه بما هو من اختصاص الله تعالى من الألوهية وملك الأرواح والقلوب ودعوة من حوله إلى عبادته إلى غلوهم في الضراعة والخضوع له ولأفراد أسرته، بل يجب على من اعترضوا على ما يرتكبه من ألوان الكفر أن يتبرءوا منه ومن ضلاله وإضلاله إذا لم يقبل نصحهم، ولم يعتصم بكتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يتبرءوا من أتباعه وكل من كان على شاكلتهم من الطواغيت وعبدة الطواغيت قال الله تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا [آل عمران: 103] وقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21] وقال: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: 36] وقال: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ [الزمر: 17 - 18] وقال: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة: 4] إلى أن قال سبحانه وتعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الممتحنة: 6]. س6: هل الإسلام يسمح بالاضطهاد الديني - البوهرة مسلمون يؤمنون بجميع تعاليم الإسلام والقرآن المجيد وكلام الله، ويجب على جميع المسلمين أن يؤمنوا بالقرآن. ج: الإسلام لا يسمح باضطهاد المسلمين الصادقين في إيمانهم وأتباعهم لكتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم بل يحرم ذلك وقد يعتبره كفراً، إذا كان واقع كبير علماء بوهرة وأتباعه وما وصفت في أسئلتك فهم كفرة لا يؤمنون بأصول الإسلام ولا يهتدون بهدي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يستبعد منهم أن يضطهدوا الصادقين في إيمانهم بالله وكتابه وبرسوله صلى الله عليه وسلم وسنته، كما اضطهد الكفار في كل أمة رسل الله الذين أرسلهم سبحانه إليهم لهدايتهم. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الرئيس: عبد العزيز بن عبد الله بن باز نائب رئيس اللجنة: عبد الرزاق عفيفي عضو: عبد الله بن قعود عضو: عبد الله بن غديان المصدر: سلسلة ماذا تعرف عن ... لأحمد بن عبد العزيز الحصين - 1/ 387 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 140 المبحث الثاني: طائفة الأغاخانية (الإسماعيلية) • المطلب الأول: تعريف بالأغاخانية (الإسماعيلية) ونشأتها . • المطلب الثاني: من أبرز شخصياتهم. • المطلب الثالث: عقيدتهم. • المطلب الرابع: أعيادهم واحتفالاتهم الدينية. • المطلب الخامس: أحوالهم المادية. • المطلب السادس: الضرائب عند الأغاخانية. • المطلب السابع: عادات وطقوس الأغاخانية. • المطلب الثامن: تنظيماتهم ونشاطهم الدعوي. • المطلب التاسع: أماكن انتشارهم. • المطلب العاشر: الأغاخانية وتعاونهم مع الاستعمار. • المطلب الحادي عشر: فتاوى العلماء في الأغاخانية (الإسماعيلية). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 141 المطلب الأول: تعريف بالأغاخانية (الإسماعيلية) ونشأتها • أولا: التعريف . • ثانيا: نشأة الأغاخانية الإسماعيلية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 142 أولا: التعريف الأغاخانية فرقة من الإسماعيلية النزارية تنسب إلى حسن علي شاه الذي ظهر في إيران ولقب نفسه بالأغاخان الأول وقام بالثورة ولكنه فشل وهرب إلى الهند وهناك اعترف به الإنجليز إماماً للطائفة الإسماعيلية، وخلعوا عليه لقب أغاخان فانتسب إلى نزار بن المستنصر الفاطمي وأصبح إمام الإسماعيلية النزارية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 143 ثانيا: نشأة الأغاخانية الإسماعيلية الإسماعيلية افترقت إلى فرقتين الأولى: مستعلوية, والثانية: نزارية المستعلوية يقولون: إن الإمامة انتقلت بعد المنتصر بالله إلى ابنه المستعلي بالله أبي القاسم أحمد سادس الخلفاء بمصر وهكذا إلى حادي عشر خلفائهم بمصر أيضا وهذا العاضد لدين الله أبو محمد عبد الله بن يوسف الحافظ وهو آخر هذه الطائفة حتى مات. الفرقة الثانية وهي النزارية والتي هي موضوع بحثنا: فالنزارية يقولون إن الإمامة انتقلت بعد المستنصر بالله إلى ابنه نزار بالنص دون ابنه المستعلي ويزعم النزارية أن نزار المذكور خرج من الإسكندرية حملا في بطن جارية تقية على نفسه، وخاض بلاداً حتى صار إلى الموت أي أنه صار إلى بلاد المغرب وصارت الإمامة في بنيه هناك، لكن المستعلية ينكرون ذلك ويقولون: فر إلى الإسكندرية، وسار إليه الأفضل ابن أمير الجيوش وزير المستعلي، وحاصره بالإسكندرية فظفر به، وأتى به إلى المستعلي الذي قتله شر قتلة، إذ بنى عليه حائطين، فمات ومن فر من النزارية استقر بالمغرب والقائمون فيها الآن من ولده كما تشهد بذلك كتب التواريخ لمغرب بن سعيد وغيره. "أما النزاريون فقد استطاعوا بقيادة حسن بن الصباح الاستيلاء على عدد من الحصون في فارس وسوريا، أهمها ألموت عام "1090 حيث كان حسن وخلفاؤه من بعده يسيطرون على الطائفة التي كانت قائمة على أساس الممتلكات الإقليمية واستخدموا وسيلة اغتيال الشخصيات المرموقة كوسيلة للإرهاب ومن هنا تشرب اسمهم "الحشاشون" إلى اللغات الأوروبية ولما جاء الخليفة حسن الرابع وكان يدعى حسن أيضا دعى نفسه "الإمام نزار" وأعلن وصول فترة البعث وكان يعتبر هو وخلفاؤه مظهراً للذات الإلهية، وعندما انكسرت شوكة الحشاشين السياسية في فارس على يد المغول الذين احتلوا معقلهم الرئيسي ألموت عام 1256، وفي سوريا على يد المماليك، واستمرت الطائفة بقيادة أئمتها الذين كانوا من سلالة حكام ألموت. ومنذ القرن الرابع عشر الميلادي كان هناك خطان متنافسان داخل الطائفة، وفي القرن السادس عشر هاجر ظاهر شاه، وكان من الفرع الصغير إلى الهند، حيث استمر أتباعه لمدة قرنين من الزمان، أما أئمة الفرع الكبير في الطائفة فقد عاشوا في شتى المدن الفارسية حتى جاء عام 1890 عندما ذهب الإمام أغاخان إلى الهند، هو وأتباعه المعرفون بالأغاخانيون ولهم أتباع متعددون في الهند وباكستان يبلغون عدة ملايين وفي مناطق بامير وأم داريا العليا وإيران وأفريقيا "بين المهاجرين الهنود" وسوريا حيث تجمع أتباع الطوائف حول قادتهم في نهاية القرن التاسع عشر. أما الأغاخانية الحالية والتي تعيش بيننا يقال أن رجلا اسمه حسن علي شاه وهو إسماعيلي هدد الأمن وقطع الطريق على القوافل حتى ذاع صيته في أنحاء إيران وأصبح أسطورة على ألسنة الناس وأعجب الإيرانيون ببطولاته فانضموا إليه إعجابا به وطمعا في المكاسب المادية التي سوف يحصلون عليها من طريق حسن علي شاه "المسمى أغاخان الأول" في قيادة ثورة يهدد بها الأمن ولكن حسن علي شاه فشل في ثورته وقبض عليه فسارع الإنجليز إلى التوسط له بالإفراج عنه على أن ينفى من إيران كلها. ذهب حسن علي شاه إلى أفغانستان كرغبة الإنجليز ولكن لم يستطع أن يقدم هناك شيئا لمخططاته ليقظة الأفغانيين فاتجه إلى الهند وسكن مدينة بومباي وهناك اعترف به الإنجليز إماماً للطائفة الإسماعيلية، وخلعوا عليه لقب أغاخان فانتسب إلى نزار بن المستنصر الفاطمي وأصبح إمام الإسماعيلية النزارية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 144 وهذا أغاخان الإمام الإسماعيلي الثالث موضحا انتقال أجداده بعد انهيار الحكم الفاطمي الشيعي على يد البطل المؤمن صلاح الدين الأيوبي رحمه الله من مصر، إلى سوريا ولبنان وارتحالهم منها شرقا إلى جبال إيران التي أصبحت مركزا لانتشارهم فيما بعد: والتي هاجر منها جده إلى الهند حيث استقر هو وأسرته ومن هاجر معه من أتباعه في مدينة بومباي. يقول: بعد ضياع الخلافة الفاطمية في مصر انتقل أجدادي أول ما انتقلوا إلى مرتفعات سوريا ولبنان، ومن هناك ارتحلوا شرقا إلى جبال إيران حيث أقاموا معقلا لهم في ذروة ألموت الشامخة من جبال البرز، وهي السلسلة التي تفصل بين سائر إيران والمقاطعات الكائنة إلى الجنوب من بحر قزوين مباشرة وتتناول الأسطورة والتاريخ هنا نسج حكاية "شيخ الجبل" الغربية، والأسياد العظام الوارثين لطغمة القتلة الذين احتفظوا بألموت قرابة مئتي عام. في هذه الفترة اشتهرت العقيدة الإسماعيلية في سوريا والعراق والجزيرة العربية نفسها، وفي أواسط أسيا، فلقد كانت سمرقند وبخارى وغيرهما من المدن مراكز عظيمة للعلوم ومذاهب الفكر الإسلامية، وبعد قليل، أي في القرن الثالث عشر للميلاد، نفذت الدعاية الإسماعيلية الدينية إلى ما يعرف بسينج يانج وتركستان الصينية، وقد جاء وقت في القرنين الثالث والرابع عشر كانت فيه العقيدة الإسماعيلية المدرسة الفكرية الرئيسية والأكثر نفوذا، غير أنه بانتصار أسرة صفوي في إيران "في مقاطعتها الشمالية الغربية، أذربيجان، بصورة خاصة" وطدت الاثنا عشرية سلطتها واحتفظ من بقي من الإسماعيليين بثباتهم وصمودهم على عقيدتهم ولا يزال الكثيرون منهم في أنحاء متعددة من آسيا وأفريقيا وإيران. وفي سنة 1881م أخلفه ابنه في إمامة الطائفة، وعرف باسم أغاخان الثاني. وكان أبوه أعده للإمامة إعداداً كاملاً وهيأ له الثقافة الكاملة، وكان يجيد عدة لغات منها العربية وعمل على خدعة أبناء المسلمين الذين اتصلوا بأتباعه تمييزاً بين طوائفهم فسمت مكانته بين الناس جميعا، تزوج أميرة إيرانية وأنجب منها ولده محمد الحسين في نوفمبر 1877م وهو أغاخان الثالث المعروف باسم أغاخان المتوفى في أغسطس سنة 1957 وقد عاش أغاخان الثالث حياة طويلة مليئة بعناصر الإثارة والشهرة والشهوة وعمل على نشر المذهب الإسماعيلي بين طوائف المسلمين في الهند الأمر الذي أدى إلى ضياع المسلمين في شبه القارة الهندية فيما بعد وقد فضل الإقامة في أوروبا وأخذ من ملاذ الدنيا ولهوها نصيباً كبيراً وتزوج أربع مرات المرأة الأولى من أميرة إيرانية، والمرأة الثانية من فتاة إيطالية أنجب منها ابنه "علي خان" والمرأة الثالثة من بائعة حلوى وسجائر في باريس وأنجب منها ولده "صدر الدين خان" والمرأة الرابعة من إحدى ملكات الجمال، وحين مات أغاخان أوصى لحفيده "كريم" بالإمامة وهو الحالي للأغاخانية. وقد دفن أغاخان الثالث بناء على وصيته بمدينة أسوان بصعيد مصر في مسكن كان يملكه على الشاطئ الغربي للنيل ثم نقل رفاته إلى ضريحه الحالي المجاور لمسكنه المذكور في اليوم العشرين من فبراير سنة 1959 ويعتبر هذا الضريح منذ ذلك الحين مزارا لطائفة الشيعة الإسماعيلية. وله ثلاث أولاد: كريم وعلي وصدر الدين ولكن أغاخان علي أوصى لحفيده كريم ولم يوص لأحد من ولديه "علي" و"صدر الدين" رغم أن عليا والد كريم كان لا يزال على قيد الحياة ولكن لعل مسلك علي الشخصي كواحد من أشهر رواد الفساد الأخلاقي فقد بلغ القمة في الانغماس في الخطيئة من معاقرة الخمر ولعب القمار ومصادقة فاتنات الملاهي وراقصات الكباريهات حتى سخرت منه الصحافة الأوروبية حين كانت تتابع أخباره سكرانا مما اضطر الإمام الإسماعيلي من الإقدام على حرمان ولده من الإمامة حتى لا يحط من قدر الطائفة أمام المسلمين وغير المسلمين على حد سواء وزعماء هذه الفرقة يبدلون في المبادئ حسب أهوائهم، وأتباعهم يعتقدون أن لهم التصرف في أمور الدنيا والآخرة ولهذا تجمع الأموال للإمام لا للفقراء وكلما امتد الزمان زاد مذهبهم فسادا ولحق الناس والمجتمعات من أعمالهم شر كبير. "وأغاخان كريم الرابع" يعيش اليوم في بذخ وحياة لا تختلف عن حياة والده وهو يعيش الآن في "فرنسا" باريس ولفظ أغا يعني في الفارسية السيد ولفظ خان يعني الرئيس أو الزعيم أو القائد وأغا خان: يعني السيد الرئيس أو الزعيم وقد أطلقته الإسماعيلية النزارية على إمامهم في منتصف القرن التاسع عشر ميلادي تعبيراً عن ولائهم له. المصدر: سلسلة ماذا تعرف عن ... لأحمد بن عبد العزيز الحصين -1/ 231 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 145 المطلب الثاني: من أبرز شخصياتهم وقد اشتهر من زعمائهم الذين أطلقوا عليهم أئمة فيما بعد أربعة أشخاص وهم: 1 - أغاخان الأول الذي نصبه الإنجليز على الطائفة بعد تجميعها من سنة 1233هـ حتى هلك عام 1298هـ. 2 - ابنه علي شاه المعروف باسم أغاخان الثاني وتوفى بعد فترة قصيرة من توليه زعامة الطائفة، حيث هلك عام 1302هـ.3 - وبعده تولى زعامة الطائفة ابنه محمد علي شاه ولقب بأغاخان الثالث وهو أشهر زعماء الأغاخانية حيث طالت مدته وبقي في زعامة الطائفة حتى هلك عام 1377هـ فتكون فترة زعامته خمساً وسبعين سنة، وقد تظاهر بأعمال أكسبته بعض الشهرة كدفاعه عن الخلافة العثمانية ودفاعه عن حقوق الأتراك بعد سقوط الخلافة، ومشاركته في تأسيس الرابطة الإسلامية بالهند وإنشاء جامعة عليكرة الشهرية في الهند (1).ويكفي رداً لهذه الأعمال وأنها لخدمة طائفته ومذهبه ما نقل عنه من تأييد واضح للسيادة الإنجليزية على بلاد المسلمين في الهند، بل إنه يرى أن هذه السيادة نعمة للشعوب الهندية ويصرح بأن رغبة الهنود في الاستقلال رغبة طائشة حمقاء ونزعة متهوسة سابقة لأوانها (2).ويقول عنه جولد زيهر اليهودي: وهو رجل دنيوي المظهر إلى حد كبير ومشبع بأفكار الثقافة العصرية ولا شيء في مظهره يذكرنا بمبادئ المذهب الذي ينبغي أن يمثله (3).كما أنه اشتهر بحياة اللهو والفسق والعبث إلى درجة السفه، ففي شبابه يوصف بأنه زير نساء يتنقل بين الغانيات وبائعات الهوى (4)، وقد هلك في سويسرا عام 1377هـ، ونقل جثمانه إلى أسوان في مصر، حيث دفن هناك بعد احتفال رسمي بذلك (5). 4 - تولى زعامة الطائفة بعده حفيده المسمى كريم خان ولقب بأغاخان الرابع على الرغم من سخرية بعض الإسماعيلية من اختياره للحفيد وترك ابنه صدر الدين؛ لأن ذلك مخالفة لعقيدة تسلسل الأئمة. ومن الجدير بالذكر أن أمه بريطانية تدعى جون بربارا وتلقى علومه الأولية بسويسرا وأكمل تعليمه في جامعة هارفارد الأمريكية (6)، ومع ذلك كله يعتبره الإسماعيليون في العصر الحاضر الإمام الثاني والأربعين في سلسلة الأئمة الإسماعيلية. المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان عبد الله السلومي - ص 372   (1) انظر ((دراسة عن الفرق)) لأحمد جلي (ص: 239 - 240). (2) ((العقيدة والشريعة)) لجولد زيهر (ص: 246). (3) ((العقيدة والشريعة)) لجولد زيهر (ص: 245). (4) انظر كتاب ((طائفة الإسماعيلية)) لمحمد كامل حسين (ص: 125)، كتاب ((دراسة عن الفرق)) لأحمد جلي (ص: 241). (5) ((تاريخ الدعوة الإسلامية)) لمصطفى غالب (ص: 478). (6) انظر ((طائفة الإسماعيلية)) لمحمد حسين (ص: 129)، ((تاريخ الدعوة الإسماعيلية)) لمصطفى غالب (ص: 435). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 146 المطلب الثالث: عقيدتهم • أولا: من أهم عقائدهم . • ثانيا: من أقوال الأب الروحي للإسماعيلية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 147 أولا: من أهم عقائدهم 1 - يرون أن الأرواح مسجونة في هذه الأجسام المكلفة بطاعة الإمام المطهر فإذا انتقلت على الطاعة كانت قد تخلصت وانتقلت للأنوار العلوية وإن انتقلت على العصيان هوت في الظلمات السفلية!. 2 - يرون رجعة من مات من الأئمة بنوع التناسخ والرجعة ومنهم من ينتظر مجيء من يقطع بموته، ومنهم من ينتظر عودة الأمر إلى أهل البيت. 3 - يرون العلم لا يكون إلا بالتعلم من الأئمة خاصة، وأن الأئمة هم هداة الناس. 4 - يقولون لابد من إمام معصوم: أو مستور، فالأئمة الظاهرون هم أنفسهم ويدعون الناس إلى إمامتهم، والمستورون هم الذين يتسترون ويظهرون دعاتهم، وآخر الظاهرين عندهم إسماعيل الذي ينتسبون إليه وأول المستورين ابنه المكتوم. فهم يعظمون الإمام فجعلوا للأئمة صفات فهم يقولون ظاهرا إن الأئمة بشر كسائر الناس ويأكلون وينامون ويموتون، ولكنهم في تأويلاتهم الباطنية يقولون أن الإمام هو "وجه الله" و"يد الله" و"جنب الله" وأنه الذي يحاسب الناس يوم القيامة ويقسمهم بين الجنة والنار وأنه هو الصراط المستقيم" و"الذكر الحكيم" و"القرآن الكريم". 5 - ويقولن إن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، ومن لم يكن في عنقه "بيعة إمام" مات ميتة جاهلية". 6 - يرون نسخ الشريعة وأن الإمام محمد بن إسماعيل أول الأئمة المستورين، والناطق السابع قام بنسخ الشريعة التي سبقته فجمع بين النطق والإمامة، ورفع التكاليف الظاهرة للشريعة فنادى بالتأويل واهتم بالباطن. 7 - يرون أن محمد بن إسماعيل حي لم يمت، وأنه في بلاد الروم، وأنه القائم المهدي، ومضى القائم عندهم أنه يبعث برسالة وشريعة جديدة ينسخ بها شريعة محمد صلى الله عليه وسلم. 8 - يدعون ألوهية الإمام بنوع الحلول. 9 - يرون موالاة أهل البيت، ويتبرؤون ممن خالفهم، وينسبون إلى الأخذ بالباطل والوقوع في الضلال. 10 - تبرؤوا من الشيخين "أبو بكر وعمر رضي الله عنهما". ونعتوهما بصفات قبيحة كإبليس وفرعون وهامان والطاغوت وهبل. وهناك قصة غريبة شيطانية يتداولها الإسماعيلية تدل على حقدهم على صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام. يقول الدكتور محمد كامل حسين: الإسماعيلية تزعم أن أبا بكر كان حجة جزيرة لآخر إمام في دور عيسى، وبحكم مكانته علم أن الله تعالى سيرسل نبينا يختم به الأنبياء، فطمع أبو بكر في أن يكون هو النبي، ولكن الله أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم، فاضطر أبو بكر إلى أن يؤمن بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، طمعا في أن يلى الوصاية، فكان أبو بكر من أوائل الذين اعترفوا بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام وعلم أبو بكر أن الله تعالى نص على وصاية علي بن أبي طالب، ولكنه عمل على اغتصاب حق علي ... ثم إن أبا بكر أراد أن يرد الحق إلى أهله وأن ابنه محمدا كان يعظه ويحضه على اتباع علي، ولكن عمر أغراه ومنعه على أن يلى الأمر بعده، فكان عمر خليل أبي بكر وفيهما أنزل الله تعالى يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا [الفرقان: 28] يعني الظالم الثاني "أي عمر". وزعم الإسماعيليون أن قول أبي بكر "لي شيطاني يعتريني فإذا زغت فقوموني" بأن الشيطان هو عمر، لهذا تبرأ الإسماعيليون من الشيخين ونعتوهما بكل الصفات القبيحة كإبليس وفرعون وهامان والطاغوت وهبل وأدلم .. إلى غير ذلك من الألقاب الدنيئة. وسموا جمهور المسلمين الذين لا يدينون بمذهبهم أولاد الزنا، والنواصب، لأنهم بغضوا عليا ونصبوا أعداءه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 148 11 - يزعمون أن العالم له دورات متعاقبة تقوم على مبدأ الرقم "سبعة" وكل دور له نطقاء أو أنبياء سبعة وأسس "أو الأوصياء" سبعة وأئمة سبعة. فإذا انتهى أو تم دور العقل السابع والأخير، أتى من بعده دور جديد متمثل بناطق أو "نبي" جديد يدعو إلى شريعة جديد ينسخ بها شريعة النبي الذي كان قبله، ولهذا فلم يزعمون أن محمد بن إسماعيل مؤسس فرقتهم هو الناطق الجديد الذي افتتح دورا جديدا في دورات هذا العالم هو دور القيامة بعد أن انتهى علي بن أبي طالب، وتم بإسماعيل بن جعفر وينتهي الدور الجديد بظهور قائم القيامة. ولقد قابل الإسماعيليون مراتب العقول التي قالوا بها بمراتب الدعوة الإسماعيلية وبالأفلاك والكواكب الموجودة في السماء وطابقوها على الشكل التالي. 1 - العقل الأول أو المبدع الأول: يقابل الفلك الأعلى، ويقابل الناطق، وله رتبة التنزيل. 2 - العقل الثاني أو الموجود الثاني. يقابل الفلك الثاني، ويقابل الأساس، وله رتبة التأويل. 3 - العقل الثالث يقابل "فلك زحل"، ويقابل الإمام وله رتبة الأمر. 4 - العقل الرابع: يقابل "فلك المشتري" ويقابل الباب، وله رتبة فصل الخطاب. 5 - العقل الخامس: يقابل "فلك المريخ" يقابل الحجة، وله رتبة الحكم فيما كان حقا أو باطلاً. 6 - العقل السادس: يقابل "الشمس" ويقابل داعي البلاغ، وله رتبة الاحتجاج. 7 - العقل السابع: ويقابل "فلك الزهرة" ويقابل الداعي المطلق، وله رتبة تعريف الحدود العلوية والعبادة الباطنية. 8 - العقل الثامن: يقابل "فلك عطارد" ويقابل الحدود، وله رتبة تعريف الحدود السلفية والعبادة الظاهرة. 9 - العقل التاسع: يقابل "القمر" ويقابل المأذون المطلق، وله رتبة أخذ العهد والميثاق. 10 - العقل العاشر: يقابل "ما دون فلك القمر" ويقابل المأذون المحدود والمكاسر أو المكالب، وله رتبة جذب الأنفس المتسجيبة. فالله عند الإسماعيلية هو العقل تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. 12 - ينفون صفات الله مطلقاً وإنكار أية صفة عنه سبحانه التي وصف بها نفسه في القرآن الكريم. 13 - يزعمون أن جميع الأنبياء لم يأخذوا التأييد ولا اتصل بهم الوحي، إلا عن طريق الحدود الروحانية. 14 - جميع معجزات الأنبياء يرون أنها تدور في فلك واحد وهي رمز لأشياء لا يفهمها إلا أهل الباطن. 15 - لا يؤمنون بعلم أو حديث إلا ما روي عن أئمتهم. 16 - إباحة المحرمات والمحارم، فأباحوا شرب الخمر، والبنات والأخوات وجميع الملذات. 17 - يقولون بقدم العالم وأن له مديرين. الأول: الله. والثاني: النفس. 18 - الإمام يعين بالنص لا بالانتخاب، وهو معصوم من الكبائر والصغائر. 19 - الأنبياء سواس العامة، والخاصة فأنبياؤهم الفلاسفة، فالشعائر الدينية للعامة وأما الخاصة يلزمهم العمل بها. وهذا بيان من الإسماعيلية الأغاخانية بشر عقيدتهم بقلم عاشق حسين رئيس لجنة الشؤون الدينية الفدرالية لسمو الأمير أغاخان "كريم أغا خان" وهذا البيان موجود لدى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت لدى مراقب الدراسات وبتاريخ 11/ 1/1986م. وهذا نص البيان: مولانا شاه كريم الحسيني الإمام الحاضر الموجود ارحمنا واغفر لنا لجنة الشؤون الدينية الفدرالية لسمو الأمير أغاخان بباكستان نيو جماعت خانه، شارع بريتو، كراتشي 3 "تعليمات مذهب الأغاخانية "الإسماعيلية"" أعن يا علي المؤمنين الحقيقيين. نبين نحن الأغاخانيين بأننا ننتمي إلى الجماعة الإسماعيلية التي تبلغ المعلومات الدينية إلى عامة الناس. تعليماتنا الدينية التي نلتقي تحت إشراف عالمنا المسمى "مكهي" ومن ثم نتعبد حسب تلك التعليمات في الأمكنة الخاصة نسميها "جماعت خانة" وتفاصيل تلك التعليمات كالآتي: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 149 - تحيتنا قولنا "يا علي مدد" أي "أعنا يا علي" وجوابها قولنا "مولا علي مدد" أي أعنا يا مولانا علي. - شهادتنا هي: أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وأشهد أن علي الله. - لسنا بحاجة إلى الوضوء لأن الوضوء ما هو إلا طهارة قلوبنا فقط. - مكان الصلاة مفروض على كل واحد من الأغاخانيين. والذي يدعو ثلاث مرات في ذلك المكان المعين يكون بدلاً عن الصلوات الخمسة. ولا حاجة فيها إلى القيام والركوع غير أننا لا نولي إلى جهة معينة بل نصلي إلى أي جهة شئنا، إلا أن تصور حضور إمامنا يجب في صلاتنا. - ما الصوم إلا صوم العين والأذن واللسان. ولا يفسد صومنا بالأكل والشرب وصومنا يحتوي على ثلاث ساعات فقط ونفطر في الساعة العاشرة صباحا وذلك تطوعا ومشروطا بمشيئتنا. لكن طوال السنة نصوم يوم الجمعة الذي يكون في بداية الشهر. - ويفرض علينا دفع: 12.5% روبية من مجموع أموالنا بدلا عن الزكاة. - أما الحج فهو رؤية إمامنا الحاضر "وهو يمثل كظل الله في الأرض". - نجد بيننا قرآناً ناطقاً وهو إمامناً الحاضر بينما المسلمون عندهم كتاب فقط. - عالمنا "مكهي" يمحو عنا ويزيل المعاصي المرتكبة في طول اليوم بصب الماء علينا. والذي لم يستطع الذهاب إلى المكان المحدد للعبادة فعليه أن يستغفر ذنوبه بالذهاب إلى العالم يوم الجمعة فقط وذلك بصب الماء عليه وشربه "ويسمى هذا الماء كهت بات" ويدفع أجرة ذلك. فإذا لم يتمكن من الذهاب يوم الجمعة، يستطيع استغفار ذنوب شهر كامل بالطريقة المذكورة. وكيفية عبادتنا هي كالآتي: - إن أمامنا الحاضر يعلمنا كلمة "اسم أعظم" ثمنها 75 روبية ونتعبد بها في آخر الليل. وندفع 500 روبية لعفو عبادة خمسة سنوات، 1200 روبية لعبادة 12 عاما، و 5000 روبية لعبادة حياة كاملة .. وندفع تلك الأجرة في "جماعت خانة". ونتشرف بنور إمامنا الحاضر بعد دفع 7000 روبية وندفع 25000 روبية في جماعت خانة حتى نتقي من عذاب الآخرة. والصدقات عندنا تسمى "ناندي" فالأطعمة الطيبة والملابس الثمينة تصدق إلى جماعت خانة، وبعد بيعها يجمع ثمنها في جماعت خانة. ونوضح هنا بأن مذهبنا قائم منذ قرون ولم ينقده أحد إلى يومنا هذا. فإذا كان مذهبنا خاطئا لانتهى من وجه الأرض. والآن لو اطلع المسلمون وعلماؤهم على أبطال مذهبنا واعترضوا عليه كان عليهم أن يتصلوا بلجنة الشؤون الدينية الفدرالية لسمو الأمير آغاخان ويطلبوا منها الإيضاح في هذا الصدد. لكنهم لم يفعلوا ذلك وهذا دليل على خوفهم من علمائنا ومن إمامنا الحاضر. ومنذ قرون لم ينقد أحد مذهبنا، فكيف تجرأ المسلمون الآن أن ينقدوه ويثبتوا إبطاله. علما بأن في كل دور من الأدوار كنا نحصل على الدعم المادي من قبل الحكومة والسلطة وحمايتها وذلك دليل قاطع على أن مذهبنا حق وصحيح. فاثبتوا أيها المؤمنون على دينكم الصحيح. ولا عجب أن يفتتن المسلمون بمثل هذه الفتن والمصائب. وندعو أن نتشرف بنور إمامنا الحاضر ورؤيته "آمين". وفي الآخر نقول: - يا شاه كريم الحسيني أنت الإمام الحاضر الموجود. اللهم لك سجودي وطاعتي، عاشق حسين رئيس لجنة الشؤون الدينية الفدرالية لسمو الأمير أغاخان بباكستان المصدر: سلسلة ماذا تعرف عن ... لأحمد بن عبد العزيز الحصين - 1/ 241 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 150 ثانيا: من أقوال الأب الروحي للإسماعيلية أقوال الأب الروحي للإسماعيلية أغاخان الثالث الإمام الثامن والأربعين فيما بين عامي 1885 - 1957 يقول: "على الرغم من أن الوحي الإلهي قد انقطع عند وفاة النبي فإن الحاجة إلى الهداية الإلهية استمرت ... " وهذا القول يتعارض مع قول الله جل وعلا الذي يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3].ويقول عليه الصلاة والسلام: ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي)) (1). ويقول: "إن نفوذ عائشة، زوجة محمد الشابة المفضلة، والعدوة الحقود لفاطمة وعلي، أمن انتخاب والدها أبي بكر". تلاحظ يا أخي المسلم كيف يفسد هذا الرجل الماجن العربيد الإجماع على أبي بكر الصديق ليكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثقيفة بني ساعده وكيف وصف السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها بهذا الوصف القبيح: وهذا تجنى على الرسول عليه الصلاة والسلام وكل الآيات القرآنية. قال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب: 6]. المصدر: سلسلة ماذا تعرف عن ... لأحمد بن عبد العزيز الحصين -1/ 241   (1) رواه بنحوه الحاكم (319)، وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (2937): "صحيح". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 151 المطلب الرابع: أعيادهم واحتفالاتهم الدينية • أولا: مزاراتهم . • ثانيا: أعيادهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 152 أولا: مزاراتهم فالبقية الباقية من الإسماعيلية الأغاخانية الموجودة في أنحاء من العراق يوجدون لغرض التجارة ولغرض الزيارة حيث يوجد لهم "حسينيات" يلجؤون إليها، منها في بغداد تأسست سنة 1890م في محلة باب السيفي، وفي البرة سنة 1894م، وفي كربلاء سنة 1895م، وفي النجف سنة 1896م، لقد قامت "جمعية فيضي حسيني" بإقامة هذه الحسينيات، ويوجد لهم مزارات غربي الهند في أحمد آباد، حيث يوجد قبر داعي الدعاة "داود بن عجب شاه" وقبر "داود بن قطب شاه" وهما بجوار بعض (1).ومن الغلو الواضح أن يعتبر ضريح أغاخان الثالث "محمد سلطان الحسيني" مزاراً للإسماعيلية الأغاخانية (2). المصدر: الإسماعيلية المعاصرة لمحمد بن أحمد الجوير- ص 134   (1) انظر كتاب ((سمط الحقائق في عقائد الإسماعيلية))، الوادعي، تحقيق عباس الغزاوي، المقدمة، (ص: 16 - 18). (2) انظر: ((آغاخان)) فاروق أباظة، المقدمة، (ص: 1). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 153 ثانيا: أعيادهم ولهذه الفرقة احتفالات يمارسون من خلالها أعمالاً منافية لأبسط تعاليم الإسلام، فقد جعلوا لهم أعياداً مقدسة، وهي لا تعدو كونها أعياداً لأسلافهم وأعياداً جديدة استحدثوها لأنفسهم نتيجة الغلو المفرط في أئمتهم ودعاتهم. فمن أعيادهم التي يحتفلون بها حتى عصرنا الحاضر يوم الغدير "غدير خم" (1) يشاركهم في ذلك كافة الشيعة على اختلاف فرقهم وأهوائهم (2). ومن الإسماعيلية الأغاخانية جماعة يطلق عليها "الهونزا" موجودة في شمال باكستان ويبلغ تعدادهم ما يقارب ثلاثون ألف يحتفلون بعيد ميلاد الإمام "آغا خان" ويحتفلون بذكرى زيارته للهونزا وجلجيت في 20 أكتوبر 1960م، وهذان العيدان من جملة الأعياد التي يعتقدونها ويحتفلون بها، إذ أن أعياد جماعة الهونزا الرسمية ثمانية أعياد هي الكتالي: عيد الفطر والأضحى الذي يسمونه عيد البقر وهم لا يعيرون هذين العيدين أي اهتمام كاهتمامهم بأعيادهم الأخرى ويبقى الأمر ظاهراً فقط، عيد الغدير والنيروز وهما عيدان موروثان عن الأسلاف، عيد ميلاد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعيد يوم الإمام "ذكرى تولي الإمام علي – رضي الله عنه – الخلافة"، وعيد ميلاد الإمام "أغاخان"، وعيد الذكرى السنوية للزيارة الأولى التي قام بها آغا خان للهونزا وجلجيت في 20 أكتوبر 1960م. والإسماعيليون اليوم في منطقة الهونزا يشكلون ما نسبته 95% من إجمالي السكان، ولقد اعتنقوا المذهب الإسماعيلي في منتصف القرن التاسع عشر إذ كانوا من قبل على المذهب الاثنى عشري (3).وللإسماعيلية المعاصرين ليلة تسمى ليلة الإمام يجتمعون فيها رجالاً ونساءً ثم يطفئون الأنوار، ثم يمسك كل واحد بيد من بجواره، حتى ولو كانت من محارمه، ومن الطرائف التي حصلت في إحدى الليالي أن واحداً أمسك بيد امرأة بجانبه فإذا هي عجوز، فحاول الهرب ولكنها أمسكته طالبة ممارسة الجنس معها والعياذ بالله (4). المصدر: الإسماعيلية المعاصرة لمحمد بن أحمد الجوير - ص 136   (1) أنظر: ((صبح الأعشى))، أبو العباس أحمد القلقشندي، المطبعة الأميرية بالقاهرة، 1331هـ، (2/ 407). (2) ((طائفة الشيعة))، محمد كامل حسين (ص: 4). (3) انظر: ((الهونزا مسلمون عند سطح العالم))، مجلة العربي، عدد 289، عام 1982م، (ص: 122). (4) انظر: ((مجلة المنهل))، السنة الخامسة، المجلد 46 جمادي الآخرة 1404هـ، (ص: 65، 68). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 154 المطلب الخامس: أحوالهم المادية لقد انغمس أئمة الإسماعيلية المعاصرين وخاصة الأغاخانية منهم في الملذات الدنيوية والمادية، فلقد اشتهر أغاخان بجنون العظمة والشهرة، حيث يذكر عنه أنه كان من عظماء رواد المسرح ومحبي الأوبرا ورقص البالية، وكان شغوفا بتربية الجياد وسباق الخيل، وكان كثير التجوال في البلاد الأوروبية وحضور حفلات أصدقائه الملوك والأمراء والنبلاء الذين غالي في حبهم، وتتجلى مغالاته تلك في قصة غرامه مع إحدى راقصات الأوبرا بالية "مونت كارلو" التي تدعى "تيريزا ماغليا نوا"، وقد تم زواجه منها حسب الشريعة الإسلامية – باعتقاده – وهي التي أنجبت له الأمير علي خان. وفي سنة 1926م تزوج من "أندريه كارون" الفرنسية وأنجبت له الأمير صدر الدين عضو الإغاثة في هيئة الأمم المتحدة الآن. وفي سنة 1944م تزوج "بأبغيت لابروس" (1). إن هذا الجانب يصور لنا نموذجاً من نماذج أئمة الأغاخانية الذين انهمكوا في حب النساء، أما الجانب المادي الذي انغمس به أئمتهم فيتضح لنا من خلال إقامة الاحتفالات بوزن إمامهم "أغاخان" مرات عديدة مرة بالذهب ومرة بالبلاتين ومرة بالألماس. ففي سنة 1937م وزن بالذهب الخالص في بومباي، وفي السنة نفسها وزن بالذهب في نيروبي. وفي سنة 1946م وزن بالألماس في بومباي، وفي السنة نفسها وزن بالألماس في دار السلام. وفي سنة 1954م وزن بالبلاتين في كراتشي (2). إن مردود هذه الاحتفالات استغلها أغاخان لنفسه ولأفراد عائلته لبناء القصور الفخمة في أنحاء من البلاد الأوروبية واستغلها في السرح والمرح في أنحاء العالم، حيث اعتبر هو وأفراد عائلته من أثرياء العالم. ولقد نقل عن ابنه "علي خان" أنه كان أعظم منه اهتماماً بالخمور والنساء، فقد اشتهر بعلاقاته الإباحية مع النساء حتى أصبحت أخبار مغامراته وبطولاته في هذا المجال مادة دسمة لأجهزة الإعلام، واتخذ صورة الشاب المستهتر المنغمس في ملذات الدنيا، وربما كان غلوه في هذا المجال من الأسباب التي أدت بوالده إلى أن يتخطاه في الإمامة ويعين بدلاً منه حفيده "كريم الدين ابن علي خان" الإمام الحالي للإسماعيلية، وهذا الأخير لا يقل حباً للدنيا والانغماس في ملذاتها عن والده وجده، كما أنه أبدى اهتماماً أكبر وصرف جهوده من أجل الحفاظ على ثروة أسرته وتنميتها (3). فهو المسيطر حاليا على مجموعة "سيجا" للفنادق الدولية الفاخرة في العالم إذ تبلغ حصته فيها بنسبة أكثر من 50% من الأسهم (4). المصدر: الإسماعيلية المعاصرة لمحمد بن أحمد الجوير- ص 138   (1) انظر: ((مذكرات آغاخان)) الصفحات (13، 15، 53، 169 – 172)، دار العلم للملايين، ط1، بيروت، 1959م. (2) انظر: ((مذكرات آغاخان))، المقدمة، عارف تامر، (ص: 14). (3) The Aggkhans, (P. 371, 375 – 377) (4) انظر ((جريدة الاقتصاد))، العدد 5، الأحد 12 جمادى الآخرة 1413هـ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 155 المطلب السادس: الضرائب عند الأغاخانية أما طائفة الأغاخانية فهم يجتمعون في بيوت العبادة الخاصة بهم لإقامة شعائرهم الدينية ويدفعون خمس إرثهم وخمس مواردهم للإمام، وإذا ولد لأحدهم ولد يدفع مقابل ذلك ضريبة مقدرة تدفع لبيت المال (1).ويذكر أن أغاخان الرابع "كريم خان" إمام الطائفة الأغاخانية الحالي أنه إقطاعي بليونير نتيجة فرضه على كل واحد من أتباعه ضريبة مقدارها العشر يدفعها له الشخص من دخله (2). ومصطفى غالب الإسماعيلي المعاصر يذكر لنا بعضا من الضرائب التي فرضها أئمة الإسماعيلية على أتباعهم وهي كالتالي: 1 - أموال العشر وهي 10% مما يكسب التاجر والموظف والفلاح والعامل، كل فرد منهم يحاسب نفسه في كل شهر أو يوم أو سنة ويرسل ما يترتب عليه إلى صندوق الإمام. 2 - أموال النجوى: مبلغ رمزي يدفع كل فرد إسماعيلي يرتاد بيوت العبادة لتأدية الصلاة. 3 - أموال المجالس العامة والخاصة، وتقام هذه المجالس في مناسبات الأعياد والحفلات. 4 - أموال تركة الأموات من متاع ولباس وممتلكات خاصة، وتباع هذه الأشياء في المساجد عن طريق المزاد العلني. 5 - أموال ثمن ما يتبرع به كل إسماعيلي مما تنتجه أرضه ومطبخه الخاص أو حيواناته ودواجنه.6 - الأموال التي يتبرع بها أثرياء الإسماعيلية لتغطية حفلات الوزن التي تجري للإمام في مناسبات غير محدودة، وهذه الأموال تنفق بمعرفة لجان ومجالس خاصة يعود نفعها لفرقة الإسماعيلية جمعاء، ولخدمة مجتمعاتهم، ولتأمين الرفاهية والسعادة للجميع بدون استثناء" (3). بعد هذا العرض الوجيز لما استطعنا أن نقف عليه حول نوعية ومصدر هذه الضرائب، تبقى الحقيقة وهي أن هذه الضرائب التي فرضها هؤلاء الأئمة والدعاة غير مقبولة عقلاً فضلاً عن عدم قبولها شرعاً، حيث لا يوجد ثمة مبرر لها في الإسلام، وعلى هذا الأساس تتجلى الغشاوة عن ماهية هذه الضرائب حيث أصبحت وسيلة لغاية وسيلة للبحث عن المادة بشتى الوسائل الموصلة لها، وغاية لإنماء ثروات هؤلاء الأئمة والدعاة والاحتفاظ بها لإشباع رغباتهم وملذاتهم الدنيوية فقط. المصدر: الإسماعيلية المعاصرة لمحمد بن أحمد الجوير – ص: 161   (1) انظر: ((تاريخ الدعوة الإسماعيلية))، مصطفى غالب، (ص: 357). وانظر: ((طائفة الإسماعيلية))، د/ محمد كامل حسين، (ص: 121). (2) انظر: ((الإسلام في إيران))، بطوشوفسكي، (ص: 275)، نقلا عن ((حركات الغلو والتطرف في الإسلام))، د. أحمد الشاذلي، (ص: 72). (3) ((الحركات الباطنية في الإسلام))، مصطفى غالب، (ص: 178 – 179). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 156 أولا: عاداتهم لبعض الأغاخانية المعاصرين عادات وطقوس وتقاليد لا سند لها في الإسلام، فهم لا يتزوجون من القريب كابنة العم، وعندهم المرأة لا تمتلك الأرض ولا ترثها، والزواج لا يتم إلا في الشتاء بين 10، 20 ديسمبر وموسم الزواج هذا يسمونه "دوموشنج"، وأمير الطائفة له إتاوة عن كل مناسبة عرس تتضاعف إذا ما رغبت الأسرتان في عقد القران قبل الموعد المحدد أو بعده، والإتاوة بمثابة 10 كيلوجرامات من القمح وكمية من الزبد المخزون، إضافة إلى نصف ذبيحة من البقر (1).لقد حرص أغاخان الثالث على متابعة عادات وتقاليد أتباعه أينما وجدوا وتقديم النصح والإرشاد لهم فيقول لأتباعه في بورما: "وهكذا اقتنعت بأن السياسة الوحيدة العاقلة الصحيحة التي كان يجدر بأتباعي اتباعها هي أن يندمجوا إلى أقصى حد ممكن بالحياة الاجتماعية والسياسية في بورما وأن يتخلوا عن أسمائهم الهندية الإسلامية وعن عاداتهم وتقاليدهم، وأن يتخذوا بصورة دائمة وطبيعية أسماء أولئك القوم الذين كانوا يعيشون بينهم وعاداتهم وتقاليدهم والذين كانوا يشاطرونهم مصيرهم" (2).ويقول أيضا: "وفيما يتعلق بطريقة حياتهم فقد حاولت أن أنوع النصيحة التي أسديتها لأتباعي حسب البلد أو الدولة التي يعيشون فيها، ففي مستعمرة بشرق آسيا البريطانية تراني ألح عليهم بأن يجعلوا اللغة الإنجليزية لغتهم الأولى، وأن يقيموا حياتهم العائلية والبيتية على الطريقة الإنجليزية، وأن يتبنوا عموماً العادات البريطانية والأوروبية" (3). إنه بتلك النصائح التي يسديها لأتباعه يتخلى عن التعاليم والشعائر التي نادى بها الإسلام الذي يدعي هو وأتباعه الانتماء إليه. كذلك نجده لا يعير شعيرة الصيام أي اهتمام بل أبدى تبرمه وتضجره من حياة المجتمع المسلم في الهند، إذ أنه لم يبد أي احترام لآداب الصيام عندما زار الهند عام 1903م مما أدهش حاكم بومباي "لورد لامنجتن" فأظهر له أسفه لذلك، فما كان من أغاخان إلا أن قال: "إنه لا يعبأ بالمجتمع الهندي بل إنه مغرم بكل ما هو أوروبي من نساء وخمور مما يدخل البهجة في النفس والسرور" (4). ويتجلى لنا ضعف عقيدة إمامهم القدوة عندما سأله أحد معارفه ساخراً عن إله يشرب الشمبانيا "الخمر" ويذهب إلى سباق الخيل "وهو بهذا يقصد الأغاخان نفسه الذي يعتبره أتابعه إلهاً" فما كان من الأغاخان إلا أن رد بكل استهتار بقوله: "لماذا لا يفعل الله ذلك إذا كان البشر الذين خلقهم يفعلون ذلك" (5). ولقد صور لنا الشيخ إحسان إلهي ظهير رحمه الله حال آغا خانية اليوم بقوله:"هم ورثة الإسماعيلية القدامى الحقيقيون، لا يصلون، ولا يزكون، ولا يصومون، ولا يحجون، ولا يبنون المساجد، ولا يأتون بأي عمل من أعمال التكليف من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وأئمتهم يقامرون، ويشربون الخمور، ويمرحون ويسرحون ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً" (6). إن هذه الصور من الانحراف السلوكي الذي تحرروا به من كل ضوابط الأخلاق والدين، يجعلهم في موقف إباحي لا يستقيم حتى مع مزاعمهم الدينية التي حرفوا بها شريعة الإسلام ولم يصبحوا في ضوء هذا التحريف سوى جماعة إباحية ملحدة لا تساعدهم حتى عقائدهم على تبرير ما يقومون به، فما يشاع عنهم وتتداوله الأقلام والألسن من تجاوزات وانحرافات ومآثم في أوروبا وغيرها يجعل من غير الممكن تقبل مزاعمهم على أنها من دين الإسلام.   (1) انظر: (الهونزا مسلمون عند سطح العالم)، ((مجلة العربي))، عدد 289، ديسمبر 1982نـ (ص: 122). (2) ((مذكرات أغاخان)) (ص: 191). (3) ((مذكرات آغاخان)) (ص: 54). (4) (( The Aggkans)) “Mihio Bose” (P. 106) (5) (( The Aggkans)) “Mihio Doso”0 (P. 207) (6) (( الإسماعيلية تاريخ وعقائد)) إحسان إلهي ظهير، (ص: 569). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 157 ثانيا: مطالبتهم بما يسمى تحرير المرأة لقد حارب أغاخان الإسلام علانية، حيث نادي بتحرير المرأة ومشاركتها للرجال، ونادي صراحة بنزع حجابها حيث يقول: "ولقد توخيت دائماً أن أشجع تحرير المرأة وتثقيفها. في أيام جدي وأبي كان الإسماعيليون متقدمين على أتباع أي مذهب إسلامي آخر أشواطاً عديدة في مضمار إلغاء الحجاب الصارم، حتى في البلدان المتطرفة في التحفظ، أما أنا فقد ألغيت الحجاب بالكلية، فأنت لا تجد مطلقا أي امرأة إسماعيلية تستعمل الحجاب" (1). ولقد ادعى أغاخان الثالث أن الحجاب يتعارض مع العقائد الإسماعيلية وذلك من خلال سؤال طرحه عليه الإسماعيلي المعاصر مصطفى غالب هذا نصه: "لقد أمرتم بتعليم المرأة وتثقيفها، فكيف يتلاءم هذا مع وضع المرأة الإسماعيلية المحجبة وهل يتفق الحجاب مع العلم؟ فأجاب قائلا:"إن الحجاب يتعارض مع العقائد الإسماعيلية وإنني أهيب بكل إسماعيلية أن تنزع نقابها وتنزل إلى معترك الحياة لتساهم مساهمة فعالة في بناء الهيكل الاجتماعي الديني للطائفة الإسماعيلية خاصة وللعالم الإسماعيلي عامة، وأن تعمل جنبا إلى جنب مع الرجل في مختلف نواحي الحياة أسوة بجميع النساء الإسماعيليات في العالم، وآمل في زيارتي القادمة أن لا أرى أثراً للحجاب بين النساء الإسماعيليات وآمرك أن تبلغ ما سمعت لعموم الإسماعيليات بدون إبطاء" (2).ثم سار علي نهجه ابنه "علي" ولي عهده في ذلك الوقت، فحارب الإسلام ودعا إلى تحرير المرأة ونزع الحجاب فهو يقول أثناء زيارته لأتباعه في سوريا: "سررت جدا بتقدم المرأة الإسماعيلية، وخاصة بعد أن شرعت أغلب سيدات الطائفة بنزع الحجاب، ونزلن إلى معترك الحياة جنبا إلى جنب مع الرجل" (3). المصدر: الإسماعيلية المعاصرة لمحمد بن أحمد الجوير – ص: 142   (1) ((مذكرات آغاخان)) (ص: 51). (2) ((تاريخ الإسماعيلية))، مصطفى غالب، (ص: 351). (3) ((تاريخ الإسماعيلية))، مصطفى غالب، (ص: 384). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 158 أولا: تنظيماتهم الدعوية أما عن تنظيماتهم التي أحدثوها من أجل النهوض بالدعوة للمذهب، فقد أقاموا لهم في كربلاء بالعراق وكيلاً عن داعي الدعاة يعرف باسم "عامل صاحب" أو "العامل" يختص بشؤون الحسينيات الموجودة في أنحاء من العراق، وهي المعني في الدعوة للمذهب، وهناك من يعرف باسم "الملا" هو أيضا من رجالات دعوتهم "والملا الأكبر" هو داعي الدعاة، والذي أقل منه رتبة يلقب بـ "شيخ" "وعامل صاحب" يكون وكيلاً للداعي في أي بلد أو قطر يوجد فيه هؤلاء، وهو الذي ينظر في مصالح الطائفة، بالإضافة إلى الدعوة إلى المذهب، وهذا العامل تلقي علومه في الجامعة السيفية بمدينة سورت بالهند هذا عن طائفة البهرة (1). أما الأغاخانية فيبدوا أن أغاخان الثالث هو الآخر بذل جهوداً كبيرة في سبيل النهوض بالفرقة على وجه العموم. فالنظام الإسماعيلي المعمول به في هذا العصر يعتبره الإسماعيلي المعاصر مصطفى غالب استمرار للنظام الديني والاجتماعي السابقين مع وجود بعض التعديلات، وعزا هذه التعديلات إلى الدور الكبير الذي قام به أغاخان الثالث المتمثل بتأسيس المجالس التعليمية، والصحية، والاجتماعية واهتمامه المطلق بتنشئة الشباب وتدريبه على حمل المسؤولية، والشعور بالواجب نحو الطائفة، وقيامه بتشجيع الفرق الرياضية والكشفية، وروابط الطلبة، والبنوك، والمصارف الصناعية، والزراعية والتجارية، وتخصيص المبالغ الطائلة لها، ووضع دستوراً خاصاً للإسماعيلية وتنظيمات جديدة مستقاة من أحدث التنظيمات العالمية، وأشاد بإرشادات أغاخان وآرائه التي كانت وراء تماسك الإسماعيلية (2). ويقول مصطفى غالب أيضا:"إن الأغاخانية اعتمدوا في هذا العصر الحديث على إيجاد المنظمات والهيئات، إذ خصص أغاخان الثالث الأموال اللازمة للإنفاق على تنمية هذه المؤسسات مما كان له الأثر الفعال في نهضة الإسماعيلية الأغاخانية في مختلف المجالات" (3).ولقد أحدثوا التنظيمات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والصحية وعزفوا عن التنظيمات الدعوية القديمة، واستعاضوا عنها بتسميات جديدة تتفق مع بيئتهم ومحيطهم، ولا تزال سائدة في مجتمعهم حتى اليوم، واستقوها من الهندوكية أو أوجدها بعض أئمتهم الذين لا يزالون على رأس أتباعهم حتى عصرنا هذا (4). ولقد بين مصطفى غالب التنظيمات الإسماعيلية الأغاخانية في هذا العصر وبين وظائفها وهي كالتالي: الهيئة الدينية: 1 - سيف الدعوة أو وزير الدعوة أو وارث وهي رتبة فخرية شرفية تعطى عادة لكبار زعماء الطائفة، وهناك رتب شرفية أخرى مثل: اتمادي، رأي، علي جاه، كونت. 2 - مكي: يشرف على تعيين موظفي المساجد، ويراقب جباية الأموال وجمعها ويترأس المصلين .... ، وله في كل مسجد من مساجد الإسماعيلية أي في كل "جمعة خانا" وكيلا له. 3 - كامريا – أو كاماديا: مهمته المحافظة على خزينة الدعوة والاعتناء بالشؤون المالية فقط. 4 - ناظر مراقبة سير أمور الدعوة من الناحية المالية والاجتماعية والدينية. 5 - واعظ: مهمته وعظ الأتباع، وحضور المآتم لتلاوة آيات القرآن، وهذا الواعظ لا يتمتع بأي ثقافة دينية. المجلس الإسماعيلي الأعلى: مهمته الإشراف على شؤون الإسماعيلية من جميع النواحي، ويتم تعيينه من قبل الإمام، ويتألف من: الرئيس، أمين سر، وعدد من الأعضاء قد يصل في بعض الأحيان إلى العشرة. اللجنة الثقافية: ومهمتها الإشراف على الأمور الثقافية والمدارس وانتخاب البعثات العلمية، وفي الأقطار الإسماعيلية كالهند، وأفريقيا، وباكستان عدة منظمات أخرى، كالجمعيات الخيرية، والنسائية، والصحية، والرياضية، وروابط الطلبة. وهذه التنظيمات التي أوجدها أغاخان الثالث كان لها الأثر الفعال في نهضة الإسماعيلية في مختلف المجالات" (5).ورغم تفرق جماعاتهم في أنحاء العالم، إلا أنهم قد شيدوا حديثا بزنجبار مبنى تعقد فيه اجتماعاتهم (6). المصدر: الإسماعيلية المعاصرة لمحمد بن أحمد الجوير - ص: 154   (1) انظر: كتاب ((سمط الحقائق))، للوادعي، تحقيق عباس العزاوي، المقدمة، (ص: 16)، وانظر: ((الحركات الباطنية في الإسلام))، مصطفى غالب، (ص: 124)، وانظر: ((تاريخ الدعوة الإسماعيلية))، مصطفى غالب، (ص: 35)، وانظر: مفاتيح المعرفة، مصطفى غالب، (ص: 177). (2) انظر: ((الحركات الباطنية في الإسلام))، مصطفى غالب، (ص: 177). (3) انظر: ((الحركات الباطنية في الإسلام))، مصطفى غالب، (ص: 124). (4) انظر: ((مفاتيح المعرفة))، مصطفى غالب، (ص: 178). (5) ((تاريخ الدعوة الإسماعيلية))، مصطفى غالب، (ص: 36 - 37). (6) انظر: ((العقيدة والشريعة في الإسلام))، جولد تسيهر، (ص: 245). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 159 ثانيا: نشاطهم الدعوي والإسماعيلية المعاصرون يبذلون نشاطاً واسعاً وملموساً في منطقة الهونزا شمال باكستان حيث أخذوا بنشر دعوتهم عن طريق إنشاء المدارس، والمراكز الطبية، والإنفاق عليها. فلقد أصبح الآن في كل قرية من قرى منطقة الهونزا مدرسة ابتدائية، وفي منطقة الهونزا ثلاث مدارس ثانوية، أما المراكز الطبية فقد أصبح في كل مجموعة من القرى مركز طبي، إذ بلغ عدد هذه المراكز خمسة، وهي خاضعة لإشراف مؤسسات الطائفة الإسماعيلية (1).ولهم نشاط دعوى واسع يقومون به أحياناً تحت ستار النشاط الاقتصادي. حيث يذكر أن وزارة الزراعة الباكستانية قامت عام 1988م وما قبله بتوزيع الأسمدة على المزارعين، ولكن في عام 1989م وما بعده قام إمام الطائفة الأغاخانية بشراء جميع الأسمدة واحتكارها ومنعها عن المزارعين كي يعتمدوا عليه ويخضعوا لمطالبه (2). المصدر: الإسماعيلية المعاصرة لمحمد بن أحمد الجوير – ص: 150   (1) انظر: (الهونزا مسلمون عند سطح العالم)، ((مجلة العربي))، العدد 289، ديسمبر 1982م، (ص: 114). (2) انظر: ((مجلة البيان))، عدد 29 ذو القعدة 1410هـ، (ص: 84). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 160 المطلب التاسع: أماكن انتشارهم يسكن الإسماعيلية الأغاخانية الآن في الهند ودار السلام والكنغو وبلجيكا وباكستان ونيروبي وزنجبار ومدغشقر وبعض أقاليم سوريا. أما مركزهم الرئيسي، فيوجد في مدينة كراتشي وفي شمال باكستان "منطقة تسمى جلجات ولشنترال" التي استولت عليها روسيا خلال الحرب وسلمتها للطائفة الإسماعيلية. وتتركز أنشطتها في المساهمة في بناء المساجد والمستشفيات والمدارس وهدفها هو قيام دولة إسماعيلية. يشير أغاخان في مذكراته إلى المراكز التاريخية للمذهب الإسماعيلي بأنها منتشرة في أنحاء العالم الإسلامي في أماكن متفرقة. يقول: إن المراكز التاريخية للمذهب الإسماعيلي منتشرة في الحق في جميع أنحاء العالم الإسلامي، ففي منطق سوريا الجبلية، مثلا، نجد الدروز في معقلهم جبل الدروز، إنهم في الحقيقة إسماعيليون لم يتبعوا أصلا أفراد عائلتي في هجرتهم من مصر بل حافظوا على ذكرى جدي الحاكم بأمر الله، الخليفة الناطحي في مصر، وأقاموا معتقداتهم على أسس شبيهة إلى حد ما بأسس الإسماعيليين السوريين الذين هم أتباعي في الوقت الحاضر ... وهناك جزر إسماعيلية مماثلة في جنوب مصر. وفي اليمن وفي العراق طبعا. وأما مراكز الإسماعيلية في إيران فهي حول "محلات" وغربا نحو همذان وإلى الجنوب من طهران، كما أن هناك مراكز أخرى في خراسان إلى الشمال وإلى الشرق حول يزد، وحول كرمان، وإلى الجنوب على طول شاطئ الخليج "الفارسي" من بندر عباس إلى حدود باكستان والسند، وإلى داخلية بلوخستان، وهناك أيضا مراكز أخرى في أفغانستان، في كابول نفسها، والعديد منها في روسيا وأواسط آسيا، حول يارقند وكشفر وفي كثير من القرى والمستعمرات في سينج يانغ، وفي الهند اعتنقت بعض القبائل الهندوسية العقيدة الإسماعيلية على يد مبشرين أرسلهم جدي إسلام شاه وسموا بالخوجا وحدث مثل هذا التحول في بورما في القرن التاسع عشر. المصدر: سلسلة ماذا تعرف عن ... لأحمد بن عبد العزيز الحصين -1/ 255 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 161 المطلب العاشر: الأغاخانية وتعاونهم مع الاستعمار بدأت العلاقة بين أسرة الأغاخان والبريطانيين في الهند في العقد الخامس من القرن التاسع عشر ميلادي عندما قدم جده "حسن علي شاه" المعروف بـ "أغاخان الأول" مساعدات كبيرة للبريطانيين في توسعهم العسكري والإمبراطوري شمالا وغربا من البنجاب، كما قام هو وفرسانه بمساعدة البريطانيين في المراحل الأخيرة من الحرب الأفغانية الأولى في عامي 1841 - 1842. فضلا عن قيامه بتقديم مساعدات أخرى للبريطانيين أثناء غزوهم لبلاد السند في عامي 1843 - 1844، مما جعل الحكومة البريطانية تقدم لجد أغاخان حينذاك "معاش تقاعد" تقديرا لمساعداته. يقول أغاخان الثالث، عن علاقته بالملك جورج الخامس: "لقد كنت فخورا دائما أن فزت بصداقة الملك جورج الخامس وحافظت عليها حتى نهاية حياته، لقد أولاني ثقته إلى الدرجة نفسها كما فعل أبوه من قبله". ويقول عن علاقته "بسير ونستون تشرشل": لقد نعمت بصداقة سير ونستون تشرشل فترة تزيد عن نصف قرن". وحين هلك ملك بريطانيا إدوارد السابع في شهر مايو سنة 1910م، يقول أغاخان الثالث العميل البريطاني: "توفي صديقي العظيم الطيب، الملك إدوارد السابع في لندن وكما كان إخلاصي وصداقتي يقضيان فقد أسرعت إلى حضور جنازته، وقابلت خليفته الملك جورج الخامس، لقد دفن الملك "إدوارد السابع" في كنيسة سانت جورج في وندسور، وكان مكاني في موكب الجنازة ومقعدي في الكنيسة بالقرب من العائلة المالكة والضيوف الملكيين من البلدان الأجنبية، لقد كانت هناك عيون دامعة كثيرة ذلك اليوم، ولست أخجل من الاعتراف أنني كنت بين الباكين". وقد كلفت بريطانيا عميلها المدلل "أغاخان الثالث" بتهدئة الهنود المسلمين الموجودين في صفوف الجيش البريطاني في مصر حينذاك وإقناعهم بتوجيه ضرباته إلى القوات العثمانية المسلمة". أغاخان أخلص الجواسيس والعملاء لبريطانيا التي عن طريقها نفذت بريطانيا مخططاتها التوسعية كما فعل جده ووالده العميلان لبريطانيا. ويشير أغاخان الثالث إلى مساعدات جده أغاخان الأول "حسن علي شاه" لبريطانيا ضد المسلمين: وفي بلاد السند قدم أغاخان الأول للبريطانيين مساعدات كبيرة ساعدتهم في توسعهم العسكري والإمبراطوري شمالا وغربا من البنجاب وفي المراحل الأخيرة من الحرب الأفغانية الأولى، في عامي 1841 - 1842م: قام أغاخان الأول وفرسانه بمساعدة "الجنرال نوت" في "كارداهار" و"الجنرال انجلند" عندما تقدم من السند للانضمام إلى قوات "الجنرال نوت" ونتيجة لتلك المساعدات التي قدمها أغاخان الأول للبريطانيين فضلا عن الخدمات العديدة التي قدمها بعد ذلك "لسير تشالرز نابير" في غزوه لبلاد السند في عامي 1843 و 1844، فقد منحته الحكومة البريطانية "معاش تقاعد" كان من شأنه أن يوثق علاقته ببريطانيا منذ ذلك الحين. وقد منحت بريطانيا للإسماعيلي "حسن علي شاه" أغاخان الأول مدينة بومباي التابعة لحكومة الهند البريطانية منذ منتصف القرن التاسع عشر وبدأ أتباع هذه الطائفة منذ ذلك الحين يتوافدون بين الحين والآخر إلى بومباي من مراكز تجمعاتهم في العالم، ولم تجد السلطات البريطانية في الهند غضاضة في ذلك، تقديرا منها للخدمات التي سبق أن قدمها "أغاخان الأول" للقوات البريطانية وتطلعا من جانبها للاستفادة من أتباع هذه الطائفة في المستقبل، وكان من الطبيعي أن يحرص أئمة الطائفة الإسماعيلية على علاقتهم الطيبة مع السلطات البريطانية بما يؤمن إقامة أتباعهم ويسهل عمليات قدومهم ورحيلهم ومصالحهم المختلفة. هذه هي عقائدهم خليط بين الوثنية والأديان المحرفة كالمسيحية واليهودية والفلسفة اليونانية. واستطاع هؤلاء خداع الناس لقبول مذهبهم الشيطاني وتأييد دعوتهم لأنهم يستعملون القواعد السرية في دعوتهم فهم يعملون بالتقية، فالظاهر هم مسلمون كما يدعون. ولكنهم أخبث من اليهود والنصارى وهم يستعملون الطاعة المطلقة والانقياد الأعمى لأغاخان كريم الحالي فهو ربهم وله يسجدون. والتضحية حتى الموت في سبيل هذا الإمام العربيد عميل استخبارات الموساد والأمريكيين والبريطانيين. وإنها تلتقي مع القاديانية والبهائية والبابية في مستنقع واحد وهو القضاء على روح الإسلام الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ومما يدل على أن هذه الفرق نهلت من مستنقع يهودي واحد وقصدت إلى تحقيق غرض واحد، وهو التعاون والإخلاص لليهود وغيرهم من الدول الكافرة وإن اختلفت بهم السبل والوسائل. المصدر: سلسلة ماذا تعرف عن ... لأحمد بن عبد العزيز الحصين -1/ 257 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 162 المطلب الحادي عشر: فتاوى العلماء في الأغاخانية (الإسماعيلية) فتوى اللجنة الدائمة س: ما قول علماء الإسلام والفقهاء الكرام في حق فرقة الإسماعيلية - الأغاخانية - التي يسكن أفرادها في البلاد المختلفة خصوصا في البلاد الشمالية من باكستان، نذكر بعض معتقداتهم وأقوالهم التي تدل على عقائدهم هنا. (1) الكلمة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وأشهد أن أمير المؤمنين علي الله، هذه كلمتهم مقام كلمة الإسلام كلمة التوحيد والشهادة ويسمونها بـ: الكلمة الإسلامية الحقيقة. (2) الإمام: وهم يعتقدون أن أغاخان شاه كريم هو إمامهم، وهو مالك كل شيء من الأرض والسماء وما فيهما وما بينهما بالخير والشر، ويعتقدون أنه هو الحاكم في العالم بقضه وقضيضه. (3) الشريعة: هم لا يرون اتباع الشريعة الإسلامية بل يعتقدون أن أغاخان هو القرآن الناطق والقرآن الحقيقي الأصلي، وهو الكعبة وهو البيت المعمور وهو المتبوع المتبع ولا يكون شيء سواه يجب اتباعه، وفي كتبهم أن ما ذكر في القرآن الظاهري من لفظ الله مصداقه الإمام أغاخان. (4) الصلاة: هم لا يعتقدون وجوب الصلوات الخمس ويقولون بوجوب الدعوات الثلاثة مكانها. (5) المسجد: هم يتخذون معبدا آخر مكان المسجد ويسمونه بـ: جماعت خانة. (6) الزكاة: هم يجحدون الزكاة الشرعية ويؤدون مكانها من جميع أصناف المال عشرها للأغاخان ويسمونه بـ: مال الواجبات - دوشوند - (7) الصوم: ينكرون فرضية صوم رمضان. (8) لا يقولون بفرضية حج البيت يعتقدون أن الأصل أغاخان هو الحج. (9) السلام: لهم تحية مخصوصة مكان السلام عليكم يقولون عند اللقاء: (علي مدد) أي أعانك علي، ويقولون في جوابه: (مولى علي مدد) مكان وعليكم السلام. هذه نبذة من أقوالهم وعقائدهم، فالآن نسأل عن عدة أمور: (1) هل هذه الفرقة من الفرق الإسلامية أم من الفرق الكفرية. (2) هل يجوز أن يصلى على موتاهم صلاة الجنازة؟ (3) هل يجوز أن يدفنوا في مقابر المسلمين؟ (4) هل تجوز مناكحتهم؟ (5) هل تحل ذبيحتهم؟ (6) هل يعامل معهم معاملة المسلمين؟ نسأل منكم باسم الله العظيم أن تصدروا جواب الاستفتاء وتزيحوا الشبهات عن قلوب المسلمين؛ لأن هؤلاء الناس يبطنون عقائدهم إلى الآن ولذا سماهم المتقدمون من المشائخ بـ: الباطنية، والآن هم أظهروا عقائدهم ويدعون الناس إليها جهرا؛ ابتغاء إزاغة المسلمين في عقائدهم ولوجوه أخر لا نعلمها. ج: أولا: اعتقاد أن الله حل في علي أو غيره كفر محض مخرج من ملة الإسلام، وكذلك اعتقاد أن هناك أحدا يتصرف في السماء والأرض غير الله سبحانه كفر أيضا، قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54] ثانيا: من اعتقد أن هناك أحدا يسعه الخروج من اتباع شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر كفرا يخرج من ملة الإسلام، وشريعته هي القرآن الذي أوحاه الله إليه، قال تعالى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: 106] ومن الشريعة: السنة النبوية التي هي تبيين وتفصيل للقرآن، قال تعالى: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل: 64] ثالثا: من أنكر وجحد شيئا من أركان الإسلام أو من واجبات الدين المعلومة بالضرورة فهو كافر ومارق من دين الإسلام. رابعا: إذا كان واقع هذه الطائفة هو ما ذكرته في السؤال فلا يجوز الصلاة على موتى من ذكر ولا دفنهم في مقابر المسلمين، ولا تجوز مناكحتهم ولا تحل ذبيحتهم ولا معاملتهم معاملة المسلمين. وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو/ عبد الله بن غديان نائب رئيس/ عبد الرزاق عفيفي الرئيس/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز المصدر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء -3/ 78 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 163 المطلب الأول: التعريف الإسماعيلية السليمانية (المَكَارِمة): وهي فرقة إسماعيلية عبيدية مستعلية طيبية، انشقت عن الطيبية "البهرة" الداودية عام: 999م، ونسبتهم إلى سليمان بن حسن, وتوجد في مدينة حراز باليمن, كما توجد في مدينة نجران بالسعودية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 164 المطلب الثاني: نشأتهم سبب ظهور هذه الفرقة أنه: بعد وفاة الداعي المطلق للبهرة المستعلية داود ابن عجب شاه في عام: 999هـ انتخب فريق من البهرة داود قطب داعياً مطلقاً لها، فعارضت مستعلية اليمن هذا التصرف، وخرجت عليهم، وانتخبت سليمان بن حسن داعياً مطلقاً لها، وزعموا أن داود بن عجب شاه قد أوصى سليمان. ثم خلفه ولده جعفر، وكان صغيراً، أوصى به والده إلى محمد بن الفهد المكرمي، فانتقلت الدعوة إلى اليمن، ولما كبر جعفر، ومات المكرمي واستمر جعفر في الدعوة إلى أن مات، فخلفه أخوه علي الذي انتقل بالدعوة إلى الهند مرة أخرى، وتوفي عام: 1088هـ، فخلفه إبراهيم بن محمد بن الفهد المكرمي الذي نقل الدعوة إلى اليمن مرة أخرى إلى بلدة طيبة من بلاد همدان حتى توفي سنة: 1094م، فخلفه حفيده محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، الذي فر من طيبة بعد حروبهم مع الزيدية، واستقر في جنوب الجزيرة العربية، وأسس للسليمانية معقلاً جديداً (1)، ويعرفون في اليمن بالمكارمة (2). المصدر: الإسماعيلية وفرقها لعبد الرحمن المجاهد - ص 245   (1) ((دهاقنة اليمن للعتيبي))، (ص: 41) وما بعدها بتصرف، و ((الإسماعيليون والمغول ونصير الدين الطوسي))، لحسن الأمين، (ص: 175)، و ((الإمامة في الإسلام))، لعارف تامر، (ص: 157). (2) ((الشيعة الإسماعيلية "رؤية من الداخل"))، لعلوي طه الجبل، (ص: 25). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 165 المطلب الثالث: عقائدهم عقائد المكارمة هي عقائد الإسماعيلية نفسها، وهي عقيدة باطنية، تزعم أن للإسلام ظاهراً وباطناً، وبذلك صرفوا آيات الله عن مرادها، وفسّروها حسب أهوائهم، وبما يناسب مذهبهم. (ينظر بحث الإسماعيلية في هذه الموسوعة) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 166 المطلب الرابع: السليمانية في منطقة المزاحن • ثالثا: الجانب التعليمي . • رابعا: الجانب السياسي والاجتماعي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 167 ثالثا: الجانب التعليمي وفي جانب التعليم فإنهم يسعون للسيطرة على المركز التعليمي؛ كهدف استراتيجي بعيد المدى؛ وذلك من خلال المناصب التي يحصلون عليها في إدارة المركز التعليمي لمديرية فرع العدين بين الحين والآخر، حتى أصبح نائب مدير المركز التعليمي من أبناء هذه الطائفة، وكذلك مدير الشئون المالية، أما المدارس الحكومية فبعد أن كانت إدارتها سنية من خارج المنطقة، وكان بعضهم من دعاة أهل السنة، ففي ظل الصراع السياسي تم تغييرها، واستفاد المكارمة من هذا الجو من الصراع، وبدؤوا بسياسة الإحلال، واستبدلوا مدراء المدارس السنيين بمدراء من المكارمة. ويوجد في المزاحن حوالي: خمس مدارس حكومية، يسيطر عليها المكارمة جميعاً. المصدر: الإسماعيلية وفرقها لعبد الرحمن المجاهد - ص 262 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 168 رابعا: الجانب السياسي والاجتماعي أما الجانب السياسي فإن غالبيتهم تنتمي إلى الحزب الحاكم في اليمن، ويعتبرون من القيادات البارزة لها الحزب على مستوى مديرية فرع العدين. كما يتمتع مشايخ القبائل منهم بسلطات واسعة في المديرية، ولهم نفوذ على كثير من مشايخ أهل السنة، والذين تربطهم بهم علاقات حزبية واجتماعية. مع العلم أن مشيخة هذه العزلة مغلقة عليهم باستثناء بعض المناطق السنية المتواجدة في أوساط هؤلاء، فإن لهم وجاهات ومشايخ لا ينظرون إلى هؤلاء بمنظور عقدي، بقدر ما يتعاملون معهم كوجاهات اجتماعية، وشخصيات حزبية، ترطبهم بهؤلاء المصالح. المصدر: الإسماعيلية وفرقها لعبد الرحمن المجاهد – ص 263 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 169 المطلب الخامس: واقعها المعاصر حتى سنة 1413هـ، كان حسين بن الحسن هو الداعية المطلق لهذه الطائفة، وترتيبه الخمسون من دعاتهم، وقد كان مصاباً بأمراض خطيرة ألزمته داره أحياناً، والمستشفى أحياناً أخرى، لذلك أسند أمور الدعوة إلى محسن بن علي بن الحسين الذي كانت له الصلاحيات المطلقة في جميع شئون الدعوة، وإدارة بيت المال. وقد استغل محسن هذه الظروف، وكسب عدداً كبيراً من الأتباع، وزعماء القبائل الذين لهم تأثير على العامة، مما جعل الجميع يجزم بأن محسناً هذا هو الداعي المقبل، لكن المفاجأة كانت بأن حسين بن الحسن أوصى بالإمامة بعده لرجل يدعى حسين إسماعيل بن أحمد، وهو رجل مجهول عند أتباع الفرقة. عندئذ رفض محسن بن علي الاعتراف بإمامة حسين إسماعيل، ونصّب نفسه إماماً على طائفة المكارمة السليمانية، ورفض أن يسلم لحسين ما تحت يده من صلاحيات وأموال، ومقر الفرقة ومكاتبها، وبقي يؤم الناس في الجامع الكبير للطائفة. ثم تطور الخلاف بينهما، وقام محسن باستخدام السحر في محاولته لصد منافسه من المركز الرئيس للطائفة والجامع. ولمّا أثر السحر في حسين ترك المركز الرئيس للطائفة ومسجدهم، وانتقل إلى موقع آخر مجاور يدعى "دحضة" بمدينة نجران، وبها مسجد جامع كبير للطائفة أيضاً. وقيل أن حسيناً ذهب إلى ساحر فكشف له حقيقة سحره، وفكه من السحر. وصار المكارمة في حيرة من أمرهم بسبب هذا الخلاف، وهذا الانقسام الجديد في الطائفة، ولاسيما وأن هذين الشخصين تجمعهما صلة قرابة قوية. المطلب السادس: أوجه الخلاف بين السليمانية والداودية ينبع فكر المكارمة، والبهرة الداودية من منبع واحد، ويدينون بعقيدة واحدة، لكن ثمة خلافات نشأت مع الأيام، بعضها تنظيمي، وبعضها فكري، الأمر الذي جعل البهرة الداودية لا يعترفون بانتماء المكارمة إلى طائفة البهرة. وفيما يلي أهم أوجه الخلاف بين الطائفتين: 1ـ ترى الداودية أن الداعي المطلق بعد داود بن عجب شاه الهندي، هو: داود بن قطب شاه، في حين يرى السليمانية أن الداعي المطلق هو سليمان بن الحسن الهندي، الذي ينتسبون إليه. 2ـ عندهم جميعاً عقيدة تسمى "الاستيداع والاستقرار" وهي أن الإمام إذا لم يكن مؤهلاً للإمامة، فإنها تنصرف إلى شخص آخر كمستودع للإمامة حتى يكون الإمام الأصلي مؤهلاً لها، فتنتقل إليه. لكن الداودية ترى أن هذا يكون خاصاً بالأئمة فقط، وبعد غياب الإمام رفعت هذه النظرية، والدعاة الذين ينوبون عن الإمام لا يكون فيهم "الاستيداع والاستقرار". أما المكارمة السليمانية فيرون استمرار هذه العقيدة حتى بعد غياب الإمام، لذلك أنكر عليهم الداوديون عندما استودع سليمان بن الحسن الهندي، محمد بن الفهد على ابنه جعفر. وحجة الداودية في ذلك أنّ الدعاة مستودعون للإمام الغائب (الطيب بن الأمر)، فكيف أن المستودع يستودع على المستودع!؟ 3ـ ترى الداودية أن الإمام المستودع أفضل من الإمام المستقر، في حين تعتقد السليمانية بأن الإمام المستقر أفضل من المستودع، وبناء على ذلك اختلفوا في تفضيل الحسن والحسين رضي الله عنهما أحدهما على الآخر، ففضلت الداودية الحسن، وفضلت السليمانية الحسين، لأنهم اعتبروا أن الإمام هو الحسين، لأن الإمامة في عقبه، أما الحسن فهو إمام مستودع سلّم الإمامة إلى أخيه الحسين الذي هو الإمام المستقر. 4ـ ارتباط الداودية بالزعامة الهندية، الممثلة اليوم بمحمد برهان الدين، في حين ترتبط السليمانية بالزعامة اليمنية المتواجدة في مدينة نجران السعودية، والممثلة اليوم بحسين إسماعيل. 5ـ لم يعرف عن المكارمة القيام بالطقوس الشركية علناً أمام الأضرحة، والسجود للإمام كما يفعله الداودية. 6ـ يشكك الداوديون بأئمة السليمانيين وأخلاقهم، إذ يقولون: "إن أحد أبناء المستنصر كان منحرفاً وصاحب لهو ومجون، وكان الابن الآخر تقيا وورعاً، وقد سلك مسلك الدين على الشريعة الإسلامية. وهذا الشخص هو من اتبعناه حتى الآن، في حين اتبع المكارمة شقيقه الآخر، حيث إن المكارمة ليسوا من طائفة البهرة، فمكان دعوتهم وضريح زعيمهم موجود في نجران". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 170 المطلب السابع: أبرز شخصياتهم 1 - الداعي الحالي حسين إسماعيل المكرمي، المقيم في منطقة نجران، وقد اعتقلته السلطات السعودية في شهر نيسان/ أبريل سنة 2000، بسبب ممارسة الشعوذة، فما كان من أنصاره إلاّ أن قاموا بمظاهرات، وهاجموا مقر أمير المنطقة. 2ـ محسن بن علي، الذي كان متوقعاً أن يتسلم رئاسة الطائفة بدلاً من حسين إسماعيل. 3ـ علي بن محمد الضلعي، صاحب كتاب (نجران والتاريخ) المصدر: موقع شبكة الدفاع عن السنة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 171 المطلب الثامن: أماكن انتشارهم تسكن السليمانية مناطق: نجران في السعودية، وحراز، وعراس، والمزاحن، في اليمن. كما تتواجد في الهند، وباكستان، وبنغلاديش، ويقدر عددهم بمئتي ألف نسمة. المصدر: الإسماعيلية وفرقها لعبد الرحمن المجاهد - ص 245 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 172 المبحث الأول: التعريف بهم الحشاشون: طائفة إسماعيلية فاطمية نزارية مشرقية، انشقت عن الفاطميين لتدعو إلى إمامة نزار بن المستنصر بالله ومن جاء مِن نسله. أسسها الحسن بن الصباح الذي اتخذ من قلعة ألموت في فارس مركزًا لنشر دعوته وترسيخ أركان دولته. وقد تميزت هذه الطائفة باحتراف القتل والاغتيال لأهداف سياسية ودينية متعصبة. وكلمة الحشاشين: Assassin دخلت بأشكال مختلفة في الاستخدام الأوروبي بمعنى القتل خلسة أو غدراً أو بمعنى القاتل المحترف المأجور. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 173 المبحث الثاني: التأسيس وأبرز الشخصيات الحسن بن الصباح: ولد بالري عام 430هـ ونشأ نشأة شيعية ثم اتخذ الطريقة الإسماعيلية الفاطمية وعمره 17 سنة، وفي عام 471هـ/1078م ذهب إلى إمامه المستنصر بالله حاجًّا، وعاد بعد ذلك لينشر الدعوة في فارس، وقد احتل عدداً من القلاع أهمها قلعة ألموت 483هـ التي اتخذها عاصمة لدولته. ـ في عهده مات الإمام المستنصر بالله 487هـ/1094م وقام الوزير بدر الجمالي بقتل ولي العهد والابن الأكبر "نزار" لينقل الإمامة إلى الابن الأصغر "المستعلي" الذي كان في الوقت نفسه ابن أخت الوزير. وبذلك انشقت الفاطمية إلى نزارية مشرقية، ومستعلية مغربية. ـ أخذ الحسن بن الصباح يدعو إلى إمامة نزار، مدعيًّا أن الإمامة قد انتقلت إلى حفيدٍٍٍ لنزار أحضر سرًّا إلى ألموت وأنه طفل جرى تهريبه من مصر إلى فارس، أو أن محظية لنزار كانت حاملاً منه أُخذت إلى ألموت حيث وضعت حملها. وبقي أمر هذا الإمام الجديد طي الكتمان. ـ توفي الحسن بن الصباح عام 518هـ/1124م من غير سليل لأنه كان قد أقدم على قتل ولديه أثناء حياته!! كيابزرك آميد: حكم من 518هـ/1124م إلى سنة 532هـ/1138م: كان أول أمره قائداً لقلعة الأماسار لمدة عشرين سنة، وخلال فترة حكمه دخل في عدة معارك مع جيرانه السلاجقة، كما أنه كان أكثر تسامحًا وسياسة من الحسن بن الصباح. محمد كيابزرك آميد: حكم من سنة 532هـ/1138م إلى سنة 557هـ/1162م: كان يهتم بالدعوة للإمام، كما كان يفرض الاحترام الخارجي للفرائض الإسلامية، فقد أقدم على قتل كثير من أتباعه ممن اعتقدوا بإمامة ابنه وطرد وعذب آخرين. الحسن الثاني بن محمد: حكم من 557هـ/1162م إلى سنة 561هـ/1166م: أعلن في شهر رمضان 559هـ قيام القيامة، وأنهى الشريعة، وأسقط التكاليف وأباح الإفطار، ثم أقدم بعد ذلك على خطوة أخطر وذلك بأن ادعى بأنه من الناحية الظاهرية حفيد لكيابزرك ولكنه في الحقيقة إمام العصر وابن الإمام السابق من نسل نزار. محمد الثاني بن الحسن الثاني: من 561هـ/ 1166م إلى 607هـ/1210م: طور نظرية القيامة ورسخها، وقد ساعده على ذلك انحلال هيمنة السلاجقة في عهده وضعفهم وظهور التركمان وبداية التوسع التركي. جلال الدين الحسن الثالث بن محمد الثاني: من 607هـ/1210م إلى 618هـ/ 1221م: رفض عقائد آبائه في القيامة، ولعنهم وكفَّرهم، وأحرق كتبهم وجاهر بإسلامه، وقام بوصل حباله مع العالم الإسلامي فقد أرسل إلى الخليفة العباسي الناصر لدين الله وإلى السلطان السلجوقي خوارزم شاه والملوك والأمراء يؤكد لهم صدق دعوته إلى التعاليم الإسلامية، ففرحت البلاد الإسلامية بذلك وصار أتباعه يعرفون بالمسلمين الجدد. محمد الثالث بن الحسن الثالث (وبعض الكتب تسميه علاء الدين محمود): كان حكمه من سنة 1121م إلى سنة 1225م: خلف أباه وعمره 9 سنوات، وظل وزير أبيه حاكمًا لألموت، وقد عاد الناس في عهده إلى المحرمات، وارتكاب الخطايا والإلحاد. حكم الصبي خمس أو ست سنوات ثم أصيب بلوثة عقلية، فانتشرت السرقة واللصوصية وقطع الطرق والاعتداءات. ركن الدين خورشاه: 1255م/ 1258م: قاد هولاكو حملة سنة 1256م وكان هدفه قلاع الإسماعيلية، وما زال يتقدم حتى استسلم له ركن الدين وسلمه قلعة ألموت وأربعين قلعة وحصناً كلها سويت بالأرض، فاستقبله هولاكو بترحاب وزوجه فتاة مغولية، وفي عام 1258م انتهى منه بقتله غيلة، وبذلك انتهت دولة الحشاشين سياسيًّا في فارس. شمس الدين محمد بن ركن الدين: تقول روايات الإسماعيليين بأن ركن الدين قد أخفى ابنه شمس الدين محمد الذي هرب من بطش هولاكو متنكرًا إلى جهة ما بجنوب القوقاز، ثم استقرت في قرية أنجودا على الطريق بين أصفهان وهمدان. وبقي فيها إلى أن مات في النصف الأول من القرن الثامن للهجرة وكان من عقبه سلسلة من الأئمة في القرن التاسع عشر، ومنهم ظهرت أسرة أغاخان. انقسم الحشاشون بعد شمس الدين إلى قسمين: ـ بعضهم نادى بإمامة محمد شاه واعترفوا به وبالأئمة من نسله حتى انقطعت سلسلتهم في منتصف القرن العاشر الهجري وكان آخرهم الإمام ظاهر شاه الثالث المعروف (بالدكنى) والذي هاجر إلى الهند وتوفي هناك حوالي سنة 950هـ وانقطع هذا الفرع على الرغم من وجود أتباع له إلى الآن في مصياف والقدموس بسوريا. ـ وأصحاب الفرع الثاني اعتقدوا بإمامة قاسم شاه، وهؤلاء يشكلون العدد الأكبر من هذه الطائفة وقد هاجروا إلى أعالي نهر جيحون. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 174 المبحث الثالث: نشأة الطائفة الإسماعيلية النزارية (الحشاشون) يعتبر الإسماعيليون النزاريون طائفة وفرقة من أكبر الطوائف والفرق الإسماعيلية في العصر الحاضر حيث بدأ انفصال هذه الفرقة وتكونها بعد وفاة المستنصر عام سبع وثمانين وأربعمائة هجرية وكان حسب تقاليد الإسماعيلية قد نص على إمامة ابنه نزار لكن الوزير الجمالي صرف النص إلى أخيه المستعلي – ابن أخت الوزير – وحصل من جراء ذلك انقسام الإسماعيلية إلى مستعلية ونزارية وعلى الرغم من القضاء على نزار وقتله في الإسكندرية على يد وزير المستعلي الأفضل بن بدر الجمالي ولم يكن له عقب مستتر أو ظاهر على الرغم من ذلك فإن أحد دعاة الإسماعيلية ويدعى بالحسن بن الصباح انتصر لنزار وأصبح يدعو له ولأبنائه من بعده وجعل نفسه نائبا للإمام المستور من ولد نزار وأصبح يدعو له وبذلك تكونت هذه الفرقة وأصبح يطلق عليها الإسماعيلية النزارية نسبة إلى نزار بن المستنصر كما يطلق عليها اسم الدعوة الجديدة تمييزا لها عن الدعوة الإسماعيلية الأولى كما يطلق عليها الإسماعيلية الشرقية نسبة إلى مكان ظهورها وانتشارها وإشارة إلى انفصالها عن الإسماعيلية الأم والتي تسمى بالإسماعيلية الغربية (1). ويسميها بعض الكتّاب المعاصرين بإسماعيلية إيران نسبة إلى مكانها (2).،وجميع هذه المسميات دالة عليها ومحددة لها وقد عاصر ظهور هذه الفرقة عالمان كبيران تولى كل واحد منهما فضح هذه الفرقة وبيان باطنيتها وشدة خطرها وعظم ضررها على الإسلام والمسلمين وهما: الإمام الغزالي الذي ألف كتابه (فضائح الباطنية) والشهرستاني الذي أفرد لهم حديثا خاصا بهم عند قوله ثم إن أصحاب الدعوة الجديدة .. إلخ (3).،وحفاظا على بقاء هذه الفرقة وإظهارها ادعى منظموها أن لنزار بن المستعلي ولدا ثم له نسلا استمرت الإمامة فيهم وبقيت ولكنهم – أي النزاريون – فيما بعد كذبوا أنفسهم حيث ادعوا الإمامة للحسن بن الصباح ومن جاء بعده ممن خلفه في قيادة دولة الحشاشين أو الفدائيين ولا أدل على ذلك من ادعاء الحسن الثاني من نسل الحسن بن الصباح في عام 559هـ أنه هو الإمام من نسل نزار بن المستنصر وأصبح اسمه لا يذكر إلا مقرونا (على ذكره السلام) كما يطلق في العادة في الأئمة المستقرين وبذلك أصبح حكام ألموت بعد الحسن الثاني والذين جاءوا بعده من النسب الفاطمي وهكذا أتى الحسن الثاني – كما يقول بدوي – بثلاثة تجديدات ما لبث النزارية في كل مكان أن قبلوها على درجات متفاوتة وأولها أنه أعلن نفسه خليفة لله في أرضه ولم يعد مجرد داع كما كان أسلافه (4). ويعتبر الحسن بن الصباح العقل المدبر الذي نظم هذه الطائفة ووجهها ومن ثم نشرها في بلاد فارس مما نتج عن هذه الجهود قيام دولة الحشاشين أو الفدائيين. دولة الحشاشين في بلاد الشام   (1) ((طائفة الإسماعيلية)) لمحمد كامل حسين (ص: 62). (2) انظر ((كتاب دولة الإسماعيلية في إيران)) لمحمد السعيد جمال الدين (ص: 42) (3) ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 195). (4) ((مذاهب الإسلاميين)) للدكتور عبد الرحمن بدوي (2/ 345) كتاب ((دراسة عن الفرق)) لأحمد جلي (ص: 23). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 175 وبعد أن بدأت دولة الحشاشيين أو الإسماعيلية النزارية في ألموت في الأفول ظهر داعية إسماعيلي نزاري في بلاد الشام واسمه راشد الدين سنان ويلقب بشيخ الجبال وحاول تجميع طائفة الإسماعيلية من جديد حيث أن دعوة الإسماعيلية في بلاد الشام ترجع إلى وقت مبكر ولاسيما في مدينة سلمية التي كانت مقرا للأئمة المستورين والإمام الظاهر عبيد الله المهدي. ومن أساليبهم التي حاولوا بها نشر مذهبهم وتقوية سلطتهم الاستيلاء على الحصون والقلاع ولذا يقول الدكتور محمد كامل حسين: وما زال الإسماعيلية النزارية في الشام يشترون الحصون أو يستولون عليها حتى بلغ عدد حصونهم الرئيسة في الشام في القرن السابع للهجرة ثمانية حصون هي القدموس ومصياف وبانياس والكهف والخوابي والمنيقة والقليقة والرصافة ثم يضيف قائلا: وازدادت قوة الإسماعيلية بالشام بظهور شخصية فذة وداعية داهية في سياسته وفي مواهبه وهو (راشد الدين سنان) الذي استطاع بمقدرته وكفايته أن يجمع كل إسماعيلية الشام فقد كان الإسماعيلية في الشام يدينون بإمامة أصحاب قلعة ألموت في فارس فجاء سنان وكون مذهب السنانية واعترفوا بإمامته غير أنهم عادوا بعد موته إلى طاعة الأئمة بألموت وبالرغم من تحولهم هذا فإن إسماعيلية الشام إلى الآن يذكرون الإمام راشد الدين على أنه أعظم شخصياتهم على الإطلاق (1).وقد تعاصر شيخ الجبل مع القائد المجاهد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله وكانت بينهما مساجلات كلامية حادة في أول الأمر ولكن صلاح الدين رحمه الله لما تبين له أنهم بقيادة شيخ الجبل يبيتون له ولجنده من أهل السنة أمرا ويضمرون لهم شرا حيث حاول عدد من الإسماعيلية اغتيال صلاح الدين بعد ذلك عزم على قتالهم والقضاء عليهم ففي سنة 572هـ قصد صلاح الدين بلد الإسماعيليين وانتصر عليهم كما حصر قلعة مصياف واضطروا بعد ذلك إلى طلب الصلح. (2).وظل أمر الإسماعيلية النزارية في الشام بعد ذلك يضعف تارة ويقوى تارة أخرى إلى أن استسلمت آخر قلاعهم للظاهر بيبرس عام 672هـ وخفت أمرهم من الحياة السياسية حتى لم يسمع عنهم شيئا ولم تنقل الكتب التاريخية عنهم أحداثا تذكر ويبدو أنهم لجأوا إلى التقية والدعوة سرا إلى أن ظهر في إيران رجل شيعي يدعى حسن علي شاه ما بين سنة 1219هـ إلى سنة 1298هـ جمع حوله عددا من الإسماعيلية وغيرهم وقام بأعمال هدد بها الأمن وأقلق بها السلطات في إيران حتى ذاع صيته وأصبح أسطورة على ألسنة الناس وانضمت إليه جماعات كثيرة إعجابا به أو طمعا في مكاسب آلية تأتيهم عن طريقه وواكب ظهور هذه الثورة التي هددت الأسرة القاجارية الحاكمة في إيران ظهور الإنجليز كقوة لها مطامع في بلاد فارس ومن ثم اتصلوا بحسن علي شاه وعضدوه ومنوه حكم فارس وفعلا قام حسن علي شاه بثوره عام 1840م كانت نهايتها الفشل والقبض على قائدها ولكن الإنجليز تدخلوا وحصلوا على أمر بالإفراج عنه بشرط أن يجلو عن إيران كلها وزين له الإنجليز الذهاب إلى أفغانستان ليكون صنيعة لهم هناك ولكن الأفغانيين كشفوا عن هويته واضطروه إلى الرحيل إلى الهند واتخذ من مدينة بومباي مقرا له وأراد الإنجليز أن يستفيدوا منه مرة أخرى ومن ثم اعترفوا به إماما للطائفة الإسماعيلية النزارية وخلعوا عليه لقب أغاخان ومنحوه السلطة المطلقة على أتباعه الإسماعيلية فالتف حوله الإسماعيلية في الهند (3). وهذا بلا شك منعطف جديد أو تلفيق في انقطاع أئمة الإسماعيلية عموما والنزارية بوجه خاص حيث أن أمر النزارية انتهى بانتهاء أئمة وحكام ألموت عام 654هـ ولكن الاستعمار الإنجليزي لفق لهم هذه الشخصية المجهولة نسبا ودينا يصف الدكتور محمد حسين مشاعر الإسماعيليين وبداية هذه المسميات والألقاب عند ظهور هذا الرجل بقوله فتجمع – حول المدعو حسن علي شاه الملقب بأغا خان- الإسماعيلية في الهند وفرحوا بظهور شأنهم بعد أن ظلوا مغمورين طوال هذه القرون وبظهور إمامهم الذي ظل في الستر والكتمان مئات السنين!! فرأى حسن علي شاه أو أغاخان نفسه بين جماعة يطيعونه طاعة تدين دون أن يكون لهم غرض مادي فقوي نفوذه بينهم وأصبح كأنه سلطانهم الفعلي فأخذ ينظم شؤونهم إلى أن توفي عام 1298هـ وبذلك وجدت الأسرة الأغاخانية وصارت لهم إمامة الإسماعيلية النزارية وانتسبوا إلى الإمام نزار بن المستنصر بالله الفاطمي ومؤسس هذه الأسرة هو حسن علي شاه وهو أول إمام إسماعيلي لقب بأغاخان. ومن هنا أطلق على الإسماعيلية في العصر الحاضر (الأغاخانية) فكما أن طائفة البهرة امتدادا للإسماعيلية المستعلية فكذلك طائفة الأغاخانية امتداد للإسماعيلية النزارية. المصدر: أصول الإسماعيلية لسليمان عبد الله السلومي – 2/ 367   (1) ((طائفة الإسماعيلية)) لمحمد كامل حسين (ص: 98 – 99). (2) انظر ((مذاهب الإسلاميين)) للدكتور بدوي (2/ 378 – 293). (3) ((دراسة عن الفرق)) لأحمد جلي (239 – 240). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 176 المبحث الرابع: الأحداث التاريخية والسياسية التي واكبت ظهور الحشاشين بدأ ظهور حركة الحشاشين في زمن كان فيه الصراع السياسي والعقائدي في أرجاء الأقاليم الإسلامية على أشده، في حين لم تعد السلطة العباسية إلا سلطة شكلية، حيث غدا نفوذها وفاعليتها خيالاً من الماضي وسراباً في المستقبل، وضاعت هيبتها نتيجة الصراعات المحتدمة بين طوائف الأمة. أما بلاد فارس وما وراء النهر، وما يليهما إلى الشرق وإلى الجنوب، فكانت خاضعة للأتراك السلاجقة. أما مصر وشمال أفريقيا فكانتا تحت رحمة الشيعة الفاطميين، الذين أحكموا قبضتهم على مجريات الأمور، وأصبحت الخلافة العباسية في الشرق تحسب لهم ألف حساب. أما الأندلس فكان مسرحاً لدويلات صغيرة، قامت على أنقاض الخلافة الأموية، تسمّى زعماؤها بملوك الطوائف. وفي المناطق الأخرى كأعالي الطرق وشمال الشام، كانت الإمارات المستقلة الخاضعة للخارجين على الخلافة، المناوشين لها. وقد كان الصراع السياسي، والعراك العسكري والتناحر العقائدي، خاصة بين السنة والشيعة هو الطابع والروح التي سادت ذلك العصر كله. وحتى يتسنى لنا تقديم صورة واضحة عن حركة الحشاشين وعن الدور الخطير الذي لعبته في ضوء تلك الظروف التي كانت تمر بها الخلافة الإسلامية ويمر بها العالم الإسلامي من ورائها، كان يجدر بنا أن نلقي نظرة مباشرة على البيئة السياسية والاجتماعية والتغيرات السريعة التي حدثت في أكثر من اتجاه وعلى أكثر من مستوى. لقد أفلحت الخلافة العباسية في توسيع رقعة الإمبراطورية، فخضعت لها الدول شرقاً وغرباً، ودانت لها شعوبها، وامتد ملكهم الفسيح من مراكش إلى السند، فازدادت الخلافة توسعاً، وأصبحت إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس. لكنَّ الضعف والانحلال بدأ يدبان في جسد الخلافة العباسية، وكانت أول علامات هذا الضعف انفصال الولايات المختلفة عن السلطة المركزية في بغداد، فعمّ الضعف وشرع سلطان الخلافة بالتفكك، وأخذت هذه الدويلات الصغيرة كل منها تنافس الأخرى وتغزوها، فاستقل الأمويون بالأندلس، والإخشيديون في مصر، في حين سيطر الفاطميون على شمال إفريقيا، وملك الحمدانيون حلب والتغور، وأصبحت العراق بيد الديلم، واستولى القرامطة على اليمامة والبحرين وبادية البصرة .. إلخ. وعلى العموم فقد كان الواقع الإسلامي آنذاك مظهراً من أعظم مظاهر الاضطرابات تناقضت فيه حياة المسلمين العامة أشد التناقض، وسادت فيه الفوضى حتى عمّت جميع طبقات الأمة، واشتدت الضائقة الاقتصادية، وساء نظام الحكم، وكثرت الفتن المذهبية وأزهقت آلاف النفوس البريئة على مذبح النعرات الدينية والتعصب المقيت. المصدر: أسرار فرقة الحشاشين لمحمد هادي نزار- ص 20 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 177 المبحث الخامس: حركة الحشاشين أو الدعوة الجديدة نجح التيار الإسماعيلي في إقامة دولة كبرى في المغرب، ولكن هذا النجاح لم يكن في واقع الأمر إلا من الناحية السياسية أما من الناحية العقائدية فقد فشل في نشر عقائده وتصوراته بين الناس فشلاً ذريعاً، لدرجة أن كل أثر عقائدي للإسماعيلية في المغرب قد اندرس وزال بزوال سيطرتهم السياسية على هذه الرقعة من بلاد الإسلام، على خلاف ذلك تماماً نجد أن التيار الإسماعيلي قد حقق في المشرق نجاحاً عقائدياً حيث أخفق سياسياً، لقد اندمج رجال التيار في كثير من الأحيان من الأنظمة القائمة وهادنوها خشية الملاحقة والمواجهة، وركزوا جل جهودهم في العمل الفكري،، حيث نجحوا في جذب عدد من العلماء والمفكرين، وصار لهم نفوذ قوي في عدد من المراكز العلمية وانتهى بهم الأمر بعد ذلك إلى أن سيطروا على الساحة الفكرية ردحاً طويلاً من الزمن. إن متطلبات الهيمنة الثقافية والحفاظ عليها قد جعلت دعاة الإسماعيلية يركزون على العمل الفكري بالدرجة الأولى وبالتالي نشر الفلسفة التي تؤسس أيديولوجيتهم السياسية والدينية، مما كان نتيجته قيام مدرسة فلسفية هرمسية (1) تخدم الحركة فكراً. لقد اضطر الدعاة الإسماعيليون إلى التركيز على العمل الفكري بدل المغامرة بتنظيمات سياسية ستتعرض للمتابعة والملاحقة لا محالة، فاتجهوا إلى الأوساط العلمية ولم يترددوا في الانخراط في حاشية الحكام والسلاطين، وبفضل هذه الإستراتيجية الملتوية والقفز على الحبلين كونوا كياناً خاصاً بهم، وفلسفة خاصة أيضاً تضم أمشاجاً من الفيثاغورثية الجديدة والأفلاطونية المحدثة بالإضافة إلى عناصر من الفكر الإيراني الزرادشتي القديم. وقد كان الترويج لهذا الفكر على يد ثلاثة من كبار الفلاسفة الإسماعيليين (2)، عاشوا أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجريين. كان أولهم أبو عبدالله بن أحمد النسفي، تلميذ أحد كبار الفلاسفة الإسماعيليين في خراسان هو الأمير الحسين بن على المِرْوَزي. تولى النسفي هذا أمور الدعوة إلى المذهب بعد وفاة شيخه الأمير، واستطاع أن يستميل أحد الأمراء السامانيين الذي اعترف بإمامة الفاطميين، وأصبح النسفي يحرك خيوط اللعبة ومن وراء ذلك دواليب الحكم في هذه المنطقة، لكن نشاطه لم يدم إلا فترة قصيرة، حيث قُبض عليه وصدر الحكم بقتله هو وكبار رجال الدعوة ومعتنقيها، فكانت محنة كبيرة نزلت بالحركة الإسماعيلية وأدّت إلى وقف نشاطها إلى أن أحياها الحسن بن الصباح من جديد. أما على الصعيد الفكري فقد استمر نشاط الحركة، وإن كان قليلاً، وذلك من خلال مؤلفات النسفي ولا سيما كتابه (المحصول) الذي كان أول كتاب في التنظير العقائدي والبناء الفلسفي للمذهب الإسماعيلي.   (1) نسبة إلى هرمس كاهن مصر الأول وحاكمها، وهي فلسفة ترجع إلى القرن الرابع قبل الميلاد. وتعكس في مجموعها جواً من التلفيق والتوفيق بين المذاهب الفلسفية والدينية، اليونانية والشرقية المختلفة. (2) بالإضافة إلى تأثير رسائل إخوان الصفا التي كانت المرجع الفلسفي الأول للحركة الإسماعيلية. انظر ((حقيقة إخوان الصفا)) للملاح طباعة دار الفتح. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 178 جاء بعد النسفي تلميذه الفيلسوف أبو يعقوب إسحاق بن أحمد السجستاني أو السجزي، والذي قُتل هو الآخر بتركستان سنة 331هـ بسبب معتقداته المتطرفة وآرائه الجريئة، الأمر الذي يعطينا صورة واضحة عن التغيرات التي حدثت للحركة الإسماعيلية في هذه الفترة. يبقى الفيلسوف الإسماعيلي الثالث أبو حاتم الرازي (1) الذي كان من الأوائل الذين وضعوا الأسس النظرية للعقيدة الإسماعيلية، كما استطاع استمالة بعض الشخصيات الكبيرة إلى المذهبَ. ومن مؤلفاته كتاب (أعلام النبوة) الذي عرض فيه لعقائد الإسماعيلية في الألوهية والرسل والنفس والزمان والمكان وغير ذلك من المسائل التي كانت موضوع اهتمام المفكرين والباحثين في الفكر العقدي الديني. والملاحظ في هذه الفترة أن نفوذ الحركة الإسماعيلية فكرياً أخذ يزداد ويتسع، لدرجة أن الحركة خرجت من السرية في العمل والتنظيم إلى العلانية فيهما، ولا أدل على ذلك من دخولها في حوارات ونقاشات دارت فيما بين فلاسفة الحركة أنفسهم من جهة، وبينهم وبين غيرهم من أصحاب المذاهب المختلفة من جهة أخرى. لقد استهدفت الحركة الإسماعيلية من وراء السيطرة الفكرية الوصول إلى السيطرة السياسية، لكن النجاح لم يكن حليفها على هذا الصعيد وعانت فشلاً ذريعاً في ذلك، وتعرضت من جراء محاولتها تلك إلى اضطهاد واسع النطاق بين السجن والنفي والقتل. وفي ضوء هذه الانتكاسات المتكررة، وبعد أن استنفذت الدعوة الإسماعيلية جميع الوسائل من أجل تحقيق السيطرة السياسية، أصبح من الضروري البحث عن أسلوب عمل جديد. لقد فشلت سياسة التفتح والدعوة الجهرية للعمل من أجل الهيمنة الفكرية، فلم يبق إلا العمل السري المنظم، وهذا ما فعله الحسن بن الصباح مؤسس "الدعوة الإسماعيلية الجديدة" أو "حركة الحشاشين" الذي قدم إستراتيجية ثورية جديدة وفعالة، خصوصاً بعد أن أخذت الإمبراطورية الفاطمية تلفظ أنفاسها الأخيرة (2). المصدر: أسرار فرقة الحشاشين لمحمد هادي نزار- ص 49   (1) وهو غير أبي حاتم الرازي المحدث الحافظ المعروف صاحب التصانيف. في علوم الحديث. (2) إن الضعف السياسي الذي مُني به الفاطميون بعد عصر المستنصر، كان من العوامل التي دفعت الإسماعيلية في بلاد فارس وما حولها إلى الانطلاق غير المحدود في نزعة التطرف والمغالاة فيها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 179 المبحث السادس: الأفكار والمعتقدات والجذور الفكرية • تلتقي معتقداتهم مع معتقدات الإسماعيلية عامة من حيث ضرورة وجود إمام معصوم ومنصوص عليه وبشرط أن يكون الابن الأكبر للإمام السابق. • كل الذين ظهروا من قادة الحشاشين إنما يمثلون الحجة والداعية للإمام المستور باستثناء الحسن الثاني وابنه فقد ادعيا بأنهما إمامان من نسل نزار. • إمام الحشاشين بالشام رشيد الدين سنان بن سليمان قال بفكرة التناسخ فضلاً عن عقائد الإسماعيلية التي يؤمنون بها، كما ادعى أنه يعلم الغيب. • الحسن الثاني بن محمد: أعلن قيام القيامة، وألغى الشريعة، وأسقط التكاليف. • الحج لديهم ظاهره إلى البيت الحرام وحقيقته إلى إمام الزمان ظاهراً أو مستورًا. • كان شعارهم في بعض مراحلهم (لا حقيقة في الوجود وكل أمر مباح). • كانت وسيلتهم الاغتيال المنظم، وذلك من طريق تدريب الأطفال على الطاعة العمياء والإيمان بكل ما يلقى إليهم، وعندما يشتد ساعدهم يدربونهم على الأسلحة المعروفة ولا سيما الخناجر، ويعلمونهم الاختفاء والسرية وأن يقتل الفدائي نفسه قبل أن يبوح بكلمة واحدة من أسرارهم. وبذلك أعدوا طائفة الفدائيين التي أفزعوا بها العالم الإسلامي آنذاك. • كانوا يمتنعون في سلسلة من القلاع والحصون، فلم يتركوا في منطقتهم مكانًا مشرفًا إلا أقاموا عليه حصنًا، ولم يتركوا قلعة إلا ووضعوا نصب أعينهم احتلالها. • يقول عنهم المؤرخ كمال الدين بن العديم: في عام 572هـ/1176م "انخرط سكان جبل السماق في الآثام والفسوق وأسموا أنفسهم المتطهرين، واختلط الرجال والنساء في حفلات الشراب ولم يمتنع رجل عن أخته أو ابنته، وارتدت النساء ملابس الرجال، وأعلن أحدهم بأن سناناً هو ربه". المصدر: الموسوعة الميسرة • أصولهم البعيدة شيعية ثم إسماعيلية. • كان القتل والاغتيال وسيلة سياسية ودينية لترسيخ معتقداتهم ونشر الخوف في قلوب أعدائهم. • فكرة التناسخ التي دعا إليها رشيد الدين سنان مأخوذة عن النصيرية. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 180 المبحث السابع: المبادئ العامة لحركة الحشاشين وأساليبها في الدعوة • المطلب الأول: مراتب الدعاة ّ. • المطلب الثاني: المرحلية في الدعوة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 181 المطلب الأول: مراتب الدعاة ّ كان دعاة الإسماعيلية يعتمدون في نشر عقائدهم وأفكارهم على تنظيم مدهش للدعوة يضم دعاة مهرة على مراتب متفاوتة، ولم تكن عقائدهم تُلقّن للمستجيب دفعة واحدة، إنما كان يتلقاها على درجات، كل واحدة مترتبة على السابقة. كانت مراتب الدعوة قبل الحسن بن الصباح سبع درجات ثم زيدت إلى عشر، وكان يُطلق عليها "مراتب الحدود المؤثرة في الأنفس" ثلاث منها كلية، وسبع منها تابعة. فالثلاث الكلية هي: الناطق: وله رتبة التنزيل، ومهمته إفاضة البركة بتأسيس قوانين العبادة العملية الظاهرة بالتنزيل والشريعة. الأساس: وله رتبة التأويل، ويقول بقبول البركة بكليتها والقيام بها بجميع التنزيل وتأسيس قوانين العبادة العلمية الباطنية بالتأويل. الإمام: وله رتبة الأمر وسياسة الأمة كافة على سنن الدين، وليس من مهامه أن يقوم بالدعوة بنفسه، بل يتولى توجيه سائر الدعاة ويرشدهم إلى نشر الدعوة وتلاوة مجالس الحكمة. أما السبع مراتب التابعة فهي: الباب: وله رتبة إظهار تأويل الكتاب وارتضاء الآراء والمعتقدات والحكم فيما كان حقاً أو باطلاً، الحجة: يكون ذو مهارات ومواهب حربية وسياسية. والحجج قسمان: حجج النهار، وهم الذين يدعون في زمن الظهور وفي مناطق النفوذ الشيعي، وحجج الليل وهم الذين يدعون في زمن الستر. راعي البلاغ: وله رتبة الاحتجاج وتعريف البلاغ. الداعي المطلق: وله رتبة تعريف الحدود العلوية، وتعليم مراسم العبادة الباطنية. الداعي المحدود: وله رتبة تعريف الحدود السلفية، وتعليم مراسم العبادة الظاهرة. المأذون المطلق: وله رتبة أخذ العهد والميثاق. المأذون المحدود: ويُدعى المكاسر، وله رتبة جذب الأنفس المستجيبة، والهداية إلى الحق. هذه هي مراتب الدعوة في الحركة الإسماعيلية التقليدية، لكن بعد أن تم للحسن بن الصباح تأسيس الدولة الإسماعيلية النزارية في ألموت أجرى بعض التغييرات في العقائد والنظام الاجتماعي والسياسي تتناسب مع تطور الأحوال الاجتماعية والسياسية، فجعل نظام الدعوة متطوراً أيضاً فقسمه إلى قسمين: القسم الأول: وخصصه للدعاية الدينية ويشتمل على: شيخ الجبل: وهو نائب الإمام ورئيس الدعوة الجديدة، وكان الحسن بن الصباح يُلقب نفسه ويلقبه أتباعه بهذا اللقب. كبار الدعاة: وهم ثلاثة فقط، وجميعهم نواب لشيخ الجبل في مناطق ثلاث متفرقة، يضطلعون بالمهام العظمى والأمور الصعبة الخاصة بالحركة ومصالحها. الدعاة: عددهم غير محدود، ينشطون تحت إشراف كبار الدعاة ويدعون الناس إلى العقيدة الإسماعيلية النزارية وفق مخطط الحسن بن الصباح. أما القسم الثاني فيشتمل على: الرفيق: وهو الذي يكون قد سلك بعض المدارج في أصول المذهب، وأشبه بقائد الفرقة العسكرية اليوم، وكان يشرف على تدريب فدائيي الحركة وتوجيههم. اللاصق: وهو الذي يكون قد أخذ البيعة للإمام ولم يتدرج في أصول المذهب وليس له الحق في نشر الدعوة. الفدائي: وهو الأداة المنفذة والموكلة بالثأر والانتقام والعنف والاغتيال، ويتم اختيار الفدائي على أساس إخلاصه للحركة ومبادئها، واستعداده المطلق للتضحية في سبيل ذلك. المستجيب: وهو المؤمن حديثاً بأفكار ومعتقدات الحركة، أي الذي يكون في طور التدريب والتعليم. ثم يأتي العوام وهؤلاء لا يتلقون شيئاً من التعاليم وإنما يُستعملون كآلات صماء فقط، يُخدعون عبر مراحل متعاقبة من الحط بعقلياتهم وفي آخر تلك المراحل يُكشف لهم عن الكفر الكامل والمريع. ويُشّبِّه (فون هامر) مراتب الدعاة والرفاق والفدائيين في الحركة بثلاث مراتب في البناء الحر (الماسونية) هي كبار البنائين، ورفاق النهضة، والصبية المبتدئون. المصدر: أسرار فرقة الحشاشين لمحمد هادي نزار- ص 60 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 182 المطلب الثاني: المرحلية في الدعوة كانت الدعوة تجري على نسق الجمعيات السرية، لها نظامها الخاص وشعائرها ولها درجات من الوظائف والمعرفة متدرجة في المعرفة والخطورة، كان الدعاة يعرضون هذه الدرجات والمراتب بالتدرج، طبقاً لاستعداد المدعوين وأهليتهم لتلقيها. ولذا فإن هناك وسائل وأساليب معينة يلتزم بها الداعي في دعوته، فأولاً يتحتم عليه كما يقول القاضي النعمان: "اختيار أمر من يدعوه، ويتعرف أحوالهم رجلاً رجلاً، وتمييز كل امرئ منهم ومعرفة ما يصلح له أن يؤتى إليه ويحمله عليه من أمر الله وأمر أوليائه ومقدار ما يحمله من ذلك وقدر قوته وطاقته، ومتى يوصل ذلك إليه، وكيف يغزوه به، وامتحان الرجال وتعرف الأحوال، ومقدار القوى، ومبلغ الطاقات" (1). ويؤكد القاضي النعمان في مكان آخر من كتابه على أهمية المرحلية والتدرج في الدعوة بقوله: "ولتثبت أمر أولياء الله حدود وشرائط وآداب ودرجات يرتقي فيها الداخل في ذلك، فإذا لم يقف على ذلك أولاً فأول ويرتقيه درجة درجة، ووصل إليه منه الشيء قبل وصول ما يجب أن يصل إليه قبله هلك، كما أن الطفل لو حُمل عليه طعام في حين ولادته لهلك. ولذلك كان علم أولياء الله غير مطلق إلا لمن أطلقوه له، لأنه لو كان مطلقاً لأهلك بعض الناس به بعضاً ... فلهذا ولامتحان العباد أسرَّ أولياء الله ذلك وأخفوه، ولو نشروه وأظهروه على حقيقة الواجب فيه لما تخلف أحد عنه" (2). ونكتفي هنا بأن نقدم خلاصة وافية لمضمون الدعوة في مراحلها التسع وذلك على النحو الآتي: المرحلة الأولى: يحاول الداعي في هذه المرحلة أن يشكك المدعو في معتقداته، فيسأله في بعض المسائل الدينية والشرعية، وبعض المسائل الطبيعية والمشكلات الغامضة، موهماً إياه أن الدين أمر مكتوم، وأن أكثر الناس به جاهلون، فهو صعب مستصعب وعلم خفي غامض، وأن أصل الشر والخلاف في الأمة انصراف الناس عن الأئمة الصادقين الذين نُصبوا لهم، وأقيموا لحفظ شرائعهم يؤدونها على حقيقتها، ويحفظون معانيها، ويعرفون بواطنها، وأن الناس لما عدلوا عن الأئمة ونظروا في الأمور بعقولهم، وقلدوا سفلتهم، وأطاعوا سادتهم وكبراءهم اتباعاً للملوك وطلباً للدنيا، التي هي ملك الآثمين وأجناد الظلمة وأعوان الفسقة، الذين يحبون العاجلة، ويجتهدون في طلب الرياسة على الضعفاء، ومكايدة رسول الله وأمته، وتغيير كتاب الله عز وجل، وتبديل سنة نبيه، ومخالفة دعوته، وإفساد شريعته، ومعاندة الخلفاء الأئمة من بعده. وأن دين محمد لن يجيء بما يحقق الأماني والشهوات الزائلة، ولا بما تعرفه الدهماء والكافة، وإنما هو علم خفي، وهو سر الله المكتوم الذي يرتفع عن الابتذال، ولا يطيق حمله وينهض بأعبائه إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد مؤمن اصطفاه الله، فإن آنس الداعي من المدعو ارتياحاً وقبولاً، بدأ يسأله عن بعض المسائل الغامضة بغية إثارة حب استطلاعه.   (1) ((الهمة في آداب أتباع الأئمة))، (ص138). (2) ((الهمة في آداب أتباع الأئمة))، (ص53) .. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 183 ما عذاب جهنم؟ وكيف يصح تبديل جلد مذنب بجلد لم يذنب حتى يُعذّب؟ وما سبعة أبواب النار وما ثمانية أبواب الجنة؟ ولم جُعلت السموات سبعاً والأرضون سبعاً والمثاني من القرآن سبع آيات؟ ولماذا خلق الله العالم في ستة أيام؟ وهل عجز عن خلقه في ساعة واحدة؟ وما معنى قول الفلاسفة: الإنسان عالم صغير، والعالم (الطبيعة) إنسان كبير؟ وما معنى الحروف المقطعة في أوائل بعض سور القرآن مثل: الم، المص، كهيعص .. إلخ. وينتهي الداعي بعد هذه السلسلة الطويلة من الأسئلة الغامضة إلى القول بأن الله الذي خلق الإنسان حكيم غير مجازف، وأنه فعل جميع ذلك لحكمة، وله فيها أسرار خفية، حتى جمع ما جمع، وفرق ما فرق، فكيف يسع المرء الإعراض عن هذه الأمور؟! ألا يدل ذلك على أن الله أراد أن يرشدهم إلى بواطن الأمور الخفية وأسرار فيها مكتومة .. لو تنبهتم لها وعرفتموها لزالت عنكم كل حيرة، ودحضت كل شبهة، وظهرت لكم المعارف السنية ... فإذا علم الداعي أن نفس المستجيب قد تعلقت بما سأله عنه وطلب منه الجواب عنه أمهله مدة ليستيقن أن المحاولة قد أثرت في نفسه، ثم يأخذ عليه العهد بألا يفشي لهم سراً ولا يظاهر عليهم أحداً ولا يطلب لهم غيلة ولا يكتمهم نصحاً ولا يوالي لهم عدواً (1). ثم يطالبه بعد ذلك بمبلغ من المال كرسم لقبول عضويته في الدعوة، فإذا امتنع المدعو عن القيام بذلك وقف به الداعي عند هذا الحد، وإذا أجاب انتقل به إلى المرحلة الثانية. المرحلة الثانية: يتعلم المستجيب فيها أن فرائض الإسلام لا تؤدي إلى مرضاة الله إلا إذا كانت عن طريق أئمة نصبهم للناس وأقامهم لحفظ شريعته. المرحلة الثالثة: وفيها يتقرر عند المستجيب أن الأئمة سبعة، قد رتبهم الله كما رتب السموات والأرضين، والكواكب وغيرها من جلائل الموجودات وجعلها سبعاً، ويلقن المستجيب بعد ذلك معنى العدد سبعة في عالم المادة والمعنى، فإذا تقرر عند المستجيب أن الأئمة سبعة انحل عن معتقد الإمامية الإثنا عشرية، واعتقد أن أئمتهم الستة بعد جعفر الصادق، قد فقدوا العلوم الروحية في حين أن محمد بن إسماعيل عنده علم المستورات وبواطن المعلومات وعلم التأويل وتفسير علم الظاهر، وأن دعاته هم الوارثون لعلمه دون سائر طوائف الشيعة. المرحلة الرابعة: وهي بدء التحول إلى المراتب العليا، وفيها يلقن الداعي المستجيب أن الأنبياء المعتبرين، الناسخين للشرائع، الناطقين بالأمور، كالأئمة سبعة فقط، وكل منهم لابد له من صاحب يأخذ عنه دعوته ويحفظها على أمته، ويكون له ظهيراً في حياته ثم يخلفه بعد وفاته، ويتخذ له كنبيّه ظهيراً يخلفه، ويسير كل مستخلف على هذا المنوال، إلى أن يأتي منهم على تلك الشريعة سبعة، ويقال لهؤلاء السبعة الصامتون، لأنهم ثبتوا على شريعة واحدة واقتفوا أثراً واحداً ويقال لأولهم (السوس)، فإذا انقضى هؤلاء السبعة، فلابد من أن يبدأ دور ثان من الأئمة، يفتتحه نبي ناطق ينسخ شريعة من مضى، ويخلفه على النحو المتقدم سبعة من الصُمت، وهكذا حتى النبي السابع من "النطقاء فينسخ جميع الشرائع المتقدمة، ثم يقرر الداعي عند المستجيب أن السابع من النطقاء (الأنبياء) هو صاحب الزمان وهو محمد بن إسماعيل. يقول النويري: "فهذه درجة قررها الداعي عند المدعو بنبوة نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم وسهل بها طريق النقل عن شريعته .. فدخل المدعو بذلك في جملة الكفار المرتدين" (2).   (1) نجد صورة كاملة للعهد الذي يأخذ الداعي على المستجيب في كل من ((نهاية الأرب)) للنويري (23/ 58)، و ((كنز الغرر)) و ((جامع الدرر)) (6/ 67)، و ((الخطط)) للمقريزي (2/ 235)، و ((فضائح الباطنية)) للغزالي (18 - 19). (2) ((نهاية الأرب)) (23/ 59). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 184 وبظهور محمد بن إسماعيل الناطق الأخير والقائم أي صاحب الأمر تنتهي علوم الأولين وتبدأ العقيدة الباطنية وعلم التأويل. المرحلة الخامسة: يُلقن فيها المستجيب المزيد من التعليمات فيما يتعلق بعلم الأعداد والتأويل على نحو يجعله يرفض الكثير من الأحاديث النبوية، فيفقد الكلام نهائياً بمنطوق كلام الله، إلى أن يصل في النهاية إلى رفض كافة تعاليم الإسلام (1). كذلك يلقن الداعي المدعو أنه لابد مع كل إمام قائم حجج متفرقون في الأرض، وعددهم اثنا عشر رجلاً في كل زمان. ويستدل الداعي على ذلك بأمور منها أن الله لم يخلق شيئاً عبثاً، ولابد في خلق كل شيء من حكمة، وإلا فليتأمل خلق النجوم التي بها قوام العالم سبعة، وجعل السموات سبعاً، والأرضين مثلهن، ونقباء بني إسرائيل اثني عشر، ونقباء رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار اثني عشر نقيباً .. إلى آخر الحجج التي تمتلئ بها كتب الإسماعيلية. المرحلة السادسة: يتعلم المستجيب في هذه المرحلة التأويل والمعنى المجازي لشرائع الإسلام من صلاة وزكاة وصوم .. إلخ، وأنها في الواقع ترجع على معان وحكم أخرى غير الظاهرة، وأنها وُضعت على سبيل الرمز لمصلحة العامة، فيضعف اعتقاد المستجيب في شرائع الدين وأركانه. ثم ينتقل الداعي بالمستجيب إلى ميدان الفلسفة ونظريات الفلاسفة ويحضَّه على النظر في كلامهم،، والاقتداء بالأدلة العقلية والفلسفية والتعويل عليها، دون غيرها من الأخبار والأشياء المنقولة. وفي هذه المرحلة تبدأ المهمة الحقيقية للدعاة، وهي العمل على هدم العقيدة الدينية. المرحلة السابعة: لم يصل إلى هذه المرتبة إلا كبار الدعاة، وفيها يُلقن المستجيب أن صاحب الشريعة لا يستغني بنفسه، ولابد له من صاحب معه يعبر عنه ليكون أحدهما الأصل والآخر يَصْدُر عنه، ويستدل الداعي على ذلك بأن مدير العالم في أصل الترتيب وقوام النظام صدر عنه أو موجود بغير واسطة ولا سبب نشأ عنه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]. إشارة إلى أن الأول في الرتبة والآخر هو القدر الذي قال فيه تعالى بـ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]. ويستدل أيضاً بأقوال وقرائن أخرى من كلام الفلاسفة والمتصوفة وغيرهم. المرحلة الثامنة: وفيها تتبلور العقيدة التي لُقنت للمستجيب في المرحلة السابقة، وفيها يعرف أن مدبر الوجود، والصادر عنه، إنما هو تقدم السابق على اللاحق، وتقدم العلة على المعلول، فكانت الأعيان كلها ناشئة وكائنة عن الصادر الثاني. والسابق لا اسم له ولا صفة، ولا ينبغي لأحد أن يعبر عنه، أو يحدده، فلا يقال موجود، ولا معدوم، ولا عالم، ولا جاهل ... وهكذا سائر الصفات، فإن الإثبات يقتضي شركة بينه وبين المحدثات، والنفي يقتضي التعطيل، وهو ليس بقديم ولا محدث، بل القديم أمره وكلمته، والمحدث خلقه وفطرته ... كما أن الأنبياء الناطقين لا يأتون بمعجزات أو دلالات خارقة، إنما يأتون بأمور تُنظَّم بها السياسة ووجوه الحكم وتُرتب بها الفلسفة، تنبئ عن حقيقة ما يشتمل عليها العالم بأسره من الجواهر والأعراض، وأنها تكون إشارة ورموزاً يعقلها العالمون، وتارة تكون بإفصاح يعرفه كل الناس، ثم يشرح الداعي للمستجيب أمر القيامة وحصول الجزاء من الثواب والعقاب على أمور ليست مما يعتقده الموحدون في شيء. المرحلة التاسعة:   (1) أي ليكون تعويله في حججه وبراهينه على كلام لا تربطه ألبته أي صلة بكلام الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 185 وهي المرحلة الأخيرة في التعليمات المذهبية لدى الإسماعيلية، حيث لا وجود لعقائد قطعية أو فرائض لازمة، بمعنى آخر لا وجود لعلم اليقين. وتمثل هذه المرحلة أعلى مرتبة من مراتب العلم والمعرفة، وفيها يدخل المستجيب إلى دائرة الأسرار النهائية، ويحال المستجيب حينئذ على طلب الأمور وتحقيقها وحدودها والاستدلال عليها من طرق الفلسفة وإدراكها من كتبهم، ويصبح حراً في اختيار طريقه. يقول النويري: "فربما صار البالغ في النظر في هذا إلى اعتقاد مذهب ماني وابن ديصان، وربما إلى مذهب المجوس، وربما دان بما يُحكى عن أرسطو طاليس، وربما صار إلى أمور تُحكى عن أفلاطون، وربما اختار من تلك معاني مركبة من هذه الأمور كما يجري كثير من هؤلاء المتحيرين". وفي هذه المرحلة أيضاً يوقف المستجيب على السر النهائي المتمثل في أن الوحي إنما هو صفاء النفس، فيجدُّ النبي في فهم ما يوحى إليه، وينظم به الشريعة حسبما يرى من المصلحة في سياسة الكافة، ولا يجب العمل بهذه الشريعة إلا بحسب الحاجة في رعاية مصالح الدهماء، وليس على العارف المستنير أن يعمل بها. ومن الملاحظ في ذلك كله إنما هو تغيب للعقل البشري الذي جعله الله نعمة للإنسان وكرمه به فيميز بين المنطقيات والبديهيات والنفعيات والمضرات فيستنير ويختار طريقه فإذا به يتأثر بتلك المراحل بمرور الوقت ويطرح الأفكار المتراكمة على فترات متتالية وتكون النتيجة انتكاسة للعقل في الدركات السفلى فإذا به يستحسن القبيح ويستقبح الحسن. المصدر: أسرار فرقة الحشاشين لمحمد هادي نزار- ص 65 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 186 المبحث الثامن: النشاط العسكري لحركة الحشاشين • المطلب الأول: القلاع والحصون . • المطلب الثاني: الفدائيون. • المطلب الثالث: الاغتيال السياسي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 187 المطلب الأول: القلاع والحصون ما كاد الحسن يستقر في بلاد فارس حتى أخذ يعمل جاداً في تنظيم الدعوة وبناء هياكلها بناءً دقيقاً، وكان أول شيء استعمله الحسن هو عنصر الدعوة، فبث رجاله المدربين في المناطق لكسب التأييد الشعبي والتوسع بين الجماهير، لأن الدعوة في نظر الحسن -على الأقل في هذه الفترة- كانت بحاجة إلى انتشار ولم تكن بحاجة إلى انتصار، لذا نجد الحسن حريصاً على إيجاد تنظيم يجمع الناس حول دعوته الجديدة، ووجه جل اهتمامه لاحتلال القلاع والحصون المحيطة به. كانت القلاع تمثل بالنسبة إلى الحسن بن الصباح الملجأ المنيع الذي يقيه ويحميه من أعدائه وبنفس الوقت يكون مركزاً لنشر دعوته ولتدريب دعاته، خصوصاً وأنها كما قلنا تتسم بالارتفاع الشاهق وبوعورة المسالك المؤدية إليها، وتختلف بالكلية في تركيبها الجغرافي عن بقية البلاد، الأمر الذي يُمكّن المسيطر عليها من بسط سلطانه وسيادته على المنطقة كلها. وبعد مدة طويلة من الدعوة الواسعة القوية، والجهود الجبارة، والنضال المستمر توصل الحسن إلى قلعة "ألموت" (1) الشهيرة بعد أن نجح دعاته في تحويل جنود القلعة إلى المذهب الإسماعيلي. يقول الحسن في إحدى شذرات حياته: ( ... وقد أرسلت من قزوين مرة أخرى الدعاة إلى قلعة ألموت، واستطاع الدعاة ضم بعض رجال القلعة إلى العقيدة الإسماعيلية ... ). وكان استيلاؤه على هذه القلعة فاتحة بالنسبة للإسماعيلية في استيلائهم على قلاع وحصون أخرى، إذ ما لبث في القلعة الجديدة طويلاً حتى جمع حوله الإسماعيلية، ففاقت بكثرتهم خراسان، مما حدا بالحسن إلى تنظيم صفوفهم للإغارة على القلاع والحصون المجاورة. يقول المؤرخ عطا ملك الجويني: (لقد بذل الحسن كل جهد ممكن للاستيلاء على الأماكن الملحقة بـ"ألموت" أو المجاورة لها، وكان يفعل ذلك عن طريق كسب السكان بأخاديعه الدعائية، إذا استطاع، فإذا لم تنطل عليهم حِيَلُه أخذها بالمذابح والسلب والنهب وسفك الدماء والحرب، وبهذا استولى على ما استطاع الاستيلاء عليه من القلاع، وأينما وجد صخرة مناسبة كان يبني فوقها قلعة له). وعمل الحسن من القلعة على توسيع رقعة دولته الجديدة، وأنشأ دولة إسماعيلية خالصة بحيث يكون جميع من فيها من الحكام والرعايا من الإسماعيليين المخلصين الذين يدينون بالطاعة المطلقة للإمام الذي يتزعم هذه الدولة. وبالرغم من الملاحقات المستمرة من قبل السلطة السلجوقية، فإن ذلك لم يثن عزم الحسن على الاستمرار في نشاطه الدعوي والعسكري، وقد ساعده على ذلك انضمام جماعة من رجال الدولة وولاتها إليه، منهم الذين ساعدوا الحسن على بسط نفوذه في تلك الأماكن، وفي دفع الخطر السلجوقي الذي كان يهدد الحركة بالقضاء عليها. لقد كان الاستيلاء على قلعة "ألموت" أول عمل تاريخي بارز في حياة هذه الحركة الباطنية. أسطورة الفردوس في القلعة: يزعم بعض المؤرخين أن قلعة "ألموت" عاصمة الدولة الإسماعيلية الجديدة، ومعقل الحشاشين الرئيسي في المنطقة، كانت تحيط بها الحدائق الغنّاء التي تحوي كل الملاذ والشهوات وغيرها من الأشياء الفاتنة التي تسحر الألباب، وأن الحسن بن الصباح جعل من المكان فردوساً خلاباً بغرض التأثير في رجاله وأتباعه والتحكم فيهم.   (1) جعلها الحسن عاصمة للدولة الجديدة، ومركزاً لقيادة جيوشه، ومدرسة لتعليم الدعاة، ويروي المؤرخون أن الذي بني هذه القلعة ملك من ملوك الديلم، إذ كان مغرماً بالصيد، فأرسل ذات يوم عُقاباً، وتبعه فرآه قد سقط على موضع هذه القلعة، فوجده موضعاً استراتيجياً حصيناً، فأمر ببناء قلعة عليه، سمّاها "أله ألموت" ومعناه باللغة الديلمية "تعليم العقاب". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 188 لقد ادعى ذلك الرحالة الشهير "ماركو بولو" الذي مرّ عبر إيران سنة 1273م، وتبعه في ذلك الكثير من المؤرخين دون تحقيق أو تثبت. يقول "ماركو بولو" في وصفه قلعة "ألموت" وأسلوب الحياة فيها بما يلي: "كان شيخهم يُسمى علاء الدين وقد أمر بإقامة سور على أخدود بين جبلين ثم غرسه بالأشجار وحوّله إلى حديقة غنّاء، هي أجمل ما رأته الأعين ووقعت عليه الأبصار، وهي مليئة بمختلف الفواكه وأطيب الثمار، وأقام فيها القصور والجواسق مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وقد طلاها بالذهب ونقشها بأجمل النقوش، وجعل بها قنوات تفيض بالخمر واللبن والعسل والماء!!، ووضع فيها جملة من أجمل نساء العالمين وأرقّ الفتيات وجعلهن يعزفن على مختلف الآلات، ويغنين أعذب الأصوات، ويرقصن أروع الرقصات!! وقد شاء شيخ الجبل بذلك أن يجعل الناس يعتقدون أن حديقته هذه ما هي إلا الجنة بعينها، فأنشأها على النمط الذي صوّره لهم الدين الإسلامي، وجعلها روضة غنّاء، تجوس خلالها أنهار تفيض بالخمر واللبن والعسل والماء، وملأها بالجميلات الفاتنات من النساء اللائي لا هّم لهن إلا الترفيه عمن بها من نزلاء، ومن أجل ذلك فإن الأعراب الذين يقطنون هذه الأرجاء، يعتقدون أنها حقاً الجنة التي وعد بها الأتقياء .. ولم يكن يسمح لأحد من الناس أن يدخل هذه الحديقة إلا من شاء أن يجعلهم من حشاشيه، وكان على بابها حصن منيع يستطيع أن يرد هجمات الناس أجمعين. ولم يكن لها مدخل سواه، وأن يحتفظ في قصره بعدد من الغلمان تتراوح أعمارهم بين الثانية عشرة والعشرين، ممن يلمس فيهم حب الجندية والقتال، وكان دأبه أن يقص عليهم أقاصيص عن الجنة كالتي كان يقصها محمد على أتباعه فيصدقونه فيما يقول، كما صدق العرب نبيهم ثم يأذن لهم بعد ذلك في دخول الحديقة أربعة أربعة أو ستة ستة أو عشرة عشرة، ولكنه يسقيهم قبل ذلك مزيجاً من شراب خاص ينامون على أثره، فإذا انطبقت جفونهم وغلبهم الكرى أمر أتباعه أن يحملوهم ويضعوهم في داخل الجنة، فإذا أفاقوا وجدوا أنفسهم داخل هذه الروضة الغنّاء .. ومتى أفاقوا من غفوتهم ووجدوا أنفسهم في هذا المكان الرائع ظنوا أنهم في جنة الخلد، ثم تقبل النساء والفتيات بعد ذلك على هؤلاء الفتيان فيلاعبنهم، ويشفين رغباتهم، ويظفر الرجال منهن بما يرغبون، فلا يشاؤون بعد ذلك أن يتركوا هذا المكان المشحون بالفتن واللذائذ. وكان هذا الأمير الذي نسميه بـ"الشيخ" يقوم بتنظيم قصره بشكل رائع جميل، وقد تمكن من أن يجعل رجال الجبال السذج الذين يحيطون به يعتقدون اعتقاداً جازماً بأنه نبي عظيم، فإذا شاء أن يبعث واحداً من هؤلاء (الحشاشين) في أية رسالة، فإنه يسقيه من هذا المزيج الذي تحدثنا عنه، فإذا غلبه الكرى حملوه إلى القصر، حتى إذا أفاق لم يجد نفسه في تلك الجنة التي شفي فيها غلته وأشبع فيها نهمته، بل يجد نفسه داخل القلعة ثم يدخلونه بعد ذلك على "شيخ الجبل" فينحني أمامه في احترام بالغ كأنه في حضرة رسول كريم ونبي عظيم، فيسأله الأمير من أين أتى .. ؟ ويجيب الفتى بأنه أقبل من الجنة، وإنه لشبيهة بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ويستمع الآخرون الذين لم يؤذن لهم في دخول هذه الحديقة إلى هذا الحديث، فيتحرقون إلى الدخول فيها والتمتع بما بها .. فإذا شاء الشيخ أن يقتل أي أمير من الأمراء فما عليه إلا أن يقول لواحد من هؤلاء الشبان: اذهب واقتل فلاناً، ومتى عدت فسيأخذك جماعة من ملائكتي إلى الجنة، أما إذا مت فسأبعث إليك بهم ليحملوك إليها، وكانوا يصدقونه فيما يقول، ومن أجل ذلك فقد كانوا يلقون بأنفسهم في أشد المخاطر وأكثرها تهلكة لكي ينفذوا جميع أوامره ولكي يعودوا بعد ذلك إلى الجنة التي تتحرق إليها أنفسهم، واستطاع الشيخ بذلك أن يجعل رجاله يقتلون أي شخص يريد التخلص منه، واستطاع أيضاً بواسطة الرعب الذي يغرسه في نفوس الأمراء أن يجعلهم جميعاً يدفعون له الجزية عن طيب خاطر حتى يكون معهم في سلام ووئام" (1). المصدر: أسرار فرقة الحشاشين لمحمد هادي نزار- ص 74   (1) أورد هذا النص المستشرق في براون في كتابه ((تاريخ الأدب في إيران)) (ص253 - 255). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 189 المطلب الثاني: الفدائيون نظام أوجده الحسن الصباح، وكان مصدراً لكثير من الرعب والهلع، في الأوساط الرسمية والشعبية. كان للفدائية إقدام وجرأة على التضحية الجسدية فاقت كل تصور، بتصميم وعزم وثبات لا مثيل له في تاريخ الجريمة. نسبوا أنفسهم إلى آل البيت، واتخذوا ذلك ستاراً لما يقومون به من أعمال لا يقرها العرف والدين. كان الإرهاب صناعتهم، والفساد شريعتهم، قاموا بأعمال فوضوية اهتز لها العالم الإسلامي ما يقرب من قرنين من الزمان نشروا خلالها الرعب والفزع في النفوس، وقتلوا ما لا يُحصى عدداً من خلق الله. ذكروا أن الحسن اتبع طريقة للسيطرة على أتباعه سيطرة عجيبة جعلتهم ينفذون أوامره الجهنمية دون توقف، وقد نجح في جعل الشجاعة النادرة وحب المخاطرة والصبر الرباط الذي يربط الأفراد الذين ينتمون إلى هذه الفرقة، فقد كان الفدائي يترقب الفرصة المواتية لتنفيذ مهمته شهوراً بل سنين. يذكر التاريخ أن الفدائيين الذين كُلفوا بقتل (كونراد) مركيز مونتفرات قد تمكنوا من الإقامة في معسكر الصليبين ستة أشهر كاملة ينتظرون الفرصة السانحة وهم بثياب الرهبان المسيحيين. لقد كان هدف الحسن أن يعمل من خلال الفدائيين لتكوين مجتمعات إسماعيلية قوية ومنظمة تنظيماً دقيقاً يضمن لها البقاء، ولما تم للحسن السيطرة على قلعة "ألموت" جلب إليها نخبة من المستجيبين للدعوة، المعروفين بتضحيتهم، وأخذ يعمل جاداً على تدريبهم على الطاعة العمياء والإيمان المطلق بما يقوله لهم، وعلى حب المخاطرة والتضحية المطلقة واحتقار الحياة البشرية، وأن قوام الإسلام الصحيح هو بذلك النفس، وأن الحياة الدنيا إنما هي تجربة خالية من النعيم الحق لا تعدل في متاعبها وآلامها ذرة من رغد الحياة الأخرى ونعيمها الباذخ، وأن السبيل الحق إلى اكتساب الجنة والتقلب في نعمائها وسعادتها الخالدة هو اقتداء النفس بعمل من أعمال الدنيا، وأن سلامتهم متوقفة دائماً على فداء أنفسهم، وأن أقل مخالفة تبدر منهم تكون سبباً في وقوعهم تحت العقوبة والمسؤولية إلى الأبد وأن الذي يقدم الطاعة جزاؤه الجنة. نفخ الحسن فيهم حب الفناء في سبيل الدعوة الجديدة، ولما اشتد ساعدهم استقدم لهم أحسن المدربين على استعمال مختلف أنواع الأسلحة المعروفة في ذلك الوقت كما جلب عدة أساتذة لتعليمهم عدة لغات أجنبية ولهجات محلية كان يتكلمها سكان البلاد، أضف إلى ذلك أنه كان يدربهم على استعمال الأحرف السرية وكيفية إخفاء أنفسهم ومن يرافقهم في مهماتهم بحيث لا يبوح الفدائي بسره أو سر الجماعة التي ينتمي إليها، فإذا قبض عليه الأعداء كان يعمد إلى قتل نفسه قبل أن يُجبر على التكلم. لقد كان الحسن صارماً في تنشئة هؤلاء الفدائيين، قاسياً عليهم أشد القسوة، حتى استطاع أن ينجح في إعداد نخبة ممتازة منهم أصبحوا نواة للحامية الإسماعيلية. كان الحسن بن الصباح يعلم أن دعوته لا يمكن أن تنجح ضد معاقل الإسلام السني، وأن أنصاره ليس في إمكانهم أن يواجهوا ويهزموا القوة المسلحة للدولة السلجوقية، وأن كثيرين قبله قد نفسوا عن فشلهم في عنف غير منظم، أو تمرد يائس، أو سلبية كئيبة، ولكن الحسن وجد وسيلة جديدة يمكن بها لقوة صغيرة، منظمة ومخلصة أن توجه ضربات فعالة ضد عدو يتمتع بتفوق ساحق، هذه الوسيلة التي اختارها الحسن هي الإرهاب. كان الاغتيال المنظم أمضى سلاح في يد الحشاشين، وقد كان الرفاق والفدائيون عماد هذا السلاح المروع، لقد أنعشوه كسلاح سياسي ورفعوه إلى مستوى الواجب المقدس، وهذا هو الجانب المثير حقاً في سيرة هذه الجمعية السرية الهائلة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 190 كما أن صراعات الخصوم جعلت منه سلاحاً فعالاً ومقبولاً في نفس الوقت لتصفية الحسابات السياسة والخلافات الدينية والمذهبية، وظهر المنظرون ليضيفوا على منطق العنف العاري غطاءً أيديولوجياً برّاقاً. وبهذا الإرهاب الذي تلهبه أهداف واسعة النطاق يضمنها برنامج متماسك تُرتكب من أجله الأعمال الإرهابية بسط الحشاشون على المشرق نظام إرهاب حق، وانبث الرفاق والفدائيون شراذم في الأقطار فأظلم بهم وجه الأرض ونجد في تاريخ الإسماعيلية ثبتاً من مشاهير الرجال من جميع الأمم سقطوا ضحايا الإسماعيلية بين غبطة القتلة وأسف العالم. لقد كان عملهم بمثابة النفوذ المأفون والإساءة في استخدام الدين ببشاعة لخدمة الطموح الرهيب الذي لا يلجمه شيء، وكانوا بحق الإرهابيين الأول الذين استطاعوا تطويع الإرهاب لتحقيق أهدافهم السياسية. يقول شاعر إسماعيلي في امتداح الفدائيين: "أيها الرفاق .. عندما يأتي وقت النصر ويحالفنا الحظ في الدنيا والآخرة يستطيع محارب واحد يمشي على قدميه أن يبث الرعب في قلب ملك تحت إمرته مائة ألف فارس أو يزيد". ولتبيان حجم الخطر والرعب الذي شكله الحشاشون بصفة عامة والفدائيون بصفة خاصة فإن التاريخ يذكر أنه لما همّ الملك فيليب السادس ملك فرنسا بالقيام بحملة صليبية لاسترداد الأماكن التي فقدتها النصرانية، بعث إليه القس الألماني "بروكاردوس" الذي قضى فترة من حياته في أرمينيا يحذره من الأخطار التي تنطوي عليها مثل تلك الحملة. ومن هذه الأخطار كما يذكر ذاك القس: "أذكر الحشاشين الذين ينبغي أن يلعنهم الإنسان ويتفاداهم، وإنهم يبيعون أنفسهم ويتعطشون للدماء البشرية، ويقتلون الأبرياء مقابل أجر، ولا يلقون اعتباراً للحياة أو النجاة، وهم يُغيِّرون مظهرهم كالشياطين التي تتحول إلى ملائكة من النور، وذلك أنهم يحاكون الحركات والثياب واللغات والعادات والتصرفات التي تأتيها الأمم والأقوام المختلفة، وهكذا يتخفون في ثياب الشاة لتنفيذ أغراضهم، ويتعرضون للموت بمجرد أن يكتشفهم الناس، وحيث إني في الواقع لم أرهم ولكني أعرف عنهم ذلك بالشهرة والكتابات الصحيحة فحسب، لذلك لا يمكنني أن أستطرد أكثر من ذلك أو أعطي مزيداً من المعلومات، ولا أستطيع أن أبين كيف يمكن لأحدٍ أن يعرفهم من واقع عاداهم أو غيرها من العلاقات، لأنهم فيما يتعلق بهذه الأشياء غير معروفين لي وللآخرين كذلك، كما لا أستطيع أن أبين كيف يمكن أن يعرفهم بأسمائهم إذ إنهم بسبب بشاعة مهنتهم، وكراهية الجميع لهم يحاولون إخفاء أسمائهم بقدر ما يستطيعون ولذا فلست أعرف سوى وسيلة واحدة لوقاية الملك وحمايته، وهي أنه لا ينبغي السماح بإعطاء وظائف القصر الملكي أو أية خدمة فيه مهما كانت صغيرة أو مختصرة أو متواضعة إلا للمعروفين تماماً، كما لا ينبغي السماح لأحد بدخول القصر إلا لهؤلاء الذين تُعرف بالتحديد دولتهم وحكامهم ونسبهم وحالتهم، أي ينبغي باختصار أن يكون الشخص المسموح له بالاقتراب من الملك معروفاً تماماً". فالحشاشون كما يراهم هذا القس كانوا قتلة مأجورين، سريين من نوع خطر وذوي مهارات خاصة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 191 وفي تقرير كتبه مبعوث أرسله الإمبراطور "فريدريك بريروسة" إلى مصر وسوريا، كتب هذا المبعوث يقول "لاحظ أنه يوجد عند تخوم دمشق وأنطاكية وحلب جنس معين من العرب يعيشون في الجبال يسمون أنفسهم بالحشاشين، ويُعرفون في الرومانية بسادة الجبل، هذه السلالة من الرجال يعيش أفرادها بلا قانون .. وهم يعيشون في الجبال في شبه منعة كاملة وراء أسوار قلاعهم الحصينة .. ولهم سيد يُلقي أشد الرعب في قلوب كل الأمراء العرب القريبين والبعيدين على السواء وكذا يخشاه الحكام المسيحيون المجاورون لهم، لأن من عادته أن يقتلهم بطريقة تدعو للدهشة، وهذه الطريقة كالتالي: ... يربي عديداً من أبناء الفلاحين الذين يأخذهم منذ طفولتهم المبكرة، وهناك يجري تعليمهم لغات مختلفة كاللاتينية والإغريقية والرومية والعربية وغيرها، وهؤلاء الشبان الصغار يلقنهم معلموهم من شبابهم المبكر إلى رجولتهم الكاملة أن عليهم أن يطيعوا سيد القلعة في كل ما يقوله أو يأمر به، وأنهم إذا فعلوا ذلك فإنه سوف يهبهم مسرات الفردوس، وهم يلقنون كذلك أن لا أمل لهم في النجاة إذا قاوموا إرادته في أي شيء، ولاحظ أنهم منذ الإتيان بهم أطفالاً لا يرون أحداً سوى معلميهم وأسيادهم ولا يحصلون على أي تعليم آخر، وفي الوقت نفسه وعلى فترات متفاوتة يجري استدعاؤهم إلى حضرة الأمير فيسألهم عما إذا كانوا راغبين في إطاعة أوامره من أجل أن يمنحهم نعمة الفردوس، وعندئذ ينفذون ما تلقنوه بدون اعتراض أو ريبة فيرمون بأنفسهم تحت قدميه ويجيبون بحماسة أنهم سوف يطيعونه في كل ما يأمر به، وحينئذ يقوم الأمير بإعطاء كل منهم خنجراً ذهبياً ويرسلهم لقتل من يشاء من الأمراء". وكتب المؤرخ الألماني "أرنولد أوف لوبيك" يقول: "سوف أحكي الآن أشياء عن هذا الأمر قد تبدو غريبة ولكن أكد صحتها لي شهود يوثق بهم، لقد استطاع هذا الشيخ بطرقه السحرية أن يغري قومه بأن يعبدوه ولا يقتنعوا بإله سواه، وأغراهم بطريقة غريبة مستخدماً الآمال والوعود بالمسرات والبهجة الخالدة حتى جعلهم يفضلون ألموت على الحياة، إن إيماءة منه كافية لأن تجعل الكثيرين منهم يقفزون من فوق الأسوار المرتفعة فُتدق أعناقهم وتتحطم جماجمهم ويموتون ميتة بائسة، وهو يؤكد لهم أن أسعدهم مآلاً الذين يسفكون دماء الآخرين ويلقون حتفهم بالتالي انتقاماً لفعلتهم، ولذا فإنهم –عندما يختار بعضهم للموت بهذه الطريقة- يعدون أنفسهم لاغتيال من يحددهم ببراعة ثم يسلمون أنفسهم للموت سعداء جزاء لما يفعلون، والشيخ يقدم لهم بنفسه خناجر مخصصة لهذه المهمة ثم يشملهم على نحو يجعلهم ينغمرون في حالة من الوجد والابتهاج الغامر ونسيان أي شيء آخر ويعرض عليهم بسحره أحلاماً خيالية ومسرات وبهجات كبيرة أو بالأحرى مبهرجة زائفة ويعدهم بأن هذه الأشياء ستكون خالصة لهم جزاء لهم". إن مثل هذه الحملة من الإرهاب المنظم يلزمها مطلبان واضحان: التنظيم والأيديولوجية، فينبغي أن تكون هناك منظمة قادرة على أمرين: شن الهجوم وتحمل الضربة المضادة التي لا شك في مجيئها، وينبغي أن تكون هناك عقيدة تلهم وتدعم المهاجمين إلى درجة مواجهة ألموت، وهذه العقيدة في مثل ذلك العصر والمكان لا يمكن أن تكون سوى الدين وذلك ينطبق على كل عصر. وهذان العاملان كانا موجودين، فالعقيدة الإسماعيلية المعدلة مع ذكرياتها عن الألم والاستشهاد وغير ذلك كانت بمثابة القضية التي تدعم معتنقيها بالكرامة والشجاعة وتلهمهم الولاء الذي لا نظير له من قبل في التاريخ الإنساني، وقد كان ولاء الحشاشين الذي خاطروا بألموت بل وأحبوه من أجل سيدهم عنواناً على الإيمان والتضحية بالذات قبل أن يكون عنواناً على القتل. وكان هناك أيضا التنظيم الهادئ إلى جانب الحمية المتوقدة في عمل الحشاشين، ويبدو هذا واضحاً في عديد من المبادئ، فإن استيلاءهم على القلاع والحصون أمدهم بالقواعد الآمنة كما أن مبدأ السرية الذي اشتق من نظرية التقية أفادهم سواء من حيث الأمن أو التضامن، وقد كان عمل الحشاشين تدعمه الاعتبارات الدينية والسياسية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 192 المطلب الثالث: الاغتيال السياسي جاء القتل السياسي مع ظهور السلطة السياسية، وأصبح مع مر الوقت أسرع وأبسط وسيلة لإحداث التغيير السياسي، وعادة ما يكون الدافع لمثل هذه الاغتيالات شخصي أو حزبي أو ما شاكل ذلك. وفي بعض الأحيان ينظر القاتل والآخرون إلى الاغتيال كواجب تبرره حجج أيديولوجية إذ يبدو أو يصور الضحية كطاغية أو كمغتصبٍ ويبدو ويصور قتله الفضيلة وليس جريمة، ومثل هذا التبرير الأيديولوجي للقتل قد يُعبر عنه بصيغ سياسية أو دينية أو كلاهما معاً. كان ضحايا الحشاشين في هذا المجال ينتمون إلى مجموعتين رئيسيتين: الأولى: تضم الأمراء والقواد والوزراء، وقد أحرز الحشاشون على هذا المستوى أول نصر كبير لهم في الفن الذي صار يُنسب إليهم، فن الاغتيال وكانت ضحيتهم المختارة نظام الملك، الوزير السلجوقي الشهير، والعدو الأول لحركة الحشاشين. وقد دبّر الحسن بن الصباح هذه الجريمة بعناية. يقول المؤرخ رشيد الدين: "إن دينا نصب الشباك والفخاخ من أجل أن يصيد أول كل شيء هدفاً كبيراً كنظام الملك ويجعله يسقط في شباك الهلاك والموت، وبهذا العمل ذاع صيت وعمّت شهرته وأرسى أسس الفدائية، قال: مَنْ منكم يُخلِّص الدولة من شرور نظام الملك الطوسي؟ فوضع رجل يُسمى أبو طالب أراني يده على صدره علامة الموافقة .. وفي ليلة الجمعة 12 رمضان من عام 485هـ وفي منطقة ساهنا من إقليم نهاوند تقدم الرجل وهو متخفٍ في ثياب الصوفيين إلى محفة نظام الملك الذي كان محمولاً من الساحة العامة إلى خيام حريمه وطعنه بسكين وبهذه الطعنة نال الرجل الشهادة، وبذلك كان نظام الملك أول من قتله الفدائيون وقال مولانا –عليه ما يستحق- إن قتل هذا الشيطان هو بداية البركة". على أن البعض يلقي بتدبير جريمة قتل نظام الملك على السلطان ملكشاه، حيث يروون في هذا الصدد الرواية التالية: "كان سبب قتله (نظام الملك) أن عثمان بن جمال بن نظام الملك، كان قد ولاّه جده نظام الملك رياسة مرو، وأرسل السلطان إليه أكبر مماليكه وأعظم الأمراء في دولته وكان يقال له قودن، فجرى بينه وبين عثمان منازعة في شيء فحملت عثمان حداثة سنة وتمكنه وطمعه بجده، على أن قبض عليه، وأخرق به، ثم أطلقه، فقصد السلطان مستغيثاً شاكياً، فأرسل السلطان إلى نظام الملك رسالة مع تاج الدولة ومجد الملك البلاساني وغيرهما من أرباب دولته يقول له: "إن كنت شريكي في الملك، ويدك مع يدي في السلطنة، فلذلك احكم .. وإن كنت نائبي وبحكمي، فيجب أن تلزم حد التبعية والنيابة، وهؤلاء أولادك قد استولى كل واحد منهم على كورة عظيمة، وولي ولاية كبيرة، ولم يقنعهم ذلك حتى تجاوزوا أمر السياسة، وطمعوا إلى أن فعلوا كذا وكذا"، وأطال القول وأرسل الأمير "يلبرد" –وكان من خواصه وثقاته- وقال لهِ: تعرفني ما يقول، فربما كتم هؤلاء شيئاً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 193 فحضروا عند نظام الملك وأوردوا عليه الرسالة، فقال لهم: "قولوا للسلطان إن كنت ما علمت أني شريكك في الملك فاعلم، فإنك ما نلت هذا الأمر إلا بتدبيري ورأيي، أما يذكر حين قُتل أبوه فقمت بتدبير أمره، وقمعت الخوارج عليه من أهله وغيرهم –منهم فلان وفلان وذكر جماعة ممن خرج عليه- وهو ذلك الوقت يتمسك بي ويلزمني ولا يخالفني، فلما قدرت الأمور إليه وجمعت الكلمة عليه، وفتحت له الأمصار القريبة والبعيدة، وأطاعه القاصي والداني، وأقبل يتجنى لي الذنوب، ويسمع في السعايات، قولوا له عني، إن ثبات تلك القلنسوة معذوق بهذه الدواة وإن اتفاقهما رباط على رغيبة وسبب كل غنيمة، ومتى أطبقت هذه زالت تلك، فإن عزم على تغيير فليتزود للاحتياط قبل وقوعه، وليأخذ الحذر من الحادث أمام طروقه" ثم قال لهم: "قولوا للسلطان عني مهما أردتم فقد أهمني ما لحقني من توبيخه وفتّ في عضدي". فلما خرج الوفد من عنده اتفق أعضاؤه على كتمان ما جرى عن السلطان رعاية لحق نظام الملك وسابقته، وأن يقولوا له ما مضمونه الطاعة والتبعية، ولكن "يلبرد" كان قد مضى إلى السلطان وأعلمه الأمر، ولما كان الغد فوجئ الوفد بأن الخبر قد بلغ السلطان، وأن هذا الأخير قد أحاط بكل ما دار بينهم وبين نظام الملك. ووقع التدبير عليه حتى تّم عليه من القتل ما تم، ومات السلطان بعده بخمسة وثلاثين يوماً وانحلّت الدولة ووقع السيف وكان قول نظام شبه الكرامة له (1). ورغم هذه الرواية إلا أن الرأي الذي يبقى أقوى وأوكد وعليه عامة المؤرخين هو أن المسؤول مسؤولية مباشرة عن مقتل نظام الملك هو الحسن بن الصباح وحركته، وهذا الأمر ثابت في مراجع الشيعة أنفسهم، كما أن أسلم نظام الملك محفوظ في "قائمة شرف" للاغتيالات بقلعة ألموت، كانت تُسجل بها أسماء الفدائيين وأسماء من قتلوهم. وكانت تلك بداية سلسلة طويلة من الهجمات المماثلة أدّت في حرب رعب محسوبة إلى إنزال ألموت المفاجئ بملوك وأمراء وقادة جيوش وحكام يقول ابن الأثير: "إن أي قائد أو ضابط لم يكن يجرؤ أن يترك بيته بدون حماية وكانوا يرتدون الدروع تحت ملابسهم .. وطلب كبار الضباط من السلطان بر كبارق أن يسمح لهم بالظهور أمامه مسلحين خوفاً من أن يتعرضوا للهجوم فمنحهم الإذن بذلك". أما المجموعة الثانية من ضحايا الحشاشين: فتضم القضاة والعلماء وغيرهم من الشخصيات الدينية الذين أدانوا نظريات الإسماعيلية وأفتوا بقمع من يقول بها، إذ يقول أحد هؤلاء: "إن قتلهم أحلّ من ماء المطر، ومن واجب السلاطين والملوك أن يهزموهم ويقتلوهم وينظفوا وجه الأرض من دنسهم، ولا يجوز الاتصال بهم أو تكوين صداقات معهم أو أكل لحم ذُبح بواسطتهم، أو الدخول معهم في زواج، إن سفك دم ملحد منهم أكبر جزاءً من قتل سبعين من كفار اليوم". وهناك فئة ثالثة متوسطة تضم ولاة المدن وقد نالت اهتمامهم بين حين وآخر، وكانت المؤسسة السنية بجوانبها السياسية والعسكرية والإدارية والدينية هي العدو الرئيسي للإسماعيلية، وكان هدفهم من الاغتيالات إخافة هذه المؤسسة وإضعافها ثم الإطاحة بها في النهاية. وبعض هذه الاغتيالات كان مجرد أعمال انتقام وتحذير مثل قتل علماء السنة في مساجدهم عقاباً لهم على مهاجمة الإسماعيلية بالقول أو الفعل، ولكن كان هناك ضحايا آخرين يتم اختيارهم لأسباب محددة أو عاجلة مثل قادة الجيوش الذين يهاجمون الإسماعيلية. كما اجتمعت الدوافع التكتيكية والدعائية في اغتيال بعض الشخصيات الكبيرة كالوزير نظام الملك –كما أشرنا سابقاً- واثنين من الخلفاء ومحاولات اغتيال صلاح الدين.   (1) ((الكامل في التاريخ)) (8/ 161 - 162) بتصرف قليل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 194 كان الحشاشون بحق اتحاداً من الدجالين والمغفلين استطاعوا تحت قناع من التشدد الديني والأخلاقي الإساءة إلى الدين والخلق، وأن هذه الجماعة من السفاكين الذين سقط تحت نصال خناجرهم أسياد الدول ظلوا أقوياء لأنهم –ولمدة ثلاثة قرون- استطاعوا أن يبثوا الرعب في قلوب الجميع إلى أن سقط وكر الوحوش في يد الخلافة التي كانت منذ البداية هدفاً للتدمير بأيديهم كرمز للسلطة الروحية والزمنية للمسلمين. لماذا يضحي الفدائي بحياته؟ ونأتي الآن إلى أمر حار فيه كثير من المحللين وتضاربت بشأنه تفسيراتهم، وهو الولاء العجيب من الحشاشين لسيدهم "شيخ الجبل"، الذي جذب انتباه الكثيرين وخاصة في أوربا على الأقل في بداية الأمر، حتى صار مضرب الأمثال. يقول أحد الشعراء مخاطباً حبيبته: "أنت تسيطرين عليّ بسحرك أكثر مما يسيطر الشيخ على حشاشيه الذين يذهبون لقتل أعدائه الفانين". ويقول آخر: "كما يخدم الحشاشون سيدهم بإخلاص لا ينضب، كذلك أحبك بولاء لا يكلّ". وفي خطاب حب آخر يقول كاتب مؤكداً لحبيبته: "أنا حشاشك الذي يتمنى أن يحظى بفردوسك عن طريق تنفيذ أوامرك". وانطلاقاً من تسليمنا بأن الفكر هو موجه السلوك، فإننا نقف على تفسير إقدام الفدائي على التضحية بحياته إذا ما وقفنا على مكونات فكره التي استطاع الحسن بن الصباح أن يشكلها بطريقة تكشف عن عبقرية سياسية ومواهب إدارية واستراتيجيه كبيرة. إن الموقف الذي ينطلق منه الفدائي خاصة وعضو حركة الحشاشين عامة، هو القلق والشعور بالخوف إزاء الواقع الذي يعيش فيه كنفس مقيدة في بدن، وكفردية مؤطرة في مجتمع بحيث لا يلقى إلا ما ينغّصه ويكدره ويجعله يشعر بأنه محاصرٌ ومستعبد، فيبدو العالم كله شراً، وتصبح مشكلته الأساسية هي مشكلة الشرّ في العالم: لماذا كان العالم يحتوي على الشر؟ ولماذا يطغى فيه الشر؟ وما مصدر هذا الشر؟. ومن هذه الوضعية يبدأ الفدائي يعبر عن رفضه لهذا الوجود كله وبشدة فينطلق أولا: بإبداء التضايق والشكوى من هذه الوضعية ثم بإعلان الكراهية والعداء لها انتهاءً بالتشهير بها والتمرد عليها. يرفض الفدائي هذه الوضعية كواقع خارجي، كما يرفضها كشعور داخلي ... كشروط حياة، ويرفض نفسه كوجود خاضع لهذه الشروط، ومن هنا إحساسه بالغربة بصورة مضاعفة: يشعر نفسه غريباً في عالم يراه غريباً عنه تماماً، فيتجّه إلى تمييز نفسه عن هذا العالم، إلى الانفصال والقطيعة عنه، ومن هنا يتعاظم ميل الفدائي وشوقه وتستولي عليه فكرة ضرورة التحرر من قبضة هذا العالم وقيوده والرحيل عنه إلى حيث امتلاك النفس والتحرر الكامل، والالتحاق بعالم آخر، عالم متعال عن المكان والزمان، عالم الحياة الحقيقية، عالم الكمال والطمأنينة والسعادة، العالم الذي كان فيه وأخرج منه والذي سيعود إليه، وهو يستقي معرفته بذلك العالم الآخر لا من خلال تأمل العالم الدنيوي، وكيف يمكن أن يجد فيه الجواب وهو عالم غريب كله شرّ؟ ولا يقوم باستعمال حواسه وعقله، إذ لا يمكن أن يعتمد عليهما لأنهما مرتبطان بهذا العالم؟ فلا يبقى إلا أن يطمع في أن يتلقى المعرفة التي يبغيها من القوى العليا لا تعطي عملها الغيبي إلا لإمام الزمان، ومن هنا فإن الفدائي يسلم نفسه تماماً إلى هذا الإمام أو من ينوب عنه، فيقوم الإمام أو نائبه باستغلال هذا الموقف فيدفع بالفدائي ورغبته في الخلود والرجوع إلى موطنه الأصلي إلى أقصى مدى. إن الإمام يقدم له تاريخ له ما قبل تاريخه وما بعده، فيعرف منه أنه كان موجوداً قبل وجوده الراهن في العالم، وأنه جاء إلى هذا العالم من عالم آخر يقع خارج هذا العالم ويسمو على تحديداته الزمانية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 195 وانطلاقاً من هذا التصور يقتنع الفدائي بأن وجوده في هذا العالم شيء غير طبيعي، وبالتالي فلابد أن يكون هذا السقوط الذي أصابه، والذي يتمثل في مغادرته عالم الخلود والانغماس في هذا العالم المملوء شرّاً، لابد أن يكون نتيجة لذنب أو خطيئة ولابد من تدارك الموقف والعمل من أجل الخلاص. إن الفدائي وهو في هذه الحالة من الشعور، يتصوّر "البعث والنشور" على أنه رجوع إلى حال سابقة سامية، حالٌ من الحرية الفكرية، حال ينزع فيها روحه عن جسده، ليعود إلى الحال التي كان عليها قبل ميلاده، بل قبل تكونه في الصورة الجسمانية، إنها النشأة الأخرى أو الميلاد الجديد. وبعد أن عرف الفدائي من أين أتى وعرف أن مصيره الحقيقي الذي سيحرره من سُحُب هذا العالم، هو الرجوع إلى من حيث أتى، ففي هذا الرجوع وحده يكمن خلاصه. وبعد أن عرف الفدائي إلى أين يصير، لا يبقى إلا أن يسلك الطريق، وسلوك هذا الطريق لا يكون إلا تحت رعاية الإمام وتوجيهه، والخضوع له خضوعاً مطلقاً وفقاً لمبدأ "التعليم" الذي يقوم بدوره على "التسليم التام" لكل ما يصدر عن الإمام أو المعلم الصادق من أوامر، حتى أنه كما يقول نصير الدين الطوسي: "لو أراد له الحياة لما أحب ألموت، ولو أراد له ألموت لما أحب الحياة، ولو قال له إن النهار المشرق ليل بهيم، أو أن الليل البهيم نهار مشرق لما هجس في قلبه أي اعتراض على هذا القول، ولما حام حول كيف يكون الأمر كذلك ولماذا؟ فينعدم اختيار الإنسان الناقص الجاهل وإرادته باختيار الإنسان الكامل العاقل وإرادته". ومن هنا فإن الإمام أو المعلم الصادق عندما يأمر الفدائي بأن يغتال إحدى الشخصيات المناوئة للدعوة، فإن الفدائي يسرع بتنفيذ الأوامر الصادرة إليه انطلاقاً من رغبته الجامحة في المساهمة في القضاء على الشرّ المسيطر على هذه الحياة الدنيا، وشوقاً في الصعود إلى عالم الفردوس والخلود الذي آمن من قبل أنه لن يمكنه بلوغه إلا بأن "يخلع عنه قميص جلده" فيتحرر من بدنه ومن كل ما يشده إلى هذا العالم". المصدر: أسرار فرقة الحشاشين لمحمد هادي نزار- ص 96 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 196 المبحث التاسع: الرموز السرية إن أي عمل سري لا تكتمل سريته إلا باستخدام رموز سرية لا يعرف مدلوها إلا المنخرطون في العمل والمنتمون إلى صفوف تنظيمه، لضمان سهولة الاتصال بين الأفراد دون انتباه من العدو. ومن هنا لجأ الحشاشون ومنذ وقت مبكر إلى استخدام رموز سرية وقواعد خاصة بمراسلاتهم السرية في حروبهم وتنظيماتهم وجعلوا أمر معرفتها مقتصراً عليهم وحدهم، وكانوا يشيرون بها إلى أسماء خصومهم ويخفون وراءها جمل التهديد العنيف. وكان لهذه الرموز عدة أساليب، تختلف من عهد لآخر، ومن فترة لأخرى، فمثلاً تختلف الرموز السرية التي كانت تُستخدم في دور الستر الأول وفي العهد الفاطمي عنها في عهد الدولة الإسماعيلية النزارية. والجدير بالملاحظة أن فك تلك الرموز كان من اختصاص كبار الدعاة ممن تُلقى على عاتقهم المهمات الجسام، ويكونون بعيدين عن مركز الدعوة، فكانت الرسائل تصلهم وبصورة منظمة عن طريق الحمام الزاجل الذي برع الإسماعيلية في استخدامه. المصدر: أسرار فرقة الحشاشين لمحمد هادي نزار- ص 113 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 197 المبحث العاشر: الإستراتيجية السياسية والعسكرية لحركة الحشاشين في سوريا إستراتيجية الحشاشين في سوريا لا تختلف عن إستراتيجيتهم في فارس، حيث تعتمد على نفس الوسائل من أجل تحقيق نفس النتائج. واستغلالاً للوضع القائم الذي كان يتسم بالفوضى الاجتماعية التي أدى إليها دخول السلاجقة، ثم الصراع الذي كان قائماً بين حكام المناطق، حاول الحشاشون في خضم ذلك أن يستولوا على قلاع وحصون أو الحصول عليها لاستخدامها كقواعد خلفية لحملاتهم الإرهابية في مواجهة الخصوم. وفي هذا الصدد قام الحشاشون بتجميع الناس الذي يقطنون المناطق الجبلية وإثارة الحمية والعاطفة الشيعية فيهم من أجل تجنيدهم في صفوف الحركة، كما عقدوا بعض التحالفات المحدودة، والمؤقتة التي كانت تبدو في صالحهم مع بعض الحكام المحليين. لقد كانت مهمة الحشاشين صعبة للغاية على الأقل في بداية نشاطهم بسوريا، وربما كان بعض السبب في ذلك أن الدعوة إلى العقيدة الإسماعيلية في هذا البلد بدأت بدعاة غريبين عن الوسط الذي ينشطون فيه، فقد كان معظمهم من الفرس، لذلك كان تجاوب الجماهير مع الحركة سلبياً بالمقارنة إلى بلاد فارس لولا الظروف التي سهّلت المهمة حين حقق الحشاشون أول انتصار لهم بعد نصف قرن تقريباً من الجهد والعمل المتواصلين ومن ثمَّ حصلوا على مجموعة من المراكز القوية بوسط سوريا. كان الحكيم المنجم هو الداعي الكبير الذي يقود الحركة في سوريا ويوجه تحركات عناصرها وقد تمكن من التحالف مع حاكم حلب، كما استغل هذا الداعي توتر العلاقات بين حاكم حلب وبقية حكام سوريا وخاصة حاكمي دمشق وحمص، وقام بمناورة ذكية حيث أقنع حاكم حلب أن حاكمي دمشق وحمص يحشدان الجيوش استعداداً لغزو إمارته، فأظهر الحاكم العداء ضدهما وأبدى رغبته في التعاون مع الحشاشين، وكانت أول بادرة لذلك أن جعل جميع حاشيته منهم، وتمكّن الحشاشون على إثر ذلك من الخروج إلى النور، والنشاط علناً، فقد وجدوا تربة خصبة للعمل السياسي والدعوي معاً، خاصة وأن المدينة غالبية سكانها من الشيعة الإثني عشرية (1)، ولا شك أنهم أقرب إلى إسماعيلية ألموت من أية فرقة أخرى. وأمام هذه العزلة السياسة التي فرضها حاكم حلب على إمارته، تعرض لانتقاد لاذع من صهره حاكم حمص، ودارت من جراء ذلك رحى الحرب بين الأميرين، انتهت بهزيمة حاكم حلب، الذي فر خارج حدود إمارته ودبر مؤامرة مع الداعية الحكيم المنجم لاغتيال حاكم حمص والانتقام منه، وتمكن بعض الفدائيين الذين كانوا يلبسون زي الصوفية من الهجوم عليه واغتياله وهو يؤدي صلاة الجمعة في المسجد. وتكاد جميع المصادر تقتصر على هذه الأحداث دون غيرها التي دارت بين الحشاشين وخصومهم. ولم يبق زعيم الحركة الحكيم المنجم على قيد الحياة طويلاً إذ توفي بعد فترة قصيرة من اغتيال حاكم حمص، وانتقلت زعامة الحركة إلى أحد الدعاة يدعى أبو طاهر الصايغ. عهد أبي طاهر الصايغ: كان فارسياً هو الآخر، عمل في بداية الأمر على توطيد علاقته بحاكم حلب أكثر فأكثر، والحفاظ على تحالف الحركة معه أطول مدة، وحصل من خلال ذلك على حرية الحركة في النشاط داخل حلب، ثم سعى للحصول على نقاط إستراتيجية في جبال المدينة وهضابها الواقعة إلى الجنوب. عهد سنان ... شيخ الجبل: يمثل هذا العهد العصر الذهبي لحركة الحشاشين في سوريا، كما أن سنان كان أعظم زعيم تشهده الحركة، يشبه في إدارته للحركة وقدراته في مواجهة الخصوم زعيم الحركة الأول الحسن الصباح.   (1) هذا قديماً أما الآن فإن الحال تغير، فالغالبية من أهل السنة متمسكون بعقيدتهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 198 كان مولد سنان بالبصرة سنة 528هـ، وقد درس مختلف العلوم الفلسفية والعقدية المنتشرة في عصره، حتى صار أحد دعاة الإسماعيلية النزارية، التابعة لدولة ألموت الجديدة. وبعد ثلاثين سنة قضاها سنان شيخ الجبل في قيادة حركة الحشاشين بالشام وافته المنية سنة 588هـ، بعد أن أعاد بناء الحركة بمهارة عالية تذكرنا بالحسن بن الصباح المؤسس الأول للحركة. وبموت سنان شيخ الجبل دخلت الحركة مرحلة الضعف، وهذا بالرغم من أن خلفاءه ظلوا أوفياء لخطه، يمارسون نفس السياسة، ويجعلون من الاغتيال الوسيلة الوحيدة لإثبات الوجود ومقاومة الخصوم، وتمكنوا تحت التهديد والوعيد من الحصول على الجزية خاصة من الأمراء الصليبيين. وعندما دخل التتار الشام عملوا على القضاء على الحشاشين، إذ شنوا هجوماً واسع النطاق على مختلف قلاعهم، وتمكنوا على إثر ذلك من السيطرة على بعض القلاع الهامة في المنطقة، ولكن سرعان ما ردّت الحركة بقوة واسترجعت بعض ما ضاع منها من قلاع. وفي هذه الفترة كان السلطان المملوكي الظاهر بيبرس يقود حرباً ضد الصليبيين والمغول الوثنيين، وكان هدفه تحرير الشرق الإسلامي من هذا التهديد المزدوج، كما أنه لا يمكن أن يُتوقع منه التسامح إزاء استمراء وجود جيب مستقل خطر من الملحدين والقتلة في قلب سوريا، وشدد قبضته على الحشاشين فأقروا له بالخضوع والطاعة وأمر بيبرس بجمع الضرائب والرسوم التي تُدفع إلى الحشاشين، ولم يكن باستطاعة الحشاشين الذين أضعفوا في سوريا وأثبطت همتهم نتيجة مصير إخوانهم الفارسيين أن يبدوا مقاومة، فقبلوا جميع إجراءات بيبرس، حتى أصبح –أي بيبرس-، بدلاً من سيد ألموت هو الذي يعين رؤساء الحشاشين ويخلعهم كما يريد، كما أصبح رجال الحركة وأتباعها تحت تصرفه المباشر. ومنذ ذلك الوقت صار الحشاشون مجرد مجموعات صغيرة تمركزت في مناطق معينة، ولم يعد لها أية أهمية سياسية أو تأثيراً على مجرى الحوادث، ولم يعودوا يظهرون في صفحات التاريخ حتى أوائل القرن التاسع عشر عندما عُرف أنهم في نزاع دائم بينهم، ويبلغ عددهم في الوقت الحاضر بضعة آلاف شخص، يدين البعض منهم بالولاء لآغاخان كإمام لهم. وهكذا توقفت الإسماعيلية مرة أخرى إلى الأبد عن أن تكون بديلاً جاداً للفكر السني الذي يسيطر على الحياة الفكرية في مختلف البلاد الإسلامية، وإنها لصفحة من أغرب صفحات الثورة على الإسلام، بل وعلى العقل والمنطق، وأشدها غلواً وإغراقاً. المصدر: أسرار فرقة الحشاشين لمحمد هادي نزار- ص 160 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 199 المبحث الحادي عشر: الانتشار ومواقع النفوذ انطلقت دعوتهم من كرمان ويزد إلى أواسط إيران وأصفهان ثم خوزستان ثم هضبة الديلم واستقرت في قلعة ألموت، وشرقاً وصلوا ما زندران ثم قزوين واحتلوا منطقة رودبار ولاماسار وكوهستان .. واحتلوا كثيراً من القلاع وامتدوا إلى نهر جيحون. - وصلت دعوتهم إلى سوريا، وامتلكوا القلاع والحصون على طول البلاد وعرضها ومن قلاعهم بانياس ومصياف والقدموس والكهف والخوابي وسلمية. - كان زوالهم في إيران على يد هولاكو المغولي وفي سوريا على يد الظاهر بيبرس. - لهم أتباع إلى الآن في إيران، وسوريا، ولبنان، واليمن، ونجران، والهند، وفي أجزاء من أواسط ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي في السابق المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 200 المبحث الثاني عشر: تعامل الباطنية النزارية (الحشاشين) مع الصليبيين كان أول ظهور الباطنية ببلاد الشام في مدينة حلب، التي كانت تحت حكم الملك السلجوقي رضوان بن تتش، حيث أقام الداعي الباطني الحكيم المنجم الذي أرسله الحسن بن الصباح من ألموت لنشر الدعوة في الشام واستطاع استمالة رضوان إلى الباطنية على أساس أن يستغل هذا شجاعة الباطنية في اغتيال خصومه السياسيين، فحفظ الملك رضوان جانبهم وشايعهم حتى أصبح لهم بحلب دار دعوة (1).لكن لم يلبث أن توفي الحكيم المنجم فتولى أمر الباطنية بعده في الشام رفيقه أبو طاهر الصائغ العجمي الذي سار على نفس الطريقة التي سارت عليها الباطنية في بلاد فارس، فاعتمد الاغتيال كوسيلة لتثبيت أقدامه في الشام وفرض سيطرته، فقام في عام 498هـ باغتيال خلف بن ملاعب صاحب أفامية عن طريق أحد دعاته هناك، حيث تسلم أبو طاهر الصائغ الحصن عقب ذلك وأقام فيه (2).بعد استفحال أمر الباطنية في حلب والشام، أرسل السلطان السلجوقي محمّد ابن ملكشاه إلى ألب أرسلان بن رضوان بن تتش -الذي تولى الحكم في حلب بعد وفاة أبيه- أن يفتك بالباطنية ويقتلهم، فقرر ألب أرسلان الإيقاع بهم والقضاء عليهم، فقبض على أبي طاهر الصائغ وقتله، وقتل إسماعيل الداعي وأخا الحكيم المنجم والأعيان من أصحاب هذا المذهب الباطني بحلب واستصفى أموالهم وتفرقوا في البلاد (3).ظلّت الباطنية في الشام مختفية مغلوبة على أمرها، بسبب مطاردة الحكام والعامة لها، إلى أن جاءت سنة 520هـ، حيث كان على زعامة الباطنية رجل يعرف باسم بهرام، فقال عنه ابن القلانسي: "وفي هذه السنة استفحل أمر بهرام داعي الباطنية وعظم خطبه في حلب والشام، وهو على غاية من الاستتار والاختفاء وتغيير الزي واللباس، بحيث يطوف البلاد والمعاقل ولا يعرف أحد شخصه" (4).استقر المقام بداعي الباطنية بهرام في دمشق حيث أرسل نجم الدين اليغازي ابن أرتق صاحب الموصل إلى الأمير ظهير الدين أتابك دمشق خطابا يستأذنه في أن يقيم عنده بهرام حتى يؤمن شره وشر جماعته، فأذن له الأمير ظهير الدين بالمقام عنده في دمشق، وفي دمشق "وافق وزير الأمير ظهير الدين أبو عليّ طاهر ابن سعيد المزدقاني داعي الباطنية بهرام، وساعده على نشر مذهبه وبث أفكاره، فعظمت المصيبة بهم، وجلت المحنة بظهور أمرهم، وضاقت صدور الفقهاء والمتدينين والعلماء وأهل السنة، والمقدمين، وأحجم كل منهم عن الكلام فيهم، دفعا لشرهم وارتقابا لدائرة السوء عليهم، لأنهم شرعوا في قتل من يعاندهم، ومعاضدة من يؤازرهم على ضلالهم" (5).لم يكتف بهرام بهذا، بل حن على ماضيه وماضي جماعته في سفك الدماء وقتل الأبرياء، فحدثته نفسه بقتل برق بن جندل أحد مقدمي وادي التيم لغير سبب، فخدعه إلى أن حصل في يده، فاعتقله وقتله صبرا، لكن أخاه ضحاكاً لم ينم على دم أخيه فجمع أتباعه وعقدوا العزم على الأخذ بثأر برق، فسار ضحاك مع أتباعه والتقى مع أصحاب بهرام ودارت بينهما معركة في وادي التيم أسفرت عن هزيمة أصحاب بهرام حيث قتل أكثرهم وسقط بهرام نفسه قتيلا في هذه المعركة" (6).   (1) ابن العديم ((بغية الطلب في تاريخ حلب)) (ص140 - 141) (2) المقريزي: ((اتعاظ الحنفا)) (3/ 36). (3) ابن القلانسي ((ذيل تاريخ دمشق)) (ص302). (4) ابن القلانسي: ((ذيل تاريخ دمشق)) (ص342). (5) ابن القلانسي: ((ذيل تاريخ دمشق)) (ص343). (6) ابن القلانسي: ((ذيل تاريخ دمشق)) (ص353) (بتصرف). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 201 بعد مقتل بهرام قام مقامه في قلعة بانياس رجل من الباطنية اسمه إسماعيل العجمي، وأقام الوزير المزدقاني عوض بهرام بدمشق رجلا من الباطنية اسمه أبو الوفا، فعظم أمر أبي الوفا هذا بسبب مساندة الوزير المزدقاني له، حتى أصبح حكمه في دمشق أكثر من حكم صاحبها تاج الملك بوري. لم يقنع أبو الوفا بهذا، بل حدثته نفسه بالخيانة والاستعانة بالصليبيين على أهل دمشق المسلمين، وتسليم دمشق إليهم، فكاتب أبو الوفا زعيم الباطنية في الشام الفرنج على أن يسلم إليهم دمشق، ويسلموا إليه عوضها مدينة صور، واتفقوا على ذلك، وتقرر بينهم الميعاد على أن يكون قدوم الصليبيين إلى دمشق في يوم جمعة وقت الصلاة، على أن يجعل أبو الوفا أصحابه على أبواب جامع دمشق، فلا يمكنوا أحداً من الخروج منه حتى يجيء الفرنج ويتسلموا دمشق ... علم تام الدين بوري صاحب دمشق بهذه المؤامرة، فبادر بالتخلص من أصحابها، ومن كل من ساهم فيها، وبدأ بوزيره أبي علي طاهر بن سعيد المزدقاني، فاستدعاه إليه فحضر، وخلا معه فقتله تاج الملك لتواطئه مع الباطنية، وعلق رأسه على باب القلعة، ثم نادى تاج الملك في البلد بقتل الباطنية، فثار بهم أهل دمشق فقتلوا منهم ستة آلاف نفر، وكفى الله المسلمين شرهم (1).أما الصليبيون فلقد وصلوا على الميعاد المقرر بينهم وبين الباطنية وحاصروا دمشق استعداداً لأخذها، لكنهم علموا أن تاج الملك قد بطش بحلفائهم وقضى عليهم فتأسفوا على ذلك أشد الأسف وغضبوا على عدم تمكنهم من أخذ دمشق، وأرسلوا إلى أعمال دمشق لجمع الميرة والإغارة على البلد فلما سمع تاج الملك بذلك أرسل أميراً من أمرائه يعرف بشمس الخواص في جمع المسلمين إليهم، فلقوا الفرنج وقاتلوهم، فصبر بعضهم لبعض، فظفر المسلمون بهم وقتلوهم، وأخذوا ما معهم من غنائم وهي عشرة آلاف دابة وثلاثمائة أسير، فلما علم المحاصرون لدمشق بهذا ألقي في قلوبهم الرعب، فرحلوا عن دمشق شبه المنهزمين وكان البرد والشتاء شديداً فخرج تاج الملوك في أثرهم وأخذ يطاردهم حتى قتل كل من تخلف منهم (2).أما صاحب بانياس الباطني إسماعيل العجمي فلما سمع هو وأصحابه بما وقع لأقرانهم في دمشق أسقط في أيديهم، فخاف إسماعيل على نفسه وعلى أصحابه من أنه يثور به الناس فيقتلونهم، فراسل الفرنج، وبذل لهم تسليم بانياس على أن ينتقل إلى بلادهم ليأمن بهم، فأجابوه إلى ذلك فسلمها إليهم، وخرج هو وأصحابه متسللين من بانياس إلى الأعمال الفرنجية على غاية من الذلة، ونهاية من القلة، فلقوا شدة وهوانا (3).ظل الحشيشية الباطنية في بلاد الشام على صلة وثيقة بالصليبيين يتآمرون على المسلمين من أهل السنة، ولا يتركون فرصة تلوح للانتقام منهم إلا اهتبلوها، فوجهوا كل عملياتهم ومؤامراتهم ضد قادة الجبهة الإسلامية ضد الصليبيين والمؤسسات السنية في الشام –"فلم يقاتل الحشيشية (النزارية) الإثنى عشرية أو الشيعة الآخرين، ولم يديروا سكاكينهم ضد النصارى أو اليهود المحليين" (4) –وهذا يثبت لنا بالدليل القاطع الصلات الوثيقة، وحقيقة التعاون بين الباطنية والصليبيين من جهة واليهود من جهة أخرى.   (1) أبو الفدا: ((المختصر في أخبار البشر)) (3/ 2 - 3) ابن الأثير: ((الكامل)) (10/ 656 - 657). (2) أبو الفدا: ((المختصر في أخبار البشر)) (3/ 2 - 3) ابن الأثير: ((الكامل)) (10/ 656 - 657). (3) ابن القلانسي: ((ذيل تاريخ دمشق)) (ص355 - 356)، ابن الأثير: ((الكامل)) (10/ 657). (4) برنارند لويس: ((الحشيشية)) (ص153). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 202 فمن الأدلة التي تثبت حقيقة التعاون بين الباطنية والصليبيين أن زعيم الباطنية في الشام راشد الدين سنانت أرسل في عام 569هـ وفداً إلى أملريك ملك بيت المقدس يقترح عليه اتفاقاً بين الطرفين ضد القائد المسلم الملك العادل نور الدين محمود، ولوح سنان لملك بيت المقدس بأنه وقومه يفكرون بالتحول نحو النصرانية، وطلب منه مقابل ذلك إلغاء الضريبة التي فرضتها فرسان الداوية الصليبيين على بعض القرى الإسماعيلية الباطنية في الشام، ولما عاد وفد الباطنية الحشيشية من القدس سقط في كمين لفرسان الداوية، فقتل الداوية جميع أفراد الوفد فأثاروا بذلك غضب أملريك ملك بيت المقدس الصليبي، فبعث بكتاب توبيخ للجناة، وطلب من مقدم الداوية سجنهم، كما أرسل إلى سنان مقدم الباطنية معتذراً، وأعلمه أن الجناة نالوا عقابهم، فكان لهذا العمل أثره الذي زاد في إبقاء العلاقات الطيبة بين الطرفين (1).أما عن علاقة الباطنية النزارية باليهود، فيبدو أنها لا تقل درجة عن علاقتهم بالصليبيين، بل كانت أقوى حيث كان الطرفان ممتزجين ببعضهما البعض، فلقد كان عدد كبير من اليهود يعمل بين صفوف الحركة الباطنية النزارية في الشام لخدمة أهدافها، وقد ذكر الرحالة اليهودي بنيامين الذي زار منطقة الشام حوالي عام 569هـ بأنه كان يقيم بين الإسماعيلية في الشام نحو أربعة آلاف يهودي، يسكنون الجبال مثلهم، ويرافقونهم في غزواتهم وحروبهم، وهم أشداء لا يقدر أحد على قتالهم، وبينهم العلماء التابعون لنفوذ رأس الجالوت ببغداد (2).ومن الأدلة الأخرى التي تثبت حقيقة التعاون بين الإسماعيلية الباطنية واليهود ضد المسلمين السنة، أن كاتب الرسائل الباطنية الموجهة إلى ملك بيت المقدس الصليبي بشأن الاتفاق معه للزحف على مصر وقيام الباطنية في الداخل بثورة ضد صلاح الدين وقتله وقتل أتباعه وأخذ مصر منه وإعادة الدولة الفاطمية مرة أخرى، كان كاتب هذه الرسائل يهودي (3).ومن هذا يتضح أن الطوائف الباطنية من إسماعيلية ونصيرية ودروز ليسوا من المسلمين حقيقة، لا بالقول ولا بالفعل ولا بالاعتقاد، فلقد كانت مواقفهم دائماً مناوئة للإسلام والمسلمين، بل تعاونوا في كل الأوقات مع أعداء الإسلام والمسلمين من صليبيين ويهود (4).لم يقف الباطنية في الشام عند حد التعاون مع الصليبيين بعقد الاتفاقات بين الطرفين: واغتيال القادة المسلمين الذين هبوا للجهاد في سبيل الله ضد الصليبيين.   (1) برنارند لويس: ((الحشيشية)) (ص130)، سعيد عاشور: ((الحركة الصليبية)) (2/ 708 - 709) فيليب حتى: ((تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين)) (2/ 247). (2) عبدالكريم حتامله: صلاح الدين وموقفه من القوى المناوئة في بلاد الشام، مقال في ((مجلة الدارة)) - العدد الثاني- السنة الثانية عشر لعام 1407هـ، (ص163)، دريد عبدالقادر: ((سياسة صلاح الدين في بلاد مصر والشام والجزيرة)) (ص377). (3) ابن واصل: ((مفرج الكروب)) (1/ 175)، ابن الأثير: (الكامل) (11/ 346). (4) فايد عاشور: ((جهاد المسلمين في الحروب الصليبية)) (ص185). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 203 بل تعدى الأمر إلى أبعد من ذلك، فلقد أصبح الباطنيون يخوضون مع الصليبيين المعارك الحربية جنبا إلى جنب ضد المسلمين، فعندما عزم الملك العادل نور الدين محمود في عام 543هـ توجيه ضرباته إلى الصليبيين ومهاجمة مناطقهم، تعاون الباطنية مع الصليبيين ضد هذا الجهاد، ووقفوا مع الصليبيين ضد حركة نور الدين الجهادية هذه ففي عام 544هـ أغار نور الدين محمود على الإقليم المحيط بقلعة حارم على الضفة الشرقية لنهر العاصي، وهي تابعة للصليبيين، وطلب من معين الدين أنر المعونة والمساعدة لقتال الصليبيين، فأمده معين الدين بقوة من فرسانه على رأسهم الأمير مجاهد الدين بزان بن مامين (1) وعندما ترك نور الدين حارم مكتفيا بتدمير ما حولها من ضياع، أخذ يحاصر قلعة أنب (2)، فلما علم البرنس ريموند صاحب أنطاكية بمحاصرة نور الدين لتلك القلعة، خرج على رأس قوة من رجاله للتصدي لنور الدين وإرجاعه عنها (3). فالتقى الفريقان في معركة بالقرب من أنب وأحاط نور الدين محمود بريموند ورجاله فأبادهم جميعاً ولم يبق منهم أحداً، وكان من جملة القتلى البرنس ريموند صاحب أنطاكية، ففرح المسلمون كثيراً بقتله ورينو صاحب كيسوم (4) ومعرش (5) فضلاً عن عليّ بن وفاء زعيم الباطنية الذي كان مرافقاً للصليبيين ومحارباً معهم في هذه المعركة (6).استمر زعماء الباطنية في سياستهم المتحالفة مع الصليبيين ولم يتركوا أي فرصة تلوح لعقد أي اتفاق أو تحالف بينهم وبين الصليبيين وكانوا حريصين على ذلك أشد الحرص حتى يعرقلوا أي حركة جهادية يقوم بها المسلمون ضد الصليبيين. ففي أثناء رحلة هنري دي شامبني ملك مملكة بيت المقدس إلى أنطاكية لتصفية النزاع بين أنطاكية وأرمينية اتصل هنري بالباطنية في مناطق نفوذهم، وعقد معهم أواصر التحالف والصداقة، وانتهز زعيم الباطنية فرصة مرور هنري دي شامبني بأراضيه إلى أنطاكية، فحاول أن يجدد ما كان بين الباطنية والصليبيين من تحالف فاعتذر لنهري عن مقتل كونراد دي مونتفرات ودعاه لزيارة الباطنية في حصن الكهف، فحرص الباطنية أثناء تلك الزيارة على أن يبهروا أنظار ملك الصليبيين بقوتهم وثروتهم، فقدموا إليه كثيراً من الهدايا، كما عرضوا عليه محالفتهم واستعدادهم لقتل من يرغب في قتله (7).يقول دريد عبدالقادر في كتابه (سياسة صلاح الدين): ويعتقد المؤرخ (كاهين) أن هناك علاقة بين الإسماعيلية وجماعة الإسبتاريين الصليبيين الذين أصبحوا حماة الإسماعيلية، وأن أولئك الذين اغتيلوا من الصليبيين إنما كانوا أعداء الإسبتاريين (8).   (1) ابن القلانسي: ((ذيل تاريخ دمشق)) (ص 472). (2) أنب: حصن من أعمال أعزار: من نواحي حلب. انظر: ياقوت الحموي: ((معجم البلدان)) (1/ 258). (3) ابن الأثير: ((التاريخ الباهر)) (ص98 - 99). (4) كيسوم: قرية مستطيلة من أعمال سمسياط فيها حصن كبير. ياقوت الحموي: ((معجم البلدان)) (4/ 497). (5) مرعش: مدينة في الثغور بين بلاد الشام وبلاد الروم. ياقوت الحموي: ((معجم البلدان)) (5/ 107). (6) برنارند لويس: ((الحشيشية)) (ص125 - 126)، سعيد عاشور: ((الحركة الصليبية)) (2/ 622). (7) سعيد عاشور: ((الحركة الصليبية)) (2/ 872 - 873). (8) من الأدلة التاريخية التي أوردها (كاهين) على إثبات وجود علاقة بين الإسماعيلية والإسبتاريين الصليبيين ما ذكره في كتابه. la Syrie du-nord أ - في منطقة الرها كانت هناك أملاك لفرسان الإسبتارية، وكان للإسماعيلية في الرها أيضاً مركز لدعوتهم وكان ذلك المركز تحت سلطان الإسبتارية إدارياً في القرن 13م .. ب - قتل الأمير الصليبي ريموند سنة 1213م في كنيسة انطرطوس بيد الإسماعيلية الباطنية الذين كانوا مدفوعين من قبل الإسبتارية وكذلك مقتل بوهيموند الرابع الذي قتل بسبب الاختلافات التي كانت بينه وبين جماعة الإسبتارية، الذين استخدموا الإسماعيلية الباطنية لقتله وقد أكد كاهين أن ألئك الإسماعيلية كانوا مع جماعة الإسبتارية حلفاً واحداً ضد المسلمين. انظر دريد عبدالقادر: ((سياسة صلاح الدين في بلاد مصر والشام والجزيرة)) (ص376). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 204 وقد أيد المؤرخ الإنجليزي هدجسون وجود مثل تلك العلاقة، وأعتقد بأن هناك إشارات واضحة تدل على ذلك (1) وبعد قيام دولة المماليك في مصر وعقد الصلح بينهم وبين الأيوبيين في الشام لم يعد هناك أي شاغل يشغل الطرفين غير الجهاد ضد الصليبيين فاجتمعت جهودهم وقواهم وأخذ كل واحد منهم يعمل من عنده في حرب الصليبيين، وفي المقابل وأمام هذا الاتفاق بين مصر والشام، قام لويس التاسع قائد الصليبيين بتنظيم الدفاع عن الممتلكات والبلدان الصليبية فقام بتحصين المدن والموانئ الصليبية بتحصينات حربية ضخمة حتى تصمد في وجه الهجمات والغارات الإسلامية، ولكي يكمل لويس التاسع نظامه الدفاعي عن الممتلكات الصليبية في بلاد الشام سعى إلى عقد اتفاقيات وتحالفات واسعة النطاق مع أعداء المسلمين السنة في الشام، فحاول التحالف مع الباطنية الشيعة الحشاشين من ناحية ومع المغول من ناحية أخرى حتى يتحقق له بهذا التحالف نوع من التوازن بين الصليبيين من جهة والمماليك والأيوبيين من جهة ثانية. فعندما علم شيخ الجبل –زعيم الحشاشين في بلاد الشام- بوصول لويس التاسع إلى الشام أرسل إليه يطلب منه عقد نوع من الارتباط والتفاهم بين الطرفين، ويبدو أن الباطنية أرادوا من وراء ذلك أن يؤمنوا أنفسهم إزاء الموقف الجديد الناشئ عن قيام دولة المماليك في مصر ووقوفها إلى جانب الأيوبيين في الجهاد ضد الصليبيين عن طريق عقد تحالف مع الصليبيين بالشام، فأرسل شيخ الجبل زعيم الباطنية بعض الهدايا إلى لويس التاسع ملك فرنسا –من جملتها فيل من البللور- فرد عليه ملك فرنسا لويس التحية بأحسن منها، مما أدى إلى تقوية أواصر التحالف بين الطرفين (2).وأثناء الغزو المغولي الذي استهدف الممالك الإسلامية والخلافة العباسية في بغداد، ورأى الإسماعيلية الباطنية أن مطامع المغول لا تقف عند حد، وأن فتوحاتهم مستمرة، خافوا خطرهم، وصمموا على مقاومتهم فأخذوا يرسلون رسلهم على إنجلترا وفرنسا سنة 637هـ طالبين معونة الأوربيين الذين عرفوهم إبان الحروب الصليبية، لكنهم لم يلقوا مجيباً يشهد بذلك ما قاله أسقف مدينة ونشستر Winchester: " دع هؤلاء الكلاب يأكل بعضهم بعضاً حتى يقضى عليهم نهائياً، وعندئذ سوف نقيم على أنقاضهم الكنيسة الكاثوليكية العالمية، فتكون حقا راعياً واحداً وقطيعاً واحداً" (3). المصدر: أثر الحركات الباطنية في عرقلة الجهاد ليوسف إبراهيم الشيخ – ص 187   (1) دريد عبدالقادر: ((سياسة صلاح الدين)) (ص376). (2) سعيد عاشور: ((الحركة الصليبية)) (2/ 1046). (3) المقريزي: ((السلوك لمعرفة دول الملوك)) (1/القسم 2ص 382) حاشية رقم (4). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 205 جدول بأسماء القادة والعلماء الذين اغتالهم الباطنيون الاسم سنة الاغتيال كيفية وقوع حادث الاغتيال 1 - الخليفة المسترشد بالله العباسي 529هـ هجم عليه بضعة عشر من الباطنية وطعنوه بالخناجر ثم مثلوا به 2ـ الخليفة الراشد العباسي 532هـ اغتيل غدرا في أصبهان 3ـ الوزير نظام الملك السلجوقي 485هـ تقدم إليه باطني في صورة مستغيث ولما اقترب منه طعنه بسكين وقتله 4ـ الوزير نظام الملك (أبو نصر) 503هـ وثب عليه جماعة من الباطنية وهو يؤدي الصلاة في الجامع وجرحوه عدة جراحات 5ـ الوزير أبو المحاسن عبد الجليل الدهستاني 495هـ عدا عليه شاب باطني وجرحه عدة جراحات مات بعدها. 6ـ الوزير الكمال أبو طالب السميرمي 516هـ وثب عليه الباطنية وهو سائر في طريق ضيق وقتلوه. 7ـ الوزير معين الملك (أبو نصر) 521هـ وثب عليه باطني وهو غافل مطمئن فقتله وكان هذا الباطني يعمل سائسا لخيل معين الملك ليصل إلى هدفه. 8ـ الوزير عضد الدين أبو الفرج بن رئيس الرؤساء 573هـ تقدم إليه جماعة من الباطنية في صورة فقراء ومعهم رقاع وهو في طريقه إلى الحج فتقدم إليه أحدهم وضربه بسكين وتبعه ثان وثالث حتى قتلوه. 9ـ الوزير نظام الملك مسعود بن علي 596هـ قتله الباطنية غدرا 10ـ الوزير فخر الملك أبو المظفر علي بن نظام الملك 500هـ تقدم إليه شاب من الباطنية وهو يتظلم وفي يده رقعة وبينما كان يقرؤها الوزير وثب عليه ذلك الشاب بخنجر كان معه وقتله. 11ـ الأمير بلكابك سرمز 493هـ طعنه الباطنية بسكاكينهم غدرا فقتلوه. 12ـ الأمير مودود 507هـ وثب عليه الباطنية بعد فراغه من أداء صلاة الجمعة في جامع دمشق وقتلوه. 13ـ الأمير أحمديل بن إبراهيم الراودي 510هـ تقدم إليه رجل من الباطنية وهو يتظلم ويبكي ومد إليه رقعة سأله أن يوصلها له إلى السلطان فلما أخذها منه وثب عليه ذلك الرجل على الفور بسكينة وقتله 14ـ الأمير قسيم الدولة آقسنقر البرسقي 520هـ هجم عليه بضعة عشر نفرا من الباطنية في الجامع وهو يؤدي صلاة الجمعة فقتلوه. 15ـ الأمير تاج الملوك بوري بن طغتكين 525هـ هجم عليه اثنان من الباطنية وحاولا قتله لكنه برأ من جراحه فيما بعد ولكنه توفي في السنة التي بعدها متأثرا بأحد تلك الجراح 16ـ الأمير آقسنقر الأحمديلي 527هـ قتله الباطنية غدرا 17ـ الأمير أغلمش 614هـ قتله الباطنية غدارا 18ـ الأمير شهاب الدين الغوري 602هـ قتله الباطنية غدرا وخوفا منه ومن بطشه 19ـ أمير من أمراء جلال الدين بن خوارزم شاه 624هـ قتله الباطنية غدرا 20ـ الأمير جناح الدولة حسين 495هـ وثب عليه ثلاثة من الباطنية في الجامع بعد فراغه من أداء صلاة الجمعة وقتلوه. 21 - الأمير خلف بن ملاعب 499هـ قتله الباطنية غدراً 22ـ الأمير شمس الملوك إسماعيل بن بوري 529هـ قتله الباطنية غدراً 23ـ الأمير برسق الكبير 490هـ قتله الباطنية غدراً. 24ـ الأمير سيف الدين أخو علاء الدين الغوري 547هـ قتله الباطنية غدراً. 25ـ السلطان داود بن السلطان محمود 538هـ قتله الباطنية غدراً. 26ـ السلطان بكتمر 589هـ قتله الباطنية غدراً. 27ـ السلطان صلاح الدين الأيوبي 570هـ حاولوا قتله داخل معسكر جيشه لكنهم فشلوا. 28ـ السلطان صلاح الدين الأيوبي 571هـ حاولوا قتله وهو محاصر لحلب لكنهم فشلوا. 29ـ النائب نصر خان بن أرسلان خان محمد 547هـ قتله الباطنية غدراً. 30ـ المقرب جوهر 547هـ تعرض إليه جماعة من الباطنية في زي نساء واستغثن به فوقف يسمع كلامهم فوثبوا عليه وقتلوه. 31ـ أبو صالح بن العجمي 573هـ وثب عليه جماعة من الباطنية في الجامع وقتلوه. 32ـ أخو الأمير قتادة أمير مكة 608هـ وثبوا عليه بمنى أيام الحج وقتلوه. 33ـ أبو القاسم ابن إمام الحرمين 492هـ قتله الباطنية غدراً. 34ـ الفقيه أحمد بن الحسين البلخي 494هـ قتله الباطنية غدراً. 35ـ الفقيه عبد اللطيف ابن الخجندي 523هـ قتله الباطنية غدراً. 36ـ الفقيه أبو المحاسن الروياني 502هـ قتله الباطنية غدراً. 37ـ القاضي أبو العلاء صاعد النيسابوري 499هـ قتله الباطنية بجامع أصبهان 38ـ القاضي عبيد الله بن علي الخطيبي 502هـ قتله الباطنية بالجامع وهو يؤدي صلاة الجمعة. 39ـ القاضي صاعد بن عبدالرحمن أبو العلاء 502هـ قتله الباطنية يوم عيد الفطر بنيسابور 40ـ القاضي أبو سعد محمد بن نصر الهروي 518هـ هجم عليه قوم من الباطنية في جامع همذان وقتلوه. 41ـ الواعظ أبو جعفر ابن المشاط 498هـ كان يدرس للناس في الجامع ولما نزل من على كرسيه وثب عليه باطني وقتله. 42ـ الواعظ أبو المظفر الخجندي 496هـ كان يدرس للناس في الجامع ولما نزل من على كرسيه وثب عليه باطني وقتله. المصدر: أثر الحركات الباطنية في عرقلة الجهاد ضد الصليبيين ليوسف إبراهيم الشيخ -ص301 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 206 المطلب الأول: التعريف بهم القرامطة حركة باطنية هدامة تنتسب إلى شخص اسمه حمدان بن الأشعث ويلقب بقرمط لقصر قامته وساقيه وهو من خوزستان في الأهواز ثم رحل إلى الكوفة. وقد اعتمدت هذه الحركة التنظيم السري العسكري، وكان ظاهرها التشيع لآل البيت والانتساب إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وحقيقتها الإلحاد والإباحية وهدم الأخلاق والقضاء على الدولة الإسلامية. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 207 المطلب الثاني: ألقابهم وأما ألقابهم فإنهم يسمون: الإسماعيلية، والباطنية، والقرامطة، والخرمية، والبابكية، والمحمرة، والسبعية، والتعليمية. فأما تسميتهم بالإسماعيلية فانتسابهم إلى " إسماعيل بن جعفر " وأما تسميتهم بالباطنية فإنهم ادعوا أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن، تجري مجرى اللب من القشر، وأنها توهم الأغبياء صورا، وتفهم الفطناء رموزا وإشارات إلى حقائق خفية، وأن من تقاعد عن الغوص على الخفايا والبواطن متعثر، ومن ارتقى إلى علم الباطن انحط عنه التكليف واستراح من أعبائه واستشهدوا بقوله تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف: 157]، قالوا: والجهال بذلك هم المرادون بقوله: فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ [الحديد: 13]. وغرضهم فيما وضعوا من ذلك إبطال الشرائع، لأنهم إذا صرفوا العقائد عن موجب الظاهر تحكموا بدعوى الباطن على ما يوجب الانسلاخ من الدين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 208 وأما تسميتهم بالقرامطة ففي سبب ذلك ستة أقوال: أحدها: أنهم سموا بذلك لأن أول من أشير لهم ذلك المحبة " محمد الوراق المقرمط " وكان صوفيا. والثاني: أن لهم رئيسا من السواد من الأنباط يلقب بقرمطويه، فنسبوا إليه. والثالث: أن قرمطا كان غلاما لإسماعيل بن جعفر فنسبوا إليه، لأنه أحدث لهم مقالاتهم. والرابع: أن بعض دعاتهم نزل برجل يقال لهم " كرمية " فلما رحل تسمى قرمط بن الأشعث، ثم أدخله في مذهبه. الخامس: أن بعض دعاتهم رجل يقال له: " كرمية " فلما رحل تسمى باسم ذلك الرجل، ثم خفف الاسم فقيل: قرمط. قال أهل السير: كان ذلك الرجل الداعي من ناحية خوزستان وكان يظهر الزهد والتقشف ويسف الخوص ويأكل من كسبه، ويحفظ للقوم ما صرموا من نخلهم في حظيرته، ويصلي بأكثر الناس، ويأخذ عند إفطاره من البقال ثم يحاسب على ما أخذ منه ويحط من ذلك ثمن النوى، فسمع التجار الذين صرموا نخلهم، فوثبوا عليه، وضربوه وقالوا: لم ترض بأن أكلت التمر حتى بعت النوى، فأخبرهم البقال في الحال، فندموا على ضربه، وسألوه الإحلال، فازداد بذلك نبلا عند أهل القرية. وكان إذا قعد إليه إنسان ذاكره أمر الدين، وزهده في الدنيا، وأعلمه أن الصلاة المفروضة على الناس خمسون صلاة في كل يوم وليلة. ثم أعلم الناس أن يدعوا إلى إمام من أهل بيت رسول الله، ثم مرض، ومكث مطروحا على الطريق، وكان في القرية رجل يحمل على أثوار له، وكان أحمر العينين، وكان أهل القرية يسمونه "كرميته" لحمرة عينيه، وهو بالنبطية: حار العين؛ فكلم البقال "كرميته" هذا أن يحمل هذا العليل إلى منزله، ويوصي أهله الإشراف عليه والعناية به، ففعل، فأقام عنده حتى برئ، ثم كان يأوي إلى منزله. ودعا أهل القرية إلى أمره فأجابوه. وكان يأخذ من الرجل إذا دخل في دينه دينارا، ويزعم أنه يأخذ ذلك للإمام. فمكث يدعو أهل القرى فيجيبونه، واتخذ منهم اثني عشر نقيبا، وأمرهم أن يدعو الناس إلى دينه، وقال لهم: " أنتم كحواري عيسى بن مريم عليهما السلام "، فشغل أَكَرَة تلك الناحية عن أعمالهم، لما رسمه لهم من الخمسين صلاة التي ذكر أنها فرضت عليهم. وكان للهيصم في تلك الناحية ضياع فوقف على تقصير أَكَرَته في العمارة، فسأل عن ذلك، فأخبر أن رجلا قدم عليهم فأظهر لهم مذهبا من الدين، وأعلمهم أن الله عز وجل قد افترض عليهم خمسين صلاة في اليوم والليلة وقد اشتغلوا بها، فوجه إليه، فجيء به، فسأله عن أمره، فأخبره بقصته، فحبسه في بيت وحلف بقتله، وأقفل عليه الباب، وترك المفتاح تحت وسادته، ونام، فرقت له جارية فأخذت المفتاح وأخرجته، ثم أعادت المفتاح إلى موضعه، فلما أصبح الهيصم فتح الباب فلم يجده، فشاع ذلك الخبر، فعبر به أهل تلك الناحية وقالوا: قد رفع!! ثم ظهر في موضع آخر، ولقي جماعة من أصحابه فسألوه عن قصته فقال: ليس يمكن أحد أن يؤذيني. ثم خاف على نفسه وخرج إلى الشام، وتسمى باسم الرجل الذي كان في منزله "كرميته" ثم خفف فقيل "قرمط". وفشا أمره وأمر أصحابه، وكان قد لقي صاحب الزنج، فقال له: " أنا على مذهب ورائي مائة ألف سيف فناظرني، فإن اتفقنا ملت بمن معي إليك، وإن تكن الأخرى انصرفت"، فناظره، فاختلفا، ففارقه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 209 السادس: أنهم لقبوا بهذا نسبة إلى رجل من دعاتهم يقال له:"حمدان بن قرمط". وكان حمدان من أهل الكوفة يميل إلى الزهد، فصادفه أحد دعاة الباطنية في طريق وهو متوجه إلى قرية وبين يديه بقر يسوقها، فقال حمدان لذلك الداعي وهو لا يعرفه: أين تقصد؟ فسمى قرية حمدان، فقال له: اركب بقرة من هذه البقر لتستريح من المشي، فقال: إني لم أؤمر بذلك، فقال: كأنك لا تعمل إلا بأمر؟ قال: نعم، فقال حمدان: وبأمر من تعمل؟ قال: بأمر مالكي ومالكك ومالك الدنيا والآخرة، فقال: ذلك الله عز وجل، قال: صدقت، قال: وما غرضك في هذه البقعة؟ قال: أمرت أن أدعو أهلها من الجهل إلى العلم، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الشقاوة إلى السعادة، وأستنقذهم من ورطات الذل والفقر، وأملكهم ما يستغنون به عن التعب والكد، فقال له حمدان: أنقذني أنقذك الله، وأفض علي من العلم ما تحييني به، فما أشد حاجتي إلى ذلك، فقال: ما أمرت أن أخرج السر المكنون إلى كل أحد إلا بعد الثقة والعهد إليه، قال حمدان: فاذكر عهدك فإني ملتزم به، فقال: أن تجعل لي وللإمام على نفسك عهد الله وميثاقه أن لا تخرج سر الإمام الذي ألقيه إليك، ولا تفشي سري أيضا. فالتزم حمدان عهده، ثم اندفع الداعي في تعليمه فنون جهل حتى استدرجه واستغواه، واستجاب له في جميع ما دعاه إليه، ثم انتدب للدعوة وصار أصلا من أصول هذه البدعة، فسمى أتباعه القرمطية. وأما تسميتهم بالخرمية: فإن " خرم " لفظ أعجمي ينبئ عن الشيء المستلذ الذي يشتهيه الآدمي. وكان هذا لقبا للمزدكية وهم أهل الإباحة من المجوس، الذين نبغوا في أيام قباذ، فأباحوا المحظورات فلقب هؤلاء بلقب أولئك لمشابهتهم إياهم في اعتقادهم ومذهبهم. وأما تسميتهم بالبابكية: فإن طائفة منهم تبعوا "بابك الخرمي" وكان قد خرج في ناحية أذربيجان في أيام المعتصم فاستحل، فبعث إليه المعتصم الإفشين فتخاذل عن قتاله وأضمر موافقته في ضلالته، فاشتدت وطأة البابكية على المسلمين ... إلى أن أخذ بابك وقتل. فأما تسميتهم بالمحمرة فيذكر عنهم أنهم صبغوا الثياب بالحمرة أيام بابك، وكانت شعارهم. وأما تسميتهم بالسبعية، فإنهم قد زعموا أن الكواكب السبعة مدبرة للعالم السفلي. وأما تسميتهم بالتعليمية، فإن مبدأ مذاهبهم إبطال الرأي، وإفساد تصرف العقل، ودعوة الخلق إلى التعليم من الإمام المعصوم وأنه لا مدرك للعلوم إلا بالتعليم. المصدر: القرامطة لابن الجوزي – ص 35 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 210 المطلب الثالث: بدايات دعوتهم فأما البدايات التي بنوا عليها فإنه لما كان مقصودهم الإلحاد تعلقوا بمذهب الملحدين مثل زرادشت ومزدك فإنهما كانا يستحلان المحظورات، وما زال أكثر الناس مع إعراضهم لا يدخلون في حجر يمنعهم إياها، فلما جاء نبينا صلى الله عليه وسلم فقهر الملك ومنع الإلحاد أجمع جماعة من الثنوية والمجوس والملحدين ومن دان بدين الفلاسفة المتقدمين، فأعملوا آراءهم وقالوا: " قد ثبت عندنا أن جميع الأنبياء كذبوا ومخرقوا على أممهم وأعظم كل بلية علينا محمد، فإنه نبغ من العرب الطغام، فخدعهم بناموسه، فبذلوا أموالهم وأنفسهم ونصروه، وأخذوا ممالكنا، وقد طالت مدتهم. والآن قد تشاغل أتباعه؛ فمنهم مقبل على كسب الأموال، ومنهم على تشييد البنيان، ومنهم على الملاهي، وعلماؤهم يتلاعبون ويكفر بعضهم بعضا، وقد ضعفت بصائرهم، فنحن نطمع في إبطال دينهم، إلا أنا لا يمكننا محاربتهم لكثرتهم، فليس الطريق إلا إنشاء دعوة في الدين والانتماء إلى فرقة منهم، وليس فيهم فرقة أضعف عقولا من الرافضة، فندخل عليهم نذكر ظلم سلفهم الأشراف من آل نبيهم، ودفعهم عن حقهم، وقتلهم، وما جرى عليهم من الذل لنستعين بها على إبطال دينهم " ... فتناصروا، وتكاتفوا، وتوافقوا، وانتسبوا إلى إسماعيل بن جعفر بن محمد الصادق. وكان لجعفر أولاد، منهم إسماعيل هذا، وكان يقال له: إسماعيل الأعرج. ثم سوّل لهم الشيطان آراء ومذاهب، أخذوا بعضها من المجوس، وأخذوا بعضها من الفلاسفة. ومخرقوا على أتباعهم، وإنما قصدهم الجحد المطلق، لكنهم لما لم يمكنهم توسلوا إليه. فقد بان لك لما ذكرت من البدايات التي بنوا عليها- الباعث لهم على ما فعلوا من نصب الدعوة. المصدر: القرامطة لابن الجوزي – ص30 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 211 المطلب الرابع: أهدافهم تقوم حركة القرامطة على غاية أساسية وهي القضاء على الإسلام بعد تسلم الحكم والانتهاء من دولته وهي بهذا لا تختلف عن بقية الثورات التي قامت في ذلك العصر مثل حركة الزنج والخرمية وما إلى ذلك من حركات وكانت تمد هذه الحركات جميعها المجوسية المقنعة بالأفراد الذين يظهرون اعتناق الإسلام وتمولها اليهودية بالأموال وتعضدها كل الفرق والديانات المعادية للإسلام سواء الموجودة منها داخل المجتمع الإسلامي على الرغم من أنها كانت تلقي الأمان والطمأنينة وتعيش برغد وهناء أم تلك التي كانت خارج المجتمع الإسلامي وتحارب المسلمين. وكان أعداء الإسلام قد عجزوا عن معارضته في البداية بعد انتصاراته الواسعة عليهم إذ انزوى اليهود في جزر من الأرض صغيرة وانفرد أفراد من المجوس في الأراضي الشاسعة وبدأ الكيد وتدبير المخططات والأساليب الماكرة وكان أول هذه المؤامرات قتل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه على يد المجوس إذ قتله أبو لؤلؤة الذي اتهم الهرمزان وتشير أصابع الاتهام إلى بعض اليهود الذين أظهروا الإسلام ثم كان قتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه بتدبير اليهود الذين أشعلوا فتنة وسط المجتمع الإسلامي على يد عبدالله بن سبأ اليهودي الذي أظهر الإسلام وبدأ يتنقل في الأمصار الإسلامية يشيع الفتنة ويحدث بأمور لم يعرفها المسلمون من قبل ونشأ من جراء ذلك فرقة تؤله الخليفة علي بن طالب رضي الله عنه وليس هذا محبة بسيدنا علي ودينه وإنما مكيدة وحقد ولإيجاد الشقاق بين المسلمين وخرق الدين من داخله وتولدت عن هذه الفرقة حركات تدعي الانتساب إليه أو إلى أحفاده يحملها المجوس ويغذيها اليهود فكانت السبئية نسبة إلى عبدالله بن سبأ اليهودي وكانت الكيسانية والحركات الباطنية الأخرى التي لا تستطيع إظهار ما تعتقد لما فيه من سخف وضعف وسيدنا علي وأحفاده وكل آل البيت منها برءاء. ولما كان أكثر المجوس من فارس كانت فارس مركز هذه الديانة وقامت حركات يتزعمها فرس وفي رؤوسهم أفكار المجوس وآراؤهم وعقيدتهم يظهرون الإسلام ويبطنون المجوسية ويحقدون على من قضى على دولتهم ولكنهم لا يستطيعون أن يعملوا إلا في الخفاء وكانت الخرمية والقرامطة والحشاشون وغيرهم وربما كان هذا هو الباعث لدعوتهم وكان ادعاء النسب هو المجال الذي يخفي فيه هؤلاء الشياطين أنفسهم ليختفي تحته هدف الحركة فادعى صاحب الزنج النسب العلوي وتسمي باسم (علي بن محمد) وانتسب (الحسين بن زكرويه بن مهرويه) النسب نفسه وأخذ اسم أحمد بن عبدالله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وكان أخوه (يحيى) قد ادعى أنه هو محمد بن عبدالله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق حتى إن الذين يريدون أن يرفعوا من شأن القرامطة يجعلون لقادتها نسبا عربيا وما هو كذلك إن يريدون إلا كذبا. يقول عبدالرحمن بن الجوزي (وقالوا -أي القرامطة- قد ثبت عندنا أن جميع الأنبياء كذبوا ومخرقوا على أممهم وأعظم كل بالرأسمالية علينا محمد فإنه نبغ من العرب الطغام فخدعهم بناموسه فبذلوا أموالهم وأنفسهم ونصروه وأخذوا ممالكنا وقد طالت مدتهم. والآن قد تشاغل أتباعه فمنهم مقبل على كسب الأموال ومنهم على تشييد البنيان ومنهم على الملاهي وعلماؤهم يتلاعبون ويكفر بعضهم بعضا وقد ضعفت بصائرهم فنحن نطمع في إبطال دينهم إلا أنا لا يمكننا محاربتهم لكثرتهم فليس الطريق إلا إنشاء دعوة في الدين والانتماء إلى فرقة منهم وليس فيهم فرقة أضعف عقولا من الرافضة فندخل عليهم نذكر ظلم سلفهم الأشراف من آل نبيهم ودفعهم عن حقهم وقتلهم وما جرى عليهم من الذل لنستعين بها على إبطال دينهم فتناصروا وتكافتوا وتوافقوا وانتسبوا إلى إسماعيل بن جعفر بن محمد الصادق) (1). المصدر: القرامطة لمحمود شاكر – ص: 8   (1) ((القرامطة)) عبدالرحمن بن الجوزي تحقيق محمد الصباغ (ص: 32 – 33) طبع المكتب الإسلامي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 212 المطلب الأول: الحالة السياسية كان للضعف الذي ألمَّ بالخلفاء العباسيين بعد موت الواثق سنة 232هـ، وسيطرة الأعاجم عليهم وضياع نفوذ الخلافة، الأثر الكبير في كثرة الانفصالات عن الدولة العباسية، واستقلال بعض الأسر المشهورة؛ كالصفاريين والسامانيين والعلويين واليعفريين والطولونيين. ولم يبقَ للعباسين في كثير من الأقاليم سوى الدعاء لهم يوم الجمعة والعيدين ونزر يسير من الهدايا. كما أثار الزنج ـ وهم طائفة من عبيد إفريقية ـ القلق والرعب في حاضرة الخلافة العباسية، وكان مسرح ثورتهم الجامحة العنيفة التي دامت أكثر من أربع عشرة سنة المستنقعاتُ الممتدة بين البصرة وواسط. وقد كلفت هذه الثورة الدولة العباسية كثيراً من الجهود والأموال والأرواح. وظهر القرامطة في سواد العراق والبحرين؛ حيث أعانهم على ذلك تشاغل الخليفة العباسي بفتنة الزنج، وظهر ابن حوشب في اليمن حيث نشر دعوة المهدي، وظهر أبو عبد الله الشيعي الذي نشر الدعوة الفاطمية في المغرب. المصدر: القرامطة في الخليج العربي مقال لمحمد أمحزون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 213 المطلب الثاني: الحالة الاجتماعية والاقتصادية أما الحالة الاجتماعية والاقتصادية فإن المجتمع العباسي في هذه الفترة كان ينقسم إلى ثلاث طبقات رئيسة: أـ الطبقة العليا: وتشتمل على الخلفاء والوزراء والقادة والولاة، ومن يلحق بهم من الأمراء وكبار التجار وأصحاب الإقطاع. ب ـ الطبقة الوسطى: وتشتمل على رجال الجيش وموظفي الدواوين والتجار والصناع. ج ـ الطبقة الدنيا: وتشمل أغلبية الناس من الزراع وأصحاب الحرف الوضيعة والخدم والرقيق. وفي خضم هذه الظواهر الاجتماعية والاقتصادية التي طبَعَها ما روي من الترف والمجون والفساد والفقر والجهل، وما صاحب ذلك من دجل وخرافة وشعوذة وسحر وطلاسم وتنجيم، ظهر القرامطة واستغلوا هذه الأجواء المشحونة لإذكاء نار الفتنة بين الناس، مذكرين إياهم ما يلقونه من ظلم وعنت، وأن ساعة الخلاص من الظلم والاضطهاد قريبة، مما جعل هؤلاء إزاء هذه الحالة الاقتصادية والاجتماعية السيئة على أتم استعداد للخروج على ولاة أمورهم. وكذلك انتشرت هذه الدعوة بين أهل الحرف وعوام المدن الذين كان مستوى معيشتهم متواضعاً وظلوا جهلة لا يفهمون الشريعة، ويرون أوامرها يمكن تركها متى تطلّبت المصلحة ذلك. وهذا الجهل جعلهم طعمة سهلة للدعوة القرمطية الماكرة، خاصة في مدن الأحساء والقطيف والبحرين حيث استمرت دعوة حمدان قرمط؛ إذ أنشأ أحد دعاته وهو الحسين الجنابي دولة في الخليج، مطبقاً روح تعاليم سلفه بكل حماس، مستغلاً حالة التذمر من الفقر والفاقة التي كانت سائدة المصدر: القرامطة في الخليج العربي، مقال لمحمد أمحزون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 214 المطلب الأول: معتقدهم في الإلهيات اتفقت أقاويل نقلة المقالات من غير تردد أنهم قائلون بإلهين قديمين لا أول لوجودهما من حيث الزمان إلا أن أحدهما علة لوجود الثاني واسم العلة السابق واسم المعلول التالي وأن السابق خلق العالم بواسطة التالي لا بنفسه وقد يسمى الأول عقلا والثاني نفسا ويزعمون أن الأول هو التام بالفعل والثاني بالإضافة إليه ناقص لأنه معلوله وربما لبسوا على العوام مستدلين بآيات من القرآن عليه كقوله تعالى إنا نحن نزلنا ونحن قسمنا وزعموا إن هذه إشارة إلى جمع لا يصدر عن واحد ولذلك قال سبح اسم ربك الأعلى إشارة إلى السابق من الإلهين فإنه الأعلى ولولا أن معه إلها آخر له العلو أيضا لما انتظم إطلاق الأعلى وربما قالوا الشرع سماهما باسم القلم واللوح والأول هو القلم فإن القلم مفيد واللوح مستفيد متأثر والمفيد فوق المستفيد وربما قالوا اسم التالي قدر في لسان الشرع وهو الذي خلق الله به العالم حيث قال إنا كل شيء خلقناه بقدر, ثم قالوا السابق لا يوصف بوجود ولا عدم فان العدم نفى والوجود سببه فلا هو موجود ولا هو معدوم ولا هو معلوم ولا هو مجهول ولا هو موصوف ولا غير موصوف وزعموا أن جميع الأسامي منتفية عنه وكأنهم يتطلعون في الجملة لنفي الصانع فإنهم لو قالوا إنه معدوم لم يقبل منهم بل منعوا الناس من تسميته موجودا وهو عين النفي مع تغيير العبارة لكنهم تحذلقوا فسموا هذا النفي تنزيها وسموا مناقضه تشبيها حتى تميل القلوب إلى قبوله ثم قالوا العالم قديم أي وجوده ليس مسبوقا بعدم زماني بل حدث من السابق التالي وهو أول مبدع وحدث من المبدع الأول النفس الكلية الفاشية جزئياتها في هذه الأبدان المركبة وتولد من حركة النفس الحرارة ومن سكونها البرودة ثم تولد منهما الرطوبة واليبوسة ثم تولدت من هذه الكيفيات الاستقصات الأربع وهي النار والهواء والماء والأرض ثم إذا امتزجت على اعتدال ناقص حدثت منها المعادن فإن زاد قربها من الاعتدال وانهدم صرفية التضاد منها تولد منها النبات وإن زاد تولد الحيوان فإن ازداد قربا تولد الإنسان وهو منتهى الاعتدال. فهذا ما حكي من مذهبهم إلى أمور أخر هي أفحش مما ذكرناه لم نر تسويد البياض بنقلها ولا تبيان وجه الرد عليها لمعنيين أحدهما أن المنخدعين بخداعهم وزورهم والمتدلين بحبل غرورهم في عصرنا هذا لم يسمعوا هذا منهم فينكرون جميع ذلك إذا حكى من مذهبهم ويحدثون في أنفسهم أن هؤلاء إنما خالفوا لأنه ليس عندهم حقيقة مذهبنا ولو عرفوها لوافقونا عليها فنرى أن نشتغل بالرد عليهم فيما اتفقت كلمتهم وهو إبطال الرأي والدعوة إلى التعلم من الإمام المعصوم فهذه عمدة معتقدهم وزبدة مخضهم فلنصرف العناية إليه وما عداه فمنسقم إلى هذيان ظاهر البطلان وإلى كفر مسترق من الثنوية والمجوس في القول بالإلهين مع تبديل عبارة النور والظلمة بالسابق والتالي إلى ضلال منتزع من كلام الفلاسفة في قولهم إن المبدأ الأول علة لوجود العقل على سبيل اللزوم عنه لا على سبيل القصد والاختيار وأنه حصل من ذاته بغير واسطة سواه نعم يثبتون موجودات قديمة يلزم بعضها عن بعض ويسمونها عقولا ويحيلون وجود كل فلك على عقل من تلك العقول في خبط لهم طويل. المصدر: فضائح الباطنية لأبي حامد الغزالي - ص38 القرامطة والديلم يقولون إن الله نور علوي لا تشبهه الأنوار ولا يمازجه الظلام وإنه تولد من النور العلوي النور الشعشاني فكان منه الأنبياء والأئمة فهم بخلاف طبائع الناس وهم يعلمون الغيب ويقدرون على كل شيء ولا يعجزهم شيء ويقهرون ولا يقهرون ويعلِّمون ولا يعلَّمون ولهم علامات معجزات وأمارات ومقدمات قبل مجيئهم وظهورهم وبعد ظهورهم يعرفون بها وهم مباينون لسائر الناس في صورهم وأطباعهم وأخلاقهم وأعمالهم وزعموا أنه تولد من النور الشعشعاني نور ظلامي وهو النور الذي تراه في الشمس والقمر والكواكب والنار والجواهر الذي يخالطه الظلام وتجوز عليه الآفات والنقصان وتحل عليه الآلام والأوصاب ويجوز عليه السهو والغفلات والنسيان والسيئات والشهوات والمنكرات غير أن الخلق كله تولد من القديم البارئ وهو النور العلوي الذي لم يزل ولا يزال ولا يزول سبق الحوادث وأبدع الخلق من غير شيء كان قبله قدره نافذ وعلمه سابق وإنه حي لا بحياة وقادر لا بقدرة وسميع بصير لا يسمع ولا يبصر ومدبر لا بجوارح ولا آلة فيصفون الإله جل وعز كما يصفه الموحدون مع قولهم إنه نور لا يشبه الأنوار ثم يزعمون أن الصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر الفرائض نافلة لا فرض وإنما هو شكر للمنعم وأن الرب لا يحتاج إلى عبادة خلقه وإنما ذلك شكرهم فمن شاء فعل ومن شاء لم يفعل والاختيار في ذلك إليهم وزعموا أنه لا جنة ولا نار ولا بعث ولا نشور أن من مات بلى جسده ولحق روحه بالنور الذي تولد منه حتى يرجع كما كان المصدر: التنبيه والرد على أهل البدع لأبي الحسين محمد الملطي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 215 المطلب الثاني: معتقدهم في النبوات ومعتقدهم في النبوات المنقول عنهم قريب من مذهب الفلاسفة وهو أن النبي عبارة عن شخص فاضت عليه من السابق بواسطة التالي قوة قدسية صافية مهيأة لأن تنتقش عند الاتصال بالنفس الكلية بما فيها من الجزئيات كما قد يتفق ذلك لبعض النفوس الزكية في المنام حتى تشاهد من مجاري الأحوال في المستقبل إما صريحا بعينه أو مدرجا تحت مثال يناسبه مناسبة ما فتفتقر فيه إلى التعبير إلا أن النبي هو المستعد لذلك في اليقظة فلذلك يدرك النبي الكليات العقلية عند شروق ذلك النور وصفاء القوة النبوية كما ينطبع مثال المحسوسات في القوة الباصرة من العين عند شروق نور الشمس على سطوح الأجرام السفلية وزعموا أن جبريل عبارة عن العقل الفائض عليه ورمز إليه لا أنه شخص متجسم متركب عن جسم لطيف أو كثيف يناسب المكان حتى ينتقل من علو إلى أسفل وأما القرآن فهو عندهم تعبير محمد عن المعارف التي فاضت عليه من العقل الذي هو المراد باسم جبريل ويسمى كلام الله تعالى مجازا فإنه مركب من جهته وإنما الفائض عليه من الله بواسطة جبريل بسيط لا تركيب فيه وهو باطن لا ظهور له وكلام النبي وعبارته عنه ظاهر لا بطون له وزعموا أن هذه القوة القدسية الفائضة على النبي لا تستكمل في أول حلولها كما لا تستكمل النطفة الحالة في الرحم إلا بعد تسعة أشهر فكذلك هذه القوة كمالها في أن تنتقل من الرسول الناطق إلى الأساس الصامت وهكذا تنتقل إلى أشخاص بعضهم بعد بعض فيكمل في السابع ... وهذه المذاهب مستخرجة من مذاهب الفلاسفة في النبوات مع تحريف وتغيير. المصدر: فضائح الباطنية لأبي حامد الغزالي - ص40 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 216 المطلب الثالث: معتقدهم في الإمامة وقد اتفقوا على أنه لا بد في كل عصر من إمام معصوم قائم بالحق يرجع إليه في تأويل الظواهر وحل الإشكالات في القرآن والأخبار والمعقولات واتفقوا على أنه المتصدي لهذا الأمر وأن ذلك جار في نسبهم لا ينقطع أبد الدهر ولا يجوز أن ينقطع إذ يكون فيه إهمال الحق وتغطيته على الخلق وإبطال قوله عليه السلام ((كل سبب ونسب ينقطع إلا سببي ونسبي)) (1) وقوله ((ألم أترك فيكم القرآن وعترتي)) (2) واتفقوا على أن الإمام يساوي النبي في العصمة والاطلاع على حقائق الحق في كل الأمور إلا أنه لا ينزل إليه الوحي وإنما يتلقى ذلك من النبي فإنه خليفته وبإزاء منزلته ولا يتصور في زمان واحد إمامان كما لا يتصور نبيان تختلف شريعتهما نعم يستظهر الإمام بالحجج والمأذونين والأجنحة والحجج هم الدعاة فقالوا لا بد للإمام في كل وقت من اثني عشر حجة ينتدبون في الأقطار متفرقين في الأمصار وليلازم أربعة من جملة الاثنى عشر حضرته فلا يفارقونه ولا بد لكل حجة من معاونين له على أمره فإنه لا ينفرد بالدعوة بنفسه واسم المعاون المأذون عندهم ولا بد للدعاة من رسل إلى الإمام يرفعون إليه الأحوال ويصدرون عنه إليهم واسم الرسول الجناح, ولا بد للداعي من أن يكون بالغا في العلم والمأذون وإن كان دونه فلا بأس بعد أن يكون عالما على الجملة وكذلك الجناح, ثم إنهم قالوا كل نبي لشريعته مدة فإذا انصرمت مدته بعث الله نبيا آخر ينسخ شريعته ومدة شريعة كل نبي سبعة أعمار وهو سبعة قرون فأولهم هو النبي الناطق ومعنى الناطق أن شريعته ناسخة لما قبله, ومعنى الصامت أن يكون قائما على ما أسسه غيره ثم إنه يقوم بعد وفاته ستة أئمة إمام بعد إمام فإذا انقضت أعمارهم ابتعث الله نبيا أخر ينسخ الشريعة المتقدمة وزعموا أن أمر آدم جرى على هذا المثال وهو أول نبي ابتعثه الله في فتح باب الجسمانيات وحسم دور الروحانيات, ولكل نبي سوس والسوس هو الباب إلى علم النبي في حياته والوصي بعد وفاته والإمام لمن هو في زمانه كما قال عليه السلام ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)) (3)   (1) رواه الطبراني (2634) والبيهقي (7/ 64) وعبدالرزاق (10354) بلفظ (منقطع يوم القيامة) قال الهيثمي في ((المجمع)) (4/ 272) رجاله رجال الصحيح، وقال الذهبي في ((المهذب)) (5/ 2632) إسناده صالح وقال ابن كثير في ((مسند الفاروق)) (1/ 390) إسناده حسن وصححه الألباني في ((الصحيحة)) (2036) (2) بهذا اللفظ غير وارد، وله ألفاظ أخرى كثيرة رواها الترمذي (3786) والنسائي في ((الكبرى)) (5/ 45) وأحمد (3/ 14) (11119) وأبو يعلى (1021) والطبراني (2679) وغيرهم، قال الهيثمي في ((المجمع)) (9/ 163) رواه أحمد وإسناده جيد، وقال البوصيري في ((الإتحاف)) (6/ 109) رواه الطبراني بإسناد جيد، وصححه الألباني (3) رواه الحاكم (4637) والطبراني (11083) والعقيقلي في ((الضعفاء)) (5/ 457) قال الهيثمي في ((المجمع)) (9/ 114) فيه عبد السلام بن صالح الهروي وهو ضعيف، وقال الحاكم إسناده صحيح، وقال الذهبي بل موضوع، وقال العقيلي لا يصح في هذا المتن حديث، وقال القرطبي في ((التفسير)) (9/ 336) باطل، وقال الدارقطني في ((العلل)) مضطرب غير ثابت، وقال الترمذي: منكر، وكذا البخاري، وقال: إنه ليس له وجه صحيح، وقال ابن معين فيما حكاه الخطيب في ((تاريخ بغداد)) إنه كذب لا أصل له، وأورده ابن الجوزي في ((الموضوعات)) وأشار إلى هذا ابن دقيق العيد، بقوله: هذا الحديث لم يثبتوه، وقيل: إنه باطل، وقال ابن تيمية موضوع، وكذلك أورده ضمن ((الموضوعات)) كل من الشوكاني وابن عراق والألباني .. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 217 وزعموا أن آدم كان سوسه شيث وهو الثاني ويسمى من بعده متمما ولاحقا وإماما وإنما كان استتمام دور آدم سبعة لأن استتمام دور العالم العلوي بسبعة من النجوم ولما استتم دور آدم ابتعث الله نوحا ينسخ شريعته وكان سوسه سام فلما استتم دوره بمضي ستة سواه وسبعة معه ابتعث الله إبراهيم ينسخ شريعته وكان سوسه إسحاق ومنهم من يقول لا بل إسماعيل فلما استتم دوره بالسابع معه ابتعث الله موسى ينسخ شريعته وكان سوسه هارون فمات هارون في حياة موسى فصار سوسه يوشع بن نون فلما استتم دوره بالسابع معه ابتعث الله عيسى ينسخ شريعته وسوسه شمعون ولما استتم دوره بالسابع ابتعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وسوسه علي عليه السلام وقد استتم دوره بجعفر بن محمد فإن الثاني من الأئمة الحسن بن علي والثالث الحسين بن علي والرابع علي بن الحسين والخامس محمد بن علي والسادس جعفر بن محمد عليه السلام وقد استتموا سبعة معه وصارت شريعته ناسخة وهكذا يدور الأمر أبد الدهر هذا ما نقل عنهم مع خرافات كثيرة المصدر: فضائح الباطنية لأبي حامد الغزالي – ص42 واتفقوا على أنه لابد في كل عصر من إمام معصوم، قائم بالحق، يرجع إليه في تأويل الظواهر وحل الإشكال في القرآن والأخبار، وأنه يساوي النبي في العصمة؛ ولا يتصور في زمان واحد إمامان؛ بل يستظهر الإمام بالدعاة وهم الحجج، ولا بد للإمام من اثني عشر حجة: أربعة منهم لا يفارقونه. المصدر: القرامطة لابن الجوزي – ص 60 والصنف الثامن عشر من الرافضة وهم القرامطة يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي بن أبي طالب وأن علياً نص على إمامة ابنه الحسن وأن الحسن بن علي نص على إمامة أخيه الحسين بن علي وأن الحسين بن علي نص على إمامة ابنه علي بن الحسين وأن علي بن الحسين نص على إمامة ابنه محمد بن علي ونص محمد بن علي على إمامة ابنه جعفر ونص جعفر على إمامة ابن ابنه محمد بن إسماعيل وزعموا أن محمد بن إسماعيل حي إلى اليوم لم يمت ولا يموت حتى يملك الأرض وأنه هو المهدي الذي تقدمت البشارة به واحتجوا في ذلك بأخبار رووها عن أسلافهم يخبرون فيها أن سابع الأئمة قائمهم. المصدر: مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري - ص8 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 218 المطلب الرابع: معتقدهم في القيامة والمعاد وقد اتفقوا عن آخرهم على إنكار القيامة وأن هذا النظام المشاهد في الدنيا من تعاقب الليل والنهار وحصول الإنسان من نطفة والنطفة من إنسان وتولد النبات وتولد الحيوانات لا يتصرم أبد الدهر وأن السموات والأرض لا يتصور انعدام أجسامهما وأولوا القيامة وقالوا إنها رمز إلى خروج الإمام وقيام قائم الزمان وهو السابع الناسخ للشرع المغير للأمر وربما قال بعضهم إن للفلك أدوارا كلية تتبدل أحوال العالم تبدلا كليا بطوفان عام أو سبب من الأسباب فمعنى القيامة انقضاء دورنا الذي نحن فيه وأما المعاد فأنكروا ما ورد به الأنبياء ولم يثبتوا الحشر والنشر للأجساد ولا الجنة والنار ولكن قالوا معنى المعاد عود كل شيء إلى أصله والإنسان متركب من العالم الروحاني الجسماني إما الجسماني منه وهو جسده فمتركب من الأخلاط الأربعة الصفراء والسوداء والبلغم والدم فينحل الجسد ويعود كل خلط إلى الطبيعة العالية, أما الصفراء فتصير نارا وتصير السوداء ترابا ويصير الدم هواء ويصير البلغم ماء وذلك هو معاد الجسد وأما الروحاني وهو النفس المدركة العاقلة من الإنسان فإنها إن صفيت بالمواظبة على العبادات وزكيت بمجانبة الهوى والشهوات وغذيت بغذاء العلوم والمعارف المتلقاة من الأئمة الهداة اتحدت عند مفارقة الجسم بالعالم الروحاني الذي منه انفصالها وتسعد بالعود إلى وطنها الأصلي ولذلك سمي رجوعا فقيل ارجعي إلى ربك راضية مرضية وهي الجنة وإليه وقع الرمز بقصة آدم وكونه في الجنة ثم انفصاله عنها ونزوله إلى العالم السفلاني ثم عوده إليها بالآخرة وزعموا أن كمال النفس بموتها إذ به خلاصها من ضيق الجسد والعالم الجسماني كما أن النطفة في الخلاص من ظلمات الرحم والخروج إلى فضاء العالم والإنسان كالنطفة والعالم كالرحم والمعرفة كالغذاء فإذا نفذت فيه صارت بالحقيقة كاملة وتخلصت فإذا استعدت لفيض العلوم الروحانية باكتساب العلوم من الأئمة وسلوك طرقها المفيدة بإرشادهم استكملت عند مفارقة الجسد وظهر لها ما لم يظهر ولذلك قال عليه السلام ((الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا)) (1)   (1) قال الغزي في ((الجد الحثيث)) (ص246) رواه ابن عساكر عن علي موقوفا، وقال السخاوي في ((المقاصد الحينة)) (1240) هو من كلام علي، وقال الألباني في ((الضعيفة)) (102) لا أصل له أورده الغزالي مرفوعا إليه صلى الله عليه وسلم! فقال الحافظ العراقي وتبعه السبكي: لم أجده مرفوعا، وإنما يعزي إلى علي بن أبي طالب، ونحوه في " الكشف " .. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 219 وكلما ازدادت النفس عن عالم الحسيات بعدا ازدادت للعلوم الروحانية استعدادا وكذلك إذا ركدت الحواس بالنوم اطلعت على عالم الغيب واستشعرت ما سيظهر في المستقبل إما بعينه فيغني عن المعبر أو بمثال فيحتاج إلى التعبير فالنوم أخو الموت وفيه يظهر علم ما لم يكن في اليقظة فكذا الموت تنكشف أمور لم تخطر على قلب بشر في الحياة وهذا للنفوس التي قدستها الرياضة العملية والعلمية فأما النفوس المنكوسة المغمورة في عالم الطبيعة المعرضة عن رشدها من الأئمة المعصومين فإنها تبقى أبد الدهر في النار على معنى أنها تبقى في العالم الجسماني تتناسخها الأبدان فلا تزال تتعرض فيها للألم والأسقام فلا تفارق جسدا إلا ويتلقاها آخر ولذلك قال تعالى كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ [النساء:56] فهذا مذهبهم في المعاد وهو بعينه مذهب الفلاسفة وإنما شاع فيهم لما انتدب لنصرة مذهبهم جماعة من الثنوية والفلاسفة فكل واحد نصر مذهبهم طمعا في أموالهم وخلعهم واستظهارا باتباعهم لما كان قد ألفه في مذهبه فصار أكثر مذهبهم موافقا للثنوية والفلاسفة في الباطن وللروافض والشيعة في الظاهر وغرضهم بهذه التأويلات انتزاع المعتقدات الظاهرة عن نفوس الخلق حتى تبطل به الرغبة والرهبة ثم ما أوهموه وهذوا به لا يفهم في نفسه ولا يؤثر في ترغيب وترهيب المصدر: فضائح الباطنية لأبي حامد الغزالي - ص44 وكلهم أنكروا القيامة، وقالوا: هذا النظام، وتعاقب الليل والنهار، وتولد الحيوانات لا ينقضي أبدا. وأولوا القيامة بأنها رمز إلى خروج الإمام، ولم يثبتوا الحشر ولا النشر ولا الجنة ولا النار، ومعنى المعاد عندهم عود كل شيء إلى أصله. قالوا: فجسم الآدمي يبلى، والروح إن صفت بمجانبة الهوى، والمواظبة على العبادات، وغذيت بالعلم، استعدت بالعود إلى وطنها الأصلي، وكمالها بموتها، إذ به خلاصها من ضيق الجسد، وأما النفوس المنكوسة المغموسة في عالم الطبيعة المعرضة عن طلب رشدها من الأئمة المعصومين، فإنها أبدا في النار، على معنى أنها تتناسخ في الأبدان الجسمانية، وكلما فارقت جسدا تلقاها آخر، واستدلوا بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 56]. وأكثر مذاهبهم يوافق الثنوية والفلاسفة في الباطن والروافض في الظواهر؛ وغرضهم بهذه التأويلات انتزاع المعتقدات الظاهرة من نفوس الناس حتى تبطل الرغبة والرهبة. المصدر: القرامطة لابن الجوزي – ص 60 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 220 المطلب الخامس: اعتقادهم في التكاليف الشرعية المنقول عنهم الإباحة المطلقة ورفع الحجاب واستباحة المحظورات واستحلالها وإنكار الشرائع إلا أنهم بأجمعهم ينكرون ذلك إذا نسب إليهم وإنما الذي يصح من معتقدهم فيه أنهم يقولون لابد من الانقياد للشرع في تكاليفه على التفصيل الذي يفصله الإمام من غير متابعة الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما وأن ذلك واجب على الخلق والمستجيبين إلى أن ينالوا رتبة الكمال في العلوم فإذا أحاطوا من جهة الإمام بحقائق الأمور واطلعوا على بواطن هذه الظواهر انحلت عنهم هذه القيود وانحطت عنهم هذه التكاليف العملية فإن المقصود من أعمال الجوارح تنبيه القلب لينهض لطلب العلم فإذا ناله استعد للسعادة القصوى فيسقط عنه تكليف الجوارح وإنما تكليف الجوارح في حق من يجري بجهله مجرى الحمر التي لا يمكن رياضتها إلا بالأعمال الشاقة وأما الأذكياء والمدركون للحقائق فدرجتهم ارفع من ذلك وهذا فن من الإغواء شديد على الأذكياء وغرضهم هدم قوانين الشرع ولكن يخادعون كل ضعيف بطريق يغويه ويليق به وهذا من الإضلال البارد وهو في حكم ضرب المثال كقول القائل إن الاحتماء عن الأطعمة المضرة إنما يجب على من فسد مزاجه فأما من اكتسب اعتدال المزاح فليواظب على أكل ما شاء أي وقت شاء فلا يلبث المصغي إلي هذا الضلال أن يمعن في المطعومات المضرة إلى أن تتداعى به إلى الهلاك المصدر: فضائح الباطنية لأبي حامد الغزالي – ص46 ثم إنهم يعتقدون استباحة المحظورات، ورفع الحجر ولو ذكر لهم هذا لأنكروه وقالوا: لابد من الانقياد للشرع على ما يفعله الإمام، فإذا أحاطوا بحقائق الأمور انحلت عنهم القيود والتكاليف العملية؛ إذ المقصود عندهم من إعمال الجوارح للغمر الذين لا يرضون إلا بالسياقة. وغرضهم هدم قوانين الشرع. تأويلاتهم للظواهر من التكاليف: قالوا: وكل ما ذكر من التكاليف فرموز إلى باطن؛ فمعنى الجنابة؛ مبادرة المستجيب بإفشاء سر إليه قبل أن ينال رتبة الاستحقاق لذلك. ومعنى الغسل؛ تجديد العهد على من فعل ذلك. والزنا؛ إلقاء نطفة العلم الباطن إلى نفس من لم يسبق معه عقد العهد. والاحتلام؛ أن يسبق الإنسان إلى إفشاء السر في غير محله. والصيام؛ الإمساك عن كشف السر. والمحرمات؛ عبارة عن ذوي السر. والبعث عندهم؛ الاهتداء إلى مذاهبهم. ويقولون: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء: 11] الذكر الإمام، والحجة الأنثى. وقالوا: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [الأعراف: 53] أي يظهر محمد بن إسماعيل. وفي قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: 3] قالوا: الميتة: الحامل على الظاهر الذي لا يلتفت إلى التأويل. وقالوا: إن الشاء والبقر هم الذين حضروا محاربة الأنبياء والأئمة يترددون في هذه الصورة، ويجب على الذابح أن يقول عند الذبح: اللهم إني أبرأ إليك من روحه وبدنه، وأشهد له بالضلالة، اللهم لا تجعلني من المذبوحين. ولهم من الهذيان ما ينبغي تنزيه الوقت عن ذكره. وإنما علمت هذه الفضائح من أقوام تدينوا بدينهم ثم بانت لهم قبائحهم فتركوا مذهبهم. المصدر: القرامطة لابن الجوزي – ص 62 وشَرُّ هؤلاء القرامطةُ؛ فإنهم يدعون أن للقرآن والإسلام باطنًا يخالف الظاهر؛ فيقولون: الصلاة المأمور بها ليست هذه الصلاة، أو هذه الصلاة إنما يؤمر بها العامة، وأما الخاصة فالصلاة في حقهم معرفة أسرارنا. والصيام: كتمان أسرارنا. والحج: السفر إلى زيارة شيوخنا المقدسين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 221 ويقولون: إن الجنة للخاصة: هي التمتع في الدنيا باللذات، والنار هي التزام الشرائع والدخول تحت أثقالها. ويقولون: إن الدابة التي يخرجها الله للناس هي العالم الناطق بالعلم في كل وقت، وإن إسرافيل الذي ينفخ في الصور هو العالم الذي ينفخ بعلمه في القلوب حتى تحيا، وجبريل هو العقل الفعال الذي تفيض عنه الموجودات، والقلم هو العقل الأول الذي تزعم الفلاسفة أنه المبدع الأول، وأن الكواكب والقمر والشمس التي رآها إبراهيم هي النفس والعقل وواجب الوجود، وأن الأنهار الأربعة التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج هي العناصر الأربعة، وأن الأنبياء التي رآها في السماء هي الكواكب. فآدم هو القمر، ويوسف هو الزهرة، وإدريس هو الشمس، وأمثال هذه الأمور. وقد دخل في كثير من أقوال هؤلاء كثير من المتكلمين والمتصوفين، لكن أولئك القرامطة ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض، وعامة الصوفية والمتكلمين ليسوا رافضة يفسقون الصحابة ولا يكفرونهم، لكن فيهم من هو كالزيدية الذين يفضلون عليًا على أبي بكر، وفيهم من يفضل عليًا في العلم الباطن كطريقة الحربي وأمثاله، ويدعون أن عليًا كان أعلم بالباطن، وأن هذا العلم أفضل من جهته، وأبو بكر كان أعلم بالظاهر. وهؤلاء عكس محققي الصوفية وأئمتهم، فإنهم متفقون على أن أعلم الخلق بالعلم الباطن هو أبو بكر الصديق. وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن أبا بكر أعلم الأمة بالباطن والظاهر، وحكى الإجماع على ذلك غير واحد. المصدر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية -2/ 203 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 222 المبحث الرابع: خيانات القرامطة ومن خيانات القرامطة ما فعلوه في سنة 294هـ، من تعرضهم للحُجاج أثناء رجوعهم من مكة بعد أداء المناسك فلقوا القافلة الأولى فقاتلوهم قتالاً شديدًا، فلما رأى القرامطة شدة القافلة في القتال، قال: هل فيكم نائب السلطان؟ فقالوا: ما معنا أحد، فقالوا: فلسنا نريدكم، فاطمأنوا وساروا فلما ساروا، أوقعوا بهم وقتلوهم عن آخرهم. وتعقبوا قوافل الحجيج قافلة قافلة يعملون فيهم السيف، فقتلوهم عن آخرهم، وجمعوا القتلى كالتل، وأرسلوا خلف الفارين من الحجيج من يبذل لهم الأمان فعندما رجعوا قتلوهم عن آخرهم، وكان نساء القرامطة يطفن بين القتلى يعرضن عليهم الماء، فمن كلمهن قتلنه، فقيل إن عدد القتلى بلغ في هذه الحادثة عشرين ألفا، وهم في كل ذلك يغورون الآبار، ويفسدون ماءها بالجيف والتراب والحجارة، وبلغ ما نهبوه من الحجيج ألفي ألفي دينار (1). خيانة أخرى للقرامطةوفي سنة 312هـ سار أبو طاهر الشيعي القرمطي في عسكر عظيم ليلقى الحجيج في رجوعهم من مكة، فأوقع بقافلة تقدمت معظم الحجاج، وكان فيها خلق كثير من أهل بغداد، فنهبهم، واتصل الخبر إلى باقي الحجيج، ولكن دونما فائدة فقد باغتهم القرامطة أيضًا، فأوقعوا بهم وأخذوا دوابهم، وما أرادوا من الأمتعة والأموال والنساء والصبيان، وقتلوا من قتلوا وترك الباقون في أماكنهم منهكين فمات أكثرهم جوعًا وعطشا من حر الشمس، وانقلبت بغداد واجتمع حرم المنكوبين إلى حرم المأخذوين، وجعلن ينادين القرمطي الصغير أبو طاهر قتل المسلمين في طريق مكة، والقرمطي الكبير ابن الفرات قتل المسلمين ببغداد، وكانت صورة فظيعة شنيعة وكسر العامة منابر الجوامع وسودوا المحاريب يوم الجمعة، وجاء ابن الفرات الوزير الرافضي القرمطي إلى المقتدر الخليفة العباسي ليأخذ رأيه فيما يفعله، فانبسط لسان المقتدر على ابن الفرات، وقال له: الساعة تقول لي أي شيء نصنع، وما هو الرأي؟ بعد أن زعزعت أركان الدولة وعرضتها للزوال بالميل مع كل عدو يظهر ومكاتبته ومهادنته وإبعادك رجالي إلى الرقة وهم سيوف الدولة، فمن يدفع الآن؟ ومن الذي سلم الناس إلى القرمطي غيرك، لما يجمع بينكما من التشيع والرفض، ولما توجه الخليفة المقتدر إلى الكوفة ليلقى القرامطة قام المحسن ابن الوزير ابن الفرات الشيعي بقتل كل من كان محبوسًا عنده من المصادرين لأنه كان قد أخذ منهم أموالاً، ولما يوصلها إلى المقتدر، فخاف أن يقروا عليه (2). وهكذا ترى الخيانة الرافضية الخبيثة، مع ضيوف الله وحجاج بيته الحرام، قتل وسلب ونهب واغتصاب، تجويع وتعطيش ....... ، جولة سريعة في التاريخ مع خيانات القرامطة: سنقلب سريعًا في سجلات التاريخ من كتابي (البداية والنهاية)، و (الكامل في التاريخ)، نشير إشارات إلى خيانات القرامطة وعياثهم بالفساد في الأرض وتعقب أهل السنة والخروج على دولتهم ممثلة في الخلافة العباسية. "وفيها – 311هـ - قصد أبو طاهر القرمطي البصرة فوصلها ليلاً في ألف وسبعمائة رجل فوضع السيف في أهل البصرة وهرب الناس إلى الكلأ وحاربوا القرامطة عشرة أيام فظفر بهم القرامطة وقتلوا خلقًا كثيرًا، وطرح الناس أنفسهم في الماء فغرق أكثرهم وأقام أبو طاهر سبعة عشر يومًا يحمل من البصرة ما يقدر عليه من المال والأمتعة والنساء والصبيان ثم انصرف" (3).   (1) ابن الأثير: ((الكامل في التاريخ)) (6/ 432، 433). (2) ابن الأثير: ((الكامل في التاريخ)) (7/ 312) بتصرف. (3) ((البداية والنهاية)) (11/ 147). ((الكامل في التاريخ)) (7/ 15). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 223 "وفي سنة 312هـ دخل أبو طاهر القرمطي الكوفة .. فخرج إليه واليها جعفر بن ورقاء الشيباني فقاتله واجتمع له أمداد من هنا وهناك، ولكن ظفر بهم القرامطة، وتبعوهم إلى باب الكوفة فانهزم عسكر الخليفة، وأقام أبو طاهر ستة أيام يدخل البلد نهارًا ثم يخرج فيبيت في عسكره، وحمل منها ما قدر على حمله من الأموال والثياب وغير ذلك" (1). "وفي سنة 315هـ خرج القرامطة نحو الكوفة أيضًا وكانوا ألفًا وخمسمائة، وقيل كانوا ألفين وسبعمائة، وسيَّر لهم الخليفة العباسي جيشًا كثيفًا نحو سنة آلاف سوى الغلمان، ودارت بينهم وقائع في واسط والأنبار .. وكانت سجالاً وقتل فيها من عسكر الخليفة عدد كثير وانهزموا .. وأصاب الناس الزعر من القرامطة فخرج ناس بأموالهم من بغداد لما سمعوا بتوجه القرامطة إليها" (2). " وفي سنة 316هـ عاث أبو طاهر القرمطي في الأرض فسادا، فدخل الرحبة وقتل من أهلها خلقًا، وطلب منه أهل قرقيسيا الأمان، فأمنهم وبعث سرياه إلى ما حولها من الأعراب فقتل منهم خلقًا حتى صار الناس إذا سمعوا بذكره يهربون من سماع اسمه، وفرض على الأعراب إتاوة يحملونها إلى هجر – مقر القرامطة – كل سنة؛ عن كل رأس دينارين وعاث في نواحي الموصل فسادًا وفي سنجار ونواحيها، وخرب تلك الديار وقتل وسلب ونهب .. ولما رأى الوزير علي بن عيسى ما يفعله القرامطة في بلاد الإسلام وليس له دافع استعفى من الوزارة لضعف الخليفة وجيشه وعزل نفسه .. " (3). " وفي سنة 317هـ خرج القرامطة إلى مكة في يوم التروية فقاتلوا الحجيج في رحاب مكة وشعابها، وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وجلس أميرهم أبو طاهر لعنه الله على باب الكعبة والرجال تصرع حوله والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام في الشهر الحرام في يوم التروية، الذي هو من أشرف الأيام .. وكان الحجيج يفرون منهم فيتعلقون بأستار الكعبة، فلا يجدي ذلك عنهم شيئا، بل يقتلون وهم متعلقون بها .. ولما قضى القرمطي اللعين أبو طاهر أمره وفعل ما فعل بالحجيج؛ أمر بردم بئر زمزم بإلقاء القتلى فيها وهدم قبتها، وأمر بخلع الكعبة ونزع كسوتها عنها وشققها بين أصحابه .. ثم أمر رجلاً من رجاله بأن يقلع الحجر الأسود، فجاء رجل فضربه بمثقل كان في يده وقال أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ ثم قلع الحجر الأسود، وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم ثنتين وعشرين سنة، حتى ردوه في سنة 339هـ فإنا لله وإنا إليه راجعون" (4). المصدر: خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية لعماد علي عبد السميع – ص 63   (1) ((الكامل في التاريخ)) (7/ 22، 23). (2) ((الكامل في التاريخ)) (7/ 31 - 33) بإيجاز. (3) ((البداية والنهاية)) (11/ 157، 158). (4) ((البداية والنهاية)) (11/ 160، 161)، و ((الكامل في التاريخ)) (7/ 53، 54). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 224 المبحث الخامس: أساليب القرامطة في الدعوة - إظهار الإسلام وإبطان الكفر: فهم يتسترون بالإسلام وبقراءة القرآن وبالصلاة والصيام، ويظهرون حب آل البيت والعفاف والزهد وترك الدنيا والإعراض عن الشهوات، ويأمرون بالصدق والأمانة والمعروف، وفي حقيقة الأمر هم على خلاف ذلك؛ إذ يبطنون الكفر والزندقة والتعطيل وبغض الأنبياء والرسل، ويميلون إلى المجون والخلاعة والانغماس في اللذات والشهوات. وفي كل ذلك قد أوثقوا أمورهم بالسرية، وبأخذ الأيمان والعهود على من أجابهم بكتمان ما يبوحون له به من أسرارهم، ولا يكشفون أمرهم إلا بالتدرج على قدر طمعهم في الشخص. - الاستدراج والحيلة: إنهم يتصلون بالناس سراً، وينقلونهم عن الإسلام بالحِيَل والأيمان الخادعة، ويستدرجونهم إلى مذهبهم من حيث يوافق رأيه لا يشعرون شيئاً فشيئاً، ويخاطبون كل فريق بما يوافق رأيه بعد أن يظفروا منه بالانقياد لهم والموالاة لإمامهم؛ إذ يوصون دعاتهم فيقولون للداعية: إذا وجدت من تدعوه فاجعل التشيع دينك، وادخل عليه من جهة ظلم الأمة لعلي، وقتلهم الحسين وسبيهم لأهله، والتبرئ من تيم وعدي وبني أمية وبني العباس، وقل بالرجعة، وأن علياً يعلم الغيب. فإذا تمكنت منه أوقفته على مثالب علي وولده، ثم بينت له بطلان ما عليه أهل ملة محمد وغيره من الرسل. وإن كان يهودياً فادخل عليه من جهة انتظار المسيح، وأن المسيح هو محمد بن إسماعيل بن جعفر؛ وهو المهدي، واطعن في النصارى والمسلمين، وإن كان نصرانياً فاعكس، وإن كان صابئياً فتعظيم الكواكب، وإن كان مجوسياً فتعظيم النار والنور، وإن وجدت فيلسوفاً فهم عمدتنا؛ لأننا نتفق وهم على إبطال النواميس والأنبياء، وعلى قدم العالم. ومن رأيته زيدياً أو إمامياً فأظهر له بغض أبي بكر وعمر، ثم أظهر له العفاف والتقشف وترك الدنيا والإعراض عن الشهوات، ومر بالصدق والأمانة، فإذا استقر عنده ذلك فاذكر له ثلب أبي بكر وعمر، وإن كان سنياً فاعكس، وإن كان مائلاً إلى المجون والخلاعة فقرِّر عنده أن العبادة بَلَهٌ والورع حماقة، وإنما الفطنة في اتباع اللذة وقضاء الوطر من الدنيا الفانية. - خداع الناس: وقد اتخذوا التظاهر بحب آل البيت والتستر بالتشيع وسيلة للتحايل على الناس وخداعهم أثناء دعوتهم لهم. ومن أساليبهم في خداع الناس اتخاذ الدين مطية لبلوغ أهدافهم، واستغلال ظروف الناس المعيشية المتدنية وعواطفهم الملتهبة للإصلاح برفع شعارات براقة؛ فعندما ثار القرامطة سنة 315هـ كانت لهم أعلام بيض مكتوب عليها: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [القصص: 5]. المصدر: القرامطة في الخليج العربي مقال لمحمد أمحزون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 225 وقد يستحبون من له صوت طيب بالقرآن، فإذا قرأ تكلم داعيهم ووعظ، وقدح في السلاطين، وعلماء الزمان، وجهال العامة، ويقول: الفرج منتظر ببركة آل الرسول صلى الله عليه وسلم. وربما قال: إن الله عز وجل في كلماته أسرار لا يطلع عليها إلا من اجتباه. ومن مذاهبهم أنهم لا يتكلمون مع عالم بل مع الجهال، ويجتهدون في تزلزل العقائد بإلقاء المتشابه وكل ما لا يظهر للعقول معناه، فيقولون: ما معنى الاغتسال من المني دون البول؟ ولم كانت أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة؟ وقوله: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 30]!! ضاقت القافية؟ ما بطن هذا إلا لفائدة لا يفهمها كثير من الناس. ويقولون لم كانت السماوات سبعا؟ ثم يشوقون إلى جواب هذه الأشياء: فإن سكت السائل سكتوا، وإن ألح قالوا: عليك العهد والميثاق على كتمان هذا السر، فإنه الدر الثمين. فيأخذون عليه العهود والميثاق على كتمان هذا، ويقولون في الأيمان: "وكل مالك صدقة، وكل امرأة لك طالق ثلاثا إن أخبرت بذلك". ثم يخبرونه ببعض الشيء ويقولون: هذا لا يعلمه إلا آل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقولون: هذا الظاهر له باطن، وفلان يعتقد ما نقول ولكنه يستره – ويذكرون له بعض الأفاضل، ولكنه ببلد بعيد المصدر: القرامطة لابن الجوزي – ص 51 اتخذ القرامطة كل وسيلة يمكن أن تجمع الناس حولهم وسواء أكانت الوسيلة شريفة أم غير ذلك فالأمر واحد بل ربما كانت الوسائل الخبيثة هي التي أفادوا منها أكثر من غيرها إذ أن الوسط الذي نمت فيه حركتهم تلائمه تلك الوسائل فالغاية عندهم تبرر الواسطة كما أن النفوس قد جبلت على حب المصالح والرغبة في المحظورات فقد حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات وأهم تلك الوسائل: 1ـ الزهد: أظهر القرامطة في بداية أمرهم الزهد حتى يقبل الناس عليهم فالدين أكثر ما يحرك النفوس والمجتمع الذي وجدوا فيه لا يخضع إلا لمن عرف بتقواه ولكن إذا ما دان لهم أتباعهم ووثقوا بهم أخضعوهم لمرحلة بعد مرحلة حتى إذا وصلوا إلى المرحلة الأخيرة رفعوا عنهم التكاليف الشرعية وأعلنوا لهم أن هذه التكاليف إنما وضعت وفرضت على المغفلين وقد عد الباحثون تسع مراحل يخضع لها أتباع القرامطة حتى يصلوا إلى كل ما يريده منهم زعماء هذه الحركة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 226 2ـ النساء: يجتمع عادة في المدن التجار والأغنياء وقادة الجند والأمراء فيشترون الأرض ويرغبون في زراعتها للإفادة من نتاجها واستثمار خيراتها أو قضاء بعض الأيام فيها يروحون فيها عن أنفسهم ويسرون مما فيها من ملذات ونعيم ولما كان هؤلاء لا يستطيعون الاستقرار في مكان لطبيعة علمهم ولا يزاولون هم الزراعة بأنفسهم لذا اقتضت المصلحة أن يستأجروا من يعمل لهم فيها إن لم يكن لهم أرقاء يشتغلون أو عبيد يعملون فكانوا يجلبون العمال من المناطق الفقيرة ... أو المواطن التي تعتمد على المطر في الري فإن أتتها سنوات عجاف اضطر أهلها إلى مغادرة أراضيهم يلتمسون العمل الذي اعتادوا عليه وهو الزراعة وكانت تستهوي هؤلاء العمال المواضع التي تتدفق فيها المياه فتجلبهم نحوها أو يستقدمه أولئك الأغنياء الذين ذكرنا وكان سواد العراق من هذه الأماكن التي توجه إليها هذه الفئات فاجتمع في هذه المنطقة جماعات كثيرة معظمها من الشباب الذين هم في سن العمل أو ممن لهم تطلعات نحو النساء وقد ابتعدوا عن أزواجهم إن كانوا من الذين سبق لهم أن تزوجوا وابتعدوا عن رقابة مجتمعاتهم ووجدوا في أنفسهم عاطفة إلى الأهل والوطن فانقلبت هذه العاطفة إلى رغبة في الجنس لتحل محلها أو تفكير في إيجاد الأهل وبناء الأسرة ولما لم تكن لديهم الإمكانات الكافية للزواج وبناء الأسرة فقد انقلب هذا الفقر أو الضعف إلى حقد على الأغنياء أو أصحاب الأرض وأهل الفتيات وحدثت رغبة جامحة في الحصول على الفتيات والنساء بأي شكل وأية طريقة وكان الجهل يطغى على أكثر أولئك الزراع الأمر الذي يجعل الوازع عندهم ضعيفا فيمكن إيقاعهم في الحبائل وجعل النساء لهم شركا عظيما يندفعون وراءه ليحققوا رغباتهم ويؤمنوا شهواتهم ويحصلوا على العاطفة الآنية كانت النساء المصيدة الأولى لهم والسلاح الماضي الذي استعمله القرامطة بل والزنج من قبلهم في المنطقة نفسها إذ دخلوا البصرة وارتكبوا فيها أبشع أنواع الجرائم وهتك الأعراض. لهذا أمر (قرمط) الدعاة له بأن يجمعوا النساء في ليلة عينها ويخلطوهن بالرجال حتى يتراكبن وقال هذا من صحة الود والألفة كما أن أبا سعيد الجنابي قد أدخل زوجه على ضيفه وطلب منها ألا تمنعه من نفسها كما أباح القرامطة للمقاتلين أن يرووا غرائزهم من نساء أهل المدن والقرى والقوافل التي يستبيحونها دون أي احتراز أو إمهال لمدة كما يدعي المسلمون. 3ـ المال: وهو وسيلة أخرى اتخذها القرامطة للتأثير على الناس ولا شك أن أكثر العاملين في منطقة السواد من الفقراء وما انتقالهم إلى تلك الجهات إلا لوضعهم المادي الضعيف وكذلك القبائل التي تقيم على أطراف البادية أو في فيافيها المختلفة فإن أفرادها هم بحاجة إلى المال لتأمين بعض الحاجيات التي تستجد في مجتمعاتهم أو يرونها ضرورية لهم الأمر الذي يجعلهم ينظرون إلى المال على أنه غاية بحد ذاته إذا ما امتاز عنه السادة إلا بالمال وما منعهم من الحصول على الزواج من بنات الأثرياء إلا الفقر وكذلك فالوازع الإيماني عندهم ضعيف لجهلهم فالجهل والفقر مع غياب الإيمان يعدان من أكبر العوامل التي تجعل الإنسان يسير وراء كل ناعق أو مع كل متاجر بالألفاظ من الإصلاح أو الخير – حسب زعمهم – لتجد النفس لها المسوغ وهذا ما يتوفر في هذه المنطقة من الأرض بشكل واضح تماما. أقام (قرمط) في كل قرية رجلا مختارا من الثقات عنده وأمر كل واحد منهم أن يجمع عنده أموال قريته ويجعلها اشتراكية بين أبناء القرية جميعها وذلك ليحصل الدعاة الذين لا يعملون والكسالى والمزاودون على لقمة العيش بل ويحصلوا على زيادة يتصرفون بها ويبذرون بصفتهم القيادية وحملهم المسؤولية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 227 وليس هذا أبدا في سبيل حصول القراء على المال أو مساواتهم بالأغنياء فإن هذا لا يكون ولا تستقيم معه الحياة فلا بد من وجود عمال يأخذون وأغنياء يدفعون إذ يمكن أن يعمل المسؤول عملا منقصا من شأنه وعلى الدوام يسخر المسؤول غيره ويعيش على حسابه ويدعي أنه لمصلحته يعمل ومن أجله قام وتسلم المسؤولية. وفي اشتراكية المال والنساء تحقيق لمبادئ (مزدك) الذي يرتبطون معه بصلة العقيدة المجوسية ديانة الفرس القديمة التي هم أتباع لها ويتعصبون لها ولأهلها ويتطرفون في تعظيم رجالات الفرس ويغالون في رفعهم ويرى (مزدك) أن النساء والمال سبب المخالفة والمباغضة لذلك أباحهما. 4ـ الفتوة: إن الشباب تغريهم مظاهر القوة لذا فهم ينخرطون في كل حركة تستهويهم بهذا المظهر وبخاصة إذا أمن لهم الجنس لما كان أكثر سكان السواد من الشباب لذلك أمر (قرمط) جماعته بشراء سكان حتى يندفع غيرهم نحوهم ويؤمن الزيادة في عدد أتباعه هذا فضلا عن إخافة الآخرين الذين يضطرون للالتحاق بهم حماية لأنفسهم وتأمينا لمصالحهم كما أمر القرمطي بتقديم العلف لهؤلاء الشباب من النساء. 5ـ الحقد: ويجب ألا ننس الناحية النفسية عند العوام فالفقير يغريه المال فيجعله يحقد على صاحبه والأجير يحسد صاحب العمل على ما آتاه الله والشباب المليء بالشهوة الذي يرى الفتيات من بنات الأثرياء أمامه وهو مرهق بالعمل ولا يستطيع أن يحصل على الزواج فيشتهيهن والبدوي الذي يعيش في الشمس المحرقة ويتنقل في البيداء المقفرة يلتظى من العطش ويفتقر إلى الظل يتصور الظلال الوارفة فيتشوق إليها والمياه المتدفقة فيتمناها والثمار اليانعة فتتوق نفسه إليها والأشجار ذات القطوف الدانية فيرغب فيها ويرى هذا كله في جنوبي العراق في المناطق التي تجاور باديته ويضطر أحيانا للسفر إليها لأعماله الضرورية في الحاضرة أو قاعدة الملك أو مركز الجند يرى ذلك كله ويتمنى أن يتخلص من وضعه الذي هو فيه ويحصل ولو بقعة صغيرة ذات ظل ظليل وماء نمير وفواكه كثيرة بل يحارب من أجل هذا ويقاتل ولقد أثار القرامطة الحقد في نفوس الفقراء فمنوهم بامتلاك تلك الأراضي وأغروهم باستباحة أموال الناس وأملوهم بأخذ ما يرغبون من النساء. لذا كانت هذه النماذج كلها الشباب ذوو الطاقات والفقراء أصحاب الإمكانات والأعراب المتقلبون مع الجهل الذي يجمعهم جميعا كانوا هم عماد الحركة القرمطية بل أساس كل ثورة تمنيهم وتلوح لهم بالحاجات التي يسعون إليها فهي العلف الذي يقدم لهم ويركضون وراءه ويسيرون حسب حركته كالسوائم من القطيع تتحرك وراء قبضة العشب وما على المستغلين إلا أن يوجهوهم. ويجب هنا أن لا ننسى حقد صاحب الدعوة الأول وهو حمدان بن الأشعث (قرمط) الذي ينقم على مجتمعه لخلقته ويحقد على الناس لما هو عليه من القصر والدمامة ويظن أن الناس جميعا ينظرون إليه نظرة ازدراء فيملأ الغيظ نفسه ويتمنى تحطيم كل ما يعتقدون وتهديم كل ما يفكرون فيه ويحلم أن يكون السيد المطلق فيهم يوجههم حيث يشاء ويحركهم حسب الوجهة التي يريدها ويرسم لهم طريق الغواية ليضلهم ويبعدهم عما هم عليه يتبعونه كالقطيع ويتحركون حسب إشارته هذا إضافة إلى حقده على المسلمين جميعا الذين قضوا على دولة الفرس وديانتهم المجوسية والمسلمون يشكلون سكان المحيط الذي يعيش فيه .. فهم أعداؤه ويجب القضاء عليهم بأبعادهم عن كل شيء يجمعهم والإسلام كان عماد قوتهم وأساس وجودهم فيجب تهديمه ليستطيع العمل ويمكنه التفرقة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 228 6ـ الإرهاب: اتخذ القرامطة طريقة إخافة الناس بما فعلوه من جرائم وما ارتكبوه من أعمال لذا فقد سار وراءهم كثيرون وهم ليسوا منهم وأظهروا لهم أنهم رأوا رأيهم وما هم كذلك وبهذا كثر عددهم أفادوا من جموعهم حتى إذا فشلوا في حركتهم كانت كثرتهم وبالا عليهم إذ انتفض المنتفعون من حولهم وهم غالبيتهم وتركوهم وحدهم في الميدان حتى ينالوا جزاءهم وما اقترفت أيديهم بل وأحيانا كثيرة كانوا هم الذين يسلمونهم لخصومهم ليحموا أنفسهم أو ينقلبوا عليهم في الساعات الحرجة ليحصلوا على الأمان إذ شاركوهم في جرائمهم. 7ـ دقة التنظيم: إن التنظيم الدقيق الذي قامت عليه الدعوة الإسماعيلية في النصف الثاني من القرن الثالث هو الذي جعلها تحرز بعض النجاح في بعض المناطق هذا بالإضافة إلى الخوف الذي أصاب الناس من كثرة جرائمها ووحشية أتباعها وما القرامطة إلا فرع من الإسماعيلية. قسمت الإسماعيلية مناطق دعوتها إلى اثني عشر قسما، وأطلقوا عل كل قسم اسم (جزيرة) وعينوا على كل جزيرة مسؤولا عرف باسم (حجة الجزيرة) أو (صاحب الجزيرة) ويرتبط مباشرة بكبير الدعاة الذي يقيم في مركز الدعوة ليأخذ العلم عنه كما يطلق على هذا اسم (داعي الدعاة) وما هذه التسمية (الجزر) إلا للتعمية، ويساعد داعي الدعاة ثلاثون شخصا يعرفون باسم (النقباء) ويشرف النقيب على أربعة وعشرين داعيا نصفهم معروف تقريبا والآخر مجهول كما يساعد داعي الدعاة شخصان يعرفان بالجناحين يرافقانه حيث سار ويسبقانه إلى المكان الذي يريد الانتقال إليه ليهيئا له العمل حيث وصوله ويقوما بالدعاية له. ويحرص الإسماعيلية على وجود أحد بينهم حصل على مقدار لا بأس به من العمل يناقش العلماء ويطرح عليهم أسئلة دينية لا جواب عليها وبخاصة أمام السذج ليظهر أمامهم أنه عالم كبير فيقولون هذا الرجل قد اعتقد بهذه الفكرة وقد أوتي حظا كبيرا من العلم والاطلاع فلو لم تكن كذلك لما آمن فيؤمنون .. وإذا ما التقى بمن يريد دعوتهم منفردين بدأ يشككهم في عقيدتهم حتى يحل محلها عقيدة الإسماعيلية. ويتظاهر داعي الدعاة أمام السنة أنه منهم وأمام الشيعة أنه أحدهم ويتقرب من كل صاحب مذهب بالتظاهر أنه من أتباع مذهبه وهذه التقية التي يؤمن بها الشيعة جميعهم قد ساعدت على نجاح حركة القرامطة حيث يتخذون من التقية سلاحا لهم. المصدر: القرامطة لمحمود شاكر – ص: 12 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 229 المبحث السادس: العوامل التي ساعدت على نجاح القرامطة لقد نجح القرامطة في حركتهم التي قاموا فيها ضد الدولة العباسية بعض الزمن واستطاعوا السيطرة على مناطق واسعة امتدت إلى كل بادية الشام والعراق كما شملت الجزيرة العربية كلها عدا منطقة عسير كما خضعت مناطق أخرى لبعض فئاتهم وإن حملوا أسماء ثانية ولقد كان لهذا النجاح عوامل عدة. 1ـ ضعف الدولة العباسية: قامت حركات في أنحاء متعددة من مناطق الدولة قبل ثورة القرامطة استدعت قوة نفوذ الجند ثم سيطرتهم الكاملة على الدولة وبالتالي على الخليقة هذا إلى جانب الحروب الطويلة التي خاضها العباسيون ضد الروم والدويلات التي انفصلت عن جسم الدولة فكان الجند بعد امتداد نفوذهم وسيطرتهم يتصرفون تصرفات تسيء إلى سمعة الحكم وهيبته ولا يستطيع الخليفة أن يقوم بعمل ضدهم ولو فكر بذلك كان مصيره القتل أو الخلع الأمر الذي جعل الخليفة ألعوبة بأيدهم ويصف أحد الشعراء الخليفة بين قواده بقوله: خليفة في قفصٍ بين وصيف وبغا ... يقول ما قالا له كما تقول الببغا هذا بالإضافة إلى أن هؤلاء القادة كثيرا ما كان ينازع بعضهم بعضا والقادة من الجند لا يجيدون التخطيط ولا يحسنون إدارة الشؤون وعلى هذا تبقى الدولة ضعيفة وأمورها متخبطة ومما زاد في ضعف الدولة كثرة الحركات التي سبقت ثورة القرامطة والتي كانت تضرب على الوتر نفسه وكان أهمها ثورة الزنج التي أزعجت الدولة عدة سنوات وثورات الطالبين المتكررة. 2ـ الحقد على العباسيين: إن تنكيل العباسين بالطالبين قد جعل الحقد عليهم شديدا من قبل الشيعة على اختلاف فرقها وينتظرون الفرصة المواتية للانتقام منهم وبخاصة أن منطقة السواد يكثر فيها الطالبيون وأنصارهم وبشكل خاص يزيدون في سواد الكوفة قاعدة الشيعة الأولى وبسبب قربها من فارس مركز المجوسية التي أظهر الكثير من أتباعها الإسلام وبقوا في الحقيقة على عقيدتهم الأولى يتعصبون لها ويتخذون من العصبية الفارسية أيضا دعما لهم فكانت بلاد فارس تمد الدعوات المعادية للعباسيين بأعداد كبيرة كلما احتاجت إلى الرجال حقدا على الإسلام وأهله واتجهت أعداد من أتباع المجوسية نحو الكوفة مظهرة الإسلام ومتخذة من التشيع ردء لها ونلاحظ حتى الآن أن كثيرا من الحركات المنحرفة سواء اتخذت مظهر التصوف أم مظهر دعوة جديدة إنما يرتبط بعض أتباعها وقادتها بأصول فارسية ويدعون الارتباط الشيعي أو الانتساب إلى آل البيت. كانت الفرصة الأولى للشيعة – كي يقوموا بثورتهم - هي نهاية القرن الثاني الهجري إذ حدث خلاف بين الأمين والمأمون ولدي هارون الرشيد ووليي عهده فقامت ثورة في الكوفة عام 119هـ، بزعامة محمد بن إبراهيم الملقب بـ (ابن طباطبا) وقد استطاع أحد قادته وهو (أبو السرايا) الاستيلاء على الكوفة وواسط والأهواز وضرب النقود باسم الإمام وبعد موت ابن طباطبا اختار الطالبيون فتى دعي باسم (محمد بن محمد) وأوجدوا له نسبا طالبيا هو محمد بن محمد بن زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي أبي طالب إلا أن هذه الأنساب لا يوثق بها أبدا إذ كثرت الادعاءات وكلها تنتمي إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولكن أبا السرايا هو الذي كان يقوم بالأمر كله باسم (محمد بن محمد) ثم هزم أبو السرايا وقتل عام 200هـ ودخل العباسيون الكوفة وأرسل (محمد بن محمد) إلى الخليفة المأمون وهو بخراسان. خفت حدة الحركة الطالبية بعد أن التابعين المأمون (علي الرضا) وليا لعهده وذلك عام 201هـ وهو الإمام الثامن عند الفرقة الاثني عشرية من الشيعة ولكن لم يلبث علي الرضا أن توفي عام 203هـ أيام المأمون. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 230 عاد الشيعة إلى ثورتهم فتحركوا عام 219هـ أيام المعتصم كانت حركتهم بزعامة (محمد بن القاسم) إلا أن هذه الثورة قد فشلت أيضا. ضعف أمر الخلفاء العباسيين بعد المتوكل فانتهز الشيعة هذا الأمر وقاموا بعدة حركات كان أولها ثورة (يحيى بن عمر) بالكوفة عام 250هـ ولكنها فشلت وكانت الحركة الثانية بقيادة (الحسين بن حمزة) بالكوفة نفسها عام 251هـ إلا أن مصيرها كان مصير ما سبقها من ثورات الطالبيين وإثر كل ثورة تقتل أعداد كبيرة من الطالبيين وينكل بهم كما نقلت جموع منهم من بغداد إلى سامراء عام 252هـ. انتقل مركز الشيعة إلى البصرة والتف أتباع هذه الفرقة حول صاحب الزنج الذي زعم أنه من نسل علي بن أبي طالب وأنه علي بن محمد بن أحمد بن علي بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب واجتمع مع الشيعة الزنج الذين يعملون في السباخ جنوبي العراق وقد دخل الزنج (الأبلة) عام 256هـ و (عبادان) و (الأهواز) ثم استطاعوا عام 257هـ أن يدخلوا البصرة و (واسط) عام 264هـ واستمرت هذه الحركة حتى قتل هذا الدعي صاحب الزنج عام 270هـ وفي هذا الوقت بدأت الدعوة الإسماعيلية نشاطها والقرامطة جزء منها فوجدت الظروف مهيأة من حيث الحقد على العباسيين في ذلك المحيط فنشط أمرها. 3ـ الجهل لقد كان الجهل يسود أبتاع القرامطة وقد حرصوا هم عليه ورغبوا في بقائه حتى يتسنى لهم إظهار ما ليس فيهم وتصديق جماعتهم لهم فقد ادعى (يحيى بن زكرويه) أن ناقته مأمورة وصدق أتباعه ذلك وأعلن لهم أن يده إذا وجهها إلى أية جهة هزم أعداؤه من تلك الجهة وآمن جماعته بذلك وأظهر لهم عضدا ناقصة وقال لهم إنها معجزة .... كما قال لأتباعه قبل مقتله في المعركة التي خاضها وقد أيقن بالهلاك: إنه غدا سيصعد إلى السماء ويقيم بها أربعين يوما وعليهم أن يتبعوا أخاه الحسين، كل هذا وأتباعه مصدقون به مؤمنون بأقواله وخرافاته لجهلهم، وكذلك صدق القرامطة خروج (الحسين الأهوازي) بمعجزة من سجن ابن الهيصم وكانت قد أخرجته جارية ابن الهيصم شفقة عليه وأعادت مفتاح السجن إلى مكانه تحت وسادة سيدها دون علمه ولم تخبر أحدا خوفا على نفسها فادعى الأهوازي أنه خرج معجزة. 4ـ الجرائم: إن الطريقة التي اتبعها القرامطة في سفك الدماء وقتل الأبرياء والاعتداء على الحرمات قد أخاف الناس وجعلهم يخشون على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وأملاكهم من تحديات القرامطة فأظهروا لهم تأييدهم وأنهم على مذهبهم حماية لهم ودفعوا جزء مما يترتب عليهم وساندوهم في حروبهم كما ساعدهم آخرون في سبيل الحصول على المغانم. 5ـ غياب أئمة الشيعة: تعد الشيعة الاثني عشرية أكثر فئات الطالبيين وقد اختفى إمامهم الثاني عشر محمد المهدي في سرداب في سامراء وهم ينتظرون ظهوره ليملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وكذلك كتم الإسماعيليون أئمتهم خوفا من طغيان العباسيين فكل طامح يدعو بهذه الدعوة ليحقق ما يريد فإذا وصل ادعى نسبا طالبيا يختاره وعد نفسه الإمام أو الداعية له وكانت هذه سياسة القرامطة. 6ـ الفساد وقد أصبح الفساد يزداد يوما بعد يوم ويتسع انفراج زاوية الانحراف باستمرار الأمر الذي جعل المسلمين يتضايقون من هذا الفساد ويتمنون تغيير الوضع بما هو أفضل ولا يجعلون من أنفسهم سندا للحكم ضد المارقين والمنحرفين لما في الحكام من السوء وإن كان يقل عن أعمال الباطنية بكثير بل لا يقارن معه إذ يقارن الإيمان بالكفر. وفي مثل هذا الوضع يصدق كل داع للإصلاح وكل مناد بتطبيق شريعة الإسلام وهذا ما كان يرفع رأيته أصحاب كل حركة مهما كانت ضالة ليتبعه الناس. المصدر: القرامطة لمحمود شاكر – ص: 21 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 231 المبحث السابع: المظهر السياسي للقرامطة لا بد لكل حركة من أن تأخذ شكلا سياسيا معينا تنادي به وتدعو إليه وقد اتخذت حركة القرامطة مبدأ التشيع راية لها كما اتخذت ذلك كل الثورات التي سبقتها والتي تلتها لأنها رأت في ذلك دعما كبيرا لها وجمهورا واسعا يسندها كما رأت قاعدة عامية تصدق كل دعي مجرد أن ينتمي إلى آل البيت وتؤمن بالخرافات والدجل وما التأييد الواسع إلا لـ: 1ـ أن المسلمين يتعاطفون مع الشيعة محبة لآل البيت حيث حمل الشيعة دعمهم وساروا وراء سادتهم ولم يكن الشيعة بعامة ولا سادة آل البيت بخاصة أصحاب أفكار تخالف الإسلام أو أهل آراء تباينه وذلك في أول الأمر ولكن الذي حصل فيما بعد إنما ابتدأ في القرن الهجري وكانوا من قبل كعامة المسلمين وكان وجهاء آل البيت أهل علم وفقه وفضل ومنهم الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحين بن علي بن أبي طالب الذي تتلمذ على يده كل من الإمام مالك والإمام أبي حنيفة – رحمهما الله – وتدعي أكثر الرافضة اليوم انتماء إلى الإمام جعفر زورا وكذبا وذلك لمعرفة فضله من قبل الناس كلهم والفرق جميعها. مع العلم أن القرابة لا تفيد شيئا وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود: 45 - 46]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ويا فاطمة بنت محمد خذي من مالي ما شئت فإني لا أغني عنك من الله شيئا)) (1). 2ـ توالي النكبات على آل البيت على يد خصومهم السياسين فقد نكبوا بالحسين بن علي رضي الله عنهما عام إحدى وستين أيام يزيد بن معاوية ونكبوا بزيد بن علي زين العابدين بن الحسين أيام هشام بن عبد الملك عام 112هـ ثم دارت الدائرة من بعده على ابنه يحيى عام 125هـ ثم فجعوا بـ (محمد بن عبدالله بن الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب) ذي النفس الزكية عام 145هـ أيام أبي جعفر المنصور وأصيبوا بأخيه إبراهيم الأمر الذي جعل ني يعطفون على آل البيت إذ إن النفس البشرية تميل إلى المنكوب ولو كان على خطأ إذ ينسى ما فعل وتبقى المصيبة تذكر وتتألم النفس البشرية. 3ـ كون إمام الشيعة الثاني عشر المزعوم (محمد المهدي) قد اختفى عام 265هـ حسبما أشاع (محمد بن نصير) (باب) الإمام الحادي عشر (الحسن العسكري) لما ادعى أنه سيخرج في آخر الزمان ليعيد العدل إلى الأرض بعد أن ملئت جورا وظلما وهكذا بقي الشيعة دون إمام وغدا كل امرئ يستطيع أن يدعي لنفسه الإمامة إذا رأى بمقدوره نجاح حركته وذلك بعد أن ينتسب إلى آل البيت وبخاصة من نسل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أن الشعبة الثانية من الشيعة وهي التي تنتمي إلى (إسماعيل بن جعفر الصادق) قد كتمت أئمتها بعد أن خافوا على أنفسهم من السلطة وكان أولهم (محمد المكتوم بن إسماعيل) الأمر الذي جعل الكثيرين يستطيعون الادعاء أنهم يعملون لآل البيت دون ذكر الإمام وبالإضافة إلى ذلك قد جعل إمكانية ادعاء النسب إلى إسماعيل بالذات أو إلى هذا الإمام المكتوم أمرا طبيعيا وفي هذه المدة دخلت إلى الشيعة أفكار غريبة من آراء الفلاسفة وعقائد المجوس والهندوك وغيرهم واتخذت الباطنية مبدأ لها.   (1) بهذا اللفظ غير وارد، لكن ورد بلفظ مقارب رواه البخاري (2753) ومسلم (206) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 232 4ـ أن أفكار الشيعة هي نفسها مجال اتخذها مظهرا للثورات والحركات المضادة للإسلام والمعادية له إذ يقول الشيعة بعصمة الأئمة فهم – حسب هذا المبدأ- لا يقعون في خطأ أبدا سواء أكان صغيرا أم كبيرا لذا فمدعي الإمامة لا يخطئ مطلقا فإذا وقع في خطأ صريح واضح أول على غير ذلك وفسر على غير ظاهره ومن هنا نشأت الباطنية وكان للنصوص الشريعة باطن غير ما يدل عليه الظاهر وتأويل ذلك لا يعلمه إلا الأئمة أنفسهم وأبوبهم وربما دعاتهم إذا حدثوهم بذلك وهذا يجعل كل ما كر يمكنه أن يخرج عن الإسلام ويوقد من وراءه لمحاربته وهو يدعيه ويقاتل باسمة وقد يكون هو جاهلا بالإسلام أصلا فإذا تصرف بما يخالفه ادعى وردد أبتاعه أن تصرفه هو الصحيح وأن المعروف لدى الناس ليس هو إلا الظاهر والذي يعرفه المغفلون كما نشأت فكرة شريعة وحقيقة وظاهر وباطن وما إلى ذلك مما يردده المخالفون ويوافقهم العوام والجهلة الذين يقعون بالشرك من غير معرفة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 233 اتخذ القرامطة فكرة التشيع ظاهرة عامة لهم وحملوا الإسماعيلية مبدأ لهم وبخاصة أن أتباعها كانوا قد نشطوا نشاطا ملموسا وعندما استطاعوا السيطرة وقوي أمرهم استقلوا بمناطقهم التي خضعت لهم وتركوا ما سبق أن دعوا له تارة يظهرون الارتباط وأخرى يبدون الاختلاف مع الدعوة الإسماعيلية بأمور طفيفة ثم انقسموا على أنفسهم رغبة بتفرد كل منهم بالأمر وجعله في أسر معينة ينتسبون إليها وهذا الانقسام كان يؤول بالقرب أو البعد من الإمام الإسماعيلي ونسب كل قسم إلى المنطقة التي قوي نفوذه فيها فيقال قرامطة العراق وقرامطة البحرين وقرامطة اليمن وغيرهم. لما كان المظهر السياسي الأولى للقرامطة هو مبدأ التشيع فلا بد من إعطاء فكرة بسيطة عن جماعة الشيعة والشيعة جماعة من الأمة وجدت في أواخر العهد الراشدي ورأت أن تنحصر الخلافة في علي بن أبي طالب وأبنائه من بعده بل وجدت أن هذا الحق إنما هو بأمر سبحانه وتعالى ونص منه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم إذ تحتج هذه الجماعة بحديث (غدير خم) فتقول لما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع التي كانت في السنة العاشرة للهجرة نزل في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة بـ (الجحفة) وهي بين مكة والمدينة وهناك جاءه الوحي بالآية الكريمة يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] وأن النبي صلى الله عليه وسلم صدع بأمر ربه وأمر بالصلاة حتى إذا انتهى منها خطب الناس وأخذ بيد ابن عمه علي بن أبي طالب فكان مما قاله في خطبته ((ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى يا رسول الله قال ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه قالوا بلى يا رسول الله قال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصهره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار)) (1) ولهذا لم تعترف جماعة منهم بإمامة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم على حيث تعترف جماعة أخرى وتقول مادام علي قد رضي عن إمامتهم فنحن نرضى ودليل رضائه أنه لم يخرج عليهم كما لم يرضوا جميعا بخلافة بني أمية وخلافة بني العباس وقاموا بحركات كثيرة ضد العهدين. هذا هو الخلاف الأولى بين جماعة الشيعة وسائر الأمة لم يختلفوا في ذلك عن سائر المسلمين ولكن بمرور الزمن أصبح هذا الخلاف أصلا من أصول العقيدة الشيعية وفرضا من فروض الدين عندهم وأساس المذهبية وعنه تفرعت مسائل أخرى وآراء جديدة تجمعت على مدى الأيام وتبلورت وكونت العقيدة الشيعية التي نعرفها اليوم. (2).   (1) رواه النسائي في ((الكبرى)) (5/ 136) وأحمد (1/ 119) (961) والطبراني (5066) والبزار (1/ 430) قال الهيثمي في ((المجمع)) (9/ 104) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة وهو ثقة، وصححه الألباني في ((الصحيحة)) (1730) وورد الحديث مختصرا أيضا من طرق أخرى. (2) ((طائفة الإسماعيلية)) محمد كامل حسين (ص: 4 - 5). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 234 رأت الشيعة أن تأخذ أمور دينها من أبناء علي حفدة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم أعلم من غيرهم بأمور دينهم ثم وجدوا أن يكون الابن الأكبر من أهل البيت هو الإمام وصاحب الحق الشرعي في ذلك ولا يمكن أن تنتقل الإمامة من الأخ إلى أخيه إلا في حاله واحدة هي انتقالها من الحسن بن علي إلى أخيه الحسين إذ يعدون أن الإمامة كانت مستودعة عند الحسن ومعنى الإمام أنه الخليفة أي أمير المؤمنين إذ لا فرق في الإسلام بين الدين والسياسة فليس من المعقول أن يكون الإنسان في المسجد متعبدا ويكون خارجه غاشا للناس أو كاذبا باسم السياسة أو دجالا من الدجالين باسم المصلحة أو التقية وليس في دياناتهم تشريعات للناس ولكن الدين للناس أنزل لذلك فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65] ثم تطورت فكرة الإمام عند الشيعة إلى اختيار أبرزهم في الحياة العامة وقد التفوا حول جعفر الصادق وعدوه إماما على الرغم من أنه لم يناد بنفسه إماما ولم يقم بثورة يطالب فيها بالحكم إلا أن الشيعة رتبوا فيما بعد لأنفسهم أئمة حسب هواهم وكانت على الشكل التالي علي بن أبي طالب (23ق. هـ - 40هـ) الحسن (3 - 50) الحسين زين العبادين (38 – 94) زيد الزيدية (79 – 122) محمد الباقر (57 - 114) جعفر الصادق (80 - 147) وكان جعفر الصادق رضي الله عنه صاحب رأي سديد وحكمة بالغة ولم تكن آراؤه لتختلف عن سائر المسلمين وقد دارت حولها كتابات من علماء الشيعة في القرن الرابع الهجري وما تلاه من قرون فغيرتها عن حقيقتها فتطورت هذه الآراء بمرور الزمن ونسبت إلى الصادق تعاليم وآراء لم يقل بها كما أدخل بعض الشيعة في تعاليمه آراء هي من تراث الأمم القديمة التي خضعت للمسلمين أو التي امتزجت مع المسلمين على نحو ما فكثرت الآراء واختلفت النزعات وتشعبت الأهواء وظهر عند بعض البيئات الشيعية ومغالاة في الآراء الدينية وبهذا ومنذ ذلك الزمن أصبح للشيعة عقيدة تختلف عن عقيدة أهل السنة وبخاصة فيما يتعلق بالأئمة وعصمتهم ومركزهم وتأويلاتهم والخضوع لهم. تفرقت الشيعة بعد جعفر الصادق إلى فرقتين بسبب الإمامة فالأكثرية تبعت موسى الكاظم بن جعفر الصادق وتتابعت بعده الأئمة حتى الإمام الثاني عشر وهو محمد المهدي الذي قيل إنه غاب واختفى في سرداب 265هـ ولهذا عرفت هذه الفرقة بالاثنى عشرية ويعتقد أتباعها أن هذا الإمام لا يزال حيا وينتظرون عودته ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا وقد اختفى هذا الإمام وهو صغير أو هكذا ادعى باب الإمام الحادي عشر حسن العسكري وهو محمد بن نصير مع العلم أنه من المعروف أن الحسن العسكري لم ينجب أولادا. تسلم أتباع هذه الفرقة حكم عدة مناطق وفي وقت واحد إلا أنهم بقوا متفرقني كما أن البويهيين هم من هذا الضرع وقد حكموا أمر بغداد إلا أنهم لم يعترفوا بأية دعوة شيعية أخرى غيرهم وقد كانت الحركة الإسماعيلية (1). نشطة آنذاك ولكنهم لم يعترفوا بها الأمر الذي جعلهم يحافظن على الخلافة العباسية ويبقون خلفاءها وهم من أهل السنة إذ استمروا رمزا للسلطة ولكنهم تحت سلطة البويهيين وإدارتهم. ومع غياب أئمة هذا الفرع فقد ضعف أمرهم وبقوا في المناطق التي وجدوا فيها يخضعون لحكامها وقد يتحركون أحيانا ولكن حركتهم لم تكن لتظهر ثمارها وهذا ما جعل بعضهم يسقطون صلاة الجمعة ما دام الإمام غير قائم بالأمر. المصدر: القرامطة لمحمود شاكر – ص: 28   (1) ((طائفة الإسماعيلية)) محمد كامل حسين (ص: 10). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 235 المبحث الثامن: الانتشار ومواقع النفوذ تمهيد لما كانت حركة القرامطة قد قامت في مناطق واسعة وفي عدة بقاع فقد نسب كل قسم إلى المنطقة التي قوي نفوذه فيها فيقال قرامطة اليمن وقرامطة البحرين وقرامطة العراق على الرغم من أن قيامهم كان في وقت واحد تقريبا وبعضهم على صلة ببعض ومع هذا فلم يؤلفوا حكومة واحدة تشمل البقاع التي سيطروا عليها كلها إذ لم تكن لهم مركزية في الحكم وما ذلك الاختلاف إلا بسبب الأطماع التي كانت في ذهن كل مجموعة منهم أو كل أسرة إذ لم يكن لهم هدف واحد معين يدعون له وكل ما جمعهم إنما هو الرغبة في اتباع الهوى وإرواء الغرائز ويجب ألا ننسى هدف المحركين الأساسيين من المجوس في تهديم الإسلام ولكن لا يمكن أن يستمر هذا التوافق بين القادة والأتباع إذ إن الأهداف المختلفة لا تلبث أن تظهر التباين ويظهر قادة جدد ينفصلون في بعض الجهات فتتجزأ الحركة الواحدة إلا أن التخطيط المجوسي يستطيع أن يستغل الطرفين حيث يسير الأتباع دون تخطيط ثم يكون الخلاف من جديد وهكذا. المصدر: القرامطة لمحمود شاكر – ص: 42 قرامطة اليمن إن أول حركة قامت للقرامطة كانت باليمن إذ استطاع (الحسين بن حوشب) الملقب بـ (منصور اليمن) أن يجمع حوله عددا من القبائل اليمنية وأن يظهر الدعوة بينهم باسم الإمام الإسماعيلي المنتظر وقد تمكن عام 266هـ أن يؤسس أول دولة إسماعيلية أو أن الحركة قد استطاعت أن تكسبه إلى صفوفها بعد نشاط حركتها وغياب الشيعة وكان من أكبر أعوانه (علي ابن الفضل) واستطاع ابن حوشب أن يقوم بنشاط خارج اليمن وأن يرسل الدعاة إلى عدة جهات وكان من بينهم (أبو عبدالله الشيعي) الذي أرسله إلى بلاد المغرب إذ اختارها لبعدها عن مركز الدولة العباسية ولسهولة إقناع البربر بفكرته وجلبهم إلى صفوف دعوته لجهلهم وسذاجتهم الدينية بالإضافة إلى أنهم أهل قوة وعصبية فعندما يكسب بعض زعماء قبيلة ما لا يلبث أن ينضم إليه أفراد القبيلة كافة ويتحمسون لدعوتهم واستطاع أبو عبدالله الشيعي أن يكسب إلى جانبه قبيلة (كتامة) التي حملت الفكرة وعملت لها وما إن صول خبر نجاح الدعوة في المغرب إلى السلمية حتى انتقل إليها (عبدالله المهدي) الذي وضع لنفسه نسبا فاطميا وتسمى بالمهدي فادعى أنه عبيد الله بن الحسين بن أحمد بن عبدالله بن محمد بن إسماعيل وتسلم الأمر ولكن لم يلبث أن اختلف مع داعيته أبي عبدالله الشيعي الذي لم يتعرف عليه إذ كان غير الذي رآه في السلمية واستطاع عبيد الله أن يتخلص من أبي عبدالله وفي الوقت نفسه تمكن من إخماد حركة قبيلة كتامة التي ارتبطت بالدعوة مع أبي عبدالله. واختلف ابن حوشب مع قائد جيشه علي بن الفضل الذي خرج عن الجادة وافتتن بالتفاف الناس حوله فحكم البلاد ودخل (زبيد) و (صنعاء) وادعى النبوة وأباح المحرمات وكان المؤذن في مجلسه (وأشهد أن علي بن الفضل رسول) (1). خذي الدف يا هذه والعبي ... وغني هزريك ثم اطربي تولى نبي بني هاشم ... وهذا نبي بني يعرب لكل نبي مضى شرعة ... وهذي شريعة هذا النبي فقد حط عنا فروض الصلاة ... وحط الصيام ولم يتعب إذا الناس صلوا فلا تنهضي ... وإن صوموا فكلي واشربي ولا تطلبي السعي عند الصفا ... ولا زورة القبر في يثرب (2). ثم امتد به عتوه فجعل يكتب إلى عماله (من باسط الأرض وداحيها ومزلزل الجبال ومرسيها علي بن الفضل إلى عبده فلان) ثم مات مسموما عام 303هـ (3). ولم تلبث دولة القرامطة في اليمن أن زالت. المصدر: القرامطة لمحمود شاكر – ص: 52 قرامطة العراق   (1) ((الأعلام)) للزركلي مادة علي بن الفضل. (2) ((إسلام بلا مذاهب)) مصطفى الشكعة (ص: 220). (3) ((الأعلام)) خير الدين الزركلي مادة علي بن الفضل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 236 كان جنوبي العراق مهد الشيعة الأول وأنصار هذه الفرقة كثيرون في هذه المنطقة وتلك الجهة قريبة من فارس مركز المجوس والجهل يخيم على تلك البقعة فيكم استغلال السكان وبخاصة الوافدين منهم – وما أكثرهم – والسير بهم حيث يريد المستغلون وعندما انقطعت الإمامة لدى الشيعة الإثنى عشرية كان المجال واسعا لانتشار الإسماعيلية والتحاق أعداد ليست قليلة بها من الشيعة وانضمام أفراد من السكان إلهيا باستمرار نتيجة الدعايات والعمل السري الدائم والتنظيم الدقيق والدعوة باسم الرضا من آل البيت وإذا كانت الحركة قد انتقلت بمركزها إلى (الأهواز) ثم إلى السلمية إلا أن جنوبي العراق قد بقي القاعدة الرئيسة للدعوة وبقعة النفوذ الأساسية لها. كان من الدعاة الإسماعيليين (مهرويه) أحد الذين يخفون عقيدتهم المجوسية وهو من أصل فارسي و (حسين الأهوازي) وهو من الفرس أيضا وربما كانت نسبته إلى (الأهواز) لإخفاء شخصية (حسين) الذي كان رسولا متنقلا لإمام الإسماعيلية وقد يكون على صلة وثيقة بصاحب الدعوة الأول وكثيرا ما كان أصحاب الدعوات الذين يريدون إخفاء شخصياتهم ينتسبون إلى هذه المنطقة لذا نلاحظ هذه النسبة كبيرة بين رجالات الإسماعيلية. كان عبدالله بن ميمون القداح رأس الدعوة الإسماعيلية وكان يريد أن يعمي على نفسه فوزع دعاته في الأمصار وبخاصة أبناءه حتى لا تتجه الأنظار إلى مقر إقامته فأرسل ابنه (أحمد) ليقيم في (الطالقان) من بلاد خراسان وطلب من دعاته أن يراسلوه إلى هناك كما أعلن عن موت ابنه (حسين) وعرف باسم (حسين الأهوازي) وربما كان هو بالذات حسين بن عبدالله بن ميمون القداح كما يقال إن حسين الأهوازي هو رسول الإمام أحمد بن عبدالله بن محمد بن إسماعيل وهنا يبدو تشابه الأسماء بين أسرة أحمد بن عبدالله بن محمد إسماعيل وأسرة أحمد بن عبدالله بن ميمون القداح ومن هنا جاء الاختلاف وادعاء النسب القداحي إلى آل البيت كما أنه شاع الإعلان عن موت الأشخاص ثم ظهورهم في مكان آخر باسم ثان وبخاصة عند الإسماعيليين الذين يعتقدون في الأصل أعلن عن موت ابنه إسماعيل وما هو كذلك وإنما انتقل سرا إلى السلمية. عرف (حسين الأهوازي) كداعية إسماعيلي في جنوب العراق بغض النظر عن نسبه وأصله وقد التقى مرة بـ (حمدان بن الأشعث) الذي عرف باسم (قرمط) وهو في طريقه إلى السلمية حسبما تدعيه الرواية القرمطية وقد استطاع (حسين) استمالة (حمدان) إلى دعوته وسار معه إلى قرته حيث بدأ العمل هناك بنشاط إذ أن حمدان كان صاحب علاقات اجتماعية كثيرة حيث كان ناقما على المجتمع وكثير الكلام على الأوضاع وكان المحيط الذي يعيش فيه حاقدا على الحكم العباسي فيستمع إلى من تعود على النقد فتوسعت الدعوة بحيث لم يعد أحد ينكر مركزها وترقى حمدان في سلمي الدعوى ووصل إلى مكان مرموق فيها وهناك من يقول إن أصل حمدان يعود إلى الفرس المجوس الذين يكثرون في ذلك الوسط ويخططون للعمل ضد الدولة ويعملون على تهديم الإسلام وهناك من يقول إن أصل حمدان يرجع إلى يهود نجران الذين كانوا يشبهون المجوس في الخطة والهدف وكثيرا ما عمل الفريقان في مخطط واحد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 237 في هذا الوقت كانت حركة الزنج قائمة في جنوبي العراق وقد سيطرت على مدينة البصرة وامتد نفوذها واستطاعت الانتصار على الجيوش العباسية في عدد من الوقائع رغب (حسين الأهوازي) أن يشارك في هذه الحركة كمرحلة من مراحل عمله إذ لا يستطيع وحده آنذاك أن يقوم بعمل مثمر والحركات الانتهازية دائما يستغل بعضها بعضا أو يركب بعضها طريق الآخر حتى إذا تم له ما يريد انفرد وحده فالغاية عندهم تبرر الواسطة فالتقى حسين الأهوازي بصاحب الزند عام 266هـ وعرض عليه المساعدة مادامت الغاية واحدة والوسيلة واحدة إلا أن صاحب الزنج قد عرف رغبة الأهوازي في سرقة الثورة فرفض المساعدة حيث كان الزنج في أوج القوة التي وصلت إليها حركتهم فلم يبالوا بالعون. لم تلبث حركة الزنج أن فشلت وقضى عليها العباسيون بعد أن عرفوا الأسباب التي دعت إليها فعندما حاولوا التخلص منها ودعوا إلى تطبيق الإسلام الذي يقضي عليها ووجد الدواء لها انفرط عقد الزنج وتخلص العباسيون من حركتهم عندما هدأت الأوضاع استطاع (حسين الأهوازي) أن يجدد نشاطه وأن يقنع أتباعه ويمنيهم بأنهم سيملكون الأرض وفرض دينارا على كل من أجابه لدعوته ليضمن نظمهم ووضع عنهم الصوم والصلاة والفرائض جميعا وأحل لهم أموال المخالفين لهم ودماءهم وأعراضهم ونظمهم تنظيما دقيقا إذ جعل منهم اثني عشر نقيبا وكان من أبرزهم (قرمط حمدان بن الأشعث). مات (الأهوازي) فخلفه في رئاسة الدعوة (القرمطي حمدان بن الأشعث) فابتنى لأتباعه دارا للهجرة في سواد الكوفة عام 277هـ وسار على طريقة أستاذه الأهوازي وهكذا أصبح للدعوة القرمطية يؤمونه وقاعدة يمكنهم الانطلاق منها اختار القرمطي دعاته وكان من أشهرهم ابن عمه وصهره (عبدان) وهو الذي نسبت إليه كثير من كتب القرامطة و (زكرويه بن مهرويه) الذي أخذ الدعوة عن أبيه كما ورث عنه ما كان يشغل باله في القضاء على الإسلام وتأسيس أسرة فارسية يعود إليها الحكم و (أبو الفوارس) الذي قاد ثورة القرامطة عام 289هـ. فرض القرمطي على أتباعه مبالغ عليهم أن يدفعوها وتصرف في هذه الأموال فجذب إليه الفقراء الذين قدم إليهم المساعدات واشترى السلاح فأخاف ني فالتحقوا بدعوته تخلصا من شره وطمعا في الغنائم التي مناهم بالحصول عليها من أموال المخالفين له وربما كان يعمل هذا القرمطي لنفسه أو أنه مقتنع بالعمل لإمامة الإسماعيلية الذين سيعملون بدورهم للغاية التي يعمل هو لها أو هكذا كان يظن. كان القرامطة دعاة للإسماعيلية ثم انحرفوا عنهم عندما علموا أن الدعوة في السلمية لم تعد لأولاد محمد بن إسماعيل وإنما لأولاد عبدالله بن ميمون القداح وأصبح الاختلاف واضحا بين الفريقين في الوسائل التي اتخذوها وفي العقائد التي غدت للقرامطة وعدهم الإسماعيلية ملاحدة. كان أتباع قرمط يتلقون التعليمات من السلمية ويسيرون حسبها بشكل دقيق ومنتظم وذات مرة أرسل قرمط رسوله إلى مقر الدعوة في السلمية والتقى الرسول هناك بصاحب الدعوة الأول وبينما كان الحديث يدور بينهما عن الإمام المنتظر إذ أجيب الرسول أن هذا الموضوع إنما هو خرافة والدعوة هي لأولاد عبدالله بن ميمون إذ ظن صاحب الدعوة الأول أن القرامطة قد التزموا بالخط تماما وأنهم أصبحوا مرتبطين به بشكل أكيد وقد آن له أن يفاتحهم بالأمر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 238 عاد الرسول إلى سواد الكوفة ونقل الخبر إلى (قرمط) الذي أدرك اللعبة وترك الصلة بالسلمية وبدأ العمل وحده منفردا ولنفسه وعندما حدث هذا التغير في طريقة (قرمط) حضر (أحمد بن عبدالله بن ميمون القداح) من (الطالقان) إلى الكوفة وهو كبير الدعاة للإسماعيلية وصلة الواصل بين السلمية ودعاتها فعاتب عبدان ابن عم قرمط وهو مفكر القرامطة عاتبه على السير على نهج خاص والعمل على انفراد وشق عصا الطاعة إلا أن عبدان قد عنفه وطرده من منطقة السواد إلا أن زكرويه بن مهرويه قد استقبله وتآمر الاثنان معا على قتل عبدان فثار أهل السواد حيث إن أكثرهم من أنصاره فخرج أحمد بن عبدالله بن ميمون القداح من تلك الجهات على غفلة من أهلها خائفا يترقب واختفى زكرويه وهنا يبدو اتفاق زكرويه والسلمية كمرحلة من مراحل العمل ولكن لأن كلا منهما يريد الاستقلال والعمل لنفسه ويبغي استغلال الطرف الآخر لمصلحته إذ أن زكرويه يريد أن يكسب السلمية مركز الدعوة إلى جانبه حتى يربح الأنصار ويبقى على رأس العمل والسلمية تريد ألا تخرج منطقة السواج من قبضتها وإنما تريد أن تحافظ على بعض الدعاة أمثال زكرويه الذي يمكنه كسب تأييد المجوس المتسترين كافة ودعم اليهود المادي ومع هذا الاتفاق المرحلي حرص كل طرف على كسب أنصار له في منطقة نفوذ الآخر ففي الوقت الذي حرصت فيه السلمية على وجود أعوان لها في جنوبي العراق رأى زكرويه أن بلاد الشام منطقة خصبة للعمل إذ إن ضعف الطولونيين يساعد على النشاط هناك بينما هو محصور في مخبئه في منطقة السواد خوفا من أنصار عبدان. يبدو أن هذا الانقسام قد حدث في أكثر من منطقة نتيجة نقل الإمامة من أبناء محمد بن إسماعيل إلى أبناء عبدالله بن ميمون القداح دون معرفة الأتباع والدعاة فأبو عبدالله الشيعي الداعية الإسماعيلي في المغرب كان قد حضر مرة إلى السلمية والتقى بالإمام أو قدم إلى شخص عرف بأنه الإمام فلما نجح في دعوته في المغرب بين أفراد قبيلة كتامة وانتقل إليه عبيد الله المهدي على أنه الإمام رأى أنه غير الذي عرفه بالسلمية فأراد أن ينفصل عنه ويقوم ضده إلا أن عبيد الله قد عرف ذلك منه فقتله وقامت قبيلة كتامة تنصر داعيتها ولكن عبيد الله كان قد قويت جذوره فاستطاع إخماد ثورة كتامة وإطفاء تلك الفكرة التي شاعت بين الناس وعرف علي بن الفضل قرمطي اليمن الذي حدث في هذا الاختلاف فانفصل كذلك عن الدعوة القائمة في السلمية وبقيت حركته منفصلة عن غيرها في منطقة وحدها. نقل زكرويه بن مهرويه نشاطه إلى بلاد الشام فأرسل ابنه الحسين إلى هناك عام 288هـ ومهد هذا ليحيى بن زكرويه كي يقوم بحركته في تلك الجهات كان زكرويه بن مهرويه وأبوه من قبل وأبناؤه من بعد يرغبون في أن يتزعموا الحركة المناهضة وأنه تكون لهم الدعوة التي يجب أن تسير حسب عقائدهم القديمة وآرائهم الخاصة ويبدو هذا من خلافهم مع عبدان فعلى الرغم من أنهم كانوا من قادة الحركة ودعاتها الكبار إلا أنهم رأوا عبدان وحمدان وأنصارهم هم أصحاب السلطة الأوائل ورجال الدعوة المحركين لها لذلك تخلصوا نهم وبدا لهم أن يبقوا على صلة مع السلمية ليستمر الدعم لهم سواء أكان من الناحية المادية أم من الناحية العسكرية ثم عادوا فاختلفوا مع السلمية عندما قوي مركزهم في بلاد الشام ونكلوا بآل المهدي عبيد الله الدعي لآل البيت وبآل البيت فعلا ثم ادعوا نسبا علويا حتى لا يفقدوا كل شيء يجعل منهم سادة تتجه نحوهم النظار ويقوي مركزهم بين ألئك الأتباع السذج الذين يسيرون وراء كل دعي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 239 بايع أتباع زكرويه ابنه يحيى في سواد الكوفة عام 289هـ ولقبوه الشيخ كما كان يعرف أبو القاسم على حيث بقي أبوه زكرويه في مخبئه ويبدو أن يحيى هذا هو الذي قتل عبدان داعية القرامطة الأول. ادعى يحيى نسبا إسماعيليا فزعم أنه محمد بن عبدالله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وسار يحيى إلى دمشق بعد أن انتهب وانتهك حرمات البلاد التي مر عليها كلها وحاصرها عام 290هـ إلا أنه عجز عن فتحها إذ جاءتها نجدات من بغداد ومن مصر ولما عرف أنه مقتول لا محالة ادعى أنه سيطلع إلى السماء غدا وأنه سيبقى فيها أربعين يوما ثم يعود وأن أخاه الحسن سيأتي غدا في نجدة وكان قد بلغه ذلك فعليهم مبايعته والقتال معه والسير وراءه وفي معركة اليوم التالي قتل يحيى بن زكرويه على أبواب دمشق وعرف باسم صاحب الجمل حيث كان يمتطي جملا خاصا. اجتمع القرامطة على الحسين زكرويه فادعى نسبا إسماعيليا وأنه أحمد بن عبدالله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ووضع شامة على وجهه لذا عرف باسم صاحب الخال أو أبو شامة وقال إنها آية لما يتم على يديه وزعم أنه قادر على القيام بمعجزات خرج الحسين في جهات الكوفة وسار نحو أخيه إلى دمشق ومر في طريقه على الرملة غربي بيت المقدس وكان عبيد الله المهدي مختبئا فيها في طريقه إلى المغرب خوفا من العباسيين الذي عرفوا مكانه بالسلمية وقد عرف الحسين مكان عبيد الله وعرف اختلاف القرامطة فعرج عليه لاسترضائه وإظهار الطاعة عسى أنه يستفيد منه وقد أبدى عبيد الله رضاءه ولكن ما إن تركه الحسين حتى خافه وخشي أن يقتله أو يخبر العباسيين بمكان وجوده إذ عرف رغبة أسرته في التفرد بالسلطة والرغبة في السيطرة والقضاء على كل من يقف في وجهها ومن جملتهم عبيد الله لذا فقد ترك الرملة مباشرة واتجه إلى مصر ومنها إلى المغرب حيث أقام دولته هناك. سار الحسين من الرملة إلى دمشق فوجد أخاه يحيى قد قتل فالتف القرامطة حوله وحاصر بهم دمشق ولكنه عجز عن فتحها فطلبه أهل حمص فسار إليهم فأطاعوه ثم انتقل إلى السلمية فامتنعت عنه ثم فتحت له أبوابها بعد أن أعطى أهلها الأمان وما عن دخلت حتى نكل بقاطنيها فأحرق دورها وهدم القلاع فيها وقتل الهاشميين فيها دلالة على الحقد الذي في صدور القرامطة على آل البيت وإن ادعوا نسبا يتصل بهم وإظهارا لكراهيتهم للإسلام الذي قضى على المجوسية في فارس وكان الهاشميون قد قادوا الدعوة للإسلام ثم قتل آل عبيد الله المهدي جميعا دلالة على الخلاف بينهم على الرغم من أصول الدعوة الواحدة إذ أن كلا الأسرتين تريدان الزعامة والاحتفاظ بالدعوة وبالتالي التمكين لنفسها وبخاصة أن عبيد الله المهدي كان قد رفض إعطاء آل زكرويه مراكز هامة في الدعوة لما يتحسس منهم ويشعر عما في نفوسهم لذا نقموا عليه وبدأ الخلاف بين الطرفين وعندما التقى الحسين بالإمام عبيد الله المهدي في الرملة أظهر عبيد الله الإيجاب وأنه يحسن الظن بآل زكرويه وذلك حتى لا يضروه فهو غير قادر على مقاومتهم في بلاد الشام ولا يملك من القوة إلا القليل من الأتباع الذين لا يستطيعون الدفاع عنه إضافة إلى أنه يخشى على أهله في السلمية وقد غادرها وذلك إذا تمكن آل زكرويه من السيطرة عليها وهذا ما قد وقع. سار الحسين بقرامطته إلى حماة والمعرة وبعلبك وقتل أهل كل بلد وصل إليها وأغارت جماعته على جهات حلب ولكنهم غلبوا لذا عادوا فاتجهوا إلى جهات الكوفة مقرهم الأصلي وهناك قاتلهم الخليفة العباسي المكتفي فوقع الحسين بن زكرويه أسيرا فحمل إلى بغداد حيث قتل وصلب فيها عام 291هـ وهكذا انفصلت دعوة آل زكرويه القرمطية عن دعوة عبيد الله القداحية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 240 وعندما قتل أولاد زكرويه خرج أبوهم من مخبئه الذي اختفى فيه مدة تقرب من ثلاث سنوات وعندما ظهر للناس سجد له أتباعه المقربون من الذين يبطنون المجوسية وهذا دليل على تأليه القرامطة لدعاتهم فأرسل زكرويه أتباعه إلى بلاد الشام فأمعنوا في القتل واعترض طرق القوافل والحجاج وارتكبوا من الفواحش ما يصعب وصفه وحاصروا مدينة دمشق ولكنهم عجزوا عن فتحها وأخيرا هزم زكرويه وقتل عام 301هـ بعد أن عاث في الأرض الفساد وتشتت أتباعه فمنهم من انتقل إلى البحرين الذين تجمعهم بهم رابطة الفكر ومنهم من اختفى ثم تحالف مع القبائل الضاربة في البوادي والقفار أو سار إلى أماكن نائية حيث ضاع فعله وعاش في عداد السكان الآخرين. المصدر: القرامطة لمحمود شاكر – ص:55 قرامطة البحرين إن أول ما عرفت فكرة القرامطة في البحرين وإن لم تسم بهذا الاسم إذ لم يكن حمدان بن الأشعث القرمطي قد عرف بعد وأصبح رأس جماعة نسبت إليه أول ما عرفت تلك الفكرة كانت على يد شخص نزل البحرين وأعطى نفسه اسم يحيى بن المهدي فأظهر التشيع في بداية الأمر ثم أعلن أنه المهدي المنتظر فظهر أمره وأجابه عدد كبير إذ انضم إليه السوقة ومن ساءت حالتهم المعاشية وعدد من الشباب الذي أغراهم بالنساء التي جعلها مباحة بينهم كما مناهم بالمال وامتلاك الأرض وهيأ لهم طريق الشهرة بالقوة التي أظهرها إذ زاد عددهم وبدا لهم أنهم أصبحوا جماعة يخشى جانبها وكانت الدولة العباسية قد بدأت في مراحل ضعفها وشغلت بمشكلاتها الكثيرة والجنود هم الذين يسيطرون عليها ولا يهمهم سوى مصلحتهم الخاصة وتأمين أهوائهم والسير وراءها والناس في ترف فكري أشغلهم علم الكلام وزاد ترفهم القعود عن الجهاد وإهمال الحكم لهم لذا كان العوام يسيرون وراء كل من يحقق لهم مصالحهم أو يدعي أنه يعمل لذلك. وكان من الذين اتبعوا يحيى بن المهدي رجل اشتهر أمره كثيرا وهو الحسن بن بهرام الذي عرف باسم أبو سعيد الجنابي ويعود في أصله إلى فارس أيضا فهو من أهل (جنّابا) قرب سيراف وقد نزل البحرين منفيا من بلاده ويعمل بالفراء وينتقل من البحرين إلى سواد الكوفة وصحب عبدان أو حمدان وتأثر به وعندما عاد إلى منطقته بدأ يدعو إلى القرامطة كأنصار لرفاقهم في جنوبي العراق وعندما تجمع حوله عدد من الاتباع بدأ يعيث ورفاقه في الأرض الفساد فقتلوا وسبوا في بلاد هجر كثيرا عام 286هـ إذ قتل من حوله من أهل القرى ثم سار إلى القطيف فقتل من بها وأظهر أنه يريد البصرة فجهز إليهم الخليفة العباسي جيشا كثيفا جعل عليه العباس بن عمر الغنوي فانتصر عليه القرامطة وأسروا الجيش كله واستمر نشاطهم حتى عام 301هـ حيث قتل أبو سعيد الجنابي على يد خادمه بالحمام خارج الحمام وهمس في أذن رجل عظيم من رؤسائهم فقتله وخرج ودعا آخر من عظمائهم وفعل معه فعلته الأولى إلى أربعة منهم فلما استدعى الخامس فطعن لذلك فمسك يد الخادم وصاح فاجتمع النساء والرجال وحصل بينهم وبين الخادم مناظرات وقتلوه (1).   (1) ((تاريخ أخبار القرامطة)) لابن سنان تحقيق سهيل زكار (ص: 36) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 241 وعندما قاموا بحركاتهم وإنما اقتصروا على عملهم منفردين كدعوة خاصة لذا فهم أولى من غيرهم بالنسبة إلى حمدان قرمط كان أبو سعيد الجنابي قد عهد من بعده لابنه الأكبر سليمان الذي يكنى بأبي طاهر دخل أبو طاهر البصرة عام 311هـ في ألفين وسبعمائه رجل فقتل القرمطي من أهلها خلقا كثيرا وبقي فيها ثمانية عشر يوما يحمل منها ما يقدر على حمله من الأموال والأمتعة والنساء والصبيان ثم رجع إلى بلده وقطع عام 312هـ على الحجاج طريق عودتهم فأخذ منهم أزوادهم وأمتعتهم وترك من بقي منهم بلا ماء ولا طعام فمات أكثرهم ثم دخل الكوفة عام 313هـ وبقي فيها ستة أيام نقل خلالها أكثر ما فيها ثم عاد ودخلها في العام التالي وفعل فيها ما فعله في عامه السابق كما استولى على مدينة الأنبار وعين التمر. هجم القرمطي أبو طاهر عام 317هـ على الحجاج يوم التروية 8 ذي الحجة في منى ونهب أموال الحجيج وقتل الحجاج حتى في المسجد الحرام وفي البيت نفسه ورمى القتلى في بئر زمزم حتى امتلأت بالجثث وخلع باب الكعبة ووقف يلعب بسيفه على بابها وخلع الحجر الأسود وأخذه معه إلى بلده هجر. واختلف بعض القرامطة مع بعض عام 326هـ إلا أن أبا طاهر قد استطاع الحفاظ على وضعه وتخلص من خصومه وهذا ما جعلهم يتمسكون في منطقتهم ويحافظون عليها ويمكثون فيها مدة ويتركون الفساد في الأرض وقطع الحجاج والقوافل. وفي عام 332هـ مات أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي زعيم القرامطة فخلفه إخوته الثلاثة سعيد أبو القاسم وأحمد أبو العباس ويوسف أبو يعقوب وكانت كلمتهم متفقة وفي عام 339هـ رد القرامطة الحجر الأسود إلى مكانه بعد أن بقي اثنين وعشرين عاما. امتد نفوذ قرامطة البحرين إلى نجد وكانت الدولة الأخيضرية هناك تحت إشرافهم كما أخضعوا الحجاز لهم ووصلوا إلى بلاد الشام عام 357هـ وكان أمرهم آنذاك إلى الحسن بن الحسن بن بهرام وقد دخل دمشق وولي عليها وشاح السلمي ثم عادوا إليها عام 360هـ وسار القرمطي إلى الرملة ومنها اتجه نحو القاهرة إلا أن جوهر الصقلي قد ردهم عنها وأخذ منهم دمشق وكانوا من قبل يمالئون الفاطميين إنما الذين أمروهم برد الحجر الأسود إلى مكانه بعد أن ساءت سمعتهم كثيرا في العالم الإسلامي ولحق الفاطميين في المغرب شيء من سوء تصرفهم. مات الحسن الأعصم عام 366هـ وقام على أمر القرامطة من بعده ابن عمه جعفر بن الحسن بهرام وبدأ وضع القرامطة يضعف تدريجيا ولولا ضعف الدولة العباسية لا تنتهي أمرهم منذ منتصف القرن الرابع الهجري إلا أن التفكك الذي أصاب الدولة قد جعل أمرهم يطول ولكن أوضاعهم كانت مهلهلة والمناطق التي سيطروا عليها قد تجزأت وقام في النهاية بالبحرين أحد زعماء قبيلة بني عبد القيس المشهورة وهو عبدالله بن علي العيوني فاستعان الخليفة العباسي القائم بأمر الله وقد وجد تجاوبا كبيرا في نفسه لما يعلمه من أعمال القرامطة وتاريخهم الحافل بالفساد كما استعان بالسلطان السلجوقي (ملكشاه) الذي وجد عنده التجاوب نفسه بل كان هذا ضمن مخططه وجاءت القوات العباسية وساعدت عبدالله بن علي العيوني وقضت على القرامطة نهائيا وذلك عام 467هـ وزالوا نهائيا. المصدر: القرامطة لمحمود شاكر – ص:66 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 242 المطلب الأول: على الصعيد السياسي من المعلوم أن القرامطة فرقة سياسية وحركة عسكرية؛ لم تكن دولة بالمعنى الصحيح، ولكنها كانت كياناً منظماً يعتمد على البدو، ويستطيع إقلاق راحة الدول المجاورة، ويعتمد في حياته على الغارات التي يشنها على البلاد المجاورة ويغنم منها وتعود جيوشه إلى مركزها في الأحساء والبحرين. على أن القرامطة كانوا أعداء ألداء للدولة العباسية؛ لأنها كانت دولة سنية تقف بالمرصاد لغلاة الشيعة من الباطنية. أما علاقتهم مع الفاطميين أو العبيديين فكانت علاقة مذهبية في أول الأمر. ولما أصبح العبيديون حكام مصر انقلب عليهم القرامطة وأخذوا يشنون الغارات على مصر والشام. وهذا الموقف لا ينبغي أن ينسينا أن الحزب الواحد يتمزق ويرمى أفراده بعضُهم بعضاً بأقسى التهم وأشنعها، ومردُّ ذلك إلى التنافس على السلطة؛ فالملك عقوق عقيم، والإنسان في السلطة هو غيره في الواقع النظري، ومقتضيات السياسة شيء ومقتضيات المثل والمبادئ شيء آخر، لا سيما في الكيانات التي اتخذت الدنيا غاية تتصارع على حطامها ومتاعها. لكنْ رغم ذلك لم تنقطع العلاقات بالكلية بين العبيديين والقرامطة؛ إذ ظل أولئك يمارسون نوعاً من الضغط والتأثير على هؤلاء؛ فعندما أغار القرامطة على مكة وسرقوا الحجر الأسود وأخذوه إلى الأحساء بقي هناك حتى أعادوه بواسطة الحاكم العبيدي عبيد الله المهدي. لقد ظلت الدعوة القرمطية تنشط في السر إلى أن جاء أبو سعيد الجنابي، الحسينُ بن بهرام، من جنابة ببلاد فارس، فأقام في البحرين تاجراً، ثم جعل يدعو الناس إلى نِحْلته الفاسدة، فانتشرت في البحرين، كما أنشأ لها فرعاً كبيراً في الأحساء، وتبعها فئام من الناس. وحين ظهر أمر أبي سعيد وقوي صيته قاتل بمن أطاعه مَنْ عصاه، فنزل الأحساء، ثم حاصر القطيف، وحاصر هجر عاصمة البحرين آنذاك شهوراً يقاتل أهلها، فاستولى عليها، وقتل كثيراً من الناس، وخرب المساجد وأحرق المصاحف، وفتك بالحُجاج وهاجم قوافلهم. ثم خلفه ابنه سعيد الذي سلم الأمر إلى أخيه أبي طاهر بعد ذلك، فسار هذا الأخير من البحرين، وخرب منازل الحاج وقد كانت في الأمن والعمارة كالأسواق القائمة، وأغار على مكة، وقتل وسلب ونهب، وأثخن في المسلمين. وتذكر المصادر أن قتلاه أكثر من قتلى بابك وصاحب الزنج. وقد ملك القرامطة كثيراً من البلدان هي: البحرين، والأحساء، والقطيف، واليمن، وعمان، وبلاد الشام، وجنوب العراق، وحاولوا احتلال مصر، لكن محاولتهم باءت بالفشل. أما كيانهم السياسي فكان يحكمه شخص واحد هو أبو سعيد الجنابي، يعاونه في الحكم مجلس مؤلف من أتباعه المقربين، وممن تربطه بهم رابطة العقيدة القرمطية والنسب. ويذكر ابن حوقل بعض الأفراد ووظائفهم. ولما توفي أبو سعيد الجنابي انتقلت الحكومة إلى مجلس شورى مؤلف من ستة دعاة ينظرون في القضايا والمسائل المختلفة، ويصدرون أوامرهم بالاتفاق، ولهم ستة وزراء. المصدر: القرامطة في الخليج العربي مقال لمحمد أمحزون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 243 المطلب الثاني: على الصعيد الاجتماعي في هذا المجال: يرى ارتباطهم بمذهب مزدك الذي كان يحل النساء ويبيح الأموال، ويجعل الناس شركاء فيهما كاشتراكهم في الماء والكلأ والنار، بذريعة استئصال أسباب المباغضة بين الناس؛ لأن ما يقع ـ في زعمهم ـ من المخالفة والبغضاء إنما هو بسبب النساء والأموال. والثغرة الخطيرة في كيان القرامطة هي مشكلة الرقيق؛ ذلك أنهم احتفظوا بنظام الرقيق وجعلوه أداة للإنتاج، وقامت دولتهم من حيث الواقع على طبقتين اجتماعيتين، الأولى: الأحرار وجلهم من المقاتلين الأعراب، والثانية: العبيد؛ إذ كان لهم في ذلك الوقت ثلاثون ألف زنجي وحبشي يشتغلون بالزراعة وفلاحة البساتين. وهذا الوضع يصطدم مع العدالة والمساواة التي كانوا ينادون بها. على أن مبدأهم ـ الذي يجعل ما يأخذه الفرد يتناسب وحاجتَه، بينما جعل مركزه الاجتماعي يتناسب وقدرتَه على خدمة الجموع ـ يذهب أدراج الرياح ويفقد مصداقيته على أرض الواقع. وقد دفع هذا التناقص، بين الواقع الاجتماعي والبنية الفكرية للقرامطة، بعض الباحثين إلى القول بأن دولة القرامطة لم تكن دولة اشتراكية، وإنما كانت دولة تطبق رأسمالية الدولة (دولة المحاربين)، بينما صنفها آخرون دولة اشتراكية، بينما ذهب فريق ثالث إلى أن دولة القرامطة في البحرين والأحساء قامت في منطقة خضعت دائماً للتأثير الفارسي في الإقطاع الساساني الذي عرف بنظام إقطاعيات الفرسان. المصدر: القرامطة في الخليج العربي مقال لمحمد أمحزون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 244 المطلب الثالث: على الصعيد الديني في مجال التدين يروى أن أبا سعيد أعفى أتباعه من الصلاة والصوم، وأصبح مرجعهم في كل شيء، ولذلك حين يُسألون عن مذهبهم يقولون: (إنا أبو سعيديون). وليس بمدينة الأحساء ـ آنذاك ـ مسجد جمعة، ولا تقام بها صلاة أو خطبة. ويؤمن القرامطة بالرجعة؛ لذا كانوا قد وضعوا على باب قبر أبي سعيد حصاناً مهيأ بعناية، عليه طوق ولجام، يقف بصفة مستمرة، معتقدين أن أبا سعيد سيركبه حين يرجع إلى الدنيا. وحين أغاروا على مكة في موسم الحج انتزعوا الحجر الأسود من مكانه ونقلوه إلى الأحساء، زاعمين أنه مغناطيس يجذب الناس إليه من أطراف العالم، وفي عاصمتهم الأحساء ـ آنذاك ـ تباع لحوم الحيوانات كلها؛ الحلال والمحرمة: من قطط وكلاب وحمير وبقر وخراف وغيرها. ويسمنون الكلاب كما تعلف الخراف، ثم يذبحونها ويبيعونها لحماً. وفي موقفهم هذا إشارة إلى استباحة المحظورات وعدم انقيادهم للشرع في مسائل الأحكام. المصدر: القرامطة في الخليج العربي مقال لمحمد أمحزون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 245 المبحث العاشر: أتباعهم فإن قال قائل: مثل هذه الاعتقادات الركيكة، والحديث الفارغ، كيف يخفى على من يتبعهم؟ ونحن نرى أتباعهم خلقا كثيرا؟ فالجواب: أن أتباعهم أصناف: (1) فمنهم قوم ضعفت عقولهم، وقلت بصائرهم، وغلبت عليهم البلادة والبله، ولم يعرفوا شيئا من العلوم، كأهل السواد والأكراد وجفاة الأعاجم وسفهاء الأحداث، فلا يستبعد ضلال هؤلاء، فقد كان خلق ينحتون الأصنام ويعبدونها. (2) ومن أتباعهم طائفة انقطعت دولة أسلافهم بدولة الإسلام، كأبناء الأكاسرة، والدهاقين وأولاد المجوس، فهؤلاء موتورون قد استكن الحقد في صدورهم، فهو كالداء الدفين فإذا حركته تخاييل المبطلين اشتعلت نيرانه. (3) ومن أتباعهم قوم لهم تطلع إلى التسلط والاستيلاء ولكن الزمان لا يساعدهم، فإذا رأوا طريق الظفر بمقاصدهم سارعوا. (4) ومن أتباعهم قوم جبلوا على حب التميز عن العوام، فزعموا أنهم يطلبون الحقائق، وأن أكثر الخلق كالبهائم، وكل ذلك لحب النادر الغريب. (5) ومن أتباعهم ملحدة الفلاسفة والثنوية الذين اعتقدوا الشرائع نواميس مؤلفة، والمعجزات مخاريق مزخرفة، فإذا رأوا من يعطيهم شيئا من أغراضهم مالوا إليه. (6) ومن أتباعهم قوم مالوا إلى عاجل اللذات، ولم يكن لهم علم ولا دين، فإذا صادفوا من يرفع عنهم الحجر مالوا إليه، على أن هؤلاء القوم لا يكشفون أمرهم إلا بالتدرج على قدر طمعهم في الشخص. وقد نبغ فيهم قوم فأظهروا إمامة محمد بن الحنفية وقالوا: إن روح محمد انتقلت إليه، ثم انتقلت منه إلى أبي مسلم صاحب الدعوة، ثم إلى المهدي، ثم إلى رجل يعرف بابن القصري ثم خمدت نارهم. ثم نبغ لهم في أيام المأمون رجل فاحتال فلم تنفذ حيلته، ثم تناصروا في أيام المعتصم، وكاتبوا الإفشين – وهو رئيس الأعاجم - فمال إليهم، واجتمعوا مع بابك ثم زاد جمعهم على الثلاثمائة ألف، فقتل المعتصم منهم ستين ألفا وقتل الإفشين أيضا، ثم ركدت دولتهم، ثم نبغ منهم جماعة وفيهم رجل من ولد بهرام جور، وقصدوا إبطال الإسلام، ورد الدولة الفارسية، وأخذوا يحتالون في تضعيف قلوب المؤمنين، وأظهروا مذهب الإمامية، وبعضهم مذهب الفلاسفة. وجعل لهم رأس يعرف بعبد الله بن ميمون بن عمرو، ويقال ابن ديصان، القداح الأهوازي. وكان مشعبذا ممخرقا، وكان معظم مخرقته بإظهار الزهد والورع، وأن الأرض تطوى له. وكان يبعث خواص أصحابه إلى الأطراف معهم طير ويأمرهم أن يكتبوا له بالأخبار عن الأباعد، ثم يحدث الناس بذلك، فيقوى شبههم. وكانوا يقولون: إن المتقدمين منهم يستخلفون عند الموت، وكلهم خلفاء محمد بن إسماعيل بن جعفر الطالبي، وإن من الدعاة إلى الإمام معد بن تميم وابنه إسماعيل، وهم المتغلبون على بلاد المغرب. ومن استجاب لهم عرفوه أنه إن عمل ما يرضيهم صار إماما ونبيا، وأنه يرتقي المبتدئ منهم إلى الدعوة ثم إلى أن يكون حجة، ثم إلى الإمامة، ثم يلحق مرتبة الرسل، ثم يتحد بالرب فيصير ربّا. ولا يجوز لأحد أن يحجب امرأته عن إخوانه. المصدر: القرامطة لابن الجوزي – ص 66 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 246 المبحث الحادي عشر: أقوال العلماء في كفر القرامطة قال شيخ الإسلام مبينا كفر القرامطة: "وأما هؤلاء القرامطة فإنهم في الباطن كافرون بجميع كتب والرسل, ويخفون ذلك ويكتمونه عن غير من يثقون به, لا يظهرونه كما يظهر أهل الكتاب دينهم" ثم يقول شيخ الإسلام بعد عرضه لعقائدهم: "فكيف بالقرامطة الباطنية الذين يكفرهم أهل الملل كلها من المسلمين واليهود والنصارى" (1).وقال أيضا: "فهؤلاء القرامطة في الباطن والحقيقة أنهم أكفر من اليهود والنصارى وأما في الظاهر فيدعون الإسلام" (2).ويقارن شيخ الإسلام بين القرامطة وبين من يدعي أنه مثل الرسول: "فهؤلاء في دعواهم أنهم مثل الرسول هم أكفر من اليهود والنصارى فكيف بالقرامطة الذين يكذبون على الله أعظم مما فعله مسيلمة وألحدوا في أسماء الله وآياته أعظم مما فعل مسيلمة" (3).يوضح شيخ الإسلام أن كفر القرامطة أعظم من القائلين بالاتحاد: "ولكن القرامطة أكفر من الاتحادية بكثير" (4).وقال: "وهؤلاء يشهد علماء الأمة وأئمتها وجماهيرها أنهم كانوا منافقين زنادقة يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر" (5).وقال مبينا كفر طوائف الباطنية ومنهم القرامطة: "وهؤلاء (بنو عبيد القداح) ما زال علماء الأمة المؤمنون علما ودينا يقدحون في نسبهم ودينهم ولا يذمونهم بالرفض والتشيع فإن لهم في هذا شركاء كثيرين بل يجعلونهم من (القرامطة الباطنية) الذين منهم الإسماعيلية الخرمية المحمرة, وأمثالهم من الكفار المنافقين" (6).وقال مبينا كفر العبيديين والقرامطة ومخالفتهم للملل الثلاث: "كما فعل أصحاب رسائل إخوان الصفا, وهم على طريقة هؤلاء العبيديين ذرية عبيد بن ميمون القداح فهل ينكر أحد ممن يعرف المسلمين أن ما يقوله أصحاب رسائل إخوان الصفا مخالف للمل الثلاث" (7).وقال مبينا كفر القرامطة وردتهم أعظم من كفر وردة مسيلمة الكذاب وأتباعه: "والقرامطة الخارجين بأرض العراق الذين كانوا سلفا لهؤلاء القرامطة ذهبوا من العراق إلى المغرب, ثم جاءوا من المغرب إلى مصر فإن كفر هؤلاء وردتهم من أعظم الكفر والردة, وهم أعظم كفرا وردة من كفر أتباع مسيلمة الكذاب ونحوه من الكذابين" (8).وقال مبينا كفر فرق الباطنية كالنصيرية والقرامطة: "وهؤلاء القوم المسمون بالنصيرية, وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى, بل وأكفر من كثير من المشركين" (9). المصدر: ضوابط تكفير المعين عند شيخي الإسلام ابن تيمية وابن عبد الوهاب – ص335 قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن شر طوائف المجوس الذين لا يقرون بصانع ولا معاد ولا حلال ولا حرام، الخرمية أصحاب بابك الخرمي، وعلى مذهبهم طوائف القرامطة والإسماعيلية والنصيرية والدرزية، وسائر العبيدية الذين يسمون أنفسهم الفاطمية، وهم من أكفر الكفار، وهؤلاء لا يتقيدون بدين من ديانات العالم، ولا بشريعة من الشرائع. المصدر: إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن القيم – 2/ 247   (1) ((مجموع الفتاوى)) (35/ 141). (2) ((مجموع الفتاوى)) (35/ 142). (3) ((مجموع الفتاوى)) (35/ 143 - 144). (4) ((مجموع الفتاوى)) (35/ 144). (5) ((مجموع الفتاوى)) (35/ 128). (6) ((مجموع الفتاوى)) (35/ 131). (7) ((مجموع الفتاوى)) (35/ 134). (8) ((مجموع الفتاوى)) (35/ 139). (9) ((مجموع الفتاوى)) (35/ 149). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 247 المبحث الأول: التعريف بطائفة النصيرية النصيرية حركة باطنية ظهرت في القرن الثالث للهجرة، أصحابها يعدُّون من غلاة الشيعة الذين زعموا وجوداً إلهيًّا في علي وألهوه به، مقصدهم هدم الإسلام ونقض عراه، وهم مع كل غاز لأرض المسلمين، ولقد أطلق عليهم الاستعمار الفرنسي لسوريا اسم العلويين تمويهاً وتغطية لحقيقتهم الرافضية والباطنية. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 248 المبحث الثاني: زعيمهم وسبب انفصاله عن الشيعة وموقفهم منه تنتسب هذه الطائفة إلى زعيمهم محمد بن نصير النميري، وكنيته أبو شعيب، وكان من الشيعة الاثني عشرية، وأصله من فارس، ثم انفصل عنهم إثر نزاع بينه وبينهم على ثبوت صفة الباب له، حيث ادعى أنه الباب إلى المهدي المنتظر فلم تقرّ له الإمامية بذلك فانفصل عنهم وكوّن له طائفة وقد ظل زعيماً لطائفته إلى أن هلك سنة 260هـ، وبعضهم يذكر أنه في سنة 270هـ وقد كان فيما يقول علماء الفرق - مولى للحسن العسكري- الإمام الحادي عشر للشيعة الاثني عشرية- ولقد كان للحسن العسكري موقف شديد منه ومن آرائه الكفرية. لقد صار ابن نصير داخلاً في قسم كل نصيري، وهو قسم مملوء بالشرك والإلحاد، وهو يشير بكلمات موجزة إلى ديانتهم وما فيها من الاعتقادات، لا يعرفها إلا من توسع في دراسة هذه الطائفة ووقف على مخازيهم بمداخلته لهم، وهذا القسم هو كما يأتي: (أني وحق العلي الأعلى وما أعتقده في المظهر الأسنى، وحق النور وما نشأ منه، والسحاب وساكنه، وإلا برئت من مولاي عليّ العلي العظيم وولائي له ومظاهر الحق، وكشفت حجاب سلمان بغير إذن وبرئت من دعوة الحجة ابن نصير، وخضت مع الخائضين في لعن ابن ملجم، وكفرت بالخطاب - أي بالديانة والدعوة- وأذعت السر المصون وأنكرت دعوى أهل الحق، وإلا قلعت أصل شجرة العنب من الأرض بيدي حتى اجتثت أصولها وأمنع سبيلها، وكنت مع قابيل على هابيل، ومع النمرود على إبراهيم، وهكذا مع كل فرعون قام على صاحبه إلى أن ألقى العلي العظيم وهو عليّ ساخط وأبرأ من قول قنبر وأقول إنه بالنار ما تطهر) (1)، وحين بنى ابن نصير ديانته على الالتصاق بالحسن العسكري، وإنه الباب إلى ابنه المزعوم محمد بن الحسن العسكري، كان الحسن العسكري شديد التحذير منه شديد السخط عليه حيث كتب إلى أحد أتباعه قائلاً له ومحذراً من أفكار ابن نصير وفجوره: (إني أبرأ إلى الله من ابن نصير النميري، وابن بابا القمي فأبرأ منهما، وإني محذرك وجميع الموالي ومخبرك أني ألعنهما عليهما لعنة الله فتانين مؤذيين، آذاهما الله وأرسلهما في اللعنة وأركسهما في الفتنة) (2)،.والسبب في لعنه إنما كان في دعوى ابن نصير النبوة ودعوى الألوهية لأهل البيت وغير ذلك من المبادئ والاعتقادات الوثنية المجوسية، وقد نقل عبد الحسين عن القمي وصفه لابن نصير بأنه كان فاحشاً وشاذا جنسياً بالتعبير الحديث، حيث أجاز اللواط وسائر المحرمات مدعياً أن ذلك من التواضع والتذلل في المفعول به ... إلى آخر ما وصف به من صفات شنيعة (3)، لا نحب ذكرها هنا. ولكن في الهفت الشريف نفى هذا تماماً، وأنه لا يقع من مؤمن منهم، بل يقع على من أبغض علياً فقط كما يرويه المفضل (4)، الجعفي، وقد أجمعت كتب الشيعة على ذكر دعوى ابن نصير أنه الباب ثم النبوة ثم القول بألوهية علي، وإباحية المحارم، والقول بالتناسخ كما استوعب عبد الحسين الشيعي أخباره في كتابه (العلويون أو النصيرية) نقلاً عن أهم مصادرهم مثل سعد القمي (5)، والنوبختي، وأبو عمر الكشي (6)، وأبو جعفر الطوسي (7)،، والحلي (8)، والطبرسي، والدكتور مصطفى الشيبي.   (1) ((العلويون أو النصيرية)) (ص3)، ولعله لإحراقه الذين ألهوا علياً. (2) ((العلويون أو النصيرية)) (ص4) .. (3) ((العلويون أو النصيرية)) (ص21) نقلاً عن مقالات القمي (ص100). (4) ((الهفت الشريف)) (ص140). (5) ((المقالات والفرق)). (6) ((رجال الكشي)). (7) ((رجال الطوسي وكتاب الغيبة)). (8) ((الرجال)). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 249 وبعد ذلك حاول جاهداً البراءة من النصيرية، ومن ابن نصير وجميع أفكاره ومعتقداته، حتى وإن كان له صلة الصحبة بالحسن العسكري ثابتة في كتب الشيعة، إلى أن مات الحسن العسكري ثم قيام ابن نصير بدعوى الباب إليه منكراً وكلاء الإمام محمد بن الحسن العسكري وهذا أهم الأسباب في نقمة الرافضة على ابن نصير واتهامهم له بشتى الاتهامات. ويؤكد أحد علماء الشيعة الاثني عشرية وهو محمد رضا شمس الدين الذي زار النصيرية سنة 1376هـ للتعرف على أحوالهم موفداً من أحد المراجع الدينية في النجف عبد الهادي الشيرازي؛ أن النصيرية لا يزالون إلى اليوم يتمسكون بأفكار زعيمهم محمد بن نصير، وذكر أنه حينما زارهم رحبوا به أجمل ترحيب، ولكنه لاحظ عدم اكتراثهم بفرائض الدين من صلاة وحج وعدم وجود مساجد في منطقتهم، كما لاحظ أن فكرة تناسخ الأرواح لا تزال منتشرة بينهم وهم يسمونها تقمص الأرواح) (1)،. ولاشك في صحة شهادة محمد رضا فإنه أعلم بهم (وشهد شاهد من أهلها) فأي إسلام لهم بعد تركهم الصلاة والحج ومحاربة بناء المساجد، ثم القول بالتناسخ الذي هو قول المجوس عباد الأوثان. ومع هذا فإن أهل السنة في غفلة تامة عنهم. ومن الجدير بالذكر أن الاثني عشرية قد توجهت نحو جميع فرق الباطنية النصيرية وغيرهم من سائر الغلاة- وجهة جديدة وهي احتواء جميع تلك الفرق وصهرها في بوتقة المذهب الاثني عشري؛ فقد نادوا بأن النصيرية العلوية هم شيعة أهل البيت وهو ما أكده الشيرازي منهم (2)، ووقوف العلويون إلى جانب الرافضة في عصرنا الحاضر أقوى شاهد. المصدر: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام لغالب عواجي - 2/ 537   (1) ذكر هذا في كتابه ((العلويون في سوريا)) (ص54) نقلاً عن كتاب ((العلويون أو النصيرية)) (ص46). (2) انظر: ((العلويون شيعة أهل البيت))، للشيرازي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 250 المبحث الثالث: أبرز الشخصيات بعد مؤسس النصيرية خلفه (أي خلف المؤسس محمد بن نصير النميري) على رئاسة الطائفة محمد بن جندب. المصدر: الموسوعة الميسرة • ثم أبو محمد عبد الله بن محمد الجنان الجنبلاني 235 ـ 287 هـ من جنبلا بفارس، وكنيته العابد والزاهد والفارسي، سافر إلى مصر، وهناك عرض دعوته إلى الخصيبي. • حسين بن علي بن الحسين بن حمدان الخصيبي: المولود سنة 260 هـ‍ مصري الأصل جاء مع أستاذه عبد الله بن محمد الجُنبلاني من مصر إلى جنبلا، وخلفه في رئاسة الطائفة، وعاش في كنف الدولة الحمدانية بحلب كما أنشأ للنصيرية مركزين أولهما في حلب ورئيسه محمد علي الجلي والآخر في بغداد ورئيسه علي الجسري. ـ وقد توفي في حلب وقبره معروف بها وله مؤلفات في المذهب وأشعار في مدح آل البيت وكان يقول بالتناسخ والحلول. • انقرض مركز بغداد بعد حملة هولاكو عليها. • انتقل مركز حلب إلى اللاذقية وصار رئيسه أبو سعد الميمون سرور بن قاسم الطبراني 358 ـ 427 هـ‍. • اشتدت هجمات الأكراد والأتراك عليهم مما دعاهم إلى الاستنجاد بالأمير حسن المكزون السنجاري 583 ـ 638هـ‍ ومداهمة المنطقة مرتين. فشل في حملته الأولى ونجح في الثانية حيث أرسى قواعد المذهب النصيري في جبال اللاذقية. • ظهر فيهم عصمة الدولة حاتم الطوبان حوالي 700هـ‍/1300م وهو كاتب الرسالة القبرصية. • وظهر حسن عجرد من منطقة أعنا، وقد توفي في اللاذقية سنة 836 هـ/ 1432م. • نجد بعد ذلك رؤساء تجمعات نصيرية كتلك التي أنشأها الشاعر القمري محمد بن يونس كلاذي 1011هـ‍/1602م قرب أنطاكية، وعلي الماخوس وناصر نصيفي ويوسف عبيدي. • سليمان أفندي الأذني: ولد في أنطاكية سنة 1250هـ‍ وتلقى تعاليم الطائفة، لكنه تنصر على يد أحد المبشرين وهرب إلى بيروت حيث أصدر كتابه الباكورة السليمانية يكشف فيه أسرار هذه الطائفة، استدرجه النصيريون بعد ذلك وطمأنوه فلما عاد وثبوا عليه وخنقوه وأحرقوا جثته في إحدى ساحات اللاذقية. • عرفوا تاريخياً باسم النصيرية، وهو اسمهم الأصلي ولكن عندما شُكِّل حزب سياسي في سوريا باسم (الكتلة الوطنية) أراد الحزب أن يقرِّب النصيرية إليه ليكتسبهم فأطلق عليهم اسم العلويين وصادف هذا هوى في نفوسهم وهم يحرصون عليه الآن. هذا وقد أقامت فرنسا لهم دولة أطلقت عليها اسم (دولة العلويين) وقد استمرت هذه الدولة من سنة 1920م إلى سنة 1936م. • محمد أمين غالب الطويل: شخصية نصيرية، كان أحد قادتهم أيام الاحتلال الفرنسي لسوريا، ألف كتاب تاريخ العلويين يتحدث فيه عن جذور هذه الفرقة. • سليمان الأحمد: شغل منصباً دينيًّا في دولة العلويين عام 1920م. • سليمان المرشد: كان راعي بقر، لكن الفرنسيين احتضنوه وأعانوه على ادعاء الربوبية، كما اتخذ له رسولاً (سليمان الميده) وهو راعي غنم، ولقد قضت عليه حكومة الاستقلال وأعدمته شنقاً عام 1946 م. جاء بعده ابنه مجيب، وادعى الألوهية، لكنه قتل أيضاً على يد رئيس المخابرات السورية آنذاك سنة 1951م، وما تزال فرقة (المواخسة) النصيرية يذكرون اسمه على ذبائحهم. • ويقال بأن الابن الثاني لسليمان المرشد اسمه (مغيث) وقد ورث الربوبية المزعومة عن أبيه. · واستطاع العلويون (النصيريون) أن يتسللوا إلى التجمعات الوطنية في سوريا، واشتد نفوذهم في الحكم السوري منذ سنة 1965م بواجهة سُنية ثم قام تجمع القوى التقدمية من الشيوعيين والقوميين والبعثيين بحركته الثورية في 12 مارس 1971م وتولى الحكم العلويون ورئاسة الجمهورية بقيادة حافظ الأسد ثم ابنه بشار المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 251 المطلب الأول: نشأة النصيرية تركت وفاة الحسن العسكري - الإمام الحادي عشر للاثني عشرية- دون عقب كما قدمنا أثراً ظاهراً وخلافاً حاداً بين الشيعة، فقد اختلفوا إلى 14 فرقة تقريباً بين مؤيد للقول بوجود ابن للحسن العسكري يسمى محمداً وناف لوجوده أصلاً. ولما كان الزمان لا يخلو من وجود إمام معصوم يتولى تصريف شئون الناس، وإلا لتعطلت الحياة بزعمهم، وكان هذا الإمام غير ظاهر، فأوجدوا في أذهانهم فكرة (الباب) إليه، والباب شخص مخلص لآل البيت، يكون حلقة الاتصال بين الناس وبين الإمام المستور. ويستدلون على هذه البابية الخرافية بما يزعمون من روايات عن الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من طلب العلم فعليه بالباب))، ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)) (1)، ومن هنا وضعوا قائمة بالأبواب أولهم علي بن أبي طالب، وهو باب للرسول صلى الله عليه وسلم، وسلمان الفارسي، وهو باب لعلي، وهكذا إلى الإمام الحادي عشر - الحسن العسكري. ثم اختلفت كلمتهم، فادعى النصيريون أن الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري لم يكن له باب، بل استمر الباب للإمام الحادي عشر- الحسن العسكري- أبو شعيب محمد بن نصير، ومن هنا وقع الخلاف بين النصيرية والإمامية الاثني عشرية، مما أدى إلى انفصاله وفرقته عن الاثني عشرية كما تقدم بيان ذلك. ولقد أصبح مذهبه فيما بعد من أعمق المذاهب في الوثنية والغلو في البشر. قال عنه عبد الحسين العسكري: (وقال ابن نصير بربوبية أبي الحسن العسكري، وزعم أنه نبي ورسول بعثه أبو الحسن) (2)،. وبعد وفاة ابن نصير تناوب على زعامة النصيرية عدة أشخاص أثروا المذهب النصيري بأفكارهم وتنوع المعتقدات وتعدد الطرق والآراء، كان من أبرزهم أبو محمد الجنبلاني، وتلميذه الحسين بن حمدان الخصيبي، ومحمد بن علي الجلي، وعلي الجسري، والميمون - ابن سرور بن قاسم الطبراني، وحسن المكزون السنجاري، وهو آخر مظهر لقوة النصيرية، قال الدكتور سليمان الحلبي عن الحال النصيرية بعد وفاته: (وبعد وفاة الحسن المكزون تفرق النصيريون إلى عدة مراكز دينية غير مرتبطة ببعضها البعض، يتبوأ كل منها لمرجع ديني يطلقون عليه لقب الشيخ، واستقل كل شيخ برئاسة مركز صغير إلى أن استطاعوا بالأمس القريب وفي غفلة المسلمين (غفاة البشر) في سوريا وغيرها- من السيطرة على نظام الحكم في سوريا، فعادت لهم سطوتهم وقوتهم مرة أخرى يتحكمون بها في رقاب المسلمين) (3)،. ولكنهم في هذا الظهور الجديد اتخذوا لهم أسماء براقة خادعة مثل حزب البعث الاشتراكي، ودعوى التقدمية والتحرر، وما إلى ذلك، وهم إنما غيروا الاسم لإبعاد الأنظار عن حقيقتهم قدر الإمكان ولجلب الساقطين إلى صفوفهم. المصدر: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام لغالب عواجي - 2/ 546   (1) رواه الحاكم (4637) والطبراني (11083) والعقيلي في ((الضعفاء)) (5/ 457) قال الهيثمي في ((المجمع)) (9/ 114) فيه عبد السلام بن صالح الهروي وهو ضعيف، وقال الحاكم إسناده صحيح، وقال الذهبي بل موضوع، وقال العقيلي لا يصح في هذا المتن حديث، وقال القرطبي في ((التفسير)) (9/ 336) باطل، وقال الدارقطني في ((العلل)) مضطرب غير ثابت، وقال الترمذي: منكر، وكذا البخاري، وقال: إنه ليس له وجه صحيح، وقال ابن معين فيما حكاه الخطيب في ((تاريخ بغداد)) إنه كذب لا أصل له، وأورده ابن الجوزي في ((الموضوعات)) وأشار إلى هذا ابن دقيق العيد، بقوله: هذا الحديث لم يثبتوه، وقيل: إنه باطل، وقال ابن تيمية موضوع، وكذلك أورده ضمن ((الموضوعات)) كل من الشوكاني وابن عراق والألباني. (2) ((العلويون)) (ص15)، وانظر: ((فرق الشيعة)) للنوبختي (ص78). (3) ((طائفة النصيرية)) (ص42). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 252 المطلب الثاني: أسماء هذه الطائفة والسبب في إطلاقها عليهم أطلقت على هذه الطائفة أسماء بعضها يقبلونه وبعضها لا يقبلونه، ومنها: 1 - النصيرية: وهو الاسم الذي غلب على غيره من أسمائهم واشتهروا به، ومع هذا فإن النصيريين لا يحبون أن يسموا به ويتضايقون منه، 2 - ومن أسمائهم المحبوبة عندهم (العلويون): وهم يحبون هذا الاسم ويتمنون أن يطلقه الناس عليهم وينسوا ما عداه من أسمائهم، وقد ذكر بعض العلماء أن هذه التسمية أخذت من عبادة هؤلاء لعلي رضي الله عنه وتأليههم له، وعلي بريء من إلحادهم مثل براءة جعفر بن محمد من مذهب الجعفرية. ويقول عبد الحسين عن ارتياحهم لهذه التسمية، (وقد ارتاحوا لها لأنها في الأقل تخلصهم مما علق تاريخياً باسم النصيرية من ذم وتشنيع وتكفير، كما أنها تفتح لهم آفاق أرحب للتقارب مع الشيعة) إلى أن يقول: (ولاشك في أن الانتساب إلى الإمام علي أي نحو كان أفضل من الانتساب إلى ابن نصير) (1)،. 3 - وقد أطلق عليهم الأتراك اسم (سورة ك):وبمرور الزمن صار الناس يلفظونها (سوراك)، ومعناها عند الأتراك: المنفيون أو المساقون، ويوجد إلى هذه الأيام - كما يذكر الحلبي- بعض النصيريين في حلب وفي أقضية صهيون والعمرانية وصافيتا بهذا الاسم (2)،. 4 - ويطلق عليهم اسم (النميرية).نسبة إلى محمد بن نصير النميري، ولهم أسماء أخرى محلية مثل (التختجية) (الحطابون) في غربي الأناضول والعلي إلهية في فارس وتركستان وكردستان) (3)،. المصدر: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام لغالب عواجي - 2/ 541   (1) ((العلويون)) (ص32). (2) ((تاريخ العلويين)) (ص342) ((طائفة النصيرية)) (ص35). (3) ((العلويون)) (ص31). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 253 المطلب الثالث: فرق النصيرية تفرق النصيريون إلى فرق وطوائف كثيرة، ومن أهم تلك الطوائف: الجرانة: نسبة إلى قريتهم جرانة، ثم سميت بعد ظهور محمد يونس كلازو من زعمائهم (الكلازية)، ويقال لهم القمرية لأنهم يعتقدون أن علياً حل في القمر، ويرون أن الإنسان إذا شرب الخمر الصافية يقترب من القمر. الغيبية: أي الذين رضوا بما قدر لهم في الغيب فتركوا التوسل - كما يذكر الحلبي- أو هم الذين قالوا: إن الله تجلى في علي ثم غاب عن البشر واختفى، والزمان الحالي هو زمان الغيبة، ويقررون أن الغائب هو الله الذي هو علي - كما يذكر صابر طعيمة- ثم سميت بعد ظهور زعيم منهم سمي علي حيدر (الحيدرية). الماخوسية: نسبة إلى زعيمهم علي الماخوس المنشق عن الكلازية. النياصفة: نسبة إلى زعيمهم ناصر الحاصوري من بلدة نيصاف بلبنان (1)،. المصدر: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام لغالب عواجي - 2/ 583   (1) ((طائفة النصيرية)) انظر ص83، و ((دراسات في الفرق))، صابر طعيمة (ص54 - 55)، ((مذاهب الإسلاميين)) (4/ 295). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 254 المبحث الخامس: مراسيم وطقوس الدخول في عقيدة النصيرية ولما كانت العقيدة النصيرية من أردأ المذاهب وأشدها توغلاً في الباطل، لم يأنسوا من إظهار مذهبهم صراحة حتى من بعضهم لبعض إلا بعد تعقيدات واختبارات شديدة يذلل من خلالها ويتجرع أشد أنواع الإذلال والإهانة. إذ يتم دخوله في المذهب بطريقة فاحشة يتم من خلالها القضاء على كل عرق ينبض بالرجولة والشهامة فيه، وتداس كرامته وينتهك عرضه. فحينما يحضر التلميذ يختار الشيخ الذي سيلازمه من بين مجموعة المشايخ الموجودين ويسمونه الوالد الروحي أو الوالد الديني، ثم يغرسون في نفس التلميذ تقديس شيخه والتواضع له تواضعاً مطلقاً أشبه ما يكون بالقاعدة الصوفية، (كالميت بين يدي الغاسل). ومن الطرق التي يتوسلون بها إلى إذلال الشخص، أنه حينما يدخل يقف في ناحية وهو ساكت لا يتكلم بشيء وأحذية المشايخ مرفوعة فوق رأسه، ثم يتكلم شيخه لبقية المشايخ ويتوسل إليهم أن يقبلوا هذا الشخص الماثل أمامهم ويدخلوه في زمرتهم، فإذا قبله المشايخ أنزلت الأحذية من فوق رأسه، ثم يأخذ في تقبيل أيدي وأرجل الحاضرين من المشايخ. ثم يقف في مكانه ويوضع على رأسه خرقة بيضاء، ثم يأخذ الشيخ في قراءة العقد الذي سيتم بين التلميذ وبين المشايخ، وهو أشبه ما يكون بعقد الزواج، ويعتبرون هذا بمثابة الخطبة، ويعتبرون الكلام الذي يسمعه بمثابة النكاح، وما يتحمله من العلم عنهم بمثابة الحمل، فإذا علم وأراد التعليم فإن ذلك يكون بمثابة الوضع. وبعد أن تتم هذه المرحلة يقال للتلميذ: يجب عليك أن تكرر في اليوم خمسمائة مرة بحق ع. م. س لمدة يحددونها، ثم بعد ذلك يأتي إليهم ليتم تعليمه المذهب بعد اختبارات قاسية يرضى فيها بكل شيء حتى ولو بإهدار رجولته (1)،. وفيما يلي نشير إلى أهم الشروط في تعليم المذهب النصيري: يشترطون في من يلقى إليه تعليم المذهب أن يجتاز سن التاسعة عشرة (2)،. أن يمر بالمراحل الآتية على التدريج: المرحلة الأولى: وتسمى مرحلة الجهل. وفيها يهيئون من يقع عليه الاختيار من أبناء الطائفة لقبول وحمل أسرار المذهب. مرحلة التعليق: وفي هذه المرحلة يلقنونه شيئاً من تعاليم المذهب، ويبقى مدة سنة إلى سنتين تحت إشراف شيخ من شيوخ الطائفة ليطلعه على شيء من أسرار المذهب بالتدريج، فإذا توسموا فيه القبول والنجابة نقلوه إلى المرحلة الثالثة الآتية وإلا طردوه. مرحلة السماع: وهي الدرجة العليا، ويطلعونه فيها على أكثر أصول المذهب النصيري، ثم يعقد الرؤساء الروحيون للطائفة مجمعاً خاصاً لتلقينه بقية أسرار المذهب، ثم ينقلونه إلى درجة أعلى يطلقون عليه درجة الشيخ أو صاحب العهد. ويتم ذلك بحضور الكفلاء، والشهود يشهدون باستعداد الرجل لقبول السر ومحافظته عليه، ثم يحلف اليمين المقررة عندهم أن يحافظ على السر ولو أريق دمه. وبعد حصوله على هذه الدرجة يصبح شيخاً من شيوخ الطائفة (3)،. ومما يجدر التنبيه إليه أن التلميذ دائماً وهو بين أيدي المشايخ لا يلقى إليه شيء من تعاليم المذهب الملتوية إلا في غياب عقله وتفكيره عنه؛ ليقبل تلك العقائد التي تشمئز منها النفس ويمجها العقل وتأنف منها الفطرة السليمة، فعبد النور تسمية الخمر عندهم في يد الساقي وهالة من الموقف، وتهديدات من هنا ومن هناك، وكل هذه الأهوال يعيشها الشخص حتى تستكمل إجراءات تفهيمه المذهب في جو غير طبيعي.   (1) انظر: ((الحركات الباطنية في العالم الإسلامي)) (ص374 - 375). (2) ((العلويون أو النصيرية)) (ص57) نقلاً عن ((دائرة القرن العشرين)) مادة (نصر). (3) ((طائفة النصيرية)) (ص45 46). وانظر: ((العلويون)) (ص57) نقلاً عن ((دائرة معارف القرن العشرين)) مادة (نصر). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 255 وقد وصف أحد الداخلين في العقيدة النصيرية الموقف والحال المتبع عند دخول الشخص الذي يرتضونه لتحمل سر الديانة واسمه مخلوف، فقال مخبراً عن ذلك كما يصوغه محمد حسين: (وفي اليوم المحدد اجتمع من المشايخ وأهل القرية والقرى المجاورة جمهور كثير، واستدعوني إليهم وناولني قدح خمر ثم وقف أحد المشايخ وهو برتبة النقيب في الديانة النصيرية ووقف بجانبي وقال لي: قل: بسرّ إحسانك يا عمي وسيدي وتاج رأسي أنا لك تلميذ وحذاؤك على رأسي، ولم أجد بداً من شرب الخمر لأول مرة في حياتي، فلما شربت الكأس التفت إلي الإمام قائلاً: هل ترضى أن ترفع أحذية هؤلاء الحاضرين على رأسك إكراماً لسيدك؟ فقلت: كلا، بل حذاء سيدي فقط، فضحك الحاضرون لعدم قبولي القانون، ثم أمروا الخادم فأتى بحذاء السيد المذكور فكشفوا رأسي ووضعوه عليه، وجعلوا على الحذاء خرقة بيضاء. ثم أخذ النقيب يصلي على رأسي وأوصوني بالكتمان وانصرفوا إلى أن يقول: ثم بعد أربعين يوماً اجتمع جمهور آخر واستدعوني إليهم ووقف الشيخ الكبير بجانبي وبيده كأس خمر فسقاني الكأس وأمرني بأن أقول سر ع. م. س، ثم بعد ذلك قال لي الإمام: إنه فرض عليك أن تتلو هذه اللفظة وهي سر ع. م. س كل يوم خمسمائة مرة، ثم أوصوني بالكتمان وانصرفوا. ثم بعد سبعة أشهر- والمدة للعامة تسعة أشهر0 اجتمع جمهور آخر أيضاً واستدعوني حسب عادتهم وأوقفوني بعيداً عنهم - ثم قام هؤلاء بمهازل أمامه وطقوس، ثم قام وكيل من بين الجماعة وقال للإمام: نعم نعم نعم يا سيدي الإمام. فقال له الإمام: ما مرادك وماذا تريد؟ فأجابه أنه تراءى لي شخص بالطريق- إلى أن قال: هذا الشخص اسمه مخلوف، وقد أتى ليتأدب أمامكم. فقال: من دله علينا؟ فأجاب: المعنى المعنى والاسم العظيم والباب الكريم وهي لفظة ع. م. س، فقال الإمام: ائت به لنراه، فأخذ المرشد بيدي وذهب بي إلى الإمام، فلما دنوت منه مدَّ لي رجليه فقبلتهما، ويديه أيضاً، وقال لي: ما حاجتك وماذا تريد أيها الغلام؟ ثم نهض النقيب ووقف بجانبي وعلمني أن أقول: (بسر الذي فيه أنتم يا معاشر المؤمنين). ثم نظر إليّ بعبوسة وقال: ما الذي حملك أن تطلب منا السر المكلل باللؤلؤ والدر ولم يحمله إلا كل ملاك مقرب أو نبي مرسل؟ اعلم يا ولدي أن الملائكة كثيرون ولا يحمل هذا السر إلا المقربون، والأنبياء كثيرون وليس منهم من يحمل هذا السر إلا الممتحنون، أتقبل قطع الرأس واليدين والرجلين ولا تبيح بهذا السر العظيم؟ فقلت له: نعم. فقال لي: أريد منك مائة كفيل، فقال الحاضرون: القانون يا سيدنا الإمام - فقال: إكراماً لكم ليكن اثنا عشر كفيلاً. ثم قام المرشد الثاني وقبل أيدي الاثني عشر كفيلاً وأنا أيضاً قبلت أيديهم. ثم نهض الكفلاء وقالوا: نعم نعم نعم يا سيدي الإمام. فقال الإمام: ما حاجتكم أيها الشرفاء؟ قالوا: أتينا لنكفل مخلوفاً. فقال: إذا باح بهذا السر أتأتوني به نقطعه تقطيعاً ونشرب دمه؟ فقالوا: نعم. فأجاب وقال: لست أكتفي بكفالتكم فقط؛ بل أريد اثنين معتبرين يكفلانكم. فجرى واحد من الكفلاء وأنا وراءه، وقبَّل أيدي الكفيلين المطلوبين، وقبلتهما أنا أيضاً، ثم نهضا قائمين وأيديهما موضوعة على صدريهما، فالتفت إليهما الإمام وقال: الله ممسيكما بالخير أيها الكفيلان المعتبران الطاهران أهل البرش والكرش، فماذا تريدان؟ فأجابا أننا قد أتينا لنكفل الاثني عشر كفيلاً وهذا الشخص أيضاً، فقال: إذا هرب قبل أن يكمل حفظ الصلوات أو باح بهذا السر هل تأتياني به لتعدم حياته، فقالا: نعم، قال الإمام: إن الكفلاء يفنون وكفلاء الكفلاء يفنون، وأنا أريد منه شيئاً لا يفنى. فقالا له: افعل ما شئت فالتفت إليّ وقال: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 256 ادن يا مخلوف فدنوت منه، وحينئذ استحلفني بجميع الأجرام السماوية بأني لا أبوح بهذا السر، ثم ناولني كتاب المجموع في يدي اليمنى وعلمني النقيب الواقف بجانبي أن أقول: تفضل حلفني، يا سيدي الإمام على هذا السر العظيم، وأنت بريء من خطيئتي. فأخذ كتاب المجموع مني وهو مكتوب بالخط اليدوي ... إلى أن يقول: ثم قال الإمام: اعلم يا ولدي أن الأرض لا تقبلك فيها مدفوناً إن أبحت بهذا السر، ولا تعود تدخل القمصان البشرية، بل حين وفاتك تدخل قمصان المسوخية، وليس لك منها نجاة أبداً. ثم أجلسوني بينهم وكشفوا رأسي ووضعوا عليه غطاءً. ثم إن الكفلاء وضعوا أيديهم على رأسي وأخذوا يصلون فقرؤوا أولاً سورة الفتح والسجود والعين ثم شربوا الخمر وقرؤوا سورة السلام، ورفعوا أيديهم عن رأسي (1)،. وأخذني عم الدخول وسلمني إلى مرشدي الأول، ثم أخذ بيده كأس الخمر وسقاني وعلمني أن أقول: (بسم الله - يسمي الله على شرب الخمر!! - وبالله وسر السيد أبي عبد الله العارف بمعرفة الله سر تذكار والصالح سره أسعده الله). ثم انصرفت الجماعة وأخذني الشيخ صالح الجبلي شيخ الخياطين إلى بيته وابتدأ يعلمني أولاً التبري - وهو الشتائم- وحينئذ أطلعني على صلاة النصيرية وفيها عبادة علي بن أبي طالب، وهي ست عشرة سورة). وقد دعاني ترابط الكلام سرد ما جرى لمخلوف مع محاولتي الاختصار وترك ذكر بعض الأمور، خصوصاً وأن المخبر كشاهد عيان كما يقال في المثل. ومن الواضح جداً أن القائمين على تعاليم المذهب مجموعة أو شركة من اللصوص سراق عقول البشر، همهم الزعامة وجمع الأموال بأي وجه كان، ووجدوا في أشباه البشر من يصدقهم في ترهاتهم وأباطيلهم التي تبدأ بترداد ع. م. س وتنتهي بعبادة غير الله عز وجل، إنها مهازل يندى لها الجبين قام بها عتاة المجوسية عباد الأوثان، واقتطعوا أمماً بتلك المسالك الشيطانية وأخرجوهم عن دينهم. المصدر: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام لغالب عواجي - 2/ 552   (1) انظر: ((الجيل التالي)) (ص39،47). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 257 المبحث السادس: أهم عقائد النصيرية للنصيرية عقائد كثيرة بعضها ظاهر وبعضها - وهو الأكثر- لا يزال في طي الكتمان، وقد اتضح أن أهم عقائدهم وأبرزها: - تأليه علي رضي الله عنه. ولا تستبعد وقوع هذا فإن هؤلاء من أساسهم كانوا عباد أوثان وعباد بقر وفروج، وبعد أن دخلوا في الإسلام أو على الأصح تظاهروا به كان من أبرز عقائدهم: تأليه الإمام علي رضي الله عنه، زاعمين أنه إمام في الظاهر وإله في الباطن لم يلد ولم يولد، ولم يمت ولم يقتل، ولا يأكل ولا يشرب. وبحسب اعتقادهم أن الله تجلى في علي فقد اتخذ علي محمداً وبالغوا في كفرهم فقالوا: إن علياً خلق محمداً، ومحمد خلق سلمان الفارسي، وسلمان خلق الأيتام الخمسة الذين بيدهم مقاليد السموات والأرض وهم: المقداد: رب الناس وخالقهم الموكل بالرعود والصواعق، والزلازل. أبو الدر: (أبو ذر الغفاري) الموكل بدوران الكواكب، والنجوم. عبد الله بن رواحة الأنصاري: الموكل بالرياح وقبض أرواح البشر. عثمان بن مظعون: الموكل بالمعدة وحرارة الجسد وأمراض الإنسان. قنبر بن كادان: الموكل بنفخ الأرواح في الأجسام (1)،. والمجوسية ظاهرة في هذه الأفكار لم يتغير فيها إلا الأسماء فقط. وهذه الأقوال يكفي واحد منها لدحض ما يزعمونه من إسلام، فهي نهاية الكفر والخروج عن منهج الله عز وجل. ويحتج النصيريون لهذه العقيدة بقولهم: إن الله معبود مقدس يحل في الأجسام متى يشاء، وله التصرف، وإليه ترجع الأمور. وعلي رضي الله عنه- وحاشاه عن كفرهم - حين زعموا أنه إمام في الظاهر وإله في الباطن قسموا طبيعته إلى قسمين: الظاهر وهو القسم البشري منه قسم الناسوت الذي يأكل ويشرب ويلد ويولد ويتقرب إلى عباده ليعرفوه عن كثب. وأما الباطن منه فهو قسم اللاهوت: الذي لا يأكل ولا يشرب. ومن حماقتهم أنهم يستدلون على ألوهية علي بما حصل له من كرامات كقلع باب خيبر، وشجاعته الحربية، وزعموا أنه كان يكلم الجن، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أسند إليه قتال الكفار الظاهرين، وعلي أسند إليه قتال المنافقين، لأنه يعرف البواطن. وقد اختلفوا في مكان حلوله بعد أن ترك ثوبه الآدمي أي صورته البشرية. فمنهم من يتجه إلى القمر في عبادته لاعتقاد أنه حل فيه، بل القمر نفسه هو علي، وهؤلاء يسمون الشمالية. ومنهم من يتجه إلى الشمس في عبادته لاعتقادهم أنه حل فيها، بل الشمس نفسها هي علي، وهؤلاء يسمون الكلازية (2)،، ومن هنا قال مدير مدرسة نصيرية حينما سمع بوصول رواد الفضاء من الأمريكان وغيرهم إلى سطح القمر - بزعمهم- (إن كان ما ذكروه حقاً أن القمر مكون من جمادات فعلى الدين السلام، وغضب لربه وقال في ذمه لهذه الكشوفات عن القمر: (الآن ينتهي مفعول الدين إذا أثبتت هذه الكشوف كونه مجموعة من التلفيقات) (3)،. بينما المسلم الحق لا يتأثر في دينه ولو دخل الناس النجوم الواحد تلو الآخر؛ بل يقول: هذا من تمكين الله لهم لا بقدرتهم، ولا يغضب؛ لأنه يعلم أن ربه هو خالق الكون وما فيه، وأنه هو الذي يمكن عباده من كل ما يشاءه تعالى. ويؤكد صاحب الهفت الشريف أنه (ما من مؤمن يموت إلا وتحمل روحه إلى الإمام علي فينظر فيها، فإذا كان مؤمناً ممتحناً صافياً صعدت الملائكة بروحه إلى السماء فتغمسها في عين على باب الجنة اسمها عين الحياة) الخ (4)،.   (1) انظر: ((طائفة النصيرية)) (ص47))، وانظر: ((الجيل التالي)) (ص113). (2) ((العلويون)) (ص57). (3) اقرأ مقال الاستاذ أبو الهيثم ((معركة في القمر)) في كتابه ((الإسلام في مواجهة الباطنية)) (ص39 - 43). (4) ((الهفت الشريف)) (ص82). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 258 ويقول عن الأئمة: (نحن الأئمة أولياء الله لا يفتر علينا من علمه شيء لا في الأرض ولا في السماء، نحن يد الله وجنبه، ونحن وجه الله وعينه، وأينما نظر المؤمن يرانا. إن شئنا شاء الله - ولا تلقه إلا إلى أهله- والحمد لله الذي اصطفانا من طينة نور قدرته، ووهبنا سر علم مشيئته ... إلخ) (1)،. ويتجلى تأليههم للإمام علي رضي الله عنه في تلك الأدعية الركيكة الخالية عن العقل وعن أدنى المعرفة، والتي تسمى (سوراً) عندهم. جاء في السورة الثالثة: (اللهم إني أسألك يا مولاي يا أمير النحل، يا علياً يا عظيم يا أزل يا فرد يا قديم، يا علي يا كبير يا أكبر من كل كبير، يا خالق الشمس والقمر المنير، يا علي يا قدوة الدين يا عالم يا خبير، يا راحم الشيخ الكبير يا منشئ الطفل الصغير، يا جابر العظم الكسير يا محل كل يسير من غير عسير الذي يعرف المعرفة وينكرها عليه وعلى أبو دهية (2)، ما يستحق من الله، وعلى أبو سعيد السلام ورحمة الله) (3)،.وفي سورة السجود: (يا علي سجد لك وجهي الفاني البالي إلى نور وجهك العزيز الحي الدائم ... يا علي لك الإلهية يا علي لك الملكوتية ... إياك مولاي علي نعبد) (4)، إلخ ذلك الهراء الطويل. وفي سورة الإشارة: (لله ارتفاع القصد والعزة والإشارة لك يا مولاي يا أمير المؤمنين يا علي يا أنزع يا بطين (5)، يا محيي العظام الدوارس وهي رميم اللهم إني أسألك يا مولاي يا أمير المؤمنين أن تجعلنا في عبادتك كاسبين غانمين مؤيدين منصورين، ولا تجلعنا في عبادتك لا خاسرين ولا نادمين) (6)، وما أحراهم بنهاية الخسارة والندامة، ولو كانت لهم عقول لما جمعوا لعلي رضي الله عنه بين الألوهية والإمارة. وجاء في السور الكبيرة: (أول معرفتي بالله أشهد شهادة تقية نقية مشعشعة نورانية بيضية علوية حجابية محمدية، أشهد شهادة الحق في منهج الصدق، أشهد شهادة بأن لا إله إلا مولاي ومولاك أمير النحل علي، ولا حجاب إلا السيد محمد ولا باب إلا السيد سلمان ... وأشهد أن الله علي ربي يحييني ويميتني، وهو الحي الذي لا يموت (7)، بيده الخير وهو على كل شيء قدير وإليه المصير) (8)،.ويظهر الأثر اليهودي واضحاً في السورة السادسة عشرة المسماة سورة النقباء، وفيها: (سر اثني عشر نقيباً، سر ثمانية وعشرين نجيباً، سر أربعين قطباً أولهم عبد الله بن سبأ، وآخرهم محمد بن سنان الزاهري ... سر عبد الله بن سبأ نقيب النقباء، سر محمد بن سنان الزاهري نجيب النجباء، سرهم أسعدهم الله أجمعين في أربع أقاليم الدنيا والدين بحق الحمد لله رب العالمين) (9)،. إلى آخر هذه الخزعبلات والسور التي تحوي مثل ذلك الكفر والإجرام والتعابير الركيكة التي لا تمت إلى العقل والمعرفة بأدنى صلة، لقد فاق هؤلاء بلادة الحمير وكل المخلوقات، وكانوا أضل من الأنعام. وهناك نصوص أخرى تركتها خشية الإطالة، تنضح مجوسية وإلحاداً، مما يدل دلالة قاطعة على أن الذين وضعوا الديانة النصيرية كانوا متشبعين بالمجوسية، ولهم اطلاع على كل الديانات من يهودية ونصرانية وهندوسية وغير ذلك.   (1) (ص197). (2) في كتاب ((الإسلام في مواجهة الباطنية)) (ص250) اسمه (أبو دهية إسماعيل بن خلاد) كانت له آراء خالف فيها النصيرية. انظر الصفحة المذكورة .. (3) ((الجيل التالي)) (ص79). (4) ((الجيل التالي)) (ص87 - 88). (5) أي كبير البطن. (6) ((الجيل التالي)) (ص93). (7) لأنهم لا يقولون بموته ويفسرون موته بخلعه للتقمص البشري الذي خلصه منه عبد الرحمن ابن ملجم وهذا هو السر في تقديسهم له وترضيهم عنه. (8) ((الجيل التالي)) (ص99). (9) ((الجيل التالي)) (ص109). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 259 وقد أضافوا إلى ألوهية علي وحلول الإله فيه أن الإله حل أيضاً في سائر الأئمة من بعد علي، ومن ذلك ما قالوه في مقتل الحسين مما نقلناه سابقاً عن الهفت الشريف وزعمهم فيه أن الحسين هو الله رب العالمين، بل إنهم يعتقدون جازمين أن الأئمة أفضل من كل الأنبياء، لأن الأئمة بزعمهم يكلمون الله بدون واسطة والأنبياء بواسطة. وقد اقتبسوا هذه الأفكار الخاطئة عن الشيعة الاثني عشرية، وهؤلاء أخذوها عن ابن سبأ اليهودي، ومن العجب أنهم مرة يجعلون الإمام علياً إلهاً، ومرة أخرى يجعلونه نبياً، ومرة أخرى يستدلون على فضائله بكلام الله في القرآن يحرفونه بأقوال مكذوبة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا خرج الكثير من شبابهم بسبب هذا الخلط والاضطراب الفكري إلى الإلحاد الماركسي. وبعد أن استوثق هؤلاء الفجار من قبول الطغام الذين هم على شاكلتهم بكل ما جاءوهم به من الكفر والإلحاد دون اعتراض طمع هؤلاء في دعوى الألوهية بعد أن استهانوا بأمرها لكثرة المتألهين في مبادئهم، بحجة أن الله - تعالى عن جهلهم- يحل في من يشاء من عباده. وقد ادعى رجل منهم الألوهية في هذا الزمن حين كانت فرنسا مستعمرة للشام وتخطط لإحياء الجهل وطمس الدين بأي وسيلة كانت؛ لتبقى أطول مدة تحكم فيها بلاد المسلمين فوقع اختيارهم على دمية نصيري من سوريا يسمى سلمان المرشد، فأوصل نفسه إلى رتبة الألوهية- لأن الله تقمص به- وآمن به واتبعه كثير من النصيريين. وقد مثل المهزلة تمثيلاً جيداً فكان كما يذكر في تاريخه يلبس ثياباً فيها أزرار كهربائية، ويحمل في جيبه بطارية صغيرة متصلة بالأزرار، فإذا أوصل التيار شعت الأنوار من الأزرار فيخر له أنصاره ساجدين حين يرون طلعته الشقية. ومن الطريف أن المستشار الفرنسي الذي كان وراء هذه الألوهية المزيفة كان يسجد مع الساجدين ويخاطب سلمان المرشد بقوله: يا إلهي، وبعد أن ادعى الألوهية كان عليه أن يرسل الرسل، وهذا ما حصل بالفعل فقد اتخذ سلمان المرشد رسولاً اسمه سلمان الميده، وكان يشتغل جمَّالاً عند أحد المزارعين في حمص، في حين كان سلمان المرشد مدعي الألوهية راعي أبقار، وهكذا يكون الإله راعياً والرسول جمَّالاً كما يذكر الحلبي. قال أبو الهيثم: (لقد جاء يوم على المرشدية كانت فيه سيفَ الفرنسيين المصلت على رقبة كل وطني في هذه المحافظة - يقصد اللاذقية-، وكان ذلك عام 1938م، إذا أقام ربها سلمان نفسه دولة ضمن دولة يفرض الإتاوات ويجبي الضرائب وينصب المحاكم وينفذ أحكام الإعدام ويقطع طرق المواصلات إلخ (1)،. وحين رحل الفرنسيون عن سوريا في مواكب العار- كما سماها أبو الهيثم- وذلك سنة 1938م- ترك له هؤلاء من أسلحتهم ما أغراه بالعصيان، فجردت الحكومة السورية آنذاك قوة بقيادة محمد علي عزمة فتكت ببعض أتباعه واعتقلته مع آخرين ثم أعدم شنقاً في دمشق عام 1946م. وقد سئل مرة قبل هلاكه فقيل له: أنت إله وأغاخان إله فكيف تتسع الأرض لإلهين؟ فأجاب بقوله: (إن الخالق يبث روحه فيمن يشاء، وقد يبثها في مائة من مخلوقاته فيصيبون أرباباً مثلي) (2)،.   (1) ((الإسلام في مواجهة الباطنية)) (ص103). (2) ((الأعلام للزركلي)) (3/ 170). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 260 وقال عنه أبو الهيثم: (العجيب في أمر سلمان أنه لم يكن ليصرح بمزاعمه الإلهية خارج حدود نفوذه قط، وقد مثل منطقته في البرلمان السوري كأي نائب - من غير الناطقين، فلم يسمع منه أي تصريح أو تلميح لما يقول فيه أتباعه، وأذكر أنني اجتمعت به وسألته عن هذه الدعوى التي تشيع عنه فأنكرها أشد الإنكار، وشهد على نفسه بالإسلام. وقد قال لي يومئذ: إن كل مهمته في جماعته هي أن يحاول تنظيم أمورهم على أساس الإسلام، وعدّد بعض أعماله الإصلاحية هناك مما لا غبار عليه .. غير أن الواقع أن الرجل كان أذكى من أن يصرح بغير هذا أمام أي عاقل خارج جماعته) (1)،.وبعد هلاك هذا المتأله ألّه أتباعه ابنه مجيب الأكبر بن سلمان المرشد، وقد قتل هذا أيضاً، ولكن استمر أتباعه على تأليهه، ومن حماقاتهم وخبثهم على المسلمين وزعمائهم أنهم يقولون عند ذبح أحدهم ذبيحته: باسم مجيب الأكبر من يدي لرقبة أبي بكر وعمر (2)، ومن هنا فإنه لا يجوز لأي مسلم إذا مر بديارهم أن يأكل من ذبائحهم. ومن العلماء من يذكر أنهم الآن يريدون تأليه أحد أخوة مجيب الذين لا يزال لهم نفوذ عند جهلاء النصيرية (3)؛ بل ويصرحون بتمسكهم بالمرشدية، يقول أبو الهيثم: فالمرشدي لا يكتم عقيدته في تأليه سلمان وأبناءه الذين أعدهم ذلك الأب (البار) لمنصب الألوهية منذ أن اختار لهم بعض أسماء الله الحسنى (فاتح، سميع، مجيب) (4)،. وقد أصبح من المألوف أن تسمع هذا المرشدي يدافع عن عقيدته باسم حرية الفكر، ولهم صلاة يسمونها الصلاة المرشدية وينسبونها إلى مجيب الأكبر، يقولون فيها: تسبيح إلى مولانا مجيب بن سلمان المرشد الرب العظيم. مولانا لك العزة والمجد والتهليل والتكبير، سبحانك ربنا إنك كريم رحيم، يا مولانا يا مجيب المرشد، سبحانك أنت الرب العظيم، إلى آخر الدعاء الذي اشتمل على صدق اللجوء إلى هذا الرب المخترع، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وينص النصيريون في دعائهم ويلحون على أن الله تعالى يرزقهم بجنود غرباء عنهم وعن وطنهم، يأتون إليهم من جهة الغرب لينقذوهم من حكامهم المسلمين. وقد وصف الأستاذ الشكعة هذه الإشارات في دعائهم إلى أنها دعوة لفرنسا المستعمرة لتثبت أقدامهم في بلادهم (5). يقول أبو الهيثم: (ثبت بصورة قاطعة أن المرشدية على صلة وثيقة بالإرسالية البروتستانية الأمريكية في اللاذقية، وهل صلة مريبة لا شك أن وراءها أصابع السياسة الأمريكية وبكلمة أوضح أصابع الصهيونية العالمية) (6)،. المصدر: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام لغالب عواجي - 2/ 561 - عقيدتهم في الثواب والعقاب   (1) ((الإسلام في مواجهة الباطنية)) (ص103، 104). (2) انظر: ((طائفة النصيرية)) (ص54). (3) ((إسلام بلا مذاهب)) (ص309)، نقلاً عن ((طائفة النصيرية)). (4) ((الإسلام في مواجهة الباطنية)) (ص102). (5) ((إسلام بلا مذاهب)) (ص309)، نقلاً عن كتاب محمد المجذوب: ((إخواننا في جبال اللاذقية)). (6) انظر: ((الإسلام في مواجهة الباطنية)) (ص103). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 261 تؤمن النصيرية بتناسخ الأرواح, وأن الروح عندما تفارق الجسم بالموت تتقمص ثوبا آخر, وهذا الثوب يكون على حسب إيمان هذا الشخص بديانتهم أو كفره بها, وعلى هذا فهم يرون أن الثواب والعقاب ليسا في الجنة والنار وإنما في هذه الدنيا على حسب التراكيب والتقمصات الناسوتية والمسوخية التي تصيب الروح. وهم إضافة إلى ذلك يؤمنون بعالم روحاني تسكنه المخلوقات العليا أو النجوم وهذه المخلوقات تفيض بالنور بشكل متسلسل وفق ترتيب السموات السبع, وهؤلاء يشكلون العالم النوراني الكبير, وتتكون السموات السبع من أهل المراتب والكواكب ويعتقد النصيريون أن عدد العالم البشري (119) ألفا ويتكون من المقربين والكروبيين والروحانيين والمقدمين والسائحين والمستمعين واللاحقين, وجميع هذه المراتب من العالم النوراني الذي هبط من السماء النورانية على سبع مراحل وأما عالم الظلمة فيضم الأرواح التي لبست قمصان المسوخية في كل أدوار مسخها, ومنها المسخ بصورة امرأة (1).وذلك لأنهم يعتقدون أن المرأة لا تستحق أن تكون مؤمنة فإذا قدر لها ذلك فإنها بعد موتها ترد بصورة رجل مؤمن لأن صورة المرأة هي هبوط من الدرجة التي سما لها المؤمن, أما الرجل الكافر بدينهم فيعتقدون أنه عندما يموت ترد روحه في صورة امرأة كافرة, لأن الشياطين كما يقولون من المرأة والإنسان إذا ارتقى في كفره صار إبليسا وورد في صورة امرأة (2).ويجري على هذا الاعتقاد قولهم أنه كان قبلنا سبعة أدوار وسبعة أوادم وفي كل دور كان يبعث فيهم آدم ونحن في الدور الثامن وسيبقى الكون والوجود هكذا وإلا يبطل سلطان الله وقدرته (3).وتقمص الأرواح بالنسبة للمؤمن في نظرهم هو ارتقاؤه في الدرجات والمراتب حتى يخرج من هذه القمصان اللحمية ويلبس قمصان الأنواع وهي النجوم (4). فالنجوم هم المؤمنون والصالحون. أما الكافر فيحل عليه المسخ والنسخ, فيبقى كذلك على مر الأكوار والأدوار يأتي بقمصان رديئة دنيئة كالحيوانات التي تذبح والتي لا تذبح أو أن يأتي بصورة جامدة من معدن أو حجر فيذاق بذلك حر الحديد وبرده. (5) ويرى المفضل الجعفي أحد مشايخ ابن نصير أن الحجر والشجر والماء والملح وغير ذلك مما لا يدب ولا يمشي ولا يطير, وهو كما يتحلل من أبدان المؤمن والكافر, فكل من هذه الأشياء من كانت له طعم طيبة ورائحة لذيذة أو ملامسة لينة أو مشرب صافي فإنه يكون مما يتحلل من أبدان المؤمنين, وأما الأشياء التي لها رائحة نتنة وطعمها مر وغير ذلك, فإنه يتحلل من أبدان الكافرين. (6)   (1) انظر ((دائرة المعارف الإسلامية)) – مادة نصيري- و ((مخطوط تعليم الديانة النصيرية)) (ورقة 14) أ. وكتاب ((الهفت والأظلة)) للمفضل الجعفي (ص32) (2) كتاب ((الهفت والأظلة)) للمفضل الجعفي (ص142,144) (3) كتاب ((الهفت والأظلة)) للمفضل الجعفي (ص80) (4) كتاب ((تعليم الديانة النصيرية)) – مخطوط – (ورقة 16 ب) – و ((كتاب الصراط)) – للمفضل الجعفي – مخطوط – (ورقة 95 ب – 98 أ). (5) كتاب ((تعليم الديانة النصيرية)) – ((مخطوط – ورقة 17 أ). (6) كتاب ((الهفت والأظلة)) (ص 76) .. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 262 والكافر في اعتقادهم يمسخ في كل شيء ما عدا الصورة البشرية وذلك لما سبقه من الكفر والجحود والإنكار لأهل الحق - وهم النصيرية - فيعاقب ويعذب بتركيبه بكل شيء ما عدا الصورة البشرية الإنسانية من بقر وغنم وإبل وطير وهوام وكل ذي روح من قردة وخنازير مما يؤكل ولا يؤكل وهذا في نظرهم هو المسخ والنسخ, فالذي يؤكل منه هو نسخ والذي لا يؤكل هو مسخ, وهذا كله - كما يزعمون - عدل من الله عز وجل لهؤلاء الجاحدين لأهل الحق لقوله تعالى يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 6 - 11] , فمسخهم الله لتكذيبهم بالدين لأن (الدين) (1) المذكور في الآية الكريمة - كما يزعمون - هو أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب. (2) والتناسخ الذي يقع على الكافر بديانتهم يجري عليه ألف موتة وألف ذبحة وذلك عن طريق المسخ والنسخ ويستدلون على ذلك بآيات منها قوله تعالى عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ [الواقعة: 61 - 62] , وقوله تعالى فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ [الإنفطار: 8] وقوله جل وعلا قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا [الإسراء: 50 - 51] , ويعتبرون (الخلق الذي يكبر في الصدور) الذهب والفضة باعتبارهما من معادن الجبال لقوله تعالى وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ [فاطر: 27] , فالجبال في نظرهم هم الجبابرة والطواغيت الذين ظلموا أهل الحق - النصيرية - فمسخوا على هذه الحالة, حتى ينتهي هذا الدور, فيمسخوا مرة أخرى حيوانات تؤكل وتشرب (3).ويبقى عذاب المسخ والنسخ على الكافر بدينهم في جميع الأدوار إلى أن يظهر القائم الغائب - وهو محمد بن الحسن العسكري - فيرد هؤلاء في صورة الإنسانية, ثم يقتلهم من جديد فتجري الأودية بدمائهم كما يجري الماء (4).والكافر قبل ظهور القائم ينادي ويصرخ أن يخرجه الله من العذاب الواقع عليه بالمسخ والنسخ وأن يعيده إلى الصورة الإنسانية ليؤمن بدينهم ويعمل صالحا ويستدلون على ذلك بقوله تعالى وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر: 37] , فالكافرون يقولون لربهم أخرجنا من الأبدان المسوخية ومن هذا العذاب إلى الأبدان الناسوتية لكي نعمل صالحا (5)   (1) كتاب ((الهفت والأظلة)) (ص 74,75). (2) كتاب ((الهفت والأظلة)) (ص 74,75). (3) كتاب ((الصراط للمفضل)) الجعفي – ((مخطوط – ورقة 53أ, ب). (4) كتاب ((الصراط)) للمفضل الجعفي – ((مخطوط – ورقة 53أ, ب). (5) كتاب ((الهفت والأظلة)) الجعفي (ص 66) .. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 263 "والنصيرية في الوقت الحاضر لا تنكر هذا الاعتقاد مطلقا, بل لا تزال تؤمن به وتبرره بكل ما يعنيه هذا الاعتقاد من كفر وإنكار يقول هاشم عثمان النصيري: "إن إنكار وجود البعث شيء طبيعي وهو كان ذائعاً في العصر العباسي قبل ظهور اصطلاح النصيرية (1) ". وكأن وجود هذا الاعتقاد يبرر إنكار النصيرية للبعث والنشور. والواقع أن اعتقاد التناسخ بكل صوره وأشكاله, يهدم ركنا هاما من أركان الإيمان في الإسلام وهو الإيمان باليوم الآخر بما فيه من ثواب وعقاب وجنة ونار وعدم الإيمان بالآخرة يخرج الإنسان من طريق الإسلام, وهذا واضح في كثير من آيات القرآن الكريم منها قوله تعالى لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة: 177] ِ, وقوله تعالى وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا [النساء: 136] ووصف الله هذا اليوم بوصف دقيق في كثير من الآيات والسور كقوله تعالى يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 6 - 8] فكيف بنا فيمن يعتقد بالتناسخ والذي جاء الإسلام لإزالته, كما أزال باقي الاعتقادات الوثنية والإلحادية, أما الآيات التي يستدلوا بها على هذا الاعتقاد الفاسد فهو نوع من المغالطة والتأويل بالرموز والألغاز, والإسلام بريء من هذا لأنه دين الوضوح بلا لبس ولا غموض. ونستطيع أن نقول بكل تأكيد أن التناسخ مرتبط باعتقادات كثيرة كانت سائدة قبل الإسلام في فارس والهند واليونان, وما يقول الدكتور محمد كامل حسين: "فإن لهذه العقيدة علاقة بمذهب التناسخ في الديانة البوذية, والديانة الهندوكية", ففي الديانة البوذية ظهر بوذا على هيئة حيوانات وطيور وشجر وصور أنسية حوالي ألف مرة, وفي الديانة الهندوكية ظهر شيفا على صور إنسانية عديدة. كذلك ظهر مذهب التناسخ عند فلاسفة اليونان وكانوا يعتقدون بظهور آلهتهم بصورة مختلفة, وكان فيثاغورس أحد فلاسفتهم يدرس هذه الفكرة لأتباعه, بل إنه كان يؤمن بقرابة الإنسان والحيوان" (2). المصدر: الحركات الباطنية في العالم الإسلامي لمحمد أحمد الخطيب - ص355   (1) ((العلويون بين الأسطورة والحقيقة)) هاشم عثمان (ص77). (2) انظر ((البوذية وتأثيرها في الفكر والفرق الإسلامية المتطرفة)) محمد علي الزعبي وعلي زيعور (ص147 - 149) , وكتاب ((طائفة الدروز)) محمد كامل حسين (ص 109) وكتاب ((هيراقليطس فيلسوف التغير وأثره في الفكر الفلسفي)) , د. علي النشار ورفاقه (ص249). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 264 المبحث السابع: عبادات النصيرية يختلف النصيريون عن المسلمين في العبادات، بل وفي كل شيء، وهذا طبيعي؛ إذ إن تعاليم الإسلام لا يمكن أن تتفق مع التعاليم الوثنية مهما أظهروها بالمظهر الإسلامي، مثل استعمالهم الأسماء الإسلامية، كما قد يتسمون بالأسماء المسيحية أيضاً؛ لكنهم لا يسمحون لأحد منهم أن يتسمى بأفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر. ولأن مذهبهم خليط من شتى الأفكار والديانات، فإن ما ورد في عقيدتهم وكتبهم من كلمات الصلاة والحج والزكاة والصيام لا يريدون بها المقصود منها في الشريعة الإسلامية، بل أولوها إلى معان أخرى باطنية. ويذكر بعض العلماء أن النصيريين يفرقون في التزام التكاليف بين المشايخ وبين الجهال فيرون أن جبرية التكاليف تسري على المشايخ وتسقط عن الجهال. ولعل في هذا الكلام نظراً فإن الشيوخ أو أصحاب العهد وهم يعرفون الباطن يكونون في حرية تسقط معها التكاليف كما هو المعروف عن المذهب الباطني عموماً، فهم يزعمون أن الشخص إذا عرف بواطن النصوص سقطت عنه ما تدل عليه ظواهرها من التكاليف، والحلال والحرام. نعم قد يكلف الشخص الداخل في المذهب بالقيام بالتكاليف لحثه على طلب العلم الذي يسقط عنه في النهاية جميع ما حظر على غيره ممن لم يصل إلى درجته على حد ما صرح به الهفت الشريف، حيث ذكر وهو يعدد الدرجات أن الاصطفاء درجة فوق درجة النبيين، وفوق هذه أيضاً درجة أعلى منها وهي درجة الحجاب، ثم قال المفضل الجعفي: (قلت يا مولاي هل علينا نحن معرفة هذه الدرجات) قال الصادق: نعم، من عرف هذا الباطن فقد سقط عنه عمل الظاهر، ومادام لا يعرف هذه الدرجات ولا يبلغها بمعرفته، فإذا بلغها وعرفها منزلة منزلة، ودرجة درجة فهو حينئذ حر قد سقطت عنه العبودية، وخرج من حد المملوكية إلى حد الحرية باشتهائه ومعرفته. قلت: يا مولاي فهل ذلك في كتاب الله؟ قال: نعم، أما سمعت قوله تعالى: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى [النجم: 42] فإذا عرف الرجل ربه فقد انتهى للمطلوب، ولا شيء أبلغ إلى الله من الوحدانية والمعرفة، وإنما وضعت الأصفاد والأغلال على المقصرين، وأما من قد بلغ وعرف هذه الدرجات التي قرأتها لك فقد أعتقته من الرق، ورفعت عنه الأغلال والأصفاد وإقامة الظاهر. ثم تلا قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة: 93] وقرأ مولاي: لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ [النور: 29]، قلت: ما تعني هذه يا مولاي؟ قال: يعني رفعة في المعرفة وارتفاعاً في الدرجات (1)،.وذكر الدكتور مصطفى الشكعة (2)، أن النصيريين يصلون في خمس أوقات، إلا أنها تختلف في الأداء وفي عدد الركعات عن بقية المذاهب الإسلامية، وصلاتهم لا سجود فيها، وفيها بعض الركوع أحياناً. ولا يصلون الجمعة ولا يعترفون بها كفرض، ولا يتطهرون قبل أداء صلواتهم، ولا يصلون في المساجد، بل يحاربون بناء المساجد ولا يرضون بإقامتها، بل يجتمعون في بيوت معلومة وأوقات معينة، ويسمون هذا الاجتماع عيداً يقوم الشيوخ بتلاوة بعض القصص والأخبار والمعجزات الخرافية لأئمتهم، ويختلط الحابل بالنابل في هذه الاجتماعات رجالاً ونساءً.   (1) ((الهفت الشريف)) (ص42) وانظر (ص125). (2) ((إسلام بلا مذاهب)) (312) نقلاً عن ((طائفة النصيرية)) (ص 57). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 265 ثم يقومون بأداء بعض الطقوس والصلوات المشابهة لقداسات وطقوس المسيحيين، ومن قداساتهم الكثيرة قداس الطيب لكل أخ وحبيب، وقداس البخور في روح ما يدور في محل الفرح والسرور، وقداس الأذان وبالله المستعان، وكل قداس له ذكر خاص به وأدعية يتوسلون فيها بالإله علي والخمسة الأيتام وكبار مشايخهم - الذين جعلوهم أرباباً من دون الله؛ كالخصيبي وغيره- أن تحل في ديارهم البركة وأن ينصروا على أعدائهم. ومن أمثلة هذه القداسات: قداس الأذان وهو: (الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيراً، الحمد لله كثيراً وجهت وجهي إلى محمد المحمود طالباً سره المقصود، المتقرب بتجلي الصفات وعيني الذات، وفاطر الفطر ذو الجلال، والحسن ذو الكمال، اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم الخليل، هو الذي سماكم مسلمين حنيفاً مسلماً ولا أنا من المشركين (هكذا). ديني سلسل طاعة إلى القديم الأزل، أقر كما أقر السيد سلمان حين أذن المؤذن في أذنه وهو يقول: شهدت أن لا إله إلا هو العلي المعبود، ولا حجاب إلا السيد محمد المحمود، ولا باب إلا السيد سلمان الفارسي، ولا ملائكة إلا الملائكة الخمسة الأيتام الكرام. ولا رب إلا ربي شيخنا وهو شيخنا وسيدنا الحسين حمدان الخصيبي، سفينة النجاة وعين الحياة، حي على الصلاة حي على الفلاح تفلحوا يا مؤمنون، حي على خير العمل بعينه الأجل الله أكبر والله أكبر، قد قامت الصلاة على أربابها وثبتت الحجة على أصحابها. الله مولاي يا علي أسألك أن تقيمها وتديمها ما دامت السموات والأرض، وتجعل السيد محمد خاتمها، والسيد سلمان زكاتها، والمقداد يمينها، وأبا ذر شمالها، نحمد الله بحمد الحامدين، ونشكر الله بشكر الشاكرين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. أسألك اللهم مولاي بحق هذا قداس الأذان، وبحق متَّى وسمعان، والتواريخ والأعوام، بحق يوسف بن من كان، بحق الأحد عشر كوكباً الذين رآهم يوسف بالمنام تحل في دياركم البركة بالتمام، يا مولاي يا علي يا عظيم) (1)،. وهناك قداسات كثيرة كل قداس فيه مثل هذا الكلام السخيف. ويقول في الهفت الشريف في بيان معنى الصلاة والزكاة: إن جعفر الصادق قال للمفضل: (أتدري ما معنى قوله تعالى: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ [مريم: 55] قلت: يعني أهله المؤمنين من شيعته الذين يخفون إيمانهم وهي الدرجة العالية والمعرفة والإقرار بالتوحيد وأنه العلي الأعلى، فأما معنى قوله تعالى: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ [مريم: 55] فالصلاة أمير المؤمنين، والزكاة معرفته، وأما إقامة الصلاة فهي معرفتنا وإقامتنا) (2)،. والصيام عند النصيرية ليس هو عن الأكل والشرب وجميع المفطرات في نهار رمضان؛ بل هو الامتناع عن معاشرة النساء طوال شهر رمضان. والحج إلى بيت الله الحرام يعتبرونه كفراً وعبادة للأصنام (3)،. وقد ذكر الدكتور عبد الرحمن بدوي أنه توجد خلاصة وافية لتعاليم النصيرية وعقائدها في كتيب صغير بعنوان (كتاب تعليم ديانة النصيرية)، وهو مخطوط في المكتبة الأهلية بباريس برقم 6182، وهو على طريقة السؤال والجواب، ويتألف من (101) سؤال وجواب، نذكر منها على سبيل المثال ما يأتي: س: من الذي خلقنا؟ ج: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين. س: من أين نعلم أن علياً إله؟ ج: مما قاله هو عن نفسه في خطبة البيان وهو واقف على المنبر إذ قال: (أنا سر الأسرار أنا شجرة الأنوار ... أنا الأول والآخر، أنا الباطن والظاهر) .. إلى آخر كذبهم عليه. س: ما أسماء مولانا أمير المؤمنين في مختلف اللغات؟   (1) ((العلويون)) (ص109). (2) ((الهفت الشريف)) (ص40). (3) ((طائفة النصيرية)) (ص66). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 266 ج: سماه العرب باسم علي، وهو سمى نفسه أرسطوطاليس، وفي الإنجيل اسمه إيليا (إلياس)، ومعناه علي، والهنود يسمونه ابن كنكرة ... إلى آخر ما ذكره. س: لماذا نسمي مولانا باسم أمير النحل؟ ج: لأن المؤمنين الصادقين هم مثل النحل الذين يشتارون من أحسن الأزهار، ولهذا سمي أمير النحل. س: ما أسماء النجباء في العالم الصغير الأرض؟ ج: يورد 25 اسماً أولها أبو أيوب، وآخرها عبد الله بن سبأ. س: ما القرآن؟ ج: هو المبشر بظهور مولانا في صورة بشرية. س: ما علامة إخواننا المؤمنين الصادقين؟ ج: ع. م. س. س: ما دعاء النيروز؟ ج: تقديس الخمر في الكأس. س: ما اسم الخمر المقدس الذي يشربه المؤمنون؟ ج: عبد النور. س: لماذا؟ ج: لأن الله ظهر فيها. س: لماذا يولي المؤمن وجهه في الصلاة قبل الشمس؟ ج: اعلم أن الشمس نور الأنوار. إلى آخر 101 سؤال وجواب، ذكرها كلها عبد الحسين العسكري في كتابه (العلويون) (1)، تشتمل في مجملها على تأليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، واعتقاد التناسخ والحلول، وتعظيم الخمر التي سموها عبد النور؛ لأن الله حل فيها، وتعظيم الأعياد النصرانية والمجوسية، وتقديس النجوم والاعتماد عليها، وعبادة الشمس، وفيها كذلك الحث على التزام السرية والكتمان لتعاليمهم الوثنية المجوسية. المصدر: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام لغالب عواجي -2/ 573   (1) ((العلويون)) (ص82 - 96)، نقلاً عن ((مذاهب الإسلاميين)) (2/ 474 - 487). د/بدوي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 267 المبحث الثامن: موقف النصيرية من الصحابة النصيرية شأنهم شأن غيرهم من أعداء الإسلام في عدائهم للإسلام وزعمائه، فلقد بالغ هؤلاء في بغض الصحابة رضوان الله عليهم، بل واعتقدوا أن من الصحابة من لم يكن مؤمناً حقيقة، بل كان يتظاهر بالإسلام ويبطن النفاق خشية من سطوة علي، ومن هؤلاء بافترائهم أبو سفيان وابنه معاوية رضي الله عنهما. وقد خصوا الصحابي الجليل وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يليه عمر الفاروق رضي الله عنهما بالبغض الشديد، فلم يجيزوا حتى مجرد التسمية بأبي بكر وعمر، بل بلغ بهم السفه والحقد عليهما أن عمدوا إلى الحيوانات البريئة وتفننوا في تعذيبها؛ لأن روح أبا بكر وعمر وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم حلت فيهم عن طريق التناسخ. ومن هنا فهم يأخذون بغلاً أو حماراً ليذيقوه سوء العذاب، لأنه تقمص روح أبي بكر أو عمر، كما أنهم يأخذون غنمة ويعذبونها كذلك تنكيلاً بأم المؤمنين عائشة وتنفيساً عن أحقادهم المجوسية، إلا أن المشكل هو كيف يقع اختيارهم على إحدى هذه البهائم بعينها للتنكيل بها. ولهم عليهم غضب الله أفعال وأقوال في ذم الصحابة وخصوصاً ما قالوه عن عمر رضي الله عنه الذي يرمزون إلى اسمه بـ (أدلم) يتنزه من له أدنى مسكة من عقل أو حياء من ذكرها. والسبب في بغضهم هؤلاء الأخيار من الصحابة واضح، وهو أن هؤلاء هم الذين أطفئوا نار المجوسية ونشروا راية الإسلام خفاقة بين جحافل المجوسية والوثنية، فكيف يرضى عنهم هؤلاء وهم قد وتروهم في ديانتهم وفي حكمهم واستعلائهم؟!. المصدر: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام لغالب عواجي -2/ 581 وعندما يأتون بقصة من قصصهم المختلقة حول هؤلاء الصحابة, يسمونهم بأسماء وألقاب بذيئة منها: ساكن لعنه الله, والشيطان, وأدلم (1). ومن القصص المختلقة والسخيفة التي يذكرونها ويستدلون بها على ألوهية علي قصة تقول: "إن أحد حكماء فارس جاء إلى المدينة وسأل عن أمير المؤمنين, فأتوا به إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يكلمه ذلك الحكيم وخرج من عنده, وعندما سألوه لماذا لم يكلمه قال: هذا ظلمة بلا نور, هذا أصل كل ظلمة, ومضل كل أمة ومغير كل ملة فلا تركنوا إليه .... ثم سأل عن أمير المؤمنين علي, فلما أتوا به إلى علي, جعل علي يكلمه بكلام غير معروف, فلما خرج من عنده سألوه عنه فقال: هذا أصل كل نور, ومدبر الأمور, والرب الكريم والعلي العظيم" (2) لذلك فهم يصبون غضبهم وحقدهم على عمر رضي الله عنه, وكتبهم مليئة بهذه السخافات الدنيئة, وعمر في رأيهم كان عدوا لعلي في جميع ظهوراته من قبل عن طريق التناسخ فهو مثلا قابيل عندما ظهر علي في صورة هابيل (3). ويبررون زواج عمر من أم كلثوم بنت علي, على أن هذا توهم من عمر - كما يزعمون- لأنه في الحقيقة قد تزوج بابنته جريرة التي أوهمه علي أنها أم كلثوم, فلما دخل بها عمر أعلمه سلمان بذلك, فخاف أن يفضح أمره فلم يخبر أحداً (4).وبسبب هذا الحقد ضد عمر, فإنهم يحتفلون بعيد مقتله ويسمونه (يوم مقتل دلام لعنه الله) , وهو اليوم التاسع من ربيع الأول من كل سنة (5).لذا فالجهاد عند النصيرية هو ذكر الشتائم على أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة (6). وكذلك على الفقهاء والعلماء أمثال أبي حنيفة والشافعي وأحمد ومالك, لأنهم يأكلون من خيرات علي ولا يعبدونه (7) فهم أنجاس لأنهم نصبوا أنفسهم لضلالة من اتبعهم فصدوا الناس عن آل البيت (8). هذا هو مع الأسف موقفهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, موقف الحقد والضغينة الذي يدور في صدور أعداء الإسلام ضد هؤلاء, لأنهم رفعوا راية الإسلام خفاقة في كل أرجاء الأرض, وحطموا كل طواغيت الشرك والوثنية التي تختفي النصيرية وراءها. - تقديرهم وحبهم لابن ملجم قاتل علي-:وفي المقابل فإن النصيرية تقدر وتحب عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي رضي الله عنه, وتعتبره أفضل الناس, لأنه خلص اللاهوت من الناسوت بقتله, وبذلك تخلص اللاهوت من ظلمة الجسد وكدره (9). المصدر: الحركات الباطنية في العالم الإسلامي لمحمد أحمد الخطيب - ص364   (1) ((العلويون بين الأسطورة والحقيقة)) هاشم عثمان (ص77). (2) ((مناظرة الشيخ يوسف الحلبي)) – (مخطوط – ورقة 74 ب, 75 أ). (3) انظر كتاب ((الهفت والأظلة)) للجعفي (ص69). (4) انظر كتاب ((الهفت والأظلة)) للجعفي (ص69 - 73). (5) مخطوطة (أعيادنا) ورقة 39أ. (6) ((الجذور التاريخية للنصيرية العلوية)) للحسيني عبد الله (ص164) نقلا عن الباكورة السليمانية للأذني. (7) ((العلويون أو النصيرية)) , د. مجاهد الأمين (ص 15). (8) كتاب ((الصراط)) للجعفي (ورقة 178 ب). (9) انظر ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) ابن حزم (4/ 188) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 268 المبحث التاسع: تعظيمهم لسلمان الفارسي والأيتام الخمسة إن النصيرية لهم ثالوثا يؤمنون به وهو: (ع. م. س.) فالعين: هو علي بن أبي طالب وهو المعني بالذات الإلهية, والميم: هو محمد صلى الله عليه وسلم وهو الاسم والحجاب والنبي الناطق, أما السين: فهو سلمان الفارسي وهو الباب الذي خلقه - كما يزعمون - محمد صلى الله عليه وسلم وبالتالي هو الذي خلق الأيتام الخمسة الذين بيدهم مقاليد السماوات والأرض. ومما يذكر في هذا المقام أن سلمان فارسي الأصل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه يحتل مكانا عظيما وجليلا عند جميع طوائف الشيعة على اختلاف عقائدها وأسمائها, لأنهم يزعمون أنه من الصحابة القلائل الذين ناصروا وشايعوا عليا ووقفوا إلى جانبه في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام وكذلك في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وهذا الأمر واضح في كتب الشيعة جميعهم التي تأتي بقصص مختلقة ليس لها أي أساس تاريخي بطلها الحقيقي سلمان في موقف الدفاع عن علي بن أبي طالب ضد أعدائه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما تصور هذه القصة. أما الأيتام الخمسة الذين ورد ذكرهم فهم أيضا من الصحابة المعظمين عند كل الشيعة, وهؤلاء هم: المقداد, وأبو ذر الغفاري, وعبد الله بن رواحة, وعثمان بن مظعون, وقنبر بن داكان, وجميعهم من الصحابة ما عدا قنبر فإنه خادم علي بن أبي طالب. وقد أخذت النصيرية عن الشيعة هذا التعظيم لهؤلاء ولكن بوجه آخر: وهو اعتبار سلمان والأيتام الخمسة هم الذين خلقوا العالم والموكلون بأموره. فسلمان في نظرهم هو النفس الكلية التي انبثقت من العقل - محمد صلى الله عليه وسلم - ويعتقدون أن سلمان أو النفس الكلية هي التي خلقت السماوات والأرض وخلقت كذلك الأيتام الخمسة والمقداد باعتباره أول الأيتام الخمسة فقد خلق الناس ولذلك فهو رب الناس - تعالى الله عما يقولون-. وهذا الاعتقاد في الواقع دخيل من عدة مذاهب واعتقادات لذا يجب أن نربطه بصورة طبيعية بالفلسفة الأفلاطونية الحديثة: التي تقوم على أن الموجودات فاضت عن الواحد ولها مراتب مختلفة أعلاها مرتبة العقول المفارقة. ونربطه كذلك بمذهب الصابئة الذي يقول: أن للعالم صانعا فاطرا نتقرب إليه بالمتوسطات المقربين لديه وهم الروحانيين المطهرون المقدسون لديهم وهم أيضا الأرباب والآلهة والشفعاء عند الله رب الأرباب ويوجهون المخلوقات. وينبغي أيضا كما يقول المستشرق ماسينيون: أن نقارن بين قائمة الأيتام عند النصيرية وقائمة الحدود الهندية أو العذارى الحكيمات لسليمان. فسلمان حسب زعمهم: خالق السماوات والأرض, وهو أيضا "الباب الناطق والشبح اللاصق الذي لا يوصل إليه - أي إلى الله - إلا به ولا يدخل إليه - أي الله - إلا منه متصل غير منفصل (1) ".ويزعمون أيضا أن "محمد صلى الله عليه وسلم بمنزلة الأب لهذه الأمة, وسلمان بمنزلة الأم (2) " , "والذي علم القرآن لمحمد هو المعنى أي علي, على لسان الباب وهو سلمان (3) " بصفته جبرائيل. المصدر: الحركات الباطنية في العالم الإسلامي لمحمد أحمد الخطيب - ص360   (1) ((مسائل عن المراتب)) – مخطوط – ورقة 55 ب. (2) ((مخطوط مناظرة الشيخ يوسف الحلبي)) ورقة 92 ب. (3) ((كتاب تعليم الديانة النصيرية)) – مخطوط – ورقة 16أ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 269 المبحث العاشر: أعياد النصيرية للنصيرية أعياد كثيرة في أوقات كثيرة مثل عيد الغدير، وعيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد عاشوراء، وعيد الغدير الثاني يوم المباهلة، وعيد النوروز، وعيد المهرجان، وعيد الصليب، وعيد الغطاس، وعيد السعف، وعيد العنصرة، وعيد القديسة بربارة، وعيد الميلاد إلى آخر، أعيادهم الكثيرة التي وافقوا فيها المسلمين والنصارى والوثنيين (1)،. وعن احتفالاتهم بعيد النوروز يقول عبد الحسين العسكري: (احتفال النصيرية بعيد النوروز - وهو العيد الديني والقومي للفرس- يدل على الأثر الفارسي في النصيرية، ويشير إلى تمجيدهم للفرس بدعوى حلول الإله وشخصوه في ملوكهم، حتى إنهم جعلوا منهم ثالوثاً نظير ثالوثهم، وهم يدعون الإسلام. حيث زعموا أن ثلاثة منهم توارثوا الحكمة وتجلى الإله فيهم وهم شروين وكروين، وكسرى، ويقابلهم في الإسلام النصيري المعنى والاسم والباب؛ علي محمد سلمان (ع. م. س) (2)،. المصدر: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام لغالب عواجي -2/ 580 أما أعيادهم فيمكن تقسيمها إلى أربعة أقسام: إسلامية, وشيعية اثني عشرية, ونصرانية, وفارسية. وهذا يبين أن النصيرية تتكون من عناصر غير متجانسة, وهياكل اعتقادية مختلفة, استقت منها ومن غيرها عقائدها وتقاليدها فبينما نرى هذه الطائفة تحتفل بعيدي الفطر والأضحى, نراها تذهب بعيدا بعد ذلك وتحتفل بعيدي الميلاد والبربارة النصرانيين. وهم يعترفون بذلك, وبعض كتابهم يقسمون هذه الأعياد إلى قسمين: عربي وفارسي, وفي أحد مخطوطاتهم نرى مؤلفها يقسم هذه الأعياد إلى قسمين ويقول: "أعيادنا العربية عشرة: منها يوم غدير خم, وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة وهو اليوم الذي أظهر السيد محمد فيه معنوية مولانا أمير النحل منه السلام للخاص والعام فأقر من أقر وأنكر من أنكر. ومنها يوم الجمعة: وهو محمد الذي اجتمع له أهل الأديان من المسلمين بنبوته, وهو القائم منه السلام. ومنها يوم الفطر: وهو اليوم الذي يؤذن فيه للمؤمنين بالنطق وإظهار أمر الله عز وجل. ومنها يوم الأضحى: وهو يوم خروج القايم منه السلام بالسيف وإهراقه الدماء. ومنها يوم الأحد: وهو اليوم الذي أمر أمير المؤمنين منه الرحمة سلمان أن يدخل المسجد ويخطب الناس ويظهر الله الطاغوتين وأهل الردة وهو اليوم الذي قال له سلمان: سل أعطيك البيان, وأمنحك البرهان وأقامه للناس علما وقال للمؤمنين: سلمان شجرة وأنتم أعضاؤها, وكان ذلك يوم الأحد لليلتين خلت من ذي الحجة. ومنها اليوم الذي نصب السيد جعفر منه السلام (محمد الزيني): وأقامه للناس علما وقال: من كنت له ربا فمحمد وليه ومن كان عدوه فأنا عدوه وكان ذلك يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة. ومنها اليوم الذي أمر السيد محمد بن علي الرضا منه السلام لعمر بن الفرات مقامه فيكم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله فدعا عمر بن الفرات الشيعة بأمره كان ذلك يوم الخميس لست ليال خلون من ذي الحجة. ومنها اليوم الذي أمر الباقر بالبيان لجابر بالدعاء إلى الله جهرا فدعا فأخذ وترك السندان المحمي على يده حتى حالت جمرا ثم قتل وكان ذلك يوم السبت لتسع خلون من ذي الحجة. فهذه الأعياد العربية التي أمر الله العباد بمعرفتها, وأما الأعياد الفارسية: وهو النوروز: وهو اليوم الرابع من نيسان من كل سنة وله شرف عظيم وفضل كبير. ويوم المهرجان: وهو اليوم السادس عشر من تشرين الأول في كل سنة. ومن خواص الأعياد المفروح فيها, وهو اليوم التاسع من شهر ربيع الأول في كل سنة وهو مقتل دلام. المصدر: الحركات الباطنية في العالم الإسلامي لمحمد أحمد الخطيب - ص410   (1) ذكرها د/ الحلبي بتوسع في كتابه ((طائفة النصيرية)) (ص 71). (2) ((العلويون)) (ص104، 105). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 270 المبحث الحادي عشر: تكتم النصيرية على عقائدهم يعتبر النصيريون ديانتهم ومذهبهم سراً من الأسرار العميقة التي لا يجوز إفشاؤها لسواهم، وقرروا أن الذي يفشي شيئاً منها يكون جزاؤه القتل في أسوأ صورة له، لأنه أفشى سر العلي الأعلى، ومن أمثلة ذلك أن سليمان الأضني وهو من أبناء مشايخ النصيرية من ولاية أضنة تنصر بتأثير بعض المنصرين الأمريكيين وجاء إلى اللاذقية، وكتب كتاباً سماه (الباكورة السليمانية) وكشف فيها الكثير من أسرار العقيدة النصيرية، وطبع المنصرون الأمريكيون الكتاب في بيروت سنة 1863.وبعد أن قام باللاذقية مدة أخذ أقاربه يراسلونه ويحببون إليه العودة إليهم، مستعملين في ذلك كل وسائل التودد والمجاملة حتى آمن جانبهم وعاد إلى وطنه الأصلي، فكان جزاؤه أن أحرقوه حياً، ثم حاول النصيريون بكل جهد وعزم على احتواء الكتاب حتى اختفى تدريجياً، ولا توجد منه الآن نسخة واحدة (1)،. وهكذا فإنهم يترصدون لكل من يذكر عنهم شيئاً أو يشير إلى عقائدهم الخبيثة التي تنضح شركاً ووثنية ولا يملكون من وسائل الدفاع والرد غير التصفية الجسدية، لعلمهم بأن مذهبهم عورات لا تحتمل النقاش وعرض الأدلة، فهي أقنعة واهية سرعان ما يظهر ما وراءها وينكشف، ومن هنا فإنهم ليسوا على استعداد لأي بحث ومناظرة. وقد كتب محمد فريد وجدي خلاصة عن ما جاء في كتاب الباكورة السليمانية هي: أن النصيرية علويون يعتقدون بألوهية الإمام علي، والشمالية منهم يقولون: إنه حالٌّ في القمر. والكلازية يذهبون إلى أنه حال في الشمس، ولهذا فهم يقدسون الشمس والقمر وسائر النجوم. ويعتقدون بتناسخ الأرواح، فالأرواح الصالحة عندهم تحل في النجوم، ولهذا يسمون علياً أمير النحل أي أمير النجوم، والأرواح الشريرة تحل في أجسام الحيوانات التي هي في نظرهم نجسة كالخنازير والقرود وبنات آوى. أن كلمة السر عندهم ثلاثة أحرف وهي: ع. م. س، أي علي، محمد، سلمان. أن للنصيرية كتاباً مقدساً يعتمدونه ويرجعون إليه وهو غير القرآن، ولا يحتل القرآن عندهم إلا مكاناً ثانوياً. العقائد النصيرية غير متجانسة وثنية قديمة وإسلامية متطرفة (2)،.وحين تزعم النصيري (علي عيد) التنظيم النصيري في طرابلس فأشار إلى هذا صاحب مجلة الحوادث اللبنانية فقتل بمؤامرة هؤلاء (3)،، وأمثلة أخرى كثيرة تدل على أن هؤلاء ليسوا على يقين من صلاحية ديانتهم وصفائها، وأنهم يعلمون أنها قامت على شفا جرف هار مملوءة بالخداع والتضليل، وتبييت النية السيئة لغيرهم من البشر. فإن من كانت نيته طيبة ومبادؤه سليمة لا يتخوف من أحد أن يطلع عليها، بل يفرح بكثرة المطلعين، كما هو الحال عند أهل السنة والجماعة الذين يتمنون لو أن أهل الأرض كلهم يدرسون مبادءهم ويطلعون عليها، بل إنهم بالعكس يشعرون دائماً بالمرارة من محاربة علماء السوء والزعماء الضلال لأفكارهم التي هي تبع لأوامر الله ونواهيه في كتابه الكريم. وسبب تلك العداوة من قبل أولئك الضلال المنتفعين أنهم يعلمون تماماً أن العقيدة الصحيحة حينما تصل إلى قلوب أتباعهم تحول فوراً بينهم وبين الخضوع والسجود لأولئك الطغاة. ومن هنا كانت السرية هي أهم ما يطلب به الداخل في ملّتهم. وقد جاء في الهفت الشريف من الحث على لزوم الكتمان ما رواه المفضل الجعفي عن رجل انتهى من تكرار التناسخ أنه قال له: (وأوصيك يا أخي ونفسي بكتمان سر الله تعالى وباطني مكنونة إلا من إخوانك الموحدين المقربين بمعرفة العلي الأعلى، ثم غاب عني فقال الصادق: لقد أتاني في هذا الأسبوع ثلاث مرات فسلم علي وأنا فيكم ولا تعرفونهم) (4)،.وقال الصادق للمفضل كما يرويه صاحب الهفت: (يا مفضل لقد أعطيت فضلاً كثيراً وتعلمت علماً باطناً فعليك بكتمان سر الله ولا تطلع عليه إلا ولياً مخلصاً، فإن فشيته إلى أعدائنا فقد أعنت على قتل نفسك) (5)،. ويسمى صاحب (الهفت) المسلمين كلهم بأنهم أنجاس ورعاع إلا من دخل في ضلالته وذلك في قوله: (وأن هذا العلم يا مفضل سر الله ومكنون خزائنه الذي لم يطلع عليه أحد من عباده إلا الأولياء المختصون، وواجب سبحانه وتعالى أن لا يتطلع (هكذا) على هذا العلم الرعاع الأنجاس ثم قرأ: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن:26 - 27]. المصدر: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام لغالب عواجي - 2/ 548   (1) ((دائرة معارف القرن العشرين)) (10/ 249 - 250)، نقلاً عن ((العلويون)) (ص63). (2) ((دائرة معارف القرن العشرين)) (10/ 249 - 250)، نقلاً عن ((العلويون)) (ص63). (3) ((دائرة معارف القرن العشرين)) (10/ 250) نقلاً عن ((طائفة النصيرية)) (ص43). (4) ((الهفت الشريف)) (ص54). (5) (ص102). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 271 المبحث الثاني عشر: نظرتهم تجاه المرأة المرأة النصيرية - إلا من خرجت عن تعاليمهم - تعتبر من أجهل نساء العالم؛ إذ إن التعاليم النصيرية تقضي بعدم جواز اطلاع المرأة على أي سر من أسرار المذهب؛ لأنها في نظرهم ضعيفة العقل والإرادة، ولأنها أكثر شراً من الرجل وأكثر احتيالاً ومكراً، وهن سبب كل شر- كما صرح بذلك الهفت الشريف المقدس عندهم-، والجهل بمذاهبهم هو العلم وإنما أقصد أنها أكثر النساء أمية. فالمرأة النصيرية إذاً لا دين لها (1)، وفي كتابهم المذكور وصايا عديدة حول الاحتراس من المرأة، وذكر المساوئ الكثيرة التي تصدر عنها وأن الرجل قد يجازى أيضاً بالتناسخ بأن يتحول إلى صورة امرأة عقاباً له إذا كان في حياته السابقة غير مؤمن - أي غير نصيري-، أو كانت عليه ذنوب كثيرة في حق إخوانه النصيريين، أو لم يحترم المشايخ ويقدم لهم الهدايا وأنواع المأكولات (2)،. وقد ذكر المفضل الجعفي عن الصادق - وهو من جملة أكاذيبهم عليه - أنه قال في وجوب الحفاظ على سرية المذهب: (كذلك الكافرون ينحطون من درجة الرجال حتى يصيرون عامة نساء كافرات) قال المفضل: يا مولاي روي عن أبيك أنه قال: النساء أشر من الرجال، وأكثر احتيالاً ومكراً، قال الصادق: يا مفضل إن أصل كل شر النساء، وحين أخرج أبونا آدم من الجنة كان بسبب حواء حين أغواه ضده على أكل الحبة. وكذلك قتل قابيل أخاه هابيل بسبب النساء، ألم تسمع كلام الله في كتابه الكريم عن امرأة نوح ولوط وكيف خانتاهما (3)،، وكذلك قتل يحيى بن زكريا بسبب امرأة باغية، وقد قال النبي وأبلغ في القول وأزجر في المعنى حين نظر في النار فرأى أكثر أهلها نساء. ثم قال الصادق: كيف لا يكون ذلك وهم (4)، عايلة وأقوى كيداً من الرجال، وقال تعالى وقال منه السلام، والشياطين مَنْ إلا امرأة، وأن الإنسان إذا ارتقى في كفره وعتوه وتمرد وتناهى في ذلك صار إبليساً وردّ في صورة امرأة، قلت: سبحان الله يا مولاي! ما علمت ذلك ولا ظننت أنه يبكيني. قال الصادق: ألم تقرأ في القرآن قوله تعالى: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76] وقال: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف:28] إذ هم صور النساء، قلت صدق مولاي) (5).ومن هذه النظرة المتشائمة للنساء فإنه لا أمل في صلاحها ويجب إبعادها عن كل أمر مهم ومنه سر الديانة. أما في الإسلام فلا أحد يجهل مكانة المرأة العالية؛ حيث جعلها راعية ومسئولة، وأن الله لا يضيع عمل عامل سواء كان ذكراً أو أنثى، وأن المرأة مكلفة بنفس التكاليف التي أمر بها الرجل، إلا ما استثنى لضرورة المرأة، وجعل لها حق التملك وطلب منها إخراج زكاة مالها ورغبها في الصدقة وفعل الخير، بل وجعل الجنة تحت أقدام الأمهات (6)، وأوصى الله بطاعتها: وقرنها بطاعته.   (1) انظر: ((دائرة معارف القرن العشرين مادة نصر))، وانظر: ((العلويون)) (ص57)، ((وطائفة النصيرية)) (ص43). (2) انظر: ((الجبل التالي)) (ص9). (3) يعتقد هؤلاء أن آدم قبله سبعة أوادم، كل آدم مثل أمة، وانتهى حتى جاء أبونا آدم الجديد وهو الثامن كما يذكر ((الهفت الشريف))، انظر الباب (60،61 ص150 - 153). (4) أي في الدين؛ إذ كانتا كافرتين ولم تكن خيانة في العرض، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما بغت امرأة نبي قط) ((أيسر التفاسير))، (5/ 389 - 391). (5) ((الهفت الشريف)) (ص144). (6) حديث أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم في مستدركه وصححه. إلا أن السخاوي قد ذكر فيه اضطراباً في سنده، انظر ((المقاصد الحسنة)) (ص176). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 272 إلى غير ذلك مما هو معروف في الإسلام مما ينبغي أن يطأطئ له دعاة تحرير المرأة رؤوسهم حياءً وإكباراً له، وإجلالاً لمبادئه التي يجهلونها تمام الجهل، ثم يتهجمون عليه بأنه ظلم المرأة حقوقها، وما لهؤلاء السفهاء للخوض في ما لم يحيطوا بعلمه فليقرءوه أولاً وليقرءوا كلام العقلاء من منصفي سائر الملل ليروا أنفسهم المتطاولة وصغرها أمامه. المصدر: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام لغالب عواجي - 2/ 552 أما المرأة فهي في نظرهم نوع من أنواع المسخ الذي يصيب غير المؤمن, فهي كالحيوان لأنها مجردة عن وجود النفس الناطقة, لذلك فهم يعتقدون أن نفوس النساء تموت بموت أجسادهن (1) لعدم وجود أرواح خاصة بهن (2) "لهذا السبب فهم يستبيحون الزنا بنساء بعضهم بعضا لأن المرأة لا يكمل إيمانها إلا بإباحة فرجها إلى أخيها المؤمن, وفي ذلك اشترطوا أن لا يباح ذلك للأجنبي ولا لمن هو ليس داخلا في دينهم" (3).وهذا يفسر لنا ظاهرة كون المرأة جزءا من الضيافة المقدمة عند الدخول في أسرار العبادة (4). وكذلك الإباحية المطلقة التي تظهر خلال أعيادهم الكثيرة كالنوروز والميلاد وغيرهما, حيث تدور كؤوس الخمرة ويختلط الحابل بالنابل من نساء ورجال, ولعل هذه الإباحية تعيدنا إلى الحشاشين تلامذة الحسن بن الصباح الذي كان يخدر تابعيه ويدخلهم إلى جنات ملأى بالنساء ليفرض عليهم ما يريد, وكذلك إلى القرامطة الذين كان لهم يوم يجتمعون فيه في مكان مظلم رجالا ونساء فينكح الرجل أخته أو أمه أو أي امرأة تقع في يده. المصدر: الحركات الباطنية في العالم الإسلامي لمحمد أحمد الخطيب - ص 370   (1) ((مخطوطة في تقسيم جبل لبنان)) – قسم – في مذهب النصيرية. (2) دائرة المعارف الإسلامية – مادة نصيري. (3) مخطوطة في تقسيم جبل لبنان – قسم – في مذهب النصيرية. (4) مخطوطة في تقسيم جبل لبنان – قسم – في مذهب النصيرية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 273 المبحث الثالث عشر: تعظيمهم للخمر الخمر في نظر النصيريين مقدسة أيما تقديس, لأنها تقدم بسر النقباء والنجباء خلال دخول الجاهل في أسرار عقيدتهم لذلك يطلقون عليها اسم (عبد النور) باعتبار أن الخمر خلق من شجرة النور وهي (العنب). والحقيقة أنه لا يمكن للباحث أن يفصل موضوع الخمر والمرأة عن موضوع دخول الجاهل في أسرار العقيدة النصيرية لأن الخمر والمرأة أمران مهمان ومتلازمان يقدمان للشباب الداخل في أسرار الدين باعتبارهما جزءا من الضيافة للدخول في الفردوس. وفي نظري أن تلقين أسرار النصيرية في جو الخمر والمرأة يوضح لنا عملية التخدير النفسي والجسدي والعقلي التي تقع على الشاب وهو يلقن أسرار دينه فكؤوس الخمر تدار بين وقت وآخر فتلعب دورها في تخدير عقل الشباب وتأتي الأنثى لتكمل الدور الذي بدأته الخمرة, فيكون الشاب حينذاك في وضع لا يمكنه أن يرفض أي شيء من أسرار الدين وخاصة أنه أصبح في الفردوس المنشود (الخمر والمرأة). ... والخمر - كما يزعمون - حللها الله لهم بصفتهم أولياء الله الذين آمنوا به وعرفوه بشخص (علي) وحرمه على الجاحدين لله المنكرين له - أي الذين لم يؤمنوا بعلي - فهي نوع من الأغلال والآصار وضعت عليهم لعدم إيمانهم بعلي. يروى عن الخصيبي: "أنه إذا حضر بين يديه (عبد النور) - أي الخمر- يأخذ القدح في يمينه وينهل منه ثلاث نهلات ويترنم عليه في هذا القداس المبارك ويقول: الحمد لله العلي وحده الذي أنجز وعده ونصر عبيده وأعز جنده وأهلك ضده وهزم الأحزاب وحده فلا إله مثله ولا إله بعده, مفزع الطالبين وغاية العارفين إله الأولين والآخرين له الدين الخالص وإنما تدعون من دونه الباطل, وإن الله هو العلي الكبير أمير المؤمنين الملك الحق المبين ..... اللهم إن هذا عبدك عبد النور شخص النار (1) حللته وكرمته وفضلته لأوليائك العارفين بك حلالا طلقا, وحرمته على أعدائك الجاحدين المنكرين لك, حراما نصا, اللهم مولاي كما حللته لنا ارزقنا به الأمن والأمان, والصحة من الأسقام, وانف عنا به الهم والأحزان ..... ثم يقرأ عدد من الآيات ويقول أخيرا: تذكروا بسر (العين) الله يرزقكم بركتها ورضاها" (2). المصدر: الحركات الباطنية في العالم الإسلامي لمحمد أحمد الخطيب - ص 369   (1) يعرفون شخص النار بأنه عبد النور (الخمر) الذي جعله الله قربانه الأعظم وشخصه المكرم وحكم على نفسه بالمغفرة فيه (من تعليق على مخطوطة كتاب ((تعليم الديانة النصيرية)) ورقة 18 ب). (2) قسم (التوجيه لتعليم الديانة النصيرية) – القداس الثاني – مخطوطة ورقة 25أ, ب/ وكذلك مخطوطة ((كتاب تعليم الديانة النصيرية)) ورقة 18 أ, ب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 274 المبحث الرابع عشر: المراتب والدرجات عند النصيرية العالم عند النصيرية ينقسم إلى قسمين: العالم العلوي, والعالم السفلي, ولكل واحد منهما رتبه ودرجاته. والعالم العلوي هو العالم النوراني الذي تعيش فيه الرتب النورانية التي تنتهي برتبة البابية, وتفيض بالنور على العالم السفلي, الذي لا يزال ينتقل في الصور البشرية, ولم يصل إلى مستوى الإيمان الكامل. (1) والعالمان العلوي والسفلي في نظرهم, هم النصيريون عاقلهم وجاهلهم (2) فغير النصيري لا يكون في الصورة البشرية لأنه ممسوخ بالصور الأخرى, مثل صورة المرأة والحيوان والجماد. أما درجات العالم العلوي, فهي للمؤمن, وتتكون من سبع درجات لا يرتقي الشخص من درجة إلى درجة إلا بمقدار علمه وعمله, فهي ترتبط ارتباطا مباشرا بالباب والأيتام الخمسة لأن من جملة هذه الرتب: اليتيم والباب. وأول درجة يرتقي إليها المؤمن من العالم السفلي إلى العلوي هي درجة الممتحن تليها درجة المخلص, فدرجة المختص, ثم النجيب, ثم النقيب, فاليتيم, وأخيرا الباب, وهذه الدرجات في نظرهم عقبات, فكلما تجاوز المؤمن درجة كأنه بذلك تجاوز عقبة من العقبات (3).فإذا أصبح الشخص أو المؤمن في الرتبة السابعة وهي رتبة البابية, فعند ذلك يدخل: "المحل الأعلى, ويتخلص من هده الصور ليصبح نورانيا فيظهر له الاسم - أي الحجاب - فيعاينه ويشاهده ويطلعه على علم تكوينه (4).   (1) العالم السفلي في نظرهم يتكون من (119) ألف نسمة .... انظر مخطوطة ((كتاب تعليم الديانة النصيرية)) ورقة 14 أ/ وكذلك موضوع تناسخ الأرواح عند النصيرية من هذه الرسالة. (2) العقلاء هم العالم العلوي, وهم مشايخ النصيرية, والجهال هم العوام من النصيريين الذين لا يزالون يترقون في درجات العالم السفلي ولم يعرفوا عن دينهم الشيء الكثير. (3) انظر ((كتاب الصراط)) /للمفضل الجعفي – مخطوطة – ورقة 95أ , ب. (4) انظر ((كتاب الصراط)) /للمفضل الجعفي – مخطوطة – ورقة 98أ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 275 ويستدلون على تقسيم هذه الدرجات بقوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى [البقرة:260] ويؤول الخصيبي هذه الآية بقوله: "أن الباب هو الذي قال: ليطمئن قلبي, وكان إرادته في ذلك استئذان مولاه أن يرتب أربعة يكونوا مع المقداد في الرتبة (1). قال له الله (وهو الاسم): وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260] فالطيور الأربعة هم الأيتام, والجبال هم الخمس مراتب: النقباء, والمختصين, والمخلصين, والممتحنين ....... فتولى المقداد مرتبة النقباء, وتولى أبو الذر مرتبة النجباء, وتولى عبد الله مرتبة المختصين, وتولى عثمان مرتبة المخلصين, وتولى قنبر مرتبة الممتحنين ....... فالنقباء تمد النجباء بالنور, وهكذا تمد كل مرتبة الأخرى بالنور ...... أما المرتبة الأخيرة أي - الممتحنين - فإنها تمد مراتب العالم السفلي السبعة البشرية, فتمد المقربين, والمقربين تمد الكروبيين, والكروبيين تمد الروحانيين, والروحانيين تمد المقدسين, والمقدسين تمد السائحين, والسائحين تمد المستمعين, والمستمعين تمد اللاحقين" (2).والمراتب السبعة السفلية لا ترتفع إلى العالم العلوي ومراتبه السبع إلا بارتقاء الدرجات السابقة الذكر من درجات العالم السفلي, حتى تصل إلى درجة (الكروبيين) , وهي الدرجة التي يرفع فيها عن الشخص كرب البشرية لأنه عرف باريه واسمه وبابه (3) , فيكون بذلك قريب من درجة المقربين التي تستمد نورها من العالم العلوي. والشعراء النصيريون, أنشدوا هذه المراتب في قصائد, منهم المنتجب العاني الذي وصفهم بقوله: فتلك الأبواب والأيتام تتبعهم وخلفهم نقباء سادة نجب وإثرهم نجباء كلهم سلكوا نهج الهدى وإلى نيل العلا وثبوا وبعد ذلك مختصون ترفعهم ومخلصون إلى مولاهم قربوا فهذه سبعة علوية ظهرت دون الأوائل منها السبعة الشهبوبعدهم سبعة سفلية نسبوا إلى التراب ما وارتهم الترب (4) والدرجة النهائية للمؤمن - كما مر - هي درجة الباب, وفيها يصبح المؤمن ملاكا, ويرفع عنه الأكل والشرب, ويستطيع أن يصعد للسماء وينزل للأرض, مثلما يريد, وكيفما شاء, لأنه يتصور بالصورة التي يريدها. (5) ولكن الدكتور مصطفى الشكعة ينقل عن كتاب (الباكورة السليمانية) أن رتب المشيخة في الوقت الحالي ثلاثة هي: الإمام, ثم النقيب, وتليها رتبة النجيب, ولكل واحد من هؤلاء سلطانه وحدوده وحقوقه ...... ويضيف: أن هذه الرتب افتقدت في الوقت الحاضر المؤهلات, ولعل المؤهل الغالب هو قوة شخصية صاحب الرتبة بغض النظر عن تأهيله العلمي والديني (6). وهذا يؤكده لنا البيان الذي أصدره أحد مشايخ النصيرية بعد هزيمة حزيران عام 1967م, والذي فضح فيه بعض أعمالهم, ومنها إعطاء الرتب إلى بعض ضباط الجيش السوري النصيريين تعبيرا عن جهودهم في الخدمة الطائفية أمثال صلاح جديد, ومحمد عمران وغيرهم (7). المصدر: الحركات الباطنية في العالم الإسلامي لمحمد أحمد الخطيب - ص 366   (1) أي رتبة اليتيم. (2) ((مخطوطة مسائل عن المراتب)) ورقة 57أ , ب. (3) ((مخطوطة مسائل عن المراتب)) ورقة 58أ , ب. (4) ((فن المنتخب العاني وعرفانه)) (ص 52,53). (5) كتاب ((الهفت والأظلة)) للمفضل الجعفي (ص 61, 62). (6) ((إسلام بلا مذاهب)) د. مصطفى الشكعة (ص 352). (7) انظر ((كتاب مجتمع الكراهية)) لسعد جمعة (ص 62 - 75) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 276 المبحث الخامس عشر: أماكن انتشار النصيرية موطن النصيرية الآن في سوريا ولبنان, ويبدو أنهم جاءوا إلى هذه المنطقة في فترات سابقة في شكل هجرات جماعية من العراق فراراً من الاضطهاد الذي وقع عليهم بسبب آرائهم المنحرفة فاتخذوا من جبال الشام ساترا لهم, ويمثل النصيرية الآن حوالي 10% من سكان سوريا ونسبة كبيرة منهم تقطن في ريف محافظة اللاذقية بينما تنتشر أقليات منهم في دمشق وحمص وحلب كما توجد أعداد كبيرة منهم في تلك المناطق الواقعة جنوب تركيا كالأسكندرونة وأنطاكيا وما حولهما من بلاد الترك كما توجد جماعات منهم في منطقة "عكار" بلبنان. المصدر: دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين الخوارج والشيعة لأحمد محمد أحمد جلي - ص 323 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 277 المبحث السادس عشر: بيان خطر النصيرية النصيرية هي إحدى الفرق الباطنية الغلاة، ظهرت في القرن الثالث للهجرة انشقت عن فرقة الإمامية الاثني عشرية. والنصيريون كغيرهم من أعداء العقيدة الإسلامية الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر، إذ لم تمر بهم فرصة دون أن يهتبلوها في إيقاع أكبر الأذى بالمسلمين، والنصيريون حينما يوقعون الأذى بالمسلمين دون هوادة أو رحمة، يعتقدون في نفس الوقت أنهم يثابون على ذلك، فكلما أوغل الشخص منهم في إلحاق الأذى بالمسلمين كلما زاد ثوابه حسب اعتقادهم، وهذا ظاهر في غلظتهم ومعاملتهم للمسلمين. وأقرب مثال على مواقف النصيريين في العصر الحاضر ما يجري في أماكن المسلمين في سوريا ولبنان من تقتيلهم الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال، ثم وقوفهم كذلك في صف المارونيين والخمينيين. ولقد هيأ هؤلاء للتتار قديماً وللصليبيين الفرص لذبح المسلمين وإنزال أفدح المصائب بهم، مما لم يسمع بمثله باعتراف كتَّاب النصيرية أنفسهم. وما من فتنة تثور ضد المسلمين من أهل السنة إلا وهؤلاء النصيريون في خندق واحد مع عدو المسلمين ضد المسلمين، وكم ذهبت من أنفس واستبيحت من أعراض بسبب دسائس النصيرية وتآمرهم في وقائع تقشعر منها الجلود، وبينهم وبين اليهود والنصارى مودة وبينهم تشابه في كثير من المعتقدات تجد مصداق هذا وقائع حرب الأيام الستة كما يسمونها فما حصل منهم فيها إنما هو دليل من الأدلة الكثيرة على مواقف النصيرية تجاه أهل السنة وعدائهم لهم ولأسلافهم الأخيار مثل أبي بكر وعمر وعثمان، وغيرهم من فضلاء الناس بعد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. ولا يزال القارئ الكريم يذكر ما قدمنا نقله عن علماء السنة وشهاداتهم بما فعله النصيريون والباطنيون عموماً بالمسلمين على مختلف العصور حين تمكنوا من إلحاق الأذى بأهل السنة، وكيف كانوا يتحولون إلى وحوش ضارية لا تدخل الرحمة إلى قلوبهم لا يرحمون صغيراً ولا يوقرون كبيراً. لقد انطوى هؤلاء على كفر وإلحاد وخرافات تجعل الإنسان ييأس تمام اليأس أن يعود هؤلاء إلى رشدهم، وإذا شئت الاطلاع على مصداق هذا فاقرأ كتابهم (الهفت الشريف) بتحقيق علمائهم في هذا العصر، الذي يزعمون أنهم تحرروا من كل الخرافات وأنهم أصحاب إنصاف وتحقيق، ونورد لك أخي القارئ دليلاً واحداً مما جاء في هذا الكتاب المفضل لديهم حيث قال: (إن الحسين لما خرج إلى العراق وكان الله محتجباً به، وصار لا ينزل منزلاً صلوات الله عليه إلا ويأتيه جبريل فيحدثه، حتى إذا كان اليوم الذي اجتمعت فيه العساكر عليه، واصطفت الخيول لديه وقام الحرب، حينئذ دعا مولانا الحسين جبريل وقال له: يا أخي - انظر الله يقول لجبريل يا أخي! - من أنا؟ قال: أنت الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم والمميت والمحيي، أنت الذي تأمر السماء فتطيعك والأرض فتنتهي لأمرك والجبال فتجيبك والبحار فتسارع إلى طاعتك، وأنت الذي لا يصل إليك كيد كائد ولا ضرر ضار) إلى أن قال عن جبريل وهو يخاطب عمر بن سعد القائد الأموي الموجه لحرب الحسين قائلاً له: (ويحك تقتل رب العالمين وإله الأولين والآخرين وخالق السموات والأرض وما بينهما، فلما سمع عمر بن سعد ذلك أخذه الخوف) (1)، إلى آخر ترهاتهم التي تدل على عمق جهلهم وبدائيتهم.   (1) ((الهفت الشريف)): اقرأ من (ص96) إلى (ص102) لترى العجائب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 278 ويسب صاحب الهفت عمر رضي الله عنه وينسبه إلى أنه كان في زمن الحسين في صورة كبش عن طريق التناسخ فدى الله به الحسين من الذبح، وذُبح هو أي عمر الذي سماه (دلامة) أو أدلم، فقال عن الصادق عن المفضل أنه قال له: يا مفضل إن الكبش الذي فدي به الحسين كان الأدلم أدلم قريش وهو يومئذ شيخ في تركيب كبش). ثم زعم أن قرني هذا الكبش معلقان في الكعبة. (أما رأيت يا مفضل قرنيه في البيت الحرام معلقين؟ قلت: نعم يا مولاي، قال: فذاك القرنان لذلك الكبش الذي فدي به الحسين. ثم ضحك الصادق حتى بدت نواجذه، قلت: يا مولاي ما الذي أضحكك؟ قال: يا مفضل إن الناس إذا اجتمعوا بالموسم بمكة المكرمة رغبوا أن ينظروا إلى قرني الكبش تعجباً لأنه من الجنة، ونحن نقوم بالنظر إليهما تعجباً أنهما قرنا دلامة، فالناس يتعجبون من شيء ونحن نتعجب من شيء خلافه) (1)،.وما أدري ما الذي يقصد هذا المجوسي بقرني الكبش المعلقين بالكعبة فما رأينا أي قرن ولا حكى أحد من الناس أنه رأي هذين القرنين. وفي هذا العصر خرجت مرة كتائب الباطنية النصيرية في حماة (وهي تملأ أجواء الفضاء بذلك الهتاف الذي لن تنساه حماة) (هات سلاح وخذ سلاح دين محمد ولى وراح) (2)،.وهذه جريدة الثورة أحفاد الوثنية النصيرية تكتب (الله والأنبياء والكتب المقدسة كلها محنطات ينبغي تحويلها إلى متاحف التاريخ) (3)، وذاك النشيد وهذا التصريح وقع حينما اقتحم اليهود الصهاينة المسجد الأقصى وهم يرددون (محمد مات خلف بنات فليسقط الإسلام). المصدر: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام لغالب عواجي - 2/ 533   (1) ((الهفت الشريف)) (ص94). (2) ((الإسلام في مواجهة الباطنية)) (ص110). (3) ((الإسلام في مواجهة النصيرية)) (ص110). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 279 المبحث السابع عشر: من خيانات النصيريين عندما قدم الغزو الصليبي على بلاد المسلمين وقويت محاولة الصليبين السيطرة على الأماكن المقدسة وبينما كانت جموع الحملة الصليبية الأولى تحاصر مدينة أنطاكية التي استماتت في الدفاع ضد هجمات الصليبين المتكررة عليها, لم يقف النصيريون مكتوفي الأيدي بل وجدوا الفرصة مناسبة, ولن تعوض للانتقام من أهل السنة عن طريق التحالف مع الصليبيين وتقديم العون لهم فنجدهم ينزلون إلى السواحل من جبالهم التي كانوا يعتصمون بها لكي يلاقوا الصليبيين ويقدموا لهم ما يحتاجون. وبدلا من أن يقف النصيريون إلى جانب المدافعين عن أنطاكية ويكونوا عونا لهم ضد العدو الغاشم حدثتهم أنفسهم بالخيانة, فبعد حصار طويل استمر قرابة سبعة أشهر على أنطاكية من قبل الصليبيين أمام أسوار أنطاكية لدرجة أن الفوضى وسوء النظام دبت بين الجند نتيجة لتأثير الجوع والإنهاك, فأخذ بعض الصليبيين يفرون من المعركة ويتسللون خفية هاربين, وفي هذا الموقف الحرج في هذه الفترة اتصل الزعيم النصيري فيروز الذي كان موكلا بحراسة أحد أبراج المدينة من قبل الأمير ياغيسيان بالقائد الصليبي بوهيموند على تسليم البرج إليه ودخول المدينة منه, والاستيلاء عليها فتم الاتفاق بينهما على ذلك وعند الفجر تسلق بوهيموند وأصحابه السلالم صاعدين إلى البرج حيث كان ينتظرهم فيروز وبمساعدته استطاعوا أن يحتلوا باقي الأبراج وتمكنوا من احتلال المدينة بكاملها فأعملوا السيف في أهلها, ونهبوا كل ما وقعت عليه أيديهم, وهكذا تمكن الصليبيون من الاستيلاء على أنطاكية بمساعدة الزعيم النصيري فيروز ولو لم يجد الصليبيون هذا الرجل الخائن الذي أعانهم على فتح المدينة لكان حصارهم لها قد طال كثيرا ولكانت النتيجة غير ما آلت إليه بعد ذلك (1).ومن الأدلة الأخرى التي تثبت تعامل النصيرية مع الصليبيين ومساعدتهم لهم ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في سياق فتواه عن النصيرية إذ قال: " ومن المعلوم عندنا أن السواحل الشامية إنما استولى عليها النصارى من جهتهم (أي جهة النصيرين) وهم دائما مع كل عدو للمسلمين فهم مع النصارى على المسلمين ومن أعظم المصائب عندهم فتح المسلمين للسواحل وانقهار النصارى بل ومن أعظم المصائب عندهم انتصار المسلمين على التتار ومن أعظم أعيادهم إذا استولى والعياذ بالله تعالى النصارى على ثغور المسلمين ...... فهؤلاء المحادون لله ورسوله كثروا حينئذ بالسواحل وغيرها فاستولى النصارى على الساحل ثم بسببهم استولوا على القدس الشريف وغيره فإن أحوالهم كانت من أعظم الأسباب في ذلك (2) ".   (1) سبط ابن الجوزي: ((مرآة الزمان)) , مخطوط 2/ ورقة 19 ب, سليمان الحلبي: ((طائفة النصيرية)) ص 109, عبد الله الأمين: ((دراسات في الفرق)) (ص128) سعيد برجاوي: ((الحروب الصليبية في المشرق)) (ص 135). (2) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (35/ 150 - 151). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 280 ويستطرد شيخ الإسلام ابن تيمية في فضح مواقف هؤلاء الخونة وممالأتهم للصليبيين وينبه على عدم استخدام أمثال هؤلاء في حراسة ثغور المسلمين حتى لا يؤخذوا من قبلهم فيقول: " وأما استخدام مثل هؤلاء (أي النصيريين) في ثغور المسلمين أو حصونهم أو جنودهم فإنه من الكبائر وهو بمنزلة من يستخدم الذئاب لرعي الغنم فإنهم من أغش الناس للمسلمين ولولاة أمورهم وهم أحرص الناس على فساد المملكة والدولة وهم شر من المخامر الذي يكون في العسكر فإن المخامر قد يكون له غرض إما مع أمير العسكر وإما مع العدو وهؤلاء مع الملة ونبيها ودينها وملوكها وعلمائها وعامتها وخاصتها وهم أحرص الناس على تسليم الحصون إلى عدو المسلمين وعلى إفساد الجند على ولي الأمر وإخراجهم عن طاعته والواجب على ولاة الأمور قطعهم من دواوين المقاتلة فلا يتركون في ثغر ولا في غير ثغر فإن ضررهم في الثغر أشد وأن يستخدم بدلهم من يحتاج إلى استخدامه من الرجال المأمونين على دين الإسلام وعلى النصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم بل إذا كان ولي الأمر لا يستخدم من يغشه وإن كان مسلما فكيف بمن يغش المسلمين كلهم " (1).ومن الملاحظ في تاريخ الفرق الباطنية أن هذه الفرق كانت دائما تتحالف مع أي عدو للمسلمين وتقدم لهم العون في سبيل القضاء على أهل السنة وهذا ما أشار إليه فيليب حتى في معرض كلامه عن بعض الطوائف والفرق فقال: "ثم إن العناصر الإسلامية المنشقة من شيعة وإسماعيلية ونصيرية عمدوا في مناسبات عديدة على نقض ولائهم بتقديم العون إلى الإفرنج" (2).ومما يدل أيضا على تعامل النصيريين مع الصليبيين ومساعدتهم لهم ما ذكره الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه تاريخ المذاهب الإسلامية فقال: "كانت النصيرية عند الهجوم الصليبي على العالم الإسلامي عونا للصليبيين ضد المسلمين ولما استولى الصليبيون على بعض البلاد الإسلامية قربوهم وأدنوهم, وجعلوا لهم مكانا مرموقا. وعندما توحدت الجبهة الإسلامية في وجه الصليبيين على يد قادة الجهاد الإسلامي أمثال نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي اختفى هؤلاء عن الأعين واعتصموا بجبالهم واقتصر عملهم على تدبير المكايد والفتن والفتك بكبراء المسلمين وقوادهم العظام. ولما أغار التتار بعد ذلك على الشام مالأهم أولئك النصيريون كما مالؤوا الصليبيين من قبل, فمكنوا للتتار من الرقاب حتى إذا انحسرت غارات التتار قبعوا في جبالهم قبوع القواقع في أصدافها لينتهزوا فرصة أخرى" (3). المصدر: أثر الحركات الباطنية في عرقلة الجهاد ضد الصليبيين ليوسف إبراهيم الشيخ - ص254   (1) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (35/ 155 - 156). (2) فيليب حتى: ((تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين)) (2/ 259). (3) محمد أبو زهرة: ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (1/ 64). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 281 ومن خيانات النصيريين أيضافي سنة 696هـ تواترت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام فخاف الناس من ذلك خوفا شديدا ولكن خرج جيش من دمشق للقاء التتار فالتقيا عند وادي سلمية فكسر التتار المسلمين وولى السلطان قازان هاربا وقتل جماعة من الأمراء وغيرهم من العوام خلق كثير واقتربت التتار من البلد وكثر العبث بالفساد في ظاهر البلد ثم فرضت أموال كثيرة على البلد موزعة على أهل الأسواق كل سوق بحسبه من المال ثم عمل التتار المجانيق ليرموا بها القلعة وحل الفزع بالناس فلزموا بيوتهم وكان لا يرى بالطرقات أحد إلا القليل والجامع لا يصلي فيه أحد إلا اليسير ويوم الجمعة لا يتكامل فيه إلا الصف الأول وما بعده إلا بجهد جهيد ومن خرج من منزله في ضرورة يخرج بثياب زيهم ثم يعود سريعا ويظن أنه لا يعود إلى أهله وكان ذلك بتواطأ النصيريين مع التتار وعلى رأسهم يومئذ الشريف القمي محمد بن أحمد بن القاسم المرتضى العلوي والأصيل بين نصير الطوسي والذي قبض ثمن هذه الخيانة مائة ألف درهم (1). وانظر كيف يتسمى الخائن شريفا علويا وما هو إلا خسيس سفلي. وفي حين كان هذا العلوي (النصيري) يخون كان رجال أهل السنة وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية ينفخون روح الإيمان في الأمة ويخرجون للجهاد بأنفسهم حتى أنه في هذه الواقعة السالفة عندما حاصر التتار قلعة دمشق وطلب السلطان من نائب القلعة تسليمها إلى التتار امتنع النائب لأن شيخ الإسلام ابن تيمية قد قال له لا تسلمها ولو لم يبق فيها إلا حجر واحد وكان ذلك في مصلحة المسلمين فإن الله عز وجل حفظ لهم هذا الحصن والمعقل الذي جعله الله حرزا لأهل الشام التي لا تزال دار إيمان وسنة حتى ينزل بها عيسى بن مريم عليه السلام. (2). وشاء الله تعالى أن تتحرك العساكر من الديار المصرية لنصرة أهل الشام فلما سمع التتار انشمروا عنها وعرفت جماعة ممن كانوا يلوذون بالتتر ويؤذون المسلمين وشنق منهم طائفة وسمر آخرون وكحل بعضهم وقطعت ألسن وجرت أمور كثيرة ثم سار نائب السلطة في جيش دمشق إلى جبال الجرد وكسروان "وهي الجبال التي كان يسكنها العلويين وعرفت بعد باسمهم"وخرج شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ومعه خلق كثير من المتطوعة لقتال أهل تلك الناحية بسبب فساد نيتهم وعقائدهم وكفرهم وضلالهم وما كانوا عاملوا به العساكر لما كسرهم التتار وهربوا حين اجتازوا بلادهم ووثبوا عليهم ونهبوهم وأخذوا أسلحتهم وخيولهم وقتلوا كثيرا منهم فلما وصلوا إلى بلادهم جاء رؤساؤهم إلى الشيخ ابن تيمية فاستتابهم وبين للكثيرين منهم الصواب وجعل بذلك خير كثير وانتصار كبير على أولئك المفسدين والتزموا برد ما كانوا أخذوا من أموال الجيش وقرر عليهم أموالا كثيرة يحملونها إلى بيت المال .. (3). أرأيت كيف كانت خيانة هؤلاء العلويين إنهم لم يهبوا مع الجيش الشامي لقتال التتار والمدافعة عن البلد وحفظ جناب الأمة. ولا حتى قبعوا في جبالهم دون أن يعينوا على المسلمين ويدلوا على عوراتهم ولا حتى آووا من فر إليهم من عساكر المسلمين بل سلبوهم ونهبوهم وقتلوا أكثرهم فإنا لله وإنا إليه راجعون.   (1) ((البداية والنهاية)) (14/ 906) بتصرف واختصار. (2) ((البداية والنهاية)) (14/ 8). (3) ((البداية والنهاية)) (14/ 8). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 282 ومن خياناتهم: في سنة 705هـ كمن الجيش التتاري لجيش حلب فقتلوا منهم خلقا من الأعيان وغيرهم وكثر النوح ببلاد حلب بسبب ذلك ولما كان قد ثبت خيانة العلويين الذين يسكنون بلاد الجرد سار إليهم نائب السلطنة بمن بقي معه من الجيوش الشامية وكان قد تقدم بين يديه طائفة من الجيش مع ابن تيمية فساروا إلى بلاد الجرد والرفض والتيامنة لغزوهم فنصرهم الله عليهم وأبادوا كثيرا منهم ومن فرقهم الضالة ووطئوا أراضي كثيرة من بلادهم وقد حصل بسبب شهود الشيخ ابن تيمية هذه الغزوة خير كثير وأبان الشيخ علما وشجاعة في هذه الغزوة (1). ومن خيانات النصيريين أيضا قال ابن كثير رحمه الله: (في سنة 717هـ خرجت النصيرية عن الطاعة وكان من بينهم رجل سموه محمد بن الحسن المهدي القائم بأمر الله وتارة يدعي علي بن أبي طالب فاطر السموات والأرض - تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا - وتارة يدعى أنه محمد بن عبدالله صاحب البلاد وخرج من كبار النصيريين الضلال وعين لكل إنسان منهم مائة ألف وبلادا كثيرة ونيابات وحملوا على مدينة جبلة فدخلوها وقتلوا خلقا من أهلها وخرجوا منها يقولون لا إله إلا علي ولا حجاب إلا محمد ولا باب إلا سلمان وسبوا الشيخين وصاح أهل البلد وا إسلاماه وا سلطاناه وا أميراه فلم يكن لهم يومئذ ناصر ولا منجد وجعلوا يبكون ويتضرعون إلى الله عز وجل فجمع هذا الضال الأموال فقسمها على أصحابه وأتباعه قبحهم الله أجمعين وقال لهم لم يبق للمسلمين ذكر ولا دولة ولو لم يبق معي سوى عشرة نفر لملكنا البلاد كلها ونادى في تلك البلاد إن المقاسمة بالعشر لا غير ليرغب فيه وأمر أصحابه بخراب المساجد واتخاذها خمارات وكانوا يقولون لمن أسروه من المسلمين قل لا إله إلا علي واسجد لإلهك المهدي الذي يحيي ويميت حتى يحقن دمك ويكتب لك فرمان وتجهزوا وعملوا أمورا عظيمة جدا فجردت إليهم العساكر فهزموهم وقتلوا منهم خلقا كثيرا وقتل المهدي أضلعهم ويوم القيامة يكون مقدمهم إلى عذاب السعير) (2). ومن خيانات النصيريين أيضا نقتطف هذه المرة صورة الخيانة من أهم مراجع النصيريين وهو كتاب (تاريخ العلويين) لمؤلفه النصيري (محمد أمين غالب الطويل) ومما يثير العجب أن هذا النصيري يسمى وسيلة ويبررها في كتابه السابق فيقول: (ولما كان لا بد للضعيف المظلوم من التوسل بالخيانة لكي يحافظ على حقوقه أو يستردها - وهذا أمر طبيعي يساق إليه كل إنسان - كان العلويون كلما غصب السنيون أموالهم وحقوقهم يتوسلون بغدر السنيين عند سنوح الفرصة) (3). وقد سنحت الفرصة عندما جاء التتار إلى بغداد يقول صاحب تاريخ العلويين (جاء تيمور لنك بجيوش لا يعرف مقدراها واستولى على بغداد وحلب والشام في سنة 822 - 823هـ ويدعي أن تيمور لنك كان نصيريا محضا من جهة العقيدة إذ توجد له أشعار دينية موافقة لآداب الطريقة الجنبلانية (النصيرية) وأسباب دخوله في الطريقة هو ذهاب النصيري (السيد بركة) من خراسان إلى الأمير (تيمور) وهو في بلدة بلخ) ثم يقول (وداوم تيمور لنك في الاستيلاء على البلاد وشيخه السيد بركة يبشره بدوام فتوحاته حتى جاء إلى بغداد وأخذها من يد السلطان واستولى على الموصل عام 896هـ وبنى بها مراقد الأنبياء جرجيس ويونس عليهما السلام وجاء للرها واغتسل بمحل النبي إبراهيم. ثم جاء لماردين وأعطاها الأمان ثم استولى على ديار بكر وعنتاب التي التجأ أميرها إلى حلب) (4).   (1) ((البداية والنهاية)) (14/ 35) بتصرف. (2) ((البداية والنهاية)) (14/ 83 - 84). (3) ((تاريخ العلويين)) (ص: 407). (4) انظر ((تاريخ العلويين)) (ص: 334) وما بعدها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 283 ثم يقول (وكان نائب حلب هو الأمير العلوي (النصيري) تمورطاش والذي اتصل بتيمورلنك خفية واتفق معه على أن يداهم تيمور لنك حلب فهاجمها بالفعل ودخلها عنوة فأمعن في القتل والنهب والتعذيب مدة طويلة حتى أنشأ من رؤوس البشر تله عظيمة وقد قتل جميع القواد المدافعين عن المدينة وانحصرت المصائب بالسنيين فقط!! ثم يقول (ثم سافر تيمور لنك إلى الشام وقبل سفره جاءت إليه العلوية (النصيرية) درة الصدف بنت سعد الأنصار ومعها أربعون بنتا بكرا من العلويين وهن ينحن ويبكين ويطلبن الانتقام لأهل البيت وبناتهم اللاتي جيء بهن سبايا للشام. وسعد الأنصار هذا من رجال الملك الظاهر وهو مدفون بحلب وله قبر فوقه قبة فوعدها تيمور بأخذ الثأر ومشت البنات العلويات مع تيمور وهن ينحن ويبكين وينشدن الأناشيد المتضمنة للتحريض على الأخذ بالثأر فكان ذلك سببا في نزول أفدح المصائب التي لم يسمع بمثلها بأهل الشام. ثم يقول (ولم ينج من بطش تيمور لنك بالشام إلا عائلة من المسيحيين وأمر تيمور لنك بقتل أهل السنة واستثناء العلويين (النصيريين) وبعد الشام ذهب تيمور لبغداد وقتل تسعين ألفا) (1).هذه بعض خيانتهم في مرحلة الغزو التتاري أما في الهجمة الصليبية على العالم الإسلامي فإن الصليبيين لم يدخلوا إلى بلاد المسلمين إلا عن طريقهم ومن مناطق سكناهم في الغالب في طرسوس وإنطاكية وغيرها من مناطق نفوذهم بل إن مدينة إنطاكية سقطت في يد الصليبين بفعل الاتفاق الذي وقع بين الزعيم النصيري فيروز وبين قائد الصليبيين بوهموند (2). ومن خيانات النصيريين في العصر الحديث: إن خيانات النصيريين في العصر الحديث أكثر من أن تحصى فهم دائما يتقربون من الاستعمار ويعاونون معه في مقابل الحصول على بعض المكاسب فعلى سبيل المثال: تعاون النصيريون مع الاحتلال الفرنسي أثناء انتدابه على سوريا وكانوا خير عون لهم على الدولة العثمانية دولة الخلافة يومئذ وفي مقابل هذا منح الفرنسيون النصيريون مجموعة العلويين. وقد فاحت رائحة هذه الخيانة من خلال كلام النصيريين أنفسهم وهم يعترفون بالجميل لفرنسا وما كان جميلا بل ثمن خيانة. قال محمد أمين غالب النصيري: (إن الأتراك هم الذين حرموا هذه الطائفة من ذلك الاسم - العلويين وأطلقوا عليهم اسم النصيريين نسبة إلى الجبال التي يسكنونها نكاية بهم واحتقارا لهم إلا أن الفرنسيين أعادوا لهم هذا الاسم الذي حرموا منه أكثر من 412 سنة أثناء انتدابهم على سوريا إذ صدر أمر من القومسيرية العليا في بيروت بتاريخ 1/ 9/ 1920م بتسمية جبال النصيريين بأراضي العلويين المستقلة) (3). ومن أشهر رؤوس الخونة النصيريين في العصر الحديث رجل يقال له سلمان المرشد من قرية جوبة برغال شرقي مدينة اللاذقية بسوريا وكان الرجل قد ادعى الألوهية فآمن به وتبعه كثير من النصيريين.   (1) ((تاريخ العلويين)) (ص: 34 - 339). (2) انظر ((تاريخ العلويين)) (ص: 293). (3) ((تاريخ العلويين)) (ص: 391). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 284 وقد مثل الدور تمثيلا جيدا فكان يلبس ثيابا فيها أزرار كهربية ويحمل في جيبه بطارية صغيرة متصلة بالأزرار فإذا أوصل التيار شعت الأنوار من الأزرار فيخر له أنصاره ساجدين. ومن الطريف أن المستشار الفرنسي الذي كان وراء هذا الألوهية المزيفة كان يسجد مع الساجدين ويخاطب سلمان المرشد بقوله يا إلهي (1).وقد استماله الفرنسيون واستخدموه وجعلوا للعلويين نظاما خاصا فقويت شوكته وتلقب برئيس الشعب العلوي الجبدري الغساني وعين قضاة وسن القوانين وفرض الضرائب على القرى التابعة له وشكل فرقا خاصة للدفاع سماهم الفدائيين وللتعاون الوثيق بينه وبين الاحتلال الفرنسي عندما جلا الفرنسيون عن سوريا تركوا لهذا النصيري وأتباعه من الأسلحة ما أغراهم بالعصيان فجردت الحكومة السورية آنذاك قوة فتكت ببعض أتباعه واعتقلته مع آخرين ثم أعدم شنقا في دمشق عام 1946 (2). ومنهم النصيري الخبيث يوسف ياسين والذي سعى في محاربة الدولة العثمانية بخطبه وأشعاره بل وسلاحه. قال الدكتور سليمان الحلبي: (لما احتل الإنكليز فلسطين عام 1918م تطوع يوسف ياسين بالفرقة التي شكلها الإنلكيز للعمل مع لورنس والملك عبدالله بالحجاز لمحاربة الأتراك. وقد نشرت جريدة الكواكب الصادرة في 3/ 9/ 1918 بالقاهرة لمراسلها بالقدس واصفا لحفلة أقيمت في النادي العربي لحث الشباب على التطوع في ذلك الجيش فقال المراسل وقف الشاب يوسف ياسين وتكلم بصفته جنديا في الجيش العربي ثم أنشد قائلا: سنأخذ هذا الحق بالسيف والقنا ... شيب شبان على ضمر بلق وقد أخذ الإنجليز فلسطين فعلا ولكن بالخديعة لا بالسيف ولا بالقنا ولا بالمضر البلق ثم أعطوها لليهود وأقاموا فيها دولة) (3).ناهيك عن خيانتهم للأمة الإسلامية بوقوفهم إلى جانب المارونيين النصارى في كثير من الأحداث سواء في سوريا أو لبنان. (4). وفي سجلات وزارة الخارجية الفرنسية رقم 3547 وتاريخها 15/ 6/ 1936وثيقة خطيرة تتضمن عريضة رفعها زعماء الطائفة النصيرية في سوريا إلى رئيس الوزراء الفرنسي يلتمسون فيها عدم جلاء فرنسا عن سوريا ويشيدون باليهود الذين جاءوا إلى فلسطين ويؤلبون فرنسا ضد المسلمين ووقع علي الوثيقة سليمان الأسد ومحمد سليمان الأحمد ومحمود أغا جديد وعزيز أغا هواش وسليمان المرشد ومحمد بك جنيد وفيما يلي نص الوثيقة نورده لأهميته: دولة ليوم بلوم رئيس الحكومة الفرنسية: إن الشعب العلوي الذي حافظ على استقلاله سنة فسنة بكثير من الغيرة والتضحيات الكبيرة في النفوس هو شعب يختلف في معتقداته الدينية وعاداته وتاريخه عن الشعب المسلم (السني) ولم يحدث في يوم من الأيام أن خضع لسلطة من التدخل وإننا نلمس اليوم كيف أن مواطني دمشق يرغمون اليهود القاطنين بين ظهرانيهم على عدم إرسال المواد الغذائية لإخوانهم اليهود المنكوبين في فلسطين وإن هؤلاء اليهود الطيبين الذين جاءوا إلى العرب المسلمين بالحضارة والسلام ونثروا على أرض فلسطين الذهب والرخاء ولم يوقعوا الأذى بأحد ولم يأخذوا شيئا بالقوة ومع ذلك أعلن المسلمون (السنيون) ضدهم الحرب المقدسة بالرغم من وجود إنكلترا في فلسطين وفرنسا في سورية إنا نقدر نبل الشعور الذي يحملكم على الدفاع عن الشعب السوري ورغبته في تحقيق استقلاله ولكن سوريا لا تزال بعيدة عن الهدف الشريف خاضعة لروح الإقطاعية الدينية للمسلمين (السنة) وكل الشعب العلوي الذي مثله الموقعون على هذه المذكرة نستصرخ حكومة فرنسا ضمانا لحريته واستقلاله ويضع بين يديها مصيره ومستقبله وهو واثق أنه لا بد واجد لديهم سندا قويا لشعب علوي صديق قدم لفرنسا خدمات عظيمة (5). ولم تكن الشيعة النصيرية تكف عن التآمر ضد الدولة العثمانية في محاولة إزالتها فقد ساهم الزعيم النصيري (الشيخ صالح العلوي) في إسقاط الدولة العثمانية عندما قام بقطع الطريق الذي يصل طرطوس بحماه فكانت خسائر الأتراك كبيرة نتيجة قطع الطريق عليهم وقام بعقد اتفاقية مع كمال أتاتورك عام 1920 وبعد ثورة مشبوهة ضد الفرنسيين استسلم صالح العلي فعفا عنه الفرنسيون على عكس ما كانوا يفعلونه مع المجاهدين المسلمين (6). وهكذا كان تاريخهم يشهد بخيانتهم وممالأتهم المستمرة لأعداء الإسلام في الظاهر والباطن المصدر: خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية لمحمود محمد عبد الرحمن - ص132   (1) انظر ((إسلام بلا مذاهب)) (ص: 309). (2) انظر خير الدين الزركلي: ((الإعلام)) (3/ 170). (3) ((طائفة النصيرية)) (: 114 – 115). (4) ((طائفة النصيرية)) (: 114 – 115). (5) ((الحركات الباطنية في العالم الإسلامي)) محمد أحمد الخطيب (ص: 335). (6) ((مؤامرات الدويلات الطائفية)) محمد عبد الغني النواوي (ص: 263). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 285 المبحث الثامن عشر: مقارنة بين عقائد الإسماعيليين والدروز والنصيرية من خلال الاستعراض السابق الذي استكملنا فيه دراسة عقائد وأفكار الحركات الباطنية المتواجدة في العالم الإسلامي يمكننا أن نرى كثيرا من أوجه الشبه أو الاختلافات بين عقائد هذه الحركات. إلا أنه في الوقت نفسه يجب أن لا يغيب عن أذهاننا أن الحركة الإسماعيلية كانت المغذي الرئيسي لكثير من هذه الحركات, ولن نتعدى الصواب إذا قلنا: إن الأفكار الرئيسية الموجودة في عقائد الإسماعيلية لا تختلف إلا في بعض التفاصيل عن عقائد الفرق الأخرى. فكافة هذه الفرق اتخذت من الفلسفات الوثنية من إغريقية وإسكندرانية أداة لها في إثبات صحة مزاعمها, وبالتالي في تشكيك الناس بدينهم وعقيدتهم. وينبغي أن نلاحظ أن أتباع كل فرقة من هذه الفرق يعتبرون أنفسهم هم (الموحدون) أما غيرهم - على حسب زعمهم- فالمسافة شاسعة بينهم وبين التوحيد, لذلك فالدروز يطلقون على مذهبهم (مسلك التوحيد) باعتبار أنهم وحدهم سلكوا هذا المسلك؟! ومن الأمثلة الواضحة على أن الإسماعيلية كانت الرائدة في فلسفة كافة الفرق, نظرية الفيض الأفلاطونية فقد كانت الإسماعيلية أول من حاول فرض هذه النظرية على العقائد الإسلامية, لذا أصبحت علما في هذا الاتجاه. وإذا تتبعنا أوجه الاتفاق بين الفرق الباطنية, فإننا نرى أن نظرتهم للألوهية والتوحيد متشابهة رغم بعض الاختلافات في الأسماء والمسميات وذلك لانبثاقها عن نظرية الفيض فالإسماعيلية - حسب زعمها- ترى أن الخالق الحقيقي للكون هما (العقل الكلي والنفس الكلية) وأنهما من جملة الحدود في العالم العلوي وهذان الحدان يقابلهما - على حسب قاعدة المثل والمثول- في العالم السفلي حد النبي وحد الإمام أو الوصي, لذا فإن كل الألقاب التي تطلق على الله تطلق أيضا على الوصي والإمام بصفتهما ممثلا العقل الكلي. وهذه القاعدة تقول بها جميع الفرق الإسماعيلية الأخرى على اختلاف أسمائها. ولكن الدروز رغم انشقاقهم عن الإسماعيلية, وأخذهم الكثير من عقائدها, إلا أنهم رفضوا نظرية المثل والمثول التي تقول بها الإسماعيلية وقرروا أن الحدود العلوية الموجودة في العالم العلوي هي ذاتها الموجودة في العالم السفلي ولا اختلاف بينها, وبما أن الدروز انشقوا عن الإسماعيلية لاظهارهم - الزعم - بألوهية الإمام الإسماعيلي (وهي العقيدة التي حاولت الإسماعيلية إخفاءها خوفا وتقية) فقد أعلنوا جوهر هذه العقيدة وهي: أن الله يتخذ على مر العصور والأزمان حجابا أو صورة ناسوتية يتجلى فيها لخلقه- تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - وأن الحجاب الأخير الذي ظهر فيه كان بصورة الحاكم بأمر الله العبيدي وبذلك أظهروا عقيدة كانت الإسماعيلية تخفيها ولا تعلنها. وفي الوقت نفسه أخذوا عن الإسماعيلية نظرية العقول السبعة وطبقوها على ظهورات الله بالصورة الناسوتية, وزعموا أن عدد هذه الظهورات كانت سبعا آخرها الحاكم. أما النصيرية, فتعتبر أن الذات الإلهية متشخصة بالمعنى وهو (علي ابن أبي طالب) - تعالى الله عن ذلك - ولكنها في الوقت نفسه لم تتجاهل نظرية الفيض التي قالت بها الإسماعيلية والدروز, فزعمت أن العقل الكلي هو (الميم) أي محمد صلى الله عليه وسلم, وأن النفس الكلية هو (السين) أي سلمان الفارسي, وهو حسب زعمهم الذي خلق السماوات والأرض والأيتام الخمسة كذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 286 وجميع الصفات الإلهية التي وصف الله بها نفسه في القرآن الكريم لا تعترف بها كافة الفرق الباطنية, فهم ينفون نفيا مطلقا هذه الصفات, إيجابية كانت أم سلبية, لأنه تعالى - على حسب زعمهم - فوق متناول العقل, والعقل عاجز عن إدراك كنهه, فإثبات هذه الصفات - حسب زعمهم- يعني عدم التوحيد, ولذلك فهم يزعمون أن هذه الصفات تليق فقط بحدوده وخاصة العقل والنفس, باعتبارهما من فيضه ومبدعاته. وثمة وجه آخر من أوجه الشبه بين هذه الفرق, وهي عقيدة التناسخ ورغم أن الإسماعيلية لا تجاهر أو تصارح بالقول بها, إلا أن المتتبع لآراء الإسماعيلية يجزم أنها تؤمن بها شأنها شأن الفرق الأخرى, ولكن هناك بعض الاختلافات بين هذه الفرق. فالإسماعيلية والنصيرية تؤمنان بوجود عالم روحاني تسكنه الملائكة, وعالم سفلي هو عالم الكون والفساد. وهم إضافة إلى ذلك يعتقدون بأن الأجساد مصدر الشقاء والآلام, وأن المؤمن حين موته تذهب نفسه إلى العالم العلوي, وأما الكافر فيتقلب في الأجساد البشرية وغير البشرية عقابا له على ما قدم وعلى هذا فالإسماعيلية والنصيرية تؤمنان بالمسخ, أي أن تأتي نفس الكافر عقابا لها - على حسب زعمهم - بقمصان رديئة كالحيوانات, أو أن تأتي بصورة جامدة من معدن أو حجر فتذوق بذلك عذاب جهنم؟! وهذا الاعتقاد بالنسخ والمسخ, يخالف اعتقاد الدروز, الذين ينحصر التناسخ عندهم في الصور البشرية فقط ولا يكون في البهائم أو الجمادات, ولذلك فقد عبروا عن التناسخ بكلمة التقمص لأن في انتقال النفس إلى جسم حيوان ظلم لها, فالثواب والعقاب بني - حسب زعمهم - على قاعدة العدل الإلهي في محاسبة الأرواح بعد مرورها في القمصان البشرية. وهناك عقيدة أخرى لا يختلفون فيها أبدا وهي عقيدة التقية, فالتستر والكتمان عند جميع هذه الفرق فرض لا يجوز التهاون فيه, لأن البوح بأسرار اعتقاداتها إلى غير أهلها تدنيس لها, لذا فقد طالبت الإسماعيلية والدرزية والنصيرية أتباعها بالاستتار وعدم التظاهر بما يبطنون, وهكذا فقد أصبحت هذه العقيدة عادة مستحكمة عند جميع أتباع هذه الفرق, لأنها تعني التظاهر بشيء والإيمان بشيء آخر, وبالتالي فقد جعلت هذه العقيدة من أتباعها بؤرة للنفاق والخداع يتصفوا به جميعهم, وهذا واضح في تاريخهم. ويمكن أن يضاف إلى عقيدة التقية أمرا آخر مرتبط بها, وهو أن جميع هذه الحركات تطلب من المستجيبين لها عهودا وأيمانا غليظة يجب أن يؤديها حتى يوثق به ومع ذلك فإنهم لا يسلموه كل الأسرار دفعة واحدة, بل على التدرج وكما هو واضح عند الدروز والنصيرية. وهناك أيضا عقائد متشابهة بين الدروز والنصيرية أهمها:"قضية العاقل والجاهل, فالعقال يسترون دينهم عن الجهال منهم, وإذا أراد أحد الجهال أن يدخل في أمور دينهم, فلا يسلمون الديانة له إلا بالتدريج بعد أن يتتلمذ على أحد مشايخ دينهم ويتخذه والدا دينيا, ويتفقون معهم أيضا بقدمية العالم, وأن العالم قد خلق على ما هو عليه الآن, وأن عدد البشر كان كما هو الآن لا يزيد ولا ينقص" (1). وهم يتفقون كذلك بالإضافة إلى الإسماعيلية في تأويل آيات القرآن حسب معتقداتهم, وأن له ظاهرا وباطنا حتى يثبتوا صحة معتقداتهم المناقضة للقرآن الكريم. ونستنتج مما سبق, أن نقطة الخلاف والالتقاء الرئيسية بين الإسماعيلية والدروز والنصيرية هي عقيدة الألوهية, فجميعهم يقرون بإمكانية تجسد الألوهية في صورة إنسان, ولكن الإسماعيلية تراها في الأئمة الإسماعيليين جميعا, بينما الدروز والنصيرية جعلتا لتجسد الألوهية ظهورا أخيرا, فكان عند الدروز بشخص الحاكم, وعند النصيرية بشخص علي بن أبي طالب - تعالى الله عن ذلك - أما بقية العقائد فقد يلتقون في شيء منها ويختلفون في شيء آخر, ولكنهم متفقون في جوهرها. المصدر: الحركات الباطنية في العالم الإسلامي لمحمد أحمد الخطيب - ص 431   (1) ((مخطوط في تقسيم جبل لبنان)) – الجامعة الأمريكية ببيروت (رقم 31). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 287 المبحث التاسع عشر: حكم الإسلام في النصيرية يمكننا بعد دراسة وتحليل العقائد التي مرت بنا والتي آمنت بها النصيرية أن نقول أن هذه الطائفة لا علاقة لها بالإسلام والمسلمين. فهي تقول بالحلول بمعنى أن الله قد حل في علي بن أبي طالب وفي أشخاص آخرين. وتقول أيضا أن للشريعة ظاهرا وباطنا وأن المراد باطنها دون ظاهرها, وترتب على هذا الاعتقاد تركهم جميع الفرائض الإسلامية وتأويلها وظهوره أيضا على سلوكهم وأعمالهم فهم يظهرون خلاف ما يبطنون ويقولون ما لا يعتقدون. وهم بالإضافة إلى ذلك قد اعتقدوا بالتناسخ وكفروا بالبعث والحساب فهدموا بذلك ركنا هاما من أركان الإيمان وأباحوا المحرمات بشرب الخمر والزنا. وهذا كله, بل واحد منه مخالف للإسلام وخروج عنه بل هو كفر به واستهانة بما فرض. وكل من له بصيرة يعلم أن الإسلام ما جاء إلا لمحو هذه الاعتقادات الضالة الكافرة. فالتوحيد وترك عبادة الأوثان والأشخاص هو أول اعتقاد في هذا الدين أما اليوم الآخر فهو الركن المهم لعقيدة التوحيد, لأن الإيمان بالله يتبعه الإيمان باليوم الآخر, وقول النصيرية بالتناسخ هدم لهذا الركن الهام من أركان الإيمان. أما قولهم بأن للشريعة ظاهرا وباطنا وتأويل الفرائض الإسلامية على هذا الأساس, فهو هدف الباطنية والغلاة عموما ابتداء من الإسماعيلية ومروراً بالدروز وانتهاء بالنصيرية, لمسخ الشريعة وهدم الدين وصدق الله العظيم في فضح أمثال هؤلاء فيقول عز من قائل هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّار [آل عمران: 7 - 10]. بهذا يتبين أن لا علاقة للإسلام بالنصيرية, فالإسلام شيء والنصيرية شيء آخر, وعلى هذا الأساس عاملهم جميع أمراء المسلمين ابتداء من صلاح الدين وانتهاء بالسلطان العثماني عبد الحميد, فقد حاولوا الكثير معهم في الرجوع إلى أصول الإسلام, ولكنهم لا يلبثون أن يرجعوا في كل مرة إلى ضلالاتهم وكفرهم. ومع ذلك يحاول الكثير منهم في الوقت الحاضر أن يبرهن أمام الرأي العام أنهم مسلمون موحدون فظهرت كتب وبيانات تقول بذلك, ولكن كل ذلك لا يجدي شيئا أمام الحقائق والأعمال التي يقومون بها والتي تدحض كل هذه الادعاءات الباطنية المزيفة. ولعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله, كان من أوائل الذين عرفوا حقيقة هذه الطائفة, فحاربها قولا وعملا, كما حارب بقية الطوائف الباطنية فنجده في رده على سؤال حول حكم هذه الطائفة يفند كل ضلالاتهم, ويرد عليهم بجرأة العالم الواعي لحقائق الأمور, والواقع أن فتوى ابن تيمية فيهم تعتبر جزءاً هاما من الحقائق التاريخية الدامغة للنصيرية, علاوة على قيمتها في إظهار عقائدها الباطنية. المصدر: الحركات الباطنية في العالم الإسلامي لمحمد أحمد الخطيب - ص 417 فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في النصيرية سئل - رحمه الله تعالى -: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 288 ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين وأعانهم على إظهار الحق المبين وإخماد شعب المبطلين: في " النصيرية " القائلين باستحلال الخمر وتناسخ الأرواح وقدم العالم وإنكار البعث والنشور والجنة والنار في غير الحياة الدنيا وبأن " الصلوات الخمس " عبارة عن خمسة أسماء وهي: علي وحسن وحسين ومحسن وفاطمة. فذكر هذه الأسماء الخمسة على رأيهم يجزئهم عن الغسل من الجنابة والوضوء وبقية شروط الصلوات الخمسة وواجباتها. وبأن " الصيام " عندهم عبارة عن اسم ثلاثين رجلا واسم ثلاثين امرأة يعدونهم في كتبهم ويضيق هذا الموضع عن إبرازهم؛ وبأن إلههم الذي خلق السموات والأرض هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهو عندهم الإله في السماء والإمام في الأرض فكانت الحكمة في ظهور اللاهوت بهذا الناسوت على رأيهم أن يؤنس خلقه وعبيده؛ ليعلمهم كيف يعرفونه ويعبدونه. وبأن النصيري عندهم لا يصير نصيريا مؤمنا يجالسونه ويشربون معه الخمر ويطلعونه على أسرارهم ويزوجونه من نسائهم: حتى يخاطبه معلمه. وحقيقة الخطاب عندهم أن يحلفوه على كتمان دينه ومعرفة مشايخه وأكابر أهل مذهبه؛ وعلى ألا ينصح مسلما ولا غيره إلا من كان من أهل دينه وعلى أن يعرف ربه وإمامه بظهوره في أنواره وأدواره فيعرف انتقال الاسم والمعنى في كل حين وزمان. فالاسم عندهم في أول الناس آدم والمعنى هو شيث والاسم يعقوب والمعنى هو يوسف. ويستدلون على هذه الصورة كما يزعمون بما في القرآن العظيم حكاية عن يعقوب ويوسف - عليهما الصلاة والسلام - فيقولون: أما يعقوب فإنه كان الاسم فما قدر أن يتعدى منزلته فقال: قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يوسف:98] وأما يوسف فكان المعنى المطلوب فقال: قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [يوسف:92] فلم يعلق الأمر بغيره؛ لأنه علم أنه الإله المتصرف ويجعلون موسى هو الاسم ويوشع هو المعنى ويقولون: يوشع ردت له الشمس لما أمرها فأطاعت أمره؛ وهل ترد الشمس إلا لربها ويجعلون سليمان هو الاسم وآصف هو المعنى القادر المقتدر. ويقولون: سليمان عجز عن إحضار عرش بلقيس وقدر عليه آصف لأن سليمان كان الصورة وآصف كان المعنى القادر المقتدر وقد قال قائلهم: هابيل شيث يوسف يوشع آصف شمعون الصفا حيدر ويعدون الأنبياء والمرسلين واحدا واحدا على هذا النمط إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: محمد هو الاسم وعلي هو المعنى ويوصلون العدد على هذا الترتيب في كل زمان إلى وقتنا هذا. فمن حقيقة الخطاب في الدين عندهم أن عليا هو الرب وأن محمدا هو الحجاب وأن سلمان هو الباب وأنشد بعض أكابر رؤسائهم وفضلائهم لنفسه في شهور سنة سبعمائة فقال: أشهد أن لا إله إلا حيدرة الأنزع البطين ولا حجاب عليه إلا محمد الصادق الأمين ولا طريق إليه إلا سلمان ذو القوة المتين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 289 ويقولون إن ذلك على هذا الترتيب لم يزل ولا يزال وكذلك الخمسة الأيتام والاثنا عشر نقيبا وأسماؤهم مشهورة عندهم ومعلومة من كتبهم الخبيثة وأنهم لا يزالون يظهرون مع الرب والحجاب والباب في كل كور ودور أبدا سرمدا على الدوام والاستمرار ويقولون: إن إبليس الأبالسة هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ويليه في رتبة الإبليسية أبو بكر رضي الله عنه ثم عثمان - رضي الله عنهم أجمعين وشرفهم وأعلى رتبهم عن أقوال الملحدين وانتحال أنواع الضالين والمفسدين - فلا يزالون موجودين في كل وقت دائما حسبما ذكر من الترتيب. ولمذاهبهم الفاسدة شعب وتفاصيل ترجع إلى هذه الأصول المذكورة. وهذه الطائفة الملعونة استولت على جانب كبير من بلاد الشام وهم معروفون مشهورون متظاهرون بهذا المذهب وقد حقق أحوالهم كل من خالطهم وعرفهم من عقلاء المسلمين وعلمائهم ومن عامة الناس أيضا في هذا الزمان؛ لأن أحوالهم كانت مستورة عن أكثر الناس وقت استيلاء الإفرنج المخذولين على البلاد الساحلية؛ فلما جاءت أيام الإسلام انكشف حالهم وظهر ضلالهم. والابتلاء بهم كثير جدا. فهل يجوز لمسلم أن يزوجهم أو يتزوج منهم؟ وهل يحل أكل ذبائحهم والحالة هذه أم لا؟ وما حكم الجبن المعمول من إنفحة ذبيحتهم؟ وما حكم أوانيهم وملابسهم؟ وهل يجوز دفنهم بين المسلمين أم لا؟ وهل يجوز استخدامهم في ثغور المسلمين وتسليمها إليهم؟ أم يجب على ولي الأمر قطعهم واستخدام غيرهم من رجال المسلمين الكفاة وهل يأثم إذا أخر طردهم؟ أم يجوز له التمهل مع أن في عزمه ذلك؟ وإذا استخدمهم وأقطعهم أو لم يقطعهم هل يجوز له صرف أموال بيت المال عليهم وإذا صرفها وتأخر لبعضهم بقية من معلومه المسمى؛ فأخره ولي الأمر عنه وصرفه على غيره من المسلمين أو المستحقين أو أرصده لذلك هل يجوز له فعل هذه الصور؟ أم يجب عليه؟ وهل دماء النصيرية المذكورين مباحة وأموالهم حلال أم لا؟ وإذا جاهدهم ولي الأمر أيده الله تعالى بإخماد باطلهم وقطعهم من حصون المسلمين وحذر أهل الإسلام من مناكحتهم وأكل ذبائحهم وألزمهم بالصوم والصلاة ومنعهم من إظهار دينهم الباطل وهم الذين يلونه من الكفار: هل ذلك أفضل وأكثر أجرا من التصدي والترصد لقتال التتار في بلادهم وهدم بلاد سيس وديار الإفرنج على أهلها؟ أم هذا أفضل من كونه يجاهد النصيرية المذكورين مرابطا؟ ويكون أجر من رابط في الثغور على ساحل البحر خشية قصد الفرنج أكبر أم هذا أكبر أجرا؟ وهل يجب على من عرف المذكورين ومذاهبهم أن يشهر أمرهم ويساعد على إبطال باطلهم وإظهار الإسلام بينهم فلعل الله تعالى أن يهدي بعضهم إلى الإسلام وأن يجعل من ذريتهم وأولادهم مسلمين بعد خروجهم من ذلك الكفر العظيم أم يجوز التغافل عنهم والإهمال؟ وما قدر المجتهد على ذلك والمجاهد فيه والمرابط له والملازم عليه؟ ولتبسطوا القول في ذلك مثابين مأجورين إن شاء الله تعالى إنه على كل شيء قدير؛ وحسبنا الله ونعم الوكيل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 290 فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية: الحمد لله رب العالمين، هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى؛ بل وأكفر من كثير من المشركين وضررهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم؛ فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع وموالاة أهل البيت وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا بكتابه ولا بأمر ولا نهي ولا ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ولا بأحد من المرسلين قبل محمد صلى الله عليه وسلم ولا بملة من الملل السالفة بل يأخذون كلام الله ورسوله المعروف عند علماء المسلمين يتأولونه على أمور يفترونها؛ يدعون أنها علم الباطن؛ من جنس ما ذكره السائل ومن غير هذا الجنس؛ فإنه ليس لهم حد محدود فيما يدعونه من الإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته وتحريف كلام الله تعالى ورسوله عن مواضعه؛ إذ مقصودهم إنكار الإيمان وشرائع الإسلام بكل طريق مع التظاهر بأن لهذه الأمور حقائق يعرفونها من جنس ما ذكر السائل ومن جنس قولهم: إن " الصلوات الخمس " معرفة أسرارهم و " الصيام المفروض " كتمان أسرارهم " وحج البيت العتيق " زيارة شيوخهم وأن (يدا أبي لهب) هما أبو بكر وعمر وأن (النبأ العظيم والإمام المبين) هو علي بن أبي طالب؛ ولهم في معاداة الإسلام وأهله وقائع مشهورة وكتب مصنفة فإذا كانت لهم مكنة سفكوا دماء المسلمين؛ كما قتلوا مرة الحجاج وألقوهم في بئر زمزم وأخذوا مرة الحجر الأسود وبقي عندهم مدة وقتلوا من علماء المسلمين ومشايخهم ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى وصنفوا كتبا كثيرة مما ذكره السائل وغيره وصنف علماء المسلمين كتبا في كشف أسرارهم وهتك أستارهم؛ وبينوا فيها ما هم عليه من الكفر والزندقة والإلحاد الذي هم به أكفر من اليهود والنصارى ومن براهمة الهند الذين يعبدون الأصنام. وما ذكره السائل في وصفهم قليل من الكثير الذي يعرفه العلماء في وصفهم. ومن المعلوم عندنا أن السواحل الشامية إنما استولى عليها النصارى من جهتهم وهم دائما مع كل عدو للمسلمين؛ فهم مع النصارى على المسلمين. ومن أعظم المصائب عندهم فتح المسلمين للسواحل وانقهار النصارى؛ بل ومن أعظم المصائب عندهم انتصار المسلمين على التتار. ومن أعظم أعيادهم إذا استولى - والعياذ بالله تعالى - النصارى على ثغور المسلمين فإن ثغور المسلمين ما زالت بأيدي المسلمين حتى جزيرة قبرص يسر الله فتحها عن قريب وفتحها المسلمون في خلافة أمير المؤمنين " عثمان بن عفان " رضي الله عنه فتحها " معاوية بن أبي سفيان " إلى أثناء المائة الرابعة. فهؤلاء المحادون لله ورسوله كثروا حينئذ بالسواحل وغيرها فاستولى النصارى على الساحل؛ ثم بسببهم استولوا على القدس الشريف وغيره؛ فإن أحوالهم كانت من أعظم الأسباب في ذلك؛ ثم لما أقام الله ملوك المسلمين المجاهدين في سبيل الله تعالى كنور الدين الشهيد وصلاح الدين وأتباعهما وفتحوا السواحل من النصارى وممن كان بها منهم وفتحوا أيضا أرض مصر؛ فإنهم كانوا مستولين عليها نحو مائتي سنة واتفقوا هم والنصارى فجاهدهم المسلمون حتى فتحوا البلاد ومن ذلك التاريخ انتشرت دعوة الإسلام بالديار المصرية والشامية. ثم إن التتار ما دخلوا بلاد الإسلام وقتلوا خليفة بغداد وغيره من ملوك المسلمين إلا بمعاونتهم ومؤازرتهم؛ فإن منجم هولاكو الذي كان وزيرهم وهو " النصير الطوسي " كان وزيرا لهم بالألموت وهو الذي أمر بقتل الخليفة وبولاية هؤلاء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 291 ولهم " ألقاب " معروفة عند المسلمين تارة يسمون " الملاحدة " وتارة يسمون " القرامطة " وتارة يسمون " الباطنية " وتارة يسمون " الإسماعيلية " وتارة يسمون " النصيرية " وتارة يسمون " الخرمية " وتارة يسمون " المحمرة " وهذه الأسماء منها ما يعمهم ومنها ما يخص بعض أصنافهم كما أن الإسلام والإيمان يعم المسلمين ولبعضهم اسم يخصه إما لنسب وإما لمذهب وإما لبلد وإما لغير ذلك. وشرح مقاصدهم يطول وهم كما قال العلماء فيهم: ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض. وحقيقة أمرهم أنهم لا يؤمنون بنبي من الأنبياء والمرسلين؛ لا بنوح ولا إبراهيم ولا موسى ولا عيسى ولا محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ولا بشيء من كتب الله المنزلة؛ لا التوراة ولا الإنجيل ولا القرآن. ولا يقرون بأن للعالم خالقا خلقه؛ ولا بأن له دينا أمر به ولا أن له دارا يجزي الناس فيها على أعمالهم غير هذه الدار وهم تارة يبنون قولهم على مذاهب الفلاسفة الطبيعيين أو الإلهيين وتارة يبنونه على قول المجوس الذين يعبدون النور ويضمون إلى ذلك الرفض. ويحتجون لذلك من كلام النبوات: إما بقول مكذوب ينقلونه كما ينقلون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أول ما خلق الله العقل)) والحديث موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث؛ ولفظه ((إن الله لما خلق العقل فقال له: أقبل فأقبل. فقال له: أدبر فأدبر)) (1) فيحرفون لفظه فيقولون ((أول ما خلق الله العقل)) ليوافقوا قول المتفلسفة أتباع أرسطو في أن أول الصادرات عن واجب الوجود هو العقل. وإما بلفظ ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيحرفونه عن مواضعه كما يصنع أصحاب " رسائل إخوان الصفا " ونحوهم فإنهم من أئمتهم. وقد دخل كثير من باطلهم على كثير من المسلمين وراج عليهم حتى صار ذلك في كتب طوائف من المنتسبين إلى العلم والدين؛ وإن كانوا لا يوافقونهم على أصل كفرهم؛ فإن هؤلاء لهم في إظهار دعوتهم الملعونة التي يسمونها " الدعوة الهادية " درجات متعددة ويسمون النهاية " البلاغ الأكبر والناموس الأعظم " ومضمون البلاغ الأكبر جحد الخالق تعالى؛ والاستهزاء به وبمن يقر به حتى قد يكتب أحدهم اسم الله في أسفل رجله وفيه أيضا جحد شرائعه ودينه وما جاء به الأنبياء ودعوى أنهم كانوا من جنسهم طالبين للرئاسة فمنهم من أحسن في طلبها ومنهم من أساء في طلبها حتى قتل ويجعلون محمدا وموسى من القسم الأول ويجعلون المسيح من القسم الثاني. وفيه من الاستهزاء بالصلاة والزكاة والصوم والحج ومن تحليل نكاح ذوات المحارم وسائر الفواحش: ما يطول وصفه. ولهم إشارات ومخاطبات يعرف بها بعضهم بعضا. وهم إذا كانوا في بلاد المسلمين التي يكثر فيها أهل الإيمان فقد يخفون على من لا يعرفهم وأما إذا كثروا فإنه يعرفهم عامة الناس فضلا عن خاصتهم.   (1) أورده باللفظ الأول الصغاني في موضوعاته (27) وكذلك السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (1/ 199) وغيرهما، وأما لفظ بلفظ (لما خلق .. ) فرواه الطبراني (8102) والبيهقي في ((الشعب)) (6/ 349) وقال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 28) فيه عمر بن أبي صالح قال الذهبي لايعرف وقال الألباني في ((المشكاة)) (5064) موضوع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 292 وقد اتفق علماء المسلمين على أن هؤلاء لا تجوز مناكحتهم؛ ولا يجوز أن ينكح الرجل مولاته منهم ولا يتزوج منهم امرأة ولا تباح ذبائحهم. وأما " الجبن المعمول بإنفحتهم " ففيه قولان مشهوران للعلماء كسائر إنفحة الميتة وكإنفحة ذبيحة المجوس؛ وذبيحة الفرنج الذين يقال عنهم إنهم لا يذكون الذبائح. فمذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين أنه يحل هذا الجبن؛ لأن إنفحة الميتة طاهرة على هذا القول؛ لأن الإنفحة لا تموت بموت البهيمة وملاقاة الوعاء النجس في الباطن لا ينجس. ومذهب مالك والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى أن هذا الجبن نجس لأن الإنفحة عند هؤلاء نجسة؛ لأن لبن الميتة وإنفحتها عندهم نجس. ومن لا تؤكل ذبيحته فذبيحته كالميتة. وكل من أصحاب القولين يحتج بآثار ينقلها عن الصحابة فأصحاب القول الأول نقلوا أنهم أكلوا جبن المجوس. وأصحاب القول الثاني نقلوا أنهم أكلوا ما كانوا يظنون أنه من جبن النصارى. فهذه مسألة اجتهاد؛ للمقلد أن يقلد من يفتي بأحد القولين. وأما " أوانيهم وملابسهم " فكأواني المجوس وملابس المجوس على ما عرف من مذاهب الأئمة. والصحيح في ذلك أن أوانيهم لا تستعمل إلا بعد غسلها؛ فإن ذبائحهم ميتة فلا بد أن يصيب أوانيهم المستعملة ما يطبخونه من ذبائحهم فتنجس بذلك فأما الآنية التي لا يغلب على الظن وصول النجاسة إليها فتستعمل من غير غسل كآنية اللبن التي لا يضعون فيها طبيخهم أو يغسلونها قبل وضع اللبن فيها وقد توضأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه من جرة نصرانية. فما شك في نجاسته لم يحكم بنجاسته بالشك. ولا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين ولا يصلى على من مات منهم؛ فإن الله سبحانه وتعالى نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المنافقين: كعبد الله ابن أبي ونحوه؛ وكانوا يتظاهرون بالصلاة والزكاة والصيام والجهاد مع المسلمين؛ ولا يظهرون مقالة تخالف دين الإسلام؛ لكن يسرون ذلك فقال الله: وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84] فكيف بهؤلاء الذين هم مع الزندقة والنفاق يظهرون الكفر والإلحاد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 293 وأما استخدام مثل هؤلاء في ثغور المسلمين أو حصونهم أو جندهم فإنه من الكبائر وهو بمنزلة من يستخدم الذئاب لرعي الغنم؛ فإنهم من أغش الناس للمسلمين ولولاة أمورهم وهم أحرص الناس على فساد المملكة والدولة وهم شر من المخامر الذي يكون في العسكر؛ فإن المخامر قد يكون له غرض: إما مع أمير العسكر وإما مع العدو. وهؤلاء مع الملة ونبيها ودينها وملوكها؛ وعلمائها وعامتها وخاصتها وهم أحرص الناس على تسليم الحصون إلى عدو المسلمين وعلى إفساد الجند على ولي الأمر وإخراجهم عن طاعته. والواجب على ولاة الأمور قطعهم من دواوين المقاتلة فلا يتركون في ثغر ولا في غير ثغر؛ فإن ضررهم في الثغر أشد وأن يستخدم بدلهم من يحتاج إلى استخدامه من الرجال المأمونين على دين الإسلام وعلى النصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم؛ بل إذا كان ولي الأمر لا يستخدم من يغشه وإن كان مسلما فكيف بمن يغش المسلمين كلهم ولا يجوز له تأخير هذا الواجب مع القدرة عليه بل أي وقت قدر على الاستبدال بهم وجب عليه ذلك. وأما إذا استخدموا وعملوا العمل المشروط عليهم فلهم إما المسمى وإما أجرة المثل لأنهم عوقدوا على ذلك. فإن كان العقد صحيحا وجب المسمى وإن كان فاسدا وجبت أجرة المثل وإن لم يكن استخدامهم من جنس الإجارة اللازمة فهي من جنس الجعالة الجائزة؛ لكن هؤلاء لا يجوز استخدامهم فالعقد عقد فاسد فلا يستحقون إلا قيمة عملهم. فإن لم يكونوا عملوا عملا له قيمة فلا شيء لهم؛ لكن دماؤهم وأموالهم مباحة. وإذا أظهروا التوبة ففي قبولها منهم نزاع بين العلماء؛ فمن قبل توبتهم إذا التزموا شريعة الإسلام أقر أموالهم عليهم. ومن لم يقبلها لم تنقل إلى ورثتهم من جنسهم؛ فإن مالهم يكون فيئا لبيت المال؛ لكن هؤلاء إذا أخذوا فإنهم يظهرون التوبة؛ لأن أصل مذهبهم التقية وكتمان أمرهم وفيهم من يعرف وفيهم من قد لا يعرف. فالطريق في ذلك أن يحتاط في أمرهم فلا يتركون مجتمعين ولا يمكنون من حمل السلاح ولا أن يكونوا من المقاتلة ويلزمون شرائع الإسلام: من الصلوات الخمس وقراءة القرآن. ويترك بينهم من يعلمهم دين الإسلام ويحال بينهم وبين معلمهم. فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وسائر الصحابة لما ظهروا على أهل الردة وجاءوا إليه قال لهم الصديق: اختاروا إما الحرب المجلية وإما السلم المخزية. قالوا: يا خليفة رسول الله هذه الحرب المجلية قد عرفناها فما السلم المخزية؟ قال: تدون قتلانا ولا ندي قتلاكم وتشهدون أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ونقسم ما أصبنا من أموالكم وتردون ما أصبتم من أموالنا وتنزع منكم الحلقة والسلاح وتمنعون من ركوب الخيل وتتركون تتبعون أذناب الإبل حتى يرى الله خليفة رسوله والمؤمنين أمرا بعد ردتكم. فوافقه الصحابة في ذلك؛ إلا في تضمين قتلى المسلمين فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: هؤلاء قتلوا في سبيل الله فأجورهم على الله. يعني هم شهداء فلا دية لهم فاتفقوا على قول عمر في ذلك. وهذا الذي اتفق الصحابة عليه هو مذهب أئمة العلماء والذي تنازعوا فيه تنازع فيه العلماء. فمذهب أكثرهم أن من قتله المرتدون المجتمعون المحاربون لا يضمن؛ كما اتفقوا عليه آخرا وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين. ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى هو القول الأول. فهذا الذي فعله الصحابة بأولئك المرتدين بعد عودهم إلى الإسلام يفعل بمن أظهر الإسلام والتهمة ظاهرة فيه فيمنع أن يكون من أهل الخيل والسلاح والدرع التي تلبسها المقاتلة ولا يترك في الجند من يكون يهوديا ولا نصرانيا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 294 ويلزمون شرائع الإسلام حتى يظهر ما يفعلونه من خير أو شر ومن كان من أئمة ضلالهم وأظهر التوبة أخرج عنهم وسير إلى بلاد المسلمين التي ليس لهم فيها ظهور. فإما أن يهديه الله تعالى وإما أن يموت على نفاقه من غير مضرة للمسلمين. ولا ريب أن جهاد هؤلاء وإقامة الحدود عليهم من أعظم الطاعات وأكبر الواجبات وهو أفضل من جهاد من لا يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب؛ فإن جهاد هؤلاء من جنس جهاد المرتدين والصديق وسائر الصحابة بدءوا بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب؛ فإن جهاد هؤلاء حفظ لما فتح من بلاد المسلمين وأن يدخل فيه من أراد الخروج عنه. وجهاد من لم يقاتلنا من المشركين وأهل الكتاب من زيادة إظهار الدين. وحفظ رأس المال مقدم على الربح. وأيضا فضرر هؤلاء على المسلمين أعظم من ضرر أولئك؛ بل ضرر هؤلاء من جنس ضرر من يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب وضررهم في الدين على كثير من الناس أشد من ضرر المحاربين من المشركين وأهل الكتاب. ويجب على كل مسلم أن يقوم في ذلك بحسب ما يقدر عليه من الواجب فلا يحل لأحد أن يكتم ما يعرفه من أخبارهم؛ بل يفشيها ويظهرها ليعرف المسلمون حقيقة حالهم ولا يحل لأحد أن يعاونهم على بقائهم في الجند والمستخدمين ولا يحل لأحد السكوت عن القيام عليهم بما أمر الله به ورسوله. ولا يحل لأحد أن ينهى عن القيام بما أمر الله به ورسوله؛ فإن هذا من أعظم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى؛ وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73] وهؤلاء لا يخرجون عن الكفار والمنافقين. والمعاون على كف شرهم وهدايتهم بحسب الإمكان له من الأجر والثواب ما لا يعلمه إلا الله تعالى؛ فإن المقصود بالقصد الأول هو هدايتهم؛ كما قال الله تعالى كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [عمران:110] قال أبو هريرة كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في القيود والسلاسل حتى تدخلوهم الإسلام. فالمقصود بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: هداية العباد لمصالح المعاش والمعاد بحسب الإمكان فمن هداه الله سعد في الدنيا والآخرة ومن لم يهتد كف الله ضرره عن غيره. ومعلوم أن الجهاد والأمر بالمعروف. والنهي عن المنكر: هو أفضل الأعمال كما قال صلى الله عليه وسلم ((رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله تعالى)) (1) وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن في الجنة لمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض أعدها الله عز وجل للمجاهدين في سبيله)) (2) وقال صلى الله عليه وسلم ((رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه)) (3) ومن مات مرابطا مات مجاهدا وجرى عليه عمله وأجري عليه رزقه من الجنة وأمن الفتنة. والجهاد أفضل من الحج والعمرة كما قال تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التوبة:19 - 22]. والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وسئل - رحمه الله تعالى -: عن " الدرزية " و " النصيرية ": ما حكمهم؟ فأجاب: هؤلاء " الدرزية " و " النصيرية " كفار باتفاق المسلمين لا يحل أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم؛ بل ولا يقرون بالجزية؛ فإنهم مرتدون عن دين الإسلام ليسوا مسلمين؛ ولا يهود ولا نصارى لا يقرون بوجوب الصلوات الخمس ولا وجوب صوم رمضان ولا وجوب الحج؛ ولا تحريم ما حرم الله ورسوله من الميتة والخمر وغيرهما. وإن أظهروا الشهادتين مع هذه العقائد فهم كفار باتفاق المسلمين. فأما " النصيرية " فهم أتباع أبي شعيب محمد بن نصير وكان من الغلاة الذين يقولون: إن عليا إله وهم ينشدون: أشهد أن لا إله إلا حيدرة الأنزع البطين ولا حجاب عليه إلا محمد الصادق الأمين ولا طريق إليه إلا سلمان ذو القوة المتين المصدر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية - 35/ 145   (1) رواه الترمذي (2616) وابن ماجه (3973) وأحمد (5/ 231) (22069) وقال الترمذي حسن صحيح، وكذلك صححه الألباني (2) رواه البخاري (2790) (3) رواه مسلم (1913) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 295 مراجع للتوسع ـ الجذور التاريخية للنصيرية العلوية، الحسيني عبد الله ـ دار الاعتصام ـ القاهرة 1400هـ / 1980م. ـ الملل والنحل، أبو الفتح الشهرستاني. ـ شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد ـ دار الكتب العربية ـ القاهرة. ـ رسائل ابن تيمية، رسالة في الرد على النصيرية. ـ الباكورة السليمانية في كشف أسرار الديانة النصيرية، سليمان أفندي الأذني. بيروت، 1864م. ـ تاريخ العلويين، محمد أمين غالب الطويل ـ طبع في اللاذقية عاصمة دولة العلويين عام 1924م. ـ خطط الشام، محمد كرد علي ـ ط دمشق 1925م ـ ج 3/ 265 ـ 268 ج 6/ 107 ـ 109. ـ دائرة المعارف الإسلامية، مادة نصيري. ـ إسلام بلا مذاهب، د. مصطفى الشكعة ـ ط دار القلم ـ القاهرة ـ 1961م. ـ تاريخ العقيدة النصيرية، المستشرق رينيه دوسو ـ نشرته مكتبة أميل ليون وبداخله كتاب المجموعة بنصه العربي. ـ الأعلام للزركلي، 2/ 254 بيروت ـ 1956م. ـ تاريخ الأدب العربي لبروكلمان، 3/ 357 ـ ط دار المعارف ـ 1962م. ـ الحركات الباطنية في العالم الإسلامي، د. أحمد محمد الخطيب، مكتب الأقصى، عمان. ـ دراسات في الفرق، د. صابر طعيمة ـ مكتبة المعارف ـ الرياض 1401هـ / 1981م. - L. Massignon Minora, Beyrouth 1963. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 296 المبحث الأول: التعريف بهم قبل ذكر هذه الطائفة وبيان عقائدهم نذكر تعريفاً موجزاً بهم فيما يلي: التعريف بهم في اللغة تطلق كلمة الدروز على معان عديدة في اللغة، منها: أنها تطلق على الأولاد غير الشرعيين الذين لا يعرف لهم آباء، وتطلق كذلك على السفلة والسقاط من الناس فيقال لهم أولاد درزة. قال الأزهري نقلاً عن ابن الأعرابي: (والعرب تقول للدّعي: هو ابن درزة وابن ترني، وذلك إذا كان ابن أمة تساعي فجاءت به من المساعاة ولا يعرف له أب).قال: (ويقال: هؤلاء أولاد درزة، وأولاد فرتني للسفلة والسقاط 0قاله المبرد) (1).وتطلق هذه اللفظة أيضاً على القمل والصئبان، فيقال: بنات الدروز؛ كما يذكر الفيروزآبادي (2). وتدل هذه المعاني على الرداءة والانحطاط، ومن هنا نجد أن الدروز لا يحبون أن تطلق عليهم هذه التسمية لأسباب سنذكرها، وربما يكون منها سوء مفهوم هذه التسمية عند الناس، مضافاً إليها وجود الأسباب الأخرى. التعريف بهم في اصطلاح علماء الفرقيطلق علماء الفرق تسمية الدروز على طائفة ذات أفكار وآراء اعتقادية، هم من غلاة الباطنية يعتقدون ألوهية الحاكم بأمره، انشقوا عن الإسماعيلية في الظاهر وإن كانوا متفقين معهم في جوهر عقائدهم، ونسبوا إلى أحد دعاة الضلال المجوس نشتكين الدرزي، وإن كانوا لا يحبون هذه النسبة كما سيأتي بيانه (3). بيان أصل الدروز اختلف الناس في أصل الدروز على أقوال كثيرة نوجزها فيما يلي: أنهم سلالة قبائل عربية، وهو ما يزعمونه لأنفسهم، وقد أكده الأستاذ محمد حمزة، وأنهم من لخم وتنوخ (4). أنهم من سلالة السامريين القدماء. أنهم من بقايا الحيثيين القدماء. أنهم مزيج من عناصر مختلفة من عرب وفرس وهنود. أنهم سلالة الجنود الفرنسيين الصليبيين. أنهم من أصل إنجليزي. وتبدو تلك الأقوال كلها –غير القول الأول- بعيدة، وتهدف كذلك إلى أغراض سياسية فيما يرى محمد كامل حسين (5). والواقع أن هذا الاختلاف فيهم يضفي عليهم ظلالاً من الشكوك والارتياب في أصلهم. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 593   (1) انظر: ((تهذيب اللغة)) (13/ 181) (2) ((القاموس المحيط)) (2/ 182)، وانظر كتب اللغة مادة ((درز)). (3) انظر: ((الحركات الباطنية في العالم الإسلامي)) (ص199) (4) ((التآلف بين الفرق الإسلامية)) (ص118) (5) ((طائفة الدروز)) (ص6،14)، ومحمد كامل حسين يتملق الإسماعيلية فيما يكتبه عنهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 297 المبحث الثاني: الحاكم بأمر الله وعلاقته بعقيدة الدروز لابد لمن يتصدى للتعريف بالمذهب الدرزي، من أن يلقي الضوء على شخصية ذلك الرجل الذي يدعي أتباعه الدروز، أن اللاهوت ظهر في صورته الناسوتية. هذا الرجل هو أبو علي المنصور بن العزيز بالله بن المعز لدين الله الفاطمي، والذي لقب بـ (الحاكم بأمر الله). ولد الحاكم بأمر الله سنة 375 هـ الموافق لعام 985 م، وقد تولى الملك بعد موت أبيه مباشرة في رمضان سنة 386 هـ، وكان سادس الملوك العبيديين. ولكي تتمكن من أخذ فكرة واضحة قدر الإِمكان عن حياة هذا الحاكم الغامض، قسمنا حياته إلى ثلاثة أقسام أو أدوار (1)، متمايزة عن بعضها تمام التمايز. فالدور الأول: وهو دور حداثته، يبدأ من توليه الملك في الحادية عشرة من عمره، وينتهي بمقتل (برجوان) (2) في سنة 390 هـ الموافق لعام (1000 م). ويبدأ الدر الثاني: من تاريخ هذا الحادث حتى سنة 408 هـ الموافق لعام (1017 م)، وهي السنة التي ادعى فيها الألوهية على يد حمزة بن علي. أما الدور الثالث: فيبدأ من سنة 408 هـ، حتى اختفائه ومقتله سنة 411 هـ الموافق لعام (1021). الدور الأول من سنة 386 – 390 هـ (996 – 1000 م): (ولي الحاكم بأمر الله الخلافة حدثا دون الثانية عشرة، في نفس اليوم الذي مات فيه والده (العزيز)، وكانت أمه أم ولد (3)، وقد كانت حسبما تقول الرواية النصرانية المعاصرة، جارية رومية نصرانية من طائفة الملكية، وكان لها أيام العزيز نفوذ عظيم في الدولة، وكان لهذا النفوذ أثره بلا ريب في سياسة التسامح (4) الواضح التي اتبعها العزيز نحو النصارى، وفي تقوية جانبهم ونفوذهم، وتمكنهم من مناصب النفوذ والثقة) (5) وأوصى العزيز قبل موته بولده ثلاثة من أكابر رجال الدولة وهم: (برجوان الصقلبي خادمه وكبير خزائنه، والحسن بن عمار زعيم كتامة، أقوى القبائل المغربية، وعماد الدولة الفاطمية منذ نشأتها، ومحمد بن النعمان قاضى القضاة، وكانت الوصاية الفعلية إلى الأول والثاني، ولم يلبث أن نشب الخلاف بين الرجلين واشتدت المنافسة بينهما. وقام ابن عمار بتدبير الشؤون بادئ ذي بدء، ولقب في سجل تعيينه بأمين الدولة، وظهر ابن عمار بمظهر الطاغية المطلق، فكان يدخل القصر ويغادره راكبًا، وألزم جميع الناس بالترجل له، وأغلق بابه إلا على الخاصة والأكابر من شيعته. وأخيرًا وقع الانفجار، ووثبت جماعة كبيرة من الزعماء والجند بتحريض برجوان وتدبيره، وهاجمت الكتاميين في ظاهر القاهرة وأثخنت فيهم، فتوارى ابن عمار حينًا، واضطر أن يترك الميدان حرًا لمنافسه، عندئذ قبض برجوان على زمام الأمور) (6). (وأوصبح لبرجوان مطلق السلطان، وركبه الزهو والغرور، وانغمس في الملذات ينعم بثروته الطائلة) (7).   (1) (انظر ((دائرة المعارف الإسلامية)) (7/ 266 – 270)، التي قسمت حياة الحاكم إلى ثلاثة أدوار. وكذلك انظر ما قسمه الدكتور حسن إبراهيم حسن – في ((تاريخ الإسلام السياسي والديني)) (3/ 153) – لحياة الحاكم إلى أربعة أقسام، الأول من 386 هـ - 390، الثاني من 390 – 395 هـ، والثالث من 396 – 401 هـ، والرابع من 401 – 411 هـ. (2) أحد الأوصياء الثلاثة، الذين عهد إليهم العزيز برعاية الحاكم حتى بلوغه، وكان خصيا. (3) وهي المملوكة التي تبقى في الرق، ويكون لها أولاد من مالكها، وبعد موته تعتق لوجود ولد لها. (4) أو قل التخاذل لأن من سبقه في الدولة العبيدية كانوا متخاذلين حقا؟!. (5) محمد عبد الله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص 41 - 42). (6) محمد عبد الله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص 45 – 47). (7) ((دائرة المعارف الإسلامية)) (7/ 267). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 298 فماذا كان موقف الحاكم خلال هذه الفترة الأولى من ملكه؟ (ولقد كان برجوان بلا ريب يحجبه ما استطاع عن الاتصال برجال الدولة وشؤونها، ويدفعه ما استطاع إلى اللهو واللعب، ولم يلبث أن فطن الحاكم إلى موقف برجوان واستئثاره بالسلطة، واستبداده بالشؤون، وكان الحاكم قد أشرف – في ذلك الوقت – على الخامسة عشر من عمره، وأصبح الطفل فتى يافعًا شديد اليقظة والطموح، وبدأ يثور لسلطته المسلوبة، ولذلك فقد حكم على برجوان بالموت، فاستدعى الحاكم الحسين بن جوهر، وعهد إليه بتلك المهمة. ومنذ ذلك الحين تناول الحاكم إدارة الدولة بيديه، ونظم له مجلسًا ليليًا يحضره أكابر رجال الدولة، وتبحث فيه الشؤون العامة) (1). الدور الثاني من سنة 390 – 408 هـ (1000 – 1017 م): افتتح الحاكم عهده الجديد كما ذكرنا بقتل برجوان وصيه ومدبر دولته، (غير أن الحاكم ما لبث أن اتبع ضربته بضربة دموية أخرى هي مقتل الحسن بن عمار زعيم كتامة – وأحد الأوصياء عليه – وفي سنة 393 هـ قتل الحاكم وزيره فهد بن إبراهيم النصراني، بعد أن قضى في منصبه زهاء ستة أعوام، وأقام الحاكم مكانه علي بن عمر العداس (2)، ولكن لم تمض أشهر قلائل حتى سخط عليه وقتله، وقتل معه الخادم ريدان الصقلي حامل المظلة. ثم قتل عددًا كبيرًا من الغلمان والخاصة سنة 394 هـ، ثم تبع بذلك بمقتلة أخرى كان من ضحاياها الحسين بن النعمان الذي شغل منصب القضاء منذ سنة 389 هـ، فقتل وأحرقت جثته، وزهق فيها عدد كبير من الخاصة والعامة، فقتلوا أو أحرقوا) (3). ولكي نعطي صورة واضحة عن هذه الشخصية الغامضة، نستعرض فيما يلي أقوال بعض المؤرخين ممن كانوا معاصرين لعهد الحاكم، أو كانوا قريبين من عهده: ونبدأ بابن تغري بردي في (النجوم الزاهرة) الذي ينقل عن أبي المظفر بن قرأوغلي في تاريخه (مرآة الزمان) ما يلي عن الحاكم: (وقد كانت خلافته متضادة بين شجاعة وإقدام، وجبن وإحجام، ومحبة للعلم وانتقام من العلماء، وميل إلى الصلاح وقتل الصلحاء.   (1) محمد عبد الله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص 48 – 50). (2) أحد وزراء الدولة الفاطمية، تولى الوزارة لأول مرة بعد وفاة يعقوب بن كلس اليهودي أيام العزيز. (3) محمد عبد الله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص 54). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 299 وكان الغالب عليه السخاء، وربما بخل بما لم يبخل به أحد قط، وأقام يلبس الصوف سبع سنين، وامتنع عن دخول الحمام، وأقام سنين يجلس في الشمع ليلاً ونهارًا، ثم عنَّ له أن يجلس في الظلمة فجلس فيها مدة، وقتل من العلماء والكتاب والأماثل ما لا يحصى، وكتب على المساجد والجوامع سب أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وطلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم في سنة خمس وتسعين وثلثمائة، ثم محاه في سنة سبع وتسعين. وأمر بقتل الكلاب، وبيع الفقاع (1) ثم نهى عنه، ورفع المكوس (2) عن البلاد وعما يباع فيها، ونهى عن النجوم وكان ينظر فيها. ونفى المنجمين، وكان يرصدها ويخدم زحل وطالعه المريخ، ولهذا كان يسفك الدماء (3).وبنى جامع القاهرة، وجامع راشدة على النيل بمصر، ومساجد كثيرة، ونقل إليها المصاحف المفضضة، والستور الحرير، وقناديل الذهب والفضة، ومنع من صلاة التراويح عشر سنين، ثم أباحها. وقطع الكروم ومنع من بيع العنب، ولم يبق في ولايته كرمًا، وأراق خمسة آلاف جرة عسل في البحر، خوفًا من أن تعمل نبيذًا، ومنع النساء من الخروج من بيوتهن ليلاً ونهارًا) (4).ويروي ابن خلطان عن الحافظ أبي الطاهر السِلَفي (5):   (1) شراب يتخذ من الشعير، يعلوه الزبد والفقاعات، ويشبه (البيرة) في الوقت الحاضر. (2) الجمارك. (3) كذا في مرأة الزمان، ولا يخفى ما في ذلك من مخالفة للشرع، فإن النجوم والمطالع لا ينسب إليها فعل أحد، فقد كان سفاكا للدماء بفعله القبيح، ونفسه المجرمة. ومن اعتقد في النجوم خلاف ذلك من تأثير على الناس في الحظوظ والسعادة والشقاء فقد كفر بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم. (4) ابن تغرى بردي ((النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة)). (ص 176 – 177). (5) هو الحافظ أبو الطاهر أحمد بن محمد السلفي، بكسر السين وفتح اللام، ولد في أصبهان سنة 475 على الأرجح وطلب الرحلة للحديث حتى استقر في الإسكندرية. توفي سنة 576 / انظر أبو الطاهر السلفي / د. حسن عبد الحميد صالح. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 300 (أن الحاكم كان جالسًا في مجلسه العام وهو حفل بأعيان دولته، فقرأ بعض الحاضرين قوله تعالى فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65]، والقارئ في أثناء ذلك يشير إلى الحاكم، فلما فرغ من القراءة، قرأ شخص آخر يعرف بابن المشجر، وكان رجلاً صالحًا يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:16 - 73].فلما أنهى قراءته تغير وجه الحاكم، ثم أمر لابن المشجر المذكور بمائة دينار، ولم يطلق للآخر شيئاً، ثم إن بعض أصحاب ابن المشجر قال له: أنت تعرف الحاكم وكثرة استحالاته، وما نأمن أن يحقد عليك، وأنه لا يؤاخذك في هذا الوقت ثم يؤاخذك بعد هذا فتتأذى معه، ومن المصلحة عندي أن تغيب عنه. فتجهز ابن المشجر للحج، وركب في البحر فغرق، فرآه صاحبه في النوم، فسأله عن حاله، فقال: ما أقصر الربان معنا، أرسى بنا على باب الجنة، رحمه الله تعالى، وذلك ببركة جميل نيته وحسن قصده) (1).ويقول السيوطي: (إن الحاكم أمر الرعية إذا ذكره الخطيب على المنبر أن يقوموا على أقدامهم صفوفًا إعظامًا لذكره، واحترامًا لاسمه، فكان يفعل ذلك في سائر ممالكه حتى في الحرمين الشريفين. وكان أهل مصر على الخصوص إذا قاموا خروا سجدًا، حتى أنه يسجد بسجودهم في الأسواق وغيرهم، وكان جبارًا عنيدًا، وشيطانًا مريدًا، كثير التلون في أقواله وأفعاله) (2).ومن أفعاله (أنه كان يعمل الحسبة بنفسه، فكان يدور بنفسه في الأسواق على حمار له – وكان لا يركب إلا حمارًا -، فمن وجده قد غش في معيشة، أمر عبدًا أسود معه يقال له مسعود، أن يفعل به الفاحشة العظمى) (3).وقد بنى بين الفسطاط والقاهرة مسجدًا عظيمًا على ثلاثة مشاهد (4) كانت هناك، وجعل فيه سدنة وخدمًا يوقدون فيه السرج الليل كله، وكان يريد أن ينقل إليه جسد النبي صلى الله عليه وسلم، غير أن الله سبحانه دفع، وأظهر الله عز وجل أهل المدينة على ذلك) (5).   (1) ابن خلكان ((وفيات الأعيان)) (5/ 295). (2) السيوطي ((حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة)) (1/ 601 – 601). (3) ابن كثير ((البداية والنهاية)) (12/ 9). (4) المشاهد: هي القبور التي يبنى عليها، وتقصد للتبرك، بل إن كثيرا منها ليس فيه أحد مقبور، وإنما جعل من قبل أهل الضلال، ولا يكاد يخلو بلد من مشهد للحسين عند الشيعة، وللخضر وغيره عند جهال أهل السنة، طهر الله أرض المسلمين من هذه الأوثان، ومن جميع مظاهر الشرك. (5) الحميري / ((الروض المطار في خبر الأقطار)) (ص 450). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 301 وكان يحتال بكل حيلة لإِقناع الناس بقدرته وعلمه، (ومن ذلك أنه أرسل مرة وراء بعض الأشقياء، وعلمهم أن يسرقوا من مخازن مصر في أحد الليالي أشياء معلومة فأطاعوا أمره، وكان قبل ذلك قد أمر الناس بترك بيوتهم ودكاكينهم مفتوحة طوال الليل بدعوى أن السرقة لا تجوز في أيامه، وتعهد لكل من يسرق له شيء برده ومعرفة السارق. فلما دار الذين استأجرهم للسرقة، وأخذوا ما أخذوه، تقدم إليه أصحاب الحاجيات يشكون إليه الأمر فقال: اذهبوا إلى أبى الهول الذي صنعته يخبركم بما تريدون، وكان قد صنع تمثالاً من النحاس على صورة أبي الهول، ووضع من داخله رجلاً يعرف أسماء السارقين، والذين سرقت الأشياء من دكاكينهم، فإذا جاء الرجل منهم وقص حكايته، أجابه الرجل من داخل الصنم أن اذهب إلى بيت فلان تجد حاجتك، وصحت أقاويله، فهال الناس الأمر واعتقدوا في الخليفة أشكالاً وألوانًا) (1).وينقل الأستاذ محمد عبد الله عنان عن كتاب (أخبار الدول المنقطعة) عن الحاكم وعن خطته الدموية ما يأتي: (وكان مؤاخذًا بيسير الذنب، حادًا لا يملك نفسه عند الغضب، فأفنى أمما وأباد أجيالاً، وأقام هيبة عظيمة وناموسًا، وكان يفعل عند قتله الشخص أفعالاً متناقضة وأعمالاً متباينة. وكان يقتل خاصته وأقرب الناس إليه، فربما أمر بإحراق بعضهم، وربما أمر بحمل بعضهم وتكفينه ودفنه وبنى تربة عليه، وألزم كافة الخواص ملازمة قبره والمبيت عنده، وأشياء من هذا الجنس يموه بها على عقول أصحابه السخيفة، فيعتقدون أن له في ذلك أغراضًا صحيحة استأثر بعلمها وتفرد عنهم بمعرفتها) (2).ومن حوادث القتل والسفك التي اقترفها الحاكم: (أنه في سنة 399 هـ قبض على جماعة كبيرة من الغلمان، والكتاب، والخدم الصقالبة بالقصر، وقطعت أيديهم من وسط الذراع ثم قتلوا. وقتل الفضل بن صالح (3) من أعظم قواد الجيش، وفي العام التالي وقعت مقتلة أخرى بين الغلمان والخدم، وقتل جماعة من العلماء السنية. وقبض على صالح بن علي الروذباري لأسابيع قليلة من عزله وقتل، وعين مكانه ابن عبدون النصراني، ثم صرف وقتل لأشهر قلائل، وخلفه أحمد بن محمد القشوري في الوساطة والسفارة، ثم صرف لأيام قلائل من تعيينه وضربت عنقه لأنه كان يميل إلى الحسين بن جوهر (4) ويعظمه. وللحاكم قصة دموية مروعة مع خادمه (غين) وكاتبه (أبي القاسم الجرجرائي) (5)، وكان غين من الخدم الصقالبة الذين يؤثرهم الحاكم بعطفه وثقته، فعينه في سنة 402 هـ للشرطة والحسبة ولقبه بقائد القواد، وعهد إليه بتنفيذ المراسيم الدينية والاجتماعية، وعهد بالكتابة إلى أبي القاسم الجرجرائي، وكان الحاكم قد سخط على غين قبل ذلك ببضعة أعوام وأمر بقطع يده، فصار أقطع اليد، ثم سخط عليه كرة أخرى وأمر بقطع يده الثانية، فقطعت وحملت إلى الحاكم في طبق، فبعث إليه الأطباء للعناية به ووصله بمال وتحف كثيرة، ولكن لم تمض أيام قلائل على ذلك حتى أمر بقطع لسانه، فقطع وحمل إلى الحاكم أيضًا، ومات غين من جراحه.   (1) كريم ثابت ((الدروز والثورة السورية)) (ص 17). (2) محمد عبد الله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص 59). (3) هو الفضل بن جعفر بن الفضل بن الفرات، كان في أيام الحاكم بأمر الله، وأمره بالجلوس للوساطة، فجلس خمسة أيام وقتله سنة 405 هـ. (4) قائد القواد في أيام الحاكم ولاه القيادة سنة 390 هـ، فأقام نحو ثلاث سنوات، ثم هرب خوفا من بطش الحاكم، حتى استطاع أن يظفر به وقتله سنة 401 هـ. (5) علي بن أحمد الجرجرائي، وزير، وتنقل في الأعمال أيام الحاكم، حتى قطع يديه سنة 404 هـ، ثم ولي بعد ذلك ديوان النفقات سنة 406 هـ ولقب سنة 407 هـ نجيب الدولة، توفي سنة 436 هـ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 302 وأما أبو القاسم الجرجرائي فقد أمر الحاكم بقطع يديه لوشاية صدرت في حقه، ولكنه أبقى على حياته، وعاش أقطع اليدين، وفي سنة 405 قتل الحاكم قاضى القضاة مالك بن سعيد الفارقي (1)، وقتل الوزير الحسين بن طاهر الوزان (2)، وعبد الرحيم بن أبي السيد الكاتب، وأخاه الحسين متولي الوساطة والسفارة، وقلد الوساطة فضل بن جعفر بن الفرات، ثم قتله لأيام قلائل من تعيينه. وهكذا استمر الحاكم في الفتك بالزعماء ورجال الدولة والكتاب والعلماء حتى أباد معظمهم، هذا عدا من قتل من الكافة خلال هذه الأعوام الرهيبة، وهم ألوف عديدة. وتقدر الرواية المعاصرة ضحايا الحاكم بثمانية عشر ألف شخص من مختلف الطبقات) (3). وكان أشد الناس تعرضًا لهذه النزعات الدموية، أقرب الناس إلى الحاكم من الوزراء والكتاب والغلمان والخاصة، ولم يكن عامة الناس أيضًا بمنجاة منها، فكثيرًا ما عرضوا للقتل الذريع لأقل الريب والذنوب أو لاتهامهم بمخالفة المراسيم والأحكام الشاذة التي توالى صدورها طوال حكمه، وكان رجال الدولة ورجال القصر وسائر العمال والمتصرفين يرتجفون رعبًا وروعًا أمام هذه المذابح الدموية، وكان التجار وذوو المصالح والمعاملات يشاطرونهم ذلك الروع. ويروي لنا المُسبِّحي (4) صديق الحاكم ومؤرخه فيما بعد، أن الحاكم أمر سنة 395 هـ بعمل شونة كبيرة مما يلي الجبل ملئت بالسنط والبوص والحلفا (5)، فارتاع الناس وظنه كل من له صلة بخدمة الحاكم من رجال القصر أو الدواوين أنها أعدت لإعدامهم، وسرت في ذلك إشاعات مخيفة. فاجتمع سائر الكتاب وأصحاب الدواوين والمتصرفون من المسلمين والنصارى في أحد ميادين القاهرة، ولم يزالوا يقبلون الأرض حتى وصلوا القصر، فوقفوا على بابه يضجون ويتضرعون ويسألون العفو عنهم، ثم دخلوا القصر ورفعوا إلى أمير المؤمنين عن يد قائد القواد الحسين بن جوهر رقعة يلتمسون فيها العفو، فأجابهم الحاكم على لسان الحسين إلى ما طلبوا، وأمروا بالانصراف والبكور لتلقي سجل العفو. واشتد الذعر بالغلمان والخاصة على اختلاف طوائفهم، وتوالى صدور الأمانات لمختلف الطبقات) (6).   (1) من قضاة الديار المصرية، ولاه الحاكم القضاء سنة 398 هـ، ثم أضيف إليه النظر في المظالم سنة 401 هـ، وعلت منزلته عند الحاكم، واستمر في القضاء حتى 405 هـ حين ضرب الحاكم عنقه. (2) كان يتولى بيت المال في أوائل ملك الحاكم، ثم ولاه الوزارة سنة 403 هـ، وبينما كان مع الحاكم خارج القاهرة ضرب عنقه ودفنه في مكانه، وكان ذلك سنة 405 هـ. (3) محمد عبد الله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص 57 - 58). (4) هو محمد بن عبيد الله المسبحي، مؤرخ وعالم بالأدب، ولد بمصر سنة 366 هـ، اتصل بخدمة الحاكم، وحظي عنده وولاه ديوان الترتيب، له كتاب كبير في (تاريخ المغاربة ومصر) ويعرف بـ ((مختار المسبحي)) وكتب كثيرة أخرى، توفي سنة 420 هـ. (5) الشونة: المخزن الكبير، والسنط: نوع من الخشب يستعمل في البناء، والحلفا: نبات طويل الورق تصنع منه القفف وينبت بالمستنقعات. (6) محمد عبد الله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص 55). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 303 هذه السجلات وأمثالها التي أصدرها الحاكم تدل على مدى خوف الناس من بطشه، حتى التمسوا منه إصدار سجلات الأمان. ولا يوجد ثمة ريب في أن القتل كان في نظر الحاكم خطة مقررة، ولم تكن فورة أهواء فقط، وقد لزم الحاكم هذه الخطة طوال حياته، وفي هذا المعنى يقول الكوثري: (من علم أن مدة الحاكم هذا من سنة 386 هـ إلى سنة 411 هـ، يرى الاعتذار عنه بأنه كان مجنونًا كلاما لا يلتفت إليه، لأن من المحال في جاري العادة أن يستبقي حاكم وهو مجنون مدة خمس وعشرين سنة) (1). وينقل الأستاذ محمد عبد الله عنان عن المستشرق ميللر في الحاكم ما يلي: (وليس لدينا إلا أن نعتقد أنه إما باطني متعصب، توهم في نفسه الإِغراق والألوهية، وإما أمير ذكي بارع في تاريخ أسرته ومذهبها. اعتقد أنه يستطيع أن يسمو فوق البشر وأن يحتقرهم ويصنفهم كالشمع طوع إرادته، وربما كان يجمع في طبيعته المتناقضة بين شيء من هذا وشيء من ذاك) (2).   (1) محمد زاهد الكوثري ((من عبر التاريخ)) (ص: 9). (2) محمد عبد الله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص: 96). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 304 ولقد كانت معاملة الذميين من أهم ظواهر عصر الحاكم بأمر الله، وكانت بلا ريب سياسة مقررة، ولم تحمل في مجموعها طابع التناقض. ففي سنة 395 هـ أصدر الحاكم أمره للنصارى واليهود بلبس الغيار، وشد الزنار، ولبس العمائم السود. وفي سنة 399 هـ أمر بهدم كنائس القاهرة ونهب ما فيها، وصدر مرسوم خاص بهدم كنيسة القيامة في بيت المقدس. وفي العام التالي صدر مرسوم جديد بالتشديد على اليهود والنصارى في لبس الغيار وتقليد الزنار، وألغيت الأعياد النصرانية كعيد الصليب والغطاس، وعيد الشهيد (1).وقد خفت هذه المعاملة للذميين تباعًا، وخاصة قبل مقتل الحاكم سنة 411 هـ، إذ أصدر عدة سجلات بإلغاء ما أصدره من قبل في حقهم. ومما يلحظ في هذا الصدد، أن موقف الحاكم إزاء النصارى واليهود هو من المواقف القليلة التي ثبت فيها الحاكم على سياسة واحدة، وأنه لم يجنح فيه من الشدة إلى اللين إلا في أواخر عصره، حينما ظهر دعاة تأليهه، يدعون إلى دين جديد وعقائد جديدة) (2). فكان لابد من تغيير هذه المعاملة، محاولة منه لاستمالتهم إلى ما تصبو إليه نفسه؟.أما موقف الحاكم من أحكام وأركان الإسلام، (فقد أصدر سنة 400 هـ سجل بإلغاء الزكاة والنجوى (أو رسوم الدعوة) (3)، وأعيدت صلاة الضحى والتراويح (بعد أن منعها). وفي بعض الروايات أنه حاول أن يعدل بعض الأحكام الجوهرية كالصلاة والصوم والحج، وقيل إنه شرع في إلغائها، أو أنه ألغاها بالفعل. ومن ذلك أنه ألغى الزكاة كما رأينا، وألغى صلاة الجمعة (التي يصليها) في رمضان، وكذلك ألغى صلاته في العيدين، وألغى الحج، وأبطل الكسوة النبوية (4)، وفي سنة 395 هـ أمر بسب السلف (أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة ومعاوية وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم)، وكتب ذلك على أبواب المساجد، ولاسيما جامع عمرو في ظاهره وباطنه، وعلى أبواب الحوانيت والمقابر، ولون بالأصباغ والذهب، وأرغم الناس على المجاهرة به ونقشه في سائر الأماكن) (5).وقد أمر نائبه على دمشق أن يضرب رجلاً مغربيًا، ويطاف به على حمار، ونودي عليه: هذا جزاء من أحب أبا بكر وعمر، ثم أمر به فضربت عنقه) (6).ولكنه في سنة 397 هـ أمر بمحو كل ما كتب على المساجد والدور وغيرها، وفي سنة 401 هـ قرئ بجامع عمرو سجل بالنهي عن معارضة أمير المؤمنين (الحاكم) فيما يفعل أو يصدر فيه من الأمور والأحكام، وترك الخوض فيما لا يعني.   (1) الذي ألغاه الحاكم هو السماح لهم بجعل هذه الأعياد الخاصة بهم، أعيادا شعبية يظهرون فيها التحدي للشعور الإسلامي العام من إظهار وشرب للخمر ورفع للصلبان ... إلخ، والتي كان يسمح بها الحاكم ومن سبقه في الدولة العبيدية. (2) محمد عبد الله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص 78 – 71، 92). (3) يؤيد هذا ما ذكره الدكتور محمد كامل حسين معتمدا على رسائل الدروز أن بداية ادعاء الحاكم الألوهية كانت سنة 400 هـ. (4) إننا ونحن ننقل هذه الأشياء التي استنكرت من الحاكم، لأنها كانت متبعة من قبله وألفها الناس، من غير نظر لما فيها من مخالفات شرعية أو بدع ما أنزل الله بها من سلطان، فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بحاجة إلى كساء يطرح على قبره الشريف. بل نهى صلى الله عليه وسلم عن كل ذلك، ولو أن الحاكم امتنع عن هذه الأشياء اتباعا للدين وأوامره لمدحت منه، غير أنه كان يفعلها ليخالف المألوف وينقض المعروف، بناء على تصورين الأول ما ذكرته من أن هذا ليس اضطرابا بل خطة مقررة والثاني أن هذا اضطراب في عقله وتصرفاته لا يستغرب عنه. (5) محمد عبد الله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص 76 - 78). (6) آدم متز ((الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري)) (1/ 132). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 305 وكانت النفوس قد اضطربت من جراء هذه الأوامر والقيود المضنية، وأمر في نفس السجل بإعادة (حي على خير العمل) في الأذان، وإسقاط (الصلاة خير من النوم) (1)، والنهي عن صلاة التراويح والضحى) (2). وأما عن شغفه بالليل، فقد كان من أظهر خواص هذا الدور من حكمه، (فقد كان يعقد مجالسه ليلاً، ويواصل الركوب كل ليلة، وينفق شطرًا كبيرًا من الليل في جوب الشوارع والأزقة. وجنح الحاكم في تلك الفترة إلى نوع من التصوف المدهش (3)، فأطلق شعره حتى تدلى على أكتافه، وأطلق أظافره، واستعاض عن الثياب البيضاء بثياب سود، فكان يرتدي جبة من الصوف الأسود العادي (4)، وقد لا يغيرها مدة طويلة حتى يعلوها العرق والرثاثة، وقد يرتدي أحيانًا جبة مرقعة من سائر الألوان. وأضرب عن جميع الملاذ الحسية والنفسية، واقتصر في طعامه على أبسط ما تقتضيه الحياة من القوت المتواضع. وفي سنة 405 هـ ازداد الحاكم شغفًا بالطواف في الليل، فكان يركب مرارًا في اليوم، بالنهار والليل، وكان يقصد غالبًا إلى المقطم (5) حيث أنشأ له منزلاً منفردًا يخلو فيه إلى نفسه ويهيم في عوالمه وتصوراته، ومرصدًا خاصًا يرصد منه النجوم ويستطلعها. وكان يؤثر ركوب الحمير، ولاسيما الشهباء منها، ويخرج دون موكب ولا زينة ومعه نفر قليل من الركابية، وكان يبدأ كعادته بالتجوال في شوارع القاهرة، ويحادث الكافة، ويستمع إلى ظلامات المتظلمين. وقد انتهت إلينا أحاديث ونوادر كثيرة عن المناظر التي كانت تقترن بهذا الطواف، وعما كان ينزع إليه الحاكم أحيانًا من الأهواء العنيفة خلال طوافه، ومن ذلك أنه كان يأمر بإحراق الشونة ليتمتع بمرأى النيران، وأنه لقي ذات مساء عشرة من الناس سألوه الإِحسان فأمر أن ينقسموا إلى فريقين يتقاتلان، حتى يغلب أحدهما فينعم عليه، فتقاتلا حتى فني منهم تسعة وبقي واحد، فألقى عليه الدنانير، فلما انحنى ليأخذها عاجله الركابية بقتله. وأنه مر ذات ليلة على دكان شواء، فانتزع منه سكينًا وقتله بها أحد الركابية المقربين لديه بغير ما سبب معروف، وقد تركت الجثة في موضعها، وفي اليوم التالي أنفذ الحاكم إليه كفنًا جليلاً، ودفن مع التكريم) (6). (ويحكى أنه عَنَّ له في أثناء ركوبه بالليل رأي سخيف، فكان يأمر أحد رجاله بأن يأتي شيخًا خليعًا بمشهد منه ومن الجمع الحاضر، ويضحك من هذا المنظر القبيح ويطرب له) (7).   (1) الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعلها في الأذان الأول في الفجر، ولم تستعمل في الأذان الثاني أو في الإقامة إلا بعد زمن طويل من وفاته صلى الله عليه وسلم. (2) محمد عبد الله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص 66). (3) إن التصوف لم يكن في يوم من الأيام من شعائر الشيعة، بل لا يكاد يوجد بينهم متصوف واحد، ولعل ما يقصده الأستاذ محمد عبد الله عنان، ما ظهر به الحاكم من لباس مخالف للمألوف وشكل غريب، وهذا ما يظهر به المتصوفة في مصر وغيرها بثياب مخالفة للمألوف. (4) وهذا يدلنا على ما يتمسك به (أجاويد) طائفة الدروز حتى اليوم، من لبس الثياب السوداء من القماش المعروف بـ (كلمنظا) وهو قماش قطني رخيص متين. (5) بضم أوله، وفتح ثانيه، وهو الجبل المشرف على القرافة (مقبرة الفسطاط والقاهرة) وهو جبل يمتد من أسوان وبلاد الحبشة على شاطئ النيل الشرقي، حتى يكون منقطعه طرف القاهرة، ويسمى في كل موضع باسم وعليه مساجد وصوامع للنصارى، لكنه لا نبت فيه ولا ماء. انظر ((ياقوت الحموي)) في ((معجم البلدان)) (5/ 176). (6) محمد عبدالله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (62 - 63، 87، 111). (7) آدم متز ((الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري)) (2/ 168). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 306 هذا بعض ما أورده المؤرخون عن الحاكم، وما أوردناه لم يكن مجرد سرد تاريخي لحياة الحاكم، ولكنه من صلب العقيدة التي نتحدث عنها وهي عقيدة الدروز، حيث سترى بعد قليل أن هذه الوقائع التاريخية لحياة الحاكم كان لها أكبر الأثر في عقيدة هذه الطائفة، لأنهم أولوا جميع هذه الأعمال الشاذة على أنها دليل على ألوهيته وربوبيته، وليست كما يظهر لنا في الظاهر. الدور الثالث: من سنة 408 – 411 هـ (1017 – 1021 م): في رسالة (مباسم البشارات) التي كتبها الكرماني، أحد أكابر الدعاة الإِسماعيليين في ذلك الوقت، والتي جاءت بعد اضطراب الأحوال في مصر حينما وفد إليها – الكرماني – سنة 408 هـ، إشارة واضحة إلى حالة الدعوة الإِسماعيلية، فقد جاء فيها: (بأن عهود الدعوة التي كانت قبل ذلك قد درست، وأن مجالس الحكمة التأويلية أبطلت، وتقلبت الأحوال بالناس، فالعالي قد اتضع، والسافل قد ارتفع، والذين آمنوا بالدعوة الفاطمية اضطربت أحوالهم، وكل واحد يرمي صاحبه بالإِلحاد، وبعضهم غالى في رأيه، والبعض الآخر خرج عن عقيدته .. إلى غير ذلك) (1).فالصورة التي صورها الكرماني لهذا الاضطراب الذي ظهر في المجتمع كان بسبب ظهور دعوة جديدة تقول: بأن الحاكم بأمر الله ما هو إلا ناسوت للإِله، ولاشك أن الدعاة الذين نادوا بهذه الدعوة الجديدة، ظلوا يعملون لها مدة طويلة في الخفاء، ويعدون عدتهم للظهور بها في الوقت الملائم) (2). لذلك نستطيع أن نقول: إن سلوك الحاكم، إنما كان بتأثير فكرة الألوهية، وأن كل ما صدر عن الحاكم بأمر الله من أعمال وأقوال، إنما كان بدافع واحد هو تأليهه. (فالحاكم تولى مقاليد الحكم وهو صغير السن، وقد أحيط بهالة خاصة مما أسبغته العقيدة الإِسماعيلية عن أئمتها، فتأثر بهذه العقائد، إلى جانب أنه رأى حاشيته ورعيته يسجدون له كلما مر بهم، فشاع طموحه – وهو في مثل هذا السن الصغير – أن يكون إلهًا مثل الملوك الأقدمين – من الفراعنة -، واختمرت هذه الفكرة في نفسه، ولكنه لم يعلنها للناس، ولعله أسر بها إلى بعض الدعاة حوله، فتسابقوا إلى إشباع نزوته وتنميتها مع مرور الزمن) (3). (وربما أوحى بعض الدعاة إليه بكل ما قام به من أعمال، ولكن ليس لدينا من كتب التاريخ ما يؤيد أي افتراض، والشيء المؤكد أن هذه السياسة التي اتبعها الحاكم كانت مقررة، ليفهم من أفعاله أنه هو الخالق، وأنه هو المحيي والمميت، والرازق والوهاب، إلى غير ذلك من أسماء الله الحسنى، وصفاته العلى. فها هو الحاكم بأمر الله يسرف في القتل ليقال: إنه مميت، ويرزق الناس ويهبهم ليقال: إنه رزاق وهاب، ويعفو عمن يستحق القتل ليقال: إنه محيي) (4).   (1) أورد الأستاذ مصطفى غالب الرسالة بأكملها في كتابه ((الحركات الباطنية في الإسلام)) من (ص 205: 233). (2) محمد كامل حسين ((طائفة الدروز)) (ص 75). (3) أحمد الفوزان ((أضواء على العقيدة الدرزية)) (ص 23). (4) محمد كامل حسين ((طائفة الدروز)) (ص 44). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 307 ويؤيد هذا ما ورد في رسالة (السيرة المستقيمة) التي ألفها حمزة بن علي، وجاء فيها: (ولكني أذكر لكم في هذه السيرة وجوها قليلة العدد، كثيرة المنفعة، لمن تفكر فيها، فأول ما أختصر في القول ما فعله المولى سبحانه مع برجوان وابن عمار، وهو يومئذ ظاهر لا يراه العامة إلا على قدر عقولهم، ويقولون صبي السن، وملك المشارقة كافة مع برجوان، ولابن عمار ملك المغاربة. فأمر مولانا بقتلهم فقتلوا قتل الكلاب، ولم يخش من تشويش العساكر والاضطراب، وأما أمر ملوك الأرض فما يستجري أحد منهم على مثل ذلك، ثم أمر بقتل ملوك كتامة وجبابرتها بلا خوف من نسلهم وأصلابهم، ويمشي أنصاف الليالي في أوساط ذراريهم وأولادهم بلا سيف ولا سكين. شاهدتموه في وقت أبي ركوة الوليد بن هشام الملعون، وقد أضرم ناره، وكانت قلوب العساكر تجزع في مضاجعهم مما رأوه من كسر الجيوش، وقتل الرجال، وكان المولي جلت قدرته يخرج أنصاف الليالي إلى صحراء الجب، ويلتقي به حسان بن عليان الكلبي في خمسمائة فارس، ويقف معهم بلا سلاح ولا عدة، حتى يسأل كل واحد منهم عن صاحبه، ثم إنه يدخل في ظاهر الأمر إلى صحراء الجب، وليس معه غير الركابية والمؤذنين ... إلى أن يقول: (إنكم ترون من أمور تحدث بما شاهدتموه من المولى ما لا يجوز أن تكون أفعال أحد من البشر، لا ناطق، ولا أساس، ولا إمام، ولا حجة، فلم تزدادوا بذلك إلا عمى وقلة بصيرة) (1). (وقد بدأ ظهور المذهب الجديد، حينما قام الدرزي (وهو أحد دعاة المذهب في أول ظهوره)، وأعلن الدعوة سنة 407 هـ، ثم قام سنة 408 هـ ومعه خمسمائة من أصحابه وأتباعه بالحج إلى قصر الحاكم فهاجمهم الناس والجند) (2). والمؤرخون يذكرون ثلاثة من الدعاة الكبار الذين أسسوا هذا المذهب، وهم: حمزة بن علي بن أحمد الزوزني (الذي أصبح إمام المذهب فيما بعد)، ومحمد ابن إسماعيل الدرزي المعروف بـ (نشتكين)، والحسن بن حيدرة الفرغاني المعروف بـ (الأخرم أو الأجدع). (ويرجح الدكتور محمد كامل حسين أنهم كانوا جميعًا من حاشية الحاكم الذين لم يفارقوه مدة الوصاية عليه، وخاصة حمزة بن علي، الذي استأثر بكل شيء وبالتمجيد كله) (3).   (1) ((رسالة السيرة المستقيمة)). (2) أحمد الفوزان ((أضواء على العقيدة الدرزية)) (ص 16). (3) محمد كامل حسين ((طائفة الدروز)) (ص 75). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 308 وقد وقع الخلاف بين حمزة، والدرزي منذ ذلك الحين، لتسرع الدرزي في الكشف عن المذهب الجديد، ولذلك نجد أن حمزة عمد إلى إظهار دعوى ألوهية الحاكم سنة 408 هـ، والتي يعتبرها الدروز أولى سني تقويمهم، وبعد هذه الدعوى اضطربت الأحوال في مصر، وهاجمت الناس هؤلاء الدعاة في كل مكان، مما دفع الدرزي إلى الاحتماء في قصر الحاكم، والهرب فيما بعد إلى الشام. واضطر حمزة بعد الذي حدث، أن يغيب عن الأنظار في سنة 409 هـ، والتي يعتبرها سنة غيبة. من كل هذا نرى أن الحاكم كان يقف من هذه الدعوة موقف التأييد والرعاية، ويشد أزرهم ويمدهم بالمال والنصح، ويسهر على حمايتهم من الناس، ويقول حمزة في رسالة (الغاية والنصيحة) مؤكدًا على حماية الحاكم له ولأتباعه، عندما هاجمهم الناس والجند في المسجد الذي كان يحتمي فيه: (وقد اجتمعت عند المسجد سائر الأتراك بالجيوش، والزرد، والخوذ، والتحافيف، ومن جميع العساكر والرعية زائدًا عن عشرين ألف رجل، فقد نصبوا على القتال بالنفط، والنار، ورماة النشاب، والحجار، ونقب الجدار والتسلق إلى الحيطان بالسلالم يومًا كاملاً، وجميع من كان معي في ذلك اليوم اثنتى عشر (1) نفسًا، منهم خمسة شيوخ كبار، وصبيان صغار لم يقاتلوا، فقتلنا من المشركين (2) ثلاث أنفس، وجرحنا منهم خلقًا عظيمًا لا يحصى، حتى طال على الفئة القليلة الموحدة القتال، وكادت الأرواح تتلاشى وتبلغ التراق، وخافوا كثرة الأضداد والمراق، وغلبة المنافقين والفساق، فناديتهم: معاشر الموحدين: اليوم أكملت لكم دينكم بالجهاد، وأتممت عليكم نعمته والسداد، وأرضى لكم التسليم لأمره بالجهاد، وما يصيبنا إلا ما كتب الله علينا هو مولانا وعليه فليتوكل المؤمنون. معاشر الموحدين قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون (3)، قاتلوا أقوامًا نكثوا أيمانهم يعني عهدهم وهموا بإخراج الرسول، وهو قائم الزمان، وهم بدؤوكم أول مرة، يعني دفعة الجامع، فلا تخشوهم فمولانا جل ذكره أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين، قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم وينصركم عليهم ويشفي صدور قوم مؤمنين. فما استتميت (4) كلامي لهم، حتى صار مولانا جل ذكره وتجلى للعالمين بقدرته سبحانه، فصعقت من في السموات والأرض، فانقلبوا المنافقين على أعقابهم خائبين، فلمولانا الحمد والشكر أبد الآبدين) (5).ونستطيع أن نذهب إلى أبعد من ذلك، فنقول: أن الحاكم كان يشرف على توجيه الدعوة، ويشترك في تنظيمها وتغذيتها بطريقة فعلية، وهذا ما يذكره لنا حمزة في رسائله، فمثلاً في رسالة (البلاغ والنهاية) يقول ما يلي: (تأليف عبد مولا جل ذكره، هادي المستجيبين، المنتقم من المشركين بسيف مولانا جل ذكره، رفع نسختها إلى الحضرة اللاهوتية بيده في شهر المحرم الثاني من سنينه المباركة) (6).   (1) هكذا وردت، والصحيح (اثنا عشر). (2) يقصد المسلمين. (3) يبدأ حمزة بإيراد هذه الآيات من سورة التوبة بشكل محرف وحسب ما يريد ويبغي والآيات الصحيحة هي كما يلي: وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ * التوبة: 112 – 114 *. (4) هكذا وردت والصحيح (استتمت). (5) ((رسالة الغاية والنصيحة)). (6) ((رسالة البلاغ والنهاية)). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 309 ويقول في رسالة (الصبحة الكائنة) ما يلي: (فتأييد مولانا سبحانه واصل إلي، ورحمته وأفضاله ظاهرة وباطنة علي، وجميع أصحابي المستجيبين عزيزين مكرمين في الشرطة، والولاية، وأصحاب السيارات، مقضون الحوائج دون سائر العالمين، ورسلي واصلة بالرسائل والوثائق إلى الحضرة اللاهوتية التي لا تخفى عنها خافية، لا في السر، ولا في العلانية، وقد أوعدني مولانا جلت قدرته في ظاهر الأمر مضافًا إلى مواعيده الحقيقة التأييدية، وهو منجز مواعيده وقت يشاء كيف يشاء بلا تقدير عليه) (1). غير أن مطاردة دعاة الحاكم وتمزيقهم بهذه القسوة من الناس، دون اكتراث لما أولاهم به من رعاية ظاهرة، قد أثار في نفسه غضبًا على الجند والناس، لأنهم تجرؤوا على ذلك، وعول على الانتقام لنفسه وللدعاة. وينقل الأستاذ محمد عبد الله عنان عن الوزير جمال الدين في (أخبار الدول المنقطعة) تفصيلاً دقيقًا لما حدث فيقول: (اعتزم الحاكم أن ينكل بمصر وأهلها، فاستدعى العرفاء والقادة ونظم معهم خطة العمل، وعهد إلى مقدمي العبيد وغيرهم من الطوائف بافتتاح الهجوم، فأخذوا يغيرون على أحياء مصر في هيئة عصابات، وينهبون الحوانيت والسابلة، ويخطفون النساء من الدور، والشرطة تغضي عن جرائمهم، والحاكم معرض عن كل شكاية وتضرع، وكان ذلك في جمادى الآخرة سنة 411 هـ. ثم اتسع نطاق الاعتداء، فهاجمت قوى العبيد والترك والمغاربة مصر من كل صوب، وأضرموا النار في أطرافها، وهب أهل مصر للدفاع عن أنفسهم، واستمرت المعارك بين الفريقين ثلاثة أيام، وألسنة اللهب تنطلق من المدينة القديمة إلى عنان السماء، والحاكم يركب كل يوم إلى الجبل، ويشاهد النار، ويسمع الصياح، ويسأل عن حقيقة الأمر، فيقال له: إن العبيد يحرقون مصر وينهبونها، فيظهر الأسف والتوجع، ويقول: ومن أمرهم بهذا لعنهم الله؟!.   (1) ((رسالة الصيحة الكائنة)). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 310 وفي اليوم الرابع اجتمع الأشراف والكبراء في المساجد ورفعوا المصاحف وضجوا بالبكاء والدعاء، فكف الأتراك والمغاربة عن متابعة الاعتداء، واستمر العبيد في عدوانهم، وأهل مصر يدفعونهم بكل ما استطاعوا. وطلب الأتراك والمغاربة إلى الحاكم أن يأمر بوقف هذا الاعتداء على أهل مصر، وعلى أموالهم، خصوصًا وأن لهم بين المصريين كثيرًا من الأصهار والأقارب، ولهم في مصر كثير من الأملاك، فتظاهر بإجابة مطلبهم، ولكنه أوعز إلى العبيد أن يستمروا في القتال، وأن يتأهبوا لمدافعة الترك والمغاربة، فاشتدت المعارك بين الفريقين، ودافع الترك والمغاربة عن أهل مصر، ومزقوا جموع العبيد ونكلوا بهم، ثم هددوا الحاكم باقتحام القاهرة وحرقها، إذا لم يوضع حد لتلك الجرائم، فخشي الحاكم العاقبة، وأمر العبيد بالتفرق ولزوم السكينة، واعتذر لأشراف مصر وزعماء الترك والمغاربة عما وقع، وتنصل من كل تبعة فيه، وأصدر أمانًا لأهل مصر قرئ على المنابر. وسكنت تلك الفتنة الشنعاء بعد أن لبثت الفسطاط بضعة أسابيع مسرحا لمناظر مروعة من السفك والعبث والنهب، وأحرقت معظم شوارعها ومبانيها، وخربت معظم أسواقها، ونهبت، وسبي كثير من نسائها، واعتدى عليهن، وانتحر كثير منهن خشية العار، وتتبع المصريون أزواجهم وبناتهم وأمهاتهم وافتدوهن من الخاطفين) (1).وبأسلوب آخر، يؤكد حمزة هذه الحوادث، وأنها كانت انتقامًا لما حصل للدعاة من تنكيل وتمزيق، فيقول في رسالة (الرضى والتسليم): (لأنه سبحانه أنعم عليكم ما لم ينعم على من في الأدوار، وأظهر لكم من توحيده وعبادته، ما لم يظهره في عصر من الأعصار، وأعزكم في وقت عبده الهادي ما لم يعز أحدًا في الأقطار، ولم يكن لصاحب الشرطة والولاية والسيارات عليكم سبيل إلا بطريق الخير، ثم إن المنافقين قتلوا من إخوانكم ثلاثة أنفر، فأمر مولانا جل ذكره بقتل مائة رجل منهم، والذي قال في القرآن النفس بالنفس لا غير فلم تشكروه على ذلك، ولم تعبدوه حق ما يجب عليكم من عبادته، ولم تكن نياتكم خالصة لوحدانيته) (2). ويحاول عدد من الكتاب المعاصرين، الذين كتبوا عن الحاكم وعن الدروز، أن ينفوا عن الحاكم كل هذه الأمور، ويصوروها كأنها افتراءات من المؤرخين، أو يجعلوا لها تبريرًا لا يستسيغه عقل ولا منطق. من هؤلاء الكتاب الدكتور أحمد شلبي، الذي حاول أن يصور أخبار شذوذ الحاكم واضطرابه، على أنه اتفاق بين المؤرخين، يأخذ الواحد قضية، فيسلم بها الآخر، وأن تاريخ الحاكم قد كتب أثر وفاته، وقد عادت السلطة إلى من اضطهدهم، الذين كان يهمهم أن يبرزوه معتوهًا أو مجنونًا أو مدعيًا للألوهية، ليصرفوا الناس عن البحث عن القتلة الذين قتلوا الحاكم؟!. بل يحاول الدكتور شلبي أن يبرر كل تصرفاته، حتى إنه يجعله مخلصًا لدولته كفؤا لحمل أعبائها، وهو في القمة من المفكرين في إنشائه دار الحكمة (3).   (1) محمد عبد الله عنان – ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص 119 – 120). (2) ((الرسالة الموسومة بالرضا والتسليم)). (3) د. أحمد شلبي ((التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية)) (ص 116 – 122). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 311 ولا أدري على ماذا اعتمد الدكتور شلبي، في دفاعه القوي عن الحاكم، ولكن يبدو أن معلومات الدكتور فيليب حتي، أقوى عنده من كل ما كتبه المؤرخون؟! وهناك قضية أخرى يحاول بعض الكتاب إيرادها، وهي صلة الحاكم بحمزة بن علي وغيره من الدعاة، وهذا ما يحاول الأستاذ عبد الله النجار (1) أن ينفيه في كتابه (مذهب الدروز والتوحيد)، مع أن الدروز حتى الوقت الحاضر ينفون مثل هذه الأقوال، ويعتبرونها تقويضًا للمذهب التوحيدي، ففي كتاب (أضواء على مسالك التوحيد) يورد بايزيد في توطئته للكتاب، وفي معرض رده على ما كتبه الأستاذ عبد الله النجار في كتابه يقول: (ونرى المؤلف الكريم يسعى إلى التفرقة والفصل بين حمزة بن علي والحاكم بأمر الله، وإنكار صلة الحاكم بالمذهب وانتسابه إليه. وفي ذلك ما فيه، علاوة على نية تقويض أساس المعتقد العرفاني، والمذهب التوحيدي (أي الدرزية)، كما هو مشهور ومعلوم، قد أخذ وغرف المحتوى الأخير لمنهجه ولعقيدته ودعوته من مجالس الحكمة، التي كانت تعقد في حضرة مولانا الحاكم وتوجيهه، وفي دار الحكمة التي أسسها على غرار أكاديمية أفلاطون عليه السلام؟!) (2).وهناك رسالة من رسائل حمزة، عنوانها (الرسالة المنفذة إلى القاضي أحمد بن العوام) (3)، (تثبت أن حمزة أصبح في مكانة استطاع منها أن يخاطب قاضي القضاة بمثل هذا الخطاب) (4)، (وتدل على مدى المكانة التي بلغها حمزة في ذلك التاريخ) (5)، ولو لم يكن وراء حمزة من يحميه ويدفع عنه الأذى ما كان يجرؤ على كتابة مثل هذا الخطاب، يقول حمزة في هذه الرسالة: (توكلت على أمير المؤمنين جل ذكره، وبه أستعين في جميع الأمور، معل علة العلل، صفات العلة بسم الله الرحمن الرحيم.   (1) سياسي لبناني، من طائفة الدروز، تقلد عدة مناصب رفيعة في الدولة اللبنانية، وألف كتابا عن الدروز أسماه ((مذهب الدروز والتوحيد))، حاول فيه أن يبين ويظهر عقيدة طائفته للناس والجهال من طائفته، ولكن الدروز، وخاصة مشيخة العقل، هاجموه بشدة، وأتلفوا كتابه، حتى طبع مرة ثانية في مصر، ولكنهم عادوا وحاولوا جمع ما يستطيعون منه وإتلافه، وأصدروا كتابا للرد عليه اسمه ((أضواء على مسلك التوحيد)) للدكتور سامي مكارم، ولم يكتفوا بذلك، فاستغلوا أحداث لبنان الأخيرة وقتلوه غيلة عام 1978 م. (2) د. سامي مكارم ((أضواء على مسلك التوحيد)) (الدرزية) (ص 72 - 73). (3) أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي العوام السعدي. قاضي مصر وبرقة وصقلية والشام والحرمين، من فقهاء الحنابلة، مصري، ولي القضاء في أيام الحاكم بمصر سنة 405 هـ، وفي أيامه غاب الحاكم (أو قتل)، توفي سنة 418 هـ، انظر ((الأعلام للزركلي)) (1/ 104). (4) د. محمد كامل حسين ((طائفة الدروز)) (ص 81). (5) د. عبد الرحمن بدوي ((مذاهب الإسلاميين)) (2/ 600). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 312 من عبد أمير المؤمنين ومملوكه حمزة بن علي بن أحمد هادي المستجيبين، المنتقم من المشركين بسيف أمير المؤمنين وشدة سلطانه، ولا معبود سواه، إلى أحمد بن محمد بن العوام، الملقب بقاضي القضاة، أما بعد: فقد تقدمت لنا إليك رسالة نسألك عن معرفتك بنفسك، فقصرت عن الإِجابة، قلة علم منك بالحق وإهجانا به، وكيف يجوز لك أن تدعي هذا الاسم الجليل وهو قاضي القضاة، وليس لك علم بحقائق القضايا والأحكام، فقد صح بأنك مدع لما أنت فيه، فيجب عليك أن تعلم نفسك وتدربها، فإن كنت قد جهلتها فأنت فرعون الزمان، وفعلك لاحق بعثمان بن عفان، فيجب عليك أن تقلع عما أنت فيه، وتتبع سير أصحابك المتقدمين أبي بكر وعمر (1)، وتزيل تلثيمة البياض عن رأسك والعمامة والطيلسان، وتلبس دنية سوداء بشقائق صفر طوال مدلاة على صدرك، وتلبس درَّاعة بلا جيب، بل تكون مشقوقة الصدر، وتكون مرقعة بالأحمر، والأصفر، والأديم الأسود الطائفي، وتكون قصيرة عليك لتلحق في الشكل بعمر بن الخطاب، ويكون لك درة على فخذك لتقيم بها الحدود على من تجب عليه وأنت جالس في الجامع، ويكون لك في كل سوق صاحب يتزين بزيك وبيده درة يقيم بها في سوقه الحدود على من وجبت عليه مثل الزاني والسارق والقاذف وشارب الخمر، ممن هو من أهل ملتك، وتكون تتولى الخطبة بنفسك، وتطلع على المنبر بلا سيف تتقلد به، ويكون ممرك ومجيئك من دارك إلى الجامع، وأنت ماش حافيًا لتكون في ذلك لاحقًا بأصحابك المتقدمين أبي بكر وعمر. وإياك ثم إياك أن تنظر لموحد في حكم لا أنت ولا عادلتك، في شهادة نكاح ولا طلاق، ولا وثيقة، ولا عتق، ولا وصية، ومن جلس بين يديك على حكم فتسأل عنه أن يكون موحدًا فترسله إليّ مع رجالتك لأحكم أنا عليه بحكم الشريعة الروحانية (2)، التي أطلقها أمير المؤمنين سلامة علينا، فانظر لنفسك فقد أعذرتك مرة بعد أخرى وأنذرتك) (3).وإلى هذه الرسالة يشير حمزة في رسالة (البلاغ والنهاية) فيقول: (وقد أرسلت إلى القاضي عشرين رجلاً إلى الحضرة (4) اللاهوتية، فأبى القاضي واستكبر، وكان من الكافرين، واجتمعت على غلماني ورسلي الموحدين لمولانا جل ذكره، زهاء مائتين من العسكرية والرعية، وما منهم رجل إلا ومعه شيء من السلاح فلم يقتل من أصحابي إلا ثلاثة نفر وسبعة عشر رجلاً من الموحدين، في وسط مائتين من الكافرين (5)، فلم يكن لهم إليهم سبيل حتى رجعوا إلى عندي سالمين) (6).وفي ختام هذا الفصل نقف وقفة طويلة مع رسالة حمزة بن علي بن أحمد الموسومة (بكتاب فيه حقائق ما يظهر قدام مولانا جل ذكره من الهزل)، وقد رأيت أن أنقل هنا نص هذه الرسالة، ليتبين لنا مدى تأثر العقيدة الدرزية بأفعال وأقوال الحاكم، والتي يعتبرونها دليلاً على ألوهيته، حيث تلمس لها حمزة تأويلات باطنية، (واتخذ منها دلالات على صدق ألوهية الحاكم، وأن كل ما أتى به الحاكم هو رمز وإشارة وله تأويل باطني لا يفقهه الناس) (7)،   (1) والملاحظ هنا، أن حمزة بن علي، مع طعنه بعثمان بن عفان رضي الله عنه، فقد طلب من هذا القاضي أن يتشبه في زيه وعلمه بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولا يخلو نصحه هذا من تبكيت وغمز بعمر وأبي بكر. (2) ومن هنا يظهر أن حمزة بن علي فرق بين (جماعته) من جهة، وبين السنة والشيعة من جهة أخرى، وذلك من منعه للقاضي أن يقضي بين الموحدين. (3) ((الرسالة المنفذة إلى القاضي أحمد بن العوام)). (4) هكذا وردت في المخطوط، ولعله يقصد (من). (5) ويبدو أنه يشير إلى ثورة الناس على أتباعه، وقتلهم لهم، والنجاء الباقي إلى الحاكم. (6) ((رسالة البلاغ والنهاية في التوحيد)). (7) د. محمد كامل حسين ((طائفة الدروز)) (ص 44) .. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 313 ولهذه الرسالة أهمية خاصة فيما يتعلق بتأييد الأخبار المروية في كتب المؤرخين عن أفعال الحاكم الغريبة، إذ فيها تأييد لها وتوكيد، ودليل قاطع على أن هؤلاء المؤرخين لم يفتروا شيئًا ولم ينقلوا إشاعات كاذبة) (1). وفيما يلي نص هذه الرسالة: (الحمد لمولانا وحده، وشدة سلطانه، توكلت على مولانا الباري العلام العلي الأعلى، حاكم الحكام، من لا يدخل في الخواطر والأوهام، جل ذكره عن وصف الواصفين وإدراك الأنام. بسم الله الرحمن الرحيم، صفات عبده الإِمام، الحمد والشكر لمولانا – جل ذكره – وبه أستعين في الدين والدنيا وإليه المعاد، الذي يحي ويميت، وهو الحي الذي لا يموت، الذي هو في السماء عال، وفي الأرض متعال، حاكمًا، عليه توكلت، وبه أستعين، وإليه المصير، وهو المعين، وصلوات مولانا جل ذكره وسلامه على الذي اصطفاه من خلقه واختاره من عبيده، وجعلهم الوارثين لديار أعدائهم بقوته وسلطانه، الحاكم، القادر، العزيز القاهر، وهو على كل شيء قدير. أما بعد، معاشر الإخوان الموحدين، أعانكم المولى على طاعته، إنه وصل إليّ من بعض الإِخوان الموحدين – كثر المولى عددهم وزكى أعمالهم، وحسن نياتهم – رقعة يذكرون فيها ما يتكلم به المارقون من الدين، الجاحدون لحقائق التنزيه، ويطلقون ألسنتهم بما يشاكل أفعاله الردية، وما تميل إليه أديانهم الدنية – فيما يظهر لهم من أفعال مولانا – جل ذكره – ونطقه، وما يجري قدامه من الأفعال التي فيها حكمة بالغة شتى فيما تغني النذر (2)، وتمييز العالم الغبي الذين من أعمالهم الهزل، وأقوال فيها صعوبة وعدل، ولم يعرفوا بأن أفعال مولانا – جل ذكره – كلها حكمة بالغة، جدًا كانت أم هزلاً، يخرج حكمة ويظهرها بعد حين، ولو تدبروا ما سمعوه من الأخبار المأثورة عن جعفر بن محمد بن علي بن عبد مناف بن عبد المطلب (3): (إياكم الشرك بالله والجحود له، بما يختلج في قلوبكم من الشك في أفعاله كيفما كانت، ولا تنكروا على الإِمام فعله، ولو رأيتموه راكبًا قصبة، وقد عقد ذيله خلف ثوبه، وهو يلعب مع الصبيان بالكعاب، فإن تحت ذلك حكمة بالغة للعالم وتمييزًا للمظلوم من الظالم). فإذا كان هذا القول في جعفر بن محمد، وجعفر وآباؤه وأجداده كلهم عبيد لمولانا جل ذكره، فكيف أفعال من لا تدركه الأوهام والخواطر بالكلية، وحكمته اللاهوتية التي هي من رموزات وإشارات لبطلان النواميس، وهلاك الجواميش، وتمييز الطواويس، فلمولانا الحمد على ما أنعم به علينا بعد استحقاق نستحقه عنده، وله الشكر على ما أظهر لنا من قدرته خصوصًا دون سائر العالمين إنعامًا وتفضلاً، ونسأله العفو والمغفرة بما يجري منا من قبائح الأعمال وسوء المقال، ونعوذ به من الشرك والضلال، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو العلي المتعال، ولو نظروا إلى أفعال مولانا جلت قدرته بالعين الحقيقية، وتدبروا إشاراته بالنور الشعشعاني، لبانت لهم الألوهية والقدرة الأزلية، والسلطان الأبدية، وتخلصوا من شبكة إبليس وجنوده الغوية، ولتصور لهم ركوب مولانا – جل ذكره – وأفعاله، وعلموا حقيقة المحض في جده وهزله، ووقفوا على مراتب حدوده، وما تدل عليه ظواهر أموره، جل ذكره وعز اسمه ولا معبود سواه.   (1) د. عبد الرحمن بدوي ((مذاهب الإسلاميين)) (2/ 757). (2) يشير إلى الآية الكريمة حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ *القمر: 5 *. (3) والملاحظ هنا كيفية إيراده لنسب جعفر، ونسبة علي إلى جده عبد مناف، وسنلاحظ أن جميع رسائله يذكر نسب علي رضي الله عنه بهذا الشكل؟!. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 314 فأول ما أظهر من حكمة ما لم يعرف له في كل عصر وزمان، ودهر وأوان، وهو ما ينكره العامة من أفعال الملوك: من تربية الشعر، ولباس الصوف، وركوب الحمار بسروج غير محلاة لا ذهب ولا فضة. والثلاث خصال معنى واحد في الحقيقة، لأن الشعر دليل على ظواهر التنزيل، والصوف دليل على ظواهر التأويل، والحمير دليل على النطقاء (الأنبياء) (1)، بقوله لمحمد: (يا بني أقم الصلاة وآت الزكاة، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر ... ، إن ذلك من عزم الأمور. ولا تصعر خدك للناس) (2)، إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا [لإسراء: 37].كل ذلك كان عند ربك محذورا، وانقص من مشيك، واغضض من صوتك، إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) (3).والعامة (4) يرون أن هذه الآية حكاية عن لقمان الحكيم لولده، فكذبوا وحرفوا القول، إنما هو قول السابق، وهو سلمان، وإنما سمي الناطق ولده لحد التعليم والمادة، إذ كان سائر النطقاء والأوصياء أولاد السابق المبدع الأول، وهو سلمان، فقال لمحمد: (أقم الصلاة) إشارة إلى توحيد مولانا جل ذكره، (وآت الزكاة) يعني طهر قلبك لمولانا جل ذكره ولحدوده ودعاته. (وأمر بالمعروف) وهو توحيد مولانا جل ذكره، (وانه عن المنكر) يعني شريعته وما جاء به من الناموس والتكليف، (إن ذلك من عزم الأمور) يعني الحقائق وما فيها من نجاة الأرواح من نطق الناطق، (ولا تصعر خدك للناس) وخده وجه السابق، وتصغيره ستره فضيلته، (ولا تمش في الأرض مرحًا) والمرح هو التقصير واللعب في الدين، والأرض هاهنا هو الجناح الأيمن، والأيمن هو الداعي إلى التوحيد المحض، (إنك لن تخرق الأرض) يعني بذلك، لن تقدر عليك تبطيل دعوة التوحيد، (ولن تبلغ الجبال طولا) والجبال هم الحجج الثلاثة الحرم، ورابعهم: السابق الذي يعبده العالم دون الثلاثة. وأجلهم الحجة العظمى، واسمه في الحقيقة: ذو معة، لأن قلبه وعى التوحيد والقدرة من مولانا جل ذكره بلا واسطة بشرية، (وانقص من مشيك) (5) يعني اخفض من دعوتك في الظاهر، الذي يمشي في العالم مثل دبيب النملة السوداء على المسح الأسود في الليلة الظلماء، وهو الشرك بذاته.   (1) يطلق حمزة غالب على الأنبياء هذا الاسم؟!. (2) * لقمان: 17 - 18 *، وقد أنقص من الآية الأولى بعد (انه عن المنكر) (واصبر على ما أصابك) وزاد (وآت الزكاة). (3) غير أن كلامه هنا يخالف نص القرآن الكريم في سورة لقمان بقوله تعالى: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ *لقمان: 17 - 19 *. (4) إن لفظ العامة عند إطلاقه عند عموم الشيعة يقصد به أهل السنة، ويقابله عندهم عن أنفسهم لفظ الخاصة. (5) حرفت الآية الكريمة والأصل وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 315 مثل النار إذا وقعت في التبن لا يشعر بضوئها إلا بعد هلاكه، كذلك محبة الشريعة والإِصغاء إلى زخرفه، والتعلق بناموسه، يعمل في الأعضاء ويجري في العروق، كما قال بلسانه وقوة بأسه وسلطانه، وألطافه تجري في العروق مجاري الدم حتى يتمكن في القلب ويغري سائر العالمين. وقال الناطق: (1) (ما زج حبي دماء أمتي ولحومهم، فهم يؤثرونني على الآباء والأمهات)، فرأينا الخبرين واحدا معناهما. وقد قال القرآن: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] ورب الناس هاهنا هو التالي، وهو في عصر محمد: المقداد (2)، مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ [الناس:2 - 4] يعني زخرف الناطق، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس:5])، يعني الدعاة والمأذونين والمكاسرين، حتى يردهم عن توحيد مولانا الحاكم بذاته، المنفرد عن مبدعاته، جل ذكره. والذات هو لاهوته الحقيقي، الذي لا يدرك ولا يحس، سبحانه وتعالى. وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ [لقمان:19] يعني بذلك اخفض وانقص واستر نطقك بالشريعة إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19] يعني الدعوة الظاهرة، لَصَوْتُ الْحَمِيرِ: يعنى بذلك أشر كلام وأفحشه نطق الشرائع المذمومة في كل عصر وزمان، فمنهم تظهر الشكلية والضدية والجنسية. فأظهر مولانا جل ذكره لبس الصوف، وتربية الشعر وهو دليل على ما ظهر من استعمال الناموس الظاهر، وتعلق أهل التأويل بعلي بن أبي طالب وعبادته. وركوب الحمير دليل على إظهار الحقيقة على شرائع النطقاء، وأما السروج بلا ذهب ولا فضة فدليل على بطلان الشريعتين: الناطق والأساس (3). واستعمال حلي الحديد على السروج دليل على إظهار السيف على سائر أصحاب الشرائع وبطلانهم. واستعمال الصحراء في ظاهر الأمر، وخروج مولانا جل ذكره في ذلك اليوم من السرداب إلى البستان، إلى العالم دون سائر الأبواب. والسرداب والبستان الذي يخرج مولانا جل ذكره منهما ليس لأحد إليهما وصول، ولا له بهما معرفة، إلا أن يكون كمن يخدمهما أو خواصهما. وهو دليل على ابتداء ظهور مولانا سبحانه بالوحدانية ومباشرته بالصمدانية بالحدين اللذين كانا خفيين عن سائر العالمين، إلا لمن يعرفهما بالرموز والإِشارات، وهما الإِرادة والمشيئة، كما قال: (إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون، فسبحان الذي بيده ... كل شيء وإليه ترجعون) (4)، والإرادة هي ذو معة، والمشيئة تالية، كما قال: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان:30]، فليس يعرفهما إلا الموحدون لمولانا جل ذكره. ومن السرداب يخرج إلى البستان، كذلك العلم يخرج من ذي معة إلى ذي مصة، الذي هو بمنزلة الجنة صاحب الأشجار والأنهار، ثم يخرج منها إلى المقس (5)، فأول ما يلقى بستان برجوان (6)، وهو المعروف بالحجازي، فلا يدخله، ولا يدور حوله في مضيه، وهو دليل على الكلمة الأزلية.   (1) يعني محمد صلى الله عليه وسلم (2) هو المقداد بن عمرو، ويعرف بابن الأسود، صحابي، من الأبطال، وهو أحد السبعة الذين كانوا أول من أظهر الإسلام وهو أول من قاتل على فرس في سبيل الله، شهد بدرا وغيرها، وسكن المدينة وتوفي فيها سنة 33 هـ. (3) يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (4) *يس: 82 *، وقد أسقطت من الآية كلمة (ملكوت) قبل (كل شيء). (5) مكان في الجهة الغربية للقاهرة، وكانت بساتين يحدها من الغرب النيل، وفيه جامع المقس، واسم المقس يطلق على المكس، والمقسم، وأم دنين أيضا، وهي واقعة على شاطئ النيل. (6) بستان برجوان، ويقصد برجوان الصقلبي الخادم، وحامل المظلة للحاكم، وقد قتله الحاكم وكان له بستان يعرف ببستان برجوان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 316 ثم يمضي إلى البستان المعروف (بالدكة) وهي دليل على السابق، وهو دكة العالم، وعلومهم منهم، وهذا البستان المعروف بالدكة، على شاطئ البحر، وكذلك علم التأويل ممثوله البحر، والمستجيب للعهد إذا بلغ علم السابق ومعرفته، حسب أنه قد بلغ الغاية والنهاية في العبادة. وبستان الدكة، مع جلالته، ملاصق لموضع الفحشاء والمنكر، دون سائر البساتين، دليل على أن علم السابق واصل بالنطقاء، الذين هم معادن النواميس الفانية الحشوية، والأعمال الفاحشة الدنية. والمقس دليل على الناطق، وما في المقس من الفحشاء والمنكر دليل على شريعته، والنساء الفاسدات اللواتي فيه، دليل على دعاة ظواهر شريعته، وارتكابهم الشهوات البهيمية في طاعته. ثم إنه علينا سلامه ورحمته، يخرج إلى الصناعة (1) ويدخل من بابها، ويخرج من الآخر. والصناعة دليل على صاحب الشريعة، والصناعة ممنوعة من دخول العالم فيها والخروج لإضافة الشريعة، فدخول مولانا جل ذكره فيها من باب وخروجه من باب، دليل على تحريم الشريعة وتعطيلها. ثم إنه – علينا سلامه ورحمته – يدور حول البستان المعروف بالحجازي، وهو دليل على الكلمة الأزلية، والدوار حوله بلوغ إلى الكشف بلا سترة تحوط بالدين، ثم إنه – جل وعز سلطانه – يبلغ إلى القصور، وهما قصران عظيمان خرابان دليل على بطلان الشريعة وخرابها. ثم إنه – علينا سلامه ورحمته – يدخل من باب البستان المعروف بالمختص، وهو دليل على التالي، إذ كان التالي مختصًا بعلمه الأساسي والتأويل. وأكثر العالم يميلون إليه، وهو هيولي العالم الجرماني. ومن الشيعة من يعتقد ويعبد التالي، ومن الشيعة من يقول بأن التالي مولانا، وهذا هو الكفر والشرك. وإنما هو التالي الذي عجز الناس عن معرفته، وهو الجنة المعروفة بالمختص، متصلة بالجنة المعروفة بالعصار. والعصار دليل على الناطق، لأنه يعصر علم التالي فيخرج منه الحقيقة والتوحيد، فيكتمه عن العالم الغبي ويظهر لهم الثفل، وهو الكسب (2) الذي لا ينتفع به غير البهائم. كذلك البستان المعروف بالعصار، وهو خراب من الفواكه والأشجار والرياحين والأثمار، وبستان المختص عامر بالفاكهة والأزهار، والرياحين والأشجار، ومنه يخرج الماء إلى الحوض الذي تشرب منه البهائم. والماء هو العلم، والحوض هو المادة الجارية من التالي، والدواب هم النطقاء والأسس. كذلك العلم يخرج من التالي إلى الأساس في كل عصر وزمان، والسابق ممد الناطق، ومن الفاتق إلى الراتق، ومن السابق إلى الطالب الطارق. وهذان البستانان بين المسجدين المعروفين بمسجد تبر (3)، ومسجد ريدان (4)، فمسجد ريدان محاذي بستان العصار، ومسجد تبر محاذي بستان المختص. ومسجد تبر دليل على الناطق، والتبر دليل على الذهب، والذهب دليل على إذهاب شريعته، وهذا المسجد لم تصل فيه صلاة جماعة قط، دليل على أن ليس للناطق ولا لمن تبعه اتصال بالتوحيد.   (1) يقصد دار الصناعة. (2) وهي التفل الذي يتخلف عن المواد التي تعصر مثل السمسم والقمح وبذر القطن، وما شابه ذلك، وتقدم علفا للبهائم، وقد جرى الآن تجفيفها بطرق صناعية، وأصلها فارسية (كشب)، قال في لسان العرب هي عصارة الدهن، غير أن المعروف الآن ما ذكر أولاً. (3) مسجد قرب القاهرة بجانب منطقة (المطرية)، وينسب إلى تبر الأخشيدي، الذي ثار على كافور الأخشيدي، ودفن في هذا المسجد. (4) الراجح أن نسبة هذا المسجد إلى ريدان، الوزير الذي ولاه الحاكم الوزارة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 317 ومسجد ريدان، دليل على حجة الكشف القائم بالسيف والعنف، الداعي إلى التوحيد المنكر عند سائر العالمين، كما نطق عبد مولانا جل ذكره في القرآن على لسان الناطق السادس (يوم يدع الداع إلى شيء نكر)، وهو عبادة مولانا جل ذكره وتوحيده، الذي أنكره سائر النطقاء والأسس أئمة الكفر، كما قال عبد مولانا – جل ذكره – في كتابه (قاتلوا أئمة الكفر، إنهم لا أيمان لهم، لعلهم ينتهون).أراد لا أيمان لهم بمعرفة مولانا – جل ذكره – والإِيمان هو التسديق (التصديق) (1). وتوحيد مولانا – جل ذكره – صعب مستصعب، لا يحمله نبي مرسل، ولا وصي مكمل، ولا إمام معدل، ولا ملك مفضل. بل يحمله قلب صاف لبيب، أو موحد راغب من الأديان والطرائق، وعبد مولى الأساس والناطق، ومبدع التالي والسابق الحاكم على جميع النطقاء والشرائع، المنفرد عن جميع المخلوقات والبدائع. ولكل شيء ضد بين يديه، فبإزاء الباطل، الذي هو جنة العصاة، وهو دليل على الناطق حتى يرفع وهو مسجد ريدان، وهو ذو معة، وبإزاء الحق الذي هو جنة المختص وهو التالي باطل يطلب فساده، وهو مسجد تبر، وهو الناطق، والمولى جل ذكره ينصر أولياءه، ويهلك أعداءه، ويتم نوره ولو كره المشركون المتعلقون بعلي بن عبد مناف (2)، والكافرون المتعلقون بالناطق وعدمه. وريدان خمسة أحرف، دليل على خمسة حدود، النفسانيين، والنورانيين، والروحانيين، والجرمانيين، والجسمانيين. وهو ذو معة العقل الكلي النفساني، وذو مصة، النفس الروحاني والجناح الرباني، والأيمن الباب الأعظم، وهو السابق والتالي، معدن العلوم ومنه ابتناؤها. وريدان كلمتان، (ري) و (دان)، و (ري) الأشياء وهم الحجج والدعاة والمأذونين والمكاسرين، كما قال عبد مولانا جل ذكره (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين)، الأشياء الحقيقية، والذي الأزلي، والتوحيد الأبدي على يد ريدان، يوم الدين، وهو عبد مولانا ومولى الخلق أجمعين، جل ذكره، وعز اسمه، ولا معبود سواه، سبحانه جل وعلا أن يكون ديان أو سلطان أو برهان أو الله أو الرحمن، إذ كان الكل عبيده في سائر الأدوار، المستغفرين له في الليالي والأسحار، العابدين له طوعًا وكرهًا في العيان، سبحانه عن إدراك الأوهام والخواطر، أو يعرف الإِعلان والسرائر، أو بباطن أو بظاهر، إذ كان لا يدرك بعض ناسوته، وقدرة مقام جبروته، وعظم جلال لاهوته. وما من المساجد مسجد سقطت قبته، وهو المسجد بكماله غير مسجد ريدان، فأمر مولانا سبحانه وتعالى بإنشاء قبته، وزاد في طوله وعرضه وسموه دليل على هدم الشريعة الظاهرة على يد عبده الساكن فيه (3). وإنشاء توحيد مولانا جل ذكره فيه بالحقيقة ظاهرًا مكشوفًا، وابتداء الشريعة الروحانية في بسيط روحاني توحيدي لاهوتي حاكمي لا يعبدون غيره وحده، ولا يشركون به أحدًا في السر والإِعلانية، سبحانه وتعالى عما يقول المشركون علوًا كبيرًا (4). ثم إن مولانا علينا سلامه ورحمته، ظهر لنا في الناسوت البشرية، ونزوله عن الحمار إلى الأرض، وركوبه محاذي باب المسجد، دليل على تغيير الشريعة، وإثبات التوحيد، وإظهار الشريعة الروحانية على يد عبده حمزة بن علي بن أحمد، ومملوكه وهادي المستجيبين المنتقم من المشركين، بسيف مولانا وشدة سلطانه، وحده لا شريك له.   (1) وجدت على هامش إحدى المخطوطات بخط الأستاذ زهير الشاويش – في مكتبته الخاصة – (أن كتابة الدروز الكلمة التصديق بالسين بدلا من الصاد في كل كتبهم مرتبط عندهم بحساب (الجمل) المستعمل عندهم وعند بعض المتصوفة لأغراض لا مجال لذكرها. (2) يلاحظ هنا أنه نسب عليا إلى جده. (3) كان حمزة يسكن في هذا المسجد. (4) يقصد الآية الكريمة سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا * الإسراء: 17 *. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 318 ووقوفه في ظاهر الأمر، وحاشاه من الوقوف والسير والجلوس والنوم واليقظة، لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:255]، يعني النطقاء والأسس، مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، يعني من ذا الذي يقدر على إطلاق داع أو مأذون إلا بمشيئته، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [البقرة:255]، يعني من آدم إلى محمد بن إسماعيل، وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ يعني حجته، إِلاَّ بِمَا شَاء وهو المشيئة أعظم الدرجات، وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ والكرسي هو التأييد الذي يصل إلى الحدود العالية، وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا [البقرة:255]، وهما الجناح الأيمن والجناح الأيسر، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255]، العالي على كل من تقدم ذكره ومن تأخر ممن ينتظرهم الشيعة المشركون. وكان وقوفه عند الميل (1)، والميل دليل على التأييد، إذ كانت الأميال يستدلون بها على الطريق، كذلك التأييد بطرق العبد من المعبود، ويعود إلى الوجود، ونزوله إلى الأرض محاذي باب المسجد إشارة منه إلى عبد باب حجابه على خلقه، والداعي إليه بتأييده وأمره، إذ كان التأييد هو الأمر العالي الذي يكون بلا واسطة بشريه، والباب دليل على الحجة. ونزوله عن الحمار إلى الأرض وركوبه آخر كان في نفس آذان الزوال، وصلاة الزوال دليل على الناطق، وتغيير مولانا جل ذكره الحمار في نفس وقت الأذان، دليل على إزالة الظاهر. ويكون اعتمادهم من موضع تغييره، وهو يسمى المقام المحمود، والمشهد الموجود، والمنهل العذب المورود إلى قصر مولانا الحاكم بذاته، وهو المقام المحمود، محاذي باب شريعة روحانية وعلوم حاكمية، وأنا أذكرها لكم في غير هذا الكتاب إن شاء مولانا، وبه التوفيق في جميع الأمور، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو حسبي ونعم النصير المعين. ثم إن مولانا علينا سلامه ورحمته، لابد له في كل ركبة من الإِعادة إلى البساتين المعروفين بالمقس، دليل على إظهار النشوء الثالث الخارج من الكفر والشرك، وهما الظاهر والباطن، وهو توحيد مولانا جل ذكره. ودخوله إلى القصر من الباب الذي يخرج منه، والسرداب بعينه دليل على إثبات الأمر، وكشف الطرائق بكتب الوثائق، ورجوع الأمر إلى ما منه بدأ روحانية غير تكليفية، ولا ناموسية شيطانية، ولا زخارف هامانية، أعاذنا المولى وإياكم من الشك فيه، والشرك به بمننه وفضله، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وأما نزوله في ظاهر الأمر إلى مصر، وما شاهدناه، ففيها تمكن الشيطان الغوي لعنه الله من قلوب العامة الحشوية (2)، والعقول السخيفة الشرعية مما يسمعون من ألسن الركابية قدام مولانا جل ذكره بما يستقر في عقولهم السخيفة من كلام الهزل والمزاح، ولم يعرفوا أن فيه حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ [القمر:5].   (1) منار يبنى للمسافر في أنشاز الأرض وأشرافها، وقيل للأعلام المبنية في طريق مكة أميال لأنها بنيت على مقادير مدى البصر من الميل إلى الميل، وكل ثلاثة أميال منها فرسخ. انظر ((لسان العرب)) (11/ 639). (2) هذا التعبير يستعمله الشيعة، ويقصدون به ذكر أهل السنة، وقد تبعهم على ذلك من غير وعي بعض الكتاب في القديم والحديث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 319 فأول مسيره إلى المشاهد الثلاثة، وليس فيها آذان ولا إقامة ولا صلاة جماعية، إلا في الأوسط الذي هو المنهج الأقوم، والطريق الأسلم التي من سلكها نجا، ومن تخلف عنها هلك وغوى. ثم إنه علينا سلامه ورحمته، يسير إلى راشده (1)، أيضًا ثلاثة مساجد متفاوتات في بنيانها، وأحسن ما فيهم وأعلاهم وأفضلهم، الذي يصلي الخطيب فيه يوم الجمعة، وتصلي فيه خمس صلوات على دائم الأيام، وهو الوسطاني، وهو دليل على توحيد مولانا جل ذكره، وإثبات خمسة حدود علوية فيه، وهو دليل على حجة الكشف. والمسجدان اللذان معه متفاوتان في البناء، دليل على الناطق والأساس، وكذلك الناطق في ترتيب حدوده، أفضل من الأساس، والأساس أعظم شأنًا في ترتيب الباطن ورموزه من الناطق في المعقولات والبيان، فلما ظهر التوحيد زالت قدرتها جميعا، وسميت (راشدة) لأن بمعرفة الحجة وهدايته، والأخذ منه يرشد المستجيبون ويبلغون نهاية توحيد مولانا جل ذكره. ثم إن علينا سلامه ورحمته، يدور حول هذا المسجد الوسطاني في ظاهر الأمر دليل على التأييد لعبده، وقدام المسجد عقبة صعبة الصعود لمن يسلكها، وليس إلى القرافة (2) محجة إلا على هذه العقبة دليل على البراء من الأبالسة، أصحاب الزخرف والناموس وليس للعالم نجاة إلا بالبراءة منهم، كما أن المحجة على هذه العقبة، وهي صعبة مستصعبة لكن فيها افتكاك الرقبة، وهو التخلص من الشريعتين الظاهر والباطن. أما ما يرونه من وقوفه في الصوفية، واستماعه لأغانيهم، والنظر إلى رقصهم، فهو دليل على ما استعمل من الشريعة التي هي الزخرف واللهو واللعب، وقدرنا هلاكهم. وأما بئر الزئبق، فهو دليل على الناطق، من فوقه واسع، ومن أسفله ضيق، كذلك الشريعة دخولها سهل واسع، والخروج منها صعب ضيق، لكن من يقفز في هذا البئر ويعرف سره ويقف على معناه، ويريد المولى نجاحه خرج من بابه، وهو دليل على أساسه، والوقوع في الشريعة لابد منه حتما لزما لكل أحد، ويخلص المولى من يشاء برحمته منها، كما قال الناطق في القرآن وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا [مريم:71] يعني السابق، حَتْمًا مَّقْضِيًّا، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا [مريم:72] من الناطق وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ [مريم:72] يعني أهل الظاهر، فِيهَا جِثِيًّا [مريم:72] يعني حيران حزينًا دائمًا. ومن خرج من هذا البئر سالمًا أخذ من الحكام ما يستنفع به، كذلك من كان تحت الشريعة وعلم التأويل ورموزه وتخلص من شبكتيهما جميعًا وعلم ما يراد منه، وصل إلى التوحيد، واستنفع بدينه ودنياه، ومن قفز فيهما: ... لا قوة، وهما السابق والتالي انكسرت رجلاه واندق عنقه، دليل على أن من انقطع من السابق والتالي الذين هما الأصلان المحمودان وخالفهما (خسر الدنيا والآخرة، ذلك الخسران المبين) (3).   (1) يقصد جامع راشدة، وهو الذي بناه الحاكم، على القرب من (الرصد)، وكان قبل ذلك جانب المكان الذي بني عليه جامع راشدة، جامع بهذا الاسم، ولما بني هذا الجامع سمي بهذا الاسم، وهو نسبة إلى قبيلة عربية اسمها (راشدة). (2) وهي مقبرة القاهرة، وتسمى بهذا الاسم. (3) *الحج: 11 *، وقد أسقط كلمة (هو) بعد كلمة (ذلك). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 320 وأما بئر الحفرة، فهو دليل على الأساس، وهو أشد عذابًا من بئر الزئبق، وأتعب خرجا، لأن من اعتقد الظاهر، وهي الشريعة، إذا بلغ الباطن اعتقد أنه ليس فوق الأساس شيء، وأنه الغاية والمعبود، فيبقى في العذاب الأبدي، إلى أن يريد المولى منجاته، فيحتاج الداعي أن يتعب معه من قبل أن يكسره ويجبره ويخرجه مما هو عليه من الكفر والشرك. وأما لعب الركابية بالعصي والمقارع (1)، قدام مولانا جل ذكره فهو دليل على مكاسرة أهل الشرك والعامة وتشويههم بين العالم، وإظهار أديانهم المغاشم ويكشف زيفهم باستجرائهم على المخاطبة بحضرته. أما الصراع، فهو دليل على مفاتحة الدعاة بعضهم لبعض، وقد كان للعالم في قتل سويد والحمام عبرة لمن اعتبر، ونجاة من الشرك لمن تدبر، لأنهما كانا رئيسين في الصراع، ولكل واحد منهما عشيرة وأتباع وهما دليلان على الناطق والأساس، وقتلهما دليل على تعطيل الشريعتين التنزيل والتأويل، والهوان بالطائفتين أهل الكفر والتلحيد. وأما ما ذكره الركابية من ذكر الفروج والأحاليل، فهما دليلان على الناطق والأساس، وقوله: (أرني قمرك) يعني اكشف عن أساسك وهو موضع يخرج منه القذر، دليل على الشرك فإذا كشف عن أساسه وأخرج قبله، أي عبادة أساسه، نجا من العذاب والزيغ في اعتقاده، ومن شك هلك. كما أن الإِنسان إذا لم يبل ولا يتغوط أخذه القولنج فيهلك. والنار ها هنا علم الحقيقة وتأييده جل ذكره فيحرق ما أتت به الشريعتان، كما أنهم يحرقون فروج بعضهم بعضًا في النار، دليل على احتراق دولتهما وانقضاء مدتهما، وإظهار توحيد مولانا جل ذكره بغير شاك فيه، لا يشرك به لا ناطق جسماني، ولا أساس جرماني، ولا سابق روحاني، ولا تال نفساني، ولا يبقى لمنافق جولة، ولا لمشرك دولة، ويكون أولو الأمر منكم وأهل الحساب منكم والمتصوفون في جميع الدواوين منكم، والعمال منكم، ويكون الموحدون لمولانا جل ذكره في نعيم دائم وإحسان غانم، وملك قائم ... فعليكم معاشر الإخوان الموحدين لمولانا جل ذكره، العابدين له وحده دون غيره بالحفظ لإِخوانكم، والتسليم لمولانا جل ذكره، والرضا بقضائه في السراء والضراء، تنجوا من عذاب الدين وشقوة الدنيا، بمنة مولانا وقوته) (2). وهكذا نرى أن حمزة لم يأت بجديد في موضوع ألوهية الحاكم، وإن فاق الكثير دهاء ومكرا وعداوة للإِسلام، وتلاعبًا بالألفاظ وتآويل حلزونية. وحمزة بعد هذا كله لم يأت بدليل على ألوهية الحاكم، إذ لينه وتواضعه وكرمه دليل على اللاهوت، وشجاعته وشدته دليل أيضًا، بل سدل شعره وارتداؤه الصوف واللعب بالإحليل والفرج دليل كذلك. وهكذا فإن الإِنسان العاقل وهو يقرأ هذه السخافات لا يستطيع إلا أن يرثي لحال هؤلاء الذين – لا يزال حمزة – يلعب بعقولهم فيؤمنون بأقواله وسخافاته ... ويقف حائرًا أو حزينًا أمام هذه الأقوال (المقدسة عندهم) وإلى تبتر الخيط الرفيع بين الدرزي والإِسلام؟!. المصدر: عقيدة الدروز عرض ونقد لمحمد أحمد الخطيب – ص 39   (1) يقول الأستاذ زهير الشاويش عن هذا: (إنه من الأعمال التي ما زالت حتى اليوم في مصر ويسمى (الضرب بالشوم) ويشبه إلى حد ما، ما يسمى في الشام بلعب الحكم). (2) كتاب فيه حقائق ما يظهر قدام مولانا جل ذكره من الهزل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 321 المبحث الثالث: تطور المذهب الدرزي بعد الحاكم أشرنا فيما تقدم إلى شغف الحاكم بالطواف بالليل، ولاسيما في جنبات جبل المقطم، وكان يتوغل في الجبل، (وفي ليلة الاثنين 27 شوال سنة 411 هـ (1021 م) خرج الحاكم كعادته للطواف – في الجبل، وليس معه أحد إلا ركابي وصبي) (1). ولكن الحاكم لم يعد، وأرجح الروايات أن أخته ست الملك قد دبرت اغتياله، وكما يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي (فقد دفعها إلى تدبير اغتياله أمران:   (1) ابن كثير: ((البداية والنهاية)) (12/ 10). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 322 1 – أنها لما رأت أعمال الحاكم الشنيعة، خافت أن يخرب بيت الخلافة الفاطمية على يديه، فقد كرهته قبيلة كتامة صاحبة الفضل الأكبر في قيام الدولة الفاطمية في المغرب، والتي كانت لها مكانة عالية في مصر بعد فتحها، بسبب إعدامه لكثير من وجهائها، وحده من نفوذها، كما كرهه أهل مصر لتصرفاته الشاذة، وكرهه الجند أيضًا بسبب تصرفاته مع قوادهم، ومعهم أنفسهم.2 – أنها خافت على نفسها من بطشه، إذ اتهمها بسوء سلوكها مع الرجال، وما أيسر أن ينفذ وعيده لها، لهذا آثرت أن تقضي عليه قبل أن يقضي عليها) (1).وتؤكد الروايات التاريخية هذين الأمرين، ومما أورده المؤرخون ما نقله ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة عن ابن الصابئ: (أن الحاكم لما بدت عنه هذه الأمور الشنيعة استوحش الناس منه، وكان له أخت يقال لها ست الملك، من أعقل النساء وأحزمهن، فكانت تنهاه وتقول: يا أخي، احذر أن يكون خراب هذا البيت على يديك. فكان يسمعها غليظ الكلام ويتهددها بالقتل، وبعث إليها يقول: رفع إلي أصحاب الأخبار أنك تدخلين الرجال إليك وتمكنينهم من نفسك، وعمل على إنفاذ القوابل لاستبرائها، فعلمت أنها هالكة) (2).ويضيف ابن الجوزي في المنتظم: (وراسلت ست الملك قائدًا يقال له: ابن دواس (من شيوخ كتامة)، كان شديد الخوف من الحاكم أن يقتله، فقالت: إني أريد أن ألقاك، إما أن تتنكر وتأتيني، وإما أن أجيء أنا إليك فجاءت إليه، فقبل الأرض بين يديها وخلوا، فقالت له: لقد جئتك في أمر احرس نفسي ونفسك، فقال: أنا خادمك، فقالت: أنت تعلم ما يعتقده أخي فيك، وأنه متى تمكن منك لم يبق عليك، وأنا كذلك، ونحن معه على خطر عظيم، وقد انضاف إلى ذلك ما قد تظاهر به، وهتكه الناموس الذي قد أقامه آباؤنا، وزيادة جنونه، وحمله نفسه على ما لا يصبر المسلمون على مثله، فأنا خائفة أن يثور الناس علينا فيقتلوه ويقتلونا وتنقضي هذه الدولة أقبح القضاء. قال: صدقت فما الرأي؟ قالت: تحلف لي وأحلف لك على كتمان ما جرى بيننا من السر وتعاضدني على ما فيه الراحة من هذا الرجل، فقال لها: السمع والطاعة، فتحالفا على قتله وأنهما يقيمان ولده مقامه، وتكون أنت صاحب جيشه ومديره، وقالت: اختر لي عبدين من عبيدك تثق بهما على سرك وتعتمد عليهما في مهمك) (3).ويقول ابن كثير: (فجهز من عنده عبدين أسودين شهمين، وقال لهما: إذا كانت الليلة الفلانية فكونا في جبل المقطم، ففي تلك الليلة يكون الحاكم هناك في الليل لينظر في النجوم، وليس معه أحد إلا ركابي وصبي، فاقتلاه واقتلاهما معه، واتفق الحال على ذلك ... وفي تلك الليلة ركب وصحبه صبي وركابي، وصعد جبل المقطم فاستقبله ذانك العبدان فأنزلاه عن مركوبه وقطعا يديه ورجليه، وبقرا بطنه، فأتيا به مولاهما ابن دواس، فحمله إلى أخته فدفنته في مجلس دارها، واستدعت الأمراء والأكابر والوزير وقد أطلعته على الجلية، فبايعوا لولد الحاكم أبي الحسن علي، ولقب بالظاهر لإعزاز دين الله) (4).ولكن ابن الأثير يقول: (أنه توجه إلى شرقي حلوان (5) ومعه ركابيان فأعادت أحدهما مع جماعة من العرب إلى بيت المال، وأمر لهم بجائزة، ثم عاد الركابي الآخر، وذكر أنه خلفه عند العين والمقصبة.   (1) د. عبد الرحمن بدوي: ((مذاهب الإسلاميين)) (2/ 609). (2) ابن تغري بردي: ((النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة)). (4. / 186). (3) ابن الجوزي: ((المنتظم في تاريخ الملوك والأمم)). (7. / 298، 299). (4) ابن كثير: ((البداية والنهاية)) (6 الجزء 22/ 10). (5) قرية من أعمال مصر، بينها وبين الفسطاط نحو فرسخين، مشرفة على النيل، وكان أول من اختطها عبد العزيز بن مروان لما ولي مصر. انظر معجم البلدان، ج 2، ص 293. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 323 وبقي الناس على رسمهم يخرجون كل يوم يلتمسون رجوعه إلى سلخ شوال، فلما كان ثالث ذي القعدة خرج مظفر الصقلبي، صاحب المظلة وغيره من خواص الحاكم، ومعهم القاضي، فبلغوا عفان (1)، ودخلوا إلى الجبل، فبصروا بالحمار الذي كان عليه راكبًا، وقد ضربت يداه بسيف وعليه سرجه ولجامه، فاتبعوا الأثر، فانتهوا به إلى البركة التي شرقي حلوان، فرأوا ثيابه، وهي سبع قطع صوف وهي مزررة بحالها لم تحل، وفيها أثر السكاكين فعادوا ولم يشكوا في قتله) (2).وينفي المقريزي هذه الروايات ويقول: (وقيل أن أخته قتلته، وليس بصحيح) (3).ويروي أيضًا عن المسبحي: (وفي محرم سنة خمس عشرة وأربعمائة قبض على رجل من بني حسين ثار بالصعيد الأعلى فأقر بأنه قتل الحاكم بأمر الله في جملة أربعة أنفس تفرقوا في البلاد وأظهر قطعة من جلدة رأس الحاكم، وقطعة من الفوطة التي كانت عليه، فقيل له: لم قتلته؟ فقال: غيرة لله وللإِسلام، فقيل له: كيف قتلته؟ فأخرج سكينًا ضرب بها فؤاده فقتل نفسه) (4). ولما طويت صفحة الحاكم، واستقر في الأذهان مصرعه، وصفا جو الريبة التي ثارت حول اختفائه، أخذ الظاهر بوحي عمته ست الملك، في نقض سياسة أبيه تباعا، فألغى أحكام التحريم التي أصدرها الحاكم، وطورد الملاحدة أصحاب حمزة والمنادون بألوهية الحاكم في عهده بمنتهى الشدة، وقبض على زعمائهم وشيعتهم، وقتل كثيرون منهم، وصدرت الأوامر بتتبعهم في سائر الأنحاء وهرب زعيمهم حمزة بن علي. أما الدروز فيقولون بغيبة الحاكم، وهذا يتمشى مع اعتقادهم أن الألوهية قد حلت في ناسوته: وكان لاختفاء الحاكم على هذا النحو فرصة لإِذكاء دعوتهم وتغذيتها، واتخذوا من هذا الاختفاء وظروفه الغامضة مستقى جديدا لدعوتهم. فزعموا أن الحاكم لم يقتل ولم يمت، ولكنه اختفى أو ارتفع إلى السماء، وسيعود عندما تحل الساعة فيملأ الأرض عدلاً، وأصبح هذا الادعاء أصلاً مقررًا من أصول عقيدتهم. ويوجد بين رسائل الدروز رسالة عنوانها (السجل الذي وجد معلقًا على المشاهد في غيبة مولانا الإِمام الحاكم)، وتاريخها في شهر ذي القعدة سنة 411 هـ، أي بعد اختفاء الحاكم بأيام قلائل. (وتبدأ الرسالة بـ (التوبة) إلى الله تعالى، وإلى وليه وحجته على العالمين، وخليفته في أرضه، وأمينه على خلقه أمير المؤمنين) ... إلى أن تقول: وأنه قد سبق إليكم، أعني إلى الناس من الوعد والوعظ والوعيد من ولي أمركم، وإمام عصركم، وخلف أنبيائكم، وحجة باريكم ... إلخ) (5). ويقول الدكتور عبد الرحمن بدوي عن هذا السجل: (ونحن نعتقد أن هذا السجل ليس من وضع حمزة بن علي، لأنه يخالف كل العقائد التي دعا إليها حمزة، - وذلك لأمرين -: 1 – فهو ينعت الحاكم بأنه (ولي أمركم، وإمام عصركم، وخلف أنبيائكم)، وأنه ولي الله و (خليفته في أرضه) و (أمير المؤمنين)، وهذه الصفات تتنافى مع ما ذهب إليه حمزة في رسائله، وخصوصًا في (ميثاق ولي الزمان) حيث نعت الحاكم بأنه (مولانا الأحد، الفرد الصمد).   (1) الظاهر أن المقصود هو الدير الذي في أعلى الجبل، وهو مطل على الصحراء والنيل واسمه دير القصير (المكان المعروف قرب حلوان). (2) ابن الأثير ((الكامل في التاريخ)) (9/ 314). (3) المقريزي: ((الخطط المقريزية)) (3/ 253). (4) المقريزي: ((الخطط المقريزية)). (3/ 253). (5) نسخة السجل الذي وجد معلقا على المشاهد في غيبة مولانا الإمام الحاكم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 324 2 – إن هذا السجل يمجد في الحاكم بأمر الله أنه أحيا (سنة الإِسلام والإِيمان) التي هي الدين عند الله، وبه شرفتم وظهرتم في عصره على جميع المذاهب والأديان ... فدخلوا في دين الله أفواجًا، وبنى الجوامع وشيدها، وعمر المساجد وزخرفها، وأقام الصلاة في أوقاتها، والزكاة في حقها وواجباتها، وأقام الحج والجهاد، وعمر بيت الله الحرام، وأقام دعائم الإِسلام): فكيف يتفق تمجيد الحاكم بسبب إحيائه سنن الإِسلام، والسهر على أركانه، مع ما يذهب إليه حمزة بن علي في (ميثاق ولي الزمان) من أن من يدخل في ديانة التوحيد التي دعا إليها، فعليه أن يتبرأ من جميع المذاهب والمقالات والأديان والاعتقادات كلها) (1). وأرى أن هذا السجل، لا يمكن أن يكون من وضع حمزة أو أحد دعاته، لأنه في الواقع ينفي كل ما ذهب إليه الدروز في اعتقاداتهم بأن الحاكم هو الإِله، وليس الإِمام أو الخليفة، وكما سنرى في الفصول القادمة، فإن هذه الألقاب لا يجوز أن يوصف بها الحاكم. ويرى الدكتور عبد الرحمن بدوي أيضًا: (أن صاحب المصلحة في ذلك، كان أصحاب السلطة والوزراء، أو من شابههم، وذلك حتى يكون إعلانًا عامًا للناس، وطمأنة لهم، وتخويفًا في نفس الوقت، خصوصًا وأن الناس يكرهون الحاكم، وأنه قد يحدث بعد وفاته اضطراباً في الأمن واختلالاً في أحوال الدولة) (2).وإلى جانب هذا السجل، هناك رسالة أخرى كتبها أحد أكابر الدعاة وأحد الحدود الخمسة عند الدروز، وهو المقتني بهاء الدين (3) وعنوانها (رسالة الغيبة). يقول فيها: (معشر الموحدين، إذا كنتم تتحققون أن مولاكم لا تخلو الدار منه، وقد عدمته أبصاركم ... وإذا فسدت المعدة ضرت البصر، فهكذا إذا كانت المادة واصلة إلى النفوس الصحيحة، فينظروا صورة الناسوت نظرًا صحيحًا، وإذا كانت المادة من فعل الأبالسة ومادة النطقاء والأسس وشرائعهم، فيفسد النظر، وما ينظر إلا بشر ... ثم يقول: ألم تعلموا أن مولاكم يراكم من حيث لا ترونه. معشر الإخوان، أحسنوا ظنكم بمولاكم يكشف لكم عن أبصاركم ما قد غطاها من سوء ظنكم) (4). (وهذا وقد مضى إلى اليوم عشرة قرون، ولا يزال الدروز يؤمنون برجعته ويرقبونها، ولم يحدد لنا الدعاة متى تكون هذه الرجعة؟ ولكن يقولون:   (1) د. عبد الرحمن بدوي: ((مذاهب الإسلاميين))، (2/ 620 - 621). (2) د. عبد الرحمن بدوي: ((مذاهب الإِسلاميين)) (2/ 623). (3) ستأتي ترجمته عند حديثنا عن أشهر دعاة الدروز في الفصل القادم. (4) ((رسالة الغيبة)). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 325 إنه متى حلت الساعة، يقوم جند الموحدين من ناحية الصين، ويقصدون إلى مكة في كتائب جرارة، وفي غداة وصولهم يبدو لهم الحاكم على الركن اليماني من الكعبة، وهو يشهر بيده سيفا مذهبا، ثم يدفعه إلى حمزة بن علي فيقتل به الكلب والخنزير وهما عندهم رمز الناطق والأساس. ثم يدفع حمزة السيف إلى محمد (الكلمة) وهو أحد الحدود الخمسة عندهم، وعندئذ يهدم الموحدون الكعبة، ويسحقون المسلمين والنصارى في جميع أنحاء الأرض، ويملكون العالم إلى الأبد، ويبسطون سلطانهم على سائر الأمم، ويفترق الناس عندئذ إلى أربع فرق، الأولى: الموحدون، والثانية: أهل الظاهر وهم المسلمون واليهود، والثالثة: أهل الباطن وهم النصارى والشيعة، والرابعة: المرتدون وهم الجهال (1)، ويعمد حمزة إلى أتباع كل طائفة غير الموحدين، فيدمغهم في الجبين أو اليد، بما يميزهم من غيرهم، ويفرض عليهم الجزية وغيرها من فروض الذلة والطاعة) (2). وكما يزعم جنبلاط فإن هذا الدور سيكون في حدود سنة (2000 م)، حيث سيكون بتحلٍ إلهي حر بفتح الطريق للناس من جديد للإِيمان بالحاكم (3).   (1) وهو القسم الثاني من الدروز، حيث ينقسمون إلى عقال وجهال، والعقال بيدهم كل أسرار المذهب الدرزي، والجهال لا يعرفون شيئا من هذا. (2) محمد عبد الله عنان: الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية، نقلا عن مخطوط بدار الكتب المصرية عن طوائف لبنان تحت رقم 16 (ص 147، 148). (3) كمال جنبلاط ((هذه وصيتي)) (ص: 50). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 326 وفي رسالة (الإعذار والإِنذار) يصرح حمزة فيها بأنه الإِمام وأنه سيغيب أيضا، على أن يرجع مرة أخرى بعد قليل، ويصرح بهاء الدين المقتني أنه عندما غاب المعبود (أي الحاكم)، امتنع قائم الزمان (أي حمزة) عن الوجود، فمن ذلك كله نقول: إن حمزة خاف على نفسه بعد اختفاء الحاكم، واختفى هو الآخر. وقد قام بأمر الدعوة في غيبة حمزة، الداعي بهاء الدين أبو الحسن علي بن أحمد السموفي، المعروف بالضيف، لأن مرتبته في الدعوة هي مرتبة الجناح الأيسر أو التالي، وهذه المرتبة يكون صاحبها لسان الدعوة، واستمر بهاء الدين الضيف يحمل عبء هذه الدعوة، ويكتب رسائله إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الدخول في مذهبه، كما كتب إلى الذين خرجوا عن المذهب بعد أن كانوا من دعاته أمثال سكين (1).وقد كثرت الآراء الجديدة من معتنقي المذهب الجديد، مما جعل بهاء الدين يهدد أتباعه باعتزال الدعوة، وبالفعل اعتزلها سنة 434 هـ، بعد أن أقفل باب الاجتهاد، حرصًا على المبادئ التي وضعها حمزة والتميمي وبهاء الدين نفسه، ولذلك لم يظهر مشرعون بعد بهاء الدين، بل أصبح شيوخ الدروز يشرحون رسائل حمزة والتميمي وبهاء الدين) (2).تلك هي نظرية دعاة الدروز ومزاعمهم في غيبة الحاكم وفي رجعته، ولم يجد أصحاب هذه الدعوة ملجأ لها، إلا وادي التيم في الشام بعد انهيار دعوتهم في مصر، وحاولوا بشروحهم ومزاعمهم الجديدة أن يستبقوا ولاء شيعتهم وأنصارهم هنالك، من قبيلة تنوخ وغيرهم الذين استمالهم الدرزي عندما هرب من بطش الجند والناس في مصر، ومازالت بقيتهم إلى يومنا هذا، (وهم طائفة الدروز حيث يعيشون الآن في لبنان وسوريا وفلسطين) (3)، في مجتمع مغلق على نفسه بسرية تامة، فلا يسمحون لأي إنسان أن يعتنق مذهبهم أو أن يتعرف أحد على مبادئه، فلا جدوى عندهم أن تعرض على أي كادر أن يصبح درزيًا، فكل إنسان يظل على ما هو عليه، لأن الروح الدرزية تنتقل بعد الموت وتتقمص في جسد درزي آخر (4).هذا وقد ظهر بين الدروز في القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي)، أي بعد قيام الدعوة الدرزية بأكثر من أربعة قرون ونصف، عالم درزي اسمه الأمير جمال الدين عبد الله التنوخي (5)، والذي تذكر عنه الروايات أنه كان صالحًا فقيهًا حاول أن يعيد الدروز إلى الإسلام من جديد، وذلك بدعوتهم لقراءة القرآن وبناء المسجد والقيام بأركان الإسلام، ولكن يبدو أن ثمرة جهوده قد اندثرت بعد وفاته وعاد الدروز إلى ما كانوا عليه. وقد عثرت على مخطوط عنوانها (رسالة في معرفة سر ديانة الدروز) ومؤلفها مجهول، ويبدو أنها كتبت قبل فترة ليست بالطويلة، وذلك من خلال أسلوبها ولهجتها اللبنانية، وسنورد بعض المقتطفات فيها هنا، وهي تبين لنا بشكل واضح أهم معتقدات الدروز وتطورها بعد مقتل الحاكم، والرسالة كتبت على طريقة السؤال والجواب كما يلي: س: أدرزي أنت؟ ج: نعم بنعمة مولانا الحاكم سبحانه. س: ما هو الدرزي؟ ج: هو الذي كتب الميثاق بعد مولانا الخالق. س: ماذا فرض عليكم؟ ج: صدق اللسان، وعبادة الحاكم، وباقي الشروط السبعة.   (1) أحد دعاة الدروز، والذي أصدر بهاء الدين كتابا بتقليده، ثم انقلب بعد ذلك عليه، حيث ادعى أنه الحاكم بأمر الله وذلك بعد مقتل الحاكم بمدة طويلة، وهذا بسبب الشبه الظاهري بينهما، مما جعل بهاء الدين يتبرأ منه ويذمه. (2) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص 83 - 84). (3) سليم أبو إسماعيل: ((الدروز وجودهم ومذهبهم وتوطنهم))، (ص 41 – 45). (4) كمال جنبلاط ((هذه وصيتي)) (ص 54). (5) يقول الأستاذ زهير الشاويش عن التنوخي: (هو المعروف عندهم بالسيد، وقبره ظاهر في بلدة (عبية)، في جنوب عالية وسوق الغرب في جبل لبنان). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 327 س: بماذا تعرف أنك درزي موحد؟ ج: بأكل الحلال، وترك الحرام. س: ما هو الحلال والحرام؟ ج: الحلال هو مال العقال، والفلاحين، وأما الحرام فمال الحكام والمرتدين. س: كيف ومتى كان ظهور مولانا الحاكم؟ ج: كان في السنة الأربعمائة من الهجرة الإسلامية (1). س: وكيف ظهر وقال. أنه من نسل محمد حتى أنه أخفى لاهوته ولِمَ أخفاه؟ ج: لأن عبادته كانت قليلة والذين يحبونه ليسوا كثيرين. س: ومتى ظهروأشهر لاهوته؟ ج: بعد ثماني سنين بعد الأربعمائة. س: وكم سنة أقام لاهوته بالأشهاد؟ ج: السنة الثامنة بكمالها، وغاب التاسعة لأنها سنة استتار وظهر أول العاشرة والحادية عشرة، ثم اختفى في الثانية عشرة ولم يظهر بعدها حتى يوم الدين. س: وما هو هذا يوم الدين؟ ج: هو اليوم الذي يظهر فيه الناسوت، ويحكم فيه العالم بالسيف والعنف .. س: ومتى يكون ذلك؟ ج: إن ذلك أمر غير معلوم، ولكن العلائم تظهر. س: وما هي هذه العلائم؟ ج: إذا رأيت الملوك انقلبت، والنصارى قويت على المسلمين. س: وفي أي شهر يكون هذا؟ ج: هذا يكون في جمادى أو رجب على حساب المعاجزين. س: وكيف يكون حكمه على الطوائف والملل؟ ج: يظهر عليهم بالسيف والعنف ويهلك الجميع. س: وبعد هلاكهم ماذا يكون؟ ج: يرجعون بالولادة ثانية على حكم التناسخ ثم يحكم بينهم كما يريد. س: كيف يكونون وهو يحكم بينهم؟ ج: يكونون أربع فرق: نصارى، ويهود، ومرتدين، وموحدين. س: لماذا إنكار الكتب سوى القرآن؟ ج: اعلم أنه من حيث لزمنا الاستتار بدين الإسلام (2)، وجب علينا الإقرار بكتاب محمد، ولا خلل علينا بذلك، وصلاة الجنازة على الموتى بموجب الاستتار لا غير، لأن المذهب الطاهر اقتضى ذلك (3). س: من أين عرفنا شرف قيام الحق من حمزة بن علي سلامه علينا؟ ج: من شهادته لنفسه حيث قال في رسالة (التحذير والتنبيه): (أنا أصل مبدعات المولى، وأنا سراطه والعارف بأمره، وأنا الطور والكتاب المسطور والبيت المعمور، أنا صاحب البعث والنشور، أنا النافخ في الصدور، وأنا الإِمام المتين، وأنا صاحب النعم، وأنا ناسخ الشرائع ومبطلها، وأنا مهلك العالمين، وأنا مبطل الشهادتين، وأنا النار الموقدة التي تطلع على الأفئدة).   (1) يلاحظ هنا أنه ترك ما قبلها من مولد الحاكم سنة 375 هـ إلى سنة 400 هـ، فلم يعتبر إلا وقت ظهور ألوهيته؟!. (2) وهذا يوضح أن الإسلام قناع يتخذونه للتستر عما يعتقدون، وصلاة الجنازة بموجب ذلك. (3) علق الأستاذ زهير الشاويش على صلاة الجنازة عند الدروز بما يلي: (ومن المشاهد حتى اليوم، أنهم يقرأون الفاتحة في صلاة الجنازة، وتكون هذه القراءة من مجموعة من مشايخهم، ويقفون حول الصندوق الذي فيه الميت، إما في (الخلوة) أو في (الساحة) قبل المقبرة. وينقسمون إلى أربع مجموعات يحيطون بالميت، ويتولى أكبر الموجودين رتبة الإشارة إلى إحدى المجموعات، فيقرؤون فاتحة الكتاب بصوت مرتفع ونغمة تختلف عن المعروف من تجويد القرآن، فإذا انتهت هذه المجموعة أشار إلى مجموعة أخرى وهكذا دواليك. ويلاحظ أن هذه المجموعات يرأسها شخص يلبس عباءة ذات خطوط ملونة، وأما رأس الجميع فتخالف ألوان عباءته عباءة الآخرين، وأما من كان في رتبة (جويد) فيقتصر على الثياب السوداء العادية، وهي قميص قصير وسروال يرتفع عن الكعبين، ونعل يكون غالبا من الأنواع المتينة الرخيصة فضفاض، وأما العباءة التي يلبسها الأجاويد والمتقدمون فهي بلا أكمام، وقد يربطها بحزام ولا تصل إلى ركبته، وهي ما يسمونها (البشت). كما يلاحظ الناظر إلى إلزامهم جميع الأطفال والمراهقين بغطاء الرأس – ولو بالطواقي – وأما الكبار فيلبسون العمائم البيضاء على الطرابيش الحمراء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 328 س: وما هو دين التوحيد الذي عليه الدروز، والعقال مستدلون؟ ج: هو الكفر بكل الملل والطوائف، لأن بالذي كفروا نؤمن نحن، كما قيل في رسالة (الإعذار والإِنذار).س: فإذا عرف أحد دين مولانا، وصدق به (1)، وانقاد إلى دين التوحيد وعمل بحسبه، فهل له خلاص؟ ج: كلا، لأنه غلق الباب، وتم الكلام، وإذا مات يرجع إلى ملته ودينه القديم. س: متى خلقت نفوس العالم كلها؟ ج: بعدما خلق العقل، الذي هو حمزة بن علي، ثم خلقت الأرواح، كلها من نوره، وهي معدودة لا تزيد ولا تنقص مدى الزمان. س: أيليق أن يسلم التوحيد للنساء؟ ج: نعم لأن مولانا كتب عليهن العهد، وأطعن إلى دعوة الحاكم كما هو مذكور في رسالة (ميثاق النساء)، وكذلك في رسالة (البنات). س: وكيف تقول في بقية الملل الذين يقولون أننا نعبد الرب الذي خلق السماء والأرض؟ ج: إنهم، وإن قالوا كذا فلا يصح، لأن العبادة لا تصح بلا معرفة فإن قالوا عبدنا ولم يعرفوا أن الرب هو الحاكم بذاته فتكون عبادتهم باطلة. س: مَنْ مِنَ الحدود يصف حكمة المولى سبحانه الذي عليه مبنى ديننا؟ ج: إن وصف ذلك، ثلاثة من الحدود، وهم حمزة وإسماعيل وبهاء الدين. س: كيف نعرف أخانا الموحد إذا رأيناه في الطريق ومر بنا يقول إنه فينا؟ ج: بعد اجتماعنا فيه والسلام، تقول له في بلدكم فلاحون يزرعون الأهليلج، فإن قال: نعم مزروع في قلوب المؤمنين، فنسأله عن معرفة الحدود، فإن أجاب، وإلا فهو الغريب. س: ما هي الحدود؟ ج: هم أنبياء الحاكم الخمسة، حمزة وإسماعيل ومحمد الكلمة وأبو الخير وبهاء الدين. س: هل للجهال من الدروز خلاص أو مرتبة عند الحاكم إذا ماتوا على ما هم عليه من غير عقل؟ ج: لا خلاص لهم بل يكونون عند مولانا الحاكم في اللباس والمعيار أبدًا. س: ما هي نقطة البيكار؟ ج: هو حمزة بن علي. س: ما هو القديم والأزل؟ ج: إن القديم هو حمزة، والأزل أخوه إسماعيل. س: ما هي حروف الصدق وكم عددها؟ ج: مائة وأربعة وستون حرفا، وهي الدعوة والتقي والمكاسرون وهم الأنبياء التي كانت لمولانا الحاكم. س: ما هي حروف الكذب؟ ج: ستة وعشرون، وهي دليل إبليس وأولاده ورفاقه، وهم محمد وعلي وأولاده الاثنا عشر، وهذا علي إمام المتاولة (2). س: ما هو معنى ركوب مولانا الحمير بلا سروج؟ ج: الحمار مقال الناطق، وركوبه دليل على هدم شريعته وإبطالها، وقد قال القرآن تصديقًا لهذا (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) يعني الأنبياء الذين جاؤوا بالشريعة الظاهرة. س: ما معنى لبس مولانا الصوف الأسود؟ ج: إن ذلك ليس بدليل على الحزن، إنما علي المحبة التي صارت على عبادة الموحدين بعده (3). س: وما هو سبب ظهوره في كل شريعة؟ ج: أن يؤيد الموحدين ويثبتوا في عبادة الحاكم ولا يصدقوا إلا منه. س: وكيف ترجع النفوس إلى أجسادها؟ ج: كلما مات إنسان ولد آخر والدنيا هكذا. س: كيف يستدل على أن دين الحاكم حق وغيره باطل؟ ج: إن هذا كلام كفر وعدم تصديق بالحاكم، لأن الموحدين قد أشترطوا على أنفسهم في كتب الميثاق أنهم سلموا كل أرواحهم وأجسادهم وشعرهم، وسرهم وصهرهم بيد الحاكم من غير محض ولا جدال، فإذا هم في طاعته، وإن قالوا: غير هذا فقولهم كفر، كما قال في رسالة (الرضى والتسليم) ولحمزة عبد مولانا الحاكم وملاكه، وهذا الأمر ثابت.   (1) وهذا الكلام مبني على أن هذا (الأحد)، لم يكن من أهل الدعوة في السابق، أو من أهلها في التناسخ؟. (2) لم تكن واضحة في الأصل، فقد تقرأ (المتأولة) بهمزة على الألف، وهذا ينطبق على الإسماعيلية. وقد تقرأ (التأولة) بلا همزة على الألف، وهذا تعبير مستعمل ويقصد به الشيعة الإثني عشرية. (3) كما أسلفنا. فإن عقال الدروز للآن يلبسون هذا اللباس الأسود. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 329 س: ما المراد بالجن والملائكة والأبالسة في كتاب حمزة؟ ج: إن المراد بالجن والأبالسة الناس الذين لم يطيعوا دعوة مولانا الحاكم، وأما الشياطين فأرواح خبيثة لا أجسام. أما المراد بالملائكة المقربين والمستجيبين لدعوة الحاكم بأمره، فهو الرب المعبود في كل الأدوار. س: ومن هم الحرم الأربعة؟ ج: هم إسماعيل ومحمد وسلامة وعلي، وهم الحكمة، النفس، بهاء الدين، ابن أبي الخير. س: ولماذا تسموا حرما؟ ج: لأن حمزة هو بمقام الرجال، وهم نسوان، لأنهم عنده بمنزلة النساء في طاعتهم له. س: وما ذكر الأحاليل والفرج؟ ج: أشار إلى حالة ولا محلة، لأن الإحليل يقوي ويعمل الحركة، على فرج المرأة، وكذلك مولانا جعل سلطان لاهوته يغلب المشركة كما رأينا في رسالة يقال لها (حقائق الهزل). س: ولماذا أوصانا حمزة بن علي بأن نخفي الحكمة ولا نكشفها؟ ج: لأن فيها أسرار مولانا وعهوده، فلا يجب أن نكشفها إلى أحد لأنها خلاص النفوس وهي حياة الأرواح. س: ألعلنا نحن نخلص، ولا نريد كل الناس أن تخلص؟ ج: هذا ليس من طريقته، لأن الدعوة ارتفعت وغلق الباب وكفى من آمن، وكفر من كفر. س: وما معنى إبطال الصدقة على بعض الناس؟ ج: إن الصدقة لا تجوز عندنا، إلا على أخينا الموحد العاقل، وأما على غيره فهي حرام أبدا (1).والدروز في الوقت الحاضر، يحاولون أن يطوروا دينهم، بما يتناسب وروح العصر، وذلك بطباعة ما يسمى بـ (مصحف الدروز) (2) أو المنفرد بذاته، والذي ينسب تأليفه إلى كمال جنبلاط أحد زعمائهم (3) بالتعاون مع عاطف العجمي. ويحاول كاتب هذا المصحف أن ينسبه إلى حمزة بن علي ولكن من المؤكد أن هذا المصحف قد كتب حديثًا، والدليل على ذلك ألفاظه وأسلوبه العصري، والتي تدل على أنه كتب في العصر الحاضر، لذلك لا نستبعد أن يكون كاتبه كمال جنبلاط. وكاتب هذا المصحف، يحاول فيه أن يحاكي القرآن الكريم، بل يحاول أن يقتبس الكثير من الآيات القرآنية، والتي توافق هواه، فيبدل ويحور فيها، ويضيف ما يشاء من عنده، ليبرهن إلى ما يرمي إليه. وقد حاولت أن أجمع الآيات، التي حورها وبدلها، فتبين لي أن الآيات كانت فقط آيات مشاهد القيامة، والجنة والنار، وكذلك آيات الوعيد للكافرين بالعذاب والجحيم، وآيات الجنة والنعيم للمؤمنين. وكل هذه الآيات يحورها إلى ما يرمي إليه، وهو أن العذاب سيكون لكل من يكفر بألوهية الحاكم، والنعيم سيكون للموحدين الذين يعبدون الحاكم.   (1) رسالة (في معرفة سر ديانة الدروز) مخطوط في جامعة ييل. (2) اطلعت على هذا المصحف في المكتبة الخاصة لأحد الأشخاص، وقد طبع منه عدد قليل جدا، وبشكل سري قبل بضع سنوات، وهو مكتوب بخط جميل. (3) أحد زعماء الدروز المرموقين، وهو من السياسيين اللبنانيين المخضرمين، وكان كثير التعمق في الديانات الهندية القديمة، لذلك كثرت سفراته إلى هناك. وقد قتل بعد أحداث لبنان الأخيرة في سنة 1397 هـ الموافق 1977 م .. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 330 ومن أمثلة ذلك ما جاء في عرف الأمر والتقديم إذ يقول: (أنتم وما تعبدون مكبكبون على وجوهكم، يوم ينادي منادي مولاكم الحاكم من مكان بعيد: هذا يومكم الذي فيه توعدون، تتلوها أيام العذاب إنكم لخالدون ولات محيص ... إلى أن يقول: وإلا فقولوا لي أيها الضالون المعاندون، فهل جاء لكم رب غيره مع جنوده، أروني إن كنتم صادقين) (1).ويقسم هذا المصحف إلى أربع وأربعين عرفا، ويقع في مائتين وتسع وستين صفحة، ويقول كاتبه في مقدمته: (جرى تقسيم هذا المصحف المكرم وفق المواضيع لتسهيل الاطلاع عليه. ووضع لكل فصل تسمية تنطبق مع ما ورد فيه من معان، ولقد اخترنا اسم العرف تناسبا مع ما يطلق على أبناء التوحيد: كنيتم بالأعراف ووصفتم بالأشراف) (2). وفي أوائل صفحات هذا المصحف، يعرف كاتبه بالأسماء والعبارات والإشارات التي وردت في ثناياه، ومما يذكر أن في بعض أعراف هذا المصحف عبارات غريبة، كتبت بأحرف عربية، ولكنها لغة غير معروفة، لا يعرف معناها، والظاهر أنها ألغاز، ولذلك يقول كاتبه: أنه لا يريد أن يظهر معناها، لأن لها معان سرية لا يجوز لكل واحد الاطلاع عليها. ومن أمثلة ذلك ما ورد في عرف (شمس المغيب): (يوديلووهكا طران كنان وهقويكان سهى وهطمكل واطغظلوا أو هكهز كان بطكة وعد ودلولذوسلر) (3). وقد بدأ هذا المصحف بـ (عرف الفتح) نورده هنا، لنعرف بعض ما يرمون إليه من هذا المصحف: (به، والحمد له على هذا النور، والشكر والفضل لذوي الصلات موالينا الحدود (4) صلى الله عليهم ومن قبل ومن بعد، والموحدون في صياصيهم (5) يرجعون ما أمر المولى به أن يوصل. الحمد أبدأ للذي وفقنا لحفظ الحكمة في صدورنا من مصحفه المنفرد بذاته، نرتله مستضيئين، وهو الذي انشقت عنه سماء القدرة بمنة آلاء التجليات، فانفجرت منه اثنا عشرة عينا قد علم الموحدون مشربهم (6).الحمد لك مولانا (7)، أنت الذي فتحت أبواب قلوبنا على حكمه وأحكامه، وآدابه وتأويله وإعرابه، وأنت الذي ألهمتنا تدبر معانيه في حقيقته ومجازه، وإيجازه وإسهابه، ودعوتنا إلى الاعتصام بأمتن أسبابه. ونشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، شهادة مشاهد موحد عارف موقن، مؤمن بأيام حسابه، ونشهد أن موالينا وساداتنا الحدود الخالقين، صليت عليهم، هم فصل خطابك وألسنة ذاتك، وهم موصلو حبال الحق، وجامعو الموحدين على مائدة المعبود، فعليهم منك صلات الصلاة مادامت عين اليقين.   (1) ((مصحف الدروز – عرف الأمر والتقديم)) – (ص 10 – 11). (2) ((مصحف الدروز)) (ص: 1). (3) ((مصحف الدروز)): ((عرف شمس المغيب)) – (ص: 230). (4) يقصد الحدود الخمسة، والذي سيأتي ذكرهم بالتفصيل في فصل أشهر الدعاة الدروز. (5) الظاهر أن المقصود بهؤلاء هم العقال الذين يسكنون الخلوات. (6) يلاحظ هنا كيفية تحور الآية إلى ما يرمون إليه، والآية الكريمة المشار إليها هي: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * البقرة: 60*. (7) المقصود بمولانا هنا هو (الحاكم بأمر الله). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 331 مولانا بك آمنا، ولك أقررنا أن مصحفك هذا، نور الصراط المستقيم هو مسوق إلينا، معروض علينا، دان إلى أفهام قلوب ألبابنا، عال بأسراره وأبنائه، لا يمل من تلاوته، ولا ينزف من حلاوته، ظاهره أنيق، وباطنه عميق، قريبه حكمه، وبعيده علمه، وهو المجيز عند الخصام، والأسوة سببها لجميع الموحدين ما بين العالمين مدى حيوات الأنام، أسهمه لا تنبو، وعادياته لا تكبو، هو الكل والبعض والجمع والفرق، به تبدل الأعيان، ولا عدة إلا به، والجميع إليه. مولانا، نستفتح به مصلين حامدين شاكرين، وقد طوينا البيد مؤمنين، وسرنا في رياض جنة المنتهى غير محجوبين عن عيونك، وهذه آيات حكمة مصحفك ترتلها أفئدتنا كرما منك، لتصون بها وجوه كوننا من إحراق العدم. ففي تلاوتها يا مولانا، نرى كشف النور والظلم، وفي نومنا قرارنا، وظعننا وأسفارنا، وسلمنا وحربنا، وصحتنا ومرضنا، وفي مهودنا صابين، وفي شيخوختنا عاجزين، وفي حيواتنا وموتنا، وفي الدنا وفوق أشياخ النجوم. إنك مولانا، نعم المولى ونعم النصير) (1).ويبدو أن جنبلاط كان له الأثر العميق في الدرزية فقد اعترف بذلك في كتابه (هذه وصيتي) فدراسته للمذهب الدرزي أتاحت له الشروع في عمل تحليلي، حيث قارن مذهبه على هدي تعاليم الفيدا الهندوكية والفلسفة اليونانية اللتين أتاحتا له اكتشاف مفاتيح الأسرار الدرزية – كما يزعم – وأعطاه خربًا من السلطة الروحية مما جعل مشايخ الدروز يطلبون رضاه (2). وهذا يوضح لنا قدرة جنبلاط وإحاطته بالدين الدرزي، ويؤكد القول بأن المصحف المنفرد بذاته من تأليفه. ولإِعطاء صورة أوضح عن حقيقة العقيدة الدرزية في الوقت الحاضر، نورد حديثًا شخصيًا مع الأستاذ كمال جنبلاط، الرجل الذي ينسب إليه مصحف الدروز، وقد أجراه معه الدكتور مصطفى الشكعة، في كتابه إسلام بلا مذاهب حيث يقول فيه جنبلاط: يرجع تاريخ الدروز إلى ثلاثمائة وثلاث وأربعين مليونا من السنين حين كانت الأرواح بلا أجساد (3). الدروز يؤمنون بالتقمص، أي تقمص الأرواح، بمعنى أن الذي يموت لا تصعد روحه إلى السماء بل تتقمص جسد مولود جديد ولذلك فهم لا يزيدون عددا ولا ينقصون لأن النقص عملية دائمة متواصلة بين أرواحهم، وهم لذلك يقولون إن الحياة البرزخية غير موجودة.   (1) ((مصحف الدروز عرف الفتح)) – (ص: 1 – 5). (2) كمال جنبلاط ((هذه وصيتي)) (ص 50). (3) لقد كنا أوردنا تعليقات حول بعض السخافات التي قالها الأقدمون من هذه النحلة، وقد يكون قولهم مبنيا بقصد التعمية والتشويش أو الاعتقاد. ولكن مثل هذا القول من رجل مشهود له بالثقافة والاطلاع، وفي هذا العصر، أفلا يعتبر ضحكا على الناس واستهزاء بعقولهم وبالتاريخ؟ وإلا فمن أين علم بوجودهم بهذا التاريخ وهو من الأمور التي يأت بها وحي منزل، ولم يسندها تاريخ مكتشف. وكم كان يسرنا لو ذكر عدد الشهور والأيام والساعات، ولو تفضل أيضا بذكر الدقائق والثواني لتحقق الموضوع تحقيقا كاملا؟! والظاهر أن الأستاذ جنبلاط قد اعتمد في تقديره هذا على ما جاء في رسالة (الأسرار ومجالس الرحمة والأولياء) أن (الأدوار السابقة سبعون دورا وبين كل دور وآخر سبعون أسبوعا، وكل أسبوع سبعون سنة، وكل سنة ألف سنة، وهذا الاعتماد لا تقوم به حجة، بل هو مضحك للغاية؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 332 الدروز موجودون منذ الأزل، واعتنقوا كثيرا من الديانات على مر الدهور، واعتنقوا الإِسلام في مرحلة من مراحل عقيدتهم، ولما كانت العقيدة عندهم متطورة فقد تحولوا عن الإِسلام إلى دين آخر مستقل هو الدين الدرزي، أي أن الدرزية كانت مذهبًا إسلاميًا ثم تطورت وأصبحت دينًا مستقلاً، والأقطاب هم الذين يجددون الدين من زمن إلى زمن، وهم يجيئون بأسماء مختلفة بين الفينة والفينة بدافع نظرية التقمص التي يؤمن بها الدروز ولذلك فالدرزية دين متطور يتطور من زمن إلى آخر. الشريعة الدرزية مأخوذة من القرآن، ومن ستة عشر كتابًا خطيًا لا يسمح لأحد بالاطلاع عليها، كما أنها تأخذ تعاليمها من الفلسفة اليونانية وبخاصة الأفلاطونية القديمة، والمسيحية والإِسلام والبوذية والفرعونية القديمة، ويعتبرون إخوان الصفا من الدروز لتشابه الأفكار بينهما، فقد كان إخوان الصفا يطالبون بمزج الشريعة الإِسلامية بالفلسفة اليونانية، وبهذه المناسبة يخلط البعض خطأ بين الدرزية والإِسماعيلية، والواقع أن الفرق بينهما شاسع كبير. محمد (صلى الله عليه وسلم) له مكانة محدودة عندهم، وهو ليس إلا واسطة الرسالة وحسب (1)، وللدروز خمسة أقطاب منذ القدم، خامسهم وآخرهم الحاكم بأمر الله الفاطمي (2)، ولأبي يزيد البسطامي مكانة عالية سامية (3)، وأما الصحابة فمنهم أربعة لهم مكانة عليا عندهم وهم: سلمان الفارسي، والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر (4)، وأبو ذر الغفاري (5).لا يقبل الدروز أحد في دينهم ولا يسمحون لأحد بالخروج منه، وحتى هؤلاء الذين يخرجون لا يعترف الدروز بأنهم قد خرجوا، ولذلك فإن عدد الدروز في ظل هذه النظرية ونظرية التقمص لا يزيد ولا ينقص، وقد أغلقت أبواب القبول في الدين الدرزي بعد قبول الأمير بشير الشهابي الذي يعتبره الدروز درزيًا (6).   (1) في هذا الأمر يغالط كمال جنبلاط، ويموه في الجواب، لأنه في الحقيقة – وكما سيرد في الفصول القادمة – فإنهم لا يحترمون الرسول صلى الله عليه وسلم بل يسمونه إبليس اللعين. وأن الذي كان يمده بالقرآن هو سلمان الفارسي. (2) يقصد الظهورات التي ظهر فيها المعبود بالصورة الناسوتية. (3) هو طيفور بن عيسى البسطامي، أبو يزيد، ويقال بايزيد، ونسبته إلى بسطام (بلدة بين خراسان والعراق)، وكان ابن عربي يسميه أبا يزيد الأكبر، وكان يقول بوحدة الوجود، وأول من قال بمذهب الفناء، ولد سنة 188هـ وتوفي سنة 261 هـ. انظر ((الأعلام للزركلي)). (3/ 339). (4) هو عمار بن ياسر بن عامر الكناني المذحجي العنسي القحطاني، صحابي، وهو أحد السابقين إلى الإسلام والجهر به، هاجر إلى المدينة، وشهد بدرا وأحدا والخندق وبيعة الرضوان، وهو ممن بنوا مسجد قباء، وولاه عمر الكوفة، وشهد وقعة الجمل ووقعة صفين مع علي، وقد قتل في صفين سنة 37 هـ وعمره ثلاث وتسعون سنة. انظر ((الأعلام للزركلي)) (5/ 192). (5) جندب بن جنادة من بني غفار، من كنانة بن خزيمة، صحابي وهو خامس من أسلم، هاجر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بادية الشام. انظر ((الأعلام للزركلي)). (2/ 137). (6) بشير بن قاسم بن عمر الشهابي، ولد في قرية غزير سنة 1173 هـ، وقد ولاه أحمد باشا الجزار والي عكا إمارة لبنان سنة 1203 هـ فكانت له حوادث كثيرة وعزل مرات وأعيد، حتى نفي إلى مالطا، ثم إلى الأستانة حتى مات سنة 1266 هـ. ومن المعلوم أن الأمير بشير انحدر من أصلاب مسلمة، ثم قيل إنه قد تنصر، والآن يأتي جنبلاط ويقول أنه دخل في الدرزية، وهذا الكلام الأخير محل شك إن لم تؤيده البراهين، لأننا نعلم يقينا أن هذا الباب (الدخول) قد أغلق منذ زمن بعيد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 333 الدين الدرزي دين صوفي يعتمد على الداخليات والجواهر، ولا يهتم بالشكليات، والطهارة الداخلية أي النفسية الروحية هي الأساس، وأما الطهارة الخارجية فلا قيمة لها. وقد كان الشيوخ يصلون في المساجد إلى عهد قريب، ويصومون رمضان، ويحجون البيت، ولكن هذه الفرائض جميعًا قد رفعت عنهم واستبدلت بتكاليف أخرى) (1). وفي حديث شخصي آخر أجراه الدكتور الشكعة مع شيخ عقل الدروز الشيخ محمد أبي شقرا، والذي كان أكثر سرية ومواربة في أجوبته، وأقل صراحة من كمال جنبلاط، ومما قاله شيخ العقل: الصلاة تختلف عن صلاة جمهور المسلمين، فالفروض وإن كانت خمسة إلا أن عدد الركعات في كل صلاة تختلف عن عدد الركعات المعروفة، وربما طريقة الصلاة نفسها، هذا والوضوء ليس ضروريًا مادام المصلي نظيفًا. الصوم معناه الامتناع عن الرفث، ومعنى ذلك أنه لا يجوز الأكل والشرب مع الصوم، وهو عشرة أيام في ذي الحجة تنتهي بالعيد، كما أن صوم رمضان مستحسن عن غيره لأن الصوم فيه مضاعف الثواب. الزكاة معطلة ولا حدود لها، ويمكن أن تكون في شكل صدقات، وهي اختيارية، وهي بالتالي ليست فريضة) (2).   (1) د. مصطفى الشكعة: ((إسلام بلا مذاهب)). (ص 288 – 291). (2) د. مصطفى الشكعة: ((إسلام بلا مذاهب)). (ص 292 – 293). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 334 ولعل من المفيد ونحن نتحدث عن تطور المذهب الدرزي بعد الحاكم، أن نعطي بعض الملامح لتاريخ الدروز منذ موت الحاكم وحتى القرن الحالي. فعندما جاء الزحف المغولي إلى بلاد الشام سنة 657 هـ بزعامة هولاكو، كانت السيطرة على لبنان بيد أمراء الدروز التنوخيين، ولما دخل (كتبغا) ابن هولاكو دمشق جاءه الأمير التنوخي جمال الدين حجي الثاني معلنًا خضوعه له، مما جعل (كتبغا) يقر الأمير الدرزي على مقاطعة الغرب، ولكن مجيء بيبرس من مصر على رأس جيش المماليك لمقاتلة المغول، قلب موازين القوى – في ذلك الوقت -، وهنا ارتأى الدروز أن (يلعبوا على الحبلين)، وذلك أن يبقى أحدهم وهو الأمير جمال الدين بجانب كتبغا، فيما ينضم الأخر أي الأمير زين الدين إلى جانب المماليك، بحيث يكون على قول صالح بن يحيى: (أي من انتصر من الفريقين كان أحدهما معه فسيدخله رفيقه وخلة البلاد)، لأن الانحياز إلى أحد القوتين كان يعني المجازفة بمصيرهم فيما لو خسر الجانب الذي قد ينضمون إليه (1)؟!.وبعد انتصار المماليك على المغول، استولوا على بلاد الشام دون أن يتعرضوا لمناطق الدروز بسوء، ولذلك وجهوا اهتمامهم لاحتلال المناطق الساحلية التي كانت لا تزال بيد الصليبيين، ولكن بيبرس كانت تساوره الشكوك في حقيقة موقف الدروز، وغدا مليئًا بالشك والحذر منهم، وذلك بعدما نما إلى علمه أن أمراء الدروز على اتصال بوالي طرابلس الصليبي، فأمر بسجنهم ليتسنى له أن يلتفت لغدر الصليبين (2).وكل هذا كان قبل قيام الدولة العثمانية، أما بعد قيامها، فقد راودتهم الأحلام القديمة بقيام دولة مستقلة لهم، وخاصة أنهم رأوا الفرصة سانحة لهم لانشغال العثمانيين بقتال الدول الأوربية المجاورة، فكان أن عملوا على تحقيق هذه الأحلام في عهد الأمير فخر الدين الثاني المنحدر من المعنيين، الذي اتخذ في سبيل ذلك أسلوب المداورة عن طريق حروبه المحلية لبسطة نفوذه على سائر بلاد الشام، ولكن سياسته هذه جعلت العثمانيين يوجسون منه خوفًا، بيد أن تحركه على الصعيد الخارجي عززت تلك المخاوف وأثارت شكوك الباب العالي في ولائه للعثمانيين، وخاصة أن أهدافه الحقيقية بدأت بالوضوح عندما عقد مع دوق توسكانا معاهدة تجارية تضمنت بنودًا عسكرية ضد الدولة العثمانية؟! فقرر السلطان العثماني التخلص من فخر الدين، فجرد عليه حملة قوية برًا وبحرًا سنة 1022 هـ / 1613 م، فهرب إلى أوربا عن طريق ميناء صيدا بمساعدة سفينتين إحداهما فرنسية وأخرى هولندية، وهناك أراد أن يؤلب الدول الأوربية ضد الدولة العثمانية، فسعى جاهدًا للحصول على مساعدات عسكرية من أسبانيا وفرنسا والفاتيكان ضد العثمانيين، ولكن مسعاه فشل لأن الظروف الدولية في ذلك الوقت كانت غير صالحة (3).   (1) انظر تفصيل ذلك في كتاب ((تاريخ الموحدين الدروز)) / د. عباس أبو صالح ود. سليمان مكارم (ص: 112). (2) انظر تفصيل ذلك أيضا في كتاب ((تاريخ الموحدين الدروز)) / د. عباس أبو صالح ود. سليمان مكارم (ص 113 - 114). (3) كتاب ((تاريخ الموحدين الدروز)) / د. عباس أبو صالح ود. سليمان مكارم (ص 133 – 136). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 335 وبحكم علاقة فخر الدين أمير الدروز الوطيدة بدول أوربا فقد كان يعطف على الإِرساليات الأوربية ويسمح بإنشاء مراكز لها في لبنان وفلسطين، وفضلاً عن ذلك فقد بسط يد الحماية لجميع النصارى في بلاد الشام، حتى صار الأوربيون يدعونه (حامي النصارى في الشرق)، وكان عطف الأمير على الموازنة وتحالفه معهم من أبزر مميزات سياسته الداخلية، وكان أيضًا عاملاً في هجرة الموارنة من مناطقهم إلى مناطق المسلمين، وانتشارهم في أكثر من ثلثي لبنان الحالي، مما قوى مركزهم السياسي في لبنان بعد ذلك (1)؟!.وكما يذكر كمال جنبلاط فإن إمارة درزية أخرى كانت قائمة في الدولة العثمانية خاضعة لحكم أحد أجداده، ووجدت في شمال سوريا وكانت تشمل حمص وحماة وحلب ودمشق وجزءًا من تركيا الأنضولية، وشأن الدولة المعينية، فقد عقدت هذه الإِمارة أيضًا معاهدات عسكرية مع الفاتيكان ودوقية توسكانا وأسبانيا، وتلقى جده مقابل ذلك دعمًا سياسيًا وعسكريًا (2). وفي سنة 1253 هـ / 1837 م، قام الدروز بتمرد على محمد علي باشا والي مصر، وكان ذلك في جبل الدروز بحوران بسبب تجريدهم من السلاح وتجنيدهم في الجيش، وبقي هذا التمرد مشتعلاً بعد أن انضم إليه دروز وادي التيم، رغم محاولات محمد علي القضاء عليه، إلى أن جرد عليه حملة قوية سنة 1256 هـ / 1840 م. وبعد أن وجدت الدول الأوربية الضعف في الدولة العثمانية، عملت على استمالة الأقليات الموجودة داخله، وخاصة في لبنان، الذي كانوا يرون فيه مدخلاً مهمًا لكل مؤامراتهم على الدولة العثمانية، وكانت فرنسا ترى في نفسها مدافعًا شرعيًا عن موارنة لبنان، وقد اتخذت هذه الحجة الواهية ذريعة في سبيل تدخلها في شؤون الدولة العثمانية، وهذه السياسة الفرنسية خوفت بريطانيا مما جعلها سنة 1841 م تعمل على استمالة الدروز إلى جانبها وتقيم علاقات رسمية وودية معهم ومع زعمائهم، ويظهر أن الإِنجليز قد فهموا أحلام الدروز بإقامة دولة لهم، فاستغلوها لاستمالتهم وإقامة العلاقات الوطيدة معهم (3).   (1) كتاب ((تاريخ الموحدين الدروز)) / د. عباس أبو صالح ود. سليمان مكارم (ص 142 – 143). (2) كمال جنلاط ((هذه وصيتي)) (ص 40). (3) عباس أبو صالح وسامي مكارم ((تاريخ الموحدين الدروز)) (ص 245، 246). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 336 وقد بات هذا واضحًا عندما ثار الدروز في جبلهم على الدولة العثمانية سنة 1851 م إذ امتنعوا عن دفع الضرائب، فجردت الدولة العثمانية حملة لتأديبهم، فتدخلت بريطانيا لدى الباب العالي، وصدرت الأوامر من الأستانة بحل المشكلة الدرزية سلمًا، وجاء في برقية الصدر الأعظم الموجهة إلى مدحت باشا (والي الشام) بهذا الصدد: (أن الإنجليز لا يسرون بما تتخذه من التدابير لتأديبهم)، وهذا التدخل شجع الدروز، إذ ما لبثوا أن اعتدوا على المكرك وأم الولد وحرقوا زرعهما في سنة 1296 هـ / 1880 م، وعلى قرية (المسمية) في حوران سنة 1308 هـ / 1890 م. ثم ثاروا في سنة 1311 هـ / 1893 م و 1313 هـ / 1985 م وكذلك في سنة 1328 هـ / 1910 م. وكانت اعتداءات الدروز على أهالي حوران قد أثيرت في مجلس المبعوثان العثماني، حيث ندد مبعوث حوران باعتداءات الدروز، مطالبًا الدولة باتخاذ الإِجراءات العسكرية الرادعة ضدهم بعد اعتدائهم على الجيش والأهالي، وأنهى خطابه بمطالبة الحكومة بسوق قوة عسكرية على حوران (لصيانة العرض والدين والمال وتأمين الرعية من الخوف) (1).مما تقدم يتضح لنا بأن دروز حوران كانوا في شبه ثورة دائمة ضد الدولة العثمانية، وعندما كانت الولاية تعرض عليهم برامج الإِصلاح وتطلب من زعمائهم مساعدتها في تطبيقها، كان الزعماء يقبلون ذلك ثم يرفضونه وهكذا، وبالرغم من ذلك فقد حاولت ولاية سوريا إصلاح الأوضاع الإِدارية والاجتماعية في منطقة جبل الدروز عن طريق نشر التعليم بين الدروز بإنشاء المدارس وتعليمهم مبادئ الدين الإِسلامي، واتبعت سياسة اللين والرفق مع رؤسائهم الروحانيين، وذلك باستدعائهم إلى دمشق وبذل المساعي لإِقناعهم بقبول الإِصلاحات، فيبدي الزعماء رضاهم التام لدرجة المطاوعة والانقياد، ولكنهم لم يثبتوا على ذلك طويلاً (2). وهكذا يبدو أن ثورات الدروز المستمرة ضد الدولة العثمانية وخاصة بعد سنة 1841 م، كانت تهدف بالدرجة الأولى الاستقلال عن الدولة وبسط السيطرة الدرزية على لواء حوران بمساعدة وتأييد بريطانيا. وبعد استعمار فرنسا لسوريا، عملت عن طريق عملائها وبكل ما تستطيع من إمكانيات وإغراءات أن تستميل الدروز إلى جانبها ويتركوا الإِنجليز، ومن أجل ذلك تابعت فرنسا استمالة زعماء الدروز، فاستطاعت في 20 نيسان 1921م عن طريق الجنرال (غورو) أن تقنع الأمير سليم الأطرش بإعلان دولة درزية في جبل الدروز وتشكيل حكومة درزية وانتخاب مجلس نيابي مكون من (40) عضوًا، ورفرف لأول مرة في تاريخ الدروز علمهم المكون من خمسة ألوان (3). وعندما رأت بريطانيا أن نفوذها سيزول عند الدروز بسبب هذه الدولة استمالت أحد أمراء الجبل، والذي كان من أهم العوامل التي أثرت على عدم بقاء هذه الدولة وسقوطها. والحديث عن تاريخ الدروز في القرن الحالي يدفعنا لإِعطاء صورة موجزة عن موقف الدروز من دولة إسرائيل، حيث كانوا بعد قيام هذه الدولة على أرض فلسطين من أهم المدافعين عن وجودها، بل إن إسرائيل استطاعت أن تكون كتيبة منهم فيما يسمى بـ (حرس الحدود) كان له دور خطير ومهم في حروب إسرائيل مع الدولة العربية. لذا فإن كمال جنبلاط في كتابه (هذه وصيتي) يعتبر وجود الدروز في إسرائيل مشكلة، ولكن في الوقت نفسه يدافع عن تعاملهم مع دولة العدو وينتقد الفلسطينيين الذين هربوا وتركوا أرضهم وبلادهم ولم يقلدوا الدروز في بقائهم في فلسطين، ولو أنهم بقوا لشاركوا بسهولة في اقتصاد إسرائيل وبالتالي في السلطة السياسية ويكونون أقلية قوية وفعالة في البرلمان، وبالتالي فإن الدروز فيما فعلوه مع إسرائيل قاموا بواجبهم بتعقل، فهم يعلمون أنه لا جدوى في الهجوم على طواحين الهواء – كما يزعم جنبلاط – (4). وفي سنة 1982م عندما احتلت إسرائيل لبنان، رفضت مليشيات الدروز (الحزب التقدمي الاشتراكي) قتال الجيش الإِسرائيلي ورفضت مدفعيته الموجودة في الجبل مساعدة الفلسطينيين، ولذلك استطاع الجيش الإِسرائيلي دخول مناطق الدروز دون أن تطلق رصاصة واحدة، وبقيت الأسلحة في يد الدروز رغم وجود الجيش الإِسرائيلي في مناطقهم. المصدر: عقيدة الدروز عرض ونقد لمحمد أحمد الخطيب – ص 81   (1) محمد عبد العزيز عوض ((الإدارة العثمانية في ولاية سورية)) (ص 193، 291، 292). (2) محمد عبد العزيز عوض ((الإدارة العثمانية في ولاية سورية)) (ص 293). (3) د. وجيه كوثراني ((بلاد الشام – السكان والاقتصاد والسياسة الفرنسية)) (ص 93 9). (4) كمال جنبلاط ((هذه وصيتي)) (ص 56 - 57). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 337 المبحث الرابع: أشهر دعاة الدروز وآراؤهم ترتبط بداية المذهب الدرزي بثلاثة من الدعاة هم: حمزة بن علي بن أحمد الزوزني ويعرف باللباد، والحسن بن حيدرة الفرغاني المعروف بالأخرم، ومحمد بن إسماعيل الدرزي المعروف بـ (أنوشتكين أو نشتكين). والمؤرخون مختلفون في ترتيب أسبقيتهم في الدعوة الجديدة، ومع أن اسم الدروز مرتبط باسم (الدرزي)، إلا أن بعضهم يجعل البداية لحمزة – وهو الأرجح كما سنرى – والبعض الآخر يجعلها لمحمد الدرزي. أما الدروز فيعتبرون حمزة هو مؤسس المذهب وهو الإمام، وأن الدرزي قد حاد عن تعاليم حمزة، وأنه كان أحد أتباعه، مما جعل حمزة يهاجمه في كثير من رسائله، لذلك فإن الدروز يكرهون الدرزي هذا ويلعنونه. أما الأخرم فالأرجح أنه كان داعيًا من دعاة حمزة في أول ظهوره. ولكي نعطي لمحة وافية عن هؤلاء الدعاة، نتحدث عن كل واحد منهم، ونبدأ بحمزة بن علي: حمزة بن علي بن أحمد الزوزني: (ولد حمزة في مدينة (زوزن) في خراسان مساء الخميس في الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة 375 هـ، وهو اليوم الذي ولد فيه الحاكم بمصر، ولعل ذلك هو السبب في أن الدروز يقيمون الصلاة الأسبوعية مساء كل خميس) (1).واختلف المؤرخون في زمن وفوده إلى مصر، فالبعض منهم يجعلها متقدم كثيرًا في سنة 395 هـ، حيث كان عمره عشرين عامًا) (2).وغالبية المؤرخين تجعل موعد قدومه حوالي سنة 405 هـ أو قبلها بقليل) (3).وانتظم حمزة بين الدعاة الإِسماعيليين الذين كانت تغص بهم القاهرة يومئذ، ويرجح الدكتور محمد كامل حسين أنه لم يكن من الدعاة، بل كان يؤدي عملاً في القصر، وكان على اتصال دائم بالحاكم، ويضيف قائلاً: (ويغلب على ظني أن حمزة كان أحد الخدم الخصوصيين للحاكم، وكان خادمًا ذكيًا لبقًا ذا حيلة ودهاء وخيال خصب، وكان بحكم عمله في القصر يستمع إلى مجالس الحكمة التأويلية فوعاها وحفظ منها كثيرًا، وربما قرأ كتب الدعوة التي كانت بالقصر فأفادته في تلوين عقليته وتوجيه أفكاره إلى ما يرضي طموحه ويحقق آماله، وظل هذه السنوات يهيئ نفسه لذلك) (4).ومما يؤكد هذا الرأي ركاكة ألفاظه في رسائله – إذ كما يقول الدكتور محمد كامل حسين: - (لم يكن من الكتاب لأن أسلوبه في رسائله وكتبه ليس به هذا الإشراق، وتلك الديباجة، وهذه الرصانة، التي عرفت عن كتاب الفاطميين ودعاتهم) (5).لذلك – وكما يقول الأستاذ عبد الله النجار -: (تنم من تعابيره كلمات فارسية دخيلة على أسلوب الإنشاء العربي) (6).وتقول بول هنري بوردو عن حمزة وأهدافه البعيدة: (وكان حمزة في الحقيقة داهية دهياء متعمقًا في المباحث الدينية القديمة، وأن العقائد التي نادى بها تدل تمامًا على أنها ذات العقائد التي كان ينادي بها المقنع الخراساني (7)، هذا اليهودي الذي هاج في خراسان سنة 160 هـ) (8).   (1) عبد الله النجار: ((مذهب الدروز والتوحيد)). (ص 123). (2) أحمد الفوزان: ((أضواء على العقيدة الدرزية)). (ص 28). (3) خير الدين الزركلي ((الأعلام)). (ص 310) – ومحمد عبد الله عنان: ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية))، (ص 113) – وأحمد عطية: ((القاموس الإسلامي))، (2/ 156). (4) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز)) (ص 76). (5) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز)) (ص 76). (6) عبد الله النجار: ((مذهب الدروز والتوحيد))، (ص 123 – 124). (7) هو المقنع الخراساني الحاولي، الذي اتخذ لنفسه وجها من الذهب، فلم ينزعه قط، لئلا يطلع الناس على وجهه المشوه، وكان يدعي أن الله تعالى قد حل في نفسه بالانتقال والمناسخة. (8) بول هنري بوردو: ((أميرة بابلية لدى الدروز)): (ص 26 – 28). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 338 وسرعان ما أصبحت لحمزة حظوة عند الحاكم، بعدما أظهره من إخلاص، واستطاع بحنكته ودهائه أن يجمع حوله بعض الدعاة ويتفقوا سرا للدعوة إلى تأليه الحاكم بأمر الله، ومن هؤلاء كان محمد بن إسماعيل الدرزي. ويظهر أن حمزة بن علي، وكما يتضح في رسائله، قد اتفق مع دعاته ألا يجهر أحدهم أو يكشف عن مضمون المذهب الجديد، إلا بعد تلقي الأوامر منه نفسه، ولكن الدرزي تسرع في الكشف عن أسرار الدعوة الجديدة سنة 407 هـ، مما أثار الناس، وحمل حمزة على الكشف عن دعوته سنة 408 هـ. يقول حمزة في (رسالة الغاية والنصيحة) موضحًا هذه النقطة: (وغطريس هو نشتكين الدرزي الذي تغطرس على الكشف بلا علم ولا يقين، وهو الضد الذي سمعتم بأنه يظهر من تحت ثوب الإِمام، ويدعي منزلته ... إلى أن يقول: وكذلك الدرزي كان من جملة المستجيبين حتى تغطرس وتجبر وخرج من تحت الثوب، والثوب هو الداعي، والسترة التي أمره بها إمامه حمزة بن علي بن أحمد الهادي إلى توحيد مولانا جل ذكره) (1).ومهما يكن من شيء فإن الدعاة إلى المذهب الجديد ظلوا في سترهم مدة طويلة يعملون في الخفاء، ويدعون الناس سرًا لمبادئهم وتعاليمهم، حتى قام الدرزي وأعلن الدعوة سنة 407 هـ، والذي كما يقال: (قد فتح سجلاً في مساجد القاهرة تكتب فيه أسماء المؤمنين بألوهية الحاكم، فاكتتب من أهل القاهرة سبعة عشر ألفا كلهم يخشون بطش الحاكم) (2). ويبدو أن هذا الأمر قد أحرج حمزة، مما حمله على الجهر بدعوته الجديدة – كما سبق ذكره – سنة 408 هـ، فثار الناس على هؤلاء الدعاة ثورة شديدة ساعدهم فيها الجند الأتراك، مما جعل الدرزي – على أرجح الروايات – يختفي في قصر الحاكم، حيث عمل على تهريبه بعد ذلك إلى وادي التيم في بلاد الشام، والذي كان يقطن به التنوخيون، والذين كانوا يدينون بالولاء للعبيديين، حيث عمل هناك على بث آرائه ومعتقداته بينهم، فانضموا إليه وآمنوا بدعوته.   (1) ((رسالة الغاية والنصيحة)): حمزة بن علي. (2) ((خير الدين الزركلي)): (8/ 2464). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 339 وبسبب شدة الثورة التي قام بها أهل مصر، على دعاة حمزة وأتباعه، اختفى حمزة أيضًا سنة 409 هـ، واعتبرها سنة اختفاء وغيبة. ويصف حمزة سنة 409 هـ: (بأنها سنة المحنة والامتحان والعذاب، وأن القصد من الغيبة أن يمتحن الخلق بغيبته، والمحنة هي غيابه الذي عاقبهم فيه) (1). (ويبدو أن غيبته في هذه السنة، كانت استعدادًا للظهور بقوة جديدة للتنظيم بعد ثورة الناس عليه في العام الفائت) (2).ويتبين من رسائل حمزة، أنه في خلال هذه الفترة جعل مقره السري خارج القاهرة في مسجد (تبر)، ولكن خصومه هاجموا مقره وأحرقوا باب المسجد، ثم وجدوا داخل المسجد بابا من الحجر لا تعمل فيه النار ويصعب نقب جداره) (3).مما تقدم يتضح بداية الخلاف بين حمزة والدرزي، والظاهر أن هذا الخلاف قد تفاقم بعد هروب الدرزي إلى الشام، حيث دعا هناك إلى أراء جديدة خالف بها آراء حمزة، من ذلك تسمية نفسه بـ (سيف الإِيمان) و (سيد الهادين)، وكان أيضًا يلعن مخالفي المذهب، بينما يقول حمزة: (اللعنة لا تزيد في الدين ولا تنقص منه) (4)، وكذلك (دعوته للحرية الجنسية) (5).وأرى أن هذا الاختلافات، لم تكن بتلك الأهمية لتأجج الخلاف بين الرجلين، وأن جوهر الخلاف – كما يفهم من كتابات حمزة – إنما كان (بسبب رئاسة الدعوة الجديدة، وهذا الأمر أغضب حمزة، وجعله يعزل الدرزي من مصبه في الشام، ويؤلب عليه أتباعه في الشام فقتلوه سنة 411 هـ) (6).وهذا الخلاف يؤكده حمزة في (رسالة الغاية والنصيحة) إذ يقول: (وكذلك الدرزي سمى نفسه في الأول بسيف الإِيمان، فلما أنكرت عليه ذلك وبينت له أن هذا الاسم محال وكذب، لأن الإِيمان لا يحتاج إلى سيف يعينه، بل المؤمنون محتاجون إلى قوة السيف وإعزازه، فلم يرجع عن ذلك الاسم وزاد عصيانه، وأظهر فعل الضدية في شأنه، وتسمى باسم الشرك وقال: أنا سيد الهادين، يعني أنا خير من إمامي الهادي) (7).هذا وكانت مدة ظهور حمزة ثلاث سنوات هي: 408، 410، 411، وأما سنة 409 هـ فإنها – كانت سنة غيبة له. كذلك فقد اختفى بعد سنة 411 هـ، - وهي السنة التي قتل فيها الحاكم -، حيث مرت سنوات من الكتمان، أيضًا لم يظهر فيها، فقد طورد من قبل الظاهر ابن الحاكم والملك الجديد، (مما اضطره إلى الرحيل إلى بلاد الشام) (8).وبقي حمزة مختفيًا حتى أزيح الستار قليلاً عن نشاطه، برسائل أرسلت إلى سواه وذُكر فيها، أو وجهت إليه، بعد قرابة عشرين سنة من غيابه، منها رسالة المواجهة، التي يتبين منها، أن حمزة كان لا يزال على اتصال سري بدعاته، وعلى الخصوص بـ (المقتني) بهاء الدين كاتب الرسالة، والذي يبدأها بـ (السلام على الإِمام) موجهًا إليه (عبيده الزائرين ... رسل العبد الذليل) (9).أما غيبة حمزة الثانية والأخيرة، (فإن رسالة بهاء الدين في (رسالة السفر) والتي يطلب فيها من المؤمنين، الإِيمان برجوع حمزة، وإلى طاعة ولي الحق الإِمام المنتظر، توضح هذه الرسالة – والتي كتبت في السنة الثانية والعشرين من سني حمزة أي سنة 430 هـ - أن حمزة قد اختفى أو مات سنة 430 هـ) (10).   (1) عبد الله النجار: ((مذهب الدروز والتوحيد)). (ص: 115). (2) عبد الله النجار: ((مذهب الدروز والتوحيد)) (ص: 124) (3) مصطفى غالب: ((الحركات الباطنية في الإسلام))، (ص: 249). (4) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص: 77). (5) سعيد الصغير: ((بنو معروف الدروز))، (ص: 236). (6) سعيد الصغير: ((بنو معروف الدروز))، (ص: 236) (بتصرف). (7) ((رسالة الغاية والنصيحة)). (8) خير الدين الزركلي: ((الأعلام)). (2/ 310). (9) عبد الله النجار: ((مذهب الدروز والتوحيد))، (ص 125). (10) عبد الله النجار: ((مذهب الدروز والتوحيد)) (ص 120 – 126). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 340 مع أن هناك من يقول: (أنه مات سنة 422 هـ (1030 م)) (1).وأما مكانة حمزة عند الدروز، فهو الإِعظام والإِجلال، (فالحديث عنه مقرون دائمًا عندهم بالإِجلال والإِعظام سواء أكان ذلك في مجرى حديث لسان أو على مسرى صفحة من كتاب مطبوع، أو ورقة من سفر مخطوط) (2).   (1) أحمد عطية: ((القاموس الإسلامي))، (2/ 156). (2) د. مصطفى الشكعة: ((إسلام بلا مذاهب))، (ص 273). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 341 وهو عندهم – وكما سمى نفسه في رسائله -، الإِمام، وقائم الزمان، وهادي المستجيبين المنتقم من المشركين، وعلة العلل، والعقل الكلي، والإِرادة، والقلم، والطور، والكتاب المسطور وهو أيضًا المسيح الحق ... إلى غير ذلك من الأسماء والألقاب التي أطلقها على نفسه. وحمزة يفتتح رسائله غالبًا بهذه الديباجة، وكما وردت في (رسالة البلاغ والنهاية): (تأليف عبد مولانا جل ذكره، هادي المستجيبين، المنتقم من المشركين سيف مولانا جل ذكره) (1).وكذلك نجده في (الرسالة الموسومة بسبب الأسباب) يصف نفسه بهذه الألقاب أيضًا بأنه: (الإِرادة فهو علة العلل، وهو العقل الكلي، وهو القلم، وهو القاف، وهوا القضاء، وهو الألف بالابتداء، وهو الألف بالانتهاء ... إلى أن يقول: وهو سبحانه منزه عن الكل (2)، وجميع ما في القرآن والصحف، وما تركه على قلبي من البيان والأسماء الرفيعة فهو يقع على عبده الإِمام) (3).وفي هذه الرسالة ينفي حمزة عن نفسه بأنه اخترع هذا الأمر من عند نفسه فيقول: (وها هنا باب ثان مذموم، أعاذك المولى سبحانه منه، وذلك قول من يقول من كافة الناس بأني اخترعت هذا الأمر من روحي، ووضعت العلم من ذاتي، وقوتي، ومولانا جلت قدرته لا يعلم بذلك ولا يرضاه ... وأنا أعيذك من ذلك وجميع الموحدين المخلصين) (4).وكما أشرت سابقًا، فإن الدروز يجلون ويعظمون حمزة، فنجد المقتني بهاء الدين يخاطب حمزة في (رسالة المواجهة) بقوله: (وتطول عليهم بالمسامحة من الغلط والسهو في صحائف التوحيد، نظمها العبد بتأييد مولاه، وألفها، ورسائل إلى دعاة الحق ثناها على التنزيه وعظمها. فما كان يا مولاي في هذه الصحائف والمراسلات والكتب والملطفات التي سيرها العبد من خطاب جزل، ومنطق صائب، وقول فصل، فهو من منه إمام العصر، ومؤاد (5) قائم الزمان، وما كان فيها من خطأ وخطل فهو منسوب إلى العبد الأصغر، الملهوف الظمآن، يتوسل في تقصيره إلى لطف مولاه) (6).وفي كتاب النقط والدوائر – وهو من كتب الدروز الدينية ولا يعرف مؤلفه – يصف كاتبه حمزة بهذه الأوصاف: (فهو صلوات الله عليه النور الكلي، والجوهر الأزلي، والعنصر الأولي، والأصل الجلي، والجنس العلي، فيه بدأت الأنوار، ومنه برزت الجواهر، وعنه ظهرت العناصر، ومنه تفرعت الأصول، وبه تنوعت الأجناس ... إلى أن يقول: فهو الإِمام، والدليل على عبادة الله، والداعي إلى توحيد الله، والناطق بحق الله، والبرهان على الله، والرسول الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (7).ولا يزال الدروز إلى الآن على هذا التعظيم لحمزة -، يقول كمال جنبلاط في مقدمته لكتاب (أضواء على مسلك التوحيد): (ويجب أن يبقى أبناء التوحيد محافظين على هذا التكريس والتهيؤ التقليدي والاجتباء الإِنساني لفكرة الولاية، لأنه في النهاية وفي الحقيقة، لا ولاية على الموحدين، ولا على الأنام كافة، إلا للعقل الأرفع، صلوات المهيمن عليه (8).   (1) ((رسالة البلاغ والنهاية في التوحيد)). (2) يقصد الإله المعبود (الحاكم)، فالإله في نظره منزه عن كل الصفات المذكورة في القرآن الكريم – لأنها جميعها تقع على العقل وهو (حمزة). (3) ((الرسالة الموسومة بسبب الأسباب)). (4) ((الرسالة الموسومة بسبب الأسباب)). (5) هكذا وردت في المخطوط ولعل الصحيح (ومراد). (6) ((رسالة المواجهة)). (7) كتاب ((النقط والدوائر))، (ص: 9 – 12). (8) د. سامي مكارم: ((أضواء على مسلك التوحيد))، (ص 20). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 342 ويضيف الدكتور سامي مكارم: (وهذا المعتقد التوحيدي يعتمد العقل في استكشافاته، ولا يراد بالعقل الأدنى، أي البشري أو الدنيوي إن صح التعبير، بل العقل الأرفع أو الكلي الذي هو المبدع الأول، أبدع من النور الشعشعاني المحض صورة صافية كاملة فتضمن في سره معنى ما كان وما يكون دفعة واحدة بدون زمان، فكان قوة كاملة وفعلاً تامًا، وكان علة العلل وأصل الوجود وغايته معًا) (1). مما سبق يتبين أن الإِيمان بإمامة حمزة – وأنه المبدع الأول وغير ذلك – هي من أهم معتقدات الدروز، وأصل عظيم من أصولهم، لأنه أول الحدود الخمسة الذين يعتقدون بهم، وهو أيضًا في نظرهم نبي الحاكم. وقد جاء في مخطوط (شرح ميثاق ولي الزمان) (2) ما يلي ثم من تسليم الروح ومعرفة العقل صفي الرب صلى الله عليه، وتمييزه عن إخوته الأربعة، وهم: النفس، والكلمة، والسابق، والتالي، وتمييزه عنهم بأحوال كثيرة. وفي شعر – مخطوط – لدرزي يسمى بـ (الشيخ أبي عبيد) يقول فيه: ألا صلوا على قلم القضايا رسول الله أفضل من أجابا رسول الله حمزة يا خليلي فأولى من أتانا بالكتابا (3) وحسب عقيدة التناسخ والأدوار عند الدروز، فقد ظهر حمزة في الأدوار الكبرى، والأدوار الصغرى بأسماء مختلفة: فهو شطنيل في دور آدم، وفيثاغورس في دور نوح، وداود في دور إبراهيم، وشعيب في دور موسى، واليسوع في دور عيسى، وأنه – أي حمزة – هو المسيح الحقيقي الأبدي، وسلمان الفارسي في دور محمد (صلى الله عليه وسلم) (4)، وهو الذي أملى القرآن على محمد (صلى الله عليه وسلم) وهكذا ... هذه لمحة سريعة عن حمزة، إمام الدروز، وقائم زمانهم، تبين بوضوح ذكاء ودهاء هذا الرجل، فقد استطاع أن يكون نموذجًا للدعاة الملاحدة، الذين ظنوا أنهم يستطيعون أن يقوضوا أركان الإِسلام ودعائمه، فلم ينفع ذكاؤهم ولا مهارتهم في هذا الدين شيء، بل حفظ الله هذا الدين. وخابت كل مساعيهم. ونأتي بعد ذلك إلى الداعي الآخر وهو: الحسن بن حيدة الفرغاني (5) (الأخرم): هذا الداعي لا نعرف عنه إلا الشيء القليل، ذلك أنه ظهر بمدينة القاهرة عقب ظهور حمزة بقليل، وكما يقول ابن العماد في شذرات الذهب أنه ظهر (في الثاني من رمضان سنة 409 هـ) (6).وقد دعا إلى مثل ما دعا إليه حمزة من التناسخ والحلول، وألوهية الحاكم، وذاعت دعوته بسرعة في جماعة من المغامرين والمرتزقة، فاستدعاه الحاكم وخلع عليه وأركبه فرسا مطهما، وسيره في موكبه) (7).غير أنه لم تمض على ذلك أيام قلائل، حتى وثب عليه رجل من أهل السنة وقتله وقتل معه ثلاثة رجال من أتباعه، فغضب الحاكم وأمر بإعدام قاتله ودفن الأخرم على نفقة القصر في حفل رسمي، كما أن جمهور أهل السنة احتفلوا بمأتم القاتل ودفنوه مكرمًا) (8). (ولكن القبر نبش بعد أيام واختفت جثته، وكان ذلك على ما يظهر بوحي الحاكم ورغبته) (9).   (1) د. سامي مكارم: ((أضواء على مسلك التوحيد))، (ص 81). (2) مخطوط في جامعة شيكاغو (رقم 3737): أخذت عن نسخة الجامعة الأردنية شريط (رقم 29). (3) مخطوط في جامعة شيكاغو (رقم 3737): أخذت عن نسخة الجامعة الأردنية شريط (رقم 29). (4) عبد الله النجار: ((مذهب الدروز والتوحيد)). (ص 123). (5) نسبة إلى فراغان، بالفتح. مدينة واسعة بما وراء النهر متاخمة لبلاد التركستان. بينها وبين سمرقند خمسون فرسخا. انظر ((ياقوت الحموي)) في ((معجم البلدان))، (4/ 253). (6) ابن العماد: ((شذرات الذهب))، (3/ 194). (7) محمد عبد الله عنان: ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية))، (ص 115). (8) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص 78). (9) محمد عبد الله عنان: ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية))، (ص 115). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 343 هذا تلخيص لكل ما ذكره المؤرخون عن هذا الداعية، والظاهر من رسائل حمزة أنه لم يكن ضد الأخرم، كما كان ضد الدرزي، على أن (الرسالة الواعظة) لأحمد حميد الدين الكرماني، تفيدنا بعض الشيء عن مهمة الأخرم وهي رسالة موجهة إلى الأخرم ردًا على رقعة بعث بها الأخرم إليه، حيث يتضح من هذه الرسالة أن الأخرم هو الذي كان يقود حركة الدعاية للمذهب الجديد وأنه هو الذي كان يبعث بالرقاع إلى الناس يدعوهم فيها إلى عقيدته الجديدة وكان يطلب من العلماء وكبار الدعاة أجوبة فكتب إليه الكرماني (الرسالة الواعظة). وأول ما يراه الكرماني في رقعة الأخرم أنها خالية من البسملة ومن الصلاة على النبي، وعلى الأئمة من ذريته، ويضيف الكرماني قائلاً: ولا تخلو أن تكون في تظاهرك بولاء أمير المؤمنين عليه السلام، إما متبعًا له، أو غير متبع، فإن كنت متبعًا فبمخالفتك إياه فيما أمرك به من السجلات المكرمة من السلام عليه في جميع المكاتبات وقعودك عن الاقتداء فيما يفعله من تصدير سجلاته وجميع مكاتباته وخطبه بسم الله الرحمن الرحيم، والاستفتاح به، والصلاة على سيد المرسلين وخاتم النبيين والتبرك بها قد كفرت. ومن الأفكار التي قالها الأخرم في رقعته للكرماني: من عرف منكم إمام زمانه حيًا، فهو أفضل ممن مضى من الأمم من نبي أو وصي أو إمام ... وأن من عبد الله من جميع المخلوقين، فعبادته لشخص واحد لا روح فيه، ويتساءل عن معنى الآية الكريمة عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا [الإنسان:18]، وعن: الإسلام وشرائطه؟ وعن: الذي يتقرب به إلى المعبود؟ وهل الشريعة محدثة أم قديمة مع الدهر؟ وما النفس؟ وما العقل؟ ثم ينتهي به القول إلى أن الشريعة والتنزيل والتأويل خرافات وقشور وحشو ولا تتعلق بها نجاة، وأن الناس لا يوجهون وجوههم إلى القبلة لأنها حائط، وأن المعبود هو الحاكم) (1). وهذا يدل على أن الأخرم كان من مؤسسي هذه الدعوة، وكان لسان دعايتها، ولا ندري تمامًا مرتبته بين الحدود، لأنه قتل قبل أن يتبلور مركز الحدود ومراتبهم، ولا ندري ماذا يكون مصيره مع حمزة لو قدر له أن يعيش. أما الداعية الآخر، والذي ينسب إليه الدروز فهو: محمد بن إسماعيل الدرزي (نشتكين): في حديثنا فيما سبق عن حمزة بن علي، ذكرنا أن أول من كشف عن عقائد المذهب الدرزي، كان محمد بن إسماعيل الدرزي سنة 407 هـ، مما اضطر حمزة إلى الإِعلان والكشف عن دعوته لتأليه الحاكم سنة 408 هـ. والدرزي على الأرجح من أصل تركي، ويذكر المؤرخون أنه وفد على مصر سنة 407 هـ، فخدم الحاكم وتقرب إليه، ولكن الذي يرجحه الدكتور محمد كامل حسين: أن الدرزي كان قبل هذا التاريخ في مصر واتصل بحمزة بن علي مدة طويلة قبل إظهار الدعوة، وعملاً معًا في رسم خططها) (2). ويصرح حمزة في (رسالة الغاية والنصيحة): بأن الدرزي كان يضرب الدنانير والدراهم، وهذا مما يؤكد أن الدرزي كان قريبًا من حمزة والحاكم. ولاشك أن الدرزي كان من أقوى رسل حمزة وأشدهم عزمًا وجرأة، وكان يسير على طريقة حمزة في الدعوة، (ومن الغريب أن حمزة في إحدى رسائله يتهم الدرزي بأنه لا يقر إلا بإنسانية الحاكم بأمر الله، دون ألوهيته، مستندًا في هذا إلى أن الدرزي يقول: أن روح آدم انتقلت إلى علي بن أبي طالب، ثم انتقلت روح علي إلى الحاكم، وعلي هو الأساس، والأساس هو مجرد إمام، وليس إلهًا) (3).   (1) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص: 79). (2) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص: 79). (3) د. عبد الرحمن بدوي: ((مذاهب الإسلاميين)) (ص 595). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 344 أما عن مصير الدرزي بعد أن كشف عن هذا المذهب، فيختلف المؤرخون في ذلك، فمنهم من يقول بقتله في ذلك الوقت على يد الأتراك. ومنهم من يرجح أنه لم يقتل في هذا الظرف، ولكنه اختفى في القصر أيامًا بحماية الحاكم حتى هدأت العاصفة وسكن الجند، ثم دبر الحاكم له سبيل الفرار، وأعانه بالمال، فسار إلى الشام ونزل ببعض قرى بانياس (1) وأذاع في الناس دعوته، فكانت أصل مذهب الدروز الذي سمي باسمه، وحاول هناك أن ينقلب على حمزة ويدعي الإِمامة والرئاسة له، فقتل بتحريض من حمزة سنة 411 هـ، والأرجح أن هذا هو السبب الوحيد والجوهري لغضب حمزة عليه. ويفهم من رسائل حمزة بأن الدرزي لم يكن وحيدًا، بل كان معه دعاة آخرون أمثال البرذعي، وعلي بن أحمد الحبال، ويذكر ذلك في (رسالة الغاية والنصيحة) فيقول: (وفرعون البرذعي، وهامان علي بن الحبال، لأن فرعون كان داعي وقته، فلما أبطأ الناطق قال: (أنا ربكم الأعلى) (2) يعني إمامكم الأعظم، وهامان الذي فتح له باب المعصية) (3).ويقول أيضًا في رسالة (الصيحة الكائنة): (وما منكم أحد إلا وقد نصحته بحسب الهداية إلى دعوته، فمنكم من استجاب، ونكث مثل علي بن أحمد الحبال الذي كان مأذونًا لي، وعلى يده استجاب نشتكين الدرزي) (4). ويذكر كذلك في (رسالة الرضا والتسليم): (وأما البرذعي فأنا أرسلت إليه ودعوته إلى توحيد مولانا جل ذكره، فلما أرسل إليه الدرزي رسوله ومعه ثلاثة دنانير وأوعده بالمركوب والخلع فمضى إلى عنده وفتح له أبواب البلايا والكفر، أما أصحابه كلهم فمكتوبة عندي عليهم وثائق بالشهود العادلة لأن لا يراجعوا عما سمعوه مني أبدًا). ومن خلال هذه الرسالة يتبين لنا أن حمزة عندما عرض على البرذعي أمر الاستجابة إلى دعوته، شرط عليه أن يأتيه بتوقيع الحاكم، (وهذا يعني أن الحاكم كان يعلم بدعوة حمزة، وكان على اتصال وثيق به) (5). وفي ختام حديثنا عن دعاة الدروز، لابد أن نلم قليلاً باثنين من حدودهم الخمسة وأكابر دعاتهم وهما: أبو إبراهيم إسماعيل بن حامد التميمي، صهر حمزة ويليه في مرتبة الحدود، والذي يلقب بالنفس، وذومصة، والمشيئة، وإدريس زمانه، وأخنوخ أوانه. والداعية الثاني هو: بهاء الدين أبو الحسن علي بن أحمد السموقي، المعروف بالضيف، وهو الحد الخامس من الحدود، ومرتبته الجناح الأيسر، أو التالي. أما التميمي، فلاشك أنه من الحدود الكبار – عند الدروز – الذين قام المذهب على أكتافهم، (وتؤكد النصوص التاريخية أن حمزة كان يعتمد على صهره وساعده الأيمن الذي ينفذ بدقة ونشاط أصعب المهمات وأشدها خطرًا) (6). وقد كتب التميمي عدة رسائل من مجموع رسائل الدروز منها: رسالة في تقسيم العلوم، والزناد، والشمعة، والرشد والهداية، وله أيضًا شعر يمجد فيه الحاكم اسمه (شعر النفس). ومع ذلك فنحن نعجب لسكوت كتب التاريخ، ورسائل الدروز عن هذا الداعية بعد غياب حمزة سنة 411 هـ، إذ لا يوجد لدينا أي شيء عن هذا الداعية بعد هذا التاريخ.   (1) هما بلدان على الساحل السوري، وعند القنيطرة. (2) يشير إلى الآية الكريمة فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى *النازعات:23 - 24*. (3) ((رسالة الغاية والنصيحة)). (4) ((رسالة الصبحة الكائنة)). (5) مصطفى غالب: ((الحركات الباطنية في الإسلام))، (ص: 243). (6) مصطفى غالب: ((الحركات الباطنية في الإسلام))، (ص: 251). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 345 ونأتي بعد ذلك إلى الداعية الآخر بهاء الدين، والذي كان له أكبر الأثر في انتشار مذهب الدروز وقيامه بعد غياب حمزة سنة 411 هـ، وذلك لأن مرتبته في الدعوة هي مرتبة الجناح الأيسر أو التالي، وسنرى في حديثنا عن الحدود في العقيدة الدرزية، أن من يشغل هذه المرتبة يكون لسان الدعوة، وله من الحدود: الجد، والفتح، والخيال. وقد استمر بهاء الدين يحمل أعباء الدعوة إلى مذهبه، فكتب الرسائل إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الدخول في مذهبه، كما كتب إلى الذين خرجوا عن المذهب بعد أن كانوا من دعاته أمثال الداعي (سكين) (1) الذي ادعى أنه الإِله المعبود، وأنه الحاكم بأمر الله. ومما يذكر أن الكثير من رسائل الدروز، قد كتبها بهاء الدين، ومن هذه الرسائل: (رسالة التنبيه والتأنيب والتوبيخ)، (رسالة التعنيف والتهجين)، (ورسالة القسطنطينية)، وغير ذلك من رسائل كثيرة كتبها، وأغلبها في الرد على الآراء الجديدة التي حاول الخارجون عليه أن يبثوها، لذلك تحمل أكثر العناوين من رسائله التأنيب والتوبيخ والتعنيف. ولما شعر بهاء الدين باضطراب الأحوال، بعد أن كثرت الآراء الدخيلة في المذهب، أخذ يهدد أتباعه باعتزال الدعوة، وبالفعل اعتزلها سنة 434 هـ، بعد أن أقفل باب الاجتهاد حرصا على الأصول والأحكام التي وضعها حمزة، والتميمي، وما وضعه هو نفسه) (2). هؤلاء هم دعاة الدروز، وعلى أيديهم قام المذهب الجديد، وسنعرض عند الحديث عن حدود الدروز باقي هؤلاء الدعاة. ولاشك أن حمزة كان إمامهم وداعيتهم الأكبر، وكان طموحه كبيرًا وكان بهاء الدين بالفعل متممًا حقيقيًا لما بدأه حمزة، ولولا بهاء هذا لانقرض هذا المذهب بعد غياب حمزة. المصدر: عقيدة الدروز عرض ونقد لمحمد أحمد الخطيب – ص 103   (1) أحد دعاة الدروز الأوائل، وكان يشبه الحاكم في بعض ملامحه، فلما قتل الحاكم ادعى أنه الحاكم، فاجتمع حوله بعض المفتونين، واستطاع أن يدخل القصر على أنه الحاكم، ولكن لم يلبث أن عرف الحراس حقيقته فقتل، ويعتبره الدروز مارقا وخارجا عن مذهبهم. (2) مصطفى غالب: ((الحركات الباطنية في الإسلام))، (ص: 252). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 346 المبحث الخامس: أسماء الدروز الدروز: هذا هو الاسم المشهور عنهم والمتداول على ألسنة الناس، وهو نسبة إلى نشتكين الدرزي، وقد رأينا أنه مع شهرة هذا الاسم عنهم إلا أنهم لا يحبون أن يطلق عليهم؛ لأنه ينسبهم إلى درزي المذكور وهم قد انحرفوا عن موالاته بعد أن اختلف هو وحمزة بن علي، وصاروا بعد ذلك يلعنونه ويحكمون عليه بالضلال والكفر بمبادئهم لما سبق ذكره. الموحدون: هذا هو الاسم الذي يحبونه ويطلقونه على أنفسهم في كتبهم التي يقدسونها (1).ويجب ملاحظة أن هذه التسمية لا تعني توحيد الله عز وجل الذي يعبده المؤمنون، ولكن معناها الإخلاص في توحيد الحاكم بأمره حيث يذكر حمزة بن علي الزوزني ذلك بقوله: (التوحيد لمولانا عوض الشهادتين) (2) المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 600   (1) انظر: ((طائفة الدروز)) (ص6) (2) ((الحركات الباطنية في العالم الإسلامي)) (ص278) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 347 المبحث السادس: كيف انتشرت العقيدة الدرزية حينما فرَّ الدرزي من مصر توجه إلى بلاد تيم في لبنان، وكانت تقيم فيه قبائل عربية في الجاهلية ثم اعتنقوا الإسلام. وفي أيام الدولة العبيدية انتشر بينهم المذهب الإسماعيلي بتأثير هذا الداعي وفراغهم عن معرفة الدين الإسلامي. وهذه العقيدة على تفاهتها وجدت من يستمع لها ويدين بها إلى وقتنا الحاضر مع شدة حرصهم على كتمانها، الأمر الذي جعل المعلومات حولهم ناقصة جداً ومتضاربة في كثير منها حول ديانة هؤلاء الدروز، وهي في مجملها تتألف من أفكار شتى ونظريات مختلفة فلسفية وهندية ويونانية وفارسية وفرعونية، ثم أحاطوها بالسرية الكاملة لا يبيحون لأحد أن يطَّلع عليها غيرهم، كما لا يبيحون لأحد منهم أن يفشي سراً من أسرارها. وقد جاء في كلام لحمزة بن علي قوله في الترهيب من إفشاء أسرارهم: (إن أكبر الآثام وأعظمها إظهار سر الديانة وإظهار كتب الحكمة –يعني كتبهم- والذي يظهر شيئاً من ذلك يقتل حالاً تجاه الموحدين ولا أحد يرحمه).ويقول: (عليكم أيها الإخوان الموحدون في دفن هذه الأسرار، ولا يقرأها إلا الإمام على الموحدين في مكان خفي، ولا يجوز أن تظهر كتب الحكمة التي كلها رسم ناسوت مولانا سبحانه، وإن وجد شيء من هذه الأسرار في يد كافر فيقطع إرباً إرباً) (1). على أنه لا مانع مع الحفاظ على هذا التكتم أن يتظاهر الدرزي –كما أوصاه علماؤه- بإنكار هذه المبادئ أمام الآخرين إذا لم تكن له قوة أمامهم مستعملا في ذلك ما بوسعه من النفاق والكذب والخداع، وأن يظهر لكل أهل مذهب الرضى عن مذهبهم والسلوك في سبيلهم على طريقة الباطنية. وقد ذهب الغلو بمحمد كامل حسين أن يقول: (وللدروز قضاة منهم يحكمون دائماً حسب الشريعة والتقاليد الإسلامية، إلا أنهم في بعض المسائل الخاصة يحكمون حسب التقاليد الدرزية) (2). ثم مثَّل بعدة أمثلة هي ضد الإسلام، ومما ينبغي التنبيه له أن الدروز لا يزالون على اعتقاد تأليه الحاكم إلى وقتنا الحاضر يقرونه في مجالسهم الخاصة وخلواتهم، ولكنهم قد يتظاهرون أمام الناس بعدم تأليه الحاكم وهم يعلمون أنهم لو تركوا هذه الفكرة لأصبحوا بلا دين. وقد كشف هذا الستار أحد علماء الدروز وهو عبد الله النجار الذي قتلوه بعد ذلك في أحداث لبنان فهو يقول: (وإني لأذكر عتاب كبير الأشياخ الثقات؛ لأني ذكرت في أحد الكتب المطبوعة أن أم الحاكم كانت صقلية؛ إذ قال لي: إن الحاكم لا أم له مردداً ما جاء في الرسالة 26: حاشا مولانا جل ذكره من الابن والعم والخال لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 3 - 4] (3). فهذه شهادة شاهد من أهلها، والباطل لا بد وأن يكشفه الله مهما حاول أهله التستر عليه. وقد كان لهذه الفكرة الإجرامية نتائجها على الحاكم فيما بعد؛ فإنه أنكر ولم يوص بالخلافة لولده (الظاهر بالله) وإنما أوصى بها إلى شخص آخر للإيحاء بأن الأمر لا يزال بيده حتى وإن غاب عنهم يعطيه من يشاء ويمنعه عن من يشاء. ومن هنا فقد انتقم الظاهر من هؤلاء بعد توليه الخلافة أشد انتقام. المصدر: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام لغالب عواجي – 2/ 601   (1) ((عقيدة الدروز)) (ص175) (2) ((طائفة الدروز)) (ص29) (3) ((مذهب الدروز والتوحيد)) (ص105، 106)، عن ((الحركات الباطنية)) (ص237) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 348 المبحث السابع: معاملة الدروز لمن يكشف شيئاً من عقائدهم ومن هذا الموقف فإن من أفشى شيئاً من عقائد الدروز فإنهم لا يقابلونه بالمناقشة والحجة كما يفعل سائر الناس الذين يثقون بمبادئهم، وإنما يقوم هؤلاء الدروز وهم يعرفون تفاهة مذهبهم بسبّ الشخص وإلصاق التهم به وإثارة الضجة حوله إذا لم يستطيعوا قتله. ويذكر الدكتور الخطيب أن الشيخ زيد بن عبد العزيز الفياض كتب في مجلتي المنهل وراية الإسلام اللتين كانتا تصدران في جدة والرياض عنهم بعض الحقائق، ورد على من يسميهم مسلمين فقامت قيامة الدروز على الفياض وسبوه بأقذع السباب، وأصدر شيخ العقل في لبنان فتوى ضده ونشروا ذلك في عدة صحف. وقد قام أحد علماء الدروز ويسمى عبد الله النجار بإصدار كتابه مذهب الدروز والتوحيد، وبيَّن حقيقة هذا المذهب، فقامت ضجة حوله وحول كتابه، وحاكمه مشائخ الدروز لفضحه أسرار المذهب، وجمعوا نسخ الكتاب من الأسواق وأحرقوها وقد استغلوا أحداث لبنان واغتالوا النجار (1). ولا شك أن قيامهم بمثل هذا الإجرام يعتبر دليلاً واضحاً على معرفتهم برداءة مذهبهم وبطلانه؛ إذ الحق لا يخاف صاحبه من إظهاره؛ بل يحب ويتودد إلى الناس لنشره وانتفاع الناس به. ويقول محمد أحمد الخطيب عن موقف الدروز منه حين طبع كتابه (عقيدة الدروز) وما لاقاه من مضايقات وتهديدات بسبب ما دونه من حقائق لا يستطيعون دفعها بأي حال لاستناده فيما كتبه عنهم إلى مصادرهم، يقول: (وللحقيقة أذكر أن هذه الأمور مجتمعة قد حدثت معي شخصياً حينما تم طبع ونشر كتاب عقيدة الدروز عرض ونقض، وهي رسالة ماجستير نوقشت في جامعة الإمام محمد بن سعود عام 1400هـ؛ حيث ظهر، وبشكل واضح طريقة التعامل القذر الذي يتم مع كل من يحاول أن يبحث عن حقيقتهم. فقد توالت عليّ المكالمات الهاتفية التي تهدد بالقتل، وجاء على أثرها الكثير من الرسائل والتي تتوعدني بالويل والثبور إن لم أعتذر عن كتابي وما ورد فيه، ولم يكتفوا بذلك بل عملوا على جمع ما يستطيعون من نسخ الكتاب المذكور وإحراقه، وكذلك عملوا على مطالبة المسئولين في كثير من البلاد العربية بمنع الكتاب، فكان أن منع في عدد من البلاد العربية) (2). ومما لا يخفى أن هذه الدول التي منعت انتشار الكتاب والانتفاع بما فيه إنما تمثل الانهزام التام والتودد إلى هؤلاء الأشرار هذا إن أحسنا بهم الظن، وإلا فإن هؤلاء مما يترجح لدى كل فاهم لأوضاع الدول العربية أنهم ممن يبيتون النية السيئة لشعوبهم ولدينهم، وأنهم أقرب إلى أعداء الإسلام وأشد على المسلمين من كثير ممن يتظاهر بعدم الإسلام. والله المستعان. المصدر: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام لغالب عواجي – 2/ 604   (1) ((عقيدة الدروز)) (ص179) (2) ((عقيدة الدروز)) (ص299) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 349 المبحث الثامن: طريقة الدروز في تعليم ديانتهم علماء الدروز من أشد الناس تستراً على مبادئهم حتى من الموالين لهم، فلا يطلعون أحداً على أسرار المذهب إلا بعد أن يجتاز امتحانات كثيرة من قبل هؤلاء المشائخ الذين هم بمنزلة السلطة العليا. وقد وصف محمد كامل حسين ذلك بقوله: (وهم من الناحية الدينية ينقسمون إلى عقال أو أجاويد أي الذين لهم الحق في معرفة شيء من العقيدة السرية، وبين جهال أي الذين ليس لهم الحق في معرفة أسرار الدين. والعقال ينقسمون بدورهم إلى درجات ثلاث؛ ففي مساء كل يوم جمعة يجتمع العقال في أماكن العبادة التي تعرف بالخلوات (جمع خلوة) بسماع ما يتلى عليهم من الكتاب المقدس، وبعد تلاوة المقدمات يخرج من الخلوة الطبقة الدنيا من العقال، ثم بعد تلاوة بعض الرسائل البسيطة التي ليس بها تأويلات تخرج الطبقة الثانية بحيث لا يبقى إلا رجال الدرجة الأولى الذين لهم وحدهم الحق في سماع الأسرار العليا للعقيدة. أما الجهال فلا يسمح لهم بحضور هذه الخلوات أو بسماع شيء من الكتب المقدسة إلا في يوم عيدهم، وهو يوافق عيد الأضحى عند المسلمين، على أن طبقة الجهال يسمح لهم بأن ينتقلوا إلى طبقة العقال بعد امتحان عسير شاق يقوم على ترويض النفس وإخضاع شهواتها مدة طويلة؛ إذ لا يقبل في طبقة العقال من يدمن التدخين مثلاً، وقد يستمر الامتحان أكثر من سنة بأكملها حتى يثق الشيوخ بأحقية الطالب أن ينتقل من طبقة الجهال إلى طبقة العقال). وقال عن صفات العقال: (والعقال في المجتمع الدرزي يعرفون بعمائمهم ولبس القباء الأزرق الغامق ويطلقون لحاهم، على أن الذين يسند إليهم وظائف حكومية يباح لهم ترك هذه الملابس وارتداء الزي الذي يتطلبه منصبه الرسمي). وقال عن مكانة المرأة في المذهب الدرزي: (والنساء في المجتمع الدرزي ينقسمن أيضاً إلى عاقلات وجاهلات مثل الرجال تماماً، لا فرق بين المرأة والرجل، والنساء العاقلات يلبسن النقاب وثوباً اسمه صاية). وعن التنظيم الاجتماعي السائد في المجتمع الدرزي يقول: (وللدروز رؤساء دينيون في كل مكان، على رأسهم شيخ يلقب بشيخ العقل ويتولى منصبه بالانتخاب أو بالاتفاق بين الزعماء وكبار رجال الطائفة، ولشيخ العصر أعوان في كل قرية أو بلد هم شيوخ عقل محليون. وشيوخ العقل في لبنان ينقسمون إلى حزبين سياسيين هما الشيوخ الجانبلاطية والشيوخ اليزبكية، بينما ينقسم الدروز عامة في لبنان مدنياً إلى أمراء ومشائخ وعامة، فالأمراء هم آل أرسلان والمشائخ هم الجانبلاطية واليزبكية) (1).ويذكر محمد حمزة أن أغلب الأحكام الفقهية التي ليس للدروز فيها تشريع خاص يتبعون فيها مذهب أبي حنيفة النعمان، وأن ذلك كان بتأثير العثمانيين الذين فرضوا المذهب الحنفي في سوريا ولبنان (2). المصدر: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام لغالب عواجي – 2/ 609   (1) انظر: ((طائفة الدروز)) (ص28،29) فصل ((طبقات المجتمع عند الدروز)). (2) ((التآلف بين الفرق الإسلامية)) (ص124) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 350 المطلب الأول: ألوهية الحاكم عند الدروز لعل أهم عقيدة نراها في كتب ورسائل حمزة بن علي وغيره من الدعاة، أن للحاكم بأمر الله حقيقة لاهوتية لا تدرك بالحواس ولا بالأوهام، ولا تعرف بالرأي ولا بالقياس، ومهما حاول الإنسان أن يفكر فيه لمعرفة كنهه فيه فهو محاولة فاشلة لأن لاهوته ليس له مكان، ولكن لا يخلو منه مكان، وليس بظاهر كما أنه ليس بباطن. ولا يوجد اسم من الأسماء يمكن أن يطلق عليه، لأنه لا يدخل تحت الأسماء، إذ لا يتصف بصفات، ولا يمكن التعبير عنه بلغة من اللغات. وهكذا يتفق ذكر التوحيد في رسائل الدروز، وحديثهم عن لاهوتية المعبود، يتفق تمام الاتفاق مع ما ورد في كتب الدعوة الإِسماعيلية عن الله سبحانه وتعالى، ففي كتاب (راحة العقل) لأحمد حميد الدين الكرماني، الذي كان معاصرًا لحمزة بن علي، نجد سورًا كاملاً ذا سبعة مشارع في التوحيد والتقديس، وحديثه في ذلك كله هو حديث رسائل الدروز. فقد جعل الكرماني المشرع الأول: في بطلان كونه تعالى ليسًا (1)، والمشرع الثاني: في بطلان كونه تعالى أيسًا (2) والمشرع الثالث: في أنه تعالى لا ينال بصفة من الصفات وأنه لا بجسم ولا في جسم ولا يعقل ذاته عاقل ... ثم ختم السور بالمشرع السابع: الذي جعله من قبيل نفي الصفات الموجودة في الموجودات وسلبها عنه تعالى) (3). وكنت قد أوردت في فصل سابق رسالة مهمة تتحدث عن هذا المعتقد هي (كتاب فيه حقائق ما يظهر قدام مولانا جل ذكره من الهزل) حيث اتضح لنا من خلافات كيف ينظر حمزة وأتباعه إلى أفعال الحاكم ويظهرونها أفعالاً تدل على الألوهية. وبما أن عقيدة ألوهية الحاكم، هي المرتكز الرئيسي لعقيدة الدروز فلابد لنا من استعراض بعض ما كتبوه في رسائلهم حول هذا الأمر. ومع أن الدروز يحاولون – تسترًا وكتمانًا – أن ينفوا هذا المعتقد أمام الآخرين، وذلك تجنبًا لثورة الناس عليهم، وهو ما أمرت به رسائلهم، والذي يفهم منها أنه يجوز للموحد أن ينفي عبادته للحاكم أمام الضد. وأبدأ أولاً بـ (ميثاق ولي الزمان)، وهو نص العهد الذي وضعه حمزة بن علي ليؤخذ على الداخلين في دعوته: (توكلت على مولانا الحاكم الأحد، الفرد الصمد، المنزه عن الأزواج والعدد. أقر فلان بن فلان، إقرارًا أوجبه على نفسه، وأشهد به على روحه، في صحة من عقله وبدنه، وجواز أمره، طائعًا غير مكره ولا مجبر. أنه قد تبرأ من جميع المذاهب والمقالات والأديان والاعتقادات، كلها على أصناف اختلافاتها، وأنه لا يعرف شيئًا غير طاعة مولانا الحاكم جل ذكره، والطاعة هي العبادة، وأنه لا يشرك في عبادته أحدًا مضى أو حضر أو ينتظر، وأنه قد سلم روحه وجسمه وماله وولده وجميع ما يملكه لمولانا الحاكم جل ذكره، ورضي بجميع أحكامه له وعليه، غير معترض ولا منكر لشيء من أفعاله ساءه ذلك أم سره. ومتى رجع عن دين مولانا الحاكم جل ذكره الذي كتبه على نفسه وأشهد به على روحه، أو أشار به إلى غيره، أو خالف شيئًا من أوامره. كان بريئا من الباري المعبود، واحترم الإِفادة من جميع الحدود، واستحق العقوبة من الباري العلي جل ذكره.   (1) أي محال ليسيته، إذ لو كان ليسا لكانت الموجودات أيضا ليسا، فلما كانت الموجودات موجودة، كانت ليسيته باطلة. (2) أي موجود مثل سائر الموجودات المخلوقة. (3) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز)) (ص 10 - 105). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 351 ومن أقر أن ليس في السماء إله معبود، ولا في الأرض إمام موجود إلا مولانا الحاكم جل ذكره كان من الموحدين الفائزين. كتب في شهر كذ وكذا من سنة كذا وكذا من سنين عبد مولانا جل ذكره ومملوكه حمزة بن علي بن أحمد، هادي المستجيبين، المنتقم من المشركين والمرتدين بسيف مولانا جل ذكره وشدة سلطانه وحده) (1).وقد ورد هذا الميثاق أيضًا في مصحف الدروز في (عرف العهد والميثاق) بوصفه: (العهد الذي أمر مولانا الحاكم جل ذكره، بكتابته على جميع الموحدين الذين آمنوا به، جل ذكره) (2). ولكن ورد في هذا المصحف، وقبل الميثاق، عهد جديد، لا نعرفه إلا من هذا المصحف سمي بـ (العهد)، وهذا يعطي انطباعًا لقارئ مصحفهم أن العهد والميثاق متلازمان في العقيدة الدرزية، ولذلك نورد فيما يلي نص هذا العهد، لأهمية ذلك في إيضاح نظرة الدروز وعقيدتهم والباقية للآن في ألوهيتهم للحاكم: (آمنت بالله، ربي الحاكم، العلي الأعلى، رب المشرقين، ورب المغربين وإله الأصلين والفرعين، منشئ الناطق والأساس، مظهر الصورة الكاملة بنوره، الذي على العرش استوى، وهو بالأفق الأعلى، ثم دنا فتدلى، وآمنت به، وهو رب الرجعى وله الأولى والآخرة، وهو الظاهر والباطن. وآمنت بأولي العزم من الرسل، ذوي مشارق التجلي المبارك حولها وبحاملي العرش الثمانية، وبجميع الحدود، وأومن عاملاً قائمًا بكل أمر ومنع ينزل من لدن مولانا الحاكم، وقد سلمت نفسي وذاتي وذواتي، ظاهرًا وباطنًا، علمًا وعملاً، وأن أجاهد في سبيل مولانا، سرًا وجهرًا بنفسي ومالي وولدي وما ملكت يداي، قولاً وعملاً، وأشهدت على هذا الإِقرار جميع ما خلق بمشارقي ومات بمغاربي. وقد التزمت وأوجبت على هذا نفسي وروحي بصحة من عقلي وعقيدتي، وإني أقر بهذا، غير مكره أو منافق، وإنني أشهد مولاي الحق الحاكم، من هو في السماء إله وفي الأرض إله، وأشهد مولاي هادي المستجيبين، المنتقم من المشركين المرتدين، حمزة بن علي بن أحمد، من به أشرقت الشمس الأزلية، ونطقت فيه وله سحب الفضل: إنني قد برأت وخرجت من جميع الأديان والمذاهب والمقالات والاعتقادات قديمها وحديثها، وآمنت بما أمر به مولانا الحاكم الذي لا أشرك في عبادته أحدًا في جميع أدواري.   (1) ميثاق ولي الزمان. (2) ((مصحف الدروز: عرف العهد والميثاق))، (ص 111). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 352 وأعيد فأقول: إنني قد سلمت روحي وجسمي وما ملكت يداي وولدي لمولانا الحاكم جل ذكره، ورضيت بجميع أحكامه لي أو علي، غير معترض ولا منكر منها شيئا، سرني ذلك أم ساءني، وإذا رجعت أو حاولت الرجوع عن دين مولانا الحاكم جل ذكره، والذي كتبته الآن وأشهدت به على روحي ونفسي، أو أشرت بالرجوع إلى غيري، أو جحدت أو خالفت أمرًا أو نهيًا من أوامر مولاي الحاكم جل ذكره ونواهيه. كان مولاي الحاكم جل ذكره، بريئًا مني واحترمت الحياة من جميع الحدود، واستحقت علي العقوبة في جميع أدواري من بارئ الأنام جل ذكره، وعلى هذا أشهدك ربي ومولاي، من بيدك الميثاق، وأقر بأنك أنت الحاكم الإِله الحقيقي المعبود، والإِمام الموجود جل ذكره، فاجعلني من الموحدين الفائزين الذي جعلتهم في أعلى عليين، ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين، مولاي إن تشاء آمين) (1).وقد أورد القلقشندي نصا غريبا ليمينهم هذا، لا يتوافق مع معتقداتهم، وخاصة بالنسبة للدرزي، الذي يصفه هذا القسم بأنه: الحجة الرضية، وهذا ما لا يقبله الدروز ويرفضونه (2)، وهكذا فإن هذا الميثاق وغيره يبتر حبل الصلة بين المستجيب وكل ما يؤمن به سواه، ويدفعه لتلقي كل ما يرويه حمزة وتلاميذه – مرورًا ببهاء الدين وانتهاء بجنبلاط – عن الحاكم بالرضى والتسليم. ويوضح حمزة في (الرسالة الموسومة بكشف الحقائق) لماذا أظهر اللاهوت ناسوته؟ فيقول: (لكنه سبحانه أظهر لنا حجابه الذي هو محتجب فيه، ومقامه الذي ينطق منه ليعبد موجودًا ظاهرًا، رحمة منه لهم ورأفة عليهم، والعبادة في كل عصر وزمان لذلك المقام الذي نراه ونشاهده ونسمع كلامه ونخاطبه، فإن قال قائل: كيف يجوز أن نسمع كلام الباري سبحانه من بشر، أو نرى حقيقته في الصور؟ قلنا له: بتوفيق مولانا جل ذكره وتأييده، أنتم جميع المسلمين واليهود والنصارى، تعتقدون بأن الله عز وجل خاطب موسى بن عمران من شجرة يابسة، وخاطبه من جبل جامد أصم، وسميتموه كليم الله لما كان يسمع من الشجرة والجبل، ولم ينكر بعضكم على بعض، وأنتم تقولون بأن مولانا جل ذكره ملك من ملوك الأرض، ومن وُلي على عدد من الرجال، كان له عقل الكل، ومولانا جل ذكره يملك أرباب ألوف كثيرة ما لا يحصى ولا يقاس فضيلته بفضيله، شجرة أو حجر، وهو أحق بأن ينطق الباري سبحانه على لسانه، ويظهر للعالمين قدرته منه، ويحتجب عنهم منه. فإذا سمعنا كلام مولانا جل ذكره قلنا: قال الباري سبحانه: كذا وكذا، لا كما كان موسى يسمع من الشجرة هفيفًا فيقول: سمعت من الله كذا وكذا، وهذه حجة عقلية لا يقدر أحدكم ينكرها. وقد اجتمع في القول بأن لمولانا جل ذكره عقول الأمة، وأن الشجرة والحجر لا تفهم وتعقل عن الله (3)، ومن يفهم ويعقل عن الله أحق بكلام الله وفعله ممن لا يعقل عنه، وإن كانت الشجرة حجابه، فالذي يعقل ويفهم أحق أن يكون حجاب الله ممن لا يعقل ولا يفهم، وكيف يجوز الباري سبحانه أن يحتجب في شجرة ويخاطب كليمه منها ثم تحرق الشجرة ويتلاشى حجابه، سبحان الإِله المعبود عما يصفون، لا يدرك ولا يوصف مولانا الحاكم جل ذكره وحجابه في كل عصر وزمان باختلاف الصور والأسماء، كما نطق القرآن: (كل يوم هو في شأن لا يشغله شأن عن شأن).   (1) ((مصحف الدروز عرف العهد والميثاق))، (ص 107 – 110). (2) انظر القلقشندي: ((صبح الأعشى))، (13/ 294). (3) وقد تعامي عن أن الله قادر على إنطاق الحجر والشجر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 353 وفي مصحف الدروز يدعي أن العباد كانوا يتوسلون ظهور الواحد الأحد، فيقول: (انظروا ثم انظروا، واسترجعوا الأيام السالفة، فكم من العباد كانوا يتوسلون منتظرين ظهور الواحد الأحد، والحاكم الصمد، والفرد بلا عدد، في الهياكل القدسية، على شأن وصفة يعلمها كل من ألقى السمع وهو شهيد. ها قد تفتحت أبواب العناية، وارتفعت غمة المكرمة، وظهرت شمس الغيب في أفق القدرة. والآن وبعد الآيات البينات، قمتم على تكذيب ما تنتظرون ورفض أحكم الحاكمين، وفوق كل ذلك، أنكم تبتعدون عن لقائه الذي هو عين لقاء الله، كما صرح به الكتاب: (وجاء ربك والملك صفا صفا).وإلا فقولوا لي أيها الضالون المعاندون: فهل جاء لكم رب غيره مع جنوده، أروني إن كنتم صادقين، أو لم تعاهدوه، وتضعوا أيديكم في يده، أو لم ينادكم، وأخذ عليكم ميثاقًا، وقال: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (وبذلك شهد الكتاب) (1). لذلك فإنه يعيب على الذين كفروا بالحاكم، ذلك لأن في قلوبهم مرض ويقول: (لقد كبر على الذين كفروا، أن يروا الله جهرة كأمثالهم، وضلت ألبابهم وظنوه كأجسامهم وهياكلهم. إن الذين في قلوبهم مرض، فزادهم الله مرضا، وأمدهم في طغيانهم يعمهون (2)، وأما الذين آمنوا، وسبقت، منه لهم، كلمة الحسنى، فإنه ظهر لهم ليمنحهم نعم الإِيمان، المكنونة في سدرة المعرفة المخزونة التي استظل بها أولو العزم من الرسل، حتى لا تحرم الهياكل الفانية من أثمار المشاهدة الباقية عساهم يفوزون ويؤتون الحكمة بتجلي ذي الجلال الحاكم) (3).ولهذا فإن لهم عذابًا شديدًا لكفرهم بدعوة الحاكم، ويقول مصحفهم: (لئن ينتعل أحدكم بنعلين من نار، يغلي بهما دماغه من حرارة نعليه، إنه لأهون، وأدنى عذابًا، من رافض دعوة مولاه الحاكم، بعد إذ تبين الرشد من الغي ... إلى أن يقول: ولو أن من في الأرض استغفر لهم لن يغفر الله مولاهم الحاكم الصمد، والفرد بلا عدد، والواحد الأحد، خطيئاتهم، ولو افتدى أحدهم بما في الأرض جميعًا فلا ينجيه) (4). والدروز ينفون عن الحاكم أنه ابن العزيز، أو أبو علي، أو له أب أو ولد، وهذا ما ينفيه حمزة في (رسالة البلاغ والنهاية في التوحيد) ويقول: لأن مولانا سبحانه (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (وما من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك إلا هو معهم) (5) سبحانه وتعالى عن إدراك العالمين والعاليين والملائكة المقربين والناس أجمعين علوا كبيرا.   (1) ((مصحف الدروز عرف الأمر والتقديم))، (ص 10 – 11). (2) يلاحظ هنا كيفية اقتباسه الآيتين الكريمتين في سورة البقرة: فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً *البقرة: 10 *، وقوله تعالىاللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * البقرة: 15*. (3) ((مصحف الدروز عرف التنبيه والهداية))، (ص 18). (4) ((مصحف الدروز عرف الإنذار والحساب))، (ص 19 – 25). (5) يشير إلى الآية الكريمة أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * المجادلة: 7 *. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 354 فالحذر الحذر، أن يقول واحد منهم بأن مولانا جل ذكره: ابن العزيز، أو أبو علي، لأن مولانا سبحانه هو في كل عصر وزمان يظهر في صورة بشرية وصفة مرئية كيف يشاء حيث يشاء ... إلى أن يقول: وهو سبحانه لا تغيره الدهور ولا الأعوام ولا الشهور، وإنما يتغير عليكم بما فيه صلاح شأنكم، وهو تغيير الاسم والصفة لا غير، وأفعاله جل ذكره تظهر من القوة إلى الفعل كما يشاء (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)، أي كل عصر في صورة لا يشغله شأن عن شأن. وأما من قال واعتقد بأن مولانا جل ذكره، سلم قدرته ونقل عظمته إلى الأمير علي، أو أشار إليه بالمعنوية فقد أشرك بمولانا سبحانه، غيره وسبقه بالقول ... فمن منكم يعتقد هذا القول فليرجع عنه ويستقيل منه ويستغفر المولى جل ذكره ويقدس اسمه من ذلك ... ولا يجوز لأحد يشرك في عبادته ابنًا ولا أبًا، ولا يشير إلى حجاب يحتجب مولانا جل ذكره فيه إلا بعد أن يظهر مولانا جل ذكره أمره، ويجعل فيمن يشاء حكمته، فحينئذ لا مرد لقضائه ولا عاصيًا لحكمه في أرضه. ويضيف قائلاً: والنور الشعشعاني التمام، ومعبود جميع الأنام، الصورة المرئية الظاهر لخلقه بالبشرية المعروف عند العالم بالحاكم. وما أدراك ما حقيقة الحاكم؟ ولم تسمى بالحاكم في هذه الصورة؟ دون سائر الصور؟ ومولانا جل ذكره غير غائب عن ناسوته، فعله فعل ذلك المحجوب عنا في نطقه ذلك النطق، لا يغيب اللاهوت عن الناسوت إلا أنكم لا تستطيعون النظر إليه، ولا لكم قدرة بإحاطة حقيقته. وأراد بالحاكم، أي يحكم على جميع النطقاء والأسس والأئمة والحجج ويستعبدهم تحت حكمه وسلطانه، وهي عبيد دولته ومماليك دعوته الحاكم بذاته ... وترك الاعتراض فيما يفعله مولانا جل ذكره، ولو طلب من أحدكم أن يقتل ولده لوجب عليه ذلك بلا إكراه قلب، لأن من فعل شيئًا وهو غير راض به لم يثب عليه، ومن رضي بأفعاله وسلم الأمر إليه، ولم يراء إمام زمانه، كان من الموحدين الذين لا خوف عليهم. واعلموا أن الشرك خفي المدخل، دقيق الستر والمسبل، وليس منكم أحد إلا وهو يشرك ولا يدري، ويكفر وهو يسري ويجحد وهو يزدري، وذلك قول القائل منكم: بأن مولانا سبحانه صاحب الزمان، أو إمام الزمان، أو ولي الله أو خليفته، أو ما شاكل ذلك من قولكم: الحاكم بأمر الله، أو سلام الله عليه، أو صلوات الله عليه) (1).وبالإِضافة إلى الرسالة – السابق ذكرها – (2) (كتاب ما يظهر قدام مولانا من الهزل) هناك رسالة أخرى لحمزة هي (رسالة السيرة المستقيمة) يعطينا فيها حمزة المزيد من تأويلاته لأفعال الحاكم الغريبة، ومما يقوله:   (1) ((رسالة البلاغ والنهاية في التوحيد)). (2) وردت في فصل (الحاكم بأمر الله حياتة وآراؤه). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 355 ومن رسوم مولانا جل ذكره الركوب في الهاجرة، والمسير في الرمضاء وفي الشتاء، إذا كان يوم جنوب صعب وغبار عظيم يتأذون الناس في بيوتهم من ذلك الريح والغبار. ثم يركب المولى سبحانه في ظاهر الأمر إلى حجر الجب، ويرجع وما في الموكب أحد إلا وقد دمعت عيناه من الغبار والريح، وكلت ألسنتهم عن النطق الفصيح، ونالهم من المشقة والتعب ما لم يقدر عليه أحد، ومولانا سبحانه على حالته التي خرج بها من الحرم المقدس، ولم يراه (1) أحد قط في وقت الهاجرة الهائلة والسموم القاتلة قد اسود له وجه في ظاهر الأمر، ولا لحقه شيء من تعب، ولا يقدر أحد منهم يقول بأنه لحقه شيء من ذلك. ومع هذا فقد ترك خلق كثير ممن هو معه في المواكب وكدهم بالنظر إليه لمثل هذه الأمور، فلم يروا منها شيئا، ولا يقدر أحد يقول من حضر مع مولانا سبحانه في ظاهر الأمر في مواضع لا يحصرها كل الناس، أنه شاهد (2) يفعل شيئًا مما ذكرناه من تعب أو أكل أو شرب حاشاه سبحانه من ذلك. وأيضًا ما يزعم المشركون به مما أوراهم (3) من علة جسم من حيث إعلال قلوبهم، وهو في ظاهر الأمر يركب في محفة يحملها أربعة من الأضداد المشركين وتشق به أوساط المارقين الناكثين والمنافقين، وما من العساكر إلا وقد قتل ساداتهم، والرعية كلهم أعداؤه في الدين، إلا شرذمة يسيرة موحدين له مؤمنين به راضين بقضائه، ومن رسوم الملوك أنهم لا يثقوا بأحد من عساكرهم، ولا من أولادهم خوفًا من غدرهم. فكيف يزعمون أنه مريض، وليس يقدر يمشي، وقد قتل جبابرة الأرض وملوكهم، ويمشي بينهم في محفة، وهو الذي ذكرته لكم في هذه السيرة وأصناف هذه الأفعال ليس هي فعل أحد من البشر، وما هو شيء يستعظم للمولى سبحانه) (4). إذن فكل هذا القتل، والسفك، وغير ذلك من أفعاله، لم تكن طبيعية، بل هي مقررة، تمت بخطة يستوعبها الناس على أن هذا ليس من فعل بشر، وإنما هو فعل إله: يقتل، ويحيي، ويرزق، ويمنع. أما لماذا تسمى الإِله المعبود بأسماء العباد؟ فهذا أيضا ما يوضحه حمزة في (رسالة السيرة المستقيمة) بقوله: (فإن قال قائل: فلم تسمى المولى سبحانه باسم العبد، وما الحكمة فيه؟ قلنا له بتوفيق مولانا جل ذكره وتأييده: أن جميع ما يسمون الباري جل ذكره في القرآن وغيره فهو لعبيده وحدوده، وأجل اسم عندهم في القرآن (الله)، وظاهره خطوط مخلوقة، وباطنه حدود مرئية مرزوقة وظاهره اسم وباطنه مسمى، والمعبود غيرهما وهو الاسم الحقيقي، وهو لاهوت مولانا سبحانه وتعالى عما يصفون. فلما كانت العبيد عاجزين عن النظر إلى توحيد باريهم إلا من حيث هم وفي صورهم البشرية، أوجبت الحكمة والعدل أن يتسمى بأسمائهم حتى يدركون بعض حقائقه) (5).   (1) كذا في الأصل. (2) كذا في الأصل. (3) كذا في الأصل. (4) ((رسالة السيرة المستقيمة)). (5) ((رسالة السيرة المستقيمة)). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 356 ولكي يبرهن دعاة الدروز على أن عبادتهم وتأليههم للحاكم هي العبادة الصحيحة، يحاولون أن يثبتوا أن عبادة جميع أهل النحل والأديان الأخرى، هي عبادة عدم، لأنها بلا معرفة ولا مشاهدة. يقول المقتني بهاء الدين في (الرسالة الموسومة بالشافية لنفوس الموحدين) ما يلي: وذلك أن جميع أهل النحل والأديان يعترفون بالمعبود وينكرون إذا دعوا إلى حقيقته – الوجود – كما قال: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا) (1)، أي يقرون أن لهم باريا، فإذا دعوا إلى معرفة توحيده أنكروا وجوده، وكلهم أعني من قدمت ذكره من جميع أهل النحل والأديان يوجبون على أنفسهم عبادة يرجون بها ثوابه ويفرون بها من عقابه، والعقل يقطع ويشهد ويوجب أن الثواب لا يصح ولا يثبت إلا من بعد معرفة المثيب إذ كان الخلق إلى معرفة المثيب هم أحوج منه إلى معرفة ثوابه، وأيضًا جميع أهل الشرع والمذاهب المتقدمة. وأيضًا فإن كان معدومًا فقد سقطت الحجة عن جميع الخلق وكان الكل معذورين في توقفهم عن طلب الحق، ويؤيد ما ذكرته ما تقدم به الخلق من أقوالهم، أن الله لا يحتجب عن خلقه لكن حجبته عنهم أعمالهم) (2). وفي هذا المعنى أيضًا يقول في (رسالة من دون قائم الزمان والهادي إلى طاعة الرحمن) ما يلي: (وجميع العالم على شك، والشك هو الكفر لأنهم يعبدون من لا يسمع ولا يُسمع، ولا يضر ولا ينفع، ولا يدرون هل عبادتهم مراده، أو أراد منهم شيئًا مما أجازته عقولهم. وأيضًا فقد تقدم القول بأن المولى جل ذكره عادل غير جائر، تعالى وجل عما يقوله الملحدون علوا كبيرا، فأي عدل يقتضي أن يكون فوق سبع سموات على كرسي فوق السماء السابعة كما يزعم المشركون (3)، وقد كلفنا مع هذا عبادته ومعرفته، فهل في وسع أحد أن يعرف ما خلف الجدار الذي هو أقرب إليه من كل قريب إن لم يكشف عنه وينظره بعينه، فنعوذ بالمولى أن ننسبه أنه احتجب بهذه الحجبة، ثم كلفنا مع ذلك عبادته ومعرفته، بل ظهر تعالى بهذه الصورة الناسوتية التي تشاكلنا من حيث المجانسة والمقابلة، فهذا نفس العدل.   (1) يشير إلى الآية الكريمة يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ * النحل: 81 *. (2) ((الرسالة الموسومة بالشافية لنفوس الموحدين)). (3) لقد حرصت منذ بداية البحث حتى الآن على ضبط النفس. والمناقشة الهادئة، على كثرة ما مر بي من مخالفة للعقل أو النقل. وأما هاهنا، فإن هذا الكلام لا أجد مجالا للسكوت عنه، وإلا فكيف يعتبر شركا من أثبت لله جل وتعالى ما أثبت هو لنفسه من العلو المطلق فوق سبع سماوات، والآيات في كتاب الله صريحة الدلالة، كما أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تثبت هذا في المواضع الكثيرة. وأي مخالفة للعقل في قول ذلك؟ إذا قلنا أن الله سبحانه وتعالى منزه عما نسبتم إلى عبد من مخلوقاته الحاكم أو غيره؟ وجعلتم ذلك شركا، فيا سبحان الله فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور* الحج:46* المؤلف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 357 ووجه آخر أن ابن آدم غرض الباري من جميع المخلوقات، فلما صح عند ذوي العلم والمعرفة والفهم، أن ابن آدم أفضل الأشياء كلها وجب أن يحتجب الباري جلت قدرته في أجل الأشياء، واحتجب بأشرف المخلوقات، واحتجب بأعلم الأشياء، فنعوذ بالمولى من سوء اعتقاد من يعتقد أنه في الأموات، وأيضًا فإن العالم كله ما اختلفوا في أن الباري قادر فأين قدرته لو غاب الدهر كله لا يظهر، أليس يكون عجز عن الظهور؟ وأيضًا فلو ظهر الدهر كله، ثم لم يغب لعجز عن الغيبة، ولو ظهر في كل الظهورات بصورة واحدة وعلى حالة واحدة لكان ذلك عجزًا) (1). بهذه الطريقة يحاول حمزة ودعاته أن يثبتوا أن ظهور اللاهوت بصورته الناسوتية (الحاكم)، كان رحمة للناس وعدلاً لهم منه، وفي زعمهم أن أهل الأديان الأخرى لا يعبدون إلا العدم الذي لا يسمع ولا ينفع ولا يضر، فكان ظهوره هذا رحمة للموحدين. أما لماذا تسمى الحاكم – (الإمام)؟ فيجيبنا حمزة على ذلك بقوله: (ولو كان في العالمين شيء أفضل من الإِمامة، لكان المولى جل ذكره في ظاهر الأمر تسمى به، فلما لم يظهر في الناسوت إلا باسم الإِمامة علمنا أنه أجل أسماء المولى جلت قدرته) (2).وعن نهي الحاكم تقبيل الأرض بين يديه، وتأويل ذلك، تجيب عنه (الموسومة برسالة النساء الكبيرة) إذ تقول: (ألم تسمعن ما تلي عليكم في السجل المكرم أيضا، بالنهي عن تقبيل الأرض بين يدي مولانا جل ذكره، ألم تعلمن أن الأرض هي الأساس، وأن التقبيل أخذ علمه، وقد نهاكن عن ذلك) (3). وفي شرح (ميثاق ولي الزمان) يشرح قول حمزة في الميثاق: (وأنه لا يعرف شيئًا غير طاعة مولانا جل ذكره) بقوله: المعرفة ها هنا بالفعل لا بالعلم، يعني أنه لا يدخل في عبادة الحاكم سبحانه ولا يعتقد سواه، كقوله: لم أعرف غيره ولم أتوجه إلا إليه، وكقوله: لم ينطلق في الدعوة الشركية ولا يعرف غير الدعوة اللاهوتية. والطاعة هي العبادة، لأن العبادة في هذا الموضع تأليه وتقديس، وفي غير هذا الموضع العبادة هي الاتباع والطاعة مطلقًا، ويجوز للعبد أن يقول عن نفسه: أنه يعبد الإِمام أي يتبعه ويطيعه، كقوله: (إن كنتم إياه تعبدونه) (4) أي تطيعون وتتبعون. وإنما أظهر لنا الناسوت رفقًا بنا وطمأنينية لقلوبنا، لأن ليس في طاقتنا مقابلة الأهوة. وقال: ولو انكشف لها معرفة مبدعها من غير تأنيس ولا تدريج لصعقت لقدرته وخرت، فلو تجلى جل جلاله للخلق من حيث هو لتلاشى كل شيء لعظم إشراق ضوء شعاع نور الأهوة. ويجب على من أقر بصورة الناسوت أن يعلم علما يقينا أن اللاهوت فيها غير منفصل عنها كقوله: إن الحجاب هو المحجوب، والمحجوب هو الحجاب ذلك هو، وهو ذلك لا فرق بينهما، وكقوله لا يغيب اللاهوت عن الناسوت، ومثل الناسوت في اللاهوت مثل الخط من المعنى، فالخط مثل الناسوت) (5). ولا يزال الدروز حتى الآن يؤمنون ويقولون بهذه الأقوال، من هؤلاء الدكتور سامي مكارم الذي يقول:   (1) ((رسالة من دون قائم الزمان والهادي إلى طاعة الرحمن)). (2) ((رسالة الصيحة الكائنة)). (3) الموسومة برسالة النساء الكبيرة. (4) يشير إلى الآية الكريمة وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * فصلت: 37 *. (5) ((شرح الميثاق)): كاتبه محمد حسين. مخطوط في جامعة شيكاغو (رقم 3737): ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية (رقم 29). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 358 (ويمكننا أن نقول: إن الناسوت من اللاهوت كالخط من المعنى، وكما أن فكر الإِنسان المحدود بالكيفية والإِضافة والزمان وما شابه ذلك لا يستطيع أن يدرك المعاني مجردة من الخط أو الصورة أو الصوت، كذلك لا يمكن أن يدرك اللاهوت بوجه من الوجوه، وإنما يتجلى الله في الناسوت، ويكون هذا الناسوت قد تنزه عن كل ما ليس هو في حقيقته وشموله، فأضحى تشخيصًا للإِنسان الكامل، أي ناسوتًا مجردًا متطهرًا مثاليًا متنزلاً بتجرد الباقي السرمدي فيه عن التوهم والفناء. وهذا هو التأنيس بالنسبة للآخرين بغية التعرف من خلاله إلى حقيقة الموجود في سعي بعضهم، وتقربهم، وطلبتهم للمشاهدة والتوحيد الآخر) (1). والدروز يعتقدون أن الإِله المعبود اتخذ له في الأدوار الماضية صورًا ناسوتية أخرى، ويعتقدون أيضًا أن هذه الأدوار كانت سبعة أدوار وأن الإِله المعبود قد أظهر ناسوته في هذه الأدوار عشر مرات أو (مقامات)، وفي (رسالة السيرة المستقيمة) حديث طويل عن هذه الأدوار، يقول حمزة في هذه الرسالة: وهو القسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم، هو الحاكم جل ذكره نطق بأن مولانا جل ذكره هو القائم على كل نفس بما كسب، وهو المعز، وهو العزيز، وهو الحاكم جل ذكره، يظهر لنا في أي صورة شاء كيف يشاء (إن الدين عند الله الإِسلام)، أي سلموا أمورهم إلى المولى سبحانه ورضوا بقضائه، فهم المسلمون له حقا، والمؤمنون به، والموحدون له تأليهًا وسدقًا. وتسمى مولانا جل ذكره بالقائم لأن أول ما ظهر للعالم بالملك والبشرية في أيام النطقاء الناموسية والشركية، فقام على العالمين بالقوة والقدرة) (2).فتغيير صور ناسوته إنما كان لصلاح شأن الناس، لأن ناسوته لا يفارق لاهوته طرفة عين، لذلك ظهر في مقام القائم باسمه ووصفه، وظهر في مقام المنصور جلت قدرته، وهو في مقام المعز جلت عظمته، وفي مقام العزيز أيضًا جل جلاله (العزيز والمعز هما أب وجد الحاكم بأمر الله)، وكل هؤلاء واحد لا يشغله شأن عن شأن، يعني لا يشغله ظهوره في صورة عن ظهوره في صورة أخرى) (3). والمقامات الناسوتية التي ظهر فيها المعبود هي كما يعتقد بها الدروز: العلي. البار. أبو زكريا: ظهر في وقت السماء الثالثة سنة 220 هـ. عليا: ظهر في وقت السماء الرابعة. المُعل: ظهر في وقت السماء الخامسة. القائم: كان طفلاً استودعه مع سر إمامته أبوه المعل برعاية سعيد المهدي الملقب بـ (عبيد الله) سنة 280 هـ، وكان سعيد في العشرين من عمره، هرب بالقائم من وجه العباسيين إلى مصر سنة 289 هـ، ثم إلى شمال أفريقية سنة 308 هـ، وهو مؤسس الدولة الفاطمية. تلاه المنصور الذي حكم من سنة 334 إلى سنة 341 هـ، ثم المعز من سنة 341 إلى سنة 365 هـ، وهما مع القائم يعتبرون في المذهب الدرزي ذاتًا واحدة. العزيز: من سنة 365 إلى سنة 386 هـ، وأخيرًا الحاكم بأمر الله) (4). والاعتقاد بهذه المقامات العشرة، واجب مؤكد على الدرزي، ففي رسالة درزية مخطوطة، مجهولة المؤلف وعنوانها (ذكر ما يجب أن يعرفه الموحد ويعتقد به ويحفظه ويسلك بموجبه، وهو قول موجز عن كتاب الفرائض) يقول فيها مؤلفها: ويجب معرفته تعالى في المقامات العشرة الربانية وهم: العلي، والبار، وأبو زكريا، وعليا، والمعل، والقائم، والمنصور، والمعز، والعزيز، والحاكم، وكلهم إله واحد لا إله إلا هو.   (1) د. سامي مكارم ((أضواء على مسلك التوحيد))، (ص 128). (2) ((رسالة السيرة المستقمية)). (3) مخطوط في تقسم جبل لبنان. مؤلف مجهول، مخطوط في الجامعة الأمريكية (رقم 31)، ويوجد عنه شريط في الجامعة الأردنية (رقم 699). (4) عبد الله النجار: ((مذهب الدروز والتوحيد))، (ص 95 – 96). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 359 فالعلي الأعلى كل زمان تجريد ولا إمامة فيه، ولم يكن قبله شيء وظهر في أول الدنيا، ثم البار تجريد عن الإِمامة وظهوره في أواخر أدوار الدنيا، وبين العلي والبار تسع وستون كشفة، وبين كل كشف وكشف سبع شرائع، وبين كل شريعة وشريعة سبعة أئمة، ومدة كل إمام مائة ألف سنة، فتكون الأدوار والشرائع من العلي إلى البار ثلثمائة ألف سنة. ثم بعد غيبة مقام البار سبحانه وتعالى، ظهر آدم الجزي الذي هو أحنوخ بشريعة توحيدية يدعو إلى توحيد البار سبحانه، وظهر بعده سبعة أئمة من حروف الصدق وحدوا حدوده، ثم ظهرت بعدهم الشرائع الناموسية بالنطقاء التكليفية الذين هم: نوح، وإبراهيم، وموسى، ومحمد، وسعيد المهدي، وكلهم نفس واحدة، وبين كل ناطق وناطق سبعة أئمة، ودخل أهل الحق في هذه الشرائع المذكورة (1).وأما ظهور أبي زكريا وعليا (2) والمعل، كان بإمامة مستورة في دور محمد بن إسماعيل، ثم بعد سعيد المهدي ظهر البار سبحانه في مقام القائم والمنصور والمعز والعزيز، وذلك في الخلافة الظاهرة والإِمامة الباطنة. وأما مقام الحاكم فظهر بالثلاث منازل المذكورة، ثم تجرد بالوحدانية وكشف توحيده مدة من السنين، ثم أعطى الخلافة والإِمامة لعلي الظاهر (3)، الذي هو الدجال، وأعطى الإِمامة الحقيقية إلى صاحبها الذي هو القائم المنتظر حمزة بن علي صلى الله عليه) (4). ومما يذكر أن حمزة أيضًا وجميع الحدود الآخرين كانوا يظهرون في هذه الأدوار بأسماء وصور مختلفة. وفي (رسالة السؤال والجواب) هذا الحوار أيضًا عن المقامات الناسوتية التي ظهر بها اللاهوت: س: وكم مرة ظهر مولانا الحاكم بالصورة الجسمانية؟ ج: ظهر عشر مرار، وتسمى بالمقامات وهم: العلي، البار، عليا، المعل، القائم، المعز، العزيز، أبو زكريا، المنصور الحاكم. س: فأول المقامات الذي هو العلي، أين ظهر؟ ج: ظهر في الهند في مدينة يقال لها حين ما حين. س: والبار أين ظهر؟ ج: بالعجم في مدينة يقال لها أصبهان (5) ولأجل هذا تقول الفرس بارخدا، وعليا ظهر في اليمن، والمعل ظهر بالمغرب، في صورة رجل مكاري على ألف جمل، والقائم ظهر بالمغرب في مدينة يقال لها المهدية (6)، ومنها جاء إلى مصر، وأبو زكريا والمنصور ظهرا في المنصورة (7)، والمنصور كان اسمه إسماعيل. س: وكيف نقول في باقي الملل، الذين يقولون أننا نعبد الرب الذي خلق السماء والأرض؟ ج: ولو قالوا ذلك لا يصح معهم، لأن العبادة لا تصح بلا معرفة، ولو قالوا عبدنا ولم يعرفوا أن الرب هو الحاكم بذاته فتكون عبادتهم كاذبة) (8).   (1) يقصد بأهل الحق. الدروز. (2) كذا بالأصل. (3) يقصد خليفة الحاكم وابنه علي. (4) مخطوط ذكر ما يجب أن يعرفه الموحد، مخطوط في مكتبة القديس بولس في الجامعة الأمريكية ببيروت (رقم 206) ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية (رقم 715). (5) مدينة عظيمة مشهورة في بلاد فارس. (6) مدينة اختطها المهدي عبد الله، وهي في أفريقية قرب القيروان. (7) وهي في موضعين، الأول في أرض السند، والثانية أيضا قرب القيروان في أفريقية استحدثها المنصور بن القائم بن المهدي بالمغرب سنة 337 هـ. (8) ((رسالة السؤال والجواب)): مخطوط في مكتبة القديس بولس في الجامعة الأمريكية ببيروت (رقم 206)، وعنه شريط في الجامعة الأردنية (رقم 715). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 360 ويقول الدكتور محمد كامل حسين: (وليس لنا أن نناقش هذه العقيدة، إلا أننا نحب أن نسجل أن ظهور أبي زكريا القرمطي كان أسبق من ظهور القائم بأمر الله. ثم قولهم في (رسالة السيرة المستقيمة): أن القائم كان بمصر وبنى بها بابا يسمى الرشيدية، كل ذلك بعيد عن الحقيقة التاريخية، حقيقة حاول القائم بأمر الله فتح مصر أكثر من مرة ولكن لم يوفق، فكيف أقام بها وشيد بها بابًا؟) (1). والحقيقة أن الدارس لرسائل الدروز وخاصة رسائل حمزة يجد المغالطات التاريخية التي لا تخفى على أحد، وخصوصًا عندما يتحدث حمزة عن ظهوراته أيضًا في المقامات المختلفة من زمن آدم عليه السلام إلى زمن محمد صلى الله عليه وسلم. وكل هذا يدل دلالة واضحة على الشعوذات والمغالطات التاريخية التي أتبعها حمزة في إثبات معتقداته. غير أن هناك نقطة مهمة في هذا الموضوع أحب أن أوضحها، وهي أن المقام الأخير من ظهور اللاهوت بالناسوت – أعني ظهور الحاكم – كان الظهور الأخير من ظهور المعبود. لأن المعبود غضب – بعد ذلك – على كل خلقه ماعدا الموحدين؟! ولذلك أغلق باب دعوته فغاب إلى داخل السور المسمى (سد الصين) ليبقى إلى أن يشاء ثم يظهر يوم الدين. وهذا ما يقوله حمزة في (رسالة الأسرار ومجالس الرحمة والأولياء)، أما متى سيكون يوم الدين فهذا ما تحدث عنه حمزة مرارا بأنه سيكون قريبًا، وبذلك يكون انتهاء هذا الدور، كما صرح حمزة: أن الأدوار السابقة سبعون دورًا ومن كل دور واحد سبعون أسبوعًا وكل أسبوع سبعون سنة، وكل سنة ألف سنة من السنين التي يعدها البشر (2)، وفي كل هذه الأدوار ظهر المعبود في نفس الصور التي ظهر في هذا الدور الذي نعيش فيه، وبذلك يكون عدد ظهور المعبود في كل الأدوار حوالي سبعمائة مرة) (3). والغريب أن كمال جنبلاط يحدد ظهور التجلي الإِلهي الجديد في حدود سنة (2000 م)، حيث يتنبأ بظهور التجلي الإِلهي والحكيم من جديد، وعندها يفتح الطريق من جديد ويصير بإمكان جميع الناس في كافة أصقاع العالم سلوكها (4). ويقول المقتني بهاء الدين عن يوم الدين حسب وجهة نظره: وأنتم تعلمون معاشر الإِخوان، وفقكم المولى لطاعته وسددكم عرضاته، أن قد صح عندكم أن الدنيا قد أفناها مولانا الحاكم سبحانه، وأنكم في أوائل الآخرة ودليلكم على ذلك واضح، وذلك أن مولانا سبحانه أظهر لكم إمام توحيده فنادى بكم وأرشدكم ... واعلموا معاشر الإِخوان، أن لو كان المعبود سبحانه ينتقل بعد هذا الظهور في الأقمصة المختلفة لكان هذا أمر لا نفاذ له، وأمد لا آخر له، وكانت تنفذ الديانة الآن، ويكون هذا يدل على أن من عمل عملاً لم يجازى عليه من ضد وولي) (5). ونختتم هذا المبحث عن ألوهية الحاكم، بـ (شعر النفس) الذي نظمه أحد حدودهم: إسماعيل بن محمد التميمي صهر حمزة، وهو موجود بين رسائلهم، يمجد فيه الحاكم الإله المعبود، يقول التميمي في هذا الشعر: إلى غاية الغايات قصدي وبغيتي ... إلى الحاكم العالي على كل حاكم إلى الحاكم المنصور عوجوا وأتمموا ... فليس فتى التوحيد فيه ينادم هو الحاكم الفرد الذي جل اسمه ... وليس له شبه يقاس بحاكم حكيم عليم قادر مالك الورى ... يؤانس بالاسم المشاع بحاكم هو الحاكم المولى بناسوته يُرى ... ولاهوته يأتي بكل العظائم   (1) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص 107). (2) بعملية حسابية بسيطة تكون عدد السنين هذه (343) مليونا، وهذا ما يرجعنا إلى ما قاله كمال جنبلاط أن الموحدين ظهوروا منذ (343) مليونا من السنين، ويبدو أنه اعتمد على ما قالته هذه الرسالة وجعلها حجة؟! انظر (ص 99). (3) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص 109). (4) كمال جنبلاط ((هذه وصيتي)) (ص 50). (5) ((رسالة بني أبي حمار)). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 361 تسمى إمامًا والإِمام عبده ... يتقظى ولا يصغى إلى كل نائم وقد ظهر المولى فآنس عبيده ... بأفعالهم أنسا بحكم حاكم ظهورا بأفعال العبيد وشكلهم ... ويؤنسهم والخلق شبه بهائم (1). إن النصوص السابقة وأخرى كثيرة مثلها، تدل صراحة على تأليه الحاكم من قبل الدروز: وأمام هذه النصوص الواضحة والجلية، أتساءل: لماذا يحاول الدروز للآن أن ينفوا ظاهرًا هذا عن معتقدهم؟ مع أنهم يؤكدونها في مجالسهم الخاصة. يقول الأستاذ عبد الله النجار (وهو درزي): (وإني لأذكر عتاب كبير الأشياخ الثقات، لأني ذكرت في أحد الكتب المطبوعة: أن أم الحاكم كانت صقلبية، إذ قال لي: أن الحاكم لا أم له مرددا ما جاء في الرسالة 26: حاشا مولانا جل ذكره من الابن والعم والخال، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:3 - 4] (2) ولقد حاولت جهدي أن لا أعلق كثيرًا على ما تضمنته هذه الرسائل، لأن ما تحويه لا تجعل مجالاً لأي تعليق؟ وما تضمنته يغني عن أية زيادة؟! المصدر: عقيدة الدروز عرض ونقض لمحمد أحمد الخطيب – ص 121   (1) شعر النفس: إسماعيل التميمي. (2) عبد الله النجار: ((مذهب الدروز والتوحيد)): (ص 105 - 106)، وهنا يشير إلى الآيتين الكريمتين في *الإخلاص: 3 – 4*. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 362 المطلب الثاني: التناسخ والتقمص والحلول يستدل من النصوص الواردة في رسائل الدروز، بأن الدروز يعتقدون بالتناسخ والتقمص، أي بانتقال النفس من جسم بشري إلى جسم بشري آخر، باعتبار أن النفس لديهم لا تموت، بل يموت قميصها (الجسم)، ويصيبه البلى، فتنتقل النفس إلى قميص آخر. وهذا خلاف التناسخ الذي تعتقده فرق أخرى – كالنصيرية -، والذين لا ينحصر عندهم التناسخ بين الناس، بل يكون أحيانًا بينهم وبين البهائم – أي بمعنى المسخ -) (1).وعقيدة الدروز تنكر المسخ في التناسخ إنكارًا صريحًا، وتنفيه نفيًا قاطعًا، حتى إنها استبدلت لفظة التناسخ بـ (التقمص)، لأن في انتقال النفس إلى جسم حيوان ظلم له، ولأن العقاب والثواب بني – حسب ما يزعمون – على قاعدة العدل الإِلهي في محاسبة الأرواح بعد مرورها في الدهر الطويل، لا في مدى حياة واحدة، بخيرها وشرها، وقصرها أو طولها، بحيث يمنحها الدهر الطويل فرص الاكتساب والتطور، والامتحان والتبدل، لكي تحاسب حسابًا عادلاً على مجموع ما كتب، فلا تكون الأرواح كيانات مبهمة غير واعية) (2). ولكن الدروز يعتقدون بالمسخ المعنوي أو المجازي، يقول الأستاذ عبد الله النجار: (المسخ في اللغة تحويل الصورة إلى أقبح منها، فيقال مسخه الله قردًا، وهذا دينيا، ورد ذكره، مجازي معنوي، المقصود منه التحقير، والذم، والتوبيخ، وهو تعبير مجازي وليس حسيا على الإِطلاق. وإنما تكون الحكمة في عذاب رجل يفهم ويعرف العذاب، ليكون مأدبة له وسببا لتوبته ... وإنما يكون العذاب الواقع في الإِنسان، نقلته من درجة عالية إلى درجة دونها في الدين، وفي قلة معيشته وعمى قلبه في دينه ودنياه) (3).ومن اعتقادهم في هذا الموضوع: (أن العالم قد خلق دفعة واحدة، وأن البشر خلقوا سوية وليسوا بمتناسلين من أب واحد، بل من حين الخليقة وجد الحايك في نوله، والبناء على الحائط، وأن عدد أنفس البشر لا يزيد ولا ينقص) (4). وفي هذا المعنى جاء في رسالة (من دون قائم الزمان) ما يلي: (أليس قد صح عند كل ذي عقل ومعرفة بالحقيقة والفضل، أن هذه الأشخاص أعني عالم السواد الأعظم لم يتناقصوا ولم يتزايدوا، بل هي أشخاص معدودة من أول الأدوار إلى انقضاء العالم والرجوع إلى دار القرار. والدليل على ذلك أن هذه الخلقة أعني العالم العلوي والسفلي ليس لها وقت محدد، ولا أمد عند العالم معدود، أليس لو زاد العالم في كل ألف سنة شخصًا واحدًا لضاقت بهم الأرض. ثم إنه لو نقص في كل ألف سنة شخص واحد لم يبق منهم أحد، فصح عند كل ذي عقل راجح، ومن هو بالحقيقة لنفسه ناصح، أن الأشخاص لم تتناقص ولم تتزايد، بل تظهر بظهورات مختلفات الصور على مقدار اكتسابها من خير وشر) (5). وكذلك نجد في (رسالة ذكر الرد على أهل التأويل الذين يوجبون تكرار الإِله في الأقمصة المختلفة) ما يلي: عرفوني يا شيوخ التجريد هذه القوى التي تفارق الأجسام أين مستقرها؟ وأين يكون ثباتها؟ فإن قلتم: فيما بين الأرض والسماء، فهي لكثرة النشوء تسد ما بين العالمين، وتخالط الهوى وتأتي عليها الطبائع ويدخل عليها من التضاد والفساد ما يدخل على غيرها، وإن أوجبتم أن ثباتها فوق السماء فهي تملأ الأفق) (6).   (1) مخطوط في تقسم جبل لبنان: مخطوط في الجامعة الأمريكية ببيروت (رقم 31)، ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية (رقم 699). (2) عبدالله النجار: ((مذهب الدروز والتوحيد)) (ص 62). (3) عبدالله النجار: ((مذهب الدروز والتوحيد)) (ص 61 – 62). (4) كريم ثابت: ((الدروز والثورة السورية))، (ص 34). (5) ((رسالة من دون قائم الزمان والهادي إلى طاعة الرحمن)). (6) ((رسالة ذكر الرد على أهل التأويل الذين يوجبون تكرار الإله في الأقمصة المختلفة)). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 363 والملاحظ في رسائل حمزة أن العذاب الواقع بالإِنسان يكون بنقلته من درجة عالية إلى درجة دونها من درجات الدين، ويستمر تنقله من جسد إلى جسد بتناسخ روحه وتقمصها في الأجساد، وهو كلما تنتقل روحه من جسد إلى جسد تقل منزلته الدينية. أما الجزاء في الثواب مادام يتكرر في الأجساد فهو زيادة درجته في العلوم الدينية وارتفاعه من درجة إلى درجة) (1). وهكذا تمر النفس في دورانها بحالات مختلفة وتظل كذلك حتى تتطهر – إن كانت صالحة -، وبعد هذا التطهير يكون الزمن الذي يعقب قيام القيامة التي يترقبها الدروز، أما النفس الشريرة فتظل معذبة بجميع أنواع العذابات المعروفة. والعذاب الأكبر هو عذاب الضمير، وعذاب الندم على ما فات، لأنها لم تنتفع من أدوارها الماضية) (2).وهم يعتقدون أنه: (كلما مات إنسان انتقلت روحه لمولود جديد، ويسمى ذلك عندهم الفرقة والخلقة، ويشبهون النفس بالسائلات التي تحتاج إلى إناء يضبطها فإذا كسر فلابد من تلقي السائل في إناء غيره لئلا يهرف ويضيع) (3). وبناء على ذلك فإذا مات أحد من مذهبهم فإنه يولد ثانية على نفس هذا المذهب، ولهذا فلا يقبلون أحدا في مذهبهم حتى ولو اطلع الإِنسان على كتبهم وعرف ديانتهم واعتقد صحتها وسلك بموجبها فلا فائدة من ذلك، بل حين موته ترجع روحه إلى مذهبه القديم. وكذلك إذا انتقل أحد من مذهبهم إلى غيره، فإنهم لا يعترفون بذلك، لأن روحه في النقلة الأخرى ستعود إلى مذهبه القديم (4). يقول الدكتور سامي مكارم عن هذه النقطة: (ففي عقيدتهم أن الذين نقلوا الدعوة وتعرضوا إلى الحقيقة في الماضي لا يزالون يولدون من تقبل الدعوة. كذلك فإن التقمص في معتقد التوحيد ليس تطورًا للروح في هذا الدور، بل هو تقلب الروح في شتى الأحوال، لكي يتسنى لها أن تختبر هذه الأحوال. فمن لم يتقبل نداء الحق، حسب معتقد التوحيد، لا يمكنه إلا أن يحصد نتيجة أعماله في حيواته التالية، وكذلك هي الحال بالنسبة لمن تقبل هذا النداء وتعرف إلى الحقيقة. والتقمص يتضمن – عند الدروز أيضًا – تمييزًا جنسيًا، فالذكر يولد ذكرًا، والأنثى أنثى) (5). ونتيجة لهذه النظرية عندهم؛ فإنهم يقولون: (عن ذوي العاهات والمصابين كالأعمى والأعرج والفقير والجاهل، أن مصابهم هو قصاص عن ذنوبهم في مدة حياتهم السابقة، ويحتجون بذلك على النصارى فيما ورد بالإِنجيل حينما سأل الرسل السيد المسيح: عن ذلك الأعمى هل هو أخطأ أم أبواه؟ حتى ولد أعمى، ويقولون: إنه إذا كان قد أصيب بالعمى وقت ميلاده لخطيئته ظهرت منه. ويعتقدون أيضًا: أن إيليا النبي هو يوحنا المعمدان، وأن المسيح أي حمزة أخبر عنه في إنجيل متى: بأن يوحنا هو إيليا، ويجعلون هذا برهانا على التقمص، وهكذا يجعلون الغني والعالم والجاهل، إنما استحقوا ذلك مكافأة لهم) (6).   (1) مصطفى غالب. ((الحركات الباطنية في الإسلام))، (ص 263). (2) سعيد الصغير: ((بنو معروف الدروز))، (ص 239). (3) كريم ثابت: ((الدروز والثورة السورية))، (ص 34). (4) كريم ثابت: ((الدروز والثورة السورية))، (ص 47). (5) د. سامي مكارم: ((أضواء على مسلك التوحيد))، (121 – 122). (6) كريم ثابت: ((الدروز والثورة السورية))، (ص 48). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 364 ويستدل الدروز بآيات من القرآن الكريم ليثبتوا فيها اعتقادهم بالتناسخ، مؤولين معناها ليتفق مع ما يزعمون، ومن ذلك ما استدل به الأستاذ فؤاد الأطرش من آيات القرآن الكريم، زاعمًا أنها تدل على التناسخ: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا [النساء:56] (كيف تكفرون بنعمة الله، وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) (1). (لا ينفع نفسًا إيمانها إن لم تكن آمنت من قبل وكسبت في إيمانها خيرًا) (2). مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه: 55] يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [الروم: 19]. ويزعم الأستاذ الأطرش أيضًا: (أن تشبيه النفس بالأرض إثبات مادي على التقمص لا يقبل الجدل، فلنتأمل في أدوار الأرض ومواسمها وموتها ثم حياتها. والإِنسان يرفض هذه الفكرة لأنها تناقض مبدأ الذاتية وتحطم أحلامه، ويضع الإِنسان أمام الواقع الروحي موضع المنافح في سبيل خلاصه من أسر مادية التفكير والحياة) (3).وبسبب اعتقادهم بالتقمص، يعتقدون أيضًا بالنطق، (والنطق هو: أن الروح حين تنتقل من جسد إلى جسد تحمل معلومات عن دورها في الجيل السابق – يعني في الجسم الذي كانت تتقمصه قبل قميصها الحالي، وفي هذه الحالة تتحدث أو تنطق بما تذكره من وقائع عن حياتها السابقة) (4).ولكن هناك من الدروز مثل الأستاذ عبد الله النجار، من ينفي نظرية (النطق) هذه من أساسها، ويعتبرها خرافات ومن سذج العامة ويستشهد على ذلك بنصوص من رسائلهم، ومما ذكره نقلاً عن الرسالة 67: (فإن قال قائل: ما لنا لا نعرف ما مضى من الأدوار؟ قال له المحتج بالحقيقة: إنك لو ذكرت، وعرفت، لشاركت المبدع في غيب حكمته، ولكان ذلك عجزًا من الباري، ولكان يفسد النظام) (5). غير أن الدكتور سامي مكارم يقول في معرض ردِّه على الأستاذ النجار: (ويمكننا القول أن منطق عملية التقمص لا يتعارض مع تذكر الماضي، خاصة عندما ندرك أن نزعات الفكر اللطيفة، حسب عقيدة التوحيد، تنطوي عند الموت، في أعماق النفس المتنقلة من جسد إلى جسد. وهذه النزعات والأفكار اللطيفة، كبذور انطلاقة الحياة التالية، هي التي تحدد وضع التقمص المقبل، فلابد لبعض الأذهان إذا صادفت بعض الحالات المناسبة، أن تتذكر الماضي المباشر الذي كانت تعيش فيه) (6). ولابد لنا – بعد ذلك – إلا أن نرجح الرأي الذي يقول باعتقاد الدروز بـ (النطق)، ذلك لأن كتاب أضواء على مسلك التوحيد، كان في الحقيقة ردًا من مشيخة العقل عندهم على الأستاذ عبد الله النجار. أما الحلول: فهو نوع من التقمص، لكنه يختلف عنه في أن النفس المنتقلة من جسم إلى آخر، تنتقل معها أحيانًا جميع صفاتها، أو بعض صفاتها البارزة. ومن ذلك نشأ الاعتقاد أن نفوس الأنبياء والمرسلين تنتقل من دور إلى دور، مستكملة أروع صفاتها، فحمزة بن علي في دور الحاكم هو نفس سلمان الفارسي في دور النبي صلى الله عليه وسلم) (7).وقد استنتج الدكتور محمد كامل حسين من نظرية التناسخ هذه: (أن لهذه العقيدة علاقة بمذهب التناسخ في الديانة البوذية، والديانة الهندوكية، ففي الديانة البوذية ظهر بوذا على هيئة حيوانات وطيور وشجر وصور أنسية حوالي ألف مرة (8).وفي الديانة الهندوكية ظهر شيفا على صور أنسية عديدة، كذلك ظهر مذهب التناسخ عند فلاسفة اليونان وقدمائهم، ففي ديانة قدماء اليونان تظهر آلهتهم في صور مختلفة، وعند فلاسفة اليونان التناسخ عندهم عدة أقسام: نسخ ومسخ وفسخ ورسخ) (9). وهكذا نستطيع أن نربط هذا الاعتقاد، بهذه الاعتقادات التي كانت سائدة في فارس والهند واليونان المصدر: عقيدة الدروز عرض ونقض لمحمد أحمد الخطيب – ص 142   (1) وقد وردت الآية هكذا، ويلاحظ أن (كلمة نعمة) غير موجودة في الآية، والصحيح (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ * البقرة: 28*. (2) وقد زاد في الآية أيضا كلمة (إن) والصحيح لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ * الأنعام 158*. (3) فؤاد الأطرش: ((الدروز مؤامرات وتاريخ وحقائق))، (ص 187 – 188). (4) د. مصطفى الشكعة: ((إسلام بلا مذاهب))، (ص 280). (5) عبد الله النجار: ((مذهب الدروز والتوحيد))، (ص 69 – 71). (6) د. سامي مكارم: ((أضواء على مسلك التوحيد))، (ص 127). (7) أمين طايع: ((أصل الموحدين الدروز)): (ص 100 – 101). (8) راجع كتاب ((البوذية وتأثيرها في الفكر والفرق الإسلامية المتطرفة)) – محمد علي الزغبي – وعلي زيعور، (ص 147 – 149). (9) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص 109). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 365 المطلب الثالث: الحدود الخمسة في العقيدة الإِسماعيلية مبدأ أساسي في التوحيد والإِيمان، (هو أن توحيد الله لا يكمل إلا بمعرفة مراتب الحدود الروحانية، والحدود الجسمانية، والإِيمان بهم وطاعتهم طاعة تامة، وهذه الحدود هي: (العقل، والنفس، والجد، والفتح، والخيال). وهذه الحدود العلوية ممثولات لحدود الدين الجسمانية الذين هم النطقاء، والأوصياء والأئمة والحجج والدعاة) (1). وذهب الفاطميون كذلك إلى أن الله تعالى أبدع العقل الكلي وبوساطته وجدت النفس الكلية، وبوساطتها وجدت المخلوقات كلها. فالعقل الكلي عند الإِسماعيلية هو الخالق الحقيقي، ومن هنا قالوا أن أسماء الله الحسنى الواردة في القرآن الكريم هي أسماء للعقل الكلي، واعتبروا أن الإِمام الفاطمي ممثل للعقل الكلي، وأن جميع مناقب العقل الكلي وصفاته تطلق أيضًا على الإِمام) (2). وجاء دعاة الدروز وأخذوا آراء الفاطميين في الحدود، وحوروها حتى تتفق مع مبادئهم وآرائهم، فخالفوا بذلك آراء الفاطميين مخالفة جوهرية. من ذلك: (أن الحدود الروحانية هم نفسهم الحدود الجسمانية، فلا يوجد عندهم مثل وممثول، أي أن الحدود الجسمانية هم أنفسهم الحدود العلوية، فذهبوا إلى أن المعبود أبدع من نوره العقل الكلي، وهو الإِرادة، وهو علة العلل، وهو القلم، وهو القضاء، وهو ألف الابتداء وألف الانتهاء، وهو قائم الزمان حمزة بن علي) (3). ويناقش حمزة رأي الفاطميين في حدود الدين في (رسالة كشف الحقائق) فيقول: (اعلموا معاشر الموحدين رحمكم البار العزيز الجبار، بأن جميع المؤمنين والشيوخ المتقدمين تحيروا في أمر السابق وضده التالي ونده، فبعضهم قالوا: بأن السابق هو الغاية والنهاية، والعبادة له وحده دون غيره في كل عصر وزمان، وهذا نفس الكفر. وقالت طائفة منهم: إن السابق نور الباري، لكنه نور لا تدركه الأوهام والخواطر، وهذا نفس الشرك بأن يكون الباري سبحانه لا يدرك، وعبده لا يدرك، فأين الفرق بين العبد والمعبود، وهذا محال ونفس الشرك والضلال) (4). وهكذا أظهر حمزة الحدود في صور تختلف عما عهده أصحاب العقيدة الفاطمية، فحمزة بن علي هو نفسه العقل الكلي، وهو الإِرادة، وهو علة العلل، وهو القلم، وهو القضاء إلى غير ذلك من الألقاب التي منحها لنفسه، وهذا العقل الكلي ليس هو السابق، إنما السابق مرتبته أقل بكثير من مرتبة العقل الكلي، فإنه في المرتبة الرابعة من مراتب الحدود عند حمزة. كذلك عن التالي، وهو النفس الكلية عند الفاطميين، فقد جعل حمزة مرتبة التالي في المرتبة الخامسة، وجعل الفاطميون – الكلمة – مكونة من السابق والتالي، بينما جعل حمزة – الكلمة – هي المرتبة الثالثة من مراتب الحدود) (5). (وجميع هؤلاء الحدود مشخصون ليس في زمن الحاكم وحسب، بل في جميع العصور) (6). فقد زاروا العالم بظروف وأدوار مختلفة. إذ هم ليسوا مولودين بل موجودين، لا يمسهم الموت، إذ هم الروح الحقيقي الذي لا يخلوا منه عصر، وهم رسل الحاكم في كل دور وإن أخذوا أسماء مختلفة وأقمصة متعددة.   (1) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص 110). (2) أحمد الفوزان: ((أضواء على العقيدة الدرزية))، (ص 35). (3) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص 110). (4) رسالة ((كشف الحقائق)). (5) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص 112). (6) عبد الله النجار: ((مذاهب الدروز والتوحيد))، (ص 138). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 366 ويوضح إسماعيل التميمي في (الرسالة الموسومة بالشمعة) مراتب الحدود وأسمائهم فيقول: الحمد لمن أبان توحيده بإقامة حدوده، وكشف عن مجيده بمراتب آياته، وضرب بذلك الأمثال ليعبدوه ذوي الألباب (1)، فقال: (وما يتذكر أولوا الألباب) (2). والشمعة أقيمت كاملة بجميع آلاتها على التوحيد المحض، فشمعة: خمسة أحرف دليل على الخمس جواهر المكنونة وهم: الإِرادة، والمشيئة، والكلمة، والسابق، والتالي، فهؤلاء شمعة التوحيد. وعلى بعض الوجوه، إن الشمع لا يقد إلا بالقطن، والقطن لا تقد إلا بالشمع، ولم يقع عليها اسم شمعة كاملة يستضاء بنورها إلا بتعلق النار فيها، والنار الذي يتعلق فيها فهو لطيف وكثيف، فاللطيف فيه لسان العالي الأحمر الذي تعتريه زرقة يختفي مرة ويظهر مرة، فذلك دليل على قائم الزمان حمزة بن علي بن أحمد، والنار الذي يوقد الشمع دليل على حجته: إسماعيل بن محمد بن حامد، والشمع دليل على الكلمة محمد بن وهب، والقطن دليل على السابق سلامة بن عبد الوهاب، والطست الذي هو الحسكة دليل على التالي علي بن أحمد السموقي فهذه الخمسة حدود. كذلك من عدم معرفة هذه الخمسة حدود لم يعرف التوحيد في وقتنا هذا، وكان توحيده دعوى، فليعلموا الموحدون ذلك ويعتقدون ولا يعبدون المولى بلا معرفة، فقد قال: (حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (3). ويصف (كتاب النقط والدوائر) الحدود بما يلي: فالأصلان القديمان: هما العقل الكلي والنفس الكلية، والكلمة البسيطة هو مولاي الكلمة سلام الله عليه، والنور البسيط هو مولاي أبو الخير، والحكمة اللطيفة هو مولاي بهاء الدين سلام الله عليهما. فصارت أربعة جوانب، أي الحدود الأربعة جوانب حول العقل الكلي، لأنهم له بمحل الأجنحة، كما قال: (أولي الأجنحة مثنى وثلاث ورباع) (4). وعلى ضوء ما ورد في رسالة (ذكر معرفة الإِمام وأسماء الحدود العلوية روحانية وجسمانية) نستطيع أن نرتب حدود الدروز الخمسة على الشكل التالي: أولا: النفس، وهو ذو معة، علة العلل، والآمر قائم الزمان، وهو الإِرادة، وهو الإِمام الأعظم حمزة بن علي بن أحمد هادي المستجيبين. ثانيا: النفس، وهو ذو مصة، وهو المشيئة، إدريس زمانه، وأحنوخ أوانه، هرمس الهرامسة، الحجة الصفية الرضية، الشيخ المجتبى، أبو إبراهيم إسماعيل بن محمد بن حامد التميمي، صهر حمزة بن علي. ثالثًا: الكلمة، وهو سفير القدرة، ذو مصة فخر الموحدين، وبشير المؤمنين، وعماد المستجيبين، الشيخ الرضى، أبو عبد الله محمد بن وهب القرشي.   (1) كذا في الأصل. (2) ولكن الصحيح إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ *الزمر:9*. (3) الرسالة الموسومة بالشمعة، وهنا يشير إلى الآية الكريمة في سورة الطلاق: آية1 (4) كتاب النقط والدوائر. وهنا يشير إلى الآية الكريمة الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * فاطر: 1*. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 367 رابعا: السابق، وهو الجناح الأيمن، نظام المستجيبين وعز الموحدين، أبو الخير سلامة بن عبد الوهاب السامري. خامسًا: التالي، وهو الجناح الأيسر، لسان المؤمنين وسند الموحدين، ومعدن العلوم، الذي يقوم بالأفعال الصحيحة المعلومة، والناصح لكافة الخلق أجمعين، الشيخ المقتني بهاء الدين أبو الحسن علي بن أحمد السموقي المعروف بـ (الضيف) (1).والحدود الأربعة الذين يلون العقل الكلي، هم الأربعة الحرم، وهؤلاء الحدود يظهرون في كل عصر في صور مختلفة وأسماء متباينة، فمثلاً عندما ظهر المعبود في صورة أبي زكريا، ظهر حمزة في صورة قارون، وظهر إسماعيل التميمي النفس الكلية في صورة أبي سعيد الملطي) (2).وعندما ظهر حمزة في صورة سلمان الفارسي في زمن محمد صلى الله عليه وسلم، ظهرت الحدود الأربعة الأخرى بصورة أربعة من الصحابة وهم: المقداد، وأبو ذر، وعمار بن ياسر، والنجاشي) (3). ومما يذكر أن التالي – أي بهاء الدين – له ثلاثة حدود هم: الجد: وهو أيوب بن علي. الفتح: وهو رفاعة بن عبد الوارث. الخيال: وهو محسن بن علي. وهؤلاء الثلاثة يتلقون أوامرهم من بهاء الدين، وليس لهم المكانة التي للحدود الحرم) (4).وسمي الحدود الأربعة حرما، لأن حمزة مقامه منهم مقام الرجال، وهم نساؤه، ولأنهم عنده بمنزلة النساء في طاعتهم له) (5). وحتى يكون التوحيد شاملاً، جعلوا لمرتبة العقل سبعين حجة، وعن هؤلاء الحجج السبعين تفرعت الحدود جميعا بين دعاة ومأذونين ومكاسرين. وجميع الحدود الحرم وغير الحرم كلهم من قبل العقل، يسقط من يريد ويرفع درجة من يشاء، والحدود السبعون هم الذين أتى على ذكرهم القرآن الكريم بقوله تعالى: ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة: 32]، يعني حدود دعوة التوحيد سلسلة بعضها في بعض وهم سبعون رجلاً موزعين ومنظمين حسب الشكل التالي: أولاً: النفس الكلية، ولها اثنا عشر حجة في الجزائر، وسبعة دعاة للأقاليم. ثانيا: الكلمة، ولها اثنا عشر حجة وسبعة دعاة. ثالثًا: السابق، وله اثنا عشر حجة فقط. رابعًا: التالي، وله اثنا عشر حجة فقط. خامسًا: الداعي المطلق، وله مأذون واحد ومكالبان – أو مكاسران -) (6).   (1) ((رسالة ذكر معرفة الإمام وأسماء الحدود العلوية روحانية وجسمانية)). (2) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص 114). (3) كريم ثابت: ((الدروز والثورة السورية))، (ص 36)، واعتبار النجاشي صحابيًا لا يصلح بالتعريف المعتمد لأنه لم يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم. (4) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص 114). (5) مخطوط، ذكر ما يجب أن يعرفه الموحد ويعتقد به: مكتبة القديس بولس في الجامعة الأمريكية ببيروت (رقم 206)، ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية (رقم 715). (6) مصطفى غالب: ((الحركات الباطنية في الإسلام))، (ص 262 – 263). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 368 وقد أوضحت (الرسالة الموسومة بكشف الحقائق) هذه الحدود بقولها: (فهؤلاء الحدود السبعون التي ذكرناهم، هم أذرع السلسلة الذي قال في القرآن: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ [الحاقة:30]، أي ضد الإِمام إذا بلغ غايته وتمت نظرته، خذوه بالحجج العقلية وغلوه بالعهد وهو الذبح الذي قالوا بأن القائم يذبح إِبليس الأبالسة، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ [الحاقة: 31]، أي غوامض علوم قائم الزمان الذي يتحتم العلماء والفهماء عند علمه، أي يصمتوا ويتخيروا، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:32] أي ميثاق قائم الزمان الذي هو سلسلة بعضها في بعض، وهم سبعون رجلاً في دعوة التوحيد. فهذه السلسلة الحقيقية، ومعانيها كما ذكره الجهال الحشوية (1)، ولو كان كما قالوا الظاهر لم يكن قولهم حكمة لأن من كان في غل جهنم وعليه متوكلو الزبانية لا يحتاج إلى سلسلة، لأنه لا يستطيع الخروج من النار، ولو كان نسيا، فكيف وقد غلوه؟ فإن قالوا: بأن الله أراد بالسلسلة تهديد أهل النار والتعظيم عليهم، فقد بطلت حجتهم هاهنا لأنه قال سبعون ذراعًا، ولو كان بسبب التعظيم لكان يجب أن يكون ألف ذراع، فلما لم يذكر غير سبعين ذراعًا، أعلمنا أنه أراد بذلك أشخاصًا معروفة دينية توحيدية لا يجوز لأحد أن يتجاوز حدهم ولا يزيد ولا ينقص) (2).وقالوا في تأويل (بسم الله الرحمن الرحيم) أنها: (تسعة عشر حرف إشارة إلى حدود حمزة تسعة عشر رجلاً، فلذلك عندما يكتبون (بسم الله الرحمن الرحيم) يلحقونها بقولهم: حدود عبده الإِمام) (3).فعندهم (بسم الله) سبعة أحرف دليل على سبعة دعاة أصحاب الأقاليم السبعة، و (الرحمن الرحيم) اثنا عشر حرفا دليل على اثني عشر دعاة الجزائر) (4).وقد ورد هذا التأويل في (الرسالة الموسومة بسبب الأسباب) التي كتبها حمزة حيث يقول: (وفي السطر الرابع صفات العلة (بسم الله الرحمن الرحيم) وهم صفات هذه العلة المذكورة الذي هو الإِمام، لأن (بسم الله) سبعة أحرف دليل على سبعة دعاة أصحاب الأقاليم السبعة، و (الرحمن الرحيم) اثنا عشر حرفا دليل على اثنا عشر داعيًا، أصحاب الاثنا عشر (5) جزيرة، وأيضًا دليل على سبعة أفلاك، واثنا عشر برجًا، وهم كلهم موجودون في عصر مولانا جل ذكره مستخدمون تحت أمر هذا الإِمام) (6).ولهذا نجد في مقدمة كثير من رسائل الدروز ذكر (بسم الله الرحمن الرحيم) على أنها حدود عبده الإِمام، من ذلك (الموسومة برسالة النساء الكبيرة) حيث يقول: (توكلت على مولانا البار العلام العلي الأعلى على جميع الأنام، جل ذكره عن وصف الواصفين وإدراك الأنام حروف (بسم الله الرحمن الرحيم) عبده الإِمام) (7). (واحترام الحدود عندهم، معتقد أكيد، لأنهم وسائط الله تعالى وأبوابه وسفراؤه، ومنهم الوصول إليه، ولا مطمع لأحد من الخلق في الوصول إلى الخالق أبدا إلا بهم ومنهم وعلى يدهم وبتعليمهم وإرشادهم) (8).فهم أشرف خلق الله تعالى بعد سيدهم الإمام الأعظم، وهم معصومون عن الزواج والخطايا) (9)   (1) يقصد المسلمين. (2) ((الرسالة الموسومة بكشف الحقائق)). (3) مخطوط في تقسم جبل لبنان: الجامعة الأمريكية في بيروت (رقم 31)، ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية (رقم 699). (4) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص 115). (5) كذا في الأصل. (6) ((الرسالة الموسومة بسبب الأسباب)). (7) ((الموسومة برسالة النساء الكبيرة. (8) ((شرح الميثاق)): محمد حسين، مخطوط في جامعة شيكاغو (رقم 3737)، ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 29. (9) ذكر ما يجب أن يعرفه الموحد ويعتقد به: مخطوط في الجامعة الأمريكية، مكتبة القديس بولس (رقم 206)، ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية (رقم 715) .. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 369 والحدود الخمسة – عندهم – بالإضافة إلى الجد والفتح والخيال، هم الثمانية الذين يحملون العرش) (1).ولذلك يقول حمزة في (رسالة التحذير والتنبيه): (واعرفوا الحدود بأسمائهم وصفاتهم، ونزَّلوهم في رتبهم، ومنازلهم، فإنه أبواب الحكمة، ومفاتيح الرحمة) (2). وبعد هذا التعريف العام عن الحدود ومكانتهم عند الدروز، نتحدث عن كل واحد منهم على انفراد: العقل: هو أول الحدود، وإمامهم، ظهر في جميع الأدوار بأسماء مختلفة: في دور آدم كان اسمه شطنيل. في دور نوح كان اسمه فيثاغورس. في دور إبراهيم كان اسمه داود. في دور موسى كان اسمه شعيب. في دور عيسى كان اسمه المسيح يسوع، وهو المسيح الحقيقي صاحب الإنجيل. في دور محمد - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه سلمان الفارسي. في دور الحاكم، كان اسمه حمزة (3).وقد خص حمزة نفسه بعدة ألقاب وصفات، لم يسبغها نبي من الأنبياء على نفسه، فهو الآية الكبرى، والعقل الكلي، والإِرادة، وعلة العلل، وذو معة. ووصف نفسه في (رسالة التحذير والتنبيه): بأنه أصل المبدعات، وأنه سراط المولى المعبود، والعارف بأمره، وأنه الطور والكتاب المسطور والبيت المعمور، وأنه صاحب البعث والنشور والنافخ في الصور، وأنه ناسخ الشرائع ومهلك العالمين، والنار الموقدة التي تطلع على الأفئدة، وأنه هو الذي أملى القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك من النعوت التي أسبغها على نفسه وزخرت رسائله بها) (4).   (1) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص 115). (2) رسالة التحذير والتنبيه. (3) عبد الله النجار: ((مذهب الدروز والتوحيد))، (ص 123) – وذكر ما يجب أن يعرفه الموحد ويعتقد به مخطوط في الجامعة الأمريكية ببيروت – مكتبة القديس بولس (رقم 206)، ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية (رقم 715). (4) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص 115). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 370 وفي رسالة (السيرة المستقيمة) حديث عن النطقاء والأسس، وعن تأويل قصص الأنبياء، ويتساءل الدكتور محمد كامل حسين عن مصدر ما أتى به حمزة في هذه القصص ويقول: (هل هناك علاقة بين اسم شطنيل – الذي يأتي به حمزة – واسم شانطي الذي يطلقه الصينيون على القديسين المسيحين؟ ويقول: ربما سمع حمزة بهذه الكلمة من أحد الصينيين، أو أحد الذين سافروا، فاستغلها بعد أن حرفها إلى شطنيل ... وبعد أن يذكر – الدكتور محمود كامل حسين – بعض الأمثلة للأكاذيب التاريخية التي يطلقها حمزة، يضيف قائلاً: كل هذه مسائل كان حمزة هو الوحيد بين الكتاب في ذكرها على هذا النحو، ولاشك أنه أدرى بكل شيء لأنه علة العلل؟!) (1).وعن شطنيل هذا يقول حمزة في (رسالة السيرة المستقيمة) أنه (وجد في ابتداء دورنا الحالي ثلاثة رجال، كل واحد منهم اسمه آدم، كانوا يعيشون في وقت واحد في بلد واحد، وهم آدم الصفا، وآدم العاصي، وآدم الناسي، وجميعهم ولدوا من ذكر وأنثى، أما آدم الصفا، فهو آدم الصفا الكلي ذو معة – أي حمزة بن علي – وكان أحد حدود دعوة التوحيد في الدور الذي كان قبل دورنا هذا، وقد ولد آدم الصفا الكلي في بلدة آرمينية ببلاد الهند، وكان اسم شطنيل واسم أبيه دانيل) (2).ولحمزة – كما سبق ذكره – أعظم ذكر وأجله بعد الحاكم حتى اليوم عند الدروز، باعتباره العقل الكلي والإِمام وقائم الزمان، يقول الدكتور سامي مكارم عن هذا الإِجلال ما يلي: (إن العقل الأرفع أو الكلي، حسب عقيدة التوحيد، هو مصدر انبثاق جميع الكائنات، وهو عين بقائها في هذا الوجود الظاهر، ومنه ابتدعت، فهي لا تنفصل عنه ولا ينفصل عنها من حيث العلة والمعلول، فالعقل الأرفع هو واسطة الكشف والمعرفة، أداة المشاهدة في كل نفس مؤمنة) (3). وفي رسالة (من دون قائم الزمان) يستدل على إمامة قائم الزمان بأنه: دعا إلى عبادة موجود ظاهر وإله في جميع الأمور قادر ويقول: (وأول دليل على إمامة القائم أنه أتى بضد العالم، لأن جميع النطقاء والأسس وأصحاب الأدوار والأكوار أشاروا إلى عدم موهوم، وأبعدوه عن حواس العالم، وأن قائم الزمان والهادي إلى طاعة الرحمن عليه من المولى السلام دعا إلى موجود ظاهر وإله في جميع الأمور قادر، وكل من دعا إلى الحاكم المعبود الإِله الموجود فقد أنصف من نفسه. ووجه آخر أنه أظهر أغراضه في دفعة واحدة، وقد علم أهل الشرق والغرب أنه دعا إلى توحيد مولانا جل ذكره، ثم بعد ذلك خيروا العالم ومكنوا من أديانهم وإظهارها فصح أن ذلك لأهل التوحيد ... وأيضًا فإن عمارة الكنائس، وإزالة حمل الصلبان، وعزهم على المسلمين في كل مكان أدل دلالة على أن الإِسلام قد اضمحل وبطل وأنه الحق قد أنار واشتعل، والحق هو توحيد مولانا جل ذكره الحاكم بذاته المنفرد عن مبدعاته) (4). (ومن أدلة إمامته – أيضًا -: أنه صاحب القيامة والجزاء، لأنه الملك المظفر المسعود، ديان القيامة أي القهار والقاضي والحاكم والسايس والمحاسب والمجازي) (5).   (1) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص 116 – 117). (2) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص 116). (3) د. سامي مكارم: ((أضواء على مسلك التوحيد))، (ص 123 – 124). (4) رسالة من دون قائم الزمان والهادي إلى طاعة الرحمن. (5) ((شرح الميثاق)): محمد حسين، مخطوط في جامعة شيكاغو (رقم 3737) – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية (رقم 29). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 371 أما الحد الثاني من الحدود الخمسة فهو: النفس: وهو أبو إبراهيم، إسماعيل بن محمد التميمي، ثاني الحدود، (باعتبار أن النفس فيض من العقل، وجزء متمم له انبثقت عنه، فنسبت إلى العقل كنسبة العقل إلى الخالق) (1).وقد وجه إليه حمزة مرسوم تقليد أسماه (سجل المجتبى) جاء فيه: (إلى أخيه وتاليه، وذي مصة علمه، وثانيه آدم الجزوي، الذي اجتباه بعلمه وهداه بحلمه، وغداه بسلمه أحنوخ الأوان، وإدريس الزمان هرمس الهرامسة أخي وصهري أبو إبراهيم إسماعيل بن محمد التميمي ... إلى أن يقول: إني نظرت إليك بنور مولانا جل ذكره، وبما أيدني به مولانا علينا سلامه ورحمته ... فجعلتك خليفتي على سائر الدعاة والمأذونين والنقباء والمكاسرين ... وأسميتك بصفوة المستجيبين وكهف الموحدين وذي مصة علم الأولين والآخرين، وجعلت لك الأمر والنهي على سائر الحدود، فتولى من شئت وتعزل من شئت) (2). وللتميمي عدة رسائل من رسائل الدروز، منها: (رسالة في تقسيم العلوم)، و (رسالة الزناد) و (رسالة الشمعة)، و (رسالة الرشد والهداية). ومع أن – للتميمي – هذه القيمة عند الدروز، إلا أنه بعد اختفاء حمزة، إثر مقتل الحاكم سنة 411 هـ، لم تذكره لنا رسائل الدروز مطلقًا، ولم يقم بأي نشاط، غير أن الأستاذ عبد الله النجار يفترض أنه بقى حيًا حتى سنة 427 هـ (3)، وهذا يعنى أنه اختفى مع حمزة وباقي الدعاة حتى مات في هذه السنة. أما الحد الثالث فهو: الكلمة: وهو أبو عبد الله محمد بن وهب القرشي، ثالث الحدود، وأول الثلاثة الذين أضيفوا إلى العقل والنفس. (ومعلوماتنا عنه نجدها في تقليده الذي قلده إياه حمزة واسمه: (تقليد الرضى سفير القدرة)، وذلك حين رفعت درجته، وعين خلفا لسلفه (المرتضى) المتوفى) (4).إذ أن التقليد يقول: (هي المنزلة التي كانت للشيخ المرتضى قدس الله سره، وأنت تسلمت علومه وحده، وقد سلمت إليك جميع كتبه التوحيدية، وجعلتك مقدمًا على جميع الدعاة والمأذونين والنقباء والمكاسرين والمستجيبين الموحدين، لا فوقك أحد أعلى منك غير صفوة المستجيبين وكهف الموحدين، (5). وكما أن التميمي ليس له ذكر بعد الحاكم، كذلك ابن وهب لم يصلنا عنه أي خبر بعد هذا التقليد. والحد الرابع هو: السابق: وهو أبو الخير سلامة بن عبد الوهاب السامري، رابع الحدود، ولم نجد في رسائل الدروز الموجودة الآن، تقليد خاص للسابق أسوة بسواه ممن قُلِّدوا مِن قِبَلِ حمزة. ويقول الأستاذ عبد الله النجار: (ولكن لا شك أن السابق قلد السلطة بمرسوم لم ينقل إلينا، دليلنا في (تقليد المقتنى) عبارة: تالي السابق بن عبد الوهاب السامري، وقوله: إذ كان الأيمن قد تقدمك، وهو سلامة بن عبد الوهاب المصطفى) (6). والسابق هو الجناح الأيمن في الحدود، وهو والتالي يعتبران الينبوع الذي يجري بالمعرفة الإِنسانية. أما الحد الأخير والخامس فهو: التالي: هو أبو الحسن علي بن أحمد السموقي، خامس الحدود، اشتهر باسم بهاء الدين، بالإِضافة إلى الأسماء والنعوت التي أطلقت عليه مثل: (لسان المؤمنين)، (وسند الموحدين)، (والعبد المقتني)، وغير ذلك من الألقاب التي أطلقها عليه حمزة. ويعتبر بهاء الدين، من أخطر دعاة الدروز بعد حمزة، إذ قام بأعظم قسط في نشر المذهب الدرزي بعد اختفاء حمزة، فلولا جهوده لما بقي لهذا المذهب أثر يذكر.   (1) أمين طليع: ((أصل الموحدين الدروز))، (ص 94). (2) سجل المجتبى. (3) عبد الله النجار: ((مذهب الدروز والتوحيد))، (ص 140). (4) عبد الله النجار: ((مذهب الدروز والتوحيد))، (ص 140). (5) تقليد الرضى سفير القدرة. (6) عبد الله النجار: ((مذهب الدروز والتوحيد))، (ص 141). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 372 ومما يذكر أن الكثير من رسائل الدروز هي من تأليف بهاء الدين هذا، ومن هذه الرسائل: (التنبيه والتأنيب)، (ومثل ضربه بعض حكماء الديانة)، (والإِيقاظ والبشارة)، (ورسالة اليمن). (ورسالة الهند) وغير ذلك من الرسائل. وقد جاء في نسخة تقليده ما يلي: (فاخدم ببركة المولى في الحد الجليل الذي أهلت له، واستعد لك كأخيك الجناح الأيمن ثلاثين حدا دعاة مأذونين ونقباء ومكاسرين، واعلم أن أول السبعة المفترضات: سدق اللسان، والسدق هو المولى وضده الكذب، والسدق والكذب يتشابهان في التخطيط، كذلك الصدق يتشبه بالمولى، لأن المولى جل اسمه لا ضد له. وكذب ثلاثة أحرف، وسدق ثلاثة أحرف، فإذا أحسبناها في حساب الجمل افترقا، لأنك تقول: (ك) عشرون، (ذ) أربعة، (ب) اثنتان، الجميع ستة وعشرون حرفًا ... والسدق: (س) ستون، (د) أربعة، (ق) مائة، فذلك مائة وأربعة وستون حرفا دليل على مائة وأربعة وستين حدًا، يكون للإِمام منها تسعة وتسعون حدًا، كما قال (1): (إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة) (2)، أي لإِمام التوحيد تسعة وتسعين داعيًا من عرفهم دخل حقيقة دعوته) (3). ويبدو أن بهاء الدين، كان على اتصال مع حمزة، أثناء غيابه بعد مقتل الحاكم، وكان أيضًا على معرفة بمقره السري الذي يختبئ به، وكان يتلقى منه الأوامر والتوجيهات، وقد قام بهاء الدين بجهود كبيرة لإِبعاد من حاولوا أن يغيروا شيئًا من المذهب من أمثال سكين وغيره، من الذين انقلبوا على أراء حمزة، لذلك نجد بهاء الدين يبعث إليهم برسائل التنبيه والتأنيب والتوبيخ، على ما حاولوا تغييره في المذهب. وهو لهذا أعلن غيبته سنة 434 هـ في منشور الغيبة، والذي أعلن فيه إقفال باب الاجتهاد في المذهب، وذلك ليحافظ على آراء حمزة، وآراء الحدود والدعاة الآخرين مثل حمزة والتميمي. ومما يذكر في هذا المقام أن لكل حد من الحدود الخمسة لون مخصص له، فاللون الأخضر مخصص لحمزة، والأحمر مخصص للتميمي، والأصفر مخصص للقرشي، والأزرق لسلامة بن عبد الوهاب السامري، أما الأبيض فهو لبهاء الدين، ولهذا عندما أعلن الاستعمار الفرنسي قيام (إمارة جبل الدروز المستقلة) ارتفع علم ذو ألوان خمسة مكون من الأخضر والأحمر والأصفر والأزرق والأبيض على المراكز الرسمية في الجبل، ولا يزال هذا العلم يرتفع على بيت الطائفة الدرزية في بيروت (4). المصدر: عقيدة الدروز عرض ونقض لمحمد أحمد الخطيب – ص 149   (1) يقصد النبي صلى الله عليه وسلم. (2) رواه البخاري (2736) ومسلم (2677) (3) تقليد المقتنى. (4) انظر بتفصيل مذكرة (أيها الدرزي عودة إلى عرينك)، (ص 112). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 373 المطلب الرابع: عقيدتهم في اليوم الآخر والثواب والعقاب اليوم الآخر في المذهب الدرزي ليس يوم القيامة، إذ ليس فيه موت للأرواح، ولا قيامة لها، ولا بعث. (فالأرواح لا تموت لتبعث، ولا تنام لتوقظ بل إن يوم الحساب نهاية مراحل الأرواح وتطويرها، إذ يبلغ التوحيد غايته من الانتصار من العقائد الشركية، وينتهي الانتقال والمرور في الأقمصة المختلفة) (1). (وفي هذا اليوم – كما يزعمون – يظهر المعبود (الحاكم بأمر الله) في الصورة الناسوتية، ولم تحدد رسائل الدروز تاريخ هذا اليوم، ولكنها تقول أنه سيكون في شهر جمادى أو رجب، وعلامة قرب هذا اليوم: هو عندما يتسلط المسيحيون واليهود على البلاد، ويستسلم الناس إلى الآثام والفساد والآراء الفاسدة، ويتملك شخص من ذرية الإِمامة يعمل ضد شعبه وأمته، ويضع نفسه تحت سلطان المخادعين، ويتملك اليهود بيت المقدس، إلى غير ذلك من علامات الساعة التي يذكرونها) (2). أما مكان ظهوره، (فكما تقول رسالة الأسرار سيكون في بلاد الصين يخرج وحوله قوم يأجوج ومأجوج – ويسمونهم القوم الكرام – ويكونون مليونين ونصف من العساكر مقسومة إلى خمسة أقسام، كل قسم منها يترأس عليها أحد الحدود، فيدخلون مكة المكرمة. وفي صباح ثاني يوم وصولهم، يتجلى لهم الحاكم بأمر الله على الركن اليماني من الكعبة، ويتهدد الناس في سيف مذهب، يسده ويدفعه إلى حمزة فيقتل فيه الكلب والخنزير – يريدون فيهما الناطق والأساس. ثم يدفع حمزة السيف إلى محمد (الكلمة)، الذي هو أحد الحدود الخمسة، وحينئذ يهدمون الكعبة ويفتكون بالمسلمين والنصارى في جميع جهات الأرض ويستولون عليها إلى الأبد، ومن بقي يكون عندهم في الذل والهوان. وتصير الناس إلى أربعة فرق: أولا: الموحدون، وهم عقال الدروز، وهم الوزراء والحكام والسلاطين. ثانيا: أهل الظاهر، وهم المسلمون واليهود. ثالثا: أهل الباطن، وهم النصارى والشيعة. رابعا: المرتدون، وهم جهال الدروز. ويجعل حمزة لكل طائفة غير أصحابه سيمة في جبينه أو يده، وعذابا يتأذى به، وجزية يؤديها كل عام، ونحو ذلك من الهوان) (3).   (1) عبد الله النجار: ((مذهب الدروز والتوحيد))، (ص 81). (2) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص 124). (3) مخطوط في تقسيم جبل لبنان: مكتبة الجامعة الأمريكية في بيروت – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية (رقم 699). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 374 وعن قوم يأجوج ومأجوج يقول (مصحف الدروز). (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، واقترب الوعد الحق، فإذا هي شاخصة أبصارهم، أبصار الذين كفروا، يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا، بل كنا ظالمين، لقد نسي هؤلاء هذا اليوم، وقد وقع لهم، ووقعوا فيه، وهم لا يشعرون وكبكبوا على وجوه قبلتهم، حتى غشيتهم الغاشية. أولم ير هؤلاء كيف مد لهم مولانا الحاكم الحياة أمدا، الآن حصحص الحق) (1).وفي ذلك اليوم، كما ورد في (رسالة الزناد) التي ألفها التميمي ينادي حمزة: (أين شركائي الذين زعمتم أنهم فيكم شفعاء، لقد انقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) (2)، يعني يوم قيامة القائم صاحب القيامة بالسيف، فيناديهم: أين شركائي، يعني رؤساء أهل الظاهر وشياطينهم، الذين أضلوهم بغير علم، وأحلوهم دار البوار التي هي الشريعة، وما ألقوه من التكاليف الشرعية، التي هي من حيث العقل والنار بالفعل، وما تمسكوا به من زخارف أهل الجهل وأباطيلهم، فلم يستطيعوا جوابًا، إلا أن يقولوا: ربنا غلبت علينا شقوتنا، وكنا قوما طاغين) (3). وحمزة في هذا اليوم، هو صاحب الجزاء والقصاص، ولذلك يخاطب في (الرسالة الموسومة بالإعذار والإِنذار) أتباعه بقوله: (يوم قيامي بسيف مولانا الحاكم سبحانه ومجازاتي للخلائق أجمعين، وأخذي لكم الحق والقصاص، وإنالة إحساني لأهل الوفاء منكم والإِخلاص، وانتزاعي النفوس من الأجساد، من أهل الفسوق والعنادة وقتلى الوالدين والأولاد وأنيلكم أموالكم) (4). (أما الثواب والعقاب، فيفهم من كتابات حمزة أن العذاب الواقع بالإِنسان نقلته من درجة عالية إلى درجة دونها من درجات الدين، وقلة معيشته وعمى قلبه في دينه ودنياه، ويستمر تنقله من جسد إلى جسد بتناسخ روحه في الأجساد، وهو كلما تنتقل روحه من جسد إلى جسد، تقل منزلته الدينية. أما الثواب فهو زيادة درجته في العلوم الدينية وارتفاعه من درجة إلى درجة إلى أن يبلغ إلى درجة حد – المكاسر) (5). وهم ينكرون وجود الجنة والنار، ويسخرون من القائلين بهما، يقول التميمي في (رسالة الزناد): (وأما زعمهم بأن الجنة عرضها السموات والأرض) (6)، فقد جهلوا معنى هذا القول، فإذا كان عرضها السموات والأرض، فكيف يكون طولها؟ وأين تكون النار فيها؟ ولو عرفوا الطول عرفوا العرض، وكل شيء طوله أكثر من عرضه، وإذا رجعنا إلى المعاني الحقيقية، التي بها يتخلصون الموحدون من جهلهم من داء الشرك.   (1) ((مصحف الدروز: عرف كتاب أبي اسحق أو مراتب العباد))، (ص 85). (2) يشير إلى الآية الكريمة وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ *القصص: 62 *، والآية الكريمة لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * الأنعام: آية 94. (3) مخطوط في تقسيم جبل لبنان: مكتبة الجامعة الأمريكية في بيروت (رقم 31) – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية 699، ويشير هنا إلى الآية الكريمةقَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * المؤمنون: 106*. (4) الرسالة الموسومة بالإعذار والإنذار. (5) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص 125). (6) يشير إلى الآية الكريمة وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * آل عمران: 133 *، والآية الكريمة سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * الحديد: 21 *. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 375 وأما معنى الطول والعرض، فإن طولها هو العقل الكلي، الذي هو قائم الزمان إمام المتقين بالحق، ومجرد سيف التوحيد، ومفني كل جبار عنيد، وكان عرضها مثل النفس القابل لبركات العقل والتأييد. وأما النار فهي من حيث المحسوس المحرقة للأجسام، ومن أسمائها ما يحمد ومنها ما يذم، وأما النار الكبرى والنار الموقدة التي تطلع على الأفئدة، فإنها مثل العقل لأنه مطلع على سرائر العالم، وأما المذموم منها نار العذاب وهي الهاوية، والجحيم، وهذه الأسماء معنى الشريعة التي هو وأهلها غووا ولحقوا فيها العذاب) (1). إلى هذا الحد، تذهب العقيدة الدرزية في اليوم الآخر، وفي الثواب والعقاب، وهي كما نرى لا تؤمن بالغيبيات وترفضها جميعها، ولهذا فهم ينكرون وجود الملائكة والجن، فالملائكة في نظرهم هم أتباع المذهب الدرزي، والشياطين هم مخالفي هذه العقيدة. ومن المفارقات العجيبة والمضحكة ما رواه مؤلف (أيها الدرزي عودة إلى عرينك) عن أحد مشايخ الدروز ويدعى الشيخ داود أبو شقرا والذي أعلن أن يوم القيامة سيكون في 6 آب 1952 وهو يوم القيامة التي وعدت به الرسائل المخطوطة معتمدًا في ذلك على مستند الحروف والجمل، وبالفعل فقد اقتنع بذلك بعض شيوخ لبنان وحوران وذاع الخبر، ولكن مع الأسف فإن هذه القيامة لم تقم كما توقعوا؟! (2). المصدر: عقيدة الدروز عرض ونقض لمحمد أحمد الخطيب – ص 165   (1) رسالة الزناد. (2) أيها الدرزي عودة إلى عرينك، ص 90. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 376 المطلب الخامس: عقيدتهم في الأنبياء (الدروز ينكرون جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وينسبونهم إلى الجهل، ذلك أنهم كانوا يشيرون إلى توحيد العدم، وما عرفوا المولى – أي الحاكم) (1).ويرون أن المعجزة يمكن أن يصل إليها كل إنسان ذي نزاهة إزاء نفسه (2). وحمزة يرى وجوب محاربة جميع الأنبياء، أصحاب الشرائع الظاهرة آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، ووجوب البراءة من شرائعهم وعقائدهم الفاسدة وأديانهم المضللة، إذ هي النار والهاوية. فالناطق والأساس عندهم هما إبليس والشيطان، فالأول – أي إبليس – ظهر في جسم آدم ثم انتقل إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، ثم إلى موسى، ثم إلى عيسى، ثم إلى محمد، ثم إلى سعيد. وأما الثاني – أي الشيطان – فظهر أولاً في جسم شيث بن آدم، ثم في سام، ثم في إسماعيل، ثم في يشوع بن نون بعد هارون، ثم شمعون الصفا، ثم في علي بن أبي طالب، ثم في قداح) (3).ولذلك فهم يقذفون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسماء وألفاظ فاحشة، كالقبل والدبر والغائط والبول، ولا يتركون مجلسًا من التشنيع عليهم، وأكثر كراهيتهم متجه نحو المسلمين) (4).فيقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم وآله: (بأنهم حروف الكذب، هي ستة وعشرون وهم: دليل إبليس وأولاده وزوجاته وهم: محمد وعلي وأولاده الإثني عشر إمامًا) (5). وكما سبق – ذكره فإنهم يعتقدون أن حمزة ظهر بصور مختلفة في جميع الأدوار، وكان في زمن محمد صلى الله عليه وسلم بصورة سلمان الفارسي، (ولهذا فإنهم يزعمون أن القرآن قد أوحي حقيقة إلى سلمان الفارسي، وأنه كلامه، وأن محمدًا أخذه وتلقاه عنه، حتى زعموا بأن خطاب لقمان الذي خاطب به ولده: يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر (6) هو خطاب سلمان لمحمد (7). وهم لهذا يحاولون أن يؤولوا من آيات القرآن ما يمكنهم تأويله حسب معتقدهم وينكرون ما عداه.   (1) محمد كرد علي: ((خطط الشام))، (6/ 264). (2) كمال جنبلاط ((هذه وصيتي)) (ص 41). (3) مخطوط في تقسيم جبل لبنان: الجامعة الأمريكية ببيروت (رقم 31) – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية (رقم 31) – ومخطوط بعنوان (لبعضهم قول وجيز) مؤلف مجهول – الجامعة الأمريكية – مكتبة القديس بولس (رقم 206) – ويجد شريط عنه في الجامعة الأردنية (رقم 715). (4) مخطوط في تقسيم جبل لبنان. (5) مخطوط ذكر ما يجب أن يعرفه الموحد: الجامعة الأمريكية ببيروت (رقم 206)، ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية (رقم 715). (6) * لقمان: 17*. (7) محمد كرد على: ((خطط الشام))، (6/ 265 – 266). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 377 وبسبب كراهيتهم للرسول صلى الله عليه وسلم يقولون عنه: (فهذه الدعامة – يقصدون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله – المقدم ذكرها هي تكليفية ناموسية، لأن العبادة للمعدوم تكليف، وما أحد قط نصح له عبادة معدوم، ولا تصح رسولية لكافر مشرك منافق ابن مشرك – يقصدون محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ثم أقام دعامة الجهاد، به قام إبليس لعنه الله وجعله فرضًا على المسلمين، فالحاكم جل ذكره أبطله وحرمه ... ثم أقام دعامة الولاية لقوله وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [التغابن:12] على زعمهم أن الله فوق السماء، ومحمدًا رسول الله، كذبوا لعنهم الله فما في السماء ولا في الأرض إله إلا الحاكم جل ذكره (1).ويزعمون أيضًا أنه: (عندما يتجلى الحاكم في الركن اليماني – من الكعبة – وفي يده السيف، ينادي على المشركين بالغضب والزجر، ويعطي السيف حمزة فيقتل شخصين لا غير أحدهما متقمص فيه محمد بن عبد الله صاحب دين الإِسلام، والثاني علي بن أبي طالب، ثم يرسل الصواعق على الكعبة فتدك دكا) (2). ويقولون كذلك: (إن الفحشاء والمنكر هما أبي بكر وعمر)، وأن الآية الكريمة التي تقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90]. يراد بذلك الخلفاء الراشدين الأربعة، وأنهم من عمل محمد بن عبد الله) (3). وأما موقفهم من آدم عليه الصلاة والسلام، فإنهم لا يعتبرونه أول الخلق وأبو البشر، بل كان أكثر من آدم في ذلك الدور، ولهذا فهم ينكرون أن آدم بلا أب وأم وأن آدم وباقي البشر قد خلقوا من تراب، وعن هذا يقول حمزة في (رسالة السيرة المستقيمة): (وأما قولهم أنه بلا أب ولا أم، فهو من المحال أن يكون جسمًا ناطقًا إلا من جسم مثله ذكر وأنثى. وأما التراب الطبيعي فما يظهر منه خلق غير الحيات والعقاب والخنافس وما شاكل ذلك، وأما بشر فلا يجوز أن يكون من التراب ولو كان كما قالوا بأنها فضيلة لآدم حيث لا يخرج من ظهر ولا يدخل في رحم، ولا يتدنس بدم، فقد كان يجب بأن يخلق محمدًا من التراب، ولم يخرجه من ظهر كافر، ولم يدنسه بدم جاهلة كافرة. والمسلمون كلهم يعتقدون بأن والدي محمد كانا وماتا كافرين، وأن محمدًا لا يقدر يشفع في أمته إلا بعد أن يترك أمه وأباه ويتبرأ منهما، ويختار أمته على والديه ويتركهما في جهنم، وهذا كلام قبيح ظاهر وضيع باطنه، ولا يليق بالعقل ولا يقبله عاقل. وآدم هم ثلاثة: آدم الصفا الكلي، ومن قبله آدم العاصي الجزوي ومن دونه آدم الناسي الجرماني، وجميعهم من ذكر وأنثى لا كما قالوا أهل الزخاريف الحشوية بأنهم من التراب، حاشا الباري سبحانه وعز سلطانه أن يخلق صفيه وخليفته من التراب وهو من أهون الأشياء) (4). وأما عن حواء، فهي ليست زوجته، وإنما هي حجته وأحد دعاته ولقبت بحواء لأنها احتوت على جميع المؤمنين. وقد سبق أن ذكرنا أيضًا موقفهم من موسى عليه السلام، فهم ينكرون عليه أنه (كليم الله) لأنه كلم الشجر والجبل، وهذا ما لا يليق بالله في نظرهم) (5). أما عن كلمة (الضد) ومفهومها عند الدروز فقد كثرت في رسائل حمزة هذه الكلمة وقصد بذلك الرسل عليهم الصلاة والسلام، وقد يطلقها بصورة صريحة على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.   (1) مخطوط في تقسيم جبل لبنان. (2) مخطوط (حصر اللثام عن الإسلام) رزق حسونة الحلبي: الجامعة اليسوعية في بيروت (رقم 967) – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية (رقم 749). (3) مخطوط (في تقسيم جبل لبنان). (4) رسالة السيرة المستقيمة. (5) راجع مبحث ألوهية الحاكم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 378 أما كلمة (عجل) فيقول صاحب مذكرة (أيها الدرزي عودة إلى عرينك) عن مدلولها عند الدروز وما ترمي إليه بقوله: (إن هذه الكلمة تحمل معنى لا يدركه إلا الراسخون في الحمزوية، إذ هي مشتقة من الاستعجال، ولذا حاول (العجل) أن يشبه نفسه بحمزة، أي حاول رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أن يأتي بشريعة كشريعة حمزة. ويضيف قائلاً: ولا ريب أن الحمزوي العميق يدرك المقصود من هذه الكنايات، إذ لا يخفى أن حمزة سار بالنظر لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وسيدنا علي رضي الله عنه تدريجيًا، إذ رآهما أولاً مستخدمين عند الحاكم دالين على مدلول هذا المقصود، ثم حرمهما من هذه المنزلة (منزلة العبودية للحاكم) ... فدعا محمدًا (ضدا وعجلا)، وسلب من علي درجة الأساس ودعاه اللعين ... بل كثيرًا ما أردف تلاميذه هاتين الكلمتين أو (لعنة الله) أو (أبعده الله من الرحمة) كما نرى هذا في النقط والدوائر ص 12) (1).ويبدو أن حقيقة هذه الكلمة وما ترمز إليه قد جعل بعض الناس يضعون إشارات استفهام على مدلولها، ولهذا يقول صاحب مذكرة (أيها الدرزي عودة إلى عرينك): (هذه حقيقة العجل التي كاد ذوو الأنوف السليمة يستنشقونها فاندفعت مجلة الضحى عدد كانون الثاني 1966 تضاعف حولها الغبار وتكثف الغيوم وتحدثنا عن العجل بالعهد القديم والقرآن الكريم وتفيض بأمجاد قبيلة بني عجل الذين اشتركوا بموقعة ذي قار) (2). المصدر: عقيدة الدروز عرض ونقض لمحمد أحمد الخطيب – ص 169   (1) ((أيها الدرزي عودة إلى عرينك))، (ص 77 – 78). (2) ((أيها الدرزي عودة إلى عرينك))، (ص 78). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 379 المطلب السادس: عقيدتهم في التستر والكتمان (السرية والكتمان عند الدروز ليستا من باب التقية، وإنما هي سرية مشروعة في أصول عقيدتهم، وأصول عقيدتهم – كما هو معروف – خليط من نظريات وأفكار الفلاسفة القدامى من يونان وفرس وهنود وفراعنة، ولعل الدروز قد عمدوا إلى السرية التي ضربوها على مذهبهم تمشيًا مع بعض آراء الفلاسفة القدامى الذين كانوا يوصون بحجب آرائهم وسترها عن جمهور الناس) (1).ويقول الدكتور سامي مكارم في معرض رده على الأستاذ عبد الله النجار: (لقد أصاب باعتبار أفلاطون، وأتباع فيثاغورس من مصادر السرية في مسلك التوحيد، ولكن لم يصب في تجاهله مصادر أخرى لهذه السرية كان لها من الأهمية ما لأفلاطون وفيثاغورس وأتباعه، فهناك هرمس، وهو معروف بصيانته الشديدة للأسرار، وهو مكرم عند الدروز، ينظرون إليه بعين التقديس ويجعلونه في مصاف الأنبياء) (2). (ولذلك فالدروز يحرصون أشد الحرص على كتمان عقائدهم السرية، وينكرون ما يؤخذ منها، بل قد يذمونها أمام المعترضين رياء واستتارا، وقد حرص الدروز على هذا الكتمان المطبق لأصول مذهبهم وعقائدهم طيلة القرون، ولم تعرف خفايا مذهبهم إلا منذ قرن حينما غزا إبراهيم باشا مناطقهم الجبلية) (3)، ووقع الغزاة على بعض كتبهم المقدسة، وعرفت محتوياتها) (4)، وهكذا نرى أن الكتمان لا يعني إلا التظاهر بشيء أو تفسير الرموز بشيء والاحتفاظ بشيء آخر، فأصبح عادة مستحكمة تحمل على النفاق، وتفرض على الشخص أن يغاير ما بنفسه، ويتظاهر بما لا يؤمن فهو درس في وجوب الكذب الصريح. يقول حمزة في (رسالة الموسومة بحفظ الأسرار): (أن أكثر الآثام وأعظمها إظهار سر الديانة وإظهار كتب الحكمة، والذي يظهر شيئًا من ذلك يقتل حالاً اتجاه الموحدين ولا أحد يرحمه ... ويقول: عليكم أيها الإِخوان الموحدون في دفن هذه الأسرار ولا يقرأها إلا الإِمام على الموحدين في مكان خفي، ولا يجوز أن تظهر كتب الحكمة الذي كلها رسم ناسوت مولانا سبحانه، وإن وجد شيء من هذه الأسرار في يد كافر فيقطع إربًا إربا، فأوصيكم أيها الموحدون بكتم الأسرار) (5).ويقول أيضًا في (رسالة التحذير والتنبيه): (وصونوا الحكمة عن غير أهلها، ولا تمنعوها لمستحقها، فإن من منع الحكمة عن أهلها فقد دنس أمانته ودينه، ومن سلمها إلى غير أهلها فقد تغير في اتباع الحق بيقينه، فعليكم بحفظها وصيانتها عن غير أهلها والاستتار بالمألوف عند أهله، ولا تنكشفوا عند من غلبت عليه شقوته وجهله، فأنتم ترونهم من حيث لا يرونكم، وأنتم بما في أيديهم عارفون، وعلى ما ألقوه من زخرف قولهم مطلعون، وهم عما في أيديكم غافلون، وعما اقتبستموه من نور الحكمة محجوبون، ولقد أخرسوا ونطقتم، وأبكموا وسمعتم، وعموا وأبصرتم، وجهلوا وعرفتم) (6).   (1) د. مصطفى الشكعة: ((إسلام بلا مذاهب))، (ص 276). (2) د. سامي مكارم: ((أضواء على مسلك التوحيد))، (ص 145). (3) مع أن الكتب التي كتبت عنهم، قبل حملة إبراهيم باشا، ذكرت شيئا من عقائدهم. (4) محمد عبد الله عنان: ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية))، (ص 203). (5) مخطوط (لبعضهم قول وجيز) مكتبة القديس بولس في الجامعة الأمريكية ببيروت رقم 206 – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 715. (6) رسالة ((التحذير والتنبيه)). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 380 وفي شرح الميثاق، يعتبر – كاتبه – التستر والكتمان من صحة العقيدة، ويقول: (حتى ولو أخر الإِنسان بعض رسائل الحكمة بلا حفظ، ويحفظ عوض ما يقيم المساترة، كان ذلك واجب، لأن الإِنسان إذا غرس بستان ولم يصنه بشيء لم يسلم أبدًا، وإذا غرسه ونقص بعض غراسه، وجعل عوض ذلك النقص حاجزًا يصونه كان ذلك أرب لسلامته وأنتج فيه. وكذلك مذهب التوحيد ما يصح لأحد كاملة إلا بالاستتار، والاستتار بالمألوف هو: إن كان المحق ساكنًا بين أهل الظاهر التنزيلية (1) فليتساتر بمذهبهم من صلاة وصيام وحج وتقديم أبي بكر وعمر وعثمان على علي بن أبي طالب وغيره. وإن كان ساكنًا بين التأويلية في بلاد غالب عليه الشيعة، فليتساتر في مذهب التأويل، ويتزايا بزيهم ويقدم علي بن أبي طالب على الصحابة كلهم، ويسب أبا بكر وعمر وعثمان وعائشة، ويكون موافقهم في دينهم في ظاهر الأمر. وإن كان بين النصارى فيتزايا بزيهم وهذا الحال رحمة من الله على أهل التوحيد، أن يكون توحيده في قلوبهم، ويتزايوا بزي كل طائفة (2) في ظاهرهم (3).ويورد الدكتور عبد الرحمن بدوي شرحا آخر للميثاق (4)، ومما جاء فيه عن هذا الموضوع ما يلي: لا يحل لأحد يتمسك بدين التوحيد أن يهمل المساترة، بل يجب عليه أن يعرف موجبات الصلاة والوضوء ونواقضه، ويقرأ ما تيسر من القرآن قراءة صحيحة على شيخ، وإن كان ذا يسر فيزكي من ماله، ويعرف أمر الصيام ومفطراته، بحيث لا ينكشف عند الشرائع أمر دين التوحيد) (5). وإنكار ألوهية الحاكم – في ظاهر الأمر – يعتبر أيضًا من المساترة، وهذا ما تضمنه شرح الميثاق كذلك حيث يقول: (إن أنكر ألوهية الحاكم سبحانه بحضرة الضد فيجوز له ذلك، وليس يقع في ذلك ارتداد في الحقيقة، لأن المقر بألوهية الحاكم تعالى، الكاتب على نفسه الميثاق أمر بالمساترة عند الشرائع، وإنكار ألوهية الحاكم سبحانه باللسان، وهذا مشروع في الدين من غيبة الحاكم سبحانه إلى يوم القيامة. ولا جناح على الموحدين في إنكار الحاكم بحضرة الشرائع، إذ سئل وطلب منه مثل ذلك، وأما من تلقاء نفسه، أعني نفوس الموحدين بلا طلب ولا سبب فلا يجوز اللفظ بالإنكار ألبتة، كما لا يجوز اعتقاد بشريته) (6).وكذلك سب ولعن (حمزة) ظاهرًا لا بأس به، يقول بهاء الدين في منشور الغيبة: (فمن وقعت به منكم محنة، وطلب منكم سب هذا العبد (حمزة) فتبرءوا منه وسبوه، وإن طلب منكم لعنه فالعنوه، هذا عند الإضرار، والله يعلم بما تظهرون وتكتموه) (7). ويتحدث تقرير قدمته الاستخبارات الفرنسية أثناء الاستعمار الفرنسي على سوريا ولبنان عن طبيعة الدروز فيقول: (إن الدروز مرنون بحق، فهم يتبعون حرفيًا نصيحة مؤسس دينهم: اتبعوا كل أمة أقوى من أمتكم، وحافظوا علي داخل قلوبكم. لذلك فعندما يحتكون بطوائف أقوى من طائفتهم كالمسلمين أو المسيحيين فإنهم يتظاهرون بالتسليم ببعض معتقداتهم وهكذا، فمثلاً يرددون بكل طيبة خاطر الشهادتين (لا إله إلا الله محمد رسول الله).   (1) يقصد المسلمين. (2) يلاحظ هنا مطاطية هذا التعبير، والذي يمكن أن يؤخذ على تأويلات كثيرة. (3) شرح الميثاق: محمد حسين، مخطوط في جامعة شيكاغو رقم 3737 – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 29. (4) نقلا عن مخطوط في المكتبة الأهلية بباريس (رقم 1436) عربي. (5) د. عبد الرحمن بدوي: ((مذاهب الإسلاميين))، (ص 688). (6) ((شرح الميثاق)): محمد حسين. (7) منشور الغيبة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 381 مما تقدم يتضح أن التستر والكتمان نهج أساسي من أصول عقيدتهم، فهم دوما مع القوي والمتمكن، يتظاهرون بالدين الغالب في أي قطر، ومصداق ذلك ما نراه منهم في فلسطين المحتلة بإخلاصهم التام لليهود هناك. كذلك فهم في كثير من الأحيان لا يناقشون من يكتب عن ديانتهم مناقشة موضوعية بل يحاولون أن يلصقوا به الصفات القبيحة ويشتمونه بأقدح الشتائم متسترين بهذه الألفاظ على حقيقة دينهم وما يحويه من كفر، وهذا ما حدث مع الشيخ زيد بن عبد العزيز الفياض عندما بدأ بكتابة حلقات عن حقيقة مذهبهم في مجلتي المنهل وراية الإِسلام (1) اللتين كانتا تصدران في جدة والرياض ردًا على فتوى شيخ الأزهر باعتبارهم مسلمين (2).فقامت حينئذ ضجة شديدة بين الدروز وقدم كبارهم الاحتجاج، وأصدر شيخ العقل في لبنان فتوى ضده، وردوا على الشيخ الفياض بأقذع الألفاظ والشتائم في عدة صحف ومنها صحيفة الصفاء التي كانت تصدر في بيروت سنة 1961 م والتي كان مدير تحريرها شخص اسمه محمد آل ناصر الدين، حيث لم يستطيعوا أن ينفوا هذه الحقائق عن دينهم، فما كان منهم إلا أن يناقشوه بالسب والشتم ليتستروا بذلك على الحقيقة المرة فاتهموه بالإِلحاد والزندقة والصهينة وغير ذلك من الاتهامات التي لا يجوز ذكرها (3).وكان أن قام الأستاذ عبد الله النجار وهو من طائفة الدروز بعد هذه الحادثة بسنوات قليلة بإصدار كتابه (مذهب الدروز والتوحيد) والذي يبين بقلم درزي حقيقة هذا المذهب، وقامت ضجة أشد من الأولى على هذا الكتاب وصاحبه، وحاكمه مشايخ الدروز لفضحه أسرار المذهب وجمعوا نسخ الكتاب من الأسواق وأحرقوها، وصدر بأمر من مشيخة العقل كتاب ألفه الدكتور سامي مكارم وقدم له الأستاذ كمال جنبلاط يرد فيه على كتاب الأستاذ النجار (4). ويظهر أن الدروز قد غيروا هذه المرة من استراتيجيتهم فعملوا بشيء من الموضوعية، ولكن للأسف كانت هذه الموضوعية ستارًا يتسترون به على ما يريدون القيام به، حيث يقال أنهم استغلوا أحداث لبنان الأخيرة وقاموا باغتيال الأستاذ النجار. وهذه الأمثلة تدل دلالة ساطعة على خطورة موضوع التستر في عقيدتهم، وعن كيفية تعاملهم مع من يكشف عن حقيقة دينهم.   (1) انظر ((المنهل)) جزء 3 مجلد 20 شهر ربيع ثاني 1379 هـ، وراية الإسلام، الأعداد الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر من السنة الأولى عام 1380 هـ، والعددان الأول والثاني من السنة الثانية عام 1381 هـ. (2) كان شيخ الأزهر قد أعلن عام 1379 هـ الموافق 1959 م أن الدروز موحدون مسلمون مؤمنون؟! فقد نقلت جريدة السياسة اللبنانية بلسان صاحبها أسعد المقدم في العدد 810 تاريخ 26 محرم 1379 هـ، آب 1959 م ما يلي: بعد أن تحدث فضيلة شيخ الأزهر عن اقتراح تقدم به لسيادة الرئيس جمال عبد الناصر بإنشاء مجمع علمي أكاديمي يضم علماء الشيعة والسنة يلتقون فيه لتحقيق الوحدة المنشودة. سأله أسعد المقدم: هل ستدعون علماء الدروز إلى المجمع الذي ذكرتموه، وهل تشمل دعوتكم إلى الوحدة إخواننا أبناء الطائفة الدرزية؟.أجاب: لقد أرسلنا من الأزهر بعض العلماء كي يتعرفوا أكثر على المذهب الدرزي وجاءت التقارير الأولى: تبشر بالخير فالدروز موحدون مسلمون؟! نقلا عن مجلة المنهل الصادرة في جدة، ج 3 مجلد 20 ربيع ثاني 1379 هـ. (3) انظر ((صحيفة الصفاء البيروتية)) العدد (رقم 3185) وتاريخها 31 كانون الثاني 1961 م. (4) انظر كتاب ((أضواء على مسلك التوحيد الدرزية)). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 382 ومما يذكر في هذا المجال أن أقلامًا عديدة من الدروز طالبوا بشدة مشيخة عقل الدروز بالإِفراج والإِعلان عن حقيقة العقيدة الدرزية، ولكن مشيخة العقل أصمت أذنيها عن كل هذه الأصوات وخاصة أصوات الدروز في المهجر وفي مقدمتهم الدكتور نجيب العسراوي الذي ما فتأ يطالب بذلك، وعندما يئس من ذلك أصدر كتابًا عن هذه العقائد باللغة البرتغالية حتى لا يقرأه كل إنسان. وقد ذكر هذا الموضوع بتفصيل صاحب مذكرة (أيها الدرزيّ عودة إلى عرينك) ومما قاله: (الدكتور نجيب العسراوي رئيس الرابطة الدرزية بالبرازيل استشار الأمير شكيب أرسلان عام 1927 بشأن الإِفراج عن العقائد الدرزية المدفوعة بالرسائل فأجابه: بعدها عجرا؟ وكأن العسراوي وأمثاله كعدنان بشير رشيد رئيس الرابطة الدرزية في استراليا وجدوا تلك العجرا أصبحت سائرة في طريق النضوج، فأخذوا يكاتبون مشيخة العقل طالبين شيئًا يعرضونه على أطفالهم الذين يعرفون الدرزية بـ (ليست إسلامية ولا مسيحية ولا يهودية)، كتبوا هذا وطالبوا وأصروا بل وتذمروا ... إلى أن يقول: خشي نجيب العسراوي – أحد لامعي المهاجرين في البرازيل وعدنان بشير رشيد رئيس الرابطة الدرزية في أستراليا عاقبة هذا البعد وألحا عن مشيخة العقل طالبين تأليف ما يستطيع منه الدروز فهم دينهم، ولكن هذه اعتصمت بالمواعيد، فاضطر العسراوي أن يصدر كتابه (الدرزية) باللغة البرتغالية، ومنه عرف الناس شيئًا. جعلت مشيخة العقل أصابعها في آذانها واستهانت بأصوات المنادين بوجوب التأليف حول الدرزية، ولم تعترف بجهود العسراوي رغم أنه سد ثغرة كانت هي الأجدر بسدادها، وبعد أن صدر عبد الله النجار كتابه تزحزحت وكلفت سامي مكارم بتأليف كتاب (أضواء على مسلك التوحيد) بعد اعتذار عجاج نويهض. ألف مكارم وجنبلاط ولكن لا ليسدا فراغا بل ليردوا على عبد الله النجار في كتابه المحجوز الذي سد فراغا أو بعض الفراغ، وباركا الكتمان والتمسا عذرا للدرزية، ورأياها نابعة عن العقل الأرفع الذي لا يحتمل الخطأ ... أما سواها من أهل المذاهب والأديان فمن العقل الطبيعي المعرض للخطأ) (1). المصدر: عقيدة الدروز عرض ونقض لمحمد أحمد الخطيب – ص 174   (1) ((أيها الدرزي عودة إلى عرينك))، (ص 123). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 383 المطلب السابع: رسائل الدروز وكتبهم المقدسة للدروز مجموعة من الرسائل المقدسة عندهم، إذ منها يستمد عقالهم مبادئ مذهبهم، وتسمى أحيانًا باسم (رسائل الحكمة) وعدد هذه الرسائل 111 رسالة، مقسمة إلى أربعة مجلدات، (تتوالى فيها الرسائل بصورة مطردة في جميع المخطوطات قديمها وحديثها، ومثل هذا الاطراد لا يمكن أن يكون قد تم عرضا، إذ الرسائل منسوبة إلى أكابر أصحاب المذهب القدماء، وهذا يدل على أن تتقينها في هذه الصورة المنتظمة الموحدة قد تم في وقت لاحق) (1).والملاحظ في هذه الرسائل، أن بعضها يحتوي على سجلات صدرت في عصر الحاكم، وبعضها يحتوي على رسائل بعث بها حمزة بن علي إلى أشخاص كانوا يحتلون مكانة في الدولة مثل ولي العهد عبد الرحيم بن إلياس، والقاضي أحمد بن العوام، أو رسائل بعث بها لدعاة الدعوة، ومنها ما كتبه حمزة عن العقيدة نفسها، ثم نجد بعد ذلك رسائل للداعي محمد بن إسماعيل التميمي، ورسائل لبهاء الدين المعروف بالمقتنى) (2).وللدروز أيضًا مصحفا يسمونه (المنفرد بذاته)، كتب حديثا، ويعتقد أن كاتبه هو الأستاذ كمال جنبلاط الزعيم اللبناني المعروف والذي اغتيل قبل سنوات. ويقال أنه تعاون في وضعه ووضع رسائل أخرى مع عاطف العجمي وبخط الشيخ عبد الخالق أبو صالح (3).ويتألف هذا المصحف – كما ذكرت سابقًا – (4) من أربع وأربعين عرفا، يحاكي فيه كاتبه القرآن الكريم بترديد ما في رسائل الدروز، ولذلك فقد حاول أن يقلد أسلوب القرآن الكريم في أكثر أعرافه، وكذلك فإنه أخذ من آيات القرآن الكريم ما يناسب بغيته ومرماه، وخاصة آيات النعيم والعذاب، حيث جعلها خاصة بمن يعبد الإِله المعبود عندهم – الحاكم بأمر الله – فمن عبده فله النعيم، ومن كفر به فقد حق عليه العذاب. (ويعلق عاطف العجمي على هذا المصحف وغيره من الرسائل التي وضعوها بقوله: تكاد تفوق القرآن بلاغة) (5).ولا يزال هذا المصحف يتداول بين الدروز بشكل سري، لذلك لا يعرف بينهم إلا بشكل محدد جدًا (6)، ولا يستغرب أن ينكروا وجوده (7).ومن كتب الدروز الدينية أيضًا: (كتاب النقط والدوائر)، والذي يتحدث عن الكثير من العقائد الدرزية، وقد طبع هذا الكتاب في البرازيل سنة 1920 م بإشراف الأستاذ منير اللبابيدي، ويقول مؤلف (أيها الدرزي عودة إلى عرينك) أنه من تأليف الشيخ عبد الغفار تقي الدين البعقليني المقتول سنة 900 هـ (8). ومنها كذلك (شرح ميثاق ولي الزمان)، ويصف كاتبه نفسه بـ (الحقير محمد حسين)، وهذا الشرح – كما يستدلون من أسلوبه – كتب قبل فترة ليست بالطويلة، ويدل على حقيقة اعتقادات الدروز التامة وبشكل أوضح من الرسائل أحيانًا. ومن الكتب الدرزية التي لم أستطع العثور عليها وذكرها مؤلف (أيها الدرزي عودة إلى عرينك)، على أنها من وضع كمال جنبلاط بالتعاون مع عاطف العجمي ما يلي: أ – الصحف الموسومة بالشريعة الروحانية في علوم البسيط والكثيف، وهو كتاب آخر كالمنفرد بذاته مؤلف من نحو 360 صفحة وهو مؤلف من عدة رسائل منها: رسالة ركز العاجلة. رسالة شرعة الإِبداع. رسالة شرعة المثالات. رسالة شرعية استبانة الشريعة. شرعة الأمة الواحدة. وملخص في هذه الرسائل:   (1) د. عبد الرحمن بدوي: ((مذاهب الإسلاميين))، (2/ 514). (2) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص 92). (3) انظر ((أيها الدرزي عودة إلى عرينك)) (ص 49). (4) راجع فصل تطور المذهب الدرزي بعد الحاكم. (5) ((أيها الدرزي عودة إلى عرينك))، (ص 52). (6) هناك نسخة من هذا المصحف في المكتبة الخاصة لأحد الأشخاص ببيروت. (7)) سنذكر بعد سردنا لأسماء رسائلهم. أسماء الأعراف التي يتضمنها هذا المصحف، وما يتضمنه بعضها. (8) ((أيها الدرزي عودة إلى عرينك))، (ص 54). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 384 إثبات كل ما جاء عن حمزة. حض قوي جدا على الكتمان، ورؤية منكري الحكمة معرضين لتقمصات مختلفة. إثبات قصة الدينونة. فرض العبادة ليلة الاثنين مع المحافظة على فرضها ليلة الجمعة. إدخال الفكر البوذي ونظام البوكا والاعتماد على التعاويذ لشفاء الأمراض. ب – رسائل الجام الجاحدين وما بعدها، وهو كتاب كالمنفرد بذاته والبسيط والكثيف وضعا وخطا واقتباسا من القرآن) (1).ويعلق مؤلف هذه المذكرة بقوله: (وكأن جنبلاط الذي لا أكاد أرتاب بأنه مؤلف هذه الرسائل، كأنه أحس أن كل شيء لدى الدروز أصبح كاملاً ولم يعد ينقصهم إلا النصائح الطبية والاعتماد على معرفة أنباء المستقبل من الكواكب والأفلاك ومعرفة ما يضمر الناس بواسطة سحن وجوههم ولذا كتب نحو مئة صفحة حول الطب والفراسة وأسند آراءه كعادته إلى حمزة ... ويضيف قائلاً في صفحة أخرى: (وهكذا نرى حمزة كبهاء الدين قديما وكمال جنبلاط حديثًا يسيرون في طريق يفضي للإِجهاز على الأديان، لاسيما الإِسلام، تنفيذًا لتصاميم يهودية مجوسية) (2). وفيما يلي سرد لأسماء رسائل الدروز، والتي تتكون من أربعة مجلدات: المجلد الأول من رسائل الدروز: نسخة السجل الذي وجد معلقًا على المشاهد في غيبة الحاكم وتاريخه سنة 411 هـ (3).السجل المنهي فيه عن الخمر (4).خبر اليهود والنصارى: وهو بدون تاريخ، ومروي عن الذين كانوا مع الحاكم بأمر الله، حينما جاءه وفد من اليهود والنصارى يطلبون منه الأمان (5). نسخة ما كتبه القرمطي إلى الحاكم بأمر الله، وجواب الحاكم عليه. ميثاق ولي الزمان: وهو الذي يؤخذ على كل مستجيب للمذهب الدرزي. الكتاب المعروف بالنقض الخفي، وتاريخ شهر صفر سنة 408 هـ السنة الأولى من سنوات حمزة، وهو الكتاب الذي نقض به حمزة الشرائع جميعًا، وخاصة أركان الإِسلام الخمسة. الرسالة الموسومة ببدء التوحيد لدعوة الحق: من كتابات حمزة، وتاريخها شهر رمضان سنة 408 هـ، السنة الأولى من سنوات حمزة، وتتضمن الخصال السبعة التي فرضها على أتباعها، وإسقاط الفرائض الأخرى عنهم. ميثاق النساء: وهي من كتابات حمزة أيضًا، وليس لها تاريخ، وفيها تقرير قواعد الأداب التي ينبغي على الدعاة أن يتبعوها في تعليم النساء، وكذلك العهود التي تؤخذ عليهن حتى يحتفظن بعفافهن ومكارم أخلاقهن. رسالة البلاغ والنهاية في التوحيد إلى كافة المتبرئين من التلحيد، من تأليف حمزة، وتاريخها شهر المحرم سنة 409 هـ، وفيها عن مآل الكافرين ومصير الموحدين، ويوم القيامة. رسالة الغاية والنصيحة، من تأليف حمزة، وتاريخها شهر ربيع الآخر سنة 409 هـ، وفيها يتحدث عن الخلاف بينه وبين الدرزي (6). كتاب فيه حقائق ما يظهر قدام مولانا الحاكم جل ذكره من الهزل، من كتابات حمزة، وبدون تاريخ، ويرجح أنه كتبها في سنة 409 هـ أثناء اختفائه، وفي هذا الكتاب تأويل لجميع أفعال الحاكم اليومية (7).   (1) ((أيها الدرزي عودة إلى عرينك))، (ص 49 – 50). (2) ((أيها الدرزي عودة إلى عرينك))، (ص 50 – 53). (3) يقول الدكتور محمد كامل حسين: أن هذا السجل لا يمت لعقيدة الدروز بشيء، لأنه يظهر من السجل أنه فاطمي العقيدة، فالحاكم ليس بمعبود في هذا السجل، إنما هو ولي الله وخليفته، وهذا ما رفض حمزة أن يعترف به. راجع ((طائفة الدروز))، (ص 93). (4) وهو أيضا من سجلات الدولة الفاطمية التي أصدرها الحاكم بأمر الله. (5) هذا اللقاء المزعوم لم يثبت تاريخيا، ولم يروه مؤرخ من قبل. (6) كذلك يتحدث عن هذا الخلاف في رسالة الرضى والتسليم. (7) ذكرت كاملة في الفصل الأول من الباب الأول (حياة الحاكم بأمر الله وآراؤه). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 385 السيرة المستقيمة، من كتابات حمزة، كتبها في جمادى الأولى سنة 409 هـ، وهي سيرة الحاكم وحياته، ويراد من إيرادها البرهنة على ألوهيته. كشف الحقائق، من كتابات حمزة، وتاريخها شهر رمضان سنة 409 هـ، وهي من حدود الدين عندهم ومراتبهم. الرسالة الموسومة بسبب الأسباب وكنز لمن أيقن واستجاب، من كتابات حمزة وبدون تاريخ، ويتحدث فيها عن سبب تسميته علة العلل، ويتحدث فيها عن سبب تسميته علة العلل، وتأويل (بسم الله الرحمن الرحيم). المجلد الثاني من رسائل الدروز: الرسالة الدامغة في الرد على الفاسق النصيري، لعنه المولى في كل كور ودور: من كتابات حمزة، ومن أهم الرسائل في هذا المجلد، وهي تعطي فكرة عن آراء بعض الفرق التي طرحت الأديان كلها، واتجهت إلى الإِباحية الجنسية، وأيضًا عن الثواب والعقاب عند النصيرية والدروز. الرسالة الموسومة بالرضى والتسليم، من كتابات حمزة، وتاريخها سنة 409 هـ، ويتحدث فيها عن خلافه مع الدروز. رسالة التنزيه: كتبها حمزة، وتاريخها جمادى الآخرة سنة 409 هـ، وفيها يتحدث عن الحدود الخمسة ومراتبهم وأضدادهم. رسالة النساء الكبيرة: لم يذكر فيها الكاتب ولا التاريخ (1)، وتتضمن تأويلاً للسجلات التي أصدرها الحاكم، وكذلك تأويل لأركان الإِسلام. رسالة الصبحة الكائنة، من كتابات حمزة، وتاريخها شعبان سنة 409 هـ، بعثها إلى أصحاب الدرزي الذين قبض عليهم الحاكم، وفيها عتاب لهم وكيف حذرهم ليلة ثورة المصريين ضد دعوة تأليه الحاكم، وكيف هرب هو والتجأ إلى مخبأ. نسخة سجل المجتبى: من رسائل حمزة، وهي تقليد وتعيين إسماعيل التميمي في حده ومرتبته الدينية. تقليد الرضى سفير القدرة، من رسائل حمزة، وتاريخها شوال سنة 409 هـ، وفيها تعيين محمد بن وهب في مرتبته. تقليد المقتني، من رسائل حمزة، وتاريخها شعبان سنة 410 هـ، وهي خاصة بتعيين علي بن أحمد السموقي (بهاء الدين) في مرتبته. مكاتبة إلى أهل الكدية البيضاء (حسن بن هبة) عما يعن لهم من أمور دينهم. رسالة حمزة إلى الموحدين من أهل أنصنا (2)، وتاريخها جمادى الآخرة سنة 410 هـ، ويدعوهم فيها إلى الصبر. شرط الإِمام صاحب الكشف: لم يذكر كاتبها ولا تاريخها. الرسالة التي أرسلت إلى ولي العهد، عهد المسلمين، عبد الرحيم بن إلياس: وهي من رسائل حمزة بعثها إلى ولي عهد الحاكم ويدعوه فيها إلى الاعتراف بألوهية الحاكم. رسالة إلى خمار بن جيش السليماني العكاوي، وهي من رسائل حمزة، يحذر فيها خمار من القول بأنه شقيق الحاكم. الرسالة المنفذة إلى القاضي: وقد بعث بها حمزة إلى قاضى القضاة أحمد بن العوام، وتاريخها ربيع الأول سنة 409 هـ، ويدعوه فيها إلى خلع نفسه من ولاية القضاء على الموحدين، لأنه لا يؤمن بألوهية الحاكم. المناجاة، مناجاة ولي الحق: الموجهة من ولي الحق (حمزة) إلى الحاكم. الدعاء المستجاب، وهي مناجاة أخرى. التقديس، دعاء السادقين: دعاء لنجاة الموحدين العارفين. ذكر معرفة الإِمام، وأسماء الحدود العلوية روحانيًا وجسمانيًا، لم يذكر كاتبها، وهي عن أسماء وألقاب الحدود. رسالة التحذير والتنبيه، من رسائل حمزة ويتحدث فيها عن عظيم المهمة الموكولة إليه، ويبشر الموحدين بما ينتظرهم من جزاء، وما ينتظر العصاة من عقاب. الرسالة الموسومة بالإعذار والإِنذار، الشافية لقلوب أهل الحق من المرض والاختيار: من رسائل حمزة، ويتحدث فيها عن ضرورة التمسك بعقيدة التوحيد، ويحاول فيها اجتذاب أتباع خصومه وهو ابن البربرية.   (1) ولكن الدكتور محمد كامل حسين يقول أنها من أسلوب التميمي: ((طائفة الدروز))، (ص 95). (2) يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي أنها (أسنا) في صعيد مصر: ((مذهب الإسلاميين))، (2/ 525). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 386 رسالة الغيبة، التي وردت على يد أبي يعلى، وهي التي بعث بها حمزة إلى الدعاة في الشام بعد غيبة الحاكم، يحضهم فيها على التمسك بالعقيدة وعدم التخاذل، فيكون تاريخها على هذا سنة 411 هـ. كتاب فيه تقسيم العلوم، من تأليف إسماعيل التميمي، وتاريخه شهر المحرم سنة 410 هـ، وفيه تقسيم العلوم إلى خمسة أقسام والتفريق بين اللاهوت والناسوت، والحدود في كل دور. رسالة الزناد: من تأليف التميمي أيضًا، ولا تاريخ لها، وفيها تأويل لكثير من آيات القرآن الكريم. رسالة الشمعة، كذلك من تأليف التميمي، وكتبت في عهد الحاكم لأنه يذكر فيها أنها (رفعت إلى الحضرة اللاهوتيه)، وعنونت بالشمعة، لأن حدود الدعوة خمسة، ويشبهون في هذا أجزاء الشمعة المضيئة. رسالة الرشد والهداية، من كتابات التميمي، وفيها تمجيد لمرتبته ودعوة الموحدين إلى المثابرة وعدم الاستسلام. شعر النفس: قصيدة نظمها التميمي، يمجد بها الحاكم (الإِله). المجلد الثالث من رسائل الدروز: الجزء الأول من السبعة الأجزاء: وفيه عرض للفرض الأول من فرائض ديانة التوحيد. الرسالة الموسومة بالتنبيه والتأنيب والتوبيخ والتوفيق، كتبها بهاء الدين سنة 422 هـ، إلى معد بن محمد، وطاهر بن تميم الداعيين لتثبيت إيمانهما. مثل ضربه بعض حكماء الديانة توبيخًا لمن قصر عن حفظ الأمانة. رسالة إلى بني أبي حمار، من كتابات بهاء، ويتحدث فيها عن أن الألوهية لم تنتقل من الحاكم إلى ابنه علي. تقليد لاحق، من كتابات بهاء، وفيه يقلد الشيخ المختار، سنة 408 هـ. تقليد سكين: من كتابات بهاء، وتاريخه سنة 418 هـ، وفيه يقلد سكين رئيسًا للمذهب في (سورية)، ومما يذكر أن سكين هذا ادعى فيما بعد أنه الحاكم. تقليد الشيخ أبي الكتائب: مرسوم تعيين أبي الكتائب داعيًا في البيضاء. تقليد الأمير ذي المحامد، كفيل الموحدين أبي الفوارس، معضاد بن يوسف، الساكن بفلجين، وكان هذا داعيًا تحت إمرة سكين. تقليد بني جراح: وهم الذين ثاروا على الحاكم في حياته، ثم استمالهم بالأموال حتى عادوا إلى طاعته، ثم آمنوا بألوهيته بعد ذلك، ويصدر لهم بهاء الدين تقليدًا بذلك. الرسالة الموسومة بالجمهيرية: كتبها بهاء الدين، وتاريخها سنة 418 هـ، وموجهة إلى الدعاة والشيوخ في قبيلة تنوخ بوادي تيم. الرسالة الموسومة بالتعنيف والتهجين لجماعة من سنهور من كتامة الكاتمين العجيسيين، من كتابات بهاء الدين سنة 418 هـ، وبعث بها إلى قوم من كتامة يدعوهم فيها إلى الحذر. رسالة الوادي: من رسائل بهاء الدين. الرسالة الموسومة بالقسطنطينية، المنفذة إلى قسطنطين متملك النصرانية: من رسائل بهاء الدين، بعث بها إلى إمبراطور الروم سنة 419 هـ، يدعوه فيها وشعبه إلى الدخول في مذهب التوحيد. الرسالة الموسومة بالمسيحية وأم القلائد النسكية، وقامعة العقائد الشركية: بعث بها بهاء الدين إلى المسيحيين جميعًا، وفيها يثبت أن حمزة هو المسيح حقًا. الرسالة الموسومة بالتعقب والافتقاد لآراء ما بقي علينا من هدم شريعة النصارى الفسقة الأضداد، بعث بها بهاء الدين إلى الأمير ميخائيل صهر إمبراطور الروم، وفيها تأويل لآيات الإِنجيل يتفق مع عقيدة تأليه الحاكم. الرسالة الموسومة بالإِيقاظ والبشارة لأهل الغفلة وأهل الحق والطهارة: من رسائل بهاء الدين وتاريخها سنة 423 هـ، بعث بها إلى أهل العراقين وفارس، يبشرهم بقرب ظهور حمزة (1). الرسالة الموسومة بالحقائق والإِنذار والتأديب لجميع الخلائق: من رسائل بهاء الدين، وتاريخها سنة 425 هـ، أرسلت للذين اعتنقوا الدعوة في وادي التيم.   (1) وهذا يعني أن بهاء الدين حتى هذا الوقت، كان على اتصال بحمزة، وأن حمزة كان مختفيا ويهيئ نفسه للظهور. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 387 الرسالة الموسومة بالشافية لنفوس الموحدين، الممرضة لقلوب المقصرين الجاحدين: وهي في وعظ أتباع المذهب. رسالة العرب، من رسائل بهاء الدين، بعث بها إلى أهل سورية والحجاز واليمن والعراقين، يدعوهم فيها إلى مذهبه، وتاريخها سنة 422 هـ. رسالة اليمن وهداية النفوس الطاهرات، ولم الشمل وجميع الشتات: رسالة بهاء الدين إلى أهل اليمن المعتنقين لمذهبه. رسالة الهند الموسومة بالتذكار والكمال إلى الشيخ الرشيد المسدد المفضال: رسالة بهاء الدين إلى أتباعه في الهند، وتاريخها سنة 425 هـ. الرسالة الموسومة بالتقريع والبيان وإقامة الحجة لولي الزمان: أرسلها بهاء الدين إلى أهل القاهرة والفسطاط لعدم تصديقهم ألوهية الحاكم. الرسالة الموسومة بتأديب الولد العاق من الأولاد، الغافل عن تغيير السور (الصور) العاصية عند الانتقال في دار المعاد، ورجوع أنفسها إلى الانسفال بعد العلو بمصاحبة الأضداد: وهي عن تناسخ الأرواح. الرسالة الموسومة بالقاصعة للفرعون الدعي، الفاضحة لعقيدة الكذاب المعتوه الشقي، وتاريخها سنة 426 هـ، وهي رد على من يدعى بـ (ابن الكردي)، الذي ادعى أنه روح الحاكم. كتاب أبي اليقظان، وما توفيقي إلا بطاعة حدود ولي الزمان: من رسائل بهاء الدين بعث به إلى أبي اليقظان. الرسالة الموسومة بتمييز الموحدين الطائعين من حزب العصاة الفسقة الناكثين. رسالة من دون قائم الزمان والهادي إلى طاعة الرحمن: يعتقد أنها من كتابات بهاء الدين. رسالة السِفر إلى السادة في الدعوة لطاعة ولي الحق الإِمام القائم المنتظر، من كتابات بهاء الدين سنة 430 هـ، وأرسلت إلى شيوخ العرب في الإِحساء. المجلد الرابع من رسائل الدروز: الرسالة الموسومة بمعراج نجاة الموحدين، وسلم حياة المعرفين. رسالة في ذكر المعاد، والرد على من عبر بالغلط والإِلحاد. الرسالة الموسومة بالتبيين والاستدراك، لبعض ما لم تدركه العقول في كشف الكفر المحجوب من الإِلحاد والإِشراك: وهي في شرح عقائد بعض الفرق. الرسالة الإِسرائيلية الدامغة لأهل اللدد والمجون، أعني الكفرة من أهل شريعة اليهود: وهي في الرد على عقائد اليهود. الرسالة الموسومة بأحد وسبعين سؤالا، سأل بها بعض المدعين الفسقة الجهال وأئمة الجور والضلال: وهي أسئلة من مخالفي العقيدة والرد عليها. الرسالة الموسومة بإيضاح التوحيد لمن تنبه من سنة الغفلة وعرف الحق وانتصر، وإثبات الحجة ببرهان الدين، والرد على من أشرك بالباري وشك فيه وجحد الحد والحق وأنكره: من كتابات بهاء الدين سنة 430 هـ، وهي في الرد على من أنكر ألوهية الحاكم. ذكر الرد على أهل التأويل الذين يوجبون تكرار الإِله في الأقمصة المختلفة. توبيخ ابن البربرية، الرسالة الموسومة بالدامغة للفاسق النجس، الفاضحة لأتباعه أهل الردة والبلس. توبيخ لاحق: لما نسب إليه من تصرفات مخالفة لقواعد ديانة التوحيد. توبيخ ابن أبي حصية: من كتابات بهاء الدين، ويحذر فيها أتباعه من آراء هذا الشخص الذي أباح كثيرًا مما حرمه حمزة. توبيخ سهل. توبيخ حسن بن معلا. توبيخ الخائب محلى: الذي كان يدعو إلى الإِباحة، ويبيح لغيره الاتصال بزوجته. رسالة البنات الكبيرة. رسالة البنات الصغرى. المقالة في الرد على المنجمين. الرسالة الموسومة ببدء الخلق، ومؤلفها بهاء الدين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 388 الرسالة الموسومة بالموعظة، ومؤلفها، بهاء الدين، وتاريخها سنة 428 هـ. المواجهة: بعث بها بهاء الدين إلى حمزة يوصي فيها ببعض الأشخاص الذين أرسل معهم نسخًا من كتب مختلفة ألفها بهاء الدين عن ديانة التوحيد (1). مكاتبة الشيخ أبي الكتائب. منشور إلى آل عبد الله. جواب كتاب السادة: وفيه يبشر بقرب ظهور حمزة (قائم الزمان). الكتاب المنفذ على يد سرايا: ويتحدث فيه عن أمور تجارية، أظن أنها ألغاز. مكاتبة تذكرة. مكاتبة نصر بن فتوح. السجل الوارد إلى النصر. منشور الشيخ أبو المعالي طاهر. منشور إلى جماعة أبي تراب. رسالة جبل السماق: مؤلفها بهاء الدين سنة 429 هـ، بعث بها إلى الموحدين في جبل السماق، يبشرهم بقرب ظهور حمزة (2). منشور إلى آل عبد الله، وآل سليمان. منشور أبا علي التنوخي. منشور رمز لأبي الخير سلامة. منشور الشرط والبط: ويعني الحجامة. مكاتبة إلى الشيوخ الأوابين. منشور في ذكر إقالة سعد: من تأليف بهاء الدين. مكاتبة رمز إلى الشيخ أبو المعالي: تتكلم هذه الرسالة عن الحراثين والبذور والأوقاف، وهذه الألفاظ رموز وإشارات تؤول على أساس الدعوة. منشور إلى المحل الأزهر الشريف: في تبرئة بعض الموحدين، مما شاركوا به في وضع الضلالات في ديانة التوحيد. منشور نصر بن فتوح: وينصحه بهاء الدين بالسرية التامة. مكاتبة رمز إلى آل أبي تراب: يحذر فيها بهاء الدين من ابن الكردي. الرسالة الواصلة إلى الجبل الأنور، من كتابات بهاء الدين سنة 433 هـ، ويوضح فيها الذين أفسدوا ديانته. مكاتبة الشيخ أبي المعالي، من كتابات بهاء الدين سنة 433 هـ. رسالة منسوبة بالغيبة: مؤلفها بهاء الدين، ويودع فيها أتباعه، ويعلن عزمه على الغيبة، ويوصيهم التمسك بالآراء التي علمهم إياها. ويلاحظ في هذه الرسائل، أن أكثر رسائل حمزة كتبت في سنة غيابه عام 409 هـ، وهي السنة التي أراد بها أن يقوي مذهبه، ويلاحظ أيضًا أن غالبية الرسائل كتبت من قبل بهاء الدين، الذي قاد المذهب بعد اختفاء حمزة سنة 411 هـ. أما عناوين الأعراف التي يتألف منها مصحف الدروز فهي كما يلي: عَرفُ الفتح: فيه حديث عن هذا المصحف، وتمجيد بما يحويه. عَرفُ الأمر والتقديم: فيه دعوة إلى الإِيمان، بألوهية الحاكم، والتهديد لمن لا يؤمن به بالعذاب والويل، وفيه آيات من القرآن الكريم حُرفت بشكل واضح. عَرفُ نداء الحضرة: فيه حديث عن نداء الإِله في أدواره وظهوراته المختلفة للإيمان به ومشاهدته. عَرفُ النزلة والتجلي. عَرفُ التنبيه والهداية: وفيه توبيخ لمن أنكروا أن يروا الله جهرة كأمثالهم (أي أن يروا الحاكم). وفيه أيضًا تحريف لآيات من القرآن الكريم. عَرفُ الإِنذار والحساب: وفيه تهديد بالعذاب لمن رفض دعوة الحاكم. عَرفُ الجحود والتوبة. عَرفُ المظاهر القدسية. عَرفُ الإِيمان والردة: وفيه تهديد للذين يرتدون عن هذا الدين. عَرفُ النيزين. عَرفُ الجيش العجيب المجر: وفيه عن مهاجمة جموع الناس لمقر حمزة أثناء اختفائه بعد ثورتهم، وعن نصر الحاكم (الإِله) له بعد ذلك وحمايته. عَرفُ الزلزلة. عَرفُ الأمثال: وفيه وصف لعذاب الذين كفروا بالحاكم. عَرفُ صلاة اللقاء: فيه دعاء موجه إلى الحاكم، على أنه صلاة.   (1) ينقل الدكتور عبد الرحمن بدوي عن المستشرق دي ساسي أنه: يستدل من هذه الرسالة أن حمزة حتى تاريخ هذه الرسالة كان يوجه الطائفة من مخبأه. ((مذاهب الإسلاميين))، (2/ 543). (2) وينقل الدكتور عبد الرحمن بدوي أيضا عن المستشرق دي ساسي: أنه يستدل من هذه الرسالة ومن رسائل سابقة أنه حتى هذا التاريخ كان بهاء الدين لا يزال يأمل في خروج حمزة من مخبأه وقيادة الموحدين – ((مذاهب الإسلاميين))، (2 / ص 545). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 389 عَرفُ صلاة الرواح: فيه كذلك تحدث عن العذاب الذي سَيحل بمن كفروا بالحاكم بعد أن رأوه جهرة. عَرفُ كتاب أبي إسحق أو مراتب العباد: موجه إلى شخص اسمه: أبي إسحق محمد اللُّدي، وفيه حديث عن ظهور المعبود، وعن يوم القيامة وقوم يأجوج ومأجوج. عَرفُ صلاة الفجر: وفيه دعاء ومناجاة للحاكم. عَرفُ تجلي شمس الحقيقة وتغريد الحمامة الأزلية. عَرفُ العهد والميثاق: وفيه نص العهد والميثاق. عَرفُ صلاة الشكر والحمد على الإيمان. عَرفُ الرحمة. عَرفُ الوصية: وفيه عن أحكام الوصية في مذهبهم. عَرفُ صلوات الشرائع: وفيه تحذير لأتباع المذهب من الاستماع إلى المسلمين، ويتحدث فيه أيضًا عن فرائض الإِسلام بشكل استهزائي؟ عَرفُ أنباء الأولين والتجلي في بلاد السند والهند. عَرفُ طلائع الموحدين. عَرفُ مشارق التوحيد. عَرفُ المحرمات: وفيه حديث عن المحرمات التي حرمها مولاهم الحاكم عليهم. عَرفُ صلاة التسبيح. عَرفُ فرائض الأحكام: وفيه عن تحريم الزنا على أتباع المذهب. عَرفُ المشاهدة وكوثر التجليات. عَرفُ خلائف العدل: وفيه عن تحريم الرشوة بينهم. عَرفُ برازخ الكاف والنون أو الشفع والوتر: وفيه عن شكر مولاهم لأنه أخرجهم من عبادة العدم إلى أنوار المشاهدة. عَرفُ حقيقة الصلاة والإيمان. عَرفُ الثِقلين. عَرفُ الدعوة والعدل والتوكل والرحمة والفيض. عَرفُ كتاب البيان إلى دولة الموحدين. عَرفُ صلاة التجلي. عَرفُ شمس المغيب عَرفُ الأكسير. عَرفُ الأمم في السموات والأرضين. عَرفُ مائدة الكمال أو ألواح المقادير والإِثبات والمحو والتنزيل. عَرفُ عاقبة المكذبين: ويعتبر فيه القرآن صحف كتبت من قِبل آباء الجاحدين لحكمة التوحيد، فهم لذلك في ضلال مبين. عَرفُ الأعراف أو تسبيح مؤذني نواقيس الأختام. بلاغ المحرمات وعَرفُ مسك الختام. هذا وهناك أيضًا رسالة صغيرة مخطوطة بعنوان (دعاء سيدنا الشيخ الصالح) ويبدو أنها لأحد مشايخهم المتأخرين، على شكل دعاء يناجي به الحاكم، وقد بدأ بما يلي: (اللهم لك الحمد على نعمة وجودك، ولك الحمد على معرفة وليك وحدودك، ولك الحمد على معرفة ظهوراتك). وهناك كذلك رسالة أخرى بعنوان (ذكر ما يجب أن يعرفه الموحد ويعتقد به ويسلك بموجبه)، وهو موجز عن كتاب الفرائض، وهو عبارة عن تفصيل لكثير من عقائد الدروز. ويؤكد كمال جنبلاط أن الدروز ورثوا في كتبهم المقدسة المستورة فلسفة فيثاغورس وسقراط وأفلاطون، وكذلك الأفلاطونية الحديثة، وهذه الفلسفات والأفكار هي التي يجب أن يعتد بها، لأن أساس عقيدتهم قائم على طلب الحكمة لذا لا يستطيع أي كان أن يقرأ كتب الدروز المقدسة سوى الحكماء (1). المصدر: عقيدة الدروز عرض ونقض لمحمد أحمد الخطيب – ص 181   (1) كمال جنبلاط ((هذه وصيتي)) (ص 46 - 49). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 390 المطلب الأول: إبطال مفهومهم للألوهية، وحلول اللاهوت في الناسوت عقائد الدروز تقوم أساسًا على الاعتقاد بتجسد الإِله في صورة الحاكم بأمر الله، وأن اللاهوت حل في الناسوت على هذه الصورة. وهذا الاعتقاد هو اللبنة الرئيسية التي تقوم عليها أركان العقيدة الدرزية، وفكرة الحلول أصلاً مستقاة من الفلسفة اليونانية، وتكاد تكون عنصرًا رئيسيًا في الفلسفة الهندية، (والمسيحية استمدت هذه الفكرة من الهندوكية) (1). يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية عن هذه الفكرة ما يلي: ولا ريب أن هذا القول – الحلول والتجسيد – كفر صريح باتفاق المسلمين، فقد ثبت في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت)) (2)، فإذا قيل: ظهر في صورة إنسان وتجلى فيه، فإن اللفظ يصير مشتركًا بين أن تكون ذاته فيها، وأن تكون قد صارت بمنزلة المرآة التي يظهر فيها، وكلاهما باطل، فإن ذات الله ليست في المخلوقات، ولا في نفس ذاته ترى المخلوقات كما يرى المرئي في المرآة) (3). وينقل الأستاذ أنور الجندي أيضًا عن شيخ الإسلام ابن تيمية ما يلي: إن الاتحاد بين الخالق والمخلوق ممتنع، لأن الخالق والمخلوق إذا اتحدا، فإما أن يكونا بعد الاتحاد اثنين كما كانا قبله، وهذا تعدد وليس باتحاد، وإما أن يستحيلا إلى شيء ثالث كما يتحد الماء واللبن والنار والحديد فيلزم أن يكون الخالق قد استحال وتبدلت حقيقته كسائر ما يتحد مع غيره، وهذا ممتنع على الله، إذ الاستحالة تقتضي عدم ما كان موجودًا والله تعالى واجب الوجود بذاته وصفاته الملازمة له والتي هي كمال، والتي إذا عدمت كان ذلك نقصًا يتنزه الله تعالى عنه) (4).ولاشك أن الإِله الخالق من فوق هذا الكون، وليس هو أي جزء فيه، (ولو كان جزءًا من الكون لكان من الممكن أن يكافئه جزء آخر منه، وقد يكون ذلك المكافئ – ولو من جهة من الجهات – أصغر منه وأضعف بوجه عام. ومتى وجد المكافئ أمكن أن يحتال عليه ويغلبه، أو أن تتعارض قواهما تعارضًا يعطل كل طرف منها الآخر وبذلك يتعرض الكون للفساد والدمار) (5).ولهذا فوجود الله كامل ذاتي (بمعنى أنه موجود لذاته لا لعلة مؤثرة فيه، ومن خصائص الوجود الذاتي أنه لا يقبل العدم، وأما وجود ما عداه فوجود ناقص وتبعي، بمعنى أنه مستمد من غيره، وأنه متوقف على القوة الموجدة له) (6). (وعقيدة (الألوهية)، عقيدة وظيفتها خلق الإِيمان، وإشعال وقدة الشوق والحب لذات الله، وإثارة عواطف الإِجلال والإِكبار له، وعقيدة هذا شأنها وخطرها، وتلك وظيفتها وعملها، يجب أن تبقى بحيث تكون قادرة على أن تمد الإِنسان بهذه المعطيات التي تجعل لله ما يجب أن يكون له، من تقديس وإجلال، ولن تحقق هذا المعنى إلا إذا ظلت متأبية عن أن تنزل إلى عالم الحس) (7). وبسبب ذلك فإن الذي يرجح الإيمان في القلوب، ويحتفظ به حيا في النفوس، هو هذا الحاجز الذي يحجز الناس من مشاهدة الله.   (1) أنور الجندي: ((المؤامرة على الإسلام))، (ص 53). (2) رواه مسلم في كتاب الفتن ورواه الترمذي في كتاب الفتن. (3) ابن تيمية: ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية))، (2/ 179 – 180). (4) أنور الجندي: ((المؤامرة على الإسلام))، (ص 54). (5) عبد الرحمن حبنكة: ((العقيدة الإِسلامية وأسسها))، (ص 194). (6) د. محمد سعيد رمضان البوطي: ((كبرى اليقينيات الكونية))، (ص 93). (7) عبد الكريم الخطيب: ((الله ذاتًا وموضوعا))، (ص 315). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 391 ذلك أن الإنسان يهدف بتقديسه لله إلى حقيقة خارجة عن نطاق الأذهان، وإن كانت تعبر عنها الأذهان، فإنها في هذا التعبير تشير إلى ذات مستقلة قائمة بنفسها، ليست مجرد عوض من الأعراض أو لقب من الألقاب. ثم إن هذا التقديس ليس تقديسًا لذات أيا كانت، وإنما هو تقديس لذات لها صفات خاصة، وأهم مميزاتها أنها ليست مما يقع عليه حس الإنسان، ولا مما يدخل في دائرة مشاهداته الدنيوية، وإنما هي شيء غيبي لا يدركه إلا بعقله ووجدانه) (1). وكيف تستطيع حواس الإِنسان المحدودة التي تدور في مجال محدود من مجالات الوجود المحسوس، أن تحيط بذات الله لو تجلي لها؟ وكيف تستقيم حياة الإِنسان، وهو يرى الله – عيانا – وهو قائم عليه؟ وكيف يكون سلوك الناس وهم يشهدون الله شهودًا صريحًا محسوسًا في كل زمان ومكان؟ إنها أسئلة كثيرة تقف فورًا عند طرح هذه الفكرة، التي لا يستسيغها عقل ولا يقبلها منطق، يقول أبو حامد الغزالي: (إن الحلول لا يمكن تصوره بين عبدين، فكيف يكون تصوره بين العبد وربه؟) (2). والحلول محال على الله لأسباب كثيرة، ذلك لأن القديم يختلف عن الحادث لاختلاف الماهية في كل منهما، وهذا الاختلاف يوجب استحالة حلول القديم في الحادث. ثم إن الله واجب الوجود، وهذا الوصف ينفي الحلول لأنه في حالة حدوثه يصبح الحال تابعًا لما حل فيه، كما يصبح معلولاً لهذا المحل ومتأثرًا به، بل إنه ليصبح في غير الإِمكان تصور الحال إلا بتصور المحل، إذن ينتفي الحلول في هذه المرة كما استحال في الأولى. وينقل الأستاذ أنور الجندي عن أبي حامد الغزالي قوله عن فكرة الاتحاد بين الله والإِنسان: (إن قول القائل: إن العبد صار هو الرب كلام يتناقض مع نفسه، بل ينبغي أن ينزه الرب سبحانه عن أن يجري اللسان في حقه بأمثال هذه المحاولات. وطريقة البرهنة على فساد ذلك عند الغزالي، هي أن يورد ثلاثة احتمالات لمثل هذا الاتحاد المزعوم: 1 – إما أن تظل كل ذات من الذاتين موجودة. 2 – وإما أن تفنى إحداهما وتبقى الأخرى. 3 – وإما أن تفنيا معا. وفي الحالة الأولى لا يكون هناك اتحاد، وفي الثانية كيف يمكن الزعم بأن هناك اتحادًا بين موجود ومعدوم؟ وفي الثالثة: لا يكون هناك محل للحديث عن الاتحاد، بل الأولى أن نتكلم عن الانعدام، والتناقض واضح في جميع هذه الاحتمالات. والعقل هو الذي يقرر وجود هذا التناقض، بعد أن جاء الشرع يبين فساد فكرة الاتحاد عند النصارى) (3). وفي القرآن الكريم مواقف كثيرة تكشف عظم هذا القول، واجتراءه على الله، يقول تعالى عن اليهود: وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون [البقرة: 55]. ولهذا جاءت الآية الكريمة التالية كاشفة كفر اليهود والنصارى بما قالوا واعتقدوا في هذا الموضوع: وقالت اليهود عُزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، ذلك قولهم بأفواههم يُضاهئون قول الذين كفروا من قبل، قاتلهم الله أنى يؤفكون. اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون [التوبة:31 - 32].   (1) محمد عبد الله دراز: ((الدين))، (ص 41). (2) أنور الجندي: ((الإِسلام والفلسفات القديمة))، (ص 138). (3) أنور الجندي: ((المؤامرة على الإسلام))، (ص 55). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 392 وتكذيبًا لما قالوا وزعموا بين تعالى حقيقة ذاته: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11]. (وذات الله – مع أنها فوق أن تُدرك وأن تُحد – قد وصفت في القرآن بصفات كثيرة كالإِرادة والعلم والقدرة وغيرها، وهي صفات كاملة الكمال المطلق) (1). وبهذه الطريقة تقبل السلف الصالح موضوع الذات الإلهية. وإرسال الرسل والأنبياء من قبل الله تعالى، يدحض كل مزاعمهم بالحلول والاتحاد، إذ بظهوره أو اتحاده في الإنسان، ما كانت هناك حاجة للرسل والأنبياء. ونستنتج مما تقدم أن فكرة تجسد الإِله في صورة إنسانية، هي اجتراء على الله الذي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وضرب من المستحيلات لاختلاف ماهية كل منهما، وكذلك فهي زعزعة ليقظة الإِيمان في النفوس. لهذا أستطيع أن أقول: أن ادعاء الحاكم الألوهية بالإِضافة إلى مظهر الكفر والإِلحاد فيه وفي مبادئ مذهبه التي روجت فيما بعد كان كذلك ما يسمى بـ (جنون العظمة) والرغبة بالحكم والسلطان، وشهوة الظلم والقتل والاعتداء على الآخرين، حتى تخيل أنه الإِله، وزين له ذلك الأذناب الذين كانوا حوله من أمثال حمزة بن علي والدرزي والفرغاني وغيرهم، فازداد قتله وبطشه بالناس، وأخذه أموال الناس بغير حق، وإعطاؤها بغير حق أيضًا، ليقال عنه: المميت والمحيي، والرزاق والمانع. ولو أن هؤلاء الذين لازالوا يعتقدون بألوهية الحاكم، ومازالوا في الضلالات والمتاهات التي وضعها حمزة بن علي، أصغوا إلى نداء عقولهم ما بقي واحد منهم على هذا الاعتقاد الواهي، الذي لا يصدقه عقل، ولا تستسيغه نفس. المصدر: عقيدة الدروز عرض ونقض لمحمد أحمد الخطيب – ص 200   (1) عبد الكريم الخطيب: ((الله ذاتا وموضوعا))، (ص 405). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 393 المطلب الثاني: إبطال قولهم بالتناسخ والرجعة وهو قولهم: بأن الجسد قميص للروح، فعندما يموت الجسم، تنتقل إلى جسم آخر، باعتبار أن الروح لديهم لا تموت، بل يموت قميصها الجسم ويصيبه البلى. وتصور التناسخ بهذا الشكل، من الأوهام التي جاءت من قدماء اليونانيين، (والتي كان يعتقد بها الفراعنة، وظهرت في زمن فرعون الذي كان فيه موسى عليه الصلاة والسلام) (1)، (وهي العقيدة التي نجدها أيضًا في إنجيل بوذا) (2). ودليل بطلان هذا الاعتقاد يثبت بالشرع والعقل والحس المشاهد: وأما ما ثبت بالشرع فقد ورد به القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، فما جاء عن سؤال الملكين، وعذاب القبر، يدل بوضوح على بطلان ما يتوهم به البعض من أن الأرواح تظل متنقلة بين الأجساد، كلما انتسخ وجود واحدة منها في جسدها التي هي فيه، انتقلت منه إلى جسد آخر، وهكذا دواليك. (فالله سبحانه وتعالى يرسل ملكين إلى الإِنسان عقب وفاته، يسألانه عن دينه الذي عاش عليه، وعما علمه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فإما أن يتعرض إلى لون العذاب، أو لون النعيم، ولقد ثبت الخبر المتواتر من الكتاب والسنة عن سؤال القبر وعذابه، وأنهما واردان على روح الميت بيقين، إذ لا يتصور بدون ذلك خطاب ولا نعيم أو عذاب، إذا فالروح مشغولة بصاحبها محبوسة له أو عليه. كما قال الله عز وجل: كل نفس بما كسبت رهينة [المدثر: 38]، ولا يمكن أن تتصرف مولية عنه لتسكن جسدًا آخر تستقبل فيه سلوكًا جديدًا ووجودًا آخر) (3). قال تعالى مخبرا عن حياة البرزخ – هذه – فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيم ٍ [الواقعة: 83 - 94]. وقوله وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق: 19] أي جاءت بما بعد الموت من ثواب وعقاب، وهو الحق الذي أخبرت به الرسل. وقوله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99]، واليقين ما بعد الموت، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((أما عثمان بن مظعون فقد جاءه اليقين من ربه)) (4).وذكر تعالى عذاب القيامة والبرزخ معا في ذكره قصة آل فرعون فقال: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر: 45 - 46]. وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى المشركين يوم بدر في القليب ناداهم: ((يا فلان، يا فلان، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا، فقد وجدت ما وعدني ربي حقًا)) (5).   (1) ابن الجوزي: ((تلبيس إبليس))، (ص 80). (2) محمد علي الزغبي وعلي زيغور: ((البوذية وتأثيرها في الفكر والفرق الإِسلامية المتطرفة))، (ص 148). (3) د. محمد سعيد رمضان البوطي: ((كبرى اليقينيات الكونية))، (ص 296). (4) رواه البخاري (1243) بلفظ (أما هو فقد جاءه اليقين) (5) رواه البخاري (1370) ومسلم (2874). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 394 وهذا دليل على وجودهم وسماعهم، وأنهم وجدوا ما وعدوه بعد الموت من العذاب. وقال تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169]، وأيضًا قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر: 42]، وهذا بيان لكون النفس تُقبض وقت الموت، ثم منها ما يمسك فلا يرسل إلى بدنه وهو الذي قُضي عليه بالموت، ومنها ما يرسل إلى أجل مسمى. وقال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُون لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 99 - 100]. وقد أخبرنا تعالى أيضًا بأن هذه الأبدان التي فيها أرواحنا ستشهد علينا يوم القيامة بما عملت، قال تعالى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [فصلت: 19 – 22]. مما تقدم من الآيات والأحاديث، دليل خبري حاسم على بطلان التناسخ، إذ بذلك ينتفي العدل الإلهي عن بني الإِنسان (1).يقول ابن حزم الظاهري: (ويكفي من الرد عليهم، إجماع جميع أهل الإِسلام على تكفيرهم، وعلى أن من قال بقولهم فإنه على غير الإسلام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بغير هذا، وبما المسلمون مجمعون عليه من أن الجزاء لا يقع إلا بعد فراق الأجساد للأرواح بالنكر أو التنعيم قبل يوم القيامة، ثم بالجنة أو النار في موقف الحشر فقط إذا جمعت أجسادها مع أرواحها التي كانت فيها) (2).وهذه الدعوى لا تعتمد على برهان حسي أو عقلي، وقد قامت الأدلة على حدوث العالم، وما كان حادثًا فلابد له من نهاية) (3).   (1) ابن تيمية: ((مجموع الفتاوى)) (4/ 363 – 270). (2) ابن حزم الظاهري: ((الفصل في الملل والأهواء والنحل))، (1/ 91). (3) محمد البشبيشي: ((الفرق الإِسلامية))، (ص 88). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 395 وانتفاء تساوي نفسين في جميع الخصائص أمر حقيقي يقول ابن حزم: (إن تساوي نفسين في جميع الخصائص أمر غير ممكن، فليس في العالم كله شيئان متشابهان بجميع أعراضهما اشتباها تامًا من كل وجه، يعلم هذا من تدبير اختلاف الصور واختلاف الهيئات وتباين الأخلاق، وإنما يقال هذا الشيء يشبه هذا على معنى أن ذلك في أكثر أحوالهما لا في كلها، ولو لم يكن ما قلنا ما فرَّق أحد بينهما ألبتة) (1).هذا من ناحية النفس الإِنسانية أما من ناحية الأخلاق (فإن الأخلاق تتباين، والأخلاق محمولة على النفس التي هي محل لها. ومتى تباينت الأخلاق تباينت النفوس من ناحيتها، وإذا تباينت النفوس كانت نفس كل بدن من الأبدان من أي نوع كان خلاف التي في غيره من أبدان ذلك النوع بالضرورة، وإذا يبطل القول بانتقال نفس من بدن هي مستعدة له إلى آخر من نوع ذلك البدن تصلح له نفس أخرى له خصائصها وأخلاقها) (2).وينقل ابن حزم عن القائلين بالتناسخ قولهم: (إلى أن التناسخ هو على سبيل الجزاء، ذلك أن الله تعالى عدل حكيم رحيم كريم، فإذا هو كذلك فمحال أن يعذب من لا ذنب لهم بالجدري والقروح، فعلمنا أنه تعالى لم يفعل ذلك إلا وقد كانت الأرواح عصاة مستحقة للعقاب بكسب هذه الأجساد لتعذب فيها) (3). وهذا مشابه لاعتقاد الدروز أن من يولد أعمى وبه عاهة، إنما كان ذلك لعصيان هذه الأرواح في حيواتها السابقة. ويرد ابن حزم على ذلك بقوله: (ويكفي بطلان هذا الأصل الفاسد أن يقال لهم أن الحكيم العدل الرحيم على أصلكم لا يخلق من يعرضه للمعصية حتى يحتاج إلى إفساده بالعذاب بعد إصلاحه، وقد كان قادرًا على أن يظهر كل نفس خلقها ولا يعرضها للفتن ويلطف بها ألطافًا فيصلحها بها حتى تستحق كلها إحسانه والخلود في النعيم، وما كان ذلك ينقص شيئًا من ملكه. وحكم الشريعة أن كل قول لم يأت عن نبي تلك الشريعة فهو كذب وفرية، فإذا لم يأت عن أحد من الأنبياء عليهم السلام القول بالتناسخ فقد صار قولهم به خرافة وكذبًا وباطلاً) (4). ....... ومن مزاعم واعتقادات الدروز أيضًا، أن أنفس العالم لا تزيد ولا تنقص، ولا أجد ردًا على هذا الزعم، إلا الإحصاءات السكانية التي تتوالى من جميع بلاد العالم عن الانفجار السكاني، وتزايد أعداد السكان في العالم يوما بعد يوم ... وأتساءل لماذا لا يزال الدروز إلى الآن يؤمنون بهذا الاعتقاد والذي يدحضه العقل والمنطق السليم؟. المصدر: عقيدة الدروز عرض ونقض لمحمد أحمد الخطيب – ص 200   (1) ابن حزم الظاهري: ((الفصل في الملل والأهواء والنحل))، (1/ 93). (2) محمود البشبيشي: ((الفرق الإِسلامية))، (ص 88). (3) ابن حزم الظاهري: ((الفصل في الملل والأهواء والنحل))، (1/ 93). (4) ابن حزم الظاهري: ((الفصل في الملل والأهواء والنحل))، (1/ 93 – 94). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 396 المطلب الأول: نقضهم أركان الإِسلام، وفرضهم بدلها سبع دعائم تكليفية إن أول ما بدأه دعاة الدروز بعد إعلان ألوهية الحاكم، هو نقض الشريعة الإِسلامية وأركانها حتى يتسنى لهم أن يأتوا بشريعة تخالف وتنسخ شريعة الإِسلام، ففي رسالة (الجزء الأول من السبعة أجزاء) توضيح لذلك إذ تقول: اعلموا معاشر الموحدين لمولانا الحاكم، المقرين بإمامة عبده القائم، أنه لما غابت صورة المعبود وامتنع قائم الزمان عن الوجود، أيست كثير من النفوس عند غياب العيان المحسوس وتشاجروا في الحلال والحرام، وقالوا: هل فرض الباري سبحانه على لسان الإِمام فرائض يتمسك بها الأنام، وقال بعضهم: لابد للأمة من فرائض تضبطها عن الأهواء المحلومة من خوف أن تربطها، ولو لم يكن ذلك لزال الحفاظ. فلما رأيت ذلك وما قد وقع في نفوسهم من اليأس ... فتأملت كتابا وصلني من حضرة مولاي قائم الزمان عليه من معبوده أفضل التحية والسلام، يرسم لي فيه وضع الكتب وقراءتها على أهل البصائر ... ويأمرني بإيضاح ما أشكل على الطائفة من العلوم، واشتهار ما علمته من الفرائض والرسوم، فوضعت هذا الكتاب وهو الجزء الأول من السبعة أجزاء تشتمل على فرائض فرضها مولانا سبحانه ذو المنة والإِحسان، ونطق بها عبده قائم الزمان، تتلوا بعضها بعضا) (1). (فمسلك التوحيد في اعتقادهم تجاوز الدعائم الإِسلامية من حيث معناها المادي الظاهر، ليسموا بها إلى معانيها ومقاصدها الحقيقية) (2). ولهذا فقد اتخذ له فرائض توحيدية وردت في (رسالة ميثاق النساء) حيث تقول: (ويجب على سائر الموحدات أن يعلمن أن أول المفترضات عليهن معرفة مولانا جل ذكره وتنزيهه عن جميع المخلوقات ثم معرفة قائم الزمان وتمييزه عن سائر الحدود الروحانيين، ثم معرفة الحدود الروحانيين بأسمائهم ومراتبهم وألقابهم ... فإذا علمن ذلك وجب أن يعلمن أن مولانا جل ذكره قد أسقط عنهن السبع دعائم التكليفية الناموسية، وفرض عليهن سبع خصال توحيدية دينية، أولها وأعظمها: سدق اللسان، وثانيها: حفظ الإِخوان، وترك ما كنتم عليه وتعتقدوه من عبادة العدم والبهتان، ثم البراءة من الأبالسة والطغيان، ثم التوحيد لمولانا جل ذكره في كل عصر وزمان ودهر وأوان، ثم الرضى بفعله كيف ما كان، ثم التسليم لأمره في السر والحدثان. فيجب على سائر الموحدين والموحدات حفظ هذه السبع خصال والعمل بها وسترها عمن لم يكن من أهلها) (3). ونفهم من هذه الرسالة أن المولى قد أسقط عنهم سبع دعائم تكليفية ناموسية، وفرض عليهم سبع خصال توحيدية هي: 1 – أولها وأعظمها: سدق اللسان – ونلاحظ دائمًا أن الدروز لا ينطقون كلمة الصدق بالصاد، إنما ينطقونها ويكتبونها بالسين، وسبب ذلك هو حساب الجمل، فالسين تساوي ستين، والدال تساوي أربعة، والقاف مائة، فيكون المجموع مائة وأربعة وستين هم عدد حدود الدروز، ذلك أن حد الإِمامة تسعة وتسعون (أي أسماء الله الحسنى)، أي أن للإِمام تسعة وتسعين داعيًا، ولكل من الجناح الأيمن والجناح الأيسر ثلاثون داعيًا مجموعهم ستون داعيًا. يضاف إلى ذلك أربعة حدود علوية، فالمجموع الكلي مائة وثلاثة وستون حدا، يبقى بعد ذلك حد، وهو قائم الزمان حمزة بن علي، ومن هنا نطقوا كلمة صدق ومشتقاتها وكتبوها بالسين حتى تتفق مع حروف الجمل على هذا النحو. 2 – حفظ الأخوان: هذا لا يعني الأخوة الإِنسانية بل تعني بالأخ من شاطرها هذه الخصال. 3 – ترك ما كان عليه الموحدون وما اعتقدوه من عبادة العدم والبهتان: أي أن كل عبادة تقدم لسوى الحاكم لا تصادف إلا عدما.   (1) الجزء الأول من السبعة أجزاء. (2) د. سامي مكارم: ((أضواء على مسلك التوحيد))، (ص 112). (3) رسالة ((ميثاق النساء)). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 397 4 – البراءة من الأبالسة والطغيان – والمقصود الأنبياء -. 5 – التوحيد للمولى في كل عصر وزمان. 6 – الرضا بفعله كيفما كان. 7 – التسليم لأمره في السر والحدثان. ولا عجب في تفاني حمزة بالحث على الرضا والتسليم إذ يعلم أن القوم سوف يقرأون ما كتبه عن أفعال الحاكم مما يثير الاعتراض وسوء الظن ولذا شدد على ذلك وقال في رسالة الرضا والتسليم: (إياكم أن تكرهوا شيئا من أفعال مولانا فيكم، أو تظنوا به ظن السوء). وهذه السبع فرائض التوحيدية هي عوض السبع دعائم التكليفية: فصدق اللسان عوض الصلاة. وحفظ الإخوان عوض الزكاة. وترك عبادة العدم والبهتان عوض الصوم. والبراءة من الأبالسة والطغيان عوض الحج. والتوحيد لمولانا عوض الشهادتين. والرضا بفعله كيفما كان عوض الجهاد. والتسليم لأمره في السر والحدثان عوض الولاية) (1). وفي كتاب النقط والدوائر حديث عن هذه الفرائض، ومركز كل منها في معتقد الدروز، حيث يقول كاتب هذا الكتاب: والتوحيد هو المركز الأوسط، لأنه بمحل الهيولي الساري في الطبائع، فهكذا التوحيد ساري في الفرائض الأربعة المذكورة فما تقوى إلا به، وكذلك التوحيد لا يقوى ولا يكمل في نفس الموحد إلا بعلمه بهذه الفرائض، كما قال: إن سدق اللسان هو الإِيمان والتوحيد بكماله. وقال عن حفظ الإِخوان: وأن بحفظهم يكمل إيمانكم أي توحيدكم. وقال عن ترك العدم: إن العدم مضاد للوجود وسبيل يستدرج إلى الإِنكار والتعطيل والجحود. وقال عن البراءة: فمن اعترف منكم منهم بولد أو والد أو أخ أو ذكر أو أنثى، فهو ناكث للدين بريء من عظام الحجج والآيات. ثم إنك إذا نظرت إلى دائرة هذه الفرائض، فترى كل فريضة مقابلة ضدها وهي في ذاتها دائرة، فترى سدق اللسان مقابلة ترك العدم، وترى حفظ الإخوان قبالة البراءة من الأبالسة، وفي ذلك أيضا فائدة، وهي لما كانت هذه الفرائض قسمان: أمر ونهي، فكان في هذه الدائرة اثنتان أمر وهما: سدق اللسان وحفظ الإخوان واثنتان نهي وهما: ترك العدم والبراءة من الأبالسة. وأما المركز الذي هو التوحيد، فهو الوجود والتنزيه الذي هو قاعدة العبادات والفرائض كلها لكونه في عدد الفرائض خامسًا، لأنه غاية ونهاية، وكذلك لكون مجتمع القوة في الخامس من كل شيء، والحجج أربعة والإِمام خامسهم وهو أفضلهم، وكذلك اجتمعت القوة في الناطق الخامس والأساس الخامس والإِمام الخامس، وكذلك المقامات الخمسة التي ظهرت بالمُلك خامسهم الحاكم وهو الذي كشف التوحيد. وأما الرضى والتسليم فهما فروع، كما أن أصول الدعائم خمسة، والجهاد والولاية فروع أيضًا. ولما كان لا وصول إلى توحيد الباري سبحانه إلا بعد معرفته، فلذلك جعلت المعرفة أول الفرائض كما قال: ويجب على سائر الموحدين أن يعلموا أن أول المفترضات عليهم معرفة مولانا جل ذكره عن جميع المخلوقات. وهذه الفريضة التي هي المعرفة تفرعت عن الفريضة الخامسة التي هي التوحيد. وأما السدق فيلزم العبد في عشرة أحوال، وهي أصول لفروع كثيرة: التسديق بألوهية الباري سبحانه ووجوده في الصورة الناسوتية، وتنزيهه عن الصفات البشرية. ثم التسديق بإمامة قائم الزمان صلوات الله عليه، وأنه الإِمام السادق فيما بينه وشرعه وحلله وحرمه وأمره ونهاه. ثم التسديق بفضيلة الحدود صلوات الله عليهم أعني الأربعة وشرفهم وكمالهم. ثم التسديق ببقية حروف السدق سلام الله عليهم. والتسديق بفريق الهدى أنهم الأمة الناجية من جميع الأمم. ثم التسديق بالحكمة الشريفة أنها الدين الناجي.   (1) مخطوط (ذكر ما يجب أن يعرفه الموحد): مكتبة القديس بولس، الجامعة الأمريكية في بيروت (رقم 206) – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 715. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 398 ثم التسديق بانتقال النفوس الناطقة في الأجسام البشرية. ثم التسديق بالقضاء والقدر وأنه عدل جاري من الله. ثم التسديق بالقيامة أنها آتية بغتة لا ريب فيها ولابد منها. ثم التسديق للإخوان الثقات فيما يقولوه. أما البراءة من الأبالسة والطغيان، فالأبالسة والطغيان مجتمع كل فريق الضلال أولهم إبليس اللعين، فكلهم أبالسة وكلهم طغيان والإبلاس هو الإياس من الرحمة والبعد عن الغير (1). وقد خصصت إحدى رسائل الدروز الكبرى، والتي ألفها حمزة لنقض وإسقاط فرائض الإِسلام وعنوانها (الكتاب المعروف بالنقض الخفي) نورد هنا مقتطفات منها لأهميتها البالغة في معرفة نظرة الدروز إلى فرائض الإِسلام، يقول حمزة في هذه الرسالة: (أما بعد، فقد سمعتم قبل هذه الرسالة نسخ الشريعة بإسقاط الزكاة عنكم، وأن الزكاة هي الشريعة بكاملها. وقد بينت لكم في هذه الرسالة نقضها دعامة دعامة، ظاهرها وباطنها، وأن المراد في النجاة من غير هذين جميعًا، وقد سمعتم بأن يصير هذا الباطن المكنون الذي في أيديكم ظاهرًا والظاهر يتلاشى ويظهر معنى حقيقة الباطن المحض، وهذا وقته وأوانه وتصريح بيانه للموحدين، لا للمشركين، إلى أن يظهر السيف فيكون ظاهرًا مكشوفًا، طوعًا وكرها، وتؤخذ الجزية من المسلمين والمشركين كما تؤخذ من أهل الذمة، وقد قرب إن شاء مولانا وبه التوفيق. فأول البناء وقبة النهاء شهادة (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، التي حقن بها الدماء، وصين بها الفروج والأموال، وهي كلمتان: دليل على السابق والتالي، وهي أربعة فصول: دليل على الأصلين والأساسين، وهي سبع قطع: دليل على النطقاء السبعة، وعلى الأوصياء السبعة، وسبعة أيام، وسبع ليالي، وسبع أرضين، وسبعة جبال، وسبعة أفلاك، وأمثال هذا أسابيع كثيرة، وهي اثنا عشر حرفا، دليل على اثني عشر حجة الأساسية، وثانية بالمعرفة محمد رسول الله، ثلاث كلمات دليل على ثلاثة حدود: الناطق والثاني فوقه، والسابق فوق الكل. وهي ست قطع دليل على ستة نطقاء، وهي اثنا عشر حرفا دليل على اثنتي عشرة حجة له بإزاء الأساسية.   (1) كتاب ((النقط والدوائر))، (ص 65، 66، 67، 68، 69، 71، 77). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 399 إلى أن يقول ... : وكذلك اللام راجع إلى الألف، والألف الذي في (اللام) دليل على الإِمام، والألف الثاني دليل على التالي، واللام دليل على الناطق، إذ كان الناطق من التالي انبعث، ومنه كانت مادته، فالألف الثالث من (إلا) بمنزلة السابق، إذ هو بمنزلة رابع الحدود، دليل على الحجة والداعي والمؤذن، والألف الذي في اللام ليس له حد واحد تاليه، وكذلك الداعي يرجع إلى الإِمام لا غير، والناطق إلى التالي، والسابق بالحدود كلها. كذلك الألف الذي في (الله) واللامان المتصلان به بحد الناطق والتالي، والهاء التي هي ختامهم رتبت بمنزلة أسامة، فقال: (لا إله إلا الله) ألفا عن الكل المعنوية، وأشار إلى أسامة وألزمهم بأن يقولوا (محمد رسول الله) وهي ثلاث كلمات لأنه ثالث السابق، وهي ست قطع دليل على أنه سادس النطقاء. ثم أقام بعد الشهادتين، وبأساسه الصلاة في خمسة أوقات، وقد روى كثير من المسلمين عن الناطق (1) بأنه قال: ((من ترك صلاته ثلاثًا متعمدًا فقد كفر)) (2) وقال: ((من ترك الصلاة ثلاثًا متعمدًا، فليمت على أي دين يشاء)) (3).وقد رأينا كثيرًا من المسلمين يتركون الصلاة، ومنهم من لم يصل قط، ولم يقع عليه اسم الكفر، فعلمنا أنه بخلاف ما جاء في الخبر، وقد اجتمع كافة المسلمين بأن المصلي بالناس صلاته صلاة الجماعة فعله فعلهم وقراءته قراءتهم (4)، حتى أنه لو سها في الفرض الذي لا تجوز الصلاة إلا به، كان عليه الإِعادة مثل ما عليهم. فإذا كان رجل مصل بالناس يقوم مقام أمته، وتكون صلاته مقام صلواتهم، فكيف مولانا سبحانه الذي لا يدخل في عدد التشبيه؟ وله سنين بكثرة ما صلى بناس ولا صلى على جنازة، ولا نحر في العيد الذي هو مقرون بالصلاة بقوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر:2 - 3] فصار فرضًا لازمًا، فلما تركه مولانا جل ذكره، علمنا بأنه قد نقض الحالتين جميعًا الصلاة والنحر، وأنه يهلك عدوه بغير هاتين الخصلتين، وأن لعبيده رخصة في تركهما، إذ كان إليه المنتهى ومنه الابتداء في جميع الأمور، فبان له نقضه، وقد بطل صلاة العيد وصلاة يوم الجمعة بالجامع الأزهر، وهو أول جامع بني في القاهرة (5)، وكذلك أول ما بطل هو، فهذا ظاهر الصلاة ونقضها.   (1) المقصود النبي صلى الله عليه وسلم. (2) بهذا التحديد لم يرد، وورد بلفظ (من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر جهارا) رواه الطبراني في الأوسط (3348) قال عنه الهيثمي في المجمع (1/ 295) رجاله موثقون إلا محمد بن أبي داود فاني لم أجد من ترجمه وقد ذكر ابن حبان في الثقات محمد بن أبي داود البغدادي فلا أدري هو هذا أم لا، وأورده الألباني في الضعيفة (2508) (3) لم يرد حديث بهذا اللفظ (4) هذا تحريف وخلط، بل تكون قراءة الإِمام للقرآن بدلا منهم. (5) يقصد بالقاهرة القطعة التي بناها جوهر الصقلي عند فتحه لمصر، وأما أول جامع فهو مسجد عمرو بن العاص رضي الله عنه في الفسطاط. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 400 وأما الباطن فقد سمعتم في المجالس بأن الصلاة هي العهد المألوف، وسمي (صلاة) لأنه صلة بين المستجيبين وبين الإِمام، يعني علي بن أبي طالب، واستدلوا بقوله: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [العنكبوت:45] فمن اتصل بعهد علي بن أبي طالب انتهى من محبة أبي بكر وعمر، وقد رأينا كثيرًا من الناس اتصلوا بعهد علي بن أبي طالب وكانوا محبين لأبي بكر وعمر، وكانوا يمضون إلى معاوية ويتركون علي بن أبي طالب، وقالوا: إن العهد في وقتنا هذا هو الصلاة، لأنه صلة بينهم وبين مولانا جل ذكره، والفحشاء والمنكر: أبو بكر وعمر، وقد اتصل بعهد مولانا جل ذكره في عصرنا هذا خلق كثير لا يحصيهم غير الذي أخذ عليهم، ولم يرجعوا عن محبة أبي بكر وعمر، ولا عن خلاف مولانا جل ذكره وعصيان أوامره. فقد صح عندنا أنه بخلاف ما سمعنا في المجالس، ورأينا مولانا جل ذكره قد نقض الباطن الذي سمعناه، لأنه أباح لسائر النواصب إظهار محبة أبي بكر وعمر، وقرئ بذلك سجل على رؤوس الأشهاد ... فعلمنا بأنه علينا سلامه ورحمته قد أسقط الباطن مثلما أسقط الظاهر، فنظرنا إلى ما ينجينا من العذابين جميعًا، ويخلصنا من الشريعتين سريعًا، ويدخلنا جنة النعيم التي وعدنا بها، فعلمنا بأن الصلاة هي لازمة في خمسة أوقات فإن تركها أحد من سائر الناس كافة ثلاثًا فقد كفر، هي صلة قلوبكم بتوحيد مولانا جل ذكره لا شريك له على يد خمسة حدود: السابق، والتالي، والجد، والفتح، والخيال، وهم موجودون في وقتنا هذا، وهذه هي الصلاة الحقيقية، لأن الصلاتين: الظاهر والباطن، ومن مات ولم يعرف إمام زمانه وهو حي، مات موتة جاهلية، وهو معرفة توحيد مولانا جل ذكره، وقوله: (حي) يعني دائمًا أبدًا في كل عصر وزمان، والفحشاء والمنكر هما الشريعتان الظاهر والباطن. فمن وحد مولانا جل ذكره، ينهاه توحيد مولانا جل ذكره عن التفاته إلى ورائه وانتظاره العدم المفقود، وقال: (من ترك الصلاة ثلاثًا متعمدًا فقد كفر) يعني توحيد مولانا جل ذكره على يد ثلاثة حدود وهم: ذو معة، وذو مصة، والجناح، الحاضرون في وقتنا هذا، وهم موجودون ظاهرون للموحدين، لا للمشركين، وأنا أبين لكم أشخاصهم مع أشخاص حدودهم، وأشخاص (لا إله إلا الله) وأشخاص (الحمد لله رب العالمين) في غير هذا الكتاب بتوفيق مولانا جل ذكره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 401 تتلوه الزكاة، وقد أسقطها مولانا جل ذكره عنكم بالكلية، وقد سمعتم في مجالس الحكمة الباطنية بأن الزكاة ولاية علي بن أبي طالب والأئمة من ذريته، والتبري من أعوانه أبي بكر وعمر وعثمان، وقد منع مولانا جل ذكره عن أذية أحد من النواصب ... فبان لنا بأن مولانا جل ذكره بطل باطن الزكاة الذي في علي بن أبي طالب، كما بطل ظاهرها، وأن الزكاة غير ما أشاروا إليه في المجلس جميعا، وأنه في الحقيقة توحيد مولانا جل ذكره، وتزكية قلوبكم وتطهيرها من الحالتين جميعًا، وترك ما كنتم عليه قديمًا، وذلك قوله لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92]، والبر هو توحيد مولانا جل ذكره ونفقة ما تحبون، الظاهر والباطن، ومعنى نفقة الشيء تركه، لأن النفقة لا ترجع إلى صاحبها أبدًا. الصوم عند أهل الظاهر وكافة المسلمين يعتقدون بأن الناطق قال لهم: ((صوموا لرؤيته)) (1) ويرون في اعتقاداتهم أن من أفطر يومًا واحدًا من شهر رمضان، وهو يعتقد أنه قد أخطأ، وجب عليه صوم شهرين وعشرة أيام كفارة ذلك اليوم، وإن اعتقد أن إفطاره ذلك اليوم حلال له، فقد هدم الصوم كله، ومولانا جل ذكره هدم الصوم بكامله مدة سنين كثيرة بتكذيب هذا الخبر ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) وأمرنا بالإِفطار في ذلك اليوم الذي يعتقد المسلمون كلهم بأنه خاتم الصوم، ولا يكون في نقض الصوم أعظم من هذا ولا أبين منه لمن نظر وتفكر وتدبر. وباطن الصوم فقد قال فيه الشيوخ: بأن الصوم هو الصمت بقوله لمريم. وهي حجة صاحب زمانه (كلي واشربي وقري عينا) (2) يعني بالأكل علم الظاهر، وبالشرب علم الباطن، (وقري عينا) لمزيده، (فإما ترين من البشر أحدا) يعني أهل الظاهر (فقولي إني نذرت للرحمن) بالأكل على الظاهر، وبالشرب على الباطن، (وقري عينا) لمزيده، (فإما) يعني الإِمام (صوما) أي السكوت ... فبان لنا نقض ما كان في المجلس، وما وصفه الشيوخ من باطن الصوم وسكوته، وأن مولانا جل ذكره فطر الناس في ظاهر الصوم، وفطرهم في باطنه، وهو بالحقيقة غير الصومين المعروفين من الشريعتين، وهو صيانة قلوبكم بتوحيد مولانا جل ذكره، ولا يصل أحد إلى توحيده إلا بتمييز ثلاثين حدا ومعرفتهم روحاني وجسماني وهي: الكلمة، والسابق، والتالي، والجد، والفتح، والخيال، والناطق والأساس، والمتم، والحجة، والداعي، والأئمة السبعة، والحجج الاثنا عشرية، فصار الجميع ثلاثين حدًا. قال (3): فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران: 97]، قال أهل الظاهر عن الناطق: إن الحج هو المجيء إلى مكة والوقوف بعرفات وإقامة شروطه، ورأيت بخلاف قوله: (من دخله كان آمنا)، قالوا: الحرم بمكة، والحرم اثنا عشر مهلا من كل جانب، وقد شاهدنا في هذا الحرم قتل الأنفس، ونهب الأموال، وداخل الكعبة أيضًا السرقة، وهذا من الخلاف والمحال، وجميع ما يعملون به من شروط الحج فهو ضرب من ضروب الجنون، من كشف الرؤوس وتعرية الأبدان، ورمي الجمار، والتلبية من غير أن يدعوهم أحد، وهذا من الجنون. ومولانا جل ذكره قد قطع الحج سنين كثيرة، وقطع عن الكعبة كسوتها، وقطع كسوة الشيء كشفه وهتكه، ليبين للعالم بأن المراد في غيرها، وليس فيها منفعة.   (1) رواه البخاري (1909) ومسلم (1081) (2) الصحيح في الآية فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا *مريم: 26*. (3) يلاحظ دائما في رسائل الدروز حينما ترد آية قرآنية، يكتفي بأن يقال (وقوله وقال) ولا يقال: قال تعالى أو قوله تعالى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 402 وقال الشيوخ في الباطن: بأن الحرم هي الدعوة، وهو اثنا عشر ميلاً من كل جانب، وكذلك للدعوة اثنا عشر حجة، والبيت دليل على الناطق، والحجر دليل على الأساس، والطواف به سبعة هو الإِقرار به في سبعة أدوار، والوقوف بعرفات معرفتهم بعلم الناطق، ومنى ما كان يتمنى الراغب من الوصول إلى الناطق والأساس وحدودهما: وقد رأينا مولانا جل ذكره بطل الحج بإظهار محبة أبي بكر وعمر، وخمود ذكر علي بن أبي طالب، فعلمنا بأن الحج غير هذا الذي كانوا يعتقدون ظاهرًا وباطنًا، كما قال مولانا المنصور: هلم أريك توقن أنه هو البيت بيت الله لا ما توهمت أبيت من الأحجار أعظم حرمة أم المصطفى الهادي الذي نصب البيت والبيت هو توحيد مولانا جل ذكره، موضع السكن والمأوى الذي يطلب المعبود فيه، كذلك الموحدون أولياء مولانا جل سكنت أرواحهم فيه، ورب البيت هو مولانا جل ذكره في كل عصر وزمان كما قال: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ [قريش: 3] يعني مولانا جل ذكره. أما الجهاد وبه قام محمد وأظهر الإسلام، وجعله فرضًا على سائر المسلمين كافة، وقد رفعه مولانا جل ذكره عن سائر الذمة، إذ كانت الذمة لا تطلب إلا جبرًا، والمسلمون الجاحدون، والمؤمنون المشركون يقاتلونك في بيتك، وهم أذية لأهل التوحيد، وكل جهاد لا يجاهد فيه إمام الزمان فهو مسقوط عن الناس، وما قرئ في المجلس وألفه الشيوخ في كتبهم بأن الجهاد الباطن هو الجهاد للنواصب الحشوية الغاوية لهم، وقد منع مولانا جل ذكره عداوتهم والكلام معهم، فعلمنا بأنه قد نقض باطن الجهاد وظاهره، وأن الجهاد الحقيقي هو الطلبة والجهد في توحيد مولانا جل ذكره ومعرفته، ولا يشرك به أحد من سائر الحدود، والتبري من العدم المفقود. قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [النساء: 59]، قال أهل الظاهر وسائر المسلمين كافة بأن الولاية لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وكانت في بني أمية، ثم إنها رجعت إلى بني العباس، وكل واحد منهم إذا جلس في الخلافة كانت ولايته واجبة على المسلمين كافة، وقد نقضها مولانا جل ذكره، وكتب لعنة الأولين والآخرين على كل باب، ونبشهم من قبورهم. وأما باطن الولاية ومعرفة حقيقتها بإظهار محبة علي بن أبي طالب والبراءة من أعدائه، واستدلوا بقوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: 3] يعني علم الباطن وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3] يعني تسليم الأمر إلى علي بن أبي طالب وقد نقضها مولانا جل ذكره بقراءة السجل على رؤوس الأشهاد، فبان لنا بأن جل ذكره نقض باطن الولاية التي في علي بن أبي طالب وظاهرها. وأما الرتب الظاهرة والباطنة التي كانت للناطق والأساس، فقد جعلها مولانا جل ذكره لعبيده ومماليكه ... وكل ما يقال فيه من الأسماء مثل الإِمام وصاحب الزمان وأمير المؤمنين، ومولانا، كلها لعبيده وهو أعلى وأجل مما يقاس ويحد أو يوصف لكن بالمجاز لا بالحقيقة ضرورة لا إثباتًا، نقول: أمير المؤمنين جل ذكره من حيث جرت الرسوم والتراتيب على ألسنة الخاص والعام، ولو قلنا غير هذا لم يعرفوا لمن المعنى المراد، وتعمى قلوبهم عنه، وهو سبحانه ليس كمثله شيء وهو العلي (1) العظيم (2). وفي هذه الرسالة نجد ما يلي:   (1) هنا خلط بين آيتين كريمتين الأولى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ * الشورى: 11*، والثانية قوله تعالى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ * الشورى: 4 *. (2) رسالة (الكتاب المعروف بالنقض الخفي). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 403 أن الشهادتين في نظر الدروز تدلان على عبادة الحاكم وعلى أئمة دعوة الدروز، ولا يقصد بهما ما يقصده أهل السنة، ولا الإِسماعيلية. وأن الصلاة هي صلة قلوب الدروز بعبادة الحاكم على يد خمسة حدود، وهذه هي الصلاة الحقيقية في نظرهم. وأما الزكاة فهو عبادة الحاكم، وتزكية قلوبهم وتطهيرها وترك ما كانوا عليه. وفيما يتعلق بالصوم، فهو صيانة قلوبهم. وكذلك الحج صار له معنى مختلف، هو توحيد الحاكم. أما الجهاد فقد أسقطوه عن الناس، لأن الجهاد الحقيقي – كما يزعمون – هو السعي والاجتهاد في توحيد الحاكم ومعرفته وعدم الإِشراك به. وهكذا فإن هدم الشريعة الإِسلامية هو الهدف الأول والأخير من جميع الحركات الباطنية وفي مقدمتهم الدروز وإذا صنفنا الهدامين جاء حمزة في طليعتهم، ولذا لا نعجب إذا مهد لهذا بهذه الرسالة. ولهذا فإنه يعتبر نفسه مبيد الشريعة وناسخها، يقول في رسالة (التحذير والتنبيه): (أنا ناسخ الشرائع ومهلك أهل الشرك والبدائع، أنا مهدم القبلتين، ومبيد الشريعتين ومدحض الشهادتين) (1).   (1) رسالة ((التحذير والتنبيه)). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 404 وفي مصحف الدروز حديث استهزائي عن فرائض الإِسلام إذ يقول: (يا أيها الموحدون، خذوا حذركم، ود الذين ظلوا على أصنامهم عاكفين لو يرجعونكم إلى دينهم وعقائدهم الباطلة، فتستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير وحق. إن صلواتهم ذات الركوع الجسدي والسجود الظاهري، واتخاذهم كلام الكتاب رثاء ووسيلة، يخادعون بها الله الحاكم البر والموحدين، وما يخدعون إلا أنفسهم وهم يعلمون. لقد ضل قوم اتجهوا بأجسادهم إلى بيت حجارة قلوبهم، وغلوا في كفرهم، فألبس عليهم كل يوم خمس صلوات في نهج صاحب البيت، جل ذكره، وهو معهم، وتجلى لهم في مشرق شمس الناسوتية، ذات المشرقين والمغربين، تعالى الله مولى الموالي عن نقص المنقصين، وبهتان المتكبرين، وفي أنفسهم وما يبصرون، وغرتهم الأماني أصنام كعبتهم وأربابها) (1).ويضيف في مكان آخر من هذا المصحف استهزاء بالمسجد الحرام فيقول: (قل، ليس الإِيمان أن تولوا وجوهكم شطر المسجد الحرام، مثل بيت الأوثان، أو شطر المشرق والمغرب، أو التصعيد في جبل الذنوب والأصنام، أو اتباع سنة الجاهلية الأولى، ولكن الإِيمان والتوحيد هو فيمن آمن بمولانا الحاكم ربًا إلهًا لا معبود سواه) (2).ويعتبر بهاء الدين في (الرسالة الموسومة برسالة السفر إلى السادة) أن جميع اعتقادات الأمم الأخرى تمويهات ويقول: (وهذه الفرق من الأمم فهم النصرانية والمسلمين واليهودية والمجوسية أعني الإِبراهيمية الحشوية، ومن المذاهب كالنصيرية والقطيعة وأصحاب إسحق الأحمر وهم الحمراوية، وجميع من لم نسميه فقد بطلت دعاويهم لأنها تمويهات على الأمم وغير جائزة إلا على أشباه البقر والغنم، والعقل يقطع، والحق يدفع ويمنع صحة قول كل أحد من جميع من ادعته هذه الفرق) (3).ويحذر التميمي في رسالة (الشمعة) الموحدين من التمسك بشيء من الشرع فيقول: (وكل من ذكر عن نفسه أنه موحد وهو متمسك بشيء من الشرع فقد أبطل وكذب في قوله، بل هو ملحد كافر) (4).ولهذا نجد في مصحف الدروز أيضًا، إنكارًا للقرآن الكريم، بل يعتبرونه فرية، ويقول: (لقد ضل الذين جحدوا الحكمة واتبعوا فرية صحف اكتتبوها، فهي قبلة آبائهم، يتلونها بكرة وعشيا، وقالوا هذا من عند الله المعبود، ونسخوا ما يتلون) (5).بل وينكر هذا المصحف التقرب إلى الله بالعبادة ويقول: (مولانا نستعيذ بك من أن نكون من الذين يتقربون إليك بالعبادة، أو الذين يعملون للصالحات لتقربهم إليك زلفى، أف لتلك الأنفس وويل لها، لقد منيت بهوى شديد أضلها عن السبيل) (6).   (1) ((مصحف الدروز عرف صلوات الشرائع))، (ص 128 – 129). (2) ((مصحف الدروز عرف حقيقة الصلاة والإيمان))، (ص 182 – 183). (3) الرسالة الموسومة بـ ((رسالة السفر إلى السادة)). (4) ((رسالة الشمعة)). (5) ((مصحف الدروز: عرف عاقبة المكذبين))، (ص 241 – 242). (6) ((مصحف الدروز: عرف الأعراف أو تسبيح مؤذني نواقيس الأختام))، (ص 257) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 405 ويظهر لي من خلال رسائل الدروز ومصحفهم هذا، أن نقض الشريعة الإِسلامية والاستهزاء بأركانها ورسولها صلوات الله عليه، هما الشغل الشاغل لدعاة الدروز، باعتبار أن الإِسلام هو عدوهم الأول، وتقويض أركانه يمهد لهم الطريق لما يريدون وما يبتغون. ويؤكد هذا القول ما جاء في رسالة (الغاية والنصيحة) التي كتبها حمزة، والتي ينفي فيها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ويثبتها لنفسه فيقول: (وأنتم تعلمون أن لمحمد أربعمائة سنة وعشر سنين لم يظهر دينه على الأديان كلها، واليهود والنصارى أكثر من المسلمين، والهند والسند والزنج والحبشة أكثر منهم، والنوبة والزغاوة وأشكالهم من السودان أكثر من المسلمين، والأتراك والسقالبة (1) أكثر منهم، فلو كان الرسول محمد له أديان هؤلاء النطقاء لكان يجب أن يكون المسلمين أكثر العالمين أغلبهم في الأولين والآخرين، فلما لم يصح للمسلمين ذلك علمنا بأن الرسول الحقيقي هو عبد مولانا جل ذكره وهاديًا إليه وإمامًا على أمره لعبيده) (2).حتى أنهم يزعمون: أن الرسول عليه الصلاة والسلام طمس الرسالة ولم يبلغها وهذا ما ورد في (الرسالة الموسومة بالإِسرائيلية) إذ تقول: (كقول من نصب أحداهم (3) (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) (4) فما بلغها كما أمر الله تعالى، بل طمس معالمها بالظلم والإِبلاس، وجميع أصحاب الشرع فعلى هذا السنن يجرون) (5).ويصف كتاب النقط والدوائر الرسول صلى الله عليه وسلم بقول: (وكان محمد كثير العتو والظلم والفساد) (6).وهم أيضًا يعتبرون النبي صلى الله عليه وسلم إبليس اللعين، يقول شارح الميثاق: (ويعرف تكملة حروف الكذب الستة وعشرين معرفة عددا، لا معرفة فلان ابن فلان، بل يعرف أن محمد بن عبد الله هو إبليس اللعين، وأن علي بن أبي طالب هو زوجته، اثنا عشر حجة ظاهرة، ولعلي بن أبي طالب اثنا عشرة حجة باطنة كملت الستة وعشرين حروف الكذب ... ويعلم أن كل ما في الخلق من المعاصي والعقائد الفاسدة والفواحش الظاهرة والباطنة هي منهم وهم ينابيعها وأصلها ومركزها) (7).وفي (رسالة من دون قائم الزمان) كذلك حديث استهزائي عن فريضة الحج إذ تقول: (ولعمري إنه ما تعجب إلا من قوم قطعوا المفاوز ولقوا في سفرهم الهزاهز إلى بلد لم يكونوا بالغية إلا بشق الأنفس (8)،   (1) نسبة إلى جزيرة صقلية، والأصل الصقالية. (2) ((رسالة الغاية والنصيحة)). (3) كذا في الأصل. (4) يقصد الآية 67 في سورة المائدة. (5) ((الرسالة الموسومة بالإسرائيلية)). (6) كتاب ((النقط والدوائر)) (ص 95). (7) ((شرح الميثاق)): محمد حسين: مخطوط في جامعة شيكاغو رقم 3737 – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 29. (8) يقصد الآية الكريمة وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ * النحل: 7* .. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 406 قصدًا إلى حجر أسود وبيت جلمد ليس فيه حياة ولا نطق، فأي عجب أعجب من قوم هذا فعلهم ثم إنهم أنكروا على هذه الطائفة النورانية المضيئة، أعني أهل التوحيد عبادة الواحد المجيد الحاكم على كل الأشياء شهيد، فياليت شعري ما نفعهم من تقبيل الحجر الأسود وما اكتسابهم من الفوائد العقلية والعلوم الحقيقية الإِلهية، هل فعلهم إلا كفعل النصارى في الصليب، بل هم أشد عتوا، لأن الصليب موجود في كل البلاد، والحجر الأسود يسافر إليه أهل الضلالة من جميع العباد، وقبل وبعد، فإنما عظموا إكرامًا بزعمهم لنبيهم، أليس من قام مقام نبيهم في كل عصر وزمان أحق بالتفضيل والإِكرام والتبجيل؟ أليس هذا في العقول مستحيل؟ بأن قوما طلبوا إلههم طول أعمارهم لم يصح لهم منهم إلا اسما إذا كشف عنها لم يجد لها حقائق إلا بوجود صورة حية ناطقة مميزة، فلما ظهر المعبود وصح ما أشارت إليه الحدود أبوا واستكبروا وقالوا: إن هذا إلا بشر مثلنا وغرهم المولى جل ذكره الغرور) (1). وتعظيمهم للصدق، لا يعني ذلك على غير الموحدين، فالصدق لا يكون من الموحد إلا لأخيه الموحد، ولا يجوز أن يصدق أهل الطوائف والأديان الأخرى حتى ولو كان ذلك في جريمة قتل، بل يجب عليه الكذب، تقول رسالة (الجزء الأول من السبعة أجزاء): (وليس يلزمكم أيها الأخوان أن تسدقوا لسائر الأمة أهل الجهل والغمة والعمى والظلمة، وأن لا يلزمكم فيه شيئًا لهم. وليس لأحد من الموحدين فسحة من الكذب لإِخوانه إلا أن يكون هناك ضد حاضر لا يمكن كشف الأمور إليه، ولا شرحها بين يديه، وإن أمكن الصمت فهو أحسن، وإن لم يكن فلا بأس أن يحرف القول بحضرته أعني الضد، ويجب عليه أن يرجع بسدق الحديث لإِخوانه بعد خلوهم من الشيطان. ولا بأس بالسدق فيما لا يضر عند الأضداد لأنه يرفع، وهو ضرب من ضروب الجمال، ومثل أن يكون أحدكم قد قتل رجلاً من عالم السواد، فإذا سألوه عن ذلك جاز أن لا يسدقهم وألا يحققوا عليه القتل بإقراره، وأقاموا عليه الشهادة بقلة إنكاره، وما أشبه ذلك مثل أن يكون قد أخذ لأحدهم شيئًا أو غصبه على ريع أو مال، أو كان للضد عنده دين بغير وثيقة أو وديعة بغير بينة، وكان معسرًا عن وفائه غير واصل إلى رضائه، يجوز له الإِنكار وقلة السدق عند الإِعسار، وخيفة من ثبوت البينة عليه) (2).وجاء في مصحفهم حديث عن المحرمات المحرمة عليهم فيقول: (ولقد حرم مولاكم عليكم الخمرة، ومن يتخذها سكرا، فقد خلف خلفا أضاعوا الرشد واتبعوا الشهوات) (3)، فاذكروا يا أولي الألباب. ولا تقرضوا أموالكم لتأخذوا الربا أضعافًا مضاعفة، إن ذلك كان على الموحدين محذورا، ولقد عفا مولاكم عن الذين يأخذونه من غير الموحدين، مضطرين غير عادين. وإن أحد من الموحدين استجاركم، فأجروه، ثم أبلغوه مأمنه، أو أصابته مصيبة، فكلكم يكفله، إنما الموحدون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، وكان مولاكم بما تعملون خبيرا. ولا تركنوا للذين رفضوا الدعوة واستكبروا إنهم إن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاَّ ولا ذمة، يقولون بأفواههم الحق وتأبى قلوبهم (4)، وأكثرهم فاسقون، فاعتبروا يا أولي الألباب.   (1) رسالة من دون قائم الزمان. (2) رسالة الجزء الأول من السبعة أجزاء. (3) يلاحظ هنا كيفية تحريف الآية الكريمة فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ * مريم: 59 *. (4) كذلك يلاحظ كيفية تحريف هذه الآية كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ *التوبة: 8*. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 407 والذي أكره منكم على الكفر أو الفحشاء، وهو مؤمن موحد، أو عمل سوءا لجهالة، أو غم عليه فنسي، فلا يؤاخذ مولانا إلا الذين اقترفوا الإِثم وهم يعلمون، فأولئك لهم عذاب موقوت. وقال الذين كفروا منكم، إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم وعليه وجدنا آبائنا، قل لو كنتم على الهدى لآمنتم به، ولكنكم لا تعلمون غير ما تهواه أنفسكم، وأنتم تجهلون، نحن أعلم بما في أيديكم ونحن المنزلون. لقد ضل هؤلاء الذين يريدون أن يحكموا بالقرآن، ويتخذوه سبيلا، ثم به يكفرون بعد أن تبين لهم الحق، قل أليس الحق أحق أن يتبع) (1).ومع أن الدروز لا يجيزون صوم شهر رمضان، لكونه من فرائض الإسلام، إلا أنهم يصومون في أيام خاصة، وهي التسعة أيام الأولى من شهر ذي الحجة، وصيامهم هو نفس الصيام الإسلامي من امتناع عن الأكل والشرب، (ويبيحون أيضًا الصوم في أي شهر غير شهر رمضان) (2). (وعيدهم الأكبر والوحيد هو عيد الأضحى) (3).وقد بنى الدروز المساجد في قراهم ومدنهم تسترا من المسلمين الذين كانوا يعيشون بين ظهرانيهم وتقربا منهم وتمويها عليهم، وذلك حتى يأمنوا منهم على أنفسهم وينفوا عنهم تهمة الردة وحدها، ولكنهم بدأوا يبتعدون عن هذه السرية، ويعلنون حقيقة أمرهم. (ولما قامت فتنة سنة 1860 م في لبنان، بدأت آخر دلالة شعائرية بالانقراض، ونعني بها شعائر الصلاة في المساجد الكثيرة التي كانت منتشرة في القرى الدرزية، ولجأ الدروز إلى الخلوات وتركوا المساجد نهائيًا) (4).حتى وصل بهم الأمر في الوقت الحاضر أن يمنعوا قيام المساجد للمسلمين الموجودين في قراهم، وقد حدثني أحدهم ممن كان يقيم في جبل الدروز بسورية، أن المسلمين المقيمين هناك حاولوا بناء مسجد في مدينة السويداء عاصمة جبل الدروز، وعندما حضروا في اليوم التالي وجدوا ما بنوه مهدومًا، ولم يقم هذا المسجد إلا بعد الاستعانة بقوة عسكرية لحمايته (5).ونظرة الدروز إلى العبادات تتوافق مع عقليتهم التي ترى في هذه الطقوس والشعائر أمرًا لا فائدة منه بل يعتبر عملاً مهجورًا كما صرح بذلك جنبلاط (6).فالدروز يعتبرون أنفسهم ملة الوحدة الأساسية بين الأشياء والكائنات والله (7)، ولذلك فقد سقطت عنهم العبادات بكل مظاهرها وشعائرها لأن الدرزي اتحد مع الوجود ومع الله – جل وعلا -.لهذا فالشخصية الدرزية لا تبالي بالحياة الخارجية تحفل بها، فالمظاهر هي المظاهر، والحقيقة يمكن أن يجدها أينما كانت وفي كل الديانات، حتى أن جنبلاط يرى أن الدرزي هو كل توحيدي، أي كل من يعتقد بوحدة أديان العالم كافة، وكائنًا ما كان طقوسها وشعائرها، فهم اسم ينصرف إلى مسيحيين وبوذيين ومسلمين وهندوكيين، أي كما يشبهه جنبلاط جماعة (وردة الصليب) (8). ويورد جنبلاط مثالاً حيًا على عقلية الدروز هذه فيقول: أن الأميرين فخر الدين الأول والثاني وُلدا درزيين وعاشا مسيحيين وماتا مسلمين. المصدر: عقيدة الدروز عرض ونقد لمحمد أحمد الخطيب – ص 215   (1) ((مصحف الدروز: عرف الحرمات))، (ص 150 – 155). (2) كريم ثابت: ((الدروز والثورة السورية))، (ص 46) – ومحمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص 123). (3) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص 123). (4) د. مصطفى الشكعة: ((إسلام بلا مذاهب))، (ص 308). (5) وقد حدثني الأستاذ زهير الشاويش: بأن هذا الجبل كان عامرا بالمساجد منذ دخل الإسلام حتى ما قبل مئة سنة. (6) كمال جنبلاط ((هذه وصيتي)) (ص 53). (7) كمال جنبلاط ((هذه وصيتي)) (ص 51). (8) كمال جنبلاط ((هذه وصيتي)) (ص 54) ومما يذكر أن هذه الجماعة هي التي انبثقت عنها الماسونية في بريطانيا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 408 المطلب الثاني: الزواج والطلاق والوصية عندهم توصي رسالة (شرط الإِمام صاحب الكشف) بالنساء، وتوجب على الدرزي أمورًا أخرى خاصة بهن حيث يقول: (والذي توجبه شروط الديانة أنه إذا تسلم أحد الموحدين بعض أخواته الموحدات فيساويها بنفسه وينصفها من جميع ما في يده، فإن أوجب الحال فرقة بينهم فأيهم كان المعتدي على الآخر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 409 فإن كانت المرأة خارجة عن طاعة زوجها وعلم أن فيه القوة والإِنصاف لها، وكان لابد للمرأة من فرقة الرجل، فله من جميع ما تملكه النصف إذا عرفوا الثقات بتعديها عليه وإنصافه لها. وإن عرفوا الثقات أنه محيف عليها وخرجت من تحت ضرورة، خرجت بجميع ما تملكه، وليس له معها شيء في مالها. وإن كانت هي المخالفة له، وليست تدخل من تحت طريقته فلها النصف من جميع ما تملكه، ولو أن ثوبها الذي في عنقها، وإن اختار الرجل فرقتها باختياره بلا ذنب لها إليه فلها النصف من كل ما يملكه من ثوب ورحل وفضة وذهب ودواب، وما حاطته يده لموضع الإِنصاف والعدل) (1).وهكذا نجد أن الدرزي إذا اضطر إلى الطلاق، (فينبغي أن يعرف من منهما المقصر في معاملته الآخر، فإذا كانت الزوجة هي التي ترغب في الطلاق فيكون لزوجها نصف ما تملكه، بعد أن يشهد عدول أنها هي المقصرة في حق زوجها، وأنه كان يعاملها معاملة حسنة، وإذا شهد بأنه كان يهينها ولا يعاملها بالمساواة فلها أن تأخذ معها كل ما هو لها دون أن يسمح له بأن يأخذ منها شيئا، وإذا شاء الرجل أن يطلق زوجته من تلقاء نفسه دون أن تكون قد أذنبت، يكون لها نصف ما يملكه من بيته وأثاثه وأمواله ودوابه) (2). (وإذا طلق الدرزي زوجته فلا يجوز له أن يتزوجها مرة أخرى، سواء بمحلل أو غير محلل، فهم لا يميزون بين الطلاق الرجعي، والطلاق البائن بنوعيه بينونة صغرى، وبينونة كبرى، بل الطلاق عندهم طلاق واحد، ولا يجوز بعده أن يرجع الرجل إلى مطلقته) (3).ويقول صاحب كتاب (الدروز والثورة السورية): (أن المقصود من الزواج عندهم إيلاد البنين فقط، لا اقتضاء الشهوة، ومتى صار للرجل من زوجته أربعة أولاد إذا كان غنيا، وإذا كان فقيرا حتى لا يكون ضيق عليه في تقديم لوازم المعيشة، فيجب عليه حينئذ أن يبتعد عن زوجته بقية العمر) (4).ولكن صاحب كتاب (بنو معروف – الدروز -) يقول: (وهذه القاعدة لا يحافظ عليها إلا أفرادا قلائل من عقالهم الذين يعتبرون أن الزواج لحفظ النسل فقط) (5).يقول شارح الميثاق: (فإذا قصد جماع الزوجة فيكون مقصوده ونيته في ذلك الولدية لا غير، فأول مرتبته وجود الولد، فلا يجوز للرجل جماع زوجته مع حملها أبدًا للخوف من إفساده) (6).ولا يجوز عندهم زواج الدرزية من غير الدرزي، ولا زواج الدرزي من غير الدرزية، فإذا حدث زواج من هذا القبيل فإنه يكون باطلاً ولا يجوز أيضًا تعدد الزوجات، والتزوج بأكثر من واحدة، بل يجب الاقتصار على زوجة واحدة) (7).يقول الأستاد أمين طليع في كتابه الذي قدمه الشيخ محمد أبو شقرا شيخ عقل الدروز عن تعدد الزوجات ما يلي: (إن تعدد الزوجات ممنوع قطعًا، فإذا جمع الرجل بين زوجتين، كان زواجه من الثانية باطلاً حكمًا) (8).والوصية عندهم تجوز بجميع المال لوارث ولغير وارث، فللدرزي أن يوصي قبل موته بأملاكه لمن يشاء، ولكن بشرط أن تكون الوصية بالمال الذي اكتسبه بسعيه هو نفسه، أما إذا كان قد ورثه فلأولاد الموصي أن يطلبوا القسمة إن كان قد ورث ما في يده عن آبائه، لأن ذلك – ما للبيت – تستوي فيه الأصول والفروع، فإن كان قد اكتسبه بسعيه لم يكن لهم ذلك، لأن مال الشخص ينفرد فيه بنفسه) (9).ويطلب مصحف الدروز منهم أن يوصوا بجزء من أموالهم، وخاصة الموسرين منهم، لعقالهم ومساكينهم، ويقول: (يا أيها الموحدون، كتب عليكم، إذا حضر أحدكم الموت وكان ذا ميسرة، فليوص لذوي العسرة والمساكين منكم، الذي لا يسألون الناس إلحافا، والقائمين على شؤون دينكم في الحكمة والموعظة الحسنة، بجزء من اثني عشر جزءا مما ترك، وليكفل القسمة أولئك القائمون منكم على شؤون دينكم، الذين يتلون حكمة وصلوات هذا المصحف المنفرد بذاته، العاملون عليه، الحاكمون به الموحدين بالعدل، الذين جعلوا خلائف الحدود) (10). المصدر: عقيدة الدروز عرض ونقد لمحمد أحمد الخطيب – ص 235   (1) رسالة شرط الإمام صاحب الكشف. (2) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص 123 – 124). (3) د. عبد الرحمن بدوي: ((مذاهب الإسلاميين)) (ص 661) (4) كريم ثابت: ((الدروز والثورة السورية))، (ص 49). (5) سعيد الصغير: ((بنو معروف الدروز)) (ص 241). (6) ((شرح الميثاق)): محمد حسين: مخطوط في جامعة شيكاغو رقم 3737 – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 29. (7) د. مصطفى الشكعة: ((إسلام بلا مذاهب))، (ص 293). (8) أمين طليع: ((أصل الموحدين الدروز وأصولهم))، (ص 130). (9) مخطوط (في تقسيم جبل لبنان): الجامعة الأردنية في بيروت رقم 31 – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 699، وأمين طليع: ((أصل الموحدين الدروز))، (ص 148). (10) ((مصحف الدروز: عرف الوصية))، (ص 126). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 410 المطلب الثالث: تقسيم المجتمع الدرزي إلى عقال وجهال ونظام الخلوات عندهم يعيش الدرزي الآن في (لبنان، وسورية، وفلسطين). وينقسم المجتمع الدرزي من الناحية الدينية إلى قسمين: (روحاني، وجثماني، فأما الروحاني فهو الذي بيده أسرار الطائفة ويقسم إلى ثلاثة أقسام: رؤساء، وعقلاء، وأجاويد. والجثماني: وهو الذي لا يبحث في الروحيات بل يبحث في الدنيويات ويقسم إلى قسمين: أمراء وجهال. فالرؤساء بيدهم مفاتيح الأسرار العامة، والعقال بيدهم مفاتيح الأسرار الداخلية والأجاويد بيدهم مفاتيح الأسرار الخارجية، والأمراء الجثمانيون بيدهم مفاتيح الأسرار الخاصة، وزعماء الجهال بيدهم قبضة السيف والزعامة) (1). والعقال ينقسمون بدورهم إلى درجات ثلاثة: (منهم الطبقة التي تعرف بالمنزهين، وأصحاب هذه الطبقة في أشد العبادة والورع، فمنهم من لا يتزوج حتى يموت، ومنهم من يصوم كل يوم إلى المساء، ومنهم من لا يأكل اللحم في جميع حياته. والطبقة الأخرى: هي الشراح، ويرخص لهؤلاء بالاطلاع على ما كتبه الأمير عبد الله التنوخي أحد مشايخهم، وهو الذي بنى المساجد وجدد الجوامع وكان على ما قيل يريد أن يرجع بالدروز إلى مذهب أهل السنة والجماعة) (2). ويبدو لي أن الأجاويد من طبقات الثلاث للعقال. (ويجتمع العقال في أماكن العبادة التي تعرف بالخلوات (جمع خلوة) لسماع ما يتلى عليهم، وبعد تلاوة المقدمات، يخرج من الخلوة الطبقة الدنيا من العقال، ثم بعد تلاوة بعض الرسائل البسيطة التي ليس بها تأويلات تخرج الطبقة الثانية بحيث لا يبقى إلا رجال الدرجة الأولى الذي لهم وحدهم الحق في سماع الأسرار العليا للعقيدة، أما الجهال فلا يسمح لهم بحضور هذه الخلوات، أو لسماع شيء من الكتب المقدسة إلا في يوم عيدهم الوحيد، وهو يوافق عيد الأضحى عند المسلمين) (3). (والعقال يعملون لهم مناسك يبنونها بعيدًا عن البلدان التي هم بها نحو مسافة نصف ساعة وغالبًا يكون بناؤها على مرتفع ويتفردون فيها أكثر الأيام ليلاً ونهارًا ويسمون هذه المناسك خلوات البياضة، هي على سطح جبل فوق قرية حاصبيا – في لبنان -، تزيد على ستين خلوة) (4). (والعقال يستحرمون (5) أيضًا مال أولياء الأمور من أي جهة كان، وجميعهم يستحلون أموال التجار من أي جهة كانت، فإذا قبضوا دراهم محرمة أتوا بها إلى التاجر ليبدلونها منه. وكل عاقل لا يتناول شيئًا من المسكرات ونحوها على الإِطلاق ولو كان مدمنًا عليها في أيام الجهل، وهذا التحريم قد تظاهروا به منذ مائتي سنة فقط بإرشاد الأمير التنوخي، وأما قبل زمن فلم يكونوا يتحاشوه، ولا يفحش العاقل في كلامه على كل حال ولو كان قبل ذلك من السفهاء، ولا يسرف في طعامه وشرابه ولو دعت الحاجة إلى ذلك الإِسراف) (6). (وأما الجاهل في نظرهم كالحارس الذي يحرس بيتًا في الخارج ويجهل معرفة أسراره الداخلية، وهكذا يعيش الجاهل منهم درزيًا ولا يعلم من الدرزية سوى شيء يسير جدًا، كالاعتقاد بألوهية الحاكم، وإمامة حمزة والأربعة حدود، والتقمص، والعلامة السرية التي يجعلونها لمعرفة بعضهم البعض) (7).   (1) كريم ثابت: ((الدروز والثورة السورية))، (ص 32 – 33). (2) محمد كرد علي: ((خطط الشام))، (6/ 266 – 267). (3) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص 31). (4) كريم ثابت: ((الدروز والثورة السورية))، (ص 51). (5) كذا في الأصل. (6) مخطوط (في تقسيم جبل لبنان): الجامعة الأمريكية في بيروت رقم 31 – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 699. (7) كريم ثابت: ((الدروز والثورة السورية))، (ص 33 – 55). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 411 (ولا يسمح لطبقة الجهال بالانتقال إلى طبقة العقال إلا بعد امتحان عسير شاق يقوم على ترويض النفس وإخضاع شهواتها مدة طويلة، وقد يستمر الامتحان أكثر من سنة حتى يثق الشيوخ بأحقية الطالب أن ينتقل من طبقة الجهال إلى طبقة العقال. والعقال في المجتمع الدرزي يعرفون بعمائمهم ولبس القباء الأزرق الغامق، ويطلقون لحاهم (1) على أن الذين يسند إليهم وظائف حكومية يباح لهم ترك هذه الملابس وارتداء الزي الذي يطلبه منصبه الرسمي. والنساء في المجتمع الدرزي، ينقسمن أيضًا إلى عاقلات وجاهلات مثل الرجال تمامًا، والنساء العاقلات يلبس النقاب وثوبا اسمه "صاية") (2). (وإذا وجدت هناك عاقلة زوجة لأحد الجهال، فلا يجوز لها أن تخاطبه بشيء من أمور الديانة، ولا تطلعه على شيء منها، وتخفي كتبها عنه ضمن صندوق مقفول) (3). وفي رسالة صغيرة عنوانها (من تعليم دين التوحيد) ملحق على طريقة السؤال والجواب حول كيفية دخول الرجل في سلك العقال، والعهد الذي يؤخذ عليه، وفيما يلي نصه: س: بأي وجه يكون دخول الإِنسان في دين مولانا، ومن يدخله؟ ج: يُدخله الإِمام، وذلك باتحاده مع الموحدين مدة عامين لكي يتقبلوه بينهم، وأن يكون واحدًا منهم، ومتى قبلوه يدخله الإِمام بينهم يسلك مسلكهم. س: كيف يكون تقدمه؟ يقدمه جماعة الموحدين أمام الإِمام ويحرضه على حفظ السر ويعلن له الحقائق والطرائق، ويطعمه تينا، ويقول له: يا رجل أتؤمن بدين النبي؟ وتريد أن تأخذ هذا الدين وتصير من جملة المتوحدين، فيجيب: نعم أؤمن، فيسلم الحجاب ويصير واحدًا منهم صحيحًا تمامًا. س: كيف يجب أن يكون سلوكه بعد دخوله؟ ج: يجب أن يتظاهر بالحشمة والآداب، وطول للروح، والكلام اللائق والهدوء، والسلام والكلام اللين، وبما يضاهي به إخوانه الموحدين. س: ما هو العهد الواجب عليه وما هي صورته؟   (1) هذا على الغالب، وأما ترك الشارب فهو عند الجميع. (2) محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص 32). (3) كريم ثابت: ((الدروز والثورة السورية))، (ص 55). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 412 ج: هذه صورته: باسم الإمام مولانا الأعظم المنزه عن العاهات والوالد القادر، الذي لم يخلق ولم يولد، ولم يكن له كفوءا أحد، أنا فلان ابن فلان قد نويت وعزمت أن أضع نفسي وجسدي ومالي وحريمي وأولادي وأرزاقي وأعلامي، وكل ما تملك يدي تحت يد الطاعة، لسيدي ومولاي الحاكم بأمره العلي العلامة أمير الحكام صاحب الجبروت القادر على جميع الكائنات قد سلمت حالي إليه، ووعدته باتكالي عليه، وأقر الإِقرار التام، وأشهد أمام إخواني الموحدين وسيدي الإِمام، أني قد تبريت من الأديان، ولا أريد شيئًا يخالف أو يناقض الوحدانية، ولا أقر أن في السماء إلهًا معبودًا، ولا في الأرض إمامًا موجودًا سوى سيدي ومولاي الحاكم بأمره العالي المقتدر الحكيم بتدبيره، وهو نصيري ومجيري وإليه فوضت كل أمري وتدبيري، وكرهت ورذلت كل ما يبعدني عن عبادته وطاعته وصدقه. وقد كتبت هذه الوثيقة على نفسي وأنا بصحة العقل والجسم ومن كل إراداتي وخاطري من دون اغتصاب، وقد قريت بالدعوات والحدود الباقية المقرين بمولانا الحاكم بأمره الأمين، وأذنت بالشهود علي، وأقر أمام الشهود بكذا وكذا من سنة مولانا ومملوكه حمزة بن الهادي عدو المشركين والمنتقم منهم بسيف مولانا وسلطانه وحده لا معبود سواه) (1).وللدروز رئيس ديني يلقب بـ (شيخ العقل) (2) ويتولى منصبه بالانتخاب أو الاتفاق بين الزعماء وكبار رجال الطائفة، ولشيخ العقل أعوان في كل قرية أو بلد (3).هذا بالنسبة إلى التقسيم الديني، أما من الناحية الاجتماعية، فالنظام السائد في المجتمع الدرزي هو النظام الإقطاعي الديني الذي كانوا عليه منذ عدة قرون، فالقرى خاضعة لشيخ القرية الذي يختاره الأمير، وشيوخ القرى خاضعون للأمراء الذين يتوارثون الإِمارة ولذلك يأبى الدروز منذ عصورهم الأولى أن يخضعوا إلا لمشايخهم فقط، ولا يعترفون بسلطة أحد سوى أمرائهم (4). ويقيم عقال الدروز عادة في مناطق نائية تسمى (الخلوات)، وعن هذه الخلوات يحدثنا صاحب مذكرة (أيها الدرزي عودة إلى عرينك)، عن كيفية قيامها وطريقة الوعظ فيها فيقول: (قبل عام 1762 م لم يكن للدروز خلوات، أو كانت ولكن ليست ظاهرة، ولا شيوخ عقل بل كانوا تحت جناح الإِسلام مباشرة وبقي شيوخ العقل يتخبطون في خلواتهم بين الرسائل والشروح، إلى أن تسلم الرياسة الروحية في جبل حوران الشيخ إبراهيم البجري، فقرر قراءة الكتابين الأولين (أي ميثاق ولي الزمان وكشف الحقائق) مع شيء من الكتاب الثالث (أي مناجاة ولي الحق) على كل درزي تتوفر فيه الشروط الدينية. ثم قسم الشيخ إبراهيم الكتاب الثاني والثالث إلى ثمانية أقسام، وعين لكل ليلة من ليالي الأسبوع قسما منها، وضم لها أقسامًا معلومة من رسائل أخرى، ودعى هذا كله دورا. فدور مساء الخميس مثلاً، الميثاق والكشف والتنزيه وشعر النفس، ودور مساء الجمعة الميثاق والدامغة والرضا وشعر النفس ... وهكذا لكل ليلة دورها الخاص، مع الملاحظة أن الاجتماع الرسمي هو مساء الخميس، والقراءة في الجمعة وسواها جماعية.   (1) رسالة (من تعليم دين التوحيد) المعروف بدين الدروز، (ص 30 – 32). (2) يقول الأستاذ زهير الشاويش: أن هذا المركز يتعدد في لبنان، فهناك رئيس متقدم باسم شيخ العقل هو الشيخ محمد أبو شقرا، وهناك شيخ آخر، ومنذ سنوات توفي شيخ عقل ثالث، ويظن أن هناك اتفاق على عدم تعيين بدلا عمن يتوفى، وفي جبل الدروز بسورية شيخان للعقل، وفي فلسطين شيخ عقل هو أمين طريف. (3) محمد كامل حسين، ((طائفة الدروز)) (ص 32). (4) أحمد الفوزان: ((أضواء على العقيدة الدرزية))، (ص 75). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 413 وهناك بعض فصول من الرسائل، رأى الشيخ إبراهيم وجوب قراءتها كل صباح، وقد دعا هذا الترتيب فرضا، وما زال عليه الناس في جبل حوران وسواه حتى يومنا هذا، وإن رأينا تعديلا في بعض المناطق، فهو لا يعدو إبدال فصل بفصل من رسالة واحدة أو رسالتين متغايرتين). وقد ثابر القوم على هذا المنهاج واعتبروه واجبا على كل درزي تتوفر فيه الشروط الدينية: وعن هندسة هذه الخلوات يقول: إن الشيخ إبراهيم أمر أن يقام في كل قرية درزية خلوة كبيرة تتسع لأكبر عدد من سكان القرية، وأطلق على هذا البناء اسم (مجلس حمزة) وهو يتألف من غرفة كبيرة تتوسطها مصطبة – طاولة ثابتة – بارتفاع سبعين سنتم تقريبًا، يعلوها ستار من القماش السميك بارتفاع متر ونصف تقريبًا، كأنها تقسم الغرفة قسمين وتحجب بينهما. يجلس الرجال في قسم والنساء في القسم الآخر، ولكل قسم باب ونافذة في مكان واحد. أما السبب في إقامة هذا الحاجز فهو: 1 – فصل النساء عن الرجال والحيلولة دون رؤية بعضهما. 2 – إيصال صوت الرجال إلى النساء اللواتي جئن لاستماع الحكمة. أما ترتيب الشيوخ في المجلس فهو على النحو التالي: يجلس الإمام – شيخ عقل القرية – في صدر المجلس قريبا من الزاوية، ويولي ظهره للقاطع – المصطبة ثم يجلس الشيوخ عن يمينه وشماله بصفوف غير منتظمة، تاركين أمامه فسحة صغيرة مستعدين لأداء الطقوس. أما كيفية ترتيب الطقوس فهو كما يلي: 1 – الوعظ: وهو قصص وحكايات صوفية، كقصص مالك بن دينار وذي النون المصري وإبراهيم بن أدهم وسواها من القصص الخفيفة التي نراها في كتاب (روض الرياضين). أما إذا كانت هذه الليلة ليلة العيد الكبير، ضموا للوعظ قصة (الثواب والعقاب) وهما تصوران ما يلاقيه الكافر والمرتد من أهوال مجروية القيامة. وهذه الجلسة متاحة للجميع، يحضرها المدخن والسكير حتى ولو كان ليس درزيًا. 2 – الشرح: المرحلة الأولى: ويجوز حضوره لكل درزي ونرى الحاضرين فيه كثيرين في ليالي الجمعة وليالي العشر من ذي الحجة، يفتتحه الإِمام قائلاً: علينا أن نمسي الحدود (أي نقول لهم: مساكم الله بالخير)، وقد يقول هذه الكلمة شخص آخر إذ هي لكل شخص من الحاضرين. وتمسية الحدود هي تحية وسلام وتسبيح على كل حد من الحدود الثمانية: (العقل، النفس، الكلمة، السابق، التالي، الجد، الفتح، الخيال). وهذه صيغة التمسية، يقدمونها أولا للعقل قائلين: ألف المسا مساك ... يا عقل من مولاك يا نور صاف محض ... سبحان من صفاك يا لابس الأخضر ... يا زينة المحضر قلبي يميل إليك ... عيني تريد رؤياك قلبي يميل إليك ... صلى الإِله عليك صلى عليك الله ... يا نور عرش الله صلى عليك ربي ... نحن دخيل حماك ثم يتجهون للنفس فيمسونه بنفس هذه الأبيات مع إبدال كلمة الأخضر الموجودة في صدر البيت الثالث بالأحمر، ثم يتجهون للكلمة بنفس الأبيات ويضعون بدل الأخضر كلمة أصفر، ثم يخصون السابق باللون الأبيض والتالي باللون الأسود بنفس الأبيات والترتيب. أما الحد والفتح والخيال فتقدم لهم التسمية دون ذكر البيت الثالث، إذ الثلاثة الباقون ليس لهم كسوة خاصة. وقد ترنم بعض الخلوات بهذه الترنيمة أيضًا: صلوا على القائل ... صاحب الجود والفضائل صلوا على ولي الهدايا ... صاحب النعم والكفايا صل وسلم يا رب عليه ... وأسعدنا برضاه صلوا على السيد الهادي الإِمام الأعلى، نور القيام، المنتظر لنجاة الأنام، الهادي إلى طاعة المولى العلي حاكم الحكام، إمام الرضاة المظفر المصطفى، صلى يا رب وسلم على سيدنا وحبيب قلوبنا ورجانا (حمزة بن علي). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 414 وبعد الانتهاء من هذه التحية الأدبية، يطلب الإِمام من أحد الشيوخ أن يعظ الناس، وهذا يتلو بعض أخبار الصالحين من الصوفيين ويطلب من آخر أن ينشد بعض الأناشيد الدينية، ويختم المجلس بنشيدة جماعية. المرحلة الثانية: يقف الشيخ – الإِمام – فيقفون جميعًا رجالاً ونساء – قائلين بصوت واحد: يا سميع، احترامًا للأمير السيد عبد الله التنوخي ثم يجلسون، وفي هذه اللحظة ينصرف الجهال، كالقاتل والزاني والسكير وشارب التبغ ... وسواهم من المحرومين الذين لا يستحقون سماع الشرح. على أن بعض هؤلاء الجهال يقف متأدبًا واضعًا كفيه تحت إبطيه ويكلم المشايخ بأدب وتواضع قائلاً: الله يمسيكم بالخير حضرات المشايخ، فيجيبون: الله يمسيك بألف خير، ثم يقول بذل وانكسار: نطلب الحلم وصفاء الخاطر من الله ومنكم، العبد يخطئ والسيد يعفو. وهنا يتجه المشايخ إلى بعضهم قائلين. احلموا علينا وعليه يا مشايخ وفي هذه اللحظة يأتي دور الإِمام وله أن يفوه بإحدى كلمتين: إما أن يسمح عن ذاك المستشفع قائلاً: تفضل اقعد، وهذه معناها: السماح بحضور المرحلة الثانية فقط. وإما أن يقول: ما قدامنا وقدامكم إلا الخير، وهذه معناها الإِصرار على إبعاده وعدم السماح له بالجلوس وهنا يخرج المستشفع خجلاً كسير النفس. وبعد خروجه تبدأ المرحلة الثانية فيقرأ الإِمام أو يكلف أحد الشيوخ بتلاوة شرح إحدى الرسائل المقررة، وبعد الانتهاء من القراءة يقفون جميعا قائلين: يا سميع. وفي هذه الفترة يخرج الذين لا يجوز لهم حضور المرحلة الثالثة. وإذا طلب أحد هؤلاء السماح يبقى واقفًا متأدبًا مكررًا الكلمات السابقة، وليس له إلا أحد الجوابين السابقين، وقد يوكل أحد الشيوخ فيقف هذا موقف المذنب التائب، ويتكلم بالنيابة عن المستشفع وبنفس الجمل، وهنا إما أن يجاب أو يرفض. المرحلة الثالثة: ثم يتوجه الإِمام للمشايخ قائلاً: تفضلوا احلموا، وهنا تبدأ قراءة الدور قراءة جماعية، وكلهم يحفظ الدور الواجب تلاوته، فيبدؤون بالميثاق، ثم بالرسائل المقررة لتلك الليلة، ويجعلون شعر النفس ختامًا، ويسجدون عند كلمة (هو الحاكم المولى بناسوته يرى .. ) ويرفعون أيديهم مبتهلين، ثم ينصرفون مرددين بعض الأدعية. هذه الخلوات، تشبه بعضها بعضا، وإن اختلف بناؤها باختلاف القرى أو تخلفها، وفي مقدمتها من حيث التاريخ خلوات الزنبقية، قرب كفر نبرخ بلبنان، وإن فاقتها الآن خلوات البياضة (حاصبيا لبنان) وحلت محل الصدارة. أما الشيوخ الذين يقومون بإدارة تلك الخلوات، فيتفاوتون ليس بالعلم أو الخدمة العامة، بل بشهادات السلوك والمثابرة على الخلوات والزهد الذي قد يصل لدرجة رهبان البراهمة؛ ذلك لأنهم يخالون العكوف على دراسة الرسائل كل شيء في العالم، ولذا ضاق أفقهم، وأصبحوا يستشهدون بما يتلهى به الأطفال كملحمة حسان التبعي. أولئك الشيوخ طبقات: 1 – طالبو الدخول بالمشيخة (البراني) أي الذين يعدون أنفسهم ليصبحوا شيوخا. 2 – شيوخ المجالس السرية (الجواني). 3 – شيوخ العقل. أما الأزارقة – لابسوا الأزرق – فهم أضيق أفقا من سواهم) (1). المصدر: عقيدة الدروز عرض ونقد لمحمد أحمد الخطيب- ص 238   (1) ((أيها الدرزي عودة إلى عرينك))، (ص 97 – 100). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 415 المطلب الأول: موقفهم من اليهود ذكرنا فيما مضى موقف الحاكم بأمر الله من اليهود والنصارى، واضطهادهم وهدم كنائسهم وبيعهم، وكيف تحول في آخر عمره عن هذا الاضطهاد المنظم، وذلك بعد أن ظهرت الدعوة الجديدة لتأليهه على يد حمزة. أما موقف الدروز من اليهود، فهو دعوتهم للدخول في ديانة الدروز، وإثبات أن المسيح الذي بشر به موسى هو حمزة بن علي، وقد ورد موقفهم هذا في (الرسالة الموسومة بالإِسرائيليات الدامغة لأهل اللدود والجحود أعني الكفرة من أهل شريعة اليهود) وهي من تأليف بهاء الدين. وقد بدأ بهاء الدين هذه الرسالة بالرد على اليهود في عدم جواز نسخ الشرائع حيث يقول: (العلة التي أوجب بها اليهود إرسال موسى لا تزال باقية، وإلا لم تقم حجة موسى على أصحابه ولا على من أقر بإبراهيم) (1). وحجة أخرى: (هي أن من شرع شريعة هو محدث، فموسى محدث مخلوق، ولاشك أن الشارع للشريعة أفضل من الشريعة التي شرعها، إذ أن الشريعة لا تقوم بنفسها، بل هي محتاجة إلى القائم بها العالم الفاضل، وإذا كان واجبًا رفع القائم بالشريعة وفناؤه وزواله فممكن إبطال الشريعة ورفعها). ولذلك يقرر بهاء الدين: أن اليهود يترقبون من سيكون الفرج على يديه، وهو أفضل من موسى ومن إبراهيم، وأنه يأتي بالآيات والبراهين، ويدعو الخلق إلى توحيد رب العالمين، ويستدل على ذلك من التوراة، إذ بشرهم بها موسى بمجيء المسيح، فجحدوا ذلك وعموا عنه وأنكروه وتبرءوا منه. ودليل بهاء الدين من التوراة على ظهور المسيح ودعوته اليهود والنصارى إلى التوحيد والدين الصحيح قول التوراة: (أنه سيجيء من ساعير نور، من اتبعه نجا، ومن تخلف عنه هلك وغوى، وساعير بشراة وبها قرية تدعى ناصرة، ولذلك قيل لأمته النصارى). ويأتي ذلك بدليل آخر هو قول شعيا عن الله: (هأنذا أخلق سماء جديدة، وأرضًا جديدة، وليس يُذكر الأول ولا يقع بقلب أحد .. أنا الله، وهذا اسمي، ولا أعطي جلالي ومجدي لغيري، ما كان في القديم قد أدبر، وأنا مبشر بالجديد قبل أن يظهر، فعرفهم بظهور المسيح الذي هو حمزة بن علي. ومما استدل به أيضا على ظهور قائم الزمان حمزة بن علي قول التوراة: (صوت مناد في القفار، انصبوا لله طرقا، وأقيموا في الفيافي طرقكم، سترتفع الوطأة، وتنخفض الجبال والكداة، وتكون المعوجة مستقيمة، والوعرة تكون طريقها سهلة، ويظهر جلال الله). وأيضًا قول داود في الزبور بذكر قائم الحق وهو: قال السيد لسيدي اجلس عن يميني حتى أجعل عدد أعدائك كرسي رجليك، فعظم داوود وسوره وأقر له بالخنوع والخضوع، لأنه يملك جميع الدنيا ويحوز من البحر إلى لدن الأنهار إلى منقطع الأرض، والذي تنحر الجبابرة له بين يديه على ركبهم، ويجلس أعداؤه على التراب، وتأتيه الملوك بالقرابين ويسجد له وتدين الأمم كلها بطاعته، والانقياد لأنه يخلص المضطهد البائس ممن هو أقوى منه مالك الجميع صلى الله عليه. ويضيف بهاء الدين مخاطبًا اليهود: (فهذه صفات لا يدعيها أحد من الأنبياء، ومناقب ليست تكون إلا لقائم الحق، قائم القيامة .. وأنتم أيها اليهود وجميع أهل الشرع في سكرتكم تعمهون، وقد ضللتم عما كان عليه الأسلاف المحقون له ينتظرون، فلو كنتم يا جماعة اليهود رجعتم إلى الباري واتبعتم هاديه ودليله وقبلتم أمره، وسلكتم طريق الحق وسبيله، وحفظتم ميثاق الذي واثقكم عليه، وسلمتم عن أمر تم بالتسليم إليه، لرجع إليكم بالمغفرة وتلقاكم بالتوبة وأنقذكم من أيدي أعدائكم). هذا هو موقف الدروز من اليهود، ولكن يبدو أن هذا الموقف قد تبدل في الوقت الحاضر من العداء إلى الود والتأييد، وهو ما نراه في فلسطين المحتلة، فإن الكثير من جنود جيش الدفاع الإسرائيلي هو من الدروز؟!. المصدر: عقيدة الدروز عرض ونقد لمحمد أحمد الخطيب – ص 249   (1) الرسالة الموسومة بالإسرائيلية الدامغة لأهل اللدود والجحود أعني الكفرة من أهل شريعة اليهود. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 416 المطلب الثاني: موقفهم من النصارى موقف الدروز من النصارى تحدده أربع رسائل هي: 1 – رسالة خبر اليهود والنصارى. 2 – الرسالة الموسومة بالمسيحية، وأم القلائد النسكية، وقامعة العقائد الشركية. 3 – الرسالة الموسومة بالقسطنطينية، المنفذة إلى قسطنطين متملك النصرانية. 4 – الرسالة الموسومة بالتعقب والاقتفاء لآداء ما بقي علينا من هدم شريعة النصارى الفسقة الأضداد. الرسالة الأولى تذكر أن بعض أهل الذمة، وقفوا بين يدي الحاكم وهو بالقرافة (مقبرة القاهرة)، وقالوا أنهم يهود ونصارى ويريدون أن يسألوه عن مسائل في الدين، ولكنهم خائفون منه، فأمنهم. ويبدو أن هذه المقابلة لم تحدث مطلقًا، وإنما هي تلفيق، وكتبت حتى تثبت أن ظهور الحاكم وحمزة كان ينتظره اليهود والنصارى. ويضيف مؤلف هذه الرسالة قوله: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أتاه رؤساء شريعة اليهود والنصارى، فطلب منهم أن يؤمنوا بشريعته، فقالوا له: ما أنت الذي كنا منتظرين لزمانه متوقعين شخصه، ولا الذي نرجو الفرج مع ظهوره. والدليل على ذلك ثلاث خصال: إحداها: ليس اسمه كاسمك، إذ اسمك محمد، والذي بشرنا به اسمه أحمد. والثانية: مدته، قد بقي لها أربعمائة سنة من يوم مبعثك إلى حين ظهور هذا المنظر، وقد خالفته في الاسم والمدة. والثالثة: المنتظر إنما يدعو إلى توحيد ربه، بلا تعطيل ولا تشبيه ولا كلفة تلحق نفوسنا، وصفة المنتظر عندنا رفع التكليفيات، وانقضاء الشرور، ورفع المصائب والشكوك، وأن لا يتجاوزه في عصره كافر ولا منافق، وأنت أكثر أصحابك يظهرون النفاق عليك، وإنما بغلبة سيفك عليهم سلموا لأمرك. وتنتهي الرسالة إلى ما كانت تبغيه إذ تقول على لسان الحاكم: (فأي حجة بقيت لكم عليه وعلي بعدما أوضحناه، وأي أمر تعديت فيه، بزعمكم عليكم إذا كنت بشرطكم أخذتكم، وما كنتم تنتظرونه أقمته عليكم، وقد أسعتكم حلما وعدلا؟). إذن ها هي المدة قد انقضت (أي الأربعمائة سنة)، وظهر الإِله المعبود، قائم الزمان الذي يدعي إليه، فعليكم الإِيمان به وتصديقه؟ وقد كذب الدكتور عبد الرحمن بدوي هذه الرواية التاريخية، إذ لم يثبت في أي من كتب التاريخ والسيرة أن قامت مناقشات بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين اليهود والنصارى، إلا ما جرى مع وفد نجران سنة 10 هـ ويؤكد ذلك كما قال الدكتور بدوي ثلاث حجج: 1 – فالحجة الأولى، وهي الخاصة باسم – أحمد – ساذجة لا يعتقد صدورها عن النصارى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذ أحمد ومحمد واحد. 2 – والثانية غير معقولة أصلا، بسبب ما فيها من تحديد سنوات لا ينطبق إلا على الحاكم بأمر الله. 3 – والثالثة باطلة، لأن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم تؤكد أنه أحل الطيبات وحرم الخبائث، ووضع الإصر والأغلال عن أتباعه (1). أما الرسالة الثانية: (الموسومة بالمسيحية) فهي تقريع بأقسى الألفاظ وأفحشها بالمسيحيين؛ لأنهم لا يعملون بوصية المسيح، ولا يحذرون من المسيح الضال الكذوب، ولا يقرون بالمسيح الحق الذي ظهرت علاماته في جميع أنحاء العالم.   (1) د. عبد الرحمن بدوي: ((مذاهب الإسلاميين))، (2/ 772 – 773). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 417 ومؤلف الرسالة هو (بهاء الدين) الذي يتحدث عن حمزة بن علي، على أنه المسيح وهو السيد، ويأخذ بها الدين – في هذه الرسالة – على النصارى: (أن عقولهم تصور لهم أن السيد المسيح لا يظهر إلا عندهم، ولا ينتظر مجيئه سواهم، مع أن المسيح سيظهر للعالم كله والسيد – أي حمزة – قد عرف أن ظهوره لخلاص الأمم من الخطيئة ... ولهذا يقرع النصارى فيقول: فتنبهوا أيها الجهلة من مراقد الغفلة، وارجعوا إلى الحق مع أولياء السيد قبل انقضاء المهلة، فقد دارت الأدوار وظهر توحيد الأب من حيث العالم). والرسالة الثالثة هي الرسالة (القسطنطينية) والتي أرسلت إلى قسطنطين الثامن إمبراطور الروم، الذي تولى الحكم وعمره سنتان عام 963 م، وتوفي في عام 1028م، وكاتبها هو بهاء الدين، (الذي يتودد فيها للإمبراطور وكبار رجال الدين المسيحي في بيزنطة، وينعتهم بالقديسين، ويقرب ما بين دعوة الدروز وبين العقائد النصرانية، هادفا من وراء ذلك إلى بيان أن: الفار قليط الذي أعلن عن قدومه المسيح عيسى بن مريم هو نفسه حمزة بن علي، وأن على المسيحيين أن يؤمنوا بأن حمزة وديانة التوحيد التي دعا إليها هو الفار قليط، الذي أعلن عن مجيئه المسيح، وبهاء الدين يلجأ في سبيل ذلك إلى تأويل أحداث حياة السيد المسيح تأويلاً يؤدي إلى ما يهدف إليه، وكذلك إلى تأويل آيات الإِنجيل تأويلاً يتفق مع مآربه (1). أما الرسالة الرابعة والأخيرة من الرسائل الأربعة الموجهة ضد النصاري، فهي (الموسومة بالتعقب والاقتفاء لأداء ما بقي علينا من هدم شريعة النصاري الفسقة الأضداد) وكاتبها هو بهاء الدين، ويصف نفسه بأنه: (محلل معاقد الملل وناسخ الأديان) وقد وجهها إلى ميخائيل إمبراطور الروم عام 1034 م، وواضح من لهجة الرسالة أنها بالغة في العنف والإِقذاع بعكس الرسالة السابقة المتوددة، حيث لم تأتِ بنتيجة. وأن العلاقات ازدادت سوءً إلى أبعد حد بين الدروز ونصارى القسطنطينية، لأن بهاء في الرسالة يحمل بشدة عليهم لاضطهادهم أتباع ديانة التوحيد، ومساعدتهم دجالا أبرص أعور كان عدوا لديانة التوحيد. والدروز يعتقدون أن المسيح الذي صلب، هو (المسيح الكذاب) ابن يوسف النجار، وهذا ما ورد في (رسالة السؤال والجواب). س: وكيف الإِنجيل الذي عند النصارى، وماذا تقول عنه؟ ج: الإِنجيل حق، من قول السيد المسيح الذي هو سلمان الفارسي في دور محمد، وهو حمزة بن علي، والمسيح الكذاب هو الذي ولد من مريم لأنه ابن يوسف النجار. س: وأين كان المسيح الحق لما كان المسيح الكذاب مع التلاميذ؟ ج: كان معه من جملة تلاميذه، وكان ينطق بالإِنجيل (2)، وكان يعلم المسيح ابن يوسف ويقول له: اعمل ما هو كذا أو كذا، حسب مرسوم دين النصرانية، وكان يسمع منه كل قوله، ولما خالف قول السيد المسيح الحق ألقي في قلب اليهود بغضه فصلبوه. س: وكيف صار بعد الصلب؟ ج: وضعوه في قبر وجاء المسيح الحق وسرقه من القبر، وطمره في البستان، وقال للناس: إن المسيح قام من الموتى.   (1) د. عبد الرحمن بدوي: ((مذاهب الاسلاميين))، (2/ 796). (2) إن مثل هذا الكلام لا يدل إلا على التزلف المقصود من واضع هذه الرسالة من المسيحيين، وهو لا شك غير مقبول عند المسيحيين، فليس كل ما في الإنجيل من كلام السيد المسيح عليه السلام، بل هو قصة تسرد حياة المسيح بأقلام مختلفة ومشاهدون تعددت جوانب الرؤية عندهم، بل وباعد بينهم وبين وقوع تلك الحوادث الزمن الطويل. وهو كذلك لا يتفق مع النظرة الإسلامية للأناجيل الموجودة بين أيدينا الآن، فإنها قد حرفت بحيث لا يستطيع أحد أن يحدد فيها ما هو من السيد المسيح، وما هو من الإضافات والتحريفات ليكون الحق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 418 س: ومن الذي قام من القبر، ودخل للتلاميذ والأبواب مغلقة؟ ج: المسيح الحي الذي لا يموت، وهو حمزة، عبد مولانا ومملوكه (1). والخلاصة أن ما يرمي إليه الدروز – في ذلك الوقت – هو إثبات أن المسيح الحق هو حمزة بن علي عبد مولاهم الحاكم بأمر الله. ولكن يظهر أنهم غيروا أيضًا من طريقتهم هذه، وصاروا يحسنون معاملة النصارى، وخاصة في لبنان، حيث يسيطر النصارى على الموقف، يقول يوسف خطار أبو شقرا مؤلف كتاب (الحركات في لبنان) وهو درزي ما يلي: (لم يكن فيما مضى ما بين الدروز والنصارى في لبنان، ما كان بينهم منذ سنة 1800 م من الشقاق والنفور، بل كانت الطائفتان محبة إحداهما بالأخرى، آنسة إليها، وبعبارة أخرى كانت الجماعتان كجماعة واحدة تعملان على وتيرة واحدة) (2).وتقول المستشرقة (بول هنري بوردو): (وأعجبت بتساهل هذا الشعب (الدرزي) وإرساله صغاره إلى المدارس المارونية، وصلاته في الكنائس والجوامع على السواء، حتى يلتبس على فلاحي لبنان الإِجابة لو سئلوا: هل الدروز نصارى أم مسلمون؟!) (3). وجاء في كتاب (لبنان في التاريخ) للمؤرخ اللبناني فيليب حتى ما يلي عن علاقة الدروز بنصارى لبنان: (وقد دهش فولتي كونت وهو عالم فرنسي من شدة الشبه بين الدروز والموارنة من (المسيحيين) في أساليب العيش، وفي نظام الحكم .. وفي اللهجة وفي العادات وفي الآداب العامة فإن عائلات درزية ومارونية تعيش جنبا إلى جنب متصافية متوادة، وأحيانا يصطحب الموارنة جيرانهم الدروز إلى الكنائس. ويؤمن الدروز بفعل الماء المقدس الذي يصلي عليه الكاهن وأحيانا إذا ألح المبشر في تبشير الدرزي فقد يقبل الدرزي سر المعمودية. وقد لاحظ ماريتي الراهب الإيطالي الذي زار البلاد سنة 1760 م قبل مجيء فولتي بقليل: أن الدروز يظهرون خالص الود والاحترام للنصارى ويحترمون دينهم، والدرزي يصلي في كنيسة للروم الأرثوذكس كما يصلي في مسجد تركي. ويقول فريدرك بلس: أن الدروز لكي يتخلصوا من الخدمة العسكرية التركية كانوا يعلنون أنهم بروتستانت. ويؤكد ضابط فرنسي كان مقر خدمته حوران: أن العائلات الدرزية الأرستقراطية إذا فقدت طفلا أو أكثر يعمدون الطفل الذي يولد بعده، وقد عمد الابن الثاني لسلطان الأطرش سنة 1924 م، وقد تكون ممارسة هذه التقاليد نوعا من التقية، وليس بمستغرب أن يتبرع درزي يقطن قرية أكثر سكانها من النصارى بالمال لكنيسة القرية) (4). المصدر: عقيدة الدروز عرض ونقد لمحمد أحمد الخطيب – ص 251   (1) مخطوط (رسالة في معرفة سر ديانة الدروز): في جامعة ييل، مجموعة سالزبوري (رقم 91) – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية (رقم 2). (2) يوسف خطار أبو شقرا: ((الحركات في لبنان أي عهد المتصرفية))، (ص 25). (3) بول هنري بورد: ((أميرة بابلية لدى الدروز))، (ص 74). (4) د. فليب حتى: ((لبنان في التاريخ))، (ص 495 – 496). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 419 المطلب الثالث: موقفهم من النصيرية طائفة الدروز تعيش في مناطق قريبة لمناطق تواجد طائفته النصيرية، ومن الطبيعي أن يقوم النزاع بينهما، وخاصة بسبب الاختلاف الرئيسي في العقيدة، فالدروز يؤلهون الحاكم بأمر الله، بينما النصيرية يؤلهون علي بن أبي طالب. ومع أن الخلاف قد اشتد بين الطائفتين في بعض الأحيان، فإنه لم يصل إلى أيدينا شيء عن هذا، غير رسالة ألفها حمزة بن علي يرد فيها على عقائد النصيرية لعنه المولى في كل كور ودور). وواضح مما ورد في هذه الرسالة أن حمزة كان يردّ على كتاب أَلَّفه النصيري اسمه (كتاب الحقائق وكشف المحجوب) والموجه ضد ديانة الدروز، والذي يحاول فيه النصيري أن يقرب بين الدروز والنصيرية، مستعينا بما كتبه حمزة لإثبات أن مذهب الدروز هو بعينه مذهب النصيرية، مما أغضب حمزة وجعله يقول في الرسالة: (إن من قبل كتابه عبد إبليس، واعتقد التناسخ (1)، وحلل الفروج، واستحل الكذب والبهتان ... وحاشا دين مولانا جل وعز من المنكرات، وحاشا الموحدين من الفاحشات)). ويأتي حمزة بعد ذلك على الأقوال والعقائد التي يقول بها النصيري ويرد عليها، وأول العقائد التي يرد بها حمزة على النصيري: (أن جميع ما حرموه من القتل والسرقة والكذب والبهتان والزنا واللياطة فهو مطلق للعارف والعارفة بمولانا جل ذكره) ويرد حمزة على هذا فيقول أنه (كذب بالتنزيل والتأويل). وأما قوله – أي النصيري -: أنه يجب على المؤمن ألا يمانع أخاه من ماله ولا جاهه، وأن يظهر لأخيه المؤمن عياله ولا يعترض عليهم فيما يجري بينهم، وإلا فما يتم إيمانه). فيرد عليه حمزة بقوله: (فقد كذب لعنه الله وسرق الأول من مجالس الحكمة (2) بقوله: لا يمنع أخاه من ماله ولا من جاهه ... وإلا فمن لا يغار على عياله فليس بمؤمن، بل هو خرمي طالب الراحة والإباحة ... إذ كان الجماع ليس هو من الدين ولا ينتسب إلى التوحيد، إلا أن يكون جماع الحقيقة، وهو المفاتحة بالحكمة بعد أن يكون مطلقا للكلام). وأما قوله – أي النصيري -: بأنه يجب على المؤمنة ألا تمنع أخاها فرجها، وأن تبذل فرجها له مباحا حيث شاء، وأن لا يتم نكاح الباطن إلا بنكاح الظاهر، ونسبه إلى توحيد مولانا جل ذكره، فقد كذب على مولانا عز اسمه، وأشرك به، وألحد فيه ... وأما وسائط مولانا جل ذكره، فما منهم أحد طلب من النساء مناكحة الظاهر، ولا ذكر بأنه لا يتم لكن ما تسمعنه إلا بملامسة الظاهر، فعلمنا بأنه لم يكن لهذا الفاسق النصيري لا ينفسد أبدا، لكنه طلب الشهوة البهيمية التي لا ينتفع بها في الدين ولا الدنيا). وأما قوله: الويل كل الويل على مؤمنة تمنع أخاها فرجها، لأن الفرج مثل أئمة الكفر، والإحليل إذا دخل فرج المرأة دليل على الباطن، وممثوله على مكاسرة أهل الظاهر وأئمة الكفر ... ومن عرف الباطن فقد رفع عنه الظاهر، فقد كذب على دين مولانا وحرف وأغوى المؤمنين وأفسد المؤمنات الصالحات، وليس كل من عرف باطن الشيء وجب عليه ترك ظاهره، وكل رجل ينكح امرأة مؤمنة بغير الشروط التي تجب عليه في الحقيقة والشريعة الروحانية كان منافقا على مولانا جل ذكره، إذ كان فيه هتك الدين وهدم التوحيد، ومن كانت لها بعل فلا شروط لها إلا لبعلها).   (1) وهذا خلاف في اللفظ، فالدروز يؤمنون بالتناسخ ولكن على طريقة التقمص، أي بانتقال النفس إلى جسد آدمي مثله تتقمصه، ولذلك هم ينكرون التناسخ التي تعتقد به النصيرية، وهو بإمكانية انتقال روح الآدمي إلى حيوان أو نبات، ولهذا يسمى التناسخ عندهم التقمص. (2) يقصد مجالس الحكمة التي كان يعقدها الخلفاء الفاطميون، والتي قيل فيها هذا القول. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 420 ويرد حمزة أيضا على النصيري في قضية التناسخ التي يختلفون بها ويقول: (وأما قوله بأن أرواح النواصب والأضداد ترجع في الكلاب والقردة والخنازير إلى أن ترجع في الحديد، وتحمى وتضرب بالمطرقة، وبعضهم في الطير والبوم، وبعضهم ترجع إلى المرأة التي تثكل ولدها، فقد كذب على مولانا سبحانه بأن يعصيه رجل عاقل لبيب فيعاقبه في صورة كلب أو خنزير، وهم لا يعقلون ما كانوا عليه في الصورة البشرية، ولا يعرفون ما جنوه، ويصير حديدا ويحمى ويضرب بالمطرقة، فأين تكون الحكمة في ذلك والعدل فيهم؟! وإنما تكون الحكمة في عذاب رجل يفهم ويعرف العذاب ليكون مأدبة لها وسببا لتوبته. وأما العذاب الواقع بالإنسان فهو نقلته من درجة عالية إلى درجة دونها في الدين وقلة معيشته وعمى قلبه في دينه ودنياه، وكذلك نقلته من قميص إلى قميص على هذا الترتيب، وكذلك الجزاء في الثواب مادام في قميصه فهو زيادة درجته في العلوم، وارتقائه من درجة إلى درجة في اللهوات إلى أن يبلغ إلى حد المكاسرة، ويزيد في ماله وينبسط في الدين من درجة إلى درجة إلى أن يبلغ إلى حد الإمامة، فهذه أرواح الباطنية وثوابها، وما تقدم أرواح الأضداد وعقابها، فمن اعتقد هذا كان عالما بتوحيد مولانا جل ذكره ... ومن اعتقد التناسخ مثل النصيرية المعنوية، في علي بن أبي طالب وعبده فقد خسر الدنيا والآخرة , ذلك هو الخسران المبين. وهنا يأتي حمزة إلى النقطة الحاسمة في الخلاف، وهو اختلافهم في ألوهية الحاكم – كما يقول الدروز -، وألوهية علي بن أبي طالب كما يقول النصيرية، فيقول حمزة: (ثم إنه إذا ذكر عليا – أي النصيري – يقول: علينا سلامه ورحمته، وإذا ذكر مولانا جل ذكره يقول: علينا سلامه، فيطلب الرحمة من المفقود المعدوم، ويجحد الموجود الحاكم بذاته المنفرد عن مبدعاته، ولا يكون في الكفر أعظم من هذا، فصح عند العارف بأن الشرك الذي لا يغفر أبدا هو بأن يشرك بين علي بن أبي طالب وبين مولانا جل ذكره، ويقول علي مولانا الموجود، ومولانا هو علي لا فرق بينهما، والكفر ما اعتقده هذا الفاسق من العبادة في علي بن أبي طالب والجحود لمولانا جل ذكره). وأما قوله بأن محمد بن عبد الله هو الحجاب الأعظم الذي ظهر لمولانا الحاكم منه، ومن لم يسدق بهذا الكتاب فهو من أصحاب هامان والشيطان وإبليس ... فقد كذب في جميع ما قاله المنجوس النصيري، فما عرف الدين ولا الحجاب، ومحمد كان حجاب علي بن أبي طالب، وأما حجاب مولانا جل ذكره فلا، وهذا قول من عقله سخيف، ودينه ضعيف، والحجاب هو سترة الشيء ليس إظهاره، والذي أظهر المولى جل اسمه نفسه منه كيف يشاء بلا اعتراض عليه يقال له حجة القائم، وهو المهدي، وبه دعا الخلق بنفسه إلى نفسه، وباشر العبيد بالصورة المرئية ومخاطبة البشرية، وكنه مولانا لا تدركه الأوهام والخواطر). بعد هذا الرد من حمزة على النصيري، نورد نصا غريبا على طريقة السؤال والجواب، يفيد أن النصيرية فرقة من فرق الدروز، وانفصلت عنها، مع أن هذا لم يؤيده أي مصدر تاريخي أو أي مصدر من مصادر الدروز والنصيرية، والنص كان كما يلي: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 421 س: وكيف انفصلت النصيرية عن الموحدين، وخرجوا عن دين التوحيد؟ ج: انفصلوا بدعوة النصيري لهم حيث زعموا أنه عبد مولانا أمير المؤمنين، وأنكر لاهوت مولانا الحاكم، واعترف بلاهوت علي بن أبي طالب الأساس، وقال إن اللاهوت ظهر في الأئمة الإثني عشر آل البيت. وغاب بعد أن ظهر في محمد المهدي القائم، واختفى في السماء ولبس الحلة الزرقاء وسكن الشمس، وأن النصيرية كلما صفى منهم واحد بطريق الانتقال في الأدوار رجعت العالم ولبس ثوب البشرية بعد الصفا يرجع يصير نجما في السماء وهو مركزه الأول. وإن عمل معصية تخالف لوصية علي أمير المؤمنين الرب الأعلى يعود يهوديا أو مسلما سنيا أو نصرانيا، ثم يتكرر إلى أن يصير مثل الفضة في الروباص، ويرجع يصير نجما في السماء، وإن الكفرة الذين ما عبدوا عليا بن أبي طالب كلهم يصيرون جمالا وبغالا وحميرا وكلابا وخرفانا للذبح وأمثال ذلك لكن الوقت إلى شرحها ضيق، وخاصة انتقال نفوس البشر إلى البهائم والحيوانات، ولهم مناقب وكتب كفرية مثل ذلك) (1). ولأهمية علاقة الدروز بالنصيرية والتقائهما في كثير من العقائد، نورد نص ما جاء في مخطوطة (في تقسيم جبل لبنان) عن العقائد المتشابهة بين النصيرية والدروز: 1 – قضية التناسخ بانتقال أرواح من مات منهم إلى جسم آخر، ولكن الدروز يقتصرون على انتقال الأرواح من الإنسان إلى الإنسان فقط، حتى أنهم يزعمون أن روح الدرزي لا تنتقل لجسد غير درزي، وهكذا المسلم ينتقل إلى مسلم، والنصراني إلى نصراني وهلم جرّا. وإذا تنصر واحد منهم مثلا ومات نصرانيا، وأسلم ومات مسلما، فلابد أن تكون والدته قد جاءت به من الزنا مع رجل مسلم أو نصراني أو يهودي، بحسب الملة التي انتقل إليها ذلك الرجل أنه لابد من بقاء أنفس كل ملة على مقدار ما هي عليه، وهكذا لو أن نصرانيًا مثلا اطلع على دين الدروز واعتقده وعمل بموجبه ومات على ذلك فترجع روحه إلى ملته القديمة لأن الباب قد قفل بعد ظهور الحاكم بأمره وآمن من آمن، وكفر من كفر وانقطع الأمل ولم يبق وجه لدخول أحد في دينهم. وأما النصيرية فيعتقدون بانتقال الأرواح من البشر إلى البهائم والحشرات حتى من الممكن انتقال روح أحدهم إلى المعادن كالحديد مثلا لكي تحمى بالنار ويتطرق بالمراذب على السدان، وذلك لأجل القصاص، ثم ترجع تلك الروح ثانية إلى البشر ولا تزال تتكرر حتى تتطهر وحينئذ تصير تلك الروح نجمة تلمع في السماء، وأن الكواكب هي أرواح الصلحاء الذين ماتوا منهم. 2 – قضية العاقل والجاهل فالعقال يسترون دينهم عن الجهال منهم وإذا أراد أحد الجهال أن يدخل في أمور الديانة، فلا يسلمون الديانة إلا بالتدريج بعد أن يتتلمذ إلى أحد مشايخ دينهم ويتخذه والدا دينيا له. 3 – يتفقون معهم باستباحة وقتل وسلب من يخالف معتقدهم. 4 – يتفقون معهم بقدمية زمان إيجاد العالم، وأن العالم قد خلق على ما هو عليه الآن لا يزيد ولا ينقص. 5 – يتفقون معهم بقضية الأدوار والأئمة والناطق والأساس والسابق والتالي، ولكن يختلفون في صفات أصحاب الأدوار، فالبعض من هؤلاء الأشخاص يكرمونهم بأكثر مما يكرمهم الدروز، ويكرمون بعض الأشخاص الممقوتين من الدروز كمحمد وعلي وعيسى وبطرس وموسى ويوشع وإبراهيم وإسماعيل ونوح وسام وآدم وهابيل ثم شيت. 6 – وهم يعتقدون بالقرآن ويفسرونه على ما يطابق معتقداتهم التي هي مؤلَّفة من جملة معتقدات مختلفة) (2). ونستنتج من هذا أن نقطة الخلاف الرئيسية بين الدروز والنصيرية هي ألوهية الحاكم عند الدروز، وألوهية علي عند النصيرية، أما بقية العقائد فقد يلتقون في شيء منها، ويختلفون في شيء آخر منها، كما هو في عقيدة التناسخ، فالدروز يصورونها على أنها تقمص من جسد إنسان إلى جسد إنسان آخر، بينما النصيرية يجيزون أن تتحول النفس الإنسانية إلى حيوان أو نبات أو جماد. المصدر: عقيدة الدروز عرض ونقد لمحمد أحمد الخطيب – ص 257   (1) مخطوط (ذكر ما يجب أن يعرفه الموحد): مكتبة القديس بولس، الجامعة الأمريكية في بيروت (رقم 206). (2) مخطوطة (في تقسيم جبل لبنان): الجامعة الأمريكية في بيروت (رقم 31). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 422 المطلب الرابع: الفرق بين النصيرية والدروز يتفق النصيريون والدروز في أمور ويختلفون في أمور أخرى، وبين الطائفتين عداوة شديدة لتباين أفكارهم حول دعوى الألوهية لزعمائهم الذين ينتسبون إليهم، وقد اتضح من خلال دراستنا للطائفتين فيما سبق الأمور الآتية: أن عقيدة الطائفتين باطنية –من الغلاة. أنهم لا يطلعون أحداً على أسرار مذهبهم وكتبهم السرية. لا يعترف الدروز لأحد بالدخول في مذهبهم أو الخروج عنه. لا يأخذون بظواهر الألفاظ وإنما يؤولونها. كلهم يقولون بالتناسخ ويختلفون في التسمية، فالنصيريون يسمونه (تناسخ)، والدروز يسمونه (تقمص)، والنصيرية يعممونه في كل شيء بينما الدروز يحصرونه بين البشر فقط. عند النصيرية التناسخ يشمل المسخ (1) والنسخ (2) والفسخ (3) والرسخ (4). الجسد البشري في عقيدة الدروز ثوب أو قميص للروح تتقمص به الروح عند الولادة وتنتقل منه بالموت فوراً إلى جسد مولود إنساني آخر. الجنة عند الدروز معرفة الدعوة الهادية- أي الدعوة الدرزية- والجحيم هو الكفر بها. والنصيريون يقولون بأن الجنة معرفة ألوهية علي بن أبي طالب، والجحيم هو الكفر بها أو الجهل بها. يتفقون جميعاً في اعتبار الحج ظاهرة وثنية وأنه كفر وعبادة أصنام. كل هذه الطوائف تتفق في التشديد على التقية والسرية التامة. الشرك عند الدروز عدم الاعتراف بإفراد ألوهية الحاكم. وعند النصيرية عدم الاعتراف بإفراد ألوهية علي رضي الله عنه. يزعم الدروز أن الناس خلقوا دفعة واحدة، فهم لا يزيدون ولا ينقصون، كلما مات إنسان تحولت روحه إلى جسم جديد وهكذا. ومن الجدير بالذكر أن النصيرية انشقت عن الشيعة الاثني عشرية، والدروز انشقوا عن الإسماعيلية. والنصيرية أقدم من الدروز في الظهور، وكل طائفة حاولت الابتعاد عن أصلها رغم وضوح تأثرهم في كثير من أفكارهم بأصولهم الشيعية أو الإسماعيلية إلى غير ذلك من وجوه الاتفاق والافتراق بينهم، وكل أفكار الجميع تنضح مجوسية ووثنية تستر أصحابها بالتشيع لأهل البيت وبالإسلام؛ لتحقيق ما يهدفون إليه من إعادة كلمة المجوسية وإظهار قوتها من جديد، وهم ألد أعداء أهل البيت وألد أعداء الإسلام والمسلمين. والله متم نوره ولو كره الكافرون. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 636   (1) هو انتقال الروح من جسم آدمي إلى جسد حيوان. (2) هو انتقال الروح من جسم آدمي إلى جسم آدمي آخر. (3) هو خروج الروح من جسم آدمي إلى جسد حشرة من حشرات الأرض وهوامها. (4) هو انتقال الروح من جسم آدمي إلى الشجر والنبات والجماد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 423 المبحث الثالث عشر: الدروز في العصر الحاضر كمال جنبلاط ودوره في تثبيت عقيدة الدروز هذا الشخص من كبار الدروز، ومن أشد المتعصبين لمذهبه الدرزي، وقد أقدم على جريمة كبيرة في هذا العصر؛ حيث بدأ هو وشخص آخر اسمه عاطف العجمي بتأليف كلام يحاكيان به القرآن الكريم، زاعمين أنه كلام مقدس تحت اسم المصحف المنفرد بذاته، أو مصحف الدروز مملوء من شتى الأفكار ومن شتى السور من القرآن الكريم. ومن حِكَمِ الهند –التي يميل إليها كمال جنبلاط كثيراً، بل هي قبلة حجهم إلى وقتنا الحاضر- ومن كلام زعمائهم، فأصبح خليطاً فاسداً يدور كله حول تأليه الحاكم، والثبات على العقيدة الدرزية، ومع أنه هذا المصحف –كما يسمونه –قد نسب إلى حمزة بن علي إلا أن الدكتور الخطيب يرى أنه من صنع كمال جنبلاط بدليل ما جاء فيه من ألفاظ وأسلوب عصري. وقد أنكر جنبلاط في مصحفه هذا القرآن الكريم، واعتبره فرية، وشنع على الذين يلتزمون به. وقد نقل الدكتور الخطيب عن هذا المصحف –الذي لا يوجد إلا عند الدروز وقد تيسر له الاطلاع عليه –فنقل عنه هذه النصوص: (لقد ضل الذين جحدوا الحكمة (1) واتبعوا فرية صحف اكتتبوها فهي قبلة آبائهم يتلونها بكرة وعشياً، وقالوا: هذا من عند الله المعبود (2) وقال الذين كفروا منكم: إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم وعليه وجدنا آباءنا، قل لو كنتم على الهدى لآمنتم به، ولكنكم لا تعلمون غير ما تهواه أنفسكم وأنتم تجهلون، نحن أعلم بما في أيديكم ونحن المنزلون، لقد ضل هؤلاء الذين يريدون أن يحكموا بالقرآن ويتخذوه سبيلاً ثم به يكفرون بعد أن تبين الحق، قل: أليس الحق أحق أن يتبع (3).ويقسم هذا المصحف إلى أربعة وأربعين عرفاً ويقع في 269 مائتين وتسع وستين صفحة، ويقول كاتبه في مقدمته: (جرى تقسيم هذا المصحف المكرم وفق المواضيع لتسهيل الاطلاع عليه، ووضع لكل فصل تسمية تنطبق مع ما ورد فيه من معان، ولقد اخترنا اسم العرف تناسباً مع ما يطلق على أبناء التوحيد: كنيتم بالأعراف ووصفتم بالأشراف) (4).جاء في عرف الأمر والتقديم من هذا المصحف قوله: (أنتم وما تعبدون مكبكبون على وجوهكم يوم ينادي منادي مولاكم الحاكم من مكان بعيد: هذا يومكم الذي فيه توعدون تتلوها أيام العذاب أنكم لخالدون ولات محيص .. إلى أن يقول: وإلا فقولوا لي أيها الضالون المعاندون فهل جاء لكم رب غيره مع جنوده، أروني إن كنتم صادقين) (5).وفي هذا المصحف ألفاظ كتبت بالعربية وهي غير معروفة يرونها من الأسرار التي لا يبوحون بها لأحد، ومن أمثلتها (يود يلووهكا طران كنان وهقويكان سهى وهطمكل واطغظلوا أو هكز كان بطكه وعد ودلولذ وسلر) (6).وقد ذكر الدكتور الخطيب (7) أمثلة كثيرة من ما جاء في هذا المصحف الذي يدور حول تثبيت ألوهية الحاكم والابتعاد عن كل الشرائع وعلى رأسها الإسلام الذي يتظاهرون به أمام الناس وهم ألد أعدائه. وقد ظن هذا الملحد أنه بمحاكاته للقرآن الكريم في أسلوبه جاء بشيء ينفع إلهه الحاكم الذي تكلم هو على لسانه بهذا الغثاء الذي يتمنى أن يهدم به الإسلام الذي أكل الحقد عليه قلوبهم وملأوا بالتشنيع عليه كتبهم ومقالاتهم، ولكنهم كانوا كما قال أحد الشعراء: كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل المصدر: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام لغالب عواجي – 2/ 633   (1) يقصد أهل مجالس الحكمة التي أنشأها الحاكم لتثبيت ألوهيته. (2) إذا ذكر المعبود عند الدروز فإنهم يريدون به الحاكم. (3) ((المصحف المنفرد بذاته، عرف عاقبة المكذبين)) (ص241،242). و ((عرف المحرمات)) (ص 154، 155)، ((الحركات الباطنية)) (ص 281) (4) مصحف الدروز ص1، ((عقيدة الدروز)) (ص97) (5) ((مصحف الدروز عرف الأمر والتقديم)) (ص10 - 11)، ((عقيدة الدروز)) (ص97) (6) ((مصحف الدروز عرف شمس المغيب)) (ص230) (7) انظر: ((عقيدة الدروز)) (ص95،99)، وانظر: ((الحركات الباطنية)) (ص281 - 282) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 424 المبحث الرابع عشر: خيانات الدروز - مساعدة الدروز للصليبيينبعد سقوط مدينة أنطاكية بيد الصليبيين في عام 490هـ وتمكن القائد الصليبي بوهيموند من جعل أنطاكية مملكة له أخذ في الاستعداد للزحف جنوبا قصد السيطرة على بيت المقدس والأماكن المقدسة في فلسطين فتحركت جموع الصليبيين صوب جنوب بلاد الشام مستولية على ما في طريقها من مدن وقرى في هذا الوقت كان التنوخيون يشكلون عماد دعوة الدروز الموحدين في جبل لبنان وتذكر المصادر أنه عندما توجه الصليبيون نحو الجنوب لم يلاقوا أي مقاومة من قبل الأمراء المحليين بل أن بعض هؤلاء الأمراء صالح الصليبيين وأعطاهم الأمان أما التنوخيون الدروز فكان موقفهم من الزحف الصليبي سلبيا للغاية فلم يعترضوا سبيل القوات الصليبية القادمة من أنطاكية والمتجهة إلى بيت المقدس ولم يسموها بسوء بل مرت بأمان من جوارهم. (1).لم يقف التنوخيون الدروز عند حد وقوفهم متفرجين على الزحف الصليبي بل تعدى الأمر لأبعد من ذلك حيث قام أحد زعمائهم بمصالحة الصليبيين والانسحاب من صيدا وتسليمها لهم ففي عام 495هـ ولى شمس الملوك دقاق ملك دمشق عضد الدولة علي التنوخي على مدينة صيدا وأمره بتحصين المدينتين (صيدا وبيروت) فحصنهما وأرسل إلى صيدا نائبا عنه هو الأمير مجد الدولة محمد بن عدي وظل في صيدا إلى أن سقطت بيد الفرنج عام 504هـ فخرج منها بعد أن صالح الفرنج عليها بالأمان (2).ظل الزعماء التنوخيون فيما بعد على هذه الشاكلة إما مصالحين للفرنج متفرجين عليهم أو يعقدون العلاقات الودية معهم وتقديم العون لهم ففي عام 528هـ انتقلت إمارة التنوخيين إلى الأمير بحتر بن شرف الدولة علي والذي استطاع أن يحافظ على منطقة الغرب والتهيئة لسقوطها في يد الصليبيين وذلك بسبب مهادنته لهم وعدم الوقوف في وجههم ومحاربتهم (3).وبعد وفاة الأمير بحتر انتقلت إقطاعاته وشؤون الإمارة إلى ابنه كرامة الملقب بـ (زهرة الدولة أبو العز كرامة) وفي هذا الوقت كانت حركة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين في أوجها على يد القائد المسلم نور الدين محمود الذي عمل على استقطاب الأمراء المحليين من حوله حتى يضمن تماسك الجبهة الإسلامية من الداخل وكان من ضمن هؤلاء الأمراء الأمير كرامة الذي سارع في الدخول في خدمة الدولة النورية مهملا الفرنج مما يدل على أن الأمير كرامة كان قبل ذلك محالفا للصليبيين داخلا في طاعتهم (4). لكن الأمير كرامة لم يطل به العمر فلم يلبث أن توفي فخلفه في الإمارة أولادة الأربعة الذين لم يجدوا حرجا في مهادنة الفرنج وبناء العلاقات الجيدة مع حكام بيروت الصليبيين (5).وفي أيام دولة المماليك وعندما كان الظاهر بيبرس يعمل على استعادة السواحل من الفرنج ازدادت شكوكه في علاقة الأمراء التنوخيين الدروز بالصليبيين فعلم باتصال الدروز بوالي طرابلس الصليبي فتوجس منهم خيفة فأصدر أمرا بالقبض على هؤلاء الأمراء ليأمن غدرهم ووضعهم في السجون وعندما توسط بعض الأمراء من المماليك لدى الظاهر بيبرس للإفراج عنهم كان جواب السلطان (هؤلاء لا إفراج عنهم ولا آذيهم حتى أفتح طرابلس وبيروت وصيدا) (6).   (1) ((التنوخيون أجداد الموحدين الدروز)) (ص: 81) نديم حمزة. (2) ((التنوخيون أجداد الموحدين الدروز)) (ص: 82) نديم حمزة. (3) ((التنوخيون أجداد الموحدين الدروز)) (ص: 89) نديم حمزة. (4) ((التنوخيون أجداد الموحدين الدروز)) (ص: 91) نديم حمزة. (5) ((التنوخيون أجداد الموحدين الدروز)) (ص: 94) نديم حمزة. (6) ((التنوخيون أجداد الموحدين الدروز)) (ص: 110) نديم حمزة، و ((دراسات في الفرق)) عبدالله الأمين (ص: 161). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 425 ومن الأدلة الأخرى التي تثبت عداء الدروز للمسلمين السنة وتحالفهم مع كل عدو لهم وتقديم العون له ما ذكره شيخ الإسلام أحمد بن تيمية في معرض جوابه على سؤال عن الدروز فقال (إن هؤلاء لا يجوز استخدامهم للحراسة والبوابة والحفاظ) (1). فهذا دليل على أن هؤلاء القوم دأبوا على الخيانة وتقديم المساعدة إلى أعداء المسلمين فلا يؤتمنوا على القيام بحراسة المسلمين أو يكونوا جندا في صفوف جيش المسلمين حتى لا يؤتى الصف من داخله. المصدر: أثر الحركات الباطنية في عرقلة الجهاد ضد الصليبيين – ص258 - ومن خيانات الدروز قد قاموا بعدة ثورات متلاحقة تسببت في زعزعة الأمن وإرباك الدولة العثمانية واستنفاد كثير من الطاقات البشرية والمادية في سبيل القضاء عليها. ولما سير محمد علي باشا جيشا لاحتلال بلاد الشام بقيادة ابنه إبراهيم بعد أن شق عصا الطاعة على الدولة العثمانية عام 1247هـ كان الدروز من الموالين له والمناوئين للدولة العثمانية. وكان الأمير الشهابي (المتوفى 1266هـ) أمير الدروز وجنوده يقاتلون جنبا إلى جنب مع جيش محمد علي وقد غدت مهمة إبراهيم باشا بن محمد علي قائد الحملة المصرية بفضل تعاون الأمير بشير مهمة سهلة فتمكن من الاستيلاء على دمشق وهزم الجيش التركي (العثماني) في حمص وغير جبال طورس وأوغل في قلب بلاد الأتراك وكاد ينزل الضربة القاضية برجل أوربا المريض لكن بريطانيا والنمسا وروسيا اضطرته إلى الانسحاب. وقد حرص الدروز على استغلال كل فرصة مناسبة من أجل إقامة دولة درزية ولأجل ذلك هاجروا إلى جبل حوران الذي سمي بعد ذلك بجبل الدروز بعد أن تمكنوا من طرد أهله المسلمين واستقلوا به تماما (2). ولم يكف الدروز في هذه المرحلة عن مناوشة المسلمين والنصارى من أهل القرى والبادية وقتالهم بل قد قاموا في غضون ذلك بمذابح مروعة كالتي وقعت في عام 1298هـ حيث هجموا على قريتي الكرك وأم ولد وذبحوا سكانهما عن بكرة أبيهم ولم يبقوا حتى على الأطفال والرضع وقد حاولت الدولة العثمانية تأديبهم أكثر من مرة لكنها فشلت وتراجعت أمام ضغوط الإنكليز. وحين احتل الفرنسيون مصر عام 1213هـ بقيادة نابليون الذي توجه بعد إخضاعها إلى بلاد الشام وبينما كان محاصرا لعكا بعث الرسالة الآتية: مخيم عكا 20 آذار 1798م إلى بشير (بعد السيطرة على مصر دخلت صحراء سيناء فأتيت إلى العريش ثم إلى غزة ثم إلى يافا بعدها التقيت بجيوش الجزار وسحقتها ومنذ يومين وصلت إلى عكا وأنا أحاصرها الآن. وأسرع إلى إعلامك بكل ذلك لأنك لا شك في أنك تفرح لهزائم هذا الطاغية (يعني الجزار) الذي سبب الكثير من الذعر للإنسانية عامة وللدروز الأباة بشكل خاص ورغبتي المخلصة هي أن أقيم للدروز استقلالهم وأعطيهم مدينة بيروت ذات المرفأ كمركز تجاري لهم. لذلك فإني أرغب في أن تأتي شخصيا أو ترسل حالا من يمتلك لرسم خطة للتغلب على عدونا المشترك ويمكنك أن تذيع في جميع القرى الدرزية أن كل من يأتي لنا بالمؤن وخاصة الخمر سيكافأ بسخاء) (3).   (1) ((الفتاوى)) ابن تيمية (35/ 63). (2) انظر ((الانحرافات العقدية والعلمية)) (1/ 575 – 576) ((تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين)) (2/ 34). (3) ((رؤية إسلامية في الصراع العربي الإسرائيلي)) محمد عبد الغني النواوي (ص: 31) ((الانحرافات العقدية والعلمية)) (1/ 576 – 577). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 426 ويقول الكابتن (بورون) (إن الأمير بشير لم يجب على رسالة نابليون ولكن قوة من الدروز والموارنة انضمتا إلى جيش نابليون الذي كان يحاول إخضاع عكا وفي آذار 1799 أتت قوة من الخيالة الدروز والموارنة لنجدة نابليون الذي كان يحاول إخضاع عكا ثم يقول إن الدروز والموارنة آزروا نابليون وإن الأمير بشير أمده بالقادة والمستشارين وإن فارس بك الأطرش قال له إن جده إسماعيل كان يملك عدة رسائل بإمضاء نابليون موجهة إلى والده إسماعيل ولكن هذه الأوراق أتى عليها حريق شب في المنزل. ومنذ تاريخ 25/ 7/1920 وحتى 17/ 4/ 1946 والمسلمون يقاومون الاستعمار الفرنسي بكل ما يملكون من قوة مادية كانت أو معنوية غير أن الدروز كان لهم موقف في جبلهم لقد رحبوا بالغزاة المحتلين وقدموا لهم كل ما يقدرون عليه من دعم أو مساعدة واطمأن الفرنسيون إليهم وآمنوا مكرهم ومن ذلك أنه حينما دخل الفرنسيون دمشق بعد معركة ميسلون سنة 1338هـ - 1920م اتخذ القائد الفرنسي (غور) حرسه الخاص من الدروز بمعرفة متعب الأطرش مما يدل على الثقة الكاملة التي أولاها الفرنسيون وهؤلاء الدروز أجروا اتصالاتهم ورفعوا عريضة للمسؤول الفرنسي يطلبون الاستقلال وهذه مقدمة عريضتهم: (لحضرة رئيس البعثة الفرنسي في دمشق الأفخم: بناء على بلاغاتكم المتكررة لرؤساء الروحيين لنا الشرف أن نقدم لسيادتكم بالنيابة عن الشعب الدرزي في جبل حوران برنامج الاستقلال المدرج أعلاه الذي يطلبه الشعب لكي تتكرموا بتقديمه لحضرة صاحب الفخامة المندوب السامي راجين أن يتوسل بالتصديق عليه من قبل حكومة الجمهورية الفرنسية المعظمة واقبلوا فائق احترامنا) وفي 24 تشرين الأول عام 1922م أصدر الجنرال غور وقراره رقم 1641 بإعطاء جبل حوران استقلاله باسم دولة جبل الدروز المستقلة (1). المصدر: خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية لمحمود محمد عبد الرحمن – ص 157   (1) راجع هذه المراسلات في: ((رؤية إسلامية في الصراع العربي الإسرائيلي)) (ص36 - 49). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 427 المبحث الخامس عشر: الانتشار ومواقع النفوذ استوطن الدروز أماكن كثيرة متفرقة، وأهم أماكن تجمعاتهم- كما يذكر عنهم العلماء الذين اطلعوا على تلك الأماكن- هي: في سوريا: ويسكنون في محافظة السويداء، جبل حوران أو جبل الدروز أو جبل العرب كما يقال له، ويعيش منهم في هذه المنطقة أكثر من ثلاث وسبعين قرية. في لبنان: ويسكنون في عدة مناطق منه؛ في الغرب الأسفل، وفي الغرب الأعلى، وفي الشحار والمناصف، وفي الجرد، وفي العرقوب والباروك والجرد الشمالي، وفي الشوف. في فلسطين: عند جبل الكرمل وصفد. في بلاد المغرب بالقرب من مدينة تلمسان قبيلة تعرف ببني عبس تدين بالعقيدة الدرزية دون أن يعرف جيرانهم حقيقة مذهبهم. قال محمد كامل حسين بعد أن ذكر تلك الأماكن: (ومن يدري لعل الباحثين يكتشفون طوائف أخرى تعتنق مذهب الدروز في الأقاليم العربية) (1). هكذا قال، ونسأل الله ألا يوجد ذلك، وقد ذكر الأستاذ محمد حمزة كثيراً من أماكنهم وأثنى على شجاعتهم وبسالتهم ومقاومتهم –حسبما يذكر- لإسرائيل في الوقت الحاضر في هضبة الجولان وغيرها (2) رغم أن المعروف عنهم لدى كافة الناس هو تفانيهم في خدمة إسرائيل!!. المصدر: فرق معاصرة – غالب عواجي 2/ 607 يعيش الدروز اليوم في لبنان وسوريا وفلسطين. غالبيتهم العظمى في لبنان ونسبة كبيرة من الموجودين منهم في فلسطين المحتلة قد أخذوا الجنسية الإسرائيلية وبعضهم يعمل في الجيش الإسرائيلي. توجد لهم رابطة في البرازيل ورابطة في استراليا وغيرهما. نفوذهم في لبنان الآن قوي جدًّا تحت زعامة وليد جنبلاط ويمثلهم الحزب الاشتراكي التقدمي ولهم دور كبير في الحرب اللبنانية وعداوتهم للمسلمين لا تخفى على أحد. ويبلغ عدد المنتمين إليها حوالي 250 ألف نسمة موزعين بين سوريا 121 ألفاً، ولبنان 90 ألفاً والباقي في فلسطين وبعض دول المهجر. المصدر: الموسوعة الميسرة   (1) ((طائفة الدروز)) (ص5،6) (2) ((التآلف بين الفرق الإسلامية)) (ص118) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 428 المبحث السادس عشر: حكم الإسلام فيهم وفي معاملاتهم إن النتيجة التي يخرج بها الباحث في المذهب الدرزي أن هذا المذهب لا صلة له بالإسلام والمسلمين وكل مزاعم أتباع هذا المذهب عن إسلاميتهم إنما هو طريق من طرق السرية والنفاق أمام المسلمين. ومع أن هذا الأمر لا يعرفه عامة المسلمين إلا أنه معروف لدى علماء الإسلام قديما وحديثا ولم يعاملهم من يعرف حقيقتهم إلا على هذا الأساس ولهذا فقد أفتى علماء المسلمين بعدم صحة حكم القاضي الدرزي على المسلمين لأن الدرزي لا ملة له كالمنافق والزنديق وإن سمى نفسه مسلما (1). ولا تقبل أيضا شهادتهم على أحد سواء كان مثلهم في الاعتقاد أو مخالفا لهم لعدم ولايتهم (2). ويكفي أن نأتي بفتوى شيخ الإسلام ابن تيمية لنعرف حكم الإسلام فيهم وفي معاملتهم حيث أجاب فيها عن سؤال وجه إليه في هذا الموضوع فيقول "هؤلاء الدرزية والنصيرية كفار باتفاق المسلمين لا يحل أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم بل ولا يقرون بالجزية فهم مرتدون عن دين الإسلام ليسوا مسلمين ولا يهود ولا نصارى ولا يقرون بوجوب الصلوات الخمس ولا بوجوب صوم رمضان ولا وجوب الحج ولا تحريم ما حرم الله ورسوله من الميتة والخمر وغيرهما وأن أظهروا الشهادتين مع هذه العقائد فهم كفار باتفاق المسلمين ..... والدرزية هم أتباع هشتكين الدرزي وكان من موالي الحاكم أرسله إلى أهل وادي تيم الله بن ثعلبة فدعاهم إلى إلاهية الحاكم ويسمونه الباري العلام ويحلفون به وهم من الإسماعيلية القائلين بأن محمد بن إسماعيل نسخ شريعة محمد بن عبدالله وهم أعظم كفرا من الغالية يقولون بقدم العالم وإنكار المعاد وإنكار واجبات الإسلام ومحرماته وهم من القرامطة الباطنية الذين هم أكفر من اليهود والنصارى ومشركي العرب وغايتهم أن يكونوا فلاسفة على مذهب أرسطو وأمثاله أو مجوسا وقولهم مركب من قول الفلاسفة والمجوس ويظهرون التشيع نفاقا .... وكفر هؤلاء مما لا يختلف فيه المسلمون بل من شك في كفرهم فهو كافر مثلهم لا هم بمنزلة أهل الكتاب ولا المشركين بل هم الكفرة الضالون فلا يباح أكل طعامهم وتسبى نساؤهم وتؤخذ أموالهم فإنهم زنادقة مرتدون لا تقبل توبتهم بل يقتلون أينما ثقفوا ويلعنون كما وصفوا ولا يجوز استخدامهم للحراسة والبوابة والحفاظ ويجب قتل علمائهم وصلحائهم لئلا يضلوا غيرهم ويحرم النوم معهم في بيوتهم ورفقتهم والمشي معهم وتشيع جنائزهم إذا علموا موتها ويحرم على ولاة أمور المسلمين إضاعة أمر الله من إقامة الحدود عليهم بأي شيء يراه المقيم ولا المقام عليه .... ويضيف رحمه الله قائلا: ولا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين ولا يصلى على من مات منهم .... وأما استخدام مثل هؤلاء في ثغور المسلمين أو حصونهم أو جندهم فإنه من الكبائر وهو بمنزلة من يستخدم الذئاب لرعي الغنم .... وإذا أظهروا التوبة ففي قبولها منهم نزاع بين العلماء فمن قبل توبتهم إذا التزموا شريعة الإسلام أقر أموالهم عليهم ومن لم يقبلها لم تنقل إلى ورثتهم من جنسهم فإن مالهم يكون فيئا لبيت المال لكن هؤلاء إذا أخذوا فإنهم يظهرون التوبة لأن أصل مذهبهم التقية وكتمان أمرهم وفيهم من يعرف وفيهم من قد لا يعرف فالطريق في ذلك أن يحتاط في أمرهم فلا يتركون مجتمعين ولا يمكنون من حمل السلاح ولا في ذلك بحسب ما يقدر عليه من الواجب فلا يحل لأحد أن يكتم ما يعرفه من أخبارهم بل يفشيها ويظهرها ليعرف المسلمون حقيقة حالهم ......   (1) ((حاشية ابن عابدين)) (4/ 299). (2) ((تكملة حاشية ابن عابدين)) (1/ 73) ((كتاب الدروز مؤامرات وتاريخ وحقائق)) (فؤاد الأطرش (ص: 360). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 429 والمعاون في كف شرهم وهدايتهم بحسب الإمكان له, من الأجر والثواب مالا يعلمه إلا الله تعالى فإن المقصود بالقصد الأول هو هدايتهم) (1).هذا وقد كان ابن تيمية من السباقين لتطبيق القول بالعمل وما رواه ابن كثير في تاريخه يوضح لنا كيفية هذا التطبيق وبما تم من حوادث سنة 699هـ حيث يقول: (وفي يوم الجمعة العشرين من شوال ركب نائب السلطنة جمال الدين أقوش الأفرم في جيش دمشق إلى جبال الجرد وكسروان وخرج الشيخ تفي الدين ابن تيمية ومعه خلق كثير من المتطوعة والحوارنة لقتال أهل تلك الناحية بسبب فساد نيتهم وعقائدهم وكفرهم وضلالهم وما كانوا عاملوا به العساكر لما كسرهم التتار وهربوا حين اجتازوا ببلادهم وثبوا عليهم ونهبوهم وأخذوا أسلحتهم وخيولهم وقتلوا كثير منهم فلما وصلوا إلى بلادهم جاء رؤساؤهم إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية فاستتابهم وبين للكثير منهم الصواب وحصل بذلك خير كثير وانتصار كبير على أولئك المفسدين والتزموا برد ما كانوا أخذوه من أموال الجيش وقرر عليهم أموالا كثيرة يحملونها إلى بيت المال وأقطعت أراضيهم وضياعهم ولم يكونوا قبل ذلك يدخلون في طاعة الجند ولا يلتزمون أحكام الملة ولا يدينون دين الحق ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله .... وفي سنة 704هـ عاد ابن تيمية رحمه الله إلى مقاتلة هؤلاء ومعه جماعة من أصحابه إلى جبل الجرد والكسروانيين ومعه نقيب الأشراف زين الدين بن عدنان فاستتابوا خلقا منهم وألزموهم بشرائع الإسلام ورجع مؤيدا ناصراً) (2).واضح بعد هذا أن هؤلاء القوم مرتدون عن الإسلام لتركهم عبادة الله تعالى وإنكارهم فرائض الإسلام وشرائعه ولكن لا بد من المطالبة بالعمل على نشر الإسلام بين صفوفهم وأن يحال بينهم وبين مشايخهم الذين لا يزالون يصرون على هذه السخافات والضلالات الخرافية المهينة للعقل الإنساني فتزول بذلك الغشاوة عن أعين الكثير منهم يعيشون في تخبط لا يجدون له نهاية وهذا الشيء هو ما يطالب به الشيخ محمد رشيد رضا في أحد فتاويه التي سئل عنها (3). المصدر: الحركات الباطنية في العالم الإسلامي لمحمد أحمد الخطيب – ص 315   (1) ((فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية)) (35/ 155 - 162). (2) ((البداية والنهاية)) (14/ 12 – 35). (3) ((فتاوى الإمام محمد رشيد رضا)) (1/ 276). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 430 مراجع للتوسع ـ عقيدة الدروز عرض ونقد، محمد أحمد الخطيب. ـ أضواء على العقيدة الدرزية، أحمد الفوزان. ـ إسلام بلا مذاهب، د. مصطفى الشكعة. ـ أصل الموحدين: الدروز وأصولهم، أمين طلع. ـ تاريخ الدعوة الإسماعيلية، مصطفى غالب. ـ تاريخ المذاهب الإسلامية، محمد أبو زهرة. ـ الدروز والثورة السورية، كريم ناشد. ـ طائفة الدروز، محمد كامل حسين. ـ مذاهب الدروز والتوحيد، عبد الله النجار. ـ الدروز: وجودهم، مذهبهم، أبو إسماعيل سليم. ـ الحركات في لبنان إلى عهد المتصرفة، يوسف أبو شقرا. ـ مذاهب الإسلاميين، عبد الرحمن بدوي. ـ دراسة في الفرق والمذاهب القديمة المعاصرة، عبد الله الأمين. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 431 تمهيد الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد الأحد الذي لا شبيه له ولا مثيل ولا ند ولا عديل المنزه عما يخطر بالبال أو يتوهم في الفكر والخيال فالعقول في الإحاطة به عقال جل أن تبلغه الأوهام أو أن تدركه الأفهام أو أن يشبه الأنام أو أن تحيط به الأجسام. وأشهد أن محمدا خاتم الأنبياء والمرسلين هدانا إلى أقوم الطرق وأفضل السبل وأنزل الله عليه أعظم الكتب (القرآن) فحفظه من التبديل والتغيير والتحريف والنقصان وجعله آية ومعجزة على مر الأزمان فأكمل الله به الدين وأتم به النعمة على المسلمين قال تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3] فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين أما بعد: فقد رضي الله لعباده الدين الذي أكمله فلا نحتاج لشيء آخر إلى قيام الساعة وحذرنا سبحانه من اتباع السبل الخداعة فقال سبحانه وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام: 153] فسرها النبي صلى الله عليه وسلم ((فخط خطا مستقيما ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطا ثم قال: هذا سبيل الله وهذه السبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ الآية)) (1) وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال: ((كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله صفهم لنا؟ فقال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا)) (2).   (1) رواه أحمد في المسند (1/ 435) (4142) والدارمي (202) والنسائي في الكبرى (6/ 343) وابن حبان (1/ 180) (6) والحاكم (2/ 261) (2938) وقال صحيح الإسناد والحديث حسنه الألباني كما في المشكاة (166) (2) رواه البخاري (3606) ومسلم (1847) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 432 هكذا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الشياطين الذين يدعون إلى سبل الغواية والضلال فهم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا أي بألسنة أهل الإسلام فيتكلمون بالكتاب والسنة بعدما يحرفون معانيهما لتوافق ما يدعون إليه من باطل متسترين باسم الدين متقنعين بمظاهر أهل الحق فكأنهم حين تراهم من أهله ومن دعاته حتى إذا أجابهم مجيب تلقفوه فقذفوه في النار. وهؤلاء الشياطين من الأنس وشركاءهم من شياطين الجن يستغلون في نشر دعواتهم فشو الجهل بالدين وبعد الناس عن نبعه الصافي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيستهدفون ضعفاء الإيمان ومتزعزعي العقيدة ومتبعي الشهوات والأهواء لذلك تجد أن متبعيهم إما جهلة غرر بهم وإما أناس اتبعوا شهواتهم وآثروا الحياة الدنيا ووجدوا في هذه الملل متسعا لإشباع تلك الشهوات فانتحلوها سعيا وراء الدرهم والدينار والمنصب والرياسة والشهرة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تكون بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا)) (1). وإن من أخطر الدعوات وأعظم الفتن التي فتن بها هؤلاء الشياطين كثيرا من الناس هو تعظيم شخص ورفعه والتعلق به حتى يؤول الأمر إلى عبادته. وأول من أظهر هذه الفتنة وأستخدمها لهدم الدين الإسلامي هو اليهودي المعروف بابن السوداء عبد الله بن سبأ اليهودي فقد حمله الحقد على أهل الإسلام بعدما طهر الله بهم أرض جزيرة العرب من دنس اليهود إلى أن يظهر الإسلام ويبطن الكفر فيتمكن من الكيد للإسلام وأهله فأظهر الورع والفقه وأخذ يستقطب حديثي الإسلام من المجوس وغيرهم وغرس في نفوسهم تعظيم على بن أبى طالب رضي الله عنه حتى أوصلهم إلى أن قالوا لعلى يوما أنت ربنا ففزع على رضي الله عنه من هول مقالتهم وحبسهم وجعل يطلب توبتهم ثلاثة أيام فلما لم يتوبوا وأصروا على كفرهم أوقد نارا ودعا مولاه قنبرا وقذفهم فيها وأنشد قائلا: إني لما رأيت الأمر أمرا منكرا أوقدت ناري ودعوت قنبرا   (1) رواه الترمذي (2197) وأحمد (4/ 277) (18462) والحاكم في المستدرك (4/ 485) من حديث أنس. قال الترمذي: غريب من هذا الوجه. وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (8/ 138) حسن. وقال السخاوي في البلدانيات (136) حسن. وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (810) حسن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 433 وكان هذا هو بداية غرس تعظيم شخص في هذا الدين والذي أثمر بعد ذلك فرق الرافضة - الشيعة - والتي تقوم بشكل أساسي على تعظيم على والأئمة حتى كان من نبت الرافضة فرقة تسمى بالباطنية والتي أسست في عهد الخليفة المأمون على يد الزنديق ميمون بن ديصان القداح وهدفها الرئيسي إبطال الشريعة بأسرها والقضاء على الدين ونسخه فهم أصحاب ملة خبيثة قال فيهم الإمام الإسفرايينى رحمه الله في كتابه (التبصير في الدين) "وفتنتهم على المسلمين شر من فتنة الدجال فإن فتنة الدجال إنما تدوم أربعين يوما وفتنة هؤلاء ظهرت أيام المأمون وهي قائمة بعد ".ذكر أهل التواريخ أن الذين وضعوا دين الباطنية كانوا من أولاد المجوس قال بن طاهر في (الفرق بين الفرق) "وليست الباطنية من فرق ملة الإسلام بل هي من فرق المجوس"ولكن لما لم يقدروا على إظهار الدين المجوسي مخافة سيوف المسلمين وضعوا مذهبهم على مداهنة أهل الإسلام والتظاهر بأنهم منهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا)) (1) ثم راحوا يبثون سمومهم في الأمة عن طريق التفسير الباطني للنصوص فادعوا أن للنصوص ظواهر وبواطن تجرى في الظاهر مجرى اللب من القشر فظاهر النصوص عندهم للعوام والجهلة والحمير والأغبياء على حد وصفهم أما بواطن النصوص فهي للعقلاء والأذكياء منهم فحولوا الآيات إلى رموز وإشارات وأعداد ترمز في زعمهم إلى حقائق معينة تخدم دعواهم الباطلة وتناقض شريعة الإسلام وتنقضها فمن توصل إلى معرفة بواطن النصوص توصل للحقيقة ومن وقف نظره على ظاهر النصوص نزح تحت الأواصر والأغلال التي هي عندهم التكليف الإلهي الأوامر والنواهي الشرعية. ومن يرتقى إلى علم الباطن عندهم يرفع عنه التكليف فلا يتعلق به خطاب الشارع في أي شيء فلا صلاة عليه ولا زكاة ولا صوم ولا حج ولا يحرم عليه شيء فله أن يفعل ما يشتهي من معاقرة الخمور أو الزنا حتى مع المحارم أو حتى اللواط أو إتيان البهائم. ففتحوا بذلك باب إشباع الشهوات على مصراعيه حتى يجتذبوا سقطة الناس وأراذلهم وفتحوا كذلك باب التفسير الباطني للقرآن فتلقفه كل صاحب هوى وبدعة وأخذ يلوى عنق النصوص ويؤولها إلى ما يؤيد بدعته ويتماشى مع هواه من غير احتكام للضوابط الشرعية واللغوية المصطلح عليها عند أهل العلم. كان من جملة الباطنيين رجل يدعى عبيد الله القيرواني كتب مرة إلى سليمان بن الحسن القرمطي الباطني يقول " أوصيك بتشكيك الناس في التوراة والإنجيل والقرآن فإنه أعظم عون لك". ومما جاء في رسالته " وأعجب من هذا في دينهم ـ أي المسلمين ـ أن الواحد منهم تكون له ابنة حسناء يحرمها على نفسه ويبيحها للأجنبي ولو كان له عقل لعلم أنه أولى بها من الرجل الأجنبي ولكنهم قوم خدعهم رجل بشيء لا يكون أبدا خوفهم بالقيامة والنار ومناهم بالجنة واستعبدهم". كل هذا الكفر البواح الذي يظهر جليا في معتقد الباطنية وتراهم مع ذلك يتسمون بأسماء المسلمين ويخالطونهم مخفين مذهبهم بل ربما صلى الواحد منهم صلاة المسلمين متسترا بها. وأصل عقيدتهم إبطال الدين ونقض الشريعة والصد عن العبادات وإنكار البعث والحساب والجنة والنار حتى تشيع الفواحش وحتى ينهدم الدين وتنهدم الأمة. وقد ذهب العلماء إلى أن الباطنية كفار خارجين عن ملة الإسلام قال الإمام أبو حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ في كتابه (فضائح الباطنية) " والقول الوجيز أنه يسلك فيه ـ أي الباطني الكافرـ مسلك المرتدين في النظر في الدم والمال والنكاح والذبيحة ونفوذ الأقضية وقضاء العبادات".   (1) رواه البخاري (3606) ومسلم (1847). . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 434 بل كان العلماء يرون أن كفر هؤلاء أعظم من كفر اليهود والنصارى كما قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ وأن قولهم يتضمن الكفر بجميع الكتب والرسل كما نقل شيخ الإسلام عن الشيخ إبراهيم الجعبري لما اجتمع بابن عربي - وكان باطنيا - فقال " رأيت شيخا نجسا يكذب بكل كتاب أنزله الله وبكل نبي أرسله الله". فنخلص مما سبق أن الباطنية: كفار تظاهروا بالإسلام واستبطنوا الكفر والعداء للإسلام وأهله وأنهم يؤولون النصوص وفقا لما يخدم مذهبهم الباطل. وقد توالدت هذه الفرقة وتشعبت فخرج منها من فرق الغواية والضلال الكثير مثل القرامطة الذين اقتحموا الحرم سنة 317هـ ونهبوا الحجاج واقتلعوا باب البيت والحجر الأسود وظل خارج الحرم في حوزتهم حتى سنة 339هـ. ومثل الإسماعيلية والتي انقسمت بدورها إلى فرق شتى ومثل النصيرية الذين يقولون بحلول الله في علي بن أبى طالب ـ رضي الله عنه ـ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. ومن هذه الفرق الدروز عبدة الحاكم بأمر الله الفاطمي ومنها القاديانية والأحباش والشيخية. ومن هذه الفرق الباطنية (البابية) و (البهائية) والتي هي حديث الساعة وموضوع هذا المختصر عباد الميرزا حسين علي النوري المازندراني الإيراني الذي لقب نفسه بـ (بهاء الله) عملاء الصهاينة اليهود الذين احتلوا بهم فلسطين ويريدون أن يغزوا بهم هذا البلد الأمين مصر وسائر بلاد المسلمين. نحاول أن نقف على شيء من تاريخ هذه النحلة ونتعرف على عقيدتها الفاسدة ولنكشف قناع التقية والكذب الذي يتقنعون به فيوهمون الناس أنهم دعاة محبة وسلام وأنهم أصحاب ديانة وعقيدة سماوية ونظهر بحول الله وقوته الوجه الوثني الإباحي الدميم لهذه الملة حتى نكون على حذر من فتنتها فإن من لم يعرف الشر وقع فيه. المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري الجزء: 9 ¦ الصفحة: 435 المطلب الأول: التعريف البابية أو البهائية فرقة ضالة كافرة انبثقت من الشيعة الاثني عشرية (الرافضة) المصدر: الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة لناصر القفاري وناصر العقل - ص 156 فهيحركة نبعت من المذهب الشيعي الشيخي سنة 1260هـ‍/1844م تحت رعاية الاستعمار الروسي واليهودية العالمية والاستعمار الإنجليزي بهدف إفساد العقيدة الإسلامية وتفكيك وحدة المسلمين وصرفهم عن قضاياهم الأساسية. المصدر: الموسوعة الميسرة وموطنها الأول إيران وسميت بالبابية نسبة لأول زعيم لها والذي لقب نفسه بالباب وسميت بالبهائية نسبة لزعيمها الثاني والذي لقب نفسه بهاء الله. وقد ادعى كل من الباب والبهاء النبوة والرسالة ثم زعم كل واحد منهما أن الله قد حل فيه تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا المصدر: الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة لناصر القفاري وناصر العقل - ص 156 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 436 تمهيد البهائية إحدى الفرق الباطنية الخبيثة التي حاولت هدم الإسلام وإخراج أهله منه بأساليب وطرق شتى قديماً وحديثاً. وقبل البدء بالكلام عن البهائية لابد من التطرق أولاً وبإيجاز إلى التعريف بالبابية وبيان الصلة ما بين البابية والبهائية التي هي موضوع هذه الدراسة. والواقع أن البابية والبهائية والشيخية والرشتية حلقات متصلة بعضها بالبعض الآخر وتعتبر الشيخية والرشتية هي النواة الأولى للبابية، كما تعتبر البابية هي الدرجة الأولى للبهائية. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 643 ونبدأ الآن بذكر الشيخية: زعيمهم –تعاليمه- نهايته- زعامة الرشتي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 437 أولا: الشيخية أو الرشتية أما الشيخية: فهي الطائفة المنسوبة إلى زعيمها الضال أحد شيعة العراق (1)، ويسمى الشيخ أحمد الأحسائي، وهو أحمد بن زين الدين بن إبراهيم الأحسائي الذي ولد بالمطير من قرى الأحساء في شهر رجب سنة 1166هـ، وتوفي سنة 1241، ودفن بالبقيع (2).وبعضهم يقول: إنه ولد سنة 1157 (3)، ويعتبر من كبار علماء الإمامية وهو باطني من الغلاة، وله أفكار خارجة عن الإسلام يظهر فيها الاعتقاد بالحلول –كما تقدم- وذلك في مثل قوله: إن الله تجلى في علي وأولاده الأحد عشر، ومثل قوله الآخر: إن عليًّا وأولاده مظاهر الله، وأنهم أصحاب الصفات الإلهية والنعوت الربانية، تعالى الله عن قوله. كما يظهر فيها غلو الفلاسفة في قوله: إن الأئمة هم العلة المؤثرة في وجود المخلوقات، ولولاهم ما خلق الله شيئاً. كما يظهر فيها الإلحاد في قوله: إن اللوح المحفوظ هو قلب الإمام المحيط بكل السموات وكل الأرضين، وكان ينكر المعاد والبعث. كما يظهر فيها كذلك القول بالتناسخ حينما كان يزعم للناس أن المهدي يحل في أي رجل كان فيكون له صفة الباب، وأن روح المهدي حلت فيه هو فصار هو الباب إلى المهدي. إلى آخر ما قاله من خرافات وإلحاد، وهذه الأفكار دليل على تضلعه من مشارب الباطنية الغلاة والفلاسفة الغواة. إلا أن محمد حسين آل كاشف الغطاء يقول في ترجمته: "كان العارف الشهير الشيخ أحمد الأحسائي في أوائل القرن الثالث عشر وحضر على السيد بحر العلوم وكاشف الغطاء، وله منهما إجازة تدل على مقامه عندهم وعند سائر علماء ذلك العصر، والحق أنه رجل من أكابر علماء الإمامية وعرفائهم. وكان على غاية الورع والزهد والاجتهاد في العبادة كما سمعناه ممن نثق به ممن عاصره ورآه، نعم له كلمات في مؤلفاته مجملة متشابهة" (4). وقد حاول محمد حسين هنا أن يثني على الإحسائي ويمجده، ولكن وقفت أفكار الأحسائي دون استرسال محمد حسين، ومن هنا أخذ يعتذر له بأن في مؤلفاته ألفاظاً مجملة متشابهة، وفاته أن هذا العذر غير مجدٍ للأحسائي؛ فإن الذي حمل الأحسائي على ذلك الإلغاز والإجمال، إنما هو معتقده المغالي، وإذا كان آل كاشف الغطاء يدافع عنه فإن كثيراً من علماء الشيعة غير راضين عنه. فقد ذكر الدكتور محسن عبد الحميد أن جماعة من علماء الإمامية ذهبوا إلى أن الأحسائي كان فاسد العقيدة منحرفاً، أوجد طريقة في مذهب الشيعة الاثني عشر، والتي سميت فيما بعد بالشيخية، وقد ردوا عليه بكتب معروفة متداولة. ثم ذكر بعد ذلك ثلاثة كتب لمشاهير الشيعة: وهي كتاب (ظهور الحقيقة على فرقة الشيخية) لمحمد مهدي الكاظمي، وكتاب (هدية النملة) للميرزا محمد رضا الهمدان، وكتاب (رسالة الشيخية والبابية) لمحمد مهدي الخالصي.   (1) ((البهائية)) لمحب الدين الخطيب (ص: 5). (2) ((حقيقة البابية والبهائية)) ((ص: 30). (3) ((البهائية)) لعبد الرحمن الوكيل (ص: 73). (4) ((فهرست تصانيف العلامة الشيخ أحمد الإحسائي)) (ص: 5) نقلاً عن ((حقيقة البابية والبهائية)) (ص: 30). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 438 وبعد دراسة قام بها الدكتور محسن عبد الحميد لأفكار الشيخية من كتبهم ظهر له أن الأحسائي يلجأ أحياناً إلى التفاسير الباطنية لتأييد وجهة نظره، وأنه غالى في الأئمة الاثني عشر الذين يزعمهم الشيعة، وغالى في الرسول صلى الله عليه وسلم وزعم أن العلة في وجود جميع المخلوقات هم أولئك، حيث خلقها الله من أجل الأئمة. كما زعم أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم مخلوق من نور الله، وهذا النور عقل واحد يظهر في محمد ثم يظهر في علي ثم في الحسن ثم في الحسين، وأن الزمان لا يخلو من ناطق، وأن كلامه في المعاد غامض مع إيمانه بالرجعة وما يتبعها من الحوادث (1).ولكن الشيخ عبد الرحمن الوكيل يبين أن هذه الرجعة التي يؤمن بها الأحسائي ليست هي الرجعة المفهومة عند الاثني عشرية، فإنه حكم بموت الإمام الثاني عشر، وبأن روحه طارت إلى الملأ الأعلى ولكنها ستعود لتحل مرة أخرى بجميع خصائصها في إنسان جديد، تولد ولادة حقيقية من أب وأم جديدين غير والدي الإمام الثاني عشر الغائب المزعوم، ولهذا ثار عليه شيعة إيران (2). وتتضح شخصية الأحسائي وأوهامه من خلال دراسة الرشتية والبابية؛ لأن هؤلاء صاروا على طريقته مع زيادة الغلو الذي استحسنوه لتقوية المذهب وتكامله، ولتتم كذلك المؤامرة الرهيبة التي خطط لها هؤلاء ومن وراءهم بهدف القضاء على الإسلام والأمة الإسلامية وتمزيق وحدتها وتشتيت كلمة أبناء الإسلام وضرب بعضهم ببعض، حتى تم لهم فعلاً الكثير مما يريدونه ويعملون من أجله. خصوصاً والمسلمون وزعماؤهم في جرى حثيث وراء التيارات المنحرفة إلا القليل منهم، فلم يتمكنوا من التقاط أنفاسهم ولم يتح أعداء الإسلام لهم الفرصة للنظر في الواقع الذي يعيشونه، فضلاً عن التفكير في رد المخططات الرهيبة التي تحاك ضدهم، وهم في قلق وصراع مرير وخصام عنيف بينهم، وصار القائل: وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا صار هذا القائل ومن معه خيراً منهم؛ لأن الذين أخبر عنهم لم يجدوا عدوًّا يحاربونه فاشتغلوا بحرب بعضهم بعضاً، وهؤلاء تركوا العدو يتأهب ويعد العدة واشتغلوا عنه بالقتال والعداوة فيما بينهم. وما أن انتهت أيام الأحسائي الذي ألهب مشاعر أتباعه من الشيعة بقرب مجيء المهدي وجعله في أذهانهم قاب قوسين أو أدنى، ما أن انتهت أيامه حتى تولى بعده أعظم تلاميذه وهو الرشتي الذي أسس بعد ذلك جماعة ينتسبون إلى اسمه وهم الرشتية، واسمه كاظم الرشتي ولد سنة 1205هـ في بلدة (رشت في إيران) (3). المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 643 - 647 وكاظم الرشتي قال عنه بعض الباحثين: إنه قس نصراني ادعى الإسلام وسمى نفسه الرشتي نسبة إلى رشت قرية من قرى إيران بالرغم من أن أهل رشت لا يعرفون عنه شيئا. المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري   (1) انظر: ((حقيقة البابية)) (ص: 30 – 34). (2) ((البهائية)) (ص: 74). (3) ((حقيقة البهائية)) (ص: 35). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 439 وقد سار على نفس طريقة أستاذه الإحسائي وزاد عليه أقوالاً كفرية أخرى، كانت هي النواة الأولى لظهور البابية بفعل تأثير الرشتي في تلميذه علي محمد الشيرازي، الذي تزعم الدعوة البابية الهدامة التي ظهرت في إيران البلد المضياف لكثير من الدعوات المناوئة للإسلام (1).وقد قال بالتناسخ حيث ادعى أنه حل فيه روح الباب كما حل في الأحسائي، ولكنه عاف فكرة الأبواب هذه وقفز إلى التبشير بظهور المهدي نفسه، وقد روج الرشتي أفكار شيخه الأحسائي وأدخل الكثيرين في مذهبه ومذهب الأحسائي، وصارت الشيخية فرقة مستقلة (2) في كثير من الأفكار، ويحترم البابيون والبهائيون الأحسائي والرشتي احتراماً عظيماً ويسمونهما –كما يقول محسن- بالنورين (3). المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 647 تحمل الرشتي عقيدة قرب ظهور المهدي عن شيخه أحمد الأحسائي وأن المهدي يعيش بين الناس في حالة روحية لطيفة ويتضح هنا التشابه بين عقيدته في المهدي وبين عقيدة النصارى في المسيح وهي عقيدة اللاهوت والناسوت، برز الرشتي بين تلاميذ الأحسائي حتى صار رئيسا للشيخية بعد وفاة شيخه وظل يعمل على نشر هذه العقيدة وغرسها في صدور تلاميذه، وكان من أخبث هؤلاء التلاميذ ثلاثة: 1ـ حسين البرشوئي: من بشرويه إحدى قرى خراسان سماه الرشتي كبير التلاميذ وكان له دورا رئيسيا في تأسيس البابية. 2ـ فاطمة بنت صالح القزويني (قرة العين): ومن أسمائها (زرين تاج) كانت فصيحة اللسان خطيبة مؤثرة ولكن كم من ذي وجه صبيح ولسان فصيح غدا في النار يصيح فلن يغنى عنها جمالها ولا لسانها من الله شيئا إذ كانت إباحية فاجرة قال الله تعالى وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون: 4] كتب خالد القشطيني الكاتب بجريد الشرق الأوسط أن الباحث العراقي الأستاذ د. علي الوردي التقى ببعض من يتذكرونها من العراقيين وسألهم عنها وعن وعظها، فقالوا: " أوه! هذه قرة العين كانت قـ .... ة! مجرد عاهرة ساقطة". كانت قرة العين قد درست العلوم الشيعية على أبيها ثم مالت إلى الشيخية بواسطة عمها (الملا على الشيخي) ثم راسلت كاظم الرشتي وتركت زوجها من غير طلاق وقال البعض: إنه طلقها وتبرأ منها هو وأولادها وسافرت إلى كربلاء حيث لزمت مجالس الرشتي وصارت بعدها من أجرأ تلاميذه على إعلان الخروج على الإسلام والدعوة إلى شيوعية النساء والمال ولما بدأت تطبيق هذه المبادئ علنا مع بعض تلاميذ الرشتي لقبوها بالطاهرة!! 3 – على محمد الشيرازي وهو مؤسس البابية، وستأتي ترجمته بشيء من التفصيل فيما يلي. المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري   (1) ((البابية عرض ونقد)) (ص: 45). (2) ((الشيعة والتشيع)) (ص: 313). (3) ((حقيقة البابية والبهائية)) (ص: 35). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 440 ثانيا: البابية زعيم البابية زعيم البابية الأول هو علي بن محمد رضا الشيرازي ولد في سنة 1235هـ في بلدة شيراز جنوبي إيران، مات أبوه وهو طفل فكفله خاله ويلقب بالميرزا، وقد نسب بعضهم أسرته إلى آل البيت وهذا غير صحيح، والذين أطلقوا عليه هذه النسبة إنما أطلقوها لشيء يريدونه في أنفسهم، لكي يطبقوا الروايات التي تذكر أن المهدي يكون من آل البيت. أي ومحمد علي الشيرازي من أهل البيت وهو المهدي المنتظر حسب خرافاتهم، ولم يلتفتوا إلى أن اسم المهدي محمد بن عبد الله كما ثبت بالسنة المطهرة، ووالده الشيرازي يسمى محمد رضا، وأمه فاطمة بيكم، وقد توفي والده وهو صغير فقام بكفالته خاله ويسمى الميرزا علي. وحين بلغ السادسة من عمره عهد به خاله إلى رجل يسمى الشيخ عابد- وهو أحد تلامذة الرشتي- لتعليمه في مدرسته التي سماها (قهوة الأنبياء والأولياء)، وبعد أن حصل على قسط قليل من التعلم عزف عن مواصلة التعليم، فأشركه خاله في التجارة ببيع الأقمشة، وتفنن فيها مع خاله الآخر الميرزا محمد. وكان قد بلغ السابعة عشر من عمره فاتصل به أحد دعاة الرشتية ويسمى جواد الكربلائي الطباطبائي، وبدأ يلقي في مسامعه أفكار الشيخية عن المهدي المنتظر ويوهمه بأنه ربما يكون هو نفسه- أي علي محمد الشيرازي- المهدي المنتظر لظهور علامات تدل على ذلك- حسب زعمه- فوقع الشيرازي في فخه وترك التجارة ومال إلى قراءة كتب الصوفية التي زادته هوساً، ومارس شتى الرياضات، حتى إنه كان- كما قيل عنه- يقف في حر الظهيرة المحرقة تحت أشعة الشمس على سطح البيت مكشوف الرأس عاري البدن مستقبلاً قرص الشمس، حتى كان يعتريه الذهول والوجوم، وتأثر عقله، وكان الكربلائي ملازماً له يحرضه على هذا المسلك. فأشفق عليه خاله وأرسله إلى النجف وكربلاء للاستشفاء بزيارة المشاهد التي يقدسونها هناك، إلا أنه في كربلاء بدأ يتردد على مجالس كاظم الرشتي ويدرس أفكاره وآراء الشيخية، وكان الرشتي أيضاً قد وقع اختياره على الميرزا ليجعل منه المهدي المنتظر، فكان يبشر أتباعه ومريديه وتلاميذه باقتراب الأوان لظهور المهدي ودنو قيام القائم المنتظر، ويشير إلى الميرزا علي محمد ويبالغ في إكرامه، وكثيراً ما يردد شعراً: يا صغير السن يا رطب البدن يا قريب العهد من شرب اللبن المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 648، 649 وبعد موت كاظم الرشتى سنة1259? – 1843م رحل على محمد الشيرازى إلى شيراز فلحق به حسين البشروئى كبير التلامذة وأقنعه أن كاظم الرشتى كان يشير إلى أن على محمد رضا الشيرازى يمكن أن يكون هو الباب وأن البشروئى هو باب الباب. وكان يساعد البشروئى في غرس هذه الفكرة في ذهن الشيرازى الجاسوس الروسى " كنيازى دلكورچى" الذي تظاهر بالإسلام وواظب على حضور مجالس الرشتى وفيها تعرّف على علىّ محمد رضا الشيرازى , وكان كنيازى دلكورچى أو "عيسى اللنكرانى" كما سمّى نفسه يحرص على إلقاء فكرة أنّ علىّ رضا هو الباب في ذهن علىّ رضا وفي ذهن بقية التلاميذ , وهذا ما اعترف به الجاسوس نفسه في مذكراته التي نشرت في مجلة الشرق السوفيتية 1924 - 1925م. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 441 ويصف الجاسوس نصائحه إلى السيد علىّ رضا الشيرازى بعدما أوحى إليه أنّه الباب فيقول: "إن الناس يقبلون منك كل ما تقول من رطب ويابس ويتحمّلون عنك كل ما تقول ولو قلت بإباحة الأخت وتحليلها للأخ. فكان السيد يصغى ويسمع , وطفق كل من الميرزا حسين علىّ - الذي سُمّى بعد ذلك بالبهاء وكان من تلاميذ الشيرازى كما سيأتي- وأخوه الميرزا يحيى نوري (صبح أزل) والميرزا علىّ رضا الشيرازىّ ونفرٌ من رفقتهم يأتونني مجدَّداً ولكن مجيئهم كان من باب غير معتاد في السفارة".ولفظ الباب أي (الواسطة الموصّلة إلى الحقيقة الإلهية). وهو مصطلح شيعي شائع عند الشيعة الإمامية التي ظهرت بينها هذه البدعة المهلِكة المأخوذة من أكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)) (1). فما توفي علي بن أبى طالب رضي الله عنه حتى صنعوا له بدلا من الباب ألف باب وكذاب. وبالفعل وافقت إيحاءات حسين البشروئي والجاسوس كنيازى دلكورچى ما في نفس الشيرازىّ من هوى وصدق الله إذ يقول: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ [الأنعام:121]. وقال سبحانه: شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112] فأعلن الشيرازي أنه الباب وطار بها البشروئي في الآفاق يعلن أنّه رأي الباب وأنّه هو باب الباب. المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري وبعد أن أحكمت الخطة بينه وبين مشائخ الرشتية وسفير روسيا في ذلك الوقت والمترجم بها دالجوركي أعلن في سنة 1260هـ أنه هو الباب الأصل إلى الإمام الغائب المنتظر عند الشيعة، وأن صديقه الملا حسين البشروئي هو باب الباب، وهو أول من آمن به. وكان عمر الباب الشيرازي آنذاك خمساً وعشرين سنة، واعتبر ذلك اليوم عيد المبعث لظهور الباب ودعوته جهراً، وآمن بدعوته كثير من زعماء الشيخية وأهمهم ثمانية عشر شخصاً جمعهم في حروف (حي)؛ لأن الحاء والياء يعادلها ثمانية عشر بحساب الحروف الأبجدية. ثم وزع هؤلاء في أقاليم مختلفة من إيران وتركستان والعراق، وكان لهؤلاء نشاط في الدعوة إلى البابية؛ خصوصاً زرين تاج بنت الملا صالح القزويني، والملا حسين البشروئي، والملا محمد علي الزنجاني، والملا حسين اليزدي، والملا البارفروشي (2).   (1) رواه الحاكم (4637) والطبراني (11083) والعقيلي في الضعفاء (5/ 457) قال الهيثمي في ((المجمع)) (9/ 114) فيه عبد السلام بن صالح الهروي وهو ضعيف، وقال الحاكم إسناده صحيح، وقال الذهبي بل موضوع، وقال العقيلي لا يصح في هذا المتن حديث، وقال القرطبي في التفسير (9/ 336) باطل، وقال الدارقطني في العلل مضطرب غير ثابت، وقال الترمذي: منكر، وكذا البخاري، وقال: إنه ليس له وجه صحيح، وقال ابن معين فيما حكاه الخطيب في تاريخ بغداد إنه كذب لا أصل له، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات وأشار إلى هذا ابن دقيق العيد، بقوله: هذا الحديث لم يثبتوه، وقيل: إنه باطل، وكذلك أورده ضمن الموضوعات كل من الشوكاني وابن عراق والألباني. قال يحيى بن معين في ((سؤالات ابن جنيد)) ص (185): كذب ليس له أصل. وقال الإمام أحمد في ((تاريخ بغداد)) (11/ 49): [فيه] فيه أبو الصلت روى أحاديث مناكير. وقال ابن حبان في ((المجروحين)) (2/ 136): لا أصل له. وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (18/ 377): ضعيف بل موضوع. (2) انظر: ((البابية المقال الأول)) (ص: 45)، وانظر: ((البهائية تاريخها وعقائدها)) (ص: 75)، وانظر: ((حقيقة البابية والبهائية)) د. محسن عبدالحميد – الميرزا الفصل الأول المرزا علي محمد الباب ص 39. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 442 المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 649، 650 واجتمع علىّ الشيرازىّ عند إعلان أنّه الباب مع سبعة عشر رجلاً وامرأة هي قرة العين وكان هؤلاء هم صفوة الطائفة الذين يصلحون لزعامتها في نظره فكانوا جميعاً به تسع عشرة نفساً , لذلك قدّسوا الرقم 19 فجعلوا السنة 19 شهراً والشهر 19 يوماً. وما لبث الميرزا على محمد رضا الشيرازي - بعد أن ادعى أنّه باب المهدي – أن ادعى أنّه هو المهدىّ وسمّى نفسه " قائم الزمان " ثم ادّعى بعدها أنّه رسول بل أعظم من جميع الرسل وأنّه الممثل الحقيقي لجميع الرسل والأنبياء فهو نوح يوم بُعث نوح وهو موسى يوم بُعث موسى وهو عيسى يوم بُعث عيسى وهو محمد يوم بُعث محمد عليه الصلاة والسلام , وألَّف كتاب (البيان) وادعى أنّه وحى وأنّه ناسخ لما قبله وأنه جاء ليجمع بين اليهودية والمسيحية والإسلام وأنّه لا فرق بينهم , وملأ كتابه بالضلالات والخرافات والسخافات .... فلما وجد من يتبعه من أراذل الناس وسقطتهم ادعى أن الله حل فيه أي اتخذ من جسده مكانا يسكنه ويظهر من خلاله لخلقه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري صلتهم بالمستعمرين في ذلك الوقت لقد واتت الفرصة الذهبية جميع الحاقدين على الإسلام حينما اصطنعوا فكرة الباب لعلي محمد، وقفوا بكل عزم في نشر دعوته الهدامة، فقد سارع زعماء الإنجليز والروس إلى حماية هذه الطائفة بل وإلى مدها بالأسلحة الخفيفة والثقيلة والهجوم على حكومتهم في أماكن كثيرة لإرهاب الناس وتوجيههم إلى قبول هذه الدعوة، وفتحت الحكومة الروسية أبواب بلادها للبابية ليعيشوا فيها بكل حرية وراحة ويدبروا المؤامرات من مكان مصون. وكان للمترجم الروسي (كنياز دالجوركي) بالسفارة الروسية نشاط قوي في دفع الميرزا على محمد إلى زعامة البابية وادعاء المهدية، ثم دفع البهاء أيضاً إلى زعامة البهائية ومناصرته أمام الشاه، كما صرح بذلك في مذكراته (1)، وقد قوي أمر الشيرازي وانتشرت دعوته وخافت الحكومة والعلماء من انتشارها حتى ألقي القبض على الشيرازي وحوكم وقتل. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي2/ 650 وقد أوعزت اليهودية العالمية إلى يهود إيران أن ينضموا تحت لواء هذه الحركة بصورة جماعية، ففي طهران دخل فيها (150) يهوديا وفي همذان (100) يهودي وفي كاشان (50) يهوديا وفي كلباكليا (85) يهوديا، كما دخل حبران من أحبار اليهود إلى البابية في همدان، وهما الحبر الباهو والحبر لازار، ودخول هذا العدد من اليهود في مدة قصيرة في هذه النحلة يكشف لنا الحجم الكبير للتآمر والأهداف الخطيرة التي يسعون لتحقيقها من وراء هذه الحركة ضد الإسلام والمسلمين المصدر: الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة لناصر القفاري وناصر العقل - ص 157 نهاية الشيرازي ثار العلماء في شيراز على دعاة البابية فقبض على الباب وأحضر من بوشهر إلى مجلس الحاكم فخر على الأرض ترتعد فرائصه فلطمه الحاكم وبصق في وجهه ثم رمى به في السجن سنة 1847م المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري لقد كان للحاكم حسين خان –حاكم شيراز- مواقف حازمة ضد الباب الشيرازي ورفقته؛ حيث استدرج الشيرازي وألان له القول، واعتذر عما صدر منه من إهانة له ولأتباعه سابقاً، وأوهمه أنه قد تابعه أيضاً على فكرة البابية وسائر الدعاوى التي جاء بها الباب.   (1) ((البهائية رأس الأفعى))، لمجموعة من الكتاب (ص: 10 – 11). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 443 ثم استدعى الحاكم العلماء ليقيم عليهم الحجة في صدق الباب كما أوهمه، وكان قد عهد إليهم بأن يصبروا في مخاتلة الرجل وأخذ الاعتراف منه بخط يده في سائر عقائده الباطلة، وأوهمه بأن كل من سيجرؤ على إظهار الكفر به فسيكون القتل مصيره؛ فاطمأن الباب وحضر مجلس العلماء ثابت الجنان طافي الجرأة ثم بادأ الجميع بقوله: إن نبيكم لم يخلف لكم بعده غير القرآن فهاكم كتابي البيان فاتلوه واقرءوه تجدوه أفصح عبارة من القرآن. وكظم العلماء ثورتهم، ثم طلب الحاكم إلى الباب أن يسجل ما يدعوه إليه كتابة ففعل ذلك، ثم نظر العلماء في ما كتبه الشيرازي فإذا به ينضح كفراً وخروجاً عن الإسلام. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 650، 651 ووجدوا به أخطاء فاحشة في اللغة فلما كلموه فيها ألقى اللوم علي الوحي الذي جاء بها هكذا المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري فما كان من الحاكم إلا أن صب جام غضبه على الشيرازي قائلا له: (فلأعذبنك لعلك ترجع عن غيك). ثم ضربه ضرباً شديداً وأمر أن يطاف به في الأسواق على دابة شوهاء، وأن يعلن التوبة من كفره على منبر المسجد الكبير. ثم ارتقى المنبر وأعلن رجوعه من كل ما ادعاه وأنه على دين الاثني عشرية؛ لأنه الحق اليقين (1)، ثم ألقي به في غيابة السجن (2)، ولكن أتباعه ظلوا ينشرون فكرة المهدية والبابية وسائر الأفكار الشريرة، وعوام الناس يتناقلونها بكل لهفة لموافقتها هوى في نفوسهم. ولما تجاوز الأمر الحدَّ وأدرك عامة الشعب الإيراني واستيقظت الحكومة في إيران على مدافع هؤلاء وبنادقهم يقتلون المسلمين ويستبيحون منهم كل ما يشاءون في معارك دامية واغتيالات متنوعة، ويدعون إلى ظهور المهدي وإلى كتابه المقدس – اجتمع عدد كبير من العلماء والفقهاء وكفروا الباب وأعلنوا مروقه عن الإسلام ووجوب قتله بالأدلة الدامغة. إلا أن حاكم ولاية أصبهان الذي تظاهر بالإسلام ويسمى منوجهر خان الأرمني- وهو صليبي العقيدة والهوى المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 651، 652 الذي دفعته الحكومة الروسية لإعلان إسلامه فغمره الشاه بالفضل وأولاه ثقته وعينه معتمداً للدولة في أصفهان المصدر: البهائية للدكتور طلعت زهران استطاع إخفاءه في قصره معززاً مكرماً ليطعن به الإسلام والمسلمين من الخلف. وكان الشيرازي يصدر توجيهاته إلى أتباعه من هذا المخبأ إلى أن توفي هذا الحاكم وخلفه جورجين خان، فكتب هذا إلى الحكومة في طهران يخبرهم عن وجود الشيرازي فألقي عليه القبض وأمر الميرزا أقاس رئيس الوزراء أن يعتقل الشيرازي في قلعة ماه كو، ومكث معتقلاً حوالي ثلاث سنوات. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 652 مؤتمر بدشت (3) وما تم فيه من خطط: وحينما أحسَّ البابيون من أنفسهم القوة وكان زعيمهم الباب معتقلاً قرروا عقد مؤتمر لهم ليبحثوا فيه: - أمر الباب وكيفية خلاصه من السجن حتى ولو بالقوة. - نسخ شريعة الإسلام وإظهار شرائعهم، وهذا أهم ما عقد له المؤتمر. وقد تم بالفعل عقد هذا المؤتمر في صحراء (بدشت) حضر فيه جميع زعماء البابية، وكان من بينهم غانية البابيين الخليعة أم سلمى زرين تاج التي كانت تلقب بقرة العين وبالطاهرة، وهي ذات جمال فائق وأنوثة ثائرة تستميل بجمالها أغمار الناس، وكانت هي القوة الحقيقة في الظاهر في هذا المؤتمر، ولها أخبار طويلة لا يتسع المقام لذكرها هنا. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 652   (1) لأن خصومه اثنا عشرية، وإلا فأين الحق واليقين في المذهب الاثني عشري؟ (2) ((بتصرف عن البهائية)) لعبد الرحمن الوكيل، انظر (ص: 85 - 87). (3) بدشت صحراء في إيران. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 444 وفى هذا المؤتمر خطبت قرة العين خطبتها الإباحية المشهورة التي دعت فيها إلى شيوعية النساء والمال حيث قالت "ومزقوا هذا الحجاب الحاجز بينكم وبين نسائكم بأن تشاركوهن بالأعمال واصلوهن بعد السلوة وأخرجوهن من الخلوة إلى الجلوة فما هن إلا زهرة الحياة الدنيا وإن الزهرة لا بد من قطفها وشمها لأنها خلقت للضم والشم ولا ينبغي أن يعد أو يحد شاموها بالكيف والكم فالزهرة تجنى وتقطف وللأحباب تهدى وتتحف المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري وفي هذا المؤتمر الخليط من الرجال والنساء لا تسأل عما جرى فيه من الإباحية والخمر والفرح والمرح والأفعال القبيحة والتي أقلها إباحة الزنى وجميع ما يشتهيه الشخص، ثم أضافوا إلى هذا أيضاً إقرار نسخ الشريعة الإسلامية بمجيء الباب الشيرازي باعتبار أنه المهدي الذي ينسخ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم. ودعوى البابية هذه إنما هي ستار لاستجلاب الناس إلى البابية، ولأنهم يعتقدون أن الشيرازي ليس باباً فقط أو مهدياً، بل هو رسول مثل سائر الرسل وله شريعة خاصة به، وأقر في المؤتمر إحكام الخطط لتنفيذ مآربهم بالنسبة لنسخ الشريعة الإسلامية بتحريض شديد من تلك الغانية الملقبة بقرة العين (1). المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 653 وبعد انفضاض المؤتمر وتسرب أنبائه ثارت ثائرة رجال الدين والدولة في إيران فطلب الشاه من ولي عهده ناصر الدين وهو في تبريز أن يحضر الباب من سجنه فأقر الباب أمام العلماء بأنه جاء بدين جديد فوجه إليه العلماء هذا السؤال: ما النقص الذي رأيته في دين الإسلام وما الذي كملت به هذا النقص لو كان؟ فارتج الدعي ولم يجد شيئا، فاستقر الرأي على وجوب قتله مرتداً بعد أن أطبق العلماء على كفره وردته. المصدر: البهائية للدكتور طلعت زهران وانفتحت على حكومة طهران مصائب كثيرة من البابيين وحروب مشتعلة، فرأت الحكومة وعلى رأسها ناصر الدين شاه القاجاري قتل الشيرازي رأس الفتنة فجيء به وأظهر تراجعه، ولكن لم يكن لينفعه الاستمرار على خداعه ومراوغته فتقرر قتله وقتل كبار أتباعه المسجونين معه في صبيحة يوم الاثنين 27 من شعبان سنة 1265هـ –1849م. ولما علم الشيرازي بهذا الحكم ضده انهارت قواه وأسقط في يده وصار يبكي وينوح وغمره الذهول العميق والشرود حتى فهم أصحابه في السجن أن هناك أمراً قد قرر، ولكنهم ما أرادوا أن يسألوه فاستفاق بعد منتصف الليل وبدأ يردد أبياتاً شعرية منها (2): تروم الخلد في دار المنايا فكم قد رام مثلك ما تروم تنام ولم تنم عنك المنايا تنبه للمنية يا نؤوم لهوت عن الفناء وأنت تفنى فما شيء من الدنيا يدوم ويروى عنه أنه طلب من يقتله في السجن في تلك الليلة حتى لا يرى المهانة والذل ثم القتل في صبيحة هذه الليلة، وقال لأصحابه: لو فعل أحد من الأحباء هذا لكان ما فعله عين الصواب (3). ولما استعد لذلك الملا محمد علي الزوزني ارتعد الشيرازي وتراجع حينما رأي سيفه مسلولاً وبدأ هو وأصحابه في النحيب والبكاء، وفي الصباح اقتيد هو والزوزني وكان يوماً مشهوداً فقد احتشد الناس رجالاً ونساءً وأطفالاً من كل مكان ليروا تنفيذ حكم الإعدام. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 653، 654 وقبل إعدامه تبرأ منه كاتب وحيه وبصق في وجهه وأعلن توبته فأفرج عنه المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري   (1) ((البهائية)) لمحب الدين الخطيب (ص: 5). (2) ((حقيقة البابية والبهائية)) (ص: 30). (3) ((البهائية)) لعبد الرحمن الوكيل، (ص: 73). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 445 ولما جاء وقت التنفيذ حمل الباب من سجنه ومعه أحد أتباعه لإعدامهما في أحد ميادين تبريز الذي كان مكتظاً بفئات كثيرة من الناس حضروا ليشاهدوا مصرع هذا الضال بيد أن القنصل الروسي استطاع أن يتصل بقائد الفرقة المكلفة بتنفيذ حكم الإعدام وأن يغريه برشوة كبرى ليحاول إنقاذ الباب. وشد هذا الباب إلى عمود طويل ومعه تابعه والناس يلعنونه ويستعجلون الفتك به، وأطلق الجنود ثمانمائة رصاصة استقرت كلها في جسد تابعه المغرور غير واحدة من هذه الرصاصات فقد قطعت الحبل الذي ربط به الباب وحينما إنجاب الدخان الكثيف رأي الناس جسد التابع ممزقاً تحت العمود، أما الباب فقد فر، غير أن بعض الجند الذين كانوا يعرفونه ويجهلون قصد قائدهم مزقوا جسده بالرصاص فانهار قنصل الروس وبكى من هول ما أصيب به. وقد تركت جثته في خندق طعاماً للوحوش بعد أن صور قنصل الروس الجثة وبعث بالصورة إلى حكومته المصدر: البهائية للدكتور طلعت الزهران وكان هلاك عدو الله على محمد رضا الشيرازي مؤسس البابية في يوم 27 شعبان 1266هـ الموافق 8 يوليو 1850م المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري ولقد كان لهذه الحادثة ألم شديد في نفس قنصل الروس الذي حاول بكل جهده أن ينقذه ليتم به تنفيذ مآرب الحاقدين على الإسلام، ولقد سر المسلمون بقتله ونهاية فتنته، ثم امتد القتل بعد ذلك إلى جميع زعماء البابية مثل قرة العين والكاشاني وغيرهم (1).وكان قد استمر في ضلالته متدرجاً من كونه الباب للمهدي إلى أنه هو المهدي إلى النبوة وأخيراً إلى الألوهية، وكان أتباعه ينادونه بالرب وبالإله (2)، وقد أذله الله في أماكن كثيرة أمام الناس بعد مناظراته ويضرب ضرباً مهيناً ثم يبدي التوبة (3)، إلا أن المتآمرين على إثارة التفرقة بين المسلمين والراغبين في الإباحية ونسخ الشريعة الإسلامية كانوا يدفعونه دفعاً ويهيئون له الجو الملائم لمثل هذه الدعاوى الكاذبة. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 654، 655 وبعد أن انتهي أمر الباب الشيرازي قام صراع حاد جدًّا على تولي الزعامة البابية وما بعدها بين حسين علي المازندراني وزعماء البابية، متمثلة في أخيه صبح الأزل، وقد أخذ حسين علي المازندراني منها نصيب الأسد، وهزمت البابية على يديه شر هزيمة في أحداث طويلة قد لا يكون من الضروري سردها هنا كاملة؛ بل نشير إلى أهم ما وقع فيها فيما يأتي. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 658 هزيمة البابية كان من تلاميذ الباب الميرزا على الشيرازي الميرزا يحيى على النوري المازندراني وأخوه الأكبر الميرزا حسين على النوري المازندراني وكان الباب الشيرازي قد أوصى بالأمر من بعده للميرزا يحيى النوري الذي اشتهر باسم (صبح أزل) فشق ذلك على أخيه الميرزا حسين مما أدى إلى نشوب نزاع بينهما على خلافة الشيرازي وادعى كل منهما أنه وريث الشيرازي وخليفته المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري لقد خاض البهائيون بزعامة حسين المازندراني مواجهات عنيفة وجدالا كبيرا وسفك دماء وتآمرا، وأحياناً خداع ومراوغة البابية.   (1) انظر: ((البهائية للوكيل)) (ص: 107) نهاية الباب، وانظر: ((البابية عرض ونقد)) (ص: 92) قتل الشيرازي، وانظر: ((دراسات عن البهائية والبابية)) (ص: 19) الحكم على الباب بالإعدام. (2) وانظر: ((البابية عرض ونقد)) (ص: 182)، فقد نقل نصوصاً كثيرة في هذا تحت عنوان دعواه الألوهية والربوبية. (3) وانظر: ((البابية عرض ونقد)) (ص: 170 - 180). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 446 وكان من حظ البهائية العميلة أن وقفت معها اليهودية العالمية بالتأييد وتهيئة الظروف لانتشارها وإماتة البابية الأزلية أتباع يحيى صبح الأزل الذي أخذ الزعامة بعد الباب الشيرازي بوصية من الشيرازي له، فاختطفها منه أخوه حسين المازندراني، ولقد هاجم المازندراني أخاه صبح الأزل وأتباعه بكلام طويل زاعماً أنه من وحي الله وكلامه، وأنه هو المظهر الإلهي وصاحب نسخ الديانات كلها. وزعم أن البيان الذي ألّفه الشيرازي وأكمله صبح الأزل إنما كان من وحيه هو. (فاعتبروا يا أولي الألباب). وفسر هو وأتباعه وصية الشيرازي بالبابية إلى يحيى صبح الأزل بأنها خطة لتحويل أنظار الناس عن المازندراني لخوفهم عليه في ذلك الوقت، ونشطوا في بث الدعايات السيئة ضد البابية الأزلية. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 658، 659 وكذلك حاول الميرزا حسين بكل السبل أن يسرق خلافة الشيطان الشيرازي من أخيه حتى ادعى أن الباب الشيرازي كان مجرد ممهد لظهوره وأن البيان كان للتبشير به فالباب وإن كان في زعمهم رسولا إلا أنه ـ أي الميرزا حسين ـ هو المقصود الأعظم من إرساله بل ومن إرسال كل الرسل لأن ظهور الله لخلقه سيكون من خلاله وأطلق على نفسه اسم (بهاء الله). وبذلك انقسم البابيون إلى ثلاث فرق هي: بابيون أزليون: تمسكوا ببابية الشيرازي ورفضوا اتباع أي من الرجلين. بابيون أزليون: اتبعوا يحيى على النوري المازندراني الملقب بـ (صبح أزل) تمسكا بوصية الشيرازي. بهائيون: اتبعوا حسين النوري المازندراني الذي لقب نفسه بعد ذلك بـ (بهاء الله). ولما اشتد الخلاف بينهم أبعدتهم الحكومة العثمانية إلى مدينة أدرنه التركية حيث كان يعيش اليهود واحتدم النزاع بينهما حتى حاول كل واحد منهما أن يدس السم لأخيه وحاول البهاء اغتيال صبح أزل مما دفع الحكومة إلى نفى يحيى إلى قبرص ونفى البهاء إلى عكا بفلسطين. وظل يحيى النوري (صبح أزل) في قبرص حتى مات ودفن بها في سنة 29 إبريل 1912 م مخلفا كتابا سماه (الألواح) تكملة البيان الفارسي و (المستيقظ) ناسخ البيان وأوصى بالخلافة لابنه الذي تنصر وانفض عنه أتباعه. وأما في عكا فقد امتدت الأيادي الماسونية والصهيونية لإمداد البهاء بالمال وأسكنوه قصرا عظيما يسمى قصر البهجة وهو القصر الذي دفن فيه البهاء بعد ذلك وأمر البهائيين أن يتخذوه قبلتهم في الصلاة ومكان حجهم. قام البهاء في عكا بعملية ليلية لإبادة أتباع أخيه صبح أزل استخدم فيها الحراب والسواطير مما دفع الحكومة إلى اعتقاله في أحد معسكرات عكا وكانت تسمح لأتباعه ولغيرهم بزيارته والتحدث معه. وهذه المعاملة الخاصة للبهاء مما يلفت الأنظار ويستغرب له فهذا الأفاك ارتكب عدة جرائم وأثار فتنة استحق بها الحكم بالإعدام مرات ومرات وفي كل مرة تجد أصابع خفية تتوسط له أو تهربه أو تخفف عنه ولكن حين نعرف أن الماسونيين والصهاينة كانوا خلفه من البداية يزول هذا العجب فقد كان البهاء وأمثاله يسيرون وفق منهج يخدم مصالح الصهاينة في الدرجة الأولى وقد رأيت أن البابية في الأصل صنعة الجواسيس كما أن البهاء وعائلته قد تربوا في أحضان أعداء الأمة وكانت أسرته عميلة وفية للروس فقد كان أخوه الأكبر كاتباً في السفارة الروسية، وكان زوج أخته الميرزا مجيد سكرتيراً للوزير الروسي بطهران. المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري الجزء: 9 ¦ الصفحة: 447 وقد ظل صبح الأزل يواصل بث الدعاية ضد البهائية بكل وسيلة وهو في منفاه في جزيرة فاما جوستا بقبرص، وألف المؤلفات الكثيرة في بيان كذب المازندراني ونشر الدعايات ضده، إلا أن الأمور كانت تسير في غير صالحه إلى أن هلك في سنة 1912م عن اثنين وثمانين سنة. بعد أن أوصى بالأمر من بعده لابنه الميرزا محمد هادي، مع أنه ما كان له ما يوصي به (1)، وقد تفرق بقية أتباعه بعد ذلك وانتهت البابية التي لاحقتها مطاردة البهائية في كل مكان وصلت إليه البهائية. ولم يفد البابية شيئا ذلك الوحي الذي لفقه زعيمهم الشيرازي حين قال في كتابه (البيان): (لا إله إلا أنت لك الأمر والحكم، وأن البيان هدية مني إليك)، حيث فسر البابيون هذا الكلام على أنه موجه إلى يحيى صبح الأزل، بينما العجل حسين كما سماه أخوه صبح الأزل جاء في حقه قول يحيى: (خذوا ما أظهرنا بقوة وأعرضوا عن الإثم لعلكم ترحمون إن الذين يتخذون العجل من بعد نور الله أولئك هم المشركون) على أن الإثم والعجل المقصود بهما حسين المازندراني (2). لقد أفنى حسين المازندراني أتباع يحيى صبح الأزل بحد السلاح، ولم يأخذه فيهم أي إحساس بالرحمة أو اللين؛ لأنه في عجل شديد للوصول إلى ما يهدف إليه من آماله العريضة، ولما كان الغرض يتعلق بدراسة البهائية وآرائها وبيان ما وصلت إليه من نفوذ وانعكاسات في العالم الإسلامي – فإننا نكتفي بذكر الإشارات السابقة في بيان نشأة البهائية التي قامت على أنقاض البابية التي قامت هي الأخرى على أكتاف الرشتية بتأسيس من الشيخية الضالة. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 659، 660   (1) انظر: ((قراءة في وثائق البهائية)) (ص: 69 - 77). وانظر: ((البابية عرض ونقد)) (ص: 266 – 268). (2) انظر: ((تاريخ البابية)) (ص: 367 – ص 434) للدكتور ميرزا محمد خان، نقلاً عن ((البهائية للوكيل)) (ص: 132). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 448 تمهيد قبل الدخول في تفاصيل أمور البهائية ينبغي أن أذكر بما أجمع عليه العلماء العارفون حقيقة هذه الطائفة من شدة خطرها على المسلمين وما تبيته لهم من نية السوء. ذلك أن البهائية هي إحدى الحركات الهدامة التي احتضنتها الصهيونية العالمية لهدم الأديان، وخصوصاً الدين الإسلامي، وقد عرفنا فيما سبق أنها وريثة البابية بعد هلاك الشيرازي، بعد أن احتدمت بين البابية والبهائية تلك الخلافات على السلطة والزعامة الدينية، حيث خرجت البهائية منها هي المنتصرة في النهاية. وقد تسربت البهائية إلى أذهان كثير من الناس في أثواب براقة وأساليب مختلفة، ولقد كان لهم دور بارز في مصر ونشاط أقلق الرأي العام في سنة 1972م، وكتب عنها حينذاك رجال الفكر في الصحف والمجلات. وتمت محاكمة البهائيين واتضح أنهم فئة خارجة على جميع الأديان السماوية، وتحت زعامة نبيهم المزعوم أو ربهم بهاء الله الذي حول الحج إلى المزارات البهائية في إسرائيل، واخترع له شريعة من أفكاره، وحوَّل الكعبة إلى المكان الذي هو فيه، ولهم نشاط ظاهر في محاربة جميع الأديان وأهمها الإسلام، كما أن لهم نشاطاً خفياً ومنشورات تدعو إلى نبذ الإسلام في البلدان التي يخافون فيها من بطش المسلمين بهم. ولهم شهور تخالف الشهور الإسلامية وعادات تخالف العقائد الإسلامية ومحافل وخلايا مندسة ومبثوثة بين صفوف المسلمين. ولقد حوربت البهائية واعتبرت عدوة الأديان جميعاً وحظر نشاطها في كل من مصر وتركيا وإيران بعد اطلاع علماء هذه البلدان على نوايا هذه الطائفة المجرمة عميلة الصهيونية العالمية، منذ أن تزعمها المازندراني الذي زعم لنفسه ألقاباً وصفات لا تليق إلا بالله عز وجل، تبعاً لشيخه الشيرازي الذي زعم قبل أن يقتل شر قتلة بأنه المظهر الإلهي، حيث حلت فيه الحقيقة الإلهية أتم حلول، وأنه أيضاً حقيقة كل نبي وقديس ورسول بل هو الله نفسه (1).ثم جاء البهاء وأغرق في الزيادة على تلك الأوصاف كلها وزعم تلك المزاعم كلها، وزاد عليها ما جاد به خياله الواسع في التعالي، حيث زعم أن الباب نفسه إنما جاء هو وسائر الرسل للتبشير بمجيء البهاء، فهو الممثل الوحيد لبهاء الله عز وجل الذي هو متمثل به، تعالى عن إلحادهم (2). المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 661، 662   (1) انظر: ((البهائية)) (ص: 119)، نقلاً عن ((الكواكب الدرية)) (ج1)، ((بهاء الله والعصر الجديد)) (ص: 28) للدكتور جون اسلمنت (2) انظر: ((دراسات عن البهائية والبابية)) (ص: 21). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 449 المطلب الأول: نشأته مؤسس هذه الطائفة يسمى حسين علي، وأبوه يسمى عباس بزرك النوري المازندراني. ولد حسين علي النوري المازندراني في قرية من قرى المازندران في إيران تسمى نور، وقيل: ولد في طهران في سنة 1233هـ. وحين ظهرت البابية لم يكن هذا الرجل معتبراً من حروف (حي) التي نظمها الباب الشيرازي، ولا كان له ذكر مشهور في أول قيام البابية، وقد اعتنق البابية سنة 1260هـ وهو في السابعة والعشرين من عمره. وقد وجد في نفسه على الباب الشيرازي، إذ لم يجعله من حروف (حي) أي: صفوة زعماء البابية، بل جعل أخاه يحيى صبح الأزل منهم، ولكن المازندراني استطاع كظم غيظه وأسرَّ ذلك في نفسه على الباب، إلا أنه ظل يتحين الفرص للظهور، ووجد فرصته حينما عقد البابيون مؤتمرهم في صحراء بدشت. حيث هيأ للمؤتمرين كل وسائل المتعة والترف، واستحوذ على قرة العين غانية البابيين، واستحوذت هي الأخرى عليه، وكانا أساس المؤتمرين وأهم البارزين فيه، إلا أن المازندراني كان يخفي نفسه في أول المؤتمر ليتحاشى الخصومة مع المؤتمرين، ولكنه ظهر في آخر المؤتمر ليقطف ثمرته حين كانت قرة العين- كما سماها الشيرازي- تصر على نسخ الشريعة الإسلامية بالشريعة البابية. وحينما تأزمت الأمور بينهما وبين بقية المؤتمرين تدخل المازندراني لصالح قرة العين، وأخذ يقرأ سورة الواقعة ويفسرها بتفسيرات باطنية ويزعم لهم أن القرآن نفسه فيه إشارة قوية لنسخ شريعة الإسلام بشريعة الباب، فاجتمعت الكلمة على طاعة قرة العين التي جعلت نفسها بعد ذلك طائعة للمازندراني تمام الطاعة ولقبته على أحد الأقوال- بهاء الله- أو لقب نفسه هو بهذا اللقب، بعد أن تعاظم في نفسه (1)، أو لقبه اليهود لتحقيق ما في كتبهم من ذكر بهاء الله ورب الجنود الذي يقيم دولتهم (2)، عندما يأتي للإيحاء بأن مجيء المازندراني يعتبر من جملة الإرهاصات لمجيء رب الجنود إله إسرائيل بزعمهم. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 663، 664   (1) انظر: ((حقيقة البابية والبهائية)) (ص: 105) الفصل الأول. (2) انظر: ((البهائية تاريخها وعقيدتها)) (ص: 324). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 450 المطلب الثاني: ثقافته تلقى المازندراني العلوم الشيعية والصوفية وهو صغير، وتزعم كتب البهائية أنه كان يتكلم في أي موضوع، ويحل أي معضلة تعرض له ويتباحث في المجامع مع العلماء، ويفسر المسائل العويصة الدينية، وهو لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره (1).وكان شغوفاً بما يتعلق بالمهدي وأخبار المهدي وقراءة كتب الصوفية والفلاسفة والباطنية، إلا أنه حينما عظم في نفسه وجاء بتخريفاته الإلحادية زعم أنه أمي لا يعرف شيئا، ولكن الله ألهمه العلوم والمعرفة جميعاً (2)، وكتب ما كتب من أقوال تعد من أشنع الكذب، وكان محبًّا مائلاً لأقوال الصوفية وشطحاتهم، إلى أفكار البراهمة والبوذيين والباطنية والمانوية، وغير ذلك من المذاهب التي كان يغترف منها مدعياً أن كلامه وحي وظهور لكلام الله تعالى، ولقد ذكر العلماء أقوالاً شنيعة في تناقض المازندراني حين ادعى أنه أمي مع ما لفقه في كتبه من أقوال الناس (3). المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 664، 665   (1) ((البهائية نقد وتحليل)) (ص: 8)، نقلاً عن ((بهاء الله والعصر الجديد)) (ص: 32). (2) نقلاً عن ((بهاء الله والعصر الجديد)) (ص: 7 - 9). (3) انظر: كلامه في المصادر التي جمعها إحسان إلهي رحمه الله في كتابه ((البهائية)) (ص: 10 – 13). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 451 المطلب الثالث: عمالته هو وأسرته لأعداء الإسلام والمسلمين كانت أسرته عميلة وفية للروس، فقد كان أخوه الأكبر كاتباً في السفارة الروسية، وكان زوج أخته الميرزا مجيد سكرتيراً للوزير الروسي بطهران. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 665 وقد ذكر بعض العلماء ما يؤكد صلته بالاستعمار الروسي الذي أراد شغل الدولة الإيرانية بعد اقتطاعه لمملكة القوقاس منها وذلك ما ذكره محمد حسين آل كاشف الغطاء أحد علماء الشيعة حيث قال: (كنا قبل سنوات عثرنا على كتيب صغير بالفارسية لأحد الأفاضل الذين عاصروا الباب وشاهدوا كل تلك الحوادث مباشرة مع تحليل دقيق وملخص ما ذكره أن رجلا من روسيا أتى طهران بعد أن انتزع الروس مملكة القوقاس من الدولة الإيرانية وأراد إشغالها عن التفكير في استرجاع ما غصب منها فتعلم ذلك الرجل الفارسية وأتقنها ثم أظهر التدين بالإسلام وتزيا بزي أهل العلم بلحية كبيرة وعمامة كبرى وعباءة وسبحة ولازم صلاة الجماعة ودرس شيئا من المبادئ واشتهر اسمه بالشيخ عيسى ثم جال في عواصم إيران كأصفهان وشيراز فوجد ضالته فاجتمع بالباب وكان غلاما جميلا وبتوسط خاله خلا به مرات عديدة والظاهر أنه كان حلقة الوصل بين البابية والحكومة القيصرية الروسية حيث زودتهم بالأسلحة فقاتلوا بها المسلمين) (1) ويذكر حسين آل كاشف الغطاء أن هذا الرجل هو كنياز دالكوركي والذي كان مترجما للسفارة الروسية بطهران فارتقى بخدماته الجاسوسية إلى منصب الوزير المفوض ثم السفير كما بين هو في مذكراته التي نشرت بعد انقراض القيصرية في مجلة الشرق السوفيتية سنة 1924 - 1925 م (2) المصدر: عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية لأحمد بن سعد الغامدي- ص218، 219 ولذلك كان الجاسوس الروسي كنياز دالجوركي من بناة البابية الأوائل. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 665 يقول هذا الجاسوس الروسي في مذكراته التي نشرت في مجلة الشرق "السوفيتية" سنة 1925م: "والخلاصة أني خرجت حسب الأمر في أواخر سبتمبر إلى العتبات العاليات وفي لباس الروحانية باسم "الشيخ عيسى اللنكراني". ووردت كربلاء المقدسة. ويقول: وكان بقرب منزلي طالب علم يسمى السيد علي محمد من أهل شيراز صادقته بحرارة، وكان يضيفني وكنا نشرب الحشيش. ثم يستمر هذا الجاسوس في مذكراته فيقول: سأل طالب تبريزي يوماً السيد كاظم الرشتي في مجلس تدريسه فقال: أيها السيد: أين صاحب الأمر الآن؟ فقال السيد: أنا ما أدري ولعله هنا ولكني لا أعرفه. ثم يشرح الجاسوس كيف حاول باستمرار الإيحاء إلى علي محمد رضا هذا أنه هو المنتظر إلى أن أقنعه بذلك بواسطة حسين البشروئي فأعلن أنه الباب. ويصف الجاسوس نصائحه إلى هذا الباب فيقول له: إن الناس يقبلون منك كل ما تقول من رطب ويابس ويتحملون عنك كل شيء حتى ولو قلت بإباحة الأخت وتحليلها للأخ فكان السيد يصغي ويستمع، فطفق كل من الميرزا حسين علي- البهاء- وأخوه الميرزا يحيى - صبح الأزل - والميرزا رضا علي - الباب - ونفر من رفقتهم يأتونني مجدداً ولكن مجيئهم كان من باب غير معتاد للسفارة. المصدر: البهائية للدكتور طلعت الزهران وليس الروس وحدهم في هذا الميدان؛ بل إن اليهود أيضاً دخلوا في خدمة هذه النحلة أفواجاً مع شدة تعصب اليهود لدينهم ولجنسهم واحتقارهم الآخرين.   (1) ((الحقائق الدينية في الرد على العقيدة البهائية)) (ص: 36)، ذكر ذلك في ((حقيقة البابية البهائية)) (ص: 119 - 120). (2) ((حقيقة البابية والبهائية)) (ص: 120). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 452 وهدفهم واضح من هذه المسارعة وهو دعم هذه النحلة ظاهراً ليوجهوها لخدمتهم، كما تم ذلك بالفعل وبالتعاون أيضاً مع سائر أجهزة التبشير العالمي. وإلا فمتى كان اليهود يحبون خدمة الإسلام والمسلمين على حد من يزعم أن البهائيين مسلمون. لقد أدرك اليهود وهم يسعون حثيثاً لامتلاك دولة باسمهم أن أي دعوة تقبل فكرة محو الجهاد في سبيل الله تعالى وتستهجنه أدركوا أن هذه الدعوة هي إحدى الروافد التي تمدهم بالقوة. فكيف إذا كانت تلك الدعوة إنما تقوم من الأساس على أكتاف اليهود وعلى تجمعهم في فلسطين، فإن المازندراني نفسه قال في الوحي الذي زعمه: (قل تالله الحق إن الطور يطوف حول مطلع الظهور، والروح ينادي من في الملكوت هلموا وتعالوا يا أبناء الغرور. هذا يوم فيه سر كرم الله شوقاً للقائه وصاح الصهيون قد أتى الوعد وظهر ما هو المكتوب في ألواح الله المتعالي)، وهذا النداء إنما هو موجه إلى اليهود ليعودوا من كل مكان إلى امتلاك فلسطين وغيرها، وإقامة دولتهم، وجاء ابنه أو عبده –كما سمى نفسه- عباس عبد البهاء فأجلى الحقيقة بما لا وضوح بعده فقال: (وفي زمان ذلك الغصن الممتاز، وفي تلك الدورة سيجتمع بنو إسرائيل في الأرض المقدسة، وتكون أمة اليهود التي تفرقت في الشرق والغرب والجنوب والشمال مجتمعة). إن هذا الكلام ليس إخباراً بالمغيبات ولكنه إخبار عن مؤامرات محكمة لعودة اليهود وتجمعهم في الأرض المقدسة، عاش عبد البهاء ووالده من قبله أول خيوط تنفيذها ولا يزالون إلى اليوم يعملون على إخراجها ليلاً ونهاراً، وسراً وإعلاناً. وتاريخنا في هذا العصر إنما هو شاهد على نجاح تلك المخططات بكل وضوح، وشاهد على جرم البهائية ومسايرتها لليهودية، وشاهد على حقدهم على الإسلام وأهله. لقد امتزجت أفكار البهائية بأفكار اليهود وأصبح لليهود فضل كبير على عميلهم البهاء، فقد آزروه، وآووه، وهيئوا السبل لنشر أفكاره. وكان على البهاء أن يرد جميلهم هذا بأن يضم فكره إلى أفكارهم، ويوجه لهم عقول الناس لتقبلهم وترضى باستعمارهم، ونجد ذلك متمثلاً في الأمور الآتية: ادعى اليهود أن الموجود بأيديهم في الكتاب المقدس حسب زعمهم من البشارات بنبي يبعث بعد موسى وعيسى ليس هو محمداً عليه السلام؛ بل إن تلك البشارات إنما تشير إلى نبي يبعث في القرن التاسع عشر، القرن الذي ظهر فيه البهاء، وأن تلك البشارات انطبقت تماماً على البهاء في زمنه، وأن نصب خيام البهاء على جبل الكرمل قد أشارت إليه التوراة والإنجيل. وأن اليهود في زمن النبي عليه السلام إنما أقروا له (1) بالنبوة واعترفوا بإثبات البشارات به تملقاً واتقاء له كما يفترون، وهذا هو السبب في زعمهم الذي قوى في الرسول عليه السلام الاعتقاد بأن أهل الكتاب أخفوا البشارات التي جاءت فيه. أي حينما لم يصارحوه بأن هذه البشارات إنما تنطبق فقط على رجل سيأتي فيما بعد ذلك وليس هو محمداً صلى الله عليه وسلم. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 665، 667 واستمع إلى اليهودي جولد زيهر وهو يقول (2): (وبلغ الأمر ببعض اليهود المتحمسين للبهائية أن استخلصوا من دفائن العهد القديم وتنبؤات أسفاره ما ينبئ بظهور بهاء الله وعباس وزعموا أن كل آية تشيد بمجد يهوه أنه تعني ظهور مخلص للعالم في شخص بهاء الله) ثم يقول: (وهذا فضلا عن أنهم- أي اليهود- لم ينسوا أن يستخرجوا مما يحتويه سفر دانيال من الرؤى ما ينبئ بقيام الحركة التي أوجدها الباب وأن يلتمسوا بتأويلها ما يدل على وقت حدوثها) (3)   (1) أي الذين آمنوا واعترفوا بنبوته وبثبوته البشارات والوصف الذي له عليه السلام في كتبهم (2) ((العقيدة والشريعة)) (ص: 280). (3) ((العقيدة والشريعة)) (ص: 280). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 453 المصدر: عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية لأحمد بن سعد الغامدي- ص237 ومن هنا قام الميرزا حسين المازندراني مدافعاً عن اليهود والنصارى ومبطلاً ما وضحه القرآن من تغيير أهل الكتاب للنصوص المثبتة لنبوة محمد عليه السلام وإخفائهم لها. فزعم أن هذا الفهم لتحريف أهل الكتاب إنما هو فهم الهمج والرعاع- يقصد علماء المسلمين- وأن التصحيح كما يزعم هو أن التحريف الذي وقع فيه اليهود إنما هو تفسيرهم للفظ الدال على نبوة محمد عليه السلام إلى تفسير آخر لا يدل عليه، وإلا فهم حسب رأيه لم يغيروا ولم يبدلوا. ثم شبه حال اليهود في امتناعهم عن التسليم بصفات الرسول محمد عليه السلام بحال المسلمين الذين لم يؤمنوا بدعوة البهاء، وفسروا النصوص لغير صالحه وصالح دعوته الممقوتة. وهذه الفرية الكاذبة يعرف بطلانها كل من شرح الله صدره وآمن بما جاء في القرآن الكريم وتفهم معاني نصوصه، فيعرف أن ما ذكره عن تحريف أهل الكتاب وتغييرهم له بحسب أهوائهم هو تفسير منه حسب هواه وفجوره. هيأ اليهود لعميلهم في عكا قصر البهجة الذي صار بعد ذلك مهوى أفئدة البهائيين وقبلتهم وكعبتهم الجديدة حسب أمر الله وإرادته كما يزعم البهاء. اشتمل كتابه (الأقدس) على بشارات للصهاينة واستيطانهم في فلسطين وصاغ ذلك بعبارات توحي بأنه من علم الغيب وليس من معرفته بسر المؤامرات. دعا في كتابه المذكور إلى تحريم الجهاد وذلك بتحريم حمل آلات الحرب مطلقاً، وأن الشخص خير له أن يكون مقتولاً لا قاتلاً، فلا جهاد في عهده لليهود ولا لغيرهم. ولتمييع شعلة الجهاد في نفوس الرجال أباح لهم لبس الحرير في نص واحد دل على تحريم الجهاد وإباحة لبس الحرير، وهذا النص ظاهر الدلالة على الدعوة إلى الميوعة والخمول فإذا كان الرجل يلبس الحرير ويظهر النعومة ولا يحدث نفسه بالجهاد بل بالهرب منه فأي رجولة تبقى له بعد هذا وبعد لبسه الحرير (1)، فحال مثل هذا أخطر من اليهود. ولم تقتصر عمالة المازندراني لليهود فقط، فقد ظل على اتصال وثيق بالدول الأجنبية المعادية للإسلام، وعلى رأس هؤلاء الإنجليز كبار المجرمين العالميين الذين نكبوا المسلمين بما لم يصل إليه أحد غيرهم، لقد عرف الإنجليز- كما عرف اليهود- أن قيام حركة المازندراني وانتصارها إضافة جديدة إلى رصيدهم من الأسلحة الفتاكة بالعالم الإسلامي. وقد أتم عبد البهاء ما كان أسسه الطاغوت الكبير من خدمة الإنجليز، فلقد منح الإنجليز عبد البهاء وسام الإمبراطورية البريطانية في احتفال أقامه الحاكم البريطاني (أللنبي) في بيته وألقى كلمة شَكَرَ فيها عبد البهاء وأنعم عليه بلقب (سير)، فكان يدعو لهم بالنصر والتأييد ظاهراً وباطناً. ومن هنا فلا عجب حين تعلم أن الإنجليز قد خططوا ونفذوا بكل ما في وسعهم لقيام الحركة البهائية، بالأموال وبالتأييد المعنوي، وبتسهيل تنقل البهائيين، وتحذير كل من يفكر في صد طغيانهم، على غرار ما فعلوه مع عميلهم في الهند غلام أحمد، لأن الهدف واحد والغاية واحدة لكلا العميلين. وفي دراسة القاديانية نصوص كثيرة عن هذا العميل القادياني وتبجحه بخدمة الإنكليز، وإخلاصه لهم ظاهراً وباطناً، وأن عقيدته ستتسع باتساع ملك بريطانيا، وقد أكد هذا المفهوم هو وخلفاؤه كلهم، ولا يزالون عليه إلى يومنا الحاضر.   (1) انظر: كتاب ((قراءة في وثائق البهائية)) (ص: 89) عنوان حلف الشيطان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 454 ولم يكتف المازندراني بالعمالة للإنجليز واليهود؛ بل كان على اتصال وثيق بالروس، وكانوا يقدمون له المساعدة والرعاية بسخاء، ولا أدل على ذلك من وقفة السفارة الروسية حين تحمست لحمايته عندما عزمت الحكومة الإيرانية على تقديمه للمحاكمة، حينما قامت محاولة من جانب البابيين لقتل الشاه انتقاماً لقتل زعيمهم علي محمد الشيرازي. فاتهم النوري بالتآمر على ذلك فآوته السفارة وحذرت ملك إيران ناصر الدين شاه من المساس به؛ بل وقدمت السفارة الحجج على براءة عميلهم من تلك المؤامرة الفاشلة التي دبرها زعماء البابية لاغتيال الملك. ويتضح من اعتناء الروس به أنهم اختاروه لعمالتهم بعد قتل الشيرازي واشتروا ضميره، وقرروا أن يجعلوه رئيساً للبابيين بدل أخيه صبح الأزل الذي كان يقل عنه مكراً ودهاءً، ولأجل ذلك كان تنحية صبح الأزل عن المسرح وإقامة حسين المازندراني مقامه لما رأوا فيه من الدهاء والذكاء والمكر ومسايرة الأمور والمماشاة مع الأحوال والظروف. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 667 - 670 يقول الجاسوس الروسي كنياز دالكوركي في مذكراته: قلت لميرزا حسين علي - البهاء - ونفر آخرين أن يثيروا الغوغاء بالضجيج والتظاهر، ففعلوا وأطلقوا الرصاص على الشاه ناصر الدين. فقُبض على كثيرين، منهم حسين علي المازندراني وبعض آخر من أصحاب السر، فتوسطت لهم وشهدت ومعي عمال السفارة وموظفوها أن هؤلاء ليسوا بابيين، فنجيناهم من الموت وسيرناهم إلى بغداد. وقلت لميرزا حسين علي: اجعل أنت أخاك الميرزا يحيى وراء الستر وادعوه (من يظهره الله)، وأعطيتهم مبلغاً كبيراً فألحقت به في بغداد زوجته وأولاده وأقرباءه. فشكلوا في بغداد تشكيلات وجعلوا له كاتب وحي. وواصلت السفارة الروسية في طهران دعمها لكل من اعتنق البهائية، بل لم يكن لهم البتة مأوى سوانا. المصدر: البهائية للدكتور طلعت الزهران وحينما كان المازندراني في إيران كان وجوده هناك يشكل حركة خطيرة، ولهذا أحست الحكومة أن خطره يتزايد فطلبت من الحكومة العثمانية نقله إلى داخل الإمبراطورية التركية فنقل إليها، وبدأ يجهر بدعوته البهائية فعارضه أخوه صبح الأزل بعد أن أحس أنه يحتطب لنفسه ويريد إقصاء صبح الأزل، ومن هنا بدأ الشقاق بين الأخوين، وبدأ الميرزا حسين علي يدبر المؤامرات ضد المخالفين له، وبعد ظهور الخلاف بين الأخوين وأتباع كل منهما رأت الحكومة أن تبعد كل واحد عن الآخر فنفت البهاء إلى فلسطين ويحيى صبح الأزل إلى قبرص. فلقي حسين علي في فلسطين التأييد الكامل من اليهود الذين كانوا يحاولون في تلك الأثناء إقامة دولتهم وإسقاط الحكم العثماني. وقد تدرج المازندراني في دعواه، فبدأ يبشر بأنه هو خليفة الباب الشيرازي وحده ثم ادعى أنه هو الباب، ثم انتقل إلى دعوى أن الباب لم يأت إلا ليبشر به كما كان يوحنا مبشراً بالمسيح، ثم ادعى أنه هو نفسه المسيح الذي بشر عنه وأنه هو النبي والرسول إلى الناس. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 455 ولما وجد آذاناً صاغية لتلك الافتراءات لم يكتف بما ادعاه سابقاً؛ بل تاقت نفسه إلى دعوى الألوهية، وأن الله ظهر في صورته، تعالى الله عما يقول الظالمون. وكان إذا مشى في الطريق أسدل على وجهه برقعاً لئلا يشاهد بهاء الله المتجلي في وجهه، وقد نشرت صورته في بعض الكتب مبرقعاً وكتابه (الأقدس) مملوء بالدعوة إلى ألوهيته وتصرفه في هذا الكون كما يريد، وزعم أن الرسل من أولهم إلى آخرهم لم يبعثوا إلا مقدمة بين يدي ظهوره المتمثل في ظهور الله تعالى قريباً من خلقه (1). هذه بعض الأخبار التي ذكرها العلماء في كتبهم عن عمالة هذا الشخص والأدوار المرتبة التي عاشها هو وخلفاؤه في أحضان أعداء الإسلام، وفي وقت توالت فيه الضربات من كل جانب على الدولة التي كانت تمثل العالم الإسلامي، والتي كانت هي الأخرى تدنو إلى نهايتها رويداً رويداً. في الوقت الذي نشط فيه حثالات الناس وكبراء اللصوص وأصحاب المطامع والأخيلة المريض وساسة الشر والحقد لاقتسام تركة الرجل المريضة في هذا الجو الخانق والظلام الحالك، استطاع هؤلاء أن يصطادوا في الماء العكر؛ أي في غفلة من الحراسة الإسلامية وانشغال الدولة الإسلامية بمشاكلها التي افتعلها أعداء الإسلام ليشغلوهم بها في عقر دارهم. ولقد ظهر لي من خلال دراستي عن البهائية وأقوالهم ومواقفهم، والتفاف اليهود حول البهاء المازندراني ومساعدته ونشر أفكاره وقيام بعض كبراء اليهود بتأليف الكتب في تثبيت عقائد البهائية والدعاية لها- ظهر لي من هذا وغيره رأي لم أجد من أستند إليه في ذكره، ولكن لا يمنع أن أذكره ليكون محل لفت نظر؛ وهو أن أصل البهاء لا يستبعد أن يكون يهوديًّا من يهود إيران استناداً إلى ما سبق، وإلى مسارعة اليهود للدخول في نحلته وسماحهم له أن يتلاعب بنصوص كتبهم المقدسة، ويفسرها بأنها بشارة به ثم يؤيده علماؤهم على هذا الفهم، مع شدة تعصب اليهود ضد الجوييم أو الأمميين كما يسمونهم، ولهذا ساعده اليهود بكل قوة، ونشروا أفكارهم بكل وسيلة. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 670، 671 يذكر الشيخ ابن تيمية أن الباطنية هم دائما مع كل عدو للمسلمين وقال إن التتار ما دخلوا بلاد الإسلام وقتلوا خليفة بغداد وغيره من الملوك إلا بمعاونتهم وكذا نجد في البابية تحيزا إلى أعداء الإسلام وانظروا إلى عباس عبد البهاء كيف يتحيز إلى اليهود ويبشر بأن فلسطين ستكون وطنا لهم .... فالبهائية شأنهم شأن الباطنية في بغض الإسلام وموالاة خصومه المصدر: رسائل الإصلاح لمحمد الخضر حسين – 2/ 189   (1) انظر: ((البهائية نقد وتحليل)) (ص: 19 - 26، 309 - 352)، وانظر: ((حقيقة البابية والبهائية)) (ص: 171 – 185)، وانظر: ((البهائية وتاريخها وعقيدتها)) (ص: 323 - 334)، ولقد توسع غفر الله له في إبراز الصلة الخبيثة بين اليهود وبين هذه الطائفة بالأدلة الدامغة، وأبطل فيها مكر البهائية وتظاهرهم بالإسلام، وانظر: ((خفايا الطائفة البهائية)) (ص: 110، 117، 119). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 456 المطلب الرابع: نبوءات البهاء على أن البهاء- وقد تنبأ وتأله- صار يخبر بأشياء كثيرة من المغيبات التي زعم أنها ستقع كما أخبر، فإذا بها تأتي عكس ما أراد وأخبر، وقد أخزاه الله في ما تنبأ به كما أخزى غيره من كبار الأبالسة، ونشير هنا بإيجاز إلى بعض نبوءات المازندراني (1)، ومنها: ما تنبأ به المازندراني من أن البهائية سيكون لها مستقبل مشرق في العراق، وسيفتخرون بها بعد قليل من الزمن، فهل صدق في ذلك الزعم الذي ينسب الإخبار به إلى الله؟ مضى على قوله سنوات عديدة ولم يفتخر أهل العراق بها، بل وبعكس ذلك لا يوجد اليوم فيها من يستطيع المجاهرة بالبهائية رغم ادعاء المازندراني الألوهية وأن ما أخبر به سيكون كما وقع. تنبأ المازندراني بأن طهران ستكون بهائية كلها ويحكمها بهائيون، ويمتد حكمهم من طهران إلى ما ورائها، ويعظم شأن البهائيون بها جداً. وكذب هنا كما كذب في غير ذلك؛ فلم يسمح للبهائيين رفع رؤوسهم أو إظهار دعوتهم؛ بل بقوا فيها في غاية الذل والاحتقار ولم يقم لهم حكم فيها أو كلمة. تنبأ المازندراني بأن دينه سيغلب الأديان كلها ويعتنقه أكثر العالم وسيهيمن هو على جميع الأرض، فماذا كانت النتيجة؟ لقد فضح الله الكاذب؛ فقد مضت سنوات عديدة وتلك الأماني الفارغة لم يتحقق منها شيء رغم ما قام به أعداء الإسلام من اليهود، والصهيونية العالمية، والصليبيون، والاستعمار الروسي والأمريكي بمساعدته والوقوف إلى جانبه. ولكن قدرة الله أقوى من ذلك، ففشل هؤلاء فشلاً ذريعاً في تحقيق مطامع هذا المتأله الكاذب، وكانت أحلامه خيالية، وكلامه هذيان فارغ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [الأنفال:8]. وأغرب شيء وأشنعه في تنبؤات البهائية ما صرح ابن المازندراني المسمى عبد البهاء عباس أفندي بوحي من أبيه حينما سئل عن آخر السنوات التي تعم فيها البهائية العالم وتنتشر في أرجائه وأنحائه؛ أجاب بأنه- وحسب البشارات القديمة التي ذكرها له إلهه المازندراني- أنه سيتم ذلك وبالتحديد أيضاً في 1957م. فماذا كانت النتيجة؟ لقد أظهر الله كذبهم حتى لا يبقى لأحد حجة، فلم تدخل الدول في البهائية، ولم يظهر نور الله البهاء في جميع أقطار الأرض كما زعموا. فطردت البهائية من إيران، وطردت من العراق، وطردت من تركيا، وطردت من مصر وليبيا وسوريا، وقضي عليها في باكستان وأفغانستان، ولم يأبه لها العالم الغربي كما يريدون، وكذلك طردت من أفريقيا، ولم يقر لها قرار إلا في البيئات المنحلة أو الحاقدة على الإسلام. وظلت طريدة لخبثها وخبث مبادئها وولائها للاستعمار في كل مكان، إلى أن آواها الإنكليز إلى فلسطين وتلقفتها اليهودية، فأين نبوءة حسين علي البهاء المازندراني وابنه عباس أفندي من أن البهائية ستكتسح جميع الأديان وستعم البلدان في الموعد الذي حدده البهائيون؟! (2) المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 730 - 732   (1) لإحسان إلهي رحمه الله في كتابه ((البهائية)) نقد وتحليل مقال بعنوان ((البهائية وتنبؤاتها)) يبدأ من (ص: 249) إلى (ص: 308)، توسع في ذكر تنبؤات المازندراني وبين أكاذيبه كلها، ومنه ما أشرت إليه في الفقرات التي ذكرتها، ومن أراد التوسع فليرجع إلى كتاب ((البهائية نقد وتحليل)) – الصفحات المشار إليها. (2) انظر: ((البهائية نقد وتحليل)) (ص: 254). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 457 المطلب الخامس: وفاته استمر حسين المازندراني في نشر ضلالاته وافتراءاته بدعم المؤسسات الماسونية والصهيونية التي اتخذته مطية لتحقيق أهدافها باسم الدين، ونال دعما كبيرا من دول الاستعمار ذلك لأن عقيدته تحرم الجهاد وحمل السلاح مما يخدم الدول الاستعمارية بالدرجة الأولى. المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري وبعد أن بلغ الخامسة والسبعين من العمر أصابته الحمى، وقيل: إنه جن في آخر حياته، وكان ابنه عباس عبد البهاء يعمل كحاجب له فاستأثر بالأمر وأغدق على الجماعة الأموال فأحبوه. وحين اشتدت الحمى بمدعي الألوهية جاءه القدر المحتوم فمات في سنة 1309هـ. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 672 وقد ترك وراءه من زوجتيه أربعة أبناء وثلاث بنات. المصدر: البهائية للدكتور طلعت الزهران ودفن قرب منزله في عكا وقيل في حيفا، وكان قد زعم أن غروب شمسه أي موته لم يكن إلا لحكمة، وأنه مع أتباعه يراهم ويؤيدهم وينصرهم بالملائكة المقربين. وعن موت هذا الإله المزعوم يقول الدكتور جون أسلمنت: (قضى بهاء الله أواخر أيامه على الدنيا بكل هدوء وسكون، وصعد- ولم يقل ومات- بعد إصابته بالحمى في 28 مايو سنة 1892م، في سن الخامسة والسبعين). وقال الجلبائيجاني: (وصعد الرب إلى مقر عزه الأقدس الأعلى، وغابت حقيقته المقدسة في هويته الخفية القصوى، وكانت هذه الحادثة في ثاني شهر ذي القعدة سنة 1309هـ، وسادس عشر من شهر مايو سنة 1892م) (1). قال عبد الرحمن الوكيل في بيان معنى كلام الجلبائيجاني: (يشير إلى أن روح الله التي زعم أنها كانت حالة في البهاء عادت إلى حالة التجرد من الجسمية) (2). وقال عن هلاكه بجرثومة الحمى: (ولم يستطع رب البهائية الأكبر- وحوله كل تلك القوى- أن يصمد في حومة ذلك الصراع الرهيب الذي دار بينه وبين خلق دقيق ضعيف، كانت تزعم البهائية أنه من صنع ربها الملعون فانهار فاغر الفم من الرعب ... ) إلى أن يقول عن دفن جثته الخبيثة: (ثم زجوا بها في ظلمات القبر لخلق آخر يفترسها السوس الشره والدود المنهوم، حتى هذه العظة التي ترغم العقل والحس على السجود لم تجد طريقاً إلى قلوب البهائية لأنها غلف، فظلوا ينتظرون ربهم على باب قبره، وظلوا ينتظرون أن يطعمهم والدود يطعمه) (3). ومما أحب التنبيه عليه أن الدكتور أحمد محمد عوف قد أخطأ في بيان هلاك المازندراني حين علل ذلك بأنه مات مقتولاً على يد أتباع أخيه صبح الأزل، وذلك في قوله: (وهناك قتل أتباع صبح الأزل البهاء حيث دفن في عكا عام 1892م) المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 672 - 674 وكان الميرزا حسين (البهاء) قد لقب ابنه عباس أفندي عبد البهاء بالغصن الأعظم المتشعب من الغصن القديم المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري وكان البهاء قبل موته قد أضفى عليه وصف الألوهية إذ كتب له يقول: (من الله العزيز الحكيم إلى الله اللطيف الخبير) لتبدأ عملية انتقال الإله من جسد إلى جسد! قبحهم الله ولعنهم وهتك سترهم وفضح أمرهم. المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري وقد أوصى بالخلافة من بعده لابنه الأكبر عباس، وبعده للأصغر منه الميرزا محمد علي، وكتب بذلك كتاباً وختمه بختمه، إلا أن الأمور لم تسر على هذا الوجه. فقد استولى عباس على الأمر كله ولم ينفذ وصية والده، ونشبت بين الأخوين خلافات هائلة أعادت إلى الأذهان تلك المؤامرات التي قام بها والدهما مع أخيه صبح الأزل، وما حصل بينهم من المهاترات والنزاعات الشديدة، فكان هذا خير خلف لتنفيذ خيانة سلفه بتمامها، وهذا لا غرابة فيه، ذلك لأن أساس هذه الملة إنما قام على الخيانة والغدر والكذب من أول يوم. المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 672   (1) ((الحجج البهية)) (ص: 13)، نقلاً عن ((البهائية نقد وتحليل)). (2) ((البهائية تاريخها وعقيدتها)) (ص: 144). (3) ((البهائية تاريخها وعقيدتها)) (ص: 144 – 145). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 458 المطلب الأول: انقسام البهائية وأهم زعمائها بعد وفاة المازندراني خلفه ابنه عباس أفندي، وكان المازندراني قد أوصى كما تقدم أن يتولى الأمر بعده ابنه عباس، ثم من بعده محمد علي ولكن عباساً استأثر بالأمر فحصل بينهما شقاق وخلاف شديد وانقسم البهائيون حينئذ إلى فرقتين: الفرقة الأولى، وهي الموالية لعباس أفندي، وتسمى العباسية. والفرقة الثانية، وهي الموالية لمحمد علي بن حسين المازندراني، وتسمى الموحدون، وصار بعد ذلك مجموع فرق البهائية بعد حدوث الانشقاقات بينهم أثر شدة المنازعات خمس فرق هي: البابية الخلص. الأزلية أتباع صبح الأزل. البهائية. العباسية. الموحدون. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 674 كان عباس أفندي معروفا بخبثه ودهائه وكان حريصا على نشر البهائية جادا في ذلك حتى أن المؤرخين يقولون: إنه لولا عباس أفندي لما قامت للبابية ولا للبهائية قائمة. يعتقد البهائيون في عباس أفندي أنه معصوم غير مشرع وكان يضفي على والده صفة الربوبية القادرة على الخلق! وليس عجيبا أن يدعى ذلك ولكن العجب أن يوجد من يصدق هذه الخرافة، أنى لمخلوق بهذا الضعف قد مات مجنونا أن يخلق شيئا؟! صدق الله العظيم إذ يقول: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج: 73] داهن عباس أفندي وتزلق كثيرا في سبيل نشر دعوته بين كل الطوائف والملل والعرقيات حتى أنه قال في خطاباته ص99 "اعلم أن الملكوت ليس خاصا بجمعية مخصوصة فإنك يمكن أن تكون بهائيا مسيحيا وبهائيا ماسونيا وبهائيا يهوديا وبهائيا مسلما"!!. حتي أنه وافق النصارى في عقيدتهم في صلب المسيح فقال "ولما أشرقت كلمة الله من أوج الجلال بحكمة الحق المتعال وقعت في أيدي اليهود أسيرة لكل ظلوم وجهول وانتهي الأمر بالصلب". وكذلك داهن اليهود وعمل لمصلحتهم في الدرجة الأولى فقد زار سويسرا وحضر المؤتمرات الصهيونية ومنها مؤتمر بال 1911م وحاول تكوين طابور خامس وسط العرب لتأييد الصهيونية ودعا إلى التجمع الصهيوني والعمل على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين بقوله: "وفي هذا الزمان وفي تلك الدورة سيجتمع بنو إسرائيل في الأرض المقدسة ويمتلكون الأراضي والقرى ويسكنون فيها ويزدادون تدريجيا إلى أن تصير فلسطين كلها وطنا لهم". وهذه الكلمات وإن كانت نص كلماته إلا أنها تشعرك من الوهلة الأولى لقراءتها أنها لأحد زعماء الصهاينة فقد كانوا يروجون أفكارهم على لسانه، ولأن الدعوة إلى تجمع اليهود في فلسطين من أصول دينه عمل اليهود على بقائه بعكا ودعم دعوته بها. ومن المتوقع والغير مستغرب في المستقبل القريب إذا لاقت الدعوة البهائية انتشارا ودعمت من قبل الصهاينة الأمريكان في مصر أن يوصى إليهم رأسهم الإبليسي في كتبهم اللاحقة أنه قد آن لهم أن يتمموا مملكتهم الكبرى التي بها يحلمون وإليها يسعون مملكة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات وقد وضعوا أيديهم ـ لا أقرها الله ـ على أرض الرافدين العراق وبقيت مصر التي يحاولون بكل السبل نشر البهائية بها كبداية للسيطرة مثل بداية السيطرة على فلسطين. وقد استقبل عباس عبد البهاء الجنرال اللنبي حين أتى فلسطين بالترحاب لدرجة أن كرمته بريطانيا والتي كانت تحتل أكثر العالم الإسلامي ومنحته لقب "سير" فضلا عن أرفع الأوسمة الأخرى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 459 وقد حور تعاليم أبيه بما يتفق مع العقلية الغربية والثقافة الغربية فاتجه إلى النصرانية واليهودية يأخذ منهما والمجوس في التركستان وأمريكا وتحمس له بعض الغربيين فأصبح له مركز في شيكاغو ومجلة باسم نجم الغرب صدرت سنة 1910 م المصدر: الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة لناصر القفاري وناصر العقل - ص 163 جاء العباس عبد البهاء إلى هذا المذهب المصنوع وأراد أن يكسوه ثوبا جديدا فخلطه بآراء التقطها مما يتحدث به بعض الناس على أنها من مقتضيات المدنية أو مما كشفه العلم حديثا نحو التساوي بين الرجال والنساء في التعليم ونزع السلاح وإتقان الأمم على لغة واحدة تدرس في العالم كله وتأسيس محكمة عمومية تحل مشاكل الأمم وأن الإنسان تدرج بالارتقاء من أبسط الأنواع حتى وصل إلى شكله الحالي (نظرية داروين) ولهجوا بعد ذلك بكلمة نشر السلام العام ونبذ التعصبات الدينية وقد تخيل عباس أنه بإدخال مثل هذه الآراء في مذهب البهائية يستدرج المولعين بالجديد من النابتة الحديثة ولهذا الطمع ترونه يقول: (تحتوي تعاليم بهاء الله على جميع آمال ورغائب فرق العالم سواء كانت دينية أو سياسية أو أخلاقية وسواء كانت من الفرق القديمة أو الحديثة فالجميع يجدون فيها دينا عموميا في غاية الموافقة للعصر الحاضر وأعظم سياسة للعالم الإنساني) وصرح في مقال آخر بأنه يريد أن يوحد بين المسلمين والنصارى واليهود ويجمعهم على أصول نواميس موسى عليه السلام الذين يؤمنون به جميعا ولا أحسب عبد البهاء عباسا يقصد من هذا الحديث إلا التزلف لليهود والتظاهر بموالاتهم ليجعلهم من أشياعه المصدر: رسائل الإصلاح لمحمد الخضر حسين – 2/ 188، 189 زار عباس أفندي عدة دول مثل لندن وأمريكا والمجر والنمسا وزار الإسكندرية داعيا إلى فتنته وأسس في شيكاغو أكبر محفل للبهائية ورحل إلى حيفا سنة 1913م ثم إلى القاهرة حيث هلك بها في عام 1340هـ - 1921م. وعهد قبل موته بالأمر إلى ابن ابنته "شوقي أفندي الرباني" مخالفا بذلك وصية البهاء أن يكون خليفته أخوه الغصن الأكبر ولكنه فعل ذلك نكاية فيه إذ ظل مناوئا له إلى آخر رمق في حياته. المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري وقد آلت زعامة البهائية بعد عباس أفندي عبد البهاء إلى ابن ابنته، وهو شوقي أفندي؛ لأن عبد البهاء مات ولم يخلف غير أربع بنات فخلفه شوقي بوصية منه ولقبه آلة الله وولي أمر الله، ثم أوصى عبد البهاء بإمامة البهائية إلى أولاد شوقي الذكور دون الإناث، لكن شوقي مات بسكتة قلبية في لندن ولم يخلف لا ذكوراً ولا إناثاً. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 674، 675 تولى شوقي أفندي زعامة البهائية خلفا لجده عباس أفندي في عام 1340 هـ - 1912م وسار على نهجه في إعداد الجماعات البهائية لانتخاب بيت العدل ومات بلندن ودفن بها وقدمت الحكومة البريطانية الأرض التي دفن بها هدية للطائفة البهائية. وفي عام 1963 تولى تسعة من البهائيين شؤون البهائية وأسسوا بيت العدل من تسعة أعضاء أربعة أمريكان وإنجليزيان وثلاثة إيرانيين وذلك برئاسة فرناندو سانت ثم تولى رئاستها من بعده اليهودي الصهيوني ميسون الأمريكي الجنسية. المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري وقد اشتهر من البهائيين رجال أمثال الملا محمد ابن الملا محمد رضا الجليائيجان الملقب بأبي الفضائل الذي لقبه الشيخ عبد الرحمن الوكيل بأبي الرذائل. ومنهم إبراهيم جورج خير الله الذي أسس مركز البهائية في شيكاغو، ومنهم جمشيد ماني صاحب طائفة السماوية، ومنهم أحمد سهراب وغيرهم من كبار البهائية، كما اشتهرت بعض النساء ومنهن امرأة إنجليزية تسمى (لورا كليفورد بارني) وأخرى أمريكية تسمى (مارثاروث)، وكان لهما جهد كبير في نشر البهائية. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 675 وفيما يختص الهيئة الإدارية للحركة البهائية، فإنها تنقسم إلى هيئتين حاكمتين: إحداها إدارية والأخرى تعليمية، أما الهيئة الإدارية، فهي تتكون من المجالس الروحية القومية، وأما المجالس المحلية فهي تتكون من تسعة أشخاص والتي يمكن تأسيسها أينما وُجد تسعة بهائيين (وبيت العدل العمومي) وهو الهيئة العليا ولها سلطة تغيير كافة القوانين حينما تدعو إلى ذلك التغيرات الدنيوية. ثم هناك الهيئة التعليمية وهي مكونة من بناء هرمي من المجالس والقادة. المصدر: البهائية للدكتور طلعت الزهران الجزء: 9 ¦ الصفحة: 460 المطلب الثاني: أسباب انتشار البهائية الواقع أنه ليس في تعاليم البهائية وديانتها ما يغري باعتناقها، فهي أفكار ملفقة من شتى المذاهب والديانات، مملوءة بالخرافات التي يأباها العقل السليم والفطرة المستقيمة، كما أنها مملوءة كذلك بالمتناقضات شأن كل باطل. ومع ذلك فقد انتشرت انتشاراً رهيباً في الكثير من البلدان، إلا أن بعض أهل تلك البلدان قد استفاقوا حين أمعنوا النظر في تعاليم البهائية وما تهدف إليه من الشر بالعالم كله- وفي أولهم العالم الإسلامي- هالهم ما رأوه من تلك التعاليم الجهنمية- وهالهم كذلك ما رأوه من الحقد الشديد للإسلام ونبيه العظيم فشنوا الغارات الملتهبة على البهائيين وعلى تعاليمهم وعلى محافلهم المنتشرة وحاكموهم محاكمات ظهرت في كثير من تلك المحاكمات حقيقة البهائية الملحدة الإباحية، فأفتى القضاة والعلماء والمثقفون وكل من في قلبه أدنى ذرة من إيمان بخطر البهائية ووجوب محاربتها، والتقرب إلى الله بسحق كل بهائي؛ احتساباً للأجر والثواب، ولا تزال الحرب سجالاً بين أهل الخير وأهل الشر. إلا أن البهائيين –وهم لا دين لهم- يحاربون غيرهم بمختلف فنون الحرب الظاهرة والخفية، ومن مؤامرات ودعايات وإغراءات ونفاق ودعارة؛ لأن كل هذا جائز في شريعة البهائية. إضافة إلى ما تيسر لهم من أسباب أخرى كثيرة ساعدت في انتشار هذه النِّحْلة، يمكن الإشارة إلى أهمها فيما يلي: - جهل كثير من المسلمين بحقيقة المذهب البهائي، خصوصاً وأن الدعوة البهائية أكثر ما توجه إلى العوام والسطحيين من الناس. - تظاهر هؤلاء –تقية ونفاقاً- بالإسلام وبالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم. - التفاف أعداء الدين الإسلامي نحو البهاء وتعاليمه والذود عنه ونشر أباطيله وزخرف الدعايات له، والمساعدات السخية له ولأتباعه بكل شكل من أشكال المساعدات مادية ومعنوية. - انشغال كثير من المسلمين عند قيام البهائية بمشكلات داخلية وخارجية بعضها مشكلات حقيقية، وأكثرها إنما هي مفتعلة من أعدائهم لإلهائهم عن ما يراد بهم ليتم المخطط بهدوء. - كثرة تحريفات النصوص-على وفق ما يريدون- سواء كانت تلك النصوص من القرآن الكريم أو من السنة؛ حيث أولوها على الطريقة الباطنية الماكرة؛ بحيث إذا وقف عليها من ليس عنده اطلاع كاف على أباطيل الباطنية والبهائية لابد وأن يقع في شبكاتهم (1)، ويصدق ولو بعض تلك الترهات. - تفنن هؤلاء في التلون، واستعمال التقية، واستحلال الكذب والنفاق، بحيث كانوا يتوددون إلى كل شخص بما يستطيعون به الوصول إلى قلبه لاستدراجه بعد ذلك إلى حيث يشاءون، دون أن يجدوا في تلك المسالك الملتوية أي حرج. - مهارة هؤلاء في تنظيم الدعوة إلى مذهبهم وتنظيم المحافل التي هي نقاط الانتشار في كل بلد توجد به هذه المحافل، وتوددهم إلى الحكام والمفكرين، وخداعهم لهم بما يظهرونه لهم من الخير وإرادة الإصلاح، والتزلف إلى رضاهم بكل وسيلة. - كما يعود انتشار مذهب البهائية إلى أن أكثر الناس يحبون الانفلات عن الالتزامات الشرعية والميل إلى الشهوات ونبذ القيود، وقد عرف زعماء البهائية هذا الجانب واستغلوه أقوى استغلال، ومن هنا دخل كثير من الناس في المذهب البهائي ليس اقتناعاً تاماً به، وإنما ليضفي على ميوله وشهواته صفة شرعية ولو على طريقة الشرع البهائي. - كما يعود أيضاً إلى أن أكثر الدعوات الباطنية إنما تنتشر بين الأوساط الفقيرة؛ حيث يقوم أصحاب تلك الدعوات بمساعدة الفقراء من بناء مدارس ومستشفيات ودور اجتماعية وقروض وإيصال بعضهم إلى الوظائف الحكومية، وتسهيل معاملاتهم وغير ذلك من المساعدات التي يكون لها أثر إيجابي في نفس المدعو ولابد إلى غير ذلك من الأسباب الكثيرة الخفية التي يجيد هؤلاء عرضها بأساليبهم وطرقهم الملتوية. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 724 - 726   (1) وأقرب الأمثلة على هذا تلاعبهم بمعنى الآية الكريمة؛ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ؛ حيث صارواهم والقاديانيون في طريق واحد حول تأويل هذه الآية بأن الخاتم بمعنى ((أفضل))، أو أنه كالمهر، أو أنه خاتم الأنبياء أصحاب الشرائع المستقلة، غير ذلك من أكاذيبهم على الله وعلى رسوله، وعلى اللغة أيضاً؛ لأن اللغة لا تساعدهم أبداً على تلك المعاني الباطلة التي اخترعوها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 461 المطلب الثالث: مواطن انتشار البهائية تنتشر الأفكار وتتغلغل بين الناس دون أن يفطن لها المجتمع، لا تحدها الحدود الدولية السياسية، ولا تمسك بزمامها سلطة، تسري في الأمة سريان النعاس في جسم الإنسان حتى إذا قوي أمرها وانتشر خبرها وصار لها رجال يدافعون عنها- ظهرت متنكرة للوسط الذي تعيش فيه طالبة التغيير الجذري لكل ما حولها. ومن هنا تبدأ ثمارها؛ خيرة كانت تلك الأفكار أم شريرة. ومن المعلوم أن للسلطة والسياسة والمجتمع بأكمله دوراً في ظهور الفرق وعدم ظهورها حسب الظروف التي تحيط بها، فمثلاً هذه الطائفة التي نحن بصدد دراستها من الأسس الهامة في عقائدهم القول بالتقية، وحينما يخافون أن يظهروا أنفسهم على حقيقتهم يدخلون مع الناس على الوفاق والود ويبطنون ما انطوت عليه نفوسهم الشريرة من التربص بالبشرية والتمسك بعقائدهم ومحاربة الأديان المنافية لها، ويكونون كالنار تحت الرماد، ويعملون في الخفاء لنشر أفكارهم إلى أن تواتيهم الفرصة فيظهرون. وقد انتشرت البهائية في أماكن كثيرة بعضها معلوم وبعضها في الخفاء، إلا أن وجودهم الأكبر ومركزهم الرئيسي بين حلفائهم في أرض فلسطين التي اغتصبها اليهود، وبارك هذا الاغتصاب ونشر الدعاية له البهائيون في كل مكان. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 733 ويتركزون في إفريقيا والهند وفيتنام وفى مناطق واسعة من أمريكا اللاتينية وذكرت موسوعة " ويكيبيديا" أنهم يتزايدون في الولايات المتحدة وأوروبا بشكل ملحوظ. مقرهم الرئيسي في حيفا بإسرائيل. ولهم محافل رئيسية في أديسا بابا والحبشة وكمبالا وأوغندا ولوساكا بزامبيا وجوهانسبرج بجنوب إفريقيا وكراتشى بباكستان وأكبر معابدهم في شيكاغو الأمريكية ويطلقون عليه مشرق الأذكار ولهم ممثلون في الأمم المتحدة ويتمتعون بتأييد ودعم غربي المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري ويوجد لهم خلايا كثيرة في إيران وأمريكا والعراق ومصر وإمارات الخليج والسودان وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، ومحافلهم كثيرة وأكبرها في شيكاغو وإسرائيل وكندا وبنما ولندن وألمانيا وسويسرا والهند وباكستان وشمال أفريقيا وأوغندا وأستراليا. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 734 انحسر وجودهم في مصر التي كانوا قد افتتحوا بها محافل خاصة بهم وصدر قرار جمهوري سنة 1960 برقم 263 بإغلاق تلك المحافل والمراكز، ولم يعد لهم في مصر وجود يذكر، وفي العراق انحسر وجودهم وحتى الدار التي أقام بها البهاء حسين بعد نفيهم من العراق اشتراها مسلمون. ورغم أن البهائيين حاولوا شراءها بمبالغ مالية ضخمة إلا أن المسلمين رفضوا بيعها لهم. ومن حيث العدد فإن إيران أكبر تجمعاتهم، ولهم وجود بسيط في سوريا وفي فلسطين، إلا أن أهم وجود لهم هو في الولايات المتحدة الأمريكية حيث يبلغ عددهم 2مليون ينتسبون إلى 600 جمعية منها حركة شبابية مقرها نيويورك تسمى " قافلة الشرق والغرب ". وأكبر معبد لهم في العالم موجود في شيكاغو ويدعى "مشرق الأذكار"، ورغم قلة عددهم إلا أن لهم ممثلا في الأمم المتحدة والهيئات الدولية المختلفة مثل اليونيسيف واليونسكو‍ وغيرها. وتتعمد الولايات المتحدة وأوروبا بين الفينة والأخرى إثارة قضيتهم تحت مسمى حقوق الإنسان وحرية المعتقد وهم يقولون إن الحكومة في طهران تضطهدهم المصدر: البهائية للدكتور طلعت الزهران وقد قدر بعض زعماء البهائية عدد البهائيين بما يزيد على ستين مليون نسمة في العالم، ولكن لا ينبغي تصديقهم فيه فهو رقم دعائي أكثر منه حقيقي. ومما لا ينكر أنه قد وقف أعداء الإسلام إلى جانب البهائية مدافعين عنها ومشجعين لها في الاستمرار، وكل من حاول الأخذ على أيدي البهائيين في أي مكان من العالم تقوم ضده دعاية رهيبة بأنه غير متحضر وإرهابي، ولا يسمح بحرية الفكر، ولا يراعي حقوق الإنسان، إلى غير ذلك من الدعايات الطويلة العريضة التي يجيدونها. ثم يلجئون إلى مجلس الأمن للعويل على حقوق الإنسان التي ترعاها الأمم المتحدة في نيويورك، ليجد كل من يريد إيقافهم عند حدهم أنه أصبح في عداد الأشرار دون أن يعرف الذنب الذي اقترفه، وهذا بفعل دسائس زعماء البهائية في كل مكان يوجدون فيه وتكاتفهم على باطلهم ووقوف بعضهم إلى جانب البعض الآخر لشعورهم بالقلة والذلة –أدام الله ذلهم- إلى يوم يؤوبون فيه إلى الدين الحق والصراط المستقيم. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 734 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 462 أولا: عقيدة البابية: قد أسفرت الديانة البابية عن إنكار القيامة وما جاء في وصفها في القرآن الكريم وزعم أنها قيام الروح الإلهية في مظهر بشري جديد، وأن البعث هو الإيمان بألوهية هذا المظهر، وعن لقاء الله يوم القيامة بأنه لقاء الباب لأنه هو الله، وعن الجنة بأنها الفرح الذي يجده الشخص عندما يؤمن بالباب وعن النار بأنها الحرمان من معرفة الله في تجلياته في مظاهره البشرية، وزعم أنه البرزخ المذكور في القرآن، لأنه كان بين موسى وعيسى. كما أنه خرج عن تعاليم الإمامية الاثني عشرة – حول مفهوم الرجعة؛ حيث بينها بأنها رجوع الصفات الإلهية وتجليها مع آثارها في مظهر جديد للحقيقة الإلهية. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 655 ومن خبال زعيمهم الأول دعواه في تفسيره لسورة يوسف أنه أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلل هذا الكلام بما لا يفهمه إلا من يفهم لغة المبرسمين إذ قال: (لأن مقامه (الباب) مقام النقطة ومقام النبي صلى الله عليه وسلم مقام الألف). وقال: (كما أن محمدا من عيسى فكتابه (البيان) أفضل من القرآن). وقال: (إن أمر الله في حقي أعجب من أمر محمد رسول الله من قبل لو كنتم تتفكرون) المصدر: رسائل الإصلاح لمحمد الخضر حسين – 2/ 190 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 463 ثانيا: شريعة البابية ولما كان الباب يزعم أنه جاء ناسخا فإنه ولابد وأن يضمن كتابه (البيان) بديلا عن الإسلام في عباداته وشرائعه وغير ذلك وهكذا سولت له نفسه. فمن تشريعاته أنه نسخ الصلاة بصلاة جديدة تصلى عند الزوال ويقول في ذلك: (رفع عنكم الصلوات كلهن إلا من زوال تسعة عشر ركعة واحدا واحدا بقيام وقنوت وقعود لكم لعلكم يوم القيامة بين يدي تقومون ثم تسجدون ثم تقنتون وتقعدون) (1) ثم نسخ صلاة الجماعة وأباح الحضور إلى المساجد والجلوس على كراسي فقال: أنتم بالجماعة لا تصلون ولكنكم تحضرون المساجد وأنتم على الكرسي بما يحبه الله تذكرون وتوعظون (2) المصدر: عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية لأحمد بن سعد الغامدي- ص 210 ألغى الصلوات الخمس وصلاة الجمعة وصلاة الجماعة إلا في الجنازة، وقرر أن الطهر من الجنابة غير واجب، وأن القبلة هي البيت الذي ولد فيه بشيراز، ومكان سجنه والبيوت التي عاش فيها هو وأتباعه، وهي نفس الأماكن التي فرض على أتباعه الحج إليها. وأما الصوم فهو تسعة عشر يوماً، يصوم الشخص فيه من شروق الشمس إلى غروبها المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 655 فقد أمر بصيام تسعة عشر يوما من كل سنة وهو عندهم شهر ويسميه شهر العلاء يقول في ذلك: ثم الثامن من بعد العشر أنتم في كل حول شهر العلاء لتصومون وقبل أن يكمل المرء إحدى عشرة سنة من حين ما ينعقد نطفته أن يريدون أن حين الزوال ليصومون (3) المصدر: عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية لأحمد بن سعد الغامدي- ص 210 والزكاة خمس العقار تؤخذ في آخر العام من رأس المال ويدفع للمجلس البابي المكون من تسعة عشر عضواً. وأما الزواج فهو إجباري بعد بلوغ الحادية عشر، ويكفي رضا الطرفين ويجوز وقوع الطلاق تسع عشرة مرة، وعدة المطلق تسعة عشر يوماً، وعدة المطلقة خمسة وتسعون يوماً، وإذا تزوجت الأرملة فيجب دفع الدية كاملة على من يتزوج بها، وليس في دين البابية نجاسة لشيء لأن اعتناق البابية يطهر من كل شيء، ويجب دفن الميت في قبر من البلور والمرمر المصقول، ووضع خاتم في يمناه منقوش فقرة من كتاب البيان. والميراث يكون لسبعة أشخاص من القرابة هم الولد والزوج والزوجة والأب والأم والأخ والأخت، والمعلم. المصدر: فرق معاصرة لغالب معاصرة 2/ 655 يقول: (قل لا يورث عن الميت إلا أبيه وأمه وذرياته وزوجته وأخيه وأخته ومن علمه بعد ما يصرف لنفسه من ماله ما يعزيه بعد موته) (4) المصدر: عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية لأحمد بن سعد الغامدي- ص 211 والعيد الرئيس عند البابية هو عيد النيروز ومدته تسعة عشر يوماً، كما أنه يجب على البابي أن يستقبل الشمس بالسلام في صباح كل يوم جمعة. وقد حرم الباب على أتباعه قراءة القرآن ووجوب إحراقه وسائر الكتب المخالفة، ومن هنا قاموا بإحراقها كما اعتبروا كل من لم يدخل في دينهم كافراً حلال الدم (5).   (1) الواحد السابع من ((البيان)) (ص: 73). (2) الواحد التاسع من ((البيان)) (ص: 81). (3) الواحد الثامن من 78 من ((البيان)). (4) الواحد الثامن ص73 من ((البيان)). (5) توجد تعاليم البهائية مبينة في كثير من الكتب، انظر: ((البهائية)) للوكيل (ص: 117 – 121)، ومنها ذكرت تلك المسائل المختصرة، وانظر: ((البابية عرض ونقد)) المقال الثالث (ص: 187) شريعة الباب وتعليماتها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 464 المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 656 ومن تشريعاته أنه: نهي عن قتل الإنسان ومن يفعل ذلك أو يرضى به أو لا يدفع مع القدرة فعليه دية أحد عشر ألف مثقال يدفعها إلى الورثة وتحرم عليه زوجته تسع عشرة سنة ومصيره جهنم ولا يغفر الله له أبدا، يقول في ذلك: (قل السادس من بعد العشر فلا تقتلن نفسا ولا تقطعن شيئا من نفس أبدا إن أنتم بالله وآياته مؤمنون ومن يأمر أو يفعل أو يقدر أن يمنع ولم يمنع أو يرضى فيلزمنه من كتاب الله أحد عشر ألف مثقال من ذهب بأن يردن إلى من يورث عمن قتل وليحرمن عليه كل قرينة تسعة عشرة سنة ودليل في كتاب الله أن كينونته قد خلقت على غير محبة الله ورضائه ويدخل النار بعد موته ولا يغفر الله له أبدا) (1). والسارق تحرم عليه زوجته تسعة عشر يوما ويدفع تسعة عشر مثقالا من الذهب إلى علماء البابية ليقدموها إلى المسروق عليه. يقول في ذلك: (وإنما السابع من بعد العشر أن يا أولي الحكم فلتأمرن من يتبعونكم ألا يأخذن لباس أحد ولا ما عنده وإن يؤخذ يحرم عليهم وعليكم أزواجكم تسعة عشر يوما وإن اقترنتم ليلزمنكم من كتاب الله تسعة عشر مثقالا من ذهب تردون إلى شهداء البابية ليؤتين من أخذ عنه لباسه أو شيء مما عنده لعلكم تتقون) (2) وحد الذي يقطع شيئا من جسم إنسان أو يغير لونه أو يمزق لباسه أو يغيره أو أراد إهانته فإنه تحرم عليه زوجاته تسعة عشر شهرا ويدفع خمسة وتسعين واحدا من ذهب. يقول: (ومن يأخذ من جسد أحد من شيء أو يغير لونه قدر شيء أو يغير لباسه أو أراد أن يذلنه قد حرم الله عليه أزواجه تسعة عشر شهرا في كتاب الله ليلزمنه من حدود الله خمس وتسعين واحد من ذهب لعلكم أنت تتقون) ...... ومن الآداب كذلك قوله: (وإنما الخامس من بعد العشر لا تركبن البقر ولا تحملن عليه من شيء إن أنتم بالله وآياته مؤمنون ولا تشربن لبن الحمير ولا تحملن عليه ولا حيوان غيره إلا على دون طاقته ما قد كتب الله عليكم لعلكم تتقون ولا تركبن الحيوان إلا وأنتم باللجام والركاب لتركبون ولا تركبن ما لا تستطيعن أن تحفظن أنفسكم عليه فإن الله قد أنهاكم عن ذلك نهيا عظيما ولا تضربن البيضة على شيء يضع ما فيه قبل أن يطبخ هذا ما قد جعل الله رزق نقطة الأولى في أيام القيامة ومن عنده لعلكم تشكرون) (3) المصدر: عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية لأحمد بن سعد الغامدي- ص 211 - 213   (1) الواحد الحادي من بعد العشر (ص: 96 - 97) من ((البيان)). (2) الواحد العاشر (ص: 89) من ((البيان)). (3) الواحد العاشر (ص: 87) من ((البيان))، البيان في جميع هذه النقولات هو الموجود في كتاب ((خفايا الطائفة البهائية)) فهو مطبوع بكامله من (ص: 49) إلى (ص: 98) من ذلك الكتاب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 465 ثالثا: الكتاب المقدس للبابية يزعم البابية أن هذا الكتاب وحي من الله تعالى أوحى به إلى الباب وأنه يحتوي على تعاليم جديدة جاءت ناسخة لشريعة الإسلام ونظرة واحدة إلى هذا الكتاب المزعوم يتبين لنا أنه في غاية الخلط والتعقيد بحيث يصعب على أحد فهمه إلا بمشقة وكلفة وذلك لأنه تأليف رجل أعجمي أراد أن يكتب بلغة عربية لا يجيدها فجاءت عباراته معقدة مبهمة لا يفهمها العربي الذي يزعم الباب أنها بلغته وإن فهم بعضها فبجهد متكلف ... ولو كانت من كلام الله سبحانه وتعالى لكانت بأعلى الأساليب وأفصحها بحيث يفهمها من جاء بلغتهم. أما هذا الكتاب فإنه يحمل في داخله أكبر شاهد على كذب صاحبه وأنه لا يرضى أن يدعى مثله أوساط القراء في اللسان العربي بله أن يكون من كلام الله سبحانه وتعالى فإنه لا تكاد تخلو صفحة واحدة فيه من أخطاء إن لم يكن كل سطر فيه ثم لا يستحي أن يتحدى الإتيان بمثل حرف منه ولا ندري كيف يؤتى بمثل حرف منه مع أن الحرف لا يؤدي أي معنى بمفرده ولا يوصف ببلاغة ولا إعجاز ... ولكنها اللكنة الأعجمية تأبى إلا أن تظهر. وسنعرض هنا بعض عبارات الكتاب لنرى مصداق هذا الكلام من نفس العبارات والكلمات: يقول فيه: (وإن أردتم التجارة فلا تطولن في البحر إلا حولين ولا في البحر إلا خمس حول؟؟ وإن جاوز من أحد فليؤتين قرينه اثنتي ومئتين من ذهب إن استطاع لا من فضة) (1). قوله: (خمس حول). هذا التركيب لم يرد في اللغة العربية ولا يجوز استعماله بهذه الصورة ولا يخفى فساده على صغار الطلبة في المجتمعات العربية إذ كلمة (حول) والتي أراد بها أحوال جمعا لحول ليس جمعا صحيحا هذا الخطأ الأول في العبارة أما الخطأ الثاني فحتى لو جمعت حول جمعا صحيحا فإنه لا يجوز أن تضاف إليها الكلمة الأولى والتي هي (خمس) إذ لابد أن تثبت التاء معها إذا كان المضاف إليه مذكرا فيقال: (خمسة أحوال). وبهذا التحليل الموجز يتضح لنا مدى إيغال هذا الكتاب في العجمة رغم كتابته بالحروف العربية وسنورد جملة من أمثال هذه العبارة لنرى مدى سقم التأليف وفساد الأسلوب الذي يزعم صاحبه أنه وحي من الله عز وجل ... تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.   (1) ((البيان)) (ص: 69) المطبوع مع كتاب ((خفايا الطائفة البهائية)). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 466 ففي العبارة الأولى كذلك قوله: (اثنتي ومئتين) أراد (اثنين ومائتين) أو (اثنتين ومائتين).ويقول: (فعلى شهداء البيان أن يأخذوا تسعين مثقالا من ذهب ... وينفق "تسعة مثقالا" من ذهب) (1).ويقول: (ثم الواحد من بعد العشر من ينشئ كلماتا) (2). أراد كلمات. ويقول: (ولتشترن ما تحبون من كل أرض لعلكم شيء اللطيف تملكون) (3). عبارة غير مستقيمة ولا واضحة. ويقول: (ثم إنا كنا بالله راضيون) (4). أي راضون. ويقول: (ثم الثاني أنتم في كل أرض بيت حر تبنيون) (5) أراد تنبون. هذه نماذج قليلة من ذلك الكتاب الذي زعم صاحبه أنه وحي من الله عز وجل أنزله ينسخ به كتابا أعجز فصحاء العرب أن يأتوا بمثل سورة منه ثم مع هذا الخلط المشين أراد أن يقرر بنفس اللكنة الأعجمية أن هذا الكتاب عربي الأسلوب والعبارة فيقول: (قل العاشر إذن في البيان أن يكونون كلما نزل فيه عربيا عند الذين يستطيعون أن يفهموه وأن يفسرن احد فارسيا إذن في الكتاب هم كلمات البيان لا يدركون ولا تفسرن إلا بالحق ولا تجعلن الفارسي عربيا إلا بالحق ولتملكن كلكم أجمعون بيان عربي محبوب وبيان فارسي للذين لا يستطيعون ما نزل الله يدركون) (6) وقد جعل كتابه هذا (البيان) باللغتين العربية والفارسية بحجة أن البيان الفارسي للذين لا يدركون ما نزل بالعريبة. والله عز وجل يقول: وما وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم:4] فلماذا إذن يكون بالعربية كما يزعم مع أنها بريئة من كتابه الذي يشينها ولا يزينها المصدر: عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية لأحمد بن سعد الغامدي- ص 208 - 210 كتب علي محمد الشيرازي كتابه الذي سماه (البيان) وهو كتاب (البيان العربي) الذي زعم فيه أنه منزل من عند الله وأنه ناسخ للقرآن وأنه أفضل الكتب المنزلة على الإطلاق، بل وتحدى الجن والإنس أن يأتوا بمثله على حد زعم الشيرازي (7). المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 656 واعتبر كل من لم يؤمن بهذا الكتاب فهو كافر يستحق القتل (وقتل ما سواهم يعتبرونه من أفضل القربات) المصدر: الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة لناصر القفاري وناصر العقل - ص 159   (1) ((كتاب البيان)) (ص: 69). (2) الواحد الثالث (ص: 58) من كتاب ((البيان)). (3) الواحد الخامس من كتاب ((البيان)) (ص: 66). (4) الواحد الخامس (ص: 63) من كتاب ((البيان)). (5) الواحد السادس (ص: 66) من كتاب ((البيان)). (6) الواحد الحادي بعد العشر (ص: 94) من كتاب ((البيان)). (7) قال الدكتور محسن عبدالحميد في كتابه ((حقيقة البهائية والبابية)) (ص: 40): إذا أردت تفصيل حياة الميرزا فراجع ((مطالع الأنوار))، و ((مفتاح باب الأبواب))، و ((البابيون والبهائيون))، والكتاب الأول مؤلفه يسمى محمد زرندي، والثاني مؤلفه ميرزا محمد مهدي خان، والثالث مؤلفه عبدالرزاق الحسني، واسم الكتاب كاملاً ((البابيون والبهائيون ماضيهم وحاضرهم)). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 467 قال الشيرازي في بيانه المزعوم في اللوح الأول من آيات الوحي (شئون الحمراء): إنا قد جعلناك جليلاً للجاللين وإنا قد جعلناك به عظيماً عظيماناً للعاظمين، وإنا قد جعلناك نوراً نوراناً للنورين، قد جعلناك رحماناً رحيماً للراحمين، وإنا قد جعلناك تميماً للتامين. إلى أن يقول: قل: إنا قد جعلناك مليكاناً مليكاً للمالكين، قل: إنا قد جعلناك علياناً علياً للعالين، قل: إنا قد جعلناك بشراناً بشيراً للباشرين (1).ومن قوله: (تبارك الله من شمخ مشمخ شميخ، تبارك الله من بذخ مبذخ بذيخ، تبارك الله من بدء مبتدأ بديء، تبارك الله من فخر مفتخر فخير، تبارك الله من قهر مقهر قهير، تبارك الله من غلب مغتلب غليب. إلى أن يقول: وتبارك الله من وجود موجود جويد) (2).وقال متحدياً الإنس والجن على أن يأتوا بحرف من مثل ما في بيانه المنزل من الله بزعمه: (يوم نكشف الساق عن ساقهم ينظرون إلى الرحمن، وذكره في الأرض المحشر قريباً فيقولون: يا ليتنا اتخذنا مع الباب سبيلاً إمامكم هذا كتابي قد كان من عند الله في أم الكتاب بالحق على الحق مشهود، لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا الكتاب بالحق على أن يستطيعوا، ولو كان أهل الأرض ومثلهم معهم على الحق ظهيراً، فوربك الحق لن يقدروا بمثل بعض من حروفه ولا على تأويلاته من بعض السر قطميراً (3). إلى آخر هذا الهذيان التافه الذي فضله على كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وليس هذا فقط؛ بل تحدى الجن والإنس ومثلهم معهم أن يأتوا ببعض الحروف التي وردت فيه. وحينما يقارن الإنسان بين كلام الله عز وجل وكلام مثل هؤلاء السخفاء الدجاجلة يتبين له نور الحق، وبضدها تتميز الأشياء. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 657، 658 ويلاحظ القارئ لهذا الكتاب ما يلي: أن الكتاب مليء بالأخطاء اللغوية والنحوية والبلاغية في كل صفحة من صفحاته مما يهبط به عن مستوى أداء الإنسان العادي. يرى القارئ فيه جملا يناقض أولها آخرها وكلاما مركبا لا يوحي بمعنى ولا يومئ إلى دلالة مصدره فكر مضطرب وخيالات وأوهام. الجهل المركب بأبسط شئون الكون والحياة والعمران، وخفة العقل وضعف التفكير بادية على الكتاب من أوله إلى آخره. المصدر: الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة لناصر القفاري وناصر العقل - ص 159   (1) انظر: ((مفتاح باب الأبواب)) (ص: 282)، نقلاً عن ((حقيقة البابية والبهائية)) (ص: 99). (2) انظر: ((مفتاح باب الأبواب)) (ص: 282)، نقلاً عن ((حقيقة البابية والبهائية)) (ص: 99). (3) انظر: ((تاريخ البابية)) للدكتور ميرزا محمد مهدي خان (ص: 309)، نقلاً عن ((البهائية للوكيل)) (ص: 80)، وانظر: ((كتاب البيان للشيرازي)) منقولاً بكامله في كتاب ((خفايا البهائية)). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 468 أولا: عقيدتهم في الله البهائية أخزاهم الله يؤمنون بإله ليس له وجود مطلق وإنما وجوده مفتقر إلي خلقه فهو مفتقر إلى من يظهر من خلاله وهؤلاء هم الأنبياء والرسل فيتجلى لعباده من خلالهم بعدما يحل بهم حتى يتحد معهم فيصير الله والرسول شيئا واحدا تعالى الله عما يقولون علوا كبير. واعلم قبل أن نشرع في ذكر ما يثبت تأليه البهاء عندهم أن البهائية يستخدمون التقية وهي إخفاء حقيقة مذهبهم لذلك فهم ينكرون أنهم يتخذون البهاء إلها من دون الله ويقفون عند زعمهم أنه رسول ولكن كُتُب البهاء نفسه وكُتُب أتباعه تنضح بعقيدتهم بألوهيته. البهائية والحقيقة الإلهية: هناك تشابه كبير بين عقيدة البهائية والنصرانية من حيث تواجد الإله المعبود في جسد بشري وهذا ما يعبرون عنه في النصرانية باجتماع اللاهوت والناسوت فيزعمون أن الله يظهر لخلقه من خلال رسله وأن جسد البهاء أكمل هيكل ظهر فيه الله وهذا شرك قبيح وكفر صريح نعوذ بالله منه إذ كيف يكون خالق الأكوان الذي وسع كرسيه السموات والأرض بحاجة إلى جسد إنسان؟! تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. وكذلك هناك تشابه بينهم وبين اليهود في سوء أدبهم مع ربهم إذ ليس عندهم كبير فوارق بين الخالق والمخلوق حيث يقولون إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام من الأحد إلى الجمعة ثم تعب واستراح يوم السبت ولهذا يعظمون يوم السبت فنسبوا الله إلى التعب وهو من العجز فقال الله تبارك وتعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ [ق:38] أي من تعب ولما دعاهم ربهم للتصدق قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء فقال الله تعالى لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ [آل عمران:181] وغالوا في أشخاصهم حتى قالوا نَحْنُ أَبْنَاء اللهِ وَأَحِبَّاؤُه [المائدة:18] فقال الله قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [المائدة:18] نصوص التأليه من كلام البهاء نفسه: وهذه بعض النصوص التي تثبت أن حسين المازندراني ادعى الألوهية وإن أنكروا هم ذلك فقد ادعى عدو الله حسين المازندراني أن الله يظهر من خلاله لخلقه ومثال ذلك من كلامه: "وإن دمي يخاطبني في كل الأحيان ويقول يا طلعة الرحمن" (مجموعة أذكار وأدعية من آثار البهاء) ص 8 وهذا صريح في ادعائه أن الله جل وعلا يحل فيه. ويقول في مجموعة أذكاره ص 78 "وإنك أنت رب البهاء ومحبوب البهاء والمذكور في قلب البهاء والناطق بلسان البهاء". وفي صفحة 155 يقول "سبحانك يا إلهي قد توجه وجه البهاء إلى وجهك ووجهك وجهه ونداؤك نداؤه وظهورك ظهوره ونفسك نفسه وأمرك أمره وحكمك حكمه وجمالك جماله وسلطانك سلطانه وعزك عزه وقدرتك قدرته" وهذا هو عين عقيدة الاتحاد وهي أن الله اتحد به واندمج معه وسكن جسده والعياذ بالله. وتتضح عقيدة الحلول والاتحاد عند البهاء حينما يفسر لقاء الله في الآخرة بقوله: "وكذلك المقصود من اللقاء لقاء جماله في هيكل ظهوره- أي نفسه". الإيقان ص 143. وكذلك قوله في الإيقان ص 58 "ويشاهد في تلك الأثناء طلعة الموعود وجمال المعبود نازلا من السماء وراكبا على السحاب يعني أن ذلك الجمال الإلهي يظهر من سماوات المشيئة الربانية في هيكل بشري" نعوذ بالله كيف يكون رب السماوات والأرض في هيكل بشري من طين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 469 ثم تراه يصرح بتأليه نفسه ويدعو إلى عبادة ذاته بأسلوب أفدح في كتابه الأنجس المسمى بـ (الأقدس) فيقول ص 81 "من عرفني قد عرف المقصود من توجه إلي قد توجه إلى المعبود". ثم تأتي الفاضحة التي تعري البهائية من أقنعة التقية وتجردهم من أسلحة المراوغة والتلاعب بالألفاظ وذلك في قول البهاء نفسه: "يا إلهي إذا أنظر إلى نسبتي إليك أحب بأن أقول في كل شيء بأني أنا الله" رسالة الشرح ملحقة بـ (الأقدس) ص 257. هذا هو البهاء مدعي الألوهية يدعو إلى عبادة نفسه بحجة أن الله موجود فيه والنصوص صريحة واضحة لا تحتمل تأويلا كما أننا لا نقبل منهم تأويلا البتة ذلك لأن أقدسهم يقول ص 106: "إن الذي يؤول ما نزل من سماء الوحي ويخرجه عن الظاهر إنه ممن حرف كلمة الله العليا وكان من الأخسرين في كتاب مبين". فهم يحرمون التأويل وإجراء النصوص على ظاهرها عندهم واجب لذلك نلزمهم بما ألزموا به أنفسهم وهو إجراء النصوص على ظاهرها. والأظهر أن البهاء حرم تأويل نصوصه هو أما بقية الكتب السماوية فلم يتعامل معها إلا بالتأويلات الباطلة كما سيأتي. كانت هذه أمثلة من وسوسة الشيطان ووحيه لعبده البهاء حيث زين له إبليس أن الله اختاره مكانا ليستقر فيه ولسانا يعبر به وقبلة يتوجه إليها عابدوه الذين هم في الحقيقة عابدو إبليس. وإلى القارئ الكريم توضيحا أكثر من سدنة هذا الإله الباطل وشارحي كلامه: فقد قال الجلباتيجاني في مقدمة كتابه (الفرائد) ص 15، 16:"إن عامة الناس يظنون أنه في استطاعتهم هزيمة البهائيين حيث يسألون ماذا كان دعواه "أي البهاء"؟ فإن قيل: النبوة. يقولون: ورد في حديث "لا نبى بعدي" (1) فإن قيل: المهدية. يردون عليهم بذكر الأوصاف التي وردت في الروايات، ولكنهم لا يعرفون أن قائمنا (أي البهاء) يملك منصب الربوبية". وقال بهائي هندي "إن البهائيين يعتقدون أن دور النبوة قد انتهي وعلى ذلك ما قالوا يوما: إنه نبي أو رسول. بل هم يعتقدون أن ظهوره هو عين ظهور الله" مجلة كوكب الهند 6ج6 في 24 يونيو 1927م. ويقول حيدر علي البهائي في "بهجة الصدور": "قد أذعنا وأيقنا بألوهية البهاء الذي لا يزال بلا مثال وقديم قدم الجمال". ويقول بهائي آخر وهو النقابة آل محمد في كتابه (الدليل والإرشاد): "فقد رأي الرسول صلى الله عليه وسلم الرب سبحانه وتعالى متجليا في حضرة علي محمد الباب". فما أعجب وقاحة هذا الكذاب ومدى استخفافه بعقول متبعيه إذ إن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم 1250 سنة ويقول "فالله جل جلاله يتجلى لعباده مرتين في هذه الدورة: فأولا بحضرة مظهر الربوبية المبشر الأعظم بحضرة بهاء الله السيد علي محمد الباب ثم بجمال القدم حضرة بهاء الله الذي هو المقصود الأول". وهكذا يقول البهاء عن أبيه في مكاتبه ص 138 "تجلى رب الأرباب والمجرمون خاسرون وهو الذي أنشأكم النشأة الأخرى وأقام الطامة الكبرى وحشر النفوس المقدسة في الملكوت الأعلى". هذا هو اعتقاد البهائيين في الله كفر بواح وشرك صراح ولا تساوى ثمن هذا الورق ولولا سؤال الناس عنها ما كتبناه. فمن المعلوم بالضرورة لكل مسلم أن الله أعز وأجل وأكرم وأعظم من أن يحتاج لأحد من خلقه بل كل خلقه إليه فقير وكل أمر عليه يسير لا يحتاج إلى شيء ولا يقوم بشيء بل هو قيوم السماوات والأرض وكل خلقه محتاج إليه هو الصمد الذي تقصده كل المخلوقات بحوائجها فالله هو الغني ونحن الفقراء إليه يملك كل شيء ولا يحيط به شىء.   (1) رواه البخاري (3455) ومسلم (1842). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 470 قال الله تقدس في عليائه وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا [النساء: 131 - 133] وقال يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15 - 17] وأما ادعاء هذا الأفاك أن الله يحل في خلقه ويتحد بهم فهذا في حد ذاته كفر إذ إن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ [السجدة: 4 - 5] وقال سبحانه: أَأَمِنتُم مَّنْ فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك:16] وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في البخاري ((ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء)) (1) فالآيات والأحاديث صريحة في أن الله تعالى مستوٍ فوق عرشه فوق السموات السبع غير مخالط لخلقه ولا حالّ بينهم هذا ما جاءت به الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة فمن اعتقد غير ذلك من أن الله بين خلقه أو أنه سبحانه متحد بهم فقد كذب بالقرآن وكفر بالرحمن. المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري وقلد البهائية الفلاسفة فيما يدعونه من قدم العالم ففي كتاب (بهاء الله والعصر الجديد): (علم بهاء الله أن الكون بلا مبدأ زمني فهو صادر أبدي من العلة الأولى وكان الخلق دائما مع خالقه وهو دائما معهم) وقد تصدى أهل العلم الراسخ لتزييف ما تعلق به هؤلاء في الاستدلال على هذا الرأي وحققوا أن المعلول لابد أن يتأخر عن العلة في الوجود إذ معنى العلة ما أفاض على الشيء الوجود والمعلول ما قبل منه هذا الوجود ولا معنى لإفاضة الوجود على الممكن إلا إخراجه إلى الوجود بعد أن كان في عدم وذلك معنى الحدوث المصدر: رسائل الإصلاح لمحمد الخضر حسين – 2/ 187   (1) رواه البخاري (4351) ومسلم (1064) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 471 ثانيا: عقيدتهم في الأنبياء أما عقيدة البهائية في الرسل والأنبياء فهي الأخرى تنضح بتقديس البهاء إذ يرفعونه فوق كل الرسل والأنبياء فيزعمون أن كل الرسل جاءت لتبشر به وأن الله يظهر لعباده من خلال رسله والبهاء هو أكمل الهياكل التي يظهر فيها الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ويزعمون أن باب الرسالة مفتوح لم يغلق وأن كل دورة - مصطلح مخترع- لها رسول والدورة ألفا عام (2000 عام) وأن هذه دورة البهاء. ومن دراسة التاريخ نعلم أن بين عيسى عليه السلام وبين محمد صلى الله عليه وسلم واحدا وسبعين وخمسمائة عام (571 سنة) وكان لوط وإسماعيل معاصرين لإبراهيم وكان يوشع معاصرا لموسى وكان زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام في زمن واحد وكان يوسف معاصرا ليعقوب عليهم صلاة الله وسلامه أجمعين، فأي كذب يتكلم به هؤلاء. وقد ختم الله بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم باب الرسالات وأكمل به الدين وأتم به النعمة على المسلمين فما الحاجة إلى رسول جديد بعدما أتم الله الدين الذي ارتضاه لخلقه قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3] ويحاول هؤلاء التلاعب بنصوص الكتاب والسنة وتحريفها لأنهم يعلمون أن المسلمين سيكذبونهم فقد قال الله تعالى: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب:40] فهم يحاولون المراوغة فيتكلمون بما يكشف جهلهم باللغة العربية فيقولون خاتم النبيين وليس خاتم المرسلين وقد كان البهاء رسولا لا نبيا، ورحم الله الشيخ عبد الحميد كشك لما جاءه بهائيون يناقشونه في أن بهاءهم رسول وليس نبيا، قال (فقلت لهم عرفوا لنا النبوة والرسالة فكان الجواب جهلا فقلنا لهم القاعدة الأصيلة في العقائد أنه لا نبوة بلا وحى ولا رسالة بلا نبوة ومن لم يوح إليه فليس نبيا ومن انتفت نبوته فقد انتفت رسالته إذ لا رسالة بلا نبوة). وأما قولهم خاتم النبيين أي: حلية النبيين فمنشأه جهلهم الكبير باللغة إذ إن الخاتم في اللغة آلة الختم والطبع على الشيء دلالة على آخره، قال ابن منظور في لسان العرب: (خِتامُ القَوْم وخاتِمُهُم وخاتَمُهُم آخرُهم وخاتم النبيين آخرهم) وبهذا المعنى فسر المفسرون الآية. قال القرطبي رحمه الله في تفسيره نقلا عن ابن عطية في تفسير الخاتم بالآخر قال (هذه الألفاظ عند جماعة علماء الأمة خلفا وسلفا متلقاة على العموم التام مقتضية نصا أن لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم) ثم رد على تفسير الخاتم بالحلية بقوله (وهذا إلحاد عندى وتطرق خبيث إلى تشويش عقيدة المسلمين في ختم محمد صلى الله عليه وسلم النبوة فالحذر الحذر منه والله الهادي لرحمته) انتهي كلام القرطبي رحمه الله. وقد روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضوع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضع هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين)) (1).وفي رواية مسلم ((فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء)) (2).وروى البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم واللفظ للترمذى من حديث جبير بن مطعم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لي أسماءً أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي)) (3).   (1) رواه البخاري (3535) ومسلم (2286). (2) رواه مسلم (2287). (3) رواه البخاري (3532) ومسلم (2354). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 472 ولقد تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهور هؤلاء الكذابين الأفاكين الذين يوحى إبليس إليهم ويزين لهم سوء أقوالهم وأعمالهم. فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريبا من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله)) (1). هكذا رواه البخاري باب علامات النبوة وروى مسلم في كتاب (الفتن وأشراط الساعة) من حديث أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم)) (2). وقال الإمام ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ لنَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] بعد ما ذكر ما سبق من الأحاديث الدالة على ختم الرسالة برسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: "وقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المتواترة عنه أنه لا نبي بعده ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب وأفاك دجال ضال مضل "اهـ. وقال رحمه الله: "وكل واحد من هؤلاء الكذابين يخلق الله تعالى معه من الأمور ما يشهد العلماء والمؤمنون بكذب من جاء بها وهذا من تمام لطف الله تعالى بخلقه فإنهم بضرورة الواقع لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر ويكونون في غاية الإفك والفجور في أقوالهم وأفعالهم كما قال تعالى: هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم [الشعراء:221،222] الآية وهذا بخلاف حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنهم في غاية البر والصدق والرشد والاستقامة والعدل فيما يقولونه ويفعلونه ويأمرون به وينهون عنه مع ما يؤيدون به من الخوارق للعادات والأدلة الواضحات والبراهين الباهرات فصلوات الله وسلامه عليهم دائما مستمرا ما دامت الأرض والسماوات" وقد علم ذلك الأفاك الأثيم الذي تنزلت عليه الشياطين المدعو بالبهاء أن الناس قد يتساءلون عن معجزاته الحسية إذ إن سنة الله ماضية في أنبيائه بتأييدهم بالمعجزات وكذلك سنته جل وعلا ماضية في خذلان الأفاكين والكذابين وفضحهم وإظهار عجزهم فذهب هذا الكذاب إلى إنكار المعجزات التي أجراها الله على أيدي الأنبياء تأييدا لهم كعصا موسى وناقة صالح وإحياء عيسى الموتى وإبرائه الأكمه وانشقاق القمر لمحمد عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين. فأخذ يتلاعب بمعاني هذه النصوص في الكتب السماوية ويؤولها تأويلا باطلا لا يقره من له أدنى علم باللغة لكي لا تدل على حصول إعجاز للأنبياء فلا يطالبه أحد بمعجزة فجعل عصا موسى هي عصا الأمر والحية هي ثعبان المقدرة واليد البيضاء بيضاء المعرفة ونفى معجزة عيسى أنه أبرأ الأكمه والأبرص فجعل الأكمه (الجاهل) وإبراءه بالعلم والأبرص (الضال) وإبراءه بالهداية وأوّل إحياء الموتى بتعليم الجاهل وما أرى ذلك إلا حقدا منه على أنبياء الله ورسله إذ أيدهم الله بالمعجزات وأخزاه هو على رءوس الأشهاد. المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري   (1) رواه البخاري (3609) (2) رواه مسلم (7). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 473 ثالثا: عقيدتهم في اليوم الآخر القيامة الكبرى عند البهائيين هي ظهور البهاء فهم ينكرون البعث والقيامة والحساب والثواب والعقاب ويؤولون آيات القيامة في القرآن بتأويلات عجيبة فيجعلون "يوم الدين" في الفاتحة أي يوم ظهور الدين الجديد. العشار عطلت: أي استبدلت الإبل بالمراكب. وإذا الشمس كورت: أي ذهبت شمس أحكام محمد. وإذا النجوم انكدرت: أي انكدرت شمس علماء محمد وضعفوا. وإذا الوحوش حشرت: أي في حدائق الحيوان. وإذا النفوس زوجت: أي النفوس الحيوانية والنباتية وظهر منها حيوانات ونباتات جديدة ذات صفات جديدة. وغير هذا من التأويلات المضلة، ومعلوم أن الآيات السابقة جميعها تتحدث عن يوم القيامة. كذلك يفسرون مجيء الله يوم القيامة مثل قوله وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22] أنه مجيء البهاء في مقابلة الحاكم مع جنوده. كذلك ينكر البهائيون الملائكة فيجعلونهم المؤمنين بعقيدتهم ويجعلون الشياطين هم أهل بقية الملل. المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري قال في كتاب (بهاء الله والعصر الجديد): (وطبقا للتفاسير البهائية يكون مجيء كل مظهر إلهي عبارة عن يوم الجزاء إلا أن مجيء المظهر الأعظم بهاء الله هو يوم الجزاء الأعظم للدورة الدنيوية التي نعيشها). وقال: (ليس يوم القيامة أحد الأيام العادية بل هو يوم يبتدئ بظهور المظهر ويبقى ببقاء الدورة العالمية). وهذا ما يفسرون به يوم الجزاء ويوم القيامة ويفسرون الجنة بالحياة الروحانية والنار بالموت الروحاني قال في هذا الكتاب: (إن الجنة والنار في الكتب المقدسة حقائق مرموزة). فعندهما (أي البهاء وابنه العباس) الجنة هي حالة الكمال والنار حالة النقص فالجنة هي الحياة الروحانية والنار هو الموت الروحاني هذا ما يقوله البهائيون وكذلك ينقل لنا أبو حامد الغزالي أن الباطنية يقولون: (كل ما ورد من الظواهر في التكاليف والحشر والأمور الإلهية فكلها أمثلة ورموز إلى بواطن). وساق بعد هذا أمثلة من تأويلهم الفاسق عن قانون اللغة والعقل وقال: (هذا من هذيانهم في التأويلات حكيناها ليضحك منها ونعوذ بالله من صرعة العاقل وكبوة الجاهل) المصدر: رسائل الإصلاح لمحمد الخضر حسين – 2/ 189، 190 ويعتقدون أن ما ذكر من البعث والحساب والجزاء وسائر أخبار القيامة فإنها تدل على ما يقع في هذه الحياة الدنيا عند مجيء البهاء، لا أنها أمور تقع في دار أخرى يجازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته حسب ما فصلته الأديان السماوية فيما أخبر الله عز وجل به في كتابه الكريم وسنة نبيه العظيم صلوات الله وسلامه عليه. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 706 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 474 رابعا: موقفهم من القرآن والسنة وكتابهم المقدس عندهم أولا: موقف البهائية من القرآن الكريم لقد لعب التأويل دوراً خطيراً في مفاهيم الناس، وقد سبقت الإشارة إلى بعض أضراره العديدة على الإسلام والمسلمين، والغرض هنا هو ذكر بعض الأمثلة التي تبين كيف جرؤت البهائية على التلاعب بالنصوص وأولتها على طريقتها الباطنية الملحدة، ومن ذلك: ما ورد من ذكر القيامة في القرآن قالوا: إن المقصود بها قيامة البهاء بدعوته وانتهاء الرسالة المحمدية. النفخ في الصور دعوة الناس إلى اتباع البهاء. البرزخ هي المدة بين الرسولين أي محمد صلى الله عليه وسلم والباب الشيرازي. وفي قوله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1] أي ذهب ضوؤها: أي انتهت الشريعة المحمدية وجاءت الشريعة البهائية. وفي قوله تعالى: وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ [التكوير:4] أي تركت الإبل واستبدل عنها بالقاطرات والسيارات والطائرات. وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير:5] أي جمعت في حدائق الحيوانات في المدن الكبيرة. وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6] أي اشتعلت فيها نيران البواخر التجارية. وقوله تعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التكوير:7] أي اجتمعت اليهود والنصارى والمجوس على دين واحد فامتزجوا في دين الميرزا المازندراني. وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ [التكوير:8] أي أسقطت الأجنة من بطون الأمهات فيسأل عن ذاك من قبل القوانين؛ لأنها تمنع الإجهاض. وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [التكوير:10] أي انتشرت الجرائد والمجلات وكثرت. وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ [التكوير:11] أي انقشعت، أي أن الشريعة الإسلامية لم يعد يستظل بها أحد. وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ [الانفطار:3] أي وصل بعضها ببعض عن طريق القنوات. وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ [التكوير:12 - 13] الأولى لمن عارض الميرزا حسين، والثانية لأتباعه المؤمنين به. وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [الانفطار:4] أي استخرجت الأشياء والتحف ذات القيمة. وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [التكوير:3] الجبال هنا هم الملوك والوزراء أي دونوا لهم دساتير يسيرون بموجبها، وهي الدساتير الحديثة. وقوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ [الأعراف:53] إلى آخر الآية الكريمة أي مجيء البهاء المازندراني. وقوله تعالى: يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم: 27] قالوا الحياة الدنيا هي الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والآخرة هي الإيمان بميرزا حسين علي البهاء. وقوله تعالى: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ [الأعراف:29 - 30] قالوا: الفريق المهتدي هم الذين آمنوا بالبهاء، والآخرون هم الذين أبوا الإيمان به. وقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [الروم:55 - 56] أي علم دين بهاء الله والإيمان به، لقد لبثتم في كتاب الله –الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم – أي لبثتم في إقامة كتاب الله وهو القرآن الكريم والعمل بشريعته المطهرة إلى يوم البعث؛ أي إلى قيام بهاء الله وظهوره، فهو المراد بالبعث، أي خروج الناس من دين محمد صلى الله عليه وسلم إلى دين البهاء. وقوله تعالى: إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ [الإنفطار:1] أي سماء الأديان انشقت. وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ [الانفطار:2] هم رجال الدين لم يبق لهم أثر على الناس. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 475 وقوله تعالى: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [الانفطار:4] أي فتحت قبور الآشوريين والفراعنة والكلدانيين لأجل الدراسة. وقوله تعالى: وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:76] قالوا: القصد منها: الأديان السبعة البرهمية البوذية، والكونفوشستية، الزرادشتية، واليهودية، والنصرانية، والإسلام، أنها مطويات جميعاً بيمين الميرزا حسين المازندراني. إلى غير ذلك من التأويلات الباطنية الشنيعة لآيات القرآن الكريم والكذب على الله تعالى دون مبالاة أو خوف لا من الله، ولا من انتقاد عقلاء بني آدم على هذا الصنيع الفاحش من هؤلاء السفهاء (1). وهناك تحريفات أخرى كثيرة كلها تهدف إلى شيء واحد هو محاولة حرب الإسلام وانتزاعه من قلوب أتباعه بطريقة ماكرة. وهذه التحريفات لا يحتاج المسلم إلى الاطلاع على الرد عليها؛ فهي أقل من أن تعلق بذهن أحد، إلا أن المهم في هذه التأويلات هو معرفة الدافع لهؤلاء إلى اقتحام هذه التأويلات السخيفة. يجيب الدكتور محسن عبد الحميد عن ذلك بقوله: (والجواب أنهم يحاولون ذلك لكي يتوصلوا عن طريق تلك الأباطيل إلى أن القرآن قد بشر بمجيء البهاء، فموجب هذه التأويلات وغيرها أن نبياً سيظهر ولكن متى؟ الجواب: عند ظهور القاطرات وإنشاء حدائق الحيوانات وصنع البواخر والسفن وامتزاج النصارى واليهود والمجوس وشق القنوات وفتح قبور الآشوريين والفراعنة والكلدانيين وإجهاض الأطفال) (2)! المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 716 - 720 ثانيا: موقفهم من السنة النبوية: وكما أولوا آيات القرآن الكريم أولوا كذلك الأحاديث النبوية على طريقتهم الباطنية الملحدة التي زعموا أن الأحاديث كلها شأن القرآن تدل على نهاية الشريعة المحمدية وظهور القيامة بمجيء البهاء، على قلة ما التفتوا إلى السنة؛ لأن البهاء في أنفسهم أعلى من الرسول صلى الله عليه وسلم-وأخزى الله البهائية (3). ولأن السنة والحديث- كما صرح البهائي الحاقد الدكتور محمد رشاد خليفة- إنما هي بدع شيطانية والوقوف على ظاهرها دون تأويلها بظهور البهاء يعتبر كفراً بالرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، ويعتبر خروجاً بالأمة إلى الشرك والضلال-كما زعم هذا الكذاب- وهذه التصريحات أصدرها في سنة 1982م وهو إمام مسجد توسان بولاية أريزونا الأمريكية باسم رشاد خليفة بحذف اسم محمد لأشياء في نفسه. وقد أضاف إلى افتراءاته وإلحاده فزعم أن القرآن حذر المسلمين عن أخذ الدين عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يجب أن يأخذوه عن القرآن فقط. وهذا القول يكفي في رده قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) (4). ثم زعم أن المسلمين رجعوا إلى الوثنية حينما عظموا الرسول صلى الله عليه وسلم ومجدوه وقد أمر الله أن يمجدوه ويعظموه هو وحده.   (1) انظر لهذه التحريفات وغيرها: ((حقيقة البابية)) (ص: 126 - 128)، ((قراءة في وثائق البهائية)) (ص: 277)، ((عوان القيامة البهائية)) إلى (ص: 302)، وكذا عنوان ((قيام الساعة البهائية وانتهاء أجل الأمة المحمدية)) (ص: 303 - 322). (2) انظر: ((حقيقة البابية والبهائية)) (ص: 126 – 128). (3) لا يؤمن البهائية بالسنة النبوية، ولا يأخذون من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ما يوافق هواهم مما يتعلق بالفضائل التي يعتبرونها من الأدلة الثابتة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي أحاديث موضوعة لا تثبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فإن البهائيين يتفننون في نشرها، انظر: ((البهائية للخطيب)) (ص: 41 - 43). (4) رواه البخاري (6120). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 476 ومما يجدر التنبيه إليه أن البهائيين المتأخرين قد اتخذوا مسلكاً أخبث وأمكر من مسلك أسلافهم، وذلك بظهورهم أمام المسلمين بتعظيم الإسلام ونبي الإسلام، وأن الإسلام حق والرسول محمد صلى الله عليه وسلم حق، وأنه لا تنافي بين الإيمان بنبي الإسلام وبين الإيمان بنبي البهائية؛ لأن الإسلام نفسه قد بشر بنبي البهائية كثيراً في القرآن وفي السنة. فالذي لا يؤمن بالبهائية بعد أن قامت القيامة وانتهي الدور المحمدي بظهور البهاء لا يكون مؤمناً لا بالإسلام ولا بالبهائية ولا بالله أيضاً؛ فإن الأساس للإيمان هو الإيمان بالبهاء المازندراني الملحد. وينتهي الإيمان عند البهائية أن يتخذه الشخص إلهاً من دون الله، وصدق الله العظيم: وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [غافر:33]. فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 721، 722 ثالثا: كتاب البهائية الذي يقدسونه: ادعى حسين علي المازندراني الألوهية. ومن هنا كان حتماً عليه أن ينزل الكتب المقدسة ويبيّن لعباده ما يريد حسب أوهامه. فكان أن جاء بكتابه (الأقدس) وجاء فيه بما يستحي طالب العلم المبتدئ في الطلب من نسبته إلى نفسه، فكان بحق أحط كتاب، وصيغ بأردأ العبارات، وحشي بألفاظ وعبارات تنضح جهلاً، تنفر من معانيه النفوس، وتأنف من سماعه الأسماع، ألفّه ولفّقه المازندراني، وزعم أنه أفصح وأشرف كتاب منزل على الإطلاق، وفضله على كتب الله المنزلة على رسله الأخيار، ثم نسخ به جميع الكتب السابقة وفي أولها القرآن الكريم. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 727 ألف البهاء كتاب (الأقدس) وزعم أنه نزل من سماء المشيئة الإلهية (مع زعمه أنه الإله) ويقع الكتاب في 22 صفحة من الحجم المتوسط والناظر في هذا الكتاب يجد نفسه أمام افتراء واضح صريح المصدر: الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة لناصر القفاري وناصر العقل - ص 162 ولا تسأل عما فيه من الألفاظ الشنيعة والمعاني الركيكة والأخطاء اللغوية والتراكيب الغامضة، قراءته مملة ثقيلة على النفس، وقد قرأته عدة مرات؛ لأنه كتيب، وكلما قرأته ازددت غيظاً وغماً من تبجح مؤلفه واستكباره الذي فاق استكبار فرعون وهامان وقارون، فإنه كله مدح لنفسه ولبهائه ولجودة قريحته وعمق تفكيره، وإحاطته علماً بما كان وما يكون، وسماعه ضجيج أصوات الذرية في أصلاب آبائهم. ومخاطبة الملوك والرؤساء وندائهم إلى الأخذ بديانته، ومخاطبة بعض الأراضي أيضاً مثل قوله: يا أهل البهاء، يا معشر العلماء، يا ملاّء الإنشاء، يا عبادي، يا معشر الملوك، قل لي يا ملك البرلين أسمع النداء من هذا الهيكل المبين. يا معشر الأمراء اسمعوا، يا شواطئ نهر الرين، يا معشر الروم، يا أرض الطاء، يا أرض الخاء، يا بحر الأعظم، قل يا قوم، يا ملك النمسا، يا ملوك أمريكا. هذه هي النداءات التي يكررها في كتابه. وقبل إيراد بعض الأمثلة من ذلك الكتاب أودّ التنبيه إلى أنك حينما تقرأ فيه تحتار حيرة شديدة في معرفة مصدره، فهو مرة يأتي بآياته كما يسميها على أنها من الله تعالى لشخصه مباشرة، ومرة يأتي بها على أنه هو الله الذي تكلم به كما اقتضت إرادته، ومرة يأتي بها على أنها من إنشائه هو، ومرة يُظهر فيها العلو والاستكبار إلى أبعد الحدود، ومرة يُظهر نوعاً من التواضع. وهكذا يخرج منه قارئه وهو أشد جهلاً به، حتى في الآيات التي يزعم فيها بيان بعض الأحكام ففيها من التعقيد وركاكة الأسلوب ما لا يكاد يفهم إلا بكلفة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 477 ولكي يطلع القارئ الكريم على بعض تلك الآيات التي لفقها المازندراني نورد الأمثلة الآتية من كتابه الأنجس وليس (الأقدس)، وهو موجود ضمن كتاب (خفايا الطائفة البهائية) بنصه كاملاً كما تقدمت الإشارة إليه. فمن ذلك زعمه أنه قد أحاط بعلم ما في اللوح وقرأه والناس غافلون، وأنه دخل مكتب الله-هكذا بهذا الأسلوب- والناس راقدون. النص: (يا ملاّء البيان إنا دخلنا مكتب الله إذ أنتم راقدون، ولا حظنا اللوح إذ أنتم نائمون، تالله الحق قد قرأناه قبل نزوله وأنتم غافلون) (1) رده على المخالفين له الذين يدعون أنهم علماء أكثر منه مع أنه أحاط بالعلم ولم يترك لهم منه إلا مثل ما تترك العظام للكلاب. النص: (ومنها- أي من الناس- من يدعي الباطن وباطن الباطن، قل: أيها الكذاب تالله ما عندك أنه من القشور تركناها لكم كما تترك العظام للكلاب) (2) وقال في بيانه لمنزلة كتابه (الأقدس): (لا تحسبن أنا أنزلنا لكم الأحكام، بل فتحنا ختم الرحيق المختوم بأصابع القدرة والاقتدار، يشهد بذلك ما نزل من قلم الوحي تفكروا يا أولي الأفكار) (3).ويندب حظ من أعرض عن ذكره بقوله: (من الناس من غرته العلوم وبها منع عن اسمي القيوم، وإذا سمع صوت النعال من خلفه يرى نفسه أكبر من نمرود قل: أين هو يا أيها المردود تالله إنه لفي أسفل الجحيم) (4).ويقول في تفضيل كلامه: (من يقرأ من آياتي لخير له من أن يقرأ كتب الأولين والآخرين، هذا بيان الرحمن- يعني نفسه- إن أنتم من السامعين، قل: هذا حق العلم لو أنتم من العارفين) (5).إلى أن قال: (لو يقرأ أحداً به من الآيات بالروح والريحان خير له من أن يتلو بالكسالة صحف الله المهيمن القيوم) (6). (قل: تالله لا تغنيكم اليوم كتب العالم ولا ما فيه من الصحف إلا بهذا الكتاب الذي ينطق في قطب الإبداع أنه لا إله إلا أنا العليم الحكيم) (7) إلى آخر إفكه وإلحاده وجهله بجميع الأديان. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 727 - 730 ويقول في تعليم أتباعه دفن الموتى: "قد حكم الله دفن الأموات في البلور أو الأحجار الممتنعة أو الأخشاب الصلبة اللطيفة ووضع الخواتيم في أصابعهم إنه لهو المقدر العليم. يكتب للرجال ولله ملك السموات وأرض وما بينهما وكان الله بكل شيء عليما وللورقات ولله ملك السموات وما بينهما وكان الله على كل شيء قديرا " المصدر: الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة لناصر القفاري وناصر العقل - ص 162، 163 فـ الكتاب عبارة عن أفكار صوفية يهيم بها صاحبها في أودية الخيال وسنوحات الفكر لا ترقى إلى درجة الكتب العلمية البشرية بله أن تكون كلاما موحى به من الله عز وجل وإليك بعض عبارات الكتاب: يقول في أوائل كتابه: (قد ماجت بحور الحكمة والبيان بما هاجت به نسمة الرحمن اغتنموا يا أولي الألباب) (8).ويقول: (قد تكلم لسان قدرتي في جبروت عظمتي مخاطبا لبريتي أن اعملوا حدودي حبا لجمالي طوبى لحبيب وجد عرف المحبوب من هذه الكلمة التي فاحت منها نفحات الفضل على شأن لا توصف بالادكار لعمري من شري رحيق الإنصاف من أيادي الألطاف أنه يطوف حول أوامري المشرقة من أفق الإبداع) (9)   (1) ((الأقدس)) (ص: 182). (2) ((الأقدس)) (ص: 147). (3) ((الأقدس)) (ص: 141). (4) ((الأقدس)) (ص: 149). (5) ((الأقدس)) (ص: 173). (6) ((الأقدس)) (ص: 176)، وهكذا في الأصل ((أحداً)). (7) ((الأقدس)) (ص: 181). (8) ((الأقدس)) (ص: 140). (9) ((الأقدس)) (ص: 140). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 478 أما عبارات الكتاب وأسلوبه فهي واضحة العجمة بائنة اللكنة التي يكتب بها المبتدئون في تعلم العربية ولعل القارئ قد لاحظ ذلك أثناء قراءته لبعض نصوص الكتاب التي وردت في أجزاء متفرقة من البحث، ولا بأس بإثبات بعض النصوص هنا كنماذج مستقلة لزيادة الإيضاح والبيان: فمن ذلك مثلا قوله: (قد أخذهم سكر الهوى على شأن لا يرون مولى الورى) (1).وكذلك قوله: (وله أن يصبر سنة كاملة لعل تسطع بينهما رائحة المحبة) (2).ويقول كذلك: (قد أخذتنا الأحزان بما رأيناك تدور لاسمنا ولا تعرفنا أمام وجهك) (3).ويقول: (قل إن العيد الأعظم لسلطان الأعياد اذكروا يا قوم نعم الله عليكم إذ كنتم رقداء أيقظكم من نسمات الوحي وعرفكم سبيله الواضح المستقيم) (4).ويقول: (إن في ذلك لحكم ومصالح لم يحط بها علم أحد إلا الله العالم الخبير) (5). هذه بعض الأخطاء الواردة في كتاب البهائية المقدس عندهم والذين يزعمون أنه وحي السماء المصدر: عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية لأحمد بن سعد الغامدي - ص 227، 228 شعور البهائيين بافتضاح أمرهم بهذا الكتاب: وقد شعر البهائيون بانكشاف أمرهم فلم يطبعوا كتاب (الأقدس) من مدة طويلة بل كانوا يمنعون أتباعهم من طبعه خوفا من الخزي والفضيحة فهذا هو ابن البهاء عباس والذي ورث عن أبيه زعامة البهائية يرد على من يستأذن منه طبع (الأقدس): إن الكتاب (الأقدس) لو طبع لانتشر ووقع في أيدي الأراذل والمتعصبين لذا لا يجوز طبعه". كل ذلك خوف انكشاف أمرهم وتآمرهم المصدر: الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة لناصر القفاري وناصر العقل - ص 162، 163   (1) وانظر ((الأقدس)) (ص: 153، 158، 168، 171، 174)، فقد كرر عبارة على شأن عدة مرات. (2) ((الأقدس)) (ص: 155)، وقد كرر لعل هذه في (ص: 172، 173). (3) ((الأقدس)) (ص: 160). (4) ((الأقدس)) (ص: 167). (5) ((الأقدس)) (ص: 163). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 479 خامسا: البهائية والإباحية الدين البهائي دين جاء في الأصل لهدم الشريعة ونسخها وفتح باب الإباحية على مصرعيه فهؤلاء قوم أرادوا أن يكون العري الفاضح دينا ونكاح الرجل محارمه شرعا لذلك فقد استحلوا كثيرا مما حرم الله ومن ذلك إباحة الفروج المحرمة بشتى الصور والمحرم الوحيد عند البهائية هو نكاح زوجة الأب أما نكاح بقية المحارم فلم يحرمها البهاء ولا غيره. فنكاح الأخت أو الابنة أو العمة أو الخالة أو بنت الابن أو بنت الأخ أو غير ذلك من المحارم لا يوجد ما يحرمه عند البهائيين بل قد جاء في ملحقات كتابهم الأنجس (الأقدس) رسالة سؤال وجواب السؤال رقم خمسين ص 137: سؤال: بخصوص تحريم وتحليل زواج الأقارب. جواب: ترجع هذه الأمور أيضاً إلى أمناء بيت العدل. فالسؤال عن نكاح الأقارب أيا كانت درجة القرابة فلا بأس به فقط عليه أن يراجع بيت الظلم الذي يسمونه بيت العدل. ولم يرد في كتبهم دليل تحريم لمحرم غير زوجة الأب قال البهاء في (الأقدس) ص 74 "قد حرمت عليكم أزواج آبائكم" فقط؟!! نعم هذا ما ورد تحريمه عندهم فقط وقد نقلنا لك في المقدمة عن الباطنية كيف أن أحدهم يعجب من المسلمين أنهم يزوجون بناتهم للأجانب ويحرمونهن على أنفسهم حيث يقول " وأعجب من هذا في دينهم ـ أي المسلمين ـ أن الواحد منهم تكون له ابنة حسناء يحرمها على نفسه ويبيحها للأجنبي ولو كان له عقل لعلم أنه أولى بها من الرجل الأجنبي ولكنهم قوم خدعهم رجل بشيء لا يكون أبدا خوفهم بالقيامة والنار ومناهم بالجنة واستعبدهم". بل وقد قال واحد منهم ممن ادعوا النبوة يقال له (على بن الفضل) أبيات شعر يقرر فيها إباحة نكاح المحارم فيقول: خذي الدف يا هذه والعبي وغني هزاريك ثم اطربي تولى نبى بني هاشم وهذا نبي بني يعرب لكل نبي مضى شرعة وهذى شرائع هذا النبي فقد حط عنا فروض الصلاة وحط الصيام فلم تتعب إذا الناس صلوا فلا تنهضي وإن صاموا فكلي واشربي ولا تطلبي السعي عند الصفا ولا زورة القبر في يثرب ولا تمنعي نفسك المعرسين من الأقربين ومن أجنبي فكيف حللت لهذا الغريب وصرت محرمة للأب أليس الغراس لمن ربه ورواه في الزمن المحدب وما الحمراء إلا كماء السماء محل فقدست من مذهب فهذا هو حالهم فهل تعلمون على وجه الأرض ملة أكفر من هذه ملة التي فاق كفرها كفر اليهود والنصارى والهنود المشركين؟! حتى إن البهاء لم يحرم اللواط فقال حين تحدث عنه في أقدسه الأنجس ص 64 (إنا نستحي أن نذكر حكم الغلمان). ماذا يستفاد من هذا النص؟ هل اللواط حرام أم حلال؟ وإن كان حراما فهل يستحي من ذكر تحريمه؟؟ أم أنه استحى من ذكر إباحته؟ وإلا فإنه لا يستحي أحد من الحق وعلى كل فقد ترك الباب مفتوحا بقولته هذه فلم ينص على التحريم. وانظر إلى تناقض البهاء حين يحرم اتخاذ الإماء ويبيح للإنسان أن يتخذ خادماته لخدمة شهوته. يقول في كتاب (الأقدس) ص 38 (قد كتب الله عليكم النكاح إياكم أن تجاوزوا عن الاثنين والذي اقتنع بواحدة من الإماء استراحت نفسه ونفسها، ومن اتخذ بكرا لخدمته لا بأس عليه). ما حكمة ذكر الخادمة في سياق ذكر النكاح؟ وهل ينتقي الرجل خادمته لتقوم بالأعمال والمهنة وفقا لعذريتها؟ أم إنها ستكون في خدمة شهواته؟ فمنع البهاء أن يشتري الرجل أمة تبقى في كنفه وأباح أن يستبدل كل يوم خادمة. ثم ترى الأعجب حين يبيح الزنا للأغنياء ويحرمه على الفقراء. قال في (الأقدس) ص 31 (قد حكم الله لكل زان أو زانية دية مسلمة إلى بيت العدل تسعة مثاقيل ذهب). هكذا الزنا مباح مقابل المال فمن لا يملك المال فعليه ألا يزني. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 480 وليس هناك ما يفصح عن إباحية البابية والبهائية أكثر من خطبة "قرة العين" التي ألقتها في مؤتمر "بدشت" 1264هـ بمشاركة البهاء حسين المازندراني حيث قالت:- (اسمعوا أيها الأحباب والأغيار إن أحكام الشريعة المحمدية قد نسخت الآن بظهور الباب وإن أحكام الشريعة الجديدة البابية لم تصل بعد إلينا , وإن انشغالكم الآن بالصوم والصلاة والزكاة وسائر ما أتى به محمد كله عمل لغو وفعل باطل ولا يعمل بها بعد الآن إلا كل غافل وجاهل. إن مولانا الباب سيفتح البلاد ويسخر العباد وستخضع له الأقاليم المسكونة وسيوحد الأديان الموجودة على وجه البسيطة حتى لا يبقى إلا دين واحد وذلك دين الحق هو دينه الجديد. وبناء على ذلك أقول لكم وقولي هو الحق: لا أمر اليوم ولا تكليف ولا نهي ولا تعنيف فاخرجوا من الوحدة إلى الكثرة ومزقوا هذا الحجاب الحاجز بينكم وبين نسائكم بأن تشاركوهن بالأعمال واصلوهن بعد السلوة وأخرجوهن من الخلوة إلى الجلوة فما هن إلا زهرة الحياة الدنيا وإن الزهرة لا بد من قطفها وشمها لأنها خلقت للضم والشم ولا ينبغي أن يعد أو يحد شاموها بالكيف والكم فالزهرة تجنى وتقطف وللأحباب تهدى وتتحف. وأما ادخار المال عند أحدكم وحرمان غيركم من التمتع به فهو أصل كل وزر وأساس كل وبال , ولا تحجبوا حلائلكم عن أحبابكم إذ لا ردع الآن ولا حد ولا منع ولا تكليف ولا صد فخذوا حظكم من هذه الحياة فلا شيء بعد الممات) فلما كان الهدف من كلام هذه الفاجرة هدم الدين الإسلامي وإقامة الدين الشيطاني واستحلال المحرمات وإنكار الواجبات والكفر برب الأرض والسماوات قدر الله أن تكون ميتتها ميتة سوء وأن تعدم حرقا سنة1268 هجريا , 1852 م تماما كما فعل على رضي الله عنه مع من كان على شاكلتها وصدق الله جل وعلا إذ يقول: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19] المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري الجزء: 9 ¦ الصفحة: 481 سادسا: موقفهم من المسلمين وغير المسلمين أولا موقفهم من المسلمين: يدعى البهائيون دوما أنهم دعاة محبة وسلام وأن البهائية دين لتوحيد الأديان ولكن كما قلنا هذا هو الظاهر أما الباطن فيشتمل على كره وبغض واحتقار لأمة الإسلام يماثل ما نعرفه من طريقة تحدث اليهود عن المسلمين في كتبهم. قال الله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ [محمد:29 - 30] فها هو البهاء يخرج ما في داخله من حقد حين يصف المسلمين في كتابه (الإيقان) بالهمج الرعاع في مواضع كثيرة مثل قوله في ص 145: (وجميع هؤلاء الهمج الرعاع يتلون الفرقان في كل صباح وما فازوا للآن من المقصود منه)، وقوله: (وحيث إن هؤلاء الهمج الرعاع ما أدركوا وما عرفوا معنى القيامة ولا لقاء الله لهذا غدوا محجوبين) الإيقان ص 121 وقد كرر وصف المسلمين بهذا في ص 74 وص 105 وص110وص115 وص114 وص 206. وحتى المعاصرون منهم يحملون نفس الحقد ويذكر لنا الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله موقفا حدث بينه وبين بهائي يبين ذلك حيث يقول في كتابه (أيامي) استيقظت ذات صباح في السجن فسمعت من يطرق باب الزنزانة فإذا هو رئيس البهائيين ونادى علىّّ في شماتة ظاهرة وحقد دفين وقال: يا شيخ كشك لقد أفرج عنا اليوم , ثم قال بلهجته العامية: "وخلى القرآن ينفعكم ". وصدق الله إذا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118] ثانيا: احتقار أهل بقية الأديان الأخرى: وليس هذا البغض والحقد من البهائيين على أهل الإسلام فقط وإن كانوا في الأصل موجهين إلى أمة الإسلام خاصة فترى هذا الحقد والاحتقار أيضا تجاه بقية الملل والأديان بصورة تماثل تماما نظرة اليهود لغيرهم من الأمم والشعوب والتي سجلها الله في القرآن في قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:75] وهذا عكس ما يظهر البهائيون من دعوة للمحبة والسلام والرغبة في لم شمل العالم. فها هو البهاء يصف كل من رفض خرافة البهائية وتمسك بدينه معتقدا أنه الحق بأنه كذاب وكلب وأن دينه ليس إلا مجرد ظنون وأوهام وقشور لا فائدة لها. فيقول هذا الأفاك في (أقدسه) ص 21: (لمّا جاء الوعد وظهر الموعود اختلف النّاس وتمسّك كلّ حزب بما عنده من الظّنون والأوهام) ثم يقول بعدها مؤكدا على إبراز حقده وكراهيته (ومنهم من يدّعي الباطن وباطن الباطن قل يا أيها الكذّاب تالله ما عندك إنّه من القشور تركناها لكم كما تترك العظام للكلاب) أفبعد هذا يدعى البهائيون أنهم يقدسون كل الأديان ويحترمون معتنقيها؟!! وأما عن إبادة غير البهائيين فيقول الباب على رضا الشيرازي في الباب السادس من كتابه (البيان) (قد فرض على كل ملك يبعث في دين البيان أن لا يجعل أحد كهذا على الأرض ممن لم يدن بذلك الدين وكذلك فرض على الناس كلهم أجمعون) ولاحظ الخطأ اللغوي في كلمة "أجمعون" وصوابها " أجمعين" وهي مثال للأخطاء اللغوية في كلامه الذي ادعى أنه وحي. ويقول المستشرق الإنجليزى " بروان" وهو أحد أكبر المخلصين للبهائية والبابية في كتابه (نقطة الكاف) (إن البابيين كانوا يعدون كل من لم يؤمن بالباب نجسا وكانوا يرون وجوب قتله) كما اعترف عباس أفندي عبد البهاء في إحدى رسائله في (مكاتيب عبد البهاء) ج2 ص266 فقال (كان في يوم ظهور حضرة الأعلى حسين على الملقب بالبهاء أن يضرب الأعناق ويحرق الكتب ويهدم البقاع ويقتل كل من لا يؤمن بالباب ويصدقه). إلا إسرائيل: ولأن البهائية صنعة صهيونية ماسونية في الأصل واليهود هم أخبر الناس بخطرها الداهم على المجتمعات وهم مسيروها في نفس الوقت فإنك لن تجد بهائيا إسرائيليا واحدا " بل إن الإدارة البهائية لاتسمح إطلاقا أن ينشروا تعاليم دينهم في إسرائيل. " موسوعة ويكيبيديا. من المعروف أن بيت العدل البهائي وهو أعلى هيئة إدارية للملة البهائية موجود بجبل الكرمل بحيفا إسرائيل كما أن قصر البهجة الذي عاش البهاء ودفن فيه في عكا وقد أسس البهائيون حدائق في إسرائيل تزيد تكلفتها على 250 مليون دولار وكل ذلك يؤكد الارتباط الوثيق بين البهائية وإسرائيل. المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري الجزء: 9 ¦ الصفحة: 482 تمهيد البهائية- كما هو واضح من تعاليمهم ومعتقداتهم- مذهب خارج عن الإسلام، لا يتفق مع الإسلام في شيء، بل ولا مع تعاليم الديانات السماوية كلها، بعد أن وصل أتباعه بالمشئوم حسين المازندراني إلى درجة الألوهية حيث دعاهم فاستجابوا له. ويعود تأسيس هذا المذهب إلى الجهود التي بذلها أعداء الإسلام في سبيل نجاحه، حين احتضنته اليهودية العالمية لتجعل منه معولاً هداماً، وشوكة مشغلة للمسلمين والعرب بخصوصهم؛ لئلا يلتفتوا إلى أطماعهم في استعمار فلسطين وما يتبعها حسب الخارطة المرسومة عندهم لابتلاع أراضي المسلمين وإقامة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات. ومن هنا فإن تعاليم البهائية كلها قائمة على نسخ الشريعة الإسلامية حسب ما قرره أقطاب البابية في مؤتمر بدشت مستبدلين عن الشريعة الإسلامية أفكارهم الحاقدة، ومستبدلين عن نبي الهدى محمد صلى الله عليه وسلم الملحد المازندراني، ومستبدلين بالقرآن الكريم كتاب (الأقدس)، الذي زعم المازندراني وأتباعه أنه أفضل من القرآن الكريم، بل ومن كل الكتب السماوية. وتعاليمهم كثيرة بسبب إصرارهم على نسخ جميع الأديان وبقاء البهائية فقط، ولهذا طرقوا كل باب وظنوا أنهم قدموا للبشرية ما يصلحهم في دينهم ودنياهم، فكانوا كما قال الله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ اللهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:13 - 15]. وهذه الآيات العظيمة تنطبق تماماً على البهائية؛ فهم مفسدون ويزعمون أنهم مصلحون، وهم سفهاء ويظنون أنهم أوتوا علماً لم يؤته أحد قبلهم، وهم كذلك من أمهر الناس في النفاق والتملق والمراوغة، يعطون كل شخص يجدونه ما يحبه من الأقوال والأفعال، وقد أخبر الله عز وجل أن من كانت هذه صفته فإن الله يمد له في طغيانه إلى أن يصبح أضل من الأنعام ثم يجد بعد ذلك جزاء كل ما قدم. وفيما يلي نذكر أهم دعاياتهم التي ينادون بتحقيقها ليضمنوا للبشر السعادة فيما يزعمون، وهي: - وحدة جميع الأديان والالتقاء على دين واحد، لتزول الخلافات بين الناس، ومن المعروف بداهة أن ذلك الدين سيكون الدين البهائي بطبيعة الحال. - وحدة الأوطان: بحيث تنمحي المفاهيم الوطنية ولا يبقى في الأذهان إلا الوطن الذي سيختاره المازندراني لهم. - وحدة اللغة: بحيث لا يتكلم الناس كلهم بأي لغة لا محلية ولا عالمية إلا اللغة التي سينتخبها لهم المازندراني. - السلام العام والتعايش الهادئ بين كل الشعوب: كما تتعايش الخرفان، وذلك إذا طبقوا السياسة البهائية. - المساواة بين الرجل والمرأة: بحيث يصبح المجتمع كله في رتبة واحدة لا قوامة لأحد على آخر، فلا فرق بين الرجل والمرأة الكل عبيد البهاء. وهذه اللغة البارعة منه تدل على مدى إجادته للتملق والنفاق الذي لم يحققه هو نفسه في حياته ولا خلفاؤه من بعده كما سيأتي في مناقشة هذا الطلب المستحيل. وحينما قرر البهائيون هذه الأمور فرحوا فرحاً شديداً وظنوا لجهلهم أنهم اكتشفوا للعالم باباً إلى السعادة ما كانوا يعرفون الاتجاه إليه، وظنوا أن هذه الخيالات التي لا يمكن على الإطلاق أن تتم ظنوها شيئا فإذا بها سراب بقيعة، أول ما فيها تريد أن تحقق شيئا يريد الله خلافه، لأنه جعل الخلق على حال لا تتحقق فيها تلك الأحلام البهائية كلها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 483 وهم يعرفون هذا تماماً ولهذا فقد كذَّبت أفعالهم أقوالهم وتناقضوا في هذا تناقضاً فاحشاً وظهرت الحقيقة التي يهدفون من وراء مناداتهم بتلك الأسس، فإذا بها فخ بهائي لاصطياد العوام من الناس، وللتنفيس عن حقدهم الشديد على العالم والرغبة في السيطرة عليه بتلك الوسائل كلها، بما فيها تملق ونفاق المرأة وخداعها بوعود البهائية البراقة. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 676 - 678 إن من أعجب ما ادعاه البهائيون أن البهاء جاء ليوحد العالم في حين أنه يبغض كل مظهر من مظاهر الاجتماع حتى إنه حرّم الصلاة في جماعة بل حتى الحج عندهم ليس جماعيا في زمان واحد فكل بهائي يستطيع أن يحج وحده في أي وقت يريده فقد جاء المدعو بهاء بالفرقة والتشتيت لا الوحدة والاجتماع. وأنّى لمثله أن يوحد أسرة فضلا عن توحيد العالم؟ ألم يفترق هو وأخوه صبح أزل طيلة عمرهما وحاول كل منهما قتل أخيه؟ ثم حدث ذلك مع ابنيه الغصن الأعظم والغصن الأكبر إلى أن انقسمت الديانة الواحدة التي أسسوها إلى خمسة ديانات كل واحدة منها تحارب البقية وهي: البابيون الخلص والبهائيون والأزليون والناقضون والمارقون ثم يدعون بعد ذلك قدرتهم على توحيد العالم. المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري الجزء: 9 ¦ الصفحة: 484 المطلب الأول: وحدة الأديان أما الهدف الأول، وهو زعمهم أن الأديان واحدة، وأن الناس يجب أن ينبذوا كل الأديان ثم يجتمعون على دين واحد. لعل مما يوضح ماهية هذا الدين هو ذلك الإصرار من البهاء وأتباعه على أن جميع الأنبياء إنما جاءوا للتبشير بظهور هذا البهاء والاحتفاء به وبسخافاته، وأن الله تعالى قد تجلى في طلعته، وأنه هو مظهر الله الأكبر والساعة العظمى والقيامة والبعث، وأن الالتزام به وبدعوته هي الجنة، وأن النار هي ترك اتباعه. لقد كان المازندراني من أشد الناس تشبعاً بمبادئ الصوفية الإلحادية، فهو من كبار القائلين بوحدة الوجود والحلول والاتحاد التام. ومن هنا فإنه لم ير أي مانع من دعوى الألوهية. ومن المعلوم أنه ما دام البهاء هو مظهر الله في زمنه –حسب سخافاته- فإنه لا دين ولا معرفة، ولا حق ولا باطل، ولا حلال ولا حرام إلا ما جاء عن طريقه، والنتيجة من كل ذلك أن الناس يجب أن يجتمعوا على الدين البهائي فقط، ولهذا فهو يلح في تقرير وحدة الوجود بينه وبين الله، وأن الأديان كلها دين واحد، وأن الذي يمثل الله في تجليه في عصر البهائية إنما هو البهاء نفسه، وما دام الله هو البهاء فيجب أن يبقى الدين هو ما يريده البهاء. وأقوال البهاء في تقرير ألوهيته كثيرة جداً ملأ بها كتابه (الأقدس) نكتفي بذكر الأمثلة الآتية: (قل: لا يرى في هيكلي إلا هيكل الله، ولا في جمالي إلا جماله، ولا في كينونتي إلا كينونته، ولا في ذاتي إلا ذاته، قل: لم يكن في نفسي إلا الحق ولا يرى في ذاتي إلا الله) (1) ويقول أيضاً: (يا قوم طهروا قلوبكم ثم أبصاركم لعلكم تعرفون بارئكم في هذا القميص المقدس واللميع) (2). ويقول مخاطباً البابيين وغاضباً عليهم حين لم ينضموا تحت لوائه: (يا أهل النفاق قد ظهر من لا يعزب عن علمه شيء) (3). وقال في استفتاحه لكلماته التي سماها فردوسية: (كلمة الله في الورق الأول). وأما أقوال ابنه عبد البهاء عباس، وأما أقوال كبار أصحاب البهاء فحدث عن كثرتها ولا حرج، كلها تؤكد ألوهية المازندراني وأن له طبيعتين ناسوتية ولاهوتية، ولا انفصال لإحداهما عن الأخرى، وأنه المثل الحقيقي لبهاء الله تعالى فحينما وجد البهاء وجد بهاء الله متمثلاً فيه أتم تمثيل، وهذا ما جعله يضع برقعاً على وجهه لئلا يرى كل أحد بهاء الله. وقد عزمتُ على كتابة تلك النصوص عن البهائية في تقريرهم ألوهية زعيمهم، إلا أنني فترت عن إثباتها هنا، أولاً لاشمئزاز نفسي عنها، وثانياً لأنها كلها تهدف إلى إثبات ألوهية ذلك المعتوه، وإذا كان كتابه (الأقدس) غير موجود هنا حالياً، فقد كاد أن يكون بكل يسر وسهولة من خلال ما كتبه العلماء عن البهائية وعقائدهم وكتبهم. بل توجد كتب صورت ذلك الكتاب كما هو؛ مثل كتاب (البهائية الفكر والعقيدة) تأليف صالح كامل، ومثل كتاب (خفايا الطائفة البهائية) للدكتور أحمد محمد عوف، حيث نقل (الأقدس) كله، وكذا ما نقله الشيخ إحسان إلهي رحمه الله، في كتابه (البهائية نقد وتحليل)، وما كتبه الشيخ عبد الرحمن الوكيل رحمه الله، وغير ذلك من الكتب المتوفرة في المكتبات، ولهذا فإني لا أظن أن هناك حاجة إلى إثبات تلك النصوص الإلحادية التي تدمغ البهائيين في اعتقادهم أن زعيمهم المازندراني هو الله، كيف وهم أنفسهم يصرحون بربوبيته بدون أن يجدوا حرجاً في ذلك؟!   (1) ((كتاب الأقدس ضمن خفايا الطائفة البهائية)) (ص: 126). (2) ((مبين للمازندراني)) (ص: 30)، نقلاً عن ((البهائية نقد وتحليل)) (ص: 71). (3) ((إشراقات للمازندراني)) (ص: 144)، نقلاً عن ((البهائية تاريخها وعقيدتها)) (ص: 235، 236). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 485 أما زعمهم أنهم السابقون إلى تقرير وحدة الأديان والاجتماع على الدين الحق والأخوة الصادقة واحترام كل شخص للآخر في إطار الإيمان بالله تعالى وبرسله، فلا يجهل أحد من المسلمين أن هذه الفكرة ليست من بنات أفكار المازندراني ولا من وحيه، وإنما هذا مبدأ إسلامي قرره الله في القرآن الكريم والنبي العظيم، وليس للبهاء فيها إلا تلك العبارات التي أراد أن يحاكي بها ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية، فإن الله تعالى قد أمر نبيه أن يخاطب أهل الكتاب بالرجوع إلى الحق والتعمق في استخراجه فقال لنبيه: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64]. وهذا الطلب قد جعله الله تعالى في إطار الاقتناع واللين فقال: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة:265] بل وأكد عز وجل على البر والعدل تجاه المخالفين للدين الصحيح، ما داموا لم يواجهوا المسلمين بأذى فقال تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]. فهل جاء المازندراني بمثل هذا العدل والتسامح مع المخالفين إلى حين إقناعهم بالحق أم أَمَرَ فوراً أن يُقتل المخالف لمبادئه، وأن تحرق الكتب الأخرى غير كتبه، وألا ينظر الناس إلا في جماله وبهائه وكتبه، وألا يفكروا إلا فيه وفي رضاه لا غير؟ نعم، لم يأت في الحث على وحدة الأديان إلا بمثل تلك السخافات التي أراق من أجلها كثيراً من الدماء هدراً، وذم لأجلها كل الأنبياء والرسل وكل المصلحين لقصورهم في زعمه عن بيان حقيقته ودعوته المشؤومة، حيث كان أهم ما أرسلوا به إنما هو التبشير بظهور البهاء. وبالرجوع إلى مناداة البهائية بوحدة الأديان نجد أن الإسلام قد حث وأبلغ في وجوب التمسك بالدين الحنيف المنزل من رب العالمين، بحيث لو طبقه البشر لسعدوا في الدنيا والآخرة. فإن كل ما فيه خير ويدعو إلى خير، وليس فيه تناقض ولا عصبية بغيضة، ولا أفكار رديئة مثل ما هو الحال في البهائية التي تدعو الناس كلهم إلى ترك دينهم والتمسك بعقيدة البهاء، التي هي مملوءة بالأفكار القاصرة والآراء المتناقضة والعصبيات الشنيعة، لأنها ملفقة من شتى الأفكار من مسيحية ويهودية ومجوسية وإسلامية وصوفية إلحادية. فكيف يتفق الناس على ديانة هذا أقل شأنها؟ بل كيف يتفقون على دين لم يوحد بين أصحاب المذهب نفسه! فإن العداوة الملتهبة بين البابيين والبهائيين، بل وبين الأخوين المازندراني وصبح الأزل لا ينساها أحد، وهنا يصح قول الناس: فاقد الشيء لا يعطيه. وقد ظن حسين علي المازندراني حين أمر أتباعه أن يتفننوا في النفاق ومجاملات الآخرين فيصلوا مع المسلمين، ويدخلوا الكنيسة مع النصارى، ويدخلوا في محافل اليهود، وأن يتوددوا إلى الهندوس في معابدهم – ظن أن هذا النفاق البغيض هو البداية إلى تحقيق وحدة الأديان فكانت النتيجة عكس ما أراد. فإن الناس حين كانوا يشاهدون عبد البهاء في كل مكان مع المسلمين ومع النصارى ومع اليهود ومع الهندوس ومع كل صاحب ملة عرفوا تماماً أن المقصود من وراء ذلك إنما هو الزعامة العالمية وهدم كل الأديان، وأن تلك التحولات إنما هي النفاق بعينه، بل والتخبط والاضطراب الفكري. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 486 لأن الجمع بين المتناقضات ليس من فعل الإنسان السوي الذي يحترم مبدأه ونفسه فضلاً عن من يريد قلب الأمور وإصلاح المجتمع وتوحيد أفراده على حسب ما ترى من ضرورة ذلك إذا كان فعلاً مقتنعاً بمبدئه وصلاحيته للأمة. لقد اهتم البهائيون والبابيون أيضاً بمحاربة الإسلام والمسلمين اهتماماً شديداً، وسبوا تعاليم الإسلام بأشد السباب، ومن ذلك ما جاء في الإيقان للمازندراني تسمية المسلمين بالهمج الرعاع حيث قال: (انقضى ألف سنة ومائتان وثمان من السنين من ظهور نقطة الفرقان –أي الرسول صلى الله عليه وسلم -، وجميع هؤلاء الهمج الرعاع يتلون الفرقان في كل صباح، وما فازوا للآن بحرف من المقصود) (1). ويقول أيضاً في كتاب له يسمى (مجموعة الألواح) محذراً البهائيين عن الاجتماع بالمسلمين: (إياك أن تجتمع مع أعداء الله في مقعد، ولا تسمع منه شيئا ولو يتلى عليك من آيات الله العزيز الكريم؛ لأن الشيطان قد ضل أكثر العباد بما وافقهم في ذكر بارئهم بأحلى ما عندهم، كما تجدون ذلك في ملأ المسلمين بحيث يذكرون الله بقلوبهم وألسنتهم ولا يعملون كل ما أمروا به، وبذلك ضلوا وأضلوا الناس إن أنتم من العالمين) (2). كما أن دعوتهم إلى توحيد الأديان ثم قصر ذلك على ديانتهم فقط يعتبر من أقوى الأدلة على كذبهم في مناداتهم باتحاد الأديان والتسامح معها، فالمازندراني يقول في كتابه (الأقدس) الذي يعده ناسخاً للقرآن الكريم: (والذي يتكلم بغير ما نزل في الوحي –أي وحيه في كتابه المذكور- أنه ليس مني، إياكم أن تتبعوا كل مدع أثيم) (3)، ويقول أيضاً: (طوبى لم يشهد به الله وويل لكل منكر كفار والذي أعرض عن هذا الأمر إنه من أصحاب السعير) (4)، ووصل الحال بالمازندراني أن أصدر أمراً إلى جميع من يسمع ويرى ألا يرى ولا يسمع إلا المازندراني ويترك جميع ما في هذا الكون إذا أراد النجاة-على حد زعمه- فهو يقول: (يا صاحب العينين أغمض عينيك عن العالم وأهل العالم كله وافتح عينيك علي وعلى جمالي المقدس) (5)، ولأجل تنفيذ هذا التعصب ضد المخالفين للبهائية كان البهائيون يمحون كتب مخالفيهم، خصوصاً كتب المسلمين التي كانوا يتلفونها بكل حقد وغيظ ليتحقق لهم ما يؤملون من إخراج المسلمين عن دينهم. والله متم نوره ولو كره الكافرون. ولم ينخدع المسلمون –ولله الحمد- بهذه الدعوى التي يروجها البهائيون فإن الدين الإسلامي الحنيف قد حث على الاجتماع على العقيدة الصحيحة الربانية بطريقة تكفل الخير للجميع، وتهديهم إلى سواء السبيل بأتم بيان وأحسن عدالة وأكملها إلى نهاية الكون. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 678 - 684   (1) ((الإيقان)) (ص: 112)، نقلاً عن ((البهائية نقد وتحليل)) (ص: 96)، ويجب التنبيه على أن الإيقان فيه نزاغ لمن هو؟ هل هو للمازندراني حسين كما يدعي؟ أم هو لأخيه صبح الأزل كما يدعي أيضاً؛ لأن كل واحد يدعيه لنفسه. (2) ((مجموع الأرواح)) (ص: 360، 361)، ((البهائية)) (ص: 97). (3) ((الأقدس نقلاً عن البهائية نقد وتحليل)) (ص: 99). (4) ((الأقدس نقلاً عن البهائية نقد وتحليل)) (ص: 99). (5) ((كلمات مكنونة للمازنداني)) (ص: 4،5) ((البهائية)) (ص: 100). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 487 المطلب الثاني: وحدة الأوطان أما دعوتهم هذه إلى وحدة الاوطان فمعناها أن العالم يجب أن ينتمي كله إلى وطن واحد، وأن ينتمي إلى جزء من الأرض متعصب رديء صاحب خرافة ووهم، لأن الشريعة البهائية قد طلبت أن تكون الأرض وطناً واحداً لجميع العالم، ويجب أن تنمحي الحدود بين البلدان ودون النظر إلى أي اعتبار، وأن يتعايش الناس فيها دون النظر إلى أي اعتبار سياسي أو اجتماعي. فيجب على كل شخص أن يحب الأرض كلها ولا يفضل وطناً على آخر؛ فالعالم وطن واحد لكي يلتقي الناس على الحب والولاء المشترك، ولكن لمن سيكون هذا الولاء المشترك؟ إنه بدون أي تفكير سيكون للبهاء وأتباعه، ومن هنا أخذوا يقررون القول بوحدة الأوطان ويذمون كل من يحاول أن يذكر مفهوماً غير هذا. قال أسلمنت: (ومن التعصبات الرديئة التي تلحق بالتعصب الجنسي، التعصب السياسي أو الوطني، فقد حان الوقت لأن تندمج الوطنية الضعيفة ضمن الوطنية العمومية الكبرى التي يكون فيها الوطن عبارة عن العالم بأجمعه، فيقول بهاء الله: قد قيل في السابق: (حب الوطن من الإيمان) (1)، وأما في هذا اليوم فلسان العظمة ينطق ويقول: (ليس الفخر لمن يحب الوطن؛ بل لمن يحب العالم) (2)، ويقول عباس أفندي: (ومنذ الابتداء لم تكن هناك حدود بين البلدان المختلفة فلا يوجد جزء مملوك لقوم دون غيرهم) (3). والواقع أن هذه الدعوى يدل ظاهرها على أنها من الأمور التي يتمناها كل إنسان في هذه الأرض المملوءة بالشرور والظلم، والدعوة إلى تحقيقها من الأمور التي تلفت النظر بشدة، إذ إن لها لمعاناً وبريقاً يخطف الأبصار. والمشكلة لا تكمن في مجرد الدعوى إلى استنباط هذه الفكرة، فهي سهلة جداً ولا يجهلها أحد مهما كان مستواه الثقافي، بعكس ما يظن البهائيون أنهم هم الذين اخترعوا الدعوة إليها، نعم، إن المشكلة لا تكمن في مجرد استنباطها، وإنما تكمن المعضلة في كيفية تحقيقها والأسلوب الذي يبذل ليقنع الناس بها، فهل وفق البهائيون إلى ذلك؟ إن الجواب غير خاف على أحد، فهو يحتل أكبر صيغ النفي: لم يقدم البهائيون من الحلول إلا الدعوة إلى احترام أرض الطاء وإلقاء السلاح، لئلا يخيفوا به الطامعين في الاستيلاء على ديار المسلمين في أرض الخاء التي يناديها المازندراني في كتابه (الأقدس) (يا أرض الخاء) (4)، أي أرض الخراب يقصد فلسطين التي عاش فيها عيشة الملوك. لم يقدم المازندراني ولا أتباعه ما ينفع الناس بترك الانتساب إلى أوطانهم والالتفاف حول الوطن الذي يختاره لهم المازندراني؛ لأن صاحب هذه الدعوة هو نفسه في أوائل من ينادي بالوطنية، وذلك في إظهاره التلهف على أرض الطاء طهران إيران، ونظرته المتعالية المترفعة على الأرض التي آوته إليها يد الغدر والعدوان، الأرض التي عاش فيها عيشة الملوك، ومع ذلك فهو يسميها أرض الخاء، وكان ينبغي أن يكون هو القدوة فلا يناقض نفسه بنفسه.   (1) أورده الصغاني في ((الموضوعات)) (ص: 7) وقال السخاوي لم أقف عليه، وقال الألباني موضوع. (2) ((بهاء الله والعصر الجديد)) (ص: 161)، نقلاً عن ((البهائية نقد وتحليل)) (ص: 114). (3) محادثات لعبد البهاء، انظر: ((البهائية)) (ص: 114). (4) ((الأقدس)) (ص: 163)، ضمن ((خفايا البهائية)). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 488 ومن هنا فإن المازندراني وأتباعه قد كفوا الناس مهمة الرد عليهم حيث كذبوا أنفسهم بأنفسهم؛ لأن تناقض المازندراني صاحب الفكرة قبل غيره من أتباعه أكبر دليل على كذبهم في إخلاصهم لسعادة البشر، فبينما هو ينهي عن الانتساب إلى وطن بعينه إذا به يبكي ويندب حظه على فراق وطنه-أرض الطاء كما يسميها، ويتأسف لغربته في البلدان بعيداً عن إيران حيث تغرب في العراق وتركيا وفلسطين. ويظهر هذا في كتابه إلى أحد أصدقائه قائلاً له: (يا أحمد لا تنس فضلي في غيبتي، ثم اذكر أيامي في أيامك ثم كربتي وغربتي في هذا السجن البعيد) (1)، ويقصد بهذا السجن وطنه الجديد فلسطين- ثم ينادى أرض الطاء- طهران إيران فيقول: (يا أرض الطاء لا تحزني من شيء قد جعلك مطلع فرح العالمين، افرحي بما جعلك الله أفق النور ولد فيك مطلع الظهور (2) - أي نفسه). وهذا الكلام والأسى والحزن على وطنه طهران وذمه لفلسطين وتسميته لها أرض الخاء تناقض ظاهر؛ إذ كيف يزعم أنه لا يجوز تفضيل وطن على وطن ثم بعد ذلك يمدح وطناً ويذم آخر بدون مبرر إلا مجرد الهوى، ونسي فلسطين وأدرنة التي آوته زمناً دبر فيها مع اليهود الخطط التي ينبغي عليه أن يسلكها لجعل فلسطين يهودية ولانتشار دعوته المشئومة التي أراد منها أن تكون ديانة عالمية تنسخ جميع الأديان حسب زعمه. ثم ذهب يتخبط في جهله فجاء في كتاب (الأقدس) بكلام يتنزه عنه العامي أن ينسب إليه لكثرة ما فيه من التناقض، ومن الآراء الخيالية والتعاليم الباهتة ويلحق بمحو فكرة الأوطان المختلفة أن يمحي أمراً هاماً جداً من أذهان الناس تبعاً لمحو فكرة الأوطان، ألا وهو محو فكرة الجهاد وحمل السلاح، فقد قاد المازندراني وأتباعه حملة شرسة مضنية في إبطال قتال الكفار أياً كانوا، أو حتى مجرد النية في ذلك. والنتيجة من وراء هذا الطلب وتقريره لا تحتاج إلى تفكير واجتهاد لاستخلاصها، فالقصد منها هو رد الجميل للروس والإنجليز واليهود الذين كانوا وراء نبوّته ثم ألوهيته وزعامته لكي يبسطوا نفوذهم دون المقاومة أو احتجاج من الناس- وخصوصاً المسلمين- لأن الشريعة الجديدة كما يزعم تأمر بهذه الطاعة، وتنهي عن رفع السلاح في وجود أي جنس من الناس مهما كان دينهم. وهذا هو السر في وقوف أولئك الطامعين في استعمار البلدان الإسلامية والعربية جنباً إلى جنب، في بناء البهائية وتأييدها والذب عنها. يقول المازندراني في محو الجهاد: (حُرم عليكم حمل آلات الحرب إلا حين الضرورة، وأحل لكم لباس الحرير). وقال أيضاً: (البشارة الأولى التي منحت من أم الكتاب في هذا الظهور الأعظم محو حكم الجهاد من الكتاب). وقد أكد أسلمنت هذا الجانب فقال: (إن البهائيين تركوا بالكلية استعمال الأسلحة النارية حتى في أمور الدفاع المحضة، وذلك بناء على أمر صريح من بهاء الله) (3). إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة التي تبجح فيها البهائيون لمحو أصل الجهاد ومشروعيته للدفاع عن الدين والوطن والعرض؛ لأن هذه كلها لا ينبغي أن تقف عائقاً في سبيل تقدم جحافل الكفر والإلحاد إلى ديار المسلمين كما يريد البهائي. ومن العجب ولسرٍ غير خاف جمع المازندراني بين النهي عن حمل السلاح والجهاد وبين تحليل لبس الحرير للرجال. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 685 - 689   (1) ((لوح أحمد)) (ص: 155)، نقلاً عن ((البهائية)) (117). (2) ((الأقدس ضمن خفايا البهائية)) (ص162). (3) انظر: ((قراءة في وثائق البهائية)) (ص: 95). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 489 المطلب الثالث: وحدة اللغة وأما بالنسبة لوحدة اللغة؛ أي اختيار لغة واحدة للعالم كله تكون مشتركة فيما بينهم للتفاهم فهي الفكرة التي يتظاهرون بالحرص عليها جداً، ويزعمون أنها لا تتحقق إلا بمباركة المازندراني لها. وهي محاولة مكشوفة لإبعاد المسلمين عن لغة كتاب ربهم بطريقة ماكرة. وهي إحدى أكاذيب البهائية التي يطالبون فيها العالم بترك تعدد اللغات واختيار لغة واحدة منها، فما هي اللغة التي يجب أن يختارها الناس على حد رغبتهم هل هي لغة القرآن الكريم التي شرفها الله بإنزال كلامه بها؟ أم هي لغة أخرى يستحسنها البهائيون عوضاً عن اللغات كلها وخطاً يستحسنونه على الخطوط كلها، ثم يترك كل ما خالفه بعد ذلك؟ يجيب عن هذا حسين علي المازندراني في كتابه (الأقدس) في قوله: (يا أهل المجالس في البلاد اختاروا لغة من اللغات ليتكلم بها من على الأرض، وكذلك من الخطوط أن الله يبين لكم ما ينفعكم ويغنيكم عن دونكم إنه لهو الفضال العليم الخبير) (1)، وهو يقصد بمن دون الهائية العرب وغيرهم حسب ما عرف عن أهل فارس وتعاليهم على البشر في الزمن القديم. ويقول ابنه عباس أفندي: إن تنوع اللغات من أهم أسباب الاختلاف بين الأمم في أوروبا (2).وبعد هذه الدعوة العامة لتغيير اللغات والخطوط أيضاً وبالخصوص العربية – يفصح المازندراني بعد ذلك عن اللغة التي يقترحها؛ فإذا بها لغته لا سواها اللغة الفارسية التي قال فيها: (يا قلمي الأعلى بدّل اللغة الفصحى باللغة النوراء (3)؛ أي اللغة الفارسية التي قال عنها أبو الريحان البيروني: لا تصلح إلا للأخبار الكسروية والأسمار الليلية) (4). على أن الفكرة من أساسها يصح وصفها بأنها مجرد خيال ساذج، ويصح كذلك وصفها بأنها فكرة تنبئ عن خبث ونية شريرة، وهي فكرة كذلك مخالفة للفطرة والواقع، ولم يسبق المازندراني أحد من الناس لا الأنبياء ولا غيرهم في مطالبة البشر بالرجوع إلى لغة واحدة هي الفارسية ولا غير الفارسية. فإن الله أرسل أنبياءه كل نبي بلغة قومه، يدعونهم إلى توحيد الله والخروج عن ما يغضبه عز وجل، والرغبة في هدايتهم إلى الخير والصلاح لتجتمع قلوبهم وتتوحد أفكارهم حول هذا المبدأ، لا مبدأ توحيد اللغات والخطوط، ولو أن العالم كله يتكلم لغة واحدة، لربما فاتتهم مصالح كثيرة. وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون الناس على هذا الوصف من تعدد اللغات، والله يعلم أنه لو اتحدت القلوب على العقيدة الصحيحة لزالت بينهم فوراق اللغة، ولما كان لاختلافهم فيها أي وزن، وتاريخ الصحابة مليء بالأمثلة على ذلك؛ فقد جمع الله بين سلمان الفارسي اللغة، وبلال الحبشي اللغة، وصهيب الرومي اللغة، وجعلهم في درجة واحدة مع فضلاء قريش كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم. فلم يشعروا بأي فارق فيما بينهم، لأن دينهم واحد، وعقيدتهم واحدة، وهدفهم واحد فلم يبق لفارق اللغة أو الجنس أي مكان، وحينما تختلف العقيدة فإن الاتحاد في اللغة والجنس لا يغني ولا يؤلف القلوب.   (1) ((الأقدس ضمن خفايا البهائية)) (ص: 185). (2) ((خطابات عبد البهاء عباس عن بهاء الله والعصر الجديد)) (ص: 164) نقلاً عن ((البهائية نقد وتحليل)) (ص: 120). (3) ((مجموع ألواح المازندراني)) (ص: 113)، ((البهائية نقد وتحليل)) (ص: 123). (4) انظر: ((البهائية)) لمحب الدين الخطيب (ص: 29)، وقد عزاه إلى مقاله القرآن معجزة بين معجزتين بمجلة ((الفتح)) العدد 811 (ص: 8). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 490 بل كم قد قامت الحروب وسفكت الدماء بين أهل اللغة الواحدة، وأقرب دليل على ذلك هو تلك الحروب التي خاضها العرب في الجاهلية فيما بينهم مع توحد لغتهم، ثم حروب البهائيين مع قومهم الذين يتكلمون بلغتهم من أهل إيران، والحروب الأهلية في كل بلد تقوم فيه. ولبنان في وقتنا الحاضر أقوى دليل على ذلك حيث يقتل بعضهم بعضاً بأشد أنواع الوحشية، فإن اللغة بحد ذاتها لا تعلم الأخلاق والرحمة والموالاة وجمع الكلمة، ومن هنا فإن اختلاف اللغة ليس بالأمر الهام، واختلاف الألسنة ليس إلا دليلاً على قدرة الباري عز وجل قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ [الروم:22] ثم إن الداعي إلى وحدة اللغة المازندراني لم يوحد اللغة حتى في وحيه وألواحه التي نسجها خياله، فكتبه- ما يذكر المطلعون عليها (1) - مليئة من المزيج الفارسي والعربي، فمرة يدعي نزول الوحي باللغة الفارسية، ومرة أخرى باللغة العربية وأحياناً يأتي مختلطاً بالعربية والفارسية، وكلامه على هذا الاتجاه مرة يتكلم بالفارسية وأحياناً باللغة العربية. ومعنى هذا أن دعواه توحيد اللغة كذب، وتناقضه أكبر دليل على هذا. ويظهر أنه أيقن بعدم نجاح دعوته هذه، وعلم أنه بحاجة إلى تبليغ دعوته البهائية فأذن في تعلم اللغات ليسهل تبليغ البهائية غيرهم فقال: (قد أذن الله لمن أراد أن يتعلم الألسنة المختلفة ليبلغ أمر الله- أي العقيدة البهائية- شرق الأرض وغربها، ويذكره بين الدول والملل على شأن تنجذب الأفئدة ويحيى به كل عظم رميم) (2)، ومع هذا لا تزال الرغبة في طمس اللغات الأخرى قائمة، وشدة رغبته في طمس اللغة العربية بذاتها يعود إلى عدة عوامل؛ إذ فيها قطع كل صلة للمسلم بدينه، كما أن في إقصائها امتداداً للدين البهائي. فإذا جهل المسلم لغة دينه جهل بعد ذلك كل أمور دينه، ومن هنا اهتموا بالقضاء عليها بكل ما في عقولهم الحاقدة من حيل، ولم يفلحوا في إنجاح مخططهم ولله الحمد، رغم ما بذلوه من محاولات ولا يزالون، ولم يكونوا وحدهم في ميدان حرب اللغة؛ فلقد تظافرت جهودهم وجهود كل أعداء الإسلام على حربها وإبعادها من قلوب المسلمين. ومن هنا نجد أن الدعايات ضدها وتشويه سمعتها ووصفها بأنها لغة المستعمرين العرب؛ وأنها لا تفي بحاجة العصر وما إلى ذلك من الدعايات- نجد كل ذلك ظاهراً في كل بلد يوجد به مسلمون من غير العرب، ومن الغرائب أن فرنسا وهي مستعمرة لكثير من البلدان الأفريقية سواء كان الاستعمار ظاهراً أو خفياً تنشر بين المسلمين هناك أن اللغة العربية هي لغة المستعمرين العرب. ولكن تجد أن المسلمين هناك يضحكون من هذه الدعاية وهم يشعرون أن اللغة العربية أقرب إلى قلوبهم من لغاتهم المحلية، ويحبونها ويحترمونها أشد الاحترام، ويشعرون بكامل السخط والسخرية من انتشار اللغات الأخرى؛ كما يذكر كثير من المسلمين هناك بمجرد أن تبدأ الحديث عن هذا. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 693   (1) وفي المقدمة الشيخ إحسان إلهي رحمه الله، انظر كتابه: ((البهائية)) (ص: 123). (2) ((الأقدس ضمن خفايا البهائية)) (ص: 168). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 491 المطلب الرابع: السلام العالمي يظن البهائيون أنهم هم الذين تزعموا الدعوة إلى السلام العالمي وترك الحروب والتعايش الهادئ بين الأمم حين منعوا حمل السلاح وأوجبوا تقديم السمع والطاعة للحكام أيا كان مذهبهم، وليس فقط تحريم الحروب بل كما يزعمون كل مقدماته من النزاع والجدال والخصام، وكل ما يمت إلى الحروب في النهاية؛ بل ولا يجوز حمل السلاح حتى ولو للدفاع عن النفس. تلك هي مزاعمهم حول دعوى إحلال السلام في العالم كله، فهل كان ذلك حقيقة؟ وهل قدموا الحلول الناجحة لمشكلات العالم التي تجرهم إلى الحروب شاءوا أم أبوا، وإلى أي مدى وصلت إليه دعوتهم من النجاح في العالم. هذا على فرض التسليم بأنهم هم الذين دعوا إلى السلام العالمي وحدهم، مع أن أحداً لا يجرؤ مهما كانت صلافته على مثل دعواهم بأنه مخترع الدعوة إلى السلام العالمي؛ لأن الدعوة إلى السلام دعوة ربانية قررها الإسلام وضاعف الحلول الناجحة لها بطرق ترضي كل شخص، وتنهي كل خلاف ولو رجعوا إليه لوجدوا مصداق هذا واضحاً ولا عبرة بمن فسدت فطرته واتبع هواه. وقبل الإجابة عن ذلك نورد هنا بعض كلام البهاء وأتباعه حول مناداتهم بالسلام العالمي. يقول حسين المازندراني: (قد نهيناكم عن النزاع والجدال نهياً عظيماً في كتاب هذا أمر الله في هذا الظهور الأعظم). وقال: (لأن تُقتَلوا خير من أن تَقْتُلوا). وقال: (لا يجوز رفع السلاح ولو للدفاع عن النفس) (1).ومن هنا قال أحد زعمائهم في مصر: إن الدولة لو أجبرته على حمل السلاح في مواجهة إسرائيل فإنه سيطلقه في الهواء؛ لأن ذلك هو شعار البهائيين (2). لقد ربط البهائية تحقيق ذلك السلام العالمي البهائي بطريقة ماكرة، مفادها أن تلك الدعوى لا يمكن أن تتحقق إلا بعد الارتواء من غسلين البهائية وآرائها المتناقضة، وحينئذ تمشي البشرية آمنة مطمئنة لا يخاف أحدهم إلا الله والذئب على غنمه.   (1) ((بهاء الله والعصر الجديد)) (ص: 123)، نقلاً عن ((البهائية)) لإحسان (ص: 125). (2) ((قراءة في وثائق البهائية)) (ص: 93). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 492 إنها دعوى عريضة فوق مستوى عقول البهائية، وتصدر البهائي وأتباعه لهذا الزعم يعتبر من مهازل البهائية البائسة ويعتبر من عجائب الزمن، فمن يقبل من الناس أن يركن إلى البهائي ومزاعمه هو وأتباعه دون أن يرى الحلول الإيجابية لتلك المشكلات التي يعج بها العالم كله؛ لأن الحل عند البهائية هو أن تدخل رأسك في الشبكة لترى الحل حينئذ في عالم الخيالات الوهمية. نسي أو جهل البهائيون أن حل مشكلات الحياة العالمية لا يمكن أن يأتي عن طريق الخرافات والمؤامرات الظاهرة والخفية وإنما يأتي عن طريق الاقتناع التام من داخل النفس: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، وكذا قول نبي الإسلام: ((يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى)) (1). ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) (2) ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) (3). ومئات النصوص في كتاب الله وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فيها الحلول المباشرة التي يلمسها الإنسان ويرى تأثيرها بمجرد أن يمتثل الأمر، ولو طبق الناس الإسلام لرأوا كيف يصبح السلام واقعاً حقيقياً لا خداع فيه ولا تجبر ولا مكائد ولا دسائس، ولرأوا أن جميع مشكلات العالم تذوب من تلقاء نفسها كما يذوب الملح في الماء. لأن الحلول الإسلامية تناجي كل قلب على حدة وتقول له: ابدأ بنفسك ليقتدي بك الآخرون، فتصبح الدعوة جماعية في آن واحد دون أن يتدخل أي شخص في تفكير الآخر. أما الدعوة البهائية للسلام العالمي فإنها تصبح هكذا: الرب هو المازندراني، والأرض التي يحكمها كل شخص هي له لا حق فيها للآخرين، فللإنجليز ما يملكون، وللروس ما يأخذون، ولأمريكا ما تريد، وعلى الجميع السمع والطاعة لمن قوي على شريعة الجاهلية الأولى، من عزّ بزّ ومن غلب استلب، ومن لم يحترف لم يعتلف، فهل هذه الفكرة الهزيلة تقدم الحلول لمشكلات الناس؟ إن من المعروف بداهة وواقعاً أن كل تجمّع على غير هدى الخالق العظيم رب العالمين لا يمكن أن يقدم الحلول المرضية لمشكلات الناس مهما كان نبوغ المجتمعين، ومهما كان إخلاصهم، ولا نذهب بعيداً فهذا مجلس الأمن أو مقام الأمم المتحدة أشبه ما يكون بجسم لا روح فيه؛ بل هو مقر الخدع والمؤامرات لأصحاب النفوذ والقوة، لا يهمه إلا إرضاء الدول الدائمة العضوية كما يسمونها، أصحاب السيف الفولاذي الذي يسمونه (الفيتو). لقد صار هذا الفيتو سيفاً على رقاب الناس لا يجوز الخروج عن طاعته، ظلمه عدل وقتله رحمة وكلمته هي الفصل، فكيف بعد ذلك وأنى لهم أن يقدموا الحلول العادلة وهم لا يملكونها (وفاقد الشيء لا يعطيه).   (1) رواه أحمد (5/ 411) (23536) ومسدد والحارث كما في إتحاف الخيرة المهرة (2614) والبيهقي في الشعب (7/ 132) قال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 412): إسناده صحيح. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 269): رجاله رجال الصحيح. وأورده الألباني في الصحيحة (2700) وقال الوادعي في الصحيح المسند (1536) صحيح (2) رواه البخاري (13)، ومسلم (45) من حديث أنس. (3) رواه البخاري (10) من حديث عبد الله بن عمرو، ومسلم (41) من حديث جابر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 493 لقد نبهنا الإسلام إلى أن الله هو رب الكون وما فيه وهو المدبر له، والخير إليه والشر بتقديره عندما تتوفر أسبابه. وكل ما يقع في هذا الكون إنما هو بمشيئته وقدرته، وقد أرشدنا الله عز وجل إلى الطرق الناجحة التي تقطع دابر الشرور والظلم فإذا لم يرد الناس تطبيقها وفضلوا تطبيق أهوائهم أوكلهم الله إلى أنفسهم- كما هو واقع البشر اليوم- ثم لا يبالي بهم في أي واد هلكوا. وحينئذ يتولاهم كبار المجرمين ويحلون أنفسهم محل النبوة والألوهية فيشرعون للناس بجهلهم شرائع تجرهم إلى الدمار، يقدمون السم في أطباق الذهب المزخرف، ثم تسير الحياة بالناس من ضنك إلى ضنك أشد منه، قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124]. إن الله عز وجل قد أخبرنا أنه منذ أن أوجد البشر أوجد فيهم قوتين متضادتين: قوة الخير وقوة الشر، وجعل الصراع بينهما متواصلاً، ثم سن الله لأهل الخير أن يقاتلوا أهل الشر والإلحاد وجعل ذلك القتال جهاداً يتقرب به إليه عز وجل، يثاب صاحبه ويعاقب تاركه. وأباح الله قتال من يعتدي على الحرمات والمقدسات وذم الجبناء والذين لا غيرة فيهم على حرمهم ومقدساتهم، وقد قاتل الرسول صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة وغزا غزواته الكثيرة الشهيرة فكان بطل الأبطال وقائد الشجعان، وتلك سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً. والواقع أن هدف المازندراني حينما حرم الجهاد إنما هو خدمة أعداء الإسلام من الروس والإنجليز لا إحلال السلام كما يزعم؛ بل لإرضاء أولئك المنعمين عليه، ولقد ناقض نفسه بنفسه حينما شن الغارات على الإيرانيين أولاً ومع البابيين زملائه ثانياً، ومع الأزليين أتباع أخيه ثالثاً، ومع المسلمين خاصة ومع كل من لا يؤمن بخرافاته عامة، فكيف يدعو إلى شيء هو نفسه لا يؤمن به: كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:3]. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 693 - 698 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 494 المطلب الخامس: المساواة بين الرجال والنساء قد كان البهائيون من أكثر الناس ميلاً إلى استخدام النساء في الدعاية لمذهبهم؛ لأنهن أكثر انخداعاً وأكثر انجذاباً إلى الهوى والخروج على كل عرف إذا تمكنّ من ذلك. وقد تزعمت هذه الغاية غانية البابيين قرة العين؛ تلك التي لم يكبح جماحها دين ولا خلق ولا شرف ولا احتشام، ثم اتخذت منها البهائية الخلق المثالي للنساء البهائيات. لقد أجاد البهائيون، وعلى رأسهم البهاء وعبده ومن صار على شاكلتهم بعدهم أجادوا نفاق المرأة واستجلابها إلى الخروج على كل شيء، وأظهروا لها من التحمس إلى صفها ما لا تصل به الوالدة لابنتها أحياناً؛ لكن هذا التحمس إنما ينحصر في الكلام والوعود المعسولة والدعاية الخلابة. وعند الفعل والتطبيق لما قالوه تجد أن أحكامهم على المرأة مما يستدعي الشفقة عليها بسبب ظلم البهائيين وشريعتهم الجائرة على المرأة، وقد اتضح تماماً أنهم لا يريدون وراء الدعاية بمساواة المرأة للرجل إلا مخالفة الشريعة الإسلامية، وجلب عاطفة النساء للمذهب البهائي، وجعلها مطية لا وعي لها. وللمرأة أن تسأل: هل صدق البهائيون في دعوتهم تلك، وهل أنصفوا المرأة من الرجل، وهل عاش المجتمع الذي خلطوا فيه الحابل بالنابل وتساوى فيه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، هل عاش ذلك المجتمع في الجنة البهائية، أم كانت أقوالهم في واد وأفعالهم في آخر؟ هذا ما سيتضح عند الاطلاع على أحكام البهائية من خلال تشريعاتهم التي أعدوها لمحاربة المرأة ولمحاربة الدين الإسلامي، وللخروج على طاعة الله تعالى وجعل كل شيء يسير حسب رغباتهم ووفق شهواتهم، ولو علم هؤلاء الملاحدة مكانة المرأة في الإسلام لأطرقوا حياءً، ولصغرت نفوسهم في نظرهم أن يتكلموا بأدنى كلمة انتقاد لحال المرأة في الإسلام وظله الظليل. لقد رَخُصت المرأة في الشريعة البهائية إلى حد أنها أصبحت متعة لكل طامع، فهي معلَّمة على ألا ترد يد لامس بل هي التي عليها أن تطلب المتعة بأكثر من شخص تأسياً بما قررته زرين تاج من الفجور في مؤتمر بدشت؛ حيث نسخت الشريعة الإسلامية واستبدلتها بشريعة الباب التي لا حد لإباحيتها واستهتارها بالقيم والأخلاق. يقول أسلمنت: (إن إحدى الأنظمة الاجتماعية التي جعل بهاء الله لها أهمية عظيمة هي مساواة النساء بالرجال)، ولو عكس العبارة لكان أصوب، وأما عبد البهاء فقد بلغ في نفاقه النساء مبلغاً بعيداً، وقد قال عنه الشيخ عبد الرحمن الوكيل: (وكان من خلق عبد البهاء أنه يتجمع بكل مشاعره وعواطفه لكل فتاة ويتربص بها بكل مكره وغزله ليثير وهج أنوثتها الراغبة) (1)، إلى أن قال عنه: (وتمرق أمام عينيه أنثى جميلة تتموج شعورها وهي تلهب ظهر جوادها السابح بالسوط، فيتأوه الشيخ المتصابي ويقول لمن معه: في هذا العصر ينبغي أن تأخذ المرأة حظًّا من العلم مساوياً للرجل وتتمتع بنفس امتيازاته) (2).   (1) ((البهائية تاريخها وعقيدتها)) (ص: 165). (2) ((خطابات عبد البهاء)) (ص: 84). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 495 قال عبد الرحمن الوكيل في تعليقه على هذا الموقف الشائن لمدعي النبوة عبد البهاء، قال: (إن جلال النبوة لا تستهويه أبداً امرأة تتحدى قداسة الفضيلة بفتنتها العارية، ولا تستخفه عن وقاره شعور مواجة قد تلهب بالحب عواطف الشعراء، ولكنها تثير غضب الأنبياء. إن عبد البهاء عاش يسجد لفتنة المرأة، ولهذا قال: (إن تربية البنت الآن أهم من تربية الولد) قالها زلفى إلى النسوة المارقات وخدعة يستزل بها من يستهويها لمع هذا السراب، وإلا فهل يستهوي خيال إنسان تصور عالم قد تربت نساؤه أكثر من رجاله) (1).ولقد ذكر العلماء في سيرة عبد البهاء الذي يزعم أنه أكبر الأنبياء (2) ما تقشعر الجلود من مخازيه العنصرية والجنسية والتلون في النفاق وعدم تورعه من أن يساير كل دين، سواء كان دين الإسلام أو المسيحية أو البرهمية أو البوذية، فلقد جامل كل هذه الطوائف بأن يؤدي لكل أصحاب ملة عبادة على طريقتهم، وهذا هو النفاق بعينه حتى وإن سماه تطوراً ومسايرة لروح العصر؛ فإن التسمية لا تغير الحقائق. إن الدعوة إلى مساواة النساء بالرجال هي دعوة حمقاء مخالفة للفطرة وللشرائع السماوية كلها، وقد تناقض البهائيون فيها كثيراً؛ حيث خالف فعلهم قولهم، فحينما ادعوا ذلك تجدهم قد فرقوا بين الرجل والمرأة في كثير من الأحكام، وإنما نادوا بهذا الشعار مخالفة لدين الإسلام الذي جاءت أحكامه بالنسبة للمرأة في تمام العدل والإنصاف وحفظ الأعراض وصيانة الأنساب. فحرم على المرأة نبذ الحياء والتبرج والاختلاط، ومنعها من أن تلي الخلافة العامة، وأوجب عليها حقوقا كثيرة، ونهاها عن أفعال قبيحة كثيرة، كما أوجب لها حقوقاً كثيرة تكون بها محترمة غير مبتذلة، كما يريد دعاة تحرير المرأة ومساواتها بالرجل. وحين انخدعت المرأة بهذه الدعايات الفاجرة وخرجت إلى الشارع كاشفة نابذة لبيت زوجها، وتاركة لأولادها فكانت كمن يفقأ عينه بيده، وكانت هي الخاسرة لعفتها ودينها وحيائها وزوجها وأولادها، والذين نادوا إلى الخروج إنما أرادوا منها الإباحية والانحلال اقتداءً بتلك البابية (قرة العين) التي أفتت بجواز نكاح المرأة بسبعة من الرجال فيما يذكر عنها (3). ولو رجع القارئ إلى أقوال المازندراني وابنه عباس أفندي لرأي التمييز المجحف بين معاملة الرجال والنساء في تصرفات البهائية، إذ كل الأعمال لم يكلف بها إلا الرجل فقط ولم يعهد إلى امرأة بأمر ذي بال ثم هضمها حقها في الإرث في كتابه (الأقدس) حيث يقول: (وجعلنا الدار المسكونة والألبسة المخصوصة للذرية من الذكران دون الإناث والورَّاث أنه لهو المعطي الفياض) (4).   (1) ((البهائية تاريخها وعقيدتها)) (ص: 170، 171). (2) ((البهائية تاريخها وعقيدتها)) (ص: 174). (3) انظر: ((البهائية نقد وتحليل)) (ص: 139)، وهو ينقله عن ((مفتاح باب الأبواب)) (ص: 176). (4) ((الأقدس ضمن خفايا البهائية)) (ص: 146). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 496 إن المعطي الفياض حرم الإناث من الدار والألبسة مع مساواتهن بالذكران، فأين ذهبت المساواة التي ينادون بها بين الرجال والنساء، بل أين مجرد ظهور العدل في هذه الأحكام الخرقاء بعد أن اتضح تناقضهم فيها، والباطل لا بد وأن يتناقض أهله فيه. ثم أيضاً أليس هذه التفرقة هي نفسها التي كانت في الجاهلية من تحريم بعض الأشياء على النساء وإباحتها للرجال، مثل ما أخبر الله في القرآن من تحريم بعض اللحوم على الإناث وإباحتها للذكور فقط؛ تخرصاً بغير هدى ولا دليل (1)، والواقع أن البهائية لم يتناقضوا في هذا الموضع فقط، بل في أحكام كثيرة تتعلق بالنساء ظهرت في أقوال المازندراني نفسه حين قال: (قد حكم الله لمن استطاع منكم حج البيت (2)، دون النساء عفا الله عنهن رحمة من عنده إنه لهو المعطي الوهاب) (3)، مع أن المرأة بإمكانها أن تؤدي الحج كما يؤديه الرجل تماماً عند وجود الاستطاعة، وهذا في حكم الشريعة الإسلامية. أما حج البهائية فهو مجرد نزهة وزيارة للبيت الذي كان يسكنه الشيرازي أو البهاء، فهو مجرد زيارة في اللهو المرح والله يعلم السبب الذي جعل البهاء يسقطه عن المرأة، ومهما كان فهذا التفريق في الحكم في أداء فريضة الحج البهائي له مغزاه ودلالته في النظرة إلى المرأة ومساواتها بالرجل. ومن أكبر ما تناقض فيه البهائي وأتباعه من بعده أنه لا يوجد نص واحد في جواز تولي المرأة المناصب العليا في الدولة، وإنما ينصون عليها في الأولاد الذكور واحداً بعد واحد، وكان ينبغي حسب كلامهم أن يجوزوا تولي المرأة لأي منصب كان. ومن الأمور التي فرقوا فيها بين المرأة والرجل قول المازندراني: (قد عفا الله عن النساء - حينما يجدن الدم- الصوم والصلاة ولهن أن يتوضأن ويسبحن خمساً وتسعين مرة من زوال إلى زوال: سبحان الله ذي الطلعة والجمال؛ هذا ما قدر في الكتاب إن أنتم من العالمين) (4). وعلى كل حال فإنه لا يمكن أن يأتي شخص بما يخالف الشرع القويم والفطرة السليمة والعقل المستنير إلا ويظهر عليه التناقض والارتباك مهما أوتي من الحذق والذكاء، وأكبر دليل على ذلك هذه السخافات البهائية؛ إذ كيف يعفو الله عن النساء في حال الحيض الصوم والصلاة؟ إنه لا فرق بين المرأة والرجل. ثم كيف أسقط عنها الصلاة والصوم وكلفها بالوضوء والتسبيح خمساً وتسعين مرة مع أن الوضوء والتسبيح لا يغنيان عن أداء الصلاة والصوم؟ لقد نقض مذهبه بنفسه. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 698 - 703   (1) انظر: ((البهائية)) لإحسان إلهي ظهير (ص: 143) (بتصرف). (2) لا يقصد بالحج هنا الذهاب إلى بيت الله الحرام بمكة؛ وإنما يريد الحج إلى معابدهم. (3) ((الأقدس ضمن خفايا البهائية)) (ص: 146). (4) ((الأقدس ضمن خفايا البهائية)) (ص: 142). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 497 تمهيد هناك تقارب أو تشابه كبير بينها وبين تعاليم البابية التي قامت البهائية على أنقاضها علما بأن البهاء قد نسخ بكتابه (القدس) بعض ما جاء في كتاب البابية (البيان) كتجويز قراءة الكتب وتعلم العلم بعد أن حرمها البيان وفي ذلك يقول (قد عفا الله عنكم ما نزل في البيان من محو الكتب وأذنا لكم بأن تقرءوا من العلوم ما ينفعكم لا ما ينتهي إلى المجادلة في الكلام هذا خير لكم إن كنت من العارفين) (1). وكذلك نسخ ما ورد في تحديد الأسفار فقال: (قد رفع الله ما حكم به البيان في تحديد الأسفار إنه لهو المختار) (2) المصدر: عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية لأحمد بن سعد الغامدي - ص 225   (1) ((الأقدس)) (ص: 158). (2) ((الأقدس)) (ص: 171). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 498 المطلب الأول: أركان الإسلام أولا: الصلاة عند البهائية: عددها ثلاث مرات في اليوم، وهي تسع ركعات في البكور والزوال والآصال كل صلاة ثلاث ركعات. يؤدونها على انفراد؛ لأنه لا يصح الاجتماع إلا في الصلاة على الميت فقط، وأما للصلاة فهي حرام، وليس للطريقة التي تؤدى بها الصلاة أي بيان. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 707 ويعفى من الصلاة من كان على سفر أو مريضا أو مسنا كما تعفى النفساء ولا قضاء فيها المصدر: جامع الفرق والمذاهب الإسلامية لأمير مهنا وعلي خريس- ص 48 وقد قال المازندراني في (الأقدس): (قد فصلنا الصلاة في ورقة أخرى طوبى لمن عمل بما أمر به من لدن مالك الرقاب) (1)، ولكن هذه الورقة التي أشار إليها الوحي البهائي لا وجود لها عند البهائية؛ لأنها سرقت كما يذكر عبد البهاء (2)، فبقي أمر الصلاة عنده مجهولاً إلى أن يجدوا تلك الورقة ولن يجدوها. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 707 ويتوضئون للصلاة بماء الورد فإن لم يجدوه قالوا: بسم الله الأطهر خمس مرات المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري الغسل من الجنابة ليس واجباً، ولا يوجد في شريعتهم اسم النجاسة لأي شيء؛ لأن من دخل في ديانتهم طهر له كل شيء من النجاسات والخبائث التي أجمعت عليها كل الأديان وسائر العقلاء غير الأوربيين. ويكون الاغتسال عند البهائية في كل أسبوع مرة، وغسل الأرض في الصيف مرة في اليوم، وفي الشتاء مرة كل ثلاثة أيام. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 710 يقول المازندراني في (الأقدس) ص 47 " وكذلك رفع الله حكم دون الطّهارة عن كلّ الأشياء " وجاء في شرح (الأقدس) ص 222 الفقرة 106 "ألغى حضرة بهاء الله فكرة النّجاسة المقترنة ببعض الأفراد والأشياء". المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري وقد أمرهم بالاستحمام بماء غير مستعمل ونهاهم عن خزانات مياه العجم لأنه بزعمه منتنة يقول: (ادخلوا ماء بكرا والمستعمل منه لا يجوز الدخول فيه إياكم أن تقربوا خزائن حمامات العجم من قصدها وجد رائحتها المنتنة قبل وروده فيها تجنبوا يا قوم ولا تكونوا من الصاغرين إنه يشبه بالصديد والغسلين إن أنتم من العارفين) (3) المصدر: عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية لأحمد بن سعد الغامدي - ص 226 للبهائيين قبلتان: الأولى في عكا نحو قصر البهجة الذي عاش فيه البهاء حتى اختل عقله وجن وحبس فيه حتى حُم? فهتك الله ستره وفضح فيه أمره قبل أن يموت ثم دفن به وهو قبلتهم وإليه يحجون وبرغم أن هذا البيت هو ثاني قبلتي الشرك تاريخيا إلا أنها أعظمهما قدرا عند البهائية لأنها بإسرائيل فهي تجعل مكان اليهود قبلة العالم. المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري وقد وصف من لم يتوجه إليه بأنه من الغافلين، وأتباعه يتوجهون إلى عكا ويزورون قبره ويطوفون به ويسجدون له ثم ينصرفون- صرف الله قلوبهم- وهي عودة إلى الوثنية والمجوسية بأكمل صورها القبيحة. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 707 والثانية: بيت الشيرازي في شيراز ويحجون إليه أيضا. وقيل المقصود بقول البهاء " وارفع البيت في المقامين التي فيها استقر عرش ربكم الرحمن "هما البيت الأعظم ببغداد وهو الذي أعلن فيه البهاء دعوته والثاني بيت الشيرازي بشيراز. وهنا نورد التحية التي يقولها البهائي عندما يقف أمام بيت البهاء .... تدرى ما يقول؟ قال البهاء " اقصد زيارة البيت من قبل ربك وإذا حضرت تلقاء الباب قف وقل يا بيت الله الأعظم".   (1) ((الأقدس ضمن خفايا البهائية)) (ص: 141). (2) انظر: ((البهائية نقد وتحليل)) (ص: 162). (3) ((الأقدس)) (ص: 165). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 499 المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري لا يجوز للشخص أن يخطب على المنبر؛ بل يقعد على الكرسي الموضوع على السرير ويخطب، وكذلك لا يجوز للشخص أن يذكر الله إلا في المكان المعد للعبادة، فلا يجوز له أن يلوك فمه بذكر الله في غير مكان العبادة. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 712 جاء في كتاب (الأقدس): "ليس لأحد أن يحرك لسانه ويلهج بذكر الله أمام الناس، حين يمشي في الطرقات والشوارع". المصدر: البهائية للدكتور طلعت الزهران وصلاة الجنازة عندهم ست تكبيرات يقول بعدها المصلي تسع عشرة مرة: إنا كل لله عائدون، إنا كل لله ساجدون، إنا كل لله قانتون، إنا كل لله ذاكرون، إنا كل لله شاكرون، إنا كل لله صابرون المصدر: جامع الفرق والمذاهب الإسلامية لأمير مهنا وعلي خريس- ص 48 أما أعياد البهائية فعددها خمسة وهي: عيد النوروز وعيد الرضوان وعيد ولادة الباب وعيد ولادة البهاء وعيد إعلان دعوة الباب المصدر: جامع الفرق والمذاهب الإسلامية لأمير مهنا وعلي خريس- ص 48 في الأعياد جعل عيد المجوس المسمى بالنيروز عيدا لأتباعه فقال: (وجعلنا النيروز عيدا لكم) (1) المصدر: عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمديةلأحمد بن سعد الغامدي – ص 226 ثانيا: الزكاة عند البهائية الزكاة عندهم 19% من رأس المال تدفع مرة واحدة إلى بيت العدل بإسرائيل. المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري الزكاة شأنها غامض جداً في شرع البهائية لجهل المازندراني بها، فليس لها أي تفصيل يبين الواجب وكيفية إخراجها ولمن تخرج ومتى ذلك .. إلى آخر التفاصيل التي جاء بها الشرع الشريف الإسلامي. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 707 ثالثا: الصوم عند البهائية انظر إلى صوم البهائية كما جاء عن رجال البهائية البهاء المازندراني في كتابه (الأقدس) أو الأخبث والأنجس على الصحيح. يقول البهاء حسين علي في الصوم: (يا قلمي الأعلى قل يا ملا الإنشاء قد كتبنا عليكم الصيام أياما معدودات وجعلنا النيروز عيدا لكم بعد إكمالها كذلك أضاء شمس البيان من أفق الكتاب من لدن مالك المبدأ والمآب) (2).ويؤكد وجوبه وفرضيته بقوله: (هذه حدود الله التي رقمت من القلم الأعلى في الزبر والألواح). (3).ومتى يصوم؟ (قد كتب لكم الصيام في شهر العلاء صوموا لوجه ربكم العزيز المتعال) (4). وشهر العلاء هو آخر الشهور البهائية التسعة عشر ويشتمل على الأيام التسعة. وما معنى الصوم عند البهائية؟ يخبر عنه حسين علي حيث يقول: (كفوا أنفسكم عن الأكل والشرب من الطلوع إلى الأفول إياكم أن يمنعكم الهوى عن هذا الفضل الذي قد قدر في الكتاب) (5).و (كفوا أنفسكم عن الطلوع إلى الغروب كذلك حكم المحبوب من لدى الله المقتدر المختار) (6).والمعنى أن الصائم يفعل ما يشاء من الطلوع إلى الغروب وحتى المباشرة للزوج (7). وليس عليه إلا الكف عن الأكل والشرب من طلوع الشمس إلى غروبها. ولم ترد الكتب البهائية عن ذلك شيئا وحتى المازندراني بين الصيام في عدة مواضع ولم يبين أكثر من ذلك من الأحكام كما لم ينبه عليها بعده ابنه عباس وحفيد ابنه شوقي أفندي فما هو الصيام وما فائدته؟   (1) ((الأقدس)) (ص: 143). (2) ((الأقدس)) للمازندراني الفقرة (4). (3) ((الأقدس)) للمازندراني الفقرة (45). (4) ((لوح كاظم للمازندراني)) و ((خزينة حدود وأحكام (ص: 36). (5) ((الأقدس)) الفقرة (47). (6) ((خزينة حدود وأحكام)) (ص: 49). (7) ((الأقدس)) (الفقرة 44). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 500 إنهم ما ذكروا الصوم إلا لأنه ذكر في الإسلام للمضاهاة والمحاكاة ولم يستطيعوا أن يذكروا حدوده وقيوده أو تركوا فراغا قصدا لجلب أهل الهوس والشهوات إليهم حيث لم يمنعوا عن أي فسق وفجور ومتعة ولذة فيه. وأما فرضيته فمثل فرضية الصلاة أيضا فقد عفى عنه المسافر والمريض والحامل المرضع والهرم الكسول. فعلى من بقى الصوم؟ والناس إما مسافر ومريض وإما كسل وهرم. قال: (ليس على المسافر والمريض والحامل وضع حرج عفا الله عنهم فضلا من عنده إنه لهو العزيز الوهاب). (وعند التكسر والتكاسل لا يجوز الصلاة والصيام وهذا حكم الله من قبل ومن بعد) (1).وقال المازندراني في (الأقدس): (من كان في نفسه ضعف من المرض والهرم عفا الله عنه من عنده إنه لهو الغفور الكريم) (2).وأكثر من ذلك الذي يكون مشتغلا بالأعمال الشديدة والكبيرة عفى عنه الصوم أيضا كما قال في جواب سائل: (الذين يشتغلون بالأمور الهامة والأعمال الشديدة هل عليهم الصوم؟ قال: الصوم عن النفوس المذكورة رفع) (3).وهكذا رفع الصوم إن وقع يوم عيد المولود – للشيرازي والمازندراني – ويوم المبعث – إعلان دعوة محمد الشيرازي ببابيته، كما قال في رسالة (سؤال وجواب): (إن وقع عيد المولود أو المبعث في أيام الصيام فلا صوم يومئذ) (4). فهذه حقيقة الصوم عند القوم وهذه شريعتهم التي يتباهون بها على الشريعة الإسلامية البيضاء الغراء التي ليلها كنهارها قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد:16]. المصدر: فقه الصوم وفضل رمضان للدكتور سيد بن حسين العفاني- 1/ 93 - 95 رابعا: الحج عند البهائية فرض على الرجال دون النساء لمن استطاع المصدر: جامع الفرق والمذاهب الإسلامية لأمير مهنا وعلي خريس- ص 48 يتوجهون فيه إلى عكا مدفن البهاء، وإلى شيراز؛ الدار التي ولد فيها الشيرازي، وإلى الدار التي أقام بها البهاء في العراق في بغداد، ولم يبيّن البهاء متى يتم الحج إلى تلك الأماكن ولا الأعمال التي تجب في هذا الحج، وحديث كعبتهم في بغداد حديث طويل، خلاصته أن هذه الدار الآن لا وجود لها، وقد انتزع أصحابها ملكيتهم لها رغم الجهود المضنية التي بذلها البهائيون لتبقى كعبته لهم. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 708   (1) ((خزينة حدود وأحكام)) فصل الذين لا صوم عليهم (ص:46) (2) ((الأقدس)) الفقرة (44). (3) ((خزينة حدود وأحكام)) فصل الذين لا صوم عليهم (ص:46). (4) ((رسالة سؤال وجواب)) لعباس أفندي نقلا عن الخزينة (ص: 49). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 1 المطلب الثاني: المعاملات أولا: الزواج عندهم: لا يكون الزواج إلا بواحدة، وإذا كان لابد من ذلك فلا يجوز أن يتعدى أكثر من اثنتين، وفي بعض الروايات لا يجوز الزواج إلا بواحدة فقط. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 708 لأن تعدد الزواج يشترط العدل وهذا محال المصدر: جامع الفرق والمذاهب الإسلامية لأمير مهنا وعلي خريس- ص 48 لا تجوز الخطبة لمن دون الخامسة عشرة من الذكور والإناث، ويجب موافقة ستة أطراف على الزواج وهم الزوج والزوجة ووالدا الزوج ووالدا الزوجة المصدر: جامع الفرق والمذاهب الإسلامية لأمير مهنا وعلي خريس- ص 49 والمهر عندهم في المدن تسعة عشر مثقالاً من الذهب الإبريز، وفي القرى مثل ذلك من الفضة، ومن أراد الزيادة فلا يجوز له أن يتجاوز خمسة وتسعين مثقالاً (1).وهذه المهور من باب العراقيل عن الزواج الشرعي ليلجئوا الراغبين فيه إلى العهر والفجور، أما الإسلام فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((التمس ولو خاتما من حديد)) (2)؛ لأن العفاف والطهر أغلى من كل شيء فلا يتطلب صحة الزواج مثاقيل الذهب أو الفضة في الإسلام. يحللون المتعة وشيوعية النساء. لا يباح زواج الأرامل إلا بعد دفع دية، ولا يتزوج الأرمل إلا بعد تسعين يوماً، والأرملة إلا بعد خمسة وتسعين يوماً، ولم يبينوا الغرض من فرض هذه المدة. لا يجوز الزواج بزوجة الأب. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 708، 709 ثانيا: الطلاق عندهم مكروه إلا في حال الضرورة ولكل من الزوجين الحق في طلب الطلاق فإذا حصل فيسجل المحفل تاريخ الانفصال لمدة سنة بهائية واحدة تسمى سنة الاصطبار وبعد انقضاء هذه السنة يصبح الطلاق نافذا، لا يحق لأحد الزوجين الزواج خلال فترة الاصطبار كما أنه لا عدة للمطلقة المصدر: جامع الفرق والمذاهب الإسلامية لأمير مهنا وعلي خريس- ص 48 ثالثا: المواريث: زعموا أن الرجال والنساء على السواء. لكن تناقضوا بعد ذلك فإذا بهم يحرمون النساء من أشياء كثيرة في الإرث، كما قرر المازندراني أن الدار المسكونة والألبسة المخصوصة تكون من نصيب الأولاد الذكور دون الإناث؛ مخالفين زعمهم المساواة بين الرجال والنساء. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 710 فقال: وجعلنا الدار المسكونة والألبسة المخصوصة للذرية من الذكران دون الإناث والوارث إنه لهو المعطي الوهاب المصدر: عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية لأحمد بن سعد الغامدي - ص 226 للشخص أن يوصي بكل ماله لأي شخص يريد سواء كان وارثاً أو غير وارث. قرروا أن غير البهائي لا يرث البهائي؛ مخالفين زعمهم القول بوحدة الأديان واحترامها جميعاً. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 710 وفي الميراث جعل ثلث تركة الميت لبيت العدل أي للدولة التي تقوم للبهائيين فقال: (يرجع الثلثان مما تركه إلى الذرية والثلث إلى بيت العدل) (3) المصدر: عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية لأحمد بن سعد الغامدي - ص226   (1) انظر: ((البهائية نقد وتحليل)) (ص: 162). (2) رواه البخاري (5135) ومسلم (1425) واللفظ للبخاري. (3) ((الأقدس)) (ص: 144). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 2 المطلب الثالث: أحكام أخرى لا يجوزون للمرأة الحجاب تأسياً بزرين تاج التي خرجت عن كل الأعراف في ذلك الزمن بعد أن خرجت على الشريعة الإسلامية ونسختها. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 711 يقول البهاء في (الأقدس) ص94 " قد رفع الله عنكم حكم الحد في اللباس واللحى " فمعنى هذا أنه لا عورة عندهم ولا حد للتستر أو العري فشبه العارية كالعارية كالمحجبة كلهن عند البهاء سواء فهل هناك فرق بين هذه الملة وملة إبليس في محاولة تعرية الأبوين آدم وحواء في الجنة، قال تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا [الأعراف:20] المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري سن الرشد: 15 عاماً للذكر والأنثى على السواء. ألغى البهائيون جميع العقوبات الواردة في الشرع الإسلامي إلا الدية. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 711 حكم السارق النفي والحبس فإن عاد فيعلّم بعلامة في جبينه أنه سارق. المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري وحد الزناة بغير التراضي تسعة مثاقيل من الذهب تسلم لبيت العدل البهائي. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 708 وحكم الغلمان مسكوت عنه، قال المازندراني في كتابه (الأقدس) الذي نسخ به القرآن الكريم؛ لأنه كلام الله كما يفتري- قال: (قد حرمت عليكم أزواج آبائكم، إنا نستحي أن نذكر حكم الغلمان) (1). وما دام الوحي يستحي أن يذكر حكم الغلمان فمن الذي يبين حكم جريمة اللواط بعده! غريب جداً أن يستحي الرب من بيان الأحكام التي هي من ضروريات الحياة للبشر- قبح الله المازندراني وما جاء به وكل من دخل في غيه إلى يوم الدين. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 709، 710 الجهاد محرم في الشريعة البهائية، وتحريمه من أهم المبادئ التي جاء لأجلها المازندراني. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 711 قال البهاء في " (الأقدس) ص94 " حرم عليكم حمل آلات الحرب إلا حين الضرورة". ولا أعلم ما هي الضرورة عندهم إذا كان الدفاع عن النفس ليس بضرورة فقد صرح زعيمهم في زمن احتلال إسرائيل لأرض سيناء أنه لو أجبرت الحكومة المصرية البهائيين على القتال فسوف يطلقون أسلحتهم في الهواء!! المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري والسر غير خاف على أحد؛ فإن كل الدعوات الضالة من قاديانية وبهائية وسائر الدعوات اتحدت كلمتهم كلهم على محو فكرة الجهاد، لأن مصدر تلك الحركات كلها واحد، وتصب في مكان واحد، والممول واحد، وهم أعداء الإسلام الذين يهمهم جداً نسيان المسلمين لكلمة الجهاد في سبيل الله لرفع راية الإسلام. ومن المؤسف أنه تحقق للكفار ما أرادوا خصوصاً في عصرنا الحاضر. حيث يستحي أو يخاف زعماء المسلمين أن يدعوا الناس إلى الجهاد في سبيل الله صراحة، حتى ولو لتحرير بلدانهم ونسائهم وذرياتهم الذين يسومهم اليهود أشد الذل والإهانة في فلسطين وفي غيرها من ديار المسلمين. يجوز للرجال والنساء أن يلبسوا ما شاءوا دون أي اعتبار للملبوس، سواء كان حريراً أو صوفاً أو أي نوع. وللرجل أن يلبس الحرير الخالص وأن يظهر كامل النعومة، إذ لم يحرّم عليه في شرع البهائية إلا حمل السلاح أو الخوض في المسائل السياسية التي هي من خصوصيات الحكام فقط!   (1) ((الأقدس ضمن خفايا البهائية)) (ص: 166). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 3 المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 711 وقد أحل أواني الذهب والفضة فقال: (من أراد منكم أن يستعمل أواني الذهب والفضة لا بأس عليه إياكم أن تنغمس أيديكم في الصحاف والصحان) (1) وما أدري ماذا أراد بهذه العبارة ولعله أراد ألا يأكلوا إلا بالملاعق وبذلك لا تنغمس أيديهم في الصحاف والصحون. المصدر: عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية لأحمد بن سعد الغامدي - ص 226 لا يجوز للشخص أن يحلق شعر رأسه لأن الله قد خلقه زينة له. قال المازندراني في (الأقدس): (لا تحلقوا رؤوسكم؛ قد زينها الله بالشعر في ذلك لآيات لمن ينظر إلى مقتضيات الطبيعة من لدن مالك البرية أنه لهو العزيز الحكيم، ولا ينبغي أن يتجاوز حد الآذان؛ هذا ما حكم به مولى العالمين) (2). مالك البرية والعزيز الحكيم، ومولى العالمين كل هذه الصفات الهائلة الرهيبة جاءت من أجل حلق شعر الرأس في وحي المازندراني السخيف. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 712 يقدسون العدد 19، ويبنون بموجبه كثيراً من الأحكام والمعاملات فيما بينهم وبين الناس، فترى مثلاً أن: عدد الشهور 19 شهراً. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 712 وأسماؤهم: البهاء - الجمال - العظمة - النور - الرحمة - الكلمات - الأسماء - الكمال – العزة- مشيئة ـ علم ـ قدرة ـ قول ـ المسائل ـ الشرف ـ السلطان ـ الملك ـ العلام. وأسماء الأيام بدءا من الأحد " حلال , جمال , كمال , فضال , عدال , استحلال، استقلال ". المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري -الصوم عندهم تسعة عشر يوما في السنة من يوم 2 – 21 مارس الذي يعرف عندهم بشهر العلاء إلى يوم 21 مارس , ويمتنعون فيه عن تناول الطعام من الشروق إلى الغروب وغير ذلك فهو مباح. المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري وعدد أيام الشهر 19 يوماً، وكتابهم البيان 19 باباً. وزكاة أموالهم 19 في المائة. وعدد شهور السنة 19 شهراً، وفصول البيان 19. وعدد الطلاق 19 مرة، ... إلى آخر وَلَعِهم بهذا الرقم. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 712 والقاعدة في هذا المجال تقوم على أن عدد حروف البسملة هو 19، وكلمة (واحد) تساوي وفق القيمة العددية للحروف - 19؛ حيث و= 6؛ والألف = 1؛ والـ ح = 8؛ وال د = 4)!!. المصدر: البهائية للدكتور طلعت الزهران وقد شجب المطالبين بالحرية ووصمها بأقبح الصفات وسفه عقول الباحثين عنها أو الداعين إليها فقال: (إنا نرى بعض الناس أرادوا الحرية ويفتخرون بها أولئك في جهل مبين إن الحرية تنتهي عواقبها إلى الفتنة التي لا تخمد نارها كذلك يخبركم المحصي العليم فاعلموا أن مطالع الحرية ومظاهرها هي الحيوان وللإنسان ينبغي أن يكون تحت سنن تحفظه عن جهل نفسه وضر الماكرين) (3). (إن الحرية تخرج الإنسان عن شئون الأدب والوقار وتجعله من الأرذلين) (4) المصدر: عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية لأحمد بن سعد الغامدي - ص 227 والواقع أن كثيراً من المسلمين يجهلون حقائق البهائية وتعاليمها؛ لأن البهائية- وإن كانت نحلة ظاهرة لكنها كما تقدم- تخفي حقائق كثيرة لا تعرف إلا بالتعمق في دراستها. فلا غرابة بعد هذا أن ترى كثيراً من المسلمين يرددون شعارات وأفكاراً بهائية دون أن يعرفوا من أين جاءتهم؛ بل اجتهدوا في تردادها ونشرها بشتى الوسائل. وكمثال على ذلك: هذا التقديس للرقم 19 الذي يعتبره البهائيون رقماً مقدساً؛ بل هو من الأدلة القوية حسب زعمهم على نبوة زعمائهم كالشيرازي والبهائي.   (1) ((الأقدس)) (ص: 150). (2) ((الأقدس ضمن خفايا البهائية)) (ص: 150). (3) ((الأقدس)) (ص: 169). (4) ((الأقدس)) (ص: 169). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 4 ومن المؤسف حقًّا أن ترى كثيراً من المسلمين انخدعوا بزخرف أقوال البهائية فتعلقوا بهذا الرقم، ثم نظروا إلى بقية الأعداد بعين المتعمق المتفحص علّهم يصلون إلى اكتشاف آخر مثل اكتشاف البهائية للعدد 19. ولقد ألقى أحد دعاة البهائية محاضرات في الكويت (1) عن العدد تسعة عشر وعناية القرآن الكريم به؛ بل وقيام أجزاء القرآن وجمله من هذا العدد أو من مضاعفاته، وذهب يدلل على أن القرآن من الله وأنه معجزة بدليل عنايته وقيامه على هذا العدد 19، وهو العدد الذي اهتدى إليه الميرزا الشيرازي ثم البهاء ومن جاء بعدهما، وأن فيه دلالة قوية على نبوة وألوهية البهاء في القرن التاسع عشر حسب زعم البهائية. فحينما ألقى داعية البهائية في الكويت الدكتور محمد رشاد خليفة محاضرته عن العدد تسعة عشر بثت إذاعة الكويت تلك المحاضرة، ونُشرت في أماكن كثيرة في بلدان المسلمين كالقاهرة وغيرها في شكل كتيبات توزع، وأشرطة تباع وتهدى. ثم قام كثير من الكتاب بتأييد تلك الفكرة وترويجها. ولعل بعض هؤلاء الذين فرحوا باكتشاف العدد 19، وادَعوا أنه دليل على معجزة القرآن ما علموا بأنهم يخدمون بهذا العمل شياطين البهائية. ولم يقف هوس البهائية في العدد 19 عند حد، فقد جرؤوا على الكذب على الله في القرآن الكريم؛ إذ فسروا فواتح السور المشتملة على الحروف المقطعة بحسب ما يمليه مخططهم؛ للدعاية لهذا الرقم الذي أحبوه كثيراً، وذهبوا يدللون على صدق البهائية، وزعموا أن آيات القرآن الكريم وكذلك التوراة دللت على ذلك. ولقد كان للكمبيوتر مقام رفيع عندهم واهتمام بالغ، فهو الذي أعانهم- كما يدعون- على تخريفاتهم في دلالات الأعداد، ويستدلون بنتائج ما يخبرهم به على أنها حقائق لا تقبل الجدل مع أنها مملوءة بالتناقض والاضطراب والمغالطات المستورة حيناً والمكشوفة أحياناً. وعلى كل حال فإن قضية هذا العدد والخوض فيه من المسائل الطويلة والغير نافعة، وما أشرنا إليه هنا يغني في التنبيه على عمق خرافات البهائية وخداعهم للناس والخطر الذي يمكن أن يجره هؤلاء على العالم لو تحققت أهدافهم لا سمح الله (2). ونكتفي بما تيسر ذكره من مبادئ البهائية وتعليماتهم، وفي الوقت الحاضر يمكن إغفال النظر عن مناقشتها والرد عليها كلها؛ لأن التعليق عليها لا يتطلب أكثر من أنها تعاليم وعقائد غير إسلامية وليس لهم عليها من دليل إلا مجرد التخرص وما تهواه أنفسهم زاعمين بعد ذلك أنها منزلة من عند الله عز وجل، ناسخة لجميع الشرائع. يقولون هذا في الوقت الذي يتظاهرون فيه بأنهم على الإسلام، للتزلف إلى المسلمين ومخادعتهم عن دينهم. فإن العلماء يذكرون أن عبد البهاء الذي ورث النبوة بعد أبيه صلى الجمعة مع المسلمين قبل وفاته بيومين، مع أن الصلاة جماعة محرمة في شريعتهم إلا على الميت. وهو يهدف بصلاته مع المسلمين ومع النصارى ومع اليهود ومع البراهمة التدليل على أن البهائية ذات ديانة شاملة تتسع لكل المذاهب والديانات والمختلفة، وسموا هذا التخبط والاضطراب والتناقض ديناً مقدساً شاملاً. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 713 - 715   (1) انظر: ((قراءة في وثائق البهائية)) (ص: 191)، وانظر: ((البهائية رأس الأفعى)) – توسع في أخبارها الرجل البهائي الضال المضل، انظر: (13 – 46). (2) من الكتب التي تحدثت عن فضائل العدد 19: 1 - الأقدس، 2 - البيان، 3 - ما كتبه د/ محمد رشاد خلفية في محاضرته بالكويت تحت عنوان ((تسعة عشر؛ دلالات جديدة في إعجاز القرآن))، 4 - ما كتبه مصطفى محمود من أسرار القرآن فهم عصري للقرآن، 5 - ما كتبه العلماء رداً على البهائية مثل كتاب الشيخ إحسان إلهي، ومثل كتاب ((قراءة في وثائق البهائية))، وكتاب ((البهائية رأس الأفعى)). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5 المطلب الأول: الرد على الدعوة البابية أولا: إن ما تعرض له الباب في حياته السابقة على دعواه يكشف لنا عن الاضطراب العقلي والشذوذ الفكري الذي قد أصيب به الرجل في تلك الفترة كانصرافه عن الدراسة الجادة والتعلم المفيد إلى تعلم تسخير الكواكب كما يزعم ومخاطباتها مما لا يرجع إليه بفائدة لا في دينه ولا دنياه ولا شك أن ذلك عبث لا يذهب إليه إلا من ضعف علقه ودينه. وقد أثرت فيه تلك الرياضات النفسية والخلوات الصوفية التي كان يعيشها كذلك كجلوسه على سطح المنزل من وقت الظهر إلى العصر في شدة الحر رغم شدة الحرارة في ذلك الوقت وتلك البلدة بصفة خاصة مما عرضه لنوبات عصبية وكاختفائه في أعماق الظلام مع شذاذ آخرين مثله وغير ذلك من الأعمال الصوفية التي قل أن يسلم معها العقل من الفساد والانحراف. وقد ظهرت على الباب آثار ذلك المسلك الشاذ مبكرا حيث كان يتحدث بكلام شاذ مع السرحان الفكري الذي كان يرى عليه بعد ذلك. وهذه الحياة البابية تعطينا الدلائل المقنعة أن الرجل قد أصيب في فكره وعقله وذلك هو بعينه ما ذكره العلماء الذين اجتمعوا معه لمناظرته لأنه كان يتكلم بأمور عجيبة وهذيانات غريبة. وقد زاد في فتنته تلك الشخصية الغربية (كاظم الرشتي) إذ اتصل به ودرس على يديه وقد كان بعد لقائه به في حالة نفسية غير عادية كما شهد زملاؤه ذلك منه بعد مشاركته لهم في الرياضة الصوفية المسماة بالأربعينية. كل ذلك يؤكد لنا أنه قد أصيب في عقله قبل ظهوره بدعواه تلك. ثانيا: تدرج الباب في دعواه تلك إذ ادعى أولا أنه الباب إلى الإمام المختفي ثم لم يقف عند ذلك الأمر بل ادعى أنه هو المهدي المنتظر وكان يكفي هذا الكذب المكشوف دليلا على كذبه مع أن قضية الإمام المختفي من أساسها قضية مكذوبة لا يسندها دليل نقلي ولا عقلي وهي لا تسيطر إلا على أدمغة فارغة لا تزال تتوارثها على جهل وبلادة منها وإلا فأي مصلحة للبشر في إمام مختف من منتصف القرن الثالث الهجري إلى اليوم ولم يخرج لإنقاذ المسلمين رغم ما تعرضوا له من فتن داخلية وهجمات خارجية كادت تجتث العالم الإسلامي من أساسه ولا تخفى الحروب التترية والصليبية على أحد وما أحدثته في الأمة الإسلامية إنها فكرة عجيبة تزرى بالعقل البشري الذي يصدقها ويؤمن بها ولقد كانت هذه الضلالة تكأة لكل من أراد حرب هذا الدين أو خلخلة بنائه ولو لم تكن هذه الفكرة قائمة في المجتمع الشيعي لما كانت لذلك الضال ثغرة يخرج منها على عقيدة الأمة وإذا كانت هذه الفكرة من أساسها باطلة فإن دعوة الباب متهافتة من أصلها. ولم يقف الباب عند دعوى بابيته للمهدي بل ادعى أنه هو المهدي نفسه يا عجبا لهذا الهوس بالأمس أنت الباب واليوم أصبحت المهدي الذي كنت بابا له ويا ليته وقف عند تلك المرحلة من الضلالة ولكنه تدرج إلى دعوى النبوة والاتصال بالسماء بل ونسخ الدين الإسلامي الخاتم للأديان العميق الجذور في نفوس الأمة الإسلامية والتي لا ترضى به بديلا عنه تحويلا لكماله وجلاله ولكونه آخر الرسالات السماوية كما فهمته من كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم. وهذه الدعاوى البابية والتي انتهت إلى ادعاء النبوة وديانة جديدة ما كان لها أن تلقى شيئا من العناية لولا ما يساندها من رعاية الاستعمار لها ورعايته لزعمائها – مع أسباب أخرى ستأتي فيما بعد إن شاء الله – إذ ليس لديها من الأسس ما يمكنها من الظهور والبقاء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 ثالثا: إن هذا الكتاب البابي (البيان) لو وقع في يد أي شخص من العقلاء وقرأ ما فيه لما تبادر إلى ذهنه إلا أنه مقالات كتبها شخص مصاب في عقله ولولا الحقد والهوى اللذان يحجبان الإنسان عن رؤية الحق لما وجد الباب إلا الإهانة والازدراء لذلك السخف والجهل الذي يجلل كتابه من كل وجه. وإلا فكيف يدعي أنه كتاب سماوي أنزله الله سبحانه وتعالى عليه متحديا للبشرية أن يأتوا بمثل حرف من حروفه فمتى كان الحرف يؤدي معنى بمفرده في جميع لغات البشر ثم بصرف النظر عن هذه الأعجوبة كيف يتحدى الناس بكتاب لا تخلو عبارة من عباراته من خطأ أو ركة في الأسلوب والتي قد رأينا طرفا منها من قبل نحو (ولا في البحر إلا خمس حول) أي خمسة أحوال بلغة العرب ونحو (فليؤتين قرينه اثنتي ومئتين .. ) أي اثنتين ومائتين .. وترضيون .. ) إلى غير ذلك مما ورد سابقا فأية عبارات هذه وأي أسلوب هذا الذي لا يليق بصغار طلبة العلم بل لا يليق بعوام الناس في المجتمعات العربية بله أن ينسب إلى الله عز وجل ثم يتحدى الباب به البشر بل بحرف منه أنها حماقة وبلادة تلك التي ضربت بأذيالها على عقلية الباب وأتباعه حتى أصبحت المنقصة في عرف العقلاء محمدة عندهم والعي عند أرباب العقول والفصاحة بلاغة في ميزانهم ولا أظن العي والنقائص في ذلك الكتاب إلا إذا كان له الحقيقة ويهديه إلى صراط الحق وطريق النجاة. ولما سئل الباب عن ذلك الفساد في أسلوبه وعدم التزامه بقواعد العربية الفصحى قال: (إن الحروف والكلمات كانت قد عصت واقترفت خطيئة في الزمن الأول فعوقبت على خطيئتها بأن قيدت بسلاسل الإعراب وحيث إن بعثتنا جاءت رحمة للعالمين فأطلقت من قيدها تذهب إلى حيث تشاء من وجوه اللحن والغلط) (1). هذه هي العقلية البابية التي تزعم أنها جاءت لإنقاذ البشر. رابعا: إن تعاليم الباب تلك التي أراد أن يقدمها للناس وينسخ بها شريعة الإسلام لا يخفى فسادها وعدم صلاحيتها على القارئ الفطن. وإلا فأي دين هذا الذي يقطع صلة العبد بربه طوال الأربع والعشرين ساعة لا يقف بين يديه إلا مرة واحدة ثم يصلي تسع عشرة ركعة في فترة واحدة ثم لا يصلون إلا فرادى بدلا من الجماعة التي كان المسلمون يجتمعون لها في ظل الأخوة والمحبة فتتقوى رابطتهم وتزداد محبتهم ثم أي قبلة هذه التي هي (مكان الباب نفسه) لماذا تستبدل الكعبة المشرفة ذات التاريخ الطويل الذي يربط الأمة الإسلامية ببعضها من زمن بعيد إلى اليوم حيث تمثل ثباتا مستمرا في التعظيم والتقديس ولا شك أن اختيار الله لها لتكون قبلة لهم من حكم الله العظيمة التي تعلم الأمة الإسلامية الواحدة الكبيرة زمانا ومكانا. ثم هذا السارق لا يكلف إلا غرامة مالية يمكن أن يدفعها من نفس المسروق وهو تسعة عشر مثقالا من الذهب إن ذلك لا شك ليس كافيا لإيجاد الأمن في المجتمع. ثم الذي يقطع شيئا من جسم أي إنسان يده رجله ليس عليه إلا أن يدفع خمسة وتسعين واحدا من الذهب وتحرم علي زوجته تسعة عشر يوما فقط وبعدها يعيش آمنا بدون قصاص. وأخيرا يأتي ذكر الآداب يا لها من آداب لا تشربن لبن الحمير لا تركبوا الحيوان إلا بلجام لا تقربن البيضة قبل أن تطبخ!! هذه نبذة من تعاليم الباب لولا ضرورة البحث لما ذكرت منها شيئا لسخافتها وفسادها لأنها من نتاج إنسان مصاب في عقله وفكره. خامسا: لم يقدم لنا الباب الأدلة على دعوته تلك وكل دعوى مجردة من دليلها فهي بلا شك دعوى باطلة. ونحن لم نر في تاريخ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن أحدا منهم دعا قومه إلى الإيمان به ولم يقدم لهم الدليل الكافي لإقناعهم بصدق دعواه. وإلا فإن لأي إنسان من الناس أن يدعي ما يريد ويضلل الناس بما يريد ولهذا فإن من رحمة الله عز وجل بالناس أن جعل للأنبياء السابقين براهين واضحة تؤكد صدقهم وتبينه وهو بذلك سبحانه يقيم الحجة للأنبياء ويقطع الطريق على الضالين فلا يستطيعون إضلال الناس إلا عندما تصاب عقولهم وأفكارهم بأمراض تفقدها قدرتها على التمييز ومعرفة الحق. ولهذا فإن دعوة البابية دعوة مرفوضة أصلا لخلوها من أهم الأسس التي تقوم عليها الدعوات الصحيحة نعم قال إنه يتحدى البشر أن يأتوا بحرف واحد من بيانه المزعوم وأن هذه الدعوى لمن أكبر الأدلة على جنونه وإصابته بهبوط عقلي لا يدري معه ما يقوله للناس. المصدر: عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية لأحمد بن سعد الغامدي - ص 214 - 218   (1) ((مفتاح باب الأبواب)) للدكتور محمد مهدي خان (ص: 99) ذكره الدكتور محسن عبد الحميد (ص: 94) من ((حقيقة البابية والبهائية)). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 المطلب الثاني: الرد على الدعوة البهائية بعد أن عرضنا بعض الجوانب العامة لتلك النحلة البهائية والتي تعتبر امتدادا للحركة البابية – بعد ذلك نقف معها هنا لنوضح بطلانها على ضوء ما تقدم من جوانبها. أولا: حياة البهاء كانت شبيهة بحياة سلفه الباب من حيث النشأة الصوفية التي عاشها كل منهما حيث رأينا من قبل أنه كان (معدودا من كبار المتصوفة وشيوخهم) ولعل ذلك الاتجاه الصوفي كان له أثر كبير في توجيهه إلى ذلك الانحراف والخروج على عقيدة المسلمين بدعوى النبوة؛ إذ إن المجاهدات الصوفية التي يعيشها أهل التصوف قد تؤثر على أعصاب من يبالغ فيها لشدة الجوع والألم الذي يعانيه ذلك المتصوف. زد على ذلك مخالطته لأستاذه الباب وانخداعه بأفكاره وآرائه. ثانيا: إن أول ما ظهر به البهاء هو دعواه أنه المسيح ابن مريم وذلك لأنه يعلم أن المسلمين يعتقدون عودة المسيح عليه السلام إلى هذه الأرض فظن أنه لو ادعى أنه هو المسيح لانخدعوا بدعواه تلك إذ ليست أقل من ادعاء سلفه الباب حينما ادعى أنه المهدي الموعود فكان له أتباع وأنصار، علما بأن صفات المهدي عند كلا المذهبين – السني والشيعي – لا تنطبق على الباب فما المانع أن يدعي هو أنه المسيح فادعى ذلك وقال: (قال يا قوم قد رجع الروح مرة أخرى ليتم ما قال) وقال: (اعلم بأن الذي صعد إلى المساء قد نزل بالحق) وهو يعلم كذب تلك الدعوى كما يعلمها كل إنسان له عقل إذ كيف أن الذي صعد نزل مع أن هذا الميرزا حسين معروف أنه ولد على الأرض بين الشيعة أنفسهم وتنقل بين مخابئ التصوف فكيف يدعي أنه هو المسيح نزل مرة أخرى، ولكن التأويل الآثم الذي فتحته الباطنية المجوسية هو القاعدة الأساسية لكل دعوة تريد أن تخرج على الدين فإنها تستطيع أن تدعي لكل آية ظاهرا هو ما فهمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده وباطنا وهو ما علمه فروخ مزدك وأحفاد ماني وبذلك تكون أفهامهم وعقولهم أصدق وأعلم من فهم وعقل سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. وهذا المسلك – مسلك الباطن والظاهر– لو سلكه الناس في أي شيء من حياتهم لاختلت موازين الحياة ومفاهيمها إذ كل إنسان يستطيع أن يدعي لكل قول يقوله أو يقال له إن له ظاهرا وباطنا حتى مع هؤلاء الباطنيين ويقال للباطن كذلك إن له باطنا وللباطن باطنا وهكذا .. وهكذا سلسلة من المغالطات والمعارضات ليس لها رصيد من نقل ولا عقل ولو سلمنا لهذا المدعي أنه المسيح فما علامة صدقة؟ نحن نعلم من الآثار الواردة عن المسيح عليه السلام أنه ينزل في دمشق وأنه يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويقتل الدجال وتنزل الأمنة في عصر .. إلخ تلك الصفات التي وردت فيه فأين هي في ذلك الدعي؟ ثم إنه لما علم أن المسيح لا ينسخ الإسلام بل يعمل به ويقيم شرعه– وهو مرسل لنسخ الإسلام– ادعى النبوة استقلالا، وأن الله عز وجل قد تراجع عن ختم النبوة بسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ففتحها للبهاء كما زعم ذلك حيث قال (لا تحسبن أنا أنزلنا لكم الأحكام بل فتحنا ختم الرحيق المختوم بأصابع القدرة والاقتدار يشهد بذلك ما نزل من قلم الوحي). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 فما الذي طرأ على علم الله سبحانه وتعالى حتى يلغي إرادته السابقة والتي قد أخبرنا بها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم والنسخ لا يدخل الأخبار لأن الخبر ليس له إلا حالتان إما أن يكون صادقا أو غير ذلك وأخبار الله عز وجل كلها صدق وعدل فما أخبرنا بوقوعه فإنه لا محالة واقع؛ إذ الله عز وجل لا يهزل ولا يكذب ولا يجهل حتى يدعي هذا الدجال أنه فتح باب النبوة يا لها من حماقة تلك التي ارتكبها ذلك المفتري على الله عز وجل حينما أعلن فريته تلك، وزعم أن الله عز وجل (فك ختم النبيين) وسيذكر هو وأتباعه ذلك الإجرام عندما يقول الملك الحق سبحانه وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ [الصافات:24] ولكن عندما نرى الحلقة الأخيرة من حلقات الضلال التي تدرج فيها ألا وهي الاعتداء على مقام الربوبية، فإنا نتيقن أنه لم يكن في كامل قواه العقلية عندما كان يظهر إلهاماته تلك، وإلا فهل هذا القول (يا ملأ الإنشاء اسمعوا نداء مالك الأسماء إنه يناديكم من شطر سجنه الأعظم أنه لا إله إلا هو المقتدر المتكبر المتسخر المتعالي العليم الحكيم أنه لا إله إلا هو المقتدر على العالمين) هل هذا قول إنسان عاقل حيث يصف نفسه بهذه الصفات التي لا تليق إلا بالله ثم يكون في سجن ثم أي عبارة هذه التي اخترعها (المتسخر) ومن أي القواميس أخذها ولم يكن أتباعه بأقل حماقة منه حيث كانوا يصفونه بصفات الربوبية كذلك كقولهم (ربنا الأبهي) وقولهم (الله عز وجل اسمه وعز ذكره) (1). ثالثا: أما أدلته على استمرار الوحي فلا يخرج بعضها عما اعتاده أهل التشيع الغالي منهم والمعتدل حيث كانوا يستشهدون في دعاواهم بأقوال ينسبونها إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أو أحد أئمتهم الوارثين لعلي رضي الله عنه ولما كان البهاء قد عاش في وسط شيعي فإنه لا بد أن يسلك مسلك سلفه الشيعة للاحتجاج على ما يريد ولهذا فقد افترى تلك الكذبة الآثمة على علي رضي الله عنه وقد تكون مما افتراه غيره ثم استغله هو كذلك. وهذه القولة المزعومة على علي رضي الله عنه والتي تقول: (أين المدخر لتجديد الفرائض والسنن وأين المتخير لإعادة الملة والشريعة) هذه القولة قولة آثمة يتبرأ منها علي رضي الله عنه ولا يستطيع أحد أن يثبت سندها إليه. ثم لماذا يترقب علي رضي الله عنه ذلك وقد كان الدين في عهده لا يزال غضا طريا؟ عجبا للباطل كيف يجد وسائله التي ينخدع العقلاء بها بل إن العقلاء أبعد من أن تنطلي عليهم تلك الأكاذيب، ولكن النفوس المريضة التي لم تخالطها بشاشة الإيمان يسهل قيادها بسلسلة الخداع والبهتان. أما ما نسب إلى جعفر الصادق رضي الله عنه فليست هي الأولى من تزويراتهم عليه إذ قد زوروا عليه من الأقوال ما لا يحصى حتى أن كتاب (الكافي) الذي هو أكبر أصول الشيعة قد احتوى منها على مئات الأقوال فلا يستغرب إذن من أحد سلالات الشيعة أن يحذو حذو آبائه من قبل وحتى لو ثبت ذلك عن أبي جعفر الصادق فإنه ليس نبيا يؤخذ عنه ما يقول فهو كأي عالم آخر لا يقبل قوله في أقل أمور الشريعة – وليس فيها قليل – إلا بدليل فكيف يؤخذ عنه ما يهدم الإسلام ويخالف نصوص القرآن والسنة الصريحة كما رأينا طرفا منها في أول هذا البحث والتي تنفي مجيء نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.   (1) ((كتاب البهائية)) لمحب الدين الخطيب (ص: 39 - 45). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 أما استشهاده بقوله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ. [المائدة:64]، فإن ذلك في غاية العجب إذ أحدث لها تفسيرا لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولا عن التابعين ولا عن أحد من الأمة الإسلامية إلى اليوم. فالآية توبخ اليهود وتفضح عقائدهم الباطلة في الله عز وجل حيث يصفونه تعالى بالبخل عليهم وعدم العطاء لهم هذا هو معنى الآية الكريمة يقول الطبري رحمه الله: (إنهم قالوا: إن الله يبخل علينا ويمنعنا فضله فلا يفضل كالمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطها بعطاء ولا بذل معروف) (1).وقال ابن كثير رحمه الله: (يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة بأنهم وصفوه – تعالى عن قولهم علوا كبيرا – بأنه بخيل كما وصفوه بأنه فقير وهم أغنياء وعبروا عن البخل بأن قالوا: يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64] (2). هذا هو فهم علماء الأمة الإسلامية لكلام الله عز وجل ليس كما يزعم البهاء أن اليهود قالوا: إن الله بعد أن خلق الطلعة الموسوية أصبحت يده مغلولة. ولكنها الباطنية الخبيثة تتجلى في كل عصر بمظهر جديد يتناسب مع البدعة التي تظهر بها وقد بدأت سلسلة التأويلات المنحرفة من زمن بعيد على أيدي أولئك الباطنيين ليهدموا بها شريعة الإسلام التي كانت شجي في حلوقهم وسهاما في قلوبهم المريضة لأنها حالت بينهم وبين شهواتهم المنحرفة فأعملوا في ذلك عقولهم حتى أوجدوا لهم ما يستطيعون به إتيان الأمور المحرمة في ظل التأويل الباطني. ولو ترك الأمر لكل ضال ختال ليقول في القرآن برأيه لما بقيت للشريعة الإسلامية باقية لأن أوجه الاحتيال تتعدد وتتنوع من شخص لشخص ومن عصر لآخر وهكذا. رابعا: لقد جاء البهاء بتعاليم غريبة وعجيبة تحمل في داخلها دليل بطلانها وفسادها وقد رأينا ما ذكره فيها من تحريم الدخول في حمامات العجم ووصفها بالنتن والعفونة .. وهذه وصمة لتلك الأمة وتشهير بها على مدى الزمن لو تغيرت أوضاعها. فأية تعاليم هذه التي تشجب أمة من الناس لوجود عيب في بعضهم يمكن أن يزول؟ وهلا دعا إلى نظافتها والاهتمام بها إن كان عاقلا؛ إذ تلك الصفة قد تزول وتنتهي وتبقى المذمة مدونة في كتاب البهائية على مدى الدهر ثم إنه ليس كل حمامات العجم على صورة واحدة كأي مجتمع بشري آخر منها النظيف ومنها دون ذلك ثم إن كان هذا خطابة لغير العجم فما هو تشريعه للعجم في ذلك. وإن هذا لدليل واضح على كذب البهاء في نسبة دعوته إلى الله عز وجل إذ يتعالى الله سبحانه عن مثل هذه الهذيانات الهابطة. ولكنها حماقات إنسان فقد وعيه وانساق وراء وساوس الشيطان حتى أصبح لا يدري ماذا يقدمه لأتباعه فهام في أودية الحمامات وتنقل في مستنقعات العجم فوجدها منتنة كنتن عقيدته التي لا تعدو أن تكون صورة لتشريعه ذلك ..   (1) ((تفسير الطبري)) (10/ 451). (2) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 75). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 10 وأما قوله: (أن الذي ربى ابنه أو أبناءه كأنه ربى أحد أبنائي) فإن وجود ذلك في كتاب (الأقدس) الذي يعتبر وحي البهاء فإما أن يزعم البهاء أن هذا من كلام الله فيكون قد أثبت له أبناء كما للبشر أبناء وهذه الفرية قد نفاها القرآن لكريم بشدة واعتبرها كبيرة يكاد الكون كله يتشقق لذكرها حيث قال الله عز وجل ذكره: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:88 - 93]. وأما إن كان يعني ابن نفسه هو فقد أبطل زعم أن كتابه وحي من السماء وادعى لنفسه صفات الألوهية في قوله: (كأنه ربى أحد أبنائي عليه بهائي وعنايتي ورحمتي التي سبقت العالمين) فكونه يرعاه ويرحمه برحمته التي سبقت العالمين فإنه ليس بشرا عاديا بل قد شارك الله عز وجل في قدرته على العناية والرحمة التي وجدت قبل وجود العالمين إذن فقد وجد هو قبل العالمين .. إنه اضطراب وخلط عجيب. وعبارات (الأقدس) مرة تكلم باسم الله ثم فجأة وإذا بها تتكلم باسم البهاء نفسه مما يدل على عدم قدرته على حبك قضيته. وقد ورد غير ما تقدم ما يلي (سوف يرتفع النعاق من أكثر البلدان اجتنبوا يا قوم ولا تتبعوا كل فاجر لئيم هذا ما أخبرناكم به إذ كنا في العراق وفي أرض السرو في هذا المنظر المنير). فهو يتحدث عما سيحدث ويوصيهم بعدم اتباع الفجار اللئام – كما يزعم – ثم إذا به يتحدث باسم نفسه فيذكرهم أنه قد أخبرهم بهذا القول في العراق إذ لا يعقل أن الله عز وجل قد كان بالعراق ثم انتقل إلى عكا إذ إن هذه من صفات البشر الذين يعيشون داخل هذا الكون أما إله الكون فهو أكبر من كل شيء سبحانه وتعالى. وهكذا ظلمات بعضها فوق بعض وتناقض لا يخفى على من أراد الحق إلا أن الضلال إذا تمكن من شخص فإنه يصمه ويعميه عن سماع الحق ورؤيته أعاذنا الله من خذلانه. هذا جانب من تعاليم البهائية التي كانت امتدادا للبابية وكلاهما كونا ديانة جديدة زعم أتباعها أنها نسخت الإسلام فأي نعمة تستفيدها البشرية من هذه التعاليم التي تتضمن رد الناس إلى الديانة المجوسية وطمس الجوانب الكريمة في الإنسان وإركاسه في مستنقعات الذلة والصغار إذ يحرم عليه أن يشم رائحة الحرية والتي تعتبر قاعدة متينة لكل دعوة صحيحة وقد كانت متمثلة في واقع المجتمعات الإسلامية التي يقول كتابها وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70]، فأي حياة تلك التي تختفي منها حرية الإنسان. وهذه الدعوة من البهاء هي دعوة للرضا بالاستعمار الذي حمى تلك الدعوة ومكنها من القيام إن لم يكن خطط لها وأوجدها، ولهذا فإننا نرى عبد البهاء ينسخ الجهاد صريحا ... الجهاد الذي يفزع الاستعمار وبذلك يمكن عقيدة الذلة التي أرسى قواعدها أبوه من قبل. يقول عبد البهاء في ذلك: (ويفتح ذلك المظهر الكلي بالقوى الريحانية لا بالحرب والجدل وبالصلح والسلام لا بالسيف والسنان ويؤسس هذه السلطنة الإلهية بالمحبة الصحيحة لا بالقوة الحربية وروح هذه التعاليم الإلهية بالمحبة والصلاح لا بالعنف والسلاح) (1). وبذلك يتمكن المستبدون من إذلال الأمم وإفساد أديانها ونهب خيراتها وهم آمنون من القوة الحربية؛ إذ قد أصبحت البشرية في متناول يد كل طاغية وهذا ما أراده الاستعمار ودعا إليه البهاء.   (1) (ص: 53) من كتابه ((النور الأبهي)). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 خامسا: أما كتاب البهائية (الأقدس) فهو عبارة عن خيالات صوفية وعبارات فلسفية أراد صاحبها أن يبهر الذين يقرؤونها بتلك الهالات من الألفاظ التي لا يجد تحتها القارئ فائدة تذكر مع ما فيه من عجمة اللفظ وسقم العبارة. ففي أوائل ذلك الكتاب (قل من حدودي يمر عرف قميصي وبها تنصب أعلام النصر على القنن والإتلال وقد تكلم لسان قدرتي في جبروت عظمتي مخاطبا لبريتي أن اعملوا حدودي حبا لجمالي طوبى لحبيب وجد عرف المحبوب من هذه الكلمة التي فاحت منها نفحات الفضل على شأن لا توصف بالأذكار لعمري من شرب رحيق الإنصاف من أيادي الألطاف أنه يطوف حول أوامري المشرقة من أفق الإبداع) وفي أواخره يقول: (يا أهل الإنشاء إذا طارت الورقاء عن أيك الثناء وقصدت المقصد الأقصى الأخفى) وهذا الأسلوب يرجع إلى النشأة الصوفية التي عاشها كما رأينا ذلك في ترجمته أما عباراته فلا يخفى على القارئ ما فيها من مظاهر العجمة التي لا تمت إلى اللغة العربية بصلة فهو مع سوء التركيب غامض المعنى، فانظر مثلا إليه وهو يقول: (قد أخذهم سكر الهوى على شأن لا يرون مولى الورى) ويقول كذلك: (لعل تسطع) و (لعل تجدون) و (لعل تدعون) ويقول: (اذكروا يا قوم نعمة الله عليكم إذ كنتم رقداء أيقظكم من نسمات الوحي) ويقول: (قد أخذتنا الأحزان بما رأيناك تدور لاسمنا) وهكذا أكثر عبارات ذلك الكتاب عجمة في اللفظ وركة في الأسلوب وفساد تصور في العقيدة كما في الجملة الأخيرة التي تصف الله عز وجل بأنه قد حزن عليه وهو تائه (تدور) أي تبحث ولهذا فإن أحد دعاة البهائية الكبار يقول (نحن معاشر الأمة البهائية نعتقد بأن مظاهر أمر الله ومهابط وحيه هم بالحقيقة مظاهر جميع أسمائه وصفاته ومطالع شموس آياته وبيناته لا تظهر صفة من صفات الله في الرتبة الأولى إلا منهم ولا يمكن إثبات نعت من النعوت الجلالية والجمالية إلا بهم ولا يعقل إرجاع الضمائر والإشارات في نسبة الأفعال إلى الذات إلا إليهم؛ لأن الذات الإلهية والحقيقة الربانية غيب في ذاتها متعال عن الأوصاف بحقيقتها منزه عن النعوت بكينونتها) (1). وبهذا يصبح البهاء على كرسي العظمة الربانية تسبغ عليه كل الصفات الربانية وتنسب إليه كل أفعال الكون لأنه مشهودة والله الخالق غيب وهكذا الضلال يتتابع ويتوالد وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا [الأعراف:58] فأي دين هذا الذي بدأ بالمسيحية وانتهي بالربوبية إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وتتضح حقيقة تلك الدعوة المنحرفة عندما نرى صلتها بالاستعمار الحاقد على الإسلام وأهله وباليهود أعداء البشرية أجمع والذين يقفون وراء كل معول يهدم الأديان والأخلاق لتسهل عليهم السيطرة على الحياة البشرية في غيبة الحق وانطماس أنواره. ويريد بعد هذا الخلط والسفه أن يستبدل كتابه هذا بالقرآن الكريم الذي تحدى بإعجازه فطاحل العربية وفصائحها والذين كانت أذواقهم العربية في ذروة الأذواق حتى كان يبلغ الأمر بأحدهم إذا سمع عبارة فصيحة بليغة يخر لها ساجدا ثم يأتي هذا الأعجمي الذي لا يحسن مبادئ العربية لينسخ بلكنته الأعجمية ذلك المعجز ولعل الفصاحة القرآنية كانت إحدى الأسباب في هزيمة هذه النحلة في البلاد العربية فاتجهت إلى البلاد الأعجمية للبحث لها عن موطن لا يستطيع عوام الناس فيه أن يروا عوارها أو يكشفوا أستارها، وأن العلماء في تلك المجتمعات قد هاجموها وبينوا زيفها إلا أن الطبقة غير المتعلمة تبقي فريسة لأمثال تلك الدعوات الضالة. وتتضح الرؤية لتلك الدعوات الضالة بدرجة أكثر إذا رأينا صلاتها بأعداء الإسلام من يهود ونصارى وغيرهم إذ هم الذين كانوا يقفون وراءها كل دعوة تهدم الأديان وتفسد الأخلاق. المصدر: عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية لأحمد بن سعد الغامدي – ص: 229   (1) ((الدرر البهية)) (ج 54) نقلا عن ((البهائية)) (ص: 35 – 37). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 12 المطلب الثالث: شبهات البابية والبهائية في ختم النبوة تتفق البابية والبهائية والقاديانية في الشبهات التي أوردوها وانفردت البابية والبهائية بثلاث شبهات وإلى القارئ البيان: الشبهة الأولى والجواب عنها: هي أن شريعة الإسلام لم تعد صالحة لهذا العصر ولم تعد مقبولة في ظل الحضارة المادية الحاضرة وسوغ دعايته الضالة بقوله: (الإنسان ما زال في تطور ورقي فكذلك الشرائع في تطور وتبدل على مقتضى الأزمان والأدوار والشريعة التي تصلح لزمان قد لا تصلح لزمان آخر فهذه الأمة المحمدية قد كانت مستظلة بسماء شريعة القرآن أكثر من اثني عشر قرنا تركتها واستعاضت عنها بالقوانين الوضعية ولا تكاد تجد الآن دولة من دول أمة القرآن تحكم بشريعة القرآن كاملا إلا في بعض الأحوال الشخصية وما ذاك إلا لأنهم لم يجدوا أنها تصلح لزمانهم هذا) (1). أقول وبالله التوفيق: الجواب عن هذه شبهة هذا الكذاب: أما قوله إن شريعة الإسلام لم تعد صالحة لهذا العصر ... إلخ فكلام باطل مسروق من كلام المستشرقين الذين يحملون الحقد الدفين على الإسلام والمسلمين ويطعنون في هذا الدين القيم مثل هذا الطعن الذي لم يكتسب وصف الصحة يوما قط ولم يتأيد ببرهان بل الشريعة الإسلامية شريعة كاملة وافية بحاجات البشر من يوم أن نزلت من السماء على رسول رب العالمين وخاتم النبيين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. والدليل الأول على ذلك قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3] يصرح الله بكمال هذه الشريعة الغراء ويطعن فيها هذا الدجال بأنها لم تعد صالحة لهذا العصر يعني أنها ناقصة إن صلحت للعصر النبوي فلا تصلح لهذا العصر أي فيحتاج الناس إلى نبي جديد وكذب في ذلك وقلب الحقائق وموه على خفافيش الأبصار وقال الله في آية أخرى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153] أمرنا الله باتباع سبيل القرآن والسنة فلو كانت غير صالحة لما أمرنا باتباعها. وفي الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)) (2).قال أبو ذر: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء - إلا وهو يذكرنا منه علما- (3). أو كما قال. والشريعة الإسلامية شريعة عالمية صالحة لجميع الأقوام والأجناس وبالاختصار نقول: صالحة لسكان الكرة الأرضية كلهم خالدة جاءت لتبقى على كر الدهور ومر العصور إلى يوم ينفخ في الصور وما أتت الشريعة يوما قط لقوم دون قوم أو لعصر دون عصر ومن ادعى خلاف هذا القول فقد كفر بالله العظيم واتبع غير سبيل المؤمنين   (1) من ((حقيقة البابية والبهائية)) للشيخ محسن عبد الحميد نقلا عن ((التبيان والبرهان)) (2/ 7). (2) رواه ابن ماجه (43) وأحمد (4/ 126) (17182) والحاكم (331) والطبراني (15352) كلهم بدون لفظة المحجة. قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (937): إسناده صحيح. وصححه في ((صحيح الترغيب)) (59). (3) رواه الطيالسي (479) وأحمد (5/ 153) (21399) والطبراني (2/ 155) (1647) والدارقطني في ((العلل)) (1148). قال البزار في ((البحر الزخار)) (9/ 341) [فيه] منذر الثوري لم يدرك أبا ذر. قال الدارقطني: غير ابن عيينة يرويه عن فطر عن منذر الثوري عن أبي ذر مرسلا وهو الصحيح وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 264): رجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقري وهو ثقة، وفي إسناد أحمد من لم يسم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 13 ولو ذهبنا نسرد الأدلة من الكتاب والسنة لطال بنا المقام ولكن نكتفي بالآيتين والحديث الآنف الذكر. الدليل الثاني: قلنا جاءت هذه الشريعة لتبقى دائما لا ينسخها ناسخ كما مر في باب النسخ وأنها تعطي للثقلين متطلبات الحياة ولها رصيد من التشريعات لكل ما يفتقر إليه الناس في أمور دينهم ودنياهم وفيها الاستعداد الكامل لحل كل مشكلة تحدث للأنام وذلك لما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة من القواعد والأسس والنصوص العامة ما يتمكن منه المجتهد على اختلاف العصور والبلدان والمجتمعات أن يستخرج من الوحيين ما يحل كل مشكل ويحكم في كل نازلة وإن لم تكن حدثت في عصر الرسول وأصحابه أو في العصور التي بعدهم. وقوله: (إن الأمة المحمدية يعني دولها استعاضت بالقوانين الوضعية ... ) إلخ. الجواب: إن التعميم الحاصل منه لجميع الأمة الإسلامية في كونها تركت أحكام الشريعة الإسلامية غير صحيح بل لا زال ولله الحمد كثير من الدول تحكم بالشريعة المحمدية وأما احتجاجه بالدول الآخذة بالقوانين فحجة أوهي من بيت العنكبوت إذ فعل هؤلاء ليس حجة على شريعة الله ورسوله هؤلاء الآخذون بالقوانين متأثرون بدعاية الغربيين والمستشرقين ولقلة علمهم بدين الإسلام الصحيح وما أتى به من حل كل المشاكل التي تحصل للبشر ومن خضوعهم لدول الغرب والشرق وجعل أنفسهم أذنابا لهم تركوا بعض الأحكام الشرعية وجنحوا إلى القوانين الأوربية أفي فعل هؤلاء حجة وأحوالهم معلومة من كونهم يدورون في فلك الدول المستعمرة لا يبالون بدين ولا شريعة وبعضهم قد دخل في مبدأ الماسونية أناس لا يعرفون الله ولا يخضعون لشريعة الله ويستبيحون المحرمات ويقرون المنكرات في بلادهم فهل يحتج عاقل بفعل هؤلاء ولو فرضنا أن تنصر هؤلاء أو تهود بعض المسلمين أفيكون حجة لليهود والنصارى على أن دين الإسلام غير صحيح والحجة دائما إما أن تكون عقلية أو نقلية، والنقلية إما من كتاب ربنا أو سنة نبينا وليس هنا حجة لا من عقل ولا من نقل فإذا كان البهائي ومثله القادياني يعترف أن محمدا رسول الله والرسول باتفاق المسلمين واليهود والنصارى وسائر الملل من صفاته الصدق وعدم الكذب فإذا كان كذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر إضافة إلى القرآن أن الله ختم به النبوة في أحاديث كثيرة متواترة والتواتر يفيد القطع بالاتفاق وقيام الدين البهائي لم يخف على أحد أنه قام على أكتاف دولة الروس وأن هذه الدولة هي التي حضنت البهائية وربتها ولما ترعرعت هذه الديانة وشبت وأعلنت كفرها الصريح وقتل الميرزا علي محمد الباب ونفي أتباعه احتضنهم الإنجليز وأوحى لهم أن يتخذوا عكا مركزا لهم ديانة هذه أصولها فكيف يقبلها عاقل ويصدق بأنها سماوية؟ والتشريعات التي أتى بها هي من السخف والهذيان بمكان لا يخفى ويكفي أنه قد أباح الزنا لقاء مثاقيل من الذهب تؤخذ من الزاني لبيت المال وكفى بهذا قبحا وضلالا. الشبهة الثانية والجواب عنها الشبهة الثانية للبابية والبهائية على ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم هي أن الله قال: وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب:40]. ولم يقل وخاتم المرسلين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 14 والجواب عن هذه الشبهة السقيمة أن نقول: إن الآية الكريمة نص في أن لا نبي بعده وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بعده بالطريق الأولى والأحرى؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة فإن كان كل رسول نبي ولا ينعكس لأنه يلزم من ختم النبوة وهي الأعم ختم الرسالة وهي الأخص وذكر ذلك أكثر المفسرين وهذا من بلاغة القرآن ودقة تعبيره حيث لم يقل وخاتم المرسلين لأنه لو قال كذلك لقال المتنبئون الكذابون ولم يقل وخاتم النبيين على اعتبار خصوصية الرسالة ولكن الله قطع عليهم الطريق بقوله: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]. لأن الرسالة مبنية على النبوة فإذا احتجبت النبوة احتجبت الرسالة معها وهذا على القول بالفرق بين النبي والرسول كما هو قول الجمهور قائلين إن النبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه والرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه وقال بعضهم: إنهما مترادفان فلا فرق بينهما واستدلوا بالآيات والأحاديث التي أطلقت لفظ الرسول والنبي على رجل واحد فإذا كانا مترادفين فلا مستمسك للبهائية والقاديانية بأنه لم يقل وخاتم النبيين كما لا يخفى. الجواب الثاني أن نقول: ذكر الله في القرآن آيات كثيرة تدل على انقطاع النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، منها قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3] الآية، فإنها دلت على أنه تعالى أكمل لهذه الأمة دينه من جميع الوجوه بحيث يكفي لكافة الورى إلى يوم الدين فلا حاجة لها إلى نبي بعد نبيها صلى الله عليه وسلم ولا إلى دين غير دينها كما صرح به ابن كثير وعامة المفسرين وبالجملة فهذه الآية صرحت بختم النبوة وبه تجلى لك معنى الآية المذكورة. ومنها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158] فقد صرح بعموم بعثته لكافة الورى إلى يوم القيامة وهو إعلان بختم النبوة بعده عليه السلام. ومنها قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28]. دلت على عموم البعثة وختم النبوة. ومنها قوله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] فإنه عليه السلام لما كان رحمة للعالمين كافيا في هدايتهم فلا يحتاجون إلى الإيمان برسول أو نبي بعده بل جريان النبوة بعده عليه السلام يستلزم أن يكفر من أمته من لم يؤمن بأنبياء ما بعده بعدما آمن به عليه السلام واتبعه وعمل بشريعته وحينئذ لم يبعث النبي صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع العالمين فقد صرحت الآية بختم النبوة بعده عليه السلام وبالجملة فغير آية من القرآن دلت على أن المراد بكونه عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين آخرهم أجمعين من دون تأويل ولا تخصيص أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24] الشبهة الثالثة والجواب عنها هي أن قوله تعالى: خَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] بمعنى الزينة وهي الحلي المعروف وليس معنى الآية آخر النبيين كما يقول المسلمون. والجواب: عجبا لهؤلاء الأعاجم الذين طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون ولا يسمعون بل ما زالوا في غيهم يعمهون أما علموا أن الله أنزل القرآن بلسان عربي مبين ويؤخذ تفسيره أولا من القرآن نفسه لأنه إذا أجمل في آية فصلها في آية أخرى وقد ألف العلماء في تفسير القرآن بالقرآن تفاسير عديدة. ثانيا ممن أنزل عليه وهو الرسول العظيم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 15 ثالثا من أصحابه الكرام الذين صحبوه وبذلك كانوا أدرى بمعانيه لما وهبهم الله من الفهم التام والعلم الصحيح ولما شاهدوا من القرائن والأحوال عند نزوله ولأنهم تعلموا القرآن من صاحب الوحي. رابعا إذا لم يوجد تفسيره في الكتاب العزيز ولا في أحاديث الرسول ولا في تفاسير الصحابة يرجع إلى اللغة العربية ولكن يجب أن يعلم أن المعنى المحتمل من حيث اللغة يقبل إذا لم يخالف التفسير المأثور عن النبي وأصحابه والسلف الصالحين بإجماع المسلمين. وإذا فهمت ما قدمته لك فاقرأ ما أتلوه عليك: إن لفظ الخاتم فيه قراءتان الأولى وهي المشهورة التي اختارها جمهور القراء بكسر التاء والثانية خاتم بفتح التاء وحيث جاءت فيه قراءتان وجب بيان معناهما فاعلم أن الخاتم بكسر التاء يطلق على معان: آخر القوم. فاعل الختم. الطابع. الحلي المعروف بالأصبع. خاتم القفا أي نقرته. أما بفتح التاء فيستعمل بمعنى آخر القوم وبمعنى الطابع الذي يوضع على الطينة قال الشيخ محمد شفيع الديوبندي: وإذا استقريت معاني الخاتم والخاتم فانظر أيها يكون مرادا في الآية وأنت تعلم أن إطلاق الخاتم أو الخاتم على النبي بحسب المعاني الأخيرة لا يمكن إلا مجازا كما هو ظاهر غني عن البيان ولا حاجة إلى ارتكاب المجاز لجواز إرادة الحقيقة بالمعنى الأول والثاني بلا تكلف فتبين أن المعنى الأول أو الثاني هو المراد في الآية لا غير سواء قرئ بفتح التاء أو بكسرها ثم مآل هذين المعنيين واحد فإن المعنى آخر النبيين على الأول والذي ختمهم على الثاني ومرجعهما ههنا واحد، قال في (روح المعاني): خاتم النبيين الذي ختم النبيون به ومآله آخر النبيين وبمثله صرح الشيخ زاده في حاشيته على البيضاوي ثم ذكر بعض كلام علماء اللغة. اهـ (1). إذا تمهد ما سبق فأقول: غير خاف أن تفسير الآية بما فسره هذا الدجال يفتح باب النبوة على مصراعيه بعد خاتم النبيين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن يرد هذا التفسير كما سبق في الأجوبة للشبهة الثانية كما أن أحاديث الرسول وأقوال الصحابة والتابعين ترد هذا الزعم الفاسد وتصفع وجه صاحبها وتقول له إنك لغوي مبين. حيث إن الأحاديث التي بلغت مبلغ التواتر قد نصت على انقطاع النبوة والرسالة بعد محمد صلى الله عليه وسلم كما أن المسلمين سلفا وخلفا بما فيهم من المذاهب المتعددة قد أجمعوا على أن محمدا خاتم النبيين والمرسلين وأنه لا نبي بعده إلى يوم الدين واللغة العربية ترده ومن أجل ذلك لما ادعى الميرزا علي محمد الباب أنه رسول أوحى الله إليه حكمت علماء الشيعة في المملكة الإيرانية بكفره وارتداده وأنه يجب قتله إن لم يتب ولما لم يتب قتله ناصر الدين القاجاري. قال الدكتور محسن عبد الحميد نقلا عن الشيخ محمد الكاظمي القزويني: على أنا لو سلمنا جدلا صحة ذلك لكان على بطلان دعوى التبيان أدل وذلك لأنه إذا كان رسول الله زينة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأنهم يتزينون به كما يقول لزم أن يكون أفضلهم قطعا والأفضل لا يصح أن تختم بنبوته بمن هو دونه كما لا يصح التقدم عليه يقبح ذلك في أوائل العقول وعليه يجب أن يكون خاتمهم لأن به كمالهم وتمامهم وتلك قضيته على حد تعبيره وأقول إذا كان هذا القول صحيحا وإذا كان الأنبياء سابقين ولاحقين يتزينون برسول الله لأنه أفضلهم فكيف جاز لهم أن ينسخوا أحكامه ويبطلوا قرآنه كما ادعى بذلك الكذابان الباب والبهاء. اهـ (2) المصدر: العقائد السلفية بأدلتها النقلية والعقلية لأحمد بن حجر آل بوطامي- ص274 - 281   (1) من ((هداية المهديين)). (2) ((البهائية في الميزان)). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 16 المبحث الثامن: حكم البابية والبهائية والانتماء إليهما لقد أحدثت هذه الدعوى التي خرج بها الباب على المجتمع الشيعي رد فعل شديد على كل المستويات مما جعل الباب يعيش كل سني حياته الأخيرة مطاردا محاربا إلى أن تم إعدامه أخيرا. فأول ما قام به أمراء بلدته التي أظهر دعوته بها أن عقدوا له اجتماعا مع العلماء لمناظرته في دعواه تلك التي تخالف عقيدة الإسلام وتفتح بابا قد سد بخاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم (1) وكان من نتيجة ذلك الاجتماع أن اختلف العلماء في أمره فمنهم من حكم بكفره وقتله ومنهم من شك في فكره وعقله ورأي أنه معتوه مجنون وهو بذلك مرفوع عنه القلم فمال الوالي إلى هذا الرأي الأخير ثم تكررت عملية الاجتماعات والمناقشات حتى نفذ فيه أخيرا حكم الإعدام بناء على فتوى العلماء بوجوب قتله وإهدار دمه من حيث مروقه من الإسلام ومجاهرته بالكفر ومحاربته لله ورسوله ومكره السيئ بالمسلمين وكان ذلك عام 1265 رميا بالرصاص وهكذا انتهت حياته البائسه بعد أن أحدث في الإسلام ثلمة لا تزال قائمة إلى اليوم متمثلة في فرقة البهائية المصدر: عقيد ختم النبوة بالنبوة المحمدية لأحمد بن سعد الغامدي – ص206، 207 سوف نورد هنا بعض فتاوى شيوخ الأزهر وعلماء المسلمين في البهائية ومن يدين بها: - حكم المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى بفلسطين بكفر البهائيين واعتبار البهائية نحلة كفرية تمثل خطرا على الإسلام وعلى المجتمعات بشكل عام وأوفد سنة 1932 الشيخ علي رشدي وكيل المعاهد الدينية بفلسطين على رأس جمع من المشايخ إلى غزة لمكافحة انتشار البهائية معتبرا إياها دعوة إلى الكفر وهدم الإسلام. - فتوى مفتي الديار المصرية الشيخ عبد المجيد سليم رحمه الله الصادرة برقم (2522) بتاريخ 3/ 11 / 1939: السؤال: كتبت وزارة العدل ما نصه (أرسلت إلينا وزارة الداخلية مع كتابها رقم 59 - 539 المرسلة صورته مع هذا كراسة تشتمل على قانون الأحوال الشخصية لجماعة البهائيين، وصورة من كتابها رقم 32 إدارة السابق إرساله منها لهذه الوزارة بتاريخ 30 يونيو سنة 1931 طالبة فتوى فضيلتكم بشأن التماس هذه الجماعة تخصيص قطع من الأراضي لدفن موتاهم بها بمصر والإسكندرية وبورسعيد والإسماعيلية فترسل الأوراق رجاء التفضل بموافاتنا بالفتوى اللازمة لهذا الموضوع لنبعث بها إلى وزارة الداخلية). الجواب: اطلعنا على كتاب سعادتكم رقم 647 المؤرخ 21 فبراير سنة 1939 وعلى الأوراق المرافقة له التي منها كتاب وزارة الداخلية رقم 59 - 539 المؤرخ 24 يناير سنة 1939 المتضمن طلب الإجابة عما إذا كان يجوز شرعا دفن موتى البهائيين في جبانات المسلمين أم لا. ونفيد أن هذه الطائفة ليست من المسلمين - كما يعلم هذا من عرف معتقداتهم، ويكفى في ذلك الاطلاع على ما سموه قانون الأحوال الشخصية على مقتضى الشريعة البهائية المرافق للأوراق. ومن كان منهم في الأصل مسلما أصبح باعتقاده لمزاعم هذه الطائفة مرتدا عن دين الإسلام وخارجا عنه، تجرى عليه أحكام المرتد المقررة في الدين الإسلامي القويم. وإذا كانت هذه الطائفة ليست من المسلمين لا يجوز شرعا دفن موتاهم في مقابر المسلمين سواء منهم من كان في الأصل مسلما ومن لم يكن كذلك. - فتوى مفتى الديار المصرية الشيخ أحمد محمد عبد العال هريدي رحمه الله الصادرة برقم (2439) بتاريخ 9/ 8/1960 عن رجل توفى وله ولد بهائي هل يرثه أم لا؟ السؤال:   (1) ((خفايا الطائفة البهائية)) (ص: 40)، ((البهائية سراب)) (ص: 28 - 29). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 17 من السيد / أحمد مصطفى بطلبه المتضمن أن الدسوقى السيد (المسلم) توفى بتاريخ 13 يناير سنة 1934 عن زوجته وأولاده ذكورا وإناثا فقط وأن له ولدا من أولاده يدعى عوض اعتنق البهائية قبل وفاة والده ولا يزال بهائيا للآن وطلب بيان ورثته ونصيب كل وارث. الجواب: بوفاة الدسوقى السيد في سنة 1934 عن المذكورين سابقا يكون لزوجته من تركته الثمن فرضا لوجود الفرع الوارث ولأولاده المسلمين الباقي تعصيبا للذكر منهم ضعف الأنثى ولا شيء لابنه عوض الذي اعتنق البهائية قبل وفاة والده واستمر معتنقا لها إلى الآن لأنه باعتناقه لمذهب البهائي يكون مرتدا عن الإسلام والمرتد لا يرث أحدا من أقاربه أصلا كما هو منصوص عليه شرعا. وهذا إذا لم يكن للمتوفى وارث آخر والله أعلم. - فتوى الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق على جاد الحق رحمه الله الصادرة برقم (325) بتاريخ 12/ 8/1981: السؤال: بالطلب المقيد برقم 329 سنة 1980 المتضمن السؤال التالي هل يمكن زواج مسلمة من رجل يعتنق الدين البهائي، حتى ولو كان عقد الزواج عقدا إسلاميا إذا كان الجواب بالرفض فلماذا. الجواب: إن البهائية أو البابية طائفة منسوبة إلى رجل يدعى - ميرزا على محمد - الملقب بالباب، وقد قام بالدعوة إلى عقيدته في عام 1260 هجرية (1844 م) معلنا أنه يستهدف إصلاح ما فسد من أحوال المسلمين وتقويم ما اعوج من أمورهم، وقد جهر بدعوته بشيراز في جنوب إيران، وتبعه بعض الناس، فأرسل فريقا منهم إلى جهات مختلفة من إيران للإعلام بظهوره وبث مزاعمه التي منها أنه رسول من الله، ووضع كتابا سماه (البيان) ادعى أن ما فيه شريعة منزلة من السماء، وزعم أن رسالته ناسخة لشريعة الإسلام، وابتدع لأتباعه أحكاما خالف بها أحكام الإسلام وقواعده، فجعل الصوم تسعة عشر يوما وعين لهذه الأيام وقت الاعتدال الربيعي، بحيث يكون عيد الفطر هو يوم النيروز على الدوام، واحتسب يوم الصوم من شروق الشمس إلى غروبها وأورد في كتابه (البيان) في هذا الشأن عبارة (أيام معدودات، وقد جعلنا النيروز عيدا لكم بعد إكمالها). وقد دعى مؤسس هذه الديانة إلى مؤتمر عقد في بادية (بدشت) في إيران عام 1264 هجرية - 1848 م أفسح فيه عن خطوط هذه العقيدة وخيوطها، وأعلن خروجها وانفصالها عن الإسلام وشريعته، وقد قاوم العلماء في عصره هذه الدعوة وأبانوا فسادها وأفتوا بكفره، واعتقل في شيراز ثم في أصفهان، وبعد فتن وحروب بين أشياعه وبين المسلمين عوقب بالإعدام صلبا عام 1265 هجرية ثم قام خليفته - ميرزا حسين على - الذي لقب نفسه بهاء الله ووضع كتابا سماه (الأقدس) سار فيه على نسق كتاب (البيان) الذي ألفه زعيم هذه العقيدة ميرزا على محمد، ناقض فيه أصول الإسلام بل ناقض سائر الأديان، وأهدر كل ما جاء به الإسلام من عقيدة وشريعة. فجعل الصلاة تسع ركعات في اليوم والليلة، وقبلة البهائيين في صلاتهم التوجه إلى الجهة التي يوجد فيها ميرزا حسين المسمى بهاء الله. فقد قال لهم في كتابه هذا (إذا أردتم الصلاة فولوا وجوهكم شطري الأقدس) وأبطل الحج وأوصى بهدم بيت الله الحرام عند ظهور رجل مقتدر شجاع من أتباعه. وقال البهائية بمقالة الفلاسفة من قبلهم. قالوا بقدم العالم (علم بهاء أن الكون بلا مبدأ زمني، فهو صادر أبدى من العلة الأولى، وكان الخلق دائما مع خالقهم، وهو دائما معهم) ومجمل القول في هذا المذهب - البهائية أو البابية - أنه مذهب مصنوع، مزيج من أخلاط الديانات البوذية والبرهمية الوثنية والزرادشتية واليهودية والمسيحية والإسلام، ومن اعتقادات الباطنية (كتاب مفتاح باب الأبواب للدكتور ميرزا محمد مهدى خان طبع مجلة المنار 1321 هجرية). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 18 والبهائيون لا يؤمنون بالبعث بعد الموت ولا بالجنة ولا بالنار، وقلدوا بهذا القول الدهريين، ولقد ادعى زعيمهم الأول في تفسير له لسورة يوسف أنه أفضل من رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وفضل كتابه (البيان) على القرآن، وهم بهذا لا يعترفون بنبوة سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه خاتم النبيين، وبهذا ليسوا من المسلمين، لأن عامة المسلمين كخاصتهم يؤمنون بالقرآن كتابا من عند الله وبما جاء فيه من قول الله سبحانه مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، وقد ذكر العلامة الألوسي في تفسيره (ج - 22 ص 41) لهذه الآية أنه قد ظهر في هذا العصر عصابة من غلاة الشيعة لقبوا أنفسهم بالبابية، لهم في هذا فصول يحكم بكفر معتقدها كل من انتظم في سلك ذوى العقول. ثم قال الألوسى وكونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين مما نطق به الكتاب، وصدعت به السنة وأجمعت عليه الأمة، فيكفر مدعى خلافه، ويقتل إن أصر. ومن هنا أجمع المسلمون على أن العقيدة البهائية أو البابية ليست عقيدة إسلامية، وأن من اعتنق هذا الدين ليس من المسلمين، ويصير بهذا مرتدا عن دين الإسلام، والمرتد هو الذي ترك الإسلام إلى غيره من الأديان قال الله سبحانه وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:217]، وأجمع أهل العلم بفقه الإسلام على وجوب قتل المرتد إذا أصر على ردته عن الإسلام. للحديث الشريف الذي رواه البخاري وأبو داود ((من بدل دينه فاقتلوه)) (1) واتفق أهل العلم كذلك على أن المرتد عن الإسلام إن تزوج لم يصح تزوجه ويقع عقده باطلا سواء عقد على مسلمة أو غير مسلمة، لأنه لا يقر شرعا على الزواج، ولأن دمه مهدر شرعا إذا لم يتب ويعد إلى الإسلام ويتبرأ من الدين الذي ارتد إليه. لما كان ذلك وكان الشخص المسئول عنه قد اعتنق البهائية دينا كان بهذا مرتدا عن دين الإسلام، فلا يحل للسائلة وهي مسلمة أن تتزوج منه، والعقد إن تم يكون باطلا شرعا، والمعاشرة الزوجية تكون زنا محرما في الإسلام. قال تعالى وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، صدق الله العظيم. والله سبحانه وتعالى أعلم. - وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله مفتي المملكة السعودية عن: الذين اعتنقوا مذهب (بهاء الله) الذي ادعى النبوة، وادعى أيضا حلول الله فيه، هل يسوغ للمسلمين دفن هؤلاء الكفرة في مقابر المسلمين؟   (1) رواه البخاري (3017) وأبو داود (4351) من حديث ابن عباس. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 19 فأجاب: بعدما علم بعقيدتهم أنه لا شك في كفرهم. وقال رحمه الله: "لا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين؛ لأن من ادعى النبوة بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فهو كاذب وكافر بالنص وإجماع المسلمين؛ لأن ذلك تكذيب لقوله تعالى: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، ولما تواترت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خاتم الأنبياء لا نبي بعده، وهكذا من ادعى أن الله سبحانه حال فيه، أو في أحد من الخلق فهو كافر بإجماع المسلمين؛ لأن الله سبحانه لا يحل في أحد من خلقه بل هو أجل وأعظم من ذلك، ومن قال ذلك فهو كافر بإجماع المسلمين، مكذب للآيات والأحاديث الدالة على أن الله سبحانه فوق العرش، قد علا وارتفع فوق جميع خلقه، وهو سبحانه العلي الكبير الذي لا مثيل له، ولا شبيه له، وقد تعرَّف إلى عباده بقوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] وهذا الذي أوضّحه لك في حق الباري سبحانه، هو عقيدة أهل السنة والجماعة التي درج عليها الرسل عليهم الصلاة والسلام، ودرج عليها خاتمهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودرج عليها خلفاؤه الراشدون وصحابته المرضيون والتابعون لهم بإحسان إلى يومنا هذا. (مجموعة فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز- 13/ 169، 170) - أصدر مجمع البحوث الإسلامية برئاسة الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق على جاد الحق شيخ الأزهر بيانا عن البهائية والبهائيين أوضح فيه أن البهائية وباء فكرى وحرب على الإسلام ويجب مكافحتها والقضاء عليها , وأن البهائيين أجرموا في حق الإسلام والوطن ويجب أن يختفوا من الحياة لا أن يجاهروا بالخروج عن الإسلام. وناشد البيان المسئولين ضرورة التصدي والوقوف بكل حزم ضد هذه الفئة وأمثالها، الباغية على دين الله وأن ينفذوا حكم الله فيهم. جاء في البيان الذي أصدره المجمع برئاسة الشيخ جاد الحق بعد ما بيّن بعض عقائدهم الفاسدة وأنهم أهل كفر وردة. 1 – أفتى الشيخ سليم البشرى شيخ الأزهر بكفر " ميرزا عباس " زعيم البهائيين ونشرت هذه الفتوى في جريدة مصر الفتاة في 27/ 12/1910 بالعدد 692 2 - صدر حكم محكمة المحلة الكبرى الشرعية في 30/ 6/1946 بطلاق امرأة اعتنق زوجها البهائية باعتباره مرتدا. 3 - صدرت فتاوى دار الإفتاء المصرية وفى 25/ 3/1968 وفى31/ 4/ 1950 بأن البهائيين مرتدون عن الإسلام. 4 - وأخيرا أجابت أمانة مجمع البحوث الإسلامية على استفسار نيابة أمن الدولة العليا عن حكم البهائية بأنها نحلة باطلة لخروجها عن الإسلام بدعوتها للإلحاد والكفر وأن من يعتنقها يكون مرتدا عن الإسلام. كذلك جاء في البيان ما يلى: - رأت إدارة الرأي بوزارتي الداخلية والشئون البلدية والقروية في 8/ 12/ 1951 أن في قيام المحفل البهائي إخلالا بالأمن العام وأنه يمكن لوزارة الداخلية منع إقامة الشعائر الدينية الخاصة بالبهائيين. - صدر في مصر القرار الجمهوري رقم 263 لسنة 1960 م ونص في مادته على أنه تحل المراكز البهائية ومراكزها الموجودة في الجمهورية ويوقف نشاطها ويحظر على الأفراد والمؤسسات والهيئات القيام بأي نشاط مما كانت تباشره هذه المحافل والمراكز. كما جاء في بيان الأزهر ما يلى: - أن البهائيين ودعوتهم هذه التي مرت بهذه التطورات وووجهت بتلك المقاومة في البلاد التي نبتت فيها إيران حيث أعدم مبتدعها بوصفه مرتدا عن الإسلام ونفى خليفته ما زالوا مثابرين عليها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 20 وفى مصر صدرت الفتاوى من علماء الإسلام والأحكام من جهات القضاء المختلفة ثم الفتاوى القانونية المتعاقبة وكل أولئك قد أثموا هذا المذهب وحكموا ببطلانه. ثم صدر القرار الجمهوري الذي حظر نشاط البهائية دون أن يجرمها بعقاب رادع يتساوى مع خطورتها على عقيدة الناس الإسلامية بل وعلى العقائد السماوية الأخرى بوجه عام اليهودية والمسيحية. ومن ثم أطلت الفتنة برأسها مرة أخرى في وقت تزاحمت فيه الأفكار الموفدة الفاسدة التي ساعدت على بروز طوائف من الجماعات كل له فكر شارد بل وادعى بعض الناس النبوة ولا تزال محاكمة هذا وذاك تسير الهوينى. حتى وصل البيان إلى قولهم: إن الأزهر ليهيب بالمسئولين في جمهورية مصر العربية أن يقفوا بحزم ضد هذه الفئة الباغية على دين الله وعلى النظام العام لهذا المجتمع وأن ينفذوا حكم الله عليها ويسنوا القانون الذي يستأصلها ويهيل التراب عليها وعلى أفكارها حماية للمواطنين جميعا من التردي في هذه الأفكار المنحرفة عن صراط الله المستقيم. إن هؤلاء الذين أجرموا في حق الإسلام والوطن يجب أن يختفوا من الحياة لا أن يجاهروا بالخروج عن الإسلام. - أصدر مجمع البحوث الإسلامية بتاريخ 21 من شهر ربيع الآخر 1427هـ 19/ 5 / 2006 بيانا أكد فيه على ما صدر عن الأزهر من بيانات سابقة بشأن البهائية جاء في البيان تأكيد الإمام الأكبر الشيخ محمد سيد طنطاوي كفر البهائية حيث قال (البهائية مرتدون عن الإسلام ويجب أن ينفذ فيهم حكم الله) وحث الدولة على التصدي لهذا الفكر المنحرف بكل حزم حيث تمثل البهائية وأمثالها وباء فكريا فتاكا يجب القضاء عليه وأكد مجمع البحوث الإسلامية برئاسة الدكتور محمد سيد طنطاوي بإجماع أعضائه أن البهائية ليس لها أي صلة بالأديان السماوية سواء الإسلام أو المسيحية أو اليهودية ومعتنقها لا يمت بصلة لأي دين وأنها نحلة تعمل لخدمة الصهيونية وأنها سلسلة أفكار ونحل ابتليت بها الأمة الإسلامية تمثل حربا على الإسلام وباسم الدين. كما توالت فتاوى علماء الأزهر في بيان ردة من ينتسب إلى الملة البهائية أكّد على ذلك كل من الشيخ على جمعة مفتي الجمهورية والشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى سابقا والدكتور أحمد عمر هاشم رئيس جامعة الأزهر السابق والدكتور عبد الله بركات عميد كلية الدعوة جامعة الأزهر والدكتور مصطفى غلوش الأستاذ بجامعة الأزهر والشيخ عبد الله سمك وغيرهم. المصدر: فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري وملخص القول في البابية والبهائية أنه مذهب مصنوع من ديانات ونحل وآراء فلسفية قال صاحب كتاب (مفتاح باب الأبواب) يصف البابيين: (لهم دين خاص مزيج من أخلاط الديانات البوذية والبرهمية الوثنية والزرادشتية واليهودية والمسيحية والإسلامية ومن اعتقادات الصوفية والباطنية وما زالت البهائية مذهبا قائما على أطلال الباطنية يحمل في سريرته القصد إلى هدم الإسلام بمعول التأويل ودعوى الرسالة والوحي بشريعة ناسخة أحكامه .... ) المصدر: رسائل الإصلاح لمحمد الخضر حسين – 2/ 188 كما يقول الشيخ محمد السند أحد علماء الشيعة:"هم معدودون من الكفار؛ لأنهم كفروا بدين الإسلام ... ومن كان على دين الإسلام فاعتنق البهائية فهو مرتد، ومثله من تشهد بالشهادتين ومع ذلك يعتنق البهائية فإنه مرتد أيضا " أهـ. المصدر: البهائية للدكتور طلعت زهران فتوى الشيخ/ محمد رشيد رضا من (ف- صحفي قديم). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 21 حضرة العالم الفاضل صاحب المنار الأغر، نشرت مجلة البيان التي تصدر في مصر مقالاً عن البهائيين وزعيمهم عباس أفندي جاء فيها ما يأتي:" ذلكم مولانا عباس أفندي الملقب بعبد البهاء بطل الإصلاح الديني وسيد المصلحين الدينيين، والمصدر الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (البهائية هي كمال حي) - (هي الكاثوليكية الصادقة)، وما دعوتها في الحقيقة إلا دعوة إصلاح ورقي للإسلام- إن أنصارها استخرجوا أسمى تعاليم القرآن فنقوها ما علق بما ليس من الدين الصحيح في شيء - (إن نعيم الآخرة وهم وخيال) هذا بعض ما جاء في تلك المجلة وما نشره صاحبها المسلم الأزهري عقب مقابلته لزعيم البهائيين في الإسكندرية. وقد رد على البيان الأستاذ صاحب عكاظ في عدة مقالات، وتبعه كاتب في جريدة الشعب ثم تبعتهما جريدة الأفكار، وكلهم كان يطلب إلى صاحب البيان تكذيب ما نشره في هذا الموضوع والرجوع إلى الحق ولكنه كان يقول لهم: إني أكتب عن البهائيين وزعيمهم كما كتبنا عن فولتير وسبنسر ونيتشه، وكما كتب الأوربيون عن العظماء والفلاسفة والنابغين. فما رأي العالِم الجليل صاحب المنار في ما نشره البيان في موضوع البهائيين وزعيمهم وما رأيه في رد عكاظ أولاً والشعب والأفكار ثانياً؟ ج: بينّا في المنار مراراً أن البهائية قد انتحلوا ديناً جديداً في هذا العصر، وان دينهم أبعد عن الإسلام من دين اليهود؛ لأن دين اليهود دين التوحيد الذي هو أساس الإسلام، وأساس دين البهائية وثني مادي، وهم يعبدون والد زعيمهم عباس أفندي الملقب بـ (عبد البهاء) وما هذه اللقب إلا عنوان القول بإلوهية البهاء. ولهم شريعة ملفقة من الأديان المختلفة، وفلسفتها هي عين فلسفة سلفهم من فرق الباطنية، الذين حاربوا الإسلام بالدسائس التي اخترعتها لهم جمعيات المجوس السرية لإفساد أمر المسلمين، وإزالة ملكهم انتقاماً للمجوسية التي أبطلها الإسلام. ألا وإن ميرزا حسين الملقب بالبهاء هو وولده الداهية عباس أفندي قد جعلا تنقيحاً جديداً لما دعا إليه الأبله الثرثار ميرزا محمد على الذي اشتهر بلقب (الباب) وإنما مهد السبيل لدعوته في بلاد الفرس بدعة الشيخية، الذين هم أكبر المفسدين في الشيعة الإمامية، وسننشر في المنار شيئا من فلسفتهم الخيالية، التي انتزعوها من أباطيل الباطنية، وزفوها في معرض الأساليب الصوفية. وجملة القول أن دين البهائية دين مخترع، افتراه الباب المخدوع، ونقحه بتمادي الزمان الباقعة عباس أفندي، وهو أضر على الإسلام من كل دين في الأرض لأن أهله يسلكون في الدعوة إليه مسلك سلفهم الطالح في مخادعة عوام المسلمين، وإيهامهم أنهم يصلحون لهم دينهم، واحتجاجهم بالشبهات التي يحرفون بها القرآن والأحاديث بالتأويلات البعيدة، فهم أكبر فتنة على المسلمين في هذا العصر، ولاسيما على الشيعة؛ لأن الغلو في التشيع سلم للباطنية، ولهذا كان يقول بعض العلماء: " ائتني برافضي كبير أخرج لك منه باطنياً صغيراً، وائتني بباطني كبير أخرج لك زنديقاً كبيرا". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 22 فمن عرف دين البهائية من المسلمين ومدحه واستحسنه وشهد بكونه حقاً أو إصلاحاً للإسلام، وكونه هو أو زعيمه معصوماً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كان بذلك مرتداً عن الإسلام وإن زعم أنه مسلم، فهو زنديق منافق كسائر الباطنية إذا كانوا ضعفاء بين المسلمين، فالبهائية كسلفهم من الباطنية يتوسلون بدعوى الإسلام بين المسلمين ليقبل كلامهم في دعوتهم إلى باطلهم، وتحريف معاني القرآن للاستدلال عليها وإبطال ما يفهمه المسلمون منها، فإذا كان صاحب البيان قد قال ما نقله عن السائل معتقداً له فالأمر ظاهر، وإن كان كتبه عن جهل بحقيقة القوم فكان الواجب عليه بعد أن نبهته جريدة عكاظ وغيرها أن يرجع إلى الحق ويصرح ببطلان دين البهائية، وتحذير المسلمين من خداع دعاته (ويسموهم مبلغين) وأما ما ذكره السائل عن الاعتذار عن تقديس دين وثني مادي وتقديس داعيته وأحد مخترعيه- بأن مدحه له كمدحه لفولتير- فهو غريب، فإن مدحه لفولتير إن كان باطلاً فهو تأييد للباطل بالباطل، وإن كان يراه حقاً ويرى أن ما قاله في عباس أفندي ودينه حق أيضاً، يكون قد ارتد عن الإسلام ودخل في دين البهائية. وإلا فإن من قال حقاً وقال باطلاً لا يكون قوله الحق مرة عذراً له إذا قال الباطل بعده. والذين مدحوا مثل فولتير من كتاب الإفرنج كانوا مثل مارقين من النصرانية، فهل يرضى صاحب البيان أن يكون مدحه لعباس كمدحهم لفولتير؟ وليس ما نقله السائل عن البيان قول مؤرخ يحكي شيئا وقع لا رأي له فيه، حتى يقال:" إن حاكي الكفر ليس بكافر"، بل ذلك مدح لهذا الدين الجديد وتفضيل له على غيره يتضمن دعوة المسلمين إليه. فإذ لم يكن هذا مراده فليصرح كتابة ببراءته من البهائية والتحذير من كفرهم بالإسلام. على أن فيما نقله السائل عنه ما هو في نفسه بالإجماع، كإنكار حقيقة نعيم الآخرة، وتسميته وهماً وخيالاً بناءً على أن هذا من مذهبهم، وجملة القول: إن من شأن المسلم أن لا ينشر شيئا يعد كفراً في دينه، وأن لا ينقله عن غيره مقراً له ومستحسناً. فكيف ينوه بمدح دين جديد يراد به نسخ الإسلام وإبطاله من الأرض، ويصفه بأنه هو الحق الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42] وقد قرأنا بعض ما نشر في عكاظ رداً على البيان فرأيناه مبنياً على أساس الصواب ولم نر ما كتب في جريدة الشعب؛ لأننا لا نكاد نقرأها بل قلما نراها-وكذا جريدة الأفكار- والحق ظاهر في نفسه. المصدر: فتاوى محمد رشيد رضا تحقيق صلاح الدين المنجد ويوسف خوري - ص 1127 قرار المجمع الفقهي: القرار الرابع: حكم البهائية والانتماء إليها الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فقد استعرض مجلس المجمع الفقهي نحلة البهائية، التي ظهرت في بلاد فارس (إيران) في النصف الثاني من القرن الماضي، ويَدين بها فئة من الناس، منتشرون في البلاد الإسلامية والأجنبية إلى اليوم. ونظر المجلس فيما كتبه ونشره كثير من العلماء والكتّاب وغيرهم من المطلعين على حقيقة هذه النحلة ونشأتها ودعوتها وكتبها وسيرة مؤسسها المدعو ميرزا حسين علي المازندراني المولود في 20 من المحرم 1233 - 12 من تشرين الثاني/نوفمبر 1817م، وسلوك أتباعه، ثم خليفته ابنه عباس أفندي المسمى عبد البهاء وتشكيلاتهم الدينية التي تنظم أعمال هذه الفئة ونشاطها. وبعد المداولة واطلاع المجلس على الكثير من المصادر الثابتة، والتي يعرضها بعض كتب البهائيين أنفسهم تبين لمجلس المجمع ما يلي: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 23 1 - أن البهائية دين جديد مختَرَع، قام على أساس البابية، التي هي أيضا دين مخترع، ابتدعه المسمى باسم (علي محمد) المولود في أول المحرم 1235 هـ تشرين الأول/ أكتوبر 1819م في مدينة شيراز، وقد اتجه في أول أمره اتجاهاً صوفياً فلسفياً على طريقة الشيخية، التي ابتدعها شيخه الضال كاظم الرشتي خليفة المدعو أحمد زين الدين الأحسائي، زعيم طريقة الشيخية، الذي زعم أن جسمه كجسم الملائكة نوراني، وانتحل سفسطات وخرافات أخرى باطلة. وقد قال علي محمد بقولة شيخه هذه، ثم انقطع عنه، وبعد فترة ظهر للناس بمظهر جديد أنه هو علي بن أبي طالب الذي يروى فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أنا مدينة العلم وعلي بابها"، ومن ثَمّ سمى نفسه الباب، ثم ادعى أنه الباب للمهدي المنتظر، ثم قال إنه المهدي نفسه، ثم في أخريات أيامه ادعى الإلوهية، وسمى نفسه الأعلى، فلما نشأ ميرزا حسين علي المازندراني (المسمى بالبهاء) المذكور- وهو معاصر للباب- اتبع الباب في دعوته، وبعد أن حوكم وقتل لكفره وفتنته، أعلن ميرزا حسين علي أنه موصَى له من الباب برئاسة البابيين، وهكذا صار رئيساً عليهم وسمى نفسه (بهاء الدين). ثم تطورت به الحال حتى أعلن (أن جميع الديانات جاءت مقدمات لظهوره وأنها ناقصة لا يكملها إلا دينه، وأنه هو المتصف بصفات الله، وهو مصدر أفعال الله، وأن اسم الله الأعظم هو اسم له، وأنه هو المعني برب العالمين، وكما نسخ الإسلام الأديان التي سبقته تنسخ البهائية الإسلام). وقد قام الباب وأتباعه بتأويلات لآيات القرآن العظيم، غاية في الغرابة والباطنية بتنزيلها على ما يوافق دعوته الخبيثة، وأن له السلطة في تغيير أحكام الشرائع الإلهية، وأتي بعبادات مبتدعة يعبده بها أتباعه. وقد تبين للمجمع الفقهي بشهادة النصوص الثابتة عن عقيدة البهائيين التهديمية للإسلام، ولاسيما قيامها على أساس الوثنية للبشرية، في دعوى ألوهية البهاء وسلطته في تغيير شريعة الإسلام، يقرر المجمع الفقهي بإجماع الآراء: خروج البهائية والبابية عن شريعة الإسلام، واعتبارها حرباً عليه، وكفر أتباعهما كفراً بواحاً سافراً لا تأويل فيه. وإن المجمع ليحذر المسلمين في جميع بقاع الأرض من هذه الفئة المجرمة الكافرة، ويهيب بهم أن يقاوموها، ويأخذوا حذرهم منها، لاسيما أنه قد ثبت مساندة الدول الاستعمارية لها لتمزيق الإسلام والمسلمين .. والله الموفق فتوى قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت ورد في مجموعة الفتاوى الشرعية الصادرة عن قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية ما يلي: 4/ 31ع/87 عقيدة الأحمدية والقاديانية والبهائية (1070) عرض على اللجنة الاستفتاء المقدم من السيد: محمد، ونصُّه: الموضوع: طلب فتوى بخصوص الطوائف: الأحمدية، والقاديانية، والبهائية. لقد سرني جداً ما رأيت في الفتوى المعلقة في أحد مساجد المنطقة، والصادرة عن دار الإفتاء بوزارتكم الموقرة، والخاصة بكون الطائفة البهائية كافرة؛ لذا أرجو منكم التكرم بإصدار فتوى أخرى تبين لي خاصة وللمسلمين عامة حكم الإسلام في الطوائف التالية: الأحمدية القاديانية البهائية لاهوري مرزائي علماً بأن هذه الطوائف منتشرة في باكستان، ويوجد من أفرادها كثيرون في الكويت، وهم يدّعون أنهم مسلمون، وعلما بأن الدستور الباكستاني قد نصّ على أن هذه الطوائف كافرة، ومرتدة عن الإسلام، والمنتسبون إليها خارج دائرة الدين الإسلامي، وجزاكم الله خيرا. أجابت اللجنة بما يلي: كل فرقة أو فرد أو جماعة من الجماعات تنكر ما علم من الدين بالضرورة، تعتبر مرتدة عن الإسلام، فالذين ينكرون كون نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، وأنه لا نبي بعده، وأن الله تعالى قد فرض على العباد خمس صلوات في اليوم والليلة، وفرض صوم رمضان كما فرض الزكاة والحج إلى بيت الله الحرام بمكة المكرمة، إلى غير ذلك من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، كل هؤلاء يعتبرون مرتدين عن الإسلام، ولو تسمّوا به. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 24 مراجع للتوسع (البهائية تاريخها وعقيدتها وصلتها بالباطنية والصهيونية). تأليف عبد الرحمن الوكيل. (حقيقة البابية والبهائية). تأليف الدكتور/ محسن عبد الحميد. (البهائية). السيد محب الدين الخطيب. (البهائية نقد وتحليل). إحسان إلهي ظهير. (حقيقة البهائية والقاديانية). الدكتور/ محمد حسن الأعظمي. (البهائية الفكر والعقيدة). صالح عبد الله كامل. (الحكم على البهائية). علي رشدي. (قراءة في وثائق البهائية). الدكتورة/ عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ). (خفايا الطائفة البهائية). الدكتور/ أحمد محمد عوف. (البهائية رأس الأفعى). أول محاكمة شرعية للبهائيين لمجموعة من الكتاب. (الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة). (الندوة العالمية للشباب الإسلامي). (دراسات عن البهائية والبابية). تأليف: محب الدين الخطيب، علي علي منصور، محمد كرد علي، محمد فاضل. (فتنة البهائية تاريخهم عقائدهم حكم الإسلام فيهم) لأبي حفص أحمد بن عبد السلام السكندري (البهائية) للدكتور طلعت زهران (العقائد السلفية بأدلتها النقلية والعقلية) لأحمد بن حجر آل بوطامي (عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية) لأحمد بن سعد الغامدي (الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة) لناصر القفاري وناصر العقل (رسائل الإصلاح) لمحمد الخضر حسين (البابية) إحسان إلهي ظهير (تهافت البابية والبهائية في ضوء العقل والنقل) مصطفى عمران (البابية) عبد الله الحموي (البهائية) عبد الله الحموي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 25 المطلب الأول: التعريف بالقاديانية القاديانية طائفة كافرة، ونحلة هدامة، ظهرت في أوائل القرن الرابع عشر الهجري في أرض قاديان من أرض الهند على يد رجلٍ اسمه ميرزا غلام أحمد القادياني، واتخذت من الإسلام شعاراً؛ لستر أغراضها الخبيثة، وعقائدها الفاسدة (1). فالقاديانية هم أتباع ميرزا غلام أحمد القادياني، وسموا بذلك نسبة إلى البلد الذي ولد فيه هذا المتنبئ الكذاب .... للقاديانية اسم آخر، فهم في أفريقيا وغيرها من البلاد الإسلامية يسمون أنفسهم: (أحمدية) تزويراً على المسلمين. والحقيقة أنه لا علاقة لهم برسول الله " الذي اسمه أحمد، وإنما النسبة لمتنبئهم أحمد القادياني. أما في الباكستان والهند فيعرفون بالقاديانية. (2) المصدر: رسائل في الأديان للحمد - ص297   (1) انظر ((عقيدة ختم النبوة)) لأحمد بن سعد بن حمدان (ص242)، و ((الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة)) د. ناصر العقل ود. ناصر القفاري (ص144). (2) انظر ((القاديانية دراسات وتحليل)) لإحسان إلهي ظهير (ص1). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 26 المطلب الثاني: نشأة القاديانية كانت البداية في منتصف القرن التاسع عشر، وعلى وجه التحديد سنة 1857م حيث قام الإنجليز بالاستيلاء على الهند، وسقطت بذلك إحدى الدول الإسلامية الكبرى التي قامت في مستهل القرن السادس عشر الميلادي. وبرغم ذلك فإن المسلمين إزاء هذا الاستعمار لم يقر لهم قرار، ولم يهدأ لهم بال، فقاوموا الاستعمار بشتى الوسائل، فقادوا الثورات، والحركات الداخلية، التي تطالب بجلاء المستعمر من بلادهم مما أفزع ذلك الإنجليز، وأقض مضاجعهم، وجعلهم يبحثون عن طريق يقاومون به تلك الحركات الجهادية التي تثار ضدهم من قبل المسلمين. ولقد أدركت الحكومة الإنجليزية ذلك الخطر، وعرفت أن طبيعة المسلمين دينية؛ فالدين هو الذي يحركها، والدين هو الذي يُسكنها، وأن المسلمين لا يؤتون إلا من قبل العقيدة والإقناع الديني، وما يكون له طابع ديني. واقتنعت أخيراً بأنه لا يؤثر في المسلمين وفي اتجاههم مثل ما يؤثر قيام رجل منهم باسم منصب ديني رفيع، ويجمع حوله المسلمين، ويخدم سياسة الإنجليز، ويؤمنهم من جهة المسلمين، وعائلاتهم. وفي شخص ميرزا غلام أحمد القادياني الذي كان مضطرب الأفكار والعقيدة، وكان طموحاً إلى أن يؤسس ديانة جديدة ويكون له أتباع ومؤمنون، ويكون له مجد واسم في التاريخ مثل ما كان للنبي " وجد الإنجليز ضالتهم؛ فاتخذوه وكيلاً لهم يعمل لمصلحتهم بين المسلمين (1). المصدر: رسائل في الأديان للحمد - ص298، 299 ولكي تنطلي المكيدة على المسلمين ويلتفوا حول المنقذ الجديد أرسلت الحكومة البريطانية القساوسة يدعون إلى المسيحية وأوعزت إليهم من جهة أخرى إلى غلام أحمد بالتصدي لدعوة القساوسة والدخول معهم في مناظرات بعد الإعلان عنها لكي يعرف المسلمون المنقذ الجديد ويلتفوا حوله المصدر: خصائص المصطفى بين الغلو والجفاء للصادق بن محمد بن إبراهيم - ص255،256 فاحتضن الإنجليز القاديانية، وتبنوها، وبذلوا لنصرتها ما في وسعهم من الإمكانيات المادية والمعنوية؛ وذلك لما رأوا فيها من تحقيق مآربهم والتمكين لهم في الهند وفي غير الهند، واحتضنتها كذلك اليهودية العالمية، ولهم مراكز في أنحاء العالم وفي إسرائيل لنشر الإسلام - كما يزعم القاديانيون. وقد نبعت هذه الفتنة في عصر كثر الاضطراب فيه وخَيَّم الجهل وانتشرت الأفكار والمبادئ الهدامة على أوسع نطاق، وتغلغلت بين صفوف المسلمين على حين غفلة منهم، حتى أصبحت طائفة كبيرة خصوصاً حينما تولى وزارة الدولة الباكستانية المسلمة وزير قادياني هو ظفر الله خان؛ فقد تولى وزارة الخارجية وعمل كل ما في وسعه لتمكين القاديانية والقاديانيين من الانتشار والظهور. وصارت قاديان ثم الربوة عاصمة للقاديانية ومركز دعوة ودعاية لها، وبدأت القاديانية توجه دعوتها إلى البلاد العربية والإسلامية، وبدأت تظهر في العراق وسوريا وتنتشر في أندونيسيا (2) وبعض البلدان في أفريقيا (3)، وتتمنى بإلحاح لو وُجِدَ من يصغي لها في الجزيرة العربية –حرسها الله من الفتن والارتداد الذي يراد لها - ففيها مهبط الوحي وإليها تهوي أفئدة المؤمنين بالله من كل قطر من أقطار الأرض.   (1) ((القاديانية ثورة على النبوة المحمدية والإسلام))، أبو الحسن الندوي (ص5). (2) انظر: البحث الذي قدمه الشيخ مشفق أمر الله بن شمس الدين بعنوان: ((القاديانية في أندونيسيا)). (3) انظر: البحث الذي قدمه الشيخ سحنون تاج الدين بعنوان: ((القاديانية في غانا)). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 27 وكم بُذلت من المحاولات الكثيرة لطوائف الفرق الضالة للتغلغل إلى قلوب المسلمين في مكة والمدينة، فرد الله كيدهم إلى نحورهم، وباءت محاولاتهم بالفشل الذريع بفضل الله وتوفيقه لعلماء المسلمين لفضح تلك الطوائف وما تبيته من السوء للمسلمين ولدينهم، والله متم نوره ولو كره الكافرون. وقد قيض الله للتصدي للقاديانيين علماء أجلاء بينوا للمسلمين خطر هؤلاء القاديانيين وارتدادهم عن الإسلام، ومن هؤلاء العلماء المجاهدون كثير من علماء الهند وباكستان، وغيرهم من علماء البلدان الإسلامية، وبُذِلَت محاولات عديدة لجعل القاديانية أقلية غير مسلمة في باكستان. وتمَّ ذلك والحمد لله إلا أن نشاط القاديانيين هؤلاء ربما ازداد اشتعالاً وتوسعاً بين جهلة المسلمين وشبابهم، الذين لم يكن عندهم مانع من الثقافة الإسلامية عن تقبل الديانة القاديانية، التي بذلت المال ونشرت الدعاة لتحقيق ما تهدف إليه من إخراج المسلمين عن دينهم للإيمان بنبوة القادياني والحج إلى قاديان والرضى بحكم الإنجليز، واستعمارهم لبلدان المسلمين في كل مكان وصلت إليه أيدي الإنجليز الملطخة بالدماء، وقلوبهم المنطوية على غاية المكر والخديعة والإضرار بالمسلمين بكل ما يمكن فعله من قتل وسجن وتشريد، كما فعلوا في الهند بعد أن أخفقت ثورة الهند الكبرى عام 1857م، وراح ضحيتها كثير من أهل الهند، وخصوصاً من المسلمين بكل قسوة ووحشية (1)، وبمباركة القاديانيين الذين كانوا من أخلص الجواسيس لهم. المصدر: فرق معاصرة للدكتور غالب عواجي 2/ 744 - 746   (1) انظر: ((القادياني والقاديانية))، الندوي (ص5 - 10)، وكذا ((القاديانية)) للمودودي في مقاله: مواقف المسلمين وعلمائهم وقادتهم نحو القاديانية (ص51). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 28 المطلب الثالث: أسباب النشأة يمكن أن نجمل أسباب قيام القاديانية فيما يلي: 1 - طبيعة بلاد الهند: فمن أسباب قيام القاديانية طبيعة البيئة الهندية، التي يخيم عليها الجهل، فهي من قديم الزمان موطن الأديان الوثنية، والنِّحل والمذاهب، وبيئة المتنبئين والمتألهين، حتى قال الأستاذ مسعود الندوي: كان أهل الهند يعبدون ثلاثين مليوناً من الآلهة (1). 2 - احتضان الإنجليز لتلك الدعوة، ودفع الناس إلى اعتناقها. 3 - شخصية القادياني: حيث شخصية القادياني الشاذة بحبه للشهرة، وطموحه لتولي الزعامة، وغير ذلك من شذوذاته التي سيمر شيء منها إن شاء الله. 4 - تقصير المسلمين في واجب الدعوة إلى الله: فعندما قصروا في ذلك غُزو في عقيدتهم، وراجت الخرافات والأباطيل في أوساطهم. المصدر: رسائل في الأديان للحمد - ص 299   (1) ((الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة)) للعقل والقفاري (ص 145). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 29 المطلب الرابع: أهداف القاديانية 1 - خدمة الأهداف الاستعمارية. 2 - رد المسلمين عن دينهم أو توهين العقيدة في نفوسهم. 3 - حمل المسلمين على التعلق بالإنجليز، والسير في ركابهم. 4 - تفكيك روابط الأخوة بين المسلمين، وتحطيم الولاء والبراء. 5 - إلغاء فريضة الجهاد التي كادت أن تطيح بالإنجليز (1). المصدر: رسائل في الأديان للحمد - ص 300   (1) انظر ((أجنحة المكر الثلاثة)) لعبد الرحمن الميداني (ص227). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 30 أولا: اسمه وأسرته أما اسمه: فيقول عن نفسه: "إني أنا المسمى بغلام أحمد بن مرزا غلام مرتضى بن مرزا غلام مرتضى بن مرزا عطا محمد، بن مرزا كل محمد بن مرزا فيض محمد بن مرزا محمد قائم بن مرزا محمد أسلم بن مرزا دلاور بك بن مرزا الله دين بن مرزا جعفر بك بن مرزا محمد بك بن مرزا محمد عبد الباقي بن مرزا محمد سلطان بن مرزا هادي بك" (1) المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص 7 واسم أمه جراج بي بي (2) وفي نسبة أسرته يتضارب قوله؛ فهو يزعم أنه ينتمي إلى أسرة أصلها من المغول من فرع برلاس، ومرة قال: إن أسرته فارسية (3)، ومرة زعم أن أسرته صينية الأصل، ومرة أنه من بني فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخرى قال بأنها جاءت من سمرقند، وزعم مرة أنه يرجع إلى بني إسحاق (4) المصدر: فرق معاصرة للعواجي 2/ 747 يقول: "كتبتُ مراراً عن عائلتي أنها من أسرة حاكمة أتت الهند من سمرقند، وكانت الأسرة خليطاً مركباً من بني فارس وبني فاطمة أو بعبارة أخرى من الأسرة المغولية والأسرة الشريفة من بني فاطمة بنت سيد الرسل" (5). المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص 8 ويقول أيضا: أخبرني ربي بأن بعض أمهاتي كن من بني فاطمة، ومن أهل بيت النبوة، والله جمع فيهم نسل إسحاق وإسماعيل من كمال الحكمة والمصلحة (6). المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص8 ويقول أيضا محيي الدين بن عربي تنبأ عني في كتابه (فصوص الحكم) حيث يقول: يولد في آخر الزمان ولد يدعو إلى الله يكون مولد بالصين ولغته لغة بلده. فأنا هو المقصود لأني صيني الأصل (7) المصدر: خصائص المصطفى بين الغلو والجفاء للصادق بن محمد بن إبراهيم - ص252 وبعد كل هذا الخلط والاضطراب زعم أن الله أوحى إليه أن نسبه يرجع إلى فارس فقال: (والظاهر أن أسرتي من المغول، ولكن الآن ظهر علي من كلام الله تعالى أن أسرتي حقيقة أسرة فارسية، وأنا أؤمن بهذا؛ لأنه لا يعرف أحد حقائق الأسر مثل ما يعرفها الله تعالى) (8) وفي تقرير هذا الخلط قال في ضميمة الوحي: (وسمعت من أبي أن آبائي كانوا من الجرثومة المغلية، ولكن الله أوحى إلي أنهم كانوا من بني فارس لا من الأقوام التركية، ومع ذلك أخبرني ربي بأن بعض أمهاتي كن من بني الفاطمة، ومن أهل بيت النبوة، والله جمع فيهم نسل إسحاق وإسماعيل من كمال الحكمة والمصلحة) (9). وكل من سأله عن هذه التقلبات في نسبه يقول: هكذا أخبرني الله تعالى، أو هكذا أُلهِمَ من الله أو كُلمَ على التعبير الذي يحبه (10). أي: أخبره الله بكل هذه التناقضات التي لا مبرر لها إلا الجهل والنفاق والله يتنزه عن هذا التناقض. ومهما قال عن أسرته، فإنها أسرة عميلة اشتهرت بعمالتها وتفانيها في خدمة الإنجليز المستعمرين لهم. وكان الغلام كثيراً ما يتباهى بأنه هو وأجداده كانوا من المخلصين لخدمة الإنجليز، كما سيأتي ذكر النصوص التي تبجح بها القادياني وأتباعه. أما ولادته: فقد ولد غلام أحمد في عام 1256هـ على أحد الأقوال في قرية قاديان إحدى قرى البنجاب بالهند. يقول المودودي: (ولد الميرزا غلام أحمد - كما أشرنا في البداية - حوالي سنة 1839م، أو سنة 1840م حسبما كتبه الميرزا في تأليفه (كتاب البرية)، إلا أن أحد مؤرخيه كتب أنه ولد سنة 1835م (11)، وقد وصف القادياني قريته التي ولد فيها بقوله: (كانت قريتي أبعد من قصد السيارة، وأحقر من عيون النظارة، درست طلولها، وكره حلولها، وقلت بركاتها، وكثرت مضراتها ومعراتها، والذين يسكنون فيها كانوا كبهائم، وبذلتهم الظاهرة يدعون اللائم، لا يعلمون ما الإسلام وما القرآن وما الأحكام، فهذا من عجائب قضاء الله وغرائب القدرة أنه بعثني من مثل هذه الخربة) (12). وأغلب الظن أنه كان صادقاً في وصفه لقريته بأنها خربة، ولأهلها بأنهم مثل البهائم لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً؛ إذ لولا أنهم كذلك لما جرؤ على دعوى النبوة بينهم. المصدر: فرق معاصرة للعواجي 2/ 747 - 749   (1) ((مرزا غلام أحمد))، ((استفتاء)) (ص 75). (2) ((القاديانية دراسة وتحليل)) (ص205) نقلا عن يعقوب القادياني، حياة النبي: (1/ 141 - 142). (3) ((القادياني والقاديانية)) (ص20). (4) ذكر تلك الأخبار إحسان إلهي في كتابه ((القاديانية)) (ص125 - 126) نقلاً عن كتب الغلام، كتاب ((البرية)) (ص134) ((حاشية أربعين)) (ص17)، ((ضميمة حقيقة الوحي)) (ص77)، ((تحفة كولرة)) (ص29). (5) مرزا غلام أحمد، كتاب ((البرية))، (ص 134). (6) مرزا غلام أحمد، ((استفتاء))، (ص 75) (7) ((حقيقة الوحي)) للغلام أحمد القادياني (ص 77)، نقلا عن ((القاديانية)) لإحسان (ص 126). (8) ((حاشية أربعين)) (ص27) (رقم 2)، ((القاديانية)) (ص125). (9) ((ضميمة الوحي)) (ص85) مترجم. (10) ((القادياني والقاديانية)) (ص20). (11) ((القاديانية)) (ص15) نقلاً عن المجدد الأعظم (ص16 - 17). (12) ((ضميمة الوحي)) (ص28). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 31 ثانيا: ثقافته وحياته الاجتماعية درس في صغره عدة علوم منها الصرف والنحو، وبعض الكتب العربية، والفارسية، والطب، والعرافة، ولكنه لم يفلح في دراسة علوم الشريعة ك والفقه وغيرهما. وكان بعض أساتذته حشاشين وأفيونيين كما ذكر ابنه وخليفته أحمد في خطابه المنشور في جريدة قاديانية (الفضل) 5 فبراير 1929م. المصدر: رسائل في الأديان للحمد - ص301 وقرأ مبادئ العلوم وقرأ في المنطق والعلوم الدينية والأدبية في داره على بعض الأساتذة، مثل فضل إلهي، وفضل أحمد، وكل علي شاه، كما قرأ الطب القديم على والده الذي كان طبيباً ماهراً (1) وعرافاً حاذقاً (2)، وقد كان يكثر القراءة والطلب وأجهد نفسه في ذلك (3) وقال: وكذلك لم يتفق لي التوغل في علم الحديث والأصول والفقه إلا كطل الوبل المصدر: خصائص المصطفى بين الغلو والجفاء للصادق بن محمد بن إبراهيم - ص 254 ودرس الكتب البدائية في الإنجليزية في سيالكوت، كما ذكر ابنه بشير أحمد. وفي أثناء قيامه في سيالكوت فتحت مدرسة ليلية إنجليزية لموظفي الحكومة، وعين الطبيب أمير شاه مدرساً في هذه المدرسة، وبدأ يدرس الإنجليزية في هذه المدرسة وقرأ كتاباً أو كتابين. ويعلق الشيخ إحسان إلهي ظهير على تعليم القادياني بعد أن استعرضه قائلاً: فهذا كل تعليمه ودراسته ويظهر أثراته (4) في كتاباته ومقالاته؛ فهو لا يخطئ فقط في المسائل العلمية الدقيقة، بل يغلط أغلاطاً فاحشة في الأمور المعروفة البسيطة التاريخية المصدر: رسائل في الأديان للحمد - ص301 وقد بدأ حياته العملية بأن توظف في محكمة حاكم المديرية في مدينة سيالكوث إحدى المدن في باكستان، بمرتب يساوي خمس عشرة روبية في ذلك الوقت، وبقي على ذلك أربع سنوات من عام 1864 إلى عام 1868م، وقد استغل في هذه الفترة وقته فأقبل على تعلم الإنجليزية، كما التحق بدراسة الحقوق وأخفق في الامتحان، ثم استقال من وظيفته هذه عام 1868م وشارك والده في المحاكمات والقضايا التي كان مشغولاً بها (5).وهكذا بدأ حياته في تقشف وحاجة شديدة عبر عنها في كتابه: (ضميمة الوحي) بعدة أساليب نأخذ منها على سبيل المثال في الاستفتاء الأول الذي بدأ بقوله: (يا علماء الإسلام وفقهاء ملة خير الأنام؛ أفتوني في رجل ادعى أنه من الله الكريم - يقصد نفسه - إلى أن قال: (وكان في أول زمنه مستوراً في زاوية الخمول، لا يعرف ولا يذكر، ولا يرجى منه ولا يحذر، وينكر عليه ولا يوقر، ولا يعد في أشياء يحدث بها بين العوام والكبراء، بل يظن أنه ليس بشيء ويعرض عن ذكره في مجالس العقلاء) (6).وقال أيضاً: (وما كنت من المعروفين فأوحى إلي ربِّي، وقال: اخترتك) (7). إلى أن يقول: (وكنت أعيش كرجل اتخذه الناس مهجوراً). ونصوص أخرى كثيرة ذكرها حول إثبات هذه الحقيقة. إلا أنه حينما تبوأ الزعامة الدينية أقبلت عليه الدنيا والهدايا الكثيرة التي تمدح بها في كتابه (ضميمة الوحي) في سبعة مواضع، بتعبيرات مختلفة زاعماً أنها فضل من الله، ودليل أيضاً على نبوته، منها: (ثم بعد ذلك أيَّد الله هذا العبد كما كان وعده بأنواع الآلاء وألوان النعماء، فرجع إليه فوج من الطلباء بأموال وتحايف وما يسرُّ من الأشياء، حتى ضاق عليها المكان) (8).   (1) ((القادياني والقاديانية)) (ص22). (2) ((القاديانية)) (ص127). (3) ((كتاب البرية)) (ص149 - 150). (4) لعل المقصود بتلك الكلمة -آثاره- أو - آثار ذلك-. (5) ((القادياني والقاديانية)) (ص22 - 23) نقلاً عن كتاب ((سيرة المهدي))، وكتاب ((البرية)) وكلاهما للغلام. (6) ((ضميمة الوحي)) (ص3). (7) ((ضميمة الوحي)) (ص28)، وانظر (ص30). (8) ((ضميمة الوحي)) (ص6). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 32 وقال أيضاً: (وانهالت علي الهدايا كأنها بحر تهيَّج في كل آن أمواجاً، هذه آيات الله) (1).وقال: (يأتوني من كل فج عميق بالهدايا وبكل ما يليق، هذا وحي من السماء من حضرة الكبرياء، ما كان حديثاً يفترى) (2). ومن هنا وحين أقبلت عليه الدنيا بالزعامة الدينية رتع فيها كيفما حلى له على حساب المغفلين من أتباعه، وصار ينفق في المسكن والمأكل والمشرب بما في ذلك شرب أقوى المسكرات من الخمر والمعجونات المقوية الثمينة، وصارت حياته أشبه ما تكون بحياة الزعماء السياسيين حتى شكى كثير من أتباعه هذه الحياة المملوءة بالإسراف بالنسبة للغلام ولزوجاته، من لبسهن الحرير والحلي والحلل الفاخرة، بينما أتباعه يعيشون في فقر مدقع. وكان الغلام يغضب كثيراً حينما يُسأل عن كيفية إنفاق تلك الأموال التي تأتي بكثرة، لكنها لا ترى بعد ذلك ولا يلمس لها أثر (3). المصدر: فرق معاصرة للعواجي 2/ 749 - 751 كان زواجه الأول حوالي عام 1853 م لامرأة من عائلته، واستمر الزواج طويلاً قرابة أربعين عاماً، لكنه في عام 1891م، طلق زوجته هذه، وتزوج بامرأة ثانية سماها القاديانيون أم المؤمنين. ورزق من زوجته الأولى ولدين أولهما: المرزا سلطان أحمد، والثاني: المرزا فضل أحمد. أما زوجته الثانية فقد أتت له بسائر أولاده الباقين، وكان أبرزهم خليفته المرزا بشير الدين محمود، والمرزا بشير أحمد، والمرزا شريف أحمد. المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص9   (1) ((ضميمة الوحي)) (ص28). (2) ((ضميمة الوحي)) (ص29)، وانظر (ص30). (3) انظر: ((القادياني والقاديانية)) (ص24 - 25)، وانظر: ((القاديانية)) لإحسان إلهي (ص144 - 146). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 33 ثالثا: صفاته وأخلاقه لم تكن شخصية القادياني تؤهله لقيادة أقل الجماعات الدينية، بل ولا رعاية نفسه؛ لما كان عليه من بذاءة اللسان وسوء الأخلاق، إلى جانب البلادة والجبن اللذين كان يتصف بهما. يقول الشيخ إحسان إلهي ظهير عنه: =وأما الأشياء التي امتاز بها في طفولته فكما يلي: أولاً بجبنه، وثانياً بسفاهته، وثالثاً باختلاس الأموال، ورابعاً بكثرة أمراضه. فمن جبنه أنه لم يدخل المنازلات والمصارعات، كعادة أبناء الشرفاء آنذاك، ولم يتعلم الفنون العسكرية، مع أن الناس كانوا يعدون هذه الأشياء من لوازم الشرف والشجاعة. ومن ذلك أنه أراد أن يذبح فروجا ًفقطع أصبعه، وسال منها الدم، فقام مستغفراً تائباً؛ لأنه طوال حياته ما ذبح حيواناً قط. أما سفاهته وغباؤه فيظهر في أمور عديدة منها جهله بأبسط الأمور الحياتية التي يعرفها الأطفال بالتعود والمران، كالتمييز بين يمين الحذاء من شمالها، وكاستخدام الساعة، ونحو ذلك من الأمور التي لا تحتاج إلى جهد عقلي لمعرفتها أو استخدامها. ولكن القادياني كان لفرط بلادته وغبائه لم يكن يحسن ذلك، فقد لا يميز الحذاء اليمين والشمال، مما اضطره لوضع علامة بإحداهما؛ ليتمكن من معرفتها. وكان الناس يسخرون منه لذلك فقال فيهم: = ويذكرون النعلين عند المقال كأنهم يتمنون ضرب النعال (1).ومن سفاهته ما ذكره أيضاً ابن الغلام: أخبرتني أمي أن حضرته حدثها مرة أنه حين طفولته قال له بعض الأطفال هات لنا السُّكَّر من البيت، فجئت إلى البيت، وبدون أن أسأل أي واحد أخذت ما ظننته سكراً، وفي الطريق بدأت آكله فلما وصل هذا الشيء إلى الحلقوم اختنقت، وأوذيت إيذاءً شديداً، وعرفت أن ما كنت أفهمه سكراً كان ملحاً. (2) المصدر: رسائل في الأديان للحمد - ص 303 - 305 وفي رأيي أنه كان يتظاهر بهذه الغفلة والسذاجة لأشياء في نفسه تمهيداً للإيحاء إلى الناس بأنه في تلك القوة من الاحتجاج والمناظرة والخطابة وكثرة تأليف الكتب التي بثَّها في العالم - إنما كانت بقوة ربانية وإلهام منه؛ أي ولولا ذلك لما استطاع أن يحفظ اسمه أو يكتب كلمة. وهذا من دهائه ومكره، فإن الذي كتب عن مدح الإنجليز ما يملأ 50 خزانة كيف لا يعرف أرقام الساعة وحذاءه الأيمن عن الأيسر وأحجار الاستنجاء وأقراص القند؛ بل وبين السكر والملح كما يذكر عنه، هذا بعيد جداً خصوصاً وأن هذه الأوصاف إنما ينقلها علماء المسلمين من كتب القاديانية وعن القادياني، ومن مصادره أنه كان كثير الأمراض (3). وقد ذكر هو عن نفسه وذكر عنه العلماء من المسلمين ومن كتَّاب القاديانيين من الأمراض ما لو جمعت على حجر لفلقته، فقد ذكر المودودي جملة من أمراض الغلام من مصادر القاديانيين أن الغلام كان فيه من الأمراض: - الهستيريا - القطرب - الماليخوليا - السل - أمراض الصدر - دوار الرأس - سلس البول - الأرق - التشنج القلبي - الذيابيطس - أي السكر - يبول في الليلة الواحدة أكثر من مائة مرة - الضعف العصبي - سوء الذاكرة ... إلخ ذلك. المصدر: فرق معاصرة للعواجي 2/ 754، 755 ومنها أن يده اليمنى كانت مكسورة إلى آخر عمره، وكانت ضعيفة لا يستطيع أن يرفع بها إناء الماء   (1) ((عقيدة ختم النبوة)) (ص245). (2) ((القاديانية)) لظهير (ص129 - 130). (3) انظر: كتاب ((القاديانية)) والمصادر التي أخذ عنها (ص 16 - 19). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 34 المصدر: رسائل في الأديان للحمد - ص305 وأمراض أخرى ذكرها المودودي والندوي وغيرهما في ترجمتهم له، مستندين إلى كتب الغلام وغيره من كبار أصحابه (1) المصدر: فرق معاصرة للعواجي 2/ 752 وفيما أتصور أن هذه المبالغات في ذكر أمراض الغلام المتنبي - من قبل القاديانيين - إنما يراد من ورائها مكسب هام لإثبات النبوة؛ لأن أقل هذه الأمراض تمنع الشخص أن يملأ الخزائن بمؤلفاته، ولا تسمح له بالتفكير السليم فتكون النتيجة أن كل ما قاله الغلام وكتبه إنما كان إلهاماً جاهزاً من الله لا دور للغلام فيه إلا مجرد التبليغ، خصوصاً إذا عرفنا أن الغلام وأسرته كانوا يحبون أن تشيع هذه الأمراض عنه، وقد ذكر الشيخ إحسان إلهي –رحمه الله - أمراضاً أخرى كثيرة للغلام من مصادر القاديانيين (2)، فأي جسم يحتمل ذلك!؟ المصدر: فرق معاصرة للعواجي 2/ 754 يقول الأستاذ جلرزار أحمد مظاهري في كتاب (القاديانية، تاريخها وغايتها): "ذكر ابن غلام أحمد وهو بشير أحمد في صفحة 13 من الجزء الأول من كتابه (سيرة المهدي) قوله: لقد ذكرتْ لي الوالدة بأن حضرة المسيح الموعود) أي والده غلام أحمد (أصيب بالصداع والهيستريا بعد بضعة أيام من وفاة ابنه بشير الأول، ولكن العارض كان خفيفاً. وكان مصاباً بالسرسام، وجاء في الصفحة 10 من مجلة قاديان الإنجليزية، عدد أغسطس 1946م "إن السرسام لم يكن مرضاً وراثياً يعانيه حضرة المرزا، بل كان ناتجاً عن أسباب خارجية مثل تعب الفكر والتفكير والهم وسوء الهضم، مما نتج عنه ضعف عقلي ممثل في السرسام وغيره من علامات الضعف مثل الدوخة" (3). ومما يدل على اختلال عقله ما حوته مؤلفاته من كلمات عجيبة وآراء غريبة، يذكر بعضها الأستاذ جلرزار مظاهري، منها قوله: "أنا أبو الله" (حقيقة الوحي) صفحة 86. "وقال في كتابه (أربعين) المجلد 4، صفحة 19: "لقد ألهمت بشأن إلهي بخشى كان عالماً كبيراً قاوم افتراءات غلام أحمد ما يلي: "إن إلهي بخشى يريد أن يرى حيضط، أو أن يعثر على قذارة ونجاسة فيك، ولكن الله سيريك نعمه، وستتوالى عليك هذه النعم، ولن يكون لك حيض بل ولد سيكون بمنزلة أولاد الله". قال في كتابه (تتمة حقيقة الوحي) صفحة 143، ما يلي: "إن الله نفخ روح عيسى كما فعل بمريم، وعلى سبيل الاستعارة حملت ثم إني بعد شهور لا تزيد على عشرة ألهمني الله أنه قلبني من مريم إلى عيسى". وقال في الجزء الثاني من كتابه (أربعين) صفحة 36: "قال الله: أنا أيضاً سوف أصوم وسوف أفطر". وقال في صفحة 31 من كتابه (تذكرة) وفيه مجموعة الإيحاءات والإلهامات والمكاشفات، خاطبني الله قائلاً: "إن (بلاش) هو اسم الله .. وأضاف غلام أحمد قائلاً: "إن هذا لفظ إلهامي جديد، وإني حتى الآن لم أره لا في القرآن ولا في الحديث، ولم أجده في أي معجم". وقد جاء في بيان رقم 34 بعنوان "إسلامي قرباني" تأليف قاضي يار محمد قادياني نقلاً عن غلام أحمد قوله: "أنا أنثى وأحيض" (4). إن أي عاقل يستطيع أن يكتشف بسهولة حين قراءة هذه الآراء العجيبة أن قائلها غير سليم العقل على الإطلاق، وأنه صاحب فكر مشوش مضطرب، ومن الغريب أن هناك آلاف مؤلفة آمنت بمعتقدات هذا الرجل، وصدقت أنه المسيح الموعود، وأنه نبي يوحى إليه. المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص9 - 11   (1) انظر تفصيل ذلك في ((القادياني والقاديانية)) (ص24)، نقلاً عن ((سيرة المهدي)) (1/ 17)، وانظر: (القاديانية) (ص16 - 20)، نقلاً عن ((سيرة المهدي)) وكتاب ((البرية)) للغلام. (2) [15906])) ((القاديانية)) لإحسان إلهي، انظر (ص130 - 134). (3) جلرزار أحمد مظاهري، ((القاديانية، تاريخها وغايتها))، (ص 19). (4) جلرزار أحمد مظاهري، ((القاديانية، تاريخها وغايتها))، (ص 21 - 22). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 35 أما أخلاقه: فقد وصف الغلام بالبذاءة وسوء الأخلاق وطول اللسان هجاء مقذعاً للمخالفين والعلماء المعاصرين وعباد الله الصالحين، وكان مصداق صفة المنافقين التي جاءت في الأحاديث الصحاح: (وإذا خاصم فجر) (1)، وكان يكثر من سَبِّ مخالفيه مثل هذه الألفاظ: فلان الغوي الجاهل الخليع الكلب الأحمق الضال الكذاب اللعين ابن الزنا والبغي الشيطان الغوي، وأمثال هذه الكلمات والسباب البذيء الذي لا يصدر إلا عن السفهاء والسوقة (2). المصدر: فرق معاصرة للعواجي 2/ 754، 755 منها قوله: "إن الذي لا يؤمن بنصرنا فلسوف يعلم أنه كان يرغب في أن يكون ابن حرام لا ابن حلال" (أنوار الإسلام: (ص 30) "إنهم كذابون ويأكلون الجيف كالكلاب") ضميمة أنجام أشهم، صفحة 25 (. "لقد أصبح أعداؤنا خنازير الفلوات، ونساؤهم أذل من الكلاب".) نجم الهدى: صفحة 10 (."إن كل المسلمين ينظرون إلى هذه الكتب (كتب غلام أحمد) بكل شوق ويفيدون من معارفها، ولكن أولاد العواهر لا يؤمنون") أثينة كمالات الإسلام ((3). المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص11 ومن ذلك أيضاً قوله: بل تكلموا كالنساء متسترين، ويقول: أنتم رجال أم مخنثون أيها الجاهلون (4). المصدر: رسائل في الأديان للحمد - ص305 ومن ذلك أنه تنبأ بموت رجل في زمن محدد، ولكن هذا الرجل لم يمت حسب تنبؤه في هذه المدة، فقال له بعض العلماء: أنت تظن أنك نبي ولا تتكلم إلا بوحي الله، فكيف يمكن أن يتخلف وعد الله؟ فبدل أن يجيبهم بدليل يرد به دعواهم ويثبت دعواه، بدلاً عن ذلك بدأ يَسُبُّهُم هم وجميع علماء المسلمين فقال: (لا يوجد في الدنيا شيء أنجس من الخنزير، ولكن العلماء الذين يخالفونني هم أنجس من الخنزير، أيها العلماء يا آكلي الجيفة وأيتها الأرواح النجسة) (5).وقد وصف جميع من يخالفونه بقوله: (بعضهم كالكلاب، وبعضهم كالذئاب وبعضهم كالخنازير) (6)، ويخاطب الشيخ ثناء الله الأمر تسري قائلاً: (يا كلب يا آكل الجيفة) (7) ويقول عن العالم الكبير مهر علي الكولري الجشتي: فقلت لك الويلات يا أرض جولر ... لعنت بملعون فأنت تدمر (8) وقال في سبه لجميع مخالفيه: إن العدا صاروا خنازير الفلا ... نسائهم من دونهن الأكلب (9)   (1) رواه البخاري (34) ومسلم (58) من حديث عبد الله بن عمرو. (2) انظر: ((القادياني والقاديانية)) (ص104 - 107). (3) مظاهري، ((القاديانية))، (ص 28). (4) عقيدة ختم النبوة (ص245. (5) انظر: ((القاديانية)) لإحسان إلهي (ص140)، نقلاً عن ((أنجام آثم)) للغلام (ص21). (6) ((خطبة إلهامية)) للغلام (ص150)، عن ((القاديانية)) لإحسان. (7) ((حاشية أنجام آثم)) (ص25). عن ((القاديانية)). (8) ((إعجاز أحمدي)) (ص75). عن ((القاديانية)). (9) ((نجم الهدى)) (ص215)، انظر: ((القادياني والقاديانية)) (ص106). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 36 وإذا كان هذا السباب لعلماء عصره لأغراض شخصية إن صرفنا النظر عن الأساس الديني فيها - وهو الأصل - فلماذا لم يقتصر في سبه على المخالفين له حين تطاول فسب أنبياء الله الأطهار دون أن يكون له أي مبرر - إلا تغطية ضعف جانبه وبطلان أفكاره وسقوطها -.ومن ذلك السباب سبه لنبي الله عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام؛ فقد قال عنه: (إن عيسى ما استطاع أن يقول لنفسه إنه صالح؛ لأن الناس كانوا يعرفون أن عيسى رجل خمار، وسيئ السيرة) (1).وقد كذب وافترى وحاشا أن يوصف نبي الله عيسى بهذا الوصف أو الأوصاف الأخرى التي قالها عنه، مما يلزم تنزيه القارئ عن ذكرها هنا (2)، وربما تصور الغلام أن نقضه لبناء الآخرين يشيِّد بنيانه، وأن ترفُّعه على الأنبياء يجعل منه نبياً أعلى منهم. كما أنه له أشعارا ركيكة ومعاني تافهة مملوءة بالسباب والشتائم على كل من يخالفه، ينطبق عليه المثل القائل: (رمتني بدائها وانسلت).وحين تمادى في شتم الناس وإيذائهم بلسانه وبكتاباته عنهم أوصلوا أمره إلى القضاء، فأخُِذَ عليه تعهد في المحكمة الجنائية أن لا يستعمل مرة أخرى تلك الألفاظ القبيحة والسب والشتم والقذف ضد مخالفيه، وقال الغلام نفسه: (أنا عاهدت أمام نائب الحاكم بأني لا أستعمل بعد ذلك ألفاظاً سيئة) (3).ولكنه لم يَفِ؛ فهذا هو يقول في ضميمة الوحي في معرض تعداده للنعم الوافرة عليه - يقول: (ويطرد –أي الله - أعداءه المؤذين كالكلاب ويؤتيه ما لم يؤت أحداً من المعاصرين) (4). وتجد تفاصيل كثيرة فيما كتبه عنه العلامة الندوي والمودودي وإحسان إلهي رحمهم الله؛ حيث يظهر القادياني فيما ينقله عنه هؤلاء الأعلام أنه كان سباباً فاحشاً لا يدانيه أحد في هذه الصفة. كما عرف عنه التناقض في القضية الواحدة؛ حيث يذكر شيئاً ثم يذكر آخر يدل على كذبه، وحبل الكذب قصير كما قيل، ومن الكذب الذي اشتهر به الكذب على الله؛ حيث يأتي بكلام من تلفيقه ثم يزعم أن الله قاله له، ثم يكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم بوضع أحاديث من تلقاء نفسه. كما عرف عنه الاحتيال لأخذ أموال الناس وعدم الوفاء بالتزاماته لهم، وتعليل ذلك بما لا مقنع فيه لأحد، كما في قصة الخمسين المجلد التي تزعم أنه سيؤلفها وأخذ ثمنها مقدماً، ثم كتب خمسة كتب فقط وامتنع من الباقي، ومن إرجاع الأموال أيضاً بحجة أنه لا فرق بين الخمسة والخمسين غير الصفر، ويظهر التناقض واضحاً في أفكاره حين تقارن بين قوليه الآتيين: (أنا أعتقد كل ما يعتقده أهل السنة، كما أنا أعتقد أن محمداً خاتم النبيين ومن يدعي النبوة بعده هو كافر كاذب؛ لأني أومن أن الرسالة بدأت من آدم وانتهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) (5) وقوله: (والله الذي في قبضته روحي هو الذي أرسلني، وسماني نبياً، وأظهر لصدق دعواي آيات بينات بلغ عددها ثلاثمائة ألف بينة) (6). المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 755   (1) ((ست بجن)) للغلام (ص172)، ((القاديانية)) لإحسان إلهي (ص143). (2) ذكرالأستاذ إحسان إلهي والعلامة المودودي والندوي كثيراً منها. (3) ((مقدمة كتاب رب البرية)) (ص13) للغلام، ((القاديانية)) (ص144). (4) ((ضميمة الوحي)) (ص31).مترجم. (5) ((تبليغ رسالة)) (2/ 2). (6) ((تتمة حقيقة الوحي)) (ص68)، عن ((القاديانية)) لإحسان إلهي (ص138 - 139). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 37 رابعا: عمالة القادياني وأسرته للإنجليز شعر الإنجليز أن عقيدة الجهاد عند المسلمين هي سبب القلاقل والثورات ضد الاستعمار، فبدأت بدراسة الأحوال دراسة علمية دقيقة، وأرسلت الحكومة الإنجليزية بعثات لتقصي المعلومات لمعرفة الأسباب الحقيقية المحركة للثورة ضد الإنجليز: "وفي مقتبل عام 1869م جاءت بعثة إنجليزية مكونة من المحررين الإنجليز والزعماء المسيحيين لدراسة الوسائل التي تخلق في قلوب سكان القارة الهندية عاطفة ولاءٍ للإنجليز، وتخضعهم لهم بعد انتزاع عاطفة الجهاد من قلوبهم، وبعد أن عادت البعثة إلى إنجلترا عام 1870 م، رفعت إلى الحكومة تقريرين كتبت في أحدهما وهو تقرير عنوانه (وصول السلطنة الريطانية إلى الهند): "إن أغلبية مسلمي الهند تتبع زعمائها الدينيين اتباعاً أعمى، وإذا وجدنا الآن أحداً يستعد لأن يزعم أنه نبي أمكن لنا تحقيق مطامع بريطانيا بتنشيط دعواه تحت رعاية الحكومة" (1). وظل الإنجليز يبحثون عن الرجل الذي يمكن أن يساعدهم ويساعدوه في دعوى النبوة حتى يستطيعوا أن يضربوا عقائد الإسلام من داخل المسلمين أنفسهم .. ولم يستمر بحثهم طويلاً، فقد وجدوا الشخصية التي يبحثون عنها بسهولة، إنه رجلهم سليل أسرة يفتخرون بولائهم للاستعمار، فصنعوا منه مهدياً، ثم نبياً، وعرفوا متى يقدموه للناس مهدياً، ومتى يعرضوه نبياً، أو نبياً ظلياً كما زعم القادياني. يقول أغاشورش كشميري في كتابه (خونة الإسلام): "وقع الاختيار) أي اختيار الإنجليز (على المرزا غلام أحمد القادياني لتحقيق هذا الهدف، وقد ظهر في بداية الأمر في مظهر المتكلم الذي كان يجادل الآباء اليسوعيين الذين كانوا يواجهون الإسلام .. ثم كون جماعة من أتباعه في عام 1880 م وادعى أنه محدث (ملهم من الله) .. ثم أعلم دعواه عن كونه مجدداً، وفي عام 1888م أعلن أن الله أمره بأخذ البيعة من المسلمين، وادعى في عام 1891م، أنه هو المسيح الموعود، كما اخترع لنفسه مصطلحاً جديداً، وهو أنه نبي ظلى" (2).إذن القاديانية حركة من صنع الإنجليز، فهم الذين أوجدوها لمحاربة الإسلام الذي يدعو أتباعه إلى الجهاد في سبيل الله، ومقاومة الاستعمار والمحتلين "فدبرت الحكومة بعث المرزا غلام أحمد المتنبي، لكي يميت بهذه الوسيلة روح الجهاد في قلوب المسلمين ويمكنوا نفوذهم في إقليم البتجاب، وكان الإنجليز يستيقنون – على حد زعمهم – أن منطقة بنجاب لا تخضع لهم إلا من خلال المتنبي، وإذا لم يوفقوا في إخضاعهم بواسطته فلا أقل من أن يشغلوا العلماء به، ويصرفوهم عن الجهاد إلى المسائل الأخرى" (3)، أي يشغلوهم بالقضايا الخلافية والكلامية حتى يختلفوا ويتفرقوا ويبتعدوا بفكرهم عن جهاد المستعمر الإنجليزي.   (1) آغاكشميري، ((خونة الإسلام)) (ص 3 - 4). (2) أغاشورش كشميري: ((خونة الإسلام))، (ص4). (3) أغاشورش كشميري: ((خونة الإسلام))، (ص 8 - 9). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 38 المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص 16، 17 فأما عمالة أسرته فقد كان والده المرزا غلام مرتضى مؤيداً ومسانداً للمستعمر الإنجليزي لبلاده لدرجة أنه: "قدم فرقة مؤلفة من خمسين فارساً لمساعدة الحكومة الإنجليزية في ثورة عام 1857م، وتلقى على ذلك رسائل شكر وتقدير من رجال الحكومة وكان بجوار الإنجليز على جبهة من جبهات حرب الثورة" (1).يقول أغاشورش كشميري في كتابه (خونة الإسلام): "إن أسرة المرزا غلام أحمد القادياني هي أكثر أسر مدينة القاديان وفاء للإنجليز، كما أن المرزا غلام أحمد نفسه أقرَّ بولائه الصادق للإنجليز في عدد لا يحصى من كتبه ورسائله، بل أبدى اعتزازه بهذا الولاء" (2). لقد كانت أسرة غلام أحمد معروفة بشدة ولائها للمستعمر الإنجليزي، لدرجة أنه يؤكد على هذه الحقيقة دون أدنى خجل فيقول: "لم نقصر في إراقة دمائنا والتضحية بأنفسنا في سبيل الحكم الإنجليزي" (3).ويقول في كتاب (البرية): لقد أقرت الحكومة بأن أسرتي في مقدمة الأسر التي عرفت في الهند بالنصح والإخلاص للحكومة الإنجليزية، ودلت الوثائق التاريخية على أن والدي وأسرتي كانوا من كبار المخلصين لهذه الحكومة من أول عهدها " (4). المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص13، 14 ومن الأمثلة - وهي كثيرة - على خدمة هذا المتنبئ لبريطانيا قوله في منع الجهاد: (لقد قضيت معظم عمري في تأييد الحكومة الإنجليزية ونصرتها، وقد ألفت في منع الجهاد ووجوب طاعة أولي الأمر - الإنجليز - من الكتب والإعلانات والنشرات ما لو جمع بعضها إلى بعض لملأ خمسين خزانة!! وقد نشرت جميع هذه الكتب في البلاد العربية ومصر والشام وتركيا، وكان هدفي دائماً أن يصبح المسلمون مخلصين لهذه الحكومة، وتمحى من قلوبهم قصص المهدي السفاك والمسيح السفاح، والأحكام التي تبعث فيهم عاطفة الجهاد وتفسد قلوب الحمقى) (5).وقال أيضاً في رسالة قدمها إلى نائب حاكم المقاطعة: (لقد ظللت منذ حداثة سني - وقد ناهزت اليوم الستين - أجاهد بلساني وقلمي لأصرف قلوب المسلمين إلى الإخلاص للحكومة الإنجليزية والنصح لها والعطف عليها وألغي فكرة الجهاد التي يدين بها بعض جهالهم، والتي تمنعهم من الإخلاص لهذه الحكومة، وأرى أن كتاباتي قد أثرت في قلوب المسلمين، وأحدثت تحولاً في مئات الآلاف منهم) (6). ولاشك أن هذا الكلام من الخزي المفضوح لنبوته حتى لكأنه بُعث لتأييد بريطانيا والدفاع عن مصالحها وإضفاء الشرعية على استعمارها لبلاد المسلمين. ويقول كذلك في تملقه للإنجليز وتذكيرهم بجهوده وجهود أتباعه لهم: (والمأمول من الحكومة أن تعامل هذه الأسرة التي هي من غرس الإنجليز أنفسهم ومن صنائعهم بكل حزم واحتياط وتحقيق ورعاية، وتوصي رجال حكومتها أن تعاملني وجماعتي بعطف خاص ورعاية فائقة) (7). وهنالك نصوص كثيرة بعضها بالأردية وبعضها بالفارسية وأخرى بالعربية يتناقلها العلماء عنه؛ للتأكيد على عمالته لأعداء الإسلام، وعلى رأسهم عدوهم اللدود بريطانيا وجد فيهم القادياني ضالته المنشودة ووجدوا هم أيضاً ضالتهم وما تحمله في شخص القادياني ففاضت قريحة القادياني، فأشاد بفضلهم ومنتهم المزعومة على العالم الإسلامي قاطبة والهند خاصة.   (1) مرزا غلام أحمد، ((كتاب البرية))، (ص 3 - 4). (2) أغاشورش كشميري، ((خونة الإسلام))، (ص3). (3) مرزا غلام أحمد، ((تبليغ الرسالة)) (7/ 24). (4) مرزا غلام أحمد، ((كتاب البرية))، (ص 3). (5) ((شهادة القرآن)) (ص3)، ((القادياني والقاديانية)) (ص94 - 95). (6) ((تبليغ رسالة)) (7/ 10)، ((القادياني والقاديانية)) (ص95). (7) ((تبليغ رسالة)) (7/ 19 - 25)، ((القادياني والقاديانية)) (ص98 - 99). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 39 وبقدر ما ارتبط هو وزمرته بأعداء الإسلام بقدر ما ازداد بعده عن الإسلام والمسلمين ونفرت عنه القلوب واستحوذت عليه الشياطين، وكان موقفه هو وأتباعه في غاية المقت بالنسبة لأهل السنة وعامة المسلمين فإنه ناصبهم العداء، ورأى أن الثورات التي يقومون بها على المستعمرين - أنها من فعل العقول الجامدة والحماقة، وكان يثبطهم بكل ما لديه من قوة وحيلة لمنعهم من جهاد هؤلاء الغزاة للبلاد وللدين، ويصيح فيهم أن الجهاد حرام. وقد انتهى وقته قبل مجيء القادياني، وأما بعده فالجهاد منكر يجب - على حد زعمه - تركه والتسليم للحكومة التي أمر الله بطاعتها؛ أي حكومة بريطانيا الكافرة. وقد تمثل في وضوح تام ولاء القاديانية للإنجليز أنهم دائماً يظهرون سرورهم وابتهاجهم بسقوط أي دولة إسلامية في يد الاستعمار، ويحتفلون بذلك ويعتبرونه من أسعد أعيادهم، لأنهم يعتبرون المكان الذي تصل إليه بريطانيا هو المكان الذي تصل إليه القاديانية. وعلى هذا فإن عز القاديانية وانتشارها مرهون بعز الإنجليز وانتشارهم، فكيف لا يفرح القاديانيون بانتصار بريطانيا وانكسار المسلمين بعد ذلك؟ ولقد صرح بهذا كبار القاديانية ابتداء بالغلام وخلفائه، مثلهم في هذا مثل سائر الباطنية حين يفرحون بمصائب المسلمين ويحزنون من أفراحهم. وهنا أدلة كثيرة من أقاويل القاديانيين في هذا المسلك، منها ما قاله ابن الغلام –محمود أحمد - حين استولت بريطانيا على العراق؛ حيث ألقى خطاباً قال فيه: (إن علماء المسلمين يتهموننا بتعاوننا مع الإنكليز ويطعنوننا على ابتهاجنا على فتوحاته، فنحن نسأل: لماذا لا نفرح ولماذا لا نُسرُّ؟ وقد قال إمامنا بأني أن المهدي وحكومة بريطانيا سيفي، فنحن نبتهج بهذا الفتح ونريد أن نرى لمعان هذا السيف وبرقه في العراق وفي الشام وفي كل مكان) (1).   (1) ((جريدة الفضل)) (7 ديسمبر سنة 1918م)، عن ما هي ((القاديانية)). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 40 ولعله قال هذا الكلام - أنه مهدي - قبل أن يُرقَّي نفسه إلى (نبي).وقال أيضاً عندما احتلت بريطانيا القدس - وهي المدينة التي لا يعترف بها بعد أن حولها إلى قاديان -: (نحن نشكر الله ألف وألف مرة على فتوحات بريطانيا، وأن سبب الابتهاج والسرور لأن إمامنا (الغلام القادياني) كان يدعو لفتوحاتها وكان يوصي جماعته بالدعاء لها، وأيضاً فتحت لنا أبواب الدعوة إلى القاديانية التي كانت مسدودة قبل الآن، وهذا كله لامتداد دولة بريطانيا إلى بلدان أخرى) (1).كما ينقل إحسان إلهي - رحمه الله - عن جريدة الفضل القاديانية الرسمية مقالاً جاء فيه: (أن حكومة بريطانيا هي ترس لنا نتقدم إلى الأمام تحت وقاية هذا الترس، الذي لو أبعد لمزقنا من الرماية فاتحدنا وصار رقيتها (2) وعلوها رقيتنا وعلونا، ودمارها دمارنا) (3).وقال الغلام نفسه عن ربوة وظل بريطانيا عليهم: (قد قال الله عز وجل في القرآن: وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [المؤمنون] 50 ولما جعلني الله عز وجل مثيل عيسى جعل لي السلطنة البريطانية ربوة أمن وراحة ومستقراً حسناً؛ فالحمد لله مأوى المظلومين، ولله الحكم والمصالح، ما كان لأحد أن يؤذي من عَصَمَهُ الله، والله خير العاصمين) (4).وقال كذلك: (ولولا سيف الحكومة لأرى منكم ما رأى عيسى من الكفرة، ولذلك نشكر هذه الحكومة لا بسبيل المداهنة بل على طريق شكر المنة، ووالله إنا رأينا تحت ظلها أمناً لا يرجى من حكومة الإسلام في هذه الأيام، ولذلك لا يجوز عندنا أن يرفع عليهم السيف بالجهاد، وحرام على جميع المسلمين أن يحاربوهم ويقوموا للبغاوات والفساد، ذلك بأنهم أحسنوا إلينا بأنواع الامتنان) (5) .. إلخ الثناء عليهم. المصدر: فرق معاصرة 2/ 759 - 763 وأيضا يقول غلام أحمد في "ضرورة الإمام ص23: "أنا أشكر الله عز وجل أنه أظلني تحت ظل رحمة بريطانية التي أستطيع تحت ظلها أن أعمل وأعظ، فواجب على رعية هذه الحكومة المحسنة أن تشكر لها وخصوصاً عليَّ أن أبدي لها الشكر الجزيل، لأني ما كنت أستطيع أن أنجح في مقاصدي العليا تحت ظل أي حكومة حضرة قيصر الهند". وقال: لعنة الله على من يريد أن يكون تحت أمر الأمير مع أن الله قال: أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر، فالمراد من أولي الأمر ها هنا "الملك المعظم، ولذا أنا أنصح مريدي وأشياعي بأن يدخلوا الإنجليز في أولي الأمر ويطيعوه من صميم قلوبهم" (6).   (1) ((جريدة الفضل)) (23 نوفمبر سنة 1918م). (2) هكذا في الأصل. (3) ((جريدة الفضل)) (19 أكتوبر سنة 1915م)، انظر لتلك النصوص: ((القاديانية)) لإحسان إلهي (ص21 - 33). (4) ((ضميمة الوحي)) (ص50) هامش (1). (5) ((ضميمة الوحي)) (ص63). (6) نقلاً عن إحسان إلهي ظهير، ((القاديانية دراسة وتحليل))، (ص 27). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 41 المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص18 ويفتخر القاديانيون بأنهم قدموا للاستعمار الإتجليزي أفضل الجواسيس الذين بذلوا دماءهم وأرواحهم رخيصة في سبيل خدمة الاستعمار الإنجليزي، ويؤكدون هذه الحقيقة التاريخية في مجلتهم "الفضل" ويذكرون ذلك بتبجح تام كأنهم ليسوا عملاء ولا خونة، بل صناديد أبطالاً وشهادا عظاماً، فقد جاء في مجلة القاديانيين "الفضل" ما نصه: "ولقد أمدت الحركة (القاديانية) وهذه الفئة الحكومة الإنجليزية بخير جواسيس لمصالحها، وأصدقاء أوفياء ومتطوعين متحمسين كانوا موضع ثقة الحكومة الإنجليزية، ومن خيار رجالها، خدموا الحكومة الإنجليزية في الهند وخارج الهند، وبذلوا نفوسهم ودماءهم في سبيلها بسخاء" (1).ويشرح المرزا غلام أحمد عقيدته بوضوح تام فيقول: "إن عقيدتي التي أذكرها أن للإسلام جزئين، الجزء الأول إطاعة الله، والجزء الثاني إطاعة الحكومة التي بسطت الأمن وآوتنا في ظلها من الظالمين، وهي الحكومة البريطانية" (2).ويعلن المرزا خدمته للمستعمر الإنجليزي بلا مواربة، بل يقول إنه أحد خُدام الإنجليز كما كان والده كذلك فيقول: "ولا يخفى على هذه الدولة المباركة أنّا من خدامها ونصَّاحها ودواعي خيرها من قديم، وجئناها في كل وقت بقلب حميم، وكان لأبي عندها زلفى وخطاب التحسين، ولنا لدى هذه الدولة أيدي الخدمة، ولا تظن أن ننساها" (3). المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص 15 والذي أحوجنا إلى ذكر هذه النصوص من أقوالهم إنما هو بيان خطر هذه الطائفة، وانخداع بعض المسلمين بما يبدي هؤلاء من الدعوة إلى الإسلام، وأنه لا فرق بين القاديانيين وسائر المسلمين، ليعرف المسلم في أي مكان وطأته أقدام القاديانيين أنهم أداة تخذيل وإضرار بالإسلام والمسلمين، وأنهم جواسيس الإنجليز ومعاول هدم للإسلام باسم الإسلام. وبعدما قدمنا من النصوص حول عمالة القادياني وأسرته للإنجليز أليس من المغالطة المكشوفة أن يتصدى بشير محمود للقول بأن القادياني والقاديانيين لا يلغون فكرة الجهاد، ثم يرد على هذا القول بشدة ويهاجم كل من يقول به أو ينسبه إلى القاديانيين؟ نعم إنها مغالطة حين قرر بشير ذلك ثم زعم أن الجهاد الذي ينادون بإلغائه ليس هو جهاد الكفار، وإنما المقصود به ذلك الجهاد الذي يوحي بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان جباراً يقتل الناس، لأن الإسلام كما هو تعبيره يلعن اعتناق الدين خوفاً وطمعاً، بل إن الإسلام هو أول دين يقر بحرية العقيدة. وبعد هذه الأقوال ينتهي إلى النتيجة الآتية في فهم الجهاد: الحروب الدينية لا تجوز إلا ضد من يتدخل في الدين ويمنع المسلمين من قولهم: (ربنا الله) وأن مثل هذه الحروب (4) لا تهدف إلى هدم المعابد والكنائس، ولا إلى إكراه غير المسلمين على ترك دينهم، أو إلى قتلهم؛ بل إنما ترمي إلى الدفاع عن سائر الملل والأديان والحفاظ على معابدها. إلى أن يقول: (وقصارى القول أن الجهاد الذي أجازه الإسلام هو محاربة من يُرغم المسلمين على الارتداد عن الإسلام، أو يستعمل القوة لصد الناس عنه، أو يقتل الناس لمجرد اعتناقهم للإسلام، فمحاربة أحد لغير هذه الجرائم لا تجوز مطلقاً (5). ثم زعم أن الجهاد الذي قام به المسلمون إنما هو تقليد للنصارى. وهذا الكلام مملوء بالدس والمغالطة، فيقال له: إذا انتظر المسلمون الكفار إلى الوقت الذي يمنعونهم فيه من قول: (ربنا الله) فمن أين يقومون للجهاد بعد ذلك، مع أن معظم الكفار لا يمنعون أحداً من قولها ما دام قد ترك الجهاد وصار عبداً لهم. وزعمه أن المسلمين إنما يقومون بالجهاد تقليداً للكفار النصارى، إنما هو تعبير مفضوح لجهله بفريضة الجهاد في كتاب الله عز وجل وقيام أهل التوحيد بامتثالها. المصدر: فرق معاصرة 2/ 763، 764   (1) ((مجلة الفضل))، (مارس- 1935م). (2) مرزا غلام أحمد، ((شهادة القرآن بتبليغ الرسالة))، (المجلد السابع، (ص10). (3) مرزا غلام أحمد، ((نور الحق))، (ص 27). (4) [15944])) أي التي وقعت في الإسلام. (5) [15945])) ((دعوة الأمير- معتقد الجماعة الإسلامية الأحمدية)) (ص40 - 44). (مترجم). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 42 تمهيد بدأت هذه الحركة في نهاية القرن التاسع عشر، وبلغت أوج قوتها مع بدايات القرن العشرين. وكان ظهور القاديانية في شبه القارة الهندية حينما وقعت الهند الكبرى في أيدي الاستعمار الإنجليزي حيث ظهرت على يد أحد عملاء الإنجليز بإقليم البنجاب الميرزا غلام أحمد، وكان موطن هذه الحركة الغالية قرية قاديان إحدى إحدى قرى مقاطعة البنجاب، وفي هذه القرية ولد غلام أحمد كما أشرنا من قبل. ولقد كانت القاديانية حركة ضد الإسلام وثورة على النبوة المحمدية فكانت حركة مشبوهة أرادت هد تعاليم الإسلام، يقول الأستاذ الندوي: "هي حركة ثورة على النبوة المحمدية ومؤامرة دينية وسياسية إن وجد لها نظير في الخطر والضرر على الإسلام ففي الحركة الإسماعيلية الباطنية التي تولى كبرها عبيد الله بن ميمون القداح في القرن الثالث الهجري، وأشك أنها بلغت مبلغ الأولى في حالة الفساد ودقة المؤامرة، ومعاداة الإسلام" (1). المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص21، 22 كحال كل داع إلى ضلالة أو بدعة ظهر القادياني أول ما ظهر بصورة المدافع عن الإسلام؛ لأنه حينما ترك الوظيفة في سيالكوت، صار معطلاً لا شغل له، فبدأ يدرس كتب الهندوس، والنصرانية؛ لأن المعارك الكلامية والمناظرات المذهبية كانت دائرة آنذاك بين علماء المسلمين ورجال الدين النصراني، والهندوس في الهند، وكان عامة المسلمين يحترمون علماءهم ومناظريهم، ويخدمونهم قدر استطاعتهم بكل ما كانوا يملكون من الأموال والأنفس، شأن المسلمين قبل نصف قرن في كل أنحاء العالم، فوجد غلام أحمد أن هذا العمل عمل سهل ومُجدٍ بالنسبة له، ويستطيع أن يكسب به من المال ما لم يستطع كسبه في الوظيفة، ففعل أول ما فعل أنه نشر إعلاناً ضد الهندوس ثم كتب بعض المقالات ضدهم، وبعد ذلك تابع الإعلانات والنشرات ضد الهندوس والنصارى؛ فتوجه إليه المسلمون. وكان هذا في سنة 1877 و 1878م. المصدر: رسائل في الأديان للحمد - ص302   (1) الندوي: ((القادياني والقاديانية))، (ص3). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 43 أولا: اتجاهه للتأليف لقد كان الميرزا في بدء حياته خامل الذكر، لا يُعبأ به ولا يُذكر بخير أو شر. ثم اتجه إلى التأليف والمناظرات التي كانت ملتهبة في القارة الهندية بين شتى الأفكار والفرق، وقد بدأ مناظراً جلداً عن الإسلام والمسلمين، مع ما كان يظهر منه بين الفينة والأخرى من غلو في نفسه وتمجيدها، وكان علماء المسلمين تجاهه بين الاستبشار والقلق من أن يجمح به فرسه إلى ما لا تحمد عقباه. ومن هنا بدأت الأنظار تلتفت نحوه وذاع صيته وأعجبته نفسه ومواهبه، فبدأ يحتطب في حبله وطلب من الناس أن يبايعوه، ولم يبخل على نفسه بلقب مجدد العصر (المأمور من الله شبيه المسيح في دعوته إلى الله وأحواله الشخصية). وقد اقتضت سياسة بريطانيا أن يزيدوا من النار اشتعالاً؛ فشجعوا قيام المناظرات وافتعال الخصام والعنف بين الطوائف، ليشعر الجميع بالحاجة إلى دولة قوية تحميهم وتكون الملجأ لجميعهم وهي سياسة بارعة منهم. وحين شمر القادياني في بدء أمره للدعوة إلى الإسلام ودحض حجج خصومه من الهندوس والنصارى، وحينما توجه إليه المسلمون أعلن أنه بدأ في تأليف كتاب كبير في إثبات فضل الإسلام وإعجاز القرآن وإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والرد على الديانات السائدة في الهند كالمسيحية والآرية (1) والبرهمية والبرهموسماجية (2)، وسمى هذا الكتاب (براهين أحمدية) وتكفل المؤلف القادياني في أن يجمع في هذا الكتاب ثلاثمائة دليل على صدق الإسلام في خمسين مجلداً، يدفع فيه كل الاعتراضات والإيرادات التي يعترض بها الكفار عامة على الإسلام، وطلب من المفكرين أن يراسلوه بأفكارهم ليستعين بها، وطلب كذلك التبرع السخي بالمال لطبع الكتاب؛ فانخدع بذلك كثير من العلماء وعامة المسلمين، وفرحوا بهذا الإنجاز المرتقب، وبدأ القادياني يكتب، فكيف تم ذلك؟ الواقع أن الكتاب كان بمثابة صدمة عنيفة للمسلمين وخيبة أمل مريرة، فقد أصدر الجزء الأول منه وسماه براهين أحمدية سنة 1880م، وملأه بمدح نفسه وكراماته وكشوفاته وإعلانات أخرى زكّى بها نفسه، ثم أصدر الجزء الثاني وكان لا يختلف عن الأول من حيث المضمون، ثم أصدر الجزء الثالث سنة 1882م، ثم أصدر الجزء الرابع سنة 1884م. وقد ضمن الجزء الثالث والرابع حث العلماء والجمعيات الإسلامية على إقناع الحكومة الإنجليزية بأن المسلمين أمة هادئة سلمية مخلصة للإنجليز، وأن جهاد الإنجليز حرام، وأن حكومتهم نعمة جسيمة من الله ورحمة، وأنها هي الدولة الوحيدة التي تحقق أهداف المسلمين، وأعاد ذلك وكرره مرة بعد مرة ففطن العلماء له وعرفوا أنه لا يريد إلا الشهرة وكسب المال لا الدفاع عن الإسلام.   (1) فرقة من الهناوك أسسها (ديانند سرسوتي) في القرن التاسع عشر المسيحي، تمتاز بالحماسة الدينية والنشاط في الدعوة والمناظرة والرد على المسلمين، وتدعو إلى الأخذ بتعاليم (ويدا) ونصوصه، ورفض البدع والمحدثات الداخلة في الديانة البرهمية، وتقول بقدم العالم وقدم الروح والمادة، انظر: ((القادياني والقاديانية)) (ص35). (2) ديانة هندية جديدة، ظهرت في القرن التاسع عشر، تحاول الجمع بين تعاليم الإسلام والبرهمية وتقر التوحيد النبوة والإلهام، ومؤسسها (راجه رام موهن راي) انظر: ((القادياني والقاديانية)) (ص36). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 44 فرق معاصرة لعواجي 2/ 774 - 776وأيضا ادعى في هذا الكتاب بأنه مأمور من الله تعالى لإقامة حجة الإسلام، ومكلف من الله عز وجل بإصلاح الخلق، فيقول في الجزء الأول من هذا الكتاب أنه مأمور من الله لإقامة حجة الإسلام، ومستعد لإقناع الجميع: " .. لقد كلفني الله إصلاح الخلق بمسكنة وتواضع وفقر وتذلل على طريقة النبي الناصري الإسرائيلي المسيح، وقد ألفت لهذا الغرض كتاب (براهين أحمدية) " (1). المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص22 وحينما وقف على كتابة خمسة أجزاء بدل الخمسين طالبه المشتركون في قيمة الخمسين جزءاً فذكر أنه كان عازماً على إصدار خمسين جزءاً من هذا الكتاب، ولكنه سيقتصر على خمسة أجزاء، ولما كان الفرق بين الخمسين والخمسة هو صفر واحد فقد أنجز وعده بإتمام خمسة أجزاء، وأنه لا حق لهم في المطالبة بعد ذلك حسب مزاعمه لهم. ولقد مج الناس سماع هذا الكتاب؛ لأنه أتخمه بالإلهامات والمنامات والخوارق والكشوف والتكليمات الإلهية والنبوات والتحديات، ومدح الإنجليز مما يطول نقله وتثقل قراءته، ثم أعلن بعد ذلك أنه هو نفسه المسيح الموعود؛ لأنه تواتر - حسب قوله - عليه الإلهام (إنك أنت المسيح الموعود) (2). ثم جاءت سنة 1900م وبدأ الخواص من أتباعه يلقبونه بالنبي صراحة، وكان موقف الغلام إزاء هذه النقلة الخطيرة متسماً بالحذر والمراوغة، فكان يعجبه هذا اللقب ويبدي بين خاصته التأييد له، ويظهر لمن يخالفه كلمات يمتص بها غضبه بما كان يبديه من تأويل نبوته بما يشعر بالتواضع، مثل (النبي الناقص) أو (النبي الجزئي) أو (النبي المحدث)، علها تخفف حرارة امتعاض المخالف له ولم تدم هذه الفترة طويلا، فبعد سنة 1901م أسفر عن وجهه الحقيقي بأنه نبي كامل، وأن كل ما قاله أو كتبه من أنه نبي غير كامل صار منسوخاً بثبوت نبوته. ثم أدركه بعد ذلك عرق السوء في سنة 1904م، فاحتقر النبوة ورآها غير كافية في شخصه فادعى أنه (كرشن)، وهو معبود من معبودي الهنادك، ولعله طمع في ميل الهنادك (3) إليه، وهو في هذه الدعوى الخطيرة لم يأت بجديد؛ فهو خلف لأسلافه من الطغاة الذين ادعوا الألوهية على مر العصور. المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 776، 777 الخلاصة: أن غلام أحمد بدأ تنفيذ خطة الدعوة إلى نبوته بخطوات موضوعة تماماً جاهزة للتنفيذ، فبدأ الخطة بالدعوة إلى مواجهة النصارى ورجال الدين المسيحيين الذين كانوا يهاجمون الإسلام ويحاولون نشر النصرانية بين مسلمي الهند، بل أخذ يرد أيضاً على الديانات والمذاهب التي كانت معروفة في الهند كالبرهمية والهندوسية، فكانت البداية ظهوره كمدافع عن الإسلام، وظهر ذلك واضحاً في الجزء الأول من كتابه براهين أحمدية. وقد بلغت كتبه ورسائله أكثر من ثمانين كتاباً ورسالة من أهمها: (تبليغ الرسالة)، (حقيقة الوحي)، (توبات أحمدية)، (البرية)، (إزالة أوهام)، (مواهب الرحمن)، (فتح إسلام)، (الأربعين)، وغيرها. المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص 22   (1) غلام أحمد، ((براهين أحمدية))، (جـ 1/ص 82). (2) انظر: ((القادياني والقاديانية)) (ص35 - 42)، ومن (50، 56،65،72) ومراجعه لتي نقل عنها من كتب الغلام بالأردية، وانظر: ((القاديانية)) للحموي (ص17). (3) انظر: ((القادياني والقاديانية)) (ص35 - 42)، ومن (50، 56،65،72) ومراجعه لتي نقل عنها من كتب الغلام بالأردية، وانظر: ((القاديانية)) للحموي (ص17). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 45 ثانيا: ادعاء الإلهام والكشف دعوى أي شخص أن الله ألهمه كذا وكذا، من الأمور اليسيرة التي هي بإمكان كل إنسان أن يدعيها، إلا أن الخطر يكمن في ظهور النتائج - على حد قول أحد الشعراء: من تحلى بما ليس فيه ... فضحته نتائج الامتحان على أن ما يحصل للنفس من إلهام ليس له مورد واحد، بل عدة موارد، فقد يرد عليها الإلهام من الله تعالى، وهنا لابد من أهلية صاحبها وتقواه وصدق إخلاصه لربه وصفاء توحيده. وقد يرد عليها الإلهام من وساوس الشياطين إذا كان صاحبها لائقاً بذلك بعيداً عن الله. وإلهامات الغلام كلها من هذا النوع، وقد ظهر الكذب فيها والتكلف الممقوت رغم أنه يصوغها على غرار الآيات القرآنية، يريد أن يوحى به إلى الناس على أنه إلهام من الله له ووحي مباشر إليه، يتبين ذلك من خلال صيغته وإنشائه. المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 776، 778 في الجزء الثالث من براهين أحمدية، بدأ غلام أحمد يتحدث عن نفسه كملهم من الله تعالى، وخطط قبل ادعائه النبوة لدعوة الإلهام حتى لا يثور عليه أهل الإسلام فقال في براهين أحمدية: "إن الذي يتم اتباعه للرسول، صلى الله عليه وسلم، يكرم بالعلم الظاهر والباطن الذي أكرم به الرسول أصالة" (1). وقال: "إن الإلهام لم ينقطع، ولن ينقطع" (2). وقال أيضاً: "لا يجوز حصر كلمة الإلهام بمعناها اللغوي لأن جمهور العلماء متفقون على اعتبار الإلهام مرادفاً للوحي" (3).وهذا يؤكد أن دعوته دعوة باطنية، وزعمه أنه من أصحاب الإلهام يثبت الصلة القوية بين الفكر الباطني وبين الدعوة القاديانيةِ، فإن صاحب هذه الدعوة كان يرى أنه من أصحاب العلم الباطني حيث قال في براهين أحمدية: "إذا كان العلماء لم يُعطوا العلم الباطني فكيف، ولم يرثون النبوة؟ ألم يقل النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه يكون في هذه الأمة محدثون" (4) (5).وقد زعم المرزا غلام أحمد أن النزاع بينه وبين من يعارضونه في مسألة الوحي بأنه مجرد خلاف لفظي فقط، فقال في براهين أحمدية: "النزاع بيننا وبين جماعة المسلمين الآخرين نزاع لفظي فالإعلامات الربانية التي نسميها وحياً يسميها علماء الإسلام في كلامهم إلهاماً أيضاً" (6). وطبيعي أن هذا كذب واضح وسوء فهم متعمد لمعنى الإلهام والوحي، وهدفه هو التمهيد لدعواه إلى أنه المهدي المنتظر، ثم التمهيد بعد ذلك لدعوته إلى النبوة. المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص 23، 24 لقد كثرت إلهامات الغلام التي جعلها بمثابة وحي من الله تعالى، وهي أفكار زخرفها، وتقوَّلَ فيها على الله تعالى وتنطع، وخرج عن الإيمان بالإسلام وبختم النبوة المحمدية. ثم تحول القادياني من شخص مسلم غيور على الدين في أول أمره إلى عدو لدود للمسلمين والإسلام، حينما رأى إقبال الناس عليه ودفع الحكومة الإنجليزية له إلى الأمام في غيه، كما هو عادة الإنجليز وخداعهم للناس.   (1) المرزا غلام أحمد، ((براهين أحمدية))، (3/ 232). (2) المرزا غلام أحمد، (براهين أحمدية)، (3/ 231). (3) المرزا غلام أحمد، ((براهين أحمدية))، (3/ 221) (4) رواه البخاري (3469) من حديث أبي هريرة ومسلم (2398) من حديث عائشة، وفيهما بأنه إن كان فإنه عمر. قال الحافظ في ((فتح الباري)) (6/ 516): قوله فإنه عمر بن الخطاب كذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التوقع وكأنه لم يكن اطلع على أن ذلك كائن وقد وقع بحمد الله ما توقعه النبي صلى الله عليه وسلم في عمر رضي الله عنه ووقع من ذلك لغيره ما لا يحصى ذكره. وينظر اختلاف أهل العلم في تأويل "محدثون" في ((فتح الباري)) (7/ 50). (5) المرزا غلام أحمد، ((براهين أحمدية))، (3/ 231). (6) المرزا غلام أحمد، ((براهين أحمدية))، (3/ 222). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 46 ولهذا فقد وصل به التعلق بالإنجليز إلى حد أن الذي يأتيه بالوحي هو رجل في صورة شاب إنجليزي. بل والوحي نفسه اختلط عليه الأمر فيه فمرة يوحى إليه بالعربية، ومرة بالفارسية وأخرى بالأردية، بل وأحياناً بالإنجليزية إتماماً للنعمة. ويمكن أن أجعل عذر الندوي في عدم الإتيان بتلك الإلهامات التي نزلت على الغلام كلها - أجعله عذراً لي، وذلك في قوله عن الغلام: (ثم ذكر الشيء الكثير من إلهاماته مما يطول نقله وتثقل قراءته على القارئ الأديب، إلا أننا نقتصر على مثالين من هذه الإلهامات الطريفة) (1).ثم ذكر مثالين منها يكفيان القارئ الحُكم على الغلام، ومدى ما وصل إليه من استهتار بكتاب الله وسنة نبيه، بل وبعقول الناس، بل وبعقله أيضاً هو؛ حيث جاء بكلام لا يفهمه حتى هو فضلاً عن غيره، فمما أورد الغلام في كتابه (براهين أحمدية) قوله: (لقد أُلهِمْتُ آنفا وأنا أعلق هذه الحاشية، وذلك في شهر مارس عام 1882م ما نصه حرفياً: (يا أحمد، بارك الله فيك، ما رميت إذ رميت ولكن الله رمى. الرحمن علم القرآن، لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم، ولتستبين سبيل المجرمين، قل إني أمرت وأنا أول المؤمنين، قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، كل بركة من محمد صلى الله عليه وسلم فتبارك من علم وتعلم ... ) إلى أن يقول: (يقولون أنى لك هذا، أنَّى لك هذا، إن هذا إلا قول البشر، وأعانه عليه قوم آخرون (2) ... ) إلى أن يقول: (إني رافعك إلي وألقيت عليك محبة مني، لا إليه إلا الله، فاكتب وليطبع (كذا) وليرسل في الأرض، خذوا التوحيد التوحيد يا أبناء الفارس (كذا) ... أصحاب الصفة، وما أدراك ما أصحاب الصفة ... ) إلى أن يقول: (قيل ارجعوا إلى الله فلا ترجعون. وقيل استحوذوا فلا تستحوذون، ولا يخفى على الله خافية، ولا يصلح شيء قبل إصلاحه ومن رد من مطبعه، (كذا) فلا مرد له) (3). وأكتفي بذكر هذه النصوص عن الوحي الذي يزعمه، ولكن من الأنفع للقارئ أن يقف على جملة الإلهام أو الوحي الذي نزل على الغلام في آخر كتابه (ضميمة الوحي)؛ ليقف عليه القارئ وليرى مقدار ما وصل إليه هذا الشخص في إقدامه على التلاعب بكتاب الله عز وجل، وليرى الوقاحة التامة التي اتصف بها هذا الرجل وعدم خوفه عاقبة أكاذيبه. وليرى كذلك جملة من الكلام الركيك والهذيان الفاحش والفكر الناقص المضطرب الذي تحدى به البشر. وكتاب الغلام أو رسالته التي جعلها بعد ذلك ملحقة بكتابه (براهين أحمدية) وضميمة له، صاغها على طريقة القرآن الكريم في قصر الآيات وطريقة الوقوف على رأس كل آية. ثم خلط بين آيات متباعدة دون رابط مع تبديل كلمات القرآن بكلمات من عنده أحياناً، وتحريف لألفاظ القرآن أحياناً أخرى، مع الجسارة التامة على التلاعب بترتيب الآيات ونطقها وتبديل ما شاء وترك ما يشاء. وليقف كذلك على جهل الغلام بخالق السموات والأرض وبدائيته في ذلك؛ حيث لفق 97 صفحة ليضاهي بها القرآن الكريم (4).   (1) ((القادياني والقاديانية)) (ص45). (2) لقد صدق في هذا؛ فإن هذا الخلط والتكسير للآيات الكريمة من وضعه، وأعانه عليه الحكيم نور الدين البهيروي. (3) هذا تخويف لأصحاب المطابع ألا يردوا أي كتاب يصل إليهم من الغلام دون طباعته، كما ذكر الندوي. (4) انظر لذلك: كتاب الغلام ((براهين أحمدية)) (3/ 239 - 242، 4/ 509)، (ص554 - 556) نقلاً عن ((القادياني والقاديانية)) (ص42 - 44). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 47 وقد تحدى الغلامُ البشر أن يأتوا بصفحات من مثل كلامه الذي هو كالقرآن فقال يرد على الذين يقولون إن كلامه مسروق وليس بإلهام من الله: (ووالله إنه ظل القرآن ليكون آية لقوم يتدبرون. أتقولون سارق فأتوا بصفحات مسروقة كمثلها في التزام الحق والحكمة إن كنتم تصدقون) (1). هذا وهو القائل: (ألا لعنة الله على من افترى على الله أو كذّب الصادقين، وكل من كذّب الصادق أو افترى جمعهم الله في نار أعدت لهم وليسوا منها بخارجين، قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين) (2).وبعد أن تحدى الغلام البشر أن يأتوا بصفحات من مثل الوحي الذي جاءه، عاد وتحدى البشر أن يأتوا بآية من تلك الآيات التي تلقاها عن الله تعالى قائلاً ومقسماً: (ووالله لو اجتمع أولهم وآخرهم وخواصهم وعوامهم ورجالهم ونساؤهم ما استطاعوا أن يأتوا بآية كما نعطى من ربنا، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) (3)، ومن أقوى ما أوحي إليه هذا الكلام: (فروا من مائدة الله ورغفانها وانتشروا، وبقيت الخِوَانُ على مكانها، وآثروا عصيدة الدنيا وتحلبت لها أفواههم وتلمظت لها شفاههم ... ) (4) إلخ. فمن يستطيع أن يأتي بمثل هذا غيره؟!.وقد ذكر أن من الأدلة على نبوته أنه كان قد نقش في خاتمه: (أليس الله بكاف عبده يا أهل الآراء) (5) قبل أن يخبره الله بأنه نبي فاعجب لهذا الدليل أيها العاقل! وذكر أن الخاتم مضى عليه أكثر من ثلاثين سنة ولا يزال محفوظاً لديه، فضلاً من الله ورحمة، ومع هذا الفضل من الله عليه فقد سجل على نفسه أنه كان يكتم بعض الوحي؛ خوفاً من الحكومة، فقد نبأه الله أن رجلاً من أعدائه اسمه سعد الله سيموت، فأراد أن ينشر هذا الإلهام فثناه عنه وكيله فقال: (فأردت أن أفصله في كلامي وأشيع ما صنع الله بذلك الفتان .. فمنعني من ذلك وكيل كان من جماعتي، وخوفني من إرادة إشاعتي وقال: لو أشعتها لا تأمن مقت الحكام ويجرك القانون إلى الآثام ... وليست الحكومة تارك المجرمين) (6). فكيف بكتم الوحي لئلا يكون مجرماً أمام الحكومة، وصدق الله: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء:82]. ومن إلهاماته الأخرى هذه العبارات: إني ألهِمْتُ إن شاء الله (7).إني ألهِمْتٌ رجل معقول (8).إني ألهِمْتُ الأسف كل الأسف (9).إني ألهِمتُ جوهدري رستم علي (10).فراش العيش (11).أنت مني بمنزلة أولادي (12). بهذه الوثنية زعم أن الله خاطبه، تعالى الله عن افترائه. وهناك إلهامات كثيرة مملة، كما ذكر الندوي بعضها، وذكر المودودي بعضاً، وذكر إحسان إلهي بعضاً منها أيضاً، ويكفي مجرد قراءتها دليلاً واضحاً على شخصية القادياني وشعوذته المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 778، 783   (1) ((ضميمة الوحي)) (ص10). (2) ((ضميمة الوحي)) (ص11). (3) ((ضميمة الوحي)) (ص24). (4) ((ضميمة الوحي)) (ص 41). (5) ((ضميمة الوحي)) (ص31). (6) ((ضميمة الوحي)) (ص39). (7) ((البشرى)) للغلام (2/ 65)، ((ما هي القاديانية)). (8) ((البشرى)) (ص84)، ((ما هي القاديانية)). (9) ((مجموعة إلهامات الغلام)) , ((البشرى)) (2/ 71)، عن ((القاديانية)). (10) ((البشرى)) (ص94)، ((ما هي القاديانية)). (11) ((البشرى)) (ص88)، ((ما هي القاديانية)). (12) ((حاشية أربعين)) (ص23). ((القاديانية دراسة وتحليل)). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 48 ثالثا: مرحلة المهدي المنتظر والمسيح الموعود إن غلام أحمد هذا قد ابتدأ ببث نفوذه في المسلمين من الهنود عندما اكتشف قبرا بسرنجار قرب كشمير لولي من الأولياء يدعى يوسف أساف وقد قال أنه قبر عيسى بن مريم وأن عيسى قد فر من اليهود عندما شبه لهم ونجا من الصلب وقد ألقى عصى التسيار في هذا المكان حيث أدركه الموت ودفن في هذا القبر وقد حاول أن يثبت مدعاه بالتاريخ .... ولذلك نقول إن أول رأي ابتدأ به غلام أحمد القادياني وهو قوله إن عيسى لم يرفع ببدنه إلى السماء بل رفع بروحه وأن جسده مدفون في الأرض ويعين المكان الذي دفن فيه وأنه بعد هذا الكشف الذي زعمه اتجه يدعو إلى نحلة جديدة وقد ادعى أنه مجدد الإسلام في القرن الرابع عشر الهجري وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه الإمام أحمد:" إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة رجلا يجدد لها أمر دينها " (1) فزعم انه هو رجل هذه المائة الأخيرة وقد اعتقد في نفسه ما يأتي: أنه اكتشف قبر المسيح وأنه باكتشافه لهذا القبر قد حلت فيه روح المسيح وقوته وأنه المهدي المنتظر فهو بروح المسيح وبوصفه المهدي يجدد أمر الدين ويكون ما يقوله هو الحق وليس لأحد أن ينكره إذ إنه يتكلم عن الله المصدر: تاريخ المذاهب الإسلامية في السياسة والعقائد وتاريخ المذاهب الفقهية لمحمد أبو زهرة - ص 222 في كتابه (فتح إسلام) بدأ غلام أحمد يخطط لمرحلة جديدة، وزعم أن عصر ظهور المسيح جاء، بل أعلن بلا مواربة بأنه المهدي المنتظر الذي أرسله الله لإصلاح العالم، وإقامة الدين فقال في "فتح إسلام": "يا أيها الناس إذا كنتم أصحاب إيمان ودين، فاحمدوا الله واسجدوا لله شكراً، إن العصر الذي قضى آباؤكم حياتهم في انتظاره ولم يدركوه، وتشوقت إليه أرواح ولم تسعد به قد حل وأدركتموه وإليكم وحدكم أن تقدروا هذه النعمة وتنتهزوا هذه الفرصة، سأكرر ذلك ولا أفتأ أذكرم أنني ذلك الرجل الذي أرسل للإصلاح الحق، ليقيم هذا الدين في القلوب من جديد" (2). المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص 24 ولكنه لا يكتفي بأن يكون المهدي بل يدعي أن اللاهوت قد حل في جسده ولعل ذلك هو الذي يتسق مع قوله إنه قد حلت فيه قوة المسيح وهو في هذا يقتبس من النصرانية الحاضرة لأن النصارى الآن هم الذين يعتقدون أن المسيح عليه السلام قد التقى فيه الناموس باللاهوت المصدر: تاريخ المذاهب الإسلامية في السياسة والعقائد وتاريخ المذاهب الفقهية لمحمد أبو زهرة - ص 222، 223 قال في ضميمة الوحي: (وأتى المسيح الموعود مهجراً بأمر الله العلام؛ ليظهر الله ضياءه التام على الأنام بعد الظلام) (3). المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 783   (1) رواه أبو داود (4291)، والحاكم (4/ 567)، قال أبو داود: رواه عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني لم يجز به شراحيل، وقال السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (ص 149):إسناده صحيح ورجاله كلهم ثقات. وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)). (2) غلام مرزا أحمد، ((فتح إسلام))، (ص 6 - 7). (3) ((ضميمة الوحي)) (ص12). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 49 وما زال يكرر افتياءه وكذبه وزعمه أنه المهدي المنتظر والمسيح الموعود بل ازداد غلواً وكفراً حين قال أنه أفضل من النبي الكليم، يقول في جرأةٍ متناهية: "لقد أرسلت كما أرسل الرجل المسيح بعد كليم الله موسى الذي رفعت روحه بعد تعذيب وإيذاء شديدين في عهد هيرودوس، فكما جاء الكليم الثاني محمد، صلى الله عليه وسلم، الذي هو أول كليم وسيد الأنبياء لقمع الفراعنة الآخرين الذي قال الله عنهم: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا [المزمل:15]، فكان لابد أن يكون بعد هذا النبي، الذي هو في تصرفاته مثل الكليم، ولكنه أفضل منه" (1). وهذا كذب واضح وافتراء مبين وجرأة شديدة على نبي الله، صلى الله عليه وسلم. المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص 24، 25 العلماء يذكرون أن الفضل في هذا التوجه يعود إلى صديقه الحكيم نور الدين، ويتضح ذلك في رسالة بعثها القادياني رداً على رسالة لصديقه الحكيم، الذي كتب إليه اقتراحه المشهور للغلام في أن يدعي أنه المسيح، فكتب له الغلام مبدياً تواضعه في أول الأمر وعدم طموحه إلى ذلك، جاء فيها قوله: (لقد تساءل الأستاذ الكريم ما المانع من أن يدعي هذا العاجز (2) أنه مثيل للمسيح؟، وينحي في جانب مصداق الحديث الذي جاء فيه أن المسيح ينزل في دمشق، وأي ضرر في ذلك، فليعلم الأستاذ الكريم أن العاجز ليست له حاجة إلى أن يكون مثيلاً للمسيح، إن همه الوحيد أن يدخله الله في عباده المتواضعين المطيعين) (3). وما ألطفه من تواضع لو بقي عليه إن كان صادقاً في هذا الكلام، إلا أنه قد يتبادر إلى الذهن أن ما أظهره هنا من التحرج والتواضع يحتمل أنه: كان يخاف مغبة هذه الدعوى. أو أنه قالها قبل أن تختمر الفكرة في ذهنه. أو أنه كان ماكراً يريد أن يستثبت من رغبات الناس ويسبر غورهم وبالأخص صديقه المذكور.   (1) المرزا غلام أحمد، ((فتح إسلام)) (ص 7). (2) يعني الميرزا نفسه. (3) ((مكتوبات أحمدية)) (5/ 85)، نقلاً عن ((القادياني والقاديانية)) (ص52). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 50 ومهما كان فقد وجهه الحكيم إلى دعوى أنه مثيل للمسيح، وبين له الخطة في ذلك بتأويل الأحاديث على وفق دعوى الغلام، وربما لم يكن الحكيم نور الدين وحده مصدر هذه الفكرة، بل الإنجليز أيضاً بطبيعة الحال كان لهم دور بارز في إضرامها ليوجهوها بعد ذلك الوجهة المطلوبة لهم، والتي أول أهدافهم منها محو فكرة الجهاد من أذهان المسلمين، وعلى أي حال كان، فقد قَبِلَ الميرزا مشورة صديقه في أن يصبح نبياً، وتأكد لديه أن الفرصة قد واتته، ومن هنا بدأ الميرزا غلام أحمد في تنفيذ تلك الفكرة وأخذ يدعو إلى ذلك بكل ما يستطيعه من إمكانيات. قال الندوي: (وهنا تتميز الفكرة القاديانية عن الديانات السماوية والدعوات النبوية تميزاً واضحاً، فإن الأنبياء والرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - ينزل عليهم الوحي من السماء ويمتلئون إيماناً وثقة برسالتهم، ولا تنبثق عقيدتهم أو دعوتهم من اقتراح أو توجيه) (1). كما حصل للغلام المذكور، وقد أخذ القادياني بعد ذلك يدلل على أنه هو المثيل للمسيح الموعود الذي بشرت به الأحاديث، وأنه ينبغي على كل مسلم أن يشكر الله على نزول المثيل الموعود وهو القادياني في عصره الجديد، أما المسيح ابن مريم حسب زعمه فإنه لا يعود إلى الأرض، ولكن الذي سيعود هو المثيل للمسيح والشبيه له لا المسيح نفسه؛ ولذلك فإن شبه المسيح تماماً هو القادياني وعلى الناس أن يصدقوا هذا التفسير منه ويتركوا ما جاء من النصوص في ثبوت عودة المسيح ابن مريم الذي أرسل في عصره إلى بني إسرائيل؛ لأن عودته إنما هي مثال للمسيح الهندي الغلام أحمد. ولقد ألف عدة كتب في إثبات هذا المفهوم الجديد، وله نصوص كثيرة فيه، يمكن أن نقتصر منها على هذا المثال من كلامه الذي جاء في كتابه (توضيح مرام) (2) ترجمة الأستاذ الندوي (3)؛ حيث قال: (إن المسلمين والنصارى يعتقدون باختلاف يسير أن المسيح ابن مريم قد رُفع إلى السماء بجسده العنصري، وأنه سينزل من السماء في عصر من العصور، وقد أثبت في كتابي - يعني (فتح إسلام) - أنها عقيدة خاطئة، وقد شرحت أنه ليس المراد من النزول هو نزول المسيح؛ بل هو إعلام على طريق الاستعارة بقدوم مثيل المسيح، وأن هذا العاجز هو مصداق هذا الخبر حسب الإعلام والإلهام، ومن هنا فإنه لا مناص من تقمص شخصية المسيح والعراك المرير لانتزاعها وتسليم المخالفين له بها).وقد أكثر من الكلام حول وفاة المسيح وتحقيق أنه كان له أب وأن المقصود بكونه لا أب له أي أنه جاءه العلم من غير تعلم (4). دور صديقه الحكيم نور الدين في دفعه إلى الأمام: لقد كان لنور الدين اليد العليا على الغلام؛ حيث كان يمهد له الصعاب ويشاركه في إبراز القضايا الخطيرة وطريقة حلها وتوجيهها، ومن ذلك تفسير دمشق الواردة في صحيح مسلم أن المسيح ينزل في دمشق. فكيف ذلك ونزول القادياني كان في قاديان وبين البلدتين من البعد وعدم العلاقة بينهما ما لا يخفى على أحد.   (1) ((القادياني والقاديانية)) (ص53). (2) ((توضيح مرام)) (ص2)، ((ما هي القاديانية)). (3) ((القادياني والقاديانية)) (ص 57). (4) انظر: ((ضميمة الوحي)) (ص54 - 55). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 51 وهذه القضية أثارها نور الدين، وهي قضية خطيرة إن لم يوجد لها حل وتوجيه مقبول عند الناس، وبعد تفكير اهتدى الغلام إلى الحل الذي أطلعه الله عليه - حسب قوله - وهو أن دمشق التي ينزل فيها المسيح ليست هي دمشق المعروفة بالشام، ولكن المراد بدمشق أنها قرية يسكنها رجال طبيعتهم يزيدية - أي قاديان - فاتفقت في الوصف مع دمشق الشام من حيث إن طبيعة أهل هاتين المدينتين يزيدية. فقال: (وإنه لما كانت قرية قاديان شبيهة بدمشق أنزلني فيها لأمر عظيم - أي قاديان - بطرف شرقي عند المنارة البيضاء من المسجد الذي من دخله كان آمناً) (1) يعني المسجد الذي بناه بقاديان ليحج إليه اتباعه المرتدون عن الإسلام مضاهاة للمسجد الحرام، وجعل عنده منارة بيضاء ليضلل الناس في صدق الحديث عليه لنزوله أو ظهوره عند هذه المنارة التي بناها. تأويل الرداءين الأصفرين: كما أول نصوصاً كثيرة تأويلات باطنية ضالة؛ مثل تأويل ما جاء في أحاديث نزول المسيح أنه ينزل وعليه رداءان أصفران أولهما القادياني على نفسه بأنهما المرضان اللذان كانا يلازمانه وهو الصداع الشديد والدوار الذي في مقدم رأسه، وكثرة البول الناتج عن السكر الذي أصابه (2)، وأن الله ابتلاه بهذا لئلا يقع الخلل في نبوءة الرداءين الأصفرين زيادة في تثبيت الناس فيه، وسخر من الأحاديث التي تدل على نزول المسيح ابن مريم من السماء، وزعم أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم ألقى الله عليه علماً إجمالياً عن المسيح ليكمل تفصيله - على النحو المذكور - القادياني حين بعثته الجديدة من الهند، وقرر أن قبر المسيح ابن مريم موجود في كشمير وتعسف في ذلك، وجاء بالعجائب والغرائب من التأويلات التي لا تستند إلا على الهوى وعدم المبالاة، وهكذا أثبت لنفسه أنه هو المثيل للمسيح ابن مريم لوجود التشابه التام بينهما في المسكنة والتواضع والثقة في الله والتوكل عليه، وتجديد كل منهما للدين كما كان يذكر الغلام.   (1) ((ما هي القاديانية)) (ص38 - 40)، ((القادياني والقاديانية)) (ص58). (2) ((براهين أحمدية)) (ص201)، و ((سيرة المهدي)) (2/ 238). عن ((القاديانية دراسة وتحليل)). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 52 إلا أنه يرد سؤال مهم؛ وهو أنه من الضروري أن يكون مثيل المسيح أيضاً نبيٌّ؛ لأن المسيح كان نبياً؟ وهذا سؤال يبدو أنه قد يُشّكِّلُ عقبة أمام القادياني، وهو نفسه صاحب هذا السؤال، ولكن أجاب عنه بقوله بعد إيراد السؤال: (فالجواب الأول عن هذا، أن سيدنا ومولانا ما اشترط للمسيح القادم بالنبوة، وكتب بكل وضوح أنه سيكون رجلاً مسلماً متبعاً للشريعة الفرقانية شأن عامة المسلمين ولا يُظْهر شيئاً أكثر من هذا) (1).وعلى هذا فهو ليس المسيح وليس نبياً، قال: (وإني ما ادعيت قط أني المسيح ابن مريم، والذي يتهمني بهذا فإنه المفتري الكذاب، بل الذي قد نشر من جانبي منذ سبعة أو ثمانية أعوام هو أني مثيل المسيح) (2).لكنه لم يقف عند هذا الحد فيما بعد، وهذا الكلام إنما جاء في مرحلة من مراحل التخطيط للنبوة، ومن هنا فإنه قد ارتفع بعد أن أثبت مِثْلِيَّتَهُ للمسيح إلى أنه هو نفسه المسيح وأمه، فقال: (وهذا هو عيسى المرتقب، وليس المراد بمريم وعيسى في العبارات الإلهامية إلا أنا). وقال: (وهو قد سماني بمريم في الجزء الثالث من البراهين الأحمدية، ثم نشأتُ في الصفة المريمية إلى سنتين كما هو الظاهر من البراهين الأحمدية ومازلت أنمو وأتربى وراء الحجاب ثم ... نفخ فيّ روح عيسى كمريم وحملتُ بعيسى على وجه الاستعارة، ثم بعد عدة أشهر جعلت عيسى - بعد أن كنت مريم - بإلهام جاءني في آخر الجزء الرابع من البراهين الأحمدية، فهكذا أصبحت ابن مريم) (3).وقد حاول الميرزا بشير محمود تأسيس هذه الفكرة؛ حيث زعم أن كلمة (مريم) تعني حالة ووضعاً خاصاً من أوضاع المؤمنين في مرحلة من مراحل حياتهم، ثم ينتقلون إلى (العيسوية) الهداية التامة (4). وبهذا البهتان العظيم والخيال السقيم والعقوق أيضاً لأمه، لأنه صار ابناً لمريم وليس لأمه (جراغ بي بي) أراد أن يثبت نبوته، والذي يظهر لي أن هذه التلفيقات في أفكاره ترجع إلى أنه كان متأثراً بالقول بالتناسخ إلا أنه لم يجرؤ على التصريح به في تلك الفترة، فحاول تغطيته بمثل تلك العبارات المملوءة بالغموض عن عمد.   (1) ((توضيح مرام)) (ص19). ((القادياني والقاديانية)) (2) ((إزالة أوهام)) للميرزا (ص190). ((القادياني والقاديانية)) (3) ((إزالة أوهام)) (ص659 - ) (ما هي القاديانية) (ص41). (4) [15990]) معتقدات الجماعة الأحمدية الإسلامية من كتاب ((دعوة الأمير)) للميرزا بشير محمود، انظر (ص29 - 30). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 53 وقد أطال كثير ممن كتب عن القادياني الرد على هذه الأفكار، والواقع أنه لا ينبغي مجرد الاهتمام بها ولا الردود عليها؛ فهي أحط من أن تثبت أمام المناقشة والجدال، ومن الجدير بالتنبيه إليه أن بشير محمود أحمد في كتابه: (دعوة الأمير) قد ذكر كلاماً كثيراً حول إثبات وفاة المسيح عيسى ابن مريم، وزعم أن الذين يقولون بحياته إلى يومنا الحاضر لا يعرفون الله حق معرفته؛ حيث جعلوا المسيح مثيلاً له في عدم الفناء، وزعم أن اعتقاد حياة المسيح إلى اليوم فيه تأييد للنصارى في زعمهم ألوهية عيسى، أو أنه ابن الله! وهي مغالطة واضحة؛ فإن المسلمين حين يقولون: إن المسيح حي الآن في السماء، لا يقولون: إن حياته مثل حياة الله، بل يثبتون أنه سيرجع إلى الدنيا ثم يموت بعد ذلك كغيره من البشر. وقد اعتبر الميرزا بشير محمود القول بأنه عيسى رفع إلى السماء ومحمداً مدفون في الأرض من أشد الإهانات التي توجه للرسول محمد صلى الله عليه وسلم ومنزلته عند الله، ويقول: كيف أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حبيب الله تركه للهموم والمصائب ولم يرفعه إلى السماء، وعيسى بمجرد أن تعرض لأدنى خطر رفعه الله إليه وجاء بشخص مثيل له ليصلب!؟ إلخ ما أورده من مغالطات شريرة، فإنه من المعلوم لدى أفهام العقلاء أن كون عيسى رفع ومحمد صلى الله عليه وسلم مدفوناً في الأرض، هذا ليس إهانة للرسول صلى الله عليه وسلم لا من قريب ولا من بعيد، فالأرض والسماء كلها لله، وقد اختار الله أن يكون الأمر على ما ذكر ولا يسأل الله عز وجل عما يفعل، ولا يعترض إلا جاهل، ونحن مع النصوص؛ ما أثبتته نثبته، وما نفته ننفيه، وقد نفت النصوص أن عيسى صلب بل إنه رفع، فيجب اعتقاد ذلك، والقول بأن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم مدفون في الأرض إهانة (1) له، هذه الإهانة لا وجود لها إلا في أذهان المغالطين. كما أنه أورد شبهاً تدل على وفاة المسيح بزعمه، هي في واقعها تحريفات وتخريفات خاطئة، زخرف فيها القول، وزعم أنها حق تمويهاً على من لم يعرف مغالطاتهم. ومن الأمور التي قررها بشير محمود هو أن والده الميرزا هو المثل للمسيح المتوفى، وأن القول بنزول المسيح عيسى ابن مريم مرة ثانية إلى الدنيا يعتبر احتقاراً للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وهضماً للقول بقدرة الله في إرسال الأنبياء والمصلحين؛ إذ كيف يضطر الله إلى إرسال ميت - حسب زعمه - من بني إسرائيل وأمة محمد صلى الله عليه وسلم موجودون، وهذا المفهوم مأخوذ عن ضميمة الوحي، حيث قال الغلام القادياني: (ويدفنون خير الرسل في التراب ويُصْعِدون عيسى إلى السموات العلى فتلك إذا قسمة ضيزى يبصرون ثم لا يبصرون يرون الحق ثم يتعامون) (2). المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 783 - 790 فبعد دعوى القادياني أنه المسيح الموعود دعا الناس إلى مبايعته على ذلك. يقول وكيل التبشير القادياني مبارك أحمد ماك: استهل مؤسس الحركة الأحمدية كفاحه بكتابه التاريخي العظيم (براهين أحمدية) في أربعة مجلدات أعلن فيه أن الله عز وجل قد بعثه مسيحا موعودا طبق أنباء التوراة والقرآن الكريم وفي عام 1889م اختار لأتباعه طريق المبايعة للانضمام للحركة الأحمدية. فمن شروط المبايعة للانضمام للجماعة القاديانية ما قاله غلام أحمد أن يعقد مع هذا العبد المسيح الموعود عليه السلام عهد الأخوة خالصا لوجه الله تعالى على أن يطيعني في كل ما آمره به من المعروف ثم لا يحيد عنه ولا ينكثه حتى الممات ويكون في هذا العقد بصورة لا تعدلها العلائق الدنيوية سواء كانت علائق قرابة أو صداقة أو عمل المصدر: خصائص المصطفى بين الغلو والجفاء للصادق بن محمد بن إبراهيم - ص 258 وبعد أن كون القادياني أتباعا له في داخل الهند وباكستان نشر دعوته إلى الخارج فوجهها أولا إلى العرب حيث يقول: "إن ربي قد بشرني في العرب وألهمني أن أمونهم وأريهم طريقهم وأصلح لهم شئونهم وستجدوني في هذا الأمر إن شاء الله من الفائزين أيها الأعزاء إن الرب تبارك وتعالى قد تجلى علي لتأييد الإسلام وتجديده بأخص التجليات ومنح علي وابل البركات وأنعم علي بأنواع الإنعامات وبشرني في وقت عبوس للإسلام وعيش بؤس الأمة خير الأنام بالتفضلات والفتوحات والتأييدات فصبوت إلى إشراككم يا معشر العرب في هذه النعم وكنت لهذا اليوم من المتشوقين فهل ترغبون أن تلحقوا بي لله رب العالمين" (3) ثم وجه القادياني بعد ذلك دعوته إلى جميع أرجاء العالم الإسلامي بما في ذلك الأقليات الإسلامية (4). المصدر: خصائص المصطفى بين الغلو والجفاء للصادق بن محمد بن إبراهيم - ص 258   (1) ((معتقدات الجماعة الأحمدية الإسلامية)) من (ص9 - 29). (2) ((ضميمة الوحي)) (ص35). (3) ((حب العرب من الإيمان)) لمؤسس الجماعة الأحمدية (ص 6). (4) انظر ((كتاب المسألة القاديانية)) لأبي الأعلى المودودي (ص 85) وما بعدها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 54 رابعا: ادعاؤه الوحي والنبوة وحينما وصل إلى الدرجة النهائية لتدرجه إلى مقام النبوة صرح بآخر تفاصيل الخطة، وأزاح الضباب الذي جعله سابقاً غطاء للوصول إلى هذه الدرجة التي أعلن فيها نبوته، وصال وجال وتحدى الناس وراهن على صدق نبوته وصدق نفسه أنه نبي، ومن هنا انطلق آخذاً في اعتباره أن يغطي الإسلام برداء نبوته الجديدة، وأن يتحول المسلمون على مر الزمن من الإسلام الذي ارتضاه الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه إلى يوم القيامة - أن يتحولوا إلى القاديانية فتصبح قاديان بدلاً من مكة والمدينة وبيت المقدس أيضاً، وتنتقل مهوى الأفئدة إلى قاديان، ويصبح زيارة مسجد القادياني والسلام على القادياني بدلاً عن زيارة المسجد النبوي والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصبح تعاليم القادياني بديلة لتعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية إلى آخر ما كان يهدف إليه، وفي ظني أن المنية عاجلته قبل أن يكمل المخطط تماماً، ولربما لو امتدت به الحياة بعد تلك الفترة التي قضاها لكان له شأن آخر. وعلى كل حال، فقد ادعى الغلام النبوة وبيَّن المهام التي أسندها الله إليه حسب زعمه، فقال: (أنا على بصيرة من رب وهَّاب، بعثني الله على رأس المائة؛ لأجدد الدين وأنوِّر وجه الملة وأكسر الصليب وأطفئ نار النصرانية، وأقيم سنة خير البرية، ولأصلح ما فَسَدَ وأروِّج ما كسد، وأنا المسيح الموعود والمهدي المعهود، منَّ الله عليّ بالوحي والإلهام، وكلمني كما كلم رسله الكرام) (1) المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 790،791 يقول في تكملة البراهين الأحمدية، جـ 5، ص 183: "من العقيدة الباطلة الواهية أن يظن أحدٌ أن باب الوحي قد انغلق إلى أبد الآباد بعد محمد، صلى الله عليه وسلم، ولا رجاء فيه –أي في افتاحه - في المستقبل إلى يوم القيامة، كأنكم أمرتم ألا تعبدوا إلا القصص والأساطير، فهل من الممكن أن يكون الدين الذي لا يعرف الله فيه معرفة مباشرة ديناً" (2).وقال أيضاً في الدر الثمين، ص 282: "ونزول المسيح " ص282: "والذي أنا أسمع من وحي الله، والله منزه عن الخطأ، وأنا أعرفُ أنه منزه عن الخطأ كالقرآن. والله هذا هو إيماني. والله إن هذا لهو كلام الله، وهو من لسان الله الوحيد الطاهر" (3). المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص31 إلا أنه تميز عن الرسل بخاصية لا توجد فيهم وهي: أن الرسل كانوا يفرحون بأخذ النبوة ويتقبلونها بلهفة، بينما هو تقبلها رغم كراهيته لها وإيثاره الخمول على الشهرة، وهذا في قوله: (كنت أحب أن أعيش مكتوماً كأهل القبور، فأخرجني ربي على كراهيتي من الخروج، وأضاء اسمي في العالم مع هربي من الشهرة والعروج، ولبثت عمراً كالسر المستور أو القنفذ المذعور ... ثم أعطاني ربي ما يحفظ العدا) (4). وقوله: (فأخرجني الله من حجرتي، وعرفني في الناس وأنا كاره من شهرتي، وجعلني خليفة آخر الزمان وإمام هذا الأوان) (5). لقد كان القادياني لبقاً في إبداء فكرته، يمشي خطوة خطوة وينتقل من مرحلة إلى مرحلة، فبدأ يتكلم عن الإلهام والعلم الباطني والعلم اليقيني كمنزلة طبيعية يصل إليها الإنسان بلزوم متابعة النبي صلى الله عليه وسلم والاضمحلال فيه على طريقة الصوفية، ويتكلم عن صفات النبوة والنبي الذي يجمع هذه الخصائص وإمكان ذلك.   (1) ((ضميمة الوحي)) (ص22). (2) أبو الأعلى المودودي، ((ما هي القاديانية))، (ص37). (3) أبو الأعلى المودودي، ((ما هي القاديانية))، (ص 37). (4) أي ما يثير غضبهم وحقدهم. انظر لهذا النص: ((ضميمة الوحي)) , (ص34). (5) ((خاتمة رسالته ضميمة الوحي)) (ص86). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 55 ولعله كان يدرس الأحوال ويتأكد من جود المحيط المناسب لهذه الدعوى الكبيرة التي ستحدث الضجة العظيمة التي كان يترقبها في المجتمع الإسلامي حين إعلانها. وقد حدث الحادث المرتقب عام 1900م حينما ألقى إمام مسجده - ويسمى عبد الكريم - خطبة الجمعة معلناً فيها أن الغلام صار نبياً رسولاً؛ لا يؤمن بالله من لا يؤمن به. وحصلت المفاجأة واندهش المصلون لهذا الحدث الغريب، وحصل الجدال والنقاش بين هذا الخطيب وبين المسلمين الذين ما كانوا يعرفون عنه إلا أنه عالم ومجدد وداعية إلى الإسلام ومناظراً لخصومه. فعاد عبد الكريم وألقى خطبة أخرى في هذا المعنى في الجمعة الثانية، والتفت إلى الغلام أحمد وقال له: (أنا أعتقد أنك نبي ورسول فإن كنت مخطئاً نبهني على ذلك، ولما قضيت الصلاة وهمّ الميرزا بالانصراف أمسك الخطيب عبد الكريم بذيله وطلب منه توضيح هذا الأمر، فأقبل إليه الميرزا قال: (هذا الذي أدين به وأدعيه)، فارتفعت الأصوات بالنقاش فخرج الميرزا من بيته وقال: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) (1). ومن هنا شمر عن ساعد الجد في دعوى النبوة بل وتحدى على ذلك، وأنه نبي مرسل من الله صاحب شريعة، وكفّر جميع من لا يؤمن به وأثبت لنفسه أنه رسول من الله (2)، وأنه نبي سماه الله بذلك حسب قوله: (سماني الله نبياً تحت فيض النبوة المحمدية، وأوحى إليّ ما أوحى) (3). قال أيضاً: (وإني والله من الرحمن يكلمني ربي ويوحي إليّ بالفضل والإحسان). (وخاطبني ربي إنك بأعيننا فأوفى وعده) (4).يقول في كتابه (الهدى والتبصرة لمن يرى): وقالوا: لست مرسلا بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه فسوف يعلمون ... وما كنت متفردا في هذا بل ما أتى الناس من رسول إلا كانوا به يستهزئون وهلم جرا إلى ما تشاهدون (5) ويقول في تذكرة وحي المقدس: إنا أرسلنا أحمد إلى قومه فأعرضوا وقالوا كذاب أشر (6). ويقول: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق وتهذيب الأخلاق (7). وأما ما جاء في شعره من ذلك فنحو قوله: أخاطب جهرا لا أقول كخافت ... فإني من الرحمن أوحي وأخبر (8) وقوله: تخيرني الرحمن من بي خلقه ... له الحكم يقضي ما يشاء ويأمر (9) ويقول: يا معشر الأعداء توبوا واتقوا ... والله إني مرسل ومقرب (10) ويقول: هل هذه من قسم عمل منجم ... أو آية عظمى عظيم الشأن هذا حديث من نبي مصطفى ... كهف الأنام وسيد الشجعان (11) هذا جزء من كلامه الذي ادعى فيه النبوة والرسالة   (1) ((محاضرة السيد سرور شاه القادياني)) - ((صحيفة الفضل القاديانية)) عدد (51) مجلد (410 يناير 1923م)، ((القادياني والقاديانية)) (ص66،67)، (2) ((ضميمة الوحي)) (13). (3) ((ضميمة الوحي)) (18). (4) ([16003]) ((ضميمة الوحي)) (ص26). (5) ((تذكرة وحي مقدس)) (ص 6). (6) ((تذكرة وحي مقدس)) (ص 403). (7) ((تذكرة وحي مقدس)) (ص 406) (8) ((در ثمين)) (ص 234). (9) ((در ثمين)) (ص218) (10) ((در ثمين)) (ص143) (11) ((در ثمين)) (ص131) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 56 المصدر: عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية لأحمد بن سعد بن حمدان الغامدي - ص 249، 250 وبعد أن صرح بالنبوة أخذ يتدرج أيضاً في تلطفه مع المخالفين إلى أن جاء الحكم الأخير عليهم بالكفر والنار فبدأ بالقضية هكذا: كل من لا يؤمن بنبوة الغلام ويكفر به يستوجب العقاب إلى حد ما (1)، ولا يكون الإنسان كافراً أو دجالاً لأجل إنكاره لدعواه، إلا أنه يكون ضالاً منحرفاً عن جادة الصواب، ويكون فاسقاً وجاهلاً جهلاً محضاً ... إلى آخر ما وصف به مخالفيه في هذه الفترة. ثم جاءت الفترة النهائية وفيها الشدة والغلظة على المخالفين، وإخراجهم من الملة إن لم يدخلوا في دينه بخلاف من مات قبل مجيئه، ومن هنا قال: (إن الذين خلوا من قبلي لا إثم عليهم وهم مبرءون، والذين بلغتهم دعوتي ورأوا آياتي وعرفوني وعرفتهم بنفسي وتمت عليهم حجتي ثم كفروا بآيات الله وآذوني أولئك قوم حق عليهم عقاب الله، خصوصاً بعد أن صار مهدياً متجسداً بمحمد صلى الله عليه وسلم كما زعم (2).ولأن الله أنزل عليه بالإلهام (كل رجل لا يتبعك ولا يدخل في بيعتك ويبقى مخالفاً لك هو عاص لله والرسول وهو من أصحاب النار) (3). المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 793، 794 ويقول مرزا غلام أحمد: "كل مسلم قد بلغته دعوتي، وإن كان مسلماً ولكنه لا يحكمني ولا يؤمن بي مسيحاً موعوداً، ولا يعتقد أن وحيي هو من عند الله فهو يستوجب المؤاخذة في السماء" (4). المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص 32 وهناك نصوص كثيرة في دعوى تجسد محمد صلى الله عليه وسلم بالغلام في قاديان وظهوره مرة أخرى داعياً إلى الإسلام ونشره من جديد، منها: (أن الله قد أنزل محمداً صلى الله عليه وسلم مرة أخرى في قاديان لينجز وعده) (5)، ومنها: (فالمسيح الموعود هو محمد رسول الله، وقد جاء إلى الدنيا مرة أخرى لنشر الإسلام) (6).ومنها: (فإن المسيح الموعود ليس بشخص غير النبي الكريم، بل إنه هو نفسه) (7). وعلى أساس هذا المفهوم، فكل من أنكر أو كذب بنبوة الغلام فهو نفسه تكذيب وإنكار لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكل جزاء يلحق بمن كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم هو نفسه الجزاء الذي يحل بمن يكذب بالقادياني. وانتقلت نفس الصفات التي اختارها الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فصارت للقادياني:   (1) ((رسالة الأربعين)) (ص7 رقم 4)، ((ما هي القاديانية)). (2) ((ضميمة الوحي)) (ص26)، وانظر أيضاً: ((إرشاد الميرزا جريدة الفضل)) 26/ 1/1961م. (3) حجة الله: محاضرة للميرزا ألقاها في لاهور، منقولة من كتاب ((النبوة في الإسلام)) لمحمد علي اللاهوري (ص214) , ((ما هي القاديانية)). (4) أبو الأعلى المودودي: ((ما هي القاديانية))، (ص43). (5) ((كلمة الفصل)) لبشير أحمد القادياني (ص105). ((ما هي القاديانية)). (6) ((كلمة الفصل)) لبشير أحمد القادياني (ص105). ((ما هي القاديانية)) (ص158). (7) ((كلمة الفصل)) لبشير أحمد القادياني (ص105). ((ما هي القاديانية)) (ص147). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 57 فهو مفضل، ومسجده مفضل وقبره مفضل، وقاديان نفسها مفضلة أيضاً، ويجب على المسلم ألا يرى فارقاً بين قبر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وقبر الغلام؛ لأن القبرين في منزلة واحدة، ولأن الغلام اسمه أيضاً محمد. ولهذا فكل آية فيها ذكر محمد فإنها تنطبق أيضاً على الغلام المسيح الموعود لاتحادهما في الاسم وشمول الرسالة والتجسد، ومن هنا فلا غرابة في عدم تغيير القادياني لفظة الشهادة في الإسلام، بل أبقاها على صيغتها الشرعية: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)؛ لأن القاديانية يزعمون - كما زعم لهم الغلام لنفسه - أن من أسمائه (محمداً)؛ فلهذا يكفي ذلك اللفظ عن الإتيان بصيغة جديدة. وفي هذا يقول بشير أحمد ابن الغلام القادياني: (نحن لا نحتاج لديننا إلى كلمة جديدة للشهادة بنبوة غلام أحمد؛ لأنه ليس بين النبي وبين غلام أحمد أي فارق) (1). هذا تعليلهم، ولعل الصحيح أنهم لم يغيروا الشهادة خبثاً وتقية؛ ليكملوا تحت شعار الإسلام ما يهدم الإسلام، ويحقق أهدافهم، وتنتشر تعاليمهم بين العامة من المسلمين على طرف من الحذر وعمق في التمويه، والسير إلى النهاية ببطء ودقة. المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 794، 795 ومن مزاعم وحيه الكاذب: زعم المرزا غلام أحمد أنه يوحي إليه، وما أوحي إليه إلا الكذب المحض، إنه يأخذ بعض آيات القرآن الكريم، أو جزء منها فيخلطها بكلام يثير السخرية، من أمثلة ذلك: قوله في تذكرة (وحي مقدس): "يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، ويا مريم اسكني أنت وزوجك الجنة، ويا أحمد اسكن أنت وزوجك الجنة، نصرت وقالوا حين مناص، إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله، رد عليهم رجل من فارس – شكر الله سعيه أم يقولون نحن جميع منتصر" (2).وقد وضع غلام أحمد بذرة الإشارة إلى النبوة في كتابه (براهين أحمدية) حين زعم أنه ألهم إلهامات كثيرة من قبل الله تعالى فقال: "لقد ألهمت آنفاً وأنا أعلق هذه الحاشية وذلك في شهر مارس عام 1882 م ما نصه حرفياً: يا أحمد بارك الله فيك ما رميت إذ رميت ولكن الله رمى، الرحمن علم القرآن، لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم، ولتستبين سبيل المجرمين، قل إني أمرت وأنا أول المؤمنين، قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً" (3). وابنه المرزا الخليفة الثاني للقاديانية المرزا بشير الدين محمود، يرى هذا الأمر ويعلنه بكل وضوح ويقول أن والده ليس مسيحاً موعوداً مجازاً فقط بل هو نبي أيضاً، ويؤكد هذا المعنى فيقول: "فالمعنى الذي تفهمنا إياه الشريعة الإسلامية عن النبي لا يسمح أن يكون المسيح الموعود نبياً مجازاً فقط بل لابد أن يكون نبياً حقاً، إنا نؤمن بنبوة ميرزا عليه السلام".   (1) انظر ((كلمة الفصل)) (14/ 158)، ((القاديانية)) لإحسان إلهي (ص86 - 87). (2) ((تذكرة وحي مقدس))، (ص 25 – 27). (3) غلام أحمد، ((براهين أحمدية))، (3/ 239 – 240). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 58 هكذا خطط مرزا غلام أحمد لدعوى النبوة، فبعد ادعائه المهدية، وأنه المسيح الموعود، بدأ يجهز نفسه لمرحلة جديدة وهي ادعاؤه النبوة، فزعم أن باب النبوة لم يغلق كلياً لأنه لم يغلق باب نزول جبريل على شكل وحي، وقال: إن الدين الذي ينقطع فيه سلسلة النبوة ليس بدين على الإطلاق، وزعم أن هذا هو الفارق الكبير بين الإسلام والديانات الأخرى، فالإسلام هو الدين الوحيد في افتراءاته الذي لم ينقطع من خلاله سلسلة النبوة، وكان يذكر دائماً: "مذهبنا أن الدين الذي انقطعت فيه سلسلة النبوة ليس بدين حي. ونقول للأديان الأخرى إنها ليست حية لأجل أنه لم تبق فيها سلسلة النبوة، مثل اليهودية والمسيحية والهندوكية، فإذا كان حال الإسلام كذلك لا يكن هناك أي فرق بين الإسلام والديانات الأخرى" (1).   (1) محمود بن المرزا غلام أحمد: ((حقيقة النبوة)) (ص 272). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 59 ويعتبر غلام أحمد أن النبوة آخر درجات الترقي الإنساني، فالإنسان المحب لله ولرسوله يمكنه أن يصل إلى درجة الصالحين، ثم يرتقي بعد ذلك إلى درجة الشهداء، ومنها إلى درجة الصالحين، ثم يرتقي بعد ذلك إلى درجة الشهداء، ومنها إلى درجة الصالحين، ثم يرتقي بعد ذلك إلى درجة الشهداء، ومنها إلى درجة الصديقين، فإذا تجاوز هذه الدرجة يمكنه أن يصل – في زعمه – إلى درجة النبي، ويسميها النبوة الظلية، أي أن صاحبها ظل للنبي، صلى الله عليه وسلم. يقول محمود ابن نبي القاديانية غلام أحمد في كتاب (حقيقة النبوة): "إن النبوة ليست شيئاً مستقلاً بذاته، بل الواقع هو أنها شيئاُ آخر درجة من درجات ترقي الإنسان، فالإنسان يتدرج في محبة الله من درجة إلى أخرى من درجة الصالحين إلى درجة الشهداء، ومن درجة الشهداء، ومن درجة الشهداء إلى درجة الصديقين، وعندما يتجاوز هذه الدرجة الأخيرة يصبح حامل الأسرار الإلهية أي يكون نبياً" (1).وينفي غلام أحمد ختم النبوة فيقول: "إذا قال أحدٌ أن النبوة انتهت فكيف يمكن أن يكون نبي من أتباع محمد، صلى الله عليه وسلم، فالجواب علي ذلك هو أن الله، عز وجل، إنما سمي هذا العبد (المرزا غلام أحمد) نبياً، لأن كمال نبوة محمد، صلى الله عليه وسلم، لا يمكن أن يثبت دون كمال أمته، ودون ذلك ليس إلا دعوى بغير دليل" (2).ويزداد غلو غلام أحمد في مسألة عدم ختم النبوة ويقول: "إن الزعم القائم أن النبوة انتهت على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، زعم باطل، ولا يعدو كونه لغواً، إن القرآن والأحاديث النبوية تعلن بطلان هذا الزعم، والحقيقة أن فضل وشأن الأمة المحمدية يكمن في أن يكون فيها أنبياء ورجال يخاطبون الله، ويتكلمون معه، كما يمكن أن يكون فيها الأولياء والشهداء والعلماء، لكي تكون هذه الأمة في الواقع خير أمة" (3).ويزعم هذا المفتري على الله تعالى أن الله عز وجل يكلمه وأنه سبحانه وتعالى يكشف له كثيراً من أمور الغيب، ولهذا فهو في افترائه يدعي أنه نبي، لأن الله يتكلم معه ويرد عليه فيقول: "إنني أزعم النبوة على أساس أنني أشرف بمكالمة الله تعالى، إن الله يتكلم معي بكثرة ويرد على كلامي، ويكشف علي كثيراً من أمور الغيب، ويفتح علي أبواب المستقبل، وما لم يكن المرء مقرباً منه قرباً خاصاُ لا يكشف عليه الأسرار، ولكثرة هذه الأمور فقد سماني نبياً، من هنا إنني نبي بأمر الله وبحكمه، وإذا أنكرت ذلك أكون مذنباً ومخطئاً وعندما سماني نبياً كيف يمكن أن أنكر ذلك، إنني قائم على ذلك إلى أن أترك هذه الدنيا" (4).   (1) محمود بن المرزا غلام أحمد: ((حقيقة النبوة)) (ص 272). (2) محمود بن المرزا غلام أحمد: ((حقيقة الوحي)) (ص 274). (3) ((مجلة أخبار الفضل))، العدد (50) في 25/ 10/1931م. (4) المرزا غلام أحمد: من ((كتاب موجه إلى أخبار عام لاهور))، في 23/ 5/1908م، ((قادياني مذهب)) (ص 182). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 60 وخشي مرزا غلام أحمد من ثورة المسلمين عليه بدعواه النبوة، فزعم أن نبوته نبوة ظلية أي أن نبوته ظلاً لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنما يريد منكم الله سبحانه من حيث العقيدة أن تؤمنوا بأن الله واحد وأن محمداً رسوله، وأنه خاتم النبيين وهو أفضل الناس أجمعين لا نبي بعده إلا الذي ألبس رداء المحمدية على سبيل التمثيل أو البروز، فإن الخادم ليس بمنفصل عن مخدومه، ولا الفرع بمنصرمٍ عن جزعه، لذلك كان بكليته فانياً في سيده، وينال من الله لقب نبي فما هو مخلو بختم النبوة مثلما تكون أنت اثنين إذا نظرت في المرآة، بل إنما تكون واحداً، وإن يتراءى لك اثنان بادئ الرؤيا، وليس الفرق ثمة إلا بين الظل والأصل، فهكذا تمت وقضت مشيئة الله في المسيح الموعود" (1).ويقول في (براهين أحمدية): "ولا ينبغي أن نقول هنا كيف يكون شخص أدنى من أمة النبي صلى الله عليه وسلم، شريكاً في أسمائه أو أوصافه أو كمالاته، ومما لاشك فيه أنه لا يقدر أحد ولو كان نبياً أن يكون شريكه في كمالاته القدسية، ولا الملائكة كلهم يستطيعون ذلك. فكيف يستطيع ذلك غيرهم؟ ولكن اسمه يا طالب العلم منتبهاً إن الله تعالى قضى بكمال حكمته ورحمته أن يبعث رجالاً من الأمة المحمدية يتبعونه في غاية العجز والتذلل، يظهر بوجودهم الخفي بركات نبيه، صلى الله عليه وسلم، حتى تدوم بركاته وتظل أنوار أشعته الكاملة تبهر الخصوم وتبهتهم، والنبي صلى الله عليه وسلم، هو المصدر الكامل والمرجع التام لما تصدر منهم من بركات وآيات ومعارف، وهو وحده المستحق للثناء الكامل والحقيقي، ولكن حيث أن منبع سنن النبي، صلى الله عليه وسلم بسبب اتباعه الكامل يصير الظل للشخص النوراني الفياض لحضرة النبي، صلى الله عليه وسلم، وجميع الأنوار الربانية التي ظهرت في ذلك الوجود المقدس تظهر وتبدو في ظله أيضاً، وظهور هيئة الأصل وكيفيته الكاملتين في ظله أمر معلوم لا يخفى على أحد" (2).وما أن هدأت الثورة بعض الشيء حتى وجد الفرصة لينتقل من دعواه النبوة الظلية إلى دعوى النبوة المستقلة فيقول: "إذا حصل أحد أتباع النبي بفضل أتباعه على درجة الوحي والإلهام والنبوة ويطلق عليه اسم النبي، فلا يعني ذلك كسر ختم النبوة، لأنه نفسه ليس بشيء، بل ما حصل عليه من كمال يعود إلى نبيه الذي يتبعه، وهو ليس نبي فقط، بل نبي وفي نفس الوقت من أمتي، وختم النبوة يمنع مجيء نبي لا يكون من أمتي" (3).وبلغت جرأته على القرآن الكريم وعلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبلغت جرأته على القرآن الكريم وعلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، شهد له بالنبوة، بل إن السماء والأرض وما من نبي إلا شهد له بالنبوة، ويأمر المسلمين باتباعه فيقول: "إنني صادق كموسى وعيسى وداود ومحمد، صلى الله عليه وسلم، وقد أنزل الله لتصديقي آيات سماوية تربو على عشرة آلاف، وقد شهد لي القرآن الكريم، وشهد لي الرسول، وقد عين الأنبياء زمن بعثتي وذلك هو عصرنا هذا، والقرآن يعين عصري، ولقد شهدت لي السماء والأرض، وما من نبي إلا وقد شهد لي" (4).ولقد كان جريئاً في الكذب حين ادعى النبوة وقال: "يؤيد الله كوني مرسلاً من قبله، فقد ’ظهر على يدي من الآيات ما لو قسم على ألف نبي لكفتْ لإثبات نبوتهم، ولكن شياطين الإنس لا يؤمنون" (5).وقال: "أنا نبي بأمر الله، وإذا أنكرت ذلك أرتكب إثماً، وكيف أستطيع أن أرفض ذلك، والله سماني نبياً، فأنا على ذلك ما دمت حياً" (6). المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص31،37   (1) المرزا غلام أحمد: ((سفينة نوح)) (ص 18 - 19). (2) المرزا غلام أحمد: ((براهين أحمدية)) (ص 243 - 244). (3) المرزا غلام أحمد: ((جشمه مسيحي قادياني مذهب)) (ص 243). (4) المرزا غلام أحمد: ((تحفة الندوة)) (ص4). (5) المرزا غلام أحمد: ((تتمة حقيقة الوحي)) (ص148). (6) رسالة من غلام أحمد إلى ((جريدة أخبار عام)) لاهور، في 23 أيار 1908م. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 61 خامسا: غلوه وتفضيله نفسه على الأنبياء وغيرهم لم يقتصر الميرزا على التنبؤ، بل حمله غروره على أن فضّل نفسه على أكثر الأنبياء والمرسلين، وأنه جُمع فيه ما تفرق في أنبياء كثيرين؛ فما من نبي إلا وقد أخذ منه قسطاً حسب قوله الآتي: (لقد أراد الله أن يتمثل جميع الأنبياء والمرسلين في شخص رجل واحد، وإنني ذلك الرجل) (1). وقوله: (وآتاني ما لم يؤت أحداً من العالمين) (2)، كما فضل نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال متطاولاً: له خسف القمر المنير وإن لي ... غسا القمران المشرقان أتنكر (3) فقد حدث كسوف للشمس وخسوف للقمر في رمضان سنة 1312 هـ الموافق سنة 1894م وقد ادعى أنه حدث ذلك الكسوف على يديه ولأجله وأنه معجزة تثبت دعوته أو رسالته فقد جاء في كتاب له: له خسف القمر المنير وأن لي خسف القمران النيران. وقد فسره بعض أتباعه بقوله: والمعنى واضح وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان خسف القمر دليلا عن صدقه فكيف تنكر صدقي وقد خسف لي القمران (4) المصدر: تاريخ المذاهب الإسلامية في السياسة والعقائد وتاريخ المذاهب الفقهية لمحمد أبو زهرة - ص 223 وله نصوص كثيرة في تفضيله نفسه على سائر البشر، مع أنه كان في أول أمره يصف نفسه بالمسكين والضعيف، ثم جاء الميرزا بشير الدين محمود خليفته الثاني ليعلن غلوه فيه بقوله: (إن غلام أحمد أفضل من بعض أولي العزم من الرسل) (5). المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 803 وينقل لنا العلامة إحسان إلهي ظهير عن ابنه محمود أحمد قوله في مجلة "الفضل القاديانية"، في 18 يوليو 1931: "قال أبي إنه أفضل من آدم ونوح وعيسى، لأن آدم أخرجه الشيطان من الجنة، وإنه يُدخل بني آدم في الجنة، وعيسى صلبه اليهود، وهو يكسر الصليب، وهو أفضل من نوح، لأن ابنه الكبير حُرم من الهداية، وأما ابنه فدخل في الهداية" (6).ونرى أن الطين يزداد بلة حين يتطاول غلام أحمد على سيد الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، فيزعم أن معجزاته أكثر من معجزات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيفتري الغلام أحمد على الله كذباً حين يقول: "إن النبي، صلى الله عليه وسلم، له ثلاث آلاف معجزة، ولكن معجزاتي زادت على مليون معجزة" (7). المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص12   (1) ((آئينة كمالات إسلام)) (ص90)، نقلاً عن ((القاديانية دراسة وتحليل)). (2) ((ملحق حقيقة الوحي)) (ص87)، عن ((القادياني والقاديانية)) (3) ((ملحق حقيقة الوحي)) (ص87)، عن ((القادياني والقاديانية)). (4) ((إعجاز أحمدي) (ص71)، عن ((ما هي القاديانية))، وفي ((ضميمة الوحي)) (ص7) (مترجم) قال في تعداده لآياته: منها: إن الشهب الثوابت انتقضت له مرتان وشهد على صدقه القمران إذا انخسفا في رمضان، وهو كلام كاذب لم يذكره غيره. (5) ((حقيقة النبوة)) للميرزا بشير الدين محمود (ص257). عن ((القاديانية)) (6) نقلاً عن إحسان إلهي ظهير، ((القاديانية)) (ص 66). (7) نقلاً عن إحسان إلهي ظهير، ((القاديانية)) (ص 69). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 62 وقال عنه أيضاً (بشير الدين محمود): إنه كان أفضل من كثير من الأنبياء، ويجوز أن يكون أفضل من جميع الأنبياء (1)! وقال أيضاً مقارناً حال الناس في عهد والده وحالهم في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والفيوضات الربانية في حياة كل منهما: ولم يحرم - أي الرسول صلى الله عليه وسلم - الدنيا من الفيوض الروحانية بل زادها غزارة وتدفقاً، وإن كانت تجري من قبل كترعة صغيرة فالآن أصبحت كنهر زاخر؛ لأن العلم لم يبلغ عندئذ دوره الكامل، لكن الآن قد بلغ أوجه (2).ثم ادعى الغلام أنه عين محمد صلى الله عليه وسلم فقال: (من فرق بيني وبين المصطفى فما عرفني وما رأى) (3). كما ادعى كذلك أنه مظهر (لكرشن) وأنه برز فيه وتجلى (4). ثم ادعى أنه ابن الله – تعالى الله عن أقواله الكفرية علواً كبيراً - فقال: إن الله ألهمه: أنت مني بمنزلة أولادي (5). وخاطبه الله مرة بقوله: (اسمع يا ولدي (6) يا شمس يا قمر (7) أنت من مائنا وهم من فشل) (8). ومن هنا رأى بأن مدحه لنفسه من الأمور الجيدة، فقال يصف شخصه ويقارن بينه وبين الأماكن المقدسة: (وإني والله في هذا الأمر كعبة المحتاج، كما أن في مكة كعبة الحجاج، وإني أنا الحجر الأسود الذي وضع له القبول في الأرض والناس بمسه يتبركون، لعن الله قوماً يقولون: إنه يريد الدنيا. وإنا من الدنيا مبعدون).قال في الهامش: (هذه خلاصة ما أوحى الله إلي) (9).ثم زعم أن كل المصائب التي حلت بالقارة الهندية إنما كانت توطئة لبعثته حيث قال: (فاعلموا رحمكم الله أن هذه المصائب من الأقدار التي ما رأيتم قبل هذا الزمان ولا آباؤكم في حين من الأحيان، إنما هي آيات الرجل الذي بعث فيكم من الله المنان) (10) وإذا كانت تلك الكوارث كلها بسببه فلا عيب بعد ذلك على من تشاءم به ورأى أنه مصدر الكوارث والعقاب الشديد على حد قول الله تعالى: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً [الأنفال:25]. وهذه الإلهامات والكشوف والوحي الذي ادعاه في أقواله السابقة إنما تدل على جهله المطبق وجهل أتباعه، وعدم معرفة الغلام قدر الأنبياء العظيم الذي لا يصل إليه أحد غيرهم، وتدل كذلك على عدم معرفته بنفسه أيضاً؛ حيث ظن أنه بمجرد التفضيل الفارغ لشخصه ينقله إلى رتبتهم، فقوله: إن الله جمع فيه كل صفات الأنبياء، وأنه آتاه ما لم يؤت أحداً من العالمين - كذب ظاهر؛ فإن للأنبياء صفات لم يجرؤ القادياني على ادعائها؛ فلم يؤت ملك سليمان ولا صبر أيوب، ولا سفينة نوح، ولا بركات محمد صلى الله عليه وسلم وانتشار دينه في أقطار الأرض بسرعة مذهلة دون اللجوء إلى أي دولة من الدول، ولا الحب الذي كان يكنه المسلمون له، بخلاف القادياني الذي مات وهو يحاول جاهداً أن يزوجوه ببنت ابن خاله فرفضوه رغم إذلال نفسه لهم، وتوسل بشتى الوسائل دون جدوى.   (1) ((صحيفة الفضل)) جـ 14 عدد 291 سنة 1927م إبريل. انظر: ((القادياني والقاديانية)) (ص 76 - 78). (2) دعوة الأمير- ((معتقدات الجماعة الإسلامية الأحمدية)) (ص31). (مترجم). (3) ((جريدة الفضل)) (17 يونيو سنة 1915م (. (4) ((محاضرات الميرزا في سيالكوت)) في 2/ 11/1904 (ص34). (5) ((رسالة الأربعين)) (ص23) (رقم4). (6) ((البشري () (1/ 49). (7) ((حقيقة الوحي)) (ص73). (8) ((إنجاح آثم)) (ص55) للغلام أحمد، وكل تلك المصادر مأخوذة عن ((ما هي القاديانية)) (ص34)، ((القاديانية)) لإحسان إلهي (ص100) (ص154). (9) ((ضميمة الوحي)) (ص45) (مترجم). (10) ((ضميمة الوحي)) (ص65) (مترجم). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 63 فكيف بعد ذلك يتجاسر ويفضل نفسه على جميع البشر؛ بل وعلى أولي العزم من الرسل الذين اجتباهم الله، وجعل لهم الود والاحترام في نفس كل شخص عاقل!! بل وأغرب من هذا أن يقال: ومن أي طريق أقدم على دعوى أنه عين محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه كان لمحمد صلى الله عليه وسلم –حسب مزاعم القادياني وأتباعه - بعثتين: الأولى وكانت بمكة، والثانية وكانت بالقاديان بالهند، وأن محمداً في بعثته الثانية كان أكمل منه في بعثته الأولى. إذا كان يزعم أن ذلك تم عن طريق التناسخ، فإن التناسخ لم يقل به أحد من العقلاء غير عباد البقر والفروج من الهندوس والبوذيين، ثم كيف تناقض بعد ذلك في مسألة واحدة هامة وخطيرة جداً؛ فزعم أولا أنه مظهر لكرشن معبود الهنادك، ثم زعم ذلك أنه محمد صلى الله عليه وسلم. كيف ساغ له أن يجمع بين الشرق والغرب؛ الليل والنهار في مكان واحد، هذا هو عين التخبط والجهل الشنيع. وإذا كان القادياني قد غلا في نفسه وفضَّلها على جميع الأنبياء والمرسلين - فمن الطبيعي أن يفضلها على جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ابتداء بالصحابة الكرام فمن بعدهم. وهذا هو الذي وقع بالفعل. فقد فضل القادياني نفسه على جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم بما فيهم الصحابة كلهم لم يستثن أحداً منهم، فقد أداه الغرور إلى أن يقول: (لا شك أنه ولد في أمة محمد صلى الله عليه وسلم آلاف من الأولياء والأصفياء ولكن ما كان أحد مثلي (1). وقد يبدو هذا التفضيل برغم بشاعته صغيراً بالنسبة لتفضيل نفسه على جميع الأنبياء حيث قال: (جاء أنبياء كثيرون، ولكن لم يتقدم أحد عليّ في معرفة الله، وكل ما أعطي لجميع الأنبياء أعطيته أنا وحدي بأكمله) (2). وجاء في تمجيد أتباعه له على نفس المعنى: (نحن نعتقد بأن الله أنزل لصداقة غلام أحمد آيات وبينات لو توزع على ألف نبي لثبتت بها نبوتهم. وكان يجمع في ذاته جميع الصفات القدسية التي وجدت في جميع الأنبياء (3). وقد فضل نفسه على أنبياء خصهم بأسمائهم وقبلهم فضل نفسه على آدم عليه السلام فقال: (إن الله خلق آدم وجعله سيداً مطاعاً وأميراً حاكماً على كل ذي نسمة، كما يظهر من قوله: اسْجُدُوا لِآدَمَ [طه:116]، ثم أغواه الشيطان وأخرجه من الجنة ورجع الحكم إلى الشيطان، وصار آدم مصغراً ثم خلقني الله لكي أهزم الشيطان وهذا ما وعده في القرآن).وتوجد نصوص كثيرة من كلامه في تفضيل نفسه على نوح وعيسى ويوسف، وإذا كان هذا هو موقفه من الأنبياء فما الحال بغيرهم؛ خصوصاً أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم هدف حربه، وحرب كل الطوائف المعادية للإسلام، ولهذا نرى القادياني وقد فضل نفسه على كثير من مشاهير الصحابة مثل أبي بكر وعمر وعليّ والحسن والحسين وأبي هريرة دون أن يجد رادعاً من حياء أو ضمير، وهو حينما يسب ويشتم هؤلاء الأخيار ويترفع عليهم نسي قوله: (الذي يسب أو يشتم الأخيار المقدسين فليس إلا خبيث ملعون لئيم) (4).وقد تطاول أحد أقرباء الغلام وقال في جرأة شريرة: (أين أبو بكر وعمر من غلام أحمد، إنهما لا يستحقان أن يحملا نعليه) (5). ونصوص أخرى كلها تدور على تفضيل القادياني على من لا يساوي شراك نعل أحدهم، نتركها لتفاهتها ولما فيها أيضاً من الظلم الصريح بسبب تنقص القاديانيين بالأنبياء وبأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.   (1) ((تذكرة الشهادتين)) للغلام (ص29). ترجمة الندوي، ((القادياني والقاديانية)) (2) ((در ثمين)) للغلام (ص287 – 288). وانظر: ((ضميمة الوحي)) (ص13). (3) ((جريدة الفضل)) 16 أكتوبر سنة 1917م. تلك المصادر عن ((ما هي القاديانية)). (4) ((البلاغ المبين)) (ص19). (5) ((المهدي)) (ص57) (رقم 304) لمحمد حسين القادياني. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 64 ومن الغريب حقاً أن القاديانيين حينما يزعمون أو يزعم الغلام لنفسه أن له هذا الفضل الذي لا حد له يأبى الله إلا أن يظهره على حقيقته، فإذا به يوصف بأنه كان سكيراً عربيداً يحب الأفيون حباً شديداً حتى جعله في شريعته نصف الطب، يقول عنه ابنه محمود أحمد: (إن الأفيون يستعمل في الأدوية كثيراً حتى كان أبي يقول: إن الأفيون نصف الطب)، ثم يقول محمود عن تحليله: (ولذا استعماله للتداوي يجوز، ولا بأس به).ويذكر كذلك أن والده صنع من الأفيون دواءً إلهياً بإلهام منه عز وجل، فقال بعد كلامه السابق: (وأنه (1) صنع دواء باسم ترياق إلهي بهدى الله وأعينه، وكان الجزء الأكبر في هذا الدواء الأفيون، وكان يعطي هذا الدواء لخليفته الأول نور الدين، كما كان يستعمله هو أيضاً حيناً بعد حين لمختلف الأمراض) (2).وكان الغلام يشتري خمراً خاصاً يأتي من بريطانيا يسمى وائن؛ هو أقوى المسكرات (3). فكيف ساغ لهذا الحشَّاش - كما سماه إحسان إلهي رحمه الله - أن يفضل نفسه على آدم والأنبياء والمرسلين وجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم!؟ وقد تبع هذا التفضيل دعوى المعجزات التي فاقت معجزات الأنبياء؛ لأن الغلام تمدح بمعجزات كثيرة وزعم أنها فاقت معجزات الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى بن مريم وغيرهما من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ حيث قارن الغلام بين معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم فبلغت ثلاثة آلاف معجزة، وبين معجزاته فبلغت أكثر من مليون معجزة (4). وهي معجزات خرافية وفضائح شنيعة ظنها ماءً فإذا بها سراب. ومن تلك المعجزات الهامة أنه تزوج بزوجته الثانية وهي شابة وكان عمره هو الخمسين، وكان مصاباً بعدة أمراض فتاكة قال عنها: (والمعجزة الثانية بأنه لما نزل الوحي المقدس في شأن الزواج كنت مصاباً بضعف القلب والدماغ والجسم ومرض البول ودوران الرأس والدق، وفي هذه الأمراض المضنية لما تزوجت تأسف بعض الناس؛ لأن حالتي وقوتي الرجولية كانت كالمعدوم وكنت كشيخ فان) (5).كما أنه أيضاً ما كانت به قوة رجولية للزواج ومع ذلك أنجب أولاداً فقال: (حينما تزوجت لا زلت متيقنا بأني لست برجل مدة طويلة) (6) ثم قال: (ولكن مع هذه الأمراض والضعف أعطيت الصحة وأربعة بنون) (7).ومن هنا حُق للشيخ إحسان إلهي - رحمه الله - أن يعلق على هذه المعجزة العظيمة بقوله: (وليت شعري ماذا يريد من معجزاته؟ إن كان المراد من المعجزات بأنه ولد له الأولاد مع أنه كان محروماً من القوة الرجولية، فهذه معجزة زوجته لا معجزته هو) (8). إنه تمدح بهذه المعجزة في غفلة عن عقله فجاءت فضيحة مضحكة. المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 804 - 812 وأخيراً ظهر برؤيا رأى نفسه فيها كأنه الله - عز وجل - فأعاد خلق السماء والأرض، ثم خلق آدم. المصدر: رسائل في الأديان للحمد - ص306 يقول في تذكرة " وحي المقدس ": ورأيتني في المنام عين الله وتيقنت أنني هو ولم يبق لي إرادة ولا خطرة .... ونظرت إلى جسدي فإذا جوارحي جوارحه وعيني عينه وأذني أذنه ولساني لسانه أخذني ربي واستوفاني وأكد الاستيفاء حتى كنت من الفانين ... وبينما أنا في هذه الحالة كنت أقول نريد نظاما جديدا سماء جديدة وأرضا جديدة فخلقت السموات والأرض أولا بصورة إجمالية لا تفريق فيها .... وبعد الانتهاء من خلق الكون قال: ثم قلت: الآن نخلق الإنسان من سلالة من طين. (9) المصدر: عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية لأحمد بن سعد بن حمدان الغامدي - ص 249   (1) أي والده. (2) مقال محمود أحمد في ((جريدة الفضل)) (19يوليو سنة 1929م). (3) ((مكتوب الإمام باسم الغلام)) (ص5) للطبيب محمد حسين القادياني. والمصادر عن ((القادياني والقاديانية)) ترجمة الندوي. (4) ((تحفة كولرة)) (ص40). (5) ((هامش نزول المسيح)) (ص209) للغلام. (6) ((مكتوبات أحمدية)) (5/ 145). (7) ((هامش نزول المسيح)) (ص209) للغلام. (8) ((القاديانية دراسة وتحليل)) (ص72)، وعنها المصادر السابقة. (9) ((تذكرة وحي مقدس)) (ص629). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 65 المطلب الثالث: هلاك القادياني عندما ادعى القادياني تلك الدعاوى العريضة التي ليس لها مستند من عقل أو نقل قام عليه الغيورون من العلماء، وعلى رأسهم شيخ العلماء ثناء الله الأمْرِتْسَرِي مناظر الإسلام ومحامي المسلمين في القارة الهندية، فقد جرى بينه وبين الغلام القادياني عدة مناظرات ومناقشات تحريرية وتقريرية (1). وكان الانتصار دائماً للشيخ ثناء الله، فحصل أن غضب القادياني، وطلب أن يكون بينهما مباهلة. وكتب المتنبئ الدجال في 5 إبريل1907م يستفتح ويدعو الله أن يقبض الكاذب في حياة صاحبه، ويسلط عليه مثل داء الطاعون يكون فيه حتفه (2).وفعلاً قُبلت دعوته هذه، وقُضي بينه وبين ثناء الله بالحق، وبعد ثلاثة عشر شهراً وعشرة أيام بالضبط جاءه قضاء الله وقدره بصورة بشعة، كان يتمناها للشيخ الجليل ثناء الله، نعم بنفس الصورة وبنفس المرض الذي نص عليه هو بالكوليرا (3).وقد بين ابنه بشير أحمد ذلك بقوله: أخبرتني أمي أن حضرته أي الغلام احتاج إلى بيت الخلاء بعد الطعام مباشرة، ثم نام قليلاً، وبعد ذلك احتاج إلى بيت الخلاء، فذهب مرة أو مرتين بدون أن يشعرني، ثم أيقظني فرأيت أنه ضعف جداً، وما استطاع الذهاب إلى سريره؛ فلذا جلس على سريري أنا فبدأت أمسِّجُهُ وأمسِّحُه، وبعد قليل أحس بالحاجة مرة أخرى، ولكن الآن ما استطاع الذهاب إلى بيت الخلاء، فلذا قضاها عند السرير، واضطجع قليلاً بعد القضاء، ولكن الضعف بلغ منتهاه فجاءته الحاجة مرة أخرى، فقضاها ثم جاءه القيء، وبعدما فرغ من القيء خر على ظهره، واصطدم رأسه بخشب السرير، وتغيرت حالته (4).هذا وقد نشرت الجرائد الهندية آنذاك أن غلام أحمد المتنبي القادياني لما ابتلي بالكوليرا كانت النجاسة تخرج من فمه قبل الموت، ومات وكان جالساً في بيت الخلاء لقضاء الحاجة. وهكذا وافاه أجله، وتوفي على هذه الصورة البشعة وذلك في العاشرة والنصف صباحاً بتاريخ 26 مايو1908م فمات، وبقي الشيخ ثناء الله حياً بعد موت القادياني قريباً من أربعين سنة يهدم بنيان القاديانية، ويقمع جذورهم. وهكذا كذَّب الله الكذَّاب، وذلك بعد أن لاقى ألواناً من العذاب (5). المصدر: رسائل في الأديان للحمد - ص 307، 308 ونقلت جثته إلى قاديان حيث دفن في المقبرة التي سماها بمقبرة الجنة بهشتي مقبرة (6)، وعاش ثناء الله بعده أربعين سنة في نضال القاديانيين والرد عليهم، وانطبق على القادياني قوله: (إن كنت كذاباً ومفترياً كما تزعم في كل مقالة لك فإنني سأهلك في حياتك؛ لأنني أعلم أن المفسد الكذاب لا يعيش طويلاً، في عاقبة الأمر يموت ذلاً وحسرة في حياة ألد أعدائه، حتى لا يتمكن من إفساد عباده) (7). وبعد هلاك الميرزا خلفه في زعامة القاديانية صديقه الحميم وشريكه في قيام نبوته الحكيم نور الدين البهيروي. والملاحظ أن القادياني أثبت أنه كان كذاباً في دعواه النبوة حتى في موته، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه)) (8) كما رواه الصحابي الجليل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 836، 837   (1) () [16063] ((القاديانية)) لظهير (ص154). (2) الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة، للعقل والقفاري (ص148). (3) ((القاديانية)) لظهير (ص157 (. (4) ((القاديانية)) لظهير (ص157 - 158). (5) انظر ((القاديانية)) لظهير (ص159). (6) ((القادياني والقاديانية)) (ص26). (7) ((القادياني والقاديانية)) (ص26). (8) رواه الترمذي (1018). قال الترمذي: هذا حديث غريب وعبد الرحمن بن أبي بكر المليكي يضعف من قبل حفظه، وضعفه النووي في ((الخلاصة)) (2/ 1011) وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 66 المطلب الأول: زعماء القاديانية بعد هلاك القادياني برز كثير من زعماء القاديانية وكبرائهم متخذين من حيل القادياني وضلالاته منهجاً لهم. وطمع بعضهم في نفس المكانة التي احتلها زعيمهم - أي مرتبة النبوة - إلا أن بريطانيا لم تشأ أن تقويهم إلى حد نصرتهم على ادعاء النبوة، كما فعلت مع الغلام؛ لئلا يذهب تأثير القاديانية من نفوس أتباع القادياني بحيث تصبح النبوءة متعددة في عصر واحد، مما يستدعي فتور الناس عن التصديق، أو الشك في نبوة الغلام، فتخسر ما بنته في أعوام عديدة، وكانوا أذكى من أولئك الذين تشوقوا للنبوة. وفيما يلي نذكر بعض أولئك الزعماء بصورة موجزة؛ إتماماً للتعريف بالقاديانيين وهم بالإضافة إلى الغلام أحمد القادياني المؤسس الأول للقاديانية: الحكيم نور الدين البهيردي: هذا الرجل هو الشخصية البارزة بعد الغلام وصار هو الخليفة للقاديانية بعد موت الغلام، ويعتقد بعض الباحثين أنه صاحب الفكرة والتصميم في الحركة القاديانية كلها، وكان محباً للعز والجاه يتمنى ذلك بأي ثمن كان، وقد وجد في الغلام ما يمكنه من تحقيق ما يهدف إليه من الشهرة، فالتحق به وصار أكبر أعوانه والمخطط والمنفذ لأكثر آراء المتنبي، وكان المتنبي يبالغ في إكرامه إلى أبعد الحدود. المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 838، 839 وقد ادعي نور الدين أنه خليفة الغلام وأقسم للقاديانيين بأن الغلام هو الذي جعله خليفته من بعده وأقسم بالله على ذلك، يقول نور الدين: "أنا أقسم بالله العظيم أنه هو الذي جعلني خليفته، فمن يستطيع أن يسلب مني رداء هذه الخلافة، فالله مصالحه ومشيئته، أراد أن يجعلني إمامكم وخليفتكم، فقولوا ما تشاؤون، ولكن كل ما تتهموني به لا يصل إليّ، بل يرجع إلى الله، لأنه هو الذي جعلني الخليفة" (1).وكان الإنجليز قد قاموا بوضع تاج الخلافة على رأسه، وبهذا تم تأكيد خلافته للغلام، وكان نور الدين طبيباً، وأخلص أصدقاء المرزا إليه، ومن شدة إخلاصه له أنه لما أخبر بأن المرزا ادعى النبوة قال: "لو ادعى هذا الرجل أنه نبي صاحب شريعة ونسخ شريعة القرآن لما أنكرت عليه" (2). ولما كتب المرزا غلام أحمد كتابه (براهين أحمدية) كتب الحكيم نور الدين كتابه (تصديق براهين أحمدية). المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص73، 74 وقد بايعه القاديانيون خليفة لنبيهم؛ لأجل روابطه المتينة مع أسرة غلام أحمد، ولما عرفوا من احترام متنبئهم له، وخاصة بعد ما وافقت الحكومة المستعمرة على وضع تاج الخلافة على رأسه، وما كان لأحد بعد ذلك أن ينحرف عن التسليم به خليفة. والجدير بالذكر أن الاستعمار ما وافق على خلافته إلا بعد أن جرَّب ولاءه، وإخلاصه وخدمته له، وخيانته للمسلمين، فتمكن من عرش القاديانية، وسمى نفسه مثيل أبي بكر الصديق (3). المصدر: رسائل في الأديان للحمد - ص 310 ولد الحكيم نور الدين في عام 1258هـ في بهيرة من مديرية شاه بور في البنجاب غربي الباكستان وتسمى هذه المديرية الآن سركودها (4)، وأبوه غلام رسول كان إماماً في مسجد بهيرة، وقد درس الحكيم نور الدين الفارسية وتعلم الخط ومبادئ العربية.   (1) إحسان إلهي ظهير: ((القاديانية دراسات وتحليل)) (ص239) (2) بشير الدين أحمد بن المرزا غلام أحمد: ((سيرة المهدي)) (ص32). (3) ((القاديانية)) لظهير (ص239). (4) ((القادياني)) للندوي (ص28). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 67 وعين أستاذاً للفارسية في مدرسة حكومية في روالبندي في عام 1858م ثم عين مديراً لمدرسة ابتدائية لمدة أربع سنوات، ثم تركها وانقطع للدراسة وملازمة بعض الشيوخ في (رامبور)، ثم سافر إلى لكهنو ودرس الطب عن الطبيب المشهور الحكيم على حسين مدة سنتين، ثم سافر إلى بهوبال، ثم إلى الحجاز، وفي كل ذلك يتلقى العلم عن علماء هذه البلدان. ثم عين طبيباً خاصاً في ولاية جمون - كشمير الجنوبية - واشتهر بها، وفي هذا الوقت تعرف على الميرزا غلام أحمد القادياني الذي كان مقيم في سيالكوت وتوثقت بينهما الصداقة وشرع يحرض القادياني على ادعاء النبوة ويؤلف الكتب لتصديقه وتكفير من لا يؤمن بنبوته، ولقب بالخليفة الأول وخليفة المسيح الموعود بمباركة الاستعمار البريطاني. وكان آخر حياته أن سقط عن فرسه وجرح واعتقل لسانه قبل وفاته بأيام، ومات في 13 من مارس عام 1914م واستخلف الميرزا بشير الدين محمود نجل الميرزا غلام أحمد. صفاته: وكان الحكيم المذكور - كما وصفه الندوي - قلق النفس، ثائر الفكر، عقلي النزعة، تأثر بالمدرسة التي تدين بضرورة إخضاع الدين والعقيدة والقرآن للعلوم الطبيعية التي دخلت عن طريق الإنجليز، وتأويل كل ما عارض المقررات الطبيعية في ذلك العصر وكان كثير الرغبة في المباحثات والمناظرات (1) وقد ظل متحمساً للقاديانية زعيماً لها بعد وفاة الميرزا القادياني إلى أن توفي. محمود أحمد: ابن غلام أحمد أو الخليفة الثاني للقاديانية. تولى زعامة القاديانيين بعد وفاة نور الدين، وأعلن أنه خليفة ليس للقاديانيين فقط، وإنما هو خليفة لجميع أهل الأرض بما فيهم بريطانيا، التي تفانى في الجاسوسية لها؛ حيث أعلن قوله: (أنا لست فقط خليفة القاديانية ولا خليفة الهند بل أنا خليفة المسيح الموعود، فإذاً أنا خليفة لأفغانستان والعالم العربي وإيران والصين واليابان وأوروبا وأمريكا وأفريقيا وسماترا وجاوا، وحتى أنا خليفة لبريطانيا أيضاً وسلطاني محيط جميع قارات العالم) (2). ثم ادعى أن لقمان هو والده، وأنه هو ولد لقمان الذي ذكره الله بقوله: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ [لقمان:13]. المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 839، 840 وله تفسير مطول للقرآن الكريم سماه التفسير الكبير، وهو في عشرة أجزاء وقد اختصر بعد ذلك هذا التفسير وسمي "بالتفسيرالصغير"، ومن مؤلفاته أيضاً: سيرة المهدي، وكلمة الفصل. المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص74 ومن المعروف أنه بمجرد تولي بشير الدين الخلافة انقسمت القاديانية إلى فرقتين، أحدهما: تدعي أن مرزا غلام أحمد هو المهدي المعهود، والمسيح الموعود، كما يعتقدون بنبوته، بينما تقول الفرقة الأخرى، وهي فرقة لاهور بأنه كان مجدداً، وأنه المهدي والمسيح الموعود وليس نبياً.   (1) انظر ترجمة هذا الشخص فيما كتبه عنه الندوي في الفصل الثالث (ص28) من كتابه ((القادياني والقاديانية)). (2) ((جريدة الفضل)) (1نوفمبر لسنة 1931م)، ترجمة إحسان إلهي (ص253) ((القاديانية)). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 68 المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص74 وقد عُرف محمود بن الغلام بسوء أخلاقه وارتكابه العديد من الآثام والفواحش، فيذكر إحسان إلهي ظهير "أنه اتهم باغتيال العديد من مخالفيه في القاديانية بما فيه زوجه ابنة نور الدين الخليفة الأول، ورحيمه أخو زوجه (جريدة قاديانية "الفضل" 14 أغسطس 1937م) بسبب أنهم عرفوا سيرته الأصلية المملوءة من الغدر والخيانة العائلية والزوجية، وإتيانه المحرمات والفواحش، وهاهو واحد من القاديانية يتهمه بالزنا جبراً مع كنته "أنا أحمد دين أعلن على الملأ أني قادياني وأعتقد أن المسيح الموعود عليه السلام كان نبي الله ورسوله، وأنا بايعت الخليفة الثاني لحضرة المسيح محمود أحمد ابن الغلام، فكان زوجي وأهلي يذهبن إلى بيت الخليفة الثاني محمود أحمد ليخدمن أهله وأهل حضرة المسيح الموعود، وقبل أيام ذهبت كنتي: (زوج الابن) إلى بيته حسب العادة لتقوم ببعض الخدمة فلما رآها محمود أحمد وحدها ذهب بها إلى غرفته بالحيلة ثم فجر بها جبراً، وقال: لا تخبري لأحد لأنك لو أخبرت لا يصدقك أحد وتسقطي أنت عن الأعين، فجاءت إلى البيت باكية وأخبرت عما حدث، فذهبت إلى الخليفة وسألته فأنكر ثم استحلفته فأبى أن يحلف وأيضاً هددني بالموت أو الطرد من القاديان إن فتحت فمي وتكلمت مع أحد، وأنا أرسل هذه الرسالة إلى الجرائد لكي يعرف الناس حقيقة هذا الخليفة الذي هو يلوث سلسلة القاديانية بجرائمه، وإن هو لم يزن بكنتي فليباهل معي ويجعل لعنة الله على الكاذبين" (مكتوب أحمد دين القادياني المنشور في جريد يومية "زميندار" لاهور وما إن نشر هذا المكتوب إلا أعطى لهذا الرجل المبلغ الضخم حتى أعلن في جريدة قاديانية "الفضل" أنا أتأسف على أني نشرت المكتوب في جريدة "زميندار" لأن زوجة ابني اتهمت خليفة المسيح كذباً وافتراءً (وهل من المعقول أن امرأة متزوجة تفسد عليها الدنيا بمثل هذا كذباً؟) فلذلك طلقناها وأما الاستحلاف من حضرته فكان أيضاً خطأ مني، وكنت آنذاك مغتراً، مخدوعاً، وهكذا المباهلة لأني ما كنت أعرف أن المباهلة لا تجوز في مثل هذه الأشياء، وعلى هذا أعلن بأني أيقنت دون حلف حضرته وبدون المباهلة معه أن كنتي اتهمت حضرته (أي محمود أحمد) افتراءً وكذباً" (إعلان أحمد دين القادياني المنشور في "الفضل" 3 يونيو 1930م). وهكذا اتهمه بنفس هذا الاتهام عدة أشخاص يبلغ عددهم أكثر من عشرين شخصاً منهم: عبد الرحمن القادياني، والمهندس عبد الكريم، والطبيب عبد العزيز، وكل من طلب منه الحلف أو المباهلة أعرض عنه وأبى، كما نشرت جريدة قاديانية لاهورية "أن عدد اتهامات الزنا على محمود أحمد بلغ ما فوق العشرين من سنة 1925م إلى اليوم سنة 1949م، وكل هذه الاتهامات وجهت عن الذين تركوا مدنهم وقراهم وهاجروا إلى القاديان ابتغاء لمرضاة الله ومرضاة السلسلة القاديانية، ومع ذلك لم يجترأ الخليفة محمود أحمد أن يقول فقط كلمة واحدة (إن لعنة الله على الكاذبين)، لأنه يعرف الحقيقة " ("بيغام صلح" 16 نوفمبر 1949م)، وكتب واحد من هؤلاء رسالة مستقلة سماها "مظلومو القاديان" قال فيها بعد ذكر الاتهامات: "إن عبد الرحمن مصري القادياني طالب أن يشكل لجنة من كبار القاديانية لكي تحقق في هذه الاتهامات ولكن الخليفة لم يجبه بل طرده بعد أيام من الجماعة وأعلن إخراجه من القاديانية بدل أن يقبل شروطه المعقولة " (مظلومو القاديان لفخر الدين القادياني ملتاني)، فهذا كان إمام القاديانية وخليفتهم الذي كان دائماً يتهم بمثل هذه الاتهامات الشنيعة، وليس من مخالفيه بل من مريديه". المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص75، 76 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 69 ويكفي الشخص أن يقرأ كلمة الأستاذ عبد الرحمن مصري مدير كلية تعليم الإسلام في قديان، وكان من كبار علماء الجماعة القاديانية كما يذكر الأستاذ الندوي. فقد أسلم هذا الرجل على يد بعض القاديانيين ونشأ في حضانتهم وتعلم في مصر، وحاز ثقة الجماعة حتى كان يستخلفه الميرزا بشير الدين في إمامة الصلوات، ثم اطلع على أسرار هؤلاء الماسونيين القاديانيين وثار عليهم، وألف جماعة من الثوار كان يرأسهم هو. فقد سجل قاضي محكمة الاستئناف في لاهور - كما يذكر عبد الرحمن المصري في يوم 23 سبتمبر من عام 1938م - ما يأتي: إن الخليفة الحالي الميرزا بشير الدين محمود من كبار الفساق، إنه يتصيد الفتيات في ستر من الزعامة الدينية، وله وكلاء وسماسرة من الرجال والنساء يحضرون له الفتيات الغافلات والشباب الغر، وقد أسس لهذا الغرض نادياً سرياً من الرجال والنساء يفسق فيه (1). ولا شك أن هذا الميرزا سار على سيرة والده الميرزا غلام أحمد في استهتارهما بالدين وعدم وجود المراقبة الذاتية؛ فأصبح انتهاب الملذات من الأمور المألوفة، وهذا النادي يشهد صراحة بتأثير العقائد القاديانية في أصحابها، ودليل على أن هذه الفرقة إنما قامت من الأساس على خداع الناس والوصول إلى مآربهم وشهواتهم التي لا حد لها. المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 752، 753 ومما كان يوصي به أتباعه أنه يقول لهم: (إن آلام الحكومة الإنجليزية آلامنا)، وكان يشاركهم في أفراحهم ويرى خدمتهم شرفاً له على نفس المسلك الذي كان عليه والده من قبل - ومن يشابه أباه فما ظلم -، واستمر في غيه إلى أن عاقبه الله بعده أمراض ألزمته الفراش إلى أن هلك سنة 1965م. الخواجة كمال الدين: كان يدعي لنفسه أنه مثل غلام أحمد في الإصلاح والتجديد، وقد أخذ كثيراً من الأموال وذهب إلى انجلترا لتبليغ القاديانية، وسكن في (ووكنج مشن)، ومال إلى انتهاب اللذات وبناء البيوت الفاخرة. وكان إذا سمع بشخص أسلم ادعى فوراً أنه أسلم على يديه على الطريقة القاديانية الخارجة عن هدي الإسلام. وكان بعض هؤلاء الذين يدخلون في الإسلام من الأوروبيين - ويدعي الخواجة أنهم أسلموا على طريقة القاديانية - حين يعلمون ادعاء الخواجة يكذبونه، ويبينون أنه لا علاقة لهم بمذهب القاديانية. وقد ذكر سائح هندي عن الخواجة كمال الدين وطريقته في طعامه، فقال: (إن الأستاذ كمال الدين كان جالساً مع أحد أصدقائه في المطعم يأكلان الطعام، وبعد ذهابهما سألت صبي المطعم ماذا أكل هذان الشيخان، فقال بكل سذاجة: أطيب نوع من لحم الخنزير) (2).قال إحسان إلهي: (فهذا الصحابي الجليل للمتنبي القادياني ومن زعماء القاديانية اللاهورية مات بعد أن ترك تركة ضخمة) (3)، وأيضاً كان يأكل أطيب نوع من لحم الخنزير، وأين الطيب؟ وأين لحم الخنزير؟   (1) انظر: ((القادياني والقاديانية)) (ص90)، وانظر: ((القاديانية)) لإحسان إلهي (ص56)، ((مظلومو القاديان)). (2) ((جريدة الفضل)) (21 أغسطس سنة 1924م). (3) ((القاديانية)) (ص260). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 70 وقال فضل كريم خان في تكذيبه لادعاء القاديانيين أن الناس أسلموا على أيديهم في (ووكنج مشن) - قال: (لا يوجد في عظماء الإنجليز الذين أسلموا من يرجع الفضل في إسلامه إلى ووكنج مشن. وقد أعلن اللورد هدلي أنه درس الإسلام بنفسه واعتنق الإسلام، وقال: ولم أتعرف على الخواجة كمال الدين إلا قبل إسلامي بأسبوعين فقط. وقد أسلم المستر مار ماديوك بكتهال في مصر وبفضل الأتراك والمصريين وتأثيرهم. وقد اعتنق سرارجيبا لدهملتين بضرورة عائلية، وهكذا إذا فحصنا وجدنا أن ووكنج مشن ليس لها في إسلام هؤلاء فضل ولا نصيب) (1). ويقول في نفس هذه المقالة راداً على الذين يزعمون أن مسجد ووكنج مشن من بناء القاديانيين، ومبيناً صلة القاديانيين به بعد ذلك: (لست أدري كيف شاع في الهند أن جامع ووكنج من بناء القاديانيين!، الواقع أن هذا الجامع إنما بني بالمال الذي تبرعت به إمارة بوفال الإسلامية، أما المسكن الذي بجوار الجامع فهو في تذكار وزير حيدر آباد المشهور سرسالا رجنك، وقد بني كل ذلك تحت إشراف العالم الألماني الدكتور لائتس، لقد أسكن المؤلف الإسلامي المشهور السيد أمير علي الخواجة كمال الدين في هذا الجامع. وإلى الأول يرجع الفضل في بقاء هذا الجامع مركزاً للمسلمين) (2). وهناك شخصيات أخرى قاديانية – مثل: محمد أحسن أمر وهو الذي كان مصدر عون لقادياني، حيث كان يرسل إليه مسودات كتبه، ليصلح ما يحتاج إلى إصلاحه فيها ثم يرسلها للغلام ليجعل اسمه على الكتاب. وقد كان في عيشة راضية طوال عهد الغلام، إلا أنه وفي خلافة ابن الغلام محمود وأحمد وقع بين شركة النبوة القاديانية من التشاجر والسباب والتفرقة ما كان طبيعياً - في مثل تلك العلاقات القائمة على الكذب والحيل - أن يقع. ومنهم: محمد صادق، وكان مفتياً للقاديانية، وعبد الكريم السيالكوتي إمام مسجد الغلام وخطيبه وصديق الغلام الخالص الذي مدحه بقوله: (لم يولد في القاديانية رجل ثالث يضاهي حضرة الشيخ عبد الكريم)، وهو أول من خاطب الغلام برسول الله ونبي الله، فأذاقه الله في الدنيا عذاباً تقشعر منه الجلود. كتب ابن الغلام أحمد بشير أحمد عن مرض عبد الكريم فقال: (فابتلي الشيخ عبد الكريم في مرض كاربينكل وما بقي في جسمه موضع إلا شق من العمليات الجراحية، وكان يصرخ في مرضه صرخات لا يحتمل الإنسان سماعها؛ ولأجل ذلك غير حضرة المسيح الموعود مسكنه؛ لأن الشيخ عبد الكريم كان يسكن في نفس البيت الذي كان يسكنه المسيح الموعود، وكان الشيخ عبد الكريم يبكي ويصرخ لكي يزوره حضرة المسيح ولكن حضرة المسيح لم يذهب لعيادته؛ لأنه كان يقول: (أنا أريد أن أذهب إليه ولكني لا أطيق أن أراه في هذه الحالة). وبعض الأحيان كان الشيخ عبد الكريم يفقد شعوره لشدة مرضه، وكان يقول: هاتوا إلي المركب حتى أذهب إلى حضرة المسيح؛ لأني منذ أيام ما رأيته، كأنه كان يظن أنه يسكن بعيداً عن حضرته في خارج القاديان، وهكذا استمر به المرض حتى هلك. ومنهم: يار محمد، وهو من المؤسسين الأوائل لنبوة الغلام، وبعد هلاك الغلام استسهل يار محمد أمر النبوة فادعى هو الآخر أنه نبي لحضرة الغلام، وكان من أساتذة ابن الغلام محمود أحمد الذي رد بعد ذلك على يار محمد وخطأه في دعواه النبوة، وأن ذلك إنما كان عن سبب اختلال وقع به.   (1) ((مجلة حقيقة إسلام)) لاهور (يناير سنة 1934م)، انظر: كتاب ((القادياني والقاديانية)) للندوي (ص154،155، فصل ((دعاية وتهريج)). (2) ((مجلة حقيقة إسلام)) لاهور يناير سنة 1934م، انظر: كتاب ((القادياني والقاديانية)) للندوي (ص154 - 155)، ((فصل دعاية وتهريج)). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 71 ومنهم نور أحمد القادياني الذي أعلن أنه رسول الله أيضاً فأعلن قوله: لا إله إلا الله نور أحمد رسول الله، أنا رسول الله أُرسلت رحمة للعالمين كما أنا مظهر لجميع الأنبياء، فردّ عليه ابن الغلام وخطأه وزعم بأن به مرض الجنون حسداً من ابن الغلام له. ومنهم عبد الله تيمابوري، ادعى النبوة حسب بشارات غلام أحمد فقال: أنا هو الذي بشر عنه حضرة الأقدس المسيح الموعود غلام أحمد بأنه يرسل نبي، فها أنا أرسلت ببركة غلام أحمد وفيضانه، وسوف يظهر على يدي صداقة حضرة الغلام على الدنيا. ولقد هان أمر النبوة في نظر صحابة الغلام، فادعى كل واحد أنه هو النبي المبعوث بعد الغلام، وكوّنوا جماعة قاديانية أخرى حصل بينهم نزاعات كثيرة إلا أنه كان يجمعهم تقريباً انتسابهم إلى الغلام، وأن الغلام القادياني نبي الله ورسوله كما أنهم أنبياء الله ورسله ولا نجاة لمن لم يؤمن بنبوة الغلام أحمد، كما لا نجاة لمن لم يؤمن بنبوتهم ورسالتهم هم أيضاً. والفرق بينهم وبين المتنبي الغلام القادياني - بزعمهم - أن الغلام اكتسب النبوة بلا واسطة، وهم اكتسبوها بواسطته، فهو كالأستاذ لهم وهؤلاء كالتلاميذ له، وكانوا خلفاً جيداً للغلام وجيداً للاستعمار البريطاني، ولكن بريطانيا لم تقدم على دعمهم دعماً كاملاً، ولم تدع إلى نبوتهم كما دعت إلى نبوة الغلام؛ لئلا يستهين الناس بالقادياني؛ فتبطل دعواه النبوة وينفر الناس عنها كما تقدم. هؤلاء هم أشهر زعماء القاديانية، وهناك مئات من الزعماء الأشقياء لهذه الفرقة الضالة، وقد خذلهم الله في أماكن كثيرة وانبرى لهم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم يردون عليهم ويبينون خروجهم عن الإسلام ويحذرون منهم، مما جعل القاديانيين يتتبعون بدعوتهم الديار النائية للمسلمين ومن تكثر بينهم الأمية، وقد نجحوا في دعوتهم بينهم. والحرب بين قوى الخير وقوى الشر من الأمور التي لا تنتهي بين البشر، ولله الحكمة في ذلك والحمد لله على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار. رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8]. المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 841 - 845 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 72 المطلب الثاني: فرق القاديانية بعد موت نور الدين انقسمت القاديانية إلى فرقتين: 1 فرقة يتزعمها الميرزا بشير الدين محمود بن المتنبيْ الكذاب وتسمى بالقاديانية أو الأحمدية. 2 الطائفة الأخرى يتزعمها محمد علي اللاهوري، وتسمى اللاهورية أو الأحمدية - أيضاً -. وكلا الطائفتين تتبع المتنبي الكذاب وتأخذ بأقواله وتقدس كتبه، وإن كانت الأولى (القاديانية) تعلن نبوته صراحة، أما الأخرى (اللاهورية) فتقول بأنه المسيح الموعود، ومجدد القرن الرابع عشر الهجري، ولا تصرح بنبوته. وهذه مؤامرة منهم، وخدعة لكسب التأييد؛ لأن كلتا الفرقتين تقدس وتتبع كل كلمة قالها المتنبي الكذاب، والمسلمون لا يفرقون بين هاتين الطائفتين، والكفر ملة واحدة وإن تعددت صوره وأشكاله (1). المصدر: رسائل في الأديان للحمد - ص311 وسنورد فيما يلي بسطا للكلام عن اللاهورية. الفرع اللاهوري القادياني: أمير هذا الفرع هو محمد علي من أوائل المنشئين صرح القاديانية، وممن كان له يد ومنّة عظيمة في توجيه الغلام المتنبي ومساعدته بالفكر والقلم أيضاً، وكان هو الآخر من أشد المخلصين للإنجليز والمحرضين على بذل الطاعة التامة لهم، وقد كانت لهم مواقف مع الغلام وأسرته؛ إذ كان أحياناً يتبرم من استبداد المتنبي بالأموال التي تصل إليه من أتباعه، فيصرح للمتنبي بهذا ويرد عليه المتنبي هذه التهمة. وبعد وفاة الغلام استفحل الخلاف بين أسرة المتنبي ومحمد علي، حول اقتسام الأموال التي جاءتهم حيث استغلها ورثة المتنبي مع علمهم (بأن هذه النبوة شركة تجارية وهم كلهم شركاء فيها) (2)، ولعل هذه الخلافات الشخصية لم يكن لها تأثير على إتمام الخطة وإحلال القاديانية محل الإسلام، خصوصاً والقوة التي أنشأت الغلام وفكرته لا تزال هي القوة، والمتآمرون لا يزالون في إتمام حبكها وتنفيذها. أما بالنسبة لحقيقة معتقد هذا الرجل في غلام أحمد، وهل كان متلوناً أو كان له مبدأ أُمليَ عليه، أو كان مقتنعاً به دون تدخل أحد، فإن الذي اتضح لي من كلام العلماء الذين نقلوا عنه آراءه أنهم مختلفون على النحو الآتي: منهم من يرى أن (محمد علي) اختير من قبل الساسة الإنجليز لإتمام مخطط القاديانية بطريقة يتحاشى بها المواجهة مع مختلف طوائف المسلمين في الهند والباكستان وغيرهما، ويتحاشى بها كذلك مصادمة علماء الإسلام الذين نشطوا في فضح القاديانية وإخراجها عن الدين الإسلامي، فاقتضى الحال أن يتظاهر محمد علي وفرعه بأنهم معتدلون لا يقولون بنبوة الغلام، وإنما يثبتون أنه مجدد ومصلح؛ لاستدراج الناس إلى القاديانية ولامتصاص غضب المسلمين على القاديانية، فتظاهر بعد ذلك محمد علي وفرعه بهذه الفكرة بغرض اصطياد من يقع في أيديهم (3) ومنهم من يرى أن (محمد علي) وفرعه كانوا يعتقدون أن الميرزا غلام أحمد لم يدَّعِ النبوة، وكل ما جاء عنه في ذلك إنما هي تعبيرات ومجازات، وكابروا في ذلك اللغة وكابروا الواقع.   (1) انظر ((الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة)) (ص149). (2) ((القاديانية)) لإحسان إلهي (ص250. (3) انظر: ما كتبه إحسان إلهي في كتابه ((القاديانية دراسة وتحليل)) (ص242). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 73 وقد لقبهم القاديانيون بالمنافقين (لأنهم يحاولون الجمع بين العقيدة القاديانية والانتساب إلى مؤسسها وزعيمها، وبين إرضاء الجماهير) ومع هذا الموقف فإن محمد علي اللاهوري، دائماً يلقب الميرزا غلام أحمد بمجدد القرن الرابع عشر والمصلح الأكبر، وزيادة على ذلك يعتقد أنه المسيح الموعود).قال الندوي عنهم: (وعلى ذلك تلتقي الطائفتان) (1).وذهب الأستاذ مرزا محمد سليم أختر في كتابه: (لماذا تركت القاديانية؟) إلى رأي آخر حيث قال بعد أن ذكر ما وقع بين محمد علي وجماعة الربوة من خلاف على منصب الخلافة بعد نور الدين - قال: (وأنكر نبوة الميرزا ليكسب العزة عند المسلمين)، ثم قال: (ولم ينكر أحد هذه الحقيقة: أن (محمد علي) أقر بنبوة الميرزا، وإنكاره لنبوته يعتبر كالعقدة في الهواء) (2). والواقع أن القول بأن الفرع اللاهوري - وعلى رأسهم محمد - علي ما كانوا يؤمنون بنبوة الغلام عن اقتناع قول بعيد جداً؛ ذلك أن مواقفهم وتصريحاتهم كلها تشهد بإقرارهم بنبوة الغلام وليس فقط أنه مصلح ومجدد. كما أن تصريحات الغلام نفسه بنبوته لا تخفى على من هو أبعد من الفرع اللاهوري، فكيف يقال بأنها خفيت عليهم؟ ‍! كما أن معتقد الفرع اللاهوري ليس له أي أساس آخر غير الأساس الذي بناه غلام أحمد وأسهم فيه محمد علي نفسه. والباطل لا بد وأن يتناقض أهله فيه، فقد صرح محمد علي نفسه بقوله عن الغلام: (نحن نعتقد أن غلام أحمد مسيح موعود ومهدي معهود وهو رسول الله ونبيه، ونزله في مرتبة بينها لنفسه؛ أي إنه أفضل من جميع الرسل، كما نحن نؤمن بأن لا نجاة لمن لا يؤمن به) (3).ونصوص أخرى كثيرة كلها تثبت أن هذا الفرع لا يختلف في النتيجة عن الحركة القاديانية الأم في قاديان، وأنه كان يراوغ في إظهار معتقده نفاقاً وإيغالاً في خداع العامة، حتى إنه كان يوصي أتباعه في جزيرة مارشيس ألا ينشروا هناك أن الغلام نبي، وأن من لم يؤمن به فهو كافر؛ لأن هذا المسلك يضر بانتشار القاديانية (4)، أي ولكن ينشروا أنه مجدد، لتقريب وجذب المسلمين إليهم. ومن أقوال هذا الفرع أيضاً: (يا ليت أن القاديانية كانت تُظهر غلام أحمد بصورة غير النبي ... ولو فعلوا هذا لكانت القاديانية دخلت في أنحاء العالم كله) (5). وبهذا يتضح أن هذا الفرع أمكر وأكثر احتيالاً لنشر القاديانية، وهو الذي أتيح له التوغل في العصر الحاضر إلى أقصى البلدان الإسلامية في آسيا وفي أفريقيا. وقد قام محمد علي بنشاط كبير في عرض القاديانية. ولعل من أهم أعماله ترجمته للقرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية (6)؛ حيث ملأها بالأفكار القاديانية، مما جعل الكثير من الناس يقعون ضحية تلك الأفكار ظانين أنها ترجمة رجل مسلم، لقد اتجه هذا الرجل في تفسيره للقرآن وجهة خطيرة لم يتورع فيها عن الكذب والتعسف ومخالفة أهل العلم واللغة والإجماع، وإنما فسره بمعان باطنية، فيها التركيز على إنكار الإيمان بالغيب وبالقدرة الإلهية، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، منها على سبيل المثال:   (1) ((القادياني والقاديانية)) (ص144). (2) ((لماذا تركت القاديانية)) (ص31) ترجمة محمد كليم الدين. (3) ((جريدة الفضل)) (3/ 411). (4) ((التبليغ)) (1/ 21). (5) ((بيغام صلح)) (17 إبريل لسنة 1934م) جريدة الفرع اللاهوري، والمصادر عن ((ما هي القاديانية)). (6) يذكر محمد أختر الذي كان قاديانياً ثم انفصل عنهم، أن تلك الترجمة ليست من صنع محمد علي كلها وإنما هي للحكيم نور الدين البيهيروي ونسبها محمد علي لنفسه انظر كتابه: ((لماذا تركت القاديانية)) (ص32) ترجمة محمد كليم الدين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 74 قوله تعالى لموسى: اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً [البقرة:60] أي أن الله أمر موسى بالمسير إلى جبل فيه اثنتا عشرة عيناً. وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة:63]؛ أي كنتم في منخفض من الأرض والجبل يطل عليكم. فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة:65] أي مسخت قلوبهم وأخلاقهم. أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ [آل عمران:49] المراد بالطير هنا استعارة؛ أي رجال يستطيعون أن يرتفعوا من الأرض وما يتصل بها من أخلاق وأشياء، ويطيروا إلى الله ويحلقوا في عالم الروح. المراد باليد البيضاء التي أُعطي موسى أي الحجة، والحبال والعصي في قوله تعالى: فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ [الشعراء:44] أي وسائلهم وحيلهم التي عملوها في إحباط سعي موسى. وفي قوله تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ ِ [سبأ:14]: دابة الأرض: هو رجل اسمه رحبعام بن سليمان الذي تولى الملك بعده، وسمي دابة الأرض لقصر نظره؛ إذ كان لا يجاوز الأرض. والمنسأة التي هي العصا كناية عن ضعف الحكومة وانقراضها. والجن: شعوب أجنبية بقيت في حكم بني إسرائيل إلى ذلك العهد. وهدهد سليمان: هو إنسان كان يسمى الهدهد وكان رئيس البوليس السري في حكومة سليمان. وقد تلاعب بمعاني القرآن الكريم على هذا التفسير الباطني الهزلي المملوء بالأكاذيب والخرافات، وقد تلقفه المسلمون - خصوصاً من لم يعرف العربية - بكل سرور، لعدم علمهم بأن تفسير محمد علي للقرآن الكريم باللغة الإنجليزية، إنما يراد به هدم معاني الشريعة الإسلامية والمفاهيم الصحيحة، وقد ذكر الأستاذ الندوي في كتابه (القادياني والقاديانية) كثيراً من مثل هذا التلاعب بالقرآن للتحذير وإبراء الذمة (1). المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 846 - 851   (1) انظر: (ص145 - 153). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 75 المطلب الثالث: تنظيمات القاديانية أنشأ القاديانيون بلدة سموها ربوة في باكستان جعلوها مركزا خاصا بالقاديانيين وخططوا لإقامة دولة لهم في باكستان كما صرح بذلك بشير الدين محمود في خطبة له بعد قيام باكستان بسنة سموا دجالهم بـ أمير المؤمنين أنشأوا سبع إدارات أشبه ما تكون بتنظيم دولة ومن هذه الإدارات: - رئاسة المجلس الأحمدي، وهي أشبه ما تكون بمجلس الوزراء ويتبع هذه الرئاسة عشر شعب كالوزارات منها نظارة الأمور الخارجية، نظارة التعليم، نظارة الزراعة - الوقف الجديد ومهمتها تهيئة أشخاص يرسلون لمختلف البلدان لنشر أباطيلهم - أنصار الله وهي منظمة عسكرية تقوم بحماية دجالهم. إلى آخر هذه الإدارات مما يكشف أن هذه الطائفة منظمة سياسية صرفة المصدر: الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة لناصر القفاري وناصر العقل - ص 150 - 151 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 76 المطلب الرابع: أسباب انتشار القاديانية ومواطن انتشارهم إن البشر ليسوا على درجة واحدة من الفهم والذكاء، ولا قوة الإيمان وضعفه، بل هم أصناف وأشكال: منهم الخامل، ومنهم المخادع، ومنهم من يحب المسكنة والذلة، ومنهم من يحب الرياسة والسلطة والشهرة، ولهذا فكل صائح يجد له صدى، وكل داع يجد له أتباعاً، مهما كانت دعوته خيرة أو شريرة؛ الخيرة يقبلها أهل الخير، والشريرة يتلقفها أهل الشر، والتافهة يتقبلها التافه من الناس وضعاف النفوس. والقادياني ودعوته الشريرة التافهة وجد لها من يتقبلها. والذي يهمنا هنا هو نظرة سريعة في الأسباب التي ساعدت على انتشار وباء القاديانية، ويمكن أن نوجز عناصر تلك الأسباب في الأمور التالية: جهل كثير من الناس بحقيقة الدين الذي ارتضاه الله، فأكثرهم مسلم بالتبعية والتقليد يتأثرون بكل دعوة ويقلدون كل صائح. وقوف الاستعمار إلى جانب هذه الدعوة الخبيثة وتأييده لها مادياً ومعنوياً لإدراكهم نتائجها في تحقيق أطماعهم في العالم الإسلامي. وتحتضن الحكومة الإنجليزية هذا المذهب وتسهل لأتباعه التوظف بالدوائر الحكومية العالمية في إدارة الشركات والمفوضيات وتتخذ منهم ضباطاً من رتب عالية في مخابراتها السرية. المصدر: الموسوعة الميسرة استغلال القاديانيين لفقراء بعض المسلمين، بمساعدتهم المادية ببناء المدارس والمساجد والمستشفيات، وتوزيع الكتب وإيجاد بعض الوظائف وغير ذلك. نشاط القاديانيين وذهابهم إلى الأماكن النائية من بلدان المسلمين التي يكثر فيها الجهل والعامية. تمويه القاديانيين على السذج من المسلمين، بأن القاديانية والإسلام شيء واحد، وأن القاديانية ما قامت إلا لخدمة الإسلام. عدم قيام علماء الإسلام بالتوعية الكافية ضد القاديانية وغيرها من الطوائف الضالة التي بدأت تنتشر في هذا الزمن أكثر من أي وقت مضى، وبتخطيط أدق وأكمل عما مضى؛ إذ العالم اليوم من عزّ بزّ، ومن غلب استلب. هذه هي أهم الأسباب وربما توجد أسباب أخرى كثيرة ساعدت في نشر القاديانية في أماكن كثيرة من بلدان المسلمين. ويطول المقام لشرح تلك الأسباب التي استغلها القاديانيون وحولوا كثيراً من المسلمين إلى ديانتهم، وأدخلوا كذلك كثيراً من غير المسلمين في القاديانية على أساس أنها هي الدين الإسلامي الذي ارتضاه الله وأنزل به القرآن الكريم وأرسل به محمداً صلى الله عليه وسلم، بحيث لا يعلم الشخص مدى البعد بينه وبين الإسلام إلا إذا وفقه الله فأبصر واقع القاديانية. على أنه وجد بعد ذلك نوع من اليقظة الإسلامية، ووجد علماء أوقفوا القاديانية عند حدها في بعض البلدان وكتبوا مقالات كثيرة، بل ووجد أيضاً من بعض من دخل القاديانية من المفكرين على أساس أنها هي الإسلام، ولكنه تبين له بعد ذلك أنها عدوة للإسلام فبدأ يهاجمها ويدعو إلى الإسلام الصحيح. ومع هذا كله فقد انتشرت القاديانية في هذه الأيام وبدأت تستعيد أنفاسها في أماكن متفرقة من العالم الإسلامي، مستغلين نفس الأسباب التي ذكرت آنفاً، والأمل في الله قوي أن يهيئ من عباده من يتصدى للقاديانية وغيرها من التيارات الهدامة المعاصرة، ويكشف زيفها ويبين خطرها على الإسلام والمسلمين وما ذلك على الله بعزيز. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 77 ولولا أن خطة قوية وتياراً هائلاً لصرف أنظار الناس عن واقع هذه الفرق الخبيثة لانكشفت ولبان لكل ذي لب الخطر الذي يترصد العقيدة الإسلامية من جراء انتشار هذه الفرق التي تتظاهر بالإسلام لبناء عقائدها المنحرفة وأمجادها الزائفة، ولا أدل على نجاح تلك الخطة من انصراف عامة المسلمين - بل وطلاب العلم - عن معرفة هذه الفرق، التي يموج بها العالم الإسلامي في شتى الدول الإسلامية دون استثناء، فانظر - أخي القارئ الكريم - إلى أي اجتماع بين المسلمين، كبيراً كان ذلك الاجتماع أو صغيراً، وسواء كان المجتمعون طلاب علم أو عامة - لا تسمع أي حديث عن هذه الفرق وبيان أخطارها على الدين والمجتمع، حتى ليخيل لغير المتتبع لهذه الحركات الهدامة أنه لا توجد بين المسلمين أي فرقة خارجة عن التدين الصحيح، ولهذا يرددون عبارة: المسلمون بخير دائماً. وكذلك كان لتعيين ظفر الله خان القادياني كأول وزير للخارجية الباكستانية أثر كبير في دعم هذه الفرقة الضالة حيث خصص لها بقعة كبيرة في إقليم بنجاب لتكون مركزاً عالمياً لهذه الطائفة وسموها ربوة استعارة من نص الآية القرآنية وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [المؤمنون:50]. المصدر: الموسوعة الميسرة ولقد عزى الشيخ إحسان إلهي - رحمه الله - سبب انتشار القاديانية في بلدان المسلمين وخصوصاً أفريقيا وأوروبا إلى أهم الأسباب الآتية: مساعدة الاستعمار بشتى أشكاله لهم؛ حيث يمدونهم بكل أنوع المساعدات. قلة وجود العلماء المسلمين الحقيقيين وشغور مناصبهم في تلك البلاد. جهل أكثر المسلمين لحقيقة القاديانية الأصلية وأهدافهم. غفلة العالم الإسلامي عن أفريقيا، في الوقت الذي تنشر فيها القاديانية أكثر من خمس (1) مجلات راقية، بينما لا توجد مجلة واحدة للمسلمين في أفريقيا كلها تجابههم. وجود مئات المبلغين القاديانيين الذي يتجولون من أدنى أفريقيا إلى أقصاها عبر القارات الأخرى. أقاموا فيها 47 سبعاً وأربعين مدرسة وبنوا 260 مائتين وستين مسجداً (2) أقاموا فيها 47 سبعاً مدرسة وبنوا 260 مائتين وستين مسجداً، هذا غير ما يتبع ذلك من المكتبات العامة والخاصة والمؤلفات والنشرات، وترجمة القرآن إلى لغات شتى. كما فتحوا في الآونة الأخيرة مستشفيات ودوراً اجتماعية في مختلف أنحائها، وأصبح أتباعهم - حسب نشراتهم - أكثر من مليوني شخص في مدة لا تجاوز خمس عشرة سنة (3). المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 831، 832 إن للقاديانية نشاطات متعددة في سبيل نشر مذهبهم الباطل، وهم في دعوتهم يتسترون بالإسلام ولا يفصحون عن اسمهم، بل يدعون أنهم مجددون للإسلام، ودعاة له، وقد ألفوا العديد من الكتب، وأنشأوا العديد من الصحف، كما عنوا بإنشاء المستشفيات، وبعث الإرساليات لنشر نحلتهم في العالم. ويستخدمون في دعوتهم منشورات تتضمن أفكاراً ثلاثة: 1 - أن مؤسس الدعوة غلام أحمد يشبه المسيح في دعوته. 2 - أنه لا فرق بين الأديان السماوية إلا بالأفكار التي زرعها متعصبوا هذه الأديان. 3 - أن القاديانية تدعو للسلم، والتعارف بين الشعوب، وتنبذ الحرب والعنف بكل صوره وأشكاله.   (1) لقد زاد عدد المجلات إلى أكثر من هذا العدد كما ذكر النجرامي في كتابه ((أباطيل القاديانية في الميزان)) (ص105). (2) لقد زاد عدد المساجد إلى أكثر من هذا العدد كما ذكر النجرامي. (3) ((القاديانية دراسة وتحليل)) (ص15)، ولعل هذه الأرقام التي ذكرها كانت في ذلك الوقت، وربما زادت في عصرنا الحاضر زيادات لا يعلمها إلا الله، ومنها ظاهر ومنها خفي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 78 ويلاحظ أن ما يوزعونه يحمل اسم وخاتم مطبعة في حيفا بفلسطين المحتلة، هذه الملاحظة الأخيرة توصلنا إلى نقطة جديدة، مفادها أن إسرائيل تحاول كبريطانيا الاستفادة من هرطقات القاديانية في الدس بين المسلمين وتخريب الفكر والمعتقد عندهم. وأهم ما في هذا التخريب هو دعوى نسخ الجهاد التي تخدم المشروع الإسرائيلي (1). المصدر: رسائل في الأديان للحمد - ص 312، 313 هذا كله يجري في الوقت الذي شحت فيه الدول الإسلامية بإرسال الدعاة إلى تلك الأماكن النائية من العالم الإسلامي ليواجهوا نشاط آلاف القاديانيين، وما ذلك عن فقر في الدول الإسلامية، ولكنه ضعف الحماس للدين الإسلامي، وانشغالهم بأنفسهم وبأمور أخرى افتعلها أعداء الإسلام لإلهاء زعماء المسلمين بها، واشغالهم بعيدين عن واجبهم الذي يحتمه عليهم دينهم الإسلامي. ولو توجهت الدول الإسلامية إلى خدمة الدين الذي ارتضاه الله لهم، وبذلت بعض الأموال التي تذهب إلى هنا وهناك فيما لا يعود أكثره لخير الإسلام والمسلمين، لو توجه هؤلاء بنية صادقة وعزم قوي، لتغير الحال المهين الذي تعيشه الأمة الإسلامية في كل مكان، ولصار المسلمون هم سادة العالم ومشاعل أنواره ومحط آمال الفقراء والمستضعفين في العالم كله، ومنفذاً لكل من أحاطت به ظلمات الجهل والظلم المشين. إلا أن العالم الإسلامي مع الأسف الشديد صار حاله مع دينه، مثل حال العلم عند كثير من أتباعه حين وصفهم الجرجاني بقوله: ولكن أهانوه فهان ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما لقد كان للقاديانيين نشاط قوي في الصحافة والمجلات، لعلمهم بتأثير هذه الوسيلة في مفاهيم الأمة، ومن هنا فقد أصدر القاديانيون عدة مجلات بعدة لغات وفي عدة دول نذكر هنا الأرقام التي أفادها النجرامي، إضافة إلى ما سبق ذكره عن إحسان إلهي: فلهم في نيجيريا مجلة أسبوعية باللغة الإنجليزية. ولهم في غانا مجلة شهرية باللغة الإنجليزية. ولهم في سيراليون مجلة شهرية باللغة الإنجليزية. ولهم في كينيا مجلة تصدر كل ثلاثة أشهر باللغة الإنجليزية. ولهم في شرق أفريقيا مجلة شهرية باللغة السواحلية. ولهم في موريشيوس مجلة شهرية باللغة الإنجليزية والفرنسية. ولهم سيلون مجلة شهرية باللغة الإنجليزية. ولهم في إندونيسيا مجلة شهرية باللغة الإندونيسية. ولهم في إسرائيل مجلة شهرية باللغة العبرية. ولهم في سويسرا مجلة شهرية باللغة الألمانية. ولهم في لندن مجلة شهرية باللغة الإنجليزية. ولهم في الدنمارك مجلة شهرية باللغة الدنماركية. هذا بالإضافة إلى الكتب الكثيرة والمبالغ الضخمة التي ترسلها دائماً إلى بلدان كثيرة، لنشر القاديانية بين شعوب تلك البلدان. كما أن لهم نشاطات أخرى؛ وهي بناء المدارس والمساجد، فقد بلغ عدد المدارس في أفريقيا حوالي 47 مدرسة كما تقدم. كما بلغ عدد المساجد التي بنوها في العالم حوالي 343 مسجداً، بَنَوْا في أمريكا وفي هولندا وسويسرا وبورما - كل بلد من هذه البلدان - مسجداً واحداً، وفي ألمانيا - ألمانيا الغربية - مسجدين، وفي سيلون مسجدين – وكذا الملايو –وفي الولايات المتحدة الأمريكية ثلاثة مساجد، وفي بورنيو ستة مساجد، وفي موريشيوس عشرين مسجداً، وفي شمال أفريقيا أربعين مسجداً، وكذا في نيجيريا وفي سيراليون ستين مسجداً، وكذا في أندونيسيا، وفي غانا 161 مائة وواحداً وستين مسجداً.   (1) انظر ((البهائية والقاديانية)) د. أسعد السحمراني (ص152)، وانظر ((أجنحة المكر الثلاثة (ص275 - 276). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 79 وهذه المساجد إنما أقيمت لتكون وكراً للقاديانية ومحلاً للتخطيط وحبك الدسائس على الأمة الإسلامية، وإقامة الزعامة القاديانية على حساب الإسلام، فهي أشبه ما تكون بمسجد الضرار الذي هدمه الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر ربه حينما بني على نية سيئة. يقول النجرامي: (فليتنا نعمل بهذه المساجد كما عمل الرسول صلى الله عليه وسلم بمسجد الضرار، حتى لا تكون نقطة الانطلاق لهذه الحركة الضالة، تنطلق من خلالها للكيد للمسلمين وتفتيت وحدتهم وبذر الشقاق بين جموعهم) (1). المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 832 - 835 وكذلك للقاديانيين نشاط واسع في محاولة نشر عقيدتهم المنحرفة وبخاصة في أفريقيا، حيث لهم في إفريقيا أكثر من خمسة آلاف مبشر وداعية إلى دينهم المزيف، وقد قاموا بترجمة معاني القرآن إلى اللغات الإفريقية واللهجات الإفريقية المتعددة، وفقاً لعقيدتهم الباطلة. ومن أبرز نشاطات الجماعة القاديانية في لندن أنها تمتلك قناة تلفزيونية خاصة، وقد وافقت الحكومة الإنجليزية على إنشاء هذه القناة الخاصة تقديراً لدور القاديانية في وقوفها إلى جانب الاستعمار الإنجليزي في الهند ودعوة القاديانية إلى إلغاء فريضة الجهاد الإسلامي، وهذه القناة التلفزيونية تبث بأكثر من خمسة عشر لغة مختلفة في أنحاء العالم منها اللغة العربية، وتغطي العالم كله برامجها الداعية لمذهبها الخارج عن الإسلام ومن العجيب أن اسمها القناة الإسلامية. وللقاديانية نشاط معروف مع الصهاينة، فقد أسس المركز القادياني في حيفا عام 1923م، ويضم المركز مكتبة عامة ومكتبة تجارية ومدرسة ومسجداً للقاديانية، ومقراً للبعثة القاديانية، وقام المركز بترجمة معظم مؤلفات مجلة شهرية باسم البشري باللغة العربية. ومن المعروف أن ميرزا بشير الدين محمود أقام في فلسطين سنة 1924م بعد صدور وعد بلفور سنة 1917م بإنشاء دولة إسرائيل في قلب فلسطين غير الأحمدي (أي القادياني). ومن المعروف أيضاً أن بشير الدين محمود أيد إقامة دولة عبرية صهيونية في فلسطين العربية. المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص77، 78 ومما لا ريب فيه أن هذه الأعمال التي قام بها القاديانيون وهذا النشاط الذي أبداه هؤلاء في نشر باطلهم، يحتاج ضرورة إلى أعمال خيرة تقابله وتصده، وإلا لكان المجال مفتوحاً أمام هؤلاء الذين ازداد نشاطهم أكثر مما ذكر سابقاً، وزاد طمعهم في بلدان المسلمين، والاستحواذ على شباب المسلمين، خصوصاً والأوضاع الداخلية تساعدهم على ذلك كثيراً في ظل الحكام الذين هم رؤوس حراب فوق الشعوب الإسلامية. فإن كثيراً من حكام الدول الإسلامية لم يبق فيهم ما يتفاءل به الإسلام والمسلمون، لأنهم إن لم يبدءوه بالحرب كان أقل ما فيهم نحوه الاستهتار بمبادئه وإظهار الجفاء لتعاليمه والتقطيب في وجوه من يمثلونه؛ لأن هؤلاء لا يثمنون عند عتاة الكفر والإلحاد إلا بقدر ما يهدمون من تعاليم الإسلام. أما عن مواطن انتشارهم فإن معظم القاديانيين يعيشون الآن في الهند وباكستان وقليل منهم في إسرائيل والعالم العربي ويسعون بمساعدة الاستعمار للحصول على المراكز الحساسة في كل بلد يستقرون فيه. المصدر: الموسوعة الميسرة ولهم مراكز في أمريكا، وأوربا، وأفريقيا، كما أن لهم مراكز متعددة منها مراكز في الكويت، والبحرين، ومسقط، ومصر، ودبي، والشارقة والأردن، وسوريا. ومركزهم الرئيس في باكستان في منطقة سموها الربوة، كذلك لهم معابد في ألمانيا في مدينة فرانكفورت. المصدر: رسائل في الأديان للحمد - ص310   (1) انظر: ((أباطيل القاديانية في الميزان)) (ص106 - 108). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 80 المبحث الرابع: أهم عقائد القاديانية وأفكارها • المطلب الأول: التناسخ والحلول . • المطلب الثاني: التأويل. • المطلب الثالث: إلغاء الجهاد. • المطلب الرابع: استمرار الوحي والنبوة وتأويل معنى ختم النبوة. • المطلب الخامس: مجمل عقيدة القاديانية. • المطلب السادس: علاقتهم بالإسلام والمسلمين وغير المسلمين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 81 المطلب الأول: التناسخ والحلول نجد جذور فكرة الحلول لدى النصارى الذين يقولون بأن الله تعالى حل في المسيح الإنسان ليتكون المسيح الإله من طبيعتين، وهي فكرة اتحاد اللاهوت والناسوت، أو حلول اللاهوت في الناسوت. وقد تأثر بهذه الفكرة بعض غلاة الشيعة مثل الدروز الذين يقولون بحلول الله تعالى في شخص الحاكم بأمر الله، والنصيرية الذين يدعون حلول الله تعالى في علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وغلاء الشيعة الذين يزعمون حلول الله تعالى في جعفر الصادق، رضي الله عنه، ومن غلاة الصوفية الحلاج صاحب المقولة الشهيرة عنه: "أنا الحق". ومفهوم الحلول عند هؤلاء أن الله سبحانه وتعالى حل في بعض خلقه وامتزج به بحيث تلاشت الذات الإنسانية في الذات الإلهية، فصارتا متحدتين غير منفصلتين. أما التناسخ: فهو انتقال الروح بعد الموت من جسد إلى آخر، وقد يكون التناسخ من جسم إنساني إلى جسم آخر إنساني أو حيواني أو نباتي من إنسان إلى جماد. وقد يُعرف التناسخ بأنه تجوال للروح أو تكرار للمولد، والهدف من تكرار المولد في زعم القائلين بالتناسخ تطهير روح الإنسان من أرجاسها وأدرانها، وقد ترتب على القول بالتناسخ القول بعدم انقطاع النبوة لأنه بموت الرسول لا تنقطع الرسالة، لحلول روح الرسول في بدن شخص آخر يحمل رسالة الرسول الذي مات. ولعلنا نستطيع أن نفهم الآن العلاقة القوية بين الحلول والتناسخ، فالقول بالتناسخ يؤدي إلى القول بالحلول. والحقيقة أننا نجد في كتابات المرزا غلام أحمد نصوص واضحة تؤكد القول بالحلول والتناسخ وزعم أن الله حلَّ روح عيسى في روحه، ثم مضى مئات الأفراد تحققت فيهم الحقيقة المحمدية. المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص61، 62 وعلى هذا الاعتقاد الفاسد قرر أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد ولد بعادته وفكرته ومشابهته القلبية بعد وفاته بنحو ألفي سنة وخمسين، في بيت عبد لله بن عبد المطلب وسمي بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومثل هذه الولادة حصلت لعيسى عليه السلام حينما ظهر بمظهر القادياني أيضاً. وأن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم بعث مرتين - كما صرح القاديانيون بذلك - بعثته الأولى وبعثته الأخرى حينما حلت روحانيته في القادياني نفسه. وفي هذا يقول القادياني: (إن مراتب الوجود دائرة، وقد ولد إبراهيم بعادته وفطرته ومشابهته القلبية بعد وفاته بنحو ألفي سنة وخمسين، في بيت عبد الله بن عبد المطلب وسمي بمحمد صلى الله عليه وسلم) (1).وقال أيضاً: (وتحل الحقيقة المحمدية وتتجلى في متبع كامل) (2).وقد مضى مئات الأفراد تحققت فيهم الحقيقة المحمدية وكانوا يسمون عند الله عن طريق الظل محمداً وأحمد) (3). ويقصد بطريق الظل أنهم أشباح للرسول محمد صلى الله عليه وسلم على طريقة التأويلات الباطنية.   (1) ((ترياق القلوب)) (ص155). (2) يقصد بالمتبع الكامل نفسه. (3) ((آئينة كمالات إسلام)) (ص346)، المصادر عن ((ما هي القاديانية)). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 82 ويجاب عن هذا بقول الله تعالى: أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم:78] فمن الذي أخبره بأن هؤلاء الأظلة هم عند الله محمد وأحمد. ويقول عن حلول شخصية المسيح ابن مريم في شخصه، هو حين أرسله الله: (إن الله أرسل رجلاً كان أنموذجاً لروحانية عيسى، وقد ظهر في مظهره وسمي المسيح الموعود؛ لأن الحقيقة العيسوية قد حلت فيه. ومعنى ذلك أن الحقيقة العيسوية قد اتحدت به) (1).ثم يقول: وقد مضى مئات من الأفراد تحققت فيهم الحقيقة المحمدية، وكانوا يسمون عند الله عن طريق الظل محمد وأحمد" (2). وفي نفس الكتاب يزعم غلام أحمد أنه قد أعطي نصيباً من الصفات التي كانت للأنبياء، وأن الله تعالى أراد أن يتمثل جميع الأنبياء في شخصه فيقول: "لقد أُعطيتُ نصيباً من جميع الحوادث والصفات التي كانت لجميع الأنبياء .. .. ولقد أراد الله أن يتمثل جميع الأنبياء والمرسلين في شخص رجل واحد، وإنني ذلك الرجل" (3).ويزعم أنه يوحى إليه من السماء، وأن لسانه ينطلق بكلمات عي من صنع الله تعالى فيقول في الخطبة الإلهامية: "أوحى الرب صباح عيد الأضحى إبريل 1900م أن أخطب اليوم بالعربية، وقد وهبتم القوة على ذلك، وأيضاً أوحى إلي بكلام عربي، كلام أفصح عن لدن رب كريم، فعندئذ قمت لصلاة العيد للخطاب بالعربية، والله يعلم أنني أعطيت قوة من الغيب وكان لساني ينطلق بخطاب عربي فصيح يفوق كل ما أملك من قوة .. .. وسبحان الله إن عينا نضاحة من الغيب كانت تتدفق عندئذٍ ولم أكن أشعر عندئذٍ أنني أنا أتكلم أم ملك من الملائك يصرن أعنة لساني، لأنني أعرف أن قوة غيبية تسيطر على مداركي، ولم ينطلق لساني إلا بكلمات هي من صنع الله عز وجل، وكانت كل جملة آية بينة من بينات الله، وهذه معجزة تجلى فيها الله تعالى وليس لأحد أن يأتي لها مثيل" (4). المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص62،63 وهذه العقيدة المجوسية - أي عقيدة التناسخ - إنما تأثر بها لأمور: منها: بعده عن الدين وعن الحقائق التي ذكرت فيه لمصير الروح بعد الموت. ومنها: مجاورته للهندوس وميله إليهم في هذا المبدأ خصوصاً وأنه يحقق لهم مكاسب، في أولها هذه العقيدة التي تسبغ عليه شخصية المسيح وشخصية محمد عليهما الصلاة والسلام. فلا عجب بعد ذلك في تأكيده لعقيدة الحلول والتناسخ (5) بين البشر، بل الأدهى والأمرُّ من ذلك أنه ادعى حلول الله عز وجل فيه؛ حيث قال: (إن الله أُنْزِل فيَّ وأنا واسطة بينه وبين المخلوقات كلها) (6). المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 814 المبحث الثاني: التشبيه: ولقد زاد على جهله بحق الأنبياء الجهل بحق الله عز وجل؛ فها هو يثبت أن الله قال له: (أنت مني بمنزلة أولادي). تعالى الله عن هذا المعتقد الجاهلي فإن الله تعالى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فهو منزه عن الصاحبة والولد: إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:93 - 95]. بل هو قول عظيم جداً: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا [مريم:90]   (1) ((آئينة كمالات إسلام)) (ص180)، المصادر عن ((ما هي القاديانية)). . (2) ([16103]) مرزا غلام أحمد: ((آئينة كمالات إسلام))، (ص344، 346). (3) ([16104]) مرزا غلام أحمد: ((آئينة كمالات إسلام)) (ص89، 90). (4) ([16105]) مرزا غلام أحمد: ((الخطبة الإلهامية)) (ص1، 2). (5) انظر: ((القادياني والقاديانية)) (ص74 - 75). (6) ((كتاب البرية)) (ص75) للغلام. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 83 ولقد أخبر الله أن كل من نسب إلى الرحمن ولداً فإنه كاذب، كما قال تعالى: أَلا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الصافات:151 - 152]. ومن حكم الله عليه بأنه كاذب فقد استحق المقت وعدم الالتفات إلى قوله؛ فإن المؤمن لا يكون كذاباً، لا يستحله ولا يستمر عليه إلا من مقته الله. ولهذا فإن خطاب الله له بقوله: (اسمع يا ولدي) ونسبة هذا الفجور إلى وحي الله - جريمة كبرى وكلام لم يقله نبي من الأنبياء ولا ذُكِرَ في كتاب من الكتب المنزلة، ولم يقل به إلا الجهال الذين يقولون المنكر والزور. وقول القادياني: إن الله خاطبه بقوله: يا شمس يا قمر؛ فمعاذ الله أن يصدر هذا من الله عز وجل، وإنما هذا قول الفارغين العاطلين عن المعرفة، وليس هناك ما يدعو إلى هذا الغزل، فإنه لم يؤت جمال يوسف ولا بهاءه، ومع ذلك لم يوصف يوسف بمثل هذا الوصف فأين القادياني وأين الشمس والقمر؟!. ثم ذكر القادياني تعبيراً مجوسياً وثنياً جل الله عنه؛ حيث زعم أن الله ألهمه: أنت من مائنا وهم من فشل!! كبرت كلمة تخرج من فمه كذباً وزوراً وتنزه الله عن كل نقص: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18]، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19]، إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93]. المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 806، 807 كما أن للقادياني أقوالاً كفرية في وصف الله تعالى؛ فهو يزعم أن الله قال عن نفسه جل وعلا: بأنه يصلي ويصوم ويصحو وينام، وأنه يخطئ ويصيب. قال القادياني: (قال لي الله: إني أصلي وأصوم وأصحو وأنام) (1). وقال أيضاً: (قال الله: إني مع الرسول أجيب؛ أخطئ وأصيب، إني مع الرسول محيط) (2).ويبلغ منتهى التشبيه والتجسيم حين زعم أنه رأى في الكشف أنه قدم أوراقاً كثيرة إلى الله تعالى ليوقع عليها ويصدق على طلباته التي اقترحها؛ فوقع الله عليها بحبر أحمر، وكان عنده - كما يزعم - في وقت الكشف رجل من مريديه اسمه عبد الله، ثم نفض الرب القلم فسقطت منه قطرات الحبر على أثوابه وأثواب مريده، وحينما انتهى الكشف رأى - كما يكذب - بالفعل أن أثوابه وأثواب عبد الله لطخت بتلك الحمرة (3).وقد وصف الله تعالى بأنه مثل الأخطبوط على طريقته البدائية؛ حيث قال: نستطيع أن نفرض لتصوير وجود الله تعالى بأنه له أياد وأرجل كثيرة، وأعضاءه بكثرة لا تعد ولا تحصى، وفي ضخامة لا نهاية لطولها وعرضها، مثل الأخطبوط له عروق كثيرة امتدت إلى أنحاء العالم وأطرافه (4). بل يصف القادياني إله العالمين بصفات في غاية القبح والشناعة، ننزه عن ذكرها أسماع وأبصار طلاب العلم؛ كلها تدور حول الجنس والولادة على طريقة الباطنية وغلاة التشبيه والتجسيم، بل وعلى طريقة النصارى الذين ادعوا أن لله ولدا (5) ً. وفي صراحة تامة يصرح الغلام بأن الله له فم - تعالى الله عن قوله - ينفخ به الصور تأييداً لدعوته المشئومة، حيث قال: (ستؤسس جماعة وينفخ الله الصور بفمه لتأييدها، وينجذب إلى هذا الصوت كل سعيد ولا يبقى إلا الأشقياء الذين حقت عليهم الضلالة وخلقوا ليملئوا جهنم) (6).   (1) ((البشرى)) للقاديانى (2/ 97). (2) ((البشرى)) للقاديانى (2/ 97). والمصادر عن ((القادياني والقاديانية)) (3) ((ترياق القلوب)) (ص33) حقيقة الوحي للقادياني (ص255)، كلاهما للغلام. (4) ((توضيح المرام)) للقادياني (ص75). (5) انظر: ((القاديانية)) لإحسان إلهي ظهير رحمه الله تعالى (ص99 - 100) وعنها أخذت تلك المصادر. (6) ((براهين أحمدية)) (5/ 82). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 84 لقد وصل في تشبيه رب العالمين إلى مثل ما وصل عتاة التجسيم والتشبيه؛ مثله مثل هشام بن الحكم الرافضي وغيره، ممن ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يظن أنه يحسن صنعاً. وأغلب الظن أن الغلام كان متأكداً من حركته، بأنه لم يحسن فيها صنعاً، ولكن غلبته شهوته وحبه الزعامة. ولقد شبه الله بإنسان له قصر، فيه باب يمنع الداخلين إلا بإذنه. قال في ضميمة الوحي: (ولا يوصل إلى قصر الله وبابه إلا هذا الدين الأجلى) (1). ومما لا ريب فيه أن من تصور أن الله تعالى يصلي ويصوم، أو يفعل غيرهما من العبادة أنه لا حظَّ له من العقل فضلاً عن الدين، فلمن يصلي ويصوم الرب عز وجل؟ ‍ ومن الذي كلفه بهذه التكليفات؟ ‍ تعالى الله عن هذا المعتقد الجاهلي البدائي. وأما كونه عز وجل يلحقه النوم والصحو، والخطأ والصواب، وغير ذلك من صفات النقص التي تحل بالبشر لنقصهم وافتقارهم إلى ذلك، فإن الله تعالى هو الخلاق العظيم، والقوي العزيز، يعلم ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى. وورد في الحديث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام)) (2). وهو حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، لا يكون إلا ما أراد، تنزه سبحانه عن الخطأ لأنه محال عليه عز وجل لنفاذ علمه بكل شيء. ووصْفُه تعالى بالتوقيع والكتابة، أو أنه مثل الأخطبوط، أو أن له ولداً كل هذه الأوصاف إنما يطلقها على الله تعالى من خرج عن الحق واتبع هواه وأفسد عقله قرناء السوء من الجن والإنس، وصار أضل من الأنعام واتخذ دينه لهواً ولعباً وفضل العقائد الوثنية والخرافية على دين الإسلام، فانسلخ منه وأضله الله على علم. نعوذ بالله من الزيغ والضلال. المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 815 - 817   (1) ((ضميمة الوحي)) (ص19). (2) أخرجه مسلم (1/ 162). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 85 المطلب الثاني: التأويل يعرف الجرجاني التأويل بأنه صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله إذا كان المحتمل الذي يراه موافقاً بالكتاب والسنة، مثل قوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الميت [الأنعام:95] إن أراد به إخراج الطير من البيضة كان تفسيراً، وإن أراد إخراج المؤمن من الكافر أو العالم من الجاهل كان تأويلاً (1). وهذا يعني أن التأويل يقصد به صرف الكلام عن ظاهره إلى معنى يحتمله. وأصل التأويل في اللغة بمعنى التفسير، وقد دعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لابن عباس، رضي الله عنه، فقال: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)) (2). ولا خلاف بين علماء أهل السنة والجماعة في قبول التأويل الصحيح وهو تأويل الأمر بعمل المأمور به، وتأويل النهي بترك المنهي عنه، أما التأويل الذي يخالف الكتاب والسنة ويؤدي إلى تحريف الكلم عن مواضعه فهذا هو التأويل المذموم المنهي عنه. وأيضاً من التأويلات الفاسدة المرفوضة عند علماء أهل السنة والجماعة ما يسمى بالتأويل الرمزي وفيه يؤول الباطنية والفلاسفة وغلاة الصوفية وغلاة الشيعة النصوص تأويلات باطنية غير صحيحة على الإطلاق. من نماذج تأويل زعماء القاديانية للقرآن الكريم يعد محمد على صاحب ترجمة القرآن للغة الإنجليزية من أبرز زعماء القاديانية وهو زعيم الفرع اللاهوري الذي يقول بأن المرزا غلام أحمد لم يدعِ النبوة، وإنما هو في زعمه مجدد القرن الرابع عشر الهجري، وهو مسيح هذه الأمة، وفي كتابه (بيان القرآن) يقدم تفسيراً وتأويلاً منحرفاً لمعاني القرآن الكريم. يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي: "يغلب على محمد على اتجاه تفسير المعجزات والأمور الغيبية التي تتعلق بقدرة الله الواسعة بالأمور الطبيعية والحوادث العادية التي تتفق مع النواميس الطبيعية والتجارب اليومية وهو يبالغ في ذلك ويغرق في التأويل، ولو أبت ذلك اللغة الصريحة، واللفظ الصريح، وهو أسلوب لبق من أساليب إنكار المعجزات والأمور الغيبية والفرار من الإيمان بالغيب والاعتماد على قدرة الله وصفاته وأفعاله، والخضوع الزائد للمقررات الطبيعية التي لا تزال في دور التحول والتطور، وهذا تفكير خطير على الإسلام، ومعارضته للدين الذي يطلب الإيمان بالغيب" (3).ويقدم الأستاذ أبو الحسن الندوي نماذج لتأويلات محمد على زعيم الفرع اللاهوري من الطائفة القاديانية من خلال كتاب محمد على (بيان القرآن) فينقل عنه تفسيره لبعض الآيات الذي يظهر من خلالها تأويلاته المنحرفة لآيات الله تعالى، فمثلاً إنه يفسر قوله تعالى في مسألة طائفة من بني إسرائيل عبدت العجل وعاقبها الله بأن يقتل بعضها بعضا، يقول الله تعالى: َ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ [البقرة:54]، يقول: "إن المراد بالقتل عنا إماتة الشهوات وهذا الذي أرجحه بناءً على السياق السابق" (4).ومن هذا يتضح لنا مدى التعسف في تأويل آيات كتاب الله تعالى تأويلاً يخرجه عن معناه الحقيقي وهذا منهج باطني واضح في تأويل القرآن الكريم، وصدق الأستاذ أبو الحسن الندوي حين قال عن تفسير محمد على: "ما هذه التفسيرات المتطرفة إلا نسخة صادقة لتفسيرات الباطنية والإسماعيلية في العصور الماضية" (5).   (1) [16116] الجرجاني: ((التعريفات)) (ص43) , (2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده. (3) أبو الحسن الندوي: ((القادياني والقاديانية)) (ص147) (4) أبو الحسن الندوي: ((القادياني والقاديانية)) (ص147 - 155) (5) أبو الحسن الندوي: ((القادياني والقاديانية)) (ص156). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 86 ومن أبرز تأويلات مرزا غلام أحمد الفاسدة أنه لما اعترض عليه العلماء في زعمه أنه المسيح الموعود وقالوا له: إن أحاديث نزول المسيح التي يرددها ويحتج بها تنص على أن المسيح ينزل وعليه رداءان أصفران. فأوّل الحديث تأويلاً باطلاً عجيباً حين قال: "المراد بالرداء الأصفر: العلة، وقد جاء في الحديث أن المسيح ينزل وعليه رداءان أصفران وهذا شأني، فإنني أعاني من علتين: إحداهما: في مقدم جسمي وهو الدوار الشديد، الذي قد أخرُّ به إلى الأرض، وأخاف به على نفسي. والعلة الثانية: في أسفل الجسم وهي كثرة البول" (1). وبالطبع فهذا تأويل ظاهر البطلان والفساد ولا يقول بهذا التأويل إلا من انتابته الأمراض النفسية والقلبية والجسمية، وهو يعترف بذلك فيقول عن نفسه: "إنني أعاني علتين من مدة طويلة، إحداهما الصداع الشديد الذي أعالج منه الشدة والكرب والأهوال الشديدة، وقد زال وبقي الدوار الذي ينتابني بعض الأحيان، والعلة الثانية مرض السكر الذي أعانيه منذ عشرين سنة".ومن التأويلات الباطلة التي يحاول من خلالها تأويل النص القرآني لصالح دعواه النبوة، تأويله لقول الله تعالى: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6]. فقال: "إن الآية مبشراً برسول ومصداقها السيد المسيح الموعود المرزا، وهو المقصود باسم أحمد في هذه الآية" (2). وقال في تأويله لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33]."وردت هذه الآية في شأن المسيح الموعود، وقد نص بها منذ الأزل إعلاء حجة الإسلام الأرفع التي تنخفض لديها سائر الأصوات، وقدر منذ قديم الأيام أن يكون قدم المسيح الموعود على المنارة العليا التي لا تعلوها بناية أخرى" (3). ومن أعجب التأويلات تأويل القاديانية لمكة والمدينة بأنهما قاديان!!.يقول محمود أحمد بن غلام أحمد وخليفته الثاني في جريدة الفضل في 5 يناير، سنة 1933م: " .. .. أما إلهام حضرة المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام بأننا نموت في مكة أو في المدينة فنقول: إن هذين الاسمين لقاديان" (4).ويقول في تأويل قوله تعالى: وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97]، إن هذه الآية تنعت المسجد الذي أسس في قاديان. ويقول: "إن المراد بالمسجد الأقصى في قوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ُ [الإسراء:1] هو مسجد قاديان" (5). المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص64 - 68   (1) مرزا غلام أحمد: ((براهين أحمدية)) (ص201). (2) مرزا غلام أحمد: ((قادياني مذهب)) (ص620). (3) مرزا غلام أحمد: ((الخطبة الإلهامية)) (ص5). (4) أبو الأعلى المودودي: ((ما هي القاديانية)) (ص520). (5) أبو الأعلى المودودي: ((ما هي القاديانية)) (ص520)،. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 87 المطلب الثالث: إلغاء الجهاد لعل أبرز مبادئ القاديانية الدعوة إلى إلغاء الجهاد، بل إن المرزا غلام أحمد كان يفتخر بدعوته إلى عدم الجهاد فيقول: "إن الفرقة الإسلامية التي قلدني الله إمامتها وسيادتها تمتاز بأنها لا ترى الجهاد بالسيف ولا تنتظره بل إن الفرقة المباركة لا تستحل سراً كان أو علانية وتحرمه تحريماً باتاً" (1).ويعتقد القاديانيون بنسخ الجهاد اتباعاً لأوامر نبيهم المزعوم مرزا غلام القادياني الذي يقول: "إن مبادئي وعقائدي وتعليماتي لا تحل أي طابه من المحاربة والعدوان، وأنا متأكد من أن أتباعي كلما زاد عددهم قل عدد القائلين بالجهاد المزعوم، لأن الإيمان بي كمسيح ومهدي معناه رفض ذلك الجهاد" (2). المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص68 ولم يدع القادياني أسلوباً إلاّ اتبعه للدفاع عن فكرة تحريم الجهاد التي خدمت الاستعمار أيما خدمة إذ يقول مرزا غلام أحمد في هامش كتابه (الأربعين): إن الله تعالى لم يزل يخفف شدة الجهاد ـ أي الحروب الدينية ـ وقد بلغت شدته في عهد موسى عليه السلام إلى أن الإيمان كان لا ينجلي عن القتل حتى كان الرضع يقتلون أيضاً. ثم حرم قتل الأطفال والشيوخ والنساء في عصر نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم تقرر قبول الجزية بدل الإيمان للتخلص من القتل، ثم نسخ الجهاد قطعاً في عهد المسيح الموعود (أي في عهد المرزا حسب زعمه). ووصلت دعوتهم إلى بلاد إسلامية أخرى، مثل أفغانستان التي انبرى فيه اثنان من القاديانية هما نعمة الله خان وعبد اللطيف للدعاية ضد الجهاد حتى يمهدا الطريق لسيطرة الإنجليز على أفغانستان، وقد أفتى علماء أفغانستان قاطبة بردة هذين القاديانيين فقتلا، وكان ذلك في عهد الأمير أمان الله خان. وليت الأمر اقتصر على هذا الحد من عدم الدعوة إلى الجهاد، بل لقد قال ميان محمود أحمد في خطبة الجمعة التي نشرتها صحيفة الفضل القاديانية (27/ 5/1919) "إن إعلان كابول ـ أي أفغانستان ـ الحرب ضد الإنجليز - وفي عهد الشاه أمان الله خان - جهالة، وعلى الأحمديين أن يخدموا الحكومة البريطانية، لأن طاعتها فريضة علينا، وحرب أفغانستان لها حيثية جديدة بالنسبة للأحمديين، لأن أرض كابول قتل فيها نفوسنا الغالية ظلماً، وقد قتلوا بلا ذنب. وكابول بلد يمنع فيه تبليغ الأحمدية، وقد أغلقت عليه أبواب الصدق. ولإقامة الصدق يجب على الأحمديين أن يزيلوا هذه الحواجز الظالمة، وذلك عن طريق تجندهم في الجيش الإنجليزي ونصرة بريطاينا، فاسعوا لكي تنبت تلك الفروع بأيديكم التي أخبر عنها المسيح الموعود". العراق وبغداد: عندما عزم الإنجليز الاستيلاء على العراق وقام بزيارتها (لارد هاردنك) لهذا الغرض، علقت على زيارته الصحيفة القادياينة الشهيرة (الفضل) قائلةً: (لا شك أن زيارة هذا الضابط الطيب القلب سوف يسفر عن نتائج طيبة، ونحن راضون بهذه النتائج، لأن الله يهب الملك وزمام الدنيا لمن يريد خيراً لخلقه، ويفوض حكم الأرض إلى من يكون له أهلاً، ونقول مرةً ثانية بأننا فرحون، لأن كلمة ربنا سوف تتحقق، ونرجو أن يتسع لنا مجال الدعوة بتوسع الدولة البريطانية، فندخل المسلم في الإسلام مرةً ثانيةً كما ندخل غير المسلم في الإسلام). وبعد ثماني سنوات من هذا الحادث استولى الإنجليز على بغداد بعد هزيمة أهلها، فكتبت صحيفة الفضل القاديانية: (قال حضرة المسيح الموعود ـ المرزا ـ لهؤلاء العلماء أن لا يقاوموا هذا السيف فلماذا لا نفرح معشر الأحمديين بهذا النصر؟ [أول حاكم قادياني على العراق:]   (1) المرزا غلام أحمد: ((ترياق القلوب)) (ص322). (2) المبشر القادياني منير الحصني: ((المودودي في الميزان)) (ص20). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 88 وكان لموالاة القاديانيين للإنجليز نصيب وافر في سقوط بغداد حيث إنه لما احتل الإنجليز (العراق) عينوا أول حاكم على (العراق) ميجر حبيب الله شاه - شقيق زوجة مرزا بشير الدين محمود ـ وكان ميجر حبيب الله شاه قد تجند في الحرب العالمية الأولى، وذهب إلى (العراق) وكان يشتغل طبيباً في الجيش. ومن خدمات المرزا للاستعمار انه عندما أفتى أهل الحق من العلماء بأن الهند دار حرب استغلَّ المرزا هذه الفتوى لخدمة مولاه الاستعمار، فأرسل إلى الحكام البريطانيين نشرةً أرشدهم فيها إلى أنه يمكن التمييز بين المسلمين " أصحاب النيات الفاسدة " الذين يرون الهند دار حرب وبين المخلصين للحكومة بحضور صلاة الجمعة، هكذا جعل بشطارته الجمعة المقدسة وسيلةً للتمييز بين من يدين للحكومة الاستعمارية وبين من لا يدين لها. ثم قام المرزا بجمع أسماء الذين اعتبروا الهند دار حرب، وقدمها إلى الحكومة، وقد ذكر هذه العملية الجاسوسية بكل فخر واعتزاز قائلاً: لما كان من المصلحة أن تنشر أسماء أولئك المسلمين الذين لا يفهمون، ويعتبرون الهند دار حرب في أنفسهم، ونصحاً للحكومة الإنجليزية اخترنا هذه القائمة حتى تبقى فيها أسماء من لا يعرف الحق محفوظةً عندنا كسياسة سرية. ثم استطرد قائلاً: نحن سجلنا أسماء هؤلاء الأشرار لأجل النصح السياسي لهذه الدولة المحسنة، وهذه الخرائط محفوظة عندنا كالسياسة السرية. ثم ذكر أعداد الخرائط مع أسماء هؤلاء وعناوينهم وعلاماتهم وأرسلها إلى الجهات المختصة. المصدر: مقال ألف خيانة وخيانة للقاديانية في القارة الهندية - موقع فيصل نور الجزء: 10 ¦ الصفحة: 89 المطلب الرابع: استمرار الوحي والنبوة وتأويل معنى ختم النبوة أول القاديانيون معنى قول الله تعالى: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب:40]. معنى خاتم النبيين عندهم أي طابعهم، فيزعمون أن كل نبي يظهر الآن بعده، فإن نبوته تكون مطبوعة بخاتمه، صلى الله عليه وسلم, يقول محمد منظور إلهي القادياني في كتابه (ملفوظات أحمدية) (ص290): "المراد بخاتم النبيين أنه لا يمكن أن تصدق الآن نبوة أي نبي من الأنبياء إلا بخاتمه صلى الله عليه وسلم، وكما أن كل قرطاس لا يكون مصدقاً مؤكداً إلا حين يطبع عليه بالخاتم، فكذلك كل نبوة لا تكون مطبوعاً عليها بخاتمه وتصديقه، صلى الله عليه وسلم، تكون غير صحيحة" (1).وجاء في جريدة الفضل القاديانية في عددها الصادر في 22 مايو 1922م: "الخاتم هو الطابع، فإذا كان النبي، صلى الله عليه وسلم، طابعاً، فكيف يكون طابعاً إذا لم يكن في أمته نبي" (2).ويفسر القاضي القادياني آية "خاتم النبيين" بأنه أفضل الأنبياء وأكبرهم درجة ومرتبة، والآية في زعم القاديانية لا تدل أبداً على انقطاع النبوة، يقول في القول الصريح: "إن الآية المذكورة لا تدل مطلقاً على انقطاع النبوة، بل تدل على بقائها لأن كمال النبي لا يتحقق إلا بكمال الأمة وفضيلة الأستاذ لا تظهر إلا بفضل التلميذ .. وإن أصر أحد على أنه بمعنى آخر زمانا فيمكننا أن نجعله مطابقاً للمعاني الأخرى بكل سهولة ونقول: إن المراد من النبيين هم المشرعون والمستقلون، والنبي، صلى الله عليه وسلم، ختم النبوة التشريعية والمستقلة، لأنها موجودة قبله، وأما النبوة الغير مستقلة فما كانت موجودة قبله " (3).ويقول مرزا غلام أحمد: "نعني بالنبوة ختم كمالاتها على نبينا الذي هو أفضل رسل وأنبيائه، ونعتقد أنه لا نبي بعده إلا الذي من أمته ومن أكمل أتباعه الذي وجد الفيض كله من روحانيته وأضاء بضيائه" (4).ويقول أيضاً في تفسير "وخاتم النبيين": "إن الله جعل رسول الله خاتم النبيين بمعنى أنه أعطاه خاتم الإفاضة الكمال مما لم يعطه أحداً سواه، فلأجل ذلك سمي بخاتم النبيين، أي أن اتباعه يورث كمالات النبوة، وأن القدسية التي تصنع بالأنبياء لم يعطها نبي سواه" (5).ونقل الأستاذ أبو الأعلى المودودي في كتابه: (ماهي القاديانية) نصوصاً عديدة ذكرها المرزا غلام أحمد وجماعته توضح تأويلاتهم المختلفة لختم النبوة منها (6): التأويل الأول: "فإن كان الله كرم أحداً من هذه الأمة وسماه بالنبي إذا نال درجة الوحي والإلهام والنبوة بمجرد اتباع محمد، صلى الله عليه وسلم، فإن خاتم النبوة أي طابعها لا ينقض بذلك، لأنه لا يزال من أفراد الأمة الإسلامية، ولكن مما ينافي ختم النبوة ان يأتي نبي من غير الأمة الإسلامية". ويقول المرزا أحمد: "إن محمداً، صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء بمفهوم أنه قد تمت عليه كمالات النبوة، وأنه لا يأتي بعده رسول ذو شريعة جديدة، ولا نبي من غير أمته".   (1) أبو الأعلى المودودي: ((ما هي القاديانية)) (ص71). (2) أبو الأعلى المودودي: ((ما هي القاديانية)) (ص71). (3) نذير السيالكوتي القادياني: ((القول الصريح)) (ص175 - 177). (4) نذير السيالكوتي القادياني: ((القول الصريح)) (ص174). (5) ميرزا غلام أحمد: حقيقة ((الوحي)) (ص97). (6) أبو الأعلى المودودي: ((ما هي القاديانية)) (ص33، 35). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 90 التاويل الثاني: قال غلام أحمد في حقيقة الوحي: "قد جعل الله جل شأنه محمداً، صلى الله عليه وسلم، الخاتم أي أعطاه الخاتم فاضة الكمال، وذلك لم يؤته أحداً غيره، ولذلك سمي بخاتم النبيين، أي أن إطاعته تمنح كمالات النبوة، وأن التقاءه الروحي يصنع الأنبياء". التأويل الثالث: قال غلام أحمد في إرشاده المندرج في عدد جريدة الحكم الصادر في 17 أبريل من عام 1903م: "ومن حكمة الله ولطفه بالأمة المحمدية أن رفع عنها هذه الكلمة –النبوة - ثلاثة عشر قرناً بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لتتم عظمة نبوته، ثم لما كانت عظمة الإسلام تقتضي أن يكون في الأمة أفارد تطلق عليهم كلمة النبي بعده، صلى الله عليه وسلم، لتتم المشابهة بالسلسلة القديمة –أي سلسلة الأنبياء الموسويين –أجريت على لسانه، صلى الله عليه وسلم، كلمة "النبي" للمسيح الموعود في آخر الزمان". التأويل الرابع: يقول غلام أحمد في إزالة الخطأ: "أنا محمد، صلى الله عليه وسلم، بصفة ظلية، فلأجل هذا ما انفض هذا الخاتم - خاتم النبيين - لأن نبوة محمد، صلى الله عليه وسلم، بقيت على حالها منحصرة في محمد وحده، أي أن محمداً وحده هو النبي إلى الآن، وإذا كنت أنا محمداً بصفة تجسدية فأي رجل غيره يكون قد ادعى النبوة بصفة مستقلة؟ ". وهذه تأويلات باطلة فاسدة لختم النبوة، وقد وضع القاديانيون أدلة من القرآن والسنة على أن الوحي والنبوة، مستمران لا ينقطعان ابداً، وأوّلوا النصوص حسب هواهم. المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص 37 أدلتهم من القرآن الكريم: يقول تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى:51].يقول القاضي القادياني في كتابه (القول الصريح): "إن الله سبحانه وتعالى يوحي إلى غير الأنبياء بالطرق التي يوحي بها إلى الأنبياء لأن الله لم يقل: وكان لنبي بل قال: ما كان لبشر سواء كان نبياً أو غير نبي" (1).والحقيقة أنه ليس في هذه الآية أي دليل على وحي أو نبوة بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإنما قال ابن كثير في تفسيره: "هذه الآية في ذكر مقامات الوحي بالنسبة إلى جانب الله عز وجل" (2) فلا وحي ولا نبوة بعد محمد، صلى الله عليه وسلم. وهكذا يزعم القاضي القادياني أن باب النبوة لا زال مفتوحاً أمام البشر ويذكر أن الله تعالى يقول: وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69].ويفسر الآية - كما أشرنا من قبل - بأن معناها "أن الذي يطيع الله ومحمداً، صلى الله عليه وسلم، فعلى قدر إطاعته يكون من الصالحين أو الشهداء أو الصديقين أو النبيين، فهي تصريح جليٌّ أن النبوة باقية في الأمة المحمدية" (3).وطبيعي أنه ليس في الآية دليل قط على استمرار النبوة بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإنما مقصود الآية كما ذكر ابن كثير: "إن مَنْ عمل بما أمره الله ورسوله، وترك ما نهاه الله عنه ورسوله، فإن الله عز وجل يسكنه دار كرامته ويجعله مرافقاً لمن ذكر في الآية" (4). فالآية لا تدل أبداً على أن النبوة مستمرة كما ادعى القاديانيون.   (1) نذير السيالكوني القادياني: ((القول الصريح في ظهور المهدي والمسيح)) (ص166). (2) ابن كثير: ((تفسير القرآن العظيم)) (4/ 121). (3) نذير السيالكوني القادياني: ((القول الصريح في ظهور المهدي والمسيح)) (ص197). (4) ابن كثير: ((تفسير القرآن العظيم))، (1/ 522). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 91 ويقول أيضاً: "إن الله تعالى يقول في كتابه العزيز: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ [غافر:15] يقول: المراد من الروح في الآية الوحي أو روح القدس، والآية تصرح بأن النبوة باقية، لأن صيغة يلقى تدل على الاستمرار، فكما أن الله تعالى أخبر بنزول الملائكة في المستقبل كذلك بالإنذار، والإنذار من صفة الرسل" (1). وهذا فهم خاطئ وتأويل باطل للآية، فالآية تبين لنا بوضوح تام أن الله تعالى يختص من يشاء ليكونوا أنبياء ورسلاً يبلغون رسالة الله في الأرض، وقد ختم الله تعالى الرسالات، بمحمد، صلى الله عليه وسلم. وفي قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الجمعة:2 - 3].يقول القاضي القادياني في كتابه (القول الصريح): "إن قوله تعالى: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ [الجمعة:3] يدل على أن البعثة الثانية للنبي، صلى الله عليه وسلم، في الآخرين الذين يأتون بعد من الصحابة تكون منهم لا من غيرهم، ومعلوم أن النبي لا يبعث بذاته مرة ثانية، فليس المراد إذاً إلا المسيح الموعود بكونه نبياً في الآخرين باسم النبي، صلى الله عليه وسلم" (2). وهذا تفسير باطل للآية، لأن ظاهر الآية واضح لكل ذي عينين، فالآية تشير بجلاء تام إلى أن الله تعالى بعث محمداً، صلى الله عليه وسلم، إلى الناس كافة يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2] فليس في الآية دليل على بعثة المسيح الموعود كما يزعم القاديانيون. ويقول في قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ٌ [المائدة:3] يقول: "معلوم أن النبوة هي أعظم نعمة من نعم الله، فلو كانت منقطعة لما كانت النعمة تامة، بل كانت ناقصة" (3). والحقيقة إن هذه الآية أكبر دليل على ختم النبوة، فالله سبحانه وتعالى أكمل برسالة الإسلام الدين، فلا دين بعده، ولا نبي بعده، لاكتمال الرسالة وختمها برسول الله، صلى الله عليه وسلم. الأدلة من السنة على استمرار النبوة في زعم القاديانيين: عن ابن عباس، رضي الله عنه: ((لما توفي إبراهيم ابن الرسول قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لو عاش لكان صديقاً نبياً)) (4).   (1) نذير السيالكوني القادياني: ((القول الصريح في ظهور المهدي والمسيح)) (ص199). (2) نذير السيالكوني القادياني: ((القول الصريح في ظهور المهدي والمسيح)) (ص201). (3) نذير السيالكوني القادياني: ((القول الصريح في ظهور المهدي والمسيح)) (ص203). (4) رواه ابن ماجه (1511) قال الحافظ في ((الإصابة)) (1/ 94): فى سنده أبو شيبة الواسطي إبراهيم بن عثمان وهو ضعيف. وكذلك قال السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (406) وقال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (220): ضعيف. وصححه في ((صحيح ابن ماجه)) (1236). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 92 يقول القاديانيون: إن هذا الحديث فيه دلالة واضحة على أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، ليس خاتم الأنبياء. والمسألة أن القاديانيين ليسوا بعلماء في الحديث النبوي، ولذا فهم لا يعرفون المطلق والمقيد والعام والخاص، فحديث: ((لو عاش - أي إبراهيم - لكان صديقاً نبياً)) (1) روي بروايات متعددة وحديث أنس عند ابن منده يحل الإشكال تماماً وهو: ((ولو بقي أي إبراهيم ابن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لكان نبياً ولكن لم يكن ليبقى، لأن نبيكم آخر الأنبياء)) (2)."ثم إن كل الأحاديث التي رويت بهذا المعنى علقت بصيغة شرطية، ولم يتحقق الشرط وهو عدم وفاة إبراهيم، فلم يتحقق الجواب، وهو أن يكون نبياً" (3). والأمر الآخر إن حديث ابن ماجة لا يصح لأن في سلسلة رجاله من لا يحتج به وهو إبراهيم بن عثمان الواسطي، قال البخاري: سكتوا عنه، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال ابن معين: ليس بثقة. وضعفه أحمد. إذن هذا الحديث لا يعتد به، بالإضافة إلى أن المسألة مشروطة بشرط لو عاش إبراهيم، ومن الجلي أنه مات في حياة أبيه، فهو شرط لم يتحقق. وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ((أبو بكر أفضل هذه الأمة إلا أن يكون نبي)) (4) رواه الطبراني. وهذا الحديث ضعيف، لأن من رواته إسماعيل بن أبي زياد، وهو لا يحتج به، قال عنه ابن حجر: "متروك كذبوه". وقال الذهبي: قال يحيى: كذاب. وقال أبو حاتم: مجهول. إن مأساة القاديانيين أنهم أخذوا الأحاديث الضعيفة والموضوعات وأولوها حسب هواهم ورغبتهم. المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص40،44 ومن الأدلة التي ساقها بشير محمود على عدم انقطاع النبوة: قول الله تعالى: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [الفاتحة:6 - 7] إلى آخر الأدلة، ثم قال: (يتبين لنا مما ذكرنا آنفاً من الآيات أن صراط الذين أنعمت عليهم هو الانضمام إلى طائفة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، إلى أن قال: (فلو كان عز وجل حرم علينا نعمة النبوة، لما علمنا بأن نلح في طلبها، ولما بشرنا بأن اتباع هذا النبي صلى الله عليه وسلم يشرف الإنسان بالنبوة) (5).ومعنى هذا الكلام؛ أنه يصح لكل مسلم أن يطلب النبوة، بل كل مسلم نبي؛ لأن بشير يقول في معنى الآية: (وهل من الممكن أنه عز وجل من ناحية يؤكدنا بطلب الصراط المستقيم صراط الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ومن ناحية أخرى يقول لنا والعياذ بالله: إنني حرمت عليكم هذه النعمة إلى الأبد؟ كلا) (6) إلخ كلامه. 6 - أن القول بانقطاع النبوة وختمها بمحمد صلى الله عليه وسلم ينافي حاجة الناس إلى الرسل والأنبياء التي هي دائمة الوجود بين الناس، وشهادة الله بإكمال الدين الإسلامي يجب التغاضي عنها لتصدق مزاعم القادياني. 7 - كما أن القول بختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم فيه اتهام لله بأنه نفذت خزائنه، وأنه لم يعد قادراً على إرسال الرسل - كما يزعم بشير محمود - ولكي لا نصف الله بالعجز يجب أن نثبت أن والده نبي ورسول!!   (1) رواه أحمد (3/ 133) (12381) قال الهيثمي في المجمع (9/ 162) رجاله رجال الصحيح (2) ((فتح الباري))، (10/ 579). (3) ((فتح الباري))، (10/ 579). (4) الطبراني كما في ((مجمع الزوائد)) (9/ 44). وابن عدي (5/ 276) وقال: عكرمة بن عمار هو مستقيم الحديث إذا حدث عنه ثقة. قال الهيثمي: فيه إسماعيل بن زياد وهو ضعيف. وقال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (1676) موضوع. (5) ((دعوة الأمير- معتقدات الجماعة الإسلامية)) (ص38). (6) ((دعوة الأمير- معتقدات الجماعة الإسلامية)) (ص25). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 93 حقا لقد كفر القاديانيون - وبكل جرأة - بما جاء عن الله في كتابه الكريم، وفيما قررته السنة النبوية من ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم وهي نصوص صريحة واضحة، تسلطت عليها الباطنية، من قاديانية وصوفية وبهائية، وغيرهم من فرق الضلال؛ فأولوها على حسب أهوائهم، بتأويلات في غاية الجهل والتكلف الشنيع، والله متم نوره ولو كره الكافرون. فإن الله تعالى يقول: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب:40]. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 94 فالآية صريحة وواضحة في معناها وفي دلالتها على انقطاع النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم. فجاء الدجاجلة كالقادياني وغيره وتسلطوا على معناها فأولوها تأويلات أجمع المسلمون على أنها باطلة، مثل تأويلاتهم السابقة لمعنى خاتم النبيين من أنه أفضلهم لا غير، أو تأويلهم لها بمعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم مثل الخاتم الذي يختم به على المعاملات الرسمية - المهر - من كونه زينة لهم وغير ذلك من المعاني الباطلة، أو زعمهم - حين رأوا ضعف ذلك التأويل السابق - أن معنى الآية هو إثبات أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين أصحاب الشرائع المستقلة، لا الأنبياء الذين لم يأتوا بشرائع مستقلة عن التي قبلها؛ بل جاءوا متممين ومكملين للشرائع مثل حال القادياني بالنسبة للشريعة الإسلامية، التي هي في حاجة إلى من يكملها كالقادياني وغيره. وهي أفكار لا تجد لها رواجاً إلا بين الجهال ومن قل خوفهم من ربهم، فآثروا الدنيا على الآخرة، أو من كان له هدف يريد تحقيقه من وراء هذه الحركات الهدامة، وفي شرح الآية هذه يقول بشير الدين محمود بن الغلام أحمد: (إن الخاتَم بفتح التاء معناه الآلة التي يختم بها وليس الانتهاء - الخاتم يتخذ للتصديق - ومعنى الآية إذاً أنه صلى الله عليه وسلم آلة الختم التي ختم بها جميع النبيين). إلى أن يقول: (والخلاصة أن هذه الآية لا تحظر النبوة التي ذكرناها آنفاً، ولكنها تنفي النبوة التشريعية أو النبوة المباشرة) (1).وفي قوله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [الأعراف:35] استنتج من هذه الآية عدم انقطاع النبوة؛ قال: ويتبين من هذه الآية أن الأنبياء سيبعثون في هذه الأمة أيضاً؛ لأن الله تعالى يذكر هنا الأمة المسلمة بأن الأنبياء إن بعثوا إليكم فعليكم أن تؤمنوا بهم، إلى أن يقول أيضاً: إن سلمنا أن (إما) للشرط فإنها مع ذلك تدل على أن النبوة غير منقطعة) (2).وبعد هذا الكذب على الله في معنى الآية يضيف كذباً آخر على النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات عدم انقطاع النبوة بعده صلى الله عليه وسلم؛ حيث أثبت أن المسيح نبي، قال: (وعلاوة على شواهد القرآن الحكيم يتبين من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً أن باب النبوة ليس بمسدود على الإطلاق، لأنه صلى الله عليه وسلم وصف المسيح الموعود بصفة النبي مراراً، ولو لم يمكن وجود النبوة مطلقاً لما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بصفة النبي) (3).   (1) ((دعوة الأمير- معتقدات الجماعة الإسلامية)) (ص34). (2) ((دعوة الأمير- معتقدات الجماعة الإسلامية)) (ص40). (3) ((دعوة الأمير- معتقدات الجماعة الإسلامية)) (ص40). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 95 وغريب جداً هذا الفهم القاصر لخليفة القادياني في زعامة القاديانيين؛ أن يستدل بإثبات النبوة لعيسى على استمرار تجدد الأنبياء، وأن يستدل من أمر الله لبني آدم - بعد إهباطه لأبيهم إلى الأرض - بالإيمان بالأنبياء الذين سَيُرْسِلُهُمْ، على استمرار النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، هذا فَهْمٌ يدعو إلى العجب حقاً، وهذه حجة من لا حجة له، وكم تناقض القاديانيون هنا! فمرة يزعمون أن الغلام نبي مشرع، ومرة يزعمون أنه نبي تابع للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، مع أن هذا التفريق لا دليل عليه، فإن الله تعالى لم يخبرنا بأن فيه (فرقاً) بين النبي المشرع والآخر غير المشرع، بل أمر بالإيمان بجميع الأنبياء بدون تفريقهم بينهم، وحتى ما يقوله بعض العلماء من أن النبي هو الشخص الذي يسير على الشرع السابق للرسول قبله ويجدده، لا ينطبق على الغلام؛ لأنه جاء بتشريعات كثيرة تخالف الشريعة الإسلامية تمام المخالفة ومستقلة تمام الاستقلال (1).وكل تلك التأويلات - التي لفقها القادياني وأتباعه بعدم انقطاع النبوة - لا يقبلها إلا غافل فارغ عن العلم، وجاهل باللغة العربية، وجاهل بالدين الإسلامي؛ ذلك أن الختم معناه آخر الشيء ونهايته، كما يذكر علماء اللغة (2)؛ لا أن معناه أفضل الشيء وأجوده. وقد وردت النصوص من الكتاب والسنة على المعنى الأول، وأنه لا نبي بعده محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه آخر الأنبياء، به أكمل الله الدين وأتم به النعمة على العباد، ومن لم يعتقد هذا فلا حظ له من الإسلام، وقد قدمنا ذكر بعض الأدلة على ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم وهي واضحة صريحة، لولا بُعْدُ هؤلاء عن الدين واستحواذ الشياطين عليهم. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة غير خافية على طلاب العلم. ومن غريب أمر القادياني أن يترك الأدلة الصريحة من القرآن والسنة على أن خاتم الشيء هو آخره، وأن الرسول خاتم الأنبياء أي آخرهم، ثم يستدل بأقوال الشعراء - الذين يتبعهم الغاوون - على أن خاتم الشيء أفضله واستدل بقول الشاعر: فُجع القريض بخاتم الشعراء ... وغدير روضتها حبيب الطائي وخاتم الشعراء هنا يعني أفضلهم وزينتهم كما فسره القاديانيون، ولكن معناه في الحقيقة أن الشاعر - وهو حسن بن وهب - يظن أن أبا تمام الذي قيل في رثائه هذا البيت - أفضل الشعراء المتقدمين ذوي الحكمة والعقل، وأنه على حسب ما يعتقد فيه الشاعر أنه خاتم الشعراء، أي فلا يمكن أن يأتي بعده مثله (3)، هكذا ظن والظن أكذب الحديث - وعلى أي تفسير فإن القرآن والسنة لا يعارضان بأقوال الشعراء. ولكن الغريق بكل حبل يمسك، فإن تأويلات الباطنية من القاديانية أو البهائية أو غيرهم بأن خاتم النبيين أي أفضلهم أو زينة لهم، كل تلك التأويلات لا يلتفت إليها أي مسلم شرح الله صدره للإسلام، ولا شك أن نسبة هؤلاء للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه كالمهر في الورقة، هذه إهانة للرسول صلى الله عليه وسلم، فالذي يحب الرسول صلى الله عليه وسلم ويحترمه لا يستجيز لنفسه أن يمثله بخاتم في أسفل الورقة، فالرسول صلى الله عليه وسلم أجلُّ من أن يمثل بهذا. المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 768 - 773   (1) انظر: كتاب ((لماذا تركت القاديانية)) محمد أختر (ص20) ترجمة محمد كليم الدين. (2) انظر كتب اللغة، مادة ختم. (3) انظر: ((القاديانية)) (ص277 - 278). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 96 وأخذوا يتفننون في بيان مفهوم ختم النبوة على معان مختلفة وتأويلات ملفقة، منها: أن الله تعالى حين يكرم أحداً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويوصله إلى درجة الوحي والإلهام والنبوة فإنه - ومع تسميته نبياً - لا يتعارض هذا المفهوم - مع مفهوم ختم النبوة - إذ إن الشخص لا يزال من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ومن أتباعه، ولكن ينتقض هذا المفهوم إذا ادعاه شخص من غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فحينئذ يتعارض قوله تماماً مع ختم النبوة (1). ويقول بشير محمود: (إننا نرفض النبوة المباشرة عن غير توسط الرسول صلى الله عليه وسلم رفضاً باتاً؛ ولذلك نرفض ظهور المسيح الناصري بعينه، لكننا لا ننكر النبوة التي تضاعف كرامة النبي صلى الله عليه وسلم وتزيدها سمواً وعلواً) (2). وقد أخذ بشير هذا المفهوم عن والده، حيث قال الغلام في ضميمة الوحي: (وإن قال قائل: كيف يكون نبي من هذه الأمة وقد ختم الله على النبوة؟) وهذا سؤال مهم جداً، ولكن كيف كان جواب الغلام عنه؟ لقد أجاب بما لا مقنع فيه لأحد، وحاد عن الحق وألحد فيه، فقال: (فالجواب أنه عز وجل ما سمى هذا الرجل نبياً إلا لإثبات كمال نبوة سيدنا خير البرية، فإن ثبوت كمال النبي لا يتحقق إلا بثبوت كمال الأمة (3)، ومن دون ذاك ادعاء محض لا دليل عليه عند أهل الفطنة، ولا معنى لختم النبوة على فرد من غير أن تختتم كمالات النبوة على ذلك الفرد، ومن الكمالات العظمى كمال النبي في الإفاضة وهو لا يثبت من غير نموذج يوجد في الأمة" (4). والمغالطة في هذا الكلام: أن النبوة لا تأتي من فيض أحد؛ بل هي تَفَضُّلٌ من الله تعالى على من يشاء من خلقه. لماذا لا يكون النموذج الذي يدعيه الغلام عاماً؛ بحيث يحق لكل شخص أن يتصف به، فكيف احتكره القادياني بدون أن يذكر أي مبرر له.2 - أن معنى القول بختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم: (أنه قد تمت عليه كمالات النبوة وأنه لا يأتي بعده رسول ذو شريعة جديدة، ولا نبي من غير أمته) (5)؛ أي أن الانبياء الذين يأتون بعده صلى الله عليه وسلم كلهم يعتبرون من أمته، وهذا ليس فيه خروج - حسب مفهوم القادياني - عن القول بختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا هو ما أكده بشير محمود في كتابه (دعوة الأمير) (6). ولكن الغلام في آخر أمره اخترع له ولأتباعه شريعة جديدة.3 - أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم هو صاحب الفيوضات الكمالية التي لم يعطها أحد غيره؛ ولذلك سمي بخاتم النبيين (أي أن إطاعته تمنح كمالات النبوة، وأن التفاته الروحي يصنع الأنبياء) (7). أي فإذا وجد أن أحداً يدعي النبوة ولم تكن نبوته مصدقة من خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم فإنها لا تكون نبوة صحيحة، مثل الورقة التي تكون رسمية وليس عليها الختم الرسمي، وإذا كانت طاعته صلى الله عليه وسلم تمنح الكمالات والنبوة فإنه يحق لكل شخص متبع للرسول صلى الله عليه وسلم أن يتصف بصفة النبوة، بل كان الصحابة في أول هؤلاء. فهل يستطيع الغلام أن يثبت أن أحداً منهم ادعاها؟ 4 - أن معنى الختم هنا هو تأخير النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر قرناً لتظهر عظمة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي بعد ذلك ما يقتضي إظهار عظمة الإسلام بظهور من تطلق عليه كلمة النبي، لتبقى سلسلة النبوة متصلة الحلقات، ومن هنا أجريت على لسانه صلى الله عليه وسلم كلمة النبي للمسيح الموعود في آخر الزمان (8)، ويقول بشير محمود: (إن الشريعة لا تُنسخ إلا بالنبوة التشريعية الجديدة المباشرة، لكن النبوة التي تستمد من اتباع النبي الأول وتهدف إلى نشر الشريعة السابقة هي مظهر رائع للنبوة السابقة .. وهي في متناول هذه الأمة) (9). 5 - أن الغلام هو ظل للرسول صلى الله عليه وسلم لبقاء النبوة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الآن، وانعكاس ظلية الكمالات المحمدية في الغلام، ومن هنا فلا تأثير في نبوة الغلام على القول بختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم (10)، وعلى الناس أن يتركوا عقولهم ويصدقوا هذا الهراء. المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 765 - 768   (1) مفهوم نص اورده المودودي في كتابه ((القاديانية)) (ص33)، نقلا عن كتاب ((العين المسيحية)) للميرزا غلام أحمد (ص41). (2) ((دعوة الأمير- معتقدات الجماعة الإسلامية)) الإسلامية (ص32).مترجم. (3) يريد بهذا المفهوم مشابهة قول الباطنية: أن الناطق لا يكمل إلا بوجود السوس والصامت. (4) ((ضميمة الوحي)) حاشية (ص18). (5) ((عين المعرفة)) (ص9) للغلام، ((ما هي القاديانية)). (6) ((دعوة الأمير- معتقد الجماعة الأحمدية الإسلامية)) (ص31 - 35). (7) ((حقيقة الوحي)) للغلام (ص 96)، ((ما هي القاديانية)). (8) إرشاد الميرزا غلام أحمد المندرج في عدد ((جريدة الحكم)) الصادر في (17/ 4/1903م). ((القاديانية)) لإحسان. (9) ((دعوة الأمير- معتقدات الجماعة الإسلامية)) (ص32).متر جم. (10) ((إزالة الخطأ)) للميرزا غلام أحمد- ((القاديانية)) (ص33 - 35). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 97 المطلب الخامس: مجمل عقيدة القاديانية نذكر مجمل العقائد الفاسدة التي يعتقدونها على وجه الإيجاز والتلخيص لما سبق: - يعتقد القاديانيون أن الله يصوم ويصلي وينام ويصحو ويكتب ويخطئ ويجامع ـ تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيراً. - يعتقد القادياني بأن إلهه إنجليزي لأنه يخاطبه بالإنجليزية!!!. - تعتقد القاديانية بأن النبوة لم تختم بمحمد صلى الله عليه وسلم بل هي جارية، والله يرسل الرسول حسب الضرورة، وأن غلام أحمد هو أفضل الأنبياء جميعاً. - يعتقدون أن جبريل عليه السلام كان ينزل على غلام أحمد وأنه كان يوحى إليه، وأن إلهاماته كالقرآن. - يقولون لا قرآن إلا الذي قدمه المسيح الموعود (الغلام)، ولا حديث إلا ما يكون في ضوء تعليماته، ولا نبي إلا تحت سيادة غلام أحمد. - يعتقدون أن كتابهم منزل واسمه الكتاب المبين وهو غير القرآن الكريم. - يعتقدون أنهم أصحاب دين جديد مستقل وشريعة مستقلة وأن رفاق الغلام كالصحابة. - يعتقدون أن قاديان كالمدينة المنورة ومكة المكرمة بل وأفضل منهما وأرضها حرم وهي قبلتهم وإليها حجهم. - نادوا بإلغاء عقيدة الجهاد كما طالبوا بالطاعة العمياء للحكومة الإنجليزية لأنها حسب زعمهم ولي الأمر بنص القرآن!!!. - كل مسلم عندهم كافر حتى يدخل القاديانية: كما أن من تزوج أو زوج من غير القاديانيين فهو كافر. - يبيحون الخمر والأفيون والمخدرات والمسكرات. المصدر: الموسوعة الميسرة - يؤمنون بأن الحج المفروض هو الحضور في المؤتمر السنوي في القاديان، - يعتقدون بأنهم أمة مستقلة ودين مستقل وأنهم ينفصلون عن المسلمين في كل شيء في العقيدة والعبادة وغيرها فهم يقولون ليس شيء يجمع بيننا وبين المسلمين فربنا غير رب المسلمين وإسلامنا غير إسلامهم وقرآننا غير قرآنهم وصلاتنا غير صلاتهم وحجنا غير حجهم ولهذا يكفرون المسلمين ويمنعون التزاوج معهم والصلاة عليهم ولكنهم مع ذلك كله يدعون الإسلام وينشرون كفرهم باسم الإسلام المصدر: الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة لناصر القفاري وناصر العقل - ص 152 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 98 المطلب السادس: علاقتهم بالإسلام والمسلمين وغير المسلمين لقد ابتعد القادياني عن الإسلام وعن المسلمين، وزاحمت القاديانية الإسلام، وأرادت أن تحل محله في العقيدة والفكر والعاطفة، وقطعت أقوى صلة للقاديانية بالإسلام، وجعلت كل من يدخل هذه الديانة الجديدة أو الإسلام الجديد –كما يزعم القاديانيون - بعيداً عن الإسلام الذي ارتضاه رب العالمين لخلقه. ومن هنا نرى القاديانيين يقارنون بين أصحاب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وبين أتباع الغلام، دون أن يجدوا في ذلك أي حرج، فقد جاء في صحيفة الفضل القاديانية: (لم يكن فرق بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتلاميذ الميرزا غلام أحمد؛ إلا أن أولئك رجال البعثة الأولى وهؤلاء رجال البعثة الثانية) (1). ثم جعلوا الحج الأكبر هو زيارة قاديان، وقبر القادياني، مضاهاة لزيارة المسجد النبوي الشريف والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة، ونصوا على أن الأماكن المقدسة في الإسلام ثلاثة: مكة والمدينة وقاديان، وأوَّلوا المراد بالمسجد الأقصى بأنه مسجد قاديان، فقد جاء في تلك الصحيفة أيضاً: (إن الذي يزور قبر المسيح الموعود عند المنارة البيضاء، يساهم في البركات التي تخص قبة النبي الخضراء في المدينة، فما أشقى الرجل الذي يحرم نفسه هذا التمتع في الحج الأكبر إلى قاديان) (2).وفيها أيضاً: (أن الحج إلى مكة بغير الحج إلى قاديان حج جاف خشيب؛ لأن الحج إلى مكة اليوم لا يؤدي رسالته ولا يفي بغرضه) (3). واخترعوا لهم أشهراً غير الأشهر الإسلامية، وهي: الصلح، التبليغ، الأمان، الشهادة، الهجرة، الإحسان، الوفاء، الظهور، تبوك، الإخاء، النبوءة، الفتح (4). وهو نفس المسلك الذي سار عليه البهاء المازندراني حين اخترع له أشهراً غير الأشهر الإسلامية، ليقطعوا صلتهم بالأشهر الإسلامية وبما جاء فيها من مناسبات مفضلة، ومن هنا يتضح أن علاقة القاديانيين بالمسلمين أتباع محمد صلى الله عليه وسلم علاقة مبتورة، فقد قطعوا كل صلة بهم وعاملوهم على الأسس الآتية: أن المسلمين كفار ما لم يدخلوا في القاديانية؛ لأنهم يفرقون بين الرسل، والله تعالى يقول: لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ [البقرة:285]، فالمؤمن بالإسلام ونبيه إذا لم يؤمن بالقاديانية ونبيها فإنه يكون كافراً. وعلى هذا فإنه لو مات مسلم، فإنه لا يجوز للقادياني الصلاة عليه ولا دفنه في مقابرهم؛ لأنه كافر لعدم إيمانه بنبوة الغلام، فلا تجوز الصلاة عليه ولو كان طفلاً أيضاً، ويذكر أن ظفر الله خان وزير خارجية باكستان لم يُصَلِّ على القائد الشهير محمد علي جناح حين مات، لأنه في نظر ظفر الله كافر لعدم إيمانه بنبوة الغلام. المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 819 - 821   (1) ((جريدة الفضل)) عدد (92) (28 مايو سنة 1918م). (2) ((جريدة الفضل)) عدد (1848) (ج10 سنة 1922م). (3) ((القادياني والقاديانية)) للندوي (ص119)، نقلاً عن المجلد (21 عدد 33). وعنها أخذت تلك المصادر. (4) ((القادياني والقاديانية)) (ص121). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 99 يقول غلام أحمد فيما نقله عنه مظاهري: "أطلعني الله على أن كل من وصلته رسالتي، ولم يؤمن بي فهو ليس بمسلم" (1).ويقول: "إن كل من لا يتبعك ولا يبايعك ويظل يخالفك فهو يعصي الله ورسوله وهو من أهل النار" (2).ويقول: "إن كل من لا يؤمن بي فإنه لا يؤمن بالله ولا برسوله، لأن الله ورسوله بشرا بي، فكل من لا يؤمن بأحكام الله ورسوله ويكذب القرآن ويرفض آيات الله، ويقول: إني مفترٍ وكذاب على الرغم من وجود مئات الآيات المؤيدة لي لا يكون مؤمناً، وإذا كان مؤمناً يكفر بالافتراء علي" (3). ونشرت جريدة الفضل القاديانية في عدد 21 حزيران (يونيو) 1923م مقالا لطالب في جامعة ملية اسمه عبد القادر جاء فيه: سألت ذات يوم بعد صلاة العصر حضرة الخليفة لماذا يكفر غير الأحمديين، فكانت خلاصة الحديث ما يلي: السائل: أصحيح أنكم تكفرون غير الأحمديين الخليفة: نعم هذا صحيح السائل: على ما تعتمدون في هذا التكفير أفلا يلفظون كلمة الشهادة؟ الخليفة: إنهم ولا شك يلفظون كلمة الشهادة، ولكن الاختلاف بيننا وبينهم ليس فرعياً، بل اختلاف رئيسي، فالمسلمون يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله، وإن من ينكر نبياً من أنبياء الله فهو كافر، ومثال ذلك المسيحيون، فهم يؤمنون بكل الأنبياء الذين جاءوا قبل عيسى عليه السلام، ولكنهم بكفرهم بمحمد فقد كفروا، وهكذا فإن من ينكر نبوة غلام أحمد فهو كافر بنص القرآن، فالله قد بعث رسولاً آمنا به ولم يؤمنوا به" (4). ولم يكتفِ القاديانيون بتكفير المسلمين، بل سلكوا في ذلك مسلكاً عمليًّا، فلآن أهل الإسلام في معتقدهم الكاذب كفاراً، فلا يجوز عندهم الصلاة وراء المسلمين، وكذلك لا يجوز الزواج منهم. وقد جاء في جريدة الحكم القاديانية بتاريخ 10 أغسطس 1901 قول غلام أحمد: "اصبروا ولا تصلوا خلف أحد من غير جماعتكم، ففي ذلك الخير والصلاح وفيه نصركم العظيم". وقال في العدد 3 من أربعين، صفحة 34: "اذكروا بأن الله قد أطلعني بأنه حرام عليكم وحرام بات أن تصلوا خلف منكر أو مكذب أو متردد".والقاديانيون لا يصلون صلاة الجنازة على المسلمين، لأنهم يعتقدون عدم جواز الصلاة على من لم يؤمن بغلام أحمد، وقالت جريدة الفضل المؤرخة في 15 كانون الأول 1931م: إن غلام أحمد لم يصل على ابنه فضل أحمد، لأنه لم يكن مؤمناً به" (5).ويقول في صفحة 7 من فتاوى أحمدية: "لا تزوجوا بناتكم ممن لم يؤمن بي" (6).وينقل العلامة إلهي ظهير عن محمود أحمد ابن الغلام في كتابه (بركات خلافات) ص75 حكم القاديانية بأنه لا يجوز لأي قادياني أن ينكح ابنته من غير القادياني، لأن هذا أمر من المسيح الموعود - يقصد والده غلام أحمد- أمر مؤكد، وقال: "عن من ينكح ابنته من غير القادياني فهو خارج من جماعتنا معما يدعي القاديانية، وأيضاً لا ينبغي لأحد من أتباعنا أن يشترك في مثل هذه الحفلات الزواجية (الفضل 23 مايو 1931). وأكثر من ذلك فقد نشرت جريدة الحكم القاديانية بأنه ينبغي أن يراعي في الزواج من المسلمين أن لا تعطى لهم البنات، ويجوز الزواج ببناتهم لأنهم كأهل كتاب، فنحن لا نعطي بناتنا ونأخذ بناتهم كما يعامل أهل الكتاب، فلو أعطيناهم بناتنا لا يجوز، ولو أخذنا منهم بناتهم يجوز، وفيه فائدة بأننا قد زدنا واحداً في صفنا" (7). المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص69 - 71   (1) المرزا غلام أحمد: ((رسالة الذكر الحكيم)) (ص44) (2) ((الهام بيان ميعاد الأخبار المذكور في تبليغ رسالته))، (ص27). (3) المرزا غلام أحمد: ((حقيقة الوحي))، (ص163). (4) ((مظاهري القاديانية)) (ص37 - 39). (5) ((مظاهري القاديانية)) (ص41 - 43). (6) ((مظاهري القاديانية)) (ص105). (7) نقلاً عن إحسان ظهير: ((القاديانية))، (ص43). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 100 بل وأبعد من هذا أنهم لا يجوزون الصلاة على من يصلي من القاديانيين خلف المسلمين أو يتعامل معهم أو يوادهم. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 821 علاقتهم بغير المسلمين: وأما علاقتهم بغير المسلمين فنوجزها فيما يلي: لقد قامت بين القاديانيين وبين كثير من الملل المخالفة للإسلام علاقات قوية، خصوصاً بينهم وبين الدول المعادية للمسلمين، مثل بريطانيا وإسرائيل اليهودية الحاقدة، فهي تتمتع معهم بصداقات حميمة واتصالات وثيقة، وقد أعطتهم إسرائيل أمكنة لفتح المراكز والمدارس، وأغدقت عليهم الأموال سراً وجهراً، وقد جاء في خطاب للقاديانيين باسم (مراكزنا في الخارج) هذا النص: (ويمكن للقارئين أن يعرفوا مكانتنا في إسرائيل بأمر بسيط، بأن مبلغنا جوهدري محمد شريف حينما أراد الرجوع من إسرائيل إلى باكستان سنة 1956م، أرسل إليه رئيس دولة إسرائيل بأن يزوره قبل مغادرته البلاد، فاغتنم المبشر هذه الفرصة وقدم إليه القرآن المترجم إلى الألمانية الذي قبله الرئيس بكل سرور (1)!!! وقد نشر تفاصيل اللقاء في الصحف الإسرائيلية، كما أذيع أيضاً في الإذاعة، بل وقد سمحت لهم إسرائيل بإنشاء مدرسة بقرب جبل الكبابير. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 821 وجاء في الخطاب السابق أيضا: إن المركز القادياني في حيفا، ونحن نملك هناك مسجداً وبيتاً للمركز، ومكتبة عامة للمطالعة، ومكتبة خاصة لبيع الكتب، ومدرسة، ويصدر المركز مجلة شهرية باسم "البشرى" التي ترسل إلى ثلاثين بلداً عربياً مختلفاً (2) وقد ترجم أكثر مؤلفات المسيح الموعود (الغلام) إلى العربية بطريق هذا المركز، وإن مركز القاديانية تأثر من تقسيم فلسطين من عدة وجوه، وإن المسلمين الذين بقوا في إسرائيل قد أخذوا من المركز الفوائد الجمة .. .. المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص79 ومن المعروف بداهة أن إسرائيل ما كانت لتحتضن هذه الدعوة القاديانية ولا أن تقوم بتمويلها بل والدعاية لها لو أنها تعرف فيها مثقال ذرة من الإسلام، الذي تعتبره إسرائيل الخطر الحقيقي عليها، كما أن إسرائيل تمول جميع الحركات الهدامة من قاديانية وبهائية وغير ذلك لتحقيق أهدافها في السيطرة والعلو، فالمؤامرات واضحة لا تحتاج إلى سياسي بارع ولا ذكي في تحليل الأحداث. رحب القوميون الهنود بالقاديانية وفرحوا بها وتحمسوا لها كثيراً، لأن هؤلاء الهنادك يحقدون على الإسلام حقداً لا يقل عن حقد اليهود والنصارى، وضايقهم جداً توجه المسلمين الهنود بقلوبهم إلى نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وكتاب ربهم، بل وإلى الجزيرة العربية إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، ولهذا فقد اعتبروا توجه الناس إلى قاديان انتصاراً للوطنية الهندية على الإسلام الأجنبي عن بلادهم، وفرصة سانحة للتحول العظيم في تفكير المسلمين الهنود وغيرهم من الإسلام إلى القوميات والتعصب لها بدلاً عن الإسلام. وفي هذا يقول الكاتب الهندوكي د/شنكرداس مهرا: (إن المسلمين الهنود يعتبرون أنفسهم أمة منفصلة متميزة ولا يزالون يتغنون ببلاد العرب ويحنون إليها، ولو استطاعوا لأطلقوا على الهند اسم العرب، وفي هذا الظلام الحالك وفي هذا اليأس الشامل يظهر شعاع من النور يبعث الأمل في صدور الوطنيين وهي حركة الأحمديين (القاديانيين).   (1) كتاب ((مراكزنا في الخارج)) (ص79)، انظر: ((القاديانية)) لإحسان إلهي (ص48)، وانظر: كتاب ((ما هي القاديانية)) (ص66)، حيث نقل الكلام السابق بتصرف وعزاه إلى كتاب ((القاديانية)) ((بعثاتنا الخارجية)) تأليف الميرزا مبارك أحمد القادياني. (2) ملحوظة: عدد دول الجامعة العربية لا يتجاوز اثنين وعشرين دولة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 101 وكلما أقبل المسلمون إلى الأحمدية نظروا إلى قاديان كمكة هذه البلاد والمركز الروحي العالمي وأصبحوا مخلصين للهند وقوميين بمعنى الكلمة. إن تقدم الحركة الأحمدية ضربة قاضية على الحضارة العربية والوحدة الإسلامية. وكل من اعتنق الأحمدية تغيرت وجهة نظره وضعفت صلته الروحية بمحمد صلى الله عليه وسلم بذلك، وتنتقل الخلافة من الجزيرة العربية وتركيا إلى قاديان في الهند، ولا يتبقى لمكة والمدينة إلا حرمة تقليدية. إن كل أحمدي سواء كان في البلاد العربية أو تركيا أو إيران أو في أي ناحية من نواحي العالم يستمد من قاديان القوة الروحية وتصبح قاديان أرض نجاة له، وفي ذلك سر فضل الهند، وهذا هو سر عدم ارتياح المسلمين إلى حركة الأحمدية وقلقهم منها؛ لأنهم يعتقدون أن حركة الأحمدية هي المنافسة للحضارة العربية والإسلام. ولذلك اعتزل الأحمديون عن حركة الخلافة لأنهم يحرصون على تأسيس الخلافة في قاديان مكان تركيا والجزيرة العربية، وإن كان هذا الواقع مقلقاً للمسلمين الذين لا يزالون يحلمون بالاتحاد الإسلامي وبالاتحاد العربي، ولكنه مصدر سرور وارتياح للوطنيين الهنديين) (1). والكلام ظاهر المعنى ينفث خبثاً وحقداً على المسلمين وعلى الإسلام، ويريد قائله أن تشن الحرب التي لا هوادة فيها على كل مسلم غير القاديانيين، الذين يرى فيهم تحقيق أحلامه الكفرية ومحو الإسلام من أذهان المسلمين والاهتداء بعميل الإنجليز وبالوطنيين الهنود، كما يريد فوضويو المجوسية ودعاتها الحاقدون. ومما يوضح موقف القاديانيين من الإسلام أيضاً ذلك الدفاع الذي بذله عدو الإسلام والمسلمين في الهند جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند حينذاك عن هذه الطائفة المسلمين - يقصد القاديانيين - على حد زعمه، وغريب منه أن يتعاطف مع المسلمين، فقد قال متسائلاً ومستنكراً: لماذا يلح المسلمون على فصل القاديانية عن الإسلام، وهي طائفة من طوائف المسلمين الكثيرة؟ فأجابه الدكتور محمد إقبال –رحمه الله - فقال: (القاديانية تريد أن تنحت من أمة النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم أمة جديدة تؤمن بالنبي الهندي ... وقال: إنها أشد خطراً على الحياة الاجتماعية الإسلامية في الهند عن عقائد (أسفنورا) الفيلسوف الثائر على نظام اليهود) (2). وحينما تظاهر القاديانيون في خبث ودهاء ومكر بالإسلام، إنما أرادوا أن يموهوا على المسلمين ويدخلوا على عوامهم من طرق لا يفطنون لها ليسلخوهم عن دينهم شيئاً فشيئاً إن استطاعوا، ولن يتم لهم ذلك إن شاء الله تعالى. المصدر: فرق معاصرة لغالب عواجي 2/ 822 في أعقاب ضعف قبضة بريطانيا على الهند، نشأ حلف قادياني هندوسي وكان ذلك في عهد مرزا محمود ـ خليفة مرزا غلام أحمد ـ وأحس الهندوس بأهمية هذه الفرقة لهم، وقام جواهر لال نهرو ـ مع انه اشتراكي ملحد ـ بتأييدها. وكان القاديانيون يرفضون فكرة قيام دولة إسلامية في باكستان، ويؤيدون الهند الموحدة وجعلوا ذلك هي إرادة الله، إذ يقول مرزا محمود: "إن مشيئة الله تقتضي وحدة الهند، وهي عين ما تقتضيه بعثة مرزا غلام أحمد".   (1) ((مقالة الدكتور شنكرداس مهرا)) في ((صحيفة بند في ما ترم)) (الصادرة في 22 أبريل سنة 1932م)، انظر: ((القادياني والقاديانية)) (ص122). (2) انظر: ((ما هي القاديانية)) (ص57)، وقد أثنى المودودي على الجهود التي بذلها محمد إقبال رحمه الله لدحض القاديانية، والمواقف المشرفة التي وقفها في وجه القاديانيين بإخلاص وصدق غيره على دينه الإسلامي الحنيف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 102 وكان القادياينون يرون ضرورة الهند المتحدة، لأنهم يعتبرون أنفسهم أمة واحدة دون المسلمين، ويرون الدول الكافرة أنفع لهم من الدولة الإسلامية، وهم يفضلون فكرة الهند المتحدة على دولة باكستان المسلمة. أسباب معارضة القاديانيين لاستقلال باكستان لعب القاديانيون دوراً كبيراً ضد استقلال باكستان، وكان أكبر همهم هو أن يظل الاستعمار على الهند الذي كانوا يرونه رحمةً إلهيةً، وعندما بدأت شمس الاستعمار تأفل عن الهند أيد القاديانيون بشكل كامل فكرة الهند المتحدة دون فكرة إقامة دولة إسلامية، لأن الحركة القاديانية لا يمكنها أن تعمل بين المسلمين إلا في ظل دولة غير إسلامية بحتة، أو أن لا تكون إسلامية على الأقل، حتى يصبح المسلمون فريسة لهم مغلوبين على أمرهم تحت قبضة الحكومة الكافرة، ويقتنصهم القاديانيون تحت رعاية الحكومة اللادينية، وأما الدولة الإسلامية فيعتبرونها أرضاً وعرةً لا تثمر فيها جهودهم المضللة، وإلى هذا أشار المرزا في كتاباته قائلاً: ولو خرجنا من هنا (أي المستعمرة البريطانية) فلا ملجأ لنا لا في مكة ولا في المدينة ولا الروم ولا الشام ولا إيران ولا كابول إلا في هذه المملكة (البريطانية) التي أدعو لها بالعزة. ثم يخاطب أتباعه قائلاً: فكروا، لو خرجتم من ظل هذه الحكومة فأين يكون مقركم؟ فكل دولة إسلامية عازمة على قتلكم لأنها تعتبركم كفاراً مرتدين. خيانة القاديانيين عند وضع حدود باكستان كانت الجماعة القاديانية تعارض تقسيم الهند كما ذكرنا وعندما أعلن بالتقسيم ـ رغم معارضتها ـ قام القاديانيون بمحاولة أخرى للإضرار بباكستان، وذلك بفصل محافظة غورداسفور. التي تقع فيها (قاديان) عن باكستان وضمها إلى الهند. وتفصيل هذا الإجمال هو أن لجنة تحديد الحدود عندما كانت تضع تخطيطاً لحدود الهند وباكستان وكان الممثلون عن حزب الشيوخ ورابطة المسلمين يقدمون إليها دعاويهم وأدلتهم، قدمت إليها الجماعة القاديانية مذكرةً خاصةً، واختارت فيها موقفاً خاصًّا مخالفاً لحزب الشيوخ والرابطة وطالبت باعتبار (قاديان) ولايةً مثل الفاتيكان وذكروا في المذكرة عددهم وديانتهم وكيفيات موظفيهم المدنيين والجنود وغيرها من التفصيلات، وكانت النتيجة أن لجنة التحديد لم تستجب طلب اعتبار (قاديان) ولايةً مثل الفاتيكان غير أنها استغلت المذكرة القاديانية فأخرجت القاديانيين عن عداد المسلمين واعتبرت محافظة غورداسفور بها أقلية مسلمة بعد فصل القاديانيين، فضَّم أهم مناطقها إلى الهند، وهكذا فقدت باكستان محافظة غورداسفور بل وجدت بها الهند طريقاً للاستيلاء على كشمير وانفصلت كشمير عن باكستان. المصدر: مقال ألف خيانة وخيانة للقاديانية في القارة الهندية من موقع فيصل نور الجزء: 10 ¦ الصفحة: 103 المطلب الأول: الرد الإجمالي هذه هي القاديانية .. رئيسها المتنبئ لها .. أخلاقه .. تعاليمه .. تنبؤاته .. عقيدته .. مهمته .. والمتأمل لهذه الحركة لا يرى تحتها شيئا قدمته للبشرية وهي بجملتها من أولها إلى آخرها لا تحتوي إلا على جانبين فقط .. الأول: هو ادعاء القادياني للنبوة والاتصال بالوحي والإساءة إلى كل من لم يؤمن به وأن الله سينصره وسيخذل أعداءه .. إلى آخر تلك الأمور التي لا تخلو صفحة من صفحات كتبه .. بل لا يكاد يخلو سطر واحد منها إلا وهو يتحدث عن هذا الموضوع. الثاني: فلو تنازلنا لهذا المتنبئ وسلمنا له بالنبوة فأي شيء سيقدمه لنا؟ هل سيقدم دينا جديدا يشتمل على عقيدة واضحة شاملة وشرع كامل شامل بحيث يغنينا عما سواه – معاذ الله – لا إنه سيقدم أمرا واحدا فقط ذلك الأمر هو لب عمله وأس دعوته وهو إلغاء الجهاد ودعوة المسلمين للخضوع لأعدائهم والذلة للإنجليز بالذات لأنهم هم الذين أرسلوه – كما يبدو – وهذا هو الجانب الثاني من دعوته دعوى كبيرة عريضة يترتب عليها كفر وإيمان نتيجتها إلغاء الجهاد وذلة المسلمين لأعداء الإسلام إنها ضلالة حمقاء أقدم عليها ذلك المخذول المأجور نعوذ بالله من خذلانه. ولا بد من وقفة قصيرة مع تلك الدعوة أو الديانة المحدثة لنرى ما فيها من اضطراب وتناقض وتهافت لئلا يبقى عذر للمخدوعين بها. أولا: إن أول ما يسترعي الانتباه في حياة القادياني هو حيرته في نسبه واضطرابه في أصله كما تقدم. فآباؤه يدعون أنهم (مغوليون) وهو يتهم آباءه في ذلك وأنهم لم يصدقوا ويدعي أن أصله فارسي فيقول: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله رد عليهم رجل من فارس شكر الله سعيه) فلماذا يدعي ذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 104 إنه يريد أن يوجد لنفسه سندا أولا حتى يقيم دعواه على أساس يستطيع به خداع المسلمين على أنها دعوى صحيحة ويتضح ذلك القصد من خلال كلامه: فهو يقول: (خذوا التوحيد يا أبناء الفارس – إنا أنزلنا قريبا من القاديان .. ) (1). فهو هنا يشير إلى الحديث الصحيح الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وهو ((لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس أو من أبناء فارس حتى يتناوله)) (2) (3) ولقد أشار إليه القادياني كذلك في قوله (لو كان الإيمان معلقا بالثريا لناله).فهذا السند الأول الذي لمح به ويحاول ادعاء الفارسية لأجله فهل فيه سند له؟ إن الحديث لم يقل (لو كان الوحي عند الثريا لذهب به رجل من فارس) إنه قال: ((لو كان الدين ... )) (4). الدين الذي جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من غير إحداث نبوة إذ في دينه أنه لا نبي بعده ولهذا نراه يشير إلى الحديث من غير تصريح لأنه يعلم أن ذلك لا يمكنه من دعواه تلك ولكن يبدو أن هذه المحاولة قد فشلت فانتقل إلى غيرها وترك النسبة الفارسية وادعى أنه من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأن إحدى جداته كانت من آل البيت .. أراد بذلك أن يمهد لدعوى (المهدية) والتي قد بشرت بها السنة – كما تقدم – وقد فعل وادعى أنه المهدي ولكن المهدي لا يكون مبتدعا ولا ناسخا لشيء من دين الإسلام ولا يدعي الوحي ولا النبوة إذ هو أحد أفراد الأمة يكرمه الله بوظيفة الإصلاح في آخر الزمان. وهذه الدعاوى الثلاث لم تف له بالغرض وهو ممن تربى على كتب التصوف الضالة وخاصة كتب (ابن عربي) الذي رأينا طرفا من أفكاره من قبل فزعم القادياني أن مما قرأه في كتب ابن عربي أنه بشر بمجيء ولد صيني يدعو إلى الله فادعى أنه هو وقال (إن محي الدين بن العربي في كتابه (فصوص الحكم) حيث قال (يولد في آخر الزمان ولد يدعو إلى الله ويكون مولده بالصين ولغته لغة بلده فأنا هو المقصود لأني صيني الأصل) (5). وهذه دعوى رابعة في نسبه كما ترى. ويبدوا أن الرجل أراد أن يخدع المسلمين بدعوى المهدية التي بشر بها نبيهم صلى الله عليه وسلم ويخدع أهل التصوف بدعوى أن شيخهم تنبأ له وأخبر به قبل مجيئه. فما هو نسبه يا ترى؟ هل هو مغولي كما ذكر آباؤه؟ أم هو فارسي كما زعم أنه أوحي إليه بذلك ثم كذب نفسه بعد ذلك وادعى أنه صيني أم أنه عربي من آل البيت إنه اضطراب عجيب وحيرة عاشها ذلك المتنبئ. وهذه أولى صور الاضطراب والحيرة في حياته ثانيا: دعاوى القادياني: أما دعاواه الكاذبة فقد رأينا أنها تزيد على عشر دعاوى وهو مظهر حيرته واضطرابه فقد ظهر مدافعا عن الإسلام ثم انتهى أخيرا إلى دعوى النبوة ونزول الوحي عليه بل بلغ به الهوس حتى وصل إلى تلك الرؤيا المنحطة التي رأى نفسه فيها أنه هو (الله) وأراد تغيير خلق الكون بأسره يا لها من سخافة حمقاء وصل إليها ذلك الفكر الضال.   (1) ((تذكرة)) (ص: 52). (2) رواه مسلم (2546) من حديث أبي هريرة. (3) ((تذكرة)) (ص52. (4) رواه مسلم (2546). (5) ((حقيقة الوحي)) (ص 200) عن ((القاديانة)) لإحسان (ص 146) وقد بحثت عنها في كتاب الفصوص فلم أجدها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 105 وإن هذا الاضطراب يكشف لنا عن مدى ما يعانيه في نفسه من تمزقات وتناقضات ولعل ذلك ناتج عن حرصه الشديد على إقناع جميع الطوائف الإسلامية بصدق ادعائه فأراد أن يقنع أهل السنة بدعوى التجديد والمهدي وأراد أن يقنع أهل التشيع كذلك بأنه من أهل البيت والمهدي المنتظر وأراد أن يخدع أهل التصوف بتلك النبوءة الكاذبة التي زعم أنها من كلام ابن عربي ولابن عربي في نفوس الصوفية المكانة التي لا تلحق. والدعاوى الأخرى التي يدعي فيها أنه ظل محمد صلى الله عليه وسلم أو أنه آدم أو إبراهيم أو غير ذلك هذه ثمرة الفكر الصوفي المتمثل في فكر ابن عربي الذي يزعم أن الله يبعث على قدم كل نبي وليا من الأولياء تتمثل فيه صفاته (1). والقادياني رغم تعدد الدعاوى يركز على ظليته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أثناء خطاباته للصوفية فقد جاء في رسالته التي بعث بها إلى مشايخ الهند ومتصوفة أفغانستان ما يلي (إن الله وتر يحب الوتر ولأجل ذلك قد استمرت سنته أنه يرسل بعض الأولياء على قدم بعض الأنبياء فمن بعث على قدم نبي يسمى في الملائكة باسم ذلك النبي الأمين وينزل الله عليه سر روحه وحقيقة جوهره وصفاء سيرته وشأن شمائله .. إلخ، فهو يزعم أنه بعث على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم. والقادياني في هذه النزعة يتابع شيخه ابن عربي إذ قد تحدث عن هذه الموضوعات بشكل أوسع في كتابه (الفتوحات المكية). ولا ندري كيف عرف القادياني هذه السنة الإلهية مع الأنبياء وهي أن الله يرسل أولياء على قدم الأنبياء؟ فهو شيء لم يرد في كتاب الله عز وجل ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه ولا غيره إلا ما زعمه ابن عربي الذي لا يقل عنه في هذا الموضوع ضلالا وبهتانا على الله ورسوله. ولو سلمنا له هذه الدعوى فمن يا ترى الذي أرسل على قدم محمد صلى الله عليه وسلم أهو شيخه ابن عربي أم هو؟ وإذا كان حسبما يقول القادياني (أن الأنبياء لهم ساعات ينزلون فيها إلى الأرض فيريهم الله الفساد فيغار كل نبي على أمته فينزعج ويدعو الله أن ينزله على الأرض ليهيئ لهم من وعظ رشدا فيخلق له نائبا يشابهه في جوهره وينزل روحه بتنزيل انعكاس على وجود ذلك النائب ويرث النائب اسمه وعلمه فيعمل على وفق إرادته عملا - فهذا هو المراد من نزول إيليا في كتب الأولين ونزول عيسى عليه السلام وظهور محمد نبينا صلى الله عليه وسلم في المهدي خلقا وسيرة وما من محدث إلا له نصيب من تدليات الأنبياء قليلا كان أو كثيرا (2). إذا كان هذا الزعم صحيحا فلماذا لم يخلق أحد شبيها به صلى الله عليه وسلم من قديم الزمن إذ قد تعرضت الأمة لفتن كثيرة ومصائب عظيمة وقد كانت الأمة وحدها هي التي تغالب تلك الأحداث ولم نسمع أن أحدا ادعى قبل القادياني أنه أرسل شبيها برسول الله صلى الله عليه وسلم لينقذ الأمة لأن الرسول نزل إلى الأرض فانزعج وأرسله! ثم ما هو الإصلاح الذي جاء به هذا المهدي المزعوم والمسيح الموهوم؟ لقد رأينا من قبل أن كل ادعاءاته وكتاباته وأقواله وأفكاره لا تخرج عن أمرين دعوى النبوة والرسالة ثم إلغاء الجهاد الإسلامي فهل هذا هو الإصلاح الذي أرسل القادياني لأدائه اللهم إنه نعم إذا اعتبرنا المرسل هم الإنجليز فقد قدم لهم خدمة عظيمة ودعا المسلمين لطاعتهم والذلة لهم وأما ما عدا هذا فقد فرق المسلمين وشغلهم ببعضهم وأساء إلى غير المسلمين الذين اعتنقوا دينه بأن أضلهم وقادهم إلى سخط الله وعقابه.   (1) ((الفتوحات المكية)) (4/ 77 - 88). (2) ((رسالة إلى صلحاء العرب)) (ص: 439 - 440). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 106 ثم إن هذه الدعاوى ما الذي يمنع أن يدعيها أي شخص آخر منحرف ثم يتقدم بها إلى الناس ما دامت الدعاوى تقبل بغير برهان كما هي حال المتنبئ القادياني وإلا فأي برهان على صدق دعواه أو دعاواه تلك لا شيء إلا الشتم والسب والتكفير والخداع الكثير. بل إن الأدلة الشرعية والعقلية كلها تنادي ببطلانها وضلالها يزيد في ضلالها تلك الطامة الكبرى التي تردى فيها ذلك المسكين أخيرا حيث تخيل نفسه أنه هو البارئ سبحانه وتعالى وأنه أخذ يعيد النظر في المخلوقات ويريد أن يستبدلها بمخلوقات جديدة كما يزعم فخلق سماوات جديدة وأراضين جديدة وخلق آدم من جديد يا لها من عقلية قد عبثت بها الشياطين وأردتها إلى ذلك المستوى المخجل الذي يأنف من نزوله كل من لديه مسكة من عقل أو رائحة من دين. هذه العقلية هي التي زعمت أنها تتلقى الوحي من السماء وأن الله عز وجل قد اتصل بها لإصلاح العالم وتجديد أمر الدين. ثالثا: أما أخلاقه بعد أن تعرض لاستنكار العلماء لدعواه تلك فقد كانت في درجة هابطة لا ينزلق إليها أقل الناس شأنا فما بالك بأدعياء الوحي واستمع إلى تلك الشتائم والاتهامات التي يقذف بها هذا النبي المزعوم من يدعي الاتصال بوحي السماء والتي لم نر واحدة منها في قصة الأنبياء كما يحدثنا عنها القرآن الكريم – وحاشاهم عن ذلك. هذه هي الألفاظ التي استعملها مع خصومه: خنزير .. حمر تشهق .. كرقص بغية. .كلب .. حمار ينهق .. ما نقَّ إلا كدجاجة .. رجال مخنثون .. فضلة النوكى ... يا لهذا الأدب النبوي القادياني لو عرضت هذه الألفاظ على محكمة شرعية لناله حد القذف .. ولكنه كان آمنا من حد الله لعدم وجود الخلافة الإسلامية التي تؤدب السفهاء وتقيم بينهم حدود الله. بل قد عرضت إحدى القضايا المتعلقة بذلك على إحدى المحاكم وأدين فيها بسوء الخلق لأنه استعمل فيها ألفاظا سيئة فأخذ عليه التعهد كما حدث عن ذلك بنفسه حيث قال: (أنا عاهدت أمام نائب الحاكم بأني لا أستعمل بعد ذلك ألفاظا سيئة) (1). ومما ينضم إلى قاموس تلك الألفاظ القاديانية أنه كتب كلمة (لعنة الله) ألف مرة في أربع صفحات في آخر (نور الحق) ثم جعلها على مخالفيه وأنها لمهزلة تزري بعقل صاحبها وبعقول أتباعه. وإن هذا كله يهون مع موقفه من نبي الله عيسى عليه السلام واتهامه في نسبه وخلقه بأن أمهاته زانيات – أستغفر الله عز وجل وحاشاه من ذلك – وأنه هو كان كذلك وأنه خمار – وسيئ السيرة كذلك. يقول في ذلك (إن عيسى كان يميل إلى المومسات لأن جداته كن من المومسات) (2).ويقول كذلك (إن عيسى ما استطاع أن يقول لنفسه أنه صالح لأن الناس كانوا يعرفون أن عيسى رجل خمار وسيئ السيرة) (3). أي خلق هذا الذي يتحلى به القادياني وأي عقل هذا الذي يسف في هذه الحماقات والسفاهات التي لا تليق بآحاد الناس بله أن يتقمصها رجل يدعي الاتصال بخبر السماء. رابعا: إذا نظرنا إلى وحيه المزعوم فإننا نراه قد وصل إليه بعدة لغات العربية .. والإنجليزية .. والأردية .. والفارسية .. ولغة أخرى غير معروفة وقد جمع هذا كله في كتاب سماه أتباعه (تذكرة) وفسروه بقولهم (يعني وحي مقدس) تحت العنوان. وقد خلط بين هذه اللغات المختلفة فترى الصفحة الواحدة مملوءة بعدة لغات .. أسطر منها بالأردو ثم جملة واحدة بالعربي ثم يعقبها لغة أخرى عدة أسطر .. وهكذا كل صفحة ولنأخذ صفحة من صفحات ذلك الكتاب مثلا: ص 32   (1) (مقدمة كتاب البرية)) (ص 13) للغلام نفسه، عن ((القاديانية)) لإحسان (ص 144). (2) (ضميمة أنجام آثم حاشية)) (ص 7) للغلام نفسه. (3) (([16188] (ست بجن في الحاشية)) (ص 172) للغلام نفسه، كلاهما عن ((القاديانية)) لإحسان (ص 143). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 107 سطران بغير العربي ثم جملة عربية هي (أشكر نعمتي رأيت خديجتي) ثم ستة أسطر غير عربية ثم جملة فيها (الحمد لله الذي جعل لكم الصهر والنسب) ثم بقية الأسطر غير عربية .. وهكذا بقية الصفحات. ونحن هنا سنناقش ما ورد فيه من العبارات العربية: وهي مزيج من: القرآن الكريم والأحاديث النبوية والشعر العربي وكلام لا يدري ما هو. فأما الآيات التي أخذها من القرآن فهي أكثر ما في ذلك الوحي المزعوم بعضها نقله كما هو نحو قوله هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا [الإنسان: 1] (1). وقوله فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا. [مريم: 23] (2) وقوله أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ وقوله وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ , وقوله وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ (3).، إلى غير ذلك من الآيات. أما تحريفه للآيات فكثيرة منها الآية المتقدمة التي في أم عيسى مريم عليها السلام طبقها على نفسه فقال (فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا) وقوله (كنتم خير أمة أخرجت للناس وافتخارا للمؤمنين) (4).، ويقول (إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بشفاء من مثله وأما الأحاديث: فمنها ما جاء به كما هو نحو قوله ((الله أكبر خربت خيبر)) فهذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر حيث قال ((الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)) (5). ومنها ما حرفه وغير فيه نحو قوله (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وكن من الصالحين الصديقين) فهو حديث جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عدا الزيادة الأخيرة من قوله (وكن .. إلخ) (6). وأما الشعر: فقوله (طلع البدر علينا من ثنية الوداع) (7) فهو من مطلع قصيدة قالها الأنصار رضي الله عنهم عند مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. وهي: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع (8) وأما قوله (عفت الديار محلها ومقامها) وقوله (إن المنايا لا تطيش سهامها) فهما بيتان من قصيدة لبيد بن ربيعة المشهورة وهي من المعلقات ومطلعها: عفت الديار محلها فمقامها بمنى تأبد غولها فرجامها (9).   (1) (([16189] (ص: 68) ((تذكرة)) (2) (([16190] ((تذكرة)) (ص 72) (3) (([16191] ((تذكرة)) (ص 75) (4) (([16192] ((تذكرة)) (ص 365) (5) (([16193] رواه البخاري (371) ومسلم (1365) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (6) (([16194] رواه البخاري (6416) من حديث ابن عمر. (7) (([16195] ((تذكرة)) (ص 563). (8) (([16196] رواه الخلعي في ((الفوائد)) كما في ((السلسلة الضعيفة)) (2/ 63) والبيهقي في ((الدلائل)) (2/ 506، 507) من حديث ابن عائشة. قال العراقي في ((طرح التثريب)) (7/ 239): معضل. وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (7/ 307): إسناده معضل. وقال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)): ضعيف. (9) (([16197] ((شرح القصائد التسع المشهورات)) (1/ 399). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 108 فقوله الأول هو شطر البيت من هذه القصيدة – الجاهلية – مع تغييره في اللفظ .. إذ في قوله (ومقامها وفي القصيدة (فمقامها) وقوله الثاني هو شطر البيت التاسع والثلاثين من القصيدة الذي هو: صادفن منها غرة فأصبنها إن المنايا لا تطيش سهامها (1).والقادياني يروي هذا البيت مرة أخرى مع التحريف فيه فيقول (إن المنايا قد تطيش سهامها) (2) وهذا في غاية الحمق وسوء المعتقد إذ المنية وهي الموت لا تطيش عن أحد وهي بقدر الله عز وجل وقد كان لبيد في قصيدته الجاهلية خيرا منه إذ عرف أن المنية لا تطيش ولا تخطئ. وأما الكلام الذي لا يدرى ما هو فما تقدم وهو (إيلي إيلي لما سبقتني إيلي أوس) فأي شيء هذا يا ترى؟ الله أعلم. هذه هي مجموع ما أوحى به إلى القادياني خليط من كل شيء ويبدو أنه كان يتكلم بكل ما يأتي على لسانه ويدعي أنه وحي فما دام أن في عالم البشر من لا يفرق بين الرشد والغي والعقل والجنون فليقل ما شاء وليفعل ما أراد. خامسا: أما عن تنبؤاته فالواقع أن علم الغيب لا يعلمه أحد من البشر ولا يخاطر بالتحدث عنه عاقل إلا من قبيل الحدس والظن أما الأنبياء الذين يتصلون بالله سبحانه وتعالى فإنهم يتحدثون عن ذلك وهم واثقون من تحقق ما يخبرون به ويقع موافقا لما أخبروا به لأنهم يتلقون ذلك من الله عز وجل الذي يعلم السر وأخفى. ولكن القادياني الذي يزعم الاتصال بالله عز وجل وأنه يتلقى منه الوحي فقد اقتحم ذلك الميدان وخاطر بنفسه فيه وأخبر بوقوع تلك التي لم يتحقق منها شيء. فقد تنبأ بموت ذلك الرجل النصراني فلم يمت فحاول أن يخدع الناس بأنه شرط الموت بعدم عودة النصراني إلى الحق ولكن النصراني تاب فلم تتحقق النبوءة فرد عليه النصراني بما فضحه وأظهر كذبه. ثم تنبأ بزواجه من تلك المرأة وأن الذي يتزوجها غيره يموت فلم يتزوجها هو ولم يمت زوجها. ثم تنبأ بأنه سيولد له ولد ذكر فولدت زوجته بنتا ولم تأت بولد. ثم تنبأ كذلك بعدها بأنه يولد له ولد فكان خلاف ما ذكر. ثم تنبأ أنه يتزوج نسوة أخريات ويولد أولاد فلم يتزوج بعد هذه النبوءة ولم يولد له. وتنبأ أن ولده مبارك أحمد يكبر ويكون مصلحا وصاحب العظمة ولكن الله أخزاه فمات بعد ثمان سنوات (3).   (1) (([16198] ((شرح القصائد التسع المشهورات)) (1/ 399). (2) (([16199] ((تذكرة)) (ص672). (3) (([16200] يراجع كتاب (القاديانية)) لإحسان (ص 175 - 185). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 109 وهكذا .. وهكذا .. كلما تنبأ بنبوءة واحدة أكذبه الله فيها خلاف ما ذكر فأي نبوة هذه التي تتحدث باسم الله؟ إنها نبوءات شيطانية أوقعه فهيا غباؤه وبلادته وإلا لو كان عاقلا لما عرض نفسه إلى تلك المجازفات ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يفضحه للناس حتى لا يبقى لهم على الله عز وجل حجة إلا الذين ظلموا منهم. وهذه التنبؤات التي وقعت له في حياته فلم تصدق لا يزال التاريخ القادياني يحفظها ويحاول تأويل بعضها خروجا من ذلك الحرج فهي شهادة واضحة بكذب صاحبهم ولكن الضلال إذا تمكن من إنسان أورده المهالك وأخفى عليه الحقائق واستمع إلى أحدهم وهو يبرر عدم وقوع أول نبوءة له ظنا منه أنه سيأتي من النبوءات الأخرى ما يمسح عن صاحبه عار تلك الحادثة يقول محمد على اللاهوري – أمير الفرع القادياني بلاهور – عن تلك النبوءة (هذا صحيح بأن إمامنا قال إن محمدي بيجوم تزوج له وصحيح أنها ما زوجت له ولكنه مع ذلك لا ينبغي أن يكذب الرجل لنبوءة واحدة وتترك النبوءات الأخرى التي تحققت .. ) (1). إنها مهزلة من ذلك الزعيم القادياني يبرر بها كذب نبوءة صاحبه .. إذا النبي الذي يخبر عن الله بأمور الغيب لا يمكن أن يكذب منها ولا مثقال ذرة لأنه لا يتكلم من عند نفسه فلا تكون المسألة كهانة إذا صدق أكثرها قبل منه ويعفى عن البعض الآخر لا .. لا .. إنها نبوة يتوقف عليها إيمان وكفر ووجود الشك في جزء منها يعرضها للطعن في الله عز وجل أو الطعن في ادعاء صاحبها وبهذا يكون القادياني إنسانا مفتريا يعتمد على المصادفات التي يقول أصحابها أكذب مائة كذبة لعله تصدق كذبة واحدة وهذا الجانب يكفي أن يكون دليلا على كذبه ودجله. سادسا: لم تكن هذه العقيدة – أي اعتقاد نزول الوحي عليه هي عقيدة الغلام القادياني في أول أمره إذ كان يقول قبل ادعائه النبوة (ولا يجوِّز القرآن أن يأتي نبي جديد أو قديم بعد خاتم النبيين فإن الرسول لا يتلقى علم الدين إلا بواسطة جبريل وأن باب نزول جبريل بسلسلة وحي الرسالة مقفل ومن الممتنع أن يأتي الرسول بدون أن تكون سلسلة وحي الرسالة باقية) (2).ويقول (من سوء الأدب والوقاحة والجسارة غير المحمودة أن يترك أحد نصوص القرآن الصريحة ويتبع الأفكار الركيكة ويعتقد أنه سيأتي نبي بعد خاتم النبيين وأن يبدأ سلسلة وحي النبوة بعد انقطاع وحي النبوة) (3).ويقول (فإن جوزنا ظهور نبي آخر بعد نبينا صلى الله عليه وسلم فقد جوزنا انفتاح باب النبوة بعد انغلاقه وهو غير صحيح كما هو ظاهر للمسلمين وكيف يأتي نبي بعد نبينا صلى الله عليه وسلم وقد انقطع الوحي بعد وفاته وختم الله الأنبياء على نبوته) (4). ثم نراه فيما بعد يقول (وقالوا لست مرسلا بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه فسوف يعلمون .. وما كنت متفردا في هذا بل ما أتى الناس من رسول إلا كانوا به يستهزئون وهلم جرا إلى ما تشاهدون) .. فما الذي طرأ على القادياني بعد حتى ادعى ما يخالف اعتقاده السابق؟ يبدو أن باب الوحي الإنجليزي هو الذي انفتح عليه مؤخرا وذلك ما يصوره لنا هو بنفسه حيث يقول (أني رأيت ملكا في صورة شاب انجليزي ما تجاوز عمره من عشرين سنة وهو جالس على كرسي وأمه منضدة فقلت له إنك جميل جدا فقال أي نعم) (5). ومن إلهاماته بالإنجليزية ما يلي: I love you - يعني أنا أحبك I am with you – أنا معك I shall help you – أنا أساعدك   (1) (([16201] مقال له في ((جريدة قاديانية تسمى بيغام صلح)) (16 يناير 1921م). (2) (([16202] (إزالة الأوهام)) للميرزا غلام (ص 577). (3) (([16203] (إزالة الصلح)) للميرزا أحمد (ص 34). (4) (([16204] (حمامة البشرى)) للميرزا غلام أحمد (ص 34). (5) (([16205] ((تذكرة)) (ص 31). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 110 ويذكر أنه ارتجف جسمه ثم ألهم في الإنجليزية هذه العبارة: I can what l will do (1) . أي أنا أستطيع أن أفعل ما أريد – ثم قال ففهمت التلفظ واللهجة كأنه إنكليزي يتكلم عند رأسي .. (2). نعم إنه إنجليزي وليس شبيها به .. ويبدو أن هذا الإنجليزي ماهر في طريقة الإيحاء .. وهذا لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون هذا الإنجليزي قد استعمل معه طريقة التنويم المغناطيسي أو الإيحاء النفسي وأما أن يكون قد أوحى إليه شفويا من غير أي تأثير آخر .. إذ (ملك) على صورة إنجليزي وعلى كرسي ومنضدة هذا مكتب إرسال الوحي البشري لا الإيحاء الرباني ثم يقول له أنت جميل جدا فيجيب أي نعم أهذا موقف وحي تهتز له الأعضاء أم موقف تغزل وتظرف؟!. إنها مهزلة عاشها ذلك المسكين وإنني لا أستبعد أن يكون الإنجليز قد استخدموا معه التنويم المغناطيسي وأوهموه أن ذلك من وحي السماء وهو يصدقهم عندما يرى نفسه في غيبوبة ويسمع الأصوات الإنجليزية وهو في أحد مكاتب الإدارات الإنجليزية فيزيده ذلك إيهاما على إيهامه ويظن أنه وحي من السماء بلغة انجليزية. لعل المستقبل يكشف عن ذلك في مذكرات الإنجليز وهو في الهند ولكن القادياني يعترف في مواطن كثيرة أن هذه الدعوة من غرس الإنجليز حيث ذكر في عريضة قدمها لأحد أمراء يخاطبهم فيها عن دعوته وجماعته ثم يقول (ما غرسها إلا أنتم) هذه شهادته بنفسه ويؤيدها عشرات الرسائل والاعترافات التي سجلها هو في كثير من كتبه وسنرى طرفا منها فيما يأتي – إن شاء الله. سابعا وأخيرا: فإن عمالته لبريطانيا تبدو في مواضع كثيرة من كتاباته وفي أكثر من خطاب بعثه إلى الحكومة الإنجليزية ومنها خطابه الآتي الذي يقول فيه: (ولا يخفى على هذه الدولة المباركة أنَّا من خدامها ونصحائها ودواعي خيرها من قديم وجئناها في كل وقت بقلب صميم وكان لأبي عندها زلفى وخطاب التحسين ولنا لدى هذه الدولة أيدي الخدمة ولا نظن أن تنسها في حين – وكان والدي الميرزا غلام مرتضى بن ميرزا عطا محمد القادياني من نصحاء الدولة وذوي الخلة وعندها عن أرباب القربت .. بل ثبت إخلاصنا في أعين الناس كلهم وانكشف على الحاكمين. وتعلم الدولة أن أبي كيف أمدها في حين محاربات مشتدة الهبوب وفتن مشتطة اللهوب وأنه أعطا الدولة خمسين خيلا مع الفوارس مددا منه في أيام المفسدة وسبق السابقين في إمدادات المال .. ) ثم استرسل بذكر أبيه وكذلك أخيه بعد موت أبيه إلى أن قال (ثم بعد وفاتهما قفوت أثرهما واقتديت سيرهما) – وذكر عصرهما – ثم اعتذر عن وجود المال الذي يقدمه مساعدة لها على غرار سلفه وأنه سخر لخدمتها قلمه يقول: (فقمت لإمدادها بقلمي ويدي).ثم قال (فانظروا يا أولي الأبصار لم فعلت هذه الأفعال ولم أرسلت هذه الكتب التي فيها منع شديد من الجهاد لهذه الدولة في ديار العرب وغيرها من البلاد) (3). أي رجل شريف هذا الذي يفخر بخدمته لأناس هم أعداء الله ورسوله ثم هم ظالمون مغتصبون جاؤوا من بريطانيا واقتحموا بلاد الهند فأذلوا أهلها وتسلطوا على خيراتها وأرزاقها ثم يفخر هذا المتنبئ أنه ابن أسرة خادمة لهؤلاء الكفار الظلمة والله عز وجل يقول وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود: 113] فهذا الركون فما بال المساعدة والمعاونة أن هذا الظلم الصارخ الذي أزعج المواطنين فلم يهنوا ولم يذعنوا بل قاوموه بكل طاقاتهم وشهروا السلاح في وجوه الغاصبين يطالبونهم بالجلاء إن هذا الظلم الذي ينكره أقل البشر لم يهز المتنبئ القادياني بل لا يرى أنه ظلم فأي نبوة هذه التي تبارك الظلم وتمجد الظالمين وتعينهم على ظلمهم ولكن إذا عرف السبب بطل العجب إن السبب في ذلك المسخ في عقل القادياني أنه (غرسة من غراسهم) غرسوها وغذوها بغذاء الظلم وأموال الظالمين فلا غرابة إذن .. وإلا فإننا نرى الإحساس بالظلم والثورة في وجهه حتى من الحيوانات التي لا تعقل ولا تفكر فبمجرد أن يعتدي حيوان آخر على مسكنه أو أولاده أو رزقه فإنه يحول بينه وبين ذلك وتحدث بينهم الصراعات والمعارك لا لشيء إلا للإحساس بالظلم فإذا ما فقد هذا الإحساس في إنسان من الناس فإنه يفقد إنسانيته بل وينحدر إلى أدنى درجات المخلوقات بله أن يكون متصلا برب الأرض والسموات. هذه هي القاديانية على ضوء مصادرها هي وعلى ضوء ما كتبه عنها علماء الأمة لم نجد فهيا ما يستحق المدح والثناء لا في حياة منشئها ولا في محتويات أصولها ومبادئها إلا ذلك الخلط والسفه والتناقض والتهافت .. دعاوى باطلة .. وعقائد فاسدة .. وهذيان مخلوط من كل شيء .. ونبوءات كاذبه .. وعمالة واضحة .. وكل جانب فيها ينادي بكذبها ودجلها. المصدر: عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية لأحمد بن سعد بن حمدان الغامدي - ص: 256 - 270   (1) (([16206] ((تذكرة)) (ص 64 - 65). (2) (([16207] ذكر ترجمتها إحسان إلهي: ((القاديانية)) (ص 25). (3) (([16208] ضمن كتابه ((نور الحق)) (ص 26 – 31). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 111 المطلب الثاني: الرد على القاديانية فيما يتعلق بالمهدي والمسيح ورد في السنة النبوية عدة أحاديث تؤكد ظهور المهدي في آخر الزمان منها ما رواه أبو سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ((أبشركم المهدي في أمتي على اختلاف من الناس، وزلازل فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، يقسم الأرض صحاحاً. فقال رجل: وما صحاحاً؟ قال: بالسوية بين الناس. قال ويملآ الله قلوب أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، غنىً ويسعهم عدله حتى يأمر منادياً فينادي فيقول: من له في مال حاجة فما يقوم من الناس إلا رجل واحد فيقول: ائت السدَّان - وفي رواية السادن - أي الخازن - فقل له: إن المهدي يأمرك أن تعطيني مالاً فيقول له: احث حتى إذا جعله في حجره وأبرزه ندم. فيقول: كنت أجشع أمة محمد نفساً؟ أوعجز عني ما وسعهم؟ قال: فيرده فلا يقبل منه فيقال: إنا لا نأخذ شيئاً أعطيناه فيكون كذلك سبع سنين أو ثمان سنين ثم لا خير في العيش بعده أو قال: ثم لا خير في الحياة بعده)) (1).وقد جاء في صحيح مسلم أقر فيه إشارة إلى المهدي دون ذكر اسم المهدي، فعن أبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده)) (2).وعن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، ((يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي)). وقال أبو هريرة، رضي الله عنه: ((لو لم يبق من الدنيا إلا يومٌ لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يلي)) (3).إن أحاديث ظهور المهدي في آخر الزمان كثيرة، وصحيح أن في بعض هذه الأحاديث ضعف في إسنادها إلا أن كثرة رواياتها مما يقوي بعضها بعضاً، يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: "وهذه الأحاديث وإن كان في إسنادها بعض الضعف والغرابة فهي مما يقوي بعضها بعضاً، ويشد بعضها بعضاً، فهذه أقوال أهل السنة" (4).ويقول العلامة ابن خلدون في مقدمته: "إن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممرِّ الأعصار أنه لابد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين، ويظهر العدل ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلامية، ويسمى المهدي، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أثره، وإن عيسى ينزل من بعده فيقتل الدجال أو ينزل معه فيساعده على قتله ويأتم بالمهدي في صلاته" (5).وقال العلامة السفاريني في كتابه (لوامع الأنوار البهية): "والصواب الذي عليه أهل الحق أن المهدي غير عيسى، وأنه يخرج قبل نزول عيسى عليه السلام، وقد كثرت بخروجه الروايات حتى بلغت حد التواتر المعنوي وشاع ذلك بين علماء السنة حتى عُدَّ من معتقداتهم .. ..   (1) (([16209] رواه أحمد (3/ 37) (11344) ومسدد وابن منيع كما في ((إتحاف الخيرة)) (7613/ 2) وهو في الترمذي (2232) وابن ماجه (4083) مختصرا. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 610): رواه أحمد بأسانيد وأبو يعلى باختصار كثير ورجالهما ثقات. وقال الذهبي ((ميزان الاعتدال)) (3/ 97): فيه العلاء بن بشير مجهول. وقال الشيخ الألباني ((السلسلة الصحيحة)) (7/ 1731): رجاله ثقات رجال مسلم غير العلاء بن بشير وهو مجهول لكن قد توبع على بعضه. وقال في ((الضعيفة)) (1588): ضعيف. (2) رواه مسلم (2914/ 2913). (3) رواه الترمذي (2231) وأحمد (1/ 376) (3571) وهو عنده دون قول أبي هريرة،.قال الترمذي: حسن صحيح. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (5/ 197): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح الترمذي)) (2231): حسن صحيح. (4) ابن القيم ((المنيف في الصحيح والضعيف)) (ص79). (5) ابن خلدون ((المقدمة))، (1/ 555). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 112 فالإيمان بخروج المهدي واجب كما هو مقرر عند أهل العلم ومدون في عقائد أهل السنة والجماعة" (1). هكذا ورد في نزول عيسى في آخر الزمان عدة أحاديث صحيحة بلغت حد التواتر، حيث سينزل عيسى، عليه السلام، لقتل الدجال ولإحياء ما درس من شريعة الإسلام. ومن هنا نفهم أن مسألة نزوله لا يعني أبداً أنه سيأتي بشريعة جديدة، بل سيعمل ويحكم بشريعة الإسلام، ذلك أن رسالة محمد، صلى الله عليه وسلم، هي خاتمة الشرائع، ونبوته هي النبوة الخاتمة، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة، رضي الله عنه – وأشرنا إليه – قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد)) (2) وعن جابر بن عبد الله قال: سمعت النبي، صلى الله عليه وسلم يقول: ((ولا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة قال: فينزل عيسى ابن مريم، صلى الله عليه وسلم، فيقول أميرهم: تعال صل لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة)) (3).فمسألة نزول عيسى، عليه السلام، وقتله الدجال والخنزير، وحكمه بشريعة الإسلام من المسائل المقررة التي يعتقدها جمهور العلماء من أهل السنة والجماعة، وإن قول عيسى، عليه السلام، في الحديث الذي رواه مسلم حين طلب منه أن يصلي إماماً تأكيداً لقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ((لا نبي بعدي)) (4). ومعنى ذلك أيضاً أن نبي الله عيسى، عليه السلام، سينزل حاكماً بشريعة الإسلام، ويُحيي تعاليم الإسلام التي اندرست وغابت عن حياة الناس. والأمر العجيب حقاً ما يدعيه القاديانيون حيث يدَّعون أن المقصود بالمسيح الموعود في الأحاديث النبوية الشريعة ليس عيسى ابن مريم، عليه السلام، لأنه مات، وإنما المقصود هو مثيل المسيح، يعني مسيح مثل ابن مريم، ويعنون بذلك مسيحهم المزعوم مرزا غلام أحمد، ويقولون: طالما أن المسيح كان نبياً، فلا ينافي مجيئه مع ختم النبوة. والحقيقة .. .. إن الأحاديث النبوية الشريفة تبين لنا تعسف القاديانية في تأويلها تأويلاً خاطئاً لصالح زعمهم بأن غلام أحمد هو المسيح ابن الموعود، والأحاديث في نزول عيسى ابن مريم كثيرة كما ذكرنا. فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: ((كيف أنتم إذا نزل ابن مريم وإمامكم منكم)) (5).   (1) محمد السفاريني: ((لوامع الأنوار البهية))، (ص80). (2) رواه البخاري (2222) ومسلم (159). (3) رواه مسلم (156). (4) رواه البخاري (3455)، ومسلم (1842). (5) رواه البخاري (3449) ومسلم (155). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 113 والحديث ينص على أن النازل هو عيسى ابن مريم لا مثيله كما يدعي القاديانيون، ويشير أيضاً إلى أن عيسى، عليه السلام، يُصلي خلف إمام المسلمين، يوم ذاك، فهو لا يؤم في الصلاة، لأنه لن يأتي بشريعة جديدة وإنما يتبع شريعة خاتم الأنبياء، صلى الله عليه وسلم، لأنه لا نبوة بعده صلى الله عليه وسلم. وعن جابر بن عبد الله، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (( .. .. فينزل عيسى ابن مريم، صلى الله عليه وسلم، فيقول أميرهم: تعالى فصلِّ فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة)) (1).وعن أبي هريرة، رضي الله عنه: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ((ليس بيني وبينه نبي يقصد عيسى ابن مريم وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، بين مصرتين كأن رأسه يقطر، وإن لم يصبه بلل، فيقاتل الناس على الإسلام فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك المسيح الدجال، فيمكث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى، فيصلي عليه المسلمون)) (2).وعن جابر رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (( .. .. فإذا هم بعيسى ابن مريم، عليه السلام، فتقام الصلاة فيقال له: تقدم يا روح الله، فيقول: ليتقدم إمامكم فليصل بكم، فإذا صلى صلاة الصبح خرجوا إليه، فحين يرى الكذاب ينماث كما ينماث الملح في الماء، فيمشي إليه فيقتله حتى إن الشجر والحجر ينادي يا روح الله: هذا اليهودي فلا يترك ممن كان يتبعه أحداً إلا قتله)) (3).وعن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال في قصة الدجال: (( .. فينزل عيسى، عليه السلام، فيقتله، ثم يمكث عيسى، عليه السلام في الأرض أربعين سنة إماماً عادلاًُ وحكماً مقسطاً)) (4). وهذه الأحاديث وغيرها تدلنا على أن الذي ينزل هو عيسى ابن مريم، وليس غيره ولا مثيله. وحين نزول عيسى، عليه السلام، لا ينزل عليه الوحي، ولا يأتي بشريعة جديدة، وإنما سيكون متبعاً لشريعة محمد، صلى الله عليه وسلم، والغرض من نزوله هو القضاء على فتنة الدجال لا الإتيان بنبوة جديدة ورسالة أخرى ..... ويقول الإمام النووي في شرح مسلم: "ينزل عيسى ابن مريم حكماً أي حاكماً بهذه الشريعة، ولا ينزل برسالة مستقلة وشريعة ناسخة، بل هو حاكم من حكام هذه الأمة" (5).ويقول صاحب تفسير الخازن: " .. فإن قلت قد صح أن عيسى، عليه السلام، ممن نُبئ قبله، وحين ينزل في آخر الزمان، ينزل عاملاً بشريعة محمد، صلى الله عليه وسلم ومصلياً إلى قبلته كأنه بعض أمته" (6). فالذي ينزل سينزل في آخر الزمان عيسى ابن مريم، عليه السلام، وليس ميرزا غلام أحمد كما يزعم ويفتري. المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص25 - 30   (1) رواه مسلم (156). (2) (([16220] رواه أبو داود (4324) واللفظ له، وأحمد (2/ 406) (9259) و, قال ابن كثيرفي ((نهاية البداية والنهاية)) (1/ 171): إسناده جيد قوي. وقال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (14/ 201): ثابت بإسناد لا مطعن فيه. وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)). (3) رواه أحمد (3/ 367) (14997). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 346): رواه أحمد باسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح. (4) رواه أحمد 6/ 75 (24511)، وابن حبان (6822) وابن أبي شيبة (7/ 490)، وعزاه أيضا في ((إتحاف الخيرة)) (7629) إلى أبي داود الطيالسي، وأحمد بن منيع، قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 341): رجاله رجال الصحيح غير الحضرمي بن لاحق وهو ثقة. وقال شعيب: إسناده حسن. (5) ((شرح مسلم)):، (2/ 189). (6) علاء الدين البغدادي، ((تفسير الخازن))، (ص47). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 114 الرد التفصيلي: جاء في الرسالة (1) ص1: (إن سنة الله العامة الشاملة لجميع بني آدم أن يعيشوا في الأرض، فكيف خرج عيسى بن مريم من هذه السنة المستمرة كما يزعم البعض). والجواب: إن الذي شاء هذه السنة وأوجدها قادرٌ على أن يستثنى منها من شاء، ولا معقب لحكمه ولا راد لقضائه. وهل بقاء عيسى عليه السلام حيا في السماء بأعجب من ولادته من أم بلا أب؟ أليس في هذا مخالفة للسنة الكونية كما تزعمون؟ وكل جواب تجيبون به على هذا الإيراد هو جوابنا عليكم في قولكم. جاء في الرسالة ص1 - 2: الاستدلال بقوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران:144] على أن جميع الأنبياء قد توفوا؛ باعتبار أن معنى (خلا): مات، وأن أبا بكر رضي الله عنه استدل بهذه الآية على موت نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأن جميع الأنبياء قبله قد ماتوا , وأجمع الصحابة على موته وعلى موت جميع الأنبياء قبله. والجواب: لو سُلِّم بأن معنى (خلا) في الآية: مات، فقد دلت الأدلة على تخصيص عيسى عليه السلام من هذا الحكم، بمعنى أنهم قد ماتوا إلا عيسى عليه السلام، والتخصيص بدليل منفصل مقبول عند أهل العلم، خاصة وأن كلمة الرسل في هذا السياق ليست نصاً في العموم، هذا إن كانوا يفهمون معنى العموم أو التخصيص. ثم من نقل إجماع الصحابة على موت جميع الأنبياء بمن فيهم عيسى عليه السلام؟ وهل هذا إلا محض الافتراء والكذب؟ جاء في الرسالة ص1: (وأما القول بأن عيسى بن مريم عليه السلام رُفع إلى السماء حياً، وجلس عن يمين الله، وسينزل من السماء بجسده المادي في آخر الزمان مع الملائكة بكل قوة ويغلب الناس فهو في الحقيقة تصور باطل مأخوذ من عقيدة النصارى وليس بثابت من القرآن الكريم). والجواب: إن القول برفع عيسى عليه السلام حيا ونزوله من السماء بجسده في آخر الزمان حقٌ نطق به القرآن والسنة، وسيأتي بيان ذلك فيما يأتي إن شاء الله. وأما قولهم: وجلس عن يمين الله ... إلخ فهذا ليس من قول المسلمين، فلا يلزمون به. جاء في الرسالة ص1: (ولقد أبطل الله هذه العقيدة في قوله عز وجل: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ [يس:31] أي الموتى لا يرجعون إلى هذه الدنيا أبدا، فكيف يرجع عيسى بن مريم خلافا لما قال الله؟). والجواب: أولا: إن هذه الآية تخاطب الكفار بالاتعاظ بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل كيف لم يكن لهم إلى الدنيا كرة ولا رجعة، هذا معنى الآية. ثانيا: الآية تتحدث عن الموتى، والمسلمون يقولون إن عيسى عليه السلام حي لم يمت، فالدليل ليس في محل النزاع؛ فسقط الاستدلال. ثالثا: أن الله تعالى إذا شاء إرجاع من مات إلى الحياة مرة أخرى فإنه يكون، ولا يعجزه شيء سبحانه. ألم يسمع هؤلاء ما أخبر الله به في كتابه من إحياء عيسى عليه السلام الموتى بإذن الله وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ [آل عمران:49] بل أعظم من ذلك أنه كان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله؟ أو أنهم لا يؤمنون بذلك؟ وفي قصة البقرة في سورة البقرة: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:73]، وقصة إبراهيم عليه السلام: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى [البقرة:260]، وغير ذلك كثير.   (1) عنوانها: ((وفاة المسيح بن مريم والمراد من نزوله))، وعلى غلافها صورة مزعومة لقبر عيسى عليه السلام في سري نغر بكشمير الهند، من نشر الجماعة الإسلامية الأحمدية العالمية ((القاديانية)). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 115 وهذا الجواب على سبيل التنزل في الجدال، وإلا فعيسى عليه السلام لم يمت كما تقرر آنفا. جاء في الرسالة (ص1): (لو كان من الممكن رجوع نبي من الأنبياء إلى هذه الدنيا لكان نبينا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم أولى وأجدر بأن يرسل مرة ثانية؛ لكماله وفضائله وتفوقه على سائر الأنبياء عليهم السلام). والجواب: أولا: هذه الشبهة مغالطة مكشوفة؛ لأن الكلام ليس في رجوع نبي بعد موته، وإنما في نزوله وهو حي إلى الأرض؛ فسقطت الشبهة من أصلها. ثانيا: لا يلزم من أفضلية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء أن يثبت له جميع ما يقع لإخوانه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الدلائل والبراهين – التي تسمى: المعجزات - وإلا فطرد كلامهم يلزم منه عدم صحة ما جاء في القرآن من أن عيسى عليه السلام كان يُبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله؛ لأن ذلك لم يقع لنبينا عليه الصلاة والسلام، ومثل ذلك يقال عن عصا موسى عليه السلام وغيرها من آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكل جواب لهم على هذا الإيراد هو جوابنا عليهم في شبهتهم. ثالثا: أن فيما قدره الله سبحانه من رفع عيسى حيا ثم نزوله في آخر الزمان حكما عظيمة، منها: الرد على اليهود في زعمهم أنهم قتلوه عليه الصلاة والسلام، وأنه هو الذي يقتلهم ويقتل الدجال معهم. جاء في الرسالة ص2 إيراد شبهة لإنكار رفع عيسى عليه السلام، وهي قولهم: (لقد رُفع عيسى بنفس الطريقة التي رُفع بها الأنبياء الآخرون، فقد قال الله عز وجل في شأن إدريس عليه السلام: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [مريم:57]، ونفس المعنى لرفع عيسى عليه السلام في الآية الكريمة: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55]، فليس هنالك ذكر للفظ السماء، وكل ما تدل عليه هذه العبارة أن الله سوف يفشل خطة اليهود بقتل عيسى عليه السلام على الصليب ليثبتوا أنه - والعياذ بالله – ملعون من الله، وسوف يرفع درجته ويجعله من المقربين، ورفعت روحه كما رفعت أرواح الأنبياء الآخرين). والجواب: أولا: أن لأهل العلم بالتفسير أقوالا عدة في تفسير قوله تعالى عن إدريس: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [مريم:57]، فمن أهل العلم من قال: إن الله عز وجل رفعه حيا إلى السماء ومات بها، وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما من السلف، فعلى هذا تكون الآية دليلا عليهم لا لهم. وقيل: المقصود رفعه في الجنة، والجنة – ولا شك – سيدخلها بجسده وروحه، وذكر الفعل الماضي لا يشكل على هذا؛ إذ هو من باب تأكيد الوقوع، كقوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا [الزمر:73]، وقوله: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72]. وعلى هذا فلا يستقيم الاستدلال. ثانيا: لو سُلِّم بأن المراد من الآية رفع الدرجات والمنزلة في حق إدريس عليه السلام فلا يلزم أن يكون ذلك مدلول الآيات الواردة في عيسى عليه السلام؛ لأنها صريحة في رفع الجسد والروح معا، لما يأتي: أن الله تعالى قيد هذا الرفع بأنه إليه حيث قال: وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55]، وقال: بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء:158]، ومن المتقرر في الكتاب والسنة وإجماع المسلمين أن الله تعالى في العلو، فيكون رفعه عليه السلام إلى السماء، بخلاف الرفع في حق إدريس عليه السلام فإنه مطلق: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [مريم:57]، ويدرك الفرق بين الأسلوبين كل من شم للغة العربية رائحة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 116 أنه لو سُلِّم بأن الآية تحتمل معنى رفع المنزلة والمكانة؛ فإن الأحاديث الواردة في هذا الموضوع صريحة المعنى وقاطعة الدلالة على أن الرفع كان للروح والجسد معا، وكذا النزول آخر الزمان. ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير)) البخاري 4/ 134 ومسلم 1/ 135. وفي (صحيح مسلم) 4/ 2253 أنه عليه الصلاة والسلام قال: (( ... إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين " أي ثوبين مصبوغين " واضعا كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نَفَسه إلا مات، ونَفَسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه " أي يطلب الدجال " حتى يدركه بباب لد فيقتله، ثم يأتي عيسى بن مريم قومٌ قد عصمهم الله منه فيمسح وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة)). والأحاديث في هذا بالعشرات، فهل يُقال بعد ذلك إن هذا الرفع كان للروح فقط؟ ولو كان المقصود برفع عيسى رفع روحه كما جاء في الرسالة فما هي الميزة لعيسى عليه السلام؟ إذ سائر المؤمنين إذا قُبضت أرواحهم عُرج بها إلا السماء! ج - أن قوله تعالى: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا [النساء:157] دليل واضح كالشمس على ما تقرر آنفا مما يؤمن به المؤمنون قاطبة؛ فقوله تعالى: بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء:158] يدل على أن رفعه كان للبدن والروح؛ إذ لو أريد موته لقيل: وما قتلوه وما صلبوه بل مات، وهذا واضح تمام الوضوح لمن تأمل، وكان ذا بصيرة وحسن قصد. جاء في الرسالة ص2: (كما أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه ليلة المعراج في الموتى مع يحيى عليه السلام). والجواب: كون النبي صلى الله عليه وسلم رآه في السماء مع يحيى على أي شيء يدل؟ وما المانع أن يكون حيا بجسده وروحه في السماء وسائر الأنبياء بأرواحهم؟ وهل تقاس هذه الأمور الغيبية على الأمور المشاهدة؟ إن على المؤمن الذي آمن بالله ربا وبالنبي صلى الله عليه وسلم نبيا وبالإسلام دينا أن يؤمن ويُسلِّم بكل ما جاء في الوحي الشريف دون الدخول بعقله فيما لا يدرك. وإلا فيلزم القاديانيين أن يكذبوا بالمعراج من أصله؛ إذ كيف عُرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء وسلّم على الأنبياء وخاطبهم وهو حي وهم أموات؟ فكما يقولون في هذا فليقولوا في ذاك. جاء في الرسالة ص2: ذكر ما حصل في واقعة الصلب، وخلاصة ما ذُكر: أن عيسى عليه السلام لم يُرفع حيا، ولم يُلق شبهه على أحد، وإنما عُلق على الصليب بضع ساعات، ولما أُنزل كان في حالة إغماء شديد حتى خُيل إليهم أنه قد مات، ثم بعد واقعة الصلب هاجر من فلسطين إلى البلاد الشرقية: العراق وإيران وأفغانستان وكشمير والهند، وعاش عشرين ومائة سنة. هكذا ذكرت الرسالة! وكأن كاتب هذه القصة قد حضرها، أو بُعث إليه من قبره من حضرها ففصَّل له خبرها! ولا يخفى على العقلاء أن الدعاوى أمرها سهل، وأن كلا يستطيع أن يدعي ما يشاء، لكن الشأن في ثبوت هذه الدعوى بدليل مقنع، وإلا فإنه لا قيمة لها عند من يحترم عقله. وهذه القصة المزعومة، وتلك التفاصيل التي أوردوها ليس من طريق للعلم بها إلا الوحي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 117 وإنني أدعوا القاديانيين جميعا أن يبحثوا في كتب السنة جميعها عشر سنين، وإن شاؤوا معها أخرى وثالثة ورابعة حتى يأتوا بنص صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن أحد من أصحابه يسرد القصة مثل سردهم. وإن كان خيرا لهم وأقوم أن يعودوا إلى جادة الحق والرشد، ويعلموا أنه لن ينجيهم من عذاب الله إلا صدق الإيمان وصحة الاتباع، والبراءة من هذا الدين المعوج الساقط، الذي تمجه العقول وتأباه الفِطر، والله الهادي. جاء في الرسالة ص3 - 4: (واعلموا أن القرآن المجيد لا يسمح لأحد أن يصعد إلى السماء بجسده ثم ينزل منها، ألا تعلمون أن الكفار طالبوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يرقى في السماء وينزل عليهم كتابا يقرؤنه دليلا على أنه صعد إلى السماء، فرد الله عليهم: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً [الإسراء:93]، فلو كان الصعود إلى السماء بالجسد ممكنا لبشر لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى وأجدر أن يصعد إلى السماء أمام أعين الكفار ليؤمنوا به، فالأمر الذي لم يجز لأفضل الرسل محمد صلى الله عليه وسلم كيف جاز لعيسى بن مريم عليه السلام ... ). والجواب: أقول وبالله التوفيق: إن هذه الفئة المارقة لا تفتأ تتشبث بأي شبهة استدلال حتى ولو كانت في الوهن كبيت العنكبوت، لكنها في الواقع شاهدة على ضلالهم وانحرافهم، ومن ذلك هذا الاستدلال الساقط الذي يظهر ضعفه ووهاؤه لكل ذي عينين، وسوف أذكر شيئا من ذلك فيما يأتي: أولا: لقد ادعوا أن القرآن لا يسمح لأحد أن يصعد إلى السماء بجسده ثم ينزل منها؛ فيقال لهم: ماذا تقولون في معراج النبي صلى الله عليه وسلم، أليس صعودا إلى السماء ثم نزولا منه؟ وجماهير المسلمين على أن ذلك كان بجسده وروحه. هل سيسلمون بذلك كحال المسلمين فتنقطع حجتهم؟ أم سيبادرون بالإنكار والتأويل – كعادتهم – فينكشف أمرهم للمسلمين أكثر؟! ثانيا: أن الدعوى أعم من الدليل فلا يستقيم الاستدلال؛ بمعنى أنه إذا سُلم أن الآية تدل على الامتناع فإنها واردة في شأن أمرين: صعود إلى السماء مع تنزيل كتاب يُقرأ، والبحث ههنا في قضية واحدة، وهي الصعود، فلا يلزم أن يكون ذلك ممتنعا. ثالثا: هل عدم الاستجابة يدل على امتناع تحقق المطلوب؟ لا شك أن كل مسلم سيجيب بالنفي؛ فإن الله تعالى لا يعجزه شيء، وهو على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات. يوضح ذلك أن النبي قال سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً [الإسراء:93]، ولم يقل: وهل يمكن أن يقع ذلك؟ أو نحوه، بل إن قوله ذلك يدل على أن المطلوب أمر لا يمتنع وقوعه، وإنما الأمر لله سبحانه الفعال لما يريد، إن شاء أجاب إلى ما سألوا، وإن شاء لم يجب، وما هو إلا رسول يبلغ رسالات الله وينصح لهم. رابعا: إن كان يمتنع – كما يزعمون – الصعود إلى السماء فليمتنع أيضا ما ورد في السياق نفسه: وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا [الإسراء:90 - 91] إلى أن قال: أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء [الإسراء:93]، فليقولوا باستحالة تفجير الينابيع من الأرض، وأن القرآن يمنع من ذلك، وليكونوا ضحكة العقلاء. أولا يعلمون أن موسى عليه السلام ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وأعظم من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نبع الماء من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام، فإذا أمكن ذلك فلماذا لا يمكن الصعود إلى السماء؟! جاء في الرسالة ص4: أن عقيدة وفاة عيسى تمسك بها صلحاء الأمة وكبراء علمائها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 118 وعددوا منهم أربعة عشر اسما فقط، ولا أدري عن بقية علماء الأمة، ما موقفهم من هذه القضية في نظر القاديانيين؟ وما موقفهم من العلماء الكثر الذين نقلوا إجماع العلماء على رفع عيسى ونزوله من السماء؟ وهؤلاء المذكورون سأورد ما يتعلق بهم فيما يأتي: أولا: لقد نسبوا هذه العقيدة لابن عباس رضي الله عنهما؛ استنادا لتفسيره قوله تعالى: مُتَوَفِّيكَ [آل عمران:55] أي: مميتك. والجواب عن هذه الشبهة باختصار: أن مراده رضي الله عنه: وفاته آخر الزمان بعد نزوله، يؤكد هذا ما أخرجه إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس في هذه الآية: (رافعك ثم متوفيك في آخر الزمان)، انظر: (الدر المنثور) (2/ 36). وابن عباس رضي الله عنهما هو الذي يفسر كلامه، وليس بحاجة إلى القاديانيين ليحملوا كلامه حسب أهوائهم. وعلى هذا فإن في الآية تقديما وتأخيرا؛ أي: رافعك إلي ومتوفيك بعد ذلك. وتقديم التوفي على الرفع في الذكر لا يقتضي التقدم في الزمن؛ لأن الصحيح أن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب. وتتميما للفائدة أذكر أن لأهل العلم في تفسير الآية أقوالا أخرى، منها: أن التوفي بمعنى القبض، وليس الوفاة المعروفة. ومنها أن الوفاة هنا بمعنى النوم، أي رفعه الله وهو في حالة النوم، والنوم يسمى وفاة، كما قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر:42]، وقال: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ [الأنعام:60]. ثانيا: جاء في الرسالة ص4 أن الإمام مالكا رحمه الله قال: (مات عيسى)، وأحالوا إلى الشيخ علامة طاهر، بحار الأنوار. هكذا! وهذا من أسمج الكذب وأقبحه، ينقلون عن هذا الإمام الجليل هذه الكلمة في هذا الموضوع الخطير من كتاب لا يعرف لدى المالكية ولا غيرهم، فأين كلامه في الموطأ والمدونة؟ وأين كلامه في مصنفات تلاميذه وأتباع مذهبه؟ ثم إنني قلت: لعلهم يقصدون كتاب: (مجمع بحار الأنوار) لمحمد بن طاهر الفتني، وبعد بحث في مظان الموضوع فيه تبين أنه ليس فيه نقل عن الإمام مالك بن أنس في هذا الموضوع، وإنما فيه تقرير مؤلفه عقيدة المسلمين في رفع عيسى ونزوله، وإجابة عما يُتوهم من معارضة ذلك لقوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55]، انظر 5/ 91 من الكتاب المشار إليه. ثالثا: زعمت الرسالة ص4 أن الفخر الرازي يرى هذا الرأي أيضا، ونقلوا عنه ما يأتي: (قال الإمام الرازي في تفسير الآية: (يا عيسى إني متوفيك: أي إني مُنهٍ أجلك، ورافعك أي رافع مرتبتك ورافع روحك إلي ... ثم يقول: (واعلم أن هذه الآية تدل على أن رفعه في قوله تعالى: ورافعك إلي [آل عمران:55] , هو رفع الدرجة والمنقبة لا المكان والجهة، كما أن الفوقية في هذه الآية ليست بالمكان بل بالدرجة والمكانة (تفسير الفخر الرازي). والجواب عن ذلك ما يأتي: أن العبارة الأولى المنقولة هي من جملة كذبهم الكثير؛ إذ لا وجود لها البتة! والتفسير موجود ونسخه منتشرة. وإذا كان كثير من المشركين والكفار يأنفون من الكذب لأنه في معيار القيم والأخلاق غايةُ السفول؛ فإن القاديانيين لا يزالون يرتكسون في حمأته المرة تلو الأخرى، والحمد لله الذي فضحهم بأقلامهم، وسيأتي ما يفضحهم أكثر. أن الرازي أورد في تفسير الآية أوجها عديدة فيها التصريح بأن عيسى عليه السلام رُفع إلى السماء بجسده، وأنه حي فيها حتى ينزل إلى الأرض. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 119 بل إنه في أحد تلك الأوجه نقل الآتي: (ولما علم أن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو روحه لا جسده ذكر هذا الكلام ليدل على أنه عليه السلام رُفع بتمامه إلى السماء بروحه وبجسده) فماذا سيقول القاديانيون بعد هذا الكلام؟! أما العبارة الثانية التي نقلوها فإنها موجودة في آخر ذاك الموضع، وهذه عادة أهل الانحراف والهوى يأخذون من الكلام ما يوافق أهواءهم ويغطون ما سواه. إن الناظر في كلام الرازي يلحظ أنه قرر عقيدة المسلمين المعروفة بكلام طويل، ثم عقب بهذه العبارة، وتوجيه ذلك عندي أن له محملين: الأول: أن كلامه هنا عن علو الله تعالى، إذ الرازي ينفي علو الله تعالى على طريقة الجهمية، فيكون تعليقه على كلمة (إلي) في الآية، وليس مقصوده ما يتعلق بعيسى عليه السلام لأنه قد مضى الحديث عنه، وقد قرر عقيدته في ذلك بكل وضوح، ومن ذلك قوله: (وقد ثبت الدليل أنه حي، وورد الخبرعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سينزل ويقتل الدجال، ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك) 8/ 60. الثاني: أن يقال: إنه لا يرى أن هذه الآية تدل على رفع عيسى إلى السماء – فرارا من الإلزام بإثبات علو الله سبحانه – وإن كان يرى أن أدلة أخرى تدل على ذلك، وعدم الدليل المعين لا يعني عدم المدلول، إذ قد يثبت بدليل آخر، ويشهد لصحة هذا التوجيه كلامه المنقول آنفا. والنتيجة أن الرازي يعتقد رفع عيسى ونزوله، فليس في كلامه للقاديانيين مستمسك. رابعا: جاء في ص4 - 5 نسبة هذه العقيدة لابن حزم يرحمه الله، وأنه يرى أن عيسى قد مات، وأحالوا إلى كتابه (الفِصَل) عند كلامه عن المسيحية. ولا أدري هل هؤلاء يكتبون لأناس لا عقول لهم ولا أبصار، أو أنهم لا يفهمون ما يقرؤن؟ فالكتاب مشهور، ولم يذكر فيه مؤلفه كلمة واحدة مما نسبوه إليه، بل على العكس من ذلك فإنه يقرر رفع عيسى عليه السلام شأنه في ذلك شأن سائر المسلمين، انظر: الفصل 2/ 206 - 228. ألا فليتفضلوا ببيان هذا الكلام المزعوم عنه نصا، مع الإحالة إلى الجزء والصفحة، وإلا فليشهدوا على أنفسهم – وليشهد المسلمون أيضا – أنهم من الكاذبين، ولعنة الله على الكاذبين. خامسا: أحالوا في ص5 هذا الهراء إلى الألوسي رحمه الله، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) (1)، وإن العجب لا ينقضي من تمادي هؤلاء الضالين في الكذب دون حياء، فالألوسي رحمه الله يقرر عقيدة المسلمين في هذه القضية، واسمع كلامه في تفسيره روح المعاني3/ 179: (والصحيح كما قاله القرطبي أن الله تعالى رفعه من غير وفاة ولا نوم، وهو اختيار الطبري والرواية الصحيحة عن ابن عباس). هذا وقد أحالوا إلى آخرين من مفكري العصر الحديث، أشك في نسبة ما ذكروا إليهم، وقد جُرب على القاديانيين الكذب الكثير، ولا حاجة إلى بذل الجهد في تتبع ذلك؛ لأنه لو ثبتت صحة ما نسبوا إليهم فإنهم ليسوا من الأئمة الذين يُرجع إليهم في مثل هذه القضايا، وهكذا طريقة أهل الأهواء إذا أعيتهم الحيل ذهبوا يبحثون في ركام الزلات وعند خاملي الذِّكر لعلهم يجدون عندهم ما يسند بناءهم المتهدم. وإني سائل سؤالا أدع إجابته للقاديانيين وحدهم: إن بعض من سميتم وزعمتم أنهم قائلون بموت المسيح عليه السلام قد أدركوا زمن القادياني المتنبئ الكذاب، فماذا كان رأيهم فيه؟ هل كانوا يرونه المسيح والمهدي كما تزعمون؟ أم كانوا يرونه كذابا ضالا كافرا؟ وليتذكروا أنهم وصفوهم بأنهم من علماء الأمة! أجزم أنهم يعلمون الجواب علم اليقين.   (1) رواه البخاري (3483) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 120 جاء في الرسالة ص6: (واعلموا أن أكثر الأحاديث الواردة في شأن الدجال ونزول المسيح ابن مريم وعلامات ظهوره إنما هي كشوف ورؤى للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن تحمل على ظاهرها، وأكثرها تتطلب التأويل، ولفظ (ابن مريم) الوارد في الحديث إنما هو اسم وصفي أُطلق على رجل تقي مؤمن، كما استعمل اسم (امرأة فرعون) و (مريم بنت عمران) وصفا لكل مؤمن في القرآن المجيد). أقول: إنني لا أرى أن اجتراء هؤلاء على افتراء الكذب على الله أمرا غريبا؛ فالشيء من معدنه لا يُستغرب، وإنما العجب من عقول القطعان الجاهلة التي أسلست قيادها لهؤلاء الضالين، وتلقت هذا الإفك بالقبول، وصدق الله: وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا [المائدة:41]. إن مجرد نقل هذا الكلام كاف في إفساده. لو سُلم جدلا أن أكثر الأحاديث الواردة في هذا الموضوع إنما هي كشوف ورؤى؛ أليست رؤى الأنبياء وحي؟ أو أنهم لا يؤمنون بذلك؟! وماذا عن القليل - الذي هو سوى الأكثر - ما حاله عندهم؟ وإذا كان أكثر الأحاديث يتطلب التأويل، فكيف سيصنعون بأقلها؟ لقد اتضح لأهل الإيمان أن النصوص الشرعية أصبحت نهبا عند هؤلاء النوكى؛ فيحورون ويؤولون، ويصرفون ويبدلون كما يشاؤون؛ فابن مريم في الحديث ليس النبي المعروف، وامرأة فرعون ومريم بنت عمران وصف لكل مؤمن! وعلى هذه القاعدة التي يُصرف بها عن معناه كل ما لا يوافق الأهواء يمكن أن يقال: إن النصوص الواردة في الصلاة ليس المقصود بها الصلاة المعروفة وإنما شيء آخر، وكذا نصوص الزكاة والصوم، أما الحج فليس على ظاهره، ونصوص المعاد لا يراد بها حقيقتها، بل النبي محمد صلى الله عليه وسلم لا يُراد بكل النصوص التي ورد فيها ذكر اسمه ذاته الشريفة، وإنما يراد ببعضها رجل صالح من أمته! .. وهكذا أصبح الإسلام وأدلته ألعوبة بأيدي القاديانية الأحمدية، فقاتلهم الله أنى يؤفكون. ثم جاء في خلاصة تلك الرسالة المتهافتة ص6:) فالمراد من نزول عيسى بن مريم بعثة رجل آخر من أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم يشبه عيسى بن مريم في صفاته وأعماله وحالاته، وقد ظهر هذا الموعود في قاديان الهند باسم ميرزا غلام أحمد إماما مهديا، وجعله الله مثيل المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، فكان هو المسيح الموعود والإمام المهدي للأمة المحمدية ... ) إلى آخر ذاك الهراء. ولا أظن أني بحاجة إلى رد هذا الكلام الساقط، وقد بين كثير من العلماء كذب هذا الأفاك الأثيم في دعواه، وكذب أتباعه من بعده، ومن تلك المؤلفات الحسنة كتاب: (القاديانية) للشيخ إحسان إلهي ظهير رحمه الله. لكني سأذكر باختصار لمن هو مرتاب في أمره: لقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله علي وسلم بأوصاف عيسى عليه السلام عند نزوله، فهل انطبق منها حرف واحد على كذاب قاديان؟ هل نزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين ملَكين؟ هل مات كل كافر وَجد ريح نَفَسه؟ هل قتل الدجال؟ هل كسر الصليب؟ هل كان حاكما عادلا؟ هل قتل الخنزير؟ هل جمع الناس على دين واحد هو دين الإسلام؟ هل كثر المال في عهده؟ هل وقعت الأمنة في الأرض؟ هل حج بعد نزوله؟ هل هل ... أسئلة كثيرة أطرحها لمن كان فيه أدنى مسكة من عقل أو جذوة من إيمان. المصدر: التوضيح لإفك الأحمدية (القاديانية) في زعمهم وفاة المسيح لصالح بن عبد العزيز السندي - مقال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 121 أولاً: ختم النبوة في القرآن الكريم: لقد أكد القرآن الكريم على هذه الحقيقة وهذا الأصل قال تعالى: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40]. وعلى قراءة: خاتم بكسر التاء فهذا وصف له، صلى الله عليه وسلم، بأنه ختم الأنبياء، وأنه ليس بعده نبي، وكذا بفتح التاء، فإن كلاً منهما يُستعمل بمعنى الآخر. ويؤكد هذا المعنى حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في صحيح البخاري، فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين)) (1). وهذا الأمر أجمع عليه أهل الإسلام، قال الإمام ابن عطية في تفسير قوله تعالى: أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] هذه الألفاظ عند جماعة علماء الأمة خلفاً وسلفاً متعلقة على العموم التام، مقتضية نصاً: أن لا نبي بعده، صلى الله عليه وسلم".إن القرآن الكريم واسلنة المطهرة يبينان للخلق جميعاً أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، هو خاتم الأنبياء والمرسلين، يقول ابن كثير: "أخبر الله تعالى في كتابه ورسوله، صلى الله عليه وسلم، في السنة المتواترة عنه أن لا نبي بعده، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال ضال مضل" (2). لقد انقطع وحي السماء إلى الأرض بختم نبوة محمد، صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] أي آخرهم، فخاتم كل شيء أي عاقبته وآخره. قال ابن حيان في تفسيره البحر المحيط: "قرأ الجمهور وخاتم النبيين بكسر التاء بمعنى أنه ختمهم أي جاء آخرهم" (3).وقال القاسمي في تفسيره محاسن التأويل: "تمت الرسالات برسالته إلى الناس أجمعين، وظهر مصداق ذلك بخيبة من ادعى النبوة بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها" (4).ويقول ابن الجوزي: "ومن قرأ "خاتم" بكسر التاء فمعناه وختم النبيين، ومن فتحها فالمعنى آخر النبيين" (5).ويقول العلامة ابن كثير: "فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بعده بالطريق الأولى والأحرى، لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي ولا ينعكس" (6). ولأن الله سبحانه وتعالى جعل نبيه محمداً، صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء والرسل أجمعين فقد جعل رسالته عامة للبشر جميعاً يقول تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158].يقول الإمام الطبري في تفسيره: "قل يا محمد للناس كلهم إني رسول الله إليكم جميعاً لا إلى بعضكم دون بعض، كما كان من قبلي من الرسل مرسلاً إلى بعض الناس دون بعض" (7).   (1) رواه البخاري (3535) ومسلم (2286) (2) (([16228] ابن كثير: ((تفسير القرآن العظيم))، (3/ 493). (3) أبو عبد الله محمد بن يوسف بن حيان: ((البحر المحيط))، (7/ 236). (4) [16230])) محمد جمال الدين القاسمي: ((محاسن التأويل))، (6/ 486). (5) ابن الجوزي: ((زاد المسير))، (6/ 93). (6) ابن كثير: ((تفسير القرآن العظيم))، (3/ 493). (7) أبو جعفر الطبري: ((تفسير الطبري))، (9/ 86). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 122 وتأكيداً لهذا المعنى فقد امتلأ كتاب الله تعالى بآيات كثيرة تبين للناس أن صاحب الرسالة الخاتمة، صلى الله عليه وسلم، رسالته عامة للبشر جميعاً يقول تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ [سبأ:28]. وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. وقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]. ولأن الله سبحانه وتعالى جعل الإسلام الدين الخاتم، ورسوله الرسول الخاتم، لذا فقد كمل الدين بالنبوة الخاتمة التي لا نبوة بعدها، يقول تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3].وأخرج الإمام الطبري عن ابن عباس، رضي الله عنه، قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وهو الإسلام. قال أخبر الله نبيه، صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه الله عز وجل فلا ينقصه أبداً، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبداً" (1). ولأن رسالة محمد، صلى الله عليه وسلم، الرسالة الخاتمة، ولأن دينه خاتم الأديان، لذا كانت معجزته عقلية خالدة، باقية ما بقي الزمان، فقد كانت الرسالات السابقة على الإسلام معجزاتها حسية لا تتجاوز فترة حياة النبي صاحب المعجزة, أما معجزة محمد، صلى الله عليه وسلم، فهي باقية، لأنها تخاطب العقل في كل زمان ومكان. ولقد تحدى القرآن الكريم أن يأتي العرب وغير العرب بمثل سورة منه فعجزوا عن ذلك منذ نزل القرآن الكريم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يقول تعالى في عظمة وقوة: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]. ويقول الشيخ محمد عبده في رسالة التوحيد: "فهذا القضاء الحاتم منه –تعالى - بأنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بشيء من مثل ما تحداهم به ليس قضاء بشرياً، ومن الصعب بل ومن المتعذر أن يصدر عن عاقل التزام كالذي التزمه، وشرط كالذي شرطه على نفسه، لغلبة الظن عند من له شيء من العقل أن الأرض لا تخلو من صاحب قوة مثل قوته، وإنما ذلك هو الله المتكلم، والعليم الخبير، والناطق على لسانه، صلى الله عليه وسلم، وقد أحاط علمه بقصور جميع القوى عن تناول ما استنهضم له وبلوغ ما حثهم عليه" (2). والحقيقة كما يقول عفيف طبارة: "إن معجزات الرسل السابقين الدالة على صدق نبوتهم هي وقائع تنقضي، يراها الذين عاصروا الأنبياء فيؤمنون حث الإيمان بمن جاءت على يدهم ولا يراها الذين يأتون من بعدهم، بل تصل إليهم أخبارها فيضعف تأثيرها على الأمم التابعة .. .. والآن بعد أن ترقى العقل وكثرت المعارف ودخلت الشبهات على الأديان ضعف تأثير هذه المعجزات على أتباع الأديان، أو بالأحرى ضعف الإيمان وسرى الإلحاد، فكان الدين بحاجة إلى دلائل وبراهين على صحته غير البراهين السالفة" (3). لقد كان القرآن الكريم معجزة محمد، صلى الله عليه وسلم، ومعجزة الدين الخاتم والرسالة الخاتمة: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40]   (1) أبو جعفر الطبري: ((تفسير الطبري))، (9/ 518). (2) محمد عبده: ((رسالة التوحيد))، (ص170) نقلاً عن ((روح الدين الإسلامي)) لطبارة، (ص27). (3) عفيف طبارة: ((روح الدين الإسلامي)) (ص29). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 123 ثانياً: خصائص القرآن دليل على ختم نبوته: يقول تعالى في سورة المائدة: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة: 48]. هذه الآية الكريمة تبين لما بوضوح أن القرآن الكريم هو المصدق للكتب السماوية السابقة على الإسلام، وأنه الشاهد والمهيمن عليها والمبين لما فيها من خطأ أو صواب، وهذا يؤكد لنا أن القرآن الكريم هو آخر الكتب السماوية، لهذا جعله الله تعالى بياناً لما اختلفوا فيه في كتبهم، يقول تعالى: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ [النحل: 64].يقول الإمام محمد بن علي الشوكاني في فتح القدير: "إن القرآن صار شاهداً بصحة الكتب المنزلة، ومقرراً لما فيها مما لم ينسخ، ناسخاً لما خالفه منها، ورقيباً عليها، وحافظاً لما فيها من أصول الشرائع، وغالباً لها كونه المرجع في المحكم منها والمنسوخ" (1). يقول تعالى: مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة:97]. ولقد أنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله الكريم لينذر به الخلق جميعاً، قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ [ص: 87]. وقال تعالى: وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ [القلم: 52]. ولقد تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظ هذا الكتاب من كل تحريف أو زيادة أو نقص: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]. وهذا عكس الكتب السابقة حيث استحفظ الله الربانيون والأحبار على كتابه واستأمنهم عليه، لكنهم لم يكونوا أمناء لكنهم لم يكونوا أمناء على ما استحفظوا عليه. قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] أي حفظه الله من أن تزيد فيه الشياطين باطلاً أو تنقص منه حقاً، فتولى سبحانه حفظه فلم يزل محفوظاً، وقال في غيره: "بما استحفظوا" فوكل حفظه إليهم فبدلوا وغيروا " (2).   (1) الشوكاني: ((فتح القدير))، (2/ 48). (2) القرطبي: ((تفسير القرطبي))، (10/ 5). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 124 ثالثاً: خصائص الرسول والرسالة: إن خصائص الرسول والرسالة تدل على أن رسالته الخاتمة وأنه خاتم الأنبياء، لقد بعث الله تعالى محمداً، صلى الله عليه وسلم، برسالته للناس جميعاً، مما يبين لنا أنه النبي الخاتم، يقول تعالى: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28]. وهذا يقتضي عموم رسالته للناس كافة، ولأن رسالته عامة للناس جميعاً فلا نبي بعده، فهو خاتم الأنبياء، لذا جعله الله - تعالى- رحمة للعالمين مؤمنهم وكافرهم، فقد كان المكذبون بالرسل قبل مبعثه يهلكهم الله سبحانه وتعالى أرسله رحمة للعالمين، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. وقال تعالى: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ [الأنفال:33] ولقد نسخ الله تعالى برسالة محمد، صلى الله عليه وسلم، جميع الشرائع التي كانت قبل الإسلام وارتضى للناس دينه الخاتم شريعة وعقيدة يقول تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3] وأخذ الله العهد على جميع أنبيائه ورسله أن يؤمنوا بمحمد، صلى الله عليه وسلم، إذا بُعث محمد وهم أحياء، فعليهم الإيمان به وبنصرته، قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81] وقد ورد تفسير آخر للآية: "أن الله تعالى أخذ ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضاً، ويأمر بعضهم بالإيمان ببعض ذلك معنى النصرة بالتصديق" (1). والحقيقة لا تعارض بين التفسيرين، لأن النتيجة واحدة، فتصديق الأنبياء بعضهم بعضاً يؤدي بالضرورة إلى التصديق ونصرة خاتمهم محمد، صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى: بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 37]. وقرئت وصدَّق المرسلون.   (1) القرطبي: ((تفسير القرطبي)) (4/ 124). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 125 رابعاً: ختم النبوة في السنة المطهرة بين رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في سنته المتواترة أنه لا نبي بعده، ففي حديث طويل قال: ((وإنه سيكون في أمتي كذابون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي)) (1).وعن ابن عباس، رضي الله عنه، في حديث الشفاعة يوم القيامة، وهو حديث طويل، وفيه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذكر طلب الناس الشفاعة من الأنبياء واحداً تلو الآخر ليشفعوا إلى الله –عز وجل – في الحساب بين الناس لطول وقوفهم دون حساب ((حتى يصل الناس إلى عيسى –عليه السلام - فيقول لهم: أرأيتم لو كان متاع في وعاء قد ختم عليه، أكان يقدر على ما في الوعاء حتى يفض الخاتم؟ فيقولون: لا. فيقول: إن محمداً، صلى الله عليه وسلم، خاتم النبيين)) (2) والأحاديث في ختم النبوة صحيحة منها حديث أبي هريرة: (( .. .. وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبوة)) (3). ومنها حديث عبد الله بن عمرو حيث قال: ((خرج علينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوماً كالمودع فقال: "أنا محمد النبي الأمي –ثلاثاً - ولا نبي بعدي)) (4) وقد بين رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن النبوة انقطعت بنبوته الخاتمة الخاتمة، وأنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤية الصالحة، فعن ابن عباس، رضي الله عنه، قال: ((كشف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الستار والناس صفوف خلف أبي بكر، رضي الله عنه، فقال: "أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم أو ترى له)) (5).وعن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ((أنا قائد المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النبيين ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر)) (6).وعن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وأنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون)) (7).وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون له ويقولون: هلا وضعت اللبنة. قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين)) (8).   (1) رواه أبو داود (4252) والترمذي (2219) وأحمد (5/ 278) (22448) من حديث ثوبان. سكت عنه أبو داود , وقد قال في ((رسالته لأهل مكة)) كل ما سكت عنه فهو صالح. وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 142): محفوظ من غير وجه. وصححه الألباني في صحيح أبي داود. (2) رواه أحمد (1/ 295) (2692) قال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (4/ 241): إسناده صحيح. (3) رواه مسلم (523) وفيه النبيون بدل النبوة. (4) (([16243] رواه أحمد (2/ 172) (6606) وابن مردويه كما في ((الدر المنثور)) (3/ 574). قال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (10/ 107): إسناده حسن. وقال الألباني في ((إرواء الغليل)) (8/ 128): إسناده ضعيف. (5) رواه مسلم (479). (6) رواه الدارمي (49) والطبراني في ((الأوسط)) (170). قال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (10/ 223): إسناده صالح. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 2257): فيه صالح بن عطاء بن خباب ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. وقال الوادعي في ((الشفاعة)) (ص 48): فيه صالح بن عطاء مجهول. (7) رواه البخاري (3455) ومسلم (1842) من حديث أبي هريرة. (8) رواه البخاري (3535) ومسلم (2286). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 126 وقد حذرنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من أدعياء النبوة من بعده، فعن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: ((إن بين يدي الساعة كذابين فاحذروهم)) (1).وعن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذاباً رجالاً كلهم يكذب على الله عز وجل ورسوله، صلى الله عليه وسلم،)) (2).وعن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ((أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحيه الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي، وأنا العاقب – والعاقب الذي ليس بعده نبي)) (3). وجملة العاقب الذي ليس بعده نبي "قيل: إنها من كلام النبي، صلى الله عليه وسلم. وقيل: إنها من كلام الصحابي الراوي. وقيل: إنها من كلام الزهري. ومن الأحاديث الشريفة التي تبين أن محمدا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هو الرسول الخاتم، يقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ((فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون)) (4).وعن عبد الرحمن بن جبير قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: ((خرج علينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوماً كالمودع فقال: أنا محمد النبي الأمي - ثلاثاً- ولا نبي بعدي)) (5).وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لم يبعث نبياً إلا حذر أمته من الدجال، وأنا آخر الأنبياء، وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة)) (6) وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ((لا نبي بعدي ولا أمة بعد أمتي)) (7).وعن ثوبان قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (( .. وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي)) (8).   (1) رواه مسلم (1822). (2) رواه أبو داود (4334) وأحمد (2/ 450) (9817) من حديث أبي هريرة. سكت عنه أبو داود , وقد قال في ((رسالته لأهل مكة)) كل ما سكت عنه فهو صالح. وقال الألباني: حسن الإسناد، وقال شعيب: صحيح وهذا إسناد حسن. (3) رواه البخاري (3532) ومسلم (2354) واللفظ لمسلم. (4) رواه مسلم (523). (5) (([16252] رواه أحمد (2/ 172) (6606) وابن مردويه كما في ((الدر المنثور)) (3/ 574). قال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (10/ 107): إسناده حسن. وقال الألباني في ((إرواء الغليل)) 8/ 128: إسناده ضعيف. (6) رواه ابن ماجة (4077) والطبراني (8/ 146) (7644) والحاكم (4/ 580) قال ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (2/ 411): غريب جدا من هذا الوجه. وقال الألباني في ((ضعيف ابن ماجه)) (814): ضعيف. وصححه في ((صحيح الجامع)) (7875). (7) رواه الطبراني8/ 302 (8146)، والبيهقي في ((دلائل النبوة)) (7/ 37)، قال البيهقي: في إسناده ضعف. وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/ 132): إسناده مظلم. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 186): فيه سليمان بن عطاء القرشي وهو ضعيف. (8) رواه أبو داود (4252) والترمذي (2219) وأحمد (5/ 278) (22448) من حديث ثوبان. سكت عنه أبو داود (وقد قال في رسالته لأهل مكة كل ما سكت عنه فهو صالح). وقال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 142): محفوظ من غير وجه. وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 127 إن هذه النصوص وغيرها تبين لكل ذي عينين وعقل صريح وقلب سليم، أنه لا نبي بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأن سلسلة الأنبياء قد انتهت به، وأن كل من ادعى النبوة في حياته أو بعد مماته إنما هو كذاب ضال مضل .. فهذه النصوص النبوية تجزم بما لا يدع مجالاً للشك أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هو النبي الخاتم، وقد انقطع الوحي بوفاته، صلى الله عليه وسلم. يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: "إن الأمة فهمت بالإجماع من هذا اللفظ أي ((لا نبي بعدي)) (1) ومن قرائن أحواله أنه أفهم عدم نبي بعده أبداً، وإنه ليس فيه تأويل ولا تخصيص، فمكر هذا لا يكون إلا منكر الإجماع" (2).وقال الزمخشري: "فإن قلت كيف كان آخر الأنبياء وعيسى ينزل في آخر الزمان؟ قلت: معنى كونه آخر الأنبياء أنه لا ينبأ أحد بعده، وعيسى مما نبئ قبله، وحين ينزل، ينزل عاملاً على شريعة محمد مصلياً إلى قبلته كأنه بعض أمته" (3).وقال البيضاوي في تفسيره: "محمد، صلى الله عليه وسلم، آخر أنبياء الذي ختمهم أو ختموا به، ولا يقدح فيه نزول عيسى بعده، لأنه إذا نزل كان على دينه" (4).وإن المسلم يجب أن يكون معتقداً اعتقاداً جازماً بأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هو خاتم الأنبياء، وإن عدم الإيمان بختم النبوة بمحمد، صلى الله عليه وسلم، فهذا جزم بأن صاحب هذا الاعتقاد كافر وليس بمسلم على الإطلاق، فالإيمان بختم النبوة من المسلمات ومن الأمور المعروفة في الدين بالضرورة، وقد ادعى رجل في عصر الإمام الأعظم أبي حنيفة النبوة وقال أنه عنده دليل على صحة نبوته فقال الإمام الأعظم رضي الله عنه: من طلب منه الدليل فقد كفر، لأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال في الحديث الصحيح: ((لا نبي بعدي)) (5).   (1) رواه البخاري (3455)، ومسلم (1842). (2) الغزالي: ((الاقتصاد في الاعتقاد)). (3) ابن كثير: ((تفسير القرآن العظيم)) (3/ 493). (4) البيضاوي: ((أنوار التنزيل)) (4/ 164). (5) رواه البخاري (3455)، ومسلم (1842). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 128 خامساً: إجماع الصحابة ولقد أجمع الصحابة، رضوان الله عليهم، بعد وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على أنه النبي الخاتم بدليل أنهم أنفسهم الذين نقلوا إلينا أحاديث ختم النبوة بمحمد، صلى الله عليه وسلم، وهم الذين أجمعوا على قتال المتنبئين بعد وفاته، صلى الله عليه وسلم. وعن ابن أبي أوفى، رضي الله عنه، لما سئل عن إبراهيم ابن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ((مات صغيراً ولو قضى أن يكون بعد محمد، صلى الله عليه وسلم، نبي عاش ابنه، ولكن لا نبي بعده)) (1).ويقول القاضي عياض: "أخبر، صلى الله عليه وسلم، أنه خاتم النبيين، لا نبي بعده، وأخبر عن الله تعالى أنه خاتم النبيين، وأنه أرسل كافة للناس، وأجمعت الأمة على حمل هذا الكلام على ظاهره، وأن مفهومه المراد منه دون تأويل وتخصيص" (2).ويقول الآلوسي في تفسيره روح المعاني: "وكونه، صلى الله عليه وسلم، خاتم النبيين مما نطق به الكتاب، وصدعت به السنة، وأجمعت عليه الأمة، فيكفر مدعي خلافه، ويقتل إن أصر" (3). ولقد أراد الله أن يفضح القادياني ويكشف ستره وكذبه، فبان ذلك جلياً في نبوءاته الكاذبة، وهذا طرف من أكاذيبه.   (1) رواه البخاري (6194). (2) القاضي عياض: ((الشفاء)) (2/ 271). (3) الآلوسي: ((روح المعاني))، (22/ 32) وما بعدها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 129 سادساً: كذب القادياني في نبوءاته وبعد أن أثبت لنفسه النبوة كان حتماً عليه أن يخبر بالمغيبات على طريقة الرسل الذين يطلعهم الله على غيبه لمصلحة يعلمها عز وجل. فكان الغلام إذاً على نفس المسلك، ولكن كان بينه وبين المسلك النبوي كما بين السماء والأرض. ما أبعد الفرق بين القوم في شرف ... وبيننا يا حثالات الحثالات (1) لقد ظن الغلام أنه بمجرد الإخبار بالمغيبات تثبت نبوته، وتناسى مصداق ما يخبر به النبي ووقوعه على وفق ما أخبر، ولقد خانه الحظ السعيد في أغلب أخباره فكانت تأتي النتائج سلبية وبعكس ما يخبر به تماماً مرة بعد مرة، ولقد عانى هموماً شديدة من ذلك، إلا أنه كان يحاول إخفاء ذلك بشتى الأجوبة والحيل لتغطية الفشل الذريع الذي كان يمنى به، ولكنه كان من الثبات بمكان؛ فلا يفشل في خبر إلا وقد جاء بغيره على طريقة الكهان الذين يصدقون في كل مائة كذبة مرة واحدة، لتكون منطلقاً لنشرها بين الناس. وتنبؤاته كثيرة ومتنوعة، بعضها يعود إلى حياته الشخصية وبعضها إلى غيره من الناس، وبعضها إلى الأحوال الطبيعية والتغيرات المستمرة في الكون، وقد قال في بيانه لكثرتها وفي بيان أنها كلها إلهام: (وأنها أنباء كثيرة منها ذكرنا ومنها لم نذكر، وكفى هذا القدر للأتقياء) (2). وفيما يلي نذكر بعض تلك الإلهامات التي جاء بها للتدليل على نبوته ومنها: 1 - قصة غرامية حصلت له - لا يهمنا منها إلا جانب واحد، ومفاد هذه القصة أن الغلام أحب امرأة تسمى محمدي بيكم بنت الميرزا أحمد بك، وهو ابن خاله. خطبها الغلام بعد أن زعم أن الله أوحى إليه أنها ستكون زوجة له، وأن الله وعده بذلك، والله لا يخلف الوعد، وتحدى على ذلك كل من أراد أن يحول بينه وبين الزواج بها، وجاء بإلهامات وأخبار طويلة، وأن الذي يتزوجها غيره لا بد وأن يموت في خلال سنتين. وخاب أمله ورفض والدها أن يزوجها منه رغم ما بذل في تحقيق ذلك، ورغم هذه الصولات والجولات فقد وقع المحذور وتزوجت هذه المرأة من غيره، وأنجبت له أولاداً وعاش زوجها عيشة هنيئة سنين عديدة، ومات الغلام وهو يتحدى من يشككه في إخبار الله له، وصدق عليه قوله حين قال متحدياً: (إن لم يتحقق هذا النبأ فأكون أخبث الخبثاء أيها الحمقى) (3)، يخاطب مخالفيه. بل وأكد أن هذا الخبر هو معيار لصدقه من كذبه (4)، فقد مات ولم يتزوجها لا هو ولا أحد من أقربائه. 2 - وتنبأ كذلك بأمور كثيرة خاب أمله فيها كلها، فقد جرؤ على ادعاء أمر خطير جداً يظهر فيه كذب الكاذب بعد فترة بسيطة مهما كان، وذلك هو ادعاؤه علم الغيب ومعرفة وفيات الناس الذين يغضب عليهم حيث قال: إن فلاناً الذي عاداني سيموت بعد كذا من المدة؛ يحددها بالتاريخ، فينتظر القاديانيون بفارغ الصبر تحقيق تلك النبوءة فينعكس الحال تماماً. والأمثلة على ذلك كثيرة، ولا يهمنا استقصاؤها؛ ذلك أنها جزء متمم لدعوى النبوة وفرع عنها. وما دام الأصل قد قام على شفا جرف هار؛ فإن الفرع تبع له.   (1) ((نصيحة الإخوان)) للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي (ص6). (2) ((ضميمة الوحي)) (ص5). (3) ((ضميمة إنجام آثم)) للغلام (ص54). ((القاديانيون)) لإحسان. (4) ((ضميمة الوحي)) (ص5). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 130 وقد صارت أخبار نبوءاته وفشله فيها من الحكايات التي يتسلى بها الناس، ومن ذلك:1 - ما تنبأ به من موت رجل نصراني اسمه عبد الله آثم، ناظره فلم يفز الغلام عليه فغضب، وأراد أن يمحو العار عن قصوره أمام هذا النصراني فزعم أن عبد الله آثم سيموت إن لم يتب بعد خمسة عشر شهراً - حسب ما أوحى به الله إليه - وأكد ذلك بقوله: (ما فتح علي الليلة هو هذا: بأني حينما تضرعت وابتهلت أمام الله عز وجل، ودعوت منه بأنه يفصل في هذا الأمر؛ فأعطاني آية بأن الكذاب يموت في خمسة عشر شهراً بشرط ألا يرجع إلى الحق، والصادق يكرم ويوقر، وإن لم يمت الكذاب في خمسة عشر شهراً، من 5 مايو سنة 1893م، ولم يتحقق ما قلت، فأكون مستعداً لكل جزاء يسوِّد وجهي وأذلل ويجعل في جيدي حبل وأشنَق، وأنا أقسم بالله العظيم أنه يقع ما قلت ولا بد له أن يقع) (1). رحم الله من قال: إن البلاء موكل بالمنطق، لقد أوقع الغلام نفسه في مأزق حرج لم يخرج منه بعد ذلك لا هو ولا أتباعه، وقد وقع له في هذا الخبر الذي زعم أنه عن الله تعالى - أمور: أنه وحي من الله. حدده بالمدة الدقيقة. وجدت فيه صفة الحلاف المهين. سب نفسه بأقذع السب إن كذب، وقد كذب. أنه يستحق أن يشنق إن كذب. فماذا كانت النتيجة؟ لقد كان القاديانيون ونبيهم يلهثون مما يجدون من خوف العار وظهور الكذاب، وصاروا ينظرون إلى المدة بغاية القلق والهم، كأنما يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ [الأنفال:6]، كلما مر يوم اصفرت وجوههم، وملئوا المساجد بالصلوات والابتهالات أن يموت عبد الله آثم، إلى أن انتهت المدة والرجل في كمال صحته، فأسقط في أيديهم وخاب أملهم. فادعوا أن عبد الله آثم قد رجع عن النصرانية، ولهذا أمهله الله ولم يمته، فلما سمع بذلك كتب يكذبهم ويفتخر أنه مسيحي وعاش بعد ذلك مدة.2 - نبوءته عن نفسه بأنه لا يموت حتى يتجاوز سنة 1920م، ثم مات سنة 1908م (2).3 - نبوءته عن رجل اسمه عبد الحكيم من المسلمين، ناظره فغضب الغلام وزعم أنه أوحي إليه أن عبد الحكيم سوف لا يعيش طويلا، بل يموت في حياة القادياني، فكانت النتيجة بالعكس؛ إذ مات الكذاب منهما في حياة الصادق كما هو تعبير القادياني، وعاش عبد الحكيم بعد موت الغلام زمناً (3) 4 - قصة مناظرته مع الشيخ ثناء الله الأمر تسري ودعاؤه أن يهلك الله الكاذب منهما في حياة الصادق بمرض خطير مثل الكوليرا أو غيرها؛ فاستجاب الله دعاءه وأمات الكاذب –الغلام - وبقي الشيخ ثناء الله بعده مدة طويلة (4).   (1) ((الحرب المقدس)) (ص188)، عن ((القادياني والقاديانية)). . (2) ((سيرة المهدي)) لبشير أحمد (ص7). (3) ((القاديانية)) لإحسان إلهي (ص185). . (4) ((القاديانية)) (ص154 – 159). . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 131 5 - وكان يتنبأ بأن زوجته ستلد ولداً جميلاً ذكراً، وأن الله أخبره بذلك، فتلد زوجته أنثى، وحدث هذا أكثر من مرة، ومع ذلك لم ييأس الغلام أن يصدق في أي مرة.6 - ومن أكاذيب نبوءته أن الطاغوت لا يمكن أن يصل قاديان ما دام فيها رسوله - أي يقصد نفسه - حتى ولو استمر الطاعون سبعين سنة (1)، فكذبه الله ودخل الطاعون قاديان وفتك بهم، بل ودخل بيت الغلام نفسه، وكانت وفاته به، مع أن الطاعون آنذاك لم يعم البلاد والقرى المجاورة لقاديان كلها، قال في ضميمة الوحي: (وآية له أن الله بشره بأن الطاعون لا يدخل داره وأن الزلازل لا تهلكه، وأنصاره، ويدفع الله عن بيته شرهما) (2). وقال أيضاً: (وجعل الله داره حرماً آمناً، من دخلها حفظ من الطاعون وما مسه شيء من الأذى) (3).7 - وتنبأ لأحد أتباعه - ويسمى منظور محمد - أن زوجته - وكانت حاملاً - ستلد ولداً مباركاً يسمى بشير الدولة من زوجته محمدي بيجوم، فكانت النتيجة أن زوجة منظور ولدت بنتاً، ثم لم تلد حتى ماتت (4). 8 - وأحياناً كان يتنبأ بوقوع زلازل هائلة يتأثر منها حتى الجن والطيور، وأنها ستقع في مدة أقصاها كذا وكذا، ولكن النتيجة تظهر لتكذيب الغلام ولا يقع إلا الخير، لا الزلازل التي تنبأ بها بإخبار الله له - كما يزعم -.9 - وتنبأ بأن الله أوحى إليه إلهاماً أنه سيتزوج بعد تاريخ سنة 1886م نساء (5) ذوات بركة وخير ينجبن له أولاداً صالحين، وكانت النتيجة أنه مات قبل تحقق هذا الوحي المزعوم.10 - وتنبأ لمولود له اسمه مبارك أحمد بأنه يكون له فضل على العالمين، ويكون له شهرة عالمية وأيادٍ على الخلق (6)، وكانت النتيجة أن الولد مات بعد ثمان سنوات من عمره. يذكر الأستاذ إلهي إحسان ظهير هذه النبوءة من نبوءاته الكاذبة: "من نبوءاته أنه ولد له ولد بتاريخ 14 يونيو سنة 1899م، وسماه "مبارك أحمد" وبعد ولادته بأيام، أعلن المتنبئ: "إن هذا الولد نور من نور الله، ومصلح موعود، وصاحب العظمة والدولة، ومسيحي النفس، ومشفي الأمراض، وكلمة الله، وسعيد الحظ، وهذا يشتهر في أنحاء العالم وأطرافها، يفك الأسارى، ويتبرك به الأقوام (الغلام القادياني، ترياق القلوب/ ص43)، فمرض هذا الولد سنة 1907م، أي بعد ولادته بثماني سنوات، فاضطرب غلام أحمد أيما اضطراب، لأنه كان قد أعلن أن هذا الولد يكون كذا وكذا، فعالجه بكل علاج ممكن، وفي تاريخ 27 أغسطس 1907م حينما خف مرضه أعلن المتنبئ: "ألهمني الله بأنه قد قبل الدعاء، وذهب المرض، ومعنى هذا أن الله قبل الدعاء، ويشفي مبارك أحمد: "بدر" جريدة قاديانية 29 أغسطس 1907م".وما أن أعلن المتنبئ القادياني هذا الافتراء على الله حتى عاد المرض من جديد، وفي 16 سبتمبر سنة 1907م، مات هذا المصلح الموعود، وصاحب العظمة والدولة، مشفي الأمراض، ومسيحي النفس، والذي كان الأقوام منتظرة له حتى يفك الأسارى ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم" (7). المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص45 - 60   (1) ((دافع البلاء)) للغلام (ص10 - 11)، ((ما هي القاديانية)). (2) ((ضميمة الوحي)) (ص9). (3) ((ضميمة الوحي)) (ص19). (4) ((مجلة الفضل)) (سنة 1906م ص122)، ((ما هي القاديانية)). (5) ((تبليغ رسالة)) (1/ 58)، ((ما هي القاديانية)). (6) ((ترياق القلوب)) (ص43). (7) إحسان ظهير إلهي: ((القاديانية))، (ص178 – 179). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 132 ورغم وقوع القادياني في أكثر من موقع حرج يبطل ما يتنبأ به، فإنه لم يتعظ من كل حادثة يكذب فيها، بل يشفع الكذبة بأخرى، ولعله كان يأمل أن يصيب مرة ويخطئ مرة أخرى، ولعل هذه المواقف المخزية التي تعرض لها كثيراً ولم ينته عن غيه إنما تدل على عدم احترامه لنفسه، وتدل كذلك على أن أتباعه أيضاً لا عقول لهم، بل هم في عداد البهائم؛ حيث لم يرتابوا في تلك النبوءات الكثيرة التي كذَّب الله فيها الغلام، خصوصاً وأنها تتعلق بأمور لا تخفى نتائجها كموت فلان وولادة فلان ... إلخ. وقد بدأ القاديانيون يفسرون تلك النبوءات تفسيرات وتأويلات متكلفة؛ ليوهموا الناس بصدق غلامهم، كما أن الغلام نفسه وبعد أن ذاق الأمرين من تنبؤاته الكاذبة سلك مسلكاً آخر لتنبؤاته؛ وهو أنه إذا سمع بحادثة ما زعم على الفور أنه كان قد تنبأ بها، وأخبر بها قبل وقوعها وكل كاذب يجد من يصدقه، ولكل صوت صدى. وأحياناً كان يتنبأ بوقوع أمور طبيعية لا بد من وقوعها، كقوله مثلاً: ألهِمْت أن فلاناً سيموت وألهِمْتُ أن حرباً ستقع بين الناس، وأن الزلازل ستحدث ونحو ذلك من الأمور التي تقع عادة، فإن جاءت كما أخبر فرح بها هو أتباعه وإن كان العكس نكسوا رءوسهم قليلاً، ثم يأخذون في جمع وتلفيق المبررات. وفي كتابه (ضميمة الوحي) تنبأ في أكثر من مكان بأن الناس سيأتون إليه في قاديان أفواجاً، فقال عن نفسه عن طريق الإلهام: (ويعان من حضرة الكبرياء، وتأتيه من كل فج عميق أفواج بعد أفواج، كبحر مواج حتى يكاد أن يسأم من كثرتهم ويضيق صدره من رؤيتهم ويروعه ما يروع العايل المعيل عند كثرة العيال وحمل الأعباء وقلة المال) (1) (1404). فكانت النتيجة عكس ذلك: (حوربت القاديانية من قبل المسلمين في الهند وباكستان حرباً شعواء، وخرجت مهزومة محكوم عليها بالارتداد والكفر بالله، ولم تنتشر إلا في بلدان نائية بين جهلة المسلمين وعوامهم. المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 801، 802   (1) ((ضميمة الوحي)) (ص3). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 133 المطلب الرابع: أهم المؤلفات في الرد عليهم وقد ألف في الرد على القاديانية ونقض أباطيلهم غير واحد من العلماء بالعربية والفارسية والأوردية - لغة القادياني الضال المردود عليه – وهذا غيض من فيض من أسماء تلك المؤلفات مع تاريخ طبعها ومكانه: (هدية المهديين في آية خاتم النبيين) لأستاذنا العلامة محمد شفيع سماحة مفتي باكستان كاتب مقدمة التصريح هذه حفظه الله تعالى (القاديانية ثورة على النبوة المحمدية والإسلام) لصديقنا العلامة الداعية الكبير الأستاذ السيد أبي الحسن الندوي الهندي حفظه الله تعالى طبع في الهند دون تاريخ ثم طبع في القاهرة سنة 1375 (القادياني والقاديانية) له أيضا ط الهند 1378 (المسألة القاديانية) للأستاذ أبي الأعلى المودودي حفظه الله تعالى ط القاهرة 1373 (البيانات في الرد على القاديانية) له أيضا (حقيقة القاديانية) للأستاذ محمد لقمان الصديقي ط القاهرة 1375 (إكفار الملحدين في ضروريات الدين) لإمام العصر محمد أنور شاة الكشميري مؤلف كتاب (التصريح) ط الهند 1350 (صدع النقاب عن جساسة الفنجاب - القادياني-) للإمام الكشميري أيضا - نظم - ط الهند 1343 (طائفة القاديانية) لأستاذنا العلامة الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله تعالى ط القاهرة 1351 (فصل قضية القادياني) للعلامة أبي الوفاء ثناء الله الأمرتسري الهندي ط الهند (رسالة في الرد على القاديانية) للشيخ محمد نذير حسين الدهلوي (الفتح الرباني في الرد على القادياني) للقاضي حسين بن محسن الأنصاري (الحق الصريح في إثبات حياة المسيح) للشيخ محمد بشير السهسواني (إشاعة السنة) للشيخ أبي سعيد محمد حسين اللاهوري (إعلاء الحق الصريح بتكذيب مثيل المسيح) للشيخ محمد إسماعيل الكولي (عصا موسى) ذكرت هذه الكتب السبعة في (عون المعبود على سنن أبي داود) لشرف الحق العظيم آبادي 4/ 406 وما أدري هل كلها بالعربية أم بعضها بالأوردية. (النصال الشفوية في الرد على القاديانية) لعلامة مدينة دير الزور من بلاد الشام الشيخ حسين محمد الخالدي رحمه الله تعالى ط دمشق1372 (سهام النضال في رد الضلال في الرد على الرسالة الموسومة بالحقائق الأحمدية) لأحمد الهندي المدعي أنه عيسى للعلامة الشيخ حسين أيضا ط حلب 1377 (الأسس السياسية للحركة القاديانية) للأستاذ السيد العباسي من علماء دار السلام في مدينة دربن جنوبي إفريقيا ترجمت عن الإنكليزية إلى العربية ط دمشق 1377 (منشأ القاديانية ومقاصدها الخبيثة) حديث لندوة العلماء الأجلاء في مجلة لواء الإسلام المصرية في سنتها الثالثة عشرة سنة 1379ص 381 - 392 (السيف الرباني في عنق جلال شمس القادياني) للشيخ جميل الشطي الدمشقي باسم تأليف مسلم دمشقي ط دمشق 1350 (الإنكليز والقاديانية) للشيخ محمد عمر الملتاني دون تعيين مكان الطبع وزمانه (كشف الأستار عن القاديانية مطية الاستعمار) له أيضا ط دمشق 1377 (البرهان المبين في تأييد فتاوى المفتين) للعلامة الشيخ محمد هاشم الخطيب رحمه الله تعالى ط دمشق 28 ثلاثة كتب أخرى في نقض القاديانية له أيضا- ط دمشق. 29 - (فصل الخصام في الرد على كشف اللثام) للعلامة محمد أبي ذر النظامي الأيوبي رحمه الله تعالى ط حمص 30 - (الحق المبين في الرد على القاديانيين الدجالين) للشيخ محمد حمدي الجويجاتي- ط دمشق 1367 31 - (حجة العجلان على جماعة قاديان) للشيخ محمد وحيد الجباوي ط دمشق 1368 ما ألف منها بالأوردية 32 - (ختم نبوت) لأستاذنا العلامة الشيخ محمد شفيع مفتي باكستان حفظه الله تعالى 33 - (قادياني مذهب) للشيخ محمد إلياس برني الجزء: 10 ¦ الصفحة: 134 34 - (كلمة الله في حياة روح الله) لأستاذنا العلامة محمد إدريس الكاندهلوي مؤلف (التعليق الصبيح على مشكاة المصابيح) وشيخ الحديث بالجامعة الأشرفية في لاهور حفظه الله تعالى 35 - (الخطاب المليح في تحقيق المهدي والمسيح) لحكيم الأمة الشيخ أشرف علي التهانوي رحمه الله تعالى 36 - (الشهاب لرجم الخاطف المرتاب) لشيخ الإسلام العلامة شبير أحمد العثماني رحمه الله تعالى 37 - (خاتم النبيين) لإمام العصر محمد أنور شاه الكشميري ط الهند 38 - (فتنة مرزائيت) لإمام العصر الكشميري أيضا ط الهند 39 - (الجواب الفصيح لمنكر حياة المسيح) لتلميذ إمام العصر أستاذنا العلامة الشيخ محمد بدر عالم الميرتهي المهاجر المقيم في المدينة المنورة حفظه الله تعالى وقد ترجم إلى الإنكليزية 40 - (درة الدراني على متن القادياني) 41 - (سيف جشتيائي) 42 – (شهادة القرآن). هذه الثلاثة ذكرها الإمام الكشميري في كلمته التي سبق تعليقها في ص 41. 43 - (عشرة كاملة في إبطال الفتنة المرزائية والنبوة الباطلة) لشيخ مشايخنا العلامة الكبير الشيخ خليل أحمد السهارنفوري مؤلف (حل المقصود من سنن أبي داود) رحمه الله تعالى 44 - (فتح قاديان) للعلامة السيد الشيخ مرتضى حسن رئيس شعبة التبليغ في دار العلوم الديوبندية 45 - (فيصلة مقدمة بهاولبور). وهي في الأصل دعوى رفعت من مسلمة قد ارتد زوجها بدخوله في القاديانية فرفعت عليه دعوى الردة إلى دار القضاء في بهاولبور بدخوله في القاديانية فحكم القاضي بارتداده وفسخ النكاح. وفي هذا الكتاب أمور مهمة من شهادات العلماء الأكابر في دار القضاء 46 - (آنينئه مرزائيت) للعلامة الشيخ عبد العليم الصديقي الهندي رحمه الله تعالى 47 - (مرزا غلام أحمد كفريه أقوال توحيد وصفات باري مين همسري) للعلامة الشاه أحمد نوراني. أفادني كثيرا من هذه المؤلفات أستاذنا محمد شفيع المصدر: تعليق للشيخ عبد الفتاح أبو غدة ضمن تحقيقه لكتاب التصريح بما تواتر في نزول المسيح للكشميري- ص49 - 53 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 135 المبحث السادس: حكم القاديانية والانتماء إليها وفتاوى أهل العلم بذلك إن لعلماء الهند وباكستان من المسلمين مواقف ونضالاً مريراً للقاديانية؛ حيث جعلوها بالعراء وبينوا زيف تظاهر القاديانيين بالإسلام ومدى عداوتهم له. المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 824، 825 وكان ممن وقف أمام القادياني وتصدى له ولدعوته الخبيثة، الشيخ أبو الوفاء ثناء الله الأمرتستري أمير جمعية أهل الحديث في عموم الهند، حيث ناظره وأفحم حجته، وكشف خبث طويته، وكفره، وانحراف نحلته. ولما لم يرجع غلام أحمد إلى رشده باهله الشيخ أبو الوفا على أن يموت الكاذب منهما في حياة الصادق، ولم تمر سوى أيام قلائل حتى هلك المرزا غلام أحمد القادياني في عام 1908م مخلفاً أكثر من خمسين كتاباً ونشرة ومقالاً، ومن أهم كتبه: (إزالة الأوهام)، (إعجاز أحمدي)، (براهين أحمدية)، (أنوار الإسلام)، (إعجاز المسيح)، (التبليغ)، (تجليات إلهية). المصدر: الموسوعة الميسرة في عام 1953م قامت ثورة شعبية في باكستان طالبت بإقالة ظفر الله خان وزير الخارجية حينئذ واعتبار الطائفة القاديانية أقلية غير مسلمة، وقد استشهد فيها حوالي العشرة آلاف من المسلمين ونجحوا في إقالة الوزير القادياني. المصدر: الموسوعة الميسرة والجدير بالذكر أن محكمة باكستانية موقرة أصدرت حكماً شرعياً بشأن هذه الفئة الشريرة من القاديانيين وبكل حزم وشجاعة، وقد ظهر في الأسواق في شكل كتاب، وقد صدر الكتاب مترجماً من الأردية إلى العربية تعريب الأستاذ/محمد بشير، باسم (المحكمة الشرعية الفيدرالية بجمهورية باكستان الإسلامية تقرر: القاديانية فئة كافرة).جاء في أول الكتاب قوله: (بإذن من المحكمة الشرعية الفيدرالية الباكستانية بإسلام آباد طبعنا النص الكامل لحكمها على الالتماس الشرعي رقم 17/ آيل لعام 1984م، والالتماس الشرعي رقم 2/آيل لعام 1984م والقاضي بوضع القاديانيين من كلتا الفرقتين: الفرقة اللاهورية والفرقة القاديانية) (1). وكانت هذه المحكمة مؤلفة من سيادة القاضي: فخر عالم رئيس القضاة، القاضي: شودري محمد صديق، القاضي الشيخ: ملك غلام علي، القاضي الشيخ: عبد القدوس القاسمي. وقد بحث هؤلاء القضاة مسألة القاديانية بكل جد وحزم، وقد استعانوا بمجموعة من العلماء في مناقشتهم لقضية القادياني وزعمه النبوة، ومواقف القاديانيين من المسلمين ومن الإسلام ونبيه وتعاليمه، على ضوء الالتماس الذي قدمه بعض المحامين والقاديانيين، ومنهم مجيب الرحمن، والنقيب المتقاعد عبد الواحد وغيرهما. وقد استوفت المحكمة دراسة المسألة كاملة، وظهرت النتيجة بتاريخ 1984م كما يلي: أصدر رئيس المحكمة فخر عالم مرسوماً يسمى: (مرسوم حظر ومعاقبة النشاطات المناهضة للإسلام للفرقة القاديانية والفرقة اللاهورية والأحمديين). جعلت هذه البنود فعلاً إجرامياً من القادياني: أ - أن يسمي نفسه أو يتظاهر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بكونه مسلماَ أو أن يسمى مذهبه الإسلام. ب - أن ينشر ويروج مذهبه أو أن يدعو غيره إلى قبول مذهبه أو يثير بطريقة ما المشاعر الدينية للمسلمين. ج - أن يدعو الناس إلى الصلاة بقراءة الأذان، أو يسمي طريقة ندائه للصلاة أو شكله بكلمة الأذان.   (1) (ص7). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 136 د - أن يدعو أو يسمي محل عبادته مسجداً. هـ - أن يذكر أي شخص غير أحد من خلفاء النبي محمد صلى الله عليه وسلم بكلمة أمير المؤمنين أو خليفة المؤمنين أو خليفة المسلمين أو الصحابي أو رضي الله عنه، أو يذكر أحداً غير زوج من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة أم المؤمنين أو أن يسمى غير أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة أهل البيت (1). ومما لا ريب فيه أن هذا توفيق عظيم من الله لهذه المحكمة، أجزل الله لهم ولمن ساعدهم الأجر والثواب إلى يوم الدين؛ فإنهم أصابوا القاديانية في مقتلها دون أن يظلموهم بكلمة واحدة أو قانون غير ما يستحقونه. وفي أحكام العقوبات جاء في المرسوم: (أي شخص يدنس اسماً مقدساً لأي من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (أمهات المؤمنين) أو أهل بيته أو خلفائه الراشدين أو صحابته، بأية كلمات منطوقة أو مكتوبة، أو بأي تعبير محسوس أو بأي تعريض أو تلميح أو إيماء ما، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة –سيعاقب بسجن لمدة يجوز أن تمتد إلى ثلاث سنوات عن كل تعبير، أو الغرامة أو العقوبتين كلتيهما (2).ومنه: أي شخص من الفرقة القاديانية أو الفرقة اللاهورية الذين يسمون أنفسهم أحمديين أو بأي اسم آخر، يذكر بكلمات منطوقة أو مكتوبة أو بأي تعبير محسوس طريقة النداء للصلوات التي تستعملها فرقته بكلمة الأذان، أو يقرأ الأذان كما يقرؤه المسلمون –سيعاقب بسجن لمدة يجوز أن تمتد إلى ثلاث سنوات عن كل تعبير، وسيكون معرضاً للغرامة أيضاً) (3). وقد بلغت دراسة المحكمة لهذه الطائفة (188) مائة وثمان وثمانين صفحة استوعبت أهم ما يتعلق بأفكار القادياني وفرقته الشريرة، وانتهت بصرف النظر عن الالتماسات التي تقدم بها مجيب الرحمن وعبد الواحد وغيرهما من القاديانيين. المصدر: فرق معاصرة لعواجي 2/ 825 - 828 قام مجلس الأمة في باكستان (البرلمان المركزي) بمناقشة زعيم الطائفة مرزا ناصر أحمد والرد عليه من قبل الشيخ مفتي محمود رحمه الله. وقد استمرت هذه المناقشة قرابة الثلاثين ساعة عجز فيها ناصر أحمد عن الأجوبة وانكشف النقاب عن كفر هذه الطائفة، فأصدر المجلس قراراً باعتبار القاديانية أقلية غير مسلمة. المصدر: الموسوعة الميسرة وهذه بعض الفتاوى الواردة فيهم: استفسر مستفت عن حكم شخص كان مسلما وتزوج مسلمة وعاشا مدة كزوجين وأنجبا الأولاد غير أن الشخص المذكور قد انخرط في أتباع مرزا القادياني واصطبغ بصبغة العقائد الكفرية المرزائية وبدأ يجحد على رؤوس الأشهاد الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة والمطلوب توضيحه هنا ما إذا كان الشخص الموصوف قد ارتد شرعا وخرجت زوجته من نكاحه ووجب عليه المهر المعجل والمؤجل نحو زوجته وهل الأولاد الصغار يخرجون عن ولايته أم لا؟ بينوا تؤجروا. خلاصة إجابات علماء بلدة أمرَتسرَ 1ـ إن الشخص المذكور في السؤال كافر ومرتد بإجماع أئمة الدين وقد خرجت الزوجة من نكاحه ووجب عليه دفع المهر كله ولا ولا العلمية للمرتد على أولاده الصغار. فتوى أبي محمد زبير غلام رسول الحنفي القاسم عُفي عنه. 2ـ لا شك أن مِرزا القادياني يدعي أنه رسول الله ونبي الله وأن أتباعه يزعمونه نبيا مرسلا ومعلوم للجميع أن دعوى النبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر بالإجماع وبناء على ثبوت الارتداد على هذه الطائفة تخرج المرأة المسلمة من نكاحه ويجب عليه مهرها وولاية الأولاد الصغار من حقوق الأم. فتوى عبدالعزيز بن عبدالله الغزنوي   (1) المحكمة الشرعية الفيدرالية بجمهورية باكستان الإسلامية تقرر: ((القاديانية فئة كافرة)) (ص10). (مترجم). (2) ((القاديانية فئة كافرة)) (ص14). (3) ((القاديانية فئة كافرة)) (ص15). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 137 3ـ لا يشك في ارتداد من نسب المسمريزم (الشعوذة) الذي هو من أقسام السحر إلى الأنبياء عليهم السلام ومن أهان روح الله عيسى بن مريم عليهما السلام وادعى النبوة وما إلى ذلك من الكفريات كمثل المرزا الذي هو رأس هذه الكفريات فنكاح المسلمة لا شك في فسخه وبذلك تستحق المهر وولاية الأولاد الصغار. أبو الحسن غلام مصطفى عُفي عنه 4ـ لا شك أن من اعتقد عقائد مرزا مرتد وينفسخ نكاحه ويرد الأولاد إلى المرأة بعد أن تستوفي المهر الكامل. فتوى أبي محمد يوسف غلام محيي الدين عُفي عنه. 5ـ إن فتاوى العلماء العرب والهنود والبنجاب في شأن تكفير مرزا القادياني وأتباعه حقة وصحيحة فإن مرزا يدعى أنه رسول الله ونبيه وإن إهانة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ـ وازدراءهم وجحد المعجزات دأبة وديدنه كما هو واضح وبين من عباراته. فتوى أحقر عباد الله العلي الواعظ عبد النبي. 6ـ لا يشك أن مرزا مدع للنبوة والرسالة فإن مثله ليس كافر بالأحكام فحسب بل كافر بالله عز وجل كما يشهد بذلك ضميري. فتوى أبي الوفاء ثناء الله كفاه الله. 7ـ كما هو بين من مؤلفات القادياني أنه منكر ما علم من الدين بالضرورة ومدع للنبوة والرسالة كما سطر في (الإزالة) - اسم كتاب لمرزا- بصراحة أني رسول الله وعلى ذلك فإن غلام أحمد وأتباعه كفار بل هم أشد كفرا، ونكاح المرتد منفسخ والأولاد الصغار يخرجون من ولاية الأب المرتد ومن هنا وجب نزع الأولاد من حوزة المرزائي المرتد والتفريق بين المرأة وبينه بعد استيفائها المهر المعجل والمؤجل. أبو تراب محمد عبد الحق الأمرتسري. 8ـ المرزائيون مرتدون لأنهم يكفرون بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ويعدون المعجزات من المسمريزم (الشعوذة) وأن مرزا وكل من صاحبه أو صاحب من صاحبه فإنهم كلهم من الكفار. سيد ظهور الحسن القادري. 9ـ إن دعوى الرسالة بعد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وجحود الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة كفر وارتداد بلا ريب وعلى ذلك تجري عليهم أحكام المرتدين سواء كانوا من القاديانيين أو غيرهم. نور أحمد عفي عنه. المصدر: القاديانية / لأحمد رضا خان الحنفي - ص17 - 19 ويقول أحمد رضا خان الحنفي: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه المكرمين عنده رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون ثبتنا الله عز وجل على دين الحق ووقانا كل ضلال ووبال ونكال. وبعد: فإن مرزا القادياني مدع أنه المسيح ومثل المسيح وقد اشتهرت هذه الدعوى من مرزا اشتهار الشمس في رابعة النهار وبحكم المثل السائر: إن كنت قد عددت عيوب الخمر فلا تغفل عن محاسنها إن العبد الفقير موافق مع مرزا في دعوى المثلية ولا شك البتة في أن مرزا هو المسيح ومثيله! غير أنه ليس كمثل المسيح كلمة الله عليه صلاة الله، ولكنه كالمسيح الدجال عليه اللعن والنكال! لقد ورد الاستفسار عن هذا الافتراء الكاذب قبل هذا من مدينة "سهارنقور" فأعد الولد الأعز الشاب الفاضل المولوي حامد رضا خان محمد حفظه الله جوابا شافيا، وسماه بالاسم التاريخي " الصارم الرباني على إسراف القادياني" وقد قام بطبع هذه الرسالة حامي السنن، ماحي الفتن ناسف الندوة. والندويين مكرمنا القاضي عبد الوحيد الحنفي الفردوسي صين عن الفتن في مجلته المباركة المسماة بالتحفة الحنفية الصادرة من عظيم آباد شهريا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 138 وبفضل الله تعالى لم تتطرق هذه الداهية المرزائية إلى هذه المدينة والله عز وجل قادر على أن لا تجد إليها سبيلا إن تلك الأقوال التي نقلها المجيب السابع مع الإشارة إلى مواضع الكتاب خفيفة لا شأن لها في مقارنة ادعائه مثلية المسيح وما يستتبع هذا الإدعاء من الشناعة والنجاسة فإن فيه إنكارا صريحا للأحكام المعلومة من الدين بالضرورة ويعود عليه الكفر والارتداد صريحا بوجوه كثيرة وسيقوم العبد الفقير بتفصيلها مع الإيجاز. الكفر الأول: إن مرزا له كتاب يسمى (ايك غلطي كا ازالة) (إزالة خطأ) يقول فيه في صفحة 673 "أنا أحمد الذي أريد من الآية الكريمة وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ [الصف: 6] مع أن المراد الصحيح من هذه الآية الكريمة أن سيدنا المسيح الرباني روح الله عيسى بن مريم عليهما السلام خاطب بني إسرائيل قائلا إن الله عز وجل قد بعثني إليكم رسولا مصدقا للتوراة ومبشرا برسول سيبعث من بعدي اسمه أحمد صلى الله عليه وسلم فإن في القول الملعون المذكور في " الإزالة" ادعاء صريحا أن مرزا هو الرسول المطهر الذي بشر ببعثته الميمونة سيدنا المسيح عليه السلام والعياذ بالله. الكفر الثاني: يقول في كتاب (توضيح المرام): أنا محدث والمحدث نبي من جهة. الكفر الثالث: يقول مرزا في كتاب (دافع البلاء) هو الله الذي أرسل رسوله في (القاديان). الكفر الرابع: فيما نقل المجيب الخامس من عبارات مرزا (إن الله عز وجل قد جعلني في البراهين الأحمدية نبينا وفردا من الأمة أيضا) فإن هذه الأقوال الخبيثة أولا: فيها تحريف صريح في معنى كلام الله عز وجل فإنه يدعي أنه مصداق الآية الكريمة وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ [الصف: 6] دون ذات سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم. وثانيا: فيها افتراء وبهتان على نبي الله ورسول الله وكلمه الله وروح الله صلى الله عليه وسلم حيث إنه حول البشارة ببعثة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وصرفها إلى نفسه. وثالثا: فيها افتراء على الله عز وجل فإنه يزعم أن الله عز وجل إنما أرسل عيسى عليه السلام ليبشر ببعثة مرزا وقد قال الله عز وجل في أمثال هؤلاء المفترين وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ [النحل: 116]. ورابعا: فيها نسبة كتابة المختلق (البراهين الغلامية) إلى الله عز وجل زاعما أنه من كلامه تعالى شأنه كما سبق قوله الملعون في الكفر الرابع حيث قال: (إن الله عز وجل قد جعلني في البراهين الأحمدية نبيا وفردا من الأمة أيضا) وقد قال الله عز وجل محذرا أمثال هؤلاء الكذابين عن عواقبهم الوخيمة فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة: 79]. ويصرف النظر عن هذه الكفريات كلها فإن هذه الكلمات الملعونة تفيد أن مزرا مدع للنبوة والرسالة ادعاء صريحا قبيحا وهو كفر صريح بالإجماع القطعي. الكفر الخامس: إن مرزا قد فضل نفسه على سيدنا المسيح عليه السلام كما في كتابه (دافع البلاء) (ص: 10). الكفر السادس: فإنه يكتب في نفس الكتاب (ص: 17) (اتركوا ذكر ابن مريم فإن غلام أحمد أفضل منه). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 139 الكفر السابع: يكتب في جريدة (معيار الأخيار) (النبيون أنا أفضل من بعضهم) (مين بعض نبيون سي أفضل هون). وما من شك أن هذا الإدعاء كفر وارتداد بالإجماع القطعي. الكفر الثامن: إن مرزا قد جعل معجزات سيدنا المسيح عليه السلام التي امتن الله بها عليه وذكرها في معرض الامتنان من أقسام الشعوذة والمسمريزم ويقول: لولا أنني كرهت أمثال هذه المعجزات لما كنت أدنى من ابن مريم (1).   (1) ((إزالة الأوهام)) مرزا القادياني (ص 116). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 140 إن هذا الكفر كما ترى أصل لكفريات متعددة متنوعة أولها إنه يجعل المعجزات من الشعوذة وعلى ذلك لا تكون معجزة بل صارت من خفة الأيدي التي تكتسب بالممارسة والمرن. كذلك قال الذين سبقوا من الكفار مكذبين رسل الله إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ [المائدة: 110] وسواء أن يقول مسمريزم (الشعوذة) أم سحر فإن مفادهما واحد؛ فإنه يعني في النهاية أنها ليست من المعجزات الإلهية بل الحيل المكتسبة ولذا رد كلمة الله المسيح صلى الله تعالى عليه وسلم على أمثال هؤلاء الجاحدين المرتابين ردا مؤكدا مرة تلو الأخرى مفندا أوهامهم الضالة فإنه قال قبل أن يتعرض لسرد معجزاته مؤكدا أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [آل عمران: 49]. ثم أكد بعد ذلك قائلا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [البقرة:248] ثم كرر التأكيد كما يحكي القرآن الكريم وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَطِيعُونِ [آل عمران: 50]، ولكن من لم يسمع لرب عيسى كيف يسمع لعيسى؟ وليس منه بمستبعد أن يقول دع عنك فالكل تعجبه نفسه ولا يصف أحد رَوبَه بالحمُوضة. ثم كراهته هذه المعجزات واستصغارها ثاني الكفريات؛ فإن هذه الكراهة إن كانت راجعة إلى أنها عمل مذموم فالكفر بين وظاهر يقول الله عز وجل تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة: 253] ثم بين سبحانه وتعالى تلك الفضيلة قائلا وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة: 253] وإن كان منشأ تلك الكراهة وهذا الاستصغار ترفعه عنها وتعاليه عليها بزعم أنها (لا تليق بشأني الرفيع ومنصبي الأعلى وإن كانت في نفسها فضيلة) فيكون قد فضل نفسه على نبي جليل من الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام وبذلك لا مفر من الكفر والارتداد بحال من الأحوال ثم في هذه الكلمات الشيطانية ازدراء لشأن المسيح كلمة الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتلاعب بمنزلته الرفيعة وهو ثالث الكفريات وقد رأينا مثل هذه الإهانة منه فيما سبق في الكفر السادس وأكبر من هذا كله وأخطره الكفر التاسع الذي يكتب فيه عن المسيح عليه السلام كما في كتابه (الإزالة) (بسبب قيامه "عيسى" بعملية الشعوذة كاد يفشل أو كان على أحط درجة من تنوير الباطن والتوحيد والثبات الديني) (1). إنا لله وإنا إليه راجعون ألا لعنة الله على أعداء أنبياء الله وصلى الله تعالى على أنبيائه وبارك وسلم.   (1) ((إزالة الأوهام)) مرزا القادياني (ص 116). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 141 إن الاستهانة بأي نبي مطلقا كفر مقطوع به مفروغ منه وقد دونت بتفاصيل هذه المسألة مؤلفات الأئمة العظام من (الشفا الشريف) و (شروح الشفا) و (السيف المسلول) للإمام تقي الملة والدين السبكي و (الروضة) للإمام النووي و (الوجيز) للإمام الكردي و (الإعلام) للإمام ابن حجر المكي، أي إهانة أكبر من ذلك؟ هل هناك إهانة أفظع من هذا؟! فالعم أنه ليس استصغارا لنبي فحسب انظر من تلاعب بشأنه فإنه نبي مرسل بل من أولي العزم! وما أبشع هذه الإهانة (إنه فشل أو كان على أسفل درجة بعمل الشعوذة لا في النور الباطن فحسب بل في الثبات الديني أيضا بل في التوحيد نفسه) إنه لكلام ملعون لعن الله قائله وقابله فإنه قد تلك وطعن في الإيمان نفسه! إيمان من؟ عبدالله وكلمة الله وروح الله عليه صلوات الله وسلامه وتحياته فضلا عن الطعن في نبوته ورسالته. فهل أملك في هذه المطاعن شيئا؟ وهل يسعني هنا إلا أن أتلو ما هدد الله به هؤلاء الملاعين إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا [الأحزاب: 57]. الكفر العاشر: يكتب مرزا في كتابه (الإزالة) ص: 629 (قد كذب أربعمائة من الأنبياء في إخبارهم بالغيب في عصر واحد) وكلامه هذا يعني بصراحة ويفيد تكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقد ذكر الله عز وجل في القرآن الكريم أن الكفر في الأمم السابقة بصفة عامة ناشئ عن تكذيبهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 105] كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 123] كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 141] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 160] كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 176] يقول الأئمة الكرام هنا: من جوز كذب الأنبياء فيما أتوا به وإن لم يعتقد الوقوع فإنه كافر بالاتفاق فكيف والعياذ بالله وقوع الكذب من أربعمائة نبي في إخبارهم بالغيب؟ فإنها لا محالة من الله عز وجل. المصدر: القاديانية / لأحمد رضا خان الحنفي باختصار- ص21 - 40 وفي عام 1394هـ = 1974م أصدرت رابطة العالم الإسلامي بياناً مطولاً بينت فيه حكم الإسلام في القاديانية، ومن أهم القرارات التي اتخذتها الرابطة في هذا المؤتمر: إعلان كفر طائفة القاديانية وخروجها عن الإسلام. عدم التعامل مع القاديانيين أو الأحمديين ومقاطعتهم اقتصادياً وثقافياً، وعدم التزوج منهم، وعدم دفنهم في مقابر المسلمين، ومعاملتهم باعتبارهم كفاراً. مطالبة الحكومات الإسلامية بمنع كل نشاط لأتباع ميرزا غلام أحمد مدَّعي النبوة، واعتبارهم أقلية غير مسلمة، ويمنعون من تولي الوظائف الحساسة في الدولة. نشر مصورات لكل التحريفات القاديانية في القرآن الكريم، مع حصر الترجمات القاديانية "لمعاني القرآن الكريم"، ومنع تداول هذه الترجمات. المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص80، 81 ومن تلك الفتاوى فتوى المجمع الفقهي وهذا نصها (1): الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد: فقد استعرض مجلس المجمع الفقهي موضوع الفئة القاديانية التي ظهرت في الهند في القرن الماضي (التاسع عشر الميلادي) والتي تسمى (الأحمدية).   (1) انظر ((قرارات المجمع الفقهي العالمي)) لرابطة العالم الإسلامي في دورته الأولى لعام 1398هـ حتى الدورة الثامنة لعام 1405هـ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 142 ودرس المجلس نحلتهم التي قام بالدعوة إليها مؤسس هذه النحلة ميرزا غلام أحمد القادياني 1876م مدعياً أنه نبي يوحى إليه، وأنه المسيح الموعود، وأن النبوة لم تختم بسيدنا محمد بن عبد الله رسول الإسلام " - كما عليه عقيدة المسلمين بصريح القرآن العظيم والسنة - وزعم أنه قد نزل عليه وأوحى إليه أكثر من عشرة آلاف آية، وأن من يكذبه كافر، وأن المسلمين يجب عليهم الحج إلى قاديان؛ لأنها البلدة المقدسة كمكة والمدينة، وأنها هي المسماة في القرآن بالمسجد الأقصى كل ذلك مصرح به في كتابه الذي نشره بعنوان (براهين أحمدية) وفي رسالته التي نشرها بعنوان (التبليغ). واستعرض مجلس المجمع أيضاً أقوال وتصريحات ميرزا بشير الدين ابن غلام أحمد القادياني وخليفته، ومنها ما جاء في كتابه المسمى (آينة صداقت) من قوله: إن كل مسلم لم يدخل في بيعة المسيح الموعود (أي والده غلام أحمد) سواء سمع باسمه أو لم يسمع هو كافر وخارج عن الإسلام (الكتاب المذكور صفحة35). وقوله أيضاً في صحيفتهم القاديانية (الفضل) فيما يحكيه هو عن والده غلام أحمد نفسه أنه قال: إننا نخالف المسلمين في كل شيء في الله، في الرسول، في القرآن، في الصلاة، في الصوم، في الحج، في الزكاة، وبيننا وبينهم خلاف جوهري في كل ذلك (صحيفة الفضل) في 30 من تموز 1931م. وجاء أيضاً في الصحيفة نفسها (المجلد الثالث) ما نصه: أن ميرزا هو النبي محمد " زاعماً أنه هو مصداق قول القرآن حكاية عن سيدنا عيسى - عليه السلام - وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6] كتاب (أنزار الخلافة) ص21. واستعرض المجلس أيضاً ما كتبه ونشره العلماء والكتاب الإسلاميون الثقات عن هذه الفئة القاديانية الأحمدية لبيان خروجهم عن الإسلام خروجاً كلياً. وبناء على ذلك اتخذ المجلس النيابي الإقليمي لمقاطعة الحدود الشمالية في دولة باكستان قراراً في عام 1974م بإجماع أعضائه يعتبر فيه الفئة القاديانية بين مواطني باكستان أقلية غير مسلمة. ثم في الجمعية الوطنية (مجلس الأمة الباكستاني العام لجميع المقاطعات) وافق أعضاؤها بإجماع أيضاً على اعتبار فئة القاديانية أقلية غير مسلمة. يضاف إلى عقيدتهم هذه ما ثبت بالنصوص الصريحة من كتب ميرزا غلام أحمد نفسه، ومن رسائله الموجهة إلى الحكومة الإنجليزية في الهند، التي يستدرها، ويستديم تأييدها وعطفها من إعلانه تحريم الجهاد، وأنه ينفي فكرة الجهاد؛ ليصرف قلوب المسلمين إلى الإخلاص للحكومة الإنجليزية المستعمرة في الهند؛ لأن فكرة الجهاد التي يدين بها بعض جهال المسلمين تمنعهم من الإخلاص للإنجليز. ويقول في هذا الصدد في ملحق كتابه (شهادة القرآن) الطبعة السادسة ص17 ما نصه: =أنا مؤمن بأنه كلما ازداد أتباعي وكثر عددهم قل المؤمنون بالجهاد؛ لأنه يلزم من الإيمان بأني المسيح أو المهدي إنكار الجهاد تنظر رسالة الأستاذ الندوي نشر الرابطة ص25. وبعد أن تداول مجلس المجمع الفقهي في هذه المستندات وسواها من وثائق كثيرة؛ والمفصحة عن عقيدة القاديانية ومنشئها، وأسسها، وأهدافها الخطيرة في تهديم العقيدة الإسلامية الصحيحة، وتحويل المسلمين عنها تحويلاً وتضليلاً قرر المجلس بالإجماع اعتبار العقيدة القاديانية المسماه أيضاً بالأحمدية عقيدة خارجة عن الإسلام خروجاً كاملاً، وأن معتنقيها كفار مرتدون عن الإسلام، وإن تظاهر أهلها بالإسلام إنما هو للتضليل والخداع. ويعلق مجلس المجمع الفقهي أنه يجب على المسلمين حكومات وعلماء وكتاباً ومفكرين ودعاة وغيرهم مكافحة هذه النحلة الضالة وأهلها في كل مكان من العالم، وبالله التوفيق. الرئيس/ عبدالله بن حميد نائب الرئيس/ محمد علي الحركان الأعضاء: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 143 عبدالعزيز بن باز. محمد محمود الصواف صالح بن عثيمين. محمد رشيد قباني. محمد بن سبيل. مصطفى الزرقاء. محمد رشيدي. عبدالقدوس الهاشمي. المصدر: رسائل في الأديان للحمد - ص314 - 316 وفي فتاوى اللجنة الدائمة (الجزء رقم: 2، الصفحة رقم: 312) السؤال الثالث من الفتوى رقم (1615): س3: ما حكم الدين الجديد وأتباعه؛ يعني دينا يقال له: الأحمدية، يحذروا دواعيه الناس بالاحتفاظ سواء بشيء من آيات قرآنية أو من أسماء الله ويحرمون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأين منشأ هذا الدين ومتى، وما الحكم فيمن يرغبون عنه؟ ج3: لقد صدر الحكم من حكومة الباكستان على هذه الفرقة بأنها خارجة عن الإسلام، وكذلك صدر من رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة الحكم عليها بذلك، ومن مؤتمر المنظمات الإسلامية المنعقد في الرابطة في عام 1394هـ، وقد نشر رسالة توضح مبدأ هده الطائفة وكيف نشأت ومتى إلى غير ذلك مما يوضح حقيقتها. والخلاصة: أنها طائفة تدعي أن مرزا غلام أحمد الهندي نبي يوحى إليه وأنه لا يصح إسلام أحد حتى يؤمن به، وهو من مواليد القرن الثالث عشر، وقد أخبر الله سبحانه في كتابه الكريم أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين، وأجمع علماء المسلمين على ذلك، فمن ادعى أنه يوجد بعده نبي يوحى إليه من (الجزء رقم: 2، الصفحة رقم: 313) الله عز وجل فهو كافر لكونه مكذبا بكتاب الله عز وجل، ومكذبا للأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدالة على أنه خاتم النبيين، ومخالفا لإجماع الأمة. وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز الفتوى رقم (9542) س: هناك فرقة في باكستان تعرف بالقاديانية لا تعترف بختم نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، بل تعتقد بنبوة مرزا غلام أحمد قادياني وبناء على ذلك لقد أعلنت الحكومة الباكستانية بأن هذه الفرقة فرقة غير مسلمة، كما أصدرت أيضا المحكمة القضائية الشرعية بباكستان قرارا يقضي بإدانة هذه الفرقة بأنها غير مسلمة. فالسؤال: 1 - هل يجوز الزواج بين فتاة قاديانية وشاب مسلم؟ (الجزء رقم: 18، الصفحة رقم: 312) 2 - إذا تم الزواج فماذا يكون وضعه القانوني في الشرع؟ 3 - ما هو الوضع الشرعي للمولود من هذا الزواج؟ 4 - الذين يعلمون إن فلانا من القاديانية ثم يحضرون في زواجه أو يكونون شهداء أو وكلاء في الزواج فما الحكم عليهم؟ ج: أولا: لا يجوز أن يتزوج شاب مسلم فتاة تدين بالديانة القاديانية المعروفة؛ لكونها كافرة غير يهودية ولا نصرانية، للمقتضيات التي بني عليها الحكم بكفر القاديانيين ثانيا: إذا وقع ذلك وجب فسخ العقد عن طريق ولي الأمر العام المسلم أو نائبه. ثالثا: يلحق ولدهما من هذا الزواج بالأب إذا كان الزوج جاهلا بالحكم؛ لنشوئه عن نكاح فيه شبهة. رابعا: من علم أمرهما لا يجوز أن يحضر زواجهما، أو يكون وكيلا أو شاهدا فيه، بل يجب عليه إنكار ذلك، والإرشاد إلى الصواب؛ لقوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] (الجزء رقم: 18، الصفحة رقم: 313) وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز فتوى رقم (4317): الجزء: 10 ¦ الصفحة: 144 س: أرجو التكرم ببيان حكم الإسلام في جماعة القاديانية ونبيهم المزعوم غلام أحمد القادياني، كما أرجو التفضل بإرسال أي من الكتب التي تبحث في هذه الجماعة حيث إنني من المهتمين بدراستها. ج: ختمت النبوة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلا نبي بعده؛ لثبوت ذلك بالكتاب والسنة، فمن ادعى النبوة بعد ذلك فهو كذاب، ومن أولئك غلام أحمد القادياني، فدعواه النبوة لنفسه كذب، وما زعمه القاديانيون من نبوته فهو زعم كاذب. وقد صدر قرار من مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة باعتبار القاديانيين فرقة كافرة من أجل ذلك. وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز شهادة القادياني على نفسه بالكفر وذلك من خلال الآتي: تصريحه أن من يدعي النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر. حيث يقول:" إن من يدعي النبوة بعد محمد هو أخو مسيلمة الكذاب وكافر خبيث" (1). ويقول: " نحن نلعن من يدعي النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم (2). تطاوله وإهانته لأنبياء الله تعالى ورسله ..... ويشهد على نفسه قائلا: "الذي يسب أو يشتم الأخيار المقدسين فليس إلا خبيث ملعون لئيم" (3). ويقول أيضا: "والذي يستعمل ألفاظا يلزم منها انتقاص أحد الزعماء الدينيين كناية أو صراحة نعتبره خبيثا وأشر الناس نفسا" (4). المصدر: خصائص المصطفى بين الغلو والجفاء للصادق بن محمد بن إبراهيم - ص 266، 267 ويبدو أن الكاتب الكبير عباس محمود العقاد لم يطلع على سائر كتب ورسائل القادياني، فقال أن القادياني لم يدَّعِ النبوة، "وأن مدار الرسالة القاديانية كلها على التوفيق بين الأديان، وتدعيم السلام بين الأمم" (5). ولقد اعتمد العقاد في رأيه هذا على نص لمرزا غلام أحمد في منشور أبريل سنة 1897م، قال فيه: "لعنة الله على كل من ادعى النبوة بعد محمد". لكن العقاد نسي أن هذه مرحلة من مراحل دعوته للقاديانية، بدليل أن القادياني نفسه أعلنها صريحة مدوية في عدد مجلة البدر، الصادر في الخامس من مارس سنة 1908م، حيث قال بجرأة شديدة: "أنا نبي وفقاً لأمر الله وأكون آثماً إن أنكرت ذلك ". المصدر: القاديانية للدكتور عامر النجار - ص80   (1) ((انجام آثم)) للغلام (ص (28) نقلا عن ((القاديانية)) لإحسان (ص 139). (2) إعلان الغلام المندرج في ((تبليغ رسالت)) (6/ 22) نقلا عن ((القاديانية)) لإحسان (ص 139). (3) ((البلاغ المبين)) للغلام (ص 19) نقلا عن ((القاديانية)) لإحسان (ص 69). (4) [16290])) ((عين المعرفة)) (ص 18) و ((براهين أحمدية)) (ص 109) للغلام نقلا عن ((القاديانية)) لإحسان (ص 70). (5) عباس محمود العقاد: ((الإسلام في القرن العشرين)) (ص145). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 145 مراجع للتوسع من أهم مراجع القاديانية ما هي القاديانية أبو الأعلى المودودي. القادياني والقاديانية أبو الحسن علي الندوي. القاديانية دراسة وتحليل إحسان إلهي ظهير. القاديانية عبد الله صالح الحموي. معتقدات الجماعة الأحمدية الإسلامية بشير محمود أحمد. لماذا تركت القاديانية؟ ميرزا محمد سليم أختر. المحكمة الشرعية الفيدرالية بجمهورية باكستان الإسلامية تقرر: (القاديانية فئة كافرة) تعريب الأستاذ محمد بشير. القاديانية الخطر الذي يهدد الإسلام د. أحمد محمد عوف. حب العرب إيمان للميرزا غلام أحمد - خطبة جمعة. أباطيل القاديانية في الميزان د. محمد يوسف النجرامي. دعوة الأمير (معتقدات الجماعة الأحمدية الإسلامية) للميرزا بشير محمود أحمد. ضميمة الوحي للقادياني. توجد بحوث عن القاديانية منها: القاديانية في إندونيسيا للشيخ شفيق أمر الله شمس الدين. القاديانية في غانا للشيخ سحنون تاج الدين. رسائل في الأديان للحمد خصائص المصطفى بين الغلو والجفاء للصادق بن محمد بن إبراهيم القاديانية للدكتور عامر النجار القاديانية لأحمد رضا خان الحنفي الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 146 الفصل الحادي عشر: طائفة اليزيدية • المطلب الثاني: أصل التسمية . • المبحث الثالث: الانتشار ومواقع النفوذ. •. • المبحث الرابع: آراء اليزيدية في الشيخ عدي. • المبحث الخامس: ألقاب اليزيديين, وأمراؤهم. • المبحث السادس: مراتبهم وطبقاتهم. • المبحث السابع: كتبهم المقدسة. • المبحث الثامن: معتقداتهم. • المبحث التاسع: شرائعهم ومقرراتهم الدينية. • المبحث العاشر: الأدعية والأوراد والذكر عند اليزيدية. • المبحث الحادي عشر: المحرمات عنده اليزيدية. • المبحث الثاني عشر: أعيادهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 147 المطلب الثاني: أصل التسمية جاء في كتب الملل والنحل ذكر لفرقة من الإباضية يدعون باليزيدية وهم أتباع رجل اسمه يزيد بن أبي أنيسة وهو غير المحدث المشهور كان بالبصرة ثم انتقل إلى أرض فارس وكان من زعمه أن الله تعالى سيبعث رسولا من العجم وينزل عليه كتابا جملة واحدة ينسخ به الشريعة الإسلامية ويكون على ملة الصابئة المذكورة في القرآن الكريم وليست هي الصابئة الموجودة بحران وواسط فذهب بعض الفاضل الذين بحثوا في أمر اليزيدية إلى أنهم من بقايا هذه الفرقة. والظاهر أن الحامل لهم على هذا الرأي اتحاد الفرقتين في النسبة وسوء المعتقد. والذي ظهر لنا بعد التحقيق أن لا علاقة بين يزيدية اليوم وتلك الفرقة وأن أتباع ابن أبي أنيسة قد لحقوا بغيرهم من الفرق التي بادت وبادت معها آراؤها أما يزيدية اليوم فنسبتهم إلى يزيد بن معاوية على التحقيق كما يقولون ولكن لا على ما لفقوه من المزاعم. وزعمهم هم في يزيد على ما جاء في كتابهم الأسود (مصحف رش) أن معاوية أباه كان خادما لنبي الإسماعيليين أي نبينا صلى الله عليه وسلم وحلق رأسه يوما فجرحه وأكب على الدم فلحسه بلسانه لئلا يسل على الأرض فقال له النبي أخطأت وستكون ذريتك أعداء لأمتي فعاهده على أن لا يتزوج أبدا ولم يكن له بنون من قبل ولكن الله سلط عليه عقارب لدغته في وجهه وجزم الأطباء بموته إن لم يتزوج، فتزوج امرأة في الثمانين ليأمن حملها فلما أصبحت إذا هي بنت خمس وعشرين فحملت وولدت يزيد أحد آلهتهم السبعة. المصدر: اليزيدية ومنشأ نحلتهم لأحمد تيمور باشا - ص 12 ويقول أميرهم أنور معاوية الأموي في مقال له على الشبكة ومنشور في بعض الصحف الغربية: صحيح أن اليزيدية لها جذورها العراقية القديمة، إلا أنها اتخذت طابعها واسمها اليزيدي الأموي المتميز بعدما دخل فيها الجنود الأمويون الشاميون (12 ألف مقاتل) والذين استقروا في شمال العراق بعد هزيمتهم في معركة (الزاب الأعلى) بقيادة آخر خليفة أموي (مروان الثاني) في 750م .. لكن هذا التأثير بقي من الناحية البشرية وسببا لوجود العوائل الأموية في طائفتنا، لكن التأثير الأكبر حدث بعد مجيء (عدي بن مسافر) (رض) في القرن 12م، وهو متصوف شامي أصله من (بعلبك) في لبنان، ومن السلالة الأموية. قام هذا الشيخ الجليل بتجديد ديانتنا النابعة من شمال وطننا العراق بميراثه الآشوري البابلي، وتأصيلها مع ديانة سيدنا إبراهيم الخليل) المصدر: مقال بعنوان: اليزيدية جذورها عراقية قديمة اسمها أموي وليس لها علاقة بالأكراد هناك عدة نظريات لتسمية الديانة اليزيدية، فقسم منهم ينسبون هذه الديانة إلى (يزيد بن معاوية) ويقول أحد الباحثين بأن اليزيدية انتخبوا اسم (يزيد- اليزيدية) للتخلص من اضطهاد المسلمين. إن هذه النظرية لم تلقى التأييد حتى من الكتاب المسلمين لأنه لا يوجد دليل تاريخي بأن يزيد بن معاوية أسس خلال الثلاث سنوات والنصف من حكمه ديانة جديدة. أما تسميتهم بعبدة الشيطان فأساسها أن اليزيديين يرفضون الجمع بين حرفي الشين والطاء ويحرمون البصاق على الأرض علناً ولعدم التمييز بين ما تعنيه التسميتان كما هي واضحة عند اليزيدية. ويرى بعض الكتاب أن اليزيدية هم ملة إبراهيم الخليل، وكتابهم المقدس (مصحف رش) نزل على إبراهيم ويدلل أصحاب هذا القول على أن اليزيدية هم ملة إبراهيم الخليل بما يلي: 1. عيد القربان ويأتي مع عيد الأضحى عند المسلمين وهو من الأعياد البارزة عند اليزيديين وما هو إلا ذكرى لمحاولة إبراهيم الخليل عندما أراد ذبح ولده إسماعيل فدية لربه ووفاء لما وعد به ربه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 148 2. الختان من العادات الأساسية والمهمة عند اليزيديين ومتأتية مما أمر به الله سبحانه وتعالى نبيه إبراهيم كوثيقة عهد بينه وبين ربه. كما أن كلمة أيزيدية (1)   (1) إن هذه التسمية يرفضها بعض المنتسبين لهذه الطائفة فقد جاء في مقال لسليم مطر (كاتب عراقي) منشور على النت ما يلي: (إن دعوة تسمية اليزيدية بتسمية جديدة (أزيدية) هو أمر خاطئ ليس له أي أساس من الصحة. هذه الدعوة التحريفية نشأت منذ عدة أعوام أولا بدفع من الأحزاب الكردية الموالية لإيران وللنزعة العرقية الآرية الشاهنشاهية، ثم امتدت ثقافيا إلى الأحزاب الكردية العراقية والتركية. وملخص هذه النزعة الآرية المدعومة غربيا، هي محاولة إرجاع كل التاريخ والميراث الديني والحضاري للمنطقة إلى أسس عنصرية آرية معادية للشعوب السامية والتركستانية .. مثلا بخصوص إدعاء تشابهنا مع الزرادشتية، اجتمعنا نحن في دبي عام 1991 مع بعض شيوخ الديانة الزردشتية (المجوسية) القادمين من الهند، وبعد نقاش طويل اقتنعنا بأن ليس هنالك أية تشابهات إيمانية أو طقسية ونحن نختلف عن بعضنا مظهرا وجوهرا، وهذا يدحض كل ادعاءات التكريد التي تصر على إرجاعنا إلى الديانات الإيرانية والهندية الآرية .... إن هؤلاء السادة القوميين يجب أن يعرفوا بأن اسم الطائفة ليس موضة معينة يمكنهم تبديلها حسب الأهواء ومصالح الأحزاب السياسية. فنحن (يزيدية) ونبقى (يزيدية)، ونعتز بأصولنا الدينية العراقية. إن اليزيدية في كل أنحاء العالم مكان حجهم ومركز ديانتهم المقدس منذ الأمبراطورية الآشورية البابلية هو جزء من منطقة نينوى، وإن اليزيدية مرتبطة بأرض العراق دينا وأرضا وشعبا. إن جميع الاستكشافات الأثرية التي جرت في مناطق سنجار والشيخان، وكل الآثار والمسكوكات واللقى الأثرية التي تم العثور عليها في مناطقنا، جميعها بابلية آشورية ولم يعثر حتى الآن على قطعة أثرية واحدة تدل على وجود ميديين او زردشتية أو مجوسية أو أي شيء يخص الحضارة الإيرانية. حتى الكتابة اليزيدية التي استخدمها اليزيديون لتدوين كتبهم المقدسة (الجلوة والكتاب الأسود)، مكتوبة بنوع من الخط الآرامي، وهي موجودة في متاحف أوربا.) ويقول أيضا (هنالك إصرار كردي على اعتبار تسمية (يزيدي) مشتقة من (يازدن) الفارسية. طبعا ليس هنالك أي مصدر، لا ديني ولا تاريخي ولا حتى شهادة واحدة تؤكد مثل هذه الفرضية. هنالك فقط الرغبة الكردية بإعطاء أصل فارسي (آري طبعا!) لهذه التسمية من اجل تفريس (أي تكريد!!) هذه الديانة. لو سألت أي يزيدي مؤمن وجميع رجال الدين يقولون لك إن تسمية (يزيدية) قادمة من (يزيد بن معاوية). وهذا ليس كلاما سطحيا عابرً واعتقادا شعبيا ساذجا، بل هو إيمان حقيقي ويشكل حجر الزاوية في هذه الديانة. فهناك تقديس لهذا الخليفة لدى اليزيدية وافتخار بحمل الأسماء الأموية، فمثلا ان الأمير السابق لليزيدية اسمه (الأمير معاوية) ... والعوائل المتنفذة والأميرية اليزيدية تعتبر نفسها منحدرة من الأمويين. ثم حتى لو افترضنا (مثلا مثلا!) أن هذه الديانة من أصول كردية، فهل من المستحيل أن تقدس اسم خليفة يحكم منطقة تعيش فيها .. الأكراد المسلمون أنفسهم ألا يحملون أسماء عربية إسلامية ويقدسون مذاهب وأئمة يحملون أسماء عربية .. إذن ما هو العجيب أن تحمل طائفة تقطن في مجتمع إسلامي ومحيط اغلبه عربي اسما عربيا لابن مؤسس أول سلالة إمبراطورية إسلامية في التاريخ .. وهي السلالة الأموية .. ؟!.ثم ما معنى هذا الإصرار (التكريدي) على تحدي مشاعر المتدينين اليزيديين وإغصابهم حتى على تغيير لفظ اسم دينهم بدل (يزيدي) الى (أزدي) لكي يتطابق مع التفسيرات الغربية (الآرية) المقدسة!) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 149 تعني (يزدان بمعنى الخالق). ففي صلاتهم يقول اليزيديون (باسم الله (يزدان) المقدس الرحيم الجميل، إلهي لعظمتك ولمقامك ولملوكيتك، يا رب أنت الكريم الرحيم الإله ملك الدنيا جملة الأرض والسماء، ملك العرش العظيم) وهناك من اعتقد بصلة ما بين كلمة اليزيدية وبين الكلمة السومرية ( a-zi-da) المكتوبة بالخط المسماري وتعني (الروح الخيرة والخير) المصدر: الديانة اليزيدية لحيدر رضا الجبوري - مقال على النت لقد كثرت الآراء وتضاربت حول سبب تسمية هذه الطائفة بهذا الاسم، لذلك سوف أورد تلك الآراء التي اطلعت عليها، وأناقشها بعد ذلك، وبالتالي سأبين الرأي الراجح لديّ مع ذكر الأدلة على ذلك. وقد اختلفت آراء الباحثين حول سبب هذه التسمية، على النحو التالي: الرأي الأول: يرى الكثير من الباحثين أن سبب تسمية هذه الطائفة باليزيدية إنما يعود إلى نسبتهم إلى الخليفة الأموي يزيد بن معاوية، بمعنى أنهم كانوا مسلمين في يوم من الأيام، إلا أنهم ابتعدوا عن الإسلام شيئا فشيئا إلى أن صاروا طائفة مستقلة عن الإسلام. الرأي الثاني: هناك من يقول إن هذه الطائفة سميت بهذا الاسم نسبة إلى يزيد بن أنيسة الخارجي. الرأي الثالث: هناك رأي آخر مفاده أن هذه الطائفة سميت بهذا الاسم نسبة إلى مدينة (يزد) الإيرانية، حيث إنّها ظهرت في أول الأمر في تلك المدينة ثم انتشرت في باقي المناطق الأخرى. الرأي الرابع: ظهر مؤخراً رأي آخر وهو أن هذه التسمية هي نسبة إلى كلمة (يزدان) أو (إيزدان) والتي تعني الله سبحانه وتعالى في اللغة الكردية، وأن هذه الديانة كانت موجودة قبل مجيء الإسلام، واليهودية، والمسيحية. الرأي الخامس: هناك من الباحثين من يربط بين اليزيدية والمثرائية، تلك الديانة القديمة التي انتشرت في مناطق من إيران قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 150 والآن بعد عرض تلك الآراء المتباينة حول سبب هذه التسمية، سأقوم بمناقشتها وبيان الرأي الراجح في ذلك، وسأترك الكلام حول الرأي الأول لأنني سأعود إليه بعد الرّد على الآراء الأخرى. بالنسبة للرأي الثاني القائل أن هذه الطائفة سميت بهذا الاسم نسبة إلى يزيد بن أنيسة الخارجي، وبناء عليه فإن هؤلاء اليزيديين هم فرقة من الخوارج فلا أصل له وللرّد عليه أقول: إن هؤلاء اليزيدية الذين هم موضوع هذه الرسالة لا يمتّون إلى يزيد بن أنيسة بشيء، فشتان ما بينهم وبين أتباع هذا الأخير، فيزيد بن أنيسة (كان من البصرة ثم انتقل إلى تون من أرض فارس، وكان على رأي الأباضية من الخوارج ثم إنّه خرج بقوله بأن شريعة الإسلام تنسخ في آخر الزمان برسول من العجم، وينزل عليه كتابا من السماء، وينسخ بشرعه شريعة محمد صلى الله عليه وسلم (. ثم إن يزيد بن أنيسة هذا غير معروف عند اليزيدية بتاتاً ولا وجود لذكره بينهم وقد اختلط الأمر على أصحاب هذا القول فظنّوا أن اليزيدية الذين ذكرهم الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل) هم نفس هؤلاء اليزيدية الذين نحن بصدد الكلام عنهم. والجدير بالذكر في هذا الصدد أن هناك فرقاً كثيرة قد سميت باليزيدية مثل أتباع يزيد الجعفري، ويزيد ابن أنيسة وغيرهما، لذلك ينبغي التفرقة بينهم وبين اليزيدية الذين هم موضوع هذه الرسالة. أما للرد على أصحاب الرأي الثالث والقائلين بأن اليزيدية هي نسبة لمدينة يزد الإيرانية فأقول: لو كان صحيحاً نسبة هؤلاء القوم إلى تلك المدينة لكان الأجدر أن يطلق عليهم اسم اليزديين، ثمّ إنّ القول بأن هذه النحلة ظهرت في مدينة يزد لا تؤيده الأدلة التاريخية، إذ إن جميع المؤرخين والباحثين الذين يعتد برأيهم والذين تحدثوا عن أصل اليزيدية يقولون أنها ظهرت في منطقة الشيخان القريبة من محافظة نينوى (الموصل) العراقية. وبالنسبة للرأي الرابع والقائل إن اليزيدية هي نسبة إلى (يزدان)، أو (إيزدان)، أو (إيزي) والتي تعني الإله، فسوف أورد الأدلة التي تمسك بها أصحاب هذا الرأي وأكثرهم من الذين يريدون نفي العلاقة بين اليزيديين والإسلام يميلون إلى هذا الرأي. يقول الدكتور خيري نعمو الشيخاني: التسمية الصحيحة هي " الإيزدية " لأنها كلمة كردية عريقة وقد اشتقت من كلمة يزدان أو إيزدان والتي تعني الموحدون أو المنتمون إلى دين الله أو المؤمنون بالله. ويقول الدكتور مهرداد إيزدي الأستاذ في جامعة هار فارد: رغم أن لفظة YAZAT YAZET _ تعني الملاك أو السيد أو حتى الإله، فإن " يزيدي " تحيل خطأً إلى الخليفة الأموي يزيد، ومن ثَمّ فإن إيزيدي مفضل على يزيدي باعتباره ينفي أي صلة مع الخليفة الأموي فضلاً عن أنه يؤدي المعنى المرتبط بكلمة ملاك، سيد، إله، على هذا فأرى أنه يجب تصحيح التهجئة العربية بحيث تثبت إيزدي لا إيزيدي. أما الباحثان نزار غري وأوميد فتاح فيقولان: إن كلمة يزيدي مشتقة من الأصل السنسكريتي " يازدا YAZADA بمعنى الخالق أو المبتكر ثم خففت في البهلوية إلى يازد وجمعها يازدان أو يزدان. ويقول المستشرق W. E ويكرام ( Wigram) يؤمن اليزيدية بالكائن الأعلى يزدان الذي يسمو على الكل، لكنهم لا يعبدونه، إنّه ربّ السماء فحسب، والأرض لا تدخل ضمن دائرة نفوذه أو مملكته، ومن اسمه اشتقوا اسم طائفتهم اليزيدية على أصوب الاحتمالات وأرجحها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 151 ويمكن الردُّ على أصحاب هذا الرأي بأنه لو صح نسبة اليزيديين إلى كلمة يزدان أو إيزدان لما جاز لنا أن نطلق عليهم لفظ يزيديين أو حتى إيزديين، بل كان الأجدر بنا أن نسميهم باليزدانيين نسبة إلى يزدان، أو الإيزدانيين نسبة إلى إيزدان، ثم إن كلمة يزدان أو إيزدان بمعنى الله غير دارجة بتاتاً على ألسنة الناطقين باللغة الكردية وبالأخص أبناء الطائفة اليزيدية، بل يستخدمون كلمة " خُدا " للدلالة على الله سبحانه وتعالى، أما عن استخدام بعض مثقفي الكرد لكلمة يزدان فإنها مأخوذة من اللغة الفارسية، وما أكثر الكلمات التي أخذت من اللغة الفارسية واستخدمت في اللغة الكردية، وهذا أمر شائع بين اللغات التي تربط بينها علاقة جوار. أما قول بعضهم إن كلمة إيزي تعني الله سبحانه فللرد عليهم أقول: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 152 لم يرد أن الكرد استخدموا هذا اللفظ للدلالة على ذات الله سبحانه بتاتاً، وإنما هو مجرد ادعاء بلا دليل ولا برهان، أما الدافع من وراء ذلك فهو نفي أي صلة بين اليزيدية ويزيد بن معاوية وبالتالي نفي العلاقة بينهم وبين الإسلام. لقد سألت الكثير من اليزيدين سواء من طبقة البير مثل البير جعفو، أو طبقة الشيوخ مثل الشيخ عامر، عن الفرق بين إيزي ويزيد فكانوا يقولون إنهما شخص واحد وإيزي هو يزيد نفسه. لقد زرت مرقد الشيخ عدي بن مسافر عدة مرات، وهناك قبر يقع في الجهة اليسرى من الباب الرئيسي لحرم المرقد ويعتقد بعض اليزيديين أنه قبر يزيد بن معاوية، فكنت أسأل الكثير منهم عن صاحب هذا القبر فكان بعضهم يقول لي إنه قبر يزيد، وبعضهم الآخر يقول إنه قبر إيزي أفلا يدل ذلك على أنّ إيزي ويزيد هما شخص واحد، ثم إنه لو كان إيزي تعني الله سبحانه فكيف يموت ويقبر في لالش؟! لقد ورد اسم يزيد عدة مرات في (قول أم يزيد العظيم) الذي اطلعت عليه ضمن مجموعة الأقوال التي حصلت عليها من الشيخ علو، فرأيت أن اسم يزيد يرد في بعض الأحيان كما هو، ويرد في أحيان أخرى بصيغة إيزي فتأمل. لقد استشهد الباحثان على ادعائهما بمقطع من أحد أقوالهم ونصه باللغة الكردية يقول: سلتان إيزي بخو باشاية السلطان إيزي هو الله هةزاروئيك ناف لخو داناية له ألف اسم واسم نافى مةزن هةر خوداية والاسم الأعظم هو الله وللرد على استشهادهما هذا أقول إن ذلك ليس إلا أثراً من آثار تأليه يزيد بن معاوية لدى اليزيدية كما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية في الوصية الكبرى. أما الرأي الخامس والقائل أن اليزيديين هم بقايا الديانة المثرائية القديمة، والتي ظهرت في إيران قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام بقرنين تقريبا وأنهم ينسبون إلى الإيزدا، فقد استشهد أصحابه بعدة أدلة، إذ يقول جورج حبيب في كتابه (اليزيدية بقايا دين قديم) تحت عنوان اليزيدية والمثرائية: (قد يبدو للقارئ أنني ذهبت في حديثي عن المثرائية بعيدا ولكن الواقع يحتم هذا الاستطراد لتتضح العلاقة المثرائية اليزيدية للقارئ وتبدو هذه العلاقة واضحة فيما يلي: 1 - لا يسمي اليزيدية أنفسهم يزيدية ابتداء بالياء، بل إيزيدية ابتداء بالألف فهم بهذا ينسبون إلى الإيزدا. 2 - وصف إسماعيل جول يزيد في حديثه عن ولادته أنه (بربري) ابن معاوية البربر، وكلمة بربر كما علم القراء تعني إله الشمس الذي هو أول (الإيزيدا (3 - يرسم اليزيديون علامة الصليب المثرائي (+) على ما يشترونه من حاجات وأدوات منزلية على سبيل التيمن والبركة. 4 - يتطابق موعدا عيد ميلاد يزيد وعيد ميلاد مثرا في الخامس والعشرين من شهر كانون الأول، كما يشعل كلا الطرفين النيران ليلة العيد. وردّا على هذا الرأي أقول: 1 - لو كانت اليزيدية ديانة قديمة لورد اسمها في الكتب التي تحدثت عن تلك الأديان القديمة التي ظهرت في المنطقة، لذلك فإنني لم أر أي وجود للفظة اليزيدية ولا اليزدانية ولا الإيزدانية في تلك الكتب القديمة، وأول من ذكر هذه الطائفة باسم اليزيدية هو عبد الله بن شبل المتوفى (725) هـ أي بعد وفاة الشيخ عدي بن مسافر بـ (170) سنة تقريبا في كتابه (الرد على الرافضة واليزيدية) حيث يقول: (وبعد: فإنه حضر عندي جماعة من صلحاء أهل السنة بنواحي الفرات، وأخبروني أنه قد استحوذ الشيطان بها على عقولهم فمنهم طائفة انتموا إلى مذهب الرافضة والزيدية وطائفة تمسكوا بآراء الجهال من العدوية واليزيدية وكلتا الطائفتين على طرفي نقيض هؤلاء اليزيدية قوم استحوذ على عقولهم الشيطان ومارسهم -كذا- ووسوس لهم محبة يزيد بن معاوية وتمسك هؤلاء الجهّال بحب يزيد والإطراء منه جهلا منهم.) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 153 أما ابن خلكان (608هـ - 681هـ) فقد ذكرهم باسم العدوية نسبة إلى عدي بن مسافر، وكذلك ذكرهم ابن كثير بنفس الاسم، وغيرهما كثير، إلا أن أحدا منهم لم يذكرهم بهذا الاسم قبل عبيد الله بن شبل. 2 - أما بالنسبة إلى قوله: أن اليزيدية يسمون أنفسهم إيزيدية بالألف ابتداء لا بالياء ألخ فردّا عليه فأقول: إن الجميع يسمون هذه الطائفة باليزيدية وبدون الهمزة، وحتى اليزيديون أنفسهم عندما يتحدثون أو يكتبون باللغة العربية يكتبون يزيدية بالياء، أما عندما يتحدثون باللغة الكردية فيقولون إيزيدية اي يضيفون الهمزة إلى بداية الكلمة، والسبب في ذلك حسب ما تبين لي هو أن الكرد اليزيديين وحتى غير اليزيديين الذين يعيشون في تلك المنطقة عندما يتلفظون بالكلمات التي تبدأ بحرف الياء فهم إما أن يضيفوا إليها حرف الهمزة مثل تلفظهم لـ (السلطان يزيد) بـ (السلطان إيزيد)، وإما أن يقلبوا الياء إلى همزة مثل تلفظهم لكلمة ياسين آسين، وهذا إقلاب شائع في لهجات منطقة بهدينان التي يسكنها الكرد اليزيديون، وسبب ذلك هو أن الكلمات التي تبدأ بحرف الياء تكون ثقيلة على لسانهم لذلك يعمدون إلى تحويرها مثل الأمثلة السابقة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 154 3 - أما قوله في وصف أحدهم ليزيد أنه بربري، وبربر تعني إله الشمس ألخ فردا على ذلك أقول: إن المقصود من كلمة بربر هو الحلاق، لاسيما إذا علمنا أن اليزيدية يعتقدون أن معاوية كان حلاقا للنبي صلى الله عليه وسلم، وبربر بمعنى الحلاق موجود في لهجة بعض اليزيديين والكرد أيضا، وحتى لو سلمنا أن بربر هو إله الشمس فهذا لا يعني أن اليزيديين هم بقايا المثرائيين كما ذكر الكاتب، إذ إن هناك الكثير من الطوائف التي تقدس الشمس فهل يعني ذلك أن جميعهم بقايا المثرائيين، ثم إن اليزيديين يقدسون أشياء أخرى مثل الماء والنار وغيرهما فما معنى تشبث الكاتب بتقديسهم للشمس. 4 - أما عن قوله أن اليزيدية يرسمون علامة الصليب المثرائي على أدواتهم المنزلية الخ فردا على ذلك أقول: لا أدري ما هي علاقة الصليب بالمثرائية، ثم إنني زرت وسألت الكثير من اليزيديين فلم أر فيهم هذه العادة وحتى لو صح أنهم يفعلون ذلك فإنه لا يدل على ما ذهب إليه الكاتب، بل قد يكون من تأثير المسيحية عليهم، فاليزيدية فيها عادات وطقوس مختلفة ومن كثير من الأديان، فعلى سبيل المثال توجد عند اليزيدية عادة التعميد وهي عادة مشتركة بينهم وبين المسيحيين. 5 - وأما قوله إن عيد ميلاد يزيد يوافق ميلاد مثرا وهو اليوم الخامس والعشرون من شهر كانون الأول .. الخ فردّا على ذلك أقول: أما ميلاد يزيد فيقع في أول جمعة من شهر كانون الأول من كل سنة وذلك حسب التقويم الشرقي الذي يتأخر عن التقويم الغربي بـ (13) يوما، واليوم الخامس والعشرون من كانون الأول وحسب التقويم الشرقي أيضا هو يوم ميلاد الشيخ عدي بن مسافر كما يراه اليزيديون. هذا وقد أورد الكثير من الباحثين آراء غريبة جدا حول سبب تسمية هذه النحلة باليزيدية، إلا أنه لا داعي لذكرها ولا الرد عليها، لأنه أراد كل واحد من هؤلاء الباحثين أن يختص بإيجاد نسبة لهذا الاسم مهما كان فيه من غرابة وشذوذ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 155 بعدما ذكرت الآراء المرجوحة لدي وقمت بالردّ عليها آن لي أن أذكر الرأي الراجح ومن ثم ذكر الأدلة على صحته، لذلك فالرأي الراجح عندي هو نسبة اليزيدية إلى الخليفة يزيد بن معاوية الأموي، فلقد تضافرت الأدلّة النقليّة الكافية والقطعيّة لديّ على صحة هذا الرأي وموافقته للواقع الذي عليه هؤلاء القوم ومن تلك الأدلة: 1 - إن اليزيدية أنفسهم ما عدا بعض الأفراد منهم يعتقدون أن نسبتهم تعود للخليفة الأموي يزيد بن معاوية، وقد توصلت إلى هذه القناعة من خلال محاوراتي ولقاءاتي مع الكثير منهم ومن طبقات شتى فكانوا يؤكدون لي أن نسبتهم تعود إلى يزيد بن معاوية، فمن ذلك على سبيل المثال البير جعفو الذي زرته في قرية (مم شفان) وذلك عندما سألته متى أطلق عليكم هذا الاسم، وماذا كانت ديانتكم قبل ذلك، فقال لي: (في البداية عندما رأى أجدادنا النجوم قالوا هذا إلهنا، ثم رأوا القمر فقالوا هذا أكبر إذا هذا هو إلهنا، بعد ذلك رأوا الشمس فقالوا بل هذا هو إلهنا، بعد ذلك قالوا بل الذي خلق النجوم والقمر والشمس وخلقنا هو إلهنا، واتبعنا النبي زرادشت، وعندما ظهر يزيد بن معاوية قال سوف أتبع الدين الحقيقي، وأتبع طريقة طاووس ملك وقرأ علينا كثيرا من القصائد والأقوال فآمنا بها، فقال لنا يزيد بن معاوية إذا قبلتموني في ديانتكم فسوف أتبع طريقتكم فقبلناه وسمينا باليزيديين لأن يزيد كان يستمد قوته من طاووس ملك) وفي لقاء آخر مع مجموعة من الأبيار والشيوخ وذلك أثناء الزيارة الثانية إلى مرقد الشيخ عدي بن مسافر في وادي لالش سألت أحدهم وهو الشيخ عامر نفس السؤال فقال لي ما نصه: (أصل اليزيدية من بداية تكوين العالم، عندما خلق الله طاووس ملك وأمره بخلق آدم لديمومة الحياة، ثم بعد ذلك أخرج طاووس ملك آدم من الجنة ووضعه في الأرض فمنذ ذلك الحين كان اليزيديون موجودين، أما بالنسبة للتسمية ففيه اختلاف، ففي زمن الطوفان كانوا يسمون بـ يزداني، وداسني، أما أخر أسم لليزيديين فهو يزيدي نسبة إلى يزيد بن معاوية) وقال لي المريد سالم بتي عندما سألته عن الصيام عند اليزيدية: (عندنا صوم يزيد نسبة إلى يزيد بن معاوية) هذا وقد تحدثت مع الكثير من أبناء الطائفة، وكل واحد منهم كان يفتخر بانتسابه إلى يزيد بن معاوية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 156 2 - يَعد اليزيديون أنفسهم من أتباع الشيخ عدي بن مسافر ولا شك أن الشيخ عدي كان من الأمويين، بل من الأمويين الذين كانوا ينادون بإرجاع مجد بني أمية وانتزاع الخلافة من العباسيين وإعادتها إلى الأمويين، وأنه كان يرى أن يزيد بن معاوية هو من أئمة الهدى والصلاح والتقى، وبالتالي غرس هذه المعاني في قلوب أتباعه، وأكد لهم على براءة يزيد بن معاوية من التهم التي ألصقت به من قبل الروافض وغيرهم، وقد أدى كل ذلك إلى محبة هذه الطائفة ليزيد بل والإطِّراء والغلِّو فيه يوما بعد يوم إلى أن وصل الأمر ببعضهم إلى تأليه يزيد كما ورد في دعاء المساء ما نصه: سولتان ئيزيد ره ب لسه مه ده السلطان يزيد هو الرب الصمد ئه فراند هه فت ملياكه ته خلق الملائكة السبعة جوداكر دوزو جه نه ته وفرق بين النار والجنة 3 - لقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مطلعا على أحوال اليزيدية الذين كانوا يسمون في ذلك الحين بالعدويين نسبة إلى عدي بن مسافر، وعندما ظهر فيهم بوادر الغلو في يزيد والشيخ عدي وغيرهما كتب إليهم رسالة مطولة باسم الوصية الكبرى، وهذه بعض مقتطفات رسالته حيث تدل دلالة واضحة على انتسابهم إلى يزيد بن معاوية: (بسم الله الرحمن الرحيم، من أحمد بن تيمية إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين من أهل السنة والجماعة المنتمين إلى الشيخ القدوة أبي البركات عدي بن مسافر الأموي رحمه الله ولم يكن أحد إذ ذاك يتكلم في يزيد بن معاوية، ولا كان الكلام فيه من الدين، ثم حدث بعد ذلك أشياء، فصار قوم يظهرون لعنة يزيد بن معاوية فسمع بذلك بعض من كان يتسنن فاعتقد أن يزيد كان من كبار الصالحين وأئمة الهدى، وصار الغلاة فيه على طرفي نقيض، هؤلاء يقولون إنه كافر زنديق، وأقوام يعتقدون أنه كان إماما عادلا هاديا مهديّا وأنه كان من أولياء الله تعالى، وربما اعتقد بعضهم أنه كان نبيا!! ويروون عن الشيخ حسن بن عدي الثاني أنه كان كذا وكذا وليا وفي زمن الشيخ حسن زادوا أشياء باطلة نظماً ونثراً، وغلوا في الشيخ عدي وفي يزيد بأشياء مخالفة لما كان عليه الشيخ عدي الكبير - قدس الله روحه - فإن طريقته كانت سليمة، ولم يكن فيها من هذه البدع، وابتلوا بروافض عادوهم، وقتلوا الشيخ حسنا، وجرت فتن لا يحبها الله ولا رسوله) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 157 4 - لليزيدية قول طويل يتألف من 77 سبقة عنوانه (قول أم يزيد العظيم) يقوم على حوار بين يزيد وأمه وأبيه معاوية، وفيه إشارات صريحة إلى أن أصل يزيد من النور، وأنه جاء كي يبطل جميع الأديان، وينسخ هذا القرآن، وأنه حدث على يديه خوارق كثيرة، وغيرها من الأشياء. 5 - من خلال مقابلاتي مع الشخصيات اليزيدية ومخالطتي بأبناء الطائفة سمعتهم يتلفظون اسم يزيد بـ (إيزيد) وهذا يدل على أن الاسم (إيزيدي) مأخوذ من (إيزيد) أي يزيد، فلا حجة إذا للمنكرين بوجود علاقة بين يزيد بن معاوية واليزيديين بحجة أنهم يطلقون على أنفسهم (إيزيدي) 6 - إن المتأمل في أمور هذه الطائفة مثل عباداتهم، وعقائدهم، وأفكارهم، وسلوكياتهم يتبين له بشكل لا لبس فيه أنهم كانوا مسلمين قبل أن يخرجوا منه، (إذ يكفي تأمل السلوك الخارجي لليزيدية قبل التوغل في أفكارهم الدينية، ويظهر المحيط الإسلامي في مبحث أسماء العلم، والتأريخ، وعدم رسم صورة بشر، والختان الخ، ونضيف إليها التضحية بالحيوانات، وعبادة القديسين مع صور للحج إلى مكة المكرمة عند قبر الشيخ عدي، حيث توجد الطقوس الإسلامية للحجاج واصطلاحات عربية غريبة جدا عند الأكراد، فالجو كله صوفي، القديسون المكرمون هم من الصوفيين المعروفين، والمراتب الدينية هي صوفية، والصلاة والنصوص الدينية الأخرى لها صلة قوية بمفرداتها وفكرها مع الصوفية الغامضة يلاحظ إذا أنه يكفي إخراج أحجار يتضمنها الإسلام ومذاهبه لكي يعثر على مذهب اليزيدية بكامله) وخلاصة القول في هذه المسألة هو: أنّ الكرد كانوا زرادشتيين، ولكن بعد مجيء موسى عليه السلام دخل بعضهم في الديانة اليهودية، بدليل أنه يوجد حتى الآن الكثير من اليهود الكرد، وقد كانوا حتى الخمسينيات من هذا القرن يعيشون في كردستان العراق. وعندما بعث السيد المسيح عيسى عليه السلام، دخل قسم آخر من الكرد في المسيحية، والدليل على ذلك هو وجود الكثير من الكرد المسيحيين حتى الآن في المناطق الكردية. أما أغلبية الكرد فقد بقوا على الديانة الزرادشتية إلى أن جاء الإسلام فدخل جميع من تبقى منهم - وهم الأكثرية - في الإسلام ومن ضمنهم هؤلاء اليزيدية فقد (بقيت عليهم رسوم تعلّم بأنهم كانوا قبل الكفر مسلمين بل مريدين للشيخ عدي بن مسافر قدّس سرّه)، أما الزرادشتية فلم يبق لها أي أثر يذكر في المنطقة، ولكن بعد ذلك بمدّة من الزمن ابتعد هؤلاء الذين يسمون اليوم باليزيدية عن الإسلام، وقد كان للتصوف تأثير بالغ في ذلك، فابتعدوا عن الإسلام شيئا فشيئا إلى أن أصبحوا طائفة مستقلة عن الإسلام. لقد تبين من خلال الأدلّة السابقة أن اليزيدية ترجع في تسميتها إلى الخليفة الأموي يزيد بن معاوية، وهناك أدلّة أخرى غير هذه إلّا أن هذا القدر منها يفي بالغرض المقصود وبما أن اليزيديين أنفسهم يصرحون بأن الاسم يعود إلى يزيد بن معاوية، فلا داعي لتحميل المسألة أكثر مما تحتمل) المصدر: مواقف الأقليات الدينية وعبدة الشيطان بالعراق لآزاد سعيد سمو - مقال منشور في موقع إسلام أون لاين المبحث الثاني: التأسيس وأبرز الشخصيات البداية: عندما انهارت الدولة الأموية في معركة الزاب الكبرى شمال العراق سنة 132هـ هرب الأمير إبراهيم بن حرب بن خالد بن يزيد إلى شمال العراق وجمع فلول الأمويين داعياً إلى أحقية يزيد في الخلافة والولاية، وأنه السفياني المنتظر الذي سيعود إلى الأرض ليملأها عدلاً كما ملئت جوراً. ويرجع سبب اختيارهم لمنطقة الأكراد ملجأ لهم هو أن أم مروان الثاني الذي سقطت في عهده الدولة الأموية كانت من الأكراد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 158 عدي بن مسافر: كان في مقدمة الهاربين من السلطة العباسية، فقد رحل من لبنان إلى الحكارية من أعمال كردستان، وينتهي نسبه إلى مروان بن الحكم، ولقبه شرف الدين أبو الفضائل، لقي الشيخ عبد القادر الجيلاني وأخذ عنه التصوف، ولد سنة 1073م أو 1078م وعاش تسعين سنة ودفن في لالش في منطقة الشيخان بالعراق. - صخر بن صخر بن مسافر: المعروف بالشيخ "أبي البركات" رافق عمه عدياً وكان خليفته ولما مات دفن بجانب قبر عمه في لالش. - عدي بن أبي البركات: الملقب بأبي المفاخر والمشهور بالكردي، توفي سنة 615هـ/ 1217م. - خلفه ابنه شمس الدين أبو محمد المعروف بالشيخ حسن: المولود سنة 591هـ/ 1154م وعلى يديه انحرفت الطائفة اليزيدية من حب يزيد وعدي بن مسافر إلى التقديس لهما وللشيطان إبليس، وتوفي سنة 644هـ/ 1246م بعد أن ألف كتاب (الجلوة لأصحاب الخلوة) وكتاب (محك الإِيمان) وكتاب (هداية الأصحاب) وقد أدخل اسمه في الشهادة كما نجدها اليوم عند بعض اليزيدية. - الشيخ فخر الدين أخو الشيخ حسن: انحصرت في ذريته الرئاسة الدينية والفتوى. - شرف الدين محمد بن الشيخ فخر الدين: قتل عام 655هـ/ 1257م وهو في طريقه إلى السلطان عز الدين السلجوقي. - زين الدين يوسف بن شرف الدين محمد: الذي سافر إلى مصر وانقطع إلى طلب العلم والتعبد فمات في النكبة العدوية بالقاهرة سنة 725هـ. - بعد ذلك أصبح تاريخهم غامضاً بسبب المعارك بينهم وبين المغول والسلاجقة والفاطميين. - ظهر خلال ذلك الشيخ زين الدين أبو المحاسن: الذي يرتقي بنسبه إلى شقيق عدي أبي البركات، عين أميراً لليزيدية على الشام ثم اعتقله الملك سيف الدولة قلاوون بعد أن أصبح خطراً لكثرة مؤيديه، ومات في سجنه. - جاء بعده ابنه الشيخ عز الدين، وكان مقره في الشام، ولقب بأمير الأمراء، وأراد أن يقوم بثورة أموية فقبض عليه عام 731هـ ومات في سجنه أيضاً. - استمرت دعوتهم في اضطهاد من الحكام وبقيت منطقة "الشيخان" في العراق محط أنظار اليزيديين، وكان كتمان السر من أهم مميزات هذه الطريقة. - استطاع رئيس الطائفة الأمير بايزيد الأموي أن يحصل على ترخيص بافتتاح مكتب للدعوة اليزيدية في بغداد سنة 1969م بشارع الرشيد بهدف إحياء عروبة الطائفة الأموية اليزيدية ووسيلتهم إلى ذلك نشر الدعوة القومية مدعمة بالحقائق الروحية والزمنية وشعارهم عرب أموييّ القومية، يزيدييّ العقيدة. - وآخر رئيس لهم هو الأمير تحسين بن سعيد أمير الشيخان. - ونستطيع أن نجمل القول بأن الحركة قد مرّت بعدة أدوار هي: الدور الأول: حركة أموية سياسية، تتبلور في حب يزيد بن معاوية. الدور الثاني: تحويل الحركة إلى طريقة عدوية أيام الشيخ عدي بن مسافر الأموي. الدور الثالث: انقطاع الشيخ حسن ست سنوات، ثم خروجه بكتبه مخالفاً فيها تعاليم الدين الإسلامي الحنيف. الدور الرابع: خروجهم التام من الإسلام وتحريم القراءة والكتابة ودخول المعتقدات الفاسدة والباطلة في تعاليمهم. المصدر: الموسوعة الميسرة هذا ما ورد في (الموسوعة الميسرة) ولكن في حوار صحفي مع أنور معاوية علي بك الذي يدعي أنه أمير الطائفة وهو حوار منشور في النت جاء فيه التالي: ما هي قصة الخلاف حول إمارة الطائفة، فمن المعروف أن هناك فئتين متنافسين حول إمارة الطائفة، أنتم شخصيا حيث تقيمون في ألمانيا منذ أعوام وكذلك هنالك ابن عمكم الأمير تحسين المقيم في سنجار في العراق .. ؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 159 إن هذه قصة يطول شرحها. تعود جذور الخلاف إلى زمن والد جدي المرحوم (الأمير عبدي بك) الذي أوصى بالإمارة من بعده إلى ولده إسماعيل بك، وهو جدي المباشر. ولأنه كان حينذاك قاصرا ولم يبلغ سن الرشد فقد استلمت الإمارة أخته الكبرى (ميان خاتون) كوصية مؤقتة. ولكنها رفضت فيما بعد تسليم الإمارة إلى أخيها وفضلت تسليمها إلى ابنها (سعيد بك). بعد استفحال الخلاف انقسمت الإمارة إلى اتجاهين، كل منهما مع طرف. أنصار جدي (إسماعيل بك) في سنجار وأنصار (ميان خاتون) في الشيخان حيث سيطرت على مزار (الشيخ عدي). بعد الحرب العالمية الأولى وسيطرة الإنكليز وقيام الحكومة الملكية تم دعم جدي ومناصرته بسبب رفضه للمطالب العثمانية بولاية الموصل. أخيرا تم الإقرار بأن يستلم جدي الإمارة الدينية والدنيوية، وأن تكون لمنافسه (سعيد بك) حق الإشراف على المزار المقدس، وأن يتم تقاسم عائدات المزار. ولكن الخلاف بالحقيقة لم ينته تماما، بل انتقل إلى ولديهما من بعدهما (بايزيد بك بن إسماعيل بك) و (تحسين بك بن سعيد بك). في أعوام السبعينات تدخل الرئيس صدام حسين شخصيا لحل الخلاف حتى توصلت المداولات في عام 1980م إلى صدور مرسوم جمهوري موقع من الرئيس يقرر فيه تعيين عمي (بايزيد بك) أميرا للطائفة. وبعد وفاة عمي انتقلت الإمارة إلى أبي (الأمير معاوية) ومنه انتقلت إليّ عام 1991م. أما الأمير تحسين بك، فإنه لا زال حيا ويشرف على مزارنا المقدس. وهو رغم مطالبته بالإمارة فإنه لا يمتلك أية وثائق رسمية بذلك.) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 160 المبحث الثالث: الانتشار ومواقع النفوذ تنتشر هذه الطائفة التي تقدس الشيطان في سوريا وتركيا وإيران وروسيا والعراق ولهم جاليات قليلة العدد نسبياً في لبنان وألمانيا الغربية وبلجيكا. - ويبلغ تعدادهم حوالي 120 ألف نسمة، منهم سبعون ألف في العراق والباقي في الأقطار الأخرى، وهم مرتبطون جميعاً برئاسة البيت الأموي. المصدر: الموسوعة الميسرة إن الديانة اليزيدية انتشرت في المناطق التي يتوزع فيها الأكراد خاصة. ولكن لا يعني أنهم جميعا أكراد. ويوجد من قبائل شمال الموصل قبيلة " ترهاية " وأنها كانت على دين المجوسية. ويظن أن هذا القبيلة هي من بقايا أقوام كانوا يعيشون في البلدان المجاورة (في إيران)، ثم هاجروا إلى مواقعهم الجديدة بعد أن انتشر الإسلام في بلادهم. واتخذت هذه القبيلة مرتفعات حلوان مضارب لها ومعتصما تبتعد فيه عن الأنظار الحاكمة. ولما كان مجاوروهم من العرب فقد اضطروا إلى إخفاء معتقداتهم عن الأمراء المسلمين، بل أظهروا أنفسهم أنهم مسلمون، أو أنهم يعرفون بعض المظاهر الإسلامية، وسرعان ما أظهروا اعتقادهم بالدين الجديد. ولما كانوا بعيدين عن مراكز الثقافة الإسلامية أن يعودوا إلى كامل معتقداتهم القديمة لنسيانهم لكثير من شعائرها ولبعد الشقة. المصدر: اليزيديون واقعهم تاريخهم معتقداتهم لمحمد التوبخي – ص53 وهم موجودون كذلك في تركيا، توزعوا على محور مائل ومنقطع يمتد من حدودها الشرقية مع العراق والاتحاد السوفيتي، مارا بديار بكر، وماردين، وجبل الطور، وكلس، وعين تاب. وكلهم من مناطق الموصل وسنجار، وامتداد هذه العشائر بلغ منطقة حلب. أما في سوريا فإنهم يتوزعون بين أكراد الجزيرة على الحدود التركية (في عامودة والحسكة والقامشلي). وامتدادا غربا حتى حلب، فحول عفرين وأعزاز عدد من القرى جميع سكانها يزيدية ....... " ولهم مواقع في إيران ولا سيما في المناطق الغربية على حدود كردستان، ولكن بأسماء أخرى. كما أن بعض اليزيدية رحل إلى أميركا وألمانيا. ويقولون إن بعض طوائفهم موجودة في الهند، ولكن باسم آخر. وتدعى طائفتهم في الهند " لبخوس – Lepchos " وهم جيل من الناس يعيشون على سفح جبال هيمالايا، عقائدهم تشابه عقائد اليزيدية كل المشابهة. ذلك أن أصلهم من اليزيدية الموجودين في سنجار. فيروي أن بعض دعاة هذا المذهب لما كثر عددهم قصدوا المشرق ليبثوا الدعوة لها. فلما دحروا لغرابة دينهم لجؤوا إلى بعض الجبال، فاحتمى بعضهم بالجبل، وعاشوا هناك منزوين. المصدر: اليزيديون واقعهم تاريخهم معتقداتهم لمحمد التوبخي – ص58 وينتشر اليزيدية بكثافة في سنجار وشيخان وبعشيقة وغيرها من المناطق في شمال العراق. حيث مرقد عدي ووادي لالش وبئر زمزم كما يسميه اليزيديون حيث تنتشر القباب المخروطية المصدر: الديانة اليزيدية لحيدر رضا الجبوري – مقال في النت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 161 المبحث الرابع: آراء اليزيدية في الشيخ عدي يذكر إسماعيل بيك (1) – وهو من زعماء الطائفة قبل نصف قرن – أن الشيخ عدي في يوم القيامة يحمل جميع اليزيديين على طبق وضعه على رأسه، ويدخل به الجنة، وتغفر لهم الذنوب القليلة من غير حساب ولا كتاب ولا دينونة ولا عذاب. ويرى أنه كان مبجلا كالنبي. بل إنهم يعتبرونه فوق مقام النبي؛ فيرى بعضهم أنه من اللاهوت، ويرى آخرون أنه وزير الله، وأمور الأرض والسماء تتحرك بتدبيره، أو أن حكم السماء بيد الله وحكم الأرض بيد الشيخ عدي، أو أنه شريك معزز عند الله لا ترفض له رغبة، بل إنه الروح المقدسة والمنزهة للأنفس، وهو يحل على الأنبياء ويوحي إليهم الحقائق الدينية، ويخبرهم بالغيب، والأنبياء عندهم لا انقطاع لهم. ونستطيع أن نستخلص ثلاث فرق حول الشيخ عدي، وكلها خرجت عن كونه زاهدا متصوفا: فالطائفة الأولى: فرقة مغالية، تعتبر الشيخ عديا الله نفسه. والطائفة الثانية: تقول إنه شرك الله تعالى في الألوهية؛ فحكم السماء بيد الله وحكم الأرض بيد الشيخ عدي. الثالثة: ترى أنه ليس الله ولا شريكا له لكنه عند الله بمنزلة الوزير الأكبر، لا يصدر من الله أمر إلا برأيه ومشورته. المصدر: اليزيديون واقعهم تاريخهم معتقداتهم لمحمد التوبخي – ص29 للشيخ عدي مقام غير منكور عند اليزيدية وقبره اليوم كعبتهم التي يحجون إليها وشيخهم الأعظم سادن مقامه ولهم فيه مزاعم في مصحف رش منها أن الله تعالى أرسله من أرض الشام إلى لالش ومفهوم العبارة أن ذلك كان قبل خلق آدم عليه السلام وهو من الخلط الذي لا تخلو منه عباراتهم. وفيه أنهم عند إرسال السناجق (الأعلام) إلى القرى لجمع الصدقات يخرجونها من عند قبره باحتفال عظيم ورقص وغناء وزمر ونقر على الدفوف والطبول ويعجنون من ترابه بنادق (كرات صغرة) تحمل مع السناجق فتفرق في القرى للتبرك بها وعند عقد الزواج يأتون برغيف من دار شيخهم يتقاسمه العروسان فإن لم يوجد اكتفيا بسف شيء من تراب الشيخ عادي وفي الزوائد الملحقة بالنسخة الأميركية أن من يموت منهم يجب أن يحضره شيخ من شيوخهم الذين في طبقة (الكوجك) ليضع في فيه شيء من هذا التراب قبل دفنه وفيها أيضا تفضيل مناسكهم عند زيارته وأنها مفضلة وأنها عندهم على حج البيت الحرام مع التصريح بأنه مبتدع ملتهم ومرشدهم الأول إلى طريقها. وفي النسخة الأميركية أيضا نبذة عن الشيخ عادي وردت قبل كتاب (الجلوة) كمقدمة له نثبتها هنا دليلا على مبلغ جهلهم بالتاريخ وخلدهم بين الأزمان المتفاوته ونموذجا لما في كتابيهم من الركاكة وسوء التعبير وهذا نصها " في زمن المقتدر بالله سنة مائتين وتسعين هجرية كان منصور الحلاج وشيخ عبد القادر الكيلاني في ذلك الوقت ظهر إنسان اسمه الشيخ عادي من جبال الحكارية أصله من أطراف حلب أو من بعلبك جاء وسكن جبل لالش قريب مدينة الموصل نحو تسع ساعات والبعض قالوا إنه من أهل حران ونسبته إلى مروان بن الحكم فإنه شرف الدين أبو الفضائل عادي بن مسافر بن عبدالله بن موسى بن مروان بن الحسن بن مروان وكان وفاته سنة خمسمائة وثمانية وخمسين هجرية وقبره يزار الآن قرب قرية باعدري (2) من قرى الموصل تبعد عنها إحدى عشرة ساعة واليزيدية هم نسل الذين كانوا مريدين عن الشيخ عادي المذكور والبعض منهم ينسبون إلى يزيد ومنهم إلى حسن البصري" انتهى. المصدر: اليزيدية ومنشأ نحلتهم لأحمد تيمور باشا - ص 14   (1) ((اليزيدية قديما وحديثا)) (ص95). (2) أوردها ياقوت في ((معجم البلدان)) بلفظ باعذر بالذال المعجمة وقال عنها من قرى الموصل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 162 المطلب الأول: أسماء اليزيديين يعرف اليزيديون بأسماء كثيرة منها: 1 - عابدو الشيطان. 2 - عابدو إبليس. 3 - باقة كلب "هو اسم تركي". 4 - مشعل الأنوار. المصدر: اليزيدية عبدة الشيطان لأحمد بن عبدالعزيز الحصين - ص25 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 163 المطلب الثاني: أمراء اليزيديين الأمير تجتمع في يده السلطتان الدينية والدنيوية ولا بد أن يكون من أسرة الشيخ عدي بن مسافر والأمير: له الحصانة التامة لا يخالف أمره أحد وهو معصوم لأنه جزء من الله حل فيه والذين يخالفون أوامر الأمير يتعرضون لأشد العقوبات منها: 1 - يباح ماله. 2 - لا يدفن في مقابر اليزيديين. 3 - يهجر من قبل الناس فيموت منبوذا. الأمير يستلم أموال النذور والرسوم والصدقات يصرفها كيفما يشاء دون رقيب أو محاسب. وله الحق أن يحرم من يشاء من اليزيديين وهناك أشياء كثيرة للأمراء منها: 1 - إذا كانت امرأة اليزيدية عقيم ونذرت إذا حملت أن تهب طفلها إلى الله وحملت فيكون الطفل هبة للأمير يفعل فيه كما يشاء. 2 - وإذا مات اليزيدي وليس له وريث يرثه الأمير. 3 - وهو المسؤول عن أوقاف الشيخ عدي بن مسافر. ويعتبر الأمير تحسين سعيد بك أميرهم الحالي أخذ الإمارة بعد أن مات أبوه "سعيد بك" في 29 تموز 1944. المصدر: اليزيدية عبدة الشيطان لأحمد عبد العزيز الحصين – ص 25 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 164 المبحث السادس: مراتبهم وطبقاتهم تقسم الرئاسة (عندهم) إلى قسمين: دنيوية ودينية، من غير أن تتدخل رئاسة في مهام غيرها، وبانصياع الشعب لأوامر الرئاستين، وإيمانه بأن هذه الطبقية نزلت من السماء لتحافظ على مجتمعهم اليزيدي، ولهذا فإن المراتب الدينية مرتبطة بالشعب تمام الارتباط، والمراتب جميعها ملتحمة بالرئاسة الدنيوية. فالرئيس الدنيوي: هو رئيس الزمان والعالم والسياسة ويدعى "مير" مختصرة من الكلمة العربية "أمير". وهو وكيل الشيخ عدي أوكله موضعه وقال له: "أنت ولدي وقبلتك محل ذريتي، وهي حرام على من لا يسير على أصول هذا الدين. وكلها سلمتها بيدك". والمير من نسل الملك يزيد، والطائفة كلها تنتسب إليه. ويلقب "مير شيخان"، ويقيم عادة في قصر الإمارة الواقع في قرية "باعدري"، والتي تبعد مسافة 45كم إلى الشمال الشرقي من الموصل. ويتم انتخاب الأمير من قبل الطائفة، شرط أن يكون من نسل الأسرة الحاكمة، على حسب عاداتهم الموروثة. ولا يشترك في الانتخاب رجال الدين ولا زعماء القبائل. الرئاسة الدينية ورجال الدين سبع طبقات، ولا يجوز لأي طبقة أن تتخطى مقامها. ورجل الدين في الديانة اليزيدية ذو أهمية كبيرة، لأنه يشرف على كل مظاهر الحياة الدينية والاجتماعية. ولابد لنا من الإشارة إلى أن لكل يزيدي أو يزيدية شيخا وبيرا على الأقل. ولكل فئة من رجال الدين مقام ووظيفة. والرؤساء الدينيون سبع فئات، وهي: 1 - بابا شيخ: وهو الرئيس الأعلى، ويكون من سلالة الشيخ فخر الدين أي ملك القمر. ويتصف بالتقى وخفة الروح والإنصاف والعدل والاستقامة. وهو يمثل السلطة الدينية والحج المقدس، ويدعونه " بابي شيخ " أي الشيخ الكبير ..... " 2 - "الشيخ: مشايخ اليزيدية ثلاث فرق هي: الأديانية، الشمسانية (1)، القابانية. ويرجع نسب الأسر جميعا إلى أصل واحد هو يزيد بن معاوية، وقد حل فيهم جزء من الله، وهو الذي يمنحهم تغيير مجرى الأحداث ويستطيعون أن يتصرفوا في شؤون العالم. وهو مخولون في التجول بين القرى جميعا ........ " 3 - "بير: تعني كلمة " بير " بالكردية العجوز، وعندهم شيخ الطريقة أو رئيسها. ويجمعون الكلمة بقولهم " بيورة " أي الشيوخ. وتطلق هذه الصفة على من هم دون مرتبة الشيوخ. والبيورة من أسرة متعددة، ويشترط أن يكونوا جميعا من سلالة بيرية، لأن وظيفتهم وراثية، منحتهم الشريعة اليزيدية حق إجراء الزواج، وتوثيق العرى، وحق التجول في القرى والقصبات. وهم مكلفون في يوم عيد الجماعية (انظره) وأيام الأربعينيتين بالذهاب إلى قرية الشيخ عدي لإطعام المريدين بأموالهم، ولإرشادهم ووعظهم. وهم يعتقدون أن رحمة الله وغفرانه بأيدي هؤلاء البيورة ...... " 4 - "الفقير: تطلق لفظة " فقير " عندهم على الزاهد والمتعبد، الذي عزف عن زخرف الدنيا في سبيل كسب نعيم الآخرة. ونعيم الآخرة، في نظرهم، هو البقاء الأبدي (على مذهب الحلول والتناسخ). والفقير في الهند هو الزاهد المتقشف (أيا كان دينه)، يحترمه الناس جميعا، وكلامه مسموع لدى كل الفئات ...... "   (1) أسرة الشيخ فخر الدين التي يرجع أصلها إلى الشمسانية تصل إلى مقام " بابا شيخ " والأسرة " الأديانية " واجبها أن تلم بالقراءة والكتابة اللتين هما محرمتان على سائر الرعية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 165 5 - "القوال: (أو المرتل) وتطلق على من ينشد في المحافل الدينية أو في أيام الأعياد والأفراح. وغالبا ما يكون القوالون من الشعراء المحليين. ويقولون إنهم رافقوا الشيخ عدي عبر بادية الشام، وظلوا معه على المحبة. وهو الذي منحهم: حق إنشاد القصائد والمدائح النبوية، وخصهم بحفظ أسرار الشريعة والحوادث التاريخية. ويعتزون بأنهم يصاحبون الملك طاووس، وينشدون أمامه المدائح في الله وفي الملائكة. ويتجولون في القرى ليجمعوا النذور والصدقات، وكلما قاموا بزياراتهم الدينية نظفوا المكان من الغبار ومن بقايا الزوار وأوساخهم. وهم يتباهون بهذه المهمة ويعدونها شرفا ورثوه عن آبائهم. 6 - "الكوجك: أفصل المراتب في الديانة اليزيدية، ويعتبرونه بمنزلة النبي، والكواجك طائفة كبيرة العدد، وأغلبهم حجاج تركوا بلادهم ليعيشوا حول لاليش، ويعملوا كحطابين للمزار، وهم موزعون بين سنجار وشيخان، ويختلفون عن سائر المراتب بلباسهم الأبيض، وحزامهم الصوفي أسود اللون أو أحمر، بحلقات مميزة ...... " 7 - المريدون: المريدون هم عامة الناس، المطيعون لأوامر رؤسائهم الدينيين طاعة عمياء. وهم يعتقدون أن التدخل في الشؤون الدينية والعبارات يذلهم ويخرجهم عن ملتهم. وعلى كل امرئ رجلا كان أو امرأة أن يكون له شيخ وبير يقدم لهما صدقاته ونذوره ويتعلم منهما ويسترشد بهما. وإن مات بير مجموعة من المريدين (العامة) أو حرقه الأمير، ولم يكن في سلالة هذا البير أحد يحل محله فعليهم الاتصال بالأمير ليعين بيرا مرشدا. والمريدون يتزوجون فيما بينهم، ولا يجوز لهم التزاوج بالطبقات الأخرى. المصدر: اليزيديون واقعهم تاريخهم معتقداتهم لمحمد التوبخي – ص109 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 166 المطلب الأول: كتب اليزيدية وهما كتاب الجلوة, ومصحف رش 1 - كتاب الجلوة وهو مؤلف من خمسة فصول، وعدد كلماته لا يبلغ 500 كلمة، وهو بالتحديد 490. مقصور على نصائح الملك طاووس لأتباع الديانة يبين مدى قوته وأفعاله، وما يقدمه لأبناء طائفته، وهو منسوب إلى الشيخ عدي بن مسافر (1)، ويعتقدون أنه قدمه إلى أمين سره فخر الدين قبيل موته. وفيه كلام غير منتظم: في قدمه تعالى، وبقائه وقدرته ووعيده ووعده، وذكر القول بتناسخ الأرواح، وفيه كذلك أن الكتب السماوية التي هي بين أهلها مبدلة محرفة، فما وافق منها كلام اليزيدية صحيح، وما خالفه فمن تبديلهم وتحريفهم. وفيه كذلك بحث حول الحيوانات البرية والبحرية والفضائية، والتي تتحرك وتحيا تحت إمرته، وكل ما في دفائن الأرض واضح له، يرزق من يشاء، ويوصي الله في هذا الكتاب بأن يجلوه ويحترموه، وبأن يحفظوا شرائعه ويعلموا بها. 2 - مصحف رش: وكلمة " رش " كردية تعني الأسود، أي المصحف الأسود، وهو أكبر قليلا من كتاب (الجلوة)، وعدد كلماته أقل من 750 كلمة، ومن غير فصول. ومضمونه يختلف عن مضمون الجلوة. ففيه: حديث خلق السماوات والأرضين، وما فيها من بحار وجبال وأشجار، وخلق الملائكة وأعمالهم، والعرش، وخلق آدم وحواء وكيفية إخراجهما من الجنة، وإرسال الشيخ عدي بن مسافر من أرض الشام إلى لاليش في شمال العراق، وما كان من نزول الملك طاووس إلى الأرض، وإقامته ملوكا لليزيدية، ومقاومة اليهود والنصارى والمسلمين والعجم لأنهم يخالفونه. وفيه أن الطوائف البشرية كافة من نسل آدم وحواء، أما نسل اليزيدية وفيهم شيث ونوح وأنوش، وهم آباء اليزيدية الأولون؛ فمن نسل آدم وحده (وانظر حديثنا عن ولادة التوأمين الذكر والأنثى من صلب آدم وحده). وأن طوفانا أتى على اليزيدية بعد طوفان نوح مضى عليه الآن سبعة آلاف سنة، وكان ينزل في كل ألف سنة إله من السماء يشرع لهم الشرائع ويسن السنن. وفيه مراتب الآلهة وأعمالهم فالأول هو الله الأعظم الفعال لما يريد، والمسيطر على الآلهة جميعا ويتحكم فيها. ويأتي بعده رئيس الآلهة وأولهم وهو الملك طاووس، ويتلوه الآلهة الأخرى حتى يصل إلى يزيد والذي هو أحد الآلهة السبعة، وبنظرهم أنه المشرع الأعظم وهو الذي ينزل إلى الأرض. ويتضمن الكتاب أيضا شرائعهم وما أحل لهم وما حرم عليهم في الزواج والصوم والصلاة والحج والزكاة والزيارات والميت، وشرح أمر الطواف بسناجقهم في البلدان والقرى لجمع الصدقات والنذور، وزيارتهم لقبر الشيخ عدي، وما يفعلونه في عيد رأس السنة (سرصال رأس السنة) من قطف الأنوار الحمراء، وذبح الذبائح وإطعام الفقراء وزيارة القبور (2). ويرون أن مصحف رش كتب بعد وفاة الشيخ عدي بمئتي سنة. المصدر: اليزيديون واقعهم تاريخهم معتقداتهم لمحمد التوبخي – ص 142   (1) يذكر إسماعيل البغدادي في ((إيضاح المكنون)) أن الشيخ حسن بن عدي ألف كتابا عنوانه ((الجلوة لأرباب الخلوة)) ولا شك أنه غير المذكور فوق. (2) تمتاز نسخة النمسة بالنص الكردي، وتختلف النسخة الأميركية عنها ببعض الزيادات والتقديم والتأخير في العبارات، وفيها ملحق فيه ما ليس في الكتابين من شرائعهم وأحوالهم وكرامات أوليائهم وتفصيل مراتب أمرائهم وشيوخهم، وأغنية مختلة الوزن والعبارة في مدح الشيخ عدي، وأخرى مثلها تتلى في صلاتهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 167 للقوم كتابان أحدهما كتاب (الجلوة) وهو يتضمن ما خاطب به الباري تعالى عباده والمقصود بهم اليزيدية وكلاما في قدمه تعالى وبقائه وقدرته ووعده ووعيده وذكر القول بتناسخ الأرواح وفيه أن الكتب التي بأيدي الخارجين أي أهل الأديان المعروفة ليست كما أنزلت بل بدلوا فهيا وحرفوا فما وافق منها سنن اليزيدية فهو المقبول وما غايرها فمن تبديلهم. والثاني مصحف رش أي الكتاب الأسود وفيه حديث خلق السموات والأرض وما فيها من بحار وجبال وأشجار وخلق الملائكة والعرض وآدم وحواء وإرسال الشيخ عادي بن مسافر من الشام إلى لالش وما كان من نزول طاووس ملك (أي الشيطان) إلى الأرض وإقامته ملوكا لليزيدية ومقاومة اليهود والنصارى والمسلمين والعجم لهم وفيه أن كافة الطوائف البشرية من نسل آدم وحواء وأما شيث وأنوش وهم آباء اليزيدية الأولون فمن نسل آدم فقط وأصلهم من توأمين ذكر وأثنى ولدهما بإحدى الخوارق وأن طوفانا أتى على اليزيدية بعد طوفان نوح مضى عليه الآن سبعة آلاف سنة كان ينزل في كل ألف سنة منها إله من السماء يشرع لهم الشرائع ويسن السنن ومن هؤلاء الآلهة السبعة يزيد الذي ينتسبون إليه أما رئيسهم وأولهم فالشيطان المعبر عنه عندهم بطاووس ملك ومرتبة هؤلاء الآلهة دون مرتبة الآلة الأعظم الواحد القهار الفعال لما يريد. وفي هذا الكتاب أيضا شرائعهم وما أحل لهم وما حرم عليهم في الزواج وغيره وشرح أمر الطواف بسناجقهم (أي أعلامهم) في البلدان والقرى لجمع الصدقات وزيارتهم لقبر الشيخ عادي وما يفعلونه في عيد أول السنة من قطف النور الأحمر وذبح الذبائح وإطعام الفقراء وزيارة القبور. وفي كلا الكتابين من التلفيق والخبط ما فيه وتمتاز نسخة النمسا بالنص الكردي فيها وتختلف عنه الأميركية ببعض زيادات وتقديم وتأخير في العبارات وفيها ملحق فيه ما ليس في الكتابين من شرائعهم وأحوالهم وكرامات أوليائهم وتفصيل مراتب أمرائهم وشيوخهم وأغنية مختلة الوزن والعبارة في مدح الشيخ عادي وأخرى مثلها تتلى في صلاتهم وصورة المحضر الذي كتبوه لما أرادت الدولة العثمانية تجنيدهم وقد ذكروا فيه السبب الديني المانع لهم من مخالطة غيرهم. المصدر: اليزيدية ومنشأ نحلتهم لأحمد تيمور باشا - ص 8 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 168 المطلب الثاني: اللغة التي كتب كتاباهم بها مما لا شك فيه أن لغة اليزيدية هي اللغة الكردية لأنها السائدة بينهم. وبالكردية كتب كتاباهم المقدسان وهو الشائع بين الناس وبين اليزيدية أنفسهم، إلا أن كتابة سرية ندر أن يعرفها العامة، وهي ليست متداولة إلا بين خاصة الخاصة من اليزيديين، ولاسيما رجال الدين المسؤولين عن سرية الكتابين. ونحن لا نعلم اسم مخترع هذه الكتابة، ولكن يتبين من دراسة هذه الألف باء أنها مقتبسة عن الألف باء الآرامية، والألف باء الزردشتية والبهلوية (ذات الأصل الآرامي)، مع بعض التحريف. المصدر: اليزيديون واقعهم تاريخهم معتقداتهم لمحمد التوبخي – ص 137 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 169 المطلب الثالث: نصوص كتبهم أولا كتاب الجلوة: ونص الكتاب هو كالتالي: المقدمة الموجود قبل كل الخلائق هو ملك طاووس. وهو الذي أرسل عبطاووس إلى هذا العام لكي يميز ويفهم لشعبه الخاص وينجيه من الضلال والوهم. وأول ذلك كان بتسليم الكلام شفاهياً، ثم بواسطة هذا الكتاب المسمى (جلوة) وهو الكتاب الذي لا يجوز أن يقرأه الخارجون عن الله. الفصل الأول أنا كنت وموجود الآن، وأبقى إلى النهاية بتسلطي على الخلائق وتدبيري مصالح وأمور لكل الذين تحت حوزتي. أنا حاضر سريعا للذين يثقون بي ويدعونني عند الحاجة. ما يخلو مني مكان من الأمكنة. مشترك أنا بجميع الوقايع التي يسميها الخارجون شروراً لأنها ليست مصنوعة حسب مرامهم. كل زمان له مدبر بمشورتي، كل جيل يتغير حتى رئيس هذا العالم، حتى والرؤساء يكون كل واحد بدوره ونوبته يكمل وظيفته. أعطي رخصتي حسب الحق للطبيعة المخلوقة بأخلاقها. يحزن ويندم الذي يقاومني. الآلهة الأخرى ليس لها مداخلة بشغلي ومنعي منها عما قصدته مهما كان. ليست الكتب الموجودة بين الخارجين هي حقيقية، ولا كتبها المرسلون لنا، ولكن زاغوا وبدلوا ومنعوا، كل واحد يبطل الأخر وينسخه. الحق والباطل معلوم وهما مشهوران من وقوعهما باختبار والتجربة. وعيدي للذين يتكلون على ميثاقي وأخالفه حسب رأي المدبرين. الحذاق الذين وكلتهم لأوقات معلومة مني. أذكر أموراً وأحرم الأشغال اللازمة بحينها. أرشد وأعلم الذين يتبعون تعليمي، وتجدون لذة وفرحاً بموافقتهم معي. الفصل الثاني أكافئ وأجازي نسل آدم بأنواع أعرفها. بيدي التسلط على كل ما الأرض من فوقها وتحتها. ما أقبل مصادمة العوالم. ما أمنع خيرهم مخصوصاً للذين هم خاصتي وبطوعي. أسلم شغلي بيد الذين جربتهم وهم حسب مرامي. أتراءى بنوع من الأنواع وشكل من الأشكال للذين هم أمينون وتحت شوري. أخذ وأعطي، أغني وأفقر، أسعد وأشقي، حسب الظروف والأوقات. ليس من يحق له بأن يتداخل أو يمنع بشيء من تصرفي. أجلب الأوجاع والأسقام على الذين يعادونني. ما يموت الذي هو من حبيبي كسائر بني آدم. ما أسمح لأحد بأن يسكن في هذا العالم الأدنى أكثر من الزمن الذي هو محدد مني. وإن شئت أرسلته تكراراً ثانياً وثالثاً إلى هذا العالم أو غيره بتناسخ الأرواح. الفصل الثالث أرشد بلا كتاب، أهدي غيبا أحبائي وخواصي جميع تعاليمي. موافق للحال والزمان، أقاصص الذين يخالفون شرائعي بالعوالم الآخرة. بنو هذا آدم ما يعرفون الأحوال المزمعة، لذلك يسقطون في أوقات كثيرة بالغلط. حيوانات البر، وطيور السماء، وسمك البحر، جميعهم بيدي وتحت ضبطي. الخزائن والدفائن المدفونة تحت قلب الأرض معلومة عندي، وأخلفها من واحد إلى واحد لمن أريده. أظهر معجزاتي وعجائبي للذين يقبلونها ويطلبونها مني في حينها. مضادة ومخافة الأجنبيين لي ولأتباعي هي ضرر عليهم، لأنهم لا يدرون أن العظمة والثروة والغنى هم بيدي، وأختار من يليق لها من نسل آدم. تدابير العوالم وانقلاب الأجيال وتغير كل مدبريهم منظومة مني منذ القديم. الفصل الرابع حقوقي ما أعطيها لغيري من الآلهة. أربعة عناصر، وأربعة أزمنة، وأربعة أركان، سمحت بها لأجل ضروريات المخلوقين. كتب الأجنبيين مقبولة نوعاً بالذي يطابق ويوافق سنتي وما يخالفها هم غيروه. ثلاثة أشياء هي ضدي وثلاثة أشياء أبغضها. الذين يحفظون أسراري ينالون مواعيدي. جميع الذين يحتملون المصائب بسببي لابد أن أكافئهم بأحد العوالم. أريد أن يتحد أبنائي برباط واحد، وكذلك كل تابعي لأجل مضادة الأجنبيين لها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 170 يا أيها الذين آمنوا تبعتم وصاياي وأنكروا أقوال وكل التعاليم التي ليست من عندي، ولا تذكروا اسمي وصفاتي لئلا تذنبوا، لأنكم لستم تدرون ما يفعله الأجانب. الفصل الخامس كرموا شخصي وصورتي لأنهم يذكرونكم بي الأمر الذي أهملتموه من سنين. وشرائعي أطيعوا واصغوا لخدامي بما يلقونكم من علم الغيب الذي هو من عندي. ثانيا: مصحف رش ونص مصحفهم كالتالي: في البداية خلق الله الدرة البيضاء من سره العزيز وخلق طائراً اسمه "انفرا" وجعل الدرة فوق ظهره وسكن عليها أربعين ألف سنة. أول يوم خلق الله فيه هو يوم الأحد. وخلق فيه ملكاً اسمه عزرائيل وهو طاووس ملك رئيس الجميع. ويوم الإثنين خلق ملك دردائيل وهو الشيخ حسن. ويوم الثلاثاء خلق ملك إسرافائيل وهو الشيخ شمس. ويوم الأربعاء خلق ملك ميكائيل وهو الشيخ أبو بكر. ويوم الخميس خلق ملك جبرائيل وهو سجاد الدين. ويوم الجمعة خلق ملك شمنائيل وهو ناصر الدين. ويوم السبت خلق ملك نورائيل وهو فخر الدين. وجعل الله ملك طاووس رئيساً عليهم. بعده خلق صورة السبع سموات والأرض والشمس والقمر. فخر الدين خلق الإنسان والحيوان والطير والوحوش ووضعهم في جيوب الخرقة وطلع من الدرة ومعه ملائكة فصاح صيحة عظيمة على الدرة فانفصلت وصارت أربع قطع ومن بطنها خرج الماء وصار بحراً وكانت الدنيا مدورة بلا تخلل. وخلق الله جبرائيل بصورة طائر وأرسله، وبيده وصنع أربع زوايا الأرض. ثم خلق مركباً ونزل بالمركب ثلاثين ألف سنة. بعده جاء وسكن في لاليش. ثم صاح في الدنيا أرضاً وبدأت تهتز فأمر جبرائيل على قطعتين من الدرة البيضاء ووضع الواحدة تحت الأرض والأخرى في باب السماء فسكنت ثم جعل فيها شمساً وقمراً وخلق نجوماً من نثريات الدرة البيضاء وعلقها في السماء للزينة. وخلق أشجاراً مثمرة ونباتات في الأرض والجبال لأجل زينة الأرض ثم خلق العرش على الفرش. الرب العظيم قال: يا ملائكة أنا أخلق آدم وحواء وأجعلهم بشراً. ومنهم يكون من سر آدم شهرين سفر. ومنه يكون ملة على الأرض ثم ملة عزرائيل أعني طاووس ملك وهي ملة اليزيدية. ثم أرسل الشيخ عادي ابن مسافر من أرض الشام وأتى إلى لاليش. ثم نزل الرب إلى الجبل الأسود وصاح وخلق ثلاثين ألف ملك وفرقهم ثلاث فرق. وبدأوا يعبدونه أربعين ألف سنة. ثم أسلمهم إلى طاووس ملك وصعد بهم إلى السماوات. ثم نزل الرب في أرض القدس. أمر جبرائيل جلب تراب من أربع زوايا الدنيا فجاء بتراب وهواء ونار وماء فخلق من كل هذا آدم الأول وجعل فيه روحاً من قدرته. وأمر جبرائيل أن يدخل آدم إلى الفردوس ويأكل من كل ثمر الشجر. أما من الحنطة فلا يأكل. وبعد مائة سنة طاووس ملك قال لله كيف يكون يكثر ويزيد آدم وأين نسله؟ قال الله: الأمر والتدبير سلمته بيدك. فجاء وقال لآدم: أأكلت حنطة؟ قال: لا، لأن الله نهاني. قال: كل يصير لك أحسن. بعد ما أكل حالاً نفخ بطنه فأخرجه طاووس ملك من الجنة وتركه وصعد إلى السماء. فتضايق آدم من بطنه لأنه ما كان له مخرج. فأرسل الله طائراً فجاء ونقر وفتح له مخرجاً فاستراح. وجبرائيل غاب عن آدم مائة سنة. فحزن وبكى مائة سنة. حينئذ أمر الله جبرائيل أن يخلق حواء فجاء وخلق حواء من تحت آباط آدم الأيسر. ثم نزل ملك طاووس إلى الأرض لأجل طائفتنا المخلوقة وأقام لنا ملوكاً ما عدا ملوك الأثوريين القدماء: نسروخ وهو ناصر الدين. وأرطيموس وهو ملك شمس الدين وبعد ذلك صار لنا ملكان شابور الأول وشابور الثاني، ودام ملكهما مائة وخمسين سنة، ومن نسلهما قام أمراؤنا إلى الآن. وبغضنا لأربع ملوك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 171 حرمنا علينا الخس لأنه على اسم أنبيائنا الخاسية والملوخية واللوبياء والصبغ الأزرق. وما نأكل السمك لأجل احترامنا ليونان النبي والغزال لأنه غنم أحد أنبيائنا. والشيخ وتلامذتهما يأكلون لحم الديك احتراماً لطاووس ملك. وطاووس ملك هو واحد من الآلهة السبعة المذكورة لأن صورته تمثال الديك. والشيخ وتلامذته ما يأكلون القرع. وحرام علينا البول وقوفا. وليس اللباس قعودا. والاسترخاء في أدبخانة والغسل في الحمام. وما يجوز أن نلفظ كلمة شيطان لأنه اسم إلا هنا. ولا كل اسم يشابه ذلك مثل قيطان وشط وشر. ولا لفظة ملعون. لعنه، نعل. وما أشبه. قبل مجيء المسيح عيسى إلى هذا العالم ديانتنا كانت تسمى وثنية. واليهود والنصارى والإسلام ضاددوا ديانتنا والعجم أيضاً. وكان من ملوكنا آحاب. فأمر كلاً من كان منا أن يسميه باسم خاص به فسموه الإله آحاب أو بعلزبوب والآن يسمونه عندنا بيربوب. وكان لنا ملك في بابل اسمه بختنصر. وفي العجم أحشويرش وفي قسطنطينية أغريقالوس. إنه قبل كون السماء والأرض كان الله موجوداً على البحار. وكان قد صنع له مركباً وكان يسير به في بنونات الأبحار متنزها في ذاته. إنه خلق منه درة وحكم عليها أربعين سنة ومن بعد ذلك غضب على الدرة ورفسها. فيا للعجيب العجيب إذ صارت من ضجيجها الجبال ومن عجيجها التلال ومن دخانها السماوات. ثم صعد الله في السماوات وجمدها وثبتها بغير عواميد. ثم قفل الأرض. ثم أخذ قلماً بيده، وبدأ في كتابة الخلقة كلها. ثم خلق ستة آلهة من ذاته ومن نوره. وخلقتهم صارت كما إذا أوقد إنسان سراجاً من سراج الآخر. فقال الإله الأول للثاني: أنا خلقت السماء فقط اصعد أنت إلى السماء واخلق شيئاً. فصعد وصار شمساً. وقال للآخر، فصعد وصار قمراً. والرابع خلق الفلك. والخامس صار نجم الصبح والسادس خلق الفراغ يعني الجو المصدر: اليزيدية عبدة الشيطان لأحمد عبد العزيز الحصين – ص 70 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 172 المبحث الثامن: معتقداتهم مقدمة لفهم المعتقد اليزيدي - حدثت معركة كربلاء في عهد يزيد بن معاوية وقتل فيها الحسين بن علي رضي الله عنه. - أخذ الشيعة يلعنون يزيد ويتهمونه بالزندقة وشرب الخمر. - بعد زوال الدولة الأموية، بدأت اليزيدية على شكل حركة سياسية. - أحب اليزيديون يزيد واستنكروا لعنه بخاصة. - ثم استنكروا اللعن بعامة. - وقفوا أمام مشكلة لعن إبليس في القرآن فاستنكروا ذلك أيضاً وعكفوا على كتاب الله يطمسون بالشمع كل كلمة فيها لعن أو لعنة أو شيطان أو استعاذة بحجة أن ذلك لم يكن موجوداً في أصل القرآن وأن ذلك زيادة من صنع المسلمين. - ثم أخذوا يقدسون إبليس الملعون في القرآن، وترجع فلسفة هذا التقديس لديهم إلى أمور هي: . - لأنه لم يسجد لآدم، فهو بذلك - في نظرهم - يعتبر الموحد الأول الذي لم ينس وصية الرب بعدم السجود لغيره في حين نسيها الملائكة فسجدوا، إن أمر السجود لآدم كان مجرد اختبار، وقد نجح إبليس في هذا الاختبار فهو بذلك أول الموحدين، وقد كافأه الله على ذلك بأن جعله طاووس الملائكة، ورئيساً عليهم!! - ويقدسونه كذلك خوفاً منه لأنه قوي إلى درجة أنه تصدى للإِله وتجرأ على رفض أوامره!! - ويقدسونه كذلك تمجيداً لبطولته في العصيان والتمرد!! - أغوى إبليس آدم بأن يأكل من الشجرة المحرمة فانتفخت بطنه فأخرجه الله من الجنة. - إن إبليس لم يطرد من الجنة، بل إنه نزل من أجل رعاية الطائفة اليزيدية على وجه الأرض!! - وادي "لالش" في العراق: مكان مقدس يقع وسط جبال شاهقة تسمى بيت عذرى، مكسوة بأشجار من البلوط والجوز. - المرجة في وادي لالش: تعتبر بقعة مقدسة، واسمها مأخوذ من مرجة الشام، والجزء الشرقي منها فيه جبل عرفات ونبع زمزم. - لديهم مصحف رش (أي الكتاب الأسود) فيه تعاليم الطائفة ومعتقداتها. - الشهادة: أشهد واحد الله، سلطان يزيد حبيب الله. - الحشر والنشر بعد الموت سيكون في قرية باطط في جبل سنجار، حيث توضع الموازين بين يدي الشيخ عدي الذي سيحاسب الناس، وسوف يأخذ جماعته ويدخلهم الجنة. - يقسمون بأشياء باطلة ومن جملتها القسم بطوق سلطان يزيد وهو طرف الثوب. - يترددون على المراقد والأضرحة كمرقد الشيخ عدي والشيخ شمس الدين والشيخ حسن والشيخ عبد القادر الجيلاني، ولكل مرقد خدم، وهم يستخدمون الزيت والشموع في إضاءتها. - يحرمون التزاوج بين الطبقات، ويجوز لليزيدي أن يعدد في الزواج إلى ست زوجات. - الزواج يكون عن طريق خطف العروس أولاً من قبل العريس، ثم يأتي الأهل لتسوية الأمر. - يحرمون اللون الأزرق لأنه من أبرز ألوان الطاووس. - يحرمون أكل الخس والملفوف والقرع والفاصوليا ولحوم الديكة وكذلك لحم الطاووس المقدس عندهم لأنه نظير لإِبليس طاووس الملائكة، ولحوم الدجاج والسمك والغزلان ولحم الخنزير. - يحرمون حلق الشارب، بل يرسلونه طويلاً وبشكل ملحوظ. - إذا رسمتَ دائرة على الأرض حول اليزيدي فإنه لا يخرج من هذه الدائرة حتى تمحو قسماً منها اعتقاداً منه بأن الشيطان هو الذي أمرك بذلك. - يحرمون القراءة والكتابة تحريماً دينياً لأنهم يعتمدون على علم الصدر فأدى ذلك إلى انتشار الجهل والأمية بينهم مما زاد في انحرافهم ومغالاتهم بيزيد وعدي وإبليس. - لديهم كتابان مقدسان هما: (الجلوة) الذي يتحدث عن صفات الإِله ووصاياه والآخر "مصحف رش" أو "الكتاب (الأسود) الذي يتحدث عن خلق الكون والملائكة وتاريخ نشوء اليزيدية وعقيدتهم. - يعتقدون بأن الرجل الذي يحتضن ولد اليزيدي أثناء ختانه يصبح أخاً لأم هذا الصغير وعلى الزوج أن يحميه ويدافع عنه حتى الموت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 173 - اليزيدي يدعو متوجهاً نحو الشمس عند شروقها وعند غروبها ثم يلثم الأرض ويعفر بها وجهه، وله دعاء قبل النوم. - يقولون في كتبهم: "أطيعوا واصغوا إلى خدامي بما يلقنونكم به ولا تبيحوا به قدام الأجانب كاليهود والنصارى والإسلام لأنهم لا يدرون ما هو تعليمي، ولا تعطوهم من كتبكم لئلا يغيروها عليكم وأنتم لا تعلمون". المصدر: الموسوعة الميسرة سيرى الباحث أن معتقدات هذه الطائفة لم تكن ذات نبع واحد، ولم ينظمها رسول ذو مشرب واحد، بل إنه سيقع على أفكار مستقاة من قنوات عديدة، بعضها سماوي وبعضها متوارث. وأهم هذه القنوات: 1 - مبادئهم الأصلية: والتي تدل – ولا شك - على قدم في قسم كبير من هذه العقيدة، ودنو من عبارة العناصر الأربعة، وتقديس للأفلاك والتناسخ والثنوية، و. . . مما له أصول وروابط بالمجوسية وبمعتقدات إيرانية عريقة في القدم. من ذلك نشيدهم الذي يخاطبون به ربهم، يشيدون فيه بالعناصر الأربعة: الماء، والنور، والتراب، والنار: " ربنا أنت الرحيم وضعت أربعة عناصر على الأرض؛ هي الماء، والنور، والتراب، والنار " (1). 2 - اليهودية: وأغلبها مما له علاقة بالكتاب المقدس، وببعض العادات اليهودية كالختان, وبعض الطعام، وخلق العالم. ومن نشيد طويل في خلق الأرض والسماء والإنس والجان نقتطع قولهم: " يا رب أنت الصانع الكريم أنت فتحت الطريق والدرب المظلم أنت خالق كل شيء؛ خلقت الجنة الملونة ولم يكن هناك أرض ولا سماء كانت الدنيا الواسعة بلا قرار ولم يكن للإنسان والحيوان وجود. . . فخلقتهم " 3 - الإسلام: من أسماء الشعائر الدينية كالحج والزكاة والصدقة والصوم والأعياد، ومن الاتجاه الصوفي، والانتماء إلى الشيخ عدي وإلى يزيد، وكثير من الأفكار، نستدل على توسع هذه القناة. حتى أسماؤهم عربية إسلامية كعلي وحسين وإسماعيل. 4 - النصرانية: أثرت النصرانية فيهم كثيرا وأحبوها كثيرا أيضا. فهم يعتقدون أن أم يزيد من أصل نصراني اسمها " شلخة " وكذلك زوجته. ويعمرون الكنائس والأديرة، ويهتمون بها، وفيه من يتحفى ويلثم عتباتها إجلالا للقديس المؤسسة على اسمه. وهم لا يفعلون هذا إذا لم يكن القديس مشتهرا، لكنهم لا يدخلون مساجد المسلمين أبدا. وهم يكرمون القديسين الذين أسست على أسمائهم الأديرة والكنائس، لاعتقادهم أنهم بلغوا مرحلة عالية من سمو النفس وطهارتها، حتى حل الملك طاووس في أنفسهم. وهم يزعمون أن هذا الطاووس سكن في نفس الكليم حينا، لكنه سكن حينا أطول في نفس المسيح، ولهذا يعدونه أعظم الأنبياء على الأرض. وازداد تأثرهم بالنصرانية بعد اتصالهم الواسع بالأرمن. المصدر: اليزيديون واقعهم تاريخهم معتقداتهم لمحمد التوبخي – ص46 اتصل عدي بن مسافر بالشيخ عبد القادر الجيلاني المتصوف، وقالوا بالحلول والتناسخ ووحدة الوجود، وقولهم في إبليس يشبه قول الحلاج الذي اعتبره إمام الموحدين. - يحترمون الدين النصراني، حتى إنهم يقبلون أيدي القساوسة ويتناولون معهم العشاء الرباني، ويعتقدون بأن الخمرة هي دم المسيح الحقيقي، وعند شربها لا يسمحون بسقوط قطرة واحدة منها على الأرض أو أن تمس لحية شاربها. - أخذوا عن النصارى "التعميد" حيث يؤخذ الطفل إلى عين ماء تسمى "عين البيضاء" ليعمد فيها، وبعد أن يبلغ أسبوعاً يؤتى به إلى مرقد الشيخ عدي حيث زمزم فيوضع في الماء وينطقون اسمه عالياً طالبين منه أن يكون يزيدياً ومؤمناً (بطاووس ملك). - عندما دخل الإسلام منطقة كردستان كان معظم السكان يدينون بالزرادشتية فانتقلت بعض تعاليم هذه العقيدة إلى اليزيدية. - دخلتهم عقائد المجوس والوثنية فقد رفعوا يزيد إلى مرتبة الألوهية، والتنظيم عندهم (الله-يزيد-عدي).   (1) ثيزدياتي (كردي): (61). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 174 - (طاووس ملك) رمز وثني لإِبليس يحتل تقديراً فائقاً لديهم. - أخذوا عن الشيعة "البراءة" وهي كرة مصنوعة من تراب مأخوذة من زاوية الشيخ عدي يحملها كل يزيدي في جيبه للتبرك بها، وذلك على غرار التربة التي يحملها أفراد الشيعة الجعفرية. وإذا مات اليزيدي توضع في فمه هذه التربة وإلا مات كافراً. - عموماً: إن المنطقة التي انتشروا فيها تعج بالديانات المختلفة كالزرادشتية وعبدة الأوثان، وعبدة القوى الطبيعية، واليهودية، والنصرانية، وبعضهم مرتبط بآلهة آشور وبابل وسومر، والصوفية من أهل الخطوة وقد أثرت هذه الديانات في عقيدة اليزيدية بدرجات متفاوتة وذلك بسبب جهلهم وأميتهم مما زاد في درجة انحرافهم عن الإسلام الصحيح. المصدر: الموسوعة الميسرة اليزيديون والطاووس لماذا يعبدون الطاووس: ما هي قصة هذا الطائر الصغير الذي يسمى الطاووس ولماذا يعبدونه ويجعلون له صورة تمثالية من البرنز ويسجدون له: يذكر اليزيدي إسماعيل بك في كتابه (اليزيدية قديما وحديثا): بأن طاووس ملك أذعن إلى أمر الله في أن يبقى في الجنة ويسمع أوامره. وسلمه الله كل شيء وجعله في نصف الفردوس بمحل يقال له عين الفلك وداخل قدرة إلهية اسمها اللوح المحفوظ, وألزم طاووس ملك أن يأخذ التعليمات كل يوم من ذلك اللوح, وفي يوم ما فتح طاووس ملك اللوح المحفوظ ورأى فيه أمر الله إليه أن يكيل "يزن" جميع البحار بحفنات يده. فتعجب طاووس ملك لأن هذا ليس بالأمر السهل ولكن الله خاطبه "بأن يذهب لأن كل ألف سنة هي دقيقة بأمري" وفعلا ذهب طاووس ملك وعمل بما أمره الله به ثم قال له الله بعد أن قام بعمله خير قيام "الملك ملكك وأنت القدير وأنت القهار وعظمتك ليس لها حد ولا قرار". وفي اليوم الثاني كشف إلى طاووس ملك في اللوح المحفوظ نفسه أن يذهب ليكيل الأرض كما كال البحار مستعملا شبر يده. فذهب طاووس ملك لتوه وعمل بأمر ربه فخاطبه الله "المال مالك وأنت الخالق وأنت العظيم وليس لقدرتك معارض أو معاكس". وظهر لطاووس ملك يوم الثلاثاء أمر آخر عليه أن يذهب بموجبه إلى خزائن الأرواح المجاورة للأرض والفردوس وقال له نريد الآن أن نخلق عجائب الإنسان وقد أجزتك أن تذهب وتصيح بالأرواح وفعلا سارت وراءه الملايين منها كل روح بقدر حجم بذرة التوت أو السمسم ولما صاح بها طاووس ملك أقبلت إليه أرواح كل اليزيدية الذين سيصبحون بشرا في العالم فصار هؤلاء ملته وقومه الخاصين المفضلين. ولكن باقي الأرواح توسلت إليه بأن لا يتركها لوحدها دون مرشد وهاد فأوعدهم بأن يرسل لكل منهم نبيا أو رسولا يدلهم على الطريق السوي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 175 وفتح طاووس ملك اللوح المحفوظ في يوم الأربعاء فوجد به أمر الله إليه أن يصنع آدم من نار وهواء وتراب وماء فعمل بأمره فكان آدم. أما في يوم اليوم الخميس فأمره الله بموجب ما دونه باللوح المحفوظ أن ينفخ بأذن آدم في الزرنانية الناي الذي يستعمله اليزيديون" ثلاث مرات ولما نفخ طاووس ملك بأذن آدم وقف على قدميه أما يوم الجمعة فكان اليوم الذي أمر الله به طاووس ملك أن يدخل آدم الجنة ويبقيه فيها أربعين سنة وكان طاووس ملك بيراً على آدم طيلة بقائه في الجنة وفي هذا الوقت خلق حواء من تحت آدم الأيسر. وبعد مدة رأى طاووس ملك في اللوح المحفوظ أمره تعالى بأن يعمل على إخراج آدم من الجنة لأنه قد أكمل مدته ويجب عليه أن يخرج منها إلى الأرض كيما يخرج البشر منه. وقبل أن يخرج منها كان قد أطعمه من شجرة الحنطة وانتفخت منها بطنه وكان آدم وحواء بلا مخرج فأرسل لهما طير يسمى القلاج نقرهما وصار لهما مخرج ورأى طاووس ملك يوم السبت نصيحة الله إليه بأن يذهب لتوه ويعلم آدم المهن البشرية وكذلك حواء. فذهب طاووس ملك وأيقظ من سباته بعد أن رمي خارج الجنة وعلمه كل شيء. وهنا التفت إليه آدم وقال له "ما اسمك لأنك عملت معنا هذا الإحسان العظيم حتى نشكرك فقال له اسمي بير مدبر". وبعد أن يذكر ميلاد ولد لآدم فقد تم اتصال آدم مع حواء يقول إن حواء ولدت جنين هما قاين وقليومة ومنهما تناسلت باقي الطوائف. ثم شيش وحورية اللذان هما إبرار والأول هو أبناء لشجرة لذا يسمى ملك السجادين على اسم الشجر. (1). وهذا التمثال يرمز إلى إبليس "طاووس الملائكة" ويطوفون بهذا التمثال الذي رسم على شكل ديك من النحاس وهم يطوفون بهذا التمثال على القرى لجمع الصدقات والنذور. المصدر: اليزيدية عبدة الشيطان لأحمد عبد العزيز الحصين – ص 62 يقولون: (. . إن الله الذي لا حد لجوده ومحبته للخلائق لا يفعل بهم شرا لأنه صالح. أما الشيطان فهو منقاد إلى عمل الشر. وعليه فالحكمة تقضي على من يريد السعادة أن يهمل عبادة الرب ويطلب ولاء الشيطان ". على أننا نتوقع أن تقديس طاووس ملك جاء من موقف إبليس من مسألة السجود لآدم. فهم يرون أن الله اختبر ملائكته في السجود لآدم، فأشركت الملائكة بسجودها لغير الله، وأبى إبليس أن يشرك. ولهذا اختاروا له أن يكون رئيس الملائكة، بل أول المخلوقات. جاء في كتاب (الجلوة): " الموجودة قبل كل الخلائق هو ملك طاووس ". وإن قصة رفض " عزازيل " - وهو اسمه أيضا – الانحناء إلى آدم ........ ,ومن أسمائه كذلك عندهم " كاروبيم "، وهو بعد رب العالمين، وسيد الكل، وضابط الكل، وراق الكل. بيده اليمنى الخير وبيده اليسرى الشر، يعطي الخير من يشاء، ويأخذ ممن يشاء، ويلقي الشر على من يشاء، ويزيله عمن يشاء. ولهذا نرى اليزيدية يترضونه كل الرضا، فأقاموا له أياما مشهودة، وأعيادا معدودة، وطوافات معلومة، وحفلات مرسومة، ويقولون: " إنما نكرم الطاووس الملك دون رب العالمين لأن هذا الطاووس مصدر كل الشرور والنحوس. فإن لم نستلفت أنظاره علينا لم نخلص من انتقامه. وإذا ترضيناه فزنا بسعادة الدنيا والآخرة. أما رب العالمين فهو عين الخير والصلاح، لا يرى فيه أدنى عيب أو وصمة. بل هو العصمة والجودة والرحمة، لا يحقد على أحد إلى الأبد، حتى إنه يتصالح مع الطاووس الملك، ويرجعه إلى عليين؛ ولهذا فمن يلعنه يهلك. المصدر: اليزيديون واقعهم تاريخهم معتقداتهم لمحمد التوبخي – ص82 يقول سليم مطر (كاتب عراقي) مدافعا عن اليزيدية بهذا الشأن:   (1) ((اليزيدية)) (ص 74 - 75) نقلا من كتاب ((اليزيدية)) للدكتور سامي الأحمد (ص12 - 13) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 176 (إن (طاووس ملك) تعني بكل بساطة وحسب تفسير اليزيديين أنفسهم (الملاك طاووس) الذي يعتبرونه رئيس الملائكة. علما بأن اليزيدية يقدسون طيرالطاووس ويرسمونه في كل مكان مثل الصليب لدى المسيحيين. ويعتقدون بأنهم ورثوه من أيام إبراهيم الخليل. ويقول أمير اليزيدية (أنور معاوية) ما يلي بخصوص الطاووس: (إن الطاووس صورة أثرية خالدة من زمن البابليين والآشوريين (ونجد هذا الرمز موجوداً في الكثير من الآثار العراقية. هناك من يربط بين تسمية (طاووس) وتسمية (تموز) إله الخصب والذكورة .. ) السناجق (1) في اعتقادهم أن للملائكة السبعة الذين اشتركوا في تكوين هذا العالم وخلفه علامات خاصة، حفظها سليمان الحكيم لديه. وحين دنت وفاة سيدنا سليمان أودعها لدى أحد ملوك اليزيديين. وحين ولد " بربر آيا " أو " يزيد البربري " انتقلت إليه العلامات فخصص لها منشدين. كان لهم ستة سناجق (أو سبعة)، ولم يبق منها اليوم سوى سنجق واحد، المصدر: اليزيديون واقعهم تاريخهم معتقداتهم لمحمد التوبخي – ص117 عقيدة التناسخيعتقدون بالحلول وبسكون الأرواح مع الأرواح، أي بانتقال الروح من مكان إلى غيره؛ من وضيع إلى رفيع حسب استحقاقها والإنعام عليها " (2). وقد جاء في كتاب (الجلوة) قوله: " وإذا شئت أرسلته تكرارا ثانيا وثالثا إلى هذا العالم أو غيره بتناسخ الأرواح". واعتقادهم هذا شبيه جدا باعتقاد الغلاة من المتصوفة، والتي تجري على أربع درجات: الرسخ: انتقال النفس الناطقة من بدن الإنسان إلى أجسام نباتية. المسخ: انتقال النفس الناطقة من بدن الإنسان إلى أجسام حيوانية. الفسخ: انتقال النفس الناطقة من بدن الإنسان إلى الجمادات. النسخ: انتقال النفس الناطقة من بدن الإنسان إلى بدن إنسان آخر. ويبدو اعتقادهم هذا في كثير من المراسم. ويرون أن الأرواح قسمان: أرواح شريرة: تحل في أجسام الحيوانات الخبيثة والسيئة كالكلب والحمار والخنزير. وحلول الأرواح الشريرة في هذه الأجسام نوع من تعذيبها. الأرواح الخيرة والطيبة: تحوم في الفضاء لتكشف للأحياء أسرار الكائنات والمغيبات، لأنها دائما في تماس مع العالم. لذا يمضي اليزيديون ليلتهم حول جثمان فقيدهم، مشغولين بالعبادة والتضرع والصلاة، فلعلهم يرون الميت في منامهم، فيخبرهم على أي صورة سيعود، وفي جسم أي فئة ستحل روحه، وهل هو في عداد أهل جهنم أم في عداد أهل الجنة. فإن رأوا أن روح ميتهم ستذهب إلى روح إنسان شكروا الله، أما إذا كانت روحه ستحل في جسم حيوان فإن أفراد أسرته يبذلون ما في وسعهم من خيرات، ويعمدون إلى النذور، فلعل روح الميت تنتقل من جسم الحيوان إلى جسم إنسان آخر (3).   (1) السنجق: كلمة تركية معناها الراية، لكن اليزيديين أطلقوها على شكل مجسم فيه صورة الملك طاووس، منصوب على عمود شبيه بحامل الشمعدان. (2) قول إسماعيل بيك: (96). (3) ولهذا يعمد كثير من أغنياء اليزيدية – إذا لم يكن لهم ورثة شرعيون – إلى إخفاء أموالهم في أماكن معينة، ويضعون عليها علامات فارقة، حتى إذا عادوا إلى الحياة ثانية نعموا بهذه الأموال مرة أخرى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 177 وهم يعتقدون أن الخليفة العباسي " المقتدر بالله " قتل منصورا الحلاج – وهو مقدس عندهم – فسكبوا على رأسه ماء. فسرت روحه فوق الماء. وبالأمر المقدر أخذت أخت الحلاج جرتها لتملأها ماء. وفي طريق عودتها عطشت الفتاة فشربت من الجرة، فتسربت روح أخيها إلى جسمها عن طريق معدتها، وحملت فورا من غير أن تدرك سبب حملها، حتى وضعت وليدها، فكان الوليد شبيها بأخيها الحلاج. ولما كان المولود من حيث نسبه وحسبه ابن الحلاج فقد استدلوا على حدوث التناسخ. ولهذا فإننا لا نراهم يشربون الماء من الكوز أو الإبريق ولا من أي وعاء ذي مقبض، ولا مما شرب غريب بعضه. المصدر: اليزيديون واقعهم تاريخهم معتقداتهم لمحمد التوبخي – ص88 الموت ودفن الموتى إن اليزيدية يؤمنون بالتقمص وتناسخ الأرواح. وأغلب الأمم الشرقية التي تؤمن بالتناسخ تحرق جثث موتاها، إلا أن اليزيدية يدفنون موتاهم، ومراسمهم كثيرة الشبه بمراسم المسلمين والمسيحين. وتبدأ هذه المراسم بالوفاة. فإن كان الميت عزيزا أو شابا أو مكرما نحتوا خشبة على هيئة إنسان – ويدعونها " الشكل " - وألبسوها الثياب التي كان صاحب الشكل يلبسها. ثم يأتي الطبال والزمار وسائر أفراد الجوقة فيضربون ويعزفون نغمات الحزن والموت، والناس حول الميت يبكون ويندبون وهم وقوف. ثم يطوفون حول الشكل ويركعون له ويتبركون به. ويتقدم الغرباء متجاهلين الحدث فيسألون أهله: ما عندكم؟ فيقولن أصحاب الميت: " نحن نزوج ولدنا وهذه حفلة عرسه ". ويقيمون الحداد ثلاثة أيام، ويوزعون الخيرات على روحه. ويجددون ذلك في اليوم السابع، واليوم الأربعين، وفي مثل يوم فاته من قابل. ويطعمون الفقراء طبقا من الطعام مع رغيف خبز مدة سنة. وإذا كان الميت غير عزيز فلا يفعل له شيء. وإذا كان الميت يزيديا أسود فلا يبكى عليه أحد، ولا تقام له مراسم الحداد! حينما يحتضر اليزيدي يحضر إليه شيخه (من طبقة الكواجك وأخوه " أو أخته ") (الأبدي) ليكونا إلى جانبه. وحين يلفظ أنفاسه يغسلونه، ويدهن الشيخ وجه الميت بزيت الزيتون، ثم يذر تربة الشيخ على وجهه (عوضا عن الكافور) وتحت إبطيه وعلى عينيه وقلبه. ثم يسدون منافذ الميت بالقطن، ثم يتقدم الشيخ ويصلي عليه. ويلبسونه فاخر ثيابه (كالمسيحيين)، ثم يكفنونه بالقماش الأبيض، ويربطون القماش فوق رأسه (كالمسلمين). وبعد ذلك يوضع في التابوت المغسول بماء زمزم (قرب الشيخ عدي) ثم يحمل النعش إلى القبر، بينما يعلو صوت البكاء والعويل، ويرافق الجنازة قوالان يعزفان اللحن الحزين، والنساء يصرخن " هاو، هاو، هاو، ". وإن كان الميت عزيزا أطلقوا عيارات نارية في الفضاء، وأحرقوا البخور حتى تتعطر روحه (1). وكل من شيع الميت حثا على تابوته التراب عند دفنه وقال: " يا إنسان كنت ترابا ورجعت اليوم إلى تراب " (2). ويوجهون وجهه نحو المشرق. ويلقنه الشيخ بقوله: يا عبد ملك طاووس ستموت على دين معبودنا وهو ملك طاووس ولا تموت على غيره. وإن جاءك أحد وقال لك: مت على دين الإسلام أو اليهود أو غيرهما من الأديان فلا تصدقه. وإن صدقته وآمنت بغير معبودنا كنت كافرا" المصدر: اليزيديون واقعهم تاريخهم معتقداتهم لمحمد التوبخي – ص98 اليزيديون والشيطان إن طائفة اليزيدية مرتبطة بعبادة الشيطان، هذا ما هو منتشر بين الناس، ولكن هم ينكرون هذا فيقول أميرهم أنور معاوية في مقال منشور في الشبكة ومنشور في بعض الصحف الغربية:   (1) يستدعي بعضهم إماما مسلما فينحني على الجثمان ويقرأ عليه آيات من القرآن الكريم. (2) وهي بلغتهم: " يا إنسان تو آخ بوي وتوفجر يايي سرآخي ". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 178 (إن طائفتنا مثل كل الطوائف الباطنية المغلقة، كانت عرضة للتقولات والإشاعات المغرضة التي تبرر اضطهادها. تتمحور هذه التقولات المعادية حول فكرتين: إننا من عبدة الشيطان، وإننا كذلك متعصبون للأصل الأموي ومعادون للشيعة .. بالحقيقة إن تهمة "عبادة الشيطان"، هي تهمة باطلة تم اصطناعها من قبل الأطراف العثمانية والكردية المجاورة التي أرادت تبرير اضطهاد اليزيدية والاستيلاء على قراهم. لقد تدعمت هذه التهمة الباطلة لدى كثير من الناس لأنهم يشاهدون الإنسان اليزيدي يتأفف ويغضب عندما يسمع عبارة: (لعنة الله على الشيطان .. ). والسبب بغضب اليزيدية من هذه العبارة ليس له أية علاقة بتقديس الشيطان، بل لأنه يعرف بأن الناس تقولها من أجل إغاظته. فمن المعلوم أننا نحن اليزيدية نعبد الله الواحد الأحد ومن بعده جبرائيل (طاوس ملك) ونؤمن بالنبي إبراهيم الخليل الذي نعتبره جدنا الأكبر بعد آدم، ونقدس أيضا يزيد بن معاوية باعتباره رمز سلالتنا الأموية، وكذلك عدي بن مسافر باعتباره باني طريقتنا الروحية وجامع كتابنا المقدس (الجلوة والأسود) أ. هـ ما قاله أميرهم هذا وظاهر تكلفه في تبرير غضب اليزيدي عند لعن الشيطان. المصدر: مقال بعنوان: اليزيدية جذورها عراقية قديمة اسمها أموي وليس لها علاقة بالأكراد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 179 لقد قمت بتوجيه هذا السؤال (هل اليزيدون يعبدون الشيطان) للكثير من اليزديين عندما كنت أقوم بجمع المعلومات حول هذه الطائفة، فكانت أجوبتهم متفقة في أنهم لا يعبدون الشيطان إطلاقا بل يكرهونه إلى درجة أنهم يتحرزون عن ذكر اسمه وقد قال لي الشيخ علو وهو احد مراجع اليزيدية في كردستان العراق رأينا في الشيطان أن هذه صفة خبيثة على شخص مجهول وهناك فرق بين طاووس ملك الذي لم يسجد لآدم وهذه الصفة أي الشيطان. ولكن رغم تفرقة اليزيديين بين طاووس ملك والشيطان واعتقادهم أنهما ليسا واحداً، رغم ذلك فاليزيديون يعتقدون أن الذي امتنع عن السجود لآدم يسمى طاووس ملك ونحن المسلمين نسميه الشيطان أو إبليس، إذاً فطاووس ملك والشيطان هما شيء واحد، والخلاف بيننا وبينهم خلاف حول التسمية، فهم يرون أن اسمه كان عزازيل ثم بعد نجاحه في الاختبار وعدم سجوده لآدم سماه الله طاووس الملائكة، أما نحن المسلمين فنرى انه كان فعلاً يسمى بعزازيل، وبعد ذلك وبسبب حسنه وجماله، وكثرة عبادته سمي طاووس الملائكة، ولكن بعد فشله في الاختبار وعدم سجوده لآدم طرده الله سبحانه من رحمته وأصبح يسمى بـ (شيطان) حيث أن (كل عات متمرد من الإنس والجن والدواب شيطان) أو إبليس من (أبلس من رحمة الله أي يأس ومنه سمي إبليس وكان اسمه عزازيل). هذا ويرى الكثير من الباحثين، وعامة الناس أن اليزيدين يعبدون الشيطان (طاووس ملك) ولكن الواقع هو خلاف ذلك، فقد زرت الكثير من اليزيديين في قراهم وأقمت عندهم واختلطت بهم فلم أر فيهم عبادة الشيطان، إلا انه التبس هذا الأمر على الناس عندما رأوا تقديس اليزيدية الشديد للشيطان ودفاعهم عنه فظنوا أنهم يعبدونه، وقد سألت الكثير منهم عن مدى صحة قول بعضهم أن اليزيدين يعبدون الشيطان فكان جوابهم بالنفي القاطع، وعندما قلت للشيخ علو ان البعض يتهمكم بعبادة الشيطان قال: (استغفر الله نحن نعبد الله). إن عقيدة اليزيديين في طاووس ملك (الشيطان) عقيدة غريبة خالفوا فيها جميع الأديان يقول الشيخ علو: (قبل أن يخلق آدم بـ (40000) سنة قال الله للملائكة لا تسجدوا لأحد غيري، وبعدما خلق آدم بقي قالبه هامداً لا روح فيه مدة (700) سنة، بعد ذلك أمر الله الملائكة أن ينفخوا الروح في قالب آدم ولكن قالت الروح لن ادخل في هذا القالب لأنه سوف يفسد في الأرض، بعد نفخ الروح في آدم أمر الله الملائكة السبعة بالسجود لأدم فسجد ستة منهم وهم: جبرائيل، عزرائيل، دردائيل، شمنائيل، ميكائيل، عزافيل، أما عزازيل فلم يسجد وقال لربه أنا لا أشرك بك أحداً ولأنك أمرتنا بان لا نسجد لأحد غيرك، ولأنه من الطين وأنا من النور، فقال الله له من كثرة ذكائك جعلتك طوسا للملائكة، وكان ذلك يوم الأربعاء لهذا فان يوم الأربعاء مقدس عندنا نحن اليزيدين والأربعاء الأول من شهر نيسان هو يوم عيد رأس السنة عندنا، بعد ذلك سقى الملائكة آدم كأساً وذهبوا به إلى الجنة فبقي مائة سنة هناك، فقال طاووس ملك ألم يحن إخراج آدم من الجنة؟ لأنه حتى الآن في مرتبة الملائكة، فقال الله له نعم حان الوقت، فدله طاووس ملك على الحنطة فأكل منها وانتفخ بطنه إلا أنه لم يستطع أن يتغوط فاخرج من الجنة وأرسل الله طائراً اسمه أنغر فضرب بمنقاره على دبر آدم وفتح له مخرجاً فاستطاع أن يتغوط بعد ذلك أراد آدم الرجوع إلى الجنة إلا أن طاووس ملك قال له لا يمكنك الرجوع إليها لأنك أصبحت تتغوط). المصدر: مواقف الأقليات الدينية وعبدة الشيطان بالعراق لآزاد سعيد سمو – مقال منشور في موقع إسلام أون لاين موقفهم من الشيعة: يقول أميرهم أنور معاوية في مقال منشور في النت ومنشور في بعض الصحف الغربية: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 180 (أما بالنسبة لموقفنا السلبي من الشيعة، فهذه أيضا فكرة ليس لها أساس من الصحة. اكبر دليل على احترامنا للإمام علي وأبنائه، إن أسماء علي وحسن وحسين منتشرة بكثرة بين أبناء طائفتنا، حتى إن اسم جدي الرابع هو (الأمير علي بك) والذي منح اسمه لـ (شلال كلي علي بك) في شمال العراق. واحد أبنائه اسمه حسن. ونحن شخصيا تشرفنا بزيارة المراقد المقدسة في النجف وكربلاء ونعتبر السلالة العلوية أبناء عمومتنا وليس لنا علاقة بالمأساة التي حدثت للشهيد الحسين، ونعتبر الصراع الذي دار هو خلاف بين عائلة واحدة، وكما قال شيخنا عدي بن مسافر: إن معاوية وعلي إمامان مجتهدان، ولكن المصيب بينهما هو علي.) المصدر: مقال بعنوان: اليزيدية جذورها عراقية قديمة اسمها أموي وليس لها علاقة بالأكراد موقفهم من المرأة: 1 - يعتقد اليزيدية المرأة من أغبى الحيوانات وخاصة منها الدجاجة. يقولون إن عقول مائة امرأة في رأس دجاجة وهي تلعب بمنقارها في القاذورات. 2 - ويرون تعدد الزوجات: أما الأمراء فلهم الحق أن يتزوجوا كما يشاءون. ولا يجوز لأي أمير أن يطلق إحداهن لأنه لا يجوز أن تتزوج زوجة الأمير أحد من الأفراد فهذا محرم. 1 - والزواج لا يعدو إلا استمتاع الرجل بالمرأة وإنجاب الأطفال ولابن الفتاة الأحقية بزواجها حتى لو كان ذلك بدون رضاها. 2 - ويجب على الزوج الامتناع عن زوجته ليلة الأربعاء وليلة الجمعة لقدسيتهما عنده. 3 - يرون تحريم الجمع بين الأختين والزواج من زوجة أخيه أو زوجة عمه, أو زوجة ابن عمه بعد وفاتهم. والزواج من أخت زوجته حتى بعد طلاقها أو موتها. 4 - يحرم الزواج في شهر نيسان إلا أنه مسموح فقط للكواجك. المصدر: اليزيدية عبدة الشيطان لأحمد عبد العزيز الحصين – ص 25 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 181 المبحث التاسع: شرائعهم ومقرراتهم الدينية لليزيدية عادات وآداب وسنن ممزوجة بالتقاليد الموروثة. وقد ظهر بعضها في الديانات المختلفة المعاصرة والمجاورة لها، وتتمثل بالسجود للشمس والقمر كالمجوسية والهندوسية، وبتحريم بعض الأطعمة كاليهود، والضرب على الطبل والنفخ بالمزمار كالمسيحية في مراسمهم الدينية، وكثير من العبادات الإسلامية كالصوم والصلاة والحج والزكاة والأضحية وغير ذلك ...... " وتزداد بعض المراسم وتقل من منطقة يزيدية إلى أخرى. وقد يختلف مظهرها أيضا، إما بحكم الجار كما جاء في كتاب (الجلوة): " احفظوا ما تلقنونه وحافظوا عليه، ولا تذكروه بحضور الغرباء، ولا تعطوهم شيئا من كتابكم المقدس حتى لا يغيروه من غير أن تعلموا. وإن قرأتم بعض شرائعكم بحضورهم، وسألوكم هل هذا صحيح أولا؟ فلا تجيبوهم صراحة، واعمدوا إلى الجواب المرهوم والمحتمل، من غير أن تقولوا الحقيقة ". فأول فرائضهم الدينية كتمان العقائد. وهم بهذا مختلفون عن سائر الأديان. لكن هذا التشدد يختلف من منطقة إلى أخرى، فيزيدية شيخان مثلا أكثر ليونة من يزيدية سنجار. ويزيدية سنجار أكثر اعتقادا برجال الإسلام ولا سيما بالسادة العلويين لاندماجهم أكثر بالمسلمين منذ وجودهم في سنجار، وهم يساعدونهم ويدافعون عنهم. وكما أن أركان الإسلام خمسة فإن أركان دينهم: الصوم، والصلاة، والزكاة والحج. الصوم: لهم نوعان من الصوم: صوم عمومي وصوم خصوصي. وهم يعتقدون بأن شهر رمضان كان أصم. فلما فرض الله الصوم على المسلمين أمر اليزيدية به كذلك، ولكن باللسان الكردي، فقال لهم " سي "، ومعناها بلغتهم ثلاثة لا ثلاثون والتي هي " سه " (1). ولما كان شهر رمضان أطرش فقد فهم الثانية مكان الأولى، لهذا فاليزيدية يصومونه ثلاثة أيام صحيحا، والمسلمون يصومونه ثلاثين يوما خطأ (2). وهم يصومون هذه الأيام الثلاثة (الثلاثاء والأربعاء والخميس) من شهر كانون الأول الشرقي، يعني أقصر أيام السنة، ويصومونها من الصباح إلى المساء. ومنهم من يقول: إنهم يصومون ثلاثة أيام وهي تعادل ثلاثين يوما، أليس الله هو القائل: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام: 160] وهذا يدل على اعتقادهم بكثير مما ورد في القرآن. وهذا هو الصوم العام. أما الصوم الخاص فهو ثمانون يوما. والورع منهم هو الذي يصوم نصفها في 20 كانون الأول الشرقي، ونصفها في 20 تموز الشرقي. ويذهب الرؤساء الدينيون أربعة أربعة إلى مقبرة الشيخ عدي، ويصومون هناك ثلاثة أيام، وهي بقية الأربعين يوما، ثم يعودون إلى قراهم ليمضوا بقية الصوم. وهم يرون أن المرء إذا نام وقد نوى الصيام، وأحضر إليه أحدهم طعاما في صباح اليوم التالي، فإنه يأكله ويظل صائما، ولا يحتاج إلى صيامه ثانية، وآداب صومهم ومبطلاته شبيهة بصوم المسلمين تقريبا. ومن عاداتهم أنهم يفطرون على خبز وملح. وفي أيام شهر رمضان يتظاهرون بالصوم مراعاة للمسلمين. الصلاة: ليس لهم صلوات عمومية (جماعية)، إنما لهم صلوات خصوصية. وهم لا يسمونها صلاة، لأن الصلاة عندهم محرمة. ومن هذا الصلوات صلاة الشروق. حيث ينهض اليزيدي عند شروق الشمس، ويتجه نحوها حافيا، ويخر راكعا على وجهه ثلاث ركعات إكراما للشمس. ويفضل أن يفعل ذلك في مكان خال يؤدي فيه واجباته براحة وهدوء واطمئنان بال. ويدعو ربه في صلاة الشروق بكلام مزيج من العربية والكردية والفارسية. الحج:   (1) بالمنسابة إن اللغة الفارسية هنا عكس الكردية؛ فثلاثة بالفارسية سه، وثلاثون سي. (2) كلام إسماعيل بك جول: (96). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 182 لهم كعبة يقصدونها للزيارة، ويحتفلون بذلك في مواعيد محددة من السنة. وكعبتهم هذه هي مرقد الشيخ عدي قرب عين سفني، وهي مركز منطقة شيخان في الموصل. ويقولون إن جبل لاليش الذي فيه مرقد الشيخ عدي يعتبر مثل مكة التي يقصدها المسلمون. وهي إن لم تكن أعلى منها فليست بأقل منها. ويختمون موسم الحج من يوم 15 أيلول الشرقي (28 أيلول الغربي)، وينتهي في اليوم العشرين (3 تشرين الأول الغربي). وهو فرض على كل يزيدي مهما كانت سنه، وأينما كان، ويمضون فيه أفراحا في الشراب والطرب. ويروون أن الشيخ عدي ذهب لزيارة مكة مع الشيخ عبد القادر الكيلاني. وبقي هناك أربعين سنة، ثم دعاه الملك وتشبه بصورته. وتجادل معه أهل مكة، وما قبلوا وصيته. ولما يئس منهم ذهب إلى السماء. وبعد موته ظهر لهم ملاك، وقال لهم: إن هذا الشيخ عدي نفسه، عند ذلك اعتبروه وقدروه وجعلوا بيته مزارا، يجب أن يزوره كل يزيدي في السنة. ومن زاره ولم يقدم شيئا للشيخ والقوالين بحضور صورة الملك طاووس فهو كافر. أما سبب جعلهم مرقد الشيخ كعبتهم وتفضيلهم إياه على مكة المكرمة أن علماءهم وأشرافهم يقولون دوما: كلما زرنا الشيخ عدي ليهدينا ويرشدنا أفدنا من وعظه وأصغينا إلى نصائحه ". والغرض من حج بيت الله هو لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:27] وينتهز القوالون فرصة أيام الحج ليحملوا معهم مقدارا من تربة مرقد الشيخ، حيث يصنعون منها كرات أو أقراصا يسمونها " براءة "، فيمنحونها هدية للزوار للتبرك وحفظ الروح. وعلى كل يزيدي أن يحتفظ بواحدة من " براءة " ليقبلها صباحا ومساء بكل احترام. ويعتقدون أن هذا القرص يحفظه من كل مصيبة أو أذى. والأموال التي يجنيها القوالون من هذه الأقراص تعتبر وسيلة عيشهم. وهم كذلك يبيعونها للمرضى. ويعتقدون أن من يأكل القرص ينجو من المرض طوال العام روحا وجسدا ببركة الملك طاووس. الزكاة: يختلف مفهوم الزكاة عندهم عما هو في الإسلام. فهي عندهم ضرائب دينية. ويقولون: إن الشيخ عدي رأى في زمانه أن الشيوخ والرؤساء الدينين كانوا مختلفين فيما بينهم ومتخاصمين. وكان اختلافهم حول مزارعهم وأملاكهم وتنمية أموالهم. فباشر ببث روح الفضيلة بينهم، وبإبعاد الجشع والطمع عنهم. حتى وفق إلى تزهيدهم بالدنيا وما حوت من زائل، وتوجيه أنظارهم نحو الآخرة. وسرعان ما تنازل الشيوخ والرؤساء عن أموالهم لمريديهم وفرض الشيخ عدي على المريدين سهما من عائداتهم، بحيث يدفع الواحد منهم مقدارا من غلاته للمالك الأصلي السابق، وهو ذلك الشيخ. فغدا هذا الدفع بمثابة الإرث، أو الضريبة الثابتة. وفرض على كل مريد أن يدفع للشيخ عشر محصوله، ويدفع للبير نصف حصة الشيخ، وللمربي نصف حصة بير، وللفقير ثلاثة أرباع السهم، وللكوجك سهما، أي على المرد أن يدفع لرجال دينه 25ر19% من محصوله السنوي، بالإضافة إلى دفعات أخرى (1). وهم يدفعون صدقات حين تمر بهم السناجق وحين يبيعون محاصيلهم ويربحون يعطون من أموالهم القوالين والمشايخ وغيرهم خيرات باسم الملائكة. وهؤلاء يقبلون هداياهم، ويرجون الله إدخال المتصدقين الجنة. المصدر: اليزيديون واقعهم تاريخهم معتقداتهم لمحمد التوبخي – ص90   (1) أملاها علينا أحد الشبان اليزيديين، ولعلنا أول من يشرح مسألة الزكاة بهذه الدقة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 183 المبحث العاشر: الأدعية والأوراد والذكر عند اليزيدية لليزيديين أدعية شيطانية وأوراد وذكر, فحين يستقبلون الشمس يسجدون لها ثم يقولون كما ذكر عبد الرزاق الحسيني قائلا:"آمين تبارك الدين الله أحسن الخالقين. بهمة شمس الدين، ناصرالدين، سجادين، شه شمس الدين، قوة دين، قديم البان قديم، سلطان شيخ عدي. تانج أول، هاته آخرين، خيرت بدن، شروي كرين، حق الحد رب العالمين، مشي قده نكه، باري إيزيد، أشكروا بختان، فهتي دو ملت، هشت هزار خليفة، صبر وستر، طريق، عقل وفهم، أوركان، راستي، ناسي، حيا إيمان، ياشه شمس، عليك السلام" والذي معناه في اللغة العربية آمين آمين تبارك الدين الله أحسن الخالقين, بهمة شمس الدين ناصر الدين, سجاد الدين, الشيخ شمس مؤيد الدين, باني المجد القديم, السلطان الشيخ عدي رئيس الأولين والآخرين, أعط الخير تنجو من الشر حق الحمد لله رب العالمين, مهما كان عدد أعوان يزيد, فإن بينهم الكافرين والضالين, ومن بين الاثنين والسبعين ملة والثمانين ألف مخلوق, إذ كان له صبر وستر وعقل وفهم إيمان ثابت ويقول القول الصحيح دون زيغ وكان عنده الحياء والناموس فإن الشيخ شمس يشفع له عند الإله (1).يقول إسماعيل بك جول: وهناك أدعية على اليزيدي قراءتها: منها واحدة بعد العشاء وأخرى قبل النوم يقولون فيها " باسم الله العرش, باسم الله الذي بسط العرش والسماء ونصب كرسيه بأعلى السماوات له وحده لا شريك له هو الحي القيوم الواحد الفرد المجيد سمحيران ومحيران سلطان كاملا سليمون سلينون سنحري حوى نوري جن مامدي جن جني نوري جن أميري جن تركت الدنيا عاش وركب الدنيا طاش والحوض على دينه يجعله معاش. (2) وهناك أدعية يقولونها: دعاء الغروب, دعاء المساء, دعاء نية السفر. المصدر: اليزيدية عبدة الشيطان لأحمد عبد العزيز الحصين – ص 25   (1) ((اليزيديون)): عبد الرزاق الحسيني (ص 90). (2) ((اليزيديون قديما وحديثا)): إسماعيل بيلا جول. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 184 المبحث الحادي عشر: المحرمات عنده اليزيدية 1 - تحرم الصلوات العمومية. (صلاة الجماعة)، وأما الصلوات الخصوصية (الانفرادية) فيقوم بها الأفراد من غير جهر. والبيورة (جمع بير) يتعلمون الصلوات شفاها خلفا عن سلف. ولا يجهرون بها، بل يدمدمون بها دمدمة. 2 - يحرم عليهم تعلم القراءة والكتابة. ويستثنى من ذلك أسرة الأعظم، والذي هو من سلالة الحسن البصري (1). 3 - يحرم البصاق بصوت يخرج من الشفتين أو الفم، لأنهم يعتبرون ذلك شتما للشيطان. ويؤولون غاية الباصق بهذه الصورة توجيه التفلة إلى الملك طاووس. 4 - يحرم لبس الثياب الزرقاء، ويلتزمون بلبس الثياب البيضاء إن كانوا من العامة، والثياب السوداء إذا كانوا من خدمة الدين، أما الثياب الحمراء فليست محرمة لكنهم قلما يلبسونها (2). 5 - لا يجوز لهم أن يلبسوا السراويل بعد الغسل وهم وقوف، ولكن يجوز ذلك بعد قضاء الحاجة. 6 - يحرم عليهم قضاء الحاجة في المحل المبني لهذه الغاية، بل في الفضاء أو في فناء الدار، لأنهم يعتقدون أن غير اليزيدية يعينون الشيطان دائما بافتكارهم السيء أنه موجود في الكنيف. فإذا دخلوه وقضوا الحاجة فيه كأنهم فعلوا ذلك على طاووسهم، وهذا إثم كبير تسامحوا به مؤخرا. 7 - حرام عندهم من اللحوم: لحم الخنزير، ولحم كل أنواع السمك، ولحم الغزال، كما يحرم على الشيوخ وسائر رجال الدين أكل لحم الديكة، لأن طاووس ملك جاء على هيئة الديك. 8 - حرم عندهم من البقول والخضروات: الخس، والملفوف، واللوبياء، والقرع. أما الخس فإنهم يعتبرونه أخس ما خلقه الله على وجه الأرض. وإذا أرادوا ذكره قالوا: " ذلك الوحش ". ويرجع سبب كراهتهم له إلى " أن الشيخ عدي في زعمهم مر يوما ببستان، فرآه مزروعا. فسأل عنه فلم يجبه أحد. فقال: لا يجوز أن يأكل منه أحد. وما زال الخس حتى اليوم محرما على كل يزيدي. حتى إنهم لا يعبرون حقلا زرع فيه الخس " (3). 9 - لا يشربون من كوز أو جرة تبقبق، لأنهم يزعمون أن ما يبقبق هو روح حية موجودة فيها وعند بعضهم أن من يحمل الإبريق منهم كأنه أعلن إسلامه. 10 - يحرم عليهم حلق شاربهم أو قصها بالمقص، إلا أن تخفيفها مستحب (4). بخلاف اللحية التي يفضل حلقها. ولا مانع من أن تحفى الشوارب وأن تحفى اللحى. أما الشيوخ فلا يجوز لهم حلق شيء. واليوم يحلق اليزيديون لحاهم جميعا، ويدعون شواربهم، في حين أن القوالين والبيورة ورجال الدين لا يجوز لهم حلق لحاهم. 11 - لا يجوز لليزيدي أن يحضر صلاة المسلمين في أي مكان، لأنه إذا سمع المسلم وهو يصلي يلعن الشيطان، فحسب مصحف رش يجب أن يقتله. 12 - لا يجوز استخدام الجواد والفرس في التحميل. 13 - حرام تقليم الأظافر. 14 - لا يجوز الاغتسال على جنابة. 15 - لا يجوز الاستنجاء بعد قضاء الحاجة. 16 - لا يجوز أن يحلق اليزيدي لحيته لدى غير اليزيدي، ولا أن يحلقها بموسى حلق بها غيره (غير يزيدي). 17 - لا يجوز لليزيدي أن يبتعد أكثر من سنة عن موطنه. وإن غاب أكثر من عام حرمت عليه زوجته. 18 - يحرم على اليزيدي أن ينظر إلى امرأة غير يزيدية، ولا أن يمازحها. 19 - يعتقدون أن الملائكة تتصل فيما بينها في شهر نيسان، لذا يحرم عليهم الزواج في هذا الشهر. كما لا يجوز لهم بناء المنازل في هذا الشهر. ويقولون: إن كثيرا من الذين تزوجوا أو بنوا في شهر نيسان ماتوا. 20 - لا يجوز لليزيدي أن يطلع غير اليزيدي على كتابيه المقدسين، جاء في كتاب (الجلوة): " وهو الكتاب الذي لا يجوز أن يقرأه الخارجون على الملة ". ملاحظة: لقد تغاضى معظم اليزيدية – ولا سيما المثقفون منهم – عن معظم هذه المحرمات في العصر الحاضر، وراحوا يتبعون الشريعة الإسلامية، أو يظلون بلا دين. المصدر: اليزيديون واقعهم تاريخهم معتقداتهم لمحمد التوبخي – ص103   (1) يرى العارفون أن هذا التحريم جاء خوفا من اطلاع أفراد الطائفة على حقائق الأديان الأخرى، فيتأثرون ويدخلون بعض الآراء في عقيدتهم. لكن رجال الدين أجازوا التعلم مؤخرا حتى لا يكونوا متخلفين. (2) يذكر الزمخشري في ((الكشاف)) أن اللون الأزرق أسوأ الألوان عند العرب لأن الروم – أعداء العرب – كانوا زرق العيون. وما زالت قبائل الأكراد في شمال العراق تستكره الألبسة الزرقاء، في حين أن اليزيدية الصابئة يحرمون اللون الأزرق كما ذكرنا. (3) كلام إسماعيل بيك في ((اليزيدية)) قديما وحديثا: (96). (4) يذكر أحد مثقفي اليزيدية أن استحباب تخفيف الشاربين أهمل اليوم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 185 المبحث الثاني عشر: أعيادهم تعتبر الطائفة اليزيدية من أكثر الملل والنحل ميلا إلى الابتهاج والاحتفال، فأعيادهم كثيرة جدا، بعضها خاص بطوافاتهم الدينية، وبعضها بأعيادهم ومسراتهم، كما أنهم يشاركون بعض الأمم الأخرى وأصحاب الأديان المجاورة أعيادهم واحتفالاتهم. هذه الأعياد هي: 1 - "عيد سرسال: (معناها عيد رأس السنة) ويبدأ في أول أربعاء من نيسان شرقي (ويعادل 14 نيسان غربي). فإن حل رأس السنة مثلا يوم الخميس أرجؤوا الاحتفال به إلى الأربعاء التالي في يوم 8 نيسان (أي 20 منه). وفي ليلة رأس السنة ترتدي النساء والصبايا ألبسة فاخرة وجديدة مذهبة ومزينة، ويتجهن نحو السهول والروابي الخضر المزدانة بالأزاهير فيجمعن الشقائق النعمانية، ويعلقنها على الأبواب أو الجدران وبين الغرف، ويصففن الأزهار في النوافذ، ومنهن من يضعن الأزهار على قشور البيض الملون ....... " 2 - عيد الجماعية: وهو العيد الرئيسي العام، ويدوم سبعة أيام يعقدونه في لاليش احتفالا بأول وعظ للشيخ عدي ويستمر هذا العيد - في هذا القرن – من 6 – 13 تشرين الأول. وتجري فيه احتفالات وأعمال أهمها: الوقوف عند سرير الشيخ عدي: والسرير عبارة عن حلقات قديمة مصنوعة من البرونز والنحاس، وعلى طرفيه لوحان خشبيان، وهما بنظرهم مقدسان. يعتقدون أن هذه الحلقات واللوحين كان الشيخ عدي يجلس عليها، بالإضافة إلى سجادة قديمة كان كذلك يجلس عليها ويدعونها " برشباكي ". والسرير والسجادة محفوظان لدى رجل في قرية بحزاني يدعونه الشيخ بريم .... "3 - عيد الأربعين يوما صيفا: لهذا العيد عندهم أسماء عديدة؛ فبعضهم يسميه عيد الشيخ عدي، وبعضهم يسميه العيد الكبير، ومدته خمسة أيام تبدأ من 8 تموز شرقي وتنتهي بالواحد والعشرين منه (من 31 تموز إلى 3 آب). حيث تتجه فئة الكواجك وبعض رجال الدين إلى مقبرة الشيخ عدي، فيصومون هناك ثلاثة أيام ثم يعودون إلى منازلهم، ويتابعون صومهم أربعين يوما، لأنهم يعتقدون أن الشيخ عدي كان يصوم أربعين يوما في الصيف وأربعين يوما في الشتاء (1)، ويحتفلون به في لاليش فقط. وقبل نهاية الأربعين بيومين أو ثلاثة يزورون الشيخ عدي ثانية وهناك يعبدون ويذبحون الذبائح. 4 - عيد الأربعين يوما شتاء: هذا العيد يجري في 20 كانون الثاني الشرقي (2 شباط غربي). ومراسيمه تشبه مراسيم العيد السابق بزياراته وصومه. 5 - عيد يزيد: يصوم فيه اليزيديون ثلاثة أيام هي الثلاثاء والأربعاء والخميس قبل يوم الجمعة الأول من شهر كانون الأول شرقي والتي هي أقصر أيام السنة وأبردها (وانظر في الصوم سبب صومهم ثلاثة أيام فقط). وهم يعتقدون أن الملك يزيد ولد فيه. أما يوم الجمعة فإنهم يحتفلون فيه ويوزعون الأطعمة ويرقصون ويطربون ويبارك بعضهم بعضا، ويصنعون خبزا يسمونه " صاووك " أو كليجه، ويتكرمون به على الناس بسخاء وذلك على أرواح موتاهم. 6 - عيد بلنده: مدته أحد عشر يوما تبدأ بـ 25 كانون الأول، ويدعونه كذلك عيد الميلاد، وأصله أن الشيخ عدي ولد في هذا اليوم. ويوقدون فيه نارا في منازلهم يقفزون من فوقها (2) ثم يشوون بها تمرا وكشمشا ويأكلونهما.   (1) للعدد (40) تقديس خاص لديهم، ففيه جرت أحداث جليلة؛ من ذلك: طوفان نوح والذي دام أربعين يوما، وتاه بنو إسرائيل، وصام موسى وإيليا النبي أربعين يوما، وحسب شريعة موسى عقاب المجرم أربعون يوما إلى غير ذلك. (2) وهذا شبيه بعيد إيراني قديم يدعى " جهار شنبه سوري ". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 186 7 - عيد العجوة: ويدعونه كذلك عيد الأموات، ويبدأ في اليوم السابع من كانون الثاني الشرقي (20 كانون الثاني الغربي). وفي هذا العيد يعجنون عجينة كبيرة الحجم، ويضعون فيها بعض القلويات أو الكشمش ثم يخبزونها، ويعلقونها على ظهر أحد أولادهم. وبعد بضعة أيام يكلفون أحد أفراد الأسرة بأن يقسمها على أهل المنزل. وصاحب السعد منهم من وجد في حصته شيئا من القلويات أو الكشمش، ويبقى سعيدا هو وأهله طيلة السنة. كما أنهم يصنعون كليجة أخرى مكورة باسم مريم العذراء، ويضعونها داخل المؤونة وداخل الطحين من أجل البركة. ولليزيدية أعياد أخرى ليست من صلب عقيدتهم اليوم؛ فهم يعيدون مع المسيحيين بعض أعيادهم بحكم الجوار، ويعيدون مع المسلمين بحكم جذورهم الإسلامية التي ارتبطوا بها، وعلى أي حال فإن مشاركتهم هذه الأعياد تدل على أنهم شعب يحب السرور والأفراح. ومن هذا الأعياد الطارئة: 8 - عيد الأضحى: ويسمونه عيد قربان، ويتم تذكارا لأبينا إبراهيم الخليل حين قدم ابنه إسماعيل قربانا إلى الله، وفداه الله بكبش عظيم. كما أنهم يعيدون فيه قبل المسلمين بيومين، ويقول شيخ طائفتهم إسماعيل بيك: " وإلى الآن صورة ذلك الكبش موجودة في خزانة الرحمن في محل الشيخ عادي! ". وعلى كل يزيدي أن يقدم أضحية في هذا اليوم، وفي هذا العيد يصعد الجاويش إلى جبل الشيخ عدي، وعلى رأسه طبق من الخبز الرقيق ومعه جماعة من اليزيدية، فيقف على صخرة عالية ويرمي طبق الخبز في الهواء، فمن تناول قطعة خبز قبل غيره وركض عاجلا إلى ماء الشيخ عدي الذي يبعد عن ذلك المكان مسيرة نصف ساعة، وغطس الخبز في الماء أولا نال مرامه، وحظي بجائزة. وهذا العمل يجب أن يتم قبل إنجاز مراسم الحج. ثم يعكفون على المسرات، حتى إذا حل الصباح ختم العيد بالتهاني والمصافحة. 9 - عيد رمضان: ويعيدون فيه قبل المسلمين بيومين، وسبب هذا العيد أن أحد تلاميذ الشيخ عدي، - واسمه الشيخ خال شمسان كان سجينا. ثم أطلق سراحه قبل العيد بيومين، ففرح به الشيخ عدي. ولما كان مقربا لديه فقد أمر مريديه بالاحتفال به. 10 - عيد المحيا: أو عيد ليلة القدر، وهو من الليالي المباركة، حيث يسهرون ليلتها إلى الصباح، ويدعونها ليلة المحيا. والزيديون المجاورون للمسلمين يحيون هذه الليلة، ويذهب رجال الدين ورؤساؤهم إلى مرقد الشيخ عدي، فيصلون ويتعبدون ويقرؤون القرآن (1)، ووجوههم متجهة نحو قبلة المسلمين، وهم يستمرون على هذه الحال من العصر حتى طلوع الشمس. أما عامة الناس عندهم فإنهم يسهرون ليلة القدر في معابدهم، ويؤدون الصلاة، ويعتقدون أن الملائكة تنزل في هذه الليلة إلى الأرض، وتكشف أرواح من يموت هذا العام، ومن يولد منهم, ويستمر العيد في النهار الثاني، ولا ينامون فيه كذلك. فالليل إكرام لملك الموت، والنهار إكرام لملك الشمس، وهم يصنعون الأطعمة في هذا العيد ويتهادونها. 11 - يوم الجمعة: عطلة اليزيديين الأسبوعية يوم الجمعة، والعمل في هذا اليوم حرام. ويقولون إنهم كانوا يعطلون يوم الأربعاء، ولا يعلمون سبب تحولهم إلى يوم الجمعة، وفي ليلة كل جمعة يصعد أحد رجال الدين سطح منزله ويدعو الناس لزيارة مقام معين، فيزورونه في اليوم التالي (الجمعة) ويحتفلون به. 12 - عيد الخضر إلياس: ويتم في الخميس الأول من شهر شباط الشرقي. ويصوم فيه بعضهم يوما واحدا وآخرون يصومون ثلاثة أيام قبل العيد. وهذا العيد مقتبس عن عيد الخضر (إلياس) المسيحي والذي يسمونه " مار بيهنام "، وأيام صومهم يدعونها " باعوتة ". 13 - عيد القديس سيرجيوس: الأرمني في ما وراء القوقاز. المصدر: اليزيديون واقعهم تاريخهم معتقداتهم لمحمد التوبخي – ص126   (1) وذلك من الآيات التي لم يذكر اسم الشيطان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 187 الفصل الثاني عشر: فرقة الأحباش • المبحث الأول: التعريف . • المبحث الثاني: التأسيس وأبرز الشخصيات. • المبحث الثالث: عقيدتهم. • المبحث الرابع: موقف الحبشي من الصحابة والأئمة والعلماء. • المبحث الخامس: الفقه الشاذ عند الأحباش. • المبحث السادس: من فتاوى الحبشي. • المبحث السابع: إباحيتهم. • المبحث الثامن: إبطال دعواهم أنهم على منهج الشافعي. • المبحث التاسع: ذكر بعض مخالفاتهم. • المبحث العاشر: المؤسسات والأنشطة. • المبحث الحادي عشر: الانتشار ومواقع النفوذ. • المبحث الثاني عشر: حكم فرقة الأحباش والانتماء إليها وفتاوى أهل العلم فيها وموقفهم منها. • المبحث الثالث عشر: هلاك زعيمهم عبد الله الحبشي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 188 المبحث الأول: التعريف طائفة ضالة تنسب إلى عبد الله الحبشي، ظهرت حديثاً في لبنان مستغلة ما خلّفته الحروب الأهلية اللبنانية من الجهل والفقر والدعوة إلى إحياء مناهج أهل الكلام والصوفية والباطنية بهدف إفساد العقيدة وتفكيك وحدة المسلمين. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 189 المبحث الثاني: التأسيس وأبرز الشخصيات عبد الله الهرري الحبشي: هو عبد الله بن محمد الشيبي العبدري نسباً الهرري موطناً نسبة إلى مدينة هرر بالحبشة، فيها ولد لقبيلة تدعى الشيباني نسبة إلى بني شيبة من القبائل العربية. ودرس في باديتها اللغة العربية والفقه الشافعي على الشيخ سعيد بن عبد الرحمن النوري والشيخ محمد يونس جامع الفنون ثم ارتحل إلى منطقة جُمة وبها درس على الشيخ الشريف وفيها نشأ شذوذه وانحرافه حيث بايع على الطريقة التجانية. ثم ارتحل إلى منطقة داويء من مناطق أرمو ودرس صحيح البخاري وعلوم القرآن الكريم على الحاج أحمد الكبير ثم ارتحل إلى قرية قريبة من داويء فالتقى بالشيخ مفتي السراج – تلميذ الشيخ يوسف النبهاني صاحب كتاب شواه الحق في الاستغاثة بسيد الخلق ودرس على يديه الحديث. ومن هنا توغل في الصوفية وبايع على الطريقة الرفاعية. ثم أتى إلى سوريا ثم إلى لبنان من بلاد الحبشة في أفريقيا عام 1969م. وذكر أتباعه أنه قدم عام 1950م بعد أن أثار الفتن ضد المسلمين، حيث تعاون مع حاكم إندراجي صهر هيلاسيلاسي ضد الجمعيات الإسلامية لتحفيظ القرآن بمدينة هرر سنة 1367هـ‍ الموافق 1940م فيما عرف بفتنة بلاد كُلُب فصدر الحكم على مدير المدرسة إبراهيم حسن بالسجن ثلاثاً وعشرين سنة مع النفي حيث قضى نحبه في مقاطعة جوري بعد نفيه إليها وبسبب تعاون عبد الله الهرري مع هيلاسيلاسي تم تسليم الدعاة والمشايخ إليه وإذلالهم حتى فر الكثيرون إلى مصر والسعودية، ولذلك أطلق عليه الناس هناك صفة (الفتّان) أو (شيخ الفتنة). - منذ أن أتى لبنان وهو يعمل على بث الأحقاد والضغائن ونشر الفتن كما فعل في بلاده من قبل من نشره لعقيدته الفاسدة من شرك وترويج لمذاهب: الجهمية في تأويل صفات الله، والإرجاء والجبر والتصوف والباطنية والرفض، وسب للصحابة، واتهام أم المؤمنين عائشة بعصيان أمر الله، بالإضافة إلى فتاوى شاذة. - نجح الحبشي مؤخراً في تخريج مجموعات كبيرة من المتبجحين والمتعصبين الذين لا يرون مسلماً إلا من أعلن الإذعان والخضوع لعقيدة شيخهم مع ما تتضمنه من إرجاء في الإيمان وجبر في أفعال الله وجهمية واعتزال في صفات الله. فهم يطرقون بيوت الناس ويلحون عليهم بتعلم العقيدة الحبشية ويوزعون عليهم كتب شيخهم بالمجان. نزار الحلبي: خليفة الحبشي ورئيس جمعية المشاريع الإسلامية ويطلقون عليه لقب (سماحة الشيخ) حيث يعدونه لمنصب دار الفتوى إذ كانوا يكتبون على جدران الطرق (لا للمفتي حسن خالد الكافر، نعم للمفتي نزار الحلبي) وقد قتل مؤخراً. لديهم العديد من الشخصيات العامة مثل النائب البرلماني عدنان الطرابلسي ومرشحهم الآخر طه ناجي الذي حصل على 1700 صوتاً معظمهم من النصارى حيث وعدهم بالقضاء على الأصولية الإسلامية، لكن لم يكتب له النجاح، وحسام قرقيرا نائب رئيس جمعية المشاريع الإسلامية، وكمال الحوت وعماد الدين حيدر وعبد الله البارودي وهؤلاء الذين يشرفون على أكبر أجهزة الأبحاث والمخطوطات مثل المؤسسة الثقافية للخدمات ويحيلون إلى اسم غريب لا يعرفه حتى طلبة العلم فمثلاً يقولون: (قال الحافظ العبدري في دليله) فيدلسون على الناس فيظنون أن الحافظ من مشاهير علماء المسلمين مثل الحافظ ابن حجر أو النووي وإنما هو في الحقيقة شيخهم ينقلون من كتابه الدليل القويم مثلاً المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 190 المطلب الأول: عقيدتهم في الله عقيدة الأحباش عقيدة فاسدة مباينة لعقيدة أهل السنة والجماعة، وهي خليط من عقائد الفرق الضالة، وهي عقيدة متناقضة، وتتضح معالم الانحراف والضلال لديهم فيما يلي: - صفات الله (عز وجل): ينفي الأحباش جميع الصفات التي وصف الله (جل وعلا) بها نفسه، ولا يثبتون إلا ما تتخيله عقولهم القاصرة، زاعمين أنهم بِرَدِّ هذه الصفات الواردة في الكتاب والسنة ينزهون الله، وهم يُكَفِّرُون كل من يثبت هذه الصفات لله، ويتهمونه بأنه مشبه ومجسم. وللأحباش طريقة عجيبة في نفي صفات الله (جل وعلا) ـ أو كما يقولون: لتنزيهه ـ، وذلك بمقارنته بالمخلوق، فيقولون: المخلوق له يد، فالله منزه عن اليد، والمخلوق له قدم، فالله منزه عن القدم، والمخلوق له عينان، فالله منزه عن العينين، ويتجاهلون أن الله ليس كمثله شيء، وأن صفاته ليست كصفات المخلوقين، فإثبات هذه الصفات ـ كما يليق بجلاله ـ لا يستلزم تمثيله بمخلوقاته. وقد وصل الأمر بالأحباش إلى كلام عن اللسان والحنجرة والأسنان، بل إلى الإليتين!!، فقالوا: (إذا قلنا: إن الله مستو على العرش، فمعنى ذلك أن له إليتين) (1)، انظر إلى هذه الجرأة في حق الله (جل وعلا) وإلى هذا الجهل المطبق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا [الإسراء: 43].ويقوم الأحباش بنفي بعض الصفات عن الله (تعالى) تفصيليّاً بطريقة بدعية، ويقارنون ذات الله بذوات المخلوقين، فيقولون: الله ليس كالرجل الضخم، الله ليس كذا وكذا، مما يطبع في ذهن السامع صوراً وأشكالاً وتفكراً في ذات الله (سبحانه وتعالى)، وقد ورد عن ابن عباس (رضي الله عنه) موقوفاً، وروي مرفوعاً إلى النبي: ((تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في الله)) (2). والمعلوم أن طريقة القرآن ـ في الغالب ـ هي أن نفي النقائص عن الله يكون مجملاً، وإثبات الكمال لله يكون مفصلاً، بخلاف طريقة أهل البدع التي تقوم على النفي المفصل والإثبات المجمل، وأيضاً: إن هذا النفي المفصل ـ والذي يسميه الأحباش تنزيهاً ـ يعتبر ذمّاً وليس مدحاً؛ فلو قلت لرجل: أنت لست سارقاً ولا زانياً ولا كلباً ولا قذراً .. إلخ .. ألا يغضب هذا الرجل، ويعتبر هذا التنزيه عن هذه النقائص ذمّاً؟، فكيف بمقام رب العالمين، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا [الإسراء: 43]. وقد أورد الله (تعالى) في كتابه العظيم هذا النفي مجملاً، فقال: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: 65]،، وقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11]، وقال: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:3 - 4]. - توحيد الله (جل وعلا):   (1) لقاء مع نزار الحلبي في جريدة المسلمون العدد 407 وورد في كتاب شيخهم ((الدليل القويم)) (ص36). (2) رواه أبو الشيخ في ((العظمة)) (4) بزيادة (فتهلكوا) عن أبي ذر الغفاري، ورواه أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس كما في الجامع، وقال ابن حبان في ((المجروحين)) (2/ 340) موضوع أو مقلوب والحديث عنده عن ابن عمر، وحسن الألباني حديث ابن عباس في ((صحيح الجامع)) (2976) وضعف حديث أبي ذر في ((ضعيف الجامع)) (2471)، والحديث ورد بلفظ ألاء الله بدل خلق الله، وصححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1788) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 191 التوحيد عند الأحباش هو توحيد الربوبية فقط، وهو توحيد الله بأفعاله، كالاعتقاد بأن الله هو الخالق الرازق .. وقد تأثروا في ذلك بالفلاسفة والمتكلمين، وهذا التوحيد آمن به حتى مشركو قريش، يقول (تعالى):. وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [العنكبوت: 61] ويقول: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [العنكبوت: 63]، ولكن هذا التوحيد لم يكتمل لديهم، ولو اكتمل لم ينفعهم؛ لأنه يلزم معه توحيد الألوهية، وهو توحيد الله بأفعال العباد، كالدعاء، والاستغاثة، والاستعانة، والاستعاذة .. والأحباش هم أعظم الناس نقضاً لتوحيد الألوهية؛ حيث أباحوا الشرك الأكبر، كدعاء الأولياء، والأموات، والاستغاثة بهم. المصدر: الأحباش لعبد الرحمن بن عبد الله – ص18 - الحبشي يعلم الناس الاستغاثة والاستعاذة بالأموات ويزعم أنهم يخرجون من قبورهم لكشف كرب الداعي. قال "وليس مجرد الاستغاثة بغير الله ولا الاستعاذة بغير الله يعتبر شركاً كما زعم بعض الناس (بغية الطالب 8 صريح البيان 57و58) " فلا الاستغاثة بغير الله ولا الاستعاذة بغير الله تعتبر عنده شركاً!. بل حتى السجود للصنم لا يعتبر عنده شركاً وإنما كبيرة من الكبائر فقط. وهذا مسجل عليه بصوته (شريط الحبشي 3/ 640). وسئل عمن يستغيث بالأموات ويدعوهم قائلاً: يا سيدي بدوي أغثني يا دسوقي المدد قال "يجوز أن يقول: أغثني يا بدوي ساعدني يا بدوي" قيل له: لماذا يقول يا عبد القادر يا سيدي بدوي ولا يقول يا محمد؟ قال "ولو" أي ومع ذلك فهو جائز. لكن تركُهُ أفضل (شريط خالد كنعان وجه 2 عداد 70). قيل له: إن الأرواح تكون في برزخ فكيف يستغاث بهم وهم بعيدون؟ أجاب "الله تعالى يكرمهم بأن يسمعهم كلاماً بعيداً وهم في قبورهم فيدعو لهذا الإنسان وينقذه، أحياناً يخرجون من قبورهم فيقضون حوائج المستغيثين بهم ثم يعودون إلى قبورهم. ثم أخذ يدافع عن ذلك بشتى الأحاديث الضعيفة والموضوعة. المصدر: الحبشي شذوذه وأخطاؤه لعبد الرحمن دمشقية - ص 61 هل ينفعونكم أو يضرون: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 192 - وصرّح الحبشي أن الله جعل الأولياء أسباباً لنا لندعوهم ونستغيث بهم، وأن ذلك يجوز من الموحِّد ما دام يعتقد أن الضرّ والنفع بيد الله. قال:"وليس مجرد الاستعاذة بغير الله تعتبر شركاً، أما إن كان يعتقد أن غير الله ينفع أو يضر من دون الله فقد وقع في الشرك". واحتج بحديث الحارث بن حسان البكري ((أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد)) (1) (الدليل القويم 173 صريح البيان 62 المقالات السنية 46). وهو حديث ضعيف يتعارض مع قول الله وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ [الأعراف: 200] ويتعارض مع قوله وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن: 6] وهذا باطل فإذا كان الموحّدُ يعلم أن الضرّ والنفع بيد الله فلماذا يدعو من لا يملك هذا النفع والضر؟ وقد قال تعالى وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ [يونس: 106] أي المشركين. ويعارضه ما ذكره الحبشي عن علي رضي الله عنه أنه قال ((لقنني رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الكلمات، وأمرني إذا أصابني كرب أو شدة أن أقولهن: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحانه وتبارك الله رب العرش العظيم)) (2) (الدليل القويم 229) فلم يأمره أن يستغيث بالقبور وإنما علمه اللجوء إلى الله وحده. المصدر: الحبشي شذوذه وأخطاؤه لعبد الرحمن دمشقية - ص 63 - أن شيخهم الحبشي زعم أن جبريل هو الذي أنشأ ألفاظ القرآن وليس الله، فالقرآن ليس عنده كلام الله أي أن جبريل عبر عما يجري في نفس الله وصاغه بألفاظ من عنده، وقد احتج لذلك بقوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة: 40]. (إظهار العقيدة السنية 59). وقد قال به علماء السوء من قبله وهو شر ما انتهت إليه وساوسهم. وتجد أتباعه يكررون هذه الكلمة (عبارة عن كلام الله) وتطالبهم بتفسيرها فيتحيرون ولا يستطيعون تفهيمها فضلاً عن أن يقول بأن القرآن عبارة عن كلام الله، وليس كلام الله. - أنه زعم أن الله على غالب الأشياء قادر (إظهار العقيدة 40) وأثار بين الناس مسألة: هل الله قادر على نفسه أم لا؟! فهل خاض الشافعي بمثل هذه الوساوس والهرطقات؟ - أنه يحث على التوجه إلى قبور الأموات والاستغاثة بهم وطلب قضاء الحوائج منهم، بل إنه أجاز التعوذ بغير الله كأن يقول المستعيذ " أعوذ بفلان " (الدليل القويم 173 بغية الطالب 8 صريح البيان 57 و 62) وأن الأولياء يخرجون من قبورهم ليقضوا حوائج من يستغيث بهم ومن ثم يعودون إليها (شريط خالد كنعان /ب/70) وسئل عن السجود للتمثال الذي لم يعبد هل هو كفر فقال هو كبيرة فقط ليس شركاً (شريط الحبشي 3/ 640) ويدعو إلى التبرك بالأحجار (صريح البيان 58 إظهار العقيدة 244) فهذا الشرك يدخلونه ضمن عقائد توحيدهم: فهل يتفق هذا الشرك مع عقيدة الشافعي؟ انظر كيف يدس هذه الشركيات باسم التوحيد.   (1) رواه الترمذي (3273) وأحمد (3/ 482) (15996) وحسن إسناده ابن حجر في ((فتح الباري)) (8/ 442) وكذلك الألباني في ((الصحيحة)) (3/ 373) (2) بهذا اللفظ (لقنني) رواه ابن حبان (865) والحاكم (1874) والنسائي في ((الكبرى)) (4/ 397) وروي بألفاظ أخرى (علمني، ألا أعلمك) رواه أحمد (1/ 91) (701) والبزار (1/ 306) وقال أحمد شاكر إسناده ضعيف، وقال البزار يروى عن عبد الله بن جعفر، عن علي من وجوه، وهذا أحسن إسنادا يروى في ذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 193 - أنه جبري منحرف في مفهوم القدر، يزعم أن الله هو الذي أعان الكافر على كفره وأنه لولا الله ما استطاع الكافر أن يكفر (النهج السليم 67) وهذا قول باضطرار العبد في فعله على النحو الذي قالته الجهمية، ونرى آثار عقيدتهم في الحبشي بدليل أنه أثنى على الرازي لقوله بأن العبد " مجبور في صورة مختار " (إظهار العقيدة السنية 196) .. - أنه في مسألة الإيمان من المرجئة الجهمية أيضاً: الذين يؤخرون العمل عن الإيمان (الدليل القويم 7 بغية الطالب 51). ويبقى هذا الرجل عنده مؤمناً وإن ترك الصلاة وغيرها من جميع الأركان. وهذا مخالف لعقيدة الشافعي الذي شدد على أن الإيمان والعمل والاعتقاد شيء واحد. - أنه يقلل من شأن التحاكم إلى الأحكام الوضعية المناقضة لكم الله، وقد وصف من لا يريدون إقامة دولة تحكم بالإسلام – وانما يريدون إقامة دولة علمانية – بأنهم ناس مسلمون ومؤمنون، بل إن مساعدتهم تجوز (شريط 1/ 318 الوجه الأول) وأن المسلم الذي لا يحكم بشرع الله وانما يتحاكم إلى الأحكام الوضعية التي تعارفها الناس فيما بينهم لكونها موافقة لأهواء الناس متداولة بين الدول أنه لا يجوز تكفيره (بغية الطالب 305) وأن " من لم يحكم شرع الله في نفسه فلا يؤدي شيئاً من فرائض الله ولا يتجنب شيئاً من المحرمات، ولكنه قال ولو مرة في العمر: لا إله إلا الله: فهذا مسلم مؤمن. ويقال له أيضاً مؤمن مذنب (الدليل القويم 9 – 10 بغية الطالب 51). أهذه كلمات تخرج من فم رجل ناصح مصلح يريد صلاح دين الناس؟ يدافع عن المتحاكمين بغير ما أنزل الله؟ لعل هذا أحد أسباب الدعم المقدم اليوم لهذه الطائفة التي صارت تنصب نفسها للدفاع عن العلمانيين الذين صاروا عندهم أقرب إلى الله من معاوية وابن تيمية والألباني وسيد قطب وسيد سابق. إن الاقتصار في الإيمان على مجرد النطق بالشهادتين من غير عمل هو خلاف صريح مذهب الشافعي الذي كان يشدد على أن الإيمان: قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان. وأنه لا يجوز الفصل بين هذه الثلاث. كما أن التحاكم إلى الأحكام الوضعية شرك كما قال تعالى وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف: 26]. غير أن الحبشي يرى أن التحاكم إلى غير شريعة الله ليس كفراً ولا شركاً، وأن الآية وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44] خاصة باليهود (النهج السوي 16) أما المسلم فلا يكفر إلا إذا جحد حكم الله. - أنه يرجح الأحاديث الضعيفة والموضوعة ويسكت عن عللها لمجرد كونها تؤيد مذهبه بينما يحكم بضعف الكثير من الأحاديث الصحيحة من أخبار الآحاد التي لا تتناسب مع طريقة أهل الجدل والكلام. وهذا شأن أهل البدع الذين لا يتجردون للسنة. كما يظهر في كتابه المولد النبوي الذي أتى فيه بالروايات المكذوبة، وكتاب (صريح البيان) الذي حاز فيه على رضا الشيعة لكثرة ما تعرض فيه بالطعن لبعض الصحابة وأولهم معاوية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 194 - أنه يغازل الروافض بتركيزه على أمور الفتن التي جرت بين الصحابة ويكثر من التحذير من تكفير ساب الصحابة والشيخين على وجه الخصوص، وأن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر وأنه لا يلتفت إلى من خالف هذا الرأي. وهذه مسألة حدث خلاف حولها، ولكن لماذا إيراد هذا الآن وفي وقت بدأ الآخرون يجهرون بسب أبي بكر وعمر وغيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.- أنه يكثر من سب معاوية ويجعله من أهل النار، محتجاً بقوله صلى الله عليه وسلم ((يدعوهم "عمار " إلى الجنة ويدعونه إلى النار)) (1) ويأتي بالمظلم من الروايات الطاعنة في معاوية مثل أنه أوصى ابنه يزيد وهو على فراش الموت أن يقطع عبدالله بن الزبير إرباً إرباً إذا ظفر به. وأنه كان يتاجر ببيع الأصنام إلى بلاد الهند، إن مواقف مثل هذه تروق للشيعة وتكسبه رضاهم. - أنه يعتقد أن الله خلق الكون لا لحكمة وأرسل الرسل لا لحكمة. وأن من ربط فعلا من أفعال الله بالحكمة مثل أن يقول: إن الله خلقنا لحكمة: أنه ينسب إلى الله التعليل، والتعليل نقص على الله في المذهب الأشعري لا يجوز وصفه به. و؟ أن من زعم أن النار سبب الحرق والسكين سبب الذبح فهو مشرك يجعل مع الله فاعلاً آخر. المصدر: الموسوعة الميسرة القرآن ليس كلام الله عند الحبشي يرى الحبشي أن القرآن ليس من كلام الله لأن الله منزه عن الكلام. وأن المنشئ الحقيقي لألفاظ القرآن هو جبريل وليس الله. واستدل على ذلك بقوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ أي قول جبريل، وكذلك قوله تعالى فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة: 18] (إظهار العقيدة السنية 58 - 59). والمعنى اقرأ يا محمد قرآن جبريل. الله عند الحبشي ليس على كل شيء قدير! وقال في قوله تعالى إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 20] بأن هذه الآية "لا تعني أن الله على كل شيء قدير، لأن (كل) لا تفيد التعميم هنا، فيصير قادراً على نفسه، وإنما المعنى أن الله قادر على أكثر الأشياء وليس على كل شيء قدير. ولأن الله غير قادر على الظلم، لأن الظلم ممتنع على الله" (إظهار العقيدة السنية 40 بشرح العقيدة الطحاوية). وقد صرح أحد أتباعه (جميل حليم) بأن الله غير قادر على الظلم، فلو أراد أن يظلم ما استطاع. وأن من قال إنه قادر على الظلم ولكنه لا يفعل: هو قول المعتزلة، قال "فإن القدرة على الظلم إنما تتصور من المخلوق" "وقد أجمعت الأمة الإسلامية على تكفير من نسب القدرة على الظلم إلى الله واتفقوا على كفر من يقول: الله يقدر على الظلم ولكن لا يفعل" (مجلة منار "الهدى" 23/ 29).وهذا يتعارض مع قوله تعالى ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي)) (2) فتحريم الظلم على نفسه دليل قدرته عليه، ولو كان غير قادر عليه لما كان للتحريم معنى المصدر: الحبشي شذوذه وأخطاؤه لعبد الرحمن دمشقية – ص59 الحبشي داعية إلى سنن النصارى كيف جاز عند الحبشي دعاء غير الله ولم يَجُز عنده الصلاة لغير الله مع أن الصلاة معناها الدعاء أيضاً؟ هذا تناقض. فليجوّزوا الصلاة لغيره حينئذ؟ أو أن لا يفرّقوا بين دعاء ودعاء. أن كل الآيات التي أنكرت على المشركين دعاءهم لغير الله اعتبرتها عبادة مصروفة لغير الله وإن كانت بلا ركوع ولا سجود. دليل ذلك: قول إبراهيم لقومه وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ [مريم: 48] ثم عقّب الله بحكمه على ذلك فقال فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ [مريم: 49.]   (1) رواه البخاري (447) (2) رواه مسلم (2577). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 195 وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف: 5] وهذه صفات مشتركة بين الأصنام والقبور. وقال عن أصحاب القبور إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأعراف: 194]. وهكذا صرف الله قلوب منكري علوّه في السماء إلى أسفل سافلين فتوجهوا بالدعاء إلى أعماق الأرض إلى الحُفَر حيث الموتى. وصارت آمالهم معلقة بالأرض هناك بعدما انتكست فِطَرُهُم عن التوجه إلى الله في السماء، وهكذا صرفهم الله صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون [التوبة 127]. وهو داعية إلى سنن النصارى يدعو إلى التبرك بالأحجار (صريح البيان 58 إظهار العقيدة السنية 244) وقد شهد الغزالي أن مسّ القبور والجدران للتبرّك بها من سنن النصارى، قال "ولا يمس قبراً ولا حجراً فإن ذلك من عادة النصارى" (الإحياء 1: 259 و 4: 491 البيجوري على ابن قاسم 1: 277) وقال "ولا يمس قبراً ولا حجراً فإن ذلك من عادة النصارى" (الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/ 244) وقال ابن حجر الهيتمي (الكبيرة الثالثة والتسعون) اتخاذ القبور مساجد وإيقاد السُرُج عليها واتخاذها أوثاناً والطواف بها واستلامها" (الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/ 244). المصدر: الحبشي شذوذه وأخطاؤه لعبد الرحمن دمشقية – ص 64 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 196 المطلب الثاني: عقيدتهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته عقيدة الأحباش في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عقيدة غريبة عجيبة، فهم غلاة في مواطن، وجفاة في مواطن أخرى؛ حيث يستغيثون به، ويطلبون منه المدد والعون، ويجعلون ذلك من القربات ومن دواعي محبته، بل من لوازمها أحياناً، فهم مخالفون معاندون لأمره وهديه -صلى الله عليه وسلم-، حيث قال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابنَ مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله)) (1) وعندما قال أحد أصحابه: ما شاء الله وشئت، قال: ((جعلتني لله عدلاً، ما شاء الله وحده)) (2).ومن جهة أخرى: فالأحباش مجحفون في حقه -صلى الله عليه وسلم- بعدم اتباعهم هديه، ثم بقولهم وإعلانهم أنه يكفي أن يصلي المسلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- مرة واحدة في عمره كله .. وأهل السنة والجماعة ـ الذين يدعي هؤلاء أنهم منهم ـ يقولون بمشروعية وتأكيد الصلاة عليه -صلى الله عليه وسلم- في مواطن كثيرة، وأن تاركها آثم، وخاصة عند ذكره -صلى الله عليه وسلم-، حيث قال: ((رَغِمَ أنف رجل ذُكرت عنده فلم يصلِّ عليّ)) (3)، وقال أيضاً: ((البخيل من ذكرت عنده فلم يصلِّ عليّ)) (4)، والأحباش مخالفون لسنته -صلى الله عليه وسلم- أشد الخلاف، ولهم شغف بالبدع، كبدعة الاستغاثة به -صلى الله عليه وسلم-، وبدعة الاحتفال بالمولد النبوي، وهذه من ضروريات مذهبهم، وهم يحتفلون بها على أكبر نطاق، ويقيمون لذلك صالات الاحتفالات الكبيرة، ويحتفلون بالمناسبات البدعية التي ما أنزل الله بها من سلطان، ويملؤون الشوارع بإعلاناتهم لذلك، بل إنه في بعض البلاد ينقل التلفزيون هذه الاحتفالات باسم الإسلام. ولا يكتفي الأحباش بهذه البدع، بل تعدى ذلك إلى خرافات المتصوفة وانحرافاتهم، فهم ـ أي الأحباش ـ يعظّمون أئمة التصوف الزنادقة، ويترضون عنهم، ويطعنون فيمن يتكلم فيهم بسوء، ويتهمونه بأنه يكفّر علماء المسلمين. المصدر: الأحباش لعبد الرحمن بن عبد الله – ص 24   (1) رواه البخاري (3445) (2) رواه أحمد (1/ 347) (3247) قال أحمد شاكر إسناده صحيح، وأورده الألباني في ((الصحيحة)) (139) (3) رواه الترمذي (3545) وقال حسن غريب من هذا الوجه، وقال ابن حجر حسن صحيح كما في ((الفتوحات الربانية)) (3/ 319) وقال الألباني صحيح. (4) رواه الترمذي (3546) وقال حسن صحيح غريب، وحسنه ابن حجر كما في ((الفتوحات)) (3/ 325) وصححه الألباني كما في ((الإرواء)) (5) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 197 المبحث الرابع: موقف الحبشي من الصحابة والأئمة والعلماء عقيدة الأحباش في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها شبه كبير من عقيدة الرافضة والخوارج فهم يقولون بلا خجل ما يقتضي الطعن في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ويفسقون صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتب الوحي معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه (1). بل إنهم يقولون عن كل من اشترك من الصحابة ضد علي رضي الله عنه أنه من الدعاة إلى النار (2). بل قد بلغ من جرأتهم أن شيخهم الضال قد دخل في قلب معاوية رضي الله عنه فعرف ما لا يمكن أن يعرفه إلا الله جل وعلا حيث يقول (ثم ليعلم أن معاوية كان قصده من هذا القتال الدنيا فلقد كان به الطمع في الملك وفرط الغرام في الرائاسة) (3).وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) (4).وقال الله تعالى وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر: 10]. وقد شابه الأحباش الخوارج في مسائل التكفير فقد كفروا كثيرا من علماء المسلمين وأئمتهم ودعاتهم فهم يطعنون في الإمام الذهبي ويكفرون ابن خزيمة ويسمون كتابه (التوحيد) كتاب الشرك كما يكفرون ابن القيم وابن كثير رحمهم الله – أما شيخ الإسلام ابن تيمية وإمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب فتكفيرهما على لسان كل حبشي صباح مساء ولم يسلم أعلام الأمة المعاصرون من تكفير الأحباش وفي مقدمتهم الشيخ الألباني وابن باز وابن عثيمين وغيرهم من العلماء والدعاء والمفكرين. والأحباش كذابون مفترون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح وهم يستغلون جهل أتباعهم لتمرير هذه الأكاذيب والافتراءات ومن أمثلة ذلك قول شيخهم (إن مذهب الأشاعرة والماتريدية هو مذهب رسول الله والصحابة والسلف الصالح) (5). أما افتراؤهم على الأئمة والعلماء فحدث ولا حرج وخاصة على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي افترى عليه شيخهم حيث ادعى أنه قال: إن من خالف في مسألة الطلاق فهو كافر (6). ولكن ابن تيمية يقول (إن من خالف في مسألة الطلاق فهو مجتهد معذور مأجور عند الله) (7). وأمثال هذه الأكاذيب كثيرة جدا في كتب شيخهم سواء على شيخ الإسلام أو غيره من علماء أهل السنة والجماعة. المصدر: الأحباش لعبد الرحمن بن عبد الله - ص 27 وليس من مجلس يجلسه إلا ويجعل لابن تيمية فيه نصيباً من التكفير والتشنيع والتحذير لا سيما من كتبه، حتى إنه يجعل تكفيره من أول الواجبات على المكلف، ولعلك تتسائل: لمصلحة من يجري ملاحقة ابن تيمية وتكفيره: الأمر مكشوف، ومن وراء ذلك التحذير: جهات لا تريد لفكر ابن تيمية الإصلاحي السلفي أن ينتشر، هذا الفكر الذي يحرر الناس من العبودية الفكرية والتقليد الأعمى والبدع والشركيات التي ينشرها الحبشي باسم التوحيد ويبقيهم عبيداً لحفنة من المتسلطين الذين يسلطون على عوام الناس مشايخ السوء لتخديرهم ومدح العلمانيين أمامهم.   (1) ((صريح البيان)) عبدالله الهرري الحبشي (ص: 198). (2) ((صريح البيان)) عبدالله الهرري الحبشي (ص: 211). (3) ((صريح البيان)) عبدالله الهرري الحبشي (ص: 220). (4) رواه البخاري (3673) ومسلم (2540) (5) لقاء مع عبدالله الهرري الحبشي في مسجد الصديق بطرابلس في لبنان في ربيع الأول 1413هـ. (6) عبدالله الهرري الحبشي ((المقالات السنية في كشف ضلالات ابن تيمية)). (7) ابن تيمية ((مجموع الفتاوى)) (33/ 149). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 198 - وكما يطعن في ابن تيمية فإنه يطعن في غيره من أئمة الحديث: فلا مانع عنده أن يوصف الإمام المحدث الذهبي بأنه خبيث. قال " وإذا قيل عنه خبيث فهو في محله ". ومحمد بن عبدالوهاب مجرم قاتل وكافر (مجلة منار الهدى عدد 3 ص 34) وزعم أنه كان يعرض بالنبوة ويقتل كل من يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم. وأن سيد سابق مجوسي كافر وإن زعم أنه مسلم (شريط 1 / أ / 181)، - بينما يدافع عن ابن عربي الذي شهدت كتبه بكفر لم يقل بمثله اليهود ولا النصارى. والذي شهد الحافظ ابن حجر وابن عبد السلام وأبو حيان النحوي (لسان الميزان 2/ 384 تفسير البحر المحيط 3/ 449) بضلاله وزندقه وتصريحه بوحدة الوجود والذي مسخ نصوص الكتاب والسنة بتأويلاته الفلسفية الباطنية القرمطية. - ويدافع عن القاضي النبهاني الذي كان يقضي بين الناس بأحكام القانون الفرنسي ومع ذلك كان يتظاهر بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم ويتغنى بذكر الأولياء والكرامات، والذي صنف كتاباً اسمه (جامع كرامات الأولياء) وإن من تخريفاته ما نراه في كتابه المذكور (2/ 208) من انحرافات لا توجد عند النصارى: مثل قصة الشيخ علي العمري الذي من كراماته أنه يخرج ذكره بيديه بحيث يضعه على كتفه ويضرب به الناس، ويثني الحبشي على عبد الغني النابلسي المتحمس لعقيدة ابن عربي وابن الفارض في وحدة الوجود والذي كان يصرح بأن هناك عدة عوالم في كل منها محمد مثل محمدكم وإبراهيم مثل إبراهيمكم وعيسى مثل عيسكم (أسرار الشريعة 82 - 83). - وتقابل هذه الشدة على أهل السنة ثناء على الباطنين ودفاع مستميت عن الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، وتجسس على المسلمين لصالح أعدائهم، يتجسسون عليهم وهم في المساجد، كما صار ذلك ثابتاً عنهم بالتواتر. بل صاروا يجهرون به، فلذلك استحقوا هذا الوصف الجامع اللائق بهم أنهم "أذلة على الكافرين، أعزة على المؤمنين". ? طائفة منافقة تتزلف للطواغيت، وتتطاول بهم على المؤمنين. تماماً كما فعلت المعتزلة أيام المأمون حين تقرّبوا منه ونالوا به من العلماء وسلطوه عليهم قتلاً وإيذاءً حتى انقلب السحر على الساحر فجأة، فانقلب عزهم ذلاً حين تغيّر الحاكم، وإننا لنرجو أن ينقلب سحر هذه الطائفة عليها بإذن الله، نرجو أن يأتي اليوم الذي يسقطون فيه كما سقط المعتزلة من قبلهم حين تولوا الظلمة واستخدموهم لغير صالح المسلمين. وتماماً كما كان موقف الرفاعية المخزي من التتار حين تولوهم. أفاده الذهبي وابن كثير وبدر الدين العيني (عقد الجمان 4/ 473 والعبر للذهبي 3/ 75 والبداية والنهاية لابن كثير 14/ 38). المصدر: الحبشي شذوذه وأخطاؤه لعبد الرحمن دمشقية - ص 22 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 199 المبحث الخامس: الفقه الشاذ عند الأحباش للأحباش فقه شاذ لم يسبقهم إليه أحد ونذكر هنا أمثلة على هذا الشذوذ الفقهي: 1ـ إباحة الربا من بنوك الكفار حيث يزعمون أنه يجوز في دار الحرب عن طريق الربا (1).2ـ إسقاط الزكاة في العملة الورقية وإيجابها في الذهب والفضة فقط حيث يقول شيخهم (لا زكاة في الأثمان غير الذهب والفضة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر زكاة غيرهما) (2).3ـ نشر فتوى أن الفخذ ليس بعورة وأنه يجوز كشف جميع البدن ما عدا الفرج (3).4ـ فتوى أن الأم إذا لمست بول طفلها أثناء تنظيفه فإن ذلك يعتبر كبيرة اقترفتها!!! (4).5ـ اتباع الحيل لترك الواجبات مثل أكل الثوم والبصل لترك صلاة الجماعة وغيرها من الحيل (5).6ـ التناقض العجيب في الفتوى حيث تجوز عند الحبشي الصلاة متلبسا بالنجاسة حتى لو كانت من بول الكلب أو غيرها من النجاسات (6). وفي المقابل وفي نفس الكتاب يقول (أما قشرة البرغوث أو القملة أو نحوها فنجسة غير معفو عنها فلو صلى بشيء من ذلك فصلاته باطلة علم به أو لا!!! (7).7ـ إباحة الاختلاط بين الرجال والنساء يقول شيخهم: (اختلاط الرجال بالنساء على وجهين وجه جائز ووجه محرم والوجه الجائز هو الاختلاط بدون تلاصق بالأجسام والوجه المحرم ما يكون فيه تلاصق وتضام) (8). المصدر: الأحباش لعبد الرحمن بن عبد الله - ص 35   (1) عبدالله الهرري الحبشي ((صريح البيان)) (ص: 266) عبدالرحمن دمشقية ((شبهات أهل الفتنة وأجوبة أهل السنة)) (ص: 377). (2) عبدالله الهرري الحبشي ((بغية الطالب)) (ص: 216). (3) عبدالله الهرري الحبشي ((صريح البيان)) (ص: 291 - 293). (4) عبدالرحمن دمشقية ((شبهات أهل الفتنة وأجوبة أهل السنة)) (ص: 377). (5) عبدالرحمن دمشقية ((شبهات أهل الفتنة وأجوبة أهل السنة)) (ص: 388 - 389). (6) عبدالله الهرري الحبشي ((بغية الطالب)) (ص: 132). (7) عبدالله الهرري الحبشي ((بغية الطالب)) (ص: 119). (8) عبدالله الهرري الحبشي ((صريح البيان)) (ص: 330). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 200 المبحث السادس: من فتاوى الحبشي يزعم أن النظرة الأولى للمرأة لا تحرم وإن دامت وطالت لا شيء فيها (بغية الطالب 224 و287) وأنه يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها متى شاءت بغير رضا زوجها إذا كان لتعلم الدين قائلاً "تخرج بغير رضاه" (بغية الطالب 202) ويجيز لها أن تخرج متعطرة وتتزين للناظرين (صريح البيان 186 طبعة جديدة رقم 350) إن كانت تفعل ذلك لمجرد الفرح بنفسها "بشبابها"! (بغية الطالب 351). - أثار في أمريكا وكندا وأوروبا فتنة تغيير اتجاه القبلة حتى صارت لهم مساجدهم الخاصة حيث حرّفوا جهة القبلة 90 درجة وصاروا يتوجهون في صلاتهم إلى عكس الجهة التي يصلي إليها المصلون في أوروبا وأمريكا وكندا، ولم يقتنعوا أولاً بأن الأرض كروية بل أصروا على أنها مسطحة ثم اعتبروها نصف كروية على شكل نصف برتقالة، وفي لبنان يضايقون المصلين بانحرافهم إلى جهة الشمال قليلاً أثناء صلوات الجماعة. لأن اتجاه القبلة منحرف حتى في لبنان، فلكثرة تعصبهم لشيخهم صار في نظرهم هو الفلكي الأوحد. إنهم لا يرضون مناقشة أقواله، وهم وإن لم يصرحوا بعصمته بلسان مقالهم: فإن لسان حالهم يؤكد أنهم يرون عصمته من كل خطأ وزلل. ويصرون على ضرورة أن يُسمعوا أنفسهم القراءة في الصلاة لكنهم يُسمعونها غيرهم حتى إن الشيطان ليستعملهم في إشغال المصلين في الصلاة. - الأحباش يتعاطون السحر، وقد اشتكى رجل من زوجته (الحبشية) التي تنتابها وساوس شتى حتى صارت لا تستطيع الدخول بسهولة في الصلاة، واعترفت لزوجها بأن الأحباش أعطوها حبوباً يسمونها "حبوب العهد" ويكفي تناول شيء من هذه الحبوب أو تناول "فنجان قهوة ملغوم" ليصير شاربه موسوساً فيهم، مهووساً بشيخهم. ويوزعون بعض أوراق السحر وعندي أنموذجاً منها. - وزعم شيخهم أنه يمتلك خاتم النبي صلى الله عليه وسلم. وهو يظهره للعامة فينكبون عليه لتقبيله. - الأحباش يحيون البدع ويميتون السنن، يغنون ويرقصون لله في مجالس مختلطة: تكون النساء فيها كاسيات عاريات، ومع ذلك يزعمون أن الله آتاهم الكرامة فيدخلون في النار ويضربون أنفسهم بالرصاص ولا يؤثر ذلك فيهم وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى [النحل: 62]. ولكن كيف يؤتي الله الكرامة من كان هذا حاله من البدع والاحتيال على الرب وموالاة الكافرين!!. ولست أدري إن كانوا أصحاب كرامات فلماذا لا يواجهون بها اليهود، إذا كان الرصاص لا يؤثر فيهم فلينزلوا إلى ساحات الجهاد، ما فائدة كراماتهم إن لم يوظّفوها للدفاع عن الدين؟! وهل عند اليهود إلا النار والرصاص؟! - الأحباش لا يصلون وراء الأئمة في المساجد وينتظرون فراغ صلاة الجماعة حتى يقيموا جماعة أخرى. ومعلوم أنه لا يجوز صلاة النافلة إذا أقيمت صلاة الفريضة، وقد وجد النبي صلى الله عليه وسلم رجلين جالسين في المسجد فسألهما عن سبب عدم انضمامهما مع الجماعة في الصلاة فأخبراه أنهما قد صلياها، ومع ذلك أمرهما أن يشاركا الصلاة مع المسلمين فتكون لهما نافلة. وذلك حتى لا يحدث أي انشقاق في المسجد وهؤلاء ينشقون عن جماعة المصلين ويشوشون على الخطباء ويقاطعونهم حتى أثناء خطب الجمعة كما فعلوا ذلك مع المفتي حسن خالد نفسه وكفّروه وهو يخطب الجمعة على المنبر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 201 - للأحباش فرقة كبيرة يرأسها المايسترو (شماعة) على نسق المايسترو James Last يتقربون إلى الله بالدف والرقص الذي يجتمع عليه المتبرجات من النساء المختلطات بالرجال. يصفقن للإيقاعات الموسيقية "الإسلامية" وهذا مسجل لهم في أشرطة الفيديو، ولكن ثمة أمر آخر؛ وهو أنه صارت هذه الفرقة وسيلة للتقرب من الحكّام أيضاً وليس إلى الله، إنهم يغنّون وينشدون لهم، فهل أنشئت هذه الفرقة الموسيقية للتقرب إلى الله أم للتقرب من الحاكمين بغير ما أنزل الله؟! ومتى كان هذا مذهب الشافعي؟ إننا لم نستفد شيئاً من هذه الحركات المخالفة لهدي السلف سوى أن صرنا بطبولنا ودفوفنا ورقصاتنا أضحوكة لأعداء المسلمين. - الحبشي يدعو إلى تصوف يقسّم مصادر المسلمين إلى حقيقة وشريعة وظاهر وباطن ويدّعي أخذ العلوم عن الله بما يسمونه "العلم اللدني" والاجتماع بالخضر وبأرواح المشايخ وأخذ البيعة والعهد عنهم وهم في قبورهم، واعتقاد أنهم متصرفون في الأكوان بحسب مراتبهم منهم القطب والوتد والنجب والبدل الذين يمسكون الأرض أن تزول أن تقع، وأنهم يعلمون الغيوب والأسرار ويكاشفون الناس بما يفعلون سراً وعلانية. فمتى كان الشافعي يوافق هذه الانحرافات الخطيرة التي أودت بنا إلى غضب الله وإلى تسليط الكفار علينا. وهو وأتباعه يعملون على نشر الطريقة الرفاعية وما فيها من طقوس شيعية شركية بدعية وتقديس للرفاعي. ولا ننسى أن الرفاعيين يؤمنون بإمامة الإثني عشر إماماً على النحو الذي تعتقده الشيعة. ويعتقدون أن الإمام صاحب الرقم (12) هو المهدي محمد بن الحسن العسكري المختبئ في السرداب بمدينة سامراء، وأن الأئمة الإثني عشر ازدادوا بشيخهم الرفاعي واحداً حتى صاروا (13) (القواعد المرعية 97 بوارق الحقائق 212 جامع كرامات الأولياء 1/ 237) ويؤمنون بكتاب الجفر الشيعي كما صرح به الرواس الرفاعي في بوارق الحقائق 78و177). ويعتقدون أن شيخهم يبيع عقارات وقصور في الجنة (قلادة الجواهر 70 روض الرياحين 440 جامع كرامات الأولياء 1/ 296 الكواكب الدرية 214). وأنه يحيي العظام وهي رميم (قلادة الجواهر 73 و145 طبقات الأولياء لابن الملقن 99). وأن السماوات والأرضين كالخلخال في رجله (طبقات الشعراني 1/ 142 الفجر المنير 19). وأنه يحمي أتباعه إلى يوم القيامة في حياتهم وبعد مماتهم ويُدخلهم الجنة أمامه (قلادة الجواره 233). وأنه يطّلع على المقدور والمكتوب فيغير الشقي سعيداً (قلادة الجواهر 103 و193 طبقات الأولياء 98). وأنه غوث الخلائق كلهم، تستغيث به حتى النعجة التي يفترسها الذئب وتنادي بلسان فصيح "يا سيدي أحمد". ولكثرة رواج الخرافات بين الصوفية بشكل عام قال الشافعي "لو أن رجلاً تصوف أول النهار، لا يأتي الظهر حتى يصير أحمق، وما لزم أحد الصوفية أربعين يوماً فعاد إليه عقله أبداً" (تلبيس إبليس لابن الجوزي 371) وهذه الحماقة المخالفة لما كان عليه السلف من أعظم مظاهر التشويه أمام عيون غير المسلمين. فأين هؤلاء من الشافعي؟ متى وافق الشافعي هذه الطرق الصوفية كالرفاعية والنقشبندية الخائضة في وحدة الوجود، التي جعلت من مشايخ الطريقة آلهة يُعبدون! يحيون الموتى وينقلون المرض من شخص لآخر ويستقطعون الأراضي في الجنة، إنها السُبُل التي تصبها أولياء الشيطان ليخطفوا بها الناس عن الصراط المستقيم ولقد قال تعالى وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153]. المصدر: الحبشي شذوذه وأخطاؤه لعبد الرحمن دمشقية - ص 29 فتوى تعليق الصلبان لمجرد الخوف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 202 غير أن للحبشي في هذه المسألة فتوى شنيعة أباح فيها لمن ذهب إلى بلاد الكفار أن يعلق صليباً إذا هو خاف على نفسه من أذاهم (الدليل القويم 155). فالترخيص يحصل عنده بلبس الصليب لمجرد مظنة الأذى وليس عند حصول الأذى لإجباره على لبسه، وفرقٌ بين حصول الإكراه وبين مجرد توقعه. المصدر: الحبشي شذوذه وأخطاؤه لعبد الرحمن دمشقية - ص 08 فتواه في مخارج الحروف وكذلك أفتى بوجوب تشديد مخارج السين والصاد لأنهما من الأحرف المستقبحة. ثم علّمهم التلفظ بهما بطريقة مستقبحة، ولقد سئم الناس من هذا السلوك الشاذ والوسوسة في التلفظ حتى قالوا: إذا أردت سماع تغريد البلابل والعصافير فعليك بالصلاة في مسجد أبي حيدر. وقد شدد عليهم في ألفاظ النية، حتى صار تشديدها عندهم في الصلاة هو الشغل الشاغل وشق عليهم أداء تكبيرة الإحرام عند الدخول إلى الصلاة، فقال: (والتشديدات) وهي أربعة عشر شدة فمن ترك واحدة لم تصح صلاته". فأين هذا من سيرة سيد المرسلين وأصحابه هل كانوا على هذا النحو من التكلف؟ قال: "وأولى الحروف عناية بإخراجها وهي الصاد (الموالاة). وذلك بأن لا يفصل بين شيء منها وما بعده فصلاً طويلاً أو قصيراً بنية قطع القراءة. (والترتيب) أي الإتيان بها على نظمها المعروف، وأولى الحروف عناية وهي الصاد. ." (صريح البيان 123). وهكذا شغلهم بالوسوسة عن تدبر التلاوة واستحضار الخشوع. حتى شكا غير واحد من أتباعه من كثرة الوسوسة عند الشروع في الصلاة. واضطر بعضهم إلى إعادة تكبيرة الإحرام مرات عديدة من أجل أن توافق ألفاظُ النية تكبيرة الإحرام. وقد روى الشعراني عن الشيخ الفتوحي الحنبلي أنه قال "قد أتعب الموسوسون أنفسهم في ألفاظ النية التي أحدثوها، واشتغلوا بمخارج حروفها، ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، إنما كان ينوي بقلبه فقط، وكذلك أصحابه. فاستحوذ الشيطان على طائفة، وأشغلهم بمخارج حروف النية ليصرف قلوبهم عن الحضور مع الله تعالى الذي هو روح الصلاة". أضاف الشعراني "وكان الشيخ شمس الدين اللقاني المالكي يقول: لو أدرك النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء لمقتهم. ولو أدركهم عمر رضي الله عنه لضربهم. ولو أدركهم أحد من الصحابة والتابعين لبدّعهم وكرههم (لطائف المنن والأخلاق للشعراني 561). انتهى. ومع أن الحبشي نهى عن التنطع في أمور الطهارة والصلاة وعدَّ ذلك من الوسوسة قائلاً "والتعمق والتنطع معناهما واحد وهو التشديد في الطهارة والصلاة ونحوهما من أنواع العبادات. وقد قالوا: إن للموسوسين شيطاناً يضحك عليهم ويستهزئ بهم (بغية الطالب ص100). غير أنه لم يتنبه إلى أن تعاليمه أدت إلى ضحك الشيطان وتمكنه من وسوستهم لأن التلاوة والصلاة من أنواع العبادات أيضاً، ويحصل لأتباعه من مثل هذه الوسوسة في التلاوة الشيء الكثير. وتجد بعضهم يكرر تكبيرة الإحرام مراراً ولا يتمكن من اجتياز هذه المرحلة إلا بشق الأنفس. فلماذا لا نقول بأن الشيطان يضحك من هؤلاء أيضاً؟ المصدر: الحبشي شذوذه وأخطاؤه لعبد الرحمن دمشقية – ص 114 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 203 المبحث السابع: إباحيتهم لم يكتف الأحباش بالفساد في العقيدة بل تعدوا ذلك إلى الفساد في السلوك. وللأحباش فقه عجيب يدعو إلى التبرج والفجور والمجون. فهم يجيزون الزنا بنساء أهل الكتاب نكاية في دينهن (1).وهم كذلك يقللون من شأن المعاصي مثل لمس المرأة الأجنبية بل ومفاخذتها فيجيزونه بحجة أن ذلك من الصغائر (2). وذلك لترويج مذهبهم بين الشباب المراهق المنحل وأصحاب النفوس المريضة ويفتي الأحباش بجواز الاختلاط بني الرجال والنساء (3). بل يجيزون للمرأة أن تخرج من بيتها متعطرة متزينة إذا لم ترد فتنة الرجال (4).ويستدل شيخهم على ذلك بحديث ((أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمتر على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية)) (5).حيث قال شيخهم (فقوله صلى الله عليه وسلم ((ليجدوا ريحها)) بيان منه أنه لا يحرم على المرأة خروجها متطيبة إلا إذا كان قصدها ذلك) (6). ولو كان عند هذا الرجل مثقال ذرة من فقه لعلم أن اللام في الحديث ليست للتعليل بل للصيرورة والعاقبة كما في قوله تعالى فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ [القصص: 8]، أي ليكون عاقبة أمره – أو ليصير لهم – عدوا وحزنا فهم لم يلتقطوه من أجل أن يكون لهم عدوا وحزنا فهذا لا يقول به عاقل بل التقطوه ليكون قرة عين لامرأة فرعون فمعنى الحديث أن أي امرأة استعطرت ثم خرجت ستكون نتيجة ذلك أن يجد الناس ريحها وهذا التأويل الذي قاله الحبشي إذا لم يدل على الجهل المطبق فإنه يدل على تعمد إفساد نساء المسلمين وذلك لأن الأحاديث الواردة في الترهيب من خروج المرأة كثيرة معلومة كقوله صلى الله عليه وسلم ((أيما امرأة تطيبت ثم خرجت إلى المسجد لم تقبل لها صلاة حتى تغتسل)) (7). وقوله ((أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة)) (8) .. ونساء الأحباش في ظل هذا الفقه الأعوج يلبسن الثياب الشفافة الضيقة التي يرى باطن الجسم من ظاهرها بزعم أن الواجب هو ستر البشرة كما أفتى لهم مشايخهم (9). وعندما سئل أحد شيوخهم إن كثيرا من نساء الأحباش يمشين بين الرجال الأجانب بالبنطلون الضيق جدا (الجينز) قال (إننا نجمع بين الموضة والسترة) (10).هذا ما يقوله الأحباش أما محمد صلى الله عليه وسلم فيقول ((صنفان من أهل النار لم أرهما)) وذكر ((نساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) (11). ولعلنا نختم هذا الفصل بفتوى إباحية عجيبة لشيخهم حيث يقول (إن مجامعة الخنثى في نهار رمضان لا تفطر إذا جومع في آلته الزائدة) (12).!! المصدر: الأحباش لعبد الرحمن بن عبد الله - ص 31   (1) عبدالرحمن دمشقية ((شبهات أهل الفتنة وأجوبة أهل السنة)) (ص: 412). (2) عبدالله الهرري الحبشي ((صريح البيان)) (ص: 269 - 272). (3) عبدالله الهرري الحبشي ((صريح البيان)) (ص: 330). (4) عبدالله الهرري الحبشي ((بغية الطالب)) (ص: 447). (5) رواه النسائي (5126) وحسنه الألباني. (6) عبدالله الهرري الحبشي ((بغية الطالب)) (ص: 269) و ((صريح البيان)) (ص: 342). (7) رواه ابن ماجه (4002) وصححه الألباني (8) رواه مسلم (444) (9) عبدالله الهرري الحبشي ((بغية الطالب)) (ص: 137). (10) لقاء مع نزار الحلبي في جريدة المسلمون العدد 407. (11) رواه مسلم (2128) (12) عبدالله الهرري الحبشي ((بغية الطالب)) (ص: 243). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 204 المبحث الثامن: إبطال دعواهم أنهم على منهج الشافعي وقد زعم أحد الأحباش أنهم على مذهب الشافعي عقيدة وفقهاً (عن مجلة الشراع العدد 558). قلت: أما هذه فلا! فمتى كان الشافعي يبيح الربا وقد خالف شيخكم صريح مذهبه في ذلك وأخذ بمذهب أبي حنيفة في جواز أخذ الربا من الكافر الحربي. ومتى كان مذهب الشافعي الطعن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومتى كان مذهب الشافعي إعمال الحِيَل على الله؟ كما فعل شيخكم في مسألة (الكحول). ومسألة أكل الثوم والبصل لمن رغب عن دخول المسجد. ومسألة شراء الكتب الفاسدة المخالفة! وهل كان مذهب الشافعي تأويل الصفات وانتهاج علم الكلام وهو القائل للربيع "لا تشتغل بالكلام فإني اطلعتُ من أهل الكلام على التعطيل" (سير أعلام النبلاء 10/ 28) وقال "حكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويُنادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام" (سير أعلام النبلاء 10/ 29 صون المنطق 65 الحلية 9/ 116 مناقب الشافعي 1/ 462). وتواتر عنه ذمه لأهل الجدل والكلام مهما حاول الحبشي تأويله والتماس الأعذار له؟ وصدق أبو حنيفة حين حكم على المتكلمين أنهم: "قاسية قلوبهم غليظة أفئدتهم لا يبالون مخالفة الكتاب والسنة، وليس عندهم ورع ولا تقوى" (سير أعلام النبلاء 6/ 399 مفتاح دار السعادة 2/ 136). ومتى كان الشافعي يوافق أناشيدكم ورقصاتكم المصحوبة بالآلات الموسيقية التي يصفق لها النساء قبل الرجال، قد أضحكتم علينا أعداء المسلمين حين رأوكم حتى قالوا إن دين هؤلاء طبلٌ ورقص، ورأوا قائدكم الموسيقي (المايسترو الإسلامي) النجم الفنان جمال شماعة! على غرار الفِرَق الموسيقية الغربية!! قد أضحكتم الناس عليكم بهذه الظاهرة الغريبة الشاذة!. ومتى كان الشافعي يوافق هذه الطرق الصوفية كالرفاعية والنقشبندية الخائضة في وحدة الوجود، التي جعلت من مشايخ الطريقة آلهة يُعبَدون! يحيون الموتى وينقلون المرض من شخص لآخر ويستقطعون الأراضي في الجنة، ولذا قال الشافعي "لو أن رجلاً تصوف أول النهار، لا يأتي الظهر حتى يصير أحمق، وما لزم أحد الصوفية أربعين يوماً فعاد إليه عقله أبداً" (تلبيس إبليس لابن الجوزي 371) وهذه الحماقة المخالفة لما كان عليه السلف من أعظم مظاهر التشويه في أعينُ غير المسلمين. المصدر: الحبشي شذوذه وأخطاؤه لعبد الرحمن دمشقية – ص 95 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 205 المبحث التاسع: ذكر بعض مخالفاتهم 1 - أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين نماذج من تكريم الكفار ونذكر مجموعة من الاحتفالات التي أقامتها هذه الجمعية باعتراف مجلتهم: - أقامت جمعية المشاريع (منار الهدى (!) عدد 4 السنة 1993 ص 37 - 38) حفلة في قصر فرساي حضره أغوب جوخارديان ووزير الثقافة ميشال إده الذي ألقى كلمة قال فيها "إن بث الخير بين الناس والعمل بتقوى الله، وأداء الواجب وتجنب المحرمات هي قيم ترسخها جمعية المشاريع" وأضاف إده "دور جمعية المشاريع ليس في بناء الإنسان فحسب، بل في إبراز الدور الطليعي للثقافة العربية ماضياً وحاضراً ومستقبلاً". وقال ميشال اده "والله أنا أعرف جمعية المشاريع جيداً وأتابعكم منذ زمان ورغم أن هناك جمعيات كثيرة لكن أنتم نشيطون جداً وأنا أسمع عن سماحة الشيخ نزار حلبي وهو رجل محترم جداً والله يوفقه" (منار الهدى (!) عدد 5 ص33). وقال خاتشيك بابيكيان "إذا كانت الجمعية حققت ما حققت فيكون الفضل دائماً للرئيس، فهنيئاً للشيخ نزار حلبي بما عمل وما يبذل في سبيل لبنان وشعبه" (منار الهدى (!) عدد 5 ص33). وقال النائب بيار حلو "إن الدور الذي تضطلع به جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية هو دور أساسي" (منار الهدى (!) عدد 5 ص33). وأنا أسأل ما هو الدور الأساسي الذي تضطلع به هذه الجمعية في نظر نصراني لا يمت إلى الإسلام بصلة! وما سبب إعجابه بهذا النشاط؟! لا شك أن الأحباش لن تجمعهم بالنصارى وحدة الدين وإنما تجمعهم راية العروبة ولبنان العربي وهو ما يريد العلمانيون به أن يكون بديلاً عن الإسلام. لأن النصارى والمسلمين لن يجتمعوا ولن يلتقوا على شعار الدين وإنما سيتفرقون بسببه. فلا حل إلا بشعارات العروبة العلمانية. وشعار (وحدة المصير العربي) ولذا فلا وصف أصدق في جمعية المشاريع إلا هذا الوصف (جمعية أنصار العلمانية). - وفي سنة 1994م أقامت الجمعية احتفالاً مماثلاً (منار الهدى (!) عدد 17 ص 41) دُعي فيه عدد من الشخصيات السياسية النصرانية برعاية ميشال إده وزير الثقافة اللبناني وألقى كلمة في الحفل قال فيها "تطيب لي مشاركتكم في هذا الاحتفال الذي تقيمه جمعية المشاريع الإسلامية. . . وأتمنى لها المزيد من التقدم على طريق تعزيز الحوار والتفاعل مع كل شبابنا اللبناني". - وقام مندوب جمعية المشاريع في البقاع أسامة السيد بزيارة إلى إيلي فرزلي نائب مجلس النواب بهدف تمتين الجبهة الداخلية وتوحيد الجهود (منار الهدى (!) عدد 13 ص 56). ولعلك تسأل ما هي الجبهة الداخلية التي يجتمع لتمتينها مع سياسي نصراني؟ وكذلك زار الطرابلسي والحلبي نبيه بري للهدف نفسه (مجلة منار الهدى (!) عدد (10) ص6). - وفي مقابلة مع نائب الأحباش عدنان الطرابلسي اعترف بأن الأحباش قد أعطوا أصواتهم للمسيحيين أثناء انتخابات لبنان كما أن المسيحيين بادلوهم هذه المودة فأعطوا 16000 صوتاً من أصواتهم لطه ناجي مرشح الأحباش في الشمال لكنه فشل في الانتخابات (مجلة الأفكار عدد 531 صفحة 13). - وبمناسبة افتتاح مدرسة الثقافة الحبشية استضافت الجمعية: جان عبيد، سليم حبيب اسطفان الدويهي نائلة معوض (زوجة رينيه معوض) وغيرهم من النصارى (منار الهدى (!) عدد 6 ص 58) ليباركوا لها عملها (الإسلامي)!. - وفي 15 حزيران 1993 أقامت جمعية المشاريع حفلة في فندق كارلتون بمناسبة مرور 132 سنة على تأسيس الشرطة برعاية وزير الداخلية بشارة مرهج (نصراني) حضرها كثير من شخصيات النصارى منهم: يوسف المعلوف نسيب لحود هاغوب جوخدريان حبيب حكيم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 206 - وفي مناسبة افتتاح معرض جمعية المشاريع للأشغال (منار الهدى (!) عدد 6 ص 59) كانت زوجة نبيه بري (رئيس مجلس النواب – شيعي) راعية المعرض التي أشادت بجهود جمعية المشاريع. واستضيفت نساء وزوجات شخصيات نصرانية منهن: عقيلات كل من جان عبيد فايز غصن نائلة معوض. - كما افتتحت جمعية المشاريع معرضاً آخر، وكان هذه المرة برعاية عقيلة وزير الثقافة ميشال سماحة (السيدة) غلاديميس سماحة. وكان حفلاً كبيراً قالت فيه "إني أرى بعيني ما سمعته عن أعمالكم المزدهرة في خدمة متمعنا ووطننا، أطلب من الله أن يشد أزركم ويكثر من أمثالكم في لبناننا الحبيب (منار الهدى (!) عدد 16 ص 37 وأدعو القراء إلى البحث عن هذا العدد والاطلاع على ما فيه من تزلف أهل الكفر والتودد إليهم). - وبمناسبة مرور خمسين عاماً على عيد الاستقلال أقامت الجمعية حفلاً برعاية سليمان فرنجية وزوجته ماريان فرنجية وتخلل الحفل النائب اسطفان الدويهي ومجموعة من الشخصيات النصرانية (منار الهدى (!) عدد 15 ص 35). - وحتى الإفطارات الرمضانية يستضيفون فيها النصارى وقساوستهم وكأن النصارى يصومون رمضان ففي منتجع الناعورة أقامت جمعيتهم حفل إفطار حضره المطران بندلي والمقدم سركيس تادروس ونائلة معوض. وتخلل هذا الحفل (كالعادة) تعريض وطعن بالجماعات الأخرى التي يسميها الأحباش (إرهابية متطرفة). - وفي 12 آذار 1993 أقامت الجمعية حفل إفطار أخر حضره النواب: إيلي فرزلي، نقولا فتوش جورج قصرحي جوزيف سمعان روبير غانم خليل الهراوي إيلي سكاف (منار الهدى (!) عدد 7 ص 67). وبالطبع لم يكونوا صائمين. - وفي أقليم الخروب أقاموا حفلاً بمناسبة المولد استضافوا فيه المطران حلو والنائب أنطوان كسرجيان (منار الهدى (!) عدد 12 ص 35 - 39). - وتعرض سمير القاضي لحادث إطلاق النار فسارع المطران إلياس نجمة وجان عبيد وسليمان فرنجية ونائلة معوض وإيلي فرزلي وخليل هراوي لزيارته والاطمئنان على صحته (منار الهدى (!) عدد 2 ص59 ويلاحظ تواجد أصحاب هذه الأسماء الدائم النصرانية عند الأحباش لكل مناسبة). - وقام نائب الأحباش مع وفد من جمعية المشاريع بزيارة وليد جنبلاط، وأبدى هذا الأخير تقديره لنشاطات جمعية المشاريع، وأثنى على جهودها ثم تبرع تبرعاً عينياً بمبلغ 35000 ألف دولار لإقامة مدرسة تابعة للأحباش (منار الهدى (!) عدد 16 ص8). - وأرسلت جمعية المشاريع وفداً تابعاً لها في مدينة أستراليا إلى المطار لاستقبال رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري (شيعي) ثم أعدت له حفلاً تكريمياً كبيراً في مركزها في مدينة سيدني غير أنه اعتذر عن حضور الحفل الذي أقاموه تكريماً له (منار الهدى (!) عدد 13 ص 58 - 59). - وأحيل إلى بعض مواقفهم المخزية في مجلتهم. العدد (1) 31، 32، 33، 34. العدد (2) 16، 32، 33، 34، 65، 66. العدد (9) 7، 14، 20، 21 45، 46. العدد (11) 6. العدد (13) 11، 56. العدد (14) 6، 12، 14، 15، 35، 36، 37، 38، 39، 48. العدد (16) 31، 36، 37، 38، 39، 40، 41، 42، 43، 44، 45. العدد (17) 16، 17، 58. العدد (18) 6، 20 – 25، 36 – 42، 50 – 52، 63. المصدر: الحبشي شذوذه وأخطاؤه لعبد الرحمن دمشقية – ص 49 فتنة اليوم دليل على فتنة كُلُب الأمس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 207 فهذا الود والتقارب وهذا التنسيق الغير عادي بين جمعية إسلامية التوجه وبين النصارى وغيرهم من الملل إلى درجة تبادل الأصوات بينهم مع عدم تسامح هذه الجمعية أو تنازلها أو تقاربها مع كثير من المسلمين لأعظم دليل على صدق ما تحدثنا عنه حول "فتنة كُلُب" هذا الماضي الخياني لشيخهم الذي كان يتآمر مع الكفار ضد الجمعيات الإسلامية. هذا الماضي الخياني العريق الذي عرف أعداء المسلمين كيف يستغلونه غاية الاستغلال. لا مجال للتنصل من فتنة بالأمس نراها تتكرر اليوم. المصدر: الحبشي شذوذه وأخطاؤه لعبد الرحمن دمشقية – ص 48 2 - دعاة إلى الإسلام أم إلى العروبة!!! وإننا في الوقت الذين نعلم فيه سلبية هذه الفرقة الجديدة على المسيرة الإسلامية (السنية) في لبنان يلاحظ المراقب لهم أنهم في تصريحاتهم ومقابلاتهم يركزون على مادة "العروبة" والأمة العربية ولبنان العربي. قال عدنان الطرابلسي النائب عن الأحباش في البرلمان (مجلة الشراع 7/ 9/1992) "لا مانع من أن يكون هناك صلح مع إسرائيل ولكن المطلوب أن يكون لنا "كشعب عربي" حقوق نطالب فيها ضمن "الإجماع العربي" وأنا بدون تحفظ مع هذا الإجماع، وأنا مع الكتلة العربية كاملة: يهمنا المصلحة العربية العامة الشاملة" (مجلة الأفكار 62/ 9/1992). وقال حسام قراقير نائب رئيس جمعية المشاريع في مقابلة أجرتها معه جريدة السفير (19/ 10/1992) "نحن مع الإجماع العربي" فإذا ما حصل "إجماع عربي" على إنهاء الحرب مع اليهود فنحن مع هذا الإجماع". وقال نزار الحلبي "وصل مرشحنا الدكتور عدنان طرابلسي بالرعاية والعناية الإلهية ليرفع في البرلمان مع الأخوة الوطنيين الطيبين هوية لبنان العربي". فماذا وراء الدعوة إلى العروبة ومن وراءها؟ ولماذا تكلف جمعية إسلامية نفسها حمل هذه الشعارات وتمثيل أبنائها في البرلمان؟ ومن هم الإخوة الوطنيون الشرفاء من أبناء الوطن؟! - إننا لسنا ضد العروبة فنحن عرب وكتاب ربنا نزل باللغة العربية ونبيا صلى الله عليه وسلم عربي، غير أننا نرفض هذه الشعارات الاستهلاكية الكاذبة يرفعها حتى النصارى وغيرهم من غير المسلمين والتي ما أغنت عنا شيئاً، وإنما رُفِعَت لتكون بديلاً عن الهوية الإسلامية وشعار الإسلام. والتي يروج له ويدندن حولها أناس زعموا أن منطلقاتهم إسلامية. - فالشعب العربي مئة مليون بينهم 15 مليون نصراني، أما الأمة الإسلامية فإنها تقارب المليارين، يشكل العرب نسبة 5% منهم فقط. إنها شعارات كاذبة أشغلت المغفلين عن الاهتمام برفع شعار لا إله إلا الله. إنها حق يراد به باطل. إنهم يريدون من المسلم أن يفتخر بأي شيء، أن يتبنى أي شعار: إلا شعار الإسلام. - إنه شعار طُرح ليكون بديلاً عن شعار الإسلام. إنه شعار يجرح إخواننا المسلمين من غير العرب الذين يربطنا بهم رباط الأخوة في الدين قبل كل شيء. - ثم لماذا هذا الحرص على ترداد شعارات الصلح مع اليهود؟ لماذا لا يحرصون على رفع شعار الحرص مع الحركات الإسلامية التي يسمونها "أصوليين"؟! أليسوا أولى بالصلح ولين الجانب من "الأصوليين" اليهود الذين شيدوا بناء دولتهم على مبادئ التوراة والتلمود، والتي عزلوا عنها العلمانيين، وهاهم اليوم يسعون لطرد وزيرة في الحكومة لاكتشافهم توجهاتها العلمانية. أيليق بنا بعد هذا الموقف اليهودي من العلمانية أن ندافع نحن عنهم؟! - إن وراء هذه الفرقة جهات تمدها بالدعم وتدفعها نحو عالم السياسة لما رأت فيها من تيار يعادي المسلمين باسم الإسلام ويتربص بالدعاة ويتعرض لهم بالأذى بدعوى محاربة الأصولية ويعلن الاستعداد للصلح مع اليهود. وما زالوا يتهيؤون للقيام بدور ما أعظم مما فعلوه حتى الآن. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 208 المصدر: الحبشي شذوذه وأخطاؤه لعبد الرحمن دمشقية – ص 55 3 - ضرورة تأدب الحبشي وأتباعه مع الله وطريقته في النهي عن إساءة الأدب مع الله لا تخلو من إساءة للأدب. فإنك لو قلت للسلطان: لست بزبّال ولا سبّاك ولا إسكافي لبادر إلى تأديبك على هذا التنقيص. وليس أدلّ على هذا التنقيص مما نراه في كلامه من الألفاظ الشنيعة في حق الله، فقد أخذ يحذر الناس من الألفاظ السيئة في حق الله لكنه أخذ يفصل ما ليس من الأدب تفصيله كقوله "ومن قال أخت ربك" "خلصني من ربك" "حل عني أنت وربك" "وحياة شوارب الله" يا.؟. الله" "دخيل رجلين ربك" "أكون قواداً إن صليت" (النهج السليم 57 الدليل القويم 145 بغية الطالب 41) إن أكثر الناس فسقاً لا يخفى عليهم أن هذه الألفاظ من ألفاظ الكفر. ولكن أهل الكلام لفساد منهجهم: لا يعون دور الفطرة ويفصلون ما لا وجه لتفصيله لأنه مركوز في الفطرة. إنهم يضعون أمامك مقدمات طويلة ليثبتوا لك في النهاية أن الله قديم وما سواه حادث وأنه موجود وهو أمر تعرفه الفطرة بالضرورة. المصدر: الحبشي شذوذه وأخطاؤه لعبد الرحمن دمشقية – ص 100 4 - التوسل بدعاء المومسات ومن المضحكات ما حكاه هذا "الواعظ" قال "وكان الشيخ بدر الدين الحسني يذهب إلى سوق الزانيات ويسألهن الدعاء له. وكان يرسل إليهن رجلاً يبعث معه مبالغ من المال ليعطيها إليهن، فأتى رئيسة بنات الخطأ وأمرها أن تجمع له كل الزانيات بعد أن يغتسلن جميعهن. وبعد اجتماعهن سأل المومسات الدعاء للشيخ بظهر الغيب، فدعون له وصرن يبكين ثم أعلنت جميعهن توبتهن (شريط 11 وجه (أ) 285 - 300). 5 - فوضى التكفير المتهورالتكفير حق لله لا يجوز لأحد إخراج أحد من دين الله إلا ببيِّنة ودليل يعذر بها يوم القيامة عند الله. فإن المسلم قد يخرُج من الدين بإخراجه من الدين من ليس خارجاً عند الله لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما)) وفي رواية ((أيما امرئ قال لأخيه يا كافر: فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال: وإلا رجعَتْ عليه)) (1) فلا يجوز خروج هذه الكلمة (كَفَرَ) من فم امرئ يتقي الله ويحتاط لدينه إلا بعد حذرٍ شديد. ولو يعلم هذا المسكين ما على تكفيره اللامسؤول من التبعة عند الله وأن تكفير من لا يستحق التكفير يعتبر مكافأة له حين يأخذ من خصمه (المكفِّر) حسناته. وأنها قد تتسبب في خروجه هو من الإيمان. لتمنى لو سكت طيلة حياته. وليس خلق الله وصايا على دينه حتى يُخرجوا منه من يشاؤون، ثم يسكتون ويتغاضون عمن يشاؤون ممن يستحقه. ولا يبدو أن عند الحبشي ولا عند أتباعه مراعاة ضوابط التكفير ولا وجود مسامحة في التعامل مع المخالف، بل يلاحظ فيه جانب الفظاظة والقسوة والشدة وهذا حاصل وثمرة علم الكلام وأهله كما وصفهم أبو حنيفة بأنهم قساة قلوب: ليس عندهم ورعٌ ولا تقوى. ومن شاء الوقوف على سلوكيات هذا الرجل فليستمع ولو إلى شريط واحد من أشرطته ليرى فيها الطعن واللعن بالعلماء المخالفين له في المذهب. وإليكم مثالاً على تهوره في التكفير: فقد حكم بانسلاخ أحد مخالفيه من الدين (خالد كنعان) فقال له "ولعلك منذ أربعين سنة انحرف قلبك أم منذ كم؟ فعارٌ عليك أن تدّعي الإسلام بعد هذا الكفر الذي كفرته، ثم لما جاءك المسخ القلبي انسلخت منه كما انسلخت عن حكم تكفير سابّ النبي؟ وهذا تسجيلٌ آخر على نفسك بأنك منسلخ عن السلف والخلف" (صريح البيان 23 و29). المصدر: الحبشي شذوذه وأخطاؤه لعبد الرحمن دمشقية – ص 117   (1) رواه البخاري (6104) ومسلم (60). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 209 المبحث العاشر: المؤسسات والأنشطة للأحباش عدد كبير من المؤسسات والأنشطة وذلك لبث أفكارهم وانحرافاتهم الخطيرة. 1ـ الجمعية: للأحباش جمعية خاصة بهم تسمى (جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية) تأسست عام 1983م (1). ومركزها بيروت ولها فروع في كافة المحافظات اللبنانية وكذلك لها فروع في عدد من دول العالم كالأردن وأستراليا والسويد وفرنسا وأمريكا وبريطانيا وبلجيكا وألمانيا وروسيا وتايوان وغيرها ويبلغ عدد هذه الفروع ثلاثة وثلاثون فرعا وهي جمعية مشبوهة هدفها التعليم الديني وبناء المساجد والمدارس ومساعدة الفقراء والأيتام وغير ذلك من أعمال البر. 2ـ المدارس: قام الأحباش ببناء مدارس خاصة بهم لجميع المراحل الدراسية وهم يقيمون في هذه المدارس دورات صيفية دينية بالإضافة إلى التعليم الشتوي وذلك لكي ينشروا عقيدتهم بين أبناء المسلمين ويوجد في هذه المدارس مئات الطلاب والطالبات في شتى المراحل ومن أمثله هذه المدارس (مدارس الثقافة) في كل من بيروت وطرابلس وبعلبك. 3ـ الإعلام: للأحباش إذاعة محلية خاصة بهم تبث من بيروت وينشر من خلالها غثاؤهم وإباحيتهم ولهم أيضا مجلة شهرية باسم (منار الهدى) تقوم بنشر مذهبهم والطعن في أئمة المسلمين وعلمائهم كما تقوم بعض المجلات والجرائد المحلية والدولية بلقاءات ومقابلات وتحقيقات مطولة مع أقطابهم الهدف منها الدعاية لهم والترويج لهم والثناء عليهم كما فعلت جرائد السفير والنهار والأنوار والمسيرة اللبنانية وكذلك مجلة الوطن العربي ومجلة الأسبوع العربي وغيرها من المجلات والجرائد. أيضا للأحباش نشاط كبير في التلفزيون اللبناني وغيره من القنوات الخاصة بلبنان حيث تعرض اللقاءات والدروس ويعمل الأحباش الآن على تشغيل محطة تلفزيونية خاصة بهم. وللكتب والأشرطة والنشرات نشاط بارز في ترويج مبادئ هذا المذهب الضال ونشر معتقداتهم وذلك من خلال مؤسستهم المسماة (مركز الأبحاث والخدمات الثقافية) في بيروت كما تصدر جمعيتهم تقويما خاصا بهم يحوي كثيرا من السموم المختلفة في العقيدة والسلوك والفقه وغيرها. 4ـ الغناء والطرب والأندية: لدى الأحباش عشرون فرقة للغناء والأناشيد الدينية – كما يزعمون – في لبنان وتقوم أناشيدهم الدينية على ترسيخ عقائدهم المنحرفة مثل نفي العلو لله تعالى حيث ينشدون (الله ليس في السماء، وليس له مكان) وكذلك تبث هذه الأناشيد الشرك بالله حيث يحرصون على نشر أشعار المتصوفة كالبوصيري وابن الفارض وغيرهما. ويهتم الأحباش كثيرا بالأندية الرياضية المختلفة من كرة قدم وسلة وكاراتيه وغير ذلك لجذب الشباب والشابات والتودد إليهم وتعليمهم عقيدتهم الفاسدة بل وتحذيرهم من أهل التوحيد وأشهر أنديتهم (نادي الفوز الرياضي) بطرابلس وكذلك (مجمع ناجي الرياضي) بطرابلس أيضا وهي أندية مختلطة للرجال والنساء ويركز الأحباش على النساء خاصة وهذا دأب أعداء الإسلام دائما لأن تأثير المرأة عظيم جدا في المجتمع فإذا فسدت ربت الأجيال على الفساد وإذا صلحت تخرج على يدها الأخيار والصالحين والأبطال. المصدر: الأحباش لعبد الرحمن بن عبد الله – ص 38   (1) مجلة (المجلة) العدد 9/ 679 في 10 – 16/ 2/ 1993م. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 210 المبحث الحادي عشر: الانتشار ومواقع النفوذ ينتشر الأحباش في لبنان بصورة تثير الريبة، حيث انتشرت مدارسهم الضخمة وصارت حافلاتهم تملأ المدن وأبنية مدارسهم تفوق سعة المدارس الحكومية، علاوة على الرواتب المغرية لمن ينضم إليهم ويعمل معهم وأصبح لهم إذاعة في لبنان تبث أفكارهم وتدعو إلى مذهبهم، كما ينتشر أتباع الحبشي في أوروبا وأمريكا وقد أثاروا القلاقل في كندا وأستراليا والسويد والدنمارك. كما أثاروا الفتن في لبنان بسبب فتوى شيخهم بتحويل اتجاه القبلة إلى جهة الشمال. وقد بدأ انتشار أتباع هذا المذهب الضال في مناطق عدة من العالم حيثما وجد لبنانيون في البداية، ثم بعض المضللين ممن يعجب بدعوة الحبشي. المصدر: الموسوعة الميسرة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 211 المبحث الثاني عشر: حكم فرقة الأحباش والانتماء إليها وفتاوى أهل العلم فيها وموقفهم منها 1 - فتوى اللجنة الدائمة في التحذير من فرقة الأحباش الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أما بعد فقد ورد إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء أسئلة واستفسارات حول (جماعة الأحباش) والشخص الذي تنتمي إليه، المدعو عبد الله الحبشي، القاطنة في لبنان، ولها جمعيات نشطة في بعض دول أوروبا وأمريكا وأستراليا، فاستعرضت اللجنة لذلك ما نشرته هذه الجماعة من كتب ومقالات، توضح فيها اعتقادها وأفكارها ودعوتها، وبعد الاطلاع والتأمل فإن اللجنة تبين لعموم المسلمين ما يلي: أولاً: ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) (1) وله ألفاظ أخر، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)) (2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وإن من أهم الخصال التي امتازت بها تلك القرون المفضلة، وحازت بها الخيرية على جميع الناس: تحكيم الكتاب والسنة في جميع الأمور، وتقديمها على قول كل أحد كائناً من كان، وفهم جميع الأمور، وتقديمها على قول كل أحد كائناً من كان، وفهم نصوص الوحيين الشريفين حسب القواعد الشرعية واللغة العربية، وأخذ الشريعة كلها بعمومها وكلياتها، وآحادها وجزئياتها، ورد النصوص المتشابهات إلى النصوص المحكمات، ولهذا استقاموا على الشريعة وعملوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، ولم يزيدوا فيها ولم ينقصوا، وكيف يحدث منهم زيادة أو نقص في الدين وهم مستمسكون بالنص المعصوم من الخطأ والزلل؟ ثانياً: ثم خلفت من بعدهم خلوف كثرت فيهم البدع والمحدثات، وأعجب كل ذي رأي برأيه، وهجرت النصوص الشرعية، وأولت وحرفت لتوافق الأهواء والمشارب، فشاقّوا بذلك الرسول الأمين، واتبعوا غير سبيل المؤمنين، والله سبحانه يقول: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء: 115]، ومن فضل الله عز وجل على هذه الأمة أنه يقيض لها في كل عصر من العلماء الراسخين في العلم من يقوم في وجه كل بدعة تشوه جمال الدين، وتعكر صفوه، وتزاحم السنة أو تقضي عليها، وهذا تحقيق لوعد الله بحفظ دينه وشرعه في قوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها: ((لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله عز وجل، لا يضرها من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس)) (3)، وله ألفاظ أخرى.   (1) رواه البخاري (2652) ومسلم (2533) من حديث عبدالله بن مسعود (2) رواه أبو داود (4607) وابن ماجه (42) والدارمي (95) أما الترمذي فرواه بدون الجملة الأخيرة، ولفظ أحمد مختلف، والحديث سكت عنه أبو داود، وقال البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 181) حسن، وصححه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/ 582) وابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 136) والألباني في ((الصحيحة)) (2735) (3) رواه مسلم (1037) وغيره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 212 ثالثاً: ظهرت في الربع الأخير من القرن الرابع عشر الهجري جماعة يتزعمها عبد الله الحبشي الذي نزح من الحبشة إلى الشام بضلالته، وتنقل بين دياره حتى استقر به المقام في لبنان، وأخذ يدعو الناس على طريقته، ويكثِّر أتباعه وينشر أفكاره التي هي أخلاط من اعتقادات الجهمية والمعتزلة والقبورية والصوفية، ويتعصب لها ويناظر من أجلها، ويطبع الكتب والصحف الداعية إليها. والناظر فيما كتبته ونشرته هذه الطائفة يتبين لهم بجلاء أنهم خارجون في اعتقادهم عن جماعة المسلمين (أهل السنة والجماعة) فمن اعتقاداتهم الباطلة على سبيل المثال لا الحصر: 1 - أنهم في مسألة الإيمان على مذهب أهل الإرجاء المذموم. ومعلوم أن عقيدة المسلمين التي كان عليها الصحابة والتابعون ومن سار على هديهم إلى يومنا هذا أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، فلا بد أن يكون مع التصديق موافقة وانقياد وخضوع للشرع المطهر، وإلا فلا صحة لذلك الإيمان المُدَّعى. وقد تكاثرت النقول عن السلف الصالح في تقرير هذه العقيدة، ومن ذلك قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: " وكان الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، ولا يجزئ واحد من الثلاث إلا بالآخر ". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 213 2 - ويجوزون الاستغاثة والاستعاذة والاستعانة بالأموات ودعائهم من دون الله تعالى، وهذا شرك أكبر بنص القرآن والسنة وإجماع المسلمين، وهذا الشرك هو دين المشركين الأولين من كفار قريش وغيرهم، كما قال الله سبحانه عنهم: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ [يونس: 18]، وقال جل وعلا: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر: 2 - 3]، وقال سبحانه: قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام: 64]، وقال جل وعلا: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18]، وقال سبحانه: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 13 - 14]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء هو العبادة)) (1) أخرجه أهل السنن بإسناد صحيح، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل على أن المشركين الأولين يعلمون أن الله هو الخالق الرازق النافع الضار، وإنما عبدوا آلهتهم ليشفعوا لهم عند الله، ويقربوهم لديه زلفى؛ فكفَّرهم سبحانه بذلك، وحكم بكفرهم وشركهم، وأمر نبيه بقتالهم حتى تكون العبادة لله وحده، كما قال سبحانه: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه [الأنفال: 39]، وقد صنف العلماء في ذلك كتباً كثيرة، وأوضحوا فيها حقيقة الإسلام الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، وبينوا فيها دين أهل الجاهلية وعقائدهم وأعمالهم المخالفة لشرع الله، ومن أحسن من كتب في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، في كتبه الكثيرة، ومن أخصرها كتابه: (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة). 3 - أن القرآن عندهم ليس كلام الله حقيقة.   (1) رواه أبو داود (1479) والترمذي (2969) وابن ماجه (3828) والحديث سكت عنه أبو داود وقال الترمذي حسن صحيح، وقال النووي في ((الأذكار)) (478) إسناده صحيح، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (1/ 64) إسناده جيد، وصححه الألباني. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 214 ومعلوم بنص القرآن والسنة وإجماع المسلمين، أن الله تعالى يتكلم متى شاء، على الوجه اللائق بجلاله سبحانه، وأن القرآن الكريم كلام الله تعالى حقيقة، حروفه ومعانيه، كما قال الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ [التوبة: 6]، وقال سبحانه: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164]، وقال جل وعلا: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ [الأنعام: 115]، وقال سبحانه: وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 75]، وقال جل وعلا: يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ [الفتح: 15]، والآيات في هذا المعنى كثيرة معلومة. وتواتر عن السلف الصالح إثبات هذه العقيدة، كما نطقت بذلك نصوص القرآن والسنة ولله الحمد والمنة. 4 - يرون وجوب تأويل النصوص الواردة في القرآن والسنة، في صفات الله جل وعلا، وهذا خلاف ما أجمع عليه المسلمون، من لدن الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم، إلى يومنا هذا، فإنهم يعتقدون بوجوب الإيمان بما دلت عليه نصوص أسماء الله وصفاته من المعاني من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسمائه وآياته، ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه؛ لأنه لا سمي له، ولا كفؤ له، ولا ند له، قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: " آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله "، وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: " نؤمن بها ونصدق، ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه ". 5 - ومن عقائدهم الباطلة: نفي علو الله سبحانه على خلقه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 215 وعقيدة المسلمين التي دلت عليها آيات القرآن القطعية، والأحاديث النبوية، والفطرة السوية، والعقول الصريحة: أن الله جل جلاله، عالٍ على خلقه، مستوٍ على عرشه، لا يخفى عليه شيء من أمور عباده. قال الله تعالى: أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54]، في سبعة مواضع في كتابه، وقال جل شأنه: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ [فاطر: 10]، وقال جل وعلا: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [الشورى: 4]، وقال جل وعز: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1]، وقال جل جلاله: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل: 49 - 50]، وغيرها من الآيات الكريمات. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحاح الشيء الكثير، ومنها: قصة المعراج المتواترة، وتجاوز النبي صلى الله عليه وسلم السماوات سماءً سماءً، حتى انتهى إلى ربه تعالى، فقربه أو ناداه، وفرض عليه الصلوات خمسين صلاة، فلم يزل يتردد بين موسى عليه السلام وبين ربه تبارك وتعالى، ينزل من عند ربه إلى عند موسى، فيسأله كم فرض عليه، فيخبره فيقول: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فيصعد إلى ربه فيسأله التخفيف. ومنها ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي)) (1)، وثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء)) (2)، وفي صحيح ابن خزيمة وسنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((العرش فوق الماء، والله فوق العرش، والله يعلم ما أنتم عليه)) (3)، وفي صحيح مسلم وغيره في قصة الجارية، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ((أين الله؟ " قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة)) (4). وعلى هذه العقيدة النقية درج المسلمون: الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان إلى يومنا هذا والحمد لله. ولعظم هذه المسألة وكثرة دلائلها التي تزيد على ألف دليل أفردها أهل العلم بالتصنيف، كالحافظ أبي عبد الله الذهبي في كتابه: (العلو للعلي الغفار)، والحافظ ابن القيم في كتابه: (اجتماع الجيوش الإسلامية).   (1) رواه البخاري (7422) بلفظ قضى، وله بلفظ آخر (قبل أن يخلق الخلق) ورواه مسلم (2751) بلفظ (تغلب) وبهذا اللفظ رواه أحمد (2/ 259) (7520) (2) رواه البخاري (4351) ومسلم (1064) (3) ليس هم عندهما، بل ورد هذا موقوفا من كلام ابن مسعود، كما رواه أبو الشيخ في ((العظمة)) (2/ 689) واللالكائي في ((الاعتقاد)) (3/ 396) وصححه الألباني في ((مختصر العلو)) (75) (4) رواه مسلم (537) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 216 6 - إنهم يتكلمون في بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يليق. ومن ذلك تصريحهم بتفسيق معاوية رضي الله عنه، وهم بذلك يشابهون الرافضة - قبحهم الله - والواجب على المسلمين الإمساك عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وحفظ ألسنتهم مع اعتقاد فضلهم، ومزية صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) (1) رواه البخاري ومسلم. ويقول جل وعلا: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر: 10]، وهذا الاعتقاد السليم نحو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هو اعتقاد أهل السنة والجماعة على مر القرون، قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة: (ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان). رابعاً: ومما يؤخذ على هذه الجماعة ظاهرة الشذوذ في فتاويها، ومصادمتها للنصوص الشرعية من قرآن وسنة، ومن أمثلة ذلك: إباحتهم للقمار مع الكفار لسلب أموالهم، وتجويزهم سرقة زروعهم، وحيواناتهم، بشرط أن لا تؤدي السرقة إلى فتنة، وتجويزهم تعاطي الربا مع الكفار، وجواز تعامل المحتاج بأوراق اليانصيب المحرمة، ومن مخالفاتهم الصريحة أيضاً: تجويزهم النظر إلى المرأة الأجنبية في المرآة، أو على الشاشة ولو بشهوة، وأن استدامة النظر إلى المرأة الأجنبية ليس حراماً، وأن نظر الرجل إلى شيء من بدن المرأة التي لا تحل له ليس بحرام، وأن خروج المرأة متزينة متعطرة مع عدم قصدها استمالة الرجال إليها ليس بحرام، وإباحة الاختلاط بين الرجال والنساء، إلى غيرها من تلك الفتاوى الشاذة الخرقاء، التي فيها مناقضة للشريعة، وعدُّ ما هو من كبائر الذنوب من الأمور الجائزات المباحات. نسأل الله العافية من أسباب سخطه وعقوبته. خامساً: ومن أساليبهم الوقحة للتنفير من علماء الأمة الراسخين -والإقبال على كتبهم، والاعتماد على نقولهم - سبهم وتقليلهم والحط من أقدارهم، بل وتكفيرهم، وعلى رؤوس هؤلاء العلماء: الإمام المجدد شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله تعالى، حتى إن المدعو: عبد الله الحبشي ألف كتاباً خاصاً في هذا الإمام المصلح، نسبه فيه إلى الضلال والغواية، وقوّله ما لم يقله، وافترى عليه، فالله حسيبه، وعند الله تجتمع الخصوم.   (1) رواه البخاري (3673) ومسلم (2540) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 217 ومن ذلك أيضاً طعنهم في الإمام المجدد، الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، ودعوته الإصلاحية التي قام بها في قلب جزيرة العرب، فدعا الناس إلى توحيد الله تعالى ونبذ الإشراك به سبحانه، وإلى تعظيم نصوص القرآن والسنة والعمل بها، وإقامة السنن وإماتة البدع، فأحيا الله به ما اندرس من معالم الدين، وأمات به ما شاء من البدع والمحدثات، وانتشرت آثار هذه الدعوة - بفضل الله ومنته - في جميع أقطار العالم الإسلامي، وهدى الله بها كثيراً من الناس، فما كان من هذه الجماعة الضالة إلا أن صوبوا سهامهم نحو هذه الدعوة السنية ومن قام بها، فلفقوا الأكاذيب وروجوا الشبهات، وجحدوا ما فيها من الدعوة الصريحة إلى الكتاب والسنة، وفعلوا ذلك كله تنفيراً للناس من الحق، وقصداّ للصد عن سواء السبيل، عياذاً بالله من ذلك. ولا شك أن بغض هذه الجماعة لهؤلاء الصفوة المباركة من علماء الأمة دليل على ما تنطوي عليه قلوبهم من الغل والحقد على كل داع إلى توحيد الله تعالى، والمتمسك بما كان عليه أهل القرون المفضلة من الاعتقاد والعمل، وأنهم بمعزل عن حقيقة الإسلام وجوهره. سادساً: وبناء على ما سبق ذكره، وغيره مما لم يذكر؛ فإن اللجنة تقرر ما يلي: 1 - أن جماعة الأحباش فرقة ضالة، خارجة عن جماعة المسلمين (أهل السنة والجماعة)، وأن الواجب عليهم الرجوع إلى الحق الذي كان عليه الصحابة والتابعون في جميع أبواب الدين والعمل والاعتقاد، وذلك خير لهم وأبقى. 2 - لا يجوز الاعتماد على فتوى هذه الجماعة؛ لأنهم يستبيحون التدين بأقوال شاذة، بل ومخالفة لنصوص القرآن والسنة، ويعتمدون الأقوال البعيدة الفاسدة لبعض النصوص الشرعية، وكل ذلك يطرح الثقة بفتاويهم والاعتماد عليها من عموم المسلمين. 3 - عدم الثقة بكلامهم على الأحاديث النبوية، سواء من جهة الأسانيد أو من جهة المعاني. 4 - يجب على المسلمين في كل مكان الحذر والتحذير من هذه الجماعة الضالة، ومن الوقوع في حبائلها تحت أي اسم أو شعار، واحتساب النصح لأتباعه والمخدوعين بها، وبيان فساد أفكارهم وعقائدهم. واللجنة إذ تقرر ذلك وتبينه للناس تسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يجنب المسلمين الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يهدي ضال المسلمين، وأن يصلح أحوالهم، وأن يرد كيد الكائدين في نحورهم، وأن يكفي المسلمين شرورهم، والله على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عبد العزيز بن عبد الله بن باز , عبد العزيز آل الشيخ, بكر أبو زيد , صالح الفوزان, ,. المصدر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - 12/ 383. 2 - فتوى سماحة الشيخ ابن باز في الحبشي وإنني أذكر بأن سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز قد اطلع على أحوال الحبشي وفرقته ثم صدرت عنه فتوى رقم 2392/ 1 بتاريخ 30/ 10/1406هـ جاء فيها ما يلي: " إن طائفة الأحباش طائفة ضالة، ورئيسهم المدعو عبدالله الحبشي معروف بانحرافه وضلاله، فالواجب مقاطعتهم وإنكار عقيدتهم الباطلة وتحذير الناس منهم ومن الاستماع لهم أو قبول ما يقولون". المصدر: الحبشي شذوذه وأخطاؤه لعبد الرحمن دمشقية – ص 12 3 - رئيس جامعة الأزهر يتبرأ من الأحباش لطالما طار الأحباش بتلك المقابلة التي تمت بينهم وبين مدير الأزهر الدكتور أحمد عمر هاشم وكذبوا معها مائة كذبة. فزعموا أنه تم الاتفاق على تكليف الأحباش ببناء فرع لجامعة الأزهر في لبنان. وعلقوا هذه الأكاذيب على مواقعهم على الإنترنت وخدعوا بها الكثيرين، وذلك بهدف الخروج من العزلة التي تعاني منها هذه الفرقة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 218 ولكن أراد الله أن تكون هذه الخطوة من الأحباش سببا لخراب بيوتهم بأيديهم. ولتدفع بهم نحو مزيد من العزلة وازدراء الناس لها. جزاء وفاقا على سبهم للعلماء وتكفيرهم وتوليهم أعداء المسلمين. الأحباش يسبون الوهابية وينتسبون إلى المذهب الأشعري. وهم لن يستطيعوا أن يتهموا إدارة الأزهر بأنهم وهابيون، بل هم عندهم أشعريون. وهنا قاصمة الظهر للأحباش قد جاءتهم من الأزهر فلو أنهم لم يجروا المقابلة مع الدكتور هاشم لكان أستر لحالهم لكن أراد الله أن يفضحهم ويهتك سترهم. فلقد عرف الدكتور أحمد عمر هاشم حقيقتهم وأنهم فرقة تكفيرية حكمت بكفر كبار رموز علماء المسلمين وجعلت ذلك مبدأها وديدنها ليل نهار، بل ويشترطون على المنتمي إليهم سب وتكفير ابن تيمية وابن القيم وشتم الإمام الذهبي وجماعة من أهل العلم المتقدمين منهم والمتأخرين. وقد جاء في نص الرسالة التي أرسلها الدكتور أحمد عمر هاشم إلى مدير رابطة العالم الإسلامي ما يلي: بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فقد أخبرني بما نمى إليكم من وجود تعاون بين جامعة الأزهر وبين من يسمون بالأحباش في لبنان. وحيث أنني لم أزر لبنان إلا منذ عامين، وقد تعرضت أثناء هذه الزيارة لمحاولات التأثير من جانب بعض الجهات، عندما قُدِّمَتْ إليّ مذكرة كمشروع اتفاقية للتوقيع عليها، وبعد أن عرفت من سفير مصر في لبنان وبعض الجهات الأخرى عدم سلامة هذه الجمعية وعدم مصداقيتها وعدم سلامة تفكيرها قطعنا العلاقة بهم وألغينا كل ما طلبوه، ولم تعد بيننا وبينهم أية علاقة، وليس بين جامعة الأزهر وبينهم أي صورة من صور الاعتراف أو التعاون، وكل الأوراق التي تفيد غير ذلك لا أساس لها من الصحة. ولهذا يسرني أن أفيدكم بعدم صحة ما نسب إلينا أو إلى جامعة الأزهر. نحن نرفض كل محاولات استغلال اسم جامعة الأزهر العريقة من قبل الهيئات أو الجمعيات التي لا تلتزم التزاما كاملا وواضحا بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. وتقبلوا خالص تحياتي واحترامي؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ أخوكم الدكتور أحمد عمر هاشم - رئيس جامعة الأزهر كتب الدكتور أحمد عمر هاشم الخطاب يوم الثلاثاء بتاريخ: (9 جمادى الآخرة 1422 هـ الموافق 28 أغسطس 2001 م). وتم إرساله بالفاكس إلى مكتب مدير رابطة العالم الإسلامي يوم الإثنين بتاريخ: (15 جمادى الآخرة 1422 هـ الموافق 3 سبتمبر 2001 م). الساعة الواحدة وأربعون دقيقة بعد الظهر. هذا نص الرسالة بالحرف الواحد. والتي تصف الأحباش بعدم سلامة التفكير والمنهج وعدم الالتزام بالقرآن والسنة، والبراءة من أي علاقة أو تعاون بينها وبين الأزهر. فأبشروا أيها الأحباش بأعظم فضيحة لكم. وأسألك اللهم مزيدا من الفضائح التي تكشف هذا المسلك الجهمي المعروف بالخيانة والتبجح والضلال. المصدر: موقع منتدى مكافحة الأحباش – عبدالرحمن دمشقية الكتب التي صدرت للحبشي والتي ردت عليه صدرت للحبشي كتب عديدة منها: المقالات السنية في كشف ضلالات ابن تيمية. حكم فيه بكفره وزيغه وخبث عقيدته. وتعمد الكذب عليه وزعم أنه كان يسب علي بن أبي طالب وأنه كان يقول بأن نبينا صلى الله عليه وسلم ليس له جاه وأن زيارة قبره معصية. وأن نار جهنم تفنى وأن الله بنفس حجم عرشه لا أكبر ولا أصغر. ثم ذكر في خاتمة كتابه بأن أحد الصالحين كشف عن قبر ابن تيمية فوجد ثعباناً جاثماً على صدره. التعقب الحثيث: رد فيه على الألباني وكفره لمجرد فتوى هذا الأخير ببدعة التسبيح بالمسبحة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 219 النهج السوي في الرد على سيد قطب وتابعه فيصل مولوي. يحكم فيه بكفر سيد قطب لقوله بأن من احتكم إلى غير شريعة الله بأنه كافر. وفيه يحكم بكفر المولوي ويرد على فتواه في النهج عن اقتناء التلفزيون وعن الاختلاط بالنساء وعن السفر إلى بلاد المشركين من غير ضرورة وعن النظر إلى المرأة الأجنبية، ثم قال الحبشي "انظروا كيف يحرّف هذا الرجل دين الله". الدليل القويم على الصراط المستقيم جرى فيه على طريقة الجهمية والمعتزلة مع زعمه أنهم أعداؤه. ويزعم فيه أن من قال أن العرش بالرحمن أمثل ممن يقول أن الرحمن على العرش استوى. وفيه تكفير ابن تيمية. واتهامه زوراً بأنه يقول أنه لا مانع أن يكون نوع العالم مخلوقاً لغير الله. وجواز الاستغاثة بغير الله من الأموات بل جواز أن يستعيذ الإنسان بغير الله. كأن يقول القائل: أعوذ بسيدي عبد القادر. بغية الطالب في معرفة العلم الديني الواجب. كتبوا على غلاف الكتاب أنه من تأليف شيخهم واعترف تلميذه نبيل الشريف بأنه من تأليف عبد الله بن عيسى الحضرمي. وهذا الكتاب يشتمل على عجائب وشواذ: فيه منع الزكاة إلا من الذهب والفضة وأن من بيدهم الملايين لا زكاة عليهم. وفيه تعليم الحيل على الله في الدين وجواز أن يصلي الرجل وهو متضمخ بالغائط والبول تحت ذريعة التيسير على العباد. وتجويز خروج المرأة متعطرة متزينة ولو بغير إذن زوجها. إظهار العقيدة السنية شرح الطحاوية. وصرح فيه بما لم يصرح به من قبل كقوله بأن القرآن عبارة جبريل لقوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (إظهار العقيدة 59) وأن قوله تعالى إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تعني أن الله على غالب الأشياء قدير (إظهار العقيدة 40) وأنه على كل شيء قدير مجازاً وليس حقيقة. وصرح بكفر من يقول بأن الله يتكلم بصوت، مع علمه بالحديث الذي في البخاري ((إن الله يتكلم بصوت)) (1). وتصريح أحمد بذلك كما نقله الحافظ ابن حجر عنه. (فتح الباري 13/ 460). كتاب المولد النبوي: وفيه يروي أساطير وخرافات لا يصدقها عاقل ويزعم فيه أن الملائكة ضجت واعترضت على الله لأنه أمات أبوي النبي صلى الله عليه وسلم وبقي يتيماً فقال الله لهم اسكتوا أيها الملائكة. وسأنقل نصوصاً من هذا الكتاب. صريح البيان: وهو كتاب مليء بشواذ الأقوال وفيه استباحة الربا من الكفار الحربيين، وفيه سب معاوية وطعن غيره من الصحابة واحتج بأكذب الروايات عن لوط بن أبي مخنف وسعيد الضبي وغيرهم من الشيعة الكذابين الغلاة الذي حشا الطبري – عفا الله عنه- كتابه من رواياتهم. وحكم في معاوية ومن معه بأنهم مرتكبون للكبائر وأنه كان يتاجر بالأصنام ويبيعها إلى الهند. وأورد الأدلة على جواز خروج المرأة متزينة بالحلي والمساحيق وما يحلو لها وأنه يجوز للرجل أن ينظر إليها ويختلط بها ويصافحها ويجالسها. وينهى عن تسمية مفاخذة المرأة (زنى) وما ورد بأن العين تزني فإنه إطلاق مجازي ليس على حقيقته. أما مصنفات أتباعه فهي كالآتي: الرسائل السبكية في الرد على ابن تيمية (طبع في عالم الكتب) جمعه ولفقه كمال الحوت باسم كمال أبو المنى حين كان يعمل في عالم الكتب، وطُرِد منها بسبب تصرفه في نصوص بعض المؤلفين بشهادة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة. التوفيق الرباني في الرد على ابن تيمية الحراني. وهو نفس الرسائل السبكية لكنه عدل في مقدمته قليلاً.   (1) ليس في البخاري هذا اللفظ بل فيه معلقا (يحشر الله العباد فيناديهم بصوت .. ) وجاء في ((السنة)) (280) لعبدالله بن أحمد: سألت أبي رحمه الله عن قوم يقولون لما كلم الله عز وجل موسى لم يتكلم بصوت فقال أبي بلى إن ربك عز وجل تكلم بصوت هذه الأحاديث نرويها كما جاءت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 220 بهجة النظر. وهو أسئلة وأجوبة فقهية. الكتب التي ردت عليه وعلى أتباعه وقد صدرت كتب في الرد عليه منها: الحبشي: شذوذه وأخطاؤه: عقائده وشذوذه لعبد الرحمن دمشقية. استواء الله على العرش: أسامة القصاص رحمه الله. الاستواء بين التنزيه والتشويه للأستاذ عوض منصور. كان له مع الأحباش مناقشات عديدة في أمريكا في مسائل العقائد. إطلاق الأعنة في الكشف عن مخالفات الحبشي للكتاب والسنة: رسالة منسوبة إلى الشيخ الهاشمي. ـ الرد على الأحباش الشيخ محمد ناصر الدين الألباني شريط كاسيت. رسالة في الرد على الحبشي عن موضوع إعانته للكافرين على الكفر. لعدنان ياسين النقشبندي. رد فيها على رسالة الحبشي "إعانة الكافرين على كفرهم" الرد على عبد الله الحبشي لعبد الرحمن دمشقية. بين أهل الفتنة وأهل السنة. لعبد الرحمن دمشقية. شبهات أهل الفتنة وأجوبة أهل السنة. وهو صياغة جديدة وموسعة للكتاب الذي قبله. ـ الأضواء الساطعة على ما في كتاب (الدليل على الصراط المستقيم) من أفكار زائفة وعقائد زائغة. الشيخ عثمان بن عبد القادر الصافي. فرقة الأحباش: نشأتها عقائدها آثارها: سعد بن علي الشهراني ـ مجلة الفرقان الكويتية. ـ مجلة الشراع اللبنانية في حوار مع عدنان الطرابلسي نائب البرلمان 574. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 221 المبحث الثالث عشر: هلاك زعيمهم عبد الله الحبشي لقد أخفى أتباعه خبر وفاته، فقد مات في الرابع والعشرين من سبتمبر 2008م أي قبل دخول رمضان 1429هـ بأسبوع. وأراد أتباعه تأجيل نبأ وفاته حتى السابع والعشرين من رمضان ليوهموا الناس بأنه مات في أفضل ليلة وليجعلوها دليلا على حسن الخاتمة. ولكن المستشفى رفضت إبقاءه في الثلاجة إلى أواخر رمضان. فاضطروا لإعلان الوفاة في أول رمضان. المصدر: موقع عبد الرحمن دمشقية الجزء: 10 ¦ الصفحة: 222